الكتاب: المحصول
المؤلف: الرازي
الجزء: ٥
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور طه جابر فياض العلواني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٢
المطبعة: مؤسسة الرسالة - بيروت
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

المحصول
في علم أصول الفقه (5)
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثالثة
1418 ه‍ / 1997 م
المحصول
في علم أصول الفقه
للامام الأصولي النظار المفسر
فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي
544 - 606 ه‍ / 1149 - 1209 م
دراسة وتحقيق
الدكتور طه جابر فياض العلواني
الجزء الخامس
مؤسسة الرسالة
1

بسم الله الرحمن الرحيم
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الكلام في القياس
وهو مرتب على مقدمة
وأربعة أقسام
أما المقدمة ففيها مسائل
3

المسألة الأولى
في حد القياس
أسد ما قيل في هذا الباب تلخيصا وجهان
الأول
ما ذكره القاضي أبو بكر واختاره جمهور المحققين منا أنه حمل
معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع
بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما
وإنما ذكرنا لفظ المعلوم ليتناول الموجود المعدوم فإن القياس يجرى
فيهما جميعا ولو ذكرنا الشئ لاختص بالموجود على مذهبنا ولو ذكرنا
5

الفرع لكان يوهم اختصاصه بالموجود
وأيضا فلا بد من معلوم ثان يكون أصلا فإن القياس عبارة عن
التسوية وهي لا تتحقق إلا بين أمرين ولأنه لولا الأصل لكان ذلك إثباتا
للشرع بالتحكم
وأيضا فالحكم قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا
وأيضا فالجامع قد يكون أمرا حقيقيا وقد يكون حكما شرعيا وكل واحد
منهما قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا
هذا شرح هذا التعريف
6

والاعتراض عليه من وجوه
أحدها أن نقول
إن أردت بحمل أحد المعلومين على الآخر إثبات مثل حكم أحدهما
7

للأخر فقولك بعد ذلك في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إعادة
لعين ذلك فيكون ذلك تكريرا من غير فائدة
وإن كان شيئا آخر فلا بد من بيانه
وأيضا فبتقدير أن يكون المراد منه شيئا آخر لكن لا يجوز ذكره في تعريف
القياس لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع
وإذا تمت الماهية بهذا القدر وكان ذلك المعلوم الزائد خارجا فلا يجوز
ذكره
وثانيها
أن قوله في إثبات حكم لهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع
مثبت بالقياس وهو باطل فإن القياس فرع على ثبوت الحكم في
الأصل فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعا على القياس للزم
الدور
وثالثها
أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد تثبت الصفة أيضا بالقياس
كقولنا الله عالم فيكون له علم قياسا على الشاهد ولا نزاع في أنه قياس
8

لأن القياس أعم من القياس الشرعي والقياس العقلي
وإذا كان كذلك فنقول أما أن تكون الصفة مندرجة في الحكم أو
لا تكون
فإن كان الأول كان قوله بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما
عنه تكررا لأن الصفة لما كانت أحد أقسام الحكم كان ذكر الصفة
بعد ذكر الحكم تكرارا
وإن كان الثاني كان التعريف ناقصا لأنه ذكر ما إذا كان المطلوب ثبوت
المحكم أو عدمه ولم يذكر ما إذا كان المطلوب وجود الصفة
أو عدمها فهذا التعريف أما زائد أو ناقص
ورابعها
أن المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر
بأمر جامع فأما أن ذلك الجامع تارة يكون حكما وتارة يكون صفة وتارة
يكون نفيا للحكم وتارة يكون نفيا للصفة فذاك إشارة إلى ذكر أقسام
الجامع والمعتبر في تحقق ماهية القياس الجامع من حيث أنه
جامع لا أقسام قال الجامع بدليل أمرين
9

الأول
أن ماهية القياس قد توجد منفكة عن كل واحد من أقسام الجامع
بعينه وإن كان لا بد لها من قسم ما وما ينفك عن الماهية لا يكون
معتبرا في تحقق الماهية
والثاني
أن الجامع كما ينقسم إلى الحكم والصفة ونفيهما فكذا الحكم ينقسم
إلى الوجوب والحظر وغيرهما والوجوب ينقسم إلى الموسع والمضيق
والمخير والمعين وغيرها فلو لزم من اعتبار الجامع في ماهية القياس
ذكر أقسامه لوجب من ذكر كل واحد من تلك الأقسام ذكر ما لكل واحد من
الأقسام
وخامسها
أن كلمة أو للإبهام وماهية كل شئ معينة والإبهام ينافي التعيين
فإن قلت كونه بحيث يلزمه أحد هذه الأمور حكم معين
قلت فالمعتبر إذن في الماهية ملزوم هذه الأمور وهو كونه جامعا
من حيث إنه جامع فيكون ذكر هذه الزوائد لغوا
10

وسادسها
هو أن القياس الفاسد قياس وهو خارج عن هذا التعريف
أما الأول فلأن القياس الفاسد قياس مع كيفية فيكون قياسا
وأما الثاني فلأن قوله بأمر جامع دليل على أن هذا القائل يعتبر في
حد القياس حصول الجامع ومتى حصل الجامع كان القياس صحيحا
فيكون القياس الفاسد خارجا عنه وإنه غير جائز بل يجب أن يقال
بأمر جامع في ظن المجتهد فأن القياس الفاسد حصل فيه الجامع في
ظن المجتهد وإن لم يحصل في نفس الأمر
التعريف الثاني
ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أنه تحصيل حكم الأصل في الفرع
لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وهو قريب
وأظهر منه أن يقال إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل
اشتباههما في علة الحكم عند المثبت
فلنفسر عن الألفاظ المستعملة في هذا التعريف
أما الإثبات فالمراد منه القدر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن
سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أو بعدمه
وقد يطلق لفظ الإثبات ويراد به الخبر باللسان لدلالته على الحكم
الذهني
11

وأما المثل فتصوره بديهي لأن كل عاقل يعلم بالضرورة كون الحار
مثلا للحار في كونه حارا ومخالفا للبارد في كونه باردا ولو لم يحصل
تصور ماهية التماثل والاختلاف إلا بالاكتساب لكان الخالي عن ذلك
الاكتساب خاليا عن ذلك التصور فكان خاليا عن هذا التصديق
ولما علمنا أننا قبل كل اكتساب نعلم بالضرورة هذا التصديق
المتوقف على ذلك التصور علمنا أن حصول ذلك التصور غنى عن
الاكتساب
وأما الحكم فقد مر في أول الكتاب تعريفه
وأما المعلوم فلسنا نعنى به مطلق متعلق العلم فقط بل ومتعلق
الاعتقاد والظن لأن الفقهاء يطلقون لفظ المعلوم على هذه الأمور
وأما العلة فسيأتي تفسيرها إنشاء الله تعالى
وقولنا عند المثبت ذكرناه ليدخل فيه القياس الصحيح والفاسد
12

فإن قيل هذا التعريف ينتقض بقياس العكس وقياس التلازم
والمقدمتين والنتيجة
أما قياس العكس فكقولنا لو لم يكن الصوم شرطا لصحة الاعتكاف
لما كان شرطا له بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لما لم تكن شرطا لصحة
الاعتكاف لم تكن شرطا له بالنذر فالمطلوب في الفرع إثبات كون
الصوم شرطا لصحة الاعتكاف والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطا
له فحكم الفرع ليس حكم الأصل بل نقيضه
وأما قياس التلازم فكقولنا إن كان هذا إنسانا فهو حيوان لكنه
إنسان فهو حيوان لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان
وأما المقدمتان فكقولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث
فكل جسم محدث
فإن قلت لا أسمي هاتين الصورتين قياسا لأن القياس عبارة عن
التسوية وهي لا تحصل إلا عند تشبيه صورة بصورة وليس الأمر كذلك في
التلازم وفي المقدمتين والنتيجة
14

قلت بل التسوية حاصلة في هذين الموضعين لأن الحكم في كل
واحدة من المقدمتين معلوم والحكم في النتيجة مجهول فاستلزام
المطلوب من هاتين المقدمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب
مساوية للحكم في المقدمتين في صفة المعلومية
والجواب
أما الشئ الذي سميتموه بقياس العكس فهو في الحقيقة تمسك بنظم
التلازم وإثبات لإحدى مقدمتي التلازم بالقياس فإنا نقول لو لم يكن
الصوم شرطا في صحة الاعتكاف لما صار شرطا له بالنذر لكنه يصير
شرطا له بالنذر فهو شرط له مطلقا فهذا تمسك بنظم التلازم واستثناء
نقيض اللازم لإنتاج نقيض الملزوم ثم إنا نثبت المقدمة الشرطية بالقياس
وهو أن ما لا يكون شرطا للشئ في نفسه لم يصر شرطا له بالنذر كما في
الصلاة وهذا قياس الطرد لا قياس العكس
وأما الصورتان الباقيتان فلا نسلم أنه قياس لما بينا
قوله معنى التسوية حاصل فيه من الوجه المذكور
قلنا لو كفى ذلك الوجه في إطلاق اسم القياس لوجب أن يسمى
كل دليل قياسا لأن المتمسك من بالنص جعل مطلوبه مساويا لذلك النص في
15

المعلومية ولو صح ذلك لأمتنع في أن يقال ثبت الحكم في محل النص بالنص
لا بالقياس
فإن أردنا أن نذكر عبارة في تعريف القياس بحيث تتناول كل هذه
الصور نقل القياس قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها
قول آخر
وتحقيق القول في هذا التعريف مذكور في كتبنا العقلية
المسألة الثانية في الأصل والفرع
إذا قسنا الذرة على البر في تحريم بيعه بجنه بن متفضلا فأصل
القياس إما أن يكون هو البر أو الحكم الثابت فيه أو علة ذلك الحكم
أو النص الدال على ثبوت ذلك الحكم
فالفقهاء جعلوا الأصل اسما لمحل الحكم المنصوص عليه
والمتكلمون جعلوه اسما للنص الدال على ذلك الحكم
أما قول الفقهاء فضعيف لأن أصل الشئ ما تفرع عنه غيره
16

والحكم المطلوب إثباته في الذرة غير متفرع على البر لأن البر لو لم يوجد
فيه ذلك الحكم وهو حرمة الربا لم يمكن تفريع حرمة الربا في الذرة
عليه ولو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في البر أمكن
تفريع حكم الربا في الذرة عليه
فإذن الحكم المطلوب إثباته غير متفرع أصلا على البر بل على
الحكم الحاصل في البر فالبر إذن لا يكون أصلا للحكم المطلوب
وأما زيادة قول المتكلمين فضعيف أيضا من هذا الوجه لأنا لو قدرنا
كوننا عالمين بحرمة الربا في البر بالضرورة أو بالدليل العقلي لأمكننا
أن نفرع عليه حكم الذرة فلو قدرنا أن النص على حرمة الربا في صورة
خاصة لم يكن أن نفرع عليه حكم الذرة تفريعا قياسيا وإن أمكن تفريعا
نصيا
وإذا كان كذلك لم يكن النص أصلا للقياس بل أصلا لحكم محل
الوفاق ولما فسد هذان القولان بقى أن يكون أصل القياس هو الحكم
الثابت في محل الوفاق أو علة ذلك الحكم ولابد فيه من تفصيل
فنقول
الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف والعلة فرع في
محل الوفاق أصل في محل الخلاف
وبيانه
أنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق لا نطلب علة وقد نعلم
17

ذلك الحكم ولا نطلب علته أصلا فلما توقف إثبات علة الحكم في محل
الوفاق على إثبات ذلك الحكم ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات
علة الحكم في محل الوفاق لاجرم كانت العلة فرعا على الحكم في
محل الوفاق والحكم أصلا فيه
وأما في محل الخلاف فما لم نعلم حصول العلة فيه لا يمكننا إثبات
الحكم فيه قياسا ولا ينعكس فلا جرم كانت العلة أصلا في محل
الخلاف والحكم فرعا فيه
وإذا عرفت ذلك فنقول إن لقول الفقهاء والمتكلمين وجها أيضا
لأنه إذا ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل وثبت أن النص
أصل لذلك الحكم فكان النص أصلا لأصل الحكم المطلوب وأصل
الأصل أصل فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على قول المتكلمين
وأيضا فالحكم الذي هو الأصل محتاج إلى محلة فيكون محل الحكم
أصلا للأصل فتجوز تسميته بالأصل أيضا على ما هو قول الفقهاء
وهاهنا دقيقة وهى أن تسمية العلة في محل النزاع أصلا أولى من
تسمية محل الوفاق بذلك لأن العلة مؤثرة في الحكم والمحل غير مؤثر
18

في الحكم فجعل علة الحكم أصلا له أولى من جعل محل الحكم
أصلا له لأن التعليق الأول أقوى من الثاني
وأما الفرع فهو عند الفقهاء عبارة عن محل الخلاف
وعندنا عبارة عن الحكم المطلوب إثباته لأن محل الخلاف غير
متفرع على الأصل بل الحكم المطلوب إثباته فيه هو المتفرع عليه
وهاهنا دقيقة وهى إطلاق لفظ الأصل على محل الوفاق أولى
من إطلاق لفظ الفرع على محل الخلاف لأن محل الوفاق أصل للحكم
الحاصل فيه والحكم الحاصل فيه أصل للقياس فكان محل الوفاق
أصل أصل القياس
وأما هاهنا فمحل الخلاف أصل للحكم المطلوب إثباته فيه وذلك
الحكم فرع للقياس فيكون محل الخلاف أصل فرع القياس وإطلاق اسم
الأصل على أصل أصل القياس أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل
الفرع
واعلم أنا بعد التنبيه على هذه الدقائق نساعد الفقهاء على مصطلحهم
وهو أن الأصل محل الوفاق والفرع محل الخلاف لئلا نفتقر إلى
تغيير مصطلحهم
المسألة الثالثة
إذا اعتقدنا كون الحكم في محل الوفاق معللا بوصف ثم اعتقدنا
حصول ذلك الوصف بتمامه في محل النزاع حصل لا محالة اعتقاد
19

أن الحكم في محل النزاع مثل الحكم في محل الوفاق فإن كانت
المقدمتان قطعيتين كانت النتيجة كذلك ولا نزاع بين العقلاء في صحته
أما إذا كانتا ظنيتين أو كانت إحداهما فقط ظنية فالنتيجة
تكون ظنية لا محالة
وهذا إما أن يكون في الأمور الدنيوية أو في الأحكام الشرعية فإن كان
في الأمور الدنيوية فقد اتفقوا على أنه حجة
وأما في الشرعيات فهو محل الخلاف والمراد من قولنا القياس
حجة أنه إذا حصل ظن أن حكم هذه الصورة مثل حكم تلك الصورة فهو
مكلف بالعمل به في نفسه ومكلف بأن يفتى به غيره
واعلم أن الجمع بين الأصل والفرع تارة يكون بإلغاء الفارق
والغزالي يسميه تنقيح المناط
وتارة باستخراج الجامع وهاهنا لا بد من بيان أن الحكم في الأصل
معلل بكذا ثم من بيان وجود ذلك المعنى في الفرع والغزالي يسمى
الأول تخريج المناط والثاني تحقيق المناط
20

القسم الأول
في إثبات أن القياس حجة
اختلف الناس في القياس الشرعي
فقلت طائفة العقل يقتضى جواز التعبد به في الجملة
وقالت طائفة العقل يقتضى المنع من التعبد به
والأولون قسمان
21

منهم من قال وقع التعبد به
ومنهم من قال لم يقع
أما من اعترف بوقوع التعبد به فقد اتفقوا على أن السمع دل عليه ثم
اختلفوا في ثلاثة مواضع
أحدها
أنه هل في العقل ما يدل عليه
فقال القفال منا وأبو الحسين والبصري من المعتزلة العقل يدل على
وجوب العمل به
وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك
وثانيها
أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية
والباقون قالوا قطعية
وثالثها
القاشاني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين
22

إحداهما
إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه
والثانية
كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف
أما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة
وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به فمنهم من قال لم يوجد في السمع
ما يدل على وقوع التعبد به فوجب الامتناع من العمل به
ومنهم من لم يقنع بذلك بل تمسك في نفيه بالكتاب والسنة وإجماع
الصحابة وإجماع العترة
وأما القسم الثاني وهم الذين قالوا بأن العقل يقتضى المنع من التعبد
به فهم فريقان
أحدهما
خصص ذلك المنع بشرعنا وقال لأن مبنى شرعنا على الجمع
بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس وهذا
قول النظام
وثانيها
الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع وهؤلاء فرق ثلاث
إحداها
الذين قالوا يمتنع أن يكون القياس طريقا إلى العلم والظن
23

وثانيتها
الذين سلموا أنه يفيد الظن لكنهم قالوا لا يجوز متابعة الظن لأنه قد
يخطئ وقد يصيب
وثالثها
الذين سلموا أنه يجوز متابعة الظن في الجملة ولكن حيث يتعذر
النص كما في قيم المتلفات وأروش الجنايات والفتوى والشهادات لأنه لا
نهاية لتلك الصور فكان التنصيص على حكم كل واحد منها متعذرا
أما في غير هذه الأحكام فإنه يمكن التنصيص عليها فكان الاكتفاء
بالقياس اقتصارا على أدنى البابين مع القدرة على أعلاهما وأنه غير جائز
وهذه طريقة داود وأتباعه من أهل الظاهر فهذا تفصيل المذاهب
24

والذي نذهب إليه وهو قول الجمهور من علماء الصحابة والتابعين
أن القياس حجة في الشرع
لنا
الكتاب والسنة والإجماع والمعقول
أما الكتاب فقوله تعالى فاعتبروا يا أولى الأبصار
وجه الاستدلال به أن الاعتبار مشتق من العبور وهو المرور
يقال عبرت عليه وعبرت النهر والمعبر الموضع الذي يعبر عليه
والمعبر السفينة التي يعبر فيها كأنها أداة العبور والعبرة الدمعة التي عبرت
من الجفن وعبر الرؤيا وعبرها جاوزها إلى ما يلازمها
فثبت بهذه الاستعمالات كون الاعتبار حقيقة في المجاوزة فوجب
أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك
والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت
الأمر
26

فإن قيل لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة بل هو عبارة عن
الاتعاظ لوجوه
أحدها
أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي إنه معتبر
وثانيها
أن المتفكر في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يتفكر في أمر
معاده يقال إنه غير معتبر أو قليل الاعتبار
وثالثها
قوله تعالى إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار وإن لكم في
الأنعام لعبرة والمراد به الاتعاظ
ورابعها
يقال السعيد من اعتبر بغيره والأصل في الكلام الحقيقة
فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ لا في
27

المجاوزة فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلناه فعليكم الترجيح ثم
الترجيح معنا فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرنا
سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة ولكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة
أن لا يكون هناك ما يمنع منه وقد وجد هاهنا ما يمنع فإنه لو قال
يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر كان
ركيكا لا يليق بالشرع
وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقته
سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة لكن لا نسلم أن الأمر
بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي
وبيانه
أن كل من تمسك بدليل على مدلول فقد عبر من الدليل إلى
المدلول فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي
القاطع وبالنص وبالبراءة الأصلية وبالقياس الشرعي فكل واحد من
هذه الأنواع يخالف الآخر بخصوصيته وما به
الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فاللفظ الدال على ما به الاشتراك غير دال على ما
28

به الامتياز لا بلفظه ولا بمعناه فلا يكون دالا على النوع الذي ليس إلا عبارة
عن مجموع جهة الاشتراك وجهة الامتياز فلفظ الاعتبار غير دال على
القياس الشرعي لا بلفظه ولا بمعناه
فإن قلت القدر المشترك بين أنواع مخصوصة لا يوجد إلا عند وجود
واحد منها والأمر بالشئ أمر بما هو من ضروراته فالأمر بإدخال الاعتبار
في الوجود أمر بإدخال أحد أنواعه في الوجود ثم ليس تعيين أحد أنواعه
أولى من تعيين الباقي لأن نسبة القدر المشترك بين أنواع مخصوصة إلى كل
واحد منها على السوية فإما أن لا يجب شئ منها وهو باطل لأن تجويز
الإخلال بجميع أنواع الماهية يلزم تجويز الإخلال بتلك الماهية فيلزم
أن لا يكون مسمى الاعتبار مأمورا به وهو باطل
أو يجب جميع أنواع الاعتبار المأمور به في الآية فيكون القياس
الشرعي مندرجا فيه
قلت لا نسلم أنه ليس بعض الأنواع أولى من بعض لأن الاعتبار
المأمور به في الآية لا يمكن أن يكون هو القياس الشرعي فقط وإلا لصار
معنى الآية
يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر ومعلوم
أنه غير جائز بل لا بد من الاعتراف بأن الاعتبار المأمور به يفيد نوعا غير
القياس الشرعي وهو الاتعاظ مثلا إلا أنا نقول إنه يفيد الاتعاظ فقط
وأنتم تقولون يفيد الاتعاظ والقياس الشرعي
فظهر بهذا أن الأمر بالاعتبار يستلزم الأمر بالاتعاظ ومسمى
الاعتبار حاصل في الاتعاظ ففي إيجاب الاتعاظ حصل إيجاب
29

مسمى الاعتبار فلا حاجة إلى إيجاب سائر أنواعه
وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر
أحدها
إذا نص الشارع على علة الحكم فهاهنا القياس عندنا واجب
وثانيها
قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف
وثالثها
الأقيسة العقلية
ورابعها
الأقيسة في أمور الدنيا فإن العمل بها عندنا واجب
وخامسها
أن نشبه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص
وسادسها
الاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال
فثبت بما تقدم أن الآتي بفرد من أفراد ما يسمى اعتبارا يكون خارجا
عن عهدة هذا الأمر
وثبت أنا أتينا به في صور كثيرة فلا تبقى فيه دلالة البتة على
الأمر بالقياس الشرعي
30

سلمنا أن اللفظ يقتضى العموم لكن حمله عليه هاهنا يفضى إلى
التناقض لأن التسوية بين الفرع والأصل في الحكم نوع من
الاعتبار والتسوية بينهما في أنه لا يستفاد حكم الفرع إلا من النص كما أنه
في الأصل كذلك
ولأنه نوع أخر من الاعتبار والأمر بأحد الاعتبارين مناف للأمر
بالآخر فإجراء اللفظ على ظاهره يقتضى الأمر بالمتنافيين معا وهو
محال
ثم ليس إخراج أحد القسمين من تحت ظاهر العموم لإبقاء الآخر أولى
من العكس وعليكم الترجيح
ثم إنه معنا لأن تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من
النص عمل بالاحتياط واحتراز عن الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا
سلمنا بأن حمله على العموم لا يفضى إلى التناقض لكنه عام دخله
التخصيص فوجب أن لا يكون حجة
بيان الأول من وجوه
31

أحدهما
أن الرجل لا يكون مأمورا بالاعتبار عند تعادل الامارات وفي
الأشياء التي ما نصب الله تعالى عليها دليلا كمقادير الثواب والعقاب وأجزاء
السماوات والأرض
وفي الأشياء التي عرف حكمها بالاعتبار مرة فالمكلف بعد ذلك لا
يكون مأمورا باعتبار آخر
وثانيها
لو قال لوكيله أعتق غانما لسواده فليس للوكيل أن يعتق سالما
لسواده
وثالثها
أن عند قيام النص في المسألة لا يكون الرجل مأمورا بالعمل
بالقياس
ورابعها
الأقيسة المتعارضة لا يتناولها الأمر فثبت أن هذا العام مخصوص ومثل
هذا العام ليس بحجة على ما سبق بيانه في باب العموم
سلمنا أنه حجة لكن حجة قطعية أو ظنية
32

الأول ممنوع والثاني مسلم
بيانه
أنكم إنما بينتم كون الاعتبار اسما للمجاوزة بتلك الاشتقاقات ولا شك
أن التوسل بالاشتقاقات هذه إلى تعيين المسمى دليل ظني ومسألة القياس
مسألة يقينية وبناء اليقيني على الدليل المبنى على المقدمة الظنية لا يجوز
سلنا أنه يفيد اليقين لكنه أمر والأمر لا يفيد التكرار فلا يتناول كل
الأوقات
سلمنا أنه يتناول كل الأوقات
ولكنه خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين في عصر الرسول
ص
والجواب
قلنا جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين
الأول
أنه يقال فلان اعتبر فأتعظ فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار
وذلك يوجب التغاير
الثاني
أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ فإن الإنسان ما لم يستدل
بشئ آخر على حال نفسه لا يكون متعظا
إذا ثبت هذا فنقول لو جعلناه حقيقة في المجاوزة لكان
33

حقيقة في الاتعاظ وغيره على سبيل التواطئ
أما لو جعلناه حقيقة في الاتعاظ كان استعماله في غيره إما بالاشتراك
أو بالمجاز وهما على خلاف الأصل
وعلى هذا التقرير لا يضرنا قولهم إن لفظ الاعتبار مستعمل في
الاتعاظ فأما قوله لا يقال لمن يستعمل القياس إنه معتبرا
قلنا لا نسلم فإنه يصح أن يقال إن فلانا يعتبر الأشياء العقلية
بغيرها بلى من أتى بقياس واحد لا يقال إنه معتبرا على الإطلاق كما أنه
لا يقال له إنه قائس على الإطلاق لأن لفظ المعتبر والقائس على
الإطلاق لا يستعمل إلا في المكثر منه
قوله المكثر من حمل الفروع على الأصول إذا لم يتفكر في أمر
آخرته لا يقال له إنه معتبر
قلنا لما كان الغرض الأعظم من الاعتبار هو العمل للآخرة فإذا لم
يأت بما هو المقصود الأصلي قيل إنه غير معتبر على سبيل المجاز كما
يقال لمن لا يتدبر في الآيات إنه أعمى وأصم
وأما قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة
قلنا معنى المجاوزة حاصل فيه لأن النظر في خلقها يفيد العلم بوجود
صانعها
34

قوله سلمناه أنه حقيقة في المجاوزة ولكن لكن وجد ما يمنع من
حمله عليها
قلنا لا نسلم
قوله لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر
كان ركيكا
قلنا لا نزاع في أنه لو نص على هذه الصورة كان ركيكا لأنه لا
مناسبة بين خصوص هذا القياس وبين قوله تعالى
يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين لكن لم قلت إنه لو أمر
بمطلق الاعتبار الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته كان ركيكا
مثاله لو سأله عن مسألة فأجاب بما لا يتناول تلك المسألة كان باطلا
أما لو أجاب بما يتناول تلك المسألة وغيرها كان حسنا
قوله الأمر بالاعتبار لا يقتضى إلا إدخال فرد من أفراد هذه الماهية في
الوجود
قلنا بل يقتضى العموم لدليلين
الأول
أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضى أن علة ذلك الحكم هو ذلك
المسمى وذلك يقتضى أن علة الأمر بالاعتبار هو كونه اعتبارا فيلزم أن يكون
35

كل اعتبار مأمورا به
الثاني
أنه يحسن أن يقال اعتبر إلا الاعتبار الفلاني وقد بينا في باب
العموم أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحت اللفظ فعلمنا
أن كل الاعتبارات داخلة تحت هذا اللفظ
قوله لو حملناه على العموم لا يفضى إلى التناقض
قلنا هب إنه كذلك لكنا نقول لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه
الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص وذلك لوجهين
الأول
أن الاعتبار المذكور هاهنا لابد وأن يكون معناه لائقا بما قبل هذه
الآية وما بعدها وإلا جاءت الركاكة والذي يليق به هو التشبيه في الحكم
لا المنع منه وإلا لصار معنى الآية
يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فلا تحكموا هذا الحكم في
حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير
ومعلوم أن ذلك باطل وإذا بطل حمل الآية عليه وجب حملها على
التشبيه في الحكم عملا بعموم اللفظ
36

الثاني
هو أن المتبادر إلى الفهم من لفظ الاعتبار هو التشبيه في الحكم
لا المنع منه ولذلك فإن السيد إذا ضرب بعض عبيده على ذنب صدر منه
ثم قال للأخر اعتبر به فهم منه الأمر بالتسوية في الحكم لا الأمر
بالمنع منه
قوله إنه عام مخصوص
قلنا هذا مسلم لكنا بينا في باب العموم أن العام المخصوص
حجة
قوله بعض مقدمات هذه الدلالة ظنية
قلنا هذا السؤال عام في كل السمعيات فلا يكون له تعلق بخاصية
هذه المسألة
قوله الأمر لا يفيد التكرار
قلنا إنه لما كان أمرا بجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع
الأوقات وإلا قدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة
قوله هو خطاب مع أولئك الذين كانوا في عصر الرسول ص
فلم قلتم إنه يتناولنا
قلنا للإجماع على عدم الفرق
37

المسلك الثاني
التمسك بخبر معاذ وهو مشهور روى أنه ص أنفذ معاذا
وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن فقال عليه الصلاة والسلام
لهما بما تقضيان فقالا إذا لم نجد الحكم في السنة نقيس الأمر بالأمر
فما كان أقرب إلى الحق عملنا به فقال علية الصلاة والسلام أصبتما
38

وقال عليه الصلاة والسلام لابن مسعود اقض بالكتاب والسنة إذا
وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما فأجتهد برأيك
فان قيل لا نسلم صحة الحديث
وبيانه من وجهين
الأول
أنه مشتمل على الخطأ فوجب أن لا يكون صحيحا
بيان الأول من وجوه
أحدها
أن فيه قوله فإن لم تجد في كتاب الله وهو يناقض قوله تعالى ما
39

فرطنا في الكتاب من شئ وقوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في
كتاب مبين)
وثانيها
أن في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام صوبه على قوله أجتهد
رأيي وهو خطأ لأن الاجتهاد في زمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا
يجوز على ما سيأتي دليله إن شاء الله تعالى
وثالثها
أنه عليه الصلاة والسلام سأله عما به يقضى والقضاء هو الإلزام
فيكون السؤال واقعا عن الشئ الذي يجب الحكم به والسنة لا تصلح جوابا
عن ذلك لأنها تذكر في مقابلة الفرض هذا سنة وليس بفرض
ورابعها
أن الحديث يقتضى أنه سأله عما به يقضي بعد أن نصبه للقضاء وذلك
لا يجوز لأن جواز نصه للقضاء مشروطا بصلاحيته للقضاء وهذه الصلاحية
إنما تثبت لو ثبت كونه عالما بالشئ الذي يجب أن يقضى به والشئ الذي
لا يجب أن يقضى به
40

وخامسها
أن مقتضى الحديث أنه لا يجوز الاجتهاد إلا عند عدم وجدان الكتاب
والسنة وهو باطل لأن تخصيص الكتاب والسنة بالقياس جائز
الوجه الثاني في بيان ضعف الحديث
روى أن معاذا لما قال أجتهد رأيي قال له الرسول ص
اكتب إلي أكتب إليك وليس لأحد أن يقول إنا نصحح الروايتين
لأنهما نقلا في واقعة واحدة فإنه لا يمكن الجمع بينهما
سلمنا سلامة المتن عن هذه المطاعن لكن لا نزاع بين المحدثين في
كونه مرسلا والمرسل ليس بحجة على ما تقدم بيانه
سلمنا أنه ليس بمرسل ولكنه ورد في إثبات القياس والاجتهاد وإنه
41

أصل عظيم في الشرع والدواعي تكون متوفرة على نقل ما هذا شأنه وما
يكون كذلك وجب بلوغه في الاشتهار إلى حد التواتر فلما لم يكن
كذلك علمنا أنه ليس بحجة
والحاصل أنه مرسل فوجب أن لا يكون حجة عند الشافعي رضي الله عنه
وأنه خبر وارد فيما تعم به البلوى فوجب أن لا يكون حجة عند أبي
حنيفة
سلامته عن هذا الأمر لكنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به
في المسائل القطعية
فإن قلت الدليل على صحته أن مثبتي القياس كانوا أبدا متمسكين به
في إثبات القياس والنفاة كانوا مشتغلين بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على
قبوله قلت قد تقدم بيان ضعف هذا الوجه
سلمنا صحته فلم يدل على كون القياس حجة
أما قوله أجتهد رأيي
قلنا الاجتهاد عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب فنحمله على
طلب الحكم من النصوص الخفية
فإن قلت إنما قال أجتهد رأيي بعد أن كان لا يجده في الكتاب
42

والسنة وما دلت النصوص الخفية عليه لا يجوز أن يقال إنه غير
موجود في الكتاب والسنة
قلنا لا نسلم أن قوله فإن لم تجده يقتضى العموم
بيانه أنه يصح أن يستفهم فيقال أتعني بقولك فإن لم تجد عدم
الوجدان في صرائحه فقط أم فيه وفي جميع وجوه دلالته
سلمنا أنه بظاهرة للعموم لكن هاهنا لا يمكن حمله على
العموم لأن العمل بالقياس مفهوم عندكم من الكتاب والسنة فكيف
يصح حمل قوله فإن لم تجد على العموم
سلمنا أنه يمكن حمله على العموم لكن قوله أجتهد رأيي يكفي في
العمل بمقتضاه نوع واحد من الاجتهاد فنحمله على التمسك بالبراءة
الأصلية أو على التمسك بما ثبت في العقل من أن الأصل في الأفعال
الإباحة أو الحظر
سلمنا أنه لا يجوز حمله عليه فلم قلتم إنه لما لم يجز حمله على
النص الخفي وعلى دليل العقل وجب حمله على القياس الشرعي وما
الدليل على الحصر
فإن هاهنا طرقا أخرى سوى القياس كالتمسك بالمصالح المرسلة
والتمسك بطريقة الاحتياط في تنزيل اللفظ على أكثر مفهوماته أو أقل مفهوماته أو قول
الشارع احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب
43

وبالجملة فلابد من دليل على الحصر
سلمنا أنه يتناول القياس الشرعي ولكن يكفي في العمل بمقتضاه
إثبات نوع واحد من أنواع القياس الشرعي ونحن نقول به فإن مذهب
النظام أن الشرع إذا نص على علة الحكم وجب القياس ورد الأمر
بالقياس أو لم يرد
ويجب أيضا قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف
سلمنا أنه يدل على جواز العمل بالقياس الشرعي لكن في زمان
حياة الرسول ص أو بعده على الإطلاق
الأول مسلم والثاني ممنوع
بيانه أن شرط العمل بالقياس عدم الوجدان في الكتاب والسنة وذلك إنما
يمكن في زمان حياة الرسول ص لعدم استقرار الشرع
فأما بعد نزول قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم فإن هذا متعذر
لأن الدين إنما يكون كاملا أن لو بين فيه جميع ما يحتاج إليه وذلك إنما
يكون بالتنصص سنة على كليات الأحكام
وإذا كان جميع الأحكام موجودا في الكتاب والسنة وكان العمل
بالقياس مشروطا بعدم الوجدان فيهما لم يجز العمل بالقياس بعد زمان
الرسول ص
44

والجواب
قوله هذا الحديث مناف لكتاب الله تعالى
قلنا لا نسلم وأما قوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب
مبين وقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شئ
قلنا هذه الأدلة تدل على اشتمال الكتاب على كل الأمور إبتداء أو
بواسطة
الأول باطل
لخلو ظاهر كتاب الله تعالى عن دقائق الهندسة والحساب وتفاريع
الحيض والوصايا
والثاني
لا يضرنا لأن كتاب الله تعالى لما دل على وجوب قبول قول
الرسول ص وقول الرسول دل على أن القياس حجة
والقياس دل على هذه الأحكام كان كتاب الله تعالى دالا على هذه
الأحكام
قوله الحديث يدل على جواز الاجتهاد في زمان الرسول ص
قلنا وأي محذور يلزم منه فإن الواقعة التي لا يمكن تأخير الحكم
فيها إلى مدة يذهب الرجل من اليمن إلى المدينة ويرجع عنها لا يكون
تحصيل النص فيها ممكنا فوجب جواز الرجوع إلى القياس
45

قوله ذكر السنة جوابا عما به يقضى غير جائز
قلنا لا نسلم لأن السنة عبارة عن الطريقة كيف كانت
قوله لا يجوز نصبه للقضاء إلا بعد العلم بأنه يعرف التمييز بين ما يجوز
به القضاء وبين ما لا يجوز
قلنا المراد بقوله لما بعث معاذا إلى اليمن لما عزم على أن
يبعثه
قوله الحديث يمنع من تخصيص الكتاب والسنة بالقياس
قلنا كثير من الناس ذهب إليه
قوله نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال اكتب إلي أكتب إليك
قلنا روايتنا مشهورة وروايتكم غريبة لم يذكرها أحد من المحدثين فلا
يحصل التعارض
وأيضا
فكيف يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام اكتب إلي أكتب إليك
وقد يعرض من الحكم مالا يجوز تأخيره
وأيضا
يمكن الجمع بينهما وإن وردا في واقعة واحدة وهو أن يقال الحادثة
إن احتملت التأخير وجب عرضها
وإن لم تحتمل وجب الاجتهاد
قوله إنه مرسل
46

قلنا هب أنه كذلك لكنه مرسل تلقته الأمة بالقبول ومثله حجة
عندنا
قوله وارد فيما تعم به البلوى فوجب بلوغه إلى حد التواتر
قلنا وروده فيما تعم به البلوى لا يوجب كونه متواترا بدليل المعجزات
المنقولة عن النبي ص
قوله إنه خبر واحد قلنا هب أنه كذلك لكن لا نثبت به القطع بكون القياس حجة
بل ظن كونه حجة
قوله نحمله على طلب النص الخفى
قلنا قوله فإن لم تجد يقتضى نفي النص جليا كان أو خفيا
47

قوله لا نسلم أن قوله فإن لم تجد للعموم
قلنا الدليل الدال على أنه للعموم جواز الاستثناء
قوله لما دل الكتاب والسنة على العمل بالقياس كان دليلا على
الحكم الثابت بالقياس
قلنا هب أنه كذلك ولكن الحكم الذي هو مدلول القياس لا يكون
حاصلا فيهما وهذا القدر يكفي في جواز أن يقال إنه غير موجود في الكتاب
والسنة وقول معاذ أحكم بكتاب الله أراد به ما دل عليه الكتاب بنفسه
لا بواسطة إذ لو أراد به كل ما دل عليه الكتاب سواء كان ابتداء أو
بواسطة لكان القول بأنه إذا لم يوجد في الكتاب حكمت بما في السنة خطأ
قوله نحمله على البراءة الأصلية
قلنا البراءة الأصلية معلومة لكل أحد فلا حاجة في معرفتها إلى
الاجتهاد فلا يجوز حمل قوله أجتهد عليه
قوله نحمله على القياس الذي نص الشرع على علته أو على ما يكون
مثل قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف
قلنا الشرع إنما سكت عند قوله أجتهد لعلمه بأن الاجتهاد واف
بجميع الأحكام فلو حملناه على ما ذكرتموه من القياس لم يكن ذلك
وافيا بمعرفة عشر عشير الأحكام فكان يجب أن لا يسكت عليه كما لم
يسكت عند قوله أقضي بالكتاب والسنة
48

قوله ما الدليل على الحصر
قلنا أجمعت الأمة على الحصر فوجب القطع به
المسلك الثالث
روى أن عمر رضي الله عنه سأل النبي ص عن قبلة
الصائم
فقال أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه
وجه الاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام استعمل القياس
وذلك يوجب كون القياس حجة
إنما قلنا إنه استعمل القياس لأنه عليه الصلاة والسلام حكم بأن القبلة
49

من دون الإنزال لا تفسد الصوم كما أن المضمضة من دون الأزدراد عمرو لا
تفسد الصوم وإيراد هذا الكلام يدل على أن الجامع بينهما ما يفهمه كل
عاقل عند سماع هذا الكلام من أنه لم يحصل عند المقدمتين ما هو
الثمرة المطلوبة فوجب أن لا يكون حكم المقدمة كحكم الثمرة المطلوبة
وإنما قلنا إنه عليه الصلاة والسلام لما استعمل القياس وجب أن يكون
حجة لوجهين
الأول
أن التأسي به واجب
الثاني
أن قوله ص أرأيت خرج مخرج التقرير فلولا
أنه عليه الصلاة والسلام قد مهد عند عمر رضي الله عنه التعبد بالقياس
لما قرر ذلك عليه
ألا ترى أن الإنسان لو حكم بحكم من الكتاب جاز أن يقول لمن سأله
عنه أليس قد قال الله تعالى كذا وكذا إذا كان الكتاب عنده وعند
من يخاطبه حجة ولا يجوز أن يقول ذلك إذا كان هو ومن يخاطبه لا يعتقدان
كونه حجة
ولا يقول الإنسان في حكم حكم به لأجل القياس أليس أن القياس
50

يقتضيه مع أنه ومن خاطبه لا يعتقدان كون القياس حجة
فإن قيل هذا خبر واحد فلا يجوز بناء المسألة العلمية عليه
سلمنا ذلك لكن لم قلت إنه عليه الصلاة والسلام نبه هاهنا على
العلة ومثل هذا القياس عندنا حجة
سلمنا دلالة الحديث على أن القبلة تجرى مجرى المضمضة لكن
ليس فيه أن النص أوجب ذلك أو القياس وإذا احتملا لم يجز القطع على
أحدهما بغير دليل
والجواب
قوله هذا خبر واحد
قلنا سبق الجواب عنه
قوله نبه على العلة
قلنا إنه عليه الصلاة والسلام ما نص على العلة ولكنه لم يفعل إلا
أنه ذكر أصل القياس بلى العلة متبادرة إلى الإفهام والتنصيص على
51

أصل القياس لا يكون تنصيصا على العلة
قوله إنه ليس في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أجرى القبلة مجرى
المضمضة لأجل نص أو لأجل قياس
قلنا بينا أن المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو
تمضمضت هو أن كل واحد منهما لم يحصل الثمرة المطلوبة بذلك
الفعل ولو أن بعض العامة فضلا عن أهل العلم استفتى فقيها في صائم
قبل ولم ينزل فقال له الفقيه أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته
لاكتفى المستفتى بذلك في أن القبلة لا تفسد صومه ولعلم أنه أجرى
أحدهما مجرى الآخر من الوجه الذي ذكرناه فبطل أن يقال إن هذا الكلام
لا يدل على الوجه الجامع بينهما وأنه لا يمتنع أن يكون بعض الظواهر
اقتضى الجمع
المسلك الرابع
التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك
دين قضيته أكان يجزي فقالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء
52

ووجه الاستدلال به كما في قبلة الصائم من غير تفاوت
المسلك الخامس
الإجماع وهو الذي عول عليه جمهور الأصوليين
وتحريره أن العمل بالقياس مجمع عليه بين الصحابة وكل ما
كان مجمعا عليه بين الصحابة فهو حق فالعمل بالقياس حق
53

أما المقدمة الثانية فقد مر تقريرها في باب الإجماع
وأما المقدمة الأول فالدليل عليها أن بعض الصحابة ذهب إلى
العمل بالقياس والقول به ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك
ومتى كان كذلك كان الإجماع حاصلا
فهذه مقدمات ثلاث
المقدمة الأولى
في بيان أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به
والدليل عليه وجوه أربعة
الوجه الأول
ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى
الأشعري في رسالته المشهورة اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك
وهذا صريح في المقصود
54

الوجه الثاني
أنهم صرحوا بالتشبيه لأنه روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
أنكر على زيد قوله الجد لا يحجب الأخوة فقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت
يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا
ومعلوم أنه ليس مراده تسمية الجد أبا لأن ابن عباس رضي الله عنهما
55

لا يذهب عليه مع تقدمه في اللغة أن الجد لا يسمى أبا حقيقة ألا
ترى أنه ينفي عنه هذا الاسم فيقال إنه ليس أبا للميت ولكنه جده فلم
يبق إلا أن مراده أن الجد بمنزلة الأب في حجبه الإخوة كما أن ابن
الابن بمنزلة الابن في حجبهم
وعن علي وزيد أنهما شبهاهما قبل بغصني شجرة وجدولي يحيى نهر فعرفا
بذلك قربهما من الميت ثم شركا بينهما في الميراث
الوجه الثالث
أنهم اختلفوا في كثير من المسائل وقالوا فيها أقوالا ولا يمكن أن تكون
تلك الأقوال إلا عن القياس
واعلم أن الأصوليين أكثروا من تلك المسائل إلا أن أظهرها أربع
إحداها
مسألة الحرام فإنهم قالوا فيها خمسة أقوال فنقل عن علي وزيد وابن
56

عمر رضي الله عنهم أنه في حكم التطليقات الثلاث
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه في حكم التطليقة الواحدة إما بائنة
أو رجعية على اختلاف بينهم
وعن أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم أنه يمين تلزم فيه
الكفارة
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه في حكم الظهار
وعن مسروق رحمه الله أنه ليس بشئ لأنه تحريم لما أحله الله
تعالى فصار كما لوا قال هذا الطعام على حرام
والمرتضى روى هذا القول عن علي رضي الله عنه
وثانيتها
أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة فبعضهم ورث الجد مع الإخوة
وبعضهم أنكر ذلك
والأولون اختلفوا فمنهم من قال إنه يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة
57

خيرا له من الثلث فأجراه مجرى الأم ولم ينقص حقه عن حقها لأن له مع
الولادة تعصيبا
ومنهم من قال إنه يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة خيرا له من السدس
وأجراه مجرى الجدة في أن لا ينقص من حقها السدس
وثالثتها
اختلافهم في مسألة المشتركة وهى زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب
وأم حكم عمر رضي الله عنه فيها بالنصف للزوج وبالسدس للأم
وبالثلث للإخوة من الأم ولم يعط للإخوة من الأب والأم شيئا فقالوا هب
أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم وبين الإخوة من الأم في
الثلث
ورابعتها
اختلافهم في الخلع هل يهدم من الطلاق شيئا أو يبقى عدد الطلاق
على ما كان
ففي إحدى الروايتين عن عثمان رضي الله عنه أنه طلاق والرواية
58

الأخرى أنه ليس بطلاق وهو محكى عن ابن عباس وإذا عرفت هذه
المسائل فنقول إما أن يكون ذهاب كل واحد منهم إلى ما ذهب إليه لا عن
طريق أو عن طريق
والأول باطل
لأن الذهاب إلى الحكم لا عن طريق باطل فلو اتفقوا عليه كانوا
متفقين على الباطل وأنه غير جائز
وأما إن ذهبوا إليها عن طريق
فذلك الطريق إما أن يكون هو العقل أو السمع
والأول باطل
لأن حكم العقل في المسألة شئ واحد وهو البراءة الأصلية وهذه
أقاويل مختلفة أكثرها يخالف حكم العقل
وأما الثاني
فلا يخلو إما أن يكون ذلك الدليل نصا أو غيره
أما النص فسواء كان قولا أو فعلا وسواء كان جليا أو خفيا فالقول
به باطل لأنهم لو قالوا بتلك الأقاويل لنص لأظهروه ولو أظهروه لأشتهر ولو
اشتهر لنقل ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون ولما لم يكن كذلك علمنا
أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل لأجل نص
59

وإنما قلنا إنهم لو قالوا بتلك الأقاويل لأجل نص لأظهروه
لأنا نعلم بالضرورة أنه كان من عاداتهم إعظام نصوص الرسول ص
واستعظام مخالفتها حتى نقلوا منها ما لا يتعلق به حكم كقوله
عليه الصلاة والسلام نعم الإدام الخل
وكان من عادتهم أيضا التفحص عن نصوص الرسول عليه الصلاة
والسلام والحث على نقلها إليهم ليتمسكوا الرحمن بها إن كانت موافقة لمذاهبهم
أو ليرجعوا عن مذاهبهم إن كانت مخالفة لها وليس يجوز فيمن هذه عادته
أن يحكم في قضية بحكم لنص ثم يسكت عن ذكر ذلك النص وذلك معلوم
بالضرورة
وبهذا الطريق ثبتت المقدمة الثانية وهى قولنا لو أظهر النص لأشتهر
ولو اشتهر لنقل ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون
وأما أن ذلك لم ينقل فلأنا بعد البحث التام والطلب الشديد
والمخالطة للفقهاء والمحدثين ما وجدنا في ذلك ما يدل على نقلها وذلك يدل
على عدمها
60

فثبت أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل لأجل نص وإذا بطل ذلك ثبت
أنه لأجل القياس
الوجه الرابع
نقل عن الصحابة القول بالرأي والرأي هو القياس
وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي لأنه روى عن أبي بكر أنه قال في
الكلالة أقول فيها برأيي
وفي الجنين لما سمع الحديث لولا هذا لقضينا فيه برأينا
وقول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الأحكام إن اتبعت
رأيك فرأيك رشيد وإن تتبع رأى من قبلك فنعم ذو الرأي كان
وعن علي رضي الله عنه اجتمع رأيي ورأى عمر في أم الولد على أن
لا تباع وقد رأيت الآن بيعهن
وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قصة بروع أقول فيها برأيي
وإنما قلنا إن الرأي عبارة عن القياس لأنه يقال للإنسان أقلت هذا
برأيك أم بالنص فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر وذلك يدل على
61

أن الرأي لا يتناول الاستدلال بالنص سواء كان جليا أو خفيا
فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن بعض الصحابة ذهب إلى القول
بالقياس والعمل به
وأما المقدمة الثانية وهى أنه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل
القياس فلأن القياس أصل عظيم في الشرع نفيا وإثباتا فلو أنكر
بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم في مسألة الحرام
والجد ولو نقل لأشتهر ولوصل إلينا فلما لم يصل إلينا علمنا أنه لم
يوجد
وتقرير مقدمات هذا الكلام ما تقدم مثله في المقدمة الأولى
وأما المقدمة الثالثة وهى
أنه لما قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع
على صحته فالدليل عليه أن سكوتهم إما أن يقال إنه كان عن الخوف
أو عن الرضا
والأول باطل
لأنا نعلم من حال الصحابة شدة انقيادهم للحق لا سيما فيما لا
62

يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل أصلا وذلك يمنع من حمل السكوت على
الخوف
وأيضا
فلأن بعضهم خالف البعض في المسائل التي حكيناها ولو كان
هناك خوف يمنعهم من إظهار ما في قلوبهم لما وقع ذلك
فثبت أن سكوتهم كان عن الرضا وذلك يوجب كون القياس حجة وإلا
لكانوا مجمعين على الخطأ وأنه غير جائز
هذا تحرير الأدلة
فإن قيل لا نسلم ذهاب أحد من الصحابة إلى القول بالقياس والوجوه
الأربعة المذكورة لا يزيد رواتها على المائة والمائتين وذلك لا يفيد القطع
بالصحة لاحتمال تواطؤ هذا القدر على الكذب كيف والأحاديث التي
يتمسك بها أهل الزمان في المسائل الفقهية مشهورة فيما بين الأمة إلا
أن روايتها في الأصل لما انتهت إلى الواحد والاثنين لا جرم لم نقطع
به فكذا هاهنا
فإن قلت الأمة في هذه الروايات على قولين
منهم من قبلها واعترف بدلالتها على القياس
ومنهم من اشتغل بتأويلها وذلك يدل على اتفاقهم على قبولها
قلت قد مر غير مرة أن هذا الطريق لا يفيد الجزم بصحتها
سلمنا صحة هذه الروايات لكن لا نسلم دلالتها على ذهابهم إلى
القول بالقياس والعمل به
63

وأما الوجه الأول
وهو قول عمر رضي الله عنه إعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور
برأيك
قلنا التمسك إما أن يكون بقوله اعرف الأشباه والنظائر أو بقوله
قس الأمور برأيك
أما الأول فلا حجة فيه لأن الله تعالى لما نص على حكم كل
جنس ونوع وجب على المستدل معرفة الأشباه والنظائر لئلا يخرج منه ما
هو من جنسه ولا يدخل فيه ما هو من غير جنسه وقد يشتبه الشئ بالشئ
فلا بد من التأمل الكثير ليعرف أنه من جنسه أو من غير جنسه
وأما الثاني وهو قوله قس الأمور برأيك فلا يدل أيضا على
الغرض لأن القياس في أصل اللغة عبارة عبارة عن التسوية فقوله قس
الأمور برأيك معناه اعرض الأشياء على فكرتك وتأملك وكان لأن التفكير
في الشئ لا معنى له إلا استحضار علوم أو ظنون ليتوصل بها إلى تحصيل
علوم أو ظنون فالمتفكر روى كأنه يريد التسوية بين المطلوب المجهول وبين
المقدمات المعلومة ليصير المجهول معلوما
وهذا التأويل متعين لأن الرأي هو الروية فقوله قس الأمور برأيك
معناه سو الأشياء برويتك ولم وتسوية الأشياء بالرؤية ليست إلا ما ذكرنا فيرجع
حاصل الأمر إلى أنه أمره بأن لا يحكم بمجرد التشهي والتمني بل بالاستدلال
64

والنظر وذلك ليس من القياس الشرعي في شئ
سلمنا أن المراد منه الأمر بتشبيه الفرع بالأصل لكن يحتمل أن يكون
المراد التشبيه في ثبوت ذلك الحكم وأن يكون المراد منه التسوية
في أنه كما لا يثبت حكم الأصل إلا بالنص فكذا حكم الفرع لا يثبت إلا
بالنص فلم قلت إن الاحتمال الأول أولى من الثاني
وأما الوجه الثاني وهو تشبيه ابن عباس
قلنا لم قلت إن المراد أنه جمع بين الأمرين بعلة قياسية ولم لا يجوز
أن يكون ذلك لأجل أنه كما سمى النافلة بالابن مجازا واكتفى بهذا الاسم
المجازي في اندراج النافلة تحت عموم قوله تعالى يوصيكم الله في
أولادكم
وكذلك سمى الجد أبا مجازا حتى يكفي هذا في اندراجه تحت عموم
قوله تعالى وورثه أبواه
والذي يؤكد هذا الاحتمال أن ابن عباس نسب زيدا إلى مفارقة التقوى
65

وتارك القياس لا يكون كذلك بل تارك النص يكون كذلك وإنما يكون زيد
تاركا للنص لو كان الأمر على ما قلنا
وأما الوجه الثالث فالكلام عليه
أنه ألا يجوز أن يقال إن ذهاب كل واحد إلى ما ذهب إليه في تلك
66

المسائل كان لتمسكه بنص ظنه دليلا على قوله سواء أصاب في
ذلك الظن أو أخطأ فيه
قوله لو كان كذلك لأظهروا ذلك النص ولاشتهر ولنقل ولوصل
إلينا فلما لم يصل إلينا علمنا عدمه
قلنا هذه المقدمات بأسرها ممنوعة
قوله علمنا بالضرورة شدة تعظيمهم لنصوص الرسول عليه الصلاة
والسلام ويمتنع ممن هذه حاله أن يحكم بحكم لأجل نص ثم أنه لا يذكره
قلنا لا نسلم أن شدة تعظيمهم للنص يقتضى إظهار النص الذي
لأجله ذهبوا إلى ذلك القول
بيانه
أن شدة التعظيم إنما تقتضي إظهار النص عند الحاجة إلى إظهاره وهم
ما احتاجوا إليه لأن الحاجة إما أن تكون عند المناظرة أو مع المستفتى
والأول باطل لأنهم لم يجتمعوا في محفل لأجل المناظرة في تلك
المسائل وما كانت عادتهم جارية بالاجتماع على المناظرات والمجادلات
وأما المستفتى فلا فائدة من ذكر الدليل معه
سلمنا أن شدة تعظيمهم للنص تقتضي إظهار النص ولكن بشرط أن
يكون السامع بحيث يمكنه الانتفاع به ولم يوجد هذا الشرط هناك
لأنه إذا روى ذلك النص كان ذلك النص خبر واحد في حق السامع
وخبر الواحد ليس بحجة فلا فائدة إذا في إظهار هذا النص
67

سلمنا أنه يجب إظهاره ولكن إذا كان النص جليا أو مطلقا
سواء كان جليا أو خفيا
الأول مسلم والثاني ممنوع
بيانه
أن الإنسان إنما يدعوه الداعي إلى إظهار دليل مذهبه إذا كان ذلك الدليل
ظاهرا قويا
أما إذا كان خفيا فقد لا يدعوه الداعي إلى إظهاره
وبالجملة فأنتم المستدلون فعليكم إقامة الدلالة على أن يجب إظهاره
سواء كان قويا أو ضعيفا
سلمنا ما ذكرتموه لكن نعارضه فنقول لو كان ذهابهم
إلى مذاهبهم لأجل القياس لوجب عليهم إظهاره ولكن لم يقل عن أحد من الصحابة
القياس الذي لأجله ذهب إلى ما ذهب إليه
فإن قلت الفرق أن القياس لا يجب اتباع العالم فيه والنص يجب
اتباعه فيه
قلت القياس إذا كان ظاهرا جليا فلا نسلم أنه لا يجب الاتباع فيه
ولولا ذلك لما حسنت المناظرة فيه بين القائسين
سلمنا أنهم لو تمسكوا بالنصوص لأظهروها بين فلم قلت إنهم لو
68

أظهروها لأشتهر فإن ذلك ليس من الوقائع العظام التي يمتنع أن لا تتوفر
الدواعي على نقلها
فأن قلت لما توفرت دواعيهم على نقل مذاهبهم مع أنه لا فائدة فيها
فلأن تتوفر دواعيهم على نقل تلك الأدلة مع ما فيها من الفوائد كان أولى
قلت إنا لم نقل إن الأمور التي لا تكون عظيمة يمتنع نقلها حتى يكون
ما ذكرتموه لازما علينا بل قلنا إنه لا يجب نقلها ولا يمتنع أيضا
سلمنا أنه من الوقائع العظيمة لكن لم قلت إنه يجب نقله والدليل
عليه أن معجزات الرسول ص على جلالة قدرها وأمر
الإقامة في الأفراد والتثنية على نهاية ظهورها لم ينقله إلا الواحد والاثنان
وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن لا ينقله ذلك الواحد أيضا
سلمنا أنها لو اشتهرت لنقلت لكن لا نسلم أنها ما نقلت
قوله لو نقلت لعرفناها
أهل قلنا إما أن تدعى أن كل ما نقل عن الرسول ص
وجميع أصحابه فلا بد وأن تعلمه أنت أو تدعي أنه لا بد وأن يوجد في زمانك
من يعلمه
أما الأول فلا يقول به إنسان سليم العقل
وأما الثاني فمسلم ولكن كيف عرفت أنه ليس في زمانك من يعلم
تلك النصوص فإن كل أحد إنما يعلم حال نفسه لا حال غيره
سلمنا أنه لو نقل لعرفه كل واحد منا لكن لا نسلم أنا لا نعرفه فلنتكلم
69

في مسألة الحرام فنقول أما من ذهب إلى كونه يمينا فيحتمل أنه إنما
ذهب إليه استدلالا بقوله تعالى
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك
إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وانه عليه الصلاة والسلام حرم
على نفسه مارية القبطية فأنزل الله تعالى هذه الآية وسماه يمينا
ومن ذهب إلى أنه لا اعتبار به تمسك بقوله تعالى لا تحرموا طيبات
ما أحل لكم والنهي يدل على الفساد
أو بالبراءة الأصلية
ومن ذهب إلى أنه للطلقات حديث الثلاث زعم أنه قد يجعل كناية عن
الطلقات الثلاث فوجب تنزيله على أعظم أحواله وهو الطلقات الثلاث
70

ثم أدخله تحت قوله تعالى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن
ومن ذهب إلى أنه للطلقة الواحدة نزله على أقل أحواله
ومن جعله ظهارا جعله كناية عنه والكنايات في اللغة ليست عبارة
عن القياس الشرعي
سلمنا أن قولهم بتلك المذاهب ليس للنص فلم قلتم إنه لا بد وأن
يكون للقياس فما الدليل على نفى الواسطة
ثم إنا نتبرع بذكر الوسائط منها تنزيل اللفظ على أقل المفهومات
أو على الأكثر
ومنها استصحاب الحال
ومنها المصالح المرسلة الخالية عن شهادة الأصول
ومنها الاستقراء والفرق بينه وبين القياس أن الاستقراء عبارة عن
إثبات الحكم في كلي لثبوته في بعض جزئياته والقياس عبارة عن إثباته في
جزئي لأجل ثبوته في جزئي آخر
ومنها أنه كان من مذهبه أن مجرد قوله حجة ومستند ذلك الوهم
إلى أن قول بعض الأنبياء حجة فيكون قول هذا العالم حجة
بيان الأول
قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على
71

نفسه أضاف التحريم إليه
بيان الثاني
قوله عليه الصلاة والسلام علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فهذه
الشبهة تقتضي أن يكون مجرد قول العالم حجة فلعل هذه الشبهة
خطرت ببالهم
ومنها الإجماع
فإن قلت حصول الإجماع في محل الخلاف محال
قلت المقصود من ذكر الإجماع بيان ثبوت الواسطة بين النص
والقياس في الجملة
فهذا هو الكلام على الوجه الثالث
وأما الوجه الرابع وهو أن الصحابة قالت بالرأي والرأي هو
القياس فنقول لا نسلم أن الرأي هو القياس والدليل عليه وجوه
72

الأول
أنه يقال رأى يرى رؤية ورأيا فدل هذا على أنه مرادف للرؤية
فإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون حقيقة في القياس دفعا للاشتراك
وإذا ثبت أنه ما كان في أصل اللغة للقياس وجب أن لا يكون
في عرف الشرع له لأن النقل خلاف الأصل
الثاني
لو كان الرأي اسما للقياس لكان اللفظ المشتق منه دليلا على
73

القياس وكان يجب أن يكون قولنا فلان يرى كذا معناه أنه يقيس
ومعلوم أن ذلك باطل لأن من يذهب إلى الرؤية والصفات وخلق الأعمال
يجوز أن يحكى عن نفسه أنى أرى القول بهذه الأشياء وعمن يشاركه في
المذهب إنه يرى القول بها
الثالث
أنكم رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها
برأيي ومعلوم أن تفسير اللفظة اللغوية لا يكون بالقياس
فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الرأي ليس اسما للقياس
وأما الذي تمسكتم به من أنه يقال أقلت هذا عن رأيك أو عن
النص
قلنا أقصى ما في الباب أن يدل هذا الاستعمال على أن الرأي غير
النص لكن من أين يدل على أنه لما كان غير النص وجب أن يكون قياسا
بيانه
أن النص هو اللفظ الدال على الحكم دلالة ظاهرة جلية فما لا يكون كذلك لا يكون
نصا فلا يلزم من كون الرأي خارجا عن النص أن لا يكون
ذلك الاستدلال لفظيا لاحتمال أنه لما كان خفيا لا جرم لا يسمى
بالنص
74

سلمنا أن مسمى الرأي ليس هو النص فلم قلتم إنه هو القياس
وما الدليل على هذا الحصر
فهذا هو الكلام المختصر على الوجوه الأربعة المذكورة في تقرير
المقدمة الأولى
سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس أو عمل به فلم
قلت أن
أحدا منهم ما أنكره قوله لو أنكروه لأشتهر ولنقل ولوصل إلينا
قلنا الكلام على هذه المقدمات قد مر
والذي نقوله الآن إنا لا نسلم أنه ما وصل ذلك الإنكار إلينا
فإنه نقل عنهم تارة إنكار الرأي وأخرى إنكار القياس وأخرى ذم من أثبت
الحكم لا بالكتاب والسنة روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي
سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي
وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء
السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
75

وعنه رضي الله عنه إياكم والمكايلة قيل وما المكايلة قال
المقايسة
وعن شريح قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذ من
قبله قاض اقض بما في كتاب الله تعالى فإن جاءك ما ليس في كتاب الله
فاقض بما في سنة رسول الله ص فإن جاءك ما ليس
فيها فاقض بما أجمع عليه أهل العلم فإن لم تجد فلا عليك أن
تقضي
وعن علي لو كان الدين يؤخذ بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح
من ظاهره
76

وروى عنه من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه
وهذا أيضا يروى عن عمر رضي الله عنه
وعن ابن عباس يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤساء جهالا
يقيسون الأمور برأيهم
وقال إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرمه الله
تعالى وحرمتم كثيرا مما حلل الله
77

وقال إن الله تعالى قال لنبيه ص فاحكم بينهم
بما أنزل الله ولم يقل بما رأيت
وقال لو جعل لأحدكم أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله ص
ولكن قيل له وأن احكم بينهم بما أنزل الله
وقال إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس
وعن ابن عمر رضي الله عنه السنة ما سنة رسول الله ص
لا تجعلوا الرأي سنة للمسلمين
وعن مسروق لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها
وكان ابن سيرين يذم القياس ويقول أول من قاس إبليس
وقال الشعبي لرجل لعلك من القياسيين
وقال إن أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرمتم الحلال
فثبت بهذه الروايات تصريح الصحابة والتابعين بإنكار الرأي
والقياس
فإن قلت هؤلاء الذين نقلت عنهم المنع من القياس هم الذين
78

دللنا على ذهابهم إلى القول به فلا بد من التوفيق وذلك بأن نصرف
الروايات المانعة من القياس إلى بعض أنواعه وذلك حق لأن العمل بالقياس
لا يجوز عندنا إلا بشرائط مخصوصة
قلت هب أن الذين نقلنا عنهم المنع من القياس هم الذين دللتم
على أنهم كانوا عاملين به إلا أنا نقلنا عنهم التصريح بالرد والمنع
على الإطلاق من غير تقييد بصورة خاصة وأنتم ما نقلتم عنهم
التصريح بالقول بل رويتم عنهم أمورا ثم دللتم بوجوه دقيقة غامضة على
أن تلك الأمور دالة على قولهم بالقياس ومعلوم أن التصريح بالرد أقوى مما
ذكرتموه فكان قولنا راجحا
سلمنا عدم الترجيح من هذا الوجه لكن كما أن التوفيق الذي ذكرتموه
ممكن فهاهنا توفيق آخر وهو أن يقال إن بعضهم كان قائلا بالقياس
حين كان البعض الآخر منكرا له ثم لما انقلب المنكر مقرا انقلب المقر
أيضا منكرا
وعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهم مادحا للقياس وذاما له
من غير تناقض مع أنه لا يحصل الإجماع
سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس وأن أحدا منهم ما أظهر
الإنكار فلم قلتم يحصل الإجماع
79

وبيانه
أن السكوت قد يكون للخوف والتقية
قوله القول بالقياس ليس سببا لنفع دنيوي فكيف يحصل الخوف من
إنكار الحق فيه
قلنا لا نسلم عدم الخوف هناك
قال النظام في هذا المقام الصحابة ما اجمعوا على القياس بل
القائل به قوم معدودون وهم عمر وعثمان وعلى وابن مسعود وأبى وزيد بن
ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وأبو موسى وأناس قليل من أصاغر
الصحابة والباقون ما كانوا عاملين به ولكن لما كان فيهم عمر وعثمان
وعلى وهؤلاء لهم سلطان ومعهم الرغبة والرهبة شاع ذلك في الدهماء
وانقادت لهم العوام فجاز للباقين السكوت على التقية لأنهم قد علموا
أن إنكارهم غير مقبول
80

قال والذي يدل عليه أنه
قال في الفتيا
عبد الله بن عباس والعباس أكبر منه ولم يقل في الفتيا شيئا من غير عجز ولا على ولا غيبة عن شئ شهده ابنه
وقال في الفتيا عبد الله بن الزبير والزبير أعظم منه ولم يقل فيه
شيئا وكان أبو عبيدة
ومعاذ بن جبل بالشام فقال معاذ ولم يقل أبو عبيدة
81

مع أن أبا عبيدة أعظم منه فإنه قال عليه الصلاة والسلام أبو عبيدة أمين هذه
الأمة
وكيف يقال كان الخوف زائلا وابن عباس قال هبته وكان الله
مهيبا
وأيضا
فإن الرجل العظيم إذا أختار مذهبا فلو أن غيره أبطل ذلك المذهب
عليه فإنه يشق عليه غاية المشقة ويصير ذلك سببا للعداوة الشديدة
قوله لو كان الخوف مانعا من المخافة لما خالف بعضهم بعضا في
مسألة الجد والحرام
قلنا القياس أصل عظيم في الشرع نفيا وإثباتا فكان النزاع فيه
أصعب من النزاع في فروع الفقه ولذلك نرى في المختلفين في
مسألة القياس يضلل بعضهم بعضا والمختلفين في الفروع لا يفعلون ذلك
سلمنا أن أسباب الخوف ما كانت ظاهرة ولكن أجمع المسلمون على
أنهم ما كانوا معصومين فكيف يمكننا القطع باحترازهم عند عن كل ما لا ينبغي
غاية ما في الباب حسن الظن بهم ولكن ذلك يكفي في القطعيات
سلمنا زوال الخوف ولكن لعلهم سكتوا لأنه ما ظهر لهم كون القياس
حقا ولا باطلا فكان فرضهم السكوت
82

أو أنهم عرفوا كونه خطأ لكنهم اعتقدوا أنه من الصغائر فلا يجب الإنكار
على العامل به ولأن كل واحد منهم اعتقد في غيره أنه أولى بإظهار
الإنكار
سلمنا أنهم بأسرهم رضوا لكن حصل الرضا دفعة واحدة أولا
دفعة واحدة
الأول مما لا يعرفه إلا الله تعالى لأنهم ما جلسوا في محفل واحد
قاطعين بصحته دفعة واحدة
والثاني
لا يفيد الإجماع
لأنه ربما كان الأمر بحيث لما صار البعض راضيا بقلبه صار الآخر
متوقفا فيه أو منكرا عليه بالقلب وذلك يمنع من انعقاد الإجماع
فإن قلت هذا الاحتمال يمنع من انعقاد الإجماع
قلت لا نسلم فإن أهل الإجماع كانوا قليلين في زمان الصحابة وكان
يمكنهم أن يجتمعوا في محفل واحد ويقطعوا بالحكم فيكون ذلك
الإجماع خاليا عن هذا الاحتمال
أما إذا لم يجتمعوا في محفل واحد فإذا سئل بعضهم فأفتى به ثم أنه
سئل إنسان آخر في بلد آخر فلعل المفتى الأول رجع عن فتواه حينما أفتى
به المفتى الثاني وحينئذ لا يتم الإجماع
83

وهذا سؤال أهل الظاهر ولهذا قالوا لا حجة إلا في إجماع الصحابة
سلمنا انعقاد الإجماع على قياس ما لكن لم ينقل إلينا أنهم أجمعوا
على النوع الفلاني من القياس أو على كل أنواعه ولم يلزم من انعقاد
الإجماع على صحة نوع انعقاده على صحة كل نوع
فإذن لا نوع إلا ويحتمل أن يكون النوع الذي أجمعوا عليه هو هذا
النوع وأن يكون غيره
وإذا كان كذلك صار كل أنواعه مشكوكا فيه فلا يجوز العمل بشئ
منه
فإن قلت الأمة على قولين
منهم من أثبت القياس
ومنهم من نفاه وكل من أثبته فقد أثبت النوع الفلاني مثلا فلو أثبتنا
قياسا غير هذا النوع كان خرقا للإجماع
قلت لا نسلم أن كل من أثبت نوعا من القياس أثبت نوعا معينا منه
لأن القياس إما أن يكون مناسبا أو لا يكون وكل واحد من القسمين مختلف
فيه
أما المناسب فرده قوم قالوا لأن مبناه على تعليل أحكام الله
تعالى بالحكم والأغراض وأنه غير جائز
84

وأما غير المناسب فقد ردة الأكثرون
فثبت أنه ليس هاهنا قياس مقبول بإجماع القايسين
سلمنا انعقاد إجماع القائسين على نوع واحد ولكن لم لا يجوز
أن يكون ذلك هو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف
وما إذا نص الله تعالى على العلة فإن هذا القياس عندنا حجة
سلمنا انعقاد الإجماع على جواز العمل بالقياس في زمان
الصحابة فلم يجوز في زماننا
والفرق أن الصحابة لما شاهدوا الرسول ص والوحي
فربما عرفوا بقرائن الأحوال أن المراد من الحكم الخاص بصورة معينة
رعاية الحكمة العامة فلا جرم جاز منهم التعبد به
وأما غير الصحابة فإنهم لما لم يشاهدوا الوحي والرسول
والقرائن لم يكن حالهم كحال الصحابة
فإن قلت كل من جوز العمل بالقياس للصحابة جوزه لغيرهم
قلت كيف يقطع بأنه ليس في فرق الأمة على كثرتها أحد يقول بهذا
الفرق مع وضوحه غايته أنا لا نعرف أحدا قاله لكن عدم العلم بالشئ لا
يقتضى العلم بعدمه
85

والجواب
أن أصحابنا ذهبوا إلى أن الروايات المذكورة في اختلافهم في مسألة
الجد والحرام والمشركة والإيلاء والخلع وتقدير الحد بشرب الخمر
وقياس العهد على العقد وقول الصحابة على بالتشبيه والرأي وما نقل من
الأحاديث في القياس كخبر معاذ وابن مسعود وخبر الخثعمية
والسؤال عن قبلة الصائم وأمر عمر أبا موسى بالقياس وقول ابن عباس
بالتشبيه
قد بلغ مجموعها إلى حد التواتر فإن من خالط أهل الأخبار وطالع
كتبهم قطع بصحة شئ من هذه الأخبار فإنها بأسرها يمتنع أن تكون
كذبا وأي واحد منها صح صح القول بالقياس
وهذا الذي قاله الأصحاب جيد إلا أن الخصم لو كابر وقال لا
أسلم خروج هذا المجموع عن كونه خبر واحد
قلنا هب أنه كذلك فأيش يلزم
قوله المسألة علمية قطعية فلا يجوز إثباتها بدليل ظني
قلنا لا نسلم أنها قطعية بل هي عندنا ظنية لأن هذه المسألة
عملية والظن قائم مقام العلم في وجوب العلم ألا ترى أنه لا فرق بين
86

أن يعلم بالمشاهدة وجود الغيم الرطب المنذر بالمطر الذي يجب التحرز
منه وبين أن يخبر بوجود مثل هذا الخيم مخبر لمن لا يمكنه مشاهدة الغيم
في أنه يلزمه التحرز منه فكذا هاهنا لا فرق بين أن يتواتر النقل عن الشرع
في أنا مأمورون بالقياس وبين أن يخبرنا به من يظن صدقه في وجوب
العمل بالقياس وإن لم نعلم صدق المخبر بذلك
وهذا الجواب قاطع للشغب بالكلية
قوله على الوجه الأول لا يجوز أن يكون المراد من قول عمر اعرف
الأشباه والنظائر الأمر بمعرفة ماهية كل جنس لئلا يدخل تحت النص
المذكور في ذلك الجنس ما ليس منه ولا يخرج عنه ما هو منه
قلنا مقدمة هذا الكلام ومؤخرته تبطل هذا الاحتمال وهو قول عمر رضي الله عنه
الفهم عندما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة
نبيه ثم اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك عند ذلك ثم اعمد إلى
أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى
فمن تأمل هذا الكلام عرف أنه صريح في الأمر بالقياس الشرعي
وهو الجواب أيضا عن قوله لم لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه
الفرع بالأصل في أنه لا يثبت حكمه إلا بالنص
قوله على الوجه الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنه لم لا
يسمى الجد أبا مجازا حتى يدخل تحت قوله وورثه أبواه كما سمى
النافلة ابنا حتى دخل تحت قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم
87

قلنا لا يجوز أن يكون إنكار ابن عباس على زيد لأجل امتناعه من
المجاز في أحد الموضعين
دون الثاني لأن حسن المجاز في أحد الموضعين لا يوجب حسنه في الموضع الثاني
وبتقدير التساوي في الحسن لكن القطع به في أحد الموضعين لا
يوجب القطع به في الموضع الثاني
وإذا ثبت أن هذا الإنكار غير متوجه على التفرقة في إطلاق الاسم
المجازى ثبت أنه متوجه على التفرقة في الحكم الشرعي فيكون ذلك
تصريحا بالقياس الشرعي
قوله لو كان المراد هو الحكم الشرعي لما نسبه إلى مفارقة التقوى
قلنا لعل هذا القياس كان جليا عند ابن عباس وكان من مذهبه أن
الخطأ في مثل هذا القياس يقدح في التقوى
وأيضا فذلك محمول على المبالغة
قوله على الوجه الثالث لم قلت إن مبالغتهم في تعظيم الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم يوجب إظهار النص
قلنا استقراء العرف يشهد به فإن من حكم بحكم غريب يخالفه فيه
جمع يوافقونه على تعظيم شخص معين ووجد ذلك الإنسان حجة من قول
ذلك الإنسان العظيم فإنه لابد أن يذكر لهم ذلك القول ويصرح به
88

قوله إنما يذكر عند الحاجة إلى ذكره
قلنا والحاجة إلى ذكره حاصلة مطلقا لأن من يعتقد أن مذهبه ثابت
بالنص فلا بد أن يعلم أن مخالفه إنما خالفه إما لا لطريق أو لطريق
مرجوح بالنسبة إلى طريقه أو مساو له أو راجح عليه
وعلى التقديرين الأولين كان مخالفه مخالفا للنص
وعلى التقدير الثالث يكون فرض كل واحد منها التوقف فتكون
الفتوى بأحدهما محظورا
وعلى التقدير الرابع يكون مخالفا للنص
فإذن من أثبت مذهبه بالنص فإنه لا بد وأن يعتقد فيمن خالفه أو في
نفسه كونه مخالفا للنص لكن شدة إنكارهم على مخالفة النص تقتضي
شدة احترازهم عنها ولا طريق إلى ذلك الاحتراز إلا بذكر ذلك النص
فثبت أن شدة تعظيمهم للرسول ص توجب عليهم أن
يذكروا نصوصه على الإطلاق
وبهذا ظهر الجواب عن قوله أنه لا يجب ذكر النصوص الخفية لأن
الدليل الذي ذكرناه مطرد في الكل
قوله لو أثبتوا مذاهبهم بالقياس لوجب عليهم أن يذكروه
قلنا الفرق من وجوه
89

أحدها
أن إنكارهم على مخالف النص أقوى من إنكارهم على مخالف
القياس فلم يلزم من ترك أقل الانكارين لأنه ترك أعظمها
وثانيها
أن الخواطر مستقلة بمعرفة العلل القياسية فلا يجب التنبيه عليها وهي
غير مستقلة بمعرفة النصوص وذلك يقتضى وجوب التنبيه عليها
فإن قلت لو لم يجب التنبيه على العلل القياسية لما حسنت
المناظرات
قلت ليس كل ما لا يجب لا يحسن
وثالثها
أن النصوص يجب اتباعها فيجب نقلها والأقيسة لا يجب اتباعها فلا
يجب نقلها لأن عندنا كل مجتهد مصيب
ورابعها
أن النصوص يمكن الإخبار عنها على كل حال وأما الأمارات فقد
يتعذر التعبير عنها وإن كانت مفيدة للظن مثل الأمارات في قيم المتلفات
وأروش الجنايات ولذلك لا يتمكن المقوم من أن يذكر أمارة ملخصة في تقدير
القيمة بالقدر المعين
90

فإن قلت أليس أن فقهاء هذا الزمان يعبرون عن هذه الأمارات
قلت المتأخر في كل علم يلخص ما لم يلخصه أخبرنا المتقدم
سلمنا أنه يجب عليهم ذكر تلك الأقيسة لكن يجب ذكرها صريحا أو
تنبيها
الأول ممنوع والثاني مسلم وهاهنا قد نبهوا على العلل بالإشارة
إلى الأصول التي ذكروها
بيانه
أنهم اتفقوا على أنه حكم قوله أنت على حرام
إما أن يكون حكمه حكم الطلاق أو الظهار أو اليمين وعلة ذلك
ظاهرة وهى أن قوله أنت على حرام لفظ موضوع للتحريم فيؤثر فيه إذا
توجه إلى الزوجة كهذه المسائل
ثم إن كل واحد منهم رجح الأصل الذي اختاره
فمنهم رجح الاحتياط فجعله طلاقا ثلاثا
ومنهم من رجح بالمتيقن فجعله طلقة واحدة
ومنهم من جعله ظهارا لمشابهته إياه في اقتضاء التحريم ومباينته
لصرائح الطلاق وكناياته ثم جعل كفارته كفارة الظهار أخذا بالاحتياط
لأنها أغلظ من كفارة اليمين
ومنهم من رجح بأن كفارة اليمين أقل الكفارات فيوجبها أخذا بالأقل
91

فظهر أن ذكر هذه الأصول منبه على كيفية قياساتهم
قوله لم قلت لو أظهروا تلك النصوص لوجب اشتهارها
قلنا لأن هذه المسائل من المسائل التي يكثر وقوعها فكانت الحاجة
إلى معرفة حكم الله تعالى فيها بالدليل شديدة وما كان كذلك فإن الدواعي
تتوفر على حفظ النصوص الواردة فيها فهذا إن لم يفد القطع فلا أقل من
الظن
قوله تدعى أن تلك النصوص لو نقلت لعرفتها أنت أو لعرفه أحد ممن
في هذا الزمان
قلنا ندعى قسما ثالثا وهو أن يكون مشهورا في الكتب بحيث يجده
كل من حاول طلبه
قوله من ذهب إلى أنه يمين تمسك بقوله تعالى لم تحرم ما أحل
الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم
قلنا أن قوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك لا يدل على أنه إذا حرم
فماذا حكمه
ثم إن دل فإنما يدل على مذهب مسروق
وأما قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فنقول ليس في
92

الآية إلا أنه عليه الصلاة والسلام حرم ما أحل الله له فيجوز أن يكون قد
حرمه بلفظ اليمين بأن كان قد حلف بأنه لا يقرب مارية بل هذا أولى لأن
اليمين القسم بالله ولا شبهة في أن قوله أنت على حرام ليس قسما
بالله
فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها على حكم هذه المسألة
وأيضا
فلو نزلت هذه الآية بسبب قوله لمارية يا أنت على حرام لكان ذلك نصا
في الباب وذلك يمنع من ذهاب كل واحد منهم في هذه المسألة إلى قول
آخر لما بينا أن شدة إنكارهم على من خالف نصوصه يمنع منه
قوله من حمله على الطلقات الثلاث جعله ككنايات الطلاق
قلنا لاشك أن قوله أنت على حرام ليس من صرائح الطلاق وما
أجمعوا على أنه من كنايات الطلاق
فإذن لابد وأن يقال إن حكم هذا الكلام مثل حكم الصرائح
والكنايات وهذا التشبيه نفس القياس بل لا نزاع في أنه بعد ثبوت هذه
المشابهة يندرج تحت قوله إذا طلقتم النساء وقوله الطلاق
مرتان
قوله من حمله على الطلقة الواحدة فإنما حمله عليها أخذا بالمتيقن
قلنا هذا إنما يثبت بعد أن نجعله من صرائح الطلاق أو كناياته
93

وحينئذ فلا بد فيه من القياس
قوله من حمله على الظهار فقد أجراه مجرى الظهار
قلنا إن أردتم به أنه أجراه مجرى الظهار في الحكم فهذا هو
القياس
وإن أردتم غيره فبينوه
قوله إن مسروقا تمسك بالبراءة الأصلية
قلنا لا نسلم بل قاسه على قصتة من ثريد فإنه حكى عنه أنه قال لا
فرق عندي بينه وبين قصعة من ثريد
وأيضا
فإن مسروقا كان من التابعين فإما أن يقال إنه عاصر الصحابة حين
اختلفوا في هذه المسألة أو ما عاصرهم في ذلك الوقت
فإن كان الأول كانت الصحابة تاركين للبراءة الأصلية بسبب القياس
لما بينا أنهم ما ذهبوا إلى مذاهبهم لأجل النص وذلك يقتضى عمل بعض
الصحابة بالقياس ولا مطلوب في هذا المقام إلا ذلك
وإن كان الثاني كان إجماعهم حجة عليه
94

قوله هب أنهم ما ذهبوا إلى تلك المذاهب لأجل النص فلم
قلت ذهبوا إليها للقياس
قلنا لأن كل من قال الصحابة لم يرجعوا في تلك الأقاويل إلى البراءة
الأصلية ولا إلى النصوص الجلية أو الخفية قال إنهم عملوا فيها
بالقياس
هذا تمام الكلام في الوجه الثالث
قوله على الوجه الرابع إن الرأي في أصل اللغة ليس
للقياس
قلنا هذا مسلم لكنا ندعى أنه في عرف الشرع اختص بالقياس
وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الدليل قام عليه فإنكم رويتم عنهم
كلاما كثيرا في ذم الرأي وقد ساعدنا خصومنا على أن المراد منه ذم
القياس فعلمنا أن عرف الشرع يقتضي تخصيص اسم الرأي بالقياس
وهذا تمام الكلام في المقدمة الأولى
قوله إنهم صرحوا بالإنكار
قلنا نعم ولكن التوفيق ما ذكروا
قوله روايات الإنكار صريحة وروايات الاعتراف غير صريحة
قلنا هب إنها غير صريحة لفظا لكنها صريحة بحسب الدلالة
المذكورة فلم قلت إنه يبقى ما ذكرتموه من الترجيح
قوله لعل المنكر انقلب مفردة وبالعكس
قلنا لو وقع ذلك لأشتهر لأنه من الأمور العجيبة فحيث لم يشتهر
95

دل على أنه لم يقع
قوله لعلهم سكتوا خوفا
قلنا استقراء حال الصحابة يفيد ظنا غالبا بشدة انقيادهم للحق
وأما قدح النظام فيهم فقد سبق الجواب عنه في باب الأخبار
قوله يجوز أن يكون سكوتهم لعدم علمهم بكونه حقا أو باطلا
قلت هب أنهم كانوا متوقفين فيه في أول الأمر ولكن الظاهر أن بعد
انقضاء الأعصار يظهر لهم كونه حقا أو باطلا
قوله لعل كل واحد منهم اعتقد أن غيره أولى بالإنكار
قلنا لا بد وأن يكون واحد منهم أولى بذلك أو يكون الكل في درجة
واحدة وكيفما كان فاجماعهم لو على ترك الإنكار إجماع على الخطأ
قوله حصل الرضا دفعة
أولا دفعة قلنا الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان
قوله لا نعلم أنهم بأي أنواع القياس تمسكوا
قلنا الإجماع الظاهر حاصل في أن القياس المناسب حجة
قوله لم قلت إنه يلزم من جواز العمل بالقياس للصحابة جوازه لنا
قلنا لا نعرف أحدا قال بالفرق فيكون الإجماع حاصلا ظاهرا
فهذا تمام الكلام في هذه الطريقة
96

وإنما استقصينا القول فيها جوابا وسؤالا لأنا رأينا الأصوليين يعولون عليها في كثير
من مسائل هذا العلم وقد ذكرناها أيضا في مواضع كثيرة من هذا
الكتاب فأردنا أن نعرف مقدار قوتها وقد ظهر أنها لو أفادت شيئا ما أفادت
إلا ظنا ضعيفا وأنه ليس الأمر كما يعتقده الجمهور من أنه يفيد إجماعا
قاطعا
المسلك السادس
تقرير الإجماع على وجه آخر فنقول
نعلم بالضرورة اختلاف الصحابة في المسائل الشرعية
فإما أن يكون ذهابهم إلى ما ذهبوا إليه لا لطريق فيكون ذلك إجماعا على
الخطأ وأنه غير جائز
أو لطريق
وهو إما أن يكون عقليا أو سمعيا
لا يجوز أن يكون عقليا لأن العقل لا دلالة فيه إلا على البراءة
الأصلية ويستحيل أن يكون قول واحد من المختلفين قولا بالبراءة الأصلية
فثبت أنه كان سمعيا
وهو إما أن يكون قياسيا أو نصا أو غيرهما
أما القياس فهو المطلوب
وأما النص فغير جائز لأن مخالف النص يستحق العقاب العظيم لقوله
تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
97

ونحن نعلم بالضرورة أن المختلفين منهم في المسائل الشرعية ما كان
كل واحد منهم يعتقد في صاحبه كونه مستحقا للعقاب العظيم بسبب تلك
المخالفة
وأما الذي ليس بنص ولا قياس فباطل لأن كل من قال من الأمة
إنهم لم يتمسكوا في تقرير أقوالهم بشئ من النصوص الجلية أو الخفية
ولا بالبراءة الأصلية قال إنهم تمسكوا بالقياس فلو قلنا إنهم قالوا بتلك
الأقاويل بشئ غير هذين القسمين كان ذلك قولا غير قولي كل الأمة
وهو باطل
فهذه الدلالة وإن كان يتوجه عليها كثير مما توجه على الوجه الذي
قبله إلا أن كثيرا من تلك الأسئلة ساقط عنها
المسلك السابع
وهو المعقول أن القياس يفيد ظن الضرر فوجب جواز العمل به
98

بيان الوصف أن من ظن أن الحكم في الأصل معلل بكذا وعلم أو
ظن حصول ذلك الوصف في الفرع وجب أن يحصل له الظن بأن حكم
الفرع مثل حكم الأصل ومعه علم يقيني بأن مخالفة حكم الله تعالى
سبب العقاب فتولد من ذلك الظن وهذا العلم ترك العمل به سبب
للعقاب
فثبت أن القياس يفيد ظن الضرر
بيان التأثير أن العاقل يعلم ببديهة عقله أنه لا يمكنه الخروج عن
99

النقيضين ولا يمكنه الجمع بينهما بل يجب لا محالة ترجيح أحدهما على
الآخر ونعلم بالضرورة أن ترجيح ما غلب على ظنه خلوه عن المضرة
على ما غلب على ظنه اشتماله على المضرة أولى من العكس ولا معنى
لجواز العمل بالقياس إلا هذا القدر
فإن قيل دليلكم مبني على إمكان ما يدل على أن الحكم في الأصل
معلل بعلة
ثم على وجود ذلك الوصف في الأصل
ثم على إمكان ما يدل على حصول ذلك الوصف في الفرع
ثم على أنه يلزم من حصول ذلك الوصف في الفرع ظن حصول
ذلك الحكم فيه
وتقرير هذه المقامات الخمس سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء
الله تعالى
سلمنا حصول هذا الظن فلم قلتم إن العمل به واجب
قوله لأن ترجيح الخالي عن الضرر على المشتمل عليه متعين في
بديهة العقل
100

قلنا هذا منقوض بما أنه لا يجب على القاضي أن يعمل بقول الشاهد
الواحد إذا غلب على ظنه صدقه وأن يعمل في الزنا بقول الشاهدين
إذا غلب على ظنه صدقهما
وبما إذا ظهرت مصلحة لا يشهد باعتبارها حكم شرعي ألبتة وبما إذا
ادعى الرجل الذي غلب على الظن صدقه للنبوة
وبما إذا غلب على ظن الدهري واليهودي أو النصراني والكافر
قبح هذه الأعمال الشرعية فإن غلبة الظن حاصلة في هذه الصور ولا
يجوز العمل بها
فإن قلت المظنة إنما تفيد الظن إذا لم يقم دليل قاطع على فسادها
وفي هذه الصور قد قامت الدلالة على فسادها فلا يبقى الظن
قلت فعلى هذا التقدير القياس إنما يفيد ظن دفع الضرر إذا لم
يوجد دليل يدل على فساد القياس فيصير نفى ما يدل على فساد القياس جزءا
من المقتضى لظن الضرر فعليكم أن تثبتوا أنه لم يوجد ما يدل على نفى
القياس حتى يمكنكم ادعاء حصول ظن الضرر
وبعد المجاوزة عن النقض نقول متى يجب الاحتراز عن الضرر
101

المظنون إذا أمكن تحصيل العلم به أم إذا لم يمكن
الأول ممنوع
فإن الشئ الذي أمكن تحصيل العلم به فالاكتفاء بالظن مع جواز كونه
خطأ اقدام على ما لا يؤمن كونه قبيحا مع إمكان الاحتراز عنه وهو غير
جائز بالاتفاق
والثاني مسلم
ولكن إنما يجوز الاكتفاء بالظن في الوقائع الشرعية إذا بينتم أنه لا طريق
إلى تحصيل العلم بها ألبتة وذلك إنما يصح لو ثبت أنه لم يوجد في كتاب
الله تعالى ولا في سنة رسوله ص ما يدل على احكام
تلك الوقائع ولم يوجد في الزمان إمام معصوم يعرفنا تلك الأحكام فان بتقدير
وجود أحد هذه الأمور كان تحصيل اليقين بالحكم ممكنا
سلمنا إنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها لكن لما قلت أنه لم
يوجد ما يقتضى ظنا هو أقوى من الظن الحاصل بالقياس فان بتقدير إمكان
ذلك كان التعويل على القياس اكتفاء بأضعف الظنين مع القدرة على
تحصيل الأقوى وأنه غير جائز
ثم نقول إن دل على ما ذكرتموه على صحة القياس فمعنا ما يدل على
102

فساده وهو الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة والمعقول
أما الكتاب فقوله تعالى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله والقول
بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم
وقوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ولا تقف ما ليس
لك به علم والقول بالحكم في الفرع لأجل القياس قول بالمظنون
لا بالمعلوم
وأيضا
قال الله تعالى وأن أحكم بينهم بما أنزل الله والحكم بالقياس
حكم بغير ما أنزل الله تعالى
وأيضا
قال الله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ما فرطنا
في الكتاب من شئ فهذه الآية دالة على اشتمال الكتاب على
الأحكام الشرعية بأسرها فإذن كل ما ليس في الكتاب وجب أن لا
يكون حقا وعند ذلك نقول ما دل عليه القياس إن دل عليه الكتاب فهو
ثابت بالكتاب لا بالقياس
103

وإن لم يدل عليه الكتاب كان باطلا
وأقوى ما تمسكوا به من الآيات قوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق
شيئا وجه الاستدلال به أن في القياس الشرعي لا بد وأن يكون
تعليل الحكم في الأصل وثبوت تلك العلة في الفرع ظنيا ولو
وجب العمل بالقياس لصدق على ذلك الظن أنه أغنى من الحق شيئا
وذلك يناقض عموم النفي
فإن قلت يشكل التمسك بهذه النصوص بالفتوى والشهادات
وأمارات القبلة
قلت تخصيص العام في بعض الصور لا يخرجه عن كونه حجة
وأما السنة فخبران
الأول
قوله عليه الصلاة والسلام تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة
وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا
الثاني
قوله عليه الصلاة والسلام تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة
104

أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام
فإن قلت خبر الواحد لا يعارض الدليل العقلي الذي ذكرناه
قلت الدليل الذي ذكرتموه هو أن القياس يفيد الضرر المظنون فيجب
الاحتراز عنه ولا شك أن خبر الواحد يفيد الظن فإذا ورد في المنع من
القياس أفاد ظن أن التمسك به سبب الضرر وذلك يوجب الاحتراز
عنه
وأما إجماع الصحابة
فهو أنه نقل عن كثير منهم التصريح بذم القياس على ما تقدم بيانه
ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك الذم وذلك يدل على انعقاد
الإجماع على فساد القياس
فإن قلت هذا معارض بأنه نقل عنهم أنهم اختلفوا في مسائل مع
أنه لا طريق لهم إلى تلك المذاهب إلا القياس
قلت ما ذكرناه أولى لأن التصريح راجح على ما ليس بتصريح
وأما إجماع العترة فلأنا كما نعلم بالضرورة بعد مخالطة
105

أصحاب النقل أن مذهب الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة ومالك
رحمهما الله القول بالقياس فكذا نعلم بالضرورة أن مذهب أهل
البيت كالصادق يكون والباقر إنكار القياس وقد تقدم في باب الإجماع أن
إجماع العترة حجة
وأما المعقول فمن وجوه
الأول
لو جاز العمل بالقياس لما كان الاختلاف منهيا عنه لكنه منهي عنه
فالعمل بالقياس غير جائز
بيان الملازمة
أن العمل بالقياس يقتضى اتباع الأمارات وذلك يقتضى وقوع
الاختلاف لا محالة ووقوع ذلك شاهد على صحة ما قلناه
بيان أنه لا تجوز المخالفة قوله تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب
ريحكم
الثاني
أن الرجل لو قال أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه لم يعتق سائر
عبيده السود فضلا عما إذا لم يأمر بالقياس
فإذا قال الله تعالى حرمت الربا في البر فكيف يجوز القياس عليه
فهذا كله كلام من لم يمنع القياس عقلا
106

أما المانعون منه عقلا فقد ذكرنا أن منهم من خص ذلك المنع بهذا
الشرع
أما المانعون منه عقلا فقد ذكرنا أن منهم من خص ذلك المنع بهذا
الشرع
ومنهم من منعه في كل الشرائع
أما الأول فهو قول النظام
واحتج عليه بأن مدار هذا الشرع على الجمع بين المختلفات والفرق
بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس في هذا الشرع
بيان الأول بصور
إحداهما
أنه جعل بعض الأزمنة والأمكنة أشرف من بعض مع استواء الكل في
الحقيقة قال الله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر وفضل الكعبة
على سائر البقاع
وثانيتها
جعل التراب طهورا مع أنه ليس بغسال مع بل يزيد في تشويه الخلقة
وثالثتها
فرض الغسل من المنى والرجيع أنتن منه
ورابعتها
نهانا عن إرسال السبع على مثله وأقوى منه ثم أباح إرساله على
البهيمة الضعيفة
وخامستها
نقص من صلاة المسافر الشطر مما كان عدده أربعا وترك ما كان
ركعتين
107

وسادستها
أسقط الصوم والصلاة على الحائض ثم أوجب عليها قضاء الصوم مع
أن الصلاة أعظم قدرا من الصوم
وسابعتها
جعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن والمائة من الجواري الحسان لا
يحصن
وثامنتها
حرم النظر إلى شعر العجوز الشوهاء مع أنها لا تفتن الرجال الشبان
ألبتة وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء مع لأنها تفتن الشيخ
وتاسعتها
قطع سارق القليل وعفى عن غاصب الكثير
وعاشرتها
جلد بالقذف بالزنا ولم يجلد بالقذف بالكفر
وحادية عشرها
قبل في الكفر والقتل شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة وهو دونهما
وثانية عشرها
جلد قاذف الحر الفاجر وعفا عن قاذف العبد العفيف
وثالثة عشرها
أوجب على الصبية المتوفى عنها زوجها العدة وفرق في العدة بين
108

الموت والطلاق مع أن حال الرحم لا يختلف فيهما
ورابعة عشرها
جعل استبراء الأمة بحيضة والحرة المطلقة بثلاث حيض
وخامس عشرها
يخرج الريح من موضع الغائط وفرض تطهير موضع آخر مع أن غسل
ذلك المكان أولى
إذا ثبت هذا فنقول إن مدار القياس على أن الصورتين لما تماثلتا
في الحكمة والمصلحة وجب استواؤهما في الحكم لكن هذه المقدمة
لو كانت حقة لامتنع التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات
في تلك الصور فلما لم يمتنع ذلك علمنا فساد تلك المقدمة وإذا فسدت
تلك المقدمة بطل القول بالقياس
وأما الذين منعوا من القياس في كل الشرائع فقد عرفت أنهم ثلاث
فرق
الفرقة الأولى
الذين أنكروا كون القياس طريقا إلى الظن وهؤلاء قد تمسكوا بوجوه
أحدها
أن البراءة الأصلية معلومة والحكم الثابت بالقياس إما أن يكون
على وفق البراءة الأصلية أو لا على وفقها
فإن كان على وفقها لم يكن في القياس فائدة
109

وإن كان على خلافها كان ذلك القياس معارضا للبراءة الأصلية لكن
البراءة الأصلية دليل قاطع والقياس دليل ظني والظني إذا عارض اليقيني
كان الظني باطلا فيلزم كون القياس باطلا
وثانيها
أن القياس لا يتم في شئ من المسائل إلا إذا سلمنا أن الأصل في كل
شئ بقاؤه على ما كان إذ لو لم يثبت ذلك فهب أن الشارع أمر
بالقياس ولكن كيف يعرف أنه بقى ذلك التكليف
وإذا نص على حكم الأصل فكيف يعرف أن ذلك الحكم باق في هذا
الزمان فثبت أن القياس لا يتم إلا مع المساعدة على هذا الأصل
إذا ثبت ذلك فنقول الحكم المثبت بالقياس إما أن يكون نفيا أو إثباتا
فإن كان نفيا فلا حاجة فيه إلى القياس لأنا علمنا أن هذا الحكم كان
معدوما في الأزل والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فيحصل لنا ظن
ذلك العدم فيكون إثبات ذلك الظن بالقياس مرة أخرى عبثا
فإن قلت ثبوته بدليل لا يمنع من ثبوته بدليل آخر
قلت نعم ولكن بشرط أن لا يفتقر الدليل الثاني إلى الأول وأما
إذا افتقر إلية كان التمسك بالدليل الثاني تطويلا محضا من غير فائدة
وأما إن كان الحكم المثبت بالقياس إثباتا فنقول قد بينا أن قولنا
إن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان يقتضي ظن عدم ذلك الحكم
110

في الحال فلو اقتضى القياس ثبوته في الحال مع أن القياس متفرع على
تلك المقدمة لزم وقوع التعارض بين تلك المقدمة التي هي الأصل
وبين القياس الذي هو الفرع ولا شك أن في مثل هذا التعارض يجب ترجيح
الأصل على الفرع فوجب القطع هاهنا بسقوط القياس
وثالثها
أن القياس لا يفيد ظن الحكم إلا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا
بالوصف الفلاني وذلك الظن محال لما سيأتي في الباب الثاني أن تعليل
الحكم الشرعي محال
الفرقة الثانية
الذين سلموا أن القياس يفيد الظن لكنهم قالوا لا يجوز التكليف بإتباع
الظن قالوا لأن الظن قد يخطئ وقد يصيب فالأمر به أمر بما يجوز أن يكون
خطأ وذلك غير جائز
الفرقة الثالثة
الذين قالوا يجوز التكليف بإتباع الظن لكنه غير جائز هاهنا
قالوا لأن الاكتفاء بالقياس اقتصار على أدون البابين مع القدرة على
أعلاهما وذلك غير جائز
إنما قلنا إنه اقتصار على أدون البابين لأنا نعلم بالضرورة أن
تنصيص صاحب الشرع أظهر في باب البيان من التفويض إلى القياس
111

وإنما قلنا إنه مع القدرة على أعلاهما لأنه لا امتناع في التنصيص
على أحكام القواعد الكلية
واحترزنا بهذا عن الشهادة والفتوى وقيم المتلفات وأروش الجنايات
والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة والأمراض والأرباح والأمور الدنيوية
لأن هذه الأشياء تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأمكنة والاعتبارات
فالتنصيص عليها كالتنصيص على مالا نهاية له وهو محال
وإنما قلنا إن الاقتصار على أدون البابين مع القدرة على أعلاهما غير
جائز لأنه إذا لم يقع البيان على أقصى الوجوه حسن من المكلف أن يحمل
اليقين على صعوبة البيان لا على تقصير نفسه فالإتيان بكمال البيان إزاحة
لعذر المكلف فيكون كاللطف سعيد وترك المفسدة في الوجوب
والجواب
أما النقوض فقد ذكرنا أن الدليل الشرعي لما قام على عدم الالتفات إلى
تلك المظان لم يبق الظن
قوله فحينئذ يصير عدم الدليل المبطل للقياس جزء من المقتضى
قلنا ليس كل ما وجدده يمنع من عمل المقتضى كان عدمه جزء من
المقتضي فإن الذي يمنع الثقيل من النزول لا يصير عدمه جزء المقتضى
للنزول لاستحالة كون العدم من العلة الوجودية
قوله جواز الرجوع إلى الظن في الشرعيات مشروط بعدم التمكن
من تحصيل العلم
112

قلنا لا نسلم فإنه إذا حصل الظن الغالب بسبب القياس
باشتمال بكر أحد الطرفين على المفسدة والآخر على المصلحة فإلى أن
يستقصى في طلب العلم لابد في الحال من أن يرجح أحد الطرفين على
الآخر لامتناع ترك النقيضين وصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز ترجيح
المرجوح فتعين ترجيح الراجح
وهو الجواب أيضا عن الإمام المعصوم
وأما المعارضات فنقول
أما التمسك بالآيات فالجواب عنها أن الدلالة لما دلت على وجوب
العمل بهذا الظن صار كأن الله تعالى قال مهما ظننت أن هذه الصورة
تشبه تلك الصورة في علة الحكم فاعلم قطعا أنك مكلف بذلك الحكم
وحينئذ يكون الحكم معلوما لا مظنونا ألبتة
وأما الأحاديث فهي معارضة بالأحاديث الدالة على العمل بالقياس
وطريق التوفيق أن نصرف الأمر بالقياس إلى بعض أنواعه والنهي إلى نوع
آخر
وأما إجماع الصحابة فقد سبق الجواب عنه
وأما إجماع العترة فممنوع وروايات الإمامية معارضة بروايات
الزيدية فإنهم ينقلون عن الأئمة جواز العمل بالقياس
قوله العمل بالقياس يستلزم وقوع الاختلاف
113

قلنا وكذا العمل بالأدلة العقلية والنصوص يستلزم وقوع الخلاف
فما هو جوابكم هناك فهو جوابنا هاهنا
قوله لو قال لوكيله أعتق غانما لسواده فإنه لا يعتق عليه كل عبيده
السود
قلنا إنه لو صرح بعد ذلك فقال قيسوا عليه سائر عبيدي لم يعتق
عليه سائر عبيده ولو نص الله تعالى على حكم ثم قال قيسوا عليه
فلا نزاع في جواز القياس فظهر الفرق بين الصورتين والسبب فيه أن حقوق
العباد مبنية على الشح والضنة لكثرة حاجاتهم وسرعة رجوعهم عن دواعيهم
وصوار فهم
وأما شبه النظام فجوابها أن غالب أحكام الشرع معلل برعاية
المصالح المعلومة والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا وورود
الصور النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن كما أن
الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرا لا يقدح في ظن نزول المطر منه
114

قوله البراءة الأصلية معلومة والقياس دليل ظني والظن لا يعارض
اليقين
قلنا ينتقض ذلك بجواز العمل بالفتوى والشهادة وتقويم المقومين
وبجواز العمل بالظن في الأمور الدنيوية
قوله القياس إما أن يرد على وفق حكم الأصل أو على خلافه
قلنا ينتقض بالأمور المذكورة
قوله الظن قد يخطئ وقد يصيب
قلنا ينتقض بالأمور المذكورة
قوله الاكتفاء بالقياس اكتفاء بأدون البابين مع القدرة على
أعلاهما
قلنا إنه كذلك فلم لا يجوز
فإن قالوا لأنه لطف واللطف واجب
116

قلنا الكلام على هذه الطريقة سبق في باب الإجماع على
الاستقصاء
المسألة الثانية
قال النظام النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس وهو قول أبي
الحسين البصري وجماعة من الفقهاء
ومنهم من أنكره وهو المختار
وقال أبو عبد الله البصري أن كانت العلة علة في الفعل لم يكن
التنصيص عليها تعبدا بالقياس
وأن كانت علة في الترك كان التنصيص عليها تعبدا بالقياس
لنا
أن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة يحتمل أن تكون العلة هي الإسكار وأن تكون العلة هي
إسكار الخمر بحيث يكون قيد كونه مضافا
إلى الخمر معتبرا في العلة وإذا احتمل الأمرين لم يجز القياس إلا عند أمر
مستأنف بالقياس
فإن قيل لا نسلم أن قيد كون الإسكار في ذلك المحل يحتمل
أن يكون جزء من العلة فإنا لو جوزنا ذلك للزمنا تجويز مثله في العقليات
حتى نقول هذه الحركة إنما اقتضت المتحركية لقيامها بهذا المحل
فالحركة القائمة لا بهذا المحل لا تكون علة للمتحركية
117

قد سلمنا إمكان كونه معتبرا في الجملة لكن العرف يدل على سقوط هذا
القيد عن درجة الاعتبار لأن الأب إذا قال لابنه لا تأكل هذه الحشيشة لأنا
سم يقتضى منعه من أكل حشيشة تكون سما
وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت مثله في الشرع لقوله عليه الصلاة
والسلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
سلمنا أنه غير ساقط في العرف إلا أن الأغلب على الظن سقوطه لأن
علة الحكم وجب أن تكون منشأ الحكمة ولا مفسدة في كون الإسكار قائما
بهذا المحل أو بذاك بل منشأ المفسدة كونه مسكرا فقط فإذا غلب على ظننا
ذلك وجب الحكم به احترازا عن الضرر المظنون
سلمنا أن هذا القيد غير ظاهر لكن دليلكم إنما يتمشى فيما إذا قال
الشارع حرمت الخمر لكونها مسكرة أما لو قال علة حرمة الخمر إنما
هي الإسكار لا يبقى ذلك الاحتمال
سلمنا أن دليلكم يمنع من القياس لكن هاهنا ما يدل على جوازه
فإن قول الشارع حرمت الخمر لكونها مسكرة يقتضى إضافة الحرمة إلى
الإسكار وذلك يدل على أن العلة هي الإسكار فوجب أن يترتب الحكم
عليه أينما وجد
وأما من فرق بين الفعل والترك فقد قال إن من ترك أكل رمانة
لحموضتها وجب عليه أن يترك أكل كل رمانة
حامضة أما من أكل رمانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة
والجواب
قوله هذا الاحتمال قائم في الحركة
118

قلنا إن عنيت بالحركة معنى يقتضى المتحركية فهذا المعنى يمتنع
فرضه بدون المتحركية
وإن عنيت بالحركة شيئا آخر بحيث يبقى فيه هذا الاحتمال
فهناك نسلم أنه لابد في إبطال ذلك الاحتمال من دليل منفصل
قوله العرف يقتضى إلغاء هذا القيد
قلنا ذاك إنما عرف بالقرينة وهي أن شفقته تمنع من تناول كل ما
يقتضى ضررا فلم قلت إن هذا المعنى حاصل في العلة المنصوصة
قوله الغالب على الظن إلغاء هذا القيد
قلنا هب أن الأمر كذلك ولكن إنما يلحق الفرع بالأصل لأنه لما غلب
على ظننا كونه في معناه ثم الدليل دل على وجوب الاحتراز من الضرر
المظنون فحينئذ يجب علينا أن نحكم في الفرع بمثل حكم الأصل
ولكن هذا هو الدليل الذي دل على كون القياس حجة فالتنصيص على علة
الحكم لا يقتضى ثبات مثله في الفرع إلا مع الدليل الدال على وجوب
العمل بالقياس
قوله لو صرح بأن العلة هي الإسكار لا يبقى فيه هذا الاحتمال
قلنا في هذه الصورة نسلم أنه أينما حصل الإسكار حصلت
الحرمة لكن ذلك ليس بقياس لأن العلم بأن الإسكار من حيث هو إسكار
119

يقتضى الحرمة يوجب العمل بثبوت هذا الحكم في كل محالة ولم
يكن العلم بحكم بعض تلك المحال متأخرا عن العلم بالبعض فلم يكن
جعل البعض فرعا والآخر أصلا أولى من العكس فلا يكون هذا قياسا
بل إنما يكون قياسا لو قال حرمت الخمر لكونها مسكرة
فحينئذ يكون العلم بثبوت هذا الحكم في الخمر أصلا للحكم به في
النبيذ
ومتى قال على هذا الوجه انقدح الاحتمال المذكور
قوله إن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة يقتضى إضافة الحرمة إلى
نفس الإسكار
قلنا لا نسلم فلعل قيد كون الاسكار فيه معتبر في العلية على ما
حققناه
قوله من ترك أكل رمانة لحموضتها يجب عليه أن يترك الكل
قلنا لا نسلم لاحتمال أن يكون الداعي له إلى الترك لا مطلق
حموضة الرمانة بل حموضة هذه الرمانة وإنها غير حاصلة في سائر
الرمانات
وفي سلمناه ولكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك
قوله من أكل رمانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة
حامضة
120

قلنا ذاك لأنه ما أكلها لمجرد حموضتها بل لأجل حموضتها مع
قيام الاشتهاء الصادق لها وخلو المعدة عن الرمان وعلمه بعدم تضرره بها
وهذه القيود بأسرها لم توجد في أكل الرمانة الثانية
المسألة الثالثة
إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون ظاهرا جليا
وقد لا يكون كذلك
فالأول كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف
ومن الناس من قال المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه
اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى
لنا وجهان
الأول
أن المنع من التأفيف لو دل عليه لدل عليه أما بحسب الموضوع
اللغوي أو بحسب الموضوع العرفي
والأول باطل بالضرورة لأن التأفيف غير الضرب فالمنع من التأفيف
لا يكون منعا من الضرب
والثاني أيضا باطل لأن النقل العرفي خلاف الأصل
وأيضا
فلو ثبت أن النقل في العرف لما حسن من الملك إذا استولى على
عدوه أن ينهى الجلاد عن صفعه والاستخفاف به وإن كان يأمره بقتله وإذا
بطلت دلالة اللفظ عليه علمنا أن تحريم الضرب مستفاد من القياس
121

واحتج المخالف بأمور
أحدها
لو كان مستفادا من القياس لوجب فيمن لا يقول بصحة
القياس أن لا يعلم ذلك
وثانيها
أنه يلزم أن لا يعلم العاقل حرمة ضربهما لو منعه الله عن القياس
الشرعي
وثالثها
أجمعنا على أن قوله فلان لا يملك حبة يفيد في العرف أنه لا شئ
له ألبتة وكذا قولهم لا يملك نقيرا ولا قطميرا يفيد أنه ليس له شئ ألبتة
وإن كان النقير في أصل اللغة عبارة عن النقرة التي على ظهر النواة
والقطمير عبارة عما في شق النواة وكذلك قولهم فلان مؤتمن على قنطار
فإنه يفيد في العرف كونه أمينا على الإطلاق
وإنما حكمنا في هذه الألفاظ بالنقل العرفي لتسارع الفهم إلى هذه
المعاني العرفية فوجب أن تكون حرمة التأفيف موضوعة في العرف للمنع من
الإيذاء لتسارع الفهم إليه
والجواب عن الأول
أن القياس قد يكون يقينيا وقد يكون ظنيا
أما الأول فكمن علم علة الحكم في الأصل ثم علم حصول مثل
تلك العلة في الفرع فإنه لابد وأن يعلم ثبوت الحكم في الفرع
122

أما الثاني فكما إذا كانت إحدى المقدمتين أو كلاهما مظنونة
والقياس في هذه المسألة من النوع الأول فلا جرم لا يمكن أن يكون
القادح في صحة القياس الظني قادحا في صحة هذا القياس
وهذا هو الجواب بعينه عن الثاني
أما الثالث فقوله ليس لفلان حبة يفيد نفى الأكثر من الحبة لأن الأكثر
من الحبة يوجد فيه الحبة أما ما نقص من الحبة فلا يتعرض له كلامه
وأما النقير والقطمير فقد حكمنا فيه بالنقل العرفي للضرورة ولا
ضرورة في مسألتنا
وأما قوله فلان مؤتمن على قنطار فأنما يفيد كونه مؤتمنا على ما دون
القنطار لأن ما دون القنطار داخل في القنطار فأما ما فوقه فلا يدخل فيه
المسألة الرابعة
ثبوت الحكم في الأصل إما أن يكون يقينيا أو لا يكون
فإن كان يقينيا استحال أن يكون ثبوت الحكم في الفرع أقوى
منه لأنه ليس فوق اليقين درجة
أما إذا لم يكن يقينيا فثبوت الحكم في الفرع أما أن يكون أقوى من
ثبوته في الأصل أو مساويا له أو دونه
123

مثال الأول قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإن تحريم
الضرب وهو الفرع أقوى ثبوتا من تحريم التأفيف الذي هو الأصل
ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام لا يبولن أحدكم في الماء
الراكد فأنا نقيس عليه ما إذا بال في الكوز ثم صبه في الماء الراكد
ولا تفاوت بين الحكم في الأصل والفرع وهذا هو الذي يسمى
بالقياس في معنى الأصل
ومثال الثالث جميع الأقيسة التي يتمسك الفقهاء بها في مباحثهم
وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون ولما كانت مراتب
الظنون محصورة فكذا القول في مراتب هذا التفاوت
124

القسم الثاني
في الطرق الدالة على كون الوصف المعين علة للحكم في الأصل قد
عرفت أن حاصل القياس يرجع إلى أصلين
أحدهما
أن الحكم في محل النص معلل بالوصف الفلاني
وثانيهما
أن ذلك الوصف حاصل في الفرع
والأصل الأول أعظمهما وأولاهما بالبحث والتدقيق
والكلام في هذا القسم مرتب على مقدمة
وأربعة أبواب
125

أما المقدمة
ففي تفسير العلة
في هذا الموضع قال نفاة القياس إما أن يكون المراد من العلة ما
يكون مؤثرا في الحكم أو ما يكون داعيا للشرع إلى إثباته أو ما يكون
معرفا له أو معنى رابعا
والثلاثة الأولة باطلة
والرابع لابد من إفادة تصوره لننظر فيه هل يصح أم لا
أما الأول وهو الموجب فهو باطل من وجوه
أحدها
أن حكم الله تعالى على قول أهل السنة مجرد خطابه الذي هو
كلامه القديم والقديم يمتنع تعليله فضلا على أن يعلل بعلة محدثة
وأما على قول من يقول الأحكام أمور عارضة للأفعال معللة بوقوع
127

تلك الأفعال على جهات مخصوصة فهو قول المعتزلة في الحسن والقبح
العقليين وقد أبطلتموه
وثانيها
أن الواجب هو الذي يستحق العقاب على تركه واستحقاق العقاب
وصف ثبوتي لأنه مناقض لعدم الاستحقاق وتركه هو أن لا يفعله وهو
عدمي ولو كان ذلك الاستحقاق معللا بهذا الترك لكان الوجود معللا
بالعدم وهو محال
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر لا ينفك عن فعل الشئ أو
فعل ضده فإذا ترك الواجب فقد فعل ضده واستحقاق العقاب معلل بفعل
ضده
قلت هذا لا يستقيم على رأى أبي هاشم وأبي الحسين وأتباعهما لأنه
يجوز عندهما خلو القادر من الأخذ والترك
وأيضا ففعل الضد لو لم يستلزم الإخلال بواجب لم يستلزم استحقاق
الذم والعقاب ولو فرضنا وقوع الإخلال بالواجب من غير فعل الضد لاستلزم
استحقاق الذم والعقاب فعلمنا أن المستلزم بالذات لهذا الاستحقاق هو أن
لا يفعل الواجب لا فعل ضده
وثالثها
أن العلة الشرعية لو كانت مؤثرة في الحكم لما اجتمع على الحكم
الواحد علل مستقلة لكن قد يحصل هذا الإجماع فالعلة غير مؤثرة
128

بيان الملازمة أن الحكم مع علته المستقلة واجب الحصول وما كان
واجب الحصول لذاته استحال وقوعه لأن الواجب لذاته لا يكون
واجبا لغيره فإذا اجتمعت عليه علل مستقلة كان لكونه مع هذا منقطعا
عن الآخر وبالعكس فيلزم استغناؤه عن الكل حال احتياجه إلى الكل وهو
محال
بيان استثناء نقيض التالي ما إذا زنا وأرتد أو لمس ومس معا فإن
الحكم هاهنا واحد لامتناع اجتماع المثلين
وبتقدير جوازه فإنه لا يكون استناد أحد الحكمين إلى أحد العلتين
أولى من استناده إلى العلة الأخرى ومن استناد الحكم الأخر إليها فيعود إلى
كون كل واحد من الحكمين معللا بكل واحدة من العلتين وهو محال
ورابعها
أن كون القتل العمد العدوان قبيحا وموجبا لاستحقاق كل الذم والقصاص
لو كان معللا بكونه قتلا عمدا عدوانا والعدوانية صفة عدمية لأن معناها
انها غير مستحقة لزم أن يكون العدم جزء من علة الأمر الوجودي وهو
محال
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لصدور الأثر عن المؤثر
قلت لأن عليه العلة ما كانت حاصلة قبل حصول هذا الشرط ثم
حدثت عند حصوله فتلك العلية أمر حادث لابد له من مؤثر وهو الشرط
فلو جعلنا الشرط عدما لزم جعل العدم علة لتلك العلية وهو محال
ومن الفقهاء مقال هذه الإشكالات إنما تتوجه على من يجعل هذه
129

الأوصاف عللا مؤثرة لذواتها في هذه الأحكام ونحن لا نقول بذلك بل
كونها عللا لهذه الأحكام أمر ثبت بالشرع فهي لا توجب الأحكام لذواتها
بل لأن الشرع جعلها موجبة لهذه الأحكام
وهذا هو الذي عول عليه الغزالي في شفاء الغليل فيقال له إن
أردت بجعل الزنا علة موجبة للرجم أن الشرع قال مهما رأيتم إنسانا
يزني فاعلموا أني أوجبت رجمه فهذا صحيح ولكن يرجع حاصله إلى
كون الزنا معرفا لذلك الحكم وهو غير ما نحن الآن فيه
وإن أردت به أن الشرع جعل الزنا مؤثرا في هذا الحكم فهو
باطل من وجهين
الأول
أنه معترف بأن الحكم ليس إلا خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال
المكلفين وذلك هو كلامه القديم فكيف يعقل كون الصفة المحدثة
موجبة للشئ القديم سواء كانت الموجبية بالذات أو بالجعل
الثاني
أن الشارع إذا جعل الزنا علة فحال ذلك الجعل إن لم يصدر عنه
أمر ألبتة لم يكن جاعلا ألبتة
130

وإن صدر عنه أمر فذلك الأمر إما الحكم أو ما يؤثر في الحكم أو
لا الحكم ولا ما يؤثر في الحكم
فإن كان الصادر هو الحكم كان المؤثر في الحكم هو الشارع لا
الوصف وقد فرض أن المؤثر هو الوصف هذا خلف
وإن كان الصادر ما يؤثر في الحكم كان تأثير الشارع في إخراج ذلك
المؤثر من العدم إلى الوجود ثم إنه بعد وجوده يؤثر في الحكم لذاته
فتكون موجبيته لذاته لا بالشرع
وإن كان الصادر لا الحكم ولا ما يؤثر فيه ألبتة لم يحصل الحكم
حينئذ وإذا لم يحصل الحكم لم يجعل الشرع ذلك الوصف موجبا
لذلك الحكم وقد فرض كذلك هذا خلف
التفسير الثاني
الداعي وهو بالحقيقة أيضا موجب لأن القادر لما صح منه فعل
الشئ وفعل ضده لم تترجح فاعليته للشئ على فاعليته لضده إلا إذا علم
أن له فيه مصلحة فذلك العلم هو الذي لأجله صار القادر فاعلا لهذا الضد
بدلا من كونه فاعلا لذلك الضد لكن العلم موجب لتلك الفاعلية و
مؤثر فيها فمن قال أكلت للشبع كان معناه ذلك
إذا عرفت هذا فنقول هذا في حق الله تعالى محال لوجهين
131

الأول
أن كل من فعل فعلا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض
والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال
وإنما قلنا إن فعل فعلا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض لأنه
إما أن يكون حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه في اعتقاده على
السواء وإما أن يكون أحدهما أولى به في اعتقاده
فإن كان الأول استحال أن يكون غرضا والعلم به ضروري بعد الاستقراء
والاختبار
وإن كان الثاني كان حصول تلك الأولوية معلقا بفعل ذلك الغرض
وكل ما كان معلقا على غيره لم يكن واجبا لذاته فحصول ذلك الكمال
غير واجب لذاته فهو ممكن العدم لذاته فلا يكون كمال الله تعالى
صفة واجبة له بل ممكنة الزوال عنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
فإن قلت حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه تعالى
على السواء ولكن بالنسبة إلى غيره لا على السواء فلا جرم أن الله
تعالى يفعل لا لغرض يعود إليه بل الغرض يعود إلى عبده
132

قلت كونه تعالى فاعلا للفعل الذي هو أولى بالعبد وكونه غير فاعل
له إما أن يتساويا بالنسبة إليه تعالى من جميع الوجوه أو لا يتساويا
فإن كان الأول استحال أن يكون ذلك داعيا لله تعالى إلى الفعل
وأيضا
فكيف يعقل هذا مع أن المعتزلي يقول لو لم يفعل لاستحق
الذم ولما كان مستحقا للمدح ولصار سفيها غير مستحق للآلهية
وأن كان أحدهما أولى عاد الإشكال
الثاني
أن البديهة شاهدة بأن الغرض والحكمة ليس إلا جلب المنفعة أو دفع
المضرة والم عبارة عن اللذة أو ما يكون وسيلة إليها
والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون وسيلة إليه والوسيلة إلى اللذة
مطلوبة بالعرض والمطلوب بالذات هو اللذة
وكذا الوسيلة إلى الألم مهروب عنها بالغرض والمهروب عنه
بالذات ليس إلا الألم فيرجع حاصل الغرض والحكمة إلى تحصيل اللذة
ورفع الألم ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها إبتداء من غير شئ
من الوسائط ولا ألم إلا والله تعالى قادر على دفعه ابتداءا من غير شئ
من الوسائط وإذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون فاعليته لشئ لأجل
133

تحصيل اللذة أو دفع الألم لأن الشئ إنما يكون معللا بشئ آخر إذا كان
يلزم من عدم ما فرض علة وعدم كل ما يقوم مقامها أن لا تكون العلية
حاصلة ألبتة
وبهذا الطريق علمنا أن نعيق الغراب وصرير الباب ليس علة لوجود
السماء والأرض ولا بالعكس
وإذا ثبت هذا فنقول لما لم تكن فاعلية الله تعالى لتحصيل اللذات
ودفع الآلام متوقفا ألبتة على وجود هذه الوسائط ولم تكن أيضا
فاعليته للوسائط متوقفة على فاعليته لتلك اللذات والآلام استحال تعليل
أحدهما بالآخر
وإذا بطل التعليل بطل كونها داعية لما بينا أن الداعي علة لعلية
الفاعلية
التفسير الثالث للعلة
المعرف فنقول إنه أيضا باطل لأنا إذا قلنا الحكم في
الأصل معلل بالعلة الفلانية استحال أن يكون مرادنا من العلة المعرف
وإلا لكان معنى الكلام أن الحكم في الأصل إنما عرف ثبوته بواسطة
الوصف الفلاني وذلك باطل لأن علية الوصف لذلك الحكم لا تعرف
إلا بعد معرفة ذلك الحكم فكيف يكون الوصف معرفا
134

والجواب
أما المعتزلة فإنهم يفسرون العلة الشرعية تارة
بالموجب وتارة بالداعي فيحتاجون إلى الجواب عن هذه الكلمات التي سبقت
والكلام في ذلك طويل
وأما أصحابنا فإنهم يفسرونه بالمعرف
وأما قوله الحكم معرف بالنص فلا يمكن كون الوصف معرفا له
قلنا ذلك الحكم الثابت في محل الوفاق فرد من أفراد ذلك النوع
من الحكم ثم بعد ذلك يجوز قيام الدلالة على كون ذلك الوصف معرفا
لفرد أخر من أفراد ذلك النوع من الحكم
وعلى ذلك التقدير لا يكون تعريفا للمعرف
ثم إذا وجدنا ذلك الوصف في الفرع حكمنا بحصول ذلك الحكم
لما أن الدليل لا ينفك عن المدلول
135

الباب الأول
في الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل
وهي عشرة النص
والإيماء
والإجماع
والمناسبة
والتأثير
والشبه
والدوران
والسبر والتقسيم
والطرد
وتنقيح المناط
وأمور أخرى اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة
137

الفصل الأول
في النص
ونعني بالنص ما تكون دلالته على العلية ظاهرة سواء كانت
قاطعة أو محتملة
أما القاطع فما يكون صريحا في المؤثرية وهو قولنا لعله كذا أو
لسبب كذا أو لموجب كذا أو لأجل كذا كقوله تعالى من أجل
ذلك كتبنا على بني إسرائيل
وأما الذي لا يكون قاطعا فألفاظ ثلاثة اللام وإن والباء
أما اللام فكقولنا ثبت لكذا كقوله منه وما خلقت الجن الأنس
إلا ليعبدون
فإن قلت اللام ليست صريحة في العلية ويدل عليه وجوه
الأول
أنها تدخل على العلة فيقال ثبت هذا الحكم لعلة كذا ولو كانت
139

اللام صريحة في التعليل لكان ذلك تكرارا
الثاني
أنه تعالى قال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
وبالاتفاق لا يجوز أن يكون ذلك غرضا
الثالث قول الشاعر
لدوا للموت وابنوا للخراب
وليست اللام هاهنا للغرض
الرابع
يقال أصلى لله تعالى ولا يجوز أن تكون ذات الله تعالى غرضا
قلت أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة
وإذا ثبت ذلك وجب القول بأنها مجاز في هذه الصور
140

وثانيها
أن كقوله عليه الصلاة والسلام إنها من الطوافين عليكم إنه دم
عرق
وثالثها
الباء كقوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله
واعلم أن أصل الباء للإلصاق وذات العلة لما اقتضت وجود
المعلول حصل معنى الإلصاق هناك فحسن استعمال الباء فيه
مجازا
141

الفصل الثاني
في الإيماء
وهو على خمسة أنواع
الأول
تعليق الحكم على العلة بحرف الفاء وهو على وجهين
الأول
أن تدخل الفاء على حرف العلة ويكون الحكم متقدما كقوله عليه
الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصت به ناقته لا تقربوه طيبا فإنه يحشر
يوم القيامة ملبيا
143

الثاني
أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلة متقدمة وذلك أيضا على
وجهين
أحدهما
أن تكون الفاء دخلت في كلام الشارع مثل قوله تعالى والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا
وثانيها
أن تدخل على رواية الراوي كقول الراوي سها رسول الله ص
فسجد وزنا ماعز فرجم
144

فرعان
الأول
الحكم المرتب على الوصف مشعر بكون الوصف علة سواء كان ذلك
الوصف مناسبا لذلك الحكم أو لم يكن مناسبا لذلك الحكم
وقال قوم لا يدل على العلية إلا إذا كان مناسبا
لنا وجهان
الأول
أن الرجل إذا قال أكرموا الجهال واستخفوا بالعلماء يستقبح هذا
الكلام في العرف فلا يخلو إما أن يكون الاستتباح جاء لأنه فهم منه
أنه حكم يكون الجاهل مستحقا للإكرام بجهله ويكون العالم مستحقا
للاستخفاف بعلمه أو لأنه فهم منه أنه جعل الجاهل مستحقا للإكرام
والعالم مستحقا للاستخفاف
والثاني باطل لأن الجاهل قد يستحق الإكرام بجهة أخرى نحو نسبه أو
145

شجاعته أو سوابق حقوقه والعالم قد يستحق الاستخفاف لفسقه أو
لسبب آخر
وإذا بطل هذا القسم ثبت الأول وذلك يدل على أن ترتيب الحكم
على الوصف يفيد كون الوصف علة الحكم سواء تحققت المناسبة أو لم
تتحقق
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال إن الاستقباح إنما جاء لأن الجهل
مانع من الإكرام والعلم مانع من الاستخفاف فلما أمر بإكرام الجاهل فقد
أثبت الحكم مع قيام المانع
وأيضا
فهب أن الحكم في هذا المثال كذلك فلم قلت إنه في سائر
الصور يجب أن يكون كذلك
قلت الجواب عن الأول
أنا قد بينا أنه قد يثبت استحقاق الإكرام مع الجهل فوجب أن
لا يكون الجهل مانعا منه لئلا يلزم مخالفة الأصل
وعن الثاني
أنه لما ثبت ما ذكرناه في بعض الصور وجب ثبوته في كل الصور
وإلا وقع الاشتراك في هذا النوع من التركيب والاشتراك على
خلاف الأصل
146

الوجه الثاني في المسألة
أنه لا بد لهذا الحكم من علة ولا علة إلا هذا الوصف
أما الأول فلأنه لو ثبت الحكم بدون العلة والداعي كان عبثا وهو
على الله تعالى محال
وأما الثاني فلأن غير هذا الوصف كان معدوما والعلم بأنه كان
معدوما يوجب ظن بقائه على ذلك على ما سيأتي تقرير هذا الأصل
وإذا بقي على العدم امتنع أن يكون علة
فثبت أن غيره يمتنع أن يكون علة فوجب أن تكون العلة ذلك
الوصف
الفرع الثاني
قد ذكرنا أن دخول الفاء يقع على ثلاثة أوجه ولا شك أن قول
الشارع أبلغ في إفادة العلية من قول الراوي لأنه يجوز أن يتطرق إلى كلام
الراوي من الخلل ما لا يجوز تطرقه إلى كلام الشارع
وأما القسمان الباقيان فيشبه أن يكون الذي تقوم العلة فيه على
الحكم أقوى في الأشعار بالعلية من القسم الثاني لأن أشعار العلة بالمعلول
أقوى من أشعار المعلول بالعلة لأن الطرد واجب في العلل والعكس غير
واجب فيها
النوع الثاني
أن يشرع الشارع الحكم عند علمه بصفة المحكوم عليه فيعلم أنها علة
147

الحكم فإذا قال القائل يا رسول الله أفطرت فيقول عليك الكفارة
فيعلم أن الكفارة وجبت لأجل الإفطار
وإنما قلنا إن ذلك مشعر بالعلية لأن قوله عليك الكفارة
كلام يصلح أن يكون جوابا عن ذلك سؤال والكلام الذي يصلح أن
يكون جوابا عن السؤال إذا ذكر عقب السؤال يفيد الظن بأنه إنما ذكره
جوابا عن السؤال وإذا ذكره جوابا عن السؤال كان السؤال كالمعاد في
الجواب فيصير التقدير أفطرت فأعتق
وحينئذ يلتحق هذا بالنوع الأول
فإن قلت لا نزاع في أن هذا الكلام صالح لأن يكون جوابا عن ذلك
السؤال لكن لا نسلم أن مثل هذا الكلام إذا ذكر عقيب السؤال حصل
ظن أنه ذكر ليكون جوابا عن ذلك السؤال فإنه ربما ذكره جوابا عن سؤال
آخر أو لغرض آخر أو زجرا له عن هذا السؤال كما أن العبد إذا قال لسيده
دخل فلان دارك فيقول له السيد اشتغل بشأنك فمالك وهذا الفضول
ولا يمكن إبطال هذا الاحتمال بما قاله بعضهم من أنه لو لم يكن هذا الكلام
جوابا عن ذلك السؤال لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وإنه لا
يجوز لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام عرف أنه لا حاجة بذلك المكلف
إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يكون اعراض الرسول ص
148

عن ذكر الجواب تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة
سلمنا أن ما يقوله الرسول ص جوابا عن السؤال
مشعر بالتعليل فلم قلتم إن الذي يزعم الراوي أنه جواب عن السؤال
مشعر به لاحتمال أنه اشتبه الأمر على الراوي فظن ما لم يكون جوابا جوابا
قلت الجواب عن الأول
أن الأكثر على أن الكلام الذي يصلح أن يكون جوابا عن
السؤال إذا ذكر عقيب السؤال فإنما يذكر جوابا عنه والصورة التي ذكرتموها
نادرة والنادر مرجوح
وعن الثاني
أن العلم يكون الكلام المذكور بعد السؤال جوابا عنه أوليس
جوابا عنه أمر ظاهر يعرف بالضرورة عند مشاهدة المتكلم ولا يفتقر
فيه إلى نظر دقيق
النوع الثالث
أن يذكر الشارع في الحكم وصفا لو لم يكن موجبا لذلك الحكم
لم يكن في ذكره فائدة
وهذا يقع على أقسام أربعة
أحدها
أن يدفع السؤال المذكور في صورة الإشكال بذكر الوصف كما
149

روى أنه عليه الصلاة والسلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب
فقيل له إنك تدخل على فلان وعنده هرة فقال عليه الصلاة والسلام
إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات فلو لم يكن لكونها
من الطوافين أثر في طهارتها لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة
وثانيها
أن يذكر وصفا في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره إبتداء فيعلم أنه
إنما ذكره لكونه مؤثر في الحكم كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال
تمرة طيبة وماء طهور
150

وثالثها
أن يقرر النبي ص على وصف الشئ المسؤول عنه
كقوله ص أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال
فلا إذن فلو لم يكن نقصانه باليبس علة في المنع من البيع لم يكن
للتقرير عليه فائدة
وهذا أيضا يدل على العلية من حيث الجواب بالفاء
ورابعها
أن يقرر الرسول ص على حكم ما يشبه المسؤول
عنه وينبه على وجه الشبه فيعلم أن وجه الشبه هو العلة في ذلك الحكم
كقوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه وقد سأله عن قبلة الصائم
151

أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته فنبه بهذا على أنه لا يفسد الصوم
بالمضمضة والقبلة لأنه لم يحصل ما هو الأثر المطلوب منهما
النوع الرابع
أن يفرق الشرع بين شيئين في الحكم بذكر صفة فيعلم أنه لو لم
تكن تلك الصفة علة لم يكن لذكرها فائدة
وهو ضربان
أحدهما
أن لا يكون حكم أحدهما مذكورا في الخطاب كقوله عليه الصلاة
والسلام القاتل لا يرث فإنه قد تقدم بيان إرث الورثة فلما قال
القاتل لا يرث وفرق بينه وبين جميع الورثة بذكر القتل الذي
يجوز كونه مؤثرا في نفي الإرث علمنا أنه العلة في نفي الإرث
وثانيها
أن يكون حكمهما مذكورا على الخطاب
وهو على خمسة أوجوه
أحدها
أن تقع التفرقة بلفظ يجرى مجرى الشرط كقوله عليه الصلاة
152

والسلام فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد بعد نهيه عن
بيع البر بالبر متفاضلا فدل على أن اختلاف الجنسين علة في جواز البيع
وثانيها
أن تقع التفرقة في الغاية كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى
يطهرن
وثالثها
أن تقع بالاستثناء كقوله تعالى إلا أن يعفون
ورابعها
أن تقع بلفظ يجرى مجرى الاستدراك كقوله تعالى لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فدل على أن
التعقيد مؤثر في المؤاخذة
وخامسها
أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الأخرى وتكون
تلك الصفة مما يجوز أن يؤثر كقوله ص للراجل سهم
153

وللفارس سهمان
وأعلم أن الاعتماد على هذين النوعين على أنه لا بد لتلك التفرقة من
سبب ولا بد في ذكر ذلك الوصف من فائدة فإذا جعلنا الوصف سببا للتفرقة
حصلت الفائدة
النوع الخامس
النهى عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه علينا فيعلم أن العلة في ذلك
النهي كونه مانعا من ذلك الواجب كقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا
البيع فإنه لما أوجب علينا السعي ونهانا عن البيع مع علمنا بأنه لو
لم يكن النهي عن البيع لكونه مانعا من السعي لكان ذكره في هذا الموضع
غير جائز وذلك يدل على أنه إنما نهانا عنه لأنه يمنع من الواجب
وكتحريم التأفيف فإن العلة فيه كونه مانعا من الإعظام الواجب
فهذه جملة أقسام الايماءات
مسألة
الظاهر من هذه الأقسام وإن دل على العلية لكن قد يترك هذا الظاهر
154

عند قيام الدليل عليه مثاله قوله عليه الصلاة والسلام لا يقضي القاضي
وهو غضبان ظاهره يدل على أن العلة هي الغضب ولكن لما علمنا
أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر لا يمنع من
القضاء وأن الجوع المبرح والألم المبرح يمنع علمنا أن علة المنع
لست هي الغضب بل تشويش الفكر
قوله من يقول الغضب هو العلة لكن لكونه مشوشا خطأ لأن
الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجودا وعدما وانقطع عن الغضب وجودا
وعدما وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلا لأن تشويش الفكر قد
يوجد حيث لا غضب والغضب يوجد حيث لا تشويش علمنا أنه ليس بينهما
ملازمة
وحينئذ تعلم أنه لا يمكن أن يكون الغضب علة بل العلة إنما هو
التشويش فقط إلا أنه يجوز إطلاق لفظ الغضب لإرادة التشويش إطلاقا
لاسم السبب على المسبب
ويجب أن يعلم أن الذي به يصرف اللفظ عن ظاهرة لابد وأن يكون
أقوى وجهات القوة ستأتي في باب الترجيح إن شاء الله تعالى
155

الفصل الثالث
في بيان علية الوصف بالمناسبة
وهو مرتب على فنين
الأول
في المقدمات
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في تعريف المناسبة
الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين
الأول
أنه الذي يفضى إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء وقد يعبر عن
التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة لأن ما قصد
157

إبقاؤه فإزالته مضرة وإبقاؤه دفع المضرة
ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوما وقد يكون مظنونا وعلى
التقديرين فإما أن يكون دينيا أو دنيويا
والمنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقا إليه
والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقا إليه
واللذة قيل في حدها إنها إدراك الملائم
والألم إدراك المنافي
والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما لأنهما من أظهر ما يجده
الحي من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما وبينهما
وبين غيرهما وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه
الثاني
أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات فإنه يقال هذه اللؤلؤة تناسب
هذه اللؤلؤة أي الجمع بينهما في سلك واحد متلائم وهذه الجبة تناسب
هذه العمامة أي الجمع بينهم متلائم
والتعريف الأول قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح
158

والتعريف الثاني قول من يأباه
المسألة الثانية
في تقسم المناسب
وذلك من أوجه
التقسيم الأول
المناسب إما أن يكون حقيقيا أو اقناعيا
أما الحقيقي فنقول
كون المناسب مناسبا إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا أو لمصلحة
تتعلق بالآخرة
أما القسم الأول فهو على ثلاثة أقسام لأن رعاية تلك المصلحة أما
أن تكون في محل الضرورة
أو في محل الحاجة
أو لا في محل الضرورة ولا في محل الحاجة
أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من
159

المقاصد الخمسة وهى حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل
أما النفس فهي محفوظة بشرع القصاص وقد نبه الله تعالى عليه
بقوله ولكم في القصاص حياة
وأما المال فهو محفوظ بشرع الضمانات والحدود
وأما النسب فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الزنا لأن المزاحمة على
الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المفضى إلى انقطاع التعهد عن
الأولاد وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب وهو مجلبة الفساد
والتقاتل
وأما الدين فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الردة والمقاتلة مع أهل
الحرب وقد نبه الله تعالى عليه بقوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر
وأما العقل فهو محفوظ بتحريم المسكر وقد نبه الله تعالى عليه
بقوله أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر
فهذه الخمسة هي المصالح الضرورية
وأما التي في محل الحاجة فتمكين الولي من تزويج الصغيرة فإن
مصالح النكاح غير ضرورية لها في الحال إلا أن الحاجة إليه بوجه ما
حاصلة وهي تقييد الكفؤ الذي لو فات فربما فات لا إلى بدل
وأما التي لا تكون في محل الضرورة ولا الحاجة فهي التي تجري
160

مجرى التحسينات وهي تقرير الناس على مكارم الأخلاق ومحاسن
الشيم
وهذا على قسمين
منه ما يقع لا على معارضة قاعدة معتبرة وذلك كتحريم تناول
القاذورات وسلب أهلية الشهادة عن الرقيق لأجل أنها منصب شريف
والرقيق نازل القدر والجمع بينهما غير متلائم
ومنه ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة وهو مثل الكتابة فإنها وإن كانت
مستحسنة في العادات إلا أنها في الحقيقة بيع الرجل ماله بماله وذلك
غير معقول
وأما الذي يكون مناسبا لمصلحة تتعلق بالآخرة فهي الحكم
المذكورة في رياضة النفس وتهذيب الأخلاق فإن منفعتها في سعادة الآخرة
فرع
أن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك
القسم
وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه بل يختلف ذلك بحسب اختلاف
الظنون
وقد استقصى إمام الحرمين رحمه الله في أمثله هذه الأقسام
161

ونحن نكتفي بواحد منها قال رحمه الله قد ذكرنا أن حفظ النفوس
بشرع القصاص من باب المناسب الضروري
ومما نعلم قطعا أنه من هذا الباب شرع القصاص في المثقل فإنا
كما نعلم أنه لولا شرع القصاص في الجملة لوقع الهرج والمرج فكذلك
نعلم أنه لو ترك في المثقل لوقع الهرج ولأدى الأمر إلى أن كل من أراد
قتل إنسان فإنه يعدل عن المحدد إلى المثقل دفعا للقصاص عن نفسه
إذ ليس في المثقل زيادة مؤنة ليست في المحدد بل كان المثقل أسهل
من المحدد وعند هذا قال رحمه الله لا يجوز في كل شرع تراعى
فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقل
قال رحمه الله فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه يحتمل
أن يكون من هذا الباب لكنه لا يظهر كونه منه
أما وجه الاحتمال فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة لتأدى
الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان بشريك ليدفع القصاص عنه
فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص
وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة
بالغير وقد لا يساعده الغير عليه فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص
من هاهنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد
وأما المناسب الاقناعي: فهو الذي يظن به في أول الأمر كونه مناسبا لكنه
إذا بحث عنه حق البحث يظهر أنه غير مناسب مثاله تعليل الشافعية
تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها وقياس الكلب والسرجين عليه
162

ووجه المناسبة أن كونه نجسا يناسب إذلاله ومقابلته بالمال في البيع
يناسب إعزازه والجمع بينهما متناقض
وهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب لكنه في
الحقيقة ليس كذلك لأن كونه نجسا معناه أنه لا يجوز الصلاة معه ولا
مناسبة ألبتة بين المنع من استصحابه في الصلاة وبين المنع من بيعه
التقسيم الثاني
الوصف المناسب إما أن يعلم أن الشارع اعتبره
أو يعلم أنه ألغاه
أو لا يعلم واحد منهما
أما القسم الأول فهو على أقسام أربعة لأنه إما أن يكون نوعه معتبرا في
نوع ذلك الحكم أو في جنسه أو يكون جنسه معتبرا في نوع ذلك الحكم
أو في جنسه
مثال تأثير النوع في النوع أنه إذا ثبت أن حقيقة
163

السكر اقتضت حقيقة التحريم كان النبيذ ملحقا بالخمر لأنه لا تفاوت بين العلتين وبين الحكمين
إلا اختلاف المحلين واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرا اختلاف الحالين
مثال تأثير النوع في الجنس أن الإخوة من الأب والأم نوع واحد
يقتضى التقدم في الميراث فيقاس عليه التقدم في النكاح والأخوة من
الأب والأم نوع واحد في الموضعين إلا أن ولاية النكاح ليست كولاية
الإرث لكن بينهما مجانسة في الحقيقة
ولا شك أن هذا القسم دون القسم الأول في الظهور لأن المفارقة
بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المفارقة بين نوعين
مختلفين
مثال تأثير الجنس في النوع إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا
بالمشقة فإنه ظهر تأثير جنس المشقة في إسقاط قضاء
الصلاة وذلك مثل تأثير المشقة في السفر في إسقاط قضاء الركعتين
الساقطتين
مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الأحكام بالحكم التي لا تشهد
لها أصول معينة مثل أن عليا رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف إقامة
لمظنة الشئ مقامه قياسا على إقامة غير الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة
ثم أعلم أن للجنسية مراتب فأعم أوصاف الأحكام كونها حكما ثم
ينقسم الحكم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة
والواجب ينقسم إلى عبادة وغيرها
164

والعبادة تنقسم إلى الصلاة وغيرها
والصلاة تنقسم إلى فرض ونقل
فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة
وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة
وكذا في جانب الوصف أعم أوصافه كونه وصفا تناط به الأحكام
حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة وغير المناسبة
وأخص منه المناسب وأخص منه المناسب الضروري
وأخص منه ما هو كذلك في حفظ النفوس
وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشرع إليها
وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى
وكلما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا
في حق ذلك الحكم آكد فيكون لا محالة مقدما على ما يكون أعم منه
وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه فهو غير معتبر أصلا
165

وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشرع ألغاه أو اعتبره فذلك
يكون بحسب أوصاف أخص من كونه وصفا مصلحيا وإلا فعموم كونه وصفا
مصلحيا مشهود له بالاعتبار وهذا القسم هو المسمى بالمصالح
المرسلة
واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الأربعة مع كثرة مراتب العموم
والخصوص قد يقع فيه كل واحد من الأقسام الخمسة المذكورة في
التقسيم الأول ويحصل هناك أقسام كثيرة جدا وتقع فيما بينها
المعارضات والترجيحات ولا يمكن ضبط القول فيها لكثرتها والله تعالى
هو العالم بحقائقها
التقسيم الثالث
الوصف باعتبار الملاءمة ووقوع الحكم على وفق أحكام
أخر وشهادة الأصل على أربعة أقسام
الأول
ملائم شهد له أصل معين وهو الذي أثر نوع الوصف في نوع الحكم
وأثر جنسه في جنسه وهذا متفق على قبوله بين القايسين وهو كقياس
المثقل على الجارح في وجوب القصاص فخصوص كونه قتلا معتبر في
166

خصوص كونه قصاصا وعموم جنس الجناية معتبر في عموم جنس العقوبة
وثانيها
مناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فهذا مردود
بالإجماع
مثاله حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده لو
قدرنا أنه لم يرد فيه نص
وثالثها
مناسب ملائم لا يشهد له أصل معين بالاعتبار يعنى أنه اعتبر
جنسه في جنسه لكن لم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه في نوعه وهذا
هو المصالح المرسلة
ورابعها
مناسب شهد له أصل معين ولكنه غير ملائم أي شهد نوعه
لنوعه لكن لم يشهد جنسه لجنسه كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم
تناول المسكر صيانة للعقل وقد يشهد لهذا المعنى الخمر باعتباره
أحمد لكن لم تشهد له سائر الأصول وهذا هو المسمى بالمناسب الغريب
167

المسألة الثالثة
في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة والدليل عليه أن كون الوصف
مناسبا إنما يكون لكونه مشتملا على جلب منفعة أو دفع مضرة وذلك لا
يبطل بالمعارضة
أما الأول فظاهر
وأما الثاني فيدل عليه وجوه
الأول
أن المناسبتين المتعارضتين إما أن تكونا متساويتين أو إحداهما أرجح
من الأخرى
فإن كان الأول لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس فإما
أن نبطل كل واحدة منهما بالأخرى وهو محال لأن المقتضى لعدم كل
واحدة منهما وجود الأخرى والعلة لابد وأن تكون حاصلة مع المعلول فلو
كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى لزم أن تكونا موجودتين حال
168

كونهما معدومتين وذلك محال
وأما أن لا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض وذلك هو
المطلوب
وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى فهاهنا لا يلزم التفاسد أيضا
لأنه لو لزم التفاسد لكان لما بينهما من المنافاة لكنا بينا في القسم
الأول أنه لا منافاة بينهما لأنهما اجتمعا وإذا زالت المنافاة لم يلزم من
وجود أحدهما عدم الآخر
الثاني
أن المفسدة الراجحة إذا صارت معارضة بمصلحة مرجوحة فإما أن
ينتفى شئ من الراجح لأجل المرجوح أو لا ينتفي
والأول باطل
وإلا لزم أن تكون المفسدة المعارضة بمصلحة مرجوحة مساوية
للمفسدة الخالصة عن شوائب المصلحة وذلك باطل بالبديهة
169

والثاني أيضا باطل
لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكون مساويا لتلك
المصلحة فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين في أنه
ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس فإما أن يندفع كل واحد منهما
بالآخر وهو محال
أو لا يندفع واحد منهما بالآخر وهو المطلوب
وأيضا
فليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح وبقاء
بعضه أولى من اندفاع ما فرض باقيا وبقاء ما فرض زائلا لأن تلك الأجزاء
متساوية في الحقيقة
الثالث
وهو أن تقرر في الشرع إثبات الأحكام المختلفة نظرا إلى الجهات
المختلفة مثل الصلاة في الدار المغصوبة فأنها من حيث أنها صلاة
سبب الثواب ومن حيث أنها غصب سبب العقاب والجهة المقتضية للثواب
مشتملة على المصلحة والجهة المقتضية للعقاب مشتملة على المفسدة
وعند ذلك نقول المصلحة والمفسدة أما أن يتساويا أو تكون إحداهما
راجحة على الأخرى
فعلى تقدير التساوي يندفع كل واحد منهما بالآخر فلا تبقى لا
مصلحة ولا مفسدة فوجب أن لا يترتب عليها لا مدح ولا ذم وقد فرضنا
ترتبهيا بعد عليها هذا خلف
170

وإن كانت إحدى الجهتين راجحة كانت المرجوحة معدومة فيكون
الحاصل إما المدح وحده أو الذم وحده وقد فرضنا حصولهما معا
وهذا خلف
واعلم أن هذا الوجه مبنى على قول الفقهاء الصلاة في الدار المغصوبة
عبادة من وجه معصية من وجه
الرابع
العقلاء يقولون في فعل معين الإتيان به مصلحة في حقي لولا
ما فيه من المفسدة الفلانية ولولا صحة إجتماع وجهي المفسدة والمصلحة
وإلا لما صح هذا الكلام والله أعلم
171

الفصل الثاني
من هذا الفصل
في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية فنقول المناسبة تفيد
ظن العلية والظن واجب اعمل به
بيان الأول من وجهين
الأول
أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد وهذه مصلحة فيحصل ظن
أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة فهذه مقدمات ثلاث لا بد من
إثباتها بالدليل
أما المقدمة الأولى فالدليل عليها وجوه
أحدها
أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح أو لا
لمرجح
والقسم الثاني باطل وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح
وهذا محال فثبت القسم الأول
وذلك المرجح إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العبد
172

والأول باطل بإجماع المسلمين فتعين الثاني وهو أنه تعالى إنها شرع
الأحكام لأمر عائد إلى العبد والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة العبد
أو مفسدته أو ما لا يكون مصلحته ولا مفسدته
والقسم الثاني والثالث باطل باتفاق العقلاء فتعين الأول فثبت أنه
تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد
وثانيها
أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين والحكم لا يفعل إلا لمصلحة فإن
من يفعل لا لمصلحة يكون عابثا والعبث على الله تعالى محال للنص
والإجماع والمعقول
أما النص
فقوله تعالى
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ربنا ما خلقت هذا باطلا ما
خلقناهما إلا بالحق
وأما الإجماع
فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث
وأما المعقول
فهو أن العبث سفه والسفه صفة نقص والنقص على الله تعالى
محال
173

فثبت أنه لا بد من مصلحة وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله
تعالى كما بينا فلابد من عودها إلى العبد
فثبت أنه تعال شرع الأحكام لمصالح العباد
وثالثها
أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفا مكرما لقوله تعالى ولقد كرمنا بني
آدم ومن كرم أحدا ثم سعى في تحصيل مطلوبه كان ذلك
السعي ملائما لأفعال العقلاء مستحسنا فيما بينهم فإذن ظن كون المكلف
مكرما يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له
ورابعها
أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة لقوله تعالى وما خلقت الجن
والأنس إلا ليعبدون والحكيم إذا أمر عبده بشئ فلا بد وأن يزيح عذره
وعلته ويسعى في تحصيل منافعه ودفع المضار عنه ليصير فارغ البال
فيتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به والاجتناب عما نهاه عنه فكونه مكلفا
يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له
وخامسها
النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب
الشرع قال الله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال
174

خلق لكم ما في الأرض جميعا
وقال
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا
وقال
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال عز وجل
وما جعل عليكم في الدين من حرج وقال عليه الصلاة والسلام
بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وقال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام
وسادسها
أنه وصف نفسه بكونه رؤوفا رحيما بعباده وقال ورحمتي وسعت كل
شئ فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة لم يكن ذلك رأفة ولا
رحمة
فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة
العباد
175

ثم أختلف الناس بعد ذلك
أما المعتزلة فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام وكشفوا الغطاء عنه
وقالوا إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح وفعل العبث بل يجب أن يكون
فعله مشتملا على جهة مصلحة وغرض
وأما الفقهاء فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا
المعنى ولأجل هذه الحكمة ولو سمعوا لفظ الغرض لكفروا قائله مع
أنه لا معنى لتلك اللام إلا الغرض
وأيضا
فإنهم يقولون إنه وإن كان لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح
إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا
فهذا هو الكلام في تقرير هذه المقدمة
أما المقدمة الثانية وهى أن هذا الفعل مشتمل على هذه الجهة من
المصلحة فظاهر لأنا إنما نحكم بعلية الوصف إذا بينا كونه كذلك
أما المقدمة الثالثة وهى أنا لما علمنا أنه لا يشرع إلا لمصلحة وعلمنا
أن هذا المعنى مصلحة حصل لنا ظن أن الداعي له تعالى إلى شرع ذلك
الحكم هو هذه المصلحة فقد استدلوا عليه من وجهين
الأول وهو أن المصلحة المقتضية لشرع هذا الحكم إما هذه
المصلحة أو غيرها لا جائز أن يكون غيرها لأن ذلك الغير إما أن يقال إنه
176

كان مقتضيا لذلك الحكم في الأزل أو ما كان مقتضيا له في الأزل
والأول باطل
وإلا لكان الحكم ثابتا في الأزل لكن التكليف بدون المكلف محال
فتعين الثاني وهو أنه ما كان مقتضيا لهذا الحكم في الأزل وذلك
يفيد ظن استمرار هذا السلب لما سنبين إن شاء الله تعالى أن العلم بوقوع
أمر على وجه مخصوص يقتضى ظن بقائه على ذلك الوجه أبدا
وإذا ثبت ظن أن غير هذا الوصف ليس علة لهذا الحكم ثبت ظن أن
هذا الوصف هو العلة لهذا الحكم ونحن ما ادعينا إلا الظن
الثاني
أن الظن بكون الحاكم حكيما مع العلم بأن هذا الحكم فيه هذه
الجهة من الحكمة يفيد في الشاهد ظن أن ذلك الحكيم إنما شرع ذلك
الحكم لتلك الجهة وإذا كان الأمر كذلك في الشاهد وجب أن يكون في
الغائب مثله
بيان المقام الأول
أنا إذا اعتقدنا في ملك البلدة أنه لا يفعل فعلا إلا لحكمة
فإذا رأيناه يدفع مالا إلى فقير وعلمنا أن فقره يناسب دفع المال إليه ولم
تخطر ببالنا صفة أخرى فيها مناسبة لدفع المال إليه غلب على ظننا أنه إنما
دفع المال إليه لفقره
177

نعم لا ننكر أنه يجوز أن يكون له غرض سوى ما ذكرناه لكنه تجويز
مرجوح لا يقدح في ذلك الظن الغالب
أما إذا ظهر وجهان من المناسبة مثل أن كان ذلك الفقير فقيها
فهاهنا إن تساوى الوجهان في القوة لا يبقى ظن أنه أعطاه لهذا الوصف
أو لذلك أو لهما جميعا
فثبت أن العلم يكون الفاعل حكيما مع العلم بحصول جهة
معينة في الحكم ومع الغفلة عن سائر الجهات يقتضي ظن أن ذلك
الفاعل إنما فعل لتلك الحكمة
بيان المقام الثاني
أن في الشاهد دار ذلك الظن مع حصول ذينك العلمين وجودا
وعدما والدوران دليل العلية ظاهرا فيحصل ظن أن العلم بكون الفاعل
حكيما مع العلم باشتمال هذا الفعل على جهة مصلحة ومع الغفلة عن
سائر الجهات علة لحصول الظن بأن ذلك الحكيم إنما أتى بذلك
الفعل لتلك الحكمة والعلة أينما حصلت حصل الحكم
فإذا حصل ذلك العلمان في أفعال الله تعالى وأحكامه وجب
أن يحصل ظن أنه تعالى إنما شرع ذلك الحكم لتلك المصلحة
فثبت بهذا أن المناسبة تفيد ظن العلية
178

الوجه الثاني في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية
أن نسلم أن أفعال الله وأحكامه يمتنع أن تكون معللة بالدواعي
والأغراض ومع هذا فندعى الذي أن المناسبة تفيد ظن العلية
وبيانه
أن مذهب المسلمين أن دوران الأفلاك وطلوع الكواكب وغروبها
وبقائها على أشكالها وأنوارها غير واجب ولكن الله تعالى لما أجرى عادته
بإبقائها على حالة واحدة لا جرم يحصل ظن أنها تبقى غدا وبعد غد على
هذه الصفات وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطب وحصول الشبع
عقيب الأكل والري عقيب الشرب والاحتراق لأن عند مماسة النار غير
واجب لكن العادة لما اطردت بذلك لا جرم حصل ظن يقارب اليقين
باستمرارها على مناهجها
والحاصل أن تكرير الشئ مرارا كثيرة يقتضى ظن أنه متى حصل لا
يحصل إلا على ذلك الوجه
إذا ثبت هذا فنقول إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح
متقارنين لا ينفك أحدهما عن الآخر وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع
الشرائع
وإذا كان كذلك كان العلم بحصول هذا مقتضيا ظن حصول الآخر
وبالعكس من غير أن يكون أحدهما مؤثرا في الآخر وداعيا إليه
فثبت أن المناسبة دليل العلية مع القطع بأن أحكام الله تعالى لا
تعلل بالأغراض
179

أما المقدمة الثانية من أصل الدليل وهي أن المناسبة لما أفادت ظن
العلية وجب أن يكون ذلك القياس حجة فالاعتماد علي فيه على ما ذكرنا أن
العمل بالظن واجب لما فيه من دفع الضرر عن النفس
وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل
فإن قيل لا نسلم أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد
قوله تخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين لا بد وأن يكون
لمرجح وذلك المرجح يمتنع أن يكون عائدا إلى الله تعالى فلا بد وأن يكون
عائدا إلى العبد
قلنا إما أن تدعى أن التخصيص لا بد له من مخصص أو لا تدعى
ذلك وعلى التقديرين لا يمكنك القول بتعليل أحكام الله تعالى
بالمصالح
أما على القول بأن التخصيص لابد له من مخصص فلأن أفعال العباد
إما أن تكون واقعة بالله تعالى أو العبد
فإن كان الأول كان الله تعالى فاعلا للكفر والمعصية ومع القول
بذلك يستحيل القول بأنه لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد
وإن كانت واقعة بالعبد فالعبد الفاعل للمعصية مثلا إما أن يكون متمكنا
من تركها أو لا يكون
180

فإن لم يكن متمكنا من تركها وتلك القدرة والداعية مخلوقة لله تعالى
كان الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب المعصية ويمتنع عقلا انفكاكه
عنها ومع هذا لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي مصالح العباد
وإن كان العبد متمكنا من تركها فنقول لما كان كونه فاعلا للمعصية
وتاركا لها أمرين ممكنين لم يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح لأنا نتكلم
الآن تفريعا على تسليم هذه المقدمة فذلك المرجح إن كان من فعل
العبد عاد التقسيم الأول
وإن كان من فعل الله تعالى فإما أن يجب الترجيح عند حصول
ذلك المرجح من الله تعالى
أولا يجب
فإن وجب عاد الأمر إلى أنه تعالى فعل فيه ما يوجب المعصية ومع
هذا لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي المصالح
وإن لم يجب كان حصول الترجيح مع ذلك المرجح ممكنا أن
يكون وأن لا يكون فيفتقر إلى مرجح أخر فإما أن يتسلسل وهو محال
أو ينتهى إلى الوجوب فيعود الإشكال
فإن قلت عند حصول المرجح يصير الترجيح أولى بالوقوع لكنه
لا ينتهى إلى حد الوجوب
قلت حصول الترجيح ولا حصوله مع ذلك القدر من الأولوية إن كانا
181

ممكنين فلنفرض وقوعهما فنسبة ذلك القدر من الأولوية إلى الترجيح
واللاترجيح حتى على السواء فاختصاص تعالى أحد زماني حصول تلك الأولوية
بالوقوع دون الزمان الثاني يكون ترجيحا للممكن المساوى من غير مرجح
وهو محال لأنا نتكلم الآن تفريعا على هذه المقدمة
فثبت أن القول بافتقار فإن التخصيص إلى المخصص يمنع من تعليل
أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح
وأما أن القول بأن التخصص لا يفتقر إلى المخصص يمنع من القول
بتعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح فذلك ظاهر
فثبت أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح باطل
وهذا الكلام كما أنه اعتراض على ما قالوه فهو دلالة قاطعة ابتداء في
المسألة وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي عولوا عليها لأنها أدلة ظنية وما
ذكرناه برهان قاطع
ثم نقول إن دل على ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال الله تعالى
بالمصالح واقع فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه وهي من وجوه
الأول
أنه خالق أفعال العباد وذلك يمنع من القول بأنه تعالى يراعي المصالح
إنما قلنا إنه تعالى خالق أفعال العباد لوجوه
أحدها
أن العبد لو كان موجدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيل أفعاله واللازم باطل
فالملزوم مثله
182

بيان الملازمة
أن فعل العبد واقع على كيفية مخصوصة وكمية مخصوصة مع جواز
وقوعه على خلاف تلك الكيفية والكمية فلابد وأن يكون ذلك الاختصاص لمخصص
إذ لو عقل الاختصاص لا لمخصص لعقل اختصاص حدوث
العالم بوقت معين وقدر معين مع جواز وقوعه لاعلى هذا الوجه لا
لمخصص وذلك يقتضى القدح في دليل إثبات الصانع فثبت أنه لابد
لفعل العبد من مخصص والتخصيص مسبوق بالعلم فإن التخصيص عبارة
عن القصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه والقصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه
مشروط بالشعور بذلك الوجه فالغافل ع الشئ استحال منه القصد إلى
إيقاعه
فثبت أنه لوه كان موجودا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيل أفعاله
وإنما قلنا إنه غير عالم بتفاصيل أفعاله لأن النائم فاعل مع أنه لا
يخطر بباله شئ من تلك التفاصيل بل اليقظان يفعل أفعالا كثيرة مع أنه لا
يخطر بباله كيفية تلك الأفعال فإن من فعل حركة بطيئة فذلك البطؤ إما
أن يكون عبارة عن تحلل السكنات أو عن كيفية قائمة بالحركة
فإن كان الأول فالفاعل للحركة البطيئة فاعل في بعض الأحيان
حركة وفي بعضها سكونا مع أنه لم يخطر بباله ذلك
وإن كان الثاني كان قد فعل حركة وفعل فيها عرضا آخر
183

ثم ذلك البطؤ له درجات مختلفة فهو قد فعل عرضا مخصوصا في
عرض آخر مع جواز أن يحصل سائر مراتب البطء مع أنه لم يخطر بباله
شئ من ذلك فعلمان أنه قد يفعل ما لم
يخطر بباله
فثبت بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعال نفسه
الثاني
أن موجد العبد مقدور لله تعالى فيجب وقوعه بقدرة الله تعالى
إنما قلنا إن مقدور العبد لله تعالى لأنه في نفسه ممكن والإمكان
مصحح للمقدورية
وإنما قلنا إنه لما كان مقدورا لله تعالى وجب وقوعه بقدرة الله تعالى
لأنا لو قدرنا قدرة العبد صالحة للإيجاد فإذا فرضنا أن كل واحد منهما أراد
الإيجاد
فحينئذ يجتمع على ذلك الفعل مؤثران مستقلان بالإيجاد وذلك
محال لأن الأثر مع المؤثر المستقل به يصير واجب الوقوع وكل ما
كان واجب الوقوع في نفسه استحال استناده إلى غيره
وحينئذ يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيلزم
انقطاع ذلك المقدور عنهما حال استناده إليهما معا وهو محال
184

والثالث
إذا فرضنا أن العبد أراد تحريك المحل حالما أراد الله تعالى تسكينه
فإذا كانت قدرة العبد مستقلة في الإيجاد وقدرة الله تعالى أيضا مستقلة
به لم يكن وقوع أحد المقدورين أولى من وقوع الآخر فإما أن يمتنعا
وهو محال لأن المانع من وجود كل واحد منهما وجود الآخر فالمانع
حاصل حال تحقق الامتناع فيلزم وجودهما عند عدمهما وهو محال
أو يقعان جميعا فيلزم حصول الضدين وهو محال
فإن قلت قدرة الله تعالى أقوى فكانت أولى بالتأثير
قلت إنها أقوى بمعنى أنها مؤثرة في أمور أخر لا تؤثر فيها قدرة العبد
أما فيما يرجع إلى التأثير في ذلك المقدور الواحد فيستحيل التفاوت لأن
ذلك المقدور شئ واحد لا يقبل التفاوت وإذا لم يكن هو في نفسه
قابلا للتفاوت استحال وقوع التفاوت في التأثير فيه
الرابع
لو قدر العبد على بعض المقدورات الممكنات لقدر على الكل لأن
المصحح للمقدورية ليس إلا الإمكان وهو قضية واحدة فيلزم من الاشتراك
فيه الاشتراك في المقدورية لكنه غير قادر على كل الممكنات لأنه لا يقدر
على خلق السماوات والأرض فوجب أن لا يقدر على الإيجاد ألبتة
فثبت بمجموع هذه الوجوه أن العبد غير موجد لأفعاله بل موجدها
هو الله عز وجل
185

وإذا كان كذلك فكل ما حصل من الكفر والمعاصي فهو من فعل الله
تعالى ولا شك أن الغالب على أهل العالم الكفر والمعاصي ومع هذا
القول لا يمكن القول بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد
فإن قلت هب أن الله تعالى هو الخالق لفعل العبد ولكن المكلف
مخير في اختيار الكفر والأيمان والله تعالى أجرى عادته أن يخلق الشئ
على وفق اختيار المكلف فإن اختار المكلف الكفر خلق فيه الكفر وإن
اختار الأيمان خلق فيه الأيمان فمنشأ المفسدة هو اختيار المكلف
قلت حصوله اختيار الكفر بدلا عن اختيار الأيمان أن كان من المكلف
لا من الله تعالى لم يكن الله تعالى فاعلا لكل أفعال العباد وإن
كان من الله تعالى فقد بطل الاختيار وتوجه الإشكال
الدليل الثاني على أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح
أن القادر على الكفر إن لم يقدر على الأيمان لزم الجبر وذلك يقدح في
رعاية المصالح
وإن قدر عليهما فلابد وأن ينتهى إلى مرجح واقع بفعل الله تعالى
وعند حصول ذلك المرجح يجب وقوع الكفر فيكون الجبر لازما وذلك
يقدح في رعاية المصالح وتقرير هذا الوجه قد تقدم
الدليل الثالث أنه قد وقع التكليف بما لا يطاق وذلك يمنع من القول
برعاية المصالح
186

بيان الأول من وجوه
الأول أنه كلف بالأيمان من علم أنه لا يؤمن فصدور الأيمان
منه يستلزم انقلاب العلم جهلا وهذا الانقلاب محال والمفضى إلى
المحال محال فكان هذا التكليف تكليفا بالمحال
وثانيها
أنه إما أن يكلفه حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك أو حال
رجحان أحدهما على الآخر
والأول محال لأن الاستواء ما دام يكون حاصلا امتنع الرجحان فالأمر
بالترجيح حال حصول الاستواء أمر بالجمع بين الضدين
والثاني محال لأن حال الترجيح يكون الراجح واجب الوقوع
والمرجوح ممتنع الوقوع فحال الرجحان إن كان مأمورا بترجيح المرجوح
كان مأمورا بالجمع بين الضدين
وإن كان مأمورا بترجيح الراجح كان مأمورا بإيقاع الواقع وكل ذلك
تكليف بما لا يطاق
وثالثها
القدرة إذا حصلت في العبد فإما أن يؤمر بإيقاع الفعل في ذلك
الزمان أو في الزمان الثاني
والأول محال لأنه إذا وجد المقدور في ذلك الزمان فلو أمر الله تعالى
187

العبد بإيقاعه في ذلك الزمان كان هذا أمرا بإيجاد الموجود وأنه محال
والثاني أيضا محال لأنه في الزمان الأول لما لم يكن متمكنا من
الفعل ألبتة كان أمره بالفعل أمرا لمن لا يقدر
فإن قلت إنه ما أمره في الحال بإيقاع الفعل في الحال
حتى يلزم ما قلته بل أمره في الحال بأن يوقعه في الزمان الثاني
قلت هل لقولك يوقعه مفهوم زائد على الفعل أم لا
فإن لم يكن له مفهوم زائد لم يكن لقولك إنه أمره في الحال
بإيقاع الفعل في الزمان الثاني معنى إلا أنه أعلم في الحال بأنه
لا بد وأن يكون في الزمان بحيث يصدر عنه الفعل ففي هذا الزمان لم
يحصل إلا الإعلام فأما الإلزام فلا يحصل إلا في الزمان الثاني فيعود الأمر
إلى أنه أمره بإيقاع الفعل حال وقوعه فيه
وإن كان لقولك يوقعه مفهوم زائد على مفهوم الفعل فذلك الزائد
هل حصل في الزمان الأول أو ما حصل
فإن حصل في الزمان الأول وقد أمر في الزمان الأول به فحينئذ يلزم
كونه مأمورا بالشئ حال حصوله
وإن لم يحصل في الزمان الأول بل في الزمان الثاني عاد ما
188

ذكرنا من أن الحاصل في الزمان الأول إعلام لا إلزام والإلزام لا
يحصل إلا في الزمان الثاني فيعود ما ذكرنا من أنه أمر بالفعل حال وقوعه
ورابعها
أن الله تعالى قال إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون فأولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مأمورين
بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه
فإذن كانوا مأمورين بأن يصدقوا الله تعالى في إخباره عنهم
بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف ما لا يطاق
وخامسها
ما بينا أن فعل العبد لا يحصل إلا إذا خلق الله فيه داعية تلجئه إلى فعله إلجاءا
عمر ضروريا فالكافر إذن ملجأ إلى فعل الكفر فإذا كلف بالإيمان كان ذلك
تكليف ما لا يطاق
وسادسها
أن الله تعالى أمر بمعرفته وذلك تكليف ما لا يطاق لأن الأمر إما أن
يتوجه إلى العبد حال كونه عارفا بالله تعالى أولا في هذه الحالة
فإن كان الأول كان العارف مأمورا بتحصيل المعرفة فيكون ذلك أمرا
بتحصيل الحاصل وهو محال
وإن كان الثاني فحال كونه غير عارف بالله تعالى استحال أن يكون
عارفا بأمر الله تعالى فحال كونه بحيث يستحيل عليه أن يعرف أمر الله
189

تعالى لما توجه عليه الأمر كان كذلك تكليفا بما لا يطاق
وسابعها
أنا أمرنا بالترك والأمر بالترك أمر بما لا قدرة كنا عليه لأنا إذا تركنا الفعل
فلا معنى لهذا الترك إلا أنه بقى معدوما كما كان والعدم المستمر لا قدرة
لنا عليه
وبيانه من وجهين
الأول
أن العدم نفى محض والقدرة مؤثرة فالجمع بينهما متناقض
وثانيهما
أن العدم لما كان مستمرا لا يمكن التأثير فيه لأن التأثير في الباقي
محال
فإن قلت الترك عندي أمر وجودي وهو فعل الضد
قلت الإلزام هاهنا قائم لأنا الواحد منا قد يؤمر بترك الشئ
الذي لا يعرف للى النبي ضدا فلو أمرنا في ذلك الوقت بفعل ضده لكنا قد أمرنا
بفعل شئ لا نعرف ماهيته فيكون ذلك أيضا قولا بتكليف مالا يطاق
فثبت بهذه الوجوه السبعة وقوع تكليف مالا يطاق ولا شك أن ذلك
يقدح في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه في مصالح العباد
190

الدليل الرابع
أن تخصيص خلق العالم بالوقت الذي خلق فيه دون ما قبله
وما بعده يستحيل أن يكون معللا بغرض لأن قبل حدوث العالم لا وقت
ولا زمان بل ليس إلا الله تعالى والعدم الصرف ويستحيل أن يحصل
في العدم الصرف وقت يكون منشأ المصالح ووقت أخر يكون منشأ
المفاسد
الدليل الخامس
أن تقدير السماوات والكواكب المعينة وتقدير البحار والأرضين
بمقاديرها المعينة لا يجوز أن يكون رعاية لغرض الخلق فإنا نعلم أنه لو
ازداد في خلق الفلك الأعظم مقدار جزءا لا يتجزأ فإنه لا يتغير
بذلك ألبتة شئ من مصالح المكلفين ولا من مفاسدهم
الدليل السادس
أنه تعالى خلق الكافر الفقير بحيث يكون في الدنيا من أول عمره إلى
آخر عمره في المحنة وفي الآخرة يكون في أشد العذاب أبدا الآبدين ودهر
الداهرين وأنه تعالى كان عالما من الأزل إلى الأبد أنه إذا خلقه
وكلفه بالإيمان فإنه لا يستفيد من الخلق والتكليف إلا زيادة المحنة والبلاء
191

فكيف يقال إنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للمكلف
الدليل السابع
أنه تعالى خلق الخلق وركب فيهم الشهوة والغضب حتى أن بعضهم
يقتل بعضا وبعضهم يضجر ببعض ولقد كان تعالى قادرا على أن يخلقنا
في الجنة إبتداء ويغنينا بالمشتهيات الحسنة عن القبيحة
فإن قلت إنه تعالى إنما فعل ذلك ليعطيه العوض في الآخرة
وليكون لطفا لمكلف آخر
قلت أما العوض فلو أعطاه ابتداء كان أولى
وأما اللطف فأي عاقل يرضى أن يقال إنما حسن إيلام هذا الحيوان
ليكون لطفا بذلك الحيوان
الدليل الثامن
دلت الوجوه المذكورة في أول هذا القسم على أنه يستحيل أن يكون
شئ من أفعاله وأحكامه معللا بالمصالح فظهر بهذه الوجوه انه ليس
الغالب في أفعال الله تعالى رعاية مصالح الخلق
وإذا كان كذلك لم يغلب على الظن أن أحكامه معللة بمصالح الخلق
فإنا إذا رأينا شخصا يكون أغلب أفعاله رعاية المصالح ثم رأيناه حكم
بحكم غلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة
أما إذا رأينا شخصا يكون أغلب أفعاله عدم الالتفات إلى المصالح
192

ثم رأيناه حكم بحكم فإنه لا يغلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على
مصلحة ألبتة هذا في حق الإنسان الذي يكون محتاجا إلى رعاية
المصلحة
أما الإله سبحانه وتعالى لما كان منزها عن المصالح والمفاسد بالكلية
ثم رأينا أن الغالب في أفعاله ما لا يكون مصلحة للخلق كيف يغلب على
الظن كون أفعاله وأحكامه معللة بالمصالح
سلمنا أن أحكامه تعالى معللة بالمصالح وأن هذا الفعل مصلحة
من هذا الوجه فلم قلت إن هذا القدر يقتضى ظن كون ذلك الفعل معللا
بهذه المصلحة
أما الوجه الأول فالاعتماد فيه على أن الاستصحاب يفيد الظن
وأما الوجه الثاني فالاعتماد فيه على أن الدوران يفيد الظن والكلام في
هذين الموضعين سيأتي إن شاء الله تعالى
ثم نقول على الوجه الثاني خاصة لم قلت لما حصل الظن
في المثال المذكور وجب حصوله في حق الله تعالى
قوله الدوران يفيد الظن
قلنا لكن بشرط أن لا يظهر وصف آخر في الأصل وهاهنا قد وجد
بيانه من وجهين
الأول
أنا إنما حكمنا بذلك في حق الملك لعلمنا بأن طبعه يميل إلى جلب
193

المصالح ودفع المفاسد وذلك في حق الله تعالى مفقود
الثاني
أن المعتبر ليس دفع عموم الحاجة بل دفع الحاجة
المخصوصة فمن عرف عادة الملك وأنه يراعي عادة هذا النوع أو ذاك
لا جرم يحصل له ظن أن غرض الملك من هذا الفعل هذا المعنى أو ذاك
وأما عادات الله تعالى في رعاية أجناس المصالح وأنواعها
فمختلفة ولذلك قد يكون الشئ قبيحا في عقولنا وإن كان حسنا عند
الله تعالى وقد يكون بالعكس ولهذا المعنى انقطع الآن بقبح جميع
الشرائع الواردة في زمان موسى وعيسى عليهما السلام وبحسن شريعتنا وإن
كان التفاوت غير معلوم لنا الآن
وإذا كان كذلك ظهر الفرق بين الصورتين
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم لكنه معارض بأمور
أحدها
أن أفعال الله تعالى وأحكامه لو كانت لدفع حاجة العبد لكانت
الحاجات بأسرها مدفوعة واللازم باطل فالملزوم مثله
بيان الملازمة أن الحاجات المختلفة مشتركة في أصل كونها
حاجات ومتباينة بخصوصياتها وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فما به يمتاز
194

كل واحد من أنواع الحاجة عن الآخر منها لا يكون حاجة
وإذا كان كذلك كان التعليل بكونه حاجة يوجب سقوط تلك الزوائد عن
العلية وارتباط الحكم بمسمى الحاجة الذي هو القدر المشترك بين كل
أنواعه فإذا كان ذلك المسمى علة لشرع ما يصلح أن يكون دافعا له لزم
من هذا كون جميع الحاجات مدفوعة ولما لم يكن كذلك علمنا أن التعليل
بالحاجة غير جائز
وثانيها
أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح يفضى إلى مخالفة الأصل
وذلك لأن العبادات التي كانت مشروعة في زمان موسى وعيسى عليهما
السلام كانت واجبة وحسنة في تلك الأزمنة وصارت قبيحة في هذا الزمان
فلابد وأن يكون ذلك لأ حصل شرط في ذلك الزمان لم يحصل الآن أو
وجد الآن مانع ما كان موجودا في ذلك الزمان لكن توقف
المقتضي على وجود الشرط أو تخلف حكمه لأجل المانع خلاف الأصل
وثالثها
أن الحكم إما أن يكون معللا بنفس الحكمة أو بالوصف المشتمل على
الحكمة
والأول باطل
لأن الحكمة غير مضبوطة فلا يجوز ربط الأحكام بها
195

والثاني باطل
لأن الوصف إنما يكون علة للحكم لاشتماله على تلك الحكمة فيعود
الأمر إلى كون الحكمة علة لعليه الوصف فيعود المحذور المذكور
والجواب
قد بينا أن أحكام الله تعالى مشروعة لأجل المصالح
فأما الوجوه العقلية التي ذكرتموها فهي لو صحت لقدحت وإن في التكليف
والكلام في القياس نفيا وإثباتا فرع على القول بالتكليف فكانت تلك
الوجوه غير مسموعة في هذا المقام
وهذا هو الجواب المعتمد الكافي في هذا المقام عن كل ما
ذكرتموه
وأما الفرقان اللذان ذكرتموهما بيبن الشاهد والغائب فذلك إنما يقدح
في قول من يقول يجب عقلا تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح
أما من يقول إن ذلك غير واجب ولكنه تعالى فعله على هذا الوجه
تفضلا وإحسانا فذلك الفرق لا يقدح في قوله
وأما المعارضات الثلاث الأخيرة فهي منقوضة بكون أفعالنا معللة
بالدواعي والأغراض مع أن جميع ما ذكروه قائم فيها
196

الفصل الرابع
في المؤثر
وهو أن يكون الوصف مؤثرا في جنس الحكم في الأصول دون وصف
آخر فيكون أولى بأن يكون علة من الوصف الذي لا يؤثر في جنس ذلك
الحكم ولا في عينه وذلك كالبلوغ الذي يؤثر في رفع الحجر عن المال
فيؤثر في رفع الحجر عن النكاح دون الثيابة لأنها لا تؤثر في جنس هذا
الحكم وهو رفع الحجر
وكقولهم إذا قدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب في الميراث
فينبغي أن يقدم عليه في ولاية النكاح
فإن قلت لم قلت لما أثرت الأخوة من الأب والأم في التقديم
199

في الإرث أثرت في التقديم في النكاح
قلت ذكروا أنه يتبين ذلك بالمناسبة وبأن يقال لا فارق بين
الأصل والفرع إلا كذا وهو ملغى
وعند هذا يظهر أن هذه الطريقة لا تمشى إلا بعد الرجوع إلى طريق
المناسبة وطريق السبر
200

الفصل الخامس
في الشبه
والنظر في ماهيته
ثم في إثباته
أما الماهية فقد ذكروا في تعريفها وجهين
الأول
ما قاله القاضي أبو بكر رحمه الله وهو أنه قال إن الوصف إما
أن يكون مناسبا للحكم بذاته
وإما أن لا يناسبه بذاته لكنه يكون مستلزما لما يناسبه بذاته
وإما أن لا يناسبه بذاته ولا يستلزم ما يناسبه بذاته
فالأول هو الوصف المناسب
والثاني هو الشبه
201

والثالث هو الطرد
الثاني
الوصف الذي لا يناسب الحكم إما أن يكون قد عرف بالنص تأثير جنسه
القريب في الجنس القريب لذلك الحكم
وأما أن لا يكون كذلك
فالأول هو الشبه لأنه من حيث هو غير مناسب يظن أنه غير معتبر
في حق ذلك الحكم
ومن حيث علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم مع
أن سائر الأوصاف ليس كذلك يكون ظن إسناد الحكم إليه أقوى من
ظن إسناده إلى غيره
واعلم أن الشافعي رضي الله عنه سمى هذا القياس قياس غلبة
الأشباه
وهو أن يكون الفرع واقعا بين أصلين فإذا كانت مشابهته لإحدى
الصورتين أقوى من مشابهته للأخرى ألحق لا محالة بالأقوى
فأما الذي يقع بين الاشتباه فالمحكى كما عن الشافعي رضي الله عنه أنه
كان يعتبر الشبه في الحكم كمشابهة هو العبد المقتول للحر ولسائر المملوكات
202

وعن ابن علية أنه كان يعتبر الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية
في الصلاة إلى الجلسة الأولى في عدم الوجوب
والحق أنه متى حصلت المشابهة فيما يظن أنه علة الحكم أو مستلزم
لما هو علة له صح القياس سواء كان ذلك في الصورة أو في الأحكام
النظر الثاني
في أنه حجة
قال القاضي أبو بكر ليس بحجة
لنا
أنه يفيد ظن العلية فوجب العمل به
بيان الأول
أنه لما ظن كونه مستلزما للعلية كان الاشتراك فيه يفيد ظن الاشتراك في
العلة
وعلى التفسير الثاني
أنه لما ثبت أن الحكم لابد له من علة وأن العلة إما هذا الوصف
وإما غيره ثم رأينا أن جنس هذا الوصف أثر في جنس ذلك الحكم ولم
يوجد هذا المعنى في سائر الأوصاف فلا شك أن ميل القلب إلى إسناد
الحكم إلى هذا الوصف أقوى من ميله إلى إسناده إلى غير ذلك
203

الوصف وإذا ثبت أنه يفيد الظن وجب أن يكون حجة لما بينا أن
العمل بالظن واجب
واحتج القاضي بوجهين
الأول
الوصف الذي سميتموه شبها إن كان مناسبا فهو معتبر بالاتفاق
وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق
الثاني
أن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم
أنهم تمسكوا بالشبه
والجواب عن الأول
لا نسلم أن الوصف إذا لم يكن مناسبا كان مردودا بالاتفاق بل ما
لا يكون مناسبا إن كان مستلزما للمناسب أو عرف بالنص تأثير جنسه
القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو عندنا غير مردود
وهذا أول المسألة
204

وعن الثاني
أنا نعول في إثبات هذا النوع من القياس على عموم قوله تعالى
فاعتبروا أو على ما ذكرنا أنه يجب العمل بالظن والله أعلم
205

الفصل السادس
في الدوران
ومعناه أن يثبت الحكم عند ثبوت وصف وينتفى عند انتفائه وذلك يقع
في وجهين
الأول
أن يقع ذلك في صورة واحدة فأن العصير لما لم يكن مسكرا في أول
الأمر لم يكن حراما فلما حدث وصف الإسكار فيه حدثت الحرمة
فلما صار خلا وزالت المسكرية زالت الحرمة أيضا
الثاني
أن يوجد ذلك في صورتين
وعندنا أنه يفيد ظن العلية
وقال قوم من المعتزلة إنه يفيد يقين العلية
وقال آخرون إنه لا يفيد يقين العلية ولاظنها
207

لنا وجهان
الأول أن هذا الحكم لا بد له من علة والعلة إما هذا الوصف أو غيره والأول
هو المطلوب
والثاني
لا يخلو إما أن يكون ذلك الغير كان موجودا قبل حدوث هذا الحكم
أو ما كان موجودا قبله
فإن كان موجودا قبله وما كان هذا الحكم موجودا لزم تخلف الحكم
عن العلة وهو خلاف الأصل
وإن لم يكن موجودا فالأصل في الشئ بقاؤه على ما كان فيحصل
ظن أنه بقي كما كان غير علة وإذا حصل ظن
أن غيره ليس بعلة حصل ظن كون هذا الوصف علة لا محالة
فإن قلت ذلك الحكم كما دار مع حدوث ذلك الوصف وجودا وعدما
فكذلك دار مع تعين ذلك الوصف ومع حدوث حصول ذلك الوصف في
ذلك المحل فيجب أن يكون تعينه وحدوثه في ذلك المحل معتبرا في
العلية وذلك يمنع من التعدية
208

قلت تعين الشئ معناه أنه ليس غيره وهذا أمر عدمي إذ لو كان
وجوديا لكان ذلك الوجود مساويا لسائر التعينات القائمة بسائر الذوات في
كونه تعينا ويمتاز عنها بخصوصيته فيلزم أن يكون للتعيين تعين آخر
إلى غير نهاية وهو محال
وأما حصول الوصف في ذلك المحل فيستحيل أن يكون أمرا
وجوديا وإلا لكان ذلك وصفا لذلك الوصف فكونه وصفا للوصف زائد
عليه فيلزم التسلسل
وإذا ثبت أن التعين أمر عدمي والحصول في المحل المعين أمر
عدمي استحال كونه علة ولا جزء علة
أما أنه لا يكون علة فلأنا قولنا في الشئ المعين إنه علة نقيض
لقولنا إنه ليس بعلة وقولنا إنه ليس بعلة يصح وصف المعدوم به في
الجملة ووصف المعدوم لا يكون موجودا فقولنا ليس بعلة أمر عدمي
وقولنا علة مناقض له ومناقض العدم ثبوت فمفهوم قولنا علة أمر ثبوتي
فلو وصفنا العدم به لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفى
محض وذلك محال
وأما أنه لا يجوز أن يكون جزء علة فلأنا لو فرضنا حصول سائر الأجزاء
بدون هذا الجزء الواحد فإما أن تحصل العلية أو لا تحصل فإن
209

حصلت العلية كان سائر الأجزاء دون هذا الجزء تمام العلة فلا
يكون هذا الجزء جزء العلة
وإن لم تحصل العلية عند عدم هذا الجزء وحصلت عند حصوله
كانت العلية إنما حدثت لأجل هذا الجزء فجزء العلة علة تامة لعلية العلة
وقد عرفت أن العدم لا يكون علة فوجب أن لا يكون العدم جزءا من العلة
وهو المطلوب
الوجه الثاني أن الدوران يفيد ظن العلية
وهو أن بعض الدورانات يفيد ظن العلية فوجب أن يكون كل دوران
كذلك مفيدا لهذا الظن
بيان الأول
أن من دعى بأسم فغضب ثم تكرر الغصب مع تكرر الدعاء بذلك
الاسم حصل هناك ظن أنه إنما غضب لأنه دعى بذلك الاسم وذلك
الظن إنما حصل من ذلك الدوران لأن الناس إذا قيل لهم لم اعتقدتم ذلك
قالوا لأجل أنا رأينا الغضب مع الدعاء بذلك الاسم مرة بعد أخرى
فيعللون وسلم الظن بالدوران
بيان الثاني
قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل هو التسوية
210

ولن تحصل التسوية بين الدورانات إلا بعد اشتراكها في إفادة الظن
واحتج المنكرون بأمرين
الأول
أن بعض الدورانات لا يفيد ظن العلية فوجب أن لا يفيد شئ منها ظن
العلية
بيان الأول من وجوه
أحدها
أن العلة والمعلول قد يكونان متلازمين نفيا وإثباتا والدوران مشترك بين
الجانبين والعلة غير مشتركة بين الجانبين لأن المعلول لا يكون علة لعلته
وثانيها
أن الفصل لابد أن يكون مساويا للنوع والنوع إذا أوجب حكما
فالدوران كما حصل مع العلة التي هي النوع حصل مع الفصل الذي هو
جزء العلة مع أن جزء العلة ليس بعلة
وثالثها
أن العلة قد يكون اقتضاؤها للمعلول موقوفا على شرط فالدوران حاصل
211

مع شرط العلة مع أنه ليس بعلة
ورابعها
أن العلة قد يكون لها معلولان إما معا عند من يجوز ذلك أو على
الترتيب فالدوران حاصل في علة العلة ومعلول العلة مع أنه لا علية هناك
ألبتة
وخامسها
أن الجوهر والعرض متلازمان نفيا وإثباتا وذات الله تعالى وصفاته
كذلك وكل واحدة من صفاته مع سائر الصفات كذلك ولا علية هناك
وسادسها
أن المضافين متلازمان معا نفيا وإثباتا كالأبوة والبنوة والمولى
والعبد ويمتنع كون أحدهما على للآخر لأن العلة متقدمة على المعلول
والمضافان معا ولا شئ من المع متقدم
وسابعها
أن المكان والمتمكن والحركة والزمان لا ينفك واحد منها عن الآخر
مع عدم العلية
وثامنها
أن الجهات الست لا ينفك بعضها عن بعض مع عدم العلية
212

وتاسعها
أن علم الله تعالى دائر مع كل معلوم وجودا وعدما فإنه لو كان
المعلوم جوهرا لعلمه جوهرا ولو لم يكن المعلوم جوهرا فإن الله تعالى لا
يعلمه جوهرا فالعلم دائر مع المعلوم وجودا وعدما مع أنه يستحيل أن
يكون أحدهما علة للآخر
أما أنه لا يكون العلم علة للمعلوم فلأن شرط كونه علما أن يتعلق
بالشئ على ما هو به فما لم يكن المعلوم في نفسه واقعا على ذلك الوجه
استحال تعلق العلم به على ذلك الوجه
إذن تعلق العلم به على ذلك الوجه مشروط بوقوعه على ذلك
الوجه فلو كان وقوعه على ذلك الوجه متوقفا على تعلق العلم به لزم
الدور
واما أنه يستحيل أن يكون المعلوم علة للعلم فلأن علم الله تعالى صفة
أزلية واجبة الوجود وما كان كذلك يستحيل أن يكون معلول علة
فثبت أنه وجد الدوران هاهنا بدون العلية
ثم إن علم الله تعالى متعلق بما لا نهاية له من المعلومات
فهاهنا دورانات عنه لا نهاية لها بدون العلية
وعاشرها
أن الأعراض عند أهل السنة لا تبقى فهذه الألوان والأشكال تحدث
حالا بعد حال فحين فنى ذلك اللون وذلك الشكل عن ذلك الجسم فنيت
الألوان والأشكال وسائر الأعراض عن جميع الأجسام وحين حدث فيه لون
213

وشكل حدث فيه سائر الأعراض في جميع الأجسام فقد حصلت
هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية
وحادي عشرها
أن الفلك إذا تحرك تحرك بجميع أجزاءه فحركة كل واحدة من
أجزاءه إنما حدثت عند حركة جميع أجزاءه وحين كانت تلك الحركة
معدومة عن ذلك الجزء كانت حركات سائر الأجزاء معدومة فقد حصلت هذه
الدورانات الكثيرة بدون العلية
وثاني عشرها
أن جميع الحيوانات تتنفس ولا شك أن كل واحد منها إما أن يتنفس
مع كون الآخر متنفسا أو عقيبه بلحظة قليلة فقد وجدت هذه الدورانات بدون
العلية
وثالث عشرها
أن الحكم كما دار مع الوصف وجودا وعدما فقد دار أيضا مع تعين
الوصف وخصوص المحل وخصوص وقوعه الزمان المعين
والمكان المعين وشئ من ذلك لا يصلح للعلية لما ذكرتم أنها أمور
عدمية والعدم غير صالح للعلية
ورابع عشرها
أن الحد دائر مع المحدود وجودا وعدما والرائحة الفائحة في الخمر
دائرة مع الحرمة وجودا وعدما مع أنه لا علية هناك
214

وأعلم أن لو أردنا استقصاء القول في الدورانات المنفكة عن العلية
لطال الكلام ولكن فيما ذكرنا كفاية
وإنما قلنا إن بعض الدورانات لما انفكت عن العلية وجب أن لا يحصل
ظن العلية في شئ منها لأنه إذا حصل دوران ما منفكا عن العلية فلو قدرنا
أن دورانا آخر يستلزم العلية لكان كونه مستلزما للعلية إما أن يتوقف على
انضمام شئ آخر إليه أو لا يتوقف
فإن توقف كان المستلزم للعلية هو المجموع الحاصل من الدوران
ومن ذلك الشئ لا الدوران وحده وكلامنا الآن في الدوران
وحده
وإن لم يتوقف مع أن مسمى الدوران حاصل في الموضعين جميعا
لزم ترجح أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وهو محال
هذا تمام تقرير هذا الدليل
الوجه الثاني
وهو الذي عول عليه المتقدمون في القدح قالوا الاطراد وحده ليس
طريقا إلى علية الوصف بالاتفاق
وأما الانعكاس فأنه غير معتبر في العلل الشرعية وإذا كان كل
واحد منهما لا يدل على العلية كان مجموعهما أيضا كذلك
215

والجواب عن الأول
أن ذلك إنما يقدح في قول من يقول الدوران وحده يوجب ظن
العلية ونحن لا نقول به بل ندعى أن الدوران يفيد ظن العلية بشرط أن
لا يقوم عليه دليل يقدح في كونه علة وإذا لخصنا الدعوى على هذا الوجه
سقط ما ذكرتموه من الاستدلال
وعن الثاني لم قلت أن كل واحد منهما لما لم يفد ظن العلية وجب في المجموع
أن يكون كذلك فإنا نعلم أن حال المجموع قد يكون مخالفا حال كل
واحد من أجزائه
216

الفصل السابع
في السبر والتقسيم
التقسيم إما أن يكون منحصرا بين النفي والإثبات
أو لا يكون
فالأول هو أن يقال الحكم إما أن يكون معللا
أو لا يكون معللا
فإن كان معللا فإما أن يكون معللا بالوصف الفلاني أو بغيره
وبطل أن لا يكون معللا أو يكون معللا بغير ذلك الوصف فتعين أن يكون
معللا بذلك الوصف
وهذا الطريق عليه التعويل في معرفة العلل العقلية
وقد يوجد ذلك في الشرعيات كما يقال أجمعت الأمة على أن حرمة
الربا في البر معللة وأجمعوا على أن العلة إما المال أو القوت أو الكيل
أو الطعم وبطل التعليل بالثلاثة الأولة فتعين الرابع
217

وكما يقال أجمعت الأمة على أن ولاية الإجبار معللة إما بالصغر
وإما بالبكارة
والأول باطل وإلا لثبتت الولاية في الثيب الصغيرة لكنها لا تثبت
لقوله عليه الصلاة والسلام الثيب أحق بنفسها من وليها فتعين التعليل
بالبكارة
وأما التقسيم المنتشر فكما إذا لم ندع الإجماع بل نقتصر على أن
نقول حرمة الربا في البر إما أن تكون معللة بالطعم أو الكيل أو القوت أو
المال والكل باطل إلا الطعم فيتعين التعليل به
فإن قيل لا نسلم أن حرمة الربا معللة فإن الأحكام منها مالا يعلل
بدليل أن علية العلة غير معللة وإلا لزم التسلسل
وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يقال هذا من جملة مالا يعلل
سلمنا كونه معللا فما الدليل على الحصر
فإن
قلت لو وجد وصف آخر لعرفه الفقيه البحاث قلت لعله عرفه لكنه ستره
وأيضا فعدم الوجدان لا يد على عدم الوجود
سلمنا الحصر لكن لا نسلم فساد الأقسام
سلمنا فساد المفردات لكن لم لا يجوز أن يقال مجموع وصفين أو
218

ثلاثة منها علة واحدة
سلمنا فساد سائر الأقسام مفردا ومركبا لكن لم لا يجوز أن ينقسم
هذا القسم الثاني إلى قسميه فتكون العلة أحد قسميه فقط
والجواب
لا نزاع في أن التقسيم المنتشر لا يفيد اليقين لكنا ندعي أنه يفيد
الظن
أما قوله لم لا يجوز أن لا يكون هذا الحكم معللا
قلت لما سبق في باب المناسبة أن الدلائل العقلية والسمعية دلت
على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح فكان هذا الاحتمال
مرجوحا
قوله ما الدليل على الحصر
قلنا الجواب عنه من وجهين
الأول
أن المناظر تلو الناظر فلو أجتهد الناظر وبحث عن الأوصاف ولم
يطلع إلا على القدر المذكور ووقف على فساد كلها إلا على الواحد فلا
شك أن حكم قلبه بربط ذلك الحكم بذلك الوصف أقوى من ربطه بغير ذلك
الوصف وإذا حصل الظن وجب العمل به
وإذا ثبت ذلك في حق
219

المجتهد وجب أن يكون الأمر كذلك في حق المناظر لأنه لا معنى للمناظرة إلا إظهار مأخذ الحكم
الثاني
لو سلمنا أنه لا بد من الدليل على الحصر فنقول لا شك أن جميع
الأوصاف كانت معدومة وكانت بحيث يصدق عليها أنها لا توجب هذا
الحكم والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فهذا القدر يفيد ظن عدم سائر
الأوصاف فيحصل ظن الحصر ومطلوبنا هاهنا هذا القدر
قوله لا نسلم فساد سائر الأقسام
قلنا يمكن إفسادها بجميع المفسدات من النقض وعدم التأثير
وأنواع الايماءات إن بلى لا يمكن إفسادها هاهنا بعدم المناسبة لأنه حينئذ
يحتاج إلى أن يبين خلو ما تدعيه علة عن هذا المفسد وذلك لا يتم إلا ببيان
مناسبته ولو بين ذلك لاستغني عن طريقة السبر
قوله لم لا يجوز أن يكون المجموع هو العلة
قلنا لانعقاد الإجماع على ثبوت الحكم حيث لم يوجد المجموع
قوله لم لا يجوز أن تكون العلة طعما مخصوصا
قلنا لأن كل من اعتبر الطعم لم يعتبر طعما مخصوصا فكان القول
به خرقا للإجماع
220

الفصل الثامن
في الطرد
والمراد منه الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما
للمناسب إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة
لمحل النزاع فهذا هو المراد من الاطراد والجريان
وهذا قول كثير من قدماء فقهائنا
ومنهم من بالغ فقال مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة
واحدة حصل ظن العلية
احتجوا على التفسير الأول بوجهين
الأول
أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب فإذا
رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة بمحل النزاع مقارنا للحكم ثم
رأينا الوصف حاصلا في الفرع وجب أن يستدل به على ثبوت الحكم
إلحاقا لتلك الصورة الواحدة بسائر الصور
221

الثاني
أنا إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير غلب على ظننا كون
القاضي في دار الأمير وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن
مقارنتهما في هذه الصورة المعينة
احتج المخالف بأمرين
أحدهما
أن الاطراد عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه
الحكم وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع فإذا أثبتم
حصول الحكم في الفرع بكون ذلك الوصف علة وبينتم عليته بكونه
مطردا لزم الدور وهو باطل
وثانيهما
أن الحد مع الحدود والجوهر مع العرض وذات الله تعالى مع
صفاته حصلت المقارنة فيها مع عدم العلية
الجواب عن الأول
أنا لا نستدل بالمصاحبة في كل الصور على العلية حتى يلزم الدو
ر بل نستدل بالمصاحبة في كل صورة غير الفرع على العلية وحينئذ لا يلزم
الدور
222

وعن الثاني
أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور منفكا عن العلية وهذا
لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا كما أن الغيم الرطب دليل المطر
ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا
وأيضا
المناسبة والدوران والتأثير والايماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية ولم
يكن ذلك قدحا في كونها دليلا على العلية ظاهرا فكذا هاهنا
وأما التفسير الثاني
وهو أضعف التفسيرين فقد احتجوا عليه بأنا إذا علمنا أن الحكم لابد
له من علة وعلمنا حصول هذا الوصف وقدرنا خلو ذهننا عن سائر الأوصاف
فإن علمنا بأنه لا بد للحكم من علة مع علمنا بوجود هذا الوصف يقتضيان
اعتقاد كون هذا الحكم معللا بذلك الوصف إذا لو لم يقتض ذلك لكان
ذلك إما لأجل أنه لا يسند ذلك الحكم إلى شئ أو لأجل أنه يسنده إلى شئ
أخر
والأول محال
لأن اعتقاد أنه لابد من علة متناقض لعدم الاسناد
والثاني محال
لأن اسناد الذهن ذلك الحكم إلى غير ذلك الوصف مشروط
223

بشعور الذهن بغير ذلك الوصف وتحقق ذلك حال خلو الذهن عن الشعور
بغير ذلك الوصف محال
فثبت بهذا أن مجرد ذينك العلمين يقتضيان ظن العلية بلى عند
الشعور بوصف آخر يزول ذلك الظن ولكن الشعور بالغير كالمعارض لما
يقتضى ذلك الظن ونفى المعارض ليس على المستدل
حجة المنكرين من وجهين
الأول
أن تجويزه يفتح باب الهذيان كقولهم في إزالة النجاسة مائع لا تبنى
القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن
وقال بعضهم في مسألة اللمس طويل مشقوق فلا تنتقض
الطهارة بلمسة إلا كالبوق
الثاني
أن تعين الوصف المعين للعلة مع كونه مساويا لسائر الأوصاف قول
في الدين لمجرد التشهي فيكون باطلا لقوله تعالى فخلف من بعدهم
خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات
والجواب عن الأول
أن ذلك الكلام يدل على جهل قائله بصورة المسألة لأنا نقول مجرد
المقارنة يفيد ظن العلية ولكن بشرط أن لا يخطر بالبال وصف آخر هو
224

أولى بالرعاية منه ولكن هذا الشرط ساقط عن المعلل لأن نفى
المعارض ليس من وظيفته وفي هذين المثالين إنما يبطل ذلك لأن العلم
الضروري حاصل بوجود وصف أخر هو أولى بالاعتبار من الوصف المذكور
لأنا متى علمنا كون الدهن لزجا غير مزيل للنجاسة علمنا أن هذا الوصف أولى
بالاعتبار من كونه بحيث لا تبنى القنطرة على جنسه
فإن قلت فهل يكفي في القدح في مثل هذا التعليل خطور
وصف آخر بالبال
قلنا لا لأن ذلك الوصف الآخر إما أن يكون متعديا إلى الفرع
أو لا يكون
فإن كان متعديا إلى الفرع فلم يضرنا لأن غرضنا من العلة
المعرف وقيام معرف آخر لهذا الحكم لا يمنع من كون ما ذكرته معرفا له
وإن لم يكن متعديا إلى الفرع كان التعليل بالوصف الذي ذكرته أولى
لأنا أمرنا بالقياس في قوله تعالى فاعتبروا والأمر بالقياس أمر بما
225

هو من ضروراته ومن ضرورات القياس تعليل حكم الأصل بعلة متعدية فكان التعليل بما ذكرناه أولى من التعليل بما ذكره الخصم اللهم
إلا أن يذكر الخصم وصفا آخر ويعديه إلى فرع غير الفرع الذي وقع
الخلاف فيه فهناك يجب على المعلل الاشتغال بالترجيح
وعن الثاني
أنا بينا أن مجرد المقارنة دليل العلية ظاهرا فلم يكن القول به مجرد
التشهي
226

الفصل التاسع
في تنقيح المناط
قال الغزالي رحمه الله إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد
يكون باستخراج الجامع
229

وقد يكون بإلغاء الفارق وهو أن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا
وكذا وذلك لا تأثير له في الحكم ألبتة فيلزم اشتراك الفرع والأصل
في ذلك الحكم
وهذا هو الذي يسميه أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بالاستدلال
ويفرقون بينه وبين القياس
وأعلم أن هذا لا يمكن ايراده على وجهين
الأول
أن يقال هذا الحكم لابد له من مؤثر وذلك المؤثر إما القدر المشترك
بين الأصل والفرع أو القدر الذي أمتاز به الأصل عن الفرع
والثاني باطل لأن الفارق ملغى
فثبت أن المشترك هو العلة فيلزم من حصوله في الفرع ثبوت
الحكم
فهذا طريق جيد إلا أنه استخراج العلة بطريق السبر لأنا قلنا حكم
الأصل لابد له من علة وهى إما جهة الاشتراك أو جهة الامتياز
والثاني باطل فتعين الأول
230

وجهة الاشتراك حاصلة في الفرع فعلة الحكم حاصلة في الفرع
فيلزم تحقق الحكم في الفرع
فهذا هو طريقة السبر والتقسيم من غير تفاوت أصلا
وثانيهما
أن يقال هذا الحكم لابد له من محل ولا يمكن أن يكون ما به الامتياز
جزءا من محل هذا الحكم فالمحل هو القدر المشترك فإذا كان ذلك
المحل حاصلا في الفرع وجب ثبوت الحكم فيه مثل أن يقال ما به
امتاز الإفطار بالأكل عن الإفطار بالوقاع ملغى فمحل الحكم هو
المفطر فأينما حصل المفطر وجب حصول الحكم
وهذا الوجه ضعيف لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم في المفطر ثبوته في
كل مفطر فإنه إذا صدق أن هذا الرجل طويل صدق أن الرجل طويل
لأن الرجل جزء من هذا الرجل ومتى حصل المركب حصل المفرد ثم
لم يلزم من صدق قولنا الرجل طويل قولنا كل رجل طويل فكذا ها
هنا
231

الفصل العاشر
في الطرق الفاسدة
وهو طريقان
الأول
قال بعضهم الدليل على أن هذا الوصف علة عجز الخصم افساده
وهو ضعيف لأنه ليس جعل العجر عن الإفساد دليلا على الصحة أولى من
جعل العجز عن التصحيح دليلا على الفساد بل هذا أولى لأنا لو أثبتنا كل
مالا نعرف دليلا على فساده لزمنا إثبات مالا نهاية له وهو باطل
أما لو لم نثبت كل مالا نعرف دليلا على صحته لزمنا أن لا نثبت مالا
نهاية له وهو حق
الثاني
قال بعضهم هذا الذي ذكرته عبور من حكم الأصل إلى حكم
الفرع فوجب دخوله تحت قوله تعالى فاعتبروا
233

وربما قيل هذا تسوية بين الأصل والفرع فيكون فيكون مأمورا به لقوله
تعالى إن الله يأمر بالعدل
وهذا ضعيف أيضا لأن أقصى ما في الباب عموم اللفظ في هاتين
الآيتين وتخصيص العموم بالإجماع جائز
وأجمع السلف على أنه لا بد من دلالة ما على تعين الوصف للعلية
وللمخالف أن ينكر هذا الإجماع
234

الباب الثاني
في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة وهي خمسة
النقض
وعدم التأثير
والقلب
والقول بالموجب
والفرق
235

الفصل الأول
في النقض
وفيه مسائل
المسألة الأولى
وجود الوصف مع عدم الحكم يقدح في كونه علة
وزعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص
في عليته
وزعم آخرون أن علية الوصف وإن ثبتت بالمناسبة أو الدوران
لكن إذا كان تخلف الحكم عنه لمانع لم يقدح في عليته
أما إذا كان التخلف لا لمانع فالأكثرون على أنه يقدح في العلية
ومنهم من قال لا يقدح أيضا
237

لنا وجوه
الأول
أن اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا
يعتبر
فإن اعتبر لم يكن علة إلا عند انتفاء المعارض وهذا يقتضي أن
الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس تمام العلة بل بعضها
وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل كان الحكم
حاصلا وذلك يقدح في كون المعارض معارضا
فإن قيل لم لا يجوز أن يتوقف الاقتضاء على انتفاء المعارض
قوله هذا يدل على أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ما كان تمام
العلة بل جزءا منها
قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لتأثير العلة
في الحكم
تقريره العلة إما أن تفسر بالداعي أو المؤثر أو المعرف
أما المؤثر فإما أن يكون قادرا
أو موجبا
أما القادر فيجوز أن يتوقف صحة تأثيره على انتفاء المعارض
لأمور
238

الأول
أن الفعل في الأزل محال لأن الفعل ماله أول والأزل مالا أول له
والجمع بينهما محال
فإذن تتوقف صحة تأثير قدرة الله تعالى في الفعل على نفى الأزل
فالقيد العدمي لا يجوز أن يكون جزءا من المؤثرات الحقيقية فهو إذن
شرط صحة التأثير
وثانيها
أن إشالة القادر الثقيل إلى فوق يقتضى الصعود إلى فوق بشرط
أن لا يجره قادر أخر إلى أسفل فالقيد العدمي لا يكون جزءا من المؤثر
الحقيقي
وثالثها
أن القادر لا يصح منه خلق السواد في المحل إلا بشرط عدم
البياض فيه والعدم لا يكوم جزءا من المؤثر الحقيقي
أما الموجب فهو أن الثقل يوجب الهوى بشرط عدم المانع
وسلامة الحاسة توجب الإدراك بشرط عدم الحجاب
وأما الداعي فمن أعطى إنسانا لفقره فجاء أخر فقال لا أعطيه لأنه
يهودي فعدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى في إعطاء
239

الأول لأنه حين أعطى الفقير الأول لم تكن اليهودية خاطرة بباله فضلا عن
عدمها ومالا يكون خاطرا بالبال لم يكن جزءا من الداعي فعلمنا أن
عدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى
أما المعرف فالعام المخصوص دليل على الحكم وعدم المخصص
ليس جزءا من المعرف وإلا كان يجب ذكره عند الاستدلال
فثبت بما ذكرنا أن عدم المعارض وإن كان معتبرا لكنه ليس جزءا من
العلة
سلمنا كونه جزءا ولكن يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى بحث
لفظي لا فائدة فيه لأن من جوز تخصيص العلة ومن لم يجوزه اتفقوا
على أن اقتضاء العلة للحكم لابد فيه من ذلك العدم وأنتم أيضا
سلمتم أن المعلل لو ذكر ذلك القيد في ابتداء التعليل لاستقامت العلة
فلم يبق الخلاف إلا في أن ذلك القيد العدمي هل يسمى جزء
العلة أم لا
240

ومعلوم أن ذلك مما لا فائدة فيه
والجواب
قد بينا أنه لو توقف اقتضاء العلة للحكم على انتفاء المعارض لم
يكن الحاصل عند وجود المعارض تمام العلة بل جزءها
قوله لو كان كذلك لزم جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود
قلنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي امتنع جعل القيد العدمي
جزءا من علة الوجود
فحينئذ لا نقول إن عدم المعارض جزء العلة بل نقول إنه يدل
على أنه حدث أمر وجودي انضم إلى ما كان موجودا قبل
وحينئذ صار ذلك المجموع علة تامة فلم يلزم من قولنا العلة
التامة إنما وجدت حال عدم المعارض أن يجعل عدم المعارض جزءا
من العلة
وإن فسرنا العلة بالمعرف لم يمتنع جعل القيد العدمي جزءا من
العلة بهذا التفسير كما أنا نجعل انتفاء المعارض جزءا من دلالة المعجز
على الصدق
قوله لو كان عدم المخصص جزءا من المعرف لوجب على المتمسك
بالعام المخصوص ذكر عدم المخصصات
241

قلنا لا شك أنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد ظن عدم
المخصصات فأما أنه لم يجب الذكر في الابتداء فذلك يتعلق بأوضاع
أهل الجدل والتمسك بها في إثبات الحقائق غير جائز
قوله إنه يصير الخلاف لفظيا
قلنا لا نسلم فإنا إذا فسرنا العلة بالداعي أو الموجب لم
نجعل العدم جزءا من العلة بل كاشفا عن حدوث جزء العلة ومن يجوز
التخصيص لا يقول بذلك
وإن فسرناها بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى أيضا لأن
من أثبت العلة بالمناسبة بحث عن ذلك القيد العدمي فإن وجد فيه
مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها
ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد
العدمي
الحجة الثانية في المسألة
أنه لا بد وأن بين كون المقتضى مقتضيا اقتضاء حقيقيا بالفعل
وبين كون المانع مانعا منعا حقيقيا بالفعل منافاة بالذات وشرط طريان
أحد الضدين انتقاء الضد الأول فلا يجوز أن يكون انتفاء الضد
الأول لطريان اللاحق وإلا وقع الدور فلما كان شرط كون المانع مانعا
خروج المقتضى عن أن يكون مقتضيا بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن
كونه مقتضيا بالفعل لأجل تحقق المانع بالفعل وإلا وقع الدرو
242

فيه فإذن المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضيا لا بالمانع بل بذاته وقد
انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك فإنه لا يصلح للعلية
الحجة الثالثة
الوصف وجد في الأصل مع وجود الحكم وفي صورة التخصيص
مع عدم الحكم ووجوده مع الحكم لا يقتضى القطع بكونه علة لذلك
الحكم لكن وجوده مع عدم الحكم في صورة التخصيص يقتضى
القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم
ثم أن الوصف الحاصل في الفرع كما أنه مثل الوصف الحاصل في
الأصل فهو أيضا مثل الوصف الحاصل في صورة التخصيص فليس
إلحاقه بأحدهما أولى ما إلحاقه بالآخر ولما تعارضا لم يجز إلحاقه بواحد
منهما فلم يجز الحكم عليه بالعلية
قال المجوزون الأصل في الوصف المناسب مع الاقتران أن يكون علة
فعند ذلك إذا رأينا الحكم متخلفا عنه في صورة وعثرنا صلى في تلك الصورة
على أمر يصلح أن يكون مانعا وجب إحالة ذلك التخلف على ذلك
المانع عملا بذلك الأصل
أجاب المانعون
بأن الأصل ترتب الحكم على المقتضي فحيث لم يترتب الحكم عليه
وجب الحكم بأنه ليس بعلة عملا بهذا الأصل فصار هذا الأصل
243

معارضا للأصل الذي ذكرتموه وإذا تعارضا وجب الرجوع إلى ما كان عليه
أولا وهو عدم العلية
قال المجوزون الترجيح معنا من وجهين
الأول
أنا لو اعتقدنا أن هذا الوصف غير مؤثر يلزمنا ترك العمل بالمناسبة مع
الاقتران من كل وجه
ولو اعتقدنا أنه مؤثر عملنا بما ذكرتم من الدليل من بعض الوجوه
لأن ذلك الوصف يفيد الأثر في بعض الصور ولا شك أن ترك العمل
بالدليل من وجه أولى من ترك العمل بالدليل من كل الوجوه
الثاني
هو أن الوصف الذي ندعى كونه مانعا في صورة التخصيص
يناسب انتفاء الحكم والانتفاء حاصل معه فيغلب على الظن أن المؤثر في
ذلك الانتفاء هو ذلك المانع وإذا ثبت استناد ذلك الانتفاء إلى
المانع امتنع استناده إلى عدم المقتضى
إذا ثبت هذا فنقول معكم أصل واحد وهو أن الأصل ترتب الحكم
على العلة ومعنا أصلان
أحدهما
أن المناسبة مع الاقتران دليل على كون الوصف في الأصل
244

علة لثبوت الحكم فيه
الثاني
أن المناسبة مع الاقتران في صورة التخصيص دليل على كون
المانع علة لانتفاء الحكم فيها ومعلوم أن العمل بالأصلين أولى من العمل
بالأصل الواحد
أجاب المانعون عن الأول
بأنا لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية بل عندنا المناسبة
مع الاقتران والاطراد دليل العلية فإن حذفتم وقال الاطراد عن درجة الاعتبار فهو
أول المسألة
وعن الثاني
أنا لا نسلم أن انتفاء الحكم في محل التخصيص يمكن تعليله
بالمانع لأن ذلك الانتفاء كان حاصلا قبل حصول ذلك المانع والحاصل
لا يمكن تحصيله ثانيا
أجاب المثبتون عن هذا من وجهين
الأول
أن العلل الشرعية معرفات فلا يمتنع كون المتأخر علة للمتقدم
بهذا التفسير
الثاني
أن المانع علة لنفى الحكم لا لانتفائه والنفي عبارة عن منعه من
الدخول في الوجود بعد كونه بعرضية الدخول
245

أجاب المانعون عن الأول
بأنه إذا كان المراد من العلة المعرف لم يلزم من تعليل ذلك الانتفاء
بعدم المقتضى تعذر تعليله أيضا بالمانع لجواز أن يدل على المدلول
الواحد دليلان أحدهما وجودي والآخر عدمي
وعن الثاني
أن تأثير المانع ليس في إعدام شئ لأن ذلك يستدعى سابقة الوجود
وهاهنا الحكم لم يوجد ألبتة فيمتنع إعدامه فعلم أن المستند إلى المانع
ليس إلا ذلك العدم السابق
احتج من جوز تخصيص العلة بوجوه
أحدها
أن دلالة العلة على ثبوت الحكم في محالها كدلالة العام على جميع
الأفراد وكما أن تخصيص العام لا يوجب خروج العام عن كونه حجة فكذا
تخصيص العلة لا يقدح في كونها علة
وثانيها
أن اقتضاء الوصف لذلك الحكم في هذا المحل إما أن يتوقف على
اقتضاء الحكم في ذلك المحل الآخر أو لا يتوقف
والأول محال لأنه ليس توقف أحدهما على الآخر أولى من العكس
246

فيلزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر فيلزم الدور
وإن لم يفتقر واحد منهما إلى الآخر فحينئذ لا يلزم من انتفاء
أحدهما انتفاء الآخر فلا يلزم من انتفاء كون الوصف مقتضيا لذلك الحكم
في هذا المحل انتفاء كونه مقتضيا لذلك الحكم في المحل الآخر
وثالثها
العقلاء اجمعوا على جواز ترك العمل بمقتضى الدليل في بعض
الصور لقيام دليل أقوى من الأول فيه مع أنه يجوز التمسك بالأول عند
عدم المعارض فإن الإنسان يلبس الثوب لدفع الحر والبرد وإذا اتفق
لبعض الناس أن قال له ظالم إن لبست هذا الثوب قتلتك فإنه يترك
العمل بمقتضى الدليل الأول في هذه الصورة وإن كان يعمل بمقتضاه في
غيرها من الصور
وإذا ثبت حسن ذلك في العادة وجب حسنه في الشرع لقوله عليه
الصلاة والسلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
ورابعها
أن العلة الشرعية أمارة فوجودها في بعض الصور دون حكمها
لا يخرجها عن كونها أمارة لأنه ليس من شرط كون الشئ أمارة على الحكم
أن يستلزمه دائما فإن الغيم الرطب في الشتاء أمارة المطر ثم عدم المطر
في بعض الأوقات لا يقدح في كونه أمارة
247

وخامسها
أن الوصف المناسب بعد التخصيص يقتضى ظن ثبوت
الحكم فوجب العمل به
بيان الأول
أنا إذا عرفنا من الإنسان كونه مشرفا مكرما مطلوب البقاء غلب على ظننا
حرمة قتله وإن لم يخطر ببالنا في ذلك الوقت ماهية الجناية فضلا عن
عدمها فعلمنا أن مجرد النظر إلى الإنسانية مع مالها من الشرف يفيد ظن
حرمة القتل وأن عدم كونه جانيا ليس جزءا من المقتضى لهذا الظن
وإذا كان كذلك فأينما حصلت الإنسانية حصل ظن حرمة القتل
وإذا ثبت أنه يفيد ظن الحكم وجب العمل به لأن العمل بالظن واجب
وسادسها
أن بعض الصحابة قال بتخصيص العلة روى عن ابن مسعود أنه كان
يقول هذا حكم معدول به عن القياس وعن ابن عباس مثله ولم ينقل
عن أحد أنه أنكر ذلك عليهما وذلك يفيد انعقاد الإجماع
وسابعها
أنه وجد في الأصل المناسبة مع الاقتران في ثبوت الحكم
248

وفي صورة التخصيص المناسبة مع الاقتران في انتفاء الحكم فلو
أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضى كنا قد
تركنا العمل بذينك الأصلين لكنا عملنا بأصل واحد وهو أن الأصل أن
يكون عدم الحكم لعدم المقتضى
أما لو أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى حصول المانع
كنا عملنا بذينك الأصلين وخالفنا أصلا واحدا وهو أن يكون عدم
الحكم لعدم المقتضي ومعلوم أن مخالفة الأصل الواحد لإبقاء أصلين
أولى من العكس فاحالة انتفاء الحكم على المانع أولى من إحالته على
عدم المقتضى
والجواب عن الأول أن نقول
ما الجامع
ثم الفرق أن دلالة العام المخصوص على الحكم وإن كانت موقوفة
على عدم المخصص إلا أن عدم المخصص إذا ضم إلى العام صار
المجموع دليلا على الحكم
أما العلة فإن دلالتها موقوفة على عدم المخصص وذلك العدم لا
يجوز ضمه إلى العلة على جميع التقديرات
أما أولا فلأن منهم من منع كون القيد العدمي جزءا من علة الحكم
الوجودي
249

والذين جوزوه قالوا إنما يجوز ذلك بشرط أن يكون مناسبا فلا جرم وجب
ذكره في أول الأمر ليعرف أنه هل يصلح لأن يكون جزءا لعلة الحكم
أم لا
وعن الثاني
أنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي كان شرط كونه علة
للحكم في محل أن يكون علة لذلك الحكم في جميع المحال لأن
العلة إنما توجب الحكم لماهيتها ومقتضى الماهية أمر واحد فإن كانت تلك
الماهية موجبة لذلك الحكم في موضع وجب كونها كذلك في كل
المواضع وإلا فلا
وعن الثالث
أنه لا نزاع فيما قالوه لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل
وبين صورة التخصيص قيد على العلة وهم ما أقاموا الدلالة على فساد
ذلك
وعن الرابع
أن النظر في الأمارة إنما يفيد ظن الحكم إذا غلب على الظن انتفاء
ما يلازمه انتفاء الحكم فإن من رأى الغيم الرطب في الشتاء بدون المطر
في بعض الأوقات ثم رآه مرة أخرى فإنه لا يغلب على ظنه نزول المطر إلا إذا غلب على ظنه انتفاء الأمر الذي لازمه عدم نزول المطر في
250

المرة الأولى وذلك لا يقدح في قولنا
وعن الخامس
أنه مسلم لكنا ندعى أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وصورة
التخصيص قيد على العلة
وعن السادس
هب أنهم قالوا ذلك لكنهم لم يقولوا التمسك بذلك القياس
جائز أم لا
وعن السابع
ما ذكرناه في الحجة الثالثة من جانبنا
المسألة الثانية
في كيفية دفع النقض
هذا لا يمكن إلا بأحد أمرين
أحدها
المنع من حصول تمام تلك الأوصاف في صورة النقض
والثاني
المنع من عدم الحكم
أما القسم الأول ففيه أبحاث
أحدها
المستدل إذا منع من وجود الوصف في صورة النقض لم يمكن
251

المعترض من إقامة الدليل على وجوده فيها لأنه انتقال إلى مسألة أخرى
بلى لو قال المعترض ما دللت به على وجود المعنى في الفرع يقتضى وجوده
في صورة النقض فهذا لو صح لكان نقضا على دليل وجود العلة في
الفرع لا على كون ذلك الوصف علة للحكم فيكون انتقالا من السؤال
الذي بدأ به إلى غيره
وثانيها
أن المنع من وجود الوصف في صورة النقض إنما يمكن لو وجد قيد
في العلة يدفع النقض وذلك القيد إما أن يكون له معنى واحد أو معنيان فإن
كان معناه واحدا فإما أن يكون وقوع الاحتراز به ظاهرا أو لا يكون
مثال الظاهر قولنا طهارة عن حدث فتفتقر إلى النية كالتيمم فنقضه
بإزالة النجاسة غير وارد لأنا نقول عن حدث وإزالة النجاسة لا تكون عن
حدث
مثال الخفي قولنا في السلم الحال عقد معاوضة فلا يكون الأجل من
شرطه كالبيع ولا ينتقض بالكتابة لأنها ليست معاوضة لكنها عقد إرفاق
أما إذا كان اللفظ له معنيان فإما أن يكون مقولا عليهما بالتواطؤ أو
بالاشتراك
مثال التواطؤ قولنا عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة
فإن قيل ينتقض بالحج فإنه يتكرر على زيد وعمرو
قلنا التكرار مقول على التكرار في
الزمان وعلى التكرار في الأشخاص والأظهر هو الأول وهو مرادنا هاهنا
252

مثال الاشتراك قولنا جمع الطلاق في القرء الواحد لا يكون
مبتدعا كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين
فإن قيل ينتقض بما لو طلقها في الحيض
قلنا أردنا بالقرء الطهر
وثالثها
أنه هل يجوز دفع النقض بقيد طردي
أما الطاردون فقد جوزوه
وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزه
والحق أن لا يجوز لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكن مؤثرا لم يكن
مجموع العلة مؤثرا ولأنه لو جاز تقيده بالقيد الطردي لجاز تقييده بنعيق
الغراب وصرير الباب وبالشخص أنه والوقت ولا نزاع في فساده
القسم الثاني في منع عدم الحكم
وفيه أبحاث
أحدها
أن انتفاء الحكم إن كان مذهبا للمعلل والمعترض معا كان
متوجها
وإن كان مذهبا للمعلل فقط كان متوجها أيضا لأن المعلل إذا لم
يف بمقتضى علته في الإطراد فلأن لا يجب على غيره كان أولى
وإن كان مذهبا للمعترض فقط لم يتوجه لأن خلاف المعترض في
253

تلك المسألة كخلافه في المسألة الأولى وهو محجوج بذلك الدليل في
المسألتين معا
وثانيها
أن المنع من عدم الحكم قد يكون ظاهرا وهو معلوم
وقد يكون خفيا وهو على وجهين
الأول
كقولنا في السلم الحال عقد معاوضة فلا يكون الأجل من شرطه
فإن قيل ينتقض بالإجارة
قلنا الأجل ليس شرطا في الإجارة بل تقدير المعقود عليه
الثاني
كقولنا عقد معاوضة فلا ينفسخ بالموت كالبيع
فإن قيل ينتقض بالنكاح
قلنا هناك لا ينتقض بالموت لكن انتهى العقد
وثالثها
أن الحكم إما أن يكون مجملا أو مفصلا وكل واحد منهما إما في
طرف الثبوت أو في طرف الانتفاء
فهذه الأقسام أربعة
254

الأول
الإثبات المجمل والمراد أنا ندعي بثبوته ولو في صورة ما فهذا لا
ينتقض بالنفي المفصل وهو النفي عن صورة معينة لأن الثبوت المجمل
يكفي فيه ثبوته في صورة واحدة والثبوت في صورة واحدة لا يناقضه النفي
في صورة معينة
الثاني
النفي المجمل ومعناه أنه لا يثبت ألبتة ولا في صورة واحدة فهذا
ينتقض بالثبوت المفصل لأن ادعاء النفي عن كل الصور يناقضه في صورة
معينة
الثالث
الإثبات المفصل لا يناقضه النفي المفصل لأن الثبوت في صورة معينة
لا يناقضه النفي في صورة أخرى لكن يناقضه النفي المجمل لأن الثبوت في
صورة واحدة يناقضه النفي المجمل
الرابع
النفي المفصل لا يناقضه الإثبات
المفصل لما تقدم ولا الإثبات المجمل لأنه في قوة الإثبات المفصل بل يناقضه الإثبات العام
ورابعها
أن الحكم الذي لا يكون ثابتا تحقيقيا لكنه يكون ثابتا تقديرا هل يكون
ذلك دافعا للنقض
مثاله إذا قال ملك الأم علة لرق الولد
255

قيل ينتقض ذلك بولد المغرور بحرية الجارية فإنه ينعقد ولده حرا
فهاهنا انتفى ملك الولد تحقيقا ولكنه موجودا تقديرا بدليل أن الغرم يجب
على المغرور ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع وإلا لما وجبت
قيمة
الولد
المسألة الثانية وهي مشتملة على فرعين من فروع تخصيص العلة
الفرع الأول
إذا تخلف الحكم عن العلة لا لمانع فهل يقدح ذلك في صحة
العلة أم لا
قال قوم لا يقدح لأنا لم ندع في مثل هذه العلة كونها مستلزمة
للحكم قطعا بل ادعينا كونها مستلزمة للحكم ظاهرا فتخلف الحكم
عنها في بعض الصور لا يقدح في كونها مستلزمة له غالبا فوجب أن لا
يكون مفسدا للعلة
والحق أنه مفسد للعلة لأن ذات العلة إما أن تكون مستلزمة
للحكم أو لا تكون
فإن كانت مستلزمة له وجب كونها كذلك أبدا ولو كانت كذلك أبدا
256

لما زال هذا الحكم إلا لمزيل وذلك المزيل هو المانع فحيث زالت تلك
المستلزمية لا لمزيل علمنا أن تلك الذات غير موصوفة بتلك المستلزمية
فوجب أن لا يكون علة
الفرع الثاني
المتمسك بالعلة المخصوصة هل يجب عليه في ابتداء الدليل ذكر نفي
المانع أم لا
أما الذين قالوا لا يجب ذكره في الابتداء قالوا لأن المستدل
مطالب بذكر ما يكون موجبا للحكم ومؤثرا فيه والموجب لذلك الحكم
هو ذلك الوصف
وأما نفي المانع فليس له دخل في التأثير
وإذا كان كذلك لم يجب ذكره في الابتداء
والذين قالوا يجب احتجوا بأن المستدل مطالب بذكر ما يكون
معرفا للحكم والمعرف للحكم ليس تلك الأمارة فقط بل تلك الأمارة
مع عدم المخصص
وإذا كان كذلك وجب ذكرهما معا فمقتضى هذا الدليل بيان نفي
كل الموانع ابتداءا إلا أن إيجاب ذلك يفضي إلى العسر والمشقة
257

أما إيجاب نفي الموانع المتفق عليها فلا يفضي إلى ذلك فوجب
أن يجب ذكره
المسألة الرابعة
في أن النقض إذا كان واردا على سبيل الاستثناء هل يقدح في العلة
أم لا
قال قوم إنه لا يقدح سواء كانت العلة معلومة أو مظنونة
أما المعلومة فلأنا نعلم أن من لم يقدم على جناية لا يؤاخذ
بضمانها ثم هذا لا ينتقض بضرب الدية على العاقلة
وأما المظنونة فكالتعليل وهو بالطعم فإنه لا ينتقض بمسألة العرايا فإنها
وردت على سبيل الاستثناء رخصة
واعلم أنا إنما نعلم ورود النقض على سبيل الاستثناء إذا كان لازما
على جميع المذاهب مثل مسألة العرايا فإنها لازمة على جميع العلل
كالقوت والكيل والمال والطعم
وإنما قلنا أن الوارد مورد الاستثناء لا يقدح في العلة لأن الإجماع لما
انعقد على أن حرمة الربا لا تعلل إلا بأحد هذه الأمور الأربعة ومسألة
العرايا ورادة عليها أربعتها صلى الله عليه وسلم فكانت هذه المسألة واردة على علة قطعنا
بصحتها والنقض لا يقدح في مثل هذه العلة
258

وأما أنه هل يجب الاحتراز عنه في اللفظ فقد اختلفوا فيه
والأولى الاحتراز منه
المسألة الخامسة
الكسر نقض يرد على المعنى دون اللفظ كما إذا قال في وجوب صلاة
الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قياسا على صلاة الأمن فيظن
المعترض أنه لا تأثير لكون العبادة صلاة في هذا الحكم وأن المؤثر هو
وجوب القضاء فينقضه بصوم الحائض فإنه يجب قضاؤه ولا يجب أداؤه
وأعلم أن المعترض ما لم يبين إلغاء القيد الذي به وقع الاحتراز عن
النقض لا يمكنه إيراد النقض على الباقي فيكون ذلك في الحقيقة قدحا
في تمام العلة لعدم التأثير في جزءها بالنقض
259

الفصل الثاني
في عدم التأثير
وهو عبارة عما إذا كان الحكم يبقى بدون ما فرض علة له
وأما العكس فهو أن يحصل مثل هذا الحكم في صورة أخرى
لعلة تخالف العلة الأولى
وإذا عرق هذا فنقول
الدليل على أن عدم التأثير يقدح في كون الوصف علة هو أن
الحكم لما بقى بعد عدمه وكان موجودا قبل وجوده علمنا استغناءه عنه
والمستغني عن الشئ لا يكون معللا به
واعلم أن هذا حق إذا فسرنا العلة بالمؤثر
أما إذا فسرناها بالمعرف فلا لجواز أن كون الحادث معرفا
لوجود ما كان موجودا قبله ويبقى موجودا بعده كالعالم مع الباري تعالى
وأما أن العكس غير واجب في العلل فهو قولنا وقول المعتزلة
وأما أصحابنا فإنهم أوجبوا العكس في العلل العقلية وما أوجبوا
في العلل الشرعية
261

والدليل على عدم وجوبه في العلل العقلية أن المختلفين يشتركان
في كون كل واحد منهما مخالفا للأخر وتلك المخالفة من لوازم
ماهيتهما واشتراك اللوازم مع اختلاف الملزومات يدل على قولنا
والذي يدل على جواز ذلك في العلل الشرعية أنا سنقيم الدلالة على
جواز تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة في الشرعيات وذلك
يوجب القطع بأن العكس غير معتبر
262

الفصل الثالث
في القلب
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في حقيقته
وحقيقته أن يعلق على العلة المذكورة في قياس نقيض الحكم
المذكور فيه ويرد إلى ذلك الأصل بعينه
وإنما شرطنا إتحاد الأصل لأنه لو رد إلى أصل آخر لكان ذلك
الأصل الآخر إما أن يكون حاصلا في الأصل الأول
أو لا يكون
فإن كان الأول كان رده إليه أولى لأن المستدل لا يمكنه منع وجود تلك
العلة فيه ويمكنه منع وجودها في أصل آخر
وإن كان الثاني كان أصل القياس الآخر نقضا على تلك العلة لأن ذلك
الوصف حاصل فيه مع عدم ذلك الحكم
المسألة الثانية
منهم من أنكر إمكانه لوجهين
263

الأول
أن الحكم الذي علقه القالب على العلة لابد وأن يكون مخالفا للحكم
الذي علقه القائس عليها وإلا لما كان إلا تكريرا في اللفظ
ثم إن ذينك الحكمين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا يمكن
فإن كان الأول لم يقدح ذلك في العلة لأنه لا امتناع في أن يكون للعلة
الواحدة حكمان غير متنافيين
والثاني محال لأنا بينا أن الأصل الذي يرد إليه القالب والقائس لابد
وأن يكون واحدا والصورة الواحدة يستحيل أن يحصل فيها حكمان
متنافيان
الثاني
أن العلة المستنبطة لابد وأن تكون مناسبة للحكم والوصف الواحد
يستحيل أن يكون مناسبا لحكمين متنافيين
والجواب عن الأول
أن هاهنا احتمالا آخر وهو أن لا يكون الحكمان متنافيين فلا
جرم يصح حصولهما في الأصل لكن دل دليل منفصل على امتناع
اجتماعهما في الفرع فإذا بين القالب أن الوصف الحاصل في الفرع
264

ليس بأن يقتضى أحد الحكمين أولى من الآخر كان الأصل شاهدا لهما
بالاعتبار لما بينا أنه لا منافاة بينهما في الأصل
ويقتضي امتناع حصول الحكم في الفرع لما أنه ليس حصول
أحدهما أولى من الآخر وقد قامت الدلالة على امتناع حصولهما في الفرع
وهذا الكلام كما أنه جواب عن شبهة المنكر فهو دليل ابتداءا
على إمكان القلب
وعن الثاني
أن المناسبة قد لا تكون حقيقية بل إقناعية فبالقلب ينكشف أنها ما
كانت حقيقية
المسألة الثالثة
القلب معارضة إلا في أمرين
أحدهما
أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وفي سائر المعارضات يمكن
الثاني
أنه لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل لأن أصله وفرعه هو
أصل المعلل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات
وأما فيما وراء هذين الوجهين فلا فرق بينه وبين المعارضة
فعلى هذا للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل وأن يقدح في
265

تأثير العلة فيه بالنقض وعدم التأثير وأن يقول بموجبه إذا أمكنه بيان أن
اللازم من ذلك القلب لا ينافي حكمه وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القالب
مناقضا للحكم لأن قلب القالب إذا فسد بالقلب الثاني سلم أصل
القياس من القلب
المسألة الرابعة
القالب إما أن يذكر القلب لإثبات مذهبه أو لإبطال مذهب خصمه
والأول مثل أن يقول الحنفي في أن الصوم شرط في صحة الاعتكاف
لبث مخصوص فلا يكون بدون الصوم قربة كالوقوف بعرفة فيقول
القالب لبث مخصوص فلا يعتبر الصوم في كونه قربة كالوقوف بعرفة
فالحكمان المذكوران في الأصل والقلب لا يتنافيان في الأصل
ويتنافيان في الفرع
وأما الثاني
فإما أن يدل القالب على فساد مذهبه صريحا أو ضمنا وهو أن يدل
على فساد لازم من لوازم مذهب الخصم
مثال الأول قول الحنفي في المسح ركن من أركان الوضوء فلا
يكتفى فيه بأقل ما يقع عليه الاسم كالوجه فيقول القالب فوجب أن
لا يتقدر الفرض فيه بالربع كالوجه وهذان الحكمان لا يتناقضان في
ذاتيهما لأنهما حصلا في الوجه ولكن يتنافيان في الفرع بواسطة
اتفاق الإمامين
266

مثال الثاني قولهم في بيع الغائب عقد معاوضة فيعقد مع الجهل
بالعوض كالنكاح
فيقول القالب فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح ويلزم من فساد خيار
الرؤية فساد البيع وهذان الحكمان غير متنافيين في الأصل لأنه اجتمع
في النكاح الصحة وعدم الخيار لكن لا يمكن اجتماعهما في الفرع
وقال بعضهم هذا النوع من القلب غير مقبول لأن دلالة الوصف
على ثبوت الحكم لا بواسطة أظهر من دلالته على انتفاء الحكم بواسطة
وأعلم أنه يقع في هذا النوع شئ يسمى قلب التسوية مثاله أن
يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه
كالمختار فيقول القالب فوجب أن يستوى حكم إيقاعه وإقراره
كالمختار
وبعضهم قدح فيه بأن قال الحاصل اعتبارهما معا في الثبوت في
الأصل وفي الفرع عند القالب عدم وقوعهما معا فكيف تتحقق
التسوية
267

جوابه
أن عدم الاختلاف بين الحكمين حاصل في الفرع والأصل لكن في
الفرع في جانب العدم وفي الأصل في جانب الثبوت وذلك لا يقدح
في الاستواء في الأصل
268

الفصل الرابع
في القول بالموجب
وحده تسليم ما جعله المستدل موجب العلة مع استبقاء الخلاف
وهو يقع في جانب النفي على وجه
وفي جانب الإثبات على وجه أخر
أما في جانب النفي فإذا كان المطلوب نفى الحكم واللازم من دليل
المعلل كون شئ معين غير موجب لذلك الحكم كما لو قال الشافعي
في المثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في
المتوسل إليه فيقول السائل إن التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب
القصاص فلم لا يمتنع وجوب القصاص بسبب آخر
ثم أن المستدل لو بين بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم
269

تسليم محل النزاع كان منقطعا أيضا لأنه ظهر أنه ما ذكر الدليل بل ذكر
أحد أجزاء الدليل
وأما جانب الثبوت فكما لو كان المطلوب إثبات الحكم في
الفرع واللازم من دليل المعلل ثبوته في صورة ما من الجنس كما لو قال
في وجوب الزكاة في الخيل حيوان تجوز المسابقة عليه فيجب فيه
الزكاة قياسا على الإبل فقال أقول بموجبه إنه تجب فيه زكاة التجارة
والخلاف واقع إذا في زكاة العين ومقتضى دليلك وجوب أصل الزكاة
270

الفصل الخامس
في الفرق
والكلام فيه مبنى على أن تعليل الحكم الواحد بعلتين هل يجوز أم لا
وفيه مسألتان
المسألة الأولى
يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافا لبعضهم
لنا
أن الردة والقتل والزنا كل واحد منها لو انفرد كان مستقلا باقتضاء حل
القتل ثم إنه يصح اجتماعها فعند اجتماعها يكون حل الدم حاصلا بها
جميعا
فإن قيل لا نسلم أن هناك حكما واحدا بل أحكاما كثيرة فإن حل
271

القتل بسبب الردة غير حله بسبب القتل والدليل عليه وجهان
الأول
أن الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة
وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب القتل والزنا
ثم إذا عفا ولى الدم زالت الإباحة الحاصلة بسبب القتل وبقيت الإباحة
الحاصلة بسبب الزنا
الثاني
أن القتل المستحق بسبب القتل يجوز العفو عنه لولى الدم والقتل
المستحق بسبب الردة لا يتمكن الولي من إسقاطه وذلك يدل على تغاير
الحكمين
سلمنا أن الحكم واحد ولكن لا نسلم أنه يمكن حصول هذه الأسباب
الثلاثة دفعة واحدة ولم لا يجوز أن يقال لابد وأن يحصل منها واحد قبل
حصول البواقي
وحينئذ يكون الحكم محالا على السابق
سلمنا إمكان حصولها دفعة واحدة لكن لم لا يجوز أن يقال إنها
بأسرها مشتركة في وصف واحد والعلة هو ذلك المشترك فتكون علة الحكم
شيئا واحدا
سلمنا أنه ليس هناك قدر مشترك لكن لم لا يجوز أن يقال شرط كون كل
واحد منها علة مستقلة انتفاء الغير فإذا وجد الغير زال شرط الاستقلال
بالعلية
فحينئذ لا يكون كل واحد منها علة تامة عند الاجتماع بل يصير كل
272

واحد منها عند الاجتماع جزء العلة والمجموع هو العلة التامة
سلمنا أن ما ذكرته يدل على تعليل الحكم الواحد بعلتين لكن
معنا ما يمنع منه وهو وجوه ثلاثة
الأول
أن جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين يفضى إلى نقض العلة
وذلك باطل على ما مر فما أفضى إليه مثله
بيان الملازمة
أنه إذا كان للحكم الواحد علل كثيرة فإذا وجد منها واحدة حتى حصل
الحكم ثم وجدت العلة الثانية بعد ذلك فهذه الثانية إما أن توجب حكما
يماثل الحكم الأول أو يخالفه أو لا توجب حكما أصلا
والأول يقتضى اجتماع المثلين وهو محال
والثاني والثالث يوجب النقض لأنه وجدت تلك العلة من غير ذلك
الحكم
الثاني
أن العلة الشرعية مؤثرة بجعل الشرع إياها مؤثرة في ذلك الحكم فإذا
اجتمع على المعلول الواحد علتان فإما أن تكون كل واحدة من العلتين مؤثرة
في بعض ذلك الحكم أو في كله
والأول محال
أما أولا فلأن الحكم الواحد لا يتبعض
وأما ثانيا فلأن ذلك إخراج لكل واحدة من العلتين عن أن تكون موجبة
للحكم
273

وأما ثالثا فلأن على هذا التقدير معلول كل واحدة منهما غير معلول
الأخرى
وأما الثاني فباطل أيضا
لأن الحكم لما وقع بإحدى العلتين استحال وقوعه بالأخرى لاستحالة
إيقاع الواقع
الثالث
أن العلة لابد وأن تكون مناسبة للحكم فلو كانت علة لحكمين لكانت
مناسبة لشيئين مختلفين فيلزم كون الشئ الواحد مساويا لمختلفين
والمساوي لمختلفين مختلف فالشئ الواحد يكون مخالفا لنفسه وهو
محال
والجواب
قوله لا نسلم وحدة الحكم قلنا الدليل عليه أن إبطال حياة لشخص الواحد أمر واحد وهذا الأمر
الواحد إما أن يكون ممنوعا عنه من قبل الشرع بوجه ما
أو لا يكون ممنوعا عنه بوجه ما
والأول هو الحرمة والثاني هو الحل
فإذا كانت الحياة واحدة كانت إزالتها أيضا واحدة فكان الإذن في
تلك الإزالة واحدة
فإن قلت الفعل الواحد يجوز أن يكون حراما من وجه حلالا من وجه وإذا
274

كان كذلك جاز أن يتعدد الحل لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد
مباح الدم من حيث إنه مرتد ومن حيث إنه زان ومن حيث إنه قاتل
قلت القول بأن الفعل الواحد حرام من وجه حلال من وجه غير معقول
لأن الحل أن يقول الشارع مكنتك من هذا الفعل ولا تبعه فقال عليك في فعله
أصلا وهذا المعنى إنما يتحقق إذا لم يكن فيه وجه يقتضى المنع
أصلا بلى ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته لأن
الظلم حرام مع أن كونه حادثا وحركة وعرضا لا يقتضى الحرمة إذا ثبت
ذلك فنقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد والعلم بذلك
ضروري
قوله الدليل على التغاير أنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقى الآخر
قلنا لا نسلم أنه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحل معللا
بالردة فالزائل ليس هو نفس الحل بل وصف كونه معللا بالردة
فإن قلت إذا كان الحل باقيا سواء وجدت الردة أو زالت كان ذلك الحل
غنيا في نفسه عن الردة والغنى عن الشئ لا يكون معللا به
قلت لما كانت العلة عندي عبارة عن المعرف زال عنى الإشكال
قوله ولى الدم مستقل بإسقاط أحد الحكمين
قلنا لا نسلم بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب فإذا زال ذلك
السبب زال انتساب ذلك الحكم إلى ذلك السبب فأما أن يزول الحكم
نفسه فهذا ممنوع
275

قوله لا نسلم جواز اجتماع هذه العلل
قلنا هذا مكابرة لأنه لا منافاة بين ذوات هذه الأمور فيصح اجتماعها
ونحن نبني الكلام على تقدير وقوع ذلك الجائز
قوله العلة هي القدر المشترك بين كل هذه الأمور
قلنا هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض من حيث هو حيض
مانع من الوطء وكذا العدة والإحرام والقول بأن العلة هي القدر المشترك
مخالف لهذا الإجماع
وأما ثانيا فلأن الحيض وصف حقيقي والعدة أمر شرعي والأمر
الحقيقي لا يشارك الأمر الشرعي إلا في عموم أنه أمر فلو كان هذا القدر
هو العلة للمنع من الوطء لا تنتقض بالطم والرم
قوله شرط كون كل واحد منها علة مستقلة عدم الآخر
قلنا هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض يمنع من الوطء
شرعا وذلك يقتضى أن تكون علة سواء وجد هذا القيد العدمي أم لا أما
المعارضة الأولى فجوابها أن الحكم الحاصل بالعلة السابقة إنما
يمتنع حصوله بالعلة اللاحقة إذا فسرنا العلة بالمؤثر
أما إذا فسرناها بالمعرف فلم قلت إنه يمتنع
وأما الثانية في مبنية على أن ما لا يكون مؤثرا في الحكم لذاته يجعله
276

الشارع مؤثرا فيه وقد تقدم إبطال هذه القاعدة
وأما الثالثة فلا نسلم أن المناسبة شرط العلية ولو سلمناها فلم لا
يجوز أن يشترك الحكمان في جهة واحدة ثم إن العلة تناسبهما بحسب
ذلك الوجه الواحد
وأعلم أنه يمكن فرض الكلام في صورة يسقط عنها كثير من الأسئلة
وهى ما إذا جمعت لبن زوجة أخيك وأختك وجعلته في حلق المرتضعة
دفعة واحدة فإنها تحرم عليك لأنك خالها وعمها ولا تتوجه في هذه الصورة
أكثر تلك الأسئلة
المسألة الثانية
الحق أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين والدليل عليه
وجهان
الأول
أن الإنسان إذا أعطى فقيرا فقيها أحتمل أن يكون الداعي له إلى الإعطاء
277

كونه فقيرا فقط أو كونه فقيها فقط أو مجموعهما أو لا لواحد منهما
فهذه الاحتمالات الأربعة متنافية لأن قولنا الداعي له إلى الإعطاء هو
الفقر لا غير ينافي أن يكون غير الفقر داعيا أو جزءا من الداعي
وإذا كانت هذه الاحتمالات متنافية فإن بقيت على حد التساوي أمتنع
الحصول ظن حصول كل واحد منها على التعيين فلا يجوز الحكم بكونه
علة
وإن ترجح بعضها فذلك الترجيح يحصل بأمر وراء المناسبة
والاقتران لأن ذلك مشترك بين الأربعة
وحينئذ يكون الراجح هو العلة دون المرجوح
الثاني
أن الصحابة أجمعوا على قبول الفرق لأن عمر لما شاور عبد الرحمن
في قضية المجهضة قال إنك مؤدب ولا أرى عليك شيئا فقال على
278

إن لم يجتهد فقد غشك وإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة
وجه الاستدلال به أن عبد الرحمن شبهه بالتأديب المباح وأن عليا فرق
بينه وبين سائر التأديبات بأن التأديب الذي يكون من جنس التعزيزات لا
تجوز فيه المبالغة المنتهية إلى حد الإتلاف وذلك يدل على إجماعهم على
قبول الفرق
وهو يقدح في جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين والله أعلم
279

الباب الثالث
فيما يظن أنه من مفسدات العلة
مع أنه ليس كذلك
وقبل الخوض في تلك الأشياء نذكر تقسيمات العلة
التقسيم الأول
كل حكم ثبت في محل فعلة ذلك الحكم إما نفس ذلك المحل
أو ما يكون جزءا من ماهيته وداخلا فيه
أو ما يكون خارجا عنه
والخارج إما أن يكون أمرا عقليا
أو شرعيا
أو عرفيا
أو لغويا
والعقلي أما أن يكون صفة حقيقية
أو إضافية
أو سلبية
أو ما يتركب من هذه الأقسام وهى الصفة الحقيقية مع الإضافية أو مع السلبية
281

مثال التعليل بالصفة الحقيقية فقط مطعوم فيكون ربويا
مثال الإضافية قولنا مكيل فيكون ربويا
مثال السلبية قولنا في طلاق المكره لم يرض به فلا يقع
مثال الحقيقية مع الإضافية قولنا بيع صدر من الأهل في المحل
مثال الحقيقية مع السلبية قولنا قتل بغير حق
مثال الحقيقية والإضافية والسلبية معا قولنا قتل عمد عدوان
مثال الوصف الشرعي قولنا في المشاع يجوز بيعه فتجوز هبته
مثال العرفي قولنا في بيع الغائب انه مشتمل على جهالة مجتنبة في
العرف
مثال الاسم قولنا في النبيذ أنه مسمى بالخمر فيحرم كالمعتصر من
العنب
وأعلم أن التعليل بجزء مسمى المحل إن كان بعلة قاصرة وجب أن
يكون بالجزء الذي يمتاز ذلك المحل به عن غيره وأن لا يحصل الحكم
في ذلك المشارك فتصير القاصرة متعدية
282

وإن كان بعلة متعدية وجب التعليل بالجزء الذي يشارك غيره وإلا لم
توجد تلك العلة في غيره فتصير العلة المتعدية قاصرة
التقسيم الثاني
العلة وا لحكم إما أن يكونا ثبوتيين أو عدميين وهذان القسمان لا نزاع في
صحتهما
وإما أن يكون الحكم ثبوتيا والعلة عدمية وفيه نزاع
وإما أن يكون الحكم عدميا والعلة ثبوتية وهذا يسميه الفقهاء تعليلا
بالمانع واختلفوا في أنه هل من شرطه وجود المقتضي
التقسيم الثالث
العلة إما أن تكون فعلا للمكلف كالقتل الموجب للقصاص أو لا
تكون كالبكارة في ولاية الإجبار عندنا
التقسيم الرابع
الوصف المجعول علة أما أن يكون لازما للموصوف ككون البر
مطعوما
283

أو لا يكون فحينئذ يكون متجددا
وذلك المتجدد إما أن يكون ضروريا بحسب العادة وهو مثل انقلاب
العصير خمرا والخمر خلا
أو لا يكون وهو إما أن يكون متعلقا باختيار أهل العرف ككون
البر مكيلا أو باختيار الشخص الواحد كالردة والقتل
التقسيم الخامس
العلة إما أن تكون ذات أوصاف كقولنا قتل عمد عدوان أو لا
تكون كقولنا التفاح مطعوم فيكون ربويا
التقسيم السادس
العلة قد تكون وجه المصلحة ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء وكون
الخمر موقعة للبغضاء
وقد تكون أمارة المصلحة كما إذا جعلنا جهالة أحد البدلين علة في
فساد البيع مع أنا نعلم أن فساد البيع في الحقيقة معلل بما يتبع
الجهالة من تعذر التسليم ألا ترى أن جواز البيع ثابت حيث لا تمنع
الجهالة من صحة التسليم كبيع صبرة من الطعام مشار إليها لصحة
تسليمها وإن كان مجهول القدر
284

التقسيم السابع
الوصف قد يعلم وجوده بالضرورة ككون الخمر مسكرا أو مطربا وذلك
إما أن يعلم بالضرورة كونه من الدين ككون الجماع في نهار رمضان
مفسدا للصوم
وقد لا يكون كذلك وأمثلته ظاهرة
المسألة الأولى
اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم
والحق أن العلة إما أن تكون قاصرة أو متعدية
فإن كان الأول صح التعليل بمحل الحكم سواء كانت العلة منصوصة
أو مستنبطة لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه
برا
أو يعرف كون البر مناسبا لحرمة الربا
فإن قلت لو كان محل الحكم علة للحكم لكان الشئ الواحد فاعلا
وقابلا معا وهو محال لوجهين
الأول
أن المفهوم من كونه قابلا غير المفهوم من كون فاعلا ولذلك صح
تعقل كل واحد منهما مع الذهول عن الآخر فهذان المفهومان إما أن
يكونا داخلين في ذلك الشئ
أو خارجين عنه
أو أحدهما داخلا والآخر خارجا
فإن كان الأول كان ذلك الشئ مركبا في نفسه والجزء الذي هو ملحوق
285

الفاعلية غير الجزء الذي هو ملحوق القابلية فلا يكون الشئ الواحد قابلا
وفاعلا
وإن كان الثاني كان هذان الأمران الخارجان عن تلك الماهية لاحقين
لها وكل لاحق معلول فيعود الأمر في أن المفهوم من كون تلك الماهية
علة لأحد اللاحقين غير المفهوم من كونه علة للاحق لآخر ويكون
الكلام في هذين المفهومين كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال
وإن كان أحدهما داخلا في الماهية والآخر خارجا عنها لزم كون الماهية
مركبة لأن كل ماله جزء فهو مركب ولزم أن يكون إما الفاعلية أو القابلية جزءا
من الماهية وذلك محال لأن الفاعلية والقابلية نسبة بين الماهية وبين غيرها
والنسبة بين الشئ وبين غيره خارجة عن الماهية والخارج عن الشئ
لا يكون داخلا فيه فلا يمكن أن تكون القابلية أو الفاعلية داخلة في الماهية
الثاني
وهو أن نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان ونسبة المؤثر إلى
الأثر نسبة الوجوب فلو كان الشئ الواحد بالنسبة إلى الشئ الواحد
مؤثرا وقابلا لزم كون النسبة الواحدة موصوفة بالوجوب وبالإمكان معا
وهو محال
286

قلت قد بينا في كتبنا العقلية ما في هذين الوجهين من المغالطة
وأما إن كانت العلة متعدية لم يصح أن يكون محل الحكم علة للحكم
لأن العلة المتعدية هي التي توجد في غير مورد النص وخصوصية مورد
النص يستحيل حصولها في غيره لأن الشئ لا يكون نفس غيره
المسألة الثانية
الوصف الحقيقي إذا كان ظاهرا مضبوطا جاز التعليل به
أما الذي لا يكون كذلك مثل الحاجة إلى تحصيل المصلحة ودفع
المفسدة وهى التي يسميها الفقهاء بالحكمة فقد اختلفوا في جواز
التعليل به
والأقرب جوازه
لنا
أنا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى
الحكمة المخصوصة ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة أخرى تولد
لا محالة من ذنبك الظنين ظن حصول الحكم في تلك الصورة والعمل
بالظن واجب على ما تقدم
فإن قيل لا نزاع في أنه لو حصل ظن تعليل الحكم في الأصل
بتلك الحكمة ثم حصل ظن حصول تلك الحكمة في صورة أخرى أنه
287

يلزم حصول مثل حكم الأصل في تلك الصورة الأخرى لكن النزاع
في أن ذينك الظنين هل هما ممكنا الحصول أم لا وأنتم ما دللتم على
جوازه
ونحن نبين امتناعه من وجوه
الأول
أن الحكم إما يعلل بالحاجة المطلقة أو يعلل بالحاجة
المخصوصة
والأول باطل وإلا لكان كل حاجة معتبرة
والثاني أيضا باطل لأن الحاجة أمر باطن فلا يمكن الوقوف على
مقاديرها وامتياز كل واحدة من مراتبها التي لا نهاية لها عن المرتبة
الأخرى وإذا تعذر تعيينه تعذر التعليل بذلك المتعين
الثاني
لو صح تعليل الحكم بالحكمة لما صح تعليله بالوصف وتعليله
بالوصف جائز فتعليله بالحكمة غير جائز
بيان الملازمة
أن شرع الحكم لابد وأن يكون لفائدة عائدة إلى العبد لانعقاد
الإجماع على أن الشرائع مصالح إما وجوبا كما هو قول المعتزلة أو
تفضلا كما هو قولنا
288

وإذا كان كذلك فالمؤثر الحقيقي في الحكم هو الحكمة
أما الوصف فليس بمؤثر ألبتة وإنما جعل مؤثرا لاشتماله على الحكمة
التي هي المؤثرة
إذا ثبت هذا فنقول لو أمكن استناد الحكم إلى الحكمة لما جاز
استناده إلى الوصف لأن كل ما يقدح في استناده إلى الحكمة يقدح في
استناده إلى الوصف لأن القادح في الأصل قادح في الفرع
وقد يوجد ما يقدح في الوصف ولا يكون قادحا في الحكمة لأن
القادح في الفرع قد لا يكون قادحا في الأصل فاستناد الحكم إلى
الوصف مع إمكان استناده إلى الحكمة تكثير لإمكان الغلط من غير حاجة
إليه وإنه لا يجوز ولما رأينا أنه جاز التعليل بالوصف علمنا أنه إنما جاز
لتعذر التعليل بالحكمة
الثالث
لو جاز التعليل بالحكمة لوجب طلب الحكمة والطلب لها غير
واجب فالتعليل بها غير جائز
بيان الملازمة
أن المجتهد مأمور بالقياس عند فقدان النص ولا يمكنه القياس إلا عند
وجدان العلة ولا يمكنه وجدانها إلا بعد الطلب وما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب
فإذن طلب العلة واجب وإذا كانت الحكمة علة كان طلبها واجبا
بيان أن طلب الحكمة غير واجب
أن الحكمة لا تعرف إلا بواسطة معرفة الحاجات والحاجات أمور باطنة
289

لا يمكن معرفة مقاديرها إلا بمشقة شديدة فوجب أن لا تكون هذه المعرفة
واجبة لقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج
الرابع
أن استقراء الشريعة يدل على أن الأحكام معللة بالأوصاف لا
بالحكم لأنا لو فرضنا حصول الأوصاف الجلية كالبيع والنكاح والهبة
عارية عن المصالح لاستندت أي الأحكام إليها
ولو فرضنا حصول المصالح دون هذه الأوصاف لم تثبت بها الأحكام
الملائمة لها وذلك يدل ظاهرا على امتناع التعليل بالحكم
الخامس
الدليل ينفي التمسك بالعلة المظنونة لقوله تعالى إن بعض الظن
إثم وقوله إن الظن لا يغني من الحق شيئا خالفناه في الأوصاف
الجلية لظهورها والحاجة ليست كذلك فتبقى على الأصل
السادس
أن الحكمة تابعة للحكم لأن الزجر تابع لحصول القصاص وعلة
الشئ يستحيل تأخيرها عن الشئ فالحكمة لا تكون علة للحكم
والجواب
قوله ما الدليل على جواز أن يحصل لنا ظن أن الحكم في الأصل
معلل بالحكمة
290

قلنا لا نزاع في أن المناسبة طريق كون الوصف علة والمعنى
بذلك أنا نستدل بكون الوصف مشتملا على المصلحة على كونه علة فلا
يخلو إما أن يكون الدال على عليته اشتماله على مطلق المصلحة أو
اشتماله على مصلحة معينة
والأول باطل وإلا لكان كل وصف مشتمل على مصلحة كيف كانت
علة لذلك الحكم
ولما بطل القسم الأول تعين الثاني فنقول إما أن يمكن الاطلاع على
المصلحة المخصوصة أو لا يمكن
فإن امتنع الاطلاع على المصلحة المخصوصة امتنع الاستدلال بكون
الوصف مشتملا عليها على كونه علة لأن العلم باشتمال الوصف
عليها موقوف على العلم بها وحيث لم يمتنع هذا الاستدلال
علمنا أن الاطلاع على خصوصيتها ممكن
وبهذا الحرف ظهر الجواب عن قوله المصالح أمور باطنة فلا يمكن
الاطلاع عليها
قوله لو جاز التعليل بالحكمة لما جاز التعليل بالوصف
قلنا التعليل بالحكمة وإن كان راجحا على التعليل بالوصف من
الوجه الذي ذكرت فالتعليل بالوصف راجح على التعليل بالحكمة من وجه
آخر وهو سهولة الاطلاع على الوصف وعسر الاطلاع على الحكمة فلما
291

كان كل واحد منهما راجحا من وجه مرجوحا من وجه آخر حصل
الاستواء
قوله لو صح التعليل بالحكمة لوجب طلبها
قلنا نحن وإن اختلفنا في جواز تعليل الحكم لكنا اتفقنا على أن كون
الوصف علة للحكم معلل بالحكمة فإن لم يقتض ذلك وجوب طلب
الحكمة فقد بطل قولك
وإن اقتضى وجوب طلبها فقد بطل قولك أيضا
قوله الاستقراء دل على تعليل الأحكام بالأوصاف لا بالحكمة
قلنا لا نسلم بل التعليل بالحكم حاصل في صور كثيرة مثل
التوسط في إقامة الحد بين المهلك والزاجر وكذا الفرق بين العمل اليسير
والكثير
قوله النافي للقياس قائم ترك العمل به في الوصف لظهوره
قلنا الحكمة علة لعلية الوصف فأولى أن تكون علة للحكم
قوله الحكمة ثمرة الحكم
قلنا في الوجود الخارجي لا في الذهن ولهذا قيل أول الفكر آخر
العمل
نكتة أخرى في المسألة
الحكمة علة لعلية العلة فأولى أن تكون علة للحكم
292

بيانه
أن الوصف لا يكون مؤثرا في الحكم إلا لاشتماله على جلب نفع أو
دفع مضرة فكونه علة معللة بهذه الحكمة فإن لم يكن العلم بتلك
الحكمة المخصوصة استحال التوصل به الجعل الوصف علة
وإن أمكن ذلك وهو مؤثر في الحكم والوصف ليس بمؤثر كان لإسناد
الحكم إلى الحكمة المعلومة التي هي المؤثرة أولى من إسناده
إلى الوصف الذي هو في الحقيقة ليس بمؤثر
293

المسألة الثالثة
المعللون بالحكمة لما قيل لهم أن الحكمة مجهولة القدر فإن حاجة
الإنسان في مبدأ زمان الجوع دون حاجته في مقطع زمان الجوع ولما كان
الغالب فيها التفاوت لم يكن القدر الموجود في الأصل ظاهر الوجود في
الفرع فلم يصح القياس
فمن الناس من أجاب عنه بأنا نعلل بالقدر المشترك بين الصورتين
لأنه حصل في الأصل قدر معين من المصلحة وفي الفرع قدر معين
وكل مقدارين فلابد وأن يكون بينهما اشتراك في قدر معين وذلك القدر
المشترك يناسب التعليل به لكونها مصلحة مطلوبة الوجود
فإذا قيل لهم إنه ينتقض بالحاجة الفلانية فإنها غير معتبرة قالوا نحن
إنما عللنا بالقدر المشترك بين الأصل والفرع ونحن لا نسلم أن ذلك القدر
المشترك حاصل في صورة النقض
واعلم أن هذا الكلام ضعيف وذلك لأنه يحتمل أن لا يكون بين
القدر المشترك الحاصل في الأصل والحاصل في الفرع اشتراك إلا
في مسمى كونه مصلحة والتعليل بهذا المسمى غير ممكن وإلا حصل
294

النقض بجميع المصالح المنفكة عن هذا الحكم
وأما الاشتراك بين القدرين في أمر أخر وراء عموم كونه مصلحة فغير
معلوم ولا مظنون وإذا كان وجوده غير ظاهر لم يكن التعليل به ظاهرا
المسألة الرابعة
يجوز التعليل بالعدم خلافا لبعض الفقهاء
لنا
أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض العدمات والدوران يفيد ظن
العلية والعمل بالظن واجب
احتجوا على أن العدم لا يصلح للعلية بوجوه
أحدها
أن العلية مناقضة للأعلية المحمولة على العدم فاللاعلية عدمية
والعلية ثبوتية فلو حملناها على العدم المحض كان النفي المحض
295

موصوفا بالصفة الوجودية
ولو جوزنا ذلك لما أمكننا أن نستدل بكون الجدار وكثافته وحصوله في
الحيز على كون الموصوف بهذه الصفات موجودا وهو سفسطة
وثانيها
أن العلة لابد وأن تتميز عما ليس بعلة سواء أريد بها المؤثر أو
المعرف أو الداعي والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين
مخصوصا في نفسه بحيث لا يكون تعين هذا حاصلا لذلك ولا تعين ذلك
حاصلا لهذا وهذا غير معقول في العدم الصرف لأنه نفي محض ولأنه
لو جاز وقوع التمييز فيه لجاز أن يقال المؤثر في العالم عدم صرف ليست أقول
ذات معدومة على ما ذهب إليه القائلون بأن المعدوم شئ لأن ذلك
عندهم ثابت بل الإلزام أن نجعل النفي المحض الذي لا يكون ذاتا ولا
عينا ولا أمرا من الأمور مؤثرا في العالم وذلك مما يسد باب إثبات
الصانع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وثالثها
أن العدم إما أن يكون عاريا عن النسبة من كل الوجوه أو لا يكون
فإن كان الأول لم يكن له اختصاص بذات دون ذات وبوقت دون وقت
فلا يجوز جعله علة لحكم معين في وقت معين وفي شخص معين
وإن كان له انتساب بوجه ما كان ذلك الانتساب أمرا ثبوتيا ضرورة كونه
نقيضا للانتساب فيلزم وصف العدم بالوجود وهو محال
296

ورابعها
أن المجتهد إذا بحث عن علة الحكم لم يجب عليه سبر الأوصاف
العدمية فإنها غير متناهية مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يمكن كونه علة
وذلك يدل على أن الوصف العدمي لا يصلح للعلية
وخامسها
قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والعدم نفي محض فلا
يكون من سعيه فوجب أن لا يترتب عليه حكم فإن كل حكم يثبت فإنه
يحصل للإنسان بسببه إما جلب منفعة أو دفع مضرة
فثبت أن الوصف العدمي لا يمكن أن يكون علة
فإن قلت الامتناع عن الفعل عدم مع أنه قد يكون مأمورا به ويكون
منشأ للمصالح ودفع المفاسد
قلت الامتناع عن الفعل عبارة عن أمر يفعله الإنسان فيترتب عليه عدم
ذلك الشئ فثبت أن الامتناع ليس عدما محضا
والجواب عن الأول
ما ذكرتموه من الدلالة على أن العلية صفة ثبوتية معارض بدليل آخر
وهو أنها لو كانت ثبوتية لكانت من عوارض ذات العلة فكانت مفتقرة إلى
تلك الذات وكانت ممكنة وكانت مفتقرة إلى العلة فكانت علية العلة
297

لتلك العلة زائدة عليها ولزم التسلسل
وعن الثاني
نسلم أنه لابد وأن تكون العلة متميزة عما ليس بعلة لكن لا نسلم أن
التميز يستدعى كون المتميز ثبوتيا فإن عدم أحد الضدين عن المحل يصحح
حلول الضد الآخر فيه وعدم ما ليس بضد ليس كذلك
وأيضا
عدم اللازم يقتضى عدم الملزوم وعدم ما ليس بلازم لا يقتضى
ذلك فقد حصل الامتياز في العدمات
وعن الثالث
أن العلة عدم مخصوص
قوله فالخصوصية صفة قائمة بالنفي المحض
قلنا لا نسلم أن الخصوصية أمر ثبوتي فإنها لو كانت أمرا ثبوتيا لكانت
في نفسها أمرا مخصوصا فلزم التسلسل
وعن الرابع
لا نسلم أن المجتهد لا يبحث في السبر والتقسيم عن الأوصاف
العدمية
298

سلمنا ذلك لكن إسقاط ذلك التكليف لتعذره فإن العدمات غير
متناهية
وعن الخامس
أنا نعلم بالضرورة كوننا مكلفين بالامتناع فدل على أن العدم قد يكون
متعينا
قوله الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم
قلنا لو كان الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم لكان الممتنع
عن الفعل فاعلا وذلك محال
المسألة الخامسة
للمانعين من التعليل بالعدم أن يمنعوا من التعليل بالأوصاف الإضافية
محتجين بأنها عدم والعدم لا يكون علة
وإنما قلنا إنها عدم لأن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا وإذا
لم يكن المسمى وجوديا امتنع أن يكون شئ من الإضافات المخصوصة أمرا
وجوديا
وإنما قلنا أن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا لأنه لو كان هذا
المسمى وجوديا لكان أينما حصل هذا المسمى كان وجوديا
فإذا فرضنا في إضافة ما كونها أمرا وجوديا كانت لا محالة صفة لمحل
299

فكان حلولها في ذلك المحل إضافة بينها وبين ذلك المحل فكان
مسمى الإضافة حاصلا في حلول تلك الإضافة في ذلك المحل
وإذا كان ذلك المسمى أمر وجوديا كانت إضافة الإضافة أمرا وجوديا
زائدا على الإضافة إلى غير نهاية فثبت أن مسمى الإضافة يمتنع أن
يكون وجوديا
وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون شئ من الإضافات المخصوصة
وجوديا لأن الإضافة المخصوصة ماهية مركبة من الإضافة ومن
الخصوصية فلو كانت أمرا وجوديا لكان الوجود إما قيد الإضافة أو
قيد الخصوصية
والأول باطل لما تقدم
والثاني أيضا باطل لأن خصوصية الإضافة صفة للإضافة فلو كانت
الخصوصية أمرا ثبوتيا لزم حلول الوجود في النفي المحض وهو محال
فثبت أن سائر الإضافات يمتنع أن يكون موجودا فهو معدوم
والتعليل بالعدم غير جائز على ما تقدم
300

والجواب
لا نسلم أن الإضافات أمور عدمية والتسلسل مدفوع لاحتمال أن تكون
الإضافة إلى محلها لذاتها
وأن سلمنا أنها عدمية في الحقيقة لكنها ثبوتية في المعتقدات
فيحسن جعلها علة للأحكام الشرعية
وإن سلمنا كونه عدمية مطلقا ولكن لا نسلم أن الأمور الذهنية لا تصلح
للعلية والله أعلم
المسألة السادسة
تعليل الحكم الشرعي جائز خلافا لبعضهم
لنا
أن الدوران يفيد ظن العلية فإذا حصل في الحكم الشرعي حصل ظن
العلية
واحتج المانعون
بأن قالوا الدوران لا يفيد ظن العلية فيما له صلاحية العلة ولا نسلم أن
301

الحكم الشرعي يصلح أن يكون علة للحكم الشرعي
وبيانه بأمور
أحدها
أن الحكم الشرعي الذي فرض علة يحتمل كونه متقدما على الحكم
الذي جعل معلولا ويحتمل كونه متأخرا ويحتمل كونه مقارنا
وعلى تقدير التقدم لم يصلح للعلية وإلا لزم تخلف الحكم عن
علته
وعلى تقدير التأخر لم يصلح للعلية لأن المتأخر لا يكون علة
للمتقدم
وعلى تقدير المقارنة يحتمل أن تكون العلة هو وأن تكون غيره
فإذن هو على التقديرات الثلاثة لا يكون علة وعلى تقدير واحد
يكون علة ولا شك أن العبرة في الشرع بالغالب لا بالنادر فوجب الحكم
بأنه ليس بعلة
وثانيها
أن تفسير العلة إما بالمعرف أو الداعي أو المؤثر
فإن فسرناها بالمعرف امتنع تعليل حكم الأصل بحكم آخر لأن
المعرف لحكم الأصل هو النص لا غيره
302

وأما الثاني والثالث فباطلان لأن من يقول بالمؤثر والداعي يقول المؤثر
والداعي جهات المفاسد والمصالح فالقول بأن الحكم الشرعي مؤثر أو
داع خرق للإجماع وهو باطل
وثالثها
أن شرط العلة التقدم على المعلول وتقدم أحد الحكمين على الآخر
غير معلول فإذن شرط العلية مجهول فلا يجوز الحكم بالعلية
ورابعها
أن الشرع إذا أثبت حكمين في صورة واحدة فليس لأحدهما مزية على
الآخر في الوجود والافتقار والمعلومية فليس جعل أحدهما على للأخر أولى
من العكس فإما أن نحكم بكون كل واحدة منهما على للآخر وهو محال
أو لا يكون واحد منهما على للآخر وهو المطلوب
والجواب عن الأول
لا نسلم أن بتقدير التأخر لا يصلح للعلية لأن المراد من العلة
المعرف والمتأخر يجوز كونه معرفا للمتقدم
وعن الثاني
أنا نفسر العلة المعرف
قوله الحكم محل النص معرف بالنص لا بغيره
قلنا سبق الجواب عنه في مقدمة الباب الثاني
وعن الثالث
لا نسلم أن التقدم شرط العلية على ما بيناه
303

وعن الرابع نقول
قوله ليس جعله علة للآخر بأولى من العكس
قلنا لا نسلم فإنه ربما لا تتأتى المناسبة من الجانب الآخر وإن سلمنا
ذلك فنقول
إنه يجوز كون كل واحد منهما على لصاحبه بمعنى كون كل واحد
منهما معرفا لصاحبه
فرع
إذا جوزنا تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي فهل يجوز تعليل
الحكم الحقيقي بالحكم الشرعي
ومثاله أن نعلل إثبات الحياة في الشعر بأنه يحرم الطلاق ويحل
النكاح فيكون حيا كاليد
والحق انه جائز لأن المراد من هذه العلة المعرف ولا يمتنع أن
يجعل الحكم الشرعي معرفا للأمر الحقيقي
المسألة السابعة
يجوز التعليل بالأوصاف العرفية وهي الشرف والخسة والكمال
والنقصان ولكن بشرطين
304

أحدهما
أن يكون مضبوطا متميزا عن غيره
والثاني
أن يكون مطردا لا يختلف باختلاف الأوقات فإنه لو لم يكن
كذلك لجاز أن لا يكون ذلك العرف حاصلا في زمان الرسول ص
وحينئذ لا يجوز التعليل به
المسألة الثامنة
يجوز التعليل بالوصف المركب عند الأكثرين
وقال قوم لا يجوز
لنا
أن المناسبة مع الاقتران والدوران تفيد ظن العلية فيجب العمل به
احتج المنكرون بأمور ثلاثة
أحدها
أن جواز التركيب في العلة يوجب تطرق النقض إلى العلة العقلية
واللازم محال فالملزوم مثله
بيان الملازمة
أن كل ماهية مركبة فان عدم كل واحد من أجزائها علة لعدم علية
تلك الماهية لأن كون الماهية علة صفة من صفات الماهية وتحقق الصفة
يتوقف على تحقق الموصوف
305

وإذا كانت كذلك كان عدم كل واحد من أجزاء الماهية علة تامة
لعدم علية تلك الماهية فإذا عدم جزء من أجزائها فقد عدمت العلية فإذا عدم
بعد ذلك جزء آخر لم يكن عدم هذا الجزء الثاني علة لعدم علية تلك
الماهية لأن ذلك قد حصل عند عدم الجزء الأول فلا يحصل مرة
أخرى بعدم الجزء الثاني فقد حصل عدم جزء الماهية مع أنه لم يترتب
عليه عدم علية تلك الماهية فقد وجد النقض في العلة العقلية لأن
كون عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية أمر حقيقي سواء كانت
علية الشئ عقلية أو وضعية
فإن قلت فهذا يقتضى أن لا يكون في الوجود ماهية مركبة لأن عدم
كل واحد من أجزائها علة مستقلة لعدم تلك الماهية ويعود المحال
قلت ليست الماهية أمرا وراء مجموع تلك الأجزاء فلم يكن عدم
أحد تلك الأجزاء علة لعدم شئ آخر
وأما علية الماهية فهي حكم زائد على ذات الماهية وعدمها معلل
بعدم كل واحد من أجزاء الماهية فظهر الفرق
وثانيها
أن كون الشئ علة لغيره صفة لذلك الشئ سواء حصلت له تلك
الصفة بذاته أو بالجعل
306

فإذا كان الموصوف بالعلية أمرا مركبا فإما أن يقال حصلت تلك الصفة
بتمامها لكل واحد من تلك الأجزاء وهو محال
أما أولا فلأنه يلزم الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو
محال
وأما ثانيا فلأنه يلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء علة تامة لأنه لا
معنى لكون الشئ علة إلا حصول العلية فيه
وإما أن يقال حصل في كل واحد من أجزاء العلة جزء من تلك العلية
وهذا أيضا محال لأنه يقتضى انقسام الصفة العقلية حتى يكون للعلية نصف
وثلث وربع وهو محال
وثالثها
أن كل واحد من تلك الأجزاء لم يكن علة فعند انضمامها إما أن
يكون قد حدث أمر لم يكن
أو ما كان كذلك فإن حدث أمر فالمقتضي لحدوث ذلك الأمر أما كل واحد من تلك
الأجزاء أو مجموعها
فإن كان الأول كان كل واحد من الأجزاء مستقلا باقتضاء به العلية
فوجب كون كل واحد منها علة تامة وذلك محال
وإن كان الثاني كان الكلام في اقتضاء ذلك المجموع لذلك الأمر
307

الحادث كالكلام في اقتضاء ذلك المجموع للعلية فيلزم أن يكون بواسطة
حدوث شئ آخر ولزم التسلسل وهو محال
وإن قلنا إنه لم يحدث أمر لم يكن حاصلا فتلك الأجزاء حالة
الاجتماع كهى حالة الانفراد ولكنها حالة الانفراد ما كانت علة فكذا
عند الاجتماع
والجواب عن الأول
أن النقض إنما يلزم لو جعلنا عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية
وهو بناء على كون العدم علة وهو ممنوع
وعن الثاني
أن العلية ليست صفة ثبوتية وإلا لزم التسلسل على ما قررناه
وإذا لم تكن صفة ثبوتية امتنع القول بأنها إما أن تحل كل واحد من
الأجزاء بتمامها أو تنقسم بحسب انقسام أجزاء الماهية
وعن الثالث
أنه منقوض بكل واحد من العشرة فإنه ليس بعشرة وعند اجتماعها
يكون المجموع عشرة فكذا هاهنا
فرعان
الأول
نقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله عن بعضهم أنه قال لا
308

يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة وهذا الحصر لا أعرف له حجة
الثاني
في الفرق بين جزء العلة ومحلها وشرط ذات العلة وشرط عليتها
وقبل الخوض فيه لا بد من حد الشرط وذكروا فيه وجهين
الأول
أنه الذي يلزم من عدمه عدم الحكم ولا يكون جزءا من العلة
والثاني
أنه الذي يلزم من عدمه مفسدة دافعة لوجود الحكم
إذا عرفت ذلك فمن الناس من أنكر هذا الفرق ومنهم المثبتون للطرد
والمنكرون لتخصيص العلة
واحتجوا عليه بأن العلة الشرعية ما يكون معرفا للحكم وهو إنما
يكون معرفا للحكم عند اجتماع كل القيود من الشرط والإضافة إلى
309

الأهل والمحل فيكون كل واحد من هذه القيود جزءا من المعرف للحكم
فيكون جزءا من العلة
بلى لا ننكر لأن بعض هذه القيود أقوى في الوجود من بعض فإن القتل
له ذات وحقيقة ثم له صفة وهي إضافته إلى القاتل وإلى المقتول
وذات القتل أقوى في الوجود من هذه الإضافات لاحتياجها إليه في
الوجود
وقد يكون بعض تلك القيود مناسبا دون البعض أو يكون بعضها أقوى
في المناسبة من بعض ولكن مع تسليم هذا المقام فالمعتبر في تعريف
الحكم هو المجموع
وحينئذ لا يبقى بين جزء العلة وبين شرطها فرق
وفائدة هذا البحث أنه إذا صدر بعض تلك الأجزاء عن إنسان وصدر
الثاني عن إنسان آخر فإن كانت تلك الأجزاء متساوية في القوة والمناسبة
اشتراكا وإلا نسب الفعل إلى فاعل الجزء الأقوى وهذه الفائدة حاصلة سواء
سميناها جزء العلة أو شرطها
ومن الناس من سلم الفرق وزعم أن العلة إنما تعرف عليتها بالنص أو
بالاستنباط
فإن كان الأول فالقدر الذي دل النص على كونه مناطا للحكم هو
العلة وسائر القيود التي عرف اعتبارها بدلائل منفصلة نجعلها شرائط
وإن كان الثاني فالذي يكون مناسبا هو العلة والذي يكون معتبرا في
310

تحقق المناسبة ولا يكون كافيا فيها هو جزء العلة والذي لا يكون مناسبا
ولا جزءا منه فهو الشرط
هذا إذا عرفنا علية الوصف بالمناسبة
أما إذا عرفناها بسائر الطرق لم يتجه هذا الفرق
المسألة التاسعة
اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم مثل تعليل تحريم الخمر
بأن العرب سمته خمرا فإنا نعلم بالضرورة أن مجرد هذا اللفظ لا أثر له
فإن أريد به تعليله بمسمى هذا الاسم من كونه مخامرا للعقل فذلك
311

يكون تعليلا بالوصف لا بالاسم
المسألة العاشرة
مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يجوز التعليل بالعلة القاصرة وهو
قول أكثر المتكلمين
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز ووافقونا في العلة المنصوصة
لنا
أن صحة تعدية العلة إلى الفرع موقوفة على صحتها في نفسها
312

فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور
وإذا لم تتوقف على ذلك فقد صحت العلة في نفسها سواء كانت
متعدية أو لم تكن
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن صحتها في نفسها لا تتوقف على
صحة تعديتها بل على صحة وجودها في غير الأصل وحينئذ ينقطع الدور
سلمنا ذلك ولكن وجد هاهنا ما يدل على فساد العلة القاصرة
وهو من وجوه
الأول
أن العلة القاصرة لا فائدة فيها وما لا فائدة فيه كان عبثا وهو على
الحكيم غير جائز
وإنما قلنا إنه لا فائدة فيها لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى
معرفة الحكم وهذه الفائدة مفقودة هاهنا لأنه لا يمكن في القاصرة
أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم في الأصل لأن ذلك معلوم في النص ولا
يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير الأصل لأن ذلك إنما
يمكن أن لو وجد ذلك الوصف في غير الأصل فإذا لم يوجد امتنع
حصول تلك الفائدة
313

وإنما قلنا إن مالا فائدة فيه عبث وإن العبث غير جائز فذلك
للإجماع
الثاني الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة لأنه اتباع الظن وهو غير جائز
لقوله تعالى إن الظن لا يغنى من الحق شيئا ترك العمل به في العلة
المعتدية لأن فيها فائدة وهى التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير
محل النص وهذه الفائدة مفقودة في القاصرة فوجب بقاؤها على
الأصل
الثالث
العلة الشرعية أمارة فلابد وأن تكون كاشفة عن شئ والعلة القاصرة
لا تكشف عن شئ من الأحكام فلا تكون أمارة فلا تكون علة
والجواب
قوله لم لا يجوز أن يقال صحة كونها علة موقوفة على صحة
وجودها في غير ذلك المحل
314

قلنا لأن الحاصل في محل آخر لا يكون هو بعينه لاستحالة
حلول الشئ الواحد في محلين بل يكون مثله
وإذا كان كذلك فنقول كل ما يحصل له من الصفات عند حلول
مثله في محل آخر يكون ممكن الحصول له عند عدم حلول مثله في محل
آخر لأن حكم الشئ حكم مثله فإذا أمكن حصول كل تلك الأمور
فبتقدير تحقق ذلك وجب أن تكون علة لأن تلك العلية ما حصلت إلا
بسبب تلك الأمور
وأما المعارضة الأولى وهى أنه لا فائدة فيها
قلنا لا نسلم
قوله الفائدة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم
قلنا نسلم أن معرفة الحكم فائدة لكن لا نسلم أنه لا فائدة إلا هي
فما الدلالة على هذا الحصر
ثم إنا نبين فائدتين أخريين
الأولى
أن نعرف أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة
وهذه فائدة معتبرة لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم
والمصالح أميل وعن قبول التحكم الصرف والتعبد المحض أبعد
315

الثانية
أنه لا فائدة أكثر من العلم بالشئ لأنا إذا علمنا الحكم ثم اطلعنا على
علته صرنا عالمين أو ظانين بما كنا غافلين عنه وذلك محبوب القلوب
ولا يمتنع أيضا أن يكون لنا فيه مصلحة
سلمنا أنه لا بد وأن يتوسل بالعلة إلى معرفة الحكم لكن في جانب
الثبوت أو في جانب العدم
الأول ممنوع
والثاني مسلم وهاهنا أمكن التوسل به إلى عدم الحكم
بيانه
أنه إذا غلب على ظننا كون حكم الأصل معللا بعلة قاصرة امتنعنا
من القياس عليه فلا يثبت الحكم في الفرع
فإن قلت يكفي في الامتناع من القياس أن لا نجد علة متعدية
فإما التعليل بالعلة القاصرة فلا حاجة إليه في الامتناع من القياس
قلت يجوز أن يوجد في الأصل وصف متعد مناسب لذلك الحكم
فلو لم يجز التعليل بالعلة القاصرة لبقى ذلك الوصف المتعدى خاليا من
المعارض فكان يجب التعليل به
وحينئذ كان يلزم ثبوت الحكم في الفرع
أما لو جاز التعليل بالوصف القاصر صار معارضا لذلك الوصف
المتعدى
316

وحينئذ لا يثبت القياس ويمتنع الحكم
سلمنا أنه لا فائدة فيها فلم قلتم إنها تكون باطلة فإنه لا يمتنع كونها
علة مؤثرة في الحكم مع أن الطالب لها يكون طالبا لما لا ينتفع به حين
يتشاغل بطلب ما هو مستغن عنه
سلمنا أن مالا فائدة فيه لا يجوز إثباته ولكن لا يجوز ذلك قبل أن
يعلم أنه لا فائدة فيه أو بعد أن يعلم ذلك
وهاهنا المستنبط للعلة حال طلبه لها لا يعلم أن تلك العلة متعدية
أو قاصرة فلا يمكن منعه عن ذلك الطلب وبعد وقوفه على العلة القاصرة
لا يمكن منعه عن معرفتها لأن ذلك خارج عن وسعه
سلمنا كل ما ذكروه ولكنه منقوص بالتنصيص على العلة
القاصرة فإن كل ما ذكروه حاصل فيها مع جوازها
قوله الدليل ينفى القول بالعلة المظنونة
قلنا لا نسلم والتمسك بالآية سبق الجواب عنه في مسألة إثبات
القياس
وأيضا قد بينا أن العلة المتعدية كما أنها وسيلة إثبات الحكم
فالعلة القاصرة وسيلة إلى نفى الحكم فوجب كون القاصرة صحيحة لأنها على
وفق النافي والمتعدية على خلافها
قوله هذه الأمارة لا تكشف عن حكمة
317

قلنا لا نسلم بل تكشف عن المنع من استعمال القياس
سلمناه لكنه يكشف عن حكمة الحكم
سلمناه لكنه منقوض بالعلة القاصرة المنصوصة
فرع
اختلفوا في أن الحكم في مورد النص ثابت بالنص أو بعلة
النص
فقالت الحنفية لا يمكن ثبوته بالعلة لأن الحكم معلوم والعلة
مظنونة والمظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم
وأصحابنا جوزوه
والخلاف فيه لفظي لأنا
نعنى بالعلة هاهنا أمرا مناسبا يغلب على الظن أن الشرع أثبت الحكم لأجله وذلك مما لا يمكن إنكاره
المسألة الحادية عشرة
الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافا لبعض الفقهاء
318

العصريين مثاله قولهم الملك معنى مقدر شرعي في المحل أثره إطلاق
التصرفات وربما قالوا الملك الحادث يستدعى سببا حادثا وذلك هو
قوله بعت واشتريت وهاتان الكلمتان مركبتان من الحروف المتوالية وكل
واحد من تلك الحرف لا يوجد عند وجود الحرف الآخر فإذن ليس لهاتين
الكلمتين وجود حقيقي لكن لهما وجودا تقديريا وهو أن الشارع قدر بقاء
تلك الحروف إلى حين حدوث الملك ضرورة أنه لا بد من وجود السبب
حال حصول المسبب
وقد يذكرون هذا التقدير في جانب الأثر فيقولون إن من عليه الدين
يكون ذلك الدين مقدرا في ذمته
واعلم إن هذا الكلام من جنس الخرافات لأن الوجوب إما أن يكون
مفسرا بمجرد تعلق خطاب الشرع على ما هو مذهبنا
أو يكون الفعل في نفسه بحيث يكون للإحلال به مدخل في استحقاق
الذم على ما هو قول المعتزلة
319

فإن كان الأول لم يكن لتعلق الخطاب حاجة إلى معنى محدث يكون
علة له لأن ذلك التعلق قديم أزلي فكيف يكون معللا بالمحدث
وإن كان الثاني فالمؤثر في الحكم جهات المصلحة والمفسدة فلا
حاجة فيه إلى بقاء الحروف
وأيضا
فالمقدر يجب أن يكون على وفق الواقع والحروف لو وجدت مجتمعة
لخرجت عن أن تكون كلاما فلو قدر الشرع بقاء الحروف التي حصل منها
قوله بعت واشتريت لم يحصل عند اجتماعها هذا الكلام
وأما تقدير المال في الذمة فهو ساقط جدا بل لا معنى له إلا أن الشرع
مكنه إما في الحال أو في الاستقبال من أن يطالبه بذلك القدر من
المال فهذا معقول شرعا وعرفا
فأما التقدير في الذمة فهو من الترهات التي لا حاجة في العقل والشرع
إليها
المسألة الثانية عشر
هاهنا أبحاث
الأول العلة قد يكون لها حكم واحد وهو ظاهر
وقد يكون حكمها أكثر من واحد وتلك الأحكام إما أن تكون متماثلة
أو مختلفة غير متضادة أو مختلفة متضادة
فالأول إما أن يكون في ذات واحدة
أو في ذاتين
320

والأول محال لامتناع اجتماع المثلين
والثاني جائز وهو كالقتل الذي حصل بفعل زيد وعمرو فإنه
يوجب القصاص على كل واحد منهما
وأما الثاني وهو أن توجب أحكاما مختلفة غير متضادة فهو جائز
كتحريم الإحرام ومس المصحف والصوم والصلاة بالحيض
وأما الثالث وهو أن توجب العلة أحكاما متضادة فلا يخلو أما أن
يتوقف إيجابها لها على شرط
أو لا يتوقف
فإن كان الأول فالشرطان إما أن لا يجوز اجتماعهما أو يجوز
فإن لم يجز جاز أن تكون العلة موجبة لحكمين متضادين عند
حصول شرطين لا يجتمعان
وإن كان يجوز اجتماعهما فهو محال لأنهما إذا اجتمعا لم تكن العلة
باقتضاء أحدهما أولى من اقتضاء الآخر فوجب أن تقتضيهما جميعا وهو
محال
أو لا تقتضي واحدا منهما وحينئذ تخرج العلة عن أن تكون علة
وبهذا البيان يظهر أيضا أنه لا يجوز أن يتوقف اقتضاء العلة معلوليها
هذا المتضادين على شرط
321

الثاني
من شرط العلة اختصاصها بمن له الحكم وإلا لم يكن اقتضاء حصول
الحكم لشئ أولى من اقتضائه لغيره
الثالث
أن اقتضاءها معلولها قد يكون موقوفا على شرط مثل الزنا فإنه لا يوجب
الرجم إلا بشرط الإحصان
وقد لا يكون وهو ظاهر
الرابع
العلة قد تكون علة لإثبات الحكم في الابتداء كالعدة في منع
الحل
وقد تكون علة في الابتداء والانتهاء كالرضاع في إبطال النكاح
وقد تكون العلة قوية على الدفع لا على الرفع مثل العدة والردة فإنهما
يدفعان النكاح ويرفعانه
وقد تكون قوية عليهما معا
المسألة الثالثة عشر
قد يستدل بذات العلة على الحكم وقد يستدل بعلية العلة على
الحكم
فالأول مثل أن يقال قتل عمد عدوان فيكون موجبا للقصاص
322

والثاني أن يقال القتل العمد العدوان سبب لوجوب القصاص
وقد وجد فيجب القصاص
فالأول صحيح
والثاني باطل لأنه لا فرق بين ماهية القتل وبين كونه سببا
للقصاص فإنه قد يفهم
كونه قتلا مع الذهول عن السببية وقد تفهم السببية مع الذهول عن كونه قتلا
والسببية أمر إضافي والأمور الإضافية يتوقف ثبوتها على ثبوت كل واحد
من المضافين فدعوى كون القتل سببا لوجوب القصاص يتوقف على ثبوت
القتل وثبوت وجوب القصاص لأن قولنا هذا سبب لذلك يستدعى
تحقق هذا وتحقق ذاك حتى يحكم على هذا بأنه سبب لذاك
وإذا كانت دعوى السببية متوقفة على ثبوت الحكم أولا فلو
استفدنا ثبوت الحكم من ذكر السببية لزم الدور وإنه محال فعلمنا أنه لا
يمكن الاستدلال بعلية الوصف وسببيته على ثبوت الحكم
المسألة الرابعة عشر
تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي لا يتوقف على بيان ثبوت
323

المقتضى لذلك الحكم وهذه المسألة من تفاريع جواز تخصيص العلة فإنا إذا أنكرناه امتنع
الجمع بين المقتضي والمانع
أما إذا جوزناه جاء هذا البحث
والحق أنه غير معتبر لدليلين
الأول
أن الوصف الوجودي إذا كان مناسبا للحكم العدمي أو كان دائرا معه
وجودا وعدما حصل ظن أن ذلك الوصف علة لذلك العدم والظن حجة
والثاني
أن بين المقتضى والمانع معاندة ومضادة والشئ لا يتقوى بضده بل
يضعف به وإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه فلأن يجوز ذلك حال
قوته وهو حال عدم المقتضى كان أولى
واحتج المخالفون بأمور
أحدها
أنا إذا عللنا انتفاء الحكم بالمانع فالمعلل إما عدم مستمر أو عدم
متجدد
والأول باطل لأن العدم المستمر كان حاصلا قبل حصول هذا
المانع بل قبل الشرع والحاصل قبل يمتنع تعليله بالحاصل بعد
324

والثاني تسليم المقصود لأن عدم الحكم لا يحصل فيه التجدد
إلا إذا امتنع من الدخول في الوجود
بعد أن كان بعرضية الدخول في الوجود وذلك لا يتحقق إلا عند قيام المقتضي
وثانيها
أن انتفاء الحكم لانتفاء المقتضى أظهر عند العقل من انتفائه
لحصول المانع
وإذا كان كذلك فإما أن يكون ظن تحقق انتفاء المقتضى مثل ظن تحقيق
وجود المانع أو أقوى منه أو أضعف منه
فإن كان الأول امتنع تعليل عدم الحكم بوجود المانع لأن عدم
المقتضى ووجود المانع لما استويا في الظن واختص عدم المقتضى بمزية
وهى أن ظن اسناد عدم الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى وجود المانع
كان ظن تعليل عدم الحكم بعدم المقتضي أقوى من تعليله بوجود
المانع والأقوى راجح فيلزم أن لا يجوز تعليل عدم الحكم بالمانع وإما
أن كان ظن عدم المقتضى أظهر فالتقدير المذكور أظهر
وأما إن كان ظن عدم المقتضى مرجوحا بالنسبة إلى وجود المانع فظن
العدم إنما يكون مرجوحا لو كان ظن الوجود راجحا وذلك يدل على أن
التعليل بالمانع يتوقف على رجحان وجود المقتضى وهو المطلوب
325

وثالثها
أن التعليل بالمانع يتوقف على
بيان المقتضى عرفا فيتوقف عليه شرعا
أما الأول فلأن من قال الطير إنما لا يطير لأن القفص يمنعه
فهذا التعليل موقوف على العلم بكون الطير حيا قادرا فإن بتقدير موت الطير
يمتنع تعليل عدم الطيران بالقفص وكذا من علل عدم حضور زيد في السوق
بحضور غريم له هناك لابد أن يبين أنه كان قادرا على الحضور وإلا
لما صح ذلك التعليل عرفا
وأما الثاني فلقوله عليه الصلاة والسلام ما رآه المسلمون حسنا فهو
عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح
ورابعها
أن عدم المقتضى مستلزم لعدم الحكم فلو حصل عدم المقتضى
لامتنع إسناد ذلك العدم إلى وجود المانع لأن تحصيل الحاصل محال
فثبت أنه لا بد من بيان وجود المقتضي
والجواب عن الأول
أن العلة الشرعية معرفة والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف
326

قوله إنما يصير الحكم شرعيا إذا كان بحيث لو سكت الشرع
لما ثبت
قلنا نحن لا نعنى بكون هذا الانتفاء شرعيا إلا أنه لم يعرف إلا من
قبل الشرع وذلك حاصل بدون ما قلتموه
وعن الثاني
أن مجرد النظر إلى وجود المانع يقتضى ظن عدم الحكم بدون
الالتفات إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتموها
وعن الثالث
أنا لا نسلم أن ظن إسناد عدم الحكم إلى وجود المانع يتوقف على
العلم بوجود المقتضى عرفا ألا ترى أنا إذا علمنا وجود سبع في
الطريق فهذا القدر يكفي في حصول ظن أنه لا يحضر
وإن كان لا يخطر ببالنا في ذلك الوقت سلامة أعضائه بل نجعل ذلك القدر دليلا لنا
ابتداءا فنقول مجرد النظر إلى المانع يفيد ظن عدم الحكم الحكم عرفا فليفده
شرعا للحديث
وعن الرابع
أن ترادف الدلائل والمعرفات رسول على الشئ الواحد لا نسلم أنه
خلاف الأصل
327

فرع
لو سلمنا أن التعليل بالمانع يتوقف على وجود المقتضى لكن
لا حاجة إلى ذكر دليل منفصل على وجود المقتضى بل يكفي أن يقال إما
أن لا يكون المقتضى موجودا في الفرع وحينئذ يلزم عدم الحكم في
الفرع
أو قد حصل المقتضى في الفرع لكنه إنما ثبت فيه تحصيلا
لمصلحته ودفعا لحاجته وهذا المعنى قائم في الأصل فيلزم ثبوت
المقتضى في الأصل
وإذا ثبت ذلك فقد صح جواز تعليل عدم الحكم فيه بالمانع
المسألة الخامسة عشر
قال بعضهم وجود الوصف الذي يجعل علة في الأصل لابد وأن
328

يكون متفقا عليه
وهذا ضعيف لأنه لما أمكن إثباته بالدليل حصل الغرض بل الحق
أن ذلك قد يكون معلوما بالضرورة
وقد يكون معلوما بالبرهان اليقيني
وقد يكون معلوما بالأمارة الظنية
وهذا آخر الكلام في العلة
329

القسم الثالث
في المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع
وفيه ثلاثة أبواب
331

الباب الأول
في مباحث الحكم
وفيه مسائل
المسألة الأولى
اتفق أكثر المتكلمين على صحة القياس في العقليات ومنه نوع يسمونه
إلحاق الغائب بالشاهد
قالوا ولابد من جامع عقلي والجامع أربعة العلة والحد
والشرط والدليل أما الجمع بالعلة فكقول أصحابنا إذا كانت
العالمية شاهدا فيمن له العلم معللة بالعلم وجب أن يكون كذلك
غائبا
وأما الجمع بالحد فكقول القائل حد العالم شاهدا من له
العلم فيجب طرد الحد غائبا
وأما الجمع بالشرط فكقولنا العلم مشروط بالحياة شاهدا
فكذلك غائبا
وأما الجمع بالدليل فكقولنا التخصيص والأحكام يدلان على
333

العلم والإرادة شاهدا فكذلك غائبا
واعلم أنه لما كان الجمع بالعلة أقوى الوجوه وجب علينا أن نتكلم
فيه فنقول اعتماد القياس على مقدمتين إحداهما أن الحكم ثبت في الأصل لعلة كذا
وثانيتهما أن تلك العلة حاصلة بتمامها في الصورة الآخرى
فهاتان المقدمتان إن حصل العلم بهما حصل العلم بثبوت الحكم في
الفرع
وإن حصل الظن بهما حصل الظن بثبوت الحكم في الفرع
وإنما قلنا إنه يلزم من حصول العلم بتينك المقدمتين حصول العلم
بالنتيجة وذلك لأنه إذا ثبت أن ذلك المعنى مؤثر في ذلك الحكم ثم ثبت
ذلك المعنى في صورة أخرى فنقول كون ذلك المعنى مؤثرا في ذلك
الحكم في تلك
الصورة إما أن يعتبر في تلك المؤثرية كونه حاصلا في تلك
الصورة أو كونه غير حاصل في هذه الصورة وأما أن لا يعتبر فيها ذلك
فإن كان الأول لم يكن ذلك المعنى اتمام العلة لأن مرادنا من تمام
العلة كل ما لابد منه في المؤثرية
فإذا كان لا بد من قيد كون المعنى هناك أو قيد كونه ليس هناك فذاك
المعنى ليس وحده تمام العلة على التفسير الذي ذكرناه
وإن كان الثاني فتمام المؤثر حصل في الأصل مستلزما للحكم وفي
الفرع غير مستلزم للحكم مع أنه لم يختلف حاله ألبتة في الصورتين
334

لا بحسب زوال شئ عنه ولا بحسب انضمام شئ إليه فيلزم حينئذ
ترجح أحد طرفي الممكن المساوى على الآخر من غير مرجح وهو محال
فثبت بهذا البرهان الباهر أنه يلزم من العلم بتينك المقدمين حصول
العلم بثبوت الحكم في الفرع
وإذا ثبت هذا ظهر أن بتقدير حصول هاتين المقدمتين في
العقليات كان القياس حجة فيها
فإن قلت حاصل الكلام فيما ذكرته هو الاستدلال بحصول العلة
على حصول المعلول وليس هو بقياس
قلت بل هذا هو القياس فإنا إذا رأينا الحكم حاصلا في صورة معية
ثم قامت الدلالة على أن المؤثر في ذلك الحكم هو الوصف الفلاني ثم
قامت الدلالة على أن ذلك الوصف حاصل في هذه الصورة الثانية لزم القطع
بحصول الحكم في الصورة الثانية
بل تحصيل اليقين بهاتين المقدمتين أمر صعب وذلك لأنا وإن
بينا أن الحاصل في الفرع مثل الحاصل في الأصل فالمثلان ولا لابد وأن
يتغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا عين ذاك وذاك عين هذا فيكون
كل واحد منهما عين الآخر فالاثنان واحد هذا خلف
335

وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء
العلة أو شرط العلية وفي الجانب الآخر يكون مانعا من العلية ومع هذا
الاحتمال لا يحصل القطع
وأعلم أن للمتكلمين طرقا في تعيين العلة
أحدها
التقسيم الذي لا يكون منحصرا فإذا قيل لهم لم لا يجوز وجود قسم آخر
قالوا اجتهدنا في طلبه فما وجدناه وعدم الوجدان بعد الاستقصاء في
الطلب يدل على عدم الوجود كالمبصر لم إذا طلب شيئا في الدار ونظر
إلى جميع جوانبها في النهار فلم يجد قطع بالعدم
وهذا ضعيف إذ رب موجود ما عرفناه بعد الطلب والقياس على نظر
العين قياس من غير جامع وبتقدير ذكر الجامع فهو إثبات القياس
بالقياس وهو باطل
وثانيها الدوران الخارجي وقد تقدم بيان أنه لا يفيد الظن فضلا عن اليقين
وثالثها
الدوران الذهني كقولهم متى عرفنا كون التكليف أمرا بالمحال عرفنا
336

قبحه وإن لم نعرف
شيئا آخر ومتى لم نعرف كونه أمرا بالمحال لم نعرف قبحه وإن عرفنا سائر صفاته
فإذن العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه أمرا بالتكليف بالمحال في
الذهن
فهذا الدوران الذهني يفيد الجزم بأن المؤثر في القبح هو نفس كونه
أمرا بالتكليف
فنقول كلامكم يشتمل على أمرين
أحدهما
أنه لما لزم من العلم بكونه أمرا بالمحال العلم بقبحه لزم أن يكون كونه
أمرا بالمحال علة لقبحه
والثاني
أنه لما لم يلزم من العلم بسائر صفاته العلم بكونه قبيحا وجب أن لا
يكون سائر صفاته علة لكونه قبيحا وأنتم منازعون في هذين المقامين فلا بد
من الدلالة عليهما فإن العلم بهما ليس من العلوم الضرورية كالعلم بأن
الواحد نصف الاثنين وما رأيت أحدا من المتكلمين ذكر في تقرير هذين
المقامين شيئا
على أن الأول منقوض بجميع الإضافات فإنا متى علمنا كون هذا
الشخص أبا علمنا كون هذا الشخص الآخر أبنا وكذا بالعكس مع أنه
يستحيل أن يكون كون هذا أبا لذاك علة لكون ذلك أبنا لهذا لأن المضافين
معا والعلة قبل المعلول والمع لا يكون قبل
وأما الثاني فلأنه لا يمكن القطع بأنا إذا عرفنا سائر صفاته فإنه لا يحصل
337

العلم عند ذلك بكونه قبيحا إلا إذا عرفنا كل صفة فكيف يمكننا أن نقطع
بأنا عرفنا كل صفاته فإنا إذا جوزنا أن يكون من الصفات ما لم نعرفه جوزنا
في بعض تلك الصفات التي لم نعرفها أن يجب عند العلم به العلم
بكونه قبيحا ومع هذا التجويز لا تتم هذه المقدمة
سلمنا أنه لا يلزم من العلم بسائر الصفات العلم بكونه قبيحا فلم يدل
هذا القدر على أن سائر الصفات لا يجوز أن تكون مؤثرة في القبح
واعلم أن الكلام في تقرير هاتين المقدمتين مأخوذ من الفلاسفة فإنهم
زعموا أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول
فعلى هذا كل ما كان علة للقبح يلزم من العلم به العلم بالقبح
وزعموا أن العلم اليقيني بوجود المعلول لا يحصل إلا من
العلم بعلته فلما لزم الجزم بالقبح عند العلم بكونه أمرا بالتكليف
بالمحال علمنا أن علة القبح ذلك ولكنا قد نقلنا في كتبنا الكلامية
دلائلهم على هاتين المقدمتين وبينا ضعفهما وسقوطهما فلا نعيدهما هاهنا
وبالله التوفيق
338

المسألة الثانية
الحق جواز القياس في اللغات وهو قول ابن سريج منا
ونقل ابن جنى في الخصائص أنه قول أكثر علماء العربية كالمازني
وأبي علي الفارسي
وأما أكثر أصحابنا وجمهور الحنفية فينكرونه
لنا وجوه
الأول
أنا رأينا أن عصر العنب لا يسمى خمرا قبل الشدة الطارئة فإذا
حصلت تلك الشدة سميت خمرا فإذا زالت الشدة مرة أخرى زال الاسم
والدوران يفيد ظن العلية فيحصل ظن أن العلة لذلك الاسم هو الشدة
ثم رأينا الشدة حاصلة في النبيذ فيحصل ظن أن علة هذا الاسم
حاصلة في النبيذ ويلزم من ظن حصول علة الاسم ظن حصول الاسم
فإذا حصل ظن أنه مسمى بالخمر وعلمنا أو ظننا أن الخمر حرام حصل
ظن أن النبيذ حرام والظن حجة فوجب الحكم بحرمة النبيذ
فإن قيل الدوران إنما يفيد ظن العلية فيما يحتمل العلية وهاهنا لم
يوجد الاحتمال لأنه ليس من بين شمن الألفاظ وشئ من المعاني مناسبة
أصلا فاستحال ابن أن يكون شئ من المعاني داعيا للواضع إلى تسميته
339

بذلك الاسم وإذا لم يوجد احتمال العلية هاهنا لم يكن الدوران ها
هنا مفيدا لظن العلية
سلمنا أنه حصل ظن العلية ولكن إنما يلزم من حصول العلة في
الفرع حصول ذلك الحكم إذا أثبت أن تلك العلة إنما صارت علة لأن
الشارع جعلها علة ألا آخر أنه لو قال أعتقت غانما لسواده فإذا كان
له عبد آخر أسود لم يعتق عليه لأن ما يجعله الإنسان علة لحكم لا يجب
أن يتفرع عليه الحكم أينما وجد فكذا هاهنا لا يلزم من كون الشدة علة
لذلك الاسم حصول ذلك الاسم أينما حصلت الشدة إلا إذا عرفنا أن واضع
الاسم هو الله تعالى
والجواب عن الأول
أنه لا يمكن جعل المعنى علة للاسم إذا فسرنا العلة بالداعي أو
المؤثر أما إذا فسرنا بالمعرف فلا يمتنع كما أن الله تعالى جعل
الدلوك علة لوجوب الصلاة لا بمعنى كون الدلوك مؤثرا أو داعيا بل
بمعنى أن الله تعالى جعله معرفا فكذا هاهنا
وعن الثاني
أنا بينا أن اللغات توقيفية
الثاني
وهو الذي أعتمد عليه المازني وأبو علي الفارس رحمهما الله أنه لا
خلاف بين أهل اللغة أن كل فاعل رفع وكل مفعول نصب وكذلك القول
340

في جميع وجوه الإعراب وأن كل ضرب منها اختص بأمر انفرد به ولم
يثبت ذلك إلا قياسا لأنهم لما وصفوا بعض الفاعلين به واستمروا على
ذلك علم أنه ارتفع الفاعل لكونه فاعلا وانتصب المفعول لكونه مفعولا
فإن قلت كيف يصح ذلك وقد وجد المفعول غير منتصب وكذا
الفاعل قد لا يرتفع لعارض
قلت تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية عند من يقول
بتخصيص العلة
ومن لا يقول به يجعل هذا القيد العدمي جزءا من العلة
الثالث
وهو أن أهل العربية أجمعوا على أن ما لم يسم فاعله إنما ارتفع لكونه
شبيها بالفاعل في إسناد الفعل إليه ولم تزل فرق النحاة من الكوفيين
قوله والبصريين يعللون في الأحكام الإعرابية بأن هذا يشبه ذاك في كذا فوجب
أن يشبهه في الإعراب وإجماع أهل اللغة في المباحث اللغوية حجة
الرابع
أن نتمسك بعموم قوله تعالى فاعتبروا فإنه يتناول كل الأقيسة
واعتمادهم في الفرق على أن المعاني لا تناسب الألفاظ فامتنع جعل
341

المعنى علة للاسم بخلاف الأحكام الشرعية فان المعاني قد تناسبها لكنا
قد بينا سقوط هذا الفرق
واحتج المخالف بأمور
أحدها
قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دلت الآية على أنها
بأسرها توقيفية فيمتنع في شئ منها أن يثبت بالقياس
وثانيها
أن أهل اللغة لو صرحوا وقالوا قيسوا لم يجز القياس كما إذا قال
أعتقت غانما لسواده ثم قال قيسوا فإنه لا يجوز القياس فإذا لم
يجز القياس عند التصريح بالأمر بالقياس فلأن لا يجوز ذلك مع أنه لم
ينقل عن أهل اللغة نص في ذلك كان أولى
وثالثها
أن القياس إنما يجوز عند تعليل الحكم في الأصل وتعليل الأسماء
غير جائز لأنه لا مناسبة بين شئ من الأسماء وبين شئ من المسميات
وإذا لم يصح التعليل لم يصح القياس ألبتة
ورابعها
أن وضع اللغات ينافي جواز القياس فإنهم سموا الفرس الأسود
342

أدهم ولم يسموا الحمار بن الأسود به وسموا الفرس الأبيض أشهب ولم
يسموا الحمار الأبيض به وسموا صوت الفرس صهيلا صوت الحمار
نهيقا له صوت الكلب نباحا
وأيضا
القارورة إنما سميت بهذا الاسم لأجل الاستقرار ثم إن ذلك المعنى
حاصل في الحياض والأنهار مع أنها لا تسمى بذلك
والخمر إنما سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل ثم المخامرة
حاصلة في الأفيون وغيره ولا يسمى خمرا
والجواب عن الأول
أنه ليس في الآية أنه تعالى علم آدم الأسماء كلها توقيفا فيجوز أن
يكون علم البعض توقيفا والبعض تنبيها بالقياس
ولأنه يجوز أن يدرك آدم علمها توقيفا ونحن نعلمها قياسا كما أن جهات
القبلة قد تدر ك حسا وقد تدرك اجتهادا
وعن الثاني
أنا ندعى أنه نقل إلينا بالتواتر عن أهل اللغة أنهم جوزوا القياس
ألا ترى أن جميع كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة
وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة فإنه لا نزاع أنه لا يمكن تفسير
القرآن والأخبار إلا بتلك القوانين فكان ذلك إجماعا معلوما بالتواتر
343

وعن الثالث
ما قد بينا أنا نفسر العلة بالمعرف لا بالداعي ولا المناسب
وحينئذ لا يقدح عدم المناسبة فيه
وعن الرابع
أن أقصى ما في الباب أنهم ذكروا صورا لا يجرى فيها القياس وذلك
لا يقدح في العمل بالقياس كما أن النظام لما ذكر صورا كثيرا في
الشرع لا يجرى فيها القياس لم يدل ذلك على المنع من القياس في
الشرع
344

المسألة الثالثة
المشهور أنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب
والدليل عليه أنا إذا قسنا اللواط مثلا على الزنا في كونه موجبا للحد
فإما أن نقول أن كون الزنا موجبا للحد لأجل وصف مشترك بينه وبين اللواط
وأما أن لا نقول ذلك
فإن كان الأول كان الموجب للحد هو ذلك المشترك
وحينئذ يخرج الزنا واللواط عن كونهما موجبين للحد لأن الحكم لما
أسند إلى القدر المشترك استحال مع ذلك إسناده إلى خصوصية كل واحد
منهما
فإذن شرط القياس بقاء حكم الأصل والقياس في الأسباب ينافي
بقاء حكم الأصل بخلاف القياس في الأحكام فإن ثبوت الحكم في
الأصل لا ينافي كونه معللا بالقدر المشترك بينه وبين الفرع
وأما إن قيل كون الزنا موجبا للحد ليس لأجل وصف مشترط بينه وبين
اللواط استحال قياس اللواط عليه لأنه لا بد في القياس من الجامع
فإن قلت الجامع بين الوصفين لا يكون له تأثير في الحكم بل تأثيره
345

في علية الوصفين وأما الحكم فإنما يحصل من الوصفين
قلت هذا باطل لأن ما صلح لعلية العلة كان صالحا لعلية الحكم
فلا حاجة حينئذ إلى الوساطة
المسألة الرابعة
الحكم الذي طلب إثباته بالقياس أما النفي الأصلي أو الحكم الثبوتي
ذلك المعلوم أو المظنون
فلنتكلم في هذه الثلاثة فنقول
اختلفوا في أن النفي الأصلي هل يمكن التوصل إليه بالقياس أو لا
بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه
والحق أنه يستعمل فيه قياس الدلالة لا قياس العلة
أما قياس الدلالة فهو أن يستدل بعدم اثار الشئ وعدم خواصه
على عدمه
346

وأما تعذر قياس العلة فلأن الانتفاء الأصلي حاصل قبل الشرع فلا
يجوز تعليه بوصف يوجد بعد ذلك
ولقائل أن يقول علة الشرع لا معنى لها إلا المعرف وتأخر الدليل
عن المدلول جائز
واعلم أن هذا الكلام يختص ب العدم فأما الإعدام فإنه حكم
شرعي يجرى فيه القياس
وأما الذي طريقه العلم فقد اختلفوا في أنه هل يجوز استعمال القياس
فيه
وعندي أن هذا الخلاف لا ينبغي أن يقع في الجواز الشرعي فإنه لو
أمكن تحصيل اليقين بعلة الحكم ثم تحصيل اليقين بأن تلك العلة حاصلة
في هذه الصورة لحصل العلم اليقيني بأن حكم الفرع مثل حكم
الأصل بل البحث ينبغي أن يقع في أنه هل يمكن تحصيل هذين اليقينين
في الأحكام الشرعية أم لا
وأما الذي طريقه الظن فلا نزاع في جواز استعمال القياس فيه
347

المسألة الخامسة
اختلفوا في أنه هل يمكن إثبات أصول العبادات بالقياس أم لا
فقال الجبائي والكرخي لا يجوز وبنى الكرخي عليه أنه لا يجوز إثبات
الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس
واعلم أن هذا الخلاف يمكن حمله على وجهين
الأول
أن يقال الصلاة بإيماء الحاجب لو كانت مشروعة لوجب على
النبي ص أن يبينها بيانا شافيا وينقله أهل التواتر إلينا حتى
يصير ذلك معلوما لنا قطعا فلما لم يكن كذلك علمنا أن القول بها باطل
والثاني
أن يقال لا ندعي أنها لو كانت مشروعة لحصل العلم بها يقينا
ولكنا مع ذلك نمنع من استعمال القياس فيه
أما الأول فهو باطل بالوتر فإنه واجب عندهم مع أنه لم يعلم وجوبه
قطعا
فإن قلت إذا جوزت في ذلك أن لا يبلغ مبلغ التواتر فلعله عليه الصلاة
والسلام أوجب صوم شوال ولم ينقل ذلك بالتواتر
قلت المعتمد في نفيه الإجماع
وأما الثاني فتحكم محض لأنه إذا جاز الاكتفاء فيه بالظن فلم لا يكتفى
بالقياس
ثم إنا نستدل على جوازه بعموم قوله تعالى فاعتبروا أو بما أنه
348

يفيد ظن الضرر فيكون العمل به واجبا
المسألة السادسة
مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز إثبات التقديرات
والكفارات والحدود والرخص بالقياس
وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله إنه لا يجوز
وحاصل الخلاف أنه هل في الشريعة جملة من المسائل يعلم أنه لا
يجوز استعمال القياس فيها أوليس كذلك بل يجب البحث عن كل مسألة
أنه هل يجرى القياس فيها أم لا
لنا
التمسك بعموم قوله تعالى فاعتبروا وبإطلاق قول معاذ
أجتهد مع أن الرسول ص صوبه في إطلاقه وبأنه
349

يجب العمل بالضرر المظنون
فإن ادعوا أنه لا يمكننا وجد أن العلة في هذه المسائل فذلك إنما يظهر
بالبحث عن كل واحدة من هذه المسائل فإن وجدنا العلة فيها صح القياس
وإلا فلا
ولكن هذا المعنى غير مختص بهذه المسائل بل كل مسألة لا نجد العلة
فيها تعذر علينا القياس
واعلم أن الشافعي رضي الله عنه ذكر مناقضتهم في هذا الباب
فقال أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى تعهدوها إلى الاستحسان
فإنهم زعموا في شهود الزوايا أن المشهود عليه يجب رجمه بالاستحسان
مع أنه على خلاف العقل فلأن يعمل بما وافق العقل كان أولى
وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع
وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عمدا مع تقييد النص بالعمد في قوله
تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم
350

فإن قلت ليس هذا بقياس وإنما هو استدلال على موضع الحكم
بحذف الفوارق الملغاة
قلت أنكم لما لم تبينوا أن الحكم في الأصل يجب أن يكون
معللا وأن العلة إما الذي به الاشتراك بين الأصل والفرع أو الذي به
الامتياز
وباطل أن لا يكون معللا وباطل أن يكون معللا بما فيه الامتياز فوجب
التعليل بما به الاشتراك ويلزم من حصول ذلك المعنى في الفرع حصول
الحكم فيه وهذا نفس القياس واستخراج العلة بطريق السبر والتقسيم
وأما المقدرات فقد قاسوا فيها حتى إنهم ذهبوا إلى تقديراتهم في
الدلو والبئر
وأما الرخص فقد قاسوا فيها وبالغوا فإن الاقتصار على الأحجار في
الاستنجاء من أظهر الرخص ثم حكموا بذلك في كل النجاسات نادرة
كانت أو معتادة وانتهوا فيها إلى نفي إيجاب استعمال الأحجار
وقالوا أيضا العاصي بسفره يترخص فأثبتوا الرخصة بالقياس مع
351

أن القياس ينفيها لأن الرخصة إعانة والمعصية لا تناسب الإعانة
احتج الخصم بقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات
والقياس لا يفيد القطع فتحصل الشبهة
وأما المقدرات فهي كالنصب في الزكوات والمواقيت في الصلوات
352

وقالوا العقول لا تهتدى إليها
وأما الرخص فقالوا أنها منح من الله تعالى فلا يعدل بها عن
مواضعها
وأما الكفارات فإنها على خلاف الأصل لكونها منفية بالنص النافي
للضرر
والجواب عنه
أنها تشكل بالمسائل التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه
ثم نقول هذه الأدلة خضت بخبر الواحد فإنه يجوز إثبات هذه الأشياء
بخبر الواحد مع أنه لا يفيد العلم وما لأجله صار خبر الواحد مخصصا لها
قائم في القياس الخاص فوجب تخصيصها بالقياس
المسألة السابعة
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله ما طريقة العادة العادة والخلقة
كأقل الحيض وأكثره وأقل النفاس وأكثره لا يجوز إثباته بالقياس لأن
أسبابها غير معلومة لا قطعا ولا ظاهرا فوجب الرجوع فيها إلى قول
الصادق
المسألة الثامنة
الأمور التي لا يتعلق بها عمل لا يجوز إثباتها بالقياس كقرآن النبي
353

ص وإفراده ودخوله مكة صلحا أو عنوة فإن مثل هذه الأمور
تطلب لتعرف لا ليعمل بها فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن
المسألة التاسعة
القياس إذا ورد بخلاف النص فالنص إما أن يكون متواترا أو آحادا
فإن كان متواترا فالقياس أن نسخه كان مردودا
وإن خصصه فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب العموم والخصوص
وإن كان آحادا فهو ما إذا ورد خبر الواحد على خلاف القياس وقد
شرحنا الحال فيه في باب الخبر
المسألة العاشرة
يجوز التعبد بالنصوص في كل الشرع فإنه يمكن أن ينص الله تعالى
على أحكام الأفعال على الجملة ويدخل تفصيلها فيها كما إذا نص على
حرمة الربا في كل مطعوم فيدخل فيه كل مطعوم وأما التعبد بالقياس في الكل فمحال لأن القياس لا يصح إلا بعد
ثبوت الحكم في الأصل لكن أحكام الأصول شرعية لأن العقل لا يدل إلا
على البراءة الأصلية فما عداها لا يثبت إلا بالشرع فلو كانت تلك الأحكام
354

مثبتة بالقياس لزم الدور وهو محال
355

الباب الثاني
في شرائط الأصل
أعلم أن الحكم في المقيس عليه إما أن يكون علة وفق قياس
الأصول
أو على خلاف قياس الأصول
فلنذكر حكم كل واحد من هذين القسمين
ثم نذكر ما ظن أنه شرط في هذا الباب مع أنه ليس بشرط
357

القسم الأول
في شرائط الأصل إذا كان حكمه على وفق قياس الأصول
وهي ستة
الأول
ثبوت حكم الأصل لأن القياس عبارة عن تشبيه الفرع بالأصل في
الحكم وذلك لا يمكن إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل
الثاني
أن يكون الطريق إلى معرفة ذلك الحكم سمعيا وهو ظاهر على
مذهبنا أن جميع الأحكام لا تعرف إلا بالسمع
أما على مذهب من يثبت هذه الأحكام عقلا فقد احتجوا عليه
بأنه لو كان ذلك الطريق عقليا لكانت معرفة ثبوت الحكم في الفرع
عقلية فكان القياس عقليا لا سمعيا
وهذا ضعيف لأن ثبوت الحكم في الفرع يتوقف على ثبوت
الحكم في الأصل وعلى كون ذلك الحكم معللا بالوصف الفلاني وعلى
حصول ذلك الوصف في الفرع فبتقدير أن تكون معرفة الأول عقلية
يحتمل أن تكون المعرفتان الباقيتان سمعيتين
359

محمد وحينئذ لا يمكن معرفة حكم الفرع إلا بمقدمات سمعية والمبنى على
السمع سمعي فيكون ثبوت الحكم في الفرع سمعيا
الثالث
أن لا يكون طريق ثبوت الحكم في الأصل هو القياس لأن العلة
التي يلحق بها الأصل القريب بالأصل البعيد إما أن تكون هي التي بها
يلحق الفرع بالأصل القريب أو غيرها
فإن كان الأول أمكن رد الفرع إلى الأصل البعيد فيكون دخول الأصل
القريب لغوا
وإن كان الثاني لزم تعليل حكم الأصل القريب بعلتين وهو محال
أما أولا فلإنا إلى بينا أن تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين محال
وأما ثانيا فلأنه لا يمكننا إثبات الحكم في الأصل القريب إلا بأن يتوصل
إليه بالعلة الموجودة في الأصل البعيد ومتى توصلنا إلى ثبوته بتلك
العلة امتنع تعليله بالعلة الموجودة في الفرع لأن تلك العلة إنما عرفت بعد
أن عرف تعليل الحكم بعلة أخرى ومتى عرف ذلك كانت العلة الثانية
عديمة الأثر فيكون التعليل بها ممتنعا
360

الرابع
أن لا يكون الدليل الدال على حكم
الأصل دالا بعينه على حكم الفرع وإلا لم يكن جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس
الخامس
لابد وأن يظهر كون ذلك الأصل معللا بوصف معين لأن رد الفرع
إليه لا يصلح إلا بهذه الواسطة
السادس
قالوا يجب أن لا يكون حكم الأصل متأخرا عن حكم الفرع وهو
كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية لأن التعبد بالتيمم إنما ورد بعد
الهجرة
والحق أن يقال لو لم يوجد على حكم الفرع دليل إلا ذلك القياس لم
يجز تقدم الفرع على الأصل لأن قبل هذا الأصل لزم أن يقال كان
هذا الحكم حاصلا من غير دليل وهو تكليف مالا يطاق
أو ما كان حاصلا ألبتة فيكون ذلك كالنسخ
وأما إن وجد قبل ذلك دليل أخر سوى القياس يدل على ذلك الحكم
فجائز فإن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز
361

القسم الثاني
إذا كان الحكم في المقيس عليه على خلاف قياس الأصول
فقال قوم من الشافعية والحنفية يجوز القياس عليه مطلقا
وقال الكرخي لا يجوز إلا لإحدى خلال ثلاث
إحداها
أن يكون قد نص على علة ذلك الحكم لأن النص كالتصريح بوجوب
القياس عليه
وثانيها
أن تجمع الأمة على تعليله وإن اختلفوا في تعليله فلا يجوز القياس
عليه
وثالثها
أن يكون القياس عليه موافقا للقياس على أصول أخرى
والحق أن يقال ما ورد بخلاف قياس الأصول إما أن يكون دليلا مقطوعا
به
أو غير مقطوع به
فإن كان مقطوعا به كان أصلا بنفسه لأن مرادنا بالأصل في هذا
الموضع هذا فكان القياس عليه كالقياس على غيره فوجب أن يرجح
المجتهد بين القياسين
363

يؤكده أنه إذا لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى أن لا يكون القياس
على العموم مانعا من قياس يخالفه لأن العموم أقوى من القياس على
العموم
احتج الخصم
بأن الخبر يخرج من القياس ما ورد فيه وما عداه باق على قياس
الأصول
والجواب
أنه إذا أخرج ما ورد فيه ودلت أمارة على عليته اقتضى إخراج ما
شاركه في تلك العلة
ثم ليس بأن لا يخرج لشبهه بالأصول أولى من أن يخرج لشبهه
بالمنصوص عليه
أما إذا كان غير مقطوع به فإما أن تكون علة حكمة منصوصة
أو لا تكون منصوصة
فإن لم تكن منصوصة ولا كان القياس عليه أقوى من القياس على
الأصول فلا شبهة في أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه لأن
القياس على ما طريق حكمة معلوم أولى من القياس على ما طريق
حكمه غير معلوم
364

وإن كانت منصوصة فالأقرب أنه يستوى القياسان لأن القياس على
الأصول يختص بأن طريق حكمه معلوم وإن كانت علة حكمه غير
معلومة
وهذا القياس طريق حكمه مظنون وعلته معلومة فكل واحد منهما قد
اختص بحظ من القوة
365

القسم الثالث
فيما جعل شرطا في هذا الباب مع أنه ليس بشرط
وهو ثلاثة
الأول
زعم عثمان البتي أنه لا يقاس على الأصل حتى تقوم الدلالة على
جواز القياس عليه
وهو باطل من ثلاثة أوجه
أحدها
أن عموم قوله تعالى فاعتبروا ينفى هذا الشرط
وثانيها
أنا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم علمنا أو ظننا
367

حصوله في الفرع حصل ظن أن حكم الفرع مثل حكم الأصل والعمل
بالظن واجب
وثالثها
أن الصحابة حين استعملوا القياس في مسألة الحرام والجد وغيرها
لم يعتبروا هذا الشرط
الثاني
زعم بشر المريسي أن شرط الأصل انعقاد الإجماع على كون حكمه
معللا أو ثبوت النص على عين تلك العلة
وعندنا أن هذا الشرط غير معتبر والدليل عليه الوجوه الثلاثة المذكورة
الثالث
قال قوم الأصل المحصور بالعدد لا يجوز القياس عليه حتى قالوا في
قوله عليه الصلاة والسلام خمس يقتلن في الحل والحرم لا يقاس
عليه
368

والحق جوازه للوجوه الثلاثة
واحتجوا
بأن تخصيص ذلك العدد بالذكر يدل على نفى الحكم عما عداه
وأيضا
جواز القياس عليه يبطل ذلك الحصر
والجواب
يبطل ذلك بجواز القياس على الأشياء الستة في تحريم ربا الفضل
وهذا أيضا دليل في أول المسألة
369

الباب الثالث
في الفرع
وشرطه أن يوجد فيه مثل علة الحكم في الأصل من غير تفاوت
ألبتة لا في الماهية ولا في الزيادة ولا في النقصان لأن القياس عبارة عن
تعدية الحكم من محل إلى محل والتعدية لا تحصل إلا إذا كان الحكم
المثبت في الفرع مثل المثبت في الأصل
فإن قلت هذا يقتضى أن لا يكون قياس العكس حجة
قلت قد بينا في أول كتاب القياس أن قياس العكس عبارة عن
التمسك بنظم التلازم ابتداءا ثم إنا نثبت مقدمته الشرطية بقياس الطرد
وأما الأمور التي اعتبرها قوم في الفرع مع أنها ليست معتبرة فهي
ثلاثة
الأول
قال بعضهم يجب أن يكون حصول العلة في الفرع معلوما لا
مظنونا
وهذا باطل للنص والحكم والمعقول
أما النص فهو أن عموم قوله تعالى فاعتبروا يقتضى حذف هذا
الشرط
371

وأما الحكم فهو أن الزنا والسرقة إذا ظهرا عند القاضي قضى بوجوب
الحد لأن الطريق إليه شهادة الشهود وهى لا تفيد العلم
وأما المعقول فهو أنه إذا حصل ظن كون الحكم معللا بذلك الوصف
ثم حصل ظن ثبوت ذلك الوصف في الفرع حصل ظن أن الحكم في
الفرع مثل الحكم في الأصل والعمل بالظن واجب مطلقا على ما بيناه
الثاني
قال أبو هاشم الحكم في الفرع يجب أن يكون معا ثبت جملة
حتى يدل القياس على تفصيله ولولا أن الشرع ورد بميراث الجد وإلا لما
استعملت الصحابة القياس في توريثه مع الإخوة وهذا باطل لأن أدلة
القياس تحذف هذا القيد
الثالث
أن لا يكون الفرع منصوصا عليه وهو على قسمين لأن الحكم الذي دل
النص عليه إما أن يكون مطابقا للحكم الذي دل عليه القياس أو مخالفا
فإن كان الأول جاز استعمال القياس فيه عند الأكثرين لأن ترادف
الأدلة على المدلول الواحد جائز
ومنعه بعضهم استدلالا بأن معاذا إنما عدل إلى الاجتهاد بعد فقدان
النص فدل على أنه لا يجوز استعماله عند وجوده
وأيضا
فالدليل ينفى جواز العمل بالقياس لكونه اتباعا للظن وإن الظن لا
372

يغنى من الحق شيئا ترك العمل به فيما إذا لم يوجد النص للضرورة
فيبقى حال وجود النص على مقتضى الأصل
والجواب عن الأول
أن قصة معاذ دالة على أن التمسك بالقياس عند فقدان النص جائز
فأما عند وجود النص فليس فيه دليل لا على جواز ولا على بطلانه
وعن الثاني
ما تقدم مرارا من أن العمل بالقياس ليس على خلاف الدليل
373

خاتمة
لهذا الباب
هاهنا نوع آخر من القياس يستعمله أهل الزمان وهو أن يقال لو
ثبت الحكم في الفرع لثبت في الأصل لأن بتقدير ثبوته في الفرع وجب
أن يكون ثبوته لأجل المعنى الفلاني لمناسبته واقتران الحكم به
وذلك المعنى حاصل في الأصل فيلزم ثبوت الحكم فيه
فثبت أن الحكم لو ثبت في الفرع لثبت في الأصل فلما لم يثبت في
الأصل وجب أن لا يثبت في الفرع
ويمكن أن يذكر ذلك على وجه آخر أسد تلخيصا وهو أن يقال
ثبوت الحكم في الفرع يفضى إلى محذور فوجب أن لا يثبت
نماقلنا انه يفضى إلى محذور لأنه لو ثبت الحكم في الفرع
لكان إما أن يكون معللا بهذا الوصف الذي يشترك الفرع والأصل فيه
أو لا يكون معللا به
فإن كان الأول لزم النقص لأنه غير ثابت في الأصل
375

وإن كان الثاني لزم النقض لأن المناسبة والاقتران دليل العلية
فحصولها بدون العلية يوجب النقض
وهذا آخر كلامنا في القياس وبالله التوفيق
376

الكلام
في التعادل والترجيح
وهو مرتب على أربعة أقسام
377

القسم الأول في التعادل
وفيه مسألتان
379

المسألة الأولى
اختلفوا في أنه هل يجوز تعادل الأمارتين
فمنع منه الكرخي مطلقا
وجوزه الباقون
ثم المجوزون اختلفوا في حكمه عند وقوعه
فعند القاضي أبي بكر منا وأبي على وأبي هاشم من المعتزلة حكه
التخيير
وعند بعض الفقهاء حكمه أنهما يتساقطان ويجب الرجوع إلى
مقتضى العقل
والمختار أن نقول تعادل الأمارتين إما أن يقع في حكمين متناقضين
والفعل واحد وهو كتعارض الأمارتين على كون الفعل قبيحا ومباحا
وواجبا
وإما أن يكون في فعلين متنافيين والحكم واحد نحو وجوب التوجه إلى
جهتين قد غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة
أما القسم الأول فهو جائز في الجملة لكنه غير واقع في الشرع
أما أنه جائز في الجملة فلأنه يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفي والإثبات
وتستوي عدالتهما وصدق لهجتهما بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الآخر
380

وأما أنه في الشرع غير واقع فالدليل عليه أنه لو تعادلت أمارتان على
كون هذا الفعل محظورا ومباحا فإما أن يعمل بهما معا أو يتركا معا أو
يعمل بإحداهما دون الثانية
والأول محال لأنه يقتضى كون الشئ الواحد في الوقت الواحد من
الشخص الواحد محظورا مباحا وهو محال
والثاني أيضا محال لأنهما لما كانتا في نفسيهما بحيث لا يمكن
العمل بهما ألبتة كان وضعهما عبثا والعبث غير جائز على الله تعالى
وأما الثالث وهو أن يعمل بإحداهما دون الأخرى فإما أن يعمل
بإحداهما على التعيين أو لا على التعيين
والأول باطل لأنه ترجيح من غير مرجح فيكون ذلك قولا في الدين
بمجرد التشهي وإنه غير جائز
والثاني أيضا باطل لأنا إذا أخيرناه كان بين الفعل والترك فقد أبحنا له
الفعل فيكون هذا ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها على أمارة الحظر
وذلك هو القسم الذي تقدم إبطاله
فثبت أن القول بتعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد
يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة فوجب أن يكون باطلا
381

فإن قيل لم لا يجوز العمل بإحدى الأمارتين على التعيين إما لأنها
أحوط أو لأنها أخذ بالأصل
سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون مقتضى التعادل هو التخيير
قوله القول بالتخيير إباحة الفعل فيكون ذلك ترجيحا لأمارة
الإباحة
قلنا لا نسلم أن الأمر بالتخيير إباحة
بيانه
أنه يجوز أن يقول الله تعالى أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة
وبأمارة أبو الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل
وإن أخذت بأمارة الحرمة فقد حرمت الفعل عليك فهذا لا يكون إذنا
في الفعل والترك مطلقا بل إباحة في حال وحظرا في حال أخرى
ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين
أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز تركهما بشرط أن يقصد
الترخص
وأيضا من استحق أربعة دراهم على غيره فقال تصدقت عليك
382

بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت بالأربعة قبلت الأربعة عن الدين
واجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين وإن شاء أتى بالأربعة عن
الواجب
فكذا في مسألتنا إذا سمع قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين
حرم عليه الجمع بين المملوكتين
وإنما يجوز له الجمع إذا قصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو قوله
تعالى إلا ما ملكت أيمانكم كما قال عثمان رضي الله عنه
أحلتهما آية وحرمتهما آية
سلمنا ذلك لكن هذه الدلالة إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر
والإباحة
وأما عند تعارض أمارة الحظر والوجوب إذا قلنا بالتخيير لم
383

يلزم ترجيح إحداهما على الأخرى فدليلكم على امتناع التعادل غير متناول
لكل الصور
سلمنا فساد القول بالتخيير فلم لا يجوز التساقط
قوله لأنه عبث
قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يقال إن لله تعالى فيه حكمة
خفية لا يطلع عليها
وأيضا
فهب أن التعادل في نفس الأمر ممتنع لكن لا نزاع في وقوع التعادل
بحسب أذهاننا فإذا أجاز أن لا يكون التعادل الذهني عبثا فلم لا يجوز أن
لا يكون التعادل الخارجي عبثا أيضا
ثم ما ذكرتموه يشكل بما إذا أفتى مفتيان أحدهما بالحل والآخر
بالحرمة واستويا في ظن المستفتى ولم يوجد الرجحان فإنهما بالنسبة
إلى العامي كالأمارة
والجواب
قوله لم لا يجوز العمل بإحداهما لأنه أحوط أو لأنه أصل
قلنا إن جاز الترجيح بهاتين الجهتين فوجوده ينافي التعادل
وإن لم يجز فقد بطل كلامك
384

قوله لم قلت إن التخيير إباحة
قلت لأن المحظور هو الذي منع من فعله والمباح هو الذي لم
يمنع من فعله فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع الحجر فلا يبقى
الحظر ألبتة ولا معنى للإباحة إلا ذلك قوله ذلك
الفعل محظور بشرط أن يأخذ بأمارة الحظر ومباح
بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة
قلنا هذا باطل من وجهين
الوجه الأول
هو أن أمارة الإباحة وأمارة الحظر إما أن تقوما على ذات الفعل وماهيته
باعتبار واحد
أوليس كذلك بل تقوم أمارة الإباحة على الفعل المقيد بقيد وتقوم إمارة
الحظر على الفعل المقيد بقيد آخر
فإن كان الثاني كان ذلك مغايرا لهذه المسألة التي نحن فيها لأن هذه
المسألة هي أن تقوم الأمارتان على إباحة شئ واحد وحظره وعلى التقدير
الذي قالوا قامت أمارة الإباحة على شئ وأمارة الحظر على شئ آخر
فإنهم لما قالوا عند الأخذ بأمارة الحرمة يحرم الفعل عليه فمعناه أن أمارة
الحرمة قائمة على حرمة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة وأمارة الإباحة
قائمة على إباحة هذا الفعل حال عدم الأخذ بأمارة الحرمة فالأمارتان
385

أو إنما قامتا على شيئين متنافيين غير متلازمين لا على شئ واحد وكلامنا
في قيام الأمارتين على حكمين متنافيين في شئ واحد لا في شيئين
وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم الأول وهو أن أمارة الحظر وأمارة
الإباحة قامتا على ذات الفعل وماهيته باعتبار واحد
فإن رفعنا الحظر عن ماهية الفعل كان ذلك إباحة فيكون ترجيحا
لإحدى الأمارتين بعينها
وإن لم نرفع ذلك كان ذلك حظرا فيكون ترجيحا للأمارة الأخرى
بعينها
الوجه الثاني في الجواب أن نقول
ما المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين
إن عنيتم بهذا الأخذ اعتقاد رجحانها فهذا باطل لأنها إذا لم تكن
راجحة كان اعتقاد رجحانها جهلا
وأيضا
فنفرض الكلام فيما إذا حصل العلم بأنه لا رجحان ففي هذه الصورة
يمتنع حصول اعتقاد الرجحان
وإن عنيتم بهذا الأخذ العزم على الإتيان بمقتضاها فذاك العزم إما أن
يكون عزما جزما بحيث يتصل بالفعل لا محالة
أو لا يكون كذلك
فإن كان الأول كان الفعل في ذلك الوقت واجب الوقوع فيمتنع ورود
386

الإباحة والحظر لأنه يكون ذلك إذنا في إيقاع ما يجب وقوعه أو منعا عن
إيقاع إيقاع ما يجب وقوعه
وإن كان الثاني وهو أن يكون العزم عزما فاترا فهاهنا يجوز له الرجوع
لأنه إذا عزم عزما فاترا على الترك فلو أراد الرجوع عن هذا العزم وقصد الإقدام
على الفعل جاز له ذلك فعلمنا أن ما قالوه فاسد
قوله هذه الدلالة لا تطرد عند تعارض أمارتي) الوجوب والحظر
قلنا لا قائل بالفرق
وأيضا
فالإباحة منافية للوجوب والحظر فعند تعادل أمارتي الوجوب
والحظر لو حصلت الإباحة لكان ذلك قولا بتساقطهما وإثباتا لحكم
لم يدل عليه دليل أصلا
قوله لم لا يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية
قلنا لأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوسل بها إلى المدلول فإذا
كان هو في ذاته بحيث يمتنع التوسل به إلى الحكم كان خاليا عن
المقصود الأصلي منه ولا معنى للعبث إلا ذلك
وهذا بخلاف وقوع التعارض في أفكارنا لأن الرجحان لما كان
حاصلا في نفس الأمر لم يكن واضعه عابثا بل غايته أنا لقصورنا أو
تقصيرنا ما انتفعنا به
أما إذا كان الرجحان مفقودا في نفس الأمر كان الواضع عابثا
387

وأما القسم الثاني وهو تعادل الأمارتين في فعلين متنافيين والحكم
واحد فهذا جائز ومقتضاه التخيير
والدليل على جوازه وقوعه في صور
إحداها
قوله عليه الصلاة والسلام في زكاة الإبل في كل أربعين بنت لبون
وفي كل خمسين حقة فمن ملك مائتين فقد ملك أربع خمسينات
وخمس أربعينات فإن أخرج الحقاق فقد أدى الواجب إذ عمل بقوله في
كل خمسين حقة
وإن أخرج بنات اللبون فقد عمل بقوله عليه الصلاة والسلام في كل
أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين أولى من الآخر فيتخير
وثانيها
من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جانب شاء لأنه كيف فعل
فهو مستقبل شيئا من الكعبة
وثالثها
أن الولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسمه
388

عليهما أو منعهما لماتا ولو سقى أحدهما مات الآخر فهاهنا هو مخير
بين أن يسقى هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا ولا سبيل إلا
التخيير
ورابعها
أن ثبوت الحكم في الفعلين المتنافيين نفس إيجاب الضدين وذلك
يقتضى اجياب عبد إيجاب فعل كل واحد منهما بدلا عن الآخر
واحتج الخصم على فساد التخيير
بأن أمارة وجوب كل واحد من الفعلين اقتضت وجوبه على وجه لا
يسوغ الإخلال به والتخيير بينه وبين ضده يسوغ الإخلال به فالقول بالتخيير
مخالف لمقتضى الأمارتين معا
والجواب
أما أمارة وجوب الفعل فتقتضى وجوبه قطعا
وأما المنع من الإخلال به على كل حال فموقوف على عدم الدلالة
على قيام غيره مقامه وإذا كان كذلك لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى
الأمارتين
فرع
هذا التعادل إن وقع للإنسان في عمل نفسه كان حكمه فيه التخيير
وإن وقع للمفتي كان حكمه أن يخير المستفتى في العمل بأيهما شاء
389

كما يلزمه ذلك في أمر نفسه
وإن وقع للحاكم وجب عليه التعيين لأن الحاكم نصب لقطع
الخصومات فلو خير الخصمين لم تنقطع خصومتهما لأن كل واحد
منهما يختار الذي هو أوفق له وليس كذلك حال المفتى
فإن قلت فهل للحاكم أن يقضى في الحكومة بحكم إحدى
الأمارتين إذا كان قد قضى فيها من قبل بالأمارة الأخرى
قلت لا يمتنع ذلك عقلا كمن يجوز لمن استوى عنده جهتا القبلة
أن يصلى مرة إلى جهة ومرة إلى جهة أخرى
إلا أنه منع منه دليل شرعي وهو ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال
لأبي بكرة رضي الله عنه لا تقضين في شئ واحد بحكمين مختلفين
فأما ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في المسألة
الحمارية بحكمين وقال ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي
فيجوز أن يكون ذلك ليس لتعادل الأمارات بل لأنه ظن في المرة الأولى قوة
390

تلك الأمارة وفي المرة الثانية قوة هذه الأمارة
المسألة الثانية
إذا نقل عن المجتهد قولان فإما أن يوجد له في المسألة قولان في
موضع واحد أو في موضعين
فإن وجد القولان في موضعين بأن يقول في كتاب بتحريم شئ
وفي كتاب آخر بتحليله فإما أن يعلم التاريخ
أو لا يعلم
فإن علم التاريخ فالثاني منهما رجوع عن الأول ظاهرا
وإن لم يعلم التاريخ حكى عنه القولان ولا يحكم عليه بالرجوع إلى
أحدهما بعينه
وإن وجد القولان في الموضع الواحد بأن يقول في المسألة قولان
فإما أن يقول عقيب هذا القول ما يشعر بتقوية أحدهما فيكون ذلك قولا له
لأن قول المجتهد ليس إلا ما ترجح عنده
وإن لم يقل ذلك فهاهنا من الناس من قال إنه يقتضى
التخيير إلا أنا أبطلنا ذلك
وأيضا
فبتقدير صحته يكون له في المسألة قول واحد وهو التخيير لا
قولان بل الحق أن ذلك يدل على أنه كان متوقفا في المسألة ولم يظهر له
وجه رجحان والمتوقف في المسألة لا يكون له فيها قول واحد
فضلا عن القولين
391

أما إذا لم يعرف قوله في المسألة وعرف قوله في نظيرها فهل يجعل
قوله في نظيرها قولا له فيها فنقول
إن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم يحكم بأن قوله
في المسألة كقوله في نظيرها لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق
وإن لم يكن بينهما فرق ألبتة فالظاهر أن قوله في إحدى المسألتين
قول له في الأخرى
وأما الأقوال المختلفة عن الشافعي رضي الله عنه فهي على وجوه
أحدها
أن يكون قد ذكر في كتبه القديمة شيئا وفي كتبه الجديدة شيئا آخر
والناس نقلوهما عليه دفعة واحدة وجعلوهما قولين له فالمتأخر كالناسخ
للمتقدم
وهذا النوع من التصرف يدل على علو شأنه في العلم والدين
أما في العلم فلأنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا بالطلب
والبحث والتدبر
وأما في الدين فلأنه يدل على أنه متى لاح له في الدين شئ أظهره
فإنه ما كان يتعصب لنصرة قوله وترويج مذهبه بل كان منتهى مطلبه إرشاد
الخلق إلى سبيل الحق
392

وثانيها
أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد ونص على الترجيح كقوله
في بعض ما ذكر فيه قولين وبهذا أقول وهذا أولى وبالحق أشبه
وأيضا
فقد يفرع على أحدهما ويترك التفريع على الآخر فيعلم أن الذي فرع
عليه أقوى عنده
وأيضا
فربما نبه في آخر كلامه على الترجيح لكن المطالع قد لا يتبع كلامه إلى
آخره وقد يمل فلا ينتبه لموضع الترجيح
وثالثها
أن يقول في هذه المسألة قولان ولا ينبه على الترجيح ألبتة فهاهنا
احتمالان
أحدهما
أنه قال في هذه المسألة قولان ولم يقل لي فيها قولان فيمكن
أن يكونا قولين لبعض الناس وإنما ذكرها لينبه الناظر في كتابه على
مأخذهما وإيضاح القول فيما لكل واحد منهما وعليهما
ولأنه لو لم يذكرهما فربما خطر ببال إنسان وجه في قوته إلا أنه لا
يمكنه القول به لظنه أنه قول حادث خارق للإجماع فإذا نقله عرف
أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع ثم جاء الناقل فجعلهما قولين للشافعي
393

فهذا لا يكون عيبا على الشافعي بل على الناقل فإن الشافعي لم يقل
لي فيها قولان بل قال فيها قولان فإذا جزم الراوي بكونهما قولين
للشافعي كان العيب على الناقل
وثانيهما
لعل مراد الشافعي بقوله فيها قولان أن في المسألة احتمالين يمكن
أن يقول بهما قائل وذلك إذا كان ما سوى ذينك القولين ظاهر البطلان
فأما ذانك القولان فيكونان قويين بحيث يمكن نصرة كل واحد
منهما بوجوه جلية ظاهرة ولا يقدر على تمييز الحق منهما عن الباطل إلا
البالغ في التحقيق فلا جرم أفردهما بالذكر دون سائر الوجوه
وكما أنه يجوز أن يقال للخمر التي في الدن إنها مسكرة وللسكين
أبي التي لم تقطع إنها قاطعة والمراد منه الصلاحية لا الوقوع فكذلك ها
هنا
ثم إنه لم يرجح أحدهما على الآخر لأنه لم يظهر له فيه وجه الترجيح
ونقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد الأسفراييني أنه
قال لم يصح عن الشافعي رضي الله عنه قولان على هذا الوجه إلا في
سبع عشرة مسألة
أقول وهذا أيضا يدل على كمال منصبه في العلم والدين
أما العلم فلأن كل من كان أغوص نظرا وأدق فكرا وأكثر إحاطة
394

بالأصول والفروع وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات عنده
أكثر
أما المصر على الوجه الواحد طول عمره في المباحث الظنية بحيث
لا يتردد فيه فذاك لا يكون إلا من جمود الطبع وقلة الفطنة وكلال
القريحة وعدم الوقوف على شرائط الأدلة والاعتراضات
وأما الدين فمن وجهين
الأول
انه لما لم يظهر له فيه وجه الرجحان لم يستح من الاعتراف بعدم
العلم ولم يشتغل بالترويج (والمداهنة بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه
وذلك لا يصدر إلا عن الدين المتين
كيف وقد نقل عن عمر رضي الله عنه اعترافه بعدم العلم في كثير
من المسائل وجميع المسلمين عدوا ذلك من مناقبه وفضائله فكيف
جعلوه عيبا هاهنا
والثاني
وهو أنه رضي الله عنه لم يقل ابتداءا إني لا اعرف هذه المسألة بل
وجد المسألة واقعة بين أصلين فذكر وجه وقوعها بينهما وكيفية اشتباهها
بهما ثم طا لم يظهر له الرجحان تركها على تلك الحالة ليكون ذلك بعثا
395

له على الفكر بعد ذلك وحثا لغيره من المجتهدين على طلب الترجيح
وهذا هو اللائق بالدين المتين والعقل الرصين والعلم الكامل بل من
أنصف واعترف بالحق علم أن ذلك مما يدل على رجحان حاله على حال
سائر المجتهدين في العلم والدين
396

القسم الثاني في مقدمات الترجيح
وفيه مسائل
المسألة الأولى
الترجيح تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى فيعمل به
ويطرح الآخر
وإنما قلنا طريقين لأنه لا يصح الترجيح بين أمرين إلا بعد تكامل
كونهما طريقين لو انفرد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح الطريق على
ما ليس بطريق
المسألة الثانية
الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح
وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير أو التوقف
397

لنا وجوه
الأول
إجماع الصحابة على العمل بالترجيح فإنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها
في التقاء الختانين على قول من روى انما الماء من الماء
وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة
أنه من أصبح جنبا فلا صوم له
وقوى على خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره
وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن
مسلمة
وقوى عمر خبر أبي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد
الخدري
الثاني
أن الظنين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل
بالراجح متعينا عرفا فيجب شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام ما رآه
المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
الثالث
أنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح وترجيح المرجوح
على الراجح ممتنع في بدائه العقول
398

واحتج المنكر بأمرين
الأول
أن الترجيح لو اعتبر من الأمارات لاعتبر في البينات في الحكومات
لأنه لو اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجيح الأظهر على الظاهر وهذا
المعنى قائم هاهنا
الثاني
أن إيماء قوله تعالى فاعتبروا وقوله عليه الصلاة والسلام
نحن نحكم بالظاهر يقتضي إلغاء زيادة الظن
والجواب عن الأول والثاني
أن ما ذكرته دليل ظني وما ذكرناه قطعي والظني لا يعارض القطعي
المسألة الثالثة
الترجيح لا يجرى في الأدلة اليقينية لوجهين
الأول
أن شرط الدليل اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية أو لازما
عنها لزوما ضروريا إما بواسطة واحدة أو بوسائط شأن كل واحد
منها ذلك
وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة
399

أحدها
العلم الضروري بحقيقة المقدمات إما ابتداءا أو استنادا
وثانيها
العلم الضروري بصحة تركيبها
وثالثها
العلم الضروري بلزوم النتيجة عنها
ورابعها
العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضروري لزوما ضروريا فهو
ضروري
فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا وإلا لزم القدح
في الضروريات وهو سفسطة وإذا استحال ثبوتها امتنع التعارض
الثاني
أن الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقيني لا يقبل التقوية لأنه إن
قارنه احتمال النقيض ولو على أبعد الوجوه كان ظنا لا علما وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية
المسألة الرابعة
أشتهر في الألسنة أن العقليات لا يجرى الترجيح فيها
وهذا فيه تفصيل فإنا إن لم نكلف العوام بتحصيل العلم بالمعتقدات
400

ما بل قنعنا منهم بالاعتقاد الجازم على سبيل التقليد لم يمتنع تطرق التقوية
إليه
المسألة الخامسة
مذهب الشافعي رضي الله عنه حصول الترجيح بكثرة الأدلة
وقال بعضهم لا يحصل
ومن صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر لكثرة الرواة
لنا وجهان
الأول
أن الأمارات متى كانت أكثر كان الظن أقوى ومتى كان الظن أقوى
تعين العمل به
بيان الأول من وجوه
أحدها
أن الرواة إذا بلغوا في الكثرة حدا حصل العلم بقولهم وكلما كانت
المقاربة إلى ذلك الحد أكثر وجب أن يكون اعتقاد صدقهم أقوى
وثانيها
أن قول كل واحد منهم يفيد قدرا من الظن فإذا اجتمعوا استحال
أن لا يحصل إلا ذلك القدر الذي كان حاصلا بقول الواحد وإلا فقد اجتمع
على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال فإذن لا بد من الزيادة
401

وثالثها
أن احتراز العدد عن تعمد الكذب أكثر من احتراز الواحد وكذا
احتمال الغلط والنسيان على العدد أبعد
ورابعها
أن احتراز العاقل عن كذب يعرف اطلاع غيره عليه أكثر من احترازه
عن كذب لا يشعر به غيره
وخامسها
أنا إذا فرضنا دليلين متعارضين يتساويان في القوة في ذهننا فإذا وجد
دليل أخر يساوى أحدهما فمجموعهما لابد وأن يكون زائدا على ذلك
الآخر لأن مجموعهما أعظم من كل واحد منهما وكل واحد منهما مساو
لذلك الآخر والأعظم من المساوى أعظم
وسادسها
إجتماع الصحابة على أن الظن الحاصل بقول الاثنين أقوى من الظن
الحاصل بقوا الواحد فإن الصديق لم يعمل بخبر المغيرة في مسألة
الجدة حتى شهد له محمد بن مسلمة
وعمر لم يقبل خبر أبي موسى حتى شهد له أبو سعيد الخدري فلولا أن
لكثرة الرواة أثرا في قوة الظن وإلا لما كان كذلك
فثبت بهذه الوجوه أن الظن إذا كان أقوى وجب أن يتعين العمل به
402

وذلك لأنا أجمعنا على جواز الترجيح بقوة الدليل وجواز الترجيح بقوة الدليل
إنما كان لزيادة القوة في أحد الجانبين وهذا المعنى حاصل في الترجيح بكثرة
الأدلة
بلى إذا كان الترجيح بالقوة حصلت الزيادة مع المزيد عليه ولا
فرق إلا أن في الترجيح بالقوة وجدت الزيادة مع المزيد عليه وفي
الترجيح بالكثرة حصلت الزيادة في محل والمزيد عليه في محل آخر
والعلم الضروري حاصل بأنه لا أثر لذلك
الوجه الثاني في المسألة أن مخالفة كل دليل خلاف الأصل فإذا
وجد في أحد الجانبين دليلان وفي الجانب الآخر دليل واحد كانت مخالفة
الدليلين أكثر محذورا من مخالفة الدليل الواحد فاشترك الجانبان في قدر من
المحذور واختص أحدهما بقدر زائد لم يوجد في الطرف الآخر ولو لم
يحصل الترجيح لكان ذلك التزاما لذلك القدر الزائد من المحذور من غير
معارض وأنه غير جائز
واحتج الخصم بالخبر والقياس
أما الخبر فقوله عليه الصلاة السلام نحن نحكم بالظاهر
فهذا بإيماءه لا يدل على أن المعتبر أصل الظهور وأن الزيادة عليه ملغاة
ترك العمل به في الترجيح بقوة الدليل لأن هناك الزيادة مع المزيد عليه
حاصلان في محل والقوى حال اجتماعها تكون أقوى منها حال
تفرقها
بخلاف الترجيح بكثرة الدليل فإن هناك الزيادة في محل والمزيد عليه
403

في محل آخر فلا يحصل كمال القوة
أما القياس فقد أجمعنا على أنه لا يحصل الترجيح بالكثرة في
الشهادة والفتوى فكذا هاهنا
وأيضا
أجمعنا على أن الخبر الواحد لو عارضه ألف قياس فإنه يكون راجحا
على الكل وذلك يدل على أن الترجيح لا يحصل بكثرة الأدلة
والجواب عن الأول
أن ذلك الإيماء ترك العمل به في الترجيح بالقوة فوجب أن يترك العمل
به في الترجيح بالكثرة لأن المعتبر قوة الظن وهى حاصلة في
الموضعين
أما قوله إن في الترجيح بالقوة تحصل الزيادة مع المزيد في محل
واحد وللإجتماع أثر
قلت نحن نعلم أنه وإن كان محل الزيادة مغايرا الأصل لكن
مجموعهما مؤثر في تقوية الظن فإنه إذا أخبرنا مخبر عدل عن واقعة حصل
ظن ما فإذا أخبرنا ثان صار ذلك الظن أقوى وإذا أخبرنا ثالث صار ذلك
الظن أقوى ولا تزال القوة تزداد بازدياد المخبرين حتى ينتهي إلى العلم
404

فعلمنا أن ما ذكروه من الفرق لا يقدح في كونه مقويا للظن
وأما فصل الشهادة فعند مالك رحمه الله يحصل الترجيح فيها بكثرة
الشهود
والفرق أن الدليل يأبى اعتبار الشهادة حجة لما فيه من توهم الكذب
والخطأ وتنفيذ قول شخص على شخص مثله إلا أنا اعتبرناها فصلا
للخصومات فوجب أن تعتبر حجة على وجه لا يفضى إلى تطويل
الخصومات لئلا يعود على موضوعه بالنقض فلو أجرينا فيه الترجيح
بكثرة العدد لزم تطويل الخصومة فإنهما إذا أقاما الشهادة من الجانبين
على السوية كان لأحدهما أن يستمهل القاضي ليأتي بعدد آخر من الشهود
فإذا أمهله من إقامتها بعد انقضاء المدة كان للاخر أن يفعل ذلك ويفضى
ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة ألبتة فأسقط الشرع اعتبار الترجيح بالكثرة
دفعا لهذا المحذور
وأما الترجيح بكثرة المفتين فقد جوزه بعض العلماء
405

وأما قوله الخبر الواحد يقدم على القياسات الكثيرة
قلنا إن كانت أصول تلك القياسات شيئا واحدا فالخبر الواحد يقدم
عليها وذلك لأن تلك القياسات لا تتغاير إلا إذا عللنا حكم الأصل
في كل قياس بعلة أخرى والجميع بين كلها محال لما عرفت أنه لا
يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وإذا علمنا أن الحق منها ليس
إلا الواحد لم تحصل هناك كثرة الأدلة
أما إن كان أصول تلك القياسات كثيرة فلا نسلم أنه لا يحصل
الترجيح
المسألة السادسة
إذا تعارض الدليلان فالعمل بكل واحد منهما من وجه دون أولى من
العمل بأحدهما دون الثاني لأن دلالة اللفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة
لدلالته على كل مفهومه ودلالته على كل مفهومه دلالة أصلية
فإذا عملنا بكل واحدة منهما بوجه دون وجه فقد تركنا العمل بالدلالة
التبعية
وإذا عملنا بأحدهما دون الثاني فقد تركنا العمل بالدلالة الأصلية ولا
شك أن الأول أولى
فثبت أن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه أولى من العمل
بأحدهما من كل وجه دون الثاني
406

إذا ظهر ذلك فنقول العمل بكل واحد من وجه ثلاثة أنواع
أحدها
الاشتراك والتوزيع إن كان قبل التعارض يقبل ذلك
وثانيها
أن يقتضى كل واحد منهما حكما ما فيعمل بكل واحد منهما في حق
بعض الأحكام
وثالثها
العامان إذا تعارضا يعمل بكل واحد منهما في بعض الصور كقوله عليه
الصلاة والسلام ألا أخبركم بخير الشهداء قيل بلى يا رسول الله قال أن
يشهد الرجل قبل أن يستشهد
وقوله عليه الصلاة والسلام ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن
يستشهد فيعمل بالأول من حقوق الله والثاني في حقوق العباد
407

المسألة السابعة
إذا تعارض دليلان فإما أن يكونا عامين
أو خاضيبن
على أو أحدهما عاما والآخر خاصا
أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه
وعلى التقديرات الأربعة فإما أن يكونا معلومين
أو مظنونين
أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا
وعلى التقديرات كلها فإما أن يكون المتقدم معلوما والمتأخر معلوما
أو لا يكون واحد منهما معلوما
فلنذكر أحكام هذه الأقسام
القسم الأول أن يكون عامين
فإما أن يكونا معلومين
أو مظنونين
أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا
النوع الأول أن يكونا معلومين
فإما أن يكون التاريخ معلوما
أو لا يكون
فإن كان معلوما فإما أن يكون المدلول قابلا للنسخ
408

أو لا يكون
فإن قبله جعلنا المتأخر ناسخا للمتقدم سواء كانا آيتين أو خبرين أو
أحدهما آية والآخر خبرا متواترا
فإن قلت فما قول الشافعي هاهنا مع أن مذهبه أن القرآن لا ينسخ
بالخبر المتواتر ولا بالعكس
قلت هذا التقسيم لا يفيد إلا أنه لو وقع لكان المتأخر ناسخا للمتقدم
والشافعي يقول لم يقع ذلك فليس بين مقتضى هذا التقسيم وبين قول
الشافعي منافاة
وإن كان مدلولهما غير قابل للنسخ فيتساقطان ويجب الرجوع إلى
دليل آخر
هذا إذا علم تقدم أحدهما على الآخر
فإما إذا علم أنهما تقارنا فإن أمكن التخيير فيهما تعين القول
به فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير
ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أن
المعلوم لا يقبل الترجيح
ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم أيضا نحو كون
أحدهما حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأنه يقتضى طرح المعلوم بالكلية
وإنه غير جائز
409

وأما إذا لم يعلم التاريخ فهاهنا يجب الرجوع إلى غيرهما لأنا نجوز في
كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر فيكون ناسخا للآخر
النوع الثاني أن يكونا مظنونين
فإن نقل تقدم أحدهما على الآخر كان المتأخر ناسخا
وإن نقلت المقارنة أو لم يعلم شئ من ذلك وجب الرجوع إلى
الترجيح فيعمل بالأقوى
وإن تساويا كان التعبد فيهما التخيير
النوع الثالث أن يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا
فإما أن ينقل تقدم أحدهما على الآخر أو لا ينقل ذلك
فإن نقل وكان المعلوم هو المتأخر كان ناسخا للمتقدم
وإن كان المظنون هو المتأخر لم ينسخ المعلوم
وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر وجب العمل بالمعلوم لأنه إن
كان هو المتأخر كان ناسخا
وإن كان هو المتقدم لم ينسخه المظنون
وإن كان مقارنا كان المعلوم راجحا عليه لكونه معلوما
القسم الثاني من الأقسام الأربعة أن يكونا خاصين
والتفصيل فيه كما في العامين من غير تفاوت
القسم الثالث أن يكون كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه
كما في قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين مع قوله إلا ما
410

ملكت أيمانكم
وكما في قوله عليه الصلاة والسلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها
إذا ذكرها مع نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في الأوقات الخمسة
المكروهة فإن الأول عام في الأوقات خاص في صلاة القضاء والثاني
عام في الصلاة خاص في الأوقات
فهذان العمومان إما أن يعلم تقدم أحدهما على صاحبه أو لا يعلم
فإن علم وكانا معلومين أو مظنونين أو كان المتقدم مظنونا والمتأخر
معلوما كان المتأخر ناسخا للمتقدم على قول من قال العام ينسخ
الخاص المتقدم لأنه إذا كان عندهم أن العام المتأخر ينسخ الخاص
المتقدم فما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا
وإن كان المتقدم معلوما والمتأخر مظنونا لم يجز عندهم أن ينسخ
الثاني الأول ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح
411

فأما من يقول إن العام المتأخر يبنى على الخاص المتقدم والخاص
المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم فاللائق بمذهبه أن لا
يقول في شئ من هذا لأقسام بالنسخ بل يذهب إلى الترجيح لأنه ليس
يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم حتى يخرج من المتقدم ما دخل
تحت المتأخر
وأما إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فإن كانا معلومين لم يجز
ترجيح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لكن يجوز الترجيح بما يتضمنه
أحدهما من كونه حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأن الحكم بذلك طريقة
الاجتهاد وليس في ترجيح أحدهما على الآخر اطراح الآخر بخلاف ما إذا
تعارضا من كل وجه فإن لم يترجح أحدهما على الآخر فالحكم التخيير
وأما إذا كانا مظنونين جاز ترجيح كل واحد منهما على الآخر بقوة
الإسناد وبما تضمنه الحكم
وإذا لم يترجح فالحكم التخيير
وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا جاز ترجيح المعلوم على
المظنون لكونه معلوما
فإن ترجح المظنون عليه بما يتضمن الحكم حتى حصل التعارض
فإن الحكم ما قدمناه
القسم الرابع إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا
فإن كانا معلومين أو مظنونين وكان الخاص متأخرا كان ناسخا للعام
المتقدم
412

وإن كان العام متأخرا كان ناسخا للخاص المتقدم عند الحنفية
وعندنا أنه يبنى العام على الخاص
وإن وردا معا خص العام بالخاص إجماعا
وإن جهل التاريخ فعندنا يبنى العام على الخاص
وعند الحنفية يتوقف فيه
وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا فقد اتفقوا على تقديم
المعلوم على المظنون إلا إذا كان المعلوم عاما والمظنون خاصا ووردا
معا وذلك مثل تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد والقياس
وقد ذكرنا أقوال الناس فيهما في باب العموم
413

القسم الثالث في تراجيح الأخبار
ترجيح الخبر إما أن يكون بكيفية إسناده
أو بوقت وروده
أو بلفظه
أو بحكمه
أو بأمر خارج عن ذلك
القول في التراجيح الحاصلة في الإسناد
واعلم أن الترجيح إما أن يقع بكثرة الرواة أو بأحوالهم
أما الواقع بكثرة الرواة فمن وجهين
أحدهما
أن الخبر الذي رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك وقد تقدم
بيانه
الثاني
أن يكون أحدهما أعلى إسنادا فإنه مهما كانت الرواة أقل كان
414

احتمال الكذب والغلط أقل ومهما كان ذلك أقل كان احتمال الصحة
أظهر وإذا كان أظهر وجب العمل به
فعلو الإسناد راجح من هذا الوجه لكنه مرجوح من وجه آخر وهو كونه
نادرا
وأما التراجيح الحاصلة بأحوال الرواة فهي إما العلم أو
الورع أو الذكاء أو الشهرة أو زمان الرواية أو كيفية الرواية
أما التراجيح الحاصلة بالعلم فهي على وجوه
أحدها
أن رواية الفقيه راجحة على رواية غير الفقيه
وقال قوم هذا الترجيح إنما يعتبر في خبرين مرويين بالمعنى أما
المروى باللفظ فلا
والحق أنه يقع به الترجيح مطلقا لأن الفقيه يميز بين ما يجوز
وبين ما لا يجوز فإن حضر المجلس وسمع كلاما لا يجوز إجراؤه على
ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدمته وسبب وروده فحينئذ يطلع على الأمر
الذي يزول به الإشكال
أما من لم يكن عالما فإنه لا يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فينقل
415

القدر الذي سمعه وربما يكون ذلك القدر وحده سببا للضلال
وثانيها
إذا كان أحدهما أفقه من الآخر كانت رواية الأفقه راجحة لأن الوثوق
باحتراز الله الأفقه عن ذلك الاحتمال المذكور أتم من الوثوق باحتراز الأضعف
منه
وثالثها
إذا كان أحدهما عالما بالعربية كانت روايته راجحة على من لا يكون
كذلك لأن الواقف على اللسان يمكنه من التحفظ من مواضع الزلل مالا
يقدر عليه غير العالم به
ويمكن أن يقال بل هو مرجوح لأن الواقف على اللسان يعتمد على
معرفته فلا يبالغ في الحفظ اعتمادا على خاطره والجاهل باللسان يكون
خائفا فيبالغ في الحفظ
ورابعها
رواية الأعلم بالعربية راجحة على رواية العالم بها والوجه ما تقدم في
الأفقه
وخامسها
أن يكون أحدهما صاحب الواقعة فيما يروى فيكون خبره راجحا ولهذا
أوجبنا الغسل بالتقاء الختانين بحديث عائشة رضي الله عنها في ذلك
ورجحناه قال على رواية غيرها عن النبي ص الماء من الماء لأن عائشة
كانت أشد علما بذلك
ورجح الشافعي رواية أبي رافع على رواية ابن عباس في تزويج ميمونة
416

لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة
وسادسها
رواية من مجالسته للعلماء أكثر أرجح
وسابعها
رواية من مجالسته للمحدثين أكثر أرجح
وثامنها
أن يكون طريق إحدى الروايتين أقوى وذلك إذا روى ما يقل اللبس
كما إذا روى أنه شاهد زيدا ببغداد وقت السحر والآخر يروى أنه شاهده
وقت الظهر بالبصرة فطريق هذا أظهر والاشتباه على الأول أكثر
417

أما التراجيح الحاصلة بالورع فهي على وجوه
أحدها
رواية من ظهرت عدالته بالاختبار راجحة على رواية مستور الحال
عند من يقبلها
وثانيها
رواية من عرفت عدالته بالاختبار أولى من رواية من عرفت عدالته
بالتزكية إذ ليس الخبر كالمعاينة
وثالثها
رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع كثير أولى من رواية من عرفت عدالته
بتزكية جمع قليل
ورابعها
رواية من عرفت عدالته بتزكية من كان أكثر بحثا في أحوال الناس
واطلاعا عليها أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية من لم يكن كذلك
وخامسها
رواية من عرفت عدالته بتزكية الأعلم الأروع أولى من رواية من عرفت
عدالته بتزكية العالم الورع
وسادسها
رواية من عرفت عدالته بتزكية المعدل مع ذكر أسباب العدالة أولى من
رواية من زكاة المعدل بدون ذكر أسباب العلة العدالة
418

وسابعها
المزكى إذا زكى الراوي فإن عمل بخبره كانت روايته راجحة على ما إذا
زكاه وروى خبره
وثامنها
رواية العدل الذي لا يكون صاحب البدعة أولى من رواية العدل
المبتدع سواء كانت تلك البدعة كفرا في التأويل أو لم تكن
أما التراجيح الحاصلة بسبب الذكاء فهي على وجوه
أحدها
رواية الأكثر تيقظا والأقل نسيانا راجحة على رواية من لا يكون كذلك
وثانيها
إذا كان أحدهما أشد ضبطا لكنه أكثر نسيانا والآخر يكون أضعف
ضبطا لكنه أقل نسيانا ولم تكن قلة الضبط وكثرة النسيان بحيث تمنع
من قبول خبره على ما بينا في باب الأخبار فالأقرب التعارض
وثالثها
أن يكون أحدهما أقوى حفظا لألفاظ الرسول ص من
غيره فإن الحجة بالحقيقة ليست إلا في كلام الرسول عليه الصلاة
والسلام
ورابعها
أن يجزم أحدهما ويقول الآخر كذا قال فيما أظن
وخامسها
أن يكون الراوي قد اختلط عقله في بعض الأوقات ثم لا يعرف أنه
419

روى هذا الخبر حال سلامة العقل أو حال اختلاطه
وسادسها
إذا كان أحدهما حفظ لفظ الحديث والآخر عول على المكتوب
فالأول أولى لأنه أبعد عن الشبهة وفيه احتمال
أما التراجيح الحاصلة بسبب شهرة الراوي فأمور
أحدها
أن يكون من كبار الصحابة لأن دينه لما منعه عن الكذب فكذا
منصبه العالي يمنعه عنه ولذلك كان علي رضي الله عنه يحلف الرواة
وكان يقبل رواية الصديق من غير التحليف
وثانيها
صاحب الاسمين مرجوح بالنسبة إلى صاحب الاسم الواحد
وثالثها
رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهول النسب
ورابعها
أن يكون في رواة أحد الخبرين رجال تلتبس أسماؤهم بأسماء قوم
420

ضعفاء ويصعب التمييز فيرجح عليه الخبر الذي لا يكون كذلك
أما التراجيح الراجعة إلى زمان الرواية فأمور
أحدها
إذا كان قد اتفق لأحدهما رواية الحديث في زمان الصبا وغير زمان الصبا
فروايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يرو إلا في زمان البلوغ
وثانيها
إذا كان أحدهما قد تحمل الحديث في الزمانين ولم يرو إلا في
حالة البلوغ فهو مرجوح بالنسبة إلى من لم يتحمل ولم يرو إلا في الكبر
وثالثها
من احتمل فيه هذان الوجهان كان مرجوحا بالنسبة إلى من لم يوجد ذلك
فيه
أما التراجيح العائدة إلى كيفية الرواية فأمور
أحدها
أن يقع الخلاف في أحدهما أنه موقوف على الراوي أو مرفوع إلى
الرسول ص فالمتفق على كونه مرفوعا أولى
وثانيها
أن يكون أحد الخبرين منسوبا إليه قولا والآخر اجتهادا بأن يروى أنه
وقع ذلك في مجلس الرسول ص فلم ينكر عليه فالأول
أولى لأنه أقل احتمالا
421

وثالثها
أن يذكر أحدهما سبب نزول ذلك الحكم ولم يذكره الآخر فيكون
الأول راجحا لأنه يدل على أنه كان له من الاهتمام عن بمعرفة ذلك الحكم
ما لم يكن للآخر
ورابعها
أن يروى أحدهما الخبر بلفظه والآخر بمعناه أو يحتمل أن يكون قد رواه
بمعناه فالأول أولى
وخامسها
أن يروى أحدهما حديثا يعضد الحديث الأول فيترجح على ما لا يكون
كذلك
وسادسها
إذا أنكر راوي الأصل فقد ذكرنا فيه تفصيلا وكيف كان فهو مرجوح
بالنسبة إلى ما لا يكون كذلك
وسابعها
لو قبلنا المرسل فإذا أرسل أحدهما وأسند الآخر فعندنا المسند أولى
وقال عيسى بن أبان المرسل أولى
وقال القاضي عبد الجبار يستويان
لنا
أنه إذا أرسل فعدالته معلومة لرجل واحد وهو الذي يروى عنه وإذا
422

أسند صارت عدالته معلومة للكل لأنه يكون كل واحد متمكنا من البحث
عن أسباب جرحه وعدالته ولا شك أن من لم تظهر عدالته إلا لرجل واحد
يكون مرجوحا بالنسبة إلى من ظهرت عدالته لكل أحد لاحتمال أن يكون قد
خفي حال الرجل على إنسان واحد ولكن يبعد أن يخفي حاله على
الكل فثبت أن المسند أولى
احتج المخالفون بأمرين
الأول
أن الثقة لا يقول قال الرسول ذلك فيحكم عليه بالتحليل والتحريم
ويشهد به إلا وهو قاطع أو كالقاطع بذلك بخلاف ما إذا أسند الحديث وذكر
الواسطة فإنه لم يحكم على ذلك الخبر بالصحة فلم يزد على حكاية أن
فلانا زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك فكان الأول أقوى
الثاني
روى أن الحسن قال إذا حدثني أربعة نفر من أصحاب رسول الله
ص بحديث تركتهم وقلت قال رسول الله ص
فأخبر عن نفسه أنه لا يستجيز هذا الإطلاق إلا عند فرط الوثوق
والجواب عن الأول
أن قول الراوي قال رسول الله ص لا يمكن
423

إجراؤه على ظاهره لأنه يقتضى الجزم بصحة خبر الواحد وهو جهل وغير
جائز فوجب حمله على أن المراد منه أني أظن أن رسول لله ص
قال وإذا كان كذلك كان الإسناد أولى من الإرسال لأن في
الإسناد يحصل ظن العدالة للكل وفي الإرسال لا يحصل ذلك الظن إلا
للواحد
وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني
فرعان
الأول
لو صح رجحان المرسل على المسند فإنما يصح لو قال الراوي قال
رسول الله ص أما إذا لم يقل ذلك بل قال عن النبي
ص فالأظهر أنه لا يترجح لأنه في معنى قوله روى عن
الرسول
الثاني
رجح قوم بالحرية والذكورة قياسا على الشهادة وفيه احتمال
القول في التراجيح الراجعة إلى حال ورود الخبر
وهي ثمانية
الأول
أن تكون إحدى الآيتين أو الخبر مدنيا والآخر مكيا فالمدني مقدم
لأن الغالب في المكيات ما كان قبل الهجرة والمدني لا محالة مقدم
عليه
424

أما المكيات المتأخرة عن المدنيات فقليلة والقليل ملحق بالكثير
فيحصل الرجحان
الثاني
الخبر الذي يظهر وروده بعد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام وعلو
شأنه راجح على الخبر الذي لا يدل على ذلك لأن علو شأنه كان في آخر
أمره ص فالخبر الوارد في هذا الوقت حصل فيه ما
يقتضى تأخره عن الأول
والأولى أن يفصل فيقال إن دل الأول على علو الشأن والثاني على
الضعف ظهر تقديم الأول على الثاني
أما إذا لم يدل الثاني لا على القوة ولا على الضعف فمن أين يجب
تقديم الأول عليه
الثالث
أن يكون راوي أحد الخبرين متأخر الإسلام ويعلم أن سماعه كان بعد
إسلامه وراوي الخبر الثاني متقدم الإسلام فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا
والأولى أن يفصل فيقال المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمتنع
أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر
وأما إذا علمنا أنه مات المتقدم قبل إسلام المتأخر أو علمنا أن أكثر
رويات المتقدم متقدم على رواية المتأخر فهاهنا نحكم بالرجحان لأن
النادر يحلق يلحق بالغالب
425

الرابع
أن يحصل إسلام الراويين معا كإسلام خالد وعمرو بن العاص لكن
يعلم أن سماع أحدهما بعد إسلامه ولا يعلم ذلك في سماع الآخر فيقدم
الأول لأنه أظهر تأخرا
الخامس
أن يكون أحد الخبرين مؤرخا بتاريخ محقق والآخر يكون خاليا
من التاريخ فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا
مثاله ما روى أنه عليه الصلاة والسلام في مرضه الذي توفي فيه خرج
فصلى بالناس قاعدا والناس قيام فهذا يقتضى جواز اقتداء القائم
بالقاعد
وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا صلى الإمام قاعدا
فصلوا قعودا أجمعين وهذا يقتضي عدم جواز ذلك فرجحنا الأول لأنه
426

كان في آخر أحوال النبي عليه الصلاة والسلام وأما الثاني فيحتمل انه كان
قبل المرض
السادس
أن يكون أحدهما مؤقتا بموقت متقدم والآخر يكون خاليا عن
الوقت فيقدم الخالي لأنه أشبه بالمتأخر
السابع
أن تكون حادثة كان الرسول ص يغلظ بها زجرا لهم
عن العادات القديمة ثم خفف فيها نوع تخفيف فيرجح التخفيف على
التغليظ لأنه أظهر تأخرا
وهذا ضعيف لاحتمال أن يقال بل يرجح التغليظ على التخفيف لأنه
عليه الصلاة والسلام ما كان يغلظ إلا عند علو شأنه وذلك متأخر
الثامن
عمومان متعارضان أحدهما واردا ابتداءا والآخر على سبب فالأول
أولى لأن من الناس من قال الوارد على السبب يختص به ولا يعم
لكن ذلك وأن لم يجب فلا أقل من أن يفيد الترجيح
427

واعلم أن هذه الوجوه في التراجيح ضعيفة وهى لا تفيد إلا خيالا
ضعيفا في الرجحان
القول في التراجيح الراجعة إلى اللفظ
وهى من وجوه
الأول
أن يكون اللفظ في أحدهما بعيدا عن الاستعمال وفيه ركاكة والآخر
فصيح
فمن الناس من رد الأول لأنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح
العرب فلا يكون ذلك كلاما له
ومنهم من قبله وحمله على أن الراوي رواه بلفظ نفسه
وكيف ما كان فأجمعوا على ترجيح الفصيح عليه
وثانيها قال بعضهم يقدم الأفصح على الفصيح
وهو ضعيف لأن الفصيح لا يجب في كل كلامه أن يكون
كذلك
وثالثها
أن يكون أحدهما عاما والآخر خاصا فيقدم الخاص على العام وقد تقدم
دليله في باب العموم
428

ورابعها
أن يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازا فتقدم الحقيقة لأن دلالتها
أظهر
وهذا ضعيف لأن المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة فإنك لو
قلت فلان بحر فهو أقوى دلالة على قولك فلان سخى
وخامسها
أن يكونا حقيقتين إلا أن أحدهما أظهر في المعنى إما لكثرة ناقليه أو
لكون ناقله أقوى وأتقن من ناقل غيره ويجرى هاهنا كل ما ذكرناه في
ترجيح الخبر نظرا إلى حال الراوي
وسادسها
أن يكون وضع أحدهما لمسماه متفقا عليه ووضع الآخر مختلفا فيه
وسابعها
أن الذي يكون محتاجا إلى الإضمار مرجوح بالنسبة إلى الذي لا يحتاج
إليه
وثامنها
الذي يدل على المقصود بالوضع الشرعي أو العرفي أولى مما يدل عليه
بالوضع اللغوي
وهاهنا تفصيل فإن اللفظ الذي صار شرعيا حمله على المعنى الشرعي
أولى من حمله على اللغوي
فأما الذي لم يثبت ذلك فيه مثل أن يدل أحد اللفظين بوضعه الشرعي
429

على حكم واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على حكم وليس للشرع
في هذا اللفظ اللغوي عرف شرعي فلا نسلم ترجيح الشرعي على هذا
اللغوي لأن هذا اللغوي إذا لم ينقله الشرع فهو لغوى عرفي شرعي
وأما الثاني فهو شرعي وليس بلغوي ولا عرفي والنقل على خلاف
الأصل فكان اللغوي أولى
وتاسعها
إذا تعارض مجازان فالذي يكون أكثر شبها بالحقيقة أولى
وأيضا إذا تعارض خبران ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بمجازين
من والآخر يمكن العمل به بمجاز واحد كان هذا راجحا على الأول لأنه أقل
مخالفة للأصل
وعاشرها
أن يكون أحدهما دخله التخصيص والآخر لم يدخله التخصيص
فالذي لم يدخله التخصيص يقدم على الأول لأن الذي دخله
التخصيص قد أزيل عن تمام مسماه والحقيقة مقدمة على المجاز
وحادي عشرها
أن يدل أحدهما على المراد من وجهين والآخر من وجه واحد يقدم
الأول لأن الظن الحاصل منه أقوى
430

وثاني عشرها
أن يكون أحد الحكمين مذكورا مع علته والآخر ليس كذلك فالأول أقوى
ومن هذا القبيل أن يكون أحدهما مقرونا بمعنى مناسب والآخر يكون
معلقا بمجرد الاسم فيكون الأول أولى
وثالث عشرها
أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم مع اعتباره بمحل آخر والآخر
ليس كذلك يقدم الأول في المشبه والمشبه به جميعا لأن اعتبار محل
بمحل إشارة إلى وجود علة جامعة
مثاله قول الحنفية في قوله عليه الصلاة والسلام أيما إهاب دبغ فقد
طهر كالخمر تخلل فتحل رجحناه في المشبه على قوله عليه الصلاة
والسلام لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وفي المشبه به في
مسألة تحليل الخمر على قوله أرقها
431

ورابع عشرها
أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة ودلالة الأخرى لا تكون مؤكدة فتقدم الأولى
كقوله عليه الصلاة والسلام فنكاحها باطل باطل باطل
وخامس عشرها
أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم مع ذكر المقتضي لضده كقوله
عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها يقدم
على ما ليس كذلك لأن اللفظ يدل على ترجيح ذلك على ضده ولأن تقديمه
يقتضى النسخ مرة وتقديم ضده يقتضى النسخ مرتين فيكون الأول أولى
وسادس عشرها
يقدم أن يكون أحد الدليلين مقرونا بنوع تهديد فإنه على ما لا يكون
كذلك كقوله عليه الصلاة والسلام من صام يوم الشك فقد عصى أبا
القاسم وكذا القول لو كان التهديد في أحدهما أكثر
432

وسابع عشرها
أن يكون أحد الدليلين يقتضى الحكم بواسطة والآخر يقتضيه بغير
واسطة فالثاني يرجح على الأول كما إذا كانت المسألة ذات صورتين
فالمعلل إذا فرض الكلام في صورة وأقام الدليل عليه فالمعترض إذا أقام
الدليل على خلافه في الصورة الثانية ثم توسل إلى الصورة الأخرى بواسطة
الإجماع فيقول المعلل دليلي راجح على دليلك لأن دليلي بغير واسطة
ودليلك بواسطة فيكون الترجيح معي لأن كثرة الوسائط الظنية تقتضي كثرة
الاحتمالات فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يقل الاحتمال فيه
وثامن عشرها
المنطوق مقدم على المفهوم إذا جعلنا المفهوم حجة لأن المنطوق أقوى
دلالة على الحكم من المفهوم
القول في التراجيح الراجعة إلى الحكم
وهى من وجوه خمسة
الأول
إذا كان أحد الخبرين مقررا لحكم الأصل والثاني يكون ناقلا فالحق
أنه يجب ترجيح المقرر
وقال الجمهور من الأصوليين إنه يجب ترجيح الناقل
433

لنا
أن حمل الحديث على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى من حمله على
ما يستقل العقل بمعرفته فلو جعلنا المبقي مقدما على الناقل لكان واردا
حيث لا يحتاج إليه لأنا في ذلك الوقت نعرف ذلك الحكم بالعقل فلو
قلنا إن المبقى ورد بعد الناقل لكان واردا حيث يحتاج إليه فكان الحكم
بتأخره عن الناقل أولى من الحكم بتقدمه عليه
وأحتج الجمهور على قولهم بوجهين
الأول
أن اعتبار الناقل أولى لأنه يستفاد منه ما لا يعلم إلا منه
وأما المبقى فإن حكمه معلوم بالعقل فكان الناقل أولى
الثاني
أن في القول بكون الناقل متأخرا تقليل النسخ لأنه يقتضى إزالة حكم
العقل فقط وفي القول يكون المقرر متأخرا تكثير النسخ لأن الناقل
أزال حكم العقل ثم المقرر أزال حكم الناقل مرة أخرى
والجواب عن الأول
ما ذكرناه في الدليل وهو أنا لو جعلنا المبقى متأخرا لكنا قد استفدنا
منه مالا يستقبل العقل به ولو جعلناه متقدما لكنا قد استفدنا منه ما يتمكن
العقل من معرفته
434

وعن الثاني
أن ورود الناقل بعد ثبوت حكم الأصل ليس بنسخ لأن دلالة العقل
مقيدة بشرط عدم دليل السمع فإذا وجد فلا يبقى دليل العقل فلا
يكون دليل السمع مزيلا لحكم العقل بل مبينا لانتهائه فلا يكون ذلك
خلاف الأصل
وأيضا فما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنا لو جعلنا المبقى مقدما
لكان المنسوخ حكما ثابتا بدليلين دليل العقل ودليل الخبر فيكون هذا
أشد مخالفة لأنه يكون ذلك نسخا للأقوى بالأضعف وهو غير جائز
وأما على الوجه الذي قلناه فلا يكون المنسوخ إلا دليلا واحدا
فرع
فان قيل أفتجعلون العمل بالناقل على ما ذكره الجمهور أو بالمقرر
على ما ذكرتموه في باب الترجيح
قلنا قال القاضي عبد الجبار إنه ليس من باب الترجيح واستدل عليه
بوجهين
الأول
أنا نعمل بالناقل على أنه ناسخ والعمل بالناسخ ليس من باب
الترجيح
الثاني
أنه لو كان العمل بالناقل ترجيحا لوجب أن يعمل بالخبر الآخر لولاه لأن
435

هذا حكم كل خبرين رجحنا أحدهما على الآخر
ومعلوم أنه لولا الخبر الناقل لكنا إنما نحكم بموجب الخبر الآخر
لدلالة العقل لا لأجل الخبر
ويمكن أن يجاب عن الأول
بأنا لا نقطع في الأصول بأن الناقل عن حكم الأصل متأخر وناسخ وإنما
نقول الظاهر ذلك مع جواز خلافه فهو إذن داخل في باب الأولى وهذا
ترجيح
وعن الثاني
أنه لو كان الخبر الناقل لعلمنا بموجب الخبر الآخر لأجله ألا ترى أنا
نجعله حكما شرعيا ولهذا لا يصح رفعه إلا يصح النسخ به ولولا أنه بعد
ورود الخبر صار شرعيا وإلا لما كان كذلك
الثاني
قال القاضي عبد الجبار الخبران إذا كان أحدهما نفيا والآخر إثباتا
وكانا شرعيين فإنهما سواء وضرب لذلك أمثلة ثلاثة
أحدها
أن يقتضى العقل حظر الفعل ثم ورد خبران في إباحته ووجوبه
436

وثانيها
أن يقتضى العقل وجوب الفعل ثم ورد خبران في حظره وإباحته
وثالثها
أن يقتضى العقل إباحة الفعل ثم ورد خبران في وجوبه وحظره
واعلم أن هذا لا يستقيم على مذهبنا في أن العقل لا يستقل في شئ
من الأحكام بالقضاء والنفي بالإثبات بل ذلك لا يستفاد إلا من الشرع
وحينئذ لا يكون لأحدهما مزية على الآخر
وأما على مذهب المعتزلة فلا يتم ذلك لأنه لا بد في كل نفى
وإثبات متواردين على حكم واحد أن يكون أحدهما عقليا
بيانه
أن الإباحة تشارك الوجوب في جواز الفعل وتخالفه في جواز
الترك وتشارك الحظر في جواز الترك وتخالفه في جواز الفعل فهي
تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر
إذا ثبت هذا فنقول إذا اقتضى العقل الحظر فقد اقتضى جواز الترك
أيضا لأن ما صدق عليه أنه محظور فقد صدق عليه أنه يجوز تركه فإذا
جاء خبر الإباحة والوجوب فالإباحة إنما تنافي الوجوب من حيث إن
الإباحة تقتضي جواز الترك لا من حيث إنها تقتضي جواز الفعل لكن
جواز الفعل هاهنا كما عرفت حكم عقلي فثبت أنه لا بد هاهنا في
437

النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا فيه فليعمل فيه كما في المثال
الأول
وأما المثال الثاني وهو ما إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران
في الحظر والإباحة فالكلام فيه كما في المثال الأول
وأما المثال الثالث وهو ما إذا اقتضى العقل والإباحة ثم في جاء خبر أن
في الحضر والوجوب فنقول لما ثبت أن الإباحة تشارك كل واحد من
الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر وإذا كانت الإباحة مقتضى
العقل لزم أن يكون الوجوب مقررا لحكم العقل من وجه وناقلا من وجه
آخر
وكذا القول في الحظر فهاهنا أيضا لابد في النفي والإثبات
المتواردين بن علي أمر واحد أن يكون أحدهما عقليا
وإذا ثبت أنه لا بد في النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا رجع
الترجيح إلى ما تقدم من أن الناقل أرجح أم المبقى
فرع
إذا كان مقتضى العقل الحظر ثم ورد خبران في الإباحة
والوجوب والإباحة تشارك الحظر من وجه وتخالفه من وجه آخر
فخبر الإباحة يقتضى بقاء حكم العقل من وجه والنقل من وجه
وأما الوجوب فإنه يخالف الحظر في القيدين معا فيكون الوجوب
مقتضيا للنقل من وجهين
فمن رجح الخبر الناقل على المبقى رجح خبر الوجوب ومن رجح
438

المبقى على الناقل فبالعكس
وكذا القول فيما إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر
والإباحة
فأما إذا اقتضى العقل الإباحة وجاء خبران في الحظر والوجوب
فكل واحد منهما يشارك الإباحة من وجه ويخالفها من وجه آخر فإذن كل
واحد منهما ناقل من وجه ومبق هذه من وجه آخر فيحصل التساوي ولا
يحصل الترجيح
الثالث
إذا تعارض خبران في الحظر والإباحة وكانا شرعيين فقال أبو
هاشم وعيسى بن أبان إنهما يستويان
وقال الكرخي وطائفة من الفقهاء خبر الحظر راجح
احتجوا على الترجيح للحظر بالخبر والحكم والمعنى
أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ما اجتمع الحلال والحرام إلا
وغلب الحرام الحلال
ضعيف ومنقطع وقال عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى مالا يريبك وجواز هذا
439

الفعل يريبه لأنه بين أن يكون حراما وبين أن يكون مباحا فما يريبه
جواز فعله فيجب تركه
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال في الأختين المملوكتين
أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى
وأما الحكم فإنه من طلق أحد نسائه ونسيها حرم عليه وطء جميع
نسائه وكذلك لو أعتق إحدى إمائه
وأما المعنى فهو أنه دار بين أن يرتكب الحرام أو يترك
المباح وترك المباح أولى فكان الترجيح للمحرم احتياطا
فإن قلت ولا يمتنع أيضا أن يكون مباحا فيكون باعتقاده الحظر مقدما
على مالا يأمن كونه جهلا
قلت إنه إذا استباح المحظور فقد أقدم على محظورين أحدهما
الفعل والثاني اعتقاد إباحة وليس كذلك إذا امتنع من المباح لاعتقاد
حظره لأنه محظور واحد والغرض هو الترجيح بضرب من القوة
الرابع
المثبت للطلاق والعتاق يقدم على النافي لهما عند الكرخي
وقال قوم يسوى بينهما
وجه الأول أن ملك النكاح واليمين مشروع على خلاف الأصل
فيكون زوالهما على وفق الأصل والخبر المتأيد بموافقة الأصل راجح على
الواقع على خلاف الأصل
440

الخامس
النافي للحد مقدم على المثبت له عند بعض الفقهاء
وأنكره المتكلمون
وجه الأول من وجوه
أحدها
أن الحد ضرر فتكون شرعيته على خلاف الأصل والنافي له على
وفق الأصل فيكون النافي له راجحا
وثانيها
أن ورود الخبر في نفى الحد إن لم يوجب الجزم بذلك النفي فلا أقل
من أن يفيد شبهة فيه إذا حصلت الشبهة سقطت الحدود لقوله عليه
الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات
وثالثها إذا كان الحد يسقط بتعارض البينتين مع ثبوته في أصل
الشرع فلأن يسقط بتعارض الخبرين في الجملة ولم يتقدم له ثبوت
أولى
القول في الترجيحات الحاصلة بالأمور الخارجة
441

وهي من وجوه
أحدها
الترجيح بكثرة الأدلة وقد سبق القول فيه
وثانيها
أن يقول بعض أئمة الصحابة أو يعمل بخلافه والخبر لا يجوز خفاؤه
عليه
وهذا عند البعض يحمل على نسخه أو أنه لا أصل له إذا لولاه لما
خالف
وعند الشافعي رضي الله عنه لا يحمل على ذلك لكن إذا عارضه
خبر لا يكون كذلك كان راجحا عليه
وثالثها
إذا عمل بأحدهما أكثر السلف ممن لا يجب تقليدهم
قال عيسى بن أبان يجب ترجيحه لأن الأكثر يوفقون للصواب مالا يوفق
له الأقل
وقال آخرون لا يحصل الترجيح لأنه لا يجب تقليدهم
ورابعها
أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى يكون مرجوحا إما لاختلاف
المجتهدين في قبوله أو لأن كونه مما تعم به البلوى إن لم يوجب القدح فيه
فلا أقل من إفادته المرجوحية
واعلم أن بعض ما يرجح به الخبر قد يكون أقوى من بعض فينبغي
إذا استوى الخبران في كمية وجوه الترجيح أن تعتبر الكيفية
فإن كان أحد الجانبين أقوى كيفية وجب العمل به
442

وإن كان أحد الجانبين أكثر كمية وأقل كيفية والجانب الآخر على
العكس منه وجب على المجتهد أن يقابل ما في
أحد الجانبين بما في الجانب الآخر ويعتبر حال قوة الظن
والكلام في قوة كثير من وجوه الترجيحات طريقة الاجتهاد
443

القسم الرابع في تراجيح سنة الأقيسة
وهي إما أن تكون بحسب ماهية العلة أو بحسب ما يدل على وجودها
أو بحسب ما يدل على عليتها أو بحسب ما يدل على ثبوت الحكم في
الأصل أو بحسب محل ذلك الحكم أو بحسب محالها أو بحسب
أمور منفصلة عن ذلك
النوع الأول في التراجيح المعتبرة بحسب ماهية العلة فنقول
إنا بينا أن الحكم الشرعي إما أن يكون معللا بالوصف الحقيقي أو
بالحكمة أو بالحاجة أو بالوصف العدمي أو بالوصف الإضافي أو
بالوصف التقديري أو بالحكم الشرعي
وعلى كل التقديرات فالعلة إما أن تكون مفردة أو مركبة من قيدين أو
أكثر
واعتمد بعضهم في التراجيح الواقعة في هذا الباب على أمرين
أحدهما أن كل ما كان أشبه بالعلل العقلية فهو راجح على ما لا يكون كذلك لأن
العقل أصل النقل والفرع كلما كان أشبه بالأصل كان أقوى
444

وثانيها
أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا فيه وكل ما كان
الخلاف فيه أقل فهو راجح على ما يكون الخلاف فيه أكثر والسبب فيه أن
وقوع الخلاف فيه يدل على حصول الشك والشبهة
وهذان المأخذان ضعيفان جدا إلا في شئ واحد وهو أن كل ما
كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا فيه وذلك لأن المقدمة إذا كانت
مجمعا عليها كانت يقينية والقياس الذي يكون بعض مقدماته يقينيا وبعضه
ظنيا أقوى من الذي يكون كل مقدماته ظنيا لأن الاحتمال في الأول
أقل مما في الثاني ومتى كان الاحتمال أقل كان الظن أقوى
إذا عرفت هذا الأصل فلنرجع إلى التفصيل
وفيه مباحث
أحدها
أن التعليل بالوصف الحقيقي أولى من التعليل بسائر الأقسام لأن
جواز التعليل بالوصف الحقيقي مجمع عليه بين القائسين والتعليل بسائر
الأقسام مختلف فيه فيكون القياس الذي يكون الحكم في أصله معللا
بالوصف الحقيى أقوى مما لا يكون كذلك
وثانيها
التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم وبالوصف الإضافي
445

وبالحكم الشرعي وبالوصف التقديري
أما أنه أولى من العدم فلأن العلم بالعدم لا يدعو إلى شرع
الحكم إلا إذا حصل العلم باشتمال ذلك العدم على نوع مصلحة فيكون
الداعي إلى شرع الحكم في الحقيقة هو المصلحة لا العدم وإذا كانت
العلة هي المصلحة لا العدم كان التعليل بالمصلحة أولى من التعليل
بالعدم
فإن قلت فهذا يقتضى أن يكون التعليل بالمصلحة أولى من التعليل
بالوصف
قلت كان الواجب ذلك إلا أن الوصف أدخل في الضبط من الحاجة
فلهذا المعنى ترجح الوصف على المصلحة والعدم المطلق لا يتقيد إلا إذا
أضيف إلى الوجود فهو في نفسه غير مضبوط فالعدم ليس بمؤثر في
الحقيقة وليس بضابط في نفسه فظهر الفرق
وإذا ثبت أن التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم وقد ثبت أن
الإضافات ليست أمورا وجودية لزم أن يكون التعليل بالحكمة أولى من
التعليل بالإضافات
وأما أنه أولى من الحكم بالشرع والوصف التقديري فلأن التعليل
بالحاجة تعليل بنفس المؤثر وهذا يمنع من التعليل بغيره ترك العمل به في
446

الوصف الحقيقي بالإجماع ولأنه اشتبه بالعلل العقلية فيبقى في هذه
الصورة على الأصل
وثالثتها
التعليل بالعدم أولى أم بالحكم الشرعي
يحتمل أن يقال العدم أولى لأنه أشبه بالأمور الحقيقية ويحتمل
أن يقال بل بالحكم الشرعي أولى لأنه أشبه بالوجود
ورابعها
التعليل بالعدم أولى أم بالصفات التقديرية
والأشبه هو الأول لأن المقدر معدوم أعطى حكم الموجود فكل
ما في المعدوم من المحذورات فهو حاصل في المقدر مع مزيد محذور آخر
وهو أنه كونه معدوما أعطى حكم الموجود فكان المعدوم أولى
وخامسها
تعليل الحكم الوجودي بالعلة الوجودية أولى من تعليل الحكم
العدمي بالوصف العدمي ومن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي
والحكم الوجودي بالوصف العدمي لأن كون العلة والمعلول عدميين
يستدعى تقدير كونهما وجوديين لأنا بينا أن العلة والمعلول وصفان ثبوتيان
فحملهما على المعدوم لا يمكن إلا إذا قدر المعدوم موجودا
447

وتعليل العدم بالعدم أولى من القسمين الباقيين للمشابهة
وأما أن تعليل العدم بالوجود أولى أم تعليل الوجود بالعدم ففيه
نظر
وسادسها
التعليل بالحكم الشرعي أولى من التعليل بالوصف المقدر لأن الأول
على وفق الأصل والثاني على خلاف الأصل
وسابعها
التعليل بالعلة المفردة أولى من التعليل بالعلة المركبة لأن الاحتمال في
المفردة أقل مما في المركب لأن المفرد لو وجد لوجد بتمامه ولو عدم
لعدم بتمامه
وأما المركب فليس كذلك لأن المركب من قيدين فقط يحتمل
في جانب الوجود احتمالات ثلاثة وهي أن يوجد الجزء بدلا عن ذاك وذاك
بدلا عن هذا ويوجد المجموع
وكذا القول في جانب العدم المركب من قيود ثلاثة يوجد فيه احتمالات
سبعة في طرف الوجود وسبعة في طرف العدم ومعلوم أن ما كان
الاحتمال فيه أقل كان أولى
فهذه جملة التراجيح العائدة إلى ماهية العلة
448

النوع الثاني
القول في التراجيح العائدة إلى ما يدل على أن ذات العلة موجودة
اعلم أن العلم بوجود تلك الذوات إما أن يكون بديهيا أو حسيا أو
استدلاليا
والاستدلال إما أن يفيد العلم أو الظن
وعلى التقديرين فذلك الدليل إما أن يكون عقليا محضا أو نقليا
محضا أو مركبا منهما
فلنتكلم في هذه الأقسام فنقول
أما إذا كان الطريق مفيدا لليقين سواء كان بديهيا أو حسيا أو استدلاليا
يقينيا وسواء كان عقليا محضا أو نقليا محضا أو مركبا منهما وسواء كثرت
المقدمات أو قلت فإنه لا يقبل الترجيح
وكلام أبي الحسين يدل على أنه يقبل
أما أن القطعيات لا تقبل الترجيح فلما تقدم
فإن قلت الضروري أولى من النظري لأن الضروري لا يقبل الشك
والشبهة والنظري يقبل ذلك
قلت النظري واجب الحصول عند حصول جميع مقدماته المنتجة له
كما أن البديهي واجب الحصول عند حصول تصور طرفيه
وكما أن النظري يزول عند زوال أحد الأمور التي لا بد منها في حصول
449

جميع مقدماته المنتجة له فكذلك الضروري يزول عند زوال أحد
التصورات التي لا بد منها
فإذن لا فرق في وجود الجزم عند حضور موجباته في البابين بل
الفرق هو أن النظري يتوقف على أمور أكثر مما يتوقف عليه الضروري
فلا جرم كان زوال النظري أكثر من زوال الضروري
فأما وجوب الوجود وامتناع العدم عند حصول كل ما لا بد منه فلا
فرق بين الضروري والنظري فيه ألبتة
أما إذا كان الطريق الدال على وجود العلة ظنيا فقد قيل كلما كانت
المقدمات المنتجة لذلك الظن أقل كان القياس أقوى لأن المقدمات متى
كانت أقل كان احتمال الخطأ أقل ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان ظن
الصواب أقوى
واعلم أن هذا الكلام على عمومه ليس بحق لأن الظن يقبل التفاوت
في القوة والضعف فإذا فرضنا دليلا كانت مقدماته قليلة إلا أن كل واحدة منها
كانت مظنونة ظنا ضعيفا ودليلا آخر ظنيا معارضا للأول مقدماته كثيرة إلا أن
كل واحدة منها كانت مظنونة ظنا قويا فالقوة الحاصلة في أحد الجانبين
بسبب قلة الكمية قد تصير معارضة من الجانب الآخر بسبب قوة الكيفية وقد تكون قوة الكيفية
في أحد الجانبين أزيد من قلة الكمية في الجانب
الآخر حتى أن الدليل الظني الذي يكون مركبا من مائة مقدمة قد يفيد ظنا
450

أقوى من الظن الحاصل من الدليل المركب من مقدمتين
فإذن لا بد من اعتبار هذا التفصيل الذي ذكرناه
إذا عرفت هذا فنقول الدليل الظني الذي يدل على وجود العلة إما
أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا
أما القياس فالكلام فيه كما في الأول ولا يتسلسل بل ينتهي إلى
النص أو الإجماع
أما النص فطرق الترجيح فيه ما تقدم في القسم الثالث من هذا
الكتاب
وأما الإجماع فإن كانا قطعيين لم يقبل الترجيح
وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا لم يقبل الترجيح لأن الإجماع
المعلوم مقدم على المظنون
أما إذا كانا مظنونين فهذا يقع على وجهين
أحدهما
الإجماعان المختلف فيهما عند المجتهدين كالإجماع الذي
يحدث عن قول البعض وسكوت الباقين
وثانيهما
الإجماع المنقول بطريق الآحاد
فهذان القسمان في محل الترجيح
وأما الذي يقال إن أحدهما متفق عليه والآخر مختلف فيه فإن أريد
451

به عدم الاختلاف في أحدهما ووقوعه في الآخر فذلك ليس من باب
الترجيح لأن تقدم المعلوم على المظنون قطعي
وإن عني به قلة الاختلاف في أحدهما وكثرته في الآخر فلا نسلم أن
هذا القدر يوجب الترجيح
ولنختم هذا الفصل بشئ وهو أنه إذا تعارض قياسان وكان وجود
الأمر الذي جعل علة لحكم الأصل في أحد القياسين معلوما وفي الآخر
مظنونا كان الأول راجحا لما بينا أن القياس الذي بعض مقدماته
معلوم راجح على ما كان كل مقدماته مظنونا
النوع الثالث
القول في التراجيح الحاصلة بسبب الطرق الدالة على علية الوصف في
الأصل وقد ذكرنا في كتاب القياس أن الطرق الدالة على علية الوصف في
الأصل إما الدليل النقلي أو العقلي
أما الدليل النقلي فإما أن يكون نصا أو إيماءا
أما النص فقد يكون بحيث لا يحتمل غير العلية وهو ألفاظ ثلاثة وهى
قوله لعله كذا أو لسبب كذا كذا أو لأجل كذا فهذا مقدم على
جميع الطرق النقلية
وأما الذي يحتمل غير العلية ولكنه ظاهر جدا فألفاظ ثلاثة وهي
اللام وإن والباء وحرف اللام مقدم على إن والباء لأن اللام
452

ظاهر جدا في التعليل وأما لفظ أن فقد يكون للتأكيد ولفظ الباء
قد يكون للإلصاق كقولك كتبت بالقلم وقد يفيد كونه محكوما به كقوله
عليه الصلاة والسلام أنا أقضي بالظاهر
أما حيث تأتي لا للآلة ولا لأن تكون محكوما به كان مرادفا
للأم فإنه لا فرق بين أن يقال قتلته لجنايته وقتلته بجنايته
وأما الباء وإن أيهما المقدم ففيه احتمال
وأما الايماءات ففيها أبحاث
أحدها
أنا بينا أن دلالة الإيماء على علية الوصف في الأصل لا تتوقف على
كونه مناسبا ولكن الوصف الذي يكون مناسبا راجح على مالا يكون كذلك
وثانيهما
أن إيماء الدلالة اليقينية راجح على إيماء الدلالة الظنية لما عرفت أن
الدليل الذي بعض مقدماته يقيني والبعض ظني راجح على ما يكون
كل مقدماته ظنيا
وأما إذا ثبتت علية الوصفين بإيماء خبر الواحد فوجوه الترجيح فيه
ما ذكرناه في باب الخبر الواحد
وثالثها
أن الجمهور اتفقوا على أن ما ظهرت عليته بالإيماء راجح على ما ظهرت
453

عليته بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر
وهذا فيه نظر وذلك لأن الإيماء لما لم يوجد فيه لفظ يدل على العلية
فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ ولما بحثنا لم نجد
شيئا يدل على عليتها إلا أحد أمور ثلاثة المناسبة والدوران والسبر على
ما مر ذلك في باب الايماءات
وإذا ثبت أن الايماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق الثلاثة كان
الأصل لا محالة أقوى من الفرع فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى
من الايماءات
ورابعها
أنا قد ذكرنا أن أقسام الايماءات خمسة وكل واحد من تلك الأقسام
يندرج تحته أقسام كثيرة واستيفاء القول في هذا يقتضي أن نتكلم في
تفاصيل كل واحد من أقسام تلك الأقسام مع ما يشاركه في جنسه
ومع ما هو خارج من جنسه لأنه لا يبعد أن يكون أحد الجنسين أقوى من
الجنس الآخر ويكون بعض أنواع الضعيف أقوى من بعض أنواع
القوي لكنا تركنا هذا لطولها وكثرتها
أما الطرق العقلية فقد ذكرنا منها ستة وهي المناسب والمؤثر
والشبه والدوران والطرد والسبر فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم
في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس
454

أما تفاصيل هذه الأجناس ففيها أبحاث
أحدها
أن المناسبة أقوى من الدوران
وقال قوم الدوران أقوى وعبروا عن ذلك بأن العلة المطردة المنعكسة
أقوى مما لا يكون كذلك
لنا
أن الوصف إنما يؤثر في الحكم لمناسبته فالمناسبة علة لعلية العلة
وليس تأثير الوصف في الحكم لدورانه معه لأن الدوران في الحقيقة
ليس من لوازم العلية لأن العلة إذا كانت أخص من المعلول كانت
العلية منفكة هناك عن الدوران وقد ينفك الدوران عن العلية كما في
الصور التي عددناها في باب الدوران
وإذا كان كذلك كان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من
الاستدلال بالدوران عليها
احتج المخالف بوجهين
الأول
أن العلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية فتكون أقوى
الثاني
أنهم أجمعوا على صحة المطرد المنعكس
ومن الناس من أنكر العلة التي لا تكون منعكسة
455

والجواب عن الأول
لا نسلم أن العكس واجب في العلل العقلية وقد بيناه في كتبنا العقلية
سلمناه لكن لا نسلم أن الأشبه بالعلل العقلية أولى
وعن الثاني
أن ذلك يقتضي ترجيح المناسب المطرد المنعكس على المناسب الذي
لا يكون مطردا منعكسا ولا نزاع فيه
أما أنا لا نقضي بترجيح الدوران المنفك عن المناسبة على المناسب
المنفك عن الدوران فلأنه إذا وجد الدوران بدون المناسبة فقد لا تحصل
العلة كرائحة الخمر مع حرمتها
وثانيها
أن المناسبة أقوى من التأثير لأنه لا معنى للتأثير إلا أنه عرف تأثير هذا
الوصف في نوع هذا الحكم وفي جنسه وكون الشئ مؤثرا في شئ لا
يوجب كونه مؤثرا فيما يشاركه في جنسه
أما كونه مناسبا فهو الذي لأجله صار الوصف مؤثرا في الحكم
فكان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالتأثير عليها
وثالثها
أن السبر إما أن يكون قاطعا في مقدماته أو
456

مظنونا في مقدماته أو قاطعا في بعض مقدماته ومظنونا في البعض
فإن كان قاطعا في كل مقدماته كان العمل به متعينا وليس هذا بترجيح
أما إذا كان مظنونا في كل مقدماته مثل أن يدل دليل ظني على أن الحكم معلل ودليل آخر ظني على أن
العلة إما هذا الوصف أو ذاك
ودليل آخر ظني على أن العلة ليست ذلك الوصف فيحصل هاهنا ظن
أن العلة ليست إلا هذا الوصف فهاهنا العمل بالمناسبة أولى من العمل
بهذا السبر وذلك لأن الدليل الدال على هذه المقدمات الثلاث التي لا بد
منها في السبر إما النص أو الإيماء أو الطرق العقلية
فإن كان هو النص صارت تلك المقدمات يقينية وقد فرضناها ظنية هذا
خلف
وإن كان إيماءا فقد عرفت أن الإيماء مرجوح بالنسبة إلى المناسبة و
أما الطرق العقلية فالمناسبة أولى من غيرها لأن المناسبة مستقلة بإنتاج
العلية والسبر لا ينتج العلية إلا بعد مقدمات كثيرة والمثبت لتلك المقدمات
إما المناسبة أو غيرها
فإن كان الأول كانت المناسبة أولى من السبر لأن في إثبات الحكم
بالمناسبة تكفي المناسبة الواحدة في الإنتاج وفي السبر لابد من ثلاث
مقدمات والكثرة دليل المرجوحية
وإن كان الثاني كانت المناسبة أولى لأن المناسبة علة لعلية العلة وغير
المناسبة ليس كذلك فالاستدلال بالمناسبة على العلية أولى
457

وأما إن كان السبر مظنونا في بعض المقدمات مقطوعا في البعض
عاد الترجيح المذكور في تلك المقدمات المظنونة
ورابعها
أن المناسبة أقوى من الشبه والطرد وذلك واضح لا حاجة به إلى
الدليل
فهذا هو الكلام في تراجيح هذه الطرق الستة العقلية بحسب
الجنس ولنتكلم الآن في أنواع كل واحد منها
وفيه سائل
المسألة الأولى
ترجيح بعض المناسبات على بعض إما أن يكون بأمور عائدة إلى
ماهياتها أو بأمور خارجة عنها
أما القسم الأول فتقريره أنك قد عرفت أن كون الوصف مناسبا إما
أن يكون لأجل مصلحة دنيوية أو دينية والمصلحة الدنيوية إما أن تكون في
محل الضرورة أو في محل الحاجة أو في محل الزينة والتتمة
وظاهر أن المناسبة التي من باب الضرورة راجحة على التي من باب
الحاجة والتي من باب الحاجة مقدمة على التي من باب الزينة
ثم قد عرفت أن المناسبة التي من باب الضرورة خمسة وهي
مصلحة النفوس والعقول والأديان والأموال والأنساب فلا بد من بيان
كيفية ترجيح بعض هذه الأقسام على بعض
458

ثم عرفت أن الوصف المناسب للحكم قد يكون نوعه مناسبا لنوع
الحكم وقد يناسب جنسه نوع الحكم وقد يناسب نوعه جنس الحكم وقد
يناسب جنسه جنس الحكم
ولا شك في تقدم الأول على الثلاثة الأخيرة والثاني والثالث
وأما الثاني والثالث فهما كالمتعارضين ولا شك في تقدمهما
على الرابع
ثم الجنس قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا والمناسبة المتولدة من الجنس
القريب تقدم على المناسبة المتولدة من الجنس البعيد
ثم المناسبة في كل قسم من هذه الأقسام قد تكون جلية وقد تكون خفية
أما الجلي فهو الذي يلتفت الذهن إليه في أول سماع الحكم كقوله
عليه الصلاة السلام لا يقضى القاضي وهو غضبان فإنه يلتفت الذهن
عند سماع هذا الكلام إلى أن الغضب إنما منع من الحكم لكونه مانعا من
استيفاء الفكر
وأما الخفي فهو الذي لا يكون كذلك
ولا شك في تقدم الجلي على الخفي
وأما القسم الثاني وهو ترجيح بعض المناسبات على بعض بأمور
خارجة عنها فذلك على وجوه
459

أحدها
أن المناسبة المتأيدة بسائر الطرق أعني الإيماء والدوران والسبر
راجحة على ما لا يكون كذلك ويرجع حاصله إلى الترجيح بكثرة الأدلة
وثانيها
المناسبة الخالية عن المعارض راجحة على ما لا يكون كذلك فإن
المناسبة وإن كانت لا تبطل بالمعارضة لكنها مرجوحة بالنسبة إلى مالا
تكون معارضة
وثالثها
الذي يناسب الحكم من وجهين راجح على مالا يناسب إلا من وجه
واحد وعلته ظاهرة
وأيضا كلما كانت الجهات أكثر كانت أرجح
مسألة
الدوران الحاصل في صورة واحدة راجح على الحاصل في صورتين
لأن احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورة الواحدة أقل من
احتماله في الدوران الحاصل في صورتين ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان
الظن أقوى
بيان الأول
أن العصير لما لم يكن مسكرا في الزمان الأول فلم يكن محرما
ثم صار مسكرا بعد ذلك فصار محرما ثم لما زالت المسكرية مرة أخرى
زالت الحرمة فهاهنا نقطع بأن شيئا من الصفات الباقية في الأحوال
460

الثلاثة لا يصلح لعلية هذا الحكم وإلا لزم وجود العلة بدون الحكم
وأما الدوران في صورتين فهو كما يقول الحنفي في مسألة الحلي كونه
ذهب موجب للزكاة لأن التبر لما كان ذهبا وجبت الزكاة فيه والثياب لما لم
تكن ذهبا لم تجب الزكاة فيها فهاهنا لا يمكن القدح في علية الصفات
الباقية بمثل ما ذكرناه في الصورة الأولى فثبت أن احتمال المعارض في
الصورة الأولى أقل فكان الظن فيها أقوى
مسألة
قد ذكرنا أن الشبه قد يكون شبها في الحكم الشرعي وقد يكون شبها
في الصفة
واختلفوا في الراجح
والأظهر أن الشبه في الصفة أولى لأنها أشبه بالعلل العقلية
النوع الرابع في التراجيح الحاصلة بسبب دليل الحكم
فنقول هذا الطريق لا شك أنه يكون دالا ثم ذلك الطريق إما أن يكون
في القياسين المتعارضين قطعيا أو ظنيا أو يكون في أحدها قطعيا وفي الآخر
ظنيا
فإن كان قطعيا فيهما معا استحال الترجيح في ذلك لما عرفت
وإن كانا ظنيين فالدليل الدال عليهما إما أن يكون لفظا أو إجماعا أو
قياسا فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل واحد
من هذه الأجناس
461

أما البحث الأول فيشتمل على مسألتين
إحداها
قالوا القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالإجماع أقوى من الذي
ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية لأن الدلائل اللفظية تقبل التخصيص
والتأويل والإجماع لا يقبلهما
وهذا مشكل لأنا حيث أثبتنا الإجماع إنما أثبتناه بالدلائل اللفظية
والفرع كيف يكون أقوى حالا من الأصل
المسألة الثانية
قد تقدم في كتاب القياس أن الحكم في الأصل لا يجوز أن يكون مثبتا
بالقياس وإن كان قد جوزه قوم
والمجوزون اتفقوا على أن القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالنص
راجح على الذي ثبت الحكم في أصله بالقياس لأن ذلك القياس لا يتفرع
على قياس آخر إلى غير نهاية بل لا بد من الانتهاء إلى أصل ثبت حكمه
بالنص
وإذا كان كذلك فالنص أصل القياس والأصل راجح على الفرع
البحث الثاني في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس الثلاثة
فنقول أما الدلائل اللفظية فإما أن تكون متواترة أو آحادا
فإن كانت متواترة لم يمكن ترجيح بعضها على بعض إلا بما يرجع إلى
المتن
وإن كانت آحادا أمكن ترجيح بعضها على بعض بما في المتن وبما
462

في الإسناد وتلك الوجوه قد ذكرناها فيما تقدم فلا فائدة في الإعادة
وبالجملة فكلما كان ثبوت الحكم في الأصل أقوى كان القياس
أرجح
فإن كان ثبوت الحكم في أحد القياسين مقطوعا وفي الآخر كان الأول
أولى لما تقدم أن القياس الذي بعض مقدماته مقطوع والبعض مظنون
راجح على ما كل مقدماته مظنون
وأيضا فإذا ثبت الحكم في أحد الأصلين بإيماء خبر متواتر فهو راجح
على ما ثبت بإيماء خبر واحد ولكن بشرط التعادل في الايماءين
ولو ثبت الحكم في الأصل بخبر الواحد فالذي هو مدلول حقيقة
اللفظ راجح على ما هو مدلول مجازه
النوع الخامس
القول في التراجيح الحاصلة بسبب كيفية الحكم
وهي على وجوه
أحدها
القياس الذي يوجب حكما شرعيا راجح على ما يوجب حكما عقليا لأن
القياس دليل شرعي فيجب أن يكون حكمه شرعيا إلا أنا لو قدرنا تقديم
العلة المثبتة للحكم الشرعي على المثبتة للحكم العقلي لزم النسخ مرتين
463

ولو قدرنا تقديم العقل لزم النسخ مرة
فإن قلت كيف يجوز أن يستخرج من أصل عقلي علة شرعية
قلت يجوز ذلك إذا لم ينقلنا عنه الشرع فنستخرج العلة التي لأجلها لم
ينقلنا عنه الشرع
أما إذا كان أحد الحكمين نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فقيل إنهما
يتساويان لكنا ذكرنا في باب ترجيح الأخبار أنه لابد وأن يكون أحدهما
عقليا
وثانيها
الترجيح بكون أحد الحكمين في الفرع حظر فذلك الحظر إما أن يكون
شرعيا أو عقليا فإن كان شرعيا فهو راجح على الإباحة لأنه شرعي ولأن
الأخذ بالحظر أحوط وإن كان عقليا فكونه حظرا جهة الرجحان وكونه عقليا
جهة المرجوحية فيجب الرجوع إلى ترجيح آخر ولا بد في الحظر والإباحة
من كون أحدهما عقليا على ما تقدم
وثالثها
أن يكون حكم إحدى العلتين العتق وحكم الأخرى الرق فالمثبتة
للعتق أولى لأن للعتق مزيد قوة ولأنه على وفق الأصل
ورابعها
إذا كان حكم إحداهما في الفرع إسقاط الحد وحكم الأخرى إثباته
فالمسقطة أولى لأن ثبوته على خلاف الأصل
فإن قلت المثبت للعقوبات يثبت حكما شرعيا والدارئ يثبت
حكما عقليا فالمثبت للحكم الشرعي أولى
الجواب
أن الشرع إذا ورد بالسقوط صار السقوط حكما شرعيا ولذلك لا يجوز
464

نسخه إلا بما ينسخ الحكم الشرعي
وخامسها
الترجيح بكون أحد حكمي العلة أزيد من حكم الآخر بأن يكون
حكم أحدهما الندب وحكم الآخر الإباحة فالمثبت للندب أولى لأن
في الندب معنى الإباحة وزيادة فكانت أولى إذا كانت الزيادة شرعية
وسادسها
العلة إذا كان حكمها الطلاق كانت راجحة لما ثبت من قوة الطلاق
وسابعها
القياس على الحكم الوارد على وفق قياس الأصول أولى من القياس
على الحكم الوارد بخلاف قياس الأصول وعلته كون الأول متفقا عليه
والثاني مختلفا فيه ولأن الأول خال عن المعارض والثاني مع المعارض
فيكون الأول أولى
وثامنها
القياس على أصل أجمع على تعليل حكمه أولى مما لا يكون كذلك
وعلته أن على التقدير الأول تكون إحدى مقدمات القياس يقينية وهي
كون الحكم في الأصل معللا فيكون ذلك القياس راجحا على مالا يكون
شئ من مقدماته يقينيا
وتاسعها
الترجيح بشهادة الأصول للحكم وقد يراد بها دلالة الكتاب والسنة
والإجماع على ذلك الحكم
وهذه وإن كانت صريحة فهي الأصل في إثبات الحكم فلا يجوز
465

الترجيح بها وإن مسها احتمال شديد جاز ترجيح القياس بها
وعاشرها
يقع الترجيح بقول الصحابي لأنه أعرف بمقاصد الرسول ص
وكذلك إذا عضدت العلة علة أخرى
كما ترجح أخبار الآحاد بعضها ببعض
وحادي عشرها
أن يلزم من ثبوت الحكم في الفرع محذور كتخصيص
عموم أو ترك العمل بظاهر أو ترجيح مجاز على حقيقة
وفرق بين هذا الترجيح وبين ما ذكرناه من شهادة الأصول لأن
الحكم الشرعي قد يكون بحيث يوجد في الشرع أصول تشهد بصحته
وأصول أخر تشهد ببطلانه فالقوة الحاصلة بسبب وجود الأصول التي تشهد
بصحته غير القوة الحاصلة بسبب عدم ما يشهد ببطلانه
ومن هذا الباب أن يكون الحكم لازما للعلة في كل الصور فإن من يجوز
تخصيص العلة يسلم أن العلة المطردة أولى من المخصوصة
النوع السادس
في التراجيح الحاصلة بسبب مكان العلة
وهو إما الأصل أو الفرع أو مجموعها
أما الأصل فبأن تشهد للعلة الواحد أصول كثيرة وذلك لأن شهادة
466

الأصل
دليل على كون تلك العلة معتبرة وكل شهادة دليل مستقل
فالترجيح بالشهادات الكثيرة ترجيح بكثرة الدلائل
وأما الفرع ففيه صور
إحداها
أن العلة المتعدية أولى من القاصرة عند الأكثرين خلافا لبعض
الشافعية
لنا
أن المتعدية أكثر فائدة ولأنها متفق عليها والقاصرة مختلف فيها فالأخذ
بالمتفق عليه أولى فكانت المتعدية أولى
احتج المخالف بأن التعدية فرع الصحة والفرع لا يقوى الأصل
والجواب لكنه يدل على قوته
وثانيها
إذا كانت فروع إحدى العلتين أكثر من الأخرى قال بعضهم هو أولى
وقال آخرون لا يحصل به الرجحان
حجة الأولين
أنها إذا كثرت فروعها كثرت فوائدها فكانت أولى
فإن قلت إنما يكون إذا كثرت فوائدها الشرعية وكثرة فروعها ترجع
إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع وليس ذلك بأمر شرعي
قلت كثرة وجود الفروع ليس بأمر شرعي لكن الفروع لما كثرت لزم
467

من جعل هذا الوصف علة كثرة الأحكام فكان أولى
احتج الآخرون بوجوه
الأول
لو كان أعم العلتين أولى من اخصهما لكان العمل بأعم الخطابين
أولى من اخصهما
الثاني
التعدية فرع صحة العلة في الأصل فلو توقفت صحتها على
التعدية لزم الدور
الثالث
كثرة الفروع ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع وليس
ذلك بأمر شرعي بخلاف كثرة الأصول
والجواب عن الأول
إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما وليس
كذلك العمل بأخصهما
أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى الترجيح وترجيح إحداهما يوجب طرح
الأخرى فكان طرح ما تقل فائدته أولى
وعن الثاني والثالث
ما تقدم
وثالثها
العلة إذا كانت مثبتة للحكم في كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت
الحكم في بعض الفروع
468

وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل الفروع يجري مجرى
الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد منها
وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع
يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة العامة
قائمة مقام الأدلة الكثيرة
وأما العلة الخاصة في الصورة الواحدة فهي دليل واحد فقط
فكان الأول أولى
وأما الترجيح الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد
بها الفرع إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه
مثاله قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال
لأن الاتحاد من حيث الجنسية ثابتة بينهما
وهذا آخر الكلام في التراجيح
469