الكتاب: الفصول في الأصول
المؤلف: الجصاص
الجزء: ٤
الوفاة: ٣٧٠
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور عجيل جاسم النمشي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٥
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

أصول الفقه
المسمى ب‍
الفصول في الأصول
للإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
المتوفى سنة 370 ه‍
الجزء الرابع
دراسة وتحقيق
للدكتور عجيل جاسم النشمي
الطبعة الأولى
سنة 1409 ه‍ - 1989 م
1

أصول الفقه
المسمى ب‍
الأصول في الفصول
الجزء الرابع
3

الباب الثمانون
في
الكلام في إثبات القياس والاجتهاد
5

باب
الكلام في إثبات القياس والاجتهاد
فصل: في معنى الدليل، العلة، والقياس، والاجتهاد.
الدليل: هو الذي إذا تأمله الناظر المستدل أوصله إلى العلم بالمدلول، وسمي دليلا
لأنه كالمنبه على النظر المؤدي إلى المعرفة والمشير له إليه، وهو مشبه بهادي القوم ودليلهم
الذي يرشدهم إلى الطريق، فإذا تأملوه واتبعوه أوصلهم إلى الغرض المقصود من الموضع
الذي يؤمونه.
ألا ترى أنا نقول: إن في السماوات والأرض دلائل على الله تعالى، لأنها توصل
المتأمل بحالها إلى العلم بالله عز وجل.
ومن الناس من يقول: الدليل هو فاعل الدلالة في الحقيقة، كما أن دليل القوم هو
فاعل الدلالة، فيقولون على هذا: إن الله عز وجل هو الدليل على الحقيقة إلى العلم
به.
قال أبو بكر: والأول أظهر في اللغة، لان أحدا لا يطلق أن الله تعالى دليل، ولا
يدعوه بأن يقول: يا دليل، إلا أن يقيدوه، فيريدوا به المنجي من الهلكة، على معنى الدليل
الذي ينجيهم بهدايته.
7

فيقولون: يا دليل المتحيرين، يا هادي المضلين، وقال الله عز وجل: " وإن الله لهادي
الذين آمنوا إلى صراط مستقيم "، يعني يدلهم عليه، ويقول الناس: إن الله تعالى قد دلنا
على نفسه بآثار صنعته. فيقيدون اسم الدليل في هذه المواضع، إذا وصفوا الله تعالى.
والمراد (به). المنجي والمبين، ونحو ذلك.
والأول أظهر وأبين، لان إطلاق لفظ الدليل موجود فيه من غير تقييد، وقد يقول
الناس للاعلام المنصوبة لمعرفة الطريق - نحو الأميال المبنية في البادية -: إنها دلائل على
الطريق. ولا يسمون الذي بناها هناك دليلا، وإنما يسمون ما يستدل به المتأمل لها دليلا،
دون الواضع لها.
ويدل على (صحة) ما ذكرنا: أن المستدل يقول: الدليل على صحة قولي: كيت
وكيت، وهو يريد به الدلالة، والاعلام المنصوبة للاستدلال بها، ويقول السائل للمجيب:
ما الدليل على صحة قولك؟ ولا يجوز أن تقول: من الدليل على صحة قولك؟ فثبت بما
وصفنا: أن الدليل هو الذي يوصل المتأمل له والناظر فيه إلى العلم بالمدلول.
ومن الناس من يزعم: أن الدليل هو علمك بالشئ ووجودك له، قال: لأنه إذا قيل
له: ما الدليل على كذا؟ جاز أن يقال علمي بكذا، ووجودي لكذا.
قال أبو بكر: وليس فيما ذكرنا من وصف الدليل شئ أبعد من هذا، ولا أضعف،
لان قائلا لو قال: ما الدليل على حدث الأجسام؟ لم يصح (أن يقول): علمي بأنها لا
تنفك من الحوادث. بل يقول: الدليل على حدثها أنها لا تنفك من الحوادث.
ويوجب هذا أيضا أن تكون المحسوسات معلومة من جهة الدليل، لعلمنا بها
ووجودنا إياها، والعلم عند (هذا) القائل هو الدليل.
8

قال أبو بكر: وليس الدليل موجبا للمدلول عليه، ولا سببا لوجوده، وكما أن دليل
القوم الذي يهديهم ويرشدهم إلى الطريق، ليس هو سببا لوجود الموضع المقصود الذي
يوصل إلى علمه بدلالته، وإنما هو سبب للوصول إلى العلم به.
وأما العلة، فهي المعنى الذي عند حدوثه يحدث الحكم، فيكون وجود الحكم متعلقا
بوجودها، ومتى لم تكن العلة لم يكن الحكم، هذه قضية صحيحة في العقليات، وأصله في
العلة التي هي المرض، لما كان بحدوثها يتغير حال المريض، سميت المعاني التي تحدث
بحدوثها الاحكام العقلية عللا، لان حدوثها يوجب حدوث أوصاف وأحكام، لولاها لم
تكن. نحو قولنا: حدوث السواد في الجسم علة لاستحقاق الوصف بأنه أسود، وحدوث
الحركة فيه علة لكونه متحركا.
ونقول في الدليل: إن استحالة تعري الجسم من الحوادث دلالة على حدوثه، وليس
هو علة لحدوثه، فإن الحدث دلالة على محدثه، ولا نقول: إنها علة لمحدثه. فبان بما وصفنا
الفرق بين الدليل والعلة.
وإن الدليل إنما حظه إيصال الناظر فيه والمتأمل له إلى العلم بالمدلول، ولا تأثير له في
نفس المدلول.
وإن العلة سبب لوجود ما هو عليه، ولولاها لم يوجد على الحد الذي بيناه.
فقد تسمى العلة دليلا على ما هي (علة) له، من حيث كان تأملها موصلا إلى
العلم بما هو علة له، فيحصل من هذا أن كل علة دليل، وليس كل دليل علة.
والاستدلال: هو طلب الدلالة والنظر فيها، للوصول إلى العلم بالمدلول.
(والقياس: أن يحكم للشئ على نظيره المشارك له في علته الموجبة لحكمه).
والاستدلال على ضربين:
9

أحدهما: يوصل إلى العلم بالمدلول. وهو النظر في دلائل العقليات، إذا نظر فيها من
وجه النظر. وكثير من دلائل أحكام الحوادث التي ليس عليها إلا دليل واحد، قد كلفنا
فيها إصابة المطلوب.
والضرب الثاني: يوجب غلبة الرأي وأكبر الظن، ولا يفضي إلى العلم بحقيقة
المطلوب. وذلك في أحكام الحوادث التي طريقها الاجتهاد ولم يكلف فيها إصابة المطلوب،
إذا لم ينصب الله تعالى عليه دليلا قاطعا يفضي إلى العلم (به)، فيسمى ذلك دليلا على
وجه المجاز، تشبيها له بدلائل العقليات ودلائل أحكام الحوادث التي ليس لها إلا دليل
واحد. وسنبين ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وكذلك القياس على وجهين:
أحدهما: القياس على علة حقيقية موجبة للحكم المقيس، وهي علل العقليات
على الحد الذي وصفنا.
والثاني: قياس أحكام الحوادث على أصولها من النصوص، ومواضع الاتفاق،
وغيرها.
فما كان هذا وصفه، فليس بعلة على الحقيقة، لأنا قد بينا أن العلة على الحقيقة،
هي ما كان موجبا للحكم، يستحيل وجودها عارية من أحكامها.
وعلل الشرع التي يقع القياس عليها، لا يستحيل وجودها عارية من أحكامها.
ألا ترى: أن سائر العلل التي تقيس بها أحكام الحوادث، قد كانت موجودة غير
موجبة لهذه الأحكام، إذ كانت هذه العلل هي بعض أوصاف الأصل المعلل، وهذه
الأوصاف قد كانت موجودة قبل حدوث الحكم، غير موجبة له، وإنما هي سمات وأمارات
الاحكام، يستدل بها عليها، كدلالة الأسماء على مسمياتها في الاحكام المعلقة بها، فلا تكون
موجبة لها، لوجودنا هذه الأسماء غير موجبة لهذه الأحكام. وإنما هي سمة وعلامة، جعلت
10

أمارة للحكم، فجائز أن تجعل أمارة له في حال: ولا تجعل أمارة له في أخرى. كذلك علل
الشرع التي يقع عليها القياس هذه سبيلها.
وأما الاجتهاد: فهو بذل المجهود فيما يقصده المجتهد (و) يتحراه، إلا أنه قد اختص
في العرف بأحكام الحوادث التي ليس لله تعالى عليها دليل قائم يوصل إلى العلم بالمطلوب
منها، لان ما كان لله عز وجل (عليه) دليل قائم، لا يسمى الاستدلال في طلبه اجتهادا
ألا ترى أن أحدا لا يقول: إن علم التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الاجتهاد
وكذلك ما كان لله تعالى عليه دليل قائم من أحكام الشرع، لا يقال: إنه من باب
الاجتهاد، لان الاجتهاد اسم قد اختص في العرف وفي عادة أهل العلم، بما كلف
الانسان فيه غالب ظنه، ومبلغ اجتهاده، دون إصابة المطلوب بعينه، فإذا اجتهد
المجتهد، فقد أدى ما كلف، وهو ما أداه إليه غالب ظنه، وعلم التوحيد وما جرى مجراه،
مما لله عليه دلائل قائمة كلفنا بها: إصابة الحقيقة، لظهور دلائله، ووضوح آياته.
واسم الاجتهاد في الشرع ينتظم ثلاثة معان:
أحدها: القياس الشرعي على علة مستنبطة، أو منصوص عليها، فيرد بها الفرع
إلى أصله، وتحكم له بحكمه بالمعنى الجامع بينهما.
وإنما صار هذا من باب الاجتهاد - وإن كان قياسا - من قبل أن تلك العلة لما لم تكن
موجبة للحكم لجواز وجودها عارية (منه) وكانت كالامارة، وكان طريق إثباتها علامة
11

للحكم: الاجتهاد، وغالب الظن لم يوجب ذلك لنا العلم بالمطلوب، فلذلك كان طريقه
الاجتهاد.
والضرب الاخر من الاجتهاد: هو ما يغلب في الظن من غير علة يجب بها قياس
الفرع على الأصل، كالاجتهاد في تحري جهة الكعبة لمن كان غائبا عنها، وكتقويم
المستهلكات، وجزاء الصيد، والحكم بمهر المثل، ونفقة المرأة، والمتعة، ونحوها. فهذا
الضرب من الاجتهاد، كلفنا فيه الحكم بما يؤدي إليه غالب الظن، من غير علة يقاس
بها فرع على أصله.
والضرب الثالث: الاستدلال بالأصول على ما سنذكره بعد فراغنا من ذكر وجوه
القياس.
ويصح إطلاق (لفظ) الاستدلال على العقليات والشرعيات جميعا، لأنا قد
(نقول): استدللنا على حكم الحادثة من طريق القياس، ومن جهة الاجتهاد، وإنما سمي
ذلك استدلالا فيما كان من باب الاجتهاد مجازا لا حقيقة.
والدليل على أنه ليس بحقيقة فيما كان طريقه الاجتهاد، أنه لا يوصل إلى العلم
بالمطلوب، ولذلك لم نكلف فيه إصابة المطلوب، ولو كان لله تعالى عليه دليل قائم لكلفنا
12

فيه إصابة المطلوب، كسائر الأشياء التي تولى الله تعالى نصب الدلائل عليها، ثم كلفنا فيها
إصابة مدلولها.
وإنما يسوغ الاجتهاد فيما يجوز فيه النسخ والتبديل، وورود العبارة فيه بأحكام
مختلفة، تارة بحظر، وأخرى بالإباحة، وأخرى بالايجاب، على حسب ما يعلم الله تعالى لنا
فيها من المصالح.
فأما ما لا يجوز وقوعه في حكم العقل إلا على وجه واحد من حظر أو إيجاب، فليس هو
من باب الاجتهاد إذا كلفنا حكمه، فنكون حينئذ متعبدين فيه بإصابة حقيقة الحكم.
ويكون الحق في واحد من أقاويل المختلفين (والله الموفق).
13

الباب الحادي والثمانون
في
القول في الوجوه التي يوصل بها إلى أحكام الحوادث
15

باب
القول في الوجوه التي يوصل بها إلى أحكام الحوادث
قال أبو بكر: تستدرك أحكام الحوادث التي ليس فيها توقيف ولا اتفاق من وجهين:
أحدهما: استخراج دلالة من معنى التوقيف لا يحتمل إلا معنى واحدا.
والاخر: الاجتهاد، وهو فيما لم نكلف فيه إصابة المطلوب، وذلك ينقسم ثلاثة
أقسام:
أحدها: استخراج علة من أصل يرد بها علة الفرع، ويحكم له بحكمه، وهو
الذي نسميه قياسا.
والاخر: الاجتهاد وما يغلب في الظن، لا على وجه القياس، والاستشهاد عليه
بالأصول.
والثالث: الاستدلال على الحكم بالأصول من جهة القياس والاجتهاد اللذين
ذكرنا.
فأما الوجه الأول: فنحو احتجاج أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين خالفه
الصحابة في قتال مانعي الزكاة، فقال: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فقالوا:
قال النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني
دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها " فقال أبو بكر:.. هذا من حقها). فتبينوا صحة استخراجه
ورجعوا (إلى قوله).
17

ومثله احتجاج عمر رضي الله عنه على الزبير وبلال، ونفر معهما، حين سألوه قسمة
السواد وراجعوه فيه، مرة بعد أخرى فقال: (قال الله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من
أهل القرى) إلى قوله تعالى (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) وقوله تعالى: (والذين
جاؤوا من بعدهم) فلو قسمت السواد بينكم كانت دولة بين الأغنياء منكم وبقي آخر
الناس لا شئ لهم، فعرفوا صحة استدلاله، ورجعوا إلى قوله لظهور دلالته.
وكذلك قوله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى
يتبين لكم الخيط (الأبيض) من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) على أن الجنابة
لا تمنع الصوم، لان في الآية إباحة للجماع إلى آخر الليل، ومعلوم أن من
جامع في آخر الليل فصادف فراغه من الجماع طلوع الفجر، أنه يصبح جنبا، وقد حكم الله
تعالى بصحة صيامه، بقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل)، فكانت هذه دلالة في
أن الجنابة لا تنفي صحة الصوم.
ونحوه: استدلال ابن عباس رضي الله عنه (على أن الحمل قد يكون ستة أشهر
بقوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ثم قال وفصاله في عامين فجعل الحمل ستة
أشهر.
ونحوه: قول معاذ لعمر - رضي الله عنه - حين أراد أن يرجم حبلى: إن يكن لك
عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، ولم يكن عمر - رضي الله عنه - ممن يشكل
عليه وجه ذلك، وقد كان عمر أعلم من معاذ، ولكنه لم يعلم من حملها ما علم معاذ.
18

فإن قيل: إنما أراد أن يرحمها لأجل الحمل.
قيل له: ليس كذلك عندنا، لان ظهور الحمل لا يوجب الحد عند سائر الفقهاء،
فعلمنا أن ما كان ثابتا من غير جهة الحمل.
فإن قيل: فما معنى قوله: لولا معاذ هلك عمر.
قيل له: عنى لولا إخباره إياه أنها حبلى لرجمها، فيتلف ولدها، كما يقول من جرى
على يده قتل رجل خطأ: فقد هلكت، وهو لم يأثم، ولكنه يقوله استعظاما لمثل هذا.
ونحوه قوله تعالى: " وورثه أبواه فلأمه الثلث "، فعلم أن الثلثين للأب (ونحو قوله
تعالى) (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) فدل حين وعظها في ترك
الكتمان على أن القول قولها في انقضاء عدتها، وفي طهرها وحيضها، ولولا أن قولها مقبول
في ذلك لما وعظها بالكتمان.
(ونحو قوله تعالى): (وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه، ولا يبخس منه
شيئا) لما وعظه في البخس دل على أن قوله، مقبول فيما قال. ومنه قوله تعالى: (إذا
تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) إلى قوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد
الذي أئتمن أمانته) فدل على (أن) أمره بالاشهاد على المداينة: استيثاق لما
يخشى من الجحود في العاقبة، فلم يجب من أجله أن يختلف بيع الأعيان وعقود
المداينات.
19

ونظائر ذلك كثيرة، ومنها ما هو أغمض وألطف مما ذكرنا، وهو يفضي مع ذلك إلى
العلم بالمطلوب لما كان من هذا القبيل من الدلائل، فإنا قد كلفنا فيه إصابة المطلوب.
وأما قسم الاجتهاد الذي ذكرنا أنه ينقسم إلى قياس، وإلى غالب الظن، وإلى
الاستدلال (بالأصول)، فإنا لم نكلف فيه إصابة المطلوب، والحكم الذي تعبدنا به هو
ما يغلب في الظن عند الاجتهاد، فيكون عند المجتهد (أنه) أشبه الأصول بالحادثة،
فيحكم لها بحكمه.
ويدل على أن أحكام الحوادث على هذين القسمين اللذين ذكرنا: أنا وجدنا
الصحابة اختلفت في أحكام الحوادث على ضربين، فسوغوا الخلاف والتنازع في أحدهما،
وهي مسائل الفتيا، وأنكروه في الاخر، وخرجوا منه إلى التلاعن، والبراءة، ونصب
الحرب، والقتال، لان دليل الحكم كان قائما قد كلفوا فيه إصابة الحقيقة، فكان عندهم أن
الذاهب عنه ضال آثم تارك لحكم الله تعالى. وما كان طريقه الاجتهاد وغلبة الظن لم يخرجوا
فيه إلى هذه الأمور فدل على أنهم لم يكلفوا فيه إصابة المطلوب، إن لم يكن لله تعالى عليه
دليل قائم.
20

الباب الثاني والثمانون
في
ذكر الدلالة على إثبات الاجتهاد والقياس في
أحكام الحوادث
وفيه فصل: فيما احتج به مبطلو القياس
21

باب
ذكر الدلالة على إثبات الاجتهاد
والقياس في أحكام الحوادث
قال أبو بكر - رحمه الله: نبدأ بعون الله تعالى وتوفيقه بالكلام على مخالفينا في القياس
والاجتهاد في أحكام الحوادث. ثم نعقبه ببيان وجوه القياس الشرعي. ثم نذكر أقاويل
المختلفين في حكم المجتهدين، ومذاهب أصحابنا فيه.
قال أبو بكر: لا خلاف بين الصدر الأول والتابعين وأتباعهم في إجازة الاجتهاد
والقياس على النظائر في أحكام الحوادث، وما نعلم أحدا نفاه وحظره من أهل هذه الاعصار
المتقدمة.
إلى أن نشأ قوم ذو جهل بالفقه وأصوله، لا معرفة لهم بطريقه السلف، ولا توقي
للاقدام على الجهالة واتباع الأهواء البشعة، التي خالفوا فيها الصحابة، ومن بعدهم من
أخلافهم. فكان أول من نفى القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث إبراهيم
(النظام).
وطعن على الصحابة من أجل قولهم بالقياس إلى ما لا يليق بهم، وإلى ضد
ما وصفهم الله تعالى به، وأثنى به عليهم، بتهويره وقلة علمه بهذا الشأن، ثم تبعه على هذا
القول نفر من متكلمي البغداديين، إلا أنهم لم يطعنوا على السلف كطعنه، ولم يعيبوهم
لكنهم ارتكبوا من المكابرة، وجحد الضرورة أمرا شنيعا، فرارا من الطعن على السلف
23

في قولهم بالاجتهاد والقياس، وذلك أنهم زعموا: أن قول الصحابة في الحوادث كان على
وجه التوسط والصلح بين الخصوم، وعلى جهة بون المسائل، لا على وجه قطع الحكم
وإبراهم القول، فكان عندهم: أنهم قد حسنوا مذهبهم بمثل هذه الجهالة، وتخلصوا من
الشناعة التي لحقت النظام، بتخطيئة السلف.
ثم تبعهم رجل من الحشو متجاهل لم يدر ما قال هو، ولا ما قال هؤلاء، وأخذ طرفا
من كلام النظام، وطرفا من كلام بعض متكلمي (بغداد من) نفاة القياس، فاحتج به في
نفي القياس والاجتهاد، مع جهله بما تكلم به الفريقان، من مثبتي القياس ومبطلية، وقد
كان (مع ذلك) ينفي حجج العقول، ويزعم أن العقل لاحظ له في إدراك شئ من علوم
الدين، فأنزل نفسه منزله البهيمة، بل هو أضل منها، كما قال الله تعالى (إن هم إلا
كالانعام بل هم أضل). ونحن نذكر ما احتج به أهل الحق في إثبات القياس والاجتهاد
من الكتاب والسنة واتفاق الأمة، ثم نعقبه ببيان وجوه القياس وفروعها، وما يتعلق بها إن
شاء الله تعالى.
فمما احتجوا به في إباحة الاجتهاد في الاحكام من كتاب الله تعالى: (والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف) إلى قوله تعالى: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح
عليهما) فدلت هذه الآية على جواز الاجتهاد من وجهين: أحدهما: قوله تعالى:
(وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) والمعروف إنما يوصل إليه بغالب (الظن)
24

والرأي، إذ ليس له مقدار معلوم من نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وإنما هي على قدر
الحال وما يحتاج إلى المرضع والمرضعة.
والوجه الاخر: قوله تعالى: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح
عليهما).
وليس لما يقع التراضي عليه حد معلوم على حسب ما يغلب في الظن، لأنه علقه
بالمشاورة، والمشاورة لا تقع في شئ فيه توقيف أو اتفاق، أو دليل قائم، وإنما هو استخراج
رأي على غالب الظن.
ومن ذلك قوله تعالى: (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا
بالمعروف) وقال تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف) وفي موضع آخر:
(فمتعوهن وسرحوهن) ولا سبيل إلى الوقوف على مقدار هذه المتعة إلا من طريق
الاجتهاد وغالب الظن، (لاختلاف أحوال الناس في اليسار والاعسار. من ذلك قوله
تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) ومن غاب عن الكعبة لا يصل إلى
التوجه إليها إلا من طريق الاجتهاد، وغالب الظن) ومنه قوله تعالى: (فإن خفتم أن لا
يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) وهذا الخوف إنما هو على غالب ما يستولي
على قلوبنا منه، وقوله تعالى (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، وإن
تخالطوهم فإخوانكم) وإصلاح مال اليتيم إنما يكون بتحري الاحتياط في تمييزه
وحفظه وإحرازه، وذلك إنما يكون بغالب الظن.
25

ومنه قوله تعالى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل
على الله). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، فيما لم يوح إليه (منه) بشئ، ثم
يختار من آرائهم ما كان عنده أنه أقرب إلى الصواب في أمر الحروب، ومكائد العدو.
فإن قال قائل: إنما أمره بمشاورتهم تطييبا لأنفسهم، ولينفي عنه الفظاظة التي أمر الله
تعالى باجتنابها، ولم يكن يرجع إلى آرائهم، وإنما كان يعمل على ما ينزل به الوحي.
قيل له: غير جائز أن يكون أمره بمشاورتهم من غير رجوع إلى آرائهم - باعتبار الصواب
منها - باجتهاده ورأيه، لأنهم إذا علموا أنهم يشاورون ثم لا يلتفت إلى رأيهم، زاد ذلك في
وحشتهم وانخزالهم، وهو مع ذلك يجري العبث، وما لا فائدة فيه، وهذه منزلة يرتفع
النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها. إذ هو بالهزء والاستخفاف أشبه منها بما يوجب تطييب النفوس.
ألا ترى أنه لا يشاورهم أن الظهر أربع ركعات، والمغرب ثلاث، من حيث كان
طريق معرفته الوحي، فعلمنا أنه أمر بمشاورتهم ليظهروا آراءهم، وما يؤديهم إليه
اجتهادهم، فيجتهد معهم، ويختار الصواب عنده منها.
ويدل على ذلك، أن الحباب بن المنذر، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل منزلا يريد المشركين في
وقعة بدر: (أرأيت يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته؟ أبأمر الله هو فنسلم لأمر الله. أم
بالرأي والمكيدة؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هو بالرأي " فقال: أرى ان تبادر إلى الماء، فتنزل عليه
قبل أن يسبق المشركون إليه فقبل ذلك.
وكذلك يوم الأحزاب، لما عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يعطي عيينة بن حصن وقوما
معه نصف ثمار المدينة، على أن لا يعاونوا قريشا عليه، قالت الأنصار: أرأي رأيته
يا رسول الله، أم وحي؟ فقال " بل رأي. رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، فرأيت أن
26

أدفعهم عنكم إلى يوم ما " فقالت الأنصار: والله ما كانوا يطمعون فيها، ونحن على
الشرك، إلا قرى أو شرى، فكيف نعطيهم الان وقد أعزنا الله بالاسلام! لا نعطيهم إلا
بالسيف، فلم يعطهم شيئا.
هذا يدل على أنهم قد كانوا عهدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم في أمور لم ينزل عليه فيها
وحي. ثم يجتهد معهم، فيختار منها ما يراه صوابا. لولا ذلك لما قالوا له: أرأي هو أم وحي؟
ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، (بل هو رأي) ويبين وجه اجتهاده وغالب ظنه فيه، وروي عن علي
كرم الله وجهه أنه قد قال: قلت يا رسول الله، إنك توجهني في الامر فأكون فيه
كالسكة المحماة، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: الشاهد يرى ما لا يراه
الغائب " فهذا أيضا يدل على ما ذكرناه، لأنه لو كان كل ما يأمر به من جهة الوحي، لما
اختلف فيه حكم الشاهد، إذ كان الله تعالى شاهدا في كل حال، عالما بالعواقب. فدل
على أن ما أمر به كان يكله إلى الاجتهاد ورأيه.
ومنه قوله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " إلى قوله تعالى: " فإن خفتم
أن لا تعدلوا فواحدة " وهذا الخوف إنما هو في غالب الظن، لان الانسان لا يحبط عمله بما
يؤثره في مستقبل أوقاته.
ومنه قوله تعالى: " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم " والابتلاء وإيناس الرشد إنما يكونان بالاجتهاد، وغالب الظن على
حسب ما يظهر من حزم اليتيم وحفظه لأمواله.
وقال عز وجل: " وللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " وكان
27

ذلك حد الزانيين، ولم يكن للأذى حد معلوم يصار إليه، وإنما كان على حسب ما يغلب في
الظن أنه أذى.
وقال تعالى: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع
واضربوهن " وهذا الوعيد إنما هو بحسب ما يؤدي إليه الاجتهاد.
وكذلك الهجران والضرب.
وقال تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن
يصلحا بينهما صلحا) وهذا الخوف على حسب ما يغلب على الظن، وكذلك الصلح
على حسب ما يريانه صلاحا في غالب رأيهما، وكذلك قوله تعالى: (أو إصلاح بين
الناس) معناه ما يراه صلاحا لهم في اجتهاد رأيه، وما يغلب في ظنه أنه أدعى إلى
الألفة واجتماع الكلمة، وأنفى للتنافر وتفرق الكلمة.
وقال تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ
الكعبة). وحكم العدلين بالمثل، هو إنما من طريق الرأي.
وكذلك قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم). وقال تعالى: (وآت ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل) وإنما يؤتون ما
يغلب في الظن أنه مقدار الكفاية وسد الخلة، وقال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم
يقتروا وكان بين ذلك قواما). والعدل الذي بينهما ألا يوصل إليه إلا من طريق
28

الاجتهاد، وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في
الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) الآية.
وأجمعت الأمة - غير الرافضة - أن هذا الاستخلاف إنما يكون في كل وقت باجتهاد
المسلمين وآرائهم، فيمن يرونه موضعا للخلافة لفضله، وأنه أصلح للأمة من غيره، وقال
تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر
). وظاهره يقتضي أن التنازع واقع في غير المنصوص عليه، إذ كانت العادة أن
التنازع والاختلاف بين المسلمين لا يقعان في المذكور بعينه. فإنه أمر برد المتنازع فيه إلى
كتاب الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، وسنته بعد وفاته.
والرد إلى الكتاب والسنة إنما هو باستخراج حكمه منهما بالاجتهاد والنظر.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكون معنى قوله تعالى: (فردوه إلى الله والرسول) الرد
إلى نص الكتاب ونص السنة، لا من جهة القياس والرأي.
قيل له: هذا غلط من وجوه.
أحدها: أن الأظهر أن التنازع إنما يقع بين المسلمين في غير ما نص عليه، لا يجوز
حمل الآية على خلاف الظاهر من أمرها.
والثاني: أنك تجعل تقدير الآية على الوضع: أن اتبعوا الكتاب والسنة، وهذا
واجب في حال التنازع وغيرها. فتخل الآية من فائدة ذكر التنازع.
والثالث: أنك خصصت الامر بالرد فيما قد نص عليه، دون ما لم ينص عليه، وعموم
اللفظ يقتضي وجود الرد في الحالين، سواء كان الحكم المتنازع فيه منصوصا عليه أو
غير منصوص عليه، فلا جائز لاحد تخصيصه والاقتصار به على حال وجود النص دون
29

غيره. فثبت أنها قد اقتضت وجوب الرد عند التنازع إلى الكتاب والسنة، واتباع موجبها
نصا ودليلا.
ويدل عليه قوله أيضا: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم "، فأمر باستنباط ما أشكل عليه حكمه.
وقد قيل: إن " أولي الامر " إنهم أمراء السرايا، وقيل: إنهم أولوا العلم، ولا محالة أن
أولي العلم مرادون بذلك، لان أمراء السرايا إن لم يكونوا ذوي علم بالاستنباط كانوا بمنزلة
غيرهم.
فإن قيل: إنما هذا في أمر الخوف والامن، لأنه تعالى قال: (وإذا جاءهم أمر من
الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول).
قيل له: إنه وإن كان كذلك، فدلالته قائمة على ما ذكرنا، لان أمر الخوف والامن
ومكائد العدو، وتدبير الحرب، وما جرى مجرى ذلك، من أمور الدين، فإذا جاز الاستنباط
فيه لعدم وجود النص، جاز في سائر أحكام الحوادث التي لا نص فيها، فإن قيل: قال
تعالى: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) والقياس الشرعي لا يفضي إلى العلم، فعلمنا
أنه لم يرد به.
قيل له: هذا غلط، لان من يقول: إن كل مجتهد مصيب، يقول: قد علمت أن
ما أداني إليه قياسي فهو حكم لله تعالى (علي)، وأما من قال: إن الحق في واحد، فإنه
يقول: هذا علم الظاهر، كخبر الواحد، وكالشهادة، وكقوله تعالى: (فإن علمتموهن
مؤمنات). ويدل عليه أيضا: قوله تعالى: (ونزلنا عليكم الكتاب تبيانا لكل
30

شئ) وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) وقال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب
من شئ). فإذا لم نجد فيه كل حكم منصوصا، علمنا أن بعضه مدلول عليه، ومودع في
النص، نصل إليه باجتهاد الرأي في استخراجه.
ويدل عليه قوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) قد حوت
هذه الآية ثلاثة معان:
أحدها: ما نزل الله تعالى مسطورا.
والاخر: بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لما يحتاج منه إلى البيان.
والثالث: التفكر فيما ليس بمنصوص عليه وحمله على المنصوص.
قال أبو بكر: واحتج إبراهيم بن علية، لاثبات القياس بقوله تعالى: (فاعتبروا يا
أولي الابصار).
قال أبو بكر: وقد حكي عن ثعلب أن رد حكم الحادثة إلى نظيرها من الأصول
يسمى اعتبارا.
قال أبو بكر: ويدل على صحة هذا المعنى، ابتداء الآية التي فيها ذكرا لاعتبار، لأنه
تعالى قال: (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الهل من حيث لم يحتسبوا وقذف في
قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين). فأخبر عن ظنهم الكاذب، أن
31

حصونهم مانعتهم من الله تعالى، ثم أخبر عما استحقوه من الخزي والعذاب والذل
والخذلان، بقوله تعالى: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) ثم قال تعالى: (فاعتبروا يا
أولي الابصار) والمعني - والله أعلم - أن احكموا لمن فعل مثل فعلهم باستحقاق العقوبة
والنكال من الله تعالى، لئلا يقدموا على مثل ما أقدموا عليه، فيستحقوا مثل ما استحقوا
فدل على أن الاعتبار هو ان تحكم للشئ بحكم نظيره المشارك له في معناه، الذي تعلق به
استحقاق حكمه.
فإن قيل: الاعتبار: هو التفكر والتدبر.
قيل له: هو كذلك، إلا أنه تفكر في رد الشئ إلى نظيره، على الوجه الذي قلنا.
ألا ترى أنك تقول: قد اعتبرت هذا الثوب بهذا الثوب، إذا قومته بمثل قيمته.
فكان المعنى: أنك رددته إليه، وحكمت له بمثل حكمه، إذ كان مثله ونظيره.
وحكي لي بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله بن زيد الواسطي قال: رأيت
القاساني وابن سريج قد صنفا في القياس نحو ألف ورقة، هذا في نفيه، وهذا في
إثباته، اعتمد القاساني فيه على قوله تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى
32

عليهم)، واعتمد ابن سريج في إثباته (على قوله تعالى) (فاعتبروا يا أولي
الابصار).
ومما يدل على ذلك من جهة السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور الصحابة في أسرى بدر في
قتلهم أو فدائهم. فأشار عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بالفداء، وأشار عمر
رضي الله عنه، بالقتل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أنت يا أبا بكر، فأشبهت إبراهيم عليه
السلام، فإنه قال: " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " وأما أنت يا عمر،
فإنك أشبهت نوحا عليه السلام، قال (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديار))
ووافق رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه، فمن عليهم وأخذ الفداء، وكان ذلك
شيئا من أمر الدين.
ولو كان هناك نص من الله تعالى في أحد الحكمين لما شاور فيه أحدا.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عاتبه في أخذه الفداء في قوله تعالى: (ما كان لنبي أن
يكون له أسرى) إلى قوله تعالى: (لولا كتاب من سبق). فدل على أن الفداء لم يكن
جائزا.
قيل له: قد اختلف في تأويل هذه الآية، فأبى بعضهم ما ذكرت، وأجازه آخرون،
والكلام في صحة أحد هذين القولين خروج عن مسألتنا، لأنه كلام بين من قال: كل مجتهد
مصيب، والحق في جميع أقاويل المختلفين، وبين من قال: الحق في واحد، بعد تسليم جواز
33

الاجتهاد والاستدلال. فالخبر صحيح على ما ذكرنا في جواز الاجتهاد، لأنه إن كان
أبو بكر مخطئا في الفداء، فعمر مصيب في الإشارة بالقتل، ولم يختلفوا أن الله تعالى لم يعاتبه
في المشاورة في استعمال اجتهاد الرأي فيه.
ومنه: حديث قصة الاذان، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتم للصلاة (كيف يجمع لها
الناس، فقيله: يا رسول الله: انصب راية عند حضور الصلاة)، فإذا رأوها أذن
بعضهم بعضا، فلم يعجبه، وذكروا له شبور اليهود، فلم يعجبه وقال: هذا من أمر
اليهود، وذكروا له الناقوس، فقال: هو من أمر النصارى، ثم أرى عبد الله بن زيد الاذان،
فحاء فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لقنها بلالا)، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في جهة إعلام
الناس بالصلاة. فاجتهد قوم في الراية، وقوم في الشبور، وقوم في الناقوس، ولم يعنفهم
النبي صلى الله عليه وسلم في اجتهادهم.
ومن ذلك تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ في بني قريظة ليحكم فيهم بما يراه
صلاحا، فحكم فيهم بقتل الرجال، وسبى الذرية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (حكمت بحكم الله
تعالى من فوق سبع سماوات).
فان قيل: إنما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه وافق حكم الله تعالى.
قيل له: هذا غلط وسنبينه، ومع ذلك فدلالة الخبر صحيحة على ما ذكرنا، وهو
تحكيمه إياه بمبلغ رأيه واجتهاده، وأن يكون وافق الحكم الله عز وجل أو لم يوافقه، غير
34

قادح في صحة ما ذكرنا، وإنما هو كلام من القائلين بالاجتهاد بعد تسليم الأصل.
وعلى أن ما ذكرت غلط، لأنه يوجب أن يكون لو كان حكم فيهم بالجزية أن لا يجيزه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط على اليهود أنه إن لم يوافق حكمه حكم الله
تعالى لم يجزه.
وإذا كان ذلك كذلك، علمنا أنه لو حكم بغير ذلك لأجاز حكمه، لأنه قد سلطه
على الحكم بما يراه.
فإن قيل: يجوز أن يكون إنما حكم سعدا، لأنه علم أن حكمه سيوافق حكم الله
تعالى، ولذلك أباح له الاجتهاد.
قيل له: فكذلك يقول القائلون: بأن كل مجتهد مصيب، في سائر الحوادث، أن الله
عز وجل إنما أباح لهم الاجتهاد لأنه علم أنهم سيوافقون حكم الله تعالى فيه.
ومن ذلك أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بكتب الكتاب يوم الحديبية، بينه وبين سهيل
بن عمرو، وكان الكاتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كتب (هذا ما أصلح عليه
محمد رسول الله، وسهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ما كذبناك ولكن
اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لعلي امح رسول الله،
واكتب محمد بن عبد الله. فقال علي: ما كنت لأمحها، فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم) ولم ينكر
على علي رضي الله عنه اجتهاده في ترك محوها، لأنه لم يقصد به مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما
قصد تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبجيل ذلك الاسم، ورأى أن لا يمحوه هو ليمحوه غيره
فكان ذلك طاعة منه لله تعالى، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (قد) فرض الله عليك
محوها لمحاها بيده.
ومن ذلك أن أبا بصير لما هرب من المشركين بعد الصلح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
35

بعثت قريش رجلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه رده عليهم على ما أوجبهم الشرط الذي
شرطه لهم في كتاب الصلح، فرده النبي صلى الله عليه وسلم فلما خرجوا من المدينة قتل أبو بصير أحدهما
وهرب الاخر راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخبره بما فعل أبو بصير. ولحق أبو بصير بسيف
البحر ولحق به من كان بمكة من المسلمين. فجعلوا يغيرون على أموال المشركين.
وكان فعل أبي بصير ذلك، ومن صار معه، اجتهادا، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وكان
الذي كتب إلى من كان بمكة من المسلمين أن يلحقوا بأبي بصير: عمر بن الخطاب، بغير
أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ذلك، ولم ينكر على أبي بصير قتله الرجل،
ولا لحاقه بسيف البحر، ولا على أحد ممن (لحق به).
ومن ذلك (أن جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة - رحمة
الله عليهم - لما قتلوا بمؤتة، وكانوا أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقى القوم بلا أمير اجتمعوا على
خالد بن الوليد فولوه أمرهم، فانحاز بهم، فصوب النبي صلى الله عليه وسلم (ذلك) من فعلهم)
وكان فعلهم ذلك باجتهاد من آرائهم لا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما أجمع المسلمون عليه من أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إليهم أن يقيموا بعد وفاته
36

لأنفسهم إماما في كل عصر - إذا خلوا من إمام - على أغلب رأيهم في الأفضل والأصلح.
وكذلك الامام يولي أمراء السرايا والقضاة وجباة الصدقات، كل ذلك بالرأي
والاجتهاد.
ونظير ذلك من الاخبار الموجبة لجواز الاجتهاد في أمور الدين لا توقيف فيها ولا إجماع
أكثر من أن يحصى. وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لرشده، وجميع ما قدمنا ذكره من هذه الأخبار
قد ورد من طريق التواتر، من حيث لا يسع الشك فيها.
وقد روي في ذلك من طريق الآحاد غير ما ذكرنا أخبار كثيرة، وهي بمجموعها،
توجب العلم بمضمونها من وجهين:
أحدهما: أنها تصير في حيز التواتر على الحد الذي بيناه في الكلام في الاخبار،
لامتناع جواز الغلط والكذب في جميعها.
والجهة الأخرى: أنها مستفيضة في الأمة، قد تلقتها بالقبول.
فمن ذلك ما (روي أن عامر بن الأكوع رجع عليه سيفه يوم خيبر فقتله
فشك في أمره، وهابوا الصلاة عليه، فسأل سلمة أخوه النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره، فقال: مات
جاهدا مجاهد (له أجره) مرتين) وكان ذلك منه على غالب ظنه، أنه يضرب العدو
فأخطاهم. فلم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعب القوم الذين تهيبوا الصلاة عليه، باجتهادهم.
ومن ذلك (حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسيد بن حضير، وأناسا معه، في طلب قلادة أضلتها عائشة،
37

فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزلت آية التيمم) فلم
يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم على صلاتهم بغير وضوء، إذ لم يكن أنزل عليهم التيمم فصلوا
باجتهادهم كذلك، ولم يؤمروا بالإعادة.
ومنه حديث عمرو بن نجدان عن أبي ذر، قال: (بدوت بالإبل فكنت أعزب عن
الماء. ومعي أهلي فتصيبني الجنابة، فأصلي بغير طهور، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فأمرني
أن أغتسل، وقال: التراب كافيك عشر حجج، فإذا وجدت الماء فامسسه جلدك) فكان
يصلي بغير وضوء باجتهاده، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة ولم ينكر عليه اجتهاده في فعل
الصلاة بغير طهور في تلك الحال.
فإن قيل: إنه اجتهد مع وجود النص، ولا خلاف في سقوط الاجتهاد مع النص، ولم
يأمره مع ذلك بالإعادة. ولم ينكره عليه. فإذا لم يدل ذلك على جواز الاجتهاد مع وجود
النص، كذلك لا يدل على جوازه مع عدمه.
قيل له: لم يجتهد مع وجود النص، لأن جواز التيمم للجنب غير منصوص عليه في
القرآن، لان قوله تعالى: (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء)، يحتمل الجماع ويحتمل
اللمس باليد، وكان عمر (وعبد الله) بن مسعود، يريان أن المراد بهذا: اللمس باليد،
وكانا لا يريان التيمم للجنب.
وكان علي وابن عباس يقولان: المراد بها الجماع، ويريان للجنب أن يتمم، وهو
38

موضع يسوغ الاجتهاد فيه، فلذلك لم يأمره بإعادة صلاة صلاها باجتهاد، وقيل وجوب
التيمم على الجنب في حال عدم الماء، فإن قيل: قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم نص على جواز
التيمم للجنب.
قيل له: يحتمل أن لا يكون قد تقدم منه القول فيه قبل الوقت الذي خاطب به أبا ذر.
ومنه حديث عمرو بن العاص حين تيمم وهو جنب في يوم بارد في غزوة ذات
السلاسل، وصلى بهم، لأنه خاف ضرر استعمال الماء، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:
يا رسول الله، إنه صلى بنا وهو جنب، فقال: يا عمرو، صليت بهم وأنت جنب؟ قال:
خشيت إن اغتسلت (أن) أهلك، وقد سمعت الله تعالى يقول " ولا تقتلوا أنفسكم "
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا فلم ينكر على عمرو الاجتهاد في تركه الماء والعدول
عنه إلى التراب، ولم ينكر على أصحابه أيضا الاجتهاد في وجوب استعماله، إذا كانت الحال
عندهم وفي اجتهادهم غير مخفية.
ومنه حديث جابر (أن عليا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع فقال له: بماذا
أهللت. فقال: أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن أبا موسى، فعل كذلك،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني سقت الهدي، فلا أحل إلى يوم النحر). فكانا مجتهدين في الاحرام
بشئ مجهول عندهما، على تحري موافقة إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم لهما ذلك.
39

ومنه حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: (أفطرنا يوما من رمضان في غيم على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس) فأفطروا على غالب ظنونهم على غالب ظنونهم أن الشمس قد غابت،
ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة فلبس عليه في القراءة،
فلما انصرف، قال: يا أبي، أصليت معنا؟ قال: نعم. قال: فما منعك) فأخبر، أنه
قد كان له أن يجتهد في الفتح عليه.
ومنه حديث سهل بن سعد (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم
فحانت الصلاة. فجاء بلال إلى أبي (بكر)، فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟. قال:
نعم. فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في
الصلاة، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق
التفت، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن امكث مكانك، ورفع
أبو بكر يديه فحمد الله عز وجل، على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استأخر أبو بكر حتى
استوي في الصف، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف. قال: يا أبا بكر، ما منعك أن
تثبت إذا أمرتك؟ قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة، أن يصلي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لي رأيتكم أكثرتم (من) التصفيق، من رابه شئ في صلاته فليسبح،
40

فإنما التصفيق للنساء).
قال أبو بكر: قد حوى هذا الخبر ضروبا من الدلالة على جواز الاجتهاد.
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غاب أقاموا رجلا مكانه باجتهادهم، وصلوا خلفه، ثم
حين صفق الناس باجتهادهم، أن لهم ذلك، فلم يلتفت أبو بكر بدءا باجتهاده، ثم لما
أكثروا التصفيق التفت حين أداه اجتهاده إلى أن له ذلك، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن امكث
مكانك، فرفع يديه وحمد الله تعالى باجتهاده، أن له أن له يحمد الله تعالى في تلك الحال،
ورفع يديه لغير عمل الصلاة، ثم استأخر باجتهاد رأيه، بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (له)
بالثبات، لأنه غلب في رأيه أن ذلك ليس بأمر إيجاب، ورأى التأخير أولى تعظيما
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتقدم أمامه كإعظام علي عليه السلام، أن يمحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم
من كتاب الصلح.
ومنه حديث جابر - رضي الله عنه - (في قصة جيش الخبط مع أبي عبيدة بن
الجراح - رضي الله عنه - حين وجدوا حوتا ميتا على الساحل، فامتنعوا من أكله، وقالوا:
هو ميتة. ثم قالوا: نحن رسل رسول صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم، فكلوا، فأكلوا
فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه لهم) ولم يعنفهم على اجتهادهم.
41

ومنه حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، وحميد، عن أنس (أنه لما نزلت:
(فول وجهك شطر المسجد الحرام).
ومر رجل من بني سلمة، فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر، نحو بيت
المقدس، ألا ان القبلة حولت مرتين فمالوا كما هو ركوعا إلى الكعبة) وكانوا مجتهدين
في استدارتهم إلى الكعبة في صلاتهم. ومجتهدين في تركهم استئناف الصلاة.
ومنه حديث أبي بكرة (أنه حين دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، قال:
فركعت دون الصف، ومشيت إلى الصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصا ولا
تعد) فأجاز اجتهاد أبي بكرة في ركوعه دون الصف ومشيه إليه. ثم أخبره أن السنة
أن لا يركع دون الصف، وأجاز له الركعة التي فعلها باجتهاده.
ومنه حديث معاذ - رضي الله عنه - (أنهم كانوا إذا سبقوا بشئ من الصلاة
خلف النبي صلى الله عليه وسلم، سألوا فأخبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم وبدأوا بالفائت، ثم تابعوا
النبي صلى الله عليه وسلم فيما بقى. حتى جاء معاذ (وقد فاته) بعض الصلاة فتابع النبي صلى الله عليه وسلم،
42

وترك الفائت حتى قضاه بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم سن لكم معاذ، فكذلك
فاعلوا) فاجتهد معاذ في ترك الفائت في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاز ذلك له، ولم يعنفه وجعله
سنة لمن بعده.
فإن قيل: إن صح هذا، فإن معاذا اجتهد في ترك النص، لان السنة كانت
عندهم قضاء الفائت، ثم متابعة الامام، وأنتم لا تجيزون الاجتهاد في مخالفة النص.
قيل له: ليس معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم (قد) كان سن لهم ذلك.
وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد كان تركهم وما فعلوا، لأنه كان جائزا.
وكان جائزا أيضا ترك الفائت عنده فكانوا مخيرين، فاختار معاذ اتباع
النبي صلى الله عليه وسلم، وترك الفائت، وكان وجه اجتهاده: ما بين أنه ما كان ليجده على حال لا
يتابعه عليها، فسن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، واستحسن قصد معاذ فيه، وتحريه لمتابعة
النبي صلى الله عليه وسلم في كل حال، فلم يصادف اجتهاد معاذ مخالفة (نص) النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما روي عن سعد القرظ، وسعيد بن المسيب: أن بلالا أتي النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذنه
43

بصلاة الفجر فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فنادى بلال بأعلى صوته، الصلاة خير من
النوم. فأقرت في تأذين الفجر، وكان قول بلال ذلك باجتهاد منه.
ومنه ما روي: أن أهل قباء كانوا يستنجون بالماء، فأنزل الله تعالى، " فيه رجال
يحبون أن يتطهروا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر الأنصار، ما الذي أحدثتم؟ (فقد أحسن
الله تعالى الثناء عليكم) فقالوا: إنا نستنجي بالماء، وكان القوم أحدثوا الاستنجاء
بأرائهم من غير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية، ولولا أنهم علموا
جواز الاجتهاد في مثل ذلك، لما أقدموا عليه.
ومنه ما روى الحارث بن عمرو، عن رجال من أصحاب معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما بعثه إلى اليمن، قال: (كيف تقضي؟ قال: بكتاب الله عز وجل. قال: فإن لم تجد في
كتاب الله؟ فقال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد
رأيي. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يحبه رسول الله)، فأجاز له الاجتهاد
فيما لا نص فيه.
فإن قيل: إنما رواه عن قوم مجهولين من أصحاب معاذ.
قيل له: لا يضره ذلك، لان إضافته ذلك إلى رجال من أصحاب معاذ توجب
44

تأكيده، لأنهم لا ينسبون إليه أنهم من أصحابه، إلا وهم ثقات مقبولو الرواية عنه.
ومن جهة أخرى إن هذا الخبر قد تلقاه الناس بالقبول، واستفاض، واشتهر
عندهم من غير نكير من أحد منهم. على رواته، ولا رد له.
وأيضا: فإن أكثر أحواله أن يصير مرسلا، والمرسل عندنا مقبول.
ومنه حديث عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله
أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجره).
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
وروي عن عمرو بن العاص، قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: اقض بينهما يا عمرو، قلت: يا رسول الله، أقضي وأنت حاضر! قال: نعم. قلت:
فعلا ما أقضي؟ قال: إن أصبت فلك (عشرة حسنات) وإن اجتهدت فأخطأت فلك
حسنة) وعن عقبة ابن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بمثل ذلك. وقال فيه كذلك.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة
سواء، فأعلمهم بالسنة).
ولا يوصل إلى معرفة أعلم المتقاربين بالسنة إلا من طريق الاجتهاد.
ومنه حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم (في الشاك في
الصلاة، فإنه يبني على أكثر ظنه.
45

ومنه (قصة عبد الله بن مسعد، بن أبي سرح حين جاء به عثمان يشفع فيه،
فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعته، رجاء أن يقتله بعضهم، لأنه قد كان تقدم بقتله) وكان فعل
عثمان ذلك اجتهادا، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وحديث عثمان بن أبي العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " أنت إمام قومك، فاقتد
بأضعفهم) وإنما يعلمه من طريق الاجتهاد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). يدل على ذلك أيضا، لان
المنقول إليه قد يعرف من استخراج المعاني ما لا يعرفه كثير من الناقلين.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في إباحة المعالجة واستعمال الطب والأدوية أخبار كثيرة،
وطريق ذلك كله (الاجتهاد والرأي) فهذه الأخبار على اختلاف متونها وطرقها توجب
التوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم في إباحة الاجتهاد في أحكام الحوادث، وهي وإن كان كل واحد
منها واردا من طريق روايات الافراد، وأنها في حيز التواتر من حيث يمتنع في العادة أن
يكون جميعها كذبا، أو غلطا، أو وهما، على النحو الذي بينا في أقسام التواتر، وشبهناه
بالمقبلين يوم الجمعة بعد الصلاة من طريق الجامع: أن إخبارهم عن فعلهم صلاة الجمعة،
تشتمل على صدق، وأن كل واحد منهم على الانفراد جائز أن يكون كاذبا فيما أخبر به عن
نفسه، فكذلك هذه الأخبار مع كثرتها من حيث كانت متواقية على توقيف النبي صلى الله عليه وسلم إياهم
46

على إباحة الاجتهاد، فقد أوجبت العلم بصحة مخبرها من وجوه التوقيف بذلك، ومن
خالفها بعد سماعها، فإنما يرد على النبي صلى الله عليه وسلم إباحته للاجتهاد.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تشبيه الشئ بمثله، واعتباره بنظيره في الحكم أخبار
كثيرة توجب العلم بصحة مخبرها على النحو الذي بينا في إباحته للاجتهاد، حذفت
أسانيدها كراهة الإطالة، ولأنها أخبار مشهورة عند أهل العلم.
ومنه حديث أبي ذر: (قال: قلت: رسول الله، ذهب الأغنياء بالاجر، يتصدقون
ويصومون، قال: وأنتم قد تفعلون ذلك. قلت: يا رسول الله يتصدقون و (نحن) لا
نتصدق. قال: وأنت فلك صدقة: رفعك العظم عن الطريق صدقة، وثباتك عن الاثم
صدقة، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة. ومباضعتك امرأتك صدقة، قال: قلت:
يا رسول الله، أنأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال: أرأيت لو جعلتموها في حرام أكنتم تأثمون؟
قلت: نعم. قال أفتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير؟) فقايسه رسوله الله صلى الله عليه وسلم، ودله
بذكر المحظور على ما قابله من المباح، وأعلمه أن حكم الشئ حكم نظيره.
وقد اعترض النظام على هذا الحديث، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يوجب
استحقاق الاجر بالوطء المباح، لان المباح لا يستحق به الاجر، ولو كان المباح يستحق به
الاجر، لكان لا فعل إلا محظورا، أو نافلة، ولبطل القسم المباح.
فيقال له: ما تنكر أن يستحق به الاجر (إذا قصد) به العفة، والاستغناء عن
الحرام، وشكر الله تبارك وتعالى على تمكينه إياه من الحلال، ولما يتكلفه من الاغتسال
والمبالغة فيه، فيكون هذا الضرب من الوطء المقصود به هذه المعاني، والمقارنة لهذه
الأحوال، هو الذي يستحق به الاجر دون ما يقصد به التلذذ الذي له يجامعه هذه
47

الأسباب، فلا يكون في إيجابه استحقاق الاجر بهذا الوطء ما يوجب قدحا في الخبر، ولا
يمنع أن يكون ههنا وطء آخر مباح لا يستحق به الاجر، فلا يبطل القسم المباع من الافعال
على ما بنيت من القاعدة.
ومنه حديث ابن عباس (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن) أبي شيخ كبير لم
يحج، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين، أكنت تقضيه؟ قال: نعم. قال:
فحج عنه). وحديث الخثعمية حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أبي أدركته فريضة الله
في الحج، وهو شيخ كبير، لا يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال: أرأيت لو كان
على أبيك دين فقضيته، أكان يجزي؟ قالت: نعم قال: فدين الله أحق).
وروى ابن عباس: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إن أختي نذرت أن تحج
فماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال:
فأقضوا الله، فإنه أحق بالوفاء).
وفي هذه الأخبار إثبات المقايسة، والتنبيه على الرد إلى النظائر.
وروي عن محمد بن المنكدر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن قضاء رمضان أيفرق؟
فقال: أرأيتم لو كان لرجل على رجل دين، فقضاه أولا فأولا؟ قال: لا بأس، قال: فالله
أحق بالتجاوز). فقايسه، وأراه موضع الشبه والنظير.
ومنه حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت
48

غلاما أسود، فقال: " هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فهل
فيها من أورق؟ قال: إن فيها أورقا. قال: فأنى تراه؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق.
قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق) فقايسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورده إلى أمر كان قد
تقرر عنده، من نظير ما سأل عنه، ونبهه على أن يحكم له بحكمه.
ومنه: حديثا عمر (قال هششت فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله: صنعت اليوم
أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس
به. قال: فقيم إذا) فقايسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورده إلى نظيره، ثم نبهه على وجه الرد.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (هذا أوان ذهاب العلم، فقال زياد بين لبيد:
كيف يا رسول الله، وكتاب الله بيننا؟ والله لنقرئنه أبناءنا وليقرئنه أبناؤنا أبناءهم. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد بن لبيد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، أليس
التوراة والإنجيل في يد اليهود والنصارى فهل أغنى عنهما)؟ فنبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم على
اعتبارنا بهم، مع كون الكتاب في أيدينا (و) روى موسى بن عبيدة عن عبد الله بن
عتبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: كيف تقضيان بين
49

الناس؟ قالا: بكتاب الله، قال: فإن أتاكما ما ليس في كتاب الله؟ قالا: بالسنة. قال:
فإن أتاكما ما ليس في السنة؟ قالا: نقيس الامر بالامر، فأيهما كان أقرب (إلى الحق حملناه
عليه، قال: أصبتما).
ومنه حديث عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: كل قوم على زينة من أمرهم، في مصلحة من أنفسهم، يزرون على من
سواهم) ويتبين الحق بالمقايسة بالعدل عند ذوي الألباب.
ومنه حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ناوليني الخمرة فقلت: إني حائض.
فقال: إن حيضتك ليست في يدك) فنبهها على اعتبار المعنى، وأنها في سائر أعضائها
بمنزلة الطاهر.
ومنه حديث أبي هريرة قال: (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأنا جنب) في طريق من طرق
المدينة، فذهبت فاغتسلت، ثم جئت، فقال: أين كنت؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن
أجالسك على غير طهر، فقال: سبحان الله! إن المسلم لا ينجس) فنبهه على أن
50

الجنابة لا توجب نجاسته، وإن كان ممنوعا من أجلها من الصلاة، وأظهر التعجب منه،
بقوله: سبحان الله، يعني كيف ذهب عليك هذا الاعتبار.
فإن قال قائل: هذا الذي ذكرت من الاعتبار من الكتاب والسنة، إنما يدل على جواز
الاجتهاد في المواضع الذي ورد فيها، فما الدليل على جوازه في غيرها، وما أنكرت أن يكون
جوازه مقصورا على هذه المواضع، إذ يمتنع في حجة العقل، أن يبيح الله تعالى الاجتهاد
فيما نص عليه في كتابه، وبينه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ويحظره فيما عدا المنصوص على
موضعه، فيحتاج إلى إقامة الدلالة على جوازه في الموضع المتنازع فيه بيننا من أحكام
الحوادث.
قيل له: كثير من الآي التي قدمنا ذكرها قد تضمن الامر بالاجتهاد مطلقا، مقيد
بحال ولا شرط.
منها قوله تعالى: " وشاورهم في الامر " وذلك عموم في سائر الأمور، لأنه أدخل
الألف واللام، فصار للجنس، وما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن مخاطبون به، إلا أن تقوم
الدلالة على تخصيصه بشئ دوننا.
ومنه قوله تعالى: " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول " وقد بينا (أن)
المراد به الرد إلى كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم (نصا) ودليلا، (وذلك) مطلق عام
في سائر الأشياء.
ومنه قوله تعالى: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم " وهو عموم في جميع ما كان بالوصف المذكور في الآية.
ومنه قوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " وهو عام في ساير الأشياء.
51

ومما يوجبه أيضا من السند: حديث معاذ، وتصويب النبي صلى الله عليه وسلم إياه في استعمال
الاجتهاد في أحكام الحوادث التي ليس فيها نص ولا اتفاق، وحديث عمرو ابن العاص،
وعقبة بن عامر، وقد تقدم ذكرهما.
وأيضا: فقد صح عن الصحابة القول بالقياس والاجتهاد في أحكام الحوادث،
بالاخبار المتواترة الموجبة للعلم، بحيث لا مساغ للشك فيه. كل واحد منهم يقول: أجتهد
رأيي، فأقول فيها برأيي، ويستعمل القياس، ويأمر به غيره، لا يتناكرونه، ولا يمنعون
إنفاذ القضايا والاحكام به.
وكذلك حال التابعين وأتباعهم مستفيضا ذلك بينهم (وقد) وقع العلم لنا بوجوده
منهم، كعلمنا بوجود الخلاف كان بينهم في كثير (من أحكام الحوادث فأوجب ذلك علينا
القول بالاجتهاد من وجهين):
أحدهما: أنهم لولا علمهم بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم (إياهم) عليه وأن ذلك كان (منهم)
متقررا معلوما (عندهم) من شريعته، قد تلقوه عنه وعرفوه من (دينه) لما أطبقوا على
القول به هذا الاطباق، حتى لا يوجد فيهم منكر له، ولا متوقف متهيب عن الاقدام عليه،
فثبت أنهم قد كانوا تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم توقيفا، كما علمنا بإجماعهم على تولية إمام
ينصبونه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم تلقوا وجوب اجتهاد الرأي في ذلك توقيفا، وأنهم عرفوه
من منهاج شريعته وأركان دينه، لولا ذلك لما توافقت هممهم على القول به.
والوجه الاخر: أن إجماعهم، حجة لا يسع خلافه ولا الخروج عنه، على ما سلف
52

منا القول فيه. وقد استقر أن إجماعهم (حجة) بما قدمنا على تسويغ الاجتهاد في أحكام
الحوادث والرجوع إلى النظر والمقاييس، في (استدراك حكمها).
فإن قال قائل: فمن أين لك أنهم أجمعوا على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث؟
قيل له: هو أشهر وأظهر من أن يخفي على من عرف شيئا من أقاويل السلف،
وطريقتهم.
ألا ترى أنهم اختلفوا في الجد، فقالوا فيه باجتهادهم، ولم يكن عند واحد منهم نص
من كتاب ولا سنة، واختلفوا في المشركة، فلم ير عمر التشريك أولى، فقال له الاخوة من
الأب والام: هب (أن) أبانا كن حمارا! أليس أمنا أم الذين ورثتهم؟ فترك قوله الأول،
ورأى التشريك حين قايسوه.
فقيل له: لم تشرك بينهم العام الأول، وشركت العام. فقال: (ذاك على ما قضينا،
وهذا على ما قضينا).
واختلفوا في الحرام على أقاويل مختلفة: جعلها بعضهم رجعيا، وبعضهم واحدة
بائنة، وبعضهم ثلاثا، وجعلها بعضهم يمينا.
واختلفوا في الخلية، والبرية، والبتة والبائن، ونحوها من الكنايات.
وفي المدبر والمكاتب، وفي الكلالة، قال أبو بكر الصديق: (أقول فيها برأيي، فإن يك
صوابا فمن الله تعالى، وإن يك خطأ فمني).
وقال ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها ولم يسم لها صداقا: (أقول فيها برأيي، فإن
53

يك صوابا فمن الله تعالى، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه
بريئان).
وقال علي: (أجمع رأيي ورأي عمر في جماعة من المسلمين: أن لا يبعن أمهات
الأولاد، ثم رأيت أن أرقهن)، فأخبر عن رأيه، ورأي الجماعة من غير توقيف، لان التوقيف
لا يكون رأيا.
ومنها أيضا اختلافهم: في المكاتب، والمدبر، وفي تفضيل أروش الأصابع،
والتسوية بينهما.
وكان أبو بكر الصديق يرى التسوية في العطاء، وكان عمر يرى التفضيل.
وكان علي يرى التسوية.
واختلافهم في المسائل التي طريقها اجتهاد الرأي أكثر من يحتمله هذا الكتاب
وأظهر من أن يخفى على ذي معرفة.
وأجمعوا على عقد البيعة لأبي بكر بآرائهم، ولم يدع أحد منهم نصا علي أبي بكر ولا
غيره، ولو كان هناك نص لما خفي عليهم، وهو معظم أمر دينهم، ودنياهم.
ولما قالت الأنصار: (منا منا أمير ومنكم أمير) ولو كان هناك نص على رجل يعينه
لما أجمعت الصحابة على جواز الشورى، لان الشورى لا تجوز فيما يكون فيه نص من
الرسول صلى الله عليه وسلم.
فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على أبي بكر، ولا على غيره في الإمامة، وأنه وكلهم إلى
اجتهادهم في عقد الإمامة لمن يرونه أهلا لها، وصلاحا للكافة وعلمنا حين عقدوها لأبي
54

بكر باجتهادهم أنهم لم يفعلوه إلا وقد كان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف لهم أن عليهم نصب إمام
باجتهاد آرائهم، ثم إن عمر جعلها شورى بين ستة، ورضيت السنة وجماعة بذلك، لم
ينكره منهم منكر، وكان ذلك باجتهاد رأي منه، والشورى إنما هي الاجماع على الرأي،
وتولية من يرون ذلك له، ثم اجتهد الستة فجعلوا الامر إلى عبد الرحمن بن عوف، على أن
يخرج نفسه منها ويختار منهم من يرى (باجتهاده، ثم رأى) عبد الرحمن أن يوليه من
يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعرض ذلك على علي، فقال
علي: أعمل بكتاب الله وسنة نبيه، واجتهاد رأيي، وعرضه على عثمان فقبله على ما شرطه
عليه، فرأى عبد الرحمن أن يوليه (من عمل فيه) بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أبي بكر وعمر،
لأنه رأى الناس قد صلحوا على سيرتهما، وفتحت الفتوح في أيامهما، ووجدت فيهم الصفة
التي وصفهم الله تعالى بها، ورأى موعود الله تعالى قد صح فيهم، في قوله تعالى: (وعد
الله الذين آمنوا منكم، وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من
قبلهم) إلى آخر الآية.
واتفقت آراؤهم على جواز الشورى، واتفقت أيضا في جعل الامر إلى عبد الرحمن،
واختلفت في أمور أخر. فلم ينكر بعضهم على بعض اجتهاد رأيه، وإن خالف به رأي
غيره، بل سوغوا لكل ذي رأي منهم رأيه) وما أدى إليه اجتهاده.
وأجمعوا باجتهادهم على وضع الجزية على الطبقات المعلومة، وعلى وضع الخراج
على أرض السواد، وعلى مضاعفة الصدقات على بني تغلب.
والقضايا التي اختلفوا فيها باجتهاد آرائهم أكثر من أن يمكن الشك فيها، أو ان يعرض
فيها ريب لذي فهم ودراية.
55

(وشبه علي عليه السلام الجد ينهر يأخذ منه جدول، ثم يتشعب منه شعبتان، وشبهه
زيد بن ثابت بغصن نبت من شجرة، ثم نبت من الغصن غصنان.
وقال عمر رضي الله عنه في رسالته المشهورة إلى أبي موسى: وقس الامر عند ذلك،
وقال ابن مسعود: (لقد أتى علينا زمان ولسنا نقضي، ولسنا هناك، فمن عرض له قضاء،
فليقض بما في كتاب الله تعالى وإن لم يكن في كتاب الله، فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن
في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليجتهد رأيه). ولو لم يكن الاجتهاد في إدراك أحكام الحوادث
عندهم سائغا، لا نكره بعضهم على بعض، ولما جاز منهم وقوع التواطؤ على ترك النكير
على القائل به، وكان لا أقل أن يكون بينهم فيه خلاف، فيقول به بعضهم، وينفيه
بعضهم، كسائر ما اختلفوا مما طريقه الاجتهاد، وإن لم يظهر منه نكير على القائل به،
وكان لا أقل أن يكون بينهم فيه خلاف، فيقول به بعضهم، كسائر ما اختلفوا، مما طريقه
الاجتهاد، وإن لم يطهر منهم نكير على القائل به. فلما توافوا كلهم على تجويزه - إما رجل
قد يستعلمه وأخبر عن نفسه به، وإما رجل لم ينكره، إذ لم يحفظ عنه قول في المسائل - ثبت
بذلك إجماعهم عليه.
ألا ترى أنهم لما اختلفوا فيما طريق الحق فيه واحد، ولا يسوغ الاجتهاد في العدول
عنه، خرجوا منه إلى اللحن والبراءة، ونصب الحرب والقتال، كنحو اختلافهم (في
إنشاء) حرب الجمل وصفين، وقتال الخوارج، لما كان الحق فيه واحدا وكان الدليل عليه
قائما بارزا، لم يسوغوا الاجتهاد فيه، ولم يكن منزلة هذا الخلاف عندهم كمنزلة الخلاف في
الجد، والخلية، والبرية، والحرام، وما أشبه ذلك.
فدل ما وصفنا على انعقاد اتفاق السلف، على تسويغ الاجتهاد في أحكام
الحوادث.
56

فإن قال قائل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القضاء ثلاثة: فقاض اجتهد فأصاب
فهو في الجنة، وقاض حكم بغير الحق معتمدا (فهو) في النار، وقاض اجتهد فأخطأ فهو في
النار ".
قيل له: أول ما في (هذا): أن هذا الخبر قد دل على إباحة الاجتهاد، لأنه حكم
لمن أصاب في اجتهاده بالجنة، ولولا أن الاجتهاد مأمور به لما استحق الجنة عند الإصابة في
اجتهاده، لان الاجتهاد لو كان محظورا لما استحق الثواب على ما أداه إليه، لان السبب إذا
كان محظورا، فغير جائز أن يستحق الثواب على مسببه.
ألا ترى أن من رمى مسلما محظور الدم. فأصاب كافرا حربيا: أنه لا يستحق الثواب
بهذه الإصابة. لكون السبب الذي عنه كان محظورا.
وأما قوله في الذي أخطأ: إنه في النار، فإن الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسوغ الاجتهاد في كل شئ، وإنما نجيزه في بعض الأشياء دون
بعض، على ما بينا فيما سلف، وعلى ما حكينا عن الصحابة، في تقسيمنا اختلافهم
على قسمين:
أحدهما: ما كان من باب الاجتهاد والاخر خارج عن باب الاجتهاد وداخل في
الأمور التي كلفوا إصابة المطلوب.
فجايز أن يكون وعيد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إنما خرج على من اجتهد فيما قد قامت
دلالته وظهرت حجته فأخطأه، كخطأ الخوارج وأضرابهم، فهم في النار.
57

وقد روي أن عليا عليه السلام سئل عن معنى هذا الحديث، وقد رواه. فقال: هذا
الحروري مجتهد وهو في النار. وقال الحسن: (مر بي أنس وقد بعثه زياد إلى أبي بكرة
يعاتبه، فانطلقت معه، فدخلنا على الشيخ وهو مريض، فأبلغه عنه، وقال: إنه يقول: ألم
أستعمل عبيد الله على فارس؟ ألم استعمل روادا على دار الرزق؟ ألم أستعمل
عبد الرحمن على الديوان وبيت المال؟ فقال (أبو بكرة): هل زاد على أن أدخلهم النار!
قال أنس: لا أعلمه إلا مجتهدا، فقال الشيخ: أقعدوني، إني لا أعلمه إلا مجتهدا، فأهل
حرورا قد اجتهدوا، فأصابوا أم أخطأوا؟ قال الحسن فرجعنا مخصومين " فجاز أن يكون
ما ورد من وعيد المخطئ في اجتهاده، فيما كان من هذه القبيل.
والوجه الثاني: أن يجتهد - وليس من أهل الاجتهاد - جاهلا بالأصول - أو حافظا لها
جاهلا بطرق الاجتهاد، ووجوه المقاييس، فلا يجوز له حينئذ الاجتهاد.
وروى أبو العالية هذا الحديث عن علي، من قوله: قال: فقلت ما هذا الذي اجتهد
فأخطأ قال: كان قوله: إذا لم يحسن ان يقضي أن لا يقضي.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين المجتهدين، وعم الجميع إذا أخطوا.
قيل له: خصصناه فيمن ذكرنا، للدلائل التي قدمنا في إباحة الاجتهاد، وباتفاق
الصحابة عليه، وعلى أن هذا إنما هو كلام بين من يقول: الحق في واحد، وبين من
58

يقول: كل مجتهد مصيب. ولا يعترض على القول بالاجتهاد، لان فيه إباحة الاجتهاد،
والحكم باستحقاق الثواب للمصيب على ما قدمنا.
فإن قيل: روي أن رجلا أجنب في سفر وهو مريض، فاستفتى جماعة كانوا معه في
التيمم، فقالوا: ما نرى لك إلا الغسل، فاغتسل، فمات، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبره، فقال
(قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟) وروي في خبر حمل بن مالك حين
قضى النبي صلى الله عليه وسلم بدية الجنين على عاقلة المرأة، فقال المقتضي عليه: كيف تدي من لا أكل،
ولا شرب، ولا صاح، فاستهل. فمثل ذلك يطل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسجع كسجع
الاعراب). وقضى فيه بالغرة، فكان هؤلاء مجتهدين، ولم يكونوا معذورين عند
النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد.
قيل له: نحن لا نجيز الاجتهاد مع نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا مع دليل
قائم من واحد من هذه الأصول.
فأما الأولون: فإنهم أشاروا على المريض بالغسل مع خوف التلف، وليس هذا
موضعا يسوغ فيه الاجتهاد.
ألا ترى: أن عمرو بن العاص قال في مثل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: سمعت الله يقول:
(ولا تقتلوا أنفسكم) فرضي النبي صلى الله عليه وسلم فعله، فمن أجل ذلك أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم
ذلك.
ولأن الله تعالى يقول: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقال عز وجل:
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، ونحو ذلك من الآي.
59

وأباح للمريض التيمم، لخوف الضرر الذي يلحقه باستعمال الماء، ومثل ذلك لا
يسوغ الاجتهاد معه، فلذلك أنكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث حمل:
فإن القائل فيه اعترض على النص بعد سماعه النبي - صلى الله عليه وسلم -
يوجب الغرة على العاقلة، فكان قوله منكرا، مردودا.
فإن اعترض معترض على ما قدمنا من اتفاق الصحابة على جواز الاجتهاد
وتسويغهم له في أحكام الحوادث، وتركهم النكير من بعض على بعض فيه.
فإن الصحابة قد ظهر منها النكير من بعضهم على بعض في الاجتهاد، وخرجوا
فيه إلى التلاعن، وإلى استعظام الاجتهاد في مسائل الفتيا، من ذلك قول أبي بكر
رضي الله عنه، (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي) وقال
عمر (أجرؤكم علمي الجد أجرؤكم على النار)، وقال علي كرم الله وجهه: (من أراد ان
يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد) وقال عبد الله بن مسعود (من شاء باهلته أن سورة
النساء القرى، نزلت بعد الطولى) يعني قوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن
60

حملهن) نزلت بعد قوله تعالى: (أربعة أشهر وعشرا)، وقال ابن عباس (من شاء
باهلته أن الجد أب) وقال: (ألا يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن بمنزلة الابن، ولا يجعل
الجد بمنزلة الأب؟)
وقالت عائشة للمرأة التي أخبرتها أنها باعث من زيد ابن أرقم خادما بستمائة درهم،
ثم اشترته بثمان مائة درهم. فقالت: (بئسما اشتريت وبئسما اشتريت أخبري زيد بن
أرقم إن الله قد أبطل جهاده مع رسوله (إن لم يتب) وهذا غايته النكير والوعيد.
وقال علي (لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، لولا أني
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر الخف).
وروي عن عمران قال: (إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعيتهم الأحاديث أن
يحفظوها فقالوا بالرأي، وروى مسروق عن عبد الله قال (قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون،
ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم) وعن مسروق أنه قال: (لا أقيس شيئا
61

بشئ فإني أخاف أن تزل قدمي) وقال ابن سيرين أول (من قاس) إبليس، وإنما
عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وقال أشعث: كان محمد بن سيرين لا يكاد أن يقول
شيئا برأيه وسئل الشعبي عن شئ فقال للسائل: (لعلك من القائيسين) وتذاكروا
القياس يوما بين يدي الشعبي فقال: إن أخذتم به أحللتهم الحرام وحرمتم الحلال وقال
ابن أبي ليلى كان الشعبي لا يقيس وروى أن أبا سلمة بن عبد الرحمن كان لا يفتي برأيه.
الجواب: قد ثبت عن السلف، القول باجتهاد الرأي، واستعمال المقاييس، في
أحكام الحوادث بالاخبار المتواترة، والآثار المشهورة، التي يعجز الكتاب عن ذكرها، ولا
يمكن أحد سمعها الشك فيها. فأما ما روى عن أبي بكر مما ذكرت، فإنه مشهور عن أبي
بكر، أنه قال في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ
فمني، وثبت عنه القول بالاجتهاد في كثير من المسائل، فإن صح عنه ما رويت من قوله: أي
أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب الله عز وجل برأيي، فإنه قد روي عنه في
هذا الخبر بعينه، إذا قلت في كتاب الله بغير ما أراد الله، وإنما مراده منع الاجتهاد مع وجود
النص أو دليله، ولسنا نجيز الاجتهاد في مثله.
وأما قول عمر: أجرأكم على الجد أجرأكم على النار، وقول علي: من أراد أن يتقحم
جراثيم جهنم فليقل في الجد، فإنما مرادهما: أن القول في الجد لطيف المعنى، غامض
المسلك، فلا يجوز لأحد القول فيه، إلا لمن كان بارعا متقدما في النظر، عالما بوجوه المقاييس
والاستدلال.
ألا ترى أنهما قد قالا في الجد، فعلمنا أنهما لم يريدا بذلك منع أنفسهما وأمثالهما من
62

القول في الجد بالاجتهاد. وإنما أرادا بذلك، من تقصر منزلته عن القول فيه، كما قال عمر
لأبي هريرة في شئ ذكره له، أنه أفتى به، فقال له: لو قلت غير هذا لأوجعتك.
وأما القول قول عبد الله بن مسعود، من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد
الطولى، فإنما ذكر المباهلة بينه وبين من خالفه في تاريخ السورتين، والصحابة لم تخالفه في
ذلك، وإنما خالفه علي وابن عباس رضي الله عنهما في حكمهما، فقالا باستعمال الآيتين،
وجعلا عدة المتوفى عنها زوجها - إذا كانت حاملا - أبعد الأجلين، ورأى عبد الله: أن قوله
تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " مخصص لقوله تعالى: " أربعة
أشهر وعشرا " فلم تكن المباهلة المذكورة ههنا في تأويل الآيتين، وإنما ذكرها في تاريخهما،
ولم يخالفه أحد في تاريخهما، إلا أنه دعا من خالفه إلى اعتبار آخرهما نزولا، فيما وردت فيه
دون غيره، وهو قوله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ".
وأما قول ابن عباس: من شاء باهلته أن الجد أب. فإنه موضع يوجب المباهلة لمن
أنكر ما قال، لان الله تعالى قد سمى الجد أبا بقوله عز وجل " ملة أبيكم إبراهيم " وقوله
تعالى: " يا بني آدم " ولم يوجب المباهلة لمن خالفه في الحكم، إنما أوجبها لمن خالفه في
التسمية.
وأما قوله: ألا يتقي الله زيد! فإنما نبهه به على وضوح الدلالة في إلحاق الجد بحكم
الأب، وهو ما استدل به من ابن الابن، وليس فيه دليل على الانكار، وإنما هو تنبيه على
الاستدلال.
وأما حديث عائشة في قصة زيد بن أرقم، فإنما قالته عندنا توقيفا لا اجتهادا، لان ما
63

كان طريقه الاجتهاد لا يلحق فاعله فيه الوعيد، وليس في الخبر أن زيدا أقام بعد قولها
على ذلك البيع.
وعلى أن إنكار عائشة على زيد لا يخلو من أن تكون لما عرفت من طريق التوقيف
أو الاجتهاد، فإن كانت قالته توقيفا فهو ما قلنا، ولا معنى لذكره ههنا. وإن قالته اجتهادا
فقد استعملت الاجتهاد في إبطال ذلك البيع، وإظهار النكير فيه على زيد، فأت من حيث
أردت أن تثبت عنها نفي الاجتهاد، فقد أثبت قولها بالاجتهاد، ثم تصير حينئذ الكلام فيه
بين من يقول: إن الحق في واحد، أو في جميع أقاويل المختلفين، وهذا الباب لا مدخل
لمبطلي الاجتهاد فيه.
وأما قول علي - رضي الله عنه - لو كان الدين بالقياس، لكان باطن الخف أولى
بالمسح من ظاهره (فإنما أراد أن أصول الشريعة لم تثبت من طريق القياس، وإنما طريقها
التوقيف. وغير جائز استعمال القياس في رد التوقيف، فكان القياس أن يكون باطن
الخف أولى بالمسح، لأنه يلاقي الأرض بما عليها (من) طين، وتراب، وقذر
(ولا يلاقيها، ظاهره) إلا أنه لم يستعمل القياس، لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر
الخف دون باطنه، فهذا يدل على أنه كان مراده نفي القياس مع النص.
وأما ما روي عن عمر أنه، قال: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعيتهم الأحاديث أن
يحفظوها، فقالوا بالرأي. فإنه لا يروى عنه من وجه يصح، ولو ثبت ذلك عنه، فإنه وما
أشبه من الاخبار التي فيها ذم القياس والرأي ينصرف القول فيها إلى وجوه.
أحدها: أن قوما يقدمون القياس على أخبار الآحاد.
وقوم آخرون يقولون: للفقهاء أن يقولوا بآرائهم، وبما يسنح في أوهامهم، ويخطر ببالهم
في الباب الذي فيه الحادثة، من غير احتذاء منهم على أصل، ولا رد على نظير.
64

وقوم يجتهدون قبل حفظ الأصول وإتقانها. فانصرف ذم من ذم الرأي إلى أحد هذه
الطوائف، لأنه قد ثبت عندهم القول بالرأي عند عدم النصوص.
ويدل على أن عمر - رضي الله عنه - إنما أراد من قال بالرأي قبل حفظ الأصول من
الكتاب والسنة والاجماع، قوله: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعيتهم الأحاديث أن
يحفظوها، فقالوا بالرأي.
فخص بالذم من ترك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفظها، وأقدم على القول بالرأي قبل
العلم بها، وفاعل ذلك مذموم عندنا، غير مسوغ له الاجتهاد.
وكذلك قول عبد الله: ويتخذ الناس رؤساء جهالا، يقيسون الأمور برأيهم، هو على
هذا المعنى، لأنه ذمهم على هذا القول بالرأي مع الجهل بالأصول المنصوصة.
وأما ما روي عن مسروق: أنه قال: لا أقيس (شيئا) بشئ، فإني أخاف أن تزل
قدمي، فإن مسروقا قد كان ممن يقول بالرأي والاجتهاد، مشهور ذلك عنه، وقد روي عن
إبراهيم عن مسروق أنه كان يقول: قال عبد الله في لأخوات من الأب والام، والاخوة
والأخوات من الأب: يجعل ما فضل عن الثلثين للذكور دون الإناث، فخرج خرجة إلى
المدينة، فجاء وهو يرى أن يشرك بين الاخوة والأخوات من الأب فيما زاد على الثلثين.
فقال له علقمة: (ما ردك عن قول عبد الله؟ ألقيت أحدا هو أوثق في نفسك منه؟ قال:
لا. ولكن لقيت زيد بن ثابت، فوجدته من الراسخين في العلم).
65

ومعلوم أنه لم يرجح قول زيد في نفسه، ولم ينتقل عن قول عبد الله إليه إلا باجتهاد ورأي،
أوجبا ذلك عنده.
وعلى إنه ليس في قوله: (لا) أقيس شيئا بشئ دلالة على أنه كان لا يرى القول
بالقياس جائزا، كما لو قال: لا أفتى، لأني أخاف أن تزل قدمي، لما دل ذلك على أنه كان
لا يرى الفتيا جائزة، وإنما يدل ذلك على التوفي، لما قد كفاه غيره. كما قال عبد الرحمن بن
أبي ليلي: (أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله، ما منهم رجل يستفتى،
إلا ود أن صاحبه كفاه). ويحتمل أن يريد أنه لا يقيس قبل حدوث الحادثة، كما روي عن
أبي أنه سئل عن شئ فقال: (أكان هذا؟ فقال السائل: لا. فقال: أجمنا حتى
يكون).
وأما قول ابن سيرين: أول من قاس إبليس، وأن الشمس والقمر إنها عبدا بالمقاييس،
فإنما أراد به المقاييس الفاسدة، التي لم يقع بناؤها على أصول صحيحة، لأنه لا يجوز أن
يظن به أنه كان لا يرى المقاييس الصحيحة.
والاستدلال على التوحيد، وعلى صدق الرسول جائز، وكيف يجوز على مثله أن
يقوله وهو يسمع الله تعالى، وهو يحكي عن إبراهيم، الاستدلال على حدث الشمس
والقمر، وأنهما كانا كسائر المخلوقات لما فيهما من آثار الصنعة، والتغيير بالحركة والزوال، في
قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا (قال هذا ربي) فلما أفل إلى آخر
66

القصة، ثم قال تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) ثم قال تعالى:
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) فعلمنا أن مراده كان المقاييس التي (لا) يقع
بناؤها على أصول صحيحة.
وأما قول الشعبي: إن أخذتم بالمقاييس، أحللتم الحرام، وحرمتم الحلال، وما روي
عنه، أنه كان لا يقيس، فإن هذا إنما يدل من قوله، على أنه كان لا يرى القياس جائزا في
كل شئ، ولسنا نجيز القياس في كل شئ، وإنما نجيزه، فيما لا نص فيه، وإنما منع قياسا
يحرم ما أباحه النص، أو يبيح ما حرمه النص، (وذلك) لان مذهب الشعبي في الاجتهاد
والقياس أظهر من أن يخفى، وجل فقهاء الكوفة إنما أخذوا طريقة القياس عنه، وعن
أمثاله، وما علمنا أن الشعبي كان يرى القياس، إلا كعلمنا بأن حمادا، والحكم، وبعدهما
ابن شبرمة، وابن أبي ليلي كانوا يرون القياس جائزا في الحوادث.
وقد روي عن الشعبي أنه قال: (القضاء على ثلاثة: آية محكمة، أو سنة متبعة، أو
رأي مجتهد.
وقال الفرات بن أحنف: (قضى الشعبي على رجل، فقيل له: اقض بما أراك
الله، فقال إنما أقضي برأيي).
67

وذكر أبو حصين: أن الشعبي قضى بقضية ثم قال: ما أدري أصبت أم
أخطأت؟ ولكن لم آل.
وأما ما روي عنه أنه كان لا يقيس، فإنه قد روي (عنه) أنه كان صاحب آثار،
ويشبه أن يكون هذا أصل الحديث. وإنما عبر عنه الراوي بالمعنى، كان عنده على وجه
التأويل. وقد كان حفظ الآثار أغلب عليه من القياس. فمعنى قوله: إنه كان لا يقيس، أنه
لم يكن نفاذه في القياس، كنفاذ غيره.
كما روي أن الشعبي، وإبراهيم، وأبا الضحى، كانوا يجتمعون في المسجد
يتذاكرون، فإذا جاءهم شئ ليس عندهم فيه رواية رموا إبراهيم بأبصارهم، فهذا يدل
على أن إبراهيم كان في القياس أنفذ منه، وكان الشعبي أحفظ للآثار، فلذلك كان لا
يقيس، وهو يعني أن حفظ الآثار، كان أغلب عليه من القياس، كما يقال: فلان صاحب
آثار، و (فلان) صاحب قياس، وإن كانا جميعا يقولان بالآثار والقياس. فنسب كل واحد
منهما إلى أغلب الامرين عليه.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون اختلاف الصحابة في الحوادث، وأقاويلهم فيها
إنما كانت من طريق التوسط بين الخصمين، والصلح، أو على جهة ندر المسائل. لا
(على) جهة قطع الحكم وإبرام القضاء.
68

قيل له: الذين نقلوا إلينا أقاويلهم، كانوا عالمين بفصل ما بين التوسط والصلح،
وبين فصل القضاء، وإبرام الحكم، لأنهم كانوا قوما فقهاء، عارفين بمعاني الكلام،
ووجوهه (وقد) نقلوا إلينا قضاياهم، وقطعهم للحكم، بالأقاويل التي ذهبوا إليها.
فإن جاز أن يقال: (إن ذلك كان) على وجه الصلح والتوسط بين الخصوم، لجاز
مثله فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما امتنع أن يقال ذلك في أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقضاياه، لان الناقلين لها قد بينوا أنها
كانت على وجه القضاء، وإبرام الحكم، وهو قوم لا يجوز على مثلهم، في مثل حالهم
الغلط، واشتباه أمر القضاء، والصلح عليهم، حتى لا يفصلوا بينهما، علمنا سقوط قول
من تأول مثله من أقاويل السلف في الحوادث، وما علم الناقلين بأن تلك الأحكام لم تكن
إلا على وجه القضاء وإلزام الحكم إلا كعلمنا بأقاويل فقهائنا، وجوابات مسائلهم، أنها
ليست منهم على وجه الصلح والتوسط بين الخصوم، وأنهم أجابوا فيها على أنها أجوبة تلك
المسائل، وأحكامها، دون غيرها.
وأيضا فإن فيما نقلوا إلينا من أقاويلهم وقياسهم، عبادات ليست من حقوق
الآدميين، ولا مدخل للصلح والتوسط فيها، نحو: مسائل الصلاة، والصيام، والعتق
والطلاق، مما لا يجوز الاصطلاح فيه على خلاف الحكم الواجب، أجاب فيها كل منهم
بجوابه فيها، على وجه إبرام الحكم، وإلزام القضية، فدل على سقوط هذا السؤال.
قال أبو بكر: قد ذكرنا صدرا مما احتج به لإثبات القياس والاجتهاد من دلائل الكتاب
والسنة، واتفاق الأمة، ونذكر الان ما يدل عليه من جملة حجج العقول والنظر الصحيح.
فنقول وبالله التوفيق: إن العبادات (قد) ترد من الله تعالى على أنحاء ثلاثة:
69

واجب في العقل: فيرد العقل بإيجابه، تأكيدا لما كان في العقل من حاله، وذلك نحو
التوحيد، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وشكر المنعم، و الانصاف، وما جرى مجراه.
والثاني: محظور في العقل: فيرد الشرع بحظره، تأكيدا لما كان في العقل، وهذان
البابان لا يجوز ورود الشرع فيهما بخلاف ما في العقل، ولا يجوز فيهما النسخ والتبديل.
وقسم ثالث: وهو واسطة بينهما، ليس في العقل حظره ولا إيجابه، إلا على حسب
ما تقتضيه حاله: من حسن، أو قبح، وفي العقل تجويز كونه من حيز الواجب، أو
المحظور، أو المباح.
فإذا حظره السمع علمنا قبحه، وإن أوجبه أو أباحه، علمنا حسنه، فإذا ثبت ذلك
ووجدنا الله تعالى قد أباح لنا التصرف في المباحات بحسب رأينا واجتهادنا في اجتلاب
المنافع لأنفسنا بها، ودفع المضار عنها، نحو التصرف في التجارات، والرحلة للأسفار، طلبا
للمنافع في زراعة الأرضين، وأكل الأطعمة، والتعالج، والأدوية، على حسب اجتهادنا.
والغالب في ظنوننا: أنا نجتلب بها نفعا، ولو غلب في ظنوننا انا لا نجتلب بها نفعا،
أو (ندفع) بها ضررا، لكان تصرفنا فيها قبيحا، وعبثا، وسفها، ثم كانت إباحته ذلك لنا
على (هذه الوجوه) مصلحة، ودلالة على حسنه، مع كون هذه الضروب من التصرف
موكولة إلى اجتهادنا، ومقصورة على مبلغ آرائنا، وغالب ظنوننا.
وقد كان قادرا على أن يتولى ذلك لنا، ويكفينا المؤنة فيه، كما كفانا أكثر أمورنا التي
حاجتنا إليها ضرورة، ولكنه وكل ذلك إلى آرائنا واجتهادنا، لما علم لنا فيه من المصلحة
70

والتشبه على أمر الآخرة، وليشعرنا أن ثوابه لا ينال إلا بالسعي والتزهيد في الدنيا،
والترغيب في الجنة، التي لا تعب فيها ولا نصب.
وغير ذلك من وجوه المصالح التي لا يحيط علمنا بها، وإذا ثبت ذلك في المباحات التي
قد علمنا تعلقها بالمصالح كتعلق المحظورات، والواجبات، مما يجوز فيه النسخ، والتبديل،
ثم كان ذلك موكولا إلى اجتهادنا، وغالب ظنوننا، وكان ذلك من أمور الدين، إذ كان
أكبر المصالح، ما كان في أمر الدين، فقد ثبت جواز الاجتهاد في سائر حوادث أمر الدين،
مما لا ينص لنا فيه على شئ بعينه، ولم تتفق الأمة عليه.
وأيضا: فقد وافقنا خصومنا من نفاة القياس على وجوب استعمال الرأي،
والاجتهاد، والعمل بما يؤدي إليه غالب الظن، في تدبير الحروب ومكائد العدو، وما
يقاتلون به على وجه يكون في غالب ظنوننا، أنه إلى قوة أمر الاسلام وعلو أمره، ووهن
الكفر، وسقوطه، وذلك كله في أمور الدين.
فإذا جاز ذلك في بعضه، كان الجميع بمثابته، كما أنه لما جاز ما وصفنا في بعض أمور
الحرب، ومكائد العدو، كان جميعه بمنزلة بعضه.
ويدل على وجوب الاجتهاد فيما ذكرنا، اتفاق الجميع على أن رجلا لو قصد رجلا
بسيف مشهور. أن الواجب على المقصود بذلك استعمال الاجتهاد في أمره. فإن غلب
71

(في) ظنه أنه مازح لاعب لم يجزله قتله، وإن غلب في ظنه أنه قاصد قتله، (كان له أن
يقتله. فكان حكم جواز الاقدام على قتله منوطا بغلبة الظن، وإذا جاز الحكم بغلبة
الظن في مثله فما دونه أحرى بجواز ذلك فيه.
ومما يدل على ذلك أيضا: أن أحكام الشرع لا تخلو من أن تكون مستدركة من
طريق النص والاتفاق، أو من هاتين الجهتين.
ومن جهة معان مودعة فيها يجب اعتبار الاحكام بها، فلما وجدنا الأمة متفقة على أن
الحكم قد يرد من الله تعالى، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أشخاص بأعيانها، في أمور منصوص
عليها، فيكون ذلك الحكم جاريا في أغيارها (لمشاركتها) لها في معانيها. نحو قوله:
" فلا تقل لهما أف " علم به النهي عن السب والضرب.
ونحو قوله تعالى: " ولا يظلمون فتيلا " وقوله تعالى: " ولا يظلمون نقيرا " ونحو قوله تعالى (ومن أهل الكتاب) من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه
بدينار لا يؤده إليك " فلم يكن الحكم المذكور (به) مقصورا به على المنصوص
72

عليه، بل كان حكما فيه وفي غيره، مما يشاركه في معناه. علمنا بذلك أن الحكم قد يجب
بالنص والاتفاق، وقد يجب بالمعنى، وإن لم يكن مذكورا.
ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حكمه في أشخاص (بأعيانها)، وأمور معينة لم
يعلق الحكم فيها باسم عموم. وكان الحكم جاريا على معان مودعة في النص، نحو:
حكمه بالغرة في الجنين. وكان ذلك حكما في شخص بعينه.
وحكمه في الفأرة إذا ماتت في سمن: أنه إن كان جامدا ألقيت وما حولها، وإن كان
مائعا أريق)، ونحو رجمه ما عزا حين زنى، وتخييره بريرة حين أعتقت ولها زوج، (وأمره ابن
عمر أن يراجع امرأته حين طلقها في الحيض)، ثم كان كحكم الزيت: حكم السمن
إذا ماتت فيه فأرة، وكان العصفور بمنزله الفأرة إذا مات فيها، وكان حكم غير ماعز من
الزناة المحصنين: حكم ماعز، وكان حكم غير بريرة، وغير ابن عمر: حكم ما ورد فيه
الأثر، ونص عليه، لوجود المعنى فيه، وإن لم يكن منصوصا عليه باسمه، ثبت بذلك من
الاحكام ما هو منصوص عليه، وإن منها ما هو مودع في النص يجب اعتباره وإجراء الحكم
عليه، من المعاني ما يكون جليا ظاهرا، ومنها ما يكون خفيا غامضا.
فالجلي منها: نحو ما ذكرنا، مما لا يحتاج معه إلى نظر ولا استدلال.
والخفي منها يحتاج إلى نظر واستدلال) فحيثما وجدنا المعنى وجب إجراء الحكم
عليه، إذ قد ثبت أن الحكم قد يتعلق بالمعنى، كما يتعلق بالاسم وبالعين، كما أنه إذا غلق
الحكم بالاسم، وجب اعتباره به، حيث وجد.
فإن قال قائل: إنما وجب عند ورود الحكم في شخص بعينه: الحكم بمثله في غيره
73

من الأشخاص، من قبل أن الجميع مخاطبون بالشريعة، متساوون فيها، إلا من خصته
الدلائل بشئ دون سائرهم.
وقد عقلنا قبل ذلك: أن كل حكم حكم به في شخص، فهو لازم في جميع
الأشخاص. فمن هذه الجهة وجب ما ذكرت (لا) من جهة اعتبار المعنى.
قيل له: لم يلزم الحكم الواقع في شخص في سائر الأشخاص من حيث ذكرت، دون
اعتبار المعنى) وإجراء الحكم على من شاركه فيه.
ألا ترى أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين، ليس هو حكما فيمن لم يكن في مثل معناه،
وأن حكمه في السمن الذي ماتت فيه الفأرة، ليس هو فيما لم يشاركه في المعنى، وأن حكمه
برجم ماعز، ليس هو حكما في سائر الناس، ممن لم يوجد منه الزنا. وكذلك حكمه في
بريرة
بالتخيير.
ونظائر ذلك مما يكثر تعداده، إنما هو حكم في غيرهم من جهة المعنى، واعتباره به.
فثبت بذلك وجوب اعتبار المعنى في إيجاب الاحكام على الوجه الذي ذكرنا.
فإن قيل: ولم وجب اعتبار المعنى في إيجاب الاحكام، من حيث وجب اعتبارها فيما
استشهدت به. وهو موضع الخلاف بيننا وبينكم؟
قيل له: لما ثبت تعلق الاحكام بالمعاني على الوجوه التي وصفنا لزم اعتبارها في
أغيارها مما فيه المعنى، كما وافقنا خصومنا في العقليات: أن الحكم إذا تعلق بالمعنى،
فحيثما وجد المعنى وجب اعتباره، ولأنه لما ثبت تعلقه بالمعنى على الوجه الذي ذكرنا، فمن
حيث وجد ساواه غيره في المعنى، وجب أن يكون حكمه حكمه.
ألا ترى أن كل من أجاز اعتبار المعنى وإجراء الاحكام عليها في نوع من الحوادث،
أجازه في جميعها، مما طريقه الاجتهاد.
74

فلو قال قائل: إني أجيز اعتبار المعاني والقياس عليها في الطلاق دون العتاق، وفي
الصلاة دون الزكاة لكان قوله ساقطا مرذولا.
كذلك من أجاز اعتبار المعاني، وأجرى الحكم عليها في بعض الأشياء، ومنع في
بعضها، مما شاركه في المعنى، فقوله ساقط.
وجميع ما ذكرنا من جهة حجج العقول في إثبات القياس، فإنما تكلم به قوم عقلاء
(قد) أثبتوا حجج العقول، وأحكامها.
فأما من أنزل نفسه منزلة البهيمة وقال: بل على العقول. ونفى أن تكون السماوات
والأرض دلائل على الله تعالى، فإنه جدير بالتهمة بالاسلام، وأن يكون من دسس
الملحدين والزنادقة، في الصرف عن الاستدلال على التوحيد، وعلى أحكام الله تعالى،
ومثله إنما يثبت عليه القول بحجج العقول، بحيث لا يمكنه دفعه، على ما بيناه في بابه، ثم
يلزم اعتباره في أحكام الحوادث على الوجه الذي ذكرنا، وتكلم في هذا الموضع بعموم
الآيات التي قدمنا ذكرها في الامر بالاعتبار والاستدلال. فالرد إلى كتاب الله تعالى، وإلى
الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا لم نجد حكم الحادثة منصوصا في الكتاب، علمنا وجوب الرد إليهما من
جهة المعنى، إذا قد ثبت اعتبار المعاني بما ذكرنا من تعلق الحكم بها، وإن حكم بها في
أشخاص بأعيانهم، وما جرى مجرى ذلك مما يعترف هو بلزومه وثبوت حجته من العموم
وظواهر الأسماء وبالله التوفيق.
وقد كان أبو الحسن يحتج لاثبات القياس: بأنه ما من حادثة، إلا والله تعالى فيها
حكم. إما بحظر، أو إباحة، أو إيجاب، فلا يخلو حينئذ الحكم فيها من أن يكون مستدركا
من طريق النص، أو من غير جهة النص، فيرد إلى النص، ويبنى عليه.
فلما امتنع وجود النص في جميع الحوادث - لأنها لو كانت منصوصا على حكمها - لما
كانت حوادث، ولكانت أصولا، ولأنا لم نجد في سائر الحوادث نصوصا، ولأنه يستحيل
وجود النص فيها، إذ كانت الحوادث لا غاية لها (يحيط علمنا) (بها) - ثبت أن أحكام
الحوادث كلها ليست منصوصا عليها.
75

ثم لا يخلو بعد ذلك القول فيها من أحد وجوه ثلاثة:
إما أن يكون مستدركا من جهة الظن والتخمين، (وما) يسبق إلى الوهم، من غير
رد إلى أصل، أو الوقف فيها، أوردها إلى الأصول المنصوص عليها بالمعاني التي جعلت علما
لأحكامها، على ما قال القائسون.
والقول بالوقف والتخمين: باطل عند الجميع. فثبت وجوب ردها إلى الأصول
بالمعاني التي تضمنتها، وجعلت علما للحكم فيها، فيحكم لها بحكمها، وهذا هو
القياس الشرعي الذي نقوله.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون النص على وجهين: نص جلي، ونص خفي.
فأما الجلي: فهو الذي يعقل معناه من لفظه.
وأما الخفي: فهو الذي يدرك بالتأمل والتدبر، والفكر، والنظر. فتكون أحكام
الحوادث مأخوذة من هذه الجهة، وقد استغنينا به عن القياس والاجتهاد.
قيل له: أدل ما في هذا: إن قولك بالنص الخفي متناقض فاسد. لان النص في
اللغة: المبالغة في إظهار المعني الذي هو عبارة عنه، ومنه قولهم: نصصت الحديث إلى
فلان، يعني أظهرت أصله ومخرجه، وقال الشاعر:
أنص الحديث إلى أهله * فإن الأمانة في نصه.
ويقولون: نصصت الدابة في السير، إذا بالغت في إظهار ما في وسعها، وطاقتها من
ذلك.
و (منه) المنصة، سميت بذلك لان الجالس عليها يكون ظاهرا للحاضرين. فإذا
كان النص هو الاظهار والإبانة، تناقض قول القائل: نص خفي، لأنه يكون حينئذ بمنزلة
من قال: ظاهر خفي. وواضح غامض. وهذا متناقض فاسد.
فبان بذلك بطلان قول من قال: نص خفي.
ثم لو سلمنا (له) اللفظ، لم يضرنا ذلك، فيما أردنا إثباته، ولم يقدح فيما ذكرنا، لأنه
76

لا يخلو من أن يكون ذلك النص الخفي، طريق إدراكه اجتهاد الرأي على ما قلنا، أو
يكون عليه دليل قائم يفضي (بالنظر) إلى العلم به.
فإن كان مدركا من طريق الاجتهاد فهو الذي قلنا. وإن كان عليه دليل قائم يفضي
بالناظر إلى (العلم) به. فأين كانت الصحابة عنه حين نظروا في أحكام الحوادث،
واختلفوا فلم يعنف بعضهم بعضا؟
فلما وجدناهم مختلفين فيها، ولم يدع بعضهم بعضا إلى استدراك حكمها من الجهة
التي ذكرت، بل إنما فزعوا إلى القياس واجتهاد الرأي، علمنا به بطلان قولك.
وأيضا: فلو كان عليه دليل قائم لله تعالى - ولم يكن طريقه الاجتهاد - لكان سبيل
المخطئ فيه - عند الصحابة - سبيل المخطئ في الأمور التي خرجوا فيها عند وقوع الخطأ
إلى اللعن والبراءة، وإلى التحزب في القتال.
فلما لم نجدهم فيها كذلك، ثبت بطلان قولك: إن النص الخفي هو الذي عليه دليل
قائم.
فإن قالوا: إن النص الخفي، هو كقوله تعالى: فلما تقل لهما أف) عقل به
النهي عما فوقه.
وكقوله تعالى: (وورثه أبواه فلأمه الثلث) علم أن الثلثين للأب، ونظائر ذلك.
قيل له: فهذا الضرب من المعاني مما لم يقع فيه (خلاف بين، ولو كان النص الخفي
الذي ادعيته لاحكام الحوادث بهذه المثابة، لما وقع فيها خلاف) بين الصحابة، ولا بين
أحد من الفقهاء، فقد آل، الامر بنا إلى الرجوع إلى اجتهاد الرأي، وصار المدعي النص
77

الخفي إنما عبر به عن الاجتهاد، وكذلك من ادعى: أن أحكام الحوادث مستدركة من جهة
الدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا.
فإنه يقال له: خبرنا عن اعتبارك هذا الدليل دون غيره. أقلته بنص، أو إجماع، أو
بدليل مثله؟
فإن ادعى فيه نصا، أو إجماعا، طولب بإيجاده، ولا سبيل له إليه.
و (إن) قال: قلته بدليل مثله.
قليل (له): فعنه سئلت، فمن أين أثبته؟
وعلى أنه يطالب بإظهاره، ولا سبيل له إلى إثباته، لان ما لا يحتمل إلا معنى واحدا،
لا يختلف فيه الصحابة.
فإن قال: قلته من جهة اللغة.
قيل (له): فخبرنا عما لا يحتمل في اللغة الا معنى واحدا، وهل يجوز وقوع الخلاف
فيه بين أهل المعرفة بمعاني اللغة؟
فإن قال: نعم.
قيل له: فكأنهم لم يعرفوا موضوع لغاتهم، ولا دلالاتها!
وإن قال: لا.
قيل له: فإنما سألتكم عمن عرف موضوع اللغة ودلالتها، وكان من أهلها، وممن
نزل القرآن بلسانه.
فإن قال: لا يجوز وقوع الخلاف فيما كان هذا وصفه بين من ذكرت من أهل
اللغة.
قيل له: فلم اختلفت الصحابة في أحكام الحوادث، مع وجود الدلالة التي لا تحتمل
في اللغة إلا معنى واحدا؟ وخبرني عن النص الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا، هل
يجوز وقوع الخلاف في معناه، وموجب حكمه، بين الصحابة الذين هم من أهل اللغة،
78

والعارفين بمعانيه، ودلالات لفظه؟ فلما وجدناهم مختلفين في أحكام الحوادث علمنا بذلك
بطلان قولك.
ولو كان ما قلت صحيحا، لكانت الصحابة أولى باعتباره والرجوع إليه، ولو خفى
ذلك على بعضهم لنبهه الباقون عليه، فكان يصير بمنزلتهم في معرفته واستدراك
حكمه، إذ كان لذلك سببا مستدركا من طريق اللغة ودلالة الخطاب.
وعلى أنه ليس يمكن قائل هذا القول أن يرينا في كل مسألة من الحوادث. كالمكاتب
إذا أدى بعض كتابته، وكالخلية، والبرية، وغيرها، من المسائل التي اختلفوا فيها، دليلا لا
تحمل الا معنى واحدا، فعلمنا أن قائل هذا القول، إنما عبر عن اجتهاد الرأي بالدليل
الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا. فأخطأ في تسميته.
فإن قال: إن تلك الدلالة تحتمل الوجوه المختلفة، والمعاني المتغايرة.
قيل له: فقد وافقتنا على إثبات الاجتهاد في إدراك حكم الحادثة، لأنا كذلك نقول
فيما كان طريقه الاجتهاد. وحصل خلافك لنا في العبارة.
فإن قال: ما أنكرت أن يكون الواجب في حكم الحادثة:
أن يترك الامر فيها على ما كان
عليه حكمه في العقل، قبل ورود السمع.
فإن كان مباحا في العقل أقر عليه، وإن كان العقل يوجب حظره أو إيجابه، كان
محمولا على ذلك، وما قد دل عليه السمع أيضا في قوله: " تعالى عفا الله عنها " وقول
النبي صلى الله عليه وسلم (وما سكت عنه فهو عفو).
قيل له: فاسد بدلالة الكتاب والسنة، واتفاق الأمة، وذلك أن الله تعالى قد أمرنا
بالاستنباط، ورد الفروع إلى أصولها، بقوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " وقوله
79

تعالى: " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول "، وقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي
الابصار " وقوله تعالى " لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " وسائر ما ذكرنا من
أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في إباحة الاجتهاد، واستعمال السلف النظر والاستدلال في حكم الحوادث:
من نحو الخلية، والبرية، والحرام، والبتة، ولم يقل واحد منهم: اتركوها زوجته على أصل
ما كانت عليه، ولا تنظروا في حكم اللفظ.
ثم ههنا مسائل لا بد فيها (من) اجتهاد الرأي: كنحو تحري القبلة عند الغيبة
عنها، وكأروش الجنايات التي ليس فيها نص على مقاديرها، وقيم المستهلكات، ونفقات
الزوجات. وعلى أن القائل بهذه المقالة مناقض في قوله، لأنه قد أوجب رد حكم الحادثة إلى
الأصل الذي كان عليه حال المبتلى بالحادثة. وهذا القول حكم منه في الحادثة بغير الأصل
الذي ذكر أنه يجب الرد فيه.
قال أبو بكر: على أن القائلين بنفي القياس من سائر من ذكرنا اعتراضاتهم، ممن
يقول منهم بالنص الخفي، أو بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا. ومن يقول
بترك الشئ على أصل ما كان عليه، لا ينفكون من استعمال القياس، واجتهاد الرأي، في
مسائل الحوادث، من حيث لا يعلمون أو يعلمون، فيكابرون ويسمونه بغير اسمه، قصدا
منهم إلى الخلاف، وليذكروا في المختلفين، وكذلك لا نجد أحدا ممن ينفي حجج
العقول إلا وهو يستعملها ضرورة، وهو لا يعلم أنه يستعملها أو يعمله ويكابر. وكذلك من
ينفي خبر الواحد فإنما ينفيه بالقول، فإذا فتشت مذاهبه وجدته يستعمل أخبار الآحاد
ويقول بها من حيث لا يشعر.
80

فصل
فيما احتج به مبطلو القياس من (جهة) ظاهر الكتاب بقوله تعالى: " يا أيها الذين
آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " فزعموا أن استعمال القياس واجتهاد الرأي تقدم بين
يدي الله ورسوله، وقوله تعالى: " ولا يقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا
حرام " قالوا: من حرم أو حلل بغير نص فقد شمله حكم هذه الآية، وبقوله تعالى: " ما
فرطنا في الكتاب من شئ " وبقوله تعالى: " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " وبقوله عز
وجل: " ولا تقف ما ليس لك به علم " وبقوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا
تعلمون ". والقياس الشرعي لا يفضي بقائسة إلى حقيقة العلم، فهذا باطل.
الجواب وبالله التوفيق: إن قوله (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " لا دلالة فيه على
نفي القياس، لان حكم الله تعالى مستدرك من وجهين: نص، أو دلالة، والقائسون إنما
تبعوا الدلائل عند عدم النص، فإذا كان الله تعالى هو المتولي لنصب الدلائل على
أحكامه، فليس متبع الدليل متقدما بين يدي الله ورسوله، ويقلب هذا عليهم.
فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون نفي القياس تقدما بين يدي الله ورسوله، لان الله
تعالى لم ينص على نفي القياس.
81

وكل قول رجع على قائله من حيث يريد به إلزام خصمه فهو ساقط.
وقوله تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام " فإنما
خطر به القول بالتحليل والتحريم، فيما كان قائله كاذبا (به)، وليس هذه صفة القائسين
لأنهم صادقون في قولهم بإباحة القياس، وما يوجبه من الاحكام.
ثم يصير الكلام بيننا وبينكم: في أن القياس حكم الله تعالى، فيكون صدقا، أو
ليس بحكم، فيكون القائل بإباحة كاذبا، سقط اعتراضه بهذه الآية، وعلى أن هذا
القول رجع عليه حسب ما ذكرنا في الآية الأولى، لأنه لا يجد نصا في قوله: إن القياس
حرام، فهو قائل على الله تعالى الكذب بنفيه القياس على قضيته.
وأما قوله تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فإن القائسين فريقان:
أحدهما يقول: إن الحق في جميع أقاويل المختلفين، فمن قال بهذا سقط عنه هذا
السؤال، لأنه يقول: قد علمت أن ما أدى إليه القياس فهو حق، وإنه ليس على حكم
غيره، وأما من قال: إن الحق في واحد فإنه يقول: ما أداني إليه القياس فهو ضرب من
العلم، مع تجويزي الخطأ فيه، كقوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى
الكفار) ونحوه فيما ذكرنا من قبول خبر الواحد، فلم ينفك القائس من أن يكون قائلا
بعلم من حيث أقام الله تعالى له الدليل على القول به.
(ويلزمه أيضا: إبطال أخبار الآحاد والشهادات، لأنها لا تقضي إلى حقيقة
العلم).
82

ويلزمه أيضا: إبطال الاجتهاد في نفقة الزوجات، وفي سائر ما نص الله تعالى
عليه، ووكله إلى اجتهادنا من جزاء الصيد ونحوه.
ونقلب هذا عليه أيضا في نفي القياس.
فيقال له: ما أنكرت أن تكون هذه الآية مبطلة لقولك بنفي القياس، لأنه ليس معك
دليل يوجب العلم بصحته.
فإن قال: قد علمت يقينا بطلان القياس.
قال لك القائسون مثله في بطلان قولك، فيساوونك في دعواك، ويصير سؤالك
ساقطا.
وأما قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) فإن القياس مما قد دل عليه
الكتاب على ما تقدم من بيانه، وهو غير خارج عنه، لأنه معلوم أنه لم يرد (الاخبار) عن
حكم كل حادثة نصا في الكتاب، وإنما المراد نصا ودليلا. فلم يكن القول بالقياس خارجا
عن حكم الكتاب.
وكذلك قوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) لان القياس من موجب ما
أنزل إلينا.
وينقلب هذا أيضا عليهم في قولهم بنفي القياس، لأنا نقول لهم: خبرونا عن قولكم
بنفي القياس، أهو في الكتاب؟ فإن قالوا: لا.
قيل لهم: فقد خالفتم حكم الله تعالى، واتبعتم غير ما أنزل إليكم من ربكم.
فإن قال: هو في الكتاب من حيث قامت دلالته فيه.
قيل: مثله في (نفي) إثباته. ويصير الكلام بيننا حينئذ في اعتبار الدلالة على
نفيه أو إثباته فلا يكون للآية حظ في الاعتراض بها على نفي القياس.
83

واحتج بعض مبطلي القياس: بأن أصول الشريعة، لم تثبت إلا من طريق
السمع، فوجب أن لا يثبت منها شئ، إلا من جهة السمع.
قال: وليس ذلك حكم العقليات، لان أصولها ثابتة من غير جهة السمع.
والجواب: أن هذا فاسد، لأنه يقتضي أن لا يثبت المستدل عليه إلا من حيث
يثبت دليله، وقد ثبت معرفة الباري تعالى من جهة الاستدلال بالمحسوسات، وإن لم
يكن هو تعالى محسوسا، فانتقضت هذه القاعدة.
ولما جاز أن تثبت لنا معرفة الباري تعالى من جهة دلالة المحسوسات عليه، وكان
العلم بالمحسوسات علم اضطرار، والعلم بالباري تعالى علم اكتساب، جاز أيضا أن
تكون أصول الشرع مأخوذة من طريق السمع، ويكون فروعها معلومة من جهة الاستدلال
بالسمع على الوجه الذي ذكرناه.
على أن هذا القائل مناقض في احتجاجه بهذا في نفي القياس، لان تحريمه القياس
حكم من جهة الشرع، وقد أثبته من جهة القياس من طريق السمع، فمن حيث رام بما
ذكر نفي القياس فقد أثبته، وناقض (في) احتجاجه.
فإن قال: إنما احتججت في نفي القياس الشرعي بقياس عقلي، ولست آبى القول
بالقياس العقلي.
قيل: وكذلك إثباتنا للقياس الشرعي، إنما أثبتناه بالقياس العقلي، لما في
الأصول من الدلالة عليه ولزوم القول به.
واحتج آخرون منهم: بأن أحكام الشرع ليست مبنية على مقادير العقول، لأنا
وجدنا الله تعالى قد حكم في أشياء مشتبهة بأحكام مختلفة. وفي أشياء مختلفة بأحكام
84

مشتبهة. (وكذلك حكم في أشياء مشتبهة بأحكام مشتبهة، وفي أشياء مختلفة بأحكام
مختلفة).
منها: إباحة الوطء بملك اليمين بغير عدد. وحصر عقد النكاح على عدد معلوم لا
يجوز مجاوزته، وحرم النظر إلى شعر الحرة الشوهاء، وأباحه إلى شعر الأمة الحسناء، وأوجب
الصدقة في السوائم، وأسقطها عن العوامل، وحرم التفاضل في الأصناف الستة عند
وجود الجنس، وأباحه عند اختلاف الجنس، وسوى بين الدراهم والدنانير في إيجابه ربع
العشر فيهما، وفرق بين صدقة البقر والغنم، وذكر أشياء من نحو هذا.
قال: فإذا كان الله تعالى قد حكم بأحكام مختلفة في أشياء مشتبهة، وبأحكام
مشتبهة في أشياء مختلفة، وبأحكام مشتبهة (في أشياء مشتبهة)، وبأحكام مختلفة في
أشياء مختلفة، لم يكن رد الفرع إلى أصل من حيث الاشتباه والتسوية، بأولى من رده إلى
أصل آخر من حيث الاختلاف، فيوجب المخالفة بين حكميهما. إذ ليس أحد الوجهين،
بأولى من الاخر، وسقط اعتبار الحكم بالمثل والنظير.
وإذا بطل ذلك ثم حدث التنازع في مسألة فرع، حملناها على حكم الله تعالى فيها
قبل التنازع، وبقيناها على ما كانت عليه حالة قبله، ولم ننقلها عن ذلك (الحكم)
باختلاف.
الجواب: إن ما قال هذا القائل: استعمال قياس في نفي القياس، وقائله
مناقض من وجهين.
85

أحدهما: أنه دعى إلى نفي القياس بالقياس.
والثاني: أنه زعم أن وقوع التنازع فيما طريقه السمع، يوجب رد المتنازع فيه إلى
الأصل الذي كان عليه (حاله) قيل وقوع التنازع، وقد علمنا: أن الأصل في هذه الأشياء
الإباحة، حتى يقوم دلالة الحظر، ولزم على أصله أن لا يحظر القياس عنه وقوع التنازع،
وأن يبيحه حتى يقوم دلالة الحظر.
فإن قال: إنما اعتبرت في هذه الأصول قياسا عقليا، لأني حين تأملت موضوعها،
فوجدتها على الوصف الذي ذكرت، علمت أنه لاحظ للقياس في إثبات شئ منها.
قيل له: فاقبل منا (مثله) إذا قلنا لك: إن قياسنا هذا الذي ذكرناه قياس
عقلي، لوجود الأصول الدالة على وجوب استعماله في مواضعه.
وأما ذكره لاختلاف أحكام الأشياء المشتبهة، و (اتفاق) أحكام الأشياء المختلفة،
فلا معنى له، لأنا لم نقبل بوجوب القياس من حيث اشتبهت المسائل في صورها وأعيانها
وأسمائها، ولا أوجبنا المخالفة بينها، من حيث اختلفت في: الصور، والأعيان، والأسماء
وإنما يجب القياس بالمعاني التي جعلت أما رأت للحكم بالأسباب الموجبة له، فنعتبرها في
مواضعها، ثم لا نبالي باختلافها، ولا اتفاقها من وجوه أخر غيرها.
نظير ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم التفاضل في: البر بالبر، من جهة الكيل، وفي
الذهب بالذهب، من جهة الوزن، استدللنا به على أن الزيادة المحظورة معتبرة من جهة
الكيل أو الوزن مع الجنس، فحيث وجدا أوجبا تحريم التفاضل.
وإن اختلف المبيعان من وجوه أخر كالجص - وهو مكيل - فحكمه حكم البر، من
86

حيث شاركه في كونه مكيلا، وإن خالفه من وجوه أخر، وكالرصاص - هو موزون -
فحكمه حكم الذهب، في تحريم التفاضل، وإن خالفه في أوصاف أخر، فمتى عقل
المعنى الذي به تعلق الحكم، وجعل علامة له، وجب اعتباره حيث وجد.
ألا ترى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجم ما عزا حين زنى وهو محصن، فكان الحكم متعلقا
بوجود العقل، إذا كان الفاعل على وصف، كان ذلك الحكم جاريا في الفاعلين بمثل
فعله، إذا كانوا محصنين، فإنه لما حكم في الفأرة تموت في المسن، وفرق (فيه) بين الجامد
والمائع. علم بذلك أن المعنى في إيجاب التنجس مجاورته للنجاسة، أجري هذا المعنى في
الزيت، والشيرج، وسائر ما تجاوره النجاسات.
كذلك ترد الفروع إلى الأصول، بالمعاني التي بها تعلق الحكم، فيكون تابعا للمعنى
حيث وجد، إلا أن المعاني التي تتعلق بها الاحكام، منها ما يكون جليا ظاهرا، ومنها ما يكون
خفيا غامضا، فيستدل عليه بدلائل التي نصبها الله تعالى.
ثم لو جاز اعتبار المعنى في أحد الموضعين: من الجلي والخفي، دون الاخر، لجاز أن
يقتصر بجواز القياس على نوع من الفقه دون غيره، فيجوز في الطلاق، ولا يجوز في
البيوع، أو يجوز في الصلاة، ولا يجوز في الصوم، فلما بطل هذا لان المعنى إذا تعلق به الحكم
وجب اعتباره فيما وجد فيه، كذلك إذا قامت الدلالة على المعنى الذي جعل علما للحكم،
لزم اعتباره في جميع ما وجد فيه، وسقط بهذا سؤال السائل في الخلاف والوفاق، إذ لم
يجعل الخلاف علة لوجوب المخالفة في الحكم، ولا الوفاق علة لوجوب الاتفاق في الحكم.
وإنما الاعتبار بالسبب الذي قد جعل أمارة للحكم، وعلما له، وذلك يعلم باستبار أمره
والاستدلال على استخراجه.
87

فالمعترض بما وصفنا جاهل بطريقة القياس في أحكام الشرع، وهذه التي نسبها
علة الحكم جارية عندنا مجرى الاسم إذا علق به الحكم، فيجري الحكم عليه حيث وجد.
ولا يمنع أن يكون ما تحت الاسم مختلفا، واختلافه لا يمنع من اعتبار الحكم فيما
شمله الاسم، نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر)، وما سقت السماء أجناس
مختلفة. واختلافها لا يمنع من اعتبار الحكم فيما شمله الاسم، نحو إجراء الحكم على
الاسم، لشموله جميعها في كونه علامة الحكم. كذلك العلة التي يجب بها القياس،
جعلت علامة للحكم بالدلائل الموجبة له، يجب اعتبارها في سائر ما وجدت فيه، من
مختلف ومتفق على الحد الذي بينا في الاسم، وسنذكر إن - شاء الله تعالى - (فيما
بعد) كيفية وجوه الاستدلال على المعاني التي هي ملك للأحكام وأمارات لها، وإنما ذكرنا
هنا مثالا لنبين به إغفال المعترض بما ذكرنا حقيقة قول القائسين، وجهله بمذاهبهم.
وهذه الأسئلة التي ذكرناها، إنما هي لقوم متكلمين من نفاة القياس، وقد سرقها
بعض أهل الحشو ممن ليس له حظ في هذا الشأن، فتكلم عليها بما لا أحسبه عرف معناه
على الحقيقة، وهو مع ذلك ينفي حجج العقول، فناقض في استعماله لها في هذا الموضع
إلا أن يقول: إني إنما قلدت في هذا الحجاج من تقدمني من المتكلمين.
فنقول له: فهلا قلدتنا في جوازه. دون من اخترت تقليده في نفيه؟ وعلى أنه لا
يعترف بتقليدهم، لأنه معهم في طرفي نقيض في اعتقاد أصول الدين، إذ كان لو قصد
قاصد إلى أن لا يعتقد إلا شر المذاهب وأقبحها وأشنعها، ثم استفرغ جهده فيه لم يبلغ
مبلغه في سوء الاختيار، وقبح الاعتقاد (إلا بخذلان الله إياه).
88

فإن قال قائل: إن كانت علة الحكم هي العلامة التي تعلق بها الحكم، فكيف اختلفت
على المجتهدين؟ وإنما هي علة واحدة.
قيل له: إذا كان طريق استخراج علة الحكم الاجتهاد، فليس يمتنع أن يكون
عند بعض المجتهدين أن علة الحكم: الكيل في البر بالبر، وعند بعضهم الاكل، وعند
آخرين القوت والادخار، على حسب رجحان أحد (هذه) المعاني في نفسه، كما يجتهد
المجتهدون (في جهة القبلة، فيؤدي بعضهم اجتهاده إلى ناحية الشرق، وبعضهم إلى
ناحية الغرب، على حسب ما يغلب في ظنونهم، ولم يوجب اختلاف المجتهدين فيها بطلان
الاجتهاد في طلبها، كذلك اجتهاد المجتهدين) في العلة التي هي علم الحكم لا يقدح
في صحة وجوب الاجتهاد في طلب الحكم.
وعلى أن الأمور العقلية عللها موجبة لأحكامها، ولم يمتنع وقوع الخلاف بين
المستدلين عليها، ولم يدل وقوع الاختلاف فيها على بطلان النظر والاستدلال.
وأما قولك: إن هناك علة واحدة للحكم، وإن هذا كلام بين المجتهدين، فمن قال
منهم: إن الحق في واحد، فلا يجعل كل مجتهد مصيبا، فإنه يقول: إن هناك علة لحكم
واحد، ومن جعل الحق في جميع أقاويل المختلفين قال: إن هناك عللا لاحكام مختلفة.
وسنبينه إذا انتهينا إلى القول في الاجتهاد.
واحتج بعضهم في إبطال القياس: بأن من قال من القايسين: إن الحق في واحد، وهو
أشبه الأصول بتلك الحادثة، فلا يصح له استعمال القياس إلا بعد إحاطة علمه بسائر
الأصول، ومعلوم أن أحدا لا يصح له دعوى إحاطة العلم بسائر الأصول، حتى لا يشذ عنه
منها شئ، لا سيما إن كان مع ذلك من القائلين لاخبار الآحاد، وموجبي العمل بها، وإذا لم
89

يحط علما بالأصول لم يصح القياس على الأشبه. إذ لا يأمن أن يكون الأشبه هو ما غاب
علمه عنه، وإذا كان ذلك كذلك بطل القياس على أشبه الأصول بالحادثة، لتعذر وجود
علم الأصول عند واحد من القائسين، وإن كان الجميع موجودا غير خارج عن علماء الأمة.
الجواب: إن هذا القائل لا يخلو من أن يكون من القائلين بالنص الخفي، أو
بالدلائل التي لا تحتمل إلا معنى واحدا، (أو بوجوب) رد حكم الحادثة إلى أصل (ما كان
عليه حكم ما)، قبل ورود الخبر، إذ كان مبطلو القياس على أحد هذه المذاهب التي
اختلفوا في العبارة عنها، وإن آل قولهم عند التحصيل إلى استعمال القياس، وإنما يعبرون
عنه بغير اسمه.
فنقول: إن هذا الحجاج - إن يصح - أبطل مذهب كل قائل في الحوادث بشئ، كائنا
ما كان ذلك الشئ، وذلك لأنه لا يصح له دعوى الإحاطة لجميع الأصول حسب ما حكم
به على مثبتي القياس، فلا يأمن - إذا كان ذلك حاله - أن يستعمل النص الخفي، وهناك
نص جلي. وقد غاب عنه علمه، أو يستعمل حكم الدليل مع النص الذي قد خفي
عليه، أو يرد حكم الحادثة إلى أصل ما كان عليه حكمها قبل ورود الخبر، وهناك نص قد
نقل حكمها عما كان عليه، فلا يصح له القول بشئ من هذه المذاهب على حسب ما رام
به إبطال القياس، فهو من حيث اعترض بما ذكر على القياس، مفسد لأصله، هادم
لمقالته، وكل سؤال رجع إلى سائله من حيث رام به إلزام خصمه، فهو ساقط من
أصله.
90

ومع هذا فإنا نجيبه - وإن لم يلزمنا ذلك (له) لحق النظر.
فنقول: إن الذي يجوز له القياس من الفقهاء، من قد حفظ أكثر الأصول وعرفها،
وعرف طرق المقاييس، ورد الفروع إلى الأصول، فمن كان بهذه المنزلة جار، له القياس -
وإن خفي عليه بعض الأصول - ولم يكلف حينئذ حكم ما خفي عليه، وإنما يرد الحادثة إلى
أشبه الأصول التي تحضره وتخطر بباله عند اجتماع رأيه، وحضور ذهنه، كما يجوز الاجتهاد في
تحري القبلة لمن احتاج إليه، وإن كان غير عالم بجميع الأشياء التي يستدل بها عليها.
ألا ترى أن حال الأعمى والبصير متفاوت في المعرفة بجهة القبلة، ولم يمنع ذلك
الأعمى من جواز الاجتهاد في طلبها عند الحاجة إليه. وهو قد خفي عليه كثير من
العلامات، التي يعرفها البصير بجهة القبلة.
وكذلك قد يجوز للانسان الاجتهاد في تدبير الحرب ومكايد العدو، على حسب ما
يغلب في ظنه، وإن لم يحط علما بجميع ما يحتاج إليه في ذلك.
وكذلك القياس، قد يجوز لمن عرف أكثر الأصول. وإن خفي عليه بعضها، فيقيس
حينئذ على أشبه الأصول بالحادثة في علمه وما يحضره.
وإن احتج بعضهم في إبطال القياس، بأن القائسين فريقان: من يقول الحق في
واحد، ومن يقول الحق في جميع أقاويل المختلفين، وعظم من يقول الحق في واحد يعذر
المخطئ للحكم، ويوجب له الاجر، فضلا (عن) أن يجعل فعله كسائر الافعال،
المباحة التي لا يستحق عليها الاجر.
فالذي يدل على فساد قول الطائفتين، وعلى أن القياس لا يجوز أن يكون دينا لله
تعالى: أنه لو جاز ذلك لأوجب تنافي أحكامه وتضادها، لتحريم بعضهم ما يحله الاخر،
وتحليل بعضهم ما يحرمه غيره، لان المستفتي إذا سئل هذا قال: أني قلت لامرأتي: أنت علي
91

حرام، فقال له: حرمت عليك، فإذا سئل الاخر (قال): هي مباحة لك، على النكاح
الأول، وغير جائز أن يبيح الله عز وجل، ما يوجب تضاد أحكامه وتنافيها.
فيقال له: إن أصل ما بني عليه هذا الباب ينبغي أن نضبطه، حتى نزول عنك فيه
الشبهة من هذه الجهة، وتكنينا ونفسك فيه المؤنة، وهو أن القائسين إنما يجيزون اجتهاد
الرأي على الوصف الذي ذكرت، فيما يجوز فيه النسخ والتبديل، وفيما يجوز ورود التعبد فيه
بالحظر تارة، وبالإباحة أخرى، ويجوز فيه المخالفة بين أحكام المتعبدين، كما حظر على
الحائض الصلاة، والصوم، وأوجبهما على الطاهر، وجعل فرض المسافر ركعتين، وفرض
المقيم أربعا.
وإذا كان ما يجوز فيه الاجتهاد من المسائل هو من هذا القبيل، لم يقع في آراء
المجتهدين تضاد ولا تناف، لان كل واحد فإنما تعبد بما يؤديه إليه اجتهاده، فتعبد هذا
بالحظر، وهذا بالإباحة، على وجه يجوز ورود النص بمثله فإن استوت عند المجتهد جهة
الحظر، وجهة الإباحة عند من يجيز تساوي الجهتين فيهما كان مخيرا، في أن يلزم نفسه أيهما،
فينفذه، ويمضي عليه، وسنوضح القول فيه إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إلى الكلام في
الاجتهاد.
وأما المستفتي: فإنه إذا أفتاه مفت بالحظر، وآخر بالإباحة، فإن المفتي غير جائز له أن
يفتيه بمذهبه على جهة إطلاق القول فيه: غير مضمن بشريطة، وهو أن يقول له: إن
اخترت فتياي وألزمتها نفسك فهذه المرأة حرام عليك.
وإن اخترت فتيا من يفتيك بالإباحة، فهي مباحة لك، فيكون الذي يلزم المستفتي،
أحد شيئين: من حظر، أو إباحة، وهو ما يختاره من قول أحدهما، ويكون الذي تعلق به
الحظر والإباحة، (معتبرا في حالين، لان الحظر والإباحة) في الحقيقة إنما يتناولان فعل
المباح له ذلك: من الاستمتاع، والنظر، والوطء، ونحوه.
92

والوطء الذي (أبيح) له عند اختياره (لفتيا هذا غير الوطء الذي حظر عليه عند
اختياره) لفتيا الاخر.
ومن أهل العلم من يقول: إن الوطء الذي تعلق به التحريم، عند قبوله فتيا هذا،
هو الوطء الذي يتعلق به التحليل عند قبوله فتيا الاخر، ولا يمتنعون من إجازة تعلق الحظر
والإباحة بفعل واحد على وجهين مختلفين.
ونظيره: أن سجودا واحدا يكون طاعة لله تعالى، إذا أريد الله تعالى به، ومعصية
إن أريد به غير الله عز وجل، ومن يخالف في ذلك يقول: إن السجود الذي تعلق به الحظر
غير السجود الذي تعلقت به الإباحة.
(وإذا كان هذا هكذا، وكان عند القائلين بذلك، أن الفعل الذي تعلق به الحظر،
غير الفعل الذي تعلقت به الإباحة)، وأي الوجهين صح ذلك فإنه غير مؤثر فيما ذكرنا،
من تعلق الحظر والإباحة بفعلين، أو تعلقهما بفعل واحد على وجهين مختلفين.
وليس يجوز للمفتي أن يقول للمستفتي: هذه المرأة حرام عليك، فيطلق له القول
فيه، من غير تضمين له بالشريطة التي ذكرنا، لان هذا يوجب أن يكون المختلفون من
الصحابة في مسائل الفتيا قد كان في اعتقادهم: أن مخالفيهم في مثل ذلك مقيمون
على فروج محظورة، وغاصبون لأموال محرمة فيما أفتوا به من ذلك، وهذا غير جائز عليهم
عندنا، لأنه لو كان الامر كذلك عندهم، لا نكره بعضهم على بعض، ولخرجوا فيه إلى
اللعن والبراءة، كما خرجوا إليه فيما لم يسوغ الاجتهاد فيه.
فلما لم ينكره بعضهم على بعض الخلاف في مسائل الفتيا، حسب إنكارهم في غيرها،
علمنا أن كل قول ذهب إليه قائل منهم، فيما خالفه فيه غيره، فقد سوغ لغيره ذلك
الخلاف، فإنه كان عنده (أنه) غير محظور عليه القول بما أداه إليه اجتهاده، فثبت أن فتيا
93

المفتي للمستفتي في مسائل الاجتهاد، ينبغي أن تكون مقيدة بالشريطة التي وصفنا، فلا
يؤدي إلى التضاد والتنافي، إذا كان جائزا ورود النص بمثله، بأن يقول: إن اخترت قول
فلان فهذا محظور عليك، وإن اخترت قول فلان فهو مباح لك، كما قال: إن سافرت
ففرضك ركعتان، والافطار مباح لك في رمضان، وإن أقمت ففرضك أربع، ومحظور عليك
الافطار، وكما يقول للمكفر عن يمينه: إن كفرت بالطعام فهو فرضك دون غيره، وإن
كفرت بالعتق فهو فرضك دون غيره، والكسوة.
فإن احتج بعضهم في إبطال القياس بأنه معلوم فيما بيننا: أن رجلا لو قال لرجل:
أعتق عبدي فلانا لأنه أسود: أنه غير جائز، للمأمور عتق سائر عبيده السودان، لأجل هذا
الاعتلال، وخطاب الله تعالى لنا محمول على المعقول من خطابنا في تعارفنا، لقوله تعالى:
(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) وإذا ثبت هذا، وجب أن يكون الله
تعالى، لو نص على العلة، بأن يقول حرمت عليكم التفاضل في البر، لأنه مكيل، أن لا
يجوز لنا تحريم التفاضل في الأرز، لأجل وجود الكيل فيه.
الجواب: إن هذا غلط من قائله من وجهين:
أحدهما: أن القائل لم يأمرنا باعتبار أوامره ورد ما لم ينص (لنا) عليه إلى نظيره
من النصوص، وإذا كان كذلك، لم يجز لنا أن نتعدى في أمره موضع النص.
الثاني: أن القائل منا ذلك يجوز عليه العبث، ووضع الكلام في غير موضعه، فإذا
قال: أعتق عبدي (فلانا) لأنه أسود، لم يثبت عندنا صحة اعتلاله، وأنه سبب موجب
لعتقه، فلم يجب اعتباره، لان العلة التي يقاس بها سبيلها أن يكون علة صحيحة، تكون
علما للحكم، وأما ما نص الله تعالى عليه من العلل، أو أقام عليه الدلائل، فإنها علل
صحيحة، وقد أمرنا مع ذلك باعتبارها، ورد النظائر إليها، بما أقمنا من الدلالة على وجوب
القول بالقياس، فلزم إجراء اعتلاله في معلولاته.
ومن جهة أخرى: إنا نعلم أنه تعالى لا يجوز عليه فعل العبث، ولا وضع الكلام
94

في غير موضعه، وأن أفعاله تجري إلى غرض محمود، فوجب أن يكون تعليله للنص موجبا
للحكم في نظائره، ما لم ينص عليه، وإلا بطلت فائدة التعليل، وصار وجوده كعدمه.
وسأل داود القائسين سؤالا دل على جهله بمعنى القياس، فقال: خبروني (عن
القياس)، أصل أم فرع؟ فإن كان أصلا فلا ينبغي أن يقع فيه خلاف، وإن كان فرعا
ففرع على أي أصل؟
قال أبو بكر: والقياس إنما هو فعل القائسين، ولا يجوز أن يقال لفعل
القائس: إنه أصل أو فرع، كما لا يقال لقيامه، وقعوده، وسكوته، وحركته: إنه أصل أو
فرع.
والدليل على أن القياس فعل القائس: أنك تقول: قاس فلان قياسا، فتجعله فعلا
له. كما تقول: قعد قعودا، وقام قياما.
وإنما وجه تصحيح السؤال، أن يقول: خبرني عن وجوب القول بالقياس، أو الحكم
بجواز القياس، هل هو أصل أم فرع؟
فيكون الجواب عنه: إن القياس أصل لما بني عليه، وفرع على ما بني عليه،
فأصله الذي بني عليه: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، على حسب ما تقدم من بيانه،
وفرعه الذي بني عليه سائر مسائل الحوادث القياسية، التي لا توقيف فيها ولا إجماع.
ويقال له: خبرنا عن وجوب القول بالدليل الذي زعمت أنه لا يحتمل إلا معنى
واحدا، أصل هو أم فرع؟ ويسحب عليه السؤال. الذي سأل في القياس. فيما أجاب به
فهو جواب القائسين في القول بالقياس.
95

الباب الثالث والثمانون
في
ذكر وجوه القياس
97

باب
في ذكر وجوه القياس
قال أبو بكر - رحمه الله -: لا يكون القياس إلا برد فرع إلى أصل، بمعنى يجمعهما،
ويوجب التسوية بين حكمهما وهو على ضربين:
أحدهما: القياس على علة منصوص عليها، كقوله تعالى: (كيلا يكون دولة بين
الأغنياء منكم)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " إنها دم عرق " ونحو ذلك.
والاخر: القياس بعلة مستنبطة، مدلول عليها، كعلة الربا، ونحوها، وسنبين فيما
بعد كيفية الاستدلال عليه إن شاء الله تعالى.
ومن الناس من يجعل كل معنى جمع الحكم المنصوص عليه، وغير المنصوص عليه
قياسا، سواء كان الجميع بنظر أو استدلال، أو كان معقولا من فحوى النص.
فيجعل منع ضرب الأبوين وشتمهما قياسا على قوله: (فلا تقل لهما أف)
ويجعل منع جواز العميا في الأضحية قياسا على العوراء المنصوص عليها.
ويجعل حكم الزيت حكم السمن في موت الفأرة فيه، قياسا على ما ورد من الأثر في
السمن.
ويجعل رجم غير ماعز قياسا على ماعز، ونحو ذلك، مما عقل بورود اللفظ
حكمه، وإن لم يكن مذكورا في النص بعينه، بعد أن يكون الحكم فيه وجب فيه للمعنى
99

الموجود في النص (الموجب للحكم) فيه، ويسمى هذا القياس الجلي، ويسمى ما يوصل
(فيه) إلى المعنى الموجب للحكم بالنظر والاستدلال، القياس الخفي.
قال أبو بكر: وهذا الذي سموه القياس الجلي عندنا ليس بقياس.
وذلك لان القياس يفتقر في إثبات الحكم به إلى ضرب من النظر، والاعتبار
والتأمل بحال الفرع والأصل، والجمع بين حكميهما، بعد الاستدلال على المعنى الموجب
للجمع.
وليس هذه القضية موجودة فيما سموه قياسا جليا، لان المعنى فيه معقول مع ورود النص
في أغياره، مما لم يتناوله النص قبل النظر والاستدلال، وقد يعقل ذلك العامي الغفل
الذي لا يدري ما القياس، وعسى لم يخطر بباله.
ويبين ذلك أن الناس مختلفون في جواز القياس، ومتفقون على هذا، وغير جائز أن
يكون المختلف فيه هو المتفق عليه، فثبت أن ما كان معقولا من فحوى النص، فليس
الحكم به من طريق القياس.
ويصح عندنا الاستدلال بما ذكرت على إثبات القياس من جهة تعلق الحكم فيهما
بالمعنى، وإن كان أحدهما قياسا، والاخر ليس بقياس.
ومن نظائر ذلك: مما ليس بقياس عندنا، وكثير من نفاة القياس يقولون به مع نفيهم
القياس، أن يتساوى حكم الشيئين في الأصل، ثم يرد أثر بحكم في بعض ما ثبت فيه
المساواة في الأصل بينه وبين غيره، فيفيدنا ما (قد) عقلنا من المساواة بينهما بدءا، أن ما لم
يرد فيه الأثر مساو لما ورد فيه، فيما كانت عليه حالهما من وجوب المساواة بين حكمهما.
وذلك نحو الجمع بين الجماع والاكل ناسيا في عدم وقوع الافطار بهما، وذلك لأنه قد
ثبت في الأصل: أن الصوم هو الامساك عن الأكل والشرب والجماع، ونحو هذا من
100

الصوم الشرعي، فلما ورد الخبر في أن الاكل ناسيا لا يفسد الصوم، فقد أفاد أن الجماع
ناسيا لا يفسده، لا من جهة القياس، لكن من جهة تساويهما في الأصل، في كونهما شرطا في
صحة الصوم الشرعي، فمن حيث ثبت أن ترك الاكل في حال النسيان ليس من شرطه،
أفاد في الجماع مثله، وهو كما قلنا: في أن الزيت، والسمن، والشيرج متساوية في
الأصل، في باب جواز أكلها إذا كانت طاهرة، ومتساوية في امتناع جواز أكلها في حال
النجاسة، فكان الأثر الوارد في موت الفأرة في السمن، قد أفاد في الزيت مثله، وكذلك
الفأرة الميتة، والعصفور الميت، لما تساويا في الأصل من جهة النجاسة، ثم ورد الأثر في
الفأرة الميتة في السمن، أفاد العصفور الميت مثله.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة)
قد أفاد النهي عن التغوط في الماء الدائم.
وأفاد نهي غير البائل عن الاغتسال فيه، من طريق علمنا تساوي أحكام النجاسات
عند حصولها في الماء، لتساوي أحكام المكلفين في لزوم اجتنابها، وليس ذلك عندنا بقياس.
لكن من جهة أنه قد ثبت تساويهما من جهة النجاسة والطهارة، قبل ورود هذا الخبر،
فلما ورد الخبر لم تنزل المساواة القائمة في عقولنا قبل وروده، وعلى هذا وجوب كفارة جزاء
الصيد على قاتل الخطأ، لأنه قد ثبت قبل ذلك وجوب مساواة جنايات الاحرام في الخطأ
والعمد.
فلما ورد النص بوجوب الجزاء على العامد، أفاد علمنا قبل ذلك بمساواة المخطئ له
أن حكمه حكمه.
101

وكذلك القئ والرعاف وسائر الاحداث لما كانت متساوية في منع الصلاة، ثم ورد
الأثر في جواز الطهارة والبناء معهما على الصلاة، إذا وقعا فيهما، عقلنا بذلك حكم سائر
الاحداث التي تسبق المصلى من غير فعله، وانفصل حكم ما يقع من الادمي من الشجة
ونحوها عن هذا الحكم، لاختلاف أحكام فعل الادمي، وفعل الله تعالى، فيما يتعلق به
من إسقاط فرض، أو غيره، وهذا باب لطيف ينبغي أن يراعى في نظائر ما ذكرنا، لئلا
يلتبس طريقة القياس بطريقته، وهذا نظير ما ذكرنا من المعاني المعقولة من الأعيان
المحكوم فيها، ومساواة أغيارها لها، وإن لم يكن منصوصا عليها، مما ظنه بعضهم قياسا
على حسب ما تقدم القول فيه آنفا.
102

الباب الرابع والثمانون
في
ذكر ما يمتنع فيه القياس
وفيه فصل: فيما خص بالأثر من
جملة قياس الأصول لا يقاس عليه
103

باب
ذكر ما يمتنع فيه القياس
قال أبو بكر: لا يجوز استعمال (القياس) في دفع النص سواء كان النص (ثابتا)
بالكتاب والسنة المستفيضة، أو بأخبار الآحاد، لا يجوز القياس في رفعه، ولا يجوز القياس في
مخالفة الاجماع، ولا مدخل للقياس في إثبات المقادير، التي هي حقوق الله تعالى، من نحو
ما ذكرنا من مدة الحيض، ومدة النفاس، ومدة السفر، والإقامة، وقد بينا ذلك.
ولا مدخل للقياس فيما طريقه الاجتهاد على جهة رد (الفرع إلى الأصل) نحو
تقديم المستهلكات، ومقدار المتعة، وتحري الكعبة، ونحوها.
ولا يسوغ القياس في إثبات الحدود، ولا الكفارات، ولا يجوز قياس المنصوصات
بعضها على بعض، ولا يجوز النسخ بالقياس، ولا يجوز القياس في تخصيص العموم الذي
لم يثبت خصوصه من الكتاب والسنة الثابتة من جهة الاستفاضة، ولا مدخل للقياس في
إثبات الأسماء، ولا يجوز القياس على الأثر المخصوص من جملة موجب القياس، إلا على
شرائط نذكرها، إن شاء الله تعالى.
فأما امتناع جواز القياس في دفع النص والاجماع: فلا خلاف فيه، ولأن النص
105

والاجماع، يوقعان العلم بموجبهما، والقياس لا يوقع العلم بالمطلوب، فلم يجز
الاعتراض به عليهما.
وأما المقادير التي هي حقوق الله تعالى (فقد) قدمنا القول فيها فيما سلف.
وأما الحدود والكفارات: فإن من الكفارات ما هي عقوبة، نحو كفارة الافطار في
رمضان، والدليل على أنها عقوبة أنها لا تستحق إلا مع المأثم، وتسقطها الشبهة، فكانت
كالحدود من هذا الوجه.
ومنها ما ليس بعقوبة، ككفارة قتل الخطأ، وفدية الأذى، وكفارة اليمين، ونحوها،
ولا مدخل للقياس (في شئ) منها.
أما ما كان عقوبة، فلأنها بمنزلة الحدود، ولا يجوز إثبات الحدود قياسا، لما نبينه.
وأما ما ليست بعقوبة: فلأنها مقدرة فهي من قبيل المقادير التي ذكرنا أنها لا تثبت
قياسا. وأما ما كان عقوبة من الكفارات والحدود فإنما امتنع إثباتها قياسا من وجهين:
أحدهما: أنها مقدرة ولا سبيل إلى إثبات هذا بضرب من المقادير بالقياس على ما تقدم من
بيانه.
والوجه الاخر: أن مقادير عقاب الاجرام، لا يعلم إلا من طريق التوقيف، وذلك
أن العقوبات إنما تستحق على الاجرام بحسب ما يحصل بها من كفران النعمة.
ومعلوم أن مقادير نعم الله تعالى على عبده لا يحصيها أحد غيره، فلا سبيل إذن
إلى علم مقدار ما يستحق من العقاب بالاجرام إلا من طريق التوقيف، فلذلك لم يجز إثباتها
قياسا.
106

فإن قال قائل: قد أثبتم الحدود بالاستحسان فضلا عن القياس، لأنكم قلتم في
أربعة شهدوا على رجل بالزنا (في بيت، فشهد اثنان انه زنا بها في هذه الناحية منه، وشهد
آخران منهم أنه زنى بها في هذه الناحية منه) أن القياس أن لا يحد، ويحد استحسانا،
وكتبكم مملوءة من المسائل القياسية في الحدود، وهذا بخلاف ما أصلت من نفي القياس
في إثبات الحدود.
قيل له: أما قولك: إنا أثبتنا الحدود بالاستحسان، فليس كما ظننت، والأصل الذي
عقدناه في نفي إثبات الحدود بالقياس صحيح، لا يعترض عليه ما ذكرت في ذلك، لأنا إنما
أردنا بقولنا، لا تثبت الحدود القياسا، (أنا) لا نبتدئ إيجاب حد بقياس في غير ما ورد فيه
التوقيف، فلا نوجب حد الزنا في غير الزنا قياسا، كما أثبتنا تحريم التفاضل في غير البر قياسا
عليه، ولا نثبت حد السرقة في غير السرقة، من نحو (المختلس والمنتهب والخائن والغاصب
قياسا على السارق، ولا نثبت حد القذف) من نحو التعريض قياسا، ولا نثبت كفارة
رمضان في غير الافطار في رمضان قياسا على الافطار في رمضان، وإن (كان) بعض
الفقهاء قد أوجبها في الافطار في قضاء رمضان، قياسا على رمضان، وبعضهم أوجب حد
القذف في التعريض.
وأما الاستدلال من جهة القياس على مواضع الحدود، فهو جائز عندنا، بعد أن لا
يكون فيه إيجاب حد في غير ما ورد فيه التوقيف.
وكذلك يجوز الاستدلال على مواضع الكفارات بالقياس.
ألا ترى أن الله تعالى وإن أوجب حد الزنا على الزاني، فإن من الزناة من لا يجب
عليه الحد، فنحن متى استعملنا القياس في إيجاب حد الزنا، فإنما نستدل بالقياس على أنه
ممن دخل في الآية وأريد بها، وأنه ليس من الزناة المخصوصين من الآية.
107

وكذلك سائر الحدود متى استعملنا القياس في إثباتها، فإنما يقع القول فيها على
هذا الحد، فيكون الحد حينئذ موجبا بالآية، ونستدل بالقياس على أنه ليس هو من القبيل
الذي (لم) يرو بها.
فإن قال قائل: قد أوجبتم الكفارة على الآكل في رمضان قياسا على المجامع. والأثر
إنما ورد في المجامع.
قيل له: ليس هذا كما ظننت، لأنه قد ورد في إيجاب الكفارة لفظ يقتضي ظاهره
وجوبها على كل مفطر، وهو ما روي (أن رجلا قال: يا رسول الله، أفطرت في رمضان،
فأمره بالكفارة) ولم يسأله عن جهة الافطار، وظاهره يقتضي وجوبها على كل مفطر.
وأيضا: فلو لم يرد فيه غير ما روي في المجامع، لما كان إيجابنا الكفارة على الاكل
(من) جهة القياس، وذلك لان الفقهاء متفقون على أن وجوب هذه الكفارة غير مقصور
على الجماع، لان مالك بن أنس يوجبها على كل مفطر غير معذور، والشافعي يوجبها
بالايلاج في أحد السبيلين، وفي البهيمة أيضا. والخبر لم يرد إلا في جماع المرأة في الفرج،
ونوجبها نحن على كل من كان مأثمه بالافطار فيه مثل مأثم المجامع.
فلما اتفق الجميع على أن هناك معنى غير ما ورد الأثر به، تعلق وجوب الكفارة، واحتجنا إلى طلب المعنى عند وقوع الخلاف، ثم استدللنا على أن ذلك المعنى هو إفساد
صوم رمضان بضرب من المأثم، وهو أن يكون مأثمه مثل مأثم المجامع، وكانت هذه الكفارة
مستحقة عليه على جهة العقوبة، لما اجترمه من المأثم، ثم وجدنا مأثم الاكل مثل مأثم
المجامع، وأكثر الدلائل قد دلت عليه، أو جنبا عليه فيه الكفارة، وهذا استدلال على
108

أن المعنى الذي به تعلق وجوب الكفارة، هو حصول الافطار بضرب من المأثم. فأثبتنا
المعنى بالاتفاق، ثم استدللنا عليه بما وصفنا، وليس ذلك قياسا في إثبات الكفارة ولا
غيرها.
وأما امتناع جواز قياس المنصوص على المنصوص. فقد بيناه فيما سلف من هذا
الباب، وحكينا ما قال محمد في " السير " في هذا الباب. فكرهت إعادته.
وقد بينا أيضا فيما تقدم. امتناع جواز النسخ بالقياس. وامتناع جواز تخصيص عموم
الكتاب والسنة الثابتة، الذي لم (يثبت خصوصه).
وامتناع إثبات الأسماء قياسا: (فإن) الأصل أن الأسماء على ثلاثة أنحاء
مختلفة.
فمنها: أسماء الأجناس كقولك حيوان، وجن، وإنس، ورجل، وفرس، وخمر، وما
جرى مجرى ذلك. هذا الضرب من الأسماء مأخوذ من اللغة.
ومنها: أسماء الأشخاص وهو ما يسمى به الشخص الواحد، للتمييز بينه وبين
غيره، ولا يفيد فيه معنى، وإنما هو لقب لقب به، لتعريفه وتمييزه من غيره، كقولك:
زيد، وعمرو، وخالد. ولا يتعلق ذلك باللغة، ولا بموضوعات أهلها واصطلاحهم.
لان لكل أحد يسمي نفسه ما شاء: غير محظور بذلك عليه.
ومنها: أسماء هي أوصاف للمسمى بها، وهي مشتقة من أفعال الموصوفين (بها)،
أو أحوال يكونون عليها، أو صفات يكونون بها. كقولك: قائم، وقاعد، ومؤمن، وكافر،
وأحمر، وأسود، وحي، وقادر، ونحو ذلك.
109

فهذا الضرب من الأسماء يفيد أوصافا في المسمى (بها)، أو أسماء أخر، وهي
أسماء الشرع، وهي مقصورة على ما يرد به التوقيف. نحو الكافر، والمؤمن، والمنافق.
ونحو: الصلاة، والزكاة، والصوم، والربا، ونحوها. هذه أسماء شرعية، قد وضعت في
الشرع لمعان لم تكن موضوعة لها في اللغة.
فما كان من أسماء اللغة، فإنه لا يكون اسما إلا بمواصفات أهلها، واصطلاحهم
عليها، حتى يكون كل من كان من أهل اللغة إذا سمعها عرف المراد بها، وبموضوعها.
ومتى لم يكن كذلك، لم يكن اسما لأجل اللغة.
وكذلك الأسماء التي هي مشتقة من صفات المسمى بها في أصل اللغة. سبيلها
الاصطلاح، ومواضعة أهل اللغة على معانيها في الأصل.
ومن حكمها أن لا يشكل معانيها عند سماعها على من كان من أهل تلك
اللغة.
وأما أسماء الأشخاص - وهي الألقاب التي لا يتعلق وصفها باللغة، ولكل أحد أن
يسمي نفسه بما شاء منها - فليس طريقها اللغة، ولا مدخل لها فيما قصدناه، ولا يعتبر
فيها الاتباع والسماع، أو غير محظور على كل أحد أن يتسمى بما شاء منها.
وأما أسماء الشرع فسبيلها التوقيف. وهي تجري في بابها مجرى أسماء الأجناس، في
باب أن علماء أهل الشريعة سبيلهم أن يعرفوها كما عرف أهل اللغة الأسماء اللغوية.
وإذا تقرر حكم الأسماء على الوجوه التي ذكرنا، وكان معلوما مع ذلك أن رجلا لو
سمى الماء خبزا، أو سمى الذهب نحاسا، أو سمى الفرس بعيرا، أن ذلك لا يصير اسما
له، (لا) في لغة، ولا في شرع.
110

قلنا: لا يخلو المثبت للأسماء قياسا: من أن يثبتها على أنها تصير اسما لمسمياتها في
اللغة، أو الشرع.
فإن كان ما أثبته من ذلك قياسا إنما يصير اسما لغويا، فهذا خلف من القول، لان
أسماء اللغة إنما تثبت وتصير من اللغة باصطلاح أهلها، ومواصفاتهم عليها، حتى
يشترك في معرفتها سائر أهلها.
ومعلوم أن ما ثبت من جهة القياس لا يعرفه اسما للمسمى به إلا القائس الذي أداه
قياسه بزعمه إلى إثباته، فبطل من هذا الوجه أن يكون الاسم المثبت من طريق القياس اسما
لغويا، وإن كان ما يثبته بالقياس يصير اسما شرعيا، وإن سبيل أسماء الشرع أن يشترك في
معرفته علماء الشرع، كما يشترك أهل اللغة في المعرفة بأسماء اللغة.
ألا ترى أنهم قد علموا الصلاة والزكاة والايمان والكفر ونحوه من أسماء الشرع.
وغير جائز ان يختص به القائس دون غيره، فلما كان ما يثبته القائس من هذه
الأسماء خارجا عن هذا الحد علمنا أنه لا يصلح إثباته اسما شرعيا من طريق القياس، لأنه
حينئذ إنما يصير اسما له عند هذا القائس دون من لم يقس، وما اختص به بعض الناس في
إثباته دون بعض، لا يكون اسما للشئ المسمى به، مع كونهم جميعا من أهل المعرفة
بأمور الشرع وأصوله، وإثبات الأسماء من أصوله، فسبيله أن يكون ظاهرا مشهورا متعالما
مدركا من طريق التوقيف، الذي يشترك (الجميع في)، دون القياس الذي يختص به
بعضهم دون بعض، كما كانت أسماء اللغة الموضوعة للأجناس، والمشتقة من أوصاف
المسمين مشهورة معروفة عند أهلها، قد عرفوها من جهة السماع والتلقي، دون ما يختص به
بعضهم دون بعض.
فإن قال قائل: إذا جاز أن تكون الاحكام على ضربين: ضرب مدرك من طريق
النص، وضرب من طريق الدليل. فهلا جوزت مثله في الأسماء؟
111

قيل له: الفصل بينهما: أن الاحكام قد يجوز أن تختلف فيها أحكام المكلفين، فيكون
بعضهم متعبدا بحظر شئ، وآخر متعبدا في تلك الحال بإباحته.
وجائز أن يكون المكلف متعبدا في حال بالحظر، وفي حال أخرى بالإباحة، فلما
اختلفت أحكام المكلفين في العبادات جاز أن يكون بعضها منصوصا عليه، يشترك الجميع
في حكمه، وبعضها مدلولا عليه، مستدركا من طريق القياس.
فمن أداه قياسه إلى الحظر كان متعبدا به دون غيره ممن أداه قياسه إلى الإباحة.
وليس في الأصول تكليف بعض الناس تسمية شئ باسم، وتكليف آخرين أن
يسموا ذلك الشئ بعينه بغير ذلك الاسم، وأن لا تسميه بالاسم الذي كلف الآخر تسميته
به، ولا وجوب تسميته في حال، وحظرها في أخرى، مع تساوي أحوال المسميات.
ألا ترى أن اسم: الصلاة، والصوم، والايمان، والكفر، قد تساوى الناس كلهم في
تسميتها على حسب ما ورد الشرع بها، ولم يكلف بعض الناس أن يسميها صلاة
وبعضهم أن لا يسميها صلاة، مع استواء الحكم فيها في الحالين، وكذلك لم يكلف أحد أن
يسميها اليوم صلاة، ولا يسميها بها غدا. وكذلك سائر أسماء الشرع.
فلما كان ذلك كذلك علمنا أنها جارية مجرى أسماء اللغة. فلو أن إنسانا سمى الماء
خمرا، وسمى الفرس رجلا، لما صار ذلك اسما لها في اللغة، سواء (قاله قياسا) أو
وضعا، من غير قياس على أصل.
كذلك أسماء الشرع بهذه المثابة، لا يصير بما يثبته فيها قياسا اسما له، إذ كان إنما
يختص به القائس، ولا يصير به متعالما مشهورا عند أهل الشريعة، لا فرق بين أن يسميه
بذلك قياسا، أو وضعا من غير قياس، في باب أنه يصير اسما له في الحالين.
112

فإن قيل: أسماء الألقاب ليست مستحقة لمسمياتها في اللغة، ولم يمنعها ذلك من
أن تكون اسما صحيحا، فما أنكرت من مثله في إثبات أسماء الشرع قياسا؟
قيل له: إن أسماء الألقاب التي هي موضوعة لأشخاص بأعيانها ليس طريق إثباتها
القياس، بل لكل أحد أن يبتدئ وضعها، فيسمى نفسه وفرسه وغلامه بما شاء منها، من
غير قياس، فهل تجيز مثله في أسماء الشرع وأسماء اللغة، (فتثبتها وضعا) من غير قياس،
ثم تصير اسما للمسمى به؟
فإن قال: نعم.
قيل له: فما حاجتك إلى استعمال القياس في إثباتها، وقد استغنيت عنه، أو جائز لك
أن تبتدئها وضعا من غير قياس، وعلى أن هذا ضرب من الهذيان، لان ما يبتدئه الانسان
من الأسماء (لأجناس، أو شرع) لا يصير اسما للمسمى به لا لغة ولا شرعا.
فإن قيل: قد أثبتم أسماء الأوصاف المشتقة من صفات المسمين بها قياسا.
قيل له: ليس كذلك، لأن في اللغة ذلك، لأنهم يقولون: قام فهو قائم. وقعد فهو
قاعد، فهذا سماع ليس بقياس.
فإن قيل: لما وجدنا العصير لا يسمى خمرا، قبل حدوث الشدة فيه، ثم وجدناه
يسمى خمرا، عند وجودها، ثم وجدناها يزول عنها اسم الخمر عند زوال الشدة، وحدوث
الحموضة. وجب اعتبار الاسم بحدوث الشدة وزواله بزوالها. يمسى كل ما حدث فيه هذا
الضرب من الشدة خمرا، فيوجب هذا أن يسمى كل مسكر خمرا. ثم يعم الجميع تحريم
الخمر.
قيل له: قد بينا فساد هذا الاعتبار، وأنا لو اعتبرناه لما صار ذلك اسما لغير الخمر،
113

إذ كان سبيل أسماء الأجناس في اللغة والشرع، أن يشترك أهلهما في معرفتها، إذ
غير جائز أن يكون اسما لبعضهم دون بعض، لان الاسم: هو السمة والعلامة التي تتميز بها
المسميات بعضها من بعض عند السامعين لها، من اللغة أو الشرع، فلما لم يحصل ما ذكرته
سمة لما سميته به عند أهل اللغة ولا الشرع، ولم يتميز عندهم المسمى به مما سواه. لم يثبت
اسما.
وعلى أن هذا الاعتبار منتقض على قائله. لأنه يلزمه أن يقول: لما كان البر محرما فيه
التفاضل حين كان مأكولا، فيسمى كل مأكول برا، فيكون الأرز محرما بقوله صلى الله عليه وسلم " البر بالبر
مثلا بمثل " وكذلك سائر المأكولات، ومن بلغ هذا الحد صار في حيز المجانين وخرج من
حدود العقلاء.
وأيضا: فإن القياس إنما هو لإثبات الاحكام و (ما) ليس بحكم لا يصح إثباته
بالقياس، وليست التسمية حكما قد تعبدنا به إذ ليس في الأصول تعبد من الله تعالى
بالتسمية (فحسب)، دون حكم ما يتعلق بالمسمى به، فتكون التسمية لأجل المعنى لا
لنفسها، كنحو المؤمن، والكافر، والمنافق، وسائر الأسماء المفيدة للمدح أو الذم. لما كان
ذلك كذلك، لم يجز إثبات الأسماء قياسا، لما فيه من إثبات حكم في الأسماء لم يرد به الشرع.
وأيضا فإن قياس الأسماء لا يخلو من أن يكون لإثبات الاحكام أو لغيره.
فإن كان للأحكام، فقد أقام الله عز وجل لنا الدلائل على أحكامه، وعلقها بأسماء
ثابتة في اللغة والشرع، بتوقيف منه أو دلالة، ولا حاجة بنا إلى إثبات الأسماء قياسا، لأجل
إثبات الاحكام.
وإن كان قياس الأسماء لغير الاحكام فهذا ما لا فائدة فيه، لأنك إنما تثبته اسما
للقائس دون غيره، فهو كمن ابتدأ وضع اسم بنفسه فسمى به شيئا، نحو أن يمسي الرجل
114

فرسا، فهذا ما لا معنى له، إذ لا فرق بينه وبين من ابتدأ وضع اسم لشئ لا يعرفه غيره،
وهذا لا فائدة فيه.
وقد كان قوم ههنا ببغداد في حدود المجانين عند العقلاء، وهم عند أنفسهم عقلاء،
ممن يتعاطى شيئا من النحو، يدعون جواز قياس الأسماء، فينظرون إلى أصل الاسم في
اللغة، وإلى اشتقاقه، فيقيسون عليه ما في معناه مما لا يعرفه العرب.
ولقد بلغني: أنه قبل لبعضهم: ما اشتقاق الجرجير، وما أصله؟
قال: إنما سمى جرجيرا لأنه يتجرجر إذا خرج من الأرض، يعني يتحرك.
قيل له: فينبغي أن تكون لحيتك جرجيرا، لأنها تتحرك.
وقال بعضهم: إن القارورة إنما سميت بهذا الاسم لأنها يستقر فيها ما يجعل فيها، ثم
قاس على هذا كل ما كان في معناه، فسمى جوف الانسان قارورة، وسمى البحر قارورة،
وكان الناس ينسبون قائل هذا القول إلى الهوس والجنون، ويحكون عنه وعن أمثاله هذه
الحكايات على جهة الهزء والسخرية وتعجب الناس من بلههم.
115

فصل
قال أبو بكر: وكان أبو الحسن يحكى: أن من مذهب أصحابنا أن ما خص بالأثر من
جملة قياس الأصول لا يقاس عليه، وأن القياس الأصلي الذي ورد الامر بتخصصه أولى،
(إلا أن) يكون الأثر معللا، فيقاس عليه بتلك العلة، أو يتفق الفقهاء على جواز القياس
عليه، فيقاس عليه نظائره، وإن خالف قياس الأصول، وذلك نحو قولهم في إيجاب الوضوء
بالقهقهة في الصلاة، إنه مخصوص من جملة قياس الأصل. وقد كان القياس عندهم أن
لا تكون القهقهة حدثا في الصلاة، لان في الأصول: إن ما كان حدثا في الصلاة فهو حدث
في غيرها، وقد اتفق الجميع على أنها ليست حدثا في غيرها، فكان القياس ألا تكون حدثا
فيها، إلا أنهم تركوا القياس فيها، للأثر الوارد فيها، ثم لم يقيسوا عليها القهقهة في الصلاة
على الجنازة، وفي سجدة التلاوة، لان الأصل الذي خصها من جملة القياس إنما ورد في
صلاة فيها ركوع وسجود.
ومثله: ما قال أبو حنيفة: في جواز الوضوء بنبيذ التمر للأثر الوارد فيه، ولم يقس عليه
سائر الأنبذة، لان القياس الأصول يمنع جواز الوضوء بنبيذ التمر. فورد الأثر مخصصا له
من جهة موجب القياس. فترك القياس فيما ورد فيها الأثر، وحمل ما لم يرد فيها الأثر على
الأصل.
ومثله: ما ورد من الأثر في صحة الصوم مع الاكل ناسيا، وكان القياس أن يفسد
صومه، وسلم للأثر ما ورد فيه، ولم يقيسوا عليه الاكل في الصلاة ناسيا، ولا الكلام
116

والجماع فيها ناسيا، لأنا القياس عندهم يوجب أن لا يختلف حكم الناسي والعامد والمعذور
(وغيره) في باب إفساد هذه القرب بوجود هذه الأشياء فيها. إلا أنهم تركوا القياس
للأثر، وحملوا ما لم يرد فيه الأثر على القياس.
ونحوه قولهم فيمن سبقه الحدث في الصلاة: إن القياس أن يستقبل، إلا أنهم تركوا
القياس للأثر، وأجازوا له البناء بعد الطهارة.
ولم يقس عليه أبو حنيفة وجوب الحدث إذا كان من فعل آدمي، نحو أن يشجه
إنسان، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قاء أو رعف وهو في الصلاة فلينصرف، وليتوضأ، وليبن
على ما مضى من صلاته) فإنما خص من جملة القياس بالأثر من سبقه الحدث من غير فعل
آدمي، فأما ما كان من فعل آدمي فلم يقسه عليه، لان الأثر لم يرد فيه.
وقد قال أصحابنا فيمن احتلم في صلاته أو فكر فأمنى: إنه يغتسل ولا يبنى، وقالوا:
إن القياس على ما ورد به الأثر أن يبنى. واستحسن ألا يبنى بما وصفنا من أن القياس في
الأصل يمنع البناء مع حدث، ثم سلموا جواز البناء مع الحدث للأثر، وتركوا القياس فيه
فكانت الجنابة محمولة على قياس الأصل إذ لم يرد فيها أثر.
فإن قيل: قد قست على القئ والرعاف: البول، والغائط، وسائر ما يخرج من
النجاسات من بدن الانسان، إذا لم يكن خروجها بفعل آدمي. وقست المجامع في رمضان
ناسيا على الاكل ناسيا.
قيل له: لم نوجب شيئا مما ذكرته قياسا، وإنما سوينا بين الرعاف والبول وغيره إذا
سبقه، لاتفاق الجميع من الفقهاء: أنه لا فرق بينهما. لان كل من استعمل الخبر سوى
بين (جميع) ذلك في باب جواز البناء بعد تجديد الطهارة ومن لم يستعمله سوى بين
117

الجميع في منع البناء، فلما صح عندنا الخبر سوينا بينهما في جواز البناء بالإجماع، لأنه لا فرق
بينهما.
وكذلك المجامع في رمضان ناسيا، إنما جعلناه في حكم الآكل ناسيا، لان كل من
لم يفطره بالاكل، لم يفطره بالجماع.
فلما صح عندنا الأثر في ترك الافطار به كان الجماع مثله بالاتفاق.
وأيضا: فإن هذا الضرب من الجمع بين حكم الآكل والمجامع، وبين سائر
الاحداث التي تسبق المصلي، وبين القئ والرعاف، ليس بقياس عندنا، لما بينا فيما تقدم:
من أنه (قد ثبت) أن الصوم الشرعي هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع.
فإذا ورد الخبر في أن الاكل ناسيا لا يفطر، فقد أفاد أن الجماع في حكمه، لتساويهما في
الأصل، في باب أن عدمهما شرط في صحة الصوم الشرعي، على ما بيناه فيما سلف.
ومن نظائر ما ذكروا من ترك القياس على المخصوص ما قالوا في الاستصناع: إن
القياس عندهم لا يجوز، لأنه بيع ما ليس عند الانسان في غير السلم. وأجازوه لمشاهدتهم
فقهاء السلف غير منكريه عليه فاعليه مع شهرته واستفاضته في العامة حينئذ، فكان ذلك
عندهم اتفاقا منهم على جوازه. ثم لم يقيسوا عليه جواز الاستصناع في الثياب ونحوها، فيما
لم تجر العادة من الناس باستصناعه في ذلك الزمان، إذ كان القياس في الأصل مانعا (منه)
فما خص من جملة موجب القياس بأثر أو اتفاق، فكان مسلما له، وما عداه فهو محمول
على قياس الأصل.
والدليل على صحة هذا الأصل: أن القول بوجوب القياس قد ثبت عندنا بما قدمنا،
فهو واجب أبدا، حتى تقوم الدلالة على تخصيصه، فإذا خص منه شئ لم يبطل حكم
القياس الأصلي في لزوم إجراء علته في معلولاته، والحكم للفرع بحكم أصله، إلا بأثر أو
اتفاق.
118

فإن قيل: فقد صار الأثر المخصص لموجب القياس أصلا، فهلا قست عليه
نظائره مما هو في علته؟
قيل له: إذا كانت الأصول الاخر تمنع منه فغير جايز إثباته مع وجود المانع منه.
فإن قيل: فإن الأثر الوارد في التخصيص قد جوزه. فلم جعلت المانع أولى من
المجوز؟
قيل له: لان القياس الأصول مزية في استعماله على قياس ما ورد به الأثر المخصص
له، وهو اتفاق الجميع من الفقهاء على استعماله، والأثر الوارد في تخصيص هذا القياس غير
متفق على جواز استعمال القياس عليه، فلذلك كان الامر فيه على ما وصفنا.
وأيضا: فإنا لو قسنا على الأثر فيما وصفت) لعارضه قياس الأصول، فلا يثبت
قياس الأثر مع معارضته قياس الأصل (له) الموجب بضد حكمه، وكان يكون حينئذ أقل
أحوالهما أن يسقطا، ويبقى الشئ على ما كان عليه حكمه، فيما عدا الأثر قبل وروده،
فيبطل القياس عليه من هذا الوجه.
فإن قيل: إذا عارضه قياس الأصول، فهو أيضا يعارض قياس الأصول،
فيتعارضان على ما ذكرت، فيوجب ذلك بطلان كل واحد من القياسين بالآخر. وهذا
يوجب بطلان قياس الأصل أيضا.
(قيل له: لا يجب ذلك، لان قياس الأصل ثابت عند الجميع، لا يبطله معارضته
قياس المخصوص إياه، فيكون قياس الأصل مبطلا لقياس المخصوص، ولا يكون قياس
المخصوص مبطلا لقياس الأصل، وكان ثابتا باتفاق الجميع).
فإن قيل: فقد تتركون أنتم القياس إلى قياس آخر وهو أحد ضروب الاستحسان
عندكم، فهلا أجزت ترك القياس الأصلي بالقياس على الأثر المخصص له؟
119

قيل له: ليس هذا مما ذكرنا في شئ، من قبل ترك القياس إلى قياس آخر، إنما يكون
في المواضع التي يكون كل واحد من القياسين (مبنيا على أصول توجبه، فيتساويان من
جهة دلالة الأصول عليهما، ثم يختص أحد القياسين) بضرب من الرجحان يوجب الحاق
الفرع به دون الآخر.
وأما مسألتنا فإنما هي في قياس توجبه الأصول، متفق على صحته في الأصل. ثم يرد
أثر بخلاف موجب القياس، فيخص ما ورد فيه من جملته، فيجب حينئذ تسليم ما خصه
الأثر، وليس هناك قياس أصول أخر غير ما يريد (فيه) قياسه على الأثر، فكان حكم
القياس الأصلي ثابتا على الوصف الذي ذكرنا، غير جائز تركه لما بينا.
فإن قيل: فقد قلتم في المتابعين إذا اختلفا في الثمن: إن القياس أن يكون القول
قول المشتري مع يمينه، وأن لا يتحالفا، وتركتم القياس للأثر في إيجاب التحالف والتراد،
ثم قستم عليه الاختلاف في الإجارة.
قال أبو بكر: كان (الشيخ) أبو الحسن يقول: القياس ما ورد به الأثر، لان كل
واحد منهما مدع لاستحقاق ملك العين بوجه يدعيه، يخالفه الآخر فيه.
وقولهم: إن القياس أن يكون القول قول المشتري إنما هو قياس على أصل، وهناك
أصل آخر يوجب التحالف والتراد غير الأثر، فإنما ذكروا أحد وجهي القياس.
والكلام في بيان هذه المسألة بعينها خروج عما نحن فيه. ولكنا أردنا أن نبين لهم أنهم
لم يريدوا بقولهم: القياس عندي كذا، أن الأصول موجبة لهذا القياس، فالسؤال من هذا
الوجه ساقط عنا فيما نحن فيه.
وكان أبو الحسن يجيب عن سؤال الإجارة مع تسليمه لصحة السؤال، وأن القياس
يمنع إيجاب التحالف. وإنما خص حال الإحلاف بالأثر، لأنا لم نوجب التحالف في الإجارة
قياسا على البيع، بل القياس نفسه يوجبه في الإجازة كسائر الدعاوي، لأن كل جزء من
120

المنافع كأنه معقود عليه بنفسه. إذ لم يملك بعقد الإجارة، وإنما يملك حالا فحالا على
حسب حدوثها. فلما لم يحصل ملك المنافع للمستأجر بالعقد، وإنما يريد أن يتملكها في حال
ثانية، صار كمن ادعى على رجل أنه باعه هذا العبد، وهو يجحد البيع، فتجب اليمين
عليه. كذلك الإجازة إذا لم تثبت بعد ملك المستأجر في المنافع.
ألا ترى أن تسليم الدار لا يقع بها تسليم المنافع، فصار المستأجر بمنزلة من ادعى في
شراء عبد يجحده البائع، فيجب اليمين على البائع. وليس كذلك البيع، لان العين المبيعة
موجودة يملكها المشتري باتفاقهما جميعا، والبائع معترف بذلك، وإنما يدعى زيادة
الثمن. فكان القياس أن يكون القول قول المشتري. وتركوا القياس فيه للأثر.
فإن قال قائل: فاجعل الأثر الوارد في تخصيص القياس أصلا تقيس عليه نظائره، كما
اعتبرت القياس الأصلي في مقابلة هذا القياس وتخصيصه، على جهة ترجيح أحد القياسين
على الآخر، وكما تقول في الفرع الذي يتجاذبه أصلان فتلحقه بأحدهما دون الآخر،
لضرب من الترجيح يوجبه بذلك الأثر لما كان أصلا، وكان القياس الذي خصه الأثر مبنيا
على أصل، فقد تجاذب الفرع أصلان:
أحدهما: ما أوجب القياس الأصلي.
والآخر: ما يوجبه الأثر إذ هو أصل.
قيل له: لو اعتبرنا ما ذكرت كان القياس الأصلي أولى من القياس على الخصوص،
وذلك لان شهادة سائر الأصول لقياسها أولى من شهادة المخصوص لقياسه، إذ كان ما دل
عليه أصلان من القياس أرجح وأقوى في النفس مما دل عليه أصل واحد.
ومن جهة أخرى: إن قياس الأصول ثابت بالاتفاق في بعض المواضع، مع ورود
الأثر المخصص له، وقياس المخصوص له غير ثابت بالاتفاق. وقياس ثابت بالاتفاق أولى
من قياس مختلف فيه.
فإن قال: يلزمك على هذا: أن (لا نقيس) على المخصوص، وإن كان معللا للعلة
التي ذكرت.
121

قيل له: لا يجب ذلك، لأن علة منصوص عليه أولى من علة مستنبطة، كما أن حكما
منصوصا عليه أولى من حكم مستنبط، فصار لورود النص بالتعليل مزية ليست للقياس
الأصلي، فصار من أجل ذلك أولى منه.
وأما إذا ورد الأثر المخصص للقياس معللا، فإن أبا الحسن كان يذكر أنه يجب
القياس عليه بتلك العلة. نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة (إنها ليست بنجس، إنها من
الطوافين عليكم والطوافات وإنها من ساكني البيوت).
واعتبر أصحابنا هذا المعنى في نظائره من الفأرة، والحية، ونحوهما، مما لا
يستطاع الامتناع من سؤره، لان قوله: من الطوافين عليكم، وقوله: إنها من ساكني
البيوت، يفيد هذا المعنى، وإنما وجب إجراء هذا المعنى في نظائره، من قبل أن التعليل
يوجب اعتبار المعني الذي جعل علة الحكم، وأجراه عليه، لولا ذلك ما كان فيه فائدة.
ولكان يكون وجوده وعدمه بمنزلة.
ألا ترى أن علل العقليات يوجب ذلك ويفيده، فإذا ورد النص بتعليل معنى، علمنا
أنه قد أريد منا اعتباره في نظائره وإجراء الحكم عليه فيما وجد فيه، ما لم يمنع منه مانع.
وقد قال النظام وهو من نفاة القياس: إن ذلك بمنزلة لفظ العموم، يجب اعتباره فيما
وجد فيه، ولم يجعل وجوب إجراء الحكم عليه من طريق القياس، بل جعله بمنزلة المنصوص
على حكمه. وهذا عندنا وإن لم يكن نصا في إيجاب الحكم فيما وجد فيه، فإنه يفيد من جهة
الدلالة أن يكون الحكم منصوصا عليه، معتبرا به.
ومن لا يعتبره فإنه يسقط فائدة التعليل، ويجعل وجوده وعدمه بمنزلة، وذلك لا يجوز
عندنا في كلام الله تعالى، ولا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
122

فإن قيل: يلزمك على هذا الأصل قياس سائر الأنبذة على نبيذ التمر، في جواز
الوضوء، به لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثمرة طيبة وماء طهور) لان نبيذ الزبيب زبيب طيب، وماء
طهور.
ويلزمك أن تقيس الاكل في الصلاة على الاكل في الصوم، وقياس المكره على الآكل
ناسيا، لتعليل النبي صلى الله عليه وسلم الآكل ناسيا في الصوم (بأن الله تعالى أطعمه، وسقاه) وذلك
موجود في المكره، وفي الذي يظن أن الشمس قد غابت، والذي يظن أن الفجر لم يطلع،
فأكل، لان الله تعالى قد أطعمهم وسقاهم، حين أباح لهم الأكل في هذه الأحوال.
قيل له: لا يجب ذلك من وجهين:
أحدهما: أن ما علل به نبيذ التمر، غير موجود في سائر الأنبذة، لأنه قال: (ثمرة طيبة
وماء طهور) وهذا المعنى غير موجود في نبيذ الزبيب.
والوجه الآخر: أن من يوجب اعتبار القياس في ذلك يجعل مراد قوله (ثمرة طيبة وماء
طهور) أن أصل التمر (طيب) والماء طاهر، فلا يمنع ما عرض في الماء والتمر من
الاستحالة إلى النبيذ من جواز الوضوء به. وهذا الاعتلال غير معتبر عند جميع الفقهاء.
لأنه لو وجب اعتباره لجاز الوضوء بالخل لطيب (الأصل) الذي كان فيه، وطهارة الماء
الذي خالطه، ولجاز الوضوء بالمرق، وماء الورد، لهذه العلة.
وهذا القياس مدفوع عند الجميع.
وعلى هذا المنهاج نقول في قوله (إن الله أطمعك وسقاك) على الوجهين اللذين
ذكرنا في قوله: (ثمرة طيبة وماء طهور) من قبل أن قوله: إن الله أطعمك وسقاك، لا يوجد
في غير الآكل والشارب.
123

والوجه الآخر: اتفاق الجميع على أن الاكل في الصلاة يفسدها، فلم يجره أحد
مجرى التعليل لما ذكرناه.
وغير جائز أن يكون المراد بإباحة الاكل، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون كل من
أبيح له الاكل من مريض، أو مسافر، أو حائض، أن لا يفطره ذلك، ولا يجب عليه
القضاء فدل على أن هذا القول، لم يخرج مخرج الاعتلال الذي يجب اعتباره في غيره
من نظائره.
فإن قيل: المراد بقوله: " إن الله أطعمك وسقاك " أن النسيان الذي من أجله كان الاكل
من فعل الله تعالى، فكانت هذه علة للمنع في إيجاب القضاء.
قيل له: فينبغي أن لا يجب على الحائض والمريض القضاء، لان الحيض والمرض
من فعل الله تعالى، وهذا لا يقوله أحد، فثبت أنه لم يرد بذلك التعليل النسيان، فلم يجب
القياس عليه.
124

الباب الخامس والثمانون
في
ذكر الأصول التي يقاس عليها
125

باب
ذكر الأصول التي يقاس عليها
قال أبو بكر: كل حكم ثبت وضع من الوجوه التي ثبتت بها الاحكام، فجائز القياس
عليه، إذا قامت الدلالة على وجود المعنى الذي هو علة للحكم فيه، سواء كان ما فيه المعنى
أصلا ثابتا بتوقيف واتفاق، أو بدلالة غيرهما، فالقياس واجب على نص الكتاب والسنة،
وعلى إجماع الأمة، وعلى ما ثبت من طريق الآحاد، بعد أن لا مخصصا للقياس موجبا
للحكم بخلاف القياس على ما تقدم من بيانه.
ويجوز القياس أيضا على حكم قد ثبت من طريق القياس، وإن كان مختلفا فيه.
وذلك نحو أن يقول: لما ثبت عندنا جواز البيع الموقوف بالدلالة الموجبة له، كان النكاح
بمثابته في جواز وقوفه، لان كل واحد من العقدين له مجيز، فمن حيث وقف أحدهما إذا عقد
بغير أما مالكه كان كذلك حكم الآخر. للعلة التي ذكرنا، كما نقول في إفساد صلاة الرجل
محاذاة المرأة إذا اشتركا في صلاة واحدة، قياسا على إفسادها إذا قام قدام الامام. وقد ثبت
عندنا أن قيامه قدام الامام يفسدها، وإن خالفنا بعض الفقهاء فيه، فجائز لنا أن نبني هذا
الفرع على ما قد ثبت عندنا مما ذكرناه، مع وجود الخلاف فيه.
وتكون العلة الجامعة بينهما أنه قام مقاما لا يجوز أن يقومه بحال، مع اختصاصه
بالنهي على ما بيناه في موضعه، وكما نبني تحريم النساء بوجود الكيل، أو الجنس على أصلنا
في اعتبارهما في تحريم التفاضل.
127

ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى، وإنما أردنا أن نبين وجه جواز القياس على حكم
ثبت من طريق القياس مع وجود الخلاف في الأصل.
فإذ قد بينا الأصول (التي يصح القياس عليها، فالوجه أن نذكر متى تقاس الحادثة
على الأصل، وهل يعتبر الأصل) أولا في كونه معلولا ثم يقاس. أولا اعتبار بذلك.
ويقاس على كل أصل ما لم يمنع منه.
وكان أبو الحسن يقول: لما ثبت وجوب القول بالقياس، كان لي أن أقيس على كل
أصل، حتى تقوم الدلالة على أن أصلا ليس بمعلول، ولا يجوز حينئذ القياس عليه.
قيل لأبي الحسن: فإذا ثبت أن ههنا أصلا يقاس عليه، وأصلا لا يقاس عليه، فما
أنكرت ممن قال: إن القياس غير سائغ على شئ من الأصول حتى يقوم الدليل على
أصل بعينه أنه معلول؟
فأجاب: بأنه ليس ها هنا دليل يدلنا على أصل من الأصول بعينه أنه معلول، إلا
ما ذكرناه من صحة وجوب القياس في الجملة. فلو أنا توقفنا عن القياس حتى تقوم الدلالة
على أصل بعينه أنه معلول. لادى ذلك إلى إبطال القياس، لأنا لم نجد على ذلك
دليلا، وما أدى إلى إبطال القياس، فهو فاسد، لأن جوب القياس قد صح في الجملة
بالدليل الذي ذكرناه.
قيل له: قد اختلفت الصحابة في مسائل، وبنى كل واحد منهم مذهبه على أصل
وفي إجماعهم على ذلك دليل على أن هناك أصلا معلولا. وفي ذلك إثبات أصل معلول
على غير الجهة التي ذكرت.
128

فأجاب: بأن الصحابة لما اختلفت، فإن كل واحد منهم رد المسألة إلى أصل لم
يردها عليه الآخر، فلم يجمعوا على أصل واحد أنه معلول.
قال أبو بكر: هذا الذي سمعت أبا الحسن يقوله في هذا الفصل، معناه عندي: أن
الفقيه لا يحتاج عند حدوث الحادثة، أن يتوقف عن عرضها على الأصول، واعتبارها
بنظائرها منها، حين يجد أصلا معلولا لهذه الحادثة بعينها، بل الواجب عليه عرضها على
سائر الأصول والحاقها بالأشبه منها، حتى تقوم الدلالة. أن شيئا منها غير معلول، فلا يرد
الحادثة إليها. وهذا هو الصحيح عندنا، وذلك أن من الأصول ما قد قامت دلالته أنه معلول
يجب القياس عليه، (إما من جهة النص، وإما من جهة الاتفاق) أو بدلالة فحوى
الخطاب، فمما ثبت أنه معلول باتفاق القائسين: تحريم النبي صلى الله عليه وسلم التفاضل في الأصناف
الستة، واتفق القائلون بالقياس أن هذا الأصل معلول، بمعنى يجب اعتباره في أغياره،
وحمل ما سواه عليه، مما يشاركه في علته، ودلالة فحوى الخطاب (به) ظاهرة في كونه معللا
لقوله في سياق اللفظ.
(فإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد) فلما منع التفاضل عند وجود الجنس
فيما ذكر وأباحه عند عدمه، دل على أن هناك معنى من أجله وقع التفاضل بينهما، فدل على
أن الخبر معلل بمعنى يجب الاستدلال عليه، واعتباره في نظائره، فوجب حينئذ طلب
المعنى الذي هو علم للحكم ويستدل عليه بدلالة.
ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن فأرة وقعت في سمن (إن كان جامدا فألقوها وما حولها،
وإن كان مائعا فأريقوه) ففرق بين المائع والجامد، فدل على أن هناك معنى به تعلق حكم
النجاسة، من أجله اختلف حكم الجامد والمائع، فثبت أنه معلول، ووجب طلب المعنى
حينئذ بالاستدلال عليه.
ومن الأصول ما يكون معلولا بعلة منصوص عليها، كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة (إنها من
129

الطوافين عليكم) وقوله صلى الله عليه وسلم (لبريرة) (ملكت بضعك فاختاري).
ثم اختلف أهل العلم في رد الحادثة إلى الأصول من وجه آخر.
فمنهم من قال: إن الواجب عرضها على الأصول والحاقها بالأشبه منها، سواء كان ذلك
الأصل من جنسها أو من غير جنسها، بعد اشتراكهما في المعنى الذي هو علم للحكم.
وكان أبو الحسن يقول: إن الحادثة إذ تجاذبها أصلان فردها إلى ما قرب منها وإلى
ما هو من بابها ومن جنسها، أولى من ردها إلى ما بعد منها، وإلى خلاف جنسها.
ولذلك قولنا في الاعتكاف: (إنه) لما كان ليثا في مكان، وجب أن لا يصح إلا
بانضمام معنى آخر إليه هو قرية في نفسه: قياسا.
فعارضونا بالصوم: أن الإمساك ليس بقربة في نفسه، ثم يصير قربة بمضامة النية
إياه، فهلا كان المعنى المضموم إلى الاعتكاف في كونه قربة هو النية، حسب ما قلنا في
الصوم؟
وكان أبو الحسن إذا ألزم مثل هذا يقول: إن رد الاعتكاف إلى الوقوف بعرفة أولى
من رده إلى الصوم، لأنه من جنسه، إذ كان الاعتكاف لبثا كالوقوف، وما وجدنا لهذا نظيرا
من جنسه، فحمله عليه (وردها إليه) (أولى من رد) إلى ما ليس من جنسه،
130

وكان الذي اعتبر في صحة الصوم الشرعي مع الامساك: هو النية، والنية في نفسها
ليست بقربة، والذي اعتبر في كون الوقوف قربة: هو الإحرام، وهو قربة في نفسه، فكان
شرط الصوم في الاعتكاف أولى من شرط النية، إذ كان الصوم قربة في نفسه، وإن انفرد عن
الاعتكاف بعلة أنهما جميعا لبث في مكان.
قال أبو بكر: ومن نظائر ذلك أنا إذا اختلفنا في عدد مسح الرأس في الطهارة كان
قياسه على سائر الممسوحات من نحو المسح على الخفين، ومسح التيمم في كونه مرة أولى
من قياسه على المغسول من الأعضاء، لان رد المسح إلى مسح هو من بابه ومن جنسه، أولى
من رده إلى غسل ليس هو من بابه.
ونحوه إذا اختلفنا في زكاة الحلي، فردوه إلى ثياب البذلة في سقوط الزكاة، كان ردنا
إياه إلى السبائك، والنقر، أولى في باب إيجابها، لأنها من جنسها، وليس كذلك الثياب.
وكقولهم: في أن أكثر الطواف يقوم مقام الكل في باب الإجزاء، قياسا على قيام أكثر
أفعال الحج مقام الجميع في باب الإجزاء (إذا كانت أركان الحج: الإحرام)، والوقوف
بعرفة، وطواف الزيارة، ثم إذا وقف بعد الإحرام لم يلحقه فساد، وقام مقام الجميع، ولم
يقيسوا فعل أكثر الطواف في باب الإجزاء على ركعات الصلاة في باب: (أن) أكثرها لا
يقوم مقام الجميع في باب الإجزاء، إذ كان رد الطواف إلى ما هو في بابه من أفعال الإحرام،
أولى من رده إلى ما ليس من بابه من أفعال الصلاة.
وكان أبو الحسن يقول في الحادثة - إذا كانت من أصل مخالف لأصل آخر في
موضوعهما: فإنه لا يرد إلى الأصل الذي (يخالف) لأصل الحادثة في موضوعه.
131

قال أبو بكر: وظاهر هذا القول يقتضي أن لا يرد إلى الأصل الذي خالف أصل
الحادثة رأسا، كقولهم في مسألة المحرم إذا حلق ربع رأسه: إن عليه دما، وقدروا الربع
اجتهادا، مع كون الرأس عضوا بنفسه لا نظير له في البدن، وفرقوا بين حلقه ربع الرأس،
وبين حلق ربع أحد الإبطين، لان له في البدن عضوا نظيره، فصار أخف حكما من الرأس
الذي لا مشارك له في البدن، ولم يكن هذا عندهم ككشف العورة، في أنه لا يختلف حكم
ما له منها نظير، ومالا نظير له منها، في أن كشف الربع يفسد الصلاة، فكان يمنع قياس
أحدهما على الآخر، لان موضوع الصلاة في الأصل مخالف لموضوع الإحرام في أحكامها.
ألا ترى أن يسير كشف العورة في الصلاة لا حكم له، وأن يسير الحلق في الإحرام لا
يخلو من إيجاب شئ. فلما اختلف موضوع أحكامهما في الأصل، امتنع قياس أحدهما
على الآخر.
قال: وذلك لان الاحكام إنما تختلف بحسب اختلاف العلل والمعاني، فإذا اختلف
(أحكام) الأصلين في موضوعهما استدللنا بذلك على اختلاف عليتهما الموجبة لاختلاف
أحكامهما، ولا يصح اتفاق الحكمين مع اختلاف العلل الموجب لاختلاف الاحكام.
قال: ومن أجل ذلك لم يلزم قياس الأضحية على الحلق، ولا كشف العورة في اعتبار
الربع فيما يذهب من الأذن، والعين، أو الذنب، بل اعتبروا فيها بقاء الأكثر، ومنعوا قياسه
على الحلق وكشف العورة لما وصفنا.
قال أبو بكر: ومن نظائر ذلك ما اختلف فيه أبو حنيفة، وأبو يوسف، (ومحمد)،
فيمن جامع مرارا في إحرامه في مجالس مختلفة، أنه يجب لكل جماع دم عندهما، وعند محمد
دم واحد، ما لم يكفر، قياسا على كفارة رمضان، ولم يرداهما على كفارة رمضان، لمخالفة
كفارة الإحرام لكفارة رمضان في موضوعهما في الأصل.
132

ألا ترى أن كفارة الإحرام لا يسقطها العذر، وأن كفارة رمضان لا تجب مع العذر،
فلما اختلف موضوعهما في الأصل، لم ترد إحداهما على الأخرى.
وكان يقول: ليس هذا بمنزلة قياسنا الخلع على دم العمد مع اختلاف
أصليهما، لأنهما غير مختلفين في موضوع أحكامهما، لان البضع ليس بمال، وكذلك دم
العمد. وكل واحد من الطلاق والعفو عن الدم لا يلحقه الفسخ بعد وقوعه، ويجوز إسقاطه
في المرض بغير عوض، ويجوز كل واحد منهما على ضروب من الجهالة لا تجري مثلها في
البياعات. فلما لم يختلفا في موضوع أحكامهما في الأصل، ساغ قياس أحدهما على
الآخر.
قال أبو بكر: وما قدمنا حكايته عن أبي الحس في الفصل المتقدم، هو ضرب من
ترجيح العلل إذا عارضتها علل غيرها، فيكون إلحاقها بجنسها و (ما) هو من بابها، وفي
حكمها أولى.
فأما أن يكون جواز القياس مقصورا على رد الحادثة إلى ما هو من جنسها، دون غيره
(فلا، بل) القياس جائز على ما هو من جنس الحادثة، وعلى ما يعد منها بعد اشتراكهما
في المعنى الذي هو علم الحكم.
ومسائل أصحابنا واعتلالاتهم تدل على ذلك، وما أعلم أحدا من القائسين يمنع من
تجويز ذلك في كثير من المواضع.
وقد كان أبو الحسن يرد الوطء الكثير الواقع في الإحرام على جهة الرفض،
والاحلال، في باب وجوب الاقتصار به على دم واحد على الوطء الكثير الواقع في النكاح
الفاسد، لما وقع على وجه واحد، لم يجب إلا مهر واحد، كان بمنزلة الوطء الواحد.
وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم (جواز) قضاء الحج عن الغير إلى قضاء الدين بقوله: (أرأيت لو
كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزي عنه؟ قال: نعم. قال: فدين الله تعالى أحق)
ورد إباحة القبلة للصائم إلى المضمضة، وليست من جنسها.
133

فإن اعتبر بعض القائسين ما حكيناه عن أبي الحسن في اعتبار الحادثة بما هو من
جنسها، على الوصف الذي ذكرنا، كان سائغا، وكان ما ذهب إليه من ذلك وجها يقوي في
النفس رجحان العلة على غيرها، وإن ترك اعتبار الجنس واعتبر المعنى على حسب
ما يدل عليه شواهد الأصول، فيكون ذلك مقويا لاعتباره في نفسه، و (إن) لم يرده إلى
جنسه كان جائزا، وجملة الامر فيه أن طريق العلل الشرعية وترجيع بعضها على بعض
الاجتهاد، وغالب الظن. فمن اعتبرها ببعض الوجوه التي ذكرنا ساغ له (ذلك) على
حسب ما يغلب في ظنه أنه علم الحكم، وأمارته، وأنه أشبه بالحادثة من طريق الحكم
وغيره.
134

الباب السادس والثمانون
في
وصف العلل الشرعية وكيف استخراجها
135

باب
وصف العلل الشرعية وكيف استخراجها
قال أبو بكر: العلل الشرعية سبيلها أن تكون وصفا للأصل المعلول. ولا فرق بين
أن يكون ذلك الوصف لازما للأصل لا يزايله، وبين أن لا يكون لازما، بل يكون موقوفا
على عادات الناس فيه.
فمن الأوصاف اللازمة للأصل: ما هي علة فيه، نحو صفة دم الاستحاضة أنه دم
عرق، وكون دم عرق صفة لازمة لسائر الدماء الخارجة من بدن الانسان، ما خلا الحيص
والنفاس، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوصف علة لنقض الطهارة.
ومما لا يكون وصفا لازما للأصل، وإنما يلحقه الصفة على حسب عادة الناس في
التعامل به: الكيل والوزن في المكيلات والموزونات. وليس ذلك صفة لازمة للأصل
المعلول. إذ جائز أن يترك الناس التعامل بهما كيلا، أو وزنا.
ولا فرق عندنا بين ما هذا وصفه من المعلول، وبين الأوصاف اللازمة للأصل مما لا
يفارقه. وليس لكون هذا الوصف غير مفارق له من مزية على الآخر في باب العلل.
ألا ترى أن مخالفنا قد جعل الشدة علة لتحريم الخمر؟ وقد يجوز أن يفارقها فيصير
خلا.
قال أبو بكر: وقد يكون علة الحكم وصفين من أوصاف الأصل وأكثر، وقد يكون
وصفا واحدا.
وغير جائز أن يكون جميع أوصافه علة للحكم، فإذا كانت العلة ذات أوصاف
فجميع تلك الأوصاف علة واحدة.
وغير جائز أن يقال: إن كل وصف منها علة، لان العلة ما يوجب الحكم. ولو كان
كل وصف مما ذكرنا علة، لوجب أن يكون موجبا للحكم بانفراده.
137

فمن العلل التي تكون ذات أوصاف، نحو تحريم البيع في البر بالبر، إذ أردنا قياس
غيره عليه عند وجود التفاضل، فنقول: إن علة تحريم البيع وجود زيادة كيل في جنس.
فكانت زيادة الكيل مع الجنس بمجموعها علة الفساد البيع.
ولا يجوز أن يقال: إن الحنس على الانفراد علة في ذلك. ولا الكيل على الانفراد لما
وصفنا.
ونظيره: قولنا في سؤر السباع التي يستطاع الامتناع من سؤرها إنه نجس، قياسا
على الكلب بعلة أنه محرم الاكل لا لحرمته. ويستطاع الامتناع من سؤره. فالعلة ههنا
ذات أوصاف ثلاثة:
أحدها: أنه محرم الاكل.
والثاني: أن تحريم أكله لا لحرمته.
والثالث: أنه يستطاع الامتناع من سؤره في العادة، ومتى أخللت شيئا من هذه
الأوصاف انتقضت العلة، فصارت هذه الأوصاف لمجموعها علة لتحريم السؤر.
ومما يكون العلة فيه وصفا (واحدا) من أوصاف الأصل. قولنا: إن الجنس بانفراده
يحرم النساء، والكيل والوزن، كل واحد منهما بانفراده يحرم النساء، فكان هذا الوصف
الواحد علة لتحريم النساء، وكان الكيل مع الجنس بمجموعهما علة لترحيم التفاضل.
والعلل الشرعية أمارات للأحكام، وعلامات لها، لا على جهة إيجابها لها كإيجاب
العلل العقلية لأحكامها على حسب ما تقدم من بيانها في ذكر وصف العلل، فإنما تعلق
الاحكام بها حسب تعلقها بالأسماء، فيكون الاسم (علما لوجوب) الحكم، لا على جهة
إيجابه له.
كذلك العلل الشرعية هذه سبيلها، ومن أجل ما ذكرنا جاز وجود هذه الأوصاف التي
هي علل الاحكام عارية من أحكامها.
وغير جائز أن يكون (حكم) علل الشرع مقصورا على موضع النص، والاتفاق
138

غير متعد إلى قرع مختلف فيه، لأنها إذا كانت بهذا الوصف لم تكن عللا.
وعند أصحاب الشافعي: أنه قد يكون من علل الشرع ما لا يتعدى إلى فرع ولا
يفارق المنصوص أو الاتفاق. نحو قولهم: إن علة تحريم التفاضل في الذهب والفضة.
أنهما أثمان الأشياء، وقولهم: إن أولاد الماشية ضمت إلى أمهاتها، إذا حدثت في الحول لأنها
منها، وهذا عندنا لا يقوله من يعرف علل الاحكام ومعانيها، ومع ذلك قول واضح الفساد،
من قبل أن هذه العلل إنما تستخرج لايجاب الاحكام بها، والمنصوص عليه مستغن بدخوله
تحت النص عن استخراج علة لإيجابه، فلا معنى لاستخراجها له، ولا فائدة فيه.
ألا ترى أن سائر الأحكام لو كانت منصوصا عليها لأغنى ذلك عن القياس
واستخراج العلل، فكذلك ما علم بالنص، فلا معنى لاستخراج علته، وإنما تستخرج
العلة من النص للفرع، لا لنفسه.
وأيضا: فإن علل الاحكام إنما تستخرج للقياس بها على المنصوص، وكل علة لا
يقع بها قياس فليست بعلة، فلا معنى لها إذن.
وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما أجاز اجتهاد الرأي في استخراج المعاني والعلل عند عدم
النصوص في قصة معاذ وغيره، فإذن اجتهاد الرأي ساقط مع وجود النص في استخراج
علته، كما سقط في استخراج حكمه.
وكذلك الصحابة إنما كانوا يجتهدون آراءهم، في استخراج العلل في الحوادث، ولم
139

يكونوا يجتهدون في استخراج علل النصوص من غير رد لغيرها إليها. ولو كان ذلك مما يجوز
لما خفي عليهم، ولتكلموا فيه.
واختلفوا في علل النصوص وإن لم يقيسوا بها، كما اختلفوا في علل القياس، ولو فعلوا
ذلك لنقل كما نقل اختلافهم وأقاويلهم في أعيان المسائل، ووجوه استخراجاتهم، فدل
تركهم لذلك على أنه إنما لم يفعلوه لأنه لم يكن عندهم في اعتباره فائدة ولا معنى.
وأيضا: فإن العلل إنما تستخرج (لأغيار الأصل). فأما الأصل المستخرج منه
العلة، فغير جائز أن يكون علة لنفسه.
ألا ترى: أنه غير جائز أن تكون علة المسألة جميع أوصافها، لأنها (لا) تتعدى إلى
غيرها. فكذلك (غير) جائز أن تكون علتها بعض أوصافها الذي لا تتعدي (به).
فإن قال قائل: الفرق بين الحكيم والسفيه: أن الحكيم تتعلق أفعاله بأغراض
محمودة، فوجب أن تكون أحكام الله تعالى وأفعاله متعلقة بأغراض محمودة، من حيث كان
حكيما لا يجوز منه العبث، (وتلك) الاغراض هي العلل التي لا تتعدى أصولها.
قيل له: من ههنا أتيت، وذلك لأنك حين جهلت علل المصالح، وعلل
الأحكام، ولم تنفصل عندك إحداهما من الأخرى، أجريتهما مجرى واحدا.
وعلل المصالح ليست هي العلل التي يقاس عليها. أحكام الحوادث، ولا يوقف
عليها إلا من طريق التوقيف.
ألا ترى: أن صاحب موسى عليهما السلام لما فعل تلك الأفاعيل التي استنكر موسى
ظاهرها مما لم يقف موسى عليه السلام على عللها من طريق النظر والرأي، ولم يعلمها إلا
140

من طريق التوقيف حين بينها له بقوله: " أما السفينة فكانت " " وأما الغلام " " وأما
الجدار ".
وعلل الاحكام إنما هي أوصاف في الأصل المعلول ليست من علل المصالح في شئ،
والمصالح نفسها هي الاحكام التي تعبدنا الله تعالى بها، وقد علمنا عند ورود النص: أنه لم
يفعلها إلا حكمة وصوابا، وإن لم نقف على وجه المصلحة في كل شئ بعينه.
وعلل هذه المصالح إنما هي في المتعبدين لا في الحكم، وذلك لأنه جائز أن يكون في
المعلوم أنه لو لم يتعبدنا بها لفسدنا، وإذ تعبدنا بها صلحنا، وليس ذلك من علل الاحكام في
شئ.
فإن قيل: ما أنكرت أن تكون العلل التي نستخرجها مما لا يتعدى هي من علل
المصالح.
قيل له: هذا غلط، لان كون الذهب والفضة أثمانا، ليس من علل المصالح، لان
كونهما أثمانا إنما كان باصطلاح الناس عليه، وكون الأولاد من الأمهات ليست من علل
المصالح في شئ، وأنت إذا استخرجت علة النصوص فإنما تستخرجها لتجعلها علة للحكم
المنصوص عليه، ولو كانت علة الاحكام علة المصلحة، لوجب أن يكون الاكل في البر
بالبر، لما كان عندك علة لتحريم التفاضل، أن يكون التحريم أبديا موجودا، وأن لا
يصح إباحة التفاضل فيهما مع وجودهما، لان علل المصالح غير جائز وجودها عارية من
أحكامها. وقد علمنا وجود كونه مأكولا مع إباحة التفاضل قبل التحريم، فدل على أن علل
أحكام ليست من علل المصالح في شئ، وأن علل الاحكام سبيلها أن تكون أوصافا
للأصول المقتضب منها العلل.
وعلل المصالح إنما هي معان في المتعبدين لا في الأصول المتعبد بها، وتلك المعاني لا
نعلمها إلا من طريق التوقيف، وإن كنا قد علمنا في الجملة: أن المصلحة في الحكم الذي
تعبدنا به.
141

فإن قال: قولكم: إنه لا فائدة في استخراج علة لا تعدو النص غلط، لان فائدته أنه
نعلم (أن) الله تعالى حرم لهذه العلة، فقد استفدنا معنى لو لم تكن هذه العلة لم
نستفده. ونستحق بالتوصل إلى هذا العلم ثوابا، فيكون ذلك فائدتنا فيه.
قيل له: أتعني بقولك: إن الله تعالى حرمه لهذه العلة، وإن هذه العلة كانت موجبة
للتحريم لا محالة، أو عنيت أن المعنى (قد) كان يجوز وجوده غير موجب للحكم، إلا أن
الله تعالى جعله علة للحكم المذكور نصا.
فإن قال: لم يكن المعنى موجبا للتحريم من طريق الحكمة، وقد كان جائز أن لا
يحرمه الله تعالى مع وجود المعنى.
قيل له: فقد أجزت على الله تعالى فعل العبث، لان المعنى إذا لم يقتض التحريم،
ولم يوجبه من طريق الحكمة، فغير جائز أن يقول الله عز وجل: إني حرمته لأجل المعنى، كما
لا يجوز، أن يقول: حرمته لأجل أني خلقت السماوات والأرض، (إذ لا تعلق لذلك
بالحكم).
فإن قال: يلزمك مثله في العلة المتعدية إلى فروعها من غير المنصوص، لأنها عندك
غير موجبة لتلك الأحكام، وقد جعلتها عللا لها.
قيل له: ليست تلك عللا على الحقيقة عندنا، ولا نعلق وجوب الحق بها، وإنما هي
علامات كالأسماء، على النحو الذي بينا، وأنت حين عللت النص، فإنما رمت إثبات علله
أنها موجبة للحكم المنصوص لا على معنى أنها علامة، لان ما قد علم ثبوته بالنص لا يحتاج
إلى علة تكون علامة لحكمه.
فإن قال: لا بد ان يكون ما حرم الله تعالى الشئ من أجله يوجب التحريم
من طريق الحكم.
142

قلنا له: فهذه علل المصالح التي ذكرنا أنها إنما تكون معاني (في) المتعبدين. من
أجلها، وجب أن يتعبدوا بهذه الأحكام، إذ كانوا بها يصلحون، ولو لم يفعلها لفسدوا عنده،
ولا تكون تلك أمارات للأحكام.
فقولك: إن فائدة العلل التي لا تتعدي أني أعلم الله لم حرمها، كلام ساقط لا
معنى له.
قال أبو بكر: وإنما احتجنا إلى الكلام في هذا المعنى، لان كثيرا من المخالفين لا
يعرفون معاني علل الشرعيات والعقليات، وإنما يقلدون فيها قوما جهالا مثلهم. ثم
يعارضون على علل جارية في فروع مختلف فيها بعلل يستخرجونها من ذلك الأصل غير
متعدية إلى فرع، وهي مع ذلك موجبة لمثل الحكم الذي تنازعوه في الفروع، ويظنون أن
مثله يكون يكون معارضا لتلك العلل الصحيحة، المتعدية إلى مواضع الخلاف،
فينتظمون به الخطأ من وجهين:
أحدهما: اعتلالهم بعلة لا تعدو موضع النص أو الاتفاق.
والثاني: أن ما ذكروه لو صح علة لما عارض اعتلال الخصم، لأنهما (حينئذ)
يوجبان حكما واحدا، إلا أن إحداهما أعم من الأخرى فيها يوجبه منه، وذلك نحو قولنا: في
علة تحريم البيع في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، إذا تفاضلا: أنهم وجود زيادة في
جنس، فيعارضون عليه بأن يقولوا: ما أنكرت أن تكون العلة في الذهب والفضة، أنهما
أثمان الأشياء، وكونهما أثمان الأشياء لا تتعدي إلى فرع، وإذا عللنا وجوب ضم الأولاد إلى
الأمهات لأنها زيادة مال في الحول على نصاب. قالوا: العلة في الأولاد أنها من
الأمهات، فيجعلون ما ذكروا من المعنى علة للحكم. ويرومون به معارضتنا في اعتلالنا
143

بما وصفنا، وهذا خطأ وجهل مفرط.
وإذا قلنا: إن هذه العلة لا فائدة فيها، لان العلل تقتضب لإيجاب الاحكام. وهذا
حكم معلول بالنص.
قالوا: فائدته أن الله عز وجل أراد أن يعلمنا لم حرمه، فيعدلون عن بعض
الكلام في المسألة إلى غيرها، لان علمنا بذلك ليس هو الحكم الذي تنازعناه، وإنما
نحتاج
أن يعارضنا بعلة توجب الحكم فيما اختلفنا فيه بضد موجب علتنا، وإلا كانت معارضة
ساقطة.
ولا فرق بين من جعل علة المسألة وصفا من أوصافها (لا يعدوها، وبين من جعل
علتها جميع أوصافها فلما امتنع أن تكون علتها جميع أوصافها) لأنها (لا) تعدوها، امتنع
أن يكون بعض أوصافها علة (لها)، مما لا يعدوها.
وأما وجه استخراج العلل الشرعية والقياس بها، فإن الفقهاء مختلفون فيه.
فمنهم من يعتبر تشابه الأصل والفرع في صورتهما وذواتيهما دون غيرهما، ما دام يجد له
شبها من هذا الوجه.
ومنهم من يعتبر اشتباههما من جهة الاحكام.
فالوجه الأول: كنحو قول الأصم: في أن ترك القعدة في آخر الصلاة لا يفسدها
(لاتفاق الجميع على أن ترك القعدة الأولى لا يفسدها).
144

قال: ولا شئ أشبه بالقعدة من قعدة أخرى غيرها، هما مفعولتان في صلاة واحدة،
فوجب قياس إحداهما على الأخرى.
وكقوله: في نفيه فرض القراءة في الصلاة لاتفاق الجميع على نفي إيجاب سائر
الأذكار المفعولة من الصلاة، كتسبيح الركوع، والسجود، وقراءة التشهد في القعدة الأولى،
وذكر الاستفتاح، ونحوه فوجب أن يكون كذلك حكم القراءة، لأنها ذكر مفعول في
الصلاة، فأشبهت سائر الأذكار التي ذكرنا.
وكقوله: إن تكبيرة الافتتاح (ليس بفرض، لاتفاقهم على أن) سائر التكبيرات
المفعولة بعدها في الصلاة ليست فرضا، فلم يكن شئ أشبه بتكبيرة الافتتاح من سائر
التكبيرات المفعولة فيها.
قال أبو بكر: وهذا عندنا إنما نعتبره ما وجد في الأصول شبها للحادثة من هذه
الجهة.
فأما إذا لم تجد للحادثة شبها في الأصول من هذه الجهة، فلا بد من اعتبار
أوصاف أخر غير ما ذكرنا.
وقد اعتبر الشافعي نحو ذلك، فقال في الجناية على العبد فيما دون النفس: إنه يعتبر
بها الجناية على الحر، فما وجب في الحر من ديته وجب في العبد من قيمته.
قال، وهو يشبه الحر من جهة أنه يلزمه العبادة، وفي قتله الكفارة، ويجب القصاص
فيما بين العبيد.
ويشبه البهيمة من جهة أنه سلعة يباع ويشترى، وأن على متلفه القيمة. فاعتبر
في هذا الموضع الشبه من هذه الوجوه، وهذا القول يضارع قول الأصم من وجه، ويخالفه من
وجه آخر.
145

فموافقته الأصم من جهة أنه اعتبر ظاهر الشبه، وعدد وجوهه على ما حكيناه، كما
ذكر الأصم ظاهر الشبه من الوجوه التي ذكرها.
ويخالف قول الأصم من جهة ان الأصم اعتبر الشبه من جهة أعيان المسائل.
وذواتها، وصورها، وجمع بين حكم الفرع والأصل من هذه الجهات.
والشافعي اعتبر الشبه من جهة الاحكام، لأنه عد أحكام الحر وأحكام البهيمة،
فجعل العبد مشبها للحر من تلك الوجوه، ومشبها للبهيمة من وجوه أخر في
الاحكام، لا في الأعيان والصور.
قال أبو بكر: ومن الفقهاء من يعتبر كثرة الشبه في الاحكام. فما أشبه الحادثة من
وجهين في أحكامها، أولى مما أشبهها من وجه واحد، وكذلك كلما كثرت جهات الشبه كان
الحكم للكثرة عندهم. نحو قول من يخص إيجاب كفارة الافطار في رمضان بالجماع دون
الاكل، لان الجماع - زعم - يفسد به الحج، ويجب به الهدى، ويوجب الحد إذا صادف
غير ملك ولا شبة، ويوجب الغسل.
فلما كانت الاحكام المعلقة بالجماع أكثر منها بالاكل في هذه الوجوه، إذ كان الاكل
إنما يؤثر في إفساد الصوم فحسب، وجب أن يكون اعتبار الجماع دون غيره في إيجاب الكفارة
به، أولى.
ويحكى عن بشر بن غياث أنه كان يقول: لا قياس لقائس إلا على أصل معلوم
أجمعت الأمة عليه.
146

قال أبو بكر: كأنه إنما اعتبر إجماع القائسين على كون الأصل معلولا، ومتى لا
يجمعوا على أنه معلول لم يقس عليه، ولم يعتد بنفاة القياس في هذا الاجماع.
وقال جل من يعتمد عليه من الفقهاء النظارين: إنما الاعتبار في لحاق الحادثة
بأصولها بتشابهها في المعنى الذي هو علم الحكم وأمارته، يجب على الناظر طلبه وتتبعه
بالاستدلال عليه، فإذا ثبت المعنى بالدلالة عليه، وجب إجراؤه في فروعه، والحكم لها
بحكمه، سواء كان ذلك المعنى شبها من جهة الصورة، أو من جهة الحكم، أو من جهة
الاسم، إذ جائز عندهم أن يرد الفرع إلى الأصل بالاسم، إذ تعلق الحكم بالاسم،
فيكون الاسم حينئذ علم الحكم، والوصول إلى معرفة المعنى الذي علم الحكم وأمارته،
(ونسميه علة) من وجهين:
أحدهما: بالتوقف عليه.
والآخر: بالنظر والاستدلال.
وهذا القول هو الصحيح عندنا، وهو طريقة أبي الحسن التي كان يسلكها، ويعتبرها
في المسائل القياسية، وهي عندي مذهب أصحابنا، فيما يدل عليه مسائلهم.
147

الباب السابع والثمانون
في
ذكر الوجوه التي يستدل به على كون الأصل معلولا
149

باب
في ذكر الوجوه التي يستدل به على كون الأصل معلولا
قال أبو بكر: قد يعلم الأصل معلولا باتفاق القائسين على أنه معلول، لأنه حينئذ
يكون القول فيه من أحد وجهين:
إما قول نفاة القياس، في نفي العلة، أو قول مثبتيه في إثباتها فلما صح عندنا وجوب
القول بالقياس وصحته، وبطلان قول نفاته، ثم أجمع مثبتوه على كون الأصل معلولا،
صار إجماعهم على ذلك موجبا لصحته، وقد يثبت الأصل معلولا بالتوقف على العلة،
وبفحوى النص وبالاستدلال عليه.
فأما ما ثبت معلولا باتفاق القائسين، فهو خبر تحريم التفاضل في الأصناف الستة،
وما ثبت معلولا بالتوقيف كقوله تعالى: (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) وقول
النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه دم عرق " وقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة: " ملكت بضعك فاختاري " وما جرى مجرى
ذلك.
وما يعلم بفحوى النص قوله (صلى الله عليه وسلم): (فإذا اختلف النوعان فيبيعوا كيف شئتم يدا
بيد) دل على أن هناك معنى به تعلق حكم التحريم، وبزواله زال.
وكقوله في السمن الذي ماتت فيه الفأرة: (إن كان مائعا فأريقوه، وإن كان جامدا
فألقوها وما حولها) دلنا فحوى خطابه على أن هناك معنى به تعلق حكم النجس.
151

ومنها ما يستدل على كونه معلولا، بدلائل الأصول، نحو انتقاض الطهارة بخروج
البول، وامتناعه بخروج العرق، والدمع (والبزاق)، ونحوها. فيدلنا ذلك على
انتقاضها بخروج البول معلل، يجب اعتباره لتعلق الحكم به دون غيره من الأشياء
الطاهرة في نقض الطهارة، فيحتاج حينئذ إلى اعتبار تصحيح المعنى.
152

الباب الثامن والثمانون
في
ما يستدل به على صحة العلة
153

باب
فيما يستدل به على صحة العلة
قال أبو بكر: بينا فيما سلف أن علة الحكم سبيلها أن تكون بعض أوصاف الأصل
المعلول وأنه غير جائز أن تكون جميع أوصافه، لأنها لو كانت جميع أوصافه كانت هي
المسألة بعينها، وكان يكون حكمها معلولا من غير جهة القياس، واقتضاب العلل، فإذا
ثبت هذا احتجنا عند الحاجة إلى القياس إلى طلب الوصف الذي هو علة الحكم، وتبين مما
ليس بعلة له، إذ غير جائز أن يكون كل وصف من أوصافه على حياله علة، لان ذلك
ينتقض.
ألا ترى أن من أوصاف البر أنه مكيل، وأنه مما تخرج الأرض وأنه مأكول، وأنه مقتان
مدخر، وأنه مما يجب فيه العشر، وأنه حب وأنه شئ وأنه موجود، وأنه جسم.
وغير جائز أن يكون كل وصف من هذه الأوصاف علة للحكم على حياله، ولا يجوز
أيضا أن يجعل علة الحكم أي وصف شاء القائس جعله علة. هذا ممتنع غير جائز،
فواجب إذن أن تكون علة الحكم بعض أوصافه، إما وصف واحد، أو وصفان، أو
ثلاثة، أو نحوها، بعد أن لا يستغرق جميع أوصافه.
155

وإذا كان ذلك كذلك، فالوصف الذي هو علم الحكم وأمارته - ويعبر عنه بأنه
(علة له) - لا يعلم أنه كذلك إلا بالاستدلال عليه، ولا يسوغ لأحد اقتضاب بعض
أوصافه، وجعله علة للحكم من غير دلالة، وذلك لان الخلاف بين المختلفين في علة
المسألة (كهو في أصل المسألة)، فإذا لم يجز أن يسلم لمدعى الحكم دعواه بغير دلالة،
كذلك مدعى العلة لا يجوز له الاقتصار بها على دعواه دون إقامة البرهان عليها من
وجوه (الدلائل، فالعلل) مختلفة:
فمنها: أن تكون العلة منصوصا عليها.
فيجب اعتبارها في نظائرها، كما اعتبر عمر رضي الله عنه قوله تعالى: (كيلا يكون
دولة بين الأغنياء منكم) فيما خالفه فيه قوم من الصحابة في قسمة السواد فحين
نبههم على موضع الاعتلال عرفوا صحة استدلاله، ورجعوا إلى قوله.
وكقوله تعالى بعد ذكر صلاة الخوف (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم
وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) فجعل العلة في إباحة صلاة الخوف عند
لقاء المشركين ما ذكر من محبتهم لاستغفالنا عن التأهب لقتالهم، فلو قاتلنا البغاة والخوارج
جاز لنا صلاة الخوف لهذه العلة، وإن كانت الآية نازلة في المشركين، لوجود العلة التي ذكرها
في البغاة والمحاربين.
156

نحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ملكت بضعك فاختاري " وقوله لفاطمة بنت أبي حبيش:
(إنه دم عرق، وليست الحيضة فتوضئ).
فإن قيل: قوله: إنها دم عرق، ولم يخرج مخرج الاعتلال، لأنها سألته عن دم
الحيض، فأعلمها: أن الذي بها دم الاستحاضة، وهو دم عرق.
قيل له: لو أراد ذلك لاكتفى بقوله: إنها ليست الحيضة، فلما لم يقتصر على ذلك،
وقال: إنها دم عرق، علمنا أنه قد أفادها بذلك معنيين:
أحدهما: أنه ليس بالحيضة.
والثاني: تعليله دم الاستحاضة بأنها دم عرق، ليعتبر في نظائره، ولولا أنه أراد ذلك
ما كان لقوله: إنها دم عرق معنى، ولا فائدة مع قوله: إنها ليست الحيضة، فلما ذكر
الامرين، علمنا أنه أراد بقوله إنها دم عرق، التنبيه على العلة.
وأيضا: فإن ما خرج مخرج الاعتلال فظاهره أنه علة يجب القياس عليها، ورد
نظائرها إليها، حتى يقوم الدلالة على غير ذلك، وقوله: إنها دم عرق، خارج مخرج
الاعتلال.
ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: في الهرة: " إنها من الطوافين عليكم والطوافات " فعلل الهرة لمعنى
يجب اعتباره في أشباههما.
قال أبو بكر: الناس في هذا الضرب من التعليل على قولين:
منهم من يجعله نصا على (كل) ما فيه العلة، ويجريه مجرى لفظ العموم.
والنظام ممن يقول بذلك، وهو من نفاة القياس.
وقال: إن الله تعالى لو قال: (حرمت عليكم الماعز، لأنه ذو أربع، عقلنا من
اللفظ تحريم كل ذي أربع).
وقال آخرون: ليس ذلك في معنى العموم ولا النص في جميع ما فيه العلة.
فمن قال بالقياس من هذه الطائفة أوجب اعتبار المعنى فيما يوجد فيه من طريق
القياس.
157

وأما من نفى القياس منها: فإنه يجعل وجود هذا التعليل وعدمه سواء، ويجعل الحكم
مقصورا على موضع النص، مما تناوله الاسم، دون ما يوجد فيه العلة مما لم ينص عليه.
قال أبو بكر: والأظهر أن الحاق ما يوجد فيه العلة بحكم الأصل، إنما هو من طريق
القياس، لا من طريق النص والعموم، لان المنصوص عليه هو ما تناوله الاسم.
وقوله: في دم الاستحاضة الوضوء، لأنها دم عرق، لم يتناول الاسم منه إلا دم
الاستحاضة. وقوله إنها دم عرق، ليس بعموم في غير دم الاستحاضة، وإنما هو صفة من
صفات المذكور بعينه، دون غيره مما لم يذكر، وليس لان غيره مشارك له في هذه الصفة،
ما يوجب أن يكون مذكورا معه، لان رجلا لو قال: زيد قائم، لم يوجب ذلك أن يكون كل
قائم مذكورا معه لمشاركته إياه في القيام، وإذا لم يكن جميع ما فيه تلك العلة مذكورا في
اللفظ، فإنما يجب إجراء الحكم عليها من طريق القياس، وإنما وجب القياس عليها، لان
العلل سبيلها أن تكون موجبة لأحكامها التي هي علة، لها على حسب ما بينا في حكم
العلل العقلية. فمتى انفصل الحكم من الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، معللا يوصف من
(الأوصاف المذكورة)، علمنا: أنه قد أراد منا اعتباره فيما وجد فيه، وإجراء الحكم عليه
في نظائره.
ويعتبر خروج الوصف مخرج التعليل بمنزلة قوله لو قال لنا: هذا الوصف هو علة
الحكم، وذلك لأنه يمتنع في خطاب الله تعالى، وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم، وضع الكلام في غير
موضعه. فما أخرجه مخرج التعليل، فحقيقته أنه قد أراد منه إجراء الحكم عليه، واعتباره
به.
ومما يستدل به على صحة العلة: أن تنحصر علل القائسين على وجوه معلومة، ثم
تقوم الدلالة على فساد سائر الوجوه، إلا وجها واحدا منها، فيكون فساد ما عداه من
الوجوه، مع العلم بأنه لا بد من أن تكون علة أحد الوجوه دلالة على صحة كونه علة،
158

وذلك لأنهم لما أجمعوا على أن هناك علة قد تعلق بها الحكم، وأجمعوا (على) أن لا علة في
الأصل إلا إحدى ما عللوا به فلا بد من صحة واحدة منهم، إذ غير جائز أن يكون جميعها
فاسدا مع اتفاقهم أن الأصل معلول بعلة يجب بها القياس عليه، ومع اتفاقهم أنه لا علة
هناك غير ما ذكروا على اختلافهم فيها.
وغير جائز أيضا أن يكون جميعها صحيحة على اختلافها، فإذا قامت الدلالة على
فساد سائرها ما عدا الواحدة منها، صحت الواحدة التي لم تقم الدلالة على فسادها.
وهذا كما نقوله أيضا في المذاهب وأقاويل الفقهاء في المسألة: إنهم متى اختلفوا فيها
على وجوه معلومة، ثم قامت الدلالة على فساد سائر أقاويل المختلفين إلا واحدا منها، كان
قيام الدلالة على فساد سائر الأقاويل غير الواحد منها، دليلا على على صحة ذلك القول.
نحو قولنا في جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه جميعا: إنهم لما اختلفوا فيها على وجوه
معلومة، ثم قامت الدلالة على فساد القول بالقرعة، وعلى فساد اعتبار قول القائف
وعلى فساد قول من قال: إنه يوقف الامر، ولا يثبت نسبه من واحد منهما، صح القول
الرابع، وهو أنه ولدهما ثابت النسب بينهما.
وكذلك سبيل العلل إذا اختلفوا فيها، فلا فرق بينها وبين الاختلاف في المذاهب
ومما كان يعتبر أبو الحسن في صحيح العلل وهو أصح الوجوه عندنا فيما طريقة النظر
والاستدلال، أن ينظر إلى علل القائسين على اختلافهم فيها مما تعلق بها الاحكام، وكان
له تأثير في الأصول. فهو أولى بالصحة مما لا يتعلق به الاحكام، ولا تأثير له في الأصول.
نظير ذلك: أنا إذا اختلفنا في علة تحريم البيع عند وجود التفاضل في البر على
الوجوه المعلولة، من اختلاف الفقهاء فيه، وجدنا اعتبار الكيل والوزن أولى، لتعلق
الاحكام بهما في جواز البيع، أو فساده، دون القوت والادخار، ودون الاكل على حسب ما
بيناه في مواضع في مسألة الربا.
وإنما وجب اعتبار تعلق الاحكام بالمعنى الذي هو علة للحكم، لان العلل هي
159

المعاني الموجبة للأحكام في الأمور العقلية. وعلل الشرع هي التي جعلت علما للحكم).
فما تعلق به الحكم في الباب الذي اختلفوا فيه فهو أولى بكونه علة مما لا يتعلق الحكم، إذ
كانت العلة مقتضية لإيجاب الاحكام.
ومن جهة أخرى، أن البر بالبر لو تفاضلا في الجودة في كونهما مأكولين، أو مقتاتين، لم
يتعلق بهذه الأوصاف حكم في جواز البيع، ولا فساده، إذا تساويا في الكيل. ولو تساويا في
سائر الصفات وتفاضلا في الكيل، لم يجز البيع، فعلمت أن سائر الأوصاف التي اعتبرها
مخالفونا لم يتعلق بها حكم، وإنما تعلق الحكم بالزيادة الموجودة في الجنس من جهة الكيل،
فكان اعتباره أولى.
ونظيره أيضا قولنا إن اعتبار الخارج النجس أولى بإيجاب نقض الطهارة، من اعتبار
السبيل، لوجودنا الحكم يختلف لأجل اختلاف الخارج، والسبيل واحد في الحالين،
فكان اعتبار الخارج النجس أولى لتعلق الحكم (به)، دون السبيل.
ومن الناس من يجعل إحدى دلائل صحة العلل وجود الحكم بوجودها، فارتفاعه
بارتفاعها.
وكان أبو الحسن يأبى أن يكون هذا دليلا في علل الشرع.
ويقول: إن مثله يكون دليلا في علل العقليات.
قال: وذلك لأنا وجدنا المختلفين في علة تحريم التفاضل كل واحد منهم يمكنه
الاستدلال على صحة علته بوجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها، مع اتفاقهم أن
الصحيحة واحدة منها، مع وجود هذا الضرب من الاستدلال في جميعها.
قال أبو بكر: (و) هذا الذي منع من أجله أن يكون ما ذكرنا دليلا على صحة
160

العلل موجود في كثير من العلل الموجبة للأحكام المتضادة، وفي معان قد اتفق الجميع أنها
ليست بعلة للحكم، مع وجود هذا الضرب من الاستدلال.
ألا ترى أن قائلا لو قال: إن وجود الشدة في الخمر علة في تكفير مستحلها، كان قائلا
قولا فاسدا، قد اتفق الجميع على فساده. لأنها توجب تكفير مستحل الأنبذة المسكرة لوجود
الشدة فيها. وقد يمكن من نصب هذه العلة لتكفير مستحل الخمر: أن يستدل عليها
بوجود الحكم بوجودها، وارتفاعه بارتفاعها، وذلك لان العصير لما لم يكن فيه شدة، لم
يكفر مستحلة، ثم لما حدثت فيه الشدة كان مستحله كافرا، ثم إذا صارت خلا وزالت
الشدة زال الحكم بتكفير مستحله، فكان حكم تكفير المستحل متعلقا بوجود الشدة،
موجودا بوجودها، (و) معدوما بعدمها، مع اتفاق الجميع على أن هذا المعنى ليس بعلة
لتكفير المستحل.
ومن نظائر ذلك: إذا اختلفنا في البكر البالغة يزوجها أبوها بغير إذنها. فأجازه
مخالفونا قياسا على البكر الصغيرة، وجعلوا العلة الموجبة له ذلك كونها بكرا، ومنعنا نحن
ذلك إلا برضاها، ورددناه إلى الثيب الكبيرة بعلة أنها (بالغة عاقلة).
واستدللنا على صحة علتنا: بأنا وجدنا البلوغ معنى يستحق به الولاية، بدلالة أن
البكر والثيب لا يختلفان في استحقاق الولاية على أنفسهما في الشراء والبيع، ولم نجد للبكارة
تأثيرا في استحقاق الولاية عليها في موضع متفق عليه، فكانت علتنا أولى بالصحة، لما لها
من التأثير في الأصول وتعلق الاحكام بها، وكان رد البكر البالغة إلى الثيب البالغة،
أولى من ردها إلى البكر الصغيرة.
161

فقلنا نحن: إنه يزوجها قياسا على البكر الصغيرة، بعلة أنها صغيرة، كانت علتنا
صحيحة، لقيام الدلالة عليها من الوجه الذي ذكرنا، من من أن الصغر معنى يستحق به
الولاية على الصغير في الشراء والبيع ونحوها، ولم يكن لكونها ثيبا تأثير في منع التصرف
عليها في مالها، وإنما تعلق استحقاق الولاية عليها بالصغر، وزوال الولاية عليها بالبلوغ،
فكان اعتبار الصغر أولى علة فيما وصفنا، إذ كان جواز عقد الأب عليها النكاح ضربا من
الولاية.
ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى، فكان أبو الحسن يذهب هذا المذهب.
قال أبو بكر: وليس يمتنع عندي أن يكون مثله دليلا على صحة علل الشرع،
وإن كان قد يوجد مثله في حال غير موجب لكون المعنى علة، لان دلائل أحكام الشرع،
يجوز عندنا فيها التخصيص، كتخصيص الاسم، وتخصيص العلة نفسها، واعتبار صحة
العلة بوجود الحكم بوجودها، وارتفاعه بارتفاعها، هو عندي وجه قوي في هذا الباب،
وما ينفك أحد من القائسين من استعماله.
وقد كنت أرى أن أبا الحسن يستعمله في أكثر المواضع، وكثير مما في فحوى النص من
الدلالة على صحة العلة يجري هذا المجرى.
ألا ترى: أن قوله صلى الله عليه وسلم في السمن الذي ماتت فيه الفأرة (إن كان مائعا فأريقوه، وإن
كان جامدا فألقوها وما حولها) قد دل به على أن مجاوزة النجاسة، هي علة التنجيس، لأنه
حين جاوزت السمن الجامد أمر بالقائها وما حولها مما جاورها، دون ما لم يجاورها، ولما جاور
المائع أو عامته أمرنا بإراقة الجميع. فعلق حكم التنجس بمجاورته للنجاسة، وأزاله
بزوالها، فكان ذلك دلالة من فحوى الخطاب على المعنى الذي علق الحكم به.
162

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد) بعد ذكره
لتحريم التفاضل في الجنس الواحد من الأصناف الستة. دل بوجود التحريم، عند وجود
الوصفين اللذين هما الكيل والجنس، أو الوزن والجنس، على أنهما بمجموعهما علة تحريم
البيع عند وجود زيادة الكيل أو الوزن، ودل لإباحة التفاضل عند وجود أحد الوصفين
على أن عدم أحدهما علة الجواز، فعلق الحكم بوجود المعنى وأزاله بزواله.
فإن قال قائل: قد حكيت عن أبي الحسن قبل هذا الفصل: أن أحد ما يجب اعتباره
في تصحيح العلل، أن يكون للمعنى تأثير في الأصول، ويعلق به الاحكام، وهل هو إلا أن
يكون الحكم موجودا بوجوده، معدوما (بعدمه).
قيل له: بينهما فصل، وهو لطيف ينبغي أن نتناوله، وذلك (أنه) يعتبر تأثيره في
الأصول من غير اقتصار به على الأصل الذي اقتضت العلة منه، حسب ما قلنا من
سقوط اعتبار الثيوبة والبكارة في استحقاق الولاية بها في النكاح، أو زوالها ووجوب اعتبار
الصغر، والبلوغ، في باب استحقاق الولاية، أو زوالها. لما ذكرنا من تعلق حكم الولاية على
الصغير لأجل الصغر، وزوالها عنه بالكبر، على النحو الذي بينا.
وما ذكرته من وجود الحكم بوجود المعنى، وزواله بزواله، نحو أن يقول لنا المخالف
في هذه المسألة: لما وجدت البكر الصغيرة يزوجها أبوها والثيب الكبيرة لا يزوجها، علمت
أن العلة الموجبة للولاية في تزويج الأب، هي البكارة، لوجود الحكم بوجودها، وزواله
بزوالها.
فيعارضه خصمه بأن يقول: لما وجدت الثيب الكبيرة لا يزوجها الأب، والبكر
163

الصغيرة يزوجها، دل أن العلة في منع تزويج الثيب الكبيرة أنها كبيرة، وهي موجودة في
البكر الكبيرة، فيكون دليله على صحة (علته) وجود الحكم بوجودها، وزواله
بزوالها، فقد تعارضت العلتان من هذا الوجه.
ولا يمكن خصمنا ان يعارضنا في استدلالنا على صحة العلة بما وصفنا من وجود
تأثيرها في الأصول، وتعلق الاحكام بها، بمثل استدلالنا، فتصير حينئذ علتنا أولى،
فبين هذا وبين ما حكينا عن أبي الحسن مما كان يأباه فرق (واضح).
فإن قال قائل: من قال بهذا الضرب من الاستدلال على صحة العلة، أعني وجود
الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها لا يصح له القول بتخصيص العلة، لأنه إذا كان يجيز
وجود العلة مع عدم الحكم كيف يجوز له أن يستدل على كون المعنى علة لوجود الحكم
بوجوده وعدمه بعدمه، لأنه متى اعتبر هذا قال له خصمه: لما وجدت الحكم معدوما مع
وجوده وموجودا مع عدمه علمت أن ما ذكرته ليس بعلة قيل له: لا يجب ذلك، لأنه ليس
يمتنع أن يكون هذا المعنى دلالة صحيحة في الأصل على صحة العلة، ويكون الحكم
جاريا عليها متعلقا بها ما لم يمنع منه مانع (فإذا منع منه مانع) امتنعنا من إيجاب
الحكم، وإن كانت العلة موجودة ولا يوجب ذلك فساد الدلالة، كما يقول مخالفنا: إن علة
تحريم الخمر وجود الشدة لوجود التحريم عند وجودها، وعدمه عند عدمها، فيجري هذه
العلة في النبيذ، ثم وجدنا حكم التكفير متعلقا بالخمر عند وجود الشدة، وزائلا بزوالها، ولم
يوجب ذلك كون الشدة علة لتكفير المستحل، مع وجود هذه الدلالة التي استدللت بها على
صحة اعتلالك، كذلك ما وصفنا.
164

وأيضا: فإنه من حيث جاز عندنا تخصيص العلة، جاز تخصيص دلالتها على ما
بينا، ومن حيث جاز تخصيص الاسم الذي هي مقتضبة منه، جاز تخصيصها، ولا يمنع
ذلك من اعتبارها فيما لم يقم فيه دلالة التخصيص.
وأيضا: فإنا إنما نجيز تخصيص العلة بعد إقامة الدلالة على صحتها في الأصل.
ووجود دلائل تصحيح العلة مختلفة، ليس لها طريق واحد على حسب ما ذكرنا، فإنما
نجيز تخصيص العلة بعد قيام الدلالة على صحتها في الأصل.
وأما ما لم تقم الدلالة على صحة كونه علة، فإنا (لا) نعتبره علة.
وقد ذكرنا قبل ذلك: أن أبا الحسن قد كان يستعمل في الاستدلال على العلة،
وجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها، وأن أحدا من القائسين ليس يخلو من اعتباره في
الحقيقة، ولكنه مع ذلك يجوز أن يقال: إنه متى تعارضت علتان متصادتان فيما توجبانه من
الاحكام، وإحداهما يتعلق بها الحكم على النحو الذي حكيته عن أبي الحسن من وجود
تأثيره في الأصول، والأخرى لا دلالة عليها إلا من جهة وجود الحكم بوجودها وزواله
بزوالها، أن ما شهد له المعنى الأول منها أولى بالاعتبار، وكان ذلك ضربا من الترجيح،
موجبا لكونه أولى بأن يكون علة، وبالله التوفيق.
ومن الناس من يجعل جري العلة في معلولاتها دلالة على صحتها وإن لم
(يعضدها) دلالة غيره وهذا قول عندنا ظاهر السقوط، لا يرجع القائل به إلا إلى
دعوى عارية من البرهان، وذلك لان مذهبه الذي يعلله بهذا الضرب من التعلل يشتمل
على ثلاث دعاوى.
إحداها: دعوى للمذهب الذي يخالفه فيه خصمه.
165

والثانية: دعواه العلة التي خلاف خصمه إياه فيه (كهو) في نفس المقالة.
والثالثة: أنه قرن إلى دعواه الثانية دعوى تالية تجعلها حجة لمقالها، لزعمه أنه
حين قال: فهذه العلة في هذه المسألة. وقال بها أيضا في في مسألة أخرى، قد خالف
خصمه فيها، وهي دعوى ثالثة، لا دلالة عليها ليصح المذهب.
فكان حقيقة قوله، وتحصيله: أن الدليل على صحة دعواي هذه أني ادعيت دعوى
أخرى مثلها في موضع آخر، والسؤال عليه في دعواه الثالثة كهو في الثانية والأولى، لان
الدعاوي لا تصح بأنفسها، إنما تصح بدلائلها.
وكان بعض أصحابنا يضرب بهذا مثلا ويقول: هذا بمنزلة رجل قيل له: لم سرقت
اليوم؟ فيقول: لأني سرقت أمس. ولو جاز الاقتصار على مثله في تصحيح العلة، لجاز
الاقتصار على دعوى لعلة نفسها. فيقول: الدليل على صحة علتي: أني قتله بها.
ولو جاز هذا، لجاز أن يقول مثله في نفس المذهب الذي طولب بتصحيحه.
فيقول: الدليل على صحة مذهبي دعواي: أنه صحيح، وهذا كله جهل وخبط لا يعتمد
على مثله إلا غبي.
فإن قال: الدليل على صحة هذا الاعتبار أن استمرار العلة في فروعها وعدم
انتقاضها يدفع الأصول لها، وفقد مقاومة علة أخرى لها موجبة للحكم بخلاف ما يوجبها،
يدل على أنها من عند الله تعالى، لأنها لو كانت من عند غير الله عز وجل، لانتقضت،
ودفعتها الأصول، وقاومها من العلل ما يوجب فسادها بقوله تعالى: " ولو كن من عند غير
الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " فكان اتساقها وعدم دفع الأصول لها ومقاومة علل أخرى
166

إياها، هي الدلالة الموجبة لصحتها، فلم نكن فيما ادعيناه من صحة العلة مقتصرين على
الدعوى حين عضدناها بدلالة غيرها وهي ما وصفنا.
قيل له: قولك: إنه لم يدفعها أصل غلط ثان، بل الأصول كلها تدفعها، لان الأصول
التي هي الكتاب والسنة والاتفاق وحجة العقل، قد حكمت ببطلان قول لم يعضده
قائله بدلالة.
قال الله تعالى: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " وقولك: إنها من عند الله
تعالى دعوى لا دلالة عليها، بل يقول خصمك: إنها من عند غير الله تعالى: (إذ لا دلالة
لك عليها أكثر من دعواك لها، ولو كانت من عند الله تعالى، لما أخلى الله تعالى) من
دلالة تدل عليها.
فصارت حقيقة قولك هذا: أن الدلالة لم تقم على فسادها، وقول القائل: إن
الدلالة لم تقم على فسادها دعوى ليس بدلالة على صحة الدعوى، لان لخصمه أن يقول
له: أفأقمت الدلالة على صحتها؟ فإن قال: نعم. قيل له: فهلم تلك الدلالة.
وإن قال: ليس ها هنا دلالة على صحتها غير عدم الدلالة على فسادها.
(قيل له: فقل مثله في نفس المذهب، أنه لم تقم الدلالة على فساده، وقد استغنيت
عن ذكر العلة، فإذا لم يسغ لك هذا في نفس المذهب، فالعلة مثله، لأنك مدع فيهما جميعا.
ويقال له أيضا: ما أنكرت أن يكون الدليل على فسادها أنه لا دلالة لك على
صحتها.
وقد حكمت الأصول: بأن كل مذهب لم تقم الدلالة على صحته فهو فاسد، فلما
عريت علتك هذه من دلالة تدل عليه صحتها، دل على فسادها).
167

وأما قوله: إن اتساقها وعدم مقاومة أخرى لها دلالة على صحتها، فإنا قد قلنا: إن
الأصول قد دفعتها من الوجه التي ذكرنا.
ولو كان مثله دليلا على صحة العلة لجاز أن يقال مثله في نفس المذهب.
فيقول: إن الدليل على صحة مذهبي أنه متسق لا يدفعه أصل، ولا يقاومه مذهب
غيره، ولم تقم الدلالة على فساده، لأنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا،
فلما امتنع أن يكون مثله دليلا على صحة المذهب كان كذلك حكم العلة.
فإن قال: إن دعوى المذهب يقاومها الخصم بضدها.
قيل: ودعوى العلة يقاومها دعوى الخصم أنها علة فاسدة، وأن مذهبي صحيح،
فدل على صحة اعتلالك.
ألا ترى: أن جري العلة معلولها إنما هو دعواك وقولك غير مقرون بدليل، لأنك إذا
سئلت عن علة تحريم التفاضل في البر بالبر فقلت: إنه مأكول جنس، فاستدللت عليه بأنه
جار في معلوله، كان حقيقة هذا القول: أن الدليل عليه، أني قلت في البطيخ والرمان
(والعدس) والأرز ونحوها من المأكولات، فلم تحصل منها إلا على الدعوى.
وهذا الضرب من الدعاوي يكفي في معارضتها قول الخصم: ليس هذا كما ادعيت
لا في هذا الأصل الذي ذكرت، ولا في غيره كالمذهب نفسه. إذا خالفك خصمك فيه، كان
خلافه إياك معارضا لقولك، ومقاوما لمذهبك، إذا لم تعضده بدلالة، فتحصل أنه وهو
على الدعوى.
ويقال له: أليس القائلون بعلة تحريم التفاضل على اختلافهم فيها قد أجرى كل
منهم علته في معلولها، فواجب على هذه القضية، أن تكون كلها صحيحة، وهذا خلاف
الإجماع، لان الاتفاق قد حصل أن الصحيح من هذه العل هي واحدة منها، ثم قد قاومت
كل واحدة صاحبتها في باب جريها في معلولها، ثم مع ذلك لا يعوز خصمك في كل علة
تعتل بها وتقتصر في الاستدلال على صحتها على ما ذكرت، أن ينصب علة بإزاء علتك
موجبة للحكم بضد موجب علتك، معارضة لها وتجريها في معلولها.
168

ويقول: الدليل على صحة علتي جريها في معلولها.
ولا ينفك حينئذ من أحد أمرين: إما أن تسوغ له ذلك، فتصح العلتان جميعا،
وهما توجبان حكمين متغايرين، ويلزمك القول بهما جميعا، واعتقاد وجوب حكمين
متضادين في شئ واحد في حال واحدة، وهذا هو الاختلاف الذي نفاه الله تعالى عن
أحكامه بقوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
فيقال له: ما أنكرت أن يكون ما يؤدي إلى هذا التضاد والاختلاف من عند غير الله
تعالى، لأنه لو كان من عند الله عز وجل، لما أدى إلى هذا الاختلاف إد لا يسوغ له
ذلك.
فيقول بالاستدلال على صحتها بجريها في معلولها، فهذا التضاد الذي ذكرنا ضرب
من الاختلاف الذي هو منتف عن أحكام الله تعالى.
واختلاف ثان هو منتف أيضا: أن يكون من عند الله تعالى، وهو ما ذكرنا من
اتفاق الجميع على أن العلة أحد المعاني التي اختلفوا فيها، دون جميعها، لم (يجر) الجميع
مجرى علته في معلولها، مع اتفاقهم أن الصحيح واحدة منها.
ولو كان مجرى العلة في معلولها علامة لصحتها، لما قاومتها علة فاسدة، لان الحق
لا يقاومه الباطل، حتى لا ينفصل منه قال الله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل
فيدمغه فإذا هو زاهق) فمتى وجدنا في مذهب هذا الاختلاف، علمنا أنه ليس من عند
الله تعالى: فنحن لو استدللنا بالآية على فساد هذه المقالة لكانت كافية في إفسادها، فقد
بان فساد هذا القول من وجوه:
169

أحدها: أن قائله لم يرجع في إثباته إلا إلى دعوى.
والآخر: أن الأصول قد حكمت بفساد كل قول لا دلالة لقائله على صحته.
والآخر: أنه يؤدي إلى تضاد الاحكام والمقالات، وذلك منتف عن أحكام الله
تعالى بقوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ".
ومن أشكال ذلك: ما يقوله بعض أصحاب الشافعي في العلتين إذا أوجبتا حكما
واحدا، وإحداهما أعم من الأخرى، أن أعمهما أولى بالصحة، فيقتصر في تصحيح أعمهما
على هذا القول، من غير أن يعتضده بدلالة.
وذلك نحو قولهم في علة الاكل: إنها أعم من علة المقتات المدخر لان كل مقتات
مأكول، وليس كل مأكول مقتاتا، ونحو ما نقوله في علة بعض الطهارة بخروج النجاسة،
وعلة من يعتبرها بخروج النجاسة من السبيل فعلتنا أعم، ولا يصح لنا أن نقول: إن
علتنا أولى لكونها أعم، من غير أن نقرنها بدلالة، وهو نظير ما قدمناه في إنكار الاحتجاج
لصحة العلة بجريها في معلولها، وذلك لان القائل بأعم العلتين، إنما اقتصر على الدعوى في
زيادة المعلولات التي ادعاها من غير أن يعضدها بدلالة، فقوله ساقط.
بل لو قال قائل: إن أخصهما أولى، جاز له الاحتجاج به على خصمه لاتفاقهما على
وجود حكم الأخص، واختلافهما في الأعم، مع عدم الدلالة على ثبوتها، والذي يلزم
القائل بالأعم إقامة الدلالة على صحة علته على الشروط التي ادعاها، فإذا صححتها
الدلالة، صح حينئذ اعتبار عمومها، ما لم يعرض فيها ما يوجب تخصيص حكمها.
فإن قال قائل: القول بأعم العلتين واجب، كوجوب القول بأعم اللفظين إذا أوجبا
حكما واحدا.
قيل له: لعمري إن (القول) بأعم العلتين واجب إذا قامت الدلالة على
صحتها، فاما اعتبار أعمها قبل إقامة الدلالة على كون المعنى الأعم علة للحكم، فقول
170

ساقط مرذول، وإنما وجب القول بأعم اللفظين لأنه قد ثبت، أن الأعم اسم للخاص
ولغيره، فوجب اعتباره إذا علق الحكم به.
ونظيره أن يثبت أن الأعم فيها ذكره علة بدلالة توجبه، فيكون حينئذ بمنزلة اللفظين
إذا كان أحدهما أعم من الآخر.
ومما يغالط به المخالفون في هذا الباب قولهم: إن علة الاكل أولى من علة الكيل،
لأنها تستوعب التمرة بالتمرتين، ونحو ذلك مما لا يدخل تحت الكيل، ويوجب من الحكم
أكثر مما يوجبه الآخر، وهذا لا معنى له، لأنه لا يرجع فيه إلا إلى دعوى حسب ما بين في
إفساد قول القائلين بجري العلة، والقائلين بأعم العلتين، ثم هو مع ذلك مفارق لما ذكرنا في
أعم العلتين، لان الكيل والوزن يعمان أكثر المأكولات وكثيرا من الأشياء التي ليست
بمأكولة: كأنواع الطيب، والأصباغ، والحديد والرصاص، وسائر جواهر الأرض، وما جرى
مجرى ذلك، فيوجب حكم تحريم التفاضل في سائر هذه الأشياء. وهذا الضرب من
الاعتبار إن صح احتجنا أن نعد المكيلات والموزونات، ونعد المأكولات، فننظر أيهما أكثر
أنواعا فيكون أولى، وهذا الاعتبار ساقط لا يقول به أحد.
وعلى أن قول القائل في مثل هذا بأعم العلتين لغو لا معنى له، إذ كانت كل واحدة
منهما عامة في نوعها جارية في معلولها، فليست إحداهما بأعم من الأخرى في بابها.
171

الباب التاسع والثمانون
في
القول في اختلاف الاحكام مع اتفاق المعنى
واتفاقها مع اختلاف المعاني
173

باب
القول في اختلاف الاحكام مع اتفاق المعنى
واتفاقها مع اختلاف المعاني
قال أبو بكر: يجوز أن يتعلق بالمعنى الواحد أحكام مختلفة، كتعلق إيجاب كفارة
رمضان ودم الإحرام بالجماع، (وكتعلق) تحريم أم المرأة بعقد النكاح، وكتعلق إباحة
المنكوحة بذلك العقد بعينه، وكإباحة الإفطار بوجود الحيض وحظر وطئها.
ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى.
وإنما كان كذلك، لان هذه العلل لما كانت أمارات للأحكام على حسب ما يجعلها
الله تعالى علامة فيها، لم يمنع أن يجعل المعنى الواحد علامة لاحكام مختلفة، كالاسم لما
كان علامة للحكم المضمن به لم يمتنع أن يكون الاسم الواحد علما لتحريم شئ، وعلما
لإباحة شئ آخر.
ألا ترى: أن اسم الكفر قد صار علما لإباحة قتل الحربي، وعلما لتحريم التوارث
بيننا وبينه، ويمنع قبول الشهادة، وما جرى مجرى ذلك، فكذلك علل الشرع جارية هذا
المجرى لا يمتنع فيه كون المعنى الواحد علة لحكمين مختلفين.
175

وجائز أيضا اتفاق الأحكام لعلل مختلفة.
ألا ترى البيع قد يفسد لأنه بيع ما ليس عنده، ويفسد أيضا لأنه بيع ما لم يقبض،
ولأنه بيع غرر، أو مجهول، وقد يجب القتل للردة، والقصاص، والكفر، ولمعاني أخر، فليس
يمتنع تعلق الحكم الواحد لعلل مختلفة.
وكقولنا أيضا: إن النساء يحرم بوجود الجنس على حياله، ويحرم أيضا بوجود الكيل،
أو الوزن، وهذا أظهر من أن يخفي على ذوي فهم.
176

الباب التسعون
في
ذكر شروط الحكم مع العلة
177

باب
في ذكر شروط الحكم مع العلة
قال أبو بكر: وقد تكون العلة موجبة للحكم على شرائط تتقدمهما، فلا يكون للعلة
تأثير في ذلك الحكم إلا بعد وجود شرائطها، وإن لم تكن الشرائط موجبة له، وذلك
نحو قولنا: إن الزنى يوجب الرجم مع شرط الإحصان، وإن لم يكن للاحصان تأثير في
إيجابه مع الزنى، وذلك لان الرجم عقوبة، والإحصان اسم يشتمل على معاني لا يجوز أن
يستحق العقاب عليها، لأنه البلوغ، والإسلام، والدخول، وليس هذه المعاني مما
يستحق عليه العقوبة، فعلمنا أن الرجم يستحق بالزنا لا بغيره، وإن لم يجب إلا بوجود
الإحصان، ومما يبين الفصل بين السبب الموجب للحكم، وبين مالا يوجبه، وإن كان
شرطا في إيجابه: أن ما يجب الحكم عند وجوده هو الموجب للحكم عند تقدم تلك الشرائط،
وأن ما لا يجب الحكم بوجوده ليس هو الموجب له.
ألا ترى: أن الإحصان قد كان موجودا غير موجب للحكم، حتى لما وجد الزنى
بعد الإحصان وجب الرجم، ولو وجد منه الزنى قبل الاحصان ثم أحصن قبل إقامة الحد لم
يجب الرجم، فعلمت أن وجوب الرجم متعلق بوجود الزنى دون وجود الإحصان.
ولذلك لم يوجب أصحابنا على شهود (الإحصان ضمانا عند الرجوع، وأوجبوه
179

على شهود الزنا، إذ كانوا هم الموجبين له، ولم يكن شهود) الإحصان موجبين له، ومن
أجل ذلك احتيج في إثبات الزنى أربعة شهداء، والنفي في إثبات الاحصان بشهادة
شاهدين.
ويدل أيضا من مذهبهم على ما ذكرنا على أصلهم من اعتبار المعنى الذي تعلق
الحكم بوجوده دون وجود غيره في كونه موجبا له: قولهم في شاهدين شهدا على رجل أنه
أعتق عبده أمس، فيقضى القاضي عليه بعتقه، ثم شهد شاهدان آخران: أن عبده كان
جنى أول من أمس، وأن المولى علم بالجنابة، فألزمه القاضي الدية وجعله مختارا، ثم
رجع الشهود كلهم: أن ضمان الدية على شهود الجناية، وضمان القيمة على شهود
العتق، لان القاضي ألزمه الدية بشهادة شهود الجناية، وإن لم تكن الجناية مما لم يلزم به الدية
إلا بعد العتق، لان العتق قد كان موجودا بشهادة الآخرين، غير موجب لها على المولى،
فلما وجدت شهادة شهود الجناية، ألزمه الدية.
وقالوا: لو كان شهود الجناية شهدوا أولا بالجناية فحكم الحاكم بها، ثم شهد
شاهدان: أنه أعتقه بعد الجناية، فالزمه القاضي الدية، ثم رجع الشهود كلهم، أن شهود
العتق يضمنون في هذه الحال الدية، لان لزومها تعلق بشهادتهم.
ألا ترى أن شهادة شهود الجناية قد كانت موجودة غير موجبة للدية، ثم لما وجدت
شهادة شهود العتق ألزمه بها الدية، فعلقوا وجوب الحكم بالمعنى الذي عند وجوده وجب
دون ما هو شرط فيه مما تقدمه.
180

الباب الحادي والتسعون
في
ذكر الأصناف التي تكون علة للحكم
باب
في ذكر الأوصاف التي تكون علة للحكم
181

(باب)
في ذكرى الأوصاف التي تكون علة للحكم
قال أبو بكر: وقد تكون علة الحكم وصفا لازما للأصل المقيس عليه، كقولنا: إن
علة تحريم النساء وجود الجنس.
وقد يكون وصفا غير لازم للأصل، لكنه يتبع عادة الناس في التعامل به
كقولنا: إن كونه مكيلا علة لتحريم النساء أيضا، وكونه مكيلا ليس هو وصفا لازما له،
وإنما يصير كذلك بجريان العادة بالتعامل كيلا، وكاعتلالنا لإيجاب العشر فيما تخرجه
الأرض من الخضر ونحوها بعلة أنها يقصد الأرضون بزراعتها، قياسا على الحنطة، وكونه
مما يقصد بزراعته إنما هو عادة جارية من الناس فيها وليس هو صفة لازمة لنفس المزروع.
وقد كون العلة نفس الاسم، كقولنا: إن مسح الرأس مرة قياسا على سائر
الممسوحات من نحو المسح على الخفين، ومسح التيمم بعلة أنه مسح، وقد كان أبو الحسن
يحتج للمحرمين إذا قتله صيدا أن على كل واحد منهما جزاء كاملا، بأن هذه كفارة فيها
صوم، لقوله تعالى: " أو كفارة طعام مساكين " فسماه كفارة، فاشتبهت كفارة قتل الخطأ، لما
كانت كفارة فيها صوم لزم كل واحد من القائلين كفارة كاملة، فالقياس (صحيح
بالاسم) على هذا الوجه، وإنما لا يصح الاعتلال بالاسم إذا لم يعد إلى فرع، كما لا
183

يصح الاعتلال بشئ من أوصاف الأصل إذا لم يعد إلى فرع، وكان موقوف الحكم على
الأصل، على ما بيناه فيما سلف من فساد قول القائلين بذلك.
وقد تكون العلة حكما من أحكام الأصل فينصب علة للفرع يجب فيه الحكم المتنازع
بوجوده، كما قلنا في المحرمين إذا قتلا صيدا، وجمعنا بينهما وبين قاتل الخطأ بأن هذه كفارة
فيها صوم، وهذا جميعا حكمان.
وكقولنا: إن الرجل ممنوع من تزويج أخت امرأته في عدتها منه، بعلة أنها معتدة،
قياسا على منع تزويجها زوجا آخر إذا كانت معتدة، وتحريم الأختين والزوجين من طريق الجمع، فيهما حكم واحد، علتهما كونها معتدة، وكونها معتدة إنما هو حكم.
وكقولنا: إن المني نجس لان خروجه يوجب نقض الطهارة (قياسا على انتفاض
الطهارة بخروج البول، وكان انتقاض الطهارة علة لكونه نجسا وانتقاض الطهارة) حكم.
وقد تشتمل العلة على أوصاف بعضها صفة لازمة للأصل، والآخر حكم، والآخر
وصف عارض فيه، كقولنا: إن سيلان الدم من الجرح إلى موضع الصحة علة لنقض
الطهارة، لأنه دم عرق خارج نجس، فكونه دم عرق صفة لازمة له، وكونه خارجا وصف
عارض فيه، وكونه نجسا إنما هو حكم، ليس هو وصفا له لازما ولا عارضا.
وقد يشتمل أيضا على أوصاف بعضها حكم وبعضها عادة، كقولنا: في علة نجاسة
سؤر السبع: إنه محرم الاكل، لا لحرمته، ويستطاع الامتناع من سؤره، قياسا على
الكلب، فقولنا محرم الاكل حكم، وقولنا: يستطاع الامتناع عن سؤره متعلق بالعادة.
وقد يشتمل على وصفين هما جميعا حكم، كقولنا: إن النساء محرم في الحديد
بالنحاس، لان الوزن فيه أحد وصفي علة تحريم التفاضل، وهو من جنس ما يتعين.
فقولنا: أحد وصفي علة تحريم التفاضل حكم.
وقولنا: مما يتعين حكم أيضا.
184

الباب الثاني والتسعون
في
القول في مخالفة علة الفرع لعلة الأصل
185

باب
القول في مخالفة علة الفرع لعلة الأصل
قال أبو بكر: وقد يكون حكم الأصل الذي منه تقتضب العلة متعلقة بمعنى.
وتكون علة الفرع غير المعنى الموجب للحكم في الأصل، هذا جائز في علل الشرعيات،
وذلك نحو قلنا: إن علة تحريم التفاضل في الأرز أنه مكيل جنس، قياسا على (البر).
وليس هذا الحكم موجبا في البر بهذه العلة، لان البر إنما وجب فيه هذا الحكم بالنص لا
بهذا المعنى، إذ كان دخوله تحت النص مغنيا عن تعليله لإيجاب حكمه، وإنما اقتضينا هذا
الاعتلال للفرع الذي ليس بمنصوص عليه.
ألا ترى: أنه لولا الفرع لكان ذكر (هذا) الاعتلال للأصل لغوا لا معنى له،
على ما بينا فيما تقدم.
وكذلك كل أصل (ثبت) بنص أو اتفاق، فإنا متى قسنا عليه بعلة، أو
اقتضيناها، فحكم الأصل يتعلق بالنص أو الاتفاق، وحكم الفرع متعلق بالعلة المستنبطة
منه.
وقد يعرض مثل هذا كثيرا مما ثبت حكمه من طريق الاستنباط، فيقاس عليه بعلة
غير علة الأصل، نحو قلنا: إن محاذاة الرجل المرأة في صلاة واحدة تفسد صلاته، والعلة
فيه: أنه قد قام مقاما لا يجوز أن يقومه بحال، مع (اختصاصه بالنهي) قياسا على إفساد
صلاة من قام قدام الإمام، وقد ثبت عندنا فساد صلاته.
وما ذكرناه من العلة بوصف من أوصاف المقيس علية، والعلة التي بها أفسدنا
187

صلاة من صلى قدم الامام، ليست بهذه، وإنما هي أنه مأمور بالإئتمام بالإمام واتباعه،
فمن صلى قدام الإمام غير مؤتم به ولا متبع له عندنا فقد تبين أن العلة التي بها أثبتنا
حكم الأصل المقيس عليه، غير العلة التي بها ثبت حكم الفرع المقيس.
ونظير ذلك أيضا: قولهم في رجلين أقام أحدهما البينة على عبد في يدي رجل أنه وهبه
له وقبضه. وأقام الآخر البينة أنه باعه منه، ولم يوقت البينتان، أو بينة الشراء أولى، لان عدم
تاريخ العقدين في شهادة الشهود، يوجب الحكم بوقوع العقدين معا، ومتى حكمنا
بوقوع البيع والهبة معا، سبق وقوع الملك بالشراء الملك بالهبة، لأنه يوجب الملك بنفس
العقد، والهبة لا توجبه إلا بعد القبض، فكانت العلة الموجبة للحكم بالبيع دون الهبة،
ما ذكرنا.
ثم قالوا: لو أقام أحدهما البينة على الرهن، والأخرى على الهبة، وشهدت البينات
بالقبض، فإن الرهن أولى من الهبة، لأنهما قد تساويا في أن من شرط كل واحد منهما
القبض، والرهن يشبه البيع في باب ما يتعلق به من ضمان اليدين كما يتعلق بالبيع ضمان
الثمن، فقاسوا الرهن على البيع في هذا الوجه بغير العلة الموجبة، لكون البيع أولى من
الهبة.
ونحوه إذا أقام رجل البينة على شراء العبد من مالكه، وأقام العبد البينة أن مولاه
أعتقه، فيكون العتق أولى، لان فيه قبضا، فصار كإقامة رجلين البينة على الشراء
وشهدت بينة أحدهما بالقبض، فيكون صاحب القبض أولى، ثم جعلوا التدبير مثل العتق
في كونه أولى من الشراء وإن لم يكن فيه قبض، بعلة أنه لا يلحقه الفسخ، كما لا يلحق
العتق، فالعلة التي قاسوا بها التدبير على العتق في كونه أولى من الشراء غير العلة الموجبة
لكون العتق في الأصل أولى من الشراء.
ونظائر ذلك كثير في مسائل الفقه.
وإنما جاز هذا في العلل الشرعية من قبل أنها لما كانت علما للحكم على ما بينا فيما
188

سلف غير موجبة (له)، ثم لم يمتنع إيجاب حكم الأصل بمعنى، ثم يجعل بعض أوصافه
علما لحكم آخر يقاس عليه إذا كانت هذه الأوصاف، إنما صارت عللا على حسب
ما جعله الله تعالى علامة الاحكام، والنكتة التي عليها مدار الامر في اعتبار هذه المعاني عللا
على الأوصاف التي قدمنا، أنها (لما) لم تكن موجبة لأحكامها المتعلقة بها، وإنما كانت
أمارات لها، على حسب ما ينصبها الله تعالى إمارة لم يمتنع أن يكون بعض الأوصاف
علامة لحكم، ثم تكون بعض أوصاف هذا الحكم علامة لحكم آخر غيره يجب اعتباره به.
ومن هذه الجهة أجزنا تخصيص أحكام العلل الشرعية مع وجودها، فلذلك امتنعنا
من اقتضاب علة لا تتعدى إلى فرع، ولا تتجاوز موضع النص أو الاتفاق لخروجها من
أن تكون علامة لحكمه، إذ كان ما يثبت من هذه الوجوه لا يكون بعض أوصافه علامة له
مقيدا للحكم فيه.
ومن خالف فيما ذكرنا من هذه الوجوه، فإنما خالف فيها لجملة بمعاني العلل
الشرعية، وطنه أنها بمنزلة العلل العقلية، فامتنعوا من أجل ذلك من تجويز هذه الأشياء التي
ذكرنا فيها، فمنعوا تخصيصها وأجازوا كون علة لا تتعدى الفرع ولا تتجاوز موضع
النص، ومنعوا وجوب حكم الأصل بعلة، وحكم الفرع بعلة أخرى غيرها، إذ كان هذا
الفرع مبنيا على ذلك الأصل.
ولو قد كانوا عرفوا معاني ما نسميه عللا نوجب بها قياس الأحكام الشرعية، لخفت
المؤنة عليهم في فهم هذه المواضع.
189

الباب الثالث والتسعون
في
ما يضم إلى غيره فيجعلان بمجموعهما علة الحكم
وما لا يضم إليه وما جرى مجرى ذلك
191

باب
فيما يضم إلى غيره فيجعلان بمجموعهما علة الحكم
وما (لا) يضم إليه وما جرى مجرى ذلك
قال أبو بكر: كل وصف قامت الدلالة على كونه علة (من) الوجوه التي يثبت علل
الشرع منها، فإنه يجب اعتباره في إيجاب الحكم به من غير ضم معنى آخر إليه، فإن رام أحد
ضم وصف آخر إليه حتى يكونا بمجموعهما علة للحكم، لم يكن ذلك إلا بدلالة تدل على
أن الوصفين بمجموعهما علة الحكم، فإن الحكم متعلق بهما دون أحدهما.
وذلك نحو قولنا: إن العلة في وجوب نقض الطهارة بخروج البول كونه نجسا خارجا
بنفسه إلى موضع يلحقه حكم التطهير، للدلائل الموجبة لصحة ذلك.
فإن قال لنا قائل: ما أنكرتم أن تكون العلة في البول مع وصفت: أنه خارج من
السبيل لم يصح ذلك، لان ما ذكرناه علة صحيحة، قد قامت الدلالة عليها غير مفتقرة في
كونها علة إلى ما ذكرت، ولم يثبت أن للسبيل تأثيرا في نقض الطهارة، وأن الحكم يتعلق به
في زوالها، فغير جائز كونه مشروطا مع ما وصفنا.
وكذلك إذ دللنا على أن علة تحريم التفاضل كونه مكيل جنس، فقال لنا: ما
أنكرتم أن تكون العلة فيه كونه مكيلا مأكول جنس، لم يصح له ذلك، لأنا لم نجد الاكل
متعلق به حكم في هذا الباب، فلا اعتبار به، وقد وجدنا الحكم يتعلق بالكيل والجنس فغير
جائز ضم الاكل إليهما مع استغنائهما عنه في كونهما علة.
193

ولذلك نظائر كثيرة يجب مراعاتها فيما يعتبره المخالف، فإن كان الوصف الذي يريد
ضمه إلى العلة مما له تأثير في الحكم، فلم تستقم العلة إلا بضمه إليها، ضممناه إليها،
والذي يجب ضمه إلى غيره وجعلهما علة هو ما لا تستقيم العلة إلا به، ولا يصح إلا
بوجوده، ويكون مع ذلك له تأثيره في الحكم على الوجه الذي يعتبر فيه قول قائل لو قال: إن
العلة في نجاسة سؤر السباع: أن السبع محرم الاكل قياسا على الكلب، فهذا لا يصح،
لان الانسان والهر أكلهما محرم وسؤرها طاهر، فاحتجنا من أجل ذلك إلى تقييد العلة
بوصفين لكل واحد منهما تأثير في الاحكام.
وهو أن يقول محرم الاكل لا لحرمته، ولا يستطاع الامتناع من سؤره، لأنا لو اقتصرنا
على قولنا محرم الاكل لا لحرمته لزم عليه سؤر الهر، لأنه محرم الاكل لا لحرمته، فاحتجنا إلى
تقييده أيضا بأنه (لا) يستطاع الامتناع من سؤره وإنما صح إلحاق هذين الوصفين بالمعنى
الذي ذكرنا في صحة كون الجميع علة للحكم، لتعلق الاحكام بهما.
ألا ترى أن سؤر الكلب نجس، وسؤر الهر طاهر، ولم يفترقا في الحكم إلا من جهة
أن الكلب يستطاع الامتناع من سؤره في العادة، ولا يستطاع الامتناع من سؤر الهر.
وكذلك الكلب سؤره نجس وسؤر الانسان طاهر، مع كونهما محرمي الاكل، وإنما
اختلفا من جهة أن تحريم أكل الكلب لنجاسته، وتحريم أكل الإنسان لحرمته، لا لنجاسته،
فاعتبر شروط العلل وما يصح ضمه إليها مما لا يصح بما وصفنا.
ونظائر هذا كثيرة في المسائل المختلف فيها، وفيما ذكرنا تنبيه على ما تركنا.
ومما يشاكل ما قدمنا في هذا الباب مما يجب اعتباره في دعوى العلة في الأصل على
النحو الذي ذكرنا في دعوى مضموم الخصم، الدلالة على صحة المعنى الذي يدعيه
عليه لوجوب الحكم.
ويستدل عليه بوجود الحكم بوجودهما، وارتفاعهما، فالواجب في مثل هذا أن
يراعى المعنى الذي ادعاه علة الحكم، هل كان الحكم متعلقا به لأجل وجوده وزائلا بزواله؟
أو كان وجوب ذلك المعنى غيره؟ فإنه ربما كان هذا الوصف موجودا لبعض المعاني، ويكون
194

الحكم موجودا بوجود معنى غيره، وزائلا بزوال غيره من المعاني (التي) قارنت هذا المعنى
في الأصل الذي اعتبر ذلك فيه، فيجعل الخصم وجودا لحكم وزواله بهذا الوصف، دلالة
على صحة المعنى الذي ادعاه عليه من غير تعلق الحكم به.
وذلك نحو قول المخالف في إسقاط الكفارة عن أكل الطعام في نهار رمضان متعمدا
من غير عذر واعتلال: بأنه مفطر بالاكل، فيجعل إفطاره بالاكل علة في سقوط الكفارة،
بدلالة أن المريض والمسافر يفطران بالاكل ولا كفارة عليهما، وأن اختلافهما من جهة أن هذا
معذور وذاك غير معذور، ولا يمنع الجمع بينهما عند اشتراكهما في علة الاكل.
ويستدل على أن الإفطار بالاكل علة في ذلك باتفاق الجميع على وجوب الكفارة
على المجامع في نهار شهر رمضان من غير عذر، وسقوطها عن المريض والمسافر إذا أفطرا
بالاكل، فعلمت إن كونه مفطرا بالاكل علة لسقوط الكفارة، لوجود الحكم بوجوده،
وارتفاعه بارتفاعه بارتفاعه.
ونحن متى اعتبرنا هذا الاستدلال لم يصح له ما ادعاه فيه، وذلك لان ما ادعاه في
المريض والمسافر من أن الكفارة إنما سقطت عنهما من أنهما مفطران بأكل، ليس كما ادعاه،
لان المريض والمسافر إنما لم يلزمهما الكفارة لأنهما معذوران فيه، والعذر له تأثير في اسقاط
كفارة رمضان.
ألا ترى أنهما لو أفطرا بجماع لم يلزمهما كفارة، ولم يختلف حكم الجماع والاكل من هذا
الوجه، فعلمت أن سقوط الكفارة عنهما في هذا الحال لم يتعلق بالافطار بالاكل، وإنما عليك
أن ترينا أن حصول الإفطار بالاكل له تأثير في سقوط الكفارة، إن كانت المسألة التي جعلتها
أصلا في ذلك إنما سقطت الكفارة فيها لمعنى غير الاكل.
فبان بذلك سقوط ما ادعاه من (تعلق) وسقوط الكفارة بالاكل، لوجودنا الحكم
موجودا بوجوده ومعدوما بعدمه.
195

وكان كذلك أن قال: اتفقنا أن من بلع حصاة لم تلزمه كفارة، والمعنى فيه أنه أفطر
بالاكل بدلالة أن الجماع يوجبها، والاكل على هذا الوجه لا يوجبها فصار الحكم متعلقا
بوجود الاكل زائلا بزواله.
فيقال له: قد غلطت في دعواك أن الحكم تعلق بوجود الحكم وزال بزواله، وإنما
تعلق بمعنى آخر (قارن الاكل وزال بزواله لا بالمعنى) الذي ادعيت، لان الأصل الذي
استشهدت به إذا اشتمل على أوصاف ثم وجدنا الحكم قد يجب بوجود وصفين أو ثلاثة
ويزول بزوالها، فليس لك أن تجعل الحكم متعلقا ببعض تلك الأوصاف، إلا ولخصمك أن
يعلقه بوصف آخر وبباقي الأوصاف، فإذا كان الذي بلع الحصاة قد اشتمل فعله ذلك
على وصفين:
أحدهما، أنه أكل، والثاني: أن مأثمه دون المجامع، ودون مأثم آكل الطعام،
فلست بأسعد بجعلك الاكل على الإطلاق علة للحكم من خصمك بجعله حصول
إفطاره بمأثم، دون مأثم المجامع علة في ذلك، ويكون ذلك علة صحيحة لتعديها إلى
فرع فيه، وهو قول مالك في إيجابه الكفارة على كل مفطر غير معذور.
ثم يعارضك في استدلالك بمثل دلالتك على صحة المعنى بوجود الحكم بوجوده،
وارتفاعه بارتفاعه، فلا تحصل حينئذ إلا على دعوى مجردة في قولك: إن الحكم كان
موجودا (بوجود الاكل) على الإطلاق، معدوما بعدمه، ثم ينفصل خصمك منك،
ويسقط معارضتك إياه، فإن لمعنى الذي اعتبره في مقدار المأثم تأثيرا في إيجاب الحكم،
ولزواله تأثير في زواله.
196

ألا ترى أن المجامع في الفرج تلزمه الكفارة لحصوله إفطاره بمقدار من المأثم، وأن
المجامع فيما دون الفرج لا يلزمه الكفارة، لقصور مأثمه عن مأثم المجامع، وأن وجوب الحد
يتعلق بالمجامع في الفرج، ولا يتعلق بالجماع فيما دون الفرج لاختلافهما (في) مقدار
الإثم، وكان اعتبارا المأثم الذي مقداره مقدار مأثم المجامع فيما يحصل به الافطار أولى من
اعتبار الاكل على الإطلاق، لتعلق الحكم به على الوجه الذي ذكرنا.
ومن نظائر ذلك: احتجاج المخالف في المختلعة لا يلحقها الطلاق، وإن كانت في العدة
بأنها بائنة منه، أو بأنها لا يصح الظهار منها.
ويستدل على صحة المعنى باتفاق الجميع على وقوعه قبل البينونة، واتفاقهم جميعا
على امتناع وقوعه بعد انقضاء العدة، فدل ذلك على أن العلة في منع وقوع الطلاق بعد
انقضاء العدة أنها بائن منه، أو أنها لا يلحقها ظهاره.
فأنت حينئذ بالخيار إذا كان خصمك مجيبا إن شئت عارضته على هذه العلة قبل
النظر في صحة استدلاله، فننصب إيقاع علة بإزائها ونستدل عليها بمثل دلالته عليها، بأن
يقول له: ما أنكرت أنها لما كانت معتدة (منه عن طلاق، وجب أن يملك إيقاع بقية طلاقها
بدلالة اتفاقنا جميعا على أنها إذا كانت معتدة) من طلاق رجعي كان زوجها مالكا لإيقاع
بقية طلاقها، بعلة أنها معتدة من طلاق.
والدليل على صحة هذه العلة: أنها متى انقضت علتها لم يلحقها طلاقه، لزوال العلة
التي وصفها ما ذكرنا، وما دامت معتدة لحقها طلاقها، فدل على صحة المعنى لوجود الحكم
بوجوده (وارتفاعه بارتفاعه)، فإذا عارضته بذلك فقد سقط اعتلاله واستدلاله عليه.
فإن رام حينئذ ترجيح علته بشئ آخر لم يصح له ذلك، ويكون حينئذ منتقلا عن
استدلاله الأول، ويكون هذا ضربا من الانقطاع، لأنه قد تضمن بدءا تصحيح علته بما
ذكر من استدلاله غير مضمن، بمعنى غيره.
197

وإذا رام ترجيح اعتلاله بعد معارضتك إياه بمعنى آخر، فقد ترك الاستدلال وأقل
أحواله أن يكون استعماله بعني غيره، مما يوجب عنده ترجيح علته، اعترافا منه بأن الأول
غير مستقل بنفسه في جهة للدلالة وتصحيح المقالة.
وإن شئنا نظرنا في جهة استدلالها هل هو على ما ادعى أم لا؟ وهذا أولى الامرين
وأصحهما في حق النظر.
فنقول له: ما الدلالة على أن الحكم فيما ذكرت تعلق بالبينونة فحسب؟ ولم قلت:
إن امتناع وقوع طلاقه متعلق بزوال النكاح، ووقوع البينونة موجود مع وجوده، معدوم مع
عدمه؟
وما أنكرت أن يكون امتناع وقوع (الطلاق) بعد انقضاء العدة متعلقا بانقضاء
العدة وبزوال جميع أحكام النكاح، ويكون هذا المعنى أولى بالاعتبار، لان بقاء العدة
يوجب بقاء كثير من أحكام النكاح.
ووقوع البينونة (لم يمنع بقاء تلك الأحكام من نحو لزوم نسب ولد لو جاءت به،
ووجوب السكنى والنفقة.
ولم يكن لوقوع البينونة) تأثير في زوال هذه الأحكام، ويكون اعتلالها بكونها معتدة
من طلاق أولى (من الحكم) الذي ذكرنا أنه موجود بوجوده، ومعدوم بعدمه (لو) تعلق
لما وجدنا لبقاء العدة من التأثير في بقاء شئ من أحكام النكاح، ولم يكن لوقوع البينونة تأثير
في رفعها.
وكذلك نقول في احتجاجهم ببطلان الطهارة، لان امتناع صحة الطهارة لم يؤثر في
رفع هذه الأحكام مع بقاء العدة، فلا يؤثر في بطلان الطلاق.
198

وكان استدلالنا بما وصفنا من تعلق الحكم ببقاء العدة عن الطلاق أولى، لما وصفنا.
ومثله: قول من خالفنا في المجاوزة بقيمة العبد دية الحر إذا قتل خطأ، واعتلاله بأنه
مال كالدابة، والثواب، واستدلاله عليه بأن العبد لما كان مالا وجب قيمته بالغة ما بلغت،
وأن الحر لما لم يكن ما لا يجاوز به الدية.
وقلنا نحن لا نجاوز به دية الحر، أنه أتلف نفس آدمي من جهة الجناية، وضمان
الجناية مخالف لضمان الأموال.
ألا ترى أن قاتله تلزمه الكفارة في الخطأ، والقصاص في العمد، وأن كونه مالا لم يؤثر
في سقوط الكفارة والقصاص، إذ كان إتلافه من طريق الجناية على ما ذكرنا.
وكذلك لا يؤثر في جواز مجاوزة الدية بقيمته، فكان اعتبارنا أولى، إذ كان كونه ما لا
يؤثر في سقوط الكفارة عن قائله في الخطأ، والقصاص في العمد.
وما ذكر من وجود الحكم بوجود كونه مالا، وارتفاعه بارتفاعه في الدابة المتلفة، فعلى
غير ما ذكرنا، لان الحكم لم يتعلق بكونه مالا (دون) ما ذكرنا من أن ضمانه لم يكن على
جهة ضمان الجنايات، (وضمان العبد في هذا الوجه ضمان الجنايات)، فكانت قيمته
معتبرة بدية الحر في منع مجاوزتها ونقصانها عن الدية، لم يخرجه عن باب الجناية، ولأن
ديات الأحرار قد تنقص، ولا يزاد على المقدر المؤقت.
ألا ترى أن دية المرأة على النصف، وأن دية الجنين خمسمائة، فعلى الوجوه التي
ذكرنا يجب اعتبار المعاني، والله عز وجل الموفق للصواب.
199

الباب الرابع والتسعون
في
القول في تعارض العلل والإلزام وذكر وجوه الترجيح
201

باب
القول في تعارض العلل والإلزام
وذكر وجوه الترجيح
قال أبو بكر: لا يكون تعارض العلتين إلا على وجه منافاة كل واحدة منهما لحكم
الأخرى، وهو كتعارض الاخبار، أن ذلك لا يكون فيها، إلا أن يكون كل واحد منهما
موجبا لضد حكم الآخر، ومتى لم يكن الخبران على هذا الوجه، لم يكونا متعارضين،
وذلك لان العلتين إذا أوجبتا حكما واحدا فليس يمتنع أن يكونا جميعا صحيحتين، فتجري
كل واحدة منهما على حسب ما مقتضاها وموجبها.
وإن كانت كل واحدة منهما جارية في فروع لا تجري الأخرى فيها.
وكذلك إن كانت إحداهما أعم من الأخرى، فليس يمتنع أن تكونا صحيحتين
جميعا، وتكون كل واحدة منهما موجبة لحكمها فيما يوجد فيه، وهي مثل الخبرين إذا كان
أحدهما أعم من الآخر، وما يتعلق بهما حكم واحد فيستعملان جميعا، نحو ما روي عن
203

النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى (عن بيع الطعام قبل القبض) (ونهى عن) بيع ما لم يقبض) فهذا أعم
من الأول في أعيان الحكم، وليسا معارضين لإيجابهما حكما واحدا.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدوا صدقة الفطر، عن كل حر وعبد، صغير أو
كبيرا فهو عام في الكافر والمسلم، وروي في (خبر) آخر (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر
على كل حر وعبد من المسلمين) فنستعملها جميعا، لأنهما ليسا متعارضين.
كذلك ما ذكرنا في حكم العلتين يجري على هذا السبيل.
ونظيره العكس إذا أوجبتا حكما واحدا، وتعلق بكل واحدة منهما معلومات لا تتعلق
بالأخرى، لاختلاف القائسين في علة تحريم التفاضل في البر.
فمنهم من قال: الكيل مع الجنس.
وقال آخرون: معناه مدخر في جنس.
وقال آخرون: الاكل مع الجنس.
فليست هذه العلة متعارضة، وإن كان لبعضها معلومات (ليست للأخرى)،
ولو كنا خلينا وإياها، لما امتنع أن تكون كل واحدة منها علة صحيحة موجبة لحكمها في
فروعها إذا قامت الدلالة عليها.
ألا ترى أنها لو وردت أخبار مثلها (كان جائزا، ولم تكن متعارضة) لأنه جائز أن
يقول: إذا وجدتم الكيل مع الجنس فحرموا التفاضل، وحرموا أيضا المقتات والمدخر مع
الجنس، وحرموا أيضا كل مأكول جنس.
ولو كان ذلك تعارضا لما صح ورود الخبر، وإنما لم يكن ذلك تعارضا، لان جميعها
204

توجب حكما واحدا، إلا أنه قد ثبت عندنا باتفاق الفقهاء: أن الصحيحة واحدة منهما، ولولا
الاتفاق لجاز أن يقال: إن كلها صحيحة إذا قامت الدلالة عليه.
ومما تكون إحدى العلتين فيه أعم من الأخرى فلا يتعارضان إذا كانا يوجبان حكما
واحدا.
فنحو اعتلالنا لنقض الطهارة بخروج النجاسة بنفسها إلى موضع يلحقه حكم التطهير،
قياسا على البول والغائط، فلا يصح لمخالفنا أن يعارضنا عليها، بأن يقول: ما أنكرت أن
تكون العلة في البول أنه نجاسة خارجة من السبيل، لأنه اقتضب من هذا الأصل علة
للحكم الذي توجبه علتي، فهما يوجبان حكما واحدا، فليسا إذا متعارضتين.
ألا ترى أنه لا يصح ورود النص بهذا، فنحن نقول بهما جميعا، ونصححهما، فنوجب
نقض الطهارة بخروج النجاسة من السبيل.
وتوجبه أيضا بخروجها من سائر البدن بالعلة التي ذكرنا، كما قلنا بالخبرين في نهيه
عن بيع الطعام قبل القبض، وعن بيع ما لم يقبض، وأكثر معارضات المخالفين أنا على
اعتلالنا بهذا الضرب من الاعتلال، ويظنون أن مثله يكون معارضة، وهذا جهل ممن يظنه
بوجوه المعارضات.
وكثيرا ما يعارضون أيضا بعلة لا تتعدى المنصوص عليه (غير) موجبة لحكم،
فيعارضون بها علة موجبة لذلك الحكم بعينه، متعدية إلى فروع مختلف فيها نحو
قولنا إذا قلنا: إن العلة في تحريم التفاضل في الذهب بالذهب: أنه موزون جنس.
فيقولون: ما أنكرتم أن تكون العلة فيها أنه أثمان الأشياء؟
205

ونحو قولنا إذا نحن عللنا (في) الأولاد في وجوب ضمها إلى الأمهات، بأنها زيادة
مال في الحول على نصاب وهي موجودة في الفائدة.
فيقولون: ما أنكرت أن تكون العلة (في أولاد) أنها من الأمهات.
ونحو قولنا: إن عتق بريرة إنما أوجب لها الخيار، لأنها ملكت بضعها بالعتق.
فيقولون: ما أنكرت أن يكون العلة فيه أن زوجها كان عبدا، وهذا أبعد من الأول
من جهة المعارضة، لما بينا فيما سلف أن علة لا تتعدى الأصل المعلول فليست بعلة، فهذا
ساقط من هذا الوجه.
ولو سلمنا لهم: أن مثلهم يكون علة، لما كانت معارضة لما ذكرنا، لأنا نقول
(لهم): نصحح العلتين جميعا، ونستعملها، فنوجب الحكم بهما إذ ليس يمتنع إيجاب
حكم واحد بعلتين مختلفتين، وإنما المعارضة أن تنصب علة بإزاء علة الحكم، توجب
حكما بضد موجب علته، فتكون حينئذ معارضة صحيحة إذا وقعت على شروطها التي
سبيل المعارضة أن تكون عليها، نحو أن نقول في علة نقض الطهارة بخروج النجاسة: لما
اتفقنا على أن اليسير من القئ لا ينقض الطهارة، وكان المعنى فيه: أنه نجاسة خارجة من
غير السبيل، كان كذلك حكم سائر النجاسات الخارجة من غير السبيل، فيكون هذا
معارضة صحيحة على اعتلالنا بخروج النجاسة بنفسها إلى موضع يلحقه حكم التطهير،
فيجب حينئذ قبولها، والنظر فيها، وحملها على شروطها التي تصح المعارضة عليها.
206

وأما الوجه الأول الذي ذكرنا: فإنه لا يجوز لناظر قبولها ولا الاشتغال بها في
التمسك بينها وبين علته التي اعتل بها.
ولا تصح المعارضة إلا أن يكون ما عارض به في وزن اعتلال المعتل، وفي عروضه.
فإن اعتل المجيب بعلة لم يعضدها بدلالة جاز للسائل معارضته بعلة موجبة للحكم
بضد موجب حكمها، ولا يقرنها بدلالة، ويكون مساويا له في اعتلاله، فيحتاج المجيب
حينئذ إلى الانفصال مما عارضه به السائل، إما أن يقرن علته بدلالة تبين بها مما عارض به،
أو يفسد اعتلال السائل بضرب من الضروب التي تفسد بها العلل.
والأولى بالسائل مطالبة المجيب بإقامة الدليل على صحة العلة، ولا يشتغل
بالمعارضة قبل إظهار المجيب دلالته على صحة اعتلاله.
فإن عارضه على دعواه العلة بعلة ادعاها جاز، وكان بمنزلة من عارض على المذهب
قبل المطالبة بدلالة على (صحته بمذهب) يضاده، فلا يجد بدا حينئذ من أن ينظر
إلى إقامة الدلالة على خصمه فيما ادعاه، دون ما ادعاه خصمه.
وإن قرن المجيب علته بدلالته لم تصح للسائل المعارضة عليه إلا بعلة مقرونة بدلالة،
وإلا لم تكن معارضة.
وللمجيب أن لا يقبلها ولا يشتغل بها، فإن قبلها كان انفصاله منها أن يقول: إن
علتي مقرونة بدلالة توجب صحتها، وعلتك غير مقرونة بدلالة، ولا يقدح فيها، ومتى
207

صحت المعارضة على الشرط الذي قدمنا، لزم المجيب حينئذ الانفصال مما عورض به
بضرب من الترجيح يبين به " أن " اعتلاله أولى من اعتلال خصمه.
ووجوه الترجيح مختلفة:
فمنها: أن المجيب إذا اعتل بعلة منصوص عليها، فعارضه السائل بعلة مستنبطة،
كان له أن يقول: علتي أولى، لأنها منصوص عليها، وعلتك مستنبطة، ولا حظ للاستنباط
مع النص، وذلك نحو معارضة المخالف لنا على علة نقض الطهارة بظهور النجاسة.
فإن قليل: القئ لا ينقضها، والمعنى فيه: أنه نجاسة خارجة من غير السيل،
ويحتج على صحة اعتلاله بأن النجاسة إذا خرجت من السيل أوجبت نقض الطهارة
وهو البول، وإذا خرجت من غير السبيل لم توجبه، وهو يسير القئ.
فيقال: إن اعتلالنا أولى، لأنه مبني على علة منصوص عليها، وهو قوله عليه السلام
في دم الاستحاضة: (إنها دم عرق)، فهو أولى مما ذكرت فتسقط معارضته.
ونحو إذا اعتل في منع خيار المعتقة إذا كان زوجها حرا، بأن الزوج كف ء في هذه
الحال، فصار كسائر عقود النكاح، إذا وجب فيها الكفاءة، ولا يجب الخيار.
فنقول: إن اعتلال من اعتل لإيجاب الخيار بأنها ملكت بضعها بالعتق أولى، لأنه
منصوص عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة: (ملكت بضعك فاختاري)، فكانت العلة المنصوص
عليها أولى من علة مستنبطة، لأنه لاحظ للاستنباط مع النص.
208

ألا ترى أنه لاحظ لحكم مستنبط مع حكم منصوص عليه، فكذلك العلل.
ومتى تعارضت علتان إحداهما: قد قامت دلالتها من جهة ما لها من التأثير في
الأصول وتعلق الاحكام بها. والأخرى: دلالتها وجود الحكم بوجودها وارتفاعه
بارتفاعها، فإن ما طريق إثباتها تعلق الاحكام (بها) وتأثيرها في الأصول أولى من
الأخرى، لان الأولى تشهد لها الأصول، وشهادة الأصول أولى بالاعتبار مما ذكر، إذ ليست
في وزنها ومنزلتها.
وترجيح إحدى العلتين بما ضده العموم لها يكون أولى مما ينافي العموم ويخصه،
لان العموم أصل، وهو شاهد بصحة هذا الاعتلال، فهو أولى مما ينافي العموم ويضاده.
وإذا كانت إحدى العلتين موجبة لرد الحكم إلى ما قرب منها وهو من جنسها،
والأخرى توجب ردها إلى ما يعد منها وما ليس من جنسها، فإن ما يوجب حمله على ما هو
من جنسها وما قرب منها أولى من الأخرى، على ما حكينا عن أبي الحسن، ويكون هذا
ضربا من الترجيح، نحو حملنا لمسح الرأس مرة واحدة على سائر الممسوحات، بعلة أنه
مسح، وموضوعة التخفيف، فهذا أولى من رده إلى الغسل، لان المسح من باب المسح،
ومن جنسه وما قرب منه.
ومتى تعارض قياسان ومع أحدهما قول من صحابي لا يعلم عن غيره خلافه من
نظرائه، جاز أن يرجح الذي معه قول الصحابي، ويكون من أجل ذلك أولى من الآخر.
وقد حكينا عن أبي يوسف قبل هذا: أنه يترك القياس لقول الصحابي، إذا لم يعرف
عن أحد من نظرائه خلافه، فإذا عاضد قول الصحابي أحد القياسين، كان لما عاضده
209

قول الصحابي مزية ليست للآخر عند كثير ممن لا يرى أيضا تقليد الصحابي، إذا كان قوله
بخلاف ما يوجبه القياس عنده.
وكذلك القياس الذي يعضده قول الخلفاء الراشدين هو أولى من قياس مخالفه قول
هؤلاء الخلفاء، إذا عارض القياس الأول، ويكون لهذا القياس ضرب من الرجحان
لقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).
وقد يقوى أحد القياسين بأن يعضده أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو انفرد بنفسه لم يوجب حكما
لضعف مخرجه، فإذا عاضد أحد القياسين صار لهذا القياس مزية ورجحان على الآخر بهذا
الخبر، فيكون أولى.
وإذا اعتل أحد الخصمين (بعلة) لحكم، واعتل الآخر (بعد ذلك لحكم) بعلل
من أصول مختلفة، فإن من الناس من يجعل الحكم الذي عضدته علتان أولى من الآخر
الذي لم يوجبه إلا علة واحدة، ويجعله بمنزلة علة شهدت لها أصول كثيرة، والأخرى شهد
لها أصل واحد.
ومنهم من يجعل العلة الواحدة معارضة للعلل الكثيرة، ولا يوجب الترجيح بالكثرة،
وهو عندنا موضع اجتهاد يحتمله كل واحد من القولين.
وإذا تعارضت علتان إحداهما مثبتة، والأخرى نافية، فلا مزية للمثبتة منهما على
الأخرى لأجل الإثبات، وإنما يحتاج أن يطلب وجه الترجيح من غير هذه الجهة، لان نفيه
الحكم هو حكم من النافي، وإثبات اعتقاد منه بصحة نفيه، وهو كما قلنا: إن النافي والمثبت
متساويان في أن كل واحد منهما عليه إقامة الدلالة على صحة دعواه.
ومتى اعتدل في نفس المجتهد القياسان جميعا، وكل واحد منهما يوجب ضد الآخر،
فإن من الناس من يأبى وجود ذلك، ويقول: إذا كان طريق استدراك الحكم من أحد هذين
الوجهين، استحال أن يخلي الله تعالى المجتهد من أن يغلب في ظنه رجحان أحدهما، فيصير
إليه.
210

ومنهم من لا يمتنع من إجازة ذلك، ويجعله بالخيار، يحكم بأيهما شاء.
فأما القول الأول: فإنه تحكم من قائله بغير دلالة، وذلك لأنا قد وجدنا مثل ذلك
سائغا في المتحري لجهة القبلة، وفي الشاك في الصلاة، وفي الاجتهاد في تدبير الحروب،
والإقدام على الأمور، وهو موجود في كثير من مسائل الاجتهاد أيضا، فيعتدل عند
المجتهد الأقوال المختلفة، حتى لا يكون عنده لبعضها على بعض مزية.
وإذا وقع ذلك كان المجهد بالخيار في الحكم بأي القولين شاء، كأن النص ورد
بمثله.
فقيل له: (احكم) في ذلك بأي هذين الوجهين أحببت.
ألا ترى أن المتحري جهة القبلة إذا استوت الجهات عنده كان له أن يصلي إلى أي
الجهات شاء. ومن يأبى هذا القول ويمنع منه يذهب إلى أنه إذا كان أحد القياسين يوجب
حظرا، والآخر إباحة، واستوى عند المجتهد القياسان، حتى لا يكون لأحدهما مزية على
الآخر، فغير جائز أن يكون مخيرا، لان موجب أحد القياسين: الحظر، وموجب القياس
الآخر: الإباحة. فلو انفرد كل واحد منهما على الآخر كان موجبا لحكمه.
فغير جائز أن يكون وجود القياس الآخر معه موجبا للتخيير، لان التخيير ليس هو من
موجب أحد القياسين، (فاجتماعهما لا يوجب تخييرا، وإنما الواجب عليه عند تعارض)
القياسين وتساويهما عنده اطراحهما، وطلب دلالة الحكم (من) غيرهما، كالخبرين
المتضادين إذا نزلا بهذه المنزلة.
211

ومن يقول بالتخيير في القياس إذا تعارضا ممن حكينا قوله يقول في الخبرين المتضادين
إذا كان هذا سبيلها مثل ذلك.
ومن أوجب التخيير في مثل ذلك، فإنه يقول: إذا اختار المجتهد أحد القولين من غير
رجحان تبين له في القول الذي اختاره، ثم اختصم إليه في مثلها، واستفتي فيها، وحاله
في الاجتهاد على ما كان عليه من رجحان حصل لاحد القولين، فإنه يقول: إنه يمضي
على الحكم الأول، ولا يعدل عنه إلى غيره إلا برجحان يبين له في القول الآخر. قال: لأنه
لو جاز (له) ذلك لجاز له إذا استفتاه رجلان يفتي أحدهما بأحد القولين، ويفتي الآخر
بالقول الآخر في الحال، وهذا مستنكر عند العقلاء. وأهل التمييز يعدونه ضربا من التنقل في
الرأي، وضعف العزيمة. ومضيه على رأي واحد وملازمته المنهاج الواحد حسن في آراء
العقلاء من التنقل في الأمور من غير سبب يوجب التنقل، فقد صار للقول المحكوم به
بدءا هذا الضرب من الرجحان، كان أولى بالثبات عنده.
ولا يصح الإلزام على علة منصوصة لحكم حكما آخر غير ما جعل ذلك المعنى
علة له.
نظير ذلك: أن من جعل علة تحريم التفاضل كيلا في الجنس، لا يجوز أن يلزم على
هذه العلة إيجاب العشر في كل مكيل جنس.
ومن جعل علة نقض الطهارة (خروج النجاسة، فغير جائز أن يلزم عليها وجوب
الغسل، لأنه جعل الحكم المنصوص على العلة نقض الطهارة) ووجوب الطهارة حكم
(آخر)، (غير) نقضها، بل لو جعل خروج النجاسة علة لإيجاب الطهارة (على
212

الإطلاق) لزمه إيجاب الغسل بخروج النجاسة، لأنه جعل هذا المعنى علة لإيجاب
الطهارة على الإطلاق، والغسل طهارة، ويلزمه إيجابه بتلك العلة.
وإذا كانت الواحدة الزيادة على العشرين والمائة من الإبل عفوا، وجعلنا كونها
عفوا علة لامتناع تغير الفرض بها، لم يصح أن يلزم عليها أن الاخوة من الام، قد
يحجبون ولا يرثون، لأنا إنما جعلنا كون الواحدة عفوا لا شئ فيها علة لتغير فرض الزكاة
في الجملة، وهذه العلة التي ذكرناها غير موجودة فيما ألزم، ولا حكمها. فهذا إلزام ساقط
لا يلجأ إليه إلا جاهل بالنظر.
وكثير من إلزامات المخالفين تجري هذا المجرى.
وإنما الذي نحتاج إليه في اسقاطها تحقيق المعنى، فإنها متى حققت المعنى فيها
اضمحلت، وإذا اقتضت علة لحكم مقيدة بوصف أو شرط لم يلزم عليها إيجاب ذلك
الحكم مطلقا، غير مقيد بذلك الوصف أو الشرط.
نظير ذلك: أنا إذا جعلنا بيعه لما ليس عنده علة لفساد بيع ما في الذمة حالا، لم يلزمنا
عليه السلم المؤجل، لأنه تغير الوصف الذي جعل العلة له، وإذا جعلنا خروج النجاسة
علة لإيجاب نقض الوضوء، لم يلزمنا عليها إيجاب الغسل، وكذلك هذا فيما أشبهه.
وكان أبو الحسن يقول: إذا جعلنا وقوع الاكل على وجه النسيان علة في سقوط
القضاء عن الصائم لم يلزمنا عليه قياس المتكلم ناسيا في الصلاة، ولا الأكل ناسيا فيها،
وذلك لأن الحكم ههنا سقوط قضاء الصوم، والعلة وقوع الاكل على وجه النسيان.
قال: وكذلك كل علة نصبناها لحكم، فإنه (لا يلزمنا عليها حكم من أصل آخر
مخالف له في موضوعه.
213

ألا ترى: أنه إذا أفسدنا بيعا لان ثمنه مجهول) (لم يلزمنا عليه) إفساد النكاح
لجهالة المهر.
وكذلك إذا أبطلنا بيع المعدوم لأنه معدوم، لم يلزمنا عليه إبطال الإجارة وإن كانت
المنافع معدومة، وإذا أسقطنا عن الحائض قضاء الصلاة لأجل الحيض، لم يلزمنا عليها
إسقاط قضاء الصوم.
214

الباب الخامس والتسعون
في
ذكر وجوه الاستدلال بالأصول على أحكام الحوادث
215

باب
ذكر وجوه الاستدلال بالأصول على أحكام الحوادث
قال أبو بكر: قد تقدم القول منا في تقسيم الوجوه التي منها تستدرك أحكام
الحوادث. فقلنا: إنها تستدرك من وجهين:
أحدهما: ما كان لله عز وجل عليه دليل قائم، فالحق فيه واحد من أقاويل المختلفين
فيه.
والآخر: ما طريقة الاجتهاد وليس عليه دليل قائم يفضي بالمجتهد إلى العلم بحقيقة
المطلوب. وإن هذا الوجه ينقسم إلى أقسام:
أحدها: القياس.
والآخر: الاجتهاد على غالب الظن، من غير رد فرع إلى أصل، كما قلنا في تحري
القبلة وتدبير الحروب، ونفقات الزوجات، وتقدير المتعة، ومهر المثل، ونحوها.
والثالث: الاستدلال على الحكم بالأصول، وقد بينا معاني الوجهين الأولين
وكيفيتهما.
ونذكر الان الوجه الثالث، وطرقه، ووجوهه مختلفة، إلا أنا نذكر منها ما يستدل به
على جملته على حسب ما كان أبو الحسن يعتبره.
فمنها: قوله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) فدل على أن
الأصل هو الحيض، لأنه نقلها إلى الشهور عند عدمه، كقوله تعالى: (فلم تجدوا ماء
فتيمموا)، وكقوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم)
217

فدل على أن أهل الحرب يملكون علينا ما يغلبون عليه من أموالنا، لأنه وصفهم بالفقر بعد
إخباره بكونهم ذوي أموال قبل إخراج المشركين إياهم من ديارهم وأموالهم وغلبتهم عليها،
لأنها لو كانت باقية في ملكهم بعد غلبتهم عليها لما كانوا فقراء.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من دار؟) حين قيل له: ألا تنزل
دارك؟
وكان أبو الحسن يحتج لنجاسة سؤر الكلب، بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أمر بغسل الإناء من
سؤره، وليس في الأصول غسل الأواني تعبدا من غير نجاسة، فوجب حمله على ما في
الأصول، إذ ليس هو في نفسه أصلا.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب يغسل سبعا) قد دل على
النجاسة، لان اسم التطهر في الأصول لا يطلق (في الأواني إلا من) النجاسة.
ومن دلائل الأصول: ما كان يقول: في أن كفر الأمة الكتابية لو كان مانعا من نكاحها
لمنع وطأها بملك اليمين، كالوثنية، والمجوسية، والمرتدة، إذ لم يكن تحريم وطئها من جهة
العدد، وإنما هو لمعنى (في) نفس الموطوءة.
ونحو: إذا ثبت حكم لفعل من الافعال ألحق به ما كان في بابه، واعتبر به دون
غيره، كما نقول: لما ثبت أن مدرك الامام في أكثر أفعال الركعة مدرك للركعة، وجاز له
الاعتداد بها، والبناء عليها، ومدركه في أقل أفعالها غير مدرك لها، دل ذلك على أن الامام
إذا نفر عنه الناس يوم الجمعة بعد التحريمة: أن صلاته تفسد عند أبي حنيفة.
218

وإن نفروا عنه بعد ما أتى بسجدتين عليها: أنها ماضية، وإن أتى بأكثر أفعالها.
كما أن مدرك الامام في أكثر أفعال الركعة يصح له الاعتداد بها.
كما قالوا فيمن صلى الظهر خمسا إذا عقدها بسجدة: إنه يعتد بها، ويبني عليها
السادسة، ولم يكن للأقل حكم في هذه الوجوه.
فجعلوا الحكم لأكثر أفعال الركعة، استدلالا بمدرك الامام في أكثر أفعالها.
وجعلوا الأقل كالكل في هذا الحكم خاصة دون غيره، لأنه معلوم أن أكثر ركعات
الصلاة لا تقوم مقام الكل في باب الجواز.
وإنما استدلوا بما ذكرنا على حكم الاعتداد بالركعة في جواز البناء عليها على الوجه
الذي ذكرنا، وجعلوا أكثر الطواف قائما مقام الكل في باب الإجزاء، استدلالا بقيام أكثر
أركان الحج مقام جميعها في باب الإجزاء، ولم يردوه إلى أصل، ولا ردوا الصلاة إليه في هذا
الوجه، لان حكم كل شئ من ذلك أن يستدل عليه بما هو من بابه دون غيره.
ونحو قولنا: إن العدة تمنع من الجمع ما يمنعه نفس النكاح، بدلالة أن المرأة ممنوعة
من الجمع بين الزوجين، كما أن الرجل ممنوع من الجمع بين الأختين، ثم كان حال عدتها في
باب المنع من جمع زوج آخر إليه، كحال بقاء العقد، فوجب أن يكون حال عدتها في باب
منع الزوج تزويج أختها بمنزلة حال بقاء عقدها.
فهذا ونظائره ضروب من الاستدلال بالأصول على الاحكام من غير ذكر علة، ولا
قياس يكتفى فيه بذكر وجه الدلالة من الأصل المتفق عليه على الحكم، وهو ضرب من
ضروب الاجتهاد في الاستدلال على حكم الحادثة بالأصول.
وقد يمكن في أكثرها أن يحمل على وجه القياس بعلة يجمع بينها وبين الأصل،
ويكون أقطع للشغب.
والاكتفاء بما ذكرناه من وجه الدلالة سائغ، وإن خالفك فيه مخالف طالبك بحمله
على محض القياس، كان لك أن (لا) تجيبه إليه، وتقول: إن هذا عندي جهة من جهات
219

الاستدلال على الحكم (وضرب من) ضروب الاجتهاد، فإن خالفتني فيه فليكن الكلام
في الأصل، ويكون في الاشتغال بتصحيحه خروج عن المسألة التي نحن فيها.
وهذا الذي قلناه، إنما هو فيما ذكرناه من دلائل الأصول، فأما ما قدمنا ذكره في صدر
هذا الباب من دلائل الخطاب، فإنه ظاهر واضح، لا يحتاج معه إلى قياس ولا غيره، وبالله
التوفيق.
220

الباب السادس والتسعون
في
القول في الاستحسان
221

باب
القول في الاستحسان
قال أبو بكر: تكلم قوم من مخالفينا في إبطال الاستحسان حين ظنوا أن
الاستحسان حكم مما يشتهيه الإنسان ويهواه، أو يلذه، ولم يعرفوا معنى قولنا في إطلاق لفظ
الاستحسان.
223

فاحتج بعضهم في إبطاله بقول الله تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)
وروي: أنه الذي لا يؤمر ولا ينهى، قال: فهذا يدل على أنه ليس لأحد من خلق الله
تعالى أن يقول بما يستحسن، فإن القول (بما يستحسنه شئ يحدثه لا على مثال معنى
224

سبق) فهذا يدل على أنه لم يعرف معنى ما أطلقه أصحابنا من هذا اللفظ، فتعسفوا
القول فيه من غير دراية.
225

وقد حدثني بعض قضاة مدينة السلام، ممن كان يلي القضاء بها في أيام المتقي لله، قال
سمعت إبراهيم بن جابر، وكان إبراهيم هذا رجلا كثير العلم، قد صنف كتبا مستفيضة
في اختلاف الفقهاء، وكان يقول بنفي القياس، بعد أن كان يقول بإثباته.
(قال فقلت) له: ما الذي أوجب عندك القول بنفي القياس بعد ما كنت قائلا بإثباته؟
فقال: قرأت إبطال الاستحسان للشافعي فرأيته صحيحا في معناه، إلا أن جميع ما احتج
به في إبطال الاستحسان هو بعينه يبطل القياس، فصح به عندي بطلانه.
وجميع ما يقول فيه أصحابنا بالاستحسان فإنهم إنما قالوه مقرونا (بدلائله وحججه)
لا على جهة الشهوة واتباع الهوى، ووجوه دلائل الاستحسان موجودة في الكتب التي
عملناها في شرح كتب أصحابنا، ونحن نذكر ههنا جملة، نفضي بالنظر فيها إلى معرفة
حقيقة قولهم في هذا الباب بعد تقدمه بالقول في جواز إطلاق لفظ الاستحسان.
226

فنقول: لما كان (ما حسنه الله تعالى) بإقامته الدلائل على حسنه مستحسنا، جاز لنا
إطلاق لفظ الاستحسان فيما قامت الدلالة بصحته.
وقد ندب الله تعالى إلى فعاله، وأوجب الهداية لفاعله، فقال عز من قائل: " فبشر
عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك، هم أولوا
الألباب ".
وروي عن ابن مسعود، وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (ما رآه المؤمنون
حسنا فهو عند الله تعالى حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله تعالى سئ) فإذا كنا
قد وجدنا هذا اللفظ أصلا في الكتاب والسنة لم يمنع إطلاقه بعض ما قامت عليه الدلالة
227

بصحته على جهة تعريف (المعنى) وإفهام هو المراد.
فإن قال قائل: إن كان الاستحسان اسما لما قامت الدلالة على صحته، وثبتت حجته
فواجب على هذه القضية أن يسمى كل ما قامت دلالة صحته استحسانا، حتى يسمى
النص والاجماع والقياس وجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم استحسانا.
قيل له: إن جميع ما حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم به فهو حسن، وكلما قامت دلالة صحته
من الاحكام مستحسن لا محالة، لا يجوز غيره، إلا أنه يمنع أن يكون إطلاق اللفظ
مقصورا في بعض الأحوال على بعض ذلك، دون بعض الاختصاص، كل معنى سواه
بأسماء معروفة.
فلما احتاجوا فيما عرفوه من من هذه المعاني من هذه الجهة إلى اسم يفيدون به
السامع المعنى الذي اختاروا له هذا اللفظ دون غيره، مع ما وجدوا له من الأصل
في الكتاب والسنة.
وقد سمى أصحابنا عموم الكتاب والسنة في بعض الأحوال استحسانا وكذلك الإجماع
والقياس، وسنبينه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وليست الأسماء محظورة على أحد عند الحاجة إلى الإفهام بل لا يستغني أهل كل علم
وصناعة إذا اختصوا بمعرفة دقيق ذلك العلم ولطيفه وغامضه دون غيرهم، وأرادوا
الإبانة عنها وإفهام السامعين لها (من) أن يشتقوا لها أسماء، ويطلقوها عليها على جهة
الإفادة والإفهام، كما وضع النحويون أسماء لمعاني عرفوها وأرادوا إفهامها غيرهم، فقالوا:
228

الحال، والظرف، التمييز، ونحو ذلك، وكما قالوا في العروض: البسيط، والمديد،
والكامل، والوافر.
وكما أطلق المتكلمون اسم العرض، والجوهر، ونحو ذلك على المعاني التي عرفوها وأرادوا
العبارة عنها، فلم يكن ذلك محظورا عليهم، إذ كان الغرض فيه الإبانة والإفهام للمعنى
بأقرب الأسماء مشاكلة وأوضحها دلالة عليه.
ثم ليس يخلو لعائب الاستحسان من أن ينازعنا في اللفظ أو في المعنى.
فإن نازعنا في اللفظ، مسلم له، فليعبر هو بما شاء، على أنه ليس للمنازعة في
اللفظ وجه، لان كل (واحد أن يعبر عما عقله من المعنى) بما شاء من الألفاظ، لا سيما
بلفظ يطلق معناه في الشرع واللغة.
وقد يعبر الانسان عن المعنى بالعربية تارة وبالفارسية أخرى فلا ننكره.
وقد يطلق الفقهاء لفظ الاستحسان في كثير من الأشياء، وروي عن إياس بن معاوية
أنه قال: (قيسوا القضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا) وأنه قال: (ما وجدت
القضاء إلا ما يستحسن الناس) ولفظ الاستحسان موجود في كتب مالك بن أنس.
وقال الشافعي: استحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهما، فأطلق أيضا لفظ
الاستحسان.
واستعمل جميع الفقهاء لفظ الاستحسان، فسقط بما قلنا المنازعة في إطلاق الاسم، أو
منعه.
229

وإن نازعنا في المعنى، فإنما لم يسلم خصمنا تسليم المعنى لنا بغير دلالة، بل تضمن
لجميع المعاني التي يذكرها مما يتضمنه لفظ الاستحسان عند أصحابنا: إقامة الدلالة
على صحته وإثباته بحجة (وبيان وجهة).
230

الباب السابع والتسعون
في
القول في ماهية الاستحسان وبيان وجوهه
231

باب
القول في ماهية الاستحسان وبيان وجوهه
قال أبو بكر: لفظ الاستحسان يكتنفه معنيان.
أحدهما: استعمال الاجتهاد وغلبة الرأي في إثبات المقادير الموكولة إلى اجتهادنا وآرائنا،
نحو تقدير متعة المطلقات. قال الله تعالى: " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره
متاعا بالمعروف حقا على المحسنين "، فأوجبها على مقدار يسار الرجل وإعساره، ومقدارها
غير معلوم إلا من جهة أغلب الرأي وأكبر الظن.
ونظيرها أيضا: نفقات الزوجات قال الله تعالى: " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف، ولا سبيل إلى إثبات المعروف من ذلك إلا من طريق الاجتهاد.
وقال تعالى: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل
منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ".
ثم لا يخلوا المثل المراد بالآية من أن يكون القيمة أو النظير من النعم على حسب اختلاف
الفقهاء (فيه)، وأيهما كان فهو موكول إلى اجتهاد العدلين، وكذلك أروش الجنايات التي
لم يرد في مقاديرها نص، ولا اتفاق، ولا تعرف إلا من طريق الاجتهاد.
وقال الله تعالى: " ممن ترضون من الشهداء "، وقال تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل
منكم " وتعديلهما والحكم بتزكيتهما غير ممكن إلا من طريق الاجتهاد.
233

(ونظائرها) في الأصول أكثر من أن تحصى، وإنما ذكرنا منها (مثالا) يستدل به على
نظائره.
فيمسي أصحابنا هذا الضرب من الاجتهاد استحسانا، وليس في هذا المعنى خلاف
بين الفقهاء، ولا يمكن أحد منهم القول بخلافه.
وأما المعنى الذي قسمنا عليه الكلام بدءا من ضربي الاستحسان: فهو ترك القياس
إلى ما هو أولى منه وذلك على وجهين:
أحدهما: أن يكون فرع يتجاذبه أصلان يأخذ الشبه من كل واحد منهما، فيجب إلحاقه
بأحدهما دون الآخر، لدلالة توجبه، فسموا ذلك استحسانا (إذ لو) لم يعرض للوجه الثاني
لكان له شبه من الآخر يجب إلحاقه به.
وأغمض ما يجئ من مسائل الفروع، وأدقها مسلكا: ما كان من هذا القبيل،
ووقف هذا الموقف، لأنه محتاج في ترجيح أحد الوجهين على الآخر إلى إنعام النظر،
واستعمال الفكر والروية في إلحاقه بأحد الأصلين دون الآخر.
وكان أبو الحسن يقول: إن لفظ الاستحسان عندهم ينبئ عن ترك حكم إلى حكم هو
أولى منه، لولاه لكان الحكم الأول ثابتا.
وأما الوجه الثاني منهما: فهو تخصيص الحكم مع وجود العلة.
وفيه خلاف بين الفقهاء سنذكره بعد فراغنا من بيان وجوه الضرب الأول مما قسمنا
عليه الكلام آنفا، فنقول: إن نظير الفرع الذي يتجاذبه أصلان ملحق بأحدهما دون
الآخر، ما قال أصحابنا في الرجل يقول لامرأته: إذا حضت فأنت طالق، فتقول: قد
حضت، أن القياس، أن لا تصدق حتى يعلم وجود الحيض منها، أو يصدقها الزوج، إلا
أنا نستحسن فنوقع الطلاق.
قال محمد: وقد يدخل في هذا الاستحسان بعض القياس.
قال أبو بكر: أما قوله إن القياس أن لا تصدق، فإن وجهه أنه قد ثبت بأصل متفق
234

عليه، أن المرأة لا تصدق في مثله في إيقاع الطلاق عليها، وهو الرجل يقول لامرأته: إن
دخلت الدار فأنت طالق، وإن كلمت زيدا فأنت طالق، فقالت بعد ذلك: قد دخلتها بعد
اليمين، أو كلمت زيدا، وكذبها الزوج، أنها لا تصدق، ولا تطلق، حتى يعلم ذلك
ببينة أو بإقرار الزوج، فكان قياس هذا الأصل يوجب أن لا تصدق في وجود الحيض
الذي جعله الزوج شرطا لإيقاع الطلاق.
وكما أنه لو قال لها: إذا حضت، فإن عبدي حر، أو قال: فامرأتي الأخرى طالق،
فقالت: قد خصت وكذبها لم يعتق العبد، ولم تطلق المرأة الأخرى، فقد أخذت هذه
الحادثة شبها من هذه الأصول التي ذكرنا، فلو لم يكن لهذه الحادثة غير هذه الأصول لكان
سبيلها أن تلحق بها، ويحكم لها بحكمها، إلا أنه قد عرض لها أصل آخر منع إلحاقها
بالأصل الذي ذكرنا، وأوجب إلحاقها بالأصل الثاني دونه، وهو أن الله تعالى لما قال: " ولا
يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " وروي عن السلف: أنه أراد: من الحيض
والحبل.
وعن أبي بن كعب أنه قال: " من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها " دل وعظه إياها
235

ونهيه لها عن الكتمان، على قبول قولها في براءة رحمها من الحبل، وشغلها به، ووجود الحيض
وعدمه، كما قال تعالى في الذي عليه الدين: " فليؤد الذي ائتمن أمانته وليتق الله ربه ".
" ولا يبخس منه شيئا " فوعظه ونهاه عن البخس والنقصان، علم أن المرجع إلى قوله في
مقدار الدين.
فصارت الآية التي قدمنا أصلا في قبول قول المرأة، إذا قالت: أنا حائض، وتحريم
وطئها في هذه الحال، فإنها إذا قالت: قد طهرت، حل لزوجها قربها.
وكذلك إذا قالت وهي معتدة قد انقضت عدتي، صدقت في ذلك، وانقطعت رجعة
الزوج عنها، وجعل قولها في ذلك كالبينة في باب إسقاط حق الزوج عنها وانقطاع الزوجية
بينهما.
وكان المعنى في ذلك: أن انقضاء العدة بالحيض معنى يخصها، ولا يعلم إلا من
جهتها.
فيوجب على ذلك إذا قال الزوج إذا حضت فأنت طالق، فقالت: قد حضت أن
تصدق في باب وقوع الطلاق عليها، كما صدقت في انقضاء العدة مع إنكار الزوج، لان
ذلك معنى يخصها، أعني: (أن) الطلاق والحيض لا يعلم وجوده إلا من جهتها، ولا يطلع
عليها غيرها.
ففارق أمر الحيض إذا علق به الطلاق الدخول، والكلام، وسائر الشروط، لان هذه
معان قد يمكن الوصول إلى معرفتها من جهة غيرها، ولأجل ذلك (قالوا): إنها لا
تصدق على وجود الحيض إذا علق (به طلاق غيرها، أو علق) به عتق العبد، لأنه إنما
جعل (قولها) كالبينة في الاحكام التي تخصها دون غيرها.
236

ألا ترى: أنهم قالوا: إن الزوج لو قال: قد أخبرتني أن عدتها قد انقضت، وأنا أريد
أن أتزوج (أختها) كان له ذلك، ولا تصدق هي على بقاء العدة في حق غيرها، وتكون
عدتها باقية في حقها، ولا تسقط نفقتها، فصار كقولها: قد حضت (وله) حكمان.
أحدهما: فيما يخصها ويتعلق بها، وهو طلاقها وانقضاء عدتها، وما جرى مجرى
ذلك، فجعل قولها فيه كالبينة.
والآخر: في طلاق غيرها، أو (في) عتق العبد، فصارت في هذا الحال شاهدة
كإخبارها بدخول الدار، وكلام زيد، إذا علق به العتق أو الطلاق.
فإن قال قائل: يلزمك إذا جعلت قولها كالبينة من وجه، وصدقتها فيه في باب وقوع
الطلاق عليها، أن يكون ذلك حكمه في سائر الوجوه، حتى تصدق في وقوع الطلاق
والعتاق على غيرها. فكيف يجوز أن يكون قولها كالبينة في حال، ولا يكون له هذا الحكم في
وجه آخر.
قيل له: لا يمتنع أن يكون لقولها هذان الحكمان من الوجهين الذين ذكرنا.
ولهذا نظائر كثيرة في الأصول: منها أن رجلا وامرأتين لو شهدوا على رجل
بالسرقة، حكمنا بشهادتهم في باب استحقاق المال، ولم نحكم بها في إيجاب القطع، وامتناع
جواز الحكم بها في القطع لم يمنع إيجاب الحكم بها في المال.
ولو أن رجلا ذكر أن امرأته هذه أخته من أبيه، أو أمه، وهي مجهولة النسب، وثبت
على ذلك فرقنا بينهما، ولم نحكم بالنسب، فأثبتنا حكم إقراره من وجه وأبطلناه من وجه
آخر، ونظائر ذلك كثيرة في الأصول.
وأما معنى قول محمد الذي حكيناه في صدر المسألة: أن في هذا الاستحسان بعض
237

القياس فإنما عنى به إلحاقه بأصل آخر وقياسه عليه، دون الحلف بدخول الدار، فسمي
الاستحسان قياسا في هذا الوجه، وهو لعمري كذلك فيما بيناه.
ومن نظيره أيضا: المشي في الصلاة أنه معلوم أن القليل منه معفو عنه غير مفسد
لها. ألا ترى: أن أبا بكرة ركع دون الصف ثم مشى حتى صار في الصف فقال (له)
النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصا ولا تعد)، ولم يأمره باستئناف الصلاة.
وروي عن ابن عباس (أنه قام عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فأداره إلى يمينه) ولم يأمره
باستئنافها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصلي فمرت بهيمة فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى لصق
بالحائط فمرت البهيمة خلفه)، فكان المشي اليسير معفو عنه.
ومعلوم (مع ذلك): أنه لو مشى في صلاته ميلا أو نحوه فسدت صلاته، ولو جعل
كل خطوة منها بحكم نظيرها مما لا تقدم، لوجب أن لا تفسد صلاته، وإن مشى ميلا
قياسا على المشي اليسير، إلا أنه لما كان هنا أصل آخر قد اتفق المسلمون عليه، وهو المشي
الكثير الذي ليس من عمل الصلاة، أنه يفسدها، جعلوا المشي ما دام في المسجد ولم يستدبر
القبلة في حكم الخطوة والسير، وأفسدوا الصلاة بالخروج من المسجد، لان ذلك يشبه سائر الأفعال
التي ليست من الصلاة.
ومن نظائر ذلك: مسألة يشنع بها المخالفون على أصحابنا، حين قالوا في قوم نقبوا
بيتا ودخلوه وسرقوا متاعا ولي بعضهم إخراجه دون الباقين: إن القياس أن يقطع الذي ولي
إخراجه دون من سواه، ولكنا نستحسن فنقطعهم جميعا.
فيشنعوا عليهم حين استحسنوا إيجاب القطع، وتركوا القياس فيه، ومن شأن الحدود
درؤها بالشبهات.
وذهب عليهم: أنه لا شبهة في الحد مع قيام الدلالة على إيجابه.
238

وأما وجه استحسانهم في هذه المسألة: إنما هو قياسا على أصل آخر، وهذا هو
الفرع الذي يتجاذبه أصلان. وأحدهما أولى به من الآخر.
فأما الأصل الذي سماه قياسا: فهو أنه لا خلاف أن قوما لو اجتمعوا فأكرهوا امرأة
حتى زنا بها رجل منهم، أن الحد على الذي ولي الزنا منهم، دون من أعان عليه، فكان
القياس على ذلك أن يكون القطع على من ولى إخراج المتاع، دون من ظاهر فيه وأعان
عليه، فهذا هو القياس الذي ذكر أنه تركه.
ثم وجدوا أصلا آخر يقتضي إلحاق السارق به دون غيرهم، وهم قطاع الطرق
الذين يتعاونون على قطع الطريق، وقتل النفوس، وأخذ الأموال على جهة الامتناع
والتظاهر، ثم لم يختلف حكم من ولي القتل، وأخذ المال، وحكم من ظاهر، وأعان عليه،
واشتركوا جميعا في استحقاق الأحكام المذكورة في قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ". الآية، لأجل اشتراكهم في السبب الذي به توصلوا
إلى أخذ المال، وقتل النفوس، وهو الخروج على جهة الامتناع والمحاربة.
كذلك السارق لما اشترك الجميع في السبب الذي به تعلق وجوب القطع وهو انتهاك
الحرز وأخذ المال على وجه الاستسرار، وجب ألا يختلف حكم من ولي إخراج المتاع، وحكم
من ظاهر فيه، وأعان عليه، فكان إلحاقه بهذا الأصل الذي فيه أخذ المال على جهة
الاشتراك في السبب والتظاهر عليه أولى منه بالزاني.
ومن نظائر ذلك أيضا: أن جيشا من المسلمين لو دخلوا دار الحرب وغنموا غنائم
أنهم يستحقون السهمان: من قاتل منهم ومن أعان، فاستووا جميعا في الحكم عند
اشتراكهم في السبب الذي به حصلت الغنائم، وهو المنعة والمظاهرة على القتال، فصارت
مسألة السرقة بهذين الأصلين أشبه منها بمسألة الزنا التي إنما يتعلق الحكم فيها بوجود الفعل
دون سبب آخر غيره، ويحصل فيه الاشتراك.
239

وليس الغرض في هذا الموضع الاحتجاج للمسألة، وإنما أردنا أن نذكر مثالا لمسائل
الاستحسان التي تجري هذا المجرى ليكون غيره فيما سواه، ولذلك نظائر كثيرة تفوت
الإحصاء. (و) فيما ذكرنا من هذا النوع كفاية.
وربما جاءت مسائل يذكرون فيها القياس (و) الاستحسان، ثم يقولون:
وبالقياس نأخذ فيتركون الاستحسان.
وذلك نحو قولهم - فيمن أسلم إلى رجل في ثوب موصوف، ثم اختلفا - فقال رب
السلم: شرطت طوله عشرة أذرع، وقال المسلم إليه، شرطت طوله خمسة أذرع، أن القياس
أن يتحالفها ويترادا السلم، والاستحسان أن يكون القول قول المسلم إليه: وبالقياس
نأخذ.
فذكروا القياس والاستحسان جميعا، ثم تركوا الاستحسان وأخذوا بالقياس.
ووجه القياس فيه: أنهما لو اختلفا في جنس الثوب، فقال أحدهما: مروي وقال
الآخر: هروي.
أو اختلفا في صفته، فقال أحدهما: جيد وقال الآخر: ردئ، أنهما يتحالفان،
ويترادان، لان السلم عقد على صفة، واختلافهما في الجنس اختلاف في الصفة.
وكذلك اختلافهما في الجودة والرداءة، وكأن ذلك اختلافا في نفس المعقود عليه، إذ
كان السلم عقدا على صفة، فوجب على هذا الأصل أن يكون اختلافهما في مقدار الذرع
240

المشروط اختلافا في نفس المعقود عليه، إذ كان الذرع صفة. والسلم عقد على صفة،
فوجب بالتحالف والتراد من أجل ذلك، وهذا هو القياس الذي قال: به نأخذ.
وأما الاستحسان الذي ذكره: فإن وجهه أن رجلا لو اشترى من رجل ثوبا بعينه ثم
اختلفا فيما شرط من مقدار ذرعه، وقال البائع: شرط خمسة أذرع، وقال المشتري: شرط
عشرة أذرع، أن القول قول البائع ولا يتحالفان، ولا يترادان فكان هذا وجه الاستحسان،
وهو ضرب من القياس (إلا أن القياس الذي أخذ به كان أولى من هذا القياس) الذي
سماه استحسانا، وكان إلحاق مسألة السلم باختلافها في الجودة والجنس، أولى منها
بمسألة اختلافهما في ذرع الثوب المعين، وذلك لان الذرع لما كان صفة، وكانت صفة
الأعيان مما لا يتعلق عليها العقد بدلالة أن من اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع، فوجده
أقل كان بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك، ولم يكن له أن ينقض من
الثمن بحساب (نقصان الذرع، ولو وجده أكثر كان جميعه له، ولم يرد عليه من الثمن
بحسبان) زيادة الذرع. فعلمت أن الذرع في الأعيان لا يتعلق عليه العقد، فلم يكن
اختلافهما في الذرع اختلافا في نفس المعقود عليه، فلذلك لم يجب فيه التحالف والتراد.
وأما السلم: فلما كان عقد على صفة، وكان الاختلاف في الذرع اختلافا في الصفة
صار اختلافهما على هذا الوجه اختلافا في نفس المعقود عليه، فكان بمنزلة اختلافهما في
الجنس، (و) في الجودة، والرداءة، وكان إلحاقهما بهذه أولى منها باختلاف في ذرع
العين.
ألا ترى: أن اختلافهما في شرط جنس العين، أو في شرط جودته ورداءته، لا
توجب التحالف، وإنما تجعل القول قول البائع، وأن الاختلاف في السلم على هذا الوجه
241

يوجب التحالف إذ كان عقد على صفة، وأن المتبايعين متى اختلفا في نفس المعقود عليه،
وجب التحالف، والتراد، إذ كان الفسخ ممكنا فيه.
ومما تركوا فيه الاستحسان وأخذوا بالقياس: قولهم - فيمن قرأ سجدة من آخر
السورة، فركع بها -: إن ركعته تجزيه من سجدة التلاوة في القياس، وفي الاستحسان لا
تجزيه.
قالوا: وبالقياس نأخذ، فذكروا القياس والاستحسان، (وتركوا الاستحسان
للقياس، ولهم مسائل من نظائر ذلك، يتركون منها الاستحسان) للقياس وإنما الغرض
في مثلها تنبيه المتعلم على أن للحادثة شبها بأصل آخر، قد كان يجوز إلحاقها به إلا أن إلحاقها
بالقياس الذي وصفناه أولى.
وربما ذكروا القياس على الاستحسان فيتركونه، ويرجعون إلى قياس الأصل،
ويسمون قياس الأصل استحسانا.
وذلك نحو قولهم - فيمن احتلم في الصلاة -: إن القياس أن يغتسل ويبنى، إلا
أنه ترك القياس واستحسن ان يغتسل، ويستقبل.
والقياس الذي ذكره: هو قياس الحدث الذي ورد فيه الامر بأن قاس على الأثر.
وجواز البناء مع الحدث استحسان تركوا فيه القياس للأثر، فلو قاس على الأثر (لجاز)
البناء مع الجناية.
إلا أنه ترك هذا القياس، لان الأصل أن الحديث يمنع البناء.
وإنما تركوا (فيه القياس) للأثر، والأثر إنما ورد في الحدث دون الجناية، فسلموا
للأثر ما ورد فيه، وحملوا الباقي على قياس الأصل، فسمى القياس الأصلي استحسانا لما
ترك به قياسا آخر قد كان له وجه لولا ما وصفنا.
242

قال أبو بكر: قد بينا وجه الاستحسان الذي هو إلحاق الفرع بأحد النظيرين اللذين
يأخذ الشبه منهما، وهذا الضرب ليس فيه تخصيص الحكم مع وجود العلة، ولا تركها
لمعنى أوجب ذلك لها، وإنما هو قياس الحادثة على أحد الأصلين دون الآخر.
وبقي علينا بيان وجوه الضرب الآخر من الاستحسان، الذي هو تخصيص الحكم مع
وجود العلة، ثم الدلالة على صحة القول به، فنقول - وبالله التوفيق -:
إن الاستحسان الذي هو تخصيص الحكم مع وجود العلة، أنا متى أوجبنا حكما لمعنى
من المعاني قد قامت الدلالة على كونه علما للحكم، وسيمناه علة له، فإن إجراء ذلك
الحكم على المعنى واجب حيثما وجد، إلا موضعا تقوم الدلالة فيه على أن الحكم غير
مستعمل فيه، مع وجود العلة التي من أجلها وجب الحكم في غيره، فسموا ترك الحكم
مع وجود العلة استحسانا.
وقد يترك (حكم) العلة تارة بالنص، وتارة بالإجماع، وتارة بقياس آخر يوجب في
الحادثة حكما سواه، وإلحاقها بأصل غيره.
243

ونظير تركه بالنص: ما قال أصحابنا في الصغير يموت عن امرأته وهي حامل: ذكر
محمد بن الحسن: أن القياس أن تكون عدتها أربعة أشهر وعشرا، لان الحمل من غير
الزوج، إلا أنه ترك القياس، واستحسن أن يجعل عدتها وضع الحمل، لقوله تعالى:
" وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ".
قال أبو بكر: فسمى ترك القياس للعموم استحسانا.
وإن قال قائل: ما يصح لك ما ادعيت في ذلك من ترك القياس للعموم، لان
هذا العموم لم يرد في المتوفى عنها زوجها، إنما ورد في المطلقات، قال الله تعالى: " يا أيها النبي
إذا طلقتم النساء فطلقوهن (لعدتهن)، إلى قوله تعالى: " واللائي يئسن من المحيض من
نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن. وأولات الأحمال أجلهن أن
يضعن حملهن "، ولم نجد للمتوفى عنها زوجها ذكرا في الآية، فيترك القياس من أجلها.
245

قيل له: ليس الامر كما ظننت، لان قوله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن (أن
يضعن) حملهن " كلام مكتف بنفسه ينتظم المطلقة والمتوفى عنها زوجها، (و) إن كان
ابتداء الخطاب في المطلقات.
وإذا كان ذلك كذلك وجب استعمال (حكم) العموم في جميع ما انتظمه
اللفظ.
ويدل على ذلك: أن الصحابة لما اختلفت في عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت
حاملا، اعتبر جميعهم وضع الحمل في انقضاء العدة.
فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: عدتها أبعد الأجلين، وقال عبد الله بن
مسعود: عدتها أن تضع حملها، فصح بذلك اعتبار عموم آية الحمل في ترك القياس فيما
وصفنا.
ومما خصوه من جملة القياس بالأثر وتركوا فيه حكم العلة: قولهم في الاكل ناسيا في
رمضان: إن القياس يقضي، إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر.
ووجه القياس: أنهم وجدوا سائر العبادات لا يختلف حكمها إذا تركت على جهة
السهو، أو العمد.
ألا ترى أن الاكل في الصلاة لا يختلف حكمه في حال السهو والعمد، وكذلك
الجماع، والحلق، واللبس في الاحرام، وكما لا تختلف نية الصوم في تركها سهوا أو عمدا،
فكان القياس على هذا أن لا يختلف حكم السهو والعمد في الأكل والشرب في نهار شهر
رمضان، من حيث كان تركه من فروضه، إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر.
ونظيره أيضا: القهقهة في الصلاة، كان القياس أن لا وضوء فيها، (كما لا وضوء
فيها) في غير الصلاة، لان كل ما كان حدثا لا يختلف حكمه فيما يتعلق به من نقض
الطهارة في حال وجوده في الصلاة أو غيرها، إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر، إذ لاحظ
للنظر مع الأثر.
246

ونظيره أيضا: مذهب أبي حنيفة في إجازته الوضوء بنبيذ التمر، وكان القياس عنده
أن لا يجوز الوضوء به، لزوال اسم الماء المطلق عنه، كما لا يجوز سائر الأشربة، كنبيذ
الزبيب، وشراب العسل، والخل، والمرق.
ألا ترى: أنه ترك القياس للأثر الوارد فيه.
ولذلك نظائر كثيرة لو تقصيناها لطال بها الكتاب بذكرها، وإنا نذكر منها أمثلة تكون
دليلا على ما لم نذكر.
وأما تخصيص العلة بالإجماع: فنظيره ما قال أصحابنا في علة تحريم النساء، فلذلك
لم يجيزوا الحنطة بالشعير نساء، ولا الحديد بالنحاس، لا شيئا من المكيل بالمكيل،
ولا الموزون، ولا الجنس بالجنس نساء.
وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا، نحو الثياب المروية بالثياب الهروية، فصار وجود
أحد وصفي علة تحريم التفاضل: علة لتحريم النساء.
وكان ذلك عندهم علة صحيحة في موضعها، لقيام الدلالة عليها.
وليس هذا موضع بيان صحة هذا الاعتلال، فلو لزموا سبيل القياس وما يقتضيه هذا
الاعتلال، لوجب تحريم النساء في الدراهم والدنانير، بسائر الموزونات، لوجود العلة
الموجبة للتحريم في نظائرها. إلا أنهم تركوا القياس وأجازوه، إذ كانت الدراهم والدنانير هما
أثمان الأشياء التي تدور عليها بياعات الناس، وأجمعت الأمة على جواز النساء فيها
بسائر الموزونات.
ومن نظائره أيضا: ما قامت الدلالة عليه عندهم من أن ملاقاة النجاسة (للماء توجب
الحكم بنجاسته، فقالوا في الإناء إذا وقعت فيه نجاسة: إن الماء محكوم له بحكم
النجاسة)، لملاقاته لها، وإن لم يتغير طعمه، ولا لونه، ولا رائحته، فلو لزموا طريق
247

القياس وأجروا الحكم على العلة، لأوجب ذلك أن لا يطهر الثوب الذي تصيبه النجاسة،
أو البدن أو الأواني أبدا، وإن غسل خمسين مرة، من قبل أن الماء الأول يلاقي نجسا،
فيتنجس، ثم يزول بعد ملاقاته للنجاسة، وحصول حكمها فيه.
فكان يجب أن يصير حكم هذا الماء النجاسة التي كانت في الثوب، فلا يطهر،
كذلك الماء الثاني يلاقي ماء نجسا، فلا تزول إلا بعد ملاقاته للنجاسة، وانتقال حكمها إليه،
وكذلك الماء الثالث والرابع وما بعده، (وإن كثر)، إلا أنهم تركوا القياس، وحكموا
بطهارته إذا زال عين النجاسة، لإجماع الأمة على طهارته إذا صار بهذا الحد، فهذا وجه مما
ترك القياس فيه، وحكم موجب العلة بالإجماع.
ومما تركوا القياس فيه، وخصوا الحكم مع وجود العلة لعمل الناس: ما ثبت عندهم
أن عقود الإجارات لا تجوز إلا بأجر معلوم، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من استأجر أجيرا فليعلمه
أجره) فصارت أبدال المعلوم من المنافع كأبدال الوجود من الأعيان، في باب اعتبار
كونها معلومة في العقد.
وكذلك قالوا - إذا استأجر عبدا أو دارا -: إن الحاجة إلى معرفة المدة كهي إلى مقدار
الأجرة، فلم يجيزوها بأجر مجهول، ولا على مدة مجهولة.
فلو لزموا هذا الاعتبار وأعطوا العلة حقها مما يقتضيه من الحكم ويوجبه، لوجب أن
لا يجوز للانسان دخول الحمام حتى يبين مقدار ما يعطي من الأجرة، ومقدار لبثه في الحمام
وما يصب على نفسه من الماء، إلا أنهم تركوا القياس في ذلك، واتبعوا عمل الناس،
وإجازتهم له.
والمراد بقولهم: عمل الناس: أن السلف من الصحابة وعلما التابعين قد كانوا يشاهدون
الناس يفعلون ذلك، فلم يظهر من أحد منهم نكير على فاعله، فصار ذلك إجازة منهم له،
248

وإن إقرارا لهم عليه، إذ كانوا هم الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، كما وصفهم الله تعالى
به، فصارت ذلك أصلا بنفسه، خارجا عن موجب القياس الذي وصفنا.
ونحو ذلك أيضا: قعود الانسان في سمارية وإعطاء الملاح مقطعه من غير شرط
موضع العبور ولا بيان مقدار ما يعطيه.
ومثله أيضا: شراء البقل، ونحو ذلك، مما يعطى فيه مقطعة، فيأخذه من غير شرط
لمقدار ما يأخذ أو يعطى.
وكذلك أجازوا أن يشتري أرطال لحم مما بين يدي القصاب، فيعطي الدراهم
ويأخذ اللحم.
وكان القياس أن لا يجوز، حتى يسمى فيه شيئا بعينه، إلا أنهم تركوا القياس لما
وصفنا.
ومن نظائر ذلك: الاستصناع، وهو: أن يستصنع عند الرجل خفين، أو نعلين، أو
قلنسوة، أو نحوها، ويسمي الثمن، ويصف له العمل.
فكان القياس عندهم أن لا يجوز لأنه بيع ما ليس عنده.
كما لا يجوز أن يشتري منه خفا موصوفا، أو قلنسوة، أو نحوها، مما ليس عنده، إلا
أنهم تركوا القياس فيه، وأجازوه لما ذكرنا من عمل الناس على الوجه الذي بينا.
وأما تخصيص العلة بالقياس، فنحو قول أبي حنيفة - في رجل اشترى عبدا على أن
يعتقه: إن الشراء فاسد إن أعتقه، فإن القياس أن يلزمه القيمة، لوقوع البيع على فساد.
249

ومتى أعتق المشتري العبد شراء فاسدا بعد القبض، كان عليه قيمته، فلو
أجرى حكم العبد المشروط عتقه على هذا الأصل لوجبت القيمة، إلا أنه ترك هذا
القياس، وقاس المسألة على أصل آخر ثابت عندهم جميعا. وهو: العتق على مال.
فلو ان رجلا قال لرجل: أعتق عبدك عني على ألف درهم، فأعتقه لزمه الألف، وعتق
العبد عن المعتق عنه.
وكذلك قد يجوز عتق العبد على ألف درهم ملزمة في نفسه، فأشبه شرط عتق العبد
في البيع المعتق على مال.
وفارق سائر الشروط سواه، مثل شرطه في الجارية على أن يتخذها أم ولد فيستولدها
المشتري، فيلزمه قيمتها دون الثمن المشروط. إذ لم يكن لإثبات الاستيلاد على مال أصل
يوجب تخصيص القياس الأول، فبقي على حكم الأصل في البياعات الفاسدة، إذا تصرف
فيها المشتري، وكانت الشروط المفسدة، للبيوع مقتصرا بها على ما عدا العتق.
250

الباب الثامن والتسعون
في
القول في تخصيص أحكام العلل الشرعية
254

باب
القول في تخصيص أحكام العلل الشرعية
قال أبو بكر: تخصيص أحكام العلل الشرعية جائز عند أصحابنا، وعند مالك بن أنس،
وأباه بشر بن غياث، والشافعي.
والذي حكيناه من مذهب أصحابنا في ذلك، أخذناه عمن شاهدناهم من الشيوخ
الذين كانوا أئمة المذهب بمدينة السلام، يعزونه إليهم على الوجه الذي بينا، يحكونه عن
شيوخهم الذين شاهدوهم، ومسائل أصحابنا وما عرفناه من مقالتهم فيها توجب ذلك.
وما أعلم أحدا من أصحابنا وشيوخنا أنكر أن يكون ذلك من مذهبهم، إلا بعض من
255

كان ههنا بمدينة السلام في عصرنا من الشيوخ، فإنه كان ينفي أن يكون القول بتخصيص
العلة من مذاهبهم.
وله مناكير - في هذا الباب - في أجوبة مسائلهم، لا تخيل على من له أدنى رياضة
بفقههم، إن كان ما يحكيه ليس من مقالتهم. نحو قوله في جواز الوضوء بنبيذ التمر على
مذهب أبي حنيفة عند عدم الماء: إن أبا حنيفة إنما أجاز ذلك في تمر ألقي في ماء فلم يستحل
نبيذا، وكان حلوا، وإن نبيذ التمر المطبوخ المستحيل إلى حال الشدة لا يجوز الوضوء به
عنده.
ومذاهبهم في تخصيص أحكام العلل الشرعية أشهر من أن يدفعه إنكار منكر،
ولعمري إنه يمكن حصر العلل الشرعية في جميع مسائل الاستحسان التي خصصنا عللها
بمعان لا يلزم عليها التخصيص، إلا أنه لا يجوز دفع المذاهب بجواز ما وصفنا.
وتقييد العلة مما لا يلزم عليه التخصيص. كقول أصحابنا في علة تحريم النساء:
إنها وجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل، فمتى أطلقنا (العلة) على هذا الحد احتجنا
إلى ترك الحكم، مع وجود العلة في الدراهم والدنانير، إذا أسلمها في سائر الموزونات،
فيكون فيه تخصيص من جملة موجب العلة.
ولو قيدناها بأن قلنا: إن علة تحريم النساء هي: وجود أحد وصفي علة تحريم التفاضل
في غير جنس الأثمان، كان حكمها حينئذ جاريا معها موجودا بوجودها، ولا توجد في حال
من الأحوال عارية من إيجاب حكمها.
وكذلك لو قلنا في الابتداء: إن العلة أحد وصفي علة تحريم التفاضل فيما يتعين، لم
يلزمنا عليها التخصيص، لان الدراهم والدنانير لا تتعينان بالعقود عندنا.
واستعمال التقييد وحصر العلل بما لا يلزم عليها التخصيص ممكن في سائر العلل
التي خصوا أحكامها، إلا أنه لا يجوز مع ذلك أن يعزى إليهم ما ليس من مقالتهم، لأجل
إمكان ذلك، (وبالله التوفيق).
256

الباب التاسع والتسعون
في
الاحتجاج لما تقدم ذكره
257

باب:
الاحتجاج لما قدمنا ذكره
قال أبو بكر: الأصل في ذلك أن العلل الشرعية ليست عللا موجبة لأحكامها على
الحقيقة، وإنما هي أمارات منصوبة لإيجاب أحكام الحوادث، وسميت عللا مجازا، تشبيها لها
بالعلل العقلية الموجبة لأحكامها.
والدليل على أنها غير موجبة لأحكامها: جواز وجودها عارية منها، ولو كانت موجبة
لاستحال وجودها عارية منها، كالعلل العقلية، لما كانت موجبة لأحكامها استحال وجودها
عارية.
فلما وجدنا المعاني التي سميناها عللا لأحكام الحوادث قد كانت موجودة قبل ورود
الشرع، غير موجبة لهذه الأحكام، ثبت أنها غير موجبة لأحكامها، وإنما وجب الاحكام بها
من حيث جعلها الله تعالى أمارات لها.
ألا ترى: أن ما جعله القائسون عللا لتحريم التفاضل على اختلافهم، قد كان
موجودا في تلك الأصناف غير موجب للتحريم، فعلمنا بذلك: أنها لم توجب هذه الأحكام
بأنفسها، وأن الاحكام إنما تتعلق بها من حيث جعلت أمارة لها.
فلا يمتنع إذا كان هذا على ما وصفنا: أن يجعل علامة في حال دون حال، وفي
موضع دون موضع، كما جاز أن يجعله أمارة للحكم، بعد أن لم تكن كذلك، وهذا حكم
جار في كل ما يجوز فيه النسخ والتبديل.
259

ألا ترى: أن الميتة المحرمة مع قيام حكم التحريم فيها، لم يمتنع إباحتها في حال
الضرورة، لأجل أن هذا المعنى لم يتعلق به حكم التحريم لنفس الميتة.
ألا ترى: أن الميتة قد كانت موجودة قبل (مجئ) الشرع غير محرمة، وإنما الحظر
تناولها بمجئ الشرع، ثم جاز تخصيص حظرها بحال دون حال، كذلك العلل الشرعية
هي بهذه المثابة، لا فرق بينهما.
فإن قال قائل: ما أنكرت أنها متى صحت علة وأمارة للحكم، فواجب أن لا يختلف
حكمها وحكم العلل العقلية في باب امتناع جواز التخصيص فيها، لان طريق استدراكها
والوصول إليها دون السمع: إنما هو العقل.
قيل له: هذا غلط، لان ورود السمع لم يخرجها عما كانت عليه من كونها غير موجبة
لأحكامها، لان ما لم يكن موجبا للحكم بنسفه، فغير جائز أن يرد السمع بأنه موجب له
لنسفه.
وإذا كان كذلك فحكمها بعد ورود السمع، كهو قبل وروده في هذا المعنى، فواجب
إذا أن يعتبرها فيما يتعلق بها من الحكم على الوجه الذي ذكرنا، في كونها علامة للحكم وأمارة
له، على ما بينا.
وأما قوله: إنه لما كان طريق استدراكها بعد ورود السمع: العقل، فوجب أن تكون
بمنزلة العلل العقلية، فغير موجب لما ذكر.
وذلك لان المعاني المعقولة من المسموعات طريق معرفتها العقل أيضا، لان من لا
يعقل لا يعلمها، ولا يصل إلى حقيقة معناها، ثم لم يمتنع جواز التخصيص عليها،
فكذلك هذه العلل.
وإن كان طريق استدراكها بعد ورود السمع: العقل، فإن حظ العقل منه إنما هو
260

للايصال إلى العلم بكونها أمارة للحكم، ثم العقل هو الذي يجيز تخصيصه، كما يجيز
تخصيص المسموع نفسه.
أولا ترى: أن هذه المعاني قد كانت معقولة من جهة الاستنباط في عصر النبي صلى الله عليه وسلم،
من أجله أمر معاذا بالاجتهاد فيما يرد عليه من الحوادث.
ثم لم يمتنع مع ذلك جواز ورود النسخ والتخصيص عليها، وعلى أصولها المسموعة.
ولم تصر من أجل ما ذكرت بمنزلة العلل (العقلية) التي لا يجوز عليها التبديل.
فبان بما وصفت سقوط هذا السؤال، وصح أن كونها مستنبطة من جهة العقل لا
يمنع من جواز التخصيص فيها.
دليل آخر: وهو أن علل الشرع لما كانت علامات وسمات للأحكام على حسب
ما تقدم من بيانها، صارت كالأسماء التي هي سمات وأمارات للمسميات.
فمن حيث جاز أن يعلق الحكم بالاسم فيكون دلالة عليه، وعلامة له، ثم جاز
مع ذلك أن يجعل ذلك الاسم بعينه علما لحكم آخر غيره، مثل تحريم الله تعالى العمل على
اليهود يوم السبت، وكان اسم السبت علما للتحريم، ثم أباحه لنا، فصار ذلك الاسم
بعينه علما للإباحة، وجاز من أجل ذلك تخصيصها، من حيث جاز عليها النسخ والتبديل.
وجب أن يكون كذلك العلل التي هي دلالات الأسماء، هي جارية مجراها في باب جواز
التخصيص عليها، حسب جوازه في الأسماء من حيث لم يمتنع أن ينصب الله تعالى الأوصاف
التي هي علل أعلاما، للإباحة تارة، وللحظر أخرى، على حسب إيجابه في الأسماء التي
منها اقتضت هذه العلل.
فلما جرت هذه العلل مجرى الأسماء من الوجه الذي ذكرنا، وجب أن يكون (حكمها
حكمها) في باب جواز التخصيص عليها، كجوازها فيها، فيكون المعنى الجامع بينهما: أن
كل واحد من الامرين قد يجوز أن ينصبه الله تعالى تارة علما للحظر، وتارة علما للإباحة.
261

وجهة أخرى: وهي أن علل الشرع لما كانت مبنية على السمع، ثم جاز تخصيص
المسموع الذي هو الأصل، فالفرع الذي هو مبنى (عليه أولى) بالجواز، إذ كان
الأصل آكد من الفرع.
ألا ترى: أن راد المسموع نفسه يستحق التفكير، وراد العلل المستنبطة لا يستحق
ذلك، فعلمت أن المسموع آكد في باب ثبوته من العلل المستنبطة منه.
فمن حيث جاز تخصيص المسموع، كان تخصيص علله التي هي فرع له أولى
بذلك.
فإن قيل: لا يجوز اعتبار العلل فيما وصفت بالأسماء، لأن الاسم إنما جاز فيه
التخصيص، لان ما يبقى بعد التخصيص يصح أن يكون اللفظ (عبارة عنه، نحو قوله:
" اقتلوا المشركين "، وقوله: " والسارق والسارقة " جاز أن يكون هذا الاسم) عبارة
عن الباقي بعد التخصيص، وذلك غير موجود في العلل، لأن العلل إنما تعلق بها الحكم
لوجودها، ومتى لم تكن كذلك لم تكن علة.
قيل (له): قد رضينا بهذه القضية إن كنت ممن تعقل معاني العلل الشرعية.
فنقول: إنه لما جاز تخصيص العموم من حيث صلح أن يكون اللفظ عبارة عن الباقي
بعد التخصيص، (جاز أيضا تخصيص العلل الشرعية، من حيث صلح أن تكون أمارة الباقي
بعد التخصيص).
ألا ترى: أنه يمتنع أن تجعل العلة أمارة في موضع دون موضع، كما جاز في الاسم،
فلو جعلنا ذلك ابتداء دليل على قولنا صح الاستدلال به.
262

وأما قوله: (إن) العلة إنما تعلق بها الحكم بوجودها، فإنه يدل على أن قائله
لا يعرف معاني العلل الشرعية، وأنه إنما ظنها في معنى العلل العقلية، أنها بوجودها تقتضي
موجبات أحكامها، ولو كان ذلك كما ظن لما جاز وجودها عارية من أحكامها، وقد بينا ذلك
فيما تقدم.
وأيضا: فإن تخصيص الاسم إنما يجوز من حيث جاز فيه الاستثناء مقرونا باللفظ،
فجرت دلالة التخصيص مجرى لفظ الاستثناء.
كذلك لا يمتنع إطلاق العلة من غير شرط الاستثناء، ونقيم الدلالة على
تخصيصها.
وكذلك هذا في العلل المستنبطة، لا فرق بينها وبين العلل المنصوص عليها. إذ كانت
كلها أمارات غير موجبة لأحكامها التي تعلقت بها.
وأكثر مخالفينا يجيزون تخصيص العلل المنصوص عليها، وينتقض (به عليهم) جميع
ما يسألون عنه في هذا الباب، ويتعاطون الفصل بينهما من جهة أن العلة المنصوص عليها
معقول من جهة السمع، والمستنبطة لم يوجبها السمع (وإنما صحت بالاستنباط، وهذا
لا يعصمهم مما ألزمناهم، من قبل أن المستنبطة مبنية على السمع.
فإذا كانت العلة المنصوص عليها يجوز تخصيصها فيما ليس بمنصوص عليها وهي
مستخرجة من النص أولى بجواز التخصيص.
وعلى أن المنصوص عليه من ذلك، إنما علمناه علة للحكم من طريق الاستنباط، لا
من جهة النص.
ألا ترى: أن كثيرا من نفاة القياس لا يعرفونه علة، ولا يعتبرونه فيما يوجد فيه، فإنما
يحتاج أن يستدل على كونه علة، ولا فرق بينهما وبين العلة المستنبطة مما ليس بمنصوص
عليه.
263

ومخالفونا يجيزون تخصيص دلالات القول عندهم في قولهم: إن المخصوص بالذكر
يدل على أن حكم ما عداه بخلافه، فالعلة أولى بذلك، لأنه لا بد من أن يبقى للعلة حكم
فيما لم يخص، ولا يبقى لدلالة القول حكم فيما خصوه، نحو قوله تعالى: " ولا تقتلوا
أولادكم خشية إملاق ". ونظائره على ما بيناه في بابه.
فإن قال قائل: الفرق بين تخصيص الاسم وتخصيص العلة، أن ما يوجب كون
المعنى علة للحكم وجود الحكم بوجوده، وارتفاعه بارتفاعه، فمتى وجد غير موجب للحكم
خرج من أن يكون علة، وليس شرط تعلق الحكم بالاسم مساعدة الحكم له حيثما وجد،
فلذلك لم يجز اعتبار العلة بالاسم.
قيل له: إن دلالة صحة العلة أن يكون الحكم موجودا بوجوده، ومعدوما بعدمه،
فليس كل خصمائك يسلمونه لك، بل قد حكينا فيما سلف عن أبي الحسن، أنه كان لا
يعتبر ذلك في علل الشرع، ولا يلزم أيضا من يعتبر ذلك في الاستدلال على صحة العلل،
لأنه يقول: أن هذا أحد ما يستدل به عليه.
ولتصحيح العلة دلائل أخرى من غير هذا الوجه.
(فيقول: إني) أعتبر ذلك دلالة على صحة العلة، ما لم يؤد إلى تنافي الاحكام
وتضادها، فمتى أدى إلى ذلك احتجت إلى طلب الدليل على صحة العلة من غير هذا
الوجه، كما يقول مخالفنا في هذا الضرب من الاستدلال: إنه يدل على صحة العلل، ما لم
يمنع منه، فإذا منع منه لم يدل.
264

ألا ترى: أنه يستدل على أن الشدة في الخمر علة للتحريم، ثم وجد الحكم،
بوجودها، وزواله بزوالها، ثم قد وجدنا الشدة في الخمر يوجب تكفير مستحلها، (ويزول
كفر) المستحل بزوال الشدة، ولا نجعل الشدة علة لتكفير المستحل للنبيذ، مع وجود
الحكم بوجودها، وارتفاعه بارتفاعها.
وكذلك نقول: إن وجود الحكم بوجود المعنى وارتفاعه بارتفاعها، علم لكونه علة ما لم
تقم دلالة التخصيص، وكما نقول جميعا في العموم: إنه علم للحكم ما لم تقم عليه دلالة
الخصوص.
وأيضا: فجائز أن يقال: إن اعتبار وجود الحكم بوجود المعنى وارتفاعه بارتفاعه في كونه
علة، إنما يسوغ في العلة العامة التي ليس فيها تخصيص، وأما ما قامت فيه دلالة
التخصيص فإن طريق الاستدلال على صحته في الابتداء غير هذه العبرة على حسب
ما قدمنا من وجوه دلائل العلل.
فإن قال قائل: إن القول بتخصيص العلة يوجب تكافؤ أدلة الاحكام المتضادة
وتنافيها. من قبل أنك إذا استنبطت علة فأوجبت بها حكما، ثم جوزت وجودها عارية من
الحكم، جاز لمخالفك أن يعتبر موضع التخصيص، فيجعله أصلا في نفي حكم علتك،
ويستخرج منه علة توجب من الحكم ضد ما أوجبه علتك، فيؤذي ذلك إلى تكافؤ،
العلتين وبطلانهما، فلا يستقر على ذلك تخصيصا.
قيل له: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: قول من لا يجيز وجود ذلك.
265

والآخر: (قول) من يجيز وجوده.
(فأما) من (لا) يجيز قيام الدلالة على صحة علته مع مقاومة أخرى بإزائها
موجبة للحكم بضد ما يوجبها، فإنه يقول: لست واجدا ذلك أبدا، وليس كل من قال:
(إني): أنصب علة بإزاء علتك أقيس بها في نفي حكمك الذي أوجبته علتك ساغ له
ذلك.
وإنما ثبات العلل موقوف على دلائلها، وغير جائز القيام الدلالة على تصحيح
علتين متضادتي الاحكام.
ولو استدل خصمنا بمثل دليلنا على صحة اعتلاله، كان لابد من قيام دلالة توجب
ترجيح أحدهما، هذا إذا لم يكن في المسألة قول (غير هذين) القولين، وذلك لان الحق
لا يخرج منهما، ولا بد (من) أن يكون لله تعالى دليل على حكمه، وعلى صواب أحد
القولين، وغير جائز أن يكافئه ما ليس بدليل.
وعلى أنه لو لزمنا ذلك على الوجه الذي سأل عنه السائل للزم مثله جميع القائسين
لنفاة القياس، لان لهم أن يقولوا على هذا الوضع: نحن ننصب بإزاء عللكم عللا في منافاة
ما أوجتها، بحيث لا يمكنكم الانفصال منها، ولا من أضدادها فيما عارضناكم به.
فيكون من جوابنا جميعا لهم: أنه ليس كل ما ننصبه من العلل بإزاء علتنا يجوز أن
266

تقوم في الصحة مقامها، من قبل أن صحة العلة وثباتها موقوفة على الدلائل، ولا يثبت
بقول الخصم أنها علة، فهذا سؤال ساقط، لأنه يرجع على سائله من حيث أراد إلزامه
خصمه.
وأما من يجيز وجود علتين متضادتي الاحكام من غير أن ينفصل إحداهما من
الأخرى بضرب من الرجحان، فإنه يجعل الذي اعتدل ذلك عنده مخيرا في إمضاء أي
الحكمين شاء دون الآخر، وصار هذا فرضه في هذه الحال.
(وقال) قائل من المخالفين: إن كنتم تعتبرون العلل بالأسماء في جواز
التخصيص، فإنا إنما نجيز تخصيص الأسماء على معنى أن المخصص له كالاستثناء المقرون
باللفظ، وأن ما خص منه لم يكن قط مرادنا باللفظ.
فهل تقولون مثله في العلل؟ وتجعلون الدلالة الموجبة لتخصيصها كأنها مقارنة لها؟
فإن قلتم ذلك فإنا نوافقكم عليه، وإن أطلقتم العلة ثم خصصتموه من غير قرينة
معها، فهذا الذي نخالفكم فيه.
قال أبو بكر: فوافقنا هذا القائل في القول بتخصيص العلة من حيث لا يدري،
والذي ألجأه إلى ذلك: دلائلنا التي ذكرنا في جواز تخصيص أحكام العلل الشرعية، حيث لم
يمكنهم الانفصال منها ولا دفعها.
والذي نقول في هذا: إنه لا فرق بين هذه العلل وبين الأسماء في جواز تخصيصها.
وهو: أن الدلالة الموجبة لتخصيص العلة، كأنها مقرونة إلى لفظ التعليل بمنزلة
قوله: هذا المعنى علامة للحكم إلا في موضع كذا، كما نقول في تخصيص الاسم: إن دلالة
التخصيص كأنها مقرونة إليه، وكان بمنزلة قوله: اقطعوا السراق، إلا سارق كذا. لا فرق
بينهما من هذا الوجه.
ولا نقول: إن الحكم المخصوص كان مرادا بالعلة.
كما لا نقول: إن الحكم المخصوص من الاسم كان مرادا بالاسم.
267

ومع ذلك فإنا نطلق العلة فنقول: إن علة الحكم كيت وكيت، إن كان حكمها
مخصوصا في بعض المواضع، كما أطلق الله تعالى قطع السراق، وقتل المشركين، والمراد
البعض. ولا يحتاج أن يشرط موضع التخصيص من العلة من طريق اللفظ، كما لم يذكر الله
تعالى دلالة التخصيص في أسماء العموم مقرونة باللفظ.
قال أبو بكر: ولست واجدا أحدا من الفقهاء إلا وهو يقول بتخصيص العلة في
المعنى، وإن أباه في اللفظ.
ألا ترى: أن جميع من يخالفنا ذلك يقول في قليل الماء إذا وقعت فيه نجاسة: إنه
نجس، لملاقاته للنجاسة، ثم قالوا في الثوب والبدن إذا اصابتهما نجاسة: إنهما يطهران
بموالاة الغسل وصب الماء عليهما، ولو مروا على القياس لما طهرا أبدا، لان كل جزء من
الماء لا يزايل الثوب إلا بعد ملاقاته لماء نجس، وكذلك هذا في دخول الحمام بغير أجرة
معلومة، يلزم في القياس أن لا يجزه إلا بأجر معلوم، ومقدار معلوم، في مدة اللبث، وصب
الماء.
وقد جعل الشافعي علة تحريم بيع الحنطة بالحنطة كيلا بكيل هي مأكول جنس، ثم
أجاز بيع التمرة بخرصها في العرايا من غير مساواة في الكيل، مع وجود علة إيجاب المساواة
فيها من جهة الكيل.
فإن قيل: إنما هذا كلام في جهة المساواة، والمساواة موجودة في بيع العرية بالخرص
والمساواة غير العرية بالكيل.
قيل له: هذا غلط، لان المساواة لا يختلف حكمها فيما كان مكيلا، أنه بالكيل، وفيما
كان موزونا بالوزن.
والخرص لا تحصل به مساواة، لأن الخرص إنما هو من الظن والحسبان، وما لا يوصل
إلى حقيقته، فقولك: إن المساواة توجد في العرية بالخرص خطأ.
وقال الشافعي: القياس إيجاب الوضوء من قليل النوم، وتركه للأثر.
وقال في الأجير المشترك: القياس أن لا يضمن، ثم ترك القياس فيه، وقال بإيجاب
ضمانه في بعض المواضع.
268

فإن قال قائل: إن كان القياس حقا فغير جائز تركه في حال، قال الله تعالى: " فماذا
بعد الحق إلا الضلال.
قيل له: هو حق في المواضع التي لم تقم الدلالة على منعه، غير حق في موضع قد
قامت الدلالة فيه على منعه.
كما أن استعمال العموم حق في الموضع الذي لم تقم الدلالة على تخصيصه، غير حق
في موضع قد قامت فيه الدلالة على تخصيصه، والمنع من استعمال حكمه. والله الموفق
للصواب.
فإن قال قائل: لو لم يكن وجود العلة مع عدم الحكم قاضيا بفسادها، لما استدرك
على أحد مناقضة في علة يعتل بها، لأنه يقول: إنما خصصتها لقيام الدلالة عليها.
قيل له: ليس شرط المناقضة في علل الشرع وجود العلة مع عدم الحكم، وهو الموضع
الذي فيه الخلاف بيننا وبينكم، فليس لك الاعتراض به مع خلافنا إياك في أنه مناقضة،
وليس بمناقضة.
وإنما يكون مناقضا عندنا إذا لم تقم الدلالة في الأصل على صحة العلة، ويدعى
أن العلة كيت وكيت، ثم توجده (بعد ذلك) غير موجبة للحكم.
فأما إذا قامت الدلالة في الأصل على صحتها لم يمتنع أن توجد بعد ذلك، غير
موجبة للحكم فيما قامت الدلالة على تخصيصه، ويكون المعتل بها (مناقضا مخطئا) من
وجه آخر، وهو أن تقوم الدلالة على صحة العلة في الأصل، فيترك حكمها من غير دلالة
صحيحة توجب تخصيصها، فيكون ذلك مناقضة، وتكون العلة صحيحة، والمعتل مناقض
269

في (تركه حكمها بغير دلالة)، ولو كان ما ذكرنا في تخصيص العلة يوجب مناقضة المعتل
بها، لوجب أن يكون وجود تخصيص دلالة اللفظ على ما يعتبر مخالفونا، ووجود تخصيص
العلة ووجود تخصيص العموم، موجبا لكون المحتج بذلك مناقضا.
فلما لم يوجب. تخصيص هذه الأمور مناقضة في الحجاج كان كذلك حكم العلة.
270

الباب المكمل للمائة
في
القول في صفة من يكون من أهل الاجتهاد
271

باب
القول في صفة من يكون من أهل الاجتهاد
قال أبو بكر: لا يكون الرجل من أهل الاجتهاد في طلب أحكام الحوادث حتى
يكون عالما بجمل الأصول: من الكتاب، والسنة الثابتة، وما ورد من طريق أخبار الآحاد،
وما هو ثابت الحكم منها، مما هو منسوخ، وعالما بالعام والخاص منها.
ويكون عالما بدلالات القول بالحقيقة والمجاز، ووضع كل منه موضعه، وحمله على
بابه.
ويكون مع ذلك عالما بأحكام العقول ودلالاتها، وما يجوز فيما مما لا يجوز.
ويكون عالما بمواضع الإجماعات من أقاويل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من
أهل الاعصار قبله.
ويكون عالما بوجوه الاستدلالات، وطرق المقاييس الشرعية، (ولا يكتفي في ذلك
بعلمه بالمقاييس العقلية، لان المقاييس الشرعية) مخالفة للمقاييس العقلية، وهي طريقة
متوارثة عن الصحابة والتابعين، ينقلها خلف عن سلف، فسبيلها أن تؤخذ عن أهلها من
الفقهاء الذين يعرفونها، ولهذا خبط من تكلم في أحكام الحوادث، ممن لم يكن له علم
بالمقاييس الشرعية، ثقة منه بعلمه بالمقاييس العقلية، فتهوروا وركبوا الجهالات والأمور
الفاحشة.
فمن كان بالمنزلة التي وصفنا جاز له الاجتهاد في أحكام الحوادث، ورد الفروع إلى
أصلها، وجاز له الفتيا بها إذا كان عدلا.
فأما إن جمع ذلك ولم يكن عدلا، فإن فتياه غير مقبولة، كما لا يقبل خبره إذا رواه، ولا
شهادته إذا شهد.
273

وليس شرط من كان من أهل الاجتهاد أن يكون عالما بجميع النصوص من الكتاب
والسنة، ما ثبت منها من جهة التواتر، ومن جهة أخبار الآحاد، لان أحدا من القائسين لا
يصح له أن يدعي الإحاطة بعلم جميع ذلك، حتى لا يشذ عنه منه شئ.
ولو كان ذلك شرط جواز الاجتهاد، لما جاز لاحد من القائسين بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن
يجتهد، لفقد علمه بالإحاطة بهذه الأصول، لا سيما إذا كان ممن يقول بأخبار الآحاد، ويرى
تقديمها على القياس.
وقد علمنا أن الصحابة ومن بعدهم، قد اجتهدوا مع فقد علمهم بجميع ذلك.
ألا ترى: أن عمر لما سأل عن أمر الجنين فأخبر به فقال: قد كدنا أن نقضي في مثل
274

ذلك بآرائنا، وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن مسعود في المتوفى عنها زوجها:
إذا لم بسم لها صداقا ولم يدخل بها، أقول فيها برأيي، ثم أخبر بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها
موافقة لرأيه، فسر به سرورا شديدا.
وقد كان عثمان أراد أن يرجم مجنونة حتى أخبره علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع
القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى
يحتلم). فترك رأيه إلى خبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأراد عمر أن يرجم امرأة جاءت بولد لستة أشهر بعد التزويج. فقال ابن عباس:
قال الله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ". وقال تعالى: " وفصاله في عامين ".
فجعل الحمل ستة أشهر، فرجع عمر إلى دليل الكتاب، وترك رأيه.
وكان ابن عباس يبيح متعة النساء والصرف، حتى جاءته الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم من
كل ناحية بتحريمها، فنزل عن قوله بهما، وصار إلى قول الجماعة. فثبت بذلك جواز
الاجتهاد لمن علم جمل الأصول، وإن خفي عليه منها البعض، بعد علمه بوجوه المقاييس
والاستدلالات الفقهية.
فإن قيل: لا يجوز لاحد الاجتهاد حتى يعلم جميع ما ورد من النصوص في الباب
الذي منه الحادثة، فإنه إن كان من باب الربا، فحتى يعلم جميع ما روي في الربا، وإن كان
من النكاح والطلاق والبيوع فكذلك.
وقد يمكن المجتهد حصر ما ورد في هذه الأبواب، والإحاطة بها، ثم لا يضره إذا
أحاط علمه بما روي في باب واحد في جواز الاجتهاد فيه ما شذ عنه، مما روي في سائر
275

الأبواب التي ليست من الحادثة في شئ، ويكون حكمها في هذا الباب مخالفا لحكم
الصحابة فيه، لأنه لم يكن قد جمع في زمن الصحابة جميع ما روي من السنن في الباب الذي
منه الحادثة، فلم يمكنهم الإحاطة بها. ومن بعدهم قد حصلوا ذلك، وجمعوه فقرب على
المجتهد متناولة، وسهل عليه حفظه والإحاطة به.
قيل له: هذا كلام ظاهر السقوط، وذلك لان الصحابة قد جوزت الاجتهاد لمن كان
حاله ما وصفنا، من فقد العلم بجميع الأصول، ولم يفرق أحد بين الصحابة وبين غيرهم
في هذا الباب.
وأما قوله: إن ما روي في الباب الذي فيه الحادثة، فقد حفظ وجمع، فليس كما ذكرت،
ولا دلالة فيه على ما وصفت، وذلك لأنه لو كان شرط جواز الاجتهاد ما ذكرت، كانت
الصحابة أولى بطلب ذلك منه وجمعه، لأنها كانت أقدر على جمع ما روي فيه ممن
بعدهم، إذ كانوا مجتمعين بالمدينة، لما كان عمر يسأل عن حكم الحادثة هل فيها سنة من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا لم يجدها عند من بحضرته، حكم فيها برأيه بعد المشاورة، وقد كان
يمكنه مع ذلك أن يكتب بها إلى من بسائر الأمصار من من الصحابة، فيسألهم عنها،
فإذا كانت الصحابة لو أرادت ذلك كانت عليه أقدر، وكان ذلك لها أقرب متناولا، وأسهل
مأخذا، ثم (لم يفعلوه واجتهدوا) مع إمكان ذلك. علمنا أن شرطه ليس مما ذكرت، وأنه
على ما وصفنا، وعلى أن قوله: قد حفظ جميع ما روي في كل باب من أبواب الفقه غلط من
قائله، لان أحدا من الناس وإن أكثر سماعه، فإنه لا يصح (له أن يدعي) الإحاطة
بجميع ما روي في الباب الواحد من الفقه.
ألا ترى: أنك متى نظرت في مصنفات الناس في أخبار الفقه، وما جمعه كل واحد
منهم وجدت في كتاب كل واحد منهم ما لا تجده في كتاب غيره، وعلى أنه لو جمع الإنسان
276

جميع ما ورى في الباب الواحد من ذلك، لما حضر ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روي فيه،
ولامتنع في العادة أن يذكر جميعه حتى لا يشذ منه شئ.
ومع تجويزه ذلك على نفسه يسوغ له الاجتهاد، فدل على صحة ما وصفنا.
وأيضا: فإن الإنسان لو حفظ جميع ما روي في باب واحد من الأبواب، لما جاز له الاكتفاء بما
حفظ منه في ذلك الباب في جواز قياس الحادثة، إذا لم يعلم ما روي في الأبواب الاخر،
وذلك لان قياس الحادثة غير مقصور على الباب الذي هي منه.
ألا ترى: أنا قد نقيص البيع على النكاح، وعلى الكتابة، ونقيس النكاح على دم
العمد، ونقيس الوطء على سكنى الدار، وخدمة العبد.
وإذا كان ذلك كذلك، فالواجب على قول هذا القائل: أن لا يجوز الاجتهاد في
حكم الحادثة، حتى يحيط علما بجميع ما ورد من النص من جهة أخبار الآحاد وغيرها، في
سائر أبواب الفقه، وهذا شئ مأيوس وجوده من أحد القائسين، فثبت بذلك ما وصفنا
من جواز القياس لمن عرف جمل الأصول التي يكون القياس عليها، وإن خفي عليه بعضها،
لان ما خفي عليه منه لم يكلف حكمه، ولا القياس عليه، وإنما كلف القياس على ما
يحضره منها.
وهذا كما نقول في المتحري لجهة الكعبة: إنه جائز له الاجتهاد والتحري لمحاذاتها،
وإن لم يحط علما بسائر العلامات التي يستدل بها على جهة الكعبة.
وكذلك يجوز للرجل استعمال رأيه واجتهاده في الحروب، ومكائد العدو، وإن لم يحط علما
بجميع الأسباب التي تستعمل فيه.
وإنما شرطنا مع الحفظ للأصول والمعرفة بها: أن يكون عالما بطريق المقاييس
277

والاجتهاد، لأن حفظ الأصول لا يغني في معرفة حكم الحادثة إذا لم يكن صاحبها عالما
بكيفية وجوب ردها إلى أصولها، وإلى الأشبه بها.
ألا ترى: أن قراء القرآن، وحفاظ الاخبار لا يغنيهم ما حفظوه في معرفة حكم
الحادثة وردها إلى أصولها.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم
يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
278

الباب الأول بعد المائة
في
القول في تقليد المجتهد
279

باب
القول في تقليد المجتهد
قال أبو بكر: إذا ابتلي العامي الذي ليس من أهل الاجتهاد بنازلة، فعليه مسألة أهل
العلم عنها.
وذلك لقول الله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ". وقال تعالى:
" فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليه لعلهم
يحذرون ".
فأمر من لا يعلم بقبول قول أهل العلم فيما كان من أمر دينهم من النوازل، وعلى ذلك
نصت الأمة من لدن الصدر الأول، ثم التابعين إلى يومنا هذا، إنما يفزع العامة إلى علمائها
في حوادث أمر دينها.
ويدل على ذلك أيضا: أن العامي لا يخلو عند بلواه بالحادثة من أن يكون مأمورا بإهمال
أمرها، وترك المسألة عنها، وترك أمره على ما كان عليه قبل حدوثها، وأن يتعلم حتى يصير
من حدود من يجوز له الاجتهاد، ثم يمضي بما يؤديه إليه اجتهاده، أو يسأل غيره من أهل
العلم بذلك، ثم يعمل على فتياه، ويلزمه قبولها منه.
وغير جائز للعامي إهمال أمر الحادثة، ولا الإعراض عنها، وترك الامر على ما كان عليه
281

قبل حدوثها، لأنه مكلف لاحكام الله تعالى الثابت منها بالنص وبالدليل، ولأنه لا يعلم
بوجوب تركها على ما كان عليه قبل حدوثها، إذا كان ذلك سببا مختلفا فيه بين أهل العلم،
وإنما يصار إلى معرفة الحق فيه من جهة النظر والاستدلال، وليس معرفة ذلك في طرق
العامي.
وغير جائز أيضا أن يقال: إن عليه أن يتعلم الأصول، وطرق الاجتهاد، والمقاييس،
حتى يصير في حد من يجوز له الاستنباط، لان ذلك ليس في وسعه، وعسى أن ينفذ عمره
قبل بلوغ هذه الحالة.
وقد يكون المبتلى بالحادثة غلاما في أول حال بلوغه، وامرأة رأت دما شكت في أنه
حيض، أو ليس بحيض، وقد حضرهما وقت إمضاء الحكم حيث لا يسمع تأخيره، فثبت أن
عليه مسألة أهل العلم بذلك وقبول قولهم فيه.
قال أبو بكر: فإذ قد ثبت أن على العامي مسألة أهل العلم بذلك، فليس يخلو إذا كان
عليه ذلك من أن يكون له أن يسأل من شاء منهم، أو أن يجتهد، فيسأل أوثقهم في نفسه،
وأعلمهم عنده.
فقال بعض أهل العلم: له أن يسأل من شاء منهم، من غير اجتهاد في أوثقهم في
نفسه، وأعلمهم عنده.
وقال آخرون: لا يجوز له الاقدام على مسألة من شاء منهم إلا بعد الاجتهاد منه في
حالهم، ثم يقلد أوثقهم لديه، وأعلمهم عنده.
فإن تساووا عنده، أخذ يقول من شاء منهم.
وهذا القول هو الصحيح عندنا، وذلك لان عليه الاحتياط (لدينه)، وهو قد يمكنه
الاجتهاد في تغليب الأفضل والأعلم في ظنه، وأوثقهم في نفسه، فغير جائز إذا أمكنه
الاحتياط بمثله أن يعدل عنه فيقلد بغير اجتهاد منه، إذ كان له هذا الضرب من الاجتهاد.
282

الا ترى: أنه إذا دفع إلى أحد الامرين في سلوك أحد طريقين أنه يجتهد رأيه في الاقدام
على سلوك أقربهم إلى السلامة عنده، وأبعدهما من العطب، لأنه يمكنه هذا الضرب من
الاجتهاد.
وكذلك في تدبير الحرب ومكائد العدو.
وقد يجوز له الاجتهاد فيه وإن لم يكن من أهل الفقه، بعد أن يكون من ذوي الرأي في
ذلك الامر. كذلك العامي ينبغي له الاجتهاد فيمن يقلده، إذ كان في وسعه (الاجتهاد في
التمييز بين الرجال).
وقد اختلف أصحابنا فيمن كان من أهل الاجتهاد، هل يجوز له تقليد من هو أعلم منه؟
فقال في كتاب الحدود - وذكر أبو الحسن أنه قول أبي حنيفة -: إن له تقليده، وأن له أن
يعمل برأيه.
وحكى أبو الحسن، عن أبي يوسف ومحمد: أنه ليس له إلا أن يعمل برأي نفسه،
ولا يجوز له تقليد غيره إذا كان من أهل الاجتهاد. (وقد روى داود بن رشيد، عن محمد:
أن للمجتهد أن يقلد من هو أعلم من نفسه).
وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك، نحو قول كل واحد من القولين فيما روي عن
السلف، وذلك (نحو) قول عبد الرحمن بن عوف لعثمان حين عرض عليه البيعة، على أن
يقضي بالكتاب والسنة، ورأي أبي بكر، وعمر، فأجابه (إلى ذلك)، وعرض مثل ذلك
على علي، فقال علي: أقضي بالكتاب والسنة، وأجتهد رأيي.
283

فكان عبد الرحمن وعثمان يريان تقليد أبي بكر وعمر أولى من اجتهاده، وكان عند علي أن
اجتهاده أولى من تقليدهما.
وروي عن عمر أنه سأل ابن مسعود عن مسألة في الصرف، فأجاب فيها بأنه لا بأس
به. فقال عمر: لكني أكرهه. فقال ابن مسعود: قد كرهته إذ كرهته.
فترك رأيه تقليد العمر، لأنه غير جائز أن يكون انتقاله عن المذهب الأول إلى الثاني بنظر
واستدلال، إذ لم يكن بين القولين مدة يمكن النظر والاستدلال فيها.
وكان أبو الحسن يقول: إن تقليد المجتهد لغيره ممن هو أعلم منه، وترك رأيه لرأيه ضرب
من الاجتهاد في تقوية رأي الاخر في نفسه على رأيه، لفضل علمه وتقدمه، ومعرفته بوجوه
النظر والاستدلال، فلم يخل في تقليده إياه من أن يكون مستعملا لضرب من الاجتهاد
يوجب عنده رجحان قول من قلده على قوله.
قال أبو بكر: ولا فرق عندنا - على قول أبي حنيفة في جواز تقليده لغيره بين أن يقلده
ليأخذ به في شئ ابتلي به في أمر نفسه، وبين أن يفتي به غيره، يجوز له أن يفعل ذلك في
الامرين جميعا.
لان المسألة التي ذكرها (في كتاب الحدود) إنما ذكرها في القاضي إذا قلد غيره فيما
كان ابتلي به من أمر الحكم، فأجاز تقليده غيره في توجيه الحكم به على من خاصم إليه،
وإنما كان هكذا من قبل أنا قد بينا أن ذلك ضرب من الاجتهاد في ترجيح قول من قلده
على قوله، وإذا ثبت عنده رجحان هذا القول (ثم) جاز له أن يأخذ لنفسه، جاز له أن
يفتي به غيره، ويحكم به عليه.
284

فإن قيل: قال الله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الابصار " وقال النبي صلى الله عليه وسلم بم تقضي؟
فذكر الكتاب والسنة والاجتهاد ولم يذكر التقليد.
قيل له: تقليده غيره على الوجه الذي ذكرنا ضرب من الاجتهاد والاعتبار، إذ لا يجوز له
تقليده إلا بعد أن يكون عنده أن رأيه أرجح من رأيه، ونظره أصح من نظره.
285

الباب الثاني بعد المائة
في
القول في الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم
287

باب
القول في الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو بكر: قد كان الاجتهاد جائزا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في حالين، ولا يجوز في حال.
فأما إحدى الحالين اللذين يجوز فيهما الاجتهاد، فهي الحال التي كان يبتدؤهم
بالمشاورة.
وقد قال الله تعالى: " وشاورهم في الامر " وقد شاورهم في أمر الاسرى، وغيرهم.
فهذه الحال قد كان يجوز فيها الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لإباحته إياه لهم، وأمره إياهم
به، وإعلامه إياهم أنه لا نص فيما أمرهم بالاجتهاد فيه.
وقد روي عن عمرو بن العاص: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (اقض بين
289

هذين. فقلت: يا رسول الله، أقضي بينهم وأنت حاضر؟ قال: نعم، فإن اجتهدت
فأصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة واحدة) وروي أنه قال لعقبة بن
عامر: مثل ذلك.
والحال الثانية: أن يجتهدوا بحضرته، فيعرضوا عليه رأيهم وما يؤديهم إليه
اجتهادهم مبتدئين. فإن رضيه صح، وإن رده بطل.
وقد اجتهد معاذ في تركه قضاء الفائت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، واتباعه إياه، فرضيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (سن لكم معاذ، فكذلك فافعلوا).
وأشار عليه الحباب بن المنذر بالانتقال عن المنزل الذي نزله ببدر، فقبل منه، ولم ينكر عليه
اجتهاده.
وكتب عمر إلى من بمكة من المسلمين: أن يلحقوا بأبي بصير، ففعلوا ذلك) وكان ذلك
باجتهاد منه من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فلم ينكره عليه.
ومنه امتناع علي من محو اسم النبي صلى الله عليه وسلم من الصحيفة، وكان ذلك منه على جهة
الاجتهاد تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاه بيده.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اهتم للصلاة كيف يجمع لها الناس أشار بعضهم (بنصب راية)
عند حضور الصلاة، وذكر بعضهم شبور اليهود، وذكر بعضهم الناقوس، فلم يعجبه، ولم
ينكر اجتهادهم، إلى أن أري عبد الله بن زيد الاذان.
290

وأما الوجه الثالث الذي لا يجوز فيه الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم لإمضاء الحكم مستبدا
به من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا لا يجوز، لأنه لم يكن يأمن أن يكون هناك نص (قد نزل)
وهو يمكنه معرفته في الحال، فيكون في إمضائه الحكم بالاجتهاد تقدم بين يدي الله
ورسوله.
291

الباب الثالث بعد المائة
في
القول في حكم المجتهدين واختلاف أهل العلم فيه
وفيه فصل: في سؤالات من قال: إن الحق في واحد
واحتجاجهم لذلك.
293

باب
القول في حكم المجتهدين
(واختلاف أهل العلم فيه)
قال أبو بكر: القائلون بالقياس في أحكام الحوادث فريقان:
أحدهما: يقول إن لله تعالى دليلا منصوبا على حكم الحادثة، والحادثة لها أصل واحد
يقاس عليه بعلة واحدة، (و) قد كلف القائسون إصابة ذلك، ومخطئة مخطئ بحكم الله
تعالى، إلا أنه مأجور باجتهاده، ومعذور في خطئه، وهذا مذهب الأصم، وابن علية،
وبشر بن غياث.
ويحكى (عن) ابن علية: أن المجتهد قد يعلم أنه قد أصاب حكم الله تعالى بعينه
باجتهاده.
وأما الشافعي: فإن أصحابه يختلفون فيما يحكون عنه.
فبعضهم يقول: إن من مذهبه أن الحق في واحد، على حسب ما حكيناه عمن سميناه.
وآخرون من أصحابه يذكرون: أن من مذهبه أن الحق في جميع أقاويل المختلفين.
وأما الفريق الآخر ممن قدمنا ذكره في صدر الباب: فهم القائلون بالاجتهاد في أحكام
الحوادث، وهم مختلفون فيما بينهم، بعد اتفاقهم على أنه ليس لله تعالى على حكم الحادثة
دليل واحد فيما طريقه الاجتهاد، بل هناك دلائل هي أشباه وأمثال من الأصول، يسوغ رد
الحادثة إلى كل واحد منها، على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده.
295

ثم منهم من يقول: إن الحق في جميع أقاويل المختلفين، وهذه الفرقة مختلفة أيضا فيما
بينها.
فقال منهم قائلون: هناك مطلوب هو أشبه الأصول بالحادثة، يجب على المجتهد أن
يتحرى موافقته في اجتهاده، إلا أنه مع ذلك لم يكلف إصابته.
وقال أبو عبد الله بن زيد الواسطي: لا بد من أن يكون هناك مطلوب، هو أشبه الأصول
بالحادثة، ونسميه تقويم ذات الاجتهاد.
قال: ولا يجب أن يكون ذلك حكم جميع الحوادث.
وجائز أن يكون بضع الحوادث شبهها بالأصول التي يرد إليها متساويا عند الله تعالى،
وسنذكر ذلك بعد هذا على التفصيل إن شاء الله تعالى.
ومنهم من يقول: ليس هناك مطلوب هو أشبه الأصول بالحادثة، وإنما الحكم عليه بما هو
أشبه في اجتهاد المجتهد، فالأشبه إنما هو وصف راجع إلى اجتهاده، لا إلى الأصل الذي
يرد إليه الفرع.
وقال آخرون: إن الحق عند الله تعالى في واحد من أقاويل المختلفين، وهو الحكم المطلوب
إلا أن المجتهد لم يكلف أصابته.
296

قال أبو بكر: ومذهب أصحابنا في ذلك ما أبينه إن شاء الله تعالى.
وقد حكيت عنهم ألفاظا متلبسة، حقيقتها ترجع إلى معنى واحد عندنا، نذكره بعد
الفراغ من حكاية ما روي عنهم.
فحكى هشام، عن محمد: أن الحق عند الله تعالى في واحد من أقاويل المختلفين،
ولكن من اجتهد فأخطأ فقد أدى ما كلفه الله عز وجل، وما وجب عليه، وهو مأجور عند الله
تعالى، بمنزلة المجتهد في القبلة.
وحكى الكسائي عن محمد: أن الفقيهين إذا اجتهدا في الحادثة واختلفا فكلاهما قد
أصاب ما كلف، وكلاهما مأجور فيما صنع، وأن أحدهما قد أصاب الذي هو الصواب
بعينه، وأخطأ الآخر، لأنهما لم يكلفا أن يصيبا الصواب بعينه، ولو كلفا ذلك فأخطأ أحدهما
297

أثم ولكنهما كلفا أن يجتهدوا ويطلبا، حتى يصيبا الصواب بعينه في رأيهما، فقد أدى كل واحد
منهما ما كلف.
قال محمد: وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
وكان أبو الحسن يقول: قال أصحابنا جميعا: إن كل مجتهد مصيب لما كلف، والحق عند
الله في واحد.
قال: وشبهوا ذلك بالاجتهاد في القبلة، وكان يقول: إن معنى قولهم: إن الحق في واحد
إنما مرادهم عندي فيه أن الأشبه واحد، وهو المطلوب الذي لم يكلف المجتهد إصابته
قال عيسى بن أبان: هناك مطلوب هو أشبه بالحادثة، إلا أن المجتهد لم يكلف إصابته
وإنما تعبد بأن يحكم لها بحكم الأصل، الذي هو أشبه به عند المجتهد في غالب ظنه.
قال أبو بكر: والذي ثبت عندي من مذاهب أصحابنا ومعنى قولهم: أن كل مجتهد
مصيب لما كلف من حكم الله تعالى، وأن مرادهم بقولهم: إن الحق عند الله تعالى في واحد
من أقاويل المختلفين: أن هناك حقيقة معلومة عند الله تعالى، وكلف المجتهد أن يتحرى
موافقتها، وهي أشبه الأصول بالحادثة، ولم يكلف المجتهد إصابتها، وإنما كلف ما في
اجتهاده أنه الأشبه.
ألا ترى: أن محمدا قد قال فيما حكاه الكسائي: إن المجتهد لم يكلف أن يصيب
الصواب بعينه.
قال: ولو كلف ذلك فأخطأه أثم، ولكنه كلف أن يجتهد، ويطلب حتى يصيب الصواب
بعينه في رأيه، فأخبر محمد: أن الحكم الذي عليه هو ما يغلب في ظنه أنه الأشبه، لا الأشبه
الذي هو عند الله تعالى كذلك.
وقول محمد: إن المجتهد قد يكون مخطئا للصواب بعينه، إنما مراده فيه أنه يكون مخطئا
للأشبه.
قال أبو بكر: وليس هذا الخطأ خطأ في الدين، ولا خطأ الحكم، لأنهم قد قالوا: إنه
مصيب لما كلف، وإن حكم الله تعالى عليه هو ما غلب في رأيه أنه الأشبه، والذي كلف هو
298

الحكم المتعبد به، والأشبه عند الله تعالى لم يكلف المجتهد إصابته، ولا هو حكمه الذي
تعبد به، إذا لم يؤده إليه اجتهاده.
وغير جائز أن يكون مصيبا لما كلف، مخطئا لحكم الله تعالى، إذ غير جائز أن يكون
ما كلف غير حكم الله تعالى.
فقد بان أن معنى قولهم: إن الحق عند الله تعالى واحد: أن الأشبه من الأصول بالحادثة
عند الله تعالى واحد قد علمه الله تعالى، ولم يكلف المجتهد. ومن هذا الوجه شبهوه
بالكعبة، لان الكعبة التي أمر بالتوجه إليها هي واحدة، ولم يكلفوا إصابتها، والحكم الذي
على المجتهد إنما تجري مجرواتها، وما يستقر عليه رأيه بعد الاجتهاد من الجهة التي في علم
الله تعالى أنها الكعبة.
وشبهه عيسى بن أبان بما كلفنا فيه استيفاء المقادير، لم نكلف نحن إصابتها، والحكم
الذي علينا فيها إنما هو من اجتهادنا، وغالب ظننا أنه المقدار المأمور باستبقائه، وإبقائه دون
ما عند الله تعالى.
فهذا بين أن مذهب أصحابنا غير مخالف لمذهب من حكينا قوله من القائلين: إن الحق
في جميع أقاويل المختلفين فيما طريقه الاجتهاد من أحكام الحوادث، وإن خلافهم في ذلك
إنما هو خلاف على من نفى أن يكون في الأصول أشبه المطلوب المظنون بالاجتهاد، وعلى ما
بينا.
قال أبو بكر: والذي ذكرنا أنه مطلوب والحكم الذي تعبد به المجتهد، وهو الأشبه في رأيه
طريق الأصول إلى كيفية الاجتهاد أيضا، وغالب الظن على حسب ما بينا فيما سلف من
أقاويل المختلفين في كيفية القياس، واستخراج العلل.
فجائز عند من يعتبر قياس الشبه أن يكون الأشبه عنده ما كان من جهة الصورة،
والهيئة، والحسن ونحو ذلك.
وجائز عند من يعتبر الشبه من جهة الاحكام أن يكون الأشبه عنده من هذه الجهة،
299

وعند من يعتبر تعلق الاحكام بها أن يكون الأشبه (عنده) ما وافقها من هذا الوجه،
فيكون أشبه بها من هذه الجهة، ولا يكون الأشبه عند الله تعالى معلوما عند المجتهدين من
هذه الجهة، لأنه إنما يرد الحادثة إلى هذه الجملة.
ثم قد يكون بعض الجملة أشبه بالحادثة من بعض على حسب ما يقتضيه الاجتهاد.
فلذلك لم يحصل الأشبه عند الله تعالى معلوما عند المجتهد، وإنما يقضي فيه بالأشبه في
اجتهاده، وفي غالب ظنه، وهو الحكم الذي تعبد به وأمر بإنفاذه.
فكل من قال بالاجتهاد من أصحابنا وغيرهم، ممن قال: إن الحق في جميع أقاويل
المختلفين لا يرون أن لله تعالى دليلا واحدا منصوبا يوصل إلى العلم بالأشبه بالحادثة في
الحقيقة، وإنما يقول: إن لله عز وجل دلائل، هي أشباه وأمثال من الأصول، يجب إلحاق
الحادثة بأشبهها، على حسب ما يوجبه الاجتهاد. وقد يؤدي اجتهاد كل واحد من
المجتهدين إلى خلاف ما يؤديه اجتهاد الاخر، فتختلف الاحكام عليهم على حسب
ما يقتضيه اجتهاد كل واحد منهم، لان الحادثة لها شبه بكل واحد من هذه الأصول
المختلفة الاحكام.
ومن قال: إن الحق في واحد والمصيب واحد من المجتهدين، والباقون مخطئون، فإنه
يذهب إلى أن لله تعالى دليلا واحدا منصوبا على حكم الحادثة، وليس للحادثة إلا علة
واحدة، توجب حكما واحدا، يجب القياس عليها دون غيرها.
ثم منهم من يقول: إن ذلك الدليل يوصل القائس والمستدل إلى العلم بالمطلوب
ويعذرون مع ذلك المخطئ له، وهو ابن علية وبشر.
ومنهم من يقول: لا يوصل إلى العلم بالحكم كلف إصابته، لكنه يغلب في
اجتهاده أنه الحكم
300

قال أبو بكر: الأصل في ذلك ما قد تقدم ذكر بعضه فيما سلف، ونحن نعيده ليكون
البناء عليه، وهو أن الاحكام على ضربين:
أحدهما: لا يجوز فيه النسخ والتبديل، وهو ما يعلم وجوبه أو حظره من جهة العقل قبل
ورود السمع.
وذلك نحو وجوب اعتقاد التوحيد، وتصديق الرسل عليهم السلام، وشكر المنعم،
والإنصاف. ونحو ذلك.
وما دل العقل على حظره قبل مجئ السمع، كالكفر والظلم، ونحوهما.
والأول حسن لنفسه، يقتضي وجوبه على سائر العقلاء.
والثاني: قبيح لنفسه يقتضي العقل حظره، فهذان البابان لا يجوز فيهما النسخ والتبديل،
ولا يختلف فيهما أحكام المكلفين، لا يجوز أن يتعبد بعضهم فيها بشئ، وبعضهم بخلافه،
ولا يختلف حكمهما باختلاف الأحوال والأزمان.
وقسم ثالث: ليس بقبيح لنفسه، وجائز أن يكون قبيحا في حال: وحسنا في حال
أخرى، فمتى أدى إلى قبيح (كان قبيحا)، لا يتعبد الله تعالى به.
ومن لم يؤد إلى قبيح، صار حسنا، يجوز ورود العبادة به.
وهذا القسم مما يجوز فيه النسخ والتبديل، ويجوز اختلاف الحكم منه باختلاف الأحوال
والأزمان.
ويجوز أن يتعبد بعض المكلفين فيه بشئ، ويتعبد آخر منهم بخلافه، على حسب
ما يعلم الله تعالى فيه من المصحلة.
ويجوز ورود العبادة بحظره، لعلمه أنه يؤدي إلى قبيح.
ويجوز إيجابه في حال أخرى، لعلمه بالمصلحة فيه.
ويجوز إباحته في أخرى من غير إيجاب، إذا علم أن ذلك أصلح، وهذه (في) العبادات
التي تعبد الله تعالى بها من طريق الشرع.
301

وأما القسمان الأولان: فليسا من باب الاجتهاد، ولا يجوز أن يكون الامر فيهما موكولا
إلى آراء المجتهدين، وذلك لان الله تعالى قد نصب عليهما دلائل عقلية، تقضي بالناظر
فيها إلى وقوع العلم بهما.
وإنما نصب الدلائل (عليها) فيما كلفنا علمه منها، لأنه غير جائز أن يتعبدنا الله تعالى
فيهما، بخلاف ما عليه حالهما مما يقتضي حظرا (و) إيجابا.
وأما القسم الثالث فهو على وجهين:
أحدهما: لله تعالى عليه دليل منصوب في أحكام الحوادث التي الناظر إلى العلم
(فيها) بمدلوله فليس هذا من باب الاجتهاد.
وكذلك يجب فسخ قضاء القاضي به إذا قضى فيه بغير الحق عندنا.
والوجه الآخر: ليس حكم الله تعالى فيه شيئا بعينه، وإنما حكمه على كل مجتهد من
الفقهاء ما يؤديه إليه اجتهاده، فيكون كل منهم متعبدا بما استقر عليه رأيه وغالب ظنه
بعد الاجتهاد، على السبيل الذي كان يجوز ورود النص به، وذلك لأنه لم ينصب له دليلا
بعينه على الأشبه الذي يتحرى المجتهد موافقته، ويطلبه باجتهاده، وإنما جعل للحادثة
أشباها وأمثالا من الأصول، وأخفى علم الأشبه الذي هو المطلوب عنهم، توسعة منه تعالى
على عباده، ورحمته منه لهم، ونظرا منه وتخفيفا، لئلا يضيق عليهم أحكام الحوادث بأن
لا يكون لها إلا طريق، كما قال تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من جرح ملة أبيكم
إبراهيم " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (جئتكم بالحنيفية السمحة).
ولو كلف الله تعالى العلماء القياس على أصل واحد وألا يزيغوا عنه، وافترض عليهم
302

إصابة الأشبه بعينه، لم تكن السلامة إلا في وجه واحد يضل تاركه، ويأثم العادل عنه.
وقد علم كل عاقل متى كان للحادثة وجهان، أو ثلاثة من الحكم، كان ذلك أسهل
وأوسع.
فلما كان ذلك كذلك لم يكلفهم إصابة الأشبه، (ولا الوصول) إليه بعينه، إذ لم ينصب
لهم دليلا دون غيره، وجعل الحكم الذي تعبدهم به هو (ما) كان في اجتهادهم أنه
الأشبه، دون ما يعلم الله تعالى أنه (هو) الأشبه.
ولنا على ما ذكرنا من ذلك دلائل من الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والنظر
الصحيح.
فأما دليله من الكتاب: فقول الله تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة
على أصولها فبإذن الله " روي أنها نزلت في غزوة بني النضير، حين غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم،
فحرق بعض المسلمين نخلهم إرادة منه لغيظهم، وتركها بعض، وقال: إن الله تعالى قد
وعدنا أن يغنمناها.
فأنزل الله تعالى تصويب الفريقين في قوله تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها
قائمة على أصوله فبإذن الله " فكانوا مجتهدين، فأخبر الله أن الوجهين جميعا مما ذهبوا إليه
حكم الله تعالى، على اختلافهم فيهما، إذ كان ذلك مبلغ اجتهادهم.
303

ونظيره: ما فعله الصحابة في غزاة بني قريظة، واختلف آراؤهم فيه.
فصوب النبي صلى الله عليه وسلم الجميع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالمبادرة إلى بني قريظة، وتقدم
إليهم أن لا يصلوا العصر إلا هناك.
فأدركت قوما منهم صلاة العصر، وخافوا فوتها قبل المصير إلى هناك، فاختلفوا.
فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وإن خرج وقتها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(لا تصلوا العصر إلا بها) وقال بعضهم: إنما أمرنا بذلك لتعجيل المصير إليها من غير
ترخيص منه في تركها إلى خروج وقتها.
ففعل كل فريق منهم ما رأى، ثم ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأظهر تصويب الجميع، إذ
كانوا فعلوه باجتهاد آرائهم.
ومن نحوه: مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالمن
والفداء، وأشار عمر بالقتل، فصوبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والدليل على أنه صوبهما جميعا: أنه شبه أبا بكر بإبراهيم صلى الله عليه وسلم حين قال: " فمن تبعني
فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ".
وشبه عمر بنوح صلى الله عليه وسلم حين قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ".
وغير جائز أن يشبههما بنبيين في فعلهما، إلا وقولهما جميعا صواب.
ولو كان الحق في أحد القولين دون الآخر وكانا مختلفين بحقيقة النظر عند الله تعالى، لما
جاز تصويبهما، إذ كان المصيب واحدا منهما دون الآخر.
فإن قال قائل: كان المصيب منهما عمر دون أبي بكر، لان الله تعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم
304

في استبقائهم، وأخذ الفداء، منهم بقوله تعالى: ما (كان) لنبي أن يكون له أسرى حتى
يثخن في الأرض.
ثم قال الله تعالى: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ".
قيل له: ليس هذا كما ظننت لأن الله تعالى قد (كان) أباح لهم الاجتهاد فيه لما
شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وأما قوله تعالى: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " فقد قيل:
إن معناه ما كان لنبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون له أسرى قبل الإثخان في الأرض، ولكن الله
تعالى أباح لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يكون له الاسرى وأخذ الغنائم.
فلم يكن الإخبار عن النهي متوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما توجه إلى من كان قبله من
الأنبياء.
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، منها: أني أحلت لي
الغنائم، ولم تحل لمن قبلي)، وإنما كانت تكون قربانا تأكلها النار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما
أحلت الغنائم لقوم سود الرؤوس غيركم).
وأما قوله تعالى: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم "، فإنه قد
روي في التفسير أن معناه: لولا ما سبق به الكتاب من الله تعالى بأنه محل لهذه الأمة الغنائم
305

لكانوا مستحقين للعقاب، لبقائها على حال التحريم الذي كان على سائر الأمم
السالفة، ولكنه عز وجل أباحها لهم، فلم يستحقوا العقاب بأخذها.
ويدل على صحة هذا التأويل: قوله تبارك وتعالى: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " ولو
كانوا آخذين لما لم يجز أخذه لأمرهم به، وبقتل من في أيديهم من الاسرى، إذ كان المن وأخذ
الفداء خطأ، خلاف حكم الله تعالى فيهم، لان الله تعالى لا يقر أحدا على خلاف
حكمه.
وفي قوله تعالى: " يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا
يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم ". يدل على أنه أنفذ لهم ما أخذوه، وأنه لو كان
محرما عليهم كتحريمه على من كان قبلهم لمسهم في أخذه عذاب عظيم، فأخبر عن موضع
النعمة عليهم، بإباحته أخذها، لئلا يستحقوا العقاب إذا أخذوها.
وقد قيل: إن قوله تعالى: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى ". يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
داخلا فيه، إلا أنه لما أثخنهم بقتله رؤساءهم وهزيمة الباقين منهم، جاز أن يكون له
أسرى، فكان سبيله في هذا الباب، سبيل سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، في أنه لم
يبح له الاسرى إلا بعد الإثخان، ثم خالف بين حكمه، وبين حكم سائر المتقدمين، بأن لم
يجعل لمن تقدم أخذ المال من الاسرى، وإنما كان لهم المن بغير فداء، أو القتل.
وأباح للنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الفداء. فقال تعالى: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم
عذاب عظيم " (بأن يفضل دون سائر الأنبياء بإباحة أخذ الفداء لمسكم فيما أخذتم عذاب
عظيم). كما لو فعله من قبلكم مع الحظر.
ويدل على أن الله تعالى لم يعاتبه على تبقية الاسرى بالفداء: أن الله تعالى قد كان عالما
بأن في أولئك الاسرى من يسلم، ويحسن إسلامه إذا استبقي وفودي به، وينجو من عذاب
الكفر.
306

فلم يكن جائزا في حكمه ولا أمره، قتل من في معلومه أنه لم يأمر بقتله: إذا كان فيه
اقتطاع منه له عن النجاة، والوصول إلى الثواب بإماتته وقتله، وهذا لا يجوز في حكم الله
تعالى.
فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصيبا في استبقائهم، وأخذ الفداء منهم، وسقط بذلك
تأويل من تأول الآية على إثبات العتب من الله تعالى في أخذ الفداء، واستبقاء
الاسرى.
وقد احتجوا أيضا - كما ذكرنا - بقوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " إلى
قوله تعالى: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ".
فلما مدحهما جميعا بما وصفهما (به) من الحكم والعلم، دل على تصويبه لهما في
اجتهادهما.
وقوله تعالى: " ففهمناها سليمان " تأولوه على إصابة الأشبه عند الله تعالى الذي لم
يكلفها المجتهد.
ويدل على ذلك (أيضا): قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم).
فاقتضى هذا القول بأنهم إذا اختلفوا فافتدى هذا ببعضهم وهذا ببعضهم أن يكونا جميعا
مجتهدين مصيبين لحكم الله تعالى عليهما.
ويدل عليه أيضا: تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ في أمر بني قريظة، على أن يحكم فيهم
بما يراه صوابا، فسوغ لهم أيضا حكمه فيهم على أي وجه وقع حكمه: من قتل، أو من
استبقاء.
307

ومعلوم أن حكمه ذلك كان من طريق الاجتهاد لا على وجه الحدس والظن، ولا على
جهة التخيير من غير اجتهاد في تحري الأصوب والأولى.
فدل ذلك على أن كل من ساغ له الاجتهاد في استخراج حكم حادثة أنه مصيب لحكم
الله تعالى فيما أداه إليه اجتهاده.
فإن قيل: لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد إبرام الحكم: (لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق
سبع سماوات) دل (على) أن حكمه وافق حكم الله تعالى، وأنه لم يكن الله تعالى
(فيه) حكم غيره.
قيل له: إنما قال ذلك، لأنه كان مصيبا في حكمه، من حيث يسوغ له الاجتهاد فيه
فأمضاه باجتهاده.
(ولو) كان حكم بغيره لكان ذلك حكم الله تعالى (أيضا)، إذ سوغ إمضاء ما
رآه صوابا باجتهاده، وليس في قوله: لقد حكمت بحكم الله تعالى، دلالة على أنه لو حكم
بغير ذك لم يكن ذلك حكم الله تعالى.
ومما يدل على ذلك من إجماع السلف: أن الصحابة قد اختلفت في شيئين، صاروا في
أحدهما إلى الإنكار على مخالفيهم، وإلى التحزب والقتال واللعن والبراءة. وهو ما قد
علمنا كونه فيما بينهم.
وكانوا في الاختلاف الآخر متسالمين غير منكر بعضهم على بعض خلافه إياه فيه، وهو
أحكام حوادث الفتيا، فثبت بذلك افتراق حكم الامرين عندهم، دل على أن الذي
خرجوا فيه إلى البراءة، واللعن، والقتال، رأوا أن لله تعالى عليه دليلا منصوبا، يفضي إلى
العمل بمدلوله، ويجب المصير إليه وترك مخالفته.
308

وأن الباب الآخر الذي سوغ كل واحد منهم مخالفة صاحبه فيه من غير نكير ولا منع.
رأوا أنه ليس لله تعالى على حكمه فيه دليل واحد يفضي إلى العلم به بعينه، وأن كل
مذهب منه فله شبيه ونظير من الأصول يسوغ دره إليه، على حسب ما يقتضيه اجتهاد
المجتهد، ويغلب في ظنه أن أشبه الأصول بالحادثة.
ولما وجدنا السلف يجيزون قضاء القضاة عليهم - وإن كان بخلاف رأيهم، ومذهبهم في
أحكام الحوادث - ويجيزون فتياهم فيها في الدماء والفروج والأموال، من غير نكير
ولا تخطئة. دلنا ذلك على أنهم رأوا جميع ذلك صوابا من القائلين به، وأن فرض كل واحد
منهم وما تعبد به ما أداه إليه اجتهاده.
ألا ترى: أن أبا بكر قد كان ولى زيد بن ثابت القضاء وهو يخالفه في الجد وغيره، وولى
عمر بن الخطاب أبي بن كعب، وشريحا القضاء، وهما مخالفانه في كثير من رأيه ومذاهبه.
وأن عليا ولى شريحا قضاء الكوفة، وابن عباس قضاء البصرة، وهما يخالفانه في أشياء
كثيرة.
ابن عباس يخالفه في الجد، وشريح يخالفه في الجد، وكثير من الأشياء يطول شرحها.
واختصم علي إلى شريح مع يهودي في قصة الدرع، فقضى عليه شريح لليهودي.
فقبل قضاءه، وأجازه على نفسه، مع خلافه إياه فيه. فأسلم اليهودي، وقال هذا دين حق
تجيزون أحكام قضاتكم عليكم.
وقال عكرمة: بعثني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين.
فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، فأتيت ابن عباس
فأخبرته.
فقال (ابن عباس): عد إليه فقل له: أتجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي،
309

ومن أعطى الثلث من جميع المال أخطأ. فأتيته، فقال: لم يخطئ، ولكنه شئ رأيناه
وشئ رآه.
وقيل لعمر بن الخطاب (في المشركة): لم (لم) تشرك عام أول؟ وشركت العام؟
فقال: ذاك على ما فرضنا وهذا على ما فرضنا.
وقيل لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شئ من الحكم. فقال: ما يسرني
أنهم لم يختلفوا.
وقال القاسم بن محمد: لقد نفع الله تعالى بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنك إذا
أخذت بقول هذا أصبت، وبقول هذا أصبت. فثبت بما وصفنا اتفاق لسلف على
تصويب المختلفين في هذا الضرب من أحكام الحوادث.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون المصيب واحدا منهم، والباقون مخطئون. وإنما ترك
بعضهم النكير على بعض لأنهم كانوا معذورين في خطئهم، وكان خطؤهم موضوعا
كالصغير من الذنوب.
قيل له: أقل ما في هذا الباب أنه كلام متناقض، لان صاحب الصغيرة غير معذور في
مواقعتها، ولا مأجور في فعلها، بل هو عاص، تارك لأمر الله تعالى، وإن كان الله تعالى قد
وعده غفرانها باجتنابه الكبائر ولم يقطع ولايته بها.
310

وأنت تزعم أن المجتهد مأجور في اجتهاده، ومعذور في خطئه، فكيف يجوز أن يكون
مأجورا في اجتهاده المؤدي إلى خلاف حكم الله تعالى، وكيف يكون معذورا في مخالفة
حكم الله عز وجل الذي نصبت عليه الأدلة. وجعل له السبيل إلى إصابته.
فإن بما وصفنا تناقض هذا القول وفساده.
ثم يقال لهم: إن كان لله تعالى على أحكام الحوادث دلائل قائمة توصل الناظر فيها
إلى حقيقة المطلوب. فلم عذروا في ترك إصابة مدلولها؟
وما الفرق بين حوادث الفتيا والحوادث التي خرجوا فيها إلى القتال، واللعن، والبراءة.
ودلائل الجميع قائمة.
وكيف اختلف أحكام المختلفين فيها، (و) أحكامهم فيما (وصفنا، مما) (لا)
خلاف فيه يوجب البراءة.
فثبت بذلك أن أحكام حوادث الفتيا كانت موقوفة عندهم على ما يؤدي إليه اجتهاد
المجتهدين، وأما ما صار إليه كل واحد منهم باجتهاده هو الحكم الذي تعبد به دون غيره.
فإن قال قائل: إنما ترك النكير بعضهم على بعض في حوادث مسائل الفتيا مع
الخلاف. لأنهم كانوا مما قالوه على غالب ظن، ولم يكونوا على يقين أنه الحق عند الله
تعالى دون غيره، وقد كان مخالفوهم يدعون مثل ذلك لأنفسهم فيما صاروا إليه من
خلافهم، فلذلك جاز لكل أحد منهم ترك النكير على مخالفه فيما صار إليه لتساويهم في
تجويزهم أن يكون مخالفوهم قد أصابوا الحق دونهم.
311

قيل له: قد ثبت بما ذكرت أنه ليس لله تعالى دليل منصوب على حكم بعينه من تلك الأحكام
، إذ لو كان لما كان المستدل به متظننا غير عالم بإصابة الحق عند الله تعالى.
فثبت أن دليل أحكام الحوادث مختلفة على حسب شبهها بالأصول، وأن حكم الله
تعالى على المجتهد ما أداه إليه اجتهاده، ليس عليه حكم غيره، وأنه لم يكلف إصابة
المطلوب بعينه، إذ لو كان المطلوب هو حكم الله عليه بعينه، وهو مكلف لإصابته لما أخلاه
الله تعالى من دلالة له ينصبها عليه، ولو نصب عليه دليلا لأفضى بالناظر إلى العلم
بمدلوله، ولكان يكون مخطئه حينئذ بمنزلة المخطئ لسائر ما كلفه الله تعالى إصابته على
النحو الذي ذكرنا.
وأيضا: فلو كان هناك دليل منصوب على أحكام الحوادث التي وصفنا حالها، لما خلت
الصحابة من الوقوف عليه والمصير إليه حكمه، وإن لم تصبه الجماعة أصابه البعض منها
ودعا الباقين إليه، فيتوافون على القول (به) لوقوع العلم لهم بمدلوله.
فلما وجدنا الامر فيه بخلاف ذلك، بل كانوا بعد النظر والاجتهاد ثابتين على مذاهبهم
غير منكر بعضهم على بعض في مخالفته إياه، دل ذلك على صحة ما ذكرنا.
فإن قال قائل: إنما عذر المجتهد في خطابه في مسائل الفتيا لغموض دلالة الحكم وخفي
نقلها، ولم يعذر في الخطأ في سائر الأشياء التي ذكرت، لظهور دلالتها ووضوحها.
قيل له: فهل جعل الله تعالى للمجتهد سبيلا إلى إصابة تلك الدلالة والحكم
بمدلولها؟ وهل كلفه الاستدلال بها بعينها، ونهاه عن العدول عنها؟
فإن قال: نعم.
قيل له: فكيف يكون معذورا من كلف إصابة الحكم وجعل له السبيل إليه، فعدل
عنه بتقصيره؟
312

ولو جاز هذا فيما ذكرت لجاز في سائر ما أقام الله تعالى الدلائل عليه.
فلما كان المجتهد فيما وصفنا عندنا جميعا وعند السلف غير معنف في خلافه فيما خالف
فيه، علمنا أنه لم ينصب له دلالة على المطلوب بعينه، ولم يكلف إصابته.
ويقال لمن أبى ما قلنا: أخبرنا عن المجتهدين إذا اختلفوا، أتجيز لكل واحد منهم إبرام
الحكم بما أداه إليه اجتهاده؟
فإن قال: حتى يعلم حقيقة حكم الله تعالى.
قيل له: فالمختلفون من الصحابة كان المصيب واحدا منهم عندك. أفتقول: إن الباقين
أقدموا على ما لم يكن جائزا لهم الاقدام عليه، وأمضوا أحكاما لم يكن جائزا لهم إمضاؤها؟
فإن قال: كذلك فعلوا. طعن في السلف، ولحق بالنظام وطبقته، في طعنهم على
الصحابة في الطعن بالاجتهاد، وجوز إجماعهم على خطأ، لأنه لو لم يكن يجوز لهم
إمضاء ما أداهم إليه اجتهادهم، لما أجمعوا على ترك النكير على المختلفين في أحكام
الحوادث بما أمضوه من ورائهم. وأحد من الفقهاء لا يجيز ذلك على الصحابة ولا على أحد
من أهل سائر الأعصار من المجتهدين.
فإذا قد ثبت أن لكل واحد من المجتهدين إمضاء الحكم بما أداه إليه اجتهاده. وإذا كان
مأمورا بذلك فغير جائز أن يكون مأمورا (به) وهو غير مصيب لحكم الله تعالى، لان
حكم الله تعالى هو ما أمر به، فواجب أن يكون كل واحد من المجتهدين على اختلافهم
مصيبا لحكم الله تعالى الذي كلفه من جهة الاجتهاد، لاستحالة أن يكون فاعلا لما أمر به
مخطئا فيه بعينه.
فيثبت بذلك أن الحق في جميع أقاويل المختلفين، وأن كل مجتهد في ذلك مصيب.
فإن قبل: ما أنكرت أن يكون مصيبا في اجتهاده للحكم الذي هو مأمور بإصابته؟
قيل: وهذا متناقض أيضا مستحيل، لان الحكم إذا كان موجبا بالاجتهاد - والاجتهاد
صواب مأمور به - فغير جائز أن يكون موجبه خطأ غير مأمور به، لأنه يستحيل أن يكون
مأمورا بالسبب ومنهيا عن مسببه.
313

فإن قيل: يكون هذا كمن قصد برميته مشركا فأصاب مسلما، فيكون مصيبا في اجتهاده
مخطئا في إصابته المسلم، لان الله تعالى لم يأمره بقتل المسلم.
قيل له: هذا والاجتهاد في أحكام الحوادث سواء، وهو أحد الأصول التي يرد إليها حكم
المجتهد، وذلك لان الرامي مأمور بالاجتهاد في التسديد والرمي نحو الكافر، والكافر هو
المطلوب بالرمي، والرامي غير مكلف للإصابة، لأنه لا سبيل إلى التمييز بين الرمي الذي
يوجب الإصابة، وبين الرمي الذي لا يوجبها وإنما الحكم الذي عليه الاجتهاد في طالب
الإصابة، كما أن المجتهد في حكم الحادثة إنما الحكم الذي كلفه الاجتهاد في تحري موافقة
الأشبه عند الله تعالى، ولم يكلف إصابته.
فإذا أخطأ رمي الكافر، وأصاب مسلما، فهو غير مخطئ لما كلفه من الحكم، وإن
أخطأ المطلوب.
كذلك المجتهد، وإن أخطأ المطلوب فقد اجتهد وأصاب الحكم الذي كلفه، فلا فرق
بينهما من هذا الوجه، وليس هذا الخطأ في الدين، ولا خطأ في الحكم كان عليه
إصابته.
كما أن خطأ الرامي ليس خطأ للحكم، وإنما هو خطأ للغرض المطلوب، وهو مطيع لله
تعالى برميه مصيب لحكمه، مأجور على فعله.
وكذلك المجتهد في حكم الحادثة، مطيع لله تعالى في اجتهاده، مصيب لحكمه مع خطئه
للمطلوب الذي يتحراه باجتهاده.
كما أنه لو قصد رمي مؤمن فأصاب كافرا حربيا، كان رميه معصية، (مع إصابته الكافر،
لان السبب الذي عنه كانت الإصابة معصية) وإن كان قتل الكافر من غير هذا الوجه
مأمورا به.
فإن قيل: فيجئ على قياس هذا الأصل أن يكون رامي الكافر إذا أصاب المسلم
314

فقتله، وكان فعله هو طاعة لله تعالى أن يكون مأمورا بقتل المؤمن كما كان رميه للمسلم
معصية، وكان قتله للكافر بهذا الرمي معصية، لان الحكم عندك متعلق بالسبب فإذا كان
السبب طاعة فمسببه طاعة، وإن كان السبب معصية فمسببه معصية.
قيل له: أما إطلاق القول: بأن الله تعالى قد أمره بقتل المؤمن (من غير) سبب
يستحق به القتل فلا يجوز، لأنه توهم أنه قد أمره بأن يقصده بالرمي والقتل، كما أمره بقصد
الكافر بالرمي والقتل، وإن كان قد يكون مأمورا بقتل المؤمن في وجوه يكون قتله طاعة لله
تعالى، كما يقتل القاتل، ويرجم الزاني، ويقطع السارق، بعد التوبة منهم، ويكون
(إيقاع) ذلك يهم على غير وجه العقوبة، بل يستحقون به الثواب الجزيل والأعواض
الجسيمة، ولا يكون قتلهم بمنزلة قتلنا الكافر، لان الكافر يستحق ذلك على وجه العقوبة
على كفره.
وإذا كان ذلك كذلك لم يمتنع أن يكون الرامي للكافر إذا أصاب مسلما مطيعا في رميته
وإصابته، وإن كان المقتول مسلما، (و) ولا يصح مع ذلك إطلاق القول: بأن الرامي
مأمور بقتل المسلم، لما ذكرنا من إيهام الخطأ، وما لا يجوز إطلاقه في المسلم.
وأما إذا رمى المسلم وأصاب الكافر فإن هذا الرمي معصية، وإن أصاب به الكافر.
(وليس يمتنع أن يكون قتل الكافر معصية في أحوال، لأنه لو قتل ذميا أو حريبا مستأمنا
كان عاصيا لله تعالى بقتله، فإذا كان قتل المسلم قد يكون طاعة. وقتل الكافر قد يكون
معصية، زال الاعتراض علينا في مسألتنا، بما حاول به السائل التشنيع بتجويزنا كون قتل
المسلم طاعة، وعلى أن الكلام في إطلاق العبارة بأنه مأمور بقتل الكافر، أو الامتناع منه
ليس هو كلاما في المعنى، وإنما هو كلام في اللفظ، وفي الاشتغال به خروج عن المسألة، فأما
المعنى فهو صحيح، مستمر على الأصل الذي بنينا عليه القول في المسلم.
315

فإن قال القائل: ما أنكرت أن يكون الحكم الذي طريقه الاجتهاد هو حكم واحد، وهو
الأشبه عند الله تعالى، وقد يمكن الوصول إليه عند استقصاء النظر والمبالغة في الاجتهاد
ولكنه لما غمضت دلالته عفا الله تعالى عن المخطئ له.
ولذلك نظائر موجودة في الأصول: منها أن القائم في صلاته قد ينسى، فيترك القراءة،
وقد يسجد قبل الركوع، ويسلم في غير موضع التسليم، وقد كان يمكنه التحفظ وجمع البال
وترك الكفر في غير الصلاة، فيسلم من الوهم والخطأ.
وكذلك سبيل المجتهد في أحكام الحوادث التي يعذر المخطئ فيها، وليس كذلك سبيل
من لا يعذر فيه إذا أخطأ، لظهور دلالته، واستواء المحترز وغيره فيه.
قيل: أما الناسي فليس عليه في حال النسيان حكم غيره، وما نسيه فليس هو حكمه، ولا مأمورا به سواء كان نسيانه بسبب يمكن التحفظ منه، أولا يمكن، وقد أدى فرضه
الذي عليه ليس عليه في حال النسيان فرض غيره، والذي يلزمه عند الذكر حكم آخر، لزمه
في هذه الحال، ولم يكن لازما في حال النسيان.
ولا فرق بين الناسي وبين ما ذكرت من حكم المجتهدين، في أن كل واحد منهما مصيب
لحكم الله تعالى الذي عليه في هذه الحال، لم يكلف حكما غيره.
ولو جعلنا الناسي لما ذكرت أصلا في هذا الباب لساغ رد المجتهد إليه، لان أحدا ممن
يعقل من أهل النظر لا يخفى عليه أن الناسي غير مكلف في حال النسيان لما هو ناس له،
وأن الحكم الذي عليه يلزمه بعد الذكر حكم آخر لم يكن لازما له قبل الذكر، وبذلك جاء
السمع أيضا، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).
ثم يقال له بعد ذلك أيضا: أخبرنا عن الناسي الذي وصفت حاله وذكرت أنه لو
تحفظ لما نسي، أتقول: إن المجتهد وزانه وعروضه، وفي مثل حاله، وأنه لو تحفظ وبالغ في
الاجتهاد أصاب الحق عند الله تعالى؟
316

فإن قال: نعم.
قيل: فقد جعل له بعد اجتهاده الأول مهلة في استئناف النظر والاجتهاد مرة بعد أخرى،
وثانية بعد أولى، فإذا جعل ذلك لم تجد نفسه في الأحوال كلها إلا بمنزلة واحدة في باب عدم
العلم بالحق عند الله تعالى، ووجوب الامتناع من القطع بأن ما أداه إليه اجتهاده هو
المطلوب الذي أمره الله تعالى بإصابته عندك.
فكيف لم يصل إليه بعد المبالغة والاجتهاد واستقصاء النظر في طلب الحكم؟
كيف (لم) يعلم بعد هذه الحال أنه مصيب لحكم الله تعالى عندك؟ كما ترى
الانسان إذا تحفظ وجمع باله وفكره في الإقبال على صلاته، لا يخطئ ولا يسهو.
فلو كان ما وصفت من حكم الحادثة والوصول إلى إدراكه وإصابته عروض ما ذكرت
لوجب أن يكون لنا سبيل إلى العلم باستيفاء ركعات الصلاة.
(و) في وجودنا الفصل بينهما على الوجه الذي ذكرنا، دلالة على أن حكم الحادثة غير
مقصور على دليل واحد يوصل إلى العلم به، وأن كل من صار إلى قول من أقاويل
المختلفين باجتهاده فهو مصيب لحكم الله تعالى الذي كلفه.
وأيضا: فإن الناسي الركوع والسجود ونحو ذلك، أليس إذا كان خلفه ممن يأتم به من
يراعى أفعال صلاته إذا نبهه عليه، وأعلمه موضع إغفاله ونسيانه، فذكر ورجع إلى
الصواب؟
فخبرنا عن الصحابة حين اختلفوا كيف لم ينبه المصيب منهم المخطئ على موضع
خطئه وإغفاله، فإن نبهه عليه وتبين له وجه الدلالة على الصواب، كيف لم يتنبه ولم يستدرك
خطأه كما يستدركه الناسي إذا ذكر ونبه؟
وكيف أجمعوا على ترك النكير على المخطئ؟ وهل يجوز عندك أن ينسى إنسان بعض
317

فروض صلاته، وخلفه قوم يأتمون به، ويراعونه، ثم لا يوقفونه على خطئه، ولا ينبهونه على
موضع إغفاله؟
فإذا كان ذلك ممتنعا وقوعه، فكيف جاز وقوع التواطؤ من السلف على ترك توقيف
المخطئ عندهم، وإظهار النكير عليه إن لم يقبل، ولم يراجع؟
ومعلوم أنه غير جائز منهم ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف اتفقوا على
إجازة أحكام من خالفهم في الحوادث على أنفسهم وعلى غيرهم، وسوغوا لهم الفتيا بها،
وإلزام الناس إياها، وأحسبهم جعلوهم معذورين في اجتهادهم، فكيف أجازوا لهم إمضاء
تلك الأحكام على المسلمين في دمائهم وفروجهم وأموالهم وأنسابهم؟ ومن الذي أوجب
على العالم إجازة خطأ الجاهل على نفسه؟
وكان لا أقل من أن ينهوهم في أن يتعدوا أحكامهم، إذ كان عندهم أنها خطأ، خلاف
حكم الله تعالى، وأن يلزموها أنفسهم، وأن لا يلزموا الناس قبولها وإنفاذها على
أنفسهم.
فإن نهوهم فلم ينتهوا، وأوفقوهم على موضع إغفالهم فلم ينتبهوا، وعرفوهم موضع
الدليل فلم يقبلوا، وأقاموا عليهم الحجة فأصروا على الخطأ، كان لا أقل أن يكون سبيلهم
سبيل الخوارج، ومن عدل عن الحكم الذي قامت الدلالة عليه عندهم، أنه حكم الله
تعالى، ويمنعون قبول فتياه وأحكامه التي هي خطأ عندهم.
ألا ترى: أنهم حين رأوا عبد الله بن عباس يجيز الصرف ويبيح المتعة أنكروه وأخبروه
بحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بالتحريم؟ فلما تواتر عنده الخبر من ناحيتهم بذلك انتهى عن قوله
فيهما، ورجع عنه.
ألا ترى: أن قوله لما لم يكن عندهم صوابا أنكروه، ولم يعذروه؟ ولو كان سبيل المجتهد
عندهم إذا خالفهم كسبيل الناسي لركوعه وسجوده، لما تركوا موافقته، كما لا يترك المأموم
موافقة الامام إذا نسي ركوعا أو سجودا.
فإن قال قائل: إذا أعطيتمونا أن الأشبه له حقيقة معلومة عند الله تعالى، وهو المطلوب
318

الذي يتحرى المجتهد موافقته باجتهاده، فواجب أن يكون مخطئه مخطئا لحكم الله
تعالى عليه.
قيل له: نحن وإن قلنا: إن هناك أشبه هو المطلوب، فليس إصابة الأشبه هي الحكم
الذي تعبدنا به، إذا لم يؤدنا الاجتهاد إليه، وإنما الحكم الذي تعبدنا به هو ما أدانا (الاجتهاد
إليه)، وغلب في ظننا أنه هو الأشبه، ولم نكلف إصابة المطلوب.
وهذا كما نقول في المتحري للكعبة: إنه لم يكلف محاذاتها باجتهاده، ولم يؤمر بها، لأنه
يجعل له السبيل إليها، وإنما الحكم المأمور به هو ما أداه إليه تحريه واجتهاده.
وكما يسدد الرجلان سهامهما نحو كافر فيصيب أحدهما ويخطئه الاخر، وكلاهما مصيب لما
كلف، والحكم الذي تعبد به، لأنهما لم يكلفا الإصابة، إذ لم يجعل لهما سبيل إليها.
وكما أن رجلا لو أبق له عبد فأرسل عبيدا له في طلبه كان معلوما إذا كان المرسل حكيما،
أنه لم يكلفهم إصابته، وإنما ألزم كل واحد منهم الاجتهاد في الطلب.
ومعلوم أن المطلوب عين واحدة، كذلك الأشبه له حقيقة معلومة عند الله تعالى، ولم
يكلف المجتهد إصابتها، وإنما كلف الاجتهاد في طلبها بما استقر عليه رأيه، فهو الحكم
الذي كلفه لا غيره، ولذلك نظائر كثيرة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأصول الشرع.
منها: أن من أظهر لنا الاسلام والاقرار بشرائعه، والتزام أحكامه كان علينا موالاته
في الدين، وإجراؤه على أحكام المسلم.
وإن كان جائزا عند الله تعالى في المغيب أن يكون ملحدا معطلا، ولم نكلف علم
319

المغيب. وقد أخبر الله تعالى مثل ذلك عن قوم من المنافقين لم يعرفهم للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله
تعالى: " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " فكان النبي صلى الله عليه وسلم
يجريهم مجرى المسلمين في سائر أحكامهم، مع (علم) الله تعالى بأنهم كفار منافقون،
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك محيطا بحكم الله تعالى، لان حكم الله تعالى عليه كان الظاهر دون
الباطن، والحقيقة (التي) هي معلومة عند الله تعالى، وكذلك هذا فيما أمر الله تعالى به
من استشهاد العدول (في الظاهر، ولا يكون من حكم بشهادة قوم ظاهرهم العدالة مخطئا
لحكم الله تعالى)، وإن كانوا في المغيب غير عدول عند الله تعالى.
وقد كان أتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من المشركين يقال لهم: بنو لحيان، والعضل، والقادة
وأظهروا له الاسلام وسألوه أن يوجه لهم من يفقههم في الدين ويعلمهم القرآن. فوجه معهم
ثلاثة من الصحابة: خبيب بن عدي، وعاصم بن أبي الأفلح، وزيد بن
الدثنة. فغدروا بهم، وقتلوا عاصما، وزيد بن الدثنة رحمهما الله، وأخذوا خبيبا، وباعوه
320

من أهل مكة، وكان هؤلاء القوم دسيسا من قبيل قريش، ضمنوا لهم على ذلك مالا،
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته حين بلغه خبرهم.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك على ما اقتضاه ظاهر حالهم، ولم يعلم الغيب في
ضميرهم، وما عزموا عليه من الغدر، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مخطئا لحكم الله تعالى إذ لم
يكن مكلفا بغير الظاهر من أمرهم، ولم يجعل له سبيل إلى العلم بحقيقة حالهم.
وكذلك قصة أهل بئر معونة، وقصة العرنيين حين استاقوا الإبل وارتدوا.
ونحو ذلك مما كان النبي صلى الله عليه وسلم مكلفا فيه للحكم الظاهر، دون الحقيقة، ثم لم يكن مخطئا
عند وقوع الامر على خلاف تقديره.
فإن قيل: إنما كلف فيه الظاهر ولم يكلف المغيب، لأنه لم يجعل له سبيل إلى علم
الغيب، والمجتهد قد جعل له سبيل إلى علم حقيقة المطلوب في حكم الحادثة.
قيل له: لو كان قد جعل له سبيل إلى إدراك حقيقة المطلوب بإقامة الدلالة عليه،
لعلمه من اجتهد وبالغ في طلبه.
ولو كان كذلك لكان مخطئه عاصيا، ولأنكرت الصحابة بعضها على بعض الخلاف
الواقع بينهم في حوادث الفتيا، ولما أجازوا خطأ المخطئ على سبيل ما بيناه، ثم
احتسبوا المخطئ معذورا باجتهاده في خطئه.
فكف عذر من عرف خطأ، ثم أجاز حكمه على الناس، وعلى نفسه وليس هو موضع
العذر مع وقوع (العلم) بالخطأ.
ومما يزيد ما قدمنا في ذلك وضوحا وقد ذكرنا بعضه، وإنما لما نذكر معه من الزيادة، أن
المجتهد لا يخلو من أن يكون مأمورا بإمضاء ما أداه إليه اجتهاده فيما طريقه الاجتهاد، وان لم
321

يعلم أنه قد أصاب حقيقة النظير، أم لا يكون مأمورا بإمضاء ما أداه إليه اجتهاده.
إلا بعد العلم بحقيقة النظير (والرأي)، والذي هو الأشبه عند الله تعالى، فإن كان
المجتهد لا يجوز له الحكم بما يؤديه إليه اجتهاده حتى يعلم حقيقة النظير، فواجب أن يكون
السلف عالمين بخطأ المخطئ منهم، فإنه حاكم بخلاف حكم الله تعالى.
وقد بينا (فساد) ذلك. وكان ينبغي أن لا ينفذ حكم الحاكم باجتهاده إذا رفع إلى
حاكم يرى خلافه، وهذا فاسد عند الجميع، فلما بطل هذا ثبت أنه مأمور بإمضاء الحكم بما
أداه إليه اجتهاده، مع فقد علمه بإصابة المطلوب.
وما كان مأمورا به فهو حكم الله تعالى، سواء أصاب حقيقة النظير أو أخطأها، لأنه
غير جائز أن يأمره الله تعالى بالخطأ.
فثبت من حيث كان مأمورا بإمضاء الحكم باجتهاده أنه مصيب لما كلفه من الحكم.
وكما أنه لما كان مأمورا بإمضاء ما أداه إليه اجتهاده إذا تحرى محاذاة الكعبة كان مصيبا
لما كلف.
وكما أن الرامي للكافر لما كان مأمورا بإرسال سهمه بعد اجتهاده كان مأمورا لما كلف وإن
لم يصبه.
فإن قال قائل: الفصل بين التحري للكعبة، والرمي، وبين مسائل الحوادث من
وجهين.
أحدهما: أنه جائز ترك محاذاة الكعبة مع العلم بها في حال العذر، ولا يجوز مثله في
العتق، والطلاق، ونحوها ترك الحكم مع العلم به.
322

والثاني: أن المأمور به ليس هو عين الكعبة، ولا عين الكافر المرمي، والمأمور به في الحادثة
هو الحكم المطلوب نفسه.
قيل له: أما ما ذكرت من جواز ترك محاذاة الكعبة مع العلم بها وما فصلت به بينها
وبين حكم الحادثة، فإنه فرق من وجه اخر غير ما ذكرنا، لأن جواز ترك التوجه إلى الكعبة لم
يوجب جواز ترك الاجتهاد في طلب محاذاتها، فهما متساويان من هذا الوجه، لا فرق بينهما
فيه، واختلافهما من وجه آخر لا يمنع الجمع بينهما من الوجه الذي ذكرنا.
وأيضا: فإنه كما جاز ترك محاذاة الكعبة للعذر، وكذلك جائز ورود العبارة في أحكام
الحوادث بما يؤدي إليه اجتهاده من حيث جاز ورود العبارة به على هذا الوجه، كما جاز ترك
محاذاة الكعبة للعذر، ثم لما أمر بإمضاء ما أداه إليه اجتهاده، علمنا أن ذلك حكمه الذي
تعبد به، وأما ما ذكره من الفصل بينهما، بأن نفس الكعبة والمرمي ليس مأمورا، فسؤال يدل
على جهل سائله بحقيقة ما يتحراه المجتهد.
وذلك لان الذي يتحراه المجتهد موافقة الأشبه عند الله تعالى من هذه الأصول، والأشبه
إنما هو صفة للأصل الذي يتحرى المجتهد (موافقته، وتلك الصفة التي وصفها الله
تعالى وجعلها لذلك الأصل المجتهد) غير مأمور بها، كما أنه ليس مأمورا بالكعبة، ولا
بالكافر المرمي، وإنما هو مأمور بتحري محاذاة الكعبة (ومحاذاة الكعبة) هي فعله إذا
فعلها، ومأمور بالتسديد نحو الكافر، ومحاذاته برميته، وذلك فعله، وإن لم يكن المرمي من
فعله.
323

ولا فرق بينهما وبين حكم الحادثة من هذا الوجه.
ويدل على صحة ما ذكرنا: اتفاق الجميع على أن المجتهدين في تدبير الحروب
ومكائد العدو، وإن اختلفوا فهم مصيبون لما كلفوا، وإن كانت الحقيقة التي عند الله تعالى
فيها واحدة من تلك الآراء، ولم يكن من قصر رأيه عن إصابة الحقيقة عند الله تعالى في ذلك
الامر مخطئا لحكم الله تعالى.
وسبيل الاجتهاد في أحكام الحوادث، سبيل الاجتهاد في تدبير الحروب ومكائد العدو.
324

فصل:
في سؤالات من قال: إن الحق
في واحد واحتجاجهم لذلك
قال أبو بكر: قد استدل من قال ذلك بأشياء من جهة الظاهر، وقول السلف، والنظر.
فمما استدلوا به من جهة الظاهر على بطلان قول القائلين بتصويب المجتهدين في
أحكام حوادث الفقه: أن الله تعالى قد عاب الاختلاف والتفرق، وذم المختلفين في الدين،
وعنفهم بقوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " وقال تعالى: " واعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " وقال عز وجل: " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه "،
وقوله تعالى " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " وقال تعالى: " إن الظن
لا يغني من الحق شيئا " وقال تعالى: " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ".
وقال تعالى: " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ".
فتضمنت هذه الآيات النهي عن الاختلاف والتفرق نهيا عاما في الأصول والفروع
. فدل أن ما أدى إلى ذلك فليس هو حكما لله تعالى، لأنه انتفى من الاختلاف، ونفاه عن
325

أحكامه، وأن يكون من عنده بقوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا ".
وقول القائلين بتصويب المجتهدين يوجب جواز الاختلاف، وحكم مع ذلك القول
ببطلان الظن والحكم بالهوى.
وليس الحكم بالظن واتباع الهوى إلا أن يحكم الحاكم بما يغلب في ظنه ويستولي على
رأيه من غير اتباع دليل يوجب له القول به.
الجواب: يقال لهم: أخبرونا عن الاختلاف الذي ذمه الله تعالى، وعاب أهله في هذه
الآيات، ونهى عنه، هو الاختلاف في أحكام حوادث الفتيا؟
فإن قالوا: نعم.
قيل لهم: فينبغي أن يكون للصحابة والأئمة الهادية من الصدر الأول الحظ الأوفر من
هذا الذم، ومن مواقعة هذا النهي، لكثرته فيما بينهم من مسائل الفتيا.
فإن كانوا كذلك عندكم، فقد صرتم إلى مذهب الطاغين في السلف من سائر فرق
الضلالة. وليس هذا قول أحد من الفقهاء.
والكلام على هؤلاء من غير هذا الوجه، لأنه كلام في الأصل، وإنما تكلم ههنا في تعذر
المجتهدين من القائلين بالاجتهاد.
فإذا كان المختلفون في مسائل الفقه معذورين ومأجورين، فكيف (يجوز) أن يكونوا
رضي الله عنهم من أهل هذه الآيات، فقد وجب باتفاقنا جميعا أن الاختلاف في مسائل
الفتيا غير مراد بها، ولا داخل فيها ولو كانت هذه الآيات موجبة لذم الاختلاف عاما،
لوجب أن يكون المختلفون عند الفتاوى في تدبير الحروب مستحقين لحكم هذه الآيات
مذمومين باختلافهم.
وقد اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما عند النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أسارى بدر، فلم يجعلهم
الله تعالى ولا نبيه صلى الله عليه وسلم من المختلفين الذين شملهم حكم هذه الآيات.
326

فثبت لما وصفنا أن اختلاف المجتهدين ليس ما ذمه الله تعالى بهذه الآيات.
ولو كان ذلك اختلافا مذموما، لوجب أن يكون اختلاف العبادات الواردة من طريق
النص مذموما، نحو اختلاف فرض المقيم والمسافر في الصلاة والصوم، واختلاف حكم
الطاهر والحائض فيهما.
فلما كان ذلك اختلافا في أحكام المتعبدين، ولم يكن معيبا ولا مذموما، بل كان حكمة
وصوابا من عند الله تعالى، ولم ينفه قوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا "، لان اختلاف الذي نفاه الله تعالى عن كتابه، وأحكامه، هو اختلاف
التضاد والتنافي، وذلك غير موجود في أحكام الله تعالى.
وسبيل المجتهدين إذا اختلفوا سبيل المتعبدين بالأحكام المختلفة من جهة النصوص
والاتفاق، لان كلا منهم متعبد بما أداه إليه اجتهاده، وغير جائز له تخطئة غيره في مخالفته
إياه.
وإن كان ما تعبد به خلاف ما تعبد به غيره.
كما لا يجوز للمسافر تخطئة المقيم في مخالفة حكمه لحكمه، ولا يجوز للحائض تخطئة
الطاهرة فيما تعبد به كل منهما من الحكم، كان كذلك حكم المجتهدين إذا اختلفوا
على هذا الوجه وهم جميعا مصيبون.
وأما الحكم بالظن والهوى، فإن المجتهد لا يجوز له الحكم بالظن والهوى، وإنما عليه
اتباع الامارات والشواهد، والأشباه التي نصبها الله تعالى في الأموال، وجعلها أمارات
لاحكام الحوادث، ولو كان المجتهد حاكما بالظن والهوى لكان المتحري للكعبة حاكما
بالهوى، ولكانت الصحابة حين تكلموا في مسائل الفتيا متبعين للهوى حاكمين بالظن،
327

ولكان المجتهدون في تدبير الحرب ومكائد العدو متبعين للهوى حاكمين بالظن، فلما انتفى
ذلك عمن وصفنا ولم يجز إطلاقه فيهم، كان كذلك حكم المجتهدين في مسائل الفتيا.
واحتجوا أيضا: بما ذكر الله تعالى في قصة داود وسليمان عليهما السلام في الحرث، في
قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث.. إلى قوله تعالى: " ففهمناها سليمان ".
قالوا: فهذا دليل (على) أن سليمان عليه السلام كان هو المصيب لحقيقة الحكم عند
الله تعالى، لولا ذلك لما خص بالتفهيم دون داود عليهما السلام.
قال أبو بكر: قد أجيبوا عن هذا بأجوبة: أن ليس في قوله تعالى: " ففهمناها سليمان "
دليل (على) أن داود لم يفهمها، كما أن ليس في قوله تعالى: " ولقد آتينا داود وسليمان
علما " دلالة على نفي العلم عن غيرهما من الأنبياء عليهم السلام.
وكما أن قوله تعالى: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " لا دلالة
فيه أنه لم يرض عن غيرهم ممن لم يبايع تحت الشجرة، إذ ليس في تخصيص الشئ بالذكر
دلالة على أن ما عداه بخلافه.
328

وقد بينا ذلك فيما سلف من هذا الكتاب، فسقط سؤالهم من هذا الوجه.
ثم قد تنازع أهل العلم في تأويل هذه الآية: فمنهم من قال: إن حكمها كان من طريق
النص لا من جهة الاجتهاد، وإنما حكم داود في تلك القصة (بحكم) استمده من طريق
النص، ثم نسخ حكمه في مثلها على لسان سليمان عليه السلام، بقوله تعالى: " ففهمناها سليمان "
معناه: أنا علمناه حكمها في المستقبل.
ومنهم من يقول: إن حكمهما كان من طريق الاجتهاد، إلا أن سليمان عليه السلام
أصاب الحقيقة المطلوب الذي هو الأشبه، ولم يصبها داود عليه السلام (فخض سليمان)
بالفهم لهذه العلة، وإن كانا جميعا مصيبين لما كلفناه من الحكم.
قال: والدليل على أنهما مصيبان جميعا: قوله تعالى: " وكلا آتينا حكما وعلما ". فأثنى
عليهما جميعا، ووصفهما بالعلم والحكم.
وفي ذلك دليل على أنهما جميعا كانا مصيبين لحكم الله تعالى الذي تعبدا به.
فإن قال قائل: لو كان داود مصيبا للحكم لم نقضه سليمان حين خوصم إليه فيه؟ وقد
روي في الحديث: أن سليمان عليه السلام حكم في تلك القصة بعينها بخلاف حكم داود
فيها؟
قيل له: الاحتمال الذي ذكرناه قائم، وذلك أنه لا يمتنع أن يكون داود لم يلزم الحكم
بما أداه إليه اجتهاده، وإنما أظهر للقوم الحكم عنده فيه ولم يمضه، حتى لما بلغ ذلك
سليمان قال: الحكم عندي كيت وكيت.
ويحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام في تلك الحكومة، ونص له
329

عليها، فكان قول داود فيها من طريق الاجتهاد، وما نص لسليمان عليه خلاف حكم داود
قبل أن يمضي داود ما رآه فيها.
فأخبر الله تعالى: أنه فهمها سليمان، يعني بنص من عنده، ولا يدل ذلك على تخطئته
لداود في الحكومة.
واحتجوا أيضا: بما عاتب الله تعالى عليه نبيه صلى الله عليه وسلم في مواضع كان حكمه فيها من طريق
الاجتهاد.
منها: إذنه لمن تخلف عن جيش العسرة بقوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم "
والعفو لا يكون إلا عن ذنب، وقال تعالى: " ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله ".
ومنها: ما كان منه في شأن الاسرى، وقد كان فعل جميع ذلك باجتهاد رأيه، فلم
يعر من الخطأ فيه.
(قيل له: جائز أن يكون الله تعالى إنما أوقفه على حقيقة النظير الذي هو الأشبه، ولم
يكن هذا الخطأ) خطأ في الدين، ولكنه خطأ للأشبه، وعدول عن حقيقة النظير على ما
قلنا، وأما قوله تعالى: " عفا الله عنك " فلا دلالة فيه على أنه كان ذنبا.
وليس يقول أحد من الفقهاء: إن خطأ المجتهد ذنب.
والعفو في اللغة: هو التسهيل والتوسعة، كقوله تعالى: " فتاب عليكم وعفا عنكم "
يعني سهل عليكم.
330

واحتجوا من جهة السنة بحديث علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا قال لهم: (وإذا حاصرتم أهل الحصن أو المدينة
فأرادوا أن تنزلوهم على حكم الله تعالى، فلا تنزلوهم على حكم الله تعالى، فإنكم
لا تدرون ما حكم الله تعالى فيهم) قالوا: فقد أخبر أنهم لا يدرون ما حكم الله تعالى
فيهم، وهذا خلاف قولكم: إن حكم الله تعالى هو ما يستقر عليه رأي المجتهد.
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم حين اختصم إليه رجلان، فقال لعمرو بن العاص: (اقض بينهما
فقال: أقضي وأنت حاضر؟ قال: نعم فإن اجتهدت فأصبت فلك عشر حسنات، فإن
اجتهدت فأخطأت فلك حسنة واحدة)، ويروى أنه قال مثله لعقبة بن عامر.
331

وعن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،
وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، (قالوا): فهذه الأخبار تنبئ عن خطأ المجتهدين في
الفتيا، وهي نافية لقول من قال: كل مجتهد مصيب.
الجواب: أما حديث بريدة في قوله صلى الله عليه وسلم: فإنكم لا تدرون ما حكم الله تعالى فيهم يحتمل
معنيين:
أحدهما: أنه قد كان جائزا ورود النسخ على الحكم الذي كانوا عرفوه حين فارقوا
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تنزلوهم على ذلك الحكم، لأنكم لا تأمنون أن يكون قد نسخ بعد
غيبتكم وأنتم لا تدرون به.
والمعنى الاخر: حكم الله تعالى فيهم إذا نزلوا عليه موكول إلى اجتهادنا عند نزولهم،
فيلزمنا إمضاؤه على الوجه الذي يكون أرد عن الاسلام وأصلح: من قتل، أو سبى، أو
من، واستبقاء، ووضع الجزية، وما جرى مجرى ذلك، وهذا لا يختلف مواضع الاجتهاد
فيه بحسب أحوال القوم.
فأحتمل أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم: فلا تنزلوهم على حكم الله تعالى، وأنتم الان قبل نزولهم
لا تدرون ما حكم الله تعالى فيهم، وإنما تعلمونه إذا اجتهدتم في أمورهم بعد نزولهم،
ولا تنزلوهم على ذلك إذا لم يكن عند القوم أنكم تحكمون فيهم بحكم الله تعالى من
طريق الرأي والاجتهاد، لا من طريق النص والتوقيف. فيكون فيه ضرب من التعزير لهم مما
(لم) يكونوا يعلمونه، وعسى أن يكونوا إنما يدخلون معهم في ذلك على أن عندهم أن
332

حكم الله تعالى عندنا فيهم يكون من طريق النص، دون الرأي والاجتهاد.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد " فإنه
يحتمل أن يريد إذا أصاب الأشبه المطلوب الذي يتحرى المجتهد موافقه - وإصابته باجتهاده
- (فله أجران) وان أخطأه فله أجر واحد، فيكون مصيبا للحكم في الحالين، مخطئا في
أحدهما للأشبه، لا للحكم، إذ لم يكن الأشبه هو الحكم على ما بيناه، وليس هذا الخطأ
خطأ في الحكم، وإنما هو خطأ للأشبه الذي لم يكلف إصابته، كخطأ الرامي للكافر.
فإن قال قائل: فإذا كان مصيبا للحكم في الحالين، فكيف يجوز أن يستحق في أحدهما
أجرين، وفي الآخر أجرا واحدا؟
قيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن المستحق من الاجر عن الاجتهاد، وإنما أخبر عما يعطيه
الله تعالى ويجعله على جهة الوعد له بالتفضيل، وليس يمتنع ذلك عندنا، لأنه جائز أن
يكون في معلوم الله تعالى أنه إذا وعد أحدهما زيادة أجر، وإن لم يكن مستحقه أن لا يقع
منهما تقصير في المبالغة في الاجتهاد، وطلب الأشبه.
وأنه إن لم يعد ذلك أحدهما وقع منهما فتور في المبالغة في الاجتهاد، كما هو جائز (متعالم
بيننا أن يقول حكيم) من الحكماء لرجلين: إرميا هذا الكافر، فمن أصابه منكما فله
ديناران، ومن أخطأه فله دينار واحد، فلا يكون (ممتنعا، ويكون) الفضل المشروط
للمصيب منهما، تحريضا لهما، وتطييبا في وقوع المبالغة في التسديد، وتحري إصابة المرمى،
وإن لم يكن مستحقا، وأنه لو لم يقل ذلك لوقع منها فتور في المبالغة، والاستقصاء في ذلك.
كذلك جائز أن يكون ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة الاجر للمصيب الأشبه، غير مستحق
بنفس الاجتهاد، وإنما وعد بها تحريضا وحثا على التقصي في الاجتهاد، والمبالغة في تحري
المطلوب.
333

فإن قيل: لما سماه أجرا دل على أنه مستحق.
قيل له: يجوز أن يكون سماه أجرا، وإن لم يكن مستحقا على جهة المجاز، حين كان
الوعد به متعلقا بقول يكون منه، كما قال تعالى: " وجراء سيئة سيئة مثلها ". فسمى
الجزاء سيئة على وجه المقابلة.
ووجه آخر في إيجابه الاجرين لمن أصاب الأشبه منهما: وهو أنه جائز أن يكون إصابة
المطلوب الذي هو الأشبه متعلقة بضرب من المبالغة في الاجتهاد، يصادف بها موافقة
الأشبه، وإن كان لو اقتصر على ما دونها من التقصي والمبالغة فيه كان ذلك جائزا، ولم
يكن مطلقا لأكثر منه، ولا يصيب الأشبه مع ذلك، فيكون الضربان جميعا من الاجتهاد
جائزين، وإن كان أحدهما أفضل من الاخر، لما فيه من زيادة المشقة في النظر والاجتهاد.
وإذا كان هذا هكذا: جاز أن يكون المصيب للأشبه المطلوب مستحقا لزيادة الثواب
على حسب وقوع زيادة اجتهاده على اجتهاد الذي قصر عن موافقة الأشبه.
وهذا جائز سائغ، نحو ورود العبادة من الله تعالى، كما قال جل وعز: " والقواعد من
النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات
بزينة " ثم قال تعالى: " وأن يستعففن خير لهن ".
فبين حكم المباح الذي يجوز الاقتصار عليه، وأبان عن موضع الفضل، وقال تعالى:
" فمن تطوع خيرا فهو له ". ثم قال تعالى: " وأن تصوموا خير لكم " فأباح لنا
الافطار، وأخبر بالفصل.
334

وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة، وقال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ
مرتين مرتين وقال: من توضأ مرتين ضاعف الله عز وجل أجره مرتين).
وأبيح للمسافر أن يصلي الظهر في منزله يوم الجمعة، وإن أتى الجمعة فصلاها كان
أفضل.
وكذلك المريض ليس عليه إتيان الجمعة، فإن تحمل المشقة وحضرها كان أفضل)
وكان مستحقا للثواب في إتيانها، فليس يمتنع على هذا أن يكون اجتهاد المجتهد على
ضربين:
أحدهما: التقضى (فيه)، والمبالغة في تحري موافقة الأشبه، فيتفق بمثله مصادفة
المطلوب، الذي لو انكشف أمره للمجتهد بالنص عليه كان هو حكم الله تعالى لا غير.
واجتهاد دونه: قد أبيح للمجتهد الاقتصار عليه: ولا يتفق بمثله موافقة الأشبه، وإن
ظن المجتهد أنه قد وافقه. فلا يستحق هذا من الاجر ما يستحقه الأول، وإن كان
مصيبا، كما قلنا في نظائره - التي وصفنا - في النصوص والاتفاق.
ثم يقال للمعترض بهذا الخبر: خبرنا عن الاجتهاد المؤدي إلى الخطأ، هو مأمور به؟
فإن قال: نعم.
قيل له: فكيف يكون ما أمر به المجتهد إذا فعله يكون مخطئا به، وكيف يجوز أن يؤدي
المأمور به إلى الخطأ؟
وإن قال: هو خطأ وليس بمأمور به.
قيل له: كيف يجوز أن يستحق الاجر على خطأ ليس هو مأمورا به؟ هذا خلف في
القول.
335

واحتجوا أيضا: بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (قال): (وأعلمكم بالحلال والحرام
معاذ بن جبل، وأفرضكم زيد).
قالوا، ولو كان كل مجتهد مصيبا، ما هناك أحد أعلم من أحد.
فيقال له: إن وجوه الدلائل في المقاييس مختلفة.
فمنها: ما يسوغ فيه الاجتهاد والحق فيه في جميع أقاويل المختلفين.
ومنها: ما يكون الحق فيه واحدا، لوجود الدلائل (المنصوصة عليه).
وقد يكون بعض الناس أعلم بهذه الوجوه من بعض، وقد يكون بعضهم أعلم بدلالات
القول، وما يجوز منه مما لا يجوز، وأعلم بمواضع النصوص من بعض، فليس إذا في كون
بعض الناس أعلم من بعض ما ينفي صحة قولنا.
ومما احتجوا به من قول السلف في أن الحق في واحد: ما روي عن أبي بكر الصديق
رضي الله عنه: أنه قال في الكلالة: (أقول فيها برأيي، فإن يك صوابا فمن الله تعالى، وإن
يك خطأ فمني ومن الشيطان. والله ورسوله منه بريئان).
وبما روي عن عمر رضي الله عنه لما استشار الصحابة (في أمر المرأة التي كانت يتحدث
إليها، فأرسل إليها فأفزعها ذلك، وألقت جنينا ميتا، فقالوا: لا شئ عليك، إنما أنت
مؤدب، وعلي ساكت في القوم، فقال له: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كان هذا جهد
رأيهم فقد أخطأوا، وإن كانوا قاربوك فقد غشوك، أراك قد ضمنت، فقبل قوله دونهم،
وضمنه). فقد أطلق علي رضي الله عنه اسم الخطأ عليهم في اجتهادهم.
وبما روي (أن عمر قضى بقضية، فقال له رجل: أصبت أصاب الله بك، فقال له
عمر: ما أدري أصبت أم أخطأت؟ ولكني لم آل عن الحق).
336

وبما روي أن كاتبا كتب بين يديه شيئا من أبواب القضاء، سئل عنه، فكتب هذا ما أرى
الله تعالى عمر، فأمره أن يمحوه ويكتب: هذا ما رأى عمر، ولو كان رأيه وما يؤديه إليه
اجتهاده حكما لله تعالى، لما امتنع أن يكتب هذا ما أرى الله عمر.
ويقول ابن مسعود: (فمن مات عن امرأته قبل الدخول ولم يفرض لها صداقا، أقول
فيها برأيي، فإن يك صوابا فمن الله تعالى، وإن يك خطأ فمني).
ويقول ابن عباس: (ألا يتقي الله زيد؟ يجعل ابن الابن بمنزلة الابن، ولا يجعل الجد
بمنزلة الأب؟ من شاء باهلته عند الحجر الأسود: أن الجد أب).
ويقول ابن مسعود: (من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد قوله تعالى:
(أربعة أشهر وعشرا).
ويقول عمر لعبد الرحمن بن عوف: (أرأيت لو رأيت رجلا على فاحشة. أكنت تقيم عليه
الحد؟ قال: لا، حتى يكون معي غيري، قال: فقلت:: لو قلت غير هذا لرأيت أنك لم
تصب).
وبما روي (أن أبا هريرة سئل عن صيد أصابه (حلال)، يأكل منه المحرم؟ فأفتى
بأكله، ثم لقي عمر، فأخبر بما كان من فتياه، فقال له عمر: لو أفتيتهم بغير هذا
لأوجعتك).
وقيل لسعيد بن المسيب: إن شريحا يقضي في مكاتب عليه دين: أن الدين والكتابة
بالحصص، قال: أخطأ شريح) قالوا: فقد أجاز هؤلاء الخطأ على أنفسهم في
اجتهادهم، وأنتم لا تجيزونه عليهم.
337

الجواب: إن قول أبي بكر وابن مسعود: وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان: إنما هو
إشفاق (منهما) أن تكون هناك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف آرائهما، وقد كانوا
يعرضون آراءهم على الصحابة لينظروا، هل فيما اجتهدوا فيه سنة قائمة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الحاضرين؟ (فأخبرا: أنه لو كان) هناك قول من النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف
رأيهما، فاستعمالهما للرأي في هذه الحال خطأ، منهما ومن الشيطان، لأنه لاحظ للرأي مع
السنة، كما أنه لما جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تسأله عن ميراثها،
قال: (ما أجد لك في كتاب الله تعالى شيئا، وسأل الناس، فلما سأل أخبر بسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة في ميراثها) فأشفق حين رأي في الكلالة ما رأي، أن تكون هناك سنة
بخلاف رأيه.
ويبين لك هذا: قوله في موضع آخر: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في
كتاب الله تعالى بما لا أعلم) فاستعظم أن يقول في كتاب الله تعالى بما لا يعلم، فدل
على أن قوله في الكلالة: أقول فيها لرأيي، لم يكن قولا في كتاب الله تعالى بما لا يعلم، وأنه
قد كان عنده: أن حكم الله تعالى عليه هو ما حصل عليه رأيه واجتهاده، ما لم يكن هناك
نص من النبي صلى الله عليه وسلم وسلم (بخلافه).
وأما قول علي رضي الله عنه: لعمر رضي الله عنه، فإنه لم يقل: إنهم أخطأوا حكم الله
تعالى.
وجائز أن يكون مراده: أنهم أخطأوا حقيقة النظير عندي، وهو المطلوب الذي لم يكلفوا
إصابته، وعلى أن هذا الحديث إنما يرويه الحسن، والحسن لم يشاهد (هذه) القصة.
وكذلك قول عمر رضي الله عنه: ما أدري أصبت أم أخطأت؟ هو على هذا المعنى،
لأنه لم يقل: لا أدرى أصبت حكم الله تعالى أم لا؟ ومعناه عندنا: أنه لا يدري أصاب
الأشبه الذي هو المطلوب، أم لا.
338

وأما امتناع عمر من أن يكتب: هذا ما أرى الله عمر، فإنما كان من جهة أنه لفظ
ظاهر، يوهم أنه (قال) من طريق النص، إذ كان ظاهره يقتضيه.
كما قال الله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله،
(ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله) " ومراده - والله أعلم -: ما نص عليه، وأوحي
به إليه.
وأما قول ابن عباس: ألا يتق الله زيد؟ وقوله: من شاء باهلته: أن الجد أب، فلا دلالة
فيه على ما ذكروا.
وذلك: أنه كان يقتضي أن مخالفه في الجد، تارك (لتقوى الله تعالى)، فإن أحدا
من الفقهاء لا يطلق ذلك فيمن يخالف في الجد مذهب ابن عباس.
وكذلك قوله: من شاء باهلته، لان أحدا لا يقول: إن من خالف ابن عباس في الجد
استحق اللعن، ولا في شئ من مسائل الفتيا، إلا قوما خارجين عن نطاق الإجماع.
وظاهر ذلك عندنا: من قوله: إن أخبر عن استبصاره في اعتقاده أن الجد أب، فإن عنده
أنه مصيب - في الحقيقة - النظير، فأخبر بذلك - إعلاما منه للسامعين - بأنه لا شبهة
عليه فيه، وأنه غير متوقف فيه، ولا ناظر.
ولو باهل لكانت مباهلته منصرفة إلى أن هذا عندي كذا، وهذا جائز فيه المباهلة على
هذا الوجه.
(فلا دلالة فيه على أنه كان يرى مخالفيه في ذلك مخطئين للحكم الذي تعبدوا به).
وكذلك: ما روي عن ابن مسعود: من شاء باهلته، أن قوله تعالى: " وأولات الأحمال
339

أجلهن أن يضعن حملهن " نزل بعد قوله تعالى: " أربعة أشهر وعشرا "، إنما هو
إخبار عن علمه بتاريخ نزول السورتين، ومعنى المباهلة فيه متعلق بما كان عنده، وراجع
إلى علمه دون غيره.
وأما قول عمر لعبد الرحمن، لو قلت غير هذا لرأيت أنك لم تصب، فإن معناه: أنك لم
تصب عندي حقيقة النظير، الذي هو الأشبه عندي، على النحو الذي قلنا.
وأما قوله لأبي هريرة في فتياه: لو قلت غير هذا لأوجعتك، فإنما أراد به نهيه عن الاقدام
على الفتيا والتسرع في الجواب، إذ لم يكن عنده من الفقهاء الذين يجوز لهم الإقدام على ما
يسأل عنه، من غير رجوع منه إلى إمامه، أو إلى مشاورة قوم من ذوي الفقه.
سؤال: - ومما يسأل أيضا: من أين هذا المذهب؟ أن القول بأن كل مجتهد مصيب
يؤدي إلى تضاد الاحكام وتنافيها، وإلى ما يستحيل ورود العبارة به من الله تعالى.
وذلك لان المستفتي إذا سأل أحد المجتهدين عمن قال لامرأته: أنت على حرام فأجابه
بوقوع البينونة. وسئل آخر: فأجابه فيها ببقاء الزوجية، ومعلوم: أن عليه المصير إلى قول
المفتين، فيوجب هذا عليه اعتقاد التحريم والإباحة جميعا في حال واحد، في شئ واحد،
وإن يكونا جميعا حكما لله تعالى، ويلزمون على ذلك تجويز أن يبعث الله تعالى نبيين، فيأمر
أحدهما بإيجاب حظر المرأة وتحريمها على هذا الرجل، ويأمر الاخر بإباحتها له بعينه في وقت
واحد، فيكون فرج واحد محظورا مباحا، على رجل واحد، في وقت واحد.
ولو جاز ذلك في نبيين يأمرانه بذلك، لجاز أن يأمر نبي واحد، بأن يقول له: هذا محظور
عليك، ومباح لك في حال واحدة، وهذا عين المحال، يمتنع وجود مثله في أحكام الله
تعالى.
قالوا: ويوجب تجويز ما ذكرنا في النبيين: أن يكون إن أخذ بقول أحدهما مخالفا للاخر
فقد أبيح له إذا مخالفة أمر أحد النبيين.
قالوا: وينبغي على هذا أيضا: أن يكون المجتهد لو وقع له دليل الحظر ودليل الإباحة
340

جميعا، ولم بين أحد الوجهين عنده من الاخر بضرب من الرجحان: أن يعتقد الحظر
والإباحة في حال واحدة في شئ واحد.
فلما استحال ذلك، علمنا أن حكم الله تعالى واحد (منهما)، وأن أحد المجتهدين
مخطئ لا محالة، إذا لم يكن في المسألة إلا قولين، وإن كان فيها جماعة أقاويل جاز أن
يكون القولان جميعا خطأ، والصواب في قول ثالث غيرها.
الجواب: أن شيئا مما ذكره هذا السائل غير لازم للقائلين بالاجتهاد على النحو الذي
ذكرنا، وإنما غلط السائل على مذهب القوم، فظن فيه شيئا صادف ظنه غير حقيقة
المذهب، فأخطأ عليهم في الالزام، وذلك لان من أصلهم أن كل مفت أفتى بشئ طريقه
الاجتهاد، فإنه لا يلزم المستفتي اتباع فتياه ومذهبه، فإنما يقول له: إذا تساوى عندك حال
الفقيهين، فأنت مخير في قبول فتياي أو تركها، وقبول فتيا غيري، فإن أخذت بقولي،
واخترته فعليك فيه كيت وكيت. وإن اخترت قبول قول غيري - ممن يقول بضد مذهبي - لم
يلزمك اتباع قولي، وكان حكم الله تعالى عليك ما أفتاك به دون فتياي.
فإذا أفتاه المفتيان وهما مختلفان، فإنما يصدر فتيا (كل) واحد منهما عن قائلها على هذه
الشريطة، فيكون المستفتي مخيرا بين أحد القولين، فأيهما اختاره كان ذلك حكمه الذي
عليه، دون غيره، ويكون الوطء الذي يجامع قبوله من الحاظر منهما، غير الوطء الذي يجامع
قبوله من المبيح، إذا أفتاه أحدهما بحظر وطء المرأة، وأفتاه الاخر بإباحته، فصار كل واحد
من الحظر والإباحة متعلقا بمعنى غير ما تعلق به الاخر، وهذا يجوز ورود النص به.
وكذلك نقول في النبيين: جائز أن يبعثهما الله تعالى: أحدهما بحظر شئ، والاخر
بإباحته، على شريطة أن المأمور مخير بين التزام أحد الحكمين، ولا يقول له واحد من
النبيين: إن هذا الشئ محظور عليك حظرا باتا، بل يقول له: إن اخترت المصير إلى هذا
341

القول لزمك حكمه، ولك أن لا تختاره، وتصير إلى قول النبي الاخر، فحينئذ يلزمك
ما يختاره، ويجوز ورود العبارة بمثله على لسان نبي واحد أيضا.
بأن يقول: أنت مخير بأن تلزم نفسك أحد الحكمين من حظر أو إباحة.
ألا ترى: أنه قد يجوز ورود النص فيمن قال لامرأته: أنت على حرام، بأن يقال
(له): أنت مخير بين أن تجعله طلاقا، أولا تجعله كذلك.
فإن جعلته طلاقا كانت محرمة، وإن لم تجعله طلاقا لم تحرم عليك.
كما أن الرجل مخير قبل أن يقول شيئا بين أن يحرم امرأته بالطلاق، وبين أن لا يحرمها،
فيكون على حالها، وهو مخير بين أن يحرم أمته بالعتق، وبين تركها على الإباحة والرق.
وإذا كان جائز ورود النص بمثله على وجه التخيير، جاز أن يفرضه من طريق
الاجتهاد، ويكون ورود الإباحة والحظر جميعا على هذه الشريطة حكما لله تعالى، كما خير
النبي صلى الله عليه وسلم في أمر نسائه بقوله تعالى: " ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء).
وأما قوله: إن ذلك يوجب مخالفة أحد النبيين إذا صدر الامر من كل واحد منهما على
الوجه الذي ذكرنا.
فإنه إن كان مراد السائل بذكر المخالفة مخالفة أمره فلا، وإن أراد مخالفة الفعل فجائز،
وإنما لم يكن مخالفا، لان النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد أمره بشريطة اختيارك له، دون اختيار (أمر)
النبي صلى الله عليه وسلم الاخر.
فإذا اختار أمر النبي الآخر، لم يكن مخالفا لأمر الله تعالى.
342

وأما مخالفة الفعل: فجائز إذا صادف موافقة الامر.
ألا ترى أن المسافر إذا صلى ركعتين، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم أربعا، كان مخالفا
للنبي صلى الله عليه وسلم في فعله، وكان ذلك جائزا له، لأنه لم يخالفه في أمره.
وقد سألوا في نحو هذا، بأن قالوا: ألا يخلو كل واحد منهما بأن يكون ناهيا للمأمور عن
قبول قول الاخر أولا؟
فإن لم يكن ناهيا عن ذلك فهو له مبيح، أو أن يكون ناهيا عن ذلك، فيكون اتباع كل
واحد منهما معصية للاخر.
فنقول له: إن ههنا قسما ثالثا، قد ذهب عليك أمره، وهو أن كل واحد منهما إياه معقول
بشريطة اختيار المأمور إياه، فإن اختاره كان منهيا عن حكم آخر غيره، وإن اختار ما قاله
النبي الآخر كان الذي عليه من الحكم ما اختاره، وكان منهيا عن إمضاء حكم آخر غيره
على نفسه.
وإذا كان مصدر الامرين من النبيين على هذه الجهة، سقط اعتراض السائل لما ذكر،
وكانت المسألة مستمرة على أصل القوم.
فإن قال قائل: إذا كان دليل الإباحة يوجب إباحتها، ودليل الحظر يوجب حظرها، صار
كل واحد من الدليلين بمنزلة نص، لو ورد على هذا النص من غير تخيير، لان الدلالة في
واحد منهما لم يقتض التخيير.
وإيجاب التخيير ضد موجب الدليل جميعا.
وغير جائز ورود النص على هذا الوجه، وهما ثابتا الحكم، وإنما يجوز ورود النص بذلك
على جهة نسخ أحدهما بالآخر.
فأما ورودهما معا على هذه الوجه فمحال.
فكذلك غير جائز ورود الدليل، لأنهما إذا وردا كذلك لا يوجبا تخييرا.
قيل له: قد بينا فيما سلف: أن دلائل أحكام الحوادث ليست موجبة لمدلولاتها، وأنه
343

يجوز وجودها عارية عن مدلولها، وإنما تتعلق الاحكام بها، على معنى أنها جعلت
علامة (لها) وسمة، كدلالات الأسماء على ما علق بها من الاحكام.
وإذا كان هذا هكذا، لم يمتنع دليل الحظر والإباحة على الوجه الذي ذكرنا، ويتساويا
جميعا في نفيه، فيكون مخيرا في إمضاء الحكم بأيهما شاء، منفرا على جهة الجمع بينهما.
والكلام في حكم الدليلين إذا تساويا عند المجتهد على هذا الوجه، لم صارا موجبين
للتخيير من مقتضى كل واحد منهما عند الانفراد، خارج عن مسألتنا.
ومتى قلنا للسائل: إن الدلالة قد قامت عندنا على أن التخيير في هذه الحال من حجم
موجب الدليلين إذا تساويا عنده، سقط سؤاله، وصار الكلام في مسألة أخرى غير ما نحن
فيها.
ونحن نبين وجه إيجاب التخيير عند تساوى جهة الحظر وجهة الإباحة في نفس المجتهد،
وإن لم يلزمنا ذلك للسائل بحق النظر.
فنقول: قد علمنا عند رجحان أحد القولين عند المجتهد: أن الموجب كان للترجيح هو
الاجتهاد، فمتى زال ترجيح الاجتهاد له، وصار الاجتهاد موجبا للتسوية بينهما، استحال
إثبات الترجيح مع نفي الاجتهاد له، وهو إنما يصير إلى الحكم من طريق الاجتهاد، لأنه
يكون نفي موجب للاجتهاد، إذا كان الاجتهاد قد أوجب التسوية، فانتفى بذلك إثبات
الترجيح، إذا كان من حيث يثبت يبطل.
ولو جاز نفي التسوية مع إيجاب الاجتهاد لها لجاز نفي الرجحان مع إيجاب الاجتهاد له،
وفي إجازة ذلك إبطال الاجتهاد رأسا، فلما بطل هذا، علمنا أن تساوى جهتي الحظر
344

والإباحة يقتضي تخييرا لمن وقع ذلك له، في أن يمضي أي الاجتهادين شاء، فيحكم به
دون الاخر، لاستحالة جمعهما (جميعا) في حال واحدة.
قال أبو بكر: ومن الناس من يسقط هذا السؤال، ويحيل تساوى جهتي الحظر والإباحة
عند المجتهدين.
ومن قبله أجاز ذلك، (ويقول: ليس بممتنع) في العادة أن يستوي في تدبير الحروب،
ومكائد العدو جهتا الاقدام والاحجام.
وقد يتساوى عند المتحري للكعبة الجهات في ليلة مظلمة في بيت مظلم، أو في فلاة في
غيم وظلمه.
فإذا كان ذلك غير ممتنع فيما وصفناه، وقد يعرفه الانسان من نفسه، لم يكن لإنكاره
وإحالته في مسائل الفتيا وتساوي جهات الاحكام عند المجتهد وجه.
فإن قال: فإذا جوزتم للمجتهد تساوي الحكمين عنده، واعتدالهما في نفسه، وأوجبتم به
التخيير في هذه الحال، فجوزوا له أن يختار أحد القولين في حال، ثم يعقبه باختيار القول
الاخر، والعدول عن الأول إليه، حتى يختار في قوله: أنت حرام، طلاق امرأته، ويختار عتق
عبده في لفظ قد اعتدل فيه الرق والحرية، ثم يختار بعد ذلك إمساكها بعد البينونة، ويختار رد
العبد إلى الرق بعد الحرية، من غير نظر، ولا فكر، ولا اجتهاد، كما كان له بدءا أن يختار
أيهما شاء إذا كانا عنده متساويين.
فكذلك يختار الثاني عقيب الأول، ثم يعود بعده فيختار الأول، لوجود العلة الموجبة
لاعتدال القولين عنده.
ويلزم أيضا على هذا: أنه إذا آلى من امرأتين، فمضت أربعة أشهر أن له أن يختار في
أحدهما وقوع البينونة، بمضي المدة، ولا يختار في الأخرى ونوعها بمعنى المدة، وأن يقيم
على نكاحها إلى أن يوقف، ويحرم إحدى امرأتيه بالرضعة الواحدة، ولا يحرم الأخرى إلا
بخمس رضعات في حال واحدة.
345

كما يطلق امرأتين فيراجع إحداهما، ولا يراجع الأخرى حتى تبين.
وكما أن له إذا حنث في يمينين أن يختار في إحداهما العتق، وفي الأخرى الكسوة، أو
الاطعام.
وينبغي أن يجيزوا له إذا استفتاه رجلان في الحرام: أن يفتي بأحدهما بالطلاق، ويفتي
أحدهما بأنه يمين، ليس بطلاق في مجلس واحد، وهما حاضران.
قال أبو بكر: الجواب: أنه متى اختار أحد الامرين لم يجز له العدول عنه، إلا برجحان
يبين له في القول الاخر.
والكلام في امتناع جواز ذلك خارج عن مسألتنا.
ومتى قلنا: إن ذلك ممتنع غير جائز، لدليل قام عليه.
فقيل لنا: ما الدليل عليه؟ وما أنكرت أن يكون كسائر ما ألزمناكم التسوية بينه وبينه؟
فشرعنا في ذكر المعنى الموجب للفرق بينهما، كان ذلك اشتغالا بمسألة أخرى.
وعلى أنا مع ذلك لا نخلي السائل عن ذلك، من إسقاط سؤاله من وجه آخر، وهو أنا
قد وجدنا في الأصول من أن يكون مخيرا بين شيئين، ثم إذا فعل أحدهما سقط خياره في
فعل الآخر.
ألا ترى: أن الانسان مخير بين طلاق امرأته، وبين تبقيتها على النكاح، ومخير بين أن
يراجع المطلقة، وبين أن يتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين.
ومخير بين عتق عبده، وبيعه، أو تركه.
ومخير بين أخذ ما بيع في شركته، أو جواره بالشفعة، وبين ألا يأخذ، ولا يطلب، فتبطل
شفعته.
ومخير بين الإقالة، والخلع، ونحوه من العقود، وبين أن لا يفعله، ثم إذا وقع كان مخيرا
في ترك إيقاعه من ذلك، سقط خياره في هذه الوجوه، ولم يكن له بعد ذلك العدول إلى الامر
الأول، ولا فسخ ما كان أوقعه، مما كان مخيرا فيه قبل إيقاعه.
وكذلك المسافر: مخير أن يصلي ركعتين، أو يدخل في صلاة مقيم، فيصلى أربعا.
346

فإن دخل في صلاة مقيم سقط خياره، (فإذ قد كنا) وجدنا في الأصول من كان مخيرا
بين شيئين، ثم اختار أحدهما وألزمه نفسه (إياه) (وأمضاه)، لم يكن له الرجوع عما
أمضاه، ولا العدول إلى آخر، فقد بطل أن يستدل بوجوه خياره قبل الاختيار والايقاع على
بقاء خياره في فسخ ما أوقع، (و) العدول عنه إلى غيره.
وسقط بذلك سؤال السائل لنا: بأنه لما كان مخيرا في الابتداء وجب بقاء خياره، ما لم
يحدث هناك عنده ترجيح لاحد القولين.
ولم يصح أن يجعل الخيار الذي يصدر له عن الاجتهاد عند تساوى الجهتين من القبيل
الذي ذكره من كفارات الايمان، مما لا يمنع اختياره (لاحد أشياء)، من بقاء خياره دون
أن يجعله من القبيل الذي ذكرنا من الأمور التي يكون له فيها الخيار، ثم إذا أوقع أحدهما
سقط خياره، ولم يكن له العدول إلى الآخر.
ومع ذلك فإنا نذكر المعنى المسقط للخيار إذا اختار أحد الامرين. وإن لم يلزمنا
للسائل.
نحق النظر إذا كان الفرض حصول الفائدة.
فنقول: إن ما ذكرنا من امتناع جواز ذلك معنى قد انعقد به إجماع أهل العلم، وذلك
لان الناس في هذا على أقاويل ثلاثة:
منهم: من أبى وجود تساوي القولين عنده، (ويقول: لابد من رجحان أحدهما عنده،
فيلزمه المصير إليه دون الآخر).
ومنهم:
من يقول يصح وجود تساوي القولين عنده، إلا أنه مع ذلك يجب عليه التوقف
على إمضاء الحكم بأحدهما، حتى يبين له رجحانه.
347

ومنهم من يقول: يختار أيهما شاء، فأيهما اختاره لم يجز له العدول عن الاخر، إلا بضرب
من الرجحان، يوجب له العدول عنه.
فقد انعقد إجماع الجميع، بامتناع جواز انتقال ما اختاره عند تساوي جهات الاجتهاد
عنده إلى غيره، من غير رجحان في ذلك القول، يوجب له العدول إليه عن الأول.
فمتى أجزنا له التقلب في الاختيار من غير طريق نظر ولا رجحان، كان ذلك خروجا عن
نطاق الاجماع.
وجهة أخرى: وهي (أن) التنقل في الرأي والاختيار مع تقارب الحال وسرعة المدة،
فعل مذموم عند العقلاء، إذا لم يكن هناك سبب يدعو إليه، والمعنى على شاكلة واحدة،
ولزوم طريقة واحدة، أحسن عندهم في الأخلاق، والسير، والسياسات، من التنقل في
الآراء ويسمون من يفعل ذلك ذا بدوات، يذمونه به، وتقل الثقة برأيه والاستتامة إلى
اختياراته.
فلما كان ذلك كذلك، صار حصول هذا المعنى موجبا للقول الذي اختاره ضربا من
الرجحان، ووجها من الاختصاص في كونه أولى بالاثبات.
ومعلوم أن وجود الرجحان فيه لاحد الوجهين في الابتداء يوجب كونه أولى، وكذلك إذا
حصل له بعد اختياره إياه ما ذكرنا من وجوه الرجحان، أوجب ذلك كونه أولى من الآخر،
ولم يجز له بعد اختياره الآخر العدول إليه.
من جهة أخرى: إن التنقل في الرأي والتقلب في الاختيار مع قرب المدة وسرعة الوقت
من غير سبب أوجبه، يوجب الظنة بصاحبه، والتهمة له في إيقاع الهوى، واختيار الميل إلى
أحد الخصمين دون الآخر، بما تسلق به على إيثاره الهوينا في أمر الدين، وعلى فساد
العقيدة.
والانسان منهي عن فعل ما يطرق على نفسه هذه الوجوه.
وربما تسلق أيضا بتجويز ذلك بعض من لا دين له، ممن يتعاطى ذلك من الحكام
348

والفقهاء، إلى اتباع الهوى، والجهل به إلى أحد الخصمين، ويجعله ذريعة إلى أخذ
الرشوة، واستيكال الناس به، كما قد رأينا كثيرا من أهل هذا العصر يفعلونه، ثم يوهم
مع ذلك أنه إنما فعل ذلك، لأنه مسوغ له في الدين، وأن اجتهاده قد أجاز له ذلك.
فلما كان جواز ذلك مؤديا إلى هذه المستنكرة علمنا فساد قول القائل به، وليس كذلك
كفارة اليمين وما ورد به النص في التخيير، من قبل أنه لا يلحقه ظنه ولا تهمه باختياره
بعض ذلك دون بعض.
وسائر الوجوه المانعة ذلك في باب الاجتهاد معدومة فيه، فلذلك جاز له النقل في الاختيار.
من غير روية ولا نظر.
ومن الناس من يقول: إن المخير في إيقاع أحد الأشياء لا يصح منه اختيار بعض ذلك
دون بعض، إلا (بجاذب - يجذبه) إليه، وداع يدعوه إليه، وبمعنى يتفرد به مما سواه،
كنحو من يدعوه داع من نفسه إلى اختيار الطعام، لأنه يراه أسهل مطلبا، (وأولى)
بسد الجوعة. أو اختيار العتق، لأنه أعظم أجرا، أو الكسوة، لأنها تنفع في وجوه لا يسد
فيها مسدها غيرها، من ستر العورة، والزينة، وما جرى مجرى ذلك.
وإذا كان ذلك كذلك، لم يصح أن يختار أحد أشياء مما يساوى جهات الاجتهاد فيه، إلا
بضرب من الرجحان، فيلزم حينئذ ملازمته والثبوت عليه، إلى أن يثبت من رجحان الآخر
عنده ما يوجب النقل عنه.
وينفصل من كفارة اليمين من هذا الوجه بأن تنقل الآراء وتبدل الاختيار في كفارة
الايمان في أحوال متقاربة، غير مستنكر عند العقلاء.
والتنقل في اختيار منه يخرجه الاجتهاد، لا يتقارب أوقاتها إذا كان عن نظر وفحص، وإذا
349

ظهر منه التنقل في وقت قريب المدة أوجب ذلك سوء الظنة به، والتهمة بإيثار الهوى،
والانتقال عن مذهب كان عليه من غير سبب أوجب انتقاله، فلذلك امتنع الانتقال فيه من
قول إلى قول، من غير حادث من نظر يدعو إليه.
وأيضا: فإن هذا السؤال يرجع على سائله من حيث سأل، لأنه لا يخلو من أن يكون
من نفاة القياس والقائلين بما يسميه دليلا، أو من القائلين بالقياس، ممن يجعل الحق في
واحد، فمن أي الفريقين كان، فهذا السؤال عليه (قائم) في مذهبه، حسب ما أراد
إلزامنا إياه.
وذلك لأنه يقال له: خبرنا عن المستفتي إذا استفتى رجلين من أهل الفتيا عن مسألة نازلة
فاختلفا عليه، فكيف يصنع؟
فإن قال: ينظر في صحة أحد القولين، وفي وجوه دلائله، فيمضيه ويحكم به.
قيل له: فإنه عامي جاهل، ولا يصير كذلك إلا بعد العلم بالأصول، والمعرفة
بطرق الاستدلال، وهو غلام قد بلي بالحادثة في أول حال بلوغه، أو امرأة (قد) بليت
بحادثة في أمر الحيض والاستحاضة بأمرها بما يتعلم الأصول والتفقه فيها، حتى يصيرا من
أهل الاجتهاد والنظر، ويهملا أمر الحادثة، وعسى أن لا يبلغا هذا الحال أبدا.
وهذا قول ساقط، مرذول، خارج عن نطاق الاجماع، وقد بيناه فيما سلف، فثبت أن
على المستفتي قبول قول أحد المفتيين إذا تساويا عنده في اجتهاده في العلم والدين
والثقة.
فيقال لهذا السائل: فما تصنع إذا اختلفا عليه فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة؟.
350

فإن قال: هو مخير (في أن يأخذ) بقول أيهما شاء.
(قيل له)، فإن أخذ بقول أحدهما وألزمه نفسه، هل يسوغ له الرجوع عنه إلى قول
الآخر ونسخ القول الأول؟
فإن قال: نعم. أجاز ما أنكره في سؤاله إيانا، وهذا يوجب سقوط سؤاله.
فإن قال: لا.
قلنا: مثله فيما سأل، وسقوط سؤاله أيضا.
ومما سألوا عنه في ذلك: الرجل يقول لامرأته أو لعبده، كلمة ليست عنده بطلاق،
ولا عتاق، وعند المرأة، والعبد أنها طلاق وعتاق.
وطريقه الاجتهاد، فيوجب قولكم على المرأة الامتناع عليه، ويوجب الزوج إباحة
وطئها، ويوجب على العبد الامتناع من استرقاقه، ويجيز للمولى استرقاقه، وهذا يؤدي
إلى التمانع والفساد، وغير جائز ورود العبارة من الله تعالى بمثله.
والجواب عن هذا: أن هذا إذا كان على هذا، فعلى العبد والمرأة الامتناع عليه، حتى
يختصما إلى حاكم يحكم بينهما بأحد شيئين، فحينئذ يلزمهما اتباع حكمه، وترك رأيهما لرأيه
(فلا يكون في ذلك) تمانع، ولا فساد، ولا تنافي في الاحكام، ولا تضاد.
ثم نقلب عليهم هذا السؤال في رجل له أمة مقرة بالرق، معروفة أنها له (إذا) أعتقها
بحضرتها ولم يعلم بذلك غيرها، ثم مات الرجل، وله ابن لم يعلم بعتقها.
أليس من قولك وقول الناس جميعا: إنه جائز للابن استرقاقها، ووطؤها، وواجب عليها
الامتناع، فيه فهل أوجب ذلك تضادا في الحكم؟
فإن كان وقوع مثله جائزا فيما انعقد به الاجماع، فما أنكرت من مثله فيما طريقه الاجتهاد؟
فإن قال قائل: فإذا كان حكم الحاكم عليه بخلاف رأيه يوجب عليه ترك رأيه إلى رأي
الحاكم. فهلا دل ذلك على أنه غير مصيب في اجتهاده؟ لأنه لو كان كذلك لما جاز ترك
الصواب إلى غيره.
351

قيل له: لما انعقد إجماع السلف والخلف بذلك فيما طريقه الاجتهاد، وصار حكمه حينئذ
ما حكم به الحاكم دون ما أداه إليه اجتهاده، كما كما لوبان له ضرب من الرجحان في
خلاف قوله الذي اعتقده، وجب عليه الانتقال إليه، وكان ذلك حكمه الذي تعبد به دون
الأول.
ومن سؤالاتهم في ذلك: أنه لو كان كل مجتهد مصيبا، لما جاز لكل واحد من المجتهدين
أن يقول: قولي أصوب، وأولى من قول مخالفي، ولما كان دعاؤه للناس إلى قوله بأولى
من دعائه إلى قول مخالفيه. فلما وجدنا كل واحد من المجتهدين إنما يدعو إلى قول
نفسه دون قوله مخالفيه، ويزعم أن قوله أولى من قولهم وأصوب، دل ذلك على أنه إنما ساغ
له ذلك، لان عنده أنه هو المصيب وأنهم مخطئون.
وأيضا فلو كان كل مجتهد مصيبا، لارتفعت المناظرات من المجتهدين، لأنه غير جائز له
أن يناظر ليرده عن صوابه، إذ غير جائز لأحد أن يرد غيره عن صواب هو عليه.
وأيضا: فإن هذا يوجب بطلان مراتب العلماء، ويمنع أن يكون بعضها أعلا من
بعض، إذ كان كل واحد منهم مصيبا لحكم الله تعالى لان اختلاف مراتب العلماء
متعلق بكثرة إصابة أحكام الله تعالى فيما طريقه الاجتهاد.
الجواب: أما الفصل الأول في جواز تخطئة كل واحد منهم لمخالفيه وتصويبه فإنه غير
جائز لواحد من المجتهدين تخطئة مخالفه فيما كان طريقه الاجتهاد، كما لا يجوز للمسافر تخطئة
المقيم في مخالفة فرضه لفرضه.
وكما لا يجوز للطاهر تخطئة الحائض، لان فرض كل واحد منهم غير فرض صاحبه،
كذلك كل واحد من المجتهدين، فإن فرضه ما أداه إليه اجتهاده، فغير جائز له تخطئة
صاحبه في اعتقاده.
352

وجائز أن يقول: قولي أولى وأصوب، بعد أن يعتد بشريطة ما عنده فيقول: هو
عندي أصوب وأولى، لأنه يرجع فيه إلى المطلوب الذي هو الأشبه عنده، فيقول: هو عندي
أصوب، لان في اجتهادي أن حكم هذا هو الأشبه، ولا يجوز أن يقول: إن الأصوب
والأولى لمخالفي اتباع قولي: ولا الرجوع إلى اجتهادي، فلا يقول أيضا: إن الاصواب عند
من خالفني خلاف ما أداه إليه اجتهاده.
وأما دعاؤه مخالفيه إلى قوله ومذهبه، فإنه غير جائز له أن يدعوهم إلى ذلك: إذا كانت
مقالاتهم قد صدرت عن اجتهاد، ويجوز له أن يدعوهم إلى النظر والمقاييس، وفيه
ضروب من الفوائد - مع كون الجميع مصيبين -.
منها: أنا قد بينا فيما سلف: أن الاجتهاد من المجتهدين في أحكام الحوادث على
ضربين:
أحدهما: الاستقصاء في النظر والمبالغة في الفحص.
والثاني: اجتهاد دون ذلك، قد يجوز له الاقتصار عليه، وأن المبالغة في النظر أقرب إلى
إصابة الأشبه، وأولى بمصادقة المطلوب، وهو الذي يستحق به الاجرين - على ما جاء في
الخبر - وأن ما دونه أبعد من موافقة النظير وإصابة المطلوب، وأنه قد يغلب في ظن المجتهد
(إصابة المطلوب) وهو الذي يستحق به (الاجر) الواحد.
وإذا كان هذا على ما وصفنا، جاز لأحد المجتهدين دعاء مخالفه إلى المبالغة في النظر
واستقصاء وجوه المقاييس، لان عنده أنه قد حل بهذا المحل، وأنه قد أصاب حقيقة النظير
عنده، فيدعو إلى ذلك، ليستحق الاجرين، وهذا وجه سائغ (جائز).
353

ووجه آخر: وهو أن عليه أن يبين للعلماء وجه ما ذهب إليه، ليزول عنه الظنة في اتباع
الهوى، وإيثار الهوينا من غير مقايسة ولا نظير، وأن ما انتحله وجه يسوغا الاجتهاد،
ويجوز اعتقاده من الوجه الذي ذهب إليه.
وأما قوله: إن هذا القول يوجب تساوي العلماء في رتبة العلم، وأن لا يفصل بعضهم
بعضا، إذ كلهم مصيب الحكم الله تعالى: فإنه غير موجب لما ذكر، لان الاجتهاد إذا كان
على مراتب: منه: ما يصادف (به) حقيقة المطلوب، (ومنه ما يقصر دونه، جاز أن
يتفاضل العلماء فيه، وكل من كان أكثر موافقة للمطلوب) كان أعلا رتبة فيه، وإن لم يعلم
كل واحد منهم أنه مصيب للمطلوب الذي هو الأشبه.
وأيضا: فليس العلم كله مقصورا على الاجتهاد، حتى إذا تساوى المجتهدون في أن
كلا منهم مصيب، وجب الحكم بتساويهم في مرتبة العلم، وذلك لان المجتهدين قد يكون
أحدهما أعلم بالأصول أنفسها، ومواضع النصوص والاتفاق، وقد يكون أعرف بوجوه
الاستدلال، ورد الحوادث إلى النظائر والأشباه، ووجوه التأويلات، واحتمال اللفظ
للمعاني، وبحكم الألفاظ ومقتضاها من المعاني.
فإذا كانت منازل العلماء قد تتفاوت في هذه الوجوه، فلم يلزمنا إسقاط مراتب العلماء
بتصويبنا المجتهدين، إذا كانت منازلهم قد تتفاوت في الوجوه التي ذكرنا؟
فإن قال قائل: فما تقول في المطلوب الذي هو الأشبه عند الله تعالى؟ تقول: إنه
حكم الله تعالى في الحادثة؟.
فإن كان ذلك كذلك فواجب أن تقيم الدليل عليه، وتجعل للمجتهد سبيلا إلى العلم
به، وإن لم يكن هو حكم الله تعالى فلا معنى لتكليفهم طلبه، لأنه غير جائز أن يكلفهم
354

طلب ما ليس بحكم الله تعالى في الحادثة.
قيل له: (نقول): إن الأشبه هو حكم الله تعالى على من صادقه باجتهاده.
ومن لم يصادفه باجتهاده فحكم الله تعالى عليه ما استقر عليه رأيه، وليس واحد من
المجتهدين مكلفا لإصابة الأشبه، وإنما هو مكلف للاجتهاد في (تحري) مواقفه الأشبه
عنده، فلا يجوز إطلاق القول: بأن الأشبه عند الله تعالى هو الحكم الذي تعبدنا به.
ولا يطلق أيضا أنه ليس هو الحكم، لأنه إنما يكون حكما بالإضافة والتقييد على الشريطة
التي ذكرنا.
وهذا كما نقول للمتحري للكعبة، ولرامي الكافر: إنه لا يجوز إطلاق القول: بأن إصابة
محاذاة الكعبة، وإصابة الكافر حكم الله تعالى عليه، ولكنا نفيده فنقول: هو مكلف
للاجتهاد والارتشاء في محاذاة الكعبة، وإصابة الكافر، فإن أصابهما كان حكم الله عليه،
وإن أخطأهما كان حكم الله عليه ما فعله، لا غيره.
فإن قال قائل: إذا كان المجتهدون مصيبين لما كلفوا، فما أنكرتم أن يجتهد مجتهد فيعتقد
أنكم مخطئون في إجازة الاجتهاد والقياس، فيكون مصيبا، وأن يكون الجوارح ومن استحل
دماءكم مصيبا، إذ قاله عن اجتهاد رأيه.
قيل له: قد بينا فيما سلف: أنه ليس كل الحوادث طريقها الاجتهاد، وغالب الظن، وأن
منها ما لله تعالى عليه دليل قائم، يأثم مخطئوه والعادل عنه، (ومنها: ما لا يجوز) الاجتهاد
فيه، ويخطئ القائل به، قول من أبى جواز الاجتهاد في الاحكام.
وكذلك مذهب من استحل دماءنا من طريق التأويل: قد قامت الدلالة ببطلان قوله إذا
لم يكن طريقه الاجتهاد، على النحو الذي ذكرنا.
355

وقد يجوز عندنا إباحة الدم بالاجتهاد، ويجوز حظره أيضا من هذه الجهة، فيما لم ينصب
لنا عليه دليل قاطع.
ألا ترى: أنا نجوز الاجتهاد في قتل المسلم بالرمي، ونسوغ الاجتهاد في حظره،
فيكون الفريقان جميعا مصيبين.
وإنما (لا) يسوغ ذلك فيما قامت الدلالة فيه بأحد الوجهين، فيذهب ذاهب عن وجه
الدلالة لشبهة تدخل عليه، فيكون مخطئا، ثم يختلف مراتب المخالفين لنا فيه في باب
المأثم، وعظم الخطأ، على حسب ما يقتضيه الواقع فيه.
فإن قال قائل: فما تقولون فيمن وافقكم على إباحة الاجتهاد في الأصل، وخالفكم في
تصويب المجتهدين، وزعم أن الحق في واحد، والمصيب واحد من المختلفين؟ هل تجعلون
مذهبه هذا (من) باب الاجتهاد، وتصوبونه فيه؟
فإن كان كذلك فهو يشهد عليهم بالخطأ في تصويبكم المجتهدين، وقوله صواب،
وهذه القضية تقتضي منكم القول بخطأ قولكم، من حيث صوبتم من قال فيه
بتخطئتكم.
وإن لم تسوغوا لهم القول: بأن الحق في واحد، لزمكم (الحكم بتأثيمهم) على حسب
ما التزمتموه من نفي القول بالاجتهاد رأسا.
قيل له: لا فرق عندنا بين القائلين بنفي الاجتهاد رأسا، وبين من نفى تصويب
المجتهدين فيما وصفنا، ولا يسوغ عندنا الاجتهاد في هذه المقالة، كما لا يسوغ في نفي
الاجتهاد والقياس. والحكم بتأثيم الجميع واجب عندنا، وهما بمنزلة سواء في هذا
الوجه، لان الدلالة التي دلت من جهة الآثار وفعل الصحابة على جواز القول بالقياس
والاجتهاد: هي بعينها دالة على تصويب المجتهدين، على النحو الذي ذكرنا، فالحاكم
بتخطئة الفريقين وتأثيمهما واجب.
356

سؤال: إن قال قائل: هل يخلو القائل لامرأته: أنت علي حرام، من أن يكون
طلاقا، أو ليس بطلاق؟ فإن كان في نفسه طلاقا، فالواجب أن يقع الاجتهاد فيه ساقطا.
وإن لم يكن في نفسه طلاقا فيكف يصير طلاقا بالاجتهاد؟.
الجواب: إن قوله: أنت علي حرام ليس طلاقا في نفسه، وإنما يصير طلاقا بحكم الله
تعالى بإيقاع الطلاق به.
فإن قيل: فما حكم الله تعالى في هذا القول؟
قيل له: لا يجوز إطلاق القول فيه بحكم بعينه، لأن كل مجتهد فحكم الله تعالى
عليه فيه ما أداه إليه اجتهاده.
فمن غلب في ظنه أنه طلاق حكم بأنه طلاق، ومن غلب في رأيه غير ذلك كان
حكم الله تعالى فيه ما غلب في رأيه.
وإذا كان هذا هكذا، لم يجز إطلاق القول فيه: بأنه طلاق إلا على التقييد والشرط الذي
ذكرنا.
فإن قال: قد أعطيتم القول فيه بأنه ليس بطلاق في نفسه، فكيف يجوز أن يلزمه الله
تعالى حكم الطلاق بلفظ ليس بطلاق؟
قيل له: جائز ورود العبارة بإلزام الطلاق بما ليس بطلاق في نفسه. ألا ترى: أنه كان
جائزا أن يحكم الله تعالى، بأن من قذف امرأته طلقت منه، أو بأن من كذبة طلقت
منه امرأته.
وقد حكم الله تعالى عندنا بأن فرقة اللعان طلاق، فليس اللعان طلاقا في نفسه، وفرقة
المحبوب طلاق في الحكم، وإن لم يكن هناك لفظ من الزوج في إيقاع الطلاق.
فإن قال: حكم هذه المرأة عندكم أمباحة هي أم محظورة؟
قيل: إن جميع ذلك متعلق باجتهاد المجتهدين على الشرط الذي قدمنا، (فلا نطلق
القول: بأنها مباحة أو محظورة، إلا على الشريطة التي قدمنا).
357

فإن قال: فما الفرق بينكم وبين أصحاب الظنون، ومن أنكر حقائق الأشياء، وزعم
أنه لا حقيقة لشئ إلا على حسب تعلق باعتقادات المعتقدين فيه على اختلافها، وأن كل
شئ من ذلك حق عند القائل به ومعتقده، ولا حقيقة لشئ منه في نفسه
قيل له: الأصل في ذلك أن الظنون قد يجوز تعلقها بأمر واحد في حال واحدة، على وجوه
مختلفة.
وجائز أن يلزم كل ظان منهم حكما مخالفا لحكم الاخر، إذا ذلك مصلحة
كما قلنا في المحتري للكعبة، ولرمي الكافر، وتقويم المستهلكات والنفقات، ونحوها.
ونحو رجلين التقيا ليلا فغلب في ظن كل (واحد) منهما أن صاحبه قاصد لقتله، قد
أبيح لكل واحد منهما العمل على (ما غلب) في ظنه، وقتل صاحبه على وجه الدفع،
وجميعا مطيعان فيما يأتيانه، مصيبان لحكم الله تعالى عليهما، إذ كان حكم كل واحد منهما
متعلقا بالظن دون اليقين، وحقيقة العلم قد تعبد الله تعالى الحكام بقبول شهادة من
غلب في ظنونهم عند التهم، وإلغاء شهادة من غلب في ظنهم فسقه، فكان جميع ذلك
أحكاما متعلقة بالظنون، قد ورد (به نص) الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
واختلاف الظنون فيها لم تؤثر في حقائقها.
وأما العلوم فليست هذه سبيلها، لاستحالة أن يتعلق بالشئ الواحد علمان متضادان في
حال واحدة.
ألا ترى: أنه لا يصح أن يعلم شيئا واحدا، هذا موجودا وهذا معدوما كما لا يجوز أن
يكون شئ واحد موجودا أو معدوما في حال واحدة، وجائز أن يظنه هذا موجودا، ويظنه آخر
معدوما، فيصح وقوع الظن من كل واحد منهما على وجهين متضادين.
358

ولا يصح به علمان مختلفان في إنزاله على حقيقتين مختلفتين، كما يصح ظنان موجبان له
حكم مختلفين، لاستحالة أن يكون للشئ، (الواحد) حقيقتان مختلفتان، فعلمان بعلمين
مختلفين.
ثم يقلب هذا السؤال عليه، فيقال له: خبرنا عن الظهر أهي أربع؟ وعن الافطار في
رمضان هل هو مباح؟ وعن النساء هل عليهن صلاة؟
فإن قال: لا. خرج عن المسألة. وان قال: نعم. أخطأ في إطلاق اللفظ عند الجميع.
فإن قال: (لا) يصح إطلاق القول بشئ من ذلك، وإنما يقال فيه بالإضافة والتقييد،
فيقال: إن الظهر أربع ركعات على المقيم، وركعتان على المسافر، والافطار مباح في رمضان
للمسافر والمريض، محظور على الصحيح المقيم، والطاهر من النساء عليها فرض الصلاة،
وليس على الحائض فرضها.
وإذا كانت (هذه) الفروض وأمثالها مما خالف الله تعالى فيها من جهة النص بين
(أن) أحكام المكلفين لا يطلق القول فيها على أحد الوجهين دون الاخر، إلا بتقييد
وإضافة وشرط على الوصف الذي قدمنا.
ولم يلزمك على هذا القول أصحاب الظنون والجاحدين لحقائق الأشياء بالإضافة إلى
معتقديها. فما أنكرت من مثله فيما طريقه الاجتهاد على الوصف الذي بينا.
فإن قال: فهل تخلو هذه المرأة من أن تكون حراما، أو حلالا في علم الله تعالى؟
قيل له: الذي يعلم الله من ذلك هو ما علمناه بعينه، لان التحليل والتحريم حكم
يتعلق بالمكلفين، وما يعمله الله تعالى منه هو حكمه علينا به.
359

فإن قال: فإذا اعتقد بعضهم فيه الحظر، وبعضهم الإباحة، فقد صار محظورا مباحا
في حال واحدة.
قيل له: لا يجوز إطلاق القول بأنه محظور، ولا بأنه مباح، لأنه يوهم أن الحظر
والإباحة تعلقا به على رجل واحد في حال واحدة، وهذا محال، ولكن يقال بتقييد وشرط:
إنه محظور على هذا، ومباح لهذا، على حسب ما يقتضيه اجتهاد كل واحد منهم، كما
نقول: فرض الظهر على المقيم أربع، وعلى المسافر ركعتان.
فإن قال: إن قال الأول لامرأته: أنت على حرام، وكان مجتهدا ناظرا، أو مستفتيا
مسترشدا، فاستقر اجتهاد المجتهد على أنه طلاق، فاختار المستفتي قبول فتيا من رآه
طلاقا، متى تكون المرأة مطلقة، حين قال القول: أو حين استقر (عنده) حكم الطلاق؟
قيل: إنما نحكم به أنه كان طلاقا وقت فصل من قائله، في سائر أحكامه، من اعتبار
العلة من يومئذ، ومن وقوع البينونة، وقطع التوارث، وما جرى مجراه.
فإن قيل: فكيف يصح أن يلزمه في الماضي ما لم يكن لازما له يوم القول؟
قيل له: لأن أمره كان موقوفا على ما ثبت عنده من حكمه، فيكون لازما له يوم القول.
ولسنا نقول: إنه لم يلزمه يومئذ بهذا القول شئ، بل نقول: " إنه قد لزمه حكم القول على
(الشرط) الذي يتعلق به، ولذلك نظائر كثيرة في الأصول.
منها: الرجل يجرح فيكون حكم جراحه موقوفا على ما يؤول إليه، فإن آلت إلى
النفس حصل له (القتل الآن بالجراحة المتقدمة.
ألا ترى: أن الجارح لو مات ثم مات المجروح كان) حكم القتل ثابتا على الجارح،
وإن كان ميتا يوم صارت الجراحة نفسا.
360

فإن قال قائل: خبرني عن المجتهد إذا استقر رأيه على شئ، أيلزمه الحكم بما يغلب في
ظنه، من غير أن يلزمه نفسه؟ أو لا يلزمه نفسه بمعنى يحدده؟.
قيل له فيه وجهان:
أحدهما: أنه يلزمه الحكم بما غلب في ظنه، ولا يحتاج إلى أن يلزمه هو نفسه.
والآخر: أنه لا يلزمه حتى يلزمه هو نفسه.
فمن قال بالقول الأول: ذهب فيه إلى أنه متى غلب (ذلك) في ظنه لم يجز له
العدول عنه إلى غيره، فصار بمنزلة من قيل له من جهة النص: أنفذ هذا الحكم، والتزمه،
فيلزمه ذلك، ولا يحتاج في صحة لزومه إلى أن يلزمه نفسه.
ومن ذهب إلى القول الثاني: ذهب إلى أن ذلك إنما يثبت عنده من طريق الاجتهاد،
وقد يعرض له في الحال ما يلزمه الانصراف عنه إلى غيره، فقد يلزمه حاكم خلاف رأيه،
فيلزمه المصير إليه، وترك رأيه له، وما كان هذا وصفه لم يلزمه شئ حتى يختار إلزامه
نفسه، فحينئذ يلزمه، ولا يجوز له العدول عنه.
361

الباب الرابع بعد المائة
في
القول في إثبات الأشبه المطلوب
وفيه فصل: إذا اختلف أهل العلم
فيما يوجبه الاجتهاد من الأحكام
363

باب:
القول في إثبات الأشبه المطلوب
قال أبو (بكر): اختلف القائلون بتصويب المجتهدين، وإثبات الحق في جميع
(أقاويل) المختلفين، فيما سبيله ما وصفنا من أحكام حوادث الفتيا.
(فقال) قائلون: ليس للأشبه حقيقة عند الله تعالى، وإنما الأشبه (ما يغلب) في
ظن المجتهد أنه الأشبه، (وكلف إمضاء) الحكم به.
وأما (الأصول) فليس شئ منها أشبه بالحادثة من الوجه الذي يجب ردها إليه من
شئ.
وقال آخرون: لابد (من) أن يكون للأشبه حقيقة معلومة عند الله تعالى من
الأصول، يتحراها المجتهد، هو أشبه الأصول بالحادثة، من الوجه الذي يقتضي الرد إليه،
وقالوا بذلك في جميع الحوادث، وأنه لابد أن يكون في الأصول ما هو أشبه بها.
365

وقال آخرون: لا يجب ذلك في جميع الحوادث (دائما)، وإنما يجب ذلك في بعضها
لتصحيح الاجتهاد، وقد ذكرنا فيما سلف: أنه مذهب أبي عبد الله بن زيد الواسطي،
ويسميه تقويم ذات الاجتهاد، يعني أنه يصح الاجتهاد، فإذا علمنا في الأصول ما هو أشبه
ببعض الحوادث بغير أعيانها، فنحن نجوز في كل حادثة أن تكون هي التي لها أصل هو أشبه
الأصول بها، فيصح حينئذ الاجتهاد في الطلب.
قال أبو بكر: قد ذكرنا في أول الاجتهاد، وحكينا أيضا عن أبي الحسن في معنى قول
أصحابنا: إن الحق عند الله تعالى في واحد: أن هناك حقيقة مطلوبة، يتحرى
المجتهد موافقتها باجتهاده، وإن لم يكن مكلفا لإصابتها، وأن ما عند الله من ذلك هو
الأشبه المطلوب.
لا يحفظ عندهم القول بتجويز أن لا يكون لبعض الحوادث من الأصول ما هو أشبه بها،
وهو قولهم: الحق عند الله تعالى في واحد، يدل على أنهم لم يفصلوا بين شئ منها في أن لها
من الأصول ما هو أشبه بها.
366

والدليل على أن لما يتحراه المجتهد حقيقة معلومة عند الله عز وجل، هو أشبه الأصول
بالحادثة، وأن الله تعالى لو كشف للمجتهد عن الأشبه بالنص (والتوقيف) لكان ذلك
المطلوب بالاجتهاد. وإن لم يكلف إصابته: (ما حكى الله تعالى) في قصة داود وسليمان
عليهما السلام وتخصيصه سليمان عليه السلام بالفهم، (مع إخباره) بإيتائهما الحكم
والعلم، فدل على أن سليمان عليه السلام (قد) أصاب شيئا لم يصبه (داود) عليه
السلام.
فثبت أن ما أصابه سليمان كان الأشبه المطلوب (الذي تحرياه) جميعا باجتهادهما،
فلولا أن ذلك كذلك كانا متساويين في فهم الحادثة، (وإصابة) الأشبه.
وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا
اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، فلو لم يكن هناك مطلوب له حقيقة يتحراه المجتهدان فربما
أصابه أحدهما، وأخطأه الآخر، لما صح معنى الكلام، إذ قد علمنا أنه لم يرد به خطأ
الحكم، فثبت أن المراد خطأ المطلوب الذي هو الأشبه، (أو أن يكون المطلوب به وجود
الشبه).
وأيضا: فإنه لا يخلو المطلوب بالاجتهاد من أن يكون هو الأشبه، أو أن يكون المطلوب به
وجود الشبه بين الحادثة وبين الأصول، وإن لم يكن عند المجتهد أنه أشبه.
وغير جائز أن يكون المطلوب به وجود الشبه، لأنه لو كان كذلك لسقط الاجتهاد، وكان
367

يكون الحكم حينئذ تابعا لوجود الشبه، وكان لكل واحد أن يرد الحادثة إلى (ما شاء)
من الأصول، لوجود الشبه بينها وبينه، إذ ليست تخلو الحادثة من أن يكون لها شبه من كل
أصل من وجه من الوجوه.
فلما بطل هذا، علمنا أن المجتهد إنما يطلب أشبه الأصول بالحادثة.
فلو كنا قد علمنا أنه ليس هناك أشبه لاستحال طلب الأشبه، مع العلم أنه ليس هناك
أشبه.
ألا ترى: أنه لا يصح أن يكلف تحري الكعبة. وليس هناك كعبة، ولا يصح أن يكلف
رمي الكافر، وليس هناك مرمى مقصودا بالرمي.
وكذلك متى استعملنا الاجتهاد في طلب عدالة الشهود، فلابد من أن يتعلق ذلك
بمطلوب هي العدالة، وإلا فلو علمنا ليس هناك عدالة لما صح تكليف الاجتهاد في طلبها،
كذلك لو علمنا في ظن المجتهد أنه ليس هناك أشبه (لاستحال تكليف) في طلبه.
ألا ترى: أنه متى غلب في ظن المجتهد أشبه الأصول (بالحادثة عنده) فظنه
هذا ينبغي أن يكون متعلقا بمظنون، وإلا لم يصح، لان (المجتهد ليس يتكلف)
الاجتهاد ليؤديه اجتهاده إلى أنه ظان، لأنه قد (حصل له الظن) من جهة اليقين،
فوجب أن يكون ظنه متعلقا بمظنون، هو (الحقيقة) المطلوبة بالاجتهاد.
ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: في غالب ظني (أني مصيب) للظن، وإنما يقول: في
368

غالب ظني أني مصيب للحقيقة، فإذا لم يكن للشئ (عنده) حقيقة مطلوبة، فالاجتهاد
ساقط في طلب ما قد علم أنه غير موجود.
فإن قال قائل: الدليل على الأشبه غير متعلق بالأصول المقيس عليها، وإنما هو متعلق
بظن المجتهد: أن القائسين قد اختلفوا في تحريم (علة) التفاضل في الأصناف الستة على
الوجوه المعلومة: من اعتبار الكيل، أو الوزن، أو الأكل، أو الاقتيات، مع الجنس، ومعلوم
أن أحد هذه الوجوه ليس بأشبه بما يقاس عليه به من بعض، بل هي في الشبه
بالحادثة متساوية، لا مزية لبعضها على بعض من هذا الوجه، صح أن المعتبر في ذلك وجود
ما يحصل في ظن المجتهد أنه أشبه.
الجواب: أن هذا غلط من قائله على مذهب القوم، وذلك لأنه ظن أنهم يعتبرون
الأشبه من جهة الصورة والهيئة ونحوها، وليس ذلك (كذلك)، عند أصحابنا دائما
يعتبر الأشبه من طريق ما يتعلق به من الحكم، والكيل والوزن أشبه عندهم فيما يتعلق
بهما، من الاكل والاقتيات.
وإذا كان كذلك لم يقدم ما ذكروه فيما وصفنا، وسلم لنا الأصل الذي قدمنا.
فإن قال: إن ما ذكرت من تعلق الحكم إنما هو كلام في دليل العلة، لا في العلة نفسها،
والقياس إنما يقع على العلة لا على دليلها.
قيل له: وهذا غلط ثان، لأن الكيل والوزن إنما صارا علة لأنهما بهذا الوصف الذي ذكرنا
من تعلق الحكم بهما، فإذا كان تعلق الحكم بالكيل والوزن وصفا من أوصافهما كانا أشبه
بالحادثة من الأكل والاقتيات من باب تعلق الحكم بها.
369

فتبين بما وصفنا أن الأشبه إنما هو صفة راجعة إلى الأصل المقيس (عليه لا إلى) ظن
المجتهد، ثم نقلب عليه، هذا السؤال فيما (يعتبره هذا القائل من) الأشبه في ظن
المجتهد.
فيقال له: خبرنا عن الكيل أو الأكل أو الاقتيات، أيقول: إن بعض هذه الأوصاف أشبه
في ظن المجتهد بالبر والتمر (من بعضه)؟
فإن قال: نعم.
قيل له: وكيف يجوز أن يظن ذلك؟ ومعلوم أن (شبه الأرز بالبر) في كونهما مكيلين
لشبهه به في كونهما مأكولين ومقتاتين (ومدخرين) فغلبة الظن في هذا الوجه ساقط.
فإذا (لا) اعتبار في ذلك بحصول (الأشبه) (غير هذا الوجه)، اللهم إلا أن
يسقط اعتبار الأشبه، ويعتبر وجود (الشبه) حسب. فيؤديك هذا إلى إسقاط الاجتهاد
رأسا، رد الحادثة إلى أي الأصول شاء القائس، لوجود الشبه بينها وبينه من وجه من
الوجوه، وهذا قول خارج عن أقاويل الفقهاء.
فإن قال قائل: أليس قد جاز أن يتعبدنا الله تعالى بالاجتهاد في طلب عدالة الشاهد،
وإن علم الله تعالى أنه ليس هناك عدالة، فما أنكرتم أن يكون كذلك (حكم)
الحوادث؟
قيل له: لو لم نظن أن هناك عدالة لما صح تكلفنا الاجتهاد في طلبها.
370

ألا ترى: أنه لا يصح أن يكلفنا (طلب) عدالة الفاسق الذي قد علم بفسقه،
وإنما صح الاجتهاد لأننا ظننا أن هناك عدالة فاجتهدنا في طلبها.
فهل تقول أنت في حكم الحادثة: إني أظن في الأصول ما هو أشبه بها في الحقيقة؟.
فإن قلت هذا: فقد تركت قولك: في أن الأشبه إنما يتبع ظن المجتهد، لا الأصل
المطلوب في رد الحادثة إليه، وإن أقمت على قولك: إنه ليس هناك أشبه في الحقيقة، ولم
يصح لك الاستشهاد بمسألة المتحري في طلب عدالة الشهود، بل كانت شاهدة عليك،
من حيث لو علمنا أن لا عدالة لما صح الاجتهاد في طلبها.
371

فصل
اختلف أهل العلم فيما يوجبه الاجتهاد من الأحكام، هل يسمى دينا لله تعالى؟
فقال قائلون: (لا يقال: إنه دين) لله تعالى، لأنه يوجب أن يكون الله تعالى قد شرع
لنا أديانا مختلفة، على حسب اختلاف المجتهدين.
ويلزم قائله أيضا: أن دين الله تعالى يحل تركه والعدول عنه، ولو جاز ترك
دين الله تعالى لجازت مخالفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الناس من يطلق أنه دين الله تعالى، لأنه لو لم يكن دينا لله تعالى لكان فيه إحلال
الفروج والدماء والأموال بغير دين الله تعالى.
قال أبو بكر: والصحيح أنه دين لله تعالى (ومن أبى إطلاق ذلك فإنما خالف في الاسم
لا في المعنى، لان أصحاب الاجتهاد كلهم مجمعون أن الله تعالى) قد فرض القول به
على من أداه إليه اجتهاده، وأن العامل به عامل من الله تعالى، وما ألزمونا من إيجاب أن لله
تعالى أديانا مختلفة، فإنه لا يلزم، لأن اختلاف الفروض من جهة النص لم يلزمهم
(ذلك).
كذلك إذا قلنا من جهة الاجتهاد: لم يلزمنا، وإنما يمتنع إطلاق ذلك على مذهب من
يجعل الحق في واحد، وما عداه خطأ، فلا يطلق: أن دين الله تعالى، لأنه لا يأمن أن يكون
ما أداه إليه اجتهاده خطأ، ليس هو الحكم المطلوب.
فأما من أعطى أنه مصيب للحق عند الله تعالى، وأن حكم الله تعالى على كل واحد
في أحكام الحوادث ما أداه إليه اجتهاده، فلا وجه لامتناعه من اطلاق القول: بأن ما
فرضه الله تعالى عليه من هذا الوجه هو دين الله تعالى.
372

الباب الخامس بعد المائة
في
الكلام على عبيد الله بن الحسن العنبري
373

باب:
الكلام على عبيد الله بن الحسن العنبري
قال أبو بكر: زعم عبيد الله العنبري: إن اختلاف أهل الملة في العدل والجبر،
وفي التوحيد والتشبيه، والإرجاء والوعيد، وفي الأسماء، والأحكام، وسائر ما اختلفوا فيه.
كله حق وصواب. إذ كل قائل منهم فإنما اعتقد ما صار إليه من جهة تأويل الكتاب
والسنة، فجميعهم مصيبون، لان كل واحد منهم كلف أن يقول فيه بما غلب في ظنه،
واستولى عليه رأيه، ولم يكلف فيه علم المغيب عند الله تعالى، على حسب ما قلنا في حكم
المجتهدين في أحكام حوادث الفتيا.
375

قال أبو بكر: وهذا مذهب فاسد ظاهر الانحلال.
والأصل فيه: أن التكليف من طريق الاجتهاد إنما يصح على الوجه الذي يصح ورود
النص، به (وكل ما) أجزنا فيه الاجتهاد، وصوبنا فيه المجتهدين على اختلافهم فيه،
فإنما أجزناه على وجه يجوز ورود النص بمثله من الأحكام المختلفة.
فأما العدل والجبر، والتوحيد والتشبيه ونحو ذلك، فإنه غير جائز ورود النص فيه
بجميع أقاويل المختلفين. والذي كلف المختلفون فيه اعتقاد كل شئ منه على ما هو
عليه، ويستحيل ورود النص بتكليف بعض الناس القول بالعدل، وآخرين القول
بالجبر، وبتكليف بعضهم القول بالتوحيد، وآخر القول بالتشبيه.
376

وكذلك سائر ما اختلف فيه أهل الملة من صفات الله تعالى وأسمائه، لتناقض القول به،
واستحالته.
فلما كان ذلك كذلك لم يجز أن يكلفوا القول بالمذاهب المختلفة، من طريق النظر
والاجتهاد وعليه الرأي، وجاز تكليفهم القول بأحكام الحوادث على ما يؤديهم إليه
الاجتهاد، لجواز ورود النص (به)، على الوجوه المختلفة، ومن جهة أخرى: إن القائلين
بهذه المذاهب من أهل الملة على اختلافهم فيها، متفقون قبل عبيد الله بن حسن على
إيجاب التأثيم والتضليل بالخلاف فيها، فمن صوب الجميع من المختلفين فهو
خارج عما انعقد به إجماع الجميع.
ومن جهة أخرى: إنا قد علمنا حقيقة صحة ما اعتقدناه في هذه الأمور، بدلائل ظاهرة
معقولة كدلائل التوحيد، إثبات الصانع القديم، وأنه عدل لا يجور، وتثبيت الرسل
عليهم السلام، ونحوها.
فلما كان الله تعالى قد أقام على حقائق هذه الأمور أدلة توجب العلم بمدلولاتها على
الوجه الذي ذكرنا، لم يجز أن يكون الذاهب عن الدليل مصيبا، إذ قد جعل له السبيل إلى
إصابة الحقيقة من جهة إقامة الدلالة.
وأيضا: فلما كان التكليف في هذه الأمور متعلقا بالاعتقاد.
فلو كان الله تعالى قد أراد من الجبري والمشبه اعتقاد ما اعتقده، لكان مبيحا للجهل به
وبصفاته.
ولو جاز ذلك لجاز إباحة الجهل به، وبكونه صانعا قديما، ولو جاز منه إباحة الجهل
المكلفين بذلك لجاز منه أن يأمر بالجهل (به)، فلما بطل ذلك علمنا أن الحق (في) واحد
من أقاويل المختلفين فيه، وهو ما قامت دلالته وثبتت حجته، وأن من خالف فيه. وعدل
عنه، فهو ضال غير مهتد.
377

وأيضا: فلا يخلو القائل بذلك من أن يجوز على الله تعالى تكليف المجتهدين فيه العلم
بحقيقة القولين، حتى يكون مكلفا لكل واحد منهم صحة وقوع العلم بحقيقة ما أداه إليه
إجتهاده ونظره، على اختلاف المقالتين، وتضاد المذهبين، أو يكلف كل واحد منهم الظن بما
أداه إليه اجتهاده، دون حقيقة العلم.
فإن كان تكليفه إياهما متعلقا بحقيقة العلم، فإنا قد علمنا أن حقيقة العلم واحدة، لا
يجوز أن يتعلق بها علمان متضادان، فتكون معلومة من تلك الجهة بالعلمين.
كما لا يجوز أن يكون للشئ الواحد حقيقتان متضادتان.
فلما استحال ذلك علمنا استحالة تكليف أهل العلم بها على وجهين متضادين، (وإن
قلنا: إنه كلفهما الظن فحسب، دون حقيقة العلم من حيث لا يستحيل وجود الظن منهما
على وجهين متضادين).
وإن كانت الحقيقة واحدة، فإن ذلك ممتنع من الوجوه التي ذكرنا، إذا لم يكن مقارنا للنظر
المؤدي إلى المعرفة، وكان مع الإعراض عن النظر وسكون النفس إلى ما يغلب في الظن،
فأما إذا كان مقارنا للنظر وطلب الحقيقة، فإنه قد يكون الظن مباحا على هذا الوجه
بسبب ما يستفرغ مدة النظر، فيؤديه إلى المعرفة والعلم بحقيقة المطلوب.
ويمتنع أيضا: تكليف الظن على الوجه الذي ذكرنا، من جهة ورود النص بمثله ومن
جهة ما فيه من إباحة الجهل بالله تعالى وبصفاته، وبما وصفنا من ظهور دليل الحقيقة منها،
وبما وصفنا من اتفاق الجميع من المختلفين، على أن الحق في واحد منهما، وعلى تأثيم من
خالف فيه، وهو متفارق لما وصفنا من الاجتهاد في أحكام حوادث القياس من سائر الوجوه
التي ذكرنا.
أحدها: أنه ليس في الحكم مما طريقه حقيقة واحدة، بل حكمه على كل أحد إمضاء
ما أداه إليه اجتهاده، وسائر الأمور التي ذكرنا من العدل والجبر والتوحيد والتشبيه قد
حصلت على حقيقة معلومة، فغير جائز أن يكون الحكم عند الله تعالى بخلاف حقائقها.
378

ومنها: أن أحكام الحوادث إنما يصح تكليفها على الوجه الذي يجوز ورود النص به،
كاختلاف فرض المسافر والمقيم، والحائض والطاهر.
ولما امتنع ورود النص في سائر الأشياء التي ذكرنا على الوجوه المختلفة لم يصح تكليف
اعتقادها على تلك الوجوه.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون على واحد من المختلفين في صفات الله تعالى وأفعاله
إنما كلف ما غلب في ظنه، واستولى على رأيه، دون إصابة الحقيقة، إذ لا يستحيل وجود
الظن من كل واحد منهم على الوجوه المختلفة، فيصح تكليفهم ذلك، دون المغيب عند الله
تعالى من حقيقته.
كما كلف المتحري للكعبة الاعتقاد بما يغلب في ظنه من جهتها، مع اختلاف الجهات
وتضادها، فكلف واحد الاعتقاد بأنها في جهة الشمال، إذا غلب ذلك في ظنه، وكلف الآخر
الاعتقاد بأنها في جهة الجنوب، عند غلبه ذلك في ظنه، مع تضاد الجهتين، واستحالة ورود
النص بهما، والكعبة لها حقيقة واحدة عند الله تعالى، وجهة واحدة لا يؤثر فيها اجتهاد
المجتهدين، ولا يغيرها عن جهتها التي هي فيها اختلاف المختلفين.
وكذلك فرض على واحد غلب في ظنه عدالة الشهود، اعتقاد عدالتهم وإمضاء
الحكم بشهادتهم، وفرض على آخر غلب في ظنه (فسقهم): اعتقاد فسقهم، وإلغاء
شهادتهم، ومعلوم أنهم لا يخلون من أن يكونوا عند الله تعالى عدولا أو فساقا، قد حصلت
حالهم عند الله تعالى على إحدى جهتين.
وكذلك النفقات، وتقويم المستهلكات، ومقادير المكيلات، والموزونات، قد تختلف آراء
المجتهدين فيها على حسب ما يغلب في ظنونهم، ومعلوم أن لهذه الأمور حقائق عند الله
تعالى، قد حصلت على وجه واحد، إما موافقة لظن بعضهم، أو مخالفة لظن جميعهم، إذ
جائز أن يكون الحق في غير ما قالوا: ومع ذلك فغير جائز ورود النص بها على الوجوه التي
حصل اختلاف المختلفين فيها، فقد صح تكليفهم الظنون على اختلافها وتضادها،
379

بحقيقة واحدة، فما أنكرتم من مثله فيما اختلفت الأمة فيه من صفات الله تعالى وأفعاله،
ونحوها، وأن يكونوا متعبدين باعتقاد ما يغلب في ظنونهم، وليس عليهم شئ من
المغيب عند الله تعالى من حقيقة المظنون، إذ لم يكلفوا المغيب.
وجائز للانسان إذا غلب في ظنه الشئ أن يقول: هو كذا، ومراده أنه كذلك عندي،
وفي ظني، فيكون صادقا.
ألا نرى: أنه يجوز إن غلب في ظنه أن الكعبة في هذه الجهة، أن يقول: هذه جهة
الكعبة، ويقول آخر غلب في ظنه جهة أخرى: إن هذه جهتها، وإنما يرجع فيه إلى ما عنده
لا إلى المغيب عند الله تعالى من حقيقتها.
وقد حكى الله تعالى عن بعض أنبيائه عليهم السلام: أنه أماته مائة عام ثم بعثه " قال
كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم " وكان صادقا، لأن إطلاقه ذلك كان متعلقا بما
كان غلب في ظنه.
وحكى الله تعالى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا: " لبثنا يوما أو بعض يوم " وكانوا
صادقين في قولهم، إذ كان قولهم ذلك إنما صدر عن ظنونهم، وما كان عندهم في اعتقادهم،
وقال ذو اليدين للنبي صلى الله عليه وسلم: " أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن "
ومعناه: لم يكن عندي، فإذا قد جاز إطلاق ذلك من الأنبياء صلوات الله عليهم والأتقياء
الممدوحين، وكان ذلك منهم متعلقا بغالب ظنونهم، دون ما يجوز ورود النص به، ودون
حقيقة مظنونهم، فما أنكرتم أن يكون كذلك حكم ما اختلفت الأمة فيه؟ وأن كل من غلب
في ظنه شئ واستقر غلبة رأيه متعبد باعتقاد ما غلب في ظنه، وأن يجوز له الاخبار به على
الاطلاق، أنه كذلك، على حسب ما حكيناه عمن أطلق ذلك، وكان إطلاقه (سائغا
جائزا) بما عنده في غالب ظنه.
الجواب: أن ما قدمنا كاف لمن يتدبره في إسقاط هذا السؤال من الوجوه التي ذكرنا،
وفي إجازة ما شاء منه هذا السائل إجازة إباحة الجهل بالله تعالى وبصفاته.
380

ولو جاز أن يبيح ذلك لجاز أن يأمر به، ولو جاز هذ لجاز أن يأمر بالكذب عليه ويشتمه،
ويشتم أنبياءه عليهم السلام، وهذا قبيح لا يجوز فعله (على الله تعالى)، فلا يمكن
القائل بهذا القول الانفصال ممن أجاز مثله في جميع ما اختلف الناس فيه، من أهل الملة
وغيرهم من سائر أصناف أهل الالحاد والشرك، حتى يكون كل معتقد منهم بشئ غلب في
ظنه مأمورا باعتقاد ما اعتقده، وأن لا يكون لما اختلفت الأمة فيه اختصاص بتجويز ذلك
فيه، دون ما خالف فيه الخارجون عن الملة، من سائر أصناف أهل الإلحاد والشرك.
فلما كان تجويز ذلك تصويب المجتهدين فيه مؤديا إلى انسلاخ من الاسلام والخروج عن
الملة كان كذلك حكم المختلفين من الأمة في صفات الله تعالى ذكره، وما يجوز عليه مما
لا يجوز، ومن حيث كان ظهور دلائل التوحيد، (وتثبيت الرسل) مانعا من تصويب
المختلفين فيه - على اختلافهم - وجب مثله في اختلاف أهل الملة وصفات الله تعالى ذكره
وأفعاله.
وما ذكره من أمر المختلفين في تحري الكعبة، وتعديل الشهود والنفقات، وإثبات
مقادير المكاييل والموازين لغالب الظن، وتكليف كل أحد ما أداه إليه اجتهاده مع كون
الحقيقة فيها عند الله تعالى واحدة، وامتناع ورود النص بها على حسب وجود لا اختلاف،
فليس هو مما ذكرنا في شئ، وذلك (أنه) ليس الفرض على المتحري للكعبة هو ظنه بأن
الكعبة في هذه الجهة دون غيرها.
وكذلك (الفرض على المتحري) الحاكم ليس الفرض الذي كلف وجود الظن منه
بأن هذا عدل، أو فاسق وكذلك النفقات ونحوها.
381

وإنما تعلق التكليف في هذه الأشياء بأمور أخر قد أمروا بإمضائها عند وجود غلبة الظن
منهم على وصف، وإن لم يكن الظن نفسه هو المأمور به.
فأما من أداه اجتهاده إلى أن هذه جهة للكعبة أن يصلى إليها، ومن غلب في ظنه عدالة
الشهود، أمضى الحكم بشهادتهم، ومن استولى على رأيه أن قيمة الثوب المستهلك كذا،
أن يلزمها مستهلكة.
ألا ترى: أنه لولا الصلاة المفروضة عليه إلى جهة الكعبة، لما كان مأمورا بطلبها
ولا التحري لجهتها.
ومن ليس عليه استماع البينة أو الإخبار بالاجتهاد في تعديل الشهود (فالتحري) عنه
ساقط.
وكذلك من ليس عليه إلزام حكم لغيره في ضمان ما احتاج إلى التقويم، فليس عليه
الاجتهاد.
فعلمت أن التكليف في هذه المواضع متعلق بإمضاء الحكم بما غلب في ظنه، لا الاعتقاد
للظن، وكل ما كلف من ذلك وأمر بامضائه وغلب في ظنه فإنه جائز ورود النص بمثله.
ألا ترى: أنه جائز أن يأمر بعض الناس بالتوجه إلى الكعبة، وبعضهم بالتوجه إلى
غيرها مع العلم بها، كالخائف ونحوه.
وجائز أن يكلف الانسان الحكم بشهادة هذين، ويكلف آخر أن لا يمضي حكما
بشهادتهما.
وجائز أن يكلف بعض الناس أن يلزم مستهلك هذا الثوب عشرة دراهم، ويكلف آخر
إذا اختصموا إليه أن يلزمه أحد عشر درهما، فالأمور التي تعلقت بها صحة التكليف على
اختلافها يجوز ورود العبارة بها من طريق النص، فلذلك كان الجميع مصيبين، وسقط
اعتبار الظنون المختلفة، إذ ليست هي الفروض التي كلفوها، وإن كانوا إنما كلفوا الفروض
382

عند وجودها، كما يكلف الفرض عند البلوغ فحضور أوقات، وأمور ليست هي في
أنفسها فروضا.
وليس كذلك (حكم) ما اختلفت فيه الأمة من صفات الله تعالى، وأفعاله عز وجل،
لأن الحكم الذي كلفوه في ذلك هو الاعتقاد للشئ على ما هو، لا حكم عليه فيها غيره،
فلم يكن جائزا أن يبيح الله تقدمت أسماؤه لهم اعتقاد ما كلفهم اعتقاده على ما هو به أن
يعتقدوه على خلاف ما هو عليه، فلذلك كان الحق في واحد من تلك الأقاويل، وهو الذي
صادف حقيقة المطلوب على ما هو عليه، وما عداه فضلال وباطل، والله أعلم بالصواب.
383

كتب في آخر النسخة " ح ": فرع من نسخ هذا الكتاب الفصول للرازي
بعون الله المجازي، الفقير إلى رحمته، محمد بن ماضي، عفا الله عنه، ومتع به
مستنسخه وناظره. العصر في يوم الاثنين المبارك من شهر ربيع الآخر، عام ثمان
وأربعين وسبع مائة، أحسن لله عافيته، وذلك بالمسجد الأقصى ".
وكتب في آخر النسخة " ه‍ ": " هذا آخر أصول الفقه للامام أبي بكر
الجصاص، أحمد بن علي الرازي، رحمه الله، فرغ عن كتابته العبد الضعيف
أبو حنيفة، أمير كاتب، بن أمير عمر العميد، المدعو بقوام الفارابي، الاتقاني
بدمشق، حماها الله عن الآفات، سرار المحرم من سنة تسع وأربعين وسبعمائة،
وكان تاريخ النسخة التي كتبت هذه النسخة منها في رجب من سنة إحدى
وتسعين وثلاثمائة، وكان وفاة أبي بكر الرازي سنة سبعين وثلاثمائة.
والحمد لله كما هو أهله، وصلواته على سيدنا محمد وآله أجمعين. فويل بقدر
الوسع والامكان بالأصل المنسوخ منه، في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة ".
تم دراسة وتحقيق كتاب " الفصول في الأصول " للإمام الجصاص ولله الفضل
والمنة.
384