الكتاب: المحصول
المؤلف: الرازي
الجزء: ٣
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور طه جابر فياض العلواني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٢
المطبعة: مؤسسة الرسالة - بيروت
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

المحصول
في علم أصول الفقه
(3)
1

بسم الله الرحمن الرحيم
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثالثة
1418 ه‍ / 1997 م
حقوق الطبع محفوظة 1992 م. لا يسمع بإعادة نشر هذا الكتاب أو
أي جزء منه بأي شكل من الاشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو الكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه.
ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى
دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
2

المحصول
في علم أصول الفقه
للامام الأصولي النظار المسفر
فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي
544 - 606 ه‍ / 1149 ه‍ - 1209 م
دراسة وتحقيق
الدكتور طه جابر فياض العلواني
الجزء الثالث
مؤسسة الرسالة
3

بسم الله الرحمن الرحيم
4

القسم الثاني
في
الخصوص
وفيه مسائل
5

المسألة الأولى حد التخصيص على مذهبنا إخراج بعض ما تناوله الخطاب
عنه وعند الواقفية إخراج بعض ما صح أن يتناوله الخطاب سواء كان
الذي صح واقعا أم لم يكن واقعا
وأما قولنا العام المخصوص فمعناه أنه استعمل في بعض
ما وضع له
وعند الواقفية أن المتكلم أراد به بعض ما يصلح له ذلك
اللفظ دون البعض
وأما الذي به يصير العام خاصا فهو قصد المتكلم لأنه إذا قصد
بإطلاقه تعريف بعض ما تناوله اللفظ أو بعض ما يصلح أن
يتناوله على اختلاف المذهبين فقد خصه
7

وأما المخصص للعموم فيقال على سبيل الحقيقة على شئ
واحد وهو إرادة صاحب الكلام لأنها هي المؤثرة في إيقاع ذلك الكلام
لإفادة البعض فإنه إذا جاز أن يرد الخطاب خاصا وجاز أن يرد عاما
لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة
ويقال بالمجاز على شيئين
أحدهما
من أقام الدلالة على كون العام مخصوصا في ذاته
وثانيهما
من اعتقد ذلك أو وصفه به كان ذلك الاعتقاد حقا أو باطلا
المسألة الثانية في الفرق بين التخصيص والنسخ
النسخ لا معنى له إلا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص
فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص لكن
8

الناس اعتبروا في التخصيص أمورا لفظية أخرجوه لأجلها عن جنس
النسخ وتلك الأمور خمس
أحدها
أن التخصيص لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ والنسخ قد يصح فيما
علم بالدليل انه مراد وإن لم يتناوله اللفظ
وثانيهما
أن نسخ شريعة بشريعة أخرى يصح وتخصيص شريعة
بشريعة أخرى لا يصح
وثالثها
أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص ليس كذلك
ورابعها
أن الناسخ أن يكون متراخيا والمخصص لا يجب أ ن يكون متراخيا
سواء وجبت المقارنة أو لم تجب على اختلاف القولين
وخامسها
أن التخصيص قد يقع بخبر الواحد والقياس والنسخ لا يقع بهما
وأما الفرق بين التخصيص والاستثناء فهو فرق ما بين العام
والخاص عندي
9

ومنهم من تكلف بينهما فروقا
أحدها
أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شئ
واحد فالسبعة مثلا لها اسمان سبعة وعشرة إلا ثلاثة والتخصيص ليس
كذلك
وثانيها
أن التخصيص يثبت بقرائن الأحوال فإنه إذا قال رأيت الناس
دلت القرينة على أنه ما رأى كلهم والاستثناء لا يحصل بالقرينة
وثالثها
أن التخصيص يجوز تأخيره لفظا والاستثناء لا يجوز فيه ذلك وهذه الوجوه متكلفة والحق أن التخصيص جنس تحته أنواع كالنسخ
والاستثناء وغيرهما
المسألة الثالثة
فيما يجوز تخصيصه وما لا يجوز
الذي يتناول الواحد لا يجوز تخصيصه لأن التخصيص عبارة عن
اخراج البعض عن الكل والواحد لا يعقل ذلك فيه
10

وأما الذي يتناول أكثر من وا حد فعمومه إما من جهة اللفظ ويصح
تطرق التخصيص إليه
وإما من جهة المعنى وهو أمور ثلاثة
أحدهما
أن العلة الشرعية هل يجوز تخصيصها وسيأتي الكلام فيه في باب
القياس إن شاء الله تعالى
وثانيها
مفهوم الموافقة كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضرب
والتخصيص فيه جائز إذا لم يعد بالنقض على الملفوظ مثل
تقييد الأم إذا فجرت وضرب الوالد إذا ارتد
ولا يجوز إذا عاد بالنقض عليه
وثالثها
مفهوم المخالفة فإنه يفيد في المسكوت عنه انتفاء مثل حكم
المذكور ويجوز أن تقوم الدلالة على ثبوت مثل حكم المذكور
لبعض المسكوت عنه
المسألة الرابعة
يجوز إطلاق اللفظ العام لإرادة الخاص أمرا كان أو خبرا خلافا
لقوم
11

لنا
الدليل على جوازه
وقوعه في القرآن كقوله تعالى اقتلوا المشركين الله خالق
كل شئ
ويقال في العرف جاءني كل الناس والمراد أكثرهم
احتجوا بأنه إذا أريد بالخبر العام بعضه أو هم الكذب ولو كان جواز
حمله على التخصيص مانعا من كونه كذبا لما وجد في الدنيا كذب
وجواز التخصيص في الأمر يوهم البداء
والجواب
إذا علمنا أن اللفظ في الأصل محتمل للتخصيص فقيام الدلالة على
وقوعه لا يوجب الكذب ولا البداء والله أعلم
المسألة الخامسة
في لغاية التي لا يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إلى أقل منها
12

اتفقوا في ألفاظ الاستفهام والمجازاة على جواز انتهائها في
التخصيص إلى الواحد
واختلفوا في الجمع المعرف بالألف واللام فزعم القفال أنه لا
يجوز تخصيصه بما هو أقل من الثلاثة
ومنهم من جوز انتهائه إلى الواحد
ومنع أبو الحسين من ذلك في جميع ألفاظ العموم وأوجب أن يراد
بها كثرة وإن لم يعلم قدرها إلا الله أن يستعمل في حق الواحد على سبيل
التعظيم والإبانة فإن ذلك الواحد يجري مجرى الكثير وهو الأصح
أما انه لا بد من بقاء الكثرة فلأن الرجل لو قال أكلت كل ما في الدار
من الرمان وكان فيها ألف وكان قد أكل رمانة واحدة أو ثلاثة عابه
أهل اللغة ولو قال كل من دخل داري أكرمته ثم قال أردت به زيدا
وحده عابه أهل اللغة
احتج من جوز ذلك
بأن استعمال العام في غير الاستغراق استعمال له في غير ما وضع
له فليس جواز استعماله في البعض أولى منه في البعض الآخر فوجب
13

جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهي إلى الواحد
والجواب
لا نسلم أنه ليس بعض المراتب أولى من بعض وتقريره ما ذكرناه
وأما أنه يجوز استعماله في حق الواحد على سبيل التعظيم فلقوله
تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وقوله فقدرنا فنعم القادرون
المسألة السادسة
اختلفوا في أن العام الذي دخله التخصيص هل هو مجاز أم لا فقال
قوم من الفقهاء إنه لا يصير مجازا كيف كان التخصيص
وقال أبو علي وأبو هاشم يصير مجازا كيف كان التخصيص
ومنهم من فصل وذكر فيه وجوها
والمختار قول أبي الحسين رحمه الله وهو أن القرينة المخصصة
إن استقلت بنفسها صارت مجازا وإلا فلا تقريره أن القرينة المخصصة
المستقلة ضربان عقلية ولفظية
14

أما العقلية فكالدلالة قال الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب
بالعبادات
وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض
الفلاني وفي هذين القسمين يكون العموم مجازا
والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق فإذا استعمل
هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملا في جزء مسماه لقرينة
مخصصة وذلك هو المجاز
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في
الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص
قلت فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجاز
أصلا لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا ومع
القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازا عنه
والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز
أم لا فرع على ثبوت أصل المجاز
15

وأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة كقول القائل جاءني بنو أسد الطوال فها هنا لا يصير
مجازا
والدليل عليه أن لفظ العموم حال انضمام الشرط أو الصفة
أو الاستثناء إليه لا يفيد البعض لأنه لو أفاده لما بقي شئ يفيده
الشرط أو الصفة أو الاستثناء وإذا لم يغد البعض استحال أن
يقال إنه مجاز في إفادة البعض بل المجموع الحاصل من لفظ العموم
ولفظ الشرط أو الصفة أو الاستثناء دليل على ذلك البعض وإفادة
ذلك المجموع لذلك البعض حقيقة
تنبيه
إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين فقال النبي ص في
الحال إلا زيدا فهذا تخصيص بدليل متصل أو منفصل
فيه احتمال
16

المسألة السابعة
يجوز التمسك بالعام المخصوص وهو قول الفقهاء
وقال عيسى بن أبان وأبو ثور لا يجوز مطلقا
ومنهم من فصل فذكر الكرخي أن المخصوص بدليل متصل
يجوز التمسك به والمخصوص بدليل منفصل لا يجوز التمسك به
والمختار أنه لو خص تخصيصا مجملا لا يجوز التمسك به وإلا
جاز مثال التخصص المجمل كما إذا قال الله تعالى أقتلوا
المشركين ثم قال لم أرد بعضهم
لنا وجوه
الأول
أن اللفظ العام كان متناولا للكل فكونه حجة في كل واحد من أقسام
ذلك الكل إما أن يكون موقوفا على كونه حجة في القسم الآخر أو على
كونه حجة في الكل أو لا يتوقف على واحد من هذين القسمين
17

والأول باطل لإنه إن كان كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام
مشروطا بكونه حجة في القسم الآخر لزم الدور
وإن افتقر كونه حجة في هذا القسم إلى كونه حجة في ذلك
القسم ولا ينعكس فحينئذ يكون كونه حجة في ذلك القسم
يصح أن يبقى بدون كونه حجة في هذا القسم فيكون العام المخصوص حجة
في ذلك القسم
هذا مع أنا نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على
السوية فلم يكن جعل البعض مشروطا بالآخر أولى من العكس
والقسم الثاني أيضا باطل لأن كونه حجة في الكل يتوقف على كونه
حجة في كل واحد من تلك الأقسام لأن الكل لا يتحقق إلا عند تحقق
جميع الأفراد فلو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في
الكل لزم الدور وهو محال
ولما بطل القسمان ثبت أن كونه حجة في ذلك البعض لا يتوقف على كونه
حجة في البعض الآخر ولا على كونه حجة في الكل فإذن هو حجة
في ذلك البعض سواء ثبت كونه في البعض الآخر أو في الكل أو لم يثبت
ذلك فثبت أن العام المخصوص حجة
الثاني
هو أن المقتضى لثبوت الحكم في غير محل التخصيص قائم
18

والمعارض الموجود لا يصلح معارضا فوجب ثبوت الحكم في غير محل
التخصيص
إنما قلنا إن المقتضي قائم وذلك لأن المقتضى هو اللفظ الدال على
ثبوت الحكم وصيغة العموم دالة على ثبوت الحكم في كل الصور والدال
على ثبوت الحكم فكل الصور دال على ثبوته في محل التخصيص
وفي غير محل التخصيص فثبت أن المقتضى لثبوت الحكم في غير
صورة التخصيص قائم
وأما أن المعارض الموجود لا يصلح أن يكون معارضا فلأن
المعارض إنما هو بيان أن الحكم غير ثابت في هذه الصورة المعينة ولا
يلزم من عدم الحكم في هذه الصورة المعينة عدمه في الصورة الآخرى
فبيان عدم الحكم في هذه الصورة لا يكون منافيا لثبوت الحكم في
الصورة الأخرى
ثبت أن المقتضى قائم والمانع مفقود فوجب ثبوت الحكم
الثالث
أن عليا كر الله وجهه تعلق في الجمع بين الأختين في الملك بقوله
تعالى أو ما ملكت أيمانكم مع أنه مخصوص بالبنت والأخت ولم
19

ينكر عليه أحد من الصحابة فكان اجماعا
20

احتجوا
بأن العام المخصوص لا يمكن إجراؤه على ظاهره فيجب صرفه عن
الظاهر وحينئذ لا يكون حمله على بعض المحامل أولي من بعض
فيصير مجملا
قلنا لا نسلم أنه ليس البعض بأولى من البعض بل عندنا يجب
حمله على الباقي والله أعلم
المسألة الثامنة
قال ابن سريج لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب
المخصص فإذا لم يوجد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به
في إثبات الحكم
وقال الصيرفي يجوز التمسك به ابتداء ما لم تظهر دلالة مخصصة
واحتج الصيرفي بأمرين
أحدهما
لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب أنه هل وجد مخصص أم لا لما
جاز التمسك بالحقيقة إلا بعد طلب أنه هل وجد ما يقتضي صرف اللفظ عن
21

الحقيقة إلى المجاز وهذا باطل فذاك مثله
بيان الملازمة أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص
لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في
التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم
بيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى
المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ
على ظواهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا
وإذا وجب ذلك في العرف وجب أيضا في الشرع لقوله ص
ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
وثانيهما
أن الأصل عدم التخصيص وهذا يوجب ظن عدم المخصص
فيكفي في إثبات ظن الحكم
22

واحتج ابن سريج
أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة
التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة
وأن لا يكون
والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشئ على حكم الأصل
والجواب
أن ظن كونه حجة أقوى من ظن كونه غير حجة لأن إجراءه على
العموم أولى من حمله على التخصيص
ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت الظن
فرع
إذا قلنا يجب نفي المخصص فذاك مما لا سبيل إليه إلا بأن يجتهد
في الطلب ثم لا يجد لكن الاستدلال بعدم الوجد
ان على عدم الوجود لا يورث إلا الظن الضعيف والله أعلم
23

القسم الثالث
فيما يقتضي تخصيص العموم
والكلام في هذا القسم يقع في أطراف أربعة
أحدها الأدلة المتصلة المخصصة
وثانيها الأدلة المنفصلة المخصصة
وثالثها بناء العام على الخاص
ورابعها ما يظن أنه من مخصصات العموم وليس كذلك
القول في الأدلة المتصلة
وفيه أربعة أبواب
الباب الأول
في الاستثناء
وفيه مسائل
25

المسألة الأولى
الاستثناء إخراج بعض الجملة من الجملة بلفظ إلا أو ما أقيم
مقامه
أو يقال ما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه ولا يستقل
بنفسه
والدليل على صحة هذا التعريف
أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنويا كدلالة العقل
والقياس وهذا خارج عن هذا التعريف
وإما أن يكون لفظيا وهو إما أن يكون منفصلا فيكون مستقلا
بالدلالة وإلا كان لغوا وهذا أيضا خارج عن هذا الحد
أو متصلا وهو إما التقييد بالصفة أو الشرط أو الاستثناء أو الغاية
أما التقييد بالصفة فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة لأنك إذا
قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار ولفظ الطوال
27

لم يتناول القصار بخلاف قولنا عن أكرمني بنو تميم إلا زيدا من فإن الخارج
وهو زيد تناولته صيغة الاستثناء وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط
وأما التقييد بالغاية فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى
إلى المرافق بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء
منطبق عليه
المسألة الثانية
يجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه عادة واحترزنا بقولنا
عادة عما إذا طال الكلام فإن ذلك لا يمنع من اتصال الاستثناء
وكذلك قطع الكلام بالنفس والسعال لا يمنع من اتصاله به
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جوز الاستثناء المنفصل
وهذه الرواية إن صحت فلعل المراد منها ما إذا نوى الاستثناء متصلا
بالكلام ثم أظهر نيته بعده فإنه يدين فيما
بينه وبين الله تعالى فيما نواه
28

لنا وجهان
الأول
لو جاز تأخير الاستثناء لما استقر شئ من العقود من الطلاق والعتاق
ولم يتحقق الحنث أصلا لجواز أن يرد عليه الاستثناء فيغير حكمه
الثاني
نعلم بالضرورة أن من قال لوكيله اليوم بع داري من أي شخص
كان ثم قال بعد غد إلا من زيد فإن أهل العرف لا يجعلون الاستثناء
عائدا إلى ما تقدم
احتجوا
بأنه يجوز تأخير النسخ والتخصيص فكذا الاستثناء
والجواب
أنه يبطل بالشرط وخبر المبتدأ ثم نطالبهم بالجامع والله أعلم
29

المسألة الثالثة
استثناء الشئ من غير جنسه باطل على سبيل الحقيقة وجائز على سبيل
المجاز
والدليل الأول
أن الاستثناء من غير الجنس الأول لو صح لصم اما من اللفظ أو
من المعنى
والأول باطل لأن اللفظ الدال على الشئ فقط غير دال على ما
يخالف جنس مسماه واللفظ إذا لم يدل على شئ لا يحتاج إلى صارف يصرفه
عنه
والثاني أيضا باطل لأنه لو جاز حمل اللفظ على المعنى المشترك بين
30

مسما وبين
المستثنى ليصح الاستثناء لجاز استثناء كل شئ من كل شئ
لأن كل شيئين لا بد وأن يشتركا في بعض الوجوه فإذا حمل المستثنى
على ذلك المشترك صح الاستثناء
ولما علمنا أن العرب لم يصححوا استثناء كل شئ من كل شئ
علمنا بطلان هذا القسم
احتجوا بالقرآن والشعر والمعقول
31

أما القرآن فخمس آيات
إحداها
قوله عز وجل وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ
وثانيها
قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس وهو ما كان
منهم بل كان من الجن
وثالثها
قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن
تراض منكم
ورابعها
قوله تعالى مالهم به من علم إلا اتباع الظن والظن ليس
من جنس العلم
وخامسها قوله تعالى
لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
والسلام ليس من جنس اللغو
32

وأما الشعر فقوله
وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير والا العيس في
33

وقول النابغة
وما بالدار من أحد إلا أواري * والأواري ليس من جنس الأحد
وقفت فيها أصيلانا أسائلها * عيت جوابا وما بالربع من أحد ألا أوارى لأيا من ابينها * والنؤى كالحوض بالمطلومة بن الجلد
34

وأما المعقول فهو أن الاستثناء تارة يقع عما يدل اللفظ عليه دلالة
المطابقة أو التضمن
وتارة عما يدل عليه دلالة الالتزام فإذا قال لفلان علي ألف دينار إلا
ثوبا فمعناه إلا قيمة ثوب
والجواب
أما قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ فجوابه أن
إلا ها هنا بمعنى لكن أو يقال وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا إذا
أخطأ فغلب على ظنه أنه ليس من المؤمنين إما بأن يختلط بالكفار فيظن
الرجل أنه منهم أو بأن يراه من بعيد فيظنه صيدا أو حجرا
وأما قوله تعالى إلا إبليس فقيل إنه كان من الملائكة ولابد من
الدلالة على أن كونه من الجن ينفي كونه من الملائكة
سلمنا أنه ليس من الملائكة لكن إنما حسن الاستثناء لأنه كان مأمورا
بالسجود كما أن الملائكة كانوا مأمورين بذلك فكأنه قال فسجد
35

المأمورون بالسجود إلا إبليس
وأما قوله تعالى إلا أن تكون تجارة إلا اتباع الظن فقد اتفقت
النحاة على أنه ليس باستثناء ففسره البصريون بقولهم ولكن
اتباع الظن والكوفيون بقولهم سوى اتباع الظن
والجواب عن الشعر
أن الأنيس سواء فسرناه بالمؤنس هذه أو بالمبصر أمكن إدخال اليعافير
والعيس فيه
36

وعن الثالث
أنه لو صح الاستثناء من المعنى لزم صحة استثناء كل شئ من كل شئ
على ما بيناه والله أعلم
المسألة الرابعة
أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق
ثم من الناس من قال شرط المستثنى أن لا يكون أكثر أكثر مما بقي بل
يجب أن يكون مساويا أو أقل
وقال القاضي بل شرطه أن لا يكون أكثر ولا مساويا سنة بل أقل
ويدل على فساد القولين أن الفقهاء أجمعوا على أن من قال
لفلان علي عشرة إلا تسعة يلزمه واحد ولولا أن هذا الاستثناء صحيح
لغة وشرعا وإلا لأمكن كذلك
ويدل على فساد أقول الثاني خاصة قوله تعالى إن عبادي ليس لك
عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقال حكاية عن إبليس
لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فلو كان المستثنى أقل
من المستثنى منه لزم في أتباع إبليس وفي المخلصين أن يكون كل واحد
37

منهما أقل من الآخر وذلك محال
حجة القاضي رحمه الله أن المقتضى لفساد الاستثناء قائم وما لأجله
ترك العمل به في الأقل غير موجود في المساوي والأكثر فوجب أن يفسد
الاستثناء في المساوي والأكثر
بيان مقتضى الفساد أن الاستثناء بعد المستثنى منه إنكار
بعد الإقرار وإنه غير مقبول
بيان الفارق أن الشئ القليل يكون في معرض النسيان لقلة
التفات النفس إليه والكثير يكون متذكرا محفوظا لكثرة التفات القلب إليه
فإذا أقر بالعشرة فربما كانت تلك العشرة بنقصان شئ قليل وإن كانت
تامة لكنه أدى منها شيئا قليلا ثم إنه نسي ذلك القدر لقلته فلا جرم
أقر بالعشرة الكاملة ثم إنه بعد الإقرار تذكر ذلك القدر فوجب أن يكون
متمكنا من استدراكه فلأجل هذا شرعنا استثناء الأقل من الأكثر ولم يوجد
هذا المعنى في استثناء المثل أو الأكثر لما ذكرنا أن الكثرة مظنة الذكر
وإذا ظهر الفارق بقي المقتضي سليما عن المعارض
والجواب عندنا
أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد الدال على ذلك
38

القدر وعلى هذا الفرض يسقط ما ذكرتم والله أعلم
المسألة الخامسة
الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات
مثال الأول قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ومثال
الثاني قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك
وزعم أبو حنيفة رحمه الله أن الاستثناء من النفي لا يكون إثباتا
قال لأن بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات واسطة وهي عدم
الحكم
فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا
بالإثبات
لنا
لو لم يكن الاستثناء في النفي إثباتا لما كان قولنا لا إله إلا الله موجبا
ثبوت الإلهية لله جل جلاله بل كان معناه نفي الإلهية عمرو عن غيره وأما
ثبوت الإلهية له فلا ولو كان كذلك لما تم الإسلام ولما كان ذلك
باطلا علمنا أنه يفيد الإثبات
احتج أبو حنيفة رحمه الله بقوله ص لا نكاح إلا بولي ولا
39

صلاة إلا بطهور ولم يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي ولا
تحقق الصلاة عند حضور الوضوء بل يدل على عدم صحتهما عند
عدم هذين الشرطين والله أعلم
40

المسألة السادسة
الاستثنائات إذا تعددت فإن كان البعض معطوفا على البعض بحرف
العطف كان الكل عائدا إلى المستثنى منه كقولك لفلان عندي عشرة
إلا أربعة وإلا خمسة
وإن لم يكن كذلك فالاستثناء الثاني إن كان أكثر من الأول أمساويا
له عاد إلى الأول كقوله لفلان علي عشرة إلا أربعة إلا خمسة
وإن كان أقل من الأول كقولك لفلان علي عشرة إلا
خمسة إلا أربعة فالاستثناء الثاني إما أن يكون عائدا إلى الاستثناء
الأول فقط أو إلى المستثنى منه فقط أو إليهما معا أولا إلى
أحد منهما
والأول هو الحق
والثاني باطل لأن القريب إن لم يكن أولى من البعيد فلا أقل من
المساواة
والثالث أيضا باطل لوجهين
أحدهما
أن المستثنى منه مع الاستثناء الأول لا بد وأن يكون أحدهما نفيا
والآخر إثباتا فالاستثناء الثاني لو عاد إليهما معا والاستثناء من النفي إثبات
41

ومن الإثبات نفي فيكون الاستثناء الثاني قد نفى عن أحد الأمرين
السابقين عليه ما أثبته للآخر فينجبر النقصان بالزيادة ويبقى ما كان
حاصلا قبل الاستثناء الثاني فيصير الاستثناء الثاني لغوا
وثانيهما
أن الاستثناء الثاني لو رجع إلى الاستثناء الأول والمستثنى منه معا لزم
أن يكون نفيا وإثباتا معا وهو محال
فإن قلت النفي والإثبات إنما يتنافيان لو رجعا إلى شئ واحد من وجه
واحد فأما عند رجوعهما إلى شيئين فلا يتنافيان
قلت لنفرض قبل أنه قال علي عشرة إلا اثنين إلا واحدا
فالاستثناء الثاني لما رجع إلى المستثنى منه أخرج منه درهما آخر ولما رجع
إلى الاستثناء الأول اقتضى ذلك إثبات ذلك الدرهم المستثنى منه فيكون
ذلك الاستثناء نفيا وإثباتا من المستثنى منه وهو محال
أما الرابع وهو أن لا يرجع الاستثناء الثاني إلى الاستثناء الأول ولا إلى
المستثنى منه فهو باطل بالاتفاق
42

المسألة السابعة
الاستثناء المذكور عقيب جمل كثيرة هل يعود إليها بأسرها أم لا
مذهب الشافعي رضي الله عنه وأصحابه عوده إلى الكل
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه اختصاصه
بالجملة الأخيرة
وذهب القاضي منا والمرتضى من الشيعة إلى التوقف إلا أن
المرتضى توقف للاشتراك والقاضي لم يقطع بذلك أيضا
ومنهم من فصل القول فيه وذكروا وجوها
وأدخلها في التحقيق ما قيل إن الجملتين من الكلام إما أن
يكونا من نوع واحد أو يكونا من نوعين
فإن كان الأول فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا
تكون كذلك
43

فإن كان الثاني فإما أن يكونا مختلفي الاسم والحكم أو متفقي
الاسم مختلفي الحكم أو مختلفي الاسم متفقي الحكم
فالأول كقولك أطعم ربيعة واخلع على مضر إلا الطوال
والأظهر ها هنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه
لم ينتقل من الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها
إلا وقد تم غرضه من الجملة الأولى ولو كان الاستثناء راجعا إلى جميع
الجمل لم يكن قد تم مقصوده من الجملة الأولى
وأما الثاني فكقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال
وأما الثالث فكقولنا أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال
والحكم هاهنا أيضا كما ذكرنا لأن كل واحدة من الجملتين
مستقلة فالظاهر أنه لم ينتقل من إحداهما إلا وقد تم غرضه بالكلية
منها
وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى فإما أن يكون حكم الأولى
مضمرا في الثانية كقوله أكرم ربيعة ومضر الطوال أو اسم الأولى
مضمرا يحيى في الثانية كقوله أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال
44

فالاستثناء في هذين القسمين راجع إلى الجملتين لأن الثانية لا تستقل إلا
مع الأولى فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما
وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام فإما أن تكون القضية
واحدة أو مختلفة
فإن كانت مختلفه فهو كقولنا أكرم ربعة والعلماء هم المتكلمون
إلا أهل البلدة الفلانية فالاستثناء فيه يرجع إلى ما يليه لاستقلال كل
واحدة من تلك الجملتين بنفسها
وأما إن كانت القضية واحدة فهو كقوله تعالى والذين يرمون
المحصنات فالقضية واحدة وأنواع الكلام مختلفة فالجملة الأولى
أمر والثانية نهي والثالثة خبر فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة
الأخيرة لاستقلال كل واحدة في تلك الجمل بنفسها
والإنصاف أن هذا التقسيم حق لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا
التوقف لا بمعنى دعوى الاشتراك بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة
ماذا وهذا هو اختيار القاضي
45

واحتج الشافعي رضي الله عنه بوجوه
أولها
أن الشرط متى تعقب جملا عاد إلى الكل فكذا الاستثناء و
الجامع أن كل واحد منهم لا يستقل بنفسه
وأيضا فمعناهما واحد لأن قوله تعالى في آية القذف إلا الذين
تابوا جار مجرى قوله وأولئك هم الفاسقون إن لم يتوبوا
ويقرب من هذا الدليل قولهم أجمعنا على أن الاستثناء بمشيئة الله
تعالى عائد إلى كل الجمل فالاستثناء بغير المشيئة يجب أن يكون
كذلك
وثانيها
أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض في حكم
الجملة الواحدة لأنه لا فرق بين أن تقول رأيت بكر بن خالد وبكر بن
عمرو وبين أن تقول رأيت البكرين وإذا كان الاستثناء الواقع عقيب
الجملة الواحدة راجعا إليها فكذا ما صار بحكم العطف كالجملة
الواحدة
46

وثالثها
أنه تعالى لو قال فاجلدوهم ثمانين جلدة إلا الذين تابوا ولا
تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأولئك هم الفاسقون (إلا الذين
تابوا) لكان ركيكا جدا
فبتقدير أن يريد الاستثناء عن كل الجمل لا طريق له إلى ذلك إلا
بذكر الاستثناء عقيب الجملة الأخيرة ففي هذه الصورة يكون الاستثناء
راجعا إلى كل الجمل والأصل في الكلام الحقيقة
وإذا ثبت كونه حقيقة في هذه الصورة كان كذلك في سائر الصور
دفعا للاشتراك
ورابعها
لو قال لفلان علي خمسة وخمسة إلا سبعة كان الاستثناء ها هنا
عائدا إلى الجملتين والأصل في الكلام الحقيقة
وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة فكذا في غيرها دفعا
للاشتراك
47

واحتج أبو حنيفة رحمة الله عليه بوجوه
أحدها
أن الدليل ينفي اعتبار الاستثناء تركنا العمل به في الجملة الواحدة
فيبقى العمل بالباقي في سائر الجمل
بيان النافي أن الاستثناء يقتضي إزالة العموم عن ظاهره وهو
خلاف الأصل
بيان الفارق أن الاستثناء لا استقلال له بالدلالة على الحكم فلا بد من
تعليقه بشئ لئلا يصير لغوا وتعليقه بالجملة الواحدة يكفي في خروجه عن
اللغوية فحاجة إلى تعليقه بسائر الجمل
وإذا ثبت النافي والفارق ثبت أنه لا يجوز عوده إلى الجمل الكثيرة
والخصم قال به فصار محجوجا
يبقى أن يقال لم خصصتموه بالجملة الأخيرة فتقول هذا
تفريع قولنا ولنا فيه وجهان
الوجه الأول اتفاق أهل اللغة على أن للقرب تأثيرا في هذا المعنى
ثم يدل عليه أمور أربعة
الأول
اتفاق أهل اللغة البصريين على أنه إذا اجتمع على المعمول الواحد
عاملان فإعمال الأقرب أولى
48

الثاني
أنهم قالوا في ضرب زيد عمروا وضربته إن هذه الهاء بأن ترجع
إلى عمرو المضروب أولى من أن ترجع إلى زيد الضارب للقرب
الثالث
أنهم قالو في قولنا ضربت سلمى سعدى إنه ليس في إعراب
اللفظ ولا في معناه ما يجعل أحدهما بالفاعلية أولي من الآخر فاعتبروا
المجاورة فقالوا الذي يلي الفعل أولى بالفاعلية
الرابع
أنهم قالوا في قولهم أعطى زيد عمروا بكرا أنه لما احتمل أن
يكون وكل واحد من عمر وبكر مفعولا أول وليس في اللفظ ما يقتضي
الترجيح وجب اعتبار القرب
الوجه الثاني
أن كل من صرف الاستثناء إلى جملة واحدة خصصه بالجملة
الأخيرة فصرفه إلى غيرها خرق للإجماع فهذا تمام هذه الحجة
وثانيهما
أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل لو رجع إلى جميعها لم يخل إما
أن يضمر مع كل جملة استثناء يعقبها أولا يضمر ذلك بل الاستثناء
المصرح به في آخر الجمل هو الراجع إلى جميعها
49

والأول باطل لأن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا
لضرورة ولا ضرورة ها هنا
والثاني أيضا باطل لأن العامل في نصب ما بعد حرف الاستثناء
هو ما قبله من فعل أو تقدير فعل فإذا فرضنا رجوع ذلك الاستثناء إلى
كل الجمل كان العامل في نصب المستثنى أكثر من واحد لكن لا يجوز
أن يعمل عاملان في إعراب واحد
دأما أولا فلأن سيبويه نص عليه وقوله حجة
وأما ثانيا فلأنه يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال
وثالثها
أن الاستثناء من الاستثناء مختص بما يليه فكذا في سائر
الصور دفعا للاشتراك عن الوضع
ورابعها
أن الجمل إذا كان كل واحد منها مستقلا بنفسه فالظاهر أنه لم ينتقل عن
واحد منها إلى غيره إلا إذا تم غرضه منه لأنه كما أن السكوت يدل على
استكمال الغرض المطلوب من الكلام فكذا الشروع في كلام
آخر لا تعلق له بالأول يدل على استكمال الغرض من ذلك الأول
إذا ثبت هذا فلو حكمنا برجوع الاستثناء إلى كل الجمل المتقدمة
50

نقض ذلك قولنا إنه لما انتقل عن الكلام الأول تم غرضه
واحتج الشريف المرتضى على الاشتراك بوجوه
أحدها
أن القائل إذا قال اضرب غلماني وأكرم جيراني إلا واحدا جاز أن
يستفهم المخاطب هل أراد استثناء الواحد من الجملتين أو من الجملة
الواحدة والاستفهام دليل الاشتراك
وثانيها
أنا وجدنا الاستثناء في القرآن والعربية تارة عائدا إلى كل الجمل
وأخرى مختصا بالأخيرة وظاهر الاستعمال دليل الحقيقة فوجب الاشتراك
وثالثها
أن القائل إذا قال ضربت غلماني وأكرمت جيراني قائما أو في الدار
أو يوم الجمعة احتمل فيما ذكره من الحال والظرفين أن يكون المتعلق
به جميع الأفعال وأن يكون ما هو أقرب والعلم باحتمال الأمرين من مذهب
51

أهل اللغة ضروري فإذا صح ذلك في الحال والظرفين صح
أيضا في الاستثناء والجامع أن كواحد منهما فضلة تأتي بعد تمام
الكلام فهذا مجموع أدلة القاطعين
أما أدلة الشافعية فالجواب عن الأول
أن نمنع الحكم في الأصل وبتقدير تسليمه فنطالب الرحمن بالجامع
قوله إنهما يشتركان في عدم الاستقلال واقتضاء التخصيص
قلنا لا يلزم من اشتراك شيئين في بعض الوجوه اشتراكهما في
كل الاحكام
قوله ثانيا معنى الشرط والاستثناء واحد
قلنا إن ادعيتم أنه لا فرق بينهما أصلا كان قياس أحدهما على
الآخر قياسا للشئ على نفسه
وإن سلمتم الفرق طالبناكم بالجامع
وبهذين الجوابين نجيب عن الاستدلال بمشيئة الله تعالى
والجواب عن الثاني
أنكم إن ادعيتم أنه لا فرق بين الجملة الواحدة وبين الجمل المعطوف
بعضها على بعض كان قياس أحدهما على الآخر قياسا للشئ على
نفسه وإن سلمتم الفرق طالبناكم بالجامع
52

انه الثالث
أنه يمكن رعاية الاختصار بذكر الاستثناء الواحد عقيب
الجمل مع التنبيه على ما يقتضي عوده إلى الكل وذلك لا يقدح في
الفصاحة
وعن الرابع
أن هناك إنما رجع إلى الجملتين لأنه لا بد من اعتبار كلام العاقل
ولما تعذر رجوعه إلى الجملتين وجب رجوعه إليهما وهذه الضرورة غير
حاصلة في سائر المواضع
وأما أدلة الحنفية فالجواب عن الأول من وجهين
أحدهما
أنه ينتقض بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وبالشرط فإن ذلك غير مستقل
بنفسه مع أنهما يعودان إلى كل الجمل عندهم
فإن قلت الفرق هو أن الشرط وأن تأخر صورة فهو متقدم معنى
وإذا كان متقدما معنى صار كل ما جاء بعده مشروطا به
وأما الاستثناء بالمشيئة فإنه يقتضي صيرورة الكلام بأسره موقوفا
فلا يختص بالبعض دون البعض
قلت لا نسلم أن الشرط يجب أن يكون مقدما على الكل بل يجوز أن
يكون مقدما على الجملة الأخيرة
وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن التقدم يقتضي الرجوع إلى الكل بل لعله
يكون مختصا بما يليه
53

وأما الاستثناء بالمشيئة فلم لا يجوز أن لا يقتضي كون الكل موقوفا
بل يختص ذلك بالجملة الأخيرة
والأصوب للحنفية أن يمنعوا هذين الإلزامين حتى يتم دليلهم
ثانيهما
أنا لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل
قوله لأنه يوجب صرف العموم عن ظاهره
قلنا لا نسلم لأنا بينا في مسألة أن العام المخصوص بالاستثناء
لا يكون مجازا وأن لفظ العموم مع لفظ الاستثناء يصير كاللفظ الواحد
الدال على ما بقي بعد الاستثناء
وعلى هذا التقدير لا يكون الاستثناء على خلاف الأصل
وعن الثاني
أنا لا نسلم أنه لا يجوز أن يجتمع على المعمول الواحد عاملان
ونص سيبويه على أنه لا يجوز معارض بنص الكسائي على أنه يجوز
وقوله يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان فجوابه أن العوامل
الإعرابية معرفات لا مؤثرات واجتماع المعرفين على الواحد غير
ممتنع
54

وعن الثالث
أن الاستثناء من الاستثناء لو عاد إليه وإلى المستثنى معا لزم الفسادان
المذكوران فيما تقدم وذلك غير حاصل في الاستثناء من الجمل
وعن الرابع
أن نقول ما تريدون بقولكم إنه لم ينتقل عن إحدى الجملتين إلى
غيرها إلا بعد فراغه من الأولى
إن عنيتم به أنه لم ينتقل منها إلى غيرها إلا بعد فراغه من جميع أحكام
الأولى فهذا ممنوع بل هو أول المسألة لأن عندنا من جملة
أحكامها ذلك الاستثناء الذي ذكرتموه في آخر الجمل
وإن عنيتم شيئا آخر فاذكروه لننظر فيه
وأما أدلة الشريف المرتضى
فالجواب عن الأول والثاني منها ما تقدم في باب العموم
وعن الثالث
أنا لا نسلم التوقف في الحال والظرفين بل نخصهما بالجملة الأخيرة
على قول أبي حنيفة رحمه الله أو بالكل على قول الشافعي رضي الله
عنه
55

سلمنا التوقف لكن لا على سبيل الاشتراك بل على سبيل أنا
لا ندري أن الحق ما هو عند أهل اللغة
فإن تمسك على الاشتراك بالاستفهام والاستعمال كان ذلك منه
عودا إلى الطريقتين الأوليين
سلمناه فلم قلتم إنه يجب أن يكون الأمر كذلك في الاستثناء
قوله الجامع هو كون كل واحد من هذه الثلاثة فضلة تأتي بعد تمام
الكلام
قلنا الاشتراك من بعض الوجوه لا يقتضي التساوي من جميع
الوجوه والله أعلم
56

الباب الثاني
في
التخصيص بالشرط
وفيه مسائل
المسألة الأولى
الشرط هو الذي يقف عليه المؤثر في تأثيره لا في ذاته ولا ترد عليه
57

العلة لأنها نفس المؤثر والشئ لا يقف على نفسه ولا جزء العلة ولا شرط
ذاتها لأن العلة تقف عليه في ذاتها
ثم الشرط قد يكون عقليا وهو معلوم
وقد يكون شرعيا فهذا هو الشرط الشرعي وهو كالإحصان
فإنه شرط اقتضاء الزنا لوجوب الرجم
المسألة الثانية
صيغة الشرط إن وإذا وهما بعد الاشتراك في كون كل واحد
منهما صيغة الشرط يفترقان في أن إن تدخل على المحتمل لا على
المتحقق وإذا تدخل عليهما تقول أنت طالق إذا احمر البسر وإن
58

دخلت الدار فالأول محقق والثاني محتمل ولا تقول أنت طالق إن
احمر البسر إلا إذا لم يتيقن ذلك
المسألة الثالثة
في أن المشروط متى يحصل
وذلك يستدعي مقدمة وهي أن الشرط على أقسام ثلاثة
أحدها
الذي يستحيل أن يدخل في الوجود إلا دفعة واحدة بتمامه سواء كان ذلك
لأنه في نفسه واحد لا تركيب فيه أو إن كان مركبا لكن يستحيل
أن يدخل شئ من اجزائه في الوجود الا مع الاخر
ثانيا
ما يستحى ان يدخل بجميع اجرائه في الوجود كالكلام والحركة فإن
المتكلم بلفظة يكون حينما وجد الحرف الأول منها لا يكون الثاني
حاصلا وحين حصل الثاني صار الأول فانيا
وثالثها
ما يصح أن يدخل في الوجود تارة بمجموعه وتارة بتعاقب أجزائه
59

ثم نقول على هذه التقديرات الثلاثة فالشرط إما عدمها وإما
وجودها
فإن كان الشرط عدمها حصل الحكم في الأقسام الثلاثة في أول زمان
عدمها
وإن كان الشرط وجودها فنقول أما في القسم الأول فالحكم يحصل
مقارنا لأول زمان وجود الشرط
وأما في القسم الثاني فإنه يحصل عند حصول آخر جزء من أجزاء
الشرط في الوجود لأنه ليس لذلك المجموع وجود في التحقيق بل
أهل العرف يحكمون عليه بالوجود وإنما يحكمون عليه بذلك
عند دخول آخر جزء من أجزائه في الوجود والحكم كان معلقا على وجوده
فوجب أن يحصل الحكم في ذلك الوقت
وأما في القسم الثالث فنقول وجوده حقيقة إنما يتحقق عند
دخول جميع أجزائه في الوجود دفعة واحدة لكنا في القسم الثاني عدلنا
عن هذه الحقيقة للضرورة وهي مفقودة في هذا القسم فوجب اعتبار
الحقيقة حتى إنه إن حصل مجموع أجزائها دفعة واحدة ترتب الجزاء عليه
وإلا فلا
60

هذا مقتضى البحث الأصولي اللهم إلا إذا قام دليل شرعي على
العدول عنه
المسألة الرابعة
الشرطان إذا دخلا على جزاء فإن كانا شرطين على الجمع لم
يحصل المشروط إلا عند حصولهما معا وهو كقوله إن دخلت الدار وكلمت
زيدا فأنت طالق
ولو رتب عليهما جزاءين كان كل واحد من الشرطين معتبرا في كل واحد
من الجزاءين لا على التوزيع بل على سبيل الجمع
وإن كانا على سبيل البدل كان كل واحد منهما وحده كافيا
في الحكم كقولك إن دخلت الدار أو كلمت زيدا
المسألة الخامسة
الشرط الواحد إذا دخل على مشروطين فإما أن يدخل عليهما على
سبيل الجمع أو على سبيل البدل
فالأول كقولك إن زنيت جلدتك ونفيتك ومقتضاه حصولهما
معا
والثاني كقولك إن زنيت جلدتك أو نفيتك ومقتضاه أحدهما مع
61

أن التعيين فيه إلى القائل والله أعلم
المسألة السادسة
اختلفوا في أن الشرط الداخل على الجمل هل يرجع حكمه إليها
بالكلية
فاتفق الإمامان الشافعي وأبو حنيفة رحمة الله عليهما على
رجوعه إلى الكل
وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه حتى إنه إن كان
متأخرا اختص بالجملة الأخيرة
وإن كان متقدما اختص بالجملة الأولى
والمختار التوقف كما في مسألة الاستثناء
المسألة السابعة
اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام ودليله ما مر في الاستثناء
واتفقوا على أنه يحسن التقييد بشرط أن يكون الخارج أكثر من الباقي
وإن اختلفوا فيه في الاستثناء
62

المسألة الثامنة
لا نزاع في جواز تقديم الشرط وتأخيره إنما النزاع في الأولى
ويشبه أن يكون الأولى هو التقديم خلافا للقراء
لنا
أن الشرط متقدم في الرتبة على الجزاء لأنه شرط تأثير المؤثر
فيه وما يستحق التقديم طبعا يستحق التقديم وضعا والله أعلم
63

روى الباب الثالث
في
تخصيص العام بالغاية والصفة
وفيه فصلان
الفصل الأول
في
تقييد العام بالغاية
وفيه أبحاث
البحث الأول
أن غاية الشئ نهايته وطرفه ومقطعه
الثاني
ألفاظها وهي حتى وإلى كقوله تعالى ولا تقربوهن
65

حتى يطهرن وقوله وأيديكم إلى المرافق
الثالث
التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بخلاف
الحكم فيما قبلها لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم يكن العام
منقطعا فلم تكن الغاية غاية
والأولى أن يقال الغاية إما أن تكون منفصلة عن ذي الغاية بمفصل
معلوم كما في قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل أو لا تكون
كذلك كقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فإن
المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس
أما القسم الأول فيجب أن يكون حكم ما بعد الغاية بخلاف حكم
ما قبله لأن انفصال أحدهما عن الآخر معلوم بالحس
66

وأما الثاني
فلا يجب أن يكون حكم ما بعده بخلاف ما قبله لأنه لما
لم يكن المرفق منفصلا عن اليد بمفصل معلوم معين لم يكن تعيين
بعض المفاصل لذلك أولى من بعض فوجب من ها هنا دخول ما بعده
فيما قبله
الرابع
يجوز اجتماع الغايتين كما لو قيل لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى
يغتسلن فها هنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة وعبر عن
الأول به لقربه منها واتصاله بها
67

الفصل الثاني
في
تقييد العام بالصفة
والصفة إما أن تكون مذكورة عقيب شئ واحد كقولنا رقبة مؤمنه ولا
شك في عودها إليه
أو عقيب شيئين وها هنا إما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر
كقولك أكرم العرب والعجم المؤمنين فها هنا الصفة تكون عائدة إليهما
وإما أن لا تكون كذلك كقولك أكرم العلماء وجالس الفقهاء الزهاد
فها هنا الصفة عائدة بين إلى الجملة الأخيرة وأن كان للبحث فيه مجال كما
في الاستثناء والشرط والله أعلم
69

القول
في تخصيص العام بالأدلة المنفصلة
فنقول
تخصيص العام إما أن يكون بالعقل أو بالحس أو بالدلائل السمعية
وهو على وجهين
تخصيص المقطوع بالمقطوع
وتخصيص المقطوع بالمظنون
فلنعقد أهل في كل واحد فصلا
71

الفصل الأول
في
تخصيص العموم بالعقل
هذا قد يكون بضرورة العقل كقوله تعالى الله خالق كل شئ
فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه
وبنظر العقل كقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا فإنا نخصص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما
ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه
عندي أنه لا خلاف في المعنى بل في اللفظ
أما أنه لا خلاف في المعنى فلأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في
جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور فإما أن نحكم بصحة
مقتضى العقل والنقل فيلزم صدق النقيضين وهو محال
أو نرجح النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل النقل
73

فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح في الأصل لتصحيح
الفرع يوجب القدح فيهما معا
وأما أن نرجح حكم العقل على مقتضى العموم وهذا هو مرادنا من
تخصيص العموم بالعقل
وأما البحث اللفظي فهو أن العقل هل يسمى مخصصا أم لا
فنقول إن أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام
ببعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضي لذلك الاختصاص
هو الإرادة القائمة بالمتكلم والعقل يكون دليلا على تحقق تلك
الإرادة فالعقل يكون دليل المخصص لا نفس المخصص ولكن
على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ولا السنة
للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ
فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به
قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين
وذلك إنما عرف بالعقل
74

الفصل الثاني
في
التخصيص بالحس
وهو كما في قوله تعالى وأوتيت من كل شئ فإنه لم يكن شئ
من السماء والعرش والكرسي في يدها
75

الفصل الثالث
في
تخصيص المقطوع بالمقطوع
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في تخصيص الكتاب بالكتاب وهو جائز خلافا لبعض أهل
الظاهر
لنا إن وقوعه دليل جوازه لأن قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء مع قوله تعالى وأولات الأحمال حديث أجلهن أن يضعن حملهن
وكذلك قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن مع قوله تعالى
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب لا يخلو إما أن نجمع
بين دلالة العام على عمومه والخاص على خصوصه وذلك محال
وإما أن نرجح أحدهما على الآخر وحينئذ زوال الزائل إن كان على
سبيل التخصيص فقد حصل الغرض
77

وإن كان بالنسخ فقد حصل الغرض أيضا لأن كل من جوز نسخ
الكتاب بالكتاب جوز تخصيصه به أيضا
احتجوا بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوض البيان إلى
الرسول عليه الصلاة والسلام فوجب أن لا يحصل البيان إلا بقوله
والجواب
أنه معارض بقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ولأن
تلاوة النبي ص آية التخصيص بيان منه له والله أعلم
المسألة الثانية
في تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة وهو جائز أيضا لأن
العام والخاص مهما اجتمعا فإما أن يعمل بمقتضاهما أو يترك العمل
بهما أو يرجح العام على الخاص
وهذه الثلاثة باطلة بالإجماع فلم يبق إلا تقديم الخاص على العام
المسألة الثالثة
تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة قولا كان أو فعلا جائز للدليل
الذي مر
وأيضا قد وقع ذلك
أما بالقول فلأنهم خصصوا عموم قوله تعالى يوصيكم الله في
78

أولادكم بقوله ص القاتل لا يرث وقوله ص لا يتوارث أهل
ملتين
79

وأما بالفعل عند فلأنهم خصصوا قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة بما تواتر عنه ص من رجم المحصن
وأيضا تخصيص السنة المتواترة بالكتاب جائز
80

وعن بعض فقهائنا أنه لا يجوز
ودليله التقسيم الذي مر
المسألة الرابعة
في تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالإجماع وهو جائز لأنه
واقع فإنهم خصصوا آية الإرث بالإجماع على أن العبد لا يرث
وخصصوا آية الجلد بالإجماع على أن العبد كالأمة في تنصيف الحد
وأما تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة ف إنه غير جائز
للإجماع ولأن إجماعهم على الحكم العام مع سبق المخصص خطأ
والإجماع على الخطأ لا يجوز
المسألة الخامسة
في أن تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بفعل الرسول ص هل
هو جائز أم لا
والتحقيق فيه أن اللفظ العام إما أن يكون متناولا للرسول ص أو لا
يكون متناولا له
فإن كان متناولا له كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم في حقه
وهل يكون مخصصا للعموم في حق غيره فنقول
81

إن دل دليل على أن حكم غيره كحكمه في الكل مطلقا أو في الكل
إلا مخصه الدليل أو في تلك الواقعة كان ذلك تخصيصا في حق
غيره ولكن المخصص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده بل الفعل مع
ذلك الدليل وإن لم يكن كذلك لم يجز تخصيص ذلك العام في حق
غيره
وأما إن كان اللفظ العام غير متناول للرسول عليه السلام بل للأمة
فقط فإن قام الدليل على أن حكم الأمة مثل حكم النبي ص صار العام
مخصوصا بمجموع فعل الرسول عليه السلام مع ذلك الدليل وإلا فلا
واحتج من منع هذا التخصيص مطلقا بأن المخصص للعام
هو الدليل الذي دل على وجوب متابعته وهو قوله تعالى فاتبعوه وذلك
أعم من العام الذي يدل على بعض الأشياء فقط فالتخصيص بالفعل
يكون تقديما للعام على الخاص وهو غير جائز
والجواب
أن المخصص ليس مجرد قوله تعالى فاتبعوه بل هو مع
ذلك الفعل ومجموعهما أخص من العام الذي ندعي تخصيصه بالفعل
المسألة السادسة
من فعل ما يخالف مقتضى العموم بحضر الرسول ص فلم ينكره
82

عليه فعدم الإنكار من الرسول ص قاطع في تخصيص العام في حق ذلك
الفاعل
أما في حق غيره فإن ثبت أن حكمه ص في الواحد حكمه في
الكل كان ذلك التقرير تخصيصا في حق الكل وإلا فلا والله أعلم
83

الفصل الرابع
في
تخصيص المقطوع بالمظنون
وفيه مسائل
المسألة الأولى
يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عندنا وهو قول الشافعي وأبي
حنيفة ومالك رحمهم الله
وقال قوم لا يجوز أصلا
وقال عيسى بن أبان إن كان قد خص قبل ذلك بدليل مقطوع
به جاز وإلا فلا
وقال الكرخي إن كان قد خص بدليل منفصل صار مجازا فيجوز
ذلك وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز
وأما القاضي أبو بكر رحمه الله إنه اختار التوقف
85

لنا
أن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من
العموم فوجب تقديمه على العموم
إنما قلنا إنهما دليلان لأن العموم دليل بالاتفاق
وأما خبر الواحد فهو أيضا دليل لأن العمل به يتضمن دفع ضرر
مظنون فكان العمل به واجبا فكان دليلا
وإذا ثبت ذلك وجب تقديمه على العموم لأن تقديم العموم عليه
يفضي إلى إلغائه بالكلية أما تقديمه على العموم فلا يفضي إلى إلغاء
العموم بالكلية فكان ذلك أولى كما في سائر المخصصات
وأما جمهور الأصحاب فقالوا أجمعت الصحابة على تخصيص
عموم القرآن بخبر الواحد وبينوه بخمس صور
إحداها
أنهم خصصوا قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم بما رواه
الصديق رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال نحن معاشر الأنبياء
لا نورث
86

وثانيها
خصصوا عموم قوله تعالى فإن كن نساء فوق لأنه اثنتين فلهن ثلثا
ما ترك بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة أنه ص جعل
للجدة السدس لأن المتوفاة إذا خلفت زوجا وبنتين وجدة فللزوج الربع
87

ثلاثة وللبنين الثلثان ثمانية وللجدة السدس اثنان عالت
المسألة إلى ثلاثة عشر وثمانية من ثلاثة عشر أقل من ثلثي التركة
وثالثها
أنهم خصصوا قوله تعالى وأحل الله البيع بخبر أبي سعيد في
المنع من المنع من بيع الدرهم بالدرهمين
88

ورابعها
خصصوا قوله تعالى اقتلوا المشركين بخبر عبد الرحمن بن
عوف في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب
وخامسها
خصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بخبر أبي
هريرة في المنع من نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت
أختها
89

ولقائل أن يقول هل أجمعت الصحابة على تخصيص هذه العمومات
في هذه الصور أو ما أجمعت
فإن قلتم ما أجمعوا فقد سقط دليلكم وإن قلتم أجمعوا فلم
لا يجوز أن يقال المخصص لهذه العمومات ذلك الإجماع
فإن قلت لا بد لذلك الإجماع من مستند هو هذه الأخبار إذ رب
إجماع خفي مستنده لاستغنائهم بالإجماع عنه
90

سلمنا أن ذلك المستند هو هذه الأخبار لكن لعل هذه الأخبار
كانت متواترة عندهم ثم صارت آحادا عندنا
واحتج المانعون بالإجماع والخبر والمعقول
أما الإجماع فهو أن عمر رضي الله عن رد خبر فاطمة بنت قيس
وقال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت
أو كذبت
وأما الخبر فما روي أنه ص قال إذا روي عني حديث فاعرضوه على
كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه والخبر الذي يخصص
91

الكتاب على مخالفة الكتاب فوجب رده
وأما المعقول فوجهان
الأول
أن الكتاب مقطوع به وخبر الواحد مظنون والمقطوع أولى من المظنون
والثاني
ان النسخ تخصيص في الأزمان والتخصيص تخصيص في الأعيان
فنقول لو جاز التخصيص بخبر الواحد في الأعيان لكان لأجل أن
تخصيص العام أولى من إلغاء الخاص وهذا المعنى قائم في النسخ فكان
يلزم جواز النسخ بخبر الواحد ولما لم يجز ذلك علمنا أن ذلك أيضا
غير جائز
والجواب عن الأول
أنا لا ندعي تخصيص العموم بكل ما جاء من أخبار الآحاد حتى يكون
ذلك علينا وإنما نجوزه بالخبر الذي لا يكون راويه متهما بالكذب والنسيان
وهذا الشرط ما كان حاصلا هنا لأن عمر رضي الله عنه قدح في روايتها
بذلك فلم يكن قادحا في غرضنا بل هو بأن يكون حجة لنا أولى وذلك
لأن عمر رضي الله عنه بين أن روايتها إنما صارت مردودة لكون الراوي غير
مأمون من الكذب والنسيان ولو كان خبر الواحد المقتضي لتخصيص
93

الكتاب مردودا كيف ما كان لما كان لذلك التعليل وجه
وعن الثاني
أن ما ذكرتموه يقتضي أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة فإن
قلتم إن ما يقتضي تخصيص الكتاب لا يكون على خلافه
قلنا في مسألتنا ذلك بعينه
وعن الثالث أن البراءة الأصلية يقينية ثم إنا نتركها بخبر الواحد فبطل
قولكم إن المقطوع لا يترك بالمظنون
ثم نقول لا نسلم حصول التفاوت وبيانه من وجهين
الأول أن الكتاب مقطوع في متنه مظنون في دلالته والخبر مظنون في
دلالته فلم قلتم إنه حصل التفاوت بينهما على هذا التقدير
الثاني أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالخبر المظنون لم
يكن وجوب العمل مظنونا لأن تقدير ذلك أن الله تعالى قال مهما
حصل في قلبكم ظن صدق الراوي فاقطعوا أن حكمي ذلك
فإذا وجدنا ذلك الظن واستدللنا به على الحكم كنا قاطعين
بالحكم وإذا كان كذلك فلم قلتم إن التفاوت حاصل على هذا التقدير
وعن الرابع أن الأصوليين اعتمدوا في الجواب على حرف
واحد وهو أن العقل ليس يأبى ذلك وإنما فصلنا بينهما لإجماع
الصحابة على الفصل بينهما فقبلوا خبر الواحد في التخصيص وردوه في
النسخ
94

وهذا الجواب ضعيف
لأنا بينا أن الذي عولوا عليه في أنهم قبلوا خبر الواحد في التخصيص
ضعيف
وإذا ثبت ذلك فنقول ثبت بما ذكرنا أن القياس يقتضي أنه لو قبل خبر
الواحد في التخصيص لوجب قبوله في النسخ وثبت بالاتفاق أنهم ما قبلوه
في النسخ فوجب أن يقال إنهم ما قبلوه في التخصيص أيضا ضروة
العمل بالدليل
والجواب الصحيح لا يحصل إلا بذكر الفرق بينهما وهو أن
التخصيص أهون من النسخ ولا يلزم من تأثير الشئ في الأضعف تأثيره في
الأقوى أخبرنا والله أعلم
تنبيه
فأما قول عيسى بن أبان والكرخي فمبنيان على حرف واحد وهو أن
العام المخصوص عند عيسى مجاز والعام المخصوص بالدليل
المنفصل مجاز عند الكرخي وإذا صار مجازا صارت دلالته مظنونة ومتنه
مقطوعا وخبر الواحد متنه مظنون ودلالته مقطوعة فيحصل التعادل
فأما قبل ذلك فإنه حقيقة في العموم فيكون قاطعا في متنه وفي
دلالته فلا يجوز أن يرجح عليه المظنون
فهذا هو مأخذهم والكلام عليه هو ما تقدم والله أعلم
95

المسألة الثانية
يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس وهو قول
الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي
هاشم أخيرا
ومنهم من منع منه مطلقا وهو قول الجبائي وأبي هاشم أولا
ومنهم من فصل ثم ذكروا فيه وجوها أربعة
الأول قول عيسى بن أبان أن تطرق التخصيص إلى العموم جاز وإلا
فلا
والثاني قول الكرخي وهو أنه إن خص بدليل منفصل جاز وإلا
فلا
والثالث قول كثير من فقهائنا ومنهم ابن سريج يجوز بالقياس
الجلي دون الخفي
ثم اختلفوا في تفسير الجلي والخفي على ثلاثة أوجه
أحدها أن الجلي هو قياس المعنى والخفي هو قياس
الشبه
وثانيها أن الجلي هو مثل قوله ص لا يقضي القاضي وهو
غضبان وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن إتمام
96

الفكر حتى يتعدى إلى الجائع والحاقن
وثالثها قول أبي سعيد الإصطخري وهو أن الجلي هو الذي
إذا قضى القاضي بخلافة ينتقض قضاؤه
والرابع قول الغزالي رحمه الله وهو أن العام والقياس إن
تفاوتا في إفادة الظن رجحنا الأقوى وإن تعادلا توقفنا
وأما القاضي أبى بكر وأمام الحرمين فقد ذهبا إلى الوقف
قال إمام الحرمين والقول بالوقف يشارك القول بالتخصيص من وجه
ويباينه من وجه
أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس إسقاط
الاحتجاج بالعام والوقف يشاركه فيه
97

وأما المباينة فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس
والواقف لا يحكم به
تنبيه
نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى
عموم الخبر المتواتر وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر
الواحد والخلاف جار في الكل وكذا القول في قياس الخبر المتواتر
بالنسبة إلى عموم الكتاب وبالعكس
أما قياس خبر الواحد إذا عارضه عموم الكتاب أو السنة المتواترة
وجب أن يكون تجويزه أبعد
لنا
أن العموم والقياس دليلان متعارضان والقياس خاص فوجب
تقديمه
أما ان العموم دليل فبالاتفاق
وأما أن القياس دليل فلأن العمل به دفع ضرر مظنون فكان العمل
به واجبا وسيأتي تقرير هذه الدلالة في باب القياس إن شاء الله تعالى
وإذا ثبت ذلك فالتقرير ما تقدم في المسألة الأولى
واحتج المانعون بأمور
98

أحدها أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم والحكم المدلول
عليه بالقياس مظنون والمعلوم راجح على المظنون
وثانيها أن القياس فرع النص فلو خصصنا العموم بالقياس لقدمنا
الفرع على الأصل وإنه غير جائز
وثالثها أن حديث معاذ دل
99

على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد ذلك الحكم في الكتاب والسنة وذلك
يمنع من تخصيص النص بالقياس
ورابعها أن الأمة مجمعة على أن من شرط القياس أن لا يرده النص
وإذا كان العموم مخالفا له فقد رده
100

وخامسها أنه لو جاز التخصيص بالقياس لجاز النسخ به وقد
تقدم تقريره
والجواب عن الأول ما تقدم
وعن الثاني أن القياس المخصص للنص يكون فرعا لنص آخر
وحينئذ يزول السؤال
فإن قلت لما كان القياس فرعا لنص آخر فك مقدمة لا بد منها في
دلالة النص على الحكم كانت معتبرة في الجانبين وأما المقدمات
التي لا بد منها في دلالة القياس فهي مختصة بجانب القياس فقط
فإذن إثبات الحكم بالقياس يتوقف على مقدما أكثر وبالعموم على
مقدمات أقل فكان إثبات الحكم بالعموم أظهر من إثباته بالقياس والأقوى
لا يصير مرجوحا بالأضعف
قلت قد تكون دلالة بعض العمومات على مدلوله أقوى وأقل مقدمات
من دلالة عموم آخر على مدلوله
وعند هذا يظهر الحق ما قاله الغزالي رحمه الله وهو أن دلالة
العموم المخصوص على مدلوله إذا افتقرت إلى مقدمات كثيرة ودلالة
101

العموم الذي هو أصل القياس إذا افتقرت إلى مقدمات قليلة بحيث تكون
تلك المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات قليلة بحيث تكون تلك
المقدمات مع المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات العموم
المخصوص أو أقل جاز وحينئذ لا يتوجه ما قالوه
وعن الثالث أن حديث معاذ إن اقتضى أنه لا يجوز تخصيص الكتاب
والسنة بالقياس فليقتض أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة ولا
شك في فساد ذلك
وعن الرابع أن نقول ما الذي تريد بقولك شرط القياس أن لا
يدفعه النص
إن أردتم أن شرطه أن لا يكون رافعا لكل ما اقتضاه النص فحق
وإن أردتم أن لا يكون رافعا لشئ مما اقتضاه النص فهو عين
المتنازع
وعن الخامس ما تقدم في المسألة الأولى
المسألة الثالثة
إذا قلنا المفهوم حجة فلا شك أن دلالته أضعف من دلالة المنطوق
فهل يجوز تخصيص العام به
102

مثاله إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم ثم قال الشارع في
سائمة الغنم زكاةفهذا مفهومه يقتضي تخصيص ذلك العام
ولقائل أن يقول إنما رجحنا الخاص على العام لأن دلالة الخاص على
ما تحته أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص والأقوى راجح
وأما ها هنا فلا نسلم أن دلالة المفهوم على مدلوله أقوى من دلالة العام
على ذلك الخاص بل الظاهر أنه أضعف وإذا كان كذلك كان
تخصيص العام بالمفهوم ترجيحا للأضعف على الأقوى وانه لا يجوز
والله أعلم
103

القول في بناء العام على الخاص
روي عن رسول الله ص خبران خاص وعام وهما
كالمتنافيين فإما أن نعلم تاريخهما أو لا نعلم
فإن علمنا التاريخ فإما أن نعلم مقارنتهما أو نعلم تراخي أحدهما عن
الآخر
فإن علمنا مقارنتهما نحو أن يقول في الخيل زكاة ويقول
عقيبه ليس في الذكور من الخيل زكاة فالواجب أن يكون الخاص
مخصصا للعام
ومنهم من قال بل ذلك القدر من العام يصير معارضا للخاص
لنا وجوه
الأول
أن الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام والأقوى راجح فالخاص
راجح
بيان الأول أن العام يجوز إطلاقه من غير إرادة ذلك الخاص أما
104

ذلك الخاص فلا يجوز إطلاقه من غير إرادة ذلك الخاص
فثبت أنه أقوى
الثاني
أن السيد إذا قال لعبده اشتر كل ما في السوق من اللحم ثم قال
عقيبه لا تشتر لحم البقر فهم منه إخراج لحم البقر من كلامه الأول
الثالث
إن إجراء العام على عمومه إلغاء للخاص واعتبار الخاص لا يوجب
إلغاء واحد منهما فكان ذلك أولى
فإن قلت هلا حملتم قوله في الخيل زكاة على التطوع وقوله لا
زكاة في الذكور من الخيل على نفي الوجوب وهذا وإن كان مجازا لكن
التخصيص أيضا مجاز فلم كان مجازكم أولى من مجازنا
لو قلت إنا نفرض الكلام فيما إذا قال أوجبت الزكاة في الخيل ثم
قال لا أوجبها في الذكور من الخيل
ولأن قوله في الخيل زكاة يقتضي وجوبها في الإناث والذكور فلو
حملناه على التطوع لكنا قد عدلنا باللفظ عن ظاهره في الإناث لدليل لا
يتناول الإناث وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور في قوله في الخيل
زكاة لأنا نكون قد أخرجنا من العام شيئا لدليل يتناوله واقتضى إخراجه
105

أما إذا علمنا تأخير الخاص عن العام فإن ورد الخاص قبل حضور
وقت العمل بالعام كان ذلك بيانا للتخصيص
ويجوز ذلك عند من يجوز تأخير بيان العام ولا يجوز عند
المانعين منه
وإن ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام كان ذلك نسخا وبيانا
لمراد المتكلم فيما بعد دون ما قبل لأن البيان لا يتأخر عن وقت
الحاجة
أما إن كان العام متأخرا عن الخاص فعند الشافعي وأبي الحسين
البصري أن العام يبتى يكون على الخاص وهو المختار
وعند أبي حنيفة والقاضي عبد الجبار بن أحمد أن العام المتأخر
ينسخ الخاص المتقدم وتوقف ابن القاص فيه
106

لنا وجوه
الأول
الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام والأقوى راجح فالخاص
راجح
الثاني
إن إجراء العام على عمومه يوجب إلغاء الخاص واعتبار الخاص لا
يوجب إلغاء واحد منهما فكان أولى
وأحتج أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله بأمور
أحدها
ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كنا نأخذ بالأحدث
فالأحدث
107

فإذا كان العام متأخرا كان أحدث فوجب الأخذ به
وثانيها
لفظان تعارضا وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط الأخير على السابق
كما لو كان الأخير خاصا
واحترزنا بقولنا لفظان عن العام الذي يخصه العقل فإنا هناك
سلطنا المتقدم
وثالثها
أن اللفظ العام في تناوله لآحاد ما دخل تحته يجري مجرى ألفاظ
خاصة كل واحد منها يتناول واحدا فقط من تلك الآحاد لأن قوله
تعالى اقتلوا المشركين قائم مقام قوله اقتلوا زيدا المشرك اقتلوا عمرا
أقتلوا خالدا ولو قال ذلك بعد ما قال لا تقتلوا زيدا كان
الثاني ناسخا
واحتج ابن القاص على التوقف
بأن هذين الخطابين كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من
108

وجه آخر لأنه إذا قال لا تقتلوا اليهود ثم قال بعده اقتلوا
المشركين فقوله لا تقتلوا اليهود أخص من قوله اقتلوا المشركين من
حيث إن اليهودي أخص من المشرك وأعم منه من حيث إنه دخل في
المتقدم من الأوقات ما لم يدخل في المتأخر وهو ما بين زمان ورود
المتقدم والمتأخر
فظهر أن الخاص المتقدم أعم في الأزمان وأخص في الأعيان والعام
المتأخر بالعكس فكل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص
من وجه آخر وإذا ثبت ذلك وجب التوقف والرجوع إلى الترجيح كما في
كل خطابين هذا شأنهما
والجواب عن الأول
أن هذا قول الصحابي فيكون ضعيف الدلالة فنخصه بما إذا كان
الأحدث هو الخاص
109

وعن الثاني
أن الفرق ما ذكرنا من أن الخاص أقوى من العام فوجب تقديمه
عليه ولأنا لو لم نسلط الخاص المتأخر على العام المتقدم لزم إلغاء
الخاص
أما لو لم نسلط العام المتأخر على الخاص المتقدم فلا يلزم
ذلك فظهر الفرق
وعن الثالث
أنه إذا كان اللفظ عاما احتمل التخصيص وليس كذلك إذا كان خاصا
ولهذا لو كان قوله لا تقتلوا اليهود مقارنا لقوله اقتلوا المشركين
لخصه
ولو قارن المفصل لناقضه ولم يخصه لأن الخاص لا يحتمل
التخصيص
وأما الذي تمسك به ابن القاص فهو ضعيف لأنه فرض
الخاص المتقدم نهيا فلا جرم عم الأزمان وفرض العام المتأخر أمرا
فلا جرم لم يعم الأزمان فصح له ما ادعاه من كون الخاص أعم من العام
من هذا الوجه
أما لو فرضنا الخاص المتقدم أمرا والعام المتأخر نهيا فإنه لا يستقيم
110

كلامه لأن الخاص المتقدم لا شك أنه خاص في الأعيان وهو أيضا خاص
في الأزمان لا الأمر لا يفيد التكرار
أما العام المتأخر فإذا فرضناه نهيا كان أعم من المتقدم في الأعيان
بالاتفاق وفي الأزمان أيضا لأن الأمر لا يتناول كل الأزمان بل يتناول
زمانا واحدا
فها هنا المتأخر أعم من المتقدم من كل الوجوه فبطل ما قالوه والله
أعلم
أما إذا لم يعرف التاريخ بينهما فعند الشافعي رضي الله عنه
أن الخاص منهما يخص العام
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يتوقف فيهما ويرجع إلى غيرهما أو
إلى ما يرجح أحدهما على الآخر
وهذا سديد على أصله لأن الخاص دائر بين أن
يكون منسوخا وبين أن يكون مخصصا وناسخا مقبولا وناسخا مردودا وعند حصول التردد
يجب التوقف
واعتمد أصحابنا فيه على وجهين
أحدهما
أنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه أو يتقدمه أو يتأخر عنه
111

وقد ثبت تخصيص العام بالخاص عندنا على التقديرات الثلاثة
فعند الجهل بالتاريخ يكون الحكم أيضا كذلك
وهذا ضعيف لأن الخاص المتأخر عن العام إن ورد قبل حضور
وقت العمل بالعام كان تخصيصا
وإن ورد بعده كان نسخا
وعلى هذا نقول إن كان العام والخاص مقطوعين أو مظنونين أو العام
مظنونا والخاص مقطوعا وجب ترجح الخاص على العام لأن الخاص دائر
بين أن يكون ناسخا أو مخصصا
وعلى التقدير ين فالخاص مقدم في هذه الصورة
أما إذا كان العام مقطوعا به والخاص مظنونا فبتقدير أن يكون
الخاص مخصصا وجب العمل به لأن تخصيص الكتاب بخبر الواحد
جائز
لكن بتقدير أن يكون ناسخا لم يجب العمل به لأن نسخ الكتاب
بخبر الواحد لا يجوز
فالحاصل أن الخاص دائر بين أن يكون مخصصا وبين أن يكون
ناسخا مقبولا وبين أن يكون ناسخا مردودا
112

وإذا كان كذلك لم يجب تقديم الخاص على العام مطلقا
الثاني
أن العموم بالقياس مطلقا فلأن يخص بخبر الواحد أولى
وهو ضعيف لأن القياس يقتضي أصلا يقاس عليه فذلك الأصل إن كان
متقدما على العام لم يجز القياس عليه عندنا وكذا القول إذا لم يعرف تقدمه
وتأخره لا يجوز القياس عليه
والمعتمد أن فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصصون أعم
الخبرين بأخصهما مع فقد علمهم بالتاريخ
فإن قلت إن ابن عمر رضي الله عنهما لم يخص قوله تعالى
وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم بقوله ص لا تحرم الرضعة ولا
الرضعتان
113

وعنه أيضا لما سئل عن نكاح النصرانية حرمه محتجا بقوله
تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وجعل هذا العام رافعا
لقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب مع خصوصه
114

قلت ادعينا إجماع أهل هذه الأعصار ويحتمل أن يكون ابن عمر
امتنع من ذلك الدليل
تنبيه
إن الحنفية لما اعتقدوا أن الواجب في مثل هذا العام والخاص إما
التوقف وإما الترجيح ذكر عيسى بن أبان ثلاثة أوجه في الترجيح
أحدها
اتفاق الآمة على العمل بأحدها
وثانيها
عمل أكثر الأمة بأحد الخبرين وعيبهم على من لم يعمل به كعملهم
115

بخبر أبي سعيد وعيبهم علي ابن عباس حين نفى الربا في النقدين
116

وثالثها
أن تكون الرواية لأحدهما أشهر
وزاد أبو عبد الله البصري وجهين آخرين
أحدهما
أن يتضمن أحد الخبرين حكما شرعيا
وثانيهما
أن يكون أحد الخبرين بيانا للآخر بالاتفاق كاتفاقهم على أن قوله
ص لاقطع إلا في ثمن المجن بيان لآية السرقة
117

قال أبو الحسين البصري رحمه الله هذه الأمور أمارة لتأخر أحد
118

الخبرين لأن الخبر لو كان متقدما منسوخا لما اتفقت الأمة على
استعماله ولا عابوا من ترك استعماله ولما كان نقله أشهر ولما أجمعوا
على كونه بيانا لناسخه
وكون الحكم غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي تضمنه مصاحبا
للعقل وأن الخبر المتضمن للحكم الشرعي متأخر
وهذا الوجه ضعيف والله أعلم
119

القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم
مع أنه ليس كذلك
وفيه مسائل
المسألة الأولى
الخطاب الذي يرد جوابا عن سؤال سائل إما أن لا يكون مستقلا بنفسه
أو يكون
والأول على قسمين
لأن عدم استقلاله إما أن يكون لأمر يرجع إليه كقوله ص وقد سئل عن
بيع الرطب بالتمر أينقص أذا جف قالوا نعم قال فلا إذن
121

وإما أن يكون لأمر يرجع إلى العادة كقوله والله لا آكل في جواب
من يقول كل عندي لأن هذا الجواب مستقل بنفسه غير أن العرف
اقتضى عدم استقلاله حتى صار مفتقرا إلى السبب الذي خرج عليه
والقسم الثاني على ثلاثة أنواع لآن الجواب إما أن يكون أخص أو
مساويا أو أعم
والأعم إما أن يكون أعم مما سئل عنه كقوله ص لما سئل عن
بئر بضاعة الماء طهور لا ينجسه شئ
122

أو يكون أعم في غير ما سئل عنه كقوله ص وقد سئل عن ماء البحر
هو الطهور ماؤه الحل ميتته
123

إذا عرفت هذه الأقسام فنقول
أما الجواب الذي لا يستقل بنفسه فإنه يفيد مع سببه فيكون السبب
موجودا في كلام المجيب تقديرا وإلا لم يفد
ولو أن المتكلم أتى بالسبب في كلامه فقال والله لا آكل عندك
لكان اليمين مقصورا على الأكل عنده
وأما الجواب المستقل المساوي فلا إشكال فيه
وأما الأخص فهو جائز بثلاث شرائط
أحدها
أن يكون فيما خرج عن الجواب تنبيه على ما لم يخرج منه
وثانيها
أن يكون السائل من أهل الاجتهاد
وثالثها
أن لا تفوت المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد
وبدون هذه الشرائط لا يجوز و
أما إذا كان الجواب أعم في غير ما سئل مع عنه فلا شبهة في أنه يجري
على عمومه
124

أما إذا كان الجواب أعم مما سئل عنه فالحق أن العبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب خلافا للمزني وأبو ثور فإنهما زعما أن خصوص
السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ قال إمام الحرمين وهو الذي صح عن
الشافعي رضي الله عنه
لنا وجهان
الأول
أن المقتضى للعموم قائم وهو اللفظ الموضوع للعموم والمعارض
الموجود وهو خصوص السبب لا يصلح معارضا لأنه لا منافاة بين عموم
اللفظ وخصوص السبب فإن الشارع لو صرح وقال يجب عليكم أن
تحملوا اللفظ العام على عمومه عمومه وأن لا تخصصوه سعيد بخصوص سببه كان
ذلك جائزا والعلم بجوازه ضروري
الثاني
أن الأمة مجمعة على أن آية اللعان والظهار والسرقة
وغيرها إنما نزلت في أقوام معينين مع أن الأمة عمموا حكمها ولم
يقل أحد أن ذلك التعميم خلاف الأصل
واحتج المخالف
بأن المراد من ذلك الخطاب إما بيان ما وقع السؤال عنه أو غيره
125

فإن كان الأول وجب أن لا يزاد عليه وذلك يقتضي أن يتخصص
بتخصص السبب
وإن كان الثاني وجب أن لا يتأخر ذلك البيان عن تلك الواقعة
والجواب
أن ما ذكروه يقتضي أن يكون ذلك الحكم مقصورا على ذلك السائل
وفي ذلك الزمان والمكان والهيئة
وأيضا
فلم لا يجوز أن يكون ذلك السؤال الخاص اقتضى ذلك البيان العام لا
بد على امتناعه من دليل والله أعلم
تنبيه
هذا العام وإن كان حجة في موضع السؤال وفي غيره إلا أن دلالته
على موضع السؤال أقوى منها على غير ذلك الموضع
وهذا يصلح أن يكون من المرجحات والله أعلم
المسألة الثانية
الحق أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي وهو قول الشافعي
126

رضي الله عنه لأنه قال إن كان الراوي حمل الخبر على أحد محمليه
صرت إلى قوله وإن ترك الظاهر لم أصر إلى قوله خلافا لعيسى بن
أبان
ومثاله خبر أبي هريرة في أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب سبعا فإنه
خص ذلك بمذهب أبي هريرة في أنه يغسل ثلاثا
ومنهم من فصل فقال إن وجد خبر يقتضي تخصيصه أو وجد في
الأصول ما يقتضي ذلك لم يخص الخبر بمذهبه وإلا خص بمذهبه
لنا
أن مخالفة الراوي تحتمل أقساما ثلاثة طرفين وواسطة
127

أما طرف الإفراط فهو أن يقال الراوي عالم بالضرورة أنه ص أراد
بذلك العام الخاص إما لخبر آخر قاط يقتضي ذلك أو لشئ من
قرائن الأحوال
وهذا الاحتمال يعارضه أنه لو كان كذلك لوجب على الراوي أن يبين
ذلك إزالة للتهمة عن نفسه وللشبهة
وأما طرف التفريط فهو أن يقال إنه ترك العموم بمجرد الهوى وهو
معارض بما أن الظاهر من عدالته خلافه
وأما الوسط فهو أنه خالفه بدليل ظنه أقوى منه إما
محتكل قد أو قياس
وذلك الظن يحتمل أن يكون خطأ ويحتمل أن يكون صوابا
وإذا تعارضت الاحتمالات في مخالفة الراوي وجب تساقطها
والرجوع إلى العموم
128

واحتج المخالف
بأن مخالفة الراوي إن كانت لا عن طريق كان ذلك قادحا في
عدالته فالقدح في عدالته قدح في متن الخبر
وإن كانت عن طريق فذلك الطريق إما محتمل أو قاطع ولو كان
الدليل محتملا لذكره إزالة للتهمة عن نفسه والشبهة عن غيره ولما
بطل ذلك تعين القطع
والجواب
أن إظهاره لذلك الدليل المحتمل إنما يجب عليه مع من ناظره
فلعله لم تتفق تلك المناظرة
سلمنا أنه ذكره لكن لعله لم ينقل أو نقل لكنه لم يشتهر
والله أعلم
المسألة الثالثة
الحق أنه لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافا لأبي ثور
مثاله قوله ص أيما إهاب دبغ فقد طهر قال المراد جلد الشاة
129

لأنه قال صلى الله عليه وسلم في جلد شاة ميمونة دباغها طهورها
130

لنا
أن المخصص للعام لا بد وأن يكون بينه وبين العام منافاة ولا منافاة
بين كل الشئ وبعضه لأن الكل محتاج إلى البعض والمحتاج إليه لا
ينافي المحتاج
احتج المخالف
بأن تخصيص الشئ بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه فتخصيص
الخاص بالذكر يدل على نفي الحكم عن غيره وذلك يقتضي تخصيص
العام
والجواب
أنا لا نقول بدليل الخطاب سلمناه لكن التمسك بظاهر العموم
أولى من التمسك بالمفهوم على ما تقدم
المسألة الرابعة
اختلفوا في التخصيص بالعادات
والحق أن نقول العادات إما أن يعلم من حالها أنها كانت حاصلة في
زمان الرسول ص وأنه ص ما كان يمنعهم منها أو
يعلم أنها ما كانت حاصلة
131

أو لا يعلم واحد من هذين الأمرين
فإن كان الأول صح التخصيص بها لكن المخصص في
الحقيقة هو تقرير الرسول ص عليها
وإن كان الثاني لم يجز التخصيص بها لأن أفعال الناس لا تكون حجة
على الشرع بل لو أجمعوا عليه لصح التخصيص بها لكن
المخصص حينئذ هو الإجماع لا العادة
وإن كان الثالث كان محتملا للقسمين الأولين ومع احتمال كونه
غير مخصص لا يجوز القطع بذلك والله أعلم
المسألة الخامسة
كونه مخاطبا هل يقتضي خروجه عن الخطاب العام
أما في الخبر فلا لقوله تعالى وهو بكل شئ عليم لأن
اللفظ عام ولا مانع من الدخول
وأما في الأمر الذي جعل جزاء كقوله من دخل داري
فأكرمه فيشبه أن يكون كونه أمرا قرينة مخصصة والله أعلم
132

المسألة السادسة
الخطاب المتناول لما يندرج فيه النبي ص والأمة كقوله يا أيها
الناس يا أيها الذين آمنوا عام في حقهما
ومنهم من خصصه بالأمة قال لأن منصب الرسول ص يقتضي
إفراده بالذكر وهو باطل لأن اللفظ عام ولا مانع من دخول الرسول ص
فيه
وقال الصيرفي كل خطاب لم يصدر بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام
بتبليغه ولكن ورد مطلقا فالرسول ص مخاطب به كغيره
وكل ما كان مصدرا بأمر الرسول بتبليغه فذلك لا يتناوله كقوله قل
يا أيها الناس
المسألة السابعة
الخطاب المتناول لما يندرج فيه الحر والعبد والمسلم والكافر لا يخرج
عنه العبد والكافر
133

أما العبد فلأن اللفظ عام وقيام المانع الذي يوجب التخصيص
خلاف الأصل
وهذا القدر يوجب دخول العبد فيه بل العبادة التي تترتب على
المالكية لا تتحقق في حق العبد لأن العبد ليس له صلاحية
المالكية فأما فيما عداه فهو داخل فيه
فإن قلت المانع من ذلك هو ما ثبت من وجوب خدمته
لسيده في كل وقت يستخدمه فيه وذلك يمنعه من العبادات في هذه
الأوقات
فإن قلتم إنما يلزمه خدمة سيده لو فرغ من العبادات فنقول لم
كان تخصيص الدليل الدال على وجوب خدمة السيد بما دل على وجوب
العبادة أولى من تخصيص ما دل على وجوب العبادة بما دل على وجوب خدمة
السيد
قلت ما دل على وجوب خدمة السيد في حكم العام وما دل على
وجوب العبادات في حكم الخاص لأن كل عبادة يتناولها لفظ مخصوص كآية
134

الصلاة وآية الصيام والخاص متقدم على العام
وأما بيان أن كونه كافرا لا يخرجه عن العموم فقد ثبت في باب أن الكفار
مخاطبون بالشرائع والله أعلم
المسألة الثامنة
قصد المتكلم بخطابه إلى المدح أو إلى الذم لا يوجب تخصيص
العام
ومنع بعض فقهائنا من عموم قوله تعالى والذين يكنزون الذهب
والفضة وأبطلوا التعلق به في ثبوت الزكاة في الحلي وقالوا القصد
به إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة وليس القصد به العموم
والجواب
أنا فهمنا الذم من الآية لدلالة اللفظ عليه واللفظ دل على العموم
135

فوجب إثباته وليست دلالتها على الذم مانعة من دلالتها على العموم
المسألة التاسعة
عطف الخاص على العام لا يقتضي تخصيص العام
مثاله أن أصحابنا لما احتجوا على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله
ص لا يقتل مؤمن بكافر قالت الحنفية إنه ص عطف عليه قوله
ولا ذو عهد في عهده فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر
ثم إن الكافر الذي لا يقتل ذو العهد به هو الحربي فيجب أن يكون
136

الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف
والمعطوف عليه
والكلام عليه يقع في مقامين
الأول
أنا لا نسلم أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده معناه ولا ذو عهد
في عهده بكافر
بيانه أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده كلام تام وإذا كان كذلك
لم يجز إضمار تلك الزيادة
إنما قلنا أن الكلام تام لأنه قال ولا يقتل ذو عهد لكان من الجائز
أن يتوهم منه متوهم أن من وجد منه العهد ثم خرج عن عهده فإنه لا
يجوز قتله فلما قال في عهده علمنا أن هذا النهي مختص بكونه
في العهد
وإذا ثبت أن هذا القدر كلام تام لم يجز إضمار تلك الزيادة لأن
الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة
137

سلمنا
أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده معناه ولا ذو عهد في عهده
بكافر لكن لا نسلم أن هذا الكافر لما كان هو الحربي وجب أن يكون
المراد بقوله لا يقتل مؤمن بكافر هو الحربي
بيانه
أن مقتضى العطف مطلق الاشتراك لا الاشتراك من كل الوجوه وإذا
كان كذلك لم يجب ما قالوه والله أعلم
المسألة العاشرة
اختلفوا في أن العموم إذا تعقبه استثناء أو تقييد بصفة أو حكم
وكان ذلك لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله هل يجب أن يكون المراد بذلك
العموم ذلك البعض فقط أم لا
138

مثال الاستثناء قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم
تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ثم قال عز وجل وإن طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون
فاستثنى العفو وعلقه بكناية راجعة إلى النساء
ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من المالكات لأمورهن دون الصغيرة
والمجنونة فهل يجب أن يقال الصغيرة والمجنونة غير مرادة بلفظ النساء في
أول الكلام
مثال التقييد بالصفة قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
لعدتهن ثم قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني
الرغبة في مراجعتهن
ومعلوم أن ذلك لا يتأتى في البائنة
ومثال التقييد بحكم آخر قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء ثم قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك
وهذا أيضا لا يتأتى في البائن
إذا عرفت هذا فنقول
139

ذهب القاضي عبد الجبار إلى أنه لا يجب تخصيص ذلك العموم
بتلك الأشياء
ومنهم من قطع بالتخصيص
ومنهم من توقف وهو المختار
والدليل عليه أن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق وظاهر
الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم لأن الكناية يجب رجوعها إلى المذكور
المتقدم والمذكور المتقدم في الآية الأولى وهو المطلقات لا بعضهن ألا
ترى أن الإنسان إذا قال من دخل الدار من عبيدي ضربته إلا أن
يتوبوا انصرف ذلك إلى جميع العبيد وجرى مجرى أن يقول إلا أن
يتوب عبيدي الداخلون في الدار
وإذا ثبت ذلك فليست رعاية ظاهر العموم أولى من رعاية ظاهر
الكناية فوجب التوقف والله أعلم
140

القسم الرابع
من كتاب العموم والخصوص
في حمل المطلق على المقيد
وفيه مسائل
المسألة الأولى
المطلق والمقيد إذا وردا فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفا لحكم
الآخر أو لا يكون
والأول
مثل أن يقول الشارع آتوا الزكاة وأعتقوا رقبة مؤمنة ولا نزاع في أنه
لا يحمل المطلق على المقيد ها هنا لأنه لا تعلق بينهما أصلا
141

وأما الثاني
فلا يخلو إما أن يكون السبب واحدا أو يكون هناك سببان متماثلان
أو مختلفان وكل واحد من هذه الثلاثة فإما أن يكون الخطاب الوارد فيه
أمرا أو نهيا فهذه أقسام ستة فلنتكلم فيها
أما إذا كان السبب واحدا وجب حمل المطلق على المقيد لأن
المطلق جزء من المقيد والآتي بالكل آت بالجزء لا محالة فالآتي
بالمقيد يكون عاملا بالدليلين والآتي بغير ذلك المقيد لا يكون عاملا
بالدليلين بل يكون تاركا لأحدهما
والعمل بالدليلين عند إمكان العمل بهما أولى من الإتيان
بأحدهما وإهمال الآخر
فإن قيل لا نسلم أن المطلق جزء من المقيد بيانه أن الإطلاق والتقييد
ضدان والضدان لا يجتمعان
سلمنا ذلك لكن المطلق له عند عدم التقييد حكم وهو تمكن
المكلف من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة والتقييد ينافي هذه
المكنة فليس تقييد المطلق أولى من حمل المقيد على الندب وعليكم
الترجيح
142

والجواب
أما أن المطلق جزء من المقيد فلأنا بينا أن المراد من المطلق نفس
الحقيقة والمقيد عبارة عن الحقيقة مع قيد زائد ولا شك أن الإطلاق أحد
أجزاء الحقيقة المقيدة
قوله الإطلاق والتقييد ضدان
قلنا إن عنيت بالإطلاق كون اللفظ دالا على الحقيقة من حيث هي
هي مع حذف جميع القيود السلبية والإيجابية فلا نسلم أن ذلك ينافي
التقييد على ما بيناه
وإن عنيت بالإطلاق كون اللفظة دالة على الحقيقة الخالية عن جميع
القيود فنحن لا نريد بالإطلاق ذلك بل الأول
وفرق بين الحقيقة بشرط لا وبين الحقيقة بلا شرط فإن عدم
الشرط غير شرط العدم
وأيضا
فشرط الخلو عن جميع القيود غير معقول لأن هذا الخلو قيد
قوله المطلق له بشرط عدم التقييد حكم وهو التمكن من الإتيان
بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة
143

قلنا هذا الحكم غير مدلول عليه لفظا والتقييد مدلول عليه لفظا فهو
أولى بالرعاية
وأما فجانب النهي فهو أن يقول لا تعتق رقبة ثم يقول لا تعتق رقبة
كافرة والأمر فيه قريب مما مر
المسألة الثانية
اختلفوا في الحكمين المتماثلين إذا أطلق أحدهما وقيد الآخر
وسببهما مختلف
مثاله تقييد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان وإطلاقها في كفارة
الظهار
وفيه ثلاثة مذاهب اثنان طرفان والثالث هو الوسط
أما الطرفان فأحدهما قول من يقول من أصحابنا تقييد
أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا
وثانيهما
قول كافة الحنفية إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما البتة
144

وثالثها
القول المعتدل وهو مذهب المحققين منا أنه يجوز تقييد المطلق
بالقياس على ذلك المقيد
ولا ندعي وجوب هذا القياس بل ندعي أنه إن حصل القياس الصحيح
ثبت التقييد وإلا فلا
واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين
أما الأول فضعيف جدا لأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة
القتل رقبة مؤمنة وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن
أحد الكلامين مناقضا للآخر فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد
الآخر لفظا
احتجوا
بأن القرآن كالكلمة الواحدة وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة
واحدة وأطلقت في سائر الصور حملنا المطلق على المقيد فكذا
ها هنا
145

والجواب عن الأول
أن القرآن كالكلمة الواحدة في أنه لا يتناقض لا في كل شئ وإلا
وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد
وعن الثاني
أنا إنما قيدنا بالإجماع
وأما القول الثاني فضعيف لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع
للضرر المظنون عام في كل الصور
شبهة المخالف أن قوله أعتق رقبة يقتضي تمكين المكلف من إعتاق
أي رقبة شاء من رقاب الدنيا فلو دل القياس على أنه لا يجزيه إلا المؤمنة
لكان القياس دليلا على زوال تلك المكنة الثابتة بالنص فيكون القياس
ناسخا وأنه خلاف الأصل
والجواب
هذا لا يتم على مذهبكم لأنكم اعتبرتم سلامة الرقبة عن كثير من
العيوب فإن كان اشتراط الإيمان نسخا فكذا نفي تلك العيوب يكون
نسخا
146

وأيضا
فقوله أعتق رقبة لا يزيد في الدلالة على اللفظ العام وإذا جاز
التخصيص العام بالقياس فلأن يجوز هذا التخصيص به أولى
تنبيه
إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين
متضادين كيف يكون حكمه
مثاله قضاء رمضان الوارد مطلقا في قوله تعالى فعدة من أيام
أخر وصوم التمتع الوارد مقيدا بالتفريق في قوله تعالى فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدا
بالتتابع في قوله عز وجل فصيام شهرين متتابعين
اختلفوا فيه على حسب ما مر في المسألة السلفة
فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظا ترك المطلق ها هنا على
إطلاقه لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر
ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله ها هنا على ما كان
القياس عليه والله أعلم
147

النوع الرابع
في
المجمل والمبين
وفيه مقدمة وثلاثة أقسام
أما المقدمة
ففي تفسير الألفاظ المستعملة في هذا الباب وهي سبعة
الأول
البيان
وهو في أصل اللغة اسم مصدر مشتق من التبيين يقال بين يبين
تبيينا وبيانا كما يقال كلم يكلم تكليما وكلاما واذن يؤذن تأذينا وأذانا
فالمبين يفرق بين الشئ وبين مشاكله فلهذا قيل
149

البيان عبارة عن الدلالة يقال بين فلان كذا بيانا حسنا إذا ذكر الدلالة
عليه ويدخل فيه الدليل العقلي
وفي اصطلاح الفقهاء هو الذي دل على المراد بخطاب لا يستقل
بنفسه في الدلالة على المراد
والثاني
المبين وله معنيان
أحدهما
ما احتاج إلى البيان وقد ورد عليه بيانه
والثاني
الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان
الثالث
المفسر وله معنيان
أحدهما
ما احتاج إلى التفسير وقد ورد عليه تفسيره
وثانيهما
الكلام المبتدأ المستغني عن التفسير لوضوحه في نفسه
150

الرابع
النص وهو كلام تظهر إفادته لمعناه ولا يتناول أكثر منه واحترزنا
بقولنا كلام عن أمرين
أحدهما
أن أدلة العقول والأفعال لا تسمى نصوصا
وثانيهما
أن المجمل مع البيان لا يسمى نصا لأن قولنا نص عبارة عن
خطاب واحد دون ما يقرن به ولأن البيان قد يكون غير القول والنص لا
يكون الا قولا
واحترزنا بقولنا تظهر إفادته لمعناه عن المجمل
فان قلت أليس قد يقال نص الله تعالى على وجوب الصلاة وإن
كان قوله أقيموا الصلاة مجملا
قلت إنه ليس نصا إلا في إفادة الوجوب وهو فيها ليس بمجمل
واحترزنا بقولنا ولا يتناول أكثر منه عن قولهم اضرب عبيدي
لأن الرجل إذا قال لغيره إضرب عبيدي لم يقل أحد إنه نص على ضرب
زيد من عبيده لأنه لا يفيده على التعيين ويقال إنه نص على ضرب
جملة عبيده لأنه لا يفيد سواهم
151

الخامس
الظاهر وهو ما لا يفتقر في إفادته لمعناه إلى غيره سواء أفاده
وحده أو أفاده مع غيره
وبهذا القيد الأخير يمتاز عن النص امتياز العام عن الخاص
وكنا قد قلنا في باب اللغات إن النص هو اللفظ الذي لا
يمكن استعماله في غير معناه الواحد والظاهر هو الذي يحتمل غيره
احتمالا مرجوحا ولا منافاة بين التعريفين
152

السادس
المجمل وهو في عرف الفقهاء ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو
متعين في نفسه واللفظ لا يعينه
ولا يلزم عليه قولك اضرب رجلا لأن هذا اللفظ أفاد ضرب
رجل وهو ليس بمتعين في نفسه فأي رجل ضربته جاز وليس كذلك
اسم القرء لأنه يفيد إما الطهر وحده وإما الحيض وحده واللفظ لا
يعينه
وقول الله تعالى أقيموا الصلاة يفيد وجوب فعل متعين في
نفسه غير متعين بحسب اللفظ
السابع
المؤول والتأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على
الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر
153

وأما المحكم والمتشابه فقد مر تفسيرهما في باب اللغات والله
أعلم
154

القسم الأول
في
المجمل
وفيه مسائل
المسألة الأولى في أقسام المجمل
الدليل الشرعي إما أن يكون أصلا أو مستنبطا منه والأصل إما أن
يكون لفظا أو فعلا
أما اللفظ فإما أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في
موضوعه أوحال كونه مستعملا في بعض موضوعه أو حال كونه مستعملا
لا في موضوعه ولا في بعض موضوعه
أما القسم الأول
فذاك هو أن يكون اللفظ محتملا لمعان كثيرة فلم يكن حمله
على بعضها أولى من الباقي
155

ثم تناول اللفظ لتلك المعاني إما بحسب معنى واحد مشترك بين
الكل وهو المتواطئ كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده
أولا بحسب معنى واحد وهو المشترك كلفظ القرء
وأما القسم الثاني وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا
في بعض موضوعه فهو كالعام المخصوص بصفة مجملة أو استثناء
مجمل أو بدليل منفصل مجهول
مثال الصفة قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا
بأموالكم فإنه تعالى لو اقتصر على ذلك لم يفتقر فيه إلى بيان فلما
قيده بقوله محصنين ولم ندر ما الإحصان لم نعرف ما أبيح لنا
ومثال الاستثناء قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى
عليكم
156

ومثال الدليل المنفصل المجهول كما إذا قال الرسول ص في
قوله تعالى اقتلوا المشركين المراد بعضهم لا كلهم
وأما القسم الثالث وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا
لا في موضوعه ولا في بعض موضوعه فهو ضربان
أحدهما الأسماء الشرعية والآخر غيرها
مثال الأول كما إذا أمرنا الشرع بالصلاة ونحن وفي لا نعلم انتقال هذا الاسم
إلى هذه الأفعال احتجنا فيه إلى بيان
والثاني الأسماء التي دلت الأدلة على أنه لا يجوز حملها على حقائقها
وليس بعض مجازاتها أولى من بعض بحسب اللفظ فلا بد من البيان
أما الفعل فإن مجرد وقوعه لا يدل على وجه وقوعه إلا أنه قد يقترن به
ما يدل على الوجه الذي وقع عليه وحينئذ يستغنى عن البيان
وقد لا يقترن به ذلك فيكون مجملا
مثال الأول إذا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام مواظبا على الإتيان
بالسجودين علمنا أن ذلك من أفعال الصلاة
157

مثال الثاني أن يقوم من الركعة الثانية ولا يجلس قدر التشهد
جوزنا أن يكون قد سها فيه وأن يكون قد تعمد ذلك ليدلنا على جواز ترك
هذه الجلسة
وأما المستنبط من الأصل فهو القياس ولا يتصور فيه الإجمال
والله أعلم
المسألة الثانية
يجوز ورود المجمل في كلام الله تعالى وكلام رسول الله ص
والدليل عليه وقوعه في الآيات المتلوة
واحتج المنكر
بأن الكلام إما أن يذكر للإفهام أو لا للإفهام والثاني عبث غير
جائز على الله تعالى
158

والأول
إما أن يكون قد قرن بالمجمل ما يبينه أو لم يفعل ذلك والأول
تطويل من غير فائدة لأن التنصيص عليه أسهل وأدخل في الفصاحة من ذكره
باللفظ المجمل ثم بيان ذلك المجمل بلفظ آخر
وأيضا فيجوز أن يصل الإنسان إلى ذلك المجمل قبل وصوله إلى ذلك
البيان فيكون سببا للحيرة وإنه غير جائز
والثاني
باطل لأنه إذا أراد الإفهام مع أن اللفظ لا يدل عليه وليس معه ما يدل
عليه كان تكليفا بما لا يطاق وإنه غير جائز
والجواب
إن هذا الكلام ساقط عنا لأن عندنا يفعل الله ما يشاء ويحكم
ما يريد
وعند المعتزلة فلا يبعد أن يكون في ذكره باللفظ المجمل ثم
إرداف ذلك المجمل بالبيان مصلحة لا يطلع عليها ومع الاحتمال
لا يبقى القطع والله أعلم
159

القول في أمر
ظن أنها من المجملات
وليست كذلك
وفيه مسائل
المسألة الأولى
ذهب الكرخي إلى أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله
تعالى حرمت عليكم أمهاتكم يقتضي الإجمال
وعندنا أنه يفيد بحسب العرف تحريم الفعل
المطلوب من
تلك الذات فيفهم من قوله حرمت عليكم أمهاتكم تحريم
الاستمتاع ومن قوله حرمت عليكم الميتة تحريم الأكل لأن هذه
الأفعال هي الأفعال المطلوبة في هذه الأعيان
161

والحاصل أنا نسلم كونه مجازا في اللغة لكنه حقيقة في العرف
لنا وجوه
الأول
أن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل هذا طعام حرام
تحريم أكله ومقوله هذه المرأة حرام تحريم وطئها ومبادرة الفهم دليل
الحقيقة
وثانيها
ما روي أنص قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها
وباعوها فدل هذا على أن تحريم الشحوم أفاد تحريم كل أنواع
التصرف وإلا لم يتوجه الذم عليهم في البيع
162

وثالثها
أن المفهوم من قولنا فلان يملك الدار قدرته على التصرف فيها
بالسكنى والبيع ومن قولنا فلان يملك الجارية قدرته على التصرف
فيها بالبيع والوطء والاستخدام وإذا جاز أن تتخلف فائدة الملك على
هذا النحو جاز مثله في التحريم والتحليل
احتج الكرخي
بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة فكيف إذا كانت
موجودة فإذن لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره بل المراد تحريم فعل من
الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان وذلك الفعل غير مذكور وليس إضمار بعضها
أولى من بعض فإما أن نضمر الكل وهو محال لأنه إضمار من غير حاجة
وهو غير جائز أو نتوقف في الكل وهو المطلوب
وأيضا
فالآية لو دلت على تحريم فعل معين لوجب أن يتعين ذلك الفعل في
كل المواضع وليس كذلك لأن المراد بقوله تعالى حرمت عليكم
أمهاتكم حرمة الاستمتاع وبقوله حرمت عليكم الميتة حرمة
الأكل
163

والجواب
لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان لكن قوله ليس
إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع فإن العرف يقتضي إضافة
ذلك التحريم إلى الفعل المطلوب منه والله أعلم
المسألة الثانية
ذهب بعض الحنفية إلى أن قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم
مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ومسح بعضه وإذا ظهر
الاحتمال يثبت الإجمال
وقال آخرون لو خلينا واللفظ لمسحنا كل جميع الرأس لأن الباء
للإلصاق 3
وقال ابن جني لا فرق في اللغة بين أن تقول مسحت بالرأس
وبين أن تقول مسحت الرأس لأن الرأس اسم للعضو بتمامه فوجب مسحه
بتمامه
164

وقال بعض الشافعية إنها للتبعيض فهو يفيد مسح بعض الرأس
وقال آخرون لا إجمال فيه لأن لفظ المسح مستعمل في مسح الكل
بالاتفاق وفي مسح البعض كما يقال مسحت يدي بالمنديل
ومسحت يدي برأس اليتيم وإن كان إنما مسحها ببعض الرأس والأصل
عدم الاشتراك فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين مسح الكل
ومسح البعض فقط وذلك هو مماسة جزء من اليد جزءا من الرأس
فثبت أن اللفظ ما دل إلا عليه فكان الآتي به عاملا باللفظ
وحينئذ لا يتحقق الإجمال ويكفي في العمل به مسح أقل جزء من
الرأس وهو قول الشافعي رضي الله عنه
165

المسألة الثالثة
اختلفوا في حرف النفي إذا دخل على الفعل كقوله لا صلاة إلا
بفاتحة الكتاب ولا عمل لمن لا نية له
فقال أبو عبد الله البصري إنه مجمل لأن ذات الصلاة والعمل موجودة
فلا يمكن صرف النفي إليها فوجب صرفه إلى حكم آخر وليس البعض أولى
من البعض
فإما أن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة ولأنه قد يفضي
إلى التناقض لأنا لو حملناه على نفي الصحة ونفي الكمال معا وفي
نفي الكمال ثبوت الصحة فيلزم التناقض
أولا يحمل على شئ من الأحكام بل يتوقف وهذا هو الإجمال
ومن الناس من فصل وقال هذا النفي إما أن يكون داخلا على
166

مسمى شرعي أو على مسمى حقيقي
فإن كان الأول فلا إجمال لأن الصلاة اسم شرعي والشرع أخبر عن
انتفاء ذلك المسمى عند انتفاء الوصف المخصوص
فإن قلت يقال هذه الصلاة فاسدة فدل على بقاء المسمى مع
الفساد وقال ص دعى الصلاة أيام أقرائك
قلت التوفيق بين الدليلين أن نصرف ذلك إلى المسمى
الشرعي وهذا إلى المسمى اللغوي
ومن هذا الباب قوله لا نكاح إلا بولي ولا صيام لمن لم يبيت
الصيام من الليل
أما إن كان المسمى حقيقيا فإما أن يكون له حكم واحد أو أكثر من حكم
واحد
167

والأول
كقولنا لا شهادة لمجلود في قذف لأنه لا يمكن صرف النفي إلى
ذات الشهادة لأنها قد وجدت فلا بد من صرف النفي إلى حكمها وليس لها
إلا حكم واحد وهو الجواز لأن الشهادة إذا كانت فيما كانت ندبنا إلى ستره
لم يكن لإقامتها مدخل في الفضيلة كقولنا لا إقرار لمن أقر بالزنا مرة
واحدة لأن الأولى له أن يستر ذلك على نفسه فإذن لا حكم له إلا الجواز
وإذا لم يكن له إلا هذا الحكم الواحد انصرف النفي إليه فصح
التعلق به
أما إذا كان له حكمان الفضيلة والجواز فلم يكن صرفه إلى
أحدهما أولى من الآخر فيتعين الإجمال هذا قول الأكثرين ولقائل أن يقول لكن صرفه إلى الجوا أولى من صرفه إلى الفضيلة
لوجوه
أحدها
أن المدلول عليه باللفظ نفي الذات والدال على نفي الذات دال على
نفي جميع الصفات لاستحالة بقاء الصفة مع عدم الذات
فإذن قوله لا عمل يدل على نفي الذات وعلى نفي الصحة
168

ونفي الكمال ترك العمل به في الذات فوجب أن يبقى معملا به في
الباقي
فإن قلت اللفظ لم يدل على نفي الصحة بالمطابقة وإنما دل
عليها بالالتزام ضرورة أنه يلزم من انتفاء الذات انتفاء الصفة
ودلالة الالتزام تابعة لدلالة المطابقة التي هي الأصل
فها هنا لما لم توجد دلالة المطابقة التي هي الأصل فكيف تبقى
دلالة الالتزام التي هي الفرع
وأيضا
فقد جاء هذا اللفظ لنفي الفضيلة فقط والأصل في الكلام
الحقيقة
والجواب عن الأول
أنه لا نزاع في أن دلالة هذا اللفظ على نفي الصفة تابعة لدلالته
على نفي الذات لكن بعد استقرار تلك الدلالة صار اللفظ كالعام بالنسبة
إليها بأسرها
169

فإذا خص عنها في بعض الأمور وهو الذات وجب أن
يبقى معمولا به في الباقي
وعن الثاني
أنا بينا أن اللفظ عام بالنسبة إلى نفي الذات ونفي الصفات ثم تارة
يختص بالنسبة إلى الذات فقط وحينئذ يفيد نفي بقية الأحكام
وتارة يختص بالنسبة إلى الذات والصحة فيبقى معمولا به في
الباقي وهو نفي الفضيلة
وثانيها
هو أن المشابهة بين المعدوم وبين ما لا يصح أتم من المشابهة
بين المعدوم وبين ما يوجد ويصح ولا يفضل والمشابهة إحدى
أسباب المجاز فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى
وثالثها
أن الخلل الحاصل في الذات عند عدم الصحة أشد من الخلل
الحاصل فيها عند بقاء الصحة وعدم الفضيلة وإطلاق اسم العدم على
المختل أولى من إطلاقه على غير المختل
سلمنا أنه لا يجوز حمل النفي على هذه الأحكام ولا يجوز حمله
على نفي الذات فلم قلت إنه مجمل
170

بيانه أن قولنا هذا الشئ لفلان معناه يعود نفعه إليه وقولنا لا
عمل لمن لا نية له معناه نفعه إليه وهذا يقتضي نفي الصحة
لأنه لو صح ذلك العمل لعاد نفعه إليه واللفظ دل على نقيضه والله
أعلم
المسألة الرابعة
قال بعضهم آية السرقة مجملة في اليد وفي القطع أما اليد
فلأنه يطلق اسم اليد على هذا العضو من أصل المنكب وعليه من الزند
وعليه من الكوع وعليه من أصول الأنامل
وأما القطع فلأنه قد يراد به الشق فقط كما يقال برى فلان قلمه
فقطع يده وقد يراد به الإبانة
والجواب عن الأول
أن اسم اليد موضوع لهذا العضو من المنكب ولا يتناول الكف
171

وحده لأنه لا يقال قطعت يد فلان بالكلية إذا قطعت من الكف
وعن الثاني
أن القطع في اللغة الإبانة فإذا أضيف إلى شئ أفاد إبانة ذلك
الشئ
والشق إذا حصل في الجلد فقد حصلت الإبانة في تلك الأجزاء
بلى أطلق اسم اليد عليه على سبيل إطلاق اسم الكل على الجزء
فيكون المجاز ها هنا في لفظ اليد لا في لفظ القطع والله أعلم
المسألة الخامسة
قيل في قوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
إنه مجمل لأن نفس الخطأ غير مرفوع فلا بد من صرفه إلى الحكم فيلزم
الإجمال على ما تقدم تقريره
والأقرب أنه ليس بمجمل لأن المولى إذا قال لعبده رفعت عنك
الخطأ كان ذلك في العرف منصرفا إلى نفي المؤاخذة بذلك الفعل
فكذا قال الرسول ص لأمته مثل هذا القول وجب أن ينصرف إلى ما
يتوقع مؤاخذته لأمته به وهو الأحكام الشرعية فكأنه قال رفعت عنكم
الأحكام الشرعية من الخطأ والله أعلم
172

القسم الثاني
في
المبين
وفيه مسائل
المسألة الأولى في أقسام المبين
الخطاب الذي يكفي نفسه في إفادة معناه إما أن يكون لأمر يرجع
إلى وضع اللغة أو لا يكون كذلك
والأول كقوله تعالى إن الله بكل شئ عليم
أما الثاني فإما أن يكون بيانه على سبيل التعليل أولا على سبيل
التعليل
اما التعليل فضربان
أحدهما
أن يكون الحكم بالمسكوت عنه أولى من الحكم بالمنطوق به
كما في قوله تعالى فلا تقل لهما أف
173

وثانيهما
كما في قوله ص إنها من الطوافين عليكم والطوافات
وأما الذي لا يكون تعليلا فضربان
أحدهما
أن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به
وثانيهما
أن يظهر في العقل تعذر إجراء الخطاب على ظاهره ويكون هناك أمر
يكون حمل الخطاب عليه أولى من حمله على غيره كما في قوله تعالى
واسأل القرية
فهذه أقسام المبين والله أعلم
174

المسألة الثانية في أقسام البيانات
أعلم أن بيان المجمل إما أن يقع بالقول أو بالفعل أو بالترك
أما بالقول فظاهر
وأما بالفعل فإما أن يكون الدال على البيان شيئا يحصل بالمواضعة أو
شيئا تتبعه المواضعة أو شيئا يتبع المواضعة
فالأول هو الكتاب وعقد الأصابع
فأما الكتابة فقد يقع بها البيان من الله تعالى بما كتب في
اللوح المحفوظ ومن الرسول ص بما كتب إلى عماله
وأما عقد الأصابع فقد بين به الرسول ص إذ قال الشهر هكذا
وهكذا وحبس في الثالثة أصبعه
175

وهذا الباب يستحيل على الله تعالى لاستحالة الجوارح عليه
176

وأما القسم الثاني وهو الذي تتبعه المواضعة فهو الإشارة لأن
المواضعة مفتقرة إليها وهي غير مفتقرة إلى المواضعة وإلا لافتقرت إلى
إشارة أخرى ولزم التسلسل وهو محال
وقد بين الرسول ص بالإشارة وذلك حين أشار إلى الحرير
بيده وقال هذا حرام على ذكور أمت حل لإناثها
وأما القسم الثالث وهو الذي يكون تابعا للمواضعة فهو كما إذا قال
177

الرسول ص هذا الفعل بيان لهذه الآية أو يقول صلوا كما رأيتموني
أصلي
واعلم أنه لا يعلم كون الفعل بيانا للمجمل إلا بأحد أمور ثلاثة
أحدها
أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده
وثانيها
أن يعلم بالدليل اللفظي وهو أن يقول هذا الفعل بيان لهذا
المجمل أو يقول أقوالا يلزم من مجموعها ذلك
وثالثها
بالدليل العقلي وهو أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به
ثم يفعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له ولا يفعل شيئا آخر فيعلم أن ذلك
الفعل بيان للمجمل وإلا فقد أخر البيان عن وقت الحاجة وإنه لا يجوز
178

وأما الترك فاعلم أن الفعل يبين الصفة ولا يدل على وجوبها وترك
الفعل يبين نفي وجوبه وذلك على أربعة أضرب
أحدها
أن يقول من الركعة الثانية إلى الثالثة ويمضي على صلاته فيعلم أن
هذا التشهد ليس بشرط في صحة الصلاة وإلا لم تصح مع عدم شرط
الصحة ويدل على أنه ليس بواجب أنه ص لا يجوز أن يتعمد ترك
الواجب
وثانيها
أن يسكت عن بيان حكم الحادثة فيعلم أنه ليس فيه حكم شرعي
وثالثها
أن يكون ظاهر الخطاب متناولا له ولأمته على سواء فإذا ترك
الفعل دل على أنه كان مخصوصا من الخطاب ولم يلزمه ما لزم أمته
ورابعها
أن يتركه بعد فعله إياه فيعلم أنه قد نسخ عنه
ثم ينظر فإن كان حكم الأمة حكمه نسخ عنهم أيضا وإلا كان
حكمهم بخلاف حكمه والله أعلم
179

المسألة الثالثة
الحق أن الفعل قد يكون بيانا خلافا لقوم
لنا
أن الخصم إما أن يقول إنه لا يصح وقوع البيان بالفعل أو يقول
إنه يصح عقلا لكن لا يجوز في الحكمة
والأول ضربان
أحدهما أن يقال إن الفعل لا يؤثر في وقوع اليقين أصلا
والآخر أن يقال إنه لا يؤثر في ذلك إلا مع غيره هو أن يقول الرسول
ص هذا الفعل بيان لهذا الكلام
والأول باطل لأن فعل الرسول ص للصلاة والحج فلا أدل عليهما من
صفته لهما فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا بين الرسول ص الحج
والصلاة
وقال خذوا عني مناسككم وقال صلوا كما رأيتموني أصلي
180

وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء بفعلهم
وأما الثاني وهو أن لا يقع البيان بالفعل وحده عند قيام
الدليل على أن ذلك الفعل بيان لذلك المجمل فهذا مما لا خلاف فيه إلا
أن المبين هو الفعل لأنه هو المتضمن لصفة الفعل وإنما القول لتعليق
الفعل الواقع بيانا على المجمل
وأما القسم الثاني وهو أنه غير جائز في الحكمة فهو لا يستقيم على
أصلنا لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
ثم إن سلمنا هذا الأصل لكنه يمتنع أن يعلم الله تعالى من
المكلف أن بيان المجمل بهذا الطريق أصلح له
181

احتج المخالف
بأن الفعل يطول فيلزم تأخير البيان
والجواب
أن القول قد يكون أطول لأن وصف أفعال الصلاة وتروكها منه على
الاستقصاء أطول من الإتيان بركعة واحدة فجوابكم جوابنا والله أعلم
المسألة الرابعة
في أن القول هل يقدم على الفعل في كونه بيانا
القول والفعل إذا وردا فإما أن يكونا متطابقين أو متنافيين فإن كانا
متطابقين وعلم تقدم أحدهما على الآخر فالأول بيان والثاني تأكيد لأن
الأول قد حصل التعريف به فلا حاجة إلى الثاني
وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر حكم على الجملة بأن الأول
منهما بيان والثاني تأكيد
وإن كانا متنافيين كقوله ص من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما
طوافا واحدا مع ما روي عنه ص أنه قرن فطاف طوافين وسعى
182

سعيين فالقول هو المقدم في كونه بيانا لأنه بيان بنفسه
183

والفعل لا يدل حتى يعرف ذلك إما بالضرورة أو بالاستدلال بدليل قولي
أو عقلي فإذا لم يعقل ذلك لم يثبت كون الفعل بيانا والله أعلم
المسألة الخامسة في: البيان كالمبين
هذا الباب يشتمل على شيئين
أحدهما هل البيان كالمبين في القوة
والآخر هل هو كالمبين في الحكم
أما الأول فقال الكرخي المبين إذا كان لفظا معلوما وجب كون بيانه
مثله وإلا لم يقبل
والحق أنه يجوز أن يكون البيان والمبين معلومين وأن يكونا مظنونين أن
يكون المبين معلوما وبيانه مظنونا كما جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد
والقياس
وأما الآخر فهو أنه هل إذا كان المبين واجبا كان بيانه
واجبا كذلك
قال به قوم فإن أرادوا به أن المبين إذا كان واجبا فبيانه بيان لصفة
شئ واجب فصحيح
وإن أرادوا به أنه يدل على الوجوب كما يدل المبين فغير صحيح
184

لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين وليس يتضمن لفظا يفيد الوجوب
ألا ترى أن صورة الصلاة ندبا واجبا صورة واحدة
وإن أرادوا أنه إذا كان المبين واجبا كان بيانه واجبا على الرسول
ص وإذا لم يكن الفعل المبين واجبا لم يكن بيانه واجبا على الرسول
ص فباطل لأن بيان المجمل واجب سواء تضمن فعلا واجبا أو لم
يتضمن وإلا كان تكليفا بمالا يطاق والله أعلم
185

القسم الثالث
في
وقت البيان
وفيه مسائل
المسألة الأولى
القائلون بأنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق اتفقوا على أنه لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن التكليف به مع عدم الطريق إلى
العلم به تكليف بمالا يطاق
والإشكالات التي ذكرناها في أن تكليف الساهي غير جائز قائمة
ها هنا والجواب واحد
المسألة الثانية
اختلفوا في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
الخطاب المحتاج إلى البيان ضربان
187

أحدهما ما له ظاهر قد استعمل في خلافه
والثاني لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة
والأول أقسام
أحدها تأخير بيان التخصيص
وثانيها تأخير بيان النسخ
وثالثها تأخير بيان الأسماء الشرعية
ورابعها تأخير بيان اسم النكرة إذ أراد به شيئا معينا
إذا عرفت ذلك فنقول
مذهبنا أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة في كل هذه الأقسام
وأما المعتزلة فأكثر من تقدم أبا الحسين رحمه الله اتفقوا على المنع
من تأخير البيان في كل هذه الأقسام إلا في النسخ فإنهم جوزوا تأخير
بيانه
وأما أبو الحسين فإنه منع من تأخير البيان فيما له ظاهر قد استعمل في
خلافه وزعم أن البيان الإجمالي كاف فيه وهو أن يقول عند الخطاب
اعلموا أن هذا العموم مخصوص وأن هذا الحكم سينسخ بعد ذلك
وأما البيان التفصيلي فإنه يجوز تأخيره
وأما الذي لا يكون له ظاهر مثل الألفاظ المتواطئة والمشتركة
فقد جوز فيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة
188

وهذا التفصيل ذكره كثير من فقهاء أصحابنا كأبي بكر القفال وأبي
إسحاق المروزي وأبي بكر الدقاق
واعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين
أحدهما
أن يستدل في الجملة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
وثانيهما
أن يستدل على جواز ذلك في كل واحدة من الصور المذكورة
اما المقام الأول فالدليل عليه قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وثم في اللغة للتراخي
وهو المطلوب
فإن قيل لا نسلم أن كلمة ثم للتراخي فقط بل قد تجئ بمعنى
الواو كقوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب ثم كان من الذين
آمنوا ثم الله شهيد
سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن المراد بالبيان في هذه الآية البيان الذي
189

اختلفنا فيه وهو بيان المجمل والعموم فلم لا يجوز أن يكون المراد
به إظهاره بالتنزيل غاية ما في الباب أن يقال هذا مخالفة الظاهر
لكن نقول يلزم من حفظ هذا الظاهر مخالفة ظاهر آخر وهو أن الضمير الذي في قوله ثم إن علينا بيانه راجع إلى جميع
المذكور وهو القرآن
ومعلوم أن جميعه لا يحتاج إلى البيان فليس حفظ أحد الظاهرين
بأولى من الآخر وعليكم الترجيح
سلمنا أن المراد من البيان ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون المراد به
تأخير البيان التفصيلي وذلك عند أبي الحسين جائز
سلمنا أن المراد مطلق البيان لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله
تعالى إن علينا جمعه وقرآنه هو أن يجمعه في اللوح
المحفوظ ثم إنه بعد ذلك ينزله على الرسول ص ويبينه له وذلك متراخ
عن الجمع
سلمنا أن البيان ما ذكرتموه غير لكن الآية تدل على وجوب تأخير البيان
وذلك ما لم يقل به أحد فما دلت عليه الآية لا تقولون به وما تقولون به
190

وهو الجواز لم تدل الآية عليه فبطل الاستدلال
والجواب
أما أن كلمة ثم للتراخي فذلك متواتر عند أهل اللغة والآيات
التي تلوتموها المراد هناك التأخير في الحكم
قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل
قلنا لأن قوله فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أمر للنبي ص باتباع
قرآنه وإنما يكون مأمورا بذلك بعد نزوله عليه فإنه قبل ذلك لا يكون
عالما به فكيف يمكنه اتباع قرآنه
فثبت أن المراد من قوله فإذا قرأناه هو الإنزال ثم إنه تعالى
حكم بتأخير البيان عن ذلك وذلك يقتضي تأخير البيان عن وقت الإنزال
وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون المراد من البيان هو الإنزال
لاستحالة كون الشئ سابق على نفسه
سلمنا أنه يمكن ما ذكروه ولكنه خلاف الظاهر
قوله يلزم من مخالفة المحافظة على هذا الظاهر احتياج
القرآن جميعه إلى البيان
191

قلنا لا نسلم فإن لفظ القرآن يتناول كله وبعضه بدليل انه لو حلف
أن لا يقرأ القرآن ولا يمسه فقرأ آية أو لمس آية فإنه
يحنث في يمينه
سلمنا أن لفظ القرآن ليس حقيقة في البعض لكن إطلاق اسم الكل
على البعض أسهل من إطلاق لفظ البيان على التنزيل لأن الكل مستلزم
للجزء والبيان غير مستلزم للتنزيل
قوله نحمله على البيان التفصيلي
قلنا اللفظ مطلق فتقييده خلاف الظاهر
قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من الجمع جمعه في اللوح
المحفوظ
قلنا لما بينا أنه تعالى أخر البيان عن القراءة التي يجب على النبي
عليه الصلاة والسلام متابعتها وذلك يستدعي تأخير البيان عن وقت
الإنزال
قوله هذا يقتضي وجوب تأخير البيان
قلنا ونحن نقول به
فإن قلت الضمير عائد إلى كل القرآن فيجب تأخير بيان الكل وذلك
لم يقل به أحد
192

قلت قد تقدم بيان أن الضمير غير عائد إلى الكل والله أعلم
أما الذي يدل على كل واحدة من الصور التي ذكرناها فنقول
الدليل على أنه يجوز تأخير البيان في النكرة أن الله تعالى أمر بني
إسرائيل بذبح بقرة موصوفة غير منكرة ثم أنه لم يبينها لهم حتى
سألوا سؤالا بعد سؤال
إنما قلنا إنه لم يرد بقرة منكرة لوجهين
الأول
أن قوله تعالى أدع لنا ربك يبين لنا ما هي وما لونها وقول الله
تعالى إنها بقرة لا فارض ولا بكر إنها بقرة صفراء إنها بقرة
لا ذلول تثير الأرض ينصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل
على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة منكرة بذبح بقرة معينة
الثاني
أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني إما أن يقال
إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أو لا أو صفات بقرة وجبت عليهم
عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجبا عليهم قبل ذلك
والأول هو المطلوب والثاني يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات
المذكورة آخرا وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك ولما
193

أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد
هذا القسم
فإن قيل لا يجوز التمسك بهذه الآية لأن الوقت الذي أمروا فيه بذبح
البقرة كانوا محتاجين إلى ذبحها فلو أخر الله البيان لكان ذلك تأخيرا للبيان
عن وقت الحاجة وأنه لا يجوز
فإذن ما تقتضيه الآية لا تقولون به وما تقولون به لا تقتضيه الآية
نزلنا عن هذا المقام لكن لا نسم أن المأمور به كان ذبح بقرة موصوفة
بل ذبح بقرة كيف كانت فلما سألوا تغيرت المصلحة ووجبت عليهم بقرة
أخرى
وأما الكنايات فلا نسلم عودها إلى البقرة ولم لا يجوز أن يقال إنها
كنايات عن القصة والشأن وهذه طريقة مشهورة عند العرب
سلمنا أن هذه الكنايات تقتضي كون البقرة المأمور بها موصوفة لكن
ها هنا ما يدل على كونها منكرة وهو من ثلاثة أوجه
الأول أن قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمر بذبح بقرة
مطلقة وذلك يقتضي سقوط التكليف بذبح بقرة أي بقرة كانت وذلك
يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفا جديدا
194

الثاني
لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان بل
كانوا يستحقون المدح عليه فلما عنفهم الله تعالى في قوله فذبحوها
وما كادوا يفعلون علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولا وذلك إنما
يكون لو كان المأمور به أولا ذبح بقرة منكرة
الثالث
ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لو ذبحوا أية بقرة
أرادوا لأجزأت عنهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم
195

سلمنا أن المأمور به ذبح بقر معينة موصوفة لكن لم لا يجوز أن
يقال البيان التام قد تقدم لكنهم لم يتبينوا لبلادتهم فاستكشفوا طلبا
للزيادة فحكى الله تعالى ذلك
سلمنا أن البيان التام لم يتقدم فلم لا يجوز أن يقال إن موسى عليه
السلام كان قد أعلمهم بأن البقرة ليست مطلقة بل معينة فطلبوا البيان
التفصيلي
فالحاصل أن البيان الإجمالي كان مقارنا والبيان التفصيلي كان متأخرا
وهو جائز عند أبي الحسين رحمه الله
والجواب
قوله الآية تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة
قلنا لا نسلم لأن ذلك إنما يلزم لو كان الأمر مقتضيا للفور لكنا لا
نقول به
قوله الكنايات عائدة إلى القصة والشأن
قلنا هذا باطل لوجوه
196

أحدها
أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن لكان الذي
يبقى بعد ذلك غير مقيد لأنه لا فائدة في قوله بقرة صفراء بل لا بد
من إضمار شئ آخر وذلك خلاف الأصل
أما إذا جعلنا الكنايات الذي عائد إلى المأمور به أولا لم يلزم هذا المحذور
وثانيها
أن الحكم برجوع الكنايات إلى القصة والشأن خلاف الأصل لأن
الكناية يجب عودها إلى شئ جرى ذكره والقصة والشأن لم يجر ذكرهما
فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض
المواضع فيبقى فيما عداه على الأصل
وثالثها
أن الضمير في قوله تعالى ما لونها وما هي لا شك أنه عائد
إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله إنها بقرة صفراء
عائدا إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقا للسؤال
قوله إن قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمر بذبح
بقرة مطلقة
197

قلنا هب أن ظاهره يفيد الإطلاق ونحن نسلمه لكنا نقول المراد
كغير الظاهر مع أنه تعالى ما بينه فما قلتموه لا يضرنا
قوله لو كان ذلك لطلب البيان لما استحقوا التعنيف بقوله وما
كادوا يفعلون
قلنا إن قوله تعالى وما كادوا يفعلون ليس فيه دلالة على أنهم
فرطوا في أول القصة أو أنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان بل اللفظ
محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما وقفوا على تمام
البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا يفعلون
قوله نقل عن ابن عباس أنه قال شددوا على أنفسهم فشدد الله
عليهم
قلنا هذا من أخبار الآحاد ومع تقدير الصحة فلا يصلح معارضا
لنص الكتاب
قوله لم لا يجوز أن يقال كان البيان حاصلا لكنهم لم يتبينوا
قلنا لوجهين
الأول
أنهم كانوا يلتمسون البيان ولكان البيان حاصلا لما التمسوه بل
كانوا يطلبون التفهيم
198

الثاني
أن فقد التبيين عن حضور هذا البيان متعذر ها هنا لأن
ذلك البيان ليس إلا وصف تلك البقر والعاقل العارف باللغة إذا سمع تلك
الأوصاف استحال أن لا يعرفها
قوله كانوا يطلبون البيان التفصيلي
قلنا لو كان كذلك لذكره الله تعالى إزالة للتهمة
أما الدليل على جواز تأخير بيان المخصص
فالنقل أما النقل
فهو أن الله تعالى لما أنزل قوله إنكم وما تعبدون
من دون الله حصب جهنم قال ابن الزبعري قد عبدت الملائكة وعبد
المسيح فهؤلاء حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى أنزل الله تعالى
قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
فإن قيل لا نسلم أن قوله تعالى وما تعبدون من دون الله يندرج
فيه الملائكة والمسيح
وبيانه من وجهين
الأول
199

أن كلمة ما لما لا يعقل فلا يدخلها المسيح والملائكة
الثاني
أن قوله تعالى إنكم وما تعبدون خطاب مع العرب وهم ما كانوا
يعبدون المسيح والملائكة بل كانوا يعبدون الأوثان
سلمنا ذلك لكن تخصيص العام بدليل العقل جائز وها هنا دل
العقل على خروج الملائكة والمسيح فإنه لا يجوز تعذيب المسيح بجرم
الغير وهذا الدليل كان حاضرا في عقولهم
ثم نقول المسألة علمية وهذا خبر واحد فلا يجوز إثباتها به
سلمنا صحة الرواية لكن الرسول عليه السلام إنما سكت انتظارا
لنزول الوحي عليه في تأكيد البيان العقلي واللفظي
والجواب
لا نسلم أن صيغة ما مختصة بغير العقلاء والدليل عليه وجوه
أحدها
قوله تعالى وما خلق الذكر والأنثى والسماء وما بناها ولا
أنتم عابدون ما أعبد
200

وثانيها
اتفاق أهل اللغة على ورود ما بمعنى الذي وكلمة الذي متناولة
للعقلاء فكلمة ما أيضا كذلك
وثالثها
أن ابن الزبعري كان من الفصحاء فلولا أن كلمة ما تتناول المسيح والملائكة وإلا لما
أورده نقضا على الآية
ورابعها
أن الرسول ص لم يرد عليه ذلك بل سكت وتوقف إلى نزول
الوحي ولو كان ذلك خطأ في اللغة لما سكت الرسول ص عن تخطئته
وخامسها
أنه يقال ما في ملكي فهو صدقة وما في بطن جاريتي فهو حر
وهو يتناول الإنسان
وسادسها
ا أنها لو كانت مختصة بغير من يعلم لما كان لقوله تعالى من
دون الله فائدة لأنه إنما يحتاج إلى الاحتراز حيث يصلح الاندراج
قوله الخطاب كان مع العرب وهم ما كانوا يعبدون الملائكة
والمسيح
201

قلنا الرواية المشهورة أنه قد كان من العرب من يعبد الملائكة
والمسيح وقد ذكر الواحدي وغيره ذلك في سبب نزول هذه الآية
ولأن هذه الآية لو كانت خطابا مع عبدة الأوثان فقط لما جاز توقف
النبي ص عن تخطئة السائل
قوله كل أحد يعلم أن تعذيب الرجل بجرم الغير لا يجوز
قلت نعم لكن ألا يصح دخول الشبهة في أولئك المعبودين
كانوا راضين بذلك أم لا وعند ذلك يصح السؤال
قوله هذه الرواية من باب الآحاد
قلنا لا نسلم فإن المفسرين اتفقوا على ذكرها في سبب نزول هذه
الآية وذلك يدل على الإجماع
سلمنا أنه من الآحاد لكنا بينا أن التمسك بالأدلة اللفظية أينما
كان لا يفيد إلا الظن ورواية الآحاد صالحة لذلك والله أعلم
وأما المعقول فمن وجهين
202

أحدهما
وهو أن نقول لأبي علي وأبي هاشم لو لم يجز تأخير بيان التخصيص
في الأعيان لما جاز تأخير بيان التخصيص في الأزمان لكن جاز هذا فجاز
ذلك
بيان الملازمة أنه لو لم يجز تأخير بيان المخصص في الأعيان
لكان ذلك لأن تأخيره يوهم العموم وهو جهل وهذا المعنى قائم في تأخير
المخصص في الأزمان فعدم الجواز هناك يقتضي عدم الجواز ها هنا
فإن قيل الفرق من وجهين
الأول
أن الخطاب المطلق معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع
سبب التكليف وليس كذلك المخصوص
وثانيهما
أن احتمال النسخ في المستقبل لا يمنع المكلف في الحال من
العمل أما أن احتمال التخصيص في الحال يمنعه من العمل لأنه
لا يدري أنه هل هو مندرج تحت الخطاب أم لا
والجواب عن الأول
203

أن الله تعالى لو قال لنا صلوا كل يوم جمعة لاقتضى ظاهره
الدوام فإذا خرج منه ما بعد الموت للدلالة بقي الباقي على ظاهره فإن
جاز أن يكون حكم الخطاب مرتفعا مع الحياة والتمكن ولا يدل البتة على ذلك وإن كان ظاهر الخطاب يتناوله جاز مثله في العموم
وعن الثاني
أن الفرق الذي ذكرتموه إنما يظهر لو أخر الله تعالى البيان عن وقت
الحاجة أما إذا أخره عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة لم يجب على
المكلف الاشتغال لأن بالفعفلا حاجة في ذلك الوقت إلى تمييز المكلف
به عن غيره كما لا حاجة هناك إلى تمييز وقت التكليف عن غيره
الدليل الثاني
أجمعنا على أنه يجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع أن كل
واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مرادا بالخطاب
وفي ذلك تشكيك فيمن أريد بالخطاب وهذا هو تخصيص
ولم يتقدم بيانه
204

واحتج أبو الحسين رحمه الله على المنع من تأخير بيان
ماله ظاهر إذا استعمل في غيره بوجهين
الأول
أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع والمخاطب إما أن لا
يقصد إفهامنا في الحال أو يقصد ذلك
والأول باطل لوجوه
أحدها
إنه إن لم يقصد إفهامنا انتقض كونه مخاطبا لأن المعقول من
قولنا إنه مخاطب لنا أنه قد وجه الخطاب نحونا ولا معنى لذلك إلا أنه
قصد إفهامنا
وثانيها
أنه لو لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا
في الحال لكان قد أغرانا بأن نعتقد أنه قد قصد إفهامنا في الحال
فيكون قد قصد أن نجهل لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا
فيه أنه قد عنى ما عنوه
وثالثها
أنه لو لم يقصد إفهامنا لكان عبثا لأن الفائدة في الخطاب إفهام
المخاطب
ورابعها
أنه لو جاز أن لا يقصد إفهامنا بالخطاب جازت مخاطبة العربي
205

بالزنجية وهو لا يحسنها إذا كان غير واجب إفهام المخاطبين بل ذلك
أولى بالجواز لأن الزنجية ليس لها ظاهر عند وقد العربي يدعوه إلى اعتقاد معناه
ولو جازت مخاطبة العربي بالزنجية وبين له بعد مدة جازت مخاطبة
النائم وبين له بعد مدة ان يقصد الإنسان بالتصويت والتصفيق شيئا
يبينه بعد مدة
فإن قلت خطا ب الزنج لا يفهم منه العربي شيئا فلم يجز أن يخاطبوا
به وليس كذلك خطاب العربي بالمجمل لأن العربي يفهم منه
شيئا ما لأن قول الله تعالى وأقيموا الصلاة قد فهم منه الأمر
بشئ وإن لم يعرف ما هو
قلت فإن جاز أن يكون اسم الصلاة واقعا على الدعاء ويريد الله
به غيره ولا يبين لنا جاز أن يكون ظاهر قوله تعالى أقيموا للأمر
ولا يستعمله في الأمر ولا يبين لنا ذلك وفي ذلك مساواته لخطاب
الزنج لأنا لا نفهم منه شيئا أصلا
وأما القسم الثاني وهو أنه أراد إفهامنا في الحال فلا يخلو إما أن يريد
أن يفهم أن مراده ظاهره أو غير ظاهره
206

فإن أراد الأول فقد أراد منا الجهل
وإن أراد الثاني فقد أراد منا مالا سبيل إليه
ثم قال أبو الحسين وهذه الدلالة تتناول العام المستعمل في
الخصوص والمطلق المفيد للتكرار المنسوخ والأسماء والنقولة إلى
الشريعة والنكرة إذا أريد بها شئ معين لأن الكل مستعمل في خلاف
ظاهره
الثاني
لو جاز أن يريد بالعموم الخصوص ولا يبين لنا ذلك في الحال ولا
يشعرنا بأنه بخلافه لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل الذي
يقف وجوب البيان عليه لأنه لو قيل لنا صلوا غدا جوزنا أن يكون
المراد بقوله غدا بعد غد وما بعده أبدا لأن كل ذلك يسمى غدا مجازا
ولا يبينه لنا فلا يقف وجوب البيان على غاية وفيه تعذر علمنا بالمراد
بالخطاب
207

فإن قلت إذا بين في غد صفة العبادة ثم قال افعلوها الآن
علمنا أنه يجب فعلها في ذلك الوقت
قلت لا يصح لكم ذلك لأنه يجوز أن يكون عنى بقوله الآن وقتا
متراخيا حتى على طريق المجاز ولا يبينه لنا في الحال كما جاز مثله
في سائر الألفاظ
والجواب عن الأول
من حيث المعارضة ومن حيث الجواب
اما المعارضة فمن ثلاثة أوجه
أحدها
أن العموم خطاب لنا في الحال مع أنه لا يجوز اعتقاد استغراقه عند
سماعه بل لا بد من أن نفتش الأدلة السمعية والعقلية فننظر هل فيها
ما يخصه أم لا فإن لو يوجد فيها ما يخصه + قضى بعمومه وفي زمان
التوقف الخطاب بالعموم قائم مقامه مع أنه لا يجوز اعتقاد ظاهره
فانتقض قولكم
أجاب أبو الحسين رحمه الله عنه بأن من لم يجوز أن يسمع الكلف
العام دون الخاص لا يلزمه هذا السؤال ومن جوز ذلك فله أن يجيب عن
208

السؤال بأن ما يعلمه المكلف من كثرة الأدلة والسنن يجوز معه أن
يكون فيها ما يدل على أن المراد بالخطاب غير ظاهره فيصير ذلك
كالإشعار بالتخصيص
والجواب
أما أنه لا يجوز أن يسمع المكلف العام دون الخاص فهذا المذهب
باطل عندك وتخريج النقض بالمذهب الباطل باطل
وأما قوله علمه بكثرة السنن كالإشعار بالتخصيص
قلنا فإذا جوزت أن يكون تجويزه لقيام المخصص في الحال
مانعا له من اعتقاد الاستغراق في الحال فلم لا يجوز أن يكون تجويزه
لحدوث المخصص في ثاني الحال مانعا له من اعتقاد الاستغراق في
الحال فهذا أول المسألة
وثانيها
أجمعنا على أنه يجوز تأخير بيان المخصص بزمان قصير وأن
تعطف جملة من الكلام على جملة أخرى ثم تبين الجملة الأولى عقيب
الثانية وأن يبين المخصص بالكلام الطويل وهذه الصور الثلاثة نقض
على ما ذكره
209

فإن قلت إنا لا نجوز تأخير البيان إلا مقدار ما لا ينقطع عن السامع
توقع شرط يرد على الكلام وإنما نجوز البيان بالطويل من القول أو
الفعل إذا لم يتم البيان إلا بهما وإذا لم يتم إلا كذلك لم يكن فيه
تأخير البيان
قلت إن ظاهر لفظ العموم يفيد الاستغراق فحال ما سمع ذلك اللفظ
يتوجه عليه التقسيم الذي ذكره أبو الحسين من أنه إما أن يكون غرض
المخاطب به الإفهام أو لا يكون غرضه الإفهام والثاني باطل فتعين الأول
فإما أن يكون غرضه إفهام ما أشعر به الظاهر فيكون مريدا للجهل
أو غيره فيكون طالبا ما لا سبيل إليه
فإن قلت تجويز السامع أن يأتي المتكلم بعد ذلك الكلام
بشرط أو استثناء يمنعه من حمل هذا اللفظ على ظاهره
قلت فلم لا يجوز أن يقال في مسألتنا تجويز السامع أن يأتي
المتكلم حال إلزام التكليف بدليل مخصص يمنعه من حمل اللفظ على
ظاهره وهذا أول المسألة
وثالثها
أنا نجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد
210

منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مرادا بالخطاب
وفي ذلك شككنا فيمن أريد بالخطاب وهذا تخصيص لم يتقدم
بيانه البتة
ورابعها
أن غير أبي الحسين من المعتزلة اتفقوا على جواز تأخير بيان
النسخ إجمالا وتفصيلا وحينئذ ينتقض دليلهم به لأن اللفظ إذا أفاد الدوام
مع أن الدوام غير مراد فإن أراد ظاهره فقد أراد الجهل وإن أراد غير
ظاهره فقد أراد ما لا سبيل إليه
وما يذكرونه من الفرق فقد ذكرناه وأجبنا عنه
وأما من حيث الجواب فمن وجهين
الأول
أن نقول ما المراد من قولك المخاطب إما أن يكون غرضه
إفهامنا أو لا يكون غرضه ذلك
إن عنيت بالإفهام إفادة القطع واليقين فليس غرضه ذلك بل غرضه
منه الإفهام بمعنى إفادة الاعتقاد الراجح والظن الغالب الغالب مع تجويز نقيضه
فلم قلت إنه على هذا التقدير يكون عابثا ويكون مغريا بالجهل
211

وبهذا الجواب يظهر الفرق بين ما إذا كان الغرض ذلك وبين خطاب
العربي بالزنجية لأن هناك لا يمكن أن يكون الغرض إفادة الاعتقاد
الراجح فإنه لا يفهم منه شيئا
وإن عنيت به أن غرضه إفادة الاعتقاد الراجح كيف كان أعني القدر
المشترك بين الاعتقاد الراجح المانع من النقيض وبين الاعتقاد
الراجح المجوز للنقيض فهذا مسلم ولكن هذا القدر لا يمنع من ورود
المخصص لأنه لو امتنع لكان ذلك الاعتقاد مانعا من النقيض مع أنا
فرضناه غير مانع منه
ثم الذي يدل على أن الغرض من الخطاب إفادة أصل الاعتقاد الراجح
لا إفادة تعالى الاعتقاد الراجح المانع من النقيض هو أن دلالة الأدلة اللفظية
تتوقف على كون النحو واللغة والتصريف منقولا بالتواتر على عدم
الاشتراك والمجاز والتخصيص والنسخ والإضمار والنقل
والتقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي والنقلي وكل هذه المقدمات
طني وما يتوقف على الظني أولى أن يكون ظنيا
فثبت أن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الاعتقاد الراجح وهذا القدر لا
ينافيه احتمال ورود المخصص بعده
212

ومما يحقق ذلك أن الغيم الرطب في الشتاء يفيد ظن نزول المطر
ثم قد لا يوجد في بعض الأوقات ثم لا يكون هذ العدم قادحا في ذلك الظن
وإلا لتوقف تحقق ذلك الظن على انتفاء هذا العدم
فحينئذ يكون ذلك الظن قطعا لا ظنا هذا خلف فكذا ها هنا
اللفظ العام لا يفيد إلا ظن الاستغراق وهذا القدر لا يمنع من حدوث
المخصص والله أعلم
الوجه الثاني في الجواب
أن اللفظ العام إن وجد مع المخصص دل المجموع الحاصل منه
ومن ذلك المخصص على الخاص
وإن وجد خاليا عن المخصص دل هو مع عدم المخصص على
الاستغراق وذلك متردد بين هاتين الحالتين على السواء فهو بالنسبة إلى
هاتين الحالتين كاللفظ المشترك بالنسبة إلى مفهوماته والمتواطئ بالنسبة
إلى جزئياته فكما أنه يجوز عند أبي الحسين ورود اللفظ المشترك والمتواطئ
خاليا عن البيان لأنه يفيد أن المراد أحد تلك المسميات فكذا ها هنا
اللفظ العام قبل العلم بأنه وجد معه المخصص أو عدم نعلم أن
المراد إما العموم أو الخصوص ونعلم أن هذا اللفظ إن وجد معه
المخصص أفاد الخاص وإن وجد معه عدم المخصص أفاد العام
فلا فرق بينه وبين المشترك فكما جاز تأخير البيان هناك جاز ها هنا
213

فإن قلت هذا عود إلى القول بأن هذه الصيغة مشتركة بين العموم
والخصوص ونحن الآن في التفريغ على أنها للعموم فقط
قلت لا نسلم أن هذا عود إلى القول بالاشتراك وذلك ل‍ أنا
نسلم أنها وحدها موضوعة للاستغراق
وبهذا الكلام انفصلنا عن القائلين بالاشتراك لكنا نقول لا نزاع في
حسن ورود المخصص ولا نزاع في أنه عند ورود المخصص لا يفيد إلا
الخاص فإذا شككنا في وجود المخصص وعدمه لزمنا أن نشك في أنه هل
يفيد الاستغراق أم لا لأن الشك في الشرط شك في المشروط فأين هذا
القول من مذهب القائلين بالاشتراك
والجواب عن الثاني
أن اللفظ وإن كان محتملا إ أنه قد يوجد من القرائن ما يفيد القطع
بأن المراد من اللفظ ظاهره
وعلى هذا التقدير يزول السؤال
فإن لم يوجد شئ من هذه القرائن وحضر الوقت الذي دل ظاهر
الصيغة على أنه وقت العمل وجب عليه العمل لأن الظن قائم مقام
العلم في اقتضاء وجوب العمل في الحال ولكنه لا يقوم مقامه فيما لا
يتعلق به العمل فظن كون اللفظ دالا على وجوب العمل في الحال يكفي
في القطع بوجوب العمل في الحال ولكن ظن عدم المخصص لا يكفي
في القطع بعدم المخصص فظهر الفرق والله أعلم
214

المسألة الثالثة
وأما الخطاب الذي لا ظاهر له وهو الاسم المشترك كالقرء بين الطهر
والحيض فإن له ظاهرا من وجه دون وجه
أما الوجه الذي يكن ظاهرا فيه فهو أنه يفيد أن المتكلم لم يرد
شيئا غير الطهر وغير الحيض وأنه أراد إما هذا وإما هذا فمن فإن هذا الوجه لا
يحتاج إلى بيان
وأما الوجه الذي يكون غير ظاهر فهو أنه لا يفيد أي الأمرين إرادة
المتكلم الطهر أو الحيض ولا يجب أن يقترن به بيان في الحال
والدليل عليه
أن الاسم المشترك يفيد أن المراد إما هذا وإما هذا من غير تعيين
وهذا القدر يصلح أن يراد تعريفه لأن الإنسان قد يقول لغيره لي إليك حاجة
مهمة أوصيك بها ولا يكون غرضه في الحال إلا الإعلام بهذه
الجملة
وقد يقول رأيت رجلا في موضع كذا وهو يكره وقوف السامع على عينه
أو يكره وقوفه عليه من جهته ولهذا وضع في اللغة ألفاظ مهمة كما وضعت
ألفاظ لمعان معينة قال الله تعالى ورسلا لم نقصصهم عليك
فيضاعفه له أضعافا كثيرة
وأيضا
215

فقد يحسن من الملك أن يدعو بعض عماله فيقول له قد وليتك
البلد الفلاني فاخرج إليه في غد وأنا أكتب إليك بتفصيل ما تعمله ويحسن
من أحدنا أن يقول لغلامه أنا آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة
وتبتاع ما أبينه لك يوم الجمعة ويكون القصد بذلك التأهب لقضاء الحاجة
والعزم عليها
وهذا هو نظير ما اخترناه من تأخير بيان المجمل
وإذا كان كذلك ثبت أنه يجوز إطلاق اللفظ المشترك من غير بيان
التعيين
فإن قلت الغرض من التكليف هو الفعل والعلم والاعتقاد تابعان
وهذا الإبهام يخل بالتمكين من الفعل
قلت الغرض من التكليف قبل الوقت هو العلم لا الفعل
ف‍ أما في وقت الحاجة فالغرض هو الفعل وهناك يجب
البيان
احتجوا
بأنه لو حسنت المخاطبة بالاسم المشترك من غير بيان في الحال
لحسنت مخاطبة العربي بالزنجية مع القدرة عل مخاطبته بالعربية
216

ولا يبين له في الحال والجامع أن السامع لا يعرف مراد المتكلم عمر بهما على
حقيقته
فإن قلت الفرق أن العربي لا يفهم من الزنجية شيئا وها هنا يفهم أن
المراد أحد معنيي الاسم
قلت إما أن تعتبروا في حسن الخطاب حصول العلم بكمال المراد
أو تكتفوا بمعرفة المراد من بعض الوجوه
والأول
يقتضي امتناع تأخير بيان المجمل
والثاني
يوجب حسن مخاطبة العربي بالزنجية لأن العربي إذ عرف لغة الزنجي
المخاطب له علم أنه قد أراد بخطابه شيئا ما إما الأمر وإما
النهي وإما غيرهما
والجواب
أن المعتبر في حسن الخطاب أن يتمكن السامع من أن يعرف به ما
أفاده الخطاب وهذا التمكن حاصل في ا لاسم المشترك لأنه موضوع
لأحد هذين المعنيين والراجع فهم ذلك منه بخلاف العربي فإنه لا يتمكن
217

من أن يعرف ما وضع له خطاب الزنج فوضح الفرق والله أعلم
المسألة الرابعة
يجوز أن يؤخر الرسول عليه السلام تبليغ ما يوحى إليه إلى وقت
الحاجة
وقال قوم يجب تقديمه عليه
لنا
أن في المشاهد قد يكون تقديم الإعلام على حضور وقت العمل
قبيحا وقد يكون ترك التقديم قبيحا وقد يكون بحيث يجوز الأمران
وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يعلم الله تعالى اختلاف مصلحة
المكلفين في تقديم الإعلام وفي تركه فيلزم أن لا يكون التقديم واجبا على
الإطلاق
احتجوا
بقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك والأمر
للفور
والجواب
لا نسلم أنه للفور سلمناه لكن المراد بذلك هو القرآن لأنه هو
الذي يطلق عليه القول بأنه منزل من الله تعالى والله أعلم
218

القسم الرابع
في
المبين له
وفيه مسائل
المسألة الأولى
الخطاب المحتاج إلى البيان يجب بيانه لمن أراد الله إفهامه دون من
لم يرد أن يفهمه
أما الأول
فلأنه لو لم يبينه له لكان قد كلفه ما لا سبيل له إلى العلم به
وأما الثاني
فلأنه لا تعلق له بذلك الخطاب فلا يجب بيانه له
ثم الذين أراد الله منهم فهم خطابه ضربان
أحدهما
أراد منهم فعل ما تضمنه الخطاب إن كان ما تضمنه الخطاب فعلا
219

والآخر
لم يرد منهم الفعل
والأولون هم العلماء وقد أراد الله تعالى أن يفهموا مراده بآية
الصلاة وأن يفعلوها
والآخرون هم العلماء في أحكام الحيض
فقد أريد منهم فهم الخطاب ولم يرد منهم فعل ما تضمنه
الخطاب
والذين لم يرد الله تعالى أن يفهموا مراده ولم يوجب ذلك
عليهم ضربان
أحدهما
لم يرد منهم أن يفعلوا ما تضمنه الخطاب
والآخر أراد منهم الفعل
والأولون هم أمتنا مع الكتب السالفة لأن الله تعال ما أراد
أن يفهموا مراده بها ولا أن يفعلوا مقتضاها
والآخر هو النساء في أحكام الحيض لأن الله تعالى أراد
منهن التزام أحكام الحيض بشرط أن يفتيهن المفتي ولم يوجب
220

عليهن فهم المراد بالخطاب لأنه لم يوجب عليهن سماع أخبار الحيض
فضلا عن بيان مجملها وتخصيص عامها
المسألة الثانية
يجوز من الله تعالى أن يسمع المكلف العام من غير أن يسمعه
ما يخصصه وهو قول النظام وأبي هاشم والفقهاء
وقال أبو الهذيل والجبائي لا يجوز ذلك في العام المخصوص بدليل
السمع وإن جاز أن يسمعه المخصوص بأدلة العقل وأن لم يعلم السامع
أن في العقل ما يدل على تخصيصه
لنا ثلاثة أوجه
221

الأول
أن ذلك قد وقع كثيرا لأن كثيرا من الصحابة سمعوا قوله تعالى
يوصيكم الله في أولادكم مع أنهم لم يسمعوا قوله ص نحن معاشر
الأنبياء لا نورث وسمعوا قوله تعالى اقتلوا المشركين مع أنهم لم
يسمعوا قوله ص سنوا بهم سنة أهل الكتاب إلى زمان عمر رضي الله
عنه
الثاني
أجمعنا على جواز خطابه بالعام المخصوص بالعقل من غير أن يخطر
بباله ذلك المخصص فوجب أن يجوز خطابه بالعام المخصوص بالسمع
من غير أن يسمعه ذلك المخصص والجامع كونه في الصورتين متمكنا من
معرفة المراد
الثالث
أن الواحد منا كثيرا ما يسمع الألفاظ العامة المخصوصة قبل
مخصصاتها النبي وإنكاره مكابرة في الضروريات
احتجوا بأمور
أحدها
أن إسماع العام دون إسماع المخصص إغراء بالجهل
222

وثانيها
أن العام لا يدل على مراد المخاطب بإسماعه وحدة كخطاب
العربي بالزنجية
وثالثها
أن دلالة العام مشروطة بعدم المخصص فلو جاز سماع العام دون
سماع المخصص لما جاز الاستدلال بشئ من العمومات إلا بعد الطواف في
الدنيا وسؤال كل علماء الوقت أنه هل وجد له مخصص وذلك يفضي إلى
سقوط العمومات
والجواب عن الأول
أن الإغراء غير حاصل لما قدمنا من أنه يفيد ظن العموم لا القطع
به
وبه خرج الجواب عن الثاني
وعن الثالث
أن كون اللفظ حقيقة في الاستغراق مجازا في غيره يفيد ظن
الاستغراق والظن حجة في العمليات والله أعلم
223

الكلام في الأفعال
وفيه مسائل
المسألة الأولى
اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على قولين
أحدهما
قول من ذهب إلى أنه لا يجوز أن يقع منهم ذنب صغيرا كان أو كبيرا
لا عمدا ولا سهوا ولا من جهة التأويل وهو قول الشيعة
والآخر
قول من ذهب إلى جوازه عليهم ثم اختلفوا فيما يجوز من ذلك وما لا
يجوز
والاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة
أحدها
ما يقع في باب الاعتقاد وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقع منهم
الكفر
225

وقالت الفضيلية من الخوارج إنه قد وقعت منهم ذنوب وكل ذنب
عندهم كفر وشرك
وأجازت الشيعة إظهار الكفر على سبيل التقية
فأما الاعتقاد الخطأ الذي لا يبلغ الكفر مثل أن يعتقد مثلا أن الأعراض
باقية ولا يكون كذلك فمنهم من أباه لكونه منفرا ومنهم من جوزه
وثانيها
باب التبليغ واتفقوا على أنه لا يجوز عليهم التغيير وإلا لزال
الوثوق بقولهم
وقال قوم يجوز ذلك من جهة السهو
وثالثها
ما يتعلق بالفتوى واتفقوا أيضا على أنه لا يجوز عليهم
الخطأ فيه
226

وجوزه قوم على سبيل السهو
ورابعها
ما يتعلق بأفعالهم واختلفت الأمة فيه على أربعة أقوال
أحدها
قول من جوز عليهم الكبائر عمدا وهؤلاء منهم من قال بوقوع هذا
الجائز وهم الحشوية
وقال القاضي أبو بكر هذا وإن جاز عقلا ولكن السمع منع من
وقوعه
وثانيها
أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا صغيرة عمدا لكن يجوز أن يأتوا
بها على جهة التأويل وهو قول الجبائي
227

وثالثها
أنه لا يجوز ذلك لا عمدا ولا من جهة التأويل لكن على سبيل السهو
وهم مؤاخذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان موضوعا عن
أمتهم لأن معرفتهم أقوى فيقدرون على التحفظ عما لا يتأتى لغيرهم
ورابعها
أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة وأنه قد وقعت منهم صغائر على جهة
العمد والخطأ والتأويل إلا ما ينفر كالكذب وإن والتطفيف وهو قول أكثر
المعتزلة
والذي نقول به أنه لم يقع منهم ذنب على سبيل القصد لا صغيرا ولا
كبيرا
أما السهو فقد يقع منهم لكن بشرط أن يتذكروه في الحال
وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا
وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام ومن أراد الاستقصاء
فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء والله أعلم
228

المسألة الثانية
اختلفوا في أن فعل الرسول ص بمجرده هل يدل على حكم في
حقنا أم لا على أربعة أقوال
أحدها
أنه للوجوب وهو قول ابن سريج وأبي سعيد الإصطخري وأبي
علي بن خيران
229

وثانيها
أنه للندب ونسب ذلك إلى الشافعي رضي الله عنه
وثالثها
أنه للإباحة وهو قول مالك رحمه الله
ورابعها
يتوقف في الكل وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار
لنا
أنا إن جوزنا الذنب عليه جوزنا في ذلك الفعل أن يكون ذنبا
له ولنا وحينئذ لا يجوز لنا فعله
وإن لم نجوز الذنب عليه جوزنا كونه مباحا ومندوبا وواجبا وبتقدير
أن يكون واجبا جوزنا أن يكون ذلك من خواصه وأن لا يكون
ومع احتمال هذه الأقسام امتنع الجزم بواحد منها
واحتج القائلون بالوجوب بالقرآن والإجماع والمعقول
أما القرآن فسبع آيات
230

إحداها
قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره والأمر حقيقة في
الفعل على ما تقدم بيانه والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب
موافقة فعله
وثانيتها
قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله
واليوم الآخر
وهذا مجراه مجرى الوعيد فيمن ترك التأسي به ولا معنى للتأسي به
إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله
وثالثتها
قوله تعالى واتبعوه وظاهر الأمر للوجوب والمتابعة هي
الإتيان بمثل فعله
231

ورابعتها
قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني دلت الآية على أن
محبة الله مستلزمة للمتابعة لكن المحبة واجبة بالإجماع ولازم الواجب
واجب فمتابعته واجبة
وخامستها
قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه فإذا فعل فقد آتانا بالفعل
فوجب علينا أن نأخذه
وسادستها
قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول دلت الآية بإطلاقها على
وجوب طاعة الرسول والآتي بمثل فعل الغير أجل أن ذلك
الغير فعله طائع لذلك الغير فوجب أن يكون ذلك واجبا
وسابعتها
أن قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها بين أنه تعالى إنما
زوجه بها ليكون حكم أمته مساويا لحكمه في ذلك وهذا هو المطلوب
232

وأما الإجماع فلأن الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم
اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها
فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا فرجعوا إلى ذلك وإجماعهم
على الرجوع حجة وهو المطلوب
وإنما كان لفعل رسول الله ص فقد أجمعوا ها هنا على أن
مجرد الفعل للوجوب
233

ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا نعالهم في الصلاة لما
خلع وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكا إلى أم سلمة
234

فقالت أخرج إليهم واحلق واذبح ففعل فذبحوا وحلقوا
متسارعين
235

ولأنه خلع خاتمه فخلعوا ولأن عمر رضي الله عنه كان يقبل
الحجر الأسود ويقول إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني
رأيت رسول الله ص يقبلك لما قبلتك
وأنه عليه الصلاة والسلام قال في جواب مسأل أم سلمة عن قبلة
236

الصائم ألا أخبرته كما أنني أقبل وأنا صائم وأما المعقول فمن وجهين
الأول
أن الاحتياط يقتضي حمل الشئ على أعظم مراتبه وأعظم مراتب
فعل الرسول ص أن يكون واجبا عليه وعلى أمته فوجب حمله عليه
بيان الأول أن الاحتياط يتضمن دفع ضرر الخوف عن النفس بالكلية
ودفع الضرر عن النفس واجب
بيان الثاني أن أعظم مراتب الفعل أن يكون واجبا على الكل
الثاني
أنه لا نزاع في وجوب تعظيم الرسول ص في الجملة وإيجاب الإتيان
بمثل فعله تعظيم له بدليل العرف والتعظيمان هو يشتركان في قدر من
المناسبة فيجمع بينهما بالقدر المشترك فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك
237

التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة الإتيان بمثل فعله
والجواب عن الأول
لا نسلم أن لفظ الأمر حقيقة في الفعل على ما تقدم
سلمناه لكنه بالإجماع أيضا حقيقة في القول فليس حمله على
ذلك بأولى من حمله على هذا
سلمناه لكن ها هنا ما يمنع من حمله على الفعل وهو من
وجهين
الأول
أن تقدم ذكر الدعاء وذكر المخالفة يمنع منه فإن الإنسان إذا قال
لعبده لا تجعل دعائي كدعاء غيري واحذر مخالفة أمري فهم منه أنه
أراد بالأمر القول
الثاني
وهو أنه قد أريد به القول بالإجماع فلا يجوز حمله على
الفعل لأن اللفظ المشترك لا يجوز حمله على معنييه
سلمناه لكن الهاء راجعة إلى الله تعالى لأنه أقرب المذكورين
فإن قلت القصد هو الحث على اتباع الرسول ص لأنه تعالى
قال لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فحث بذلك
238

على الرجوع إلى أقواله وأفعاله ثم عقب ذلك بقوله فليحذر الذين
يخالفون عن أمره فعلمنا أنه بعث بذلك على التزام ما كان دعا إليه
من الرجوع إلى أمر النبي عليه الصلاة والسلام
وأيضا
فلم لا يجوز الحكم بصرف الكناية إلى الله تعالى والرسول ص
قلت الجواب عن الأول
أن صرف هذا الضمير إلى الله تعالى مؤكد لهذا الغرض أيضا لأنه
لما حث على الرجوع إلى أقوال الرسول وأفعاله ثم حذر عن مخالفة أمر
الله تعالى كان ذلك تأكيدا لما هو المقصود من متابعة الرسول ص
وعن الثاني
أن الهاء كناية عن واحد فلا يجوز عوده إلى الله تعالى والى
الرسول معا
سلمنا عود الضمير إلى الرسول فلم قلت إن عدم الإتيان بمثل فعله
مخالفة لفعله
فإن قلت يدل عليه أمران
الأول
أن المخالفة ضد الموافقة لكن موافقة فعل الغير هو أن
تفعل مثل فعله فمخالفته هو أن لا تفعل مثل فعله
239

الثاني
وهو أن المعقول من المختلفين هما اللذان لا يقوم أحدهما مقام الآخر
والعدم والوجود لا يقوم أحدهما مقام الآخر بوجه أصلا فكانا في غاية
المخالفة
فثبت أن عدم الإتيان بمثل فعله مخالف للإتيان بمثل فعله من كل
الوجوه
قلت هب أنها في أصل الوضع كذلك لكنها في عرف الشرع
ليست كذلك ولهذا لا يسمى إخلال الحائض بالصلاة مخالفة للمسلمين بل
هي عبارة عن عدم الإتيان بمثل فعله إذا كان الإتيان به واجبا
وعلى هذا لا يسمى ترك مثل فعل النبي ص مخالفة إلا إذا دل
فعله على الوجوب
فإذا أثبتنا ذلك بهذا الدليل لزم الدور وهو محال
والواجب عن الثاني
لم قلت إن الإتيان بمثل فعل الغير مطلقا يكون تأسيا به بل
عندنا كما يشترط في التأسي المساواة في الصورة يشترط فيه
240

المساواة في الكيفية حتى إنه لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن
متأسين به وعلى هذا لا يكون مطلق فعل الرسول عليه الصلاة والسلام
سببا للوجوب في حقنا لأن فعله قد لا يكون واجبا فيكون فعلنا إياه على
سبيل الوجوب قادحا في التأسي وتمام الأسئلة سيأتي في المسألة الآتية
إن شاء الله تعالى
والجواب عن الثالث أن قوله واتبعوه إما أن لا يفيد العموم أو يفيده
فإن كان الأول سقط التمسك
به وإن كان الثاني فبتقدير أن يكون ذلك الفعل واجبا عليه وعلينا وجب أن
نعتقد فيه أيضا هذا الاعتقاد والحكم بالوجوب يناقضه فوجب أن لا
يتحقق
وهذا هو الجواب وسلم عن التمسك بقوله تعالى فاتبعوني
والجواب عن الخامس
لا نسلم أن قوله تعالى ما آتاكم الرسول فخذوه يتناول الفعل
ويدل عليه وجهان
241

الأول
أن قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا يدل على أنه عنى بقوله ما
آتاكم ما أمركم
الثاني
أن الإتيان إنما يتأتى في القول لأنا نحفظه وبامتثاله إن يصير كأننا
أخذناه فيصير كأنه ص أعطاناه
والجواب عن السادس
أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو بالمراد على اختلاف المذهبين
فلم قلت إن مجرد فعل الرسول ص يدل على أنا أمرنا بمثله أو أريد منا
مثله وهذا هو أول المسألة
والجواب عن الإجماع من وجوه
الأول
أن هذه أخبار آحاد فلا تفيد العلم
ولهم أن يقولوا هب أنها تفيد الظن لكن لما حصل ظن كونه دليلا
242

ترتب عليه ظن ثبوت الحكم فيكون العمل به دافعا لضرر مظنون فيكون
واجبا
وتقرير هذه الطريقة سيجئ إن شاء الله تعالى في مسألة القياس
الثاني
أن أكثر هذه الأخبار واردة في الصلاة والحج فلعله ص كان
قد بين لهم أن شرعه وشرعهم سواء في هذه الأمور قال ص صلوا
كما رأيتموني أصلي وعليه خرج مسألة التقاء الختانين وقال خذوا عني
مناسككم وعليه خرج تقبيل عمر للحجر الأسود
وقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي
وأما الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه
قصد بفعله بيان الواجب ففعلوا فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم
الموافقة
وأما خلع النعل فلا نعلم أنهم فعلوا ذلك واجبا
وأيضا لا يمتنع أن يكونوا لما رأوه قد خلع نعله مع تقدم قوله تعالى
243

خذوا زينتكم عند كل مسجد ظنوا أن خلعها مأمور به غير مباح لأنه
لو كان مباحا لما ترك به المسنون في الصلاة
على أنه ص قال لهم لم خلعتم نعالكم فقالوا لأنك خلعت نعلك
فقال إن جبريل أخبرني أن فيها أذى فبين بهذا أنه ينبغي أن يعرفوا الوجه
الذي أوقع عليه فعله ثم يتبعونه
وأما خلع الخاتم فهو مباح فلما خلع أحبوا موافقته لاعتقادهم وجوب
ذلك عليهم
والجواب عن الوجه الأول من المعقول
أن الاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الضرر قطعا وها هنا ليس
كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما على الأمة وإذا احتمل الأمران
لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا
وعن الثاني
إن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به الملك العظيم قد يكون تعظيما ولذلك
يقبح من العبد أن يفعل كل ما يفعل سيده
واحتج القائلون بالندب بالقرآن والإجماع والمعقول
أما القرآن فقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
ولو كان التأسي واجبا لقال عليكم فلما قال لكم دل على عدم
244

الوجوب ولما أثبت الأسوة الحسنة دل على رجحان جانب الفعل على
جانب الترك فلم يكن مباحا
وأما الإجماع فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء في
الأفعال بالنبي ص وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب
وأما المعقول فهو أن فعله عليه الصلاة والسلام إما أن يكون
راجح العدم أو مساوى العدم أو مرجوح العدم
والأول باطل لما ثبت أنه لا يوجمنه الذنب
والثاني باطل ظاهرا لأن الاشتغال به عبث والعبث مزجور عنه بقوله
تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا فتعين الثالث وهو أن يكون
مرجوح العدم ثم إنا لما تأملنا أفعاله وجدنا بعضها مندوبا وبعضها
واجبا والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجود وعدم الوجوب ثابت
بمقتضى الأصل فأثبتنا الرجحان مع عدم الوجوب
والجواب عن الأول
ما تقدم أن التأسي في إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه فلوا
245

كان فعله واجبا أو مباحا وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي
وعن الثاني
أنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل فلعلهم وجدوا مع الفعل
قرائن أخرى
وعن الثالث
لا نسلم أن فعل المباح عبث لأن العبث هو الخالي عن الغرض فإذا
حصلت في المباح منفعة ما لم يكن عبثا بل من حيث حصول النفع
به خرج عن العبث فلم قلتم بأنه خلا عن الغرض ثم حصول الغرض في
التأسي بالنبي ص ومتابعته في أفعاله بين فلا يعد من أقسام العبث والله
أعلم
واحتج القائلون بالإباحة
بأنه لما ثبت أنه لا يجوز صدور الذنب منه ثبت أن فعله لا بد أن يكون
إما مباحا أو مندوبا أو واجبا
وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل
فأما رجحان جانب الفعل فلم يثبت على وجوده دليل لأن الكلام فيه
246

وثبت على عدمه لأن دليل هذا الرجحان كان معدوما والأصل في كل شئ
بقاؤه على ما كان فثبت بهذا أنه لا حرج في فعله قطعا ولا رجحان في
فعله ظاهرا
فهذا الدليل يقتضي في كل أفعاله أن يكون مباحا ترك العمل به في
الأفعال التي علم كونها واجبة أو مندوبة فيبقى معمولا به في الباقي
وإذا ثبت كونه مباحا ظاهرا وجب أن يكون في حقنا كذلك للآية
الدالة على وجوب التأسي ترك العمل به فيما كان من خواصه فيبقى معمولا
به في الباقي
والجواب
هب أنه في حقه كذلك فلم يجب أن يكون في حق غيره كذلك والله
أعلم
المسألة الثالثة
قال جماهير الفقهاء والمعتزلة التأسي به واجب ومعناه أنا إذا علمنا
أن الرسول ص فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا أن نفعله على وجه
الوجوب
247

وإن علمنا أنه تنفل به كنا متعبدين بالتنفل به وإن علمنا أنه
فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته لنا وجاز لنا أن
نفعله
وقال أبو علي بن خلاد من المعتزلة نحن متعبدون بالتأسي
به في العبادات دون غيرها كالمناكحات إلا والمعاملات
ومن الناس من أنكر ذلك في الكل
واحتج أبو الحسين بالقرآن والإجماع
أما القرآن فقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
والتأسي بالغير في أفعاله هو أن يفعل على الوجه الذي فعل ذلك الغير
ولم يفرق الله تعالى بين أفعال الرسول ص إذا كانت مباحة أو
لم تكن مباحة
248

وقوله تعالى واتبعوه أمر بالاتباع فيجب
وأما الإجماع فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه في قبلة
الصائم وفي أن من أصبح جنبا لم يفسد صومه وفي تزوج
النبي ص ميمونة وهو حرام وذلك يدل على أن أفعاله لا بد من أن
يمتثل فيها طريقه
249

ولقائل أن يقول على الدليل الأول الآية تقتضي التأسي به مرة واحدة
كما أن قول القائل لغيره لك في الدار ثوب حسن يفيد ثوبا واحدا
فإن قلت هذا إن ثبت تم غرضنا من التعبد بالتأسي به ص في الجملة
وأيضا فالآية تفيد إطلاق كون النبي ص أسوة حسنة لنا ولا يطلق
وصف الإنسان بأنه أسوة حسنة إذا لم يجز لزيد لزيد أن يتبعه إلا في فعل
واحد وإنما يطلق ذلك إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد يقتدي به في
الأمور كلها إلا ما خصه الدليل
قلت الجواب عن الأول
أن أحدا لا ينازع في التأسي به ص في الجملة لأنه لما قال صلوا
كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم فقد أجمعوا على وقوع
التأسي به ها هنا والآية ما دلت إلا على المرة الواحدة فكان التأسي به
ص في هذه الصورة كافيا في العمل بالآية لا سيما والآية إنما وردت
على صيغة الاخبار عما مضى وذلك يكفي فيه وقوع التأسي به فيما
مضى
والجواب عن الثاني
أنك إن أردت به أنه لا يصح إطلاق اسم الأسوة عليه إلا إذا
250

كان أسوة في كل شئ فهذا فيه ممنوع ثم الذي يدل على فساده
وجهان
الأول
أن من تعلم من إنسان نوعا واحدا من العلم يقال له إن لك في فلان
أسوة حسنة
الثاني
وهو أن يقال لك في فلان أسوة حسنة في كل شئ ويقال لك من
فلان أسوة حسنة في هذا الشد دون ذاك ولو اقتضى اللفظ العموم
لكان الأول تكريرا والثاني نقضا
وإن أردت أن يصح إطلاق اسم الأسوة إذا كان أسوة في بعض
الأشياء فهذا مسلم ولكنه ص عندنا أسوة لنا في أقواله وفي كثير
من أفعاله التي أمرنا بالاقتداء به فيها كقوله ص صلوا كما رأيتموني أصلي
وخذوا عني مناسككم
والجواب عن الحجة الثانية
ان قوله تعالى واتبعوه مطلق في الاتباع فلا يفيد العموم في
كل شئ من الاتباعات صلى والأمر لا يقتضي التكرار فلا يفيد العموم
في كل الأزمنة
251

فإن قلت ترتيب الحكم على الاسم يشعر بأن المسمى علة لذلك
الحكم فماهية المتابعة علة للأمر بها
قلت فعلى هذا لو قال السيد لعبده اسقني يلزم أن يكون
أمرا له بجميع أنواع السقي في كل الأزمنة ولو قال له قم يلزم أن
يكون أمرا له بجميع أنواع القيام في كل الأزمنة
وفي هذه الأمثلة كثرة وما ذكرناه كاف في إفساد ما قالوا والله
أعلم
وأما الإجماع فقد سبق الكلام عليه والله أعلم
252

القسم الثاني
في
التفريع على وجوب التأسي
المسألة الأولى
لما عرفت أن التأسي مطابقة فعل المتأسي وقال به على الوجه
الذي وقع فعله عليه وجب معرفة الوجه الذي يقع عليه فعل الرسول
ص وهو ثلاثة الإباحة والندب والوجوب
أما الإباحة فتعرف بطرق أربعة
أحدها
أن ينص الرسول ص على أنه مباح
وثانيها
أن يقع امتثالا لآية دالة على الإباحة
وثالثها
أن يقع بيانا لآية دالة على الإباحة
253

ورابعها
أنه لما ثبت أنه لا يذنب ثبت أنه لا حرج عليه في ذلك الفعل ولا
في تركه
وانتفى الوجوب والندب بالبقاء على الأصل فحينئذ يعرف كونه
مباحا
وأما الندب أنه فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع أربعة أخرى
أحدها
أن يعلم من قصده ص أنه قصد القربة بذلك الفعل فيعلم أنه
راجح الوجود ثم نعرف انتقاء الوجوب وهو بحكم الاستصحاب فيثبت
الندب
وثانيها
أن ينص على أنه كان مخيرا بين ما فعل وبين فعل ما ثبت أنه
ندب لأن التخيير لا يقع بين الندب وبين ما ليس بندب
254

وثالثها
أن يقع قضاء لعبادة كانت مندوبة
ورابعها
أن يداوم على الفعل ثم يخل به من غير نسخ فتكون إدامته عليه
الصلاة والسلام دليلا على كونه طاعة وإخلاله به من غير نسخ دليلا على
عدم الوجوب
وأما الوجوب فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع خمسة أخرى
أحدها
الدلالة على أنه كان مخيرا بينه وبين فعل آخر قد ثبت وجوبه لأن
التخيير لا يقع بين الواجب وبين مال ليس بواجب
وثانيها
أن يكون قضاء لعبادة قد ثبت وجوبها
وثالثها
أن يكون وقوعه مع أمارة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة الوجوب
كالصلاة بأذان وإقامة
255

ورابعها
أن يكون جزاء لشرط فوجب كفعل ما وجب بالنذر
وخامسها
أن يكولو لم يكن واجبا لم يجز كالجمع بين ركوعين في صلاة
الكسوف
المسألة الثانية
في الفعل إذا عارضه معارض منه ص فهو إما أن يكون قولا أو
فعلا أما القول فإما أن يعلم أن المتقدم هو القول أو الفعل أو لا يعلم واحد
منهما
أما القسم الأول وهو أن يكون المتقدم هو القول فالفعل المعارض
له إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه
256

فإن كان متعقبا فإما أن يكون القول متناولا له خاصة أو لأمته خاصة أوله ولهم معا
لا يجوز أن يتناوله خاصة إلا على قول من يجوز نسخ الشئ قبل حضور
وقته وإن تناول أمته خاصة وجب المصير إلى القول دون الفعل وإلا
كان القول لغو ولا يلغو الفعل لأن حكمه ثابت في الرسول ص
وإن كان الخطاب يعمه وإياهم دل فعله على أنه مخصوص من
القول وأمته داخلة فيه لا محالة
وإن كان الفعل متراخيا عن القول فإن كان القول عاما لنا وله صار
مقتضاه منسوخا عنا وعنه
وإن تناوله دونه كان نسخا عنا دونه لأن القول لم يتناوله
وإن تناوله دوننا كان منسوخا عنه دوننا ثم يلزمنا مثل فعله لوجوب
التأسي به
القسم الثاني أن يكون المتقدم هو الفعل فالقول المعارض له إما أن
يحصل عقيبه أو متراخيا عنه
فإن كان متعقبا فإما أن يكون القول متناولا له خاصة أو لأمته خاصة أو
عاما فيه وفيهم
فإن كان متناولا له خاصة وقد كان الفعل المتقدم دالا على لزوم مثله
لكل مكلف في المستقبل فيصير ذلك القول المختص به مخصصا له عن
ذلك العموم
257

وإن كان متناولا لأمته خاصة دل على أن حكم الفعل مختص به دون
أمته
وإن كان عاما فيه وفيهم دل على سقوط حكم الفعل عنه وعنهم
وأما إن كان القول متراخيا عن الفعل فإن كان متناولا له ولأمته فيكون
القول ناسخا لحكم الفعل عنه وعن أمته
وإن كان يتناول أمته دونه فيكون منسوخا عنهم دونه
وإن كان يتناوله دون أمته فيكون منسوخا عنه دون أمته
القسم الثالث
إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فها هنا يقدم القول على الفعل
ويدل عليه وجهان
الأول
أن القول أقوى من الفعل والأقوى راجح
وإنما قلنا إن القول أقوى لأن دلالة القول تستغني عن
الفعل ودلالة الفعل لا تستغني عن القول والمستغني أقوى من
المحتاج
258

والثاني أنا نقطع بأن القول قد تناولنا وأما الفعل فبتقدير
أن يتأخر كان متناولا لنا وبتقدير أن يتقدم لا يتناولنا فكون القول
متناولا لنا معلوم وكون الفعل متناولا لنا مشكوك والمعلوم مقدم
على المشكوك
فرع
نهى رسول الله ص عن استقبال القبلة واستدبارها في قضاء
الحاجة صلى الله عليه وسلم ثم جلس في البيوت لقضاء الحاجة مستقبل بيت المقدس
259

فعند الشافعي رضي الله عنه أن نهيه مخصوص بفعله في
الصحراء حتى يجوز استقبال القبلة واستدبارها في البيوت لكل أحد
260

وعند الكرخي رحمه الله يجب إجراء النهي على إطلاقه في
الصحراء والبنيان فكان ذلك من خواص الرسول ص
وتوقف القاضي عبد الجبار في المسألة
حجة الشافعي رضي الله عنه أن النهي عام ومجموع الدليل الذي يوجب
علينا أن نفعل مثل ما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع كونه
مستقبل القبلة في البنيان عند قضاء الحاجة أخص من ذلك النهي
والخاص مقدم على العام فوجب القول بالتخصيص والله أعلم
أما إذا كان المعارض للفعل فعلا آخر فذلك على وجهين
الأول
أن يفعل الرسول ص فعلا يعلم بالدليل أن غيره مكلف به
ثم نراه بعد ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده فنعلم أنه
خارج منه
الثاني
إذا علمنا أن ذلك الفعل إنما يلزم أمثاله الرسول ص في مثل
261

تلك الأوقات ما لم يرد دليل ناسخ لم يفعل عليه الصلاة والسلام
ضده في مثل ذلك الوقت فنعلم أنه كان قد نسخ عنه
تنبيه
التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحقا ما دل على أن ذلك الفعل
لازم لغيره وأنه لازم له في مستقبل الأوقات
وإنما يقال إن ذلك الفعل قد لحقه النسخ بمعنى أنه قد
زال التعبد بمثله وأن التخصيص قد لحقه على معنى أن بعض المكلفين
لا يلزمه مثله والله أعلم
262

القسم الثالث
في
أن الرسول ص
هل كان متعبدا بشرع من قبله
وفيه بحثان
البحث الأول
أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله أثبته قوم ونفاه
آخرون وتوقف فيه ثالث
احتج المنكرون بأمرين
الأول
أنه لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك
الشريعة والاستفتاء منهم والأخذ بقولهم ولو كان كذلك لأشتهر ولنقل
بالتواتر قياسا على سائر أحواله فحيث لم ينقل علمنا أنه ما كان متعبدا
بشرعهم
263

الثاني
أنه لو كان على ملة قوم لافتخر به أولئك القوم
ولنسبوه إذا إلى أنفسهم ولاشتهر ذلك
فإن قلت ولو لم يكن متعبدا بشرع أحد لأشتهر ذلك
قلت الفرق أن قومه ما كانوا على شرع أحد فبقاؤه لا على شرع البتة
لا يكون شيئا بخلاف العادة فلا تتوفر الدواعي على نقله
أما كونه على شرع لما كان بخلاف عادة قومة فوجب أن ينقل
احتج المثبتون بأمرين
الأول
أن دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها
الثاني
أنه كان يركب البهيمة ويأكل اللحم ويطوف بالبيت
والجواب عن الأول
أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه
264

سلمناه لكن لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه بطريق يوجب العلم
أو الظن الغالب وهذا هو المراد من زمان الفترة
وعن الثاني أن نقول
أما ركوب البهائم فهو حسن في العقل إذا كان طريقا إلى حفظها
بالعلف وغيره
وأما أكله لحم المذكى فحسن أيضا لأنه ليس فيه مضرة على حيوان
وأما طوافه بالبيت فبتقدير ثبوته لا يجب لو فعله من غير شرع أن
يكون حراما
البحث الثاني
في حاله عليه السلام بعد النبوة
قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء إنه لم يكن متعبدا بشرع أحد
265

وقال قوم من الفقهاء بل كان متعبدا بذلك إلا ما استثناه الدليل
الناسخ ثم اختلفوا فقال قوم كان متعبدا بشرع إبراهيم وقيل بشرع
موسى وقيل بشرع عيسى
واعلم أن من قال إنه كان متعبدا بشرع من قبله إما أن يريد به
أن الله تعالى كان يوحي إليه بمثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله
أو يريد أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم
فإن قالوا بالأول فإما أن يقولوا به في كل شرعه أو في بعضه
والأول معلوم البطلان بالضرورة لأن شرعنا يخالف شرع من قبلنا في كثير
من الأمور
والثاني مسلم ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه كان
متعبدا بشرع غيره لأن ذلك يوهم التبعية وأنه ص ما كان تبعا لغيره
بل كان أصلا في شرعه
وأما الاحتمال الثاني وهو حقيقة المسألة فيدل على بطلانه
وجوه
266

الأول
لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب أن يرجع في أحكام الحوادث إلى
شرعه وأن لا يتوقف إلى نزول الوحي لكنه لم يفعل ذلك لوجهين
الأول أنه لو فعل لأشتهر
والثاني أن عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة فغضب رسول
الله عليه الصلاة والسلام وقال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا
اتباعي ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد
فإن قيل الملازمة ممنوعة لاحتمال أن يقال إنه ص علم في
تلك الصور أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله فلا جرم توقف فيها على نزول
الوحي
أو لأنه عليه الصلاة والسلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع
فانتظر الوحي
أو لأن احكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالتواتر فلا يحتاج في
267

معرفتها إلى الرجوع إليهم وإلى كتبهم
وإن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها لأن أولئك الرواة كانوا كفارا
ورواية الكافر غير مقبولة
سلمنا الملازمة لكن قد ثبت رجوعه إلى التوراة في الرجم لما
احتكم إليه اليهود
والجواب
قوله إنما لم يرجع إليها لأنه عليه الصلاة والسلام علم
أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله
قلنا فلما لم يرجع في شئ من الوقائع إليهم وجب أن يكون ذلك
لأنه علم أنه غير متعبد في شئ منها بشرع من قبله
268

قوله إنما لم يرجع إليها لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع
قلنا العلم بخلو كتبهم عنها لا يحصل إلا بالطلب الشديد والبحث
الكثير فكان يجب أن يقع منه ذلك البحث والطلب
قوله ذلك الحكم إما أن يكون منقولا بالتواتر أو بالآحاد
قلنا يجوز أن يكون متن الدليل متواترا إلا أنه لا بد في العلم بدلالته
على المطلوب من نظر كثير وبحث دقيق فكان يجب اشتغال النبي عليه
الصلاة والسلام بالنظر في كتبهم والبحث عن كيفية دلالتها على الأحكام
قوله إنه رجع في الرجم إلى التوراة
قلنا لم يكن رجوعه إليها رجوع مثبت للشرع بها والدليل عليه
أمور
أحدها
أنه لم يرجع إليها في غير الرجم
وثانيها
أن التوراة محرفة عنده فكيف يعتمد عليها
وثالثها
أن من أخبره بوجود الرجم في التوراة لم يكن ممن يقع العلم بخبره
فثبت أن رجوعه إليها كان ليقرر عليهم أن ذلك الحكم كما أنه ثابت
في شرعه فهو أيضا ثابت
في شرعهم وأنهم أنكروه كذبا وعنادا
269

الحجة الثانية
أنه عليه السلام لو كان متعبدا بشرع من قبله لوجب على علماء
الأعصار أن يرجعوا في الوقائع إلى شرع من قبله ضرورة أن التأسي به
واجب وحيث لم يفعلوا ذلك البتة عمنا بطلان ذلك
الحجة الثالثة
أنه عليه الصلاة والسلام صوب معاذا في حكمه باجتهاد نفسه إذا
عدم حكم الحادثة في الكتاب والسنة ولو كان متعبدا بحكم التوراة كما
تعبد بحكم الكتاب لم يكن له العمل باجتهاد نفسه حتى ينظر في التوراة
والإنجيل
فإن قلت إن رسول الله ص لم يصوب معاذا في العمل بالاجتهاد
إلا إذا عدمه في الكتاب والتوراة كتاب ولأنه لم يذكر التوراة لأن في
270

القرآن آيات دالة على الرجوع إليها كما أنه لم يذكر الإجماع لهذا
السبب
قلت الجواب عن الأول من وجهين
الأول أنه لا يفهم من إطلاق الكتاب إلا القرآن فلا يحمل على غير إلا
بدليل
الثاني
أنه لم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل والعناية بتميز
المحرف منها عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن
وبه ظهر الجواب عن الثاني
الحجة الرابعة
لو كانت تلك الكتب حجة علينا لكان حفظها من فروض الكفايات كما
في القرآن والأخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل
عليهم كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة وبيع أم الولد
وحد الشرب والربا في غير النسيئة ودية الجنين فقال والرد بالعيب
بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك من الأحكام
ولما لم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم
واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من أحبارهم من تقوم
271

الحجة بقولهم كعبد الله بن سلام وكعب ووهب وغيرهم ولا
يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب وكيف يحصل اليأس قبل
العلم دل على أنه ليس بحجة
احتجوا بأمور
أحدها قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون
وثانيها
قوله تعالى فبهداهم اقتده أمره أن يقتدي بهم
272

وثالثها
قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
ورابعها
قوله تعالى أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا
وخامسها
قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
والجواب عن الأول
أن قوله يحكم بها النبيون لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن جميع
النبيين لم يحكموا بجميع ما في التوراة وذلك معلوم بالضرورة فوجب إما
تخصيص الحكم وهو أن كل النبيين حكموا ببعضه وذلك لا يضرنا
فإن نبينا حكم بما فيه من معرفة الله تعالى وملائكته
وكتبه ورسله
أو تخصيص النبيين وهو أن النبيين حكموا بكل ما فيه وذلك لا يضرنا
وعن الثاني
أنه تعالى أمر بأن يقتدى بهدي مضاف إلى كلهم وهداهم الذي
اتفقوا عليه هو الأصول دون ما وقع فيه النسخ
273

وعن الثالث
أنه يقتضي تشبيه الوحي بالوحي لا تشبيه الموحى به بالموحى به
وعن الرابع
أن الملة محمولة على الأصول دون الفروع ويدل عليه أمور
أحدها
أنه يقال ملة الشافعي وأبي حنيفة واحد وإن كان مذهبهما في
كثير من الشرعيات مختلفا
وثانيها
قوله بعد هذه الآية وما كان من المشركين
وثالثها
أن شريعة إبراهيم عليه السلام قد اندرست
وعن الخامس
أن الآية تقتضي أنه وصى محمدا عليه الصلاة والسلام بالذي وصى
به نوحا عليه السلام من أن يقيسوا الدين ولا يتفرقوا فيه وأمرهم بإقامة
الدين لا يدل على اتفاق دينهما كما أن أمر الاثنين أن يقوما بحقوق الله
274

تعالى لا يدل على أن الحق على أحدهما مثل الحق على الآخر وعلى أن
الآية تدل على أنه تعبد محمدا بما وصى به نوحا عليهما السلام والله أعلم
275

الكلام في الناسخ والمنسوخ
وهو مرتب على أقسام
القسم الأول
في
حقيقة النسخ
وفيه مسائل
277

المسألة الأولى
النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشئ وقال القفال
إنه للنقل والتحويل
279

لنا
إنه يقال نسخت الريح آثار القوم إذا أعدمتها ونسخت الشمس
الظل إذا أعدمته ثنا لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر فيظن أنه انتقل
إليه والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في
الإبطال وجب أن يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك
فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة
للظل مجاز لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك
مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله
ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول بل النسخ هو النقل والتحويل
ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنك تنقله إليه أو تنقل حكايته
ومنه تناسخ وتناسخ القرون قرنا بعد قرن
وتناسخ المواريث إنما هو التحويل من واحد إلى آخر بدلا عن
الأول فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة
في الإزالة دفعا للاشتراك وعليكم الترجيح
280

والجواب عن الأول من وجهين
أحدهما
أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث
فعل الشمس والريح المؤثرين في تلك الإزالة ويكونان أيضا
ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير
وثانيهما
أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح فهب أنه
كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لا
إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس
وعن الثاني
أن النقل أخص من الزوال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة
وحصلت صفة أخرى فإذن مطلق العدم أعم من عدم يحصل
عقيبه شئ آخر وإذا دار اللفظ بين العام والخاص كان جعله حقيقة في
العام أولى من جعله حقيقة في خاص على ما تقدم تقريره في كتاب
اللغات والله أعلم
281

المسألة الثانية
في حد النسخ في اصطلاح العلماء
الذي ذكره القاضي أبو بكر وارتضاه الغزالي رحمهما الله أنه
الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه
لكان ثابتا مع تراخيه عنه
وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا اللفظ
والفحوى والمفهوم وكل دليل إذ يجوز النسخ بجميع ذلك
وإنما قلنا على ارتفاع الحكم الثابت ليتناول الأمر والنهي
والخبر وجميع أنواع الحكم
وإنما قلنا بالخطاب المتقدم لأن ابتداء ايجاب العبادات في
الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل
حكم الخطاب
وإنما قلنا لولاه لكان ثابتا لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما
يكون رافعا إذا كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي
282

وإنما قلنا مع تراخيه عنه لأن لو اتصل به لكان بيانا
لمدة هذه العبادة لا نسخا
ولقائل أن يقول هذا الحد مختل من وجوه
أحدها
أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم ناسخ للحكم
الأول وليس بنسخ إذ النسخ هو نفس الارتفاع وفرق بين الرافع
وبين نفس الارتفاع فجعل الرافع عين الارتفاع خطأ
وثانيها
أن تقييد ذلك بالخطاب خطأ لأن الناسخ قد يكون فعلا لا قولا فإنه
صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا وعلمنا بالضرورة أنه قصد به رفع بعض ما كان ثابتا
فذلك يكون ناسخا مع أنه ليس بخطاب
فإن قلت الناسفي الحقيقة هو الخطاب الدال على وجوب
متابعته عليه السلام في أفعاله
قلت لقدرنا أنه لم يرد أمر زائد يدل على وجوب متابعته في
أفعاله ثم إنه عليه الصلاة والسلام فعل فعلا ووجد هناك من القرائن
283

ما أفاد العلم الضروري بأن غرضه عليه الصلاة والسلام إزالة الحكم الذي
كان ثابتا فإنه يكون ناسخا بالاجماع مع أنه لم يوجد الخطاب في هذه
الصورة أصلا
وثالثها
أن الأمة إذا اختلفت على قولين فسوغت للعامي تقليد كل واحدة من
الطائفتين ثم أجمعت بعد ذلك على أحد القولين فهذا الاجماع خطاب
وهو ناسخ لجواز الأخذ بكلا القولين فقد وجد ها هنا خطاب دال
على ارتفاع حكم خطاب مع أن الحق أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ به
ويمكن جوابه بأنا ذكرنا حد النسخ مطلقا لا حد النسخ الجائز في
الشرع
ورابعها
أن كون النسخ رفعا باطل وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
284

وخامسها
أن قوله بالخطاب المتقدم خطأ لأن الحكم الأول لو ثبت بفعل
النبي صلى الله عليه وسلم لا بقوله ل كان الذي يرفعه ناسخا له
فهذا ما في هذا الحد
والأولى أن يقال النسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم
الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على
وجلولاه ل كان ثابتا
فقولنا طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن
الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام والفعل المنقول
عنهما
ويخرج عن اتفاق الأمة على أحد القولين لأن ذلك ليس بطريق شرعي
على هذا التفسير
ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخا لحكم العقل لأن العقل ليس بطريق
شرعي
285

ولا يلزم أن يكون العجز ناسخا لحكم شرعي لأن العجز ليس بطريق
شرعي
ولا يلزم تقييد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير
متراخ
ولا يلزم ما إذا أمرنا الله تعالى بفعل واحد ثم نهانا عن مثله
لأنه لو لم يكن هذا النهي لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا
286

المسألة الثالثة
قال القاضي أبو بكر رحمه الله النسخ رفع ومعناه أن خطاب الله
تعالى تعلق بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لبقي الا أنه زال
لطريان الناسخ
وقال الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله إنه بيان ومعناه أن الخطاب
الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت ثم حصل بعده حكم آخر
والمثال الكاشف عن حقيقة هذه المسألة أن من قال ببقاء الأعراض
قال الضد الباقي يبقى لولا طريان الطارئ ثم إن الطارئ يكون مزيلا
لذلك الباقي
ومن قال بأنها لا تبقى قال الضد الأول ينتهي بذاته ويحصل ضده
بعد ذلك من غير أن يكون للضد الطارئ أثر في إزالة ما قبله لأن الزائل
بذاته لا يحتاج إلى مزيل
وإذا ظهر هذا التمثيل عادت الدلائل المذكورة في تلك المسألة إلى
هذه المسألة نفيا واثباتا فنقول
287

احتج المنكرون للرفع بوجوه
الحجة الأولى
أنه ليس زوال الباقي بطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ
لأجل بقاء الباقي فإما أن يوجدا معا وهو محال بالضرورة أو بعد ما معا
وهو محال لأن علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو عد ما معا لوجدا
معا وذلك محال
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الحادث أقوى من الباقي لحدوثه قلت
هذا باطل لوجهين
أحدهما
أن الباقي إما أن يحصل له أمر زائد على ما كان حاصلا له حال
حدوثه أو لا يحصل
288

فإن كان الأول كان ذلك الزائد حادثا فذلك الزائد لحدوثه يكون مساويا
للضد الطارئ في القوة
وإذا استويا في القوة امتنع رجحان أحدهما على الآخر وإذا امتنع
عدم كيفية الباقي امتنع عدم ذلك الباقي لا محالة
وإن كان الثاني وهو أن لا يحصل للباقي أمر زائد على ما كان حاصلا له
حال الحدوث لزم أن تكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث وحينئذ يبطل
الرجحان
وثانيهما
أن الشئ حال حدوثه كما يمتنع عدمه فالباقي حال بقائه لا بد له
من سبب لكونه ممكنا وهو مع السبب يمتنع عدمه فإذا امتنع العدم
عليهما استويا في القوة فيمتنع الرجحان
الحجة الثانية هي
أن طريا الحكم الطارئ مشروط بزوال المتقدم فلو كان زوال المتقدم
معللا بطريان الطارئ لزوم الدور وهو محال
الحجة الثالثة
أن الطارئ إما أن يطرأ حال كون الحكم الأول معدوما أو موجودا
فإن كان الأول استحال أن يؤثر في عدمه لأن إعدام المعدوم محال
289

وإن كان الثاني فقد وجد مع وجود الأول وإذا وجدا معا لم يكن
بينهما منافاة وإذا لم يمكن بينهما منافاة لم يكن أحدهما رافعا للآخر
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون ذلك كالكسر مع الانكسار
قلت الانكسار عبارة عن زوال تلك التأليفات عن اجزاء ذلك
الجسم والتأليفات أعراض غير باقية فلا يكون للكسر أثر في إزالتها
الحجة الرابعة هي
أن كلام الله تعالى قديم والقديم لا يجوز رفعه فإن قلت المرفوع
تعلق الخطاب
قلت الخطاب إما أن يكون أمرا ثبوتيا أو لا يكون
فإن لم يكن أمرا ثبوتيا استحال رفعه وإزالته
وإن كان أمرا ثبوتيا فهو إما أن يكون حادثا أو قديما فإن كان حادثا لزم
كونه تعالى محلا للحوادث
وإن كان قديما لزم عدم القديم وهو محال
واعلم أن هذه الوجوه كما أنها قوية في نفسها فهي أقوى لزوما
على القاضي رحمه الله لأنه هو الذي عول عليها في امتناع إعدام الضد
بالضد
290

والقول بكون النسخ رفعا عين القول بإعدام الضد بالضد
فيكون لزوم هذه الأدلة عليه أقوى
واحتج إمام الحرمين رحمه الله على فساد الرفع بوجه آخر و
هو أن علم الله تعالى إما أن يكون متعلقا باستمرار هذا الحكم أبدا
أو يكون متعلقا بأنه لا يبقى إلا إلى الوقت الفلاني فإن كان الأول استحال
نسخه وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وهو محال
والثاني يقتضي بطلان القول بالرفع لأن الله تعالى إذ علم أن ذلك
الحكم لا يبقى إلا إلى ذالله الوقت استحال وجود ذلك الحكم بعد
ذلك وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وإذا كان ممتنع الوجود بعد
291

ذلك استحال أن يقع زوال بمزيل لأن الواجب لذاته يمتنع أن يكون واجبا
لغيره
ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال علم الله تعالى أن ذلك الحكم
لا يبقى إلى ذلك الوقت لطريان الناسخ لا لذاته وإذا علم
الله تعالى أنه يزول ذلك الحكم في ذلك الوقت لطريان ذلك الناسخ
لم يكن ذلك قادحا في تعليل زواله بالنسخ
ويزيده تقريرا أن يقال إن الله تعالى كان يعلم أن العالم يوجد في
الوقت الفلاني فيكون وجوده في ذلك الوقت واجبا ولم يكن ذلك الوجوب
قادحا في افتقاره إلى المؤثر لإنه لما علم الله تعالى أنه يوجد في ذلك
الوقت بذلك المؤثر لم يكن الوجوب على هذا الوجه قادحا في افتقاره إلى
المؤثر فكذا ها هنا
292

واحتج القائلون بالرفع بأمرين
أولهما
أن النسخ في اللغة عبارة عن الإزالة فوجب أن يكون في الشرع
أيضا كذلك لأن الأصل عدم التغيير ولأننا ذكرنا في باب نفي
الألفاظ الشرعية ما يدل على عدم التغيير
وثانيهما
أن الخطاب كان متعلقا بالفعل فذلك التعلق يمتنع أن يكون عدمه لذاته
وإلا لزم أن لا يوجد وإن لم يكن لذاته فلا بد من مزيل ولا مزيل إلا
الناسخ
والجواب عن الأول
أنه تمسك بمجرد اللفظ وهو لا يعارض الدلائل العقلية
وعن الثاني
أن كلام الله تعالى القديم كان متعلقا من الأزل إلى الأبد باقتضاء
الفعل إلى ذالله الوقت المعين والمشروط بالشئ عدم عند عدم
الشرط فلا يفتقر زواله إلى مزيل آخر والله أعلم
293

المسألة الرابعة
النسخ عندنا جائز عقلا وواقع سمعا خلافا لليهود فإن منهم
من أنكره عقلا ومنهم من جوزه عقلا لكنه منع منه سمعا
ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ
لنا وجهان
الأول
أن الدلالة القاطعة دلت على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ونبوته لا
تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ
الثاني
أن الأمة مجمعة على وقوع النسخ
294

ولنا على اليهود إلزامان
به الأول
جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من
الفلك إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم
كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم قد حرم الله تعالى على
موسى عليه السلام وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوانات
الثاني
كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت وقد حرم الله ذلك على
موسى
عليه السلام ولقائل أن يقول لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح
إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما
السلام أمرا الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة
والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع شرع محمد عليه الصلاة والسلام فعند
ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرع موسى
وعيسى عليهما السلام ووقع التكليف بشرع محمد عليه السلام لكنه
295

لا يكون نسخا بل يكون جاريا مجرى قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى
الليل
والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ بنوا مذهبهم على هذا الحرف
وقالوا قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام بشرا في
التوراة والإنجيل بمبعث محمد ص وأنه عند ظهوره يجب الرجوع إلى
شرعه وإذا كان الأمر كذلك امتنع تحقق النسخ وهكذا جواب اليهود
عن الإلزامين الذين أوردناهما عليهم
وأما ادعاء الإجماع فكيف يصح بعد ما صح وقوع الخلاف فيه
296

والمعتمد في المسألة قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت
بخير منها أو مثلها وجه الاستدلال به أن جواز التمسك بالقرآن إما أن
يتوقف على صحة النسخ أو لا يتوقف فإن توقف عاد الأمر إلى أن
نبوة محمد ص لا تصح إلا مع القول بالنسخ وقد صحت نبوته فوجب
القول بصحة النسخ
297

وإن لم نتوقف عليه فحينئذ هذا يصح الاستدلال بهذه الآية على النسخ
واحتج منكرو النسخ عقلا بأن الفعل الواحد إما أن يكون حسنا
أو قبيحا فإن كان حسنا كان النهي عنه نهيا عن الحسن وإن كان قبيحا
كان الأمر به أمرا بالقبيح
وعلى كلا التقديرين يلزم إما الجهل وإما السفه
واحتج المنكرون شرعا بوجهين
الأول هو
أن الله تعالى لما بين شرع موسى عليه السلام فاللفظ الدال عليه
إما أن يقال إنه دل على دوام شرعه أو ما دل عليه
فإن كان الأول فإما أن يكون قد ضم الله تعالى إليه ما يدل
على أنه سينسخه أو لم يضم إليه ذلك فإن كان الأول فهو باطل من
وجهين
الأول
أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم
جمع بين كلامين متناقضين وإنه عبث وسفه
298

الثاني
أن يكون على هذا التقدير قد بين الله تعالى لموسى عليه السلام
أن شرعه سيصير منسوخا فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية
أما أولا فلأنه لو جاز أينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية جاز
في شرعنا أيضا ذلك وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير
منسوخ
وأما ثانيا فلأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على
نقلها وما كان كذلك وجب اشتهاره وإلا فلعل القرآن عورض ولم ينقل
ولعل محمدا عليه الصلاة والسلام غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم
ينقل
وإذا ثبت وجوب نقل هذه الكيفية بالتواتر وجب أن يكون العلم بتلك
الكيفية كالعلم بأصل الشرع حتى يكون علمنا بأن موسى عليه
السلام نص على أن شرعه سيصير منسوخا كعلمنا بأصل شرعه ولو
كان كذلك لعلم الكل بالضرورة أن من دين موسى عليه السلام أن
شرعه سيصير منسوخا ولو كان ذلك ضروريا لاستحال منازعة الجمع
العظيم فيه وحيث نازعوا فيه دل ذلك على أنه عليه السلام ما
نص على هذه الكيفية
299

وأما القسم الثاني وهو أن الله تعالى ذكر لفظا يدل على الدوام
ولم يضم إليه ما يدل على أنه سيصير منسوخا فنقول على هذا التقدير
وجب أن لا يصير منسوخا وإلا لزمت محالات
أحدها
أن ذكر اللفظ الدال على الدوام مع أنه لا دوام تلبيس وهو غير
جائز
وثانيها
إن جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا
لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع هذه الشريعة دائمة ولا تصير
منسوخة قط البتة ولكن إذا رأينا مثل هذا مع عدم الدوام في بعض
الصور زال الوثوق عنه في كل الصور
وثالثها
أنه مع تجويز مخالفة الظاهر لا يبقى وثوق بوعده ووعيده وكل بياناته
فإن قلت عرفناه بالإجماع أو بالتواتر
قلت أما الإجماع فلا يعرف كونه دليلا إلا بآية أو خبر ولا تتم دلالة
الآية والخبر إلا بإجراء اللفظ على ظاهره فإذا جوزنا خلافه لا يبقى دليل
الإجماع موثوقا به
300

وأما التواتر فكذلك لأن غايته أن نعلم أن الرسول عليه السلام قال
هذه الألفاظ لكن لعله أراد شيئا يخالف ظواهرها
وأما القسم الثالث وهو أن يقال إنه بين شرع موسى عليه
السلام بلفظ لا يدل على الدوام البتة فنقول مثل هذا لا يقتضي الفعل إلا
مرة واحدة على ما ثبت أن الأمر لا يفيد التكرار ومثله لا يحتاج إلى النسخ
بل لا يقبل النسخ البتة
الثاني
قالوا ثبت بالتواتر أن موسى عليه السلام قال تمسكوا بالسبت
أبدا وقال تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض والتواتر حجة
بالاتفاق
301

والجواب عن الأول أن نقول
لم لا يجوز أن يكون ذلك الفعل مصلحة في وقت ومفسدة في وقت
آخر فيأمر به في الوقت الذي علم أنه مصلحة فيه وينهى عنه في الوقت
الذي علم أنه مفسده فيه كما لا يمتنع أن يعلم فيما لا يزال أن
إمراض زيد وفقره مصلحة له في وقت وصحته وغناه مصلحة له في وقت
آخر فيمرضه ثم ويفقره حين يعلم أن ذلك مصلحة يغنيه ويصححه رسول حين
يعلم أن ذلك مصلحة كما لا يمتنع أن يعلم الإنسان أن الرفق مصلحة
ابنه وعبده اليوم والعنف مصلحته في غد فيأمر عبده بالرفق به في
اليوم وبالعنف به في الغد
والجواب عن الثاني أن نقول
اتفق المسلمون على أنه تعالى بين شرع موسى عليه السلام بلفظ
يدل على الدوام واختلفوا في أنه هل ذكر معه ما يدل على أنه سيصير
منسوخا
فقال أبو الحسين البصري رحمه الله يجب ذلك في الجملة وإلا
كان تلبيسا
302

وقال جماهير أصحابنا وجماهير المعتزلة لا يجب ذلك وقد مر
توجيه المذهبين في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب
ونحن نأتي بالجواب عن هذه الشبهة تفريعا على كل واحد من هذين
المذهبين
أما على قول أبي الحسين من أنه لا بد من البيان فنقول لم لا
يجوز أن يقال إنه تعالى بين في تلك الشريعة أنها ستصير منسوخة
لكن لم ينقله أهل التواتر فلا جرم لم يشتهر ذلك كما اشتهر أصل الشرع
فإن قلت لما بين الله تعالى أصل ذلك الشرع وأوصله إلى أهل
التواتر فهل أوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر أم لا
فإن قلت أوصله إلى أهل التواتر فإما أن يجوز على أهل التواتر
أن يخلوا بنقله أو لا يجوز
فإن جاز على الشارع أن لا يوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر
أو أنه أوصله إليهم لكنهم أخلوا بنقله جاز مثله في كل شرع فكيف
تقطعون مع هذا التجويز بدوام شرعكم فلعلها وإن ولا كانت بحيث
ستصير منسوخة إلا أن الله تعالى ما بين ذلك أو أن بينه لكن أهل
التواتر أخلوا بنقله أيضا فلعل محمدا عليه الصلاة والسلام نسخ
303

الصلوات الخمس وصوم رمضان ولم ينقل ذلك ولما بطل هذان
الاحتمالان ثبت أنه تعالى بين ذلك المخصص لأهل التواتر وأن أهل
التواتر ما أخلوا بنقله وحينئذ يعود السؤال
قلت الإشكال إنما يلزم لو ثبت أنه حصل من اليهود في كل عصر
ما بلغ مبلغ التواتر وذلك ممنوع فإنهم انقطعوا في زمان بخت نصر
فلا جرم انقطعت الحجة بقولهم بخلاف شرعنا فإنهم كانوا في جميع
الأعصار بالغين مبلغ التواتر
وأما الجواب
على قول أصحابنا رحمة الله عليهم فهو أن المخصص لم يكن
مذكورا في زمان موسى عليه السلام
قوله هذا تلبيس
قلنا سبق الجواب عنه في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب والله
أعلم
304

والجواب عن الثالث
أنا لا نعلم أن موسى عليه السلام قال ذلك لأن نقل التوراة منقطع
بحادث بخت نصر
سلمنا صحة هذا النقل لكن لفظ التأبيد في التوراة قد جاء للمبالغة
دون الدوام في صور
إحداها
قوله في العبد إنه يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة فإن
أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبدا
305

وثانيها
قيل في البقرة التي أمروا بذبحها يكون ذلك سنة أبدا ثم انقطع
التعبد بذلك عندهم
وثالثها
أمروا في قصة دم الفصح بأن يذبحوا الجمل ويأكلوا لحمه
ملهوجا ولا يكسروا منه عظما ويكون لهم هذا سنة ابدا ثم زال التعبد
بذلك
ورابعها
قال في السفر الثاني قربوا إلي كل يوم خروفين خروفا غدوة وخروفا
عشية قربانا دائما لاحقبكم
ففي هذه الصور وجدت ألفاظ التأبيد ولم تدل على الدوام فكذا ما
ذكرتموه والله أعلم
306

المسألة الخامسة
اتفقت الأمة على جواز نسخ القرآن
وقال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني لا يجوز
لنا وجوه
أحدها
أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا وذلك في
قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى
الحول غير إخراج ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما في قوله تعالى
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا
قال أبو مسلم الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا
ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا وإذا بقي هذا الحكم
في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا نسخا
307

والجواب
أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل لسنة
أو أقل أو أكثر فجعل السنة مدة العدة يكون زائلا بالكلية
وثانيها
أمر الله تعالى بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ثم
نسخ ذلك
قال أبو مسلم إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز
المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين فلما حصل هذا الغرض
سقط التعبد بالصدقة
والجواب
لو كان كذلك لكان كل من لم يتصدق منافقا لكنه باطل لأنه
روي أنه لم يتصدق غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه
308

ويدل عليه أيضا قوله تعالى فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم
وثالثها
أن الله تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى إن يكن منكم
عشرون صابرون يغلبوا مائتين ثم نسخ ذلك بقوله تعالى الآن خفف الله
عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين
ورابعها
قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها قال
أبو مسلم النسخ هو الإزالة والمراد من هذه الآية إزالة القرآن من اللوح
المحفوظ
والجواب
أن إزالة القرآن من اللوح المحفوظ لا تختص ببعض القرآن وهذا النص
مختص ببعضه
وخامسها
قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا
309

عليها ثم أزالهم عنها بقوله فول وجهك شطر المسجد الحرام
قال أبو مسلم حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند
الإشكال ومع العلم إذا كان هناك عدو
والجواب
أن على ما ذكرته أنت لا فرق بين بيت المقدس وسائر
الجهات فالخصوصية التي لها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد
بطلت بالكلية فيكون نسخا
وسادسها
قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت
مفتر والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما التلاوة وإما
الحكم وكيف ما كان فهو رفع ونسخ
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المراد به أن الله تعالى أنزل
310

إحدى الآيتين بدلا عن الأخرى فيكون النازل بدلا عما لم ينزل
قلت جعل المعدوم مبدلا غير جائز
واحتج أبو مسلم
بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل
وجوابه
المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا
يأتيه من بعده ما يبطله والله أعلم
المسألة السادسة
اختلفوا في نسخ الشئ قبل مضي وقت فعله
مثاله إذا قال الله تعالى لنا صبيحة يومنا صلوا عند غروب الشمس
ركعتين بطهارة ثم لم قال عند الظهر لا تصلوا حدثنا عند غروب الشمس
311

ركعتين بطهارة فهذا عندنا جائز خلافا للمعتزلة وكثير من الفقهاء
لنا
أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل
عليهما السلام ثم نسخ ذلك قبل وقت الذبح
فإن قيل لا نسلم ان إبراهيم عليه السلام كان مأمورا بالذبح بل
لعله كان مأمورا بمقدمات الذبح من الإضجاع وأخذ المدية مع الظن
الغالب بكونه مأمورا بالذبح ولهذا قال قد صدقت الرؤيا ولو كان
قد فعل بمعنى ما أمر به لكان قد صدق بعض الرؤيا
فإن قلت الدليل عليه ثلاثة أوجه
أحدها
قوله تعالى إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت
افعل ما تؤمر فقوله ما تؤمر لا بد وأن يكون عائدا إلى شئ والمذكور
ها هنا قوله إني أذبحك فوجب صرفه إليه
312

وثانيها
قوله تعالى إن هذا لهو البلاء المبين ومقدمات الذبح لا
توصف بأنها بلاء مبين
وثالثها
قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم ولو لم يكن مأمورا بالذبح
لما احتاج إلى الفداء
قلت الجواب عن الأول
أن الرؤيا لا تدل على كونه مأمورا بذلك وأما قوله افعل ما تؤمر
فإنما يفيد الأمر في المستقبل فلا ينصرف إلى ما مضى من رؤياه في
المنام
وعن الثاني
أن إضجاع الابن وأخذ المدية مع غلبة الظن بأنه مأمور بالذبح بلاء
مبين
وعن الثالث
أنه إنما فدى بالذبح بسبب ما كان بتوقعه من الأمر بالذبح
سلمنا أنه أمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ ذلك وبيانه من وجهين
313

الأول
أنه كلما قطع موضعا من الحلق وتعداه إلى غيره أوصل الله تعالى
ما تقدم قطعه
فإن قلت حقيقة الذبح قطع مكان مخصوص تبطل معه
الحياة
قلت بطلان الحياة ليس جزءا من مسمى الذبح لأنه يقال قد ذبح
هذا الحيوان وإن لم يمت بعد
الثاني
قيل إنه أمر بالذبح وإن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من
حديد فكان إذا أمر إبراهيم عليه السلام السكين لم يقطع شيئا من
الحلق
سلمنا سلامة دليلكم لكنه معارض بدليل آخر وهو أن ذلك يقتضي
كون الشخص الواحد مأمورا منهيا عن فعل واحد في وقت واحد على وجه
واحد وذلك محال فالمؤدي إليه محال
بيان أنه يلزم ذلك ثلاثة أوجه
314

أحدها
أن المسألة مفروضة في هذا الموضع فإنه لما أمر بكرة بركعتين من
الصلاة عند غروب الشمس ثم نهى وقت الظهر عن ركعتين من الصلاة
عند غروب الشمس فقد تعلق الأمر والنهي بشئ واحد في وقت
واحد من وجه واحد حتى لو لم يتحقق شرط من هذه الشرائط لم تكن
هي المسألة التي تنازعنا فيها
وثانيها
أن قوله صلوا عند غيبوبة الشمس غير موضوع إلا للأمر
بالصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا
وقوله لا تصلوا عند غيبوبة الشمس غير موضوع إلا للنهي عن
الصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا
وثالثها
هو أن النهي لو تعلق بغير ما تعلق به الأمر لكان لا يخلو إما أن
يكون المنهي عنه أمرا يلزم من الانتهاء عنه وقوع الخلل في متعلق الأمر
أو لا يلزم ذلك
315

فإن كان الأول كان المتأخر رافعا المتقدم استلزاما فيلزم توارد
الأمر ابن والنهي على شئ واحد في وقت واحد من وجه واحد
وإن كان الثاني لم يكن ذلك هي المسألة التي تنازعنا فيها لأنا توافقنا
على أن الأمر بالشئ لا يمنع من النهي عن شئ آخر لا يلزم من الانتهاء عنه
الإخلال بذلك المأمور
بيان أن ذلك محال أن ذلك الفعل في ذلك الوقت لا بد وأن يكون إما
حسنا وإما قبيحا وكيفما كان فإما أن يقال المكلف ما كان عالما بحاله
ثم بدا له ذلك فلذلك اختلف الأمر والنهي وذلك محال لاستحالة
البداء على الله تعالى
وإما أن يقال أنه كان عالما بحاله فيلزم منه إما الأمر بالقبيح أو
النهي عن الحسن وذلك أيضا محال
والجواب
الدليل على أنه كان مأمورا بالذبح أنه لو لم يكن مأمورا به بل كان
مأمورا بمجرد المقدمات وهو قد أتى بتمام تلك المقدمات فوجب
أن يحتاج معها إلى الفدية لأن الآتي بالمأمور به يجب خروجه عن
316

العهدة والخارج عن العهدة لا يحتاج إلى الفداء فبحث وقعت الحاجة إليه
علمنا أنه لم يدخل تمام المأمور به في الوجود
وهذا هو الجواب عن قوله
كلما قطع موضعا من الحلق وتعداه إلى غيره وصل الله تعالى ما تقدم
قطعه لأن على هذا التقدير يكون كل المأمور به داخلا في الوجود
فوجب أن لا يحتاج معه إلى الفداء
وأما قوله تعالى قد صدقت الرؤيا فغير دال على أنه أتى بكل
المأمور به بل يدل على أنه عليه السلام صدقها وعزم على الإتيان بها
فأما أنه فعلها بتمامها فليس في الآية دلالة عليه
قوله إن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد
قلنا إن اعترفتم بأنه كان مأمورا بنفس الذبح لم يجز ذلك على قولكم
وإلا فهو تكليف مالا يطاق
وإن قلتم إنه كان مأمورا بالمقدمات فهو عود إلى السؤال الأول
وأما المعارضة فالجواب عنها من وجهين
الأول وهو الذي يحسم المنازعة
أنها مبنية على القول بالحسن والقبح ونحن لا نقول به
317

الثاني
سلمنا ذلك ولكنا نقول كما يحسن الأمر بالشئ والنهي عن الشئ
لحكمة تتولد من المأمور به والمنهي عنه فقد يحسنان أيضا لحكمة
تتولد من نفس الأمر والنهي فإن السيد قد يقول لعبده إذهب إلى القرية
غدا راجلا ويكون غرضه من ذلك حصول الرياضة له في الحال وعزمه
على أداء ذلك الفعل وتوطين النفس عليه مع علمه بأنه سيرفع عنه
غدا ذلك التكليف
وإذا ثبت هذا فنقول الأمر بالفعل إنما يحسن إذا كان المأمور به منشأ
المصلحة والأمر به أيضا منشأ المصلحة
فأما إذا كان المأمور به منشأ المصلحة لكن الأمر به لا يكون منشأ
المصلحة لم يكن الأمر به حسنا
وعند هذا يظهر الجواب عما قالوه لأنه حين أمر بالفعل كان
المأمور به منشأ المصلحة وكان الأمر به أيضا منشأ المصلحة فلا
جرم حسن الأمر به
وفي الوقت الثاني بقي المأمور به منشأ المصلحة لكن ما بقي الأمر به منشأ المصلحة فلا
جرم حسن النهي عنه
318

فإن قلت لما بقي الفعل منشأ المصلحة كما كان فالنهي عنه يكون
منعا عن منشأ المصلحة وذلك غير جائز
قلت إنه يكفي في المنع عن الشئ اشتماله على جهة واحد من
جهات المفسدة فها هنا المأمور به وإن بقي منشأ المصلحة إلا أن الأمر
به والحث عليه لما صار منشأ المفسدة كان الأمر به وأن كان حسنا نظرا
إلى المأمور به لكنه قبيح نظرا إلى نفس الأمر وذلك كاف في قبحه
والله أعلم
المسألة السابعة
يجوز نسخ الشئ لا إلى بدل خلافا لقوم
319

لنا
أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول عليه الصلاة والسلام
لا إلى بدل
احتجوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو
مثلها
والجواب
أن نسخ الآية يفيد نسخ لفظها ولهذا قال نأت بخير منها أو
مثلها فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية
سلمنا أن المراد نسخ الحكم لكن لم لا يجوز أن يقال إن نفي ذلك
الحكم وإسقاط التعبد به خير من ثبوته في ذلك الوقت والله أعلم
المسألة الثامنة
يجوز نسخ الشئ إلى ما هو أثقل منه خلافا لبعض أهل الظاهر
لنا
أن المسلمين سموا إزالة التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم
320

نسخا وهو أشق وإزالة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم
نسخا وأمر الصحابة بترك القتال ثم أمرهم بنصب القتال من التشديد
بثبات الواحد للعشرة وحرم الخمر ونكاح المتعة بعد إطلاقهما ونسخ
جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال ونسخ صوم
عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في
الحضر
احتجوا بقوله تعالى نأت بخير منها والخير ما هو أخف علينا
وبقوله تعالى يرد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
والجواب عن الأول
أن نقول بل الخير ما هو أكثر ثوابا وأصلح لنا في المعاد وإن كان
أثقل في الحال
وعن الثاني
أنه محمول على اليسر في الآخرة حتى لا يتطرق إليها تخصيصات غير
محصورة
321

المسألة التاسعة
يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس لأن التلاوة والحكم عبادتان
منفصلتان وكل ما كان كذلك فإنه غير مستبعد في العقل أن يصيرا معا
مفسدتين أو أن يصير أحدهما مفسدة دون الآخر وتكون الفائدة في
بقاء التلاوة دون الحكم ما يحصل من العلم بأن الله تعالى أزال مثل هذا
الحكم رحمة منه على عباده
وقد نسخ الله تعالى الحكم دون التلاوة في قوله تعالى متاعا إلى
الحول غير إخراج بقوله تعالى يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرا
والتلاوة دون الحكم فيما يروى من قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة نكالا من الله
322

وعن أنس رضي الله عنه إنه نزل في قتلى بئر معونة بلغوا إخواننا
أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا
323

وعن أبي بكر رضي الله عنه كنا نقرأ في القران لا ترغبوا عن آبائكم
فإنه كفر بكم
والحكم والتلاوة معا وهو ما يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها
قالت كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات محرمات فنسخن
بخمس
وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة
324

المسألة العاشرة
الخبر إما أن يكون خبرا عما لا يجوز تغيره كقولنا العالم محدث وذلك
لا يتطرق إليه النسخ
أو عما يجوز تغيره وهو إما أن يكون ماضيا أو مستقبلا والمستقبل إما
أن يكون وعدا أو وعيدا أو خبرا قوله عن حكم كالخبر عن وجوب الحج ويجوز
النسخ في الكل
وقال أبو علي وأبو هاشم لا يجوز النسخ في شئ منه وهو قول أكثر
المتقدمين
325

لنا
أن الخبر إذا كان عن أمر ماض كقوله عمرت نوحا ألف سنة جاز
أن يبين من بعده أنه أراد ألف سنة إلا خمسين عاما
وإن كان خبرا مستقبلا وكان وعدا أو وعيدا كقوله لأعذبن الزاني
أبدا فيجوز أن يبين من بعد أنه أراد ألف سنة
وإن كان خبرا عن حكم الفعل في المستقبل كان الخبر كالأمر
في تناوله للأوقات المستقبلة فيصح إطلاق الكل مع أن المراد بعض
ما تناوله بموضوعه
فثبت أن حكم النسخ في الخبر كهو في الأمر
احتجوا بوجهين
الأول
أن دخول النسخ في الخبر يوهم أنه كان كاذبا
والثاني
أنه لو جاز نسخ الخبر لجاز أن يقول أهلك الله عادا ثم يقول
326

ما أهلكهم ومعلوم أنه لو قال ذلك كان كذبا
والجواب عن الأول
أن دخول النسخ على الأمر يوهم البداء أيضا فإن قالوا لا يوهم
لأن النهي إنما دل على أن الأمر لم يتناول ذلك الوقت
قلنا وها هنا أيضا لا يوهم الكذب لأن الناسخ يدل على أن الخبر
ما تناول تلك الصورة
وعن الثاني
أن إهلاكهم غير متكرر لإنهم لا يهلكون إلا مرة واحدة فقط
فقوله ما أهلكهم رفع لتلك المر فيلزم الكذب
وأما إن أراد بقوله ما أهلكهم أنه ما أهلك بعضهم كان ذلك
تخصيص بالأشخاص لا بالأزمان فلم يكن نسخا والله أعلم
327

المسألة الحادية عشرة
إذا قال الله تعالى افعلوا هذا الفعل أبدا يجوز نسخه
خلافا لقوم
لنا وجهان
الأول
أن لفظ التأبيد في تناوله لجميع الأزمان المستقبلة كلفظ العموم في تناوله
لجميع الأعيان فإذا جاز أحد التخصيصين فكذا الثاني والجامع هو
الحكمة الداعية إلى جواز التخصيص
الثاني
أن شرط النسخ أن يرد على ما أمر به على سبيل الدوام والتأبيد لا
328

يدل إلا على الدوام فكان التأبيد شرطا لإمكان النسخ وشرط الشئ لا
ينافيه
احتجوا بأمرين
الأول
أن قوله أفعلوا أبدا قائم مقام قوله افعلوا في هذا الوقت وفي
ذلك وذاك إلى أن يذكر الأوقات كلها ولو ذكر على هذا الوجه لم يجز
النسخ فكذا إذا ذكر بلفظ التأبيد
الثاني
لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام
التكليف
والجواب عن الأول
أن ذلك يمنع من النسخ كله لأن المنسوخ لا بد من كونه لفظا يفيد
الدوام إما بصريحه وإما بمعناه
ثم إنه ينتقض بأنه يجوز أن يقال جاءني الناس إلا زيدا ولا يجوز
جائني زيد وعمر وبكر وما جاءني زيد
ثم الفرق ما حققناه في مسألة أن للعموم صيغة
329

وعن الثاني
أن لفظ التأبيد يفيد ظن الاستمرار لكن القطع به لا يحصل إلا
من القرائن والله أعلم
330

القسم الثاني
في
الناسخ والمنسوخ
وفيه مسائل
المسألة الأولى
نسخ السنة بالسنة يقع على أربعة أوجه
الأول
نسخ السنة المقطوعة بالسنة المقطوعة
والثاني
نسخ خبر الواحد بخبر الواحد كقوله عليه الصلاة والسلام كنت
نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وقال في شارب الخمر فإن شربها
331

الرابعة فاقتلوه ثم حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله
والثالث
نسخ خبر الواحد بالخبر المقطوع ولا شك فيه
332

والرابع
نسخ الخبر المتواتر وهو جائز في العقل غير واقع في
السمع عند الأكثرين خلافا لبعض أهل الظاهر
لنا
أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تترك خبر الواحد إذا رفع حكم
الكتاب قال عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول
امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت
وهذا الاستدلال ضعيف لأنا نقول هب أن هذا الحديث دل على
أنهم ما قبلوا ذلك الخبر في نسخ المتواتر فكيف يدل على إجماعهم على
أنهم ما قبلوا خبرا من أخبار الآحاد في نسخ المتواتر
واحتج أهل الظاهر بوجوه
الأول
أنه جاز تخصيص المتواتر بالآحاد فجاز نسخه به والجامع دفع
الضرر المظنون
333

الثاني
أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع فإذا صار معارضا لحكم المتواتر
وجب تقديم المتأخر قياسا على سائر الأدلة
الثالث
أن نسخ الكتاب وقع بأخبار الآحاد من وجوه
أحدها
قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه
الآية منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي ص نهى عن أكل كل ذي ناب
من السباع
وثانيها
قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم منسوخ بما روي بالآحاد أن
334

النبي ص قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها
وثالثها
قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية
للوالدين والأقربين بالمعروف منسوخ بما روي بالآحاد من قوله عليه
الصلاة والسلام لا وصية لوارث
335

ورابعها
أن الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين
وإذا ثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد وجب جواز نسخ الخبر
المتواتر لأنه لا قائل بالفرق
الرابع
أن أهل قبا قبلوا نسخ القبلة بخبر الواحد ولم ينكر الرسول عليه
الصلاة والسلام ذلك
336

الخامس
أنه عليه الصلاة والسلام كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون
الناسخ والمنسوخ
والجواب عن الأول
أن الفرق بين النسخ والتخصيص واقع بإجماع الصحابة رضي الله
عنهم وللخصم أن يمنع وجود هذا الإجماع كما سبق
وعن الثاني
أن المتواتر مقطوع في متنه والآحاد ليس كذلك فلم لا يجوز أن يكون
هذا التفاوت مانعا من ترجيح خبر الواحد
وأما الآيات فقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي
337

محرما إنما يتناول الموحى إليه إلى تلك الغاية ولا يتناول ما بعد ذلك
فلم يكن النهي الوارد بعده نسخا
وعن الثانية
أنا إنما خصصنا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله عليه
الصلاة والسلام لا تنكح المرأة على عمتها لتلقي الأمة هذا الحديث
بالقبول وأيضا غير ممتنع أن يكون الخبر مقارنا فقبلوه مخصصا لا
ناسخا
وعن الثالثة
أنه يجوز أن يصدر الإجماع عن خبر ثم لا ينقل ذلك الخبر
أصلا استغناء بالإجماع عنه وإذا جاز ذلك فالأولى أن يجوز أن يصدر
إجماعهم عن خبر ثم يضعف نقله استغناء بالإجماع عنه
وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون هذا الخبر مقطوعا به عندهم
ثم يضعف نقله لإجماعهم على العمل بموجبه
وهذا هو الجواب أيضا عن الرابعة
338

والجواب عن الحجة الرابعة
لعل رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة
فلهذا قبلوا خبر الواحد أو لعله انضم إليه من القرائن ما أفاد العلم
نحو كون المسجد قريبا من الرسول عليه الصلاة والسلام وارتفاع الضجة في
ذلك
والجواب عن الحجة الخامسة
أنا سنبين ضعفها في باب خبر الواحد إن شاء الله تعالى
المسألة الثانية
قال الأكثرون يجوز نسخ الكتاب ودليله ما ذكرناه في الرد على أبي
مسلم الأصفهاني
بقي ها هنا أمران
339

أحدهما
أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن وهو أيضا واقع
وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز
احتج المثبتون بأمور
أحدها
أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجبا في الابتداء بالسنة لأنه ليس
في القرآن ما يتوهم كونه دليلا له عليه إلا قوله تعالى فأينما تولوا فثم
وجه الله وذلك لا يدل عليه لأنها تقتضي التخيير بين الجهات
ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال التوجه إلى بيت المقدس وقع في
الأصل بالكتاب إلا أنه نسخت تلاوته كما نسخ حكمه فإنه لا دليل
يمنع من هذا التجويز
سلمنا أن التوجه إلى بيت المقدس وقع بالسنة فلم لا يجوز أن يقال
وقع نسخه أيضا بالسنة وليس من حيث ثبت التوجه إلى الكعبة بالكتاب
ما يوجب أن يكون التحويل عن بيت المقدس بالكتاب لأن الظاهر أنه
حول عن بيت المقدس ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة ولهذا كان يقلب وجهه في
السماء لالوجه سوى أنه قد حول عن الجهة التي كان يتوجه إليها وينتظر ما
340

يؤمر به من بعد فأمر بالتوجه إلى الكعبة فإن لم يكن ذلك هو الظاهر فهو
مجوز وهذا كاف في المنع من من الاستدلال
وثانيها
قوله تعالى فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وهو نسخ
تحريم المباشرة وليس لتحريم في القرآن
وثالثها
نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان وكان صوم عاشوراء ثابتا
بالسنة
ورابعها
صلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت بالسنة من جواز
تأخيرها إلى انجلاء القتال حتى قال عليه الصلاة والسلام يوم الخندق
حشي الله قبورهم نارا لحبسهم عن الصلاة
341

وخامسها
قوله تعالى فلا ترجعوهن إلى الكفار نسخ لما قرره رسول الله
ص من العهد والصلح
واعلم أن السؤالين المذكورين واردان في الكل
ومن الجهال من قدح في هذين السؤالين وقال لا حاجة بنا إلى
تقدير سنة خافية مندرسة ولا ضرورة فلم نقدرهما
ذلك وهذا جهل عظيم لأن المستدل لا بد له من تصحيح مقدماته بالدلالة
فإذا عجز عنها لم يتم دليله
واحتج الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل
342

إليهم وهذا يدل على أن كلامه بيان للقرآن والناسخ بيان للمنسوخ
فلو كان القرآن ناسخا للسنة لكان القرآن بيانا للسنة فيلزم كون كل واحد
منهما بيانا للآخر
والجواب
ليس في قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم دليل على أنه لا
يتكلم إلا بالبيان كما أنك إذا قلت إذا دخلت الدار لا أسلم على
زيد ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر
سلمنا أن السنة كلها بيان لكن البيان هو الإبلاغ وحمله على هذا
أولى لأنه عام في كل القرآن أما حمله على بيان المراد فهو تخصيص
ببعض ما أنزل وهو ما كان مجملا أو عاما مخصوصا وحمل اللفظ على
ما يطابق الظاهر أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر والله أعلم
343

المسألة الثالثة
نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز وواقع
وقال الشافعي رضي الله عنه لم يقع
احتج المثبتون بصورتين
إحداها
أنه كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت لقوله تعالى
فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ثم إن الله تعالى نسخ
ذلك بآية الجلد ثم إنه ص نسخ الجلد بالرجم
347

فإن قلت بل نسخ ذلك بما كان قرآنا وهو قوله الشيخ والشيخة إذ
زنيا فارجموهما البتة
قلت إن ذلك لم يكن قرآنا ويدل عليه أن عمر رضي الله عنه
قال لولا أن يقول الناس إن عمر زاد في كتاب الله شيئا لألحقت
ذلك بالمصحف ولو كان ذلك قرآنا في الحال أو كان ثم نسخ لما
قال ذلك
ولقائل أن يقول لما نسخ الله تعالى تلاوته وحكم بإخراجه من
المصحف كفى ذلك فصحة قول عمر رضي الله عنه ولم يلزم منه
القطع بأنه لم يكن البتة قرآنا
وثانيها
نسخ الوصية للأقربين بقوله عليه السلام لا وصية لوارث لأن
آية المواريث لا تمنع الوصية إذ الجمع ممكن
وهذا ضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنعه من صرفه إلى الوصية
فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ولأن قوله ص لا وصية
348

لوارث خبر واحد إذ لو قلنا إنه كان متواترا لوجب أن يكون الآن
متواترا لأنه خبر في واقعة مهمة تتوفر الدواعي على نقله وما كان كذلك
وجب بقاؤه متواترا وحيث لم يبق الآن متواترا علمنا أنه ما كان متواترا في
الأصل فالقول بأن الآية صارت منسوخة به يقتضي نسخ القرآن بخبر
الواحد وإنه غير جائز بالإجماع
واحتج الشافعي رضي الله عنه بأمور
الأول
قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
والاستدلال من وجوه أربعة
أحدها
أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منه وذلك يفيد
أنه تعالى يأتي بما هو من جنسه كما إذا قال للإنسان ما أخذ منك
من ثوب آتك بخير منه أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه
وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن
وثانيها
أن قوله تعالى نأت بخير منها يفيد أنه هو المتفرد بالإتيان
349

بذلك الخير وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى دون السنة التي يأتي
بها الرسول عليه السلام
وثالثها
أن قوله تعالى نأت بخير منها يفيد أن المأتي به خير من الآية
والسنة لا تكون خيرا من القرآن
ورابعها
أنه تعالى قال ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير دل على أن
الذي يأتي بخير منها هو المختص بالقدرة على إنزاله وهذا هو القرآن دون
غير
الثاني
قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوصفه بأنه مبين
للقرآن ونسخ العبادة رفعها ورفعها ضد بيانها
الثالث
قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية أخبر تعالى بأنه هو
الذي يبدل الآية بالآية
الرابع
أنه تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا عند تبديل الآية بالآية
إنما أنت مفتر ثم إنه تعالى أزال هذا الإبهام بقوله قل نزله روح
350

القدس من ربك وهذا يقتضي أن ما لم ينزله روح القدس من ربه
لا يكون مزيلا للإبهام
الخامس
قوله تعالى قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما
يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي وهذا يدل على أن
القرآن لا تنسخه السنة
السادس
أن ذلك يوجب التهمة والنفرة
والجواب عن الوجوه
التي تمسكوا بها في الآية الأولى بوجه عام ثم بما يخص كل واحد
من تلك الوجوه
أما العام فهو أن قوله تعالى نأت بخير منها ليس فيه أن ذلك
الخير يجب أن يكون ناسخا بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا
للناسخ يحصل بعد حصول النسخ والذي يدل على تحقق هذا
الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ
351

الآية الأولى فلو كان نستلك الآية مرتبا على الإتيان بذلك الخير
لزم ترتب كل واحد منهما على الآخر وهو دور
وأما الوجوه الخاصة
فالجواب عن الأول
لا نسلم أن ذلك الخير لأبو أن يكون من جنس الآية المنسوخة فليس
تعلقهم بالمثال الذي ذكروه أولى من مثال آخر وهو أن يقول القائل من
يلقني بحمد وثناء جميل محمد ألقه بخير منه في أنه لا يقتضي أن الذي يلقاه
به من جنس الحمد والثناء أو من قبيل المنحة والعطاء
وعن الثاني
وهو أن قوله نأت بخير منها يفيد أنه هو المتفرد بالإتيان بذلك
الخير أن نقول
المراد بالإتيان شرع الحكم وإلزامه والسنة في ذلك كالقرآن في أن
المثبت لهما هو الله تعالى
وعن الثالث
وهو قوله السنة لا تكون خيرا من القرآن أن نقول
352

إذا كان المراد بالخير الأصلح في التكليف والأنفع في الثواب لم
يمتنع أن يكون مضمون السنة خيرا من مضمون الآية
وعن الرابع
أن النسخ رفع الحكم سواء ظهر ذلك بالقرآن أو بالسنة وعلى
التقديرين فالله تعالى هو المتفرد به
والجواب عن الحجة الثانية
أن النسخ لا ينافي البيان لأنه تخصيص للحكم بالأزمان كما أن
التخصيص تخصيص للحكم بالأعيان
والجواب عن الحجة الثالثة
أن الناسخ سواء كان قرآنا أو خبرا فالمبدل في الحقيقة هو الله
تعالى
والجواب عن الحجة الرابعة
أن من يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام فإنما يتهمه لأنه يشك
353

في نبوته ومن تكن هذه حاله فالنبي عليه الصلاة والسلام مفتر عنده
سواء نسخ الكتاب بالكتاب أو بالسنة والمزيل لهذه التهمة التمسك بمعجزاته
والجواب عن الحجة الخامسة
وهي قوله تعالى ائت بقرآن غير هذا أو بدله أنه يدل
على أنه عليه الصلاة والسلام لا ينسخ إلا بوحي ولا يدل على أن الوحي
لا يكون إلا قرآنا
والجواب عن الحجة السادسة
أن النفرة زائلة بالدليل الدال على أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا
وحي يوحى والله أعلم
المسألة الرابعة
في كون الإجماع منسوخا وناسخا
الإجماع إنما ينعقد دليلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ما
دام عليه الصلاة والسلام حيا لم ينعقد الإجماع من دونه لأنه ص
سيد المؤمنين ومتى وجد قوله عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بقول غيره
354

فإذن الإجماع إنما ينعقد دليلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
إذا ثبت هذا فنقول
لو انتسخ الإجماع لكان انتساخه إما بالكتاب أو بالسنة أو
بالإجماع أو بالقياس الكل باطل
أما بالكتاب والسنة فلأنه لا يخلو إما أن يقال إنهما كانا
موجودين وقت انعقاد ذلك الإجماع أو ما كانا موجودين في ذلك
الوقت
فإن كانا موجودين مع أن الأمة حكمت على خلافهما كانت الأمة
مجمعة على الخطأ ذاهبة عن الحق وإنه غير جائز
وإن لم يكونا موجودين استحال حدوثهما بعد ذلك لاستحالة أن
يحدث كتاب أو سنة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
وأما بالإجماع فلأن انعقاد هذا الإجماع الثاني إما أن يكون لا عن دليل
355

أو عن دليل فإن لم يكن عن دليل كان ذلك إجماعا على الخطأ وإنه
غير جائز
وإن كان عن دليل عاد التقسيم الأول من أن يقال إن ذلك
الدليل
إما أن يكون حال انعقاد الإجماع الأول أو حدث بعده وقد بينا
فساد هذين القسمين
فإن قلت أليس أن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد جوزت
للعامي أن يأخذ بأيهما شاء ثم إذا اتفقت بعد ذلك على أحدهما فقد
منعت العامي من الأخذ بذلك القول الثاني فها هنا الإجماع الثاني ناسخ
لحكم الإجماع الأول
قلت الأمة إنما جوز ت للعامي الأخذ بأي القولين شاء بشرط أن لا
يحصل الإجماع على أحد القولين فكان الإجماع الأول مشروطا بهذا
الشرط فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط الإجماع الأول فانتفى الإجماع
الأول لانتفاء شرطه لا لأن الثاني نسخه
356

وأما بالقياس فلأن شرط صحة القياس عدم الإجماع فإذا وجد
الإجماع لم يكن القياس صحيحا فلم يجز نسخه به
وأما كون الإجماع ناسخا فقد جوزه عيسى بن أبان
والحق أنه لا يجوز
لنا
أن المنسوخ بالإجماع إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا
والأول يقتضي وقوع الإجماع على خلاف النص وخلاف النص
خطأ والإجماع لا يكون خطأ
والثاني أيضا باطل لأن الإجماع المتأخر إما أن يقتضي أن الإجماع
الأول حين وقع وقع خطأ أو يقتضي أنه كان صوابا ولكن إلى هذه الغاية
والأول باطل لأن الإجماع لا يكون خطأ ولو جاز ذلك لما كان
المنسوخ به أولى من الناسخ
وإن كان صوابا حين وقع ولكن كان مؤقتا فلا يخلو ذلك
الإجماع المتقدم المفيد للحكم المؤقت من أن يكون مطلقا أو مؤقتا
فإن كان مطلقا استحال أن يفيد الحكم مؤقتا
357

وإن كان مؤقتا إلى غاية فذلك الإجماع ينتهي عند حصول تلك
الغاية بنفسه فلا يكون الإجماع المتأخر رافعا له
والثالث باطل لأن هذه المسألة لا تتصور إلا إذا اقتضى القياس حكما
ثم أجمعوا على خلاف حكم ذلك القياس فحينئذ يزول حكم ذلك
القياس بعد ثبوته لتراخي الإجماع عنه وهذا محال لأن شرط صحة
القياس عدم الإجماع فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط صحة القياس
وزوال الحكم لزوال شرطه لا يكون نسخا
المسألة الخامسة
في كون القياس منسوخا وناسخا
أما كونه منسوخا فنقول نسخ القياس إما أن يكون في زمان حياة الرسول
عليه الصلاة والسلام أو بعد وفاته
فإن كان حال حياته فلا يمتنع رفعه بالنص أو بالإجماع أو
بالقياس
أما بالنص فبأن ينص الرسول عليه الصلاة والسلام في الفرع على
خلاف الحكم الذي يقتضيه القياس بعد استقرار التعبد بالقياس
358

وأما بالإجماع فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياسا ثم
أجمعوا على أحد القولين كان إجماعهم على أحد القولين رافعا لحكم
القياس الذي اقتضاه القول الآخر
وأما بالقياس فبأن ينص في صورة على خلاف ذلك الحكم
ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع وتكون أمارة عليتها أقوى
من أمارة علية الوصف للحكم الأول في الأصل الأول ويكون كل
ذلك بعد استقرار التعبد بالقياس الأول
وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز نسخه في
المعنى وإن كان ذلك لا يسمى نسخا في اللفظ
أما بالنص فكما إذا اجتهد إنسان في طلب النصوص ثم لم
يظفر بشئ أصلا ثم اجتهد فحرم شيئا بقياس ثم ظفر بعد ذلك
بنص أو إجماع أو قياس أقوى من القياس الأول على خلافه
فإن قلنا كل مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخا لحكم القياس
359

الأول لكنه لا يسمى ناسخا لأن القياس إنما يكون معمولا به بشرط أن
لا يعارضه شئ من ذلك
وإن قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول متعبدا به فلم يكن
النص الذي وجده أخرا ناسخا لذلك القياس
وأما كون القياس ناسخا فهو إما أن ينسخ كتابا أو سنة أو اجماعا
أو قياسا والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالإجماع
وأما الرابع وهو كونه ناسخا لقياس آخر فقد تقدم القول فيه والله
أعلم
المسألة السادسة
في كون الفحوى منسوخا وناسخا
أما كونه منسوخا فقد اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معا
وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى لأن الفحوى
تبع الأصل وإذا زال المتبوع زال التبع لا محالة
وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل فاختيار أبي الحسين رحمه الله
أنه لا يجوز قال لأن فحوى القول لا يرتفع ببقاء الأصل إلا
360

وينتقض الغرض لأنه إذا حرم علينا التأفيف على سبيل الإعظام
للأبوين كانت إباحة ضربهما نقضا للغرض
وأما كونه ناسخا فمتفق عليه لأن دلالته إن كانت لفظية فلا كلام
وإن كانت عقلية فهي يقينية فتقتضي النسخ لا محالة والله أعلم
361

القسم الثالث
فيما ظن أنه ناسخ وليس كذلك
وفيه مسائل
المسألة الأولى
اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا يكون نسخا
للعبادات ولا زيادة صلاة على الصلوات
وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخا
لقوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين
لأنه يجعل ما كان وسطى غير وسطى
فقيل لهم ينبغي أن تكون زيادة إلى عبادة على آخر العبادات نسخا لأنه
يجعل العبادة الأخيرة غير أخيرة ولو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة
فبعد الزيادة لا يبقى ذلك فيكون نسخا
أما الزيادة التي لا تكون كذلك فقد اختلفوا فيها
363

فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست نسخا وهو قول أبي علي
وأبي هاشم
وقالت الحنفية إنها نسخ
ومنهم من فصل ونذكر فيه وجهين
أحدهما
أن النص إن أفاد من جهة دليل الخطاب أو الشرط خلاف ما أفادته
الزيادة كانت الزيادة نسخا وإلا فلا
وثانيهما
قول القاضي عبد الجبار إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا
شديدا حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل
قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه فإنه يكون نسخا نحو زيادة
ركعة على ركعتين
وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة
صح فعله واعتد به ولم يلزم استئناف فعله وإنما يلزم أيضم إليه غيره
364

لم يكن نسخا نحو زيادة التغريب على الجلد وزيادة عشرين على حد
القذف
واعلم أن لأبي الحسين البصري رحمه الله طريقة في هذه
المسألة هي أحسن من كل ما قيل فيها فقال
النظر في هذه المسألة يتعلق بأمور ثلاثة
أحدها
أن الزيادة على النص هل تقتضي زوال أمر أم لا
والحق أنه يقتضيه لأن إثبات كل شئ أقل من أن يقتضي زوال
عدمه الذي كان
وثانيها
أن هذه الإزالة هل تسمى نسخا
والحق أن الذي يزول بسبب هذه الزيادة إن كان حكما شرعيا وكانت
الزيادة متراخية عنه سميت تلك الإزالة نسخا
وإن كان حكما عقليا وهو البراءة الأصلية لم تسم تلك الإزالة
نسخا
وثالثها
أنه هل تجوز الزيادة على النص بخبر الواحد والقياس أم لا
365

والحق أنه إن كان الزائل حكم العقل وهو البراءة الأصلية جاز
ذلك إلا أن يمنع منه مانع خارجي كما لو قيل خبر الواحد لا يكون حجة
فيما تعم به البلوى والقياس لا يكون حجة في الحدود والكفارات إلا أن
هده الموانع لا تعلق لها بالنسخ من حيث هو نسخ
وأما إن كان الحكم الزائل شرعيا فلينظر في دليل الزيادة
فإن كان بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل جاز إثبات
الزيادة وإلا فلا
فهذا حظ البحث الأصولي ولنحقق كان ذلك في المسائل الفقهية المفرعة
على هذا الأصل وهي ثمانية
الحكم الأول
زيادة التغريب أو زيادة عشرين على جلد ثمانين لا يزيل إلا نفي
وجوب ما زاد على الثمانين وهذا النفي غير معلوم بالشرع لأن إيجاب
الثمانين قدر مشترك بين إيجاب الثمانين مع نفي الزائد وبين إيجابه مع ثبوت
الزيادة وما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتياز فإيجاب الثمانين لا إشعار
له البتة بالزائد لا نفيا ولا إثباتا إلا أن نفي الزيادة معلوم بالعقل فإن
البراءة الأصلية معلومة بالعقل ولم ينقلنا عنه دليل شرعي
366

وإذا كان ذلك حكما عقليا جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه إلا أن
يمنع مانع سوى النسخ
وأما كون الثمانين وحدها مجزية وكونها وحدها كمال الحد
وتعليق رد الشهادة عليها فكل ذلك تابع لنفي وجوب الزيادة فلما
كان ذلك النفي معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه
فكما أن الفروض لو كانت خمسا لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة
التكليف وقبول الشهادة فلو زيد فيها شئ آخر لتوقف الخروج عن عهدة
التكليف وقبول الشهادة على أداء ذلك المجموع مع أنه يجوز إثباته
بخبر الواحد والقياس فكذا ها هنا
أما لو قال الله تعالى الثمانون كمال الحد وعليها وحدها يتعلق
رد الشهادة لم نقبل في الزيادة ها هنا خبر الواحد والقياس لأن نفي
وجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر
وأيضا لو كان إيجاب الثمانين يقتضي على سبيل المفهوم نفي
الزائد وثبت أن مفهوم المتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد والقياس
لكنا لا نثبت ذلك بخبر الواحد والقياس
367

الحكم الثاني
تقييد الرقبة بالإيمان
هو في معنى التخصيص لأنه يخرج عتق الكافرة من الخطاب
فإن كان المقتضي لهذا التقييد خبر واحد أو قياسا وكان متراخيا لم
يقبل لأن عموم الكتاب أجاز عتق الكافرة فتأخير حظر عتقها في
الكفارة هو النسخ بعينه فلم يقبل فيه خبر واحد ولا قياس
وإن كانا متقارنين فهو تخصيص والتخصيص بخبر الواحد والقياس
يجوز
الحكم الثالث
إذا قطعت يد السارق وإحدى رجليه ثم سرق فإباحة قطع رجله
الأخرى رفع لحظر قطعها وذلك الحظر إنما ثبت بالعقل فجاز رفعه بخبر
الواحد والقياس ولم يسم نسخا
الحكم الرابع
إذا أمرنا الله تعالى بفعل أو قال هو واجب عليكم ثم خيرنا بين
368

فعله وبين فعل آخر فهذا التخيير يكون نسخا لحظر ترك ما أوجبه
علينا إلا أن حظر تركه كان معلوما بالبقاء على حكم العقل وذلك لأن
قوله أوجبت عليكم هذا الفعل يقتضي أن للإخلال به تأثيرا
في استحقاق الذم وهذا لا يمنع من أن يقوم مقامه واجب آخر وإنما نعلم
أن غيره لا يقوم مقامه لأن الأصل أن غيره غير واجب ولو كان واجبا
بالشرع لدل عليه دليل شرعي فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا على أن
الأصل نفي وجوبه مع نفي دليل شرعي فالمثبت لوجوبه إنما رفع
حكما عقليا فجاز أن يثبته بقياس أو خبر واحد
مثال ذلك أن يوجب الله تعالى علينا غسل الرجلين ثم يخيرنا بينه
وبين المسح على الخفين وكذلك إذا خيرنا الله تعالى بين شيئين ثم أثبت
معهما ثالثا
فأما إذا قال الله تعالى هذا الفعل واجب وحده أو قال لا يقوم
غيره مقامه فإن إثبات بدل له فيما بعد رافع لما علمناه بدليل
شرعي لأن قوله هذا واجب وحده صريح في نفي وجوب غيره
369

فالمثبت لغيره رافع لحكم شرعي فلم يجز كونه خبر واحد ولا قياسا
فأما قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين
فرجل وامرأتان فهو تخيير بين استشهاد رجلين أو رجل وامرأتين والحكم
بالشاهد واليمين زيادة في التخيير
وقد بينا أن الزيادة في التخيير ليس بنسخ يمنع من قبول خبر الواحد
والقياس فيه
ومن قال الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية يلزمه أن يكون
الوضوء بالنبيذ نسخا لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا
الحكم الخامس
إذا كانت الصلاة ركعتين فقط فزيد عليها ركعة أخرى قبل
التشهد فإن ذلك يكون ناسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين وذلك حكم
شرعي معلوم بطريقة معلومة فلا يثبت بخبر واحد ولا قياس وليس
ذلك نسخا للركعتين لأن النسخ لا يتناول الأفعال ولا هو نسخ
لوجوبهما فإنه ثابت ولا هو نسخ لإجزائهما لأنهما مجزيتان
370

أبو وإنما كانتا مجزيتين أو من دون رفعة أخرى والآن لا يجزيان إلا مع ركعة
أخرى وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى ووجوب ركعة أخرى ليس
يرفع إلا نفي وجوبها ونفي وجوبها إنما حصل بالعقل فلم يمتنع من هذه
الجهة إن يقبل فيه خبر الواحد والقياس
وإما إذا زيدت الركعة بعد التشهد وقبل التحلل فإنه يكون نسخا
لوجوب التحلل بالتسليم أو يكون ناسخا لكونه ندبا وذلك حكم شرعي
معلوم فلم يجز أن يقبل فيه خبر الواحد ولا القياس
فأما كونه ناسخا للركعتين أو لوجوبهما أو لإجزائهما فالقول فيه
ما ذكرناه الآن
الحكم السادس
زيادة غسل عضو في الطهارة ليس بنسخ لإجزائها ولا لوجوبها
وإنما هو رفع لنفي وجوب غسل ذلك العضو وذلك النفي معلوم
بالعقل وكذا زيادة شرط آخر في الصلاة لا يقتضي نسخ وجوب الصلاة
فأما كون الصلاة غير مجزية بعد زيادة الشرط الثاني فهو تابع لوجوب
ذلك الشرط وإجزاؤها تابع وجوبه ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع
فكذلك لنفي ما يتبعه فجاز قبول خبر الواحد والقياس فيه
371

هذا إن لم نكن قد علمنا نفي وجوب هذه الأشياء من دين النبي عليه
الصلاة والسلام باضطرار
فأما إن علمناه باضطرار فقد صار معلوما بالشرع مقطوعا به
فلم يجز بخبر الواحد والقياس
الحكم السابع
قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فإنه يفيد كون أول
الليل طرفا وغاية للصيام كما يفيده لو قال تعالى آخر الصيام وغايته
الليل لأن لفظة إلى موضوعة للغاية فإيجاب الصوم إلى غيبوبة الشفق
يخرج أوله عن أن يكون طرفا مع أن الخطاب يفيده وفي ذلك كونه
حقيقة فلا يقبل فيه خبر واحد ولا قياس لأن نفي وجوب صوم أول
الليل معلوم بدليل قاطع
أما لو قال صوموا النهار ثم جاء الخبر بإتمام الصوم إلى غيبوبة
الشفق لم يكن ذلك نسخا لأن الخبر لم يثبت ما نفاه النص لأن النص
لم يتعرض لليل وإنما نفينا الصوم بالليل لأن الأصل أن لا صوم و
قامت الدلالة في النهار خاصة على وجوب الصوم فبقي الليل على حكم
العقل
372

الحكم الثامن
لو قال الله تعالى صلوا إن كنتم متطهرين فإنه لا يمتنع أن يقبل
خبر الواحد والقياس في إثبات شرط آخر للصلاة لأن إثبات بدل الشرط لا
يخرجه عن أن يكون شرطا إذ لا يمتنع أن يكون للحكم شرطان وليس
كذلك إثبات صوم جزء من الليل لأن ذلك يخرج أول الليل من أن يكون
له غاية
وأما نفي كون الشرط الآخر شرطا فلم يعلم إلا بالعقل فلم يكن رفعه
رفعا لحكم شرعي والله أعلم
المسألة الثانية
شك في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط ولا شك في أن
مالا تتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا للعبادة كما لو قال
أوجبت الصلاة والزكاة ثم قال نسخت الزكاة
أما الذي تتوقف صحة العبادة عليه فذلك قد يكون جزءا من ماهية
العبادة وقد يكون خارجا عنها واختلفوا فيه
373

فقال الكرخي نقصان ما تتوقف العبادة عليه سواء كان جزءا أو خارجا
لا يقتضي نسخ العبادة وهو المختار
وقال القاضي عبد الجبار نقصان الجزء يقتضي نسخ الباقي ونقصان
الشرط المنفصل لا يقتضي نسخ الباقي
فنقول الدليل عليه أن نسخ أحد الجزأين لا يقتضي نسخ الجزء
الآخر وذلك لأن الدليل المقتضي للكل كان متناولا للجزأين فخروج أحد
الجزأين لا يقتضي خروج الجزء الآخر كسائر أدلة التخصيص
واحتجوا بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب
تأخير التشهد ونفي إجزائها من دون الركعة لأن قبل النسخ ما
كان تجوز الصلاة من دون هذه الركعة
وأيضا
إن كانت الركعة لما نسخت أوجبت) علينا أن نخلي الصلاة منها فقد
ارتفع إجزاء الصلاة إذا فعلناها مع الركعة المنسوخة وإجزاء الصلاة مع الركعة
قد يكون حكما شرعيا فجاز أن يكون رفعه نسخا
374

والجواب
أن هذه احكام للركعة الباقية مغايرة لذاتها فكان نسخها مغايرا لنسخ
تلك الذات
وأما نقصان الشرط المنفصل من العبادة فلا يقتضي نسخ العبادة
لأنهما عبادتان فإذا نسخ إحداهما لدليل مقصور عليها لم يجز نسخ
الآخرى
فعلى هذا نسخ الوضوء لا يكون نسخا للصلاة بل نفي الإجزاء مع
فقد الطهارة قد زال وذلك لأن الصلاة ما كانت تجزئ بلا طهارة فإذا
نسخ وجوب الطهارة صارت مجزية وارتفع نفي إجزائها فإن أراد
الإنسان بقوله إن نسخ الوضوء يقتضي نسخ الصلاة هذا المعنى
فصحيح لكن الكلام موهم لأن إطلاق القول بالصلاة
منسوخة هو أنه قد خرجت عن الوجوب أو عن أن تكون عبادة والله
أعلم
375

القسم الرابع
في
الطريق الذي به يعرف كون
الناسخ ناسخا
والمنسوخ منسوخا
قد يعلم عبد ذلك باللفظ تارة وبغيره أخرى
أما اللفظ فهو أن يوجد لفظ النسخ أما بأن يقول هذا منسوخ أو
يقول ذاك ينسخ هذا
وأما غير اللفظ فهو أن يأتي بنقيض الحكم الأول أو بضده مع العلم
بالتاريخ
مثال النقيض قوله تعالى الآن خفف الله عنكم فإنه نسخ
لثبات الواحد للعشرة لأن التخفيف نفي للثقل المذكور
ومثال الضد التحويل من قبلة إلى أخرى لأن التوجه إلى
377

الكعبة ضد التوجه إلى بيت المقدس
وأما التاريخ فقد يعلم باللفظ أو بغيره
أما اللفظ فكما إذا قال أحد الخبرين قبل الآخر
وأما غير اللفظ فعلى وجوه
أحدها أن يقول هذا الخبر ورد سنة كذا وهذا في سنة كذا
وثانيها
أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم والآخر بالعكس كما لو قال
كان هذا في غزاة بدر والآخر في غزاة أحد وهذه الآية نزلت قبل
الهجرة والأخرى بعدها
وثالثها
أن يروي أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويروي
الآخر رجل متأخر الصحبة وانقطعت صحبة الأول للرسول عليه السلام
عند ابتداء الآخر بصحبته فهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدما
378

أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول عليه الصلاة والسلام لم
يصح هذا الاستدلال
ويتفرع على هذا الأصل مسائل
مسألة
قال القاضي عبد الجبار الصحابي إذا قال في أحد الخبرين
379

المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ذلك وإن لم يقبل قوله في نسخ
المعلوم كما تقبل شهادة الشاهدين في الإحصان الذي يترتب عليه
الرجم وإن لم يقبل في إثبات الرجم وكما يقبل قول القابلة في الولد
إنه من إحدى المرأتين وإن كان يترتب على ذلك ثبوت نسب الولد من
صاحب الفراش مع أن شهادة المرأة لا تقبل في ثبوت النسب
قال أبو الحسين رحمه الله هذا يقتضي الجواز العقلي في قبول
خبر الواحد في تاريخ الناسخ ولا يقتضي وقوعه إلا إذا تبين أنه يلزم من
ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر
مسألة
إذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ كقولهم إن خبر الماء
380

من الماء نسخ بخبر التقاء الختانين لم يكن ذلك حجة لأنه يجوز أن
يكون قاله اجتهادا فلا يلزمنا
وعن الكرخي أن الراوي إذا عين الناسخ فقال هذا نسخ هذا
جاز أن يكون قاله اجتهادا فلا يجب الرجوع إليه
وإن لم يعين الناسخ بل قال هذا منسوخ وجب قبوله لأنه لولا ظهور
النسخ فيه لما أطلق النسخ اطلاقا
وهذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه في أن الأمر كذلك وإن كان قد أخطأ
فيه والله أعلم بالصواب
وبهذا انتهي المجلد الأول من المخطوطات التي تم تحقيق الكتاب عليها
بحسب تقسيم المصنف ومن نقلوا عنه.
381