الكتاب: المحصول
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور طه جابر فياض العلواني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٢
المطبعة: مؤسسة الرسالة - بيروت
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

المحصول
في علم أصول الفقه
(2)
3

بسم الله الرحمن الرحيم
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثالثة
1418 ه‍ / 1997 م
حقوق الطبع محفوظة c 1992 م. لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو
أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام
ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه.
ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى
دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
4

المحصول
في علم أصول الفقه
للامام الأصولي النظار المفسر
فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي
544 - 606 ه‍ / 1149 - 1209 م
دراسة وتحقيق
الدكتور طه جابر فياض العلواني
الجزء الثاني
مؤسسة الرسالة
5

بسم الله الرحمن الرحيم
6

الكلام في الأوامر والنواهي
وهو مرتب: على مقدمة، وثلاثة أقسام:
أما المقدمة ففيها (1) مسائل:
7

المسألة الأولى: اتفقوا على أن لفظة الأمر حقيقة في القول
المخصوص واختلفوا في كونه حقيقة في غيره
فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضا
والجمهور على أنه مجاز فيه
وزعم أبو الحسين البصري أنه مشترك بين القول المخصوص
وبين الشئ وبين الصفة وبين الشأن والطريق
والمختار أنه حقيقة في القول المخصوص فقط
لنا إنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن لا
يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك
ومن الناس من استدل على أنه ليس حقيقة في الفعل بأمور
أحدها لو كان لفظ الأمر حقيقة في الفعل لاطرد فكان يسمى
الأكل أمرا والشرب أمرا
وثانيها ولكان يشتق للفاعل اسم الآمر وليس كذلك لأن من قام أو
قعد لا يسمى آمرا
9

وثالثها أن للأمر لوازم ولم يوجد شئ منها في الفعل فوجب أن لا
يكون الأمر حقيقة في الفعل
بيان الأول أن الأمر يدخل فيه الوصف بالمطيع والعاصي وضده النهي
ويمنع منه الخرس والسكوت لأنهم يستهجنون في الأخرس والساكت أن
يقال وقع منه أمر
وعدوا الأمر مطلقا من أقسام الكلام كما عدوا الخبر مطلقا
منه وكل ذلك ينافي كون الأمر حقيقة إلا في القول
ورابعها أنه يصح نفي الأمر عن الفعل فيقال إنه ما أمر به
ولكن فعله
وهذه الوجوه ضعيفة
أما الأول فلأنا لا نسلم أن من شأن الحقيقة الاطراد وقد تقدم
بيان هذا المقام
سلمناه لكن لا نسلم أنه لا يصح أن يقال للأكل والشرب أمر
وعن الثاني ما تقدم في باب المجاز أن الاشتقاق غير واجب في كل
الحقائق
10

وعن الثالث أن العرب إنما حكموا بتلك الصفات في الأمر بمعنى
القول فإن ادعيتم أنهم حكموا به في كل ما يسمى أمرا فهو ممنوع
وعن الرابع لا نسلم أنهم جوزوا نفيه مطلقا
واحتج القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين
أحدهما أن أهل اللغة يستعملون لفظة الأمر في الفعل وظاهر
الاستعمال الحقيقة
بيان الاستعمال القرآن والشعر والعرف
أما القرآن فقوله سبحانه وتعالى حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور والمراد
منه العجائب التي فعلها الله تعالى وقوله تعالى أتعجبين من أمر
الله وأراد به الفعل وقوله وما أمر فرعون برشيد وما أمرنا إلا
واحدة كلمح بالبصر وقوله تجري في البحر بأمره وقوله
مسخرات بأمره
وأما الشعر فقوله
لأمر ما يسود من يسود
11

وأما العرف فقول العرب في خبر الزباء
لأمر ما جدع قصير أنفه
ويقولون أمر فلان مستقيم وأمره غير مستقيم وإنما يريدون
طرائقه وأفعاله وأحواله
ويقولون هذا أمر عظيم كما يقولون خطب عظيم ورأيت من
فلان أمرا هالني
12

وأما أن الأصل في الإطلاق الحقيقة فقد تقدم
وثانيهما أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول وبين جمعه
بمعنى الفعل فيقال في الأول أوامر وفي الثاني أمور والاشتقاق علامة
الحقيقة
واحتج أبو الحسين على قوله بأن من قال هذا أمر لم يدر السامع أي
هذه الأمور أراد
فإذا قال هذا أمر بالفعل أو أمر فلان مستقيم أو تحرك هذا الجسم
لأمر أو جاء زيد لأمر عقل السامع من الأول القول ومن الثاني الشأن
ومن الثالث أن الجسم تحرك لشئ ومن الرابع أن زيدا جاء لغرض
من الأغراض وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل
والجواب عن الأول أنا لا نسلم استعمال هذا اللفظ في الفعل
من حيث إنه فعل
أما قوله تعالى حتى إذا جاء أمرنا فلم لا يجوز أن يكون
المراد منه القول أو الشأن والفعل يطلق عليه اسم الأمر لعموم كونه شأنا
لا لخصوص كونه فعلا
13

وكذا الجواب عن الآية الثانية
وأما قوله تعالى وما أمر فرعون برشيد فلم لا يجوز أن يكون
المراد هو القول بل الأظهر ذلك لما تقدم من قوله فاتبعوا أمر فرعون
أي أطاعوه فيما أمرهم به
سلمنا أنه ليس المراد منه القول فلم لا يجوز أن يكون المراد شأنه
وطريقه
وأما قوله تعالى وما أمرنا إلا واحده فنقول
لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره
أما أولا فلأنه يلزم أن يكون فعل الله تعالى واحدا وهو
باطل
وأما ثانيا فلأنه يقتضي أن يكون كل فعل الله تعالى لا يحدث إلا
كلمح بالبصر في السرعة ومعلوم أنه ليس كذلك
وإذا وجب صرفه عن الظهر علمنا أن المراد منه تعالى من شأنه
أنه إذا أراد شيئا وقع كلمح البصر
وأما قوله تجري في البحر بأمره مسخرات بأمره فلا
يجوز حمل الأمر هاهنا على الفعل لأن الجري والتسخير إنما حصلا
14

بقدرته لا بفعله فوجب حمله على الشأن والطريق
سلمنا أن لفظ الأمر مستعمل في الفعل فلم قلت إنه حقيقة فيه
فإن قلتم لأن الأصل في الكلام الحقيقة قلنا والأصل عدم
الاشتراك على ما تقدم
وقد تقدم بيان أنه إذا دار اللفظ بين الاشتراك والمجاز فالمجاز
أولى
والجواب عن الثاني لم لا يجوز أن تكون الأمور جمعا للأمر بمعنى
الشأن لا بمعنى الفعل
سلمناه لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة على ما تقدم
بيانه
فأما ما احتج به أبو الحسين فهو بناء على تردد الذهن عند سماع تلك
اللفظة بين تلك المعاني وذلك ممنوع فإن الذي يزعم أنه حقيقة في
القول يمنع من ذلك التردد اللهم إلا إذا وجدت قرينة مانعة
من حمل اللفظ على القول كما إذا استعمل في موضع لا يليق به
القول فحينئذ ذلك قرينة في أن المراد منه غير القول والله أعلم
15

المسألة الثانية ذكروا في حد الأمر بمعنى القول وجهين
أحدهما ما قاله القاضي أبو بكر وارتضاه جمهور الأصحاب أنه هو
القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به
وهذا خطأ أما أولا فلأن لفظتي المأمور والمأمور به مشتقتان من
الأمر فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور
وأما ثانيا فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر وعند المعتزلة
موافقة الإرادة فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر
فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور
وثانيهما ما ذكره أكثر المعتزلة وهو أن الأمر هو قول القائل لمن دونه
افعل أو ما يقوم مقامه
وهذا خطأ من وجوه
الأول أنا لو قدرنا أن الواضع ما وضع لفظة افعل لشئ
أصلا حتى كانت هذه اللفظة من المهملات ففي تلك الحالة لو تلفظ
الإنسان بها مع من دونه لا يقال فيه إنه أمر
ولو أنها صدرت عن النائم والساهي أو على سبيل انطلاق اللسان
بها اتفاقا أو على سبيل الحكاية لا يقال فيه إنه أمر
ولو أنا قدرنا أن الواضح وضع بإزاء معنى الأمر لفظ إفعل وبإزاء
معنى الخبر لفظ إفعل لكان المتكلم بلفظ إفعل آمرا والمتكلم بلفظ
إفعل مخبرا
16

فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل
الثاني أن المطلوب تحديد ماهية الأمر من حيث إنه أمر وهي حقيقة
لا تختلف باختلاف اللغات فإن التركي قد يأمر وينهى وما ذكروه لا يتناول
إلا الألفاظ العربية
فإن قلت قوله أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين
اللذين ذكرتهما
قلت قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائما مقامه في
الدلالة على كونه طالبا للفعل أو يعني به شيئا آخر
فإن كان المراد هو الثاني فلا بد من بيانه وإن كان المراد هو
الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه إفعل أو ما
يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل
وإذا ذكرناه على هذا الوجه كان قولنا الأمر هو اللفظ الدال على
طلب الفعل كافيا وحينئذ يقع التعرض لخصوص صيغة إفعل ضائعا
الثالث أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الرتبة غير معتبرة وإذا ثبت
فساد هذين الحدين فنقول
الصحيح أن يقال الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل
الاستعلاء
17

ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير
المسألة الثالثة في ماهية الطلب
اعلم أن تصور ماهية الطلب حاصل لكل العقلاء على سبيل
الاضطرار فإن من لم يمارس شيئا من الصنائع العلمية ولم يعرف الحدود
والرسوم قد يأمر وينهى ويدرك تفرقة بديهية بين طلب الفعل وبين
طلب الترك وبينهما وبين المفهوم من الخبر ويعلم أن ما
يصلح جوابا لأحدهما لا يصلح جوابا للآخر
ولولا أن ماهية الطلب متصورة تصورا بديهيا وإلا لما صح ذلك
ثم نقول معنى الطلب ليس نفس الصيغة لأن ماهية الطلب لا تختلف
باختلاف النواحي والأمم وكان يحتمل في الصيغة التي وضعوها للخبر
أن يضعوها للأمر وبالعكس فماهية الطلب ليست نفس الصيغة ولا شيئا
من صفاتها بل هي ماهية قائمة بقلب المتكلم تجري مجرى علمه
وقدرته وهذه الصيغ المخصوصة دالة عليها
ويتفرع على هذه القاعدة مسائل
18

المسألة الأولى أن تلك الماهية عندنا شئ غير الإرادة وقالت
المعتزلة هي إرادة المأمور به
لنا وجوه أولها أن الله تعالى ما أراد من الكافر الإيمان وقد أمره
به فدل على أن حقيقة الأمر غير حقيقة الإرادة وغير مشروطة بها
وإنما قلنا إنه تعالى ما أراد منه الإيمان لوجهين
أحدهما أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فلو آمن لزم انقلاب علمه
جهلا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فصدور الإيمان منه
محال
والله تعالى عالم بكونه محالا والعالم بكون الشئ محال الوجود لا
يكون مريدا له بالاتفاق
فثبت أن الله تعالى لا يريد الإيمان من الكافر
وتمام الأسئلة والأجوبة على هذا الوجه سيأتي في مسألة تكليف ما
لا يطاق إن شاء الله تعالى
الثاني هو أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على وجود الداعي
والداعي مخلوق لله تعالى دفعا للتسلسل وعند حصول الداعي
يجب وقوع الفعل وإلا لزم وقوع الممكن لا عن مرجح أو افتقاره إلى
19

داعية أخرى وإلا لزم التسلسل إذا كانت الداعية مخلوقة لله تعالى وعند
وجود الداعي يجب حصول الفعل فالله تعالى خلق في الكافر ما يوجب
الكفر فلو أراد في هذه الحالة وجود الإيمان لزم كونه مريدا للضدين وذلك
باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا
فثبت بهذين الوجهين أن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر
وأما أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان فذلك مجمع عليه بين المسلمين
وإذا ظهرت المقدمتان ثبت أنه وجد الأمر بدون الإرادة وإذا ثبت
ذلك ثبت أن حقيقة الأمر مغايرة لحقيقة الإرادة وغير مشروطة بها
فإن قيل ما المراد من قولك أمر الكافر بالإيمان
إن أردت به أنه أنزل لفظا يدل على كونه مريدا لعقابه في الآخرة
إذا لم يصدر منه الإيمان فهذا مسلم لكن معناه نفس إرادة العقاب لا
غير فلا يحصل مطلوبكم من أنه أمر بما لم يرد
وإن عنيت شيئا آخر فاذكره
سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه ما أراد الإيمان ولا نسلم أن إيمانه
محال وسيأتي تقرير هذا المقام في مسألة تكليف ما لا يطاق
سلمناه لكن لا نسلم ان المحال غير مراد
بيانه هو أن الإرادة من جنس الطلب وإذا جوزت طلب
20

المحال مع العلم بكونه محالا فلم لا تجوز إرادته مع العلم بكونه
محالا
والجواب قوله الأمر بالشئ عبارة عن الإخبار عن إرادة عقاب
تاركه
قلت لو كان كذلك لتطرق التصديق والتكذيب إلى قوله آمنوا لأن
الخبر من شأنه قبول ذلك ولأن سقوط العقاب جائز أما عندنا فبالعفو
وأما عندهم ففي الصغائر قبل التوبة وفي الكبائر بعدها ولو تحقق الخبر
عن وقوع العقاب لما جاز ذلك
قوله لم قلت إن إرادة المحال ممتنعة
قلنا هذا متفق عليه بيننا وبينكم
وأيضا فلأن الإرادة صفة من شأنها ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر
وذلك في المحال محال والعلم به ضروري
وثانيها أن الرجل قد يقول لغيره إني أريد منك هذا الفعل
لكنني لا آمرك به ولو كان الأمر هو الإرادة لكان قوله أريد منك
الفعل ولا آمرك به جاريا مجرى أن يقال أريد منك الفعل ولا أريده
منك وقوله آمرك بهذا الفعل ولا أمرك به ومعلوم أن ذلك صريح
21

التناقض دون الأول
وثالثها أن الحكيم قد يأمر عبده بشئ في الشاهد ولا يريد منه أن
يأتي بالمأمور به لإظهار تمرده وسوء أدبه
فإن قلت ذلك ليس بأمر وإنما تصور بصورته
قلت التجربة إنما تحصل بالأمر فدل على أنه أمر
ورابعها أنه سيظهر إن شاء الله تعالى في باب النسخ أنه
يجوز نسخ ما وجب من الفعل قبل مضي مدة الامتثال فلو كان الأمر
والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة لزم أن يكون الله تعالى مريدا كارها
للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد وذلك باطل بالاتفاق
واحتج الخصم بوجهين
الأول أن صيغة إفعل موضوعة لطلب الفعل وهذا الطلب إما
الإرادة أو غيرها والثاني باطل لأن الطلب الذي يغاير الإرادة لو صح
القول به لكان أمرا خفيا لا يطلع عليه إلا الأذكياء لكن العقلاء من أهل
اللغة وضعوا هذه اللفظة للطلب الذي يعرفه كل واحد وما ذاك إلا
الإرادة فعلمنا أن هذه الصيغة موضوعة للإرادة
الثاني أن إرادة المأمور به لو لم تكن معتبرة في الأمر لصح الأمر
بالماضي والواجب والممتنع قياسا على الخبر فإن إرادة المخبر عنه لما
22

لم تكن معتبرة في الخبر صح تعلق الخبر بكل هذه الأشياء
والجواب عن الأول لا نسلم أن الطلب النفساني الذي يغاير الإرادة
غير معلوم للعقلاء فإنهم قد يأمرون بالشئ ولا يريدونه كالسيد الذي يأمر
عبده بشئ ولا يريده ليمهد عذره عند السلطان
وعن الثاني أنه لا بد من الجامع وعلى أن القائل بتكليف ما لا يطاق
يجوزه والله أعلم
المسألة الثانية أن هذا الطلب معنى يقتضي ترجيح جانب الفعل على
جانب الترك أو جانب الترك على جانب الفعل
وعلى التقديرين فالترجيح قد يكون مانعا من الطرف الآخر كما في
الوجوب والحظر وقد لا يكون كما في الندب والكراهة
والتفاوت بين أصل الترجيح وبين الترجيح المانع من النقيض
تفاوت بالعموم والخصوص
وأيضا فهنا لفظ دال على أصل الترجيح ولفظ دال على الترجيح
المانع من النقيض
وعلى التقديرين فالمعتبر إما اللفظ الدال عليه كيف كان اللفظ وإما
اللفظة العربية
23

فها هنا أقسام ستة
أحدها أصل الترجيح وثانيها الترجيح المانع من النقيض
وثالثها ورابعها مطلق اللفظ الدال على الأول أو الثاني
وخامسها وسادسها اللفظة العربية الدالة على الأول أو الثاني
ثم أنت بالخيار في إطلاق لفظ الأمر على أيها شئت أو عليها بأسرها
أو على طائفة منها بحسب الاشتراك
فهذا حظ البحث العقلي
وأما البحث اللغوي فهو أن نقول
جعل الأمر اسما للصيغة الدالة على الترجيح أولى من جعله اسما
لنفس الترجيح ويدل عليه وجوه
أحدها أن أهل اللغة قالوا الأمر من الضرب إضرب ومن النصر
24

أنصر جعلوا نفس الصيغة أمرا
وثانيها لو قال إن أمرت فلانا فعبدي حر ثم أشار بما يفهم منه مدلول
هذه الصيغة فإنه لا يعتق ولو كان حقيقة الأمر ما ذكرتم لزم
العتق ولا يعارض هذا الحكم بما إذا خرس وأشار فإنه يعتق
لأنا نمنع هذه المسألة
وثالثها أنا لو جعلناه حقيقة في الصيغة كان مجازا في المدلول تسمية
للمدلول باسم الدليل ولو جعلناه حقيقة في المدلول كان مجازا في
الدليل تسمية للدليل باسم المدلول والأول أولى لأنه يلزم من فهم الدليل
فهم المدلول أما لا يلزم من فهم المدلول فهم الدليل بل فهم دليل
معين
ورابعها أن الإنسان الذي قام بقلبه ذلك المعنى ولم ينطق بشئ لا
يقال إنه أمر ألبتة بشئ
وإذا قيل أمر فلان بكذا تبادر الذهن إلى اللفظ دون ما في
25

القلب وذلك يدل على أن لفظ الأمر اسم للصيغة لا للمدلول
احتج المخالف بالآية والأثر والشعر والمعقول
أما الآية فقوله تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله
والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
الله تعالى كذبهم في شهادتهم ومعلوم أنهم كانوا صادقين في النطق
اللساني فلا بد من إثبات كلام في النفس ليكون الكذب عائدا إليه
وأما الأثر فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه زورت في نفسي
كلاما فسبقني إليه أبو بكر
26

وأما الشعر فقول الأخطل
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأما المعقول فهو إن هذه الألفاظ مفردات فلو سميت كلاما
لكانت إنما سميت بذلك لكونها معرفات للمعنى النفساني فكان يجب
تسمية الكتابة والإشارة كلاما وإنه باطل
والجواب عن الأول أن الشهادة هي الإخبار عن الشئ مع العلم به
فلما لم يكونوا عالمين به فلا جرم كذبهم الله تعالى في ادعائهم كونهم
شاهدين
وعن الثاني أن قوله زورت في نفسي كلاما أي خمرته كما
يقال قدرت في نفسي دارا وبناء
27

وعن الثالث أنا لا نسلم كون الشعر عربيا محضا ولو سلمناه فمعناه
أن المقصود من الكلام ما حصل في القلب
وعن الرابع أنه قياس في اللغة فلا يقبل
فرع الآمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب أو اللفظ
العربي الدال على مطلق الطلب
والحق هو الأول لأن الفارسي إذا طلب من عبده شيئا بلغته فإن
العربي يسميه أمرا ولو حلف لا يأمر فأمر بالفارسية يحنث في يمينه
وأما أنه اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب أو لمطلق
اللفظ الدال على الطلب المانع من النقيض
فالحق هو الثاني وذلك إنما يظهر ببيان أن الأمر للوجوب
المسألة الثالثة دلالة الصيغة المخصوصة على ماهية الطلب يكفي في
تحققها الوضع من غير حاجة إلى إرادة أخرى وهو قول الكعبي
لنا وجهان أحدهما أن هذه الصيغة لفظة وضعت لمعنى فلا تفتقر
28

في إفادتها لما هي موضوعة له إلى الإرادة كسائر الألفاظ مثل دلالة
السبع والحمار على البهيمة المخصوصة فإنه لا حاجة فيها إلى الإرادة
وثانيهما أن الطلب النفساني أمر باطن فلا بد من الاستدلال
عليه بأمر ظاهر والإرادة أمر باظن في مفتقرة إلى المعرف كافتقار الطلب
إليه فلو توقفت دلالة الصيغة على الطلب على تلك الإرادة لما أمكن
الاستدلال بالصيغة على ذلك الطلب ألبتة
احتج المخالف بأنا نميز بين ما إذا كانت الصيغة طلبا وبين ما إذا كانت
تهديدا ولا مميز إلا الإرادة
والجواب أنها حقيقة في الطلب مجاز في التهديد
فكما أن الأصل في كل الألفاظ إجراؤها على حقائقها إلا عند قيام دلالة
صارفة فكذا ها هنا
المسألة الرابعة ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أن إرادة المأمور به
تؤثر في صيرورة صيغة إفعل أمرا
وهذا خطأ من وجهين
الأول أن الآمرية لو كانت صفة للصيغة لكانت إما أن تكون
حاصلة لمجموع الحروف وهو محال لأنه لا وجود لذلك المجموع
29

وإما لآحادها هذه فيلزم أن يكون كل واحد من الحروف التي ائتلفت
صيغة الأمر منها أمرا على الاستقلال وهو محال
الثاني إن صيغة إفعل دالة بالوضع على معنى وذلك المعنى هو
إرادة المأمور فإذا كانت الإرادة نفس المدلول وجب أن لا تفيد
الصيغة الدالة عليها صفة قياسا على سائر المسميات والأسماء
المسألة الخامسة قال جمهور المعتزلة الآمر يجب أن يكون أعلى رتبة
من المأمور حتى يسمى الطلب أمرا
وقال أبو الحسين البصري المعتبر هو الاستعلاء لا العلو
وقال أصحابنا لا يعتبر العلو ولا الاستعلاء
30

لنا قوله تعالى حكاية عن فرعون أنه قال لقومه فماذا
تأمرون مع أنه كان أعلى رتبة منهم وقال عمرو بن العاص لمعاوية
أمرتك أمرا حازما فعصيتني
وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
وقال دريد بن الصمة لنظرائه ولمن هم فوقه
31

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد حتى ضحى الغد
وقال حباب بن المنذر يخاطب يزيد بن المهلب أمير خراسان
والعراق
أمرتك أمرا حازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فهذه الوجوه دالة على أن العلو غير معتبر
وأما أن الاستعلاء غير معتبر فلأنهم يقولون فلان أمر فلانا
32

على وجه الرفق واللين
نعم إذا بالغ في التواضع يمتنع إطلاق الاسم عرفا وإن ثبت ذلك
لغة
واحتج المخالف على أن العلو معتبر بأنه يستقبح في العرف أن
يقول القائل أمرت الأمير أو نهيته ولا يستقبحون أن يقال سألته أو
طلبت منه ولولا أن الرتبة معتبرة وإلا لما كان كذلك
وأما أبو الحسين فقال اعتبار الاستعلاء أولى من اعتبار العلو لأن
من قال لغيره إفعل على سبيل التضرع إليه لا يقال إنه أمره وإن كان
أعلى رتبة من المقول إليه
من قال لغيره إفعل على سبيل الاستعلاء لا على سبيل التذلل
يقال إنه أمره وإن كان المقول له أعلى رتبة منه ولهذا يصفون من هذا
سبيله بالجهل والحمق من حيث أمر من هو أعلى رتبة منه
واعلم أن مدار هذا الكلام على صحة الاستعلاء وأصحابنا يمنعون
منه والله أعلم
33

المسألة السادسة لفظ الأمر قد يقام مقام الخبر وبالعكس
أما أن الأمر يقام مقام الخبر فكما في قوله عليه الصلاة
والسلام إذا لم تستح فاصنع ما شئت معناه صنعت ما شئت
وأما أن الخبر يقام مقام الأمر فكما في قوله تعالى والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء
34

والسبب في جواز هذا المجاز أن الأمر يدل على وجود الفعل كما أن
الخبر يدل عليه أيضا فبينهما مشابهة من هذا الوجه فصح المجاز
وأيضا تجوز إقامة النهي مقام الخبر وبالعكس
أما الأول فكقوله عليه الصلاة والسلام لا تنكح اليتيمة حتى
تستأمر معناه لا تنكحوها إلى غاية استئمارها
وأما الثاني فكقوله ص لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة
نفسها وكما في قوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون
35

وجه المجاز أن النهي يدل على عدم الفعل كما أن هذا
الخبر يدل على عدمه فبينهما مشابهة من هذا الوجه والله أعلم
36

القسم الأول
في المباحث اللفظية
وفيه مسائل
37

المسألة الأولى قال الأصوليون صيغة إفعل مستعملة في خمسي
عشر وجها
الأول الإيجاب كقوله تعالى أقيموا الصلاة
الثاني الندب كقوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا
وأحسنوا
ويقرب منه التأديب كقوله عليه الصلاة والسلام
كل فما يليك فإن الأدب مندوب إليه وإن كان قد جعله بعضهم
قسما مغايرا للمندوب
الثالث الإرشاد كقوله تعالى واستشهدوا شهيدين
فاكتبوه والفرق بين الندب والإرشاد أن الندب لثواب الآخرة
والإرشاد لمنافع الدنيا فإنه لا ينقص الثواب بترك الاستشهاد في
المداينات ولا يزيد بفعليه
39

الرابع الإباحة كقوله تعالى كلوا واشربوا
الخامس التهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم
واستفزز من استطعت منهم بصوتك
ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى قل تمتعوا وإن كانوا قد
جعلوه قسما آخر
السادس الامتنان فكلوا مما رزقكم الله
السابع الإكرام أدخلوها بسلام آمنين
الثامن التسخير كقوله كونوا قردة
التاسع التعجيز فأتوا بسورة
العاشر الإهانة ذق إنك أنت العزيز الكريم
الحادي عشر التسوية صبروا أو لا تصبروا
الثاني عشر الدعاء رب اغفر لي
الثالث عشر التمني كقوله
40

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
الرابع عشر الاحتقار كقوله ألقوا ما أنتم ملقون
الخامس عشر التكوين كقوله كن فيكون
إذا عرفت هذا فنقول
اتفقوا على أن صيغة إفعل ليست حقيقة في جميع هذه
الوجوه لأن خصوصية التسخير والتعجيز والتسوية غير مستفادة
من مجرد هذه الصيغة بل إنما تفهم تلك من القرائن
إنما الذي وقع الخلاف فيه أمور خمسة الوجوب والندب
والإباحة والتنزيه والتحريم
فمن الناس من جعل هذه الصيغة بين هذه الخمسة
ومنهم من جعلها مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة
ومنهم من جعلها حقيقة لأقل المراتب وهو الإباحة
والحق أنها ليست حقيقة في هذه الأمور
41

لنا أنا ندرك التفرقة في اللغات كلها بين قوله إفعل وبين
قوله إن شئت فافعل وإن شئت لا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن
كلها وقدرنا هذه الصيغة منقولة على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب لا
في فعل معين حتى يتوهم فيه قرينة دالة بل في الفعل مطلقا سبق إلى
فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعا أنها ليست أسامي
مترادفة على معنى واحد
كما ندرك التفرقة بين قولهم قام زيد ويقوم زيد في أن
الأول للماضي والثاني للمستقبل وإن كان قد يعبر عن الماضي
بالمستقبل وبالعكس لقرائن تدل عليه
فكذلك ميزوا الأمر عن النهي فقالوا الأمر أن تقول إفعل
والنهي أن تقول لا تفعل فهذا أمر معلوم بالضرورة من اللغات لا
يشككنا فيه إطلاقه مع قرينة على الإباحة أو التهديد
فإن قيل تدعي الفرق بين إفعل ولا تفعل في حق من يعتقد كون
اللفظ موضوعا للكل حقيقة أو في حق من لا يعتقد ذلك
42

الأول ممنوع والثاني مسلم
بيانه أن كل من اعتقد كون هذه اللفظة موضوعة لهذه المعاني فإنه
يحصل في ذهنه الاستواء
أما من لا يعتقد ذلك فإنه لا يحصل عنده الرجحان
سلما الرجحان لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك للعرف الطارئ لا
في أصل الوضع كما في الألفاظ العرفية
سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بما يدل على نقيضه
وهو أن الصيغة قد جاءت بمعنى التهديد والإباحة والأصل في
الكلام الحقيقة
والجواب عن الأول أنه مكابرة فإنا نعلم عند انتفاء كل
القرائن بأسرها أنه يكون فهم الطلب من لفظ إفعل راجحا على فهم
التهديد والإباحة
وعن الثاني أن الأصل عدم التغيير
وعن الثالث أنك قد عرفت أن المجاز أولى من الاشتراك ووجه
المجاز أن هذه الأمور الخمسة أعني الوجوب والندب والإباحة
43

والتنزيه والتحريم أضداد وإطلاق اسم الضد على الضد أحد وجوه
المجاز والله أعلم
المسألة الثانية الحق عندنا أن لفظة إفعل حقيقة في الترجيح
المانع من النقيض وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين
وقال أبو هاشم إنه يفيد الندب
ومنهم من قال بالوقف وهم فرق ثلاث
الفرقة الأولى الذين يقولون إنه حقيقة في القدر المشترك بين
الوجوب والندب وهو ترجيح الفعل على الترك
ثم جاء الوجوب يمتاز عن الندب بامتناع الترك والندب يمتاز عن
الوجوب بجواز الترك وليس في الصيغة إشعار بهذين القيدين
ويليق بمذهب هؤلاء أن يقولوا إنه يجب حمله على الندب لأن
اللفظ يفيد رجحان الفعل على الترك وليس فيه ما يدل على المنع من الترك
وقد كان جواز الترك معلوما بحكم الاستصحاب وإذا كان كذلك كان جواز
44

الترك بحكم الاستصحاب ورجحان الفعل بدلالة اللفظ ولا معنى للندب
إلا ذلك
الفرقة الثانية الذين قالوا إن صيغة إفعل موضوعة للوجوب والندب
على سبيل الاشتراك اللفظي وهو قول المرتضى من الشيعة
الفرقة الثالثة الذين قالوا إنها حقيقة إما في الوجوب فقط أو في
الندب فقط أو فيهما معا بالاشتراك لكنا لا ندري ما هو الحق من هذه
الأقسام الثلاثة فلا جرم توقفنا في الكل وهو قول الغزالي منا
لنا وجوه
الدليل الأول التمسك بقوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ
أمرتك وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق بل الذم فإنه لا عذر له في
الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به هذا هو المفهوم من قول
السيد لعبده ما منعك من دخول الدار إذ أمرتك إذا لم يكن مستفهما
45

ولو لم يكن الأمر دالا على الوجوب لما ذمه الله تعالى على الترك
ولكان لإبليس أن يقول إنك ما ألزمتني السجود
فإن قلت لعل الأمر في تلك اللغة كان يفيد الوجوب فلم قلتم إنه
في هذه اللغة للوجوب
قلنا الظاهر يقتضي ترتيب الذم على مخالفة الأمر فتخصيصه بأمر
خاص خلاف الظاهر
الدليل الثاني التمسك بقوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا
يركعون ذمهم على أنهم تركوا عل ما قيل لهم افعلوه ولو كان الأمر يفيد
الندب لما حسن هذا الكلام كما إذا قيل لهم الأولى أن تفعلوه ويجوز
لكم تركه فإنه ليس لنا أن نذمهم على تركه
46

فإن قلت إنما ذمهم لا لأنهم تركوا المأمور به بل لأنهم لم يعتقدوا حقيقة
الأمر
والدليل عليه قوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين
وأيضا فصيغة إفعل قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها
فلعله تعالى إنما ذمهم لأنه كان قد وجدت قرينة دالة على الوجوب
والجواب عن الأول أن المكذبين في قوله ويل يومئذ للمكذبين
إما أن يكونوا هم الذين تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا أو غيرهم
فإن كان الأول جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع والويل بسبب
التكذيب فإن عندنا الكافر كما يستحق العقاب بترك الإيمان يستحق
الذم والعقاب أيضا بترك العبادات
وإن كان الثاني لم يكن إثبات الويل لإنسان بسبب التكذيب
منافيا ثبوت الذم لإنسان آخر بسبب ترك المأمور به
وعن الثاني أنه تعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لما قيل
لهم اركعوا فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرينة
الدليل الثالث لو لم يكن الأمر ملزما للفعل لما كان إلزام الأمر
47

سببا للزوم المأمور به لكنه سبب للزوم المأمور به فوجب أن يكون الأمر
ملزما للفعل
بيان الشرطية أن بتقدير أن لا يكون الأمر ملزما للفعل كان إلزام الأمر
إلزاما لشئ وذلك الشئ لا يوجب فعل المأمور به فوجب أن لا يكون هذا
القدر سببا للزوم المأمور به
وبيان أن إلزام الأمر سبب للزوم المأمور به قوله تعالى وما كان
لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم
والقضاء هو الإلزام فقوله تعالى إذا قضى الله ورسوله أمرا
معناه إذا ألزم الله ورسوله أمرا فإنه لا خيرة للمؤمنين في المأمور به
ويجب ها هنا حمل لفظ الأمر على المأمور به إذ لو أجريناه على
ظاهره لصار المعنى أنه لا خيرة للمؤمنين في صفة الله تعالى وذلك كلام
غير مفيد
وإذا تعذر حمله على نفس الآمر وجب حمله على المأمور به فيصير
التقدير أن الله تعالى إذا ألزم المكلف أمرا فإنه لا خيرة له في المأمور
به
وإذا انتفت الخيرة بقي إما الحظر وإما الوجوب والحظر منتف
بالإجماع فتعين الوجوب
48

فإن قيل القضاء هو الإلزام والأمر قد يرد بمعنى شئ فقوله إذا
قضى الله ورسوله أمرا أي إذا ألزم الله ورسوله
شيئا
ونحن نعترف بأن الله تعالى إذا ألزمنا شيئا فإنه يكون واجبا علينا
ولكن لم قلت إنه بمجرد أن يأمرنا بالشئ فقد ألزمنا فإن ذلك عين
المتنازع في
والجواب قد بينا أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وليس
حقيقة في الشئ دفعا للاشتراك ولا ضرورة ها هنا في صرفه عن
ظاهره
إذا ثبت هذا فقوله إذا قضى الله ورسوله أمرا معناه إذا ألزم الله أمرا
وإلزام الأمر هو توجيهه على المكلف شاء أم أبى
وإلزام الأمر غير إلزام المأمور به فإن القاضي إذا قضى بإباحة شئ
فقد ثبت إلزام الحكم ولو لم يثبت المحكوم به فكذا هاهنا إلزام
الأمر عبارة عن توجيهه على المكلف والقطع بوقوع ذلك الأمر
ثم الأمر إن لم يقتض الوجوب لم يكن إلزام الأمر إلزاما للمأمور به
وإن كان مقتضبا للوجوب فهو الذي قلناه
49

الدليل الرابع تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر
ومخالف ذلك الأمر مستحق للعقاب فتارك ما أمر الله أو رسوله به مستحق
للعقاب ولا معنى لقولنا الأمر للوجوب إلا ذلك
وإنما قلنا إن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر لأن
موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والمخالفة ضد الموافقة فكانت
مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك ما أمر الله أو
رسوله به مخالف لذلك الأمر
وإنما قلنا إن مخالف ذلك الأمر يستحق العقاب لقوله
تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم أمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العذاب والأمر بالحذر عن
العذاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب فدل على أن مخالف
أمر الله أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب به
فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر
قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه
50

قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه وما الدليل
عليه
ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين آخرين
أحدهما أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه
الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي به
على سبيل الوجوب كان هذا مخالفة للأمر
وثانيهما أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقا
واجب القبول ومخالفته عبارة عن إنكار كونه حقا وجاب القبول
سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه
لكن ها هنا ما يدل على أنه ليس كذلك
فإنه لو كان ترك المأمور به عبارة عن مخالفة الأمر لكان ترك
المندوب مخالفة لأمر الله تعالى وذلك باطل لأن وصل الإنسان بأنه
مخالف لأمر لله تعالى اسم ذم فلا يجوز إطلاقه على تارك المندوب
سلمنا أن تارك المندوب مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر
مستحق للعقاب
أما قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية
51

قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفا للأمر
بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالف الأمر فلم لا يجوز
أن تكون كذلك
سلمنا ذلك ولكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر
فلم قلت إن مخالف الأمر يلزمه الحذر
فإن قلت لفظة عن صلة زائدة
قلت الأصل في الكلام الاعتبار لا سيما في كلام الله تعالى
فلا يكون زائدا
سلمنا دلالة الآية على أن مخالف الأمر مأمور بالحذر عن العذاب
فلم قلت يجب عليه الحذر عن العذاب
أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت إن الأمر
للوجوب فإن ذلك أول المسألة
فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على
حسن الحذر وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول
العذاب
قلت لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام ما يقتضي نزول
52

العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب
وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة اجتهادية لا قطعية سلمنا
دلالة الآية على قيام ما يقتضي نزول العذاب لكن لا في كل أمر بل في
أمر واحد لأن قوله عن أمره لا يفيد إلا أمرا واحدا
وعندنا أن أمرا واحدا يفيد الوجوب عمرو فلم قلت إن كل أمر كذلك
سلمنا أن كل أمر كذلك لكن الضمير في قوله عن أمره
يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى رسوله فالآية لا تدل على أن
الأمر للوجوب إلا في حق أحدهما فلم قلت إنه في حق الاخر كذلك
والجواب قوله لم قلت إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان
بمقتضاه
قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال هذا العبد
موافق للسيد ويجري على وفق أمره ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما
وافقه بل خالفه وحسن هذا الإطلاق من أهل اللغة معلوم بالضرورة
فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه
قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي
يقتضيه الأمر
قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى
الأمر فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله إفعل لا يدل
53

إلا على اقتضاء الفعل فإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر وإذا لم
يوجد مقتضى الأمر لم توجد الموافقة وإذا لم توجد موافقة الأمر
حصلت مخالفته لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة
قوله الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقا واجب القبول
قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل موافقة للدليل الدال على أن ذلك
الأمر حق فإن موافقة الشئ عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه فإذا دل الدليل
على حقية الأمر كان الاعتراف بحقيته مستلزما تقرير مقتضى ذلك
الدليل
أما الأمر فلما اقتضى دخول ذلك الفعل في الوجود كانت موافقته
عبارة عما تقرر دخوله في الوجود وإدخاله في الوجود يقرر
دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه
قوله لو كانت مخالفة الأمر عبارة عن ترك المأمور به لكنا إذا تركنا
المندوب فقد خالفنا الأمر
قلنا هذا الإلزام إنما يصح لو كان المندوب مأمورا به وإنما يكون
المندوب مأمورا به لو ثبت أن الأمر ليس للوجوب وهذا عين المتنازع
فيه
54

قوله لم لا يجوز أن يكون قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن
أمره أمرا بالحذر عن المخالف لا أمرا للمخالف بالحذر
قلنا الدليل عليه وجوه
أحدها أن النحويين اتفقوا على أن تعلق الفعل بفاعله أقوى من تعلقه
بمفعوله فلو جعلناه أمرا للمخالف بالحذر لكنا قد أسندنا الفعل إلى
الفاعل ولو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لكنا قد أسندنا الفعل إلى
المفعول فيكون الأول أولى
وثانيها لو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لم يتعين المأمور به
فإن قلت المأمور به هو ما تقدم وهو قوله الذين يتسللون
منكم لواذا
قلت المتسللون منهم لواذا هم الذين خالفوا فلو أمروا بالحذر عن
المخالف لكانوا قد أمروا بالحذر عن أنفسهم وهو لا يحوز
وثالثها إنا لو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لصار التقدير
فليحذر المتسللون لواذا عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ضائعا لأن الحذر ليس فعلا يتعدى
إلى مفعولين
55

قوله الآية دالة على وجوب الحذر عمن خالف عن الأمر لا عمن
خالف الأمر
قلنا قال النحاة كلمة عن للبعد والمجاوزة يقال جلس عن
يمينه أي متراخيا عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه فلما كانت
مخالفة أمر الله تعالى بعدا عن أمر الله تعالى لا جرم ذكره بلفظ
عن
قوله لم قلت إن قوله تعالى فليحذر يدل على وجوب
الحذر عن العذاب
قلنا لا ندعي وجوب الحذر عن العقاب ولكنه لا أقل من أن
يدل على جواز الحذر وجواز الحذر عن الشئ مشروط بوجود ما يقتضي
وقوعه لأنه لو لم يوجد المقتضي لوقوعه لكان الحذر عنه حذرا عما لم
يوجد ولم يوجد المقتضى لوقوعه وذلك سفه وعبث فلا يجوز ورود
الأمر به
56

قوله دلت الآية على أن مخالف أمر الله يستحق العقاب أو على
أن مخالف كل أمر يستحق العقاب
قلنا دلت على الثاني لوجوه
الأول أنه يجوز استثنار قبل كل واحد من أنواع المخالفات نحو أن
يقول فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا مخالفة الأمر الفلاني
والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه وذلك يفيد العموم
الثاني أنه تعالى رتب استحقاق العقاب على مخالفة الأمر وترتيب
الحكم على الوصف مشعر بالعلية
الثالث أنه لما ثبت أن مخالف الأمر في بعض الصور يستحق
العقاب فنقول إنما استحق العقاب لأن مخالفة الأمر تقتضي عدم المبالاة
بالأمر وذلك يناسبه الزجر وهذا المعنى قائم في كل المخالفات
فوجب ترتب العقاب على الكل
قوله هب أن أمر الله أو أمر الله، أو رسوله للوجوب - فلم قلتم: إن أمر
الأخر كذلك
قلنا: لأنه لا قائل بالفرق.
57

الدليل الخامس تارك المأمور به عاص وكل عاص يستحق
العقاب فتارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك
بيان الأول قوله تعالى ولا أعصي لك أمرا أفعصيت
أمري لا يعصون الله ما أمرهم
بيان الثاني قوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله
نارا الدا فيها
فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به عاص وبيانه من وجوه
الأول قوله تعالى لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون فلو
كان العصيان عبارة عن ترك المأمور به لكان معنى قوله لا يعصون
الله ما أمرهم أنهم يفعلون ما يؤمرون به فكان قوله ويفعلون ما يؤمرون
تكرارا
الثاني أجمع المسلمون على أن الأمر قد يكون أمر إيجاب وقد يكون
أمر استحباب وتارك المندوب غير عاص وإلا لاستحق النار لما
ذكرتموه فعلمنا أن المعصية ليست عبارة عن ترك المأمور به
58

سلمنا أن المعصية عبارة عن ترك ترك المأمور به لكن إذا كان الأمر أمر
إيجاب أو مطلقا
الأول مسلم والثاني ممنوع
بيانه أن قوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم حكاية حال
فيكفي في تحقيقها تنزيلها على صورة واحدة فلعل ذلك الأمر كان أمر
إيجاب فلا جرم كان تركه معصية
سلمنا أن تارك المأمور به عاص مطلقا فلم قلت إن العاصي
يستحق العقاب والآية المذكورة مختصة بالكفار لقرينة الخلود
والجواب قد بينا أن تارك المأمور به عاص
قوله لو كان كذلك لكان قوله ويفعلون ما يؤمرون
تكرارا
قلنا لا نسلم بل معنى الآية والله أعلم لا يعصون الله ما
أمرهم به في الماضي ويفعلون ما يؤمرون به في المستقبل
قوله الأمر قد يكون أمر استحباب
قلنا لا نسلم كون المستحب مأمورا به حقيقة بل مجازا لأن
59

الاستحباب لازم للوجوب وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز
فإن قلت ليس الحكم بكون هذه الصيغة للوجوب محافظة على
عموم قوله ومن يعص الله ورسوله أولى من القول بأن المستحب
مأمور به محافظة على صيغ الأوامر الواردة في المندوبات
قلت بل ما ذكرناه أولى للاحتياط ولأنا لو حملناه على
الوجوب لكان أصل الترجيح داخلا فيه فيكون لازما للمسمى
فيجوز جعله مجازا في أصل الترجيح
أما لو جعلناه لأصل الترجيح لم يكن الوجوب لازما له فلا يمكن
جعله مجازا عن الوجوب فكان الأول أولى
قوله هذه الآية حكاية حال
قلنا الله تعالى رتب اسم المعصية على مخالفة الأمر فيكون المتقضي
لاستحقاق هذا الاسم هذا المعنى فيعم الاسم لعموم ما يقتضي
استحقاقه
قوله الآية مختصة بالكفار بقرينة الخلود
قلنا الخلود هو المكث الطويل لا الدائم والله أعلم
واعلم أن هذا الدليل قد يقرر على وجه آخر فيقال
إنما قلنا إن تارك المأمور به عاص لأن بناء لفظة العصيان على
60

الامتناع ولذلك سميت العصا عصا لأنه يمتنع بها وتسمى
الجماعة عصا يقال شققت عصا المسلمين أي جماعتهم لأنها يمتنع
بكثرتها
وهذا كلام مستعص على الحفظ أي ممتنع وهذا
الحطب مستعص على الكسر
وقال عليه الصلاة والسلام لولا أنا نعصي الله لما عصانا أي لم
يمتنع عن إجابتنا
فثبت أن العصيان عبارة عن الامتناع عما يقتضيه الشئ وإذا
61

كان لفظ إفعل مقتضيا للفعل كان عدم الإتيان به والامتناع منه عصيانا
لا محالة
وإنما قلنا إن تسمية تارك المأمور به بالعاصي تدل على أن الأمر
للوجوب لوجهين
أحدهما إن الإنسان إنما يكون عاصيا للأمر وللآمر إذا أقدم على ما
يحظره الآمر ويمنع منه
ألا ترى أن الله تعالى لو أوجب علينا فعلا فلم نفعله لكنا
عصاة ولو ندبنا إليه فقال الأولى أن تفعلوه ولكم أن لا تفعلوه فلم نفعله
لم نكن عصاة
ولهذا يوصف تارك الواجب بأنه عاص لله تعالى ولا يوصف تارك
النوافل بذلك
الثاني أن العاصي للقول مقدم على مخالفته وترك موافقته
فليس تخلو مخالفته إما أن تكون بالإقدام على ما يمنع منه الأمر فقط
أو قد تثبت بالإقدام على ما لا يتعرض له الأمر بمنع ولا إيجاب
62

وهذا الثاني باطل لأنا لو كنا عصاة للأمر بفعل ما نمنع منه
لوجب إذا أمرنا الله بالصلاة غدا فتصدقنا اليوم أن نكون عصاة لذلك
الأمر بتصدقنا يحيى اليوم فبأن أن مخالفة الأمر إنما تثبت بالإقدام على
ما يمنع منه فإذا كان تارك ما أمر به عاصيا للأمر والعاصي للأمر هو
المقدم على مخالفة مقتضاه فالمقدم على مخالفة مقتضاه مقدم على ما
يحظره الآمر ويمنع منه ثبت أن ترك المأمور به يحظره الآمر ويمنع منه
وهذا هو معنى الوجوب
الدليل السادس أنه عليه الصلاة والسلام دعا أبا سعيد الخدري فلم
يجبه لأنه كان في الصلاة فقال ما منعك أن تستجيب وقد سمعت قوله
تعالى يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول فذمه على ترك
63

الاستجابة عند مجرد ورود الأمر فلو لا أن مجرد الأمر للوجوب وإلا
لما جاز ذلك
فإن قيل هذا خبر واحد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية
وأيضا فالنبي ص ما ذمه ولكنه راد أن يبين له
أن دعاءه ص مخالف لدعاء غيره
والجواب عن الأول أنا بينا أن المباحث اللفظية لا يرجى فيها
66

اليقين وهذه المسألة وإن لم تكن في نفسها عملية لكنها وسيلة إلى العمل
فيجوز التمسك فيها بالظن لأنه لا فرق في العقل بين أن يحصل ظن
الحكم وبين أن يحصل العلم بوجود ما يقتضي ظن الحكم في جواز
التمسك بهما في العمليات
وعن الثاني أن بتقدير أن لا يدل الأمر على الوجوب يكون المانع من
الإجابة قائما وهو الصلاة فإنها تحرم الكلام وإذا كان المانع الظاهر
قائما لم يجز من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسأل عن المانع بلى
إذا كان قوله تعالى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم يفيد الوجوب
فحينئذ يصح السؤال
وأيضا فظاهر الكلام يقتضي اللوم وهو في معنى الأخبار عن
نفي العذر وذلك لا يكون إلا والأمر للوجوب
الدليل السابع هو قوله عليه الصلاة والسلام لولا أن أشق
على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة
67

وكلمة لولا تفيد انتفاء الشئ لوجود غيره فها هنا تفيد انتفاء
الأمر لوجود المشقة
فهذا الخبر يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة
والإجماع قائم على أن ذلك مندوب فلو كان المندوب مأمورا به لكان الأمر
قائما عند كل صلاة فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور
به
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال هذا الوجه أمارة تدل على أنه
أراد لأمرتهم به على وجه يقتضي الوجوب وليس يمتنع أن يقتضي الأمر
الوجوب بدلالة أخرى
قلت كلمة لولا دخلت على الأمر فوجب أن لا يكون الأمر حاصلا
والندب حاصل فوجب أن لا يكون الندب أمرا وإلا لزم التناقض
الدليل الثامن خبر بريرة فإنها قالت لرسول الله ص أتأمرني
بذلك
68

فقال لا إنما أنا شفيع نفى الأمر مع ثبوت الشفاعة الدالة على
الندب ونفي الأمر عند ثبوت الندبية يدل على أن المندوب غير مأمور
به وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب
الدليل التاسع إن الصحابة تمسكوا بالأمر على الوجوب ولم يظهر من
أحد منهم الإنكار عليه وذلك يدل على أنهم أجمعوا على أن ظاهر الأمر
للوجوب
وإنما قلنا إنهم تمسكوا بالأمر على الوجوب لأنهم أوجبوا أخذ
69

الجزية من المجوس لما روى عبد الرحمن أنه عليه الصلاة والسلام
قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب
وأوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب بقوله عليه الصلاة والسلام
فليغسله سبعا
وأوجبوا إعادة الصلاة عند ذكرها بقوله عليه الصلاة والسلام
فليصلها إذا ذكرها
70

وأما أنه لم يظهر من أحد منهم إنكار عليه وأنه متى كان كذلك
فقد حصل الإجماع فتمام تقريرهما مذكور في كتاب القياس
فإن قيل كما اعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر فإنهم لم يعتقدوا عند
غيرها نحو قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وقوله فكاتبوهم إن
علمتم فيهم خيرا وقوله فأنكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله
وإذا حللتم فاصطادوا
وإذا ثبت هذا فليس القول بأنهم لم يعتقدوا الوجوب في هذه الأوامر
لدليل منفصل بأولى من القول بأنهم إنما اعتقدوا الوجوب في تلك
الأوامر لدليل متصل
والجواب أن نقول لو لم يكن الأمر للوجوب لامتنع أن يفيد الوجوب
71

في صورة أصلا ولو لم يفد الوجوب في شئ من الصور أصلا لكان
دليلهم على وجوب أخذ الجزية شيئا غير خبر عبد الرحمن ولو كان كذلك
لوجب اشتهار ذلك الدليل وحيث لم يشتهر علمنا أنه لو يوجد ولما لم يوجد
كان دليلهم على وجوب أخذ الجزية ظاهر الأمر
أما لو قلنا بأن الأمر للوجوب لم يلزم من عدم الوجوب في بعض
الأوامر أن لا يفيد الوجوب أصلا لاحتمال أن يقال الحكم تخلف
ها هنا لمانع فثبت أن الاحتمال الذي ذكرناه أولى
الدليل العاشر لفظ إفعل إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط أو
في الندب فقط أو فيهما معا أولا في واحد منهما
والأقسام الثلاثة الأخيرة الرحمن باطلة فتعين الأول وهو أن يكون للوجوب فقط
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون للندب فقط لأنه لو كان للندب
فقد لما كان الواجب مأمورا به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط
بيان الملازمة أن المندوب هو الراجح فعله مع جواز الترك
والواجب هو الراجح فعله مع المنع من الترك فالجمع بينهما محال
فلو كان الأمر للندب فقط لم يكن الواجب مأمورا به
فإن قلت لو كان للوجوب فقط لما كان المندوب مأمورا به
72

قلت ألتزم هذا لأن كثيرا من الأصوليين صرحوا بأن المندوب غير
مأمور به ولا يمكنك أن تلتزم بأن الواجب غير مأمور به لأن أحدا
من الأمة لم يقل به
فثبت أن الأمر لا يجوز أن يكون حقيقة في الندب فقط
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون حقيقة في الوجوب والندب معا
لأنه لو كان حقيقة فيهما لكان إما أن يكون كونه حقيقة فيهما بحسب
معنى مشترك بينهما كما يقال إنه حقيقة في ترجيح جانب الفعل على
الترك فقط من غير إشعار بجواز الترك أو بالمنع منه أو يكون حقيقة
فيهما لا بحسب معنى مشترك
والأول باطل لأنا لو جعلناه حقيقة في أصل الترجيح لم يمكن جعله
مجازا في الوجوب لأن الوجوب غير ملازم لأصل الترجيح أعني القدر
المشترك بين الواجب والمندوب ولو جعلناه حقيقة في الوجوب كان
الترجيح جزءا من مسماه ولازما له فيمكن جعله مجازا عن أصل الترجيح
وإذا كان كذلك كان جعله حقيقة في الوجوب ليكون مجازا في أصل
الترجيح أولى من جعله حقيقة في أصل الترجيح مع أنه لا يكون حقيقة في
الوجوب ولا مجازا فيه
والثاني وهو أن يجعل حقيقة في الوجوب والندب لا بحسب معنى
73

مشترك بينهما فهذا يقتضي كون اللفظ مشتركا وقد عرفت أن ذلك خلاف
الأصل
وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنه لا يتناول الواجب ولا
المندوب أصلا لأن ذلك على خلاف الإجماع
ولما ثبت فساد هذه الأقسام الثلاثة تعين القول بالوجوب والله أعلم
الدليل الحادي عشر أن العبد إذا لم يفعل ما أمره به سيده اقتصر
العقلاء من أهل اللغة في تعليل حسن ذمه على أن يقولوا أمره سيده
بكذا فلم يفعله فدل كون ذلك علة في حسن ذمه على أن تركه لما أمره
به ترك للواجب
فإن قيل لا نسلم أنهم إنما ذموه لمجرد الترك بل لأجل أمور أخر
أحدها أنهم علموا من سيده أنه كره ترك ذلك الفعل
وثانيها أن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده
وثالثها أن السيد لا يأمر إلا بما فيه نفعه ودفع مضرته والعبد
أيضا يلزمه إيصال المنافع إلى السيد ودفع المضار عنه
سلمنا أنهم ذموه لمجرد الترك لكن لا نسلم أن فعلهم صواب
ويدل عليه أمران
أحدهما أنه لو كان المأمور به معصية لما استحق العبد الذم
74

بتركه فدل على أن مجرد الترك ليس بعلة للذم
وثانيهما أن كثيرا من الأوامر ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله
ص بمعنى الندب فلو كان ترك المأمور به علة للذم لكان المندوب
واجبا وهو محال
فثبت بهذين الوجهين أن مجرد ترك المأمور به لا يمكن جعله علة
للذم وإذا ثبت ذلك علمنا فساد ما ذكرتموه من أن العقلاء يعللون حسن
ذمه بمجرد ترك المأمور به
والجواب أن السيد إذا عاتب عبده عند عدم الامتثال فالعقلاء
يقولون إنما عاتبه لأنه لم يمتثل الأمر ولولا أن علة حسن العتاب نفس
مخالفة الأمر وإلا لما صح هذا الكلام
وبهذا يظهر أن كراهية الترك لا مدخل لها في هذا الباب
أما قوله الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده
قلنا الشريعة إنما أوجبت على العبد طاعة السيد فيما أوجبه السيد
على العبد
ألا ترى أن سيده لو قال له الأولى أن تفعل كذا ولك أن لا تفعله لما
ألزمته الشريعة فعله
والأمر عند المخالف يجري مجرى هذا القول فينبغي أن لا يجب به على
العبد شئ
75

وأما قوله السيد لا يأمر عبده إلا بما فيه جر نفع أو دفع
مضرة وذلك واجب
قلنا مجرد هذا القدر لا يفيد الوجوب إلا إذا أوجبه السيد ولم
يرخص في تركه
ألا ترى أنه لو قال له الأولى أن تفعل كذا ويجوز أن لا تفعله جاز
له أن لا يفعل
وكذلك لو علم أن غيره يقوم مقامه في دفع المضرة
قوله يشترط في جواز هذا التعليل أن لا يكون المأمور به معصية
قلنا هب أن هذا الشرط معتبر ولكن يجب فيما وراءه إجراء اللفظ
على ظاهره
قوله لو كان ترك المأمور به علة للذم لما جاز ترك المندوب
قلنا هذا إنما يصح لو كان المندوب مأمورا به وهذا أول
المسألة والله أعلم
الدليل الثاني عشر لفظ إفعل دال على اقتضاء الفعل ووجوده
فوجب أن يكون مانعا من نقيضه قياسا على الخبر فإنه لما دل على المعنى
كان مانعا من نقيضه
والجامع بين الصورتين أن اللفظ لما وضع لإفادة معنى فلا بد
76

أن يكون مانعا من النقيض تكميلا لذلك المقصود وتقوية لحصوله
فإن قيل لا نزاع في أن ما دل على شئ فإنه يمنع من نقيضه لكن
لم لا يجوز أن يقال مدلول قوله إفعل هو أن الأولى إدخاله في الوجود
فلا جرم يمنع من عدم هذه الأولوية
والجواب أن الفعل مشتق من المصدر فإشعاره وكان لا يكون إلا
بالمصدر والمصدر في قولنا ضرب يضرب إضرب هو الضرب
لا أولوية الضرب فإشعار روى لفظ الخبر والأمر بالضرب لا بأولوية الضرب
وإذا كان إشعار الأمر والخبر ليس بأولوية الضرب بل بنفس
الضرب وثبت أن المشعر بالشئ مانع من نقيضه وجب أن يكون لفظ
إضرب مانعا من عدم الضرب لا من عدم أولوية الضرب ولأجل
هذا كان الخبر مانعا من النقيض والله أعلم
الدليل الثالث عشر الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم وإذا كان
كذلك وجب أن يكون مانعا من الترك
وإنما قلنا إنه يفيد الرجحان لأن المأمور به إن لم تكن
مصلحته راجحة إما أن يكون خاليا عن المصلحة أو تكون
مصلحته مرجوحة أو تكون مساوية للمفسدة
77

فإن كان خاليا عن المصلحة كان محض المفسدة فلا يجوز ورود
الأمر به
وإن كانت مصلحته مرجوحة فذلك القدر من المصلحة يصير معارضا
بمثله من المفسدة فيقي القدر الزائد من المفسدة خاليا عن المعارض
فيكون ورود الأمر به أمرا بالمفسدة الخالصة فيعود إلى القسم الأول
وإن كانت مصلحته معادلة لمفسدته ولم كان ذلك عبثا وهو غير لائق
بالحكيم
وإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلا أن تكون مصلحة خالية عن
المفسدة وإن كان فيه شئ من المفاسد ولكن تكون مصلحته زائدة
وعلى التقديرين يثبت رجحان المصلحة
وإذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يرد الإذن بالترك لأن الإذن في
تفويت المصلحة الراجحة إذن في تفويت المصلحة الخالصة لأنه إن
وجدت مفسدة مرجوحة فتصير هي معارضة بما يعادلها من المصلحة فيبقى
القدر الزائد من المصلحة مصلحة خالصة
78

وإن لم توجد مفسدة أصلا كانت المصلحة خالصة فيكون الإذن
في تفويته إذنا في تفويت المصلحة الخالصة عن شوائب المفسدة وذلك غير
جائز عرفا فوجب أن لا يجوز شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام ما
رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو
عند الله قبيح فمقتضى هذه الدلالة أن لا يوجد شئ من المندوبات
ألبتة ترك العمل به في حق البعض تخفيفا من الله تعالى
على العباد فوجب أن يبقى الباقي على حكم الأصل
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنه كما أن الإذن في تفويت
المصلحة الخالصة قبيح عرفا فكذا إلزام المكلف استيفاء المصلحة
79

بحيث لو لم يستوفها لاستحق العقاب قبيح أيضا لأنه يصير حاصل
الأمر أن يقول الشرع استوف هذه المنافع لنفسك وإلا عاقبتك وهذا
قبيح
والجواب ما ذكرتموه قائم في كل التكاليف فلو كان ذلك
معتبرا لما ثبت شئ من التكاليف
الدليل الرابع عشر لا شك أن الأمر يدل على رجحان طرف الوجود على
طرف العدم فنقول هذا الرجحان لا ينفك عن قيدين
أحدهما المنع من الترك
والآخر الإذن في الترك
ولا شك أن إفضاء المنع من الترك إلى الوجود أكثر من إفضائه إلى
العدم
ولا شك أن إفضاء الإذن في الترك إلى العدم أكثر من إفضائه إلى
الوجود
ولا شك أن الذي يكون أكثر إفضاء إلى الشئ الراجح راجح
في الظن على ما يكون أكثر إفضاء إلى المرجوح فإذن شرعية المنع من
الترك راجح في الظن على شرعية الإذن في الترك
والراجح في الظن واجب العمل به النص والمعقول
أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام أنا أقضي بالظاهر
80

وأما المعقول فمن وجهين
الأول إن أحد النقيضين إذا كان راجحا على الآخر في الظن فلم
يعمل بالراجح لوجب العمل بالمرجوح فيكون ذلك ترجيحا
للمرجوح على الراجح وإنه غير جائز بالضرورة
الثاني أنه وجب العمل بالفتوى والشهادة وقيم المتلفات وأروش
الجنايات وتعيين القبلة عند حصول الظن
وإنما وجب العمل به ترجيحا للراجح على المرجوح وذلك
المعنى حاصل ها هنا فوجب بين العمل به
الدليل الخامس عشر الوجوب ينبغي أن تكون له صيغة مفردة في
اللغة وتلك الصيغة هي إفعل فوجب أن تكون إفعل للوجوب
إنما قلنا إن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة لأن الوجوب معنى
83

تشتد الحاجة إلى التعبير عنه والناس قادرون على الوضع
والمانع زائل ظاهرا والقادر إذا دعاه الداعي إلى الفعل حال عدم
المانع وجب حصول الفعل منه فثبت أن الوجوب له صيغة مفردة في
اللغة
وإنما قلنا إن تلك الصيغة هي صيغة إفعل لأن تلك الصيغة إما
أن تكون صيغة إفعل أو غيرها والثاني باطل بالإجماع
أما عند الخصم فلأنه ينكر ذلك على الإطلاق
وأما عندنا فلأنا لا نقول به في غير صيغة إفعل
وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم الأول وإلا لكانت اللغة خالية
عن لفظة مفردة دالة على الوجوب مع أن الدليل قد دل على وجودها
فإن قيل لا نسلم أن الوجوب له صيغة في اللغة
قوله الداعي قائم
قلنا لا نسلم أن الداعي قائم
قوله الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه
قلنا لا نسلم
84

سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من تعريفه باللفظ ولم لا تكفي
فيه قرينة الحال
سلمنا شدة الحاجة إلى لفظ يدل عليه، لكنه قد وجد - وهو: قوله:
أوجبت وألزمت وحتمت
فإن ادعيت أنه لا بد من اللفظ المفرد طالبناك أهل بالدلالة عليه
سلمنا قيام الدلالة وحصول الداعي فلم قلت إنه لا مانع
ثم نقول المانع هو أن اللغات توقيفية لا حديث اصطلاحية وإذا كان
كذلك كانوا ممنوعين من وضع الألفاظ للمعاني
سلمنا قيام الداعي وزوال المانع فلم قلت بأنه يجب الفعل
ثم نقول ما ذكرتموه من الدليل منقوض ومعارض
أما النقض فلأن الحاجة إلى وضع لفظ يدل على الحال ولفظ
آخر يدل على الاستقبال على التعيين شديدة مع أنه لم يوجد ذلك في
اللغة
وأيضا فأصناف الروائح مختلفة والحاجة إلى تعريفها شديدة مع أنه
85

لم توضع لها ألفاظ مفردة
وكذا أصناف الاعتمادات متميزة مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة
وأما المعارضة فمن وجهين
أحدهما أن الوجوب كما أنه معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه
فكذا أصل الترجيح أعني القدر المشترك بين الوجوب والندب
والندب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فوجب أن يضعوا له
لفظا ولا لفظ له سوى إفعل فوجب كونه موضوعا له
ومن قال إنه للندب وحده قال الندبية معنى تشتد الحاجة إلى
تعريفها فلا بد من لفظ ولا لفظ سوى هذا فوجب كونه للندب
ومن قال بالاشتراك قال قد يحتاج إلى التعبير عن أحد
هذين الأمرين على سبيل الإبهام فلا بد من لفظ ولا لفظ له إلا هذا
فوجب كونه موضوعا لهما بالاشتراك
وثانيهما أن الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فلو كانت صيغة
إفعل موضوعة له وجب أن يعرف ذلك كل أحد ولو عرفه كل أحد
86

لزال الخلاف فلما لم يزل علمنا أنه غير موضوع له
سلمنا أنه لا بد من لفظ وأن ذلك اللفظ هو إفعل فلم لا يجوز أن
يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك
ثم نقول الدليل الذي ذكرتموه يقتضي إثبات اللغة بالقياس وهو غير
جائز
والجواب قوله لا نسلم شدة الحاجة إلى التعبير عن
معنى الوجوب
قلنا الدليل عليه أن الإنسان الواحد لا يستقل بإصلاح كل ما يحتاج
إليه بل لا بد من الجمع العظيم حتى يعين كل واحد منهم صاحبه
في مهمة لتنتظم مصلحة الكل وإذا احتاج الإنسان إلى فعل يفعله
الغير لا محالة وأن ذلك الغير لا يعلم منه ذلك إلا إذا عرفه فحينئذ
يحتاج إلى أن يعرفه أنه لا بد وان يأتي بذلك الفعل وأنه لا يجوز له
الإخلال به فثبت أن هذا المعنى مما تشتد الحاجة إلى تعريفه
قوله هب أنه لا بد من تعريفه فلم قلت إن ذلك التعريف لا
يحصل إلا باللفظ
87

قلنا لأنهم إنما اتخذوا العبارات معرفات لما في الضمائر دون غيرها
لأجل أن الإتيان بالعبارات أسهل من الإتيان بغيرها وهذا المعنى قائم في
مسألتنا فوجب القول به
قوله لم لا يكفي فيه قوله أوجبت وألزمت
قلنا لأن اللفظ المفرد أخف على اللسان من المركب فيغلب على
الظن أن الواضع وضع لفظا مفردا لهذا المعنى قياسا على سائر الألفاظ
المفردة
قوله لم قلت إنه لا مانع
قلنا لأن الموانع بأسرها كانت معدومة والأصل بقاء ذلك العدم
فيحصل من هذا ظن أنه لا مانع والدليل الذي ذكرناه ظني فيكون ذلك كافيا
في تقريره
قوله اللغات توفيقية فلعلهم منعوا عن الوضع
قلنا الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان والأصل عدم التوقيف
وعدم المنع من الوضع فيحصل ظن بقاء ذلك
قوله لم قلت إنه إذا وجد الداعي في حق القادر وانتفى الصارف
وقع الفعل
قلنا الدليل عليه أن القادر على الفعل إن لم يكن متمكنا من الترك
فقد تعين الفعل وإن كان متمكنا من الترك فعند الداعي إما أن
يترجح أو لا يترجح
88

فإن لم يترجح البتة لم يكن الداعي داعيا وذلك محال
وإن ترجح وجب الوقوع
وتمام تقرير هذا الكلام في كتبنا العقلية
وأما النقوض فهي مندفعة لأنا لا نسلم أن اشتداد الحاجة إلى تعيين
الحال والاستقبال والروائح المخصوصة والاعتمادات
المخصوصة مساوية لاشتداد الحاجة إلى التعبير عن معنى الإلزام فإن
الإنسان قد تمر عليه مدة طويلة ولا يحتاج إلى التعبير عن تلك الأشياء مع
أنه في كل لحظه يحتاج إلى التعبير عن معنى الوجوب
وأما المعارضة الأولى فجوابها أنا لو جعلنا اللفظ حقيقة في
الوجوب كان الترجيح لازما للمسمى فأمكن جعله مجازا عن
الترجيح
أما لو جعلناه حقيقة في الترجيح لم يكن الوجوب لازما للمسمى
89

فلا يمكن جعله مجازا عنه فكان ذلك أولى
قوله الحاجة إلى التعبير عن الندبية شديدة
قلنا لكن الوجوب أولى لأن الواجب لا يجوز الإخلال به
والمندوب يجوز الإخلال به والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى
من الإخلال ببيان ما لا يجوز الإخلال به
وأما المعارضة الثانية فهي أن اللفظ لو كان للوجوب لأشتهر
قلنا هذا إنما يلزم لو سلم عن المعارض أما إذا كان له
معارض ولم يظهر الفرق بينه وبين معارضه إلا على وجه مخصوص
غامض لم يلزم ذلك
قوله هب أن لفظ أفعل موضوع للوجوب فلم لا يجوز أن يكون
موضوعا للندب أيضا بالاشتراك
قلنا لما تقدم أن الاشتراك على خلاف الأصل
قوله هذا إثبات اللغة بالقياس
90

قلنا سنبين في كتاب القياس إن شاء الله تعالى أنه جائز
الدليل السادس عشر حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم
الإقدام على مخالفة الأمر وحمله على الندب يقتضي الشك فيه فوجب
حمله على الوجوب وإنما قلنا إن حمله على الوجوب يفيد القطع
بعدم الإقدام على مخالفة الأمر لأن المأمور به إما أن يكون واجبا أو مندوبا
فإن كان واجبا فحمله على الوجوب يقتضي القطع بعدم الإقدام على
مخالفة الأمر
وإن كان مندوبا فالقول بوجوبه سعي في تحصيل ذلك المندوب بأبلغ
الوجوه وذلك يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر
فإذن على كلا التقديرين هو غير مقدم على مخالفة الأمر
أما لو حملناه على الندب فبتقدير أن يكون المأمور به مندوبا حصل
القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر
أما لو كان واجبا ونحن قد جوزنا له الترك كان ذلك الترك مخالفة
للأمر فثبت أن حمله على الندب يقتضي الشك في كونه مخالفا للأمر
وإذا ثبت هذا فنقول وجب حمله على الوجوب للنص والمعقول
91

أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك
وأما المعقول فهو أنه إذا تعارض طريقان أحدهما آمن قطعا
والآخر مخوف كان ترجيح الآمن على المخوف من موجبات العقول
فإن قيل لا نسلم أن حمله على المندوب يقتضي الشك في الإقدام
على المحظور
قوله لأنه بتقدير أن يكون المأمور به واجبا كان حمله على الندب
92

سعيا في الترك وإنه محظور
قلنا لا نسلم أنه يمكن أن يكون المأمور به واجبا فإنا لو علمنا بدلالة
لغوية أن الأمر ما وضع للوجوب وعلمنا أن الحكيم لا يجوز أن يجرده
عن قرينه إلا والمأمور به غير واجب فإذا حملته على الندب أمنت
الضرر
سلمنا قيام هذا الاحتمال ولكن حمله على الوجوب فيه أيضا
احتمال للضرر لأن بتقدير أن لا يكون الحق هو الوجوب كان اعتقاد كونه
واجبا جهلا وتكون نية الوجوب قبيحة وكراهة أضداده قبيحة
والجواب إذا علمنا أن لفظ إفعل لا يجوز استعماله إلا في أحد
المعنيين إما الوجوب أو الندب فقبل أن يعلم ما يدل على كونه
للوجوب فقط أو للندب فقط أولهما معا فإنا إذا حملناه على
الوجوب قطعنا بأنا ما خالفنا الأمر وإذا حملناه على الندب لم نقطع
بذلك
فإذن قبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط أو للندب
93

فقط يقتضي العقل حمله على الوجوب ليحصل القطع بعدم
المخالفة
ثم بعد ذلك قيام الدليل على أنه للندب إشارة إلى المعارض من
ادعاه فعليه الدليل
قوله حمله على الوجوب يقتضي احتمال الجهل
قلنا ما ذكرتموه إشارة إلى احتمال الخطأ في الاعتقاد وهو قائم في
الطرفين وما ذكرناه فهو احتمال الخطأ في العمل وهو حاصل على
تقدير الندب دون تقدير الوجوب وإذا اشترك الطرفان في أحد
نوعي الخطأ واختص أحدهما بمزيد خطأ كان الجانب الخالي عن هذا
الخطأ الزائد أولى بالاعتبار والله أعلم
واحتج من أنكر كون الأمر للوجوب بأمور
أحدها أن العلم بكون الأمر للوجوب إما أن يكون عقليا أو نقليا
فالأول باطل لأن العقل لا مجال له في اللغات
وأما النقل فإما أن يكون تواترا أو آحادا
والتواتر باطل وإلا لعرف كل واحد بالضرورة أنه للوجوب
والآحاد باطل لأن المسألة علمية ورواية الآحاد لا تقيد العلم
94

وهذه الحجة يحتج بها من يقول لا أدري أن اللفظ موضوع للوجوب
فقط أو للندب فقط أولهما معا لأنه لو ادعى الاشتراك أو
الندبية لزمه أو يقال العلم بالاشتراك أو بالندبية إنما يستفاد من
العقل أو النقل إلى آخر التقسيم
وثانيها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين الأمر والسؤال إلا من حيث الرتبة
وذلك يقتضي اشتراكهما في جميع الصفات سوى الرتبة فكما أن السؤال لا
يدل على الإيجاب بل يفيد الندبية فكذلك الأمر
وثالثها أن لفظ إفعل وارد في كتاب الله وسنة رسوله في الوجوب
والندب والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل فلا بد من
جعله حقيقة في القدر المشترك وهو أصل الترجيح والدال على ما به
الاشتراك غير الدال على ما به الامتياز لا بالوضع ولا بالاستلزام فلا يكون
لهذه الصيغة إشعار البتة بالوجوب بل لا دلالة فيها إلا على ترجيح جانب
الفعل وأما جواز الترك فقد كان معلوما بالعقل ولم يوجد ما يزيل ذلك
الجواز
فإذن وجب الحكم بأن ذلك العقل راجح الوجود على العدم مع كونه
جائز الترك ولا معنى للندب إلا ذلك
والجواب عن الأول أن نقول لم لا يجوز أن يعرف ذلك بدليل مركب
من النقل والعقل مثل قولنا تارك المأمور به عاص والعاصي
يستحق العقاب فيستلزم العقل من تركيب هاتين المقدمتين النقليتين
أن الأمر للوجوب
95

سلمناه فلم لا يجوز أن يثبت بالآحاد
ولا نسلم أن المسألة قطعية وقد بينا أنه لا يقين في المباحث اللغوية
وعن الثاني أن عندنا أن السؤال يدل على الإيجاب وإن كان لا
يلزم منه الوجوب فإن السائل قد يقول للمسئول منه لا تخل
بمقصودي ولا تتركه ولا تخيب رجائي فهده الألفاظ صريحة في
الإيجاب وإن كان لا يلزم من هذا الإيجاب الوجوب
وعن الثالث أن المجاز وإن كان على خلاف الأصل لكنه قد
يوجد إذا دل الدليل عليه وقد ذكرنا أن الدليل دل على كونها للوجوب
فوجب المصير إليه والله أعلم
المسألة الثالثة
الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان للوجوب خلافا
لبعض أصحابنا
لنا أن المقتضي للوجوب قائم والمعارض الموجود لا يصلح
معارضا فوجب تحقق الوجوب
96

بيان المقتضي ما تقدم من دلالة الأمر على الوجوب
بيان أن المعارض لا يصلح معارضا وجهان
الأول أنه كما لا يمتنع الانتقال من الحظر إلى الإباحة فكذلك لا يمتنع
الانتقال منه إلى الوجوب والعلم بجوازه ضروري
الثاني أنه لو قال الوالد لولده أخرج من الحبس إلى المكتب فهذا لا
يفيد الإباحة مع أنه أمر بعد الحظر الحاصل بسبب الحبس وكذا أمر
الحائض والنفساء بالصلاة والصوم ورد بعد الحظر وأنه للوجوب
واحتج المخالف بالآية والعرف
أما الآية فقوله تعالى فإذا طعمتم فانتشروا وإذا حللتم
فاصطادوا فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله
وهذا النوع من الأمر في كتاب الله ما جاء إلا للإباحة فوجب كونه
حقيقة فيها
وأما العرف فهو أن السيد إذا منع عبده من فعل شئ ثم قال له
إفعله فهم منه الإباحة
والجواب عن الأول أنه يشكل بقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر
الحرم فاقتلوا المشركين فهذا يدل على الوجوب إذ الجهاد فرض
97

على الكفاية وقوله تعالى لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله
وحلق الرأس نسك وليس بمباح محض
وعن الثاني أن العرف متعارض لأن من قال لابنه وهو في الحبس
اخرج إلى المكتب فهو أمر بعد الحظر وقد يفيد الوجوب والله
أعلم
تنبيه
القائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة اختلفوا في النهي الوارد
عقيب الوجوب
فمنهم من طرد القياس فقال إنه للإباحة
ومنهم من قال لا تأثير ها هنا للوجوب المقدم بل النهي يفيد
التحريم
المسألة الرابعة
الأمر المطلق لا يفيد التكرار بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار
بالوحدة والكثرة إلا أن ذلك المطلوب لما حصل بالمرة الواحدة لا جرم
يكتفى بها
والأكثرون خالفوا فيه وهم ثلاث فرق
98

إحداها الذين قالوا إنه يقتضي المرة الواحدة لفظا
والثانية أنه يقتضي التكرار
وثالثها التوقف إما لادعاء كون اللفظ مشتركا بين المرة الواحدة
والتكرار
أو لأنه لا يدرى أنه حقيقة في المرة الواحدة أو في التكرار
لنا وجوه
أحدها أن صيغة إفعل موضوعة لطلب إدخال ماهية المصدر في
الوجود فوجب أن لا تدل على التكرار ولا على المرة
بيان الأول أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء
على التكرار كما في قوله تعالى أقيموا الصلاة
ومنها ما جاء لا على التكرار كما في الحج
وفي حق العباد أيضا قد لا يفيد التكرار فإن السيد إذا أمر عبده
بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار ولو ذمه السيد على
ترك التكرار للامه العقلاء
ولو كرر العبد الدخول لحسن من السيد أن يلومه ويقول إني قد
99

أمرتك بالدخول وقد دخلت فيكفي ذلك وما أمرتك بتكرار الدخول
وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال احفظ دابتي فحفظها ساعة ثم
أطلقها يذم
إذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل فلا بد من
جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين وما ذاك إلا طلب
إدخال ماهية المصدر في الوجود
وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على
القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز
إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام
فالأمر لا دلالة فيه البتة لا على التكرار ولا على المرة الواحدة بل
على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية
في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة الواحدة من ضرورات
الإتيان بالمأمور به فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه
وثانيها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا
إفعل إلا في كون الأول خبرا والثاني طلبا
ثم أجمعنا على أن قولنا يفعل يتحقق مقتضاه بتمامه في حق من
100

يأتي به مرة واحدة فكذا في الأمر وإلا لحصلت بينهما تفرقة في
شئ غير الخبرية والطلبية وذلك يقدح في قولهم
وثالثها أن القول بالتكرار يقتضي أن تستغرق الأوقات بحيث لا يخلو
وقت عن وجوب المأمور به إذ ليس في اللفظ إشعار بوقت معين فليس حمله
على البعض أولى من الباقي
لكن حمله على كل الأوقات غير جائز
أما أولا فبالإجماع
وأما ثانيا فلأنه إذا أمر بعبادة ثم أمر بغيرها لزم أن تكون الثانية
ناسخة للأولى لأن الأول قد استوعب جميع الأوقات والثاني يقتضي إزالته
عن بعضها والنسخ هو إزالة الحكم بعد ثبوته إلى بدل وقد حصل ذلك
ها هنا وفي علمنا بأن الأمر ببعض الصلوات ليس نسخا لغيرها وأن الأمر
بالحج ليس نسخا للصلاة ما يدل على فساد ما قالوا
وأما ثالثا فلأنه يلزم أن يكون الأمر بغسل بعض أعضاء الوضوء
نسخا لما تقدمه والأمر بالصلاة يكون نسخال عند للأمر بالوضوء وذلك لا يقوله
عاقل
ورابعها أنا نعلم حسن قول القائل لغيره إفعل كذا أبدا أو افعله
101

مرة واحدة بلا زيادة فلو دل الأمر على التكرار لكان الأول تكرارا والثاني
نقضا ولما لم يكن كذلك بطل ما قالوا
احتج القائلون بالتكرار بوجوه
أحدها أن الصديق رضي الله عنه تمسك على أهل الردة في
وجوب تكرار الزكاة بقوله تعالى وآتوا الزكاة ولم ينكر عليه أحد من
الصحابة فدل على انعقاد الإجماع على أن الأمر للتكرار
وثانيها أن الأمر طلب الفعل والنهي طلب الترك فإذا كان النهي
الذي هو أحد الطلبين يفيد التكرار فكذا الآخر
وثالثها أن الأمر لو لم يفد التكرار لما جاز ورود النسخ عليه ولا
102

الاستثناء لأن ورود النسخ على المرة الواحدة يدل على البداء وورود
الاستثناء عليها يكون نقضا
ورابعها أنه ليس في لفظ الأمر تعيين زمان فلا يكون اقتضاؤه لايقاع
الفعل في زمان أولى من اقتضائه لإيقاعه في زمان آخر فإما أن لا يقتضي
إيقاعه في شئ من الأزمنة وهو باطل أو في كل الأزمنة وهو
المطلوب
وخامسها أن الاحتياط يقتضي تكرار المأمور به لأنه بالتكرار يأمن من
الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وبترك التكرار لا يأمن منه
لاحتمال أن يكون ذلك الأمر للتكرار فوجب حمله على التكرار دفعا لضرر
الخوف على النفس
وأما القائلون بالاشتراك بين المرة الواحدة وبين التكرار فقد احتجوا
بوجهين
أحدهما أنه يحسن الاستفهام فيه فيقال أردت بأمرك فعل مرة واحدة
أم أكثر ولذلك قال سراقة للنبي ص أحجتنا لعامنا هذا أم
103

للأبد وحسن الاستفهام دليل الاشتراك
وثانيهما ورود الأمر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص
وسلم على الوجهين والأصل في الكلام الحقيقة فكان الاشتراك
لازما
والجواب عن الأول لعل رسول الله ص بين للصحابة أن قوله
أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة يفيد التكرار فلما كان ذلك معلوما
للصحابة لا جرم تمسك الصديق بهذه الآية في وجوب التكرار
وعن الثاني أن الفرق من وجهين
104

الأول أن الانتهاء عن الفعل أبدا ممكن أما الاشتغال به أبدا
فغير ممكن فظهر الفرق
والثاني أن النهي كالنقيض للأمر لأن قول القائل لغيره كن فاعلا
موجود في قوله لا تكن فاعلا وإنما زاد عليه لفظ النفي فجرى
مجرى قوله زيد في الدار زيد ليس في الدار وإذا كان النهي مناقضا
للأمر وجب أن تكون فائدة النهي مناقضة لفائدة الأمر
فإذا كان قولنا إفعل يقتضي إيقاع الفعل في زمان ما
أي زمان كان فقولنا لا تفعل وجب أن يقتضي المنع من إيقاعه في زمان
ما أي زمان كان بل في الأزمنة كلها لأنه إن لم يفعل اليوم وفعل غدا
كان ممتثلا للأمر ولا يجوز أن يكون ممتثلا للأمر والنهي معا مع كونهما
نقيضين فصح أن كون الأمر مفيدا للمرة الواحدة يقتضي أن يكون
النهي مانعا للفعل في جميع الأزمان
ثم نقول كون النهي مفيدا للتكرار يدل على أن الأمر لا يفيد إلا المرة
الواحدة لأن فائدة الأر رفع فائدة النهي وفائدة النهي المنع من الفعل
105

في كل الأزمان ففائدة الأمر رفع هذا المنع الكلي ورفع المنع
الكلي يحصل بالثبوت ولو في زمان واحد فوجب أن تكون فائدة الأمر
اقتضاء الفعل ولو في زمان واحد وإذا كان كذلك لزم من كون الأمر
نقيضا للنهي مع كون النهي مفيدا للتكرار أن يكون الأمر غير مفيد للتكرار
وعن الثالث أن النسخ لا يجوز وروده عليه فإذا ورد صار ذلك قرينة في
أنه كان المراد به التكرار
وعندنا لا يمتنع حمل الأمر على التكرار بسبب بعض القرائن
وأما الاستثناء فإنه لا يجوز على قول من يقول بالفور
أما من لم يقل به فإنه يجوز الاستثناء وفائدته المنع من إيقاع الفعل
في بعض الأوقات التي كان المكلف مخيرا بين إيقاع الفعل فيه وفي غيره
وعن الرابع أن الآمر عند القائلين بالفور مختص بأقرب الأزمنة
إليه وعند منكريه دال على طلب إيقاع المصدر من غير بيان الوحدة
والعدد والزمان الحاضر والآتي بل على القدر المشترك بين المقيد والمؤقت
ومقابليهما
أخبرنا وعن الخامس أن المكلف إذا علم أن اللفظ لا يدل على التكرار أمن
من الخوف على أنه معارض بالخوف الحاصل من التكرار فإنه
ربما كان ذلك مفسدة كما في شراء اللحم ودخول الدار
وأما الاستفهام والاستعمال فسيظهر إن شاء الله تعالى في باب
106

العموم أنه لا يدل واحد منهما على الاشتراك وعلى أن الأوامر الواردة
بمعنى التكرار بعضها يفيد التكرار في اليوم وبعضها في الأسبوع
وبعضها في الشهر وبعضها في السنة وظاهر أن ذلك لا يستفاد الا
من دليل منفصل والله أعلم
المسألة الخامسة
اختلفوا في أن الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرار المأمور
به بتكرارهما أم لا
مثال الصفة قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
ومثال الشرط إن كان أو إذا كان زانيا فارجمه
فنقول كل من جعل الأمر المطلق مفيدا للتكرار قال به ها هنا أيضا
وأما القائلون بأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار فمنهم من
قال بأنه ها هنا يفيد التكرار ومنهم من قال لا يفيده
والمختار أنه لا يفيده من جهة اللفظ ويفيده من جهة ورود الأمر
بالقياس
فها هنا مقامان
المقام الأول في أنه لا يفيده من جهة اللفظ ويدل عليه وجوه
أحدها إن السيد إذا قال لعبده اشتر اللحم إن دخلت السوق لا يعقل
107

منه التكرار حتى لو اشتراه دفعة واحدة لا يلزمه الشراء ثانيا
وثانيها لو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر الطلاق
بتكرر دخولها في الدار
وكذلك لو قال إن رد الله علي مالي أو دابتي أو صحتي فله
علي كذا لم يتكرر الجزاء بتكرر الشرط
وكذا لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي إن دخلت الدار لم يثبت
على التكرار
وثالثها أجمعنا على أن الخبر المعلق على الشرط كقوله زيد سيدخل
الدار لو دخلها عمرو فدخلها عمرو ودخلها زيد فإنه يعد صادقا
وإن لم يتكرر دخول زيد عند دخول عمرو فوجب أن يكون في هذه الصورة
كذلك
والجامع دفع الضرر الحاصل من التكليف بالتكرار
ورابعها أن اللفظ ما دل إلا على تعليق شئ على شئ والمفهوم
من تعليق شئ أعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة لأنه
يصح تقسيم ذلك المفهوم إلى هذين القسمين ومورد التقسيم مشترك بين
القسمين فإذن تعليق الشئ على الشئ لا يدل على تكرار ذلك التعليق
108

المقام الثاني في أنه يفيده من جهة ورود الأمر بالقياس
والدليل عليه إن الله تعالى لو قال إن كان زانيا فارجمه فهذا يدل
على أنه تعالى جعل الزنا علة لوجوب الرجم ومتى كان كذلك لزم
تكرر الحكم عند تكرر الصفة
بيان الأول أن القائل إذا قال إن كان الرجل عالما زاهدا فاقتله وإن
كان جاهلا فاسقا فأكرمه فهذا الكلام مستقبح في العرف والعلم بذلك
ضروري
فالاستقباح لو إما أن يكون لأنه يفيد أن هذا القائل جعل الجهل والفسق
موجبين للتعظيم أو لأنه لا يفيد ذلك والثاني باطل لأنه لو لم يفد
العلية ولا منافاة أيضا بين الجهل وبين استحقاق التعظيم بسبب آخر
من كونه نسبيا شجاعا جوادا فصيحا فحينئذ لم يكن إثبات استحقاق
التعظيم مع كونه جاهلا فاسقا على خلاف الحكمة فكان يجب
أن لا يثبت وحيث ثبت علمنا فساد هذا القسم وأن ذلك الاستقباح إنما
109

حصل لأنه يفيد أن ذلك القائل جعل جهله وفسقه علة لاستحقاق
الإكرام
فثبت أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة
فإذا صدر ذلك من الله تعالى أفاد ظن أن الله تعالى جعل ذلك
الوصف علة وذلك يوجب تكرر الحكم عند تكرر الوصف باتفاق
القائسين
فثبت أن قول الله تعالى إن كان زانيا فارجمه يفيد تكرار الرجم
عند تكرار الزنى
فإن قيل أولا هذا يشكل بقوله إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه
لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول وإن دخلت السوق فاشتر اللحم فإنه لا
يتكرر الأمر بشراء اللحم عند تكرر دخول السوق
ثم نقول لا نسلم أنه يفيد ظن العلية
أما قوله إن كان الرجل عالما فاقتله فهذا الاستقباح إنما جاز لأن
كونه عالما ينافي جواز القتل فإثبات هذا الحكم مع قيام المنافي يوجب
الاستقباح سلمنا أنه يفيد العلية في هذه الصورة فلم قلت إن في
سائر الصور يجب أن يكون كذلك
110

سلمنا أنه في جميع الصور يفيد العلية فلم قلت إنه يلزم من
تكرر العلة تكرر الحكم فإن السرقة وإن كانت موجبة للقطع لكن
يتوقف إيجابها لهذا الحكم على شرائط كثيرة
الجواب أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فهذا يفيد ظن أن
هذا الإنسان جعل دخول الدار علة لوقوع الطلاق وإذا جعل الإنسان شيئا علة
لحكم لم يلزم من تكرر ما جعله تكرر ذلك الحكم
ألا ترى أنه لو قال أعتقت عبدي غانما لسواده وبعلة كونه أسود
وكان له عبد آخر أسود فإنه لا يعتق عليه ذلك العبد
ومعلوم أن التنبيه على العلية لا يزيد على التصريح بها
أما إذا علمنا أو ظننا أن الشارع جعل شيئا علة لحكم فإنه يلزم من
تكرر ذلك الشئ تكرر ذلك الحكم بإجماع القائسين
فثبت أنه لا يلزم من عدم تكرر الحكم عند تكرر المعلق عليه
عندما يكون التعليق صادرا من العبد أن لا يتكرر عندما يكون
التعليق صادرا من الله تعالى
111

فإن قلت هذا التكرار لا يكون مستفادا من اللفظ بل يكون مستفادا
من الامر بالقياس
قلت هذا هو الحق وعند هذا يظهر أنه لا مخالفة بين هذا المذهب
وبين ظاهر المذهب المنقول عن الأصوليين من أنه لا يفيد التكرار وهو حق
ونحن نعني به إنه يفيد ظن العلية فإذا انضم الأمر بالقياس حصل من
مجموعهما إفادة التكرار ولا منافاة بين هذا المذهب وبين ما قالوه
قوله الاستقباح إنما جاز لأن كونه فاسقا ينافي جواز التعظيم
قلنا لا نسلم حصول المنافاة لأن الفاسق قد يستحق الإكرام
بجهات أخر
والأصل تخريج الحكم على وفق الأصل
قوله لم قلت إنه لما حصل ظن العلية في الصورة التي
ذكرتموها حصل ظن العلية في سائر الصور
قلنا لوجهين
أحدهما أنا نقيس عليه سائر الصور والجامع هو أن الحكم إذا
كان مذكورا مع علته كان أقرب إلى القبول وذلك مصلحة المكلف
فيناسب الشرعية
الثاني أنا نعد صورا كثيرة ونبين حصول ذلك الظن فيها ثم نقول لا
بد بينها من قدر مشترك وذلك المشترك إما ما ذكرناه من ترتيب الحكم
على الوصف أو غيره
112

والثاني مرجوح لأن الأصل عدد سائر الصفات فتعين الأول فعلمنا
أن ترتيب الحكم على الوصف أينما كان فإنه يفيد ظن العلية
قوله لم قلت إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم
قلنا هذا متفق عليه بين القائسين فلا يكون المنع فيه مقبولا والله
أعلم
المسألة السادسة
في أن مطلق الأمر لا يفيد الفور
قالت الحنفية إنه يفيد الفور
وقال قائلون إنه يفيد التراخي
وقالت الواقفية إنه مشترك بين الفور والتراخي
والحق أنه موضوع لطلب الفعل وهو القدر المشترك بين طلب
الفعل على الفور وبين طلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ
إشعار بخصوص كونه فورا أو تراخيا
لنا وجوه
أحدها أن الأمر قد يرد عندما يكون المراد منه الفور تارة والتراخي
أخرى فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين دفعا
للاشتراك والمجاز والموضوع لإفادة القدر بين القسمين لا يكون له إشعار
113

بخصوصية كل واحد من القسمين لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ
وغير لازمة له فثبت أن اللفظ لا إشعار له لا بخصوص كونه فورا
ولا بخصوص كونه تراخيا
وثانيها أنه يحسن من السيد أن يقول إفعل الفعل الفلاني في الحال
أو غدا ولو كان كونه فورا داخلا في لفظ إفعل لكان الأول تكرارا
والثاني نقضا وأنه غير جائز
وثالثها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا
إفعل إلا أن الأول خبر والثاني أمر لكن قولنا يفعل لا إشعار له
بشئ من الأوقات فإنه يكفي في صدق قولنا يفعل إتيانه به في أي
وقت كان من أوقات المستقبل فكذا قوله إفعل وجب أن يكفي في
الإتيان بمقتضاه الإتيان به في أي وقت كان من أوقات المستقبل وإلا
فحينئذ يحصل بينهما فرق في أمر آخر سوى كونه خبرا أو أمرا
114

ورابعها أن أهل اللغة قالوا في لفظ إفعل إنه أمر والأمر قدر
مشترك بين الأمر بالشئ على الفور وبين الأمر به على التراخي لأن الأمر
به على الفور أمر مع قيد كونه على الفور
وكذلك الأمر به على التراخي أمر مع قيد كونه على التراخي ومتى
حصل المركب فقد حصل المفرد فعلمنا أن مسمى الأمر قدر مشترك بين
الأمر مع كونه فورا وبين الأمر مع كونه متراخيا
وإذا ثبت أن لفظ إفعل للأمر وثبت أن الأمر قدر مشترك بين هذين
القسمين ثبت أن لفظ إفعل لا يدل إلا على قدر مشترك بين هذين
القسمين
واحتج المخالف بأمور
أحدها قوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك عابه
على أنه لم يأت في الحال بالمأمور به وهذا يدل على أنه أوجب عليه
الإتيان بالفعل حين أمره به إذ لو لم يجب ذلك لكان لإبليس
أن يقول إنك أمرتني وما أوجبت علي في الحال فكيف أستحق
الذم بتركه في الحال
115

وثانيها قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وقوله
فاستبقوا الخيرات
وثالثها لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أولا إلى بدل
والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل
أما فساد القسم الأول فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام
المبدل منه من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه
التكليف وبالاتفاق ليس كذلك
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال البدل قائم مقام المبدل منه في
ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا جرم لم يلزم من الإتيان
بابدل يكون سقوط الأمر بالمبدل
قلت إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت
كان وهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد تأدى ما هو المقصود من
الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية
بل ذلك العذر يتمشى بتقدير أن يقتضي الأمر التكرار ولكنه باطل
وأما فساد القسم الثاني وهو القول بجواز التأخير لا إلى بدل فذلك
يمنع من كونه واجبا لأنه لا يفهم من قولنا إنه ليس بواجب إلا
116

أنه يجوز تركه من غير بدل
ورابعها لو جاز التأخير لجاز إما إلى غاية معينة بحيث إذا وصل
المكلف إليها لا يجوز له أن يؤخر الفعل عنها أو يجوز له التأخير أبدا
والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل
إنما قلنا إنه لا يجوز له التأخير إلى غاية لأن تلك الغاية إما أن تكون
معلومة للمكلف أو لا تكون
فإن كانت معلومة له فتلك الغاية ليست إلا أن تصير بحيث يغلب
على ظنه أنه لو لم يشتغل بأدائه فاته ذلك الفعل بدليل أن كل من قال
بجواز التأخير إلى غاية معلومة قال إن تلك الغاية هي هذا
الوقت فالقول بإثبات غاية أخرى خرق للإجماع وإنه غير جائز
لكن القول بجواز التأخير إلى هذه الغاية باطل لأن الظن إن لم يكن
لأمارة جرى مجرى ظن السوداوي فلا عبرة به
117

وإن كان لأمارة فكل من قال بهذا القسم قال إن تلك الأمارة إما المرض
الشديد أو علو السن
وهذا أيضا باطل لأن كثيرا من الناس يموت فجأة وذلك يقتضي أنه
ما كان يجب عليهم ذلك الفعل في علم الله تعالى مع أن ظاهر ذلك
الأمر للوجوب
وإنما قلنا إن تلك الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة لأنه على
هذا التقدير يصير مكلفا بأن لا يؤخر الفعل عن وقت معين مع أنه لا
يعرف ذلك الوقت وهو تكليف ما لا يطاق
وإنما قلنا إنه لا يجوز التأخير أبدا لأن التأخير أبدا تجويز للترك
أبدا وإنه ينافي القول بوجوبه
وخامسها أن السيد إذا أمر عبده بأن يسقيه الماء فهم منه التعجيل
واستحسن العقلاء ذم العبد على التأخير والإسناد إلى مع القرينة خلاف الأصل
فالأمر يفيد الفور
وسادسها أجمعنا على أنه يجب اعتقاد وجوب الفعل على الفور
فنقول
الفعل أحد موجبي الأمر فيجب على الفور قياسا على الاعتقاد
والجامع تحصيل المصلحة الحاصلة بسبب المسارعة إلى الامتثال
118

وسابعها أن الأمر يقتضي أيقاع الفعل فأشبه العقود في البياعات فلما
وقع العقد عقيب الإيجاب والقبول فالأمر وجب أن يكون مثله
وتحريره أنه استدعاء فعل بقول مطلق فيقتضي التعجيل كالإيجاب
في البيع
وثامنها أن الأمر ضد النهي فلما أفاد النهي وجوب الانتهاء على
الفور وجب في الأمر أن يفيد الوجوب على الفور
وربما أوردوا هذا على طريق آخر فقالوا ثبت أن الأمر بالشئ نهي عن
تركه لكن النهي عن تركه يوجب الانتهاء عن تركه في الحال
والانتهاء عن تركه في الحال لا يمكن إلا بالإقدام على الفعل في
الحال فثبت أن الأمر يوجب الفعل في الحال
وتاسعها أجمعنا على أنه لو فعل عقيبه يقع الموقع ويخرج عن
العهدة وطريقة الاحتياط تقتضي وجوب الإتيان به على الفور لتحصيل
119

الخروج عن العهدة بيقين
والجواب عن الأول أنه حكاية حال فلعل ذلك الأمر كان مقرونا
بما يدل على الفور
وعن الثاني أن قوله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم مجاز من حيث
ذكر المغفرة وأراد ما يقتضيها وليس في الآية أن المقتضي لطلب
المغفرة هو الإتيان بالفعل على سبيل الفور
على أن هذه الآية لو دلت على وجوب الفور لم يلزم منه دلالة نفس
الأمر على الفور
وعن الثالث والرابع أنه يشكل بما إذا صرح وقال أوجبت عليك أن
تفعل هذا الفعل في أي وقت شئت فكل ما جعلوه عذرا في هذه
الصورة فهو عذرنا عما ذكروه
وكذلك يشكل بالكفارات والنذور وكل الواجبات الموسعة
وعن الخامس أنه معارض بما إذا أمر السيد غلامه بشئ ولم يعلم
الغلام حاجة السيد إليه في الحال فإنه لا يفهم التعجيل
فإن حملتم ذلك على القرينة ألزمناكم بكر مثله
فإن قلت إن السيد يعلل ذمه لعبده بأنني أمرته بشئ فأخره
120

ولولا أن الأمر للفور وإلا لما صح هذا التعليل
قلت وقد يعتذر العبد فيقول أمرتني بأن أفعل وما أمرتني
بالتعجيل وما علمت بأن في التأخير مضرة
وعن السادس أنه يبطل بما لو قال إفعل في أي وقت شئت
وبالنذور والكفارات
ويبطل أيضا بالخبر فإنه لو قال الشارع يقتل زيد عمرا فها هنا
يجب الاعتقاد في الفور ولا يجب حصول الفعل في الفور
ولأن الاعتقاد غير مستفاد من الأمر فلا يجب حصول الفعل في الفور
لأن من ركب الله العقل فيه فإذا نظر علم أن امتثال أمر الله تعالى
واجب
وعن السابع أنه يبطل بقوله إفعل في أي وقت شئت ولأن الجامع
الذي ذكروه وصف طردي وهو غير معتبر
وعن الثامن أن النهي يفيد التكرار فلا جرم يوجب الفور والأمر لا
يفيد التكرار فلا يلزم أن يفيد الفور
وعن التاسع وهو طريقة الاحتياط انه ينتقض بقوله إفعل في
اي وقت شئت
واعلم أن هذا النقض يرد على أكثر أدلتهم وهو لازم لا محيص عنه
121

المسألة السابعة
في أن الأمر المعلق أو الخبر المعلق على شئ بكلمة إن عدم
عند عدم ذلك الشئ
والخلاف فيه مع القاضي بكر وأكثر المعتزلة
لنا وجهان
الأول هو أن النحويين سموا كلمة إن حرف شرط والشرط
ما ينتفي الحكم عند انتفائه فيلزم أن يكون المعلق بهذا الحرف منتفيا
عند انتفاء المعلق عليه
أما ان النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط فذلك
ظاهر في كتبهم
وأما أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه فلأنهم يقولون
الوضوء شرط صحة الصلاة والحول شرط وجوب الزكاة وعنوا
بكونهما شرطين انتفاء الحكم عند انتفائهما والاستعمال دليل الحقيقة
ظاهرا
فإن قيل لا نزاع في أن النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط ولكن
122

لعل ذلك من اصطلاحاتهم الحادثة كتسميتهم الحركات المخصوصة
بالرفع والنصب والجر وإن لم تكن تسمية هذه الحركات بهذه
الأسماء موجودة في أصل اللغة
سلمنا أن هذا الاسم أصلي لكن لا نسلم أن الشرط ما ينتفي الحكم
عند انتفائه بل شرط الشئ ما يكون علامة على ثبوته الحكم من
قولهم أشراط الساعة أي علاماتها
وإذا كان الشرط عبارة عن العلامة لزم من ثبوتها ثبوت الحكم لكن
لا يلزم من عدمها عدم الحكم
سلمنا أن شرط الشئ ما يقف وفي عليه الحكم لكن مطلقا أو بشرط
أن لا يوجد ما يقوم مقامه
الأول ممنوع والثاني مسلم
وعلى هذا التقدير لا يلزم من عدم هذا الشرط عدم الحكم إلا إذا
عرف أنه لم يوجد شئ ما يقوم مقام هذا الشرط
123

والجواب لما دلت الكتب النحوية على تسمية هذا الحرف بحرف
الشرط وجب اعتقاد أن هذا الاسم كان حاصلا في أصل اللغة وإلا
لكان حصول هذا الاسم له النقل وقد بينا النقل خلاف الأصل
قوله شرط الشئ ما يدل على ثبوته
قلنا لو كان كذلك لامتنعت تسمية الوضوء بأنه شرط صحة
الصلاة فإن الوضوء لا يدل على صحة الصلاة وكذا القول في قولنا
الحول شرط وجوب الزكاة والإحصان شرط وجوب الرجم
وأما أشراط الساعة فهي وإن كانت علامات دالة على وجوب الساعة
لكن يمتنع وجود الساعة إلا عند وجودها فهي مسماة بالأشراط لا بحسب
الاعتبار الأول بل بحسب الاعتبار الثاني
قوله شرط الشئ ما ينتفي الحكم عند انتفائه مطلقا أو
إذا لم يوجد ما يقوم مقامه
قلنا مطلقا لأنه إذا ثبت كون شئ شرطا وثبت أن لفظ الشرط
124

معناه في اللغة ما ينتفي الحكم عند انتفائه وثبت أن ذلك
الشئ يجب انتفاء الحكم عند انتفائه فلو أثبتنا شيئا آخر يقوم
مقامه لم يكن ذلك الشئ بعينه شرطا بل يكون الشرط إما هو أو
ذلك الآخر لا على التعيين وذلك ينافي قيام الدلالة على كونه بعينه
شرطا
الحجة الثانية ما روي أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب رضي
الله عنه فقال ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال عجبت مما عجبت منه
فسألت رسول الله ص فقال صدقة تصدق الله بها
عليكم فاقبلوا صدقته
125

ولو لم يفهم أن المعلق على الشئ بكلمة إن عدم عند عدم ذلك
الشئ لم يكن لذلك التعجب معنى
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنما تعجبا من ذلك لأنهما عقلا من
الآيات الواردة في وجوب الصلاة وجوب الإتمام وأن حال الخوف
مستثناة من ذلك وما عداها ثابت على الأصل في وجوب الإتمام فلذلك
تعجبا من ثبوت القصر مع الأمن
ثم نقول هذا الحديث حجة عليكم لأنه لو امتنع المشروط عند عدم
الشرط لما جاز القصر عند عدم الخوف وقد جاز فعلمنا أنه لا يجب عدم
المشروط عند عدم الشرط
والجواب عن السؤال الأول أن الآيات الدالة على وجوب الصلاة
لا تنطق بالإتمام ولا بأن الأصل في الصلاة الإتمام بل المروي عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت صلاة السفر والحضر ركعتين
126

فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر
وعن الثاني أن طاهر الشرع يمنع من ذلك ولذلك ظهر التعجب
لكن لا يمتنع أن يدل دليل على خلاف الظاهر والله أعلم
احتج المخالف بالآية والحكم
أما الآية فهو أن المعلق إن على شئ لو كان عدما عند
عدم ذلك الشئ لكان قوله عز وجل ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن
أردن تحصنا دليلا على أنه ما حرم الإكراه على البغاء إن لم يردن
التحصن وقوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وقوله
واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون وقوله أن تقصروا من الصلاة إن
خفتم وقوله فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة
ففي جميع هذه الآيات الحكم غير منتف عند انتفاء الشرط
127

وأما الحكم فهو ما إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فهذا
لا ينفي الطلاق قبل ذلك الشرط حتى لو نجز أو علق بشرط آخر لم
يكن مناقضا للأول
ولو لزم عدم المشروط عند عدم الشرط لزم التناقض ها هنا
والجواب عن الأول أن الظاهر يقتضي أن لا يحرم الإكراه على
البغاء إذا لم يردن التحصن ولكن لا يلزم من عدم الحرمة القول بالجواز
لأن زوال الحرمة قد يكون لطريان المحل وقد يكون لامتناع وجوده عقلا
وها هنا كذلك لأنهن إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء وإذا أردن
البغاء امتنع إكراههن على البغاء
وعن الثانية أنه إذا علق الطلاق على الدخول ثم نجز فإن كان
المنجز واحدة أو اثنتين بقي التعليق فالمنجز غير المعلق حتى لو تزوجت
بزوج آخر وعادت إليه وتزوجها وقع الطلاق المعلق
وإن كان المنجز ثلاثا فعندنا المنجز غير المعلق حتى بقي المعلق
موقوفا على دخول الدار فإذا تزوجت بزوج آخر وعادت إليه ودخلت
الدار وقع الطلاق المعلق والله أعلم
128

المسألة الثامنة
في الأمر المقيد بعدد
فلنبحث أن الحكم المعلق بعدد هل يدل على حكم ما زاد
عليه وما نقص عنه أم لا
أما في جانب الزيادة فمتى كان العدد الناقص علة لعدم أو أمتنع ثبوت
ذلك الأمر في العدد الزائد فعله عدم ذلك الأمر حاصلة عند عدم
حصول العدد الزائد
مثاله لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة كان الزائد على
المائة محظورا لأن المائة موجودة في الزائد على المائة
ولو قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا فجعل القلتين علة
129

لاندفاع حكم النجاسة فالزائد عليهما أولى أن يكون كذلك
أما إذا كان العدد الناقص موصوفا بحكم لم يجب أن يكون الزائد عليه
موصوفا بذلك لأنه لا يلزم من كون عدد واجبا أو مباحا أن يكون
الزائد عليه واجبا أو مباحا
وأما في جانب النقصان فالحكم إما أن يكون إباحة أو إيجابا
أو حظرا
فإن كان إباحة لم يخل ما دون ذلك العدد إما أن يكون داخلا
تحت ذلك العدد على كل حال أو لا يدخل تحته على كل حال أو
يدخل تحته تارة ولا يدخل أخرى
مثال الأول أن يبيح الله تعالى لنا جلد الزاني مائة فإنه يدل
على إباحة جلد خمسين لأن الخمسين داخلة في المائة
ومثال الثاني أن يبيح الله عز وجل لنا أن نحكم بشهادة
شاهدين فإنه لا يدل على إباحة الحكم بشهادة الواحد لإن الحكم بشهادة
130

الشاهد الواحد غير داخل تحت الحكم بشهادة شاهدين
ومثال الثالث أن يبيح لنا استعمال القلتين من الماء إذا وقعت فيهما
نجاسة فإنه قد أباح لنا استعمال القلة من هاتين القلتين ولا يدل على
إباحة استعمال قلة واحدة فلا إذا وقعت فيها نجاسة لأن القلة الواحدة إذا وقعت
فيه نجاسة غير داخلة تحت قلتين وقعت فيهما نجاسة
أما إذا حظر الله تعالى علينا عددا مخصوصا فإنه يختلف
أيضا فربما دل على حظر ما دونه من طريق الأولى لأنه إذا حظر استعمال
القلتين إذا وقعت فيهما نجاسة فحظر القلة الواحدة أولى
أما لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة لم يدل أن ما دونه
محظور
وأما إذا أوجب الله تعالى جلد الزاني مائة فإنه يدل على وجوب
جلد خمسين لأنه لا يمكن فعل الكل إلا بفعل الجزء ولكنه ينفي
قصر الوجوب على الجزء
فثبت أن قصر الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد أو نقص
إلا لدليل منفصل
131

واحتج المخالف بالسنة والإجماع
أما السنة فهي أن الله تعالى لما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة
فلن يغفر الله لهم قال عليه الصلاة والسلام والله لأزيدن على
السبعين
132

فعقل أن الحكم منفي عن الزيادة
وأما الإجماع فهو أن الأمة عقلت من تحديد جلد القاذف
بالثمانين نفي الزيادة
والجواب عن الأول إن تعليق الحكم على السبعين كما لا ينفيه عن
الزائد فكذا لا يوجبه فلعله ص جوز حصول المغفرة لو زاد على
السبعين فلذلك قال ما قال
133

وعن الثاني أن ذلك النفي إنما عقل بالبقاء على حكم الأصل والله
أعلم
المسألة التاسعة في الأمر المقيد بالاسم
الجمهور منا ومن المعتزلة قالوا إن الأمر والخبر المقيد بالاسم لا
يدل على نفي حكم ما عداه كقول القائل زيد في الدار لا يدل على أن
عمرا ليس فيها وإذا أمر بشئ لا يدل على أن غيره ليس بواجب
وقال أبو بكر الدقاق منا إنه يدل على ذلك
لنا وجوه
الأول اتفاق الكل على أنه يجوز أن يقال زيد أكل أو شرب مع
134

العلم بأن غيره فعل ذلك أيضا
الثاني أن تخصيص البعض بالذكر لو دل على نفي الحكم عن
غير المذكور لبطل القياس لأن التنصيص على حكم الأصل ان وجد
معه التنصيص على حكم الفرع كان حكم الفرع ثابتا بالنص لا
بالقياس
وإن لم يوجد معه كان النص دالا على عدم الحكم في الفرع
وحينئذ لا يجوز إثباته بالقياس لأن النص مقدم على القياس
الثالث لو دل قولنا زيد أكل على أن غيره لم يأكل لدل عليه إما
بلفظه أو بمعناه
والأول باطل لأنه ليس في اللفظ ذكر غير زيد فكيف يدل على حكم
غير زيد
والثاني باطل لإن الإنسان قد يعلم أن زيدا وعمرا يشتركان في فعل
ويكون له غرض في الإخبار عن أحدهما دون الآخر
فثبت أنه لا يدل عليه لا بلفظه ولا بمعناه
وأصبح المخالف بأنه لا بد في التخصيص من فائدة ولا فائدة
إلا نفي الحكم عما عداه
135

والجواب المقدمة الثانية ممنوعة فلعل غرضه كان متعلقا بالأخبار
عنه دون غيره فلهذا خصه بالذكر والله أعلم
المسألة العاشرة في الأمر المقيد بالصفة
وهو كقوله زكوا عن الغنم السائمة
واختلفوا في أنه هل يدل ذلك على أنه لا زكاة في غير السائمة
الحق أنه لا يدل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله واختيار ابن
سريج والقاضي أبي بكر وإمام الحرمين والغزالي وقول جمهور
المعتزلة
136

وذهب الشافعي والأشعري رضي الله عنهما ومعظم الفقهاء منا
إلى أنه يدل
لنا وجوه
الأول إن الخطاب المقيد بالصفة لو دل على أن ما عداه يخالفه
لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه لكنه لم يدل عليه من الوجهين فوجب
أن لا يدل عليه أصلا
إنما قلنا إنه لا يدل عليه بلفظه لأن اللفظ الدال على ثبوت
الحكم في أحد القسمين إن لم يكن مع ذلك موضوعا لنفي الحكم في
القسم الثاني لم يكن له عليه دلالة لفظية
وإن كان موضوعا له فحينئذ يكون ذلك اللفظ موضوعا لمجموع إثبات
الحكم في أحد القسمين ونفيه عن القسم الآخر
ولا نزاع في دلالة مثل هذا اللفظ على هذا النفي
بيان أنه لا يدل عليه بمعناه أن الدلالة المعنوية هي أن
يستلزم المسمى شيئا فينتقل الذهب من المسمى إلى لازمه
وها هنا ثبوت الحكم في أحد القسمين لا يستلزم عدمه عن القسم
الثاني لأن الصورتين المشتركتين في الحكم كقوله في سائمة الغنم زكاة
137

في معلوفة الغنم زكاة يجوز تخصيص إحداهما بالبيان دون الثانية
إما لأن بيان الصورة الأخرى غير واجب أو إن كان واجبا لكنه يبينه
بطريق آخر
أما إذا لم يكن واجبا فذلك إما لأنه خطر ببال المتكلم أحد
القسمين دون الثاني وهذا إنما يعقل في حق غير الله تعالى
أو أن خطر القسمان بالبال لكن السامع يحتاج إلى بيان أحد القسمين
دون الثاني كمن يملك السائمة ولا يملك المعلوفة فإنه بعد حولان
الحول يحتاج إلى معرفة حكم السائمة دون حكم المعلوفة فلا جرم
يحسن من الشارع أن يخص السائمة بالذكر دون المعلوفة
وأما إذا وجب حكم القسمين معا فها هنا قد يكون ذكر
حكم أحد القسمين دليلا على ثبوت ذلك الحكم في القسم
الآخر فإنه تعالى لما منع من قتل الأولاد خشية الإملاق كان ذلك دليلا
على المنع من قتلهم عند الغنى بطريق الأولى
وقد لا يكون كذلك لكنه تبين حكم القسم الآخر بطريق آخر
138

إما بنص خاص والفائدة فيه أن إثبات الحكم باللفظ العام أضعف من
إثباته بالدليل الخاص لاحتمال تطرق التخصيص إلى العام دون الخاص
أو بقياس كما نص على حكم الأجناس الستة في الربا وعرفنا
حكم غيرها بالقياس والمقصود أن ينال المكلف رتبة المجتهدين
أو بالبقاء على حكم الأصل مثل أن يقول الشارع لا زكاة في
الغنم السائمة ثم نحن ننفي الزكاة عن المعلوفة لأجل أن الأصل عدم
الزكاة
وإنما خص القسم الأول بالذكر لأن الاشتباه فيه أكثر فإن السائمة لما
كانت أخف مئونة من المعلوفة كان احتمال وجوب الزكاة في السائمة أظهر
من احتمال وجوبها في المعلوفة
فثبت أن تعليق الحكم على الصفة لا يدل على نفي ذلك الحكم
عن غيرها لا بلفظه ولا بمعناه فوجب أن لا يدل أصلا
فإن قيل المعتبر في الدلالة المعنوية القاطعة حصول الاستلزام
قطعا وفي الدلالة المعنوية الظنية الظاهرة حصول الاستلزام
ظاهرا ودعوى الاستلزام ظاهرا لا يقدح فيها عدم اللزوم في بعض الصور
ألا ترى أن الغيم الرطب يدل على المطر منه ظاهرا ثم ذلك الظهور لا يبطل
بعدم المطر في بعض الأوقات
139

إذا عرفت هذا فنحن لا ندعي أن تعليق الحكم على الصفة يدل
على نفي الحكم عما عداه قطعا إنما ادعينا أنه يدل عليه ظاهرا
وما ذكرتموه من تخلف هذه الدلالة في بعض الصور إنما يقدح في
ذلك الظهور لو بينتم أن الاحتمالات التي ذكرتموها ها هنا مساوية في
الظهور للاحتمال الذي ذكرناه وأنتم ما بينتم ذلك فيكون دليلكم خارجا
عن محل النزاع
والجواب تعليق الحكم على الوصف لا يدل على انتفائه عن غيره
البتة أما قطعا فلما سلمتم وأما ظاهرا فلأنه لو دل عليه ظاهرا
لكان صرفه إلى سائر الوجوه مخالفة للظاهر والأصل عدم ذلك وهذا القدر
كاف في حصول ظن تساوي هذه الاحتمالات
الدليل الثاني أن الأمر المقيد بالصفة تارة يرد مع انتفاء الحكم عن غير
المذكور وهو متفق عليه
وتارة مع ثبوته فيه كقوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية
إملاق ثم لا يجوز قتلهم لغير الإملاق
وقال تعالى في قتل الصيد ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل
من النعم ثم إن قتله خطأ يلزمه الجزاء أيضا
وإذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل
140

فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وهو ثبوت الحكم في
المذكور مع قطع النظر عن ثبوته في غير المذكور ونفيه عنه
الدليل الثالث هو أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت
الحكم في الصورة الآخرى والإخبار عن ثبوت ذلك الحكم في
إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عنه في الصورة الأخرى
فإذن الإخبار عن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يدل على
حال الصورة الأخرى ثبوتا وعدما
إنما قلنا إن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه الحكم في
الصورة الأخرى ثبوتا وعدما لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك
الصورتين المختلفتين في بعض الأحكام فإنهما لما كانتا مختلفتين فقد
اشتركتا في الاختلاف فلا يمتنع أيضا اختلافهما في بعض
الأحكام
وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة لم يلزم من مجرد ثبوته
فيها ثبوته في الصورة الأخرى ولا عدمه عنها
141

فدل على أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت ذلك
الحكم في الصورة الأخرى ولا عدمه عنها
وإنما قلنا إن الإخبار عن حكم إحدى الصورتين لا يلزمها الإخبار عن
حكم الصورة الأخرى لأن إحدى الصورتين مخالفة للأخرى من
بعض الوجوه والمختلفان لا يجب اشتراكهما في الحكم والعلم بذلك
ضروري فلا يلزم من كون إحداهما متعلق غرض هذا الإنسان بأن
يخبر عنها كون الصورة الأخرى كذلك
فثبت أن الإخبار عن إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عن الصورة
الأخرى
وإذا ثبتت هاتان المقدمتان ثبت أن الإخبار عن ثبوت الحكم في
هذه الصورة لا يدل على حالة الصورة الأخرى وجودا ولا عدما
وذلك هو المطلوب
الدليل الرابع لو دل تخصيص الحكم بالصفة على نفيه عما عداه لدل
تخصيصه بالاسم على نفيه عما عداه لكن التخصيص بالاسم لا يدل على
142

نفيه عما عداه فالتخصيص بالصفة وجب أن لا يدل على نفيه عما
عداه
بيان الملازمة أن التخصيص بالصفة لو دل على نفي الحكم عما عداه
لكان إنما يدل عليه لأن التخصيص لابد فيه من غرض ونفي الحكم عما
عداه يصلح أن يكون غرضا والعلم بأنه لا بد من غرض مع العلم
بأن هذا المعنى يصلح أن يكون غرضا يفيد ظن أن هذا هو
الغرض والعمل بالظن واجب وكل هذا المعنى موجود في التخصيص
بالاسم فوجب أن يكون التخصيص بالاسم يفيد نفي الحكم عما عداه لأن
الصورتين لما اشتركتا في العلة وجب اشتراكهما في الحكم
ولما ثبت أن التخصيص بالاسم لا يفيد نفي الحكم عما عداه وجب
في التخصيص بالصفة أن لا يدل على ذلك أيضا والله أعلم
احتج المخالف بأمور
الأول أن تعليق الحكم بالصفة يفيد في العرف نفيه عما عداه فوجب
أن يكون في أصل اللغة كذلك
إنما قلنا إنه يفيد ذلك في العرف لأن القائل إذا قال الإنسان
143

الطويل لا يطير واليهودي الميت لا يبصر يضحك منه ويقال إذا كان
القصير لا يطير والميت الملم لا يبصر فأي فائدة للتقييد بالطويل
واليهودي
وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في أصل اللغة
كذلك وإلا لزم النقل وهو خلاف الأصل
الثاني أن تخصيص الشئ بالذكر لا بد فيه من مخصص وإلا فقد
ترجح أحد الجائزين على الآخر لا لمرجح ونفي الحكم عن غيره يصلح
أن يكون مقصودا فوجب حمله عليه تكثيرا لفوائد كلام الشرع
أو لأنه مناسب والمناسبة مع الاقتران دليل العلية فيغلب على الظن إن
علة التخصيص هذا القدر
الثالث إنا قد دللنا على أن الحكم المعلق على الصفة يشعر بكون ذلك
الحكم معللا بتلك الصفة وتعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف
الأصل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله في كتاب القياس فيلزم
من انتفاء هذا الوصف انتفاء الحكم
والجواب عن الأول أن أهل العرف يضحكون من قول القائل زيد
الطويل لا يطير وبالاتفاق إن التخصيص ها هنا لا يفيد نفي الحكم عما
عداه
144

وللمستدل أن يقول لا نسلم أن التخصيص ها هنا لا يفيد
نفي الحكم عما عداه لأن قوله زيد الطويل لا يطير تعليق للحكم
بالصفة وأنه نفس محل الخلاف
بل لو قال زيد لا يطير فهذا تعليق للحكم بالاسم وها هنا لا
يقولون إن تعليقه على الاسم عبث بل يقولون إنه بيان للواضحات وفرق
بين أن يقولوا إن هذا الكلام بيان للواضحات وبين أن يقولوا لا
فائدة في ذكر هذه الصفة البتة وعلى هذا التقدير اندفع النقض
وعن الثاني أنا لا نسلم أن التخصيص الصادر من القادر لا بد فيه
من مخصص لأن الهارب من السبع إذا عن له طريقان فإنه يختار سلوك
أحدهما دون الثاني لا لمرجح
وأيضا فقد بينا أنه لا حسن ولا قبح عقلا فتخصيص الصورة
المعينة بالحكم المعين تخصيص لأحد طرفي الجائز بذلك الحكم من غير
مرجح
وأيضا فتخصيص الله تعالى إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله
أو ما بعده تخصيص من غير مخصص
145

وفي هذا المقام أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا العقلية
سلمنا أنه لا بد من فائدة ولكن سائر الوجوه التي عددناها في دليلنا
الأول فوائد
وأيضا فجملة الدليل منقوضة بالتخصيص بالاسم
وعن الثالث لا نسلم أن تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة
خلاف الأصل وسيأتي تقريره في كتاب القياس إن شاء الله تعالى
فرعان
الأول القائلون بأن التخصيص بالصفة يدل على نفي الحكم عما
عداه أقروا بأنه لا دلالة له في قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما
فابعثوا ولا في قوله عليه الصلاة والصلام أيما امرأة نكحت نفسها
بغير إذن وليها لأن الباعث على التخصيص هو العادة فإن الخلع
146

يجري غالبا إلا عند الشقاق والمرأة لا تنكح نفسها إلا عند إباء
الولي
فإذن لاحتمال أن يكون سبب التخصيص هو هذه العادة لم
يغلب على الظن أن سببه نفي الحكم عما عداه
الثاني تعليق الحكم على صفة في جنس كقوله عليه الصلاة
147

والسلام في سائمة الغنم زكاة يقتضي نفيه عما عداه في ذلك
الجنس ولا يقتضي نفيه في سائر الأجناس
وقال بعض الفقهاء من أصحابنا إنه يقتضي نفي الزكاة عن
المعلوفة في جميع الأجناس
لنا إن دليل الخطاب نقيض النطق فلما تناول النطق سائمة الغنم
فدليله يقتضي معلوفة الغنم دون غيرها
احتجوا بأن السوم يجري مجرى العلة في وجوب الزكاة ويلزم من عدم
العلة عدم الحكم لأن الأصل اتحاد العلة
148

والجواب أن المذكور سوم الغنم لا مطلق السوم فاندفع ما قالوه والله
أعلم
المسألة الحادية عشرة في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر
ذكر أبو الحسين البصري فيه تفصيلا لطيفا فقال هذا الباب
يتضمن مسائل
أولها أنه هل يمكن أن يقول الإنسان لنفسه إفعل مع أنه يريد ذلك
الفعل ومعلوم أنه لا شبهة في إمكانه
وثانيها أن ذلك هل يسمى أمرا
والحق أنه لا يسمى به لأن الاستعلاء معتبر في الأمر وذلك لا
يتحقق إلا بين شخصين
ومن لا يعتبر الاستعلاء فله أن يقول إن الأمر طلب الفعل بالقول
من الغير فإذا لم توجد المغايرة لا يثبت اسم الأمر
وثالثها أن ذلك هل يحسن أم لا
والحق أنه لا يحسن لأن الفائدة من الأمر إعلام الغير
كونه طالبا لذلك الفعل ولا فائدة في إعلام الرجل نفسه ما في قلبه
149

ورابعها إذا خاطب الإنسان غيره بالأمر هل يكون داخلا فيه
والحق أنه إما أن ينقل أمر غيره بكلام نفسه أو بكلام ذلك الغير
أما الأول فإن كان يتناوله دخل فيه وإلا لم يدخل فيه
مثال الأول أن نقول إن فلانا يأمرنا بكذا
ومثال الثاني أن نقول إن فلانا يأمركم بكذا
وأما الثاني فكقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم فهذا
يدخل الكل فيه لأن ذلك خطاب مع جملة المكلفين فيتناولهم
بأسرهم إلا من خصه الدليل والله أعلم
المسألة الثانية عشرة في الأمر الوارد عقيب الأمر بحرف العطف وبغير
حرف العطف
القائل إذا قال لغيره إفعل ثم قال له إفعل لم يخل الأمر
الثاني إما أن يتناول مخالف ما يتناوله الأمر الأول أو مماثله
فإن تناول ما يخالفه اقتضى شيئا آخر لا محالة وهو ضربان
أحدهما يصح اجتماعه مع الأول والآخر لا يصح
فالذي يصح اجتماعه مع الأول يجب على المأمور فعلهما إما
مجتمعين أو مفرقين إلا أن تدل دلالة منفصلة على وجوب الجمع أو
150

وجوب التفريق مثاله قول القائل لغيره صل صم
وأما ما لا يصح أن يجتمع مع الأول فتارة لا يصح عقلا كالصلاة
الواحدة في مكانين وتارة لا يصح سمعا كالصلاة والصدقة وكلا
القسمين لا يصح الأمر بفعلهما إلا مفترقين
أما إذا تناول الأمر الثاني مثل ما تناوله الأمر الأول فلا يخلو إما أن
يكون ذلك المأمور به يصح التزايد فيه أو لا يصح
فإن صح فإما أن يكون الأمر الثاني غير معطوف على الأول أو يكون
معطوفا عليه
فإن لم يكن معطوفا عليه فعند القاضي عبد الجبار ابن احمد
أنه يفيد غير ما يفيده الأول إلا أن تمنع العادة من ذلك أو يرد الأمر
الثاني معرفا وهذا هو المختار
وقال أبو الحسين البصري الأشبه الوقف
مثال ما تمنع منه العادة قول القائل لغيره اسقني ماء اسقني
ماء فالعادة تمنع من تكرار سقيه في حالة واحدة في الأكثر
ومثال ما يمنع منه التعريف الحاصل بالأمر الثاني قول القائل
151

لغيره صل ركعتين فإنه إذا قال له صل الصلاة انصرف إلى
تلك الركعتين لأن لام الجنس تنصرف إلى العهد المذكور
ومثال ما يعرى عن كلا القسمين قول القائل لغيره صل غدا ركعتين
صل غدا ركعتين
والدليل على أنه يفيد غير ما يفيد الأول وجهان
الأول أن الأمر يقتضي الوجوب والفعل الأول وجب بالأمر الأول
فيستحيل وجوبه بالأمر الثاني لأن تحصيل الحاصل محال فلو انصرف
الأمر الثاني إلى الفعل الأول لزم حصول ما يقتضي الوجوب من غير حصول
الأثر وذلك غير جائز فوجب صرفه إلى فعل آخر
الثاني أنا لو صرفنا الأمر الثاني إلى عين ما هو متعلق الأمر
الأول لكان الأمر الثاني تأكيدا ولو صرفناه إلى غيره لأفاد فائدة زائدة
وإذا وقع التعارض بين أن يفيد الكلام فائدة أصلية وبين أن يفيد
تأكيدا فلا شك حمله على الأول أولى
وأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول فإن لم يكن
معرفا فإنه يفيد غير ما يفيده الأول لأن الشئ لا يعطف على نفسه
مثاله أن يقول القائل لغيره صل ركعتين وصل ركعتين
152

فأما إن كان الثاني معطوفا على الأول ومعرفا كقول القائل
لغيره صل ركعتين وصل الصلاة فعند أبي الحسين أن الأشبه
هو الوقف فإنه يمكن أن يقال يجب حمله على تلك الصلاة
لأجل لام التعريف ويمكن أن يقال بل يجب حمله على صلاة أخرى
لأجل العطف وليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب
التوقف
وعندي أن هذا الأخير أولى لأن لام الجنس قد تكون لتعريف
الماهية كما قد تكون لتعريف المعهود السابق وبتقدير أن تكون
للمعهود السابق فيمكن أن يكون المعهود السابق هو الصلاة التي
تناولها الأمر الأول ويمكن أن تكون صلاة أخرى تقدم ذكرها وإذا كان
كذلك بقي العطف سليما عن المعارض
أما إذا كان الثاني أمرا بمثل ما تناوله الأمر وكان ذلك مما لا يصح
فيه التزايد في المأمور به فلا يخلو إما أن يمتنع ذلك
153

عقلا كقتل زيد وصوم يوم
أو يمتنع ذلك شرعا كعتق زيد فإنه قد كان يجوز أن يتزايد
عتقه ويقف تمام حريته على عدد كالطلاق
وإذا لم يصح التزايد في المأمور به لم يخل الأمران إما أن يكونا
عامين أو خاصين أو يكون أحدهما عاما والآخر خاصا
فإن كانا عامين أو خاصين وجب أن يكون مأمورهما واحدا وأن
يكون الأمر التالي تأكيدا للأول سواء ورد مع حرف العطف أو
بدونه
مثال العامين بحرف عطف قول القائل لغيره أقتل كل إنسان واقتل
كل إنسان
ومثاله بلا حرف عطف أن يسقط من الأمر الثاني حرف العطف
ومثاله الخاصين بحرف عطف وبغير حرف عطف قوله اقتل
زيدا واقتل زيدا اقتل زيدا اقتل زيدا
وأما إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا سواء تقدم العام أو
الخاص فالأمر الثاني إما أن يكون معطوفا على الأول أو غير معطوف عليه
فإن كان معطوفا عليه فمثاله قول القائل صم كل يوم وصم يوم
الجمعة
154

فقال بعضهم إن يوم الجمعة لا يكون داخلا تحت الكلام الأول
ليصح حكم العطف
والأشبه الوقف لأنه ليس ترك ظاهر العموم أولى من ترك ظاهر العطف
وحمله على التأكيد
وأما إذا كان الأمر الثاني غير معطوف فمثاله قول القائل صم كل يوم
صم يوم الجمعة فها هنا عموم أحد الأمرين دليل على أن الآخر ورد
تأكيدا لأنه لم يبق من ذلك الجنس شئ لم يدخل تحت العام والله
أعلم
155

القسم الثاني
في المسائل المعنوية
والنظر فيها في أمور أربعة
157

النظر الأول
في الوجوب
والبحث إما عن أقسامه أو أحكامه
أما أقسامه فاعلم أنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين
وإلى مخير
وبحسب وقت المأمور به إلى مضيق وموسع
وبحسب المأمور إلى واجب على التعيين وواجب على الكفاية
المسألة الأولى
قالت المعتزلة الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل على
التخيير
وقالت الفقهاء الواجب واحد لا بعينه
واعلم أنه لا خلاف في المعنى بين القولين لأن المعتزلة قالوا المراد
من قولنا الكل واجب على البدل هو أنه لا يجوز للمكلف الإخلال
159

بجميعها ولا يلزمه الجمع بينها ويكون فعل كل واحد منها موكولا إلى
اختياره
والفقهاء عنوا بقولهم الواجب واحد لا بعينه هذا المعنى بعينه
فلا يتحقق الخلاف أصلا
بل ها هنا مذهب يرويه أصحابنا عن المعتزلة ويرويه المعتزلة عن
أصحابنا واتفق الفريقان على فساده وهو أن الواجب واحد معين عند
الله تعالى غير معين عندنا إلا أن الله تعالى علم أن المكلف لا
يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه
والدليل على فساد هذا القول أن التخيير معناه أن الشرع جوز له
160

ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر وكونه واجبا على التعيين عند
الله تعالى معناه أنه تعالى منعه من تركه على التعيين والجمع بين جواز
الترك وعدم جوازه متناقض فسح ما ادعيناه أنه يمتنع أن يكون كل
واحد منها واجبا على التعيين
فإن قلت لا نسلم أن التخيير ينافي تعيينه عند الله تعالى بيانه أن
الله تعالى وإن خير بين الكفارات لكنه علم أن المكلف لا يختار إلا
ذلك الذي هو واجب فلا يحصل الإخلال بالواحب
أو نقول لم لا يجوز أن يقال إن لاختيار المكلف تأثيرا في كون ذلك
الفعل المختار واجبا
أو نقول لا يمتنع أن يكون ما عدا ذلك الفعل المعين مباحا
ويسقط به الفرض كما يقولون إن الإتيان بالفعل المحظور قد يسقط به
الفرض كالصلاة في الدار المغصوبة
قلت الجواب عن الأول أن الله تعالى لما خيرنا بين الأمرين فقد
أباح لنا ترك كل واحد منهما بشرط الإتيان بالثاني ووجوبه على التعيين معناه
161

أنه تعالى لم يجوز لنا تركه البتة فلو خير الله تعالى بينه وبين غيره
مع أنه جعله واجبا على التعيين لكان قد جمع بين جواز الترك وبين المنع
منه
أما قوله إن لاختيار المكلف تأثيرا قلت لا نزاع في تحقق الوجوب قبل الاختيار فمحل الوجوب إن
كان واحدا معينا فهو باطل لأن التخيير ينافي التعيين
وإن كان واحدا غير معين فهو محال لأن الواحد الذي يفيد كونه غير
معين ممتنع الوجود وما يكون ممتنع الوجود يمتنع أن يقع التكليف بفعله
وإن كان الواجب هو الكل بشرط التغيير فذاك هو المطلوب
قوله لم لا يجوز أن يسقط الواجب بفعل مال ليس بواجب
قلنا لأن الأمة أجمعت على أن الآتي بواحدة من الخصال
الثلاث المشروعة في الكفارة لو كفر بغيرها من الثلاث لأجزأته
ولكان فاعلا لما وقع التكليف به وذلك يبطل ما ذكروه
واحتج المخالف بأن لفعل الواجب أثرا ولتركه أثرا وكلا
الأثرين يدلان على أن الواجب واحد
162

أما طرف الفعل فقالوا هذا الفعل له صفات كونه بحيث يسقط
الفرض به وكونه واجبا وكونه بحيث يستحق عليه ثواب الواجب وكونه
الواجب وكونه بحيث ينوى بفعله أداء الواجب وكل هذه الصفات تقتضي
أن يكون الواجب واحدا معينا
فأولها سقوط الفرض فقالوا لو لم يكن الواجب واحد معينا لكان
المكلف إذا أتى بكلها دفعة واحدة فإما أن يكون سقوط الفرض معللا بكل
واحد منها فيكون قد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك
محال لأن ذلك الأثر مع أحد المؤثرين يصير واجب الوجود
بذاته وواجب الوجود بذاته يستحيل أن يكون واجب الوجود بغيره
فهو مع هذا المؤثر يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الثاني ومع المؤثر الثاني
يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الأول فإذا وجد المؤثران معا يلزم أن
يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجا إليهما
معا وغينا عنهما معا وذلك محال
وإما أن يكون سقوط الفرض بالمجموع فذلك محال لأنه يلزم أن
يكون المجموع واجبا وقد فرضنا الإتيان بالكل غير واجب
163

وإما أن يكون سقوط الفرض بواحد منها فذلك الواحد إما أن يكون
معينا غير معين
والأول باطل لأن الأثر المعين يستدعي مؤثرا معينا موجودا وكل
موجود فهو في نفسه معين ولا إبهام البتة في الوجود الخارجي إنما
الإبهام في الذهن فقط
وإذا امتنع وجود واحد غير معين امتنع الإتيان به وإذا امتنع الإتيان
به امتنع أن يكون الإتيان به علة لسقوط الفرض
ولما بطل هذا ثبت أن علة سقوط الفرض هو الإتيان بواحد
منها عند الله تعالى وهو المطلوب
وثانيها كونه واجبا فإذا أتى المكلف بكلها فإما أن يكون المحكوم
عليه بالوجوب مجموعها أو كل واحد منها وعلى التقديرين يلزم أن يكون
الكل واجبا على التعيين لا على التخيير وهو باطل
أو واحدا غير معين وهو باطل لأن غير المعين يمتنع وجوده
فيمتنع إيجابه
أو واحدا معينا في نفسه غير معلوم لنا وهو المطلوب
164

وثالثها أن يستحق عليه ثواب الواجب فإذا أتى المكلف بكلها فإما
أن يستحق ثواب الواجب على كل واحد منها أو على مجموعها
وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين
وإما أن لا يستحق ثواب الواجب منها إلا على واحد فذلك الواحد
إما أن يكون معينا أو غير معين
والثاني محال لأن استحقاق ثواب الواجب على فعله حكم ثابت
له معين والحكم الثابت المعين يستدعي محلا معينا ولأن فعل شئ غير
معين محال فعلمنا أن ذلك الواحد معين في نفسه غير معلوم للمكلف
وربما أوردوا هذا الكلام على وجه آخر وهو أنه إذا أتى بالكل فإما
أن ينوي الوجوب في فعل كل واحد أو في فعل واحد دون الباقي
وتمام التقرير كما تقدم
وأما طرف الترك فأثره استحقاق العقاب فالمكلف إذا أخل بها
بأسرها فإما أن يستحق العقاب على ترك كل واحد منها فيكون فعل
كل واحد منها واجبا على التعيين هذا خلف
أو على ترك واحد منها وهو إما أن يكون معينا أو غير معين
والثاني محال
أما أولا فلأنه إذا لم يتميز واحد منها عن الآخر بصفة الوجوب كان
165

إسناد استحقاق العقاب إلى واحد منها دون الآخر ترجيحا لأحد طرفي
الجائز على الآخر لمرجح وهو محال
وأما ثانيا فلأن استحقاق العقاب على الترك حكم معين فيستدعي
محلا معينا لاستحالة قيام المعين بغير المعين
وأما ثالثا فلأن استحقاق العقاب على الترك يستدعي إمكان
الفعل ولا إمكان لفعل شئ غير معين
ولما بطل هذا القسم ثبت أنه معلل بترك واحد معين عند الله تعالى
وهو المطلوب
وأما الذين زعموا أن الواجب واحد غير معين فقد احتجوا عليه بأن
الإنسان إذا عقد على قفيز من صبرة فالمعقود عليه قفيز واحد لا بعينه
وإنما يتعين باختيار المشتري أخذ قفيز منها فقد صار الواحد الذي ليس
بمتعين في نفسه معينا باختيار المكلف
وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من
عبيده لا بعينه
وكذا القول في عقد الإمامة لرجلين دفعة واحدة والخاطبين
166

لامرأة واحدة فإن الجمع فيه حرام
والجواب عن الأول أنه يسقط الفرض عندنا بكل واحد منها
قوله يلزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة
قلنا هذه الأسباب عندنا معرفات لا موجبات ولا يمتنع أن يجتمع
على المدلول الواحد معرفات كثيرة
وعن الثاني إن أردت بقولك هي واجبة كلها أنه يلزم فعلها بعد
أن صارت مفعولة فذلك محال وغير لازم
ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال إنها قبل دخولها في الوجود هل
كانت بحيث يجب تحصيلها إما على الجمع أو على البدل
وجوابنا أن نقول أما الجمع فلا وأما البدل فنعم بمعنى أنها بعد
وجودها يصدق عليها أنها كانت قبل وجودها بحيث يجب تحصيل
أي واحد منها اختار المكلف بدلا عن صاحبه وذلك لا يقدح في قولنا
وأيضا فهذه الشبهة والتي قبلها لازمة للمخالف إذا قال الواجب
هو ما يختاره المكلف لأنه إذا أتى بالكل فقد اختار كلها فوجب أن
يسقط الفرض بكل واحد منها وأن يكون كل واحد منها واجبا وحينئذ يلزمه
ما أورده علينا
167

وعن الثالث قال بعضهم إنه يستحق ثواب الواجب على فعل
أكثرها ثوابا
ويمكن أن يقال إنه يستحق على فعل كل واحد منها ثواب الواجب
المخير لا ثواب الواجب المعين ومعناه أنه يستحق على
فعلها ثواب فعل أمور كان له ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر
لا ثواب فعل أمور كان يجب عليه الإتيان بكل واحد منها على التعيين
وعلى هذا التقدير يسقط السؤال
وهو الجواب عن قوله كيف ينوي
وعن الرابع قال بعضهم يستحق عقاب أدونها عقابا
ويمكن أن يقال لم لا يجوز أن يستحق العقاب على ترك مجموع أمور
كان المكلف مخيرا بين ترك أي واحد منها كان بشرط فعل الآخر
وعن الخامس أنه ليس العقد بأن يتناول قفيزا من الصبرة أولى من أن
يتناول القفيز الآخر لفقدان الاختصاص فوجب أن يكون كل قفيز
منها قد تناوله العقد لكن على سبيل البدل عل معنى أن كل واحد
منها لا اختصاص لذلك العقد به على التعيين وللمشتري أن يختار أي
قفيز شاء وإذا اختاره تعين ملكه فيه فتعين الملك في القفيز
المعين كسقوط الفرض في الكفارة
168

وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من عبيده لا
بعينه أن كل واحدة منهن طالق على البدل وكل واحد منهم
يعتق على البدل على معنى أنه لا اختصاص للطلاق أو العتق
بواحد معين وأن أي امرأة اختار مفارقتها تعينت الفرقة عليها وحلت
له الأخرى وأي عبد اختار عتقه تعينت فيه الحرية وكان له استخدام
الباقين والله أعلم
فرع
الأمر بالأشياء قد يكون على الترتيب وقد يكون على البدل
وعلى التقديرين قد يكون أحمد الجمع محرما ومباحا ومندوبا
مثال المحرم في الترتيب أكل الميتة وأكل المباح وفي البدل
تزويج المرأة من كفؤين
ومثال المباح في الترتيب الوضوء والتيمم وفي البدل ستر العورة
بثوب بعد ثوب
ومثال المندوب في الترتيب الجمع بين خصال كفارة الفطر
وفي البدل الجمع بين خصال كفارة الحنث والله أعلم
169

المسألة الثانية
الفعل بالنسبة إلى الوقت يكون على أحد وجوه ثلاثة
الأول أن يكون الفعل فاضلا عن الوقت والتكليف بذلك لا يجوز
إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق أو يكون المقصود إيجاب القضاء كما إذا
طهرت الحائض أو بلغ الغلام وبقي من وقت الصلاة مقدار ركعة أو
أقل
والثاني أن لا يكون أزيد ولا أنقص نحو الأمر بإمساك كل اليوم
وهذا لا إشكال فيه
والثالث أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل وهذا هو الواجب الموسع
واختلف الناس فيه
173

فمنهم من أنكره وزعم أن الوقت لا يمكن أن يزيد على الفعل
ومنهم من سلم جوازه
أما الأولون فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه
أحدها قول من قال من أصحابنا إن الوجوب مختص بأول
الوقت وأنه لو أتى به في آخر الوقت كان قضاء
وثانيها قول من قال من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إن الوجوب
مختص بآخر الوقت وأنه لو أتى به في أول الوقت كان جاريا مجرى ما
لو أتى بالزكاة قبل وقتها
وثالثها ما يحكى عن الكرخي أن الصلاة المأتي بها في أول الوقت
موقوفة فإن أدرك المصلي آخر الوقت وليس هو على صفة المكلفين كان
ما فعله نفلا
وإن أدركه على صفة المكلفين كان ما فعله واجبا
وأما المعترفون بالواجب الموسع وهم جمهور أصحابنا وأبو
علي وأبو هاشم وأبو الحسين البصري فقد اختلفوا فيه على وجهين
174

منهم من قال الوجوب متعلق بكل الوقت إلا أنه إنما يجوز
ترك الصلاة في أول الوقت إلى بدل هو العزم عليها وهو قول أكثر
المتكلمين
وقال قوم لا حاجة إلى هذا البدل وهو قول أبي الحسين البصري
وهو المختار لنا
والدليل على تعلق الوجوب بكل الوقت أن الوجوب مستفاد
من الأمر والأمر تناول الوقت ولم يتعرض البتة لجزء من أجزاء الوقت
لأنه لو دل الأمر على تخصيصه ببعض أجزاء ذلك الوقت لكان ذلك
غير هذه المسألة التي نحن نتكلم فيها
وإذا لم يكن في الأمر دلالة على تخصيص ذلك الفعل بجزء من أجزاء
ذلك الوقت وكان كل جزء من أجزاء الوقت قابلا له وجب أن يكون
حكم ذلك الأمر هو إيجاب إيقاع ذلك الفعل في أي جزء من أجزاء ذلك
الوقت أراده المكلف وذلك هو المطلوب
فإن قيل لا نسلم إمكان تحقق الوجوب في أول الوقت والتمسك بلفظ
الأمر إنما يكون إذا لم يثبت بالدليل العقلي امتناعه
وها هنا قد ثبت ذلك لأن كونه واجبا في ذلك الوقت معناه أن
175

المكلف ممنوع من أن لا يوقعه فيه والمكلف غير ممنوع من أن لا يوقع
الصلاة في أول الوقت وإذا كان كذلك استحال كون الصلاة واجبة في
أول الوقت وإذا تعذر حمل الأمر على الوجوب وجب حمله على الندب
فإن قلت الفرق بينه وبين المندوب من وجهين
الأول أن هذه الصلاة لا يجوز تركها مطلقا والمندوب يجوز تركه
مطلقا
والثاني أن هذه الصلاة إنما يجوز تركها في أول الوقت إلى بدل
وهو العزم على فعلها بعد ذلك وأما المندوب فإنه يجوز تركه مطلقا
قلت الجواب عن الأول إني لا أدعي أن الصلاة ليست واجبة
مطلقا بل أدعي أنها ليست واجبة في أول الوقت بدليل أنه يجوز تركها
في أول الوقت
فأما المنع من تركها في آخر الوقت فذلك يدل على وجوبها في
آخر الوقت ولا يلزم من كون الشئ واجبا في وقت كونه واجبا في وقت آخر
وعن الثاني إن العزم على الصلاة لا يجوز أن يكون بدلا عن الصلاة
ويدل عليه أمور
أحدها أن العزم على الصلاة إما أن يكون مساويا للصلاة في
جميع الأمور المطلوبة أو لا يكون
فإن كان الأول وجب أن يكون الإتيان بالعزم سببا لسقوط
176

التكليف بالصلاة لأن الأمر ما وقع في ذلك الوقت إلا بالصلاة مرة واحدة وهذا
العزم مساو للصلاة مرة واحدة في جميع الجهات المطلوبة فيلزم سقوط
الأمر بالصلاة
وإن كان الثاني امتنع جعله بدلا عن الصلاة لأن بدل الشئ يجب
أن يكون قائما مقامه في الأمور المطلوبة
يقول وثانيها أن الموجود ليس إلا الأمر بالصلاة في هذا لاوقت والأمر
بالصلاة في هذا الوقت لا دلالة فيه على إيجاب العزم فإذن لا دليل
البتة على وجوب العزم وما لا دليل عليه لا يجوز التكليف به وإلا ل‍
صار ذلك تكليف ما لا يطاق
وثالثها لو كان العزم بدلا عن الصلاة فإذا أتى المكلف بالعزم
في هذا الوقت ثم جاء الوقت الثاني فإما أن يجب فعل العزم مرة
أخرى أو لا يجب لا جائز أن يجب لأن بدل العبادة إنما يجب على حد
وجوبها ليكون فعله جاريا مجرى فعلها
ومعلوم أن الأمر إنما اقتضى وجوب فعل العبادة في أحد
اجزاء هذا الوقت مرة واحدة ولم يقتضي وجوب فعلها مرة أخرى في الوقت
الثاني فوجب أن يكون وجوب بدلها على هذا الوجه
فثبت أنه لا يجب فعل العزم في الوقت الثاني فإذن الوقت
177

الثاني لا يجب فيه فعل الصلاة ولا فعل بدلها وهو هذا العزم
فثبت أن جواز ترك الصلاة في هذا الوقت لا يتوقف على فعل
البدل وعند هذا يجب القطع بأنها ليست واجبة بل مندوبة
والجواب قوله الفعل يجوز تركه في أول الوقت فلا يكون
واجبا في أول الوقت
قلنا للناس ها هنا طريقان
الطريق الأول وهو الأصح أن حقيقة الواجب الموسع
ترجع عند البحث إلى الواجب المخير فإن الآمر كأنه قال إفعل
هذه العبادة إما في أول الوقت أو في وسطه أوفي آخره وإذا لم يبق
من الوقت إلا قدر ما لا يفضل عنه فافعله لا محالة ولا تتركه البتة
فقولنا
يجب عليه أيقاع هذا الفعل إما في هذا الوقت أو في ذاك
يجري مجرى قولنا في الواجب المخير إن الواجب علينا إما هذا
أو ذاك فكما أنا نصفها بالوجوب على معنى أنه لا يجوز الإخلال بجميعها
ولا يجب الإتيان بجميعها والأمر في اختيار أي واحد منها مفوض
إلى رأي المكلف فكذا ها هنا لا يجوز للمكلف أن لا يوقع الصلاة في
شئ من أجزاء هذا الوقت ولا يجب عليه أن يوقعها في كل أجزاء هذا
178

الوقت وتعيين ذلك الجزء مفوض إلى رأي المكلف
هذا إذا كان في الوقت فسحة
فأما إذا ضاق الوقت فإنه يتضيق التكليف ويتعين
فهذا هو الذي نقول به
وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات بدل هو العزم
الطريق الثاني وهو اختيار أكثر الأصحاب وأكثر المعتزلة هو أن
الفرق بين هذا الواجب وبين المندوب أن هذا الواجب لا يجوز تركه إلا
لبدل والمندوب يجوز تركه من غير بدل
قوله أولا العزم إما أن يكون قائما مقام الأصل في جميع
الجهات المطلوبة أو لا يكون
قلنا لم لا يجوز أن يكون قائما مقام الأصل لا في جميع الأوقات
بل في هذا الوقت المعين فإذا أتى بالبدل في هذا الوقت المعين
سقط عنه الآمر بالأصل في هذا الوقت ولكن لم يسقط عنه الأمر بالأصل
في كل الأوقات
واعلم أن هذا الجواب ضعيف لأن الأمر لا يفيد التكرار بل لا يقتضي
الفعل إلا مرة واحدة فإذا صار البدل قائما مقام الأصل في هذا الوقت فقد
179

صار قائما مقامه في المرة الواحدة فإذا لم يكن مقتضى الأمر إلا مرة
واحدة وقد قام هذا البدل مقام المرة الواحدة فقد تأدى تمام
مقصود هذا الأمر بهذا البدل فوجب سقوط التكليف به بالكلية
أما قوله ثانيا لا دليل على إثبات العزم
قلنا لا نسلم لأن النص لما دل على الواجب الموسع ودل العقل
على أنه لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا ودل
الإجماع على أن ذلك البدل هو العزم لأن القائل قائلان قائل أثبت
البدل وقائل ما أثبته وكل من أثبته قال إنه العزم فلو أثبتنا البدل شيئا
آخر لكان ذلك خرقا للإجماع وهو باطل
فثبت أن الدليل دل على وجوب العزم لكن بهذا التدريج
ثم هذا لا يكون مخالفا للنص لأن النص كما لا يثبته لا ينفيه وإثبات
مالا يتعرض له النص بالنفي ولا بالإثبات لا يكون مخالفة للظاهر
واعلم أن هذا الجواب ضعيف فإنا نسلم أن العقل دل على أنه
180

لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا وذلك لأنه لا
معنى للواجب الموسع إلا أن يقول السيد لعبده لا يجوز لك إخلاء
أجزاء هذا الوقت عن هذا الفعل ولا يجب عليك إيقاعه في جميع هذه
الأجزاء ولك أن تختار أيها شئت بدلا عن الآخر
ومعلوم أنه لو قال ذلك لما احتيج معه إلى إثبات بدل آخر
وأما قوله ثالثا إما أن يجب فعل العزم في الوقت الثاني أو لا
يجب
قلنا لم لا يجوز أن يجب وذلك لأن العزم بدل عن الفعل
في الوقت الأول فيفتقر إلى عزم ثان بدلا عن الفعل في الوقت الثاني
واعلم أن هذا الجواب ضعيف لأنا بينا أن الأمر لا يقتضي
الفعل إلا مرة واحدة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الإتيان بالعزم
الواحد كافيا
فظهر بما ذكرناه أن القول بالواجب الموسع حق وأنه لا حاجة في
إثباته إلى إثبات بدل هو العزم والله أعلم
فرع
في حكم الواجب الموسع في جميع العمر وذلك
181

كالمنذورات وقضاء العبادات الفائتة وتأخير الحج من سنة إلى سنة
فنقول
إن جوزنا له التأخير أبدا وحكمنا بأنه لا يعصي إذا مات لم يتحقق
معنى الوجوب أصلا
وإن قلنا إنه يتضيق التكليف عليه عند الانتهاء إلى زمان معين من غير
أن يوجد على تعيين ذلك الزمان دليل فهو تكليف ما لا يطاق فإنه إذا قيل
له إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الفعل فأنت في الحال
عاص بالتأخير
وإن كان في علمه أنك لا تموت قبل الفعل فلك التأخير فهو
يقول وما يدريني ماذا في علم الله تعالى وما فتواكم في حق الجاهل
فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فلم يبق إلا أن نقول يجوز له
التأخير بشرط أن يغلب على ظنه أنه يبقى بعد ذلك سواء بقي أو لم يبق
فأما إذا غلب على ظنه أنه لا يبقى بعد ذلك عصى بالتأخير سواء
مات أو لم يمت لأنه مأخوذ بموجب ظنه
ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز تأخير الحج لأن البقاء
إلى سنة لا يغلب على الظن
182

وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر أو شهرين فجائز لأنه لا يغلب
على الظن الموت إلى هذه المدة
والشافعي رضي الله عنه يرى البقاء إلى السنة الثانية غالبا على الظن
في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض
والمعزر إذا غلب على ظنه السلامة فهلك ضمن لا لأنه أثم
لكن لأنه في أخطأ ظنه والمخطئ ضامن غير آثم والله أعلم
183

المسألة الثالثة
في الواجب على سبيل الكفاية
الأمر إذا تناول جماعة فإما أن يتناولهم على سبيل الجمع أولا على
سبيل الجمع فإن تناولهم على سبيل الجمع فقد يكون فعل بعضهم
شرطا في فعل البعض كصلاة الجمعة وقد لا يكون كذلك كما في قوله
تعالى وأقيموا الصلاة أما إذا تناول الجميع فذلك من فروض
185

الكفايات وذلك إذا كان الغرض من ذلك الشئ حاصلا بفعل البعض
كالجهاد الذي الغرض منه حراسة المسلمين وإذلال العدو فمتى حصل
ذلك بالبعض لم يلزم الباقين
واعلم أن التكليف فيه موقوف على حصول الظن الغالب
فإن غلب على ظن جماعة أن غيرها يقوم بذلك سقط عنها
وإن غلب على ظنهم أن غيرهم لا يقوم به وجب عليهم
وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم لا يقوم به وجب على
كل طائفة القيام به
وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم يقوم به سقط الفرض عن
كل واحدة من تلك الطوائف وإن كان يلزم منه أن لا يقوم به أحد
لأن تحصيل العلم بأن غيري هل فعل هذا الفعل أم لا غير ممكن
إنما الممكن تحصيل الظن والله أعلم
186

النظر الثاني
في أحكام الوجوب
وفيه مسائل
المسألة الأولى
الأمر بالشئ أمر بما لا يتم الشئ إلا به بشرطين
أحدهما أن يكون الأمر مطلقا
والآخر أن يكون الشرط مقدورا للمكلف
وقالت الواقفية إن كانت مقدمة المأمور به سببا له كان إيجاب المسبب
إيجابا للسبب لأن عند حصول السبب يجب المسبب فيمتنع أن
يوجب المسبب عند اتفاق وجود السبب
أما إذا كانت المقدمة شرطا فحينئذ لا يكون المشروط واجب الحصول
عند حصول الشرط فها هنا لا يكون الأمر بالمشروط أمرا بالشرط
كالصلاة مع الوضوء
لنا أن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال ولا يستقر وجوبه
على هذا الوجه إلا ومقدمته واجبة
إنما قلنا إن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال لأنه لا فرق
189

بين قوله أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت وبين قوله لا ينبغي أن
يخرج هذا الوقت إلا وقد أتيت بذلك الفعل في كون كل واحد من هذين
اللفظين دليلا على الإيجاب على كل حال
وإنما قلنا إن إيجاب الفعل على كل حال يقتضي إيجاب مقدمته
لأنه لو لم يقتض ذلك لكان مكلفا حال عدم المقدمة وذلك تكليف ما
لا يطاق
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه أمر بالفعل بشرط حصول
المقدمة غاية ما في الباب أن يقال هذا مخالفة للظاهر لأن اللفظ
يقتضي إيجاب الفعل على كل حال فتخصيص الإيجاب بزمان حصول
الشرط خلاف الظاهر لكنا نقول كما أن تخصيص الإيجاب بزمان
حصول الشرط خلاف الظاهر فكذا إيجاب المقدمة مع أن الظاهر لا
يقتضي وجوبها خلاف الظاهر وليس تحمل إحدى المخالفتين ب‍
أولى من تحمل الآخرى فعليكم بالترجيح
والجواب قوله لم لا يجوز أن يقال إن هذا الأمر
أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة
190

قلنا هذا يبطل بأمر الولي غلامه بأن يسقيه الماء إذا كان الماء على
مسافة منه لأنه إن كان كلفه سقي الماء بشرط أن يكون قد قطع
المسافة وجب إذا قعد في مكانه ولم يقطع المسافة أن لا يتوجه عليه
الأمر بالسقي
وإن كان مكلفا بالسقي مع عدم قطع المسافة فهذا تكليف ما
لا يطاق فكل ما هو جواب الخصم فهو جوابنا ها هنا
قوله ليس تحمل إحدى المخالفتين أولى من تحمل الثانية
قلنا مخالفة الظاهر هي إثبات ما ينفيه اللفظ أو نفي ما يثبته
اللفظ
فأما إثبات ما لا يتعرض اللفظ له لا بنفي ولا إثبات فليس
مخالفة للظاهر والمقدمة لا يتعرض اللفظ لها لا بنفي ولا إثبات فلم
يكن إيجابها لدليل منفصل مخالفة للظاهر
وليس كذلك إذا خصصنا وجوب الفعل بحال وجود المقدمة دون حال
191

عدمها لأن ذلك يخالف ما يقتضيه اللفظ من وجوب الفعل على كل
حال
فروع
الأول
اعلم أن ما لا يتم الواجب إلا معه ضربان
أحدهما كالوصلة والطريق المتقدم على العبادة
والآخر ليس كذلك
والأول ضربان
أحدهما ما يجب بحصوله حصول ما هو طريق إليه
والآخر لا يجب ذلك فيه
أما الأول فكما إذا أمر الله تعالى بإيلام زيد فإنه لا طريق إليه
إلا الضرب فهو يستلزم الألم في البدن الصحيح
وأما الثاني فضربان
أحدهما يحتاج الواجب إليه شرعا
والآخر يحتاج إليه عقلا
أما الأول فكحاجة الصلاة إلى تقديم الطهارة
192

وأما الثاني فكالقدرة والآلة وقطع المسافة إلى أقرب الأماكن
وهذا على قسمين
منه ما يصح من المكلف تحصيله كقطع المسافة وإحضار بعض
الآلات
ومنه مالا يصح منه كالقدرة
وأما الذي لا يكون كالوصلة فضربان
أحدهما أن يصير فعله لازما لأن المأمور به اشتبه به
وهو كما إذا ترك الإنسان صلاة من الصلوات الخمس لا يعرفها
بعينها فيلزمه فعل الخمس لأنه لا يمكن مع الالتباس أن يحصل
له يقين الإتيان بالصلاة المنسية إلا بفعل الكل
وثانيهما أن لا يتمكن من استيفاء العبادة إلا بفعل شئ
آخر لأجل ما بينهما من التقارب نحو ستر جميع الفخذ فإنه لا يمكن إلا
مع ستر بعض الركبة وغسل كل الوجه لا يمكن إلا مع غسل جزء
من الرأس
وأما الترك فهو أن يتعذر عليه ترك الشئ إلا عند ترك غيره وذلك
إذا كان الشئ ملتبسا بغيره وهو ضربان
أحدهما أن يكون قد تغير في نفسه
193

والآخر أن لا يكون قد تغير في نفسه
فالأول نحو اختلاط النجاسة بالماء الظاهر وللفقهاء فيه اختلافات غير
لائقة بأصول الفقه
وأما الذي لا يتغير مع الالتباس فإنه يشتمل على مسائل
منها أن يشتبه الإناء النجس بالإناء الطاهر والفقهاء اختلفوا في جواز
التحري فيه
ومنها أن يوقع الإنسان الطلاق على امرأة من نسائه بعينها ثم
يذهب عليه عينها
والأقوى تحريم الكل تغليبا للحرمة على الحل
194

الفرع الثاني
قال قوم إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما لكن
الحرام هي الأجنبية والمنكوحة حلال
وهذا باطل لأن المراد من الحل رفع الحرج والجمع بينه وبين
التحريم متناقض
فالحق أنهما حرامان لكن الحرمة في إحداهما بعلة كونها أجنبية
وفي الأخرى بعلة الاشتباه بالأجنبية
أما إذا قال لزوجتيه إحداكما طالق فيحتمل أن يقال بحل وطئهما
لأن الطلاق شئ متعين فلا يحصل إلا في محل متعين فقبل التعيين لا
يكون الطلاق نازلا في واحدة منهما فيكون الموجود قبل التعيين ليس
الطلاق بل أمرا له صلاحية التأثير في الطلاق عند اتصال البيان به
وإذا ثبت أن قبل التعيين لم يوجد الطلاق وكان الحل موجودا
وجب القول ببقائه فيحل وطؤهما معا
ومنهم من قال حرمتا جميعا إلى وقت البيان تغليبا لجانب الحرمة
195

فإن قلت لما وجب عليه التعيين والله تعالى يعلم ما سيعينه
فتكون هي المحرمة والمطلقة بعينها في علم الله تعالى وإنما هو
مشتبه علينا
قلت الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فلا يعلم غير
المتعين متعينا لأن ذلك جهل وهو في حق الله تعالى محال بل يعلمه
غير متعين في الحال ويعلم أنه في المستقبل سيتعين
الفرع الثالث
اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين كمسح الرأس والطمأنينة
في الركوع إذا زاد على قدر الزيادة هل توصف الزيادة بالوجوب والحق
لا لأن الواجب هو الذي لا يجوز تركه وهذه الزيادة يجوز تركها فلا تكون
واجبة
196

المسألة الثانية
في أن الأمر بالشئ نهي عن ضده
اعلم أنا لا نريد بهذا أن صيغة الأمر هي صيغة النهي بل
المراد أن الأمر بالشئ دال على المنع من نقيضه بطريق الالتزام
وقال جمهور المعتزلة وكثير من أصحابنا إنه ليس كذلك
لنا إن ما دل على وجوب الشئ دل على وجوب ما هو من
ضروراته إذا كان مقدورا للمكلف على ما تقدم بيانه في المسألة الأولى
والطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال به فاللفظ الدال على
الطلب الجازم وجب أن يكون دالا على المنع من الإخلال به بطريق
الالتزام
ويمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى فيقال إما أن يمكن أن يوجد مع
الطلب الجازم الإذن بالإخلال أو لا يمكن
فإن كان الأول كان جازما بطلب الفعل ويكون قد أذن في الترك
وذلك متناقض
وإن كان الثاني فحال وجود هذا الطلب كان الإذن في الترك ممتنعا
ولا معنى لقولنا الأمر بالشئ نهي عن ضده إلا هذا
فإن قيل لا نسلم أن الطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال
وبيانه من وجهين
199

الأول إن الأمر بالمحال جائز فلا استبعاد في أن يأمر جزما
بالوجود وبالعدم معا
الثاني أن الآمر بالشئ قد يكون غافلا عن ضده والنهي عن الشئ
مشروط بالشعور به فالآمر بالشئ حال غفلته عن ضد ذلك الشئ
يمتنع أن يكون ناهيا عن ذلك الضد فضلا عن أن يقال هذا الأمر نفس
ذلك النهي
والجواب قوله الأمر بالمحال جائز
قلنا هب أنه جائز ولكن لا تتقرر ماهية الإيجاب في الفعل إلا
عند تصور المنع من تركه فكان اللفظ الدال على الإيجاب دالا على
المنع من الإخلال به ضمنا
قوله قد يأمر بالشئ حال غفلته عن ضده
قلنا لا نسلم أنه يصح منه إيجاب الشئ عند الغفلة عن الإخلال به
وذلك لأن الوجوب ماهية مركبة من قيدين
أحدهما المنع من الترك فالمتصور للإيجاب متصور للمنع من الترك
فيكون متصورا للترك لا محالة
وأما الضد الذي هو المعنى الوجودي المنافي فقد يكون مفغولا
200

علي عنه ولكنه لا ينافي الشئ لماهيته بل لكونه مستلزما عدم ذلك الشئ
فالمنافاة بالذات ليست إلا بين وجود الشئ وعدمه
وأما المنافاة بين الضدين فهي بالعرض فلا جرم
عندنا الأمر بالشئ نهي عن الإخلال به بالذات ونهي عن أضداده
الوجودية بالعرض والتبع
سلمنا أن الترك قد يكون مغفولا عنه لكن كما أن الأمر بالصلاة
أمر بمقدمتها وإن كانت تلك المقدمة قد تكون مغفولا
عنها فلم لا يجوز أن كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده وإن كان ذلك
الضد مغفولا عنه
سلمنا كل ما ذكرتموه لكن لم لا يجوز أن يقال الأمر بالشئ
يستلزم النهي عن ضده بشرط أن لا يكون الآخر آمرا بما لا يطاق وبشرط أن
لا يكون غافلا عن الضد ولا استبعاد في أن يستلزم شئ شيئا عند
حصول شرط خاص وأن لا يستلزمه عند عدم ذلك الشرط
المسألة الثالثة
في أنه ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك
201

هذا هو المختار وهو قول القاضي أبي بكر خلافا للغزالي
لنا وجهان
الأول أنه لو كان كذلك لكان حيث تحقق العفو لم يتحقق
الوجوب وذلك باطل على قولنا بجواز العفو عن أصحاب الكبائر
والثاني أن ماهية الوجوب تتحقق عند المنع من الإخلال بالفعل
وذلك يكفي في تحققه ترتب الذم على الترك ولا حاجة إلى ترتب
العقاب على الترك
والعجب أن الغزالي إنما أورد هذه المسألة بعد أن زيف ما قيل في
حد الواجب أنه الذي يعاقب على تركه وذكر أن الأولى أن يقال
الواجب هو الذي يذم تاركه
وهذا منه اعتراف بأن الواجب لا يتوقف تقرر ماهيته على العقاب وأنه
يكفي في تحققه استحقاق الذم ثم ذكر عقيبه فلا فصل هذه المسألة
202

وذكر أن ماهية الوجوب لا تتحقق إلا بترجيح الفعل على الترك
والترجيح لا يحصل إلا بالعقاب
ولا شك أنه مناقضة ظاهرة
المسألة الرابعة
الوجوب إذا نسخ بقي الجواز خلافا للغزالي
لنا أن المقتضى للجواز قائم والمعارض الموجود لا يصلح
مزيلا فوجب بقاء الجواز
إنما قلنا إن المقتضي للجواز قائم لأن الجواز جزء من الوجوب
والمقتضى للمركب مقتض لمفرداته
وإنما قلنا إن الجواز جزء من الوجوب لأن الجواز عبارة عن رفع
الحرج عن الفعل والوجوب عبارة عن رفع الحرج عن الفعل مع إثبات
الحرج في الترك ومعلوم أن المفهوم الأول من المفهوم الثاني
203

وإنما قلنا إن المقتضى للمركب مقتض لمفرداته لأنه ليس
المركب إلا عين تلك المفردات فالمقتضى للمركب مقتض لتلك
المفردات
فإن قلت المقتضى للمركب مقتض لتلك المفردات حال اجتماعها فلم
قلت إنه يكون مقتضيا لها حال انفرادها
قلت تلك المفردات من حيث هي غير ومن حيث إنها مفردة غير
وأنا لا أدعي حتى أنها من حيث هي مفردة داخلة في المركب وكيف
يقال ذلك فيه وقيد الانفراد يعاند قيد التركيب وأحد
المعاندين لا يكون داخلا في الآخر ولكنني أدعي أنها من حيث هي
داخلة في المركب فيكون المقتضى للمركب مقتضيا تلك
المفردات من حيث إنها هي لا من حيث إنها مفردة
204

وإنما قلنا إن المعارض الموجود لا يصلح مزيلا لأن
المعارض يقتضي زوال الوجوب والوجوب ماهية مركبة والماهية المركبة
يكفي في زوالها زوال أحد قيودها فزوال الوجوب يكفي فيه إزالة الحرج
عن الترك ولا حاجة فيه إلى إزالة جواز الفعل
فثبت أن المقتضى للجواز قائم والمعارض لا يصلح مزيلا
فإن قيل الجواز الذي جعلته جزء ماهية الوجوب هو الجواز بمعنى رفع
الحرج عن الفعل فقط أو بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك معا الأول
مسلم والثاني ممنوع
ولكن ذلك الأول لا يمكن بقاؤه بعد زوال الوجوب لأن مسمى
رفع الحرج عن الفعل لا يدخل في الوجود إلا مقيدا إما بقيد إلحاق
الحرج بالترك كما في الوجوب
أو بقيد رفع الحرج عن الترك كما في المندوب ويستحيل أن
يبقى بدون هذين القيدين
وأما الثاني فممنوع لأن الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل
205

والترك ينافي الوجوب الذي لا تتحقق ماهيته إلا مع الحرج على
الترك والمنافي لا يكون جزءا
فثبت أن المقتضي للوجوب لا يكون مقتضيا للجواز بهذا المعنى
والجواب أن الجواز الذي هو جزء ماهية الوجوب هو
الجواز بالمعنى الأول
قوله إنه لا يتقرر إلا مع أحد القيدين
قلنا نسلم لكن الناسخ للوجوب لما رفع الوجوب رفع منع
الحرج عن الترك فقد حصل بهذا الدليل زوال الحرج عن الترك
وقد بقي أيضا القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو زوال
الحرج عن الفعل فيحصل من مجموع هذين القيدين زوال الحرج عن
الفعل وعن الترك معا وذلك هو المندوب والمباح
فظهر بما ذكرنا أن الآمر إذا لم يبق معمولا به في الوجوب بقي
206

معمولا به في الجواز والله أعلم
المسألة الخامسة
في أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا
والدليل عليه أن الواجب ما لا يجوز تركه والجمع بينه وبين جواز
الترك متناقض
واعلم أن الخلاف في هذا الفصل مع طائفتين
إحداهما الكعبي وأتباعه فإنه روى في كتب أصحابنا عنهم أنهم
قالوا المباح واجب
واحتجوا عليه بأن المباح ترك به الحرام وترك الحرام واجب
فيلزم أن يكون المباح واجبا
وجوابه أن المباح ليس نفس ترك الحرام بل هو شئ به يترك
الحرام ولا يلزم من كون الترك واجبا أن يكون الشئ المعين الذي
يحصل به الترك واجبا إذا كان ذلك الترك ممكن التحقيق بشئ آخر غير
ذلك الأول
207

وثانيهما ما ذكره كثير من الفقهاء من أن الصوم واجب على
المريض والمسافر والحائض وما يأتون به عند زوال العذر يكون قضاء لما
وجب
وقال آخرون إنه لا يجب على المريض والحائض ويجب على
المسافر
وعندنا أنه لا يجب على الحائض والمريض البتة
وأما المسافر فيجب عليه صوم أحد الشهرين إما الشهر
الحاضر أو شهر آخر وأيهما أتى به كان هو الواجب كما قلنا في
الكفارات الثلاث
ودليلنا ما تقدم من أن الواجب هو الذي منع من تركه
وهؤلاء ما منعوا من ترك الصوم فلا يكون واجبا عليهم بل الحائض
ممنوعة من الفعل والممنوع من الفعل كيف يمكن أن يكون ممنوعا من
الترك
واحتج المخالف بأشياء
أحدها قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه أوجب
208

الصوم على كل من شهد الشهر وهؤلاء قد شهدوا الشهر فيجب عليهم
الصوم
وثانيهما أنه ينوي قضاء رمضان ويسمى قضاء وذلك يدل على أنه
يحكي وجوبا سابقا
وثالثها أنه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه فوجب أن يكون بدلا عنه
كغرامات المتلفات
والجواب عن الكل إن ما ذكرتموه استدلال بالظواهر والأقيسة على
مخالفة ضرورة العقل وذلك لأن المتصور في الوجوب المنع من الترك
فعند عدم المنع من الترك لو حاولنا إثبات المنع من الترك لكنا قد تمسكنا
بالظواهر والأقيسة في إثبات الجمع بين النقيضين وذلك لا يقوله عاقل
بلى إن فسرتم الوجوب بشئ آخر فذلك كلام آخر
فروع
الفرع الأول
اختلفوا في أن المندوب هل هو مأمور به أم لا
209

والحق أن المراد من الأمر إن كان هو الترجيح المطلق من غير
إشعار بجواز الترك ولا بالمنع من الترك فنعم
وإن كان هو الترجيح المانع من النقيض فلا لكنا لما بينا أن
الأمر للوجوب كان الحق هو التفسير الثاني
الفرع الثاني
اختلفوا في أن المندوب هل يصير واجبا بعد الشروع فيه
فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه أن التطوع يلزم بالشروع
210

وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجب
لنا قوله عليه الصلاة والسلام الصائم المتطوع أمير نفسه إن
شاء صام وإن شاء أفطر ولأنا نفرض الكلام فيما إذا نوى صوما يجوز له
تركه بعد الشروع
فنقول يجب أن يقع الصوم على هذه الصفة لقوله عليه الصلاة
والسلام ولكل امرئ ما نوى
وتمام الكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات
211

الفرع الثالث
المباح هل هو من التكليف أم لا
والحق أنه إن كان المراد بأنه من التكليف هو أنه ورد التكليف
بفعله فمعلوم أنه ليس كذلك
وإن كان المراد منه أنه ورد التكليف باعتقاد إباحته فاعتقاد كون ذلك
الفعل مباحا مغاير لذلك الفعل في نفسه فالتكليف بذلك الاعتقاد
لا يكون تكليفا بذلك المباح
والأستاذ أبو إسحق سماه تكليفا بهذا التأويل وهو بعيد مع أنه نزاع
في محض اللفظ
الفرع الرابع
المباح هل هو حسن
والحق أنه إن كان المراد من الحسن كل ما رفع الحرج عن فعله
212

سواء كان على فعله ثواب أو لم يكن فالمباح حسن
وإن أريد به ما يستحق فاعله بفعله التعظيم والمدح
والثواب فالمباح ليس بحسن
الفرع الخامس
المباح هل هو من الشرع
قال بعضهم ليس من الشرع لأن معنى المباح أنه لا حرج في فعله
وفي تركه وذلك معلوم قبل الشرع فتكون الإباحة تقرير للنفي
الأصلي لا تغييرا فلا يكون من الشرع
والحق أن الخلاف لفظي وذلك لأن الإباحة تثبت بطرق
ثلاثة
أحدها أن يقول الشرع إن شئتم فافعلوا وإن شئتم فاتركوا
والثاني أن تدل أخبار الشرع على أنه لا حرج في الفعل والترك
والثالث أن لا يتكلم الشرع فيه البتة ولكن انعقد الإجماع مع
213

ذلك على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه
مخير
وهذا الدليل يعم جميع الأفعال التي لا نهاية لها
إذا عرفت هذا فنقول إن عنى بكون الإباحة حكما شرعيا أنه
حصل حكم غير الذي كان مستمرا قبل الشرع فليس كذلك بل الإباحة
تقرير لا تغيير
وإن عنى بكونه حكما شرعيا أن كلام الشرع دل على تحققه فظاهر
أنه كذلك لأن الإباحة لا تتحقق إلا على أحد الوجوه الثلاثة المذكورة
وفي جميعها خطاب الشرع دل عليها فكانت الإباحة من
الشرع بهذا التأويل والله أعلم
214

النظر الثالث
من القسم الثاني من كتاب الأوامر والنواهي
في المأمور به
وفيه مسائل
المسألة الأولى
يجوز ورود الأمر بما لا يقدر عليه المكلف عندنا خلافا للمعتزلة
والغزالي منا
لنا وجوه
الأول أن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان والإيمان منه
محال لأنه يفضي إلى انقلاب علم الله تعالى جهلا والجهل محال
والمفضي إلى المحال محال
215

فإن قيل لا نسلم أن الإيمان من الكافر محال ولا نسلم أن حصوله
يفضي إلى انقلاب العلم جهلا
بيانه أن العلم يتعلق بالشئ المعلوم على ما هو به فإن كان
الشئ واقعا تعلق العلم بوقوعه
وإن كان غير واقع تعلق العلم بلا وقوعه
فإذا فرضت الإيمان واقعا لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل
عالما بوقوعه
وإن فرضته غير واقع لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما
بلا وقوعه ففرض الإيمان بدلا من الكفر لا يقتضي تغير العلم
بل يقتضي أن يكون الحاصل في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم
بالكفر فلم قلت إن ذلك محال
سلمنا أن ما ذكرته يقتضي امتناع صدور الإيمان من الكافر لكنه
معارض بوجوده دالة على أن الإيمان في نفسه ممكن الوجود
216

الأول أن الإيمان كان في نفسه ممكن الوجود فلو انقلب واجبا
بسبب العلم لكان العلم مؤثرا في المعلوم وهو محال لأن العلم يتبع
المعلوم ولا يؤثر فيه
الثاني لو كان ما علم الله تعالى وجوده واجب الوجود وكل ما
علم الله تعالى عدمه يكون واجب العدم لزم أن لا يكون الله
تعالى قادرا على ايجاد شئ لأن الشئ لا ينفك من أن يقال إن الله
تعالى علم وجوده أو علم عدمه
وعلى التقديرين يكون واجبا والواجب لا قدرة عليه البتة فلزم أن لا
يقدر الله تعالى على شئ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
الثالث لو كان ما علم الله وجوده واجب الوجود وما علم عدمه
يكون واجب العدم لزم أن لا يكون لنا اختيار في فعل شئ
أصلا وأن تكون حركاتنا بمنزلة تحريك الرياح للأشجار من حيث إنه لا
يكون باختيارنا لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك باطل لأنا ندرك تفرقة ضرورية
217

بين الحركات الحيوانية الاختيارية والجمادية الاضطرارية
الرابع أنه لو كان كذلك لكان العالم واجب الوجود في الوقت
الذي علم الله تعالى وقوعه فيه والواجب يستغني عن المؤثر فيلزم
استغناء حدوثه عن المؤثر فيلزم ان لا يفتقر حدوث العالم ولا شئ من
الأشياء إلى القادر المختار وذلك كفر
الخامس إن تعلق العلم به إما أن يكون سببا لوجوبه أو لا يكون
فإن كان سببا لوجوبه لزم أن يكون العلم قدرة وإرادة لأنه لا معنى
للقدرة والإرادة إلا الأمر الذي باعتباره يترجح الوجود على العدم فإذا كان
العلم كذلك صار العلم عين القدرة والإرادة وذلك محال لأنه يقتضي
قلب الحقائق وهو غير معقول
وإن لم يكن لعلم سببا لوجوب المعلوم فقد سقط ما ذكرتموه من
الدلالة لأنه مبني على أن المعلوم صار واجب الوقوع عند تعلق العلم
به فإذا بطل ذلك بطل دليلكم
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الإيمان محال من الكافر لكن
امتناعه ليس لذاته بل بالنظر إلى علم الله تعالى فلم قلتم إن ما لا يكون
محالا لذاته فإنه لا يجوز ورود الأمر به
218

سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الأمر بالمحال واقع لكنه يدل
على أنه لا تكليف إلا وهو تكليف بما لا يطاق وذلك لأن الشئ
إن كان معلوم العدم كان الأمر بالإتيان به أمرا بإيقاع الممتنع
وإن كان معلوم الوجود كان واجب الوجود وما كان واجب الوجود لا
يكون لقدرة القادر الأجنبي واختياره فيه أثر فيكون التكليف به
أيضا تكليفا بما لا يطاق
فثبت أن ما ذكرتموه يدل على أن التكاليف بأسرها تكليف ما
لا يطاق
وأن أحدا من العقلاء لم يقل بذلك فإن بعض الناس أحاله عقلا
وبعضهم جوزه ولم يقل أحد بأنه يمتنع ورود التكليف إلا بما لا يطاق
فما هو نتيجة هذا الدليل لا تقولون به وما تقولون به لا ينتجه هذا
الدليل فيكون ساقطا
219

سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم ولكنه معارض بالنص
والمعقول
أما النص فقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وما جعل
عليكم في الدين من حرج وأي حرج فوق تكليف بما لا يطاق
وأما المعقول فمن ثلاثة أوجه
الأول أن في المشاهد أن من كلف الأعمى نقط
المصاحف والزمن الطيران في الهواء عد سفيها تعالى الله عن ذلك علوا
كبيرا
الثاني المحال غير متصور وكل ما لا يكون متصورا لا يكون مأمورا به
إنما قلنا إنه غير متصور لأن كل متصور متميز وكل متميز ثابت
فما لا يكون ثابتا لا يكون متصورا
بيان الثاني أن الذي لا يكون متصورا لا يكون في العقل إليه إشارة
والمأمور به يكون في العقل إليه إشارة والجمع بينهما متناقض
الثالث إذا جوزتم الأمر بالمحال فلم لا تجوزون أمر الجمادات
وبعثة الرسل إليها وإنزال الكتب عليها
220

والجواب قوله إذا فرضنا الإيمان بدلا عن الكفر كان الموجود في
الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر
قلنا نحن وإن لم نعلم أن علم الله تعالى في الأزل تعلق بإيمان
زيد أو بكفره لكنا نعلم أن علمه تعلق بأحدهما على التعيين وذلك
العلم كان حاصلا في الأزل فنقول لو لم يحصل متعلق ذلك العلم لزم
انقلاب ذلك العلم جهلا في الماضي وهو محال من وجهين
أحدهما امتناع الجهل على الله تعالى
والثاني أن تغير الشئ في الماضي محال
قوله العلم غير مؤثر
قلنا اللازم من دليلنا حصول الوجوب عند تعلق العلم فأما أن ذلك
الوجوب به أو بغيره فذلك غير لازم
قوله لزم أن لا يقدر الله تعالى على شئ
قلنا قد بينا أن العلم بالوقوع يتبع الوقوع الذي هو تبع
الإيقاع بالإرادة والقدرة فامتنع أن يكون الفرع مانعا من الأصل
221

بل تعلق علمه به على الوجه المخصوص يكشف عن أن
قدرته وإرادته تعلقتا به على ذلك الوجه
قوله يلزم الجبر
قلنا إن عنيت بالجبر أن العبد لا يتمكن من شئ على خلاف علم
الله تعالى فلم قلت إنه محال
قوله يلزم أن يكون العالم واجب الحدوث حين حدوثه فيستغنى عن
القدرة والإرادة
قلنا قد بينا أن العلم بالوقوع تبع الوقوع الذي هو تبع القدرة
والإرادة فإن والفرع لا يغني عن الأصل
قوله إن العلم إما أن يكون سببا للوجوب أو لا يكون
قلنا نختار أنه ليس سببا للوجوب ولكن نقول إنه يكشف عن
الوجوب وإذا كان كاشفا عن الوجوب ظهر الفرق
قوله هذا لا يدل على جواز الأمر بالجمع بين الضدين
قلنا بل يدل لأن علم الله تعالى بعدم إيمان زيد ينافي وجود إيمان
222

زيد فإذا أمره بإدخال الإيمان في الوجود حال حصول العلم بعدم
الإينما فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين
قوله هذا الدليل يقتضي أن تكون التكاليف كلها تكليف ما لا
يطاق وذلك لم يقل به أحد
قلنا الدلائل القطعية العقلية لا تدفع بأمثال هذه الدوافع
أما الآية فهي معارضة بقوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا
به ولأنك قد علمت أن القواطع العقلية لا تعارضها الظواهر النقلية
بل تعلم أن تلك الظواهر مأولة ولا حاجة إلى تعيين تأويلها
قوله أنه عبث
قلنا إن عنيت بكونه عبثا خلوه عن مصلحة العبد فلم قلت إن
هذا محال
قوله المحال غير متصور
223

قلنا لو لم يكن متصورا لامتنع الحكم عليه بالامتناع لما أن
التصديق موقوف على التصور ولأنا نميز بين المفهوم من قولنا الواحد نصف
الاثنين والمفهوم من قولنا الوجود والعدم يجتمعان ولولا تصور
هذين المفهومين لامتنع التمييز
قوله لم لا يجوز أمر الجماد
قلنا حاصل الأمر بالمحال عندنا هو الإعلام بنزول العقاب وذلك
لا يتصور إلا في حق الفاهم
الدليل الثاني إن الله تعالى أخبر عن أقوام معينين أنهم لا يؤمنون
وذلك في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا
يؤمنون وقال تعالى لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون
إذا ثبت هذا فنقول أولئك الأشخاص لو آمنوا لا نقلب خبر الله
تعالى الصدق كذبا والكذب على الله محال إما لأدائه إلى الجهل
أو إلى الحاجة على قول المعتزلة أو لنفسه كما هو مذهبنا والمؤدي إلى
المحال محال فصدور الإيمان عن أولئك الأشخاص محال
وتمام هذا التقرير ما تقدم
الدليل الثالث أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن الإيمان
224

تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن
فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدا وهذا هو التكليف بالجمع بين
الضدين
الدليل الرابع أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله
تعالى ومتى وجدت تلك الداعية كان الفعل واجب الوقوع وإذا كان
كذلك كان الجبر لازما ومتى كان الجبر لازما كانت التكاليف
بأسرها تكليف ما لا يطاق
وإنما قلنا إن صدور الفعل من العبد يتوقف على داعية يخلقها الله
تعالى لأن العبد لا يخلو إما أن يكون متمكنا من الفعل والترك أولا
يكون كذلك
فإن كان الأول فإما أن يكون ترجح الفاعلية على التاركية موقوفا على
مرجح أو لا يكون
فإن توقف فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم
فيه ولا يتسلسل بل لابد وأن ينتهي إلى داعية ليست من العبد بل
225

من الله تعالى وهو المقصود
وإن لم يتوقف على مرجح فقد ترجحت الفاعلية على التاركية لا
لمرجح وهو محال لأن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لو جاز
أن يكون لمرجح لجاز في كل العالم أن يكون كذلك وحينئذ لا يمكن
الاستدلال بجواز العالم على وجود الصانع وهو محال
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر وحده يكفي في ترجيح
أحد الطرفين على الآخر
قلت قول القائل إنما ترجح أحد الطرفين على الآخر لأن القادر
رجحه مغالطة لأنا نقول هل لقولك القادر رجحه مفهوم زائد
على كونه قادرا وعلى وجود الأثر أوليس له مفهوم زائد
فإن كان له مفهوم زائد فحينئذ يكون صدور أحد مقدوري القادر
عنه دون الآخر موقوفا على أمر زائد وذلك هو القسم الأول الذي بينا أنه
يفضي إما إلى التسلسل أو إلى مرجح يصدر من الله تعالى
226

وإن لم يكن له مفهوم زائد صار معنى قولنا القادر يرجح أحد
مقدوريه على الآخر من غير مرجح إلى أن القادر يستمر كونه قادرا
مدة من غير هذا الأثر ثم أنه وجد هذا الأثر بعد مدة من غير أن يحصل لذلك
القادر قصد إليه وميل إلى تكوينه وذلك معلوم الفساد بالضرورة
ومنشأ المغالطة في تلك اللفظة هو أن قول القائل القادر يرجح
لكونه قادرا يوهم أن هذا المقدور إنما ترجح على المقدور الآخر لأن القادر
خصه بالترجيح
وقولنا خصه بالترجيح لا يوهم أمرا زائدا على محض
القادرية لأنا إذا أثبتنا أمرا زائدا فقد أوقفنا ترجحه على انضمام أمر آخر
إلى مجرد القادرية وحينئذ يرجع إلى القسم الأول فثبت أن هذا
الكلام مغالطة محضة
وإنما قلنا إن عند حصول تلك الداعية التي يخلقها الله تعالى يجب
صدور الفعل فلأنه لو لم يجب لكان إما أن يمتنع أو يجوز
فإن امتنع كانت الداعية مانعة لا مرجحة
وإن جاز فمع تلك الداعية يجوز عدم الأثر تارة ووجوده أخرى فترجح
الوجود على العدم إما أن يتوقف على أمر زائد أو لا يتوقف
227

فإن توقف لم تكن الداعية الأولى تمام المرجح وكنا قد
فرضناها كذلك هذا خلف
وأيضا فلأن الكلام في هذه الضميمة كما فيما قبلها ويلزم إما
التسلسل أو الانتهاء إلى ترجح الممكن من غير مرجح وهما محالان
أو الوجوب وهو المطلوب
وإنما قلنا إنه لما توقف فعل العبد على داعية يخلقها الله تعالى
وكان ذلك الفعل واجب الوقوع عند تلك الداعية لزم الجبر لأن قبل
خلقها كان الفعل ممتنعا من العبد وبعد خلقها يكون واجبا
وعلى كلا التقديرين لا تثبت المكنة من الفعل والترك
وإنما قلنا إنه لما كان كذلك كانت التكاليف بأسرها تكليف مالا
يطاق لأنه لما لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك البتة كان تكليفه
تكليفا لمن لم يكن متمكنا من الفعل والترك وذلك هو المقصود
الدليل الخامس التكليف إما أن يتوجه على المكلف حال استواء
الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر
فإن توجه عليه حال الاستواء كان ذلك تكليفا بمالا يطاق لأن حال
حصول الاستواء يمتنع حصول الرجحان لأن الاستواء ينافي الرجحان
فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين
228

وإذا امتنع الرجحان كان التكليف بالرجحان تكليفا بمالا يطاق
وإن توجه عليه حال عدم الائتواء عمر فنقول الراجح يصير واجبا
والمرجوح ممتنعا على ما تقدم تقريره في الدليل الرابع
والتكليف بالواجب محال لأن ما يجب وقوعه استحال أن يسند وقوعه
إلى شئ آخر وإذا استحال أن يسند وقوعه إلى غيره استحال أن يفعله
فاعل فإذا أمر بفعله فقد أمر بما لا قدرة له عليه
وإما التكليف بالممتنع فلا شبهة في أنه تكليف بمالا يطاق
الدليل السادس أفعال العبد مخلوقة لله تعالى وإذا كان كذلك كان
التكليف تكليف ما لا يطاق
أما أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فلأنه لو كان مخلوقا للعبد
229

لكان معلوما للعبد وليس معلوما للعبد فهو غير مخلوق له
وتقريره في كتبنا الكلامية
وأما أنه إذا كان فعل العبد مخلوقا لله تعالى كان التكليف تكليفا بما
لا يطاق فلأن العبد قبل أن خلق الله تعالى فيه الفعل استحال
منه تحصيل الفعل وإذا خلق الله تعالى فيه الفعل استحال منه الامتناع
والدفع
ففي كلتا الحالتين لا قدرة له لا على الفعل ولا على الترك
فإن قلت هب أنه لا قدرة له على الإيجاد ولكن الله تعالى أجرى
عادته بأنه إذا اختار العبد وجود الفعل فالله تعالى يخلقه
وإن اختار عدم الفعل فالله تعالى لا يخلقه
وعلى هذا الوجه يكون العبد مختارا
قلت ذلك الاختيار إن كان منه لا من الله تعالى فالعبد موجد
لذلك الاختيار
230

وإن لم يكن منه بل من الله تعالى كان مضطرا في ذلك الاختيار
فيعود الكلام
الدليل السابع الأمر قد وجد قبل الفعل والقدرة غير موجودة قبل
الفعل فالأمر قد وجد لا عند القدرة وذلك تكليف ما لا يطاق
أما أن الأمر قد وجد قبل الفعل فلأن الكافر مكلف بالإيمان
وأما أن القدرة غير موجودة قبل الفعل فلأن القدرة صفة متعلقة فلا بد
لها من متعلق والمتعلق إما الموجود وإما المعدوم ومحال أن يكون
المعدوم متعلق القدرة لأن العدم نفي محض مستمر والنفي المحض
يستحيل أن يكون مقدورا والمستمر يمتنع أيضا أن يكون مقدورا
فالنفي المستمر أولي أن لا يكون مقدورا
وإذا ثبت أن متعلق القدرة لا يمكن أن يكون عدما محضا ثبت
أنه لا بد أن يكون موجودا
فلما ثبت أن القدرة لا بد لها من معلق وثبت أن المتعلق لا بد وأن
يكون موجودا ثبت أن القدرة لا توجد إلا عند وجود الفعل.
231

الدليل الثامن العبد لو قدر على الفعل لقدر عليه إما حال
وجوده أو قبل وجوده
والأول محال وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال
والثاني محال لأن القدرة في الزمان المتقدم إما أن يكون
لها أثر في الفعل أو لا يكون
فإن كان لها أثر في الفعل فنقول
تأثير القدرة في المقدور حاصل في الزمان الأول ووجود المقدور غير
حاصل في الزمان الأول فتأثير القدرة في المقدور مغاير لوجود المقدور
والمؤثر إما أن يؤثر في ذلك المغاير حال وجوده أو قبله
فإن كان الأول لزم أن يكون موجدا للموجود وهو محال
وإن كان الثاني كان الكلام فيه كما تقدم ولزم التسلسل
وإن لم يكن لها أثر في الزمان المتقدم وثبت أيضا أنه ليس
لها في الزمان المقارن لوجود الفعل أثر استحال أن يكون لها أثر في
الفعل البتة وإذا لم يكن لها أثر البتة استحال أن تكون للعبد
قدرة على الفعل البتة
232

واعلم أن هذين الوجهين لا نرتضيهما النبي لأنهما يشكلان بقدرة الباري
جل جلاله على الفعل
الدليل التاسع أن الله تعالى أمر بمعرفته في قوله فاعلم أنه لا
إله إلا الله فنقول
إما أن يتوجه الأمر على العارف بالله تعالى أو على غير العارف
به
والأول محال لأنه يقتضي تحصيل الحاصل والجمع بين المثلين
وهما محالان
والثاني محال لأن غير العارف بالله تعالى ما دام يكون غير عارف بالله
تعالى استحال أن يكون عارفا بأن الله تعالى أمره بشئ لإن العلم
بأن الله تعالى أمره بشئ مشروط بالعلم بالله تعالى
ومتى استحال أن يعرف أن الله تعالى أمره بشئ كان وإن توجيه الأمر عليه في هذه الحالة توجيها للأمر على من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر
وذلك عين تكليف مالا يطاق
233

الدليل العاشر أن الأمر بالنظر والفكر واقع في قوله تعالى قل
انظروا وفي قوله تعالى أولم يتفكروا وذلك أمر بمالا يطاق
بيانه أن تحصيل التصورات غير مقدور وإذا لم تكن التصورات مقدورة
لم تكن القضايا الضرورية مقدورة وإذا لم تكن القضايا الضرورية
مقدورة لم تكن القضايا النظرية مقدورة وإذا لم تكن هذه الأشياء مقدورة
لم يكن الفكر والنظر مقدورا
وإنما قلنا إن التصورات غير مقدورة لأن القادر إذا أراد تحصيلها
فإما أن يحصلها حال ما تكون التصورات خاطرة بباله أو حال مالا تكون
تلك التصورات خاطرة بباله
فإن كانت خاطرة بباله فتلك التصورات حاصلة فتحصيلها يكون
تحصيلا للحاصل وهم محال
وإن كانت غير خاطرة بباله كان الذهن غافلا عنه ومتى كان الذهن
غافلا عنه استحال من القادر أن يحاول تحصيله والعلم بذلك ضروري
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال إنها متصورة من وجه دون وجه فلا
جرم يمكنه أن يحصل كمالها
قلت لما كانت متصورة من وجه دون وجه فالوجه المتصور مغاير لما
ليس بمتصور فهما أمران
234

أحدهما متصور بتمامه والآخر غير متصور بتمامه وحينئذ يعود الكلام
المقدم
وإنما قلنا إن التصورات إذا لم تكن مقدورة كانت القضايا البديهية
غير مقدورة لأن تلك التصورات إما أن تكون بحيث يلزم من مجرد
حضورها في الذهن حكم الذهن بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي أو
بالإثبات أو لا يلزم
فإن لم يلزم لم تكن تلك القضايا علوما يقينية بل تكون اعتقادات تقليدية
وإن لزم فنقول حصول تلك التصورات ليس باختياره وعند
حصولها فترتب تلك التصديقات عليها ليس باختياره فإذن حصول تلك
القضايا البديهية ليس باختياره وذلك هو المطلوب
وإنما قلنا إن القضايا البديهية إذا لم تكن باختياره لم
تكن القضايا النظرية باختياره وذلك لأن لزوم هذه النظريات عن تلك
الضروريات إما أن يكون واجبا أو لا يكون
فإن لم يكن واجبا لم يكن ذلك استدلالا يقينيا لأنا إذا استدللنا
235

بدليل مركب من مقدمات ولم يكن المطلوب واجب اللزوم عن تلك
المقدمات كان اعتقاد وجود ذلك المطلوب في هذه الحالة اعتقادا
تقليديا لا يقينيا
وإذا كان ذلك واجبا فنقول
قبل حصول تلك المقدمات البديهية امتنع حصول هذه القضايا
الاستدلالية وعند حصول تلك البديهيات يجب حصول هذه الاستدلاليات
فإذن هذه الاستدلاليات في جانبي النفي والإثبات لا تكون باختيار
المكلف
وإذا ثبت هذا ثبت أن التكليف بها تكليف بما ليس في الوسع
فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذه المسألة وبالله التوفيق
236

المسألة الثانية
قال أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة الأمر بفروع الشرائع لا يتوقف
على حصول الإيمان
وقال جمهور أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه يتوقف عليه وهو قول
الشيخ أبي حامد الأسفراييني من فقهائنا
ومن الناس من قال تتناولهم النواهي دون الأوامر فإنه يصح انتهاؤهم
عن المنهيات ولا يصح إقدامهم على المأمورات
واعلم أنه لا أثر لهذا الاختلاف في الأحكام المتعلقة بالدين لأنه ما دام
الكافر كافرا يمتنع منه الإقدام على الصلاة وإذا أسلم لم يجب
عليه القضاء
وإنما تأثير هذا الاختلاف في أحكام الآخرة فإن الكافر إذا مات على
كفره فلا شك أنه يعاقب على كفره وهل يعاقب مع ذلك على
تركه الصلاة والزكاة وغيرهما أم لا
237

ولا معنى لقولنا كما إنهم مأمورون بهذه العبادات إلا أنهم
كما يعاقبون على ترك الإيمان يعاقبون أيضا بعقاب زائد على ترك هذه
العبادات
ومن أنكر ذلك قال إنهم لا يعاقبون إلا على ترك الإيمان وهذه
دقيقة لا بد من معرفتها
لنا وجوه
الأول أن المقتضى لوجوب هذه العبادات قائم والوصف الموجود
وهو الكفر لا يصلح مانعا فوجب القول بالوجوب
إنما قلنا إن المقتضى موجود لقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا
ربكم وقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا
ولا شك في أن هذه النصوص عامة في حق الكل
وإنما قلنا إن الكفر لا يصلح أن يكون مانعا لأن الكافر متمكن
من الإتيان بالإيمان أولا حتى يصير متمكنا من الإتيان بالصلاة والزكاة
238

بناء عليه وبهذا الطريق قلنا الدهري مكلف بتصديق الرسول
والمحدث مأمور بالصلاة
فثبت أن المقتضي قائم والمعارض غير مانع فوجب القول
بالوجوب
الدليل الثاني قوله تعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نك من
المصلين وهذا يدل على أنهم يعاقبون على ترك الصلاة
فإن قيل هذه حكاية قول الكفار فلا يكون حجة فإن قلت لو
كان ذلك باطلا لبينه الله تعالى
قلت لا نسلم وجوب ذلك فإنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا والله
ربنا ما كنا مشركين ما كنا نعمل من سوء يوم يبعثهم الله جميعا
فيحلفون له كما يحلفون لكم ثم إنه تعالى ما كذبهم في هذه
المواضع فعلمنا أن تكذيبهم غير واجب
239

سلمنا أنه جحة لكن لم لا يجوز أن يقال العذاب على مجرد التكذيب
لقوله تعالى وكنا نكذب بيوم الدين
والدليل عليه أن التكذيب سبب مستقل باقتضاء دخول النار وإذا وجد
السبب المستقل باقتضاء الحكم لم يجز إحالته على غيره
سلمنا أن العذيب واقع على جميع الأمور المذكورة لكن قوله لم
نك من المصلين معناه لم نك من المؤمنين لأن اللفظ محتمل
والدليل دل عليه
أما اللفظ محتمل فلما روي في الحديث نهيت عن قتل
المصلين ويقال قال أهل الصلاة والمراد منه المسلمون
وأما أن الدليل دل عليه فلأن أهل الكتاب داخلون في هذه الجملة
مع أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويؤمنون بالغيب ولو كان المراد من لم
يأت بالصلاة والزكاة لكانوا كاذبين فيه فعلمنا أن المراد أنهم ما كانوا من
أهل الصلاة والزكاة
240

سلمنا أن التعذيب على ترك الصلاة لكن قوله لم نك من
المصلين يجوز أن يكون إخبارا عن قوم ارتدوا بعد إسلامهم مع أنهم
ما صلوا حال إسلامهم لأنه واقعة حال فيكفي في صدقه صورة واحدة
سلمنا عمومه في حق الكفار ولكن الوعيد ترتب على فعل الكل
فلم قلت إنه حاصل على كل واحد من تلك الأمور
والجواب أن الله تعالى لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول النار
بترك الصلاة وجب أن يكون ذلك صدقا لأنه لو كان كذبا مع أنه تعالى ما
بين كذبهم فيها لم يكن في روايتها فائدة وكلام الله تعالى متى أمكن
حمله على ما هو أكثر فائدة وجب ذلك
وأما المواضع التي كذبوا فيها مع أن الله تعالى ما بين كذبهم فيها فذاك
لاستقلال العقل بمعرفة كذبهم فيها فتكون الفائدة من ذكر تلك الأشياء بيان نهاية مكابرتهم وعنادهم في الدنيا والآخرة
وأما ها هنا فلما لم يكن العقل مستقلا بمعرفة كذبهم والله تعالى
241

لم يبين لنا ذلك فلو كانوا كاذبين فيه لم يحصل منه غرض أصلا فتكون
الآية عرية عن الفائدة
قوله العلة هي التكذيب بيوم الدين
قلنا لو كان كذلك لكان سائر القيود عديم الأثر في اقتضاء هذا
الحكم وذلك باطل لأن الله تعالى رتب الحكم عليها أولا في قوله
تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين
قوله لما وجد السبب المستقل لم يجز إحالة الحكم على غيره
قلنا لعل الحصول في الموضع المعين من الجحيم ما كان لمجرد
التكذيب بل لمجموع هذه الأمور وإن كان مجرد التكذيب سببا
لدخول مطلق الجحيم
قوله المراد من قوله لم نك من المصلين أي لم نك من
المؤمنين
قلنا هذا التأويل لا يتأتي في قوله ولم نك نطعم المسكين
قوله أهل الكتاب صلوا وأطعموا
242

قلنا الصلاة في عرف الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة التي في
شرعنا لا التي في شرع غيرنا
قوله جاز أن يكون المراد منه قوما ارتدوا بعد إسلامهم
قلنا إن قوله سبحانه وتعالى قالوا لم نك من المصلين هو
جواب المجرمين المذكورين في قوله يتساءلون عن المجرمين وذلك
عام في حق الكل
الدليل الثالث قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى
قوله يضاعف له العذاب يوم القيامة وكذلك قوله فلا صدق ولا
صلى ولكن كذب وتولى ذمهم على ترك الكل
وكذلك قوله تعالى ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة
الدليل الرابع الكافر يتناوله النهي فوجب أن يتناوله الأمر
وإنما قلنا إنه يتناوله النهي لأنه يحد على الزنى
وإنما قلنا إنه إذا تناوله النهي وجب أن يتناوله الأمر لأنه إنما
يتناوله النهي ليكون متمكنا من الاحتراز عن المفسدة الحاصلة بسبب
243

الإقدام على المنهي عنه فوجب أن يتناوله الأمر ليكون متمكنا من استيفاء
المصلحة الحاصلة بسبب الإقدام على المأمور به
فإن قيل لا نسلم أنه يتناوله النهي وأما الحد فذاك لأنه
التزم إحكامنا
وسلم سلمنا لكن لافرق بين الأمر والنهي هو أنه مع كفره يمكنه
الانتهاء عن المنهيات ولا يمكنه مع كفره الإتيان بالمأمورات
والجواب عن الأول أن من أحكام شرعنا أن لا يحد أحد بالفعل
المباح
وعن الثاني أن قولكم الكافر المكلف يمكنه الانتهاء عن
المنهيات إن عنيتم به أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية فهو
أيضا متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار النية
وإن عنيتم به أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات لغرض
امتثال قول الشارع فمعلوم أن ذلك حال عدم الإيمان متعذر
244

فالحاصل أن المأمور والمنهي استويا في أن الإتيان بهما من حيث
الصورة لا يتوقف على الإيمان والإتيان بهما لغرض امتثال حكم
الشارع يتوقف في كليهما على الإيمان فبطل الفرق الذي ذكروه
واحتج المخالف بأمرين
أحدهما أنه لو وجبت الصلاة على الكافر لوجبت عليه إما
حال الكفر أو بعده
والأول باطل لأن الإتيان بالصلاة في حال الكفر ممتنع والممتنع لا
يكون مأمورا به
والثاني باطل لإجماعنا على أن الكافر إذا أسلم فإنه لا يؤمر بقضاء ما
فاته من الصلاة في زمان الكفر
وثانيهما لو وجبت هذه العبادات على الكافر لوجب عليه قضاؤها كما
في حق المسلم والجامع تدارك المصلحة المتعلقة بتلك العبادات
ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها غير واجبة عليه
والجواب عن الأول أنا بينا أنه لا تظهر فائدة هذا الخلاف في
الأحكام الدنيوية إنما تظهر فائدته في الأحكام الأخروية وهي
أنه هل يزداد عقاب الكافر بسبب تركه لهذه العبادات وما ذكرتموه من
الدلالة لا يتناول هذا المعنى
245

وعن الثاني إنه ينتقض بالجمعة
ثم الفرق أن إيجاب القضاء على من أسلم بعد كفره ينفره عن
الإسلام لامتداد أيام الكفر بخلاف المسلم والله أعلم
المسألة الثالثة
في أن الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء
قبل الخوض في المسألة لا بد من تفسير الإجزاء وقد ذكروا فيه
تفسيرين
أحدهما وهو الأصح أن المراد من كونه مجزيا هو أن الإتيان به
كاف في سقوط الأمر
وإنما يكون كافيا إذا كان مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث
وقع الآمر به
وثانيهما أن المراد من الإجزاء سقوط القضاء
وهذا باطل لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات
لم يكن مجزئا مع سقوط الفضاء
ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد على ما سيأتي
ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول ما كان مجزئا والعلة
مغايرة للمعلول
إذا عرفت هذا فنقول فعل المأمور به يقتضي الإجزاء خلافا لأبي
هاشم وأتباعه
246

لنا وجوه
الأول أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة
إنما قلنا إنه أتى بما أمر به لأن المسألة مفروضة فيما إذا كان الأمر
كذلك
وإنما قلنا إنه يلزم أن يخرج عن العهدة لأنه لو بقي الأمر بعد
ذلك لبقي إما متناولا لذلك المأتي به أو لغيره
والأول باطل لأن الحاصل لا يمكن تحصيله
والثاني باطل لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغير ذلك الذي
وقع مأتيا به ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر وقد فرضناه
كذلك هذا خلف
الثاني أنه لا يخلو إما أنه يجب عليه فعله ثانيا وثالثا أو
ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم
والأول باطل لما بينا أن الأمر لا يفيد التكرار
والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للإجزاء إلا كونه كافيا في الخروج
عن عهدة الأمر
الثالث أنه لو لم يقتض الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد
لعبده إفعل وإذا فعلت لا يجزئ عنك ولو قال ذلك لعد متناقضا
247

احتج المخالف بوجوه
أحدها أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر وجب أن
لا يدل على الإجزاء بمجرده
وثانيها إن كثيرا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها والمضي
فيها ولا تجزيه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع
فيه
وثالثها أن الأمر بالشئ لا يفيد إلا كونه مأمورا به فأما أن الإتيان يكون
سببا لسقوط التكليف فذلك لا يدل عليه مجرد الأمر
والجواب عن الأول أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لكن
الفرق بينه وبين الأمر أن نقول النهي يدل على أنه منعه من فعله وذلك
لا ينافي أن نقول إنك لو أتيت به لجعله الله سببا لحكم آخر
أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضاء المأمور به مرة واحدة فإذا
أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك
مقتضيا لشئ آخر
248

وعن الثاني أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها
وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع
المأمور به لا على هذا الوجه الذي وقع بل على وجه آخر وذلك الوجه
بعد لم يوجد
وعن الثالث أن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر
مقتضيا بعد ذلك وذلك هو المراد بالإجزاء والله أعلم
المسألة الرابعة
الإخلال بالمأمور به هل يوجب فعل القضاء أم لا
هذه المسألة لها صورتان
الصورة الأولى
الأمر المقيد كما إذا قال إفعل في هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى
ذلك الوقت فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك
الوقت
الحق لا لوجهين
الأول أن قول القائل لغيره إفعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول
ما عدا يوم الجمعة وما لا يتناوله عنه الأمر وجب أن لا يدل عليه بإثبات ولا
بنفي بل لو كان قوله إفعل هذا الفعل يوم الجمعة موضوعا في اللغة
249

لطلب الفعل في يوم الجمعة وإلا ففيما بعدها فها هنا إذا تركه
يوم الجمعة لزمه الفعل فيما بعده ولكن على هذا التقدير يكون الدال
على لزوم الفعل فيما بعد يوم الجمعة ليس مجرد طلب الفعل يوم
الجمعة بل كون الصيغة موضوعة لطلب يوم الجمعة وسائر الأيام
ولا نزاع في هذه الصورة وإنما النزاع في أن مجرد طلب الفعل
يوم الجمعة لا يقتضي إيقاعه بعد ذلك
الثاني أن أوامر الشرع تارة لم تستعقب وجوب القضاء كما في صلاة
الجمعة وتارة استعقبته إن ووجود الدليل مع عدم المدلول خلاف
الأصل فوجب أن يقال إن إيجاب الشئ لا إشعار له بوجوب القضاء
وعدم وجوبه
فإن قلت إنك لما جعلته غير موجب للقضاء فحيث وجب
القضاء لزمك خلاف الظاهر
قلت عدم إيجاب القضاء غير وإيجاب عدم القضاء غير
ومخالفة الظاهر إنما تلزم من الثاني وأنا لا أقول به
أما على التقدير الأول فغايته أنه دل دليل منفصل على أمر لم يتعرض
له الظاهر بنفي ولا إثبات وذلك لا يقتضي خلاف الظاهر
250

الصورة الثانية
الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده بزمان معين فإذا لم
يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعده أو
يحتاج إلى دليل
أما نفاة الفور فإنهم يقولون الأمر يقتضي الفعل مطلقا فلا يخرج عن
العهدة إلا بفعله
وأما مثبتوه فمنهم من قال إنه يقتضي الفعل بعد ذلك وهو قول
أبي بكر الرازي
ومنهم من قال لا يقتضيه بل لا بد في ذلك من دليل زائد
ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره افعل كذا هل معناه إفعل
في الزمان الثاني فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت ففي الرابع على
هذا أبدا أو معناه افعل في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث
والرابع
251

فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الفعل في سائر الأزمان
وإن قلنا بالثاني لم يقتضه فصارت هذه المسألة لغوية
واحتج من قال إنه لا بد من دليل منفصل بأن قوله إفعل
قائم مقام قوله إفعل في الزمان الثاني
وقد بينا أنه إذا قيل له ذلك وترك الفعل في الزمان الثاني لم يكن ذلك
القول سببا لوجوب الفعل في الزمان الثالث فكذا ها هنا ضرورة أنه لا
تفاوت بين اللفظتين
واحتج أبو بكر الرازي على قوله بأن لفظ إفعل يقتضي كون المأمور
فاعلا على الإطلاق وهذا يوجب بقاء الأمر إلا ما لم يصر المأمور فاعلا
وأيضا الأمر اقتضى وجوب المأمور به ووجوبه يقتضي كونه على
الفور وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما لم يكن لنا إبطال أحدهما وقد
أمكن الجمع بينهما بأن نوجب فعل المأمور به في أول أوقات الإمكان لئلا
ينتقض وجوبه فإن لم يفعله أوجبناه في الثاني لأن مقتضى الأمر وهو كون
المأمور فاعلا لم يحصل بعد والله أعلم
252

المسألة الخامسة
في أن الأمر بالأمر بالشئ لا فيه يكون أمرا به
الحق أن الله تعالى إذا قال لزيد أوجب على عمرو كذا فلو
قال لعمرو وكل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك كان الأمر
بالأمر بالشئ أمرا بالشئ في صلى هذه الصورة ولكنه بالحقيقة إنما
جاء من قوله كل ما أوجب فلان عليك فهو واجب عليك
أما لو لم يقل ذلك لم يجب كما في قوله عليه الصلاة والسلام
مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي
والله أعلم
253

المسألة السادسة
الأمر بالماهية لا يقتضي الأمر بشئ من جزئياتها
كقوله بع هذا الثوب لا يكون هذا أمرا ببيعه بالغبن الفاحش ولا
بالثمن المساوي لأن هذين النوعين يشتركان في مسمى البيع ويتمير كل
واحد منهما عن صاحبه بخصوص كونه واقعا بثمن المثل وبالغبن
الفاحش وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له
فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمرا بما به يمتاز كل واحد
من النوعين عن الآخر لا بالذات ولا بالاستلزام
وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون البتة أمرا بشئ من
أنواعه
بل إذا دلت القرينة على الرضا ببعض الأنواع حمل اللفظ
عليه
ولذلك قلنا الوكيل بالبيع المطلق لا يملك البيع بغبن فاحش
وإن كان يملك البيع بثمن المثل لقيام القرينة الدالة على الرضا به بسبب
العرف
وهذه قاعدة شرعية برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية
إن شاء الله والله أعلم
254

النظر الرابع
في المأمور
وفيه مسائل
المسألة الأولى
قال أصحابنا المعدوم يجوز أن يكون مأمورا لا بمعنى أنه حال
عدمه يكون مأمورا فإنه معلوم الفساد بالضرورة بل بمعنى أنه يجوز أن يكون
الأمر موجودا في الحال ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك
يصير مأمورا بذلك الأمر
وأما سائر الفرق فقد أنكروه
لنا أن الواحد منا حال وجوده يصير مأمورا بأمر الرسول
ص مع أن ذلك الأمر ما كان موجودا إلا حال عدمنا
وكذلك لا يبعد أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي
سيوجد وأنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا
255

بذلك الطلب فكذا المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء
الطاعة من العباد معنى قديم وأن العباد إذا وجدوا يصيرون مطالبين
بذلك الطلب
فإن قيل أمر النبي ص غير لازم على أحد بل
هو عليه الصلاة والسلام أخبر أن الله تعالى يأمر كل واحد من
المكلفين عند وجوده فيصير ذلك إخبارا عن أن الله تعالى سيأمرهم
عند وجودهم لا أن الأمر حصل عند عدم المأمور
سلمنا أن قول الرسول ص واجب الطاعة ولكن وجد هناك في
الحال من سمع ذلك الأمر وبلغه إلينا
أما في الأزل فلم يوجد أحد يسمع ذلك الأمر وينقله إلينا فكان
ذلك الأمر عبثا
ثم ما ذكرتموه معارض بدليل آخر وهو أن الأمر عبارة عن إلزام الفعل
وفي إلزام الفعل من غير وجود المأمور عبث فإن من جلس في
الدار يأمر وينهي من غير حضور مأمور ومنهي عد سفيها مجنونا وذلك على
الله محال
256

والجواب قوله أمر النبي ص عبارة عن
الإخبار قلنا من أصحابنا من قال ذلك وكذلك أمر الله تعالى عبارة
عن أخباره بنزول العقاب على من يترك الفعل الفلاني
إلا أن هذا مشكل من وجهين
أحدهما أنا بينا فيما تقدم أنه لو كان الأمر عبارة عن هذا
الإخبار لتطرق التصديق والتكذيب إلى الأمر ولامتنع العفو عن العقاب على
ترك الواجبات لأن الخلف في خبر الله تعالى محال
الثاني أنه لو أخبر في الأزل لكان إما أن يخبر نفسه وهو
سفه أو غيره وهو محال لأنه ليس هناك غيره
ولصعوبة هذا المأخذ ذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب التميمي من
أصحابنا إلى أن كلام الله تعالى في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا ثم
صار فيما لا يزال كذلك
257

ولقائل أن يقول إنا لا نعقل من الكلام إلا الأمر والنهي والخبر
فإذا سلمت حدوثها فقد قلت بحدوث الكلام
فإن ادعيت قدم شئ آخر فعليك البيان بإفادة تصوره ثم إقامة
الدلالة على أن الله تعالى موصوف به ثم إقامة الدلالة على قدمه
وله أن يقول أعني بالكلام القدر المشترك بين هذه الأقسام
ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن قاعدة والحكمة
مبنية على قاعدة الحسن والقبح وقد تقدم إفسادها
258

المسألة الثانية
تكليف الغافل غير جائز للنص والمعقول
أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رفع القلم عن ثلاث
260

وأما المعقول فهو أن فعل الشئ مشروط بالعلم به إذ لو لم يكن
كذلك لما أمكننا الاستدلال بالأحكام على كون الله تعالى عالما
وإذا ثبت هذا فلو حصل الأمر بالفعل حال عدم العلم به لكان
ذلك تكليف مالا يطاق
واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتفرع على نفي تكليف ما لا
يطاق
فإن قيل لا نسلم أن فعل الشئ مشروط بالعلم به فإن الجاهل
قد يفعله على سبيل الاتفاق
فإن قلت الاتفاقي لا يكون دائما ولا أكثريا
قلت لا نسلم فإن حكم الشئ حكم مثله فلما جاز وجود الفعل
مع عدم العلم به مرة واحدة جاز أيضا ثانية وثالثة فيلزم إمكان
ذلك في الأكثر ودائما
وإذا جاز ذلك فلا استحالة في أن يعلم الله تعالى وقوع هذا الجائز
في بعض الأشخاص
261

وإذا علم الله تعالى ذلك منه لم يكن تكليفه بالفعل حال مالا يكون
المكلف عالما به تكليف أنه ما لا يطاق
سلمنا ذلك لكنه معارض بأمور
أحدها أن الأمر بمعرفة الله تعالى وارد
فإما أن يكون ذلك الأمر واردا بعد حصول المعرفة وذلك محال لأنه
يلزم الأمر إما بتحصيل الحاصل أو بالجمع بين المثلين وهو محال
أو قبل حصول المعرفة لكن المأمور قبل أن يعرف الأمر استحال منه أن
يعرف الأمر فإذن قد توجه التكليف عليه حالة مالا يمكنه العلم بذلك
وهو المطلوب
الثاني أن العلم بوجوب تحصيل معرفة الله تعالى ليس علما ضروريا
لازما لعقول العقلاء وطباعهم بل ما لم يتأمل الإنسان ضربا من التأمل
لا يحصل له العلم بالوجوب فنقول
علمه بوجوب الطلب إما أن يحصل قبل إتيانه بالنظر أو بعد إتيانه
به
فإن حصل قبل إتيانه بالنظر وهو قبل إتيانه بالنظر لا يمكنه
262

أن يعلم ذلك الوجوب لأن العلم بالوجوب مشروط بالإتيان بذلك النظر
وقبل الإتيان بذلك النظر لو وجب عليه ذلك لوجب عليه في وقت لا
يمكنه أن يعلم كونه واجبا عليه وذلك هو تكليف الغافل
وإن حصل بعد إتيانه النظر فبعد الإتيان بالنظر حصل العلم
بالوجوب فلو وجب عليه في هذا الوقت تحصيل العلم بالوجوب لزم إما
تحصيل الحاصل أو الجمع بين المثلين
الثالث أن الصبي والمجنون والنائم غافلون عن الفعل ثم إن أفعالهم
توجب الغرامات والأروش
الرابع قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
حتى تعلموا ما تقولون خاطب السكران والسكران غافل
فثبت أنه يجوز خطاب الغافل
والجواب نحن لا ندعي أن وقوع الفعل من العبد مشروط بعلمه به
بل ندعي أن اختيار المكلف فعلا معينا لغرض الخروج عن عهدة
التكليف مشروط بالعلم به وهذا معلوم بالضرورة ولا يقدح فيه ما
ذكرتموه
263

وأما المعارضة الأولى فقد تقدم ذكرها في مسألة تكليف مالا
يطاق
وأما الثانية فمن الناس من زعم أن العلم بوجوب النظر ضروري
وهذا ضعيف لأن العلم بكون النظر في الإلهيات مفيدا للعلم
وبكونه معينا في ذلك من أغمض المسائل وأدقها لأن جمهور
العقلاء وإن ساعدوا على كون النظر مفيدا للعلم في الجملة كما في
الحسابيات والهندسيات لكنهم نازعوا في كون النظر مفيدا للعلم في
الإلهيات وزعموا أن النظر فيها لا يفيد إلا الظن
ومن سلم ذلك فقد قالوا كما أن النظر يفيد العلم فغيره أيضا قد
يفيده وهو تصفية الباطن
264

وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على هذين المقامين النظريين
والموقوف على النظري أولى أن يكون نظريا
فثبت أنه لا يمكن ادعاء الضرورة في ذلك
واعلم أن هذه الحجة تؤيد القول بتكليف مالا يطاق
وأما وجوب الغرامات فمعناه إما خطاب الولي بأدائها في الحال أو
خطاب الصبي بعد صيرورته بالغا بأدائها
وأما الآية فلها تأويلان
أحدهما أنها خطاب مع من ظهرت منه مبادئ النشاط والطرب وما
زال عقله
وقوله حتى تعلموا ما تقولون معناه حتى يتكامل فيكم الفهم
كما يقال للغضبان إصبر حتى تعلم ما تقول أي حتى يسكن غضبك
وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة إلا مثل هذا السكران وقد يعسر عليه
إتمام الخشوع
265

الثاني أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر وليس
المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب وقت الصلاة كما
يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان أي لا تشبع فيثقل عليك
التهجد والله أعلم
المسألة الثالثة
في أن المأمور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به على سبيل الطاعة
المعتمد فيه قوله ص إنما الأعمال بالنيات قالوا ويستثنى
منه سيئان
أحدهما الواجب الأول وهو النظر المعرف للوجوب فإنه لا يمكن
قصد إيقاعه طاعة مع أن فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلا بعد إتيانه به
الثاني إرادة الطاعة فإنها لو افتقرت إلى إرادة أخرى لزم
التسلسل
266

المسألة الرابعة
في أن المكره على الفعل هل يجوز أن يؤمر به ويتركه
المشهور أن الإكراه إما أن ينتهي إلى حد الإلجاء أو لا ينتهي إليه
فإن انتهى إلى حد الإلجاء امتنع التكليف لأن المكره عليه يعتبر
واجب الوقوع وضده يصير ممتنع الوقوع والتكليف بالواجب
والممتنع غير جائز
267

وإن لم ينته إلى حد الإلجاء صح التكليف به
ولقائل أن يقول الإكراه لا ينافي التكليف لأن الفعل إما أن يتوقف غلى
الداعي أو لا يتوقف
فإن توقف فقد بينا فيما تقدم أنه لا بد من انتهاء الدواعي إلى داعية
تحصل فيه من قبل غيره وان حصول الفعل عند حصول تلك الداعية
واجب
فحينئذ يكون التكليف تكليفا بما وجب وقوعه أو بما امتنع وقوعه
وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز مثله في الإكراه
وأما إن لم يتوقف على الداعي كان رجحان الفعل على الترك أو
بالعكس اتفاقيا والاتفاقي لا يكون باختيار المكلف وإذا جاز التكليف
هناك مع أنه ليس باختيار المكلف فلم لا يجوز مثله في الإكراه
فإن قلت ما الذي أردت بكون الفعل اتفاقيا
إن عنيت به أنه حصل لا بقدرة القادر فهو ممنوع
وذلك لأن المؤثر فيه عندنا هو القادر لكن القادر عندنا يمكنه أن
يرجح أحد مقدوريه به على الآخر من غير مرجح
وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه
قلت الرجل كان موصوفا بكونه قادرا على هذا الفعل مع أن هذا الفعل
ما كان موجودا فلما وجد هذا الفعل فإما أن يكون لأنه حدث أمر آخر وراء
كونه قادرا الذي كان حاصلا قبل ذلك أوليس كذلك
268

فإن حدث كان حدوث الفعل عن القادر متوقفا على أمر آخر سوى
كونه قادرا وقد فرضناه ليس متوقفا عليه هذا خلف
وإن لم يحدث البتة أمر كان حدوث هذا الفعل في بعض أزمنة
كونه قادرا دون ما قبله وما بعده ليس لأمر حصل في جانب القادر حتى يؤمر
به أو ينهى عنه بل كان ذلك محض الاتفاق فيكون في هذه الحالة
تكليفا له بما ليس في وسعه
وإذا ثبت ذلك بطل قولهم المكره غير مكلف
واعلم أن هذه القاعدة قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وسنذكرها
بعد ذلك وما ذاك إلا لأن أكثر القواعد مبني عليها ولا جواب عنها إلا
بتسليم أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد
269

المسألة الخامسة
ذهب أصحابنا إلى أن المأمور إنما يصير مأمورا حال زمان الفعل
وقبل ذلك فلا أمر بل هو إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير
مأمورا به
وقالت المعتزلة إنه إنما يكون مأمورا بالفعل قبل وقوع الفعل
لنا أنه لو امتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل لامتنع كونه مأمورا
271

مطلقا لأن في الزمان الأول لو أمر بالفعل لكان الفعل إما أن يكون
ممكنا في ذلك الزمان أو لا يكون
فإن كان ممكنا فقد صار مأمورا بالفعل حال إمكان وقوعه
وإن لم يكن ممكنا كان مأمورا بما لا قدرة له عليه وذلك عند
الخصم محال
فإن قلت إنه في الزمان الأول مأمور لا بأن يوقع الفعل في عين ذلك
الزمان بل بأن يوقعه في الزمان الثاني منه
قلت قولك إنه في الزمان الأول مأمور بأن يوقع الفعل في الزمان
الثاني إن عنيت به أن كونه موقعا للفعل لا يحصل إلا في الزمان
الثاني ففي الزمان الأول لم يكن موقعا البتة لشئ وليس هناك
إلا نفس القدرة فيمتنع أن يكون في ذلك الزمان مأمورا بشئ
وإن عنيت به أن كونه موقعا يحصل في والزمان الأول والفعل
يوجد في الزمان الثاني فنقول
كونه موقعا إما أن يكون نفس القدرة أو أمرا زائدا عليها فإن كان
272

نفس القدرة لم يكن لكونه موقعا للفعل معنى إلا محض
كونه قادرا فيعود القسم الأول
وإن كان أمرا زائدا عليها فحينئذ تكون القدرة مؤثرة في وقوع
ذلك الزائد في الزمان الأول والأمر إنما توجه عليه في الزمان الأول
بإيقاع ذلك الزائد وذلك الزائد واقع في الزمان الأول فالآمر لا يكون آمرا
بالشئ إلا حال وقوعه لا قبله
احتج الخصم بأن المأمور بالشئ يجب أن يكون قادرا عليه ولا
قدرة على الفعل حال وجود الفعل وإلا لكان ذلك تحصيلا للحاصل
وهو محال
فعلمنا أن القدرة على الفعل متقدمة على الفعل والأمر لا يتناول
إلا القادر والرجل لا يصير مأمورا بالفعل إلا قبل وقوعه
والجواب القدرة مع الداعي مؤثرة في وجود الفعل ومستلزمة
273

له ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر كما في سائر المؤثرات الموجبة
والله أعلم
274

المسألة السادسة
المأمور به إذا كان مشروطا بشرط فالآمر إما أن يكون غير عالم
بعدم الشرط أو لا يكون
275

أما الأول فكما إذا قال السيد لعبده صم غدا فإن هذا مشروط ببقاء
العبد غدا وهو مجهول للآمر فها هنا الأمر تحقق في الحال يشرط بقاء
المأمور قادرا على الفعل
وأما الثاني فكما إذا علم الله تعالى أن زيدا سيموت غدا فهل
يصح أن يقال إن الله تعالى أمره بالصوم غدا يشرط أن يعيش غدا
مع أنه يعلم أنه لا يعيش غدا
قطع القاضي أبو بكر والغزالي رحمهما الله تعالى به وأباه جمهور
المعتزلة
حجة المنكرين أن شرط الأمر بقاء المأمور فالعالم بأن المأمور لا يبقى
عالم بفوات شرط الأمر فاستحال مع ذلك حصول الأمر
قال المجوزون لا نزاع في أنه لا يجوز أن يقول للميت حال كونه
ميتا إفعل لكن لم لا يجوز أن يقال في الحال لمن يعلم أن
سيموت غدا إفعل غدا إن عشت بل هو جائز لما فيه من المصالح
الكثيرة فإن المكلف قد يوطن النفس على الامتثال ويكون ذلك
التوطين نافعا له يوم المعاد ونافعا له في الدنيا لأنه ينحرف به في
الحال عن الفساد
276

وهذا كما أن السيد قد يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع
عزمه على نسخ الأمر امتحانا للعبد وقد يقول الرجل لغيره وكلتك بيع
العبد غدا مع علمه بأنه سيعزله وهو عن ذلك غدا لما أن غرضه منه
استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر ذلك العبد
ومأخذ النزاع في هذه المسألة أن المجوزين قالوا الأمر تارة يحسن
لمصالح تنشأ من نفس الأمر لا من المأمور به وتارة لمصالح تنشأ من المأمور
به
وأما المانعون فقد اعتقدوا أن الأمر لا يحسن إلا لمصلحة تنشأ من
المأمور به
وتمام تقريره سيظهر في مسألة أنه يجوز النسخ قبل مضي مدة الامتثال
والله أعلم
277

القسم الثالث
في النواهي
وفيه مسائل
279

المسألة الأولى
ظاهر النهي التحريم وفيه المذاهب التي ذكرناها في أن
الأمر للوجوب
لنا قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا أمر بالانتهاء عن
المنهي عنه والأمر للوجوب فكان الانتهاء عن المنهي واجبا
وذلك هو المراد من قولنا النهي للتحريم والله أعلم
المسألة الثانية
المشهور أن النهي يفيد التكرار
281

ومنهم من أباه وهو المختار
لنا أن النهي قد يراد منه التكرار وهو متفق عليه
وقد يراد منه المرة الواحدة كما يقول الطبيب للمريض الذي شرب
الدواء لا تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة ويقول
المنجم لا تفصد ولا تخرج إلى الصحراء أي في هذا اليوم ويقول
الوالد لولده لا تلعب صلى الله عليه وسلم أي في هذا اليوم والاشتراك والمجاز خلاف
الأصل فوجب جعل النهي حقيقة في القدر المشترك
الثاني أنه يصح أن يقال لا تأكل السمك أبدا وأن يقال لا تأكل
اللحم في هذه الساعة وأما في الساعة الأخرى فكل والأول ليس
بتكرار والثاني ليس بنقض
فثبت أن النهي لا يفيد التكرار
احتج المخالف بأمور
أحدها أن قوله لا تضرب يقتضي امتناع المكلف من إدخال ماهية
الضرب في الوجود والامتناع من إدخال هذه الماهية في الوجود إنما يتحقق
إذا امتنع من إدخال كل أفرادها في الوجود إذ لو أدخل فردا من أفرادها
282

في الوجود وذلك الفرد مشتمل على الماهية فحينئذ يكون قد أدخل تلك
الماهية في الوجود وذلك ينافي قولنا إنه امتنع من إدخال تلك الماهية في
الوجود
وثانيها أن قوله لا تضرب يعد في عرف اللغة مناقضا لقوله
إضرب لأن تمام قولنا إضرب حاصل في قولنا لا تضرب مع زيادة
حرف النهي لكن قولنا إضرب يفيد طلب الضرب مرة واحدة فلو كان
قولنا لا تضرب يفيد الانتهاء أيضا مرة واحدة لما تناقضا لأن النفي
والإثبات في وقتين لا يتناقضان فلما كان مفهوم النهي مناقضا لمفهوم
الأمر وجب أن يتناول النهي كل الأوقات حتى تتحقق المنافاة
وثالثها أن قوله لا تضرب لا يمتنع حمله على التكرار وقد دل
الدليل على حمله على التكرار فوجب المصير إليه
إنما قلنا إنه لا يمتنع حمله على التكرار لأن كون الإنسان ممتنعا
عن فعل المنهي عنه أبدا ممكن ولا عسر فيه
283

وأما أن الدليل دل عليه فلأنه ليس في الصيغة دلالة على وقت دون
وقت فوجب الحمل على الكل دفعا للإجمال
بخلاف الأر فإنه يمتنع حمله على التكرار لإفضائه إلى المشقة
والجواب عن الأول إنه لا نزاع في أن النهي يقتضي امتناع
المكلف عن إدخال تلك الماهية في الوجود ولكن الامتناع عن إدخال
تلك الماهية في الوجود قدر مشترك بين الامتناع عنه دائما وبين الامتناع
عنه لا دائما كما تقدم بيانه
واللفظ الدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به يمتاز كل واحد
من القسمين عن الثاني
فإذن لا دلالة في هذا اللفظ على الدوام البتة
وعن الثاني إنك إن أردت بقولك إن الأمر والنهي دلا على مفهومين
متناقضين أن هذا يدل على الإثبات وذلك يدل على النفي فهذا
مسلم ولكن مجرد النفي والإثبات لا يتنافيان إلا بشرط اتحاد الوقت فإن
قولك زيد قائم زيد ليس بقائم لا يتناقضان لأنه متى صدق
الإثبات في وقت واحد فقد صدق الإثبات ومتى صدق النفي في وقت
آخر فقد صدق النفي
284

ومعلوم أن الإثبات في وقت لا ينافي النفي في وقت آخر فمطلق
الإثبات والنفي وجب أن لا يتناقضا البتة
وعن الثالث أن النهي لا دلالة فيه إلا على مسمى الامتناع فحيث تحقق
هذا المسمى فقد وقع الخروج عن عهدة التكليف
تنبيه
إن قلنا إن النهي يفيد التكرار فهو يفيد الفور لا محالة وإلا
فلا
المسألة الثالثة
الشئ الواحد لا يجوز أن يكون مأمورا به منهيا عنه معا والفقهاء
قالوا يجوز ذلك إذا كان للشئ وجهان
لنا أن المأمور به هو الذي طلب تحصيله من المكلف
وأقل مراتبه رفع الحرج عن الفعل
والمنهي عنه هو الذي لم يرفع الحرج عن فعله فالجمع
بينهما ممتنع إلا على القول بتكليف ما لا يطاق
فإن قيل هذا الامتناع إنما يتحقق في الشئ الواحد من الوجه الواحد
285

إما الشئ ذو الوجهين فلم لا يجوز أن يكون مأمورا به نظرا إلى أحد
وجهيه منهيا عنه نظرا إلى الوجه الآخر وهذا كالصلاة في الدار
المغصوبة فإن لها جهتين كونها صلاة وكونها غصبا والغصب معقول
دون الصلاة وبالعكس فلا جرم صح تعلق الأمر بها من حيث إنها
صلاة وتعلق النهي بها من حيث إنها غصب لأن السيد لو قال لعبده
خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإذا خاط الثوب ودخل الدار
حسن من السيد أن يضربه ويكرمه ويقول أطاع في أحدهما وعصى في
الآخر فكذا ما نحن فيه فإن هذه الصلاة وإن كانت فعلا واحدا
ولكنها تضمنت تحصيل أمرين أحدهما مطلوب والآخر منهي عنه
سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بوجه آخر وهو
أن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة والصلاة مأمور بها فالصلاة في الدار
المغصوبة مأمور بها
وإنما قلنا إن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة لأن الصلاة
286

في الدار المغصوبة صلاة مكفئة إذا والصلاة المكفئة فقال صلاة مع كيفية
فيكون مسمى الصلاة حاصلا
وإنما قلنا إن الصلاة مأمور بها لقوله تعالى وأقيموا الصلاة
والجواب أن الذي ندعيه في هذا المقام أن الأمر بالشئ
الواحد والنهي عنه من جهة واحدة يوجب التكليف بالمحال
ثم إن جوزنا التكليف بالمحال جوزنا الأمر بالشئ الواحد
والنهي عنه من جهة واحدة
وإن لم نجوز ذلك لم نجوز هذا أيضا
فلنبين ما ادعيناه فنقول
متعلق الأمر إما أن يكون عين متعلق النهي أو غيره
فإن كان الأول كان الشئ الواحد مأمورا به منهيا عنه معا
وذلك عين التكليف بما لا يطاق والخصم لا يجعل هذا النوع من
التكليف من باب تكليف مالا يطاق
287

وإن كان الثاني فالوجهان إما أن يتلازما وإما أن لا يتلازما
فإن تلازما كان كل واحد منهما من ضرورات الآخر والأمر بالشئ
أمر بما هو من ضروراته وإلا وقع التكليف بما لا يطاق
وإذا كان المنهي من ضرورات المأمور كان مأمورا فيعود
إلى ما ذكرنا من أنه يلزم كون الشئ الواحد مأمورا ومنهيا معا
وإن لم يتلازما كان الأمر والنهي متعلقين بشيئين لا يلازم أحدهما
صاحبه وذلك جائز إلا أنه يكون غير هذه المسألة التي نحن فيها
فإن قلت هما شيئان يجوز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر في
الجملة إلا أنهما في هذه الصورة الخاصة صارا متلازمين
قلت ففي هذه الصورة الخاصة المنهي عنه يكون من
لوازم المأمور به وما يكون من لوازم المأمور به يكون مأمورا به فيلزم أن
يصير المنهي عنه في هذه الصورة مأمورا به وذلك محال
فهذا برهان قاطع على فساد قولهم على سبيل الإجمال
أما على سبيل التفصيل فهو أن الصلاة ماهية مركبة من أمور أحد
288

تلك الأمور الحركات والسكنات وهما ماهيتان مشتركتان في قدر
واحد من المفهوم وهو شغل الحيز لأن الحركة عبارة عن شغل الحيز
بعد أن كان شاغلا لحيز آخر والسكون عبارة عن شغل حيز واحد
أزمنة كثيرة وهذان المفهومان يشتركان في كون كل واحد منهما شغلا
للحيز فإذن شغل الحيز جزء جزء ماهية الصلاة فيكون جزءا لها لا
محالة
وشغل الحيز في هذه الصلاة منهي عنه فإذن أحد أجزاء ماهية
هذه الصلاة منهي عنه فيستحيل أن تكون هذه الصلاة مأمورا بها لأن الأمر
بالمركب أمر بجميع أجزائه فيكون ذلك الجزء مأمورا به مع أنه كان منهيا
عنه فيلزم في الشئ الواحد أن يكون مأمورا به منهيا عنه وهو محال
أما قوله كونه صلاة وغصبا جهتان متباينتان يوجد كل واحد
منهما عند عدم الآخر
قلنا نعم ولكنا بينا أن شغل الحيز جزء ماهية الصلاة فكما أن
مطلق الشغل جزء ماهية مطلق الصلاة فكذلك الشغل المعين يكون
جزءا من ماهية الصلاة المعينة فإذا كان هذا الشغل منهيا عنه وهذا الشغل
جزء ماهية هذه الصلاة كان جزء هذه الصلاة منهيا عنه وإذا كان
289

جزؤها منهيا عنه استحال كون هذه الصلاة مأمورا بها بل الصلاة مأمور
بها لكن النزاع ليس في الصلاة من حيث إنها صلاة بل في هذه
الصلاة وأما المثال الذي ذكروه وهو أن يقول السيد لعبده خط هذا
الثوب ولا تدخل هذه الدار فهو بعيد لأن ها هنا الفعل الذي هو
متعلق الأمر غير الفعل الذي هو متعلق النهي وليس بينهما ملازمة فلا
جرم صح الأمر بأحدهما والنهي عن الآخر
إنما النزاع في صحة تعلق الأمر والنهي بالشئ الواحد فأين أحدهما من
الآخر
وأما المعارضة التي ذكروها فمدار أمرها على أن قوله تعالى
أقيموا الصلاة يفيد الأمر بكل صلاة فهذا مع ما فيه من المقدمات
الكثيرة لو سلمناه لكن تخصيص العموم بدليل العقل غير مستبعد
وما ذكرناه من الدليل عقلي قاطع فوجب تخصيصه به والله أعلم
تنبيه
الصلاة في الدار المغصوبة وإن لم تكن مأمورا بها إلا أن الفرض يسقط
عندها لا بها لأنا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها
290

والسلف أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلوات المؤداة في
الدور المغصوبة ولا طريق إلى التوفيق بينهما إلا ما ذكرناه وهو مذهب
القاضي أبي بكر رحمه الله والله أعلم
المسألة الرابعة
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النهي لا يفيد الفساد
وقال بعض أصحابنا أنه يفيده
وقال أبو الحسين البصري إنه يفيد الفساد في العبادات لا في
المعاملات وهو المختار
والمراد من كون العبادة فاسدة أنه لا يحصل الإجزاء بها
أما العبادات فالدليل على أن النهي فيها يدل على الفساد أن نقول
إنه بعد الإتيان بالفعل المنهي عنه لم يأت بما أمر به فبقي في العهدة
291

إنما قلنا إنه لم يأت بما أمر به لأن المأمور به غير المنهي عنه كما تقدم
بيانه فلم يكن الإتيان بالمنهي عنه إتيانا بالمأمور به
وإنما قلنا إنه وجب أن يبقى في العهدة لأنه تارك للمأمور به وتارك
المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب على ما مر تقريره في مسألة
أن الأمر للوجوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالفعل المنهي عنه سببا
للخروج عن عهدة الأمر فإنه لا تناقض في أن يقول الشارع نهيتك عن
الصلاة في الثوب المغصوب ولكن إن فعلته أسقطت عنك الفرض
بسببه
سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن النهي يقتضي الفساد لكنه
معارض بدليلين
الأول أن النهي لو دل على الفساد لدل عليه إما بلفظه أو
بمعناه ولم يدل عليه في الوجهين فوجب أن لا يدل على الفساد أصلا
أما أنه لا يدل عليه بلفظه فلأن اللفظ لا يفيد إلا الزجر عن الفعل
والفساد معناه عدم الإجزاء وأحدهما مغاير للآخر
وأما أنه لا يدل عليه بمعناه فلأن الدلالة المعنوية إنما تتحقق إذا
292

كان لمسمى الشئ لازم فاللفظ الدال على الشئ دال على لازم المسمى
بواسطة دلالته على المسمى
وها هنا الفساد غير لازم للمنع لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع
لا تصل في الثوب المغصوب ولو صليت صحت صلاتك ولا تذبح الشاة
بالسكين المغصوب ولو ذبحتها بها حلت ذبيحتك وإذا لم تحصل
الملازمة انتفت الدلالة المعنوية
الثاني لو اقتضى النهي الفساد لكان أينما تحقق النهي تحقق
الفساد لكن الأمر ليس كذلك بدليل النهي عن الصلاة في الأوقات
المكروهة والوضوء بالماء المغصوب مع صحتهما
والجواب قوله لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالمنهي عنه سببا للخروج
عن العهدة
قلنا لأنه إذا لم يأت بالمأمور به بقي الطلب كما كان فوجب الإتيان
به وإلا لزم العقاب بالدليل المذكور
قوله الصلاة في الثوب المغصوب منهي عنها ثم إن الإتيان بها
يقتضي الخروج عن العهدة
293

قلنا الدليل الذي ذكرناه يقتضي أن لا يخرج الإنسان عن عهدة
الأمر إلا بفعل المأمور به إلا أنه قد يترك العمل بهذا الدليل في بعض
الصور لمعارض
والفرق أن مماسة بدن الإنسان للثوب ليست جزءا من ماهية
الصلاة ولا مقدمة لشئ من أجزائها وإذا كان كذلك كان آتيا بعين الصلاة
المأمور بها من غير خلل في ماهيتها أصلا
أقصى ما في الباب أنه أتى مع ذلك بفعل آخر محرم
ولكن لا يقدح في الخروج عن العهدة
أما المعارضة الأولى فجوابها
أن النهي دل على أن المنهي عنه مغاير للمأمور به والنص دل على أن
الخروج عن عهدة الأمر لا يحصل إلا بالإتيان بالمأمور به فيحصل من مجموع
هاتين المقدمتين أن الإتيان بالمنهي عنه لا يقتضي الخروج عن العهدة
وأما المعارضة الثانية فنقول
لا نسلم أن النهي في الصور التي ذكرتموها تعلق بنفس ما تعلق به
294

الأمر بل بالمجاور وحيث صح الدليل أن الفعل المأتي به غير
الفعل المنهي عنه فلا نسلم أنه لا يفيد الفساد والله أعلم
وأما المعاملات فالمراد من قولنا هذا البيع فاسد أنه لا يفيد
الملك فنقول لو دل النهي على عدم الملك لدل عليه إما بلفظه أو
بمعناه
ولا يدل عليه بلفظه لأن لفظ النهي لا يدل إلا على الزجر
ولا يدل عليه بمعناه أيضا لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع
نهيتك عن هذا البيع ولكن إن أتيت به حصل الملك كالطلاق في
زمان الحيض والبيع وقت النداء
وإذا ثبت أن النهي لا يدل على الفساد لا بلفظه ولا بمعناه وجب أن
لا يدل عليه أصلا
فإن قيل هذا يشكل بالنهي في باب العبادات فإنه يدل على
الفساد
ثم نقول لا نسلم أنه يدل عليه بمعناه وبيانه من وجهين
الأول أن فعل المنهي عنه معصية والملك نعمة والمعصية
تناسب المنع من النعمة وإلا لاحت المناسبة فمحل الاعتبار جميع
المناهي الفاسدة
295

الثاني أن المنهي عنه لا يجوز أن يكون منشأ المصلحة الخالصة أو
الراجحة وإلا لكان النهي منعا عن المصلحة الخالصة أو الراجحة وإنه
لا يجوز
بقي أحد أمور ثلاثة
وهو أن يكون منشأ المفسدة الخالصة أو الراجحة أو
المساوية
وعلى التقديرين الأولين وجب الحكم بالفساد لأنه إذا لم يفد الحكم
أصلا كان عبثا والعاقل لا يرغب في العبث ظاهرا فلا يقدم عليه
فكان القول بالفساد سعيا في إعدام تلك المفسدة
وعلى التقدير الثالث وهو التساوي كان الفعل عبثا والاشتغال بالعبث
محذور عند العقلاء والقول بالفساد يفضي إلى دفع هذا المحذور
فوجب القول به
سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بالنص والإجماع
والمعقول
أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام
296

من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد
والمنهي عنه ليس من الدين فيكون مردودا ولو كان سببا للحكم لما
كان مردودا
وأما الإجماع فهو أنهم رجعوا في القول بفساد الربا وفساد
نكاح المتعة إلى النهي
وأما المعقول فمن وجهين
الأول أن النهي نقيض الأمر لكن الأمر يدل على الإجزاء فالنهي
يدل على الفساد
الثاني أن النهي يدل على مفسدة خالصة أو راجحة والقول
297

بالفساد سعي في إعدام تلك المفسدة فوجب أن يكون مشروعا قياسا على
جميع المناهي الفاسدة
والجواب قوله يشكل بالنهي في العبادات
قلنا المراد من الفساد في باب العبادات أنها غير مجزئة والمراد
منه في باب المعاملات أنه لا يفيد سائر الأحكام وإذا اختلف المعنى
لم يتجه أحدهما نقضا على الآخر
قوله الملك نعمة فلا تحصل من المعصية
قلنا الكلام عليه وعلى الوجه الثاني مذكور في الخلافيات
وأما الحديث فنقول الطلاق في زمان الحيض يوصف بأمرين
أحدهما أنه غير مطابق لأمر الله تعالى
والثاني أنه سبب للبينونة
أما الأول فالقول به إدخال في الدين ما ليس منه فلا جرم
كان ردا
وأما الثاني فلم قلت إنه ليس من الدين حتى يلزم منه أن
298

يكون ردا فإن هذا عين المتنازع فيه
وأما الإجماع فلا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم رجعوا في فساد
الربا والمتعة إلى مجرد النهي بدليل أنهم حكموا في كثير من المنهيات
بالصحة وعند ذلك لا بد وأن يكون أحد الحكمين لأجل القرينة وعليكم
الترجيح
ثم هو معنا لأنا لو قلنا إن النهي يدل على الفساد لكان
الحكم بعدم الفساد في بعض الصور تركا للظاهر
أما لو قلنا بأنه لا يقتضي الفساد لم يكن إثبات الفساد في بعض
الصور لدليل منفصل تركا للظاهر فكان ما قلناه أولى
قوله الأمر دل على الإجزاء فوجب أن يدل النهي على الفساد
قلنا هذا غير لازم لإمكان اشتراك المتضادات في بعض الصور
اللوازم ولو سلمنا ذلك لكان الأمر لما دل على الإجزاء وجب أن لا
يدل النهي عليه لا أن يدل على الفساد والله أعلم
299

المسألة الخامسة
في أن النهي عن الشئ هل يدل على صحة المنهي عنه
الذين قالوا إن النهي عن التصرفات لا يدل على الفساد اختلفوا في
أنه هل يدل على الصحة
فنقل عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهما الله أنه يدل
على الصحة ولأجل ذلك احتجوا بالنهي عن الربا على انعقاده فاسدا
وكذا في نذر صوم يوم العيد
وأصحابنا أنكروا ذلك
300

لنا قوله ص دعي الصلاة أيام أقرائك
وروى أنه ص نهى عن بيع الملاقيح
والمضامين فالنهي
301

في هذه الصورة منفك عن الصحة
احتجوا بأن النهي عن غير المقدور عبث والعبث لا يليق بالحكيم فلا
يجوز أن يقال للأعمى لا تبصر ولا أن يقال للزمن لا تطر
والجواب عنه النقض بالمناهي المذكورة
ثم نقول لم لا يجوز حمل النهي على النسخ كما إذا قال للوكيل لا
تبع هذا فإنه وإن كان نهيا في الصيغة لكنه نسخ في الحقيقة
سلمنا أنه نهي لكن متعلقه هو البيع اللغوي وذلك ممكن الوجود فلم
قلت إن المسمى الشرعي ممكن الوجود والله أعلم
المسألة السادسة
المطلوب بالنهي عندنا فعل ضد المنهي عنه
وعند أبي هاشم نفس أن لا يفعل المنهي عنه
302

لنا إن النهي تكليف والتكليف إنما يرد بما يقدر عليه
المكلف والعدم الأصلي يمتنع أن يكون مقدورا للمكلف لأن القدرة لا بد
لها من تأثير والعدم نفي محض فيمتنع إسناده إلى القدرة
وبتقدير أن يكون العدم أثرا يمكن إسناده إلى القدرة لكن العدم
الأصلي لا يمكن إسناده إلى القدرة لأن الحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا
وإذا ثبت أن متعلق التكليف ليس هو العدم ثبت أنه أمر وجودي ينافي
المنهي عنه وهو الضدد
احتج المخالف بأن من دعاه الداعي إلى الزنا فلم يفعله فالعقلاء
يمدحونه على أنه لم يزن من غير أن يخطر ببالهم فعل ضد الزنا فعلمنا أن
هذا العدم يصلح أن يكون متعلق التكليف
والجواب أنهم لا يمدحونه على شئ لا يكون في وسعه
والعدم الأصلي يمتنع أن يكون في وسعه على ما تقدم بل إنما يمدحونه
303

على امتناعه من ذلك الفعل وذلك الامتناع أمر وجودي لا محالة وهو فعل
ضد الزنى
فإن قلت إنه كما يمكنه فعل الزنا فكذلك يمكنه أن يترك ذلك الفعل
على عدمه الأصلي وأن لا يغيره فعدم التغيير أمر مقدور له فيتناوله
التكليف
قلت المفهوم من قولنا تركه على ذلك العدم الأصلي وما غيره
عنه إما أن يكون محض العدم أو لا يكون
فإن كان محض العدم لم يكن متعلق قدرته فاستحال أن يتناوله التكليف
وإن لم يكن محض العدم كان أمرا وجوديا وهو المطلوب
المسألة السابعة
النهي عن الأشياء إما أن يكون نهيا عنها على الجمع أو عن
الجمع أو نهيا عنها على البدل أو عن البدل
أما النهي عنها على الجمع فهو أن يقول الناهي للمخاطب لا تفعل هذا ولا
هذا فيكون ذلك موجبا للخلو عنهما أجمع
304

ثم تلك الأشياء التي أوجب الخلو عنها إن كان الخلو عنها ممكنا فلا
شك في جواز النهي
وإن لم يكن كان ذلك النهي جائزا عند من يجوز التكليف بمالا
يطاق
وأما النهي عن الجمع بين أشياء فهو مثل أن تقول لا تجمع
بين كذا وكذا
ثم تلك الأشياء إن أمكن الجمع بينها فلا كلام في جواز ذلك
النهي وإلا لم يجز عند من لا يجوز تكليف مالا يطاق لأنه عبث
يجري مجرى نهي الهاوي من شاهق جبل عن الصعود
وأما النهي عن الأشياء على البدل فهو أن يقال للإنسان لا
تفعل هذا إن فعلت ذلك ولا تفعل ذلك إن فعلت هذا وذلك ب‍
أن يكون كل واحد منهما مفسده عند وجود الآخر
وهذا يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما
وأما النهي عن البدل فيفهم منه شيئان
305

أحدهما أن ينهى الإنسان عن أن يفعل شيئا ويجعله بدلا عن غيره
وذلك يرجع إلى النهي عن أن يقصد به البدل وذلك غير ممتنع
والآخر أن ينهى عن أن يفعل أحدهما دون الآخر لكن يجمع بينهما
وهذا النهي جائز إن أمكن الجمع وغير جائز إن تعذر على قول
من لا يجوز تكليف مالا يطاق والله أعلم
306

الكلام في العموم والخصوص
وهو مرتب على أقسام
القسم الأول في العموم
وهو مرتب على شطرين
307

الشطر الأول
في
ألفاظ العموم
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في العام
هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد
كقولنا الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له
ولا يدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من
رجال الدنيا ولا يستغرقهم
309

ولا التثنية و (لا) الجمع لأن لفظ رجلان ورجال يصلحان
لكل اثنين وثلاثة ولا يفيدان الاستغراق
ولا ألفاظ العدد كقولنا خمسة لأنه صالح لكل خمسة ولا
يستغرقه
وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك أو الذي
له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا
وقيل في حده أيضا إنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدا من
غير حصر
واحترزنا باللفظة عن المعاني العامة وعن الألفاظ المركبة
وبقولنا الدالة عن الجمع المنكر فإنه يتناول جميع الأعداد لكن
310

على وجه الصلاحية لا على وجه الدلالة
وبقولنا على شيئين عن النكرة في الإثبات
وبقولنا من غير حصر عن أسماء الأعداد والله أعلم
المسألة الثانية
المفيد للعموم إما أن يفيد لغة أو عرفا أو عقلا
أما الذي يفيده لغة فإما أن يفيده على الجمع أو على البدل
والذي يفيده على الجمع فإما أن يفيده كونه اسما موضوعا
للعموم أو لأنه اقترن به ما أوجب عمومه
وأما الموضوع للعموم فعلى ثلاثة أقسام
الأول ما يتناول العالمين وغيرهم وهو لفظ أي في الاستفهام
والمجازاة تقول أي رجل وأي ثوب وأي جسم في الاستفهام
والمجازاة
وكذا لفظ كل وجميع
الثاني ما يتناول العالمين فقط وهو من في المجازاة
والاستفهام
الثالث ما يتناول غير العالمين وهو قسمان
أحدهما ما يتناول كل ما ليس من العالمين وهو صيغة ما
311

وقيل إنه يتناول العالمين أيضا كقوله تعالى ولا أنتم عابدون ما
أعبد
وثانيهما ما يتناول بعض ما ليس من العالمين وهو صيغة متى
فإنها مختصة بالزمان وأنى وحيث فإنهما مختصان بالمكان
وأما الاسم الذي يفيد العموم لأجل أنه دخل عليه ما جعله كذلك
فهو إما في الثبوت أو في العدم
أما الثبوت فضربان لام الجنس الداخلة على الجمع كقولك
الرجال والإضافة كقولك ضربت عبيدي
وأما العدم فكالنكرة به في النفي
وأما الاسم الذي يفيد العموم على البدل فأسماء النكرات
على اختلاف مراتبها في العموم والخصوص
وأما القسم الثاني
وهو الذي يفيد العموم عرفا كقوله تعالى حرمت عليكم
أمهاتكم فإنه يفيد في العرف تحريم جميع وجوه الاستمتاع
312

وأما القسم الثالث
وهو الذي يفيد العموم عقلا فأمور ثلاثة
أحدها أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ولعلته فيقتضي ثبوت الحكم أينما
وجدت العلة
والثاني أن يكون المفيد للعموم ما يرجع إلى سؤال السائل كما إذا
سئل النبي عليه الصلاة والسلام عمن أفطر فيقول عليه الكفارة
فنعلم أنه يعم كل مفطر
والثالث دليل الخطاب عند من يقول به كقوله عليه الصلاة والسلام
في سائمة الغنم زكاة فإنه يدل على أنه لا زكاة في كل ما ليس
بسائمة والله أعلم
المسألة الثالثة في الفرق بين المطلق والعام
اعلم أن كل شئ فله حقيقة وكل أمر يكون المفهوم منه
مغايرا للمفهوم من تلك الحقيقة كان لا محالة أمرا آخر سوى
تلك الحقيقة سواء كان ذلك المغاير لازما لتلك الحقيقة أو مفارقا وسواء
كان سلبا أو إيجابا
313

فالإنسان من حيث إنه إنسان ليس إلا أنه إنسان فأما أنه واحد أو
لا واحد أو كثير أو لا كثير فكل ذلك مفهومات منفصلة عن الإنسان
من حيث إنه إنسان وإن كنا نقطع بأن مفهوم الإنسان لا ينفك عن كونه
واحدا أو لا واحدا
إذا عرفت ذلك فنقول اللفظة الدالة على الحقيقة من حيث
إنها هي هي من غير أن تكون فيها دلالة على شئ من قيود تلك
الحقيقة سلبا كان ذلك القيد أو إيجابا فهو المطلق
وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة
كثرة معينة بحيث لا يتناول ما يزيد عليها فهو اسم العدد
وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام
وبهذا التحقيق ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا
بعينه فإن كونه واحدا وغير معين قيدان زائدان على الماهية والله
أعلم
314

المسألة الرابعة
اختلف الناس في صيغة كل وجميع وأي وما ومن في
المجازاة والاستفهام
فذهبت المعتزلة وجماعة من الفقهاء إلى أنها للعموم فقط وهو
المختار
وأنكرت الواقفية ذلك ولهم قولان
فالأكثرون ذهبوا إلى أنها مشتركة بين العموم والخصوص
والأقلون قالوا لا ندري أنها حقيقة في العموم فقط أو الخصوص
فقط أو الاشتراك فقط
والكلام في هذه المسألة مرتب على فصول خمسة
315

الفصل الأول
في أن من وما وأين
ومتى في الاستفهام للعموم
فنقول هذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط أو للخصوص فقط
أولهما على سبيل الاشتراك أو لا لواحد منهما والكل باطل إلا الأول
أما أنه لا يجوز أن يقال إنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان
كذلك لما حس من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء لأن الجواب
يجب أن يكون مطابقا للسؤال لكن لا نزاع في حسن ذلك
وأما أنه لا يجوز القول بالاشتراك فلأنه لو كان كذلك لما حسن
الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قيل
من عندك فلا بد أن تقول تسألني عن الرجال أو عن النساء فإذا
قال عن الرجال فلا بد أن تقول تسألني عن العرب أو عن
317

العجم فإذا قال عن العرب فلا بد أن تقول تسألني عن ربيعة أو
عن مضر وهلم جرا إلى أن تأتي على جميع التقسيمات الممكنة وذلك
لأن اللفظ إما أن يقال إنه مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في
الخصوص أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة والأول
باطل لأن أحدا لم يقل به
والثاني يقتضي أن لا يحسن من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام
عن كل تلك الأقسام لأن الجواب لا بد وأن يكون مطابقا للسؤال فإذا
كان السؤال محتملا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع
السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال وذلك غير جائز
فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات لكنها غير واجبة
أما أولا فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر وإذا كان كذلك كانت
التقسيمات الممكنة غير متناهية والسؤال عنها على سبيل التفصيل
محال
وأما ثانيا فلأنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم
يستقبحون مثل هذه الاستفهامات
وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم
ولا للخصوص فمتفق عليه
318

فبطلت هذه الأقسام الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول وهو الحق
فإن قيل لا نسلم أنها غير موضوعة للخصوص
قوله لو كان كذلك لما حسن الجواب بذكر الكل
قلنا متى إذا وجدت مع اللفظ قرينة تجعله للخصوص أو
إذا لم توجد
الأول ممنوع والثاني مسلم
بيانه أن من الجائز أن تكون هذه الصيغة موضوعة للخصوص إلا
أنه قد يقترن بها من القرائن ما يصير المجموع للعموم لجواز أن يكون
حكم المركب مخالفا لحكم المفرد
سلمنا ذلك فلم لا يكون مشتركا
قوله لو كان كذلك لوجبت الاستفهامات
قلنا لم لا يجوز أن يقال هذه اللفظة لا تنفك عن قرينة دالة على
319

المراد بعينه فلا جرم لا يحتاج إلى تلك الاستفهامات
سلمنا إمكان خلوه عن تلك القرينة لكن متى يقبح الجواب بذكر
الكل إذا كان ذكر الكل مفيدا لما هو المطلوب بالسؤال على كل
التقديرات أو إذا لم يكن
الأول ممنوع والثاني مسلم
بيانه أن السؤال إما أن يكون قد وقع عن الكل أو عن البعض
فإن وقع عن الكل كان ذكر الكل هو الواجب
وإن وقع عن البعض فذكر الكل يأتي على ذلك البعض فيكون ذكر
الكل مفيدا لحصول المقصود على كل التقديرات وذكر البعض ليس
كذلك فكان ذكر الكل أولى
سلمنا أن الاشتراك يوجب تلك الاستفهامات لكن لا نسلم أنها لا
تحسن ألا ترى أنه إذا قيل من عندك حسن منه أن يقول أعن
الرجال تسألني أم عن النساء أعن الأحرار أم عن العبيد غاية ما في
الباب أن يقال الاستفهام عن كل الأقسام الممكنة غير جائز لكنا نقول
320

ليس الاستدلال بقبح بعض تلك الاستفهامات على عدم الاشتراك أولى
من الاستدلال بحسن بعضها على الاشتراك وعليكم الترجيح
سلمنا أن ما ذكرتم يدل على قولكم لكنه معارض بأن هذه الصيغ لو
كانت للعموم فقط لما حسن الجواب إلا بقوله لا أو نعم لأن
قوله من عندك تقديره أكل الناس عندك ومعلوم أن ذلك لا يجاب إلا
بلا أو بنعم فكذلك ها هنا
والجواب قوله الصيغة وإن كانت حقيقة في الخصوص لكن
لم لا يجوز أن يقترن بها ما يصير المجموع للعموم
قلنا لثلاثة أوجه
الأول أن هذا يقتضي أنه لو لم توجد تلك القرينة أن لا يحسن
الجواب بذكر الكل
ونحن نعلم بالضرورة من عادة أهل اللغة حسن ذلك سواء وجدت
قرينة أخرى أم لم توجد
الثاني أن هذه القرينة لا بد وأن تكون معلومة للسامع والمجيب معا
لأنه يستحيل أن تكون تلك القرينة طريقا إلى العلم بكون هذه الصيغة
للعموم مع أنا لا نعرف تلك القرينة
321

ثم تلك القرينة إما أن تكون لفظا أو غيره والأول باطل لأنه إذا قيل لنا
من عندك حسن منا أن نجيب بذكر كل من عندنا وإن لم نسمع
من السائل لفظة أخرى
والثاني باطل أيضا لأنا لا نعقل قسما آخر وراء اللفظ يدل على
مقصود المتكلم إلا الإشارة وما يجري مجراها من تحريك العين
والرأس وغيرهما
وكل ذلك مما لا يطلع الأعمى عليه مع أنه يحسن منه أن يجيب
بذكر الكل
الثالث أن من كتب إلى غيره فقال من عندك حسن منه الجواب
بذكر الكل مع أنه لم يوجد في الكتبة شئ من القرائن
وبهذه الوجوه خرج الجواب أيضا عن قوله إنما لم يحسن
الاستفهام عن جميع الأقسام لأن اللفظ لا ينفك عن القرينة الدالة
وأيضا فقد انعقد الإجماع على أن اللفظ المشترك يجوز خلوه عن
جميع القرائن المعينة
قوله إنما حسن الجواب بذكر الكل لأن المقصود حاصل على كل
التقديرات
قلنا يلزم منه لو قال من عندك من الرجال أن يحسن منه ذكر النساء
مع الرجال لأن تخصيص الرجال بالسؤال عنهم لا يدل على أنه لا حاجة
322

به إلى السؤال عن النساء فلما لم يحسن في هذا فكذا فيما ذكرتموه
وأيضا فكما أنه يحتمل أن يكون غرضه من السؤال ذكر الكل أمكن
أن يكون غرضه السؤال عن البعض مع السكوت عن الباقين
قوله قد يحسن الاستفهام عن بعض الأقسام فليس الاستدلال
بقبح البعض على نفي الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن البعض على
ثبوت الاشتراك
قلنا قد ذكرنا أنه ليس في الأمة أحد يقول بأن هذه الصيغ مخصوصة
ببعض مراتب الخصوص دون البعض فلو كانت حقيقة في
الخصوص لكانت حقيقة في كل مراتب الخصوص ولو كان كذلك
لوجب الاستفهام عن كل تلك المراتب فلما لم يكن كذلك علمنا فساد
القول بالاشتراك
فأما حسن بعض الاستفهامات فلا يدل على وقوع الاشتراك لما
سنذكر إن شاء الله تعالى أن للاستفهام فوائد أخر سوى الاشتراك
قوله لو كانت هذه الصيغة للعموم لما حسن الجواب إلا بلا أو نعم
قلنا لا نسلم وذلك لأن السؤال ها هنا ما وقع عن التصديق
323

حتى يكون جوابه بلا أو بنعم بل إنما وقع عن التصور فقوله من
عندك معناه أذكر لي جميع من عندك من الأشخاص ولا تبق أحدا إلا
وتذكره لي ومعلوم أنه يحسن الجواب عن هذا السؤال بلا أو
بنعم والله أعلم
324

الفصل الثاني
في أن صيغة من وما في المجازاة للعموم
ويدل عليه ثلاثة أوجه
الأول
أن قوله من دخل داري فأكرمه لو كان مشتركا بين الخصوص
والاستغراق لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند
الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة لكنه حسن فدل على عدم
الاشتراك
وتقريره ما تقدم في الفصل الأول
الوجه الثاني
إنه إذا قال من دخل داري فأكرمه حسن منه استثناء كل واحد من
العقلاء والعلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري والاستثناء
يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك لأنه لا نزاع في
325

أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يصح دخوله تحت المستثنى منه
فأما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر
والأول باطل وإلا لكان يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر
كقوله جاءني فقهاء إلا زيدا وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله
جاءني الفقهاء إلا زيدا فرق لصحة دخول زيد في الخطابين لكن
الفرق معلوم بالضرورة من عادة العرب فعلمنا أن الاستثناء من الجمع
المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب
فإن قيل ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة
أحدها جموع القلة كالأفعل والأفعال والأفعلة والفعلة
وجمع السلامة فإنه للقلة بنص سيبويه مع أنه يصح استثناء كل
واحد من أفراد ذلك الجنس عنها
326

وثانيها أنه يصح أن يقال اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا
ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب أن يكون داخلا تحت ذلك المنكر
وثاليها ثم أنه يصح أن يقال صل إلا اليوم الفلاني ولو كان
الاستثناء يقتضي اخراج ما لولاه لدخل لكان الأمر مقتضيا للفعل في كل
الأزمنة فكان الأمر يفيد الفور والتكرار وأنتم لا تقولون بهما
سلمنا سلامته عن النقض لكن لا نسلم أن قوله من دخل داري
أكرمه يحسن استثناء وكل واحد من العقلاء منه فإنه لا يحسن
منه أن يستثنى الملائكة والجن واللصوص ولا يحسن أن
يقول إلا ملك الهند وملك الصين
سلمنا حسن ذلك ولكن لم يدل على العموم
قوله المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه فإما أن يكون
الوجوب معتبرا مع هذه الصحة أو لا يكون
قلنا لا نسلم أن المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه
فإن استثناء الشئ من غير جنسه جائز
327

سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من الوجوب
قوله لو لم يكن الوجوب معتبرا لما بقي فرق بين الاستثناء من الجمع
المنكر وبين الاستثناء من الجمع المعرف
قلنا نسلم أنه لا بد من فرق لكن لا نسلم أنه لا فرق إلا ما
ذكرتموه سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على الوجوب لكن معنا ما يدل على
أن الصحة كافية وبيانه من وجهين
الأول أن الصحة أعم من الوجوب فيكون حمل اللفظ على الصحة
حملا له على ما هو أعم فائدة
الثاني أن القائل إذا قال لغيره أكرم جمعا من العلماء واقتل فرقة من
الكفار حسن أن يستثنى كل واحد من العلماء والكفار فيقول إلا فلانا
وفلانا ولو كان الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله فيه لوجب أن يكون
اللفظ المنكر للاستغراق
سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي أن تكون صيغة من للعموم لكن لا
يجب أن يكون الأمر كذلك
بيانه أن الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين على النتيجة إنما يصح لو
ثبت أنه لا تجوز المناقضة على واضع اللغة إذا لو جازت المناقضة عليه
328

جاز ان يقال إنهم حكموا بهاتين المقدمتين اللتين توجبان عليهم أن
يحكموا بأن صيغة من للعموم ولكنهم لعلهم لم يحكموا بها
لأنهم لم يحترزوا عن المناقضة
بلى لو ثبت أن اللغات توفيقية اندفع هذا السؤال
سلمنا أن صحة الاستثناء من هذه الصيغ دالة على أنها للعموم
لكنها تدل على أنها ليست للعموم من وجه آخر وذلك لأنها لو كانت
للعموم لكان الاستثناء نقضا على ما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى
والجواب أما النقض بجموع القلة فلا نسلم أنه يحسن استثناء أي
عدد شئنا منه مثلا لا يجوز أن يقول أكلت الأرغفة إلا ألف
رغيف وتوافقنا على أنه يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغة من في
المجازاة مثل أن يقول من دخل داري أكرمته إلا أهل البلدة الفلانية
قوله ينتقض بقوله اصحب جمعا من الفقهاء إلا زيدا
قلنا هب أن الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه
لصح دخوله فيه فلم قلت إن في سائر الصور كذلك
قوله يلزم أن تكون صيغة الأمر للتكرار
قلنا لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء بلفظ الأمر قرينة دالة على
دلالة الأمر على التكرار
329

قوله لا يحسن استثناء الملائكة واللصوص وملك الهند وملك
الصين
قلنا لأن المقصود من الاستثناء خروج المستثنى من الخطاب وقد
علم من دون الاستثناء خروج هذه الأشياء من الخطاب ولهذا لو لم يعلم
خروجها منه لحسن الاستثناء
ألا ترى أنه لو كان الخطاب صادرا عن الله تعالى لحسن منه
تعالى هذا الاستثناء مثل أن يقول إني أطعم من خلقت إلا الملائكة وأنظر
بعين الرحمة إلى جميع خلقي إلا الملوك المتكبرين
قوله لم قلت إنه يجب صحة دخول المستثنى تحت المستثنى
منه
قلنا لأن الإجماع منعقد على ذلك في استثناء الشئ من جنسه
فلا يتوجه جواز الاستثناء من غير الجنس
330

ولأن الاستثناء مشتق من الثني وهو الصرف وإنما يحتاج
إلى الصرف لو كان بحيث لولا الصارف لدخل
قوله لم قلت إنه لا فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر ومن
الجمع المعرف إلا ما ذكرت
قلنا لأن الجمع المنكر هو لا يدل على جمع يصلح أن يتناول كل
واحد من الأشخاص فلو كان الجمع المعرف كذلك لم يبق بين الأمرين فرق
وحينئذ لا يبقى بين الاستثناء من الجمعين فرق
قوله حمل الاستثناء على الصحة أولى لكونها أعم فائدة
قلنا يعارضه أن حمله على الوجوب أولى لأن الصحة جزء من
الوجوب فلو حملناه على الوجوب لكنا قد أفدنا به الصحة
والوجب معا
ولو حملناه على الصحة وحدها لم نفد به الوجوب أصلا
والجمع بين الدليلين بقدر الإمكان واجب
قوله الاستثناء من الجمع المنكر ليس إلا لدفع الصحة
331

قلنا هب أنه كذلك فلم قلت إن الاستثناء من صيغة من
وما في المجازاة كذلك
قوله لم قلت إن التناقض على الواضعين لا يجوز
قلنا لأن الأصل عدم التناقض على العقلاء لا سيما وقد قرر الله
تعالى ذلك الوضع
قوله لو كانت الصيغة للعموم لكان الاستثناء نقضا
قلنا سيجئ الجواب عنه إن شاء الله تعالى
فهذا أقصى ما يمكن تمحله رسول في هذه الطريقة
الوجه الثالث
لما أنزر ولا الله تعالى قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم قال ابن الزبعري لأخصمن محمدا ثم أتى النبي ص فقال
يا محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى فتمسك بعموم
اللفظ ولم ينكر النبي ص ذلك حتى نزل قوله تعالى إن الذين سبقت
لهم منا الحسنى
332

فإن قلت السؤال كان خطأ لأن ما لا تتناول العقلاء
قلت لا نسلم لقوله تعالى والسماء وما بناها والأرض وما طحاها
ونفس وما سواها والله أعلم
335

الفصل الثالث
في أن صيغة الكل والجميع تفيدان الاستغراق
ويدل عليه وجوه
الأول أن قوله جاءني كل فقيه في البلد يناقضه قوله ما جاءني
كل فقيه في البلد ولذلك يستعمل كل واحد منهما في تكذيب الآخر
والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق لأن النفي عن البعض
لا يناقض الثبوت في البعض
الثاني أن صيغة الكل مقابلة في اللفظ لصيغة البعض ولولا أن
صيغة الكل غير محتملة للبعض وإلا لما كانت مقابلة لها
الثالث أن الرجل إذا قال ضربت كل من في الدار وعلم أن في الدار
عشرة ولم يعرف سوى هذه اللفظة أعني أنه لم يعرف أن في الدار أباه وغيره
ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه بل جوز أن يضربهم كلهم فإن
الأسبق إلى الفهم الاستغراق ولو كانت لفظة الكل مشتركة بين الكل
337

والبعض لما كان كذلك لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى
المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى
منها إلى الآخر
الرابع أن يتمسك بسقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على
العاصي
أما الأول فهو أن السيد إذا قال لعبده كل من دخل اليوم داري
فأعطه رغيفا فلو أعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه حتى
أنه لو أعطى رجلا قصيرا فقال له لم أعطيته مع أني أردت
الطوال فللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال وإنما أمرتني بإعطاء
من دخل وهذا قد دخل
وكل عاقل سمع هذا الكلام رأي اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد
متوجها
وأما الثاني فهو أن العبد لو أعطى الكل إلا واحدا فقال له
السيد لم لم تعطه فقال لأنه طويل وكان لفظك عاما فقلت لعلك
أردت القصار استوجب التأديب بهذا الكلام
338

الخامس إذا قال أعتقت كل عبيدي وإمائي ومات في الحال ولم
يعلم منه أمر آخر سوى هذه الألفاظ حكم بعتق كل عبيده وإمائه
ولو قال غانم حر وله عبدان اسمهما غانم وجبت المراجعة
والاستفهام فعلمنا عدم الاشتراك
السادس إنا ندرك تفرقة بين قولنا جاءني فقهاء وبين قولنا
جاءني كل الفقهاء ولولا دلالة الثاني على الاستغراق وإلا لما
بقي الفرق
السابع معلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن معنى الاستغراق
فزعوا إلى استعمال لفظة الكل والجميع ولا يستعملون الجموع
المنكرة ولولا أن لفظة الكل والجميع موضوعة للاستغراق وإلا
لكان استعمالهم هاتين اللفظتين عند إرادة الاستغراق كاستعمالهم
للجموع المنكرة
فإن قلت في جميع هذه المواضع إنما حكمنا بالعموم للقرينة
قلت كل ما تفرضونه من القرائن أمكننا فرض عدمه مع بقاء
الأحكام المذكورة
وأيضا لو قيل كل من قال لك جيم فقل له دال فها هنا لا
قرينة تدل على هذه الأحكام مع أن العموم مفهوم منه
339

وأيضا فلو كتب في كتاب وقال اعملوا بما فيه حكم بالعموم مع
عدم القرينة
وأيضا الأعمى يفهم العموم من هذه الألفاظ مع أنه لا يعرف القرائن
المبصرة وأما المسموعة فهي منفية لأنا فرضنا الكلام فيمن سمع هذه
الألفاظ ولم يسمع شيئا آخر
الثامن لما سمع عثمان رضي الله عنه قول لبيد
وكل نعيم لا محالة زائل
قال كذبت فإن نعيم الجنة لا يزول فلولا أن قوله أفاد العموم
وإلا لما توجه عليه التكذيب والله أعلم
340

الفصل الرابع
في أن النكر ة في سياق النفي تعم
وذلك لوجهين
الأول أن الإنسان إذا قال اليوم أكلت شيئا فمن أراد تكذيبه
قال ما أكلت اليوم شيئا فذكرهم هذا النفي عند تكذيب ذلك
الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له ولو كان قوله ما اكلت اليوم
شيئا لا يقتضي العموم لما ناقضه لأن السلب الجزئي لا يناقض
الإيجاب الجزئي
مثاله من كتاب الله أن اليهود لما قالت ما أنزل الله على بشر من
شئ قال تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وإنما أورد
الله تعالى هذا الكلام نقضا لقولهم
الثاني لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا
الله نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى.
343

تنبيه
النكرة في الآيات إذا كانت خبرا لا تقتضي العموم كقولك جاءني
رجل
وإذا كان أمرا فالأكثرون على أنه للعموم كقوله أعتق رقبة
والدليل عليه أنه يخرج عن عهدة الأمر بفعل أيها كان ولولا أنها
للعموم وإلا لما كان كذلك
344

الفصل الخامس
في شبه منكري العموم
احتجوا بأمور
أولها العلم بكون هذه الصيغ موضوعة للعموم إما أن يكون ضروريا
وهو باطل وإلا وجب اشتراك العقلاء فيه
أو نظريا وحينئذ لا بد فيه من دليل وذلك الدليل إما أن يكون عقليا
وهو محال لأنه لا مجال للعقل في اللغات
أو نقليا وهو إما أن يكون متواترا أو آحادا
والمتواتر باطل وإلا لعرفه الكل
والآحاد باطل لأنه لا يفيد إلا الظن والمسألة علمية
وثانيها أن هذه الألفاظ مستعملة في الاستغراق تارة وفي
الخصوص أخرى وذلك يدل على الاشتراك
بيان المقدمة الأولى أن القائل إذا قال من دخل داري أهنته أو أكرمته
فإنه قلما يريد به العموم وإذا قال لقيت العلماء وقصدت الشرفاء
فقد يريد به العموم تارة والخصوص أخرى
345

بيان المقدمة الثانية من وجهين
الأول أن الظاهر من استعمال اللفظ في شئ كونه حقيقة فيه إلا
أن يدلونا بدليل قاطع على أنهم باستعماله فيه متجوزون لأنا
لو لم نجعل ذلك طريقا إلى كون اللفظ حقيقة في المسمى لتعذر علينا
أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى ما إذ لا طريق إلى كون اللفظ
حقيقة سوى ذلك
الثاني هو أن هذه الألفاظ لو لم تكن حقيقة في الاستغراق
والخصوص لكان مجازا في أحدهما واللفظ لا يستعمل في المجاز
إلا مع قرينة وذلك خلاف الأصل
وأيضا فتلك القرينة إما أن تعرف ضرورة أو نظرا
والأول باطل وإلا لامتنع وقوع الخلاف فيه
والثاني أيضا باطل لأنا لما نظرنا ابن في أدلة المثبتين لهذه القرينة
لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه
346

وثالثها أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للاستغراق لما حسن أن
يستفهم المتكلم به لأن الاستفهام طلب الفهم وطلب الفهم
عند حصول المقتضى للفهم عبث لكن من المعلوم أن من قال ضربت
كل من في الدار أنه يحسن أن يقال أضربتهم قوله بالكلية وأن يقال أضربت
أباك فيهم
ورابعها أنها لو كانت للاستغراق لكان تأكيدها عبثا لأنها
تفيد عين الفائدة الحاصلة من المؤكد
وخامسها أنها لو كانت للاستغراق لكان الاستثناء نقضا وبيانه
من وجهين
الأول أن المتكلم قد دل على الاستغراق بأول كلامه ثم
بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض فكان نقضا وجاريا
مجرى ما يقال ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار
الثاني أن لفظة العموم لو كانت موضوعة للاستغراق لجرت لفظة
العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص واستثناء الواحد منهم
بعد ذلك في القبح كما إذا قال ضربت زيدا ضربت عمرا وضربت
347

خالدا ثم يقول إلا زيدا فلما لم يكن
كذلك دل حسن الاستثناء على
أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق
وسادسها أن صيغة من وما وأي في المجازاة يصح إدخال
لفظ الكل عليها تارة والبعض أخرى تقول كل من دخل داري
فأكرمه بعض من دخل داري فأكرمه ولو دلت تلك الصيغة على
الاستغراق لكان إدخال الكل عليها تكريرا
وسابعها لو كانت لفظة من للاستغراق لامتنع جمعها لأن
الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد ومعلوم أنه ليس بعد الاستغراق كثرة
فيفيدها الجمع لكن يصح جمعها لقول الشاعر
أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
والجواب عن الأول لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة فإنا بعد
348

استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغ كل وجميع ومن
وما وأي في الاستفهام والجزاء للعموم
سلمناه فلم لا يجوز أن يعرف بالعقل
قوله لا مجال للعقل في اللغات
قلنا ابتداء أم بواسطة الاستعانة بمقدمات نقلية
الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلت إنه لم توجد مقدمات نقلية
يستنتج العقل منها ثبوت الحكم في هذه المسألة
سلمناه فلم لا يجوز أن يعرف ذلك بالآحاد
قوله المسألة قطعية
قلنا لا نسلم كيف وقد بينا أن القطع لا يوجد في اللغات إلا
نادرا
والجواب عن الثاني لا نزاع في أن هذه الألفاظ قد تستعمل في
الخصوص ولكنك إن ادعيت أنه لا يوجد الاستعمال إلا إذا كان حقيقة
بطل قولك بالمجاز
349

وإن سلمت أنه قد يوجد الاستعمال حيث لا حقيقة فحينئذ تعذر
الاستدلال بالاستعمال على كونه حقيقة
فإن قلت أستدل بالاستعمال مع أن المجاز خلاف الأصل على
كونه حقيقة فيه
قلت قولك المجاز خلاف الأصل لا يفيد إلا الظن وعندك
المسألة قطعية يقينية
وأيضا فكما أن المجاز خلاف الأصل فكذلك الاشتراك وقد
تقدم في كتاب اللغات أنه إذا وقع التعارض بينهما كان دفع الاشتراك
أولى
وأما قوله أولا لو لم يجعل هذا طريقا إلى كون اللفظ حقيقة لم يبق
لنا إليه طريق أصلا
قلنا قد بينا فساد هذا الطريق فإن لم يكن ها هنا طريق آخر إلى
الفرق بين الحقيقة والمجاز وجب أن يقال إنه لا طريق إلى ذلك الفرق
لأن ما ظهر فساده لا يصير صحيحا لأجل فساد غيره
قوله ثانيا ذلك الطريق إما أن يعرف بالضرورة أو بالدليل
والضرورة باطلة لوقوع الخلاف والدليل باطل لأنا لم نجد في أدلة
الخالفين ما يدل عليه
350

قلنا الضروري لا ينكره الجمع العظيم من العقلاء وقد ينكره النفر
اليسير ولا نسلم أن الجمع العظيم من أهل اللغة نازعوا في أن لفظ الكل
وأي للعموم
سلمنا ذلك لكن لا نسلم إنه لو يوجد ما يدل على كونها مجازا في
الخصوص
قوله نظرنا في أدلة المخالفين فلم نجد فيها ما يدل على ذلك
قلنا عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود
واعلم أن الشريف المرتضى عول على هذه الطريقة ومن تأمل
كلامه فيها علم أنه في أكثر الأمر يدور على المطالبة بالدلالة على
كون هذه الصيغة مجازا في الخصوص مع أنه شرع فيها شروع المستدل
على كونها حقيقة في الاستغراق والخصوص
والجواب عن الثالث لا نسلم أن حسن الاستفهام لا يكون إلا عند
351

الاشتراك فما الدليل عليه ثم الدليل على أنه قد يكون لغيره وجهان
الأول أنه لو كان حسن الاستفهام لأجل الاشتراك لوجب أن لا
يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة على ما
قررناه في الفصل الأول
الثاني أن الاستفهام قد يجاب عنه بذكر ما عنه وقع الاستفهام كما
لو قال القائل ضربت القاضي فيقال له أضربت القاضي فيقول
نعم ضربت القاضي ولا شك في حسن هذا الاستفهام في العرف
فثبت بهذين الوجهين أن الاستفهام قد يحسن لا مع الاشتراك
ثم نقول الاستفهام إما أن يقع ممن يجوز عليه السهو أو ممن لا
يجوز عليه ذلك
والأول قد يحسن لوجوه أربعة أخرى غير الذي ذكروه
أحدها أن السامع ربما ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه أو
هو كالساهي فيستفهمه ويستبينه له حتى إن كان ساهيا زال سهوه وأخبره
عن تيقظ
ولذلك يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما وقع عنه الاستفهام
352

وثانيها أن يظن السامع لأجل أمارة أن المتكلم قد أخبر بكلامه
العام عن جماعة على سبيل المجازفة ويكون السامع شديد العناية بذلك
فتدعوه شدة عنايته إلى الاستفهام عن ذلك الشئ لكي يعلم المتكلم
اهتمام السامع به فلا يجازف في الكلام
ولهذا قد يقول القائل رأيت كل من في الدار فإذا قيل له أرأيت
زيدا فيهم فقال نعم زالت التهمة لأن اللفظ الخاص أقل إجمالا
وربما لم يتحقق رؤيته فيدعوه ما رآه من اهتمام المستفهم إلى أن
يقول لا أتحقق رؤيته
وثالثها أن يستفهم طلبا لقوة الظن
ورابعها أن توجد هناك قرينة تقتضي تخصيص ذلك
العموم مثل أن يقول ضربت كل من في الدار وكان فيها الوزير
فغلب على الظن أنه ما ضربه فإذا حصل التعارض استفهمه ليقع
الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص
353

وأما إن وقع ممن لا يجوز عليه السهو فذاك لأن دلالة الخاص أقوى
من دلالة العام فيطلب الخاص بعد العام تحصيلا لتلك القوة
والجواب عن الرابع من حيث المعارضة ومن حيث
التحقيق
أما المعارضة فمن ثلاثة أوجه
أحدها تأكيد الخصوص كقولهم جاء زيد نفسه
وثانيها تأكيد ألفاظ العدد كقوله تعالى تلك عشرة كاملة
وثالثها إن التأكيد تقوية ما كان حاصلا فلو كان الحاصل هو
الاشتراك لتأكد ذلك الاشتراك بهذا التأكيد
فإن قلت التأكيد يعين اللفظ لأحد مفهوميه
قلت هذا لا يكون تأكيدا بل بيانا
وأما من حيث التحقيق فهو أن المتكلم إما أن يجوز عليه السهو أو
354

لا يجوز فأجاز ذلك كان حسن التأكيد لوجوه
أحدها أن السامع إذا سمع اللفظ بدون تأكيد جوز مجازفة المتكلم
فإذا أكده صار ذلك التجويز أبعد
وثانيها أنه ربما حصل هناك ما يقتضي تخصيص العام فإذا اقترن
به التأكيد كان احتمال الخصوص أبعد
وثالثها تقوية بعض ألفاظ العموم ببعض
وأما إن لم يجز السهو على المتكلم لم يكن للتأكيد فائدة إلا تقوية
الظن
والجواب عن الخامس أنه منقوض بألفاظ العدد فإنها صريحة
في ذلك العدد المخصوص ثم يتطرق الاستثناء إليها
ثم الفرق بين ما ذكروه من الصورتين وبين مسألتنا ان الاستثناء إذا
اتصل بالكلام صار جزءا من الكلام فتصير الجملة شيئا واحدا
مفيدا لأنه لا يستقل بنفسه في الإفادة فيجب تعليقه بما يقدم عليه
فإذا علقناه به صار جزءا من الكلام فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا
وفائدته محمد إرادة ما عدا المستثنى بخلاف قوله ضربت كل من في الدار
لم أضرب كل من في الدار لأن ها هنا كل واحد من الكلامين
مستقل بنفسه فلا حاجة إلى تعليقه بما تقدم عليه وإذا لم يتعلق به أفاد
الأول ضرب جميع من في الدار وأفاد الآخر نفي ذلك فكان نقضا
وأما الثاني فنطالبهم بالجامع
355

ثم الفارق أن الاستثناء إخراج جزء من كل فإذا قال ضربت زيدا
وضربت عمرا إلا زيدا انصرف قوله إلا زيدا إلى زيد لا إلى عمرو
لأن زيدا ليس بجزء منهم فكان نقضا بخلاف قوله رأيت الكل إلا
زيدا لأن زيدا جزء من الكل فظهر الفرق
والجواب عن السادس أن حكم المفرد يجوز أن يخالف حكم
المركب فيجوز أن يكون شرط إفادة لفظة من للعموم انفرادها عن لفظ
البعض معها بل لم يكن شرط إفادتها للعموم حاصلا فلا جرم لم يلزم
النقض
والجواب عن السابع أن أهل اللغة اتفقوا على أن ذلك ليس جمعا
وإنما هو إشباع الحركة لسبب آخر مذكور في كتب النحو
المسألة الخامسة
لا خلاف في أن الجمع المعرف بلام الجنس ينصرف إلى المعهود
لو كان هناك معهود
356

أما إذا لم يكن فهو للاستغراق خلافا للواقفية وأبي هاشم
لنا وجوه
الأول أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله
عنه بقوله ص الأئمة من قريش والأنصار سلموا تلك الحجة
ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك
الدلالة لأن قوله ص الأئمة من قريش لو كان معناه بعض الأئمة
من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين
أما كون كل الآئمة من قريش فينافي كون بعض الأئمة من
غيرهم
357

وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه
لما هم بقتال مانعي الزكاة أليس قال النبي ص أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا لا إله إلا الله احتج عليهم بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو
بكر ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم إن اللفظ لا يفيده بل عدل
إلى الاستثناء فقال أليس أنه عليه السلام قال إلا بحقها وإن
الزكاة من حقها
الثاني إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد في
أصله الاستغراق
أما انه يؤكد فلقوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون
وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع
358

وأما أنه متى كان كذلك وجب أن يكون المؤكد في أصله
للاستغراق فلأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا والتأكيد هو
تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل فلو لم يكن الاستغراق حاصلا
في الأصل وإنما حصل بهذه الألفاظ ابتداءا لم يكن تأثير هذه الألفاظ في
تقوية هذ الحكم الأصلي بل في إعطاء حكم جديد فكانت مبينة
للمجمل لا مؤكدة
وحيث اجمعوا على انها مؤكدة اعلمنا اقتضاء الاستغراق كان حاصلا
في الأصل
فإن قيل هذا الاستدلال على خلاف النص لأن سيبويه نص على
أن جمع السلامة للقلة وما يكون للقلة لا يكون للاستغراق
ثم ينتقض بجمع القلة فإنه يجوز تأكيده بهذه المؤكدات
وأيضا فعند الكوفيين يجوز تأكيد النكرات كقوله
قد صرت البكرة يوما أجمعا
359

والنكرة لا تفيد الاستغراق
والجواب أنه لا بد من التوفيق بين نص سيبويه وبين ما ذكرناه من
الدليل فنصرف قول سيبويه إلى جمع السلامة إذا كان منكرا وما ذكرناه
من الدليل إلى المعرف ونمنع جواز تأكيد جمع القلة وكذا تأكيد النكرات
على قول البصريين
الثالث الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار معرفة كذا نقل
عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة
عند إطلاقه بالصرف إلى الكل لأنه معلوم للمخاطب فأما الصرف إلى
ما دونه فإنه لا يفيد المعرفة لأن بعض الجموع ليس أولى من بعض
فكان مجهولا
فإن قلت إذا أفاد جمعا من هذا الجنس فقد أفاد تعريف ذلك
الجنس
قلت هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام لأنه لو قال
رأيت رجالا أفاد تعريف ذلك الجنس وتمييزه عن غيره فدل أن
للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق
360

الرابع أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم على ما
تقدم
الخامس الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر لأنه يصح انتزاع
المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال رجال من الرجال
ولا يجوز أن يقال الرجال من رجال ومعلوم بالضرورة أن المنتزع
منه أكثر من المنتزع
وإذا ثبت هذا فنقول المفهوم من الجمع المعرف إما الكل
أو ما دونه والثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من
الجمع المعرف وقد عرفت أن المنتزع منه أكثر ولم بطل ذلك ثبت أنه
للكل والله أعلم
احتجوا بأمور
أولها لو كانت هذه الصيغة للاستغراق لكانت إذا استعملت في
العهد لزم إما الاشتراك وإما المجاز وهما على خلاف الأصل
فوجب أن لا يفيد الاستغراق البتة
وثانيها ولكان قولنا رأيت كل الناس أو بعض الناس خطأ لأن
الأول تكرير والثاني نقض
وثالثها يقال جمع الأمير الصاغة مع أنه ما جمع الكل والأصل في
الكلام الحقيقة فهذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق فوجب أن لا تكون
حقيقة في الاستغراق دفعا للاشتراك
361

والجواب عن الأول أن الألف واللام للتعريف فينصرف إلى ما
السامع به أعرف
فإن كان هناك عهد فالسامع به أعرف فانصرف إليه وإن لم يكن
هناك عهد كان السامع أعرف بالكل من البعض لأن الكل واحد
والبعض كثير مختلف فانصرف إلى الكل
وأيضا لا يبعد أن يقال إذا أريد به العهد كان مجازا إلا أنه
لا يحمل عليه إلا بقرينة وهي العهد بين المتخاطبين وهذا أمارة المجاز
وعن الثاني أن دخول لفظتي الكل والبعض لا يكون تكريرا ولا
نقضا بل يكون تأكيدا أو تخصيصا
وعن الثالث أن ذلك تخصيص بالعرف كما في قوله من دخل
داري أكرمته فإنه لا يتناول الملائكة واللصوص والله أعلم
المسألة السادسة
الجمع المضاف كقولنا عبيد زيد للاستغراق
والدليل عليه ما تقدم
وأما الكناية كقوله فعلوا فإنه يقتضي مكنيا عنه والمكني
362

عنه قد يكون للاستغراق وقد لا يكون كذلك فالكناية عنه
أيضا تكون كذلك
المسألة السابعة
إذا أمر جمعا بصيغة الجمع أفاد الاستغراق فيهم
والدليل عليه ان السيد إذا أشار إلى جماعة من غلمانه بقوله قوموا
فليس يتخلف عن القيام أحد إلا استحق الذم وذلك يدل على أن اللفظ
للشمول ولا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة لأن تلك القرينة إن
كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا وإلا فلنفرض هذه
الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام والله أعلم
363

الشطر الثاني من هذا القسم
فيما ألحق بالعموم وليس منه
365

المسألة الأولى
الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم خلافا للجبائي والفقهاء
والمبرد
لنا وجوه
الأول أن الرجل إذا قال لبست الثوب وشربت الماء لا يتبادر
إلى الفهم الاستغراق
الثاني لا يجوز تأكيده بما يؤكد به الجمع فلا يقال جاءني الرجل
كلهم أجمعون
الثالث لا ينعت بنعوت الجمع فلا يقال جاءني الرجل القصار
وتكلم الفقيه الفضلاء
فأما ما يروى من قولهم أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر
فمجاز بدليل أنه لا يطرد
وأيضا فالدينار الصفر إن كان حقيقة فالدينار الأصفر مجاز كما أن
الدينار الصفر لما كان حقيقة كان الدينار الأصفر إما خطأ أو مجازا
الرابع البيع جزء من مفهوم هذا البيع وإحلال هذا البيع يتضمن
إحلال البيع فلو كان لفظ البيع مقتضيا للعموم لزم من إحلال هذا البيع
إحلال كل بيع ومعلوم أن ذلك باطل
367

فإن قلت لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق إنما يفيد العموم بشرط
العراء عن لفظ التعيين
أو يقال اللفظ المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين
يقتضي خصوصه
قلت أما الأول فباطل لأن العدم لا مدخل له في التأثير
وأما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل
الخامس هو أنا قد بينا أن الماهية غير ووحدتها غير وكثرتها
غير والاسم المعرف لا يفيد إلا الماهية وتلك الماهية تتحقق عند
وجود فرد من أفرادها لأن هذا الإنسان مشتمل على الإنسان مع قيد كونه
هذا فالآتي بهذا الإنسان آت بالإنسان
فالإتيان بالفرد الواحد من تلك الماهية يكفي في العمل بذلك
النص
فظهر أن هذا اللفظ لا دلالة له على العموم البتة
احتجوا بوجوه
أحدها أنه يجوز أن يستثنى منه الآحاد التي تصلح أن تدخل تحته
لقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا والاستثناء يخرج
من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على كون هذا اللفظ
368

وثانيها أن الألف واللام للتعريف وليس ذلك لتعريف الماهية فإن
ذلك قد حصل بأصل الاسم
ولا لتعريف واحد بعينه فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه اللهم إلا
عند المعهود السابق وكلامنا فيما إذا لم يوجد ذلك
ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص فإنه ليس بعض تلك المراتب
أولى من بعض فلا بد من الصرف إلى الكل
وثالثها أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعملية فقوله تعالى
وأحل الله البيع مشعر بأنه إنما صار حلالا لكونه بيعا وذلك
يقتضي أن يعم الحكم لعموم العلة
ورابعها أنه يؤكد بما يؤكد به العموم كقوله كل الطعام كان حلا لبني
إسرائيل وذلك يدل على أنه للعموم
وخامسها أنه ينعت بما ينعت به العموم كقوله تعالى والنخل
باسقات وكقوله أو الطفل الذين وكل ذلك يدل على أنه للعموم
والجواب عن الأول أن ذلك الاستثناء مجاز بدليل أنه يقبح أن
369

يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين ولو كان حقيقة لاطرد
ويمكن أن يقال إن الخسران لما لزم كل الناس إلا المؤمنين جاز
هذا الاستثناء
وعن الثاني أن لام الجنس تفيد تعيين الماهية لا تعيين
الكلية وقد عرفت أن نفس الماهية لا تقتضي الكلية
وعن الثالث أن ذلك اعتبار مغاير للتمسك بنفس اللفظ ونحن لا
ننكر ذلك والله أعلم
المسألة الثانية
الكلام في الجمع المنكر يتفرع على الكلام في أقل الجمع و
قد اختلفوا فيه فذهب القاضي والأستاذ أبو إسحاق وجمع
من الصحابة والتابعين إلى أن أقل الجمع اثنان
وقال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله ثلاثة وهو المختار
370

لنا وجوه
الأول أن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع كما فصلوا بين الواحد
والجمع فكما فرقنا بين الواحد والجمع وجب أن نفرق بين التثنية
والجمع
الثاني أن صيغة الجمع تنعت بالثلاثة فما فوقها وبالعكس يقال
جاءني رجال ثلاثة وثلاثة رجال ولا تنعت بالاثنين فلا يقال رجال
اثنان ولا اثنان رجال
الثالث أن أهل اللغة فصلوا بين ضمير التثنية وضمير الجمع فقالوا
في الاثنين فعلا وفي الثلاثة فعلوا وفي الأمر الاثنين افعلا
وفي الجمع افعلوا
احتجوا أبو بالقرآن والخبر والمعقول
أما القرآن فبقوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين والمراد داود
وسليمان
371

وبقوله تعالى إذ تسوروا المحراب وكانا اثنين لقوله تعالى
خصمان
وبقوله إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان
وبقوله عز وجل في قصة موسى وهارون إنا معكم مستمعون
وبقوله تعالى حكاية عن يعقوب عسى الله أن يأتيني بهم
جميعا والمراد يوسف وأخوه
وبقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
وبقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما
وأما الخبر فقوله ص الاثنان فما فوقهما جماعة
372

وأما المعقول فهو أن معنى الاجتماع حاصل في الاثنين
والجواب عن الأول أنه تعالى كنى عن المتحاكمين مضافا إلى
كنايته عن الحاكم عليهما فإن المصدر قد يضاف إلى المفعول وإذا
اعتبرنا المتحاكمين مع الحاكم كانوا ثلاثة
وأما قوله تعالى إذ تسوروا المحراب مع قوله خصمان
فجوابه أن الخصم في اللغة للواحد والجمع كالضيف يقال هذا
خصمي وهؤلاء خصمي وهذا ضيفي وهؤلاء ضيفي قال الله
تعالى إن هؤلاء ضيفي
373

وهو الجواب عن التمسك بقوله تعالى هذان خصمان اختصموا
وقوله ففزع منهم
وأما قوله تعالى إنا معكم مستمعون فالمراد موسى وهارون
وفرعون
وأما قوله تعالى عسى الله أن يأتيني بهم جميعا فالمراد به يوسف
وأخوه والأخ الثالث الذي قال فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي
وقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فكل طائفة جمع
وأما قوله تعالى فقد صغت قلوبكما فجوابه أنه قد يطلق اسم
القلب على الميل الموجود في القلب فيقال للمنافق إنه ذو لسانين
وذو وجهين وذو قلبين ويقال للذي لا يميل إلا إلى الشئ الواحد له
قلب واحد ولسان واحد
ولما خالفتا أمر الرسول ص ونمتا أو بأمر مارية وقع في قلبيهما
دواع مختلفة وأفكار متباينة فصح أن يكون المراد من القلوب هده
الدواعي وإذا صح ذلك وجب حمل اللفظ عليها لأن القلب لا يوصف
بالصغو) وإنما يوصف الميل به
374

وأما الحديث فهو محمول على إدراك فضيلة الجماعة
وقيل إنه ص نهى عن السفر إلا في جماعة ثم بين أن الاثنين
فما قوقهما عبد جماعة في جواز السفر
وأما المعقول فجوابه أن البحث ما وقع عما تفيده لفظة الجمع
بل عما يتناوله لفظ الرجال والمسلمين عليه فأين أحدهما من الآخر والله أعلم
المسألة الثالثة
الجمع المنكر يحمل عندنا على أقل الجمع وهو الثلاثة خلافا
للجبائي فإنه قال يحمل على الاستغراق
375

لنا أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا فيقال
رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فمفهوم قولك رجال يمكن جعله مورد
التقسيم لهذه الأقسام
والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام
وغير مستلزم لها فاللفظ الدال على ذلك المورد لا يكون له إشعار بتلك
الأقسام فلا يكون دالا عليها
وأما الثلاثة فهي مما لابد منها فثبت أنها تفيد الثلاثة فقط
احتج الجبائي بأن حمله على الاستغراق حمل له على جميع حقائقه
وذلك أولى من حمله على بعض حقائقه
376

والجواب أن مسمى هذا الجمع الثلاثة من غير بيان عدم الزائد
ووجوده
ولا شك أنه قدر مشترك بين الثلاثة فقط وبين الأربعة وما فوقها
وقد بينا أن اللفظ الدال على ما به الاشتراك بين أنواع لا دلالة فيه
البتة على شئ من تلك الأنواع فضلا عن أن يكون حقيقة فيها فبطل
قوله إن حمل هذا اللفظ على الاستغراق يقتضي حمله على جميع
حقاقه أبي والله أعلم
المسألة الرابعة
قوله تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يقتضي
نفي الاستواء في جميع الأمور حتى في القصاص لوجهين
الأول أن نفي الاستواء أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو
من بعضها والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار فيه بهما
الثاني أنه إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من
بعض الوجوه أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه
377

والأول باطل وإلا لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع
الأشياء لأن كل شيئين فلا بد وأن يستويا في بعض الأمور من كونهما
معلومين ومذكورين وموجودين وفي سلب ما عداهما عنهما ومتى صدق
عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي لأنهما في العرف
كالمتناقضين (فإن من قال هذا يساوي ذاك فمن أراد تكذيبه قال
إنه لا يساويه
والمتناقضان لا يصدقان معا فوجب أن لا يصدق على شيئين
البتة أنهما متساويان وغير متساويين ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه
يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه وحينئذ يكفي في نفي
المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي هو الجزئي
فإذن قولنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه
والله أعلم
378

المسألة الخامسة
إذا قال الله تعالى يا أيها النبي فهذا لا يتناول الأمة
379

وقال قوم ما يثبت في حقه يثبت في حق غيره إلا ما دل الدليل
على أنه من خواصه
وهؤلاء إن زعموا أن ذلك مستفاد من اللفظ فهو جهالة
وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر وهو قوله تعالى وما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وما يجري مجراه فهو خروج عن
هذه المسألة لأن الحكم عنده إنما وجب على الأمة لا بمجرد الخطاب
المتناول للنبي فقط بل بالدليل الآخر
وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا أن الخطاب المتناول بوضعه للأمة لا
يتناول الرسول ص
المسألة السادسة
اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث إما أن يكون مختصا بهما وهو
كلفظ الرجال للذكور والنساء للإناث أو لا يكون وهو على قسمين
أحدهما ما لا يتبين فيه تذكير ولا تأنيث كصيغة من وهذا يتناول
الرجال والنساء
ومنهم من أنكره
لنا انعقاد الإجماع على أنه إذا قال من دخل الدار من أرقائي
380

فهو حر فهذا لا يتخصص بالعبيد وكذا لو أوصى بهذه الصيغة أو ربط
بها توكيلا أو إذنا في قضية من القضايا
احتجوا بقول العرب من منان منون منة منتان منات
والجواب أن ذلك وإن كان جائزا إلا أنهم اتفقوا على أن الأصح
استعمال لفظ من في الذكور والإناث
القسم الثاني ما تتبين فيه علامات التذكير والتأنيث كقولنا
قام قاما قاموا قامت قامتا قمن
واتفقوا على أن خطاب الإناث لا يتناول الذكور واختلفوا في أن
خطاب الذكور هل يتناول الإناث والحق لا
لنا أن الجمع تضعيف الواحد وقولنا قام لا يتناول المؤنث
فقولنا قاموا الذي هو تضعيف قولنا قام وجب أن لا يتناول المؤنث
381

احتجوا بأن أهل اللغة قالوا إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلب
التذكير
والجواب ليس المراد ما ذكرتموه بل المراد أنه متى أراد مريد أن
يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة كان الواجب هو التذكير والله أعلم
المسألة السابعة
إذا لم يمكن إجراء الكلام على ظاهر إلا بإضمار شئ فيه ثم هناك
أمور كثيرة يستقيم الكلام بإضمار أيها كان لم يجز إضمار جميعها وهذا
هو المراد من قولنا المقتضي لا عموم له مثاله قوله عليه السلام
رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
فهذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره بل لابد وأن نقول المراد
رفع عن أمتي حكم الخطأ
ثم ذلك الحكم قد يكون في الدنيا كإيجاب الضمان وقد يكون في
الآخرة كرفع التأثيم
فنقول إنه لا يجوز إضمارهما لا معا
382

لنا أن الدليل ينفي جواز الإضمار خالفناه في الحكم الواحد
لأجل الضرورة ولا ضرورة في غيره فيقى على الأصل
وللمخالف أن يقول ليس إضمار أحد الحكمين بأولى من الآخر
فإما أن لا تضمر حكما أصلا وهو غير جائز أو تضمر الكل وهو
المطلوب
المسألة الثامنة
المشهور من قول فقهائنا أنه لو قال والله لا آكل فإنه يعم
جميع المأكولات والعام يقبل التخصيص فلو نوى مأكولا دون مأكول
صحت نيته وهو قول أبي يوسف
383

وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يقبل التخصيص ونظر أبي حنيفة
رحمه الله فيه دقيق
وتقريره أن نية التخصيص لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو
في غيره والقسمان باطلان فبطلت تلك النية
وإنما قلنا إنه لا يصح اعتبار نية التخصيص في الملفوظ لأن
الملفوظ هو الأكل والأكل ماهية واحدة لأنها قدر مشترك بين أكل
هذا الطعام وأكل ذلك الطعام وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير
مستلزم له فالأكل من حيث أنه أكل مغاير لقيد كونه هذا الأكل وذاك
وغير مستلزم له والمذكور إنما هو الأكل من حيث هو أكل وهو
بهذا الاعتبار ماهية واحدة والماهية من حيث إنها هي لا تقبل العدد
فلا تقبل التخصيص بل الماهية إذا اقترنت بها العوارض الخارجية حتى
صارت هذا أو ذاك تعددت فهناك صارت محتملة للتخصيص و
لكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة فلا تكون محتملة للتخصيص
فالحاصل أن الملفوظ ليس إلا الماهية وهي غير قابلة للتخصيص
فأما إذا أخذت الماهية مع قيود زائدة عليها تعددت وحينئذ
384

تصير محتملة للتخصيص لكن تلك الزوائد غير ملفوظة فالمجموع
الحاصل منها ومن الماهية غير ملفوظ فيكون القابل لنية التخصيص
شيئا غير ملفوظ وهذا هو القسم الثاني
فنقول هذا القسم وإن كان جائزا عقلا إلا أنا نبطله بالدليل الشرعي
فنقول إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة وإلى اللحم أخرى إضافات
تعرض لها بحسب اختلاف المفعول به
وإضافتها إلى هذا اليوم وذلك وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة
لها بحسب اختلاف المفعول فيه
ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان لم يصح
فكذا التخصيص بالمفعول به والجامع رعاية الاحتياط في تعظيم
اليمين
حجة أصحاب الشافعي رضي الله عنه أجمعنا على أنه لو قال
إن أكلت أكلا أو غسلت غسلا صحت نية التخصيص فكذا إذا
قال إن أكلت لأن الفعل مشتق من المصدر والمصدر موجود فيه
385

والجواب أن المصدر هو الماهية وقد بينا أنها لا تحتمل
التخصيص وأما قوله أكلت أكلا فهذا في الحقيقة ليس مصدرا
لأنه يفيد أكلا واحدا منكرا والمصدر ماهية الأكل وقيد كونه
واحدا منكرا ليس وصفا قائما به بل معناه أن القائل ما عينه والذي
يكون متعينا في نفسه لكن القائل ما عينه فلا شك أنه قابل للتعيين
فإذا نوى التعيين فقد نوى ما يحتمله اللفظ فهذا ما عندي في هذا
الفصل
المسألة التاسعة
قال الشافعي رضي الله عنه ترك الاستفصال في حكاية الحال مع
قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال
386

مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال عليه الصلاة
والسلام أمسك أربعا وفارق سائرهن ولم يسأله عن كيفية ورود عقده
عليهن في الجمع أو الترتيب فكان إطلاقه القول دالا على
أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على الترتيب
وهذا فيه نظر لاحتمال أنه ص عرف خصوص الحال فأجاب بناء
387

على معرفته ولم يستفصل والله أعلم
المسألة العاشرة
العطف على العام لا يقتضي العموم لأن مقتضى العطف مطلق
الجمع وذلك جائز بين العام والخاص قال الله تعالى والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وهذا عام وقوله تعالى وبعولتهن أحق
بردهن خاص
المسألة الحادية عشرة
كل حكم يدل عليه بصيغة المخاطبة كقوله تعالى يا أيها الذين
388

آمنوا يا أيها الناس فهو خطاب مع الموجودين في عصر
الرسول ص
وذلك لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل يدل على أن
حكم من يأتي بعد ذلك كحكم الحاضرين لأن الذين سيوجدون بعد
ذلك ما كانوا موجودين في ذلك الوقت ومن لم يكن موجودا في ذلك
الوقت لا يكون إنسانا ولا مؤمنا في ذلك الوقت ومن لا يكون كذلك
لا يتناوله الخطاب المتناول للإنسان والمؤمن
فإن قيل وما الذي يدل على العموم
قلنا الحق أنه معلوم بالضرورة أن في دين محمد ص
وذكروا فيه طريقين آخرين
الأول التمسك بقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس وقوله
عليه السلام بعثت إلى الناس كافة وقوله بعثت إلى الأسود والأحمر
389

وقوله ص حكمي على الواحد حكمي على الجماعة
الثاني أنه ص متى أراد تخصيص على بين كما قال لأبي بردة بن
نيار يجزئ عنك ولا يجزئ أحدا بعدك
391

وخص عبد الرحمن بن عوف بحل لبس الحرير فحيث لا يتبين
التخصيص نعلم العموم
392

ولقائل أن يعترض على الأول بأن لفظ الناس والجماعة والأسود
والأحمر لا يتناول إلا الموجود ين فيختص بالحاضرين
وعلى الثاني بأن ذكر التخصيص إنما يحتاج إليه لو جرى لفظ يوهم
العموم لكنا قلنا إن الخطاب مشافهة لا يحتمل أن يدخل فيه
الذين سيوجدون بعد ذلك فلا حاجة فيه إلى بيان التخصيص
المسألة الثانية عشرة
قول الصحابي نهى رسول الله ص عن بيع الغرر لا يفيد العموم
393

لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية والذي رآه الصحابي حتى روى
النهي عنه يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة وأن يكون عاما ومع
الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم
وأيضا قول الصحاب قضى رسول الله ص بالشاهد واليمين لا
394

يفيد العموم وكذا القول فيما إذا قال الصحابي سمعت النبي ص
يقول قضيت بالشفعة للجار لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار
395

معروف وتكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية عن فعل
معين ماض
فأما قوله ص قضيت بالشفعة للجار وقول الراوي أنه ص قضى
396

بالشفعة للجار فالاحتمال فيهما قائم ولكن جانب العموم
أرجح
المسألة الثالثة عشرة
قول الراوي كان رسول الله ص يجمع بين الصلاتين في السفر
397

لا يقتضي العموم لأن لفظ كان لا يفيد إلا تقدم الفعل فأما التكرار
فلا
ومنهم من قال إنه يفيد التكرار في العرف لأنه لا يقال كان فلان
يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة في عمره
المسألة الرابعة عشرة
إذا قال الراوي ص ص بعد الشفق
399

فقال قائل الشفق شفقان الحمرة والبياض وأنا أحمله على وقوعه
بعدهما جميعا فهذا خطأ لأن اللفظ المشترك لا يمكن حمله على
مفهوميه معا كما تقدم
أما المتواطئ فمثاله قول الراوي صلى رسول الله ص في
الكعبة فلا يمكن أن يستدل به على جواز أداء الفرض في البيت لأنه
400

إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها فذاك الواقع إن كان فرضا لم يكن نفلا
وبالعكس فلا يدل على العموم
المسألة الخامسة عشرة
قال الغزالي رحمه الله المفهوم لا عموم له لأن العموم لفظ تتشابه
دلالته بالإضافة إلى مسمياته ودلالة المفهوم ليست لفظية فلا يكون لها
عموم
والجواب إن كنت لا تسميه عموما لأنك لا تطلق لفظ العام إلا
على الألفاظ فالنزاع لفظي
وإن كنت تعني أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه
فباطل لأن البحث عن أن المفهوم هل له عموم أم لا فرع على أن
المفهوم حجة ومتى ثبت كونه حجة لزم القطع بانتفاء الحكم عما
عداه لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر
فائدة والله أعلم.
401