الكتاب: المحصول
المؤلف: الرازي
الجزء: ١
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور طه جابر فياض العلواني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٢
المطبعة: مؤسسة الرسالة - بيروت
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

المحصول
في علم أصول الفقه
(1)
1

طبع محققا على ست نسخ لأول مرة
منذ أن فرغ مؤلفه من كتابته سنة 575 ه‍
جميع الحقوق محفوظة
لمؤسسة الرسالة
ولا يحق لاية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لاحد.
سواء كان مؤسسة رسمية أو إفرادا.
الطبعة الثانية
1412 ه‍ - 1992 م
مؤسسة الرسالة بيروت - شارع سوريا - بناية سوريا - بناية صمدي وصالحة
هاتف، 319039 - 815112 - ص. ب، 7460 برقيا، بيوشران
2

المحصول
في علم أصول الفقه
للامام الأصولي النظار المفسر
فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي
544 - 606 ه‍ / 1149 - 1209 م
دراسة وتحقيق
الدكتور طه جابر فياض العلواني
الجزء الأول
مؤسسة الرسالة
3

بسم الله الرحمن الرحيم
4

عنوان الكتاب من نسخة درا الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ل)
5

الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ل)
6

الصفحة الثانية من نسخة دار الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ل)
7

الصفحة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة دار
الكتب المصرية المرموز لها ب‍ (ل)
8

عنوان الكتاب من نسخة أحمد الثالث - استنابول
والمرموز لها ب‍ (آ)
9

الورقة الأولى من نسخة أحمد الثالث - استنابول
المرموز لها ب‍ (آ)
10

الورقة الأولى من نسخة أحمد الثالث - استنابول
المرموز لها ب‍ (آ)
11

الورقة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة أحمد الثالث -
استنابول المرموز لها ب‍ (آ)
12

عنوان الكتاب من نسخة دار الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ي)
13

الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ي)
14

الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ي)
15

الصفحة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة دار الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ي) الجزء الأول
16

نموذج من النسخة اليمنية المرموز لها ب‍ " ص "
17

نموذج من النسخة اليمنية المرموز لها ب‍ " ص)
18

آخر النسخة اليمنية المرموز لها ب‍ " ص "
19

عنوان الكتاب من نسخة دار الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ن)
20

الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية
المرموز لها ب‍ (ن)
21

الصفحة الثانية من نسخة دار
الكتب المصرية المرموز لها ب‍ (ن)
22

الورقة الأولى من نسخة الأحمدية - حلب
المرموز لها ب‍ (ح)
23

الصفحة الثانية من نسخة الأحمدية - حلب
المرموز لها ب‍ (ح)
24

الورقة الأخيرة من نسخة الأحمدية - حلب
المرموز لها ب‍ (ح)
25

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين
كفروا بربهم يعدلون.
أحمده حمدا ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وأستعينه استعانة من لا حول له
ولا قوة إلا به.. وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما قدمت
وأخرت استغفار من أقر بعبوديته، وعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو
سبحانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله
أنقذنا الله - تعالى - به من الهلكة، وأنجانا من الضلال، وجعلنا في خير أمة أخرجت
للناس.
فصلى الله - تعالى - عليه في الأولين والآخرين أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد
من خلقه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعه، ودعا بدعوته إلى يوم لقاه.
أما بعد:
فإن من أهم العلوم الموصلة إلى معرفة أحكام الله - تعالى - في كتابه وسنة رسوله
- صلى الله عليه وسلم - علم " أصول الفقه "، فهو " العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع،
واصطحب فيه الرأي والشرع، فأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا
هو تصرف بمحض العقول - الذي لا يتلقاه الشرع بالقبول - ولا هو مبني على
محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتسديد والتأييد ". كما يقول الامام الغزالي (1).
وإن من أهم ما كتب في هذا العلم - بعد رسالة الإمام الشافعي - رحمه
الله - كتاب " البرهان " لإمام الحرمين الجويني " والمستصفى " لحجة الاسلام
27

الغزالي - من أهل السنة - و " العهد " للقاضي عبد الجبار الهمداني " والمعتمد "
لأبي الحسين البصري - من المعتزلة فإن هذه الكتب الأربعة قد ضمت جملة المباحث
الأصولية، فتناولت جميع مسائل هذا العلم - الخطير الشأن - بعد تكامله حتى
أصبحت هذه الكتب الأربعة - مراجع هذا العلم ومنابع قواعده.
ولما اتصفت به هذه الكتب الأربعة من صفات - قد تحد من مجال الاستفادة
منها، وتقلل من عدد المنتفعين بها من طلاب علوم الشريعة - ظهرت الحاجة إلى
كتاب جامع لمزاياها، محيط بمباحثها مجرد عما أخذ عليها.
فتصدي لهذه المهمة الامام فخر الدين الرازي فألف كتابه " المحصول في علم
أصول الفقه " ليكون الجامع لما في هذه الأمهات الأربعة من مسائل الأصول، المجرد
عن جميع المآخذ التي أخذت عليها، وأضاف إلى ذلك من علمه الغزير ودقته في
التعبير وحسن الأسلوب، وسلاسة العبارة ما جعل " المحصول " مطم آمال
طلاب " أصول الفقه " ومعقد رجائهم، فأقبلوا عليه، واستغنوا به عما سبقه.
فمن هو الامام فخر الدين الرازي وما هو كتابه " المحصول "؟!
هذا ما سنوضحه في السطور التالية:
1 - عصر الإمام الرازي:
لقد عاش الامام " فخر الدين الرازي " النصف الثاني من القرن السادس
الهجري كله مع ست أو سبع سنين من النصف الأول منه - هي سنوات
طفولته - كما عاش السنين الست الأولى من القرن السابع.
وقد كانت هذه الحقبة من الزمن من أحرج الفترات في حياة الأمة الاسلامية:
فالحملات الصليبية التي بدأت سنة " 494 ه‍) كانت متتالية منذ ذلك التاريخ إلى
أن توقف بعدما يقرب من مائتي عام منه. وكانت بلاد الاسلام خلالها هدفا لمختلف
ضروب التوحش والهمجية التي جاء بها الغزاة. وفي الوقت ذاته كان على التخوم
الشرقية لديار الاسلام أعداء أكثر توحشا وهمجية يعدون أيام الضعف والتدهور التي
يعيشها المسلمون يوما يوما لينقضوا عليهم في أنسب فرصة تساعدهم على استئصال
28

شأفة المسلمين وتدمير كيانهم.
وأما في داخل ديار الاسلام: فقد كانت الخلافة العباسية قد بلغت دور
الشيخوخة، ووصل ضعفها إلى مداه، ولم يعد للخليفة من سلطان إلا في بعض
المظاهر التي تضعف وتقوى تبعا لضعف شخصية الخليفة وقوتها.
أما السلطان الحقيقي، والتصرف الفعلي بمقاليد الأمور: فقد استبد به قادة
عسكريون، أو رؤساء قبائل كانوا ينصبون أنفسهم ملوكا وسلاطين وشاهات على ما
أتت أيديهم. بدأ ذلك بالسلاجقة ثم الخوارز مشاهية والغورية، وكان هؤلاء الملوك
متناحرين على السلطان، هدفهم تحقيق مأربهم السياسية، وبسط سلطانهم على
ما تحت يد الآخرين من أبناء ملتهم، غافلين أو متغافلين عما يدور حولهم، وما يدبر
لهم جميعا، وكل منهم يظن أنه الأصلح للبلاد والعباد من سواه.
وإذا كانت الأحوال السياسية للمسلمين في هذا الدرك الهابط، فإن الأحوال
الاجتماعية والاقتصادية لم تكن تقل عنها سواء.
ولا نريد الدخول في تفصيل ما حدث في ذلك العصر لأنه يبعدنا عن موضوعنا،
ولأنه وصف بإسهاب في مختلف الكتب التاريخية القديمة (1)، والحديثة (2)، ولكن الامر
يختلف تمام الاختلاف من الناحية الفكرية والثقافية فلقد كانت العناية في العلوم،
والثقافات، والفكر كبيرة.
يقول ابن خلدون - وهو يتحدث عن العلوم العقلية وأصنافها والأمم التي
اعتنت بها أو أهملتها -: " ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل
عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر، وأنهم على (ثبج
من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم، واستحكام الحضارة فيهم " (3).
كما عقد فصلا خاصا لبيان - أن حملة العلم في الاسلام أكثرهم من
29

العجم - وبعد أن قرر هذا قال: " وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في
لغته ومرباه ومشيخته " (1).
ويقول ول ديورانت في كتابه " قصة الحضارة " - بعد أن تحدث عن الكثيرين
من الحكام المسلمين وخصائصهم، وقارنهم بأمثالهم من حكام الإفرنج: " وجرى
هؤلاء الحكام المسلمون جميعهم، بل وصغار الملوك أنفسهم على سنة الخلفاء
العباسيين: في مناصرة الآداب والفنون... ثم ذكر حواضر الاسلام كبغداد
ودمشق، والري، وهراة وسواها، وبين أزهار العلوم فيها، وقرر أنها كانت أكثر
مدن العالم ثقافة وجمالا، وقصارى القول: إن هذا العصر كان عصر اضمحلال
متلألئا ساطعا " (2).
وأما " الري " المحيط الصغير للفخر - الذي ولد فيه وترعرع: - فالناظر في
تاريخا يجدها مسرحا لمختلف الآراء والأفكار والمذاهب حتى ليخيل إليه أن هذه
المدينة معرض واسع، يشتمل على نماذج من كل ما كان في البيئة الاسلامية الكبرى
من الآراء والمذاهب إضافة إلى العلوم المختلفة وكلها تتعايش في هذه البيئة الصغيرة
بشكل يدعو إلى العجب.
ولا شئ يوضح هذه الحقيقة مثل موقف الإمام ابن فارس اللغوي: أبى الحسين
الرازي الفقيه الشافعي الذي تحول إلى مذهب الامام مالك - رضي الله عنهما -
وقوله في سبب تحوله هذا: " دخلتني الحمية لهذا الامام المقبول على جميع الألسنة،
أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه، فعمرت مشهد الانتساب إليه، حتى يكمل لهذا
البلد فخره وفإن الري أجمع البلاد للمقالات والاختلافات في المذاهب على تضادها
وكثرتها (3).
30

ولعله قد اتضح الان أن الحركة الفكرية والثقافية في عصر الفخر كانت قوية
ونشطة، وأن الحياة العلمية كانت على جانب كبير من الازدهار لعوامل كثيرة من
أهمها: تنافس الامراء والحكام في تشجيع العلماء وبناء المدارس، واقتناء المدارس، واقتناء التآليف.
2 - اسمه ونسبه:
هو: محمد (1) بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي،
الملقب بفخر الدين والمكنى بأبي عبد الله الرازي (2) المولد
الطبرستاني (3)، القرشي (4).
31

التيمي (1) البكري (2).
3 - مولده:
ولد الإمام الرازي في شهر رمضان من سنة (544) أربع وأربعين
وخمسمائة - على أصح القولين في تاريخ مولده (3)، فقد بلغ - رحمه الله - في سنة
(601) ه‍ إحدى وستمائة (57) سبعة وخمسين عاما، حيث قال - في تفسيره
لسورة يوسف، وهو يتحدث عن التوكل على الله تعالى: " فهذه التجربة قد
استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع
والخمسين " (4).
32

وقد نص - رحمه الله - على أنه قد فرغ من تفسير السورة سنة (601) إحدى
وستمائة ه‍ (1).
4 - نشأته:
نشأ الرازي في بيت علم، فقد كان والده الامام ضياء الدين عمر أحد كبار
علماء الشافعية، وكان خطيب الري وعالمها، وله مؤلفات في الفقه والكلام من
أهمها " غاية المرام في علم الكلام " ذكره ابن السبكي وقال: " إنه من أنفس كتب
أهل السنة وأشدها تحقيقا " (2).
وقال عن مؤلفه الامام ضياء الدين - والد الامام الفخر:
".. كان فصيح اللسان، قوي الجنان، فقيها أصوليا، خطيبا محدثا أديبا، له
نثر في غاية الحسن تكاد تحكي ألفاظه مقامات الحريري من حسنه وحلاوته ورشاقة
سجعه " (3).
وقد نشأ الفخر في حجر والده الامام ضياء الدين عمر فكان له الوالد
والأستاذ - الذي كفاه عن طلب العلم على يد سواه - حتى انتقل إلى جوار به
سنة تسع وخمسين وخمسمائة (559) ه‍ (4) وكان الفخر يقر لوالده بالفضل في الكثير
من علومه، ويطلق عليه في كتبه " الشيخ الوالد، والأستاذ الوالد، والامام
السعيد ". وينص على تتلمذه عليه خاصة في علم الأصول - ويذكر - بكل
اعتزاز - السلسلة العلمية التي تلقى والده علومه بها (5).
33

ولذلك شغف الفخر بالعلم، وأكب على التحصيل، وحرص على أن لا يضيع
من حياته أي وقت في غير التعلم والتعليم، فكان يتمنى لو استطاع أن يستغني عن
كثير من الحاجات الطبيعية ليجعل وقته - المصروف فيها - في طلب العلم،
فيقول: " والله إنني لا تأسف في الفوات عن الاشتغال في طلب العلم في وقت
الاكل، فإن الوقت والزمان عزيز " (1).
ولقد أمده الله - تعالى - بالإضافة إلى بيته وبيئته ورغبته - بذاكرة عجيبة،
وذهن وقاد، وذكاء خارق، واستعداد للتعلم قل أن تيسر مثله - في
عصره - لسواه، ولذلك استطاع في فترة وجيز) ة استيعاب الكثير من كتب
المتقدمين: " كالشامل " في علم الكلام لإمام الحرمين و " المستصفى " للغزالي
و " المعتمد " لأبي الحسين البصري (2).
ولذلك 4 ال: " ما أذن لي في تدريس علم الكلام حتى حفظت اثنتي عشر ألف
ورقة " (3).
5 - نظرته للعلوم المختلفة:
كان الإمام الرازي يرى: أن تعلم العلوم - جميعها - فرض من الفرائض
الشرعية ولذلك أحب العلوم وأقبل عليها بدون تفريق إلا ما يكون من فرق بين الفاضل
والمفضول، فالعلوم - في نظره - لا تخرج عن كونها واجبا، أو مما لا يتم الواجب إلا
به، أو مما لابد منه لتحقيق مصلحة من المصالح الدنيوية، أو مما لابد من تعلمه
لمعرفة أضراره وأخطاره، والدعوة إلى اجتنابها (4).
34

ولم يكن في شغفه بالعلم مجرد هاو يتصفح الكتب، أو يأخذ من العلم ما
يناسب رغبته وهواه، أو يكتفي بتعرف عناوين المسائل ورؤوس المواضيع، ولكنه
كان مثالا للباحث المدقق، والعالم المحقق يغوص وراء دقائق المسائل، ومعضلات
الأمور، يستجلي الغامض ويستكشف المجهول، يساعده على ذلك جلد عجيب
على التتبع، وصبر لا يجارى فيه على البحث.
ولذلك اتسعت معارفه، وتنوعت علومه - فكان أصوليا من كبار الأصوليين،
وفقيها من الفقهاء، ومتكلما من فحول المتكلمين، ومفسرا من أئمة المفسرين،
وفيلسوفا ولغويا ونحويا وشاعرا وخطيبا ومربيا.
ولذلك لقبه أصحابه الشافعية والأشاعرة " بالامام " في سائر كتبهم الأصولية
والفقهية والكلامية، فإذا أطلق لقب " الامام " في هذه الكتب فالمراد به الامام فخر
الدين الرازي (1).
وكان يدعى في " هراة " ب‍ " شيخ الاسلام " (2). وقد جمع الله - تعالى - له
خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره في عصره: سعة العبارة في القدرة على الكلام،
وصحة الذهن، والاطلاع الذي لا مزيد عليه، والحافظة المستوعبة التي تعينه على ما
يريد من تقرير الأدلة والبراهين (3).
ولقد ترك الإمام الرازي في كل علم من العلوم - المعروفة في زمانه - مؤلفات
35

وآثارا تشهد له بذلك، تؤيد أن نيله لتلك المكانة العلمية كان عن جدارة
واستحقاق.
ولا نريد أن نتناول - بالتفصيل - جميع جوانب حياته العلمية في هذه العجالة
فلذلك دراسة أخرى، ولكن ما نريده - هو الإشارة إلى فضل الرجل وطول باعه في
علم الأصول والفقه خاصة ليكون ذلك تمهيدا مناسبا بين يدي آثاره الأصولية وفي
مقدمتها " المحصول ".
فالرازي أصولي - على طريقة المتكلمين ن، وفقيه شافي، وأصحابه يعرفون له
قدره، ويضعونه في مقدمة أهل التحقيق من الأصوليين، ويخصونه بلقب
" الامام ". كما مر. ولقد استوعب - وهو لا يزال في مقتبل العمر - أهم الكتب
الأصولية لسابقيه، فدرس " البرهان " لإمام الحرمين " و " العهد " للقاضي
عبد الجبار، وحفظ المستصفى للغزالي و " المعتمد " لأبي الحسين البصري.
ولكنه حين أخذ يكتب في الأصول لم يسر وراء من سبقوه سير مقلد يجمع ما
قالوا، ثم يلخصه ويقرره، كما قد يتصور البعض، ولكنه نظر فيما جاء في تلك
الكتب نظرة الفاحص المدقق، والناقد البصير وملاحظاته على سابقيته تدل على
ذلك (1).
ولعل هذه أهم مزاياه - التي امتاز بها على صنوه الامديي صاحب " إحكام
الاحكام " - الذي لخص فيه الكتب الأصولية الأربعة.
فإنه - رحمه الله كثيرا ما يستدرك على إمام الحرمين والغزالي وأبي الحسن
والقاضي عبد الجبار وغيرهم ويتعقب أقوالهم ويختار منها، وأحيانا يستدرك عليهم
جميعا ليختار هو ما يراه الأنسب أو الأقوى وسنلاحظ ذلك في كثير من المسائل في
" المحصول " وأحيانا يتعجب من الأصوليين - عامة - ويستغرب بعض مواقفهم،
فيقول " والعجب من الأصوليين: أنهم أقاموا الدلالة على خبر الواحد أنه حجة في
الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى لان إثبات اللغة كالأصل
36

للتمسك بخبر الواحد.. " (1).
6 - مصنفاته وآثاره:
الحديث عن مصنفات أبي عبد الله - رحمه الله - يطول، فقد حظيت مؤلفاته
باهتمام بالغ لم تحظ به كتب أحد من معاصريه، فلقد أقبل الناس عليها واشتغلوا بها
ورفضوا كتب الأقدمين (2) ولقد بلغ من إقبال الناس عليها أن الكتاب الواحد كان يباع
أحيانا بخمسمائة أو بألف دينار ذهبي (3).
وبقدر ما كان - رحمه الله - مشغوفا بالعلم والتعليم كان مشغوفا بالتأليف حتى
كتب في كل علم تعلمه كتابا أو أكثر،. وكلها مراجع في العلوم التي كتبت فيها (4).
ولقد أذت كتبه في جميع مراجع ترجمته مكانا بارزا حتى لم يكد يخلو كتاب من
الكتب التي ترجمت له من ذكر مجموعة منها وكان المؤرخون بين مقل ومكثر، فمنهم
من ذهب إلى أنها مائتا نصف أو تزيد، ومنهم من اكتفى بذكر مجموعة منها مع
الإشارة إلى كثرتها (5).
وفي القسم الدراسي - الذي كتبه عن حياة الفخر وآثاره - تناولت كل ما
نسب إليه من الكتب والرسائل في سائر العلوم، ثم بينت صحيح النسبة إليه، وما
نسب إليه خطأ، مع بيان الموجود منها وأماكن وجوده، وذكر المفقود، وذكر كل ما
أمكنني معرفته عن تلك المصنفات (6). ولا أريد أن أعيد ما ذكرته - هناك - فالمهم
37

هنا هو التعريف بكتبه الأصولية وبخاصة " المحصول في علم أصول الفقه " الذي
نقدمه.
7 - مصنفات الفخر الأصولية عدا المحصول:
أ - إبطال القياس:
ذكره القفطي وقال عنه: كتاب إبطال القسا لم يتم، ص (192)، وابن أبي
أصيبعة (22 / 29)، والصفدي (4 / 255).
وفي كتابه " المعالم في أصول الفقه " ما يشعر بإكماله حيث قال - بعد عرض
حجج نفاة القياس - والرد عليهم: " ولنا كتاب مفرد في مسألة القياس، فمن أراد
الاستقصاء في القياس رجع إليه " (1).
كما أن في هذه الإحالة ما يشعر بأن عنوانه الذي نقله المؤرخون قد يكون غير
العنوان الذي وضعه هو له.
ولقد أوهم عنوان هذا الكتاب كاتبا من المحدثين بأن الفخر من نفاة حجية
القياس - فقال: " الرازي ممن ينفون القياس، ولا يقولون به مصدرا من مصادر
التشريع فإن له رسالة في إبطال القياس "، قلت: والأنكى من هذا أنه أضاف
قوله: " كما يطهر في مواضع من تفسيره إنكاره للقياس " (2).
ولو أن هذا الباحث الفاضل اطلع على ما كتبه الفخر في المحصول عن
القياس - لرأى أن الامام عرض لمذاهب العلماء في القياس وأوضح حجج كل
فريق، ثم عقب عليها بما نصه: " والذي نذهب إليه وهو قول الجمهور من علماء
الصحابة والتابعين: أن القياس حجة في الشرع " (3).
وإذا كان الرجوع إلى " المحصول " فيه شئ من المشقة عليه، لأنه كان مخطوطا
38

فماذا عليه لو رجع إلى التفسر رجوع الدارسين قبل أن يرمي إماما من أئمة القائلين
بحجية القياس بالقول بنفي هذه الحجية؟!!
إن الكاتب المذكور ادعى لتأييد برأيه: أن إنكار الفخر للقياس يظهر في مواضع
من ت فسيره، وضرب مثالا على ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: (وما اختلفتم
فيه من شئ فحكمه إلى الله) (1).
حيث ذكر حجج نفاة القياس، ثم أورد اعتراضا على حجتهم وذكر ما يمكن أن
يجيبوا به عن ذلك الاعتراض، ثم أنهى المعركة من غير أن يجيب عن جوابهم، ويديم
الاخذ والرد إلى أن يرضى عنه الباحث الكريم.
ولذلك عقب هذا الباحث - بعد أن نقل ما في التفسير (2) - بقوله:
وربما قيل: إنه يحكي هنا حجة نفاة القياس، وهذا لا يدل على أنه يرى
رأيهم - والجواب والكلام للباحث الفاضل -:
أن هذه ليست عادة الرازي في مناقشة الآراء فهو يبتني دائما بما يؤيد رأيه، وإذ
لم يناقش هذه الحجة: علمنا أنها توافق رأيه، ولو كان له رأى مخالف لقوى
الاعتراض الأخير، ووهن الرد عليه (3)..
وهكذا أكمل الباحث الكريم نطقه بالحكم على الفخر بأنه من نفاة حجية
القياس.
وقد فات الباحث وهوا لذي أكثر من الحديث عن تفسير الرازي ومنهجه في
التفسير، والعلوم التي تطرق إليها في التفسير وغير ذلك مما حاول أن يوحي به أنه
درس التفسير وصاحبه، أقول: لقد فاته أن الرازي قد بحث موضوع القياس في
التفسير بشكل مسهب وبين حجج القائلين به وقواها، وذكر حجج نفاته وأوهنها في
مواضع عديدة في مقدماتها: ما قاله في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
39

والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) (1).
- ونصه:
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم " أصول
الفقه "، وذلك لان الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع: الكتاب، والسنة،
والاجماع، والقياس.
وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب. أما الكتاب
والسنة - فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وبعد
أن بين دلالة الآية على الاحتجاج بالكتاب والسنة والاجماع. قال: المسألة الرابعة:
أعلم أن قوله: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول)
يدل - عندنا - على أن القياس حجة، ثم أفاض في بيان دلالة الآية على المراد،
وذكر ما لنفاة القياس من إيرادات وأجاب عنها، ثم بين مرتبة القياس، وأنه رابع أدلة
الفقه معللا لذلك، وبعد أن فرغ من بحث ذلك كله تحدث في المسألة الثانية عشرة
عن مسائل من فروع القول بالقياس - فقال:
ذكرنا أن قوله: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) يدل على
صحة الفعل بالقياس -: كما أن هذه الآية دلت على هذا الأصل فكذلك دلت على
مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس ونحن نذكر بعضها "، وذكر ست مسائل من أهم
المسائل المتعلقة بالقياس، وختم بحثه الطويل هذا بقوله: " فهذه المسائل الأصولية
استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين، ولعل الانسان، إذا استعمل الفكر
على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية " (2).
أفلم يلحظ الباحث الكريم التشابه الكبير بين قول الله - تعالى -: (فإن
تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (3).
40

وقوله جل شأنه: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) (1)، وأن الفخر
ما دام قد بحث الموضوع بشكل كامل في الآية الأولى فإنه يكفيه أن يذكر شيئا
يسيرا في تفسير الآية الأخرى لمجرد التذكير بأن دلالة هذا النص على موضوع معين
كدلالة ذلك!!
ولم يقتصر على هذا لا في التفسير ولا في كتبه الأصولية، بل ظل يتعقب
أقوال نفاة حجية القياس ويدحضها في سائر المواضع ذات العلاقة به، شأنه في ذلك
شأنه في بحث سائر الأمور تخالف عقيدته الأشعرية أو مذهبه الشافعي.
وكيف فات هذا الكتاب - وهو فيما يبدو من كلامه يعرف القائلين بحجية
القياس، والنافين له - أن أهم ما تمسك به جمهور أهل السنة في الاستدلال لقولهم
بحجية القياس من القرآن الكريم قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) (2)،
وهذه الآية من سورة الحشر، أي من السور التي ادعى أنه أثبت كونها من تفسير
الفخر.
والامام الفخر حينما وصل إلى تفسير هذه الآية قال: " اعلم أنا قد تمسكنا بهذه
الآية في كتاب " المحصول من أصول الفقه " على أن القياس حجة فلا نذكره ها
هنا " (3).
وفي مواضع متعددة من التفسير كان يفعل كما فعل في تفسيره لاية الشورى فيذكر
أن نفاة حجية القياس استندوا إليها فيما ذهبوا إليه، ويبين وجه استدلالهم (4) لا لأنه
يرى رأيهم، بل لمحاولة استقراء كل ما يمكن أن يؤخذ من الآية من قبل علماء أية فرقة
أو مذهب. وكذلك يفعل في سائر المواضيع سواء أكانت أصولية، أو كلامية أو
فقهية أو سواها.
41

هذا: ولعل فيما أوردنا ما يكفي لاقناع هذا الباحث ونحوه بخطأ ما ذهب إليه،
ولعلنا نتعظ ونتروى فلا نتجنى على العلم وأهله نتيجة قلة الاطلاع، أو قصورهم الفهم،
أو بدافع من الرغبة في شهرة زائفة زائلة.
بقي شئ في هذه المسألة أود التنبيه عليه - وهو: أن الفخر - رحمه الله - كان
يرى أن المعاصرين له من علماء بلاده يتمسكون بالقياس على غير الطريقة المذكورة في
كتب المتقدمين (1)، وكان يرى أن كثيرا من هؤلاء العلماء لا يعرفون أن حجية القياس
محل نزاع (2)، وكل ما يعرفونه ويؤكدونه أن القياس حجة.
وحين يطلب منهم الاستدلال على حجيته فإنهم يحتجون بأمور ضعيفة. ولما
كان هؤلاء بمكانة قد لا تسمح لهم بالتتلمذ عليه - فإنه كان يرى في المناظرة أسلوبا
لتعليمهم من غير أن يشعرهم بذلك، يدرك ذلك من يقرأ مناظراته، ومن المسائل
الستة عشر التي اشتملت عليها مناظراته كان نصيب القياس منها اثنتين هما السابعة
والثامنة (3).
فلعله حين رأى هذه الحالة ألف كتابا خاصا يبحث موضوع القياس أسهب
فيه في بيان أدلة القائلين بعدم حجيته، ثم رد عليهم، ليستفيد من هذا الكتاب
معاصروه فاشتهر - " إبطال القياس " وإلا فإنه قد ثبت بما لا يدع مجالا لأدنى شك
أن الامام واحد من أئمة القائلين بحجية القياس.
ب - إحكام الاحكام:
ذكره القفطي في أخبار الحكماء (192)، وابن أبي أصيبعة في عيون الانباء
(2 / 30) والصفدي في الوافي (4 / 255)، والبغدادي في هدية العارفين
(2 / 107)، ولم نجد - فيما اطلعنا عليه من مؤلفاته - إشارة إليه، كما لم تشر إليه
كتب الأصول التي اطلعنا عليها، فلعله من كتبه المفقودة.
42

ج - الجدل:
ذكر القفطي كتاب " مباحث الجدل " ص (191)، وذكره كذلك بن أبي
أصيبعة (2 / 30)، وفي فهرس كوبريلي في استامبول (519 / 3) كتاب " الجدل
والكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل ". وفيها أيضا نسخة أخرى
بعنوان - " الجدل " - وفي معهد مخطوطات الجامعة العربية فيلمان لهاتين
النسختين.
د - رد الجدل:
ذكره جميل العظم في ص (152)، منفردا بذكره.
ه‍ - الطريقة في الجدل:
هكذا ذكرها القفطي ص (191)، وفي وفيات الأعيان: وله طريقة في الخلاف
(1 / 676) وكذلك اليافعي (4 / 8)، ومثله في طبقات ابن السبكي (5 / 35)،
وكذلك في مفتاح السعادة (2 / 118)، وفي كشف الظنون: " الطريقة في
الخلاف والجدل " لفخر الدين محمد بن عمر الرازي (2 / 113).
و - الطريقة العلائية في الخلاف:
ذكرها ابن أبي أصيبعة، وقال: " الطريقة العلائية في الخلاف أربع مجلدات "
(2 / 29)، ولم يذكر سابقتها، وذكرها القفطي وقال: " كتاب " الطريقة العلائية في
الخلاف " أربع مجلدات " وذكر سابقتها ص (191)، وذكرها الصفدي ولم يذكر
سابقتها (4؟ 255)، وأغفلها ابن السبكي، وذكر السابقة، وذكرها البغدادي
(2 / 108) وجميل العظيم ص (153).
ومع أننا لا نستكثر عن الفخر أن يؤلف في هذا العلم أكثر من كتابين أو ثلاثة
كشأنه في بقية العلوم إلا أن في النفس شكا في صحة نسبة السابقة إليه، وإن كان
القفطي قد ذكرها وذكر هذه أيضا - فإني أميل - والله أعلم - إلى أن المقصود أن
43

له أسلوبا متميزا في الخلاف، وذلك بعد أن قرأت عبارة ابن خلكان وابن السبكي،
واليافعي، وطاش كبري زاده، وهي كما قال ابن خلكان: " وله مؤخذات على
النحاة وله طريقة في الخلاف ". فكما أن قوله: وله مؤخذات على النحاة، لم يعن
به أن له كتابا بهذا العنوان، فكذلك قوله: وله طريقة في الخلاف. ولعل العنوان
الكامل للطريقة العلائية هو: " الطريقة العلائية في الخلاف والجدل "، وتكون كتابا
واحدا هو هذا واختلفت المصادر بنقل عنوانه.
ز - عشرة آلاف نكتة في الجدل:
انفرد بذكره فهرس جوتا (980).
ح - المحصل في أصول الفقه:
انفرد بذكره البغدادي في هدية العارفين (2 / 108) ولعله وهم منه، أو
أن الامام المصنف كان في نيته أن يكتب كتابه (محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين
من العلماء والحكماء والمتكلمين) بقسمين: قسم في علم الكلام، وهو المطبوع
بالقاهرة سنة (1323)، وقسم في أصول الفقه - كما فعل بكتابه (المعالم أو
المعالمين) فلم يتمكن من ذلك، أو لم يعثر على غير القسم الكلامي منه.
ط - المعالم في أصول الفقه:
ذكر القفطي كتاب " المعالم في الأصلين " ص (191)، وقال إن خلكان:
" وفي أصول الفقه، المحصول والمعالم " (1 / 676)، كما ذكره الذهبي في تاريخ
المرآة (4 / 7)، وابن العماد في الشذرات (5 / 21)، والصفدي في الوافي
(4 / 55)، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية - وابن أبي أصيبعة ذكر أن
44

الصاحب نجم الدين أبا زكريا يحيى بن شمس الدين محمد بن عبدان اللبودي اختصر
كتاب " المعلمين في الأصوليين ". انظر (2 / 189)، وهو يعني المعالم في أصول
الدين، والمعالم في أصول الفقه، وإن كان حين ذكر مصنفات الفخر ذكر
" المعالم " بالافراد مطلقا لم يحدد ما إذا كانت في أصول الدين أو أصول الفقه.
انظر: (2 / 29).
كما ذكره طاش كبري في المفتاح (2 / 599)، وحاجي خليفة في الكشف
قال: " وشرحه علي بن الحسين الأرموي المتوفى سنة (757 ه‍ "، ومن الذين
شرحوا المعالم أيضا شرف الدين بن إبراهيم بن إسحاق المناوي المتوفى سنة
(757) ه‍، وشرف الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي الفهري المعروف بابن
التلمساني والمتوفى سنة (644) ه‍. انظر (2 / 1726 - 1727).
ولشر ابن التلمساني نسخة في أحمد الثالث 1353، ولها صورة في معهد
المخطوطات.
وللمعالم نسخ خطية في الأزهر وفيها نقص (117) / أصول، وفي ظاهرية دمشق
(39، 55، 58، 62)، وفي استامبول جار الله (1262 / 2) وأحمد الثالث
(1301)، ولاله لي (787) وفي القرويين (1612)، وبانكپور (10 / 57).
ي - المنتخب أو منتخب المحصول:
ذكره منسوبا إلى الفخر الصفدي في الوافي (4 / 255)، وابن العماد في
الشذرات (5 / 21)، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية " الطبقة الخامسة
عشرة " والخوانساري في روضاته (729)، وحاجي خليفة في كشف الظنون
(2 / 1616) والبغدادي في هدية العارفين (2 / 108)، والعظم في عقود الجوهر
(154). وله نسخة خطية في فات (1464)، ولها فيلم في معهد المخطوطات
طبعنا عنه نسخة.
ونسخة ثانية في ظاهرية دمشق - (15) ف.
45

وأوله بعد الديباجة -: هذا مختصر في أصول الفقه انتخبته من كتاب
" المحصول " وسميته ب‍ " حاصل المحصول " ورتبته على مقدمة وفصول.. إلخ.
وعلى الورقة الأولى كتب عنوانه بلفظ " كتاب " منتخب المحصول في الأصول،
وعلى طرفها كتب " حاصل محصول ".
ويبدو أن في نسبة الكتاب إلى الفخر شكا قديما.
وقد نقل ابن السبكي عن ابن الرفعة أنه قال - في " المطلب " في الجراح فيما إذا
كان الشاج أكبر - وفي المنتخب المعزى لابن الخطيب: أنها للمشتري وقد نوقش
فيه انتهى (قلت): وقد أجاد في قوله: المعزو لابن الخطيب - لان كثيرا من الناس
ذكروا أنه لبعض تلامذة الامام لا للامام. اه‍ كلام ابن السبكي (1).
ولعل هذا الشك قد تسرب إلى نحو ابن السبكي مما قاله القرافي في النفائس. فإنه
قد نقل عنه تلميذ الامام - شمس الدين الخسروشاهي: أنه أكمله ضياء الدين
حسين، فلما كمل وجد عبارته تخالف الكراسين الأولين، فغيرهما بعبارته وهذا هو
" المنتخب " وعقب عليه بقوله: فالمنتخب لضياء الدين حسين، لا للامام فخر
الدين. ويوجد في بعض النسخ: قال محمد بن عمر، إشارة للامام فخر
الدين - وهو وهم، وليس للامام فخر الدين في اختصاره شئ (2) اه‍.
فإذا صح ما قاله القرافي - لزم أن يقال: إن الامام وقد ثبت أنه قد بدأ في
المنتخب لم يتمه، وإنما عمل القدر الذي أشار إليه الخسروشاهي. وإلا فإن
الاحالات على المنتخب - منسوبا إلى الفخر أكثر من الكثرة في الكتب الأصولية
المختلفة.
وأما اشتهاره باسم " المنتخب " مع أن ما نقلناه من مقدمته ظاهر في أنه سماه
ب‍ " حاصل المحصول " - فلعل ذلك لورود كلمة انتخبته " في مقدمته.
وعلى هذا فيمكن القول بأن المنتخب كتابان: كتاب استقل بتأليفه ضياء الدين
حسين، وكتاب آخر ابتدأ الفخر به ولكنه لم يكمله، وأكمله ضياء الدين حسين
46

وتكون النسخ التي ورد فيها قوله: فهذا مختصر انتخبته من كتابي المحصول هي من
منتخب الامام الذي لم يكمل، لا كما ذكر القرافي: بأنه وهم. وأما النسخ التي لم
ترد فيها مثل هذه العبارة فهي مما استقل بتأليفه، وانتخابه ضياء الدين حسين.
هذا وممن شرح " المنتخب " القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي
المتوفى سنة (691)، أو (685 ه‍). (1).
ويقوم - الان - بتحقيق " المنتخب " أخونا الأستاذ عبد المعز حريز لتقديمه إلى
كلية الشريعة بجامعة الامام لنيل درجة الدكتوراه.
ك - النهاية البهائية في المباحث القياسية:
ذكره الصفدي في الوافي (4 / 255). ولعله هو المعني بقول الفخر في
المعالم - ص (119) -: " ولنا كتاب مفرد في مسألة القياس، فمن أراد الاستقصاء
في القياس رجع إليه.
وقد أكثر شارح " المحصول " الأصفهاني من ذكرها والإشارة إليها.
انظر: - على سبيل المثال - (3 / 202 أ، 203 أ، 209 أ، 211 ب، 251 أ
و 265 أ، 315 أ)، وغيرها.
وبهذا ينتهى القسم الأول من البحث في كتب الفخر الأصولية، وبه نكون قد أتينا
على كل ما ذكرته المصادر - التي تيسر لنا الاطلاع عليها قديمة كانت أو
حديثة - من كتب الفخر ورسائله الأصولية - ولم يبق منها
إلا - الكتاب - موضوع تحقيقنا وهو " المحصول في علم أصول الفقه ".
8 - الكلام عن المحصول:
ل - المحصول في علم أصول الفقه:
المحصول هو: أهم كتب الامام فخر الدين الأصولية، ولعل كل ما كتبه
قبله - في هذا العلم - قد أدرج فيه، وما كتبه بعده منتخب منه وعائد إليه.
47

وليس هذا فقط، بل هو أهم كتاب - في أصول الفقه - ظهر منذ أن فرغ
الامام من تأليفه سنة (576) ه‍ (1) إلى يومنا هذا، ذلك لان فيه حصيلة أهم كتب
الأصول - التي كتبت قبل الفخر - بأفصح أساليب التعبير، وأجود طرائق
الترتيب والتهذيب، مضافا إليها من آرائه، وفوائد فكره، وحسن إيراداته الكثير.
تسميته:
عنوان كتابنا هذا في أربع نسخ من النسخ - التي حققناه عليها - هو:
" المحصول في أصول الفقه " (2).
وفي النسختين الأخريين كان عنوانه: " المحصول في علم الأصول " (3).
وفي معظم المراجع التي ورد ذكره فيها، ذكر بالعنوان الأول، كما استعمل البعض
العنوان الثاني: اعتمادا على اشتهار الكتاب بأنه في " أصول الفقه " أما الاحالات
عليه فقد كان الغالب فيها الاقتصار على كلمة " المحصول " وحدها. وأول ما لفت
نظري دلى وجوب تحقيق اسم الكتاب - هو الاشكال الذي أورده القرافي في
النفائس على تسميته - حيث قال: "... تسمية الكتاب بالمحصول مشكل، لان
الفعل إن كان " حصل " فهو قاصر ليس له مفعول، فلا يقال " محصول " وإن كان
حصل بالتشديد: فاسم المفعول منه محصل. نحو كسرته فهو مكسر... فمحصول
لا يتأتى منه، وليس للعرب ها هنا إلا حصل، وحصل. فعلى هذا لفظ " محصول
ممتنع ".
ثم شرع بالجواب عن هذا الاشكال، ولم يقنعه ما ذكره من جواب فأورد عليه
اشكالات، وأجاب عنها وأطال (4).
وإيرادات القرافي تؤكد أن عنوان الكتاب - في النسخ التي اطلع عليها - هو:
48

" المحصول " فقط. وأما عبارة " في أصول الفقه " أو غيرها فهي ليست من صلب
العنوان، وإنما هي عبارة أضيفت لايضاح العنوان. قد يكون الذي أضافها هو
الامام المصنف نفسه، وقد يكون سواه.
وقد رأينا من الواجب قبل أن نناقش ما أورده القرافي - من حيث صحة
التسمية - لغة: أن نحاول العثور على العنوان الصحيح الذي وضعه الامام المصنف
للكتاب. وهذا ما لا يتحقق إلا بأحد أمرين:
الأول: العثور على نسخة بخطه يذكر فيها عنوان الكتاب الكامل.
والثاني: تتبع إحالات الامام عليه في كتبه الأخرى.
ولما لم نوفق للحصول على نسخة بخط الامام فإنه لم يبق أمامنا إلا تتبع إحالات
الامام عليه في كتبه الأخرى.
وقد أحال الامام عليه في تفسيره الكبير في ثلاثة مواضع سماه في الأول منها
" المحصول في أصول الفقه " (1).
وسماه في الثاني: " المحصول في علم الأصول " (2).
وفي الموضع الثالث سماه " المحصول من أصول الفقه " (3).
كما أحال عليه في كتابه - الاربعيه - مرتين سماه في الأولى " المحصول في علم
الأصول " (4). وسماه في الثانية " المحصول في الأصول " (5).
وحين ذكره في مقدمة المنتخب اقتصر على كلمة " المحصول " فقط (6).
كما أشار إليه في نهاية العقول (7) والمعالم في أصول الفقه (8) باسم " المحصول
في أصول ".
والذي أميل إليه من كل هذه النقول: أن اسم الكتاب - الذي قد يكون وضعه
الفخر له: هو " المحصول في أصول الفقه " ذلك لان من المستبعد أن يطلق عليه
49

اسم المحصول فقط من غير أن يضيف إلى العنوان ما يشير إلى العلم الذي ألف
الكتاب فيه، فإنه لو أطلق الاسم هنا - لكان الأولى به أن يطلقه في عنوان
" المحصل " المسهب (1). وكذلك في عناوين كتبه الأخرى.
وبهذا يتضح أنه لابد أن يكون قد أطلق عليه أحد العناوين التي تقدمت،
وأقربها - من حيث اللغة - والمعنى - قوله: " المحصول في علم أصول الفقه "
فكأنه أراد أن هذا الكتاب هو محصول أصول الفقه، وحاصله: أي: خلاصته
المستخرجة منه.
وفي المصباح عن ابن فارس: أصل التحصيل، استخراج الذهب من حجر
المعدن، وحاصل الشئ ومحصوله واحد (2).
وعلى هذا فلا وجه لما أورده القرافي. كما أن الامام المصنف قد ذكر أن المصادر
تجئ على المفعول: نحو المعقود والميسور - بمعنى العقد واليسر - يقال: ليس له
معقود رأي، أي عقد رأي (3).
وعلى هذا فإن اسم الكتاب لا إشكال عليه حتى لو سلمنا أنه اسمه " المحصول "
فقط. من غير ذكر عبارة " في أصول الفقه " باعتباره مصدرا.
المؤرخون الذين ذكروه:
لأهمية " المحصول " لم يكد يغفل ذكره أحد ممن ترجموا للرازي، وذكروا
مؤلفاته.
فمن الذين ذكروه: القفطي في أخبار الحكماء (191)، وابن أبي أصيبعة في
عيون الانباء (2 / 29)، وابن خلكان في الوفيات (1 / 676)، والذهبي في تاريخ
الاسلام (27 / 643)، وابن السبكي في الطبقات (5 / 35)، واليافعي في المرآة
(4 / 7)، وابن كثير في البداية (13 / 55)، والصفدي في الوافي (4 / 255)،
وابن العماد في الشذرات (5 / 21)، وابن حجر في اللسان (4 / 427)، وابن
50

قاضي شهبة - في طبقات النحاة - 1 / 48)، وقال عنه: " وهو من أجل الكتب "
كما ذكره في طبقات الشافعية الطبقة الخامسة عشرة، والعيني في عقد الجمان
(17 / 2 / 322)، وأبو شامة في الذيل (68)، وابن خلدون في المقدمة
(3 / 1165)، والأنصاري في إرشاد القاصد ص (61)، والقلقشندي في الصبح
(1 / 472)، وطاش كبرى زاده في المفتاح (2 / 118)، وأبو عذبة في الروضة ص
(70)، والخوانساري في الروضات (731)، وحاجي خليفة في الكشف، وذكر
شروحه ومختصراته، وأشار إلى مصادره - انظر (2 / 1615 - 1616)،
والبغدادي في هدية العارفين (2 / 108)، وبروكلمان في تاريخ الأدب العربي
(1 / 667) وجميل العظم في عقود الجوهر ص (154).
المصادر التي استمد منها الفخر المحصول:
اتفق الكاتبون في تاريخ علم " أصول الفقه " على أن أهم ما كتب في علم أصول
الفقه بعد ما كتبه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - هذه الكتب الأربعة:
أ - " البرهان " لإمام الحرمين.
ب - " المستصفى " للامام الغزالي.
ج - " العهد " للقاضي عبد الجبار. وشرحه العمدة لأبي الحسين.
د - " المعتمد " لأبي الحسن البصري - الذي هو مختصر شرحه للعهد.
فهذه الكتب الأربعة احتوت مسائل ومباحث هذا العلم - على طريقة
المتكلمين - وبذلك أصبحت قواعد هذا العلم وأركانه (1).
وقد كان الإمام الرازي - رحمه الله - يحفظ - عن ظهر قلب - من هذه
الكتب الأربعة كتابين هما: " المستصفى " لحجة الاسلام الغزالي و " المعتمد " لأبي
الحسين البصري (2). إضافة إلى اطلاعه على كتب الأصول الأخرى.
لذلك فقد اتجه - رحمه الله - لوضع كتاب شامل في علم الأصول يهذب فيه
51

مسائله، ويمهد قواعده، ويتناول ما تناولته الكتب الأربعة من مباحثه: فكان
" المحصول من أصول الفقه " في هذا الكتاب، مع مزاياه يندر توافرها في غير كتب
الفخر: من جودة الترتيب، وفصاحة العبارة، وعمق التدقيق، والاستقصاء في
البحث.
شروحه:
ما إن ظهر " المحصول " حتى أقبل طلاب الأصول عليه، واستغنوا عن كتب
المتقدمين، ورأوا فيه كل ما يبتغيه طلاب الأصول منه.
فأقبل عليه الأصوليون ما بين دارس، وشارح، ومعلق، ومختصر.. وممن
شرحه:
- شمس الدين محمد بن محمود بن محمد الأصبهاني المتوفى سنة (678) ه‍ (1).
وهو شرح حافل، رجع مؤلفه إلى معظم الكتب الأصولية التي استطاع الرجوع
إليها، وفي مقدمتها: أصول المحصول الأربعة، ومختصراته وسماه ب‍ " الكاشف عن
المحصول ".
ومن أهم مزايا هذا الشرح: دقة العبارات التي نقلها من كتب الأصوليين لشرح
ما ورد في المحصول بألفاظها لا بمعانيها، ولذلك يجد القارئ فيه الكثير من عبارات
كتب أصولية مفقودة، وكتب أخرى من العسير الرجوع إليها.
ولكن هذا الشرح ناقص، توفي مؤلفه قبل أن يتمه، والنسخ التي استطعنا
الحصول على صورة عنها تنتهي بنهاية كتاب الاجماع. وهي في ثلاثة مجلدات كبار،
تشتمل على ما يقرب من (1651) صفحة.
وله نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقم (473) أصول.
52

- وشهاب الدين، أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة
(684) ه‍ (1) وقد ذكر القرافي في مقدمة شرحه الذي سماه " نفائس الأصول في شرح
المحصول " أنه جمع لكتابة شرحه هذا نحو ثلاثين تصنيفا في الأصول للمتقدمين
والمتأخرين: من أهل السنة والمعتزلة، وأرباب المذاهب الأربعة.
كما ألزم نفسه ببيان مشكله، وتقييد مهمله، وتحرير ما اختل من فهرسة
مسائله، والأسئلة الواردة على متنه (2).
والحق: أن في هذا الشرح كثيرا من الفوائد الأصولية العاملة، ولكنه كثيرا ما
يفوته مراد الامام وقصده فيكثر من إيراد ما لا يرد عليه، ويحمل كلامه على غير
محمله، وسنتعرض لبعض ذلك في تعليقاتنا على المحصول.
وهو شرح كبير يقع في ثلاثة مجلدات كبار تبلغ ما يقارب (1800) صفحة.
وله نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقم (472)، وعنها أخذنا الصورة
التي استعنا بها في التحقيق.
- ذكر القرافي للنقشواني شرا على المحصول (3)، لكنني لم أستطع الاهتداء
إليه.
المعلقون عليه:
ذكر حاجي خليفة أن لأحمد بن عثمان بن صبيح الجوزجاني المتوفى سنة
(744) ه‍ تعليقة عليه (4). وكذلك عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدايني
المعتزلي المتوفى سنة (655) ه‍ (5).
كما نسب القرافي لابن يونس الموصلي (6) تعليقة عليه (7).
مختصراته:
53

ومن أهم مختصراته:
أ - المنتخب
وقد تقدم الكلام عنه (1).
ب - الحاصل من المحصول:
وهو لتاج الدين أبي عبد الله محمد بن الحسين الأرموي المتوفى سنة (656) ه‍ وقد
أتم تاج الدين مختصره هذا في شهر ذي الحجة سنة (614) ه‍، وهو يقع في
(282) صفحة من القطع المعتاد.
وله نسخة خطية في دار ا لكتب المصرية رقم (61) أصول دار الكتب كتبت
سنة (694) ه‍، وعنها أخذنا صورة للاستفادة منها في التحقيق. وقد قام زميل لنا
بتحقيقه من عهد قريب ونال على ذلك درجة الدكتوراه من الأزهر.
والحاصل هو مأخذ " منهاج الوصول " المشهور للقاضي البيضاوي.
ج - الحاصل من المحصول:
لضياء الدين حسين، الذي ذكر القرافي أنه أكمل منتخب الامام.
د - التحصيل
وهو لسراج الدين، أبي الثناء، محمود بن أبي بكر الأرموي المتوفى
سنة (682) (2) ه‍ وعليه شرح موجز باسم (حل عقد التحصي) لبدر الدين
التستري المتوفى سنة (732) (3)، والتحصيل مع شرحه هذا يقعان في حوالي (294) صفحة من القطع المعتاد.
وقد قام أحد الباحثين بتحقيقه رسالة لنيل درجة الدكتوراه من الأزهر وقد نوقش
منذ عهد قريب.
54

وله نسخة خطية في دار الكتب برقم (14) أصول الفقه م.
وعنها أخذنا صورة للاستفادة منها في التحقيق.
وله نسخة خطية ممتازة في مكتبة الحرم المدني الشريف بخط عربي قديم تاريخ
نسخها سنة (689) ه‍.
ه‍ تنقيح الفصول في اختصار المحصول:
وهو للشارع القرافي، كما شرح مختصره هذا، وهذا المختصر مع شرحه مطبوع
في القاهرة بالمطبعة الخيرية سنة (1306) ه‍.
و - تنقى المحصول:
وهو لأمين الدين مظفر بن محمد التبريزي المتوفى سنة (621) ه‍ (1).
ولهذا المختصر نسخة خطية في أحمد الثالث (1236، 168)، ولها صورة في
معهد المخطوطات في الجامعة العربية.
وقد تم تحقيقه في الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة.
هذه أهم مختصراته المعروفة.
وقد ذكرنا حاجي خليفة أن له مختصرات أخرى - منها: مختصر تاج الدين،
عبد الرحيم بن محمد الموصلي - المتوفى سنة (771) ه‍ (2) ومختصر محي الدين
سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي - المتوفى سنة (710) ه‍ (3)، ومختصر
الباجي، علاء الدين، علي بن محمد خطاب المغربي ثم المصري الشافعي المتوفى
سنة (614) ه‍ (4).
55

كما ذكر: أن شمس الدين محمد بن يوسف المتوفى سنة (716) ه‍ (1). كتب
أجوبة من المسائل عليه (2).
قلت لعله يريد أجوبة عما قد يكون أورد على بعض مسائله.
ونسب الخوانساري إلى مجد الدين بن دقيق العيد القشيري المالكي مختصرا جيدا
للمحصول (3).
نسخ المحصول الموجودة في مختلف الخزانات:
للمحصول نسخ خطية كثيرة منها:
- نسخة كاملة في دار الكتب المصرية رقمها (70) م.
- ونسخة أخرى برقم (130) وعنها أخذت نسخة المكتبة الأزهرية.
- والجزء الثاني فقط من نسخة أقرى برقم (131).
- وقطعة من الجزء الأول فيها نقص من الاخر برقم (504).
وفي سوهاج الجزء الثاني فقط. برقم (9) أصول.
- ونسخة كاملة في حلب - الأحمدية - برقم (416).
- ونسخة كاملة أخرى في استنامبول - أحمد الثالث - برقم (1251).
- وراغب (435).
- وعاطف (715).
- وفي باريس (790).
- وفاس - القرويين - (1626).
- ودمشق - الظاهرية - (5433) عام، وف (82 - 83).
- وبيشاور (630) ب.
- وبنكپور (19، 1560).
56

- وبودليانا (1 / 267).
- المتحف البريطاني - الملحق - (259).
- والمكتب الهندي (292، 1445).
- وفي طهران - خزانة فخر الدين النصيري - عن مجلة معهد المخطوطات
3 ج 1 مايو 1957. وقد بحثت عن هذه الخزانة في طهران فلم أعثر عليها. فلعلها
أدمجت في خزانة أخرى بعد هذا التاريخ ونسي اسمها.
- وفي صنعاء - الجامع الكبير - نسخة كاملة، في دار الكتب المصرية
(ما يكرو فيلم) أخذ عنها برقم (2222).
- وداماد زادة (707).
- ومشهد (6، 26، 87).
- باتنا (1، 74، 755).
هذه هي جملة النسخ التي تحتفظ بها هذه الخزانات العالمية للكتب. وأشارت
إليها فهارسها.
منها الكاملة، ومنها الناقصة، ومنها ما كتب بخط ناسخ واحد، ومنها الملفق،
من نسختين، ومنها ما فصل الجزء الأول من الكتاب فيه عن الجزء الثاني، ومنها ما
أدمج فيه المجلدان من غير فاصل.
النسخ التي اخترناها للتحقيق:
حينما شرعت في اختيار النسخ التي كان علي أن اعتمد عليها لتحقيق الكتاب،
وضعت في اعتباري الأمور التالية:
- أن أقدم النسخ الكاملة على النسخ الناقصة.
- وأقدم من النسخ الكاملة - الواضحة على غيرها، وأعني بالوضوح وضوح
الخط والقرب إلى المعنى.
- وأقدم من النسخ الكاملة الواضحة - القديمة على الحديثة.
57

وبناء على هذا فقد اخترت النسخ التالية:
أولا - نسخة دار الكتب المصرية رقم (130) أصول.
ثانيا - نسخة دار الكتب المصرية رقم (30) أصول.
ثالثا - نسخة أحمد الثالث في استامبول رقم (1251) أصول.
رابعا - نسخة حلب - الأحمدية - رقم (416) أصول.
خامسا - نسخة صنعاء - الجامع الكبير - (ما يكر وفلم) دار الكتب (2222)
أصول دار الكتب.
سادسا - قطعة من الجزء الأول تنتهي في مباحث (الاستثناء) رقم (504) أصول.
وقد قمت بتصوير هذه النسخ الست، وصورت معها شرحي المحصول
(الكاشف) للأصفهاني، (والنفائس) للقرافي، ومختصرات المحصول (المنتخب)،
و (الحاصل) و (التحصيل) مع شرحه (حل عقد التحصيل)، ونسخة
سوهاج - الجزء الثاني (9) أصول.
أما نسخة دار الكتب المصرية رقم (130) أصول فهي نسخة كاملة بمجلدين
كبيرين فرغ من نسخها في 11 شعبان سنة (670) سبعين وستمائة ه‍.
ناسخها: محمد بن حمزة بن محاسن، لم أستطع الترجمة له، كتبت بخط نسخ
حسن.
يقع الجزء الأول منها ب‍ (419) صفحة، ومسطرتها (21)، ومعدل كلمات
السطر (19) كلمة.
وعلى أعلى الصفحة الأولى بعض التملكات.
كتب على الصفحة الأولى منها: الجزء الأول من كتاب " المحصول في أصول
الفقه "، تصنيف فخر الدين محمد بن عمر الرازي - قدس سره روحه - وتحته عبارة
تنص على أن هذه النسخة أوقفت على طلبة العلم.
ويظهر أن هذه النسخة كانت قبل أن تنقل إلى دار الكتب في خزانة " السلطان
حسين " حيث كتب في الطرف الأيمن من الصفحة الأولى -: " أصول الفقه "
" السلطان حسين ".
58

وهذه النسخة مقابلة بنسخة أخرى رمز لها الناسخ ب‍ (خ)، وعليها تصحيحات
بخط الناسخ نفسه، وقد رمزت لهذه النسخة بحرف (ل).
وأما النسخة الثانية من نسخ دار الكتب (30) أصول فهي - أيضا - نسخة
كاملة، ولكننا لم نستطع معرفة اسم ناسخها ولا تاريخ النسخ.
وقد أدمج الناسخ الجزئين ولم يفصل بينهما. وكتب الجزء الأول منهما في (270)
صفحة بخط دقيق.
مسطرتها (23) سطرا، ومعدل كلمات السطر يتراوح بين (17) و (20)
كلمة.
وقد كتبت بخط دقيق وحسن، وعليها بعض التصحيحات.
وعلى الورقة الأولى منها: " المحصول في أصول الفقه " للشيخ فخر الدين ابن
الخطيب الرازي - رحمه الله - آمين.
وعليها تملكات غير واضحة لإصابة الورقة بالماء.
وعليها تملكات غير واضحة لإصابة الورقة بالماء.
وقد رمزت إليها بحرف (ي).
وأما نسخة أحمد الثالث في - استامبول - (1251) فهي نسخة كاملة في
مجلدين مقاس (5، 17 - 5، 25).
ناسخها: محمد بن عثمان بن سلامة.
وتاريخ نسخها: (617) سبع عشرة وستمائة.
ومكان نسخها: المدرسة النظامية ببغداد.
مسطرتها (21) سطرا. ومعدل كلمات السطر (14 - 17) وعدد
صفحات الجزء الأول منها: (372) صفحة.
كتب على الصفة الأولى منها: الجزء الأول من كتاب " المحصول في علم
الأصول "، تأليف الشيخ الامام العالم الأوحد فخر الدين، ركن الاسلام، أبي
الفضل محمد بن عمر الخطيب الرازي، قدس الله روحه، ونور ضريحه، آمين
بالعظيم المنان. محمد بن عثمان.
وفي هذه النسخة سقط كثير، منه ما تلافاه الناسخ بعد المقابلة، وأثبته على
59

هوامش الصفحات، ومنه ما بقي ساقطا.
وقد رمزت إليها بحرف (أ).
وأما نسخة حلب - الأحمدية) رقم (416) فهي أحسن النسخ التي اطلع
عليها خطا، ولكن بها نقصا فقد طمست منها صفة الغلاف وسقطت
الصفحتان الأخيرتان من الجزء الأول، وصفحتان من وسط الجزء.
وفي صفحاتها الأولى تآكل ابتدأ من الصفحة الأولى إلى الصفحة الرابعة والستين.
وقد أدى هذا التآكل إلى سقوط كلمات من أواخر الأسطر الخامس والسادس
والسابع من كل صفحة من الصفحات المذكورة تقريبا.
ولم أستطع معرفة اسم ناسخها، ولا مكان النسخ.
مقاسها: (23 / 13) سم.
مسطرتها (21) سطرا. ومعدل كلمات السطر (14) كلمة.
وتقع في (380) صفحة.
وقد ضبطت معظم كلماتها بالشكل.
وعلى هوامشها معارضة بنسخة أخرى، وتصحيحات. وقد وجدتها أقرب
النسخ إلى الصواب. بعد النسخة اليمنية.
وقد رمزت إليها بحرف (ح).
وأما النسخة الخامسة فهي نسخة الجامع الكبير في صنعاء.
يقول ناسخها: إنه استنسخها عن نسخة نسخت من نسخة كتبت على زمان
المصنف بمدينة " نيسابور " ب‍ " خراسان " سنة (684) ه‍.
وفرغ من نسخ نسخته التي بين أيدينا - سنة (733) ه‍.
ومسطرتها: ما بين (42 - 45) سطرا في الصفحة الواحدة.
ومعدل كلمات السطر: ما بين (18 - 24) كلمة.
وقد كتبت بخط يمني معتاد.
ومع كل ما يعانيه قارئها من صعوبات في القراءة، فإنها أقرب النسخ التي اطلعت
عليها إلى الصواب - من حيث المعنى ولأنها كتبت بخط في غاية الدقة فإن الجزء
60

الأول قد وقع في (136) صفحة.
وقد كتب على الصفحة الأولى منها: كتاب " المحصول في أصول الفقه "،
تصنيف الشيخ الصدر، الامام، الاجل، الأفضل، الأكمل، الأشرف، فخر
الدين، ناصر الاسلام، ملك العلماء، سلطان المحققين، أستاذ الورى، علم
الهدى، أبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي. قدس الله روحه ونور
ضريحه.
وعليها تملكات كثيرة عليها شطب، والذي استطعت قراءته منها: " ملك العبد
الفقير إلى الله سنبل بنى سرور الصنعاني " (1).
وكتب تحت عنوان الكتاب بعض الأبيات الشعرية، وأضيفت عند التجليد ورقة
بعد ورقة العنوان غريبة عن الكتاب فيها بعض الأبيات الشعرية نسبها الناسخ للامام
أبي حنيفة - رحمه الله - وأتبعها ببعض أبيات المتنبي، وكلام نقله عن الإمام الهادي
يحيى بن الحسن، قال: إنه قاله لأهل صنعاء.
ويبدو أن الناسخ ذا عناية بالطلاسم والعزائم فقد ألحق خمس صفحات بآخر
الكتاب كتب فيها جملة من الطلاسم والعزائم لأغراض مختلفة، كما كتب بعض
وصايا ورسائل نسبها لبعض أئمة الزيدية.
ورمزت لهذه النسخة بحرف (ص).
وأما النسخة السادسة فهي قطعة من الجزء الأول تنتهي بالمسألة السابعة في
الاستثناء المذكور عقيب الجمل - وهي محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (504)
أصول. وقد أهديت إلى دار الكتب من قبل السيد حسين الحسيني وكانت قبل ذلك
ملك والده: أحمد الحسيني بن السيد أحمد بن السيد يوسف الحسيني.
وخطها، حديث، أظنها كتبت بعد الألف.
مسطرتها: (21) سطرا، ومعدل كلمات السطر (8).
وتقع في (401) صفحة.
وقد رمزت إليها بحرف (ن).
61

هذا وصف مجمل للنسخ الست التي اعتمدت عليها في تحقيق الكتاب.
9 - أهمية التحقيق:
والتحقيق علم من أهم العلوم له قواعده، وأصوله، وأهدافه، وغاياته، وهذه
القواعد والأصول هي أقرب ما تكون إلى علمي الحديث " دراية ورواية "، تساهل
السلف فيه لانتشار العدالة، وعلو شأن الأمانة في النقل، وقدرتهم الفائقة على ضبط
المنقول مشافهة أو نسخا، وقلة التحريف والتصحيف عندهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم - أول من سن قاعدة " المقابلة " بما كان يقابل القرآن على
ناقله إليه جبريل - عليه السلام - ولقد ظن القوم - وبعض الظن إثم - أن التحقيق
علم من العلوم التي استأثر الغربيون بفضيلة تأسيسها، وأنه بدأ يظهر مع بدء النهضة
الأوربية في القرن التاسع عشر الميلادي.
وأن على أيديهم قواعده وأصوله (1)، وذلك جهل في تراث هذه الأمة لا يليق
بباحث.
وأنه إذا كان لهؤلاء الغربيين، والمستشرقين منهم فضل في هذا العلم، فإنما هو
كفضلهم في سائر ما أخذوه عنا من تراث السلف، وأضاعه الخلف، فتلقفه
هؤلاء، وبنوا على أصوله وأبرزه، فإن موقفهم في الكثير مما أخذوه عن سلفنا
كموقف شركائهم في الاستيلاء على خامات بلادنا، وتصنيعها وإعادتها إلى أسواقنا
باعتبارها صناعتهم، وايجادهم.
ولقد برزت الحاجة إلى التحقيق بروزا ظاهرا بعد أن نشطت حركة التأليف،
واتسعت الحركة العلمية اتساعا كبيرا، في القرن الرابع الهجري، وما بعده من
قرون.
واشتدت الحاجة إليه أكثر بعد أن أصبحت المصنفات تعتمد في انتشارها على
نساخ، حرفتهم نسخ الكتب لحساب طالبيها، وهؤلاء النساخ أصناف: منهم من
62

أوتي من العلم حظا ساعده على اتقان حرفته، ومنهم من لا يختلف عن منضد
الحروف في المطبعة الحديثة في كونه لا يعرف غير صورة الحرف، وشكل الكلمة.
وأخذت الكتب تنتشر على أيدي هؤلاء، وهم ينسخون من الكتب ما كتب في
علوم لهم إلمام بها، أو في علوم يجهلونها. وكثيرا ما تغلب الرغبة في الربح على صاحبها
فتحمله على السرعة في السنخ، وقلة التثبت، وعلى التصرف في العبارة في بعض
الأحيان فربما أضاف ناسخ تعليقة إلى المتن لعدم تثبته، وربما استدل عبارة أخرى
من عنده لظنه أنها أخصر. وإن كانت سيطرة الاسلام على حياة الناس وسيادة
شريعته ويقظة ضمائر المسلمين العامرة بالايمان قد حالت دون كثرة هذه الأمور،
وجعلتها في كتبنا أقل بكثير مما هي في كتب غيرنا من الأمم وفي مقدماتها كتب تلك
الأمم السابقة.
والحاجة إلى التحقيق تتضح أكثر -: حين ندرك أنه بغير التحقيق يصعب علينا
إثبات نسب الكتاب لصاحبه، كما يصعب علينا التأكد من أن هذا الكتاب هو على
حقيقته حين كتبه مؤلفه، وقبل التأكد من كل هذا فإن عملية النقل عن الكتاب،
والاحتجاج بما فيه تكون من أصعب الأمور.
ولهذا فإن من الممكن القول بأن أهمية تحقيق كتاب ما تحقيقا علميا أمينا لا تقل
أهمية عن قيمة الكتاب ذاته.
10 - حاجة المحصول إلى التحقيق:
" المحصول " من كتب الفخر التي حفل بها هو كثيرا قبل أن يحفل به سواه فقد
حاول أن يضم بين صفحاته كل ما استفاده من علم الأصول. وفرغ من تأليفه بعد
اكتمال نضجه العلمي على أيدي أساتذته وذلك سنة (576) ه‍ (1). وله من العمر
آنذاك (32) عاما. وأقبل عليه طلاب العلم، واستغنوا به عن أصوله ومنابعه،
وكثرت نسخه، ومع ذلك فإن شارحه شمس الدين الأصفهاني المتوفى سنة
63

(688) ه‍ يقول معقبا على زيادة ناسخ: " ليس من هذا الكتاب نسخة صحيحة
أصلا " (1).
وحين يكن التصحيف والتحريم، والزيادة، أو النقص من الأمور البينة فإن
الخطب يهون، ولكن حين يخفى الكثير منه على إمام كالقرافي: أحمد بن
إدريس - رحمه الله - وهو الذي درس المحصول وشرحه بشر ضخم، واختصره
وشرح المختصر أيضا، واطلع على نسخ بخط تلامذة الامام والتقى ببعضهم - فإننا
نتبين - آنذاك - مدى حاجة هذا الكتاب إلى التحقيق.
ولعل من المفيد أن نذكر بعض الأمثلة من هذه التحريفات التي خفيت على
القرافي ونحوه - فمنها:
أن الامام - رحمه الله - ذكر في المسألة " تكليف ما لا يطاق " قول
المعترض - وهو: " أن العلم إما أن يكون سببا للوجوب أو لا يكون " - فأجاب
بقوله: " نختار أنه ليس سببا للواجب، ولكن نقول: إنه يكشف عن الوجوب ".
وقصد الامام المصنف واضح بأنه في مقام الجواب عن الاعتراض، قال: نختار،
أي: واحدا من هذين القسمين المتقابلين.
فوردت هذه الكلمة في بعض النسخ ومنها نسخ القرافي بلفظ " المختار " فظن
القرافي أن اختيار الإمام - في علم الله - أنه كاشف عن الوجوب، وليس سببا له،
وهنا أورد ما شاء من المناقشات على محض وهم، نجم عن تصحيف ناسخ.
وفي موضع آخر وردت كلمة " المتنافين "، ويبدو أن بعض الناسخين استبدلها
بكلمة " الضدين "، وبدلا من توجيه الاتهام إلى الناسخ بأنه سها أو بدل، أو
حرف اتهم القرافي الامام المصنف بأنه أخطأ في إطلاق اسم الضدين على
متنافيين (2).
ومن الطريف أن هذه الكلمة وردت في نسختا الست بلفظ " المتنافيين " لا
بلفظ " الضدين ".
64

وأحيانا يتلطف القرافي بالامام فيتعسف للكلمة المصحفة تأويلا بعيدا.
كما فعل في قوله عن لفظ الجلالة " الله ": بأنها " سريانية "، فقد صحفت في
بعض النسخ إلى " سوربينية "، وفي بعض آخر إلى " سورية " فاختار أولا: أن
الأقرب كونها " سورية " ثم نقض اختياره هذا حين نفي وجود من قال بأنها
" سورية " في غير المصول. وبعد ذلك تأول كلمة " سوربينية " بقوله: لعل
أصلها " سوربان "، وهذه هي النسبة إليها (1)، ومعلوم أنها لا سور ولا بان، وأنه
مجرد تأويل متكلف لتصحيف ناسخ.
وفي مسألة " عصمة الأنبياء " - قال الامام المصنف - بعد أن ذكر المذاهب
في المسألة -: " وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام " ويبدو أن بعض النساخ
زاد من عنده عبارة " من هذا الكتاب ".
فقال القرافي - رحمه الله - تعقيبا عليها: هذا سهو من المصنف، ثم حاول أن
يعتذر للامام عن هذا السهو المتوهم فقال: لعله كان في تقديره أن يكتب الكتاب
على قسمين: قسم في أصول الدين، والثاني في أصول الفقه ولم يتمكن من كتابة
غير الثاني (2).
ولقد وقعت في نسخة الأصفهاني زيادة في تعريف " الامر " - المنقول عن
القاضي - رحمه الله - حيث ورد هذا الحد في نسخته بصيغة: " هو القول
المقتضي - بنفسه - طاعة المأمور بفعل المأمور به "، وكلمة " بنفسه " زيادة لم ترد
في نسخنا الست، كما لم ترد في المستصفى (3) - حيث ارتضى الامام الغزالي هذا
التعريف، ونقله عن القاضي بلفظه.
ووردها في نسخة الأصفهاني جعله يعتبر هذا الحد حدا للامر النفساني، وأنه
لا يمكن أن يكون حدا للامر اللساني إلا إذا أسقطنا هذه الزيادة (4)، وهي ساقطة
65

بنفسها، ولعل الناسخ الذي أضافها كان من المتكلمين، أو كان يحفظ حدا للامر
" النفساني وظن أنه " الامر " المراد تحديده، وليس الامر " اللساني " فأضافها.
وفى حديث الامام المصنف عن الأمور التي يعرف بها كون فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - للوجوب، ورد قوله: " ورابعها: أن يكون جزاء لشرط موجب:
كفعل ما وجب بالنذر ".
فصحف قوله: " بالنذر " في بعض النسخ إلى: " نذره "، فأصبحت العبارة:
" كفعل ما وجب نذره ". وقد عقب القرافي على هذا التصحيف بقوله: " كشفت
نسخا كثيرة، فوجدت هذه العبارة فيها، ولم أجد غيرها، وهي مشكلة من جهة
أن النذر لا يجب، بل يجب فيه، فكان المتجه أن يقول: " ما وجب بالنذر " (1).
وقد وجدنا - والحمد لله - العبارة الصحيحة التي تمنى القرافي أن يعبر الامام
المصنف بها في نسختين من نسخنا الست.
66

11 - وصيته
حين مرض الفخر - رحمه الله - وأحسن بدنو الاجل أملى وهو في شدة مرضه
على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني وصيته وذلك في يوم الأحد
الحادي والعشرين من شهر محرم سنة (606) ه‍ وامتد مرضه بعدها إلى أن توفي.
وقد رأينا أن نذكر هذه الوصية كما ذكرها ابن أبي أصيبعة، لما فيها من العبرة
والموعظة.. ولاهتمام الكثيرين - من العلماء والمؤرخين - بروايتها وتحليلها وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين
الرازي، وهو في آخر عهدة بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، وهو الوقف الذي يلين
فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق:
إني أحمد الله - تعالى - بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات
معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهداتهم، بل أقول كل ذلك
من نتائج الحدوث والامكان فأحمده بالمحامد التي تستحقها ألوهيته، ويستوجبها
كمال ربوبيته، عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب، مع جلال رب الأرباب.
وأصلي على الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، وجميع عباد الله الصالحين.
ثم أقول - بعد ذلك -: اعلموا إخواني في الدين، وإخواني في طلب اليقين أن
الناس يقولون: الانسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من
وجهين:
الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببا للدعاء، والدعاء له أثر عند الله.
والثاني: ما يتعلق بمصال الأطفال، والأولاد، والعورات، وأداء المظالم
والجنايات.
أما الأول: فاعلموا أني كنت رجلا محبا للعلم، فكنت أكتب في كل شئ شيئا
لا أقف على كمية وكيفية، سواء كان حقا أو باطلا أو غثا أو سمينا، إلا أن الذي
67

نظرته في الكتب المعتبرة لي: أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبر تنزه عن مماثلة
المتحيزات والاعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة.
ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي
الفائدة، التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال
بالكلية لله - تعالى - ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات وما ذاك إلا
العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج
الخفية.
فلهذا أقول كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن
الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى
به.
وأما ما انتهى الامر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة
المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما هو والذي لم يكن
كذلك، أقول:
يا إله العالمين إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الأرحمين،
فكل ما مر به قلمي، أو خطر ببالي، فأستشهد علمك وأقول: إن علمت مني أني
أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما
سعيت إلا في تقرير ما اعتقدت أنه هو الق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك
مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف
الواقع في الزلة فأغثني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه
عرفان العارفين ولا ينتقص بخطأ المجرمين.
وأقول: ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم وتعويلي في
طلب الدين عليهما.
اللهم يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا راحم
العبرات ويا قيام المحدثات والممكنات، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم
68

الرجاء في رحمتك، وأنت قلت " أنا عند ظن عبدي بي (1) " وأنت قلت: (أمن
يجب المضطر إذا دعاه ") (2) وأنت قلت: (وإذا سألك عبادي عنى فإني
قريب) (3)، فهب: أني ما جئت بشئ فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم.
وأعلم: أنه ليس لي أحد سواك، ولا أجد محسنا سواك، وأنا معترف بالزلة
والقصور، والعيب والفتور فلا تخيب رجائي، ولا ترد دعائي واجعلني آمنا من
عذابك قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت. وسهل علي سكرات الموت
وخفف عني نزول الموت، ولا تضيق علي بسبب الآلام والأسقام فأنت أرحم
الراحمين.
وأما الكتب العلمية التي صنفتها، أو استكثرت في إيراد السؤالات على
المتقدمين فيها، فمن نظر في شئ منها، فإن طابت له تلك السؤالت فليذكرني في
صالح دعائه على سبيل التفضل والانعام، وإلا فليحذف القول بالسئ فإني ما أردت
إلا تكثير البحث، وتشحيذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى.
وأما المهم الثاني وهو: إصلاح أمر الأطفال والعورات، فالاعتماد فيه على
الله - تعالى - ثم على نائب الله " محمد " (4) - اللهم اجعله قرين محمد الأكبر في
الدين والعلو، إلا أن السلطان الأعظم لا يمكنه أن يشتغل بإصلاح مهمات
الأطفال فرأيت الأولى: أن أفوض وصاية أولادي إلى فلان (5)، وأمرته بتقوى
الله - تعالى - (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (6).
69

قال ابن أبي أصيبعة: وسرد الوصية إلى آخرها.
ثم قال: (وأوصيه، ثم أوصيه ثم أوصيه: بأن يبالغ في تربية ولدي " أبي
بكر " فإن آثار الذكاء والفطنة ظاهرة عليه، ولعل الله - تعالى - يوصله إلى خير.
وأمرته وأمرت كل تلامذتي، وكل من لي عليه حق أني إذا مت يبالغون في إخفاء
موتي، ولا يخبون أحدا به، ويكفنوني، ويدفنوني على شرط الشرع، ويحملونني
إلى الجبل المصاقب لقرية " مزداخان " (1) ويدفنوني هناك، وإذا وضعوني في اللحد
قرأوا علي ما قدروا من إلهيات القرآن، ثم ينثرون التراب علي وبعد التمام
يقولون: يا كريم جاءك الفقير المحتاج فأحسن إليه.
وهذا منتهى وصيتي في هذا الباب والله - تعالى - الفعال لما يشاء، وهو على ما
يشاء قدير، وبالاحسان جدير) (2).
12 - وفاته:
بعد أن لاقى - رحمه الله - في حياته الحافلة ما لاقى من أذى الخصوم - حط
عصا الترحال في " هراة "، وسكن الدار التي كان قد أهداها له السلطان " خوارزم
شاه " ولم يتركه خصومه يخلد إلى الراحة، بل استمروا يعملون للنيل منه حتى بلغ من
فجور بعضهم في الخصومة: أنهم كانوا يرفعون إليه الرقع في مجالس درسه ووعظه
وفيها: " أن ابنه يفسق ويزني، وأن امرأته كذلك ". وكان - رحمه الله - يقابل ذلك
بصبر العلماء، وحلم الحكماء، وجلد الأتقياء، ويجيب عن تلك الرقع بنحو قوله:
" إن هذه الرقعة تتضمن أن ابني يفسق ويزني.. وذلك مظنة الشباب فإنه شعبة من
الجنون، ونرجو من الله - تعالى - اصلاحه والتوبة، وأما امرأتي فهذا شأن النساء
70

إلا من عصمها الله، وأنا شيخ ما في للنساء مستمتع، هذا كله ممكن وقوعه،
ولكني - والله - ما قلت: إن الباري جسم، ولا أن له شبيها ولا ابني يقول ذلك ولا
زوجتي تعتقده ولا غلامي، فأي الفريقين أهدى سبيلا " (1)؟!.
وكان يكثر من ترديد قوله:
والمرء ما دام حيا يستهان به ويعظم الرزء فيه حين يفتقد
وقد اشتد عداء خصومه الكرامية له حتى ذكر بعض المؤرخين أنهم سموه (2) أو
دسوا له من سمه (3).
وقد اتفقت مصادر ترجمة على أن وفاته كانت سنة ست وستمائة (606) ه‍
وإن اختلفت في تحديد الشهر واليوم الذي توفي فيه اختلافا كبيرا، فرحمه الله رحمة
واسعة.
13 - منهجي في التحقيق:
لقد سرت في تحقيق الكتاب على النحو التالي: -
(1) بعد أن تكونت لدي الفكرة على أجود النسخ الموجودة التي تيسر لي
الحصول عليها: قمت بطبع صور عنها، كما صورت شرحيه " الكاشف عن
المحصول " للأصفهاني، و " نفائس الأصول " للقرافي، وكذلك صورت
مختصراته - المخطوطة - " المنتخب " و " الحاصل " و " التحصيل " بشرحه
" حل عقد التحصيل " للتستري.
(2) قمت بكتابة نسخة من الكتاب عن نسخة (ل) وعرضتها عليها، وعلى
النسخ الخمس الأخرى، وأثبت الفروق، ولم أترك من هذه الفروق إلا بعض ما يرجع
إلى قواعد الاملاء وطريقته. فقد وجدت في بعض النسخ كلمات " لان " بشراء "
و " استثناء " " يرى "، " سواء " مرسومة هكذا: " لئن "، " بشرى،
" استثنى "، " يرا ". فكتبت هذه الكلمات، ونظائرها وفق القواعد الاملائية
71

المعروفة اليوم، ولم أنبه على هذه الفروق لعدم ضرورة التنبيه عليها. وكذلك وجدت
بعض النسخ تذكر بعد ورود اسم إمام أو صحابي: " رضي الله عنه "، أو " رحمه
الله "، وبعض النسخ الأخرى تغفل هذه الزيادة، فجريت على إثبات هذه الصيغ
وعدم التنبيه - أيضا - على النسخة التي لم تذكرها، وأما عبارات " الصلاة على
رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - فقد كنت أكملها، من غير تنبيه - أيضا - على النسخ
التي ذكرت ما يقابلها.
(3) ثم عدت أقرأ نص الكتاب بتأمل وتدبر، فإذا عرضت لي كلمة أو عبارة
اختلفت النسخ فيها: دققت النظر فيها، وراجعت الشرحين " الكاشف "
و " النفائس " وكذلك المختصرات " المنتخب " و " الحاصل " و " التحصيل "
و " المنهاج " وكثيرا ما رجعت إلى " المعتمد " و " المستصفى "، فتخيرت ما هو
الأصوب أو الأنسب أو الأحسن، فوضعته في صلب الكتاب، ووضعت ما يقابله
من النسخ الأخرى في الحاشية ولم ألتزم بلفظ نسخة بعينها.
(4) صححت ألفاظا وردت في النص مخالفة لقواعد النحو والرسم.
(5) أحلت المسائل الأصولية الواردة في الكتاب على أهم المصادر الأصولية
التي تناولت هذه المسائل، وعنيت عناية خاصة بربط الكتاب بعضه ببعض، وربطه
" بالمعتمد والمستصفى " باعتبارهما أهم مصادره، وكذلك بذلت جهدي في ربط
مختصراته به.
(6) ذكرت آراء الفقهاء في مسائل الخلاف والفروع التي أشار الامام
المصنف إليها، وبنيت مواضع بحثها في كتب الفقه المختلفة.
(7) وردت في الكتاب بعض النصوص المنقولة عن الأئمة فدللت على
الصفحات التي ذكرت تلك النصوص فيها من كتبهم.
(8) خرجت شواهد الكتاب: من آيات، وأحاديث وأبيات شعرية وأمثال.
(9) ترجمت لجميع الاعلام الذين ذكروا في الكتاب ترجمة مختصرة، مع
الإحالة على بعض المصادر التي تناولت الترجمة، كما عرفت بالفرق التي ذكرت
فيه، والأماكن.
72

(10) عرفت بالكتب التي وردت أسماؤها في الكتاب وذكرت أماكن وجودها
(11) بذلت جهدي في إيضاح بعض ما غمض من عباراته مستفيدا مما قاله
شارحاه الأصفهاني والقرافي، أو مما قاله الامام المصنف في كتبه الأخرى:
كالتفسير وغيره، أو ما ورد في كتب الأصول الأخرى.
(12) كتبت بعض التلخيصات في أعقاب بعض المسائل الهامة زيادة في إيضاح
تلك المسائل، وتحريرا لما ورد فيها وربطا لها بالكتب الأصولية الأخرى.
(13) شرحت بعض الألفاظ الغامضة في الكتاب شرحا لغويا.
(14) وضعت هذه العلامة (*) - للدلالة على نهاية كل ورقة أو لوحة من
أوراق النسخ الست.
د. طه جابر العلواني
المحصول في علم أصول الفقه
73

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده وصلى الله على محمد وآله وعلى جميع الأنبياء
والمرسلين
75

الكلام في المقدمات
وفيه فصول
77

الفصل الأول
في تفسير أصول الفقه
(اعلم أن (2)) المركب لا يمكن أن يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لا من كل
وجه بل من الوجه الذي لأجله يصح أن يقع التركيب فيه
فيجب علينا تعريف الأصل والفقه ثم تعريف أصول الفقه
أما الأصل فهو المحتاج إليه
وأما الفقه فهو في أصل اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من
كلامه
وفي اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية
والمستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة
فإن قلت الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علما
قلت المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط
78

الحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه فالحكم معلوم قطعا والظن
واقع في طريقه
وقولنا العلم بالأحكام احتراز عن العلم بالذوات والصفات الحقيقية
وقولنا الشرعية احتراز عن العلم بالأحكام العقلية كالتماثل
والاختلاف والعلم بقبح الظلم وحسن الصدق عند من يقول بكونهما
عقليين
وقولنا العملية احتراز عن العلم بكون الإجماع وخبر الواحد
والقياس حجة فان كل ذلك أحكام شرعية مع أن العلم بها ليس
من الفقه لأن العلم بها ليس علما بكيفية عمل
وقولنا المستدل على أعيانها احتراز عما للمقلد من العلوم الكثيرة المتعلقة
بالأحكام الشرعية العملية لأنه إذا علم أن المفتي أفتى بهذا الحكم وعلم أن ما
أفتى به المفتي هو حكم الله تعالى في حقه فهذان
العلمان يستلزمان العلم بأن حكم الله تعالى في حقه ذلك مع أن تلك
العلوم لا تسمى فقها لما لم يكن مستدلا على أعيانها
79

وقولنا بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة احتراز عن العلم
بوجوب الصلاة والصوم فان ذلك لا يسمى فقها لأن العلم الضروري حاصل
بكونهما من دين محمد صلى الله عليه وسلم
وأما أصول الفقه فاعلم أن إضافة اسم المعنى
تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الذي عينت له لفظة
المضاف يقال هذا مكتوب زيد والمفهوم ما ذكرناه
وعند هذا نقول
أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل
الإجمال وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها
(ف‍ (5)) فقولنا مجموع احتراز عن الباب الواحد من أصول الفقه
فإنه وإن كان من أصول الفقه لكنه ليس أصول الفقه لأن بعض الشئ
لا يكون نفس ذلك الشئ
وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات
80

وقولنا على طريق الإجمال أردنا به بيان كون تلك الأدلة أدلة ألا
ترى أنا إنما نتكلم في أصول الفقه في بيان أن الإجماع دليل
فأما أنه وجد الإجماع في هذه المسألة فذلك لا يذكر في أصول الفقه
وقولنا وكيفية الاستدلال بها أردنا به الشرائط التي معها يصح الاستدلال
بتلك الطرق
وقولنا وكيفية حال المستدل بها أردنا به أن الطالب لحكم
الله تعالى إن كان عاميا وجب أن يستفتي وإن كان عالما وجب أن
يجتهد فلا جرم وجب في أصول الفقه أن يبحث عن حال الفتوى
والاجتهاد وأن كل مجتهد هل هو مصيب أم لا
81

الفصل الثاني
فيما يحتاج إليه أصول الفقه من المقدمات
لما كان أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه والطريق هو
الذي يكون النظر الصحيح فيه مفضيا إما إلى العلم بالمدلول أو إلى الظن به
والمدلول هنا هو الحكم الشرعي وجب علينا تعريف مفهومات هذه
الألفاظ أعني العلم والظن والنظر والحكم الشرعي
ثم ما كان منها بين الثبوت كان غنيا عن البرهان وما لم يكن كذلك
وجب أن يحال بيانه على العلم الكلي الناظر في الوجود ولواحقه لأن مبادئ العلوم
الجزئية لو برهن عليها فيها لزم الدور وهو محال
82

الفصل الثالث
في تحديد العلم والظن
هذا المقصود إنما يتحقق ببحثين
الأول
أن حكم الذهن بأمر على أمر إما أن يكون جازما أو لا يكون
فإن كان جازما فإما أن يكون مطابقا للمحكوم عليه أو لا يكون
فإن كان مطابقا فإما أن يكون لموجب أو لا يكون
فإن كان لموجب فالموجب إما أن يكون حسيا أو عقليا أو مركبا
منهما
فإن كان حسيا فهو العلم الحاصل من الحواس الخمسة
83

ويقرب منه العلم بالأمور الوجدانية كاللذة والألم
وإن كان عقليا فأما أن يكون الموجب مجرد تصور طرفي القضية أو لا بد
من شئ آخر من القضايا فالأول هو البديهيات والثاني النظريات
وأما إن كان الموجب مركبا من الحس والعقل فإما أن يكون من السمع
والعقل وهو المتواترات
أو من سائر الحواس والعقل وهو التجريبيات والحدسيات
وأما الذي لا يكون لموجب فهو اعتقاد المقلد
وأما الجازم غير المطابق فهو الجهل
وأما الذي لا يكون جازما فالتردد بين الطرفين إن كان على السوية فهو
الشك وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم
الثاني
أنه ليس يجب أن يكون كل تصور مكتسبا وإلا لزم الدور أو
84

التسلسل إما في موضوعا ت متناهية أو غير متناهية وهو يمنع حصول التصور
أصلا بل لا بد من تصور غير مكتسب
وأحق الأمور بذلك ما يجده العاقل من نفسه ويدرك التفرقة بينه وبين
غيره بالضرورة
ومنها القسم المسمى بالعلم لأن كل أحد يدرك بالضرورة ألمه
ولذته ويدرك بالضرورة كونه عالما بهذه الأمور
ولولا أن العلم بحقيقة العلم ضروري وإلا لامتنع أن يكون علمه بكونه عالما
بهذه الأمور ضروريا لما أن التصديق موقوف على التصور
وكذا القول في الظن
ثم العبارة المحررة أن الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهري التجويز
وها هنا دقيقة وهي أن التغليب إما أن يكون في المعتقد أو في الاعتقاد
أما الذي يكون في المعتقد فهو أن يكون الشئ ممكن الوجود والعدم إلا أن
85

أحد الطرفين به أولى كالغيم الرطب فإن نزول المطر منه وعدم نزوله
ممكنان لكن النزول أولى
وأما الذي يكون في الاعتقاد فهو أن يحصل اعتقاد الوقوع واعتقاد
اللاوقوع كل واحد مع تجويز النقيض لكن اعتقاد الوقوع يكون أظهر
عنده من اعتقاد اللا وقوع
فظهر أن اعتقاد رجحان الوقوع مغاير لرجحان اعتقاد اللاوقوع
فهذا الثاني هو الظن فإن كان مطابقا للمظنون كان ظنا صادقا
وإلا كان ظنا كاذبا
وأما الأول وهو اعتقاد رجحان الوقوع فإن كان مطابقا للمعتقد كان
علما أو تقليدا على التفصيل المتقدم وإلا كان جهلا والله أعلم
86

الفصل الرابع
في النظر والدليل والأمارة
أما النظر فهو ترتيب تصديقات في الذهن ليتوصل بها إلى
تصديقات أخر
والمراد من التصديق اسناد الذهن أمرا إلى أمر بالنفي أو بالاثبات
اسنادا جازما أو ظاهرا
ثم تلك التصديقات التي هي الوسائل إن كانت مطابقة لمتعلقاتها لو فهو
النظر الصحيح وإلا فهو النظر الفاسد
ثم تلك التصديقات المطابقة إما أن تكون بأسرها علوما فيكون
اللازم عنها أيضا علما وإما أن تكون بأسرها ظنونا
فيكون اللازم عنها أيضا ظنا
وإما أن يكون بعضها ظنونا وبعضها علوما فيكون اللازم عنها أيضا
ظنا لأن حصول النتيجة موقوف على حصول جميع المقدمات فإذا كان بعضها
ظنا كانت النتيجة موقوفة على الظن والموقوف على الظن ظن فالنتيجة
ظنية لا محالة
87

وأما الدليل فهو الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى
العلم
وأما الأمارة فهي التي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها إلى
الظن
88

الفصل الخامس
في الحكم الشرعي
قال أصحابنا إنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير
أما الاقتضاء فإنه يتناول اقتضاء الوجود واقتضاء العدم
إما مع الجزم أو مع جواز الترك فيتناول الواجب والمحظور
والمندوب والمكروه
وأما التخيير فهو الإباحة
فإن قيل هذا التعريف فاسد من أربعة أوجه
أحدهما
أن حكم الله تعالى على هذا التقدير خطابه وخطاب
89

الله تعالى كلامه وكلامه عندكم قديم فيلزم أن يكون حكم الله
تعالى بالحل والحرمة قديما
وهذا باطل من ثلاثة أوجه
الأول أن حل الوطء في المنكوحة وحرمته في الأجنبية صفة فعل العبد
ولهذا يقال هذا الوطء حلال أو حرام وفعل العبد محدث وصفة
المحدث لا تكون قديمة
الثاني انه يقال هذه المرأة حلت لزيد بعدما لم تكن كذلك وهذا
مشعر بحدوث هذه الأحكام
الثالث أنا نقول المقتضى لحل الوطء هو النكاح أو ملك اليمين وما كان
معللا بأمر حادث يستحيل أن يكون قديما فثبت أن الحكم يمتنع أن
يكون قديما والخطاب قديم فالحكم لا يكون عين الخطاب
وثانيهما أن بعض الأحكام خارج عن هذا الحد وهو كون الشئ سببا
وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا
وثالثهما أن الحكم الشرعي قد يوجد في غير المكلف وذلك كجعل إتلاف
90

الصبي سببا لوجوب الضمان وجعل الدلوك سببا لوجوب الصلاة
ورابعها أنك أدخلت كلمة أو في الحد وهو غير جائز لأنها للترديد
والحد للإيضاح وبينهما مباينة
والجواب قوله الحل والحرمة من صفات الأفعال
قلنا لا نسلم فإن عندنا لا معنى لكون الفعل حلالا إلا مجرد كونه
مقولا فيه رفعت الحرج عن فاعله ولا معنى لكونه حراما إلا كونه مقولا فيه
لو فعلته لعاقبتك فحكم الله تعالى هو قوله والفعل متعلق
القول وليس لمتعلق القول من القول صفة وإلا لحصل للمعدوم صفة ثبوتية
بكونه مذكورا ومخبرا عنه ومسمى بالاسم المخصوص
قوله إنا نقول هذه المرأة حلت لزيد بعدما لم تكن كذلك
قلنا حكم الله تعالى هو قوله في الأزل أذنت للرجل الفلاني حين
وجوده في كذا فحكمه قديم ومتعلق حكمه محدث
91

قوله الحكم يعلل بالأسباب
قلنا المراد من السبب عندنا المعرف لا الموجب
قوله هذا التحديد يخرج عنه كون الشئ سببا وشرطا ومانعا
وصحيحا وفاسدا
قلنا المراد من كون الدلوك سببا أنا متى شاهدنا الدلوك علمنا أن
الله تعالى أمرنا بالصلاة فلا معنى لهذه السببية إلا الإيجاب
وإذا قلنا هذا العقد صحيح لم نعن به إلا أن الشرع إذن
له في الانتفاع به ولا معنى لذلك إلا الإباحة
قوله هذا التحديد يخرج عنه إتلاف الصبي ودلوك الشمس قلنا
معنى قولنا إتلاف الصبي سبب لوجوب الضمان أن الولي مكلف بإخراج
الضمان من ماله والرجل مكلف ب أداء الصلاة عند الدلوك
قوله كلمة أو للترديد
قلنا مرادنا أن كل ما وقع على أحد هذه الوجوه كان حكما وإلا فلا
92

الفصل السادس
في تقسيم الأحكام الشرعية
التقسيم الأول
وهو من وجوه
خطاب الله تعالى إذا تعلق بشئ فإما أن يكون طلبا جازما أو لا يكون
كذلك
فإن كان جازما فإما أن يكون طلب الفعل وهو الإيجاب أو طلب
الترك وهو التحريم
وإن كان غير جازم فالطرفان إما أن يكونا على السوية وهو
الإباحة وإما أن يترجح جانب الوجود وهو الندب أو جانب
العدم وهو الكراهة فأقسام الأحكام الشرعية هي هذه الخمسة
وقد ظهر بهذا التقسيم ماهية كل واحد منها
93

فلنذكر الآن حدودها وأقسامها
94

أما الواجب فالذي اختاره القاضي أبو بكر أنه ما يذم تاركه شرعا
على بعض الوجوه
وقولنا يذم تاركه خير من قولنا يعاقب تاركه لأن الله تعالى قد
95

يعفو عن العقاب ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل ومن قولنا يتوعد
بالعقاب على تركه لأن الخلف في خبر الله تعالى محال فكان ينبغي أن
لا يوجد العفو ومن قولنا ما يخاف العقاب على تركه لأن الذي يشك في
وجوبه وحرمته قد يخاف من العقاب على تركه مع أنه غير واجب وقولنا
شرعا إشارة إلى ما نذهب إليه من أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع
وقولنا على بعض الوجوه ذكرناه ليدخل في الحد الواجب المخير
لأنه يلام على تركه إذا تركه وترك معه بدله أيضا والواجب الموسع
لأنه يلام على تركه إذا تركه في كل الوقت والواجب على الكفاية لأنه يلام
على تركه إذا تركه الكل
فإن قيل هذا الحد يدخل فيه السنة فإن الفقهاء قالوا لو أن
أهل محلة اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإصرار فإنهم يحاربون بالسلاح
قلت سيأتي جوابه إن شاء الله تعالى.
96

وأما الاسم فاعلم أنه لا فرق عندنا بين الواجب والفرض
والحنفية خصصوا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع والواجب
بما عرف وجوبه بدليل مظنون
قال أبو زيد رحمه الله الفرض عبارة عن التقدير
قال الله تعالى فنصف ما فرضتم أي قدرتم
وأما الوجوب فهو عبارة عن السقوط قال الله تعالى فإذا
وجبت جنوبها أي سقطت إذا ثبت هذا فنحن خصصنا اسم
الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع لأنه هو الذي يعلم من حاله أن
الله تعالى قدره علينا
وهذا الفرق ضعيف لأن الفرض هو المقدر لا انه الذي ثبت كونه مقدرا
علما أو ظنا كما أن الواجب هو الساقط لا انه الذي ثبت كونه ساقطا علما أو
97

ظنا وإذا كان كذلك كان تخصيص كل واحد من هذين اللفظين بأحد
القسمين تحكما محضا
98

وأما المحظور فهو الذي يذم فاعله شرعا
وأسماؤه كثيرة
أحدها أنه معصية واطلاق ذلك في العرف يفيد أنه فعل ما نهى
الله تعالى عنه
وقالت المعتزلة إنه الفعل الذي كرهه الله تعالى والكلام فيه مبني على
مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات
وثانيهما أنه محرم وهو قريب من المحظور
وثالثهما أنه ذنب وهو المنهي عنه الذي تتوقع عليه العقوبة
والمؤاخذة ولذلك لا توصف أفعال البهائم والأطفال بذلك وربما يوصف
فعل المراهق به لما يلحقه من التأديب على فعله
101

ورابعها أنه مزجور عنه ومتوعد عليه ويفيد في العرف أن
الله تعالى هو المتوعد عليه والزاجر عنه
وخامسها أنه قبيح وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى
وأما المباح فهو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا ضرر في فعله
وتركه ولا نفع في الآخرة
وأما الأسماء فالمباح يقال له إنه حلال طلق
وقد يوصف الفعل بأن الإقدام عليه مباح وإن كان تركه محظورا كوصفنا
دم المرتد بأنه مباح ومعناه أنه لا ضرر على من أراقه وإن كان الإمام ملوما بترك
إراقته
وأما المندوب فهو الذي يكون فعله راجحا على تركه في نظر
الشرع ويكون تركه جائزا
وإنما ذم الفقهاء من عدل عن جميع النوافل لاستدلالهم بذلك على استهانته
بالطاعة وزهده فيها فإن النفوس تستنقص من هذا دأبه وعادته
102

وقولنا في نظر الشرع احتراز عن الأكل قبل ورود الشرع فإن
فعله خير من تركه لما فيه من اللذة لكن ذلك الرجحان لما لم يكن
مستفادا من الشرع فلا جرم انه لا يسمى مندوبا
وأما الأسماء فأحدها أنها مرغب فيه لما أنه قد بعث المكلف على فعله
بالثواب
وثانيها أنه مستحب ومعناه في العرف أن الله تعالى قد
أحبه
وثالثها أنه نفل ومعناه أنه طاعة غير واجبة وأن للإنسان أن يفعله
من غير حتم
ورابعها أنه تطوع ومعناه أن المكلف انقاد لله تعالى فيه مع
أنه قربة من غير حتم
وخامسها أنه سنة ويفيد في العرف أنه طاعة غير واجبة
ولفظ السنة مختص في العرف بالمندوب بدليل أنه يقال
هذا الفعل واجب أو سنة
ومنهم من قال لفظ السنة لا يختص بالمندوب بل يتناول كل ما علم
وجوبه أو ندبيته بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بإدامته فعله لأن السنة مأخوذة من
103

الإدامة ولذلك يقال الختان من السنة ولا يراد به أنه غير واجب
وسادسها أنه إحسان وذلك إذا كان نفعا موصلا إلى الغير مع القصد إلى
نفعه
وأما المكروه فيقال بالاشتراك على أمور ثلاثة
أحدها ما نهي عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر فاعله بأن تركه خير من
فعله وإن لم يكن على فعله عقاب
وثانيها المحظور وكثيرا ما يقول الشافعي رحمه الله أكره كذا وهو
يريد به التحريم
وثالثها ترك الأولى كترك صلاة الضحى ويسمى ذلك مكروها لا لنهي ورد
عن الترك بل لكثرة الفضل في فعلها والله أعلم
104

التقسيم الثاني
الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا
وتحقيق القول فيه أن الإنسان إما أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة
التكليف
وإما أن يصدر عنه الفعل وهو على حالة التكليف
والأول كفعل النائم والساهي والمجنون والطفل فهذه الأفعال لا
يتوجه نحو فاعليها ذم ولا مدح وإن كان قد يتعلق بها وجوب ضمان وأرش
في مالهم ويجب اخراجه على وليهم
والثاني ضربان لأن القادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن كان له
فعله فهو الحسن وإن لم يكن فهو القبيح
ثم قال أبو الحسين البصري رحمه الله القبيح هو الذي ليس
للمتمكن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ومعنى قولنا ليس له أن يفعله
105

معقول لا يحتاج إلى تفسير ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله
ويحد أيضا بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم
وأما الحسن فهو ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحالة أن يفعله
وأيضا ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم
وأقول هذه الحدود غير وافية بالكشف عن المقصود
أما الأول فنقول ما الذي أردت بقولك ليس له أن يفعله
فإنه يقال للعاجز عن الفعل ليس له أن يفعله ويقال للقادر على
الفعل إذا كان ممنوعا عنه حسا ليس له أن يفعله ويقال للقادر إذا كان
شديد النفرة عن الفعل ليس له أن يفعله وقد يقال للقادر إذا زجره الشرع
عن الفعل إنه ليس له أن يفعله
والتفسيران الأولان غير مرادين لا محالة والثالث غير مراد أيضا لأن
الفعل قد يكون حسنا مع قيام النفرة الطبيعية عنه وبالعكس
والرابع أيضا غير مراد لأنه يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي
فإن قلت المراد منه القدر المشترك بين هذه الصور الأربع من
مسمى المنع
106

قلت لا نسلم أن هذه الصور الأربع تشترك في مفهوم واحد وذلك لأن
المفهوم الأول معناه أنه لا قدرة له على الفعل
وهذا إشارة إلى العدم والمفهوم الرابع معناه أنه يعاقب عليه وهذا إشارة
إلى الوجود ونحن لا نجد بينهما قدرا مشتركا
وأما قوله ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله
قلنا لما فسرت القبيح بأنه الذي يستحق الذم بفعله وجب تفسير
الاستحقاق والذم
فأما الاستحقاق فقد يقال الأثر يستحق المؤثر على
معنى أنه يفتقر إليه لذاته ويقال المالك يستحق الانتفاع بملكه على
معنى أنه يحسن منه ذلك الانتفاع
والأول ظاهر الفساد
والثاني يقتضي تفسير الاستحقاق بالحسن مع أنه فسر الحسن
بالاستحقاق حيث قال الحسن هو الذي لا يستحق فاعله الذم فيلزم
الدور
وإن أراد بالاستحقاق معنى ثالثا فلا بد من بيانه
وأما الذم فقد قالوا إنه قول أو فعل أو ترك قول أو
107

ترك فعل ينبئ عن اتضاع حال الغير
فنقول إن عنيت بالإتضاع يكون ما ينفر عنه طبع الإنسان ولا يلائمه فهذا
معقول لكن يلزم عليه أن لا يتحقق الحسن والقبح في حق
الله تعالى لما أن النفرة الطبيعية عليه ممتنعة
وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه
وأعلم أن هذه الاشكالات غير واردة على قولنا لأنا نعني بالقبيح
المنهي عنه شرعا وبالحسن ما لا يكون منهيا عنه شرعا
وتندرج فيه أفعال الله تعالى وأفعال المكلفين من الواجبات
والمندوبات والمباحات وأفعال الساهي والنائم والبهائم
وهو أولى من قول من قال الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا لأنه يلزم
عليه أن لا تكون أفعال الله تعالى حسنة ولو قلت الحسن هو الذي
يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنع عنه شرعا خرج عنه فعل النائم
والساهي والبهيمة ويدخل فيه فعل الله تعالى لأن وجوب ذلك العلم
108

لا ينافي صحته وبالله التوفيق
التقسيم الثالث
قالوا خطاب الله تعالى كما قد يرد بالاقتضاء أو التخيير فقد يرد
أيضا بجعل الشئ سببا وشرطا ومانعا فلله تعالى
109

في الزاني حكمان أحدهما وجوب الحد عليه والثاني جعل الزنا سببا
لوجوب الحد لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وبذاته بل بجعل الشارع
إياه سببا
ولقائل أن يقول إن كان المراد من جعل الزنا سببا لوجوب الحد هو أنه
قال متى رأيت انسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد فهو حق
ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا بحصول الحكم
وإن كان المراد أن الشرع جعل الزنى مؤثرا في هذا الحكم فهذا باطل
لثلاثة أوجه
الأول أن حكم الله تعالى كلامه وكلامه قديم والقديم لا يعلل
بالمحدث
110

الثاني أن الشرع لما جعل الزنا مؤثرا في وجوب هذا الحد فبعد هذا
الجعل إما أن تبقى حقيقة الزنا كما كانت قبل هذا الجعل أو لا تبقى فإن
بقيت كما كانت وحقيقته قبل هذا الجعل ما كانت مؤثرة فبعد هذا الجعل
وجب أن لا تصير مؤثرة
وإن لم تبق تلك الحقيقة كان هذا إعداما لتلك الحقيقة
والشئ بعد عدمه يستحيل أن يكون موجبا
الثالث الشرع إذا جعل الزنا علة فإن لم يصدر عنه عند ذلك الجعل
أمر ألبتة استحال أن يقال إنه جعله علة للحد لأن ذلك
كذب والكذب على الشرع محال
وإن صدر عنه أمر فذلك الأمر إما أن يكون هو الحكم أو ما يوجب
الحكم أولا الحكم ولا ما يوجبه
فإن كان الأول كان المؤثر في ذلك الحكم هو الشرع مع لا ذلك
السبب
وإن كان الثاني كان المؤثر في ذلك الحكم وصفا حقيقيا وهذا هو
قول المعتزلة في الحسن والقبح وسنبطله إن شاء الله تعالى
وإن كان الثالث فهو محال لأن الشارع لما أثر في شئ غير الحكم
وغير مستلزم للحكم لم يكن لذلك الشئ تعلق بالحكم أصلا
111

التقسيم الرابع
الحكم قد يكون حكما بالصحة وقد يكون حكما بالبطلان والصحة
قد تطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى
أما في العبادات فالمتكلمون يريدون بصحتها كونها موافقة للشريعة سواء
وجب القضاء أو لم يجب
والفقهاء يريدون بها ما أسقط القضاء فصلاة من ظن أنه متطهر
صحيحة في عرف المتكلمين لأنها موافقة للأمر المتوجه عليه والقضاء
وجب بأمر متجدد
وفاسدة عنه الفقهاء لأنها لا تسقط القضاء
وأما في العقود فالمراد من كون البيع صحيحا ترتب أثره عليه
وأما الفاسد فهو مرادف للباطل عند أصحابنا والحنفية جعلوه
قسما متوسطا بين الصحيح والباطل وزعموا أنه الذي يكون منعقدا بأصله
ولا يكون مشروعا بسبب وصفه كعقد الربا فإنه مشروع من حيث إنه
بيع وممنوع من حيث إنه يشتمل على الزيادة
112

والكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات ولو ثبت هذا القسم لم
نناقشهم سعيد في تخصيص اسم الفاسد به
ويقرب من هذا الباب البحث عن قولنا في العبادات إنها مجزية أم
لا
وأعلم أن الفعل إنما يوصف بكونه مجزيا إذا كان بحيث يمكن
وقوعه بحيث يترتب عليه حكمه ويمكن وقوعه بحيث لا يترتب عليه حكمه
كالصلاة والصوم والحج
أما الذي لا يقع إلا على وجه واحد كمعرفة الله تعالى ورد
الوديعة فلا يقال فيه إنه مجزئ أو غير مجزئ
إذا عرفت هذه فنقول
معنى كون الفعل مجزيا أن الإتيان به كاف في سقوط التعبد به وإنما يكون
كذلك لو أتى المكلف به مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث
وقع التعبد به
ومنهم من فسر الإجزاء ب سقوط القضاء وهو باطل لأنه لو أتى
بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات لم يكن الفعل مجزيا مع
سقوط القضاء
113

ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد على ما سيأتي بيانه إن شاء
الله تعالى
ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول لم يكن مجزيا فوجب
قضاؤه والعلة مغايرة للمعلول
114

التقسيم الخامس
العبادة توصف بالقضاء والأداء والإعادة
فالواجب إذا أدي في وقته سمي أداء
وإذا أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع سمي قضاء
وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في وقته المضروب له سمي
إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل على ضرب من الخلل
والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود
ثم ها هنا بحثان
الأول لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه لو لم يشتغل به
لمات
فها هنا لو أخر عصى فلو أخر وعاش ثم اشتغل به قال القاضي أبو
بكر هذا قضاء لأنه تعين وقته بسبب غلبة الظن وما أوقعه فيه
وقال الغزالي رحمه الله هذا أداء لأنه لما انكشف خلاف ما
ظن زال حكمه فصار كما لو علم أنه يعيش
116

الثاني الفعل لا يسمى قضاء إلا إذا وجد سبب وجوب الأداء مع أنه
لم يوجد الأداء
ثم القضاء على قسمين
أحدهما ما وجب الأداء فتركه وأتى بمثله خارج الوقت فكان قضاء
وهو كمن ترك الصلاة عمدا في وقتها ثم أداها خارج الوقت
وثانيهما ما لا يجب الأداء وهو أيضا قسمان
أحدهما أن يكون المكلف بحيث لا يصح منه الأداء
والثاني أن يصح منه ذلك
أما الذي لا يصح منه الأداء فإما أن يمتنع ذلك عقلا كالنائم
والمغمى عليه فإنه يمتنع عقلا صدور فعل الصلاة منه
وإما أن يمتنع ذلك منه شرعا كالحائض فإنه لا يصح منها فعل الصوم
لكن لما وجد في حقها سبب الوجوب وإن لم يوجد الوجوب سمي
الإتيان بذلك الفعل خارج الوقت قضاء
وأما الذي يصح ذلك الفعل منه إن لم يجب عليه الفعل فالمقتضى لسقوط
الوجوب قد يكون من جهته كالمسافر فإن السفر منه وقد أسقط وجوب
الصوم
وقد يكون من الله تعالى كالمريض فإن المرض من الله وقد أسقط
وجوب الصوم
117

ففي جميع هذه المواضع اسم القضاء إنما جاء لأنه وجد سبب
الوجوب منفكا عن الوجوب لا لأنه وجد وجوب الفعل كما يقوله بعض
من لا يعرف من الفقهاء لأن المنع من الترك جزء ماهية الوجوب
فيستحيل تحقق الوجوب مع جواز الترك
118

التقسيم السادس
الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به
إما أن يكون عزيمة أو رخصة وذلك لأن ما جاز فعله إما أن
يجوز مع قيام المقتضى للمنع أو لا يكون كذلك
فالأول الرخصة والثاني العزيمة
فما أباحه الله تعالى في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى
رخصة ويسمى تناول الميتة رخصة وسقوط رمضان عن المسافر
رخصة
ثم الذي يجوز فعله مع قيام المقتضى للمنع قد يكون واجبا كأكل الميتة
والافطار عند خوف الهلاك من الجوع وقد لا يكون واجبا كالافطار
والقصر في السفر وقول كلمة الكفر عند الإكراه
ولما تكلمنا في الحكم الشرعي وأقسامه فلنبين أنه ثابت بالعقل أو
بالشرع
120

الفصل السابع
في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع
الحسن والقبح قد يعنى بهما كون الشئ ملائما للطبع أو
منافرا وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين
وقد يراد بهما كون الشئ صفة كمال أو صفة نقص كقولنا
العلم حسن والجهل قبيح ولا نزاع أيضا في كونهما عقليين بهذا
التفسير
وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا فعندنا أن
123

ذلك لا يثبت إلا بالشرع
وعند المعتزلة ليس ذلك إلا لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص
لأجله يستحق فاعله الذم قالوا وذلك الوجه قد يستقل العقل بإدراكه وقد
لا يستقل
أما الذي يستقل فقد يعلمه العقل ضرورة كالعلم بحسن الصدق
النافع وقبح الكذب الضار وقد يعلمه نظرا كالعلم بحسن الصدق الضار
وقبح الكذب النافع
والذي لا يستقل العقل بمعرفته فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح
صوم الذي بعده فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك لكن
الشرع لما ورده به علمنا أنه لولا اختصاص كل واحد منهما بما لأجله حسن
وقبح وإلا لامتنع ورود الشرع به
لنا
أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على
سبيل الاتفاق وعلى التقديرين فالقول بالقبح العقلي باطل
بيان الأول أن فاعل القبيح إما أن يكون متمكنا من الترك أولا يكون فإن لم
124

يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار وإن تمكن من الترك فإما أن يتوقف
رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح أو لا يتوقف فإن توقف فذلك
المرجح إما أن يكون من العبد أو من غيره أو لا منه ولا من غيره
أما القسم الأول وهو أن يكون من العبد فهو محال لأن الكلام
فيه كما في الأول فيلزم التسلسل و
أما القسم الثاني وهو أن يكون من غير العبد فنقول عند حصوله ذلك
المرجح إما أن يجب وقوع الأثر أو لا يجب
فإن وجب فقد ثبت الاضطرار لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل
ممتنع الوقوع وعند وجوده صار واجب الوقوع وليس وقوع هذا المرجح
بالعبد ألبتة فلم يكن للعبد تمكن في شئ من الأحوال من الفعل والترك ولا
معنى للاضطرار إلا ذلك
وإن لم يجب فعند حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه
أخرى فترجح جانب الوجود على جانب العدم أما أن يتوقف على انضمام مرجح
إليه أو لا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحا تاما
وكنا قد فرضناه مرجحا تاما هذا خلف
وأيضا فالكلام في هذه الضميمة كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال
وأما إن لم يتوقف على انضمام قيد الية بكر فمع ذلك المرجح تارة يوجد الأثر وتارة
لا يوجد ولم يكن رجحان جانب الوجود على جانب العدم موقوفا على
125

قصد من جهته ولا على ترجيح ألبتة وإلا لعاد إلى القسم الأول وقد أبطلناه
فحينئذ يكون دخول الفعل في الوجود اتفاقيا لا اختياريا فقد ثبت
الاتفاق
وأما القسم الثالث وهو أن يكون حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من
غيره فحينئذ يكون واقعا لا لمؤثر فيكون حصوله اتفاقيا لا
اختياريا
وأما لو قلنا إن المتمكن من الفعل متمكن من الترك لكن لا يتوقف رجحان
الفاعلية علي التاركية على مرجح فعلى هذا التقدير يكون رجحان الفاعلية على
التاركية اتفاقيا أيضا لأن تلك القادرية لما كانت نسبتها إلى الأمرين على
السوية ثم حصلت الفاعلية في أحد الوقتين دون التاركية من غير مرجح ألبتة
كان رجحان الفاعلية منه على التاركية اتفاقيا
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير
مرجح قلت هل لقولك يرجح مفهوم زائد على كونه قادرا أوليس له
مفهوم زائد عليه
فإن كان ذلك مفهوما زائدا على كونه قادرا كان ذلك قولا بأن رجحان الفاعلية
على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام قيد آخر إلى القادرية فيصير هذا هو
القسم الأول الذي تكلمنا فيه
126

وإن لم يكن ذلك مفهوما زائدا لم يبق لقولكم القادر يرجح أحد مقدوريه
على الآخر من غير مرجح إلا أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها
ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض من غير أن يكون ذلك القادر
قد رجحه أو قصد ايقاعه ولا معنى للاتفاق إلا ذلك فثبت بهذا
البرهان القاطع أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل
الاضطرار أو على سبيل الاتفاق
وإذا ثبت ذلك امتنع القول القبع العقلي بالإتفاق
أما على قولنا فظاهر
وأما عند الخصم فلأنه لا يجوز ورود التكليف بذلك فضلا عن أن يقال إن
حسنه معلوم بضرورة العقل
فثبت بما ذكرنا أن القول ب القبح العقلي باطل
أما الخصم فقد ادعى العلم الضروري بقبح الظلم والكذب والجهل وبحسن
الانصاف والصدق والعلم
127

ثم قالوا هذا العلم غير مستفاد من الشرع لأن البراهمة مع انكارهم
الشرائع عالمون بهذه الأشياء
ثم زعموا بعد ذلك أن المقتضي لقبح الظلم مثلا هو كونه ظلما لأنا عند
العلم بكونه ظلما نعلم قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر وعند الغفلة عن كونه
ظلما لا نعلم قبحه وإن علمنا سائر الأشياء
فثبت أن المقتضي لقبحه ليس إلا هذا الوجه
ومنهم من حاول الاستدلال بأمور
أحدها أن الفعل الذي حكم فيه بالوجوب مثلا لم يختص بما لأجله استحق
ثبوت ذلك الحكم وإلا كان تخصيصه بالوجوب دون سائر الأحكام ودون سائر
الأفعال ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح
وثانيها أنه لو لم يكن الحسن والقبح إلا بالشرع لحسن من
الله تعالى كل شئ ولو حسن منه كل شئ لحسن منه إظهار المعجزة على
128

يد الكاذب ولو حسن منه ذلك لما أمكننا أن نميز بين النبي والمتنبئ قد
وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع
وثالثها لو حسن من الله تعالى كل شئ لما قبح منه الكذب وعلى
هذا فلا يبقى اعتماد على وعده ووعيده
فإن قلت الكلام الأزلي يستحيل أن يكون كذبا
قلت هب أن الأمر كذلك لكن لم لا يجوز أن تكون هذه الكلمات التي
نسمعها مخالفة لما عليه الشئ في نفسه وحينئذ يعود الإشكال
ورابعها أن العاقل إذا قيل له إن صدقت أعطيناك دينارا وإن كذبت
أعطيناك أيضا دينارا واستوى عنده الصدق والكذب في جميع
الأمور إلا في كونه صدقا وكذبا فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق
ولولا أن الصدق لكونه صدقا حسن وإلا لما كان كذلك
وخامسها أن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن
يعلما عند ورود الشرع بهما لأنهما إذا لم يكونا معلومين قبل ذلك فعند ورود الشرع بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع ولا يتصوره وذلك محال
فوجب أن يكونا معلومين قبل ورود الشرع
129

والجواب عن دعوى الضرورة
أنها مسلمة ولكن لا في محل النزاع فإن كل ما كان ملائما للطبع
حكموا بحسنه وما كان منافرا للطبع حكموا بقبحه فهذا القدر مسلم فإن
ادعيتم أمرا زائدا عليه فلا بد من إفادة تصوره
ثم إقامة الدلالة على التصديق به فإن كل ذلك غير مساعد عليه فضلا عن
ادعاء العلم الضروري فيه
فإن قلت الظلم ملائم لطبع الظالم ومع ذلك فإنه يجد في صريح
العقل قبحه ولأن من خاطب الجماد بالأمر والنهي فإنه لا ينفر طبعه عنه مع
أن قبحه معلوم بالضرورة ولأن من أنشأنا قصيدة غراء في شتم الملائكة والأنبياء
وكتبها بخط حسن وقرأها بصوت طيب حزين فإنه يميل الطبع إليه وينفر العقل
عنه فعلمنا أن نفرة العقل مغايرة لنفرة الطبع
قلت الجواب عن الأول
أن الظالم لا يميل طبعه إلى الظلم لأنه لو حكم بحسنه لما قدر على دفع الظلم
عن نفسه فالنفرة وفي عن الظلم متمكنة في طبع الظالم والمظلوم إلا أنه إنما رغب
فيه لعارض يختص به وهو أخذ المال منه والحكم بحسن الإحسان إنما
كان لأن الحكم بحسنه قد يفضي إلى وقوعه وهو ملائم لطبع كل أحد
130

والحكم بقبح الكذب إنما كان لكونه على خلاف مصلحة العالم وبحسن
الصدق لكونه على وفق مصلحة العالم وبحسن انقاذ الغريق لأنه يتضمن
حسن الذكر وإن لم يوجد ذلك فلأن من شاهد شخصا من أبناء جنسه في
الألم تألم قلبه فإنقاذه منه يستلزم دفع ذلك الألم عن القلب وذلك مما يميل إليه
الطبع
وأما مخاطبة الجماد فلا نسلم أن استقباحها يجري مجرى استقباح الظلم
والقدر الذي فيه من الاستقباح إنما كان لاتفاق أهل العلم على أن الإنسان
لا يجب أن يشتغل إلا بما يفيده فائدة إما عاجلة وإما آجلة
وأما القصيدة المشتملة على الشتم فإنما تستقبح لإفضائها إلى مقابلة
أرباب الفضائل بالشتم والاستخفاف وهو على مضادة مصلحة العالم
فظهر أن المرجع في هذه الأشياء إلى ملائمة الطبع ومنافرته ونحن قد
ساعدنا على أن الحسن والقبح بهذا المعنى معلوم بالعقل والنزاع في غيره
سلمنا تحقق الحسن والقبح لكن لا نسلم أن المقتضى لقبح
131

الظلم هو كونه ظلما ولم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبحه أمرا آخر
قوله العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه ظلما وجودا وعدما
قلنا لم قلت إن الدوران العقلي دليل العلية عليه
وما الدليل عليه
ثم إنه منقوض بالمضافين كل فإن العلم بكل واحد من المضافين دائر مع
العلم بالآخر وجودا وعدما مع أنه يمتنع كون أحدهما علة للآخر وتمام
تقرير هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في كتاب القياس
سلمنا أن الدليل الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون قبح الظلم لكونه
ظلما لكن معنا ما يدل على فساده وهو أن المفهوم من الظلم اضرار
غير مستحق وكونه غير مستحق قيد عدمي والقيد العدمي لا يصلح أن
132

يكون علة للحكم الثابت ولا أن يكون جزءا للعلة إذ لو جاز استناد الأمر
الثبوتي إلى الأمر العدمي لجاز استناد خلق العالم إلى مؤثر
عدمي وحينئذ ينسد علينا باب معرفة كون الله تعالى موجدا
لأن العدم نفي محض فيستحيل أن يكون مؤثرا
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون العدم شرطا لتأثير العلة في المعلول
قلت لأنه إذا فقد هذا العدم لم تكن العلة مؤثرة في المعلول وعند وجوده
تصير مؤثرة فيه فكون العلة بحيث تستلزم المعلول وتستعقبه أمر حدث
مع حدوث هذا العدم وليس له سبب آخر سواه فوجب تعليله به
فيعود الأمر إلى تعليل الأمر الثبوتي بالأمر العدمي وهو محال
وأما الجواب عما احتجوا به أولا
133

فهو أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إن افتقر إلى المرجح
توقف رجحان فاعلية العبد على تاركيته على مرجح غير صادر من جهته وإلا وقع
التسلسل ويكون رجحان الفاعلية على التاركية عند حصول ذلك
المرجح واجبا وإلا لزم الرجحان لا لمرجح
وإذا كان كذلك لزم الجبر ويلزم من لزوم الجبر القطع ببطلان
القبح العقلي
وإن لم يفتقر الرجحان إلى المرجح أصلا فقد اندفعت هذه الشبهة
بالكلية
والجواب عما احتجوا به ثانيا
أن الاستدلال بالمعجزة على الصدق مبني على مقامين أحدهما أن
الله تعالى إنما خلق ذلك المعجز لأجل التصديق
والثاني أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق والقول
بالحسن والقبح إنما ينفع في المقام الثاني لا في المقام الأول فلم قلتم إن
الله تعالى ما خلق هذا الفعل إلا لغرض التصديق
وتحقيقه أن لو توقف الرجحان على المرجح لزم الجبر وإذا لزم الجبر
134

لزم بطلان القبح العقلي
ولو لم يتوقف على المرجح لجاز أن يقال أن الله تعالى خلق
ذلك المعجز لا لغرض أصلا
ثم إن كان ذلك لغرض فلم قلتم إنه لا غرض سوى التصديق
فإن قلت القول بالقبح العقلي يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب
مطلقا لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق فلو
كان المدعي كاذبا لكان ذلك ايهاما لتصديق الكاذب وإنه قبيح
والله تعالى لا يفعل القبيح
قلت لم قلت إن الفعل الذي يوهم القبيح ولم يكن موجبا
له قبيح وذلك لأن المكلف لما علم أن خلق المعجز عند الدعوى
يحتمل أن يكون للتصديق ويحتمل أن يكون لغيره فلو حمله على
التصديق قطعا لكان التقصير من المكلف حيث قطع لا في موضع
القطع وهذا كإنزال المتشابهات في القرآن فإنه يوهم القبيح ولكنه
لما احتمل سائر الوجوه لم يقبح شئ منها من الله تعالى
فثبت أن الإلزام الذي أوردوه علينا في إحدى المقدمتين وارد عليهم في المقدمة
135

الأخرى وكل ما يجعلونه جوابا عنه في تقرير إحدى المقدمتين فهو جوابنا
في تقرير المقدمة الأخرى
والجواب عما ذكروه ثالثا
أنه وارد عليهم أيضا لأن الكذب قد يكون حسنا وذلك في صورتين
إحداهما أن الكافر إذا قصد قتل النبي فاختفى النبي في دار انسان
فجاء الكافر وسأل صاحب الدار عن ذلك النبي وعلم صاحب الدار أنه لو
أخبره عن مكان النبي أو سكت أو اشتغل بالتعريض لقتله قطعا فها
هنا الصدق قبيح والكذب حسن
ثانيهما أن من توعد غيره ظلما وقال إني سأقتلك غدا فلا
شك أنه متى لم يفعل ذلك صار هذا الخير كذبا فلو كان الكذب
قبيحا لكان ترك هذه الأشياء مستلزما للقبيح ومستلزم القبيح قبيح فيجب
أن يكون ترك هذه الأشياء قبيحا فيكون فعلها حسنا لا محالة وذلك باطل
بالاتفاق
136

فإن قلت الجواب عن الصورة الأولى من وجهين
الأول أنا لا نسلم أنه يحسن الكذب هناك ويقبح الصدق
فإن الواجب أن يأتي فيه بالمعاريض وإن في المعاريض لمندوحة
عن الكذب
سلمنا أنه يحسن ذلك ولكن كونه كذبا يقتضي القبح والحكم قد
يتخلف عن المقتضى لمانع إلا أن الأصل حصول الحكم عند حصول العلة
وهذا هو الجواب أيضا عن الصورة الثانية
قلت الجواب عن الأول
أن الخبر إنما يصير من باب المعاريض باضمار أمر وراء ما دل الظاهر
عليه إما بزيادة أو نقصان أو تقييد مطلق أو تخصيص عام مع أنه لا ينبه
السامع على أنه نوى ذلك لأنه لو نبهه عليه لما حصل المقصود وإذا جوزتم
حسن ذلك لأجل مصلحة تقتضي ذلك لم يمكنكم اجراء خطاب
الله تعالى على ظاهره، إلا إذا عرفتم أنه لم يوجد هناك مصلحة (أخرى) (12)
تقتضي صرفها عن ظواهرها، وذلك لا سبيل إليه إلا بأن يقال لا يعرف
هذا المعارض لكن عدم العلم بالشئ لا يدل على عدم الشئ
137

وعن الثاني
أن تخلف الأثر العقلي عن المؤثر العقلي محال وإلا كان عدم المانع جزءا من
العلة وهو محال ثم إن سلمناه لكن الإلزام عائد عليكم لأنكم
لما جوزتم في الجملة تخلف الحكم عن المؤثر لمانع جاز في كل خبر
كاذب أن لا يكون قبيحا لأجل أنه وجد مانع يمنع من قبحه وحينئذ لا
يحصل القطع بكونه قبيحا بل غاية ما في الباب أن يحصل الظن بقبحه
فقط
والجواب عما ذكروه رابعا
أنه إنما ترجح الصدق على الكذب في تلك الصورة لما أن أهل العلم
قد اتفقوا على قبح الكذب وحسين الصدق لما أن نظام العالم لا
يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر عليه لا جزم
ترجح الصدق عنده على الكذب
فإن قلت أنا أفرض نفسي خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد
ثم أعرض على نفسي عند هذا الفرض هذه القضية فأجدها جازمة
بترجيح الصدق على الكذب
138

قلت هب أنك فرضت نفسك خالية عن هذه العوارض لكن فرض الخلو
عن العوارض لا يوجب حصول الخلو عن العوارض بل لو أني خلقت
خاليا عن العوارض ففي ذلك الوقت لا أدري هل كنت أحكم بهذا الحكم أم
لا
والجواب عما ذكروه خامسا
أن عندنا الموقوف على الشرع ليس هو تصور الحسن والقبح
فإني قبل الشرع أتصور ماهية ترتب العقاب والذم على الفعل وعدم هذا ا
لترتب فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع وإنما الموقوف على
الشرع هو التصديق به فأين أحدهما من الآخر والله أعلم
وقد جرت عادة أصحابنا أن يتكلموا بعد هذه المسألة في مسألتين أخريين
أحدهما أن شكر المنعم لا يجب عقلا
والثانية أنه لا حكم قبل ورود الشرع
واعلم أنا متى بينا فساد القول بالحسن والقبح العقليين فقد صح مذهبنا في
هاتين المسألتين لا محالة
139

لكن الأصحاب سلموا القول بالحسن والقبح العقليين
ثم بينوا أنه بعد تسليم هذين الأصلين لا يصح قول
المعتزلة في هاتين المسألتين
140

الفصل الثامن
في أن شكر المنعم غير واجب عقلا
وقالت المعتزلة بوجوبه عقلا
لنا النص والمعقول
147

أما النص فقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله
تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل
وأما المعقول فهو أنه لو وجب لوجب إما لفائدة أو لا
لفائدة والقسمان باطلان فالقول بالوجوب باطل
إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون لفائدة لأن تلك الفائدة إما أن تكون عائدة إلى
المشكور أو إلى غيره
والأول باطل لأن الله تعالى منزه عن جلب المنافع ودفع المضار
والثاني باطل لأن الفائدة العائدة إلى الغير إما جلب المنفعة أو دفع
المضرة
148

لا جائز أن يكون ذلك لجلب المنفعة لثلاثة أوجه
الأول أن جلب النفع غير واجب في العقل فما يفضي إليه أولى أن
لا يجب
الثاني أنه يمكن خلو الشكر عن جلب النفع لأن الشكر لما كان
واجبا فإذن الواجب لا يقتضي شيئا آخر
الثالث أن الله تعالى قادر على إيصال كل المنافع بدون عمل الشكر
فيكون توسيط هذا الشكر غير واجب عقلا
ولا جائز أن يكون لدفع المضرة لأنه إما أن يكون لدفع مضرة عاجلة وهو باطل
لأن الاشتغال بالشكر مضرة عاجلة فكيف يكون دفعا للمضرة
العاجلة
وأما أن يكون لدفع مضرة آجلة وهو باطل أيضا لأن القطع بحصول
المضرة عند عدم الشكر إنما يمكن إذا كان المشكور يسره الشكر ويسوءه
الكفران فأما من كان منزها عنهما فاستوى الشكر والكفران بالنسبة
إليه فلا يمكن القطع بحصول العقاب على ترك الشكر بل احتمال العقاب
على الشكر قائم من وجوه
149

أحدها أن الشاكر ملك المشكور فإقدامه على تصرف الشكر
بغير إذنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة وهذا لا يجوز
وثانيها أن العبد إذا حاول مجازاة المولى على إنعامه عليه استحق
التأديب والاشتغال بالشكر اشتغال المجازاة فوجب أن لا يجوز
وثالثها أن من أعطاه الملك العظيم كسرة من الخبز أو قطرة من الماء
فاشتغل المنعم عليه في المحافل العظيمة يذكر تلك النعمة وشكرها استحق
التأديب وكل نعم الدنيا بالقياس إلى خزانة الله تعالى أقل من تلك الكسرة
بالقياس إلى خزانة ذلك الملك فلعل الشاكر يستحق العقاب بسبب
شكره
ورابعها لعله لا يهتدي إلى الشكر اللائق فيأتي بغير اللائق فيستحق
العقاب
وإنما قلنا إنه لا يمكن أن يجب لا لفائدة لوجهين
الأول أن ذلك عبث وأنه قبيح
والثاني أن المعقول من الوجوب ترتب الذم والعقاب على الترك فإذا فقد
ذلك امتنع تحقق الوجوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال وجب الشكر لمجرد كونه شكرا وذلك
لأن وجوب كل شئ لو كان لأجل شئ آخر لزم التسلسل فثبت أنه لا بد وأن
ينتهي إلى ما يكون واجبا لذاته
150

وعندنا الشكر واجب لنفس كونه شكرا كنا أن دفع الضرر عن النفس واجب
لنفس كونه دفعا للضرر ولذلك فإن العقلاء يعلمون وجوبه عندما يعلمون
كونه شكرا للنعمة وإن لم يعلموا جهة أخرى من جهات الوجوب
نزلنا عن هذا المقام فلم لا يجوز أن يقال وجب الشكر عليه لدفع ضرر
الخوف وذلك لأنه لا يجوز أن يكون خالقه طلب منه الشكر على ما أنعم به
عليه فلو لم يقدم على الشكر كان مستوجبا للذم والعقاب
أقصى ما في الباب أن يقال كما يجوز هذا يجوز أيضا أن يكون قد منعه من
الشكر لتلك الوجوه الأربعة المذكورة في الاستدلال لكن الظن الأول أغلب لأن
المشتغل بالخدمة والمواظب على الشكر أحسن حالا من المعرض عن الخدمة
والمتغافل عن الشكر
وأما تمثيل نعم الله بكسرة الخبز فليس بجيد لأن خلقه العبد واحياءه
واقداره وما منحه من كمال العقل وتمكينه من أنواع النعم أعظم من جميع
خزائن ملوك الدنيا ثم ما أكرمهم به بعد تمام هذه النعمة من بعثة الرسل
إليهم وانزال كتبه عليهم
وقد صرح داود وسليمان عليهما السلام بالشكر في قوله تعالى وقالا
151

الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وليس يجب إذا كان
تعالى قادرا على أضعاف ما منحه عبيده من النعم أن يستحقر ما منحه
إياهم كما أن الملك إذا أعطى قناطير ذهب فإنه لا يستحقر ذلك لأجل أن خزائنه
بقيت مشتملة على أضعاف مضاعفة على ما أعطى
سلمنا أن وجوبه ليس لفائدة زائدة فلم لا يجوز ذلك
قوله أنه عبث والعبث قبيح قلنا إنكم تنكرون القبح العقلي
فكيف تمسكتم به في هذا الموضع
سلمنا أن ما ذكرتموه يوجب أن لا يجب الشكر عقلا لكنه
يوجب أيضا أن لا يجب شرعا فإنه يقال إنه تعالى لو أوجبه
لأوجبه إما لفائدة أو لا لفائدة إلى آخر التقسيم ولما كان ذلك باطلا
بالاتفاق فكذا ما ذكرتموه
سلمنا صحة دليلكم ولكنه معارض بوجوه
الأول أن وجوب شكر المنعم مقرر في بدائه العقول وما كان كذلك لم
يكن الاستدلال على نقيضه قادحا فيه
الثاني هو أن من وصل إلى طريقين وكان أحدهما آمنا والآخر
152

مخوفا فإن العقل يقضي بسلوك الطريق الآمن دون المخوف وها هنا
الاشتغال بالشكر طريق آمن والاعراض عنه مخوف فكان الاشتغال بالشكر
أولى
الثالث أنه لو لم يجب الشكر في العقل لم يجب طلب معرفة
الله تعالى أيضا لأنه لا فرق في العقل بين البابين
ولو لم يجب طلب معرفة الله تعالى في العقول لزم افحام
الرسل والأنبياء لأنهم إذا أظهروا المعجزة قال المدعوون لهم لا يجب
علينا النظر في معجزتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزتكم
فإذا لم ننظر في معجزتكم ف لا نعرف وجوب ذلك علينا وذلك
يقتضي إفحام الرسل
والجواب
قولهم لم لا يجوز أن يجب لنفس كونه شكرا
153

قلنا قولنا لو وجب الشكر لوجب إما لفائدة أولا لفائدة تقسيم دائر
بين النفي والاثبات فلا يحتمل الثالث ألبتة
وأيضاف قولكم إنه وجب لكونه شكرا معناه أن كونه شكرا يقتضي
ترتب الذم والعقاب على تركه وهذا داخل فيما ذكرناه فلا يكون هذا قسما زائدا
على ما ذكرناه
قوله إنه إنما يجب عليه دفعا لضرر الخوف
قلنا قد بينا أن الخوف حاصل في فعل الشكر كما أنه حاصل في تركه
فإذا احتمل الخوف على الأمرين كان البقاء على الترك بحكم
استصحاب الحال أولى
فإن لم تثبت أولوية الترك فلا أقل من أن لا يثبت القطع بوجوب
الفعل
قوله الاشتغال بالخدمة أولى
154

قلنا هذا مسلم في حق من يفرح بالخدمة ويتأذى بالإعراض أما في
حق من لا يجوز الفرح والغم عليه فمحال
وأيضا فمثل هذا الترجيح لا يفيد إلا الظن
قوله لا يجوز تشبيه نعم الله تعالى بكسرة الخبز
قلنا التشبيه واقع في النسبة لا في المقدار ونحن لا نشك أن جميع نعم الدنيا
بالإضافة إلى خزائن الله تعالى أقل من الكسرة بالإضافة إلى ملوك
الدنيا
قوله الحكم بكون العبث قبيحا لا يصح إلا مع القول بالقبح العقلي وأنت
لا تقول به
قلنا قد ذكرنا أصحابنا إنما تكلموا في هذه المسألة بعد تسليم القبح
العقلي ليثبتوا أن كلام المعتزلة ساقط في هذا الفرع مع تسليم ذلك
الأصل وإذا كان المقصود ذلك لم يكن ما قالوه قادحا في كلامنا
قوله هذا يقتضي أن لا يحسن ايجاب الشكر من الله تعالى
قلنا غرضنا من الدليل الذي ذكرناه بيان أنه لو صح التحسين والتقبيح
العقلي لما أمكن القول بايجاب الشكر لا عقلا ولا شرعا وقد ثبت لنا ذلك
155

بقي أن يقال فأنتم كيف أوجبتموه شرعا
قلنا لأن من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تعلل
بالأغراض فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة
أصلا
وهذا مما لا يتمكن الخصم من القول به فسقط السؤال
أما قوله وجوب الشكر معلوم بالضرورة
قلنا في حق من يسره الشكر ويسوءه الكفران أما في حق من لا يكون كذلك
فلا نسلم
فإن قلت بل وجوبه على الاطلاق معلوم بالضرورة وأنت مكابر في ذلك
الإنكار
قلت أحلف بالله تعالى وبالايمان التي لا مخارج منها أني
راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعا بذلك في
حق من لا يصح عليه النفع والضرر بل ولا ظانا فإن كذبتمونا في ذلك
كان ذلك لجاجا ولم تسلموا من المقابلة بمثله أيضا
وأما قوله ترجيح الطريق الآمن على المخوف من لوازم العقل
قلنا نعم لكنا بينا أن كلا الطرفين مخوف فوجب التوقف
قوله إنه يفضي إلى إفحام الأنبياء
قلنا العلم بوجوب الفكر والنظر ليس ضروريا بل نظريا فللمدعو أن
يقول إنما يجب علي النظر في معجزتك لو نظرت فعرفت وجوب النظر
لكني لا أنظر في أنه هل يجب النظر علي وإذا لم أنظر فيه لا أعرف وجوب النظر في
156

معجزتك فيلزم الإفحام
فإن قلت بل أعرف بضرورة العقل وجوب النظر على
قلت هذا مكابرة لأن العلم بوجوب النظر علي يتوقف على
العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهية يفيد العلم وذلك ليس بضروري بل
نظري خفي فإن كثيرا من الفلاسفة قالوا إن فكرة العقل تفيد اليقين في
الهندسيات والحسابيات فأما في الأمور الإلهية فلا تفيد إلا الظن
ثم بتقدير أن يثبت كونه مفيدا للعلم فإنما يجب الإتيان به لو عرف أن غيره
لا يقوم مقامه في إفادة العلم وذلك ما لا سبيل إليه إلا بالنظر الدقيق وإذا كان
العلم بوجوب النظر موقوفا على ذينك المقامين النظريين فالموقوف على النظري
أولي أن يكون نظريا وإذا كان كذلك كان العلم بوجوب النظر
نظريا لا ضروريا وحينئذ يتحقق الإلزام فكل ما يجعله الخصم جوابا عن
ذلك فهو جوابنا عما ذكروه وبالله التوفيق
157

الفصل التاسع
في حكم الأشياء قبل الشرع
انتفاع المكلف بما ينتفع به إما أن يكون اضطراريا كالتنفس في الهواء وغيره
وذلك لا بد من القطع بأنه غير ممنوع عنه إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق
وإما أن لا يكون اضطراريا كأكل الفواكه وغيرها
فعند المعتزلة البصرية وطائفة من فقهاء الشافعية والحنفية أنها على
الإباحة
وعند المعتزلة البغدادية وطائفة من الإمامية وأبي علي بن أبي هريرة من فقهاء
الشافعية أنها على الحظر
158

وعند أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء أنها
على الوقف
وهذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم
الحكم
وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا
وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر
لنا
أن قبل الشرع ما ورد خطاب الشرع فوجب أن لا يثبت شئ من
159

الأحكام لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع
أما القائلون بالإباحة فقد تمسكوا بأمور ثلاثة
الأول ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وهو أن تناول الفاكهة
مثلا منفعة خالية عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك فوجب القطع
بحسنه أما أنه منفعة فلا شك فيه وأما أنه خال عن امارات المفسدة فلأن
الكلام فيما إذا كان كذلك
وأما أنه لا ضرر فيه على المالك فظاهر وأما أنه متى كان كذلك حسن
الانتفاع به فلأنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا والنظر في مرآته والتقاط
ما تناثر من حب غلته من غير إذنه إذا خلا عن أمارات المفسدة وإنما
حسن ذلك لكونه منفعة خالية عن أمارات المفسدة غير مضرة بالمالك لأن العلم
بالحسن دائر مع العلم بهذه الأوصاف وجودا وعدما وذلك دليل العلية
وهذه المعاني قائمة في مسألتنا فوجد الجزم بالحسن
فإن قلت هب أنكم لم تعلموا فيه مفسدة ولكن احتمال مفسدة لا تعلمونها
160

قائم فلم لا يكون ذلك كافيا في القبح
قلت هذا مدفوع من وجهين
الأول أن العبرة في قبح التصرف بالمفسدة المستندة إلى الأمارة فأما
المفسدة الخالية عن الأمارة فلا عبرة بها ألا تراهم يلومون من قام من تحت
حائط لا ميل فيه لجواز سقوطه ولا يلومونه إذا كان الجدار مائلا ويلومون منه من
امتنع عن أكل طعام شهي لتجويز كونه مسموما من غير أمارة ولا يلومونه
على الامتناع عند قيام أمارة فعلمنا أن مجرد الاحتمال لا يمنع
الثاني لو قبح الإقدام لتجويز كونه مفسدة لقبح الاحجام عنه لتجويز
كونه مصلحة وفيه وجوب الانفكاك عن كل واحد منهما وهو تكليف ما
لا يطاق
161

الوجه الثاني في أصل المسألة أن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام
مع إمكان أن لا يخلقها فيها وذلك يقتضي أن يكون له تعالى فيها غرض
يخصها وإلا كان عبثا ويستحيل أن يعود الغرض إلى الله تعالى لامتناع ذلك
عليه فلا بد وأن يكون الغرض عائدا إلى غيره
فأما أن يكون الغرض هو الإضرار أو الإنفاع أو لا هذا ولا ذلك
والأول باطل أما أولا فباتفاق العقلاء وأما ثانيا فلأنه لا يحصل
الضرر إلا بإدراكها فإذا كان الضرر مقصودا والإدراك من لوازم الضرر
كان مأذونا فيه لأن لازم المطلوب مطلوب
ولا يجوز أن يكون الغرض أمرا وراء الإضرار والإنفاع لأنه باطل بالاتفاق
فثبت أن الغرض هو الإنفاع وذلك الإنفاع لا يعقل إلا على أحد
ثلاثة أوجه
إما بأن يدركها وإما بأن يجتنبها لكون تناولها مفسدة يستحق
الثواب باجتنابها وإما بأن يستدل بها
وفي كل ذلك إباحة إدراكها لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا
162

دعت النفس إلى إدراكها وفيه تقدم إدراكها وإنما يستدل بها إذا عرفت والمعرفة
بها موقوفة على إدراكها لأن الله تعالى لم يخلق فينا المعرفة بها من
دون الإدراك
فصح أنه لا فائدة بها إلا إباحة الانتفاع بها
الوجه الثالث أنه يحسن من العقلاء التنفس في الهواء وأن يدخلوا منه أكثر
مما تحتاج إليه الحياة ومن رام أن لا يزيد على قدر ما يحتاج إليه عده العقلاء من
المجانين والعلة في حسنه أنه انتفاع لا نعلم فيه مفسدة وهي قائمة في
مسألتنا وهذه الدلالة هي عين الدلالة الأولى واستنشاق الهواء مثال
ذلك
أما القائلون بالحظر فقد احتجوا بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه
فوجب أن لا يجوز قياسا على الشاهد
واحتج الفريقان على فساد قولنا إنه لا حكم بوجهين
الأول إن قولكم لا حكم هذا حكم بعدم الحكم والجمع بين إثبات
الحكم وعدمه تناقض
163

والثاني أن هذه التصرفات إما أن تكون ممنوعا عنها فتكون على
الحظر أو لا تكون فتكون على الإباحة ولا واسطة بين النفي والإثبات
والجواب عن الأول أن الحكم العقلي في الأصل ممنوع
سلمناه لكن لا نسلم كونه معللا بالوصف المذكور والاعتماد في
اثبات العلية على الدوران العقلي قد أبطلناه
وعن الثاني بالقدح فيما ذكروه من التقسيم ثم بالنقض بالمطعومات المؤذية
المهلكة
وعن حجة أصحاب الحظر بأن الإذن معلوم بدليل العقل كالاستظلال
بحائط الغير فلم قلتم إن هذا القياس لا يدل عليه
164

وعن التناقض بأن نقول أي تناقض في الإخبار عن عدم الإباحة
والحظر
وعن الأخير أن مرادنا بالوقف أنا لا نعلم أن الحكم هو الحظر أو
الإباحة وإن فسرناه بالعلم بعدم الحكم قلنا هذا القدر ليس
إباحة بدليل أنه حاصل في فعل البهيمة مع أنه لا يسمى مباحا بل المباح هو
الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك
وإذا بينا أنه لم يوجد هذا الإعلام لا عقلا ولا شرعا لم يكن مباحا
والله أعلم
165

الفصل العاشر
في ضبط أبواب أصول الفقه
قد عرفت أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه وكيفية الاستدلال
بها وكيفية حال المستدل بها
أما الطرق فإما أن تكون عقلية أو سمعية
أما العقلية فلا مجال لها عندنا في الأحكام لما بينا أنها لا تثبت إلا
بالشرع
وأما عند المعتزلة فلها مجال لأن حكم العقل في المنافع الإباحة وفي المضار
الحظر
وأما السمعية فإما أن تكون منصوصة أو مستنبطة
أما المنصوص فهو إما قول أو فعل يصدر عمن لا يجوز الخطأ عليه
والذي لا يجوز الخطأ عليه هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومجموع الأمة
والصادر عن الرسول وعن الأمة إما قول أو فعل والفعل لا يدل إلا مع
القول فتكون الدلالة القولية مقدمة على الدلالة الفعلية
والدلالة القولية إما أن يكون النظر في ذاتها وهي الأوامر والنواهي وإما في
167

عوارضها إما بحسب متعلقاتها وهي العموم والخصوص أو بحسب كيفية
دلالتها وهي المجمل والمبين والنظر في الذات مقدم على النظر في العوارض
فلا جرم باب الأمر والنهي مقدم على باب العموم والخصوص
ثم النظر في العموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي والنظر في المجمل
والمبين نظر في كيفية تعلق الأمر والنهي بتلك المتعلقات ومتعلق الشئ متقدم على
النسبة العارضة بين الشئ وبين متعلقه
فلا جرم قدمنا باب العموم والخصوص على باب المجمل والمبين
وبعد الفراغ منه لا بد من باب الأفعال
ثم هذه الدلائل قد ترد تارة لإثبات الحكم وأخرى لرفعه فلا بد من
باب النسخ
وإنما قدمناه على باب الإجماع والقياس لأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به
وكذا القياس
ثم ذكرنا بعده باب الإجماع
ثم هذه الأقوال والأفعال قد يحتاج إلى التمسك بها من لم يشاهد الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم ولا أهل الإجماع فلا تصل إليه هذه الأدلة إلا بالنقل فلا بد من
البحث عن النقل الذي يفيد العلم والنقل الذي يفيد الظن وهو باب الأخبار
فهذه جملة أبواب أصول الفقه بحسب الدلائل المنصوصة
ولما كان التمسك بالمنصوصات إنما يمكن بواسطة اللغات فلا بد من تقديم
باب اللغات على الكل
168

وأما الدليل المستنبط فهو القياس
فهذه أبواب طرق الفقه
وأما باب كيفية الاستدلال بها فهو باب التراجيح
وأما باب كيفية حال المستدل بها فالذي ينزل حكم الله تعالى
به إن كان عالما فلا بد له من الاجتهاد وهو باب شرائط
الاجتهاد وأحكام المجتهدين وإن كان عاميا فلا بد له من الاستفتاء وهو باب
المفتي والمستفتي
ثم نختم الأبواب بذكر أمور اختلف المجتهدون في كونها طرقا إلى الأحكام
الشرعية
فهذه أبواب أصول الفقه
أولها اللغات وثانيها الأمر والنهي وثالثها العموم والخصوص ورابعها
المجمل والمبين وخامسها الأفعال وسادسها الناسخ والمنسوخ
وسابعها الإجماع وثامنها الأخبار وتاسعها القياس وعاشرها
التراجيح وحادي عشرها الاجتهاد وثاني عشرها الاستفتاء وثالث عشرها
الأمور التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي طرق للأحكام الشرعية أم
لا
169

حكم تعلم أصول الفقه
ولنختم هذا الفصل بذكر بحثين
الأول أن تحصيل هذا العلم فرض والدليل عليه أن معرفة
حكم الله تعالى في الوقائع النازلة بالمكلفين واجبة ولا طريق إلى
تحصيلها إلا بهذا العلم وما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا
للمكلف فهو واجب
وإنما قلنا إن معرفة حكم الله تعالى واجبة للإجماع على أن
المكلف غير مخير بين النفي والإثبات في الوقائع النازلة بل لله تعالى في كل
واقعة أو في أكثر الوقائع أحكام معينة على المكلف
وإنما قلنا إنه لا طريق إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بهذا العلم لأن
المكلف إما أن يكون عاميا أو لا يكون
فإن كان عاميا ففرضه السؤال لقوله فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون لكن لا بد من انتهاء السائلين إلى عالم وإلا لزم الدور أو
التسلسل
وعلى جميع التقادير فحكم الله تعالى لا يصير معلوما
170

وإن كان عالما فالعالم لا يمكنه أن يعرف حكم الله تعالى إلا
بطريق لانعقاد الإجماع على أن الحكم بمجرد التشهي غير جائز ولا معنى
لأصول الفقه إلا تلك الطرق
فثبت أنه لا سبيل إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بأصول الفقه
وأما بيان أن ما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف
كان واجبا فسيأتي تقريره في باب الأمر إن شاء الله تعالى
البحث الثاني
أنه من فروض الكفايات لأنا سنقيم الدلالة إن شاء الله تعالى في باب
المفتي والمستفتي على أنه لا يجب على الناس بأسرهم طلب الأحكام بالدلائل
المفصلة بل يجوز الاستفتاء وذلك يدل على أن تحصيل هذا العلم ليس من فروض
الأعيان بل من فروض الكفايات والله تعالى أعلم بالصواب
171

الكلام في اللغات
وفيه تسعة أبواب
173

الباب الأول
في الأحكام الكلية للغات
اعلم أن البحث إما أن يقع عن ماهية الكلام أو عن كيفية دلالته ولما
كانت دلالته وضعية فالبحث إما أن يقع عن الواضع أو عن الموضوع
أو عن الموضوع له أو عن الطريق الذي به يعرف الوضع
175

النظر الأول
في البحث عن ماهية الكلام
اعلم أن لفظة الكلام عند المحققين منا تقال بالاشتراك على
المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المتقطعة المسموعة
والمعنى الأول مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه
إنما الذي نتكلم فيه القسم الثاني
فقال أبو الحسين الكلام هو المنتظم من ا لحروف المسموعة
المتميزة المتواضع عليها وربما زيد فيه فقيل إذا صدر عن قادر واحد
أما قولنا المنتظم فاعلم أنه حقيقة في الأجسام لأن النظام هو
177

التأليف وذلك لا يتحقق إلا في الأجسام ولكن الأصوات المتوالية على
السمع شبهت بها فأطلق لفظ المولف والمنتظم عليه مجازا
وقولنا من الحروف احترزنا به عن الحرف الواحد فإن أهل اللغة قالوا
أقل الكلام حرفان إما ظاهرا وإما في الأصل كقولنا ق ش
ع فإنه كان في الأصل قي وشي وعي
ولهذا يرجع في التثنية إليه فيقال قيا عيا إلا أنه أسقط الياء
للتخفيف
وقولنا المسموعة احتراز عن حروف الكتابة
وقولنا المتميزة احتراز عن أصوات كثير من الطيور
وقولنا المتواضع عليها احتراز عن المهملات
وقولنا إذا صدر عن قادر واحد احتراز عما إذا صدر كل واحد
من حروف الكلمة عن قادر آخر نحو أن يتكلم أحدهم بالنون من
نصر والثاني بالصاد والثالث بالراء فإن ذلك لا يسمى كلاما
واعلم أن هذا الحد يقتضي أمرين
178

أحدهما كون الكلمة المفردة كلاما وهو قول الأصوليين
والنحاة أجمعوا على فساد ذلك وقالوا إن لفظ الكلام مخصوص بالجملة
المفيدة ونقلوا أيضا فيه نصا عن سيبويه وقول أهل اللغة في المباحث
اللغوية راجح على قول غيرهم
الثاني أن قوله أقل الكلام حرفان إما ظاهرا أو في الأصل يشكل بلام
التمليك وباء الالصاق وفاء التعقيب فإنها أنواع الحرف الذي هو
قسيم الاسم وكل حرف كلمة وكل كلمة كلام مع أنها غير مركبة
فإن قلت الحركة في الحقيقة حرف فإذا ضمت الحركة إلى الحرف كان
المجموع مركبا
قلت هذا على بعده لو قبلناه بقي الإشكال بالياء من
غلامي ونون التنوين ولام التعريف فإنها حروف مفردة خالية عن
الحركات وهي مفيدة
فالأولى أن نساعد أهل النحو ونقول كل منطوق به دل بالاصطلاح
على معنى فهو كلمة
179

فهذا يتناول الحرف الخالي عن الحركة والحرف المتحرك والمركب
من الحروف
وأما الكلام فهو الجملة المفيدة وهي إما الجملة الاسمية
كقولنا زيد قائم أو الفعلية كقولنا قام زيد وإما مركب من
جملتين وهي الشرطية كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود
قال ابن جني الكلام يخرج عن كونه كلاما تارة بالنقصان وتارة
بالزيادة
أما بالنقصان فإذا قلت قام زيد ثم أسقطت اسم زيد واقتصرت
على مجرد قولك قام لم يبق كلاما
وأما بالزيادة فإنك إذا أدخلت على تلك الجملة صيغة الشرط حتى
صارت هكذا إن قام زيد فإنه لأجل هذه الزيادة خرج عن كونه كلاما
لأنه لا يكون مفيدا ما لم يضم إليه غيره
180

النظر الثاني
في البحث عن الواضع
كون اللفظ مفيدا للمعنى إما أن يكون لذاته أو بالوضع سواء كان
الوضع من الله تعالى أو من الناس أو بعضه من
الله تعالى وبعضه من الناس فهذه احتمالات أربعة
الأول مذهب عباد بن سليمان الصيمري
والثاني وهو القول بالتوقيف مذهب الأشعري وابن فورك
181

والثالث وهو القول بالاصطلاح مذهب أبي هاشم وأتباعه
والرابع هو القول بأن بعضه توقيفي وبعضه اصطلاحي وفيه قولان
منهم من قال ابتداء اللغات يقع بالاصطلاح والباقي لا يمتنع أن يحصل
بالتوقيف
ومنهم من عكس الأمر وقال القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاحي
توقيفي والباقي اصطلاحي وهو قول الأستاذ أبي إسحاق
وأما جمهور المحققين فقد اعترفوا بجواز هذه الأقسام وتوقفوا عن الجزم
182

والذي يدل على فساد قول عباد بن سليمان أن دلالة الألفاظ لو كانت ذاتية
لما اختلفت باختلاف النواحي والأمم ولاهتدى: كل انسان إلى كل
لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم
واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه
ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز
على الآخر من غير مرجح وهو محال
وإن حصلت بينهما مناسبة فذلك هو المطلوب
والجواب
إن كان الواضع هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى
المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون ما قبله أو ما بعده
وإن كان الناس فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك
الوقت بالبال دون غيره كما قلنا في تخصيص كل شخص بعلم خاص من غير
أن يكون بينهما مناسبة
وأما الذي يدل على إمكان الأقسام الثلاثة فهو أن الله
تعالى قادر على أن يخلق فيهم علما ضروريا بالألفاظ والمعاني وبأن واضعا
وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني
وعلى هذا التقدير تكون اللغات توقيفية
183

وأيضا فيصح من الواحد منهم أن يضع لفظا لمعنى ثم إنه يعرف الغير
ذلك الوضع بالايماء والإشارة ويساعده الآخر عليه ولهذا قيل لو
جمع جمع من الأطفال في دار بحيث لا يسمعون شيئا من اللغات فإذا بلغوا
الكبر لا بد وأن يحدثوا فيما بينهم لغة يخاطب بها بعضهم بعضا وبهذا
الطريق يتعلم الطفل اللغة من أبويه ويعرف الأخرس غيره ما في ضميره
فثبت إمكان كونها اصطلاحية
وإذا ثبت جواز القسمين ثبت جواز القسم الثالث وهو أن يكون
البعض توقيفيا والبعض اصطلاحيا
ولما كنا لا نجزم بأحد هذه الثلاثة فذلك يكفي فيه الطعن في طرق
القاطعين
احتج القائلون بالتوقيف بالمنقول والمعقول
أما المنقول فمن ثلاثة أوجه
184

أحدهما قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دل
هذا على أن الأسماء توقيفية وإذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضا
في الأفعال والحروف من ثلاثة أوجه
الأول أنه لا قائل بالفرق
والثاني أن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم
الأسماء من تعليم الأفعال والحروف
والثالث أن الاسم إنما سمي اسما لكونه علامة على مسماه
والأفعال والحروف كذلك فهي أسماء أيضا
وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهذا عرف أهل اللغة والنحو
وثانيها أن الله تعالى ذم أقواما على تسميتهم بعض الأشياء من غير
توقيف بقوله تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله
185

بها من سلطان فلو لم يكن ما جعل دالا على غيرها من الأسماء
توقيفا لما صح هذا الذم
وثالثها قوله تعالى ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم
وألوانكم ولا يجوز أن يكون المراد منه اختلاف تأليفات الألسنة وتركيباتها
لأن ذلك في غير الألسن أبلغ وأجمل فلا يكون تخصيص الألسن بالذكر
مرادا فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات
وأما المعقول فمن وجهين
أحدهما أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في
ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة
وكيفما كان فإن ذلك الطريق لا يفيد لذاته فهو إما بالاصطلاح فيكون
الكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل أو بالتوقيف وهو المطلوب
186

وثانيها أنها لو كانت بالمواضعة لارتفع الأمان عن الشرع لأنها
لعلها على خلاف ما اعتقدناها أحمد لأن اللغات قد تبدلت
فان قلت لو وقع ذلك لأشتهر
قلت هذا مبني على أن الواقعة العظيمة يجب اشتهارها وذلك ينتقض بسائر
معجزات الرسول وبأمر الإقامة أنها فرادى أو مثناة
أما القائلون بالاصطلاح فقد تمسكوا بالنص والمعقول
أما النص فقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسول فلو كانت اللغة
توقيفية والتوقيف لا يحصل إلا بالبعثة لزم الدور وهو محال
187

وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال
إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأنه تعالى وضعها لتلك المعاني أو لا
يكون كذلك
والأول لا يخلو إما ان يقال إنه تعالى يخلق ذلك العلم في
العاقل أو في غير عاقل
وباطل أن يخلقه تعالى في عاقل لأن العلم بأنه تعالى وضع
تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به تعالى فلو كان ذلك العلم
ضروريا لكان العلم به تعالى ضروريا لأن العلم بصفة الشئ متى
كان ضروريا كان العلم بذاته أولى أن يكون ضروريا ولو كان العلم به تعالى
ضروريا لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل
فإنه يجب أن يكون مكلفا
وباطل أن يخلقه في العاقل لأنه من البعيد أن يصير الانسان غير العاقل
عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات النادرة اللطيفة
وأما الثاني وهو أن لا يخلق الله تعالى العلم الضروري بوضع تلك
الألفاظ لتلك المعاني فحينئذ لا يعلم سامعها كونها موضوعة لتلك المعاني
إلى بطريق آخر و
الكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى
الاصطلاح
188

هذا ملخص ما عول عليه ابن متويه في التذكرة
واحتج الأستاذ أبو إسحاق على قوله بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف
كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم
التسلسل
فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف
ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك
معلوم بالضرورة ألا ترى أن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا
يستعملونها قبل ذلك
فهذا مجموع أدلة الجازمين
والجواب عن التمسك بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها أن
نقول لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه
الألفاظ وأعطاه من العلوم ما لأجلها قدر على هذا الوضع
189

وليس لأحد أن يقول التعليم ايجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب
عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم ولو كان التعليم ايجاد
العلم لما صح ذلك
سلمنا أن التعليم ايجاد العلم ولكن العلم الذي يكتسبه العبد مخلوق لله
تعالى فالعلم الذي يحصل بعد الاصطلاح بكون من خلق الله تعالى
فقوله تعالى وعلم ولا ينافي كونه بالاصطلاح
سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون المراد من الأسماء العلامات والصفات
مثل أن يقال إنه تعالى علم آدم عليه السلام أن الخيل تصلح للكر والفر
والجمال للحمل والثيران للزرع وذلك لأن الاسم مشتق من السمة أو
من السمو وعلى التقديرين فكل ما يعرف عن ماهية
شئ ويكشف عن حقيقته كان اسما له
وأما تخصيص لفظ الاسم بهذه الألفاظ فهذا عرف حادث
سلمنا أن المراد من الأسماء الألفاظ فلم لا يجوز ان يقال إنها كانت
موضوعة بالاصطلاح من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم عليه
السلام فعلمه الله ما تواضع عليه غيره
190

وعن الثاني
أنهم إنما استحقوا الذم لاطلاقهم لفظ الإله على الصنم مع اعتقاد تحقق
مسمى الإلهية فيها
وعن الثالث
أن اللسان اسم للجارحة المخصوصة وهي غير مرادة
بالاجماع فلا بد من المجاز فليسوا بصرفه إلى اللغات أولى منا بصرفه إلى
القدرة على اللغات أو إلى مخارج اللغات
وعن الرابع
أنه باطل بتعلم الولد اللغة من والديه فإن ذلك ليس مسبوقا بالتوقيف
سلمنا أنه بعد لا بد قبل الاصطلاح من لغة أخرى ليصطلحوا بها على تلك
اللغة الثانية فلم لا يجوز أن تكون هذه اللغات التي نتكلم بها الآن
توقيفية لاحتمال أن يقال كان قبل هذه اللغات لغة أخرى وأنها كانت
توقيفية ثم إن الناس بتلك اللغة اصطلحوا على وضع هذه اللغات
فإن قلت إذا كان لا بد من الاعتراف بلغة توقيفية فلنعترف يقول بكون هذه
اللغات توقيفية ولنسقط الذي من البين تلك الواسطة المجهولة
191

قلت كلامنا في الجزم وما ذكرته ليس من الجزم في شئ
وعن الخامس
أنه لو وقع التغيير في هذه اللغة لأشتهر
ونقضه بمعجزات الرسول وأن الإقامة فرادى أو مثناة فسيجئ الجواب
عنه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى
أما الذي احتج به القائلون بالاصطلاح فالجواب عما تمسكوا به أولا
أن الحجة إنما تتم لو لم يحصل التوقيف إلا ببعثة الرسل وذلك ممنوع
وعن الثاني
أنه تعالى خلق فيهم علما ضروريا بأن واضعا وضع هذه الألفاظ بإزاء تلك
المعاني وإن كان لا يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى
سلمنا أنه تعالى يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى فلم قلت
إنه باطل
قوله لأنه ينافي التكليف
قلنا إنه ينافي التكليف بمعرفة الله تعالى ولا ينافي التكليف بسائر الأشياء
سلمنا أنه لا يخلقه في العاقل فلم لا يخلقه في غير العاقل ولم
لا يجوز في المجنون أن يعلم بالعلم الضروري بعض الأحكام الدقيقة
فهذا هو الجواب عن وجوه القاطعين ومتى ظهر ضعفها وجب التوقف
والله أعلم
192

النظر الثالث
في البحث عن الموضوع
اعلم أن الانسان الواحد لما خلق بحيث لا يمكنه أن
يستقل وحده باصلاح جميع ما يحتاج إليه فلا بد من جمع عظيم ليعين
بعضهم بعضا حتى يتم لكل واحد منهم ما يحتاج إليه ف احتاج كل واحد
منهم إلى أن يعرف صاحبه ما في نفسه من الحاجات
وذلك التعريف لا بد فيه من طريق وكان يمكنهم أن يضعوا غير الكلام معرفا
لما في الضمير كالحركات المخصوصة بالأعضاء المخصوصة معرفات لأصناف
الماهيات إلا أنهم وجدوا جعل الأصوات المتقطعة طريقا إلى ذلك أولى من
غيرها لوجوه
أحدها أن ادخال الصوت في الوجود أسهل من غيره لأن الصوت إنما
يتولد في كيفية مخصوصة في اخراج النفس وذلك أمر ضروري فصرف ذلك
الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به انتفاعا كليا أولى من تكلف طريق
آخر قد يشق على الانسان الإتيان به
193

وثانيها أن الصوت كما يدخل في الوجود ينقضي فيكون
موجودا حال الحاجة ومعدوما حال الاستغناء عنه وأما سائر
الأمور فإنها قد تبقى وربما يقف عليها من لا يراد وقوفه عليها
أما الإشارة فإنها قاصرة عن إفادة الغرض فإن الشئ ربما كان بحيث لا
يمكن الإشارة إليه حسا كذات الله تعالى وصفاته
وأما المعدومات فتعذر الإشارة إليها ظاهر
وأما الأشياء ذوات الجهات فكذلك أيضا لأن الإشارة إذا
194

توجهت إلى محل فيه لون وطعم وحركة لم يكن انصرافها إلى بعضها أولى من
البعض
وثالثها أن المعاني التي يحتاج إلى التعبير عنها كثيرة جدا فلو وضعنا
لكل واحد منها خاصة لكثرت العلامات بحيث يعسر ضبطها
أو وقوع الاشتراك في أكثر المدلولات وذلك مما يخل بالتفهيم
فلهذه الأسباب وغيرها اتفقوا على اتخاذ الأصوات المتقطعة
معرفات للمعاني لا غير
195

النظر الرابع
في البحث عن الموضوع له
وفيه أبحاث أربعة
الأول الأقرب أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه بل
ولا يجوز لأن المعاني التي يمكن أن يعقل كل واحد منها غير متناهية فلو
وجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه لكان ذلك إما على الانفراد أو
على الاشتراك
والأول باطل لأنه يفضي إلى وجود ألفاظ غير متناهية
والثاني باطل أيضا لأن تلك الألفاظ المشتركة إما أن يوجد فيها ما
وضع لمعان غير متناهية أو لا يكون كذلك
والأول باطل لأن الوضع لا يكون إلا بعد التعقل وتعقل أمور غير متناهية
على التفصيل محال في حقنا وإذا كان كذلك امتنع منا وقوع التخاطب بمثل
ذلك اللفظ
197

والثاني يقتضي أن تكون مدلولات الألفاظ متناهية لأن الألفاظ إذا كانت
متناهية ومدلول كل واحد منها متناه فضم المتناهي إلى المتناهي
مرات متناهية لا يفيد إلا التناهي فكان الكل متناهيا فمجموع ما
لا نهاية له غير مدلول عليه بالألفاظ
إذا ثبت هذا الأصل فنقول
المعاني على قسمين منها ما تكثر الحاجة إلى التعبير عنه ومنها ما لا يكون
كذلك
فالأول لا يجوز خلو اللغة عن وضع اللفظ بازائه لأن الحاجة لما
كانت شديدة كانت الدواعي إلى التعبير عنها متوفرة والصوارف عنها زائلة
ومع توفر الدواعي إلى التعبير عنها وارتفاع الصوارف يجب الفعل
وأما الأمور التي لا تشتد الحاجة إلى التعبير عنها فإنه يجوز خلو اللغة عن
الألفاظ الدالة عليها
البحث الثاني
في أنها ليس الغرض من وضع اللغات أن تفاد بالألفاظ المفردة معانيها
والدليل عليه أن إفادة الألفاظ المفردة لمسمياتها موقوفة على العلم
بكونها موضوعة لتلك المسميات المتوقف على العلم بتلك المسميات فلو
198

استفيد العلم بتلك المسميات من تلك الألفاظ المفردة لزم الدور
بل الغرض من وضع الألفاظ المفردة لمسمياتها تمكين الانسان من
تفهم ما يتركب من تلك المسميات بواسطة تركيب تلك الألفاظ المفردة
فان قلت ما ذكرته في المفردات قائم بعينه في المركبات لأن المركب
لا يفيد مدلوله إلا عند العلم بكون ذلك اللفظ المركب موضوعا لذلك المدلول
وذلك يستدعي سبق العلم بذلك المدلول فلو استفيد العلم بذلك المدلول
من ذلك اللفظ المركب لزم الدور
قلت لا نسلم أن الألفاظ المركبة لا تفيد مدلولها إلا عند العلم بكون تلك
الألفاظ المركبة موضوعة لذلك المدلول
بيانه أنا متى علمنا كون كل واحد من تلك الألفاظ المفردة موضوعا
199

لتلك المعاني المفردة وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ دالة على
النسب المخصوصة لتلك المعاني فإذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة
على السمع ارتسمت تلك المعاني المفردة مع نسبة بعضها إلى بعض في
الذهن ومتى حصلت المفردات مع نسبها المخصوصة في الذهن حصل العلم
بالمعاني المركبة لا محالة
فظهر أن استفادة العلم بالمعاني المركبة لا تتوقف على العلم بكون تلك الألفاظ
المركبة موضوعة لها والله أعلم
البحث الثالث
في أن الألفاظ ما وضعت للدلالة على الموجودات الخارجية بل وضعت للدلالة
على المعاني الذهنية
والدليل عليه أما في الألفاظ المفردة فلأنا إذا رأينا جسما من بعيد وظنناه
صخرة سميناه بهذا الاسم فإذا دنونا منه وعرفنا أنه حيوان لكنا ظنناه طيرا
200

سميناه به فإذا ازداد القرب وعرفنا أنه انسان سميناه به فاختلاف الأسامي
عند اختلاف الصور الذهنية يدل على أن اللفظ لا دلالة له إلا عليها
وأما في المركبات فلأنك إذا قلت قام زيد فهذا الكلام لا يفيد قيام
زيد وإنما يفيد أنك حكمت بقيام زيد وأخبرت عنه ثم إن عرفنا
أن ذلك الحكم مبرء لأن عن الخطأ فحينئذ نستدل به على الوجود
الخارجي فأما أن يكون اللفظ دالا على ما في الخارج فلا والله
أعلم
البحث الرابع
في أن اللفظ المشهور المتداول بين الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون
موضوعا لمعنى خفي لا يعرفه إلا الخواص مثاله ما يقوله مثبتو
الأحوال من المتكلمين أن الحركة معنى يوجب للذات كونه متحركا
201

فنقول المعلوم عند الجمهور ليس إلا نفس كونه متحركا فأما أن
متحركيته وقد حالة معللة بمعنى وأنها غير واقعة بالقادر فذلك لو صح القول
به لما عرفه إلا الأذكياء من الناس بالدلائل الدقيقة ولفظة الحركة لفظة
متداولة فيما بين الجمهور من أهل اللغة
وإذا كان كذلك امتنع أن يكون موضوعا لذلك المعنى بل لا مسمى
للحركة في وضع اللغة إلا نفس كون الجسم منتقلا لا غير والله
أعلم
202

النظر الخامس
فيما به يعرف كون اللفظ موضوعا لمعناه
لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلى القرآن والأخبار وهما واردان بلغة العرب
ونحوهم وتصريفهم كان العلم بشرعنا موقوفا على العلم بهذه الأمور وما لا
يتم الواجب المطلق به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب
ثم الطريق إلى معرفة لغة العرب ونحوهم وتصريفهم إما العقل
وإما النقل أو ما يتركب منهما
أما العقل فلا مجال له في هذه الأشياء لما بينا أنها أمور وضعية
والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها
وأما النقل فهو إما تواتر أو آحاد والأول يفيد العلم والثاني
يفيد الظن
203

واما ما يتركب من العقل والنقل فهو كما عرفنا بالنقل أنهم جوزوا
الاستثناء عن صيغ الجمع وعرفنا بالنقل أيضا أنهم وضعوا
الاستثناء لإخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ فحينئذ نعلم بالعقل بواسطة
هاتين المقدمتين النقليتين أن صيغة الجمع تفيد الاستغراق
واعلم أن على كل واحد من هذه الطرق الثلاثة اشكالات
أما التواتر فإن الاشكال عليه من وجوه
أحدها أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا
على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع فيه بما هو الحق
كلفظة الله تعالى فإن بعضهم زعم أنها ليست عربية بل
سريانية والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة أو
204

الموضوعة والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا وكذا القائلون بكونه
موضوعا اختلفوا أيضا اختلافا كبيرا ومن تأمل أدلتهم في تعيين
مدلول هذه اللفظة علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب
فضلا عن اليقين
وكذلك اختلفوا في الايمان والكفر والصلاة والزكاة حتى إن كثيرا
من المحققين في علم الاشتقاق زعموا أن اشتقاق الصلاة من
الصلوين وهما عظما الورك ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب
وكذلك اختلفوا في صيغ الأوامر والنواهي وصيغ العموم مع شدة
اشتهارها وشدة الحاجة إليها اختلافا شديدا
وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إلى استعمالها
ماسة جدا كذلك فما ظنك بسائر الألفاظ
وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر
ة
205

فان قلت هب أنه لا يمكن دعوى التواتر في معاني هذه الألفاظ على سبيل
التفصيل ولكنا نعلم معانيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله
على افله علي سبحانه وتعالى وان كنا لا نعلم أن مسمى هذا اللفظ
أهو الذات أم المعبودية أم القادرية وكذا القول في سائر الألفاظ
قلت حاصل ما ذكرته أنا نعلم إطلاق لفظ الله على الإله سبحانه
وتعالى من غير أن نعلم أن مسمى هذا الاسم ذاته أو كونه معبودا أو كونه
قادرا على الاختراع أو كونه ملجأ الخلق أو كونه بحيث تتحير العقول في
ادراكه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وذلك يفيد نفي القطع
بمسماه وإذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع غاية شهرتها ونهاية
الحاجة إلى معرفتها كان الاحتمال فيما عداها أظهر
وثانيها أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة فهب أنا علمنا
حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا
هذا فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمان
فان قلت الطريق إليه أمران
206

أحدهما أن الذين شاهدناهم أخبرونا أن الذين أخبروهم بهذه اللغات
كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة في التواتر وأن الذين أخبروا من أخبرهم
كانوا كذلك إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم
وثانيهما أن هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعة لهذه المعاني ثم وضعها واضع
لهذه المعاني لأشتهر ذلك ولعرف فإن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله
قلت أما الأول فغير صحيح لأن كل واحد منا حين سمع لغة
مخصوصة من انسان فإنه لم يسمع منه أنه سمع من أهل التواتر وأن الذين
اسمعوا كل واحد من مسمعيه حتى سمعوها أيضا من أهل التواتر
إلى أن يتصل ذلك بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم بل تحرير هذه
الدعوى على هذا الوجه مما لا يفهمه كثير من الأدباء فكيف يدعى أنهم
علموه بالضرورة
بل الغاية القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب مصحح أو
207

إلى أستاذ متقن ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين
وأما الثاني فضعيف أيضا أما أولا فلأن ذلك الاشتهار إنما
يجب في الأمور العظيمة ووضع اللفظة المعينة بإزاء المعنى المعين ليس من
الأمور العظيمة التي يجب اشهارها
وأما ثانيا فلأن ذلك ينتقض ب ما أنا نرى أكثر العرب في
زماننا هذا يتكلمون بألفاظ مختلة واعرابات فاسدة مع أنا لا نعلم واضع
تلك الألفاظ المختلة ولا زمان وضعها وينتقض أيضا بالألفاظ العرفية فإنها
نقلت عن موضوعاتها الأصلية مع أنا لا نعلم المغير ولا زمان
التغيير فكذا ها هنا
سلمنا أنه يجب أن يشتهر ذلك لكن لا نسلم أنه لم يشتهر فإنه قد اشتهر
بل بلغ مبلغ التواتر أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوصين
كالخليل وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأبي عمرو
208

الشيباني وأضرابهم ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين ولا كانوا
بالغين حد التواتر وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم
أقصى ما في الباب أن يقال نعلم قطعا استحالة كون هذه
اللغات بأسرها منقولة على سبيل الكذب إلا أنا نسلم ذلك ونقطع
بأن فيها ما هو صدق قطعا لكن كل لفظة عيناها فإنه لا يمكننا القطع بأنها
من قبيل ما نقل صدقا أو كذبا وحينئذ لا يبقى القطع في لفظ معين أصلا
هذا هو الاشكال على من ادعى التواتر في نقل اللغات
أما الآحاد فالاشكال عليها من وجوه
أحدها أن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن ومعرفة القرآن والأخبار
209

مبنية على معرفة اللغة والنحو والتصريف والمبني على المظنون مظنون
فوجب أن لا يحصل القطع بشئ من مدلولات القرآن والاخبار وذلك خلاف
الاجماع
وثانيها أن رواية الآحاد لا تفيد الظن إلا إذا سلمت عن القدح وهؤلاء
الرواة مجرحون فإن
بيانه أن أجل الكتب المصنفة في النحو واللغة كتاب سيبويه
وكتاب العين
أما كتاب سيبويه فقدح الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهر من الشمس
وأيضا فالمبرد عمر كان من أجل البصريين وهو قد أورد كتابا في القدح فيه
وأما كتاب العين فقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح
فيه
210

وأيضا فإن ابن جني أورد بابا في كتاب الخصائص في قدح أكابر
الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضا
وطول في ذلك وأفرد بابا آخر في أن لغة أهل الوبر أصح من
لغة أهل المدر وغرضه من ذلك القدح في الكوفيين وأفرد بابا آخر في
كلمات الغريب لا يعلم أحد اتى بها إلا ابن أحمر الباهلي
وروي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان النبي ألفاظا لم يسمعاها ولم يسبقا
211

إليها وعلى نحو هذا قال المازني ما قيس على كلام العرب فهو من
كلامهم
وأيضا فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة ومشهورا أنه كان يزيد في
اللغة ما لم يكن منها
والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلالة على أن خبر الواحد حجة
في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى لأن اثبات اللغة
كالأصل للتمسك بخبر الواحد وبتقدير أن يقيموا الدلالة على
ذلك فكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال رواة اللغاة وإن والنحو وأن
يتفحصوا عن أسباب جرحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رواة الأخبار
لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدة الحاجة إليه فإن اللغة والنحو يجريان
مجرى الأصل للاستدلال بالنصوص
212

وثالثهما أن رواية الراوي إنما تقبل إذا سلمت عن المعارض وهاهنا روايات
دالة على أن هذه اللغة تتطرق إليها الزيادة والنقصان
أما الزيادة فلما نقلنا عن رؤبة وأبيه من الزيادات وكذلك عن
الأصمعي والمازني
وأما النقصان فلما روى ابن جني باسناده عن ابن سيرين عن عمر
ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كان الشعر علم قوم لم يكن لهم
علم أصح منه فجاء الاسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم
وغفلت عن الشعر وروايته فلما كثر الاسلام وجاءت الفتوح
واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا فيه إلى ديوان مدون
ولا كتاب مكتوب وقد هلك من العرب من هلك فحفظوا أقل ذلك
وذهب عنهم أكثره
213

وروى ابن جني أيضا باسناده عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو
ابن العلاء أنه قال ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم
وافرا لجاءكم كما علم وشعر كثير
قال ابن جني فهذا ما نراه وقد روي في معناه كثير وذلك يدل على تنقل
الأحوال بهذه اللغة واعتراض الأحداث عليها وكثرة تغيرها
وأيضا فالصحابة مع شدة عنايتهم بأمر الدين واجتهادهم في
ضبط أحواله عجزوا عن ضبط الأمور التي شاهدوها في كل يوم خمس
مرات وهو كون الإقامة فرادى أو مثناة والجهر بالقراءة ورفع
اليدين فإذا كان الأمر في هذه الأشياء الظاهرة كذلك فما ظنك باللغات
وكيفية الاعرابات مع قلة وقعها في القلوب ومع ما أنه لم يشتغل بتحصيلها
وتدوينها محصل إلا بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين
214

وأما ما يتركب من العقل والنقل فالاعتراض عليه أن الاستدلال
بالمقدمتين النقليتين على النتيجة لا يصح إلا إذا ثبت أن المناقضة غير جائزة على
الواضع وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن الواضع هو الله تعالى وقد بينا أن
ذلك غير معلوم
فان قلت الناس قد أجمعوا على صحة هذا الطريق لأنهم لا يثبتون
شيئا من مباحث علم النحو والتصريف إلا بهذا الطريق والاجماع
حجة
قلت اثبات الاجماع من فروع هذه القاعدة لأن اثبات الاجماع سمعي فلا بد
فيه من اثبات الدلائل السمعية والدليل السمعي لا يصح إلا بعد
ثبوت اللغة والنحو والتصريف فالإجماع فرع هذا الأصل فلو أثبتنا هذا
الأصل بالاجماع لزم الدور وهو محال فهذا تمام الإشكال
والجواب
215

أن اللغة والنحو على قسمين
أحدهما المتداول المشهور والعلم الضروري حاصل بأنها في الأزمنة
الماضية كانت موضوعة لهذه المعاني فإننا نجد أنفسنا جازمة بأن لفظ
السماء والأرض كانتا مستعملتين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم في
هذين المسميين ونجد الشكوك التي ذكروها جارية مجرى شبه السوفسطائية
القادحة في المحسوسات التي لا تستحق الجواب
وثانيهما الألفاظ الغريبة والطريق إلى معرفتها الآحاد إذا عرفت
هذا فنقول أكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول فلا جرم
216

قامت الحجة به
وأما القسم الثاني فقليل جدا وما كان كذلك فإنا لا نتمسك به في
المسائل القطعية ونتمسك به في الظنيات ونثبت وجوب العمل بالظن
بالاجماع ونثبت الاجماع بآية واردة بلغات معلومة لا مظنونة وبهذا
الطريق يزول الإشكال والله أعلم
217

الباب الثاني
في تقسيم الألفاظ
وهو من وجهين
التقسيم الأول
اللفظ إما أن تعتبر دلالته بالنسبة إلى تمام مسماه
أو بالنسبة إلى ما يكون داخلا في المسمى من حيث هو كذلك أو
بالنسبة إلى ما يكون خارجا عن المسمى من حيث هو كذلك
فالأول هو المطابقة
والثاني التضمن
والثالث الالتزام
تنبيهات
الأول الدلالة الوضعية هي دلالة المطابقة وأما الباقيتان
فعقليتان لأن اللفظ إذا وضع للمسمى انتقل الذهن من المسمى إلى
لازمه
ولازمه إن كان داخلا في المسمى فهو التضمن وإن كان خارجا فهو
الالتزام
219

الثاني إنما قلنا في التضمن إنه دلالة اللفظ على جزء
المسمى من حيث هو كذلك احترازا عن دلالة اللفظ على جزء
المسمى بالمطابقة على سبيل الاشتراك وكذلك القول في الالتزام
الثالث دلالة الالتزام لا يعتبر فيها اللزوم الخارجي لأن الجوهر
والعرض متلازمان ولا يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر
والضدان متنافيان وقد يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر كقوله
تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها بل المعتبر اللزوم الذهني ظاهرا ثم هذا
اللزوم شرط لا موجب
220

ولنرجع إلى التقسيم فنقول
اللفظ الدال بالمطابقة إما أن لا يدل شئ من أجزائه على شئ حين
هو جزؤه وهو المفرد كالأبكم
وإما أن يدل كل واحد من أجزائه على شئ حين هو جزؤه وهو
المركب
وأما أن يدل أحد جزئيه دون الآخر وهو غير واقع لأنه يكون ضما
لمهمل هو إلى مستعمل وهو غير مفيد
أما المفرد فيمكن تقسيمه على ثلاثة أوجه
الأول أن المفرد إما أن يمنع نفس تصور معناه من الشركة وهو
الجزئي
أو لا يمنع وهو الكلي
ثم الماهية الكلية إما أن تكون تمام الماهية أو جزئها أن خارجا عنها
والأول هو المقول في جواب ما هو
والثاني هو الذاتي
والثالث هو العرضي
أما الماهية فإما أن تكون ماهية واحد أو ماهية أشياء
والأول هو الماهية بحسب الخصوصية
221

اما الثاني فتلك الأشياء لا بدو أن يخالف كل واحد منها صاحبه في
التعين
فإما أن يحصل مع ذلك مخالفة بعضها بعضا في شئ من الذاتيات أو لا
يحصل
فإن كان الأول فتمام القدر المشترك بينها من الأمور الداخلة فيها هو
تمام الماهية المشتركة لأن ما هو أعم منه لا يكون تمام المشترك وما هو أخص منه
لا يكون مشتركا وما يساويه فإن ساواه في الماهية فهو هو لا غيره
وإن ساواه في اللزوم دون المفهوم لم يكن هو تمام القدر المشترك
وإن كان الثاني كان تمام القدر المشترك بينهما هو تمام
ماهية كل منهما بعينه إذ لو كان لكل واحد منهما ذاتي آخر وراء
القدر المشترك كانت المخالفة بينهما لا بالتعين فقط بل وبالذاتيات وسلم وقد
فرض أنه لا مخالفة في الذاتيات هذا خلف
وأما الذاتي فهو إما أن يكون تمام الجزء المشترك وهو
الجنس
222

أو تمام الجزء الذي يميزه عما يشاركه في الجنس وهو الفصل
أو المجموع الحاصل منهما وهو النوع
وإما أن لا يكون كذلك فيكون ذلك جزء الجزء وهو إما جنس
الجنس أو جنس الفصل أو فصل الجنس أو فصل الفصل
ثم إن الأجناس تترتب متصاعدة وتنتهي في الارتقاء إلى جنس لا جنس
فوقه وهو جنس الأجناس
والأنواع تترتب متنازلة إلى نوع لا نوع تحته وهو نوع الأنواع
وأما الوصف الخارج عن الماهية فتقسيمه على وجهين
الأول أن ذلك الخارجي إما أن يكون لازما للماهية أو للوجود أو
لا يلزم واحد منهما
ثم لازم كل واحد من القسمين قد يكون بوسط وقد يكون بغير
223

وسط والذي يكون بوسط ينتهي إلى غير ذي وسط وإلا لزم الدور أو
التسلسل
وغير اللازم قد يكون سريع الزوال وقد يكون بطيئه
الثاني أن الوصف الخارجي إما أن يعتبر من حيث إنه مختص بنوع واحد
لا يوجد في غيره وهو الخاصة
أو من حيث إنه موجود فيه وفي غيره وهو العرض العام
وهذا التقسيم وإن كان بالحقيقة في المعاني لكنه عظيم النفع في
الألفاظ
224

التقسيم الثاني
للفظ المفرد
وهو أنه إما أن يكون معناه مستقلا بالمعلومية إن أو لا يكون والثاني
هو الحرف
والأول إما أن يكون اللفظ الدال عليه دالا على الزمان المعين لمعناه
وهو الفعل أ
ولا يدل وهو الاسم
ثم الاسم تقسيمه من وجهين
الأول أن الاسم إن كان اسما للجزئي فإن كان
مضمرا فهو المضمرات وإن كان مظهرا فهو العلم
225

وإن كان اسما للكلي فهو إما أن يكون اسما لنفس الماهية كلفظ السواد
وهو المسمى باسم الجنس في اصطلاح النحاة
أو لموصوفية إلا أمر ما بصفة وهو الاسم المشتق كلفظ الضارب فإن
مفهومه أنه شئ ما مجهول بحسب دلالة هذا اللفظ لكن علم منه أنه موصوف
بصفة الضرب
الثاني أن الاسم هو الذي يدل على معنى ولا يدل على زمانه المعين
وهو على أقسام ثلاثة فإن المسمى قد يكون نفس الزمان كلفظ الزمان
واليوم والغد
وقد يكون أحد أجزائه الزمان كالاصطباح فيه والاغتباق
ولهذا يتطرق إليه التصريف
وقد لا يكون زمانا ولا مركبا من الزمان كالسواد وأمثاله
226

التقسيم الثالث
للفظ المفرد
وهو إما أن يكون اللفظ والمعنى واحدا أو يتكثران صلى أو يتكثر اللفظ
ويتحد المعنى أو بالعكس
أما القسم الأول فالمسمى إن كان نفس تصوره مانعا من الشركة
ومظهرا فهو العلم
وإن لم يمنع فحصول ذلك المسمى في تلك المواضع إن كان بالسوية
فهو المتواطئ أولا
بالسوية فهو المشكك كالوجود الذي ثبوت مسماه
للواجب أولى من ثبوته للممكن
227

أما إذا تكثرت الألفاظ والمعاني فهي المتباينة سواء
تباينت المسميات بذواتها أو كان بعضها صفة للبعض كالسيف والصارم أو
صفة للصفة كالناطق والفصيح
وأما إذا تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهو الألفاظ المترادفة
سواء كانت من لغة واحدة أم من لغات كثيرة
وأما إذا اتحد اللفظ وتكثر المعنى فهذا اللفظ إما أن يكون قد وضع أولا
لمعنى ثم نقل عنه إلى معنى آخر أو وضع لهما معا
أما الأول فإما أن يكون ذلك النقل لا لمناسبة بين المنقول إليه والمنقول
عنه وهو المرتجل
أو لمناسبة وحينئذ إما أن تكون دلالة اللفظ بعد النقل على المنقول إليه
أقوى م دلالته على المنقول عنه أو لا تكون
فإن كان الأول سمي اللفظ بالنسبة إلى المنقول إليه لفظا منقولا
228

ثم الناقل إن كان هو الشارع سمي لفظا شرعيا
أو أهل العرف فيسمى لفظا عرفيا والعرف إما أن يكون عاما
كلفظ الدابة أو خاصا كالاصطلاحات وقال التي لكل طائفة من أهل
العلم
وأما إن لم تكن دلالته على المنقول إليه أقوى من دلالته على المنقول عنه
سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الوضع الأول حقيقة
وبالنسبة إلى الثاني مجازا
ثم جهات النقل كثيرة من جملتها المشابهة وهي المسمى
بالمستعار خاصة
وأما إذا كان اللفظ موضوعا للمعنيين جميعا فإما أن تكون
229

إرادة ذلك اللفظ لهما على السوية أو لا تكون على السوية
فإن كانت على السوية سميت اللفظة بالنسبة إليهما معا مشتركا
وبالنسبة إلى كل واحد منهما مجملا لأن كون اللفظ موضوعا
لهذا وحده ولذاك وحده معلوم فكان مشتركا من هذا الوجه
وأما إن كان المراد منه هذا أو ذاك غير معلوم فلا جرم كان
مجملا من هذا الوجه
وأما إن كانت دلالة اللفظ على أحد مفهوميه أقوى سمي اللفظ بالنسبة إلى
الراجح ظاهرا و
بالنسبة إلى المرجوح مؤولا
تنبيه الأقسام الثلاثة الأول مشتركة في عدم الاشتراك فهي نصوص
وأما الرابع فينقسم إلى ما إفادته لأحد مفهوميه أرجح من إفادته
للثاني وهو الظاهر
230

وإلى ما لا يكون كذلك وهو الذي يكون على السوية وهو
المجمل
أو مرجوحا وهو المؤول
ف النص والظاهر يشتركان في الرجحان إلا أن النص راجح
مانع من النقيض
فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم فهو جنس لنوعين
النص والظاهر
والذي لا يقتضي الرجحان فهو المتشابه وهو جنس لنوعين
المجمل والمؤول
أما المركب فنقول الحاجة إلى اللفظ المركب كما تقدم للإفهام
فالقول المفهم إما أن يفيد طلب شئ إفادة أولية أو لا يفيده
فإن كان الأول فإما أن يفيد طلب ذكر ماهية الشئ وهو الاستفهام
أو طلب التحصيل وهو إن كان على وجه الاستعلاء فهو الأمر
وإن كان على وجه الخضوع فهو السؤال
231

وإن كان على وجه التساوي فهو الالتماس
وكذلك القول في طلب الامتناع
وأما القول المفهم الذي لا يفيد طلب شئ إفادة أولية فإما أن يحتمل
التصديق والتكذيب وهو الخبر أو لا يكون كذلك وهو
مثل التمني والترجي والقسم والنداء ويسمى هذا القسم
بالتنبيه تمييزا له عن غيره
وأنواع جنس التنبيه معلومة بالاستقراء لا بالحصر هذا كله
تقسيم المطابقة
أما تقسيم دلالة الالتزام فنقول
المعنى المستفاد من دلالة الالتزام إما أن يكون مستفادا من معاني الألفاظ المفردة
أو من حال تركيبها
والأول قسمان لأن المعنى المدلول عليه بالالتزام إما أن يكون شرطا
للمعنى المدلول عليه بالمطابقة أو تابعا له
فإن كان الأول فهو المسمى بدلالة الاقتضاء
232

ثم تلك الشرطية قد تكون عقلية كقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان فإن العقل دل على أن هذا المعنى لا يصح إلا إذا أضمرنا فيه
الحم الشرعي
وقد تكون شرعية كقوله والله لأعتقن هذا العبد فإنه يلزمه تحصيل
الملك لأنه لا يمكنه الوفاء بقوله شرعا إلا بعد ذلك
وأما إن كان تابعا لتركيبها أنه فإما أن يكون من مكملات ذلك المعنى أو
لا يكون
233

فالأول كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب عند من لا يثبته
بالقياس
وأما الثاني فإما أن يكون المدلول عليه بالالتزام ثبوتيا أو عدميا
أما الأول فكقوله تعالى فالآن باشروهن ومد ذلك إلى غاية
تبين الخيط الأبيض فيلزم فيمن أصبح جنبا أن لا يفسد صومه وإلا وجب
أن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بقدر ما يقع الغسل فيه
وأما الثاني فهو أن تخصيص الشئ بالذكر هل يدل على نفيه عما عداه والله
أعلم
234

التقسيم الثاني
للألفاظ اللفظ الدال على معنى إما أن يكون مدلوله لفظا أو لا يكون
والثاني بمعزل عن اعتبارنا
والذي مدلوله لفظ فإما أن يكون لفظا مفردا أو مركبا وكلاهما إما
أن يكون دالا على معنى أوليس بدال على معنى
فهذه أربعة
أحدها اللفظ الدال على لفظ مفرد دال على معنى مفرد وهو لفظ
الكلمة وأنواعها وأصنافها فإن لفظ الكلمة بتناول لفظ
الاسم وهو لفظ مفرد ويتناول لفظ الرجل وهو لفظ مفرد دال على معنى
مفرد وكذا القول في جميع أسماء الألفاظ كالقول والكلام والأمر والنهي
والعام والخاص وأمثالها
235

وثانيها اللفظ الدال على لفظ مركب موضوع لمعنى مركب وهو كلفظ الخبر فإنه يتناول قولك زيد قائم وهو
لفظ مركب دال على
معنى مركب
وثالثها اللفظ الدال على لفظ مفرد لم يوضع لمعنى وهو الحرف
المعجم فإنه يتناول كل واحد من آحاد الحروف وتلك الحروف لا تفيد
شيئا
فإن قلت أليس أنهم قالوا لفظ الألف اسم لتلك المدة
قلت ليس المراد من قولي الحرف لا يفيد شيئا إلا نفس تلك المدة
وكذا القول في سائر الحروف
ورابعها اللفظ الدال على لفظ مركب لم يوضع لمعنى والأشبه أنه غير
موجود لأن التركيب إنما يصار إليه لغرض الإفادة فحيث لا إفادة فلا
تركيب
واعلم أن في البحث عن ماهية الاسم والفعل والحرف دقائق غامضة
ذكرناها في كتاب المحرر في دقائق النحو والله أعلم
236

الباب الثالث
في الأسماء المشتقة
والنظر في ماهية الاسم المشتق وفي أحكامه
أما الماهية فقال الميداني رحمه الله الاشتقاق أن تجد بين
اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر
وأركانه أربعة
أحدها اسم موضوع لمعنى
وثانيها شئ آخر له نسبة إلى ذلك المعنى
وثالثها مشاركة بين هذين الاسمين في الحروف الأصلية
ورابعها تغيير يلحق الاسم في حرف فقط أو حركة فقط أو فيهما معا
وكل واحد من الأقسام الثلاثة فإما أن يكون بالزيادة أو بالنقصان
أو بهما معا فهذه تسعة أقسام
237

أحدها زيادة الحركة وثانيها زيادة الحرف وثالثها زيادتهما معا
ورابعها نقصان الحركة وخامسها نقصان الحرف وسادسها نقصانهما
معا وسابعها زيادة الحرف مع نقصان الحركة وثامنها زيادة الحركة مع
نقصان الحرف وتاسعها أن تزاد فيه حركة وحرف وتنقص منه
أيضا حركة وحرف
فهذه الأقسام الممكنة وعلى اللغوي طلب أمثلة ما وجد منها
أما الأحكام فنذكرها في مسائل
المسألة الأولى
أن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه خلافا لأبي علي وأبي
هاشم فإن العالم والقادر والحي أسماء مشتقة من
العلم والقدرة والحياة
238

ثم إنهما يطلقان هذه الأسماء على الله تعالى وينكران حصول العلم
والقدرة والحياة لله تعالى لأن المسمى بهذه الأسامي هي
المعاني التي توجب العالمية والقادرية والحيية وهذه المعاني غير ثابتة
لله تعالى فلا يكون لله تعالى علم وقدرة وحياة مع أنه عالم قادر حي
وأما أبو الحسين فإنه لا يتقرر معه هذا الخلاف لأن
المسمى عنده بالقدرة نفس القادرية وبالعلم العالمية وهذه الأحكام
حاصلة لله تعالى فيكون لله تعالى علم وقدرة
لنا
أن المشتق مركب والمشتق منه مفرد والمركب بدون المفرد غير معقول
المسألة الثانية
اختلفوا في أن بقاء وجه الاشتقاق هل هو شرط لصدق اسم المشتق والأقرب
239

أنه ليس بشرط خلافا لأبي علي بن سيناء من الفلاسفة وأبي هاشم
من المعتزلة
لنا
أن بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب وإذا صدق ذلك
وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب
بيان الأول أنه يصدق عليه أنه ليس بضارب في هذه الحال وقولنا
ليس بضارب جزء من قولنا ليس بضارب في هذه الحال ومتى
صدق الكل صدق كل واحد من أجزائه فإذن صدق عليه أنه ليس بضارب
وبيان الثاني أنه لما صدق
عليه ذلك وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب لأن قولنا ضارب يناقضه في العرف ليس
بضارب بدليل أن من قال فلان ضارب فمن أراد تكذيبه وإبطال قوله
قال إنه ليس بضارب ولولا أنه نقيض الأول وإلا لما استعملوه لنقض
الأول ولما ثبت كونهما موضوعين لمفهومين متناقضين وقد صدق
أحدهما فوجب أن لا يصدق الآخر
240

فإن قيل لا نسلم أنه يصدق عليه بعد انقضاء الضرب أنه ليس بضارب
قوله لأنه يصدق عليه أنه ليس بضارب في هذه الحال ومتى صدق عليه ذلك
صدق عليه أنه ليس بضارب
قلنا حكم الشئ وحده يجوز أن يكون مخالفا لحكمه مع غيره فلا
يلزم من صدق قولنا ليس بضارب في الحال صدق قولنا ليس
بضارب
سلمنا أنه يصدق عليه أنه ليس بضارب فلم لا يصدق عليه أنه
ضارب
241

بيانه أن قولنا فلان ضارب فلان ليس بضارب ما لم نعتبر
فيه اتحاد الوقت لم يتناقضا ولا يجوز ايراد أحدهما لتكذيب الآخر
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم لكنه معارض بوجوه
الأول أن الضارب من حصل له الضرب وهذا المفهوم أعم من قولنا
حصل له الضرب في الحال أو في الماضي لأنه يمكن تقسيمه إليهما
ومورد القسمة مشترك بين القسمين ولا يلزم من نفي الخاص نفي
المشترك فإذن لا يلزم من نفي الضاربية في الحال نفي الضاربية مطلقا
الثاني أن أهل اللغة اتفقوا على أن اسم الفاعل إذا كان في تقدير
الماضي لا يعمل عمل الفعل ولولا أن اسم الفاعل يصح اطلاقه لفعل وجد في
الماضي وإلا لكان هذا الكلام لغوا
الثالث أنه لو كان حصول المشتق منه شرطا في كون الاسم المشتق
حقيقة لما كان اسم المتكلم والمخبر واليوم والأمس وما
يجري مجراها حقيقة في شئ أصلا واللازم باطل فالملزوم مثله
242

بيان الملازمة أن الكلام اسم لمجموع الحروف المتوالية لا لكل واحد منها
ومجموع تلك الحروف لا وجود له أصلا بل الموجود منه أبدا ليس إلا
الحرف الواحد فلو كان شرط كون الاسم المشتق حقيقة حصول المشتق
منه لوجب أن لا يصير هذا الاسم المشتق حقيقة ألبتة
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الكلام اسم لكل واحد من
تلك الحروف
سلمنا أنه ليس كذلك فلم لا يجوز أن يقال حصول المشتق مه
شرط في كون المشتق حقيقة إذا كان ممكن الحصول فأما إذا لم يكن كذلك
فلا
أو نقول شرط كون المشتق حقيقة حصول المشتق منه إما
لمجموعه أو لأجزائه وهاهنا إن امتنع أن يكون للمجموع وجود لكنه لا يمتنع
ذلك للآحاد
أو نقول لم لا يجوز أن يقال هذه الألفاظ ليست حقائق في شئ من
المسميات أصلا
243

قلت
الجواب عن الأول
أن ذلك باطل باجماع أهل اللغة وأيضا فالالزام عائد في لفظ
الخبر فإنه لا شك في أن كل واحد من حروف الخبر ليس
خبرا وكذلك كل واحد من أجزاء الشهر والسنة ليس بشهر ولا سنة
وعن الثاني
أن أحدا من الأمة لم يقل بهذا الفرق فيكون باطلا
وعن الثالث
أن هذه الألفاظ مستعملة وكل مستعمل فإنه إما أن يكون حقيقة
أو مجازا وكل مجاز فله حقيقة فإذن هذه الألفاظ حقائق في بعض
الأشياء وقد علم بالضرورة أنها ليست حقائق فيما عدا هذه المعاني فهي
حقائق فيها
الرابع
الايمان مفسر إما بالتصديق أو العمل أو الاقرار أو مجموعها
244

والشخص حين ما لا يكون مباشرا لشئ من هذه الأشياء
الثلاثة يسمى مؤمنا حقيقة فلولا أن حصول ما منه الاشتقاق ليس
شرطا لصدق المشتق وإلا لما كان كذلك
والجواب
قوله يجوز أن يختلف حال الشئ بسبب الانفراد والتركيب
قلنا مدلول الألفاظ المركبة ليس إلا المركب الحاصل من المفردات التي هي
مدلولات الألفاظ المفردة
قوله وحدة الزمان معتبرة في تحقق التناقض
قلنا هذا لا نزاع فيه لكنا ندعي أن قولنا ضارب يفيد الزمان
المعين وهو الحاضر بدليل ما ذكرنا أن إحدى اللفظتين مستعملة في رفع
الأخرى
أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة من أهل اللغة أنهم متى حاولوا
تكذيب المتلفظ بإحدى اللفظتين لا يذكرون إلا اللفظة الأخرى ويكتفون بذكر
كل واحدة منهما عند محاولة تكذيب الأخرى ولولا اقتضاء كل واحدة
245

منهما للزمان المعين وإلا لما حصل التكاذب
وأما الثانية فلأن كلمة ليس موضوعة للسلب فإذا قلنا ليس
بضارب فلا بد وأن يفيد سلب ما فهم من قولنا ضارب وإلا لم
تكن لفظة ليس مستعملة للسلب
وإذا ثبت أن كل واحدة من هاتين اللفظتين موضوعة لرفع مقتضى
الأخرى وجب تناولهما لذلك الزمان المعين وإلا لم يحصل التكاذب
ثم لا نزاع في أن ذلك الزمان ليس هو الماضي ولا المستقبل فتعين أن
يكون الحاضر
قوله في المعارضة الأولى ثبوت الضرب له أعم من ثبوته له في
الحاضر أو الماضي بدليل صحة التقسيم إليهما
قلنا كما يمكن تقسيمه إلى الماضي والحاضر يمكن تقسيمه إلى
المستقبل فإنه يمكن أن يقال ثبوت الضرب له أعم من ثبوته له في
الحال أو في المستقبل فإن كان ما ذكرته يقتضي كون
246

الضارب حقيقة لمن حصل له الضرب في الماضي فليكن حقيقة
لمن سيوجد الضرب منه في المستقبل وإن لم يوجد ألبتة لا في
الحاضر ولا في الماضي فإنه باطل بالاتفاق
قوله ثانيا إن أهل اللغة قالوا اسم الفاعل إذا أفاد الفعل الماضي لا
يعمل عمل الفعل
قلنا وقد قالوا أيضا إذا أفاد الفعل المستقبل عمل عمل
الفعل فيلزم أن يكون الاسم المشتق حقيقة فيما سيوجد فيه المشتق منه ولا
شك في فساده
قوله ثالثا يلزم أن لا يكون اسم المخبر حقيقة أصلا
قلنا المعتبر عندنا حصوله بتمامه إن أمكن أو حصول آخر جزء
من أجزائه ودعوى الاجماع على فساد هذا التفصيل ممنوعة
قوله رابعا الشخص يسمى مؤمنا وإن لم يكن مشتغلا في
الحال بمسمى الايمان
قلنا لا نسلم أن ذلك الاطلاق حقيقة
والدليل عليه أنه لا يجوز أن يقال في أكابر الصحابة إنهم كفرة لأجل
247

كفر كان موجودا قبل إيمانهم ولا لليقظان إنه نائم لأجل نوم كان
موجودا قبل ذلك والله أعلم
المسألة الثالثة
اختلفوا في أن المعنى القائم بالشئ هل يجب أن يشتق له منه اسم
والحق والتفصيل فإن المعاني التي لا أسماء لها مثل أنواع الروائح
والآلام فلا شك أن ذلك غير حاصل فيها
وأما التي لها أسماء ففيها بحثان
أحدهما أنه هل يجب أن يشتق لمحالها منها أسماء
الظاهر من مذهب المتكلمين منا أن ذلك واجب فإن المعتزلة لما
قالت إن الله تعالى يخلق كلامه في جسم قال أصحابنا لهم لو
كان كذلك لوجب أن يشتق لذلك المحل اسم المتكلم من ذلك الكلام
وعند المعتزلة أن ذلك غير واجب
وثانيهما أنه إذا لم يشتق لمحله منه اسم فهل يجوز أن يشتق لغير ذلك
المحل منه اسم
فعند أصحابنا لا
وعند المعتزلة نعم لأن الله تعالى يسمى متكلما بذلك الكلام
واستدلت المعتزلة لقولهم في الموضعين بأن القتل والضرب
248

والجرح قائم بالمقتول والمضروب والمجروح ثم إن المقتول لا يسمى
قاتلا فإذن محل المشتق منه لم يحصل له اسم الفاعل وحصل ذلك الاسم لغير
محله
وأجيبوا عنه بأن الجرح ليس عبارة عن الأمر الحاصل في المجروح بل عن
تأثير قدرة القادر فيه وذلك التأثير حكم حاصل للفاعل وكذا
القول في القتل
وأجابت المعتزلة عنه بأنه لا معنى لتأثير القدرة في المقدور إلا وقوع
المقدور إذ لو كان التأثير أمرا زائدا لكان إما أن يكون قديما
وهو محال لأن تأثير الشئ في الشئ نسبة بينهما فلا يعقل ثبوته عند
عدم واحد منهما
أو محدثا فيفتقر إلى تأثير آخر فيلزم التسلسل
249

والذي يحسم مادة الإشكال أن الله تعالى خالق العالم واسم الخالق
مشتق من الخلق والخلق نفس المخلوق والمخلوق غير قائم بذات الله
تعالى
والدليل على أن الخلق عين المخلوق أنه لو كان غيره لكان إن كان
قديما لزم قدم العالم وإن كان محدثا لزم التسلسل
ومما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق أن
المفهوم من الاسم المشتق ليس إلا أنه ذو ذلك المشتق منه ولفظ
ذو لا يقتضي الحلول
ولأنه لفظة اللابن والتامر والمكي والمدني والحداد مشتقة من أمور
يمتنع قيامها بمن له الاشتقاق
250

المسألة الرابعة
مفهوم الأسود شئ ما له السواد فأما حقيقة ذلك الشئ
فخارج عن المفهوم فإن علم علم بطريق الالتزام
والذي يدل عليه أنك تقول الأسود جسم فلو كان مفهوم
الأسود أنه جسم ذو سواد لتنزل ذلك منزلة ما يقال الجسم ذو السواد يجب أن
يكون جسما والله أعلم بالصواب
251

الباب الرابع
في أحكام الترادف والتوكيد
الألفاظ المترادفة هي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد باعتبار
واحد
واحترزنا بقولنا المفردة عن الرسم والحد
وبقولنا باعتبار واحد عن اللفظتين إذا دلا على شئ واحد باعتبار
صفتين كصارم والمهند أو باعتبار الصفة وصفة الصفة
كالفصيح والناطق فإنهما من المتباينة
واعلم أن الفرق بين المترادف والمؤكد أن المترادفين يفيدان فائدة واحدة
من غير تفاوت أصلا
253

وأما المؤكد فإنه لا يفيد عين فائدة المؤكد بل يفيد تقويته
والفرق بينه وبين التابع كقولنا شيطان ليطان أن التابع
وحده لا يفيد بل شرط كونه مفيدا تقدم الأول عليه
أما الأحكام ففي مسائل
المسألة الأولى في إثباته
من الناس من أنكره وزعم أن الذي يظن أنه من المترادفات
فهو من المتباينات التي تكون لتباين الصفات أو لتباين الموصوف مع
الصفات
والكلام معهم إما في الجواز وهو معلوم بالضرورة أو في الوقوع وهو
254

إما في لغتين وهو أيضا معلوم بالضرورة أو في لغة واحدة وهو
مثل الأسد والليث والحنطة والقمح
والتعسفات وهو التي يذكرها الاشتقاقيون صلى الله عليه وسلم في دفع ذلك مما لا يشهد بصحتها
عقل ولا نقل فوجب تركها عليهم
المسألة الثانية في الداعي إلى الترادف
الأسماء المترادفة إما أن تحصل من واضع أو من واضعين
أما الأول فيشبه أن يكون هو السبب الأقلي وفيه سببان
الأول التسهيل والإقدار على الفصاحة لأنه قد يمتنع وزن البيت وقافيته مع
بعض أسماء الشئ ويصح مع الاسم الآخر وربما حصل رعاية السجع
والمقلوب والمجنس إذا وسائر أصناف البديع مع بعض أسماء الشئ دون البعض
الثاني التمكين من تأدية المقصود بإحدى العبارتين عند نسيان
الأخرى
255

وأما الثاني فيشبه أن يكون هو السبب الأكثري وهو اصطلاح
إحدى القبيلتين على اسم لشئ غير الذي اصطلحت القبيلة الأخرى عليه ثم
اشتهار الوضعين بعد ذلك
ومن الناس من قال الأصل عدم الترادف لوجهين
الأول أنه يخل بالفهم التام لاحتمال أن يكون المعلوم لكل واحد من
المتخاطبين غير الاسم الذي يعلمه الآخر فعند التخاطب لا يعلم كل واحد
منهما مراد الآخر فيحتاج كل واحد منهما إلى حفظ تلك الألفاظ حذرا
عن هذا المحذور فتزداد المشقة
الثاني أنه يتضمن تعريف المعرف وهو خلاف الأصل
المسألة الثالثة في أنه هل تجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مقام
الآخر أم لا
الأظهر في أول النظر ذلك لأن المترادفين لا بد وأن يفيد كل واحد منهما
عين فائدة الآخر فالمعنى لما صح أن يضم إلى معنى حينما يكون مدلولا لأحد
اللفظين لا بد وأن يبقى بتلك الصفة حال كونه مدلولا للفظ الثاني لأن
256

صحة الصم من عوارض المعاني لا من عوارض الألفاظ
والحق أن ذلك غير واجب لأن صحة الضم قد تكون من عوارض الألفاظ
لأن المعنى الذي يعبر عنه في العربية بلفظ من يعبر عنه في الفارسية بلفظ
آخر فإذا قلت خرجت من الدار استقام الكلام ولو أبدلت صيغة
من وحدها بمرادفها من الفارسية لم يجز
فهذا الامتناع ما جاء من قبل المعاني بل من قبل الألفاظ
وإذا عقل ذلك في لغتين فلم لا يجوز مثله في لغة واحدة
المسألة الرابعة إذا كان أحد المترادفين أظهر كان الجلي بالنسبة إلى الخفي
شرحا له وربما انعكس الأمر بالنسبة إلى قوم آخرين
وزعم كثير من المتكلمين أنه لا معنى للحد إلا ذلك فقالوا الحد تبديل
لفظ خفي بلفظ أوضح منه تفهيما للسائل
وليس الأمر كما ذكروه على الاطلاق بل الماهية المفردة إذا حاولنا تعريفها
بدلالة المطابقة لم يكن إلا على الوجه الذي ذكروه
257

المسألة الخامسة
في التأكيد وأحكامه
وفيه أبحاث
الأول التأكيد هو اللفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر
الثاني الشئ إما أن يؤكد بنفسه أو بغيره فالأول كقوله عليه
الصلاة والسلام والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون
قريشا
258

والثاني على ثلاثة أقسام
فإن لفظة التأكيد إما ان يختص بها المفرد وهو لفظ النفس و
العين أو المثنى وهو كلا وكلتا
أو الجمع وهو أجمعون أكتعون أبصعون فقال والكل وهو أم الباب
وقد يكون داخلا على الجمل مقدما عليها كصيغة إن وما يجري مجراها
الثالث في حسن استعماله والخلاف فيه مع الملاحدة الطاعنين في
القرآن والنزاع إما أن يقع في جوازه عقلا أو في وقوعه
أما الجواز فهو معلوم بالضرورة لأن التأكيد يدل على شدة اهتمام القائل
بذلك الكلام
وأما الوقوع فاستقراء اللغات بأسرها يدل عليه
واعلم أن التأكيد وإن كان حسنا إلا أنه متى أمكن حمل الكلام
على فائدة زائدة وجب صرفه إليها
259

الرابع في فوائد التأكيد وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب
العموم عند استدلال الواقفية بحسن التأكيد على الاشتراك والله أعلم
260

الباب الخامس
في الاشتراك
اللفظ المشترك هو اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر
وضعا أولا من حيث هما كذلك
فقولنا الموضوع لحقيقتين مختلفتين احترزنا به عن
الأسماء المفردة
وقولنا وضعا أولا احترزنا به عما يدل على الشئ بالحقيقة وعلى
غيره بالمجاز
وقولنا من حيث هما كذلك احترزنا به عن اللفظ المتواطئ فإنه
يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث إنها مختلفة بل من حيث
إنها مشتركة في معنى واحد
المسألة الأولى
في بيان امكانه ووجوده
261

وجود اللفظ المشترك إما أن يكون واجبا أو ممتنعا أو جائزا وقال بكل
واحد من هذه الأقسام قائل
أما القائلون بالوجوب فقد احتجوا بأمرين
الأول أن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية والمتناهي إذا وزع على غير
المتناهي لزم الاشتراك
وإنما قلنا إن الألفاظ متناهية لأنها مركبة من الحروف
المتناهية والمركب من المتناهي متناهي
وإنما قلنا إن المعاني غير متناهية لأن الأعداد أحد أنواع
المعاني وهي غير متناهية
وأما أن المتناهي إذا وزع على غير المتناهي حصل الاشتراك فهو
معلوم بالضرورة
الثاني أن الألفاظ العامة كالوجود والشئ لا بد منها في
اللغات
ثم قد ثبت أن وجود كل شئ نفس ماهيته فيكون كل شئ
مخالفا لوجود الآخر فيكون قول الموجود عليها بالاشتراك
والجواب عن الأول بعد تسليم المقدمتين الباطلتين أن
نقول الأمور التي يقصدها المسمون بالتسمية متناهية فإنهم لا
262

يشرعون في أن يسموا كل واحد من الأمور التي لا نهاية لها فإن ذلك مما
لا يخطر ببالهم فكيف يقصدون تسميتها بل لا يقصدون إلا إلى تسمية أمور
متناهية ويمكن أن يكون لكل واحد منها اسم مفرد
وأيضا فكل واحد من هذه الألفاظ المتناهية إن دل على معان متناهية
لم يكن جميع الألفاظ المتناهية دالا على معان غير متناهية لأن المتناهي إذا
ضوعف مرات متناهية كان الكل متناهيا
وإن دل كل واحد منها أو بعضها على معان غير متناهية فالقول به مكابرة
وعن الثاني أنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغات وإن
سلمنا ذلك لا نسلم أن الوجود غير مشترك في المعنى
وإن سلمنا لكن لم لا يجوز اشتراك الموجودات بأسرها في حكم
واحد سوى الوجود وهو المسمى بتلك اللفظ العامة
أما القائلون بالامتناع فقد قالوا
المخاطبة باللفظ المشترك لا تفيد فهم المقصود على سبيل التمام وما يكون
كذلك كان منشأ للمفاسد على ما سيأتي تقريره في مسألة أن الأصل
عدم الاشتراك وما يكون منشأ للمفاسد وجب أن لا يكون
والجواب
263

لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام من سماع اللفظ المشترك لكن هذا
القدر لا يوجب نفيه لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات لا
نفيا ولا اثباتا والأسماء المشتقة لا تدل على تعين الموصوفات ألبتة ولم
يلزم من ذلك جزم القول بأنها غير موضوعة فكذا هاهنا
وإذا بطل هذان القولان فنحن نبين الامكان أولا ثم الوقوع ثانيا أما
بيان الامكان فمن وجهين
الأول أن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم وقد يكون للانسان غرض في
تعريف غيره شيئا على التفصيل وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشئ على الاجمال
بحيث يكون ذكر التفصيل سببا للمفسدة كما روي عن أبي بكر رضي الله
عنه أنه قال للكافر الذي سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت
ذهابهما إلى الغار من هو فقال رجل يهديني السبيل ولأنه
ربما لا يكون المتكلم واثقا بصحة الشئ على التعيين إلا أنه يكون واثقا
264

بصحة وجود أحدهما لا محالة فحينئذ يطلق اللفظ المشترك لئلا
يكذب ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك فإن أي معنى يصح فله أن يقول إنه
كان مرادي
الثاني أن ما ذكروه من المفاسد لو صح فإنما يقدح في أن يضع
الواضع لفظا لمعنيين على سبيل الاشتراك لكنه يجوز أن يوجد المشترك بطريق
آخر وهو أن تضع قبيلة اسما لشئ وقبيلة أخرى ذلك الاسم لشئ آخر
ثم يشيع الوضعان ويخفى كونه موضوعا للمعنيين من جهة القبيلتين
وأما الوقوع فمن الناس من قال إن كل ما يظن مشتركا فهو
إما أن يكون متواطئا أو يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر
كالعين فإنه وضع أولا للجارحة المخصوصة ثم نقل إلى الدينار لإنه في
الغرة والصفاء كتلك الجارحة وإلى الشمس لأنها في الصفاء والضياء كتلك
الجارحة وإلى الماء لوجود المعنيين فيه
وعندنا أن كل ذلك ممكن والأغلب على الظن وقوع المشترك
والدليل عليه أنا إذا سمعنا القرء لم نفهم أحد المعنيين من
غير تعيين بل بقي الذهن مترددا ولو كان اللفظ متواطئا أو حقيقة في
أحدهما مجازا في الآخر لما كان كذلك
265

فإن قلت لم لا يجوز أن يقال كان حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ثم خفي
ذلك
قلت أحكام اللغات لا تنتهي إلى القطع المانع من الاحتمالات البعيدة وما
ذكرتموه لا ينفي كونه حقيقة فيهما الآن وهو المقصود والله أعلم
المسألة الثانية
في أقسام اللفظ المشترك
المفهومان إما أن يكونا متباينين كالطهر والحيض المسميين
بالقرء أولا يكونا متباينين بل يكون بينهما تعلق وحينئذ لا يخلو إما أن
يكون أحدهما جزءا من الآخر أو لا يكون
فالأول مثل ما إذا سمي معنى عام باسم وسمي معنى
خاص تحته بذلك الاسم فوقوع الاسم عليهما والحالة هذه يكون
بالاشتراك مثل الممكن إذا قيل لغير الممتنع وقيل لغير الضروري فإن
غير الممتنع أعم من غير الضروري فإذا قيل الممكن عليهما فهو بالاشتراك
وأيضا فقوله على الخاص وحده قول بالاشتراك أيضا بالنظر إلى ما فيه
من المفهومين المختلفين
وأما إن لم يكن أحدهما جزءا من الآخر فلا بد وأن يكون أحدهما صفة للآخر
وهو كما إذا سمي شخص أسود اللون بالأسود فان قول الأسود
عليه من حيث إنه لقب ومن حيث إنه مشتق بالاشتراك ثم إذا نسبت ذلك
الشخص إلى القار فإن اعتبرت لونه كان الأسود مقولا عليه
266

وعلى القار بالتواطؤ وإن اعتبرت اسمه كان الأسود مقولا عليه وعلى القار
بالاشتراك
دقيقة لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين عدم الشئ وثبوته لأن اللفظ لا بد
وأن يكون بحال متى أطلق أفاد شيئا وإلا كان عبثا والمشترك بين
النفي والاثبات لا يفيد إلا التردد بين النفي والاثبات وهذا معلوم لكل أحد
المسألة الثالثة
في سبب وقوع الاشتراك
السبب الأكثري هو أن تضع كل واحدة من القبيلتين تلك
اللفظة لمسمى آخر ثم يشتهر الوضعان فيحصل الاشتراك
والأقلي أي هو أن يضعه واضع واحد لمعنيين ليكون المتكلم
متمكنا من التكلم بالمجمل وقد سبق في الفصل السالف أن التكلم بالكلام
المجمل من مقاصد العقلاء ومصالحهم
وأما السبب الذي يعرف به كون اللفظ مشتركا فذلك إما
الضرورة وهو ان يسمع تصريح أهل اللغة به
267

وإما النظر وذلك أنا سنذكر إن شاء الله تعالى الطرق الدالة على
كون اللفظة حقيقة في مسماها فإذا وجدت تلك الطرق في اللفظة
الواحدة بالنسبة إلى معنيين مختلفين حكمنا بالاشتراك
ومن الناس من ذكر فيه طريقين آخرين
أحدهما أن حسن الاستفهام يدل على الاشتراك لأن الاستفهام عبارة عن
طلب الفهم وطلب الشئ حال حصوله محال
والفهم إنما لا يكون حاصلا لو كان اللفظ مترددا بين المعنيين
الثاني قالوا استعمال الفظ في معنيين ظاهرا يدل على كونه حقيقة ف
يهما وذلك يقتضي الاشتراك
واعلم أنا سنبين إن شاء الله تعالى في باب العموم أن هذين
الطريقين لا يدلان على الاشتراك
المسألة الرابعة
في أنه لا يجوز استعمال المشترك المفرد في معانيه على الجمع
وذهب الشافعي والقاضي أبو بكر رضي الله عنهما إلى
268

جوازه وهو قول الجبائي والقاضي عبد الجبار بن أحمد
وذهب آخرون إلى امتناعه وهو قول أبي هاشم وأبي الحسين البصري
والكرخي
ثم اختلفوا فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد
ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع وهو المختار
269

وقبل الخوض في الدليل لا بد من مقدمة وهي أنه ليس يلزم من كون اللفظ
موضوعا لمعنيين على البدل أن يكون موضوعا لهما جميعا وذلك
لأنا نعلم بالضرورة المغايرة بين المجموع وبين كل واحد من أفراده ولا يلزم
أن يكون المجموع مساويا لكل واحد من أفراده في جميع الأحكام فلا يلزم
من كون كل واحد من الشيئين مسمى باسم كون مجموعهما مسمى به
إذا ثبتت هذه المقدمة فالدليل على ما قلنا أن الواضع إذا وضع لفظا
لمفهومين على الانفراد فإما أن يكون قد وضعه مع ذلك لمجموعهما أو ما وضعه
لهما
فإن قلنا إنه ما وضعه للمجموع فاستعماله لإفادة المجموع استعمال اللفظ في
غير ما وضع له وإنه غير جائز
وإن قلنا إنه وضعه للمجموع فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة
المجموع وحده أو لإفادته مع إفادة
الأفراد
فإن كان الأول لم يكن اللفظ إلا لأحد مفهوماته لأن الواضع إن كان
وضعه بإزاء أمور ثلاثة على البدل وأحدها ذلك المجموع فاستعمال
اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالا للفظ في كل واحد من
مفهوماته
270

فان قلت إنه يستعمل في إفادة المجموع والأفراد على الجمع
فهو محال لأن إفادته للمجموع معناه أن الاكتفاء لا يحصل إلا بهما
وافادته للمفرد معناه أنه يحصل الاكتفاء بكل واحد منهما وحده
وذلك جمع بين النقيضين وهو محال
فثبت أن اللفظ المشترك من حيث إنه مشترك لا يمكن استعماله في
إفادة مفهوماته على سبيل الجمع
واحتج المجوزون بأمور
أحدها أن الصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار ثم إن الله
تعالى أراد بهذه اللفظة كلا معنييها في قوله تعالى إن الله
وملائكته يصلون على النبي
وثانيها قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في
السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر
والدواب
أراد بالسجود ها هنا الخضوع لأنه هو المقصود من الدواب
271

وأراد به أيضا وضع الجبهة على الأرض لأن تخصيص كثير من الناس
بالسجود دون ما عداهم ممن حق عليه العذاب مع استوائهم في السجود
بمعنى الخشوع يدل على أن الذي خصوا به من السجود هو
وضع الجبهة على الأرض فقد صار المعنيان مرادين
وثالثها قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
إذا أراد به الحيض والطهر لأن المرأة إذا كانت من أهل الاجتهاد فالله
تعالى أراد منها الاعتداد بكل واحد منهما بدلا عن الآخر بشرط أن
يؤدي اجتهادها إليه أو إلى الآخر
ورابعها قال سيبويه قول القائل لغيره الويل لك دعاء وخبر فجعله
مفيدا لكلا الأمرين
والجواب عن هذه الوجوه بأسرها
أن ما ذكروه لو صح لدل على أن هذه الألفاظ كما هي موضوعة
للآحاد فهي موضوعة للجمع وإلا لكان الله تعالى قد
استعمل اللفظ في غير مفهومه وهو غير جائز
وعلى هذا التقدير يكون استعماله لإفادة الجمع استعمالا له في إفادة أحد
272

موضوعاته لا في إفادة الكل على ما بيناه والله أعلم
فرعان
الأول
بعض من أنكر استعمال المفرد المشترك في جميع مفهوماته جوز ذلك في
لفظ الجمع
أما في جانب الاثبات فكقوله للمرأة اعتدي بالأقراء
والحق أنه لا يجوز لأن قوله اعتدي بالأقرا معناه اعتدي بقرء
وقرء وقرء وإذا لم يصح أن يفاد بلفظ القرء كلا المدلولين لم يصح
ذلك أيضا في الجمع الذي لا يفيد الا عين فائدة الافراد
وأما في جانب النفي فكذلك أيضا وفيه احتمال لأنا إنما
منعناه من إفادة المعنيين في جانب الإثبات لما قلنا إن الواضع ما وضعه لهما
جميعا
وأما في جانب النفي فلم يقم دليل قاطع على أن الواضع ما استعلمه
في إفادة نفيهما جميعا
ويمكن أن يجاب عنه بأن النفي لا يفيد إلا رفع مقتضى الاثبات
273

فإذا لم يفد في جانب الإثبات إلا أمرا واحدا لم يرتفع عند حرف النفي إلا
المعنى الواحد
فأما إن أريد حمله على أن المراد منه لا تعتدي بما هو مسمى الأقراء فحينئذ
يكون كون الحيض والطهر مسمى بالقرء وصفا معقولا
مشتركا بينهما فيكون اللفظ على هذا التقدير متواطئا لا مشتركا
الثاني
أنا لو جوزنا أن يفاد باللفظ المشترك جميع معانيه فإنه لا يجب ذلك
ونقل عن الشافعي رضي الله عنه والقاضي أبي بكر أنهما قالا
المشترك إذا تجرد عن القرائن المخصصة وجب حمله على جميع معانيه
وفيه نظر لأنه إن لم يكن موضوعا للمجموع فلا يجوز استعماله فيه وإن
كان موضوعا له فهو أيضا موضوع لكل واحد من الأفراد واللفظ دائر
بين كل واحد من الفردين وبين المجموع فيكون الجزم بإفادته
للمجموع دون كل واحد من الفردين ترجيحا لأحد الجائزين على الآخر من غير
مرجح وهو محال
274

فإن قلت حمله على المجموع أحوط فيكون الأخذ به واجبا
قلت القول بالاحتياط سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة
في أن الأصل عدم الاشتراك
ونعني به أن اللفظ متى دار بين الاشتراك وعدمه كان الأغلب على
الظن عدم الاشتراك و
يدل عليه وجوه
أحدها أن احتمال الاشتراك لو كان مساويا لاحتمال الانفراد لما حصل
التفاهم بين أرباب اللسان حالة التخاطب في أغلب الأحوال من غير استكشاف
وقد علمنا حصول ذلك فكان الغالب حصول احتمال الانفراد
وثانيها لو لم يكن الاشتراك مرجوحا لما بقيت الأدلة السمعية مفيدة
ظنا فضلا عن اليقين لاحتمال أن يقال إن تلك الألفاظ مشتركة بين ما
ظهر لنا منها وبين غيره وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون
المراد غير ما ظهر لنا
وحينئذ لا يبقى التمسك بالقرآن والأخبار مفيدا للظن فضلا عن العلم
وثالثها أن الاستقراء دل على أن الكلمات في الأكثر مفردة لا مشتركة
والكثرة تفيد ظن الرجحان
275

فان قلت لا نسلم أن الكلمات في الأكثر مفردة لأن الكلمة إما
حرف أو فعل أو اسم
أما الحرف فكتب النحو شاهدة بأنه مشترك
وأما الفعل فهو إما الماضي أو المستقبل أو الأمر
أما الماضي والمستقبل فهما مشتركان لأنهما تارة يستعملان في
الخبر وأخرى في الدعاء ولأن صيغة المضارع مشتركة بين الحال والاستقبال
وأما صيغة إفعل فالقول بأنها مشتركة بين الوجوب والندب مشهور
وأما الأسماء ففيها اشتراك كثير
فإذا ضممنا إليها الأفعال والحروف كانت الغلبة للاشتراك
قلت الأصل في الألفاظ الأسماء والاشتراك نادر فيها بدليل أنه لو كان
الاشتراك أغلب لما حصل فهم غرض المتكلم في الأكثر ولما لم يكن
كذلك علمنا أن الغالب عدم الاشتراك
ورابعها أن الاشتراك يخل بفهم القائل والسامع وذلك يقتضي أن لا يكون
موضوعا
بيان أنه يقتضي الخلل في الفهم
أما في حق السامع فمن وجهين
الأول أن الغرض من الكلام حصول الفهم وهو غير حاصل في المشترك
لتردد الذهن بين مفهوماته
276

الثاني أن سامع اللفظ المشترك ربما يتعذر عليه الاستكشاف إما
لأنه يهاب المتكلم أو لأنه يستنكف عن السؤال وإذا لم
يستكشف فربما حمله على غير المراد فيقع في الجهل ثم ربما ذكره لغيره
فيصير ذلك سببا لجهل جمع كثير ولهذا قال أصحاب المنطق إن
السبب الأعظم في وقوع الأغلاط حصول اللفظ المشترك
وأما في حق القائل فلأن الانسان إذا تلفظ باللفظ المشترك احتاج في
تفسيره إلى أن يذكره باسمه المفرد فيقع تلفظه باللفظ المشترك عبثا ولأنه
ربما ظن أن السامع متنبه للقرينة الدالة على تعيين المراد مع أن السامع لم
يتنبه له فيحصل الضرر كمن قال لعبده أعط الفقير عينا على
ظن أنه يفهم أن مراده الماء ثم إنه يعطيه الذهب فيتضرر السيد به
فثبت بهذه الوجوه أن الاشتراك منشأ للمفاسد فهذه المفاسد إن لم
تقتض امتناع الوضع فلا أقل من اقتضاء المرجوحية
277

وخامسها أن الانسان مضطر في بقائه إلى استعمال المفردات ولا حاجة به
إلى المشترك فيكون المفرد أغلب في الوجود وفي الظن
بيان الحاجة إلى المفردات أن الإنسان لا يستقل بتكميل مهمات معيشته
بدون الاستعانة بغيره والاستعانة بالغير لا تتم إلا باطلاع الغير على حاجته
وقد عرفت أن ذلك لا يحصل إلا بالألفاظ وذلك التعريف لا يحصل إلا بالألفاظ
المفردة
وإنما قلنا إن الحاجة إلى المشترك غير ضرورية لأنهم إن احتاجوا
إلى التعريف الاجمالي أمكنهم ذكر تلك المفردات مع لفظ الترديد
وحينئذ يحصل المطلوب في اللفظ المشترك
وإذا ظهرت المقدمتان ثبت رجحان المفرد على المشترك في الوجود وفي
الذهن وهو المطلوب والله أعلم
المسألة السادسة
فيما يعين مراد اللافظ باللفظ المشترك
اللفظ المشترك إما أن توجد معه قرينة مخصصة أو لا توجد
فإن لم توجد بقي مجملا لما ثبت من امتناع حمله على الكل
وإن وجدت القرينة فتلك القرينة إما أن تدل على حال كل واحد من
278

مسميات اللفظ الغاءا أو اعتبارا أو على حال البعض الغاءا أو اعتبارا وإما
على حال الكل م حيث هو كل الغاءا أو اعتبارا فهو مندرج
تحت حال البعض لأن اللفظ إذا كان مفيدا لكل واحد من تلك الأفراد
وللكل من حيث هو كل كان الكل أحد الأمور المسماة به
فتكون القرينة الدالة عليه الغاءا أو اعتبارا دالة على حال بعض ما اندرج تحت
تلك اللفظة
ف أما القسم الأول وهو ما يفيد اعتبار كل واحد من تلك
المعاني فتلك المعاني إما أن تكون متنافية أو لا تكون
فإن كانت متنافية بقي اللفظ مترددا بينها كما كان إلى أن يظهر المرجح
وإن لم تكن متنافية ف قال بعضهم الأدلة المقتضية لحمل اللفظة
على كل معانيها معارضة للدليل المانع من حمل اللفظ المشترك على كل
معانيه فتعتبر بينهما الترجيحات
وهذا خطأ لأن الدلالة المانعة من حمل اللفظ المشترك على كل معانيه
دلالة قاطعة فلا تقبل المعارضة
279

سلمنا قبوله للمعارضة لكن لا معارضة ها هنا فان الدليلين إذا
اقتضيا حمل اللفظ على كلا مدلوليه أمكن أن يكون اللفظ كما كان
موضوعا لكل واحد منهما بالاشتراك فهو أيضا موضوع
للجميع أو أن المتكلم قد تكلم به مرتين ومع هذين الاحتمالين زال
التعارض وإذا بطل التعارض ثبت أنه متى قامت الدلالة على كون كل واحد
منهما مرادا وجب حمله عليهما
القسم الثاني
وهو الذي يكون مفيدا الغاء كل واحد من تلك المعاني وحينئذ يجب
حمل اللفظ على مجازات تلك الحقائق الملغاة
ثم لا يخلو إما أن تكون تلك الحقائق الملغاة بحال لو لم تقم الدلالة على
إلغائها كان البعض أرجح من البعض أوليس الأمر كذلك
فإن كان الأول فمجازاتها إما أن تكون متساوية في القرب أو لا تكون
متساوية
فان تساوت المجازات في القرب وكانت إحدى الحقيقتين
راجحة كان مجاز الحقيقة الراجحة راجحا
280

وان تفاوتت المجازات نظر فإن كان مجازا الحقيقة الراجحة راجحا فلا
كلام في رجحانه
وإن كان مجاز الحقيقة المرجوحة راجحا وقع التعارض بين المجازين لأن هذا
المجاز وإن كان راجحا إلا أن حقيقته مرجوحة
وذلك المجاز وإن كان مرجوحا إلا أن حقيقته راجحة
فقد اختص كل واحد منهما بوجه رجحان فيصار إلى الترجيح
وأما إن كانت الحقائق متساوية فإما أن يكون أحد المجازين أقرب إلى
حقيقته من المجاز الآخر أو لا يكون
فإن كان الأول وجب العمل بالأقرب
وإن كان الثاني بقيت اللفظة مترددة بين مجازات تلك الحقائق لما ثبت من
امتناع حمل اللفظ على مجموع معانيه سواء كانت حقيقية أو مجازية
القسم الثالث
وهو الذي يدل على الغاء البعض
فاللفظة المشتركة إما أن تكون مشتركة بين معنيين فقط أو أكثر
فإن كان الأول فقد زال الإجمال لأن اللفظ لما وجب حمله على معنى
ولا معنى له إلا هذان وقد تعذر حمله على ذلك فيتعين حمله على هذا
281

وإن كان الثاني وهو أن تكون المعاني أكثر من واحد فعند قيام الدليل
على إلغاء واحد منها بقي اللفظ مجملا في الباقي
وأما القسم الرابع
وهو الذي يدل على اعتبار البعض فهذا يزيل الإجمال سواء كانت
اللفظة مشتركة بين معنيين أو أكثر
المسألة السابعة
في أنه يجوز حصول اللفظ المشترك في كلام الله تعالى وكلام رسوله
صلى الله عليه وآله وسلم
والدليل على جوازه وقوعه وهو في قوله تعالى والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وفي قوله تعالى والليل إذا عسعس
فإنه مشترك بين الاقبال والادبار
282

واحتج المانع بأن ذلك اللفظ إما أن يكون المراد منه حصول الفهم أو
لا يكون
والثاني عبث
والأول لا يخلو إما أن يكون المراد منه حصول الفهم بدون بيان المقصود أو مع
بيانه
والأول تكليف ما لا يطاق
والثاني لا يخلو إما أن يكون البيان مذكورا معه أو لا يكون
فإن كان الأول كان تطويلا من غير فائدة وهو سفه وعبث
وإن كان الثاني أمكن أن لا يصل البيان إلى المكلف فحينئذ يبقى
الخطاب مجهولا
والجواب
أن هذا غير وارد على مذهبنا في أن الله تعالى يفعل ما يشاء و
يحكم ما يريد
283

وأما الجواب على أصول المعتزلة فسيأتي في مسألة تأخير البيان
عن وقت الخطاب إن شاء الله تعالى
284

الباب السادس
في الحقيقة والمجاز
وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام
أما المقدمة ففيها ثلاثة مسائل
المسألة الأولى
في تفسير لفظتي الحقيقة والمجاز في أصل اللغة أما
الحقيقة فهي فعلية من الحق
ويجب البحث ها هنا عن أمرين
أحدهما أن الحق في اللغة هو الثابت لأنه يذكر في
مقابلته الباطل فإذا كان الباطل هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو
الثابت
وثانيهما البحث عن وزن الفعيلة وفيه أيضا بحثان
الأول أن الفعيل قد يكون بمعنى المفعول وقد يكون بمعنى
الفاعل فعلى التقدير الأول معنى الحقيقة المثبتة وعلى التقدير الثاني الثابتة
الثاني أن الياء في الفعلية لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة
فلا يقال شاة أكيلة ونطيحة
285

وأما المجاز فهو مفعل من الجواز الذي هو التعدي في قولهم
جزت موضع كذا أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع
وهو في التحقيق راجع إلى الأول لأن الذي لا يكون واجبا ولا ممتنعا كان
مترددا بين الوجود والعدم فكأنه ينتقل من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى
الوجود فاللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي شبيه بالمنتقل عن
موضوعه
فلا جرم سمي مجازا
المسألة الثانية
في حد الحقيقة والمجاز
أحسن ما قيل في ما ذكره أبو الحسين وهو أن الحقيقة ما أفيد
بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به وقد دخل فيه
لحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية
والمجاز ما أفيد به معنى مصطلح عليه غير ما اصطلح عليه في أصل
تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها لعلاقة بينه وبين الأول
وهذا القيد الأخير لم يذكره أبو الحسين ولا يد منه فإنه لولا
العلاقة لما كان مجازا بل كان وضعا جديدا
وقوله معنى مصطلح عليه إنما يصح على قول من يقول المجاز لا بد فيه
من الوضع فأما من لم يقل به فيجب عليه حذفه
286

وأما قوله غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة ففيه سؤال
وذلك أنه يقتضي خروج الاستعارة عن حد المجاز
بيانه أنا إذا قلنا على وجه الاستعارة رأيت أسدا فالتعظيم الحاصل
من هذه الاستعارة ليس لأنا سميناه باسم الأسد ألا ترى أنا لو جعلنا
الأسد علما له لم يحصل التعظيم ألبتة بل التعظيم إنما حصل لأنا
قدرنا في ذلك الشخص صيرورته في نفسه أسدا لبلوغه في
الشجاعة التي هي خاصية الأسد إلى الغاية القصوى فلما قدرنا أنه صار
أسدا في نفسه أطلقنا عليه اسم الأسد وعلى هذا التقدير لا يكون
اسم الأسد مستعملا في غير موضوعه الأصلي
وجوابه أنه يكفي في تحصيل التعظيم أن يقدر أنه حصل له من
القوة مثل ما للأسد فيكون استعمال لفظ الأسد فيه استعمالا للفظ في
غير موضوعه الأصلي
وأعلم أن الناس ذكروا في تعريف الحقيقة والمجاز وجوها فاسدة
أحدها ما ذكره أبو عبد الله البصري ألا وهو أن الحقيقة ما انتظم
لفظها معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل
287

والمجاز هو الذي لا ينتظم لفظه معناه إما لزيادة أو لنقصان أو
لنقل
فالذي يكون للزيادة هو الذي ينتظم عند اسقاط الزيادة كقوله تعالى
ليس كمثله شئ فإنا لو أسقطنا الكاف استقام المعنى
والذي يكون للنقصان هو الذي ينتظم الكلام عند الزيادة كقوله
تعالى واسئل القرية ولو قيل واسئل أهل القرية صح
الكلام
والذي يكون لأجل النقل قوله رأيت أسدا وهو يعني الرجل
الشجاع
وأعلم ان هذا التعريف خطأ لأن المجاز بالزيادة والنقصان إنما كان
مجازا لأنه نقل عن موضوعه الأصلي إلى موضوع آخر في المعنى
وفي الاعراب وإذا كان كذلك لم يجز جعلهما قسمين في مقابلة النقل
أما في المعنى فلأن قوله تعالى ليس كمثله شئ يفيد نفي
مثل مثله وهو باطل لأنه يقتضي نفيه تعالى تعالى الله عن ذلك
إلا أنه نقل عن هذا المعنى إلى نفي المثل وكذلك قوله تعالى واسئل
القرية موضوع لسؤال القرية وقد نقل إلى أهلها
288

وأما في الاعراب فلأن الزيادة والنقصان متى لم يغير اعراب الباقي لم
يكن ذلك مجازا فإنك إذا قلت جاءني زيد وعمرو فهو في الأصل جاءني
زيد وجاءني عمرو إلا أنه حذف أحد اللفظين لدلالة الثاني عليه
لكن لما لم يكن الحذف سببا لتغيير الإعراب لم يحكم عليه بكونه
مجازا
وهكذا الكلام في جانب الزيادة
وأما إذا أوجبا تغيير الاعراب كانا مجازين وذلك إنما يتحقق عند
نقل اللغة اللفظة من اعراب إلى اعراب آخر
وثانيها أيضا ما ذكره أبو عبد الله البصري ثانيا فقال الحقيقة ما أفيد
بها ما وضعت له
والمجاز ما أفيد به غير ما وضع له
وهذا أيضا باطل
أما قوله في الحقيقة إنها ما أفيد بها ما وضعت له فباطل لأنه
يدخل في الحقيقة ما ليس منها لأن لفظة الدابة إذا استعملت في الدودة
والنملة فقد أفيد بها ما وضعت له في أصل اللغة مع أنه بالنسبة إلى
289

الوضع العرفي مجاز فقد دخل المجاز العرفي فيما جعله حدا لمطلق الحقيقة
وهو باطل
وقوله في المجاز إنه الذي أفيد به غير ما وضع له فهو باطل بالحقيقة
العرفية والشرعية فإن اللفظة أفيد بها والحالة هذه غير ما وضعت له في
أصل اللغة فقد دخلت هذه الحقيقة في المجاز
وأيضا فقوله ما أفيد به غير ما وضع له إما أن يكون المراد منه أنه أفيد
به غير ما وضع له بدون القرينة أو مع القرينة
والأول باطل لأن المجاز لا يفيد ألبتة بدون القرينة والثاني ينتقض بما
إذا استعمل لفظ السماء في الأرض فان اللفظ قد أفيد به غير ما وضع
له مع أنه ليس ب مجاز فيه وأيضا ينتقض بالأعلام المنقولة
فإن قلت العلم لا يفيد
قلت حق إن العلم لا يفيد في المسمى صفة وليس بحق إنه لا يفيد
أصلا بل هو يفيد عين تلك الذات لكنه لا يفيد صفة في الذات
وثالثها ما ذكره ابن جني وهو أن الحقيقة ما أقر في الاستعمال ع
لي أصل وضعه في اللغة
والمجاز ما كان بضد ذلك
290

وهذا ضعيف لأن ما ذكره في حد الحقيقة تخرج عنه الحقيقة الشرعية
والعرفية وهما يدخلان فيما جعله حد المجاز
وأيضا فقوله والمجاز ما كان بضد ذلك معناه أن المجاز هو
الذي ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة وهو باطل وإلا
لكان استعمال لفظ الأرض في السماء مجازا
ورابعها ما ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله فقال الحقيقة
كل كلمة أريد بها عين ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا يستند فيه
إلى غيره كالأسد للبهيمة المخصوصة
والمجاز كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها
لملاحظة بين الأول والثاني
291

وهذا التعريف أيضا ليس بجيد لأنه يقتضي خروج الحقيقة الشرعية
والعرفية عن حد الحقيقة ودخولهما في حد المجاز وهو غير جائز
المسألة الثالثة
في أن لفظتي الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى المفهومين المذكورين
حقيقة أو مجاز
الحق أن هاتين اللفظتين في هذين المفهومين مجازان بحسب
أصل اللغة حقيقتان بحسب العرف
بيان الأول أما في الحقيقة فلأنا بينا أنها مأخوذة من الحق وبينا
أن الحق حقيقة في الثابت ثم إنه نقل إلى العقد المطابق لأنه أولى
بالوجود من العقد غير المطابق ثم نقل إلى القول المطابق لعين هذه
العلة ثم نقل إلى استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي لأن استعماله فيه
تحقيق لذلك الوضع فظهر أنه مجاز واقع في الرتبة الثالثة بحسب اللغة
الأصلية
292

وأما المجاز فإطلاقه على المعنى المذكور على سبيل
المجاز أيضا لوجهين
الأول هو أن حقيقته العبور والتعدي وذلك إنما يحصل في
انتقال الجسم من حيز إلى حيز فأما في الألفاظ فلا فثبت أن
ذلك إنما يكون على سبيل التشبيه
الثاني هو أن المجاز مفعل وبناء المفعل حقيقة إما في المصدر أو في
الموضع فأما الفاعل فليس حقيقة فيه فاطلاقه على اللفظ المنتقل لا
يكون إلا مجازا
هذا إذا قلنا إن المجاز مأخوذ من التعدي
وأما إذا قلنا إنه مأخوذ من الجواز كان حقيقة لا
مجازا لأن الجواز كما يمكن حصوله في الأجسام يمكن حصوله في
الأعراض
293

فاللفظ يكون موضوعا لذلك الجواز لأنه موضوع لجواز أن يستعمل
في غير معناه الأصلي فيكون حقيقة من هذين الوجهين إلا أنا قد ذكرنا أن
الجواز إنما سمي جوازا مجازا عن معنى العبور والتعدي والله أعلم
بالصواب
294

القسم الأول
في أحكام الحقيقة
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في اثبات الحقيقة اللغوية
والدليل عليه أن ها هنا ألفاظا وضعت لمعان ولا شك أنها قد
استعملت بعد وضعها فيها ولا معنى للحقيقة إلا ذلك
واحتج الجمهور عليه بأن اللفظ إن استعمل في موضوعه الأصلي
فهو الحقيقة وان استعمل في غير موضوعه الأصلي كان مجازا
لكن المجاز فرع الحقيقة ومتى وجد الفرع وجد الأصل فالحقيقة موجودة
لا محالة
وهذا ضعيف لأن المجاز لا يستدعي إلا مجرد كونه موضوعا قبل ذلك لمعنى
آخر
وستعرف أن اللفظ في الوضع الأول لا يكون حقيقة ولا مجازا
فالمجاز غير متوقف على الحقيقة
295

المسألة الثانية
في الحقيقة العرفية اللفظة العرفية هي التي انتقلت عن مسماها إلى غيره بعرف
الاستعمال
ثم ذلك العرف قد يكون عاما وقد يكون خاصا
ولا شك في إمكان القسمين إنما النزاع في الوقوع فنقول
أما القسم الأول
فالحق أن تصرفات أهل العرف منحصرة في أمرين
أحدهما أن يشتهر المجاز بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة ثم
للمجاز جهات كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى
منها حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كاضافتهم ثنا الحرمة إلى
الخمر وهي في الحقيقة مضافة إلى الشرب
ومنها تسميتهم الشئ باسم شبيهه كتسميتهم حكاية كلام زيد بأنه
كلام زيد
ومنها تسميتهم الشئ باسم ما له به تعلق كتسميتهم قضاء الحاجة
بالغائط الذي هو المكان المطمئن من الأرض وكتسميتهم المزادة
بالرواية التي هي اسم الجمل الذي يحملها
وثانيهما تخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة فإنها مشتقة من
296

الدبيب ثم إنها اختصت ببعض البهائم والملك مأخوذ من الألوكة
وهي الرسالة ثم اختص ببعض الرسل والجن مأخوذ من
الاجتنان به ثم اختص ببعض من يستتر عن العيون وكذا القارورة
والخابية موضوعتان لما يستقر فيه الشئ وتخبأ فيه ثم خصصا بشئ
معين
فالتصرف الواقع على هذين الوجهين هو الذي ثبت من أهل العرف
ف أما على غير هذين الوجهين فلم يثبت عنهم فلا يجوز إثباته
والذي يدل على وجود هذا القدر من التصرف أن علامات الحقيقة كما
سنذكرها حاصلة في هذه الألفاظ عرفا فوجب كونها حقيقة فيه
297

وأما القسم الثاني
وهو العرف الخاص فهو ما لكل طائفة من العلماء من
الاصطلاحات التي تخصهم كالنقض والكسر والقلب
والجمع والفرق للفقهاء
والجوهر والعرض والكون للمتكلمين
والرفع والنصب والجر للنحاة ولا شك في وقوعه
المسألة الثالثة
في الحقيقة الشرعية و
هي اللفظة التي استفيد من الشرع وضعها للمعنى سواء كان
المعنى واللفظ مجهولين عند أهل اللغة أو كانا معلومين لكنهم لم يضعوا ذلك
الاسم لذلك المعنى أو كان أحدهما مجهولا والآخر معلوما
واتفقوا على إمكانه واختلفوا في وقوعه
فالقاضي أبو بكر منع منه مطلقا
298

والمعتزلة أثبتوه مطلقا وزعموا أنها منقسمة إلى أسماء أجريت على
الأفعال وهي الصلاة والزكاة والصوم وغيرها
وإلى أسماء أجريت على الفاعلين كالمؤمن والفاسق والكافر وهذا الضرب
يسمى بالأسماء الدينية تفرقة بينهما وبين ما أجريت على
الأفعال وإن كان الكل على السواء في أنه عرف شرعي
والمختار إن اطلاق هذه الألفاظ على هذه المعاني على سبيل المجاز من
الحقائق اللغوية
لنا
أن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني لو لم تكن لغوية لما كان القرآن كله
عربيا وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم
أما الملازمة فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن فلو لم تكن إفادتها
لهذه المعاني عربية لزم أن لا يكون القرآن كله عربيا
299

وأما فساد اللازم فلقوله تعالى قرآنا عربيا وقوله تعالى وما
أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
فإن قيل هذا الدليل فاسد الوضع لأنه يقتضي أن تكون هذه الألفاظ
مستعملة في عين ما كان العرب يستعملونها فيه وبالاتفاق ليس كذلك
فإن الصلاة لا يراد بها في الشرع نفس الدعاء أو المتابعة فقط
فإذن ما يقتضيه هذا الدليل لا تقولون به وما تقولون به لا يقتضيه هذا
الدليل فكان فاسدا
سلمنا أنه ليس فاسد الوضع، لكن الملازمة ممنوعة.
بيانه: أن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني وإن لم تكن عربية
لكنها في الجملة ألفاظ عربية فإنهم كانوا يتكلمون بها في الجملة وإن
كانوا يعنون بها غير هذه المعاني وإذا كان كذلك كانت هذه
الألفاظ عربية
سلمنا أنها إذا استعملت في غير معانيها العربية لا تكون عربية لكن
لم يلزم أن لا يكون القرآن عربيا
300

بيانه أن هذه الألفاظ قليلة جدا فلا يلزم خروج القرآن بسببها عن كونه
عربيا فإن الثور الأسود لا يمتنع إطلاق اسم الأسود عليه لوجود شعرات بيض
في جلده والشعر الفارسي يسمى فارسيا وان وجدت فيه كلمات
كثيرة عربية
سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز خروج كل القرآن عن كونه عربيا
وأما الآيات فهي لا تدل على أن القرآن بكليته عربي لأن القرآن يقال
بالاشتراك على مجموعه وعلى كل بعض منه لأربعة أوجه
أحدها لو حلف أن لا يقرأ القرآن فقرأ آية حنث في يمينه ولولا
أن الآية مسماة بالقرآن وإلا لما حنث
الثاني أن الدليل يقتضي أن يسمى كل ما يقرأ قرآنا لأنه مأخوذ من
القراءة أو القرء وهو الجمع خالفناه فيما عدا هذا الكتاب فنتمسك
به في الكتاب بمجموعه وأجزائه
301

الثالث أنه يصح أن يقال هذا كل القرآن وهذا بعض القرآن ولو لم
يكن القرآن إلا اسما للكل لكان الأول تكرار والثاني نقضا
الرابع قوله تعالى في سورة يوسف إنا أنزلناه قرآنا عربيا والمراد
منه تلك السورة
فثبت أن بعض القرآن قرآن وإذا ثبت هذا لم يلزم من كون القرآن
عربيا كونه بالكلية كذلك
سلمنا أن ما ذكرتم من الدليل يقتضي كون القرآن بالكلية عربيا
لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بالكلية عربيا فإن الحروف المذكورة في أوائل
السور ليست عربية والمشكاة من لغة الحبشة والاستبرق
والسجيل فارسيتان هذا معربتان ثم والقسطاس من لغة الروم
302

سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على مذهبكم لكنه معارض بأدلة
أخرى من حيث الاجمال والتفصيل
أما الاجمال فهو أنه قد ثبت بالشرع معان لم تكن ثابتة قبله
وما لم يكن معقولا للعرب لا يجوز أن يضعوا له اسما وذا لم يكن لها شئ من
الأسامي واحتيج إلى تعريفها فلا بد من وضع الأسامي لها كالولد
الحادث والأداة الحادثة
أما التفصيل فهو أن يتبين في كل واحد من هذه الألفاظ أنها
مستعلمة لا في معانيها الأصلية
أما الإيمان فهو في أصل اللغة عبارة عن التصديق
وفي الشرع عبارة عن فعل الواجبات ويدل عليه ثمانية أوجه
الأول أن فعل الواجبات هو الدين والدين هو الاسلام والاسلام
هو الايمان ففعل الواجبات هو الايمان
303

وإنما قلنا إن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى وما أمروا
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
وذلك دين القيمة فقوله وذلك دين القيمة يرجع إلى كل ما
تقدم فيجب أن يكون كل ما تقدم دينا
وإنما قلنا إن الدين هو الإسلام لقوله تعالى إن الذين عند الله
الإسلام
وإنما قلنا إن الاسلام هو الايمان لوجهين
أحدهما أن الايمان لو كان غير الاسلام لما كان مقبولا ممن
ابتغاه لقوله تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه
والثاني أنه تعالى استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى
فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من
المسلمين ولولا الاتحاد لما صح الاستثناء
الثاني قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم قيل
صلاتكم
الثالث قوله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله إلى آخر
الآية ثم إن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في
304

آخر هذه الآية ان يستغفر لهم والفاسق لا يستغفر له الرسول حال
كونه فاسقا بل يلعنه ويذمه فدل على أنه غير مؤمن
الرابع أن قاطع الطريق يخزى يوم القيامة والمؤمن لا يخزى يوم القيامة
فقاطع الطريق ليس بمؤمن
أما الأول فلأن الله تعالى يدخله النار يوم القيامة وكل من كان
كذلك فقد أخزي أما الأول فلقوله تعالى في صفتهم ولهم في الآخرة
عذاب عظيم
وأما الثاني فلقوله تعالى حكاية عنهم ربنا إنك من تدخل
النار فقد أخزيته ولم يكذبهم فدل على صدقهم فيه
وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى يوم القيامة لقوله تعالى يوم لا يخزي الله
النبي والذين آمنوا معه
الخامس لو كان الايمان في عرف الشرع عبارة عن التصديق لما
صح وصف المكلف به إلا في الوقت الذي يكون مشتغلا به على ما مر بيانه
في باب الاشتقاق لكن ليس كذلك لأن من أتى بأفعال الايمان
ولم يحبطها يقال إنه مؤمن بل حال كونه نائما يوصف بأنه
مؤمن
السادس يلزم أن يوصف بالايمان كل مصدق بأمر من الأمور سواء كان
مصدقا بالله تعالى أو بالجبت والطاغوت
305

السابع من علم بالله تعالى ثم سجد للشمس وجب أن يكون
مؤمنا وبالاجماع ليس كذلك
الثامن قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أثبت
الايمان مع الشرك والتصديق بوحدانية الله لا يجامع الشرك فالايمان غير
التصديق
أما الصلاة فهي في أصل اللغة إما للمتابعة كما يسمى الطائر
الذي يتبع السابق مصليا
وإما للدعاء كما في قول الشاعر
وصلى على دنها وارتسم
أو لعظم الورك كما قال بعضهم الصلاة إنما سميت صلاة لأن
العادة في الصلاة أن يقف المسلمون صفوفا فإذا ركعوا كان رأس أحدهم عند
صلا الآخر وهو عظم الورك
306

ثم إنها في الشرع لا تفيد شيئا من هذه المعاني الثلاثة لوجهين
الأول أنا إذا أطلقناها لم يخطر ببال السامع شئ من هذه الثلاثة ومن
شأن الحقيقة المبادرة إلى الفهم
الثاني أن صلاة الامام والمنفردة صلاة ولم يوجد فيها شئ من
المتابعة ولا يكون رأسه عند عظم ورك غيره
وإذا انتقل الانسان من الدعاء إلى غيره لا يقال إنه فارق صلاته
ولأن صلاة الأخرس صلاة ولا دعاء فيها فدل على أن هذه
اللفظة غير مستعملة في معانيها اللغوية
وأما الزكاة فإنها في اللغة للنماء والزيادة وفي الشرع لتنقيص
المال على وجه مخصوص
وأما الصوم فإنه في اللغة لمطلق الامساك
وفي الشرع للامساك المخصوص ولا يتبادر الذهن عند سماعه إلى مطلق
الامساك
والجواب
قوله الدليل فاسد الوضع لأنه يقتضي كون هذه الألفاظ موضوعة
في المعاني التي كانت العرب يستعملونها فيها
قلنا هذا الدليل يقتضي كون هذه الألفاظ مستعملة في المعاني التي كانت
307

العرب يستعملونها فيها على سبيل الحقيقة فقط أو سواء كانت حقيقة
أو مجازا
الأول ممنوع والثاني مسلم
بيانه أن العرب كما كانوا يتكلمون بالحقيقة كانوا يتكلمون بالمجاز
ومن المجازات المشهورة تسميتهم الشئ باسم جزئه كما يقال للزنجي إنه
أسود والدعاء أحد أجزاء هذا المجموع المسمى بالصلاة بل هو
الجزء المقصود لقوله تعالى وأقم الصلاة لذكري ولأن
المقصود من الصلاة التضرع والخضوع فلا جرم لم يكن اطلاق لفظ الصلاة
عليه خارجا عن اللغة
فإن كان مذهب المعتزلة في هذه الأسماء الشرعية ذلك فقد ارتفع النزاع
وإلا فهو مردود بالدليل المذكور
فإن قلت من شرط المجاز اللغوي تنصيص أهل اللغة على
تجويزه وها هنا لم يوجد ذلك لأن هذه المعاني كانت معقولة لهم فكيف
يمكن أن يقال إنهم جوزوا نقل لفظ الصلاة من الدعاء الذي هو أحد أجزاء
هذا المجموع إليه
قلت لا نسلم أن شرط حسن استعمال المجاز تصريح أهل اللغة بجوازه
308

سلمنا ذلك إلا أنهم صرحوا بأن اطلاق اسم الجزء على الكل على
سبيل المجاز جائز فدخلت هذه الصورة فيه
قوله إفادة هذه اللفظة لهذا المعنى وإن لم تكن عربية فلم لا يجوز
أن يقال هذه اللفظة عربية
قلنا لأن كون اللفظة عربية ليس حكما حاصلا لذات اللفظة من حيث هي
هي بل حيث هي دالة على المعنى المخصوص فلو لم تكن دلالتها
على معناها عربية لم تكن اللفظة عربية
قوله اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة لا يخرجه عن كونه عربيا
قلنا لا نسلم فإنه لما وجد فيه ما لا يكون عربيا وإن كان في غاية
القلة لم يكن المجموع عربيا وأما الثور الأسود الذي توجد فيه شعرة واحدة
بيضاء والقصيدة الفارسية التي يوجد فيها ألفاظ عربية فلا نسلم جواز اطلاق
الأسود والفارسي على مجموعهما على سبيل الحقيقة
والدليل عليه جواز الاستثناء ولولا أنه يمجموعه رسول لا يسمى بهذا الاسم
حقيقة وإلا لما جاز الاستثناء
قوله القرآن اسم لمجموع الكتاب أوله ولبعضه
قلنا بل للمجموع بدليل إجماع الأمة على أن الله تعالى ما
309

أنزل إلا قرآنا واحدا ولو كان لفظ القرآن حقيقة في كل بعض منه لما كان
القرآن واحدا
وما ذكروه من الوجوه الأربعة معارض بما يقال في كل آية وسورة إنه من
القرآن وإنه بعض القرآن
قوله وجد في القرآن ألفاظ عربية
قلنا لا نسلم أما الحروف المذكورة في أوائل السور فعندنا أنها
أسماء السور
وأما المشكاة والقسطاس والاستبرق فلا مانع من كونها
عربية وإن كانت موجودة في سائر اللغات فإن توافق اللغات غير ممتنع
سلمنا أنها ليست بعربية لكن العام إذا خص يبقى حجة فيما وراءه
قوله هذه المسميات حدثت فلا بد م حدوث أسمائها
قلنا لم لا يكفي فيها المجاز وهو تخصيص هذه الألفاظ المطلقة
ببعض مواردها فإن الإيمان والصلاة والصوم كانت موضوعة
لمطلق التصديق والدعاء والامساك ثم تخصصت بسبب الشرع بتصديق
معين ودعاء معين وامساك معين والتخصيص لا يتم إلا بادخال قيود زائدة على
الأصل
وحينئذ يكون اطلاق اسم المطلق على المقيد اطلاقا لاسم الجزء على الكل
وأما الزكاة فإنها من المجاز الذي ينقل فيه اسم المسبب إلى السبب
310

والجواب عن المعارضة الأولى أنا لا نسلم أن فعل الواجبات هو
الدين
أما قوله تعالى وذلك دين القيمة فنقول لا يمكن رجوعه إلى ما
تقدم لوجهين
أحدهما أن ذلك لفظ الوجدان فلا يجوز صرفه إلى الأمور الكثيرة
والثاني أنه من ألفاظ الذكران فلا يجوز صرفه إلى إقامة الصلاة وإذا
كان كذلك فلا بد من إضمار شئ آخر وهو أن يقولوا ذلك الذي أمرتم
به دين القيمة
وإذا كان كذلك فليسوا بأن يضمروا ذلك أولى منا بأن نضمر
شيئا آخر وهو أن نقول معناه أن ذلك الاخلاص أو ذلك
التدين دين القيمة ويكون قوله تعالى مخلصين له الدين دالا
على الاخلاص
وإذا تعارض الاحتمالات فعليهم الترجيح وهو معنا لأن إضمارهم
يؤدي إلى تغيير اللغة واضمارنا ولا يؤدي إلى عدم التغيير
والجواب عن الثاني أنا لا نسلم أن المراد في قوله تعالى وما كان الله
311

ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى بيت المقدس بل المراد منه موضوعه
اللغوي وهو التصديق بوجوب تلك الصلاة
وعن الثالث لا نسلم أن كلمة إنما للحصر
سلمناه لكنه معارض بآيات منها ما يدل على أن محل الايمان
هو القلب وذلك يدل على مغايرة الايمان لعمل الجوارح قال تعالى
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقلبه مطمئن بالإيمان
يشرح صدره للإسلام
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت
قلبي على دينك
312

ومنها الآيات الدالة على أن الأعمال الصالحة أمور مضافة إلى الإيمان قال
الله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومن يؤمن بالله
ويعمل صالحا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فمن
يعمل من الصالحات وهو مؤمن
ومنها الآيات الدالة على مجامعة الايمان مع المعاصي قال الله تعالى الذين
آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
وهذا هو الجواب عن سائر الآيات التي تمسكوا بها
والجواب عن الخامس أن ما ذكروه لازم عليهم لأنه قد يسمى
مؤمنا حال كونه غير مباشر لأعمال الجوارح
313

والجواب عن السادس أنا نعترف بأن الايمان في عرف
الشرع ليس ل مطلق التصديق بل التصديق الخاص وهو تصديق
محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل أمر ديني علم بالضرورة مجيئه به
وهو الجواب عن السابع والثامن و
أما الذي احتجوا به من أن الصلاة والصوم غير مستعملين في
موضوعيهما اللغويين فمسلم ولكنهما مستعملان في أمور هي مجازات
بالنسبة إلى تلك الموضوعات الأصلية وهم ما أقاموا الدلالة على فساده والله
أعلم
فروع على القول بالنقل
الأول النقل خلاف الأصل ويدل عليه أمور
أحدها أن النقل لا يتم إلا بثبوت الوضع اللغوي ثم نسخه ثم ثبوت
الوضع الآخر
وأما الوضع اللغوي فإنه يتم بوضع واحد وما يتوقف على ثلاثة
أشياء مرجوح بالنسبة إلى ما لا يتوقف إلى علي شئ واحد
314

وثانيها أن ثبوت الحكم في الحال يفيد ظن البقاء على ما سنقيم الدليل
عليه في باب الاستصحاب وذلك يدل على أن البقاء على الوضع الأول
أرجح
وثالثها أنه لو كان احتمال بقاء اللغة على الوضع الأصلي معارضا لاحتمال
التغيير لما فهمنا عند التخاطب شيئا إلا إذا سألنا في كل لفظة هل
بقيت على وضعها الأول
وإذا لم يكن كذلك ثبت ما قلناه
الفرع الثاني لا شك في ثبوت الألفاظ المتواطئة في الأسماء الشرعية
واختلفوا في وقوع الأسماء المشتركة
والحق وقوعها لأن لفظ الصلاة مستعمل في معان شرعية لا يجمعها جامع
لأن اسم الصلاة يتناول ما لا قراءة فيه كصلاة الأخرس وما لا سجود فيه ولا
ركوع كصلاة الجنازة وما لا قيام فيه كصلاة القاعد والصلاة بالايماء على
مذهب الشافعي رضي الله عنه ليس فيها شئ من ذلك وليس بين هذه
الأشياء قدر مشترك يجعل مسمى الصلاة فيها حقيقة
315

وأما المترادف فالأظهر أنه لم يوجد لأنه ثبت أنه على خلاف
الأصل فيقدر بقدر الحاجة
الفرع الثالث كما وجد الاسم الشرعي فهل وجد الفعل الشرعي و
الحرف الشرعي
الأقرب أنه لم يوجد أما أولا فبالإستقراء لم
وأما ثانيا فلأن الفعل صيغة دالة على وقوع المصدر بشئ غير معين في
زمان معين فإن كان المصدر لغويا استحال كون الفعل شرعيا
وإن كان شرعيا وجب كون الفعل أيضا شرعيا تبعا لكون
المصدر شرعيا
فيكون كون الفعل شرعيا أمرا حصل بالعرض لا بالذات
الفرع الرابع في أن صيغ العقود انشاءات حدثنا أم إخبارات
316

لا شك أن قوله نذرت وبعت واشتريت صيغ الأخبار في اللغة وقد تستعمل
في الشرع أيضا للإخبار وإنما النزاع في أنها حيث تستعمل
لاستحداث الأحكام إخبارات أم إنشاءات ابن
والثاني هو الأقرب لوجوه
الأول أن قوله أنت طالق لو كان إخبارا لكان إما أن يكون
إخبارا عن الماضي أو الحال أو المستقبل والكل باطل فبطل القول بكونها
أخبارا
أما أنه لا يمكن أن يكون إخبارا عن الماضي والحاضر فلأنه لو كان
كذلك لامتنع تعليقه على الشرط لأن التعليق عبارة عن توقيف دخوله في
الوجود على دخوله في غيره الوجود وما دخل في الوجود لا يمكن توقيف دخوله
في الوجود على دخول غيره في الوجود ولما صح تعليقه على الشرط بطل
كونه إخبارا عن الماضي أو الحال
وأما أنه لا يمكن أن يكون إخبارا عن المستقبل فلأن قوله أنت
طالق في دلالته على الإخبار عن صيرورتها موصوفة بالطلاق في المستقبل
ليس أقوى من تصريحه بذلك وهو قوله ستصيرين طالقا في المستقبل
317

لكنه لو صرح بذلك فإنه لا يقع الطلاق فما هو أضعف منه وهو
قوله أنت طالق أولى بأن لا يقتضي وقوع الطلاق
الثاني أن هذه الصيغ لو كانت أخبارا لكانت إما أن
تكون كذبا أو صدقا
فإن كانت كذبا فلا عبرة بها وإن كانت صدقا فوقوع الطالقية إما أن
يكون متوقفا على حصول هذه الصيغ أو لا يكون
فإن كان متوقفا عليه فهو محال لأن كون الخبر صدقا يتوقف على وجود
المخبر عنه والمخبر عنه ها هنا هو وجود الطالقية فلإخبار قوله عن الطالقية
يتوقف كونها صدقا على حصول الطالقية فلو توقف حصول الطالقية على
هذا الخبر لزم الدور وهو محال
وإن لم يكن متوقفا عليه فهذا الحكم لا بد له من سبب آخر فبتقدير ح
صول ذلك السبب تقع الطالقية وإن لم يوجد هذا الخبر
وبتقدير عدمه لا توجد وإن وجد هذا الإخبار وذلك باطل
بالاجماع
فان قيل لم لا يجوز أن يكون تأثير ذلك المؤثر في حصول الطالقية
يتوقف على هذه اللفظة
318

قلت هذه اللفظة إذا كانت شرطا لتأثير المؤثر في الطالقية وجب
تقدمها على الطالقية لكنا بينا أنا متى جعلناه خبرا صادقا لزم تقدم
الطالقية عليها فيعود الدور
الثالث قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن أمر بالتطليق فيجب أن
يكون قادرا على التطليق ومقدوره ليس إلا قوله طلقت فدل على أن
ذلك مؤثر في الطالقية
الرابع لو أضاف الطلاق إلى الرجعية وقع وإن كان صادقا بدون الوقوع
فثبت أنه انشاء لا إخبار والله أعلم
319

القسم الثاني
في المجاز
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في أقسام المجاز المجاز إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط أو في مركباتها أو فيهما
معا
أما الذي يقع في المفردات فكإطلاق له لفظ الأسد على الشجاع
والحمار على البليد
وأما الذي يقع في التركيب فهو أن يستعمل كل واحد من
الألفاظ المفردة في موضوعه الأصلي لكن التركيب لا يكون مطابقا لما في
الوجود كقوله
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
321

فكل واحد من الألفاظ المفردة التي في هذا البيت مستعمل في
موضوعه الأصلي لكن اسناد أشاب إلى كر الغداة غير مطابق لما
عليه الحقيقة فإن الشيب يحصل بفعل الله تعالى لا بكر الغداة
وأما الذي يقع في المفردات والتركيب معا فكقولك لمن تداعبه ذلك
أحياني اكتحالي بطلعتك فإنه استعمل الإحياء لا في موضوعه
الأصلي ولفظ الاكتحال لا في موضوعه الأصلي ثم نسب الإحياء إلى
الاكتحال مع أنه غير منتسب إليه
وقد جاء في القرآن والأخبار من الأقسام الثلاثة شئ كثير والأصوليون لم
يتنبهوا للفرق بين هذه الأقسام وإنما لخصه الشيخ عبد القاهر النحوي
المسألة الثانية
في إثبات المجاز المفرد
الدليل عليه أنهم يستعملون الأسد في الشجاع والحمار في
البليد مع اعترافهم بأن الأسد والحمار غير موضوعين في أول الأمر
لهذين المعنيين بل إنهما أطلقا عليهما لما بين مفهوميهما وبين هذين
الأمرين من المشابهة ولا معنى للمجاز إلا ذلك
322

واحتج المانعون منه بأن اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز فإما أن
يفيده مع القرينة أو بدون القرينة
والأول باطل لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك فيكون هو مع
تلك القرينة حقيقة فيه لا مجازا وبدون تلك القرينة غير مفيد له
أصلا فلا يكون حقيقة ولا مجازا
فظهر أن اللفظ على هذا التقدير لا يكون مجازا لا حال
القرينة ولا حال عدم القرينة
والثاني أيضا باطل لأن اللفظ لو أفاد معناه المجازي بدون قرينة لكان
حقيقة فيه لأنه لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلا بالإفادة بدون القرينة
والجواب أن هذا نزاع في العبارة ولنا أن نقول اللفظ الذي لا يفيد إلا مع
القرينة هو المجاز ولا يقال اللفظ مع القرينة حقيقة فيه لأن دلالة القرينة ليست
دلالة وضعية حتى يجعل المجموع لفظا واحدا دالا على المسمى
المسألة الثالثة
في أقسام هذا المجاز
والذي يحضرنا منه اثنا عشر وجها
أحدها اطلاق اسم السبب على المسبب والأسباب أربعة القابل
والصورة والفاعل والغاية
مثال تسمية الشئ باسم قابله قولهم سال الوادي
323

ومثال التسمية باسم الصورة تسميتهم اليد بالقدرة
ومثال التسمية باسم بالفاعل حقيقة أو ظنا تسمية المطر
بالسماء
ومثال التسمية باسم الغاية تسمية العنب بالخمر والعقد بالنكاح
وثانيها اطلاق اسم المسبب على السبب كتسمية المرض الشديد والمذلة
العظيمة بالموت ويحتمل أن يكون وجه المجاز ها هنا ما بين الأمرين من
المشابهة
ثم ها هنا بحثان
البحث الأول أن العلة الغائية حال كونها ذهنية علة
العلل وحال كونها خارجية معلولة العلل فقد حصلت لها
علاقتا محمد العلية والمعلولية وكل واحدة منها علة لحسن التجوز إلا أن نقل
اسم السبب إلى المسبب أحسن من العكس لأن السبب المعين يقتضي
المسبب المعين لذاته
324

وأما المسبب المعين فإنه لا يقتضي لذاته السبب المعين على ما بينا
الفرق بينهما في الكتب العقلية
وإذا كان كذلك كان اطلاق اسم السبب على المسبب أولى من
العكس
الثاني هو أن العلة الغائية لما اجتمع فيها الوجهان السببية
والمسببية كان استعمال اللفظ المجازي فيها أولى من سائر المواضع
لاجتماع الوجهين
وثالثها تسمية الشئ باسم ما يشابهه كتسمية الشجاع أسدا
والبليد حمارا وهذا القسم على الخصوص هو المسمى
بالمستعار
ورابعها تسمية الشئ باسم ضده كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة
مثلها فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
325

ويمكن جعل ذلك من باب المجاز للمشابهة لأن جزاء السيئة يشبهها في
كونها سيئة بالنسبة إلى من يصل إليه ذلك الجزاء
وخامسها تسمية الجزء باسم الكل كاطلاق اللفظ العام مع أن المراد
منه الخصوص
وسادسها تسمية الكل باسم الجزء كما يقال للزنجي إنه أسود والأول
أولى لأن الجزء لازم الكل أما الكل فليس بلازم للجزء
وسابعها تسمية إمكان الشئ باسم وجوده كنا يقال للخمر التي في الدن
إنها مسكرة
وثامنها إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه كقولنا للانسان بعد فراغه
من الضرب إنه ضارب
وتاسعها المجاورة كنقل اسم الراوية من الجمل إلى ما
يحمل عليه من ظرف الماء وكتسمية إلى الشراب بالكأس ويمكن جعله
من المجاز بسبب القابل
326

وعاشرها المجاز بسبب أن أهل العرف تركوا استعماله فيما كانوا
يستعملونه فيه ك الدابة إذا استعملت في الحمار
فإن قلت لفظ الدابة إما أن يكون مجازا من حيث إنه صار
مستعملا في الفرس وحده أو من حيث منع من استعماله في غيره
والأول من باب اطلاق اسم العام على الخاص فلا يكون قسما آخر
والثاني باطل لأن المجازية كيفية عارضة للفظة من جهة دلالتها
على المعنى لا من جهة عدم دلالتها على الغير
قلت لفظ الدابة إذا استعمل في الحمار والكلب كان ذلك مجازا بالنسبة
إلى الوضع العرفي لأنه يكون مستعملا في غير موضعه لعلاقة بينه وبين
موضوعه ويكون ذلك حقيقة بالنسبة إلى الوضع اللغوي إلا أن هذا
المجاز من باب المشابهة فلا يكون في الحقيقة قسما آخر
وحادي عشرها المجاز بسبب الزيادة والنقصان وقد ذكرنا مثاليهما كان وبينا
كيفية الحال فيهما
وثاني عشرها تسمية المتعلق باسم المتعلق كتسمية المعلوم علما والمقدور
قدرة
327

المسألة الرابعة
في أن المجاز بالذات لا يدخل دخولا أوليا إلا في أسماء الأجناس
أما الحرف فلا يدخل فيه المجاز بالذات لأن مفهومه غير مستقل
بنفسه بل لا بد أن ينضم إليه شئ آخر لتحصل الفائدة
فإن ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه فهو حقيقة فيه وإلا فهو مجاز في
المركب لا في المفرد
وأما الفعل فهو لفظ دال على ثبوت شئ لموضوع غير معين في
زمان معين فيكون الفعل مركبا من المصدر وغيره فما لم يدخل المجاز
في المصدر استحال دخوله في الفعل الذي لا يفيد إلا ثبوت ذلك المصدر
لشئ
وأما الاسم فهو إما علم أو مشتق أو اسم جنس
أما العلم فلا يكون مجازا لأن شرط المجاز أن يكون النقل لأجل علاقة بين
الأصل والفرع وهي غير موجودة في الأعلام
328

وأما المشتق فما لم يتطرق المجاز إلى
المشتق منه فلا يتطرق إلى المشتق الذي لا معنى له إلا أنه أمر ما حصل له المشتق منه
فاذن المجاز لا يتطرق في الحقيقة إلا إلى أسماء الأجناس والله أعلم
المسألة الخامسة
في أن استعمال اللفظ في معناه المجازي يتوقف على السمع
الدليل عليه أن لفظ الأسد لا يستعار للرجل الشجاع إلا لأجل
المشابهة في الشجاعة لكن الرجل الشجاع كما يشبه الأسد في شجاعته فقد
يشبهه في صفات أخر كالبخر وغيره فلو كانت المشابهة كافية في
ذلك ل جاز استعارة الأسد للأبخر أبو ولما لم يجز ذلك صح قولنا
ولأنهم قد يطلقون النخلة على الرجل الطويل ولا يطلقونها على غير
الانسان وذلك يدل على اعتبار الاستعمال في المجاز
واحتج المخالف بوجهين
الأول اتفقوا على أن وجوه المجازات والاستعارات مما يحتاج في استخراجها
إلى تدقيق النظر وما يكون نقليا لا يكون كذلك
الثاني أنك إذا قلت رأيت أسدا وعنيت به الشجاع فالغرض من
329

التعظيم إنما يحصل بإعارة معنى الأسد له فإنك لو أعطيته الاسم بدون
المعنى لم يحصل التعظيم
وإذا كانت إعارة اللفظ تابعة لاعارة المعنى وإعارة المعنى حاصلة
بمجرد قصد المبالغة وجب أن لا يتوقف استعمال اللفظ المستعار على
السمع
والجواب عن الأول أن المستخرج بالفكر جهات حسن المجاز
وعن الثاني أن هذه الإعارة ليست أمرا حقيقيا بل أمرا تقديريا فلم لا
يجوز أن يمنع الواضع منه في بعض المواضع دون البعض
المسألة السادسة
في أن المجاز مركب عقلي
ومثاله في القرآن قوله تعالى وأخرجت الأرض أثقالها وقوله
مما تنبت الأرض
فالإخراج والإنبات غير مستندين في نفس الأمر إلى
الأرض بل إلى الله تعالى وذلك حكم عقلي ثابت في نفس
330

الأمر فنقله عن متعلقه إلى غيره نقل لحم عقلي لا للفظ
لغوي فلا يكون هذا المجاز إلا عقليا
فان قلت لم لا يجوز أن يقال صيغة أخرج وأنبت
وضعت في أصل اللغة بإزاء صدور الخروج والنبات من القادر فإذا
استعملت في صدورهما من الأرض فقد استعملت الصيغة في غير
موضوعها فيكون هذا المجاز لغويا
قلت إن أمثلة الأفعال لا تدل بالتضمن على خصوصية المؤثر
والدليل عليه وجوه
أحدها أنه لو كانت كذلك لكان المفهوم من لفظة أخرج أن
القادر صدر عنه هذا الأثر فيكون مجرد قولنا أخرج خبرا تاما فكان
يلزم أن يتطرق إليه وحده التصديق ولتكذيب ومعلوم أنه ليس كذلك
وثانيها أنه يصح أن يقال أخرجه القادر ولو كان القادر جزءا من
مفهوم أخرج لكان التصريح بذكر القادر تكرارا
وثالثها هب أنها دالة على صدور الفعل عن القادر فأما عن
القادر المعين فلا وإلا لزم حصول الاشتراك اللفظي بحسب كل واحد واحد
من القادرين
إذا ثبت هذا فنقول إذا أضيف ذلك الفعل إلى غير ذلك القادر الذي هو
331

صادر عنه لم يكن التغيير واقعا في مفهومات الألفاظ بل في إسناد
مفهوماتها إلى غير ما هو مستندها
فإن قال قائل ما الفرق بين هذا المجاز وبين الكذب
قلنا الفارق هو القرينة وهي قد تكون حالية وقد تكون مقالية
أما الحالية فهي ما إذا علم أو ظن أن المتكلم لا يتكلم بالكذب
فيعلم أن المراد ليس هو الحقيقة بل المجاز
ومنها أن يقترن الكلام بهيئات مخصوصة قائمة بالمتكلم دالة على
أن المراد ليس هو الحقيقة بل المجاز
ومنها أن يعلم بسبب خصوص الواقعة أنه لم يكن للمتكلم داع
إلى ذكر الحقيقة فيعلم أن المراد هو المجاز
وأما القرينة المقالية فهي أن يذكر المتكلم عقيب ذلك الكلام ما
يدل على أن المراد من الكلام الأول غير ما أشعر به ظاهره
المسألة السابعة ف
ي جواز دخول المجاز في خطاب الله تعالى وخطاب
رسوله صلى الله عليه وسلم
332

الأكثرون جوزوا ذلك خلافا لأبي بكر بن داود الأصفهاني
لنا قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض فأقامه وجاء ربك و
قد ثبت بالدليل أنه لا يجوز أن يكون المراد منها ظواهرها فوجب صرفها
إلى غير ظواهرها وهو المجاز
واحتج المخالف بأمور
أحدها لو خاطب الله بالمجاز لجاز وصفه بأنه متجوز
ومستعير
وثانيها أن المجاز لا ينبئ بنفسه عن معناه فورود القرآن به يقتضي
الالتباس
وثالثها أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة وهو
على الله تعالى محال
ورابعها أن كلام الله تعالى كله حق وكل حق فله
حقيقة وكل ما كان حقيقة فإنه لا يكون مجازا
333

والجواب عن الأول أن أسامي الله تعالى توقيفية وبتقدير
كونها اصطلاحية لكن لفظ المتجوز يوهم كونه تعالى فاعلا ما لا ينبغي
فعله وهو في حق الله تعالى محال
وعن الثاني أنه لا التباس مع القرينة الدالة على المراد
وعن الثالث أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأغراض سنذكرها إن شاء الله
تعالى
وعن الرابع أن كلام الله تعالى كله حقيقة بمعنى أنه صدق لا
بمعنى كون ألفاظه بأسرها مستعملة في موضوعاتها الأصلية والله
أعلم
المسألة الثامنة
في الداعي إلى التكلم بالمجاز
العدول عن الحقيقة إلى المجاز إما لأجل اللفظ أو المعنى أو لهما
أما الذي لأجل اللفظ فإما أن يكون لأجل جوهر اللفظ أو لأجل أحوال
عارضة للفظ
334

أما الأول فهو أن يكون اللفظ الدال على الشئ بالحقيقة ثقيلا على
اللسان أما لأجل مفردات حروفه أو لتنافر تركيبه أو لثقل وزنه واللفظ
المجازي يكون عذبا فتترك الحقيقة إلى هذا المجاز
وأما الثاني وهو أن يكون لأجل أحوال عارضة للفظ فهو أن
تكون اللفظة المجازية صالحة للشعر أو السجع وسائر أصناف البديع
واللفظة الحقيقية لا تصلح لذلك
وأما الذي يكون لأجل المعنى فقد تترك الحقيقة إلى المجاز لأجل
التعظيم والتحقير ولزيادة البيان ولتلطيف أو الكلام
أما فكما يقال سلام على المجلس العالي فإنه تركت
الحقيقة ها هنا لأجل الاجلال
وأما التحقير فكما يعبر عن قضاء الحاجة بالغائط الذي هو اسم للمكان
المطمئن من الأرض
وأما زيادة البيان فقد تكون لتقوية حال المذكور وقد تكون لتقوية
الذكر
أما الأول فكقولهم رأيت أسدا فإنه لو قال رأيت انسانا
335

يشبه الأسد في الشجاعة لم تكن في البلاغة كما إذا قال رأيت أسدا
وتحقيق هذا الفرق مذكور في كتابنا في الاعجاز
وأما الثاني فهو المجاز الذي يذكر للتأكيد وأما
تلطيف الكلام فهو أن النفس إذا وقفت على تمام كلام فلو
وقفت على تمام المقصود لم يبق لها شوق إليه أصلا لأن تحصيل الحاصل
محال وإن لم تقف على شئ منه أصلا لم يحصل لها شوق إليه
فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون البعض فإن القدر المعلوم يشوقها إلى
تحصيل العلم بما ليس بمعلوم فيحصل لها بسبب علمها بالقدر الذي
علمته لذة وبسبب حرمانها من الباقي ألم فتحصل هناك
لذات وآلام متعاقبة واللذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى وشعور النفس
بها أتم
إذا عرفت هذا فنقول إذا عبر عن الشئ باللفظ الدال عليه على سبيل
الحقيقة حصل كمال العلم به فلا تحصل اللذة القوية
أما إذا عبر عنها بلوازمها الخارجية عرف لا على سبيل الكمال فتحصل
الحالة المذكورة التي هي كالدغدغة) النفسانية فلأجل هذا كان التعبير عن
المعاني بالعبارات المجازية ألذ من التعبير عنها بالألفاظ الحقيقية والله أعلم
336

المسألة التاسعة
في أن المجاز غير غالب على اللغات
قال أبو الفتح ابن جني أكثر اللغة مجاز أما في الأفعال فنحو
قولك قام زيد وقعد عمرو فإن الفعل يفيد المصدر فقولك قام
زيد معناه كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل والجنس يتناول جميع
الأفراد ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام لأنه لا يجتمع لانسان واحد في
وقت واحد ولا في مائة ألف سنة القيام كله الداخل تحت الوهم
أقول هذا ركيك لأنه ظن أن المصدر لفظ دال على جميع أشخاص تلك
الماهية وهو باطل بل المصدر لفظ دال على الماهية أعني القدر المشترك
بين الواحد والكل والماهية من حيث هي هي لا تستلزم الوحدة ولا الكثرة
وإذا كان كذلك كان الفعل المشتق منه لا دلالة على الكثرة ولا على الوحدة
وقال أيضا قولك ضربت عمرا مجاز من جهة أخرى
لأنك إنما ضربت بعضه لا جميعه ولهذا إذا احتاط الانسان قال ضربت
رأسه وهذا أيضا يكون مجازا وذلك عندما
337

إذا ضربت جانبا من جوانب رأسه فقط
اعترض أبو محمد بن متويه فقال المتألم بالضرب جملة عمرو لا
عضو منه
أقول هذا الاعتراض ساقط لأن ابن جني إنما ألزم المجاز في لفظ
الضرب لا في لفظ التألم والضرب عبارة عن امساس جسم حيوان
بعنف والامساس عبد حكم يرجع إلى الاجزاء لا إلى الجملة بالاتفاق فكان
المضروب بالحقيقة هو الجزء الممسوس فقط فظهر سقوط هذا
الاعتراض
وأقول ها هنا وجوه أخر من المجازات السائغة فإني إذا قلت
ضربت زيدا فزيد ليس عبارة عن جملة البنية المشاهدة لأنا نعلم أن زيدا هو
الذي كان موجودا وقت ولادته ونعلم أن أجزاءه وقت شبابه أكثر مما كانت وقت
ولادته ولا شك أن زيدا هو تلك الأجزاء الباقية من أول حدوثه إلى آخر
فنائه وتلك الأجزاء قليلة فإذن المسمى بزيد هو تلك الأجزاء
فإذا قلت ضربت زيدا فلعل هذا الامساس ما وقع على تلك
338

الأجزاء فيكون الكلام أيضا مجازا من هذا الوجه
ثم ها هنا دقيقة وهي أن هذه المجازات من باب المجاز العقلي لأنك إذا
قلت رأيت زيدا وضربت عمروا فصيغتا عليه رأيت وضربت
مستعملتان في موضوعيهما الأصليين فلا يكون مجازا وأما لفظة
زيد فهي من الأعلام فلا تكون مجازا فلم يبق إلا أن المجاز واقع في
النسبة فيكون مجازا عقليا والله أعلم
المسألة العاشرة
في أنت المجاز على خلاف الأصل
والذي يدل عليه وجوه
أحدها أن اللفظ إذا تجرد فإما أن يحمل على حقيقته أو على مجازه
أو عليهما أو لا على واحد منهما والثلاثة الأخيرة باطلة فتعين الأول
وإنما قلنا إنه لا يجوز حمله على مجازه لأن شرط الحمل على المجاز
حصول القرينة فإن الواضع لو أمر بحمل اللفظ عند تجرده على ذلك
المعنى لكان حقيقة فيه إذ لا معنى للحقيقة إلا ذلك
وأما أنه لا يجوز حمله عليهما معا فظاهر لأن الواضع لو قال
احملوه وحده عليهما معا كان اللفظ حقيقة في ذلك المجموع ولو قال
احملوه إما على هذا أو على ذاك كان مشتركا بينهما
339

وأما أنه لا يجوز أن لا يحمل على واحد منهما ألبتة فلأنه على هذا
التقدير يكون اللفظ حال تجرده من المهملات لا من المستعملات
وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة تعين القسم الأول وهو
المطلوب
وثانيها أن المجاز لا يتحقق إلا عند نقل اللفظ من شئ إلى شئ لعلاقة
بينهما وذلك يستدعي أمورا ثلاثة
وضعه للأصل ثم نقله إلى الفرع ثم علة للنقل
وأما الحقيقة فإنه يكفي فيها أمر واحد وهو وضعه للأصل
ومن المعلوم أن الذي يتوقف على شئ واحد أغلب وجودا مما يتوقف على
ذلك الشئ مع شيئين آخرين معه
وثالثها أن واضع اللفظ للمعنى إنما يضعه له ليكتفي به في الدلالة
عليه وليستعمل فيه فكأنه قال إذا سمعتموني أتكلم بهذا الكلام
فاعلموا أنني أعني هذا المعنى وإذا تكلم به متكلم بلغتي فليعن به هذا
340

فكل من تكلم بلغته يجب أن يعنى به ذلك المعنى ولهذا يسبق إلى
أذهان السامعين ذلك المعنى دون ما هو مجاز فيه
ولو قال لنا مثل ذلك في المجاز لكان حقيقة ولم يكن مجازا
ورابعها إجماع الكل على أن الأصل في الكلام الحقيقة
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كنت أعرف
معنى الفاطر حتى اختصم إلي شخصان في بئر فقال أحدهما فطرها أبي
أي اخترعها
وقال الأصمعي ما كنت أعرف الدهاق حتى سمعت جارية بدوية
تقول اسقني دهاقا أي ملآنا
فها هنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة فلولا أنهم عرفوا أن الأصل في الكلام
الحقيقة وإلا لما جاز لهم ذلك
وخامسها لو لم يكن الأصل في الكلام الحقيقة لكان الأصل
إما أن يكون هو المجاز وهو باطل باجماع الأمة أو لا يكون واحد منهما
341

أصلا فحينئذ يتردد كل كلام الشارع بين أمرين فيصير الكل
مجملا وهو باطل بالاجماع
ويلزم أن يصير كل ما يتكلم به في العرف مجملا لتردد تلك الألفاظ
بين حقائقها ومجازاتها ولو كان الكل مجملا لما فهمنا المراد في شئ من
الألفاظ إلا بعد الاستفسار وطلب تعيين المراد ولما كان ذلك باطلا علمنا
أن الأصل في الكلام الحقيقة
فرع
إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح فأيهما أولى
فعند أبي حنيفة رضي الله عنه الحقيقة المرجوحة أولى
وعند أبي يوسف رحمه الله المجاز الراجح أولى
ومن الناس من قال يحصل التعارض لأن كل واحد منهما راجح على الآخر
من وجه ومرجوح من وجه آخر فيحصل التعارض
342

القسم الثالث
في المباحث المشتركة بين الحقيقة والمجاز
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في أن دلالة اللفظ بالنسبة إلى المعنى قد تخلو عن كونها حقيقة ومجازا
أما في الأعلام فظاهر
وأما في غيرها فالوضع الأول ليس بحقيقة ولا مجاز لأن الحقيقة استعمال
اللفظ في موضوعه فالحقيقة لا تكون حقيقة إلا إذا كانت مسبوقة بالوضع
الأول
والمجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي فيكون هو أيضا
مسبوقا بالوضع الأول
فثبت أن شرط كون اللفظ حقيقة أو مجازا حصول الوضع
الأول فالوضع الأول وجب أن لا يكون حقيقة ولا مجازا
المسألة الثانية
في أن اللفظ الواحد هل يكون حقيقة ومجازا معا
أما بالنسبة إلى معنيين فلا شك في جوازه
343

وأما بالنسبة إلى معنى واحد فإما أن يكون بالنسبة إلى وضعين أو إلى وضع
واحد
أما الأول فجائز لأن لفظ الدابة بالنسبة إلى الحمار حقيقة بحسب
الوضع اللغوي مجاز بحسب الوضع العرفي
وأما الثاني فهو محال لامتناع اجتماع النفي والاثبات في جهة واحدة
المسألة الثالثة
في أن الحقيقة قد تصير مجازا وبالعكس
الحقيقة إذا قل استعمالها صارت مجازا عرفيا والمجاز إذا كثر استعماله
صار حقيقة عرفية
المسألة الرابعة
في أن اللفظ متى كان مجازا فلا بد وأن يكون حقيقة في غيره ولا ينعكس
أما الأول فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي وهذا
تصريح بأنه وضع في الأصل لمعنى آخر فاللفظ متى استعمل في ذلك
الموضوع كان حقيقة فيه
وأما الثاني فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي
لمناسبة بينهما وليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنى أن يصير موضوعا
344

لشئ آخر بينه وبين الأول مناسبة
المسألة الخامسة
فيما به تنفصل الحقيقة عن المجاز
الفروق المذكورة منها صحيحة ومنها فاسدة
أما الصحيحة فنقول الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع
بالتنصيص أو الاستدلال
أما التنصيص فمن ثلاثة أوجه
أحدها أن يقول الواضع هذا حقيقة وذلك مجاز
وثانيها أن يذكر أحدهما
وثالثها أن يذكر خواصهما
وأما الاستدلال فمن وجوه أربعة
أحدها أن يسبق المعنى إلى افهام جماعة أهل اللغة عند سماع اللفظ
من دون قرينة فيعلم أنها حقيقة فيه فإن السامع لولا أنه اضطر من
قصد الواضعين إلى أنهم وضعوا اللفظ لذلك المعنى لما سبق إلى فهمه
ذلك المعنى دون غيره
345

وثانيها أن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى اقتصروا على
عبارات مخصوصة وإذا عبروا عنه بعبارات أخرى لم يقتصروا عليها بل
ذكروا معها قرينة فيعلم أن الأول حقيقة إذ لولا أنه استقر في قلوبهم
استحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى لما اقتصروا عليها
وثالثها إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها به علم أنها في
أصل اللغة اللغة غير موضوعة له فيعلم أنها مجاز فيه كقوله تعالى واسئل
القرية
ورابعها أن يضعوا اللفظ لمعنى ثم يتركوا استعماله إلا في بعض
مجازاته ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشئ علمنا كونه مجازا
عرفيا مثل استعمال لفظ الدابة في الحمار
فالخاصيتان أبي الأوليان للحقيقة والأخريان للمجاز
وأما الفروق الضعيفة فقد ذكر مها الغزالي وجوها أربعة
أحدها أن الحقيقة جارية على الاطراد فقولنا عالم لما صدق على ذي
علم واحد صدق على كل ذي علم والمجاز ليس كذلك فإنه لما صح
واسئل القرية صح واسأل البساط
346

وهذا ضعيف لأن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد
وأيضا إن أراد باطراد الحقيقة استعمالها في جميع موارد نص
الواضع فالمجاز أيضا كذلك لأنه يجوز استعماله في جميع موارد نص
الواضع فلا يبقى بينهما فيه فرق
وان أراد استعمال الاسم في غير موضع نص الواضع لكونه
مشاركا للمنصوص عليه في المعنى فهذا هو القياس وعنده لا قياس في
اللغات
سلمنا جواز القياس في اللغة لكن دعوى اطراد الحقيقة ممنوعة لأن الحقيقة لا
تطرد في مواقع كثيرة
الأول أن يمنع منه العقل كلفظ الدليل عند من يقول إنه
حقيقة في فاعل الدلالة فإنه لما كثر استعماله في نفس الدلالة لا جرم
لم يحسن استعماله في حق الله تعالى إلا مقيدا
الثاني أن يمنع السمع منه كتسمية الله تعالى بالفاضل
والسخي فإنها ممنوعة شرعا مع حصول الحقيقة فيه
الثالث ان تمنع منه اللغة كامتناع استعمال الأبلق في غير الفرس
347

فان اعتذروا عنه بأن الأبلق موضوع للمتلون بهذين اللونين بشرط
كونه فرسا فنقول جوز في كل مجاز لا يطرد أن يكون سبب عدم
اطراده ذلك
وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعدم الاطراد على كونه مجازا
وثانيها قال الغزالي رحمه الله امتناع الاشتقاق دليل كون اللفظ
مجاز فإن الأمر لما كان حقيقة في القول اشتق منه الآمر والمأمور ولما لم يكن
حقيقة في الفعل لم يوجد منه الاشتقاق
وهذا ضعيف لما تقدم أن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد
لأنه ينتقض بقولهم للبليد حمار وللجمع حمر
وعكسه أن الرائحة حقيقة في معناها ولم يشتق منها الاسم
وثالثها أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيعلم أنه مجاز في أحدهما
إذ الأمر الحقيقي يجمع على الأوامر وإذا أريد به الفعل يجمع على
أمور
348

وهو ضعيف لأن اختلاف الجمع لا اشعار له ألبتة بكون اللفظ حقيقة
في معناه أو مجازا
ورابعها أن المعنى الحقيقي إذا كان متعلقا بالغير فإذا استعمل فيما لا
تعلق له بشئ كان مجازا فالقدرة إذا أريد بها الصفة كان متعلقا بالمقدور
وإذا أطلق على البيان الحسن لم يكن له متعلق فيعلم كونه مجازا
فيه
وهذا أيضا ضعيف جدا لاحتمال أن يكون اللفظ حقيقة فيهما
ويكون له بحسب إحدى الحقيقتين متعلق دون الأخرى والله أعلم
349

الباب السابع
في التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ
اعلم أن الخلل الحاصل في فهم مراد المتكلم ينبني على خمس
احتمالات في اللفظ
أحدها احتمال الاشتراك
وثانيها احتمال النقل بالعرف أو الشرع
وثالثها احتمال المجاز
ورابعها احتمال الإضمار
وخامسها احتمال التخصيص
فإن قلت تركت احتمال الاقتضاء
قلت الاقتضاء اثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور ولا يتوقف عليه
صحة اللفظ لغة كقول القائل اصعد السطح فإنه يقتضي نصب
السلم لكن نصب السلم لا يتوقف عليه وجوب الصعود ولا يتوقف عليه صحة
اللفظ
351

وإنما قلنا إن الخلل في الفهم لا بد وأن يكون لأحد هذه الخمس لأنه إذا انتقى
احتمال الاشتراك والنقل كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد
وإذا انتفى احتمال المجاز والإضمار كان المراد باللفظ ما وضع له فلا يبقى
عند ذلك خلل في الفهم وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع
ما وضع له.
واعلم أن التعارض بين هذه الاحتمالات يقع في عشرة أوجه لأنه
يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ثم بين النقل والثلاثة الباقية ثم بين
المجاز والوجهين الباقيين ثم بين الاضمار والتخصيص فكان المجموع عشرة
المسألة الأولى
إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل فالنقل أولى لأن عند النقل يكون
اللفظ لحقيقة مفردة في جميع الأوقات إلا أنه في بعض الأوقات مفرد بالإضافة إلى
معنى وفي بعض الأوقات مفرد بالإضافة إلى معنى آخر
والمشترك مشترك في الأوقات كلها فكان الأول أولى
فإن قبل لا بل الاشتراك أولى لوجوه
أحدها أن الاشتراك لا يقتضي نسخ وضع سابق والنقل يقتضيه
فالاشتراك أولى من النسخ على ما سيأتي بيانه فوجب أن يكون
أولى مما لا يحصل إلا عند حصول النسخ
352

وثانيها أن الاشتراك ما أنكره أحد من العلماء المحققين والنقل أنكره كثير
من المحققين فالأول أولى
وثالثها أن الاشتراك إما أن يوجد مع القرينة أو لا يوجد مع
القرينة
فإن حصلت القرينة معه عرف المخاطب المراد على التعيين
وإن لم توجد القرينة معه تعذر عليه العمل فيتوقف
وعلى التقديرين لا يخطئ في العمل
أما في النقل فربما لا يعرف النقل الجديد فيحمله على المفهوم الأول فيقع
الغلط في العمل
ورابعها أن الاشتراك يمكن حصوله بوضع واحد فإن المتكلم قد يحتاج
إلى التكلم بالكلام المجمل فيقول الواضع وضع هذا اللفظ لهذا ولهذا
بالاشتراك
أما النقل فيتوقف على وضعه أولا ثم على نسخه ثانيا ثم على وضع جديد
ولموقوف على أمر واحد أولى من الموقوف على أمور كثيرة
وخامسها أن السامع قد يسمع استعمال اللفظ في المعنى الأول وفي
المعنى الثاني ولا يعرف أنه نقل من الأول إلى الثاني فيظنه مشتركا
فحينئذ يحصل فيه كل مفاسد الاشتراك مع مفاسد أخرى وهي جهله
بكون اللفظ منقولا مع جميع المفاسد الحاصلة من النقل
353

وسادسها أن المشترك أكثر وجودا من المنقول فلو كانت المفاسد الحاصلة
من المشترك أكثر لكان الواضع قد رجح ما هو أكثر مفسدة على ما هو
أقل مفسدة وهو غير جائز
والجواب أن الشرع إذا نقل اللفظ عن معناه اللغوي إلى معناه
الشرعي فلا بد أن يشتهر ذلك النقل وأن يبلغ إلى حد التواتر
وعلى هذا التقدير تزول المفاسد المذكورة والله أعلم
المسألة الثانية
إذا وقع التعارض بين الاشتراك والمجاز فالمجاز أولى ويدل عليه وجهان
الأول أن المجاز أكثر في الكلام من الاشتراك والكثرة أمارة الظن في محل
الشك
الثاني أن اللفظ الذي له مجاز إن تجرد من القرينة حمل على الحقيقة وان
لم يتجرد عنها حمل على المجاز فلا يعرى على تعيين المراد والمشترك لا يفيد
عين المراد عند العراء عن القرينة
فإن قيل بل الاشتراك أولى لوجوه
354

أحدها أن السامع للمشترك إن سمع القرينة معه علم المراد عينا فلا
يخطئ
وإن لم يسمع توقف
وحينئذ لا يحصل إلا محذور واحد وهو الجهل بمراد المتكلم
أما اللفظ المحمول على المجاز بالقرينة فقد يسمع اللفظ ولا تسمى القرينة
وحينئذ يحمل على الحقيقة فيحصل محذوران أحدهما الجهل بمراد
المتكلم والآخر اعتقاد ما ليس بمراد مرادا
وثانيها أن الاشتراك يحصل بوضع واحد على ما تقدم بيانه
وأما المجاز فيتوقف على وجود الحقيقة وعلى وجود ما يصلح مجازا وعلى
العلاقة التي لأجلها يحسن جعله مجازا وعلى تعذر الحمل على الحقيقة
وما يتوقف على شئ واحد أولى مما يتوقف على أشياء
وثالثها أن اللفظ المشترك إذا دل دليل على تعذر أحد مفهوميه
يعلم منه كون الآخر مرادا
والحقيقة إذا دل الدليل على تعذر العمل بها فلا يتعين فيها مجاز يجب
حملها عليه
355

ورابعها أن اللفظ المشترك يفيد أن المراد هذا أو ذاك ودلالة اللفظ على هذا
القدر من المعنى حقيقة لا مجاز والحقيقة راجحة على المجاز فالاشتراك
راجح على المجاز
وخامسها أن صرف اللفظ إلى المجاز يقتضي نسخ الحقيقة وحمله على
الاشتراك لا يقتضي ذلك فكان الاشتراك أولى
وسادسها أن المخاطب في صورة الاشتراك يبحث عن القرينة لأن بدون
القرينة لا يمكنه العمل فيبعد احتمال الخطأ
أما في صورة المجاز فقد لا نبحث عن القرينة لأن بدون القرينة يمكنه
العمل فينصرف احتمال الخطأ
سابعها أن الفهم في صورة الاشتراك يحصل بأدنى القرائن لأن ذلك
كاف في الرجحان
أما في صورة المجاز فلا يحصل رجحان المجاز إلا بقرينة قوية جدا لأن
أصالة الحقيقة لا تترك إلا لقرينة
والجواب أن هذه الوجوه معارضة بما ذكرناه في الباب المتقدم من فوائد
المجازات
356

المسألة الثالثة
إذا وقع التعارض بين الاشتراك والإضمار فالإضمار أولى
لأن الاجمال الحاصل بسبب الاضمار مختص ببعض الصور
والاجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور فكان الاشتراك
أخل بالفهم
فإن قلت الإضمار يفتقر إلى ثلاث قرائن قرينة تدل على أصل
الاضمار وقرينة تدل على موضع الاضمار وقرينة تدل على نفس المضمر
والمشترك يفتقر إلى قرينة واحدة فكان الاضمار أكثر إخلالا بالفهم
قلت هذا لا ينفعكم لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن في صورة واحدة
والمشترك يحتاج إلى قرائن في صور متعددة فيبقى بعضها معارضا للبعض
على أن الإضمار من باب الايجاب والاختصار وهو من محاسن الكلام
قال عليه الصلاة والسلام أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام
اختصارا وليس المشترك كذلك
357

المسألة الرابعة
إذا وقع التعارض بين الاشتراك والتخصيص فالتخصيص أولى لأن
التخصيص خير من المجاز على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
والمجاز خير من الاشتراك على ما تقدم فالتخصيص خير من الاشتراك لا
محالة
المسألة الخامسة
إذا وقع التعارض بين النقل والمجاز فالمجاز أولى
لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع وذلك متعذر أو
متعسر والمجاز يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الحقيقة وذلك متيسر
فكان المجاز أظهر
فان قلت ما ذكرته معارض بشئ آخر وهو أنه إذا ثبت النقل فهم
كل أحد مراد المتكلم بحكم الوضع فلا يبقى خلل في الفهم
وفي المجاز إذا خرجت الحقيقة فربما خفي وجه المجاز أو تعدد طريقه فيقع
خلل في الفهم
قلت ما ذكرتموه يعارضه شيئان آخران
358

أحدهما أن الحقيقة تعين على فهم المجاز لأن المجاز لا يصح إلا إذا كان بين
الحقيقة والمجاز اتصال وفي صورة النقل إذا خرج المعنى الأول
لقرينة لم يتعين اللفظ للمنقول إليه فكان المجاز أقرب إلى الفهم من هذا
الوجه
الثاني أن في المجاز من الفوائد وليس في النقل ذلك فكان المجاز
أولى
المسألة السادسة
إذا وقع التعارض بين النقل والإضمار فالاضمار (أولى
والدليل عليه ما ذكرناه في أن المجاز أولى سواء بسواء
المسألة السابعة
إذا وقع التعارض بين النقل والتخصيص فالتخصيص أولى لأن التخصيص
خير من المجاز على ما سيأتي والمجاز خير من النقل على ما تقدم
فالتخصيص خير من النقل
المسألة الثامنة
إذا وقع التعارض بين المجاز والإضمار فهما سواء لأن كل واحد منهما يحتاج
إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الظاهر
359

وكما يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المضمر كذلك يتوقع وقوع الخفاء في تعيين
المجاز
فان قلت الحقيقة تعين على فهم المجاز فكانت أولى
قلت والحقيقة تعين على فهم الإضمار لأن حد الاضمار أن يسقط من
الكلام شئ يدل عليه الباقي
المسألة التاسعة
إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى لوجهين
الأول أن في صورة التخصيص إذا لم يقف على القرينة يجريه على
عمومه فيحصل مراد المتكلم وغير مراده
وفي صورة المجاز إذا لم يقف على القرينة يجريه على الحقيقة فلا يحصل مراد
المتكلم ويحصل غير مراده
الثاني أن في صورة التخصيص انعقد اللفظ دليلا على كل الأفراد فإذا
خرج البعض بدليل بقي معتبرا في الباقي فلا يحتاج فيه إلى تأمل
واستدلال واجتهاد
وفي صورة المجاز انعقد اللفظ دليلا على الحقيقة فإذا خرجت الحقيقة بقرينة
احتيج في صرف اللفظ إلى المجاز إلى نوع تأمل واستدلال فكان التخصيص أبعد
عن الاشتباه فكان أولى
المسألة العاشرة
إذا وقع التعارض بين الإضمار والتخصيص فالتخصيص أولى
360

والدليل عليه أن التخصيص خير من المجاز والمجاز والإضمار سيان فيلزم
أن يكون التخصيص خيرا من الإضمار
فروع
الأول أنك ستعرف إن شاء الله تعالى أن النسخ تخصيص في
الأزمان فحيث رجحنا التخصيص على الاشتراك فإنما أردنا به التخصيص
في الأعيان
أما لو وقع التعارض بين الاشتراك والنسخ فالاشتراك أولى لأن النسخ يحتاط
فيه ما لا يحتاط في تخصيص العام ألا ترى أنه يجوز تخصيص العام بخبر الواحد
والقياس ولا يجوز نسخ العام بهما
والفقه فيه أن الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل وبعد التخصيص لا
يصير كالباطل فلا جرم يحتاط في النسخ ما لا يحتاط في التخصيص
الثاني أن اللفظ إذا دار بين التواطؤ والاشتراك فالتواطؤ أولى لأن
مسمى اللفظ المتواطئ واحد والتعدد واقع في محاله ومسمى المشترك ليس
بواحد والافراد أولى من الاشتراك على ما تقدم بيانه
الثالث إذا وقع التعارض بين أن يكون مشتركا بين علمين وبين معنيين كان
361

جعله مشتركا بين علمين أولى لأن الاعلام إنما تنطلق على الأشخاص
المخصوصة كزيد وعمرو
وأما أسماء المعاني فإنها تتناول المسمى في أي ذات كان فكان اختلال
الفهم بجعله مشتركا بين علمين أقل فكان أولى
الرابع جعل اللفظ مشتركا بين علم ومعنى أولى من جعله مشتركا بين
معنيين لأن الاختلال الحاصل عند الاشتراك بين العلم ولمعنى أقل
مما عند الاشتراك بين المعنيين
الخامس اللفظ إذا تناول الشئ بجهة الاشتراك وبجهة التواطؤ كان اعتقاد
أنه مستعمل بجهة التواطؤ أولى
وبيانه ان لفظ الأسود يتناول القار والزنجي
بالتواطؤ ويتناول القار والرجل المسمى بالأسود بالاشتراك
فإذا وجد شخص أسود ومسمى بالأسود ثم أطلق عليه لفظ
الأسود فاعتقاد أنه أطلق عليه هذا الاسم باعتبار كونه ملونا أولى
لأن الاطلاق بهذا الاعتبار اطلاق بجهة التواطؤ والاطلاق بجهة التلقيب
اطلاق بجهة الاشتراك
والتواطؤ أولى من الاشتراك فكان ذلك أولى والله أعلم
362

الباب الثامن
في تفسير حروف تشتد الحاجة في الفقه إلى معرفة معانيها
وفيها مسائل
المسألة الأولى ف
ي أن الواو العاطفة لمطلق الجمع
قال أبو علي الفارسي أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع
المطلق
وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه أنها للجمع
المطلق وقال بعضهم إنها للترتيب
363

لنا وجوه
الأول أن الواو قد تستعمل فيما يمتنع حصول الترتيب فيه كقولهم
تقاتل زيد وعمرو ولو قيل تقاتل زيد فعمرو أو تقاتل زيد ثم
عمرو لم يصح
والأصل في الكلام الحقيقة فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب فوجب
ان لا يكون حقيقة في الترتيب دفعا للاشتراك
الثاني لو اقتضت الواو الترتيب لكان قوله رأيت زيدا
وعمرا بعده تكريرا ولكان قوله رأيت زيدا وعمروا قبله متناقضا ولما لم
يكن كذلك بالاجماع صح قولنا
فان قلت يجوز أن يكون الشئ بإطلاقه لا يفيد حكما
ثم إذا أضيف إليه شئ آخر تغير عما كان عليه فقوله زيد في
الدار يفيد الجزم فإذا أدخلت عليه الهمزة فقيل أزيد في الدار
صار للاستخبار وبطل معنى الجزم
قلت حاصل هذا السؤال يرجع إلى أن قوله قبله أو بعده
كالمعارض لمقتضى الواو إلا أن التعارض خلاف الأصل فالمفضي إليه
وجب أن لا يكون
364

الثالث قوله تعالى في سورة البقرة وادخلوا الباب سجدا وقولوا
حطة وفي الأعراف وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا
والقصة واحدة وقوله تعالى واسجدي واركعي مع أن
شرعها تقدم الركوع وقوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى
أهله وقوله تعالى أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف
وقوله تعالى والسارق والسارقة وقوله الزانية والزاني ففي
شئ من هذه المواضع لا تفيد الترتيب
الرابع السيد إذا قال لعبده اشتر اللحم والخبز لم يفهم منه الترتيب
الخامس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل
له حين أراد السعي بين الصفا والمروة بأيهما نبدأ فقال ابدأوا بما
365

بدأ الله به ولو كانت الواو للترتيب لما اشتبه ذلك على أهل
اللسان ولما احتيج في بيان وجوب الابتداء من الصفا إلى الاستدلال بأنه مذكور
أولا فوجب أن تقع به البداءة
السادس لو كانت الواو للترتيب لوجب أن القائل إذا قال رأيت
زيدا وعمرا ثم علم أنه رآهما معا أن يكون كاذبا وبالاجماع ليس كذلك
السابع قال أهل اللغة واو العطف في الأسماء المختلفة ك واو الجمع
وبالتثنية في الأسماء المتماثلة فإنهم لما لم يتمكنوا من جمع الأسماء
المختلفة بواو الجمع استعملوا فيها واو العطف
ولما كان قولهم جاءني الزيدان واجتمع الزيدون يفيد الاشتراك في
الحكم ولا يفيد الترتيب فيه فكذا القول في واو العطف وواو الجمع يجوز أن
يشتركا في إفادة الاشتراك ف
إن قلت واو العطف وواو الجمع يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك ثم
واو العطف يختص بفائدة زائدة وهي الترتيب
366

قلت إنهم نصوا على أن فائدة إحداهما عين فائدة الأخرى
وذلك ينفي الاحتمال المذكور
احتج المخالف بأمور
أحدها أن واحدا قام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال من
أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى فقال عليه الصلاة والسلام
بئس الخطيب أنت هلا قلت ومن عصى الله ورسوله فقد غوى
367

ولو كانت الواو للجمع المطلق لما افترق الحل بين ما علمه الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم وبين ما قال الرجل
وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع شاعرا يقول
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
368

فقال له عمر رضي الله عنه لو قدمت الإسلام على الشيب
لأجزتك
وهذا يدل على أن التأخير في اللفظ يدل على التأخير في الرتبة
وروي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا لابن عباس رضي الله
عنهما لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج وقد قال الله تعالى وأتموا
الحج والعمرة لله وهم كانوا فصحاء العرب فثبت أنهم فهموا من الواو
الترتيب
369

وثانيها إذا قال الزوج لامرأته التي لم يدخل بها أنت طالق
وطالق طلقت طلقة واحدة ولم تلحقها الثانية ولولا أن الواو تقتضي
الترتيب للحقتها الثانية كما أنها تطلق طلقتين إذا قال لها أنت طالق
طلقتين
وثالثها إذا قال رأيت زيدا وعمرا فالترتيب يستدعي سببا والترتيب
في الوجود صالح له فوجب جعله سببا له إلى أن يذكر الخصم سببا
آخر
ورابعها أن الترتيب على سبيل التعقيب وضعوا له الفاء
والترتيب على سبيل التراخي وضعوا له ثم
ومطلق الترتيب وهو القدر المشترك بين هذين النوعين معنى معقول
أيضا فلا بد له من لفظ يدل عليه وما ذاك إلا الواو
370

فإن قلت الجمع المطلق معنى معقول أيضا فلا بد له من لفظ يدل
عليه وما ذاك إلا الواو
قلت لما حصل التعارض وجب الترجيح وهو معنا وذلك لأنا لو
جعلناه للترتيب المطلق كان معنى الجمع المطلق جزءا من المسمى ولازما له
فجاز جعله مجازا فيه بسبب الملازمة
وأما لو جعلناه للجمع المطلق لم يكن الترتيب المطلق لازما له
فلا يمكن جعله مجازا عنه لعدم الملازمة
والجواب عن الأول أن الواو في قوله ومن عصى الله
ورسوله لا تقتضي الترتيب لأن معصية الله تعالى ومعصية
رسوله صلى الله عليه وسلم لا تنفك إحداهما عن الأخرى فهذا بأن يدل على فساد
قولكم أولى بل السبب فيه أن قوله ومن عصى الله ورسوله افراد لذكر
الله تعالى عن ذكر غيره فكان أدخل في التعظيم و
أما أثر عمر رضي الله عنه فهو محمول على أن الأدب أن يكون
المقدم في الفضيلة مقدما في الذكر
371

وأما أثر ابن عباس رضي الله عنهما فهو معارض بأمر ابن عباس إياهم
بتقديم العمرة على الحج
وعن الثاني أن السبب في أن الطلقة الثانية لا تلحقها أن الطلاق
الثاني ليس تفسيرا للكلام الأول والكلام الأول تام فبانت به
أما إذا قالت أنت طالق طلقتين فالقول الأخير في حكم البيان للأول فكان
تمام الكلام بآخره
وعن الثالث أن الابتداء بالذكر لما كان دليلا على الترتيب لم تكن بنا
حاجة إلى جعل الواو للترتيب
وعن الرابع أن ما ذكرتموه من الترجيح معارض بوجه آخر وهو
أن الحاجة إلى التعبير عن المعنى الأعم أشد من الحاجة إلى التعبير عن المعنى
الأخص لأنه حيث يحتاج إلى ذكر الأخص يحتاج إلى ذكر الأعم لا محالة
ضمنا وقد يحتاج إلى ذكر الأعم حيث لا يحتاج إلى ذكر الأخص
ألبتة فكانت الحاجة إلى ذكر الأعم أشد
372

المسألة الثانية
الفاء للتعقيب على حسب ما يصح
فلو قال دخلت بغداد فالبصرة أفاد التعقيب على ما يمكن لا على
ما يمتنع
وإنما قلنا إنها للتعقيب لإجماع أهل اللغة عليه
ومنهم من استدل عليه بأنها لو لم تكن للتعقيب لما دخلت على الجزاء
إذا لم يكن بلفظ الماضي والمضارع لكنها تدخل فيه فهي للتعقيب
بيان الملازمة أن جزاء الشرط قد يكون بلفظ الماضي كقوله من دخل
داري أكرمته وقد يكون بلفظ المضارع كقوله من دخل داري يكرم وقد
يكون لا بهاتين اللفظتين وحينئذ لا بد من ذكر الفاء كقوله من دخل داري
فله درهم
وقول الشاعر
من يفعل الحسنات % الله يشكرها
فقد أنكره المبرد وزعم أن الرواية الصحيحة
من يفعل الخير فالرحمن يشكره
373

وإذا وجب دخول الفاء على الجزاء وثبت أن الجزاء لا بد أن يحصل عقيب
الشرط علمنا أن الفاء تقتضي التعقيب
واحتج المنازع بأمور
أحدها أن الفاء جاء في كتاب الله تعالى لا بمعنى التعقيب في
قوله تعالى لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب والاسحات
لا يقع عقيب الافتراء بل يتراخى إلى الآخرة وقال سبحانه وتعالى وإن
كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة مع أن ذلك قد لا
يحصل عقيب المداينة
375

وثانيها أن الفاء قد تدخل على لفظ التعقيب ولو كانت الفاء
للتعقيب لما جاز ذلك
وثالثها أن التعقيب يصح الإخبار به وعنه والفاء ليست كذلك
فالفاء مغايرة للتعقيب
والجواب عن الكل أن ما ذكرتموه استدلال في مقابلة النص فلا يقدح
في قولنا بل وجب حمل ما ذكروه أولا على المجاز وثانيا على التوكيد
وأما الثالث ففيه بحث دقيق ذكرناه في كتاب المحرر في
دقائق النحو
المسألة الثالثة
لفظة في للظرفية محققا أو مقدرا
أما المحقق فكقولهم زيد في الدار
وأما المقدر فكقوله تعالى ولأصلبنكم في جذوع النخل لتمكن
المصلوب على الجذع تمكن الشئ في المكان
376

وقولنا فلان في الصلاة وشاك في هذه المسألة من هذا الباب
ومن الفقهاء من قال إنها للسببية كقوله عليه الصلاة والسلام
في النفس المؤمنة مائة من الإبل وهو ضعيف لأن أحدا من أهل اللغة
ما ذكر ذلك مع أن المرجع في هذه المباحث إليهم
المسألة الرابعة
المشهور أن لفظة من ترد
لابتداء الغاية كقولك سرت من الدار إلى السوق
وللتبعيض كقولك باب من حديد
وللتبيين كقوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان
وقد تجئ صلة في الكلام كقولك ما جاءني من رجل
والحق عندي أنه للتمييز فقولك سرت من الدار إلى السوق ميزت
مبدأ السير عن غيره وقولك باب من حديد ميزت الشئ الذي
يكون منه الباب عن غيره وقوله عز وجل فاجتنبوا الرجس من الأوثان
377

ميزت الرجس الذي يجب اجتنابه عن غيره وكذلك قولك
ما جاءني من أحد ميزت الذي نفيت عنه المجئ
وأما إلى فهي لانتهاء الغاية
وقيل إنها مجملة لأنها في قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق
تستدخل الغاية وفي قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل تقتضي
خروجها
وهذا ضعيف لأن هذه اللفظة إنما تكون مجملة لو كانت موضوعة لدخول
الغاية وعدم دخولها على سبيل الاشتراك لكنا بينا أن اللفظ لا يجوز أن
يكون مشتركا بالنسبة إلى وجود الشئ وعدمه
بل الحق أن الغاية إن كانت متميزة عن ذي الغاية بمفصل حسي كما في
الليل والنهار وجب خروجها وان لم تكن متميزة عنها بمفصل
حسي كما في اليد والمرفق وجب دخولها لأنه ليس بعض المقادير أولى من
بعض فليس تقدير القدر الذي يجوز إخراجه من المرفق عن وجوب
378

الغسل بقدر معين أولى من تقديره بما هو أزيد أو أنقص
المسألة الخامسة
الباء إذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه كقوله تعالى وامسحوا
برءوسكم تقتضي التبعيض خلافا للحنفية
وأجمعنا على أنها إذا دخلت على فعل لا يتعدى بنفسه كقولك كتبت
بالقلم ومررت بزيد فإنها لا تقتضي إلا مجرد الالصاق
لنا
أنا نعلم بالضرورة الفرق بين أن يقال مسحت يدي بالمنديل وبالحائط
وبين أن يقال مسحت المنديل والحائط في أن الأول يفيد التبعيض
والثاني يفيد الشمول
379

واحتج المخالف بأمرين
الأول أن القائل إذا قال مررت بزيد وكتبت بالقلم وطفت
بالبيت عقلوا منه الصاق الفعل بالمفعول به فدل على أن مقتضى اللفظ
ليس إلا الصاق الفعل بالمفعول به
الثاني أن أبا الفتح ابن جني ذكر أن الذي يقال من أن
الباء للتبعيض شئ لا يعرفه أهل اللغة
والجواب عن الأول أن قولهم مررت بزيد وكتبت
بالقلم إنما أفاد ذلك لأنه لا يتعدى بنفسه فلا يجوز أن يقال مررت
زيدا وكتبت القلم فلذلك أفاد ما قالوه بخلاف ما ذكرنا
وأما الطواف فهو عبارة عن الدوران حول جميع البيت ولهذا لا
يسمى من دار ببعضه طائفا بخلاف ما نحن فيه فإن من مسح بعض الرأس يسمى
ماسحا
وعن الثاني أن الشهادة على النفي غير مقبولة فلنا أن نخطئ ابن
380

الجني بالدليل الظاهر الذي ذكرناه
المسألة السادسة
لفظة إنما للحصر خلافا لبعضهم
لنا ثلاثة أوجه
أحدها أن الشيخ أبا علي الفارسي حكى ذلك في كتاب
الشيرازيات عن النحاة وصوبهم فيه وقولهم حجة
وثانيها التمسك بقول الأعشى
ولست بالأكثر منهم حصى % وإنما العزة للكاثر
381

وبقول الفرزدق
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما % يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
382

ولو لم تحمل إنما ها هنا على الحصر لما حصل مقصود
الشاعر
وثالثها أن كلمة إن تقتضي الاثبات وما تقتضي
النفي فعند تركيبها يجب أن يبقى كل واحد منهما على الأصل لأن
الأصل عدم التغيير
فإما أن نقول كلمة إن تقتضي ثبوت عين المذكور وكلمة
ما تقتضي نفي المذكور وهذا هو الحصر وهو المراد
واحتج المخالف بقوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله
وجلت قلوبهم وأجمعنا على أن من ليس كذلك فهو مؤمن أيضا
والجواب
أنه محمول على المبالغة
383

الباب التاسع
في كيفية الاستدلال بخطاب الله وخطاب
رسوله صلى الله عليه وسلم على الأحكام
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في أنه لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بشئ ولا يعني به شيئا
والخلاف فيه مع الحشوية
385

لنا وجهان
أحدهما أن التكلم بما لا يفيد شيئا هذيان وهو نقص والنقص
على الله تعالى محال
وثانيها أن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وشفاء وبيانا
وذلك لا يحصل بما لا يفهم معناه
واحتج المخالف بأمور
أحدها أنه جاء في القرآن ما لا يفيد كقوله كهيعص وما
يشبهه وقوله كأنه رؤوس الشياطين وقوله فصيام ثلاثة أيام في
الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة فقوله عشرة كاملة لا
يفيد فائدة زائدة وقوله فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وقوله
لا تتخذوا إليهن اثنين
386

وثانيها أن الوقف على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله
واجب ومتى كان ذلك كذلك لزم القول بأن الله تعالى قد تكلم
بما لا يفهم منه شئ
بيان الأول أننا لو لم نقف هناك بل وقفنا على قوله والراسخون في
العلم فإذا ابتدأنا بقوله يقولون آمنا كان المراد منه قائلين
آمنا به كل من عند ربنا ويصير ذلك عائدا إلى المذكورات السالفة
فيصير المعنى كأن الله تعالى قال الراسخون في العلم قالوا
آمنا به كل من عند ربنا وذلك غير جائز على الله تعالى
فثبت أن الوقف على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله واجب
وإذا ثبت ذلك ظهر أنا لا نعلم تأويل المتشابهات
وثالثها أن الله تعالى خاطب الفرس بلغة العرب مع أنهم لا يفهمون
شيئا منها وإذا جاز ذلك فليجز مطلقا
387

والجواب عن الأول أن لأهل التفسير فيها أقوالا مشهورة والحق فيها أنها
أسماء السور
وأما روس الشياطين فقيل إن العرب كانوا يستقبحون ذلك المتخيل
ويضربون به المثل في القبح
وأما قوله عشرة كاملة فذلك للتأكيد وهو الجواب أيضا عن
سائر الآيات
وعن الثاني أن موضع الوقف قوله والراسخون في العلم
وما ذكروا من الاشكال فغايته أنه عام خص منه البعض بدليل العقل
لامتناع عود ذلك الضمير إلى الله تعالى
وعن الثالث أن للفرس طريقا إلى معرفة الخطاب بالرجوع إلى العرب
المسألة الثانية
في أنه لا يجوز أن يعني بكلامه خلاف ظاهره ولا يدل عليه
ألبتة
والخلاف فيه مع المرجئة
388

لنا
أن اللفظ الخالي عن البيان أبدا يكون بالنسبة إلى غير ظاهره
مهملا وقد بينا أن التكلم بالمهمل غير جائز على الله تعالى
فان قيل إن عنيت بالمهمل ما لا فائدة فيه ألبتة فلا نسلم أن الأمر
كذلك لأنه تعالى إذا تكلم بما ظاهره يقتضي الوعيد مع أنه لا يريد
ذلك حصل منه تخويف الفساق والتخويف يمنعهم من الاقدام فقد
حصلت هذه الفائدة
وإن عنيت به أنه لا يحصل منه فائدة الإفهام فهو مسلم
389

لكن لم قلت إن ما يكون كذلك فإنه غير جائز على الله تعالى فإن
هذا أول المسألة
والجواب
لو فتحنا هذا الباب لما بقي الاعتماد على شئ من خبر الله وخبر
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه ما من خبر إلا ويحتمل أن يكون
المقصود منه أمرا وراء الإفهام ومعلوم أن ذلك ظاهرا الفساد والله أعلم
المسألة الثالثة
في أن الاستدلال بالخطاب هل يفيد القطع أم لا
منهم من أنكره وقال إن الاستدلال بالأدلة اللفظية مبني
على مقدمات ظنية والمبني على المقدمات الظنية ظني فالاستدلال بالخطاب لا
يفيد إلا الظن
وإنما قلنا إنه مبني على مقدمات ظنية لأنه مبني على نقل اللغات
ونقل النحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والإضمار
390

والتخصيص والتقديم والتأخير والناسخ والمعارض وكل ذلك أمور ظنية
أما بيان أن نقل اللغات ظني فلأن المرجع فيه إلى أئمة اللغة
وأجمع العقلاء على أنهم ما كانوا بحيث يقطع بعصمتهم فنقلهم لا يفيد إلا
الظن وتمام الكلام في هذا المقام قد تقدم
وأما النحو والتصريف فالمرجع في اثباتهما إلى أشعار المتقدمين إلا أن
التمسك بتلك الأشعار مبني على مقدمتين ظنيتين
إحداهما
أن هذه الأشعار رواها الآحاد ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن
وأيضا إن الذين رووها روايتهم مرسلة لا مسندة والمرسل غير
مقبول عند الأكثرين إذا كان خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فكيف إذا كان خبر عن شخص لا يؤبه له ولا يلتفت إليه
وثانيهما
هب أنه صح هذا الشعر عن هذا الشاعر لكن لم قلت إن
ذلك الشاعر لا يلحن
أقصى ما في الباب أنه عربي لكن العربي قد يلحن في العربية كما أن
الفارسي قد يلحن كثيرا في الفارسية
391

والذي يؤيد هذا الاحتمال أن الأدباء لحنوا أكابر شعراء الجاهلية
كامرئ القيس وطرفة ولبيد وإذا كانوا معترفين بأنهم
قد لحنوا فكيف يجوز التعويل في تصحيح الألفاظ واعرابها في قولهم
ذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني في
الكتاب الذي صنفه في الوساطة بين المتنبي وخصومه أن امرأ القيس أخطأ في
قوله
يا راكبا بلغ اخواننا % من كان من كندة أو وائل
392

فنصب بلغ
وفي قوله
فاليوم اشرب غير مستحقب % إثما من الله ولا واغل
فسكن أشرب
وقوله
لها متنان خظاتا كما أكب على ساعديه النمر
393

فأسقط النون من خظاتا بغير إضافة
وقول لبيد
% تراك أمكنة إذا لم أرضها % أو يرتبط بعض النفوس حمامها
394

فسكن يرتبط ولا عمل للم فيه
وقوله طرفة
قد رفع الفخ فماذا تحذري
فحذف النون
395

وقول الأسدي
كنا نرقعها فقد مزقت % واتسع الخرق على الراقع
396

% فسكن نرقع
وقول الفرزدق
% وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
398

فضم مجلف
وقول ذي الخرق الطهوي
399

يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا % إلى ربنا صوت الحمار اليجدع
فأدخل الألف واللام على الفعل
وقول رؤية
أقفرت الوعثاء والعثاعث ما من بعدهم والبرق البوارث
400

وإنما هي البرارث لا جمع برث وهي الأماكن السهلة من
الأرض
وقوله أيضا
قد شفها اللوح بما زول أن ضيق
ففتح الياء
فهذه وأمثالها كثيرة
401

وجرى بين الفرزدق وبين عبد الله بن إسحاق الحضرمي في إقوائه على وفي لحنه
في قوله
فلو كان عبد الله مولى هجوته % ولكن عبد الله مولى مواليا
ففتح الياء من موالي في حال الجر
وجرى له مع عنبسة الفيل النحوي
402

حتى قال فيه
لقد كان في معدان للفيل شاغل % لعنبسة الراوي علي القصائدا
وكان القدماء يتبعون أشعار الأوائل من لحن وغلط وإحالة وفساد معنى
وقال الأصمعي في الكميت إنه جرمقاني من جرامقة الشام لا يحتج
بشعره
وأنكر من شعر الطرماح ولحن ذا الرمة
403

ثم إن القاضي علي بن عبد العزيز طول في هذا المعنى وفي هذا القدر
كفاية ومن أراد الاستقصاء فليطالع ذلك الكتاب
وعند هذا نقول المرجع في صحة اللغات والنحو والتصريف إلى هؤلاء
الأدباء واعتمادهم على تصحيح الصحيح منها وإفساد الفاسد على أقوال
هؤلاء الأكابر من شعراء الجاهلية والمخضرمين وإذا كان الأدباء قدحوا
فيهم وبينوا لحنهم وخطأهم في اللفظ والمعنى والإعراب ف مع هذا
كيف يمكن الرجوع إلى قولهم والاستدلال بشعرهم
أقصى ما في الباب أن يقال هذه الأغلاط نادرة والنادر لا عبرة به
لكنا نقول النادر لا يقدح في الظن لكن لا شك أنه يقدح في اليقين لقيام
الاحتمال في كل واحد من تلك الألفاظ والاعرابات أنه من ذلك
اللحن النادر
فثبت أن المقصد الأقصى في صحة اللغة والنحو والتصريف الظن
404

الظن الثاني عدم الاشتراك فإن بتقدير الاشتراك يجوز أن يكون مراد
الله تعالى من هذا الكلام غير هذا المعنى الذي اعتقدناه لكن نفي
الاشتراك ظني
الظن الثالث عدم المجاز فإن حمل اللفظ على حقيقته إنما يتعين لو لم
يكن محمولا على مجازه لكن عدم المجاز مظنون
الظن الرابع أنه لا بد من عدم النقل فإن بتقدير أن يقال الشرع
أو العرف نقله من معناه اللغوي إلى معنى آخر كان المراد هو المنقول إليه لا ذلك
الأصل
الظن الخامس أنه لا بد من عدم الإضمار فإنه لو كان الحق هو لكان
المراد هو ذلك الذي يدل عليه اللفظ بعد الإضمار لا هذا الظاهر
الظن السادس عدم التخصيص وتقريره ظاهر
405

الظن السابع عدم الناسخ ولا شك في كونه محتملا في الجملة وبتقدير
وقوعه لم يكن الحكم ثابتا
الظن الثامن عدم التقديم والتأخير ووجهه ظاهر
الظن التاسع نفي المعارض العقلي فإنه لو قام دليل قاطع عقلي على
نفي ما أشعر به ظاهر النقل فالقول بهما محال لاستحالة وقوع النفي
والاثبات والقول بارتفاعهما الله محال لاستحالة عدم النفي والاثبات
والقول بترجيح النقل على العقل محال لأن العقل أصل النقل فلو كذبنا
العقل لكنا كذبنا أصل النقل ومتى كذبنا أصل النقل فقد كذبنا
النقل
فتصحيح النقل بتكذيب العقل يستلزم تكذيب النقل فعلمنا أنه لا بد من
ترجيح دليل العقل
فإذا رأينا دليلا نقليا فإنما يبقى دليلا عند السلامة عن
406

هذه الوجوه التسعة ولا يمكن العلم بحصول السلامة عنها إلا إذا قيل بحثنا
واجتهدنا فلم نجدها لكنا نعلم أن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم
الوجود لا يفيد إلا الظن
فثبت أن التمسك بالأدلة النقلية مبني على مقدمات ظنية والمبني على
الظني ظني
وذلك لا شك فيه فالتمسك بالدلائل النقلية لا يفيد إلا الظن
فإن قلت المكلف إذا سمع دليلا نقليا فلو حصل فيه شئ من هذه
المطاعن لوجب في حكمه الله أن يطلعه على ذلك
قلت القول بالوجوب على الله تعالى مبني على قاعدة الحسن والقبح
العقليين وقد تقدم القول فيها
سلمنا ولكننا نقطع بأنه لا يجب على الله تعالى أن يطلعه على
407

ذلك لما أنا نجد كثيرا من العلماء يسمعون آية أو خبرا مع أنهم لا
يعرفون ما في نحوها ولغتها وتصريفها من الاحتمالات التسعة التي ذكرناها وانكار
ذلك مكابرة ولو كان ذلك واجبا لما كان الأمر كذلك فعلمنا
ضعف هذا العذر
وفيه وجوه أخر من الفساد ذكرناها في الكتب الكلامية
واعلم أن الانصاف أنه لا سبيل إلى استفاد ة اليقين من هذه الدلائل
اللفظية إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين سواء كانت تلك القرائن
مشاهدة أو كانت منقولة إلينا بالتواتر
المسألة الرابعة
في كيفية الاستدلال بالخطاب
408

الخطاب إما أن يدل على الحكم بلفظه أو بمعناه أو لا يكون
كذلك ولكنه بحيث لو ضم إليه شئ آخر لصار المجموع دليلا على
الحكم
القسم الأول ما يدل عليه بلفظه
وقد عرفت أنه يجب حمل اللفظ على الحقيقة وعرفت أن الحقيقة
ضربان أصلية وهي اللغوية وطارئة قال وهي العرفية والشرعية
فإن كان الخطاب مستعملا في اللغة في شئ وفي العرف في شئ
آخر ولم يخرج بالعرف عن أن يكون حقيقة في المعنى اللغوي فإنه يكون
مشتركا بينهما
وإن صار مجازا في المعنى اللغوي وجب حمله على العرفي لأنه هو المتبادر
إلى الفهم ويجب مثل هذا في الاسم المنقول إلى معنى شرعي
فالحاصل أن الخطاب يجب حمله على المعنى الشرعي ثم العرفي ثم
المعنى اللغوي الحقيقي ثم المجاز
فإن خاطب الله تعالى طائفتين بخطاب هو حقيقة عند
409

إحداهما في شئ وعند الأخرى في شئ آخر وجب أن تحمله كل
واحدة منهما على ما تتعارفه والالزم أن يقال إن الله تعالى خاطبه بغير
ما هو ظاهر عنده مع عدم القرينة والله أعلم بالصواب
القسم الثاني
ما يدل عليه بمعناه وهو الدلالة الالتزامية
وقد ذكرنا في الباب الثاني أقسام الدلالة الالتزامية
القسم الثالث
ما يكون بحيث لو ضم إليه شئ آخر لصار المجموع دليلا على
الحكم
فنقول ذلك الذي يضم إليه إما أن يكون دليلا شرعيا وهو نص أو
إجماع أو قياس أ
ويكون ذلك بشهادة حال المتكلم
فهذه وجوه أربعة
أحدها أن ينضم إلى النص آخر فيصير مجموعهما دليلا على الحكم وله
مثالان
410

الأول أن يدل أحد النصين على إحدى المقدمتين والثاني على الثانية
فيحصل المطلوب كقولنا تارك المأمور عاص لقوله تعالى
أفعصيت أمري والعاصي يستحق عن العقاب لقوله تعالى
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
الثاني أن يدل أحد النصين على ثبوت الحكم لشيئين ويدل النص
الآخر على أن بعض ذلك لأحدهما فوجب القطع بأن باقي الحكم ثابت
للثاني كقوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فهذا يدل
على أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا وقوله تعالى والوالدات يرضعن
أولادهن حولين كاملين فهذا يدل على أن مدة الرضاع سنتان
فيلزم أن تكون مدة الحمل ستة أشهر
وثانيها أن يضم إلى النص اجماع كما إذا دل النص على أن الخال لا
يرث ودل الاجماع على أن الخالة بمثابته
411

وثالثها أن يضم إلى النص قياس كما إذا دل النص على حرمة الربا في
البر ودل القياس على أن التفاح بمثابته
ورابعها أن يضم إلى النص شهادة حال المتكلم كما إذا كان كلام
الشرع مترددا بين الحكم العقلي والشرعي فحمله على الشرعي أولى لأن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث لبيان الشرعيات لا لبيان ما يستقل
العقل بإدراكه
هذا إذا كان الخطاب مترددا بينهما
أما إذا كان ظاهر ه مع أحدهما لم يصح الترجيح بذلك والله
أعلم
المسألة الخامسة
في الخطاب الذي لا يمكن حمله على ظاهره
هذا الخطاب إما أن يكون خاصا أو عاما
فإن كان خاصا وكان حقيقة في شئ ثم وجدت قرينة تصرفه
عنه فإما أن تدل القرينة على أن المراد ليس ظاهره أو تدل على أن المراد
412

غير ظاهره أو على أن المراد ظاهره وغير ظاهره معا
فإن دل على أن المراد ليس ظاهره خرج الظاهر عن أن يكون مرادا فيجب
حمله على المجاز
ثم إن المجاز إما أن يكون واحدا أو أكثر
فإن كان واحدا حمل اللفظ عليه من غير افتقار إلى دلالة أخرى صونا
للكلام عن الإلغاء
وإن كان أكثر من واحد فإما أن يدل دليل في واحد معين على أنه مراد أو
على أنه ليس بمراد أو لا يدل الدليل في واحد معين لا بكونه مرادا ولا بكونه
غير مراد
فإن دل الدليل على أنه مراد قضي به
وإن دل الدليل على أنه غير مراد فإن لم يبق إلا وجه واحد حمل عليه
وإن بقي أكثر من واحد كان القول فيه كما إذا لم يوجد الدليل على كونه
مرادا ولا على كونه غير مراد وهذا هو القسم الثالث
فنقول
وجوه المجاز إما أن تكون محصورة أو غير محصورة
فإن لم تكن محصورة فقال القاضي عبد الجبار لا بد من دلالة تدل على
المراد لأنه لا يجوز أن يريدها أجمع مع تعذر حصرها علينا
قال أبو الحسين ولقائل أن يقول إنه أرادها كلها على البدل لأن
413

ذلك ممكن مع فقد الدلالة ومع فقد الحصر فإنه تعالى لو أوجب علينا ذبح
بقرة فإنا نكون مخيرين في ذبح أي بقرة شئنا وإن لم يمكنا حصر البقر
فأما من لا يجيز أن يراد بالكلمة الواحدة معنيان مختلفان فيجيئ على
مذهبه أنه لا بد من دلالة تدل على المراد بعينه لأن اللفظ ما وضع للتخيير
وأما إن كانت وجوه المجاز محصورة
فإن كان البعض أقوى من الباقي حمل على الأقوى رعاية لزيادة القوة
وإن تساوت حمل اللفظ عليها بأسرها على البدل
أما على الكل فلأنه ليس حمل الخطاب على البعض أولى من الباقي
وأما على البدل فلأن الخطاب ليس بعام حتى يحمل على الجميع
هذا على قول من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه
فأما من لا يجوزه فإنه يقول لا بد من البيان
القسم الأول
وهو أن يدل الدليل على أن غير الظاهر مراد فذلك الدليل إما
أن يعين ذلك الغير أو لا يعينه
414

فإن عينه وجب حمله عليه وإن لم يعينه فالقول فيه كما في القسم
الأول
القسم الثاني وهو أن يدل دليل على أن ظاهر الخطاب مراد وغير ظاهره
مراد
فإن كان ذلك الغير معينا وجبت الحمل عليه فيكون اللفظ موضوعا لهما
من جهة اللغة أو من جهة الشرع أو تكلم بالكلمة مرتين
وان لم يتعين ذلك الغير فالكلام فيه كما في القسم الأول
أما إن كان الخطاب عاما فإن تجرد عن القرينة حمل على العموم وان
لم يتجرد فهذا يقع على وجوه
أحدها أن تدل القرينة على أن المراد ظاهره وغير ظاهره معا
فإن كان ذلك الغير معنيا حمل اللفظ عليه على التفصيل المذكور
وان لم يكن معينا فالكلام فيه كما في الخاص إذا دلت الدلالة على أن المراد غير
ظاهره
وثانيها أن يدل الدليل على أن المراد ليس ظاهره وأن المراد
415

غير ظاهره فها هنا لا بد أن يوجد الدليل على التعيين لأنه إذا لم يكن المراد
ظاهره جاز أن يكون المراد بعض ما يتناوله وجاز أن يكون المراد شيئا آ
خر لم يتناوله الخطاب فإذا لم يصح اجتماعهما فلا بد من دليل يعين المراد
وثالثها أن يدل الدليل على أن بعضه مراد وهذا لا يقتضي
خروج البعض الآخر عن أن يكون مرادا لأنه لا ينافي ذلك
فان دل على أن المراد هو البعض خرج البعض الآخر عن كونه مرادا لأن
ذلك اخبار بأن ذلك البعض هو كمال المراد
ورابعها أن يدل الدليل على أن بعضه ليس بمراد وحينئذ يخرج عن
كونه مرادا ويبقى ما عداه تحت ذلك الخطاب والله أعلم
416

المسألة السادسة
في أن ثبوت حكم الخطاب إذا تناوله على وجه المجاز لا يدل على أنه مراد
بالخطاب
مثاله قوله تعالى أو لامستم النساء فإن قيام الدلالة على
وجوب التيمم على المجامع وهو الذي تناوله اسم الملامسة على طريق
الكناية هل يدل على أنه هو المراد بالآية
فذهب الكرخي وأبو عبد الله البصري إلى أنه واجب
وعندنا أنه ليس بواجب
لنا
المقتضى لاجراء الآية على ظاهرها موجود والمعارض الموجود وهو ثبوت
حكم الخطاب فيما تناوله على وجه المجاز لا يصلح معارضا له لاحتمال ثبوته
بدليل آخر أوجب اجراء الآية على ظاهرها
417

واحتجوا بأن ثبوت الحكم في صورة المجاز لا بد له من دليل ولا دليل سوى هذا الظاهر وإلا لنقل
وإذا حمل الظاهر على مجازه وجب أن لا يحمل على الحقيقة لامتناع
استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته معا
والجواب
لا نسلم أنه لا دليل سوى هذا الظاهر
قوله لو وجد لنقل
قلنا لعلهم استغنوا بالاجماع عن نقله والله أعلم.
418