الكتاب: المنخول
المؤلف: الغزالي
الجزء:
الوفاة: ٥٠٥
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور محمد حسن هيتو
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ١٤١٩
المطبعة: دار الفكر المعاصر - بيروت
الناشر: دار الفكر - دمشق
ردمك:
ملاحظات:

المنخول
من تعليقات الأصول
لحجة الاسلام
الامام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي
المتوفى سنة 505 ه‍
رحمه الله تعالى
حققه وخرج نصه وعلق عليه
الدكتور محمد حسن هيتو
الطبعة الثالثة 1419 ه‍ = 1998 م
دار الفكر المعاصر
بيروت لبنان
دار الفكر
دمشق - سورية
57

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد نبيه وعلى آله وصحبه
أجمعين قد تقرر عند ذوي الألباب أن الفقه أشرف العلوم وأعلاها قدرا
وأعظمها خطرا إذ به تعرف الأحكام ويتميز الحلال عن الحرام وهو على
علو قدره وتفاقم أمره في حكم الفرع المتشعب عن علم الأصول ولا مطمع
في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل
وإتقانه إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول
ولتعلم أن علوم الشرع ثلاثة الكلام والأصول والفقه
ولكل واحد منها مادة منها استمداده وإليها استناده ومقصود به
يتعلق قصد الطالب وارتياده فلابد من التنبيه على مادته ليقتبس الخائض
فيه منها مبلغ حاجته فيتوسل إلى بغيته ولا غنى عن التنبيه على مقصوده
لئلا يكون الطالب على عماية من مطلبه
فأما علم الكلام فمادته الميز بين البراهين والأغاليط والميز بين
العلوم والاعتقادات والميز بين مجاري العقول ومواقفها
وأما مقصوده فهو الإحاطة بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع مؤثر
59

متصف بما يجب من الصفات منزه عما يستحيل تخيله صفة للذات
قادر على بعثة الرسل وتأييدهم بالمعجزات
وأما الأصول فمادته الكلام والفقه واللغة ووجه استمداده من
الكلام أن الإحاطة بالأدلة المنصوبة على الأحكام مبناها على تقبل الشرائع
وتصديق الرسل ولا مطمع فيه إلا بعد العلم بالمرسل
ووجه استمداده من الفقه أنه المدلول وطلب الدليل مع الذهول عن
المدلول مما تأباه مسالك العقول
ووجه استمداده من اللغة كون الأصولي مدفوعا إلى الكلام في فحوى
الخطاب وتأويل أخبار الرسول عليه السلام ونصوص الكتاب
ومقصوده معرفة الأدلة القطعية المنصوبة على الأحكام التكليفية
وأخبار الآحاد
ومسالك العبر والمقاييس والمستثارة قال بطرق الاجتهاد ليس من
60

الأصول فإنها مظنونات بجانب أخذها مأخذ القطعيات ولكن افتقر
الأصولي إلى ذكرها لتبين الصحيح من الفاسد والمستند من الحائد
ولأن الترجيحات من مغمضات علم الأصول ولا سبيل إليها إلا ببيان
المراتب والدرجات
وأما الفقه فمادته الأصول
ومقصوده معرفة الأحكام الشرعية وتقرير الأحكام عند ظهور
العلامات المظنونة معلومة بأدلة قطعية لا ظن فيها
فصل
ما من علم من هذه العلوم إلا وله مواقع إجماع ومثارات نزاع فمطلع
الإجماع في الكلام المدركات بالبداية والضروريات والمعقولات التي يتحد
61

فيها صوب النظر ولا يتعدد كإجماع العقلاء على أن القديم لا يعدم ومثار
الخلاف فيه تعارض الأدلة والشبهات
وأما علم الأصول فمنشأ الوفاق فيه يضاهي منشأ الوفاق في الكلام
ومنبع الخلاف فيه أمران
أحدهما تعارض الأدلة والشبهات
والثاني امتزاج القطع فيها بالظنيات
وأما الفقه فموضع الإجماع فيه ما يستند إلى نص كتاب الله
أو حديث متواتر أو إجماع واجب الإتباع وما عداها فهو من مظان
الظنون وعند الإرتباك فيها يختلف المجتهدون وتضطرب آراؤهم
فيتحزبون
62

باب
القول في الأحكام الشرعية
ليست أحكام الأفعال صفات ذاتية وإنما معناها ارتباط خطاب
الشارع بها نهيا وأمرا وحثا وزجرا فالمحرم هو المقول فيه لا تفعلوه
والواجب هو المقول فيه لا تتركوه وهو كالنبوة ليست صفة ذاتية للنبي
ولكنها عبارة عن اختصاص شخص بتبليغ خطاب الشارع فقولنا الخمر
محرمة تجوز فإنها جماد لا يتعلق بها الخطاب وإنما المحرم
تناولها
مسألة
لا يستدرك حسن الأفعال وقبحا بمسالك العقول بل يتوقف دركها على
الشرع المنقول
63

فالحسن عندنا ما حسنه الشرع بالحث عليه
والقبيح ما قبحه بالزجر عنه والذم عليه
وقد خالف في ذلك المعتزلة والكرامية والروافض فقالوا الحسن
حسن لذاته والقبيح كذلك
ثم قسموا ذلك إلى ما يستدرك بمحض العقل والى ما لا يستدرك إلا بانضمام
الشرع إليه كحسن الزكوات والصلوات وأنواع العبادات لأن مصالحهما
الخفية لا يطلع عليها إلا بتنبيه
وما يستدرك بمحض العقل على زعمهم ينقسم إلى
64

المعلوم بضرورة العقل عندهم كحسن الشكر وانقاذ الغرقى والهلكى
وكقبح الايلام ابتداء أو الكذب الذي لا غرض فيه
والى المعلوم بالنظر كالكذب الذي يرتبط به غرض
ولنا في هذه المسألة مسلكان
أحدهما ابطال مذهبهم
والثاني اثبات مذهب أهل الحق
ولنا في ابطال مذهبهم طريقتان
إحداهما جدلية
والأخرى معنوية
أما الطريقة الجدلية فهي أنا نقول ادعيتم أن حسن بعض الأفعال
وقبحها مستدرك ببداية العقول وأوائلها ونحن ننازعكم في ذلك
ومواضع الضرورات لا يتصور فيها الخلاف بين العقلاء
فإن نسبونا إلى عناد عكسنا عليهم دعواهم ثم العناد إنما يتصور في
شرذمة يسيرة ونحن الجم الغفير والجمع الكبير لا يتصور منا التواطؤ على
65

كر العصور وتوالي الدهور من غير فرض رجوع من واحد إلى
الانصاف
وقولكم أنكم وافقتمونا على أصل العلم وخالفتمونا من في مسندة أهو العقل
أم الشرع وذلك لا يمنع دعوى الضرورة كمخالفتكم في الكعبي في علم التواتر
في كونه نظريا
قلنا ايلام الله سبحانه البهائم معلوم عندكم قبحه بالضرورة لو لم
يقدر تعويض ونحن ننازعكم في نفس هذا العلم مع اعتقاد نفي
التعويض وبطلان مذهب التناسخية
66

ثم نحن لا نسلم لكم لحسن الراجع إلى الذات وانما المعني بالحسن عندنا
ما يحسنه الشارع بالحث عليه ولو قدر عدم ورود الشرع لضاهي بن الكفر
الإيمان عندنا فكيف يستقيم ادعاؤكم الموافقة في أصل العلم
واما الطريقة المعنوية فهي أنا نقول ما قولكم في واقف على فوهة
طريق اجتاز به نبي وأشياعه واتبعه غاشم يبغي قتله واستخبره هذه عن
حاله أيصدق سنة أم يكذب فإن صدق فهو سعي في روح نبي وان
كذب فهو مستقبح لذاته عندكم وصفات الذات لا تتبدل ونحن نعلم إن
الكذب أحسن من الصدق ههنا
المسلك الثاني في اثبات المذهب نقول
القتل الواقع اعتداء يجانس القتل المستوفى قصاصا في الصورة والصفات
بدليل إن الفافل عمرو عن المستند فيهما لا يميز بينهما والمختلفان في صفة الذات
يستحيل اشتباههما وتجانسهما وكذا الوطء في النكاح والزنا فآل مأخذهما إلى
67

الأغراض جلبا ودفعا ونحن لا ننكر تفاوت الافعال عند العقلاء لتفاوت
الأغراض وانما الخلاف في الافعال بالنسبة إلى الله تعالى وهو منزه عن
الأغراض لا يتضرر بالكفر ولا ينتفع بالايمان فلا معنى للتمييز في حقه
وكذا فعله تعالى لا يطلب له غرض فيه حتى إذا خالف غرضه قبح ولا تحكم
للعباد عليه وهو يفعل ما يشاء فلا يجب عليه تطبيق أفعاله على
غرض العباد وهو متصرف في ملكه لا اعتراض عليه أصلا
ولهم أربع شبه
أحدها
انهم قالوا استحسان مكارم الأخلاق من الشكر والإحسان وانقاذ
الغرقى والهلكى واستقباح الكذب والإيلام أطبق عليه العقلاء مع تفاوت
قرائحهم فدل على أنه مدرك بالضرورة
قلنا نعم ذلك مسلم فيما بين الناس ومنشؤ أغراضهم والكفر كالايمان
بالنسبة إلى الله عز وجل وليس كالكفر والشكر بالنسبة إلينا فإنا
68

نفرح ونرتاح بالشكر ونغتم قبل بالكفران وسر العبودية التلفت إلى الحظوظ
حتى لو ورد الأمر المجرد من الشارع من غير عقاب لما قضى العقل بامتثاله إذ
لا غرض لنا ولا للرب سبحانه فيه فإذا اورد العقاب قضى العقل باجتنابه
وسر الربوبية! التنزه يحيى عن الحظوظ ومن لم ينزه فقد ذهل عن حقيقة
الإلهية
الثانية
إن قالوا ما بال الملك العظيم الولي على الأقاليم يحسن إلى فقير وان
أشرف على الموت من غير توقع غرض فيه ليس ذلك إلا لتحسين العقل
قلنا المستحث عليه أما استمرار العادة وهي طبيعة خاصة يعسر
خلافها أو رقة الجنسية والرب تعالى منزه عن الرقة والشفقة
الثالثة
انهم قالوا إن البراهمة ونفاة الشرائع ادركوا الحسن والقبح ولا مستند لهم
إلا محض العقل
قلنا ذلك اعتقاد فاسد كاعتقادكم الرحمن وليس ذلك بعلم كإحالتهم وكان بعثة
الرسل
69

الرابعة
قولهم إن العاقل يؤثر الصدق على الكذب عند استوائهما في الافضاء إلى
الغرض وسببه تحسين العقل
قلنا لا بل سببه الشرع أو حذر اللوم من الناس أو تقليد
مذهبهم الفاسد فإن فرضوا عدم هذه المعاني فيستوي عنده الصدق والكذب
ثم غايتهم اعتبار الغائب بالشاهد ويقبح من السيد شاهدا إن يترك
عبيده وإماءه يموج بعضهم في بعض يزنون ويقتحمون الفواحش وهو قادر
على منعهم وقد فعله الرب سبحانه والخلائق في قبضته وقهره
فإن قيل تركهم لينزجروا بأنفسهم مؤثرين فيستحقون الثواب
قلنا وقد علم أنهم لا يفعلون فليمنعهم اجبارا وكم من مجبر ممنوع بزمانة
أو عجز عن ارتكاب الفواحش
70

مسألة
لا يستدرك وجوب شكر المنعم بالعقل خلافا للمعتزلة لان العقل
71

لا يوجب الشئ هزلا هملا فلا بد من تخيل غرض وذلك يستحيل رجوعه
إلى المشكور فإنه تعالى منزه عن الأغراض والشاكر أيضا لا يلتذ به في
الحال بل يتعب نفسه
فإن قيل يعرض له انه إن شكر ربه بعد أن عرفه أثيب
فيثاب وان كفر فربما يعاقب فعقله يستحثه على سلوك طريق الأمن
كالمسافر إذا تصدى له طريقان على هذا الوجه
قلنا توقع العقاب مختصا بجانب الكفر خيال فاسد مستنده تخيل
غرض في الشكر والمعرفة وهما متساويان عند الرب فلا تمييز
72

ثم نقول وقد يخطر للعبد انه إن نظر وشكر ربما يعاقب فإنه عبد
مرفه أمده الله تعالى بأسباب التنعم فلعله خلقه للترفه فإتعابه
نفسه تصرف منه في مملكته من غير اذنه
ولهم شبهتان
إحداهما
ادعاؤهم اطباق العقلاء على استحسان الشكر واستقباح الكفران وذلك
مسلم فيما يرجع إلى الناس لانهم يهتزون بالشكر ويغتمون بالكفر
والرب تعالى يستوي في حقه الأمران ويعضد هذا الكلام شيئان
أحدهما إن المتقرب إلى السلطان بتحريك أنملته في زاوية حجرته
يسفه في عقله وعبادات العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة
والثاني إن من تصدق عليه السلطان بكسرة من رغيف في غير
مخمصة فلو أخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الاشهاد يشكره كان
73

ذلك خزيا وافتضاحا وجملة انعام الله تعالى على عباده بالنسبة إلى
مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى السلطان
الثانية
قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع المنقول دون مسالك العقول
يؤدي إلى افحام الرسول فإنه إذا أظهر المعجزة ودعا الناس إلى النظر
قالوا لا يجب علينا النظر في معجزاتك إلا بشرع مستقر فثبت
شرعك حتى ننظر في معجزتك
والجواب من وجهين
أحدهما إن هذا يلزمكم أيضا لأن العقل بجوهريته روى لا يدل على
الوجوب إذ لو دل ذلك لما انفك كل عاقل عن العلم بكل معقول وقد يرى
العاقل المعجزة ويذهل عنها فلا يتدبر حتى يتبين وجوب النظر
وقولهم إن الإنسان لا يخلو عن خاطرين اجتراء على الحس
74

وبالحري إن يتذكر ذلك عند ظهور المعجزة لا قبل ولا يختص وجوبه
عندكم بورود الشرع ثم قد يستهين بالرسول فلا يقيم له وزنا ويستمر
على غفلته كما نرى فيمن يحضرون مجالس الوعظ فينغمسون ولم في الغفلات
والواعظ يعظهم على رؤوس المنابر مع الزعقات
والجواب الثاني
وهو التحقيق إن الوجوب يثبت بثبوت الشرع فإذا ظهرت المعجزة
فقد استقر الشرع فلا يتوقف ذلك على قبول قابل والتكليف لا يستدعي
إلا الإمكان وقد أمكن فإن وفق له فاز وإلا هلك وعن هذا قيل
لا يتقرب إلى الله تعالى بأول نظر فإنه لا يعلمه إذ لو علمه لعلمه بنظر
آخر وخرج الأول عن أن يكون أو لا
75

مسألة
لا حكم قبل ورود الشرع
ونقل عن بعضهم إن الافعال محظورة قبل ورود الشرع
وعن بعضهم إنها مباحة
ولا يظن بالحاظرين بين تخيل الحظر في مستحسنات العقول وفيما لا بد
للنفس منه من أكل وشرب
76

ولا بالمبيحين أهل إباحة ما استقبح بالعقل كالايلام حديث والكذب فلعلهم
قالوا ذلك فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح
فنقول الحكم بالحظر تحكم لا يدرك بنظر العقل ولا بضرورته إذ
لا يرتبط بالانزجار غرض ولا يمكن تقديره في الأقدام واما الإباحة فإن
عنوا بها تساوي الاحجام والاقدام مع نفي الأحكام فهو المتمني وان
زعموا أن الإباحة حكم فحكم الله خطابه فمن المبلغ ولا رسول
77

القول في الأحكام التكليفية
التكليف مأخوذ من الكلفة على وجه التفعيل
ومعناه الحمل على ما في فعله مشقة ويندرج تحته الايجاب والحظر
ولا وفق ما يتشوف إليه الطبع أو ينبو عنه
إما الندب فهو عند القاضي من التكليف لان تخصيص الفعل بوعد
الثواب يحث العاقل على الفعل وهذا من الكلفة
والاختيار انه ليس من التكليف لأنه ورد مع رفع الجناح
والإباحة ليست من التكليف إلا عند الأستاذ أبى اسحق
78

قال ووجه الكلفة وجوب اعتقاد كونه مباحا شرعا
وهذا ضعيف فإن ذلك مأخوذ من تصديق الرسل ونفس الفعل لا كلفة
فيه
وتفصيل القول في التكاليف يحصره أربع مسائل
مسألة
ذهب شيخنا أبو الحسن رحمه الله إلى جواز تكليف ما لا يطاق مستدلا
79

بقوله تعالى ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ولا وجه للابتهال لو لم
يتصور ذلك بالبال
واستدل بأن أبا جهل كلف تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أتى على
لسان الرسول انه لا يصدق في أصل تكليفه فحاصله تكليفه أن يصدقه في أنه
لا يصدقه
وهذا المذهب لائق بمذهب شيخنا أبى الحسن لازم له من وجهين
إحدهما
إن القدرة الحادثة عنده لا تأثير لها في المقدور وهو واقع باختراع
الله تعالى وقد كلفنا فعل الغير
والآخر
أن القاعد عنده غير قادر على القيام وهو مأمور بالقيام وقدرة القيام
تقارن القيام ولا ينجي من هذا قول بعض أصحابنا إن القعود
80

مقدور فهو مأمور بتركه فان الأمر متوجه بالقيام وهو غير مقدور
والقاعد إذا أمر بالطيران فقد أمر بما لا يطيق قطعا وان قدر على ترك
القعود
والمختار عندنا استحالة تكليف ما لا يطاق
نعم ترد صيغة الأمر للتعجيز كقوله تعالى كونوا قردة
خاسئين والأنباء عن القدرة كقوله تعالى كن فيكون
ولم ترد للخطاب والطلب وهذا كقوله تعالى حتى يلج الجمل في
سم الخياط معناه الابعاد لا ما يفهم من صيغة التعليق فإنه
يستحيل ان يطلب من المكلف ما لا يطيق
والدليل على استحالته إن الأمر طلب يتعلق بمطلوب كالعلم يتعلق
بمعلوم والجمع بين القيام والقعود غير معقول فلا يكون مطلوبا
ويستحيل طلبه إذ لا يعقل في نفسه
81

واختيارنا ان للقدرة الحادثة تعلقا بالمقدور عند والاستطاعة وإن
83

قارنت الفعل فلم يكلف في الشرع إلا ما يتمكن منه قطعا وذلك بين في
مصادر الشرع وموارده ووعده ووعيده إذ لا معنى لتخصيص فعل
فاعل عن آخر بعقاب أو ثواب مع تساوي الكل في العجز عنه وهذا شئ
مستحيل وحكم الاستطاعة يذكر في الكلام
وأما أبو جهل فقد كلف أن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان
قادرا عليه ثم الرب سبحانه أنه سيمتنع لأنه عنادا مع القدرة فأخبر الرسول به
كما علمه
فإن قيل الكفار الذين لم يؤمنوا كلفوا الإيمان وقد علم أنهم لا يؤمنون
وخلاف المعلوم لا يتصور وقوعه فكان تكليف ما لا يطاق
84

قلنا ينعكس على الملزم هذا في خلاف المعلوم في حق الله تعالى فإنه
مقدور بالإتفاق وإن لم يقع
والتحقيق إن ما كان مقدورا في ذاته جائز الوقوع لا تتغير حقيقته بالعلم
فقد أقدر الله سبحانه الكفار على الإيمان ثم علم أنهم يمتنعون مع القدرة
فكان كما علم فلم ينقلب المقدور معجوزا أخبرنا عنه بسبب علمه
مسالة 2
لا يكلف السكران لأن شرط الخطاب فهمه وهو مضمن به والكسران يا
لا يفهم فإن قيل له افهم كان تكليف ما لا يطاق
وذهب الفقهاء إلى أنه مخاطب تمسكا بقوله تعالى لا تقربوا
85

الصلاة وأنتم سكارى وظاهر الآي لا يصادم المعقولات
86

ثم هو خطاب مع المنتشي الذي لم يزل عقله بدليل أنه نزل في شارب
خمر أم قوما فقرأ الفاتحة فتخبطت عليه سورة قل يا أيها
الكافرون وكان معه من العقل ما يفهم به
وقوله سبحانه وتعالى حتى تعلموا ما تقولون معناه
لتكونوا على تثبت تام
وربما يتمسكون بوجوب القضاء في الصلوات ونفوذ الطلاق وجملة
الأحكام
قلنا جريان الأحكام عليه تغليظ لان السكر متشوف النفوس
وقد تعدى بالتسبب إليه فلا يتوجه إليه الخطاب في حالة السكر
أصلا
والاحكام جارية والصلاة تقضي بأمر جديد ولو أمر به المجنون
87

بعد الإفاقة أو الحائض بعد الطهر بفعل الصوم لم يبعد وسببه تعديه
بالتسبب إليه مع كونه مجنونا حتى لو ردى نفسه من شاهق فانخلعت
قدماه لا يجب القضاء لأن النفس لا تتشوف إليه
والخلاف آيل إلى عبارة إن سلموا لنا استحالة تكليف ما لا يطاق
لأنا نسلم الأحكام وجريانها وذلك لا يدل على التكليف والسكران لا يفهم
ولا يقال له افهم وهو شرط كل خطاب
وكذا الناسي الذاهل حكمه حكم السكران في التكليف
مسألة (3)
الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة
والدليل على جواز تكليفهم الفروع أن العقل لا يحيله إذ التوصل إليه
88

بتقديم الإيمان ممكن كما خوطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الطهارة وكما
سلموا لنا في المعطل أنه مخاطب بتصديق الرسول عليه السلام بشطر
تقديم المعرفة بالرسل
وهذا دليل الجواز
فأما وقوعه فهو مقطوع به عندنا وتردد القاضي في أنه مقطوع
أو مظنون
ونحن نعلم قطعا إن الرسول عليه السلام كان مبعوثا إلى طبقات
الخلائق وقد كلفوا قبول شريعته نفسا بعد نفس تأصيلا وتفصيلا وإن كان
الوصول إليه يترتب على الإيمان كالصلاة في حق المحدث والمعطل
وسر المسألة إن الكافر لا يخاطب بنفس الصلاة مع الكفر ولكنه مأمور
بها على وجه التوصل وكذا نقول في حق المحدث
وحكي عن أبي هاشم إن المحدث لا يخاطب بالصلاة ونسب إلى خرق
الإجماع
89

فإن عني به ما ذكرناه فهو حق
وإن عني به انه لا يعاقب على ترك الصلاة فهو باطل
مسالة
المضطر إلى الشئ المكره عليه يجوز إن يكون مخاطبا به خلافا
للمعتزلة لان ايثاره لو باق وهو متمكن من الأقدام وشرط التكليف التمكن
من الامتثال
وآية بقاء خيرته تخيره بين الإقدام والإحجام
وهم يقولون جلبته تحثه على فعله لخليص يكون الروح فهو سبب اقدامه
لا قصد الامتثال فلا يستحق الثواب عليه ويقبح إن يؤمر بما لا يستحق
الثواب عليه
وعلى هذا قالوا يقبح من الرب جل وعز إن يبدي آية تخضع لها
الأعناق ويؤمن لأجلها جملة العباد لان ذلك لا اختيار فيه فلا يتعلق به
أمر
وهذه الأصول عندنا باطلة
90

وحد ما يجوز به التكليف عندنا ما لا يستحيل في العقل وقوعه مع تمكن
الكلف منه
والزمهم القاضي رضي الله عنه اثم المكره على القتل ونسبهم في هذه المسألة
إلى خرق الاجماع
وهذا غير لازم فإنهم يقولون لا يبعد كونه مأمورا بالإنزجار مع ومراغمة
قضية الجبلة بل أولى باستحقاق الثواب كالوضوء في السبرات وتحمل
المشقات في العبادات والله أعلم
91

باب
الكلام في حقائق العلوم
والكلام فيه يحصره بابان ويشتمل كل باب على خمسة فصول
الفصل الأول
من
الباب الأول
في اثبات أصل العلم على منكريه من السوفسطائية وقد نفوا العلم
والحقائق في الذوات
وأثبت مثبتون للذوات حقائق وقالوا لا تعلم بالقوى البشرية
92

وقال بعض أصحابنا هؤلاء لا يناظرون فإنهم أنكروا المحسوسات
فإن كلمناهم فأقرب مسلك أن نقول أتعلمون تمييزكم سعيد في اعتقادكم عن
مخالفيكم
فإن علموه بطل اعتقادهم
وإن جهلوه لم يسمع قولهم
93

الفصل الثاني
في
حقيقة العلم وحده
ولأصحابنا فيه ست عبارات
أولها
قول شيخنا أبى الحسن العلم ما يوجب بمن قام به كونه عالما
وهذا فاسد فإنه لا يفيد بيانا ولا يجدي وضوحا إذ العالم مشتق من العلم
فمن جهل العلم جهله فهو حوالة على المجهول كقول من فقد خاتما في بيت
لمن يسأله عن البيت فيقول البيت الذي تركت فيه خاتمي
وثانيها
قول أبى القاسم الإسكافي العلم ما يعلم به
ووجه تزييفه كالأول إذ الحد يرد للبيان ولا بيان
94

وثالثها
قول ابن فورك العلم صفة يتأتى للموصوف بها اتقان الفعل
وأحكامه
وهو باطل بالعلم بالله وبجملة المستحيلات فإنه علم ولا يتأتى به
الإتقان ثم الإتقان بالقدرة لا بالعلم
ولا معنى للإتقان فإنه عبارة عن الانتظام وليس الانتظام
صفة لذات المنتظم ولكن إن وقع حسب المراد فهو المنتظم بالنسبة إليه
وقد يقبح بالنسبة إلى غيره
ورابعها
قول بعضهم تبيين المعلوم على ما هو به أو درك المعلوم
ولفظ التبيين مشعر باستفتاح علم بعد سبق استبهام ويخرج عنه علم
الباري سبحانه وكذا لفظ الدرك
95

وهو أيضا متردد بين درك الحاسة والعقل واللفظ المتردد لا يحد به
وخامسها
قولهم الإحاطة بالمعلوم
والرب تعالى معلوم ولا يحاط به إذ الإحاطة تشعر بالانطواء
والاحتواء
وسادسها
قول القاضي رضي الله عنه معرفة المعلوم على ما هو به
قال القاضي تحديد العلم لا يتأتى إلا بذكر عبارة تزيد في الوضوح
عليه تنبئ عنه
فغاية الإمكان ترديد العبارة على السائل حتى يفهم
قال لو سألني سائل عن العلم فأقول هو المعرفة ولو سأل عن المعرفة
فأقول هو العلم
96

وهذا غير سديد لأنهما عبارتنا عن معبر واحد
ولو سئل عن المعرفة والعلم فماذا يقول
ثم المعرفة خلاف العلم في اللغة فإنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد والعلم والعلم
يتعدى إلى مفعولين
وأما المعتزلة فقالوا اعتقاد الشئ على ما هو به
فأبطل عليهم بالعلم بنفي الشريك وليس ذلك شيئا فإن الشئ
عندهم هو المعدوم الذي يجوز وجوده ويبطل بالمخمن وفي
وقد زادوا عليه مع طمأنينة النفس إليه
ونحن نعلم سكون نفس المقلد إلى اعتقاده فإنه يقطع إربا ولا يكيع
عنه
97

فإن زادوا مع كونه مستندا إلى ضرورة أو نظر قيل لهم لو خلق
الرب سبحانه جنس اعتقاد المقلد على سبيل الاختراع لم ينقلب علما وهو
مستند إلى الضرورة
والمختار أن العلم لا حد له إذ العلم صريح في وصفه مفصح عن
معناه ولا عبارة أبين منه وعجزنا عن التحديد لا يدل على جهلنا بنفس
العلم كما إذا سئلنا عن حد رائحة المسك عجزنا عنه لكون العبارة عنها
صريحة ولا يدل ذلك على جهلنا ولكن سنبين العلم بالتقاسيم فنقول
لا خفاء بتمييزه عن الظن والشك والجهل
وإنما مظنة الاشتباه الإعتقاد المشتبه مع العلم
ووجه الفرق إن المقلد لو طلب متنفسا عز في مسلك النظر لوجده
والعالم لا يتمكن منه إذ لا وضوح بعد الوضوح
والمعتقد المقلد إن اصغي إلى الشبه تزلزل اعتقاده دون العالم
98

ولو عرض على المعتقد ما يعلم ضرورة لأدرك الفرق بينه وبين ما يعتبره
تقليدا مع إن العلوم بعد حصولها ضرورية بأسرها لا تختلف
والمعتقد إذا نظر فعلم ذاق من نفسه أمرا على خلاف ما وجده قبله
والاعتقاد افتعال من العقد وهو مشعر بتكليف ربط العقد به
والعلم انشراح صدر من غير ربط تكليف
والقول الوجيز أن المعتقد سابق إلى أحد معتقدي الشاك وواقف
عليه إذا الشاك يقول أزيد في الدار أم لا فيقف المعتقد على أنه في
الدار ولا يقدر خلافه ولو قدره لتمكن من ذلك
ولذلك نقول في إعتقاد المعتقد أن زيدا في الدار وهو في الدار
كاعتقاد من يعتقد أنه في الدار وليس فيها
والعلم لا يجانسه الجهل فقد بان الفرق
99

الفصل الثالث
في
تقاسيم العلوم
العلم ينقسم إلى قديم وإلى حادث
فالقديم علم الباري سبحانه الذي لا أول له وهو محيط بجملة
المعلومات فلا يتعدد بتعددها ولا يوصف بكونه كسبيا
ولا ضروريا
وأما الحادث فينقسم إلى الهجمي والنظري
فالهجمي كل ما يضطر إلى علمه بأول العقل كالعلم بوجود الذات
والآلام والملذات
والنظري ما يفضي إليه النظر الصحيح مع انتفاء الآفات على وجه
التضمن لا على وجه التولد خلافا للمعتزلة
100

والنظر مكتسب بالاتفاق
والعلم المترتب عليه ضروري بعد حصوله عندنا خلافا لجماهير
الأصحاب
ودليله أنه لو كان مقدورا لقدر على دفعه بعد اتمام النظر وانتفاء
الآفات ودفعه غير ممكن كدفع الرعدة التي لا اختيار له فيها وهو بها
أشبه منه بالحركة المرادة المجتلبة بالإيثار
101

الفصل الرابع
في
ماهية العقل
ذكرناه في هذا الباب لأنه من جملة العلوم وليس كلها إذ الخالي عن
جمل العلوم عاقل
وليس من النظري إذ شرط كل نظر تقدم العقل عليه
وليس كل العلوم الضرورية إذ الأصم والأخرس والأعمى عاقل
وقد اختل بعض حواسه
وليس آحاد العلوم أي علم شئت إذ للبهيمة علم في الميز بين التبن
والشعير وليست عاقلة
فالوجه أن يقال هو علم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات احترازا
عن البهائم ثم هكذا قاله القاضي
102

وهو مزيف فإن الذاهل عن الجواز والاستحالة عاقل
والوجه أن يقال هو صفة يتهيأ للمتصف بها درك العلوم والنظر في
المعقولات
وقال الحارث المحاسبي رضي الله عنه هو غريزة يتوصل بها
إلى درك العلوم
وقالت الفلاسفة هو تهيؤ الدماغ لفيض النفس عليه
103

الفصل الخامس
في
مراتب العلوم
وهي عشرة
أولها
العلم بوجود الذات والآلام واللذات
الثاني
العلم باستحالة اجتماع المتضادات وهو ثاني العلم بأصل الذوات
الثالث
العلم بالمحسوسات ووجه استئخاره ما يتطرق إليه من التخيلات
والآفات
الرابع
العلم الحاصل من اخبار التواتر إذ لا بد فيه من مزيد نظر لاستبانة
الصدق وعدم التواطئ على الكذب
104

الخامس
فهم فحوي فلا الخطاب ودرك قرائن الأحوال من الخجل والغضب
والوجل وهو أخفى من التواتر
السادس
العلم بالحرف والصناعات وسبب تأخره توقفه لخفائه على تعلمه
ومعاناته
السابع
العلم بالنظريات ووجه استئخاره ما فيه من الخفاء ولذلك كان
مظنة ارتباك العقلاء
الثامن
العلم بانبعاث الرسل وهو اغمض وادق فإنه يزاحم السمعيات
التاسع
العلم بالمعجزات ووجه خفائه بعده عن محض العقل واستناده إلى
العلم باطراد العادات
العاشر
العلم بالسمعيات وهو يضاهي التقليد فلذلك جعلناه أخيرا
105

ولتعلم أن العلوم لا تفاوت فيها بعد حصولها وإن دق مدركها ولكن
لكل علم مستند من البديهة والضرورة فما قرب من الضرورة كان أجلى
وما بعد عنها كان أغمض وإليه الإشارة بهذه المراتب لا إلى التفاوت في العلم
نفسه
ومما ذكر في هذا إن الحواس على مرتبة واحدة
وقيل إن السمع والبصر أقوى
ثم قيل إن السمع أقوى من البصر وقيل عكسه وخلافه أيضا
وقال القلانسي العقليات أقوى من الحسيات لأنها بعرض لحوق
العاهات
106

الباب الثاني
في
مآخذ العلوم ومصادرها
وهي خمسة فصول
الفصل الأول
في
نقل المذاهب فيه
قال قائلون من الحشوية مأخذ العلوم الكتاب والسنة دون نظر
العقل
وهذا لا خفاء ببطلانه
107

وقال آخرون مدركه الحواس وزاد زائدون من السمنية أخبار
التواتر ولا يظن بهؤلاء أنهم أنكروا المعقولات ولكنهم سموه معقولا وسمو
المحسوسات معلوما فإنه يتشكل في خزانة التخيل وهذا تضايق في عبارة
وقال علماء الهند مأخذ العلوم التفكر والتأمل
وقال القلانسي مأخذه العقل ولا يظن به إنكار الحواس ولكنه
يقول العقل مسيطر عليه فيدركه الحس عند انبعاث الأشعة ويعلم بالعقل
عنده
وقيل الصبي يرى نفسه في المرآة ويدرك المدركات ولا يعلمها لعدم
العقل
وقال آخرون مأخذ العلوم الإلهام ولعلهم عنوا به أن العلوم كلها
ضرورية مخترعة لله تعالى ابتداء كما ذكرناه
والمختار عندنا أن مأخذ العلوم الميز والميز قد لا يكون عقلا كميز منه
البهائم فنعني به ميز العقلاء
108

ثم إنه قد يفضي به إلى بعض العلوم بغير واسطة كالعلم بالذات
وصفاتها وقد يفضي بوسائط
والوسائط ثلاثة
الحواس وهي الوسيلة إلى المحسوسات
ونظر العقل وهي الوسيلة إلى العقليات
واطراد العادات وبه يعرف معاني الخطاب وقرائن الأحوال
ثم قد لا يفضي الميز إلى العلم إلا بواسطتين كالمعجزة تتوقف على واسطة
العقل والعرف
فيستبان بالعقل كونه فعل مخترع صانع متصرف
ويستبان بالعرف أنه دال على الصدق
إذ لا يناسب انقلاب العصى ثعبانا صدق موسى في كونه رسولا
واما السمعيات فإنها معلومات ولكنها لا تظهر في العقل ظهور
العقليات
109

ومستنده قول حق وخبر صدق وقول النبي عليه السلام صدق
وكلام الله سبحانه كذلك وقول أهل الإجماع بتصديق الرسول إياهم
110

الفصل الثاني
في
مراسم المتكلمين
حووا به جميع مآخذ العلوم
قالوا العلوم تنقسم إلى الضرورية والنظرية
فأما الضرورية فتنقسم إلى سابقة ونتيجة
ومثاله من الهندسة قولهم
خطان متماثلان زيد عليهما مثلهما فهذه مقدمة
وقولهم بعد ذلك الجملتان متماثلتان نتيجة
ومثاله من الكلام قولك
السواد والبياض ضدان فهذه مقدمة
وقولك بعده والجمع بينهما غير مقدور نتيجة
ثم قد تقع المقدمة ضرورية والنتيجة نظرية كالتفرقة البديهية بين حال
السكون والحركة مقدمة نتيجتها العلم بجواز وقوعها نظرا
111

وقد يكون على العكس كقول مثبتي حدوث العالم بعد إثبات الأعراض
وحدوثها واستحالة خلو الجواهر عنها بطريق النظر
إن ما لا يسبق الحوادث حادث
وهذه نتيجة ضرورية من مقدمة نظرية
فأما النظريات فينحصر مسلك مأخذها في أربع جهات
رد غائب لشاهد
ورد مختلف إلى متفق
وسبر وتقسيم
وتمسك بمسلك جدلي
والمعنى بالغائب ما غاب عن علمك فترده إلى ما علمته
والتحكم بالجمع باطل إذ لو جاز لجاز للزنوج: الحكم على جميع الخلائق
بالسواد وللمعطلة غير الحكم بأن لا نطفة إلا من آدمي ولا آدمي إلا من نطفة
بدليل الفرض
ولجاز لمن رأى نجارا صغيرا أن يقضي على جميع النجارين به
ثم قالوا وجه الجمع الصحيح أربع
112

جمع لعلة كقولهم العلم علة كون الذات عالمة فليكن كذلك في
الغائب
وجمع بالحقيقة كقولهم حقيقة كونه عالما قيام العلم به
والجمع بالشرط كقولهم الحياة شرط العلم شاهدا فكذا غائبا
والجمع بالدليل العقلي كقولهم رسم الخط المنظوم وإتقانه دليل
على علم المتقن شاهدا فكذا غائبا
وأما رد المختلف إلى المتفق كقولنا لمنكري استحالة خلو الجواهر عن
الألوان إذا سلموا ذلك في الأكوان
سبب استحالة خلوه عن الأكوان قبوله لها فكذا في الألوان
وعكس ذلك مع من يعكس النزاع فيه
وأما المسلك الجدلي كقولنا لهم إذا سلموا استحالة الخلو عنها في ثاني حال
وجودها فليكن في أول حال وجود الجوهر كذلك إذ حقيقة الكون
ما يخصص الجوهر بحيز
وهذه التقاسيم عندنا باطلة
113

والمختار
إن أساليب العقول لا ضبط لها فإن العلوم لا نهاية لها
ولا ننكر ترتيب بعض العلوم على بعض وانقسامها إلى مقدمة ونتيجة
ولكنها بعد الحصول ضرورية وإن غمض مدركها
ولا دليل عندنا في العقل إذ لا رابط ولا جمع
ونهاية النظر تجريد العقل عن الغفلات لما يعرض عليه
ومن فعل ذلك أدرك المعقول
وهو كتحديق أحمد البصر إلى صوب المرئي فإنه يفضي إلى العلم من غير
تقدير دليل
ونبين ذلك بمثال كلامي وآخر هندسي
فأما الهندسي كقولهم في صدر كتبهم الكل أكثر من الجزء وهو
ضروري والأشياء المتساوية كشئ واحد
ثم يقال سائر الخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى
114

الخط المحيط بها من كل الجوانب متساوية وهذا أيضا معلوم ضرورة
ثم يرتبون عليه العلم بأن المثلث المتساوي الأضلاع هو الذي تركبت
آحاد أضلاعه من مراكز الخطوط الدائرة المتماثلة
وهذا خفي يفتقر إلى تدبر ولكنه بعد العلم به ضروري كالأول وهكذا
إلى الشكل الأخير
إلا أنه عسر الاحتواء عليها لتعلقها بمقدمات لا يحويها الذهن ويذهل عنها
في غالب الأمر
والمثال الكلامي كقول مثبتي الأعراض التفرقة الحاصلة بين الحركة
والسكون مهجوم عليها من غير تأمل
115

ثم العلم بجوازه يفتقر إلى تأمل في ابطال جهة الوجوب استنادا إلى إن
تخصيصه ببعض الأوقات وبعض السمات مع تساويها في العقل دليل
على بطلان الوجوب
ويتعين عند بطلانه جهة الجواز إذ التقسيم حاصر ولا قسم سواه
ثم يبتدي له بعد ذلك أنه هل وقع جائزا بنفسه أو بمقتضى
فليس إلا تنبه العقل واستبانته انه وقع بمقتضى إذ لو وقع بنفسه لما اختص
ببعض الأوقات وبعض السمات
ويدرك العقل ذلك بعد التنبه إدراكه التفرقة الضرورية ابتداء هكذا إلى
نهاية النظر في حدوث العالم
فقد بان أن لا دليل في العقل
فها نحن نبطل تفاصيل تقاسيمهم فنقول
أما الجمع بالعلة فكون العلم علة العالمية باطل إذ لا علية ولا معلول في
العقليات عندنا
116

فالعلم عين العالمية ولا فرق
وإن سلم فنقول
إن دل العقل بعد التجريد عن الغفلات للتدبر فيه أن العالمية في حق
الرب مفتقرة إلى علم لا محالة فهو الدليل ولا حاجة إلى رد الغائب إلى
الشاهد
وإن لم يدل فلا مقنع في الجمع
ثم علم الباري يخالف علمنا بالإتفاق
فكيف يقولون إذا دلت العالمية على العلم شاهدا ينبغي أن تدل
في الغائب على علم يخالفه
وكذا نقول في رد المختلف إلى المتفق ولا استرواح في المعقولات إلى
إجماع ولا إلى مسلك جدلي وإلزام
فإن دل العقل على شئ منها في محل النزاع فهو كاف
وإلا فلا فائدة في الإتفاق وتسليم الخصم
نعم ذلك يورد للتضييق وتبكيت الخصم إن جحد البديهة ليختزي بعد
117

وأما التقسيم فقد مثلوه بقولهم في مسألة الرؤية الجوهر مرئي فلا يرى
لجوهريته يقول بدليل العرض ولا لصفاته بدليل جواز تعلق الرؤية به عند
تقدير عدم كل صفة تتخيل مصححة له فدل أن المصحح هو الوجود
وعارضتهم المعتزلة أن الرب لا يرى الآن
وليس ذلك لقرب مفرط ولا لبعد مفرط إذ ذاك محال عليه فدل أنه
غير مرئي في نفسه
وهذه التقاسيم عندنا باطلة
إذ لا يستحيل أن يكون مصحح الرؤية أو مانعها أمرا آخر جهله السائل
والمسؤول
إذ ليس التقسيم دائرا بين نفي وإثبات
وإذا تطرق خيال بعيد إلى مظان القطع فسد والله أعلم
118

الفصل الثالث
في
مواقف العقول ومجاريها
ولا مطمع في استيعاب مجاري العقول بالذكر إذ المعقولات لا ضبط
لها فلا ضبط لمراتبها
ولو ذكرناها لافتقرنا إلى ذكر الهندسة والفلسفة والنجوم
والشعوذة وعلوم الصناعات والرياضيات
فالوجه الرمز إلى ما يتعلق بالديانات
ونهاية المغزى فيه الإحاطة بحدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف
بصفات تجب للذات متنزه عما يوجب إثبات مشاركته للمحدثات قادر على
ما لا يكون وقوعه من المستحيلات
ومن جملته انبعاث الرسل وتأييدهم بالمعجزات
ومستند المعجزات أسلوب العقل أو العرف
119

وأما درك حقيقة الإله فمن مواقف العقول
وكذا كل ما يتوقع في القيامة ما لم يرد به النص ولا مجال للعقل فيه
وكيف لا والعلم إما مهجوم عليه أو مستند إلى مهجوم
وحقيقة الإله لا يهجم على دركها ولم يسبق لنا علم هجمي بما يفضي
إليها
نعم ندرك حقيقة ما نحسه ونعانيه لأن وكذا حقيقة الآلام
واللذات
120

الفصل الرابع
أدلة العقل تتعلق بمدلولاتها لأعيانها
والحدوث يدل على المحدث بعينه
والسمعيات لا تدل لأعيانها فإنها عبارات تفهم بالإصلاح لا يتعدى
الاصطلاح بها على نقيضها
وأما المعجزة تدل على الصدق وتستمد من أسلوب العقل ليتبين به أنه فعل
فاعل ومن أسلوب العرف إذ لا مناسبة بين شق القمر وصدق الرسول
ولكن القائم بين يدي الأمير إذا ادعى أنه رسوله واقترح عليه في روم
تصديقه أن يخرق عادته ففعل علم على الضرورة صدقه
ولهذا لم يعترف أحد بالمعجزة إلا واعترف بالنبوات
121

الفصل الخامس
فيما يستدرك بمحض العقل دون السمع أو ما يشتركان فيه والقول
الضابط في ذلك أن كل ما يمكن إثباته دون إثبات كلام الباري كمعرفة
الله تعالى وصفاته ودرك استحالة المستحيلات وجواز الجائزات
ووجوب الواجبات العقلية دون التكليفية بأسرها فيستحيل دركه من السمع
وأما الذي لا يدرك إلا بالسمع فكل ما لا يمكن إثباته إلا بعد إثبات
الكلام فلا يدر بمحض العقل إذ السمع مستنده الكلام فلا يثبت أولا دون
إثبات الكلام وتردد بين جهة الجواز فمأخذه السمع على التجرد
ومنها ما يجوز أن يؤخذ منهما كخلق الأعمال وجواز الرؤية وكذا كل
ما يجول العقل فيه فلا نتوقف في ترتيبه على تقديمه على الكلام
ثم السمعيات مراتب
فما قرب من المعجزة كان أوضح فإنها من أدلة السمع وهي كالبديهة وقد في المعقولات
ثم دونها القرآن
ثم الأخبار المتواترة وقربه من المعجزات كقرب النظريات من البداية
122

كتاب البيان
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
في
حد البيان
وفيه ثلاث عبارات
إحداها
قول أبي بكر الصيرفي إنه إخراج الشئ من حيز الإشكال إلى حيز
التجلي
وهو فاسد فإن الحيز والتجلي من العبارات المنقوضة وقد كثر الإرتباك
فيه والبيان في نفسه أبين منه ولا يحد الشئ إلا بعبارة بينة تزيد في
الوضوح عليه
123

الثانية
قول بعض أصحابنا البيان هو العلم
وهذا فاسد
إذ لو جاز ذلك لقيل أيضا العلم هو البيان ويحد به
ويخرج عنه علم الباري سبحانه إذ البيان مشعر بتبيين مفتتح ثم يقال
انظر إلى بيانه يعني إلى عبارته وتقريبه المعاني إلى الأفهام
الثالثة
ما قاله القاضي إن البيان هو الدليل يقال بين الله الآيات
لعباده أي نصب لهم أدلة دالة على أوامره ونواهيه ثم الدليل قد يحصل بالقول
والفعل والإشارة
وهذا هو المختار والله أعلم
124

الفصل الثاني
في
مراتب البيان
وهي باتفاق الأصوليين خمسة ولكنهم اختلفوا في ترتيبها على ثلاث
مقالات
قال الشافعي رضي الله عنه
المرتبة الأولى النص الذي لا يختص بدرك فحواه الخواص المتأكد تأكيدا
يدفع الخيال كقوله وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة
الثانية النص الذي يختص بدركه بعض الناس كقوله تعالى إذا
قمتم إلى الصلاة الآية إذ لا بد من فهم معنى الواو ومعنى إلى
الثالثة ما أشار الكتاب إلى جملته وتفصيله محال على الرسول صلى الله عليه وسلم
كقوله سبحانه أقيموا الصلاة وقوله وآتوا حقه يوم
حصاده
125

والمرتبة الرابعة ما يتلقى أصله وتفصيله من الرسول عليه السلام
الخامسة ما لا مستند له سوى القياس
واعترض عليه بالإجماع فإنه لم يذكره وهو أقوى من القياس
المقالة الثانية
إن المرتبة الأولى نصوص الكتاب والسنة
والثانية ظواهرهما
والثالثة المضمرات كقوله فعدة من أيام أخر
الرابعة الألفاظ المشتركة مثل القرء وغيره
والخامسة القياس المستنبط من موقع الإجماع
وهذا مزيف من وجهين
أحدهما أنه أخر المضمرات عن الظاهر وهو معلوم بالضرورة
والآخر أنه عد القرء من البيان وهو مجمل إذ ثبت تردده واشتراكه
126

المقالة الثالثة
إن المرتبة الأولى أقوال صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة
والثانية أفعاله كصلاته ووضوئه
الثالثة إشارته كقوله الشهر هكذا هكذا هكذا وسكوته
وتقريره
الرابعة المفهوم ثم ينقسم إلى مفهوم مخالفة وموافقة كمفهوم تحريم الشتم
من آية التأفيف
الخامسة الأقيسة
وهذا مزيف
لأن فهم حظر الضرب من آية التأفيف مقطوع به فكيف يؤخر عن
الأفعال والإشارات
والمختار إن البيان هو دليل السمع فيترتب على ترتيب الأدلة فما قرب
من المعجزة فهو أقوى كالنظر القريب من مرتبة الضرورة
127

الفصل الثالث
تأخير البيان عن وقت الحاجة محال لأنه من جنس تكليف
ما لا يطاق
وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز
والمعتزلة منعوا ذلك ومنعوا جواز تأخير التخصيص عن العام إلى وقت
الحاجة
ومنهم من جوز تأخيره ولم يجوز تأخير الخصوص لأن العام يعمل
بظاهره والمجمل لا يعمل به
ونحن نتكلم في جوازه ثم في وقوعه فنقول
128

أولا يتصور أن يقول السيد لعبده خط هذا الثوب غدا ولا يبين
له كيفية خياطته في الحال
فإذا تصور وقوعه فلا مأخذ لاستحالته فإن العقل لا يقبح ذلك في
العادات
وإن تلقوه من الاستصلاح فلا نقول به
ثم لعل الله علم أنه لو بين في الحال لطغوا وعصوا فتدرج في البيان
ليمتثلوا
ثم سلموا لنا جواز تأخير النسخ والنسخ عندهم بيان وقت التكليف
وهذا تأخير البيان
وآية وقوعه قصة موسى عليه السلام في تأخير بيان البقرة إلى المراجعة
وقصة نوح عليه السلام في تأخير بيان الأهل حتى ظن إن ابنه من أهله
والنبي عليه السلام في ابتداء أمره أمر بالصلاة والزكاة والحج ثم
بيانه ذكره على طول الدهر ولم يذكره على الفور
129

فإن قالوا فجوزوا موت النبي عليه السلام قبل البيان
قلنا يجوز وتبين أن لا تكليف ثم يعكس عليه في النسخ
وإن قالوا هذا إلغاز
قلنا لا يعد ذلك إلغازا في العرف
130

القول في اللغات
وفيه مسائل
قال القائلون اللغات كلها اصطلاحية إذ التوقيف يثبت بقول الرسول عليه السلام ولا يفهم
قوله دون ثبوت اللغة وقال آخرون هي توقيفة علي إذ لا اصطلاح يفرض بعد
دعاء البعض البعض بالاصطلاح ولا بد من عبارة يفهم منها قصد
الاصطلاح وقال آخرون ما يفهم منه قصد التواضع توقيفي دون ما عداه ونحن نجوز كونها اصطلاحية
بأن يحرك الله تعالى رأس واحد فيفهم الآخر أنه قصد الاصطلاح ونجوز كونها
توقيفية بأن يثبت الرب تعالى مراسم وخطوطا يفهم الناظر فيها العبارات ثم يتعلم البعض
من البعض وكيف لا يجوز في العقل كل واحد منها ونحن نرى الصبي يتكلم بكلمة ابوبه
حتى ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حال صغره فإذا الكل جائز
131

وأما وقع أحد الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع عليه وقوله
تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ظاهر في كونه توقيفا وليس بقاطع
إذ يحتمل كونها مصطلحا عليها من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم
مسألة اختلفوا في أن اللغات هل تثبت قياسا
ووجه تنقيح محل النزاع أن صنع التصاريف على القياس ثابت في
كل مصدر نقل بالإتفاق أو هو في الحكم المنقول وتبديل العبارات ممتنع
بالإتفاق كتسمية الفرس دارا الدار فرسا
ومحل النزاع القياس على عبارة تشير إلى معنى آخر وهو حائد عن منهج
القياس كقولهم للخمر خمر لأنه يخامر العقل أو يخمر وقياسه أن
يقال مخامر أو مخمر فهل تسمى الأشربة المخامرة للعقل خمرا قياسا
132

وكذا قولهم استحق البعير فهو حق فإنه مشتق
وجوز الأستاذ أبو إسحاق مثل هذا القياس
والمختار منعه وهو مذهب القاضي
قلنا إن كان اثبات هذا القياس مظنونا فلا يقبل إذ ليس هذا في
مظنة وجوزب تعالى عمل
وإن كان معلوما فاثبتوا مستنده
ولا نقل من آهل اللغة في جواز ذلك
ولا من الشارع عليه السلام
ومسلك العقل ضرورية ونظريه فإن منحسم في الأسامي واللغات
وإن قاسوا على القياس في الشرع فتحكم لان مستند ذلك التأسي
بالصحابة فما مستند هذا القياس
ثم أطبقوا على أن البنج لا يسمى خمرا مع كونه مخمرا
133

فإن سموه فليسموا عمر الدار قارورة لمشاركتها القارورة في المعنى وهذا
محال
مسالة
قسمت المعتزلة الأسامي النبي إلى اللغوية والدينية والشرعية
فاللغوية وإن ما لم يتصرف فيه
والدينية الإيمان والكفر والفسق
ووجه تغيره إن الإيمان مجرد التصديق في اللغة
والكفر الستر
والفسق الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها ثم دخلها
تخصيص في الدين
134

وميزوها عن الألفاظ الشرعية لأنهم ظنوا أنها مستدركة بمحض العقل
والشرعية كالصلاة والصوم والحج
وقد قال بعض أصحابنا إنها منقولة بالكلية عن وضعها في اللغة
وقال القاضي هي مبقاة على ما كانت عليه ولم تغير إذ الصلاة
الدعاء والصوم الإمساك والحج القصد إلى الزيارة وقد بقيت
عليها في الشرع
وهذا مزيف
إذ اسم الصلاة يشمل الركوع والسجود شرعا
فإن قيل سمي به لقربه منه فنعلم أن أهل اللغة لا يسمون الواقف
بين يدي الأمير على الخضوع مصليا لأنه يدعوه في وقوفه
والمصير إلى أنها منقولة بالكلية محال لما قاله القاضي
والمختار لا يتبين إلا بمقدمة وهي أن تصرف أهل اللغة فيما تصرفوا فيه
ينقسم إلى
135

ما غالب التصرف فيه الوضع كتخصيصهم كما الدابة ببعض الحيوانات حتى
لا يسمى الآدمي دابة وإن كان يدب
وإلى ما يتغير به الوضع كتسميتهم الخمر محرمة لارتباط التناول بها وهو
المحرم وكتسميتهم الأم محرمة والمحرم وطؤها
فتصرف الشرع في اللغة على هذين الوجهين
إذ خصص الحج بزيارة مكة حتى لا يسمي زيارة بقعة أخرى حجا
وسمي الإمساك عن الأكل والشرب والجماع صوما دون غيره
وكاحتكامه هو بتسمية الفعل صلاة لقربه من الدعاء
مسألة
اللغة تشتمل على المجاز والحقيقة
وقال الأستاذ لا مجاز فيها وخالفه القاضي فيه
136

ونحن نجمع بينهما
إذ عني الأستاذ بنفي المجاز أن جميع الألفاظ حقائق ويكتفي في كونها
حقائق بالاستعمال في جميعها وهذا مسلم ويرجع البحث لفظيا فإنه حينئذ
يطلق الحقيقة على المستعمل وإن لم يكن بأصل الوضع ونحن لا نطلق ذلك
لأن المجاز ثابت بثبوت الحقيقة وهذا لا ينكره القاضي ولا نظن بالأستاذ
إنكاره الاستعارات مع كثرتها في النظم والنثر وتسويته بين تسمية الشجاع
والأسد أسدا
مسألة
القرآن يشتمل على المجاز وعلى الحقيقة
خلافا للحشوية
137

ودليله كثرة الاستعارات سيما في سورة يوسف
وإن عنوا بنفيه أن المجاز هو الكلام المردود ولا يوصف به كلام الباري
سبحانه فالأمر كما قالوه
مسألة
قال أبو حنيفة رحمه الله
الفرض هو ما يقطع بوجوبه والواجب ما يتردد فيه
وعندنا لا فرق إذ الشارع لم ينص عليه وأهل اللغة لم يخصصوا
واشتقاق الفرض لا يقتضيه فإنه القطع ومنه المفراض وسلم والفرائض
138

وفرضة القوس الحزة التي تستقر فيها عروة الوتر
فعلى هذا تجوز تسمية التقرب فرضا
والوجوب هو الثبوت يقال وجب الجدار إذا سقط
ووجبت الشمس إذا ثبتت عند الغروب في نظر الناظرين
ثم نقضه بتسمية الطهارة عند الفصد فرضا وهو متردد فيه
مسألة
صيغة النفي بلا إذا اتصلت بالجنس لم تقتض الإجمال كقوله
لا عمل إلا بنية ولا صيام ولا صلاة
وزعمت المعتزلة أنها مجملة من حيث إنه يتردد بين نفي العمل حسا وبين
نفيه حكما
وهذه جهالة
139

إذ يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد مخالفة المحسوس
وقال بعض الفقهاء هو عام فيهما
وهذا محال
لأن العام هو الذي يمكن تقدير عمومه ويستحيل أن يكون نفي العمل
مندرجا تحت اللفظ قطعا ولا يفهم من الشارع ذلك
وقال آخرون هو عام في نفي الكمال والجواز
وهذا فاسد
لأن نفي الجواز يتضمن نفي الكمال لا محالة فلا معنى لتعميم نفيهما
وقال القاضي هو مجمل لتردده بين نفي الجواز والكمال
والمختار أنه ظاهر في نفي الجواز محتمل لنفي الكمال
والمتمسك به متمسك بظاهر لا يدرأ إلا بدليل والله أعلم
140

باب
في
مقدار من النحو ومعاني الحروف
الكلم
ينقسم إلى اسم وفعل وحرف
ولم يقل الكلام لأنه المفهوم والحرف لا يفهم وكذا الاسم
والكلام المفهم جملة مركبة من مبتدأ وخبر كقولك زيد منطلق
أو فعل وفاعل كقولك قام زيد أو شرط وجزاء كقولك إن جئتني
أكرمتك
وقولك يا زيد أضمر فيه النداء
وخاصة الاسم قبوله للجر والتنوين ودخول الألف واللام عليه
وحده ما يشعر بمسمى من غير إشارة إلى زمن محصل
141

والفعل يخالف الاسم في خاصيته وهي صيغ دالة على أحداث مشعرة
بزمان منقسم انقسام الزمان من ماض وحاضر ومستقبل
وأما الحرف الذي جاء لمعنى تنعدم خاصية الاسم والفعل فيه
ويظهر المعنى في غيره
ثم الاسم أقوى في التأصيل من الفعل لأنه مستقل ويتركب من
جنسه جملة مفيدة كقولك زيد قائم
وما من فعل إلا ويحدث به ولا يحدث عنه فيقدر اسما
والحرف دون الفعل فإنه لا معنى له في نفسه
ثم الاسم ينقسم إلى المبني والمعرب
142

أما المبني كقولك من وكيف وأين ومتى
وإنما سميت مبنية لأنها لا تتحرك كالأبنية
وتسمى غير المتمكن لأنها تضاهي الحروف في صيغها
والمعرب ينقسم إلى المتمكن والأمكن
فالمتمكن كقولك عمر
والأمكن كقولك زيد ويدخله الاعرابات الثلاثة بخلاف عمر
والفعل ينقسم إلى ماض ومستقبل
فالماضي كقولك قام
والمستقبل كقولك يقوم وتقوم وأقوم
فهذه زيادات
وأصل الزيادات حروف المد واللين وا ى
فأما الياء فقد زيد في قولك يقوم
والألف لا يمكن البداية بها فأبدل بالهمزة في قولهم أقوم
وأما الواو فالبداية بها تشبه صياح الكلب فأبدل بالتاء لأنها تقوم
مقام الواو
143

إذ أصل التخمة الوخمة وأصل التراث الوراث
وأما النون فإنما زيد لأن فيها غنة تشبه غنة الياء
وسمي المستقبل مضارعا لأنه يضارع الاسم إذ يشابه إعرابه ويقوم
مقام الاسم فتقول جاء زيد يركض يعني الراكض
وأما الحروف فتنقسم إلى مقطعة وإلى حروف المعاني
فأما المقطعة فكالباء عنه والواو والفاء وثم
فأما الباء
فترد للإلصاق كقولك مررت بزيد
وبمعنى على كقوله من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك
وبمعنى في كقوله تعالى بدعائك رب شقيا
وقيل معناه لأجل دعائك
وقيل معناه بسبب دعائك
وقد ترد للتعدية كقولهم دخلت به الدار وهو بدل الهمزة
144

ولا يجمع بينهما فهما متعاقبان
وقوله أسرى بعبده بمعنى سرى وهي لغة فصيحة
قال الشاعر:
إن السري إذا سرى فبنفسه ابن السري إذا سرى أسراهما
وظن ظانون أنه للتبعيض في مصدر يستقل دونه كقوله وامسحوا
برؤوسكم
وتمسكوا بقولهم أخذت زمام الناقة إذا أخذها من الأرض وأخذت
بزمامها إذا أخذ بطرفه
وليس الباء للتبعيض أصلا
145

وهذا خطأ في أخذ الزمام أيضا
ولكن من المصادر ما يقبل الصلات كقولهم
شكرت له ونصحت له وجلست بصدده
وأما التبعيض في مسألة المسح فمأخوذ من معنى المصدر فمصدر المسح
لا يشير إلى الاستيعاب كمصدر الضرب بخلاف الغسل
وأما الواو
فهي للعطف وهي أم العواطف وتقتضي الاشتراك في الإعراب والمعنى
فتقول رأيت زيدا وعمرا يعني هما مرئيان
وقولك وعمرا لا يستقل فيقتضي العطف
ولو استقلت الجملة الثانية فالواو للنسق لا للعطف
146

وظن ظانون أنه للعطف
وتمسكوا به في مسألة المحدود في القذف
وهو خطأ
إذ قد يجمع بين جمل متناقضة كقولك أكرمت زيدا وأهنت عمرا
فلا عطف إذن
147

وليس الواو في وضعه للترتيب بدليل دخوله على التفاعل تقول
تضارب زيد وعمرو ولا تقول ثم عمر
148

وليس للجمع ولكنه صالح له إذ لا يبين أثره على التثنية
فلو قلت رأيت زيدين لم يقتض جمعا
وقول الرجل لزوجته قبل الدخول أنت طالق وطالق إنما تقع الواحدة
لأن الطلاق يساق إليها وقد بانت فالثاني واقع بعد البينونة لا لكونه
للترتيب
وقد يكون للجمع كقولهم جاء البرد والطيالسة واستوى الماء
والخشبة معناه معها
وكقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن يعني لا تجمع ولو أفردت
جاز
وإذا قلت وتشرب اللبن كان النهي عنهما أفرادا وجمعا
149

قال الشاعر
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذ فعلت عظيم
وهو منع عن الجمع
وأما الفاء
فهي للتعقيب كقولك إذا دخلت الدار فاجلس
وللترتيب فإنه من ضرورة التعقيب
وللتسبب إن كقولك إن جئتني فأكرمك
وبمعنى الواو كقوله
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
150

وقال سيبويه أفاد التعقيب فمعناه فالممر بعده إلى حومل
ومعناه أنه موضع تجوز على صوب الدخول لا على عرضه
وأما ثم
فهي لترتيب الفعل أو لترتيب الكلام قال الشاعر
إن من ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده
يعني ثم أفهم أنه كان كذا
151

وظن ظانون منهم أنه ليس للترتيب
وليس كذلك
وهذا كقوله والأرض بعد ذلك دحاها وهي قد دحيت قبل
ذلك
ومعناه ثم أفهم
وأما حروف المعاني
فقد تغير الإعراب والمعنى كقولهم لعل زيد منطلق وهو للترجي
وقد لا تغيرهما كقوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم
يعني فبرحمة
وقد تغير المعني دون الإعراب كقوله هل زيد منطلق
وقد تغير الإعراب دون المعنى كقوله إن زيدا منطلق
وقال سيبويه إن للتحقيق ولا زيادة في لغة العرب
وقوله فبما رحمة من الله يشعر بالتنبيه والحث كقوله
صه ومه
152

والعامل لا يكون معمولا فيه كقولك لعل زيدا
والمعمول لا يكون عاملا كقولك زيدا
إلا المضارع فإنه عامل ومعمول فيه
والعامل الذي يتصل بالاسم لا يتصل بالفعل كقولك لعل
والمتصل بالفعل لا يتصل بالاسم كقولك أن
ونتكلم في خمسة عشر حرفا منها
ما
وقد يقع حرفا لا يفيد كقوله فبما رحمة من الله
وقد يقع مفيدا للنفي في غيره كقولك ما زيد قائم
وهي على لغة أهل الحجاز عاملة فتقول ما هذا بشرا
وعند بني تميم لا تعمل فتقول بشر
وهي كافة لعمل إن عند الكوفيين فتقول إنما زيد منطلق
وقال البصريون لا تكف فتقول إنما زيدا منطلق
وقد تقع اسما منكورا بمعنى الاستفهام فتقول ما عندك
153

فجوابه إنه ثوب أو فرس
وبمعنى الشرط كقولك ما تفعل أفعل أي الفعل الذي تفعله أفعل
وبمعنى التعجب كقولك ما أحسن زيدا أي شئ حسن زيدا
وبمعنى الصفة كقولك مررت بما معجب
وقد يقع موصولا بفعل فتقول علمت ما عندك أي ما هو قار عندك
وبمعنى المدة كقولك أقوم ما تقوم
وبمعنى المصدر كقوله تعالى والسماء وما بناها أراد
وبناءها
وبمعنى الذي كقولك أتخمت مما أكلت يعني من الذي
أكلت أو من أكلي بمعنى المصدر أو من طول أكلي بمعنى المدة
ولم يعبر بما عمن يعقل بخلاف من
وقال أبو عبد الله المغربي يعبر به عنه كقوله والسماء
وما بناها أي ومن بناها
فصل
أو للترديد تقول رأيت زيدا أو عمرا
154

وكذا أم
ولكن أم قريبة للاستفهام فتقول أزيدا أكرمت أم عمرا
ولا تقول أو عمرا
وقد يراد به التخيير في آحاد الجنس كقولك جالس الحسن
أو ابن سيرين يعني هذا الجنس
وقيل بمعنى الواو كقوله مائة ألف أو يزيدون
والأصح أن معناه هم قوم إذا رأيتهم ظننتهم مائة ألف أو يزيدون
والأصح كقوله تعالى لعله يتذكر أو يخشى يعني قول
من يرتجى أنه يتذكر أو يخشى وهذا على قدر فهم المخاطب
وقد يراد بها حتى كقوله لا أفارقك أو تقضيني حقي
معناه حتى تقضيني ديني
فصل
هل للاستفهام ولا يغير الإعراب
155

وقد يكون بمعنى قد ك قوله تعالى هل أتى على
الإنسان
والمختار أن معناه استدعاء التقرير كقوله هل جزاء
الإحسان إلا الإحسان
وإذا اتصل به لا كان للتخصيص
فصل
لو ترد لامتناع الشئ لامتناع غيره كقولك لو جئتني
أكرمتك
ولولا لامتناع الشئ لثبوت غيره كقولك لولا زيد لجئتك
وقد ترد لو بمعنى إن كقوله ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو
أعجبتكم
معناه وإن أعجبتكم
وإذا اتصل به لا كان للتخصيص كقوله فلولا نفر من كل
فرقة
156

فصل
من حرف جار لا يرد إلا على الاسم بمعنى التبعيض كقوله أخذت
من مال زيد
أو للعموم كقوله ما في الدار من رجل
أو بمعنى على كقوله سبحانه ونصرناه من الذين كذبوا
بآياتنا
أو بمعنى ابتداء الغاية كقوله من البصرة إلى بغداد
ويجوز أن تقول عن البصرة
ومن هذا الجنس قولهم فلان أفضل من فلان إذا ساواه ثم ابتدأ
فضلا ولا يقال عن فلان لأن من صريح في اقتضاء الابتداء من غاية
بخلاف عن
وجوز في قولهم عن البصرة لأن الاعتماد ثم على الجنس فهو معلوم
ويجوز أن يقول تلقنت عن فلان وهو أفصح من قوله منه
ولا يقول رويت منه لأن تخييل التبعيض في الرواية بعيد وهو
متخيل على الجملة في العلم فكأنه يأخذ بعض عمله
وعن قد ترد اسما فيقال أخذته من عن الفرس
157

فصل
إلى إذا اتصل بها من كان صريحا في التحديد
ومطلقة قيل للجمع وقيل للتحديد
وقال سيبويه ظاهره للتحديد ويحتمل الجمع كقوله تعالى إلى
المرافق ومن أنصاري إلى الله
فصل
على قد تقع فعلا كقولك علا يعلو
وتقع اسما كقولك أخذته من على الفرس
وحرفا كقولك لي عليك حق وفيه شوائب الاسم يعني
الحق ثابت له
وقال أبو عبد الله لا تقع قط فعلا
وقولهم علا ليس ذلك هذه الحروف وهو إنما يطابق في اللفظ
158

فصل
بلى لاستدراك النفي كقوله تعالى ألست بربكم قالوا بلى
ولو قال نعم لكان معناه نفي الإلهية
وجواب القائل إذا قال أليس زيد في الدار عند روم الإثبات
يقال بلى
وهذا لا يعتبر في الفقه في الإقرار بل يسوى بينهما إلا في حق
النحويين
فصل
من لا يقع إلا اسما ويعبر به عمن يعقل في الاستفهام كقولك من
عندك أو في الشرط كقولك من جاءك فأعطه
درهما
159

فصل
إذا تصلح للشرطية فيقول إذا دخلت الدار
ولا يتمحض له لأن شرط الشرط أن يرتبط بما لا يقطع بوقوعه
كالدخول
ويصح أن يقول إذا طلعت الشمس وإذا جاءت القيامة
ولو قال إن جاءت القيامة فهذا تردد
فصل
إذن للتعليل كقول عليه السلام في حديث الرطب
فلا إذن وقيل إنه بمعنى إذا
وهو فاسد
160

فصل
حتى بمعنى الغاية بمعنى الغاية كقوله اكلت السمكة حتى رأسها أي
ويكون للعطف تقول حتى رأسها أي ورأسها
ويكون بمعنى الاستئاف ومعناه حتى رأسها أكلته
وهذا كقول الشاعر
ألقى الصحيفة كي يخخف إلا رحله * والزاد حتى نعله ألقاها
وبمعنى إلى كقوله حتى تقضيني ديني
ولا تعطف به الا ما كان من جنس المعطوف فتقول اكلت السمكة
حتى رأسها ولا تقول حتى الخبز ولو قلت والخبز جاز
161

كما تقول رأيت القوم حتى زيدا أو وزيدا ولا تقول حتى
الحمار ولكن تقول والحمار
فصل
مذ حرف يتصل بالزمان دون المكان يقال مذ الجمعة كما يقال
من الجمعة وقد يقع اسما
162

كتاب الأوامر
الأمر قسم من أقسام الكلام واصل الكلام قد أنكره المعتزلة فلا بد
من تقديمه والكلام فيه في ثلاثة فصول
الفصل الأول
في
اثباته عليهم
والكلام عندنا معنى قائم بالنفس على حقيقة وخاصية يتميز بها
عما عداه
وأما العبارات فهل تسمى كلاما مجازا أو حقيقة تردد فيه شيخنا
أبو الحسن وهو متلقى من اللغة
وأنكرت المعتزلة جنس الكلام وزعمت أنه فعل حركات مخصوصة
163

وأصوات مقطعة وزعموا أن الرب تعالى متكلم بمعنى انه فاعل الكلام
والدليل على إثباته ثلاثة مسالك
أحدهما يختص بالكلام الباري سبحانه وقد نطقت الأمة بقولهم قال
الله تعالى ونطق به القران العزيز كما نطقت بقولهم علم الله
فليدل على معنى هو قائل به
ويستحيل أن يكون قائلا بفعله إذ لا حكم للفاعل في أخص أوصاف
الفعل ولو جاز ان يقال هو قائل بكلام يخلقه في غيره لجاز ان يقال
هو متحرك بحركة يخلقها في غيره
المسالك الثاني
انهم ردوا الكلام إلى الفعل ونحن نعلم قطعا جواز الإحاطة بكون الشخص
متكلما قبل التنبه للفعل وكونه فاعلا
المسلك الثالث
وهو الأقوى في اثبات الغرض ان من قال لعبده افعل صادف عند
164

الامر طلبا جازما قائما بذاته فأبداه بقوله افعل وهو معبره فيه ومدلوله
فهو الكلام الذي ينبغي اثباته وهو معلوم على الضرورة
وليس ذلك إرادة لمعنيين
أحدهما
إن الإرادة تنقسم إلى تمن لا ينفك عن تردد ولا تردد في هذا الطلب
وإلى قصد جازم ويستحيل تعلقه بفعل الغير فإنه غير مقدور للمريد
ولأن السيد المعاتب من جهة السلطان بسبب ضربه عبده إذا اعتذر
باستعصائه صلى فكذبه فأراد تحقيقه عيانا فيأمر عبده وهو يبغي عصيانه
لتمهيد عذره وليس مريدا له ولا وجه لإنكار كونه أمرا فإن العبد فهم
منه الأمر وميز بينه وبين الهاذي وقال
ولو أحاط أيضا بقرائن الأحوال بمعنى غرض السيد يفهم الأمر
ولكن يعلم منه إرادة العصيان فلا وجه لحمل ذلك الطلب على إرادة إيقاع
الصيغة أمرا تمييزا له عن الحكاية والهذيان لأن العبد يفهم طلبا وراءه ولأن
الصيغة بعد أن صارت أمرا فله معبر ومدلول وهو الطلب الذي ذكرناه
165

الفصل الثاني
في
حد الكلام
وقد قيل إنه حديث النفس أو نطق النفس أو مدلول أمارات
وضعت للتفاهم وهو الأصح
ولعلنا نقول لا حد له كما ذكرنا في حد العلم إذ العبارات المنقولة
قاصرة على المعاني المعقولة
166

الفصل الثالث
في أقسام الكلام
والمختار فيه أنه خمسة
طلب وهو متناول للأمر والنهي والدعاء
وخبر واستخبار وتنبيه وهو مشير إلى النداء
وتردد وهو متناول للتمني والترجي وأنواعه
ولو حذفنا التردد اكتفاء بقسم التنبيه أو الخبر وكون التردد تنبيها من
وجه للزم الاكتفاء به في الكل إذ الأمر والنهي والخبر والاستخبار
أيضا فيه تنبيه وخبر
وإذا ثبت أصل الكلام فنقول
الأمر قول جازم يقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به ويندرج
تحته الندب
وقيل قول يتضمن إيجاب المأمور به ويخرج منه الندب
167

واستدل القاضي على صحة الحد الأول وكون الندب أمرا بكونه
طاعة ولم يقع طاعة لكونه مرادا إذ المعصية مرادة فوقع طاعة لكونه
مأمورا به
وهذا تحكم على اللغة إذ يقال له وقع طاعة لكونه مطلوبا
فإن سمي كل مطلوب أمرا قياسا على الواجب فلا قياس في اللغة ولم
ينقل متواترا ونقل الآحاد لا يوجب العلم
وأما حد المعتزلة فإنهم قالوا الأمر قول القائل افعل
فأبطل عليهم بقوله قم وكل وكل أمر مشتق من مصدر آخر وبقوله قم
لتأكل فإن الأكل مأمور به لا على صيغة الأمر
168

ثم قالوا لا بد من إرادة إحداث الكلمة وإرادة المأمور به وإرادة
إيقاع الصيغة المحدثة أمرا تمييزا له عن الحكاية
وخالفهم الكعبي في الإرادة الأخيرة وقال إنما تتميز عن الحكاية بصفة
ذاتية
فقيل له وكيف يتميز الشئ عن مثله بصفة ذاتية
فقال وكيف يتميز عنه أيضا بالإرادة والجوهر لا يتميز عن الجوهر
بالإرادة في ذاته
فكفونا باضطرابهم أنه مؤنة الكلام عليهم
فهذه مقدمات الكتاب
ومقصوده يحويه أربع عشرة مسألة
مسألة (1)
اختلفوا في مفهوم صيغة الأمر ومقتضاه وهو قول القائل افعل
169

فقال الجبائي يدل على كون المأمور به مرادا والوجوب لا يتلقى
منه
وقال بعض الناس يدل على رفع الحرج والإباحة لأنه متردد بين
الوجوب والندب وهذا القدر مستيقن
وهذا من جنس الاستصحاب الفقهي ولا تؤخذ منه اللغات ما لم ينقل
أن قولهم افعل موضوع عندهم للإباحة ففيه المباحثة
وقال الفقهاء هو للوجوب بدليل أوامر الشارع وأمر
الله تعالى إبليس بالسجود واستيجاب المأمور للتعزير بتركه
وكل ذلك يمكن تلقيه من القرآن وإنكار كون اللفظ بمجرده دالا
عليه
170

فلا دليل فيه
فأما شيخنا أبو الحسن والقاضي وجماعة من الأصوليين فإنهم
توقفوا فيه وقالوا لا مفهوم له إلا بقرينة مخصصة له بإحدى جهات
الاحتمال
ثم قال بعضهم اللفظ مشترك بين هذه المعاني المحتملة كلفظ العين
مشتركة في العين والميزان وعين الشمس والماء وغيرها
وقال آخرون يتوقف أيضا
ثم استدلوا على المخصصة بأن العقل لا يهتدي إلى تخصيص اللغات
وصريح النقل متواترا لم يوجد والآحاد ولو فرض فلا يورث العلم
ولو تمسكتم بالنقل ضمنا زاعمين أنا فهمنا ذلك من إطلاق أهل اللغة إياها
في شئ من ذلك يخصصها به ومن فهمهم ذلك منها فما الذي يؤمنكم من
اعتمادهم في الفهم على القرائن دون مجرد الصيغ
فإن قلتم الأمر معنى قائم بالنفس فليكن عنه صيغة دالة عليه فلم
عينتم وهو هذه الصيغة لكونها دالة عليه تحكما من غير نقل
ثم صيغته أن تقول أوجبت كما تقول في الندب ندبت أو استحب
171

فنقول للواقفية إن قضيتم بكون اللفظ مشتركا كلفظ العين فمن أين
أخذتموه أمن عقل أم نقل متواتر أو آحاد
وندير صلى الله عليه وسلم عليهم معتمدهم
ولئن قالوا بحسن الاستفصال من المأمور تبينا تردده
قلنا ذلك لتعارض القرائن المتناقضة لا لتردد الصيغة في نفسها
فإن قالوا لا ندري أهو مشترك أم لا
قلنا نرى أهل اللغة يبحثون عن معاني ألفاظ شاذة لا تتداولها الألسنة
فيبرزون معناها فما تراهم تركوا هذه اللفظة مع تكرارها على الألسنة في
الساعات والأزمنة في حيز الإجمال ولم يذكروا معناها
واستحالة ذلك مقطوع به فلا يخلون وتجاهلهم إذا فيه
وإذا أبطلنا المذاهب فالمختار
172

أن مقتضى صيغة الأمر في اللسان طلب جازم إلا أن تغيره قرينة
وقد فهمنا ذلك على الضرورة من فرق العرب بين قولهم افعل ولا تفعل
وتسميتهم أحدهما أمرا والآخر نهيا
وإنكار ذلك خلاف لما عليه أهل اللغة قاطبة
ولكن الوجوب يتلقى من قرينة أخرى إذ لا يتقرر معناه ما لم يخف
العقاب على تركه ومجرد الصيغة لا يشعر بعقاب
والشافعي حمل أوامر الشرع على الوجوب وقد أصاب إذ ثبت لنا
بالقرائن أن من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عصى وتعرض للعقاب
173

مسألة (2)
مطلق النهي محمول على التكرار
واختلفوا في مطلق الأمر وهو قول القائل افعل
فتوقف الواقفية
وزعم غيرهم أنه يختص بفعلة واحدة والمأمور بالقيام يتفصى عن الأمر
بقومة واحدة
وإليه صار الشافعي رضي الله عنه والفقهاء
وقال الأستاذ أبو إسحاق إنه لا بد من قيام مستدام فهو للتكرار
عنده وكذا عند المعتزلة وعند أبي حنيفة رحمه الله
174

وقد تمسك الأستاذ بمسلكين
أحدهما
أن النهي للتكرار فكذا الأمر
وعضد ذلك بأن الأمر بالشئ نهي عن ضده والمأمور بالقيام منهي عن
القعود فلو نهاه عن القعود صريحا لوجب ترك القعود أبدا وقد نهاه
ضمنا
وقياسه الأمر على النهي في اللغات غير مسموح
ودعواه اقتضاء الأمر بالشئ نهي عن ضده ممنوعة
وبعد تسليم جدلا نقول الأمر المطلق عند الخصم كالمقيد بفعلة واحدة
فالنهي الذي هو ضمنه يكون بحسبة لا محالة كما إذا صرح بالتقيد بخلاف
النهي الصريح مطلقا
المسلك الثاني
أن مطلق الأمر يقتضي وجوب اعتقاد الوجوب ووجوب العزم
على الامتثال ثم يجب كونهما على الدوام فكذا مقتضاه الثالث وهو الفعل
175

قلنا أما اعتقاد الوجوب فيكفي في لحظة فلا يفعل يعد
ذلك كالإيمان والمعرفة
ثم اعتقاد الوجوب مستند إلى القيام الدلالة على صدق الرسول عليه السلام
لا إلى مطلق الصيغة
وأما العزم فلا يجب إذ لو ذهل حتى أقدم جاز ذلك
ثم يبطل ذلك صريحا بالأمر المقيد بفعلة واحدة ووجهه ظاهر
وتمسك الفقهاء في معارضتهم بمسلكين
أحدهما
ان قول القائل قام فلان إخبار عن فعل واحد فكذا قوله قم يتقيد
مرة واحدة لأنهما مشتقان من مصدر واحد
ووجه الأخبار لا يتفيد فقال بفعل واحد الا بقرينة فلا نسلم
هذا
المسلك الثاني
ان الرجل إذا قال والله لأدخلن الدار يبر بدخلة واحدة ولو قال
176

لا ادخل لا يبر إلا بانزجار أي أبدا
والأمر مشبه بالبر
والنهي مشبه بالحنث
وهذا أيضا ضعيف لأن البر والحنث محل احتكام الشرع والعرف
فلا يستبان به وضع اللغة
والعرف قد يؤثر في وضع اللغة كما يحمل الدرهم على المغشوش في الشراء
المطلق ويحمله على النقرة في الإقرار مع استواء اللفظين
فالمختار ان الفعلة الواحدة مفهومة قطعا وما عداه متردد فيه متوقف
إلى بيان قرينة ودليل ذلك بطلان ما عداه من المذاهب
مسالة (3)
قال الشافعي وجوب البدار إلى المأمور به لا يفهم من مطلق الأمر
خلافا لأبي حنيفة رحمه الله وجماعة من الأصوليين
177

وتوقف الواقفية فيه
وغلا بعضهم وقال لو بادر أيضا لا ندري هل يقع الموقع أم لا
وهذا بعيد
والذين قالوا بالتراخي تمسكوا بأن الأمر لا يختص بمكان فلا يختص
بزمان أيضا
فعورضوا بأنه يختص بمكان بلوغ الأمر فيه فإن في الإنتقال تأخيرا
وتمسك الشافعي رضي الله عنه بأن الامتثال مفهوم وليس فيه تعرض
للوقت ولا يختص بزمان
فيقال له وليس فيه تعرض لجواز التأخير فكيف فهمته وهلا
توقفت فيه كالواقفية
وتمسكوا أيضا بأن الأزمنة لا معنى لها إلا حركات الفلك وذلك إلى
الله تعالى والمرتبط باختياره فعله لا الزمان فينزل اختلاف الزمان
منزلة اختلاف الهواء بالصحو والغيم
178

وهذا فاسد
فإن البدار مقدور وهو قد يكون مقصودا أما الصحو والغيم فلا يرتبط
به قصد
وتمسك القائلون بالفور بالنهي فإنه على الفور
وهذا فاسد
فإنه قياس في مقتضى اللغة
ثم النهي للاستغراق وذلك لا يتصور إلا بالبدار
والخلاف في هذه المسألة ينبني على أن الأمر المطلق يقتضي فعلة
واحدة فلاح الفرق
وتمسكوا بأن المؤخر تارك فرض متعرض للعصيان فإن قلتم
لا يعصي فهذا تغيير للوجوب وإن عصيتموه فليس ذلك إلا لوجوب
البدار
قلنا لا يكون تاركا إلا باختلاء العمر عنه ولا يعصي إلا به
ثم نعارضهم بالأمر المقيد بالعمر على التوسيع
179

وقد أجيب عن هذا بأنه إنما يجوز التأخير بشرط العزم على الامتثال
فإن لم يعزم عصى
وهذا فاسد
لأن المحذور إثبات وجوب على الفور واللفظ غير مشير إلى زمان وقد
أثبتوه
ولأنه ترديد للوجوب بين الفعل والعزم لا على التعيين واللفظ غير مشعر
به
ثم الوجه أن يقال إن غفل ولم يعزم ثم اتفق الإقدام على الفعل
فلا يعصي أصلا
فالمختار إذن القضاء بأنه لو بادر وقع الموقع ولو أخر توقفنا فيه لما
بيناه
180

مسألة (4)
الأمر بالشئ لا يكون نهيا عن ضده ولا النهي عن الشئ أمر بأحد
أضداده لا على التعيين
خلافا للأستاذ أبي إسحاق والكعبي
لأن قول القائل قم لا يقتضي إلا الأمر بالقيام وترك ما عداه يقع
من ضرورة الجبلة لا لكونه مقصودا بالأمر بدليل جواز تقدير ذهول
الآمر عن جملة أضداده
وبدليل تفصي المأمور عن الأمر لو قدر على استحالة الجمع بين القيام
والقعود والاقدام على القيام مع عدم الاتصاف بضد من أضداده محال
والأمر يتلقى من فحوى الخطاب لا مما يقع من ضرورة الجبلة وليس
ذلك مقصود المخاطب وبغيته
وهذا كالسيد يقول للعبد أوجبت عليك كسر هذه الجوزات ثم نهي عن
كسر جوزة واحدة فإذا كسر جوزا غيره من الجملة لا يقال إنه ارتسم
181

أمرا واجبا إذ اشتغاله به انحجاز ثنا عن كسر الجوزة المنهي عن
كسرها
وتمسك الأستاذ بأن قول القائل قم لا يتصور امتثاله إلا بترك القعود
فترك القعود مضمر فيه والمتصف بالأمر لا محالة متصف بالنهي على هذا
التقدير حتى لا يتصور خلو أحدهما عن الآخر
وزاد فقال إذا تلازما وجب القضاء باتحادهما به فإن قول القائل قم أمر في نفسه نهي
في نفسه كما أن العلم بالسواد والعلم بالعلم به لما تلازما
اتحدا وكما اتحد علم الباري بتلازم معلوماته في حقه
قلنا قولك المتصف بالنهي متصف بالأمر وعلى عكسه
ممنوع
إذ فرض ذهول الآمر بالقيام عن أضداده ممكن فكيف ينهى عما هو ذاهل
عنه
وقولك التلازم مشعر بالاتحاد تحكم لا يغني فيه الاستشهاد والقياس
فلا بد فيه من مسلك عقلي
ثم العلم بالعلم بالسواد غيره عندنا فلا نسلم
182

وعلم الباري سبحانه لا يتحد للتلازم إذ يلزم على مساقه اتحاد علمه
وحياته وسائر صفاته فإنها متلازمة في حقه
ثم الأمر بين أن يحد بقوله افعل وهو متميز عن قوله لا تفعل
أو يحد بطلب جازم وذلك يفرض مع الذهول عما عداه
مسألة (5)
الشريعة تشتمل على المباح
خلافا للكعبي
واستدل بأن كل فعل يعد مباحا متضمن تركا لأمر محظور وترك
المحظور واجب إلا أن إحدى جهاته لا يتعين وذلك لا ينافي وجوبه
كخصال الكفارة
فقيام الرجل إذا تضمن تركا للزنا وقع واجبا
وهذا منه بناء على أن النهي عن الشئ أمر بأحد أضداده وقد
أبطلناه
ثم يلزمه وراء ذلك شيئان
أحدهما
إنكار النوافل والتطوعات فإن فيها ترك الزنا فليقع على جهة
الوجوب وهذا خرق الإجماع
183

والثاني
أن يصف الزنا بالوجوب فإن فيه ترك القتل والسرقة
وإن قال واجب من وجه محرم من وجه كالصلاة في الدار المغصوبة
فليقل القيام مباح من وجه واجب من وجه وقد أنكره
مسألة (6)
الأمر بالشئ أمر بما لا يتم الواجب إلا به
إذ ثبت أن صحة الصلاة موقوفة على الطهارة فالأمر المطلق بالصلاة
الصحيحة أمر بالطهارة
خلافا لبعض العلماء
ودليله أن المأمور لا يكون ممتثلا إلا بفعل الطهارة فإذا وجبت
فلا مستند لوجوبه إلا الأمر بالصلاة فإنه من ضرورة الصلاة الصحيحة
وهو كبعض أجزائها بعد أن ثبت أنه شرطها
وليس هذا يعود إلى الجبلة من ترك القعود وتوقف القيام عليه
فإنا لو قدرنا عدم الاستحالة على فعل القيام مع القعود كان
184

ممتثلا والمقتصر على الصلاة غير ممتثل للأمر بصلاة صحيحة
مسألة (7)
الأمر بالشئ مشعر بوقوع المأمور به عند الامتثال مجزئا عن جهة
الأمر
إذ لا معنى للأجزاء إلا موافقة الأمر والامتثال قد حصل فأجزء هذا
وأنكر بعض الفقهاء هذا وقال المفسد حجه بالجماع مأمور
بأفعال الحج ولا يجزئه عن حجة الإسلام
وهذا فاسد
فإنه مأمور بالمضي في حج فاسد وهو مجز عن هذه الجهة
185

مسألة (8)
الجائز خلاف الواجب وكذا الواجب خلاف الجائز
وقال بعض الناس كل واجب فهو جائز
فنقول إن عنيتم به أنه لا حرج في فعل الواجب فهو مسلم
وإن عنيتم به أن الجواز حكم فمحال
إذ الجواز يشعر بالتخيير
والوجوب يشعر بالتعيين فلا يصطحبان
وفائدته
أن الوجوب إذا نسخ عن الشئ لم يبق للإباحة حكم في الشرع بل يتوقف
فيه
وقالوا بنفي الجواز
وهذه خيرة أثبتوها من غير نص يشعر بها
مسالة (9)
يجوز الأمر بخصلة من ثلاث خصال مع تفويض التعيين إلى خيرة
المكلف
186

خلافا لأبي هاشم
ولنا فيه مسلكان
أحدهما
أن يقول لا شك في جواز وقوعه وتصوره إذ لا يستحيل أن يقول
السيد لعبده ادخل إحدى هذه الدور أيتها شئت ويسقط
عنك الواجب بما تريد منها
وإذا تصور جاز ورود الشرع به
والاستصلاح ثم أيضا لا يرده
وربما يقتضي الصلاح ذلك ليتخير في ذلك ولا يعصي
المسلك الثاني
الكفارة المخيرة واجبة شرعا بالاتفاق ولا تجب الخصال الثلاثة جميعا
ولا أحدها على التعيين فلم يبقى إلا وجوب واحدة على الإبهام
فان قال الكل واجب لكن يسقط الوجوب بواحدة فهذه لفظة
لا حاصل لها إذ لو تركها لا يعاقب على ثلاثة أوامر
187

ولو أقدم على واحدة لا يثاب على الثلاثة
تمسك بأن الأمر بالمجهول محال والجهل لا يرتفع بالخيرة كما لا يرتفع في
بيع عبد من ثلاثة أعبد مع إثبات الخيار
قلنا التكليف وجد مستقرا ومتعلقا وهو خيرته خصلة منها فتقرر
وأما البيع عقد يتلقى من تقييد في تعيين المحل
مسألة
الأمر المطلق بأداء الصلاة لا يتلقى منه وجوب القضاء عند فوات
الوقت
لأن العقل لا يهتدي إلى وجوب القضاء
واللفظ لم يتناول إلا صلاة في وقت وقد فات ولا تدارك له
فانشاؤها رسول في وقت آخر صلاة أخرى كإنشاء العبادة في مكان آخر إذا تعذر
أداؤها بالمكان المأمور بفعلها فيه
فيجب القضاء بأمر مبتدأ في الشريعة أو بقياس مقتضب من أصل مجمع
عليه
خلافا للفقهاء حيث قالوا يجب القضاء لمطلق الأمر الأول بالأداء
188

مسألة (11)
الصلاة تجب بأول الوقت على التوسيع ولا يعصي بالتأخير
وقال أبو حنيفة لا يوصف بالوجوب إلى أن يضيق الوقت والكلام
معه وقد ناقض في القضا والكفارات والزكوات سهل
فأما من أنكر الوجوب الموسع أصلا وقال إذا جاز الإعراض وتخير
الرجل فلا معنى للوجوب ولا يغني عن هذا الإشكال تصويرنا ولا قول السيد
لعبده أوجبت عليك خياطة هذا الثوب وجعلت الشهر متسعك لم فإن هذا
لم يمنع جواز التأخير وهو يقتضي الوجوب
ولا يغني ما قاله القاضي ذبا عن الفقهاء ان التأخير لا يجوز إلا بشرط
العزم على الامتثال فإن الفقهاء لا يوجبون حدثنا ذلك
إذ لو ذهل جاز
ولأن الأمر ليس فيه اشعار بوجوب العزم وترديد بينه وبين الفعل لا
على التعيين وهذا تحكم
والمختار
ان تبين الوجوب لا يتحقق إلا في آخر الوقت لما ذكرناه من جواز
189

التأخير ولكن الشرع سماه واجبا توسعا كالكفارة وغيرها ودلت الامارات
عليها وهذا التجويز لا مانع منه فيتبع امارات الشرع في اطلاقه
مسألة (12)
المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن
وإليه صار أبو هاشم خلافا للقاضي
لأن التمكن شرط يقرر التكليف ويحتمل اخترام المنية قبل التمكن
فكيف يعلم مع احتمال ذلك
وقد ثبت أن التكليف بما لا يطاق محال عندنا
والقاضي يعتقد ثبوت الأمر قبل التكليف
وعلى هذا جوز النسخ قبل التمكن
وتمسك بأن البدار إلى الإقدام واجب
ولا يجوز التأخير لارتقاب ابن الموت قبل الإقدام على الفعل فإذا تمكن
وجب لأنه لو تكاسل لأدى إلى خرم الشرع وأبطل غرض الشارع
190

فأما العلم فلا يثبت مع الإحتمال
مسألة
عند المعتزلة المأمور يخرج عن كونه مأمورا حال الامتثال وحدوث
الفعل المطلوب
لأن الأمر طلب والكائن لا يطلب
كما قالوا يخرج عن كونه مقدورا لأن القدرة لا تتعلق بالموجود
وخالفهم أصحابنا في المسألتين جميعا وبنوا الأمر على القدرة
ونحن نعتقد أن تعلق القدرة بالمقدور حالة الوجود لو قدر مسلم
وهو اعتقادنا فيجب القطع بأنه يخرج عن كونه مأمورا لأن الكائن
لا يطلب
191

وأما القدرة فهي سبب الوجود فإذا لم تقارنه لم يحصل الوجود
لأن العدم المستمر لا حاجة فيه إلى قدرة وكذلك الوجود المستمر وبينهما
حالة لطيفة هي أول حالة الحدوث ولا تحدث إلا بقدرة تقارنها فإنها في
حكم الموجد لها والمخرج لها عن العدم
فأما الأمر فإنه ليس موقعا للفعل حتى تجب مقارنته لها
فإن قيل هو موقع لكونها طاعة
قلنا يمكن إيقاعها بطلب سابق إذ ليس وجود الفعل متعلقا به
ووصفه بالطاعة ممكن بخلاف القدرة السابقة فيتنزل الأمر مع الطاعة
منزلة النظر مع العلم ثم العلم يحصل بتصرم النظر وإن كان لا بد من تقدم
النظر
مسألة (14)
قال شيخنا أبو الحسن الأشعري رحمه الله
المعدوم مأمور على تقدير الوجود إذ ثبت عنده الكلام القديم
وثبت كون الباري آمرا أزلا
192

وأبى المعتزلة له ذلك وقالوا
الأمر طلب فكيف يتوجه على المعدوم والمجنون يستحيل خطابه لأنه
عديم الفهم فالمعدوم أولى بأن لا يخاطب ثم جعلوا هذا ذريعة إلى رد
الكلام
ولا يغني في الجواب ما ألزمهم القاضي من كون المأمور معدوما إذ
ذلك من ضرورته فلا استحالة فيه
ولا قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي فهو كالمعدوم في حقنا وقد بقي آمرا
بعد العدم فإنه لا أمر للرسول عليه السلام وهو سفير فالأمر لله تعالى
الذي لا يموت
ولأن القاضي لا يجوز كون الآمر معدوما قطعا
فلا معنى لهذا الكلام
فالوجه أن يقول
لا يبعد من حيث التصور أن يقوم طلب بذات شخص لزيد
193

من ولده الذي لم يحدث تعلم العلم إذا حدث ويبقى الطلب مستمرا
فإذا وجد اتصل الطلب الذي هو الأمر به
فكذلك الباري تعالى كان الطلب الذي هو الأمر قائما بذاته قديما ولم
يتوجه الطلب على المعدوم ولكنهم إذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الطلب
السابق من غير تغير وتبدل والمعدوم لا يكلف قطعا وهذا معنى
قوله على تقدير الوجود فإن المعدوم إذا قدر وجوده لم يكن معدوما
وحكى عن عبد الله بن سعيد أنه قال كلامه كان قائما بذاته قديما
ولم يكن أمرا إنما صار أمرا عند الوجود
فإن عني به ما ذكرناه وهو الظن فسديد
وإلا فهو قول بحدوث الأمر إذا الأمر إثما كان أمرا لعينه فلا يتغير
بالأوقات
وثبت الكلام القديم بدليل آخر
ووجه تصور الأمر قديما ذكرناه والله أعلم
194

القول في النواهي
وقد اندرج معظم مقاصدها تحت الأمر فإنها تلوها
فمن توقف في صيغة الأمر توقف في صيغة النهي
ومن حملة على الوجوب حمل النهي على الخطر
ومن حملة على الندب حمل هذا على الكراهية
ومن حمل ذلك على رفع الحرج في الفعل حمل هذا على رفع الحرج في
ترك الفعل
ومقصود الباب تحويه خمس مسائل
مسالة (1)
النهي محمول على فساد المنهي عنه على معنى انه يجعل وجوده كعدمه
وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه
ولكنا مع هذا نقضي بصحة الصلاة في الدار المغصوبة
خلافا لأبي هاشم فإنه قضى ببطلانها
195

واستدل بأن المكث منهي عنه والصلاة مكث في الدار بحركة
أو سكون فقد تمكن النهي من نفس الفعل فيستحيل وقوع النهي
طاعة إذ ذلك يؤدي إلى وصف الشئ الواحد بالوجوب والتحريم
فأورد عليه البيع في وقت النداء وتحريم المودع بصلاة وقد
طولب بالرد وأجناس لهذه المسألة فارتبك وقال اقضي بفساد كل عقد
تمكن التحريم منه ان ثبت التحريم
وعورض استبعاده بوقوع فعل الذاهل في أثناء صلاته طاعة مع عدم
التقرب
فقال لا بعد في هذا فإنه لم يكلف القصد إلا في أول الوقت ثم حكمه
منسحب كما ينسحب حكم الايمان في لحظة على جميع العمر وانما البعيد كون
الشئ الواحد مأمورا مطلوبا واجبا منهيا مطلوب الترك
قال القاضي هذه الصلاة لا تقع طاعة كما ذكره أبو هاشم ولكن
يسقط الفرض عندها ولا يسقط بها
وهذا غير بعيد
196

كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه يسقط قضاء الصلوات والزكوات
بالرد وليس ذلك طاعة وامتثالا
فقيل له ثبت جوازه عقلا فما الدليل على وقوعه
قال ذلك موكول إلى رأي الفقهاء فلينظروا فيه نظرهم وليتمسكوا
بغلبة الظن
ثم قال يمكن اثبات وقوعه بالتمسك بمسالك الصحابة فإنهم كانوا
يأمرون الظلمة بتدارك المظالم ورد المغصوب مع علمهم بأن عمر الظالم لا يخلو
من أداء صلاة في دار استولى عليها ولم يأمروا بإعادة الصلاة فتبين سقوط
الفرض به
والمختار
ان الصلاة واقعة طاعة لان أفعاله تضمن مكثا في الدار وأداء الفعل
للصلاة
فله جهتان
المقصود بالنهي جهة الكون والواقع طاعة أداء الصلاة
ولا نظر إلى اتحاد صورة الفعل إذ الأمر والنهي يتلقى من قصد
المخاطب
197

وعن هذا قلنا الأمر بالشئ لا يكون نهيا عن ضده وان وقع من
ضرورته
ولو قال السيد لغلامه لا تدخل هذه الدار وخط هذا الثوب فدخل
الدار وخاط الثوب عد في العرف ممتثلا في الخياطة مخالفا في
الكون في الدار وإن كان الكون من ضرورة الخياطة ونحن نحمل النهي على
الفساد إذا تمكن من الشئ مقصودا وكذا المودع إذا طولب بالرد فتحرم
بالصلاة صحت صلاته لأنه ليس مقصودا بالنهي وان تضمن منع المالك من
الأخذ وهو المنهي
مسالة (2)
إذا دخل عرصة مغصوبة وتوسطها وجب عليه الخروج وانتحاء
أقرب الطرق
وقال الجبائي يحرم الخروج لأنه تخطى في دار الغير
قلنا والمكث أيضا كون في دار الغير والنهي عنهما جميعا تكليف
مستحيل فليجب الخروج إذ به الخلاص
198

فإن قال الساقط على انسان محفوف بأناس صرعى إذا علم أنه لو مكث
قتل من تحته ولو انتقل قتل غيره فينهي عن المكث والانتقال جميعا
قلنا قال القاضي حظ الأصولي انه لا يجمع بين الأمر والنهي عنهما في
المسألتين
أما ما يؤمر به من الجانبين فذاك إلى رأي الفقهاء
والمختار في صورة القتل ان يقال لا حكم لله تعالى فيه فلا
يؤمر بمكث ولا انتقال ولكن ان تعدى في الابتداء انسحب حكم العدوان
وان لم يقصد فلا يعصي ولا تكليف عليه
ونفي الحكم حكم لله تعالى في هذه الصورة
واما الخروج فمكن فإنه لا يؤدي إلى اتلاف وهو أقرب من المكث
مسالة 3
السجود بين يدي الصنم على قصد الخشوع يحرم
وقال أبو هاشم المحرم هو القصد إذ عين هذا الفعل يقع طاعة بقصد التقرب
199

وهذا فاسد
فإنه إذا قصد اكتسب الفعل حكم القصد فصار محرما كما يكتسب حكم
النية فيصير طاعة
وهذا يجره إلى نفي التحريم عن فعل الزاني واخراج الأفعال عن وقوعها
قربة وهو محال
مسالة 4
أجمع القائلون بأن صيغة النهي للتحريم على أنه ان تقدمت صيغة
عليه لا تغيره
فأما صيغة الأمر بالشئ بعد تقدم النهي عليه اختلفوا فيها
قال القاضي في التفريغ على مذهبهم هو للوجوب لأن الصيغة لم
تتبدل وما سبق ليست قرينة مقترنة بها
وصار آخرون إلى أنه للإباحة
بدليل قوله وإذا حللتم فاصطادوا
وله الاعتضاد بالعرف أيضا
والمختار
200

ان نتوقف فيه إذ يحتمل أن يكون تقدم النهي عنه قرينة تؤثر في هذه
الصيغة
ويحتمل خلافه ولا تثبت فيه
فيجب التوقف في فحواه إلى البيان
مسألة 5
إذا قال لا تلبس ثوبا من هذه الثياب الثلاثة وأنت بالخيار
صح النهي
خلافا لأبي هاشم
ومسلك الكلام ما ذكرناه في خصال الكفارة معه في الأوامر
فلا نعيده هنا
فصل
فيما تستعمل فيه صيغة الأمر
تستعمل للوجوب كقوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
201

وللندب كقوله تعالى فكاتبوهم
وللارشاد قوله كقوله تعالى واستشهدوا
وللاباحة له كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا
وللتأديب كقوله عليه السلام لابن عباس رضي الله عنه كل
مما يليك
وللامتنان ذلك كقوله تعالى كلوا مما رزقكم الله
وللإكرام محمد كقوله تعالى ادخلوها بسلام
وللتهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم
وللتعجيز إلى كقوله تعالى كونوا حجارة أو حديدا
202

وللتسخير كان كقوله تعالى كونوا قردة خاسئين
وللإهانة أبو كقوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم
وللتسوية كقوله عز وجل اصبروا أو لا تصبروا
وللإنذار كقوله تعالى كلوا وتمتعوا قليلا
وللدعاء كقوله عز وجل اهدنا الصراط
وللتمني كقول الشاعر
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل * بصبح وما الإصباح منك بأمثل
203

وقوله تعالى كن فيكون إخبار عن نهاية الاقتدار
فظاهر الأمر الوجوب وما عداه فالصيغة مستعارة فيه ومجموعه
ثلاثة عشر
ويرد النهي لسبعة معان
للتحريم كقوله تعالى ولا تقربوا الزنا
وللكراهة كقوله لعائشة رضي الله عنه لا تتوضئي بالماء
المشمس
وللتحقير كقوله تعالى ولا تمدن عينيك
ولبيان العاقبة كقوله تعالى ولا تحسبن الله غافلا
204

وبمعنى الدعاء كقوله تعالى ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به
وللأياس أو كقوله تعالى لا تعتذروا اليوم
وللإرشاد كقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
والله أعلم
205

باب
بيان الواجب والمندوب والمكروه والمحظور
قيل في حد الواجب ما يستحق العقاب على تركه
وهذا فاسد
لأن الرب تعالى يتعالى عن أن يستحق عليه ثواب أو عقاب وله أن
يفعل ما يشاء لمن يشاء
وقيل ما ورد الوعيد على تركه
ووجه فساده أنه لو ورد الوعيد قطعا لكان لا يتوقع المغفرة والعفو فإن
كلام الباري سبحانه حق وصدق
ولا يمكن تحديده بخوف العقوبة
إذ الوجوب إنما يتميز عن الجواز باستحثاث عقل العاقل على فعله
لاجتناب أمر محظور مقطوع به واقتحام منفعة ناجزة لا يقطع بالعقاب
عليه ليس بعيدا عن العقل
206

فوجب تحديده بما ورد اللوم على تركه أو بما يعصي تاركه فإن
العصيان اسم ذم يقضي العقل باجتنابه
وأما المحظور فكل يحده بنقيض ما حد به الواجب
وأما المندوب فكل مأمور لا لوم على تركه
وأما المكروه فقيل هو ترك المندوب
وهو باطل بترك استغراق الأوقات في العبادات فإنه ليس بمكروه وإن
كانت العبادات مندوبا إليها
وقيل ما يخاف تحريمه أو يخاف عليه العقاب أو تضمن اقتحام
الشبهة
والكل فاسد فإنه مرتبط بتردد والكراهية حاصلة مع القطع بنفيها
فالوجه أن يقال
المكروه كل منهي لا لوم على فعله
وأما الإباحة فتخيير بين فعلين لا يتميز أحدهما عن الآخر بندب
ولا كراهية
وأما التروك فعبارة عن أضداد الواجبات كالقعود عند الأمر بالقيام
ثم يعصي بترك القيام لا بالقعود
207

ووافقنا عليه أبو هاشم فسمي أبو هاشم الذمي من حيث أنه
علق الذم بالمعدوم
208

كتاب العموم والخصوص
العام نوع من أنواع الكلام القائم بالنفس كما ذكرناه في الأمر
وحده ما يتعلق بمعلومين فصاعدا من جهة واحدة احتزازا) عن قوله
ضرب زيد عمرا
ومقصود الكتاب تحويه ثلاث عشرة مسألة
مسألة (1)
المتوقفون عبد في صيغة الأمر توقفوا في صيغة العموم
وإليه صار شيخنا أبو الحسن
ولزمه ذلك من أسئلة الوعيدية الصائرين إلى أن المؤمن يعذب
بالمعصية وقول الجهمية المرجئة الذين يقولون إن المؤمن لا يعذب
209

بالمعصية والخوارج الذين صاروا إلى أن من ارتكب معصية خلد في
النار مع زعمهم أن لا صغيرة إذ مخالفة الأمر كيف كان فهي كبيرة
ومنهم من أثبت الصغيرة وقضي باحباطها عليه إلا إذا وقع الإصرار عليها
ثم اختلفت الواقفية
فمنهم من قال العام مشترك للواحد والجمع كلفظ العين
ومنهم من توقف في ذلك أيضا
ووجه إبطال مذهبهم ما ذكرناه في صيغة الأمر على أنا نعلم تفرقه
العرب بين الرجل والرجلين والرجال وتمييز الواحد عن الجمع والجمع عن
الثنية
وقال الشافعي رضي الله عنه العام نص في كل ما يصلح أن يكون
متناولا له
وعزي إلى شيخنا أبي الحسن أنه قال وإن اقترنت به القرائن المؤكدة فهو
متوقف فيه
وهذا النقل غير صحيح
210

وقيل لم يتوقف في أداة الشرط إذا اتصل بالكلام في قولهم من دخل
الدار فأعطه درهما
والمختار أنه نص في أقل الجمع كما ذكرناه ظاهر فيما وراءه ووجهه
ظاهر
وغرضنا من صيغ الجمع يتبين بتقسيم فنقول
العموم يتلقى من أدوات الشرط ومن صيغ الجموع
أما أدوات الشرط كقولهم من دخل الدار فأعطه درهما
ومن أحيا أرضا ميتة فهي له
وكلمة من اسم تقتضي الإبهام فتقتضي الاستغراق
وقد يتلقى من ظرف الزمان كقوله متى أكرمتني أكرمتك
ومن ظرف المكان كقوله حيث كنت حضرتك
قال القاضي وكذا إذا قال إن أكرمتني لأن إن تقتضي إبهاما
وعندنا إنه لا يقتضي الاستغراق لأن الإبهام آيل إلى المصدر
211

ومعناه إن كان منك إكرام يكن مني إكرام فهذا نص في الإكرام
الأول
أما الثانية والثالثة فنتوقف فيه
وأما صيغة الجمع فتنقسم إلى
جمع السلامة وهو ما يسلم فيه بناء الواحد
وإلى جمع التكسير وهو الذي لا يسلم فيه بناء الواحد
ثم جمع السلامة ينقسم إلى
جمع الذكور كقولك مسلم ومسلمون والأصل فيه زيادة الواو
والنون وزيادة الياء والنون
وإلى جمع الإناث وهو منقسم إلى ما لا يظهر فيه علامة التأنيث
كقولك هند ودعد فيجمع بزيادة الألف والتاء
وإلى ما يظهر فيه علامة التأنيث بالتاء كقولك مسلمة فيجمع
بزيادة الألف والتاء مع حذف تاء التأنيث فتقول رأيت المسلمات
لان التاء لم تكن من وضع الاسم
212

ومنها ما تظهر فيه العلامة بالألف الممدودة كقولك صفراء
وحمراء فالوجه إبدال الألف الثاني وهي الهمزة بالواو وزيادة الألف
والتاء
وما يكون الألف مقصودا كالحبلى والسكرى تبدل الألف
الأخيرة بالياء وتزاد الألف والتاء
واما جمع التكسير وهو الذي ينكسر فيه بناء الواحد بزيادة حرف
كقولك رجل ورجال أو نقصان كقولك كتاب وكتب
أو تبديل حركة كقولك أسد وأسد
قال وجمع السلامة في اللسان للتقليل وهو العشرة فما دونه
وما كان من جمع التكسير على وزن الأفعال كالأثواب أو الافعلة أبي
كالأرغفة أو الأفعل كالأكلب أو الفعلة كالصبية فهي للتقليل
وما عداه للتكثير
واما المؤمنون والكافرون حيث ورد في القران فهو للتكثير قطعا
ويحتمل أن يكون ذلك من احتكام الشرع كما احتكم على لفظ الصوم
والصلاة
213

ويحتمل أن يكون كما قاله سيبويه ان كل اسم لا تسمح العرب فيه
بصيغة التكثير فصيغة التقليل محمول على التكثير ابتغاء لكثرة الفوائد
كقولهم في جمع الرجل أرجل فهو للتكثير
وعلى الجملة نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يترددوا في ذلك بل فهموا
التكثير
وليعلم ان الحرف والفعل لا يجمعان وانما يجمع الاسم
وقولك قاما وقاموا ليس جميعا للفعل انما هو تعديد للفاعل فإذا
أردت جمع الفعل ترده إلى الاسم فتقول قام قومتين
مسالة 2
لفظ المسلمين صالح لاندراج المسلمات تحته تغليبا للتذكير على التأنيث
ولكنه في الأصل غير موضوع له خلافا لبعض الناس كقوله تعالى
وكانت من القانتين لأنه جمع المسلمين مختص بالرجال
ولفظ الناس في وضعه يشتمل على النساء مع الرجال إذ يقال لها انسان
214

وقد خولف فيه أيضا
والعبيد يندرجون تحت لفظ المؤمنين في لسان الشارع ولا بد من دليل
في استثنائه (لأنه يقال لآحادهم عبد مؤمن
وقيل إنه لا يندرج لوقوعه مستثنى عن بعض الألفاظ
وهو فاسد
لأن ذلك لقيام الدليل على استثنائهم
مسالة 3
قال قائلون لا يندرج المخاطب تحت مطلق الخطاب بدليل قوله
الله خالق كل شئ وقول القائل من دخل الدار فأعطه
والمختار انه يندرج لان اللفظ عام والقرينة هي التي أخرجت
المخاطب عن قضية الخطاب فيما ذكروه ويعارضه قوله وهو بكل شئ
عليم فإنه عالم بذاته
215

مسالة 4
اسم الفرد إذا اتصل به الألف واللام اقتضى الاستغراق كقولهم
الدينار أفضل من الدرهم
والمختار ان ما يتميز لفظ الواحد فيه عن اسم الجنس بالهاء كالتمرة
والتمر فإذا عري عن الهاء اقتضى الاستغراق للجنس
وانكره الفراء
216

واستدل بجواز جمعه على تمور
ولكن هذا جمع على اللفظ لا على المعنى
واما ما لا تدخل الهاء فيه للتوحيد ينقسم إلى
ما لا يتشخص ولا يتعدد كالذهب فهو لاستغراق الجنس إذ
لا يعبر عن ابعاضه بالذهب الواحد
وما يتعدد كالدينار والرجل فلا يتناول إلا الواحد والألف واللام
فيه للتعريف ان اتصل بالرجل أو الدينار اقتضى تعريف الجنس
ولا اثر له في تخصيص واستغراق
وانما يفهم الجنس من قولهم الدينار أفضل من الدرهم
بقرينة التسعير
217

مسالة 5
نكرة الوحدان في النفي تشعر بالاستغراق كقوله ما رأيت
رجلا وفي الاثبات تشعر بالتخصيص كقوله رأيت رجلا
لأن النفي عام لا خصوص له بأقوام مضبوطين والنكرة فيه
ابهام فلا تقطع عموم النفي
والاثبات خاص إذ الرؤية يستحيل عمومها في كل مرئي والنكرة
تقتضي تخصصا وابهاما ما فإذا اتصل بالاثبات اقتضى تخصيصه بمبهم غير
معين
وان اتصل بالاثبات كلمة الشرط كقوله من أحيا أرضا ميته فهي
218

له كان للاستغراق لأن كلمة من فيه ابهام فلا تقتضي الخصوص
فأما نكرة الجمع في النفي كقوله ما رأيت رجالا قال القاضي هو
للاستغراق كنكرة الوحدان بل هو أولى
وقال أبو هاشم لا يقتضيه بدليل قوله ما لنا لا نرى رجالا
ووجهته ظاهرة إذ يحسن ان يقال ما رأيت رجالا لكني رأيت
رجلا ولا تقول ما رأيت رجلا ثم تقول رأيت لأن فيهم
رجلا
مسالة 6
قال الشافعي رضي الله عنه الاسم المشترك إذا ورد مطلقا كالعين
والقرء عمم في جميع مسمياته إذا لم يمنع منه قرينه وكذا اللفظ الذي
يستعمل مجازا في محل وحقيقة في محل يعمم كلفظ اللمس يحمل في
نقض الطهارة على اللمس باليد والجماع
219

قال القاضي والجمع بين الحقيقة والمجاز تناقض
إذ المجاز ما تجوز به عن محله فكيف يجمع بينه وبين الحقيقة
وهذا إعتراض على اللفظ فإنه لا يجمع بينهما في محل واحد ولكنه
يقول يعمم مفهومه في محلين
والمختار خلاف ما قاله الشافعي رضي الله عنه لان لفظ العين ما وضعته
العرب لعموم جملة مسمياته فإنه لا يطلق لفظ العين لإرادة جملتها
كما يطلق لفظ الرجال لإرادة الجمع بل وضعت لآحادها على البدل
فهو عند الإطلاق عندنا مجمل
ولا يجمع أيضا بين الحقيقة والمجاز ولكنه يحمل على الحقيقة على
انفرادها أو على المجاز على حياله لعلمنا بأن العرب لا تطلق لفظ الأسد
وتعني به الجمع بين الأسد والشجاع
نعم يشتمل الجماع على لمس فيكون التعميم لذلك
مسألة (7)
أقل الجمع ثلاثة عند الشافعي رضي الله عنه
220

وقال مالك اثنان
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لعثمان رضي الله عنه ليس في
الأخوين إخوة لما أن رد الأم من الثلث إلى السدس بهما فقال حجبها
قومك يا غلام
وابن مسعود أحب للمقتدين أن يقف أحدهما على اليمين والآخر على
الشمال فإذا كانوا ثلاثة اصطفوا
وهذا مشعر من مذهبهما بأنهما وافقا الشافعي رضي الله عنه
ولا شك أن حكاية الضمير متصلا كقولنا فعلنا ومنفصلا
كقولك نحن فعلنا يعبر عن اثنين
والعضوان أيضا يجوز إضافتهما بلفظ الجمع إلى الجملة كقوله فقد
221

صغت قلوبكما وذلك لاستثقالهم الجمع بين تثنيتين مع انطباق صيغة
القلوب على لفظ الوحدان في بعض المواضع
ومحل الخلاف في لفظ الرجال
والمختار عندنا أن أقل ما يتناوله ثلاثة بدليل تفرقتهم بين
التثنية والجمع وتسميتهم الرجلين تثنية لا جمعا مع حصول ضم أحدهما إلى
الآخر
وفائدة هذا المذهب عندنا أنا نحوج لا بروم رد الجمع إلى اثنين إلى دليل
أوضح مما يحتاج إليه عند رده إلى ثلاثة ونسميه أيضا نصا في الثلاثة ظاهرا
فيما عداه
وليس من فائدته المنع من الرد إلى اثنين إذ الرجال قد يطلق ويراد به
واحد عند القرينة كقول الرجل لزوجته أتخرجين وتكلمين
الرجال ويعني به رجلا واحدا
وقد أجمع الفقهاء على أن المقر بدراهم لا تفسر بأقل من ثلاثة فهذا مفروع
عنه
222

مسألة (8)
إذا قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر فلان بالجماع فقال فليعتق
رقبة فيختص ذلك بالجماع
خلافا لمالك رضي الله عنه
لأن ما عداه ليس في معناه واللفظ غير مستقل فارتبط بالمذكور وإنما لم
يختص بالسائل لاستواء جميع العالمين في التكليف شرعا
مسألة (9)
إذا قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر فلان فقال ليعتق
قال الشافعي رضي الله عنه يتعلق العتق بكل إفطار لأن حكايات
الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال وأضرب الشرع عن الاستفصال فمطلق
كلامه لعموم المقال
والأمر على ما قال إن تبينا عدم إحاطة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب الإفطار
وإن توقعنا علمه فلا نتمسك بعمومه ولا يكفي في قطع التوهم عدم
النقل من الراوي
223

مسألة (10)
اللفظ الذي لا يستقل إذا ورد في سبب خاص فهو مختص به كما
لو قيل أحلال فقال نعم
واللفظ المستقل بعمومه الوارد على سبب لا نظر إلى سببه عندنا
كقوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقط طهر
وقيل إنه يختص لاحتمال أنه أراد بيان هذه الواقعة
وهو باطل
لأنه يعارضه احتمال إرادة تمهيد الشرع فبقي عموم اللفظ بعد تعارض
الاحتمالات
وليس من محل الخلاف قوله انما الأعمال بالنيات لأنه انعطف
على الواقعة وخصصها بحكمها فقال فمن هاجر الحديث
مسالة 11
عزي إلى أبي حنيفة رضي الله عنه تجويز اخراج السبب عن عموم اللفظ
224

استنباطا من مصيره إلى أن الحامل لا يلاعن عنها مع أن الآية وردت في
امرأة العجلاني وكانت حاملا ومن مصيره إلى أن ولد المشرقية
يلحق بفراش المغربي مع عدم الاحتمال تليقا من قوله عليه السلام
الولد للفراش وقد ورد في عبد بن زمعة إذ تداعى ولد وليدة
أبيه وكانت رقيقة ولدت على فراش أبيه
وعنده ان الأمة إذا أتت بولد لا يلحق بالسيد وان أقر
بوطئها
225

وهذا أسوأ رأي له في المسألتين جميعا فلا ينبغي ان يتخيل من عاقل
مصيره إلى تجويز اخراج السبب عن قضية اللفظ
مسالة 12
العام إذا دخله التخصيص كان مجملا في الباقي إن كان المخصص عنه مجهولا
وإن كان معلوما فهو حقيقة في الباقي يجب العمل به إلا أنه مجاز في
الانحصار عليه لان اللفظ تناول الكل فإن اخرج البعض بقي الباقي على
أصله
وقال القاضي هو مجاز يجب العمل به
فإن عني به ما ذكرناه فذاك
إلا فما ذكرناه رد عليه
226

وقال الشافعي رضي الله عنه حقيقة في الباقي يجب العمل به
وقال أبو هاشم: نتمسك به في واحد، ولا نتمسك به جميعا.
وقال جمهور المعتزلة هو مجمل لا نتمسك به وقال أبو هاشم نتمسك به في واحد ولا نتمسك به جميعا
وهذا محال لا المخرج عنه معلوم فكيف يصير الباقي مجملا نعم لو كان
مجهولا فلا نتمسك به كما لو تمسك متمسك في مسألة الوتر بقوله وافعلوا
الخير لا يجوز لان المستثنى عن عموم هذا الأمر غير معلوم
227

القول في الاستثناء
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول
في حروفه
يرفع عموم اللفظ بقرائن حالية لا ضبط لها نفهمها من معانيها
كقولك رأيت الناس نعلم أنك ما أردت جميعهم
وبقرائن لفظيه وهي منقسمة إلى
الاستثناء والتخصيص
اما الاستثناء فحروفه
إلا وعدا وسوى وغير وحاشا
وأم الباب إلا
ثم هو منقسم إلى ما يرد على الاثبات والى ما يرد على النفي
228

والوارد على الاثبات كقولك اقبل القوم إلا زيدا
والأصل فيه النصب وكأنك تقول استثني زيدا منصوب على تقدير
الاضمار كما تقول يا عبد الله أي أنادي عبد الله
ويجوز رفعه على تقدير كون إلا بدلا عن غير ونقل اعراب غير إلى
ما بعده فإنك تقول اقبل القوم غير زيد فتنقله إلى ما بعد إلا
بدليل قول الشاعر
وكل أخ يفارقه اخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان
والأصح النصب
لان غير يرفع بتقدير الصفة معناه اقبل القوم المغايرون لزيد
229

وتقدير الصفة في الاستثناء بعيد
وانما قال الله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لأن
الكلام ليس مستقلا فصار الباقي جزءا منه وتتمة له فتقدر تقدير
الصفة
وأما الوارد على النفي إن كان مستقلا كقولك ما جاءني القوم
إلا زيدا فهو كالإثبات
والأصل فيه النصب والرفع على تقدير البدل
فالذي لا يستقل فهو مرفوع أبدا كقولك ما جاءني إلا زيد والا
ساقط الأثر في الاعراب فهو كقولك ما جاءني زيد
ولو عقبت الاستثناء بغيره نصبته كقولك ما جاءني إلا زيدا
أحد بدليل قول الكميت
فما لي آل احمد شيعة * وما لي إلا مشعب الحق مشعب
وكقول كعب بن مالك
230

القوم ألب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف واطراف القنا وزر
وقال بنو تميم لا يجوز ان يقال ما جاءني أحد إلا حمارا لان اسم
أحد لا يطلق عليه فلا يقال فيه رأيت أحدا وجوزه أهل الحجاز
وأجابوا بقولهم ركبت أحد حماري والله أعلم
231

الفصل الثاني
في شرائطه
واما شرائطه فثلاثة
أحدها
أن يكون متصلا بأول كلام لأنه جزء منه والرجوع فيه إلى العرب
وعاداتهم ولو جوزوا انفصاله لبطلت ايمانهم ومواثيقهم وما وجب الوفاء
بها
وعزي إلى ابن عباس رضي الله عنهما انه جوز تأخير الاستثناء فإن
صح فوجه بطلانه ما ذكرناه
والوجه تكذيب الناقل فلا يظن به ذلك
أو يقال أراد به إذا اضمره في وقت الاثبات وأبداه بعد ذلك فقد يقول إنه
يدين
ومذهبه ان ما يدين الرجل فيه يقبل منه إبداؤه ابدا
232

وقيل إنه أراد به في استثناءات أن القرآن وقد قال بعض الفقهاء
والتأخير فيه غير قادح لان كلامه تعالى هو القائم بنفسه وهو واحد
لا ينقطع ولا انفصال فيه
وهذا فاسد
لان القرآن نزل على لسان العرب ونحن نتكلم في الألفاظ فلا نفهم منها
إلا ما يفهم من كلام الرسول
وما ذكروه ابطال لكل طريقة لطيفة ذكرها المفسرون
الشرط الثاني
أن لا يكون مستغرقا لئلا يتناقض ووجه ظاهر
وليس من شرطه استبقاء المعظم
خلافا للقاضي
واستدل بأن المستغرق انما رد لحيده عن عادة العرب لا لتضمنه نفيا بعد
الإلتزام بدليل قبول قوله عشرة إن شاء الله تعالى واسثناء على التسعة
عن العشرة حائد عن العادة
قلنا إنما رد المستغرق لتناقضه وهذا غير متناقض
233

نعم هو ركيك حائد لكن لا ننظر إليه في الأقارير بدليل قبول قوله
إلا تسع سدس وخمس سبع وسبع سدس فهذا ركيك ثم هو
مقبول
نعم لا يصدر مثله من الشارع لركاكته لا لتناقضه
الشرط الثالث
أن يكون الاستثناء من الجنس لأنه مشتق من الثني
وكأنه يثني الكلام المرسل ويصرفه عن أن يفهم منه العموم
فلا معنى لقول القائل رأيت الناس إلا حمارا
لان الكلام لا يتناوله
والشافعي رضي الله عنه جوز الاستثناء من غير الجنس بتقدير الرجوع
إلى الجنس كما يقول المرء لفلان علي ألف درهم إلا ثوب ان فسره بقيمة
ثوب رده إليه قبل وان فسره بعين الثوب لم يقبل فهو بتقدير الرجوع
إلى جنس الدراهم
وأبو حنيفة رضي الله عنه منع ذلك إلا في استثناء المكيل عن
الموزون عن المكيل
234

الفصل الثالث
قال الشافعي رضي الله عنه الجمل المستقلة إذا عطف البعض منها على
البعض بالواو الناسقة وعقب باستثناء رجع إلى الجمل كلها
وبنى عليه قبول شهادة المحدود في القذف
وقال أيضا لو أقر لبني عمرو وبني بكر إلا الفساق يستثني الفساق
من القبيلتين وكذا في الوصية
واستدل بأن الجمل صارت كجملة واحدة بالواو العاطفة
وهذا ضعيف
لأن الواو للنسق لا للجمع وكيف تجتمع جمل متناقضة كقولك
أكرمت بني عمرو وأهنت بني خالد وضربت بني زيد
وليس هذا كقوله رأيت زيدا وعمرا
لأن قوله وعمرا لا يستقل بنفسه
فالقطع بانعطاف الاستثناء على الكل تحكم
235

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه ينحصر على الأخير وناقض في
المشيئة حتى لو قال لبني فلان وبني فلان إن شاء الله رجع إلى الكل
وناقض في الوصية كقوله أوصيت لبني زيد وبني بكر
المساكين منهم قال يرجع إليهما
والتحكم أيضا بالانحصار باطل
إذ لا يبعد أن يقول الرجل أوصيت لبني فلان وبني فلان إلا الفساق
ويعني به استثناءهم عن الكل
ولكن اللفظ متردد ولا قرينة
فالوجه التردد وإبطال التحكم بكلا الجانبين
نعم يساعد الشافعي رضي الله عنه في مسألة الإقرار والوصية لتعارض
الاحتمالات ووجوب الاقتصار على المستيقن
ويوافقه في مسألة المحدود في القذف ولأن الجملة فيه قوله
236

وأولئك هم الفاسقون وهو وصف وذكر علة فلا يرجع الاستثناء
إليه أصلا على وجه الانحصار
237

الفصل الرابع
في
تمييز الخاص عن الاستثناء
فليعلم أن العام قد يكون عاما لذاته كالمذكور والمعلوم فلا تخصيص
فيه
وقد يكون عاما بالنسبة كالموجود والجوهر وما ضاهاه
فالخاص لذاته كالواحد الذي لا يتجزأ
والخاص بالإضافة مثلا كالثلاثة خاص بالإضافة إلى ما فوقه عام
بالإضافة إلى ما دونه
وحد الخاص في غرضنا القول الذي يندرج تحته معنى لا يتوهم اندراج
غيره معه تحت مطلق ذلك اللفظ
والفرق بين الاستثناء وبين التخصيص أن الاستثناء جزء من
الكلام ولهذا يعتبر اتصاله بخلاف التخصيص
238

والآخر أن التخصيص بيان لمعنى اللفظ المطلق حتى يبين أنه المراد به
والاستثناء ليس بيانا فإنه إذا قال لفلان علي عشرة إلا خمسة لا يبين أن
العشرة أريد بها الخمسة ولكن العشرة للعشرة ولزوم الخمسة يتبين بتتمة
الكلام ولفظ الناس إذا خصص بالعشرة تبين أنه المراد به عند الإطلاق
ولكنا! تبيناه عند التخصيص وعن هذا كان الاستثناء رافعا
وناسخا ولم يكن التخصيص كذلك
والاستثناء يجوز اتصاله بالنص
والتخصيص لا يتطرق إلى النص
نعم يتطرق الاستثناء إلى الظاهر أيضا إذ يقول رأيت الناس
إلا ثلاثا
239

كتاب التأويل
يتقدم على مقصوده أن مأخذ الشريعة ينقسم إلى الألفاظ وإلى
ما عداها
وغرضنا ذكر الألفاظ وضبطها إذ عليها نتكلم بمسالك التأويل
ثم هي تنقسم إلى ألفاظ القرآن وإلى ألفاظ الرسول
فأما ألفاظ القرآن فتنقسم إلى ما يقطع بفحواه وهو النص
وإلى ما يظهر معناه مع احتمال وهو الظاهر
وإلى ما يتردد بين جهتين من غير ترجح وهو المجمل
وألفاظ الرسول تنقسم إلى
متواتر وهو نازل منزلة القرآن في التمسك به وفي انقسامه فإنه
مقطوع به
وإلى المنقول آحادا وهو الذي لا يقطع بأصله وهو أيضا ينقسم إلى
نص وظاهر ومجمل كآيات القرآن
ولفظ الصحابي إذا رأيناه دليلا فهو كالاخبار
241

والآن إذا انضبط مأخذ الألفاظ فلا بد من بيان أقسامه ومجموعها
النص والظاهر والمجمل
أما النص
فقيل في حده انه اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال
وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه
ولا يرد عليه الفحوى المفهوم على القطع
وإن كان لا يسمى نصا فهو مفهوم النص وفائدته فلا يسمى نصا
ثم قال الأصوليون لا يوجد على مذاق هذا الحد في نصوص الكتاب
والسنة إلا ألفاظ معدودة كقوله تعالى قل هو الله أحد
وقوله تعالى محمد رسول الله وقوله عليه السلام في قصة
العسيف أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
وقوله عليه السلام لابن نيار الأنصاري تجزي عنك ولا تجزي عن أحد
سواك فإنها ألفاظ صريحة بعيدة عن الاحتمال
242

واما الشافعي رضي الله عنه فإنه سمى الظاهر نصا ثم قال النص
ينقسم إلى ما يقبل التأويل والى مالا يقبله
والمختار عندنا أن يكون النص ما لا يتطرق إليه التأويل على
ما سيأتي شرط التأويل
وتسمية الظاهر نصا منطلق على اللغة لا مانع في الشرع منه إذ معنى
النص قريب من الظهور
تقول العرب نصت الظبية إذا شالت رأسها وظهرت وسمي الكرسي
منصة إذ تظهر عليها العروس
وفي الحديث كان إذا وجد فجوة نص
ولو شرط في النص انحسام الاحتمالات البعيدة كما قال بعض أصحابنا
فلا يتصور لفظ صريح
وما عدوه من الآيات والاخبار تتطرق إليها احتمالات
فقوله قل هو الله أحد يعني اله الناس دون الجن
243

وقوله محمد رسول الله أي محمد والى أي إقليم والى أي
زمان
وقوله تجزي عنك أي تثاب عليه
وقوله إن اعترفت فارجمها أي إذا لم تتب
فهذه احتمالات بعيدة تطرقت إليها
فالوجه تحديده بما ذكرناه
وأما الظاهر
قال الأستاذ أبو إسحاق هو المجاز والنص هو الحقيقة ورب
مجاز هو نص كقوله الخمر محرمة والتحريم لا يتعلق بالخمر حقيقة
وقوله تعالى والحافظات بعد قوله والحافظين
فروجهم مجاز في حفظ الفرج على الخصوص وهو نص في مقصوده
وكذلك تخصيص الدابة ببعض الحيوانات مجاز وهو مفهوم قطعا
244

فالوجه ان يقال الظاهر ما يغلب على الظن فهم معنى منه غير
قطع
مسألة
لا يتمسك بالظواهر في العقليات لان المطلوب فيها القطع وينخرم
ذلك بأدنى احتمال
ويكفي المعترض ابداء احتمال ولا يحتاج إلى تعضيده بدليل
واما النص فجوز أبو هاشم التمسك به في العقليات وقال الوحدانية
ثابتة بقوله قل هو الله أحد
قال القاضي يجوز التمسك به في كل معقول ينحط اثباته عن اثبات
الكلام للباري فإنه مستند السمعيات كما في مسألة الرؤية وخلق
الأفعال ولكن ليعتقد ان الدليل لا ينحصر فيه
أما المجمل
مشتق من قولهم أجملت الحساب إذا جمعت مفرقة ولهذا يمكن تسمية
العام مجملا لاشتماله على الآحاد
والمجمل في غرضنا ما لا يفهم معناه
245

وكذا المبهم
واشتقاق المبهم من قولهم أبهمت الطريق إذا تتبع آثار السالكين بالمحو
ومنه الفارس المبهم وهو الكمي المقنع الذي لا تدري عينه
ثم قد يقع الاجمال في المحل والمقدار والمصرف كقولك لفلان
في بعض مالي حق
وقد يرتفع البعض ويبقى البعض كقوله وآتوا حقه يوم
حصاده بين الوقت والمحل وبقي المقدار مجملا
ومثال الاجمال ثلاثة
صفة مجهولة كقوله محصنين غير مسافحين فإن الاحصان
متردد بين صفات
وزيادة مجهولة كما إذا فرض ورود الشرع بتوقف صحة الصلاة على
زيادة فيما عهد ولم تتبين الزيادة
246

ونقصان مجهول كقوله لفلان علي عشرة إلا شيئا ولهذا
لا يتمسك بعموم قوله افعلوا الخير لان المستثنى عنه مجهول
في نفسه
247

فصل
في بيان المحكم والمتشابه
قد اختلف الناس فيه على ست مذاهب
قال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد المحكم هو الوعيد الوارد
على الجرائم والكبائر
والمتشابه ما ورد منه على الصغائر
قال الأصم المحكم نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والكتب
المتقدمة
والمتشابهة نعته في القرآن
248

وقال بعض السلف الحروف المقطعة في ابتداء السور متشابهة
وما عداها فمحكمة الله
وقال آخرون المتشابه ما ورد عليه النسخ والباقي محكم
وقال آخرون المتشابه ما عسر اجراؤه على ظاهره كآية الاستواء
واليه ميل ابن عباس رضي الله عنهما
واما الزجاج فقال الكل محكم إلا آيات القيامة فإنها متشابهة إلا
لم يكشف الغطاء عنه بدليل قوله فيتبعون ما تشابه منه وكانوا
لا يتبعون إلا أمر القيامة بدليل قوله عز وجل يسألونك عن
الساعة
ويشهد لكونها متشابهة قوله تعالى ان الساعة آتية أكاد أخفيها
249

قال المفسرون على نفسي فإنه أخفاها تحقيقا عن غيره
وقال تعالى وما يعلم تأويله إلا الله يعني حاله وعليه
وقف أبو عبيد وابتدأ من قوله والراسخون في العلم إذ
العلوم كلها يحيط بها الراسخون فيها وليس هذا من غرض الأصول
وغرضنا من المتشابه في الآيات المتضمنة للتكاليف محال ويتبين المقصود
منه برسم مسألة
مسألة
في آية الاستواء
قال مالك لما سئل عن الاستواء الاستواء معلوم والكيفية
مجهولة والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة
250

وقال سفيان بن عينيه يفهم منه ما فهم من قوله ثم استوى إلى
السماء
وقد تحزب الناس فيه فضل فريق واجروه على الظاهر وتبعهم
آخرون إذ ترددوا فيه وان لم يجزموا
وفاز من قطع بنفي الاستقرار
فإن تردد في مجمله ورآه فلا يعاب عليه
وتكلف تعلم الأدلة على نفي الاستقرار لا نراه واجبا على آحاد الناس
بل يجب على شخص في كل إقليم ان يقوم به ليدفع البدع إذا ثارت
فإذن المتشابه ما لا يفهم معناه وذلك محال في محل التكليف فنعلم
قطعا ان هذه الآية ما أريد بها الاستقرار فلا تشابه فيها
نعم الحروف المقطعة إن كانت متشابهة فلتكن فليس ذلك مما كلفنا
فهمه
251

هذه مقدمات كتاب التأويل ولا يتوصل إلى مقصوده إلا برسم مسائل
يتعرض فيها للتأويلات قال الصحيحة والفاسدة ومجموعها ثماني عشرة مسألة
مسألة (1)
قالت المعتزلة لا يخصص عموم القرآن بأخبار الآحاد فإن الخبر
لا يقطع بأصله بخلاف القرآن
وقالت الفقهاء يخصص به لأنه يتسلط على فحواه وفحواه غير
مقطوع به
قال القاضي انا أتوقف فيه إذ ظاهر القرآن مقطوع الأصل غير مقطوع
الفحوى ونص إخبار الآحاد مقطوع الفحوى غير مقطوع الأصل
252

والمختار انه يخصص لعلمنا ان الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون
حديثا نصا ينقله إليهم الصديق في تخصيص عموم القرآن كيف وكانوا
يقبلون نقل التفسير من الآحاد وهو أعظم من التخصيص
ولما ان هموا بقسمة تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل أبو بكر عنه أنه قال
نحن معاشر الأنبياء لا نورث فتركوه وإن كان آية الوراثة تشمله
بعمومها
واما القياس فقد اختلفوا في تخصيص عموم القرآن به كما في الخبر
ونحن نتوقف فيه
إذ لم يثبت من الصحابة فيه نفي ولا اثبات
وقول الصحابي رضي الله عنه فيما رأيناه حجة فهو كالخبر
253

مسألة (2)
تأويل الراوي الحديث مقدم فإنه حضر فكان أولي بفهم القرآن
وتخصيصه لا يقدم لاحتمال انه اعتمد فيه القياس
ومذهبه مقدم عند مالك رضي الله عنه
وعند القاضي على رواية
لان احسان الظن به يقتضي حمله على ضعف وجده في الحديث وان
أسئ الظن به فلا نقبل روايته
قال الشافعي رضي الله عنه لا يقدم والحديث حجة عليه وعلى غيره
فكأنا سمعناه من فلق في الرسول عليه السلام
والمختار انه ان أمكن حمل مذهبه على تقدمه على الرواية أو على
نسيانه فعل ذلك جمعا بين قبول الحديث واحسان الظن
وان نقل مقيدا انه يخالف الحديث مع علمه فالحديث متروك
ولو نقل مذهبه مطلقا فلا يترك لاحتمال النسيان نعم يرجح عليه
حديث يوافق مذهب الراوي
254

مسألة (3)
زعم أبو حنيفة رضي الله عنه ان حمل المطلق على المقيد زيادة على
النص وهو نسخ
وجعل ايجاب الرقاب المؤمنة في الظهار اعتبارا له بالقتل من هذا الفن
ثم اختلفوا في وجه النسخ
فقال قائلون وجهه ان فيه شرط الايمان والنص لم يقتضه
وهذا هوس
إذ يجب من مساقة على الرسول عليه السلام ان يبين احكام الشرع دفعة
واحدة
فإذا أمر بالصلاة مقتصرا عليه فأمره بالصوم بعده ينبغي أن يكون
نسخا
وهذا ظاهر البطلان
وقال المحققون اقتضى النص اجزاء كل ما يسمى رقبة فشرط الايمان يغير
مقتضى النص
وهذا أقوى لهم في مسألة النية في الوضوء فإن الله تعالى تولى بيان أفعال
255

الوضوء وأركانه فاقتضى ذلك وقوع الاجزاء بتحصيل ما يعرض له وشرط
النية زيادة عليه
قال الشافعي رضي الله عنه الزيادة على النص تخصيص وانما قال
ذلك لأنه يسمي الظاهر نصا
والمختار ان الزايدة على النص نسخ حتى لو ثبت نص في اقتضاء
الاقتصار فضم شرط إليه ينسخه وما نحن فيه تخصيص
واجمع أصحابنا على جواز حمل المطلق على المقيد إذا تدانت الواقعتان
وان اتحدت الواقعتان فهو مقول به باجماع الأمة
وان تباعدتا من كل وجه فهو ممنوع بالاجماع كشرط الشهادة في اليمين
مثلا لان الله تعالى قيد المداينات بها
والضابط فيه ما قاله القاضي انه إذا اختلف في الواقعتين الموجب
والموجب فلا اعتبار
وان اتحدتا جميعا فلا بد من الحمل
256

وان اتحد الموجب واختلف الموجب ففيه الخلاف ومثاله شرط الأيمان
في كفارة الظهار لثبوته في القتل
ثم قال قائلون من أصحابنا يجوز الحمل عليه تحكما
وهذا باطل
إذ لا يقتضيه عقل ولا نقل واللفظ غير مشعر به
فلا بد من إذن من استنباط
ثم قال قائلون لا يجوز الاستنباط من محل التقييد فليكن من محل
آخر وهو عدم اجزاء عن المزيد عليه بالاتفاق
وهو باطل
فإن المستنبط من محل التقييد إن كان مخيلا صلح للجمع والا فهو
باطل لعدم الا خالة
ولنا في الرد على أبي حنيفة رضي الله عنه ثلاثة مسالك
257

أحدها
ان نعارضه بقوله والسارق والسارقة وقد خصصه فشرط
فيه الحرز وانتفاء الشبهات
ونص الرب تعالى على ذوي القرى فزاد أبو حنيفة رضي الله عنه
الحاجة
ونص الله عز وجل على الرقبة فزاد بالاتفاق السلامة حتى قال
أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجزئ الأخرس فترك النص باجتهاد انفرد فيه
والأخرس يسمى رقبة
كيف وقد قال الاقطع يجزئ
المسلك الثاني
ان التخصيص ينقسم إلى
تخصيص الابهام كقوله للفقراء فخصصه بثلاثة منهم من غير
اختصاص بوصف
والى تخصيص تمييز كقوله اقتلوا المشركين فخصص بأهل
الحرب دون أهل الذمة ولم يكن ذلك نسخا
258

واسم الرقة في تناوله لجملة الرقاب مع اختلاف صفاتهم كاسم المشركين
وكاسم الفقراء في تناوله لجميع الفقراء فليكن هذا تخصيصا كذلك
المسلك الثالث
ان تقول ان ادعوا ان قوله تعالى فتحرير رقبة نص في
نفي شرط الايمان فقد افتروا على اللسان
فإن اعترفوا بكونه ظاهرا فقد خصصنا بقياس سديد فليجز إذ لا منع
منه كيف وهو ضعيف الظهور
فإن الغرض من سياق الآية تمهيد أصل الكفارة لا ذكر الصفات بدليل
انه لم يتعرض للسلامة
فإن قيل كرر الرب تعالى الايمان في كفارة القتل ثلاث مرات فلو كان شرطا في الظهار لذكره مرة واحدة
قلنا سبب تكريره ذكره الكافرين بين ظهراني المسلم فلو اقتصر
لتخيل ان الكافر مجز عن الكافر والمسلم عن المسلم
259

مسألة (4)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها
باطل
حمل أبو حنيفة رضي الله عنه الحديث على الأمة
فأعترض عليه بقوله فإن وطئها فلها المهر والأمة لا تستحق
فحمل على المكاتبة
وزعم أن هذا تأويل صحيح لأن المرأة اسم عام يتناول الإماء
والمكاتبات والحرائر ويندرجن من تحته اندراجا واحدا ولا يندرجن في في حكم
التبعية إذ التبعية لا معنى لها في الألفاظ ومثل هذه اللفظة يجوز تخصيصها
بالحرائر فكذا بالإماء
قال ولا يغني قولكم انه لو أراد المكاتبة لنص عليها فإن هذا
يطرد في كل عام يخصص
وهذا التأويل عندنا باطل قطعا بمسالك خمسة
الأول
أنه عليه السلام اطلق كلمة لاح فيها قصد العموم
260

والعام إذا ظهر فيه قصد العموم للمتكلم فيه لا يخصص
ودليل قصد العموم انه صدر الكلام ب أي وهي من أدوات
الشرط وهي من أعم الصيغ ولهذا لم يتوقف فيها الواقفية
ثم لما فرغ منها أكده بكلمة ما وهي من المؤكدات المستقلة بنفسها
إذ هي من أدوات الشرط وردت مؤكدة للعموم لا تستقل كقولك
أكتعين لا يذكر إلا بعد قوله رأيت القوم بجملتهم فهي أيضا
تقتضي العموم
ثم قال فنكاحها باطل
ذكر جملة مستقلة ثم رتب عليها جملة أخرى فوقعت الجملة الأخيرة جملة
موقع الجزاء من الشرط والجملة الأولى في محل الشرط
وهو كقول القائل بيع لازم فيفيد الملك فهذه ثلاث قرائن دلت
على القطع على قصد العموم
فلا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الشارع للأحكام والقادر بفصاحته على
الاتيان بعبارة ناصة على الغرض بأن يأتي بأعم الصيغ ويعني به أخص
الصور
وقد كان عليه السلام عالما بمواقع الكلام وما يفهم منها وعلم أنه لا يفهم
من قوله أيما امرأة المكاتبة
261

المسلك الثاني
علمنا على القطع ان الصحابة ما فهموا المكاتبة منه وغايتنا الاقتداء بهم في
التأويل
المسلك الثالث
ان هذا الكلام لو صدر عن واحد منا لم يفهم منه المكاتبة ولو فسر به
لنسب إلى الألغاز
المسلك الرابع
ان القرائن قد تجعل العام نصا يمتنع تخصيصه
مثاله ان المريض إذ قال لغلامه لا تدخل علي الناس
وقرينة الحال تشهد لتأذية بلقيانهم بن فأدخل عليه العبد جماعة من الثقلاء
وزعم اني خصصت لفظك بمن عداهم استوجب التعزير
المسلك الخامس
ان العدول عن الظاهر قد يقرب بعض القرب فيقبل
وإذا بعد رد ولم يقبل
بيانه ان من يقول التقيت اليوم بأسد إذا فسره بشجاع عظيم
يقبل تفسيره لقربه
262

ولو حمل على الأبخر لاختصاص الأسد من بين سائر الحيوانات بالبخر رد
كلامه ونسب إلى الهذيان لبعده عن الظاهر
وحمل قوله أيما امرأة على المكاتبة حمل الأسد على الأبخر وتفسيره
به
فإن قيل أليس لو صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم باستثناء الكل إلا المكاتبة
لكان اللفظ صحيحا
والتخصيص كالاستثناء
قال القاضي مثل هذا الاستثناء عندي باطل لأنه يستغرق معظم
المقصود كقوله علي عشرة إلا ستة
والمختار صحة هذا الاستثناء في الأقارير ولكنه يستحيل صدوره عن
ذي الجد في كلامه فإنه الغاز وحيد عن منهج كلام الفصحاء ثم ليس
كلما يجوز استثناؤه للشارع يجوز ذلك لنا فإنه له ان يتحكم بتغيير
لفظه وليس لنا ذلك
والجملة المغنية ان المسميات الخاصة تقصد بالتخصيص والتنصيص عليها
فأما ان يعبر عنها بألفاظ عامة فمحال
263

مسألة (5)
حمل أبو حنيفة قوله عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام
من الليل على القضاء والنذر
وهو باطل
لان قوله لا صيام صيغة للتبرئة وهو يقتضي العموم في الوضع
والذي يبتدر إلى الفهم منه الصيام المتأصل المترسخ هذه في الشريعة وهو صوم
رمضان فإنه ركن الدين فلا يظن به عليه السلام انه يطلق لفظ الصيام
عاما ويريد القضاء على الخصوص من غير قرينة وخصوص واقعة
إذ لا يفهم ذلك منه قطعا
فإن قيل ليمتنع كل تخصيص من أجله
264

قلنا اللفظ عام لا يخصص إلا بقرينة تقترن به فإن لم تكن قرينة
امتنع تخصيصه
والقرينة كقوله أحسنوا إلى الناس مثلا يعلم بالقرينة انه ما أراد
جميع الناس في جميع الأحوال
وكقوله عليه السلام في سائمة الغنم زكاة يقتضي وجوبها فيما دون
النصاب ولكن اعتمد على فهم النصاب قبل ذلك
قالوا هذا حديث محمول على نفي الكمال كقوله لا صلاة لجار
المسجد إلا في المسجد
فنقول قد حمفي بعض المسميات على نفي الجواز وهذا القضاء
والنذر فلا وجه للتنويع
265

قالوا ذلك مأخوذ من دليل آخر وقوله لا صيام مختص
بالفرض فإنه الركن في الشرع على ما ذكرتموه
قلنا إن جحدتم كون لفظ الصيام عاما في الكل في وضعه فهو عناد
وان اعترفتم فلم يبق لكم إلا تحكم بتخصيص ليترتب عليه تأويل منحرف
لا دليل عليه
ونحن نعلم أن من تمسك بهذا الحديث في اشتراط التبييت في القضاء لم
ينسب إلى الخطأ
ونحن لم نقل ان تخصيصه بالصوم المتأصل واجب ولكنا ادعينا
اندراجه تحت عمومه فكذلك القضاء يندرج تحت عمومه
فالتحكم بالتخصيص بأحد النوعين من غير قرينة مردود
مسألة (6)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم عتق عليه
فحمل هذا على الأب تخصيصا به باطل
لان الغرض من سياق الحديث اثبات مزية اختصاص بسبب القرابة
والأب متميز بمزيد الأدلاء من جملة القرابات بكونه متميزا بمزيد خاصية
توجب على ذي الجد في كلامه ان يخصصه بالذكر إن كان هو المقصود على
الخصوص
266

فأما ادراجه في لفظ يعمه مع أقوام ينحطون سنة عنه في الاختصاص المقصود
ركيك غث
ومثاله قول القائل من دأبي اكرام الناس وكان مشهورا
باكرام أبيه على الخصوص وأراد بالناس الأب كان ملغزا في كلامه
ولا يحمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثله
والشافعي رضي الله عنه لم يؤول لذلك لكن قال الحديث موقوف
على الحسن بن عمارة
مسألة (7)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغيلان حين أسلم عن عشرة نسوة أمسك
أربعا وفارق سائرهن
267

ولفيروز الديلمي حين أسلم على أختين أمسك إحداهما وفارق
الأخرى
فاقتضى لفظ الامساك استمرار النكاح على المسكنات عمرو
فحمل أبو حنيفة رضي الله عنه لفظ الإمساك على ابتداء
وقال ومعناه أعد النكاح على أربع واترك الباقيات
ويدل على بطلان هذا التأويل أربعة مسالك
أحدها
علمنا على القطع بأن الذين حضروا الواقعة من الصحابة رضي الله عنهم لم
يفهموا من لفظ الامساك ما فهموه
فإنا لو سمعناه من واحد منا لم نفهمه
المسلك الثاني
هو ان لفظ الامساك صريح في الامساك وقد اقترن به قرائن أورثت
القطع به
268

أحدها
مقابلته بلفظ المفارقة وتفويضه الفراق إلى خيرته فليكن ذلك مرتبطا
بتعيينه الذي ينشأ بلفظ الامساك ولفظ الإمساك مع مقابلته بلفظ
المفارقة صريح
والاخرى
انه لو أراد ابتداء النكاح لذكر النكاح وشرائطه فإنهم كانوا حديثي
العهد بالاسلام ولو ذكره لكان ذلك أهم منقول في القصة
الثالث
انه لا يتوقع في طرد العادة انسلاكهن في ربقة واحدة في الرضا
والاباء إذ كان يحتمل امتناعهن كلهن عن النكاح فكيف يظن
برسول الله صلى الله عليه وسلم اطلاق الأمر كذلك والأمر على التردد
الرابع
انه عليه السلام حصر هذا الأمر فيهن وعندهن وسائر نساء العالم
269

على وتيرة واحدة فلم خصصه بهن وقال أمسك أربعا وامسك واحده
وفارق الأخرى
والقرائن ليست أجناسا بصنف وبجنس ولكنها مخايل يختص
بدركها من شاهدها كاحمرار الخجل واصفرار الوجل
وهذه قرائن واضحة يورث آحادها القطع فما الظن بمجموعها
المسلك الثالث
ان تقول ان لم تسلموا كون ما ذكرناه مقطوعا به فتعلمون قطعا انه
أغلب على الظن مما تخيلتموه
ويجب تقديم ما يغلب على الظن بالاجماع
المسلك الرابع
هو انا نقول قياسكم المناقض لهذا الحديث هل تشكون في صحته لأحل
ما قررناه
فإن قالوا لا فقد عاندوا
وان اعترفوا به وهو مقطوع به فالقياس المشكوك في كونه مقولا به
من الصحابة رضي الله عنهم باطل قطعا
270

مسألة (8)
ومن تأويلاتهم لهذا الحديث قولهم يحتمل ان غيلان كان قد نكحهن
في ابتداء الاسلام في كفره قبل ورود الحصر في النسوة ثم ورد الحصر ثم
أسلم وكان قد وافق نكاحهن شرط الاسلام في ابتدائه وفي مثل هذه الواقعة
نقضي ببقاء النكاح في أربع
والجواب من ثلاثة أوجه
أحدها
ان هذه الواقعة لو وقت لاقتضى القياس التدافع
فإن مثاله طريان الرضاع المحرم على الزوجين من جهة الاخوة ولا خيرة
للزوج في التعيين بل يبطل النكاح فيهما
وليس كالطلاق الذي ينشئه المرء باختياره ولذلك يفوض التعيين
إليه
ولو صح على تقدير هذا التأويل لكفانا في المسألة قياس محل النزاع عليه
ولا فرق
271

الثاني
هو أنهم يعتمدون فيه مجرد الاحتمال فلم ينقل إلينا رفع الحجر في ابتداء
الاسلام واجمع المفسرون على أن قوله إلا ما قد سلف في الأختين
محمول على ما جرى في الجاهلية
فلم يبق لهم إلا الاحتمال والامكان وهو كادعاء قبل النسخ في كل حديث
ولا ترد الأحاديث بالاحتمالات
والاحتمال لا يكفي في التأويل ما لم يعضد بدليل
الثالث
ان الصاحبة رضي الله عنهم كانوا مناكحين يحيى لشدة غلمتهم ولو كان كما
قالوه لنقل عن واحد من جملة الصحابة الزيادة على أربع كما نقل عن عمرو
وطلحة شرب الخمر في حالة الإباحة فعدم النقل يعلمنا قطعا انه لم يكن
قال القاضي ولو نقلوا وقوع ذلك في ابتداء الاسلام فلا يكفهم ما لم
ينقلوا وقوع هذه الحادثة في ذلك الوقت ومجرد الاحتمال لا يدرأ التمسك
بالحديث
272

فاستدل بأن الحديث قد استقل في نفسه حجة لنا في المسألة قطعا فمن
أراد درأه احتاج إلى نقل مقطع به
وما ذكره القاضي غير مرضي من وجهين وفي بيانه تمهيد قاعدة في
التأويل يستدل به على أمثاله
أحدها
هو انه لا يسلم للقاضي ان الحديث استقل بكونه حجة فإنه متردد بين
وقوعه أولا فلا يكون حجة وبين وقوعه أخيرا وليس أحدهما بأولى من
الآخر إذ ليس يشهد له قرينة ولا دليل
فهو المتمسك بمجرد الاحتمال لا خصمه
والآخر
أنا نعلم أنه لو نقل إلى الصحابة رضي الله عنهم إباحة مؤقتة وتحريم متأخر
عنه مقيد وحديث يوافق الحالة الأولى مطلقا من غير تقييد كانوا
لا يبادرونه الرحمن بالقبول بل كانوا يخوضون في البحث عنه
فإذن يكفيهم نقل الإباحة في ابتداء الاسلام فلا يبقى معنا إلا احتمال
وقوعه آخرا ويعارضه نقيضه
273

فوجه الكلام عليه إذا ما مضى
مسألة (9)
قال القاضي رحمه الله كل تأويل تضمن الحط عن المنصوص فهو
باطل وذكر جملا منها ورسمها بمسائل
أحدها
تخيل أبو حنيفة رضي الله عنه سد الحاجة من قوله انما الصدقات
للفقراء والمساكين ومصيره إلى جواز صرفه إلى صنف واحد
وهذا التأويل باطل بمسلكين
أحدهما
وهو أنه تعالى ذكر الأصناف وجنسهم ووصفهم بصفاتهم التي
يتميزون بها عما عداهم ثم أضاف المال إليهم بلام التمليك فاقتضى ذلك توزيع
المال عليهم
إذ تعريف الأصناف بصفاتهم كتعريف الاشخاص بألقابهم
ولو أضاف إلى اشخاص معينين وجب صرفها إلى جميعهم
274

هذا مع أن الصدقات مال يتكرر وجوبها على الأغنياء جعل
مناطا لحاجات الفقراء دون الكفارات التي لا تجب إلا عند ارتكاب جرائم
وليس لفظ الصدقات متناولا لأنواع حتى يتخيل توزيع الأنواع على
الأجناس مع اختصاص كل نوع بكل جنس كقولك الدار
والفرس لزيد وعمرو فلا حاجة إلى تخيل التوزيع
فإن قيل سد الخلة متخيل وذكر الأصناف فائدته ضبط جهات
الحاجة المدعى سدها
قلنا يبطل بقول الموصي أوصيت بثلث مالي للفقراء والمساكين
وعد الأصناف الثمانية يصرف إليهم وتخيل غرض سد الحاجة ممكن ولكن
قيل أضاف إليهم بلام التمليك فينقض عليهم
275

قالوا قول الشارع عليه السلام يقبل التخصيص بالقياس دون قول
الموصي وأقوالنا
وعلى هذا لو خصص المعلل علته بعد الانتفاض لم يقبل منه
قلنا المفهوم من كلام النبي عليه السلام متبع كالمفهوم من كلامنا
ولا يخصص العام منهما إلا بقرينة
إلا أن لفظ الشارع عليه السلام إذا عارضه قانون في القياس كان طرده على
الظن أغلب من فهم العموم فيكون قرينة في فهم التخصيص
ولا قياس يقتضي الحرمان في مسئلتنا
وأقوالنا يتطرق إليها التخصيص بدليل تخصيص لفظ الدراهم من المقر
والموصي بثلثه
فأما المعلل فإنما يتصدى ليبدي العلة فإذا ورد عليه نقض فذلك لعدم
ذكره كل العلة
وشطر العلة لا يكون علة
فقرينة حاله قضى عليه بذلك
276

المسلك الثاني
وهو الجواب عن سؤالهم وهو ان نقول مراعاة سد الخلات مع مراعاة
جملة الجهات ممكنة ولا يبعد أن تكون مراعاة الجهات مقصودة فقد
تعارضت الاحتمالات فمطابقة الظاهر أولي من تركه
مسألة (10)
قال الله تعالى واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول
ولذي القربى
فمقتضى الآية صرف بعض إلى ذوي القربى من غير اعتبار حاجة
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا بد من اعتبار الحاجة منهم
وهذا منه بزعمه زيادة على النص وهو نسخ
وهو باطل بمسلك مقطوع به وهو ان الرب تعالى أضاف المال إلى
الجهات بلام التمليك وعرف كل فريق وجعل القرابة مستند تعريف
إحدى الفرق ولم يتعرض للحاجة
277

وأبو حنيفة رضي الله عنه تعرض للحاجة التي لا تعرض لها والغى
اعتبار القرابة وهو مصرح بها إذ قال لا يتعين صرف شئ إليهم بل يجوز
حرمانهم
وفي هذا المذهب ابطال النص بالكلية
قال القاضي في نصرة تأويلهم فائدة ذكر ذوي القربى تمييز الغنيمة
في حقهم عن الصدقات إذ كانت محرمة عليهم وكان هذا منحة في
مقابلة ذلك المنع وفقراؤهم وكان ممنوعون عن الصدقات فكانت المنحة لهم
ثم قال وهذا الوجه أيضا فاسد
فإنه أضاف المال إليهم بلام التمليك فاقتضى اللفظ كما ذكرناه قسمة المال
عليهم
وأبو حنيفة رضي الله عنه جوز حرمانهم فلم يغادر للقسمة فائدة
نعم لو كان يرى المنع من حرمانهم لكان يقرب ذلك
وأما اليتم فلا تعتبر معه الحاجة على قول
278

فإن سلم فلفظ اليتم مشعر بها دون لفظ القرابة
مسألة (11)
قوله تعالى فإطعام ستين مسكينا يقتضي مراعاة عدد
المساكين
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يراعى ومعناه اطعام طعام
ستين مسكينا فجوز صرفه إلى واحد
وقال ذكر عدد المساكين لبيان الطعام
وهذا باطل بمسلكين
أحدهما
ان الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين تنقسم إلى
ما ينتظم من مفعولين مبتدأ وخبر كقولك ظننت زيدا عالما
فتقول زيد عالم فيفهم فهذا لا بد فيه من ذكر المفعولين
فأما ما لا يتأتى من مفعوليه كلام يفهم كقولك أعطيت زيدا
درهما فهذا فن يجوز الاقتصار فيه على أحد المفعولين إذ تقول إذا أردت
279

بيان المعطى أعطيت درهما ويبقى المعطى له مجملا وإذا قصدت
بيان المعطى له قلت أعطيت زيدا والقدر المعطى مجمل
والاطعام من جنس الاعطاء وقد ذكر الرب تعالى أحد مفعوليه وهم
المعطى لهم وجرد القصد إلى بيانه وترك مقدار الطعام وجنسه مجملا
فألغى أبو حنيفة رضي الله عنه ما صرح به وقدر في محل الاحتمال بيانا
من لفظ لا يدل عليه لا تصريحا ولا اضمارا
وهذا تناقض
المسلك الثاني
هو انا نقول نعلم أن أبا حنيفة رضي الله عنه لم يراغم الشرع وانما حمله
على مخالفة النص تخيل سد الخلة فهلا جمع بينه وبين مقتضى النص
ويحتمل أن يكون احياء مهج أقوام معدودين مقصودا للشارع واللفظ دال
عليه واتباعه أولي وفيه تقرير للنص
مسألة (12)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعين شاة شاة فعين الشافعي
280

رضي الله عنه الشاة ولم يقم بدلها مقامها
قال لأن الزكاة من جملة العبادات وهي من الأركان الخمسة
فتنزل منزلة الصلاة والصوم والعبادات يغلب الاتباع فيها ويجب ترك
القياس عندها ولو لاح معنى على بعد فلا تعويل عليه
وينضم إليه ان الزكاة عبادة محضة وهو خالص حق الله تعالى وقد تحكم
فيه وتحكم ذي الحق ينفذ على وجهه وقد خص الشاة فليتبع امره
فان قيل انما خصص الشاة لأنه كان يخاطب العرب وأصحاب
المواشي منهم كانوا يقطنون البوادي فلا يملكون النقود فذكر ذلك تسهيلا
عليهم
ولأن الزكاة تجب مواساة وهي تختلف باختلاف صفة الشاة في العبالة
والنحولة روى والقيمة مجهولة وكانت العرب أمة أمية فلم يورطهم ولم في جهالة
القيمة وجعل الشاة الواحدة مرد نظرهم ومدرأة بين للجهالة
فهذه فائدة التخصيص
ثم لاح لنا على القطع من وضع الزكاة سد الخلة والدراهم في معنى الشاة
وأقرب منه فإنها مهيأة للصرف إلى المآرب على قرب
281

ولنا في ابطال كلامهم أربعة مسالك
أحدها
أن نقول هلا تخليتم معنى الغنى في جانب المالك وألحقتم بالشاة غير الشاة
فان الثروة لا تختص بالشاة كما لا يختص سد الخلة بها فلتجب الزكاة في كل
مال يحصل به الغنى
وهذا فاسد
فإن سد الخلة معلوم قطعا والدراهم في معنى الشاة فيه
فلا بعد في اختصاص بعض أصناف الأصول بكثرة الدر والنسل واعتبار
غير به بالعدد جهالة وبالقيمة نحكم لا يعلم قطعا قيامه في المقصود
مقامه
المسلك الثاني
هو ان الشارع عليه اللام نص على الشاة في خمس من الإبل ولما ان
انتهى إلى الجبران ردده بين الشاة وبين الدراهم ثم قدر الدراهم
فمن اعتقدا التسوية بين ما اطلق وبين ما ردد فيه كلامه فقد نسبه إلى
الهذيان ولا يلوح فائدته إلا كما ذكرناه
282

المسلك الثالث
قال الشافعي رضي الله عنه لا أبعد كون سد الخلة مقصودا ولكن
لا يبعد أيضا كونه مقصودا بجنس مال الزكاة ليحصل للفقراء الاستغناء بجنس
مال الأغنياء ويبقى في أيديهم أعيانها وهي تدر عليهم وتنسل والدراهم
تتبدد في أيدهم على قرب فيعودون إلى أدبارهم
ويشهد له تخصيصه عليه السلام الاثني بالذكر والمالية فيهما على السواء
فانضم إليه ان الباب باب العبادات والواجب فيها ترك القياس
المسلك الرابع
قال القاضي رحمه الله هذا الاحتمال حسن لا قصور فيه ولكنه مجرد
عن الدليل والاحتمال المجرد لا يقبل ولا يكفيهم استنباط خيال الحاجة من
نفس النص فإن هذا دليل مستنبط من النص يكر على ظاهره بالأبطال
والرفع وهذا الفن باطل على ما سيأتي
ولا بد لهم من التمسك بعبادة من العبادات تضاهي ما نحن فيه من صلاة
أو صوم والا فيعلم ان الخضوع متخيل من الصلاة والسجود أبلغ من الركوع
في الخشوع فلا يقوم مقامه لتجرد الاحتمال عن الدليل
ولا يكفيهم التمسك بالجزية فإنها معاملة تتعلق بالتراضي بخلاف الزكاة
283

مسالة 13
قال القاضي حمل كلام الشارع صلى الله عليه وسلم على ما يلحقه بالكلام الغث
محال
ومن هذا الفن قول بعض أصحابنا في قوله تعالى وأرجلكم
مكسورة الكلام لقرب الجوار ردا على الشيعة إذ قالت الواجب فيه المسح
وهو كقوله وحور عين
وكقوله حجر ضب خرب
قال الشاعر
كأن ثبيرا في عرانين وبله * كبير أناس في بجاد مزمل
284

معناه مزمل به لأنه من نعت الكبير وهو مرفوع لكن كسر لقرب
الحركة
وليس الأمر كما ظنوه في هذه المواضع
بل سببه ان الرفع أثقل من الكسر فاستثقلوا الانتقال من حركة خفيفة
إلى حركة ثقيلة فوالوا بين الكسرتين
واما النصب في قوله وأرجلكم نصب في المعنى والنصب أخف
الحركات فالانتقال إليه أولي من الجمع بين كسرتين ثقيلتين بالنسبة إلى
النصب فلم يبقى لقرب الجوار معنى إلا مراعاة السجع والتقفية وذلك لا يليق
بالقرآن
نعم حسن النظم محبوب من الفصيح إذا لم يخل بالمعنى
فأما الخلال بالمعنى واتباع التقفية فمن ركيك الكلام
فالوجه فيه ما قاله سيبويه وهو ان العرب تعطف الشئ على الشئ إذا
قرب منه من وجه وان بعد من وجوه كقول الشاعر
ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا
285

والرمح لا يتقلد لكن لكونه من الأسلحة عطف عليه
فكذلك امساس الماء بطريق الغسل قريب من امساس الماء بطريق
المسح فعطف عليه لا لكونه ممسوحا بدليل ذكره الكعبين
وعند الشيعة لا يتقدر به
ومما ذكره أصحابنا ان الكسر في الرأس دخل بسبب الباء فإنه
مفعول وموضعه النصب ويستحيل ان يستنبط من الكسر الواقع في الأرجل
ما يوجب المسح بسبب كسرة غير متأصلة
وهذا فاسد
لانهم يقولون لو لم يكن مشاركا له في المسح لنصب
كقول الشاعر
معاوي إننا بشر فأسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا
286

مسالة 14
كلام رسول الله صلى اله عليه وسلم لا يحمل على الاستعارة ما أمكن فإنها لا تليق إلا
بواعظ حديث أو خطيب أو شاعر ينتحي التسجيع لإيقاعه في القلوب
فأما الشارع إذا بين حمكا لعجوز مثلا فيبعد منه التجوز وهو تشدق
وثرثرة
وقد نهى الرسول الله عليه السلام عنه
نعم لا بعد في الاستعارة إذا ذكر الثواب والعقاب ووصف الجنة
والنار لعظم وقعه في الصدور
مسالة 15
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية
نصف العشر
287

فلا يتمسك بعمومه في وجوب الزكاة في كل مستنبت إذ لاح من تقابل
اللفظين أن الغرض تمييز العشر عن نصف العشر فبطل بالكلية عمومه
ولا حاجة في تخصيصه إلى دليل
إذ يقبح في سياق هذا الكلام التخصص بما يقتات
نعم لو اقتصر على قوله فيما سقت السماء العشر لكان كذلك
مسالة 16
المناهي بجملتها في العقود محمولة على الفساد وقد أجمع عليه
الصحابة فمن حمل النهي عن نكاح الشغار أو عن غيره من العقود على
الكراهية منع منه فإنهم اجمعوا على فهم الفساد في كل العقود
ولا خيال تفرضه في عقد إلا وفرضه في غيره ممكن
فإذ تركوه دل على أنه باطل
مسالة 17
المسؤول الشافعي عن سلب العبارة إذا استدل بقوله عليه السلام أيما
امرأة نكحت الحديث فلا يكون دالا على سلب العبارة
288

ولا يكفيه أن يقول لسقوط عبارتها صوروا استبدادها بالنكاح من تلك الصور
فإن الحديث يدل على عدم استقلالها فليقدر الاستقلال ممنوعا على
مذهب ذي مذهب ولكن استقلالها كاستقلال الرجل بالعقد دون الشهود
فإن قال نعم ذلك على سلب الاستقلال ولكن إذا بان ذلك انثنى عليه
سقوط العبارة فإن الولي لا حق له
قيل له ان ثبت لك سقوط حق الولي كان كذلك ولكن لا يستقيم
ادعاؤه
فقد تحصلنا من مجموع هذه المسائل ان ما لاح قصد العموم فيه من
الألفاظ بقرينة لا يتسلط عليه القياس
إذ ليس القياس تفسيرا للفظ حتى يخصصه
ومعنى التخصيص به ان يظهر في معارضته الحديث قانون في القياس كان
طرده على الظن أغلب من قصد العموم في الحديث فيكون كالقرينة المخصصة للفظ
فإذا عارض أحدهما أعني القياس غلبة ظن العموم من غير ترجيح
فالحديث مقدم لان مستند هذا الظن اللفظ فيرجح عليه
وان تقاصر عنه قليلا فلير المجتهد فيه رأيه فان هذا فن لا مطمع في
ضبطه ولكن لا خفاء به على الناظر المحيط بما قدمناه من القواعد
289

كتاب المفهوم
المفهوم من الألفاظ من مأخذ الاحكام عند الإمام الشافعي رضي الله عنه
وهو منقسم إلى
مفهوم موافق
ومفهوم مخالف لظاهر اللفظ
فأما مفهوم الموافقة فينقسم إلى
مقطوع به كتحريم الضرب فهم من نهي الشارع عن تأفيف الأب
والى ما يغلب على الظن كما ادعاه الشافعي رضي الله عنه من تنبيه
الله تعالى بإيجاب الكفارة على الخطأ على ايجابها على العمد فإنه أعلى
تنبيه
وتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم على جريان التحالف في البيع عند هلاك السلعة
بذكره حالة قيام السلعة مع امكان الاستظهار بالقيمة في تصديق أحد
المتبايعين
واما المفهوم المخالف للمنظوم لأنه كفهمنا أخبرنا نفي الزكاة عن المعلوقة يا من تخصيص
291

الرسول عليه السلام السائمة بالذكر في قوله عليه السلام في سائمة الغنم
زكاة
وقد بدل ابن فورك لفظ المفهوم بدليل الخطاب في هذا القسم
لمخالفته منظوم اللفظ
وأبو حنيفة رحمه الله أنكر المفهوم إلا ما يقطع به كآية التأفيف
والقائلون به انقسموا
فعمم أبو بكر الدقاق القول به حتى التخصيص بالألقاب فهم منه
نفي الحكم عما عدا الملقب به
واما الشافعي رضي الله عنه فلم ير التخصيص باللقب مفهوما ولكنه
قال بمفهوم التخصيص بالصفة والزمان والمكان والعدد وأمثلته لا تخفي
وضبط القاضي مذهبه بالتخصيص بالصفة وادعى اندراج جميع الأقسام
تحته
إذ الفعل لا يناسب الزمان والمكان إلا لوقوعه فيه وهو كالصفة له
292

وتمسك أصحابنا في نصرة مذهب الشافعي رضي الله عنه بطريقين
مزيفتين
أحداهما
قوله اللغات يكفي في دليلها نقل المذهب عن أربابها
والمسألة لغوية
والشافعي رضي الله عنه امام الصنعة وقد قال بها
وكذلك نقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي في كتاب صنفة في
غريب الحديث إذ حمل قوله عليه السلام لان يملئ يكون بطن أحدكم قيحا
يربه خير من أن يمتلئ شعرا على ما إذا لم يحفظ الرجل سواه وهذا
قول بالمفهوم
293

ونحن نجتزي في تفسير القران بقول الأخطل وغيره من أجلاف العرب
فالاكتفاء بقول الأئمة أولي
ووجه تزيفيه مع أن ادعاء الاطباق من أهل الصنعة غير ممكن وقول
الآحاد يعارضه مثله فقد نفي محمد بن الحسن رضي الله عنهما المفهوم
وهو من الأئمة فلا مقنع في النقل مع التعارض
الثانية
قولهم لا بعد في اقتباس العلم من أمر تواترت عليه الصور على التطابق
وإن كان نقله آحاد الصور الخطوا سعيد عن مبلغ التواتر وبه العلم على القطع شجاعة
علي وسخاء حاتم وآحاد وقائعهما بكر لم ينقلها إلينا إلا آحاد الرجال
فادعوا مثل ذلك من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين في المفهوم وعدوا
وقائع كقول يعلي بن أمية لعمر رضي الله عنه ما بالنا نقتصر وقد
294

أمنا فهما للتخصيص من قوله أن تقصروا من الصلاة ان خفتم
واختلف الصحابة رضي الله عنهم في وجوب الغسل بالنقاء الختانيين قد فهما
للنفي من قوله الماء من الماء
وقول ابن عباس لعثمان رضي الله عنهم حيث حجب الام بأخوين من
الثلث ليس فس الأخوين إخوة
وقوله عليه السلام في قول الله جل وعز ان نستغفر لهم سبعين
مرة فلن يغفر الله لهم أنا أزيد على السبعين
وهذا مزيف
فإن هذه الوقائع لو جمعت ونقلت دفعه واحدة لم تورث العلم كوقائع
حاتم وعلي مع كثرتها
295

على أن ما نقل في آية الاستغفار كذب قطعا إذ الغرض منه التناهي
في تحقيق اليأس من المغفرة فكيف يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ذهولة وفي عنه
وقول ابن عباس رضي الله عنهما في حجب الام يعارضه قول عثمان
حجبوها قومك يا غلام
وقول يعلي بن أمية يستند إلى صيغة الشرط وكلمته وهو قوله إن
خفتم وهذا مقول به
أو اعتد بأصل الاتمام في الإقامة واختصاص القدر المستثنى بحال
الخوف ففهم وجوبه من الأصل لا من التخصيص
وقوله عليه السلام الماء من الماء حصر مصرح به وليس ذلك
من فن المفهوم كما سيأتي
وقد نقل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بباب واحد من الصحابة
296

ودعا فتباطأ قليلا فخرج والماء بقطر من رأسه فقال لعلنا
أعجلناك إذا أقحطت فلا غسل عليك فلعلهم فهموا نفي الغسل
من هذه الواقعة
ولا مقنع في هذه الطريقة
وتمسك الشافعي رضي الله عنه في نصره مذهبه بان قال إذا خصص
الشارع صفة بالذكر من غير سؤال خاص وعرف مقتضى التخصيص مع
مشاركة غير الموصوف للموصوف في الذكر كان كلامه نازلا منزلة ما
لو خصص اليوم المتغيم بإيجاب الصلاة فيه والغنم الأسود بإيجاب الزكاة فيه مع
اعتقاد التساوي
297

وهذا هجر من الكلام يتاعلى كل عنه منصب آحاد الناس فضلا عمن هو
الشارع للأحكام المبعوث لتمهيد الدين وهو أفصح من نطق بالضاد
ولا يظن به التضمخ بغرض ديوي في روم تخصيص فإن ذلك قادح في
النبوة
فلا بد من تخيل فائدة لتخصيصه
وليس ذلك إلا اختصاص الحكم به إذا لم يتخيل سواها فائدة
فإن قيل لعله خصص ليستثير القياسيون معنى مخصوص بالنص
ويعتبرون به غيره فتتسع بسبه قضايا الشريعة
قلنا هذا هذيان
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزوي عن بيانه عمدا ليفوض الحكم إلى ارتباك
المجتهدين في ظلماتهم * واشتباكهم فلا في عثراتهم
ولو أمده الله تعالى بالبقاء لما غادر في الشرع معوصا منه إلا حله
ونحن انما نصير إلى القياس للضرورة
فلا وجه لهذا الظن
والمختار عندنا لا نذكره إلى بعد ابطال مذهب الدقاق وقد تمسك بطريقة
الشافعي رضي الله عنه وقال
298

تخصيص البر بالذكر مع اعتقاد مساواة الذرة إياه في حكم الربا كتنصيص
الرجل على لبنة من لبنات وقوله اعلموا ان هذه لبنة مربعة
فلا فرق اذن بين الصفة واللقب والتمسك به بتخصيصه وقد وقع
قلنا لا متعلق في مجرد التخصيص عندنا إذ الأخبار المنقولة عن
الرسول ص معظمها انطبقت على وقائع وأسئلة وإن اعرض النقلة عن
نقلها اكتفاء بنقل اللفظ فلا يؤمننا عدم النقل مع احتماله
إذ القواعد المبتدأة فصلها القرآن
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام بينهما في مواقع الحاجات
ولكنا نقول
التخصيص منقسم إلى ما يقع بصيغة الشرط كقوله ان أكرمك
فأكرمه وهذا نص في التخصيص إذا الجزاء يرتبط بالشرط عند أهل
اللسان والنقل فيه كاف
والى تخصيص التعليل كقوله أكرمه لإكرامه إياك وهذا أوضح
من الشرط
والى تخصيص المكان والوقت والعدد كقولك اجرتك هذه
الأرض من هنا إلى الشجرة بألف درهم الشهر الفلاني
299

وهذا أيضا معلوم فائدته لا يخالف فيه
وإلى تخصيص بصفة باللقب ولا متمسك فيه
وإلى تخصيص بصفة لا تخيل كقوله عليه الصلاة والسلام لا تبيعوا
الطعام بالطعام فإن الطعم لا يناسب حكم الربا فهو كاللقب
وإلى صفة مخيلة مناسبة للحكم كقوله في سائمة الغنم زكاة فهو
المقول به فيفهم نفي الزكاة عن المعلوفة لا من مجرد التخصيص بل من
الرابطة المتقررة في عقل الفقيه بين السوم المرفق المقل للمؤنة المحقق للثروة
وبين وجوب الزكاة الواجبة رفقا للفقراء من فضلة أموال الأغنياء
فيفهم لذلك عند التخصيص من فحوى اللفظ ارتباط لا يستريب الناظر
فيه فيترتب عليه نفي الحكم عن المعلوفة
300

ثم لا يعتبر الاطراد مع الا خالة إذ الفحوى لا تبطل به والشارع
نصب ما لا يطرد علة
فإن قاس أبو حنيفة رحمه الله الصفة على اللقب قيل له لا قياس في فهم
معاني الألفاظ وفحواها
وإن قال لو كان المفهوم ثابتا لكان تركه نسخا كالمنظوم
قلنا إليه صار ابن مجاهد وزعم أنه لا بد من ترك نفيه منه كما في
المنظوم
والمختار خلافه
إذ ليس المفهوم جنسا من الكلام ولكنه بعض مقتضيات اللفظ فليس
في تركه مع تبقية المنظوم نسخ كما في تخصيص العموم
فإن قال قائل فهل اللقب مفهوم قط
قلنا نعم فإذا تلقينا من تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشياء الأربعة
301

بالذكر في الربا الرد على ابن الماجشون في تعليله الربا بالمالية العامة
إذ قلنا لم تكن الأشياء الأربعة غالب ما يجري عليها التعامل وكان
الحجاز مصب التجار في الاعصار الخالية فلو ارتبط الحكم بالمالية لكان
التنصيص عليها أسهل من التخصيص كما قال في العارية على اليد
ما أخذت حتى ترد وكان هذا مأخوذا من قرائن الأحوال مع التخصيص
باللقب
مسالة
قال الشافعي رضي الله عنه خصص الرب تعالى الخلع بحالة الشقاق
وهذا مفهوم لا أقول به إذ ظهرت للتخصيص فائدة وسبب وهو العرف
القاضي بانحصار الخلع في حالة الشقاق إذ لا يتفق في حالة المصافاة والموافقة
302

وإذا لاح للتخصيص فائدة تطرق الإحتمال إلى المفهوم فصار مجملا
كالمنظوم المجمل
قال ولا حاجة إلى دليل ترك هذا المفهوم
والمختار خلافه
إذ الشقاق يناسب الخلع فإنه يدل على بغية الخلاص وتعذر استمرار
النكاح فلا يرتفع الفحوى المعلوم منه بمجرد العرف
فلا بد من دليل وان لم يبلغ في القوة مبلغ ما يشترط في ترك مفهوم
لا يعتضد بالعرف فإنه قرينة موهمة
وهذا كما قلنا إن للأمر صيغة وهو محمول في الشرع على الطلب
303

الجازم بصيغته: فلو اقترنت به قرينة كقوله وإذا حللتهم غير فاصطادوا
وهي أعني القرينة تقدم الحظر جاز حمله على الإباحة بدليل خفي
واه
ومثار هذا الاختلاف انا نتلقى المفهوم من الفحوى
والشافعي رضي الله عنه عنه يتلقاه من التخصيص وهو فعل فإنه عبارة
عن قصد القاصد إلى مسمى بالذكر والفعل لا صيغة له فتطرق الاحتمال
يكفي في رده كالفعل المردد بين الوجوب وبين رفع الحرج لا يحمل إلا
على الأقل لتعارض الاحتمال في الوجوب
وعلى هذا القياس أعني مسألة الخلع يجري تخصيص
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها
باطل إذ الغالب أنها إذا عقدت لا تستأذن وإذا استأذنت لم تعقد بنفسها
فلا فرق بين المسألتين
304

مسالة
تمسك الشافعي رضي الله عنه في تعيين لفظ التكبير بقوله عليه السلام
تحريمها التكبير
فقال أبو حنيفة رحمه الله فيه ما يدل على إجزاء التكبير وليس فيه
نفي لما عداه
وهذا بعد إثبات القول بالمفهوم باطل
وإن قدر القول بتركه فهذا نص فإنه حصر التحريم وهو انعقاد
الصلاة في التكبير
وليس كقوله لو فرض التكبير تنعقد به الصلاة
والدليل على الفرق اطباق أهل اللغة على الفرق بين قول القائل زيد
صديقي وبين قوله صديقي زيد في انحصار الصداقة
وهذا على الإجمال كاف
وإن بحثنا عن سببه فنقول قول القائل زيد صديقي شرطه
305

أن يجري بين متجاوبين أحمد علما عين زيد قبل افتتاح الكلام إذ ليس الغرض
من سياق الكلام تعيينه وإنما الغرض بيان حالة مجهولة بينهما وهما
معلومان عند المخاطب فتقول هو صديقي فتنبه على تلك الحالة المجهولة
بينهما لتعلم فليس فيه نفي ما عداه
فإذا قال صديقي زيد فكأنه قدر الصداقة معلومة بينهما فهو مبتدأ
الكلام كما كان زيد في تلك الصيغة هو المبتدأ به
ثم أراد أن يبين لهذه الحالة المعلومة محلا هو مجهول عند المخاطب فقال
زيد
ومن ضرورة كونه محلا لهذه الحالة أن لا يكون غيره محلا لها
إذ لو كان لما صح اعتناؤه ببيان المحل بمجرد ذكر زيد
وقوله عليه السلام تحريمها التكبير يضاهي قوله صديقي
زيد
مسألة
تمسك أصحابنا بقوله عليه السلام صبوا عليه ذنوبا من ماء في
مسألة إزالة النجاسة
306

فلو قيل لنا فيه مفهومه قصد إزالة العين فهلا فهمتم ذلك
ورتبتم عليه زواله بالخل
قلنا هذا مفهوم لو قيل به بطل المنظوم به إذ منظومه وجوب استعمال
الماء
فهذا الفن من المفهوم لا نقول به
إلا أن التمسك بهذا الحديث غير صحيح
إذ الغرض قطعا من تخصيص الماء ما اختص به الماء من عموم الوجود
والمقصود من الحديث البدار إلى تطهير المسجد لا بيان ما تزال به
النجاسة ويقبح فيه التعرض للخل الذي يعسر وجوده
مسألة
يجوز ترك المفهوم بنص يضاده
وبفحوى مقطوع به يعارضه كفهم مشاركة الأمة للعبد في سراية
العتق والنص كقوله في عوامل الإبل زكاة وهي معلوم يعارض
بمفهوم قوله عليه الصلاة والسلام في سائمة الغنم زكاة
307

فأما القياس فلم يجوز القاضي ترك المفهوم به مع تجويزه ترك العموم
به
ولعله قريب مما اخترناه في المفهوم فإنه تلقاه من الفحوى
الظاهر والعموم قد لا يترك بالقياس بل يجتهد الناظر في ترجيح أحد
الظنين فيهما على الآخر فكذا القول في القياس إذا عارض المفهوم
والله أعلم
308

القول في أفعال الرسول
صلى الله عليه وسلم
لا يتوصل إلى ذلك إلا بذكر مقدمة في عصمة الأنبياء عن المعاصي
وهي منقسمة إلى الصغائر والكبائر
وقد تقرر بمسلك النقل كونهم معصومين عن الكبائر
وأما الصغائر ففيه تردد العلماء والغالب على الظن وقوعه وإليه
يشير بعض الآيات والحكايات
هذا كلام في وقوعه
أما جوازه فقد أطبقت المعتزلة على وجوب عصمة النبي عليه السلام عقلا
عن الكبائر تعويلا على أنه يورث التنفير وهو مناقض لغرض النبوة
وهذا يبطل بكون الحرب سجالا بينه وبين الكفار وبه اعتصم بعض
اليهود في تكذيبه
والمختار
309

ما ذكره القاضي وهو أنه لا يجب عقلا عصمتهم إذ لا يستبان استحالة
وقوعه بضرورة العقل ولا بنظر العقل
وليس هو مناقضا لمدلول المعجزة فإن مدلوله صدق اللهجة فيما يخبر
عن الله تعالى فلا جرم لا يجوز وقوع الكذب فيما يخبر به عن الرب تعالى
لا عمدا ولا سهوا
ومعنى التنفير باطل
فإنا نجوز أن ينبئ الله تعالى كافرا ويؤيده بالمعجزة
والمعتزلة يأبون ذلك أيضا
والذين أوجبوا عصمته عن الكبيرة اختلفوا
فمنهم من قال كل مخالفة كبيرة بالنسبة إلى عظمته فلا صغيرة
أصلا وكل مخالفة كبيرة
310

وهذا كما أن رفع الصوت فوق صوت من يماثل الإنسان قد يعد صغيرة
وهو بعينه في مجلس الملوك كبيرة دونه تحز الرقاب
فللنسبة بعد تأثير في تعظيم أثر المخالفة
والذين أثبتوا الصغيرة اضطربوا ومثار الاضطراب في أنه هل يورث
التنفير
أما النسيان فلا يجب كونه عندنا معصوما عنه في أفعاله وأقواله إلا
فيما يخبر عن الله تعالى لأن تجويزه مناقض مدلول المعجزة
ونرجع إلى المقصود
فإذا نقل فعل عن رسول الله عليه السلام فهل يتلقى منه حكم
أما الواقفية فقد توقفوا فيه
وعزي إلى أبي حنيفة وابن سريج وأبي علي بن أبي هريرة
رضي الله عنهم أنه يتلقى منه الوجوب مطلقا
311

والمختار عندنا وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إن اقترن به
قرينة الوجوب كقوله صلوا كما رأيتموني أصلي فهو الوجوب
وإن لم يقترن نظر
فإن وقع من جملة الأفعال المعتادة من أكل وشرب وقيام
وقعود واتكاء واضطجاع فلا حكم له أصلا
وظن بعض المحدثين أن التشبه به في كل أفعاله سنة
وهو غلط
وإن تردد بين الوجوب والندب فإن اقترنت به قرينة القربة فهو محمول
على الندب لأنه الأقل والوجوب متوقف فيه
وإن تردد بين القربة والإباحة فيتلقى منه رفع الحرج
وليس هذا متلقى من صيغة الفعل إذ الفعل لا صيغة له ومستنده
مسلك الصحابة
فإنا نعلم أن الممنوع من فعل فيما بينهم لو نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم
فعله لفهموا منه رفع الحرج
312

وأما الإباحة فلا نتلقاه فإنه حكم يقتضي التخيير مع تساوي الطرفين
وهو يناقض الندب والفعل متردد بينه وبين رفع الحرج فأقل الدرجات
رفع الحرج
فإن تمسك أبو حنيفة رحمه الله بإجماع الأمة على كون النبي عليه السلام
أسوة وقدوة ومطاعا وشرطه الاقتداء به في كل ما يأتي ويذر
قلنا معناه أن أمره ممتثل كما يقال الأمير مطاع في قومه لا يراد به
أنهم يتربعون إذا تربع أو ينامون إذا نام
فإن تمسك بقوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا وقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره وقوله
فاتبعوني يحببكم الله فكل ذلك محمول على الأمر وهو الذي أتانا به
دون الفعل
مسألة (1)
إذا نقل عن الرسول عليه السلام فعلان مختلفان في واقعة واحدة
وعدل الرواة كما نقل في صلاة الخوف
قال الشافعي رضي الله عنه يتلقى منها جواز الفعلين
313

والمختار في ذلك أن نقول إن اتفق الفقهاء على صحة الفعلين واختلفوا في
الأفضل توقفنا في الأفضل
فإن ادعى كل فريق يتمسك برواية بطلان مذهب صاحبه فيتوقف
ولا يفهم الجواز فيهما فإنهما متعارضان ونعلم أن الواقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحدهما ولا يترجح
وإن اتفقوا على صحة واحد فنحكم به ونتوقف في الآخر
والشافعي رضي الله عنه إنما قال ذلك في صلاة الخوف وقد رجح إحدى
الروايتين على الأخرى لقربه إلى أبهة الصلاة
مسألة (2)
إذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل حمل على الوجوب بقرينة أو على
غيره ثم نقل فعل يناقضه
قال القاضي لا يقطع بكونه نسخا لاحتمال أنه انتهى لمدة الفعل الأول
وإن كنا نعلم أن الفعل الأول لو بقي لاقتضى الحكم على التأبيد ولكنه لا صيغة
له
وهذا محتمل فيتوقف في كونه ناسخا ونعلم انتهاء ذلك الحكم قطعا فإن
314

النسخ رفع للشئ بعد الثبوت عندي وأما اللفظ فإنه بصيغته يتضمن إثبات
الحكم إطلاقا
وابن مجاهد صار إلى أنه نسخ ويتردد في القول الطارئ على الفعل
ولا وجه لهذا الفرق
والأصح ما ذكره القاضي
مسألة (3)
قال الشافعي رضي الله عنه استبشار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسروره بالشئ
يدل على كونه حقا
وتمسك بسروره في قصة مجزز المدلجي وإلحاقه زيدا بأسامة في إثبات
القيافة
وقال لا يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالحق ولا يستبشر بالباطل
وهذا ضعيف
فإنما سر بكلمة صدق صدرت ممن هو مقبول القول في ما بين الكفار على
مناقضة قولهم لما قدحوا في نسب أسامة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
نادى به
315

فإن قيل لو كان باطلا لرد فإنه حكم على الغيب
قلنا من نسب ابنا إلى أبيه الذي شهر به لا يمنع منه والفاسق إذا شهد
على النسب لا يزجر وإن لم يقبل منه ولا يقال هذا حكم على الغيب
مسألة (4)
تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما على فعل وتركه النكير عليه مع
فهمه الواقعة وعدم ذهوله عنه يتمسك به في جواز التقرير إذا كان الفعل
بحيث لو قدر الإقدام عليه لكان كبيرة
إذ كان يتحتم عليه بيان الحكم
فسكوته مع العيان دل على الجواز
وإن كان الفعل صغيرة لو قدر محرما وكنا لا نجوز الصغيرة على الرسول
عليه السلام تمسكنا به
316

وإن جوزنا فلا نتمسك به إلا أن يتكرر في مجلسه ذلك ولا ينكر
إذ الإصرار على الصغيرة كبيرة
ولا يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصغائر
والذي أراه والعلم عند الله قطع القول بجواز التمسك به من غير
تفصيل بين الصغيرة والكبيرة
فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفهمون منه الجواز وإن كان
الفعل من جملة الصغائر لو قدر محرما
وإن تمسك متمسك به في إثبات عصمة النبي عليه السلام عن الصغيرة لقبول
الصحابة ذلك من غير تفصيل فله وجه
وأما تقريره الكافر فلا تمسك فيه لأنه كان يعرض عنهم
وفي تقرير المنافق خلاف لأنه كان ينحو بهم نحو المسلمين
فإن قيل إذا قرر مسلما فيحتمل أنه كان ينتظر الوحي
قلنا لو كان كذلك لأمر بالتوقف كما نقل عنه في بعض
الوقائع والله أعلم
317

القول في شرائع من قبلنا
ونقدم عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن أوحي إليه هل كان على شرعة
رسول
أجمعت المعتزلة أنه لم يكن على شرعة رسول فأنه يورث التنفير فإن
التابع لا يكون متبوعا
واختلف أصحابنا
فمنهم من قال كان على شرعة نبي فإن الانسلال عن ربقة
التكاليف والخروج من ضوابط الشرائع يزري بمنصبه
ثم اختلفوا
فقيل كان على شرعة نوح عليه السلام بدليل قوله تعالى شرع لكم
من الدين ما وصى به نوحا
وقيل كان على شرعة إبراهيم عليه السلام بدليل قوله تعالى إن أولى
الناس بإبراهيم الآية.
318

وقيل على شرعة عيسى عليه السلام فإنه الناسخ المتأخر
فإن قيل كانت محرفة مغيرة
قلنا كان منهم أحبار يعرفونها على وجهها فتحريف بعضهم لا يرفع
الشرع كاتفاق فترة في شرعنا
فإن قيل للذين قالوا كان على شرعة إبراهيم شريعة عيسى ناسخة
أجابوا بأنه لا يثبت كونه مبعوثا إلى الجميع فلعل ملة إبراهيم استرسلت على
ذريته فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم
وأما القاضي فإنه قال
أقطع بأنه لم يكن على شريعة نبي إذ لو كان لتواتر فإن أحوال الرجل
العظيم في مثل هذا تتوافر البواعث على نقله
نعم كان على عقد التوحيد
والمختار التوقف فيه
وما ذكره القاضي يعارضه أنه لو كان منسلا عن التكليف أربعين سنة
متميزا عن أصناف الخلائق بأجمعهم لتوفرت البواعث على نقله
فإذا لم ينقل هذا ولا ذاك توقفنا
ولعل الله تعالى قطع بواعث الخلق على نقله
319

ولعل الله تعالى قطع بواعث الخلق وطمس حالته والتحق هذا بمعجزاته
الخارقة للعادة
رجعنا إلى المقصود
قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الأطعمة الرجوع في استحلال
الحيوانات إلى النصوص وآثار الصحابة رضي الله عنهم فإن لم يكن فإلى
استخباث العرب واستطابتها يقول فإن لم يكن فما صادفنا حراما أو حلالا في
شرع من قبلنا ولم نجد ناسخا له اتبعناه
وعضد هذا المذهب بالدليل أن يقال نفس بعثة الرسول لا تتضمن نسخ
الشرائع إذ أصحاب الملل من الشرائع ستة آدم ونوح
وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بعد في
التظاهر على دين واحد فكان في زمان موسى عليه السلام ألف نبي يحكمون
بالتوراة
ولم ينقل من الرسول عليه السلام نص في نسخ شريعة من قبلنا
وقد عجزنا عن مأخذ من شريعتنا رجعنا إليه
320

ثم اختلفوا فيمن يتبع شريعته ورددوه الذي بين نوح وإبراهيم وعيسى كما
ذكروه في دين الرسول قبل النبوة
والمختار
أن لا رجوع إلى دين أحد من الأنبياء
إذ لو كان من مآخذ الشريعة لبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بين القياس
وغيره من المآخذ ورجع إليه واحد من الصحابة رضي الله عنهم مع طول
الدهور وكثرة الوقائع وشدة ترويهم فيها
ورجوعهم في الاشتوار إلى الجماعة وكان فيهم كعب الأحبار ولم
يراجع قط
فاستبان بهذا أنه لا حكم له أصلا
321

كتاب الأخبار
والكلام يقع في هذا الكتاب في قسمين
الأول
أخبار التواتر وفيه أربعة أبواب
الباب الأول
في إثبات كون الخبر المتواتر مفيدا للعلم الضروري
وقد أنكرت السمنية كونه مفيدا للعلم
فنقول لهم إن استربتم لأن أن في الدنيا بلدة يقال لها بغداد فقد جحدتم
وإن اعترفتم فلم تناطقكم وقد البلدة ولا رأيتموها
فلم تعرفوه إلا بالتواتر كيف ولولا التواتر لما ميز المرء بين أمه وسائر
نساء العالمين
323

وإن اعترف الكعبي بأصل العلم ولكنه ادعى أنه نظري
فقيل نرى الصبيان يعلمون ما يخبر عنه العدد المتواتر ولم يهيئوا للنظر
ودرك المعقولات بالتأمل
ثم يقال لهم نظر أفضى إلى أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد سوى الضرورة
الحاصلة من الأخبار
فإن قالوا علمنا بأن الجمع الذي أخبروا عنه في العادة لا يتواطؤون
على الكذب
قلنا ولم علمتم ذلك ولم أحلتم الكذب منهم وهو جائز الوقوع
من حيث التصور
فلا نزال نطالبهم إلى أن يعجزوا عن إبداء مسلك نظري فيبوحوا علي بما إليه
ذهبنا
وغايتهم أنه لا بد من أدنى تأمل ليعرف أن هؤلاء لا يكذبون
ولو صار العلم نظريا بمثله لقيل المدركات معلومة بالنظر إذ لا بد
فيها من فتح الجفون والتحديق وارتفاع الموانع وغيرها
324

تمسك الكعبي على أصحابنا بأن قال أعلمتم كون هذا العلم ضروريا
بالضرورة أم بالنظر
فإن علمتموه ضرورة فمحال لأنا لا نعلمه
وإن ادعيتم النظر فكيف يتصور أن يعلم الشئ ضرورة ثم يعلم كونه
ضروريا بالنظر
وهذا العلم أولى بأن يكون معلوما ضرورة وهو قائم بنفس العالم بما أخبر
عنه المخبرون ولا يتعلق به إدراك
أجاب القاضي بأن هذا استبعاد مجرد فإنا نعلم كون بغداد بالضرورة
ونعلم بالنظر كونه ضروريا
ووجه النظر أن نبطل كل مسلك يتصور إحالة العلم عليه
وهذا يلزمه أن يقول بالنظر يعلم أن العلم المتعلق باستحالة المتضادات
ضروري عند إبطال مسالك النظر فيه
وهذا لا وجه له
ثم يقال للقاضي العلم المتعلق بهذا العلم يزيد عليه أم هو عينه
إن كان لا يزيد عليه فلا وجه لتنويعه
325

فإن زاد عليه فهذا محال إذ يلزم عليه إثبات علوم لا نهاية لها أو إثبات
علم لا يعلمه العالم وهذا محال
والمختار عندنا في هذه المسألة وفيه الجواب عن السؤال أن نقول
الذي نعتقده أن العلم لا يتلقى من أقوال المخبرين إنما يتلقى من القرائن
الدالة على الصدق الحاسمة حتى لخيال الكذب
ولذلك يجوز اقترانه بقول واحد على انفراده
فإذا ثبت هذا فنقول ورآه الكعبي علم ما علمناه ضرورة من صدق
المخبرين ومن كون العلم ضروريا
نعم نوافقه في أن العلم يتلقى من القرائن
فإن كان يعنى بالنظر توقفه على الاطلاع على القرائن بالبحث والتأمل
فهذا مسلم له ووراء الاطلاع على القرائن يحصل العلم ضروريا من غير نظر
وتوقف
وهذا لا ينكره الكعبي
فقد التقت المذاهب وعاد الخلاف إلى لفظ والله أعلم
326

الباب الثاني
في العدد
وقد أجمع أصحابنا على اعتبار أصل العدد وإن اختلفوا في أقله
وقد أحالوا تلقي العلم الضروري من شخص واحد خلافا للنظام
وتمسكوا بأن قول الواحد وإن انضمت إليه القرائن فاعتماده الكذب في
العرف ممكن لا استحالة فيه بخلاف اعتماد الجمع العظيم بالتواطئ فإن ذلك
يحيله العقل في اطراد العرف وعلمنا به كعلمنا باستحالة إجماع أهل الدنيا في
وقت واحد على أكل الزبيب وهذا لا يطرد في الواحد
وحققوا ذلك بأن الشرع تعبد القضاة ببناء الحكم على قول الشهود وهم
على طوال دهورهم لم يبنوا قط قضاياهم على علم ضروري مستفاد من قول
الشهود ولو تصور لوقع لا محالة
تمسك النظام بأن قال إذ فرضنا رجلا من أهل المروءة والسيرة المرضية
327

استمرت عادته على أن لا يخرج من داره إلا راكبا محفوفا بحشده تعالى وخدمه
لا يلتفت إلى أحد ولا يتكلم فرأيناه خرج من داره وقد مزق ثوبه حاسر
الرأس حافي الرجل يضرب صدره وينتف شعره رافعا عقيرته بالويل
مخبرا عن موت ابنه يعلم على الضرورة صدقه ولا نتمارى فيه
فناكره فإن أصحابنا
وقالوا لعله أخبره كاذب أو اعتور ابنه سكتة فظنه ميتا
وهذا مزيف
والمختار أن العلم قد يستفاد من القرائن المنضمة إلى قول واحد
كما فرضناه
نعم زل النظام حيث قال يتلقى العلم من قوله
وما ذكروه من السكتة وتوهمه يرتفع بإخباره عن الدفن وذلك ممكن
تقديره
وما ذكروه من عدم قطع القضاة بقول شاهد قط تحكم على الغيب
328

مسألة
اختلف المعتبرون في أقل عدد التواتر
فقال القاضي أقطع أن الأربعة ليسوا عدد التواتر وتردد في الخمسة
لأن الشرع رقى الشهادة إلى الأربعة ولم يكلف إلا غلبة الظن
وقال ملقى مجلس أبي الهذيل عبد الرحمن الخمسة أقل عدد
التواتر من غير تردد
وقال قائلون أقله عشرون تلقيا من قوله تعالى إن يكن منكم
عشرون صابرون
وقال آخرون أربعون تلقيا من قوله تعالى حسبك الله ومن
اتبعك من المؤمنين وقد كانوا أربعين
329

وقيل أقله سبعون تلقيا من قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين
رجلا لميقاتنا
وقال آخرون ثلاثمائة وثلاثة عشر وهو عدد المحاربين يوم بدر إذ بهم
استقر الدين وظهر
وهذه أعداد يضرب البعض منها بالبعض
ونقول العقل لم يهد إلى التقدير وهذه الآيات لا تناسب الغرض
والحكم بتقدير محال
فإن قيل كأنكم جهلتم أقل العدد
قلنا هذا مرتبط بالعرف والقرائن فلا ضبط لها وهي مختلفة
باختلاف أحوال المخبرين والمخبر عنه
فيجب على كل عاقل أن يضرب عن التقدير فيه إذ العرف لا ينضبط
نعم نشير إلى تزاحم شرائط الخبر
فنقول إذا بلغوا مبلغا في العدد يبعد منهم في العرف التواطؤ على
الكذب في مثل ما أخبروا عنه وعلم على القطع خروجهم عن ضبط ضابط
وإيالة ذي إيالة لأجل مصلحة علم على القطع الصدق
وهذا قد يحصل بقول الواحد
330

وقد لا يحصل بقول عسكر عظيم إذ توهم انسلاكهم عمر تحت سياسة سايس
وذهبت الرافضة إلى أن العلم متلقى من قول الإمام المعصوم إلا أنه مشتبه
بالمخبرين النبي ولو انفرد وتعين لعلم على الضرورة صدقه
وهذا محال
إذ عصمته لم يعلموها بالضرورة ولا يثر على عصمة الأنبياء ولم
يعرف صدقهم بالضرورة
كيف وقد أخبر علي كرم الله وجهه في زمانه عن أمور واختلفوا في
صدقه وهو معصوم عندهم
331

الباب الثالث
في
شرائط التواتر
قال علماء الأصول
شرطه استواء الطرفين والواسطة
والحديث المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر الصحابة ينبغي أن يتواتر
عنهم في العصر الثاني فلو نقل الآحاد كونه متواترا لم يكف
وهذا خطأ
فإن خبر الواحد ليس له طرف وواسطة وكل من ينقل عنه قول وإن
كان راويا فهو خبر في نفسه ولا بد من التواتر فيه فهذه أخبار لا بد من
تواتر كل واحد منها
والشرط الذي لا بد منه لتحصيل العلم أن يستند علم المخبرين إلى الحس
والضرورة
فأما ما علموه بالنظر كحدث العالم وغيره لا يعلم صدقهم فيه وإن
بلغوا عدد التواتر
332

فإن قال قائل ما سببه والعلوم عندكم كلها ضرورية
فأي فرق بين الإدراك ببصيرة العقل وبين الإدراك بالبصر
قلنا العرف فارق بينهما فإن العلم لا يحصل بحدث العالم بسبب
الخبر بخلاف المحسوسات
فلعل السبب فيه أن المعتقد لحدث العالم لم يميز نفسه عن العالم به
وكل يظن أنه عالم وهو معتقد مخمن ولا قرينة تميزه
وما من مخبر إلا ويتصور كونه معتقدا وهو يظن أنه عالم
وعلى هذا شأن النظريات جميعا دون المحسوسات
قال الأستاذ أبو إسحاق الخبر ينقسم إلى متواتر ومستفيض وآحاد
فالمستفيض
ما اشتهر فيما بين أئمة الحديث وذلك يورث العلم كالتواتر
وليس الأمر كذلك
فإن المستفيض إذا لم يتواتر تصور فيه التواطؤ والغلط إذ العدل
لا يستحيل منه الكذب
333

الباب الرابع
في
تقسيم الآحاد
قال علماء الأصول
الآحاد ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما يتردد فيه
أما ما يعلم صدقه ينقسم إلى ما يعلم بضرورة العقل كإخبار المخبر عن
استحالة اجتماع المتضادين
وإلى ما يعلم بنظر العقل كإخبار المخبر عن حدث العالم
وإلى ما يعلم بالسمع كإخبار من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صادق
وإخبار الرسول عليه السلام عن الصراط والجنة والنار
قالوا ومن هذا القسم خبر الواحد إذا عمل بموجبه أهل الإجماع
وأما ما يعلم كذبه فينقسم إلى هذه الأقسام وهو الإخبار عن عكس هذه
الأمور
334

وهذا وإن كان صحيحا فلا فائدة له في كتاب الأخبار
فإن غرض الكتاب بيان ما يتلقى علمه من الخبر
وهذه الأمور معلومة لا من الخبر
وما ذكروه من انعقاد الإجماع على العمل وكونه دليلا على صدق خبر
الواحد ليس كذلك
فان قيل لا تجتمع الأمة على الضلالة
قلنا ما اجتمعوا على صدقه بل اجتمعوا على العمل به فنقول
العمل واجب ومستنده هذا الحديث المتردد بين الصدق والكذب
والمختار في التقسيم ان يقال
الخبر المعلوم صدقه على القطع ما استجمع شرائط التوتر وذلك لا ضابط
له
والمعلوم كذبه أقسام
منها تحدي الرجل بالنبوة مع العجز عن إقامة المعجزة يدل على كذبه
إذ لو كان رسولا لأيد وإن بمعجزة
335

فإن تكليف الإتباع من دونه مما لا يطاق وهذا محال
هذا إن قال انا نبيكم
فأما إذا ادعى بأنه يوحى إليه في نفسه فيما يؤمر به وينهى
عنه فلا يعلم كذبه بذلك
وكذلك إذا قال معجزتي ان الله تعالى ينطق هذا الحجر فنطق
بتكذيبه فيعلم كذبه إذ لو كان صادقا لما أظهره على هذا الوجه
بخلاف ما لو قال معجزتي ان أحيي هذا الميت فأحياه فنطق
بتكذيبه لأنه ذو اختيار كسائر الخلق والاعجاز في احيائه
ومما يعلم كذب المخبر فيه انفراد الرجل بالاخبار عن واقعة عظيمة
تتوفر البواعث على نقلها وتواتر الخبر فيها كانفراد رجل واحد بالاخبار
336

عن برزة الخليفة على هيئة خارقة للعادة على ملا من الناس في مفرق
الطرق ومزدحم الخلق
فيعلم كذبه
إذ لو كان لتوفرت الدواعي على نقله ولاستحال كما انفراده به وسكوت
الباقين عن نقله
فإن قيل فلم اختلف الناس في النبي عليه السلام انه دخل مكة صلحا
أو عنوة وقد كان في مزدحم الخلق وقد تمسكتم فيها بأخبار الآحاد
قلنا تواتر كونه صلى الله عليه وسلم شاكا في السلاح متهيئا
لأسباب الحرب وانما الخلاف في جريان أمان لهم وذلك مما يخفي
فلا يبعد انفراده الآحاد به
فإن قيل لم لم يتواتر قران رسول الله ص أو افراده في الحج
وقد كان أحرم على الملأ من الناس
قلنا لأن الميز بين الأفراد والقران مما يخفى ولا يدركه إلا الخواص
فلا يبعد استبهامه هو
فإن قيل انشقاق القمر لم يتواتر
337

قلنا أنكره الحليمي لذلك
واعتذر القاضي بأنها كانت آية ليلة أظهرت في جنح الليل ولم يكن
مع النبي ص إلا أشخاص معدودة في وقت استرسال ثوب الغفلة على
الناس فلذلك لم يتواتر
فإن قيل الإقامة من شعائر الإسلام فهلا تواتر الأفراد إذا كان
واقعا
338

قال القاضي اقطع بأن بلالا كان يثني ويفرد فلم يطرد الإفراد على
التجرد دون التثنية فلذلك تعارضت الأخبار
فان قيل لم لم يتواتر التثنية والافراد جميعا
قلنا لضعف اعتناء الناس به فإنه كان يخفض الصوت بها نهارا
والمختار في الجواب القطع بان الافراد كان متواترا في العصر الأول
إلا أن النقلة اضربوا عن نقله استغناء بالاستفاضة والاجماع من حيث الفعل
وحيث انقرض العصر أحدث بعض التابعة التثنية ولم يبق
ممن عاين عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى الآحاد
ولا يبعد ان يتواتر خبر عظيم ثم تنحبس الدواعي على ممر الأيام
وتندرس فقد تقررت هذه القاعدة واستمرت وعليه بنينا الرد على
الروافض حيث ادعوا نصا من الرسول على امامة علي كرم الله وجهه
339

فان الصحابة اشتوروا بعد وفاة الرسول عليه السلام واضطربوا وسلم فيمن
ينصب له حتى اتفقوا على أبي بكر رضي الله عنه ولم ينقل أحد عن الرسول
عليه الصلاة والسلام النص
ولو كان لتوفرت الدواعي على ابدائه ونقله
وكذلك اليهود إذ نقلوا عن موسى عليه السلام انه خاتم النبيين قيل
لهم تحدى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود وكانوا ينازعونه في بعثه ولم ينقل
أحد من أحبارهم ذلك
ولو كان لتوفرت الدواعي على نقله
وأيضا فلا يمكنهم انكار معجزة عيسى عليه السلام من احياء الموتى وغيره
ولو صدقوا لما ظهرت المعجزة بعد
وأما المتردد فيه فجملة اخبار الآحاد وكل ما لم يستجمع شرط
التواتر وأمكن وقوعه
ومن هذا القسم انفراد رجل واحد ينقل حالة لرجل عظيم إذا تخيلنا
استناد سكوت الباقين إلى سياسة واياله عنه ذي اياله إن هذا تمام الكلام في هذا
القسم والله أعلم
340

القسم الثاني
في
إخبار الآحاد وفيه خمسة أبواب
الباب الأول
في اثبات كون المخبر الواحد مفيدا للعمل
وذهب بعض المحدثين إلى أنه يفيد العلم
وهذا محال
إذ لا يجب صدقه عقلا ولا نقلا
وإذا جاز كذبه فلا علم بالصدق
وكيف وما من شخص إلا ويتصور ان يرجع عما ينقله وقد عهد
مثله
وبعد فلو تعارض نقل عدلين فليت شعري يجعل العلم بهما على
التناقض أو بأحدهما ولا تمييز ولا ترجيح
341

فإن قيل لو لم يوجب العلم لما أوجب العمل
قلنا عن هذا صار الروافض إلى أنه لا يعمل بأخبار الآحاد
ونحن نبطل الان مذهبهم فنقول
ان أحلتم وقوعه وزعمتم انه لا يتصور فوجه تصوره أن يقول السيد
لغلامه اعمل بما ينتهي إليك من أمري على لسان الآحاد
وان أحالوا لاستقباح أو لاستصلاح فنحن لا نساعدهم في ذلك ثم
قلب كل خيال يبدونه في اثبات القبح ونقيض الصلاح ممكن عليهم
وان تلقوا منعه من السمع فلا بد من نقله
قالوا ودليله قوله تعالى ان بعض الظن اثم
قلنا خصص البعض وليس هذا منه
ودليله بناء القاضي قضاءه على ظن صدق الشهود بالإجماع
فإن قيل لا نعلم وجوب العمل به بضرورة العقل ولا يدل عليه
دليل فلا يعمل به
342

قلنا دليله امران قاطعان
أحدهما
علمنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ولاته ورسله إلى البلاد ويفرقهم
في الأقطار وهم آحاد وكان يضم إليهم الصحائف ويأمر بإتباعه
الحاضر والبادي ولو توقفوا إلى التواتر لحزت رقابهم
المسلك الثاني
علمنا بان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ان ارتبكوا إلا في واقعة فنقل
إليهم الصديق رضي الله عنه قولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على انفراده
اتبعوه
وقولهم إنه لا يورث العلم يبطل بالشهادة والله أعلم
343

الباب الثاني
في
عددهم وصفتهم
ذهب الجبائي إلى أنه لا يعمل إلا بما ينقله رجلان
ثم شرط عند تكرر العصر ان يحتمل قول كل رجل رجلان هكذا إلى
حيث ينتهي
وهذا استئصال لهذه القاعدة إذ لا يستقيم على هذا المذاق حديث في
عصرنا ومعتمدنا نقل الصحابة واكتفاؤهم بالواحد
وقد نقل أبو بكر الصديق رضي الله عنه قوله عليه السلام
نحن معاشر الأنبياء لا نورث فتركوا قسمة تركته
فإن قيل نقل عن أبي موسى الأشعري انه قرع باب عمر فلم بفتح
344

فانصرف فأمر عمر رضي الله عنه حتى اتي به فقال ما الذي حملك على
الانصراف
فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستئذان ثلاثة فان أجبت
وإلا فانصرف
فقال من بشهد لك
قلنا اتهمه عمر ونحن إذا اتهمنا الراوي لقرينه فلا نقبله
فإن قيل قال علي كرم الله وجهه في رواية معقل بن يسار كيف
نقبل قول اعرابي بوال على عقبيه
345

قلنا لعله لتهمه فيه إذ ليس فيه انه رده لانفراده وقد أشار إلى السبب في
كلامه
فإن قيل روي أن عليا رضي الله عنه كان يحلف الراوي علنا
فحلفوا أنتم واقبلوا
قلنا كان يحلفه عند التهمة وكان لا يحلف أعيان الصحابة
رضي الله عنهم
فان قاسوا الرواية على الشهادة فاخبار الآحاد لا تنفي قياسا كما
لا تثبت قياسا
ثم في الشهادة تقييدات بدليل اعتبار الذكورة والحرية ورده فيما
ينتفع به الشاهد أو ولده بخلاف الرواية
مسالة 1
الاسلام والعقل شرط بالإجماع في الراوي
وظهور الفسق قادح
والأنوثة والرق غير قادح
وفي ترجيح قول الرجل على قول المرأة كلام
346

واما الصبي فإن كان عدما لا تقبل روايته كالبالغ الفاسق
واما الصبي المراهق المتثبت في كلامه إذا روى
قال قائلون يقبل
والمختار رده
واليه ذهب القاضي
واستدل برد رواية الفاسق وليس من ضرورة الفسق الكذب ولكن
يستدل به على قلة مبالاته فيقال ربما يخبر عن الكذب أيضا
والصبي وان لم يكن به عرامة فيعلم انه لا يأثم بالكذب فلا وازع له من
جهة الدين فرد روايته أولى
والمسلك المختار عندنا منهج الصحابة وسيرتهم على طول دهورهم لم
يراجعوا صبيا والعبادلة بصبون صلى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته
وكذلك من عصرهم إلى زماننا لا عهد لشيخ ينقل عن صبي حديثا
ولو كان مقبولا لما عطلت روايتهم وهم شطر الخليقة كما لم يعطل
النسوة والعبيد
قال القاضي فأنا لا أقطع برد الصحابة رواية الصبيان
347

ونحن نقطع به لما ذكرناه
مسالة 2
المستور لا تقبل روايته
خلافا لبعض الناس
وقد استدلوا بأن الصحابة كانوا يقبلون الأحاديث ممن يرويها من غير
بحث عن حالته والمتبع سيرة الصحابة
وينضم إليه وجوب احسان الظن بالمسلم وظاهر المسلم العدالة
قلنا نقل إلينا من الصحابة رضي الله عنهم انهم كانوا يردون رواية
الغرباء والمجهولين من الاعراب
ونعلم أنهم ما ردوا لجهلهم بنسبهم أو مسكنهم أو مسقط رأسهم وانما
ذلك لجهلهم بعدالتهم
وما ذكروه من أن الغالب العدالة قلنا الرجوع في الغالب إلى الواقع في
العادة والفسق أغلب على الخليقة والكذب أكثر ما يسمع
ويكفي المستور في احسان الظن به ان يستوي في حقه العدالة والفسق
348

وظهور الفسق انما قدح لانخرام الثقة وعليه التعويل في الأحاديث
والفسق محتمل وخفاؤه عنا لا يحقق الثقة أصلا
مسالة 3
قال القاضي كل صورة من هذه الصور إذ دل عليها دليل قاطع على
قبول الخبرية قبلت
وإذا لم يدل عليه قاطع ولا على رده أيضا قطعت برده لعدم القاطع
على قبوله
والمختار انه ان لم يدل قاطع على الرد ولا على القبول نتردد
ولا نجعل عدم القطع بالقبول سبب القطع بالرد
إذ القاطع بالقبول اجماع الصحابة
والصحابة كانوا يختلفون في قبول الأحاديث
والرواة كانوا لا يعترضون على القائلين ولا ينسبونهم إلى ترك القطع
والله أعلم
349

الباب الثالث
في
الجرح والتعديل
وفيه خمسة فصول
الفصل الأول
في العدد
وقد قال المحدثون لابد من معدلين أو جارحين والواحد لا يكتفي
به
لان سبيل الاكتفاء براوية واحد سيرة الصحابة ولم ينقل هذا منهم
في المعدل فيرد إلى قاعدة الشرع
وكلما مست الحاجة إلى اثباته لا يثبت إلا بقول اثنين
قلنا نعم لم ينقل ذلك ولكن المختار الاكتفاء بواحد لأننا نفهم مما نقل
أمورا لم تنقل ولذلك اتسع باب القياس
350

فلو اقتصرنا على الأقيسة المنقولة عنهم ومنهم تلقينا القياس لضاق
باب القياس
ولكنا فهمنا مما نقل تشوفهم إلى القياس في وقائع لم تتفق لهم إذ اقدموا
على القياس اقدام من لا يرى على الوقائع حصرا
وكذلك فهمنا من حالهم انهم لو تماروا في قول راوي وعدله الصديق
لكانوا يكتفون
351

الفصل الثاني
في
كيفية الجرح والتعديل
والمنصوص للشافعي رضي الله عنه أن التعديل المطلق في الشهادة
والرواية مقبول
والجرح المطلق لا يقبل
لأن أسباب العدالة لا حصر لها
والجرح يحصل بخصلة واحدة
ولأنه قد يعتقد الشئ سببا للجرح ونحن لا نراه فليبينه
قال القاضي رحمه الله الجرح المطلق كاف فإنه خارم للثقة المبتغاة من
الحديث
والتعديل لا بد فيه من ذكر سببه فإنه قد يكتفي بمبادئ العدالة جريا
على الظاهر واحسانا للظن به
352

وقال آخرون لا بد من ذكر السبب فيهما أخذا بطرفي كلام الشافعي
والقاضي رضي الله عنهما
وعكس عاكسون وقال وقالوا يكفي الاطلاق فيهما
والاختيار ان الجرح المطلق خارم للثقة فهو كاف
والتعديل المطلق من مثل مالك مع علوه في الاحتياط مقبول
وممن يظن به التساهل فيه فلا
353

الفصل الثالث
في
التعديل بالفعل
وقد اختلفوا في الاكتفاء به وله صورتان
إحداهما
ان يروي المستجمع لخلال التعديل حديثا عن شخص ويقتصر عليه
فهل يجعل ذلك تعديلا
والمختار ان ذلك كالتعديل من مالك ومن كل محدث لا يستجيز نقل
الأحاديث الضعيفة وألا فلا
والصورة الثانية
ان يعمل بموجب حديث لم ينقله إلا رجل واحد هل يجعل ذلك
تعديلا فيه خلاف
والمختار انه ان أمكن حمل عمله على الاحتياط فلا وإن لم يمكن
فهو كالتعديل لأنه محصل للثقة
354

الفصل الرابع
في
صفة المعدل والجارح
ولا بد من العقل والاسلام وظهور العدالة والبلوغ
ولا تقدح الأنوثة والرق
ويشترط معرفة أسباب الجرح والعدالة فيما قاله الأصحاب وفيه
تفصيل
وهو انه ان ذكر سبب الجرح والعدالة فلا تعتبر معرفته به فإنه
عدل في الأخبار وقد فوض الرأي إلينا
وان لم يذكر السبب فتعديله المطلق وكذا جرحه مردود
نعم قد يترجح رواية من لم يتطرق إليه جرح مطلق من مثله على رواية
من تطرق إليه ذلك
355

الفصل الخامس
في
عدالة الصحابة رضي الله عنهم
وهو معتقدنا في جميعهم على الاطلاق وعليه ينبني قبول روايتهم
واستثنت المعتزلة طلحة والزبير وعائشة رضوان الله عليهم تعويلا
على ما صدر منهم من هناتهم وحالات نقلت من محاربتهم
وما من أمر ينقل إلا ويتطرق إليه احتمال
فالنظر إلى ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله إياهم أولي من إساءة الظن بهم
بالاحتمال
ولا فرق بين علي وعثمان وبينهم في مثل ما يعولون عليه
356

الباب الرابع
فيما يعتمده الراوي
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
في
شرط الشيخ والقارئ والمتحمل
أما الشيخ فشرطه
ان يصغي لما يقرأ عليه بحيث لا يذهل عن كلمة منه أو يقرأ
بنفسه أو يأخذ النسخة ويحتاط في النظر فيه ليتنبه للزيادة والنقصان
فإن لم يكن في يده نسخة وكان يحفظ الحديث بحيث يتنبه للزيادة
والنقصان كفى
وإلا فوجوده كعدمه
357

وقوله سمعت شيخي أو قال اخبرني أو حدثني على وتيرة
واحدة
فأما القارئ فشرطه
ان يقرأ نسخة صحيحه على وجه يسمع على الشيخ تمام كلمات
الأحاديث
هل عليه أن يقول للشيخ بعد قراءته هل كان كما قرأته
شرطه بعض المحدثين
وهذا لا حاجة إليه
فإن قوله إذ قال قرأت لا يفيد القطع والثقة حاصلة بسكوته
وتقريره بقرينة الحال فإنه متصد لهذا الشأن
وأما المتحمل
إن كان يقرأ فذاك
وإن كان لا يقرأ فسبيله ان يسمع تمام كلمات الأحاديث ولا يشترط
فهم معنى الحديث ولا حفظه
358

وإن كان يسمع صوتا غفلا ولا يحيط بمقاطع الكلمات ومباديها
لا يصح سماعه
وان عول على النسخة بعده فهو تعويل على الصحيفة
359

الفصل الثاني
في
الاعتماد على الكتب
وقد منعه المحدثون
والمختار انه إذا تبين صحة النسخة عند امام صح التعويل عليه في
العمل والنقل
ودليله مسلكان
أحدهما
اعتماد أهل الأقطار المتفرقة على صحف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات
المضمومة إلى الولاة والرسل من غير توقف على نقل الراوي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم
والثاني
انا نعلم أن المفتي إذا اعتاصت عليه مسألة فطالع أحد الصحيحين
فاطلع أنه على حديث ينص على غرضه لا يجوز له الاعراض عنه ويجب عليه
360

التعويل ومن جوز هذا فقد خرق الاجماع وليس ذلك إلا
لحصول الثقة به وهي نهاية المرام
نعم لا يقول سمعت شيخي وهو لا يسمعه
361

الفصل الثالث
في الإجازة
وقد رده بعض المحدثين وقبله بعض وحطوه عن السماع
وقال الأستاذ أبو بكر رضي الله عنه يعول عليه في احكام الآخرة
والمختار انه كالسماع لان الثقة هي المبتغاة والامام المرموق في
الصنعة الغالي في الاحتياط إذا عين حديثا وأشار إلى نسخة وقال
هذا قد صح عندي على وجهه فأجزت لك في النقل فقد حصلت الثقة
ولا تعبد في السماع
واما المناولة
فلا فائدة فيها وهي من جهالات بعض المحدثين
362

ولا يشترط أيضا أن يقول أجزت ويكفي أن يقول قد صح عندي
ذلك أو هذه النسخة مصححة على شيخي
فأما إذا قال أجزت لك فيما صح عندك من مسموعاتي مطلقا فهذا لفظ
مبهم لا بد فيه من نثبت فليقع البناء على التعين وثلج الصدر
وليتجنب رواية كل ما يتردد فيه
ولا يجوز التعويل على خط المجيز المكتوب على حاشية النسخة أصلا
والله أعلم
363

الباب الخامس
فيما يقبل من الأحاديث وما يرد
ويحصر مجموعه تسع مسائل
مسألة 1
المراسيل مردودة عند الشافعي رضي الله عنه إلا مراسيل سعيد ابن
المسيب والرسل الذي عمل به المسلمون
364

وصورته أن يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه أو يقول
حدثني الثقاة أو اخبرني رجل ولم يذكر اسمه
وقبل أبو حنيفة رضي الله عنه المرسل
ومنهم من قدمه على المسند
واعترض القاضي على الشافعي رضي الله عنه في استحسانه مراسيل سعيد ابن
المسيب وقال ما الفرق بينه وبين غيره
وقال قال الشافعي رضي الله عنه مراسيله مسانيد ولكنه
لا يذكر لكثرة شيوخه فإذن قد استحسن مسانيده لا مراسيله
وقال القاضي لم قلت إذا عمل به الأمة كان مقبولا
نعم الاجماع هو المقبول
والعمل إن كان متلقى منه فلا أثر للمرسل وان تلقى من الحديث
فليقبل دون الاجماع
365

وتمسك الشافعي رضي الله عنه بأن قال إذا أرسل الناقل الحديث
فحقه ان يذكر من أخبر به ليبحث عن حاله فربما لا يكون ثقة
وتمسك القائلون بأن العبادلة الأربعة لم يدركوا إلا أواخر عمر
الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوا منه إلا اخبارا معدودة ثم لم يقتصروا في النقل
عليها قطعا ولذلك غزر علمهم وكثرت روايتهم
ثم كانوا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير اسناد إلى واحد ولم
يزعهم عن ذكر ذلك دينهم ولا اعترض عليهم غيرهم
فدل ان الارسال جائز مقبول
يحققه ان الرجل العظيم القدر في هذا الشأن إذا جزم قوله وقال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال اخبرني الثقة بكذا فالثقة به أبلغ مما إذا ذكر
اسم الرجل فإنه يطرق أمره إذا قال هو ثقة وثبت في كون الحديث
صادرا من فلق في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمبتغي هو الثقة
366

قال القاضي والمختار عندي ان الإمام العدل إذا قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اخبرني الثقة قبل
فأما الفقهاء والمتوسعون وهو في كلامهم قد يقولون ذلك لا عن تثبت
فلا يقبل
367

ومنهم من قال هذا هو منقول عن الحسن البصري والشافعي
رضي الله عنهما
ولا يقبل في زماننا هذا وقد كثر الرواة وطال البحث وتشعبت
الطرق فلا بد من ذكر اسم الرجل
والأمر على ما ذكره القاضي إلا في هذا الأخير فإنا لو صادفنا في زماننا
متثبتا في نقل الأحاديث مثل مالك رضي الله عنه قبلنا قوله قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف ذلك بالاعصار صلى الله عليه وسلم
ثم قال القاضي تبينت ان مذهب الشافعي رضي الله عنه قبول
المراسيل فإنه قال في المختصر اخبرني الثقة وهو المرسل بعينه وقد اورده
لينقل عنه ويعتمد عليه ويعتقد معتمد مذهبه وعن هذا قبل
مراسيل سعيد بن المسيب وانما رد ما تردد فيه
368

مسالة 2
إذا روى الراوي حديثا عن شيخه فروجع فيه فقال لا أدريه
فالحديث مقبول عندنا إذ لم يكذبه
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو مردود
ومثاله ما نقله ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري
من حديث النكاح بغير ولي
وقال ابن جريج راجعت الزهري في الحديث فقال
لا أعرفه
369

وتمسك أبو حنيفة رحمه الله بأن التعويل على
الثقة وقد انخرمت الثقة وعارض قوله قول شيخه ونزل هذا منزلة اتفاق أو به شهود
الأصل قبل القضاء وقولهم لا ندري ما ذكره شهود الفرع
والاختيار عندنا قبوله
لأن الثقة عندنا تنخرم إذا كذبه فأما إذا قال لا أدريه فحمله على
الذهول والنسيان ممكن فلا حاجة بنا إلى تكذيب عدل مع امكان التصديق
وليس كذلك إذا كذبه
إذ ليس أحدهما بالتصديق أولي
نعم لا ننكر ان هذا في الثقة دون ما إذا وافق الشيخ ولكن نباهة
الثقة غير معتبرة إذ حديث ينقله أبو عوانة في الثقة دون ما ينقله
مالك مع نباهته وذلك لا يقتضي رده وانما يؤثر في الترجيح
ولا وجه للنظر إلى الشهادة فإن مبناها على تعبدات ذكرناها ولذلك
لا يراجع شهود الفرع مع حضور شهود الأصل بخلاف الرواية
فإن منعوا ذلك استدللنا بسيرة الصحابة وقد علمنا أنهم في مخاليف
370

مكة والمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحافتهما إذا كانوا يعتمدون على
قول أبي بكر وعمر وغيرهم مع امكان الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
ونعلم أن النسوة لا يكلفن البروز إلى الرسول في كل حكم من الصلاة
والطهارة بل كن يعتمدن فقال قول أزواجهن فلا وجه لانكاره
مسألة 3
إذا قال الصحابي من السنة كذا أو سنة الرسول عليه السلام كذا
قال المحدثون هو كقوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا لأنهم يعبرون به عن قول
النبي عليه السلام
وهذا تحكم
فإن السنة يعبر به عن الطريقة والشريعة بدليل قوله تعالى سنة
من قد أرسلنا قبلك من رسلنا فلعله قاله قياسا وسنة النبي اتباع
القياس
وكذا لو قال امرنا بكذا فإنه أمر باتباع القياس وإن كان هو
أظهر من الأول
371

ولو قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كراوية قوله
مثل قول صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين
أو سفرا ان لا ننزع خفافنا الحديث
مسألة 4
أوجب المحدثون نقل ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهها وغالوا حتى
منعوا ابدال أي اسم الله تعالى باسم آخر من أسماء الله تعالى تمسكا بقوله
عليه السلام تضر الله أمرا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ
أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
والمختار ان الألفاظ منقسمة إلى ما يتميز بخاصية الاعجاز وهو ألفاظ
القرآن ولا بد من نقلها إذ الاعجاز بها يتعلق
372

وما لا اعجاز فيه ينقسم إلى ما يتعلق به تعبد لا بد من قراءته كألفاظ
التشهد فلا بد من روايتها على وجهها
ومالا يكون كذلك يجوز تغييره بشرط أن يكون الناقل على ثبت من
تبقية المعنى بتمامه
إذ لا تبعد في اللفظ والمعنى هو المبتغى
مسألة 5
إذا نقص الراوي شيئا من الحديث نظر فيه
فإن كان المتروط لا يرتبط بالمنقول أصلا فذاك جائز وعليه درجت
الصحابة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرع لهم احكاما جمة في مجلس واحد
وخطبة واحدة ثم كانوا ينقلونها متفرقة على حسب الحاجة
وان ارتبط به بحيث لا يستقل المنقول بإفادة الغرض فلا يحل نقصانه
فإنه اخلال بالغرض
وان استقل الأول وكان الباقي يفيد مزيد وضوح فيجوز الاقتصار على
الأول كما نقل عن ابن مسعود في بعض الروايات أنه قال أتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة لما استدعى ذلك مني فرمى الروث
وقال إنه رجس ولم ينقل قوله ابغ لي ثالثا
373

وقد نقل عن الرسول عليه السلام أنه قال الثيب بالثيب جلد مائة
والرجم وفي بعض الروايات لم ينقل الجلد
قال الشافعي رضي الله عنه لا أتلقى سقوط الجلد من الثيب من اقتصار
الراوي
إذ يحتمل ان النبي عليه السلام كان قد ذكره في هذا الحديث أيضا
فاستحقره ثنا الراوي بالنسبة إلى الرجم فاقتصر على نقل الرجم ولكنه مأخوذ
من قصة ماعز وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
مسألة 6
القراءة الشاذة المتضمنة لزيادة في القرآن مردودة كقراءة
ابن مسعود في آية كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات
فلا يشترط التتابع
خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه فإنه قبله
وهو يناقض أصله من حيث إنه زيادة على النص وهو نسخ بزعمه كما
قاله في كفارة الظهار
374

ومعتمدنا شيئان
أحدهما
أن الشئ إنما يثبت من القرآن إما لإعجازه وإما لكونه متواترا
ولا اعجاز ولا تواتر
ومناط الشريعة وعمدتها تواتر القرآن ولولاه لما استقرت النبوة
وما يبتني على الاستفاضة لتوفر الدواعي على نقله كيف يقبل فيه رواية
شاذة
فإن قيل لعله كان من القرآن فاندرس
قلنا الدواعي كما توفرت على نقله ابتداء فقد توفر على حفظه
دواما
ولو جاز تخيل مثله لجاز لطاعن في الدين أن يقول لعل القرآن قد
عورض فاندرست المعارضة
وجوابنا عنه أنه لو كانت لانتشرت وتوفرت ولتوفرت
375

الدواعي والجبلات على نقلها مع تشوف الطاعنين في الدين إلى ابطاله
المسلك الثاني
مبنانا به فيما نأتي ونذر الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم وقد كانوا
لا يقبلون القراءة الشاذة
وعن هذا كسر عثمان رضي الله عنه اضلاع ابن مسعود فكيف يقبل
فإن قيل لا ينحط عن خبر الواحد فليعمل به
قلنا العمل به ينبني على كونه من القرآن وقد بطل ذلك
ثم مستندنا في العمل بخبر الواحد سيرة الصحابة وهم لم يعملوا به
مسألة 7
إذا انفرد بعض النقلة بزيادة في أصل الحديث قبلت الزيادة
خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه
وقد عول على أنه يبعد ان يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم جمع قد اعتنوا
بحفظ كلامه ثم يختص بعضهم بسماع كلمة مع ذهول الآخرين
عنه
376

والعجب أنه لم يتنبه لهذا في القرآن ومبناه على الاستفاضة والتواتر
واعتبره في غير مظنته
إذ وقوع غفلة أو فترة لمعظم الحاضرين واختصاص البعض
بالاستماع لا يحيله العرف والعقل والناقل عدل والجمع بينه وبين المقتصرين
ممكن فلا يجعل للتهمة موضعا على ما قاله الشافعي
نعم لو كذبوه وقالوا لم يقله فعند ذلك تبطل الثقة فلا يقبل
فان قالوا ذلك مما يندر
قلنا لا يرد حديث الثقة لندوره
إذ قبل رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائما مع ندوره بالنسبة إلى
حاله وقد كان بحيث غشي عليه حياء لو انحلت عقد ازاره وانكشفت
عورته
والدليل عليه ان رجلين لو انفرادا من بين سائر الشهود في واقعة
377

شهدوها وشهدوا على زيادة قبل ذلك منهم من غير التفات إلى
الندور
مسألة 8
قال أبو حنيفة رضي الله عنه إخبار الآحاد فيما تعم به البلوى
مردودة
فنقول ان عنيت به ما يعظم موقعه في القلوب وتتوفر الدواعي على
نقله فمسلم
وان عنيت به ما يتكرر في اليوم والليلة كالصلاة والطهارة فليس
كذلك
إذ معظم الصور المتعلقة بالصلاة والسهو فيها انفرد به الآحاد
وقد ردوا مذهبنا في الجهر بالبسملة بهذا السبب
وقالوا لو كان لاستفاض فإن البسملة متكررة
وهذا يعارضه ان الاسرار لو وقع لاستفاض أيضا
ثم يقال لهم أتقطعون هذا بكذب ناقل الجهر أم لا
378

فإن قطعتم به فلا يدرك كذبه بضرورة العقل ولا نظره
وان جاز وقوعه فهو عدل فلا وجه لتكذيبه
والقول الوجيز ان ما يقتضي احلال الاستفاضة فيه إذا لم ينقل نفيه
واثباته متواترا فهو محمول على أحد أمرين
أما على قصور الدواعي وضعف الاعتناء بنقله
واما على اندراسه بعد التواتر
وهذا مما لا يعظم وقعه في القلب حتى يتواتر
والعجب انهم أثبتوا تثنية الإقامة بمثله وهو شعار الاسلام يتكرر في كل يوم
وليلة خمس مرات
مسألة 9
كل خبر مما يشير إلى اثبات صفة للباري تعالى يشعر ظاهره بمستحيل
في العقل نظر
ان تطرق إليه التأويل قبل وأول
وان لم يندرج فيه احتمال تبين على القطع كذب الناقل
379

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسدد أرباب الألباب ومرشدهم فلا يظن به
ان يأتي بما يستحيل في العقل
وقوله عليه السلام يضع الجبار قدمه في النار مقبول
مؤول محمول على الكافر العتل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل النار كل جبار جظ جعظري
وتشهد له قرائن وهو قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس
أجمعين وقد علم الرب تعالى متسع النار وما يملؤها فكيف افتقر
إلى وضع القدم
وهلا جعل الحجارة حشوها كما قال تعالى وقودها الناس والحجارة
وحمله على الظاهر نسبة جهل إلى الله تعالى عن قول الظالمين
أو لعجزه عن أن يملأ النار بخلق يخلقه
380

ورب حديث علم علي القطع إزالة ظاهره كقوله عليه السلام قلب
المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وخلاف الظاهر فيه مشاهد
وقوله عليه السلام خلق آدم على صورته فالهاء فيه قيل
راجعة إلى آدم ومعناه أنشأه كذلك بخلاف من دونه فإنهم كانوا أولا على
صورة الآباء
وقد قيل سببه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يلطم وجه غلام فقال
لا تفعل فإن الله تعالى خلق آدم على صورته
والقول الوجيز ان كل ما لا تأويل له فهو مردود
وما صح وتطرق إليه التأويل قبل والله أعلم
381

كتاب النسخ
وفيه أربعة أبواب
الباب الأول
في اثبات النسخ على منكريه وبيان حقيقته
وقد أنكر اليهود جواز النسخ
فنقول لهم ان تلقيتم استحالته من عدم تصوره فتصويره أن يقول
السيد لعبده افعل ثم يقول بعده لا تفعل
وان تلقيتموه من استصلاح واستقباح فلا تساعدون عليه
ثم لا بعد في تقدير مصلحة فيه
وان نقلوا استحالة النسخ من موسى عليه السلام فقد كذبوا إذ شريعة
عيسى عليه السلام نسخت شريعته ولا طريق لهم إلى انكار معجزته
فإن قالوا النسخ يدل على البداء
قلنا إن عنيتم انه يدل على تبين شئ بعد استبهام شئ فليس كذلك
383

وان قلتم يؤدي إلى افتتاح أمر لم يكن فالله تعالى يبدل الأحوال
يحيي ويميت ويحرك ويسكن
وان قالوا كلام الله تعالى قديم والقديم كيف ينسخ
قلنا تعلق الخطاب بنا ليس قديما فلا بعد في انقطاعه كما ينقطع
بالجنون وغيره
فدل ان استحالة النسخ لا تعلم بضرورة العقل ولا بنظره
فإن قيل أمر الله ان فهم منه التأبيد فنسخه يشعر بالخلف وان لم
يدل إلا على التأقيت فلا حاجة إلى النسخ إذ النسخ رفع ولا رفع
قلنا يندفع هذا السؤال ببيان حقيقة النسخ
وقد اختلفت العبارات فيه
فقال قائلون النسخ بيان أمد العبادة
وهو فاسد من وجهين
أحدهما ان النسخ لا يختص بالعبادة
الثاني ان البيان لو قارن لم يكن نسخا فلا بد من التراخي
وقال الفقهاء النسخ تخصيص الأمر بزمان
قال القاضي رحمه الله في روم افساده ثم أجمع الفقهاء واليهود على رد
384

النسخ إذ الأمة مجمعة على اثباته معنى وراء التخصيص فلا تغني الموافقة في
اللقب ورد المعنى إلى التخصيص إذ النسخ رفع لا رفع فيما قالوه
والتخصيص بالقياس واخبار الآحاد مسوغ دون النسخ
قال القاضي والنسخ رفع الحكم الثابت وهذا يرد على ما ذكره اليهود
من أن رفع الثابت خلف
وقالت المعتزلة النسخ هو النص الذي يتضمن رفع مثل الحكم الثابت في
مستقبل الزمان الذي لولاه لاستمر الحكم
والمختار ان النسخ ابداء ما ينافي شرط استمرار الحكم
فنقول قول الشارع افعلوا شرط استمراره ان لا ينهى وهذا شرط
تضمنه الأمر وان لم يصرح به كما أن شرطه استمرار القدرة ولو قدر عجز
المأمورين تبين به بطلان شرط الاستمرار
فإن قيل ما الفرق بينكم وبين المعتزلة
قلنا نفارقهم في مسألتين
إحداهما انا نجوز نسخ الأمر قبل مضي مدة الامكان وهم لا يجوزون
لأن الأمر ليس بثابت
385

والاخرى انه لو قال افعلوا أبدا جوزنا نسخه لأنا لا نتلقاه من
اللفظ وهو كما لو قال افعلوا أبدا ان لم أنهكم عنه إذ شرط استمراره عدم
النهي
ونقول للذين حملوا النسخ على التخصيص ان عنيتم به ان الحكم في علم الله
تعالى كان متخصصا بهذا الوقت فهو مسلم
وان عنيتم ان اللفظ في وضعه تخصص به فليس كذلك فإنه لو قال
افعلوا أبدا فهو نص ويجوز نسخه
نعم لا يجوز الهجوم عليه بالقياس لأن التخصيص أيضا تلقيناه من
الصحابة لا من العقل ولم ينقل عنهم ذلك في النسخ
فإن قيل هذا نسخ لا يتضمن رفعا
قلنا يتضمن رفع اعتقادنا ووهمنا
فإنا كنا نظن استمرار الحكم ابدا وإلا فالثابت في علم الله تعالى لا ينقلب
فإذن تحصلنا على اثبات النسخ وراء التخصيص متضمنا لرفع الاعتقاد
دون الحكم في علم الله تعالى مفارقا للاستثناء إذ شرط النسخ
الاستئخار ولو قارن لناقض وشرط الاستثناء المقارنة ولو استأخر
لناقض
فبأن بما ذكرناه وجه الرد على اليهود فيما ذكروه من السؤال
386

الباب الثاني
الناسخ
هو الله تعالى وهو المثبت
وقولنا الخبر ناسخ أو الشئ ناسخ تجوز
ثم لا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب
ونسخ الكتاب بالسنة جائز عند الأصوليين
خلافا لمالك والشافعي والأستاذ أبي إسحاق في زمرة الفقهاء
387

فنقول ليس في العقل ولا في الشرع ما يحيل قوله النبي عليه السلام
لأمته هذه الآية منسوخة من غير أن يتلو معها آية
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يقوله إلا عن وحي
وكان لا ينطق عن الهوى
وإن كان يجتهد لم يكن مترددا في اجتهاده بل كان يقطع بما يقول
388

فإن قيل نسخ المعجز بغير المعجز محال
قلنا ليس كذلك بدليل جواز نسخ آية بنصف آية لا اعجاز فيها فإن
تمسكوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها الآية
قلنا هذا ان دل فإنه يدل على أنه لم يقع
ثم لا يدل عليه أيضا فإنه محمول على العلم والامارة
389

ثم لم يذكر انه لم ينسخ إلا بالكتاب وانما فيه تعرض للمنسوخ
والاتيان بآية أخرى وان لم يكن هو الناسخ
ثم الآية مجملة لترددها بين هذه الجهات
هذا هو الكلام في جوازه
ونحن نقطع بوقوعه
فإنا نرى آيات من الكتاب منسوخة كآية الوصية وغيرها وليس لها
ناسخ من الكتاب
فأما ورود آية على مناقضة ما تضمنه الخبر جائز بالاتفاق
ولكن الفقهاء قالوا النبي صلى الله عليه وسلم هو الناسخ لخبره دون الآية
وهذا كلام لا فائدة فيه
فلا استحالة في كون الآية ناسخة للخبر
390

وعزي إلى الشافعي رضي الله عنه المصير إلى استحالته
ولعله عني في المسألتين ان النبي علي السلام لا ينسخ فلا يثبت أيضا
حتى تكون الآية ناسخة لحديثه
وانما الناسخ والمثبت هو الله تعالى
والنسخ بأخبار الآحاد تردد القاضي فيه وقال لا أدري لو نقل
الصديق عن الرسول عليه الصلاة والسلام نسخ آية هل كانوا يحكمون وهو في
مظنة التردد كما قال
ولا شك في أنهم كانوا لا يسلطون القياس على الكتاب بالنسخ
والله أعلم
391

الباب الثالث
فيما يجوز ان ينسخ
ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم جائز
خلافا للمعتزلة
فنقول التلاوة حكم مستقل بنفسه فلا يستحيل نسخه كنسخ الحكم
دون التلاوة
والدليل عليه قوله تعالى والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة
نكالا من الله تعالى فالتلاوة منسوخة والحكم باق
مسألة 1
يجوز نسخ الأمر قبل مضي زمان امكان الامتثال
خلافا للمعتزلة
392

بدليل نسخ الذبح عن إبراهيم قبل امتثاله وكان قد اعتقد وجوب الذبح
ولذلك تعاطى سببه
فإن قيل لم يكن مأمورا إلا بمعالجة الذبح
قلنا فلم فدي وكان قد فعل
ثم لا نظر في ذلك وقد قال تعالى ان هذا لهو البلاء المبين
ولا يظن أيضا به التقصير في التأخير حتى يقال كان النسخ بعد
الإمكان
وقوله صدقت الرؤيا معناه حاولت الاقدام اعتمادا على
الرؤيا
والمسلك المختار انا نقول لا يدرك استحالة هذا النسخ بضرورة العقل
ولا بنظره وغاية المسألة انه يبين بالنسخ ان الأمر ثابت والنسخ
رفع حكم ثابت
وقد قال القاضي رضي الله عنه الحكم قبل الامكان ثابت ولذلك يعلم
المأمور كونه مأمورا قبل التمكن
ونحن نقول كان ثابتا في وهمنا فارتفع وهمنا
393

وكان الله عالما بأن لا مطلوب ولا طلب كما إذا امره ثم عجز قبل
التمكن ولا فرق بينهما
فان قيل وما فائدة هذا الأمر
قلنا لا يطلب لافعال الله تعالى فائدة
ثم فائدته اعتقاد الوجوب كما إذا أمر ثم عجز قبل الامكان
فإن قيل لو أمر لاراد وإذا أراد نفذت ارادته فكيف ينسخ قبل
الفعل
قلنا عندنا قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد
ثم يعارضه ما إذا أمر ثم سلب القدرة
مسألة 2
الزيادة على النص إذا لم ترتبط بالمزيد عليه كالأمر بالصلاة بعد الأمر
بالزكاة لا تكون نسخا بالاتفاق
وإذا ارتبطت بالمزيد على وجه أبطل الانحصار المتلقى من النص
فهو نسخ كما إذا قدر صلاة الصبح بركعتين ثم زيد فيهما ثالثة
394

فأما إذا لم يرتبط به لا يكون نسخا كقولنا الايمان شرط في
كفارة الظهار كما ذكرنا في كتاب التأويل
وقد يدعي أبو حنيفة رحمه الله ذلك في شرط النية في الطهارة
من حيث إن الله تعالى تولى بيانها ولم يتعرض لها
ولا يغني في الجواب المعارضة بطهارة الماء وستر العورة واستقبال
القبلة لان ذلك لا يتعلق بمقصود فعل المتطهر ولا المتيمم فان ذلك
مناقضة من أبي حنيفة
فالجواب ان نقول الظاهر يدل على الاقتصار ولكن خصصناه
بدليل آخر وعن هذا قال الشافعي رضي الله عنه الزيادة على النص
تخصيص عموم
ووجه الإجمال ان الله تعالى أراد به التعرض للأفعال الظاهرة فلم
يتعرض للنية
395

وقد يستدلون به في الشاهد واليمين من حيث إن الله تعالى قال
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل
وامرأتان ولم يتعرض له
فنعارضهم رسول باعتبار العدالة والحرية والقضاء بالنكول فإنه من أحد
الحجج
ثم الشاهد الواحد يقوي جانب المدعي والحجة هي اليمين
والتحقيق فيه ان الله تعالى في سياق هذه الآية حث الناس على
ما فيه مصلحتهم والأصلح الاستظهار بالبينة الكاملة
396

الباب الرابع
في حكم المنسوخ
قال قائلون النسخ المطلق إذا ورد على الحكم يتضمن اثبات نقيضه
وهذا فاسد
إذ الاحكام تتلقى من أوامر الشرع ولفظ النسخ بمجرده لا يدل على
اثبات نقيض المنسوخ ولكن يدل على رفع ذلك الحكم فيقدر كأن ذلك
الحكم لم يكن أصلا وتلتحق تلك الواقعة بالافعال قبل ورود الشرع
مسألة (1)
قال قائلون من لم يبلغهم خبر النسخ فالحكم في حقهم ثابت مستمر إذ
لو ثبت في حقهم النسخ لكان ذلك تكليف ما لا يطاق فان الامكان يترتب
على الفهم
ولهذا قالوا لا يجوز لهم ترك المأمور الأول
والوجه عندنا رفع الخلاف فإن النسخ لو استعقب حكما آخر
فلا يكلفون ذلك قطعا وليس لهم ترك ما امروا به قطعا
397

ولو فاتهم الفعل قبل بلوغ الخبر فوجوب القضاء من مجوزات العقول
فلا نقطع به وانما يتلقى من أمر متجدد ان ورد موجب وألا فلا
مسألة 2
رأى أبو حنيفة رضي الله عنه استنباط ترك التبيت من الحديث الوارد
في صوم عاشوراء قبل ان ينسخ وجوبه
وقال أصحابنا الاستنباط من المنسوخ باطل فإنه فرع ثبوت الحكم
والمختار انه ان قدح فيه معنى مخيل أعني في المنسوخ جاز التمسك
به صححنا الاستدلال بالمرسل ا لم نصححه
لأن فريضة الصوم في وضع الشرع لم تنسخ ولكن ابدل زمان بزمان
ولكن لا يستقيم لأبي حنيفة رضي الله عنه استنباط معنى مخيل من فرضية
عاشوراء في ترك التبييت
فالتشبيه في هذا المحل لا يقبل والله أعلم
398

كتاب الاجماع
وفيه خمسة أبواب
الباب الأول
في اثبات كون الاجماع حجة وبيان صورته
والاجماع عبارة عن اتفاق أهل الحل والعقد
وهو حجة كالنص المتواتر عند أهل الحق
وأنكر منكرون تصوره وأحال وقوع الاتفاق بين الأمة في تصوره
وأنكر منكرون تصور العلم به مع اعترافه بتصوره في نفسه
وزعم آخرون أنه يتصور ويعلم لكن لا يحتج به
399

ومعتمد من جحد تصوره ان الاجماع لا انتفاع به في مواقع النصوص
وانما يحتاج إليه في مظان الظنون واطباق الأمة على كثرة عددها على
حكم واحد في مسالة مظنونة مع اختلاف القرائح وتباين الفطن في
الاستحالة كاطباق لم أهل بغداد في حالة واحدة على قيام أو قعود أو أكل
زبيب وذلك مستحيل عرفا
فنقول المسألة التي تتعارض فيها الظنون على وجه لا يترجح جانب على
جانب يبعد في العرف الاطباق عليها من الجم الغفير
فأما إذا ترجح أحد الجانبين في مسلك الظن فلا بعد في الاطباق عليه
إذ صفو الافهام بجملتها إلى الأغلب
على أن الاجماع متصور انعقاده عن نص على ما سنذكره وذلك غير
بعيد
ولا يغني في الجواب قول القاضي رضي الله عنه نرى النصارى على
كثرتهم يطبقون على مذهب واحد وكذلك القول في أصحاب المذاهب
كلها لان جامعهم التعصب ورابطتهم حدثنا التقليد واتباع الهوى وانما يبعد
الاتفاق من الجماهير في مظان النظر إذا استقلوا بالنظر
وإذا تبين تصوره فطريق العلم به ان ينقل عن جملتهم ذلك
400

ويمكن تصويره في ملك سايس يجمعهم على صعيد واحد يستفتيهم
فيتفقون أو يراسلهم أو يكاتب جميعهم ويعلم توافقهم في وقت واحد
فهذا طريق تصوره والعلم به
أما اثبات كونه حجة فقد تمسك الشافعي فيه بقوله ومن يشاقق
الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله
ما تولى الآية تواعد على ترك اتباع سبيل المؤمنين فإذا أجمعوا
على حكم فهو سبيلهم
فإن قيل تنطوي عليه السريرة ولا اطلاع عليها فما ندري ان
الذين اجمعوا أهم المؤمنين الذين يجب اتباعهم أم لا
قلنا لم نكلف البحث عن الضمائر وانما امرنا ببناء الأمر على الظاهر
وإذا أجمعت الأمة على حكم يجب القضاء بأنهم هم المؤمنون
إلا أنه ينقدح حمل الآية على ترك الايمان والمخالفة فيه ويشهد له
قوله قبله ومن يشاقق الرسول
وهذا ان لم نقطع به فهو محتمل والقطيعات ابن لا تثبت بالمحتملات
401

ومما تمسك به الأصوليون قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على
ضلالة وروى على الخطأ
ولا طريق إلى رده بكونه من إخبار الآحاد فإن القواعد القطعية يجوز
اثباتها بها وإن كانت مظنونة كما سيأتي في كتاب القياس
402

ولكن هذا الحديث يحتمل حمله أيضا على البدعة والضلالة في الدين
والاعتقاد وعلى الاخلال بأصل الدين فضعف التمسك به من هذا الوجه
فان قيل فما المختار عندكم في اثبات الاجماع
قلنا لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدل عليه ولم يشهد له
من جهة السمع خبر متواتر ولا نص كتاب واثبات الاجماع بالإجماع تهافت
والقياس المظنون لا مجال له في القطيعات
وهذه مدراك قوله الاحكام ولم يبق وراءه إلا مسالك العرف فلعلنا
نتلقاه منه فنقول الاجماع يعرض على ثلاث صور
الصورة الأولى
ان تجمع الأمة على القطع في مسالة مظنونة فإذا قطعوا قولهم وقد كثر
عددهم بحيث لا يتصور منهم في طرد العادة التواطؤ على الكذب فهذا يورث
العلم إذ يستحيل في العادة ذهولهم وهم الجمع الكثير عن مسلك الحق
مع كثرة بحثهم وإغراقهم في الفحص عن مأخذ الأحكام
ففرض الغلط عليهم كفرضه على عدد التواتر إذا أخبروا عن محسوس لأن
هؤلاء قطعوا في غير محل القطع ولا يظن بهم التحكم
403

فيعلم على الضرورة أنهم تلقوا من نص عن الشارع مقطوع به
فهذا مسلك إثباته وهو قريب مما ذكرناه في أخبار التواتر
فإن قيل لو رأوا نصا لنقلوه
قلنا لا بعد في اندراسه على ممر الأيام استغناء عنه لاستفاضة
مقصوده وركونا إلى إطباق الناس على العمل به
فإنا نعلم أنهم لا يقطعون في غير مظنة القطع هزلاء له فكانت
الحجة مستند الإجماع إذن والإجماع وسيلة إلى الحجة
فإن سميناه حجة فيجوز كما يسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم آمرا وناهيا
والأمر والنهي إلى الله تعالى وهو مجاز
الصورة الثانية
أن يطبقوا في مسألة ظنية على حكم واحد من غير أن ينقل عنهم القطع
بذلك
فطريق إثباته أنا نعلم أن التابعين لو رأوا من يبدي خلاف ذلك لشددوا
القول عليه بالتخطئة والتضليل قاطعين بأنه أساء وتعدى في مقالته
ولا يقطعون بذلك تحكما وهزلا فنعلم ان مستندهم حديث قاطع حملهم على
الإنكار على خارق الإجماع
404

فالتحقت هذه الصورة بالصورة الأولى إذ نهايته قطع لا في محل القطع
الصورة الثالثة
أن يشتوروا في مسألة ويستقر رأيهم على حكم ويجمعوا عليه وكانوا
بايحين ذلك بأنهم قالوه عن قياس وظن غالب راجح فيعلم ضرورة من التابعين
تشديدهم النكير على من يبدي خلافا
وهذا قطع منهم لا في محله فالتحقت بالصورة الأولى
ولا يبعد أن يكون قوله لا تجتمع أمتي على الخطأ مستندهم في
قطعهم بذلك أو حديث آخر أوضح منه
فإن قيل فهل يتصور انعقاد إجماع عن قياس
قلنا أنكره منكرون وتعلقوا بأن القياس مظنون وهو مختلف فيه
فكيف يتلقى منه قاعدة قطعية
والمختار تصور انعقاده منه كما ذكرناه لعلمنا بإبداء التابعين النكير على
المخالف بعد استمرار العصر الأول عليه
فإن اشتوروا وحكموا به قياسا فهذا قطع منهم لا في محله فيستدعي
مستندا قاطعا بحكم العرف كما ذكرناه
ويمكن أن يتمسك عليه بقوله لا تجتمع أمتي على الخطأ
405

فإذا اجتمعوا على قياس كان حقا في نفسه لا يسوغ خلافه كما أنهم
لو أجمعوا على أصل القياس وجب اتباعهم
فالإجماع على نوع من القياس يتبع أيضا
وقولهم الظن لا يتلقى منه القطع ليس كذلك
فإنا نتلقى القطع بوجوب العمل بأخبار الآحاد وإن تطرق إليه
خيالات لاستناده إلى إجماع مقطوع به وكذلك هذا
وإذا تلقينا الإجماع من العرف لم نخصصه بشرعنا
وخصصه من تلقاه من الحديث لتخصيص الرسول أمته
وأحكام العرف لا تتفاوت باختلاف الشرائع
ولا نخصصه بالصحابة بل نحكم به في كل عصر بعدهم وهذا خارج عن
حكم الخبر والعرف جميعا
وقال قائلون يختص بالصحابة
فإن قيل فهل تكفرون خارق الإجماع
قلنا لا لأن النزاع قد كثر في أصل الإجماع لأهل الإسلام والفقهاء إذا
أطلقوا التكفير لخارق محمد الإجماع أرادوا به إجماعا يستند إلى أصل مقطوع به
من نص أو خبر متواتر والله أعلم
406

الباب الثاني
في
صفات أهل الإجماع
لا تعويل على وفاق العوام وخلافهم
والمستجمعون إلى لخلال الاجتهاد هم المعتبرون
والمجتهد المبتدع إذا خالف ينعقد الإجماع دونه عند من كفره أو فسقه
والمختار أنه لا ينعقد دونه فإنه مجتهد يعول على قوله فيما نختاره
ولا نكفره وتقبل شهادته ولا يفسق
والمجتهد الفاسق قيل لا مبالاة كان بخلافه إذ لا يقبل قوله وفتواه في
الدين والدنيا
والمختار أنه لا ينعقد الإجماع مع خلافه لأنه مستجمع لخلال التهدي
والتبصر في الأحكام وصدقه ممكن والأصل عدم الإجماع فلا ينعقد على
تردد ينشأ من خلاف عالم بالشرع وهو يضعف مأخذ الإجماع على ما ذكرنا
407

نعم لا تقبل روايته وشهادته لأن الأصل عدم ما يخبر عنه
فأما الفقيه المبرز في الفقه الذي لا يعلم الأصول
أو الأصولي الذي لم يتعمق في الفقه فلا عبرة بخلافه فإنه ليس
بصيرا بمأخذ الشرع بعد ويجب عليه أن يستفتي فيما يقع له فكيف
يتوقف الإجماع على قوله
نعم إن كان يحقق بكسبه وفقهه إشكالا فحق أهل الإجماع أن يبحثوا
عنه
ثم قوله بعد إجماعهم كاشكال أبو يبدي بعد انعقاد الإجماع فلا أثر له
واختار القاضي رحمه الله أن خلافه معتبر لأن أهل الإجماع يستندون
إلى رأيه وفقهه وهو فقيه متهد إليه وقد بينا أنه لا تعويل على عناده بعد
بحث أهل الإجماع عن قوله وتزييفهم رأيه
واستدل بأن ابن عباس رضي الله عنهما كان يخالف وكان صبيا ولم يكن
مجتهدا ومن وافقه لا يعد خارقا
قلنا لم يخالف إلا وهو مجتهد ولا نسلم له ذلك
408

وصار محمد بن جرير إلى أنه لا مبالاة بقول أقل من ثلاثة وإن كانوا
مجتهدين فإنه يندر إصابتهم وخطأ الباقين
والمختار أن خلاف واحد مستجمع الصفات يمنع صحة الإجماع لأنه
يقطع ما ذكرناه في مأخذ الإجماع
والندور يبطل عليه بثلاثة مع ثلاثة آلاف فإن إصابتهم أيضا نادرة
409

الباب الثالث
في عددهم
إذا بلغوا مبلغ التواتر فهو النهاية وإن تراجعت أعدادهم إلى واحد
وما فوقه إلى مبلغ لا يستحيل عليهم الخطأ والتواطؤ عرفا فلا حجة فيه
عندنا لأن العرف لا يقضي باصابتهم قضاء باتا إذ الغلط على الواحد
والاثنين غير مستنكر في العرف
وقال قائلون هذا غير متصور
وإنكار هذا مناكرة المعلوم بالمشاهدة في الحال وإثبات استحالته لا مستند
له عقلا وشرعا
فإن قيل هذا الدين لا بد وأن يبقى محفوظا وإذا نقص عدد أهل
الإجماع بطل الركن الأعظم في الدين
قلنا قولوا يحصل الإجماع بقولهم وإن قلوا
ثم ذلك مشاهد في الحال وقد وعد الرسول عليه الصلاة والسلام الفترة في
آخر الزمان وقال بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ وقال
410

سيأتي عليكم زمان يختلف فيه رجلان في فريضة فلا يعرفان من يعرف حكم
الله فيها
وصار صائرون إلى أنه يتصور ولكن ينعقد الإجماع بقولهم وإن عادوا
إلى واحد فإن قوله متبع في الإسلام وقال الله تعالى ويتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى وهذا سبيلهم
قلنا الآية لا حجة فيها كما ذكرنا وإن كان فلا يدل على التفاصيل
والإجماع مأخوذ من إبداء أهل العصر الثاني النكير ودعوى ذلك ههنا غير
ممكن
مسألة
صار مالك رضي اله عنه إلى أن الإجماع يحصل بقول الفقهاء
السبعة وهم فقهاء المدينة ولا نبالي بخلاف غيرهم
411

وقدم أيضا مذهبهم على النص
ولا خفاء ببطلان هذا فإنهم ليسوا كل الأمة والمدينة أطلال لا أثر لها
ولكن لعله صار إلى أن عدد التواتر لا يعتبر ومخالفة الأقل لا يضر
وكانوا أكثر المجتهدين في زمانه
وإنما قدم قولهم على النصوص لاعتقاده أن مذهب الراوي يقدم على
روايته وانحصرت الرواية فيهم عنده
هذا مجمل مذهبه بعد إحسان الظن به وقد تكلمنا عليه وبالله
التوفيق
412

الباب الرابع
في
شرائط الإجماع
شرطه أن يقع في مظنون
فإن كان معقولا لا يمكن دركه بنظر العقل فما يتقدم في مرتبته
على إثبات الكلام للباري فلا يثبت بالإجماع لأن مستند الإجماع
وهو حجة شرعية كلام الله تعالى وكذا الكلام
فأما ما لا يبعد استئخاره عنه كخلق الأفعال ومسألة الرؤية والقضاء
والقدر فهذا مما يجب اعتقاده لو ورد فيه نص
وقال قائلون يحتج أيضا بالإجماع فإن إطباقهم على غير الحق مع كثرة
عددهم بعيد
والمختار أنه لا يحتج به لأن العقل لا يحيل ذلك في المعقولات
والشبهة مختلجة أو والقلوب مائلة إلى التقليد واتباع الرجل المرموق فيه إذا
قال قولا
413

هذا مما اختاره الإمام رحمه الله
وللكلام فيه مجال
إذ لو تمسك فيه بقوله لا تجتمع أمتي على الضلالة وهو نص
فيه مع علمنا بقطع التابعين الرد على من يبدي خلاف مسلكهم
ولا يقطعون في غير محل القطع إلا مستندين إلى قطع وتقدير اجتماع
الصحابة على كثرة عددهم على البدعة والضلالة واعتقاد خلاف الدين
بعيد كإجماعهم على قياس خطأ بعد الاشتوار
ومن شرائطه عمد بعض الناس انقراض العصر ليستبان به استقرار
الاتفاق ثم قيل يكتفي بموتهم) تحت هدم دفعه واحدة إذ الغرض انتهاء
عمرهم عليه
وقال المحققون لا بد من انقضاء مدتهم ليفيد فائدة فإنهم قد
يجمعون على رأي وهو بعرض التغيير وقد روي عن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه أبدى الخلاف في مسائل بعد اتفاق الصحابة رضي الله عنهم
414

والمختار أنهم ان قطعوا لا في محل القطع لا حاجة إلى انقراض العصر
لان ذلك لا يتفق غلطا وعن رأي إلا بقاطع
وإن أطبقوا في محل الظن من غير قطع فلا بد من استمرار العصر
والرجوع في مقداره إلى الطرف والغرض تبين الاستقرار ثم يعتبر معه
تكرار الواقعة فلو تناسوها فلا اثر للاجماع مع استمرار العصر
قيل ومن شرطه ان يبوحوا به أو يكتبوه في فتاويهم أما
اطباقهم على الفعل لا يكون اجماعا فإن آحادهم لا يعصمون عن زلات
متفاوتة وكذا جملتهم
والمختار انه يستدل به لعلمنا ان التابعين لو أنكروا على فاعل فعلا
فاستدل بفعل الأنصار والمهاجرين اطباقا ترك ورد على من يرد عليه
ويتصل بهذا رضاهم وسكوتهم عن الشئ
قال الشافعي رضي الله عنه في الجديد لا يكون اجماعا إذ لا ينسب إلى
ساكت قول
وقال أبو حنيفة رحمه الله هو اجماع لانهم لو اضمروا خلافا لبعد في
العرف سكوتهم ورضاهم تقرير عليه كتقرير الرسول عليه الصلاة
والسلام
415

واستدلال أبي حنيفة بسكوت بعض الصحابة في كل مسالة مع دعوى
الانتشار مزيف
إذ لا تنتشر الوقائع التي لا تتوفر الدواعي على نقلها
نعم قصة ابن ملجم وما يضاهيها لا يكلفون فيه نقل الاشتهار فإنه
مشتهر في العرف
ولكن دعوى السكوت والرضا من الكل مع تباين امصارهم محال إذ
لا يبعد اضمار واحد خلافا وان لم يبده لفوات الأمر أو أبداه ولم ينقل
والمختار ان السكوت لا يكون حجة إلا في صورتين
إحداهما سكوتهم وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع
فالدواعي تتوفر في الرد عليه
والثانية ما يسكتون عليه مع استمرار العصر وتكرر الواقعة بحيث
لا يبدي في ذلك أحد خلافا
فأما إذا حضروا مجلسنا فأفتى واحد وسكت الآخرون فذلك اعراض
لكون المسألة مظنونة والأدب يقتضي ان لا يعترض على القضاة والمفتين
والله أعلم
416

الباب الخامس
فيما يكون خرقا للاجماع
إذا أجمعت الصحابة في مسالة على قولين فإحداث مذهب ثالث عند
بعض العلماء ليس خرقا لانهم اجمعوا على تسويغ الخلاف وفتحوا بابه
والمختار انه خرق لانهم اجمعوا على الحصر فذهولهم عبد عن الحق على
ممر الأيام مع كثرتهم محال ولكن لا بد من طول الزمان وليكن أطول
مما يعتبر في الاجماع على قول واحد
فأما إذ اجمعوا على قولين ثم أجمع العصر الثاني على أحدهما هل
يخرمه الخلاف بعده
قال القائلون يخرم لان الأمة لا تجتمع إلا على الحق فصار هذا
حقا قطعا
وقال الشافعي والقاضي رضي الله عنهما وهو المختار لا يخرم
الخلاف لان الأولين اجمعوا على تسويغ الخلاف فمن لم يجوز فقد خرق
417

الاجماع ولكن ينبغي ان يبقى هذا الاضراب بينهم في الزمان لو فرض مثله
على قول واحد لكان اجماعا
فأما أهل العصر الأول إذا اجمعوا على أحد المذهبين بعد الاختلاف
فاختلفوا في هذه المسألة أيضا كما في اجماع أهل العصر الثاني
والمختار انه ان فرض في صورة القطع في غير محله فالرجوع إلى مذهب
واحد بعد القطع بجواز الخلاف لا يفرض في العرف ومن آحادهم يحمل على الغلط
فأما إذا لم يقطعوا بتسويغ الخلاف فالرجوع بعده إجماع قبل انقراض
العصر إذ تبين به عدم الاصرار والإجماع على الخلاف
وبعد انقضاء مدة الإجماع لا يفرض الرجوع
فان قيل أجمعت الصحابة في مسالة رد الثيب إذا وطئت
بالعيب على منع الرد مع العقر فلم أحدثكم مذهبا ثالثا
قلنا ذلك منقول عن الآحاد ولا ينتشر مثل هذه الواقعة
فلا إجماع فيه
ولا معنى لقول بعض أصحابنا انهم قد قالوا على الجملة بأصل الرد فقد
وافقناهم فيه
418

إذ الرد مع العقر يناقض الرد مجانا من جميع الوجوه إذ لو فرض الإجماع
عليه لكان الرد مجانا خرقا للاجماع
فان قيل بماذا يتبن رجوع المفتي عن مذهبه
قلنا إذا افتى بتحريم ثم أفتى بنقيضه فقد رجع وكذا إذا قال
رجعت فلو أفتى وقطع به ثم أفتى بنقيضه فقد رجع عن مذهبين
أحدهما الحكم والاخر القطع به
وإن كان تردد ابتداء فليس ذلك مذهبا في تقدير القطع به
لعده رجوعا وان ارتكب خلافه لم يكن رجوعا لأنه ليس معصوما
ويتصل به انه لو أفتى أبو بكر رضي الله عنه في مسالة وأفتى عمر رضي الله
عنه فيها بنقيضه وهما علما وقوع الاختلاف يستبان من خلافهما مع عدم
النكير إجماع على الخصوص على أن المسألة مختلف فيها وان لم يصرحوا به
وذلك معلوم عليه بقرينه الحال قطعا
إذ لو كان مقطوعا لما تركوا النكير فيه
وقال قائلون لا يتبن به لأنه ليس مصرحا به كالفعل
وهو فاسد لما ذكرناه من القرينة والله أعلم
419

كتاب القياس
وفيه عشرة أبواب
الباب الأول
في
حده واثباته على منكريه
أما حده فقد قيل إنه رد الشئ إلى الشئ بجامع
وهذا فاسد
لان الجامع مجهول والشئ لا يطلق على المعدم وقد يبغي
القياس نفيا وعدما
421

وقيل إنه اعتبار فرع بأصل بجامع
وهذا فيه احتمال أصلا
والأصح ما قاله القاضي رحمه الله من أنه حمل معلوم على معلوم في
اثبات حكم أو نفيه باثبات صفة أو حكم أو نفيهما عنهما وكذا كل
عبارة تنطبق على هذا المعنى وهذه ترجمة للتمييز وليس حدا يقوم المحدود كما
يرتضيه أهل التحقيق في الأجناس والأنواع
والقياس ينقسم إلى عقلي وشرعي
وانكرهما أبي الحشوية
وأثبتهما الجماهير
422

والحنبلية ردوا قياس العقل دون الشرع
والداوودية ردوا قياس الشرع دون العقل
وصار إلى رد قياس الشرع جملة الروافض سوى الزيدية وجملة
الخوارج من الإباضية والأزارقة وبعض النجدات ومعهم
النظام
وأبو هاشم أنكره إلا ما نص الشارع عليه من تشبيه وتمثيل
كقوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم
423

ورد القاشاني والنهرواني جملته إلا ما في معنى الأصل كالأمة في
معنى العبد في حكم السراية
والهرة في معنى الفأر في معنى التنجيس بالموت في الماء
واليه صار بعض من لم يقل بالقياس من أصحاب الظواهر
ثم المنكرة انقسموا منهم من تلقى رده في استقباح العقل
ومنهم من قال في الشرع ما يدل على تحريمه
ومنهم من قال هو مردود لأنه لا دليل على قبوله من عقل ونقل
والذين تلقوا من الاستحسان انقسموا منهم من قال الظن قبيح في نفسه
لأنه ضد العلم والعلم حسن
424

وهذا يبطل الموت والغفلة والجنون والوساوس فإنها اضداد العلم
وهي من فعل الله تعالى ويبطل بالنظر والشك فإنه مأمور به والقبيح
لا يؤمر به وهو ضد العلم
ومنهم من قال لا يقبح الظن في نفسه لكن يستقبح من الشارع القاء
الشرع إلى مختبط الظنون ومرتبك الجهالات والخيالات وجعل الأمر فوضى
بين العقلاء حتى يتيهوا فيه ويمتد تنازعهم على انقراض العصور
كما تراها
فنقول لا بل هو المستحسن قطعا فان الأفعال بجملتها اقداما
واحجاما (يحسن كونه مستندا إلى رسم الشارع
والوقائع لا نهاية لها والألفاظ المحصورة لا تحويها وتركها سدى مهملا
ليفعل كل ما يشاء قبيح
فتعين تفويضه إلى أراء العقلاء وأرباب الدراية بمأخذ الشريعة
ومصالها ليحكموا بها ملتفتين على مجاريها
يحققه ان مثار القبح هو الاعتياد والعقلاء بأجمعهم مطبقون على الالتجاء
إلى الظن والرأي عند الارتباك في واقعة فإنهم يقدمون عليها على ظن
غالب ولا يستقبحونه
هذا بعد النزول عن قاعدة الاستقباح وهو مردود فإن كل ممكن يجوز
ورود الشرع به عندنا
425

فإن قيل لا شك في أن ردهم إلى النصوص أحسن
قلنا هذا يحسن من قائله في ترك النص على الخلافة وتعيين الخليفة
فإن ذلك ترك الناس على جهالة افضى إلى فساد وتقاتل هائل وضبطه بالنص
أمر ممكن فإنه أمر معين
أما الوقائع فلا ضبط لها فبيانها بالنصوص أمر محال تصويره
والذين زعموا أن في الشرع ما يدل على رده تمسكوا بقوله إن
بعض الظن إثم
وبقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه أي سماء تظلني وأي أرض
تقلني إذا حكمت على القرآن برأيي
وقول ابن مسعود رضي الله عنه لو حكمنا بالرأي لحرمنا كثيرا
مما أحله الله وحللنا كثيرا مما حرمه الله
وقول ابن عباس رضي الله عنه إن الذي أحصى رمل عالج عددا
لم يجعل في المال الثلث والثلث والنصف في رد قياس العول
قلنا قوله تعالى إن بعض الظن إثم مقول به عندنا
فليوصف ما بعضه بخلافه
426

وقول أبي بكر رضي الله عنه يتبع ولا نحكم في القرآن برأينا فإن
للتفسير مسلكا مضبوطا لا نتعداه وقد قال عليه السلام من فسر القرآن
برأيه فليتبوأ مقعده من النار
وقول ابن مسعود رضي الله عنه محمول على قياس يحرم محللا بالنص
ومثل هذا الرأي متروك
وقول ابن عباس رضي الله عنهما دليل على قبول القياس فإنه ما قال
ذلك عن نص لكنه غلظ الأمر في تفضيل القياس وقد كانوا يعتادون
ذلك لاعتمادهم على قلة الرعونات ونحن لا نغلظ لا الآن على المجتهدين لأنهم
لا يحتملون
ثم نعلم على القطع منهم أنهم كانوا يشتورون ويقيسون قطعا
ثم يعارضها ظواهر أظهر منها كقوله تعالى فاعتبروا يا أولي
الأبصار وقوله عليه السلام للسائل عن تقبيل الصائم أرأيت
لو تمضمضت وهو قياس
427

وقوله للخثعمية حيث سألته عن أداء الحج عن أبيها الميت فقال أرأيت
لو كان على أبيك دين فقضيته وهذا عين القياس
والفرقة الثالثة قالوا رددنا ما كان العقل لا يدل عليه وليس فيه
نص كتاب ولا خبر متواتر يقطع به فلا يتحكم به
قلنا يدل عليه ثلاث مسالك
أحدهما
ما نقل إلينا من الصحابة من اشتوارهم في الوقائع المتفرقة ورجوعهم
إلى المصالح والمقاييس
وهذا منقول في صور متفرقة تورث علم القطع كأخبار التواتر
وقد أجمعوا عليه والإجماع حجة مقطوع بها كما ذكرناه
المسلك الثاني
أن يجمل الأمر فنقول نعلم أنهم أعني الصحابة رضي الله عنهم
428

من مفتتح أمرهم من بيعة السقيفة إلى موت واثلة بن الأسقع وهو آخر
من مات من الصحابة كانوا يفتون في التحليل والتحريم والحقن
والإهدار والأمور الخطيرة والوقائع كثرت على متعرض أيامهم ونقطع
بأن النصوص لم تكن وافية بها فإنها كانت محصورة وهم كانوا يهجمون على
الفتوى هجوم من لا يرى له ضبطا
وأخبار الآحاد لا تبلغ ألفا ولا يظن بهم بناء الأمر على التمني والتحكم
فلا مستند لهم سوى المصالح
والنظام لما أنكره حمله على قصدهم جلب المال واكتساب
الحشمة وهذا من قلة دين المرء
فإن قيل فقد قاسوا في صورة مخصوصة ولو اتفقت واقعة لم يعهد
مثلها فقستم فيها فمن أين تلقيتموه وهلا توقفتم على ما نقل منهم
قلنا فهمنا على الضرورة مما نقل عنهم تشوفهم إلى القياس في وقائع لم
تتفق لو وقعت وأنهم كانوا لا يمتنعون عن الفتوى فيها بل كانوا يقيسون
429

فإنهم كانوا على طول آمادهم لم ينقل واحد منهم أنه أبى عن الفتوى في واقعة
وقال لا نص فيها
المسلك الثالث
روي عن النبي عليه السلام أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن بماذا تحكم
فقال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال فإن لم تجد قال اجتهد رأيي فقال الحمد لله الذي وفق رسول
رسول الله لما يرضاه رسول الله وقرره عليه وأثنى عليه بسببه
وهو نص مقطوع به
فإن قيل كيف تثبتون قاعدة قطعية بخبر واحد يتطرق إليه الاحتمال
قلنا نعلم على الضرورة أن الصحابة لو ارتكبوا في قبول القياس ورده
ونقل لهم الصديق على اتحاده هذا الحديث لقضوا بموجبه
ونعلم أن الصحف التي كان يرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ولاته على البلاد
لو اشتملت على الحكم بالقياس لاكتفوا فيها بقول الواحد
فإن قيل كيف يتلقى القطع من الظن
قلنا وقوع الظن مقطوع به ووجوب العمل عنده مقطوع به
430

تلقيا من إجماع قاطع وهو كوجوب الإتمام على المقيم إذا تحقق إقامته بخبر
الواحد فكذلك العمل بخبر الواحد عند وقوع الظن
431

الباب الثاني
في مراتب القياس وضبط أقسامه
رتب علماء الأصول القياس على خمس مراتب
المرتبة الأولى
المفهوم من الفحوى كتحريم ضرب التعنيف من فهم النهي عن التأفيف
والثانية
تنصيص الشارع على قياس
والثالثة
إلحاق الشئ بما في معناه كقولنا الأمة في معنى العبد
والرابعة
قياس المعنى وهو ينقسم إلى الأجلى والأخفى
والخامسة
قياس الشبه وهو مصدر بالطرد والعكس
وقال الأستاذ القياس ينقسم إلى مظنون وإلى معلوم
432

ثم المعلوم قد يقرب دركه وقد يبعد مثاله لافتقاره إلى مزيد تأمل
والمظنون ينقسم إلى جلي وخفي إلى أن تتعارض الظنون فيرجح
بمسالك نذكرها في الترجيح
قال القاضي الظنون متقاربة لا ترتيب فيها ولم يقم لمسالك
الظنون وزنا ومنه ثار الخلاف بينهما في تصويب المجتهدين على ما سنذكره
ولم يختلفوا في أن قياس المعنى والشبه من أبواب القياس
وما عداها من الأقسام الثلاثة اختلفوا فيها أعني المفهوم من التأفيف
ومنصوص الشارع وإلحاق الأمة بالعبد
وأما فحوى الخطاب وهو فهم تحريم الضرب من آية التأفيف فقال
قائلون إنه قياس لأنه ليس بمنصوص وهو ملحق بالنص ولا معنى
للقياس سواه
قال القاضي ليس بقياس لأنه مفهوم من فحوى فهم المنصوص من غير
حاجة إلى تأمل وطلب جامع
والمختار أنه من المفهوم لا لما ذكره القاضي إذ لا يبعد في العرف
أن يقول الملك لخادمه اقتل الملك الفلاني ولا تواجهه بكلمة سيئة فليس
433

فهم ذلك من اللفظ من صورته ولكن لسياق الكلام وقرينة الحال فهم
على القطع إذ الغرض منه الاحترام فلا يعد قياسا والخلاف آيل إلى
عبارة
وأما منصوب الشارع نصا في حق شخص معين هل يعد قياسا
قال قائلون لا يعد قياسا لأنه مفهوم من النص فهو الحكم وتأيدوا
بأمور أحدها أن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمم على جميع الأعصار
ولا يعد ذلك قياسا ومنها أن الشارع لو قال لشخص لا تأكل اللبن فإنه
سم فهم على القطع منه أن سبب تحريمه كونه قاتلا في حق جميع الناس من
نفس النص
ومنها أن هذا القياس إن لم يفهم من النص فهو محال وإن فهم فأي
حاجة إلى القياس
والمختار أن هذا قياس لا تنقطع مواد النظر عنه وعلينا نظران
فيه
أحدهما بيان محله
434

والثاني بيان أنه لا يتخصص وعلل الشارع يجوز تخصيصها
ويتبين هذا بضرب مثال وهو أن يقول الرجل لوكيله بع هذا الغلام
فإنه سيئ الأدب أو ذميم الوجه فوجد في غلمانه من هو فوقه في ذلك
المعنى لم يبعه
وكذلك الشارع قد يطلق الرجم ويعلله بالزنا ولا يتعرض
للإحصان ثم نحن نستنبطه
ويستند هذا إلى أمر وهو أن القياس ليس موجبا لذاته ولكنه أمارة
الحكم شرعا وهذه أمارة نصبها الشارع
وأما ما ذكروه من إلحاق أحد العصرين بالآخر فينقلب عليهم فإنه
لا يفهم أيضا من اللفظ فما مستنده
فسيقولون هو الإجماع
فنقول الإجماع أغنانا عن القياس فيه
وأما ما ذكروه من أمر السم فذاك مفهوم من القرينة لا من اللفظ إذ
بأن على القطع شفقة الشارع على جميع الخلق
وأما إلحاق الشئ بما في معناه قال قائلون إنه قياس
435

والمختار أنه ليس بقياس ولا منصوص أيضا ولكنه مفهوم من
النص على الاضطرار من غير افتقار فيه إلى افتكار
ثم قالوا فائدته إن كان قياسا قدم على الخبر وإلا فلا
وقال الأستاذ أبو إسحاق هو قياس ولكن لا يقدم على الخبر
وهذا ما نعتقده في منع التقديم والخلاف بعده يرجع إلى إطلاق عبارة
ولا بد من ذكر ضابط لهذا القسم وقد قال الأستاذ أبو إسحاق هو
منقسم إلى ما يستند إلى ما منه اشتقاق النص كالأمة مع العبد إذا قال
عبد وعبدة إذ العبودية تشملهما
وما لا يستند إليه فهو دونه
والضابط عندنا لهذا القسم ما يهجم الفقيه على فهمه من غير تدبر
ونظر فيقع معلوما على الضرورة فلو صار نظريا خرج عن كونه
معلوما
والعجب أن العلوم العقلية تنقسم إلى النظرية والضرورية وهذا لا انقسام
فيه
نعم يدرك المرء تفاوتا بين علمه بنفسه وعلمه بغيره فمثل هذا
436

التفاوت لا ينكر وقوعه ههنا وهو في الرتبة دون فهم الفحوى كما
ذكرناه في تحريم التأفيف لأن ذلك يشترك في دركه العوام والخواص
وكون الأمة في معنى العبد لا يدركه إلا الفقيه المتثبت وذلك لا يخرجه عن
كونه معلوما كما أن التواتر المورث للعلم يعتبر في كل فن في حق أهل الخبرة
به في القراءة بالقراء وفي الحديث بالمحدثين وبالله التوفيق
437

الباب الثالث
فيما تثبت به علل الأصول
إذا حرر المعلل قياسا فرده إلى أصل فإذا طولب بإثبات علة الأصل
فمحصول ما يستند إليه عند المطالبة ثلاثة أقسام
القسم الأول
أن يسلك مسلك الجدال فيقول السائل مطالب بالاعتراض عليه
وليس علي إثباته
وهذا مما صار بعض الناس إلى الاكتفاء به
وهو باطل
فإن ادعى علة الأصل مذهبا كأهل الفتوى فلا يخلى فيه والتحكم
ويبطل ذلك بمسلكين
أحدهما
أن يقول إن كنت طاردا فسنذكر وجه بطلان الطرد وإن لم تقنع
بالطرد فلم ادعيت كونه علة
438

والآخر
أن يقول تثبت تعليل الأصول بما ذكرته على التشهي أم لك فيه
مستند
فإن اشتغلت بإثباته تشهيا فالكفر خير من هذا المقام
وإن زعمت أنه منصوب للشارع فبم عرفت ذلك ولم تحكمت به ابتداء
من غير مستند
فإن أبان الإخالة دليلا عليه كفاه ذلك وعلى السائل الاعتراض بعده
وليس عليه أن يعد جميع الاعتراضات ويدفعها فإن المناظرة معاونة
على النظر وقد أسس كلاما عند إبداء الإخالة وقبله لا يطالب السائل
ببيان أنه ليس بمخيل لأن المسؤول بعد لم يدل ولم يؤسس حتى يستوجب
الاعتراض
فإن قال المسؤول دليلي على ثبوته عجزك عن الاعتراض عليه
معتصما بأن المعجزة صارت دليلا بالعجز عن المعارضة
قلنا غمرات المعجزات لا مطمع في الخوض فيها الآن فلا تثبت العلة
بأمثاله
439

ثم المعجزة إذا لم تقم بين يدي السحرة أو أهل الخبرة لا تكون
حجة فالتحدي أن بالفصاحة ليكن مع الفصحاء وقلب العصا حية ليكن مع
السحرة
فالسائل المقل إذ عجز كيف يدل ذلك على صحة الدليل
فإن قال الدليل عليه اطراده فهذا أوان ذكر
مسألة الطرد مسألة الطرد المحض
لا حجة فيه عندنا
وقال قائلون هو حجة على الإطلاق يعتمد عليه المفتي
وخصصه مخصصون بالمناظر على المجادل دون المفتي
440

وقال قائلون ممن ردوا الطرد يكتفى بإحالة أحد وصفي العلة
والثاني يحتمل وإن لم يخل الاحتراز عن النقض
وهذا أيضا باطل فإن وصف العلة ينبغي أن يكون مناط حكم الشرع
والعبارة المجردة حركات اللسان واصطلاح أهل اللغة فلا يكون مناطا
للحكم فلا يضمن وصف التعليل من غير مستند من إخالة أو غيرها
فالآن نرد على القائلين بالطرد بأربع مسالك بعد الإحاطة بأن الطرد
المحض هو الذي لا يناسبه الحكم أو يناسبه حسب مناسبته لنقيضه
المسلك الأول
أن تقول إذا ناسب حسب مناسبته لنقيضه فليس إثبات الحكم به أولى
من نفيه فيؤدي ذلك إلى تكافؤ الأدلة وتساقطها
الثاني
أن الشارع لم يؤهل لمنصب الفتوى إلا متتجرا الله في العلم موصوفا بصفات
فلا مستند له إلا أن يكون من أهل النظر في مصالح الشريعة ولو اكتفى
بالطرد لعلق الحكم بكل ما يسنح لكل أحد من غير افتقار إلى منصب
مخصوص
441

الثالث
ما ذكره القاضي وهو أن المخيل لا يدل لعينه ولكن المستند فيه
مسالك الصحابة رضي الله عنهم فهم الأسوة والقدوة وقد كانوا يعتبرون
مصالح الشرع ولا يتمسكون بالطرديات
الرابع
وهو المختار أن باب التحكم مسدود في الشرع وانما أمر ببناء الأمر على
معلوم أو مظنون والعلم لا مطمع فيه في هذا المقام وغلبة الظن لها في
مطرد العادة مسلك لا يحصل دونه فالظن لا يغلب من غير سبب كما
لا يشبع الجائع في العادة دون الاكل والاطراد لا يغلب على الظن قطعا
نعم للشارع ان يتحكم بنصب ما ليس بمخيل امارة كما يتحكم باثبات
الحكم ابتدء
ومثال الطرد قول القائل في مسألة إزالة النجاسة بالخل مائع لا تبنى
442

القناطر على جنسه فلا تزال النجاسة به كالدهن فهذا طرد لا نقض
عليه ولا يستجيز التمسك به من آمن بالله واليوم الآخر
القسم الثاني
ما يتمسك المعلل به في اثبات علة الأصول وهي ثلاثة أنواع
أولها
التمسك بنص الشارع على وصف فنجعله علة
ومثاله قوله تعالى كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم
وقوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وما يضاهيه من
ألفاظ التعليل
النوع الثاني
ايماؤه إليه من غير تنصيص كقوله عليه السلام في بيع الرطب
بالتمر فلا إذن لما أن سأل عن الجفاف
443

وكقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا فإن السرقة
مخيلة فإنها جريمة يليق بها العقوبة الزاجرة وقوله تعالى جزاء بما
كسبا ايماء لأنا نعلم أنه لا يجازى لإسلامه وحسن عبادته
وقوله نكالا كذلك ايماء إليه
وكذلك في قوله الزانية والزاني فاجلدوا الآية وإذا حصل
الايماء كفى ذلك عن الا خالة
ولذلك قلنا توقع الجفاف في الرطب سبب بطلان العقد وإن كان
لا يخيل
فإن قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش لما سألته عن
الاستحاضة توضئي فإنها دم عرق فهلا طردتموه في الفصد وأوجبتم قال
به الطهارة لأنه دم عرق
444

قلنا أجاب أصحابنا بأن ذلك تنصيص على العلة ولم يذكر المحل
ونحن جعلنا أحد السبيلين محلا للعلة لدليل آخر
وهذا مزيف
فإن حق علة رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تطرد إذ ثبتت ولا تخصيص بغلبات
الظنون إذ طردها أغلب على الظن وقد نص عليه فيمنع من تخصيصه
ولكن الجواب أنها سألته عن الغسل فقال بل توضي عن فإنه دم
عرق علل به في اسقاط الغسل وهو المفهوم منه قطعا
فإن قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبريرة لما ان أعتقت تحت عبد ملكت
نفسك فاختاري وهذا ايماء ظاهر إلى التعليل بالاستقلال فهلا
طردتموه في اعتقاقها من تحت حر
قلنا أجمع أهل الحديث على رده فلا نقبله
ثم قال القاضي نعلم أن النبي عليه السلام ما عني بقوله ملكت نفسك
ملك مورد النكاح إذ لو حصل ذلك لانفسخ العقد ولا ملك غير مورد
445

النكاح فإنه لا يشعر بالتخيير في مورد في النكاح فإن معناه ملكت الاختيار
فاختاري وهو تكرير عبارة ومثل ذلك جار في اللسان
وقال قائلون هو تنصيص على العلة فيخصص بمحل وهو إذا كانت
تحت عبد
والمختار ان الحديث ان صح فهو ظاهر في الايماء إلى التعليل لا يمكن
جحده وانكاره
النوع الثالث
ان يثبت علته بكونه منبها على المعنى الذي منه اشتقاق اللفظ الذي ربط
الحكم به في الشرع كقوله تعالى والسارق والسارقة
وكقوله عليه السلام الثيب أحق بنفسها وكقوله عليه السلام
لا تبيعوا الطعام بالطعام
فنقول إذا ربط الشارع الحكم باسم مشتق فما منه الاشتقاق ينتهض علة
فيه
واليه صار الشافعي رضي الله عنه في مسألة علة الربا
وأول القاضي رحمه الله مذهب الشافعي رضي الله عنه فقال لعله تمسك
بالحديث في اثبات حكم الربا لا في علته
446

وليس الأمر كما ظنه القاضي فإنه أثبت علة الطعم به
والمختار ان ما منه الاشتقاق إن كان مخيلا كالسرقة والربا والسوم
في قوله في سائمة الغنم زكاة كانت علة
وإن لم يكن مخيلا فهو كالتعليق باللقب فنقول من أين قلتم إنه
أومأ إلى العلة وما مستنده وما الفرق بين الوصف الذي لا يخيل
والطرد الذي لا يخيل وربط الحكم بهما لا يختلف وتصرف الاسم في موضع
اللسان لا يوهم اخالة فهو كاللقب الموضوع
نعم إن كان مخيلا ابتدر إلى الافهام من قوله إنه معلل به والفهم
لا مقايسة فيه ولا يحصل هذا من الوصف الذي لا يخيل
ولا إيماء اذن حتى يبنى عليه ان طرد الشارع كمخيله بن لأنه لا بد من
اثبات نص من جهته أولا
نعم لو قال قائل تبينا بقوله لا تبيعوا الطعام بالطعام
447

ثبوت الحكم عند ثبوته وانتفاءه عند انتفائه فيغلب على الظن كونه علة
فإنه انتهض أمارة له ولا معنى لعلل الفقه سواه
قلنا هذه تمسك بالمفهوم وقد بينا ان الصفة التي لا تخيل ليس
لتخصيص الحكم بها مفهوم وقد ذكرناه في كتاب المفهوم والله أعلم
القسم الثالث في اثبات علل الأصول بمسالك الفقه
وهي أربعة
الشبه والاخالة هذه ولهما باب سيأتي
والطرد والعكس والسبر والتقسيم
أما الطرد والعكس فلا يتمسك به في اثبات العلة عند القاضي واستدل
عليه بأربعة مسالك
أحدها
ان الطرد بمجرده لا حجة فيه والعكس لا يقلب الطرد مخيلا
ولا حاصل للعكس إلا انتفاء الحكم عند انتفاء العلة وانتفاء الحكم مسألة أخرى
448

يطلب لها علة فلا يثبت حكم هذه المسألة بعلة بسبب الحكم في مسألة
أخرى لعلة أخرى
وصورته ان تقول الشدة في الخمر علة التحريم لأن الحكم يتبعه
فإنه يقضي بحل الخل عند زوالها وتحريم الخمر مسألة وحل الخل مسألة
أخرى لا بد من طلب علة لها
يحققه ان الطرد عكس العكس كما أن العكس عكس الطرد
ولو فرض النزاع في الخل لكان يقول العلة في تحليله عدم الشدة
بدليل ثبوت التحريم عند وجود الشدة
وهذا محال تخيله
المسلك الثاني
ان باب التحكم مسدود والمخيل ليس دليلا لعينه والرجوع إلى سيرة
الصحابة رضي الله عنهم ولم يصح عنهم التمسك بالطرد والعكس
والثالث
ان العكس وجوده كعدمه في المخيل ولا أثر له فيستحيل ان نقلب
الطرد الذي ليس بحجة حجة
449

الرابع
ان يقال له ان ادعيت الطرد والعكس في جمع أحكام الشريعة
فمحال إذ لو كان كذلك لما فرض نزاع
وان قلت جرى في الخمر مطردا منعكسا فليجر في غيره فهو تحكم
لا حاصل له فلم قلت ذلك
ولا يلزم هذا في المخيل فإن طبع المخيل الجريان والسيلان وليست
الشدة مخيلة
والمختار ان المسألة في مظنة الاجتهاد فإنا لا نقطع بقبولها
ولا ردها من جهة الصحابة رضي الله عنهم وعدم القاطع في قبوله
عندنا لا يكون قاطعا في رده كما ذكرناه من قبل ولا يبعد افضاؤه إلى غلبة
الظن في بعض الصور فهو مفوض إلى رأي المجتهد فلينظر فيه
والنوع الآخر مما يثبت علل الأصول السبر والتقسيم
وقال القاضي لا بد منه في العلل الشرعية كما في العقلية
450

ولا يظن به انه أراد به سوى ابطال علة الخصم فإن ذلك لا يدل على
اثبات علتك ولكن يحتمل انه أراد به ابطال سائر العلل بعد إن كانت علته
المستبقاة سنة مخيلة لتبين ان الحكم معلل به فإنه لا يجوز ازدحام العلل
على حكم واحد وإذا لم يتبين بطلان الأقسام على هذا المذهب لم يستفد
بالإخالة شيئا مع توقع مخيل آخر أظهر منه يعلل به دون ما ذكره
إلا أن الذي نراه جواز تعليل الحكم بعلتين على ما سيأتي بيانه
ويحتمل انه أراد بالسبر والتقسيم في مسألة يتفق على كونها معللة بعلة
واحد كمسألة الربا فيستفيد بابطال الأقسام تعين محل الإجماع إلا أن
هذه صورة لا يفرض وقوعها لندورها ومسألة الربا مما اجمعوا على تعليلها
فإذن الوجه ان يقال السبر في المعقولات ان دارت بين النفي والاثبات
كقولك واجب أم لا جائز أم لا وقد بطل أحدها فتعين
الثاني لا محالة فيورث العلم
451

فإن كثرت الأقسام ولم تدر بين النفي والاثبات لم يحصل العلم
كالتقسيم المعتاد في مصحح تعلق الرؤية وتعليله بالوجود
فأما الشريعات عمرو فالتقسيم فيها يورث غلبة الظن بعد كون الحكم معللا
ولا يشترط ارتفاع مواد الاحتمال بعد حصول غلبة الظن
وقد اختلفوا في مسأله جدلية وهو ان المسؤول لو قال سبرت هل
يلزمه ابداء كيفية السبر
منهم من قال لا لأنه لا يستفيد درأ قوله يحتمل أن يكون وراءه
تقسيم فإنه متوجه ذكره أو لم يذكره
وهو محتاج في رسم الجدال إلى ابداء قسم آخر
والمختار انه لا بد من ابداء كيفية السبر ليكون مؤسسا دليلا غير
مقتصر على مجرد الحكاية والدعوى للتشوف إلى استيعاب الأقسام
كما تقول الخمر هو مائع احمر يقذف الزب ويسكر ولا يعلل
بهذه الأقسام لبطلانها لم يبق إلا الاسكار
452

الباب الرابع
في الاستدلال المرسل وقياس المعنى
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
في
بيان حقيقته وذكر الدليل فيه
فليعلم أولا ان هذا عمدة كتاب القياس
وجه اعواصه قبل ان الصحابة رضي الله عنهم هم قدوة الأمة في القياس
وعلم قطعا واعتمادهم على المصالح مع أنهم لم ينحصروا عليها في بعض المسائل
ولم يسترسلوا أيضا استرسالا عاما
إذ المصالح كانت تنقسم لديهم إلى المتروك وإلى معمول به
ولم يضبطوا لنا ما نتمسك به ولا يظن بهم بهم أنهم ضنوا بابدائها بعد ان
453

عرفوها والمصالح شتى وقد عسرت المآخذ وقصرت عن الدلالة على
ضبطها فمنه ثار الثوار وردوا أصل القياس
والقائلون به انقسموا
فاسترسل مالك رضي الله عنه على المصالح حتى رأى قتل ثلث الأمة
لاستصلاح ثلثيها
وقتل في التعزير
وقطع اللسان في الهذر
وللشافعي رضي الله عنه مسلكان يحصر في أحدهما التمسك في الشبه
أو المخيل الذي يشهد له أصل معين ويرد كل استدلال مرسل
وفي المسلك الثاني يصحح الاستدلال المرسل ويقرب فيه من مالك وان
خالفه في مسائل
فان قال قائل وبم يتميز المرسل عن المردود إلى الأصل ولا يشترط
454

كون العلة في الأصل منصوصا عليها ولا ان يشهد لها أصل اخر فإن ذلك
يتسلسل وسيكون الاعتماد فيه على المصلحة المرسلة
قلنا نص الشارع على الحكم امارة لانتصاب تلك المصلحة علما فأنا
نفهم تلك المصلحة من تنصيصه على مجرد الحكم
ونحن نجعل المصلحة تارة علما للحكم ونجعل الحكم أخرى علما لها
واما المرسل فهو الذي لا يشهد له في الشريعة حكم ينطبق عليه
والآن إذ لاح حقيقة الاستدلال ووجه الاشكال نذكر ما تمسك به
الثقات وأهل الإثبات
والقاضي رحمه الله من نفاة الاستدلال وقد تمسك بثلاث مسالك بعد ان
فرق بين الشافعي ومالك رضي الله عنهما
وقال للشافعي إذا قلت بالاستدلال فلا فرق بين ان تقول في المعاملات
والأموال وبين ان تقضي به في العقوبات كما فعله مالك وكل حقير
فإثباته في الشرع تحكما خطر عظيم
وما أثبته بالنسبة إلى ما أجمله الشارع في المعاملات كما أثبته مالك بالنسبة
إلى العقوبات التي أجملها الشارع
455

المسلك الأول من المسالك الثلاثة
ان الاستدلال لو قيل به لصارت الشريعة فوضى بين العقلاء يتجاذبون
بظنونهم اطرافها من غير التفات إلى الشريعة
والنبي انما بعث ليدعو الناس إلى اتباعه في قوله والمفهوم من قوله من
المصالح
فأما ما يعين ابتداء ولم يفهم منه فما بعث الشارع للدعاء إليه
الثاني
ان المستدل ان لاحظ مصالح الشريعة فهو صحيح وإن اضرب
عنها فهو شارع تحقيقا فيطالب بالمعجزة فإنه افتتح أمرا لا مستند له في
الشرع
مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خاتم النبيين فكيف يفتتح بعده شرع
الثالث
ان قال إذا أوجب اتباع المصالح لزم تغيير الاحكام عند تبدل
الاشخاص وتغيير الأوقات واختلاف البقاع عند تبدل المصالح
وهذه تفضي إلى تغيير الشرع بأسره وافتتاح شرع آخر لم يثبت من
الشارع
وهذا محال
456

إلا انهم يقولون نحن مع المصالح بشرط ان لا نهجم على نص
الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفع
وتمسك الشافعي رضي الله عنه بثلاث مسالك
أحدها
الاسترواح إلى سيرة الصحابة رضي الله عنهم وفي التعبير عنه ثلاث صيغ
أحدها انهم استرسلوا على الفتوى وكانوا لا يرون الحصر والنصوص
ومعانيها لا تفي بجملة المسائل فلا بد من المصير إلى المصالح في كل فتوى
الثانية ان الأصول إن كانت محصورة فلا تفيد إلا وقائع محصورة
فإن المحصور لا يستوفي مالا يتناهى
وان لم تكن محصورة فقد انسل الأمر عن الضبط وصار الأمر فوضى
بين العقلاء لا مرد له فلا فرق بين خروجه عن الضبط به أو بانتشار
المصالح
الثالثة انهم أعني الصحابة رضي الله عنهم على طول زمانهم كانوا
457

يقيسون ولا يعرفون رد الفروع إلى الأصول ولو كانوا يعتقدون ذلك
لاعتنوا يحيى به ثم كانوا يرسلون الأقيسة من غير تكلف جمع واعتبار
قال القاضي في الجواب لعلهم كانوا يعتمدون معاني يعلمون أن أصول
الشريعة تشهد لها وإن كان لا يعينونها كالفقيه يتمسك في مسألة المثقل
بقاعدة الزجر فلا يحتاج إلى تعيين أصل
فأجيب عنه بأنه لو كان كذلك لأوشك ان يصنفوا الأصول ويميزوا
ما يعقل عما لا يعقل مع شدة اعتنائهم بتمهيد قواعد الشرع
والذي نراه ان هذا في مظنة الاحتمال والاحتكام عليهم بعد تمادي
الزمان لا معنى له
المسلك الثاني
ان معاذ بن جبل قال اجتهد رأيي حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإن عدمت النص فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدام النص يشعر
بإعوازه الرحمن واعوازه المفهوم عنه واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في
المصلحة ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص معه
المسلك الثالث
ان الأصل المستشهد به ليس معللا بالمعنى المستثار قطعا بالعقل
458

ولا بالنص وانما هو مظنون لكونه مناسبا منطبقا على المصالح فليستند
إليه في الفرع ابتداء
هذه نهاية ما تمسك به الفريقان
459

الفصل الثاني
في
بيان المختار عندنا
والصحيح ان الاستدلال المرسل في الشرع لا يتصور حتى نتكلم فيه بنفي
أو أثبات
إذ الوقائع لا حصر لها
وكذا المصالح
وما من مسألة تفرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول
أو بالرد
فإنا نعتقد استحالة خلو واقعة عن حكم الله تعالى
خلافا لما قاله القاضي كما سنذكره في باب الفتوى
فإن الدين قد كمل
وقد استأثر الله برسوله وانقطع الوحي ولم يكن ذلك إلا بعد كمال
الدين قال الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم
460

والذي يدل على عدم تصوره أن أحكام الشرع تنقسم إلى مواقع
التعبدات والمتبع فيها النصوص
وما في معناها وما لم ترشد النصوص إليه فلا تعبد به
وإلى ما ليس من التعبدات وهو منقسم إلى ما يتعلق بالألفاظ
كالإيمان والمعاملات والطلاق والعتاق وقد أحالنا الشرع في
موجباتها على قضايا الشرع في موجباتها على قضايا العرف ولا تنفك لفظة عن قضايا العرف فيها
بنفي أو إثبات إلا ما استثناه الشارع
كالاكتفاء وكان بالعثكال الذي عليه مائة شمراخ إذا حلف أن يضرب مائة
خشبة لما ورد في قصة أيوب ولم ينسخ في شرعنا
وإلى ما يتعلق بغير الألفاظ وهو منقسم إلى ما ينضبط في نفسه
كالنجاسات والمحظورات وطرق تلقي الملك فهذه الأقسام منضبطة
ومستنداتها روى معلومة
وإلى ما لا ينضبط إلا الضبط في مقابلته كالأشياء الطاهرة والأفعال
المباحة تنضبط بضبط النجاسة والحظر وكذلك الأملاك منتشرة تنضبط
بضبط طرق النقل والإيذاء محرم على الاسترسال من غير ضبط
461

وينضبط بضبط ما استثنى الشرع في مقابلته فالوقائع إن وقعت في جانب
الضبط الحق به وإن وقعت في الجانب الآخر الحق به وإن ترددت بينهما
وتجاذبه ولم الطرفان الحق بأقربهما ولا بد وأن يلوح الترجيح لا محالة
فخرج به أن كل مصلحة تتخيل في كل واقعة محتوشة بالأصول المتعارضة
لا بد أن تشهد الأصول لردها أو قبولها
فأما تقدير جريانها مهملا غفلا لا يلاحظ أصلا محال تخيله
ونحن نضرب في ذلك مثالين
أحدهما
ما قاله الشافعي رضي الله عنه في مسالة الأمة الكتابية حيث قال
اعتروها بين نقصان بعد ان ثبت لكل واحد اثر وأن ازدحام الأسباب
مؤثرة في تغليظ الاحكام لا يحتاج فيه إلى أصل معين فان أصول الشرعية
شاهدة له على الاجمال وان لم تتعين قطعا ولا حاجة إلى القياس على
المجوسية وهذا المثال ذكرناه لضرب المثال وان كنا لا نعتمد هذه الطريقة في
تلك المسألة
المثال الثاني
قول الشافعي رضي الله عنه في المعتدة الرجعية ان العدة لبراءة الرحم
والوطء للشغل فهو مناقض للمقصود من العدة
فهذا معنى مرسل لا حاجة فيه إلى الاستشهاد بأصل معين لان أصول
الشرع على اجمالها أهل تشهد له
462

وقد قاس أصحابنا على المعتدة البائنة
قال القاضي وهو باطل
فإن الحكم في الأصل معلل بالبينونة لا بالعدة ويستحيل التعليل بهما
عنده فإنه يقدم أجلي العلتين على الأخفى كما سنذكره في باب
التركيب
ونحن نبطل هذا القياس مع اعتقاد جواز الجمع بين العلتين حديث بطريق اخر
نذكره في باب التركيب
والذي نذكره الآن ان العدة في البائنة لا تخيل التحريم على الزوج فإنها
حرمت عليه بالبينونة والعدة أريدت لصيانة مائه والاعتزال عن سائر
الرجال
ولهذا حرم نكاح غيره ولم يحرم نكاحه
والعلة في الأصل شرطها أن تكون مخيلة وليس كذلك في الفرع فإن
العلية بمجردها تخيل تحريم الوطء على الزوج فان الغرض منه الاعتزال عنه
مع استمرار النكاح وبراءة الرحم هو المقصود والوطء مناقض له
ويعتضد ذلك بأمرين
أحدهما ان العدة لا يعتد بها في صلب النكاح ولذلك لو قال إن
استبرأت رحمك فأنت طالق لزمها استئناف العدة بعد الطلاق
وكان يليق بأبي حنفية رحمه الله المصير إلى وجوب استئناف
463

العدة ههنا كما قال في المرأة تسلم في دار الحرب فتتوقف ثلاثة أقراء فان أصر
الزوج على الكفر بانت واستأنفت عند العدة
والآخر ان الرجعة ثابتة والغرض منه تدارك فائت وإذا قدر استمرار
النكاح على حالة فلا معنى للرجعة
فان قيل لو حرمت العدة الوطء لما استقل الزوج بقطعها
قلنا لو قطعها بالوطء الشاغل لكان متناقضا ولكنه يقطع بالرجعة
ثم يستبيح الوطء بعد انقطاعها
فإن قيل نعارضكم فنقول زوجة منكوحة فحل وطؤها وهذا
أقوى
قلنا هذه معارضة لو ضمناها إلى وصف تعليلنا لم يضرنا
فنقول زوجة منكوحة معتدة وكأن العدة أبطلت الحل المستفاد
من الزوجية مع استمراره
فكل معارضة أمكن المعلل ادرجها في وصف التعليل فلا اثر لها
فقد تبين أن كل مصلحة مرسلة فلا بد ان تشهد أصول الشريعة لردها
أو قبولها
464

الفصل الثالث
في ذكر ضابط الاستدلال الصحيح
وننقحه لأنه بتوجيه الاشكالات والانفصال عنها فنقول
كل معنى مناسب للحكم مطرد في احكام الشرع لا يرده أصل مقطوع
به مقدم عليه من كتاب أو سنة أو إجماع فهو مقول به وان لم
يشهد له أصل معين
ثم أقسامه لا ضبط لها فإنها لا يحويها عد ولا يضبطها حد
فقد يتفق معنى مرسل يفيد أمرا كليا على اجمال
وقد يفيد حكما جزئيا في صورة خاصة
وقد يستثار أخبرنا من عكس علة إذ العلل يفيد عكسها عندنا نفي الحكم كما
يخيل طردها على ما سيأتي
وقد يفهم من قصد الشارع كقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي
وشهود يفهم العدالة لان مقصوده الاثبات
465

إلى غير ذلك من أقسامه
فإن قيل ما الفرق بين مذهبكم ومذهب مالك رضي الله عنه حيث انتهى
الأمر به في اتباع المصالح إلى القتل في التعزير والضرب لمجرد التهمة
وقتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ومصادرة الأغنياء عند المصحلة
وما الذي منعكم من اتباعها يا والحاجة قد تمس إلى التعزيز بالتهمة فان
466

الأموال محقونة والسارق لا يقر واثباته بالبنية عسر ولا وجه لإظهارها
إلا بالضرب وهذه مصلحة ظاهرة
إلى غير ذلك مما عداها
قلنا الفرق بيننا أننا تنبهنا لأصل عظيم لم يكترث مالك به وهو
انا قدمنا الصحابة على قضية المصلحة
وكل مصلحة يعلم على القطع وقوعها في زمن الصحابة رضي الله عنهم
وامتناعهم عن القضاء بموجبها فهي متروكة
ونعلم على القطع ان الاعصار لا تنفك عن السرقة وكان ذلك يكثر في
زمن الصحابة ولم يعزروا بالتهمة ولم يقطعوا قط لسانا في الهذر مع
كثرة الهذزان لو ولا صادروا يكون غنيا مع كثرة الأغنياء ومسيس الحاجات
وكل ما امتنعوا عنه نمتنع عنه
ومالك لم يتنبه لهذا الأصل
فإن قيل روي أن عمر رضي الله عنه صادر خالدا وعمرو بن العاص
على نصف المال
وقال لمن مد يده إلى لحيته ليأخذ القذى منها ابن ما أنبت وإلا أبنت
467

يدك وقطع اليد لا توجبونه في مثله ولا المصادرة وقد فعله
قلنا نعلم أنه لو لم يبن ما أبان لما قطع يده ولكن ذكره تهويلا
وتخويفا وتعظيما لأبهة الإمامة كيلا يباسط فتضعف حشمته في الصدور مع
وأما مصادرة خالد فلا تدل على جواز المصادرة مطلقا لأن عمر
كان أعلم بأحوالهما وكان يتجسس بالنهار ويتعسس بالليل وكان قد
نصب خالدا أميرا في بعض البلاد فجمع عليه أموالا عظيمة فلعل عمر اطلع
على أمر خفي اقتضى ذلك وذلك مسلم لمثله وهو الذي كان يقول
لو تركت جرباء على ضفة واد لم تطل بالهناء فأنا المجيب عنها يوم
القيامة
فلا ينبغي أن يتخذ ذلك ذريعة إلى مصادرة الأغنياء على
الإطلاق
كيف وقد كثر الأغنياء في زمن الصحابة رضي الله عنهم فلم يتفق ذلك
مع غيرهم قط
والتمسك بهذا القطع أولى
468

فإن قيل حد السرقة شرع للزجر وقد يسرق المرء ما دون الربع بحبة
فيحتاج إلى الزجر فهلا زجرتموه سعيد
قلنا تقديرات الشرع متبعة لا تغير ويسحب ذيل الحسم على تفاصيل
الصور وهذا من أعظم المصالح
فإن تتبع تفاصيل الأحوال غير ممكن فاتبعنا التقدير فيه ولم نقس
فإن قيل ما بال علي قاس في حد الشرب وهو مقدر فقال من
شرب سكر ومن سكر هذي ومن هذي افترى فأرى أن أقيم عليه حد
المفتري ورقى الحد إلى ثمانين للمصالح
قلنا حد الشرب لم يكن مقدرا من جهة الشارع ولكنه كان عليه
السلام يأمر بالضرب بالنعال وأطراف الأكمام
وقدره أبو بكر رضي الله عنه بالأربعين
وكان ذلك في مظنة الاجتهاد
وعن هذا قال علي رضي الله عنه ما أقمت الحد على رجل فمات
فوجدت في نفسي أن الحق قبله إلا حد الشرب فإنه شئ أحدثناه بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم
469

فإن قيل أليس قد روي أن عليا رضي الله عنه كان يشق بطون أصابع
الصبيان لأجل المصلحة وأنتم تركتم هذه المصلحة
قلنا هذه المسألة في مظنة الاجتهاد لأن الشق اليسير قريب من
الضرب في التخويف والصبيان يضربون على السرقة
فنحن رأينا معنى أظهر منه فلذلك تركناه
فإن قيل لو حدثت واقعة لم يعهد مثلها في عصر الأولين وسنحت بكر
مصلحة لا يردها أصل ولكنها حديثة فهل تتبعونها
قلنا نعم ولذلك نقول لو فرضنا انقلاب أموال العالمين بجملتها
محرمة لكثرة المعاملات الفاسدة واشتباه المغصوب بغيره وعسر
الوصول إلى الحلال المحض وقد رفع فما بالنا بقدر نبيح لكل محتاج أن
يأخذ مقدار كفايته من كل مال لأن تحريم التناول يفضي إلى القتل
وتجويز الترفه تنعم في محرم وتخصيصه بمقدار سد الرمق يكف الناس
عن معاملاتهم الدينية والدنيوية ويتداعى ذلك إلى فساد الدنيا وخراب
العالم وأهله فلا يتفرغون وهم على حالتهم مشرفون على الموت إلى
470

صناعاتهم وأشغالهم والشرع لا يرضى بمثله قطعا فيبيح لكل غني من
ماله مقدار كفايته من غير ترفه ولا اقتصار على سد الرمق ويباح لكل
مقتر في مال من فضل من هذا القدر مثله
ويشهد لهذا قاعدة وهي أن الشخص الواحد إذا اضطر إلى طعام
غيره أو إلى ميتة يباح له مقدار الاستقلال محافظة على الروح
فالمحافظة على الأرواح أولى وأحق
وكذلك نقول في المستظهر بشوكته المستولي على الناس المطاع
فيما بينهم وقد شغر الزمان عن مستجمع لشرائط الإمامة ينفذ أمره لأن
ذلك يجر فسادا عظيما لو لم نقل به
471

[...]
472

[...]
473

الباب الخامس
في الاستصحاب
ليس من الاستصحاب المقول به استدامة الحكم مع تبدل الصورة كما
استصحب أبو حنيفة رضي الله عنه وجوب الحقتين في المائة والعشرين فيه إذ
زادت واحدة لأن الصورة قد تبدلت فلا بد من دليل على النفي
وكذلك لو سئل عن النكاح بلا ولي مثلا فقال الأبضاع أصلها على
التحريم فهو مستصحب إلى أن يلوح دليل في الإباحة لأنه مطالب بإقامة
الدليل على فساد العقد المعقود بشرائطه وأن الولي شرط فيه
فالاستصحاب لا يغني
وإنما الاستصحاب الصحيح ما نذكره في منع وجوب الوتر
والأضحية بعد سبر مدارك الوجوب وإبطال كل قياس يذكرونه
474

فبعد ذلك نقول الحال لم تتبدل ولا مأخذ للوجوب وبراءة
الذمة يشهد لها العقل والسمع فيستصحب هذا الأصل المستقر فلابد من
دليل وقد بطل مأخذ الوجوب وبالله التوفيق
475

الباب السادس
في الاستحسان
قال الشافعي رضي الله عنه من استحسن فقد شرع
476

ولا بد أولا من بيان حقيقة الاستحسان
وقد قال قائلون من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه الاستحسان
مذهب لا دليل عليه
وهذا كفر ممن قاله وممن يجوز التمسك به ولا حاجة فيه إلى دليل
وقال قائلون هو معنى خفي تضيق العبارة عنه
وهذا أيضا هوس
فإن معاني الشارع إذا لاحت في العقول انطلقت الألسن بالتعبير
عنها فما لا عبارة عنه لا يعقل
والصحيح في ضبط الاستحسان ما ذكره الكرخي وقد قسمه أربعة
أقسام
منها اتباع الحديث وترك القياس كما فعلوا في مسألة القهقهة ونبيذ
التمر
ومنها اتباع قول الصحابي على خلاف القياس كما قاله في تقدير أجرة
477

رد العبد الآبق بأربعين اتباعا لابن عباس رضي الله عنهما وتقدير ما يحط
عن قيمة العبد إذا ساوى دية الحر أو زاد بعشر اتباعا لابن مسعود
ومنها اتباع عادات الناس وما يطرد به عرفهم كمصيرهم إلى أن
المعطاة صحيحة لأن الاعصار لا تنفك عنه ويغلب على الظن جريانه في
عصر الرسول
ومنها اتباع معنى خفي هو أخص بالمقصود وأمس له من المعنى
الجلي
فنقول أما اتباع الخبر تقديما له على القياس فواجب عندنا
أبو حنيفة لم يف به في مسألة المصارة والعرايا وخيار المتبايعين ولم
يستحسن اتباع هذه الأحاديث مع اتفاق أئمة الحديث على صحتها وضعف
حديث القهقة
واما قول الصحابي إذا خالف القياس فهو متبع عندنا
وخالفه أبو حنفية في مسألة تغليظ الدية مع ما نقل فيه عن الصحابة
وتقدير ابن عباس أجرة رد الأبق بأربعين يحتمل أن يكون بحكم مصالحة
أو مصلحة اقتضاها نزاع في تلك الحالة
478

وقول ابن مسعود في قيمة العبد يلتفت على قياس الذمية ومراعاتها
وتقدير الحط ملاحظة لنصاب السرقة فإنه عظيم في الشرع يظهر التفاوت
فيه فلذلك لم نتبعه
وأما دعواه بأن عمل الناس متبع في المعاطاة لأن الأعصار فيه
لا تتفاوت تحكم فإنا نعلم أن العقود الفاسدة والربويات في عصرنا أكثر
منه في إبتداء الإسلام وصفوته وعوام الناس لا مبالاة بأجماعهم حتى يتمسك
بعملهم
واما اتباع المعنى الخفي إذا كان أخص فهو متبع لان الجلي الذي لا يمس
المقصود باطل معه أو مقدم عليه
ولكن أبا حنيفة لم يف بموجبه حتى أتى بالعجائب والآيات وسماه
استحسانا فقال
يجب الحد على من شهد عليه أربعة بالزنا في أربع زوايا كل واحد
منهم يشهد عليه في زاوية
وقال لعله كان يزحف في زنية واحدة في الزوايا
وأي استحسان في سفك دم مسلم بمثل هذا الخيال مع أنه لو خصص كل
479

شهادة بزمان وتقاربت الأزمنة واحتمل استدامة الزنا في مثلها لا حد
وذلك أغلب في العرف من تخيل سحبها في زوايا البيت بزنا واحد
فهذا ونحوه من الاستحسانات الباطلة
وما استند إلى مأخذ مما ذكرناه صحيح فهو مقول به والله أعلم
بالصواب
480

الباب السابع
في
ذكر قياس الشبه
وفيه فصلان
الفصل الأول
في
ذكر المذاهب وبيان ماهيته
وقد صار الشافعي رضي الله عنه وأبو حنيفية ومالك وأشياعهم في
جملة الفقهاء إلا أبا إسحاق المروزي إلى قبول قياس الشبه
وذهب القاضي في جمع من الأصوليين إلى رده مع الاتفاق على قبول ما في
معنى الأصل كالحاق الأمة بالعبد
481

وزعم القاضي ان الذرة في باب الربا في معنى البر المنصوص كالأمة في
معنى العبد
وهذا فيه نظر
فان الجنس مختلف ولهذا يجوز التفاضل بين الذرة والبر وليس ذلك
مما يبتدر إلى الفهم ابتدار الأمة مع العبد
والقائلون بالشبه في الاحكام اختلفوا في التشابه الخلقي كالحاق الولد
يالقيافة قد بالوالد والنظر في الخلقة في جزاء الصيد وإلحاق المني بالبيض
في تولد الحيوان الطاهر منه في اثبات طهارته
ومثال قياس الشبه تردد العبد بين الحر والبهيمة فشبه البهيمة في كونه
مملوكا فلا يملك ويشبه الحر في كونه متصرفا نافذ العبادة ومالكا
للبضع بالنكاح
إذ شرط هذا الفن ان لا يبالغ في تقريره فليحلق بقياس المخيل عند
المبالغة فيه
وربما يضعف مقرره فيضاهي الطرد
فلا بد من الاقتصاد فيه
482

وعقد الباب تمييز الشبه عن الطرد ولا خفاء بتميزه عن المخيل
فإن الشبه لا يناسب الحكم
ويتميز عما في معنى الأصل فان ذلك يعلم بالبديهة
فنقول
التشابه المعتبر هو الذي يوهم الإجتماع في مخيل يناسب الحكم المطلوب
وذلك المخيل مجهولا لا سبيل إلى ابدائه
فإذا قلنا العبد يتصرف وتنفذ عبارته كالحر يشعر ذلك باجتماعهما في
المخيل الذي هو مناط الملك فكأنه يفضي إلى الحكم بواسطة
والطرد هو الذي لا يشعر بالحكم لا بنفسه ولا بواسطة
والمخيل هو الذي يشعر بنفسه فيمس المقصود على وجه المناسبة
وان شئت قلت الشبه ما يغلب على الظن كونه في معنى الأصل
وهو مشابه لالحاق الشئ بما في معناه
إلا أن ذلك مقطوح وفي به
وهذا غالب على الظن
483

ويظهر قبول الطرد والعكس في اثبات العلة إذا قبل قياس الشبه فإنه
يغلب على الظن كونه مناط الحكم
ولذلك ردد القاضي فيه كلامه مع قطيعة برد الشبه
والشبه جار فيما لا يعقل معناه على معنى انه لا ينقدح فيه معنى مخيل
فإن قيل ما ذكره الشافعي رضي الله عنه من قياس تعيين لفظ التكبير
على تعيين السجود والركوع هل هو من فن التشبيه
قلنا قال الشافعي رضي الله عنه ليس ذلك من الشبه ولكنه ضرب
مثلا ليبين ان المحل محل الاتباع ولا جريان للقياس كما في السجود
والركوع في أن مذهب الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة قريب من
القطع وليس للشبه هذه القوة
فإن قيل قول الشافعي رضي الله عنه الشهيد إذا لم يغسل لم يصل
عليه شبه أم لا
قلنا قال القاضي يكاد أن يكون شبها من حيث إن الصلاة مترتبة على
الغسل فإذا سقط الغسل أوشك سقوط الصلاة وابدي فيه ترددا فلم
يقطع بكونه شبها
وهو شبه ضعيف في الجملة
484

الفصل الثاني
في
ذكر أدلة الفريقين
قال القاضي أقول للمتمسك بالشبه أعلمت انه مناط الحكم
أو ظننته
فان علمته فبالضرورة أم بالنظر
لا وجه لادعاء واحد منهما
وان ظننت فما مستند ظنك والظن في هذا المقام كالعلم
وان ابان مستندا لظنه بإبداء الا خالة فذاك
وان لم يبد اخالة عجز عن اثبات مستنده فلا نزال نطالبه حتى نتبين
تحكمه
وعضد هذا بأن المنقول عن الصحابة النظر إلى المصالح فأما الشبه فلم
ينقل عنهم
485

وقولك ان العبد إذا نفذت عبارته ملك تحكم فإن نفوذ العبارة
إشارة إلى انتظامها وصحتها وهذا لا يناسب الملك
وان قلت يوهم الاجتماع في مخيل
قلنا أبد ذلك المخيل وإلا فلا يتمسك بالمجهول
فإن قلت ملك البضع فملك الأعيان
كان ذلك تحكما إذ لا مناسبة بينهما على أنه ينقدح في النكاح مصلحة
واضحة وهي محاذرة الإضرار بالعبيد في سد باب النكاح ولا ضرار
فيما دونه من الأملاك
والمختار عندنا أن الشبه مقبول وهو ما غلب على الظن كونه في
معناه
فنقول للقاضي قال الشافعي رضي الله عنه طهارتان فكيف
تفترقان
وعني به الوضوء والتيمم في حكم النية أيغلب على ظنك كون الوضوء في
معنى التيمم في حكم النية وكل واحد منهما طهارة عن حدث لا يعقل معناه
ويغلب عليه التعبد وقد عسر ذلك الفرق بينهما
فإن أنكر غلبة الظن فقد عاند
486

وإن اعترف به فيطالب بمستنده وينعكس عليه الأمر ولا خفاء
بظهور الظن
ويعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لو عدموا قياس المعنى لتمسكوا
بمثل هذه الظنون قطعا
فإن جملة المسائل لا ينقدح فيها معنى مخيل
والصحابة استرسلوا على الفتاوى
فيعلم أنهم اعتمدوا الشبه الشبه
نعم يشترط أن لا ينقدح في الأصل معنى مخيل فلو اتجه بطل التشبيه إذ
الحكم منوط به ولم يجر ذلك في الفرع فلا يوهم الإجتماع في مخيل موهوم
وقد رأينا المخيل المعلوم فيه لم يطرد كما ذكره القاضي في قياس ملك العين على
ملك النكاح
ثم المعلل المتمسك بالشبه لو قال هذا يشبه ذاك ولم يبين وجه
التشبيه
قال قائلون يكتفي به وعلى السائل قطع التشبيه
487

والمختار أنه لا بد من الإيماء إلى جهة المشابهة وبيان أن الفرق عسر
فلعسر الفرق وتحقق المشابهة غلب على الظن الحكم حتى يكون مناسبا
كما إذا ألحق الذرة بالبر فيقربه منه في مقصود الطعم وغيره مما يتشابهان
فيه
488

الباب الثامن
فيما لا يعلل من الأحكام
لا يطمع في تعليل كل حكم في الشرع ولكنها منقسمة
والضابط أن كل ما انقدح فيه معنى مخيل مناسب مطرد لا يصدمه
أصل من أصول الشرع فهو معلل
وما لم يتجه ذلك فيه كالعبادات والمقدرات فيجري فيه قياس ما في
معنى الأصل وقياس الشبه إن أمكن تشبيه يورث غلبة الظن
وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجري القياس في الحدود والكفارات
والمقدرات والرحض
ثم أفحش القياس في درء الحدود في السرقة والقصاص حتى أبطل
قاعدة الشرع وفي إثباتها حتى أوجب في شهود الزوايا
489

وأوجب قطع السرقة بشهادة شاهدين شهدا أحدهما على أنه سرق بقرة
بيضاء وشهد الآخر على بقرة سوداء لاحتمال أن البقرة كانت ملمعة
وقاسوا غير الجماع على الجماع في الصوم في إيجاب الكفارة والخطأ في قتل
الصيد على العمد في إيجاب الجزاء مع اختصاص النص بالعمد
وقدر نزح ماء البئر عند نجاسته بثلاثين دلوا قياسا
ولا ينفعهم قولهم إنا قلدنا الأوزاعي فإنهم أبوا عن تقليد الصحابة
في مسائل فكيف قلدوه
وقدروا العفو عن النجاسة بربع الثوب والمسح على الرأس بربعه
490

وقاسوا في الرخص في سائر النجاسات على مقدار ما عفي عنه على
محل النجو رخصة
فقد خبطوا هذه الأصول
مسألة
إذا وردت قاعدة خارجة عن قياس القواعد كالكتابة والإجارة
قال قائلون لا يجري القياس لا في أصلها ولا في فرعها
وقال آخرون يجري في فروعها ولا يقاس عليه أصل آخر
والمختار أن إطلاق الأمرين سقيم فإن القواعد وإن تباينت في
خواصها فقد تتلاقى في أمور جميلة كملاحظة كل النكاح والبيع والإجارة
في كونه معاوضة وإن باينها في مقصوده فيمتنع الاعتبار في المقصود الذي
فيه التباين لا فيما فيه التلاحظ والتناسب
ومثاله من الكتابة أن أبا حنيفة رحمه الله يقيس الشراء الفاسد على
الكتابة الفاسدة
ولو استقام له استنباط معنى يجعل الفاسد في مقصود الكتابة
491

كصحيحه فيبني عليه أن فاسد البيع بالنسبة إلى صحيحه في مقصوده
الخاص كفاسد الكتابة فيستقيم هذا القياس
إلا أنه لم يتمكن منه فرد عليه قياسه لتحكمه في قياس فاسد البيع على
فاسد الكتابة مع تباين مقصوديهما فلا
وأما فروع الكتابة يجري فيها القياس ولولاها لما اتسعت فروعها
فصل
قال القاضي من الأحكام ما يعلل جملة بعلة لا تطرد في التفاصيل وذكر
ثلاثة أمثلة
أحدها
أنه قال لا يستقيم قول أبي حنيفة إن رفع الحدث لا يعقل معناه
فلا يقاس عليه إزالة النجاسة لأن الغرض منه معقول وهو الوضاءة
فلهذا اختص بالأعضاء البادية غالبا واكتفى في الناصية بالمسح لأن
الغالب عليه الستر
ويشهد لهذا إيماء الشارع من قوله ولكن يريد ليطهركم
492

ويدل عليه أن الإنسان في حالاته في ترددات لا تخلوا من غبرات
تلحقه والشرع يستحب مكارم الأخلاق والتنقي عن الدنس والدرن من
أحبها
نعم اختص بحالة خروج الحدث فوقت وجوبه غير معقول
كاختصاص وجوب إزالة النجاسة بوقت الصلاة لا يعقل معناه ولكن أصله
معقول
والمثال الثاني
أن الشرع قدر الحدث مانعا من الصلاة وهو غير معقول ولكن بعد
اعتقاده يعقل كون الوضوء رافعا له وإذا ارتفع فلا مانع من الصلاة إلى أن
يعود
ولم يفهم ذلك في التيمم فإنه لا يرفعه وإنما هو استباحة مع حدث
فيجب أن يتيمم لكل صلاة إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أينما أدركتني الصلاة
تيممت وصليت
وقياسه يقتضي أن لا يتنفل به لعدم الضرورة فلعل ذلك من وقفات
معاني الشرع
493

أو يقال النوافل جبران الفرائض وقد خففه الشرع حتى جوز القعود
فيه للقادر على القيام حثا عليه
فلا يليق به تغليظ أمره فإن ذلك إضرار بالمسافر
المثال الثالث
أن الحد شرع للزجر وعقل على قياسه أصل تفرقة الشارع بين ما دون
النصاب وبين النصاب لأن النفوس لا تتحمل الأضرار لأجل مال نزر
ولكن لا يطرد في التفاصيل لأنه قد يتشوق الشخص إلى ربع
دينار دون حبة
ولكن لا نظر إليه وذلك لا يخرم أصل المعنى المعقول
والربع وإن كان قليلا في الهمم العالية فالغالب أنه لا يهجم على السرقة
إلا الأرذال من الناس وخساسهم منه فيكثر ذلك عندهم
ووجة الإشكال أنا نرى الروح تسفك في مقابلة الصيال على حبة ولكن
ذلك مما لا رادع منه في الطبع بحيث يعظم وقعه فما دام المرء مواظبا
494

على هتك الحرمة كان مدفوعا عن هتكه لا كوزن المال وههنا يجب
بسرقة المال عند اقتحام الغرر
وقال القاضي فكان يليق به الفرق بين قليل الخمر وكثيرة
لنفرة الطبع عن قليله
فلعل هذا من وقفات علة الشرع
والعلل الكلية قد يفرض وقوفها بأصل مقطوع به وإن كان لا يرد
بغلبات الظنون
ولعل المعنى فيه أن قليل الخمر يدعو إلى كثيره والقدر المسكر لا ينضبط
مع تفاوت الطباع فحسم الباب حسما
قال القاضي وإن عقلنا الفرق بين القليل والكثير فلا يقاس به في
هذا التقدير غيره ردا على مالك حيث قال بغلظ اليمين في عظيم من المال
وقدره بنصاب السرقة لأنه ينقدح معنى مخيل في التقدير به
ومسلك يشبه الإيمان بالسرقة غير منقدح
495

الباب التاسع
في
التركيب والتعدية
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول
بيان الجمع بين علتين متظاهرتين على حكم واحد
وقد منه القاضي
تمسكا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم ذلك
واعتصاما بإجماع القياسيين على إتحاد علة الربا مع إمكان الجمع
وقال إذا صادفنا علة منصوصا عليها من جهة الشارع فيغلب على
الظن أنه المناط على الخصوص وإن تعلق بغيره معه لذكره الشارع وقد
تولى بيانه
وكذا لو أجمعت الأمة على التعليل به واقتصروا عليه إذ يبعد أن يذهل
أهل الإجماع عن علة صحيحة مع شدة بحثهم
496

وإن هجمنا عليه واستنبطناه فما هو أجلى تقدم على الآخر لا محالة
والمختار أن العلل قد تزدحم على حكم واحد
ويعلم أن الصحابة رضي الله عنهم في اشتوارهم كانت تتشعب أراؤهم إلى
مصالح متظاهرة ولا يشتغلون بالترجيح
ومسألة الربا ليست معللة عندنا ولا هي مجمع عليها ولكن كل اعتقد
أن علة خصمه باطلة لا تستقل ولذلك لم يجمعوا ومسالك الترجيح فيها
باطلة عندنا
وما ذكره من نص الشارع أو الإجماع لا ينكر أن ذلك ينتج خيالا
ولكن لا بعد في وكول الشارع الباقي إلى استنباط الأئمة واستغنى أهل
الإجماع بإحدى العلتين عن الأخرى
497

وقوله إذا لاح أحدهما ينبغي أن يقدم
قلنا لا نرى بعدا في اعتقاد ثبوت المسألة بحديث وقياس وإن تفاوتت
مراتبهما
وإذا تعارضت المصالح من غير ترجيح فلا وجه للقضاء بتساقطها: وإلحاق
الحكم بالفذ غير الذي لا يعلل وليس بعضها أولى من بعض ولا بعد في أن يحكم
الشارع بحكم واحد لأجل مصلحتين
ولا يلزم على هذا أن يصحح قول القائل مس فصار كما لو مس
وبال أو معتدة فصارت كالمعتدة البائنة أو أنثى فصارت كالأنثى
الصغيرة فهذا باطل قطعا لأن المعلل يحتاج إلى أن يصرح بضم علة أخرى
إلى علته لو ألغاها لكان قياسا على نفس المسألة فلتكن العلة الجامعة
بحيث لو وقع الذهول عن الثانية لصح الجمع
قال القاضي وقول الشافعي رضي الله عنه في جزاء الأسد حيوان
لا يجزى بقيمة ولا مثل فلا يجزى كالفواسق الخمس باطل لأن معناه
أن ما لا يجزى لا يجزى
وهذا استدلال بنفس الحكم وهو مطالب بنصب الدليل على نفي الضمان
على الوجه الذي ذكروه وليس فيه ما يدل عليه
498

الفصل الثاني
في
بيان مراتب التركيب
وهو منقسم إلى التركيب في الأصل وإلى التركيب في الوصف
فأما التركيب في الأصل فمن أبعد أبوابه قول أصحابنا أنثى فلا تزوج
نفسها كبنت خمس عشرة سنة
وهو باطل
إذ للسائل أن يقول إن كانت هي في علم الله كبيرة فقد قست على نفس
المسألة وإن كانت صغيرة صرت كمن قال مس فصار كما لو مس
وبال
وأقرب منه قليلا قولهم في البكر البالغ لم تمارس الرجال فتجبر
كبنت خمس عشرة سنة
فإن جهة الفساد تتحد فيه
499

إذ لو قدرت صغيرة فالصغر ليس مستقلا عند الشافعي رضي الله عنه
بإفادة الإجبار، بدليل الثيب الصغيرة فإنها لا تجبر
والتركيب في الوصف أبعده
كقولنا في قتل المسلم بالذمي لو قتل بالمثقل لم يقتل فكذا
بالسيف
ووجه بعده أن النظر في الآلة لا يدل على معنى المكافأة وهو المقصود
في المسألة
وأقربه قولنا في اندراج الثمار غير المؤبرة تحت مطلق العقد ما يندرج
تحت استحقاق الشفيع يندرج تحت مطلق العقد
ووجه قربه أنه يشير إلى الجزئية المؤثرة في الاندراج إلا أنهم
يقولون تخلينا الضرار سببا لإثبات الشفعة في الثمار لئلا تنفى الداخلة
لذلك طردنا في المؤبرة
فإن صح علة الضرار بطل التعليل
وإن بطل الضرار لم نقض باندراجه تحت الشفعة
500

الفصل الثالث
في
ذكر ضابط الأدلة فيه
قال الأستاذ أبو إسحاق في جماعة إن التركيب صحيح وغلا حتى قدمه
على غير المركب لأنه أبعد عن الاعتراضات
ومنهم من رجح غيره
ومنهم من سوى
قال القاضي أبو بكر التركيب باطل
واستدل الأستاذ بأن الغرض في المناظرة التضييق على الخصم وتنقيح
الخاطر في المشكلات والتركيب أقوى في تحصيل الغرض
نعم لا يعول عليه في الاجتهاد كمناقضة الخصم يتمسك بها في المناظرة
دون الفتوى
ولا خلل في التركيب إلا كون علة الأصل مختلفا فيها فهو مطالب
بإثباته وإن عجز فهو باطل لا لأجل التركيب
501

والمختار أن التركيب باطل لأنه فن من القياس لم ينقل عن الصحابة
رضي الله عنهم ولا كانوا يفهمونه وأحدث منذ خمسين سنة ولو كان
قياسا صحيحا لتنبه له الأولون وهو في رسم الجدال خروج عن مقصود
المسألة فإن سن البلوغ وسببه لا يثير نظرا في سلب عبارة المرأة وليس من
فروع هذه المسألة
ونتيجته فهو تمسك بأمر ظاهر لا في محل السؤال
والمناقضة قد لا يرى التمسك بها فيما قاله القاضي أبو بكر وإن رأيناها
فهي مورطة للخصم في فقه المسألة والتركيب مخرج لهما عنها
وما ذكره من أن علة الأصل أبدا هو مختلف فيها وهو متمكن من
إثباته فلم نرده لكون العلة مختلفا فيها ولكنه خروج عن المسألة
ولو تمكن من إثبات علة الأصل باخاله أحمد فقد استغنى عن الأصل وصار
مستدلا وبطل تركيبه
وقوله إن الغرض تنقيح الخاطر
قلنا نعم في المسألة لا في هوسات لا تعلق لها بالمسألة
502

الفصل الرابع
في
التعدية
والقائلون بالتركيب اعتقدوا التعدية سؤالا صحيحا على المركب
وصورته أن يقول السائل عن قول الشافعي رضي الله عنه أنثى
فلا تزوج نفسها كبنت خمس عشرة سنة إني استنبطت من الأصل الصغر
فعديته بعد إلى منع سائر التصرفات فيعارض ما استنبطه من الأنوثة
ويستوي فيه الأقدام
وكذلك إذا قال أنثى لم تمارس الرجال فتجبر كبنت خمس عشرة سنة في
مسألة إجبار البكر فيقول أنا استنبطت الصغر وطردته في الثيب الصغيرة
وزعموا أن هذه التعدية أقوى لأن الصغر عند الشافعي قط لا يكون علة
الإجبار بدليل الثيب الصغيرة فلا يمكنه القول به
والمختار أن سؤال التعدية باطل بعد قبول المركب لأن المعلل يقول
إن لم تسلم لي كون الأنوثة علة فأثبته وعليك إبطاله وإن سلمت
فلا نعيد كاستنباط المجبرة
503

أو يسلم المسؤول له وجود الصغر جدلا في مسألة نكاح بلا ولي وكونه
علة ويقول ليجمع بين العلتين ويسلم وجوده في مسألة إجبار البكر وإن
لم يعلل به فلا يغنيه التعليل به
وأما المركب الوصف زعموا أن التعدية علة في القبول والرد مبني
على قبول الفرق بين الوصف والحكم ورده كفرق السائل بين الطلاق والظهار
إذا قال المعلل من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم
والمختار أن التعدية لا ترد على تركيب الوصف إذ من ضرورته أن
يقع التركيب من حكم
فيقول من لا يقتل إذا قتل بالمثقل فكذا بالسيف فلا يمكنه إبراز
معنى من القتل بالمثقل في معارضته
والمسؤول لم يتعرض للمعنى ولا يمكنه المعارضة بحكم آخر
نعم لو قال ذلك لخلل في الآلة فهذا بيان منه لخروج المسؤول عن
مقصود المسألة وهو واقع وليس ذلك من التعدية في شئ والله أعلم
504

الباب العاشر
في
الاعتراضات
وهي تنقسم إلى صحيح وفاسد
الصحيح منه ثمانية أنواع
النوع الأول في المنع
وذلك إذا توجه على وصف التعليل لزم المعلل إثباتها
ويتوجه على الأصل من أربعة أوجه
أن يمنع كونه معللا
أو يمنع كون ما ذكره علة بعد ما سلم أصل التعليل
أو يمنع وجود ما نصبه علة
أو يمنع الحكم
ويكفي للمعلل بيان معنى مخيل للحكم في الأصل فيندفع به جميعها
ويثبت كونه معللا بهذه العلة وعليه يترتب الحكم إذا ثبت إخالته
وله النقل إلى الأصل إذا منع أو افتتاح الكلام فيه ابتداء إذا توقع المنع
505

وليس له نصب الدليل على نقض يورده إذا منع
والفرق أن ذلك خروج من المسألة إذ قد يورد مسألة من النكاح نقضا
على مسألة في الكتابة
وإما إثبات الأصل إذا منع انتهاض الإثبات في الفرع تحقيقا
وليس للسائل أن يدل على المنع بخلاف المسؤول للأمر الجدلي وهو أن
المسؤول لم يتطوق أن يعترض عليه
فإن دل فلا يصغى إليه لأنه لم يسأله
وقال الأستاذ المنع ليس باعتراض لأن إثباته ممكن للمسئول
وقال القاضي هو اعتراض ولولا رسم الجدال لحكم بانقطاعه فإنه إذا
قاس على أصل ممنوع فكأنه ما دل بعد في المسألة
ولكن الرجوع إلى الرسم ولولاه لساغ للسائل ابتداء إبطال فتوى
المستدل
ولكن لا بد من اتباع الرسم لينضبط الكلام ويتميز السائل عن المسؤول
النوع الثاني القول بالموجب
من الاعتراضات التي ينقطع المسؤول فيها ويبطل به مقصوده وقد
قيل لا يسمى اعتراضا لأنه مطابقة للعلة والخلاف عائد إلى عبارة
506

ولا يتأتى القول بالموجب مع التصريح بالحكم الذي فيه النزاع فإن فيه
رفعا للخلاف وإنما يتوجه إذا أجمل الحكم وقال كان كذا فجاز أن يكون
كذا فيقول بموجبه في بعض الصور أو يتعرض لنفي علة الخصم
فنقول ماء طاهر خالطه طاهر فالمخالطة لا تمنع جواز التوضئ كما
لو خالطه التراب
فيقول أقول بموجبه إذ المخالطة لا تمنع فينقطع المسؤول
فلو قال مع التغير فكذا نقول بالموجب
فلو قال منع مع التغير والاستغناء ينبغي أن لا يمنع لا يقال
بموجبه ولكن لا نجد أصلا نقيس عليه وهذا من ألزم أنواعه
والذي دونه مما يخلص عنه بتغيير عبارة كقولنا الجنون في أحد
الواطئين لا يدرأ الحد كالجنون فيها
فيقول الجنون لا يدرؤه إذ الدافع خروجها عن كونها ممكنة من
الزنا
فلو قال ينبغي أن لا يكون صبيا
507

قال قائلون يكفي أن يعدل إلى لفظ السبب فيقول لا يكون
الجنون سببا فيه فإن ما ذكره أيضا مثارة الجنون
وزعم آخرون أن السبب بمعنى العلة فلا غنية فيه والخلاف فيه
قريب المدرك
وإنما يظهر العدول إلى لفظ السبب إذا تمكن المسؤول من بيان انحصار الحكم
في هذا السبب على الخصوص حتى لو قدر اقتصار أبي حنيفة في ذلك على
الجنون دون تنزل الصبي والخرس منزلته لكان لفظ السبب أقوى في درء
هذا السؤال
فهذه مراتب ثلاثة في القول بالموجب
النوع الثالث النقض
ومعناه إبداء العلة مع تخلف الحكم
ولا يورد على العلة المجملة فإنها باطلة لإجمالها لا يعترض عليها بل
يستفسر عنها ومعنى الاستفسار طلب كشف عما استبهم على
السائل لقصور فهمه
508

وقد انقسم الناس في النقض على ثلاثة مذاهب
فقال قائلون ليس ذلك باعتراض فإن العلل قابلة للتخصيص بمحل
اطراده
ومنع آخرون التخصيص إطلاقا
وسوغ آخرون تخصيص علة نصبها الشارع دون ما نستنبطه
وتمسك المانعون من التخصيص بثلاثة أمور
أحدها أن قالوا الأدلة العقلية تطرد فكذا الشرعية
وهذا فاسد
فإنها توجب مدلولاتها لذواتها وأعيانها وهذه أمارة لا يعد في
تخصيصها قصور لا مانع من طردها
ثانيها أن ذلك إلى تكافؤ الأدلة فيقول أحد الخصمين مائع
فتزال به النجاسة كالماء ويقول الآخر مائع فلا تزال به النجاسة كالخمر
واللبن وكل لا يقبل النقض تخصيصا لعلته
وهذا عندنا فاسد
لكونهما طردين ولا يقع التعارض قط في مخيلين على هذا الوجه وإن
اتفق فالترجيح ممكن ولا يؤدي إلى التكافؤ أصلا
509

ثالثها قال الأستاذ يقال للمعلل إن زعمت أنك أتيت بعلة عامة
فقد كذبت وإن أتيت بعلة خاصة فلا حاجة إلى التخصيص
وهذا تلفيق عبارة لا خير فيه
إذ له أن يقول كنت أظن عمومه والآن إذ منع مانع فالتزم طرده حيث
لا مانع
والمخصصة تمسكوا أيضا بثلاثة أمور
أحدها
أنه لو خصص العلة بالاتفاق بالزمان جاز فكذا بالمسائل فإن من
قال مشتد مسكر تنتقض علته بالخمر في ابتداء الإسلام ثم يخصصه هذا
الزمان
وهذا فاسد
فإن استيعاب الأزمنة لا يشترط في العلل الشرعية وهي لا تدل لذاتها
وإنما تدل لظننا أنها منصوبة ولم ينصبها الشارع في ابتداء الإسلام فإذا
نصبها اقتضى وضعه العموم
ثانيها
أن عموم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصص فكذا عموم علة المعلل
وهذا فاسد
510

فإن العام عندنا لا يخصص بل نتبين خصوصه في وضعه وإنما لم نفهمه
حتى نتبينه لقرينة كيف وقد قيل إن الباقي من عموم الشارع يبقى
مجملا
وقال القاضي يبقى مجازا وهذا لا يحتمل من المعلل
ثالثها
ما قال القاضي من أن المعلل وإن لم يصرح بتخصيص علة فيفهم من
قرينة قوله أنه لا ينبغي طرد العلة إلا إذا اطرد ولم يمنع منه مانع كالذي
يقول المتردي من سطح مسقطه الأرض يفهم منه عند الإطلاق إذا لم
يختطفه مختطف
والمختار
أن مسألة النقض إن انقدح فيه فرق مخيل فهو مبطل فإنه مشعر
باقتصار المعلل على نصف العلة وحقه أن يأتي بتمامها إذا طولب بإبداء العلة
ولو كان مستثنى عن القياس وكان من مناقضات الخصم فالعلة تبطل
أيضا إذ حقه أن يطرد ولا مانع
وإن كان مستثنى بنص أو إجماع فالذي رآه القاضي أن هذا مجتهد
فيه إذ يمكن أن يقال غلبة الظن متبع إلا إذا منع نص يقدم عليه
511

ويمكن أن يقال طبع العلة العموم فإذا لم يعم دل ذلك على بطلانه
وهذا الفن من القياس عنده باطل لا لانتقاضه ولكنه يقول
ما لا قاطع في قبوله فهو محكوم ببطلانه قطعا
وعندنا أن هذا القياس باطل في جوهره وإن كنا لا نرى جعل عدم
القاطع على القبول قاطعا في البطلان
ولكن هذه العلة إنما ينصبها المعلل ظانا أنها منصوب الشارع مقتصرا
على غلبة الظن فيها
وإذا رأينا الشرع ينفي الحكم مع وجودها كيف يغلب على ظننا كونها
علة
وكيف يظن برسول الله أن يأتي بالمتناقض المتدابر يقول في نفسه
وإذا بطل غلبة الظن فلا مستند
512

فإن زعم المجتهد أن ظني وراءه باقي في هذه المسألة
فيقال له إن تدبرت استثنيت انتفاء الظن عند الانتقاض
والفاصلون الذي بين علتنا وعلة الشارع يفرقون بأن له أن يحتكم
وليس لنا ذلك فلا بد في تطرق التخصيص إلى علته
والمختار أن التخصيص لا يتطرق إلى جوهر علته فإنه من أعم الصيغ
أعني صيغة التعليل ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب الشئ علما ثم
ينفي الحكم مع وجوده من غير سبب
نعم يتطرق إلى محله كلام فيخصص ببعض المحال بدليل قوله تعالى
والسارق والسارقة وقوله تعالى الزانية والزاني فيذكر
المحل دون العلة
وفائدة الخلاف أن من منع التخصيص لا يجوز أصلا تطرقه إلى
513

ما نص الشارع على التعليل به وإن أومأ إليه يتبين أن ذلك لم يكن إيماء على
تعليل بورود التخصيص
والمجوز للتخصيص يقول نبقي ذلك في محله
فصل
في دفع النقض
إذا قال المعلل باع الطعام بالطعام متفاضلا فلا يجوز قياسا
للسفرجل لأن على البر
فقيل ينتقض يبيع البر بالشعير
قال الجدليون يكفيه أن يقول صيغة الطعم تشمل الجنس والجنسين
وأنا إنما عنيت الجنس الواحد واللفظ صالح له
وهذا ليس بدافع فإنه أخل بأحد وصفي العلة أو بمحل العلة
فلا بد من ذكره
ولا يغنيه التفسير ما لم يصرح به
نعم لو قال متولد من مال الزكاة وغيره فلا زكاة فيه
فقيل يبطل بالمتولد من المعلوفة والسائمة
فهذا ليس بنقض فإنه فهم من قرينة حاله قطعا قصده التعريض
للجنس لا للنوع
514

فصل
قال الجدليون إن الكسر سؤال لازم ويفارق النقض فإنه يرد على
إخالة العلة لا على عبارتها والنقض يرد على العبارة
وعندنا لا معنى للكسر فإن كل عبارة لا إخالة فيها فهي
طرد محذوف والوارد على الإخالة نقض والوارد على أحد الوصفين
منع كونهما مخيلين فهو باطل لا يقبل
نعم تردد القاضي في أن المعلل هل يسوغ له الاحتراز عن المسألة المستثناة
عن القياس بطرد أم لا
وقال يحتمل أن يقال لا يحتاج إليه أصلا فإنه ليس بنقض
ولو فعله استبان به تنبهه له وكان أحسن
وقد بينا أن العلة منتقضة به فلا يغني الاحتراز بالطرد
النوع الرابع
515

إبانة عدم التأثير في وصف العلة إما في الفرع أو في الأصل
وحاصله بيان ثبوت الحكم مع انتفاء العلة على نقيض ما ذكرناه في
النقض
ومثار هذا السؤال اشتراط العكس في التعليل وقد اختلفوا فيه
فقال قائلون لا يعتبر كما في الأدلة العقلية إذ الأحكام تدل على المحكم
ووجوده وعدمه لا يدل على جهله وعدمه ولأن العكس فيما قاله
القاضي لا معنى له إلا انتفاء حكم في مسألة أخرى عند عدم العلة ولم يلزم
من جعل الشئ أمارة أن يجعل عدمه أمارة لنقيضه فإن نفي العلة
مسألة يطلب لها علة كما لهذه المسألة فلا تكون العلة مشروطة بها
وقال آخرون إن العكس معتبر كما في العلة العقلية أعني العلم
والعالمية ولأن العلة التي هي مناط الحكم ينبغي أن يزيد وجوده على
عدمه فإذا عم الحكم وجوده وعدمه فلا أثر له
والمختار عندنا أن العلة إن تعددت فلا يطالب بالعكس فإنا نجوز
ازدحام العلل على حكم واحد فلا مطمع في العكس معه
516

وكذا إذا استند الحكم إلى حديث عام وقياس فقد لا يطرد القياس
ويطرد الحديث فلا يطلب العكس
وإذا اتحدت العلة فلا بد من عكسها فإنه مناط الحكم ولا مطمع في
اعتقاد ثبوت الحكم دون مستنده
بخلاف وجود المحكم فإن اعتقاده مع عدم الفعل غير مستحيل فلذلك لم
ينعكس
فكأنا نقول شرط العلة الانعكاس إلا إذا منع مانع وليكن كل معلل
ملتزما له لو تمكن فإن العكس من طباع العلة فإن كل علة أخالت حكما
أخال عدمها عدم الحكم
ولهذا قال الأستاذ يكفيه الانعكاس في مسألة واحدة
وشنع القاضي عليه فقال المسألة الواحدة كسائر المسائل فلا يشترط
العكس فيها
ونحن نقول الردة والعدة والحيض والإحرام إذا ازدحمت في
امرأة فالحكم معلل بالكل
ولكن كل واحدة في حكم المنعكس وإن لم يبن أثرها
فإذا زالت الردة زال تحريمها
وكذا العدة
فكأن التحريم متعدد بتعدد العلة
517

مسألة
إذا زاد المعلل وصفا يستقل الحكم في الأصل دونه ولكن رام به درء
النقض فهو مطرح إذا لم يبن كونه علة في الأصل
وكذلك لو ركب من وصفين كان أحدهما في الأصل مستقلا ولا يستقل
في الفرع إلا مع غيره
كقوله أمة كافرة فصارت كالمجوسية
فهذا فاسد
لأن الرق ساقط في المجوسية بالاتفاق ليس يستقل علة بالإجماع حتى
يخرج على الجمع بين العلل فيكون كقوله مس فصار كما لو مس وبال
فالمحرم في الأصل هو التمجس وهو معدوم في الفرع
قال القاضي لعل طريق إثباته أن يقال خصوص التمجس على انفراده
علة وعموم الكفر مع الرق علة أخرى فهو حكم معلل بعلتين
وهذا أيضا لا يكفي وإن عموم الكفر لا يزيد على نفس التمجس
وخصوصه فيستحيل أن يكون الشئ علة على استقلاله ثم ينتصب علة مع
غيره
وليس من عدم التأثير ما إذا قال المعلل مشتد مسكر فيحرم كالخمر
فقيل له الميتة تحرم وليس بمشتد مسكر
فإن هذا طلب العكس في قاعدة أخرى
518

وليس يلزم المعلل اتفاقا أن يضبط مدارك التحريم في جملة المحرمات
النوع الخامس القلب
وهو ينقسم إلى مصرح وإلى مبهم
أما المصرح به فمثاله قولهم عضو من أعضاء الطهارة فلا يكتفي في
وظيفته بما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء
فيقال في معارضته قولنا عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر
بالربع
وقد اختلفوا في قبوله
فقال المحققون هو مردود فإنه لم تقلب عليه العلة في عين
الحكم المنصوب له وعدل إلى حكم آخر ولا يتصور القلب إلا كذلك
519

وليس يعارضه فإن شرط المعارضة التعارض في نفس الحكم وليس من
ضرورة عدم الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم ثبوت التقدير بالربع
والمختار
أن هذا باطل لأنهما طردان وقد فلا يجري هذا إلا في طردين أو في مخيل
وطرد إذ الشئ الواحد لا يخيل الإثبات والنفي وكذا الشبه الواحد مع
أصل واحد لا يخيلهما علي جميعا على الضرورة
وأما المبهم فمثاله قلبنا عليهم قولهم في مسألة المكره على الطلاق
مكلف فيقع طلاقه بأنه مكلف فيستوي إقراره وإنشاؤه كالمختار
وقيل هذا القلب أيضا فاسد
فإنه يتلقى من الأصل الاستواء في النفي والاستواء في الأصل في
الإثبات
وهذا غير سديد لأن الاستواء قضية معقولة تتبادر إلى فهم الفقيه قبل
البحث عن طرفي النفي والإثبات
ولكنه باطل من حيث إن الاستواء ليس من نتيجة كونه مكلفا
فلا يناسب التكليف الاستواء وإن كان يناسب وقوع أصل الطلاق
نعم لو أورد فصل الإقرار ابتداء لكان سؤالا متجها ولم يكن من
القلب في شئ
520

النوع السادس فساد الوضع
وهو أن تخالف العلة أصلا تتقدم عليه من نص كتاب أو سنة
أو إجماع أو قاعدة كلية أو كان لا يخيل بأن تلقى تغليظا من تخفيف
وهذا باطل لكونه طردا
ولست أرى لفساد الوضع طريقا مضبوطا سوى إبانة الإخلال بشرط من
شرائط العلة أي شرط كان فيما يعود إلى الإخالة وتقدم المرتبة
وقياس المهر على الحد في السقوط ليس فاسد الوضع إن استقام معنى
جامع مخيل وإن كان الحد مبناه على الدرء بخلاف المهر
فإن للحد مع ذلك سقوطا في بعض الأحوال وللمهر حتى أيضا سقوط فيلتقيان
في الإثبات والنفي جميعا
النوع السابع في المعارضة
وهي اعتراض مقبول لا يجري إلا في الأدلة المظنونة إذ القطيعات
لا تتعارض
ثم شرط المعلل أن يبطل المعارضة كما يبطل العلل أو يرجح دليله على
دليله
وإنما تورد المعارضة على علة لو سلمت عنها لأفادت الحكم
وأما الفاسد فلا يعارض
521

وقال قائلون لا تقبل المعارضة من السائل فإنه سيطالب بإثبات
علة الأصل وينتدب له وهو تعدي لنصب السائلين
وهذا فاسد
فان السائل يمنع الدليل إذا افتتحه ابتداء فأما ما يستفيد به إبطال كلام
المسؤول فيمكن منه
ويستحيل أن ينقطع السائل مع انقداح المعارضة
وأما احتياجه إلى الإثبات لا يضر كما إذا تمسك المستدل بظاهر فيؤوله تعالى
ويعضده بقياس بالإجماع ولا منع منه
النوع الثامن الفرق
وقد قيل أنه لا يقبل من حيث تضمن الجمع بين أسئلة متفرقة إذ فيه
منع معنى الأصل وإبداء معنى آخر ومعارضته في الفرع بعكس ما أبداه في
الأصل فليأت الفارق بواحد منهما
والمختار
أنه مقبول وعليه الجمهور
ثم اختلفوا في أنه سؤال واحد أم أسئلة
فقال القائلون هو أسئلة سوغ الجمع بينها لتجمع شتات الكلام وتوضح
فقه المسألة
والمختار
أنه سؤال واحد والنظر إلى مقصود الفرق
522

والغرض منه قطع الجمع إذ المسؤول يزعم أن الفرع في معنى الأصل
بدليل اجتماعهما في وصف العلة فيبين السائل افتراقهما في أمر خاص ليقطع
جمعه
ولذلك قلنا الفرق ينبغي أن يكون أخص من الجمع أو مثله
فلو أبان الفرق في معنى عام لم يكفه
مثاله إذا قلنا من لا يثبت بشهادته النكاح لا ينعقد بحضوره
كالصبي
فقالوا تقبل شهادته المعادة بخلاف الفاسق
وكذلك إذا قلنا أخطأ في اجتهاده في شرط من شرائط الصلاة
فيجب القضاء قياسا للقبلة على الوقت
فقالوا أمر الوقت أضيق من أمر القبلة
فهذا وأمثاله لا يقدح ما لم يبين فرقا قادحا في الجمع
ثم ينبغي أن يتمكن من عكس المعنى في الفرع من غير زيادة فلو افتقر
إليها كان معارضا ولم يكن فارقا
واختلفوا في أن طرفي الفرق هل يحتاج إلى أصل
والمختار
أنه لا يحتاج لأن الاستدلال المرسل عندنا مقبول
523

القسم الثاني
في الاعتراضات الفاسدة
ولا مطمع في استيعابها ولا ضبط لها
ولكن مجموع ما يقصد ذكره مما تداولته الألسنة سبعة أنواع
أحدها
ادعاء قصور العلة على محل النص
والغرض ذكر أن العلة القاصرة صحيحة وعليه دليلان
أحدهما
ما ذكره القاضي من أن من أبعد تصور مصلحة في محل نص الشارع
وإن كان مستوعبا استحث الشارع على إثبات الحكم فقد عاند
ومن جوز ثم أنكر جواز ورود التكليف بالبحث عنه فقد هذي
فإنا مصرفون يكلفنا ربنا بكل ممكن كما يشاء وهذا ممكن وإذا ساغ
ذلك فالباحث لا يدري قصور العلة إلا بعد استنباطها وإذا عثر عليها
فلا معاب عليه إن اعتقده منصوب الشارع في محل النص
فهذا أمر لا يعرض فيه خلاف
نعم إن قيل لا فائدة له فلا جرم لم نربط به فائدة حتى يتناقض
524

الثاني
ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق وعبر عنه بثلاث صيغ
أحدها أن قال القاصرة مستجمعة لكل الشرائط كالمتعدية ولم
تفارقه إلا في اعتضاده بالنص ولذلك نريده تأكيدا لا ضعفا
ثانيها أن من استنبط علة متعدية وحكم بصحته ثم ورد من الشارع
نص عمم جميع مجاري العلة يبعد الحكم ببطلانه بسبب شهادة
رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق علته
ثالثها أن كل خائض في الاستنباط من نص إذا استنبط فحقه أن
يعتقد عموم حكم النص وإن خص لفظه لأنه يظن أن العلة منصوب
الشارع في جميع الصور
وإذا لم يكن من ظن العموم بد فاستيقان فإن العموم كيف يبطل العلة
وقد تمسك النفاة بأمرين
أحدهما
أن الصحابة كانوا لا يستنبطون إلا العلل المتعدية
والثاني
أنها علة لا فائدة لها فان الحكم مستقل بالنص وفائدة العلة إثبات حكم
بها وهذا لا يثبت قط
525

قلنا فيما ذكرنها جواب عن هذا فإنا لم نربط به فائدة والمعلل
لا يتبين القصور إلا بعد العثور
ثم قيل ما فائدته سد مسلك التخصيص والتعليل نص في التعميم
واللفظ معرض للخصوص وهذه فائدة ظاهرة وإذا استنبطنا التعدية في
الربا استفدنا به منع التخصيص بالكثير الموزون واللفظ معرض له
والفائدة الثانية نفي الحكم شرعا عند انتفائها تلقيا من العكس وقد
ذكرنا أن العكس واجب عندنا في العلة إذا اتحدت وإن عدمها ينفي كما ثبت
وجودها
فإن قيل يكفي في عدم الحكم عدم تناول النص له
قلنا ولكن ذلك ليس بحكم شرعي فهو كالتحريم المنفي لأجل أن
الشرع لم يرد به قبل ورود الشرع وإذا علل فهو منفي بعلة شرعية وهي
عكس العلة القاصرة
وفي هذا جواب عن تحكمهم على الصحابة بأنهم لم يستنبطوا عمر القاصرة وليس
الأمر كما قالوه وقد ظهرت فائدته
وقال قائلون لا فائدة له ولكنها صحيحة
وبنى عليها أنه لا يجب استنباطها
وإذا عثر الفقيه عليها تبين أنه لم يجب عليه استنباط ذلك
وقال آخرون يجب استنباطها لما فيه من الفائدة
526

والخلاف يعود إلى عبارة في الوجوب ونفيه
ثانيها
منع المعلل من الاستدلال بفساد الفرع على فساد الأصل كقولهم إذا
قلنا نكاح لا يفيد الحل أو عدم إحاطة تمنع إلزام العقد صريحا إذ الإلزام
والحل ثاني الانعقاد فلا نتكلم فيه إلا بعد الفراغ عن الأصل
وغلا غالون فقالوا انقطع المسؤول لأنه اعترف بأصل العقد
وهذا هوس
فإن المذاهب يمتحن مساقها فإذا تخبطت فروعها انعكس الفساد على
أصولها وغاية المعلل تغليب ظن وما لا يفيد مقصوده يغلب على الظن
فساده
نعم اختلفوا في أنه من فن الشبه أو من فن المخيل واختار الإمام كونه
مخيلا لأن العقد لا يراد إلا لمقصوده فإذا تخلف مقصوده لم يبق للعقد
معنى
وقال القاضي هو شبه قوي ولعل ما ذكره القاضي أقرب فإن منتهى
المعلل تمسك بحكم من الأحكام وليس متمسكا بمصلحة مناسبة للحكم مناسبة
هجوم وآيته أنه لو طولب بعلة امتناع الإلزام والحل لافتقر إلى إبداء علة
فيه أو يقول اجتماعهما فيه يوهم الاجتماع في مخيل لم يبق إلا أنه يورث
غلبة الظن وحق الشبه أن يكون كذلك
527

وكذلك قولنا من صح طلاقه صح ظهاره مخيل ظاهر في إفادة غلبة
الظن ولكنه من الشبه القوي والخلاف فيه قريب المأخذ
ثالثها
مطالبة المعلل بطرد علته في قاعدة تباعد ما فيه بطرد الكلام
كما إذا علقنا وجوب العشر بالاقتيات فطولبنا النبي بتعليق الربا به
موافقة لمالك
وهذا فاسد
وليس عند المعلل ابداء فرق وقد تباين المأخذان ولم يرد ذلك نقضا
ولا استقام للسائل جمع
نعم على المفتي أن يتنبه لتباين المأخذين وأن وجوب العشر يتلقى
من مسيس الحاجات وهو مختص بالأقوات
وتعليل الربا فيه متلقى من قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام
بالطعام
رابعها
كل فرق مستنده الاتفاق في الأصل والاختلال في الفرع كقولهم
528

يكفر جاحد الحكم في الأصل وينقض قضاء القاضي فيه بخلاف الفرع فإنا
لا نلتزم اخراج المسألة عن حيز المجتهدات وهذا من نتيجته
خامسها
قلب العلة معلولا كقولهم ليس الطلاق بأن يجعل علة للظهار بأولى
من نقيضه
وهذا فاسد
فإنه لا بعد في تلازم شبهين يدل كل واحد منهما على صاحبه فليكن
كذلك ولا يطرد هذا في الأشباه
فأما المخيل فلا ينقلب معلولا للحكم أصلا
سادسها
ادعاء تراخي الدليل عن المدلول في مسألة النية إذ قسنا على التيمم
وهو فاسد فيما قيل من ثلاثة أوجه
أحدها أن الأدلة الشرعية لا تزيد على الأدلة العقلية والأحكام دليل
على القديم وهو متراخي عنه
وهذا الجواب فاسد
فإن الحكم الشرعي لا يثبت دون مستنده والعلم لا يستحيل تقدير
ثبوته دون الفعل
529

الجواب الثاني أنا نتكلم في إثبات شرط النية الآن في زماننا وهو
مسبوق بنية التيمم
الجواب الثالث وهو المختار أن النية تثبت في هذه المسألة بأدلة سوى
التيمم وهذا أحد أدلته فقد كانت النية ثابتة قبل التيمم بدليل آخر ثم ورد
التيمم عاضدا له حتى لو قدر عدم ثبوت النية في الوضوء في الشرع لما كان
التيمم دليلا على ثبوته ابتداء فإنه نسخ والنسخ لا يثبت بالقياس
سابعها
أن تقول اقتصرت على صورة المسألة فأين المسألة إن كانت هي العلة
وأين العلة إن كانت هي المسألة
وهذا فاسد
فإن صورة المسألة إن أخالت حكمها فذاك وإلا فهو طرد
كيف ولو اقتصر على صورة المسألة لا يجد أصلا يقيس عليه فلا بد من
زيادة أو نقصان
مثاله إذا سئل عن استدعاء العتق بغير عوض فيقول استدعاء عتق كما
إذا كان بعوض فقد غير العبارة فإنه لو استدعى عتقا بغير عوض كما في
صورة المسألة لما وجد أصلا يقيس عليه
530

وختم هذا الباب بذكر ضابط في الاعتراض الصحيح وهو أن كل
اعتراض يبين الإخلال بشرط من شرائط العلة
وشرط العلة أن تكون مخيلا ملتفتا على قواعد الشرع مطردا سليما
عن معارضة ما يقاومه أو يتقدم عليه في المرتبة مفيدا لمقصود المعلل لئلا
يقول السائل بموجبه
هذا تمام الكتاب في القياس والله أعلم
531

كتاب الترجيح
والكلام فيه بعد بيان حقيقته وإثبات أصله وبيان ما يجري فيه
الترجيح يحصره بابان
وحقيقته
ترجيح أمارة على أمارة في مظان الظنون
ونهايته
إبداء مزيد وضوح في مأخذ الدليل
وهذا في اللسان مشتق من رجحان الميزان
وعزى القاضي إلى أبي الحسين البصري بالرمز إلى أنه أنكر الترجيح
ويدل عليه أمران
أحدهما
علمنا بأن الصحابة كانوا يرجحون الأدلة ويقدمون
بعض المصالح على بعض ويقدمون رواية أبي بكر الصديق على رواية معقل بن يسار وغيره
ولا معنى للترجيح سواه
533

الثاني
أن منكر الترجيح إن لم يقل بالقياس فيثبت عليه وإن قال به
فكيف ينكر القياس والمسائل المظنونة يتعارض الظن فيها
فلا معنى للقياس فيها سوى تغليب أحد الظنين على الآخر ولا معنى
للترجيح إلا قول المرجح ظني أغلب ورأيي أثبت ولا انفكاك للقياس عنه
إلا إذا دل قاطع على بطلان ظن الخصم وذلك مما يندر
ولا مجال للترجيح في القطعيات لأنها واضحة والواضح لا يستوضح
ونفس المذهب لا يرجح فإن الترجيح بيان مزيد وضوح في مأخذ
الدليل فلا بد من دليل
نعم يقدم مذهب مجتهد على مجتهد بمسالك نذكرها في كتاب الفتوى
وأما العقائد
قال الأستاذ لا يرجح بعضها على بعض وهذا إشارة منه إلى أنها
معارف ولا ترجيح في المعارف
والمختار:
أن العقائد يرجح البعض بالبعض فإنها ليست علوما والثقة بها
تختلف
وسبيله أن يقول المعتقد انطبق اعتقادي على اعتقاد الصحابة والسلف
الصالحين فإنهم لم يتعرضوا لكذا ولم ينفوا كذا وهم أجدر بتسديد الاعتقاد
في قواعد الدين منا
534

باب الأول
من البابين الموعودين في ترجيح الألفاظ
إذ مآخذ الشرع تنقسم إلى ألفاظ ومعاني
والألفاظ تنقسم إلى ألفاظ الكتاب والسنة وهي تنقسم إلى نصوص
وظواهر ورب ترجيح يطرد في ظاهر ولا يطرد في نص
وكل ما يطرد في النص فيطرد في الظاهر
ومجموع ما نذكره عليهما يحصره ستة عشر نوعا
أحدهما:
أن يظن على أحدهما مخايل التأخير فيقدم على المتقدم إذا لم يقطع
بكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا
وذلك يبين بالزمان تارة كما روي أن قيس بن طلق روى في مس
535

الذكر عن الرسول عليه السلام أنه قال هل هو إلا بضعة منك وكان
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك على عريش
وروى أبو هريرة رضي الله عنه من مس ذكره فليتوضأ وهو
متأخر في الإسلام أسلم بعد الهجرة بست سنين
فالغالب أن حديثه متأخر
وقد يظهر بالمكان فالمنقول بمكة يغلب على الظن تأخره وإن
اتفقت له عودات إلى المدينة
536

وقد يبين بالحال كما روي أن النبي عليه السلام صلى بالناس في مرض
موته قاعدا وهم قيام فهو مقدم على حديث مطلق رواه أحمد بن
حنبل حيث قال وإذا قعد الإمام فصلوا قعودا أجمعين
والمختار
أن هذا الترجيح إنما يجري إذا عجزنا في هذه المسألة عن مستند آخر
فأما إذا وجدنا مستندا آخر وتعارضت النصوص تساقطت
فإنا نرد الحديث بأدنى خيال
فالحديث الآخر إن لم يقاومه يعارضه ويوهي التمسك به محالة
ثانيها
أن يكون راوي أحدهما أوثق وهو ترجيح من مأخذ الدليل فإن الثقة
مستند الأحاديث
ثالثها
أن يكون في رواة أحدهما كثرة وسببه ظاهر
537

رابعها
أن يعارض الثقة العدد فالثقة مقدمة
وقدم آخرون العدد لأنه أقرب من التواتر
ونحن نعلم أن الصحابة كانوا يقدمون قول أبي بكر رضي الله عنه على
قول معقل بيسار ومعقل بن سنان وأمثالهم
خامسها
أن يعتضد أحدهما بعمل بعض الصحابة وإن كنا نرى أن عمل الصحابة
لا يقدم على الحديث خلافا لمالك لأن المخالف محجوج به والعمل في مظنة
التردد
والمختار
أنا إن قطعنا بأن الحديث بلغهم فتركوه نترك الحديث ولا نسئ الظن
بهم
وإن ترددنا عملنا بالحديث
وإن غلب على الظن أنه بلغهم توقفنا
والغالب أن حديث المتبايعين لم يخف على أهل المدينة مع عموم البلوي به
وحيث لا يقدم على الحديث يرجح به أمارة
538

سادسها
أن يعتضد أحدهما بعمل التابعي فهو كالصحابي عندنا لأن إساءة الظن
به محال
وخصص آخرون الترجيح بالصحابة ولا شك أن العمل ببعض مضمون
الحديث كالعمل بكله حتى يرجح جملة الحديث به
سابعها
أن يعتضد أحدهما بظاهر الكتاب كقوله عليه السلام الحج والعمرة
مفروضتان ولا يضرك بأيهما بدأت
يعتضد بقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله
ولا شك أن ما جمع الله يقدم على حديثهم حيث رووا أنه قال
عليه السلام الحج جهاد والعمرة تطوع
وأنكر القاضي هذا الترجيح
وقال هو مستند لا من مأخذ الدليل فالحديثان يتعارضان ويبقى
الظاهر متمسكا مستقلا
539

وهو المختار
لأن الحديث لا أقل من أن يهي بالمعارضة فيتمسك بالظاهر
وهو قريب من النص من حيث أنه أمر بهما والأمر للإيجاب
ولا معنى لقولهم المعني بالإتمام المضي فيه بعد الخوض
وعند بطلان هذا التفسير ينتهض الأمر نصا وعلى الجملة العمل
بالظاهر أو بما يطابق الظاهر
ثامنها
أن يعتضد أحدهما بقياس الأصول كما قدم الشافعي رواية خباب ابن
الأرت في صلاة الخوف لما أن قلت فيه الأفعال على رواية ابن عمر
قال القاضي للشافعي إن كنت تكذب ابن عمر لحيده عن القياس
أو تتهمه فمحال
وليس القياس مناسبا لمأخذ الدليل حتى يقدح فيه
وإن قلت الغالب من الرسول الجري على قياس الأصول فيعارضه أن
الغالب أن الناقل عن القياس يكون أثبت في الرواية من المستمر عليه
ولهذا تقدم شهادة الابراء على شهادة أصل الدين
ثم قال القاضي كل دليل مستقل يرجح به حديث نظر إن كان دونه
فهو باطل لا ترجيح فيه فيرد لأنه لا يوهي أحد الحديثين
540

وإن كان فوقه فهو متمسك به لا بطريق الترجيح كنص الكتاب
وإن كان مثله فهو كحديث آخر يعضد به أحد الحديثين فيؤل الأمر
إلى الترجيح بالعدد
فإن قيل فما قولكم في مسألة صلاة الخوف
قلنا إذا صحت الروايتان حملناهما على صلاتي الظهر والمغرب لكيلا
تتناقض وهو متمكن
ثم تقول الأولى ما ترك فيه الفعل المستغنى عنه وإن فرض ازدحام
على صلاة واحدة فمقدار التوافق مقبول والباقي مطرح لا يتمسك به
تاسعها
أن يتأكد أحدهما بالاحتياط
وأنكر القاضي هذا الترجيح من حيث أن التكذيب غير ممكن بسببه
ولا يورث ذلك تهمة ولعل الناقل عن الاحتياط أثبت كالمشهور
بالسخاوة وإن إذا نقلت عنه حالة مخالفة لها لا نكذب الناقل فيه
ثم قال استحباب الاحتياط لا ينكر وإيجابه تحكم لا مستند له
عاشرها
فيما قيل أن يتضمن أحدهما إثباتا والآخر نفيا فهو مقدم على النفي
كقوله لا شفعة للجار يؤخر عن قوله للجار الشفعة لو نقل
وهذا هذيان
541

فإن كل واحد من الروايتين مثبت
وإنما ينقدح هنا فيما إذا نقل أحدهما فعلا والآخر نفاه وأمكن حمله على
ذهوله فيفعل ذلك لأنه معرض للغفلات كما والمثبت أبعد عنه
حتى لو تكاذبا وقال النافي كنت أتحفظ وانتهى فلم يفعل
ولا ترجيح أصلا
هذا ما يجري في النصوص
وما يجري في الظواهر أنواع
أحدها
أن يتعارض عمومان يتطرق إلى كل واحد تأويل يعتضد بقياس وقياس
أحد التأويلين أوضح فهذا التأويل مقدم والعمل بالحديث الآخر
واختلفوا في أن هذا هل يكون ترجيحا بالقياس
قال القاضي جوز الشافعي ترجيح النص والظاهر بالقياس وأنا أجوز
ترجيح الظاهر دون النص
والمختار
أن هذا تقديم غير مؤول على حديث مؤول ولكن تبين التأويل
بالقياس
ثانيها
أن يظهر في أحدهما قصد العموم بأمارة من الأمارات كما ذكرنا في كتاب
التأويل
542

ثالثها
أن يرد أحدهما ابتداء دون الآخر على سبب فالمطلق مقدم لأن
ما تخيله الصائرون إلى أن الوارد على سبب يخصص به يصلح للترجيح وفيه خلاف
رابعها
أن يتطرق إلى أحد العمومين تخصيص بالاتفاق فما حمل الصائرين
إلى أن الباقي مجمل أو مجاز يصلح للتجريح هو وفيه خلاف
خامسها
أن يكون في أحدهما إيماء إلى التعليل فهو مقدم لأنه يبعد عن
التخصيص وهو أحرى ما تثبت به العلل إذ صيغة التعليل من أعم الصيغ
سادسها
فيما قاله الشافعي أن يتمسك المتمسك بأحد الحديثين من جعل لفظه علة
حكم المسألة دون الخصم الآخر
كما روي أن بريرة أعتقت تحت عبد يمكن أن يجعل علة عندنا ونقل
أنها أعتقت تحت حر ولا يمكن أن يجعل ذلك علة فإن الخيار لا يختص بالحر بالإجماع
وهذا ترجيح فاسد
فإن مثاره انفراد الخصم بمذهبه ولا يرجح الحديث بالمذاهب
وختم الباب بما ذكره بعض الناس من أن العمومين قد يتسلط كل
واحد على تخصيص الآخر من غير دليل
543

وهذا كقوله تعالى اقتلوا المشركين فإنه يخصص قوله تعالى
حتى يعطوا الجزية عن يد بأهل الكتاب
وقوله تعالى حتى يعطوا الجزية لقوله تعالى اقتلوا
المشركين بأهل الحرب من غير افتقار إلى دليل آخر
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
يخصصه بغير أهل الذمة قوله عليه السلام خذ من كل حالم
دينارا
وبتخصص وسلم هذا الحديث بأهل الكتاب بالحديث الأول
وهذا فاسد
فإن التخصيص بأهل الكتاب إن ظهر فيه دليل فهو مستند التخصيص
وإلا فهو تحكم وليس لأحد الخصمين أن يكتفي بعمومه الذي تمسك به دليلا
على تخصيص عموم صاحبه إذا أنكر هو أصل التخصيص لأنه لا يسلم عن
المعارضة بمثله
544

الباب الثاني
في
ترجيح بعض الأقيسة المتعارضة على بعض
ومما لا بد من تقديمه على الخوض في ترجيح المقاييس فصل ذكره
القاضي في ترتيب النظر في قواعد الأقيسة
فقال النظر فيها ينقسم إلى ما لا يتفاوت في نفسه والمتفاوت
وعني بالمتفاوت ما يتفاوت فيه نظر النظار وتتعارض فيه الخواطر
قال والنظر الذي لا يتفاوت ينقسم إلى ما يقع في مرتبة البديهي
كعلمنا أن المخنق والقاتل بالمثقل عامد للقتل ومن أضمر خلافه يسفه في
عقله
وإلى ما يقع في مرتبة النظري كعلمنا بوجوب القصاص عليه فإن من
علم مقصود الشارع من القصاص في الحقن والعصمة استبان بأدنى نظر
على القطع إيجاب القصاص ولا ينبغي أن يتمارى فيه
وكذلك علمنا بأن العقوبة الرادعة عن الفواحش شرعت زجرا عنها وإذا
تجمعت أسبابها من ارتكاب الفاحشة مع تمحض التحريم ومسيس الحاجة إلى
545

الزجر فلا بد منه كعلمنا بأن الشهود إذا شهدوا على الزنا فلا يسقط الحد
بقول المشهود عليه صدقوا كما قاله أبو حنيفة
وكعلمنا عنه بأن الحد لا يتعلق إلا بفاحشة ولكن الشارع تولى بيانه فإنا
لا ندركه بأفهامنا إن وقد خصصها بتغييب الحشفة واستثنى مقدماتها من معانقة
وتقبيل وممازحة منها
وعلمنا بأن أقل مراتب موجب العقوبة أن يتمحض تحريمه فالوطء
بالشبهة لا يوجب الحد وإشارته إلى الذي صادف امرأة على فراشه ظنها
حليلته القديمة
قال فهذه جهة لا يتفاوت فيها نظر العقلاء ولا اكتراث بمخالفة
أبي حنيفة فيها فإني أقطع بخطئه في تسعة أعشار مذهبه الذي خالف فيه
خصومه فإنه أتى فيها من الزلل في قواعد أصولية يترقى القول فيها عن
مظان الظنون كتقديم القياس على الخبر
ورجوعه إلى الاستحسان الذي لا مستند له
وزعم أن الزيادة على النص نسخ في مسائل ذكرناها
وتمسكه بمسائل شاذة في خرم القواعد فليس الكلام معه فيها في
مظنة النظر في المظنونات
والعشر الباقي يستوي فيه قدمه وقدم خصومه ولعلهم يرجحون عليه
فيه
546

فأما ما يتفاوت النظر فيه كإلحاق الأيدي بالأنفس في الاستيفاء بحكم
القصاص من حيث إن قطع الأطراف يتوقع منها السراية ففيه زاجر
وذلك لا يتحقق في النفس
إلا أن هذا يعارضه ما ذكره الشافعي رضي الله عنه من أن الغرض من
القصاص الزجر والأطراف معصومة عصمة النفوس فقضية المصلحة فيه
تنزيلها منزلته
نعم لم يطرد الشافعي رضي الله عنه هذه المصلحة فيما إذا قطع أحدهما من
جانب والآخر من جانب من حيث لم ير استفتاح المصالح ابتداء ورأى
هذه المصلحة ثابتة عند الاشتراك في النفس فألحق الطرف به عند تحقق
الاشتراك
ومما يظهر التفاوت إيجاب الشافعي القصاص على الشهود ولم يصدر
منهم إلا كلمة ولو قال ذلك مما يتسبب به إلى القتل كالإكراه فيعارضه
أن التزوير من العدول مما لا يغلب والقصاص مبناه على الدرء
وأبعد منه قوله يجب الحد على المرأة بلعان الزوج مع أن اللعان حجة
ضرورية وليست بينة يثبت بها الزنا على الإطلاق ولو قال زنا المخدرات
لا يطلع عليه إلا الأزواج فلا بد من تمهيد طريق إثباته
يعارضه أن الزوج قد يريبه من أمر المرأة شئ فيغتاظ عليها
فيسعى في دمها والعقوبات على الدرء مبناها
قال وأبعد منه إسقاطه الحد عن الزوج في حق المقذوف به وقد صرح
به في قذفه ولا خفاء ببعده
547

ثم قال وقد شاع في الألسنة أن العقوبات مبناها على السقوط فلا بد
من درك معناها فليعلم أن العقوبة ثابت وجوبها ودرؤها
والغرض من كل واحد منهما الحقن
والغرض من استيفاء القصاص حقن الدماء كي يكون ذلك وازعا
للفساق
والغرض من الدرء حقن دم الجاني فإنه معصوم وحقن دمه ناجز
والعصمة المبتغاة من الاستيفاء متوقعة فإنا لا نرد المقتول إلى الأحياء
ولكن يتوقى وقوع مثله
فإذا تعارضت أسباب الحقن والدرء غلب السقوط والمقصود منه الحقن
أيضا إلا أن المستفاد حقن ناجز فإذا اعتضد بمؤكد كان مراعاته
أولى من عصمة متوقعة
فهذه مقدمة لم نجد بدا من ذكرها ليستمد الناظر منها في مسالك
الترجيح في القياس
وليعلم أن القياس على مراتب
وأقواها أن سميناها قياسا إلحاق الشئ بما في معناه ولا ترجيح فيه
فإنه مقطوع به وأثر الترجيح يعود إلى النص المقطوع به
548

ودونه المخيل ويقل فيه التعارض وإن اتفق فالغالب وقوع الكلام
في تقديم مرتبة على مرتبة
ويكثر التعارض في الأشباه وعندها يحتاج إلى الترجيح
ومعظم المسائل مع أبي حنيفة قطعي فيما يتعلق بالأصول
وما فيها يعود إلى تمسكنا بقاعدة وتمسكهم بقاعدة شاذة وذلك أيضا
محكوم ببطلانه
وحاصل ما يذكر من فنون الترجيح أنواع
أحدها
أن يعارض قياس مستنبط من نص كتاب ما في معنى لحديث آحاد قال
قائلون إن سميناه قياسا رجحنا عليه فإن مستند هذا مقطوع
والمختار
أنه لا يرجح لأن تسميته قياسا يرجع إلى لقب وهو مقطوع به
كالمنصوص وأخبار الآحاد تقدم على قياس مستنبط من القرآن
ثانيها
أن يعارض قياس عام تشهد له القواعد قياسا هو أخص منه بالمسألة
فالأخص مقدم فيما قاله القاضي لأنا دفعنا إلى البحث عن هذه المسألة
فالنظر إلى القواعد اضراب عن مقصوده فلينظر إليه
549

ومثاله توجيه قولنا لا تتحمل العاقلة قيمة عبد لأن الجاني أولى
بجنايته ويعتضد بسائر الغرامات
ويعارضه قياس أخص منه وهو أن الغالب على العبد الذمية بدليل
الكفارة والقصاص
وضرب العقل سببه مسيس حاجة القن إلى معاطاة الأسلحة واتفاق
هفوات وثقل الأروش على الجناة
وهذا فاسد
فإن ضرب العقل مستثنى من القياس وهذه الحكمة لا تعويل عليه
والأصل أنه لا يضرب عليها إلا في محل القطع أو فيما هو مقطوع به
وإنما المثل القريب قول أبي حنيفة رحمه الله لا يضرب القليل على
العاقلة واعتضاده بهذا الأصل ونحن نحلق القليل بالكثير هو أخص إذ
ثبت أن العقل يجري في الأجزاء والأروش وثبت بطلان معنى الإجحاف إذ
المتوسط يعقل الغني ويتحمل عنه فصار القليل في معنى الكثير
ويعتضد بما روى أنه عليه السلام ضرب العقل على العاقلة وهو
550

اسم جنس يتناول الكل كما يتناول اسم الحمام الفروخ وإن كانت الحمامة
لا تتناوله
فهذا مقدم على قياس أبي حنيفة
ولكن شرط جريان الترجيح أن يسلم المستدل بالقياس الخاص لخصمه
قياسا عاما فإن نسبه إلى الإضراب عن القاعدة الثابتة في الشريعة فهو
باطل
وكذلك ان لم يسلم المستدل بالقياس العام خصوص هذا القياس
ثم قال القاضي هذا شبه قوي مقدم على المخيل فكأنا نشبه القليل
بالكثير وهذا كما تقول جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته تشبيها
لإحدى النسبين بالأخرى وإن كان القياس المخيل في المالية يقتضي اتباع
النقصان ولهذا وجبت قيمته بالغة ما بلغت
وكما تشبه الزبيب بالتمر والأرز بالبر ويتنبه للمقصود الأخص في
المنصوص وهو الطعم ليشبه به غيره فيعمل عمل العلة وإن لم يكن
مخيلا فيقدم على مخيل يعارضه
فإن قيل القوت أخص
قلنا قال القاضي الجمع بينهما ممكن فيفعل ذلك إذ لا مانع
ثالثها
أن يكون للقياس العام التفات على خصوص الحكم وهو معتضد
بالقواعد فهو مقدم
551

كقياسهم المرض على الإحصار في جواز التحلل ولكن منعه أولى إن كان
تمسكا بعموم حكم الحج في اللزوم لأنه يجد أصلا من الضلال والنسيان وغيره
فليس إعراضا عن خصوص حكمه كما ذكرناه في إلحاق القليل بسائر
الغرامات فإنه إضراب عن خصوص هذه القاعدة
رابعها
إذا انعكست إحدى العلتين فهو مقدم لأن ما حمل بعض الناس على المصير
إلى كونه شرطا يصلح للترجيح
وقد بينا أن العكس من طباع العلة فانعكاسه إلا يزيد وضوحا في جوهره
ومنع القاضي الترجيح به وزعم أن العكس نفي حكم في مسألة
أخرى فيتوقف فيه إلى ورود الدليل ولا أثر للعكس
ثم مزيد الإخالة مقدم على العكس بالإجماع
خامسها
تقدم المتعدية على القاصرة بزعم الأستاذ أبي منصور والقاضي لأنه
أغزر فائدة ولأن الصحابة كانوا يتمسكون بالمتعدية دون القاصرة إذ لا فائدة
فيها
552

وقال الأستاذ أبو إسحاق القاصرة مقدمة لأنها معتضدة بالنص
فيقال له الحكم هو المعتضد دون العلة
والمختار
أنهما إن تواردا على حكم واحد يجمع بينهما ولا ترجيح
وإن تناقضا فلا يلتقيان
نعم يكفي طرد المتعدية عكس القاصرة ولا يقاوم العكس الطرد
أصلا
وإن فرض ازدحام على حكم مع تقدير الاتفاق على اتحاد العلة فالمتعدية
أولى لما ذكره القاضي
سادسها
أن يكون فروع أحدهما أكثر من الآخر فيرجح به كما قال الأستاذ
أبو منصور
وهو مزيف
لأن تقديم المتعدية على القاصرة تلقيناه من مسلك الصحابة ولم يظهر
ذلك عند كثرة الفروع
سابعها
أن يتحد وصف إحدى العلتين ويتعدد وصف الآخر فالمتحد وصفه
553

قالوا يرجح لأن فروعه أكثر والاجتهاد فيه أقصر فيبعد عن الخطأ
وهذا فاسد
لأن كثرة الفروع لا تتلقى من الاتحاد فإن التعدية متحدة وقد قصرت
وقصر الاجتهاد وطوله خوف وترجي
ولا يؤخذ الترجيح من هذا المأخذ
ثامنها
أن ما كان فروعه أكثر يقدم عليه ما كان شواهده أكثر فيما قاله الأستاذ
أبو منصور
كقولنا في تعليل وجوب الكفارة بالوطء في رمضان إيلاج فرج في
فرج ويشهد له اختصاص بالوطء بمن أتى في الحج وغيره به
وهم يقولون هتك حرمة الصوم بمقصود الجنس وقد كثر فروعه
وهذا فاسد
فإن قولنا إيلاج فرج في فرج طرد لا تخييل ومعتمد الشافعي تشبيه
الصوم بالحج في أن ما اشتمل على مخطورات الوطء من جملتها كان
الوطء مزيد تغليظ كالحج
وما ذكروه منقوض عليهم بمناقضات لهم في تلك المسألة
554

تاسعها
أن ما كثر أصوله قالوا يرجح وشرطه ان لا تتحد الرابطة فإن اتحدت
كقولنا كل ما جاز بيعه جاز رهنه وقسنا على الدار والفرس والعبد
فليس هذا من كثرة الأصول
نعم إن شهدت أصول متباينة بمسالك متغايرة فيرجح ولا خفاء
بسببه
فإنه علتان في معارضة علة واحدة
عاشرها
كثرة الشواهد عند عدم الجامع الفقهي مثاله قول أحمد يمسح على
العمامة كالخف
فنقول لا يمسح على ساترة كسائر الأعضاء
وكثرة الشواهد مع اليأس عن المعنى يرجح به
الحادي عشر
تقدم ما يقتضي الاحتياط فيما وضعه على الاحتياط كالابضاع فيه
والدماء
فأما حل الصيود فلا
فإن الأصل فيها الإباحة وإن كان الورع فيها الاحتياط
555

الثاني عشر
تقديم العلة الناقلة على العلة المستصحبة كما يقدم الراوي الناقل على
المستصحب
وهذا فاسد
فإنا نظن أن الناقل أثبت في الرواية من المستصحب ولا نتهمه في العلة
فلتقدم المستصحبة
ثم يحتمل أن يقضي بالتعارض ويتمسك بالاستصحاب استقلالا
ويحتمل أن يقال هو ساقط في معارضته القياس فلا يصلح إلا للترجيح
الثالث عشر
اعتضاد أحدهما بظاهر يترجح به أو يعمل به استقلالا وفيه احتمال
كما في الاستصحاب
الرابع عشر
النافية والمثبتة وقد اختلف الناس فيهما على التناقض
وعندنا أن لا ترجيح بهما وإنما ينقدح الترجيح بالإثبات في الروايات
الخامس عشر
أن تنطبق صيغة التعليل على ظاهر القرآن
556

كقولنا لا تقبل شهادة الكافر لأنه فاسق ويشهد له قوله تعالى
أولئك هم الفاسقون
وقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا
وهذا الترجيح فاسد
لأنه يسمى فاسقا لخروجه من الدين يقال فسقت الرطبة ولكن
خصص بالكافر كما يخصص الملحد بالكافر والحنيف بالمسلم وكل واحد منهما
بمعنى الميل
السادس عشر
ان يعتضد أحدهما بمذهب واحد من الصحابة فيرجح لأن مذهبه إن
لم يجعل حجة على الاستقلال فيرجح به
والمعتضد بمذهب زيد في الفرائض يرجح على ما يعتضد بقول معاذ ابن
جبل وإن قال عليه السلام أعرفكم بالحلال والحرام معاذ لأن
شهادته عليه السلام لزيد في الفرائض على الخصوص حيث قال عليه السلام
أفرضكم زيد
557

ويقدم أيضا على مذهب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإن قال
فيهما اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر لأن ذلك يمكن حمله
على الخلافة والسيرة المرضية
وهذا في الشهادة أخص منه والله أعلم
558

كتاب الاجتهاد
والكلام فيه في أربعة فصول
الفصل الأول
في
أن كل مجتهد في الأصول لا يصيب
وأجمع العقلاء عليه سوى أبي الحسين العنبري حيث صوب كل مجتهد في العقليات
ولا يظن به طرد ذلك في قدم العالم ونفي النبوات ولعله أراده في
خلق الأفعال وخلق القرآن وأمثالهما
إذ المسلم لا يكلف الخوض فيه لعلمنا بأن العقول لا تحتمل كل غامض عقلي
والصحابة كانوا لا يأمرون الناس به
فإذا خاض متبرعا فلا يأثم بما يعتقد لأن عقله لا يحتمل سواه
وهذا مع هذا القرب فاسد
فإن اعتقاد الإصابة المحققة على التناقض محال إذ من ضرورة أحدهما أن
يكون جهلا وهو كاعتقاد اللون الواحد سوادا وبياضا
559

وإن عنى به نفي التأثيم معللا بقصور عقل فليطرد في النصارى واليهود
كيف والصحابة كانوا يشددون القول على كل مبتدع غير مكترث بقصور عقله ثم العقول إذا نقضت عن العقليات وألفت التقليدات تقاربت وأدركت
المعقولات
نعم لا يجب الخوض في دركها ويكفي التقليد عندنا ولكن إذا
خاض فيه فهو مأمور بالإصابة
560

الفصل الثاني
في
المجتهدين في المظنونات
وقد ذهب الشافعي والأستاذ أبو إسحاق وجماعة من الفقهاء إلى أن
المصيب واحد وله أجران وللمخطئ أجر واحد
وغلا غالون وأثموا المخطئ
وصار القاضي والشيخ أبو الحسن في طبقة المتكلمين إلى أن كل واحد
منهما مصيب
والغلاة منهم أثبتوا صلى التخيير ونفوا مطلوبا معينا وقالوا لا فائدة في
اجتهاد ولا في تقليد معين لتقدمه في المرتبة ولكنه يتخير إذ ما من حكم
إلى ويجوز أن يغلب على الظن
والمتقصدون وقال أوجبوا الاجتهاد والعمل بما يغلب على الظن
وعزى القاضي مذهبه إلى الشافعي رضي الله عنه وقال لولاه لكنت
لا أعده من أحزاب الأصوليين
561

تمسك من صار إلى أن المصيب واحد بمسلكين
أحدهما
أن الحل يناقض الرحمة والسفك يضاد الحقن فيستحيل جمعهما
وهو سفسطة من هذا الوجه
ولكنهم يقولون ذلك لا يتناقض في حق شخصين كالميتة تحل للمضطر
وتحرم على غيره وكل مجتهد مصيب في حق نفسه
وإن فرض في حق مقلد فيستفتي الأفضل وإن تساووا انعكس الاشكال
عليهم أيضا
المسلك الثاني
أن التحريم لا بد له من مسلك في الظن ويستحيل تعارض المسلكين
على التناقض يفضي أحدهما إلى التحريم والآخر إلى التحليل على التناقض
562

وهذا فاسد
فإنهم ينفون مطلوبا معينا فضلا من إثبات مسلك يدل عليه
ولو فرضت مفتية تحت مفت قالوا على المرأة الامتناع إذا رأت
التحريم وعلى الزوج مد اليد وكل يأخذ باجتهاده ولا يستبعد هذا
التناقض فإنه ينعكس على من يقول المصيب واحد فإنه لا يعنيه
ولو وجب على كل واحد أن يعمل باجتهاده
تمسك القاضي بأن قال
يجب قطعا على كل مجتهد العمل باجتهاده شرعا والوجوب بأمر الله
وما وجب بإيجاب الله فهو حق فهو المعني بكون كل واحد مصيبا للحق في
حق نفسه
وإن قيل لم ينه الاجتهاد نهايته
قلنا إذا غلب على ظنه ولم يبق له مضطرب في اعتقاده فتكليفه أمرا
وراءه تكليف مالا يطاق فإنه أدى ما كلف ولم يكلف الا استفادة أنه غلبة
الظن وقد استفاده
والمختار عندنا
أن كل مجتهد مصيب في عمله قطعا فإنه وجب بإيجاب الله
ولا معنى للقضاء بإصابة كل واحد على معنى نفي مطلوب معين في
علم الله من تحريم أو تحليل
563

إذ لو قيل به لما تصور الطلب في حق كل مجتهد يقدم على اجتهاد إذ
يعتقد في علم الله حكما هو مطلوبه من كتاب أو سنة أو إجماع فإن لم يجد
فما هو إلا شبه بأصول الشريعة وإذا لم يتخيل ذلك لم يتصور طلبه وهو
كالذي يطلب زيدا في الدار ولا يتعين في خياله أحد التقديرين على
البدل
ويتبين هذا بمثال وهو أن المجتهد في القبلة ينبغي أن يعتقد تعين القبلة
في إحدى الجهات وكونه مأمورا بطلبها بغلبة الظن ولو لم يتخيل ذلك
كان كمن يطلب جهة من أربع جهات ولا تميز لبعضها على بعض فلا يكون
له مطلوب معين ولا يتصور له طلب
فعلى هذا نقول إذ فرضنا واقعة لو انتهى الاجتهاد فيها نهايته انتهى
إلى التحريم المحقق فانتهى المجتهد إلى الكراهية مثلا وجب العمل به وله
أجر واحد
564

ولو اتفق عثور على منتهى التحريم لكان مصيبا ما هو شوف الطالبين
وهو غاية التحريم
فقد تبين أنهما مصيبان في العمل واحدهما مخطئ في الوصول إلى
ما هو شوف الطالبين لا بعينه
وقد يقول القاضي ليس لله تعالى في الوقائع المظنونة حكم معين عام على
جميع الخلائق
إذ الحكم توجيه الخطاب ويستحيل توجيه الخطاب على التعيين مع
انشعاب مسالك الظنون
ولو كان معنيا لدلت عليه امارة ولو دلت الامارة لعلمت وانقلب
مقطوعا به
وهذا غير سديد
فإن لله تعالى في كل واقعة حكما حق المجتهد أن يتشوف إليه وعليه
امارات تورث غلبة الظن
وللظنون في العقول مسالك كما للعلوم
فهو كطالب القبلة بظنه
ان أصاب جهة القبلة فله أجران
وإن بنى على غلبة الظن ولم يصب فله أجر واحد
565

الفصل الثالث
فيما
هو مطلوب المجتهد إذا عينا مطلوبا
قالوا والمطلوب هو الأشبه وعبر معبرون عن الأشبه بأنه ما يظهر
للفقيه في مجاري ظنه
وهذا لا ضبط له فإن ذلك قد يتعارض
وقال آخرون هو ما لو ورد به نص لطائفة
وهذا حكم على الغيب وان ذكره ابن سريح من أصحابنا
وقال آخرون هو الأشبه بالأصلين الذين تردد الواقعة بينهما من نفي
أو اثبات وهو شوف الطالب
من ظفر به فقد أصاب
ومن لا فقد أخطأ وان أصاب في العمل
566

الفصل الرابع
فيما
إذا أخطأ المجتهد نصا
والمصوبة اضطربوا فمنهم من طرد التصويب تعويلا على وجوب
العمل عليه وفيه إصابة الحق
ومنهم من خطأه
وغلا غالون حتى أثموه
وقال القاضي لا يؤثم لأنه لم يتعمد ولكنه يحتمل ان يقال أخطأ
من حيث إن المطلوب قد تعين
ومنشأ التصويب نفي المطلوب والنص هو المطلوب هنا
ثم قال يمكن ان يقال هو مصيب لأنه وجب عليه العمل وقد أدى
ما كلف وحكم النص متعين في حق من عثر عليه والاحكام تختلف باختلاف
الأحوال والاشخاص كما في تحريم الميتة لم يبق إلا أن يقال أخطأ النص
فأقول نعم ولكن هذا لفظ لا خير فيه فإنه لم يجب عليه الوصول
إليه إذ فيه تكليف وشطط بعد ان استفرغ كنه مجهودة
وهو وهو كالمتيمم يقال لم تتوضأ فيقال نعم ولكن لم يجب عليه ذلك
567

والمختار
ان المجتهد مصيب في علمه مخطئ في التشوف المطلوب
وكذا نقول إذا لم يكن نص فلا فرق عندنا
ولكن إذا عثر على النص فقد نقول يجب تدارك الفائت لأن الخطأ صار
متيقنا
أما إذا لم يكن في المسألة نص فلا يستقين الخطا
وهي مسألة فقهية إذ القضاء يجب بأمر مجدد عندنا
نعم المجتهد في القبلة إذا تبين الخطأ والوقت باق هل تجب عليه
الإعادة
للشافعي رضي الله عنه فيه تردد
ومثاره ان المقصود من المكلف استقبال عين القبلة مقصودا أم لا
568

فان قلنا إنه مقصود فيمكن ان يقال يجب لان المقصود قد فات
والاجتهاد وسيلة لم يفض إلى المقصود فلا يغني
ولعل الظاهر أن القبلة ليست مقصودة في عينها فان تكليف المصلي ذلك
في جهالاته وعماياته صلى الله عليه وسلم محال
ولهذا قضى بسقوط الإعادة في الأظهر
واما العثور على النص فمقصود الشارع قطعا
وإنما فرضنا الكلام في الوقت لئلا يتورط في افتقار القضاء إلى أمر
مجدد
وعلى الجملة الفرق بين القبلة والنص عسير
وختم الكتاب بالرد على أبي حنيفة رحمه الله حيث قال كل مجتهد
مصيب في اجتهاده فان قيد بالاجتهاد وأراد به انه مخطئ في علمه فهذا زلل
لما ذكرناه وان أراد به انه أصاب ما هو شوف الطالب فكذلك
وان عني به انه أدي ما كلف فهو مساعد عليه والله أعلم بالصواب
569

كتاب الفتوى
وفيه بابان
أحدهما في الاجتهاد واحكامه والثاني في احكام المقلد
الباب الأول
في
الاجتهاد
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول
في
صفات المجتهدين
فليعلم أولا ان الفتوى ركن عظيم في الشريعة لا ينكره منكر وعليه
عول الصحابة بعد ان استأثر الله برسوله وتابعهم عليه التابعون إلى زماننا
هذا
ولا يستقل به كل أحد
ولكن لا بد من أوصاف وشرائط ولنا في ضبطها مسالك
571

المسلك الأول
على الاجمال ان نقول المفتي هو المستقل بأحكام الشرع نصا
واستنباطا
وأشرنا بالنص إلى الكتاب والسنة وبالاستنباط إلى الأقيسة والمعاني
المسلك الثاني
ان نفصل الشرائط فنقول
لا بد من العقل والبلوغ إذ الصبي لا يقبل قوله وروايته
والرق لا يقدح وكذا الأنوثة
ولا بد من الورع فلا يصدق الفاسق ولا يجوز التعويل على قوله
ولا بد من علم اللغة فإن مآخذ الشرع ألفاظ عربية وينبغي ان
يستقل بفهم كلام العرب ولا يكفيه الرجوع إلى الكتب فإنها لا تدل
إلا على معاني الألفاظ فأما العاني المفهومة من سياقها وترتيبها لا تفهم إلا
يستقل بها
والتعمق في غرائب اللغة لا يشترط
ولا بد من علم النحو فمنه يثور معظم اشكالات القران
ولا بد من علم الأحاديث المتعلقة بالأحكام
572

ومعرفة الناسخ والمنسوخ
وعلم التواريخ ليتبين المتقدم عن المتأخر
والعلم بالسقيم والصحيح من الأحاديث
وسير الصحابة ومذاهب الأئمة لكيلا يخرق اجماعا
ولا بد من أصول الفقه فلا استقلال للنظر دونه
وفقه النفس لا بد منه وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب
ولا بد من معرفة احكام الشرع
573

المسلك الثالث
وهو المختار وهو الحاوي لجملة هذه التفاصيل
أن يكون على صفة يسهل عليه درك أحكام الشريعة بعد الورع
والبلوغ ليقبل قوله ولا يتمكن منه إلا بجملة ما فصلناه نعم لا نؤاخذه
بحفظ الاحكام
فإن أئمة الأحاديث بوبوا أحاديث الاحكام وميزوا الصحيح عن الفاسد
والتعويل فيه على الكتب جائز كما ذكرناه في كتاب الأخبار فليراجع إذا
مست الحاجة إليه
574

الفصل الثاني
في
كيفية سرد الاجتهاد ومراعاة تربيته
قال الشافعي رضي الله عنه إذا رفعت إليه واقعة فليعرضها على
نصوص الكتاب
فان اعوزه فعلى الأخبار المتواترة
فان اعوزة إذا فعلى الآحاد
فان اعوزه لم يخص في القياس بل يلتفت إلى ظاهر القرآن
فان وجد ظاهرا نظر في المخصصات من قياس وخبر فإن لم يجد مخصصا
حكم به
وان لم يعثر على لفظ من كتاب ولا سنة نظر إلى المذاهب فان
وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع
وان لم يجد اجماعا خاض في القياس
575

ويلاحظ القواعد الكلية أولا ويقدمها على الجزئيات كما في القتل
بالمثقل يقدم قاعدة الردع على مراعاة الاله
فان عدم قاعدة كلية نظر في النصوص ومواقع الإجماع فان وجدها
في معنى واحد الحق به وألا انحدر إلى قياس مخيل
فان اعوزه تمسك بالشبه
ولا يعول على طرد إن كان يؤمن بالله العزيز ويعرف مآخذ الشرع
هذا تدريج النظر على ما قاله الشافعي رضي الله عنه
ولقد أخر الإجماع عن الأخبار
وذاك تأخير مرتبة لا تأخير عمل إذ العمل به مقدم ولكن الخبر
يتقدم في المرتبة عليه فان مستنده قبول الإجماع
576

الفصل الثالث
في أن
رسول الله ص كان يجتهد
قال قائلون كان لا يجتهد لقوله تعالى وما ينطق عن
الهوى
وقال آخرون كان عليه السلام يجتهد إذ لم يكن ينتظر الوحي في كل
واقعة ترفع إلى مجلسه
والمختار
انا لا نظن به استبدادا بالاجتهاد
ولا يبعد ان يوحي إليه ويسوغ له الاجتهاد
فهذا حكم العقل جوازا
واما وقوعا فالغالب على الظن انه كان لا يجتهد في القواعد وكان يجتهد
في الفروع كما روي أنه عليه السلام قال أرأيت لو تمضمضت
فان قيل وهل اجتهد الصحابة في حال حياته قط
577

قلنا انقسم الناس فيه على تناقض
ولعل الظاهر أنهم كانوا لا يجتهدون بحضرته والقرب من منزله ومن كان
يبعد منه بفرسخ وفراسخ كان يجتهد وحديث معاذ نص في الباب
578

الفصل الرابع
في
التخصيص على مشاهير المجتهدين
من الصحابة والتابعين وغيرهم
ولا خفاء بأمر الخلفاء الراشدين إذ لا يصلح للإمامة إلا مفتي وكذا كل
من أفتى في زمانهم كالعبادلة وزيد بن ثابت ومعاوية قلدة فقال الشافعي في مسألة
وأصحاب الشورى قيل إنهم كانوا مفتين لان عمر رضي الله عنه أجمل
الأمر فيما بينهم فدل على صلاح كل واحد له
قال القاضي وهذا فيه نظر
إذ ما من واحد إلا وشبب عمر فيه بشئ لما أن عرض عليه
فقال في طلحة صاحب ختروانة أي واستكبار
وفي الزبير صاحب المد والصاع
وفي سعد إنه صاحب مقنب
579

وفي علي إنه صاحب دعابة
وفي عثمان إنه كلف بأقاربه
فلا يتلقى حكم اجتهادهم من هذه المآخذ
وأبو هريرة لم يكن مفتيا فيما قاله القاضي وكان من الرواة
والضابط عندنا فيه أن كل من علمنا قطعا أنه تصدى للفتوى في
أعصارهم ولم يمنع عنه فهو من المجتهدين
ومن لم يتصد له قطعا فلا
ومن ترددنا في ذلك في حقه ترددنا في صفته
وقد انقسمت الصحابة إلى متنسكين لا يعتنون بالعلم وإلى معتنين به
فأصحاب العمل منهم لم يكن لهم مرتبة الفتوى
والذين علموا وأفتوا فهم المفتون ومطمع في عد آحادهم بعد ذكر
الضابط وهو الضابط أيضا في التابعين
وللشافعي في الحسن البصري كلام
580

وأما مالك فكان من المجتهدين
نعم له زلل في الاسترسال على المصالح وتقديم عمل علماء المدينة وله
وجه كما ذكرناه من قبل
وأما أبو حنيفة فلم يكن مجتهدا لأنه كان لا يعرف اللغة وعليه
يدل قوله ولو رماه بأبو قبيس
وكان لا يعرف الأحاديث ولهذا ضري بقبول الأحاديث الضعيفة ورد
الصحيح منها
ولم يكن فقيه النفس بل كان يتكايس لا في محله على مناقضة مآخذ الأصول
ويتبين ذلك باستثمار ثنا مذاهبه فيما سنعقد فيه بابا في آخر الكتاب الله أعلم
581

الباب الثاني
في
أحكام التقليد
وهو ثمانية فصول
الفصل الأول
في
حقيقة التقليد
قال قائلون إنه قبول قول بلا حجة
فعلى هذا قبول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بتقليد فإنه حجة وكذا
قول الصحابي إن رأيناه حجة
وقال آخرون هو قبول قول من لا يدري من أين يقول فعلى هذا
قبول قول الكل تقليد سوى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قولنا إنه لا يجتهد
وقال القاضي لا معنى للتقليد ويجب على العامي قبول قول المفتي
وعلينا قبول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابي إن رأيناه حجة في حق من
يجب قبوله
582

والمختار عندنا
أن جملة أصحاب الملل لم يتحصلوا به من أعمالهم وعقائدهم إلا على تقليد
خلاف ما قاله القاضي
فمن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقلد إذ لا يدرك صدقه ضرورة
وكيف يعلم صدقه ولا يعلم بقوله وجود مرسله
نعم لو ترتب الناظر وافتتح أولا نظره في حدوث العالم وإثبات
الصانع وانحدر إلى إثبات النبوات وتصديق النبي فهو عارف وليس
بمقلد ويندر من يوفق له ومعظم الناس تلتزم
الشرع من نفس الشرع فهي مقلدة الشرع ولكن يراعى أدب الشرع في الإطلاق
فيسمى قوله عليه السلام حجة
ويسمى اتباع المجتهد تقليدا
وإن كنا نعلم حقيقة الحال على ما ذكرناه
583

الفصل الثاني
في
أن الصحابي هل يجب تقليده
وقد اختلفوا فيه
فقال قائلون لا يجب لأنهم لا يعصمون
وهذا يبطل بالراوي
وتمسكوا أيضا بأنهم كانوا يختلفون ولم يوجب بعضهم على البعض الاتباع
والتوافق
وهذا ينقضه قول المفتي منا فإنه حجة في حق العامي وإن لم يكن
حجة في حق المفتي فلا يبعد تبعيض الأمر أيضا في حقهم
وتمسكوا بأنهم سوغوا الخلاف فإيجاب الاتباع رفع لما توافقوا عليه من
جواز الخلاف
وتمسك الموجبون للتقليد بقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم
اقتديتم اهتديتم
وبقوله عليه السلام خير القرون قرني
584

وهو ظاهر محمول على السيرة بدليل قوله عليه السلام اقتدوا
بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ولا يتعين اتباعهما من بين سائر
الصحابة
وقد قال بتعيينهما قائلون
والمختار
ما خالف القياس من مذاهبهم متبع لأنا لا نظن بهم التحكم فنعلم
أنهم استندوا إلى نص
وإن وافق القياس فلا
585

ويطرد ذلك في التابعي إذا لم يعرف له مستند باطل
ولا يتبع مذهب مالك في خيار المتابعين لعلمنا بفساد مستنده
ولا مذهب أبي حنيفة في شهود الزوايا وإن خالف القياس لعلمنا بأنه
بناه على الاستحسان الفاسد
ولم نتبع ابن مسعود في حطه قيمة العبد عن الحر
ولا ابن عباس في تقدير أجره الآبق بأربعين لما ذكرناه في باب
الاستحسان والله أعلم
586

الفصل الثالث
في
أن المجتهد هل يقلد المجتهد في القبلة وغيرها
وهو ممنوع عند الأستاذ والقاضي والشافعي
تمسكان هذا من القاضي بأن قول الرسول عليه السلام حجة لدلالة المعجزة على
صدقه وقول العالم حجة على المقلد لدليل قاطع ولا قاطع على جواز
قبول العالم قول العالم
وما لا قاطع في قبوله فهو مقطوع ببطلانه
وهذا أصل للقاضي ذكرناه في كتاب الأخبار والقياس
ونحن لا نرى ذلك
والأستاذ تمسك بأن المجتهد يجب عليه مراعاة ترتيب الأدلة فلا يقدم
قياسا على نص
والتقليد بالنسبة إلى الاجتهاد فرعه
فيقال له هذا تحكم في ترتيب ما لا دليل عليه
587

والمختار
أن المسألة في مظنة الاجتهاد ولا قاطع على قبوله ورده وقد
اتفقوا على جواز التقليد عند ضيق الوقت وعسر الوصول إلى الحكم بالاجتهاد
والنظر
588

الفصل الرابع
فيما يجب على المقلد أن يرعاه ليستبين كون المفتي مجتهدا
والمختار
يكفيه أن يتعرف عدالته بقول عدلين
ويسمع عنه قوله إني مفتي
لأن اعتبار تلقفه المشكلات من كل فن وامتحانه به تكليف شطط
ويعلم أن أصحاب البوادي من عصر الصحابة كانوا لا يفعلون ذلك وإن
ذكره القاضي في التقدير
واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهدا كما قاله الأستاذ غير سديد لأن
التواتر يفيد في المحسوسات وهذا ليس من فنه
وقال القاضي مرة يكفيه أن يخبره عدلان بأنه مفتي والله أعلم
589

الفصل الخامس
في
وجوب تقليد الأفضل
وقد أوجبه جماعة لأنه أعلم
وعلل آخرون بوجوب تقديم الأفضل في الإمامة
وذلك مسلم في الإمامة
لأن مبناه على المصلحة وهو الأصلح حتى لو عارضته شوكة واتفق
عقده للمفضول وكان في منازعته خصام دائم يقضي بانعقاده ولا يجب
تقديم الأفضل في الفتوى لعلمنا بأن العبادلة الأربعة كانوا يراجعون في زمن
الخلفاء الراشدين
590

الفصل السادس
في
ذكر ما يجب على المقلد مراعاته بعد موت مقلده
وقد قال الفقهاء يقلده وإن مات لأن مذهبه لم يرتفع بموته
وأجمع علماء الأصول على أنه لا يفعل ذلك
ولو اتبع الآن عامي مذهب أبي بكر معرضا عن سائر المذاهب لا يجوز له
ذلك
فإن الصحابة كانوا لا يعتنون بنخل المسائل وتهذيبها وإنما اعتنى به
المتأخرون
وكان أعظم شغل الأولين تقعيد القواعد
فلا يفي مذهبهم بجملة الوقائع
فإن وجد مجتهد عاصره وجب عليه أن يقلده
وإن لم يجد
قال قائلون يتبع آخر مجتهد مات
وهذا فاسد
591

فيتبع أعظمهم نخلا لجميع المسائل وأسدهم طريقا
ثم يستبين مذهبه بقول ناقل ورع فقيه النفس مهتد إلى نصوص
صاحبه
وليس يشترط أن يكون متعمقا في الأصول فإنه لو كان كذلك لكان
مجتهدا ولكنه كالمجتهد في نصوص صاحبه كما أن صاحبه مجتهد في نصوص
الشارع
قال القاضي يجوز له أن يقيس على نصوص غيره فينقل من مذهبه كما
يقاس على نص الشارع
592

الفصل السابع
في
أنه هل يجب تكرير مراجعة المفتي
وقد أوجبه قوم لاحتمال تغير الاجتهاد
ومنعه الآخرون لأن احتماله كاحتمال النسخ في زمان رسول الله صلى عليه وسلم
وكانوا لا يكررون المراجعة
والمختار
أن المسافة بينهما إن كانت شاسعة والواقعة كانت تكرر في كل يوم
كالصلاة والكفارة فلا يراجع قطعا لعلمه بأن المقلدة في زمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يفعلون ذلك
وإن كانت الواقعة لا يكثر تكررها فالظاهر أيضا أنه لا يراجع لأنا
نستدل بعدم مراجعتهم في تلك الصور مثله في هذه الصورة
ثم يخرج على هذا الاختلاف وجوب الإخبار على المفتي إذا تغير اجتهاده
593

الفصل الثامن
في المسألة إذا ترددت بين مفتيين على التناقض ولم يمكن الجمع بين
قوليهما مثل القصر في حق العاصي بسفره واجب عند أبي حنيفة والإتمام
واجب عند الشافعي
فيجب على المستفتي مراعاة الأفضل واتباعه
وإنما لم نوجب عليه اتباع الأفضل حيث لم يظهر الخلاف لما عهد من
الصحابة من مراجعة الكل
ونعلم أنهم كانوا يقدمون قول أبي بكر رضي الله عنه على قول غيره عند
التناقض
ثم الأفقه مقدم على الأورع
وإن تساويا من كل وجه
قال قائلون يتخير
وقال الآخرون يأخذ بالأشد
وقال آخرون يأخذ بالأثقل عليه ويراجع نفسه فيه
594

والمختار
لا يتبين إلا بتقديم مقدمتين
إحداهما
أن الشريعة هل يجوز فتورها
وقد أجمعوا على تجويز ذلك في شريعة من قبلنا سوى الكعبي بناء
على وجوب مراعاة الأصلح على الله
وهو ينازع في هذه القاعدة
ثم لا يسلم عن دعوى الصلاح في نقيض ما قاله
والمختار
أن شرعنا كشرع من قبلنا في هذا المعنى
وفرق فارقون ثم بأن هذه الشريعة خاتمة الشرائع ولو فترت لبقيت إلى
يوم القيامة
وهذا فاسد
إذ ليس في العقل ما يحيله
والذين فترت عليهم الشرائع وقد ماتوا قد قامت قيامتهم إذا لم
يلحقهم تدارك نبي آخر
595

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي عليكم زمان يختلف رجلان في فريضة
فلا يجدان من يقسمها بينهما
وقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ظاهر
معرض للتأويل ويمكن تخصيصه بالقرآن دون سائر أحكام الشرع
وهذا كلام في الجواز العقلي
واما الوقوع فالغالب على الظن ان القيامة ان قامت عن قرب
فلا تفتر الشريعة وان امتدت إلى خمس مائة سنة مثلا لأن الدواعي
متوفرة على نقلها في الحال فلا تضعف إلا على تدريج
ولو تطاول الزمن فالغالب فتوره إذ الهمم إلى التراجع مصيرة
ثم إذا فترت ارتفع التكليف
وهي كالاحكام قبل ورود الشرائع
وزعم الأستاذ أبو إسحاق انهم يكلفون الرجوع إلى محاسن العقول
وهذا لا يليق بمذهبنا فإنا لا نقول بتحسين العقل وتقبيحه
المقدمة الثانية
في تقدير خلو واقعة عن حكم الله مع بقاء الشريعة على نظامها
وقد جوزه القاضي حتى كان يوجبه وقال المآخذ محصورة والوقائع
لا نهاية لها فلا تستوفيها مسالك محصورة وهذا قد تكلمنا عليه في
الاستدلال من كتاب القياس
596

والمختار عندنا إحالة ذلك وقوعا في الشرع لا جوازا في العقل لعلمنا
بأن الصحابة على طول الاعصار ما انحجزوا عن واقعة ما اعتقدوا خلوها
عن حكم الله بل كانوا يهجمون عليها هجوم من لا يرى لها حصرا
رجعنا إلى المقصود
فلا مبالاة بمذهب المخيرة لأن حاصله إباحة وتردد بين الحل والحرمة
والإباحة لا بد لها من مستند ولا دليل في الشرع على هذه الإباحة
نعم إن كان يتلقاه من تصويب المجتهدين فهذا يلزمه في بدء الأمر
ولهذا ارتكبه المصوبة
واما التخيير بينهما فهو إباحة
وتكليف الرجوع إلى الأغلظ أو تحكيم العقل في الأثقل تحكم أيضا
لا مستند له
وربما يثقل عليه مالا يأمر الشرع به ويأمر بنقيضه إذ الصلاة على
الحائض أثقل من تركها وكذا الصوم
والمختار عندنا
ان يتخذ هذه واقعة جديدة فيراجعهما رسول فيقول بأيهما آخذ
597

وربما يومئان ولا به إلى أحدها
ويفرض لهم في ذلك مستندات فإن كان في نجاسة فيستندون إلى أصل
الطهارة أو إلى أصل الحقن والى نكاح مستمر في الإبضاع
ولسنا نضبط مستندهم ولكن فائدة ذلك لا تخفى
وان امره كل واحد باتباع عقده استفتى ثالثا إن وجده أفضل
منهما وإن كان مثلهما وفيه تصوير المسألة وطابق أحدهما فهل يقدم قول
اثنين على قول واحد
هذا ما بناه أصحابنا على أن مذهب أكثر الصحابة هل يقدم على مذهب
أقلهم إذا رأيناه حجة
والمختار
أنه لا يبالي بالكثرة ولكنه يراجعهم فيقول هل أقدم قول اثنين منكم
على قول واحد
فإن رأوه فذاك
وان تعارضت أقاويلهم فيه أيضا فهذا شخص خفي عليه حكم الشريعة
كمن هو في جزيرة ولم يبلغه خبر الدعوة فلا شئ عليه فيه
فإن قيل هلا تلقيتموه من خلو واقعة عن حكم الله
قلنا لأنا لا تجوز وقوع ذلك في الشرع كما بيناه
598

فإن قيل فما قولكم في الساقط من سطح على مصروع ان تحول عنه إلى
غيره قتله وان مكث عليه قتله فماذا يفعل وقد قضيتم بأن لا حكم لله فيه
قلنا حكم الله ان لا حكم فيه
فهذا أيضا حكم وهو نفي الحكم
هذا ما قاله الامام رحمه الله فيه
ولم أفهمه بعد
وقد كررته عليه مرارا
ولو جاز ان يقال نفي الحكم حكم لجاز ذلك قبل ورود الشرائع وبعد
فتورها
وعلى الجملة جعل نفي الحكم حكما تناقض
فإنه جمع بين النفي والاثبات إن كان لا يعني به تخيير المكلف بين الفعل
وتركه
وان عناه فهو إباحة محققة لا مستند له في الشرع
599

هذا تمام ما أردناه من ذكر كتاب الفتوى
وختمه بباب في بيان سبب تقديم مذهب الشافعي رضي الله عنه على
سائر المذاهب
ولنا في اثبات الغرض منه بعد التنبيه على مقدمتين ثلاث مسالك
المقدمة الأولى
ان العوام والفقهاء وكل من لم يبلغ منصب المجتهدين لا غنى بهم عن
600

تقليد امام واتباع قدوة إذ تحكيم العقول القاصرة الذاهلة لم عن مآخذ الشرع
محال
601

[...]
602

[...]
603

[...]
604

[...]
605

وتخير أطيب المذاهب وأسهل المطالب بالتقاط الأخف والأهون حدثنا من
مذهب كل ذي مذهب محال لأمرين
أحدهما
ان ذلك قريب من التمني والتشهي وسيتسع ابن الخرق على الراقع فينسل قوله عن
معظم مضايق الشرع بآحاد التوسعات التي اتفقت الأئمة في آحاد القواعد
عليها
606

والآخر
ان اتباع الأفضل متحتم وإذا اعتقد تقدم واحد تعين عليه اتباعه
وترك ما عداه
وتخير المذاهب يجر لا محالة إلى اتباع الفاضل تارة والمفضول أخرى
ولا مبالاة بقول من أثبت الخيرة في الاحكام تلقيا من تصويب المجتهدين
على ما ذكرنا فساده
المقدمة الثانية
ان من وجب عليه تقليد امام لم يتعين عليه تقليد واحد من الصحابة
كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بل لا يسوغ له ذلك
إذ الوقائع شتى وهي لكثرتها لا ضبط لها
والمنقول عن هذه الأئمة مذهبا وقائع محصورة لا تفي بجميع الوقائع
وذلك يحوج المقلد إلى اتباع امام آخر فيقلد مجتهدا باحثا ناحلا لأصول
الشريعة منبها على فروعها
واما الصحابة لم يكثر بحثهم ولم يطل في الفروع نظرهم وليس هذا منا
طعنا فيهم ولا تشبيبا بالطعن
فإنهم اشتغلوا بتقعيد له القواعد وضبط أركان الشريعة وتأسيس كلياتها
ولم يصوروا المسائل تقديرا ولم يبوبوا ذلك الأبواب تطويلا وتكثيرا ولكنهم
كانوا يجيبون عن الوقائع مكتفين بها
607

ثم انقلبت الأمور إذ تكررت العصور وتقاصرت الهمم وتبدلت السير
والشيم فافتقر الأئمة إلى تقدير المسائل وتصوير الوقائع قبل وقوعها
ليسهل على الطالبين اخذها عن قرب من غير معاناة تعب
هذه مقدمة الباب
المسلك الأول من المسالك الموعودة
في تقديم مذهب الشافعي رضي الله عنه على مذهب سائر الناحلين محمد من
الأئمة كأبي حنيفة ومالك ومن عداهم
ان الشافعي رضي الله عنه تأخر عنهم وتصرف في مذاهبهم بعد ان
نظموها ورتبوا صورها وهذبوها
وأبو حنيفة نزف جمام ذهنه في تصوير المسائل وتقعيد إلى المذاهب فكثر
خبطه لذلك
وكذلك يقع ابتداء الأمور
ولذلك استكنف كان أبو يوسف ومحمد من اتباعه في ثلثي مذهبه
لما رأوا فيه من كثرة الخبط والتخليط والتورط في المناقضات
وصرف الشافعي رضي الله عنه ذهنه إلى انتخاب المذاهب وتقديم الاظهر
608

فالأظهر وأقدم عليه بقريحة وقادة وفطنة منقادة وعقل ثابت ورأي
صائب بعد الاستظهار بعلم الأصول والاستمداد من جملة أركان النظر في
المعقول والمنقول
فيستبان على القطع انه أبعد عن الزلل والخطأ ممن اشتغل بالتمهيد وتشوش
الأمر عليه في روم التأسيس التقعيد أبو
وعلى الجملة إذا قدم مذهب أبي حنيفة على مذهب أبي بكر رضي الله عنه
لتأخره وشدة اعتنائه بالنخل فاعتبار التأخير في نسبة الشافعي رضي الله عنه
إلى أبي حنيفة رحمه الله ومن قبله أبين وأوضح
فان قيل فلو تبين بعده ناحل فعينوا اتباعه إذ جعلتم للتأخير اثرا
ظاهرا
قلنا هذا ما نعتقده ولا مداجاة في علم الأصول عند استثمار مسالك
العقول إلا أنه بعد لم يتفق من يساويه في منصب الاجتهاد أو يقرب
منه
فان قيل فما قولكم في ابن سريج ومن بعده كالقفال
وغيره من الأئمة
609

قلنا هؤلاء كثرة تصرفاتهم في مذهب الشافعي رضي الله عنه استنباطا
وتخريجا وقلت اختياراتهم ثم لم يستمدوا من علم الأصول وكان الشافعي رضي
الله عنه أعرف الخليقة به فلا يقدم مذهبهم على مذهبه
المسلك الثاني
ان نقول انما يؤتى الناظر إذا فسد نظره لأحد أمرين
أما اختلال أصل من الأصول
أو لاساءة أو نظر في التفريغ
ولا خلل في أصول مذهب الشافعي وقد كان أعرف الناس بعلم الأصول
وهو أول من صنف في هذا العلم وقد حافظ على أصول الشريعة كلها فقبل
الإجماع ولم يفعل كالنظام إذا أنكره
وقبل الأخبار الآحاد ولم يفعل كالروافض إذ ردوها
وقبل القياس وخالف أصحاب الظواهر
وهذه أصول مآخذ الشريعة
ثم أحسن نظره في ترتيب الأدلة
فقدم النصوص على المقاييس وأخبار الآحاد عليها وقدم معظم
610

الظواهر التي ظهر فيها مقصد العموم وسلك فيها نهجا مستقيما ومسلكا قويما
اعترف له كل أصولي بالسبق والفضل
ثم أحسن نظره في الفرع وتنبه لامرين عظيمين
أحدهما تقديم القواعد الكلية على الأقيسة الجزئية ولذلك أوجب
القتل بالمثقل خيفة انتهاضه ذريعة إلى اهدار الدماء في نفيه ابطال قاعدة
القصاص
والثاني ان انحجز عن القياس في مظان التعبدات
وأثبت فنا من القياس وهو الحاق ما في معناه له كالحاق الأمة بالعبد
في حكم السراية وعليه بني تعيين لفظة التكبير والمنع من العدول إلى ترجمة
الفاتحة عند العجز لبطلان خاصية الاعجاز ولم يفعل ذلك في التكبير عند
العجز إذ لا اعجاز فيه
وعين لفظ التزويج والانكاح في النكاح لكثرة التعبدات والحق بهما
ترجمتهما لكل لسان لأنها كانت في معناهما
وانضم إلى حسن نظره ذكاء فهمه ونقاء قريحته وما خص به من
فطنته التي لا تجحد ولا يتمارى فيها حتى كان يحفظ القرآن في أسبوع
والموطأ في ثلاث ليال وسرد جامع محمد بن الحسن بين يدي هارون
611

الرشيد ولسنا للأطناب في نظريته ولا للتنبيه على حسن مذهبه في آحاد
المسائل ولكنا أومأنا إلى الكليات ليستبان به بعده عن الزلل
فإن قيل ادعيتم انه اجرى القياس في مظانه فما باله حسم القياس في
إزالة النجاسة واخراج القيم في الزكوات وهي من مظان المعقولات
قلنا التفت في إزالة النجاسة على سير الصحابة علما منه بأنهم قط على
تفنن أحوالهم ما استعملوا مائعا في الإزالة سوى الماء واستنادا منه إلى أن الماء
القليل إذا لاقى النجاسة نجس فهو خارج عن القياس من هذا الوجه
ومسلكه في مسألة الابدال ذكرناه في كتاب التأويل وهو ما يرتضيه كل
محصل
ولسنا للخوص) في آحاد المسائل فذاك من الفقه
ولسنا ندعي عصمة الشافعي ولكنا نرجح مذهبه لأنه أبعد عن الزلل
من غيره
المسلك الثالث
ان نستثمر عبد مذاهب الأئمة لنتبين تقدم الشافعي على القطع
فأما مالك رحمه الله فقد استرسل على المصالح استرسالا جره إلى قتل ثلث
الأمة لاستصلاح ثلثيها
والى القتل في التعزير
612

والضرب بمجرد التهم
إلى غيره مما أومأنا إليه في أثناء الكتاب
ورأى أيضا تقديم عمل أهل المدينة على أحاديث الرسول عليه السلام
وقد نبهنا عليه
وأما أبو حنيفة رحمه الله فقد قلب الشريعة ظهرا لبطن وشوش
مسلكها وغير نظامها
فإنا نعلم أن جملة ما ينطوي عليه الشرع ينقسم إلى
استحثاث على مكارم الأخلاق
وزجر عن الفواحش والكبائر
وإباحة تغني عن الجرائر وتعين على امتثال الأوامر
وهي بمجموعها تنقسم إلى
تعبدات ومعاملات وعقوبات
فلينظر العاقل المنصف في مسلكه فيها
فأما العبادات فأركانها الصلاة والزكاة والصوم والحج
ولا يخفى فساد مذهبه في تفاصيل الصلاة والقول في تفاصيله يطول
وثمرة خبطه بين فيما عاد إليه أقل الصلاة عنده
وإذا عرض أقل صلاته على كل عامي جلف كاع وامتنع عن اتباعه
613

فإن من انغمس في مستنقع نبيذ فخرج في جلد كلب مدبوغ ولم ينو
ويحرم بالصلاة مبدلا صيغة التكبير بترجمته تركيا أو هنديا ويقتصر من
قراءة القرآن على ترجمة قوله تعالى مدهامتان ثم يترك الركوع
وينقر نقرتين ولا قعود بينهما ولا يقرأ التشهد ثم يحدث عمدا في آخر
صلاته بدل التسليم ولو انفلتت منه بأنه سبقه الحدث يعيد الوضوء في
أثناء صلاته ويحدث بعده عمدا فإنه لم يكن قاصدا في حدثه الأول تحلل
عن صلاته على الصحة
والذي ينبغي ان يقطع به كل ذي دين ان مثل هذه الصلاة لا يبعث الله
لها نبيا وما بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لدعاء الناس إليها وهي قطب
الإسلام وعماد الدين
وقد زعم أن هذا القدر أقل الواجب فهي الصلاة التي بعث لها
النبي وما عداها آداب وسنن
وأما الصوم فقد استأصل ركنه حيث رده إلى نصفه ولم يشترط تقدم
النية عليه
واما الزكاة فقد قضي فيها بأنها على التراخي فيجوز التأخير وإن كانت
الحاجة ماسة وأعين المساكين ممتدة
ثم قال لو مات قبل أدائها تسقط بموته وكان قد جاز له التأخير
وهل هذا إلا ابطال غرض الشرع من مراعاة غرض المساكين
614

ثم عكس هذا في الحج الذي لا ترتبط به حاجة مسلم وزعم أنه على
الفور
فهذا صنيعه في العبادات
فأما العقوبات فقد أبطل مقاصدها وخرم أصولها وقواعدها
فإن ما رام الشرع عصمته الدماء والفروج والأموال وقد هدم قاعدة
القصاص بالقتل بالمثقل فمهد التخنيق والتغريق والقتل بأنواع المثقلات
ذريعة إلى درء القصاص
ثم زاد عليه حتى ناكر الحس والبديهة وقال لم يقصد قتله وهو شبه
عمد
وليت شعري كيف يجد العاقل من نفسه ان يعتقد مثل ذلك تقليدا لولا
فرط الغباوة وشدة الخذلان
واما الفروج فإنه مهد ذرائع اسقاط الحد بها مثل الإجارة ونكاح
الأمهات وزعم أنها دارئة للحد
ومن يبغي البغاء بمومسة عليه كيف يعجز عن استئجارها ومن عذيرنا ممن
يفعل ذلك
ثم يدقق نظره فيوجب الحد في مسألة شهود الزوايا زاعما أني تفطنت
لدقيقة وهي انزحافهم أبي في زينة واحدة على الزوايا ثم قال لو شهد أربعة
عدول عليه بالزنا وأقر مرة واحدة سقط الحد عنه
وأوجب الحد في الوطء بالشبهة إذا صادف أجنبية على فراشه ظنها
615

حليلته القديمة وأقل مراتب موجبات العقوبات ما تمحض تحريمها
والذاهل المخطئ لا يوصف فعله بالتحريم
واما الأموال فإنه زعم أن الغصب فيها مع أدنى تغيير مملك فليغصب (
الحنطة وليطحنها ما فيملكها
وأخذ يتكابس لا فرقا بين غاصب المنديل يشقه طولا أو عرضا
ودرأ حد السرقة في الأموال الرطبة وفيما ينضم إليها وان لم تكن رطبة
حتى قال لو سرق اناء من ذهب وفيه رطوبة نقطة من الماء فلا حد
عليه
ومن لم يشهد عليه جسه على الضرورة ان الصحابة رضي الله عنهم
لو رفعت إليهم هذه الواقعة لكانوا لا يدرأون الحد بسبب قطرة من الماء
تفرض في الاناء فليأيس أن من حسه وعقله
هذا صنيعه في العقوبات
ثم دقق نظره منعكسا على الاحتياط زاعما أنه لو شهد على السارق بأنه
سرق بقرة بيضاء وشهد آخر بأنه سرق بقرة سوداء قال اقطع به لاحتمال
ان البقرة كانت مبرقشة على اللون من سواء وبياض في نصفيها فالناظر
في محل البياض ظنها بيضاء بجملتها
ثم أردف جميع قواعد الشريعة بأصل هدم به شرع محمد صلى الله عليه وسلم قطعا حيث
616

قال شهود الزور إذا شهدوا كاذبين على نكاح زوجة الغير وقضى به
القاضي مخطئا حلت الزوجة للمشهود له وإن كان عالما بالتزوير وحرمت
على الأول بينه وبين الله
هذا ترتيب مذهبه وانما ذكرنا هذا المسلك لان ما قبله من المسالك
يعسر على العوام دركها وهذا مما يفهم كل غر غبي وكل بالغ وصبي
فلولا شدة الغباوة وقلة الدراية وتدرب القلوب على اتباع التقليد
والمألوف لما اتبع مثل هذا المتصرف في الشرع من سلم حسه فضلا من أن
يستد نظره وعقله
ومن هذا اشتد المطعن والمغمز من سلف الأئمة فيه إذ اتهموه برومه
خرم الشرع وهو الذي ألحق به القاضي قوله في مسألة المثقل وقال من زعم أن
القاتل لم يتعمد القتل به وان لم يعلم نقيضه فليس من العقلاء وان
علمه فقد رام خرم الدين
واما الشافعي رضي الله عنه فقد رد عليه في هذه القواعد وأحسن
ترتيب النظر في الأصول على وجه لا ينكره إلا معاند
ولعل الناظر في هذا الفصل يظننا نتعصب للشافعي متغيظين الله على
أبي حنيفة لتطويلنا قال النفس في تقرير هذا الفصل
وهيهات فلسنا فيه إلا منصفين ومقتصدين عن مقتصرين على اليسير من
617

الكثير وحق كل متمار من فيه ان ينصف ويراجع عقله وينقض شوائب الألف
والتقليد عن قلبه ويستوفق في الله تعالى في نظره ويتأمل هذه القواعد تأمل
من يجوز الخطأ على أبي حنيفة نازلا عن غلوائه في التعصب له ليتضح له
على قرب ما ادعيناه ان استد نظره ووقر الدين في صدره وعرف مذاق
الشرع وصدره وما اعتنى الشارع به في تفاصيل أحواله
هذا تمام القول في الكتاب وهو تمام المنخول من تعليق الأصول بعد
حذف الفضول وتحقيق كل مسألة بماهية العقول مع الاقلاع عن التطويل
والتزام ما فيه شفاء الغليل والاقتصار على ما ذكره امام الحرمين رحمه الله في
تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل سوى تكلف في تهذيب كل
كتاب بتقسيم فصول وتبويب أبواب روما لتسهيل المطالعة عند مسيس
الحاجة إلى المراجعة والله أعلم بالصواب.
618