الكتاب: اللمع في أصول الفقه
المؤلف: أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي
الجزء:
الوفاة: ٤٧٦
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٦
المطبعة:
الناشر: عالم الكتب - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

تخريج أحاديث
اللمع في أصول الفقه
للفقير إلى الله تعالى
عبد الله بن محمد الصديقي الغماري الحسيني
ومعه
اللمع في أصول الفقه
للامام أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي
المتوفي سنة 476 ه‍.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللمع في أصول الفقه
لأبي إسحاق الشيرازي (476 ه‍)
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
الحمد لله كما هو أهله وصلواته على محمد خاتم النبيين وسيد
المرسلين سألني بعض أخواني أن أصنف له مختصرا في المذهب في
أصول الفقه ليكون ذلك مضافا إلى ما عملت من التبصرة في الخلاف
43

فأجبته إلى ذلك إيجابا لمسألته وقضاء لحقه وأشرت فيه إلى ذكر الخلاف
وما لا بد منه من الدليل فربما وقع ذلك إلى من ليس عنده ما عملت من
الخلاف وإلى الله تعالى أرغب أن يوفقني للصواب ويجزل لي الأحر
والثواب إنه كريم وهاب
ولما كان الغرض بهذا الكتاب أصول الفقه وجب بيان العلم والظن وما
يتصل بهما لأن بهما يدرك جميع ما يتعلق بالفقه ثم نذكر النظر والدليل وما
يتصل بهما لأن بذلك يحصل العلم والظن ثم نبين الفقه وأصول الفقه إن
شاء الله عز وجل
44

في المقدمات
العلم والظن
النظر والدليل
بيان الفقه وأصوله
45

1 - باب بيان العلم والظن وما يتصل بهما
ونقدم على ذلك بيان الحد لأن به يعرف حقيقة كل ما نريد ذكره
والحد هو عبارة على المقصود بما يحصره ويحيط به إحاطة تمنع أن يدخل فيه ما
ليس منه أو يخرج منه ما هو منه ومن حكم الحد أن يطرد وينعكس فيوجد
المحدود بوجوده وينعدم بعدمه
1 - فصل فأما العلم فهو معرفة المعلوم على ما هو عليه وقالت
المعتزلة هو اعتقاد الشئ على ما هو به مع سكون النفس إليه وهذا غير
صحيح لأن هذا يبطل باعتقاد العاصي فيما يعتقده فإن هذا المعنى موجود
فيه وليس ذلك بعلم
2 - فصل والعلم ضربان قديم ومحدث فالقديم علم الله عز
وجل وهو متعلق بجميع المعلومات ولا يوصف ذلك بأنه ضروري ولا
مكتسب والمحدث علم الخلق وقد يكون ذلك ضروريا وقد يكون مكتسبا
فالضروري كل علم لزم المخلوق على وجه لا يمكنه دفعه عن نفسه بشك ولا
شبهة وذلك كالعلم الحاصل عن الحواس الخمس التي هي السمع والبصر
والشم والذوق واللمس والعلم بما تواترت به الأخبار من ذكر الأمم السالفة
والبلاد النائية وما يحصل في النفس العلم بحال نفسه من الصحة
والسقم والغم والفرح وما يعلمه من غيره من النشاط والفرح والغم والترح
47

وخجل الخجل ووجل الوجل وما أشبهه مما يضطر إلى معرفته
والمكتسب كل علم يقع على نظر واستدلال منه كالعلم بحدوث العالم
وثبات الصانع وصدق الرسل ووجوب الصلاة وأعدادها ووجوب
الزكاة ونصبها وغير ذلك مما يعلم بالنظر والاستدلال
3 - فصل وحد الجهل تصور المعلوم على خلاف ما هو به
والظن تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر كاعتقاد الإنسان فيما يخبر به
الثقة أنه على ما أخبر به وإن جاز أن يكون بخلافه وظن الإنسان في الغيم
المشف الثخين أنه يجئ منه المطر وإن جوز أن ينقشع عن غير مطر
واعتقاد المجتهدين فيما يفتون به في مسائل الخلاف وإن جوزوا أن يكون
الأمر بخلاف ذلك وغير ذلك مما لا يقطع به
4 - فصل والشك تجويز أمرين لا مزية لأحدهما عن الاخر
كشك الإنسان في الغيم غير المشف انه يكون منه مطر أم لا وشك المجتهد
فيما لم يقطع به من الأقوال وغير ذلك من الأمور التي لا يغلب فيها أحد
التجوزين على الآخر
48

2 - باب النظر والدليل
والنظر هو الفكر في حال المنظور فيه وهو طريق إلى معرفة الأحكام
إذا وجد بشروطه ومن الناس من أنكر النظر وهذا خطأ لأن العلم يحصل
بالحكم عند وجوده فدل على أنه طريق له
5 - فصل وأما شروطه فأشياء أحدها أن يكون الناظر كامل
الآلة على ما نذكره في باب المفتي إن شاء الله تعالى والثاني أن
يكون نظره في دليل لا في شبهة والثالث أن يستوفي الدليل ويرتبه على
حقه فيقدم ما يجب تقديمه ويؤخر ما يجب تأخيره
6 - فصل وأما الدليل فهو المرشد إلى المطلوب ولا فرق في
ذلك بين ما يقع به من الأحكام وبين مالا يقع به وقال أكثر المتكلمين لا
يستعمل الدليل إلا فيما يؤدي إلى العلم فأما فيما يؤدي إلى الظن فلا يقال له
دليل وإنما يقال له أمرة وهذا خطأ لأن العرب لا تفرق في تسمية بين ما
يؤدي إلى العلم أو الظن فلم يكن لهذا الفرق وجه
وأما الدال فهو الناصب للدليل وهو الله عز وجل وقيل هو والدليل
واحد كالعالم والعليم وإن كان أحدهما أبلغ
والمستدل هو الطالب للدليل ويقع ذلك على السائل لأنه يطلب
49

الدليل من المسؤول وعلى المسؤول لأنه يطلب الدليل من الأصول
والمستدل عليه هو الحكم الذي هو التحريم والتحلل
والمستدل له يقع على الحكم لأن الدليل يطلب له ويقع على
السائل لأن الدليل يطلب له
والاستدلال هو طلب الدليل وقد يكون ذلك من السائل للمسؤول
وقد يكون من المسؤول في الأصول
50

3 - باب بيان نفقة وأصول الفقه
والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد
والأحكام الشرعية وهي الواجب والندب والمباح
والمحظور والمكروه والصحيح والباطل
فالواجب ما تعلق العقاب بتركه كالصلوات الخمس والزكوات
ورد الودائع والمغصوب وغير ذلك
والندب ما يتعلق الثواب بفعله ولا يتعلق العقاب بتركه كصلوات النفل
وصدقات التطوع وغير ذلك من القرب المستحبة
المباح مالا ثواب بفعله ولا عقاب في تركه كأكل الطيب
ولبس الناعم والنوم والمشي وغير ذلك من المباحات
والمحظور ما تعلق العقاب بفعله كالزنا واللواط والغصب والسرقة وغير ذلك من المعاصي
51

والمكروه ما تركه أفضل من فعله كالصلاة مع الالتفات والصلاة
في إعطان: الإبل واشتمال الصماء وغير ذلك مما نهى عنه على وجه
التنزيه
والصحيح ما تعلق به النفوذ وحصل به المقصود كالصلوات
الجائزة والبيوع الماضية
والباطل ما لا يتعلق به النفوذ ولا يحصل به المقصود كالصلاة بغير
طهارة وبيع مالا يملك وغير ذلك مما لا يعتد به من الأمور الفاسدة
7 - فصل وأما أصول الفقه فهي الأدلة التي يبنى عليها الفقه وما
يتصول بها إلى الأدلة على سبيل الأجمال
والأدلة ههنا خطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأفعاله
وإقراره وإجماع الأمة والقياس والبقاء على حكم الأصل عند عدم هذه
الأدلة وفتيا العالم في حق العامة
وما يتوصل به إلى الأدلة فهو الكلام على تفصيل هذه الأدلة
ووجهها وترتيب بعضها على بعض وأول ما يبدأ به الكلام على خطاب الله
عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم لأنهما أصل لما سواهما من الأدلة ويدخل
في ذلك أقسام الكلام والحقيقة والمجاز والأمر والنهي والعموم
والمخصوص المجمل والمبين والمفهوم والمؤول والناسخ والمنسوخ
ثم الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره لأنهما يجريان مجرى أقواله في
البيان ثم الكلام في الأخبار لأنها طريق إلى معرفة ما ذكرناه من الأقوال
52

والأفعال ثم الكلام في الإجماع لأنه ثبت كونه دليلا بخطاب الله عز وجل
وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وعنهما ينعقد ثم الكلام في القياس لأنه ثبت كونه دليلا
بما ذكر من الأدلة وإليها يستند ثم نذكر حكم الأشياء في الأصل لأن
المجتهد إنما يفزع إليه عند عدم هذه الأدلة ثم نذكر فتيا العالم وصفة
المفتي والمستفتي لأنه إنما يصير طريقا للحكم بعد العلم بما ذكرناه ثم
نذكر الاجتهاد وما يتعلق به إن شاء الله تعالى
53

الكتاب الثاني
أقسام الكلام
ويتضمن الأبواب التالية
أقسام الكلام
الحقيقة والمجاز
الأسماء واللغات
الأمر والنهي
العموم والخصوص
الاستثناء
المطلق والمقيد
مفهوم الخطاب
المجمل والمبين
55

4 - باب أقسام الكلام
جميع ما يتلفظ به من الكلام ضربان مهمل ومستعمل فالمهل
لم يوضع للإفادة والمستعمل ما وضع للإفادة وذلك ضربان
أحدهما ما يفيد معنى فيما وضع له وهي الألقاب كزيد وعمرو وما
أشبهه والثاني ما يفيد معنى فيما وضع له ولغيره وذلك ثلاثة أشياء
اسم وفعل وحرف على ما يسميه أهل النحو فالاسم كل كلمة دلت على معنى
في نفسها مجرد عن زمان مخصوص كالرجل والفرس والحمار وغير ذلك
والفعل كل كلمة دلت على معنى في نفسها مقترن بزمان كقولك
ضرب ويقوم وما أشبهه والحرف ما لا يدل على معنى في نفسه ودل على
معنى في غيره كمن وإلى وعلى وأمثاله وأقل كلام مفيد ما بني من أسمين
كقولك زيد قاسم وعمرو أخوك أو ما بني من اسم وفعل كقولك خرج زيد
ويقوم عمرو وأما ما بين من فعلين أو من حرفين أو من حرف واسم أو
حرف وفعل فلا يفيد إلا أن يقدر فيه شئ مما ذكرناه كقولك يا زيد فإن
معناه أدعو زيدا
57

5 - باب في الحقيقة والمجاز
والكلام المفيد ينقسم إلى حقيقة ومجاز وقد وردت اللغة بالجميع
ونزل به القرآن ومن الناس من أنكر المجاز في اللغة وقال ابن داود
ليس في القرآن مجاز وهذا خطأ لقوله تعالى جدارا يريد أن ينقض (1)
ونحن نعلم ضرورة أنه لا إرادة للجدار وقال تعالى وأسأل القرية (1)
ونحن نعلم ضرورة أن القرية لا تخاطب فدل على أنه مجاز
فأما الحقيقة فهي الأصل وحدها كل لفظ يستعمل فيما وضع له
من غير نقل وقيل ما استعمل فيما اصطلح على التخاطب به وقد يكون
للحقيقة مجاز كالبحر حقيقة للماء المجتمع الكثير ومجاز في الفرس
الجواد والرجل العالم فإذا ورد اللفظ حمل على الحقيقة بإطلاقه ولا
يحمل على المجاز إلا بدليل وقد لا يكون له مجاز وهو أكثر اللغات فيحمل
على ما وضع له
58

وأما المجاز فحده ما نقل عما وضع له وقل التخاطب غير به وقد يكون
ذلك بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير واستعارة فالزيادة كقوله عز وجل
ليس كمثله شئ (2) والمعنى ليس مثله شئ والكاف زائدة
والنقصان كقوله تعالى واسأل القرية والمراد أهل القرية
فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والتقديم والتأخير كقوله عز
وجل والذي أخرج المرعي فجعله غثاء أحوى (3) والمراد أخرج
المرعي أحوى فجعله غثاء فقدم وأخر والاستعارة كقوله تعالى
جدارا يريد أن ينقض (4) فاستعار فيه لفظ الإرادة وما من مجاز إلا وله
حقيقة لأنا قد بينا أن المجاز ما نقل عما وضع له وما وضع له هو
الحقيقة
8 - فصل ويعرف المجاز من الحقيقة بوجوه من أن يصرحوا بأنه
مجاز وقد بين أهل اللغة ذلك وصنف أبو عبيدة كتاب المجاز في
القرآن وبين جميع ما فيه من المجاز ومنها أن يستعمل اللفظ فيما لا يسبق
إلى الفهم عند سماعه كقولهم في البليد حمار والأبله أحمد تيس ومنها أن
يوصف الشئ ويسمى بما يستحيل وجوده كقوله واسأل القرية (5)
59

ومنها أن لا يجري ولا يطرد كقولهم في الرجل الثقيل جبل ثم لا يقال
ذلك في غيره وفي الطويل نخلة ثم لا يقال ذلك في غير الآدمي ومنها
أن لا يتصرف فيما استعمل فيه كتصرفه فيما وضع له حقيقة كالأمر في معنى
الفعل لا تقول فيه أمر يأمر كما تقول في الأمر بمعنى القول
60

6 - باب بيان الوجوه التي تؤخذ منها الأسماء واللغات
اعلم أن الأسماء واللغات تؤخذ من أربع جهات من اللغة والعرف
والشرع والقياس
فأما اللغة ما تخاطب به العرب من اللغات وهي على ضربين
فمنها ما يفيد معنى واحدا فيحمل على ما وضع له اللفظ كالرجل
والفرس والتمر والبر وغير ذلك ومنه ما يفيد معاني وهو على
ضربين أحدهما ما يفيد معاني متفقة كاللون يتناول البياض والسواد
وساء الألوان والمشرك يتناول اليهودي والنصراني فيحمل على جميع
ما يتناوله أما على سبيل الجمع إن كان اللفظ يقتضي الجمع أو على كل
واحد أحد منه على سبيل البدل إن لم يقتض اللفظ الجمع إلا أن يدل
الدليل على أن المراد شئ بعينه فيحمل على ما دل عليه الدليل
والثاني ما يفيد معاني مختلفة كالبيضة تقع على الخوذة وبيض
الدجاجة والنعامة والقرء يقع على الحيض والطهر فإن دل الدليل على أن
المراد به واحد منهما بعينه حمل عليه وأن دل الدليل على أن المراد به
أحدهما ولم يعين لم يحمل على واحد منهما إلا بدليل إذ ليس أحدهما
61

بأولى من الآخر وإن لم يدل الدليل على واحد منهما حمل عليهما وقال
أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة لا يجوز حمل اللفظ الواحد على
معنيين مختلفين والدليل على جواز ذلك أنه لا تنافي بين المعنيين واللفظ
يحتملهما فوجب الحمل عليهما كما قلنا في القسم الذي قبله
9 - فصل وأما العرف فهو ما غلب الاستعمال فيه على ما وضع له
في اللغة بحيث إذا أطلق سبق الفهم إلى ما غلب عليه دون ما وضع له
كالدابة وضع في الأصل لكل ما دب ثم غلب عليه الاستعمال في الفرس
والغائط وضع في الأصل للموضع المطمئن من الأرض ثم غلب عليه
الاستعمال فيما يخرج من الانسان فيصير حقيقة فيما غلب عليه فإذا أطلق
حمل على ما يثبت له من العرف
10 - فصل وأما الشرع فهو ما غلب الشرع فيه على ما وضع له
اللفظ في اللغة بحيث إذا أطلق لم يفهم منه إلا ما غلب عليه الشرع
كالصلاة اسم للدعاء في اللغة ثم جعل في الشرع اسما لهذه المعروفة
والحج اسم للقصد ثم نقل في الشرع إلى هذه الأفعال فصار حقيقة فيما
غلب عليه الشرع فإذا أطلق حمل على ما يثبت له من عرف الشرع ومن
أصحابنا من قال ليس في الأسماء شئ منقول إلى الشرع بل كلها مبقاة على
موضوعها في اللغة فالصلاة اسم للدعاء وإنما الركوع والسجود زيادات
أضيفت إلى الصلاة وليست من الصلاة كما أضيفت إلى الطهارة وليست
منها وكذلك الحج اسم للقصد والطواف والسعي زيادات أضيفت إلى الحج وليست من
الحج فإذا أطلق اسم الصلاة حمل على الدعاء وإذا
أطلق اسم الحج حمل على القصد وهو قول الأشعرية والأول أصح
والدليل عليه أن هذه الأسماء إذا أطلقت في الشرع لم يعقل منها المعاني التي
وضعت لها في اللغة فدل على أنها منقولة
62

11 - فصل إذا ورد لفظ قد وضع في اللغة
لمعنى وفي العرف لمعنى حمل على ما ثبت له في العرف لأن العرف طارئ على اللغة فكان
الحكم له وإن كان قد وضع في اللغة لمعنى وفي الشرع لمعنى حمل على
عرف الشرع لأنه طارئ على اللغة ولأن القصد بيان حكم الشرع
فالحمل عليه أولى
12 - فصل وأما القياس فهو مثل تسمية اللواط زنا قياسا على
وطئ النساء وتسمية النبيذ خمرا قياسا على عصير العنب وقد اختلف
أصحابنا فيه فمنهم من قال يجوز إثبات اللغات والأسماء بالقياس وهو قول
أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة ومنهم من قال لا يجوز ذلك
والأول أصح لأن العرب سمت ما كان في زمانها من الأعيان بأسماء ثم
انقرضوا وانقرضت تلك الأعيان وأجمع الناس على تسمية أمثالها بتلك
الأسماء فدل على أنهم قاسوها على الأعيان التي سموها
63

الكلام في الأمر والنهي
7 - باب القول في بيان الأمر وصيغته
أعلم أن الأمر قول يستدعي به الفعل ممن هو دونه ومن أصحابنا من
زاد فيه على سبيل الوجوب فأما الأفعال التي ليست بقول فإنها تسمى أمرا
على سبيل المجاز ومن أصحابنا من قال ليس بمجاز قال الشيخ الامام
أيده الله وقد نصرت ذلك في التبصرة والأول أصح لأنه لو كان حقيقة في
الفعل كما هو حقيقة في القول لتصرف في الفعل كما تصرف في القول
فيقال أمر يأمر كما يقال ذلك إذا أريد به القول
13 - فصل وكذلك ما ليس فيه استدعاء كالتهديد مثل قوله عز
وجل اعملوا ما شئتم (1) والتعجيز كقوله تعالى قل فأتوا بعشر
سور مثله بعد مفتريات (2) والإباحة مثل قوله عز وجل وإذا حللتم
فاصطادوا (3) فذلك كله ليس بأمره وقال البلخي من المعتزلة الإباحة
أمر وهذا خطأ لأن الإباحة هي الإذن وذلك لا يسمى أمرا ألا ترى أن
64

العبد إذا استأذن مولاه في الاستراحة وترك الخدمة فأذن له في ذلك لا يقال
انه أمره بذلك
14 - فصل وكذلك ما كان من النظير للنظير ومن الأدنى للأعلى فليس
بأمر وإن كان صيغته صيغة أمر وذلك كقول العبد لربه اغفر لي
وارحمني فإن ذلك مسألة ورغبة
15 - فصل وأما الاستدعاء على وجه الندب فليس بأمر حقيقة ومن
أصحابنا من قال هو أمر حقيقة والدليل على أنه ليس بأمر قوله صلى الله عليه وسلم لولا
أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ومعلوم ان السواك عند
65

كل صلاة مندوب إليه وقد أخبر أنه لم يأمر به فدل على أن المندوب إليه غير
مأمور به
16 - فصل للأمر صيغة موضوعة في اللغة تقتضي الفعل وهو
قوله افعل وقالت الأشعرية ليست للأمر صيغة والدليل على أن له
صيغة أن أهل اللسان قسموا الكلام فقالوا في جملتها امر ونهي فالأمر
قولك افعل والنهي قولك لا تفعل فجعلوا قوله افعل بمجرده أمرا فدل
على أن له صيغة
66

8 - باب ما يقتضي الأمر من الايجاب
إذا تجردت صيغة الأمر اقتضت الوجوب في قول أكثر أصحابنا ثم
اختلفوا هؤلاء فمنهم من قال يقتضي الوجوب بوضع اللغة ومنهم من
قال يقتضي الوجوب بالشرع ومن أصحابنا من قال يقتضي الندب وقال بعض
الأشعرية لا يقتضي الوجوب ولا غيره إلا بدليل وقالت المعتزلة الأمر
يقتضي إرادة الفعل فإن كان ذلك من حكيم اقتضت الندب وإن كان من
غيره لم يقتض أكثر من الإرادة والدليل على أنها تقتضي الوجوب قوله
صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة فدل على أنه لو
أمر لوجب ولو شق ولأن السيد من العرب إذا قال لعبده اسقني ماء
فلم يسقه استحق الذم والتوبيخ فلو لم يقتض الوجوب لما استحق الذم عليه
17 - فصل سواء وردت هذه الصيغة ابتداء أو وردت بعد الخطر
فإنها تقتضي الوجوب وقال بعض أصحابنا إذا وردت بعد الحظر اقتضت
الإباحة والدليل على أنها تقتضي الوجوب أن كل لفظ اقتضى الإيجاب إذا لم
يتقدمه حظ اقتضى الإيجاب وآن تقدمه حظر كقوله أوجبت وفرضت
فصل إذا دل الدليل على أنه لم يرد بالأمر الوجوب لم يجز
67

الاحتجاج به في الجواز ومن أصحابنا من قال يجوز والأول أظهر لأن
الأمر لم يوضع للجواز وإنما وضع للإيجاب والجواز يدخل فيه على سبيل
التبع فإذا سقط الوجوب سقط ما دخل فيه على سبيل التبع
68

9 - باب في أن الأمر يقتضي الفعل مرة واحدة أو التكرار
إذا وردت صيغة الأمر لإيجاب فعل وجب العزم على الفعل ويجب
تكرار ذلك كلما ذكر الأمر لأنه إذا ذكر ولم يعزم على الفعل صار مصرا
على العناد وهذا لا يجوز وأما الفعل المأمور به فإن كان في اللفظ ما يدل
على تكراره وجب تكراره وإن كان مطلقا ففيه وجهان ومن اصحبنا من
قال يجب تكراره على حسب الطاقة ومنهم من قال لا يجب أكثر من مرة
واحدة إلا بليل يدل على التكرار وهو الصحيح والدليل على أن إطلاق
الفعل يقتضي ما يقع عليه الاسم ألا ترى أنه لو حلف ليفعلن بر بمرة
واحدة فدل على أن الإطلاق لا يقتضي أكثر من ذلك
فصل فأما إذا علق الأمر بشرط بأن يقول إذا زالت الشمس
فهل يقتضي التكرار إن قلنا إن مطلق الأمر يقتضي التكرار فالمعلق
بالشرط مثله وإن قلنا أن مطلقه لا يقتضي التكرار ففي المعلق بالشرط
وجهان ومن أصحابنا من قال يقتضي التكرار كلما تكرر الشرط ومنهم من
قال لا يقتضي وهو الأصح لأن كل ما لا يقتضي التكرار إذا كان مطلقا
لم يقتض التكرار إذا كان بالشرط كالطلاق لا فرق بين أن يقول أنت
طالق وبين أن يقول إذا زالت الشمس فأنت طالق
فصل فأما إذا تكرر الأمر بالفعل الواحد بأن قال صل ثم
69

قال صل فإن قلنا أن مطلق الأمر يقتضي التكرار فتكرار الأمر يقتضي
التأكيد وإن قلنا أنه يقتضي الفعل مرة واحدة ففي التكرار وجها
أحدهما أنه تأكيد وهو قول الصيرفي والثاني إنه استئناف وهو
الصحيح والدليل عليه أن كل واحد من الأمرين يقتضي إيجاد الفعل عند
الانفراد فإذا اجتمعا أوجبا التكرار كما لو كانا فعلين
70

10 - باب في أن الأمر هل يقتضي الفعل على الفور أم لا
إذا ورد الأمر بالفعل مطلقا وجب العزم على الفعل على الفور كما
مضى في الباب قبله وهل يقتضي الفعل على الفور بنيت على التكرار فإن
قلنا أن الأمر يقتضي التكرار على حسب الاستطاعة وجب على الفور لأن
الحالة الأولى داخلة في الاستطاعة فلا يجوز إخلاؤها من الفعل وإن قلنا
أن الأمر يقتضي مرة واحدة فهل يقتضي ذلك على الفور أم لا فيه وجهان
لأصحابنا أحدهما أنه لا يقتضي الفعل على الفور ومن أصحابنا من قال
يقتضي ذلك على الفور وهو قول الصيرفي والقاضي أبي حامد والأول
أصح لأن قوله أفعل يقتضي إيجاد الفعل من غير تخصيص بالزمان الأول
دون الثاني فإذا صار ممتثلا بالفعل في الزمان الأول وجب ان يصير ممتثلا
بالفعل في الزمان الثاني
فصل فأما إذا ورد الأمر مقيدا بزمان نظرت فإن كان الزمان
يستغرق العبادة كالصوم في شهر رمضان لزمه فعلها على الفور عند دخول
71

الوقت وإن كان الزمان أوسع من قدر العبادة كصلاة الزوال ما بين الظهر إلى
أن يصير ظل يقول كل شئ مثله وجب الفعل في أول الوقت وجوبا موسعا ثم
اختلفوا هل يجب العزم في أول الوقت بدلا عن الصلاة فمنهم من لم يوجب
ومنهم من أوجب العزم بدلا عن الفعل في أول الوقت وقال أبو الحسن
الكرخي يتعلق الوجوب أحد شيئين إما بالفعل أو بأن يضيق الوقت
وقال أكثر أصحاب أبي حنيفة يتعلق الوجوب بآخر الوقت واختلف هؤلاء
فيمن صلى في أول الوقت فمنهم من قال أن ذلك نفل فإن جاء آخر
الوقت وليس من أهل الوجوب فلا كلام في أن ما فعله كان نفلا وإن كان من
أهل الوجوب منع ذلك النفل الذي فعله من توجه الفرض عليه في آخر الوقت
ومنهم من قال فعله في أول الوقت مراعي فإن جاء آخر الوقت وهو من أهل
الوجوب علمنا أنه فعل واجبا وإن لم يكن من أهل الوجوب علمنا أنه فعل
نفلا والدليل على ما قلناه أن المقتضي للوجوب هو الأمر وقد تناول ذلك أول
الوقت بقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس (1) فوجب أن يجب في أوله
فصل فإن فات الوقت الذي علق عليه العبادة فلم يفعل فهل
يجب القضاء أم لا فيه وجهان من أصحابنا من قال يجب ومنهم من قال لا
يجب إلا بأمر ثان وهو الأصح لأن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر فلا يجب
الفعل فيه كما قبل الوقت
فصل إذا أمر بأمر بعبادة في وقت معين في وقت معين ففعلها في ذلك
الوقت سمي أداء على سبيل الحقيقة ولا يسمى قضاء إلا مجازا كما قال
72

الله تعالى فإذا قضيتم مناسككم (2) وكما قال فإذا قضيت الصلاة
فانتشروا في الأرض (1) أما إذا دخل فيها فأفسدها أو نسي شرطا من
شروطها فأعادها والوقت باق سمي إعادة وأداء وإن فات الوقت ففعلها بعد
فوات الوقت سمي قضاء
73

11 - باب الأمر بأشياء على جهة التخيير والترتيب
إذا خير الله تعالى بين أشياء مثل كفارة اليمين خير فيها بين العتق
والطعام والكسوة فالواجب منها واحد غير معين فأيها فعل فقد فعل
الواجب وإن فعل الجميع سقط الفرض عنه بواحد منها والباقي تطوع
وقالت المعتزلة الثلاثة كلها واجبة فإن أرادوا بوجوب الجميع تساوي
الجميع في الخطاب فهو وفاق وإنما يحصل الخلاف في العبارة دون
المعنى وإن أرادوا بوجوب الجميع أنه مخاطب بفعل الجميع فالدليل على
فساده أنه إذا ترك الجميع لم يعاقب على الجميع ولو كان الجميع واجبا
لعوقب على الجميع فلما لم يعاقب إلا على واحد دل على أنه هو
الواجب
فصل فأما إذا أمر بأشياء على الترتيب كالمظاهر أمر بالعتق
عند وجود الرقبة وبالصيام عند عدمها بالإطعام عند العجز الذي عن الجميع
فالواجب من ذلك واحد معين على حسب حاله فإن كان موسرا ففرضه
العتق وإن كان معسرا ففرضه الصيام وإن كان عاجزا ففرضه الاطعام فإن
جمع من فرضه العتق بين الجميع سقط الفرض عنه بالعتق وما عداه تطوع وإن
جمع من فرضه الصيام بين الجميع ففرضه أحد الأمرين من العتق أو
الصيام والإطعام تطوع وإن جمع من فرضه الإطعام بين الجميع ففرضه
واحد من الثلاثة كالكفارة المخيرة
74

12 - باب إيجاب ما لا يتم المأمور إلا به
إذا أمر بفعل ولم يتم ذلك الفعل إلا بغيره نظرت فإن كان ذلك الأمر
مشروطا بذلك الغير كالاستطاعة في الحج والمال في الزكاة لم يكن
الأمر بالحج والزكاة أمرا بتحصيل لأن لأن الأمر بالحج لم يتناول من لا
استطاعة له وفي الزكاة من لا مال له فلو ألزمناه تحصيل ذلك ليدخل في
الأمر لأسقطنا شرط الأمر وهذا لا يجوز وإن كان الأمر مطلقا غير
مشروط كان الأمر بالفعل أمرا به وبما لا يتم إلا به وذلك كالطهارة للصلاة
الأمر بالصلاة أمر بالطهارة أو كغسل شئ من الرأس لاستيفاء الفرض عن
الوجه فلو لم يلزمه ما يتم به الفعل المأمور به أسقطنا الوجوب في الأمور
ولهذا قلنا فيمن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة ولم يعرف عينها أنه
يجب عليه قضاء خمس صلوات لتدخل المنسية فيها
فصل وأما إذا أمر بصفة عبادة فإن كانت الصفة واجبة
كالطمأنينة في الركوع دل على وجوب الركوع لأنه لا يمكنه أن يأتي بالصفة
الواجبة إلا بفعل الموصوف وإن كانت الصفة ندبا كرفع الصوت بالتلبية علي
لم يدل ذلك على وجوب التلبية ومن الناس من قال تدل على وجوب
التلبية وهذا خطأ لأنه قد يندب إلى صفة ما هو واجب وما هو ندب فلم
يكن في الندب دليل على وجوب الأصل
75

فصل وإذا أمر بشئ كان ذلك نهيا عن ضده من جهة
المعنى فإن كان ذلك الأمر واجبا كان النهي عن ضده على سبيل
الوجوب وإن كان ندبا كان النهي عن ضده على سبيل الندب ومن أصحابنا أصحابنا
من قال ليس بنهي عن ضده وهو قول المعتزلة والدليل على ما قلناه انه لا
يتوصل أي فعل المأمور إلا بترك الضد فهو كالطهارة في الصلاة
فصل فأما إذا أمر باجتناب شئ ولم يمكنه الاجتناب إلا
باجتناب غيره فهذا على ضربين
أحدهما أن يكون في اجتناب الجميع مشقة فيسقط حكم المحرم
فيه فيسقط عنه فرض الاجتناب وهو كما إذا وقع في الماء الكثير نجاسة
أو اختلطت أخته بنساء بلد فلا يمنع من الوضوء بالماء ولا من نكاح نساء
ذلك البلد
والثاني أن لا يكون في اجتناب الجميع مشقة فهذا على ضربين
أحدهما أن يكون المحرم مختلطا بالمباح كالنجاسة في الماء القليل
والجارية المشتركة بين الرجلين فيجب اجتناب الجميع والثاني أن يكون
غير مختلط إلا أنه لا يعرف المباح بعينه فهذا على ضربين ضرب يجوز فيه
التحري وهو كالماء الطاهر إذا اشتبه بالماء النجس فيتحرى فيه وضرب
لا يجوز فيه التحري وهو الأخت إذا اختلطت بأجنبية والماء إذا اشتبه
بالبول فيجب اجتناب الجميع
76

13 - باب الأمر يدل على إجراء المأمور به
واعلم أنه إذا أمر الله تعالى بفعل لم يخل
المأمور إما أن يفعل المأمور به على الوجه الذي تناوله الأمر أو يزيد على ما تناوله الأمر أو
ينقص فإن فعل على الوجه الذي تناوله الأمر أجزأه ذلك بمجرد الأمر
وقال بعض المعتزلة الأمر لا يدل على الأجزاء بل يحتاج الآخر إلى دليل
آخر وهذا خطأ لأنه قد فعل المأمور به على الوجه الذي تناوله الأمر
فوجب أن يعود إلى ما كان قبل الأمر
فصل فأما إذا زاد على المأمور بأن يأمره بالركوع فيزيد على ما
يقع عليه الاسم سقط الفرض عنه بأدنى ما يقع عليه الاسم والزيادة على
ذلك تطوع لا تدخل في الأمر وقال بعض الناس الجميع واجب داخل في
الأمر وهذا باطل لأن ما زاد على الاسم يجوز له تركه على الاطلاق
فإذا فعله لم يكن واجبا كسائر النوافل
فصل فأما إذا نقص عن المأمور نظرت فإن نقص منه ما هو
شرط في صحته كالصلاة بغير قراءة لم يجزه ولم يدخل في الأمر لأنه
لم يأت بالمأمور على الوجه الذي أمر به وإن نقص منه ما ليس بشرط
التسمية في الطهارة أجزأه في المأمور وهل يدخل ذلك في الأمر الظاهر
من قول أصحابنا أنه لا يدخل في الأمر وقال أصحاب أبي حنيفة يدخل في
77

الأمر وهذا غير صحيح لأن المكروه منهي عنه فلا يجوز أن يدخل في
لفظ الأمر كالمحرم
78

14 - باب من يدخل في الأمر ومن لا يدخل فيه
اعلم أن الساهي لا يجوز أن يدخل في الأمر والنهي لأن القصد إلى
التقرب بالفعل والترك يتضمن العلم به حتى يصح القصد إليه وهذا
يستحيل في حق الناسي ألا ترى أنه لو قيل له لا تتكلم في صلاتك وأنت
ساه لوجب أن يقصد إلى ترك ما يعلم أنه ساه فيه وعلمه بأنه ساه يمنع كونه
ساهيا فبطل خطابه على هذه الصفة
فصل وكذلك لا يجوز خطاب النائم ولا المجنون ولا
السكران لأنه لو جاز خطابهم مع زوال العقل لجاز خطاب البهيمة والطفل
في المهد وهذا لا يقوله أحد
فصل وأما المكره فيصح دخوله في الخطاب والتكليف وقالت
المعتزلة لا يصح دخوله تحت التكليف وهذا خطأ لأنه لو لم يصح
تكليفه لما كلف ترك القتل مع الإكراه ولأنه عالم قاصد إلى ما يفعله فهو
كغير المكره
فصل وأما الصبي فلا يدخل في خطاب التكليف فإن الشرع
قد ورد بإسقاط التكليف عنه وما إيجاب الحقوق في ماله فيجوز أن يدخل فيه
كالزكوات والنفقات فإن التكليف والخطاب في ذلك على وليه دونه
79

فصل وأما العبيد فإنهم يدخلون في الخطاب ومن أصحابنا
من قال لا يدخلون في خطاب الشرع إلا بدليل وهذا خطأ لأن الخطاب
صلح لهم كما يصلح للأحرار
فصل وأما الكفارة فإنهم يدخلون أيضا في الخطاب ومن
أصحابنا من قال لا يدخلون في الشرعيات ومن الناس من قال يدخلون
في المنهيات دون المأمورات والدليل على أنهم يدخلون في الجميع قوله عز
وجل ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين (1) ولو لم يكونوا
مخاطبين بالصلاة لما عاقبهم عليها ولأن صلاح الخطاب لهم كصلاحه
للمسلمين فكما دخل المسلمون وجب أن تدخل الكفار
فصل وأما النساء فإنهن لا يدخلن في خطاب الرجال وقال أبو
بكر بن داود وأصحاب أبي حنيفة يدخلن وهذا خطأ لأن للنساء لفظا
مخصوصا كما أن للرجال لفظا مخصوصا فكما لم تدخل الرجال في
خطاب النساء لم تدخل النساء في خطاب الرجال
فصل وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يدخل في كل خطاب خوطب به
الأمة كقوله تعالى يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا وغير
ذلك لأن صلاح اللفظ له كصلاحه لكل أحد من الأمة فكما دخلت الأمة
دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأما إذا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب خاص لم يدخل معه غيره
إلا بدليل كقوله تعالى يا أيها المزمل قم
80

الليل (1) وقوله يا أيها النبي قل لأزواجك (2) ومن الناس من قال ما
ثبت أنه شرع له دخل غيره معه فيه وهذا خطأ لأن الخطاب مقصور
عليه فمن زعم أن غيره يدخل فيه فقد خالف حتى مقتضى الخطاب فصل فأما إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بشئ لم يدخل هو فيه ومن
أصحابنا من قال يدخل فيما يأمر به الأمة وهذا خطأ لأن ما خاطب به
الأمة من الخطاب لا يصح له فلا يجوز أن يدخل فيه من غير دليل
فصل وأما ما خاطب الله عز وجل به الخلق خطاب المواجهة
كقوله تعالى يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا فإنه لا يدخل فيه
سائر من لم يخلق من جهة الصيغة واللفظ لأن هذا الخطاب لا يصلح إلا لمن
هو موجود على الصفة التي ذكرها فأما من لم يخلق فلا يصلح له هذا
الخطاب وكذلك إذا خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطاب لم يدخل غيره فيه من جهة
اللفظ لأن الذي خاطبه به لا يتناول غيره وإنما يدخل الغير في حكم ذلك
الخطاب بدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم حكمي على واحد حكمي على
الجماعة والقياس وهو أن يوجد المعنى الذي حكم به فيمن حكم عليه في غيره
فيقاس عليه
81

فصل إذا ورد الخطاب بلفظ العموم دخل فيه كل من صلح
له الخطاب ولا يسقط ذلك الفعل عن بعضهم بفعل البعض إلا فيما ورد
الشرع به وقرره تعالى أنه فرض كفاية كالجهاد وتكفين الميت والصلاة عليه
ودفنه فإنه إذا أقام به من يقع به الكفاية سقط عن الباقين
82

15 - باب بيان الفرض والواجب والسنة والندب
والواجب والفرض والمكتوبة واحد وهو ما يعلق العقاب بتركه وقال
أصحاب أبي حنيفة الواجب ما ثبت وجوبه بدليل مجتهد فيه كالوتر
والأضحية عندهم والفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به كالصلوات
الخمس والزكوات المفروضة وما أشبهها وهذا خطأ لأن طريق
الأسماء الشرع واللغة والاستعمال وليس في شئ من ذلك فرق بين ما ثبت
بدليل مقطوع به أو بطريق مجتهد فيه
فصل وأما السنة فما رسم ليحتذي فإن به على سبيل
الاستحباب وهي والنفل والندب بمعنى واحد ومن الناس من قال السنة
ما ترتب كالسنن الراتبة مع الفرائض والنفل والندب ما زاد على ذلك
وهذا لا يصح لأن كل ما ورد الشرع باستحبابه فهو سنة سواء كان راتبا أو
غير راتب فلا معنى لهذا الفرق
فصل إذا قال الصحابي أمر رسول صلى الله عليه وسلم بكذا وجب
قبوله ويصير كما لو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت بكذا وقال داود لا يقبل حتى
83

ينقل لفظه والدليل على ما قلناه هو أن الراوي مصدق فيما يرويه وهو عارف
بالأمر والنهي لأنه لغته فوجب أن يقبل كسائر ما يرويه
فصل وكذلك إن قال من السنة كذا حمل على سنة النبي
صلى الله عليه وسلم وأما إذا قال أمر فلان بكذا أو أمرنا أو نهينا ولم يسم الآمر حمل
ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحمل على ذلك إلا
بدليل وهو قول أبي بكر الصيرفي وهذا غير صحيح لأن الذي يحتج
بأمره ونهيه وسنته هو الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أطلق الصحابي ذلك وجب أن يحمل
عليه
84

16 - باب القول في النهي
فصل النهي يقارب الأمر في أكثر ما ذكرناه إلا إني أشير إليه عمر
على جهة الاختصار وأبين ما يخالف الأمر فيه إن شاء الله تعالى وبه الثقة
فأما حقيقته فهو القول الذي يستدعي به ترك الفعل فمن هو دونه ومن أصحابنا
من زاد فيه على سبيل الوجوب كما ذكرناه في الأمر
فصل وله صيغة تدل عليه في اللغة وهو قوله لا تفعل
وقالت الأشعرية ليس له صيغة وقد مضى الدليل عليه في الأمر
فصل وإذا تجردت صيغته اقتضت التحريم وقالت الأشعرية
لا تقتضي لتحريم ولا غيره إلا بدليل والدليل على ما قلناه أن السيد من
العرب إذا قال لعبده لا ففعل كذا لفعل استحق الذم والتوبيخ فدل على أنه
ينتفي التحريم
فصل وإذا تجردت صيغته اقتضت الترك على الدوام وعلى
الفور بخلاف الأمر وذلك أن الأمر يقتضي إيجاد الفعل فإذا فعل مرة في
أي زمان فعل سمي ممتثلا وفي النهي لا يسمى منتهيا إلا إذا سارع إلى
الترك على الدوام
فصل وإذا نهى عن شئ فإن كان له ضد واحد فهو أمر
85

بذلك الضد كالصوم في العيدين وإن كان له أضداد كالزنا فهو أمر
بضد من أضداده لأنه لا يتوصل إلى ترك المنهي عنه إلا بما ذكرناه
فصل وإذا نهى عن أحد شيئين كان ذلك نهيا عن الجمع
بينهما ويجوز له فعل أحدهما وقالت المعتزلة يكون ذلك نهيا عنهما
فلا يجوز فعل واحد منهما والدليل على ما قلناه هو أن النهي أمر بالترك
كما أن الأمر أمر بالفعل ثم الأمر بفعل أحدهما لا يقتضي وجوبهما فكذلك
الأمر بترك أحدهما لا يقتضي وجوب تركهما
فصل والنهي يدل على فساد المنهي عنه في قول أكثر
أصحابنا كما يدل الأمر على أجزاء المأمور به ثم اختلف هؤلاء فمنهم
من قال يقتضي الفساد من جهة الوضع في اللغة ومنهم من قال يقتضي
الفساد من جهة الشرع ومن أصحابنا من قال النهي لا يدل على الفساد
وحكي عن الشافعي رحمه الله ما يدل عليه وهو قول طائفة من أصحاب أبي
حنيفة وأكثر المتكلمين
واختلف القائلون بذلك في الفصل بين ما يفسد وبين ما لا يفسد فقال
بعضهم إن كان في فعل المنهي إخلال بشرط في صحته إن كان عبادة أو
في نفوذه إن كان عقد أوجب القضاء بفساده وقال بعضهم إن كان النهي
يختص بالفعل المنهي عنه كالصلاة في المكان النجس اقتضى الفساد
وإن لم يختص المنهي عنه كالصلاة في الدار المغصوبة لم يقتض الفساد
والدليل على أن النهي يقتضي الفساد على الاطلاق أنه إذا أمر بعبادة مجردة عن
النهي ففعل على وجه منهي عنه فإنه لم يأت بالمأمور على الوجه الذي
اقتضاه الأمر فوجب أن تبقى العبادة عليه كما كانت
86

17 - باب القول في العموم والخصوص
باب ذكر حقيقة العموم وبيان مقتضاه
والعموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا وقد يكون متناولا لشيئين
كقولك عممت زيدا وعمرا بالعطاء وقد يتناول جميع الجنس كقولك
عممت الناس بالعطاء وأقل ما يتناول شيئين وأكثره ما استغرق الجنس
فصل وألفاظه أربعة أنواع أحدها اسم الجمع إذا عرف باللأف النبي
واللام كالمسلمين والمشركين والأبرار والفجار وما أشبه ذلك وأما
المنكر منه كقولك مسلمون ومشركون وأبرار وفجار فلا يقتضي
العموم ومن أصحابنا من قال هو للعموم وهو قول أبي علي الجبائي
والدليل على فساد ذلك أنه نكرة فلم يقتض الجنس كقولك رجل ومسلم
فصل والثاني اسم الجنس إذا عرف بالألف واللام كقولك
الرجل والمسلم ومن أصحابنا من قال هو للعهد دون الجنس والدليل
على أنه للجنس قوله عز وجل والعصر إن الإنسان لفي خسر (1)
والمراد به الجنس ألا ترى أنه استثنى منه الجمع فقال إلا الذين
آمنوا وتقول العرب أهلك الناس الدينار والدرهم ويريدون الجنس
87

فصل والثالث الأسماء المبهمة وذلك من فيمن بعقل
وما فيما لا يعقل في الاستفهام والشرط والجزاء تقول في الاستفهام من
عندك وما عندك وفي الجزاء تقول من أكرمني أكرمته ومن جاءني
رفعته وأي فيما يعقل وفيما لا يعقل في الاستفهام وفي الشرط
والجزاء تقول في الاستفهام أي شئ عندك وفي الشرط والجزاء أي
رجل أكرمني أكرمته وأين وحيث في المكان ومتى في الزمان
تقول اذهب أين شئت وحيث شئت واطلبني متى شئت
فصل والرابع النفي في النكرات تقول ما عندي شئ
ولا رجل في الدار
فصل أقل الجمع ثلاثة فإذا ورد لفظ الجمع كقوله
مسلمون ورجال حمل على ثلاثة ومن أصحابنا من قال هو اثنان وهو
قول مالك وابن داود ونفطويه وطائفة من المتكلمين والدليل
على ما قلناه أن ابن عباس رضي الله عنهما احتج على عثمان رضي الله عنه
في حجب الأم بالأخوين وقال ليس الأخوان أخوة في لسان قومك فقال
88

عثمان لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلي وتوارثه الناس ومضى
في الأمصار فادعى ابن عباس أن الأخوين ليسا بأخوة فأقره عثمان
كرم الله وجهه على ذلك وإنما اعتذر عنه بالاجماع ولأنهم فرقوا بين الواحد
والاثنين والجمع فقالوا رجل ورجلان ورجال فلو كان الاثنان جمعا
كالثلاثة لما خالفوا بينهما في اللفظ
89

إذا تجردت ألفاظ العموم التي ذكرناها اقتضت العموم واستغراق
الجنس والطبقة وقالت الأشعرية ليس للعموم صيغة موضوعة وهذه الألفاظ
تحتمل العموم والخصوص فإذا وردت وجب التوقف فيها حتى يدل الدليل على ما
يراد بها من الخصوص والعموم ومن الناس من قال لا تحمل على العموم
في الأخبار وتحمل في الأمر والنهي ومن الناس من قال تحمل على أقل
الجمع ويتوقف فيما زاد والدليل على ما ذكرناه أن العرب فرقت بين الواحد
والاثنين والثلاثة فقالوا رجل ورجلان ورجال كما فرقت بين الأعيان
في الأسماء فقالوا رجل وفرس وحمار فلو كان احتمال لفظ الجمع
للواحد والاثنين كاحتماله لما زاد لم يكن لهذا التفريق معنى ولأن العموم
مما تدعو الحاجة إلى العبارة عنه في مخاطباتهم فلا بد ان يكونوا قد وضعوا له
لفظا يدل عليه كما وضعوا لكل ما يحتاجون إليه من الأعيان فأما من قال
أنه يحمل على الثلاث ويتوقف فيما زاد فالدليل عليه أن تناول اللفظ
للثلاث ولما زاد عليه واحد فإذا وجب الحمل على الثلاث وجب الحمل
على ما زاد
فصل ولا فرق في ألفاظ العموم بين ما قصد بها المدح أو
الذم أو قصد بها الحكم في الحمل على العموم ومن أصحابنا من قال أن
90

قصد بها المدح كقوله عز وجل والذين هم لفروجهم حافظون (1)
والذم كقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة (2) لم يحمل على
العموم وهذا خطأ لأن ذكر المدح والذم يؤكد في الحث عليه والزجر عنه
فلا يجوز أن يكون مانعا من العموم
فصل وإذا وردت ألفاظ العموم فهل يجب اعتقاد عمومها
والعمل بموجبها قبل البحث عما يخصها اختلف أصحابنا فيه فقال أبو بكر
الصيرفي يجب العمل بموجبها واعتقاد عمومها ما لم يعلم ما يخصها
وذهب عامة أصحابنا أبو العباس وأبو سعيد الأصطخري وأبو إسحاق
المروزي إلى أنه لا يجب اعتقاد عمومها حتى يبحث عن الدلائل فإذا
بحث فلم يجد ما يخصها اعتقد حينئذ عمومها وهو الصحيح والدليل
عليه أن المقتضى للعموم وهو الصيغة المتجردة ولا يعلم التجرد إلا بعد
النظر والبحث فلا يجوز اعتقاد العموم قبله
91

19 - باب بيان ما يصح دعوى العموم فيه وما لا يصح
وجملته أن العموم يصح دعواه في نطق ظاهر يستغرق الجنس بلفظه
كالألفاظ التي ذكرناها في الباب الأول وأما الأفعال فلا يصح فيها دعوى
العموم لأنها تقع على صفة واحدة فإن عرفت تلك الصفة اختص الحكم
بها وإن لم تعرف صار مجملا مما عرف صفته مثل ما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في السفر فهذا مقصور على ما روي فيه وهو
92

السفر لا يحمل على العموم فيما لم يرد فيه وما لم يعرف مثلما روى أنه
جمع بين الصلاتين في السفر فلا يعلم أنه كان في سفر طويل أو سفر
قصير إلا أنه معلوم أنه لم يكن إلا في سفر واحد فإذا لم يعلم ذلك بعينه
وجب التوقف فيه حتى يعرف ولا يدعى فيه العموم
فصل وكذلك القضايا في الأعيان لا يجوز دعوى العموم فيها وذلك مثل
أن يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة للجار
وقضى في الافطار بالكفارة وما أشبه ذلك فلا يجوز دعوى
93

العموم فيها بل يجب التوقف فيه لأنه يجوز أن يكون قضي بالشفعة لجار
لصفة يختص بها وقضى بكفارة بإفطار في جماع أو غيره مما يختص به
المحكوم له وعليه فلا يجوز أن يحكم على غيره إلا أن يكون في الخبر
لفظ يدل على العموم
ومن الناس من قال إن كان قد روى أنه قضى بكفارة بالإفطار
وبالشفعة للجار لم يدع فيه العموم وإن كان قد روى أنه قضي بأن الكفارة
في الإفطار وبأن الشفعة للجار تعلق بعمومه لأن ذلك حكاية قول فكأنه
قال الكفارة في الافطار والشفعة للجار وقال بعضهم إن روى أنه كان
يقضي تعلق بعمومه لأن ذلك للدوام ألا ترى أنه يقال فلان كان يقري
الضيف ويصنع المعروف وقال الله تعالى وكان يأمر أهله بالصلاة (1)
وأراد التكرار والصحيح أنه لا فرق بين أن يكون بلفظ إن أو غيره لأنه قد يروى
لفظه إن في القضاء بمعنى الحكم في القصة المقضي فيها ولا يقتضي
الحكم في غيرها ولا فرق أيضا بين أن يقول كان وبين غيره لأنه وإن
اقتضى الكرار إلا أنه يجوز أن يكون التكرار على صفة مخصوصة لا يشاركها
فيه سائر الصفات
فصل وكذلك المجمل من القول المفتقر إلى إضماره لا
يدعى في إضماره العموم وذلك مثل قوله عز وجل الحج أشهر
معلومات (1) فإنه يفتقر إلى إضمار فبعضهم يضمر وقت إحرام الحج أشهر
94

معلومات وبعضهم يضمر وقت أفعال الحج أشهر معلومات فالحمل عليهما
لا يجوز بل يحمل على ما يدل الدليل على أنه يراد به لأن العموم من
صفات النطق فلا يجوز دعواه في المعاني وعلى هذا من جعل قوله
صلى الله عليه وسلم لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ولا نكاح إلا بولي
95

ولا أحل المسجد لجنب ولا لحائض
96

ورفع القلم عن ثلاثة وما أشبهه مجملا منع من دعوى العموم فيه
لأنه يجعل المراد معنى غير مذكور ويجوز أن يريد شيئا دون شئ فلا يجوز
دعوى العموم فيه ومن الفقهاء من يحمل في مثل هذا على العموم في كل ما
97

يحتمله لأنه أعم فائدة ومنهم من يحمله على الحكم المختلف فيه لأن ما
98

سواه معلوم بالاجماع وهذا كله خطأ لما بيناه من أن الحمل على الجميع لا
يجوز وليس هناك لفظ يقتضي العموم ولا يجوز حمله على موضع الخلاف
لأن احتماله لموضع الخلاف ولغيره واحد فلا يجوز تخصيصه لموضع
الخلاف
99

20 - باب القول في الخصوص
التخصيص تمييز بعض الجملة بالحكم ولهذا القول خص رسول
الله صلى الله عليه وسلم بكذا وخص الغير بكذا وأما تخصيص العموم فهو بيان ما لم يرد
باللفظ العام
فصل ويجوز دخول التخصيص في جميع ألفاظ العموم من الأمر
والنهي والخبر ومن الناس من قال لا يجوز التخصيص في الخبر كما لا
يجوز النسخ وهذا خطأ لأنا قد بينا أن التخصيص ما لم يرد باللفظ العام
وهذا يصح في الخبر كما يصح في الأمر والنهي
فصل ويجوز التخصيص إلى أني يبقى من اللفظ العام واحد
وقال أبو بكر القفال من أصحابنا يجوز التخصيص في أسماء الجموع
إلى أن يبقى ثلاثة ولا يجوز أكثر منه والدليل على جواز ذلك هو أنه لفظ
من ألفاظ العموم فجاز تخصيصه إلى أن يبقى واحد دليله الأسماء
المبهمات من وما
فصل وإذا خض من العموم شئ لم يصر اللفظ مجازا فيما
100

بقي وقالت المعتزلة يصير مجازا وقال الكرخي إن خص بلفظ
متصل كالاستثناء والشرط لم يصر مجازا وإن خص بلفظ منفصل صار
مجازا وهو قول القاضي أبي بكر الأشعري فالدليل على المعتزلة خاصة
هو أن الأصل في الاستعمال الحقيقة وقد وجدنا الاستثناء والشرط في
الاستعمال كغيرهما من أنواع الكلام فدل على أن ذلك حقيقة والدليل على
الجميع أن اللفظ تناول كل واحد من الجنس فإذا خرج بعضه بالدليل
بقي الباقي على ما اقتضاه اللفظ وتناوله فكان حقيقة فيه
101

21 - باب ذكر ما يجوز تخصيصه وما لا يجوز
وجملته أنه يجوز تخصيص ألفاظ العموم وأما تخصيص ما عرف من
نحوي الخطاب كتخصيص ما عرف قوله عز وجل فلا تقل لهما
أف (1) فلا يجوز لأن التخصيص إنما يلحق القول وهذا معنى القول
ولأن تخصيصه نقض للمعنى الذي تعلق المنع به ألا ترى أنه لو قال لا
تقل لهما أف ولكن أضر بهما كان ذلك مناقضة فصار كتخصيص القياس
فصل وأما تخصيص دليل الخطاب فيجوز لأنه كالنطق
فجاز تخصيصه فإذا قال في سائمة الغنم زكاة فدل على أنه لا
زكاة في المعلوفة جاز ان يخص لا زكاة في المعلوفة فيحمل على معلوفة دون
معلوفة
فصل وأما النص فلا يجوز تخصيصه كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة
102

يجزئك ولا يجزئ أحدا بعدك لأن التخصيص أن يخرج بعض ما
تناوله وهذا لا يصح في النص على شئ بعينه
فصل وكذلك ما وقع من الأفعال لا يجوز تخصيصه لما بينا
فيما تقدم أن الفعل لا يجوز أن يقع على صفتين فيخرج أحداهما بدليل
فإن دل الدليل على أنه لم يقع إلا على صفة من الصفتين لم يكن ذلك
تخصيصا
103

22 - بيان الأدلة التي يجوز التخصيص بها وما لا يجوز
والأدلة التي يجوز التخصيص بها ضربان متصل ومنفصل فالمتصل
هو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة ولها أبواب تأتي إن شاء الله تعالى وبه
الثقة وأما المنفصل فضربان من جهة العقل ومن جهة الشرع فالذي من
جهة العقل ضربان أحدهما لا يجوز ورود الشرع بخلافة وذلك ما يقتضيه
العقل من براءة الذمة فهذا لا يجوز التخصيص به لأن ذلك إنما يستدل به
لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع
الثاني ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك مثل ما دل عليه العقل من
نفي الخلق عن صفاته فيجوز التخصيص به ولهذا خصصنا قوله تعالى
الله خالق كل شئ (1) في الصفات وقلنا المراد ما خلا الصفات لأن
العقل قد دل على أنه لا يجوز أن يخلق صفاته فخصصنا العموم به
فصل وأما الذي من جهة الشرع فوجوه نطق الكتاب والسنة
ومفهومهما وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره وإجماع الأمة والقياس فأما
الكتاب
فيجوز تخصيص الكتاب به كقوله تعالى والمحصنات من الذين
أوتوا الكتاب (1) خص به قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى
104

يؤمن (2) ويجوز تخصيص السنة به ومن الناس من قال لا يجوز والدليل
على جوازه هو أن الكتاب مقطوع بصحة طريقه والسنة غير مقطوع بطريقها
فإذا جاز تخصيص الكتاب به فتخصيص السنة به أولى
فصل فأما وإن السنة فيجوز تخصيص الكتاب بها وذلك كقوله
صلى الله عليه وسلم لا يرث القاتل خص به قوله عز وجل يوصيكم الله أولادكم (3)
وقال بعض المتكلمين لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد
105

وقال عيسى بن أبان إن دخله التخصيص بدليل جاز تخصيصه بخبر
الواحد وإن لم يدخله التخصيص لم يجز والدليل على جواز ذلك
أنهما دليلان أحدهما خاص والآخر عام فقضي بالخاص منهما على
العام كما لو كانا من الكتاب والدليل على من فرق بين أن يكون قد خص
بغيره أو لم يخص هو أنه خص به إذا دخله التخصيص لأنه يتناول
الحكم بلفظ غير محتمل والعموم يتناوله بلفظ محتمل وهذا المعنى
موجود وإن لم يدخله التخصيص ويجوز تخصيص السنة بالسنة وذلك
مثل قوله صلى الله عليه وسلم هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به
106

يخص به قوله صلى الله عليه وسلم لا تنتفعوا من الميتة بشئ ومن الناس من قال
لا يجوز من جهة ان السنة جعلت بيانا فلا يجوز أن يفتقر البيان إلى بيان
وقال بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام وهو قول القاضي أبي بكر
الأشري والدليل على ما قلناه يجئ إن شاء الله تعالى
107

فصل وأما المفهوم فضربان يحوي
الخطاب ودليل الخطاب فاما فحوى الخطاب فهو التنبيه ويجوز التخصيص به كقوله
تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما (1) لأن هذا في قول الشافعي
رحمة الله عليه يدل على الحكم بمعناه إلا أنه معنى جلي وعلى قوله يدل
على الحكم بلفظه فهو كالنص وأما دليل الخطاب الذي هو مقتضى النطق
فيجوز تخصيص العموم به وقال أبو العباس بن سريج لا يجوز
التخصيص به وهو قوله أهل العراق لأن عندهم انه ليس بدليل والكلام
معهم يجئ إن شاء الله تعالى وعندنا هو دليل كالنطق في أحد الوجهين
108

وكالقياس كما في الوجه الآخر وأيهما كان جاز التخصيص
فصل في تعارض اللفظين إذا تعارض لفظان فلا يخلو
إما أن يكونا خاصين أو عامين أو أحدهما خاصا والآخر عاما أو كل واحد
منهما عاما من وجه خاصا من وجه فإن كانا خاصين مثل أن يقول لا تقتلوا
المرتد واقتلوا المرتد وصلوا ما لها سبب عند طلوع الشمس ولا تصلوا ما لا
سبب لها عند طلوع الشمس فهذا لا يجوز أن يرد إلا في وقتين ويكون
أحدهما ناسخا للآخر فن عرف التاريخ نسخ الأول بالثاني وإن لم يعرف
وجب التوقف وإن كانا عامين مثل ان يقول من بدل دينه فاقتلوه ومن بدل
دينه فلا تقتلوه وصلوا عند طلوع الشمس ولا تصلوا عند طلوع الشمس
فهذا إن أمكن استعمالها في حالين استعملا كما قال صلى الله عليه
وسلم خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد
109

وقال شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد فقال أصحابنا
الأول محمول عليه إذا شهد وصاحب الحق لا يعلم أنه له شاهدا
فإن الأولى أن يشهد وإن لم يستشهد ليصل المشهود له إلى حقه
والثاني محمول عليه إذا علم من له الحق أن له شاهدا فلا يجوز
للشاهد ان يبدأ بالشهادة قبل أن يستشهد وإن لم يمكن استعمالها
وجب التوقف كالقسم الذي قبله وإن كان أحدهما عاما والآخر
خاصا
110

وقوله تعالى حرمت عليكم الميتة (1) مع قوله صلى الله عليه وسلم إيما إهاب
دبغ فقد طهر
111

مثل قوله فيما سقت السماء العشر
112

مع قوله ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فالواجب
في مثل هذا وأمثاله أن يقضي بالخاص على العام ومن أصحابنا من قال
كان الخاص متأخرا والعام متقدما نسخ الخاص من العموم بقدره بناء
على أن يتعارض الخاص والعام وهو قول أبي بكر الأشعري وقال
أصحاب أبي حنيفة إن كان الخاص مختلفا فيه والعام مجمعا عليه لم
يقض به على العام وإن كان متفقا عليه قضي به والدليل على ما ذكرناه أن
الخاص هو أقوى من العام لأن الخاص يتناول الحكم بلفظ لا احتمال فيه
والعام يتناوله بلفظ محتمل فوجب أن يقضي بالخاص عليه وأما إذا كان
واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه يمكن أن يخص بكل واحد منهما
عموم الآخر مثل ما روي
113

أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس
مع قوله صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فيصلها إذا ذكرها فإنه يحمل
114

أن يكون المراد بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس بدليل ما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس فالواجب في مل هذا أن لا
يقدم أحدهما على الآخر إلا بدليل شرعي من غيرهما يدل على المخصوص
منهما أو ترجيح يثبت لأحدهما على الآخر
كما روي عن عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الأختين
بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى وهل يجوز أن
115

يخلوا مثل هذا من الترجيح من الناس من قال لا يجوز ومنهم من قال
يجوز وإذا خلى تعارضا وسقطا ورجع المجتهد إلى براءة الذمة
116

فصل وأما أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز التخصيص بها وذلك
مثل ان يحرم أشياء بلفظ عام ثم يفعل بعضها فيخص بذلك العام ومن
الناس من قال لا يجوز التخصص بها وهو قول بعض أصحابنا لأنه يجوز
أن يكون مخصوصا به لأنه وإن جاز أن يكون مخصوصا إلا
أن الأصل مشاركة الأمة في الأحكام ولهذا قال الله تعالى لقد كان لكم
في رسول الله أسوة حسنة 01)
فصل وأما الاقرار فيجوز التخصيص به كما رأى قيسا يصلي
ركعتي الفجر بعد الصبح فأقره عليه
117

فيخص به نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح لأنه لا يجوز أن يرى منكرا
فيقر عليه فلما أقره دل على جوازه
118

فصل وأما الاجماع فيجوز التخصيص به لأنه أقوى من
الظواهر فإذا جاز التخصيص بالظواهر فبالاجماع أولى
فصل وأما قول الواحد من الصحابة إذا انتشر ولم يعرف له
مخالف فهو حجة يجوز التخصيص به وإن لم ينشر فإن كان له مخالف
لم يجز التخصيص به وإن لم يكن له مخالف فهل يجوز التخصيص به
يبني على القولين في أنه حجة أم لا فإذا قلنا ليس بحجة لم يجز
التخصيص به وإذا قلنا أنه حجة فهل يجوز التخصيص به فيه وجهان
أحدهما يجوز والثاني لا يجوز
فصل وأما القياس فيجوز التخصيص به ومن أصحابنا من
قال لا يجوز التخصيص به وهو قول أبي علي الجبائي واختيار
القاضي أبي بكر الأشعري وقال عيسى بن أبان إذا ثبت تخصيصه
بدليل يوجب العلم جاز التخصيص به وإن لم يثبت تخصيصه بدليل يوجب
العلم لم يجز وقال بعض أهل العراق إن دخله التخصيص بدليل غير
القياس جاز التخصيص به وإن لم يدخله التخصيص بغيره لم يجز
والدليل على جواز ذلك أن القياس يتناول الحكم فيما يخصه بلفظ غير
محتمل فخص به العموم كاللفظ الخاص
فصل وأما قول الراوي فلا يجوز تخصيص العموم به وقال
119

أصحاب أبي حنيفة رحمه الله يجوز والدليل على أنه لا يجوز هو ان
تخصيصه يجوز أن يكون بدليل ويجوز أن يكون بشبهة فلا يترك الظاهر
بالشك وكذلك لا يجوز ترك شئ من الظواهر بقوله مثل أن يحتمل الخبر
أمرين وهو في أحدهما أظهر فيصرفه الراوي إلى الآخر فلا يقبل ذلك
منه لما بيناه في تخصيص العموم وأما إذا احتمل اللفظ أمرين احتمالا
واحدا فصرفه إلى أحدهما مثل ما روي عن عمر كرم الله وجهه أنه حمل
قوله صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء على القبض في المجلس فقد
قيل أنه يقبل ذلك لأنه أعرف بمعنى الخطاب وقال الشيخ الإمام رحمه
الله وفيه نظر عندي
فصل وأما العرف أو العادة فلا يجوز تخصيص العموم به لأن
120

الشرع لم يوضع على العادة وإنما وضع في قول بعض الناس على حسب
المصلحة وفي قول الباقين على ما أراد الله تعالى وذلك لا يقف على
العادة
فصل وأما تخصيص أول الآية بآخرها وآخرها بأولها فلا
يجوز ذلك مثل قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء (1)
وهذا عام في الرجعية وغيرها ثم قال في آخر الآية وبعولتهن أحق
بردهن (2) وهذا خاص في الرجعيات فيحمل أول الآية على العموم وآخرها
على الخصوص ولا يخص أولها بآخرها لجواز أن يكون قصد بآخر الآية
بيان بعض ما اشتمل عليه أول الآية فلا يجوز ترك العموم بأولها
121

باب القول في اللفظ الوارد على سبب
وجملته أن اللفظ الوارد على سبب لم يجز أن يخرج السبب منه لأنه
يؤدي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز وهل يدخل فيه
غيره نظرت فإن كان اللفظ لا يستقل بنفسه كان ذلك مقصورا على ما ورد
فيه من السبب ويصير الحكم مع السبب الجملة الواحدة فإن كان لفظ
السائل عاما مثل أن قال أفطرت قال أعتق حمل الجواب على
العموم في كل مفطر كأنه قال من أفطر فعليه العتق من جهة المعنى لا من
جهة اللفظ وذلك أنه لما لم يستفصل دل على أنه لا يختلف أو لما نقل
السبب وهو الفطر فحكم فيه بالعتق صار كأنه علل بذلك لأن ذكر السبب
في الحكم تعليل وإن كان خاصا مثل إن قال جامعت فقال أعتق
حمل الجواب على الخصوص في المجامع لا يتعدى إلى غيره من
المفطرين فكأنه قال من جامع في رمضان فعليه العتق وأما إذا كان اللفظ
يستقل بنفسه اعتبر حكم اللفظ فإن كان خاصا حمل على خصوصه وإن
كان عاما حمل على عمومه ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه وذلك مثل ما
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بئر بضاعة فقيل إنك تتوضأ من بئر بضاعة وأنه يطرح
فيها المحائض ولحوم الكلاب وما ينحى الناس فقال صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا
122

ينجسه شئ فهذا يحمل على عمومه ولا يخص بما ورد فيه من السبب
وقال المزني وأبو ثور وأبو بكر الدقاق من أصحابنا يقصر على
ما ورد فيه من السبب والدليل على ما قلناه هو أن الحجة في قول الرسول
صلى الله عليه وسلم دون السبب فوجب أن يعتبر عمومه
123

باب القول في الاستثناء
والاستثناء يجوز تخصيص اللفظ به وهو مأخوذ من قولهم ثنيت فلانا عن
رأيه إذا صرفته عنه وقيل أنه مأخوذ من تثنية الخبر بعد الخبر ومن شرطه
أن يكون متصلا بالمستثنى منه وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز تأخيره وحكي عن قوم جواز تأخيره إذا أورد معه كلام يدل على أن ذلك
استثناء مما تقدم وهو أن يقول جاءني الناس ثم يقول بعد زمان إلا
زيدا وهو استثناء مما كنت قلت فأما المحكي عن ابن عباس رضي الله
125

عنهما فالظاهر أنه لا يصح عنه وهو بعيد لأنهم لا يستعملون الاستثناء إلا
متصلا بالكلام ألا ترى أنه إذا قال جاءني الناس ثم قال بعد شهر إلا
زيدا لم يعد ذلك كلاما فدل على بطلانه وما حكي عن غيره خطأ لأنه
لو جاز ذلك على الوجه الذي قاله لجاز أن يؤخر خبر المبتدأ يخبر به مع
كلام يدل عليه بأن يقول زيد ثم يقول بعد حين قائم ويقرنه بما يدل
على أنه خبر عنه وهذا مما لا يقوله أحد ولا يعد كلاما في اللغة فبطل
فصل ويجوز أن يتقدم الاستثناء على المستثنى منه كما يجوز أن
يتأخر كقول الكميت
126

فمالي إلا آل أحمد شيعة ومالي إلا مشعب الحق مشعب
فصل ويجوز الاستثناء من جنسه كقولك رأيت الناس إلا
زيدا وكذلك استثناء بعض ما دخل تحت الاسم كقولك رأيت زيدا إلا
وجهه وأما الاستثناء من غير الجنس فهو مستعمل وقد ورد به القرآن
والأشعار قال الله عز وجل فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس (1) فاستثنى
إبليس من الملائكة وليس من الملائكة وقال
الشاعر
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها * أعيت جوابا وما بالربع من أحد
ألا أواري لأيا ما أبينها * والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
فاستثنى الأوارة هو من الناس وهل هو حقيقة أم لا فيه وجهان من
أصحابنا من قال هو حقيقة ومنهم من قال هو مجاز وهذا الأظهر لأن
الاستثناء مشتق من قولهم ثنيت عنان الدابة إذا صرفتها أو من تثنية الخبر
بعد الخبر وهذا لا يوجد إلا فيما دخل في الكلام ثم يخرج منه
127

فصل ويجوز أن يستثنى الأكثر من الجملة وقال أحمد لا
يجوز وهو قول القاضي أبي بكر الأشعري وابن درستويه والدليل
على جوازه أن القرآن ورد به قال الله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (2) ثم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين
إلا عبادك منهم المخلصين فاستثنى الغاوين من العباد واستثنى العباد
من الغاوين وأيهما كان أكثر فقد استثناه وسلم من الآخر ولأن الاستثناء معنى
يوجب تخصيص اللفظ العام فجاز في القليل والكثير كالتخصيص بالدليل
المنفصل
فصل إذا تعقب الاستثناء جملا عطف بعضها على بعض
وجمع ذلك إلى الجميع وذلك مثل قوله عز وجل والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم
شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ألا الذين تابوا (4) وقال أصحاب أبي
حنيفة رحمه الله يرجع إلى ما يليه وقال القاضي أبو بكر يتوقف فيه
ولا يرد إلى شئ منهما إلا بدليل والدليل على ما قلناه هو أن الاستثناء
كالشرط في التخصيص ثم الشرط يرجع إلى الجميع وهو إذا قال امرأتي
128

طالق وعبدي حر ومالي صدقة إن شاء الله تعالى فكذلك الاستثناء
فصل وإن دل الدليل على أنه لا يجوز رجوعه إلى جملة من
الجمل المذكورة في آية القذف فإن الدليل على أنه لا يجوز أن يرجع
الاستثناء فيها إلى الحد رجع إلى ما بقي من الجمل وكذلك ان تعقب
الاستثناء جملة واحدة ودل الدليل على أنه لا يجوز رجوعه إلى بعضها كقوله
عز وجل وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة
إلى قوله تعالى إلا أن يعفون (1) فإنه قد دل الدليل على أن الاستثناء لا
يجوز رجوعه إلى الصغار والمجانين رجع إلى ما بقي من الجملة لأن ترك
الظاهر فيما قام عليه الدليل لا يوجب تركه فيما لم يقم عليه الدليل
129

25 - باب التخصيص في الشرط
واعلم أن الشرط ما لا يصح المشروط إلا به وقد ثبت ذلك بدليل
منفصل كاشتراط القدرة في العبادات واشتراط الطهارة في الصلاة وقد
دخل ذلك فيما ذكرناه من تخصيص العموم وقد يكون متصلا بالكلام وذلك
قد يكون بلفظ الشرط كقوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين إلى قوله فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا (2) وقد يكون بلفظ الغاية
كقوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد (3) ويجوز تخصيص الحكم
بالجميع فيكون الصيام لمن لم يجد الرقبة والقتل فيمن لم يؤد الجزية
فصل يجوز أن يتقدم الشرط في اللفظ ويجوز أن يتأخر كما يجوز أن يتأخر كما
يجوز في الاستثناء ولهذا لم يفرق بين قوله أنت طالق إن دخلت الدار
وبين قوله إن دخلت الدار فأنت طالق
فصل وإذا عقب الشرط جملا إلى جميعها كما قلنا في
الاستثناء ولهذا إذا قال امرأتي طالق وعبدي حر إن شاء الله الله لم تطلق
المرأة ولم يعتق العبد
فصل فأما إذا دخل الشرط في بعض الجمل المذكورة دون
130

بعض لم يرجع الشرط إلا إلى المذكورة وذلك مثل قوله تعالى أسكنوهن من
حيث سكنتم من وجدكم إلى قوله تعالى وإن كن أولات حمل
فأنفقوا عليهن (1) فشرط الحمل في الانفاق دون السكن فيرجع الشرط إلى
الانفاق ولا يرجع إلى السكن وهكذا لو ثبت الشرط بدليل منفصل في بعض
الجمل لم يجب إثابته فيما عداه كقوله عز وجل والمطلقات يتربصن
بأنفسهن ثلاثة قروء إلى قوله وبعولتهن أحق بردهن (2) فإن الدليل
قد دل على أن الرد في الرجعيات فيرجع ذلك إلى الرجعيات ولا يوجب إن
ذلك تخصيص أول الآية وهكذا إذا ذكر جملا وعطف بعضها على بعض
لم يقتض الوجوب في الجميع أو يقتضي العموم في الجميع ثم دل الدليل
على أن في بعضها لم يرد الوجوب أو في بعضها ليس على العموم لم يجب
حمله في الباقي على غير الوجوب ولا على غير العموم وذلك مثل قوله
تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده (3) فأمر بالأكل
وإيتاء الحق والأكل لا يجب والايتاء واجب والأكل عام في القليل
والكثير والايتاء خاص في خمسة أوسق فما قام الدليل عليه خرج من
اللفظ وبقي الباقي على ظاهره
فصل وهكذا كل شيئين قرن بينهما في اللفظ ثم ثبت
لأحدهما حكم بالاجماع لم يجب أن يثبت ذلك الحكم للآخر من غير لفظ
يوجب التسوية بينهما أو علة توجب الجمع بينهما ومن أصحابنا من قال
إذا ثبت لأحدهما نفع حكم ثبت لقرينة مثله وهذا غير صحيح لأن الحكم
الذي ثبت لأحدهما ثبت بدليل يخصه من لفظ أو إجماع وذلك غير
موجود في الاخر فلا تجب التسوية بينهما إلا بعلة تتجمع بينهما
131

26 - باب القول في المطلق والمقيد
واعلم أن تقييد العام بالصفة يوجب التخصيص كما يوجب الشرط
والاستثناء وذلك قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة (1) فإنه لو أطلق
الرقبة نعم المؤمنة والكافرة فلما قيده بالمؤمنة وجب التخصيص
فصل فإن ورد الخطاب مطلقا لا مقيد له حمل على إطلاقه
وإن ورد مقيدا لا مطلق له حمل على تقييده وإن ورد مطلقا في موضع
ومقيدا في موضع آخر نظرت فإن كان ذلك في حكمين مختلفين مثل أن
يقيد الصيام بالتتابع ويطلق الإطعام لم يحمل أحدهما على الآخر بل
يعتبر كل واحد منهما بنفسه لأنهما لا يشتركان في لفظ ولا معنى وإن كان ذلك
في حكم واحد وسبب واحد مثل أن يذكر الرقبة في كفارة القتل مقيدة
بالإيمان ثم يعيدها في القتل مطلقة كان الحكم للمقيد لأن ذلك حكم
واحد المستوفى إلا بيانه في أحد الموضعين ولم يستوف في الموضع الآخر
وإن كان في حكم واحد وشيئين مختلفين نظرت في المقيد فإن عارضه
مقيد آخر لم يحمل المطلق على واحد من القيدين وذلك مثل الصوم في
الظهار قيده بالتتابع وفي التمتع قيده بالتفريق وأطلق في كفارة اليمين فلا
يحمل المطلق في اليمين على الظهار ولا على التمتع بل يعتبر بنفسه إذ
132

ليس حمله على أحدهما بأولى من الحمل على الآخر وإن لم يعارض المقيد
مقيد آخر كالرقبة في كفارة القتل والرقبة في الظهار قيدت بالايمان في
القتل وأطلقت في الظهار حمل المطلق على المقيد فمن أصحابنا من
قال يحمل من جهة اللغة لأن القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالكلمة
الواحدة ومنهم من قال يحمل من جهة القياس وهو الأصح وقال
أصحاب أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز حمل المطلق على المقيد لأن ذلك
زيادة في النص وذلك نسخ بالقياس وربما قالوا لأنه حمل منصوص
والدليل على أنه لا يحمل من جهة اللغة أن اللفظ الذي ورد فيه التقييد
وهو القتل لا يتناول المطلق وهو الظهار فلا يجوز أن يحكم فيه بحكمه
من غير علة كلفظ البر لما لم يتناول الأرز لم يجزءان فيه يحكم فيه بحكمه من
غير علة فكذلك ههنا والدليل على أنه يحمل عليه بالقياس هو أن حمل
المطلق على المقيد تخصيص عموم بالقياس فصار كتخصيص سائر
العمومات
133

27 - باب القول في مفهوم الخطاب
اعلم أن مفهوم الخطاب على أوجه أحدها فحوى الخطاب وهو ما
دل عليه اللفظ من جهة التنبيه كقوله عز وجل فلا تقل لهما أف وقوله
تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك (1) وما أشبه ذلك
مما ينص فيه على الأدنى لينبه به على الأعلى وعلى الأعلى لينبه به على
الأدنى وهل يعلم ما دل عليه التنبيه من جهة اللغة أو من جهة القياس فيه
وجهان أحدهما أنه من جهة اللغة وهو قول أكثر المتكلمين وأهل الظاهر
ومنهم من قال هو من جهة القياس الجلي ويحكى ذلك عن الشافعي وهو
الأصح لأن لفظ التأفيف لا يتناول الضرب وإنما يدل عليه بمعناه وهو
الأدنى فدل على أنه قياس
فصل والثاني لحن الخطاب وهو ما دل عليه اللفظ من
الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به وذلك مثل قوله عز وجل فقلنا اضرب
بعصاك الحجر فانفجرت (1) ومعناه فضرب فانفجرت ومن ذلك أيضا
حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله عز وجل واسأل
134

القرية (2) ومعناه أهل القرية ولا خلاف إن هذا كالمنطوق به في إفادة
والبيان ولا يجوز أن يضمر فيمثل هذا إلا ما تدعو الحاجة إليه فإن استقل
الكلام بإضمار واحد لم يجز أن يضاف إليه غيره إلا بدليل فإن تعارض فيه
إضمار إن أضمر ما دل عليه الدليل منهما وقد حكينا في مثل هذا الخلاف
عمن يقول أنه يضمر فيه ما هو أعم فائدة أو موضع الخلاف وبينا فساد
ذلك
فصل والثالث دليل الخطاب وهو أن يعلق الحكم على إحدى
صفتي الشئ فيدل على أن ما عداها بخلافه كقوله تعالى إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا (3) فيدل على أنه إن جاء عدل صلى لم يتبين وكقوله صلى الله عليه وسلم في
سائمة الغنم زكاة فيدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها وقال عامة أصحاب
135

أبي حنيفة رحمه الله وأكثر المتكلمين لا يدل على أن ما عداه بخلافه بل
حكم ما عداه موقوف على الدليل
136

وقال أبو العباس بن سريج إن كان بلفظ الشرط كقوله تعالى إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا دل على أن ما عداه بخلافه وإن لم يكن بلفظ
الشرط لم يدل وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله والدليل على ما
قلناه أن الصحابة اختلفت في إيجاب الغسل من الجماع من غير إنزال فقال
بعضهم لا يجب واحتجوا بدليل الخطاب في قول النبي صلى الله عليه وسلم الماء من
الماء وانه لما أوجب من الماء دل على أنه لا يجب من غير ماء ومن أوجب
ذكر أن الماء من الماء منسوخ فدل على ذكرناه ولأن تقييد الحكم
بالصفة يوجب تخصيص الخطاب فاقتضى باطلاقه النفي والاثبات
كالاستثناء
138

فصل وإما إذا علق الحكم بغاية فإنه يدل على أن ما عداها
بخلافها وبه قال أكثر من أنكر القول بدليل الخطاب ومنهم من قال لا
يدل والدليل على ما قلناه هو أن لو جاز ان يكون حكم ما بعد الغاية موافقا
لما قبلها خرج عن أن يكون غاية وهذا لا يجوز
فصل وأما إذا علق الحكم على صفة بلفظ إنما كقوله
صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات
139

وقوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق دل أيضا على أن ما عداها بخلافها
وبه قال كثير ممن لم يقل بدليل الخطاب وقال بعضهم لا يدل على أن ما
عداها بخلافها وهذا خطأ لأن هذه اللفظة لا تستعمل إلا لاثبات المنطوق به
ونفي ما عداه ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول إنما في الدار زيد وبين أن
يقول ليس في الدار إلا زيد وبين أن يقول إنما الله واحد وبين أن
يقول لا إله إلا واحد فدل على أنه يتضمن النفي والإثبات
فصل فأما إذا علق الحكم على صفة في جنس كقوله
صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم زكاة دل ذلك على نفي الزكاة عن معلوفة الغنم دون
ما عداها ومن أصحابنا من قال يدل على نفيها عما عداها في جميع
140

الأجناس وهذا خطأ لأن الدليل يقتضي النطق فإذا اقتضى النطق
الايجاب في سائمة الغنم وجب أن يقتضي الدليل نفيها عن معلوفة الغنم
فصل فأما إذا علق الحكم على مجرد الاسم مثل أن يقول
في الغنم زكاة فإن ذلك لا يدل على نفي الزكاة عما عدا الغنم ومن أصحابنا
من قال يدل كالصفة والمذهب الأول لأنه قد يخص اسم بالذكر
وهو وغيره سواء ألا ترى أنهم يقولون اشتر غنما وإبلا وبقرا فينص على كل
واحد منها مع إرادة جميعها ولا يضم الصفة إلى الاسم وهي وغيرها سواء ألا
ترى أنهم لا يقولون اشتر غنما سائمة وهي المعلوفة عندهم سواء فافترقا
فصل إذا أدى القول بالدليل إلى اسقاط الخطاب سقط
الدليل وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم لا تبع ما ليس عندك فإن دليله يقتضي جواز
بيع ما هو عنده وإن كان غائبا عن العين وإذا أجزنا ذلك لزمنا ألا نجيز
141

بيع ما ليس عنده لأن أحدا لم يفرق بينهما وإذا أجزنا ذلك سقط
الخطاب وهو قوله صلى الله عليه وسلم لا تبع مال ليس عندك فيسقط الدليل ويبقى
الخطاب لأن الدليل فرع الخطاب ولا يجوز أن يعترض الفرع على الأصل
بالاسقاط
142

الكلام في المجمل والمبين
28 - باب ذكر وجوه المبين
فأما المبين فهو ما استقل بنفسه في الكشف عن المراد ولا يفتقر في
معرفة المراد إلى غيره وذلك على ضربين ضرب يفيد بنطقه وضرب يفيد
بمفهومه وقال فالذي يفيد بنطقه هو النص والظاهر والعموم فالنص كل لفظ دل
على الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه وذلك مثل قوله عز وجل محمد
رسول الله (1) وكقوله تعالى ولا تقربوا الزنا (2) ولا تقتلوا النفس التي
حرم الله إلا بالحق (3) وكقوله صلى الله عليه وسلم في كل خمس شاة في أربع وعشرين من الإبل
فما دونها الغنم وغير ذلك من الألفاظ الصريحة في بيان الأحكام
143

فصل وأما الظاهر فهو كل لفظ احتمل أمرين وفي أحدهما
أظهر كالأمر والنهي وغير ذلك من أنواع الخطاب الموضوعة للمعاني
المخصوصة المحتملة لغيرها
فصل والعموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا كقوله تعالى فاقتلوا
المشركين (4) وقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (5) وغير
ذلك فهذه كلها من المبين الذي لا يفتقر في معرفة المراد إلى غيره وإنما
يفتقر إلى غيره في معرفة ما ليس بمراد به فيصح الاحتجاج بهذه الأنواع
وقال أبو ثور وعيسى بن أبان العموم إذا دخله التخصيص صار مجملا
لا يحتج بظاهره وقال أبو الحسن الكرخي إن خص بدليل متصل لم يصر
مجملا وإن خص بدليل منفصل صار مجملا وقال أبو عبدا لله
144

البصري إن كان حكمه يفتقر إلى شروط كآية السرقة فهي مجملة لا
يحتج بها إلا بدليل وإن لم يفتقر إلى شروط لم يصر مجملا والدليل على ما
قلناه هو أن المجمل ما لا يعقل معناه من لفظه ويفتقر في معرفة المراد إلى
غيره وهذه الآيات يعقل معناها من لفظها ولا يفتقر في معرفة المراد بها إلى
غيرها فهي كغيرها من الآيات
فصل وأما ما يفيد بمفهومه فهو فحوى الخطاب ولحن
الخطاب ودليل الخطاب وقد بينتها قبل هذا الباب فأغنى عن الإعادة
145

باب ذكر وجوه المجمل
وأما المجمل فهو ما لا يعقل معناه من لفظه ويفتقر في معرفة المراد إلى
غيره وذلك على وجوه منها أن يكون اللفظ لم يوضع للدلالة على شئ بعينه كقوله
تعالى وآتوا حقه يوم حصاده (1) وكقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فإن الحق
مجهول الجنس والقدر فيفتقر إلى البيان
146

فصل ومنها أن يكون اللفظ في الوضع مشتركا بين شيئين
كالقرء يقع على الحيض ويقع على الطهر فيفتقر إلى البيان
فصل ومنها أن يكون اللفظ موضوعا لجملة معلومة إلا أنه دخلها
استثناء مجهول كقوله عز وجل أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم
غير محلي الصيد (1) فإنه قد صار مجملا بما دخله من الاستثناء ومن هذا
المعنى العموم إذا علم أنه مخصوص ولم يعلم ما خص منه فهذا أيضا
مجمل لأنه لا يمكن العمل به قبل معرفة ما خص منه
فصل ومن ذلك أيضا أن يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا يحتمل
وجهين احتمالا واحدا مثل ما روي أنه جمع في السفر فإنه مجمل
لأنه يجوز أن يكون في سفر طويل أو في سفر قصير فلا يجوز حمله على
أحدهما دون الآخر إلا بدليل وكذلك إذا قضى في عين تحتمل حالين احتمالا
واحدا مثل أن يروى أن الرجل أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة فهو
مجمل فإنه يجوز أن يكون أفطر بجماع ويجوز ان يكون أفطر بأكل فلا
يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل فهذه الوجوه لا يختلف
المذهب في إجمالها وافتقارها إلى البيان
فصل واختلف المذهب في ألفاظ فمنها قوله تعالى وأحل الله
البيع وحرم الربا (2) وفيه قولان قال في أحدهما هو مجمل لأن الله
تعالى أحل البيع وحرم الربا والربا هو الزيادة وما من بيع إلا وفيه زيادة
وقد أحل الله البيع وحرم الربا فافتقر إلى بيان ما يحل مما يحرم وقال في
147

القول الثاني ليس بمجمل وهو الأصح لأن البيع معقول في اللغة فحمل على
العموم إلا فيما خصه لدليل
فصل ومنها الآيات التي ذكر فيها الأسماء الشرعية وهو قوله عز
وجل وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (1) وقوله فمن شهد منكم الشهر
فليصمه (2) وقوله تعالى ولله على الناس حج البيت (3) فمن أصحابنا من
قال هن عامة غير مجملة فتحمل الصلاة على كل دعاء والصوم على كل
إمساك والحج على كل قصد إلا ما قام الدليل عليه وهذه طريقة من قال
ليس في الأسماء شئ منقول ومنهم من قال هي مجملة لأن المراد بها معان
لا يدل اللفظ عليها في اللغة وإنما تعرف من جهة الشرع فافتقر إلى البيان كقوله
عز وجل وآتوا حقه يوم حصاده (4) وهذه طريقة من قال إن هذه الأسماء
منقولة وهو الأصح
فصل ومنها الألفاظ التي علق التحليل والتحريم فيها على أعيان
كقوله تعالى حرمت عليكم الميتة (5) فقال بعض أصحابنا أنها مجملة
لأن العين لا توصف بالتحليل والتحريم وإنما الذي يوصف بذلك أفعالنا وأفعالنا
غير مذكورة فافتقر إلى بيان ما يحرم من الأفعال مما لا يحرم ومنهم من قال
إنها ليست بمجملة وهو الأصح لأن التحليل والتحريم في مثل هذا إذا أطلق
عقل منها التصرفات المقصودة في اللغة ألا ترى أنه إذا قال لغيره حرمت عليك
هذا الطعام عقل منه تحريم الأكل وما عقل المراد من لفظه لم يكن مجملا
148

فصل وكذلك اختلفوا في الألفاظ التي تتضمن نفيا وإثباتا كقوله
صلى الله عليه وآله وسلم إنما الأعمال بالنيات وقوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا
بولي وما أشبهه فمنهم من قال إن ذلك مجمل لأن الذي نفاه هو
العمل والنكاح وذلك موجود فيجب أن يكون المراد به نفي صفة غير مذكورة
فافتقر إلى بيان تلك الصفة ومنهم من قال ليس بمجمل وهو الأصح لأن
صاحب الشرع لا ينفي ولا يثبت المشاهدات وإنما ينفي ويثبت الشرعيات
فكأنه قال لا عمل في الشرع إلا بنية ولا نكاح في الشرع إلا بولي وذلك
معقول من اللفظ فلا يجوز أن يكون مجملا
فصل وكذلك اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان فمنهم من قال هو مجمل لأن الذي رفعه هو الخطأ وذلك
موجود فيجب أن يكون المراد بها معنى غير مذكور فافتقر إلى البيان ومنهم
149

من قال غير مجمل هو الأصح لأنه معقول المعنى في اللغة ألا ترى أنه إذا
قال لعبده رفعت عنك جنايتك عقل منه رفع المؤاخذة بكل ما يتعلق بالجناية
من التبعات فدل على أنه مجمل
150

فصل وأما المتشابه فاختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال هو
والمجمل واحد ومنهم من قال المتشابه ما استأثر الله تعالي بعلمه وما لم
يطلع عليه أحدا من خلقه ومن الناس من قال المتشابه هو القصص والأمثال
والحكم والحلال والحرام ومنهم من قال المتشابه الحروف المجموعة في
أوائل السور (المص) أنه و (المر) وهو وغير ذلك والصحيح هو الأول لأن حقيقة
المتشابه ما اشتبه معناه وأما ما ذكروه فلا يوصف بذلك
151

الكتاب الثالث
الكلام في البيان ووجوهه
وجوه البيان: القول، مفهوم القول، الفعل، الاقرار، الإشارة، الكتابة،
القياس.
تأخير البيان
153

30 - باب الكلام في البيان ووجوهه
أعلم أن البيان هو الدليل الذي يتوصل بصحيح النظر إلى ما هو دليل
عليه وقال بعض أصحابنا هو إخراج الشئ من حيز الأشكال إلى حيز
التجلي
فصل ويقع البيان بالقول ومفهوم القول والفعل
والاقرار والإشارة والكتابة والقياس
فأما البيان بالقول كقوله صلى الله عليه وسلم في الرقة ربع العشر
وقوله صلى الله عليه وسلم في خمس من الإبل شاة
وأما المفهوم فقد يكون تنبيها كقوله تعالى فلا تقل لهما أف فيدل
155

على أن الضرب أولى بالمنع وقد يكون دليلا كقوله صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم
زكاة فيدل على أنه لا زكاة في المعلوفة
وأما بالفعل فمثل بيان مواقيت الصلاة وأفعالها والحج ومناسكه
بفعله صلى الله عليه وسلم وأما الاقرار فهو كما روي أنه رأى قيسا يصلي بعد الصبح
ركعتين فسأله فقال ركعتا الفجر ولم ينكر فدل على جواز التنقل
بعد الصبح
وأما بالإشارة فكما قال صلى الله عليه وسلم الشهر هكذا وهكذا وحبس إبهامه في
الثالثة
وأما الكتابة فكما بين فرائض الزكاة وغيرها من الأحكام في كتب كتبها
156

وأما القياس فكما نص على أربعة أعيان في الربا ودل القياس على أن
غيرها من المطعومات مثلها
157

31 - باب تأخير البيان
ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه لا يمكن الاحتفال من غير
بيان وأما تأخيره عن وقت الخطاب ففيه ثلاثة أوجه أحدها يجوز وهو
قول أبي العباس وأبي سعيد الأصطخري وأبي بكر القفال
والثاني أنه لا يجوز وهو قول أبي بكر الصيرفي وأبي إسحاق
المروزي وهو قول المعتزلة والثالث أنه يجوز تأخير بيان المجمل
ولا يجوز تأخير بيان العموم وهو قول أبي الحسن الكرخي ومن الناس
من قال يجوز ذلك في الاخبار دون الأمر والنهي ومنهم من قال يجوز في
الأمر والنهي دون الأخبار والصحيح أنه يجوز في جميع ما ذكرناه ولأن
تأخيرها لا يخل بالامتثال فجاز كتأخير بيان النسخ
159

الكتاب الرابع
الكلام في النسخ
بيان النسخ
ما يجوز نسخه من الاحكام
وجوه النسخ
ما يعرف به الناسخ والمنسوخ
نسخ بعض العبادة والزيادة فيها
161

الكلام في النسخ
32 - باب بيان النسخ والبداء
والنسخ في اللغة يستعمل في الرفع والإزالة يقال نسخت الشمس
الظل ونسخت الرياح الآثار إذا ازالتها ويستعمل في النقل يقال
نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه وإن لم تزل شيئا عن موضعه
وأما في الشرع على الوجه الأول في اللغة وهو الإزالة فحده
الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه
لكان ثابتا به مع تراخيه عنه ولا يلزم ما سقط عن الإنسان بالموت فإن ذلك
ليس بنسخ لأنه ليس بخطاب ولا يلزم رفع ما كانوا عليه كشرب الخمر
وغيره فإنه ليس بنسخ لأنه لم يثبت بخطاب ولا يلزم ما أسقطه بكلام
متصل كالاستثناء والغاية كقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل (1) فإنه
ليس بنسخ لأنه غير متراخ عنه
وقالت المعتزلة هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت
بالمنسوخ غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول وهذا فاسد
لأنه إذا حد بهذا لم يكن الناسخ مزيلا لما ثبت بالخطاب الأول لأن مثل
163

الحكم ما ثبت بالمنسوخ حتى يزيله بالناسخ وقد بينا أن النسخ في اللغة هو
الإزالة والرفع
فصل والنسخ جائز في الشرع وقالت طائفة من اليهود لا
يجوز وبه قال شرذمة من المسلمين وهذا خطأ لأن التكليف في قول
بعض الناس إلى الله تعالى يفعل فيه ما يشاء وعلى قول بعضهم التكليف
على سبيل المصلحة فإن كان إلى مشيئته فيجوز أن يشاء في وقت تكليف
فرض وفي وقت إسقاطه وإن كان على وجه المصلحة فيجوز أن تكون
المصلحة في وقت في امر وفي وقت آخر في غيره فلا وجه للمنع منه
فصل وأما البداء فهو أن يظهر له ما كان خفيا عليه من
قولهم بدا لي الفجر إذا ظهر له وذلك لا يجوز في الشرع وقال بعض
الرافضة يجوز البداء على الله تعالى وقال منهم زرارة بن أعين في شعره
ولولا البدا سميته غير هائب * وذكر البدا نعت لمن يتقلب
ولولا البدا ما كان فيه تصرف * وكان كنار دهرها تتلهب
وكان كضوء مشرق بطبيعة * وبالله عن ذكر الطبائع يرغب
وزعم بعضهم انه يجوز على الله تعالى البداء فيما لم يطلع عليه عباده
وهذا خطأ لأنهم إن أرادوا بالبداء ما بيناه من أنه يظهر له ما كان خفيا
عنه فهذا كفر وتعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا وإن كانوا أرادوا به
164

تبديل العبادات والفروض فهذا لا ننكره إلا أنه لا يسمى بداء لأن حقيقة
البداء ما بينا ولم يكن لهذا القول وجه
فصل فأما نسخ الفعل قبل دخول وقته فيجوز وليس ذلك
ببداء ومن أصحابنا من قال لا يجوز ذلك وهو قول المعتزلة وزعموا أن
ذلك بداء والدليل على جواز ذلك أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام
بذبح ابنه ثم نسخه قبل وقت الفعل فدل على جوازه والدليل على أنه
ليس ببداء ما بيناه من أن البداء ظهور ما كان خفيا عنه وليس في النسخ قبل
الوقت هذا المعنى
165

33 - باب بيان ما يجوز نسخه من الأحكام وما لا يجوز
أعلم أن النسخ لا يجوز إلا فيما يصح وقوعه على وجهين كالصوم
والصلاة والعبادات الشرعية فأما ما لا يجوز أن يكون إلا على وجه واحد
مثل التوحيد وصفات الذات كالعلم والقدرة وغير ذلك فلا يجوز فيه النسخ
وكذلك ما أخبر الله عز وجل عنه من أخبار القرون الماضية والأهم السالفة فلا
يجوز فيها النسخ وكذلك ما أخبر عن وقوعه في المستقبل كخروج الدجال
وغير ذلك لم يجز فيه النسخ وحكي عن أبي بكر الدقاق أنه قال ما ورد
من الأمر بصيغة الخبر كقوله عز وجل المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء (1) يجوز نسخه وقال بعض الناس يجوز والمطلقات
يتربصن وإن كان لفظه لفظ الخبر إلا أنه أمر ألا ترى أنه يجوز أن يقع فيه
166

المخالفة ولو كان خبرا لم يصح أن يقع فيه المخالفة وإذا ثبت أنه أمر جاز
نسخه كسائر الأوامر والدليل على القائل الآخر أنا إذا جوزنا النسخ في
الخبر صار أحد الخبرين كاذبا وهذا لا يجوز
فصل وكذلك لا يجوز نسخ الإجماع لأن الاجماع لا يكون إلا
بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسخ لا يجوز بعد موته
فصل وكذلك لا يجوز نسخ القياس لأن القياس تابع
الأصول والأصول ثابتة فلا يجوز نسخ تابعها فأما إذا ثبت الحكم في
عين بعلة وقيس عليها غيرها ثم نسخ الحكم في تلك العين بطل الحكم في
الفرع المقيس عليه ومن أصحابنا من قال لا يبطل وهو قول أصحاب أبي
حنيفة رحمه الله وهذا غير صحيح لأن الفرع تابع للأصل فإذا بطل
الحكم في الأصل بطل في الفرع
167

34 - باب بيان وجوه النسخ
فصل اعلم أن النسخ يجوز في الرسم (2) دون الحكم كآية
الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فهذا نسخ رسمه وحكمه باق
168

ويجوز في الحكم دون الرسم كالعدة كانت (1) حولا ثم نسخت بأربعة
أشهر وعشرا ورسمها باق وهو قوله متاعا إلى الحول غير إخراج (2)
169

ويجوز في الرسم والحكم كتحريم الرضاع كان بعشر رضعات وكان
مما يتلي (3) فنسخ الرسم والحكم جميعا وذهب طائفة إلى أنه لا يجوز نسخ
170

الحكم وبقاء التلاوة لأنه يبقى الدليل ولا مدلول معه وقالت طائفة لا
يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن الحكم تابع التلاوة فلا يجوز أن
يرتفع الأصل ويبقى التابع وهذا خطأ (4) لأن التلاوة والحكم في الحقيقة
حكمان فجاز رفع أحدهما وتبقية الآخر كما تقول في عبادتين يجوز أن
تنسخ إحداهما وتبقي الأخرى
فصل ويجوز النسخ إلى غير بدل كالعدة نسخ ما زاد على
أربعة أشهر وعشرا إلى غير بدل ويجوز النسخ إلى بدل كنسخ القبلة من
بيت المقدس إلى الكعبة ويجوز النسخ إذا إلى أخف من المنسوخ كنسخ
مصابرة الواحد للعشرة نسخ إلى اثنين ويجوز إلى ما هو أغلظ منه
كالصوم كان مخيرا بينه وبين الفطر ثم نسخ إلى الانحتام بقوله عز وجل
171

فمن شهد منكم الشهر فليصمه (5) ويجوز النسخ في الحظر إلى
الإباحة كقوله تعالى علم الله كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم
وعفا عنكم فالآن باشروهن (6) حرم عليهم المباشرة ثم أبيح لهم ذلك
وقال بعض أصحابنا لا يجوز النسخ إلى ما هو أغلظ من المنسوخ
وهو قول أهل الظاهر وهذا خطأ لأنا قد وجدنا ذلك في الشرع وهو
التخير بين الصوم والفطر إلى انحتام الصوم ولأنه إذا جاز أن يوجب تغليظا لم
يكن فلان يجوز أن ينسخ واجبا بما هو أغلظ أولى
172

35 - باب ما يجوز به وما لا يجوز
ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب لقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها
نأت بخير منها أو مثلها (1)
فصل وكذلك يجوز نسخ السنة بالسنة كما يجوز نسخ
الكتاب الكتاب الآحاد بالآحاد والتواتر بالتواتر والآحاد بالتواتر فأما
التواتر بالآحاد فلا يجوز لأن التواتر يوجب العلم فلا يجوز نسخة بما
يوجب الظن
فصل ويجوز نسخ الفعل بالفعل لأنهما كالقول مع القول
وكذلك نسخ القول بالفعل والفعل بالقول ومن الناس من قال لا يجوز
نسخ القول بالفعل والدليل على جوازه أن الفعل كالقول في البيان فكما
يجوز بالقول جاز بالفعل
فصل وأما نسخ السنة بالقرآن ففيه قولان أحدهما لا
يجوز لأن الله تعالى جعل السنة بيانا للقرآن فقال تعالى ليبين للناس
ما نزل إليهم (2) فلو جوزنا نسخ السنة بالقرآن لجعلنا القرآن بيانا للسنة
173

والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأن القرآن أقوى من السنة فإذا جاز
نسخ السنة بالسنة فلأن يجوز بالقرآن أولى
فصل وأما نسخ القرآن بالسنة فلا يجوز من جهة السمع
ومن أصحابنا من قال لا يجوز من جهة السمع ولا من جهة العقل والأول
أصح وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز بالخبر المتواتر وهو قول أكثر
المتكلمين وحكي ذلك عن أبي العباس بن سريج والدليل على ذلك من
جهة العقل انه ليس في العقل ما يمنع جوازه والدليل على أنه لا يجوز من
جهة السمع قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
والسنة ليست من مثل القرآن ألا ترى أنه لا يثاب على تلاوة السنة كما يثاب على
تلاوة القرآن ولا إعجاز في لفظه كما في لفظ القرآن فدل على أنه ليس مثله
فصل واما النسخ بالاجماع فلا يجوز لأن الاجماع حادث
بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن ينسخ ما يتقرر في شرعه ولكن يستدل
بالإجماع على النسخ فإن الأمة لا تجتمع على الخطأ فإذا رأيناهم قد
أجمعوا على خلاف ما ورد به الشرع دلنا ذلك على أنه منسوخ
فصل ويجوز النسخ بدليل الخطاب لأنه معنى النطق على
المذهب الصحيح ومن أصحابنا من جعله كالقياس فعلى هذا لا يجوز
النسخ به والأول أظهر وأما النسخ بفحوى الخطاب وهو التنبيه فلا يجوز
لأنه قياس ومن أصحابنا من قال النسخ به لأنه كالنطق
فصل ولا يجوز النسخ بالقياس وقال بعض أصحابنا
يجوز بالجلي منه دون الخفي ومن الناس من قال يجوز بكل دليل يقع به
174

البيان والتخصيص وهذا خطأ لأن القياس إنما يصح إذا لم يعارضه نص
فإذا كان هناك نص يخالف القياس لم يكن للقياس حكم فلا يجوز النسخ
به
فصل ولا يجوز النسخ بأدلة العقل لأن دليل العقل
ضربان ضرب لا يجوز أن يرد الشرع بخلافه فلا يتصور نسخ الشرع به
وضرب يجوز أن يرد الشرع بخلافه وهو البقاء على حكم الأصل وذلك إنما
يوجب العمل به عند عدم الشرع فإذا وجد الشرع بطلت دلالته فلا يجوز
النسخ به
175

36 - باب ما يعرف به الناسخ من المنسوخ
واعلم أن النسخ قد يعلم بصريح النطق كقوله عز وجل الان خفف
الله عنكم وقد يعلم بالاجماع وهو أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من
الخبر فيستدل بذلك على أنه منسوخ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ وقد
يعلم بتأخير أحد اللفظين عن الآخر مع التعارض وذلك مثل ما روي أنه قال
الثيب بالثيب جلد مائة والرجم
176

ثم روي أنه رجم ماعزا ولم يجلده فدل على أن الجلد منسوخ
177

فصل ويعلم التأخير في الأخبار بالنطق كقوله صلى الله عليه وسلم كنت
نهيتكم فقال عن زيارة القبور فزوروها ويعلم بأخبار الصحابة أن هذا نزل بعد
178

هذا وورد هذا بعد هذا كما روي أنه كان آخر الأمرين من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار فأما إذا كان راوي أحد الخبرين أقدم
صحبة والآخر أحدث صحبة كابن مسعود وابن عباس لم يخز نسخ
خبر الأقدم بخبر الأحدث لأنهما عاشا إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز ان
يكون الأقدم سمع ما رواه بعد سماع الأحدث ولأنه يجوز أن يكون الحدث
أرسله عمن قدمت صحبته ولا تكون روايته متأخرة عن رواية الأقدم فلا يجوز النسخ
مع الاحتمال
179

وأما إذا كان راوي أحد الخبرين أسلم بعد موت الآخر أو بعد قصته
مثل ما روي بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الذكر وهو يبني مسجد
المدينة فلم يوجب منه الوضوء
180

وروى أبو هريرة إيجاب الوضوء وهو أسلم عام حنين بعد بناء
المسجد فيحتمل أن ينسخ حديث طلق بحديثه لأن الظاهر أنه لم يسمع ما رواه
إلا بعد هذه القصة فنسخة ويحتمل ان لا ينسخ لجواز أن يكون قد سمعه قبل أن
يسلم وأرسله عمن قدم إسلامه
فصل فأما إذا قال الصحابي هذه الآية منسوخة أو هذا الخبر
181

منسوخ لم يقبل منه حتى يبين الناسخ فينظر فيه ومن الناس من قال ينسخ
بخبره ويقلد فيه ومنهم من قال إن ذكر الناسخ لم يقلد بل ينظر فيه وإن
لم يذكر الناسخ نسخ وقلد فيه والدليل على أنه لا يقبل هو انه يجوز أن يكون قد
اعتقد النسخ بطريق لا يوجب النسخ ولا يجوز أن يترك الحكم الثابت من غير نظر
وبالله التوفيق
182

37 - باب الكلام في نسخ بعض العبادة والزيادة فيها
إذا نسخ شيئا يتعلق بالعبادة لم يكن ذلك نسخا للعبادة ومن الناس من
قال إن نسخ للعبادة ومن الناس من قال إن كان ذلك بعضا من
العبادة كالركوع والسجود من الصلاة كان ذلك نسخا لها وإن كان شيئا
منفصلا منها كالطهارة لم يكن نسخا لها وقال بعض المتكلمين إن كان
ذلك مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ به إلا به كان نسخا لها سواء كان
جزأ منها أو منفصلا عنها وإن كان مما تجزئ العبادة قبل النسخ مع
عدمه كالوقوف على يمين الإمام ودعاء التوجه وما أشبهه لم يكن ذلك
نسخا لها والدليل على أن ذلك ليس بنسخ أن الباقي من الجملة على ما
كان عليه لم يزل فلم يجز أن يجعل منسوخا كما لو أمر بصوم وصلاة ثم
نسخ أحدهما
فصل فأما إذا زاد في العبادة شيئا لم يكن ذلك نسخا وقال
أهل العراق إن كانت الزيادة توجب تعيين الحكم المزيد عليه كايجاب النية
في الوضوء والتغريب في الحد كان نسخا وإن كان ذلك في نص
القرآن لم يجز الواحد والقياس وقال بعض المتكلمين إن كانت
الزيادة شرطا في المزيد كزيادة ركعة الصلاة كانت نسخا وإن لم تكن
شرطا في المزيد لم تكن نسخا والدليل على ما قلناه هو أن النسخ هو
الرفع والإزالة وهذا لم يرفع شيئا ولم يزله فلم يكن ذلك نسخا
183

38 - باب القول في شرع من قبلنا وما ثبت في الشرع ولم
يتصل بالأمة
اختلف أصحابنا في شرع من قبلنا على ثلاثة أوجه فمنهم من قال ليس
بشرع لنا ومنهم من قال هو شرع لنا إلا ما ثبت نسخه ومنهم من قال
شرع إبراهيم صلوات الله عليه وحده شرع لنا دون غيره ومنهم من قال شرع
موسى شرع لنا إلا ما نسخ بشريعة عيسى صلوات الله عليه ومنهم من قال
شريعة عيسى صلى الله عليه وسلم شرع لنا دون غيره وقال الشيخ الإمام رحمه الله ونور
ضريحه والذي نصرت في التبصرة أن الجميع شرع لنا إلا ما ثبت
نسخه والذي يصح الآن عندي ان شيئا من ذلك ليس بشرع لنا والدليل عليه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرجع في شئ من الأحكام ولا أحد من الصحابة إلى
شئ من كتبهم ولا إلى خبر من أسلم منها ولو كان ذلك شرعا لنا لبحثوا أي
عنه ورجعوا إليه ولما لم يفعلوا ذلك دل ذلك على ما قلناه
فصل ما رود به الشرع أو نزل به الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم
ولم يتصل بالأمة من حكم مبتدأ أو نسخ أمر كانوا عليه فهل يثبت ذلك من
حق الأمة فيه وجهان من أصحابنا من قال أنه يثبت في حق الأمة فإن
184

كانت في عبادة وجب القضاء ومنهم من قال لا يجب القضاء وهو
الصحيح لأن القبلة قد حولت إلى الكعبة وأهل قباء يصلون إلى بيت
المقدس فأخبروا بذلك وهم في الصلاة فاستداروا ولم يؤمروا بالإعادة فلو
كان قد ثبت في حقهم ذلك لأمروا بالقضاء
185

الكتاب الخامس
القول في حروف المعاني
187

39 - باب القول في حروف المعاني
واعلم أن الكلام في هذا الباب كلام في باب من أبواب النحو غير أنه
لما كثر احتياج الفقهاء إليه ذكرها الأصوليون وأنا أشير إلى ما يكثر من ذلك إن
شاء الله
فمن ذلك من ويدخل ذلك في الاستفهام والشرط والجزاء
والخبر وتقول في الاستفهام من عندك ومن جاءك وتقول في الشرط
والجزاء من جاءني أكرمته ومن عصاني عاقبته وتقول في الخبر جاءني
من أحبه ويختص بذلك من يعقل دون من لا يعقل
فصل وأي تدخل في الاستفهام والشرط والجزاء
والخبر تقول في الاستفهام أي شئ تحبه وأي شئ عندك وفي
الشرط والجزاء تقول أي رجل جائني أكرمته وفي الخبر أيهم قام
ضربته ويستعمل ذلك فيمن يعقل وفيما لا يعقل
فصل وما تدخل للنفي والتعجب والاستفهام تقول
في النفي ما رأيت زيدا وفي التعجب تقول ما أحسن زيدا وفي
الاستفهام ما عندك ويدخل في الاستفهام عما لا يعقل وقد قيل أنه
189

يدخل أيضا لما يفعل كقوله تعالى السماء وما بناها (1)
فصل ومن تدخل لابتداء الغاية والتبعيض والصلة
تقول في ابتداء الغاية سرت من البصرة وورد الكتاب من فلان وفي
التبعيض تقول خذ من هذه الدراهم وأخذت من علم فلان وفي الصلة
تقول ما جاءني من أحد وما بالربع من أحد
فصل وإلى تدخل لانتهاء الغاية كقولك ركبت إلى
زيد وقد تستعمل بمعنى مع إلا أنه لا يحمل على ذلك إلا بدليل كقوله
عز وجل وأيديكم إلى المرافق والمراد به مع المرافق وزعم قوم من
أصحاب أبي حنيفة أنه يستعمل في معنى مع علي سبيل الحقيقة وهذا خطأ
لأنه لا خلاف أنه لو قال لفلان على من درهم إلى عشرة لم يلزمه الدرهم
العاشر وكذلك إذا قال لأمر انه أنت طالق من واحد إلى ثلاث لم تقع الطلقة
الثالثة فدل على أنه للغاية
فصل والواو للجمع والتشريك في العطف وقال بعض
أصحابنا هي للترتيب وهذا خطأ لأنه لو كان للترتيب لما جاز أن يستعمل
فيه لفظ المقارنة وهو أن تقول جاءني زيد وعمر ومعا كما لا يجوز أن يقال
جاءني زيد ثم عمرو ومعا وتدخل بمعنى رب في ابتداء الكلام كقوله
ومهمة مغبرة أرجاؤه
أي ورب مهمة وفي القسم تقوم مقام الباء تقول والله بمعنى
بالله
190

فصل والفاء للتعقيب والترتيب تقول جاءني زيد
فعمر ومعناه جاءني عمرو وعقيب زيد وإذا دخلت السوق فاشتر كذا
يقتضي ذلك عقيب الدخول
فصل وثم للترتيب مع المهلة والتراخي وتقول جاءني
زيد ثم عمرو ويقتضي أن يكون بعده
بفصل فصل وأم للاستفهام تقول أكلت أم لا وتدخل
بمعنى أو تقول سواء أحسنت أم لم تحسن
فصل وأو تدخل في الشك للخبر تقول كلمني زيد أو
عمرو وتدخل في التخيير في الأمر كقوله تعالى إطعام عشرة مساكين
من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم (1)
وقال بعضهم في النهي تدخل للجمع والأول هو الأصح لأن النهي
أمر بالترك كالأمر أمر بالفعل فإذا لم يقتض الجمع في الأمر لم يقتض
في النهي
فصل والباء تدخل للإلصاق كقول مررت بزيد
وكتبت بالقلم وتدخل للتبعيض كقوله مسحب ثنا بالرأس وقال أصحاب
أبي حنيفة رحمه الله لا تدخل للتبعيض وهذا غير صحيح لأنهم أجمعوا
على الفرق بين قوله أخذت قميصه وبين قوله أخذت بقميصه فعقلوا
من الأول أخذ جميعه ومن الثاني الأخذ ببعضه فدل على ما قلناه
فصل واللام تقتضي التمليك وقال بعض أصحاب أبي
حنيفة رحمه الله تقتضي الاختصاص دون الملك وهذا غير صحيح لأنه
لا خلاف أنه لو قال هذه الدار لزيد اقتضى أنها ملكه فدل على أن ذلك
191

مقتضاه وتدخل أيضا للتعليل كقوله عز وجل لئلا يكون للناس على الله
حجة بعد الرسل (2) وتدخل للغاية فيه والصيرورة كقوله عز وجل
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا (3)
فصل وعلى للايجاب كقوله لفلان على كذا ومعناه
واجب
فصل وفي للظرف تقول على تمر به في جراب معناه أن
ذلك فيه
فصل ومتى ظرف زمان تقول متى رأيته
فصل وإذ وإذا ظرف للزمان إلا أن إذ لما مضى
تقول أنت طالق إذ دخلت الدار معناه في الماضي وإذا للمستقبل
تقول أنت طالق إذا دخلت الدار ومعناه في المستقبل
فصل وحتى للغاية كقوله تعالى حتى مطلع
الفجر (1) وتدخل للعطف كالواو وإلا أنه لا يعطف به إ على وجه التعظيم
والتحقير تقول في التعظيم جاءني الناس حتى السلطان وتقول في التحقير
كلمني كل أحد حتى العبيد وتدخل ليبتدئ هذا الكلام بعده كقولك قام الناس
حتى زيد قائم
فصل وإنما للحصر وهو جمع الشئ فيما أشير إليه
ونفيه عما سواه تقول إنما في الدار زيد أي ليس فيها غيره وإنما الله
واحد أي لا إله إلا واحد
192

الكتاب السادس
الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأنواعها
الاقرار والسكت عن الحكم
193

40 - باب الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجملته ان الأفعال لا تخلو إما ان تكون قربة أو ليس بقربة
فإن لم تكن قربة كالأكل والشرب واللبس والقيام والقعود
فهو يدل على الإباحة لأنه لا يقر على الحرام فإن كان قربة لم يحل من ثلاثة
أوجه
أحدها أني فعل بيانا لغيره فحكمه مأخوذ من المبين فإن كان
المبين واجبا كان البيان واجبا وإن كان البيان ندبا ويعرف بأنه
بيان لذلك بأن يصرح بأن ذلك بيان لذلك أو يعلم في القرآن آية مجملة تفتقر
إلى البيان ولم يظهر بيانها بالقول فيعلم أن هذا الفعل بيان لها
والثاني أن يفعل امتثالا لأمر فيعتبر أيضا بالأمر فإن كان على
الوجوب علمنا أنه فعل واجبا وإن كان على الندب علمنا أنه فعل ندبا
والثالث أن يفعل ابتداء من غير سبب فاختلف أصحابنا فيه على
ثلاثة أوجه أحدها أنه على الوجوب إلا أن يدل الدليل على غيره
وهو قول أبي العباس وأبي سعيد وهو مذهب مالك وأكثر أهل
195

العراق والثاني أنه على الندب إلا أن يدل الدليل على الوجوب والثالث
أنه على الوقف فلا يحمل على الوجوب ولا على الندب إلا بدليل وهو قول أبي
بكر الصيرفي وهو الأصح والدليل عليه أن احتمال الفعل للوجوب كاحتماله
للندب فوجب التوقف فيه حتى يدل الدليل
فصل إذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وعرف أن فعله على وجه
الوجوب أو على وجه الندب كان ذلك شرعا لنا إلا أن يدل الدليل على
تخصيصه بذلك وقال أبو بكر الدقاق لا يكون ذلك شرعا لنا إلا بدليل
والدليل على فساد ذلك قوله عز وجل لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة (1) ولأن الصحابة كانوا يرجعون فيما أشكل عليهم إلى أفعاله
فيقتدون به فيها فدل على أنه شرع في حق الجميع
فصل ويقع بالفعل جميع أنواع البيان من بيان المجمل
196

وتخصيص العموم وتأويل الظاهر والنسخ فأما بيان المجمل فهو كما فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة والحج فكان في فعله بيان المجمل الذي في القرآن
وأما تخصيص العموم فكما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب
الشمس ثم روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر صلاة لها سبب فكان في ذلك
تخصيص عموم النهي
197

وأما تأويل ثم الظاهر فكما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن الوقود في الطرف
قبل الاندمال فيعلم أن المراد بالنهي الكراهية دون التحريم وأما النسخ
فكما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب
بالثيب جلد مائة والرجم ثم روي أنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يجلده فدل
على أن ذلك منسوخ
198

فصل وإن تعارض قول وفعل في البيان ففيه أوجه من أصحابنا
من قال القول أولى ومنهم من قال الفعل أولى ومنهم من قال هما
سواء والأول أصح لأن الأصل في البيان هو القول ألا تراه يتعدى
بصيغته والفعل لا يتعدى إلا بدليل فكان القول أولى
199

41 - باب القول في الاقرار والسكت عن الحكم
والاقرار أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلا ينكره أو يرى فعلا فلا ينكره
مع عدم الموانع فيدل ذلك على جوازه وذلك مثل ما روي أنه سمع رجلا
يقول الرجل يجد مع امرأته رجلا إن قتل قتلتموه وإن تكلم جلدتموه
وإن سكت سكت على غيظ أم كيف يصنع ولم ينكر عليه فدل ذلك
على أنه إذا قتل قتل وإذا قذف جلد
200

وكما روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى قيسا يصلي ركعتي الفجر بعد الصبح فلم ينكر
عليه فدل على جواز ما لها سبب بعد الصبح لأنه يجوز أن يرى منكرا
فلا ينكره مع القدرة عليه رسول لأن في ترك الإنكار إيهام ان ذلك جائز
فصل وأما ما فعل في زمانه صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فإنه ينظر فيه
فإن كان ذلك مما لا يجوز أن يخفي عليه من طريق العادة كان بمنزلة ما لو رآه
فلم ينكره وذلك مثل ما روي أن معاذا كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم
يأتي قومه في بني سلمة لا فيصلي بهم هي له تطوع ولهم فريضة العشاء فيدل
201

ذلك على جواز الافتراض خلف المتنفل وإن كان مثل ذلك لا يجوز أن يخفى
عليه فإن كان لا يجوز لأنكر
وأما ما يجوز إخفاؤه عليه وذلك مثل ما روي عن بعض الأنصار أنه
قال كنا نجامع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكسل ولا نغتسل فهذا لا يدل
على الحكم لأن ذلك يفعل سرا ويجوز ان لا يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم
يغتسلون لأن الأصل أن لا يجب الغسل فلا يحتج به في إسقاط الغسل
202

ولهذا قال عمر رضي الله عنه حين روي له ذلك أو علم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأقركم عليه فقالوا لا فقال فمه (1) فصل وأما
السكت عن الحكم فهو أن يرى رجلا يفعل
فعلا فلا يوجب فيه حكما فينظر فيه فإن لم يكن ذلك موضع حاجة ولم
يكن في سكوته دليل على الايجاب ولا اسقاط الجواز أن يكون قد أخر
203

البيان إلى وقت الحاجة وإن كان موضع حاجة مثل الأعرابي الذي سأله عن
الجماع في رمضان فأوجب عليه العتق ولم يوجب على المرأة دل سكوته
على أنه واجب عليه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
204

الكتاب السابع
القول في الاخبار
بيان الخبر وإثبات صيغته
الخبر المتواتر
أخبار الآحاد
المراسيل
صفة الراوي ومن يقبل خبره
الجرح والتعديل
حقيقة الرواية
ما يرد به خبر الواحد
الترجيح في الاخبار
205

42 - باب القول في الاخبار بيان الخبر وإثبات صيغته
والخبر الذي لا يخلو من أن يكون صدقا أو كذبا وله صيغة موضوعة
في اللغة تدل عليه وهو قوله زيد قائم وعمرو قاعد وما أشبههما وقالت
الأشعرية لا صيغة له والدليل على فساد ذلك أن أهل اللغة قسموا الكلام أربعة
أقسام فقالوا أمر ونهي وخبر واستخبار فالأمر قولك افعل والنهي قولك
لا تفعل والخبر قولك زيد في الدار والاستخبار قولك أزيد في الدار فدل على
ما قلناه
207

43 - باب القول في الخبر المتواتر
اعلم أن الخبر ضربان متواتر وآحاد فأما الآحاد فله باب يأتي الكلام
فيه إن شاء الله تعالى وبه الثقة وأما المتواتر فهو كل خبر علم مخبره ضرورة
وذلك ضربان تواتر من جهة اللفظ كالأخبار المتفقة عن القرون الماضية
والبلاد النائية وتواتر من طريق المعنى كالأخبار المختلفة عن سخاء حاتم
وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك ويقع العلم بكلا الضربين
وقال البراهمة لا يقع العلم بشئ من الأخبار وهذا جهل فإنا نجد أنفسنا
عالمة بما يؤدي إليها الخبر المتواتر أخبار مكة وخراسان وغيرهما كما
نجدها عالمة بما تؤدي إلي الحواس فكما لا يجوز إنكار العلم الواقع
بالحواس لم يجز إنكار العلم الواقع بالاخبار
فصل والعلم الذي يقع به ضروري وقال البلخي من
المعتزلة العلم الواقع به الكتاب وهو قول أبي بكر الدقاق وهذا خطأ
208

لأنه لا يمكن نفي ما يقع به من العلم عن نفسه بالشك والشبهة فكان ضروريا
كالعلم الواقع عن الحواس فصل ولا يقع العلم الضروري بالتواتر إلا بثلاث شرائط
إحداها أن يكون المخبرون عددا لا يصح منهم التواطؤ على الكذب وإن
يستوي طرفاه ووسطه فيروي هذا العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه
وأن يكونا لخبر في الأصل عن مشاهدة أو سماع فأما إذا كان عن نظر
واجتهاد مثل أن يجتهد العلماء فيؤديهم الاجتهاد إلى شئ لم يقع العلم
الضروري بذلك ومن أصحابنا من اعتبر ان يكون العدد مسلمين ومن
الناس من قال لا يجوز أن يكون العدد أقل من ثاني عشر ومنهم من قال
أقله سبعون ومنهم من قال ثلاثمائة وأكثر وهذا كله خطأ لأن وقوع
العلم به لا يختص بشئ مما ذكروه فسقط اعتبار ذلك
209

44 - باب القول في اخبار الآحاد
واعلم أن خبر الواحد ما انحط عن حد التواتر وهو ضربان مسند
ومرسل فأما المرسل فله باب يجئ إن شاء الله تعالى وأما المسند فضربان
أحدهما يوجب العلم وهو على أوجه منها خبر الله عز وجل وخبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومنها أن يحكي الرجل بحضرة رسول الله ص شيئا ويدعي علمه فلا ينكر
عليه فيقطع به على صدقه ومنها أن يحكي الرجل شيئا بحضرة جماعة كثيرة
ويدعي علمهم فلا ينكرونه فيعلم بذلك صدقة ومنها خبر الواحد الذي تلقته
الأمة بالقبول فيقطع بصدقه سواء عمل الكل به أو عمل البعض وتأوله
البعض فهذه الأخبار توجب العمل ويقع العلم بها استدلالا
والثاني يوجب العمل ولا يوجب العلم وذلك مثل الأخبار المروية
في السنن والصحاح وما أشبهها وقال بعض أهل العلم توجب العلم وقال
بعض المحدثين ما يحكى إسناده أوجب العلم وقال النظام يجوز أن
يوجب العمل إذا قارنه سبب مثل أن يرى رجل مخرق الثياب فيجئ ويخبر
210

بموت قريب له وقال القاشاني وابن داود لا يوجب العلم وهو مذهب
الرافضة ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال العقل يمنع العلم به ومنهم
من قال العقل لا يمنع إلا أن الشرع لم يرد به فالدليل على أنه لا يوجب
العلم أنه لو كان يوجب العلم لوقع العلم بخبر كل مخبر ممن يدعي النبوة أو
مالا على غيره ولما لم يقع العلم بذلك دل على أنه لا يوجب العمل
واما الدليل على أن العقل لا يمنع من التعبد به هو انه إذا جاز التعبد بخبر
المفتي وشهادة الشاهد ولم يمنع العقل منه جاز بخبر المخبر
وأما الدليل على وجوب العمل به من جهة الشرع أن الصحابة رضي
الله عنهم رجعت إليهما في الأحكام فرجع عمر إلى حديث حمل بن مالك
في دية الجنين وقال لو نسمع هذا لقضينا بغيره
211

ورجع عثمان كرم الله وجهه في السكنى إلى حديث فريعة بنت
مالك
212

وكان علي كرم الله وجهه يرجع إلى أخبار الآحاد ويستظهر فيها باليمين
وقال إذا حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلفته فإذا حلف لي صدقته إلا
أبا بكر وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر
213

ورجع ابن عمر إلى خبر رافع بن خديج في المخابرة
214

ورجعت الصحابة إلى حديث عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين
فدل على وجوب العمل به
فصل ولا فرق بين أن يرويه واحد أو اثنان وقال أبو علي
الجبائي لا يقبل حتى يرويه اثنان عن اثنين وهذا خطأ لأنه إخبار عن
حكم شرعي فجاز قبوله من واحد كالفتيا
فصل ويجب العمل به فيما يعم به البلوى وفيما لا يعم
وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز العمل به فيما يعم به البلوى
والدليل على فساد ذلك أنه حكم شرعي يسوغ فيه الاجتهاد فجاز إثابته
بخبر الواحد قياسا على ما لا يعم به البلوى
فصل ويقبل أن خالف القياس ويقدم عليه وقال أصحاب
مالك رحمه الله إذا خالف القياس لم يقبل أصحاب أبي حنيفة رضي الله
عنه إذا خالف ولا القياس الأصول لم يقبل وذكروا ذلك في خبر التفليس
والقرعة والمصراة والدليل على أصحاب مالك أن الخبر يدل على قصد
215

صاحب الشرع بصريحه والقياس يدل على قصده بالاستدلال والصريح أوقى
فيجب أن يكون بالتقديم أولى
وأما أصحاب أبي حنيفة رحمه الله فإنهم إن أرادوا بالأصول القياس
216

على ما ثبت بالأصول فهو الذي قاله أصحاب مالك وقد دللنا على فساده
وإن أرادوا نفس الأصول التي هي الكتاب والسنة والاجماع فليس معهم في
المسائل التي ردوا فيها خبر الواحد كتاب ولا سنة ولا إجماع فسقط ما قالوه
217

45 - باب القول في المراسيل
والمرسل ما انقطع إسناده وهو أن يروي عمن لم يسمع منه فيترك بينه
وبينه واحد في الوسط فلا يخلو ذلك من أحد أمرين إما أن يكون
مراسيل الصحابة وأو من غيرها فإن كان من مراسيل الصحابة وجب العمل به
لأن الصحابة رضي الله عنهم مقطوع بعدالتهم
فصل وإن كان مراسيل غيرهم نظرت فإن كان من
مراسيل غير سعيد بن المسيب لم يعمل به وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله
عنهما يعمل به كالمسند وقال عيسى بن أبان إن كان من مراسيل التابعين وتابعي
التابعين وقيل وإن كان من مراسيل غيرهم لم يقبل إلا أن يكون المرسل
إماما فالدليل على ما قلناه أن العدالة شرط في صحة الخبر والذي ترك
تسميته يجوز أن يكون عدلا ويجوز قبول خبره
حتى يعلم
فصل وإن كان من مراسيل ابن المسيب فقد قال الشافعي
218

رضي الله عنه مراسيله عندنا حسن فمن أصحابنا من قال مراسيله حجة
لأنها تتبعت فوجدت كلها مسانيد ومنهم من قال هي كغيرها وإنما
استحسنها الشافعي رضي الله عنه استئناسا بها لا أنها حجة فأما إذا قال
أخبرني الثقة عن الزهري فهو كالمرسل لأن الثقة مجهول عندنا فهو بمنزلة
من لم يذكره أصلا وأما خبر العنعنة إذا قال أخبرنا مالك عن الزهري فهو
مسند ومن الناس من قال حكمه حكم المرسل وهذا خطأ لأن الظاهر أنه
سماع عن الزهري وإن كان بلفظ العنعنة فوجب أن يقبل
فصل وأما إذا قال أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه (1)
عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يكون ذلك عن الحد الأدنى وهو
محمد بن عبد الله بن عمرو فيكون مرسلا ويحتمل أن يكون عن جده
الأعلى فيكون مسندا فلا يحتج به لأنه يحتمل الارسال والاسناد فلا
يجوز ثابته بالشك إلا أن يثبت أنه ليس يروي إلا عن جده الأعلى فحينئذ يحتج
به
219

46 - باب صفة الراوي ومن يقبل خبره
واعلم أنه لا يقبل الخبر حتى يكون الراوي في حال السماع مميزا
ضابطا لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة عند السماع لم يعلم ما يرويه وإن لم
يكن بالغا عند السماع جاز ومن الناس من قال يعتبر أن يكون في حال
السماع بالغا وهذا خطأ لأن المسلمين اجمعوا على قبول خبر أحداث
الصحابة والعمل بما سمعوه في حال الصغر كابن عباس وابن الزبير
والنعمان بن بشير وغيرهم فدل على ما قلناه
فصل وينبغي أن يكون عدلا مجتنبا للكبائر متنزها عن كل ما
يسقط المروءة من المجون والسخف والأكل في السوق والبول في قارعة
الطريق لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لم يؤمن من أن يتساهل في رواية مالا
220

أصل له ولهذا رد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه حديث أبي سنان
الأشجعي وقال بوال على عقبيه
221

فصل وينبغي أن يكون ثقة مأمونا لا يكون كذابا ولا ممن
يزيد في الحديث ما ليس منه فإن عرف بشئ من ذلك لم يقبل حديثه لأنه
لا يؤمن ان يضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله
فصل وكذلك يجب أن يكون غير مبتدع يدعو الناس إلى
البدعة فإنه لا يؤمن أن يضع الحديث على وفق بدعته وأما إذا لم يدع
الناس إلى البدعة فقد قيل أن روايته تقبل قال الشيخ الامام رحمه الله
والصحيح عندي أنها لا تقبل لأن المبتدع فاسق فلا يجوز أن يقبل خبره
فصل وينبغي أن يكون غير مدلس والتدليس هو أن يروي
عمن لم يسمع منه ويوهم أنه سمع منه ويوري عن رجل يعرف بنسب أو
اسم فيعدل عن ذلك إلى ما لا يعرف به من أسمائه يوهم أنه غير ذلك
الرجل المعروف وقال كثير من أهل العلم يكره ذلك إلا أنه لا يقدح ذلك
222

في روايته وهو قول بعض أصحابنا لأنه لم يصرح بكذب ومن الناس من
قال يرد حديثه لأنه في الإيهام عمن لم يسمع توهيم ما لا أصل له فهو
كالمصرح بالكذب وفي العدول عن الاسم المشهور إلى غيره تغرير بالرواية
عمن لعله غير مرضي فوجب التوقف عن حديثه
فصل ويجب ان يكون ضابطا حال الرواية محصلا لما
يرويه فأما إذا كان مغفلا لم يقبل خبره فإنه لا يؤمن أن يروي بما لم
يسمعه فإن كان له حال غفلة وحال تيقظ فما يرويه في حال تيقظه مقبول
وإن روي عنه حديثا ولم يعلم أنه رواه في حال التيقظ أو الغفلة لم يعمل به
223

باب القول في الجرح والتعديل
وجملته أن الراوي لا يخلو إما أن يكون معلوم العدالة أو معلوم
الفسق أو مجهول الحال فإن كانت عدالته معلومة كالصحابة رضي الله
عنهم أو أفاضل التابعين كالحسن وعطاء والشعبي والنخعي
224

وأجلاء الأئمة كمالك وسفيان وأبي حنيفة والشافعي
وأحمد وإسحاق ومن يجري مجراهم وجب قبول خبره
ولم يجب البحث عن عدالته وذهبت المعتزلة والمبتدعة إلى أن في الصحابة
فساقا وهم الذين قتلوا عليا كرم الله وجهه من أهل العراق وأهل الشام حتى
اجترأوا ولم يخافوا الله عز وجل وأطلقوا هذا القول على طلحة والزبير
وعائشة رضي الله عنهم وهذا قول عظيم في السلف والدليل على فساد
قولهم أن عدالتهم قد ثبتت ونزاهتهم قد عرفت فلا يجوز أن تزول عما
عرفناه لم إلا بدليل قاطع ولأنهم لم يظهر منهم معصية اعتمدوها وإنما دارت
بينهم حروب كانوا فيها متأولين ولهذا امتنع خلق كثير من خيار الصحابة
والتابعين عن معاوية في قتال علي كرم الله وجهه على ذلك واستعفوا عن
القتال معه لما دخل عليهم من الشبهة في ذلك كسعد بن أبي وقاص
وأصحاب ابن مسعود وغيرهم ولهذا كان علي رحمة الله عليه يأذن في قبول
شهادتهم والصلاة معهم فلا يجوز أن يقدح ذلك في عدالتهم
فصل فأما أبو بكرة ومن جلد معه في القذف فإن أخبارهم
225

تقبل لأنهم لم يخرجوا مخرج القذف بل أخرجوه مخرج الشهادة وإنما
جلدهم عمر كرم الله وجهه باجتهاده فلم يجز أن يقدح بذلك في عدالتهم ولم
يرد خبرهم
226

فصل وإن كان معلوم الفسق لم يقبل خبره سواء كان فسقه
بتأويل أو بغير تأويل وقال بعض المتكلمين يقبل الفاسق بتأويل إذا كان أمينا
227

في دينه حتى الكافر والدليل على ما قلناه قوله عز وجل إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا (1) ولم يفرق ولأنه إذا لم يخرجه التأويل عن كونه كافرا أو فاسقا
لم يخرجه عن أن يكون مردود الخبر
فصل فإذا كان مجهول الحال لم يقبل حتى تثبت عدالته وقال
أصحاب أبي حنيفة رحمه الله يقبل والدليل على ما قلناه أن كل خبر لم يقبل
من الفاسق لم يقبل من مجهول العدالة كالشهادة لم
فصل ويجب البحث عن العدالة الباطنة كما يجب ذلك في
الشهادة ومن أصحابنا من قال يكفي السؤال عن العدالة في الظاهر فإن
مبناه على الظاهر وحسن الظن ولهذا يجوز قبوله من العبد
فصل فإن اشترك رجلان في الاسم والنسب وأحدهما عدل
والآخر فاسق فروي خبر عن هذا الاسم لم يقبل حتى يعلم أنه عن العدل
فصل ويثبت التعديل والجرح في الخبر بواحد ومن
أصحابنا من قال لا يثبت إلا من نفسين كتزكية الشهود والأصول أصح لأن
الخبر يقبل من واحد فكذلك تزكية المخبر
فصل ولا يقبل التعديل إلا ممن يعرف شروط العدالة وما
يفسق به الانسان لأنا لو قبلنا ممن لا يعرف لم نأمن أن نشهد بعدل من هو
فاسق أو فسق من هو عدل
فصل ويكفي في التعديل أن يقول هو عدل ومن أصحابنا
من قال يحتاج أن يقول هو عدل علي ولي ومن الناس من قال لا بد من
ذكر ما صار به عدلا والدليل على أنه يكفي قوله عدل أن قوله عدل يجمع
228

أنه عدل عليه وله ولا يحتاج إلى الزيادة عليه والدليل على أنه لا يحتاج إلى
ذكر ما يصير به عدلا أنا لا نقبل إلا قول من تعرف فيه شروط العدالة فلا
يحتاج إلى بيان شروط العدالة
فصل ولا يقبل الجرح إلا مفسرا فأما إذا قال هو
ضعيف أو فاسق لم يقبل وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا قال هو فاسق قبل
من غير تفسير وهذا غير صحيح لأن الناس يختلفون فيما يرد به الخبر ويفسق
به الانسان فربما اعتقد في أمر أنه جرح ولس بجرح فوجب بيانه
فصل فإن عدله واحد وجرحه آخر قدم الجرح على
التعديل لأن مع شاهد الجرح زيادة علم فقدم على المزكي
فصل فإن روي عن المجهول عدل لم يكن ذلك تعديلا
وقال بعض أصحابنا إن ذلك تعديل والدليل على فساد ذلك هو أنا نجد
العدول يروون عن المدلسين والكذابين ولهذا قال الشعبي أخبرني
الحارث الأعور وكان والله كذابا فلم يكن في الرواية عنه دليل على
التعديل
229

فصل فأما إذا عمل العدل بخبره وصرح بأنه عمل بخبره
فهو تعديل لأنه يجوز أن يعمل به إلا وقد قبله وإن عمل بموجب خبره
ولم يسمع منه أنه عمل بالخبر لم يكن ذلك تعديلا لأنه قد يعمل بموجب
الخبر من جهة القياس ودليل غيره فلم يكن ذلك تعديلا
230

48 - باب القول في حقيقة الرواية وما يتصل به
والاختيار في الرواية أن يروي الخبر بلفظه لقوله صلى الله عليه وسلم نصر الله امرأ
سمع مقالتي فوعاها ثم أذاعها كما سمع رب حامل فقه
منه فإن أورد الرواية بالمعنى نظرت فإن كان ممن لا يعرف معنى الحديث
لم يجز لأنه لا يؤمن أن يغير معنى الحديث وإن كان ممن يعرف معنى
231

الحديث نظرت فإن كان ذلك في خبر محتمل لم يجز أني روي بالمعنى
لأنه ربما نقل بلفظ لا يؤذي مرادا الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يتصرف فيه وإن كان
خبرا ظاهرا ففيه وجهان من أصحابنا من قال لا يجوز لأنه ربما كان التعبد
باللفظ كتكبير للصلاة والثاني أنه يجوز وهو الظهر لأنه يؤدي معناه فقام
مقامه
ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أصبت المعنى فلا بأس
232

فصل والأولى أن يروى الحديث بتمامه فإن روي البعض وترك البعض
لم يجز ذلك على قول من يقول إن نقل الحديث بالمعنى لا يجوز وأما على
قول من قال إن ذلك جائز فقد اختلفوا في هذا فمنهم من قال إن كان
قد نقل ذلك هو أو غيره بتمامه مرة جاز أن ينقل البعض وإن لم يكن قد نقل ذلك
لا هو ولا غيره لم يجز ومنهم من قال إن كان يتعلق بعضه ببعض لم يجز
فإن كان الخبر يشتمل على حكمين لا يتعلق أحدهما بالآخر جاز نقل أحد
الحكمين بترك الآخر وهو الصحيح ومن الناس من قال لا يجوز بكل
حال والدليل على الصحيح هو أنه إذا تعلق بعضه ببعض كان في ترك بعضه
تقرير لأنه ربما عمل بظاهره فيخل بشرط من شروط الحكم وإذا لم يتعلق
بعضه ببعض فهو كالخبرين يجوز نقل أحدهما دون الآخر
فصل وينبغي لمن لا يحفظ الحديث أن يرويه من الكتاب
فإن كان يحفظ فالأولى أن يرويه من كتاب لأنه أحوط فإن رواه من حفظه
جاز وأما إذا لم يحفظ وعنده كتاب وفيه سماعه بخطه وهو يذكر أنه سمع
جاز ان يرويه وإن لم يذكر كل حديث فيه وإن لم يذكر أنه سمع هذا
الخبر فهل يجوز أن يرويه فيه وجهان أحدهما يجوز وعليه يدل
قوله في الرسالة والثاني لا يجوز وهو الصحيح لأنه لا يأمن أن
يكون قد زور على خطه فلا تجوز الرواية بالشك
فصل فأما إذا روي عن شيخ ثم نسي الشيخ الحديث لم
يسقط الحديث وقال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله يسقط
233

الحديث وهذا غير صحيح لأن الراوي عنه ثقة ويجوز أن يكون الشيخ قد
نسي فلا تسقط رواية صحيحة في الظاهر فأما إذا جحد الشيخ الحديث
وكذب الراوي عنه سقط الحديث لأنه قطع بالجحود حدثنا ورد الحديث
فتعارض روايته وجحود ابن الشيخ فسقطا ولا يكون هذا التكذيب قدحا في
الرواية عنه لأنه كما يكذبه الشيخ فهو أيضا يكذب الشيخ
فصل فإذا قرأ الشيخ الحديث عليك جاز أن تقول
سمعته وحدثني وأخبرني وقرأ علي سواء قال أروه عني أو لم يقل
وإن أملي عليك جاز جميع ما ذكرناه ويجوز أن يقول أملي علي لأن
جميع ذلك صدق فأما إذا قرأت عليه الحديث وهو ساكت يسمع لم يجز أن
تقول سمعته ولا حدثني ولا أخبرني ومن الناس من قال يجوز ذلك
وهذا خطأ لأنه لم يوجد شئ من ذلك فإن قال له هو كما قرأت عليك
فأقرأ به جاز أن يقول أخبرني ولا يقول حدثني لأن الاخبار يستعمل
في كل ما يتضمن الاعلام والحديث لا يستعمل إلا فيما سمعه مشافهة فأما
إذا أجازه لم يجز أن يقول حدثني ولا أخبرني ويجوز أن يقول أجازني
وأخبرني إجازة ويجب العمل به وقال بعض أهل الظاهر لا يجب العمل
به وهذا خطأ لأن القصد أن يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا فرق بين النطق
وبين ما يقوم مقامه فأما إذا كتب إليه رجل وعرف خطه جاز أن يقول كتب
إلي به فأخبرني كتابة ومن أصحابنا من قال لا يعمل بالخط كما لا
يعمل في الشهادة وهذا غير صحيح لأن الاخبار مبناها على حسن الظن
234

49 - باب بيان ما يرد به خبر الواحد
إذا روي الخبر ثقة رد بأمور
أحدها أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما
يرد بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا
والثاني أن يخالف نص كتاب أو سنة متواترة قوله فيعلم أنه لا أصل له
أو منسوخ
والثالث أن يخالف الاجماع فيستدل به على أنه منسوخ أو لا
أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحا غير منسوخ وتجمع الأمة على
خلافه
والرابع أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه فيدل ذلك
على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين
الخلق العظيم
والخامس أن ينفرد برواية ما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر فلا
يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية فأما إذا ورد مخالفا
235

للقياس أو أنفرد الواحد برواية ما يعم به البلوى لم يرد وقد حكينا
الخلاف في ذلك فأغنى عن الإعادة
فصل فأما إذا انفرد بنقل حديث واحد لا يرويه غيره لم يرد
خبره وكذلك لو انفرد بإسناد ما أرسله غيره أو رفع ما وقفه غيره أو يزيادة
لا ينقلها غيره وقال بعض أصحاب الحديث يرد وقال أصحاب أبي حنيفة
رحمه الله إذا لم ينقل
الأصل لم يقبل وهذا خطأ لأنه يجوز أن يكون
أحدهم سمع الحديث كله والآخر سمع بعضه أو أحدهم سمعه مسندا أو
مرفوعا فلا تترك رواية الثقة لذلك
236

50 - باب القول في ترجيح أحد الخبرين له على الآخر
وجملته أنه إذا تعارض خبران وأمكن الجمع بينهما وترتيب أحدهما
على الآخر في الاستعمال فعل وإن لم يكن ذلك وأمكن نسخ أحدهما
بالآخر فعل على ما بينه في باب بيان الأدلة التي جوز التخصيص لها وما لا
يجوز فإن لم يكن ذلك رجح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح
والترجيح يدخل في موضعين أحدهما في الاسناد والآخر في المتن
فأما الترجيح في الاسناد فمن وجوه
أحدها ان يكون أحد الراويين صغيرا والآخر كبيرا فيقدم رواية
الكبير لأنه أضبط ولهذا قدم ابن عمر روايته في الإفراد على رواية أنس
فقال إن أنسا كان صغيرا يتولج على النساء وهن متكشفات وأنا آخذ بزمام
ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيل علي لعابها
237

والثاني أن يكون أحدهما أفقه من الآخر فيقدم على من دونه
لأنه اعرف بما يسمع
والثالث أن يكون أحدهما أقر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقدم لأنه
أوعى
والرابع ان يكون أحدهما مباشرا للقصة أو تتعلق القصة به فيقدم
لأنه اعرف من الأجنبي
والخامس أن يكون أحد الخبرين أكثر رواة فيقدم على الخبر
الآخر ومن أصحابنا من قال لا يقدم كما لا تقدم الشهادة بكثرة العدد
والأول أصح لأن قول الجماعة أقوى في الظن وباعد عن السهو ولهذا قال
الله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى (1)
والسادس أن يكون أحد الروايتين أكثر صحبة فروايته أولى لأنه
اعرف بما دام من السنن
والسابع أن يكون أحدهما أحسن سياقا للحديث فيقدم لحسن
عنايته بالخبر
238

والثامن أن يكون أحدهما متأخر الإسلام فيقدم لأنه يحفظ آخر
الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك إذا كان أحدهما متأخر ذلك الصحبة كابن
عباس وابن مسعود فرواية المتأخر منهما تقدم وقال بعض أصحاب أبي
حنيفة رحمه الله لا يقدم بالتأخير لأن المتقدم عاش حتى مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم فساوى المتأخر في الصحبة وزاد عليه بالتقدم وهذا غير صحيح
لأنه وإن كان قد ساوى المتأخر في الصحبة إلا أن سماع المتأخر متحقق
التأخر وسماع المتقدم يحتمل التأخر والتقدم فما تأخر بيقين أولى
ولهذا قال ابن عباس كنا نأخذ من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فالأحدث
239

والتاسع أن يكون أحد الروايتين أورع أو أشد احتياطا فيما يروى
فتقدم روايته لاحتياطه في النقل
والعاشر أن يكون أحدهما قد اضطرب لفظه والآخر لم يضطرب
فيقدم من لم يضطرب لفظه لأن اضطراب لفظه يدل على ضعف حفظه
والحادي عشر أن يكون أحد الخبرين من رواية أهل المدينة فيقدم
علي رواية غيرهم لأنهم يرثون أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته التي مات عليها
فهم أعرف بذلك من غيرهم
والثاني عشر ان يكون راوي أحد الخبرين قد اختلفت الرواية عنه
والاخر لم تختلف عنه فاختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال تتعارض
الروايتان عمن اختلفت الرواية عنه وتقسطان محمد وتبقى رواية من لم تختلف عنه
الرواية ومنهم من قال ترجح إحدى الروايتين عمن اختلفت الرواية عنه على
الرواية الأخرى برواية من لم تختلف الرواية عنه
فصل وأما ترجيح المتن فمن وجوه
أحدها أن يكون أحد الخبرين موافقا لدليل آخر من كتاب أو سنة أو
قياس فيقدم على الآخر لمعاضدة الدليل له
والثاني أن يكون أحد الخبرين عمل به الأئمة فهو أولى لأن
عملهم به يدل على أنه آخر الأمرين وأولاهما وهكذا إذا عمل بأحد الخبرين
240

أهل الحرمين فهو أولى لأن عملهم به يدل على أنه قد استقر عليه الشرع
وورثوه
والثالث أن يكون أحدهما
يجمع النطق والدليل فيكون أولى ما يجمع أحدهما لأنه أبين
والرابع أن يكون أحدهما نطقا والاخر دليلا فالنطق أولى من
الدليل لأن النطق مجمع عليه والدليل مختلف فيه
والخامس أن يكون أحدهما قولا وفعلا والآخر أحدهما فالذي
يجمع القول والفعل أولى لأنه أقوى لتظاهر الدليلين وإن كان أحدهما
قولا والاخر فعلا ففيه أوجه قد مضت في باب الأفعال
والسادس أن يكون أحدهما قصد به الحكم والآخر لم يقصد به
الحكم فالذي قصد به الحكم أولى لأنه أبلغ في بيان الغرض وإفادة
المقصود
والسابع أن يكون أحدهما ورد على سبب والآخر ورد على غير
سبب فالذي ورد على غير سبب أولى لأنه متفق على عمومه والوارد على
سبب مختلف في عمومه
والثامن أن يكون أحد الخبرين قضى به على الآخر فالذي قضى به
منهما أولى لأنه ثبت له حق التقدم
والتاسع أن يكون أحدهما إثباتا والآخر نفيا فيقدم الاثبات لأن
مع المثبت زيادة علم فالأخذ بروايته أولى
241

والعاشر أن يكون أحدهما ناقلا والاخر منفيا فالناقل أولى لأنه
يفيد حكما شرعيا
والحادي عشر أن يكون أحدهما احتياطا فيقدم على الذي لا
احتياط فيه لأن الأحوط للدين أسلم
والثاني عشر أن يكون أحدهما يقتضي الحظر والاخر الإباحة ففيه
وجهان أحدهما أنهما سواء والثاني أن الذي يقتضي الحظر أولى وهو
الصحيح لأنه أحوط
242

الكتاب الثامن
القول في الاجماع
معنى الاجماع وإثباته وحجيته
ما ينعقد به الاجماع
ما يعرف به الاجماع
ما يصح به الاجماع
الاجماع بعد الخلاف
اختلاف الصحابة
قول الواحد من الصحابة وترجيح بعضهم على بعض
243

القول في الاجماع
51 - باب ذكر معنى الاجماع واثباته
الاجماع في اللغة يحتمل معنيين أحدهما الاجماع على الشئ
والثاني العزم على الأمر والقطع به من قولهم أجمعت على الشئ إذا
عزمت عليه وأما في الشرع فهو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة
فصل وهو حجة من حجج الشرع ودليل من أدلة الاحكام
مقطوع على مغيبة وذهب النظام والرافضة إلى أنه ليس بحجة ومنهم
من قال لا يتصور انعقاد الاجماع ولا سبل إلى معرفته فالدليل على أنه
يتصور انعقاده هو أن الاجماع إنما ينعقد عن دليل من نص أو استنباط وأهله
مأمورون بطلب ذلك الدليل ودواعيهم متوفرة في الاجتهاد وفي إصابته
فصح اتفاقهم على إدراكه والاجماع موجبة كما يصح اجتماع الناس على
رؤية الهلال والصوم والفطر بسببه والدليل على إمكان معرفة ذلك من
جهتهم صحة السماع من حضر والاخبار عمن غاب يعرف بذلك
اتفاقهم كما تعرف أديان أهل الملل مع تفرقهم في البلاد وتباعدهم إلى في
الأوطان والدليل على أنه حجة قوله عز وجل ومن يشاقق الرسول من بعد
ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم
245

وساءت مصيرا (1) فتوعد على اتباع غير سبيلهم فدل على أن اتباع سبيلهم
واجب ومخالفتهم حرام وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على الخطأ
وروى لا تجتمع أمتي على الضلالة
246

وقوله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة ولو قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من
عنقه
247

ونهى عن الشذوذ وقال من شذ شذ في النار فدل على وجوب
العمل بالاجماع
248

فصل والاجماع حجة من جهة الشرع ومن الناس من قال
هو حجة من جهة العقل والشرع جميعا وهذا خطأ لأن العقل لا يمنع إجماع
الخلق الكثير على الخطأ وبهذا أجمع اليهود على كثرتهم والنصارى على
كثرتهم على ما هم عليه من الكفر والضلال على أن ذلك ليس بحجة من
جهة العقل
249

52 - باب ذكر ما ينعقد به الاجماع وما جعل حجة فيه
اعلم أن الاجماع لا ينعقد إلا على دليل فإذا رأيت إجماعهم على حكم
علمنا أن هناك دليلا جمعهم سواء عرفنا ذلك الدليل أو لم نعرفه ويجوز أن
ينعقد على كل دليل يثبت به الحكم كأدلة العقل في الأحكام ونص الكتاب
والسنة وفحواهما كان وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم واقراره والقياس وجميع
وجوه الاجتهاد وقال داود وابن جرير لا يجوز أن ينعقد الاجماع من
جهة القياس فأما داود فبناه على أن القياس ليس بحجة ويجئ الكلام عليه
إن شاء الله تعالى وأما ابن جرير فالدليل على فساد قوله هو أن القياس
دليل من أدلة الشرع فجاز ان ينعقد الاجماع من جهته كالكتاب والسنة
فصل والاجماع حجة في جميع الأحكام الشرعية
كالعبادات والمعاملات واحكام الدماء والفروج وغير ذلك من الحلال
والحرام والفتاوى والاحكام فأما الاحكام العقلية فعلى ضربين
250

أحدهما يجب تقديم العمل به على العلم بصحة الشرع كحدث
العالم واثبات الصانع وإثبات صفاته واثبات النبوة وما أشبهها فلا
يكون الاجماع حجة فيه لنا قد بينا أن الاجماع دليل شرعي ثبت بالسمع فلا
يجوز أن يثبت حكما يجب معرفته قبل السمع كما لا يجوز أن يثبت الكتاب
بالسنة والكتاب يجب العمل به قبل السنة
والثاني ما لا يجب تقديم العمل به على السمع وذلك مثل جواز
الرؤية وغفران الله تعالى للمذنبين وغيرهما مما يجوز أن يعلم بعد
السمع فالاجماع حجة فيها لأنه يجوز أن يعلم بعد الشرع والاجماع من
أدلة الشرع فجاز إثبات ذلك به وأما أمور الدنيا كتجهيز أبو الجيوش وتدبير
الحروب والعمارة والزراعة وغيرها من مصالح الدنيا فالاجماع ليس
بحجة فيها لأن الاجماع فيها ليس بأكثر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت أن
قوله إنما هو حجة في إجماع الشرع دون مصالح الدنيا
ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم نزل منزلا فقيل له إنه ليس برأي فتركه
251

باب ما يعرف به الاجماع
اعلم أن الاجماع يعرف بقول وفعل وقول وإقرار وفعل وإقرار
فأما القول فهو أن يتفق قول الجميع على الحكم بأن يقولوا كلهم هذا
حلال أو حرام
والفعل أن يفعلوا كلهم الشئ وهل يشترط انقراض العصر في هذا أم
لا فيه وجهان من أصحابنا من قال يشترط فيه انقراض العصر وإذا لم
ينقرض العصر لم يكن إجماعا ولا حجة ومنهم من قال إنه إجماع ولا
يشترط فيه انقراض العصر وهو الأصح لقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على
ضلالة ولأن من جعل قوله حجة لم يعتبر موته في كونه حجة كالرسول صلى الله عليه وسلم
فإذا قلنا أن ذلك إجماع فإذا أجمعت الصحابة على قول ولم ينقرضوا لم
يجز لأحد منهم أن يرجع عما اتفقوا عليه وإن كبر منهم صغير وصار من
أهل الاجتهاد بعد إجماعهم لم يعتبر قوله ولم تجز له مخالفتهم وإذا
قلنا أنه ليس بإجماع وأن انقراض العصر شرط جاز لهم الرجوع عما
اتفقوا عليه وجاز لمن كبر منهم وصار من أهل الاجتهاد أن يخالفهم
فصل وأما القول والاقرار فهو أن يقول بعضهم قولا فينشر
253

ذلك في الباقين فيسكنوا عن مخالفته والفعل والاقرار هو أن يفعل بعضهم
شيئا فيتصل بالباقين فيسكتوا عن الانكار عليه فالمذهب أن ذلك حجة
وإجماع بعد انقراض العصر وقال الصيرفي هو حجة ولكن لا يمسي
إجماعا وقال أبو علي بن أبي هريرة إن كان ذلك فتيا فقيها فسكتوا عنه
فهو حجة وإن كان حكم إمام أو حاكم لم يكن حجة وقال داود ليس
بحجة بحال والدليل على ما قلناه أن العادة أن أهل الاجتهاد إذا سمعوا جوابا
في حادثة حدثت اجتهدوا فأظهروا ما عندهم فلما لم يظهروا الخلاف فيه
دل على أنهم راضون بذلك وأما قبل انقراض العصر ففيه طريقان من
أصحابنا من قال ليس بحجة وجها واحدا ومنهم من قال هو على
وجهين كالاجماع من جهة القول والفعل
254

باب ما يصح من الاجماع وما لا يصح
ومن يعتبر قوله ومن لا يعتبر
واعلم أن اجماع سائر الأمم سوى هذه الأمة ليس بحجة وقال بعض
الناس إجماع كل أمة حجة وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق
الأسفرائيني والدليل على فساد ذلك ما بينا أن الاجماع إنما صار حجة
بالشرع والشرع لم يرد إلا بعصمة هذه الأمة فوجب جواز الخطأ على من
سواها من الأمم
فصل وأما هذه الأمة فإجماع علماء كل عصر منهم حجة على
العصر الذي بعدهم وقال داود إجماع غير الصحابة ليس بحجة
والدليل على ما قلنا قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له
الهدى (1) الآية ولم يفرق قوله صلى الله عليه وسلم لا يخلو عصر من قائم الله عز وجل
بحجة ولأنه اتفقا من علماء العصر على حكم الحادثة فأشبه الصحابة
255

فصل ويعتبر في صحة الاجماع اتفاق جميع علماء العصر على
الحكم فإن خالف بعضهم لم يكن ذلك إجماعا ومن الناس من قال إن
كان المخالفون أقل عددا من الموافقين لم يعتد بخلافهم وقال بعضهم إن
كان المخالفون عدد لا يقع العلم بخبرهم لم يعتد بهم ومن الناس من قال
إذا أجمع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين البصرة والكوفة لم يعتد
بخلاف غيرهم وقال مالك إذا اجتمع أهل المدينة لم يعتد بخلاف
غيرهم وقال الأبهري من أصحابه إنما أراد به فيما طريقة الأخبار
كالأجناس والصاع وقال بعض أصحابه إنما أراد به الترجيح بنقلهم وقال
بعضهم إنما أراد به في زمن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وقال بعض
الفقهاء إذا أجمع الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم لم يعتد بغيرهم وقال
الرافضة إذا قال علي كرم الله وجهه شيئا لم يعتد بغيره والدليل على فساد هذه
الأقاويل إن الله سبحانه إنما أخبر عن عصمة جميع الأمة فدل على جواز
الخطأ على بعضهم
256

فصل ويعتبر في صحة الاجماع اتفاق كل من كان من أهل
الاجتهاد سواء كان مدرسا مشهورا أو خاملا مستورا وسواء كان عدلا
أمينا أو فاسقا متهتكا لأن المعول في ذلك على الاجتهاد والمهجور
كالمشهور والفاسق كالعدل في ذلك
فصل ولا فرق بين أن يكون المجتهد من أهل عصرهم أو
لحق بهم من العصر الذي بعدهم وصار من أهل الاجتهاد وعند الحادثة
كالتابعي إذا أدرك الصحابة في حال حدوث الحادثة وهو من أهل الاجتهاد
ومن أصحابنا من قال لا يعتد بقول التابعين مع الصحابة
والدليل على ما قلناه هو أن سعيد بن المسيب والحسن وأصحاب
عبد الله بن مسعود كشريح والأسود وعلقمة كانوا يجتهدون
في زمن الصحابة ولم ينكر عليهم أحد ولأنه من أهل الاجتهاد عند حدوث
الحادثة فاعتد بقوله كأصاغر) الصحابة
فصل وأما من خرج من الملة بتأويل أو من غير تأويل فلا يعتد
257

بقوله في الاجماع فإن أسلم وصار من أهل الاجتهاد عند الحادثة اعتبر قوله
وإن انعقد الاجماع وهو كافر ثم أسلم وصار من أهل الاجتهاد فإن قلنا أن
انقراض العصر ليس بشرط لم يعتبر قوله وإن قلنا إنه شرط اعتبر
قوله فإن خالفهم لم يكن إجماعا
فصل وأما من لم يكن من أهل الاجتهاد في الأحكام
كالعامة والمتكلمين والأصوليين لم يعتبر قولهم في الاجمال وقال
بعض المتكلمين يعتبر قول العامة في الاجماع وقال بعضهم يعتبر قول
المتكلمين والأصوليين وهذا غير صحيح لأن العامة لا يعرفون طرق
الاجتهاد فهم كالصبيان وأما المتكلمون والأصولين فلا يعرفون جميع طرق
الأحكام فلا يعتبر قولهم كالفقهاء إذا لم يعرفوا أصول الفقه
258

55 - باب الاجماع بعد الخلاف
إذا اختلف الصحابة في المسألة على قولين وانقرض العصر جاز
للتابعين أن يتفقوا على أحدهما ومن أصحابنا من قال لا يتصور ذلك لأن
اختلافهم على قولين حجة في جواز الأخذ بكل واحد منهما لا يجوز عليها
الخطأ وإجماع التابعين على تحريم أحدهما حجة لا يجوز عليها الخطأ فلا
يصح اجتماعهما وهذا غير صحيح لأن أصحابه إذا اجتمعت على جواز
الأخذ بكل واحد من القولين صار التابعون في القول بتحريم أحدهما بعض
الأمة والخطأ جائز على بعض الأمة
فصل وإذا اجتمع التابعون على أحد القولين لم يزل بذلك
خلاف الصحابة ويجوز لتابع التابعين الأخذ بكل واحد من القولين وقال
ابن خيرون والقفال يزول الخلاف وتصير المسألة إجماعا وهو قول
المعتزلة والدليل على ما قلناه أن اختلافهم على قولين إجماع على جواز
الأخذ بكل واحد من القولين وما اجتمعت الصحابة على جوازه لا يجوز
259

تحريمه بإجماع التابعين كما إذا اجمعوا على تحليل شئ لم يجز تحريمه
بإجماع التابعين
فصل وأما إذا اختلفت الصحابة على قولين ثم اجتمعت
على أحدهما نظرت عبد فإن كان ذلك قبل ان يبرد الخلاف ويستقر كخلاف
الصحابة لأبي بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة وإجماعهم بعد
ذلك زال الخلاف وصارت المسألة بعد ذلك إجماعا بلا خلاف وإن كان
ذلك بعدما برد الخلاف واستقر فإن قلنا إنه إذا اجتمع التابعون زال
260

الخلاف باجماعهم فباجماعهم عليه أولى أن
يزول وإذا قلنا أن بإجماع التابعين لا يزول الخلاف بنيت على انقراض العصر
فإن قلنا أن ذلك شرط في صحة الاجماع جاز لأن اختلافهم على
قولين ليس بأكثر من اجتماعهم على قول واحد فإذا جاز لهم أن يرجعوا قبل
انقراض العصر فرجوعهم عما اختلفوا فيه أولى
وإذا قلنا أن انقراض العصر ليس بشرط لم يجز أن يجمعوا لأن
اختلافهم على قولين حجة لا يجوز عليها الخطأ في تجويز الأخذ بكل واحد
من القولين فلا يجوز الاجماع على ترك حجة لا يجوز عليها الخطأ
261

56 - باب القول في اختلاف الصحابة على قولين
واعلم أنه إذا اختلفت الصحابة في المسألة على قولين وانقرض العصر
عليه لم يجز للتابعين احداث قول ثالث وقال بعض أهل الظاهر يجوز
ذلك والدليل على فساد ذلك هو أن اختلافهم على قولين إجماع على إبطال
كل قول سواهما كما أن إجماعهم على قول كل واحد إجماع على إبطال كل
قول سواه فلما لم يجز إحداث قول ثان فيما أجمعوا فيه على قول واحد لم
يجز احداث قول ثالث فيما أجمعوا فيه على قولين
فصل فأما إذا اختلفت الصحابة في مسألتين على قولين فقالت
طائفة فيهما بالتحليل وقالت طائفة فيهما بالتحريم ولم يصرحوا بالتسوية
بينهما في الحكم جاز للتابعي أن يأخذ في إحدى المسألتين بقول طائفة
وفي المسألة الأخرى بقول الطائفة الأخرى فيحكم بالتحليل في إحدى
المسألتين وبالتحريم في المسألة الأخرى ومن الناس من زعم أن هذا
احداث قول ثالث وهذا خطأ لأنه وافق في كل واحد من المسألتين فريقا من
الصحابة وأما إذا صرح الفريقان بالتسوية بين المسألتين فقال أحد
الفريقين الحكم فيهما واحد وهو التحريم وقال الفريق الآخر الحكم فيهما
واحد وهو التحليل وأخذ بقول فريق في أحدهما وبقول فريق في الآخر
262

فقال شيخنا القاضي أبو الطيب رحمه الله يحتمل أن يجوز ذلك لأنه لم
يحصل الاجماع على التسوية بينما في حكم الأول أصح لأن الاجماع قد
حصل من الفريقين على التصريح بالتسوية بينهما فمن فرق بينهما فقد خالف
الاجماع وذلك لا يجوز
263

57 - باب القول في قول الواحد من الصحابة وترجيح بعضهم
على بعض
إذا قال بعض الصحابة قولا ولم ينتشر ذلك في علماء الصحابة ولم
يعرف له مخالف لم يكن ذلك إجماعا وهل هو حجة أم لا فيه قولان
قال في القديم هو حجة ويقدم على القياس وهو قول جماعة من الفقهاء
وهو قول أبي علي الجبائي وقال في الجديد ليس بحجة وهو الصحيح
وقال أصحاب أبي حنيفة إذا خالف القياس فهو توقيف يقدم على
القياس وذكروا ذلك من كل وجه في قول ابن عباس فيمن نذر ذبح ابنه
264

وفي قول عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم
266

وغير ذلك من المسائل والدليل على أنه ليس بحجة أن الله سبحانه
وتعالى إنما أمر باتباع سبيل جميع المؤمنين فدل على أن اتباع بعضهم لا
يجب ولأنه قول عالم يجوز اقراره على الخطأ فلم يكن حجة كقول التابعي
والدليل على أنه ليس بتوقيف أنه لو كان توقيفا لنقل في وقت من الأوقات عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لم ينقل دل على أنه ليس بتوقيف
فصل وإذا قلنا بقوله القديم وأنه حجة قدم على القياس ويلزم
التابعي العمل به ولا يجوز له مخالفته وهل يخص العموم به فيه وجهان
أحدهما يخص به لأنه إذا قدم على القياس بتخصيص العموم أولى والثاني
لا يخص به لأنهم كانوا يرجعون إلى العموم ويتركون ما كانوا عليه فدل
على أنه لا يجوز التخصيص به وإذا قلنا أنه ليس بحجة فالقياس مقدم عليه
267

ويسوغ للتابعي مخالفته وقال الصيرفي إن كان معه قياس ضعيف كان
قوله مع القياس الضعيف أولى من قياس قوي وهذا خطأ لأن قوله ليس
بحجة والقياس الضعيف ليس بحجة فلا يجوز أن يترك بمجموعهما قياس
هو حجة
فصل فأما إذا اختلفوا على قولين بنيت على القولين في أنه
حجة أو ليس بحجة فإذا قلنا أنه ليس بحجة لم يكن قول بعضهم حجة على
البعض ولم يجز تقليد واحد في الفريقين بل يجب الرجوع إلى الدليل وإذا
قلنا أنه حجة فيهما فهما دليلان تعارضا فيرجع أحد القولين عالي الآخر
بكثرة العدد فإذا كان على أحد القولين أكثر أصحابه وعلى القول الآخر
الأقل قدم ما عليه الأكثر لقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بالسواد الأعظم فإن استويا
في العدد قدم بالأئمة
268

فإن كان على أحدهما إمام وليس على الآخر قدم الذي عليه الأمام
لقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي
فإن كان على أحدهما الأكثر وعلى الآخر الأقل إلا أن مع الأقل إماما
فهما سواء لأن مع أحدهما زيادة عدد ومع الآخر إماما فتساويا وإن استويا
في العدد والأئمة إلا أن في أحدهما أحد الشيخين وفي الآخر غيرهما ففيه
269

وجهان أحدهما أنهما سواء لقوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم
270

والثاني إن الذي فيه أحد الشيخين أولى لقوله صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين
من بعدي أبي بكر وعمر فخصهما بالذكر
271

الكتاب التاسع
الكلام في القياس
حد القياس
إثبات القياس وحجيته
أقسام القياس
ما يشتمل القياس عليه
بيان الأصل
بيان العلة
بيان الحكم
ما يدل على صحة العلة
ما يفسد العلة
تعارض العلتين
ترجيح إحدى العلتين
273

الكلام في القياس
58 - باب بيان حد القياس
واعلم أن القياس حمل فرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع
بينهما وقال بعض أصحابنا القياس هو الأمارة على الحكم وقال بعض
الناس هو فعل القائس وقال بعضهم القياس هو اجتهاد والصحيح هو
الأول لأنه يطرد وينعكس ألا ترى أنه يوجد بوجوده القياس وبعدمه يعدم
القياس فدل على صحته فأما الأمارة فلا تطرد ألا ترى أن زوال الشمس
أمارة على دخول الوقت وليس بقياس وفعل القائس أيضا لا معنى له لأنه لو
كان ذلك صحيحا لوجب أن يكون كل فعل يفعله القائس من المشي والقعود
قياسا وهذا لا يقوله أحد فبطل تحديده بذلك
وأما الاجتهاد فهو أعم من القياس لأن الاجتهاد بذل المجهود في طلب
الحكم وذلك يدخل فيه حمل المطلق على المقيد وترتيب العام على
الخاص وجميع الوجوه التي يطلب منها الحكم وشئ من ذلك ليس بقياس
فلا معنى لتحديد القياس به
275

59 - باب إثبات القياس وما جعل حجة فيه
وجملته أن القياس حجة في إثبات الأحكام العقلية وطريق من طرقها
وذلك مثل حدث العالم وإثبات الصانع وغير ذلك ومن الناس من أنكر
ذلك والدليل على فساد قوله إن اثبات هذه الأحكام لا يخلو إما أن يكون
بالضرورة أو بالاستدلال والقياس لا يجوز أن يكون بالضرورة لأنه لو كان
كذلك لم يختلف العقلاء فيها فثبت أن اثباتها بالقياس والاستدلال بالشاهد
على الغائب
فصل وكذلك هو حجة في الشرعيات وطريق لمعرفة
الأحكام ودليل من أدلتها من جهة الشرع
وقال أبو بكر الدقاق هو طريق من طرقها يجب العمل به من جهة
العقل والشرع
وذهب النظام والشيعة وبعض المعتزلة البغداديين إلى أنه ليس
بطريق للأحكام الشرعية ولا يجوز ورود التعبد به من جهة العقل
276

وقال داود وأهل الظاهر يجوز أن يرد التعبد به من جهة العقل إلا أن
الشرع ورد بحظره والمنع منه
والدليل على أنه لا يجب العمل به من جهة العقل أن تعليق تحريم
التفاضل على الكيل أو الطعم في العقل ليس بأولى تعليق التحليل
عليهما ولهذا يجوز أن يرد الشرع بكل واحد من الحكمين بدلا عن الآخر
وإذا استوى الأمر أن في التجويز يبطل أن يكون العقل موجبا لذلك وأما الدليل
على جواز ورود التعبد به من جهة العقل هو أنه إذا جاز أن يحكم في الشئ
بحكم لعلة منصوص عليها جاز أن يحكم فيه بعلة غير منصوص عليها
وينصب عليها دليلا يتوصل به إليها ألا ترى أنه لما جاز ان يؤمر من عاين
القبلة بالتوجه إليها جاز أيضا أن يؤمر من غاب عنها أن يتوصل بالدليل إليها
وأما الدليل على ورود الشرع به ووجوب العمل به فإجماع الصحابة
وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا ورد عليه
حكم نظر في كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد
277

جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شئ قضي به
278

وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله في الكتاب
الذي اتفق الناس على صحته الفهم فيما أدى إليك مما ليس في قرآن
ولا سنة ثم قس الأمور عند ذلك
وقال لعثمان رضي الله عنه إني رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال
له عثمان ان نتبع رأيك فرأيك رشيد وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذا الرأي
كان
279

وقال علي كرم الله وجهه كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر رضي الله
عنه ان لا تباع أمهات الأولاد رأيي الآن أن يبعن فقال له عبيدة
السلماني رأي وي عدل أحب إلينا من رأيك وحدك وفي بعض الروايات من
رأي عدل واحد فدل على جواز العمل بالقياس
280

فصل وثبت بالقياس جميع الأحكام الشرعية جملها
وتفصيلها وحدودها وكفاراتها ومقدراتها (
وقال أبو هاشم لا يثبت بالقياس إلا تفصيل ما ورد النص عليه
وإما إثبات جمل لم يرد بها النص فلا يجوز بالقياس وذلك كميراث الأخ لا
يجوز أن يبتدأ إيجابه بالقياس ولكن إذا ثبت بالنص ميراثه جاز إثبات إرثه مع
الحد بالقياس
وقال أصحاب أبي حنيفة لا مدخل للقياس في إثبات الحدود والكفارات
والمقدرات كالنصب في الزكوات والمواقيت في الصلوات وهو قول
الجبائي
281

ومنهم من قال يجوز ذلك بالاستدلال دون القياس والدليل على ما
قلناه أن هذه الأحكام يجوز إثباتها بخير والواحد فجاز إثباتها بالقياس كسائر
الأحكام
فصل فأما الأسماء واللغات فهل يجوز أثباتها بالقياس فيه
وجهان أصحهما أنه يجوز وقد مضى في أول الكتاب
فصل وأما ما طريقة العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره
وأقل النفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره فلا مجال للقياس فيه لأن معناها
لا يعقل بل طريق إثباتها خبر الصادق وكذلك ما طريقة الرواية والسماع كقرآن
النبي صلى الله عليه وسلم وافراده ودخوله إلى مكة صلحا أو عنوة فهذا كله لا مجال
للقياس فيه
282

60 - باب أقسام القياس
قال الشيخ الإمام الأوحد نور الله قبره وبرد مضجعه قد ذكرت
في الملخص في الجدل أقسام القياس مشروحا وأنا أعيد القول في ذلك
ههنا على ما يتقضيه هذا الكتاب إن شاء الله تعالى فأقول وبالله التوفيق
إن القياس على ثلاثة أضرب قياس علة وقياس دلالة وقياس شبه
فأما قياس العلة فهو أن يرد الفرع إلى الأصل بالبينة التي علق الحكم
عليها في الشرع وقد يكون ذلك معنى يظهر وجه الحكمة فيه للمجتهد
كالفساد الذي في الخمر وما فيها من الصد عن ذكر الله عز وجل وعن
الصلاة وقد يكون معنى استأثر الله عز وجل بيانه فيه بوجه الحكمة كالطعم
في تحريم الربا والكيل وهذا الضرب من القياس ينقسم قسمين جلي
وخفي فأما الجلي فهو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو ما ثبتت عليه
بدليل قاطع يحتمل التأويل وهو أنواع بعضها أجلى من بعض فأجلاها ما
صرح فيه بلفظ التعليل كقوله تعالى كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (1)
283

وكقوله صلى الله عليه وسلم إنما نهيتكم لأجل الدافة فصرح لفظ التعليل ويليه ما
دل عليه التنبيه من جهة الولي كقوله تعالى فلا تقل لهما أف فنبه على
أن الضرب أولى بالمنع
وكنهيه عن التضحية بالعوراء فإنه يدل على أن العمياء أولى بالمنع
284

ويليه ما فهم من اللفظ من غير جهة الأولى كنهيه عن البول في الماء
الراكد الدائم
285

والأمر بإراقة السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة فإنه يرعف من لفظه أن
الدم مثل البول والشيرج مثل السمن وكذلك كل ما استنبط من العلل
وأجمع المسلمون عليها فهو جلي كإجماعهم على أن الحد للردع والزجر
عن ارتكاب المعاصي ونقصان حد العبد عن حد الحر لرقة فهذا الضرب
من القياس لا يحتمل إلا معنى واحدا وينقض به حكم الحاكم إذا خالفه
كما ينقض إذا خالف النص والاجماع
فصل وأما الخفي فهو ما كان محتمل وهو ما ثبت بطريق
محتمل وهو أنواع بعضها أظهر من بعض فأظهرها ما دل عليه ظاهر
286

مثل الطعم في الربا فإنه علم من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع المطعوم قوله لا
تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثل بمثل فإنه تعلق النهي على الطعم فالظاهر أنه
علة
وكما روى أن بريرة أعتقت فكان زوجها عبدا فخيرها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنه خيرها لعبودية ما الزوج ويليه ما عرف بالاستنباط ودل عليه
التأثير كالشدة المطربة في الخمر فإنه لما وجد التحريم بوجودها وزال
287

بزوالها دل على أنها هي العلة وهذا الضرب من القياس
محتمل أن يكون الطعام أراد به ما يطعم ولكن حرم فيه التفاضل المعني غير
الطعم وكذلك حديث بريرة يحتمل أنه أثبت الخيار لرقه ويحتمل أن يكون
لمعنى آخر ويكون ذكر رق الزوج تعريفا وكذلك التحريم في الخمر
يجوز أن يكون للشدة المطربة ويجوز أن يكون لاسم الخمر فإن الاسم يوجد بوجود
الشدة ويزول بزوالها فهذا لا ينقض به حكم الحاكم
فصل وأما الضرب الثاني من القياس وهو قياس الدلالة
فهو أن ترد الفرع إلى الأصل بمعنى غير المعنى الذي علق عليه الحكم في
الشرع إلا أنه يدل على وجود علة الشرع وهذا على اضرب منها أن
يستدل بخصيصة من خصائص الحكم على الحكم وذلك مثل أن يستدل
على منع وجوب سجود التلاوة بجواز فعلها على الراحلة فإن جوازه على
الراحلة من أحكام النوافل ويليه ما يستدل بنظير الحكم على الحكم كقولنا
في وجوب الزكاة في مال الصبي أنه يجب العشر في زرعه فوجبت الزكاة
في ماله كالبالغ كقولنا وكقولنا في ظهار الذمي أنه يصح طلاقه يصح ظهاره
288

فيستدل بالعشر على ربع العشر وبالطلاق على الظاهر لأنهما نظيران
فيدل أحدهما على الآخر وهذا الضرب من القياس يجري مجرى الخفي من
قياس العلة في الاحتمال إلا أن يتفق فيه ما يجمع على دلالته فيصير كالجلي لا
في نقض الحكم به
فصل والضرب الثالث هو قياس الشبه وهو أن تحمل فرعا
على الأصل بضرب من الشبه وذلك مثل أن يتردد الفرع بين أصلين يشبه
أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الاخر في وصفين فيرد إلى أشبه الأصلين
به وذلك كالعبد يشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مثاب معاقب ويشبه البهيمة
في أنه مملوك مقوم فيلحق بما هو أشبه به وكالوضوء يشبه التميم في إيجاب أن
النية من جهة أنه طهارة عن حدث ويشبه إزالة النجاسة في أنه طهارة بمائع
فيلحق بما هو أشبه به فهذا اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن ذلك
يصح وللشافعي ما يدل عليه ومنهم من قال لا يصح وتأول ما قال
الشافعي على أنه أراد به أنه يرجح به قياس العلة بكثرة الشبه
واختلف القائلون بقياس الشبه فمنهم قال الشبه الذي يرد به الفرع
إلى الأصل يجب أن يكون حكما ومنهم من قال يجوز أن يكون حكما
ويجوز أن يكون صفة قال الشيخ الإمام رحمه الله والشبه عندي قياس
الشبه لا يصح لأنه ليس بعلة الحكم عند الله تعالى ولا دليل على العلة فلا
يجوز تعليق الحكم عليه
فصل وأما الاستدلال فإنه يتفرع على ما ذكرناه من أقسام
القياس وهو على أضرب
منها الاستدلال ببيان العلة وذلك ضربان أحدهما أن يبين علة
289

الحكم في الأصل ثم يبين أن الفرع يساويه في العلة مثل أن يقول أن علة
إيجاب القطع الردع والزجر عن أخذ الأموال فهذا المعنى موجود في سرقة
الكفن فوجب أن يجب فيها القطع والثاني أن يبين علة الحكم في
الأصل ثم يبين أن الفرع يساويه في العلة ويزيد عليه مثل أن يقول إن
الكفارة إما وجبت في القتل بالقتل الحرام وهذا المعنى يوجد في العمد
ويزيد عليه بالاثم فهو بإيجاب الكفارة أولى فهذا حكمه حكم القياس في
جميع أحكامه وفرق أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بين القياس وبين
الاستدلال فقالوا الكفارة لا يجوز إثباتها بالقياس ويجوز أثباتها
بالاستدلال وذكروا في إيجاب الكفارة بالأكل أن الكفارة تجب بالإثم ومأثم
الأكل كمأثم الجماع وربما قالوا هو أعظم فهو بالكفارة أولى وهذا سهو
عن معنى القياس وذلك أنهم حملوا الأكل على الجماع لتساويهما في العلة
التي تجب فيها الكفارة وهذا حقيقة القياس
ومنها الاستدلال بالتقسيم وذلك ضربان أحدهما أن يذكر جميع
أقسام الحكم فيبطل جميعها ليبطل الحكم له كقولنا في الايلاء إنه لا
يوجب وقوع الطلاق بانقضاء المدة لأنه لا يخلو إما أن يكون صريحا أو
كناية فلا يجوز أن يكون صريحا ولا يجوز أن يكون كناية فإذا لم يكن
صريحا ولا كناية لم يجز إيقاع الطلاق به والثاني أن يبطل جميع الأقسام إلا
واحدا ليصح ذلك الواحد وذلك مثل أن يقول أن القذف يوجب رد
الشهادة لأنه إذا حد ردت شهادته فلا يخلو إما أن يكون ردت شهادته للحد
أو للقذف أولهما فلا يجوز أن يكون للحد ولا لهم فثبت أنه إنما رد
للقذف وحده
ومنها الاستدلال بالعكس وذلك مثل أن يقول لو كان دم الفصد ينقض
290

الوضوء لوجب أن يكون قليله ينقض الوضوء كما نقول في البول
والغائط والنوم وسائر الأحداث واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال أنه لا
يصح لأنه استدلال على الشئ بعكسه ونقضه ومنهم من قال يصح
وهو الأصح لأنه قياس مدلول على صحته بشهادة الأصول
291

61 - باب الكلام في بيان ما يشتمل القياس عليه على التفصيل
وجملته أن القياس يشتمل على أربعة أشياء على الأصل والفرع
والعلة والحكم فأما الفرع فهو ما ثبت حكمه بغيره وقد بينا ذلك في باب
إثبات القياس وما جعل القياس حجة فيه والكلام هنا في بيان الأصل
والعلة والحكم وفي كل واحد من ذلك باب مفرد
292

باب بيان الأصل
وما يجوز أن يكون أصلا وما لا يجوز
اعلم أن الأصل تستعمله الفقهاء في أمرين
أحدهما في أصول الأدلة وهي الكتاب والسنة والاجماع ويقولون
هي الأصل وما سوى ذلك من القياس ودليل الخطاب وفحوى الخطاب
معقول الأصل وقد بينت هذا في الملخص في الجدل
ويستعملونه في الشئ الذي يقاس عليه كالخمر أصل النبيذ والبر
أصل للأرز وحده ما عرف حكمه بلفظ تناوله أو ما عرف حكمه بنفسه وقال
بعض أصحابنا ما عرف به حكم غيره وهذا لا يصح لأن الأثمان أصل في
الربا وإن لم يعرف بها حكم غيرها
فصل واعلم أن الأصل قد يعرف بالنص وقد يعرف
بالاجماع فما يعرف بالنص فضربان ضرب يعقل معناه وضرب لا يعقل
معناه
فما لا يعقل معناه كعدد الصلوات والصيام وما أشبهما لا يجوز
القياس عليه لأن القياس لا يجوز إلا بمعنى يقتضي الحكم فإذا لم يعقل
ذلك المعنى لم يصح القياس
وأما ما يعقل معناه فضربان ضرب يوجد معناه في غيره وضرب لا
293

يوجد معناه في غيره فما لا يوجد معناه في غيره لا يجوز قياس غيره عليه وما يوجد معناه في غيره فما لا
يوجد معناه في غيره لا يجوز قياس غيره عليه وما يوجد معناه في غيره جاز القياس عليه سواء كان ما ورد به النص مجمعا على ت
عليله أو مختلفا فيه مخالفا لقياس الأصول أو موافقا له
وقال بعض الناس لا يجوز القياس إلا على أصل مجمع على تعليله
وقال الكرخي وغيره من أصحاب أبي حنيفة لا يجوز القياس على أصل
مخالف للقياس إلا أن يثبت تعليله بنص أو إجماع أو هناك أصل آخر
يوافقه ويسمون ذلك القياس على موضع الاستحسان فالدليل على جواز
القياس على الأصل وإن لم يكن مجمعا على تعليله هو أن لا يخلو إما أن
يعتبر إجماع الأمة كلها فهذا يوجب إبطال القياس لأن نفاة القياس من الأمة
وأكثرهم على أن الأصول غير معللة أو يعتبر إجماع مثبتي القياس فذلك لا
معنى له لأن إجماعهم ليس بحجة على الانفراد فكان القياس على ما
اجمعوا عليه كالقياس على ما اختلفوا فيه وإما الدليل على الكرخي ومن قال
بقوله هو أن ما ورد به
النص مخالفا للقياس أصل ثابت كما أن ما ورد به النص موافق
للقياس أصل ثابت فإذا جاز القياس على ما كان موافقا للقياس جاز على ما كان مخالفا
فصل وأما ما عرف بالاجماع فحكمه حكم ما ثبت بالنص
في جواز القياس عليه على التفصيل الذي قدمه في النص ومن أصحابنا من
قال لا يجوز القياس عليه ما لم يعرف النص الذي أجمعوا لأجله وهذا غير
صحيح لأن الاجماع أصل في إثبات الاحكام كالنص فإذا جاز القياس
على ما ثبت بالنص جاز على ما ثبت بالاجماع
294

فصل وأما ما ثبت بالقياس على غيره فلا خلاف انه يجوز أن
يستنبط منه المعنى الذي ثبت به ويقاس عليه غيره وهل يجوز أن يستنبط منه
معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره ويقاس عليه غيره مثل أن يقاس
الأرز على البر في الربا بعلة أنه مطعوم ثم يسقط من الأرز أنه نبت لا يقطع
الماء عنه ثم يقاس عليه النيلوفر فيه وجهان
من أصحابنا من قال يجوز ومن أصحابنا من قال لا يجوز وهو
قول أبي الحسن الكرخي وقد نظرت في التبصرة جواز ذلك
والذي يصح عندي أنه لا يجوز لأنه اثبات حكم في الفرع بغير علة
الأصل وذلك أن علة الأصل هي الطعم فمتى قسنا النيلوفر عليه بما ذكرناه
رددنا الفرع إلى الأصل بغير علة وهذا لا يجوز
فصل وأما ما لم يثبت من الأصول بأحد هذه الطرق أو كان
قد ثبت ثم نسخ فلا يجوز القياس عليه لأن الفرع إنما يثبت بأصل ثابت
فإذا كان الأصل غير ثابت لم يجز إثبات الفرع من جهته
295

63 - باب القول في بيان العلة
وما يجوز أن يعلل به وما لا يجوز
واعلم أن العلة في الشرع هي المعنى الذي يقتضي الحكم
وأما المعلول ففيه وجهان من أصحابنا من قال هو العين التي تحلها
العلة كالخمر والبر ومنهم من يقول هو الحكم
وأما المعلل فهو الأصل
وأما المعلل له فهو الحكم
وأما المعلل فهو الناصب للعلة
وأما المعتل فهو المستدل بالعلة
فصل واعلم أن العلة الشرعية إمارة على الحكم ودلالة
عليه ومن أصحابنا من قال موجبة للحكم بعدما جعلت علة ألا ترى أنه
يجب إيجاد الحكم بوجودها ومنهم من قال ليست بموجبة لأنها لو
كانت موجبة لما جاز ان توجد في حال ولا توجه كالعلل العقلية ونحن
نعلم أن هذه العلل كانت موجودة قبل الشرع ولم تكن موجبة للحكم
فدل على أنها غير موجبة
فصل ولا تدل العلة إلا على الحكم الذي نصبت له فإن
نصبت للأثبات لم تدل على النفي أو أن نصبت للنفي لم تدل على
296

الاثبات وإن نصبت للنفي والاثبات وهي العلة الموضوعة لجنس الحكم
دلت على النفس والاثبات فيجب أن يوجد الحكم بوجودها ويزول بزوالها
ومن الناس من قال إن كل علة تدل على حكمين على الاثبات والنفي
فإذا نصبت للاثبات اقتضت الاثبات عند وجودها والنفي عند عدمها وإن
نصبت للنفي اقتضت النفي عند وجودها والاثبات عند عدمها وهذا خطأ
لأن العلة الشرعية دليل ولهذا كان يجوز أن لا يوجب ما علق عليها من
الحكم والدليل العقلي الذي يدل بنفسه يجوز أن يدل على وجود الحكم
في الموضع الذي وجد فيه ثم يعدم ويثبت الحكم بدليل آخر والدليل
الشرعي الذي صار دليلا بجعل جاعل أولى بذلك
فصل ويجوز أن يثبت الحكم الواحد بعلتين وثلاثة وأكثر
كالقتل يجب بالقتل والزنا والردة وتحريم الوطء يثبت بالحيض
والاحرام والصوم والاعتكاف والعدة
فصل وكذلك يجوز أن يثبت بعلة واحدة أحكام متماثلة
كالاحرام يوجب تحريم الوطء والطيب واللباس وغير ذلك وكذلك يجوز
أن يثبت بالعلة الواحدة أحكام مختلفة كالحيض يوجب تحريم الوطء و
احتلال على ترك الصلاة ولكن لا يجوز أن يثبت بالعلة الواحدة أحكام متضادة
كتحريم الوطء وتحليله لتنافيهما
فصل وكذلك يجوز أن تكون العلة لاثبات الحكم في
الابتداء كالعدة في منع النكاح وقد تكون بعلة الابتداء والاستدامة
كالرضاع في إبطال النكاح
فصل ولا بد في رد الفرع إلى الأصل من علة يجمع بها
بينهما وقال بعض الفقهاء من أهل العراق يكفي في القياس تشبيه الفرع
بالأصل بما يغلب على الظن إنه مثله فإن كان المراد بهذا أنه لا يحتاج إلى
297

علة موجبة للحكم يقطع بصحتها كالعلل العقلية فلا خلاف في هذا وإن
أرادوا أنه يجوز بضرب من الشبه على ما يقول القائلون بقياس الشبه فقد
بينا ذلك في أقسام القياس وإن أرادوا أنه ليس ها هنا معنى مطلوب يوجب إلحاق
الفرع بالأصل فهذا خطأ لأنه لو كان الأمر على هذا لما احتيج إلى
الاجتهاد بل كان يجوز رد الفرع إلى كل أصل من غير فكر وهذا مما لا يقوله
أحد فبطل القول به
فصل والعلة التي يجمع بها بين الفرع والأصل ضربان
منصوص عليها ومستنبطة
فالمنصوص عليها مثل أن يقول حرمت الخمر للشدة المطر به فهذا
يجوز أن يجعل علة والنص عليها يغني عن طلب الدليل على صحتها من جهة
الاستنباط والتأثير ومن الناس من قال لا يجوز أن يجعل المنصوص عليه
علة وهو قول بعض نفاة القياس ومن الناس من قال هو علة في العين
المنصوص عليها ولا يكون علة في غيرها إلا بأمر ثان فالدليل على أنه علة
هو أنه إذا جاز أن يعرف بالاستنباط أن الشدة المطربة علة للتحريم في
الخمر ويقاس غيرها عليها جاز بالنص ويقاس غيرها عليها وأما الدليل على
من قال أنه علة في العين التي وجد فيها دون غيرها هو أنه إذا لم يصر علة فيها
وفي غيرها إلا بالنص عليها سقط النظر والاجتهاد لأنه إذا نص على أنه علة
فيها وفي غيرها استغنينا بالنص عن الطلب والاجتهاد
فصل واما المستنبطة فهو كالشدة المطربة في الخمر فإنها عرفت
بالاستنباط فهذا يجوز أن يكون علة ومن الناس من قال لا يجوز ان تكون
العلة إلا ما ثبت بالنص أو الاجماع وهذا خطأ لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
298

قال لمعاذ رحمه الله بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد
قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد قال اجتهد رأيي
فلو كان لا يجوز التعليل إلا بما ثبت بنص أو إجماع لم يبق بعد
الكتاب والسنة ما يجتهد فيه
299

فصل وقد تكون العلة معنى مؤثرا في الحكم يوجد الحكم
بوجوده ويزول بزواله كالشدة المطربة في تحريم الخمر والاحرام بالصلاة في
تحريم الكلام وقد تكون دليلا ولا تكون نفس العلة كقولنا في إبطال النكاح
الموقوف انه نكاح لا يملك الزوج المكلف إيقاع الطلاق فيه وفي إظهار
الذمي انه يصح طلاقه فصح إظهاره كالمسلم وهل يجوز أن يكون شبها لا
يزول الحكم بزواله ولا يدل على الحكم كقولنا في الترتيب في الوضوء أنه
عبادة يبطلها النوم فوجب فيها الترتيب كالصلاة على ما ذكرناه من
الوجهين في قياس الشبه
فصل وقد يكون وصف العلة معنى يعرف به وجه الحكمة في
تعلق الحكم به كالشدة المطربة في الخمر وقد يكون معنى لا يعرف وجه
الحكمة في تعلق الحكم به كالطعم في البر
فصل وقد يكون وصف العلة صفة كقولنا في البر أنه
مطعوم وقد يكون اسما كقولنا تراب وماء وقد يكون حكما شرعيا
كقولنا يصح وضوؤه أو تصح صلاته ومن الناس من قال لا يجوز أن
يكون الاسم علة وهذا خطأ لأن كل معنى جاز أن يعلق الحكم عليه من
جهة النص جاز أن يستنبط من الأصل ويعلق الحكم عليه كالصفات
والأحكام
فصل ويجوز أن يكون الوصف نفيا أو إثباتا فالاثبات
300

كقولنا لأنه وارث والنفي كقولنا لأنه ليس بوارث وليس بتراب ومن
الناس من قال لا يجوز أن يجعل النفي علة والدليل على ما قلناه أن ما
جاز أن يعلل به نصا جاز أن يعلل به استنباطا كالاثبات الله
فصل ويجوز أن تكون العلة ذات وصف ووصفين قال وأكثر وليس
لها عدد محصور وحكي عن بعض الفقهاء أنه قال لا يزاد على خمسة
أوصاف وهذا لا وجه له لأن العلل شرعية فإذا جاز ان يعلق في
الشرع على خمسة أوصاف جاز أن يعلق على ما فوقها
فصل ويجوز أن تكون العلة واقفة كعلة أصحابنا في الذهب
والفضة ويجوز أن تكون متعدية وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله
لا يجوز أن تكون الواقفة علة وهذا غير صحيح لما بينا أن العلل أمارات
شرعية فيجوز أن تجعل الأمارة معنى عن لا يتعدى كما يجوز أن تجعل معنى
يتعدى
301

64 - باب بيان الحكم
اعلم أن الحكم هو الذي تعلق على العلة من التحليل والتحريم
والاسقاط وهو على ضربين مصرح به ومبهم
فالمصرح به أن نقول فجاز أن يجب أو فوجب أن يجب وما أشبهه
ذلك
والمبهم على أضرب
منها أن نقول فأشبه كذا فمن الناس من قال إن ذلك لا يصح
لأنه حكم مبهم ومنهم من قال إنه يصح وهو الأصح لأن المراد به
فأشبه كذا في الحكم الذي وقع السؤال عنه وذلك حكم معلوم بين السائل
والمسؤول فيجوز أن يمسك عن بيانه اكتفاء بالعرف القائم بينهما
ومنها أن يعلق عليها التسوية بين حكمين كقولنا في إيجاب النية في
الوضوء أنه طهارة فاستوى جامدها ومائعها في النية كإزالة النجاسة ومن
أصحابنا من قال إن ذلك لا يصح لأنه يريد به التسوية بين المائع والجامد في
الأصل في إسقاط النية وفي الفرع في إيجاب النية وهما حكمان
متضادان والقياس أن يشتق حكم الشئ من نظيره لا من ضده ونقيضه ومنهم
من قال إن ذلك يصح وهو الصحيح لأن حكم العلة هو التسوية بين
302

المائع والجامد في أصل النية والتسوية بين المائع والجامد في النية موجود في
الأصل والفرع من غير اختلاف وإنما نظهر الاختلاف بينهما في التفصيل
وليس ذلك حكم علته ومنها أن يكون حكم العلة إثبات تأثير لمعنى مثل قولنا في السواك للصائم
أنه تطهير يتعلق بالفم من غير نجاسة فوجب أن يكون للصوم تأثير فيه
كالمضمضة فهذا يصح لأن للصوم تأثيرا في المضمضة وهو منع المبالغة
كما أن للصوم تأثيرا في السواك وهو في المنع منه بعد الزوال وإن كان
تأثيرهما مختلفا واختلافهما في كيفية التأثير لا يمنع صحة الجمع لأن
الغرض إثبات تأثير الصوم في كل واحد منهما وقد استويا في التأثير فلا يضرب
اختلافهما في التفصيل
303

65 - باب بيان ما يدل على صحة العلة
وجملته أن العلة لا بد من الدلالة على صحتها لأن العلة شرعية كما
أن الحكم شرعي فكما لا بد من الدلالة على الحكم فكذلك لا بد من
الدلالة على صحة العلة
فصل والذي يدل على صحة العلة شيئان أصل واستنباط
فأما الأصل فهو قول الله عز وجل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله
والاجماع فأما قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فدلالتهما من من وجهين
أحدهما من جهة النطق والثاني من جهة الفحوى والمفهوم فأما دلالتهما من جهة
النطق فمن وجوه بعضها أجلى من بعض فأجلاها ما صرح فه بلفظ التعليل
كقوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل (1) وكقوله صلى الله عليه وسلم إنما
نهيتكم لأجل الدافة
304

وقوله إنما جعل الاستئذان من أجل البصر
وقوله أينقص الرطب إذا يبس فقيل نعم فقال فلا إذا أي
من أجله فهذا صريح في التعليل ويليه في البيان والوضوح أن يذكر صفة لا
305

يفيد ذكرها غير التعليل كقوله تعالى في الخمر إنما يريد الشيطان أن
يوقع بينكم العداوة والبغضاء (2) الآية
306

وقوله صلى الله عليه وسلم في دم الاستحاضة إنه دم عرق
وكقوله في الهرة إنها من الطوافين عليكم والطوفات
307

وقوله صلى الله عليه وسلم حين قيل له في دار فلان هرة فقال الهرة سبع
وفي بعضها الهرة ليست بنجسة فهذه الصفات وإن لم يصرح فيها بلفظ
308

التعليل إلا أنها خارجة مخرج التعليل إذ لا فائدة في ذكرها سوى
التعليل
ويليه في البيان أن يعلق الحكم على عين موصوفة بصفة فالظاهر أن
تلك الصفة علة وقد يكون هذا بلفظه الشرط كقوله تعالى وإن كن أولات
حمل فانفقوا في عليهن (3) وكقوله صلى الله عليه وسلم من باع نخلا بعد يؤبر فثمرتها
للبائع إلا أن يشترطها المبتاع فالظاهر أن الحمل
علة لوجوب الفقه والتأبير علة بن لكون الثمرة للبائع وقد تكون بغير لفظ الشرط كقوله تعالى والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما (4)
309

وكقوله صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل فالظاهر أن السرقة علة
لوجوب القطع والطعم علة لتحريم التفاضل
وأما دلالتهما من جهة الفحوى والمفهوم فبعضها أيضا أجلى من بعض
فأجلاها ما دل عليه التنبيه كقوله تعالى (فلا تقل لهما أف)
كنهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء فيدل بالتنبيه عند سماعه أن الضرب
أولى بالمنع وأن العمياء أولى بالمنع
ويليه في البيان أن يذكر صفة فيفهم من ذكرها المعنى التي تتضمنه
تلك الصفة من غير جهة التنبيه كقوله صلى الله عليه وسلم لا يقض القاضي وهو غضبان
310

وكقوله صلى الله عليه وسلم في الفأرة تقع في السمن إن كان جامدا فالقوها وما حولها
وإن كان مائعا فأريقوه فيفهم بضرب من الفكر أنه إنما منع الغضبان
من القضاء لاشتغال قلبه وأن الجائع والعطشان مثله وإنه إنما أمر بالقاء ما حول الفأرة
من السمن إن كان جامدا وإراقته إن كان مائعا لكونه جامدا أو مائعا وإن
الشيرج والزيت مثله
فصل وأما دلالة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أن يفعل شيئا عند
وقوع معنى من جهته أو من جهة غيره فيعلم أنه لم يفعل ذلك إلا لما ظهر من
المعنى فيصير ذلك علة فيه وهذا مثل ما روي أنه سها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسجد فيعلم أن السهو علة للسجود
311

وأن أعرابيا جامع في رمضان فأوجب عليه عتق رقبته فيعلم أن الجماع
علة لايجاب الكفارة
فصل وأما دلالة الإجماع فهو أن تجمع الأمة على التعليل به
كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قسمة السواد لو قسمت بينكم
لصارت دولة بين أغنيائكم هذه ولم يخالفوه
312

وكما قال علي كرم الله وجهه في شارب الخمر إنه إذا شرب سكر
وإذا سكر هذى وإذا هذى اتفرى سنة فأرى أن يحد حد المفترى فلم يخالفه
أحد في هذا التعليل
313

فصل وأما الضرب الثاني من الدليل على صحة العلة فهو
الاستنباط وذلك من وجهين أحدهما التأثير والثاني شهادة الأصول
فأما التأثير فهو أن يوجد الحكم بوجود معنى فيغلب على الظن أنه لأصله ثبت
الحكم ويعرف ذلك من وجهين أحدهما بالسلب والوجود وهو أن
يوجد الحكم بوجوده ويزول بزواله وذلك مثل قوله في الخمر أنه شراب
فيه شدة مطربة فإنه قبل حدوث الشدة كان حلالا ثم حدثت الشدة فحرم
ثم زالت الشدة فحل فعلم أنه هو العلة والثاني بالتقسيم وهو أن
يبطل كل معنى في الأصل إلا واحد أفيعلم أنه هو العلة وذلك مثل أن يقول
في الخبز أنه يحرم فيه الربا فلا يخلو إما أن يكون للكيل أو للطعم أو
للوزن ثم يبطل أن يكون للكيل والوزن فيعلم أنه للطعم
314

فصل وأما شهادة الأصول فيختص بقياس الدلالة وهو أن
يدل على صحة العلة شهادة الأصول وذلك أن يقول في القهقهة أن ما لا
ينقض الطهر خارج الصلاة لم ينقض داخل الصلاة كالكلام فيدل عليها بأن
الأصول تشهد بالتسوية بين داخل الصلاة وخارجها ألا ترى أن ما ينقض
الوضوء داخل الصلاة ينقض خارجها كالأحداث كلها وما لا ينقض خارج
الصلاة لا ينقض داخلها فيجب ان تكون القهقهة مثلها
فصل وما سوى هذه الطرق فلا يدل على صحة العلة وقال
بعض الفقهاء إذا لم يجد ما يعارضها ولا ما يفسدها دل على صحتها
وقال أبو بكر الصيرفي في طردها يدل على صحتها
فأما الدليل على من قال أن عدم ما يفسدها دليل على صحتها فهو
أنه لو جاز أن يجعل هذا دليلا على صحتها لوجب إذا استدل بخير لا يعرف
صحته أن يقال عدم ما يعارضه وما يفسده يدل على صحته وهذا لا يقوله
أحد
وأما الدليل على الصيرفي فهو أن الطرد فعل القائس وفعل القائس
ليس بحجة في الشرع ولأن قوله إنها مطردة معناه أنه ليس ها هنا نقض
يفسدها وقد بينا أن عدم ما يفسد لا يدل على الصحة
315

66 - باب بيان ما يفسد العلة
قال الشيخ الامام الأوحد رحمه الله ورضي عنه قد ذكرت في
الملخص في الجدل فيما يفسد العلة خمسة عشر نوعا وأنا أذكرها هنا ما
يليق بهذا الكتاب إن شاء الله تعالى فأقول إن الذي يفسد العلة عشرة
أشياء
أحدها أن لا يكون على صحتها دليل فيدل ذلك على فسادها
لأني قد بينت في الباب قبله أن العلة شرعية فإذا لم يكن على صحتها دليل
من جهة الشرع دل على أنها ليست بعلة فوجب الحكم بفسادها
فصل والثاني أن تكون العلة منصوبة لما لا يثبت بالقياس
أقل الحيض وأكثره وإثبات الأسماء واللغات على قول من لا يجيز إثابتها
بالقياس وغير ذلك من الأحكام التي لا مدخل للقياس فيها على ما تقدم
شرحها فيدل ذلك على فسادها
فصل والثالث أن تكون العلة منتزعة من أصل لا يجوز انتزاع
العلة منه مثل أن يقيس على أصل غير ثابت كأصل منسوخ أو أصل لم
يثبت الحكم فيه لأن الفرع لا يثبت إلا بالأصل فإذا لم يثبت الأصل لم يجز
316

إثبات الفرع من جهته وهكذا لو كان الأصل قد ورد الشرع بتخصيصه ومنع
القياس عليه مثل قياس أصحاب أبي حنيفة رحمه الله غير
رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواز النكاح بلفظ الهبة وقد ورد الشرع بتخصيصه عمرو بذلك
فهذا أيضا لا يجوز القياس عليه لأن القياس إنما يجوز على ما لم يرد الشرع
بالمنع منه فأما إذا ورد الشرع بالمنع منه فلا يجوز ولهذا لا يجوز القياس إذا
منع منه نص أو إجماع
فصل والرابع أن يكون الوصف الذي جعل علة لا يجوز
التعليل به مثل ان تجعل العلة اسم لقب أو نفي صفة على قول من يجيز
ذلك أو شبها على قول من لا يجيز قياس الشبه أو وصفا لمن يثبت وجوده
في الأصل وفي الفرع فيدل على فسادها لأن الحكم تابع للعلة وإذا
كانت العلة لا تفيد الحكم أو لم تثبت لم يجز إثبات الحكم من جهتها
فصل والخامس أن لا تكون العلة مؤثرة في الحكم فيدل ذلك
على فسادها ومن أصحابنا من قال إن ذلك لا يوجب فسادها وهي طريقة
من قال إن طردها يدل على صحتها وقد دللت على فساده ومن أصحابنا
من قال أن دفعه للنقض تأثير صحيح وهذا خطأ لأن المؤثر ما تعلق
الحكم به في الشرع ودفع النقض عن مذهب المعلل ليس بدليل على تعلق
الحكم به في الشرع وإنما يدل على تعلق الحكم به عنده وليس المطلوب
علة المعلل وإنما المطلوب علة الشرع فسقط هذا القول وفي أي موضع
يعتبر تأثير العلة فيه وجهان من أصحابنا من قال يطلب تأثيرها
في الأصل لأن العلة تتفرع من الأصل أولا ثم يقاس الفرع عليه فإذا لم يؤثر
في الأصل لم تثبت العلة فيه فكأنه رد الفرع إلى الأصل بغير علة الأصل
ومنهم من قال يكفي أن يؤثر في وضع من الأصول وهو اختيار شيخنا
317

القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله وهو الصحيح عندي لأنها إذا
أثرت في موضع من الأصول دل على صحتها وإذا صحت في موضع وجب
تعليق الحكم عليها حيث وجدت
فصل والسادس أن تكون منتقضة وهي أن توجد ولا حكم
معها وقال أصحاب أبي حنيفة وجود العلة من غير حكم ليس بنقض لها
بل هو تخصيص لها وليس بنقض والدليل على فساد ذلك هو انها علة
مستنبطة فإذا وجدت من غير حكم وجب الحكم بفاسدها دليله العلل
العقلية وأما وجود معنى العلة ولا حكم وهو الذي سمته المتفقهة الكسر
والنقض من طريق المعنى وهو ان تبدل العلة أو بعض أوصافها بما هو في
معناه ثم يوجد ذلك من غير حكم فهذا ينظر فيه فإن كان الوصف الذي
أبدله غير مؤثر في الحكم دل على فساد العلة لأنه إذا لم يكن مؤثرا وجب
إسقاطه وإذا سقط لم يبق شئ فأما أن لا يبقى شئ فيسقط الدليل أو يبقى
شئ فينتقض فيكون الفساد راجعا إلى عدم التأثير أو النقض وقد
بيناهما
وإن كان الوصف الذي أبدله مؤثرا في الحكم لم تفسد العلة لأن
المؤثر في الحكم لا يجوز إسقاطه فلا يتوجه على العلة من جهة فساد فأما
وجود الحكم من غير علة فينظر فيه فإن كانت العلة لجنس الحكم فهو
نقض وذلك مثل أن نقول العلة في وجوب النفقة التمكين في الاستمتاع
فأي موضع وجبت النفقة من غير تمكين فهو نقض وأي موضع وجد التمكين
من غير نفقة فهو نقض لأنه زعم أن التمكين علة هذا الحكم أجمع لا علة
له وسواه فكأنه قال أي موضع وجد وجب وأي موضع فقد سقط
318

فإذا وجد ولم يجب أو فقد ولم يسقط فقد انتقض التعليل
وإن كانت العلة للحكم في أعيان لا لجنس الحكم لم يكن ذلك
نقضا لأنه يجوز أن يكون في الموضع الذي وجدت العلة يثبت الحكم بوجود
هذه العلة وفي الموضع الذي عدمت يثبت لعلة أخرى كقولنا في
الحائض يحرم وطؤها للحيض ثم يعدم الحيض في المحرمة والمعتدة
ويثبت التحريم لعلة أخرى ف
صل والسابع أن يمكن قلب العلة وهو أن يعلق عليها
نقيض ذلك الحكم ويقاس على الأصل فهذا قد
يكون بحكم مصرح وقد يكون بحكم مبهم
فأما المصرح فهو أن نقول عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر فرضه
بالربع كالوجه فيقول المخالف عضو من أعضاء الوضوء فلا يجوز فيه ما
يقع عليه الاسم كالوجه فهذا يفسد العلة ومن أصحابنا من قال إن ذلك
لا يفسد العلة ولا يقدح فيه لأنه فرض مسألة على المعلل ومنهم من قال
إن ذلك كالمعارضة بعلة أخرى فيصار فيهما إلى الترجيح والصحيح أنه
يوجب الفساد والدليل على أنه يقدح أنه عارضه بما لا يمكن الجمع بينه
وبين علته فصار كما لو عارضه بعلة مبتدأة والدليل على أنه يوجب الفساد
أنه يمكن أن يعلق عليها حكمان متنافيان فوجب الحكم بالفساد
وأما القلب بحكم مبهم فهو قلب التسوية
وذلك مثل أن يقول
الحنفي طهارة بمائع فلم يفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فيقول الشافعي
رحمه الله طهارة بمائع فكان مائعها كجامدها قبل في وجوب النية كإزالة
النجاسة فمن أصحابنا من قال أن ذلك لا يصح لأنه يريد التسوية بين
المائع والجامد في الأصل في إسقاط النية وفي الفرع في إيجاب النية
319

ومنهم من قال إن ذلك يصح وهو الأصح لأن التسوية بين المائع والجامد
تنافى علة المستدل في إسقاط النية فصار كالحكم المصرح به
فصل والثامن أن لا يوجب العلة حكمها في الأصل وذلك
على ضربين
أحدهما أن يفيد الحكم في الفرع بزيادة أو نقصان عما يفيدها في
الأصل ويدل على فسادها وذلك مثل ان يقول الحنفي في إسقاط تعيين النية
في صوم رمضان لأنه مستحق العين فلا يفتقر إلى التعيين كرد الوديعة
فهذا لا يصح لأنه يفيد في الفرع غير حكم الأصل لأنه يفيد في الأصل
إسقاط التعيين مع النية رأسا وفي الفرع يفيد إسقاط التعيين ومن حكم العلة
أن يثبت الحكم في الأصل ثم يتعدى إلى الفرع فينقل حكم الأصل إليه
فإذا لم ينقل ذلك الحكم إليه دل على بطلانها
والثاني أن لا يفيد الحكم في نظائره على الوجه الذي أفاد في
الأصل وذلك مثل أن يقول الحنفي في إسقاط الزكاة في مال الصبي أنه غير
معتقد للإيمان فلا تجب الزكاة في مال كالكافر فإن هذا فاسد لأنه لا
يوجب الحكم في النظائر على الوجه الذي يوجب في الأصل ألا ترى أنه لا
يوجب إسقاط العشر في زرعه ولا زكاة الفطر في ماله كما يوجب في
الأصل فدل على فسادها لأنها لو كانت توجب الحكم في الفرع لأوجبت
الحكم في نظائره على الوجه الذي أوجب في الأصل
فصل والتاسع أن يعتبر حكما يحكم مع اختلافها في
الموضع وهو الذي تسميه المتفقهة فساد الاعتبار ويعرف ذلك من
طريقين
من جهة النطق بأن يرد الشرع بالتفرقة بينهما فيدل ذلك على بطلان
320

الجمع بينهما مثل أن يعتبر الطلاق بالعدة في أن الاعتبار فيه في رق المرأة
وحريتها فهذا فاسد لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما في ذلك فقال الطلاق
بالرجال والعدة بالنساء فيكون الجمع باطلا بالنص ويعرف بالأصول وهو
أن يعتبر ما بني على التخفيف في إيجاب التخفيف كاعتبار العمد بالسهو
والضمان بالحد أو ما بني على التأكيد في الاسقاط بما بنى على التضعيف كاعتبار العتق بالرق والضمان بالحد أو بما بني على التغليظ في التغليظ كاعتبار السهو بالعمد
أو ما بني على التغليظ بما بني على التخفيف أو ما بني على التضعيف بما بنى
على التأكيد في الايجاب كاعتبار الرق بالحرية والحد بالضمان فيدل
ذلك على فسادها لأن اختلافهما في الوضع يدل على اختلاف علتهما وقد
قيل إن ذلك لا يدل على الفساد إذا دلت الدلالة على صحة العلة
فصل والعاشر أن يعارضها ما هو أقوى منها من نص كتاب أو
سنة أو إجماع فيدل ذلك على فسادها لأن هذه الأدلة مقطوع بصحتها فلا
يثبت القياس معها
321

67 - باب القول فيتعارض العلتين
إذا تعارضت العلتان لم يخل إما أن يكونا من أصل واحد أو من
أصلين فإن كانتا من أصلين وذلك مثل علتنا في إيجاب النية والقياس إلى
التميم وعلتهم في إسقاط النية والقياس على إزالة النجاسة وجب إسقاط
أحديها بما ذكرناه من وجوه الإفساد أو ترجيح أحداهما على الأخرى بما
نذكره إن شاء الله تعالى
وإن كانتا من أصل واحد لم يخل إما أن تكون أحداهما داخلة في
الأخرى أو تتعدى أحداهما إلى ما لا تتعدى إليه الأخرى فإن كانت
إحداهما داخلة في الأخرى نظرت فإن أجمعوا على أنه ليس له إلا علة
واحدة وذلك مثل أن يعلل الشافعي رضي الله عنه البر بأنه مطعوم جنس
ويعلل المالكي بأنه مقتات جنس لم يجز القول بالعلتين بل يصار إلى
الأبطال أو الترجيح وإن لم يجمعوا على أن له علة واحدة مثل أن يعلل
الشافعي رضي الله في مسألة ظهار الذمي بأنه يصح طلاقه فصح ظهاره
كالمسلم ويعلل الحنفي في المسلم بأنه يصح تكفيره فقد اختلف أصحابنا
فيه على وجهين
فمنهم من قال نقول بالعلتين لأنهما لا يتنافيان بل هما متفقان على
إثبات حكم واحد
322

ومنهم من قال لا نقول بهما بل يصار إلى الترجيح والأول أصح
لأنه يجوز أن يكون للحكم علتان وثلاثة وبعضها يتعدى وبعضها لا يتعدى
وإن كانت لك واحدة منهما تتعدى إلى فروع لا تتعدى إليها الأخرى مثل أن
يعلل الشافعي البر بأنه مطعوم جنس ويعلل الحنفي بأنه مكيل جنس فهاتان
مختلفتان في فروعهما فلا يمكن القول بهما فيكون حكمهما حكم العلتين
من أصلين فأما أن يفسد أحداهما وأما أن ترجح إحداهما على الأخرى
323

68 - باب القول في ترجيح إحدى العلتين على الأخرى وأعلم أن الترجيح لا يقع بين دليلين موجبين للعلم ولا بين علتين
موجبتين للعلم لأن العلم لا يتزايد وإن كان بعضه أقوى من بعض وكذلك
لا يقع الترجيح بين دليل موجب للعلم أو علة موجبة يحيى للعلم وبين دليل أو علة
موجبة للظن لما ذكرناه ولأن المقتضى للظن لا يبلغ رتبة الموجب للعلم ولو رجح بما
رجح لكان الموجب للعلم مقدما عليه فلا معنى للترجيح
فصل ومتى تعارضت علتان واحتيج فيهما إلى الترجيح رجح
إحداهما على الأخرى بوجه من وجوه الترجيح وذلك من وجوه
أحدها أن تكون إحداهما منتزعة من أصل مقطوع به والأخرى من
أصل غير مقطوع به والمنتزعة من المقطوع به أولى لأن أصلها أقوى
والثاني أن يكون أصل إحداهما مع الإجماع عليه قد عرف دليله على
التفصيل فيكون أقوى ممن أجمعوا عليه ولم يعرف دليله على التفصيل لأن
ما عرف دليله يمكن النظر في معناه وترجيحه على غيره
والثالث أن يكون أصل إحداهما قد عرف بنطق الأصل وأصل الأخرى
بمفهوم أو استنباط فما عرف بالنطق أقوى والمنتزع منه أقوى
والرابع ان يكون أصل إحداهما عموما ما يخص وأصل الأخرى
324

عموم دخله التخصيص فالمنتزع الرحمن مما لم يدخله التخصيص أولى لأن ما
دخله التخصيص أضعف لأن من الناس من قال قد صار مجازا بدخول
التخصيص فيه
والخامس أن يكون أصل إحداهما قد نص على القياس عليه وأصل
الأخرى لم ينص على القياس عليه فما ورد النص بالقياس عليه أقوى
والسادس أن يكون أصل إحداهما من جنس الفرع فقياسه عليه أولى
على ما ليس من جنسه
والسابع ان تكون إحداهما مردودة إلى أصل والأخرى إلى أصول فما
ردت إلى أصول أولى ومن أصحابنا من قال هما سواء والأول أظهر لأن
ما كثرت أصوله أقوى
والثامن أن تكون إحدى العلتين صفة ذاتية والأخرى صفة حكمية
فالحكمية أولى ومن أصحابنا من قال الذاتية أولى لأنها أقوى والأول
أصح لأن الحكم بالحكم أشبه فهو بالدلالة عليه أولى
والتاسع أن تكون إحداهما منصوصا عليها والأخرى غير منصوص
عليها فالعلة المنصوص عليها أولى لأن النص أقوى من الاستنباط
والعاشر أن تكون إحداهما نفيا والأخرى إثباتا فالاثبات أولى لأن
النفي مختلف في كونه علة أو تكون إحداهما صفة والأخرى اسما فالصفة
أولى لأن من الناس من قال الاسم لا يجوز أن يكون علة
والحادي عشر أن تكون إحداهما أقل أوصافا والأخرى أكثر أوصافا
فمن أصحابنا من قال القليلة الأوصاف أولى لأنها أسلم ومنهم قال
ما كثرت أوصافه أولى لأنها أكثر مشابهة للأصل
325

والثاني عشر أن تكون إحداهما أكثر فروعا من الأخرى فمن أصحابنا من
قال ما كثرت فروعه أولى لأنها أكثر فائدة ومنهم من قال هما سواء
والثالث عشر أن تكون إحداهما متعدية والأخرى واقفة فالمتعدية
أولى لأنها مجمع على صحتها والواقفة مختلف في صحتها
والرابع عشر أن تكون إحداهما تطرد وتنعكس والأخرى تطرد ولا
تنعكس فالتي تطرد وتنعكس أولى لأن العكس دليل على الصحة بلا خلاف
والطرد ليس بدليل على قول الأكثر
والخامس عشر أن تكون إحداهما تقتضي احتياطا في فرض والأخرى
لا تقتضي الاحتياط فالتي تقتضي الاحتياط أولى لأنها أسلم في الموجب
والسادس عشر أن تكون إحداهما تقتضي الحظر والأخرى تقتضي
الإباحة فمن أصحابنا من قال هما سواء ومنهم من قال التي تقتضي
الحظر أولى لأنها أحوط
والسابع عشر أن تكون إحداهما تقتضي النقل عن الأصل إلى شرع
والأخرى تقتضي البقاء على الأصل فالناقلة أولى ومن أصحابنا من
قال المبقية أولى والأول أصح لأن الناقلة تفيد حكما شرعيا
والثامن عشر أن تكون إحداهما توجب جدا والأخرى تسقطه أو
إحداهما توجب العتق والأخرى تسقطه فمن الناس من قال إن ذلك
يرجح لأن الحد مبني على الدرء والعتق على الايقاع والتكميل ومنهم من
قال إنه لا يرجح لأن إيجاب الحد وإسقاطه والعتق والرق في حكم الشرع
سواء
والتاسع عشر أن تكون إحداهما يوافقها عموم والأخرى لا يوافقها
326

فما يوافقها العموم أولى ومن الناس من قال التي توجب التخصيص أولى
والأول أصح لأن العموم دليل نفسه فإذا انضم إلى القياس قواه
والعشرون أن يكون مع إحداهما قول صحابي فهو أولى لأن قول
الصحابي حجة في قول بعض العلماء فإذا انضم إلى القياس قواه
327

الكتاب العاشر
القول في الاستحسان
329

69 - باب القول في الاستحسان
الاستحسان المحكي عن أبي حنيفة رحمه الله هو الحكم بما يستحسنه
من غير دليل واختلف المتأخرون من أصحابه في معناه فقال بعضهم هو
تخصيص العلة بمعنى يوجب التخصيص وقال بعضهم تخصيص بعض الجملة من
الجملة بدليل يخصها وقال بعضهم هو قول بأقوى الدليلين وقد يكون
هذا الدليل إجماعا وقد يكون نصا وقد يكون قياسا وقد يكون
استدلالا
فالنص مثل قولهم إن القياس أن لا يثبت الخيار في البيع لأنه غرر
ولكن استحسناه للخبر
331

والاجماع مثل قولهم إن القياس أن لا يجوز دخول الحمام إلا بأجرة
معلومة لأنه انتفاع مكان ولا الجلوس فيه إلا قدرا معلوما ولكن استحسناه
للإجماع
332

والقياس مثل قولهم فيمن حلف أنه لا يصلي أن القياس انه يحنث
بالدخول في الصلاة لأنه يسمى مصليا ولكن استحسنا أنه لا يحنث إلا أن
يأتي بأكثر الركعة لأن ما دون أكثر الركعة لا يعتد به فهو بمنزلة ما لو لم يكبر
والاستدلال مثل قولهم أن القياس إن من قال إن فعلت كذا فأنا
يهودي أو نصراني أنه لا يكون حالفا لأنه لم يحلف بالله تعالى ولكن استحسنا
أنه يحنث بضرب من الاستدلال وهو أن الهاتك للحرمة بهذا القول بمنزلة
الهاتك لحرمة قوله والله وهذا أيضا قياسا إلا أنهم يزعمون أن هذا
استدلال ويفرقون بين القياس والاستدلال فإن كان الاستحسان هو الحكم
بما يهجس في نفسه ويستحسنه من غير دليل فهذا ظاهر الفساد لأن ذلك حكم
333

بالهوى واتباع وكان للشهوة والأحكام مأخوذة من أدلة الشرع لا مما يقع في
النفس وإن كان الاستحسان ما يقوله أصحابه من أنه تخصيص العلة فقد
مضى القول في ذلك ودللنا على فساده وإن كان تخصيص بعض الجملة من
الجملة بدليل يخصها أو الحكم بأقوى الدليلين فهذا مما لا ينكره أحد
فيسقط الخلاف في المسألة ويحصل الخلاف في أعيان الأدلة التي يزعمون
أنها أدلة خصوا بها الجملة أو دليل أوقى من دليل
334

الكتاب الحادي عشر
بيان الأشياء قبل الشرع واستصحاب الحال والقول بأقل ما قيل
بيان الأشياء قبل الشرع
استصحاب الحال
القول بأقل ما قيل
335

70 - باب القول فبي بيان الأشياء قبل الشرع واستصحاب الحال
والقول بأقل ما قيل وإيجاب الدليل على الباقي
واختلف أصحابنا في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع فمنهم من
قال أنها على الوقف لا يقضي فيها بحظر ولا إباحة وهو قول أبي علي
الطبري وهو مذهب الأشعرية ومن أصحابنا من قال هو على
الإباحة وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق فإذا رأى شيئا جاز له
تملكه وتناوله وهو قول المعتزلة البصريين ومنهم من قال هو على
الحظر فلا يحل له الانتفاع بها ولا التصرف فيها وهو قول أبي علي بن أبي
هريرة وهو قول المعتزلة البغداديين والأول أصح لأنه لو كان العقل
يوجب في هذه الأعيان حكما من حظر أو إباحة لما ورد الشرع فيها بخلاف
ذلك ولما جاز ورود الشرع بالإباحة مرة وبالحظر روى مرة أخرى دل على أن العقل
لا يوجب في ذلك حظرا ولا إباحة
337

فصل وأما استصحاب الحال فضربان استصحاب حال
العقل واستصحاب حال الاجماع
فأما استصحاب حال العقل فهو الرجوع إلى براءة الذمة في الأصل
وذلك طريق يفزع إليه المجتهد عند عدم أدلة الشرع ولا ينتقل عنها إلا
بدليل شرعي ينقله عنه فإن وجد دليلا من أدلة الشرع انتقل عنه سواء كان ذلك
الدليل نطقا أو مفهوما أو نصا أو ظاهرا لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم
دليل شرعي فأي دليل ظهر من جهة الشرع حرم عليه استصحاب الحال
بعده
فصل والضرب الثاني استصحاب حال الإجماع وذلك مثل
أن يقول الشافعي رضي الله عنه في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته أنه
يمضي فيها لأنهم أجمعوا قبل رؤية الماء على انعقاد صلاته فيجب أن
تستصحب هذه الحال بعد رؤية الماء حتى يقوم دليل ينقله عنه فهذا
اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال أن ذلك دليل وهو قول أبي بكر
الصيرفي من أصحابنا ومنهم من قال إن ذلك ليس بدليل وهو
الصحيح لأن الدليل هو الإجماع والإجماع إما حصل قبل رؤية و
إذا رأى الماء قد زال الإجماع فلا يجوز أن يستصحب حكم الإجماع في
موضع الخلاف من غير علة تجمع بينهما
فصل فأما القول بأقل ما قيل فهو أن يختلف الناس في حادثة
على قولين أو ثلاثة فقضى بعضهم فيها بقدر وقضى بعضهم فيها بأقل من
ذلك القدر وذلك مثل اختلافهم في دية اليهودي والنصراني فمنهم من
338

قال تجب فيه دية مسلم ومنهم من قال تجب فيه نصف دية مسلم
ومنهم من قال تجب فيه ثلث دية مسلم فهذا الاستدلال به من وجهين
أحدهما من جهة استصحاب الحال في براءة الذمة وهو أن يقول الأصل
براءة الذمة إلا فيما دل الدليل عليه من جهة الشرع وقد دل الدليل على اشتغال ذمته
بثلث الدية وهو الاجماع وما زاد عليه باق على براءة الذمة فلا يجوز
إيجابه إلا بدليل فهذا استدلال صحيح لأنه استصحاب حال العقل في براءة
الذمة والثاني أن يقول هذا القول متيقن وما زاد مشكوك فيه فلا يجوز
إيجابه بالشك فهذا لا يصح لأنه لا يجوز إيجاب الزيادة بالشك فلا يجوز
أيضا إسقاط الزيادة بالشك
فصل وأما النافي للحكم فهو كالمثبت في وجوب الدليل عليه ومن أصحابنا من قال النافي لا دليل
عليه ومن الناس من قال إن كان ذلك في العقليات فعليه الدليل وإن كان في
الشرعيات لم يكن عليه دليل والدليل على ما قلناه هو أن القطع بالنفي لا
يعلم إلا عن دليل كما أن القطع بالاثبات لا يعلم إلا عن دليل وكما لا يقبل
الاثبات إلا بدليل فكذلك النفي
339

الكتاب الثاني عشر
ترتيب استعمال الأدلة واستخراجها
341

71 - باب في بيان ترتيب استعمال الأدلة واستخراجها
واعلم أنه إذا نزلت بالعالم نازلة وجب عليه طلبها في النصوص
والظواهر في منطوقها ومفهومها وفي أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره وفي إجماع
علماء الأمصار فإن وجد في شئ من ذلك ما يدل عليه قضى به وإن لم
يجد طلبه في الأصول والقياس عليها وبدأ في طلب العلة بالنص فإن وجد
التعليل منصوصا عليه عمل به وإن لم يجد المنصوص عليه يسلم ضم إليه غيره من
الأوصاف التي دل الدليل عليها فإن لم يجد في النص عاد إلى المفهوم
فإن لم يجد في ذلك نظر في الأوصاف المؤثرة في الأصول من ذلك الحكم
اختبرها منفردة ومجتمعة فما سلم منها منفردا أو مجتمعا علق الحكم عليه
وإن لم يجد علل بالأشباه الدالة على الحكم على ما قدمناه فإن لم يجد علل
بالأشبه وإن كان ممن يرى مجرد الشبه وإن لم تسلم له علة في الأصل علم
أن الحكم مقصور على الأصل لا يتعداه فإن لم يجد في الحادثة دليلا يدله
عليها من جهة الشرع لا نصا ولا استنباطا ابقاء على حكم الأصل في العقل على
ما قدمناه
343

الكتاب الثالث عشر
القول في التقليد
ما يسوغ فيه التقليد
صفة المفتي والمستفتي
345

القول في التقليد
72 - باب بيان ما يسوغ فيه التقليد
وما لا يسوغ ومن يسوغ له التقليد ومن لا يسوغ
قد بينا الأدلة التي يرجع إليها المجتهد في معرفة الحكم وبقي الكلام
في بيان ما يرجع إليه العامل في العمل وهو التقليد وجملته أن التقليد قبول
القول من غير دليل والأحكام على ضربين عقلي وشرعي فأما العقلي فلا
يجوز فيه التقليد كمعرفة الصانع وصفاته ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك
من الأحكام العقلية وحكي عن أبي عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال
يجوز التقليد في أصول الدين وهذا خطأ لقول الله تعالى إنا وجدنا آباءنا
على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (1) فذم قوما اتبعوا آباءهم في الدين فدل
على أن ذلك لا يجوز لأن طريق هذه الأحكام العقل والناس كلهم يشتركون
في العقل فلا معنى للتقليد فيه
فصل وأما الشرعي فضربان ضرب يعلم ضرورة من دين
الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلوات الخمس والزكوات وصوم شهر رمضان
347

والحج وتحريم الزنا وشرب الخمر وما شابه ذلك فهذا لا يجوز التقليد
فيه لأن الناس كلهم يشتركون في إدراكه والعلم به فلا معنى للتقليد فيه
وضرب لا يعلم إلا بالنظر والاستدلال كفروع العبادات والمعاملات
والفروج والمناكحات وغير ذلك من الأحكام فهذا يسوغ فيه التقليد
وحكي عن أبي علي الجبائي أنه قال إن كان ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد
جاز وإن كان مما لا يجوز فيه الاجتهاد لم يجز والدليل على ما قلناه قوله تعالى
فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (1) ولأنا لو منعنا ولم التقليد فيه
لاحتاج كل أحد أن يتعلم ذلك وفي إيجاب ذلك قطع عن المعاش وهلاك
الحرث والزرع فوجب أن يسقط
فصل وأما من يسوغ له التقليد فهو العامي وهو الذي لا
يعرف طرق الأحكام الشرعية فيجوز له أن يقلد عالما ويعمل بقوله وقال
بعض الناس لا يجوز حتى يعرف علة الحكم والدليل على ما قلناه هو أنا لو
ألزمناه معرفة العلة أدى إلى ما ذكرناه من الانقطاع عن المعيشة وفي ذلك خراب
الدنيا فوجب أن لا يجب
فصل واما العالم فينظر فيه فإن كان الوقت واسعا عليه يمكنه
الاجتهاد لزمه طلب الحكم بالاجتهاد ومن الناس من قال يجوز له تقليدا
لعالم وهو قول أحمد وإسحاق وسفيان الثوري وقال محمد بن
348

الحسن يجوز له تقليد من هو اعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله ومن
الناس من قال إن كان في حادثة نزلت به جاز له أن يقلد ليعمل به وإن كان في
حادثة نزلت بغيره لم يجز أن يقلد ليحكم به أو يفتي به فالدليل على ما قلناه
هو أن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم المطلوب فلا يجوز له تقليد غيره كما قلناه في
العقليات
فصل وإن كان قد ضاق عليه الوقت وخشي فوت العبادة إن
اشتغل بالاجتهاد ففيه وجهان أحدهما لا يجوز وهو قول أبي
إسحاق والثاني يجوز وهو قول أبي العباس والأول أصح
لأن معه آلة يتوصل بها إلى الاجتهاد فأشبه إذا كان الوقت واسعا
349

73 - باب صفة المفتي والمستفتي
وينبغي أن يكون المفتي عارفا بطرق الأحكام وهي
الكتاب والذي يجب أن يعرف من ذلك ما يتعلق بذكر الأحكام
والحلال والحرام دون ما فيه من القصص والأمثال والمواعظ
والأخبار
ويحيط بالسنن المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الأحكام
ويعرف الطرق التي يعرف بها ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة من
أحكام الخطاب وموارد الكلام ومصادره من الحقيقة والمجاز والعام
والخاص والمجمل والمفصل والمطلق والمقيد والمنطوق
والمفهوم
ويعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في
خطابهما
ويعرف أحكام أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تقتضيه
ويعرف الناسخ من ذلك من المنسوخ وأحكام النسخ وما يتعلق به
350

ويعرف إجماع السلف وخلافهم ويعرف ما يعتد به من ذلك ما لا يعتد
به
ويعرف القياس والاجتهاد والأصول التي يجوز تعليلها وما لا
يجوز والأوصاف التي يجوز أن يعلل بها وما لا يجوز وكيفية انتزاع العلل بها وما لا يجوز وكيفية انتزاع العلل
ويعرف ترتيب الأدلة بعضها على بعض وتقديم الأولى منها ووجوه
الترجيح
ويجب أن يكون ثقة مأمونا لا يتساهل في أمر الدين ف
صل ويجب عليه أن يفتي من استفتاه ويعلم من طلب منه
التعليم فإن لم يكن في الإقليم الذي هو فيه غيره يتعين عليه التعليم والفتيا
وإن كان هناك غيره لم يتعين عليه بل كان ذلك من فروض الكفاية إذا قام به
بعضهم سقط الفرض عن الباقين ويجب ان يبين الجواب فإن كان الذي
نزلت به النازلة حاضرا وعرف منه النازلة على جهتها جاز أن يجيب على
حسب ما علم من حال المسألة وإن لم يكن حاضرا واحتملت المسألة تفصيلا
فصل الجواب وبين وإن لم يعرف المستفتي لسان المفتي قبل فيه ترجمة
عدل وإن اجتهد في حادثة مرة فأجاب فيها ثم نزلت تلك الحادثة مرة أخرى
فهل يجب عليه إعادة الاجتهاد أم لا فيه وجهان من أصحابنا من قال يفتي
بالاجتهاد الأول ومنهم من قال يحتاج أن يجدد الاجتهاد بين والأول أصح
فصل وأما المستفتي فلا يجوز أن يستفتي من شاء على
الإطلاق لأنه ربما استفتى من لا يعرف الفقه بل يجب ان يتعرف حال الفقيه
في الفقه والأمانة ويكفيه في معرفة ذلك خبر العدل الواحد فإذا عرف أنه
فقيه نظر فإن كان وحده قلده وإن كان هناك غيره فهل يجب عليه الاجتهاد
351

فيه وجهان من أصحابنا من قال يقلد من شاء منهم وقال أبو العباس
والقفال يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين فيقلد اعلمهم وأورعهم
والأول أصح لأن الذي يجب عليه أن يرجع إلى قول عالم ثقة وقد فعل
ذلك فيجب أن يكفيه
فصل فإن استفتى رجلين نظرت فإن اتفقا في الجواب
عمل بما قال وإن اختلفا فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة
فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه منهم من قال يأخذ بما شاء منهما
ومنهم من قال يجتهد فيمن يأخذ بقوله منهما ومنهم من قال يأخذ بأغلظ
الجوابين لأن الحق ثقيل والصحيح هو الأول لأنا قد بينا أنه لا يلزمه
الاجتهاد والحق أيضا لا يختص بأغلظ الجوابين بل قد يكون الحق في
الأخف كيف وقد قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم
العسر (1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السهلة ولم أبعث بالرهبانية
المبتدعة
352

الكتاب الرابع عشر
القول في الاجتهاد
أقوال المجتهدين وأن الحق منها واحد
تخريج المجتهد المسألة على قولين
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم والاجتهاد بحضرته
355

القول في الاجتهاد
74 - أقوال في أقوال المجتهدين وأن الحق منهما
في واحد أو كل مجتهد مصيب ا
لاجتهاد في عرف الفقهاء استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب
الحكم الشرعي والأحكام ضربان عقلي وشرعي
فأما العقلي فهو كحدوث العالم وإثبات الصانع وإثبات النبوة وغير
ذلك من أصول الديانات والحق في هذه المسائل في واحد وما عداه
باطل وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري إنه قال كل مجتهد في
الأول مصيب ومن الناس من حمل هذا القول منه على أنه إنما أراد
في أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى
آيات وآثار محتملة للتأويل كالرؤية وخلق الأفعال والتجسيم وما
أشبه ذلك دون ما يرجع إلى الاختلاف بين المسلمين وغيرهم من أهل
الأديان والدليل على فساد قوله هو أن هذه الأقوال المخالفة للحق من
التجسيم ونفي الصفات لا يجوز ورود الشرع بها فلا يجوز أن يكون
المخالف فيها مصيبا كالقول بالتثليث وتكذيب الرسل
فصل وأما الشرعية فضربان ضرب يسوغ فيه الاجتهاد
وضرب لا يسوغ فيه الاجتهاد
357

فأما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فعلى ضربين أحدهما ما علم من دين
الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة كالصلوات المفروضة والزكوات الواجبة
وتحريم الزنا واللواط وشرب الخمر وغير ذلك فمن خالف في شئ
من ذلك بعد العلم فهو كافر لأن ذلك معلوم من دين الله تعالى ضرورة
فمن خالف فيه فقد كذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في خبرهما فحكم بكفره
والثاني ما لم يعلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة كالأحكام التي تثبت بإجماع
الصحابة وفقهاء الأعصار ولكنها لم تعلم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة
فالحق من ذلك في واحد وهو ما أجمع الناس عليه فمن خالف في شئ من
ذلك بعد العلم به فهو فاسق
وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد وهو المسائل التي اختلف فيها فقهاء
الأمصار على قولين وأكثر فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال الحق
من ذلك كله في واحد وما عداه باطل إلا أن الإثم موضوع عن المخطئ
فيه وذكر هذا القائل أن هذا هو مذهب الشافعي رحمه الله لا قول له
غيره ومن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما ما قلناه والثاني أن
كل مجتهد مصيب وهو ظاهر قول مالك رحمه الله وأبي حنيفة رحمه الله
وهو مذهب المعتزلة وأبي الحسن الأشعري وحكي القاضي أبو بكر
الأشعري بن أبي علي بن أبي هريرة من أصحابنا إنه كان يقول بآخرة
أن الحق من هذه الأقاويل في واحد مقطوع به عند الله تعالى وأن مخطئه
358

مأثوم والحكم بخلافه منصوص وهو قول الأصم بن علية وبشر
المريسي
واختلف القائلون من أصحابنا أن الحق في واحد في أنه هل الكل مصيب
في إجتهاده أم لا فقال بعضهم إن المخطئ في الحكم مخطئ في
الاجتهاد وقال بعضهم أن الكل مصيب في الاجتهاد وإن جاز أن يخطئ
في الحكم حكي ذلك عن أبي العباس
واختلف القائلون بأن كل مجتهد مصيب فقال بعض أصحاب أبي
حنيفة رحمه الله أن عند الله عز وجل أشبهه مطلوب ربما اصابه المجتهد
وربما أخطأه ومنهم من أنكر ذلك والقائلون بالأشبه اختلفوا في تفسيره
فمنهم من أبى تفسيره بأكثر من أنه أشبه وحكي عن بعضهم أنه قال الأشبه
عند الله في حكم الحادثة قوة الشبه بقوة الإمارة وهذا تصريح بأن الحق في
واحد يجب طلبه وقال بعضهم الأشبه عند الله تعالى أن عنده في هذه
الحادثة حكما لو نص عليه وبينه لم ينص إلا عليه والصحيح من مذهب
أصحابنا هو الأول وأن الحق في واحد وما سواه باطل وأن الإثم مرفوع
عن المخطئ والدليل على ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله
359

أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ولأنه لو كان الجميع حقا وصوابا
لم يكن للنظر والبحث معنى وأما الدليل على وضع المأثم عن المخطئ
فما ذكرناه من الخبر
ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعت على تسويغ الحكم بكل واحد
من الأقاويل المختلف فيها وإقرار المخالفين على ما ذهبوا إليه من الأقاويل
فدل على أنه لا مأثم على واحد منهم
360

فصل لا يجوز أن تتكافأ الأدلة في الحادثة بل لا بد من
ترجيح أحد القولين على الآخر وقال أبو علي وأبو هاشم يجوز أن
تتكافأ الأدلة فيتخير المجتهد عند ذلك من القولين المختلفين فيعمل بما
شاء منهم والدليل على ما قلناه أنه إذا كان الحق في واحد على ما بيناه لم يجز
أن تتكافأ الأدلة فيه كالعقليات
361

75 - باب القول في تخريج المجتهد المسألة على قولين
يجوز للمجتهد أن يخرج المسألة على قولين وهو أن يقول هذه
المسألة تحتمل قولين على معنى أن كل قول سواهما باطل وذهب قوم لا
يعتد بهم إلى أنه لا يجوز ذلك وهذا خطأ لأنه إن كان المراد بالمنع من
تخريج القولين أن يكون له قولان على وجه الجمع مثل أن يقول هذا
الشئ حلال وحرام على سبيل الجمع فهذا لا يجوز أيضا عندنا وإن كان
المراد أن يكون له قولان في الشئ أنه حلال أو حرام على سبيل التخيير
فيأخذ بما شاء منهما فهذا أيضا لا يجوز أن يقول هذه المسألة تحتمل
قولين ليبطل ما سواهما فهذا جائز والدليل عليه أن المجتهد قد يقوم له الدليل
على إبطال كل قول سوى قولين ولا يظهر له الدليل في تقديم أحد القولين في
الحال فيخرج على قولين ليدل به على أن ما سواهما أهل باطل وهذا كما فعل عمر
رضي الله عنه في الشورى فإنه قال الخليفة بعدي أحد هؤلاء الستة ليدل
على أنه لا يجوز أن تكون الخلافة فيمن سواهم
362

وأما تخريج الشافعي رحمه الله المسائل على قولين فعلى
أضرب منها ما قال فيها قولين في وقتين فقال في القديم فيها بحكم وفي
الجديد رجع عنه فهذا جائز بلا كلام لما وري عن علي كرم الله وجهه أنه
قال كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر أن لا تباع أمهات الأولاد ورأيي
الآن أن يبعن
وعلى الروايات التي عن أبي حنيفة رحمه الله ومالك رحمه الله
تعالى فإنه روي عنهما روايات ثم رجعوا عنها إلى غيرها
ومنها ما قال في وقت واحد هذه المسألة على قولين ثم بين الصحيح
منهما بأن يقول إلا أن أحدهما مدخول أو منكسر وغير ذلك من الوجوه التي
يعرف بها الصحيح من الفاسد فهذا أيضا جائز لتبيين طرق الاجتهاد إنه
363

احتمل هذين القولين إلا أن أحدهما يلزم عليه كذا وكذا فتركته فيفيد بذلك
تعلم طرق الاجتهاد كما قال أبو حنيفة رحمه الله القياس يقتضي كذا
وكذا إلا إني تركته للخبر
ومنها ما نص على قولين في موضعين فيكون ذلك على اختلاف
حالين فلا يكون هذا اختلاف قول في مسألة بل هذا في مسألتين فيصير
كالقولين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعين على معنيين مختلفين
ومنها ما نص فيه على قولين ولم يبين الصحيح منهما حتى مات رحمه الله
تعالى ويقال إن هذا لم يوجد إلا في سبعة عشر مسألة وهذا جائز لأنه
يجوز أن يكون قد دل الدليل عنده على إبطال كل قول سوى القولين وبقي له
النظر في القولين فمات قبل أن يبين كما رويناه في قصة عمر رضي الله عنه
في أمر الشورى وكما قال أبو حنيفة رحمه الله في الشك في سؤر
الحمار
فصل فأما إذا ذكر المجتهد قولا ثم ذكر قولا آخر بعد ذلك كان
ذلك رجوعا عن الأول ومن أصحابنا من قال ليس ذلك برجوع بل هو
تخريج للمسألة على قولين وهذا غير صحيح لأن الثاني من القولين يناقض
الأول فكان ذلك رجوعا عن الأول كالنصين في الحادثة
فصل فأما إذا نص على قولين ثم أعاد للمسألة فأعاد أحد
364

القولين كان ذلك اختيارا للقول المعاد ومن أصحابنا من قال ليس ذلك
باختيار والأول أصح لأن الثاني يضاد القول الأول فصار كما لو نص في
الابتداء على أحد القولين حديث ثم نص على القول الآخر
فصل فأما إذا قال المجتهد في الحادثة بقول ثم قال ولو
قال قائل كذا وكذا كان مذهبا لم يجز أن يجعل ذلك قولا له ومن أصحابنا
من قال يجعل ذلك قولا آخر وهذا غير صحيح لأن هذا إخبار عن
احتمال المسألة قولا آخر فلا يجوز ذلك مذهبا له
فصل وأما ما يقتضيه قياس قول المجتهد فلا يجوز أن يجعل
قولا له ومن أصحابنا من قال يجوز أن يجعل ذلك قولا له وهذا غير
صحيح لأن القول ما نص عليه وهذا لم ينص عليه فلا يجوز أن يجعل
قولا له
فصل إذا نص في حادثة على حكم ونص في مثلها على
ضد ذلك الحكم لم يجز نقل القول في إحدى المسألتين إلى الأخرى ومن
أصحابنا من قال يجوز نقل الجواب في كل واحدة من المسألتين إلى
الأخرى وتخريجهما عند على قولين وهذا غير صحيح لأنه لم ينص في كل
واحدة منهما إلا على قول فلا يجوز أن ينسب إليه ما لم ينص عليه ولأن
الظاهر أنه قصد الفرق بين المسألتين فمن جمع بينهما فقد خالفه
365

76 - باب القول في اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والاجتهاد بحضرته
يجوز الاجتهاد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصحابنا من قال لا يجوز
دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سعدا أن يحكم في بني قريظة فاجتهد بحضرته ولأن
ما جاز الحكم به في غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز الحكم به في حضرته كالنص
366

فصل وقد كان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم في الحوادث
بالاجتهاد ومن أصحابنا من قال ما كان له ذلك لنا هو أنه إذا جاز لغيره من
العلماء الحكم بالاجتهاد ولأن يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم وهو أكمل اجتهادا أولى
فصل وقد كان الخطأ جائزا عليه إلا أنه لا يقر عليه ومن
أصحابنا من قال ما كان يجوز عليه الخطأ وهذا خطأ لقوله تعالى عفا الله
عنك لم أذنت لهم (1) فدل على أنه أخطأ ولأن من جاز عليه السهو والنسيان جاز
عليه الخطأ كغيره
فصل ويجوز أن يتعبد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بوضع الشرع فيقول
له افرض وسن ما ترى إنه مصلحة للخلق وقال أكثر القدرية لا يجوز وهذا
367

خطأ لأنه ليس في ذلك تجويز إحالة ولا فساد فوجب أن يكون جائزا والله
أعلم
(تنبيه) وجد في الأصل المطبوع عليه ما نصه قوبل على أصله المنتسخ
منه مع مراجعة نسختين منه في المكتبة العمومية بدمشق جيدتين تاريخ إحداهما
عام 574 في صفر والأخرى بالعام نفسه من شهر ربيع الاخر.
وكتبه الفقير جمال الدين القاسمي حامدا ومصليا في 26 ربيع الاخر سنة
1325.
وراجعه وعلق عليه وعلى تخريج أحاديثه الفقير يوسف عبد الرحمن المرعشلي
في 15 شوال سنة 1404 ه‍، الموافق له 14 تموز سنة 1984 م والحمد لله رب
العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
368