الكتاب: المحصول
المؤلف: الرازي
الجزء: ٦
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور طه جابر فياض العلواني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٢
المطبعة: مؤسسة الرسالة - بيروت
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

طبع محققا على ست نسخ لأول مرة
منذ أن فرغ مؤلفه من كتابته سنة 575 ه‍
جميع الحقوق محفوظة
لمؤسسة الرسالة
ولا يحق لأية جهة ان تطبع أو تعطي حق الطبع لاحد.
الطبعة الثانية
1412 ه‍. 1992 م
2

المحصول
في علم أصول الفقه
للامام الأصولي النظار المفسر
فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي
544 - 606 ه‍ / 1149 - 1209 م
دراسة وتحقيق
الدكتور جابر فياض العلواني
الجزء السادس
مؤسسة الرسالة
3

الكلام في الاجتهاد
والنظر في ماهية الاجتهاد
والمجتهد
والمجتهد فيه
وحكم الاجتهاد
5

الركن الأول
في الاجتهاد
وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال
استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسسعه قبل في حمل
النواة
وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه
فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه
وهذا سبيل مسائل الفروع ولذلك تسمى هذه المسائل مسائل
الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هذا حال الأصول
6

الركن الثاني
في المجتهد
وفيه مسائل
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه يجوز أن يكون في أحكام الرسول ص
ما صدر عن الاجتهاد وهو قول أبي يوسف رحمه الله
وقال أبو علي وأبو هاشم إنه لم يكن متعبدا به
وقال بعضهم كان له أن يجتهد في الحروب وأما في أحكام الدين
فلا
وتوقف أكثر المحققين في ذلك
أم المثبتون فقد احتجوا بأمور
أحدها
عموم قوله تعالى فاعتبروا يا أولى الأبصار
وكان عليه الصلاة والسلام أعلى الناس بصيرة وأكثرهم إطلاعا على
شرائط القياس وما يجب ويجوز فيها وذلك أن لم يرجح دخوله في هذا
الأمر على دخول غيره فلا أقل من المساواة فيكون مندرجا تحت الآية
7

فكان مأمورا بالقياس فكان فاعلا له وإلا قدح في عصمته
وثانيها
أنه إذا غلب على ظنه كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم علم
أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلابد أن يظن أن حكم الله
تعالى في الفرع مثل حكمه في الأصل وترجيح الراجح على المرجوح من
مقتضيات بدائه العقول على ما قررناه في كتاب القياس وهذا يقتضي أن يجب
عليه العمل بالقياس
وثالثها أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا لقوله
عليه الصلاة والسلام أفضل العبادات أحمزها أي أشقها ولو لم يعمل
الرسول عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد مع أن أمته عملوا به كانت الأمة
أفضل منه في هذا الباب وإنه غير جائز
فإن قلت فهذا يقتضي أن لا يعمل الرسول ص إلا
بالاجتهاد لأن ذلك أفضل
وأيضا فإنما يجب اتصافه بهذا المنصب لو لم يجد منصبا أعلى منه
لكنه وجده لأنه يستدرك الأحكام وحيا وهذا المنصب أعلى من
الاجتهاد
8

قلت الجواب عن الأول
أن ذلك غير ممكن لأن العمل بالاجتهاد مشروط بالنص على أحكام
الأصول وإذا كان كذلك تعذر العمل في كل الشرع بالاجتهاد
وعن الثاني
أن الوحي وإن كان أعلى درجة من الاجتهاد لكن ليس فيه تحمل المشقة
في استدراك الحكم ولا يظهر فيه أثر دقه الخاطر وجودة القريحة وإذا كان
هذا نوعا مفردا من الفصيلة لم يجز خلو الرسول عنه بالكلية
ورابعها
قوله عليه الصلاة والسلام العلماء ورثة الأنبياء وهذا يوجب أن تثبت
له درجة الاجتهاد ليرثوه عنه إذ لو ثبت لهم ذلك ابتداءا لم يكونوا وارثين
عنه
فإن قلت أراد به في إثبات أركان الشرع
قلت إنه تقييد من غير دليل
وخامسها
أن بعض السنن مضافة إلى الرسول ص ولو كان
الكل بالوحي لم يبق لتلك الإضافة مزيد فائدة
9

كما أن الشافعي رضي الله عنه إذا أثبت حكما بالنص الظاهر الجلي
الذي لا يفتقر فيه البتة إلى اجتهاد لا يقال أن ذلك مذهب الشافعي
فلا يقال مذهب الشافعي رضي الله عنه وجوب الصلوات الخمس
وأما الذي يثبته بضرب من اجتهاد فإنه يضاف إليه فكذا هاهنا
وأما الذي يدل على أنه كان مجتهدا في أمر الحروب أنه
اجتهد في أخذ الفداء عن أسارى بدر بعدما وكان راجعهم في تلك
الحال وذلك لا يمكن إلا مع الاجتهاد
واحتج المانعون بأمور
أحدها
قوله تعالى وما ينطق عن الهوى
وثانيها
أن بعض الصحابة راجعه في منزل نزله وقال إن كان هذا بوحي الله
تعالى فالسمع والطاعة وإلا فليس هو بمنزل مكيدة فدل هذا على جواز
10

مراجعته في اجتهاده ولا تجوز مراجعته في أحكام الشرع فيلزم أن لا
يكون فيها ما هو باجتهاده
وثالثها
أن الاجتهاد لا يفيد إلا الظن وأنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا
على تلقيه من الوحي والقادر على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن
كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يغمض عينيه ويجتهد فيها
ورابعها
أن مخالفه عليه الصلاة والسلام في الحكم يكفر لقوله تعالى فلا
وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم والمخالف في هذه
المسائل الشرعية لا يكفر لأن الرجل إذا أجتهد وأخطأ فيها فله أجر
واحد والمستوجب للأجر لا يمكن تكفيره
وخامسها
لو جاز له العمل بالاجتهاد لما توقف في شئ من الأحكام الشرعية على
الوحي لأن حكم الوحي في الكل كان معلوما له وطرق الاجتهاد كانت
مظنونة له فعند وقوع الواقعة التي ما أنزل عليه فيها وحي كان مأمورا
بالاجتهاد فكان ينبغي أن لا يتوقف إلى نزول الوحي لكنه توقف كما في
11

مسألة الظهار واللعان
وسادسها
لو جاز له الاجتهاد لجاز لجبريل عليه السلام وحينئذ لا يعرف أن هذا
الشرع الذي جاء به إلى محمد ص من نص الله تعالى
أو من اجتهاد جبريل عليه السلام
والجواب عن الأول
أن الله تعالى متى قال له مهما ظننت كذا فاعلم أن حكمي كذا
فها هنا العمل بالظن عمل بالوحي لا بالهوى
وعن الثاني
أنه يدل على جواز مراجعته في الآراء والحروب والأحكام خارجة عن
ذلك
12

وعن الثالث
أنا إنما نجوز الاجتهاد فيما لم يوجد فيه نص من الله تعالى
ولم يكن متمكنا من معرفة الحكم بالنص
وعن الرابع
أنه لا يمتنع أن يقال الحكم وإن كان مظنونا أولا إلا أنه عليه الصلاة
والسلام لما أفتى به وجب القطع به كما قلنا في الإجماع الصادر عن
الاجتهاد
وعن الخامس
أن العمل بالاجتهاد مشروط بالعجز عن وجدان النص فلعله عليه
الصلاة السلام كان يصبر مقدار ما يعرف به أن الله تعالى لا ينزل فيه
وحيا
وعن السادس
أن ذلك الاحتمال مدفوع بالإجماع
13

مسألة
إذا جوزنا له ص الاجتهاد فالحق عندنا أنه لا يجوز
أن يخطئ
وقال قوم يجوز بشرط أن لا يقر عليه
15

لنا
أنا مأمورون باتباعه في الحكم لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما
قضيت فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ وذلك ينافي كونه خطأ
واحتج المخالف بقوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم فهذا
يدل على أنه أخطأ فيما أذن لهم
وقال تعالى في أسارى بدر لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما
أخذتم فيه عذاب عظيم فقال عليه الصلاة والسلام لو نزل عذاب من الله لما
نجا إلا ابن الخطاب وهذا يدل على أنه أخطأ في أخذ الفداء
16

ولأنه تعالى قال قل إنما أنا بشر مثلكم فلما جاز الخطأ على من غيره
جاز أيضا عليه
ولأن النبي ص قال إنكم تختصمون لدي ولعل
بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذنه
إنما أقطع له قطعة من النار فلو لم يجز أن يقضي لأحد إلا بحقه لم يقل
هذا
ولأنه يجوز أن يغلط في أفعاله فيجوز أن يغلط في أقواله كغيره من
المجتهدين
والجواب
عن هذه الوجوه مذكور في الكتاب الذي صنفناه في عصمة الأنبياء
فلا فائدة في الإعادة
17

مسألة
اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد رسول الله ص
فأما في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام فالخوض فيه قليل الفائدة
لأنه لا ثمرة له في الفقه
ثم نقول المجتهد إما أن يكون بحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام
أو يكون غائبا عنه
أما إن كان بحضرته فيجوز تعبده بالاجتهاد عقلا لأنه لا يمتنع أن
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام له لقد أوحي إلي بأنك مأمور بأن
تجتهد أو مأمورا بأن تعمل على وفق ظنك ومنهم من أحاله عقلا
واحتج عليه بأن الاجتهاد في معرض الخطأ والنص آمن منه وسلوك
السبيل المخوف مع القدرة على سلوك السبيل الآمن قبيح عقلا
وجوابه
أن الشرع لما قال له أنت مأمور بأن تجتهد وتعمل على وفق ظنك كان
آمنا من الغلط لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيا بما أمر به
وأما وقوع التعبد به فمنعه أبو علي وأبو هاشم
وأجازه قوم بشرط الإذن
وتوقف فيه الأكثرون
18

احتج المانعون بوجهين
الأول
أن الصحابة لو اجتهدوا في عصره كما اجتهدوا بعده لنقل كما نقل
اجتهادهم بعده
الثاني أن الصحابة كانت تفزع في الحوادث إلى الرسول ص
ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد لما فزعوا إليه
واحتج القائلون بالوقوع بأمور
الأول
أنه عليه الصلاة والسلام حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل
مقاتليهم وسبي ذراريهم فقال عليه الصلاة والسلام لقد حكمت بحكم
الله تعالى من فوق سبعة أرقعة
الثاني
أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني
لما أمرهما أن يحكما بين خصمين إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن
19

أخطأتما فلكما حسنة واحدة
الثالث
أنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالمشاورة لقوله تعالى وشاورهم
في الأمر ولا فائدة في ذلك إلا جواز الحكم على حسب اجتهادهم
والجواب عن الأول
لعله قل اجتهادهم في حضرة الرسول ص فلم ينقل
لقلته
وأيضا فقد نقل اجتهاد سعد بن معاذ وعمرو بن العاص
وعن الثاني
لعلهم فزعوا إليه فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ولعلهم تركوه
لصعوبته وسهولة وجدان النص
وعن الثالث
وهو خبر سعد وعمرو أنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به إلا في مسألة
عملية وهذه المسألة لا تعلق لها بالعمل
وعن الرابع
أن ذلك في الحروب ومصالح الدنيا لا في أحكام الشرع
20

وأما الغائب عن حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام فلا شك في جواز
أن يتعبده الله تعالى بالاجتهاد لا سيما عند تعذر الرجوع وضيق الوقت
وأما وقوع التعبد به فقال به الأكثرون والاعتماد فيه على خبر معاذ
مسألة
في شرائط المجتهد
أعلم أن شرط الاجتهاد أن يكون المكلف بحيث يمكنه
الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام
وهذه المكنة مشروطة بأمور
أحدها
أن يكون عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه لأنه لو لم يكن كذلك لم يفهم منه
شيئا ولما كان اللفظ قد يفيد معناه لغة وعرفا وشرعا وجب أن يعرف
اللغة والألفاظ العرفية والشرعية
وثانيها
أن يعرف من حال المخاطب أنه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن
تجرد أو ما يقتضيه مع قرينة إن وجدت معه قرينة لأنه لولا ذلك لما حصل
الوثوق بخطابه لجواز أن يكون عنى به غير ظاهره مع أنه لم يبينه
قالت المعتزلة وذلك إنما يعرف بحكمة المتكلم أو بعصمته والحكم
بحكمة الله تعالى مبني على العلم بأنه تعالى عالم بقبح القبيح وعالم
بغناه عنه
وأما أصحابنا فإنهم قالوا الشئ وإن كان جائز الوقوع قطعا لكنه قد
21

نقطع بأنه لا يقع فإنا نجوز انقلاب ماء جيحون دما وانقلاب الجدارن ذهبا
وتولد الإنسان لا من الأبوين دفعة واحدة ومع ذلك نقطع بأنه لا يقع فكذا ها
هنا نحن وإن جوزنا من الله تعالى كل شئ لكنه تعالى خلق فينا علما بديهيا
بأنه لا يعني بهذه الألفاظ إلا ظواهرها فلذلك أمنا من وقوع التلبيس
وثالثها
أن يعرف مجرد اللفظ إن كان مجردا وقرينته إن كان مع قرينة لأنا لو
لم نعرف ذلك لجوزنا في المجرد أن تكون معه قرينة تصرفه عن ظاهره
ثم القرينة قد تكون عقلية وقد تكون سمعية
أما القرينة العقلية فإنها تبين ما يجوز أن يراد باللفظ مما لا يجوز
وأما السمعية فهي الأدلة التي تقتضي تخصيص العموم في الأعيان
وهو المسمى بالتخصيص أو في الأزمان وهو النسخ
والذي يقتضي تعميم الخاص وهو القياس
وحينئذ يجب أن يكون عارفا بشرائط القياس ليميز ما يجوز عما لا
يجوز
ثم هذه الأدلة السمعية غائبة عنا فلا بد من نقلها والنقل إما تواتر أو
آحاد فلا بد وأن يكون عارفا بشرائط كل واحد منهما
ثم عند الإحاطة بأنواع الأدلة لابد وأن يكون عارفا بالجهات المعتبرة
في التراجيح
22

فإن قال قائل فصلوا العلوم التي يحتاج المجتهد إليها
قلنا قال الغزالي رحمه الله مدارك الأحكام أربعة الكتاب والسنة
والإجماع والعقل فلا بد من العلم بهذه الأربعة
ولا بد معها من أربعة أخرى اثنان مقدمان واثنان مؤخران فهذه ثمانية
لا بد من شرحها
أما كتاب الله تعالى فلا بد من معرفته
وفيه تحقيقان
يحيى أحدهما
أنه لا يشترط معرفة جميعه بل ما يتعلق منه بالأحكام وهو
خمسمائة آية
والثاني
أنه لا يشترط حفظها بل أن يكون عالما بمواقعها حتى يطلب منها الآية
المحتاج إليها عند الحاجة
وأما السنة فلا بد من معرفة الأحاديث التي تتعلق بها الأحكام وهي مع
كثرتها مضبوطة في الكتب
وفيها التحقيقان الرحمن المذكوران إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأخبار
بالمواعظ وأحكام الآخرة
والثاني
أنه لا يلزمه حفظها بل أن يكون عنده أصل مصحح مشتمل على
23

الأحاديث المتعلقة بالأحكام
وأما الإجماع فينبغي أن يكون عالما بمواقع الإجماع حتى لا يفتي
بخلاف الإجماع وطريق ذلك أن لا يفتي إلا بشئ يوافق قول واحد من
العلماء المتقدمين أو يغلب على ظنه أنه واقعة متولدة في هذا العصر ولم
يكن لأهل الإجماع فيها خوض
وأما العقل فيعرف البراءة الأصلية ويعرف أنا مكلفون بالتمسك بها إلا
إذا ورد ما يصرفنا عنه وهو نص أو إجماع أو قياس على شرائط الصحة
فهذه هي العلوم الأربعة
وأما العلمان المقدمان فأحدهما
علم شرائط الحد والبرهان على الإطلاق
وثانيهما
معرفة النحو واللغة والتصريف لأن شرعنا عربي فلا يمكن التوسل
إليه إلا بفهم كلام العرب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
ولا بد في هذه العلوم من القدر الذي يتمكن المجتهد به من معرفة
الكتاب والسنة
وأما العلمان المتمان وكان فأحدهما
يتعلق بالكتاب وهو علم الناسخ والمنسوخ
والآخر
بالسنة وهو علم الجرح والتعديل ومعرفة أحوال الرجال
24

واعلم أن البحث عن أحوال الرجال في زماننا هذا مع طول
المدة وكثرة الوسائط أمر كالمتعذر فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة الذين
اتفق الخلق على عدالتهم كالبخاري ومسلم وأمثالهما
وقد ظهر مما ذكرنا أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه وأما
سائر العلوم فغير مهمة في ذلك
أما الكلام فغير معتبر لأنا لو فرضنا إنسانا جازما بالإسلام تقليدا
لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام
وأما تفاريع الفقه فلا حاجة إليها لأن هذه التفاريع ولدها المجتهدون بعد
أن فازوا بمنصب الاجتهاد فكيف تكون شرطا فيه
واعلم أن الإنسان كلما كان أكمل في هذه العلوم التي لا بد منها في
الاجتهاد كان منصبه في الاجتهاد أعلى وأتم وضبط القدر الذي لا
بد منه على التعيين كالأمر المتعذر
مسألة
الحق أنه يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن بل في مسألة
دون مسألة خلافا لبعضهم
25

لنا
أن الأغلب من الحادثة في الفرائض أن يكون أصلها في الفرائض
دون المناسك والإجارات فمن عرف ما ورد من الآيات والسنن والإجماع
والقياس في باب الفرائض وجب أن يتمكن من الاجتهاد
وغاية ما في الباب أن يقال لعله شذ منه شئ ولكن النادر لا عبرة به
كما أن المجتهد المطلق وإن بالغ في الطلب فإنه يجوز أن يكون قد شذ
عنه أشياء
26

الركن الثالث
المجتهد فيه
وهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع
واحترزنا ب الشرعي عن العقليات ومسائل الكلام
وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس
والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع
وقال أبو الحسين البصري رحمه الله المسألة الاجتهادية هي التي
اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية
وهذا ضعيف لأن جواز اختلاف المجتهدين فيها مشروط بكون المسألة
اجتهادية فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور
27

الركن الرابع
حكم الاجتهاد
وفيه مسائل
مسألة
ذهب الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد في
الأصول مصيب وليس مرادهم من ذلك مطابقة الاعتقاد فإن فساد ذلك
معلوم بالضرورة وإنما المراد نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف
واتفق سائر العلماء على فساد هذا القول
29

حجة الجمهور أمور
الأول
أن الله تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة ومكن العقلاء من
معرفتها فوجب أن لا يخرجوا عن العهدة إلا بالعلم
الثاني
أنا نعلم بالضرورة أنه عليه الصلاة والسلام أمر اليهود والنصارى
بالإيمان به وذمهم على إصرارهم على عقائدهم وقاتل بعضهم وكان
يكشف عمن بلغ منهم ويقتله ونعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل
وإنما الأكثر مقلدة عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه
الثالث
التمسك بقوله تعالى ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من
النار وقوله تعالى وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم
وعلى الجملة ذم المكذبين لرسول الله ص من
الكفار مما لا ينحصر من الكتاب والسنة
أجاب الخصم عن الأول
بأنا لا نسلم بأنه تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة ومكن العقلاء
من معرفتها وكيف لا نقول ذلك ونرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد
من زمان وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
وإذا نظرنا في أدلة المختلفين في هذه المسائل وأنصفنا لم نجد
واحدا منهم مكابرا قائلا بما يقطع العقل بفساده
30

سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن ذلك يقتضي كونهم مأمورين بالعلم ولم
لا يجوز أن يقال إنهم أمروا بالظن الغالب سواء كان مطابقا أو غير مطابق
وعلى هذا التقدير يكون الآتي به معذورا
ثم الذي يدل على أن التكليف لم يقع إلا بالظن الغالب وجهان
الأول
أن اليقين التام المتولد من الدليل المركب من المقدمات البديهية
تركيبا معلوم الصحة بالبديهة إن أمكن فهو عزيز نادر الوجود لا يفي به
إلا الفرد بعد الفرد فلا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لكل الخلق لأنه عليه
الصلاة والسلام قال بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وأي حرج فوق أن
يكلف الإنسان في الساعة الواحدة معرفة ما عجز الخلق عن معرفته في
خمسمائة سنة
الثاني
أنا كما نعلم بالضرورة أن الصحابة ما كانوا متبحرين في دقائق
الهندسة والهيئة والأرثماطيقي روى نعلم بالضرورة أنهم ما كانوا عالمين
31

بهذه الأدلة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة مع أنه عليه الصلاة
والسلام حكم بصحة إيمانهم فدل ذلك على أن التكليف ما وقع بالعلم
سلمنا أنهم كلفوا بالعلم في هذه الأصول فلم قلت إن
المخطئ فيه معاقب ودعوى الإجماع فيه غير جائزة لأنها دعوى الإجماع
في محل الخلاف
وعن الثاني
أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبلهم لجهلهم بالحق أو لإصرارهم على
ترك التعلم وطلب المعرفة
الأول ممنوع والثاني مسلم
فلعله عليه الصلاة والسلام لما بالغ في إرشادهم إلى الحق ثم إنهم
لم يلتفتوا إلى بيانه واشتغلوا باللهو والطرب وأصروا على ترك الطلب
قتلهم
وأما من بالغ في الطلب والبحث ولكن عجز عن الوصول فلم قلت
إنه عليه الصلاة والسلام قتل مثل هذا الإنسان
سلمنا أنه قتله لكن لم قلت إنه لا بد وأن يكون
معاقبا
وعن الثالث
أنه ذم الكافر والكفر في أصل اللغة هو الستر ومعنى الستر لا
يتحقق إلا في حق المعاند الذي عرف الدليل ثم أنكره أو في حق المقلد
32

المصر الذي يعرف من نفسه أنه لا يعرف الدليل على صحة الشئ ثم
إنه يقول به
فأما العاجز المتوقف الذي بالغ في الطلب فلم يصل فهذا لا يكون
ساترا لشئ ظهر عنده فلا يكون كافرا
ثم احتجوا على صحة قولهم بأنه تعالى رحيم كريم واستقراء
أحكام الشرع يدل على أن الغالب على الشرع هو التخفيف والمسامحة
حتى إنه لو احتاج إلى أدنى تعب في نفسه أو في ماله في طلب الماء سقط
عنه فرض الوضوء وأبيح له التيمم فهذا الكريم الرحيم كيف يليق بكرمه
ورحمته وعظم فضله أن يعاقب من أفنى طول عمره في الفكر والبحث
والطلب
هذا حاصل كلامهم إلا أن الجمهور ادعوا انعقاد الإجماع على مذهبهم
قبل حدوث هذا الخلاف
مسألة
اختلفوا في تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية
33

وضبط المذاهب فيه على سبيل التقسيم أن يقال
المسألة الاجتهادية إما أن يكون لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم
معين أو لا يكون
فإن لم يكن لله تعالى فيها حكم فهذا قول من قال كل مجتهد
مصيب وهم جمهور المتكلمين منا كالأشعري والقاضي أبي بكر ومن
المعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم
ثم لا يخلو أما أن يقال إنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم إلا إنه وجد
ما لو حكم الله تعالى بحكم لما حكم إلا به
وإما أن لا يقال بذلك أيضا
والأول هو القول بالأشبه وهو منسوب إلى كثير من المصوبين
والثاني قول الخلص من المصوبين
أما إن قلنا إن في الواقعة حكما معينا عند الله فذلك الحكم
إما أن لا يكون عليه إمارة ولا دلالة أو عليه إمارة وليس عليه دلالة أو عليه
دلالة
أما القول الأول وهو أنه حصل الحكم ولكن من غير أمارة ولا دلالة
فهو قول طائفة من الفقهاء والمتكلمين
ونقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في كل واقعة ظاهر وإحاطة
ونحن ما كلفنا بالإحاطة
وهؤلاء زعموا أن ذلك الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب بالاتفاق
34

فلمن عثر عليه أجران ولمن اجتهد ثم غاب عنه أجر واحد وذلك الأجر
على ما تحمل من الكد في الطلب لا على نفس الخيبة
وأما القول الثاني وهو أن عليه دليلا ظنيا فها هنا أيضا قولان
أحدهما
أن المجتهد لم يكلف بإصابته لخفائه وغموضه فلذلك كان المخطئ
معذورا ومأجورا وهو قول كافة الفقهاء وينسب إلى الشافعي وأبي حنيفة
رضي الله عنهما
وثانيهما
أنه مأمور بطلبه أولا فإن أخطأ وغلب على ظنه شئ آخر فهناك يتعين
التكليف ويصير مأمورا بأن يعمل بمقتضى ظنه ويسقط عنه الإثم
تحقيقا
وأما القول الثالث وهو أن عليه دليلا قاطعا فهؤلاء اتفقوا على أن
المجتهد مأمور بطلبه لكنهم اختلفوا في موضعين
أحدهما
أن المخطئ هل يستحق الإثم والعقاب أم لا
فذهب بشر المريسي
35

من المعتزلة إلى أنه يستحق الإثم
والباقون اتفقوا على أنه لا يستحق
الثاني
أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه
قال الأصم ينقض
وقال الباقون لا ينقض
فهذا تفصيل المذاهب
والذي نذهب إليه أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا وأن عليه
دليلا ظاهرا لا قاطعا وأن المخطئ فيه معذور وقضاء القاضي فيه لا
ينقض
فلنتكلم أولا في بيان أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا
36

لنا وجوه
الأول أن أحد المجتهدين إذا اعتقد رجحان الأمارة الدالة على
الثبوت والمجتهد الثاني اعتقد رجحان الأمارة الدالة على العدم
فنقول أحد هذين الاعتقادين خطأ والخطأ منهي عنه
بيان الأول أن إحدى الأمارتين إما أن تكون راجحة على الأخرى أو
لا تكون
فإن كانت إحداهما راجحة على الأخرى كان اعتقاد رجحانه صوابا
أما اعتقاد رجحان الجانب الآخر يكون غير مطابق للمعتقد فيكون خطأ
وإن لم تكن إحداهما راجحة على الأخرى كان كل واحد من
الاعتقادين غير مطابق للمعتقد
وعلى كل التقديرات لا يكون الاعتقادان ولم مطابقين بل أحدهما يكون
مطابقا للمعتقد
فثبت أن كل مجتهد ليس بمصيب بمعنى كون اعتقاده مطابقا للمعتقد
وهذه إحدى صور الخلاف فإن اكتفينا به جاز
وإن أردنا بيان أن الكل ليس بمصيب بمعنى أنهم ما أتوا بما كلفوا به
قلنا الدليل عليه أن الاعتقاد الذي لا يكون مطابقا للمعتقد جهل والجهل
بإجماع الأمة غير مأمور به
فثبت أيضا أن الكل ليسوا بمصيبين بين بمعنى الإتيان بالمأمور به
فإن قيل لا نسلم أن أحد الاعتقادين خطأ
37

قوله لأن أحدهما اعتقد فيما ليس براجح أنه راجح وذلك خطأ
قلنا اعتقد فيما ليس براجح أنه راجح في نفسه أو أنه راجح
في ظنه
الأول ممنوع والثاني مسلم
بيانه
أن المجتهد لا يعتقد كون أمارته راجحة على أمارة صاحبه في نفس
الأمر ولكنه يعتقد كونها راجحة في ظنه والرجحان في ظنه حاصل فكان
الاعتقاد مطابقا للمعتقد غايته أنه لم يوجد الرجحان الخارجي لكن عدم
الرجحان الخارجي لا يوجب عدم الرجحان الذهني
فثبت أن كل واحد من الاعتقادين يمكن أن يكون صوابا
سلمنا أن كل واحد منهما اعتقد الرجحان في نفس الأمر ولكنه لم
يجزم بذلك الرجحان بل جوز خلافه فلم قلت إن الاعتقاد إذا وجد معه
هذا التجويز كان منهيا عنه
وخرج عليه الجهل فإنه اعتقاد مخالف للمعتقد مع الجزم
والجواب
قوله اعتقد كونه راجحا في ظنه أو في نفس الأمر
قلنا الرجحان في الذهن إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج
أو أمرا لا يثبت إلا معه لأنا نعلم بالضرورة أنا لو اعتقدنا في الشئ كون
وجوده مساويا لعدمه فمع هذا الاعتقاد يمتنع أن يكون اعتقاد وجوده راجحا
38

على اعتقاد عدمه فعلمنا أنه لا بد عند حصول هذا الظن من
اعتقاد كونه راجحا في نفسه إما لأن الظن نفس هذا الاعتقاد أو لأنه لا
ينفك عنه
وعلى كلا التقديرين فالمقصود حاصل
قوله هذا الاعتقاد وإن كان غير مطابق لكنه غير جازم
قلنا بل هو جازم لأن اعتقاد كون الشئ أولى بالوجود غير اعتقاد
كونه موجودا واعتقاد كونه أولى بالوجود حاصل مع الجزم فإن المجتهد
يقطع بأن أمارته نظرا إلى هذه الجهة أولى بالاعتبار
بلى إنه غير جازم بالحكم لكن الجزم بالأولوية لا يقتضي الجزم
بالوقوع كما أنا نقطع بأن الأولى بالغيم الرطب في زمان الخريف أن يكون
ممطرا مع أنه قد لا يوجد المطر وعدم المطر لا يقدح في تلك الأولوية بل
تلك الأولوية مقطوع بها فكذا ها هنا
فثبت أنه حصل لأحد المجتهدين اعتقاد جازم غير مطابق فيكون خطأ
وجهلا ومنهيا عنه
الطريقة الثانية المجتهد إما أن يكون مكلفا في الحكم بناءا على طريق
أو لا بناء على طريق
والثاني باطل لأن القول في الدين بمجرد التشهي باطل بإجماع
المسلمين فإذن لا بد من طريق
فذلك الطريق إما أن يكون خاليا عن المعارض أو لم يكن خاليا عنه
فإن كان الأول وهو كونه خاليا عن المعارض تعين ذلك الحكم
بإجماع الأمة فيكون تاركه مخطئا
39

وإن كان له معارض فإما أن يكون أحدهما راجحا على الآخر أو لا
يكون
فإن كان أحدهما راجحا على الآخر وجب العمل بالراجح لأن الأمة
مجمعة على أنه لا يجوز العمل بالأضعف عند وجود الأقوى فيكون مخالفه
مخطئا
وإن لم يكن أحدهما راجحا فحكم تعارض الأمارتين أما التخيير أو
التساقط والرجوع إلى غيرهما
وعلى كلا القولين فحكمه معين فمخالفه يكون مخطئا
فثبت أن المصيب واحد على كل التقديرات
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون مكلفا بالحكم لا على طريق قوله
الحكم في الدين بمجرد التشهي غير جائز
قلنا غير جائز في موضع وجد فيه الدليل أو في موضع لم يوجد
فيه الدليل
الأول مسلم والثاني ممنوع
بيانه
أن العمل بالدليل مشروط بوجود الدليل وإلا كان ذلك تكليفا بما لا
يطاق وفي هذه المسائل الاجتهادية لا دليل لأنه لو وجد لكان تارك العمل
به تاركا للمأمور به فيكون عاصيا فيكون مستحقا للنار على ما مر تقديره في
مسألة أن الأمر للوجوب ولما اجمعوا على أنه لا يستحق النار علمنا أنه
لا دليل وإذا لم يوجد الدليل جاز العمل بمجرد الحدس والتوهم كما
40

اشتبهت عليه أمارات القبلة فإنه يجوز له العمل بمجرد الحدس
والتوهم
سلمنا أنه أمر بالحكم بناء على طريق لكن لم لا يجوز أن يحصل في
مقابلته طريق آخر فيكون أحدهما راجحا على الآخر
قوله أجمعوا على وجوب العمل بالراجح
قلنا العمل بالراجح واجب على من علم ذلك الرجحان أو على من لم
يعلم
الأول مسلم والثاني ممنوع
بيانه
أن الأمارة الراجحة يجب العمل بها على من اطلع عليها أما من لم
يطلع عليها فجاز أن يكلفه العمل بالأضعف فإنه غير مستبعد في العقل
أن تكون مصلحة أحد المجتهدين في العمل بأقوى الأمارات ومصلحة
الآخر في العمل بأضعفها
أهل ومتى كان ذلك فإن الله تعالى يخطر على قلب من مصلحته العمل
بأقواها وجوه الترجيح ويشغل الآخر عنها فيظن أنها أقوى الأمارات لأن
مصلحته العمل على أضعف الأمارات والظن بكونها أقوى الأمارات مع
كونها في نفسها أضعف الأمارات لا يقبح ألا ترى أنه لا يقبح الظن بكون
زيد في الدار وإن لم يكن فيها
وإذا ثبت أن هذا الذي قلنا جائز عقلا فما الدليل على أنه غير واقع
41

والجواب
قوله إنما يجب العمل به عند وجود الدليل وها هنا لا دليل
قلنا الدليل على وجود الدليل الظاهر إجماع الأمة على وجود الترجيح
بأمور حقيقية لا خيالية ووجود الترجيح يستدعي وجود أصل الدليل أعني
القدر المشترك بين الدليل اليقيني والدليل الظاهري
قوله يجوز العمل بالأضعف إذا لم يعرف الأقوى
قلنا مقدار رجحان القوي على الضعيف أما أن يكون الاطلاع عليه
ممكنا أو لا يكون
فإن لم يكن ذلك لم يكن ذلك القدر معتبرا في حق المكلف وإلا
كان تكليفا بما لا يطاق فيكون القدر المعتبر بين الأمارتين في حق المكلف
مساويا لا راجحا
وإن أمكن الاطلاع عليه فإما أن يجب على المكلف تحصيل العلم بتلك
الأمارة إلى أقصى الإمكان أو لا يجب
فإن كان الأول كان من لم يصل في معرفتها إلى أقصى الإمكان تاركا
للواجب فيكون مخطئا
وإن كان الثاني فهو محال لأنه إما أن يكون هناك حد ما متى لم
يصل إليه لم يكن معذورا وإذا وصل إليه لم يكلف بالزيادة عليه
وإما أن لا يكون الأمر كذلك
فإن كان الأول وجب أن يكون من لم يصل إلى ذلك الحد المعين
مخطئا ومن وصل إليه يكون مصيبا
42

وهذا خلاف الإجماع لأنه لم يدع أحد من الأمة حدا معينا في
الاجتهاد بحيث أن المجتهد متى لم يصل إليه كان مخطئا وغير معذور
ومتى وصل إليه كان مصيبا
وأما الثاني وهو أن لا يكون هناك حد معين فحينئذ لا تكون التخطئة
عند بعض المراتب أولى منها عند بعض فإما أن لا يخطئ أصلا فيكون
العمل بالظن كيف كان ولو مع ألف تقصير مصيبا وهذا باطل
في الإجماع
أو لا يكون مخطئا إلا إذا وصل إلى النهاية الممكنة وهو المطلوب
الطريقة الثالثة المجتهد يستدل بشئ على شئ والاستدلال عبارة
عن استحضار العلم بأمور يلزم من وجودها وجود المطلوب واستحضار العلم
بالشئ متوقف على وجود ذلك الشئ فالاستدلال متوقف على وجود
الدليل ووجود ما يدل على الشئ متوقف على وجود ذلك الشئ
والاستدلال على الشئ يتوقف على وجود المدلول لأن دلالته عليه نسبة
بينه وبين المدلول والنسبة بين الأمرين متوقفة في الثبوت على كل واحد
منهما فوجود المطلوب متقدم على الاستدلال بمراتب والظن متأخر عن
الاستدلال لأنه نتيجته وأثره فلو كان الحكم لا يحصل إلا بعد الظن كان
المتقدم على الشئ بمراتب نفس المتأخر عن الشئ بمراتب وهو محال
الطريقة الرابعة المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب متقدم
في الوجود على وجود الطلب فلا بد من ثبوت حكم قبل وجود الطلب
وإذا كان كذلك كان مخالف ذلك الحكم مخطئا
43

فإن قلت لا نسلم أن المجتهد يطلب حكم الله تعالى بل إنما يطلب
غلبة الظن
ومثاله من كان على ساحل البحر فقيل له إن غلب على ظنك
السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك العطب حرم عليك الركوب
وقبل حصول الظن لا حكم لله تعالى عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك
بعد حصوله فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم
قلت المجتهد أما أن يطلب الظن كيف كان أو ظنا صادرا عن
النظر في أمارة تقتضيه
الأول باطل بإجماع الأمة فثبت أنه يطلب ظنا صادرا عن النظر في
الأمارة والنظر في الأمارة متوقف على وجود الأمارة ووجود الأمارة متوقف
على وجود المطلوب فثبت أن طلب الظن متوقف على وجود المدلول
بمراتب فلو كان وجود المدلول متوقفا على حصول الظن لزم الدور
وهذا غير ما قررناه في الطريقة الثانية
واحتج القائلون بأنه لا حكم لله تعالى في الواقعة بأمور
أحدها
لو كان في الواقعة لله حكم لكان إما أن يكون عليه دليل وأعني
بالدليل القدر المشترك بين ما يفيد الظن وبين ما يفيد اليقين أو لا يكون
44

والقسمان باطلان فبطل القول بثبوت الحكم
أما الملازمة فظاهرة
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون عليه دليل لأنه لو كان عليه دليل لكان
المكلف متمكنا من تحصيل العلم أو الظن به فكان الحاكم بغيره حاكما
بغير ما أنزل الله تعالى فيلزم تكفيره لقوله تعالى ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الكافرون وتفسيقه لقوله تعالى ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الفاسقون والقطع بأنه من أهل النار لأنه يكون تاركا
لما أمر الله به وتارك المأمور به عاص والعاصي من أهل النار لقوله تعالى
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ولما
أجمعت الأمة على فساد هذه اللوازم علمنا أنه ليس على الحكم دليل
فإن قلت هذه العمومات مخصوصة لأن أدلة هذه الأحكام غامضة
فيكون التكليف باتباعها حرجا وذلك منفي بقوله تعالى وما جعل عليكم في
الدين من حرج
قلت غموض أدلة هذه الأحكام لا يزيد على غموض أدلة المسائل
العقلية مع كثرة مقدماتها وكثرة الشبه فيها وكون الخطأ فيها كفرا وضلالا
فكذا ها هنا
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن لا يكون عليه دليل لأنه لو كان كذلك
45

لكان التكليف به تكليفا بما لا يطاق وأنه غير جائز
فثبت بما ذكرنا فساد القسمين ويلزم من فسادهما القطع بأنه لا حكم
في الواقعة ألبتة
وثانيها أن الأمة مجمعة على أن المجتهد مأمور بأن يعمل على وفق ظنه ولا
معنى لحكم الله إلا ما أمر به وإذا كان مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه فإذا
عمل به كان مصيبا لأنه يقطع بأنه عمل بما أمره الله به فوجب أن يكون
كل مجتهد مصيبا
وثالثها
لو وجد الحكم لوجد عليه دليل قاطع لكن لم يوجد عليه دليل قاطع
فوجب أن لا يوجد الحكم ألبتة
بيان الملازمة
هو أن بتقدير وجود الحكم إما أن يوجد عليه دليل أو لا يوجد عليه
دليل
فإن لم يوجد عليه دليل ألبتة كان التكليف بذلك الحكم تكليف ما لا
يطاق
وإن وجد عليه دليل فذلك الدليل إما أن يكون مستلزما لذلك المذكور
قطعا أو ظاهرا أو لا قطعا ولا ظاهرا
والقسمان الأخيران باطلان
46

أما أنه لا يجوز أن لا يستلزمه قطعا فالأمر فيه ظاهر لأن الذي يكون كذلك
استحال أن يتوصل به إلى ثبوت المدلول
وأما أنه لا يجوز لا أن يستلزمه ظاهرا فلأن هذا الدليل إما أن يمكن وجوده
بدون المدلول أو لا يمكن
فإن لم يمكن كان مستلزما له قطعا لا ظاهرا
وإن أمكن وجود الدليل بدون ذلك المدلول في بعض الصور فلو استلزمه
في صورة أخرى فلا يخلو إما أن تتوقف صيرورته مستلزما على انضمام قيد
إليه أو لا تتوقف
فإن توقف على انضمام قيد إليه كان المستلزم للمدلول ذلك المجموع
لا ذلك الذي فرضناه أولا دليلا
وإن لم يتوقف على انضمام قيد إليه فذلك الشئ تارة ينفك عن
المدلول وأخرى يستلزمه من غير انضمام قيد إليه لا بالنفي ولا بالإثبات
فيلزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وذلك محال
وإذا ثبت أن المستلزم هو ذلك المجموع فذلك المجموع إن أمكن
انفكاكه عن المدلول استحال أن يستلزم المدلول إلا بقيد آخر فإما أن
يتسلسل وهو محال أو ينتهي إلى شئ يمتنع انفكاكه عن المدلول فحينئذ
يكون دليلا قطعيا لا ظاهرا
فإن قلت الدليل الظاهر هو الذي يستلزم كون المدلول أولى بالوجود
أو كونه غير منته إلى الوجوب وهذا المعنى ملازم له أبدا
قلت الأولوية التي لا تنتهي إلى حد الوجوب ممتنعة لأن مع تلك الأولوية
إن امتنع العدم فذلك هو الوجوب
وإن لم يمتنع فتلك الأولوية يمكن حصولها مع الوجود تارة ومع العدم
أخرى ورجحان أحدهما على الآخر إن توقف على انضمام قيد زائد لم يكن
الحاصل أولا كافيا في الرجحان
وان لم يتوقف لزم رجحان الممكن من غير مرجح وهو محال فثبت
47

بهذا البرهان القاطع أن الذي لا يستلزم الشئ قطعا استحال أن يستلزمه
بوجه من الوجوه لا ظنا ولا ظاهرا
فثبت أنه لو وجد في الواقعة حكم معين لوجد عليه دليل قاطع ولما
انعقد الإجماع على أنه ليس كذلك علمنا أنه ليس في الواقعة حكم ألبتة
ورابعها
لو حصل في الواقعة حكم معين لكان ما عداه باطلا ولو كان كذلك لزم
أمور أربعة
48

أحدها
يلزم أن لا يجوز لأحد من الصحابة أن يولي بعضهم بعضا مع علمهم
بكونهم مخالفين لهم في مذاهبهم لأن التمكين من ذلك تمكين من ترويج
الباطل وإنه غير جائز
لكنه قد وقع ذلك روي أن أبا بكر رضي الله عنه ولى زيدا مع أنه
كان يخالفه في الجد
وولى علي رضي الله عنه شريحا مع أنه كان يخالفه في كثير من
الأحكام
وثانيها
يلزم أن لا يمكنه من الفتوى وقد كانوا يفعلون ذلك
وثالثها
كان يجب أن ينقضوا أحكام مخالفيهم وأن ينقض الواحد منهم حكم
نفسه الذي رجع عنه لأن كثيرا منهم قضى بقضايا مختلفة لكن لم ينقل عن
أحد منهم أنه نقض حكم غيره ولا حكم نفسه عند رجوعه عنه
ورابعها
أنهم اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ في ذلك يكون كبيرا لأنه لا فرق
بين أن يمكن غيره بفتواه بالباطل من القتل وأخذ المال وبين أن يقتل ويأخذ
المال ويصرفه إلى غير المستحق ابتداء في كونه كبيرا ويجب
تفسيق فاعله والبراءة عنه ولما لم يوجد شئ من هذه اللوازم الأربعة علمنا
49

أنه لا حكم في الواقعة أصلا
فإن قلت فلم لا يجوز أن يقال ذلك الخطأ كان من باب الصغائر
فلا جرم لم يجب الامتناع عن التولية ولا المنع من الفتوى ولا البراءة ولا
التفسيق
سلمنا أنه كبيرة فلم لا يجوز أن يقال هذه الأمور إنما تلزم لو حصل
في هذه المسائل طريق مقطوع به
أما إذا كثرت وجوه الشبه وتزاحمت جهات التأويلات والترجيحات صار
ذلك سببا للعذر وسقوط اللوم
سلمنا صحة دليلكم لكنه معارض بوجوه
الأول
ما روي عن الصحابة من التصريح روي عن الصديق الأكبر رضي الله
عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى
وإن كان خطأ فمني واستغفر الله
وعن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال له بعض الحاضرين
هذا والله هو الحق
وحكم بحكم آخر فقال له الرجل هو والله الحق فقال له عمر إن
عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألوا جهدا
وقال أيضا لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان صوابا فمن الله
وإن كان خطأ فمنه
50

وقال علي لعمر في قصة المجهضة إن قاربوك فقد غشوك وإن
اجتهدوا فقد أخطأوا
وقال ابن مسعود في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن
الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان
ونقل أن جماعة الصحابة خطأوا ابن عباس في إنكار العول
وقال ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت
الثاني
أن الصحابة اختلفوا قبل العقد لأبي بكر رضي الله عنه فقالت الأنصار
منا أمير ومنكم أمير وكانوا مخطئين لمخالفتهم قوله عليه الصلاة
والسلام الأئمة من قريش ولم يلزم من ذلك الخطأ إظهار البراءة والتفسيق
فكذا ها هنا
الثالث
اختلفوا في أن مانع الزكاة هل يقاتل
وقضى عمر في الحامل المعترفة بالزنا بالرجم وكان ذلك على
51

خلاف النص ولم يلزم تفسيق عمر فكذا ها هنا
وأما قوله في الوجه الرابع إنهم اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ
فيها كبير
قلنا لا نسلم فإنه لما لم يمتنع أن تكون الأقوال المختلفة صوابا على
مذهبكم فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا
وقوله لا فرق بين القتل والغصب ابتداء وبين التمكين منهما بالفتوى
الباطلة
قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يكون تمسكه في ذلك بما يشبه الدليل
سببا لسقوط العقاب والتفسيق
قلت أما الجواب عن الأول
فالذي يدل على أنه لو كان خطأ لكان من الكبائر لا من الصغائر
أن تارك العمل به تارك للعمل المأمور به فيكون عاصيا فيكون مستحقا
للنار
وعن الثاني
أن غموض الأدلة وكثرة الشبه فيها ها هنا أقل مما في العقليات
مع أن المخطئ فيها كافر أو فاسق
وعن الثالث
أن نقول ترك البراءة والتفسيق مع التمكين من الفتوى والعمل منقول
عن هؤلاء الذين نقلتم عنهم التصريح بالتخطئة فلا بد من التوفيق وقد تعذر
52

صرفه إلى كون الخطأ صغيرا لما بينا فساده فإذن لا طريق في التوفيق إلا
صرف ما نقلناه إلى قسم وما نقلتموه إلى قسم آخر وذلك لأنا
لا ندعي التصويب في كل المسائل الشرعية حتى يضرنا ما
ذكرتموه
أما أنتم فتدعون الخطأ في كل الاختلافات فيضركم حديث ما ذكرناه
فنحمل التخطئة على ما إذا وجد في المسألة نص قاطع أو على ما
إذا لم يستقص المجتهد في وجوه الاستدلال
وقوله إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان
معناه إن استقصيت في وجوه النظر والاستدلال فمن الله وإن قصرت
فمني ومن الشيطان
وأما المعارضة الثانية فجوابها أن الأنصار ما سمعوا ذلك الحديث
فلا جرم لم يستحقوا التفسيق والبراءة بخلاف هذه المسائل فإن كل واحد
من المجتهدين عرف حجة صاحبه وأطلع عليها فلو كان مخطئا لكان
مصرا على الخطأ بعد اطلاعه عليه فأين أحد البابين من الباب الآخر
وهذا هو الجواب أيضا عن اختلافهم في مانعي الزكاة وقصة
المجهضة
قوله على الوجه الرابع لما جاز أن تكون المذاهب المختلفة في
الدماء والفروج خفية فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا لا كبيرا
53

قلنا قد ذكرنا الدليل على أن الخطأ في هذا الباب لا بد وأن يكون
كبيرا
ولأنه روي أنه عليه الصلاة والسلام قال من سعى في دم مسلم ولو
بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله فهذا
وأمثاله من الأحاديث التي لا حد لها يدل على أنه لو كان المفتي في هذه
الوقائع مخطئا لكان خطؤه كبيرة لا صغيرة
وخامسها
لو كان المجتهد مخطئا لما حصل القطع بكون الخطأ فيه مغفورا وقد
حصل ذلك فهو ليس بمخطئ
بيان الملازمة
أنه لو حصل القطع بكون الخطأ مغفورا لكان في ذلك الوقت إما أن
يجوز المخطئ كونه مخلا بنظر يلزمه فعله أو لا يجوز ذلك
54

فإن لم يجوز ذلك كان كالساهي عن النظر الزائد فلم يكن مكلفا بفعله
وإذا لم يكن مكلفا بفعله لم يستحق العقاب بتركه فلا يكون مخطئا وقد
فرض مخطئا هذا خلف
وإن جوز كونه مخلا بنظر زائد لم يخل إما أن يعلم في تلك الحالة
أنه مغفور له إخلاله بذلك النظر الزائد أو لا يعلم ذلك
فإن علم ذلك لم يصح لأن المجتهد لا يعلم المرتبة التي إذا انتهى إليها
غفر له ما بعدها لأنه إن اقتصر على أول المراتب لم يغفر له ما بعدها وما
من مرتبة ينتهي إليها إلا ويجوز أن لا يغفر له ما بعدها ولا تتميز بعض تلك
المراتب من بعض ولأنه لو عرف تلك المرتبة لكان مغري بالمعصية لأنه
علم أنه لا مضرة عليه في ترك النظر الزائد مع كونه مثابا عليه
فثبت أنه لا يعرف تلك المرتبة وإذا لم يعرفها جوز أن لا يغفر له إخلاله
بما بعدها من النظر وجوز أيضا في كل مخطئ من المجتهدين أنهم
ما انتهوا إلى المرتبة التي يغفر لهم ما بعدها وفي ذلك تجويز كونهم غير
مغفور لهم
فثبت أنه لو كان مخطئا لما حصل القطع بكونه مغفورا له لكنه حصل
القطع بذلك لأنهم اتفقوا من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا أن ذلك
مغفور لهم فعلمنا أن المجتهد ليس بمخطئ
وسادسها
قوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم
خير الناس في تقليد أعيان الصحابة وكان الصحابة مختلفين في المسائل
فلو كان بعضهم مخطئا في الحكم أو في الاجتهاد لكان قد حثهم على
55

الخطأ والمصير إليه وإنه لا يجوز
وسابعها
قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ لما رتب الاجتهاد على السنة والسنة
على الكتاب أصبت حكم بتصويبه مطلقا ولم يفصل بين حالة وحالة
فعلمنا أن المجتهد مصيب على الإطلاق
والجواب عن الأول
أن على الحكم دليلا ظاهرا لا قطعيا
قوله لزم كفر تاركه وفسقه بالآيات
قلنا عندنا أن المجتهد قبل الخوض في الاجتهاد كان تكليفه أن
يطلب ذلك الحكم الذي عينه الله تعالى ونصب عليه الدليل الظاهر
فإذا اجتهد وأخطأ ولم يصل إلى ذلك الحكم وغلب على ظنه شئ
آخر تغير التكليف في حقه وصار مأمورا بأن يعمل بمقتضى ظنه
وعلى هذا التقدير يكون حاكما بما أنزل الله تعالى لا بغير ما أنزل الله
فيسقط ما ذكروه من الاستدلال
وهذا هو الجواب أيضا عن الحجة الثانية لأنا نسلم أن المجتهد
بعد أن اجتهد وغلب على ظنه أن الحكم كذا فإنه يكلف بأن يعمل
بمقتضى ذلك الظن وحكم الله تعالى في هذه الحالة في حقه ليس إلا
ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إنه قبل الخوض في الاجتهاد كان مأمورا
56

بذلك الحكم الذي عينه الله تعالى ونصب عليه الدليل لكنه بعد الاجتهاد
ووقوع الخطأ تغير التكليف وما ذكروه لا ينفي هذا الإحتمال
وأيضا
فهذه الدلالة منقوضة بما إذا كان النص موجودا في المسألة والمجتهد
طلبه ولم يجده ثم غلب على ظنه بمقتضى القياس خلاف ذلك الحكم
فإن كان تكليفه في هذه الحالة أن يعمل بمقتضى ذلك القياس مع
انعقاد الإجماع على كونه مخطئا في هذه الصورة فما جعلوه جوابا لهم
عن هذه الصورة فهو جوابنا عما قالوه
واعلم أن من المصوبة من منع التخطئة في هذه الصورة والمعتمد
ما قدمناه
وهو الجواب عن الوجه الثالث الذي ذكروه وعن الوجه الرابع لأنه إنما
يجب البراءة والتفسيق لو كان عاملا بغير حكم الله تعالى لكنه بعد الخطأ
مكلف بأن يعمل بمقتضى ظنه فيكون عاملا بحكم الله تعالى فلا يلزم
شئ مما ذكروه
وعن الخامس
أن المرتبة التي عندها يحكم بكونه مغفورا هي أن يأتي بما يقدر
عليه من غير تقصير
57

وعن السادس
أنه معارض بقوله عليه الصلاة والسلام من اجتهد وأخطأ فله أجر
واحد
وأيضا فهو خبر واحد وما ذكرناه دلائل قاطعة فلا يحصل التعارض
وهو الجواب عن الوجه السابع
واعلم أنا نريد أن نتكلم في فروع القول بالتصويب
مسألة
الذين قالوا ليس في الواقعة حكم معين منهم من قال ب الأشبه
على التفسير الذي لخصناه
ومنهم من لم يقل به وهو الحق
لنا
أن ذلك الأشبه إما أن يكون هو العمل بأقوى الأمارات أو غيره
فإن كان الأول فأقوى الأمارات إما أن يكون موجودا أو لا يكون
فإن كان موجودا كان الأمر به واردا لإجماع الأمة على وجوب العمل
بأقوى الأمارات فحينئذ يكون الحكم بذلك الأشبه واردا وقد فرضناه غير
وارد هذا خلف
58

وإن كان أقوى الأمارات غير موجود لم يكن الأشبه أيضا موجودا
لأنا فرضنا أن الأشبه هو نفس أقوى الأمارات
وأما إن كان الأشبه شيئا غير العمل بأقوى الأمارات فإما أن تكون
مفسدة للمكلف أو مصلحة له أو لا مفسدة ولا مصلحة
والأول باطل لأنه ليس في الأمة أحد يقول إنه يجب أن يكون في
كل واقعة حكم لو نص الله تعالى على الحكم لنص عليه مع أنه يكون
مفسدة
وأما الثاني وهو أن يكون مصلحة فإما أن تجب على الله تعالى رعاية
المصالح أو لا تجب
فان وجبت وجب عليه التنصيص على ذلك الحكم ليتمكن المكلف
من استيفاء تلك المصلحة
وإن لم تجب عليه رعاية المصلحة جاز منه تعالى أن ينص على غير
ذلك الحكم وذلك يبطل القول بأنه لو نص على الحاكم لما نص إلا عليه
وأما الثالث وهو أن يكون ذلك الأشبه لا مصلحة ولا مفسدة فهذا
إنما يمكن لو قلنا إنه لا تجب عليه رعاية المصالح وكل من قال بهذا
القول قال إنه لا يتعين عليه تعالى أن يحكم على وجه معين بل له أن
يحكم كيف شاء وذلك يمنع من القول بتعين الأشبه
واحتج القائلون بالأشبه بالنص والمعقول
59

أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله
أجر واحد صرح بالتخطئة وهذه التخطئة ليست لأجل مخالفة حكم
60

واقع لأنا قد دللنا على أنه لا حكم فلا بد وأن يكون لأجل كونه مخالفا
لحكم مقدر وهو الأشبه
وأما المعقول فهو أن المجتهد طالب والطالب لا بد له من
مطلوب ولما لم يكن المطلوب معينا وقوعا وجب أن يكون معينا تقديرا
والجواب
أن ذلك الأشبه إن كان هو العمل بأقوى الأمارات فهو حق وهو
قولنا
وإن كان غيره مع أن الله تعالى لم ينص عليه ولا أقام عليه دلالة ولا
أمارة فكيف يكون مخطئا بالعدول عنه وكيف ينقص ثوابه إذا لم يظفر بما
لم يكلف بإصابته ولا سبيل له إلى إصابته
وهذا هو بعينه الجواب عن الوجه المعقول
مسألة
القائلون بأن المصيب واحد احتجوا
بأن القول بتصويب الكل يفضي إلى وقوع منازعة لا يمكن قطعها وهذا
كما إذا نكح رجل امرأة وكانا مجتهدين ثم قال أنت بائن ثم راجعها
62

والزوج شافعي يرى الرجعة والمرأة حنفية ترى الكنايات بوائن فها
هنا الزوج متمكن شرعا من مطالبتها بالوطء والمرأة مأمورة بالامتناع وهذه
منازعة لا يمكن قطعها
قال المصوبون هذا الإشكال وارد عليكم أيضا فإن أهل التحقيق
منكم ساعدوا على أنه يجب على المجتهد العمل بموجب ظنه إذا لم
يعرف كونه مخطئا فهذا الإلزام أيضا وارد عليكم
ولما كان هذا الإشكال واردا على المذهبين وجب أن نذكر تقسيما في
بيان الحوادث النازلة بالمكلفين ليظهر أنه لا نزاع فيها فنقول
الحادثة إما أن تنزل بمجتهد أو بمقلد
فإن نزلت بمجتهد فإما أن تختص به أو تتعلق بغيره
فإن اختصت به عمل بما يؤديه إليه اجتهاده فإن استوت عنده
الأمارات تخير بينها أو يعاود الاجتهاد إلى أن يظهر الرجحان
وإن تعلقت بغيره فإن كان يجري فيه الصلح نحو التنازع في مال
اصطلحا فيه أو رجعا إلى حاكم يفصل بينهما أن وجد
فإن لم يوجد رضيا من يحكم بينهما ومتى حكم لم يكن لهما الرجوع
عنه
وإن لم يجر الصلح فيه كما ذكرنا في مسألة الكنايات فإنهما يرجعان
إلى من يفصل بينهما سواء كان صاحب الحادثة مجتهدا وحاكما أو لم
يكن فإن الحاكم لا يجوز له أن يحكم لنفسه على غيره بل ينصب من
يقضي بينهما
63

وإن كان مقلدا فإن كانت الحادثة تخصه عمل على ما اتفق عليه من
الفتوى
وإن اختلفوا عمل بفتوى الأعلم الأورع فإن استويا تخير بينهما
وإن كانت تتعلق بغيره عمل كما بيناه في حق المجتهدين
مسألة في نقض الاجتهاد
المجتهد إذا تغير اجتهاده ففيه بحثان
الأول
أن المجتهد كيف يعمل
والثاني
أن العامي الذي عمل بفتواه كيف يعمل
أما الأول فنقول المجتهد إذا أفضى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ
فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده فإما أن يكون قد قضى القاضي
بصحة ذلك النكاح قبل تغير اجتهاده أو ما قضى بذلك
فإن كان الأول بقى النكاح صحيحا لأن قضاء القاضي لما اتصل به
فقد تأكد فلا يؤثر فيه تغير الاجتهاد
وإن كان الثاني لزم تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف
اجتهاده
وأما الثاني وهو ما إذا أمسك العامي زوجته بفتوى المفتي بأن الخلع
فسخ فإذا تغير اجتهاد المفتي فالصحيح أنه يجب عليه تسريحها كما إذا
64

تغير اجتهاد متبوعه عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى
بخلاف قضاء القاضي فإنه متى اتصل بالحكم المجتهد فيه استقر
واعلم أن قضاء القاضي لا ينتقض بشرط أن لا يخالف دليلا
قاطعا فان خالفه نقضناه
65

الكلام
في المفتي والمستفتي
والنظر فيه يتعلق بالمفتي
والمستفتي
وما فيه الاستفتاء
67

القسم الأول
في المفتي
عند وفيه مسائل
مسألة
إذا أفتى المجتهد بما أدى إليه اجتهاده ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة
فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون
فإن كان ذاكرا له فهو مجتهد وتجوز له الفتوى
وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه
في الأول أفتى بما أداه اجتهاده إليه ثانيا
ثم الأحسن به أن يعرف من استفتاه أولا أنه رجح عن ذلك القول
لأن ذلك المستفتي إنما يعول على قوله فإذا ترك هو قوله بقي عمل
المستفتي به بعد ذلك عملا من غير موجب
روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تحريم أم المرأة مشروط
بالدخول بالمرأة فلقي أصحاب رسول الله ص
وذاكرهم فكرهوا أن يتزوجها فرجع ابن مسعود إلى من كان أفتاه قال
69

سألت أصحابي فكرهوا
وأما إن لم يستأنف الاجتهاد لم تجز له الفتوى
ولقائل أن يقول لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به
أولا كان طريقا قويا حصل له الآن ظن أن ذلك القوي حق جاز له
الفتوى به لأن العمل بالظن واجب
مسألة
اختلفوا في أن غير المجتهد هل تجوز له الفتوى بما يحكيه عن
الغير
70

فنقول لا يخلوا إما أن يحكى عن ميت أو عن حي
فاحكي لأنه عن ميت لم يجز الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت بدليل أن
الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا وينعقد مع موته وهذا يدل على أنه لم
يبق له قول بعد موته
فإن قلت فلم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها
قلت لفائدتين
إحداهما
استفادة طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيفية بناء بعضها
على بعض
والأخرى
معرفة المتفق عليه من المختلف فيه
ولقائل أن يقول إذا كان الراوي عدلا ثقة متمكنا من فهم كلام
المجتهد الذي مات ثم روى للعامي قوله حصل للعامي ظن صدقه
ثم إذا كان المجتهد عدلا ثقة فذلك يوجب ظن صدقه في تلك
الفتوى
وحينئذ يتولد للعامي من هذين الظنين ظن أن حكم الله تعالى ما
روى له هذا الراوي الحي عن ذلك المجتهد الميت والعمل بالظن واجب
فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك
وأيضا فقد انعقد الإجماع في زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع
71

من الفتوى لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد والإجماع حجة
وأما إن حكى عن حي من أهل الاجتهاد فإما أن يكون سمعه مشافهة
أو يرجع فيه إلى كتاب أو حكاية حال
فإن كان سمعه منه مشافهة جاز أن يعمل به وجاز أن يعمل الغير
أيضا بقوله ولهذا يجوز للمرأة أن تعمل في حكم حيضها بحكاية زوجها
عن المفتين
ورجع علي رضي الله عنه إلى حكاية المقداد عن رسول الله ص
في شأن المذي
وإن رجع في ذلك إلى حكاية من يوثق بقوله فحكم ذلك حكم السماع
وإن رجع إلى كتاب فإن كان كتابا موثوقا به جرى مجرى المكتوب من
جواب المفتي في أنه يجوز العمل به وإلا فلا لكثرة ما يتفق من الغلط
في الكتب
72

القسم الثاني
في المستفتي
مسألة
يجوز للعامي أن يقلد المجتهد في فروع الشرع خلافا لمعتزلة
بغداد
وقال الجبائي يجوز ذلك فيما كان من مسائل الاجتهاد
لنا وجهان
الأول
إجماع الأمة قبل حدوث المخالف لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون
على العامة الاقتصار على مجرد أقاويلهم ولا يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه
اجتهادهم
73

الثاني
أن العامي إذا نزلت به حادثة من الفروع فإما أن لا يكون مأمورا
فيها بشئ وهو باطل بالإجماع لأنا نلزمه إلى قول العلماء والخصم يلزمه
الرجوع إلى الاستدلال
وإما أن يكون مأمورا فيها بشئ وذلك إما بالاستدلال أو بالتقليد
والاستدلال باطل لأنه إما أن يكون هو التمسك بالبراءة الأصلية أو
التمسك بالأدلة السمعية
والأول باطل بالإجماع
والثاني أيضا باطل لأنه لو لزمه أن يستدل لم يخل من أن يلزمه ذلك
حين كمل عقله أو حين حدثت المحادثة
والأول باطل لوجهين
أحدهما
أن الصحابة ما كانوا يلزمون من لم يشرع في طلب العلم ولم يطلب رتبة
المجتهد في أول ما يكمل عقله
وثانيهما
أن وجوب ذلك عليه يمنعه من الاشتغال بأمور الدنيا وذلك سبب
لفساد العالم
والثاني أيضا باطل لأنه يقتضي أن يجب عليه اكتساب صفة
المجتهدين عند نزول الحادثة وذلك غير مقدور له
ولقائل أن يقول على هذا الوجه القائلون بأنه لا يجوز التقليد في الشرع
لا يقولون بالإجماع ولا بخبر الواحد ولا بالقياس ولا يجوزون التمسك
بالظواهر المحتملة
74

وإذا كان كذلك سها الأمر عليهم فإنهم قالوا قد تقرر في عقل كل
عاقل أن الأصل في اللذات الإباحة وفي المضار الحرمة فإن جاء في
بعض الحوادث نص قاطع المتن قاطع الدلالة يوجب ترك ذلك الأصل
العقلي قلنا به
وإن لم يوجد ذلك وجب البقاء على حكم العقل
وإذا ثبت هذا فالعامي إذا وقعت له واقعة فإما أن يكون فيه شئ من
الذكاء أو لا يكون بل يكون في غاية البلادة
فإن كان فيه شئ من الذكاء عرف حكم العقل فيه
وإن كان في غاية البلادة نبهه المفتي على حكم العقل
وليس لأحد أن يقول الاشتغال بذلك يمنعه عن عمل المعاش لأنه إذا
جاز تكليفه بمعرفة الأدلة الدقيقة في مسائل الأصول ولا يمنعه ذلك عن
المعاش فكيف تمنعه معرفة هذا القدر من طلب المعاش
ثم إذا عرف العامي حكم العقل وأن ما في الواقعة نص يوجب ترك
العمل بحكم العقل قاطع المتن قاطع الدلالة نبهه المفتي عليه ولا
حاجة في فهم مثل هذا النص إلى تدقيق يمنعه من عمل المعاش
وإن لم يوجد فيه مثل هذا النص وجب عليه العمل بحكم العقل
فثبت أن المنع من التقليد إنما يصعب على قول من يوجب العمل
بالقياس وخبر الواحد
أما من لا يقول بذلك فلا صعوبة عليه ألبتة
وأيضا فهذه الدلالة لو صحت لوجب القول بجواز التقليد في مسائل
الأصول لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد
75

الكثير ونحن نعلم من حال الصحابة أنهم ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم
الكلام في أول زمان بلوغه
وأيضا الاشتغال بتحصيله يمنع من الاشتغال بأمر المعاش
أجابوا بأن الذي يجب على المكلف معرفة أدلة التوحيد والنبوة على
طريق الجملة لا على طريق التفصيل ومعرفة تلك الأدلة على سبيل
الإجمال أمر سهل هين يحصل بأدنى سبب بخلاف الاجتهاد في فروع
الشرع فإنه لا بد فيه من علوم كثيرة وتبحر شديد
واعلم أن هذا الفرق إنما يتلخص إذا سلمنا لهم الفرق بين مباحث
الجملة ومباحث التفصيل
وعندي أن هذا الفرق باطل وذلك لأن الدليل إذا كان مركبا مثلا
من مقدمات عشر فالمستدل إن كان عالما بها بأسرها وجب حصول العلم
النظري له لا محالة وان امتنعت الزيادة عليه لأن تلك المقدمات
العشر إذا كانت مستقلة بالانتاج أخبرنا فلو انضمت مقدمة أخرى إليها استحال أن
يكون لها أثر ألبتة
وأما إن لم يحصل العلم بأسرها مثل أن يحصل العلم بتسع منها
ولم تكن المقدمة العاشرة معلومة بالضرورة ولا بالدليل بل مقبولة على
سبيل التقليد فتكون النتيجة المتولدة عن مجموع تلك العشر تقليدا لا
يقينا
فثبت أن التمسك بالدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ألبتة
مثاله أنهم يقولون صاحب الجملة يكفيه الاستدلال بحدوث الحوادث
76

من البرق والرعد والحر والبرد على وجود الصانع
فنقول هذا لا يكفي لأنا نقول هذه الحوادث لا بد لها من مؤثر وذلك
المؤثر يجب أن يكون فاعلا مختارا
أما المقدمة الأولى فمعلومة للعوام
وأما الثانية فغير معلومة لهم لأنه ما لم يثبت أن ذلك ليس أثرا لمؤثر
موجب لم يجب أن يكون إسناده إلى المختار فإذا قطع العامي بأن ذلك
المؤثر يجب أن يكون مختارا من غير دليل عليه كان مقلدا في هذه
المقدمة وإذا كان مقلدا فيها لم يكن محققا في النتيجة
وأيضا إذا رأى حدوث فعل خارق للعادة على يد مدعي النبوة فلو قطع
عند ذلك بنبوته كان ذلك تقليدا لأن قبل الدليل يجوز أن يكون ذلك
الحادث ليس فعلا لله تعالى بل خاصية لنفس الرسول أو خاصية لدواء
أو فعلا من أفعال الجن
وبتقدير أن يكون فعلا لله تعالى لكن يجوز أن لا يكون لله تعالى فيه
غرض
وإن كان له فيه غرض جاز أن يكون ذلك الغرض شيئا سوى التصديق
فلو قطع العامي بأن ذلك الفعل الخارق للعادة لا بد وأن يكون دالا على
صدق المدعي من غير دليل يدل على فساد هذه الأقسام كان مقلدا في
اعتقاد هذه المقدمة فلم يكن محققا في النتيجة
فظهر بهذا فساد ما قالوه من الفرق بين صاحب الجملة وبين صاحب
التفصيل
وحينئذ لا يبقى إلا أحد أمرين إما أن يقال بأن الإحاطة بأدلة الدين
77

على تفصيلها وتدقيقها شئ سهل هين وذلك مكابرة
وإما أن يقال يجوز فيه التقليد كما جوزوا في فروع الشرع التقليد
وحينئذ لا يبقى بينهما فرق ألبتة
واحتج منكرو التقليد في فروع الشرع بأمور
أحدها
قوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون
وثانيها
أن الله تعالى ذم أهل التقليد بقوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على
أمة
وثالثها
قوله عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة توافقنا على خروج بعض العلوم عن هذا العموم فبقي العلم
بفروع الشرع وأحكامه
ورابعها
القول بجواز التقليد يفضي إلى بطلانه لأنه يقتضي جواز تقليد من يمنع
78

من التقليد وما يفضي ثبوته إلى عدمه كان باطلا
وخامسها
قوله عليه الصلاة والسلام اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له أمر
بالاجتهاد مطلقا
وسادسها
أن العامي إذا قلد لم يأمن من جهل المفتي وفسقه فيكون
فاعلا للمفسدة
وسابعها
لو جاز التقليد في فروع الشرع لكان ذلك لأنه حصلت أمارات
توجب ظن صدق المفتي وهذا المعنى قائم في أصول الدين فوجب
الاكتفاء بالفتوى في الأصول أيضا
والجواب عن الأول
أنه منقوض بكل ظن وجب العمل به كما في أحوال الدنيا وقيم
المتلفات وأروش الجنايات وبخبر الواحد والقياس إن سلموا جواز العمل
بهما
79

وعن السادس والسابع
أن نذكر الفرق الذي تقدم
وأما الدليل على أن للعامي أن يقلد في مسائل الاجتهاد وغير مسائل
الاجتهاد أنا لو كلفناه أن يفصل بين البابين لكنا قد ألزمناه أن يكون من أهل
الاجتهاد لأنه إنما يفصل بينهما أهل الاجتهاد فيعود المحذور المذكور
واحتج المخالف
بأن ما ليس من مسائل الاجتهاد فالحق فيها واحد فلو قلدنا فيها لم
نأمن أن نقلد في خلاف الحق وليس كذلك مسائل الاجتهاد لأن كل قول
فيها حق
والجواب
أنا لا نأمن أيضا في مسائل الاجتهاد أن لا يجتهد المفتى أو يقصر
في اجتهاده أو يفتيه بخلاف اجتهاده
فإن قلتم إن مصلحة العامي هو أن يعمل بما يفتيه المفتي
قلنا وكذلك الأمر في تقليده فيما نحن فيه وإن كان غير مصيب
مسألة
في شرائط الاستفتاء
80

اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن من يفتيه
من أهل الاجتهاد ومن أهل الورع وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبا للفتوى
بمشهد الخلق ويرى اجتماع المسلمين على سؤاله
واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالم ولا متدين
وإنما وجب عليه ذلك لأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات
ثم هاهنا بحث وهو أن أهل الاجتهاد إذا أفتوه فإن اتفقوا على فتوى
لزم المصير إليها
وإن اختلفوا فقال قوم وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لأن
ذلك طريق قوة ظنه يجري مجرى قوة ظن المجتهد
وقال آخرون لا يجب عليه هذا الاجتهاد لأن العلماء في كل عصر لا
ينكرون على العوام ترك النظر في أحوال العلماء
ثم بعد الاجتهاد إما أن يحصل ظن الاستواء مطلقا أو ظن الرجحان مطلقا أو ظن رجحان
كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه
فإن حصل ظن الاستواء مطلقا فها هنا طريقان
أحدهما أن يقال
هذا لا يجوز وقوعه كما لا يجوز استواء أمارتي الحل والحرمة
والآخر أن يقال
يسقط عنه التكليف لأنا جعلنا له أن يفعل ما يشاء
81

وأما إذا حصل ظن الرجحان مطلقا تعين العمل به
أما إذا حصل ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه
فها هنا صور
إحداها
أن يستويا في الدين ويتفاضلا في العلم فمنهم من خيره
ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم وهو الأقرب لمزيته ولهذا يقدم
في إمامة الصلاة
وثانيتها
أن يتساويا في العلم ويتفاضلا في الدين فها هنا وجب الأخذ بقول
الأدين
وثالثها
أن يكون أحدهما أرجح في علمه فقيل يؤخذ بقول الأدين
والأقرب ترجيح قول الأعلم لأن الحكم مستفاد من علمه لا من
ديانته
فإن قلت العامي ربما اغتر بالظواهر وقدم المفضول على الفاضل
فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرة في ترجيح بعض العلماء على بعض
فليجز له أن يحكم في نفس المسألة بما يقع له ابتداء وإلا فأي فرق بين
الأمرين
قلت من مرض له طفل وليس له طبيب فإن سقاه دواءا برأيه كان
متعديا مقصرا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا
82

فإن كان في البلد طبيبان وقد اختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد
مقصرا
ثم أنه يعلم كون أحدهما أعلم من الآخر ب الأخبار وبإذعان
المفضول له وبأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء يعلم
الأفضل بالتسامع والقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له
فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي
مسالة
الرجل الذي تنزل به الواقعة فإما أن يكون عاميا صرفا أو عالما لم يبلغ
درجة الاجتهاد أو عالما بلغ درجة الاجتهاد
فإن كان عاميا صرفا حل له الاستفتاء
وإن كان عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن كان قد اجتهد وغلب على ظنه
حكم فها هنا أجمعوا على أنه لا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بظن غيره
أما إذا لم يجتهد فها هنا قد اختلفوا
فذهب أكثر أصحابنا إلى أنه لا يجوز للعالم تقليد العالم ألبتة
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري رحمهم الله
بجوازه مطلقا
ومن الناس من فصل وذكر فيه وجوها
أحدها
أنه يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة ولا يجوز تقليد غيرهم
وهو القول القديم للشافعي رضي الله عنه
83

وثانيها
أنه يجوز تقليد العالم للأعلم وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله
وثالثها
أنه له التقليد فيما يخصه دون ما يفتى به
ورابعها
أنه يجوز له التقليد فيما يخصه إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد
لفاته الوقت وهو قول ابن سريج
لنا وجهان
الأول أن هذا المجتهد أمر بالاعتبار في قوله تعالى فاعتبروا يا أولى
الأبصار ولم يأت به فيكون تاركا للمأمور به فيكون عاصيا فيستحق
النار
ترك العمل به في حق العامي لعجزه عن الاجتهاد فيبقى معمولا
به في حق المجتهد
84

الثاني
أنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة بفكرته فوجب فوجب أن يحرم عليه
التقليد كما في الأصول والجامع وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل
عند القدرة على الاحتراز عنه
فإن قلت المعتبر في الأصول اليقين وأنه لا يحصل بالتقليد
بخلاف الفروع فإن البغية فيها الظن ويمكن حصوله بالتقليد ولذلك جاز
للعامي أن يقلد في الفروع دون الأصول
وأيضا فما ذكرتموه ينتقض بقضاء القاضي فإنه لا يجوز خلافه وإن
كان متمكنا من معرفة الحكم فإنه لا معنى للتقليد إلا وجوب العمل عليه
من غير حجة
وينتقض أيضا بمن دنا من رسول الله ص فإنه
متمكن من الوصول إلى حكم المسألة مع أنه يجوز أن يسأل من أخبر عن
رسول الله ص
قلت أما الجواب عن الأول فهو
أنا إنما أوجبنا على المكلف تحصيل اليقين لأنه قادر والدليل حاضر
فوجب عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل
وهذا المعنى حاصل في مسألتنا لأن المكلف قادر والدليل المعين
للظن الأقوى حاصل فوجب عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل في
الظن الضعيف
وعن الثاني
أنه لما دلت الدلالة على أن الحكم الذي قضى به القاضي لا يمكنه
85

نسخه بالاجتهاد فلم يكن العمل به تقليدا بل عملا بذلك الدليل
وعن الثالث
أنه لا نسلم بجواز الاكتفاء بالسؤال من غير الرسول ص
عند القدرة
واحتج المخالف بأمور
أحدها
قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والعالم قبل أن
يجتهد لا يعلم فوجب أن يجوز له السؤال
وثانيها
قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
والعلماء من أولي الأمر لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة
وثالثها
قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
أوجب الحذر بانذار من تفقه في الدين مطلقا فوجب على العالم قبوله كما
وجب على العامي ذلك
ورابعها
إجماع الصحابة روي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان أبايعك
86

على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين فقال نعم وكان ذلك
بمشهد من عظماء الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماعا
فإن قلت إن عليا خالف فيه
قلت إنه لم ينكر جوازه لكنه لم يقبله ونحن لا نقول بوجوبه حتى
يضرنا ذلك
وخامسها
أنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد فجاز لمن لم يكن عالما به تقليد من علمه
كالعامي والجامع وجوب العمل بالظن الحاصل بقول المفتي
وسادسها
أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهد آخر بل
عن عامي وإنما جاز ذلك اعتمادا على عقله ودينه فها هنا إذا أخبر
المجتهد عن منتهى اجتهاده بعد استفراغ الوسع والطاقة فلأن يجوز العمل
به كان أولى
وسابعها
أن المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر فقد
حصل ظن أن حكم الله تعالى ذلك وذلك يقتضى أن يحصل له ظن أنه لو
لم يعمل به لاستحق العقاب فوجب أن يجب العمل به دفعا للضرر
المظنون
87

والجواب عن الأول
أن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال وإنه غير واجب بالاتفاق
وأيضا فقوله إن كنتم لا تعلمون يقتضي أن يجب على المجتهد
بعد اجتهاده استفتاء غيره لأنه بعد اجتهاده ليس بعالم بل هو ظان
وبالإجماع لا يجوز ذلك
وأيضا فإنه أمر بالسؤال وليس فيه تعيين ما عنه السؤال فنحن نحمله
على السؤال عن وجه الدليل
وعن الثاني أن الأصول دلت على وجوب الطاعة لكنها لا تدل على
وجوب الطاعة في كل شئ فنحن نحملها على وجوب الطاعة في الأقضية
والأحكام
والدليل على أن الآية لا تتناول محل النزاع أنها لو تناولته لوجب ذلك
التقليد وبالإجماع التقليد غير واجب
وعن الثالث
ان الآية تدل على وجوب الحذر عند إنذار لا عند كل إنذار ونحن
نقول بالأول فإنا نوجب العمل بروايته
وعن الرابع
أنه يحتمل أن يكون المراد من سيرة الشيخين طريقتهما في العدل
والإنصاف والانقياد للحق والبعد عن الدنيا
وعن الخامس
أن الفرق هو أن العامي قاصر فجاز له العمل بالتقليد والعالم ليس
بقاصر
88

وعن السادس
أن المفتي ربما بنى اجتهاده على خبر واحد فإذا تمسك به المجتهد
ابتداءا كان الاحتمال فيه أقل مما إذا قلد فيه غيره
وعن السابع
أن مجرد الظن واجب العمل به لكن إذا لم يقم دليل سمعي يصرفنا
عنه وما ذكرناه من الدلائل السمعية يوجب العدول عن هذا الظن
89

القسم الثالث
فيما فيه الاستفتاء
مسألة
لا يجوز التقليد في أصول الدين لا للمجتهد ولا للعوام
وقال كثير من الفقهاء بجوازه
لنا
أن تحصيل العلم في أصول الدين واجب على الرسول ص
فوجب أن يجب علينا
وإنما قلنا أنه كان واجبا على الرسول ص لقوله
تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله
وإنما قلنا إنه لما كان واجبا على الرسول ص
وجب أيضا على أمته لقوله تعالى واتبعوه
91

فإن قيل لا نسلم أنه يمكن إيجاب العلم بالله تعالى وذلك لأن المأمور إن لم يكن عالما بالله تعالى فحالما يا لا يكون
عالما بالله استحال أن يكون عالما بأمر الله تعالى وحالما يمتنع كونه
عالما بأمر الله تعالى يمتنع كونه
مأمورا من قبله وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق
وإن كان عالما بالله تعالى استحال أمره به لأن تحصيل الحاصل
محال
سلمنا أن الرسول ص كان مأمورا بذلك فلم قلت
إنه يلزم من كون الرسول مأمورا كون الأمة مأمورين به
وما ذكرتم من الدليل معارض بأمور
أحدها
أن الأعرابي الجلف العامي كان يحضر ويتلفظ بكلمتي الشهادة
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحكم بصحة إيمانه وما ذاك إلا التقليد
وثانيها
أن هذه الدلائل لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد ممارسة شديدة
وإنهم لم يمارسوا شيئا من هذا العلم فيمتنع اطلاعهم عليه
وإذا كان كذلك تعين التقليد
وثالثها
أنه عليه الصلاة والسلام لم يقل لأحد ممن تلفظ بكلمتي الشهادة
هل علمت حدوث الأجسام وأنه تعالى مختار لا موجب فدل هذا على
92

أن خطور هذه المسائل بالبال غير معتبر في الإيمان لا تقليدا ولا علما
ومنهم من عول في هذه المسألة على طريقة أخرى فقال أجمعت
الأمة على أنه لا يجوز إلا تقليد المحق لكن لا يعلم أنه محق إلا إذا عرف
بالدليل أن ما يقوله حق فإذن لا يجوز له أن يقلد إلا بعد أن يستدل ومتى
صار مستدلا امتنع كونه مقلدا فيقال لهم هذا معارض بالتقليد في الشرعيات
فإنه لا يجوز له تقليد المفتي إلا إذا كان المفتي قد أفتى بناءا على دليل شرعي
فإن قلت الظن فيه كاف فإن أخطأ كان ذلك الخطأ محطوطا عنه
قلت فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول
واعلم أن في هذه المسألة أبحاثا دقيقة مذكورة في كتبنا الكلامية
والأولى في هذه المسألة أن يعتمد على وجه وهو أن يقال دل القرآن
على ذم التقليد لكن ثبت جواز التقليد في الشرعيات فوجب صرف الذم إلى
التقليد في الأصول
وإذ قد وفقنا الله تعالى بفضله حتى تكلمنا في جميع أبواب أصول
93

الفقه فلنتكلم الآن فيما اختلف فيه المجتهدون أنه هل هو من أدلة
الشرع أوليس كذلك
94

الكلام
فيما اختلف فيه المجتهدون
من أدلة الشرع
وفيه مسائل
95

المسألة الأولى
في حكم الأفعال
اعلم أنا بينا في أول هذا الكتاب أنه لا حكم قبل الشرع وأجبنا
عن شبه المخالفين ونريد الآن أن نبين أن الأصل في المنافع الإذن
وفي المضار المنع بأدلة الشرع فإن ذينك أصلان نافعان في الشرع
أما الأصل الأول فالدليل عليه وجوه
المسلك الأول التمسك بقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض
جميعا واللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع
فإن قيل لا نسلم أن اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع
والدليل عليه قوله تعالى وإن أسأتم فلها لله ما في السماوات و
الأرض
ففي هاتين الآيتين يمتنع أن تكون اللام للاختصاص بالمنافع
ولأن النحاة قالوا اللام للتمليك وهو غير ما قلتموه
97

سلمنا ذلك ولكنه يفيد مسمى الانتفاع أو يفيد كل الانتفاعات
الأول مسلم ويكفى في العمل بها حصول فرد واحد
الانتفاعات وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى
والثاني ممنوع فما الدليل
سلمنا أنه يفيد كل الانتفاعات لكن بالخلق لأن اللام داخلة على
الخلق فلم قلت إن المخلوق كذلك
سلمنا أنه يفيد الانتفاع بالمخلوق لكن لكل واحد في حال واحد
لأن هذا مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فقط
سلمنا أنه يفيد العموم لكن كلمة في للظرفية فيدل على إباحة كل ما
في داخل الأرض وهو الركاز والمعادن فلم قلتم إن ما على الأرض
كذلك
سلمنا إباحة كل ما على الأرض لكن في ابتداء الخلق لأن قوله خلق
لكم يشعر بأنه حالما خلقتها إنما خلقها لنا فلم قلتم إنه بقي في الدوام
كذلك
98

فإن قلت الأصل في الثابت البقاء
قلت هذا فيما يحتمل البقاء لكن كونه مباحا صفة والصفة لا تبقى
سلمنا الإباحة حدوثا وبقاءا لو لكن لمن كان موجودا وقت ورود هذا
الخطاب لأن قوله تعالى خلق لكم خطاب مشافهة فيختص
بالحاضرين
سلمنا أنه يدل على اختصاصها بنا لكن قوله تعالى لله ما في
السماوات وما في الأرض ينافي ذلك
والجواب
الدليل على أن اللام تفيد المنفعة قوله تعالى لها ما كسبت وعليها
ما اكتسبت
وقال عليه الصلاة والسلام النظرة الأولى لك والثانية عليك
وقال عليه الصلاة والسلام له غنمه وعليه غرمه
99

ويقال هذا الكلام لك وهذا عليك
غاية ما في الباب أنها جاءت في سائر المواضع لمطلق الاختصاص
فنقول لو جعلناه حقيقة في الاختصاص النافع أمكن جعله مجازا في
مسمى الاختصاص لأن مسمى الاختصاص جزء من الاختصاص
النافع والجزء لازم للكل واللفظ الدال على الشئ يصح جعله مجازا عن
لازمه
أما لو جعلناه حقيقة لمسمى الاختصاص لم يكن الاختصاص النافع
لازما لأن الخاص لا يكون لازما للعام وإذا لم يوجد اللزوم لم يجز جعله
مجازا عنه
وأما قول النحاة اللام للتمليك فلم يريدوا أنها حقيقة للملك
وإلا لبطل بقوله الجل للفرس بل مرادهم الاختصاص النافع وهو عين
ما قلناه
100

قوله يكفي حصول فرد من أفراد الانتفاعات وهو الاستدلال بها على
الصانع تعالى
قلنا لا يمكن حمل الآية على هذا النفع لأن هذا النفع حاصل
لكل مكلف من نفسه فإن يمكنه الاستدلال بنفسه على الصانع وإذا حصل
له هذا النفع من نفسه كان تحصيل هذا الجنس من النفع من غيره
ممتنعا لأن تحصيل الحاصل محال
قوله اللام داخلة على الخلق فلم قلت المخلوق كذلك
قلنا الخلق هو المخلوق لقوله تعالى هذا خلق الله أي مخلوق
الله
وبتقدير أن يكون الخلق غير المخلوق لكن لا نفع للمكلف في صفة
الله تعالى فوجب أن يكون المراد ها هنا من الخلق المخلوق
قوله مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد
قلنا لا نسلم أن هذا مقابلة الجمع بالجمع بل هذا يجرى مجري
تمليك الدار الواحدة لشخصين فكما أن ذلك يقتضي تعلق حق كل واحد
منهما لا بجزء معين من الدار بل بجميع أجزاء الدار فكذا ها هنا
قوله كلمة في لا تتناول إلا ما كان في باطن الأرض
قلنا لا نسلم بدليل قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة
قوله هب أنه ثبت هذا الحكم في الابتداء فلم قلت إنه يدوم
قلنا لأن الأصل فيما يثبت بقاؤه
101

قوله هذا الاختصاص صفة فلا تقبل الدوام
قلنا لكن حكم الله تعالى صفة فهي واجبه الدوام
قوله هب أن هذا الحكم ثبت للمخاطبين بهذا الخطاب فلم قلت
إنه يثبت في حقنا
قلنا لأن الله تعالى لما حكم بذلك في حقهم وقد حكم به
الرسول أيضا في حقهم فوجب أن يكون قد حكم به أيضا في حقنا لقوله
عليه الصلاة والسلام حكمي في الواحد حكمي في الجماعة
قوله هذا معارض بقوله تعالى لله ما في السماوات وما في
الأرض
قلنا التعارض إنما يثبت أن لو ثبت في الموضعين بمعنى واحد وهو
محال لأن الذي أثبتناه في حقنا هو الاختصاص النافع وذلك في حق الله
تعالى محال
فإذن لا تعارض بل ذلك الاختصاص ليست إلا بجهة الخلق والإيجاد
المسلك الثاني
قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق أنكر الله تعالى على من حرم زينة الله فوجب أن لا تثبت حرمة
102

زينة الله وإذا لم تثبت حرمة زينة الله امتنع ثبوت الحرمة في كل فرد من
أفراد زينة الله لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراد
زينة الله تعالى لثبتت الحرمة في زينة الله تعالى وذلك على خلاف
الأصل
وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة
المسلك الثالث
أن الله تعالى قال أحل لكم الطيبات وليس المراد من الطيب
الحلال وإلا لزم التكرار فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا وذلك يقتضي
حل المنافع بأسرها
المسلك الرابع القياس
وهو أنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا ولا على المنتفع
ظاهرا فوجب أن لا يمنع كالاستضاءة ب ضوء سراج الغير والاستظلال
بظل جداره
إنما قلنا إنه لا ضرر فيه على المالك لأن المالك هو الله تعالى
والضرر عليه محال
وأما ملك العباد فقد كان معدوما والأصل بقاء ذلك العدم ترك العمل
به فيما وقع اتفاق الخصم على كونه مانعا فيبقى في غيره على الأصل
فإن قيل فهذا يقتضي القول بإباحة كل المحرمات لأن فاعلها ينتفع
بها ولا ضرر فيها على المالك ويقتضي سقوط التكاليف بأسرها ولا شك
في فساده
103

وأيضا
فالقياس على الاستضاءة والاستظلال غير جائز لأن المالك لو منع من
الاستضاءة والاستظلال قبح ذلك منه والله تعالى لو منعه من الانتفاع
لم يقبح
والجواب عن الأول
أنا احترزنا عنه بقولنا ولا ضرر على المنتفع ظاهرا وها هنا في فعل
ما نهى الله عنه ترك ما أمر به ضرر أما على قول المعتزلة فلأنه لولا اشتمال
الفعل والترك على جهة لأجلها حصل النهي وإلا لما جاز ورود النهي
وأما عندنا فلأن الله تعالى لما توعدنا بالعقاب عليه كان مشتملا على
الضرر فلم يكن واردا علينا
وعن الثاني أنه لا يجب أن يكون الفرع مساويا للأصل من كل
الوجوه بل يكفي حصول المساواة فيه من الوجه المقصود
المسلك الخامس
وهو أن الله تعالى خلق الأعيان إما لا لحكمة أو لحكمة
والأول باطل لقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما
لاعبين وقوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ولأن الفعل
الخالي عن الحكمة عبث والعبث لا يليق بالحكيم
104

وأما إن كان خلقها لحكمة فتلك الحكمة إما عود النفع إليه أو
إلينا
والأول محال لاستحالة الانتفاع عليه فتعين أنه تعالى إنما خلقها لينتفع
بها المحتاجون وهذا يقتضي أن يكون المقصود من الخلق نفع المحتاج
وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان
فإن منع منه فإنما يمنع لأنه بحيث يلزمه رجوع ضرر إلى محتاج
فإذا نهانا الله تعالى عن بعض الانتفاعات علمنا أنه تعالى إنما منعنا
منها لعلمه باستلزامها للمضار إما في الحال أو في المآل ولكن ذلك
على خلاف الأصل
فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة
وهذا النوع من الكلام هو اللائق بطباع الفقهاء والقضاة
وإن كان تحقيق القول فيه لا يتم إلا مع القول بالاعتزال
أما الأصل الثاني وهو أن الأصل في المضار الحرمة فهذا يستدعي
بحثين
أحدهما البحث عن ماهية الضرر
والثاني إقامة الدليل على حرمته
أما الأول فقد قالوا الضرر ألم القلب لأن الضرب يسمى ضررا
وتفويت منفعة الإنسان يسمى إضرارا والشتم والاستخفاف يسمى
ضررا ولا بد من جعل اللفظ اسما لمعنى مشترك بين هذه الصور دفعا
105

للاشتراك وألم القلب معنى مشترك فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه
فان قيل أتعني بألم القلب الغم والحزن أم شيئا آخر
الأول باطل لأن من خرق ثوب إنسان أو خرب داره وكان المالك غافلا
عن هذه الحالة يقال أضربه مع أنه لم يوجد الغم والحزن
وإن عنيت به شيئا آخر فبينه
نزلنا عن الاستفسار فلم قلت الضرر ألم القلب
قوله لا بد من معنى مشترك في مواضع الاستعمال
قلنا هذا مسلم لكن لم قلت إنه لا مشترك إلا ألم القلب بل ها هنا
مشترك آخر وهو تفويت النفع فما الدليل على أن ما ذكرتموه أولى
ثم الذي يدل على أن ما ذكرناه أولى أن النفع مقابل الضرر والنفع
تحصيل المنفعة فوجب أن يكون الضرر إزالة المنفعة
وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون حقيقة فيما ذكرتموه دفعا للاشتراك
سلنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الضرر ألم القلب لكنه معارض
بوجهين
الأول
أن من خرب دار إنسان وكان المالك غافلا عنه يقال أضربه مع أنه
لم يوجد هناك ألم القلب لأن ألم القلب لا يحصل إلا بعد الشعور به
الثاني
قوله تعالى قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا
يضركم أخبر أن عبادة الأصنام لا تضرهم مع أنها تؤلم قلوبهم يوم
القيامة لأنهم يعاقبون بذلك
106

فثبت أن الضرر ليس ألم القلب
والجواب
أن القلب إذا ناله غم وحزن انعصر دم القلب في الباطن وانعصار دم القلب
في الباطن إنما يكون لانعصار يكون القلب في نفسه وانعصار العضو مؤلم له
لأن أي عضو عصرته فإنه يحصل منه ألم فالمراد من ألم القلب تلك
الحالة الحاصلة له عند ذلك الانعصار
مع فظهر بهذا أن ألم القلب مغاير للغم وإن كان مقارنا له وغير منفك
عنه
وأما من خرق ثوب إنسان فإنما يقال أضربه على معنى أنه أوجد ما
لو عرفه لحصل الضرر لا محالة وهو في الحقيقة إطلاق اسم المسبب
على السبب مجازا
قوله لم قلت لا مشترك سواه
قلنا لأن المشترك الآخر كان معدوما والأصل بقاؤه على العدم
قوله تفويت النفع أيضا مشترك
قلنا لا يجوز جعله مسمى الضرر لأن البيع والهبة حصل فيهما تفويت
النفع لأن البائع فوت على نفسه الانتفاع بعين المبيع مع أن ذلك لا يسمى
ضررا
قوله الضرر في مقابلة النفع
قلنا هب أنه كذلك لكن النفع عبارة عن تحصيل اللذة أو ما يكون
107

وسيلة إليها والضرر عبارة عن تحصيل الألم أو ما يكون وسيلة إليه
وأما الآية فنقول لا نسلم أن الأصنام تضرهم في الدنيا ولا في الآخرة
بل الذي يضرهم في الآخرة عبادتها فزال السؤال
المقام الثاني في إقامة الدلالة على حرمة الضرر
والمعتمد فيه قوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا إضرار في
الإسلام والكلام على التمسك بهذا النص اعتراضا وجوابا مشهور في
الخلافيات
108

المسألة الثانية
في استصحاب الحال
المختار عندنا أنه حجة وهو قول المزني وأبي بكر الصيرفي من
فقهائنا خلافا للجمهور من الحنفية والمتكلمين
لنا
أن العلم بتحقيق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في في الاستقبال
والعمل بالظن واجب ولا معنى لكونه حجة إلا ذلك
إنما قلنا إن العلم بتحقيق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في
الاستقبال لأن الباقي مستغن عن المؤثر والحادث مفتقر إليه والمستغني
عن المؤثر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر إليه
إن قلنا أن الباقي مستغن عن المؤثر لأنا لو فرضنا له مؤثرا فذلك
المؤثر إما أن يقال إنه صدر عنه أثر أو ما صدر عنه أثر
والثاني محال لأن فرض المؤثر بدون الأثر متناقض
وأما الأول فأثره إما أن يكون شيئا ما كان موجودا أو كان موجودا
فإن قلنا إنه ما كان موجودا كان الأثر حادثا لا باقيا
وإن قلنا إنه كان موجودا كان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال
فثبت أن الباقي مستغن عن المؤثر
109

وإنما قلنا إن الحادث مفتقر إليه لأن إجماع المسلمين بل إجماع
جمهور العقلاء منعقد عليه والاستقصاء فيه مذكور في كتابنا المسمى
ب الخلق والبعث
وإنما قلنا إن المستغنى عن المؤثر راجح بالنسبة إلى المفتقر إليه
لوجهين
الأول
وهو أن المستغنى عن المؤثر لا بد أن يكون الوجود به أولى إذ لو
كان الوجود مساويا للعدم لاستحال الرجحان إلا بمنفصل وكان يلزم
افتقاره إلى المؤثر لكنا فرضناه مستغنيا عنه هذا خلف
فإذن وجود الباقي راجح على عدمه
وأما الحادث فليس أحد طرفيه راجحا على الآخر إذ لو كان راجحا
لاستحال افتقاره إلى المرجح وإلا لكان ذلك المرجح مرجحا لما هو
في نفسه مترجح فكان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال
فثبت أن الباقي أولى بالوجود وأن الحادث ليس أولى بالوجود ولا
معنى لظن وجوده إلا اعتقاد أن وجوده أولى فثبت أن الباقي راجح الوجود
بالنسبة إلى الحادث
110

الثاني
وهو أن الباقي لا يعدم إلا عند وجود المانع والمتقر سعيد إلى المؤثر كما
يعدم عند وجود المانع فقد يعدم أيضا عند عدم المقتضي وما لا يعدم
إلا بطريق واحد يكون أولى بالوجود مما يعدم بطريقين ولا معنى للظن إلا
اعتقاد أنه أولى بالوجود
وإنما قلنا إن العمل بالظن واجب لقوله عليه الصلاة والسلام
نحن نحكم بالظاهر
ولأنه لو لم يجب لزم جواز ترجيح المرجوح على الراجح وإنه غير
جائز في بديهة العقل
ولأن العمل بالقياس وخبر الواحد والشهادة والفتوى وسائر الظنون
المعتبرة إنما وجب ترجيحا للأقوى على الأضعف
وهذا المعنى قائم ها هنا فيلزم ثبوت الحكم ها هنا أيضا وهو
وجوب العمل به
فإن قيل لا نسلم أن العلم بتحقق أمر في الحال يقتضي ظن بقائه
في الاستقبال
قوله لأن الباقي مستغن عن المؤثر
قلنا ما المعنى بقولكم الباقي مستغن عن المؤثر
إن عنيتم به أن كونه باقيا مستغن عن المؤثر فهذا ممنوع
111

وأيضا
فهو مناقض لقولكم الحادث مفتقر إلى المؤثر لأن كونه باقيا لم يكن
حاصلا حال حدوثه ثم حصل بعد أن لم يكن فيكون حادثا وأنتم قد
اعترفتم أن الحادث لا بد له من مؤثر
وإن عنيتم بقولكم الباقي مستغن عن المؤثر شيئا آخر فبينوه لننظر
فيه
نزلنا عن الاستفسار فلم لا يجوز أن يقال الباقي له مؤثر ولذلك المؤثر
أثر
قوله ذلك الأثر إما أن يكون شيئا ما كان حاصلا أو كان حاصلا
قلنا لم لا يجوز أن يقال ما كان حاصلا وذلك لأنه لا معنى لبقائه إلا
حصوله في هذا الزمان بعد أن كان حاصلا في زمان آخر قبله لكن حصوله
في هذا الزمان ما كان حاصلا قبل حصول هذا الزمان فإذن كونه باقيا أمر
حادث فأثر المبقي هو ذلك الأثر
فإن قلت فعلى هذا التقدير يكون أثر المبقي أمرا حادثا فلا يكون مبقيا
بل محدثا
قلت مرادنا من قولنا الباقي يفتقر إلى المبقى أن حصوله في الزمان
الثاني لا بد فيه من شئ آخر وقد ثبت أنه لا يكون باقيا ما لم يحصل في
الزمان الثاني وحصوله في الزمان الثاني مفتقر إلى مؤثر فإذن يمتنع أن
يصدق عليه كونه باقيا إلا لمؤثر
فيعد ذلك البحث عن الواقع بذلك المؤثر وكونه أمرا مستمرا
أو جديدا بحثا عن شئ خارج عن المقصود
112

سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يقال أثره شئ كان حاصلا
قوله تحصيل الحاصل محال
قلنا إن عنيت بتحصيل الحاصل أن يجعل عين الشئ الذي كان
موجودا في الزمان الأول حادثا في الزمان الثاني فلا نزاع في أن ذلك محال
لكن لم قلت إن إسناد الباقي إلى المؤثر يوجب ذلك
وإن عنيت به أن الوجود الذي صدق عليه في الزمان الأول أنه إنما
ترجح لهذا المؤثر صدق عليه في الزمان الثاني أيضا أنه ترجح لهذا
المؤثر فلم قلت إن ذلك محال
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على استغناء الشئ حال بقائه عن المؤثر
لكن ها هنا ما يعارضه وذلك لأن هذا الباقي كان بقاؤه ممكنا وكل
ممكن فله مؤثر فالباقي حال بقائه له مؤثر
وإنما قلنا أنه ممكن لأنه في زمان حدوثه ممكن وإلا لم يفتقر
إلى المؤثر وإمكانه من لوازم ماهيته وما كان من لوازم الماهية فهو
واجب الحصول في جميع زمان تحقق الماهية فكان الإمكان حاصلا في
زمان البقاء
وإنما قلنا إن الممكن مفتقر إلى المؤثر لأن الممكن قد استوى طرفاه
وما كان كذلك افتقر إلى المرجح
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الإمكان إنما يحوج إلى المقتضى بشرط
الحدوث وهذا الشرط فائت في زمان البقاء فلا يتحقق الافتقار
قلت لا يجوز جعل الحدوث مؤثرا في تحقق الاحتياج لأن الحدوث
113

عبارة عن مسبوقية وجود الشئ بالعدم ومسبوقية بكر الوجود بالعدم صفة ونعت
له وصفة الشئ متوقفة على الشئ فالحدوث متوقف على الوجود المتأخر
عن تأثير المؤثر فيه المتأخر عن احتياج المؤثر إليه المتأخر عن علة
احتياجه إليه فلو كان الحدوث مؤثرا في ذلك الاحتياج إما بأن يكون علة
أو جزء علة أو شرط علة لزم الدور وهو محال
سلمنا استغناء الباقي عن المؤثر وافتقار الحادث إليه فلم قلت إن
المستغني راجح عن المفتقر
قوله في الوجه الأول أن الباقي أولى بالوجود والحادث ليس أولى
ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى
قلنا إن عنيت بهذه الأولوية أن العدم عليه ممتنع فهذا باطل لأن هذا
الباقي يقبل العدم
وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه
فإن قلت المراد منها درجة متوسطة بين الاستواء الذي هو مسمى
الإمكان والتعيين المانع من النقيض الذي هو مسمى الضرر
قلت هذا محال لأن مع ذلك القدر من الأولوية إن امتنع النقيض فهو
الضرورة وقد فرضنا أنه ليس كذلك
وإن لم يمتنع فمع ذلك القدر من الأولوية يصح عليه الوجود تارة
والعدم أخرى فحصول أحدهما بدلا عن الآخر إن توقف على انضمام قيد
إليه لم يكن الحاصل قبله كافيا في تحقق الأولوية
وإن لم يتوقف كانت نسبة ذلك القدر من الأولوية إلى طرفي الوجود
والعدم على السوية فترجيح أحدهما على الآخر لا لمرجح زائد يكون
114

ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال
وأما الوجه الثاني فغاية ما في الباب أنه يمكن تحقق عدم الحادث
بطريقتين ولا يمكن تحقق عدم الباقي إلا بطريق واحد فلم قلت إن هذا
القدر يقتضي أن يكون الباقي راجحا في الوجود على الحادث
سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي رجحان الباقي على الحادث من ذلك الوجه
لكنه يقتضي عدم الرجحان من وجه آخر
بيانه
أن الباقي لا يصدق عليه كونه باقيا إلا إذا حصل في الزمان الثاني
فحصوله في الزمان الثاني أمر حادث فإذا لم يكن وجود الحادث
راجحا فالمتوقف على ما لا يكون راجح الوجود لم يكن هو أيضا راجح
الوجود فيلزم أن لا يكون الباقي راجح الوجود
سلمنا أن الباقي راجح الوجود ولكن ما لم يتحقق كونه باقيا لا يتحقق
كونه راجح الوجود وهو إنما يصدق عليه كونه باقيا إذا حصل في الزمان
الثاني
فالحاصل أنا ما لم نعرف وجوده في الزمان الثاني لا نعرف كونه راجح
الوجود وأنتم جعلتم رجحان وجوده دليلا على وجوده في الزمان الثاني
فيكون دورا
سلمنا أن الباقي راجح في الوجود الخارجي على الحادث فلم قلت
يجب أن يكون راجحا عليه في الظن لا بد لهذا من دليل
سلمنا حصول هذا الظن وأن العمل به واجب ولكنه معارض بدليل
آخر يمنع من التمسك بالاستصحاب وهو أن من سوى بين الوقتين في
115

الحكم فإما أن يقال إنما سوى بينهما لاشتراكهما فيما يقتضى ذلك
الحكم أوليس الأمر كذلك
فإن كان الأول فهو قياس
وإن كان الثاني كان ذلك تسوية بين الوقتين في الحكم من غير دليل
وإنه باطل بالإجماع
والجواب
قوله ما المراد من قولكم الباقي مستغن عن المؤثر
قلنا لا شك في أن الباقي هو الذي حصل في زمان بعد أن كان
بعينه حاصلا في زمان آخر قبله
وهذا يقتضى أن تكون الذات الحاصلة في هذا الزمان عين الذات
الحاصلة في ذلك الزمان الآخر
إذا ثبت هذا فنقول
هذه الذات التي صدق عليها أنها حصلت بعينها في الزمانين إما أن
يقال حصل فيها في الزمان الثاني أمر لم يكن حاصلا في الزمان الأول أو
لم يحصل
فإن كان الأول كان الأمر المتجدد مغايرا للذات الباقية فيكون
الباقي في الحقيقة هو الذات لا هذه الكيفية المتجددة فنحن ندعي أن
ذلك الشئ الذي هو الباقي يستحيل إسناده إلى المؤثر حال بقائه
وعلى هذا التقدير لا يكون إسناد تلك الكيفية المتجددة قادحا في قولنا
الباقي غير مستند إلى المؤثر لأن أحدهما غير الآخر
وإن قلنا إنه لم يحدث في الزمان الثاني أمر متجدد بل الحاصل في
116

الزمان الثاني ليس إلا الذات التي كانت حاصلة في الزمان الأول فعلى هذا
التقدير بطل قولهم إن كونه باقيا كيفية حادثة وأنها مفتقرة إلى المؤثر
فثبت أن على التقديرين السؤال ساقط
قوله حصوله في الزمان الثاني كيفية زائدة على الذات وهي مفتقرة إلى
المؤثر
قلنا هذا باطل وبتقدير ثبوته فهو غير قادح في دليلنا
أما أنه باطل فلأن حصوله في الزمان الثاني لو كان كيفية زائدة على
الذات لكان حصول ذلك الزائد في ذلك الزمان كيفية أخرى فلزم
التسلسل وهو محال
ولأن العدم قد يصدق عليه أنه باق فلو كان تحققه في الزمان الثاني
كيفية ثبوتية لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفى محض وإنه
محال
وأما أن بتقدير ثبوته فالمقصود حاصل فذلك لأن حصوله في
الزمان الثاني لما كان أمرا حادثا كان إسناده إلى المؤثر إسنادا للحادث إلى
المؤثر لا إسنادا للباقي وكلامنا ليس إلا في الباقي
قوله ما الذي تعني بتحصيل الحاصل
قلنا نعني به أن الشئ الذي حكم العقل عليه بأنه كان حاصلا قبل
ذلك يحكم عليه بأن حصوله الآن لأجل هذا الشئ
وهذا محال بالبديهة لأنه لما كان حاصلا قبل ذلك فلو أعطاه الآن
117

هذا المؤثر حصولا لكان قد حصل نفس ما كان حاصلا وأنه محال
قوله الباقي حال بقائه ممكن والممكن مفتقر قلنا
لا نسلم أن الممكن إنما يفتقر إلى المؤثر بشرط كونه حادثا
قوله الحدوث متأخر
قلنا لا نريد به أن كونه حادثا شرط للافتقار بل نريد به أن كونه بحيث
لو وقع بالمؤثر لكان حادثا بشرط افتقار الأثر إلى المؤثر وكونه بهذه الصفة
أمر متقدم
قوله ما المراد من الأولوية
قلنا درجة متوسطة بين التساوي والتعيين المانع من النقيض
قوله هذا محال لأنه يقتضي ترجيح أحد المتساويين على الآخر لا
لمرجح
قلنا لا نسلم أن ذلك ممتنع مطلقا بل ذلك إنما يمتنع بشرط
الحدوث
قوله على الوجه الثاني لم قلت إنه لما أمكن حصول عدم الحادث
بطريقين وعدم الباقي لا يحصل إلا بطريق كان وجود الحادث مرجوحا
قلنا لأن عدم حصول الحادث أكثر من عدم الباقي لأنه يصدق على
ما لا نهاية له أنه لم يحدث
وأما عدم الباقي بعد حدوثه فمشروط بوجوده فإذا كان الوجود متناهيا
كان العدم بعد الوجود متناهيا
وإذا كان عدم حدوث الحادث أكثر من عدم الباقي بعد وجوده والكثرة
موجبة للظن ثبت أن عدم حدوث الحادث غالب على عدم الشئ ولا
118

معنى للظن إلا ذلك
واعلم أنه يمكن الاستدلال بهذه النكتة ابتداءا
قوله كونه باقيا يتوقف على حدوث حصوله في الزمان الثاني فكونه
باقيا يتوقف على الحدوث الذي ليس براجح والموقوف على ما لا يكون
راجحا ليس براجح
قلنا هذا إنما يلزم لو كان حصوله في الزمان الثاني كيفية وجودية وقد
دللنا على أن ذلك محال لأنه يوجب التسلسل
ثم إن سلمنا صحة ذلك لكنا نقول لما ثبت أن الحدوث مرجوح
فالذات إذا كانت حادثة فهناك أمران حادثان أحدهما الذات والآخر
حصول الذات في ذلك الزمان
وأما إذا كانت الذات باقية والحادث أمر واحد وهو حصوله في ذلك
الزمان أما الذات فهي ليست ب حادثة في نفسها
فإذن الحادث مرجوح من وجهين والباقي من وجه واحد فوجب أن
يكون الباقي راجحا على الحادث من هذا الوجه
قوله ما لم يعرف كونه باقيا لا يثبت رجحانه
قلنا لا حاجة إلى ذلك بل نقول هذا الذي وجد لا يمتنع عقلا أن
يوجد في الزمان الثاني وأن يعدم لكن احتمال الوجود راجح على احتمال
العدم من الوجه الذي ذكرناه فالعلم بوجوده في الحال يقتضي اعتقاد
رجحان وجوده على عدمه في ثاني الحال فإذن العلم بالأولوية مستفاد من
العلم بوجوده في الحال
119

وعلى هذا التقدير يسقط الدور
قوله هب أن الباقي راجح على الحادث في الوجود الخارجي فلم
قلت يجب أن يكون راجحا عليه في الذهن
قلنا لأن الاعتبار الذهني مطابق للاعتبار الخارجي وإلا كان جهلا
قوله التسوية بين الزمانين إن لم تكن بالقياس كان ذلك تسوية بين
الزمانين من غير دليل
قلنا القياس دليل واحد من أدلة الشرع وليس يلزم من عدم دليل
معين عدم الدليل بالكلية بل نحن سوينا بين الزمانين في الحكم بناءا على
ما ذكرنا من أن العلم بثبوته في في الحال يقتضي ظن ثبوته على ذلك الوجه
في الزمان الثاني والعمل بالظن واجب
واعلم أن القول باستصحاب الحال أمر لا بد منه في الدين والشرع
والعرف
أما في الدين فلأنه لا يتم الدين إلا بالاعتراف بالنبوة ولا سبيل إليه
إلا بواسطة المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا فعل خارق للعادة ولا يحصل
فعل خارق للعادة إلا عند تقرر العادة ولا معنى للعادة إلا أن العلم بوقوعه
على وجه مخصوص في الحال يقتضي اعتقاد أنه لو وقع لما وقع إلا على
ذلك الوجه وهذا عين الاستصحاب
وأما في الشرع فلأنا إذا عرفنا أن الشرع تعبدنا بالإجماع أو بالقياس
120

أو بحكم من الأحكام فلا يمكننا العمل به إلا إذا علمنا أو ظننا عدم طريان
الناسخ
فإن علمنا ذلك بلفظ آخر افتقرنا فيه إلى اعتقاد عدم النسخ أيضا
فإن كان ذلك بلفظ آخر أيضا تسلسل إلى غير النهاية وهو محال فلا بد
أن ينتهي آخر الأمر إلى التمسك ب الاستصحاب وهو أن علمنا بثبوته
في الحال يقتضي ظن وجوده في الزمان الثاني
وأيضا فالفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتفقوا على أنا متى يتقنا
قد حصول شئ وشككنا في حدوث المزيل أخذنا بالمتيقن وهذا عين
الاستصحاب لأنهم رجحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث
وأما العرف فلأن من خرج من داره وترك أولاده فيها على حالة
مخصوصة كان اعتقاده لبقائهم على تلك الحالة التي تركتهم عليها راجحا
على اعتقاده لتغير تلك الحالة
ومن غاب عن بلده فإنه يكتب إلى أحبابه وأصدقائه عادة في الأمور
التي كانت موجودة حال حضوره وما ذاك إلا ل أن اعتقاده في بقاء تلك
الأمور راجح على اعتقاده في تغيرها بل لو تأملنا لقطعنا بأن أكثر مصالح
العالم ومعاملات الخلق مبني على القول بالاستصحاب
فرع
من قال النافي لا دليل عليه إن أراد أن العلم بذلك العدم
الأصلي يوجب ظن دوامه في المستقبل فهذا حق كما بيناه
121

وإن أراد به غيره فهو باطل لأن العلم بالنفي أو الظن به لا يحصل
إلا لمؤثر
122

المسألة الثالثة
في الاستحسان
المحكي عن الحنفية القول بالاستحسان
123

ومخالفوهم أنكروا ذلك عليهم لظنهم أنها يعنون به الحكم من غير
دليل والذي حصله المتأخرون في تحديده وجهان
124

الأول
قال الكرخي الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في
المسألة بمثل ما حكم في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول
عن الأول
وهذا يلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص وعن
المنسوخ إلى الناسخ استحسانا
الثاني
قال أبو الحسين الاستحسان ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير
شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على
الأول
قال ولا يلزم عليه العدول عن العموم إلى القياس المخصص لأن
العموم لفظ شامل ولا يلزم عليه أن يكون أقوى القياس استحسانا لأن
الأقوى ليس في حكم الطارئ على الأضعف فإن كان طارئا فهو
استحسان
فإن قلت فقد قال محمد بن الحسن في غير موضع من كتبه تركنا
الاستحسان للقياس كما لو قرأ آية السجدة في آخر السورة فالقياس
يقتضي أن يجتزئ بالركوع والاستحسان أن لا يجتزئ به بل يسجد
لها ثم إنه قال بالقياس
125

فهذا الاستحسان إن كان أقوى من القياس فكيف تركه وإن لم يكن
أقوى منه فقد بطل حدكم
قلت ذلك المتروك إنما يسمى استحسانا لأنه وإن كان الاستحسان
وحده أقوى من القياس وحده لكن اتصل بالقياس شئ آخر صار ذلك
المجموع أقوى من الاستحسان كما في المسألة التي ذكرتموها فإن الله
تعالى أقام الركوع مقام السجود في قوله تعالى وخر راكعا وأناب
فهذا تقرير هذا الحد الذي ذكره أبو الحسين رحمه الله
واعلم أن هذا يقتضي أن تكون الشريعة كلها استحسانا لأن مقتضى
العقل هو البراءة الأصلية وإنما يترك ذلك لدليل أقوى منه وهو نص
أو إجماع أو قياس
وهذا الأقوى في حكم الطارئ الأول فيلزم أن يكون الكل استحسانا
وهم لا يقولون به لأنهم يقولون تركنا القياس للاستحسان وهذا يقتضى أن
يكون القياس مغايرا للاستحسان فالواجب أن يزاد في الحد قيد آخر فيقال
ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية والعمومات اللفظية لوجه
أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول
إذا عرفت هذا فنقول اتفق أصحابنا على إنكار الاستحسان
وهذا الخلاف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى لا يجوز أن يكون
126

في اللفظ لأنه قد ورد في القرآن والسنة وألفاظ سائر المجتهدين هذه
اللفظة
أما القرآن فقوله تعالى وأمر قومك يأخذوا بأحسنها وقوله
فيتبعون أحسنه
وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند
الله حسنا
وأما ألفاظ سائر المجتهدين فلأن الشافعي رضي الله عنه قال في باب
المتعة أستحسن أن تكون ثلاثين درهما
وفي باب الشفعة أستحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام
وقال في المكاتب أستحسن أن يترك عليه شئ
فثبت بهذا أن الخلاف ليس في اللفظ
وإنما الخلاف في المعنى وهو أن القياس إذا كان قائما في صورة
الاستحسان في سائر الصور ثم ترك العمل به في صورة الاستحسان
127

وبقي معمولا به في غير تلك الصورة فهذا هو القول بتخصيص العلة
وهو عند الشافعي وجمهور المحققين باطل وقد تقدمت هذه المسألة
فظهر أن القول بالاستحسان باطل
128

المسألة الرابعة
الحق أن قول الصحابي ليس بحجة
وقال قوم إنه حجة مطلقا
ومنهم من فصل وذكروا فيه وجوها
أحدها أنه حجة إن خالف القياس
وثانيها أن قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة فقط
وثالثها أن قول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا حجة
لنا النص والإجماع والقياس
أما النص فقوله تعالى فاعتبروا يا أولى الأبصار أمر
بالاعتبار وذلك ينافي جواز التقليد
وأما الإجماع فهو أن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من
129

آحاد الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما ولا كل واحد منهما
على صاحبه فيما فيه اختلفا
وأما القياس فهو أنه متمكن من إدراك الحكم بطريقة فوجب أن يحرم
عليه التقليد كما في الأصول
واحتج المخالف بوجوه
أحدها
قوله عليه الصلاة السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم
جعل الاهتداء لازما للاقتداء بأي واحد كان منهم وذلك يقتضي أن يكون قوله
حجة
وثانيها
إن لم يجز اتباع كل واحد منهم فيجب اتباع أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما للخبر والإجماع
أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر
وعمر
وأما الإجماع فقد ولى عبد الرحمن عثمان الخلافة بشرط الاقتداء
130

بسيرة الشيخين فقبل ولم ينكر ذلك على عثمان وكان ذلك بمحضر
من أكابر الصحابة فكان إجماعا
وثالثها
إن لم يجب اتباع أبي بكر وعمر وحدهما وجب اتباع الخلفاء
الأربعة لقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من
بعدي وقوله عليكم للإيجاب وهو عام
ورابعها
أن الصحابي إذا قال ما يخالف القياس فلا محمل له إلا أنه اتبع الخبر
والجواب عن الأول
أن قوله عليه الصلاة والسلام بأيهم اقتديتم اهتديتم خطاب مشافهة
فلعل ذلك كان خطابا للعوام
وعن الثاني
أن السنة هي الطريقة وهي عبارة عن الأمر الذي يواظب الإنسان
عليه فلا تتناول ما يقوله الإنسان مرة واحدة
وعن الثالث
أنا نقول بموجبه فيجوز الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما
بموجب الاجتهاد
وأيضا فلو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع
131

وعن الإجماع
أن قول عثمان معارض بقول علي رضي الله عنهما
وعن الرابع
أن الصحابي لعله قال بما يخالف القياس لنص ظنه دليلا مع أنه في
الحقيقة ما كان دليلا
نعم لو تعارض قياسان والصحابي مع أحدهما فيجوز الترجيح بقول
الصحابي فأما جعله حجة فلا
فرعان
الأول اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في تقليد الصحابي
فقال في القديم يجوز تقليده إذا قال قولا وانتشر ولم
يخالف
وقال في موضع آخر يقلد وإن لم ينتشر
وقال في الجديد لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد عالما آخر
وهو الحق المختار لأن الدلائل المذكورة مطردة في الكل
132

فإن قلت كيف لا نفرق بينهم وبين غيرهم مع ثناء الله تعالى وثناء
رسوله ص عليهم حيث قال الله تعالى لقد رضي الله
عن المؤمنين
وقال السابقون الأولون من المهاجرين إلى قوله رضي الله
عنهم
وقال عليه الصلاة والسلام خير القرون قرني
قلت هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد فيهم ولا يوجب تقليدهم
بدليل أنه ورد أمثالها في حق آحاد الصحابة مع إجماع الصحابة على
جواز مخالفتهم
قال عليه الصلاة والسلام لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين
لرجح
وقال إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقال والله ما سلكت
133

فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك
وقال في حق علي اللهم أدر الحق مع علي حيث دار
وقال رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد
وقال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما على شئ ما خالفتكما
وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء
الثاني في تفاريع القول القديم للشافعي رضي الله عنه وهي
سبعة
134

أحدها
قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب اختلاف الحديث روي عن
علي أنه صلى في ليلة ست ركعات وفي كل ركعة ست سجدات قال
لو ثبت ذلك عن علي لقلت به فإنه لا مجال للقياس فيه فالظاهر أنه فعله
توقيفا
وثانيها
قال في موضع قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة
قال الغزالي رحمه الله وهو ضعيف لأن السكوت ليس بقول فأي
فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر
والعجب من الغزالي أنه تمسك بمثل هذا الإجماع على أن خبر
الواحد حجة والقياس حجة
وثالثها
نص الشافعي رضي الله عنه على أنه إذا اختلفت الصحابة فالأئمة
الأربعة أولى فإن اختلف الأئمة فقول أبي بكر وعمر أولى
وكل ذلك للأحاديث المذكورة
ورابعها
نص في موضع آخر أنه يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياسا
لأن زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن التقصير
وخامسها
إن اختلف الحكم والفتوى عن الصحابة فقد اختلف قول الشافعي رضى
135

الله عنه فقال مرة الحكم أولى لأن العناية به أشد
وقال مرة الفتوى أولى لأن سكوتهم عن الحكم محمول على
الطاعة
وسادسها
هل يجوز ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي
والحق أنه في محل الاجتهاد فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد
الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي ويكون ذلك أغلب على
ظنه
وسابعها
إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد معنييه
منهم من جعله ترجيحا
وقال القاضي أبو بكر إذا لم يقل علمت ذلك من قصد رسول الله
ص بقرينة شاهدتها لم يكن ذلك ترجيحا
136

المسألة الخامسة
اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي ص
أو للعالم احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب
فقطع بوقوعه مويس بن عمران
وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه
وتوقف الشافعي رضي الله عنه في امتناعه وجوازه وهو المختار
وصحة هذا التوقف لا تظهر إلا بالاعتراض على أدلة القاطعين
أما المانعون ففقد تعلقوا تارة بما يدل على امتناع وقوعه وأخرى بما
يدل على عدم وقوعه
أما الوجه الأول فتقريره أن من أجاز هذا التكليف إما أن يجعل الاختيار
137

مما تتم به المصلحة أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه ثم يختاره
المكلف
والأول باطل لوجهين
أحدهما
أن على هذا التقدير يسقط التكليف لأن المكلف متى قال إن اخترته
فافعله وإن لم تختره فلا تفعله فهذا محض إباحة
وثانيهما
أن المكلف لا ينفك عن الفعل والترك ولا يجوز تكليف المرء بما لا
يمكنه الانفكاك عنه بخلاف التخيير في الكفارات الثلاث فإنه يمكنه
الانفكاك عنها أجمع
وأما الثاني فهو باطل من وجوه أربعة
أولها
أنه إما أن يجوز له الحكم على هذا الوجه في الحوادث الكثيرة أو
في الحادثة والحادثتين
وفي والأول محال لأنه يمتنع حصول الإصابة بالاتفاق في الأشياء الكثيرة
ولهذا لا يجوز أن يقال للأمي اكتب مصحفا فإنك لا تخط بيمينك إلا ما
يطابق ترتيب القرآن وللجاهل أخبر فإنك لا تخبر إلا بالصدق ولولا ما
ذكرناه لبطلت دلالة الفعل المحكم على علم فاعله وبطلت دلالة
أخبار الغيب على النبوة
وأما الوجه الثاني وهو أن يجوز ذلك في القليل دون الكثير فهو
138

باطل لأن كل من جوزه في القليل جوزه في الكثير ومن منع منه في الكثير
منع منه في القليل فالقول بالفرق خرق للإجماع
وثانيها
وهو أنه إنما يحسن القصد إلى الفعل إذا علم أو ظن كونه حسنا فلا
بد وأن يتميز له الحسن من القبح قبل الإقدام على الفعل فإذا لم تتقدم
هذه الأمارة المميزة كان التكليف باختيار الحسن دون القبيح تكليفا بما لا
يطاق
فإن قلت إنما يميز بين الحسن والقبيح بأن يقال له قد علمنا بأنك
لا تختار شيئا إلا وهو حسن
قلت فهذا يقتضي أنه إنما يعلم حسنه بعد فعله له وهو إذا فعله
زال التكليف عنه
فالحاصل أن التمييز بين الحسن والقبيح لا بد وأن يكون متقدما على
الاختيار وإلا وقع التكليف بما لا يطاق
وإذا قال الله تعالى إنك لا تحكم إلا بالصواب فها هنا التمييز بين
الحسن والقبيح لا يحصل إلا بعد الفعل والشئ الذي يجب أن يكون
متقدما ليس هو الذي يجب أن يكون متأخرا
وثالثها
لو جاز أن يقول له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لجاز أن يكلفه
139

تصديق النبي وتكذيب المتنبي من غير دليل ألبتة بل يكله فيه إلى رأيه
ولجاز ذلك في الإخبار فيقول أخبر فإنك لا تخبر إلا عن حق
ولجاز أن يصيب في مسائل الأصول من غير تعلم ألبتة
ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله تعالى من غير وحي نزل عليه
وكل ذلك باطل بالإجماع
ورابعها
لو جاز ذلك في حق العالم لجاز في حق العامي وبالإجماع لا يجوز
أما الذي يدل على عدم الوقوع فأمران
الأول
لو كلن الرسول ص مأمورا بأن يحكم على وفق أرادته
من غير دليل لما كان منهيا عن اتباع هواه لأنه لا معنى لاتباع الهوى إلا
الحكم بكل ما يميل قلبه إليه لكنه كان منهيا عن اتباع الهوى لقوله تعالى
ولا تتبع الهوى وما ينطق عن الهوى
فإن قلت لما قيل له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب كان ذلك
نصا من الله تعالى على كل ما يميل قلبه إليه فلا يكون ذلك اتباعا
للهوى
قلت فعلى هذا التقدير صار اتباع الهوى في حقه غير ممكن ولو كان
كذلك فلم نهي عنه
الثاني
لو قيل له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لما قيل له لم فعلت
140

كذا لكن قد قيل له عفا الله عنك لم أذنت لهم فلم يثبت ذلك في
حقه
وأما مويس فإنه تعلق بأمور بعضها يدل على الواقع وبعضها يدل
على الجواز فقط
أما الدال على الوقوع فإما أن يدل على وقوع ذلك من رسول الله ص
أو على وقوعه من غيره
أما الأول فقد ذكر مويس فيه عشرة أوجه
أحدها
أن منادي النبي عليه الصلاة والسلام نادى يوم فتح مكة أن اقتلوا
مقيس بن حبابة وابن أبي سرح وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة
141

لقوله من تعلق بأستار الكعبة فهو آمن
142

ثم عفى عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان رضي الله عنه ولو كان الله
تعالى أمر بقتله لما قبل شفاعة أحد فيه إلا بوحي آخر ولم يوجد وحي
آخر لما أن نزول الوحي له علامات كانوا يعرفونها وما ظهر في ذلك
الوقت شئ من ذلك
وثانيها
أنه قال يوم الفتح إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض لا
يختلى خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر
فقال إلا الإذخر
فهذا الحكم ما كان بالوحي لأنه لم تظهر علامة نزول الوحي
وثالثها
أنه عليه الصلاة والسلام نادى مناديه لا هجرة بعد الفتح حتى استفاض
ذلك فبينما المسلمون كذلك إذ أقبل مجاشع ابن مسعود بالعباس بن عبد
المطلب شفيعا ليجعله مهاجرا بعد الفتح فقال عليه الصلاة والسلام أشفع
143

عمي ولا هجرة بعد الفتح
ورابعها
أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته قتيلة بنت النضر فأنشدته
أمحمد ولأنت ضنوا كل نجيبة في
قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال عليه الصلاة والسلام أما أني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته
144

ولو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة
وخامسها
قوله عفوت لكم عن الخيل والرقيق
145

وسادسها
قوله عليه الصلاة والسلام أيها الناس كتب عليكم الحج فقال
الأقرع بن حابس أكل عام يا رسول الله يقول ذلك ورسول الله ص
ساكت فلما أعاد ذلك قال والذي نفسي بيده لو قلتها
لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها دعوني ما ودعتكم
وسابعها
أن ابن عباس رضي الله قال أخر رسول الله ص
العشاء ذات ليلة فخرج ورأسه يقطر فقال لولا أن أشق على
أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين
146

وثامنها
روى جابر عن رسول الله ص أنه قال إن عشت
إن شاء الله لأنهين أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة وهذا الكلام يدل على
أنه له
وتاسعها
قال جابر لما قيل لرسول الله ص إن ماعزا رجم
فقال هلا تركتموه حتى أنظر في أمره فلو لم يكن حكم الرجم إليه لما قال
ذلك
147

وعاشرها
قوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها
وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها
وأما الذي يدل على وقوع ذلك من غير رسول الله ص
فقوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على
نفسه
وأما الذي يدل على الجواز فقط فأمور
أحدها
أن الواجب من خصال الكفارة ليس إلا الواحد بالدلائل التي تقدم ذكرها
في مسألة الواجب المخير ثم أنه تعالى فوضها إلى المكلف لما علم أنه
لا يختار إلا ذلك الواجب فدل على أن ذلك جائز
وثانيها
أن الواجب في التكليف أن يكون المكلف متمكنا من الخروج عن
148

العهدة فإذا قال الله تعالى له احكم فإنك لا تنفك عن الصواب علم
أن كل ما يصدر عنه صواب فكان متمكنا من الخروج من العهدة فوجب
القطع بجوازه
وثالثها
إذا استوى عند المستفتى مفتيان وأحدهما يفتى بالحظر والآخر
بالإباحة فهو متمكن شرعا من الأخذ ب قول أيهما أراد ولا فرق في
العقل بين أن يقال افعل ما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب وبين أن
يقال خذ بقول أيهما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب
والجواب عن أدلة المانعين أن نقول
أما الوجه الذي تمسكوا به أولا في امتناع ذلك عقلا فهو مبني على
أن أحكام الله تعالى متفرعة على رعاية المصالح ونحن لا نقول بهذا
الأصل فتلك الوجوه بأسرها ساقطة عنا
ثم إنا نسلم لهم هذا الأصل ونبين ضعف كل واحد من تلك الوجوه
أما قوله أولا من أجاز هذا التكليف إما أن يجعل الاختيار مما تتم
به المصلحة أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه ثم يختاره المكلف
قلنا اخترنا القسم الأول
قوله هذا يكون إسقاطا للتكليف
149

قلنا لا نسلم وذلك لأنه قال الرسول إن اخترت الفعل فاحكم على
الأمة بالفعل وإن اخترت الترك فاحكم على الأمة بالترك فهذا لا يكون
إسقاطا للتكليف بل يكون مكلفا بأن يأمر الخلق بمتعلق اختياره
قوله الفعل والترك لا ينفك المكلف عنهما
قلنا لكن الحكم على الخلق بالفعل والحكم عليهم بالترك قد ينفك
عنهما فلم لا يجوز ورود التكليف به
ثم يشكل ما ذكروه بالمستفتي إذ أفتاه مفتيان أحدهما بالحظر والآخر
بالإباحة فكل ما يقولونه هناك فهو قولنا ها هنا
سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز القسم الثاني
قوله إما أن يكون مأمورا بذلك في الأفعال الكثيرة أو القليلة
قلنا لم لا يجوز في الكثيرة
قوله الاتفاقي لا يكون أكثريا
قلنا لا نسلم فإن حكم الشئ حكم مثله عقلا وشرعا وعرفا فلما
جاز ذلك في الأفعال القليلة جاز في الأفعال الكثيرة أيضا
فإن لم يفد هذا الكلام القطع بالجواز فلا أقل من أن لا يحصل معه القطع
البديهي بالامتناع
وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول
إن كان الحال فيها كما هنا احتاج الفرق بين القليل والكثير إلى دليل
وإلا فيمتنع القياس على أنا قد بينا في هذا الكتاب أن القياس لا يفيد
اليقين ألبتة
150

سلمنا أن الاتفاقي لا يدوم ولكن إذا كان الاتفاقي ببعض الجهات
معلوم السبب بسائر الجهات أو إذا لم يكن
الأول ممنوع والثاني مسلم
بيانه
أن من الجائز أن يعلم الله تعالى أن أكل الطعام الحلو في هذه السنة
مصلحة للمكلفين ويعلم أنهم خلقوا على وجه لا يشتهون إلا الطعام الحلو
فإذا كان تناول الطعام الحلو مصلحة طول عمره لم يكن جهله بكون الفعل
مصلحة مانعا له في هذه الصورة من الإقدام عليه في أكثر أوقاته
سلمنا تعذر ذلك في الكثير فلم لا يجوز في القليل والإجماع الذي
ذكروه ممنوع
أما قوله ثانيا التمييز بين الحسن والقبيح لابد وأن يتقدم على
الفعل
قلنا لا نسلم
وبيانه
بالوجهين المذكورين في الجواب عن الوجه الأول
سلمنا ذلك ولكنه حاصل ها هنا لأن الغرض أن يأمن المكلف من أن
يفعل قبيحا أو مفسدة يستحق به الذم فأي فرق بين أن يجعل الله تعالى له
على ذلك أمارة قبل أن يفعل وبين أن يجعل الأمارة على ذلك نفس
الفعل
151

وعلى الوجهين جميعا هو آمن من القبيح ومتخلص من الذم
وليس يلزم ما قالوا من أن الأمارة إذا لم تتقدم على الفعل كان
مقدما على ما لا يأمن كونه قبيحا لأنه قبل أن يفعل لما قيل له إنك لا تختار
إلا الصواب فهو آمن من الإقدام على القبيح
وأما الوجه الثالث والرابع فجوابه أن الله تعالى لما نص في تلك
الصورة بأن المكلف لا يختار فيها إلا الصواب فلم قلت لا يجوز ورود
الأمر بمتابعة إرادته
وليس إذا لم يلزم مويس لم يجز لغيره التزامه
وأما الوجهان اللذان تمسكوا بهما في نفي الوقوع
فالجواب عنهما
أن قوله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام إنك لا تحكم إلا
بالصواب لعله ورد في زمان متأخر وما ذكروه ورد في زمان متقدم فلا
يتناقضان
وأما الوجوه العشرة التي تمسك بها مويس في الوقوع فضعيفة
لاحتمال أن يقال ورد الوحي بها قبل تلك الوقائع مشروطا مثل أن يقال
لو استثنى أحد شيئا فاستثن له ذلك وكذا القول في سائر الصور
سلمنا أنه ما كان بالوحي فلعله كان بالاجتهاد وبهذا التقدير لا يصح
قول الخصم
وأما قوله تعالى إلا ما حرم إسرائيل على نفسه
قلنا يحتمل أن يكون حرم ذلك على نفسه بالنذر أو بالاجتهاد
152

ويكون إثبات التحريم بالنذر جائزا في شرعهم
وأما الوجه الأول من الوجوه التي تمسكوا بها في الجواز
فجوابه
أنه مبني على أن الواجب في خصال الكفارة واحد معين عند الله
تعالى لكنا لا نقول به
وأما الوجهان الباقيان فمبنيان على تشبيه صورة بصورة وقد عرفت أن
هذا لا يفيد اليقين
فثبت بما ذكرنا ضعف أدلة القاطعين فظهر أن الحق ما ذهب إليه
الشافعي رضي الله عنه من التوقف
153

المسألة السادسة
مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام
على الأخذ بأقل ما قيل فإنه حكى اختلاف الناس في دية اليهودي فمنهم
من قال بمساواتها لدية المسلم
ومنهم من قال هي نصف دية المسلم
ومنهم من قال هي الثلث منها
فهو رضي الله عنه أخذ بالأقل
واعلم أن هذه القاعدة مفرغة على أصلين الإجماع والبراءة
الأصلية
154

أما الإجماع فلأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى أربعة أقسام
أحدها يوجب في اليهودي مثل دية المسلم وثانيها يوجب
النصف وثالثها يوجب الثلث ورابعها لا يوجب شيئا لم يكن الأخذ بأقل
ما قيل واجبا لأن ذلك الأقل قول بعض الأمة وذلك ليس بحجة
أما إذا لم يوجد هذا القسم الرابع كان القول بوجوب الثلث قولا لكل
الأمة لأن من أوجب كل دية المسلم فقد أوجب الثلث ومن أوجب نصفها
فقد أوجب الثلث أيضا ومن أوجب الثلث فقد قال بذلك فيكون إيجاب الثلث
قولا قال به كل الأمة فيكون حجة
155

وأما البراءة الأصلية فلأنها تدل على عدم الوجوب في الكل ترك العمل
به في الثلث لدلالة الإجماع على وجوبه فيبقى الباقي كما كان
ولهذه النكتة شرطنا في الحكم بأقل ما قيل عدم ورود شئ من الدلائل
السمعية فإنه إن ورد شئ من ذلك كان الحكم لأجله لا لأجل الرجوع
لأقل ما قيل
ولهذا السر اختلف الناس في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقال
قائلون أربعون وقال قائلون ثلاثة
156

فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بأقل ما قيل لأنه وجد في الأكثر دليلا
سمعيا فكان الأخذ به أولى من الأخذ بالبراءة الأصلية
وكذلك اختلفوا في عدد الغسل من ولوغ الكلب فقال بعضهم
سبعة وقال آخرون ثلاثة
فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بالأقل لأنه وجد في الأكثر دليلا
سمعيا
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال كان يجب الأخذ بأكثر ما قيل لأنه قد
ثبت في الذمة شئ واختلفت الأمة في الكمية فقال قوم هو كل الدية
وقال آخرون بل نصفها وقال آخرون بل ثلثها فإذا لم تحصل مع واحد
من هذه الأقوال دلالة سمعية تساقطت
ولا تحصل براءة الذمة باليقين إلا عند أداء كل دية المسلم فوجب القول
به ليحصل الخروج عن العهدة بيقين
والجواب
أنه لما كان الأصل براءة الذمة امتنع الحكم بكونها مشغولة إلا بدليل
157

سمعي فإذا لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع والإجماع لم يثبت إلا
في أقل المقادير لم يثبت شغل الذمة إلا بذلك الأقل
فإن قلت هب أنه لم يوجد دليل سوى الإجماع لكنه لا يلزم من عدم
الدليل عدم المدلول فلعله ثبت في الذمة حق أزيد من أقل ما قيل
فإذا كان هذا الاحتمال قائما لم يثبت الخروج عن العهدة باليقين إلا
بأكثر ما قيل
قلت لما لا يوجد سوى الإجماع والإجماع لم يدل إلا على أقل
ما قيل فيه كان الزائد على ذلك الأقل لو ثبت لثبت من غير دليل وذلك غير
جائز لأنه يصير ذلك تكليف مالا يطاق
وأيضا فإن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية إذا لم نجد دليلا سمعيا
يصرفنا عنها فإذا لم يوجد دليل سمعي يدل على الزيادة علمنا أن الله
تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية
وحينئذ يحصل القطع بأنه لا يجب إلا ذلك القدر الذي هو أقل
المقادير
158

المسألة السابعة
قال قوم يجب على المكلف الأخذ بأخف القولين للنص
والمعقول
أما النص فقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
وقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج
وقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر في الإسلام وقوله بعثت بالحنيفية
السهلة السمحة وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل
وأما القياس فهو أنه تعالى كريم غني والعبد محتاج فقير وإذا وقع
التعارض بين هذين الجانبين كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى
منه على جانب المحتاج الفقير
وربما قالوا الأخذ بالأخف أخذ بالأقل فوجب العمل به
واعلم أن هذا المذهب يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ
159

الإباحة وفي الآلام الحرمة وقد تقدم الكلام فيه
فأما قوله الأخذ بالأخف أخذ بالأقل
قلنا هذا ضعيف لأنا إنما نوجب الأخذ بأقل ما قيل إذا كان ذلك
جزءا من الأصل كما ذكرناه في المثال فإن الثلث جزء من النصف ومن
الكل والموجب للكل والنصف موجب للثلث فيصير وجوب الثلث بهذا
الطريق مجمعا عليه
أما إذا كان الأخف ليس جزءا من ماهية الأصل لم يصر الثلث مجمعا
عليه فلا يجب الأخذ به
وقال قوم يجب الأخذ بأثقل القولين لقوله عليه الصلاة والسلام الحق
ثقيل قوي والباطل خفيف وبي
وهذه الدلالة ضعيفة لأنه لا يلزم من قولنا كل حق ثقيل أن يكون كل
ثقيل حق ولا من قولنا الباطل خفيف أن يكون كل خفيف باطلا
وها هنا طريقة أخرى يسمونها طريقة الاحتياط وهى إما الأخذ
بأكثر ما قيل أو بأثقل ما قيل ولما تقدم الكلام فيها فلا فائدة في الإعادة
160

المسألة الثامنة
الاستقراء المظنون هو إثبات الحكم في كلي لثبوته في بعض جزئياته
مثاله قول أصحابنا في الوتر إنه ليس بواجب لأنه يؤدي على الراحلة
ولا شئ من الواجب يؤدى على الراحلة
أما المقدمة الأولى فثابتة بالإجماع وأما الثانية فنثبتها بالاستقراء
وهو أنا لما رأينا القضاء وسائر أصناف الواجبات لا تؤدى على الراحلة حكمنا
على كل واجب بأنه لا يؤدى على الراحلة
وهذا النوع لا يفيد اليقين لأنه يحتمل أن يكون الوتر واجبا بخلاف سائر
الواجبات في هذا الحكم ولا يمتنع عقلا أن يكون بعض أنواع الجنس
مخالفا لحكم النوع الآخر من ذلك الجنس
وهل يفيد الظن أم لا
الأظهر أن هذا القدر لا يفيد إلا بدليل منفصل ثم بتقدير حصول
الظن وجب الحكم بكونه حجة لقوله عليه الصلاة والسلام أقضي
بالظاهر
161

المسألة التاسعة
في المصالح المرسلة
أعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام
أحدها
ما شهد الشرع باعتباره وهو القياس الذي تقدم شرحه
وثانيها
ما شهد الشرع ببطلانه مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما
جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث
لم يأمره بإعتاق رقبة قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ولاستحقر إعتاق
رقبة في قضاء شهوته
162

واعلم أن هذا باطل لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى
لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه ثم إذا عرف ذلك من جميع العلماء
لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من
جهتهم بالرأي
القسم الثالث
ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإبطال نص معين فنقول قد ذكرنا في
كتاب القياس أن المناسبة إما أن تكون في محل الضرورة أو الحاجة أو
التتمة فقال الغزالي رحمه الله أما الواقع في محل الحاجة أو التتمة
فلا يجوز الحكم فيها بمجرد المصلحة لأنه يجري مجرى وضع الشرع
بالرأي
وأما الواقع في رتبة الضرورة فلا يبعد أن يؤدى إليه اجتهاد مجتهد
ومثاله أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين
فلو كففنا عنهم لصدمونا واستولوا على دار الإسلام وقتلوا كافة
المسلمين
ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما لم يذنب وهذا لا عهد به في الشرع
163

ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون
الأسارى
فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ كل المسلمين
أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ المسلم الواحد
قال وإنما اعتبرنا هذه المصلحة لاشتمالها على ثلاثة أوصاف وهى
أنها ضرورية قطعية كلية
واحترزنا بقولنا ضرورية عن المناسبات التي تكون في مرتبة
الحاجة أو التتمة
وبقولنا قطعية عما إذا لم نقطع بتسلط الكفار علينا إذا لم نقصد
الترس فإن ها هنا لا يجوز القصد إلى الترس
وكذلك قطع المضطر قطعة من فخذه لا يجوز لأنا لا نقطع بأنه يصير
ذلك سببا للنجاة
وبقولنا كلية عما لو تترس الكافر في قلعة بمسلم فإنه لا يحل رمي
الترس إذ لا يلزم من عدم استيلائنا على تلك القلعة فساد يعم كل
المسلمين
وكذا إذا كان جماعة في سفينة ولو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا
بجملتهم فها هنا لا يجوز لأن ذلك ليس أمرا كليا فهذا محصل ما قاله
الغزالي رحمه الله
164

ومذهب مالك رحمه الله أن التمسك بالمصلحة المرسلة جائز
واحتج عليه بأن قال كل حكم يفرض فإما أن يستلزم مصلحة خالية
عن المفسدة أو مفسدة خالية عن المصلحة أو يكون خاليا عن المصلحة
والمفسدة بالكلية أو يكون مشتملا عليهما معا
وهذا على ثلاثة أقسام لأنهما إما أن يكونا متعادلين وإما أن تكون
المصلحة راجحة وإما أن تكون المفسدة راجحة فهذه أقسام ستة
أحدها
أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة وهذا لابد وأن يكون
مشروعا لأن المقصود من الشرائع رعاية المصالح
وثانيهما
أن يستلزم مصلحة راجحة وهذا أيضا لابد وأن يكون مشروعا لأن
ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير
وثالثها
أن يستوى الأمران فهذا يكون عبثا فوجب أن لا يشرع
ورابعها
أن يخلو عن الأمرين وهذا أيضا يكون عبثا فوجب أن لا يكون
مشروعا
وخامسها
أن يكون مفسدة خالصة ولا شك أنها لا تكون مشروعة
وسادسها
أن يكون ما فيه من المفسدة راجحا على ما فيه من المصلحة وهو
165

أيضا غير مشروع لأن المفسدة الراجحة واجبة الدفع بالضرورة
وهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام الستة كالمعلوم بالضرورة
أنها دين الأنبياء وهى المقصود من وضع الشرائع والكتاب والسنة دالان على
أن الأمر كذلك تارة بحسب التصريح وأخرى بحسب الأحكام المشروعة
على وفق هذا الذي ذكرناه
غاية ما في الباب أنا نجد واقعة داخلة تحت قسم من هذه الأقسام
ولا يوجد لها في الشرع ما يشهد لها بحسب جنسها القريب لكن لا بد وأن
يشهد الشرع بحسب جنسها البعيد على كونه خالص المصلحة أو المفسدة
أو غالب المصلحة أو المفسدة فظهر أنه لا توجد مناسبة إلا ويوجد في
الشرع ما يشهد لها بالاعتبار إما بحسب جنسه القريب أو بحسب جنسه
البعيد
إذا ثبت هذا وجب القطع بكونه حجة للمعقول والمنقول
أما المعقول فلأنا إذا قطعنا بأن المصلحة الغالبة على المفسدة معتبرة
قطعا عند الشرع ثم غلب على ظننا أن هذا الحكم مصلحته غالبة على
مفسدته تولد من هاتين المقدمتين ظن أن هذه المصلحة معتبرة شرعا والعمل
بالظن واجب لقوله عليه الصلاة السلام أقضي بالظاهر ولما ذكرنا أن
ترجح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول وهذا يقتضي القطع
بكونه حجة
وأما المنقول فالنص والإجماع
أما النص فقوله تعالى فاعتبروا أمر بالمجاوزة والاستدلال بكونه
مصلحة على كونه مشروعا مجاوزة فوجب دخوله تحت النص
166

وأما الإجماع فهو أن من تتبع أحوال مباحثات الصحابة علم قطعا
أن هذه الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان في تحرير الأقيسة والشرائط المعتبرة
في العلة والأصل والفرع ما كانوا يلتفتون إليها بل كانوا يراعون المصالح
لعلمهم بأن المقصد من الشرائع رعاية المصالح
فدل مجموع ما ذكرنا على جواز التمسك بالمصالح المرسلة
167

المسألة العاشرة
الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم طريقة عول
عليها بعض الفقهاء
وتحريره أن الحكم الشرعي لا بد له من دليل والدليل إما نص أو
إجماع أو قياس ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فوجب أن لا يثبت الحكم
إنما قلنا إن الحكم الشرعي لابد له من دليل لأن الله تعالى لو
أمرنا بشئ ولا يضع عليه دليلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وإنه غير
جائز
وإنما قلنا إن الدليل إما نص أو إجماع أو قياس لثلاثة أوجه
أحدها
قصة معاذ فإنها تدل على انحصار الأدلة في الكتاب والسنة والقياس
زدنا فيه الإجماع بدليل منفصل فيبقى الباقي على الأصل
وثانيها
أن الأدلة الدالة على الأحكام كانت معدومة في الأزل وقد بينا أن
الأصل في كل أصل تحقق بقاؤه على ما كان فهذا الدليل يقتضى أن لا
يوجد شئ من أدلة الأحكام ترك العمل به في النص والإجماع والقياس
فوجب أن يبقى فيما عدا هذه الثلاثة على الأصل
168

وثالثها
أنه لو حصل نوع آخر من الأدلة لكان ذلك من الأمور العظام لأن
ما يجب الرجوع إليه في الشرع نفيا وإثباتا في الوقائع الحاضرة
والمستقبلة لا شك أنه من الأمور العظام فلو كان ذلك موجودا لوجب
اشتهاره ولو كان كذلك لعرفناه بعد البحث والطلب فلما لم نجد شيئا آخر
سوى هذه الثلاثة علمنا الانحصار
وإنما قلنا إنه لم يوجد واحد من هذه الثلاثة لما سنبينه
أما النص فلوجهين
أحدهما
أنا اجتهدنا في الطلب فما وجدنا وهذا القدر عذر في حق المجتهد
بالإجماع فوجب أن يكون عذرا في حق المناظر لأنه لا معنى للمناظرة إلا
بيان ما لأجله قال بالحكم
وثانيهما
أنه لو وجد في المسألة نص لعرفه المجتهدون ظاهرا ولو عرفوه لما
حكموا على خلافه ظاهرا فحيث حكموا على خلافه علمنا عدمه
أما الإجماع فهو منفي لأن المسألة خلافية ولا إجماع مع الخلاف
وأما القياس فمنفي لوجهين
أحدهما
أن القياس لا بد فيه من أصل والأصل هو الصورة الفلانية والفارق
الفلاني موجود ومع الفارق لا يمكن القياس
أقصى ما في الباب أن يقال لم لا يجوز القياس على صورة أخرى
169

فنقول لأنا بعد الطلب لم نجد شيئا يمكن القياس عليه إلا هذه
الصورة
وهذا القدر عذر في حق المجتهد فوجب أن يكون عذرا في حق المناظر
على ما بيناه
وثانيهما
أن سائر الأصول كانت معدومة فوجب بقاؤها على العدم تمسكا
بالاستصحاب
فهذا تمام تقرير هذه الدلالة
واعلم أن كل مقدمة لا يمكن تمشية الدليل إلا بها فلو كانت تلك
المقدمة مستقلة بالإنتاج فلا كان التمسك بها في أول الأمر أولى
ورأينا أن هذه الدلالة لا يمكن تمشيتها إلا بإحدى مقدمتين
إحداهما
أن عدم الوجدان بعد الطلب يدل على عدم الوجود
وثانيهما
أن الأمر الفلاني كان معدوما فيحصل الآن ظن بقائه على العدم
وهاتان المقدمتان لو صحتا لكانتا مستقلتين بإنتاج المطلوب فإنه
يقال في أول المسألة الحكم الشرعي لا بد له من دليل ولم يوجد
الدليل لأني اجتهدت في الطلب وما وجدته وذلك يدل على عدم
الوجود
أو يقال ولم يوجد الدليل لأن هذه الدلائل كانت معدومة في الأزل
170

والأصل في كل معدوم بقاؤه على عدمه
وإذا ثبت هذا فقد حصل ظن عدم الدليل فيتولد منه القطع بأنه لو وجد
الحكم لوجد الدليل مع ظن أنه لم يوجد ظن عدم الحكم والعمل بالظن
واجب
فتقرير هذه الدلالة على هذا الوجه أقل مقدمات وأشد تلخيصا
فكان ايرادها على هذا الوجه أولى
فإن قيل قوله الدليل إما نص أو إجماع أو قياس
قلنا هذا لا يتم على قولك لأنك ذكرت هذه العبارة دليلا في
المسألة الشرعية وإنها ليست بنص ولا إجماع ولا قياس وعند هذا يلزم
أحد محذورين وهو أنه أما أن لا يكون هذا الكلام دليلا في المسألة
حتى يتم الحصر أو يبطل الحصر حتى يتم هذا دليلا في المسألة
فإن قلت الكلام عليه من وجهين
أحدهما
أني أقول دليل الحكم الشرعي إما نص أو إجماع أو قياس ومدلول
دليلي انتفاء الصحة فإن هذا الانتفاء كان حاصلا قبل الشرع فالإخبار
عنه يكون إخبارا عن أمر لا تتوقف معرفته على الشرع فلا يكون شرعيا
وثانيهما
أني لا أنفي الصحة إلا بالإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه متى لم
يوجد شئ من هذه الأشياء وجب نفي الحكم فيكون الدليل في الحقيقة
هو الإجماع
171

قلت أما الجواب عن الأول فهو
أنه لما ثبت انتفاء الصحة لزم ثبوت البطلان ضرورة تعذر القول
بالوقف فيكون كلامك دليلا على البطلان بواسطة دلالته على انتفاء الصحة
فيكون دليلا على حكم شرعي فيعود المحذور المذكور
وعن الثاني
أن الإجماع لم يدل على عدم الصحة ابتداءا بل دل على أنه مهما عدم
النص والإجماع والقياس لزم عدم الحكم فيكون الإجماع دليلا على أن
عدم هذه الثلاثة دليل على عدم الحكم وعدم هذه الثلاثة مغاير لهذه
الثلاثة فيعود الكلام المتقدم
السؤال الثاني أنك جعلت عدم دليل الثبوت دليل العدم فهل
تجعل عدم دليل العدم دليل الثبوت أم لا
فإن لم يقل به فقد ناقض لأن نسبة دليل الثبوت إلى الثبوت كنسبة
دليل العدم إلى العدم
فإن لزم من عدم دليل الثبوت عدم الثبوت لزم من عدم دليل العدم
عدم العدم
وأن لم يلزم ها هنا لم يلزم هناك أيضا إذ لا فرق بينهما في العقل
وإن اعترف بذلك لزم المحذور من وجهين
أحدهما
أن عدم دليل العدم دليل على عدم العدم وعدم العدم وجود فعدم
دليل العدم دليل على الوجود فقد حصل سوى النص والإجماع والقياس
دليل آخر على الوجود فيبطل حصرهم
والثاني وهو
أنه إذا كان عدم دليل العدم دليلا على الوجود لم يلزم انتفاء الوجود
172

إلا ببيان عدم عدم دليل العدم وعدم العدم وجود
فإذن لا يلزم انتفاء الوجود إلا بوجود دليل العدم لكنك لو ذكرت
دليل العدم لاستغنيت عما ذكرت من الدلالة
السؤال الثالث
أنك لو اقتصرت في نفي النص على عدم الوجدان فهذا الطريق
إن صح وجب الاكتفاء به في نفي القياس لأنه حاصل فيه
وإن لم يصح لم يجز التعويل عليه في هذا المقام
فإن قلت إنما تعرضت لنفي قياس معين لأن المخالف يعتقده قياسا
ودليلا وليس في النصوص ما يعتقده دليلا
قلت المخالف كما يعتقد في قياس كونه حجة له فكذلك قد يعتقد
في بعض النصوص كونه حجة له فكان يلزم التعرض للأمرين
السؤال الرابع
لم قلت إنه لما وجد الفرق بين الصورتين تعذر القياس وذلك لأن الفرق
إنما يكون قادحا لو لم يجز تعليل الحكم الواحد بعلتين
فأما إذا كان جائزا احتمل كون الحكم في الأصل معللا بالوصف الذي
تعدى إلى الفرع وبالوصف الذي لم يتعد إليه معا فلا يكون
ذلك قادحا في القياس
173

السؤال الخامس
أن هذا النظم لا ينفك عن القلب فإن المستدل إذا قال مثلا في بيع
الغائب لا نص ولا إجماع ولا قياس في صحته فوجب أن لا تثبت صحته
فيقال وتحريم أخذ المبيع من البائع بعد جريان هذا البيع على
المشتري أو تحريم أخذ الثمن من المشتري على البائع حكم شرعي فلا
يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يوجد ذلك فوجب أن لا يثبت
الجواب
هذه الدلالة لا تتم إلا مع التمسك بأن الأصل في كل ثابت بقاؤه على
ما كان وأنه إنما يجوز العدول عن هذا الأصل إذا وجد دليل يوجب العدول
عنه وذلك الدليل لا يكون إلا نصا أو إجماعا أو قياسا
وعلى هذا يسقط السؤال وذلك لأنا نقول مثلا في مسألة بيع
الغائب لا شك أن قبل جريان هذا البيع كان المبيع ملكا للبائع والأصل
في كل ثابت بقاؤه على ما كان إلا أنا نترك التمسك بهذا الأصل عند وجود
نص أو إجماع أو قياس يدل على خلافه ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة
فلم يوجد ما يوجب العدول عن التمسك بذلك الأصل وإذا كان كذلك وجب
الحكم ببقائه على ما كان
وحاصل الكلام أنى إنما ادعيت الحصر فيما يدل على تغيير الحكم
عن مقتضى الأصل والحكم الذي أنتجته من هذا الدليل ليس من باب تغير
الحكم بل هو من باب إبقاء ما كان على ما كان فلم يكن ادعاء الحصر
في تلك الصورة قادحا في صحة هذه الدلالة
وإذا عرفت هذا فالعبارة الصحيحة عن هذا الدليل أن يقال
174

حكم الشرع إبقاء ما كان على ما كان إلا إذا وجدت دلالة شرعية مغيرة
والدلالة المغيرة إما نص أو إجماع أو قياس ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة
فلم توجد الدلالة المغيرة فوجب بقاؤه على ما كان
فإن قلت التمسك باستصحاب الأصل كاف فأي حاجة إلى هذا
التطويل
قلت المناظر تلو المجتهد ومعلوم أن المجتهد لا يجوز له التمسك
باستصحاب حكم الأصل إلا إذا بحث واجتهد في طلب هذه الأدلة المغيرة
فإذا لم يجد في الواقعة شيئا منها حل له فيما بينه وبين الله تعالى
أن يحكم بمقتضى الاستصحاب
فأما قبل البحث عن وجود هذه الدلائل المغيرة فلا يجوز له التمسك
بالاستصحاب أصلا
فلما ثبت أن الأمر في المجتهد كذلك وجب أن يكون في حق المناظر
كذلك لأنه لا معنى للمناظرة المشروعة إلا بيان وجه الاجتهاد
وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو
أن الاستدلال بعدم المثبت أولى من الاستدلال بعدم النافي على
الوجود وبيانه من وجوه
أحدها
أنا لو استدللنا بعدم المثبت على العدم لزمنا عدم ما لا نهاية له
وذلك غير ممتنع
أما لو استدللنا بعدم النافي على الوجود لزمنا إثبات ما لا نهاية له وهو
محال
175

وثانيها
أنا نستدل بعدم ظهور المعجز على يد الإنسان على أنه ليس بنبي ولا
نستدل بعدم ما يدل على أنه ليس برسول على كونه رسولا
وثالثها
أنه لا يقال إن فلانا ما نهاني عن التصرف في ماله فأكون مأذونا في
التصرف ويقال إنه لم يأذن لي في التصرف في ماله فأكون ممنوعا
ورابعها
أن دليل كل شئ على حسب ما يليق به فدليل العدم العدم ودليل
الوجود الوجود
سلمنا أنه ليس أحد الطريقين أولى من الآخر لكن ذلك يقتضي أن
يتعارضا ويتساقطا
منه وحينئذ يبقى مقتضى الأصل وهو بقاء ما كان على ما كان
وأما السؤال الثالث فليس سؤالا علميا بل هو شئ يتعلق بالوضع
والاصطلاح فلا يليق الخوض في أمثاله في الكتب العلمية
وأما السؤال الرابع فجوابه أنا بينا في هذا الكتاب أنه لا يجوز تعليل
الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وأن سؤال الفرق سؤال قادح
وأما السؤال الخامس فساقط لأنا لم نقل إنه يلزم من عدم النص
والإجماع والقياس بقاء ما كان على ما كان إلا بعد أن بينا أن الأصل
في الثابت بقاؤه على ما كان فمعارضة الخصم إنما تلزم لو ثبت أن الأصل
176

في الشئ أن لا يبقى على ما كان ولما كان ذلك باطلا كانت معارضته
باطلة
177

المسألة الحادية عشرة
في تقرير وجوه من الأدلة التي يمكن التمسك بها في المسائل
الفقهية
اعلم أن الحكم الملتزم إثباته إما أن يكون عدميا أو وجوديا
فإن كان عدميا أمكن أن يذكر فيه عبارات
إحداها
أن يقال هذا الحكم كان معدوما وذلك يقتضي ظن بقائه على العدم
والعمل بالظن واجب
إنما قلنا إنه كان معدوما لأن المحكوم عليه كان معدوما في الأزل
فوجب أن لا يكون الحكم ثابتا في الأزل لأن ثبوت الحكم من غير ثبوت
المحكوم عليه عبث وسفه وهو غير جائز على الله تعالى
فإن قلت فهذا يقتضي أن يكون كلام الله تعالى حادثا
قلت لا نسلم لأن المراد من الحكم كون الشخص مقولا له إن
لم تفعل هذا الفعل في هذه الساعة عاقبتك ومن المعلوم بالضرورة أن
هذا المعنى لم يكن متحققا في الأزل
وأما بيان أنه لما كان معدوما حصل ظن تحقق ذلك العدم في كل زمان
178

فلما بيناه في مسألة الاستصحاب
وثانيتها
أنه لو ثبت الحكم لثبت بدلالة أو أمارة
والأول باطل لأن الأمة مجمعة على أنه ليس في المسائل الشرعية
دلالة قاطعة
والثاني أيضا باطل لأن اتباع الأمارة اتباع الظن وهو غير جائز لقوله
تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وقول على الله بما لا نعلم وهو
غير جائز لقوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون
وثالثها
لو ثبت الحكم لثبت إما لمصلحة أو لا لمصلحة
والثاني عبث والعبث غير جائز على الحكيم
والأول لا يخلو إما أن تكون المصلحة عائدة إلى الله تعالى أو إلى
العبد
والأول محال لامتناع النفع والضرر عليه تعالى
والثاني أيضا محال لأن المصلحة لا معنى لها إلا اللذة أو ما يكون
وسيله إليها والمفسدة لا معنى لها إلا الألم أو ما يكون وسيلة إليه ولا لذة
إلا والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداءا فيكون توسط شرع الحكم عبثا
وكذا القول في المفسدة
فهذا الدليل ينفي شرع الحكم ترك العمل به فيما توافقنا على وقوعه
فبقي في المختلف فيه على وفق الأصل
179

ورابعتها
أن هذه الصورة تفارق الصورة الفلانية التي ثبت الحكم فيها في وصف
مناسب فوجب أن تفارقها في هذا الحكم
بيان المفارقة في الوصف المناسب هو أنه وجد في الأصل ذلك
الوصف الفلاني وأنه مناسب لذلك ويبين ذلك الحكم بطريقه
وبيان أن هذا القدر يمنع من المشاركة في الحكم وذلك لأن هاتين
الصورتين لو اشتركتا في الحكم لكان إما أن يكون الحكم الثابت في
الصورتين معللا بوصف مشترك بين الصورتين أو لا يكون كذلك
فإن كان الأول لزم إلغاء الوصف المناسب المعتبر الذي اختص
الأصل به وأنه غير جائز
وإن كان الثاني لزم تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين وهذا
غير جائز لأن إسناد أحد ذينك الحكمين إلى علته إن كان لذاته أو للوازم
ذاته لزم في الحكم الذي يماثله إسناده أيضا إلى تلك الماهية لا إلى ماهية
أخرى
وإن لم يكن لذاته ولا للوازم ذاته كان الحكم في نفسه غنيا عن تلك
العلة والغنى عن الشئ لا يكون مستندا إليه فوجب في ذلك الحكم أن لا
يكون مستندا إلى تلك العلة وقد فرضناه مستندا إليها هذا خلف
وخامسها
أن الحكم لو ثبت في هذه الصورة لثبت في الصورة الفلانية لأن
بتقدير ثبوته في هذه الصورة كان ذلك لدفع حاجة المكلف وتحصيل
مصلحته
180

وهذا المعنى قائم هناك فيلزم ثبوت الحكم هناك فلما لم يوجد هناك
وجب أن لا يوجد هاهنا
وسادسها
أن هذا الحكم كان منتفيا من الأزل إلى الأبد فكان منتفيا في أوقات
مقدرة غير متناهية فوجب أن يحصل ظن الانتفاء في هذه الأوقات لأن
الأوقات الغير متناهية أكثر من الأوقات المتناهية والكثرة مظنة الظن فوجب
أن يكون الحكم في هذه الأوقات المتناهية مثل الحكم في تلك الأوقات الغير
متناهية وذلك يوجب النفي
وسابعها
شرع هذا الحكم يفضي إلى الضرر والضرر منفي بالنص وإنما قلنا
إنه يفضي إلى الضرر لأنه إن فعل خلافه استحق العقاب وإن لم يفعل بقي
في صورة تارك المراد فثبت كونه ضررا فوجب أن لا يكون مشروعا لقوله
ص لا ضرر ولا ضرار
وثامنها
لو ثبت هذا الحكم لثبت بدليل وإلا كان ذلك تكليف مالا يطاق وأنه
غير جائز لكنه لا دليل لأن ذلك الدليل إما أن أن يكون هو الله تعالى أو
غيره
181

والأول باطل وإلا لزم من قدم الله تعالى قدم الحكم وإلا لزم
النقيض وهو خلاف الدليل لكن قدم الحكم عبث
ولا جائز أن يكون غير الله تعالى لأن ذلك الغير إن كان قديما عاد
الكلام وإن كان محدثا فقد كان معدوما والأصل بقاؤه على العدم
وأيضا
فلأن شرط كونه دليلا أن توجد ذاته وأن يوجد له وصف كونه دليلا
فإذن كونه دليلا مشروط بحدوث هذين الأمرين ويكفي في أن لا يكون
دليلا عدم أحدهما والمتوقف على أمرين مرجوح بالنسبة إلى ما يتوقف على
أمر واحد
فإذن كونه دليلا مرجوح في الظن فوجب أن لا يكون دليلا
وأما إن كان الحكم وجوديا فالطرق الكلية فيه وجوه
أحدها
أن المجتهد الفلاني قال به فوجب أن يكون حقا لقوله ص
ظن المؤمن لا يخطئ ترك العمل بهذا في ظن العوام لأن
182

ظنونهم لا تستند إلى وجه صحيح فيبقى معمولا به في حق ظن المجتهد
فإن قلت فقول المجتهد المثبت معارض بقول المجتهد النافي
قلت قول المثبت أولى لأن قول المثبت ناقل عن حكم العقل
وقد ذكرنا في باب التراجيح أن الناقل أولى
وأيضا فالنافي يحتمل أنه إنما نفى لأنه وجد له ظن النفي ويحتمل
أنه إنما نفى لأنه لم يوجد له ظن الثبوت وعدم وجود الظن لا يكون ظنا
بخلاف المثبت فإنه لا يمكنه الإثبات إلا عند وجود ظن الثبوت فإنه لو
لم يوجد له هذا الظن لكان مكلفا بالبقاء على حكم العقل
وإذا كان كذلك ثبت أن قول المثبت أولى من قول النافي
وثانيها أن نقول ثبت الحكم في الصورة الفلانية فيجب ثبوته هاهنا
وبيانه
بالآية والخبر والأثر والمعقول
أما الآية فمن وجهين
أحدهما
قوله تعالى فاعتبروا دلت الآية على الأمر بالمجاوزة
183

والاستدلال بثبوت الحكم في محل الوفاق على ثبوته في محل الخلاف
مجاوزة فكان داخلا تحت الأمر
وثانيهما
قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل هو
التسوية فالله تعالى أمر بالتسوية وهذا تسوية فيكون داخلا تحت الأمر
وأما الخبر فهو أنه عليه الصلاة والسلام شبه القبلة بالمضمضة في
حكم شرعي فوجب علينا أيضا تشبيه الحكم بالحكم لقوله تعالى
فاتبعوه وهذا الذي عملناه تشبيه صورة بصورة فكان داخلا تحت
الأمر
وأما الأثر فهو أن أبا بكر رضي الله عنه شبه العهد بالعقد
وأن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى بالقياس في قوله قس الأمور
برأيك
وإذا ثبت أنهما فعلا ذلك وجب علينا مثله لقوله عليه الصلاة والسلام
184

اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر
وأما: المقول فهو أن نعين محل الوفاق فنقول الحكم هناك
إنما ثبت لحاجته ومصلحته وذلك المعنى قائم هاهنا فورود الشرع
بالحكم هناك يكون ورودا به هاهنا
وثالثها
أجمعنا على أن حكما ما في علم الله تعالى ثبت ولا شك أن ذلك
الحكم إنما ثبت لمصلحة وهذا الحكم بتقدير الثبوت محصل لنوع مصلحة
فلا بد وأن يشتركا في قدر مشترك فيعلل بالقدر المشترك وذلك يقتضي ثبوت
الحكم
ورابعها
أن هذا الحكم بتقدير الثبوت يتضمن تحصيل مصلحة المكلف ودفع
حاجته فوجب أن يكون مشروعا لأن جهة كونه مصلحة جهة الدعاء إلى
الشرعية فلو خرجت عن الدعاء إلى الشرعية لكان ذلك الخروج لمعارض
والأصل عدم المعارض
وخامسها
أن أحد المجتهدين قال بثبوت الحكم والآخر قال بعدمه فالثبوت
أولى لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا ورد خبران أحدهما ناقل عن حكم
العقل والآخر مبق له فإن الناقل أولى فكذا هاهنا
فإن قلت فالنفي بتقدير وروده بعد الثبوت يكون ناقلا أيضا
قلت لكن على هذا التقدير يتوالى نسخان وبالتقدير الأول لا
185

يحصل إلا نسخ واحد وتقليل النسخ أولى
واعلم أنا إنما جمعنا هذه الوجوه لأن أكثر مناظرات أهل الزمان في الفقه
دائرة على أمثال هذه الكلمات
ولما وصلنا إلى هذا الموضع فلنقطع غير الكلام حامدين الله تعالى
ومصلين على أنبيائه ورسله ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة وان يجعل ما
كتبنا حجة لنا لا علينا انه هو الغفور الرحيم
186

ثم اما بعد فهذا اخر ما وقفني الله تعالى إلى كتابته والتعليق به على
هذا الكتاب الأصولي الذي يعتبر بحق من أفضل الكتب الأصولية الجامعة
التي ظهرت وعرفت على الاطلاق من نواح عدة يفهمها ويجهلها
من يجهلها
ولا داعي العصمة فيها حققت ولا البعد التام عن الخطا فيما كتبت
فذلك لا يتحقق الا لمن عصمهم الله من رسله وأنبيائه ولكني أقول اني لم
آل جهدا ولم ادخر وسعا في تحقيق ما قمت به معتقدا انه قد وقع في جملته
وأكثر تفاصيله على وجه حسن مرضي مقبول عند الله ثم كرام الخلق إن شاء الله
فالحمد لله الذي الهم بابتدائه وأعان على انهائه فهو سبحانه
صاحب الفضل الأكبر الذي لا ينكر بل يشكر
وصلى الله على سيدنا محمد بن عبد الله أشرف المرسلين وأفضل
المجتهدين وعلى اله وأصحابه واتباعه وأحبائه وكل من أسهم في خدمة العلم
والدين وتقديم ما ينفع المسلمين إلى يوم الدين. المفتقر إلى رحمته تعالى
طه جابر العلواني
187