الكتاب: الفصول في الأصول
المؤلف: الجصاص
الجزء: ٢
الوفاة: ٣٧٠
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور عجيل جاسم النمشي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٥
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

أصول الفقه
المسمى
الفصول في الأصول
للإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
المتوفى سنة 370 ه‍
الجزء الثاني
دراسة وتحقيق
للدكتور عجيل جاسم النشمي
الطبعة الأولى
سنة 1405 ه‍ - 1985 م
1

أصول الفقه
المسمى به
الفصول في الأصول
الجزء الثاني
3

الباب الثاني والعشرون
في
صفة البيان
5

باب
صفة البيان
قال أبو بكر:
البيان إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب منفصلا مما يلتبس به ويشتبه من أجله
6

وأصله في اللغة من القطع والفصل يقال بان منه إذا انقطع قال النبي صلى الله عليه وسلم ما بان من
البهيمة وهي حية فهو ميتة وبان إذا فارق قال جرير
بان الخليط ولو طوعت ما بانا
وبان الأمر إذا ظهر وبانت المرأة بينونة إذا فارقت زوجها ثم قالوا بان الأمر
ووضح بيانا وبان من الفراق بينا ومن انقطاع النكاح بينونة والأصل في جميع ذلك واحد
وهو الانقطاع فسمي الفراق بيبا لانقطاع المفارق عن صاحبه
وسمى اظهار المعنى وإيضاحه بيانا لانفصاله عما يلتبس به من المعاني فيشكل من
7

أجله وإنما خالفوا بين أبنية هذه الأفعال لإفادة أحوال الموصوفين بها كما قالوا عدل وعديل
والمعنى واحد الا أنه سمى ما يعدل به المتاع عدلا وما يعدل به الرجل عديلا ليفيدوا عند
الإطلاق كل واحد على حياله من غير حاجة منهم إلى ذكر غيره وقالوا امرأة حصان
وبناء حصين وامرأة رزان وحجر رزين
وقال حسان بن ثابت
حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
والأصل في اللفظين واحد وإنما فرقوا بينهما ليفيدوا به عند الإطلاق من وصف به
والبيان وإن كان حقيقة ما وصفنا فإنه سمى ما يوصل إلى علمه بالاجتهاد وغالب
الظن بيانا في الشريعة لأن الله تعالى قد أمر به ونص على اعتباره
8

فإن قال قائل فواجب على هذا أن يطلق على كل من أفهمنا قصده ومراده بأنه
ذو بيان
قيل له كل من فعل ذلك فقد أبان عن مراده وأتى ببيانه إلا أنه لا يسمى لذلك
على الإطلاق لأن الإطلاق إنما يتناول من غلب على كلامه الإيضاح وانتفى عنه العي
والتعقيد كما أن الفصاحة والبلاغة أصلها إفصاح اللسان بمراده وبلوغه حاجته فيما
يريد الإبانة عنه
ولا يسمى كل من أفصح عن نفسه فصيحا على الإطلاق وكما أن قولنا عالم وفقيه
مشتق من العلم والفقه ولا يسمى كل من علم شيئا عالما ولا من فقه مسألة فقيها على
الإطلاق وكذلك قولنا فلان ذو بيان وبين اللسان إنما ينصرف عند الإطلاق إلى من كان
الغالب على كلامه الإبانة عن نفسه مع انتفاء العي والتعقيد عنه
فإن قال قائل هلا قلت إن البيان هو ما يتبين به الشئ كما أن التحريك هو ما
يتحرك به الشئ والتسويد وهو ما يسود به الشئ
قيل له لا يجب ذلك لأن البيان قد يحصل من المبين وإن لم يتبين به المخاطب
وقد حصل البيان من الله تعالى ومن رسوله للمكلفين عبد فيما تهم إليه الحاجة من أمر
دينهم ولم يتبينه كثير من أهل العناد والكفر ودل ذلك على أن فقد التبيين من
9

المخاطب لا يؤثر في صحة وقوع البيان من المبين وأما التحريك فإنه لا يوجد أبدا إلا
ويحصل به التحريك وكذلك التسويد لا يكون إلا ويسود به الشئ فهذا غير مشبه
للبيان
وذكر الشافعي البيان ووصفه فقال
البيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع فأقل ما في تلك المعاني
المتشعبة أن يكون بيانا لمن خوطب به فيمن نزل القرآن بلسانه وإن كان بعضها أشد تأكيد
بيان من بعض ثم جعله على خمسة أوجه وهذه الجملة التي ذكرها فيها
10

خلل من وجوه
أحدها أن ما حد به البيان وقصد به إلى صفته لم يبين به ماهية البيان ولا
صفته لأنه ذكر جملة مجهولة فكان بمنزلة من قال البيان اسم يشتمل على أشياء ثم لا يبين
تلك الأشياء ما هي
فالذي وصف به البيان هو بالإلباس أشبه منه بالبيان لأنه لم يذكر المعاني المجتمعة
الأصول المتشعبة الفروع ما هي وما حدها وصفتها والذي اقتضاه كلامه أن يقول و
11

المعاني المجتمعة الأصول كذا والمتشعبة (الفروع كذا حتى يكون قد أفادنا شيئا
واسم البيان إذا أطلق من غير تفسير دل على معناه عند السامعين مما وصفه به
وقصد به إلى بيان تحديده
وأيضا فإن ما ذكره لا يجوز أن يكون تحديدا للبيان ولا وصفا له بوجه لأنه
يشرك فيه ما ليس ببيان ولا من جنسه إذ كان أكثر الأشياء شاركه في أنها مجتمعة الأصول
متشعبة الفروع إذ ليس يحتمل قوله مجتمعة الأصول متشعبة الفروع إلا أنه يجمعها أصل
واحد ثم تنقسم إلى معان أخر
فإن قال قائل قد بين مراده حين قسمه على خمسة أقسام والأقسام هي الفروع
المتشعبة والمجتمعة الأصول إلا أنها يجمعها كلها معنى واحد وهو القصد إلى إعلام
المخاطبين
قيل له لم يقل هو ذلك وإن سلمنا لك كان ما ذكرناه صحيحا لأنه يوجب أن يكون
كل ما انقسم أقساما يجمعها أصل واحد أن يكون بيانا حتى نقول إن الجسم بيانه
لأنه ينقسم إلى حيوان ونام وجماد ويقول إن الحيوان بيان لأنه ينقسم إلى إنسان
وبهيمة ما وطائر وغير ذلك ونقول إن الشئ بيان لأنه ينقسم بعد ذلك إلى أشياء كثيرة مختلفة
وهذا هو الفساد لأن أحدا لا يجعل البيان اسما لشئ من ذلك
وعلى أنه قد يقضي هذا التحديد بالتفسير حين سمى كل قسم من الأقسام الخمسة
التي ذكرها بيانا
فقال البيان أول كذا والثاني كذا فاقتضت الجملة التي قدمها في وصف البيان أن
يكون كل قسم من هذه الأقسام بيانا وتكون اسما لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع
ومعلوم أن كل قسم من الأقسام الخمسة التي ذكرها ليس بهذا الوصف
12

وأيضا فقد يكون بيانا ما لا يشتمل عليه هذا الوصف لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما
سقت السماء العشر إذ كان بيانا لقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده لم يكن هذا القول
مما يصح وصفه بأنه معان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع وهو مع ذلك بيان صحيح
فإن قال قائل لا يلزمه ما ذكرت لأن هذا أحد أقسام البيان لا جميعه
قيل له أو ليس هو بيانا في نفسه مع ذلك وما حده بالوصف الذي ذكر يقتضي أن
يكون المذكور شرطا لجميع ما سمي بيانا فلا يجوز إذا كان هذا هكذا أن يحد البيان بما لا يجوز
أن يخرج عنه لأن التحديد يقتضي ألا يخرج عن الحد ما هو منه كما لا يدخل فيه
ما ليس منه فإذا وجدنا بيانا صحيحا لا يحصره الحد الذي ذكره للبيان فقد وضح
بطلان تحديده
وأيضا فإن الرجل أخبر عن البيان ما هو والبيان اسم جنس لدخول الألف
واللام يقتضي استيعاب جميعه فواجب على قضيته أن لا بيان إلا ما كان بهذا الوصف
وقد نقض هو ذلك بكل قسم من الأقسام التي ذكرها للبيان لأن كل قسم منها ليس بهذا
الوصف
وأيضا فإنه سمى قوله تعالى فتم ميقات ربه أربعين ليلة بيانا لقوله تعالى
وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشرة وهذا لا يسميه أحد بيانا في شرع
ولا لغة لأن البيان هو إظهار المعنى وإيضاحه منفصلا مما يلتبس به
13

وليس في ذكر الأربعين بعد تقديم ذكر الثلاثين والعشر اظهار شئ ولا إيضاح لما
أشكل بالكلام الأول وإنما يسمى كذلك تأكيدا وتقريرا كما يؤكد بتكرار اللفظ كقوله
تعالى فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا وقوله تعالى أولى لك
فأولى ثم أولى لك فأولى وكقول النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم تجد بنت مخاض فابن لبون ذكر وليس هذا من البيان
في شئ
وجعل أيضا الشافعي قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك
عشرة كاملة زيادة في البيان وما سمى أحد هذا بيانا غيره وإنما قال أهل العلم في
ذلك أنها عشرة كاملة في قيامها مقام الهدي وما يستحق بها من الثواب
ثم قسم البيان إلى خمسة أقسام وما سبقه إلى هذا التقسيم أحد فلا يخلو من أن
يكون أخذه عن لغة أو عن شرع ولا سبيل له إلى اثبات ذلك من واحدة من الجهتين
ولا ندري عمن أخذه ويشبه أن يكون ابتدأه من قبل نفسه ثم لم يعضده بدلالة
فحصل على الدعوى
ثم جعل القسم الأول قوله تعالى فتم ميقات ربه أربعين ليلة ونحوه وقد
بينا أن هذا ليس ببيان
وقد قال بعض أصحابه أن فائدة ذكر العشرة بعد تقديم العدد المذكور أن الله تعالى
أراد أن يعلمنا بذلك الحساب وهذا تأويل يكفي في الإبانة عن جهل قائله وغباوة حكاية
14

قوله
وجعل القسم الثاني قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وقوله
تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه وتحريم الفواحش والميتة والدم ولحم الخنزير
وقال أصحابه إنما جعل الشافعي هذا بيانا ثانيا لأنه كاف بنفسه
قال أبو بكر
وما ذكره في البيان الأول هو مستغن مستقل بنفسه أيضا لأن قوله تعالى فصيام
ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم مكتف بنفسه في إفادة مقدار العدد وكذلك قوله
تعال تلك عشرة كاملة فإن كان قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق وما ذكر معه إنما وجب أن يكون من البيان الثاني لأنه كاف بنفسه فيجب
أن يكون ذلك حكم ما قدم ذكره في البيان الأول لهذه العلة فيوجب هذا أن يكونا جميعا
من قسم واحد فإما أن يكون الأول من الثاني أو يكون الثاني من الأول فلا يجوز أن
يكونا قسمين مع اتفاقهما في المعنى الذي صار به أحدهما من القسم الثاني
وجعل البيان الثالث بيان النبي صلى الله عليه وسلم للفروض المجملة كالصلاة والزكاة
15

وجعل البيان الرابع ما ابتدأه النبي صلى الله عليه وسلم من السنن في حيز ما ابتدأه الله من
الفروض وأن يكونا جميعا قسما واحدا
وذلك لأنهما غير مختلفين في جهة البيان وليس يختلف البيان بالقائلين وإنما يختلف في
نفسه
فإذا بان ما سنه صلى الله عليه وسلم وابتدأه غير مخالف لما ابتدأه الله تعالى من الفروض في وقوع
الدلالة على المعنى فهما من قسم واحد
ولو جاز أن يجعل ذلك قسما آخر من البيان لجاز أن يجعل كل فرض على حدة
قسما آخر من البيان وهذا يوجب أن لا يكون لأقسام البيان مقدار معلوم لأن ذلك أكثر من
أن يحصى
وجعل البيان الخامس الاجتهاد والاجتهاد وإن كان مما قد قامت الدلالة
على صحة القول به فإن ما يؤديه إليه إنما هو عليه ظن ليس بيقين وما كان كذلك
فليس يقع به بيان الحكم في الحقيقة ألا ترى إلى قول الله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم
ولعلهم يتفكرون فذكر المنصوص ووصفه بالبيان ولم يجعل ما كان طريقه الاجتهاد في
حيز ما وقع البيان فيه إلا أنه ان كان سمى الاجتهاد بيانا من حيث أمرنا به لم يصدق
العبارة عنه بذلك
ولم يذكر الإجماع في أقسام البيان وكان الاجماع أولى بذكره في ذلك من القياس
والاجتهاد لأن الاجماع حجة الله تعالى لا يجوز وقوع الخطأ فيه
16

وأما قوله عقيب ذكره البيان فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشبعة أن يكون
بيانا لمن خوطب به ممن نزل القرآن بلسانه فإنه إخبار عن البيان لمن يكون ولا دلالة فيه
على معنى البيان بوجه
وفيه أيضا خلل من قبل أن البيان لا يختص بلغة دون غيرها وإن كانت لغة العرب
أبين وأفصح من سائر اللغات لأن أهل كل لغة ولهم ضرب من البيان في لغتهم
وموضوع اللغات في الأصل للبيان لا غير والرجل إنما ابتدأ القول بذكر البيان
على الإطلاق ولم يقل البيان الوارد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون بيانا لمن ذكر ممن
نزل القرآن بلسانه وعلى أن اقتصاره بالبيان أنه لمن نزل القرآن بلسانه غير مستقيم
لأن القرآن والسنن بيان لسائر المكلفين من الناس من عرف لغة العرب منهم ومن لم يعرف
وإن كان من لا يعرف لغة العرب يحتاج إلى أن يعرف معناه بلغته وينقل إلى لسانه
والدليل عليه قوله تعالى هذا بيان للناس وقوله تعالى وأوحى إلي هذا القرآن
لأنذركم ومن بلغ وقال تعالى إن هو إلا ذكر للعالمين وقال في صفة الرسول
صلى الله عليه وسلم نذيرا للبشر فكل من ترجم له معنى القرآن والسنن من أهل سائر اللغات فهم
منذرون بالقرآن وبالرسول عليه السلام
وقول القائل إن ذلك بيان لمن نزل القرآن بلسانه خطأ ثم لم يرض أصحابه
بتحديد البيان على ما ذكر فقالوا البيان اسم لإخراج الشئ من حيز الأشكال إلى
التجلي فخالفوه في ذلك من وجهين
17

أحدهما أن الشافعي جعل قوله تعالى فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقوله
تلك عشرة كاملة بيانا وليس فيه إخراج الشئ من حيز الاشكال إلى التجلي لأن قوله
تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر لم يكن قط مشكلا وكذلك قوله
تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم لم يشكل على أحد انه عشرة فلم
يخرج بذكره الأربعين والعشرة شيئا من حيز الاشكال إلى التجلي
والوجه الآخر أن ما كان طريقه الاجتهاد من الحوادث يخرج به الشئ من حيز
الاشكال إلى التجلي لأنه لو كان كذلك لما كان من باب الاجتهاد ولكان بمنزلة سائر
ما عليه أدلة قائمة يكشف عن حقيقته كالتوحيد وسائر صفات الله تعالى فكان يجب أن
يكون من خالف في مسألة اجتهادا مخالفا لحكم الله تعالى مردود الحكم إذا حكم
به وهذا لا يقوله أحد من الفقهاء فدل على أن ما كان طريقه الاجتهاد لم يخرج من
حيز الإشكال إلى التجلي
وقد جعله الشافعي أحد أقسام البيان مع خروجه عن الحد الذي حده
أصحابه للبيان
وعلى أن هذا التحديد أيضا ظاهر الانحلال من قبل أن هذا الوصف إنما
يوجد في بعض أقسام البيان وهو بيان المجمل الذي لا يستقل بنفسه والخطاب
18

المبتدأ من الله تعالى ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن سائر المخاطبين إذا كان ظاهر المعنى بين
المراد فهو بيان صحيح لا يدفع أحد أن يكون بيانا في الحقيقة ولا يشتمل عليه مع
ذلك الوصف الذي وصف به البيان ألا ترى أن قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وقوله
تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وحرمت عليكم الميتة لم يكن قط في حيز الاشكال
فأخرج بهذا البيان إلى التجلي إذ لم يكن هناك اشكال قبل نزول الآية في أن الغسل
واجب أو غير واجب وأن الأم محرمة أو غير محرمة وقد أطلق مع ذلك القول بأن البيان اسم
لكذا وكذا فذلك يقتضي سائر ما يسمى بيانا ثم اقتصر بهذا الوصف على بعض
أقسام البيان دون جميعه
19

الباب الثالث والعشرون
في
وجوه البيان
21

باب
القول في وجوه البيان
قال أبو بكر
البيان في الشرع على وجوه
منها الأحكام المبتدأة ومنها تخصيص العموم الذي يمكن استعماله على ظاهر ما
ينتظمه الاسم فبين أن المراد البعض
ومنها صرف الكلام عن الحقيقة أو المجاز وصرف الأمر إلى الندب أو الإباحة
وصرف الخبر إلى الأمر فبين أن المراد باللفظ غير حقيقته ومنها بيان الجملة التي لا تستغني
عن البيان في إفادة الحكم وهذا البيان ليس بتخصيص ولكنه تفسير للمراد بالجملة
كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد العشر ونصف العشر والحق
نفسه هو العشر فلا تخصيص في ذلك ولا صرف للكلام عن الحقيقة
ومنها النسخ وهو بيان لمدة الحكم بعد أن كان في وهمنا وتقديرنا بقاؤه
22

الباب الرابع والعشرون
في
ما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج إليه
23

باب
فيما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج إليه
قال أبو بكر
كل لفظ أمكن استعماله على ظاهره وحقيقته ولم يقترن إليه ما يمنع استعمال حكمه
على مقتضى لفظه فغير محتاج إلى البيان إلا أن يريد به المخاطب بعض ما انتظمه أو
كان مراده غير حقيقته فيحتاج إلى بيان المراد به وكل لفظ لا يمكن استعمال حكمه إما لأنه
مجمل في نفسه أو لأنه اقترن إليه ما جعله في معنى المجمل عل حسب ما تقدم منا
القول في صفة المجمل وما في معناه فهو مفتقر إلى البيان فالأول نحو قوله تعالى
فاقتلوا المشركين وأحل الله البيع وحرمت عليكم أمهاتكم هذه ألفاظ
معانيها معقولة ظاهرة فهو مفتقر إلى البيان بنفس ورودها والثاني نحو قوله تعالى
وآتوا حقه يوم حصاده وقوله تعالى والذين في أموالهم حق معلوم وقول
النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني
25

دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ونحو قوله تعالى وأحل لكم ما وراء
ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم
ونحو قوله تعالى والسارق والسارقة لأنه قد اقترن إليهما ما أوجب كونهما
موقوفين على ورود البيان بهما على ما بينا فيما سلف
26

الباب الخامس والعشرون
في
ما يقع به البيان
27

باب
ما يقع به البيان
قال أبو بكر
بيان الشرع يقع بالكتاب والسنة والإجماع والقياس
وقد قال بعض أهل العلم من المتقدمين إن البيان يقع بخمسة أشياء بالقول والخط
والإشارة والعقد وهو يعني عقد الحساب وبالنسبة الدالة
فنقول على هذا إن البيان من الله تعالى يقع بالقول وبالكتابة والبيان بالقول
نحو سائر الفروض المبتدأة المعقول معانيها من ظاهر الخطاب
ويقع بالكتاب أيضا لأن القرآن كلام الله تعالى وكتابه في اللوح المحفوظ وفي
غيره فيكون منه بيان الأحكام المبتدأة بهذين الوجهين
ويكون منه بهما أيضا تخصيص العموم كقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من
النساء وخص منه المحرمات بالآية الأخرى وهو قوله تعالى حرمت عليكم
أمهاتكم ونحو بيان الجملة كقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون
ثم بينه بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم
28

ويكون منه أيضا بيان مدة الفرض بهذين الوجهين وهو النسخ نحو قوله تعالى قد
نرى تقلب وجهك في السماء ثم قال تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام
ونحو قوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ منه ما عدا
الأربعة الأشهر والعشر بقوله تعالى يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا
وكان حد الزانين الحبس والأذى بقوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من
نسائكم إلى آخره ثم قال تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة
جلدة فنسخ به الحبس والأذى المذكورين في الآية الأخرى عن غير المحصن
ويكون منه تعالى البيان بالنسبة الدالة وذلك على وجهين
أحدهما العقليات ودلائلها والبيان بها أكثر من دلالة اللفظ لأن اللفظ يجوز
فيه التخصيص وصرفه عن الحقيقة إلى المجاز والدلائل العقلية الدالة على توحيد الله
تعالى وعدله وسائر صفاته لا يجوز عليها الانقلاب والتخصيص فهي آكد من اللفظ في هذا
الباب فكان البيان واقعا بها
والوجه الآخر ما كان طريقه الاجتهاد بين فروع أحكام الشريعة وقد قامت
الدلائل الموجبة لصحة القول بالاجتهاد فجاز أن يسمى ما يؤدينا إليه بيانا وإن كان
30

عن غالب ظن
ويكون البيان من الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول نحو سائر السنن المبتدأة ونحو تخصيصه
لعموم القرآن كنهيه عن بيع ما ليس عند الانسان وبيع ما لم يقبض وأحلت لي
ميتتان ونحو قوله خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم خص به قوله تعالى لا تقتلوا
الصيد وأنتم حرم
ويكون البيان منه بالكتابة أيضا كنحو كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم في
الصدقات والديات وسائر الأحكام وكتابه الذي كتبه لأبي بكر الصديق في
الصدقات وقال عبد الله بن عكيم ورد علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته
بشهرين أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب
31

وقال الضحاك بن سفيان الكلابي كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فثبت أن الكتابة يقع بها البيان كوقوعه
بالقول ويكون من النبي صلى الله عليه وسلم بيان المجمل في الكتاب بهذين الوجهين نحو قوله صلى الله عليه وسلم ليس
فيما دون خمس أواق صدقة ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول وبيانه لفروض
صدقات المواشي بالقول والكتابة كل ذلك بيان للمراد بقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة
تطهرهم وقوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر بيان لقوله تعالى وآتوا حقه يوم
حصاده وقوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض
32

ويكون البيان منه بالفعل أيضا كفعله لأعداد ركعات الصلاة المفروضة
وأوصافها وقع به بيان المجمل من قوله تعالى وأقيموا الصلاة ونحو فعله في المناسك
بيانا لقوله تعالى ولله على الناس حج البيت وقد أكد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما
رأيتموني أصلي وقوله خذوا عني مناسككم نبههم به على وجوب اعتبار البيان بفعله
عما أجمل في الكتاب ذكره وليس كل فعله في الصلاة أو الصدقة بيانا للجملة التي
في الكتاب لأنه لو صلى لنفسه لم يدل ذلك على أنه بيان لقوله تعالى أقيموا الصلاة ولو
تصدق بصدقة لم يدل على أنها مراده بقوله تعالى وآتوا الزكاة وإنما يقع على وجه البيان
ما يجمع الناس عليه من المكتوبات أو عقل من فعله أنه فعلها على أنها فرض
فيكون هذا دليلا على أنه معقول بالكتاب فصار بيانا له لأن قوله تعالى وأقيموا الصلاة
33

وآتوا الزكاة موجب لفرضهما وما فعله في نفسه لم يثبت أنه فعله فرضا فلا يكون فيه
دلالة على أنه فعله بيانا
ويكون منه أيضا بيان مدة الفرض المنصوص عليه في الكتاب أو السنة
بقوله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث قد قيل إنه نسخ به الوصية للوالدين والأقربين وقوله في الرجم
نسخ به الحبس والأذى عن المحصن وفي السنة نحو قوله صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور
فزوروها) وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا
ويكون البيان منه بالإشارة أيضا كقوله الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار
بأصابعه العشر فأفاد بأنه ثلاثون يوما
ثم قال الشهر هكذا وهكذا وهكذا وحبس الإبهام في الثالثة فأفاد أنه
تسعة وعشرون يوما وقال الله تعالى لزكريا عليه السلام آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام
إلا رمزا ثم قال تعالى فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة
34

وعشيا يعني أشار إليهم فقامت إشارته مقام القول في بلوغ المراد
وحكى الله تعالى عن مريم صلوات الله عليها فأشارت إليه فبينت لهم
مرادها بالإشارة
ويكون فيه البيان أيضا بالدلالة والتنبيه على الحكم من غير نص نحو قوله عليه
السلام لفاطمة بنت أبي حبيش في دم الاستحاضة إنها دم عرق وليست الحيضة
فدل على وجوب اعتبار خروج دم العرق في نقض الطهارة وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن
سمن ماتت فيه فأرة فقال إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه
فدل بتفريقه بين المائع والجامد على سائر المائعات ينجس بمجاورة أجزاء النجاسة
إياها وغير ذلك من وجوه النظر المستنبطة من السنن
وقد يقع من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الحكم بالإقرار على فعل شاهده من فاعل يفعله على
35

وجه من الوجوه فيترك النكير عليه فيكون عليه فيكون ذلك بيانا منه في جواز فعل ذلك الشئ
على الوجه الذي أقره عليه أو وجوبه إن كان شاهده يفعله على وجه الوجوب فلم ينكره
وذلك نحو علمنا بأن عقود الشرك والمضاربات والقروض وما جرى مجرى ذلك قد
كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرته مع علمه بوقوع ذلك منهم واستفاضتها فيما بينهم ولم
ينكرها على فاعليها فدل ذلك من إقراره إياهم على إباحته ذلك لأن ذلك لو كان من
حيز المحظور لأنكره وأبطله إذ غير جائز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى أحدا على منكر من الفعل
أو القول فيقاره أن عليه ولا ينكره إذ كان إنكاره ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد أمر الله تعالى جميع الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وللنبي صلى الله عليه وسلم الحظ
الأوفر منه إذ كل من أمر بمعروف أو نهى عن منكر من أمته فإنما فعله اقتداء به وبأمره فإذا
علمنا إقرار النبي صلى الله عليه وسلم قوما على أمور علمها منهم من غير نكير منه عليهم فيها كان أقل
أحوال تلك الأفعال أن تكون جارية على الوجه الذي أقرهم عليه فدل ذلك
على أن البيان قد يقع من النبي صلى الله عليه وسلم بإقرار من شاهده على فعل وتركه النكير عليه فيه
فيدل على جوازه على الوجه الذي شاهده يفعله
فإن قال قائل ليس في إقراره عليه السلام من شاهد على فعل وتركه النكير دلالة
على إباحته وجوازه لأنه يجوز أن يترك النكير عليه اكتفاء بما قدم من النهي عنه من
جهة النص أو الدلالة لأنه قد أقر اليهود والنصارى على الكفر وعلى عبادة غير الله تعالى
ولم يدل ذلك على جوازه عنده ورضاه به
قيل له أي نكير أشد من قتاله إياهم عليه حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
36

صاغرون مع ما قدم فيه من الوعيد بالخلود في النار وإنما أعطاهم العهد وأخذ منهم الجزية
عقوبة لهم على أن يقرهم على كفرهم وذلك معلوم ظاهر من أمرهم
ألا ترى أنه قد أنكر عليهم ما لم يعطهم العهد فيه على إقرارهم عليه من
المحظورات نحو ما كتب به إلى أهل نجران وكانوا نصارى إما أن تذروا الربا وإما أن
تأذنوا الحرب من الله ورسوله فابتدأهم على بهذا الخطاب حين علم أنهم كانوا يربون وإن
اقرارهم عليه لم يدخل فيما أعطاهم من الذمة
ويقال لهذا القائل خبرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز أن يرى رجلا يربي أو يغصب أو
يقتل فلا ينكر على فاعله اكتفاء بما قدم من النهي عن ذلك فإن قال نعم خرج من
إجماع الأمة وجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ما نزهه الله تعالى منه وأجاز على النبي صلى الله عليه وسلم ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقال له فإن جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فهو لنا أجوز وإن
جاز ذلك لنا فقد أدى ذلك إلى سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اكتفاء بما
قدمه الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم من النهي عن ذلك وفي هذا نقض ركن من أركان الدين
عظيم
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم
37

يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وكيف يجوز أن يأمرنا بأن لا نقار أحدا على منكر إذا
أمكننا تغييره ثم يقر هو الناس عليه ويترك النكير عليهم فيه حاشا له من
ذلك صلى الله عليه وسلم
وقد جعل أصحابنا رحمة الله عليهم ترك العلماء النكير على العامة في
معاملات قد تعارفوها واستفاضت فيما بينهم إجماعا منهم على جوازه نحو ما قالوا في
الاستصناع أنهم لما شاهدوا علماء السلف لم ينكروه على عاقديه مع ظهوره
واستفاضته كان ذلك اتفاقا منهم على جوازه وتركوا القياس من أجله ومثل دخول الحمام
من غير شرط أجرة معلومة ولا مدة معلومة ولا ذكر لمقدار الماء الذي يستعمله أجازوه
لظهوره في علماء السلف من العامة وتركهم النكير عليهم فيه ومثل علمهم بأن
الجباب والكيزان لا يخلو من بق أو بعوض يموت فيها في أكثر الحال ثم لم يقل أحد
38

من علماء السلف للعامة لا يجوز لكم استعمال الماء الذي هذه حاله مع علمهم بعموم
بلواهم به فدل تركهم النكير فيه على طهارة ذلك الماء لأنه لو كان نجسا ما جاز لهم ترك
النكير على مستعمله للطهارة إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها في قوله كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فدل ذلك على أن كل ما أقر
النبي صلى الله عليه وسلم الناس عليه فهو جائز على الوجه الذي أقرهم عليه ومن نحو ذلك حديث
الزهري عن سهل بن سعد الساعدي أن عويمر العجلاني لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه
وبين امرأته قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها هي طالق ثلاثا
فتضمن هذا القول إخبارا منه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أنها امرأته إلى أن طلقها ثلاثا ولم ينكر
عليه النبي صلى الله عليه وسلم إخباره بذلك ومعلوم أنه غير جائز أن يخبر أحد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه
39

مالك لبضع امرأة وهو غير مالك في الحقيقة ثم يقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولا ينكره
عليه لأن قائل ذلك قد انتظم أمرين
أحدهما إخباره أنه مالك لبضعها وهو غير مالك وهذا كذب والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر أحدا
على الكذب
والثاني إخباره عن اعتقاده بأن فرجها له مباح وهو محظور في الحقيقة فدل تركه
النكير على عويمر فيما أخبره به من ذلك أن الفرقة لم تكن قد وقعت بنفس
اللعان
ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن لبس الحرير والتختم بالذهب ثم يرى
على نسائه الحرير والذهب فلا ينكره فدل ذلك على أن النهي خاص بالرجال
دون النساء
وقد يقع بيان المجمل بالإجماع لأنه حجة لله تعالى قد أمر باتباعه وحكم
بصحته فيجوز وقوع البيان به نحو إجماعهم على أن دية الخطأ على العاقلة والذي في
كتاب الله تعالى فدية مسلمة إلى أهله ولم يذكر وجوبها على العاقلة فبين الإجماع المراد
40

بها وكإجماعهم على أن للجد مع الولد الذكر السدس إذا لم يكن له أب وأن لبنتي
الابن الثلثان إذا لم يكن ولد لصلب وأن للجدتين أم الأم وأم الأب إذا
اجتمعتا سدسا واحدا وهو مما قد وقع به بيان قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون كما بين الله تعالى بعضه بنص قوله يوصيكم الله في أولادكم إلى
آخر القصة وكما بينت السنة بعضه فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الجدة السدس كذلك الإجماع
بين هذه الفرائض التي ذكرناها وهي مجملة في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان
والأقربون وللنساء نصيب
وقد يكون بيان الإجماع بحكم مبتدأ كما يكون بيان حكم الكتاب والسنة وذلك
نحو إجماع السلف على حد الخمر ثمانين على ما بيناه في غير هذا الكتاب وإجماعهم
على تأجيل امرأة العنين
وقد يكون بيان خصوص العموم بالإجماع نحو قوله تعالى الزانية والزاني وأجمعت
الأمة أن العبد يجلد خمسين والإجماع وإن لم يخل من أن يكون عن توقيف أو رأي فإنه
أصل برأسه يجب اعتباره فيما يقع البيان به
41

الباب السادس والعشرون
في
تأخير البيان
وفيه فصل: المجمل لا ذي لا سبيل
إلى استعمال حكمه إلا ببيان
43

باب القول
في تأخير البيان
قال أبو بكر
اختلف الناس في تأخير البيان
فقال قائلون غير جائز تأخير بيان اللفظ الذي يمكن إجراؤه على ظاهره وحقيقته
إذا كان المراد به غير الظاهر ومنعوا أيضا جواز تأخير بيان المجمل
وقال آخرون لا يجوز تأخير بيان الظاهر ويجوز تأخير بيان المجمل إذا كان اللفظ
مؤديا ببيان يرد في الثاني
نحو قول القائل اعط زيدا حقه إذا بينه له
وامتنعوا من إجازته إذا لم يكن لفظ الإجمال مظهرا فيه فقالوا في نحو قوله تعالى
وآتوا حقه يوم حصاده وقوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة إذا لم يكن المراد
بهما صلاة أو زكاة معهودة أنه غير جائز تأخير البيان في مثله عن حال وروده إذ ليس معه
ما يوجب تعليقه ببيان يرد في الثاني
وقال آخرون يجوز تأخير البيان في جميع هذه الوجوه سواء كان اللفظ مكتفيا بنفسه
في إفادة حكمه أو كان مجملا موقوف الحكم على بيان من غيره
45

وقال آخرون ما كان مجملا لا يمكن استعمال حكمه أو لم يكن اللفظ في نفسه
مجملا إلا أنه قرن به ما يوجب إجماله ويمنع استعمال حكمه فجائز تأخير بيانه عن وقت
وروده سواء كان اللفظ مؤديا ببيان يرد في الثاني أو لم يكن فيه ذلك وأما ما أمكن استعمال
حكمه فغير جائز تأخير بيان خصوصه إن كان المراد الخصوص عن حال إيقاع
الخطاب والفراغ منه
قال أبو بكر
الذي أحفظه عن شيخنا أبي الحسن رحمه الله جواز تأخير بيان المجمل وامتناعه
فيما يمكن استعمال حكمه
وكذلك يجب أن يكون القول في اللفظ المطلق إذا أراد به المخاطب غير الحقيقة
فغير جائز تأخير بيان مراده
وهذا الذي حكيناه عن أبي الحسن هو عندي مذهب أصحابنا لأنهم يجعلون
46

الزيادة في النص نسخا إذا وردت متراخية عنه ولا يجوزونها إلا بمثل ما يجوز به النسخ
نحو إيجاب النفي مع الجلد وشرط الإيمان في رقبة الظهار والنية في الطهارة وما يجري
مجرى ذلك
ولو جاز عنده تأخير البيان في مثله لما كانت الزيادة عندهم نسخا بل كان يكون
بيانا لأن المذكور بدءا بعض الفرض لا جميعه وقد أجازوا مثل هذه الزيادة في
المجمل بالقياس وخبر الواحد
ألا ترى أنهم يشترطون النية في الصوم ولم يوجب ذلك عندهم نسخة بل كانت
48

على وجه البيان لأن اللفظ لما كان مجملا مفتقرا إلى البيان بكل ما ثبت أنه مشروط فيه
من جهة خبر الواحد أو القياس أو غيره من وجوه الأدلة فهو مراد باللفظ ويصير اللفظ عبارة
عنه فكان ثبوت ذلك فيه على جهة بيان المراد
والدليل على امتناع جواز تأخير بيان ما يمكن استعمال حكمه على ما ورد فيه أنه
قد ثبت عندنا صحة القول بالعموم ووجب حمل اللفظ على الحقيقة فالواجب علينا إذا
كان هذا هكذا اعتقاد حكم اللفظ على ما تضمنه من عموم وحقيقة فغير جائز
إذا كان المراد به الخصوص أو المجاز تأخير بيانه عن حال الخطاب به لأن ذلك يوجب أن
يكون قد ألزمناه اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به ولزوم حكمه على خلاف مراده
وهذا لا يجوز على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا أوجب علينا اعتقاده بنفس
ظهور اللفظ على ما تضمنه من عموم أو حقيقة فقد أجاز لنا الإخبار عنه بذلك وإن كان
مراده البعض أو غير الحقيقة فقد أجاز لنا الكذب لأنه إخبار عن الشئ بخلاف ما هو به
تعالى لله عن ذلك فلا ينفك القائل بتأخير بيان ما هذا وصفه من أحد أمرين
إما ترك القول بالعموم والظاهر
أو إجازة مجئ العبادة من الله تعالى باعتقاد الشئ على خلاف ما هو به والإخبار عنه
بذلك وكلاهما منفيان عن الله تعالى
وأيضا فإن إرادة التخصيص بمنزلة الاستثناء فكما لم يجز أن يتراخى الاستثناء عن
الجملة بأن يقول فلبث فيهم ألف سنة ثم يقول بعد مدة خمسين عاما وجب أن
يكون كذلك حكم العموم إذا أريد به الخصوص ألا يتأخر بيانه لأن العلة فيهما جميعا
49

أن تأخير بيانهما يؤدي إلى جواز التعبد باعتقاد الشئ على خلاف ما هو به
وأيضا قال الله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وقال بلسان عربي
مبين وفي مخاطبات الحكماء أن الكلام إذا انقطع ضربا من الانقطاع يعرف به الفراغ
منه أنه يجب اعتقاد موجبه غير منتظر به ورود بيان في الثاني ينفي بعض موجبه كما
يعقل مثله في الإعداد إذا عريت من الاستثناء فلو أن متكلما أطلق لفظ عموم أو عددا
معلوم المقدار ثم قال بعد ذلك بزمان أردت بعض ذلك دون بعض حكموا عليه بالكذب
في مقالته كما لو أقر لرجل بألف درهم ثم قال بعد زمان أردت تسعمائة ولولا أن
ذلك كذلك لما استنكر على أحد كذب أبدا لأن كل ما ينفي به الكلام الأول يمكنه
أن يقول ما أردته باللفظ أو أردت نفيه بشرط فلما كان جواز ذلك منفيا عن
مخاطباتنا فيما بيننا وجب أن ينتفي عن خطاب الله تعالى وخطاب رسول الله عليه السلام
لأن الله تعالى إنما خاطبنا بما هو في لغتنا وتعارفنا
قال فإن قال قائل يلزمك مثله في النسخ لأن كل ما ورد عن الله تعالى وعن
رسوله ص فواجب علينا اعتقاد بقاء حكمه ثم لا يمتنع مع ذلك ورود نسخه كذلك لا
يمتنع أن يلزمنا اعتقاد العموم ما لم يرد بيان الخصوص
50

قيل له هذا غلط لأن كل ما حكم الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو مما يجوز نسخه
وتبديله فغير جائز لأحد أن يعتقد بقاءه ما دام النبي صلى الله عليه وسلم حيا بل يجب علينا اعتقاد جواز
نسخه ما بقي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ورد النسخ فإنما ورد ما كان في اعتقادنا عند ورود الفرض
المتقدم
وقد احتج بعض من صنف في هذا الباب لامتناع جواز تأخير البيان فيما كان وصفه
ما ذكرنا بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم وقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ
ما أنزل إليك من ربك قال فقد أمره بالتبليغ والبيان فلا يجوز له أن يؤخره لأن في
تأخيره مخالفة أمر الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم أبعد الناس من ذلك
وهذا لا دليل فيه على ما ذكر لأن قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم إنما
يقتضي المنزل بعينه والمنزل مبين وإنما أراد إظهاره وترك كتمانه ولا دلالة فيه على أنه
أراد بيان الخصوص
وأيضا فإنه احتاج أن يثبت أولا أن البيان مما نزل إليه حتى يبين وكلامنا مع
المخالف في هل جائز أن يؤخر الله تعالى بيان العموم إذا كان مراده الخصوص وليس
في الآية امتناعه فلا معنى للاحتجاج بها في ذلك
وأيضا
فإنه لو كان المراد بيان الخصوص لما دلت على وجوبه على الفور كما تقول أعطيتك
هذه الدراهم لتشتري بها ثوبا أو لتنفقها على نفسك لا دلالة فيه على إرادة ذلك في الحال
51

وأيضا فمعلوم أن المراد لتبين ما أمرت ببيانه فيحتاج إلى أن يثبت أولا أنه
مأمور بالبيان على الفور إذ ليس في اللفظ دلالة عليه فقد بين أنه ليس في الآية دليل على
ما ذكر هذا القائل في امتناع جواز تأخير البيان
وأما قوله تعالى بلغ ما أنزل إليك من ربك فعليه أن يثبت أولا أن البيان مما
قد أنزل إليه حتى يبينه لأن من يخالف في هذا مجوز أن ينزل الله تعالى على النبي
صلى الله عليه وسلم عموم حكم ومراده الخصوص ثم يؤخر بيانه عنه
واحتج بعض من أجاز البيان في ذلك بأنه ليس في العقل زعم إحالة ذلك لأنه جائز
أن يعلم الله تعالى من مصلحتنا أن يخاطبنا بالعموم فنعتقده ثم يبينه لنا في الثاني
قال أبو بكر
وفساد هذا الكلام وانحلاله أظهر من أن يخفي على ذي بصيرة وذلك لأنه ادعى
أولا أن في العقل يجوز ذلك واستدل عليه بأنه جائز أن يعلم الله تعالى من مصلحتنا ان
يخاطبنا بالعموم فنعتقده ثم يبينه لنا في الثاني
وقائل هذا لا يدري أنه غير جائز ان تكون المصلحة في أن يتعبدنا بخلاف مراده
وأن يبيح لنا الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو به فرام هذا القائل إثبات تجويز كون
المصلحة في مجئ العبادة به بأن يجوز على الله تعالى ان يتعبد بخلاف مراده وباعتقاد
الشئ على خلاف ما هو به فانتظم أمرين كلاهما منفي عن الله تعالى
أحدهما تجويزه على الله تعالى ان يتعبدنا بالجهل لأن اعتقاد الشئ على
خلاف ما هو به جهل
52

والثاني تجويزه ان يتعبدنا بالكذب ثم انه بنى على هذا الأصل الفاسد الذي
أصله في التجويز وجود ما ادعاه في جواز تأخير البيان في زعمه واحتج فيه بقول الله تعالى
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه
قال وقد قيل في تأويله وجهان
أحدهما تلاوته
والآخر بيانه قال وهو على الأمرين
قال أبو بكر
ولا دلالة فيه على ما ذكر من وجهين
أحدهما أنه إن سلم له ما قد ادعاه من التأويل من أن وحيه بيانه كان
ذلك فيما يقتضي البيان ويحتاج إليه فأما اللفظ المكتفي بنفسه عن البيان فلم تتناوله الآية
والآخر أنه نهى عن العجلة به قبل الفراغ من جميعه لأن بيان القول إنما يحصل
بالفراغ منه وبلوغ آخره لأنه قد يعلق تارة بشرط ويوصل باستثناء وبلفظ
التخصيص ولا دلالة فيه على جواز تأخير البيان فيما كان هذا وصفه ويكون معناه موافقا لما
قلنا من قبل أن يقضى إليك بيانه متصلا بالكلام
ويقال للمحتج بهذا ما معنى قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن عندك أراد به أن
لا يتلوه أو أراد أن لا يعتقد حكمه على ما ورد حتى نبين لك معناه
فإن قال أراد التلاوة
قيل له فلا خلاف بين المسلمين انه كان جائزا له التلاوة إذا حصل الفراغ منه
بانقطاع الكلام
53

فإن قال أراد أن لا يعتقده على ما يقتضيه ظاهره فإن هذا يمنع من
اعتقاد العموم فيه وليس هذا كذلك
وهذا لو صح كان ينبغي ان يستدل به من يقف في العموم وأنت تقول أني اعتقد
العموم فيه ما لم يرد بيانه فقد خالفت قوله ولا تعجل بالقرآن على معناه عندك وعلى
هذا التأويل يوجب أن لا يعتقد النبي صلى الله عليه وسلم العموم في شئ من القرآن إلى آخر عمره لأن
تأخير بيان جميعه يجوز عندك وكلما بين له شئ فجائز أن يكون هناك بيان آخر والبيان نفسه
قد يكون من القرآن فيكون موقوفا أيضا على بيان آخر وهذا فاسد لا يجوز القول به
واحتج أيضا بقوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا
بيانه وثم للتراخي فيقال له معلوم أن هذا فيما يحتاج فيه إلى البيان والقول
المكتفي بنفسه في إفادة الحكم غير مفتقر إلى البيان فما الدلالة في الآية على جواز
كونه بيانا حتى يجوز تأخيره
وأيضا معلوم أنه لم يرد بيان جميع ما أنزل من القرآن لأنه لو كان كذلك لوجب أن
يكون البيان أيضا مفتقرا إلى بيان
وكذلك الثاني والثالث إلى ما لا نهاية له وهذا فاسد فدل أن المراد بيان بعض القرآن
وذلك البعض هو المجمل الذي يحتاج إلى البيان فسقط استدلاله بالآية على جواز تأخير
بيان الظاهر
وأيضا فإذا كان معلوما مع ورود الآية أن المراد بيان بعض القرآن صار تقديرها
ثم إن علينا بيان بعضه فيحتاج إلى دلالة أخرى على ما اختلفنا فيه من ذلك
البعض الذي أخبر الله تعالى أنه يؤخر بيانه
وقال هذا الرجل أيضا لما كان تأخير بيان الجملة جاز مثله في العموم ولا فرق
54

واقتصر على هذا القدر من غير أن يبين وجه الاستدلال بأحدهما على الآخر وهذا الكلام
لا يستحق به جوابا ولا زيادة أكثر من أن يقال له ولم قلت إن هذا مثل بيان الجملة
ثم قال فإن قيل الفرق بينهما أن في الجملة لم يدر ما الاعتقاد وفي العموم يدري
قال فإنهما قد اجتمعا في أن سارقا يقطع وأن كل سارق يقطع
وقال وأيضا فإذا جاز أن يؤخر بيان ما لا يدرى ما هو كان بيان ما يدرى أولى أن
يؤخر هنا
قال أبو بكر فأما قوله قد اجتمعا في الاعتقاد فهما سواء فإنه ضرب من
الهذيان لأن الجملة لا يمكننا اعتقاد معناها وإنما نعتقد بورودها أن فرضنا ما قد تعلق
وجوبه بهذا القول عند ورود البيان فليس يمتنع أن نبين في الثاني معنى اللفظ وأما
العموم فعلينا فيه اعتقاد ظاهره وموجب لفظه فإن كان مراده غير ما دخل تحت اللفظ فحين
ألزمنا القول بالعموم فقد أوجب علينا اعتقاده على خلاف ما أراده منا وهذا ممتنع وأما قوله
إذا جاز تأخير بيان ما لا يدري ما هو ففيما يدرى أولى فلا معنى له لان ما لا يدرى لا
يلزمنا فيه اعتقاد شئ يبين لنا في الثاني خلافه وما يدرى قد ألزمنا منه اعتقاد ظاهره فلا
يجوز ورود البيان بعده بخلافه
ثم يقال له لا يجوز أن يتأخر الاستثناء عن الجملة لأنا لا ندري معنى قوله تعالى
فلبث فيهم ألف سنة فتأخير بيان الاستثناء أولى حتى يقول بعد مدة إلا خمسين عاما
كما قلت في تأخير بيان العموم إذا كان مراده الخصوص
55

قال هذا القائل وإنما نقول في اعتقاد مثله أنا نعتقده على العموم إن خلينا وهو
فليس يرفع البيان ذلك الاعتقاد
قال أبو بكر
وإنما حكينا ألفاظه على وجهها وإن كانت ملحونة عنه لأنا لم نحب تغييرها وأردنا
أن يكون الكلام عليها على حسب ما ذكرها
فيقال له في هذا الفصل ما تقول في حكم اللفظ إذا صدر عن الله تعالى
وعن الرسول صلى الله عليه وسلم وحصل الفراغ منه قبل ورود البيان أنقطع فيه بأن مراده العموم أو لا
نقطع فيه بشئ لجواز أن يكون مراد الخصوص وإن لم يبينه في الحال
فإن قال لا اعتقد فيه العموم إلا لأنه جائز أن يريد به الخصوص وإن لم يبين
قيل له فإنا كلمناك على أنك تقول معنا بالعموم فإن صرت إلى مذهب
أصحاب الوقف سحبنا عليك جميع ما تقدم في باب اثبات العموم على أصحاب الوقف
وألزمنا أن تقف في البيان لجواز أن يكون له بيان آخر لم يذكره ويذكره في الثاني وكذلك
في كل بيان يرد سواء كان لفظا أو دلالة منه لأن دلالة اللفظ ليست بآكد من اللفظ فأوجب
الوقف في حكم اللفظ لجواز تأخير بيانه فدلالته أحرى أن تكون كذلك فيؤدي ذلك
إلى اسقاط حكم اللفظ رأسا
فإن قال إني لا أقول بالوقف والفصل بيني وبين أصحاب الوقف أني أقول إني
اعتقد العموم إن خليت وإياه وهؤلاء يقولون نقف فيه حتى يثبت العموم أو الخصوص
قيل له لا فصل بينكما في المعنى وإنما خالفتم في العبارة وذلك لأنك معترف أنك
56

لم تخل والعموم حين وروده وحصول الفراغ منه فالعموم لم يثبت بعد لأنك علقته بشرط
لم يثبت وهو قولك إن خليت وإياه وأنت إذا لا تدري أخليت وإياه أم لا وأنت واقف
في العموم فلا فرق بينك وبين أصحاب الوقف حين قالوا نعتقد العموم ان كان هو المراد
والخصوص إن كان هو المراد فان قلت إني قد خليت والعموم نقضت ما ابتدأت به في هذا
الفصل ورجعت عنه ولزمك جميع ما قدمناه في صدر هذا الباب
ويقال له ما الفصل بينك وبين من اعتقد في ذكر الأعداد مثل اعتقادك في
العموم فنقول في قوله تعالى فصيام شهرين متتابعين أنه كان يجوز أن يعتقد فيه عند
وروده انهما شهران إن خلينا وإياهما وان لم يعقبه بعد ذلك ببيان استثناء يوجب
الاقتصار على ما دونهما بأن نقول شهرين إلا عشرة أيام ولا نعتقد في قوله تعالى واختار
موسى قومه سبعين رجلا وفي قوله تعالى وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا العدد
المذكور فيه حتى يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه جائز أن يرد بعده الاستثناء فيقول سبعين
إلا عشرة واثني عشر إلا واحدا فإن لم يجز ذلك في الاعداد والاستثناء منها فما الفصل بينهما
وبين العموم وكذلك يجب ان يصدق من قال لفلان علي ألف درهم وسكت ثم قال بعد
شهر أردت ألفا إلا مائة فلما كان المعقول من اطلاق هذه الألفاظ متى حصل الفراغ منها
57

اعتقاد مضمونها غير مرتقب فيها بيانا وجب أن يكون ذلك حكمها في خطاب الله تعالى
إيانا
واحتج أيضا بأنه قد يجوز أن يقع البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل كما يبين بالقول وزمان
الفعل أطول من زمان القول فقد أخر البيان عن وقت إمكانه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم صلوا كما
رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وبين جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة ولم
يجب النبي صلى الله عليه وسلم السائل عن مواقيت الصلاة حتى صلى الصلوات ثم قال أين
السائل عن مواقيت الصلاة الوقت فيما بين هذين
قال أبو بكر
وليس في شئ مما ذكر دلالة على موضع الخلاف في هذه المسألة وذلك لأن
فرض الصلاة والحج لم يخل من أن يكون تعلق بمعهود معلوم عندهم فانصرف الأمر إليه
فهذا لا يحتاج إلى بيان ويكون قوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني
مناسككم تأكيدا وتقريرا لما قد علموه فلم يقع بهذا بيان كما قال عليه السلام ائتموا بي
وليأتم بكم من بعدكم وهذا تأكيد لمعنى قد عرفوه قبل ذلك وليس ببيان
وكذلك مواقيت الصلاة أو أن يكون فرض الصلاة والحج
حين ورد كان مجملا مفتقرا إلى البيان فأخر النبي صلى الله عليه وسلم بيانهما ونحن نجوز تأخير بيان
المجمل
58

فإذا لا دلالة فيما ذكر على موضع الخلاف بيننا
وقال أيضا إن النسخ تأخير البيان لأنا أمرنا بالصلاة إلى بيت المقدس ومعنى
ذلك أنا نصلي إليها ما بقينا والأمر الأول فنعتقد أن لا يزال يصلى إليها إن بقينا والأمر الأول
فيقال له ليس هذا من تأخير البيان في شئ وذلك لأنه يجب علينا اعتقاد ثبوت الحكم
بعد وروده
وهذا الذي قد اعتقدنا ثبوته لا يجوز رفعه ولا تبين لنا خلافه وإنما الذي يجوزه من
ذلك بيان آخر وقته غير مذكور في اللفظ فيلزمنا اعتقاد عمومه وإذا كان ذلك كذلك لم
يكن ورود النسخ رافعا للاعتقاد الأول لأن ما اعتقدنا ثبوته لم يرتفع بورود النسخ وأما
ورود نسخه فقد كنا نجوزه مع ورود الأمر وأنت فلا يمكنك أن تقول مثله في بيان
الخصوص إلا بترك اعتقاد العموم في حال ورود اللفظ فيجعل نفس الحكم موقوفا على
ما يرد من بيانه
وأيضا فلو ورد الحكم الناسخ مع المنسوخ في خطاب واحد لم يتنافيا لأنه يصح أن
تقول صل إلى بيت المقدس إلى وقت كذا ثم صل إلى الكعبة كما تقول صل إذا
زالت الشمس ولا تصل عند الطلوع والغروب
واعتقاد العموم لا يصح معه تأخير البيان لو جمعهما في خطاب واحد لأنه لو قال اعتقد
قطع جميع السراق لم يصح أن يضم إليه وقف في السراق لا يحكم فيهم بشئ حتى يرد
البيان لأن الاعتقاد الثاني ينافي الأول
فلما لم يصح ورودهما على هذا الوجه في خطاب واحد لم يصح أن يريده به ولما صح
جمع ذكر الحكم الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد صح أن يريده
59

وأيضا فإن مدة الفرض لما لم تكن مذكورة وكان تجويز بيانها بالنسخ فإنما
صار النسخ في معنى بيان المجمل الذي هو غير معلول المعنى فجاز تأخير بيانه
ثم يقال له أليس كل حكم ورد مما يجوز نسخه فأنت تجوز نسخه ما بقي النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا قال نعم
قيل له فنقول في كل عموم يرد مما يجوز تخصيصه أنه جائز ألا يكون المراد به
العموم وأن المراد به الخصوص
فإن قال نعم
قيل فقد تركت القول بالعموم ويلزمك أن لا تثق بالبيان أنه على ما ورد من
مقتضى لفظه وأن يجوز فيه ورود بيان خصوصه أو تعليقه على شرط أو حال أخرى أو
استثناء ويسحب عليه جميع ما يلزم من ينفى القول بالعموم في إخلاء اللفظ من
الفائدة
واحتج أيضا بقصة موسى والخضر عليهما السلام أنه لم يتبين له وجه ما فعله من
خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار في وقت الفعل وأخره إلى ثان
قال أبو بكر
وليس هذا مما نحن فيه في شئ لأنه لم يكن عليه السلام عليه أن يبين وجه
المصلحة والحكمة في جميع ما فعله لموسى عليه السلام كما أنه ليس على الله تعالى أن
يعلمنا وجه المصلحة فيما يفعله من الآلام والأمراض والموت بكل واحد منا وإنما علينا أن
نعتقد أنه لا يفعل من ذلك إلا ما هو صلاح وحكمة
60

فأما أن يعرفنا كل شئ منها بعينه فيقول ان هذا وجه الحكمة والمصلحة فيه كذا
وهذا وجهه كذا فإن ذلك غير واجب
وقد كان الخضر عليه السلام مخيرا بين أن يبين أو لا يبين إذ لم يكن الله تعالى قد
أمره بالبيان فلم يؤخر بيان شئ لزمه بيانه
وأيضا فإن موسى عليه السلام قد كان عالما بأن الخضر لم يفعل إلا ما هو
صواب وحكمة في الجملة وإنما أراد أن يبين وجه المصلحة في كل شئ منه بعينه فكان
وجه المصلحة فيه بمنزلة المجمل الموقوف الحكم على البيان فجاز أن يتأخر بيانه كما نقول في
تأخير بيان المجمل
وقال أيضا إن الله تعالى حكى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم عليه السلام إنا
مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين وقال إبراهيم عليه السلام إن فيها
لوطا فبينوا حينئذ وقالوا لننجينه وأهله فخاطبوه بخطاب اقتضى العموم ولم يبينوه في
الحال حتى سأل
والجواب عن هذا ان الدلالة قد كانت تقدمت من الله تعالى لإبراهيم عليه
السلام على أن لوطا عليه السلام والمؤمنين معه خارجون من الخطاب فصاروا مستثنين
بالدلالة فلم يكن على المخاطب استثناؤهم وإخراجهم من الجملة بالبيان فقد كان
إبراهيم عليه السلام عالما بأن الله تعالى لا يهلك لوطا والمؤمنين معه وعلمت الملائكة أيضا
ذلك من علم إبراهيم عليه السلام فلم يكن عليهم استثناؤه من خطابهم
فإن قال لو كان إبراهيم عليه السلام قد علم أن لوطا مستثنى من خطابهم لما قال
61

لهم إن فيها لوطا هذا يدل انه كان اعتقد من خطابهم العموم وجائز على الله تعالى
أن يميت الأنبياء عليهم السلام مع قومهم من غير أن يكون لهم عقوبة وإن كان عقوبة
لقومهم
قيل له وما في قول إبراهيم عليه السلام ان فيها لوطا من الدلالة على أنه لم يعتقد
من خطابهم استثناء لوط من الجملة وليس يمتنع عندنا أن يكون اعتقد استثناء لوط
منهم وقال إن فيها لوطا على وجه المسألة عن كيفية خلاصه بأن يتركه الله تعالى في
القرية ويهلك أهلها سواه وسوى من آمن به أو يخرجه منها ثم يهلك القرية بما فيها
فأخبرته الملائكة حينئذ بجهة خلاصه أو لم تبينه له إذ لم يكن عليهم بيانه كل ذلك جائز
غير ممتنع فلم يثبت لهذا القائل وجه الدلالة من الآية على جواز تأخير البيان
وذكر أيضا قصة نوح عليه السلام وأن الله تعالى وعده أن ينجيه وأهله ثم بين في
الثاني استثناء ابنه من المنجيين فقال له إن الله تعالى قد كان أخبره أنه لن يؤمن من
قومك إلا من قد آمن وكان ابنه كافرا فعلم نوح عليه السلام أن الابن مستثنى من
المنجيين إن بقي على كفره
وليس يمتنع أن يكون قد كان يجوز أن يؤمن ابنه قبل الغرق لأن الله تعالى إنما قال
له أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وظاهر هذا ألا يتناول أهله فقال رب إن ابني من
62

أهلي وإن وعدك الحق فأخبره الله تعالى أنه لن يؤمن ويجوز أن يكون سأل الله تعالى
أن يعرفه حال ابنه بعد الغرق هل كان نزع عن كفره بعد فراقه إياه فأخبره أنه مات على
كفره ومنع أن يشفع فيه بقوله تعالى فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون
من الجاهلين
وذكر أيضا قصة بقرة بني إسرائيل وانه أطلق اسم بقرة وبين في الثاني أنها على
صفة فدل أنه أطلق لفظ عموم وأراد خصوص بقرة بعينها في الثاني
فيقال له إن الحكم الأول كان ذبح بقرة أي بقرة كانت فلما تعنتوا شدد عليهم
بزيادة الصفة وهذا عندنا على وجه النسخ لأنه ورد بعد استقرار الحكم الأول فليس فيه
تأخير البيان
فإن قال إن الله تعالى علم أنهم سيفعلون من هذا ويتعنتون
قيل له علم الله تعالى بأنهم يفعلون أو لا يفعلون يمنع من جواز النسخ بعد
التمكين من الفعل قبل وقوعه
وذكر أيضا قوله تعالى ولذي القربى واليتامى والاسم يتناول بني هاشم وبني
عبد المطلب وبني عبد شمس فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم وبني عبد المطلب ولم يذكر
بني عبد شمس بشئ فلما سأله عثمان بن عفان رضي الله
عنه وجبير بن مطعم رضي الله عنه عن ذلك أخبر أنهم لم يرادوا بالقرابة وقد كان اللفظ يشملهم فلم يبينه حتى
سئل فدل على جواز تأخير البيان
63

فيقال له إن هذا غلط لأن قوله ولذي القربى لفظ مجمل مفتقر إلى البيان
لأنه يتناول قرابة كل أحد كما يتناول قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فهو محتاج إلى البيان ونحن نجوز
تأخير بيان المجمل
وذكر أيضا قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم فقال
ابن الزبعري قد عبدت الملائكة والمسيح فأنزل الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا
الحسنى فأطلق اللفظ ولم يعقبه ببيان حتى قال ابن الزبعري ما قال
فيقال له هذا جهل بموضوع اللفظ لأن قوله تعالى إنكم وما تعبدون من
دون الله حصب جهنم لم يدخل فيه العقلاء لأن ما لغير العقلاء ومن
للعقلاء وقد كان ابن الزبعري علم ذلك وإنما اعترض بما ذكر متعتنا في غير موضع
اعتراض كما كانوا يكابرون في تسميتهم إياه مرة ساحرا ومرة مجنونا ويناقضون بن فيه
أفحش مناقضة ولا يبالون لأن الساحر هو الذي يبلغ بدقة تدبيره ولطف حيلته مالا
يبلغه غيره والمجنون هو الذي يخبط ويتعسف هذه في أفعال لا يجريها على نظام ولا ترتيب فمن
ناقض في قوله هذه المناقضة ويباهت سنة هذا البهت إذ لم يجد سبيلا إلى الطعن في دلائل
64

وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حسدا وبغيا ليس يمتنع أن يباهت في الاعتراض بذكر الملائكة والمسيح
صلوات الله عليهم أجمعين على الآية وإن لم يتضمن لفظ الآية دخولهم فيه وإنما
كان وجه اعتراضه أن هذه الأصنام إن كانت في النار لأنها عبد ت من دون الله عز وجل فإنه
يجب مثله في الملائكة والمسيح والله تعالى لم يقل إنها في النار مع عبدتها لأنها عبدت من
دون الله ثم أبان الله تعالى عن جهل هذا القائل وبهته بقوله تعالى إن الذين سبقت لهم
منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ويدل على أن الآية لم تتناول غير الأصنام أنه خاطب
بها قريشا وكانوا يعبدون الأوثان ولم يكونوا يعبدون المسيح ولا الملائكة
فإن قال لو لم تتضمن الآية دخول هؤلاء فيه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم وأجاب من
اعترض بذلك قبل نزول الآية
قيل له فكأنك تجوز ان يكون النبي صلى الله عليه وسلم اعتقد دخول الملائكة والمسيح في حكمها
وأنهم في النار لأنهم عبدوا من دون الله فإن أجاز ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم انسلخ من الملة لأن
أحدا من المسلمين لا يجيز ذلك وكلهم يقولون ان معتقده كافر
فإن قال قد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهم لم يرادوا بالآية
قيل له أفليس قد جاز أن لا يجيبهم إلا بعد نزول قوله تعالى إن الذين سبقت لهم
منا الحسنى مع علمه أنهم غير داخلين فيها فما أنكرت من قولنا حين قلنا إن الملائكة
والمسيح لم يدخلوا قط في الآية ومع ذلك لم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم لظهور فساد اعتراضهم ولأنه
علم أنه لا شبهة فيه على أحد وعلى أن قوله إنكم وما تعبدون من دون الله لو
65

تناول العقلاء وغيرهم لكان مرتبا على ما قرر في العقول وانزل به الكتب في أنه لا يعذب
أولياءه وأنبياءه في الآخرة فلم يرد اللفظ مقترنا بدلالة التخصيص فأي بيان تأخر وقوله
تعالى ان الذين سبقت لهم منا الحسنى تأكيد لما قد ثبت قبل ذلك وتقرير له كما
ذكر في صحة التوحيد وسائر صفاته تعالى في الكتاب بعد تقديم الدلائل عليها
من جهة القول
فإن قيل الدليل على جواز تأخير البيان قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة فأخر بيان الصلاة على حال الأمر بذكر الزكاة وإذا جاز أن يتأخر البيان هذا
القدر جاز أن يتأخر أوقاتا كثيرة
قيل له لا يخلوا قوله تعالى وأقيموا الصلاة من أن يكون تناول صلاة معهودة
قد عرفوها فلم تكن مفتقرة إلى البيان فقولك اخر بيانها ساقط أو أن يكون مجملا عند هم عند
نزول الآية ونحن نجوز تأخير بيان المجمل
وأيضا فإن حكم الكلام إنما يتعلق تأخره وحصول الفراغ منه ألا ترى أنه لو وصله
باستثناء أو علقه بشرط تعلق الجميع به فلو أطلق لفظ العموم ومراده الخصوص لم يمتنع
أن يؤخر بيانه بمقدار الفراغ من الكلام لأن السامع لا يلزمه أن يعتقد فيه شيئا إلا بعد
الفراغ منه
فإن قال قائل جميع ما ألزمته القائلين بتأخير البيان من أن الوقوف فيه إلى ورود
البيان ينفي وجوب القول بالعموم وترك الوقوف والقول باعتقاد عمومه ويؤدي إلى
تجويز اعتقاد الشئ بخلاف ما هو عليه فإنه يلزمك مثله في دلائل التخصيص من طريق
النظر لأنك لا تخلو من أن تعتقد العموم بنفس وروده أو تقف فيه حتى يستبين حكم
66

اللفظ في عمومه أو خصوصه فإن اعتقدت العموم لم تأمن أن يكون هناك دليل يوجب
خصوصه فتكون قد اعتقدت الشئ على خلاف ما هو به
وإن وقفت فيه قلنا ان تقول مثله في حكم اللفظ العام أنه على العموم ان لم يكن
مراده الخصوص فيكون موقوفا على البيان الذي يرد في الثاني ولا يقدح ذلك في
القول بالعموم كما أن وقوفك في عموم اللفظ إلى أن تستبرئ حال الدليل الموجب
لتخصيصه يعترض عليك في القول بالعموم
قيل له الجواب عن هذا من وجهين
أحدهما أنه يحتمل أن يقال ان الله تعالى لا يخاطب أحدا بلفظ العموم ومراده
الخصوص إلا مع إيراد دلائل التخصيص عليه حتى يعقل الخصوص مع ورود اللفظ كما
يعقل الاستثناء
والثاني أنه ليس يخلو السامع لذلك إذا كان مخاطبا بحكم اللفظ من أن يكون
سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره ممن يلزمه قبول قوله
ومن يلزمه قبول قوله فلا يورد عليه الخطاب إذا كان مكلفا لاعتقاد حكمه عاريا من
دلالة التخصيص إلا وقد أراد منه امضاءه على ظاهره فيجب على السامع إذا كان هذا
وصفه اعتقاد حكم مقتضى اللفظ والقطع بأن لا دليل هناك يوجب تخصيصه
وكذلك العامي ومن ليس من أهل العلم بأصول الحكم وطرق الاجتهاد فإنه متى
سأل من يلزمه تقليده عن حكم حادثة فأجابه فيها بجواب معلق من آية أو خبر فعليه
اعتقاد عمومه والعمل عليه لأنه لو كان خاصا لبينه له فإن سمع خبرا أو آية على غير
67

هذا الوجه فليس عليه أن يعتقد فيهما شيئا لأنه في هذه الحال غير مخاطب بحكمهما فهو في
معنى من لم يسمعهما وإن كان رجلا من أهل العلم بأصول الأحكام والنظر فيها
فتلا آية من القرآن أو سمع خبرا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ليس يصير من أهل الاجتهاد
والعلم بأصول الأحكام إلا وقد عرف مثل ذلك ما يعترض على هذا العموم من تخصيص أو
نسخ أو صرفه عن حقيقته إلى المجاز فتكون حينئذ دلائل الأصول مقارنة للعموم في
إيجاب تخصيصه إن كان المرد الخصوص فإن كان في الحقيقة خاصا ولم يبين هو خصوصه
لعموم دلالته وخفائها عليه فإنه إنما أتي من قبل نفسه في ذهابه عن وجه الدلالة وقد بين
الله تعالى له ما يوجب تخصيصه فإن اعتقد فيه العموم فإنما قصر في اجتهاده وأخطأ في
اعتقاده والله تعالى لم يأمره باعتقاد الخطأ وإنما ألزمنا نحن القائلين بتأخير البيان أن يكون الله
تعالى قد أمرنا باعتقاد عموم لفظ مراده فيه الخصوص فيكون أمرا له باعتقاد الشئ على
خلاف ما هو به ولا يمكنهم أن يجيبوا عن ذلك بمثل جوابنا عن سؤالهم
لأن من قولهم إن الله تعالى لم يبين بعد شيئا وكيف يمكنهم ولا يمكنهم
الوصول معه على علم الخصوص فإنما أتوا في اعتقاد عموم معناه الخصوص من
قبل الله تعالى لا من قبل تقصيرهم وذهابهم عن وجه دلالة الخصوص وهذا هو المنكر
عندنا ولم ننكر أن يخطئ الإنسان فيعتقد العموم فيما قد بين خصوصه فيخطئ
دلالة الخصوص ويعتقد الشئ على خلاف ما هو عليه وليس على الله تعالى أن يوقف على
68

خطأ قول كل قائل بنص يزيل معه الإشكال عنه وإنما عليه إقامة الدلالة عليه فإن
أخطأها مخطئ لم يؤثر ذلك في وقوع البيان من الله تعالى بإقامة الدلالة عليه
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله عن الكلالة
يكفيك آية الصيف فلم ينص له على الحكم عند إشكاله عليه لأنه قد بينه قبل ذلك
فوكله إلى ما قدمه من بيانه ثم يقال له فإذا لم تأمن أن يكون ما سمعت من الآية أو الخبر
منسوخا بغيره وكان الواجب عليه النظر في الأصول هل فيها ما ينسخها ثم لم يلزم مع ذلك
أن يقف في حكم قد تيقنا ثبوته بجواز أن يكون منسوخا بل واجب علينا الثبات عليه حتى
يثبت نسخه فكذلك علينا اعتبار حكم اللفظ واعتقاد عمومه ولا جائز أن يكون مراده
غير ظاهره فلا يبينه كما أن علينا الثبات على حكم قد علمنا ثبوته يقينا ولا يجوز الوقوف
فيه لأجل جواز نسخه لأن النسخ لو كان ثابتا لبينه
وأيضا فإن من وقف في حكم اللفظ للنظر في الأصول هل فيها ما يخصه فإنه متى لم
يجد فيها دلالة التخصيص حكم بعموم اللفظ في حال وروده وإن وجد فيها ما يخصه
تبين به اقتران دلالة الخصوص إلى اللفظ كالاستثناء فإنما وقف طلبا لبيان قد حصل
إن كان خاصا
وأنت تقف لرد البيان في الثاني ولا تطلب بوقوفك عمرو بيانا قد حصل كنت بذلك تاركا
للقول بالعموم على الحقيقة
69

فإن قال قائل ليس جائزا أن ينسخ الله تعالى حكما فيتعلق حكمه على
من سمعه ولا يتعلق على من لم يسمعه كما روي أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت
المقدس فأتاهم آت فأخبرهم أن القبلة قد حولت فاستداروا إلى الكعبة فقد صلوا
بعض صلاتهم بعد نسخ التوجه إلى بيت المقدس ولم يؤمروا باستئنافها لأن حكم النسخ لم
يتعلق عليهم إلا بعد العلم فكذلك ما أنكر أن يجوز اعتقاد العموم في اللفظ العام ويتأخر
بيانه فيكون السامع متعبدا باعتقاد العموم فإذا ورد البيان تبين خصوص اللفظ فصار
إليه ولا يؤثر ذلك في اعتقاده بدءا كما أن من لم يبلغه النسخ فهو متعبد بالفرض الأول فإذا
بلغه علم أنه كان منسوخا قبل ذلك
قيل له الفصل بينهما أن من بلغه النسخ بعد زمان فقد كان متعبدا بالفرض الأول
وقت بلوغه إياه ولم ينسخ عنه ذلك إلا بعد علمه وإن كان منسوخا عن غيره فمن
بلغه قبله فلم يكن في ذلك اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به ومخالفنا في تأخير البيان
يزعم أنه يجب عليه اعتقاد عموم معناه الخصوص في تلك الحال بعينها وهذا مستنكر لما
بيناه وإنما نظير النسخ من هذا أن يعتقد العموم ثم يخصه بعد ثبوت حكمه فيكون ذلك
نسخا لبعض حكم اللفظ وهذا لا نأباه ولا نكرهه
70

فصل
وأما المجمل الذي لا سبيل إلى استعمال حكمه إلا ببيان فإنما جاز تأخير بيانه
لأنه لما لم يمكن استعمال حكمه علمنا أنه أراد منا اعتقاد وجوبه إذا كان بين حكمه ولا
يمتنع تكليف ذلك لأنه يجوز أن يعلم أن المصلحة لنا في تقدمة ذلك إلينا وتكليفنا
توطين النفس على فعله عند بيانه كما كلفنا سائر العبادات وكما كلفنا اعتقاد أداء
الصلاة عند مجئ وقتها وفعل صوم رمضان إذا حضر الشهر كذلك لا يمتنع أن يقدم إلينا
جملة يلزمنا بها توطين النفس على فعله إذا ورد بيانه فالأمر المجمل قد تضمن معنيين
أحدهما لزوم توطين النفس في الحال على فعله إذا ورد بيانه وترقب مجئ وقته
والثاني أنه متى بين كان وجوبه متعلقا بالجملة المتقدمة وليس تأخير بيان
المجمل كتأخير بيان العموم إذا كان مراده الخصوص لأن ورود لفظ العموم يلزمنا
شيئين
71

أحدهما اعتقاد حكمه على ما انتظمه لفظه
والآخر لزوم فعله في أول أحوال الإمكان ولزوم هذين المعنيين مانع من تأخير
بيان خصوصه لأنه يوجب اعتقاد العموم فيما مراده الخصوص ويوجب أيضا اعتقاد
لزومه على الفور
والمراد تأخيره إلى وقت البيان وكلا الوجهين منفي عن الله عز وجل والمجمل لا
يلزمنا فيه اعتقاد عموم ولا خصوص ولا يلزم به الفعل على الفور بل عند ورود البيان
وأكثر ما يلزمنا فيه عند وروده إعلام حكم يبينه لنا في الثاني ويلزمنا ببيانه فعله وقبل بيانه
توطين النفس عليه وتسهيله عليها وينبهنا على الفكر فيما حتم فعله من الثواب وبتركه من
العقاب فيصير حتما على المتمسك بما هو مفترض عليه لأن توطين النفس على المأمور به
يسهل فعله
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مروا صبيانكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها
لعشر وقال تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا
روي في التفسير أدبوهم وعلموهم ومعلوم أنه ليس عليهم فرض في الحال
وأما أمرنا بذلك فيهم ليتمرنوا عليها ويعتادوها يحيى قبل البلوغ ليسهل عليهم فعلها إذا
72

بلغوا وقد قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم أخبار الأنبياء عليهم السلام حثا له على التمسك
بالصبر وتسهيلا للمحنة عليه قال الله تعالى وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به
فؤادك وقص علينا أخبار القرون السالفة لنتعظ الرحمن بها وننتهي عن مثل الأفعال التي
استحقوا العقاب بها فليس فيها أمر لنا بشئ أكثر من اعتقاد صحتها والاتعاظ بها
وكذلك الأمر المجمل إذا كان فيه ضرب من التكليف والمصلحة في الحال يمتنع وروده
غير مقترن ببيان يصحبه ثم يبينه لنا إذا أراد إلزام الفعل به وهذا يسقط جميع ما
يتعلقون به في ذلك من أنه لا فائدة في التلاوة إذا لم يكن تحته مأمور به يلزمنا فعله في الحال
وأنه متى كان ذلك كذلك كان بمنزلة مخاطبة العربي بالزنجية وأن إيراد ذلك بلفظ الأمر
ليس بأولى منه بلفظ النهي إذ ليس تحته فعل مراد في الحال وذلك لأن خطاب العربي
بالزنجية لا يفهم به المخاطب شيئا ووجوده وعدمه بمنزلة فيكون عبثا ولغوا والخطاب
المجمل قد تعلق به ما ذكرنا من وجوه التكليف والمصلحة فلم يمتنع وروده موقوفا على
البيان على الوجه الذي ذكرنا
فأما الخطاب بالأمر المجمل فمنفصل عن الخطاب بالنهي المجمل كانفصال
الخطاب بالأمر المعلوم المعنى عن الخطاب بالنهي لأن النهي المجمل يفيد توطين النفس
على اجتناب ما يرد بيانه كما يفيد الخطاب بالأمر المجمل توطينها وكان على فعله عند ورود
البيان فبان بذلك فساد قول من اعترض بمثله على جواز تأخير بيان المجمل
فإن قال قائل لا يجوز تأخير بيان المجمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمن أن تعاجله
روى المنية قبل بيانه فلا يوصل بعده إلى حكمه
73

قيل له قد علم عليه السلام أن الله تعالى لن يتوفاه حتى يبلغ رسالته ويبين
للأمة ما تحتاج فيه إلى بيانه فهذا سؤال ساقط
وأيضا فإذا علم الله تعالى أنه إن أخر البيان عن وقت لا يمكنه بعده تبليغه
وأداؤه فلابد من توقيفه إياه على تعجيله وترك تأخيره لأن الله تعالى إنما أرسله إلى الناس
ليبلغهم ما تهم إليه الحاجة من أمر دينهم فإذا أباح له تأخير البيان فإنما يبيحه له ما
لم يؤخره إلى وقت يفوته فيه فعله فإذا صار في حال إن لم يبينه فيه فاته وتعذر عليه
أعلمه قبل تأخيره
فأما من أجاز تأخير بيان المجمل إذا كان في الخطاب ما يوجب تعلقه بحال ثابتة
وأباه إذا ورد مطلقا غير مطمع في بيان يرد في الثاني فإنه ذهب فيه إلى أن الأمر لما كان
يقتضي فعله على الفور فقد ألزمنا بورود الأمر فعله فوجب أن يكون بيانه مقرونا به ليمكنه
تنفيذه وإلا كان فيه تكليف ما لا يطاق وهذا لا يوجب ما قالوه
وذلك لأنه يمنع ورود الأمر مطلقا غير معلق بوقت وتقوم الدلالة على أن
المراد به المهلة دون الفور فمتى ورد لفظ مجمل لا يمكن استعمال حكمه كان وروده هذا
المورد دلالة على أنه لم يرد منا فعله في الحال وأن لزومه موقوف على ورود البيان فيه فلا
فرق بين مقارنة هذه الدلالة للفظ وبين ذكر ما يوجب وقوفه على البيان متصلا به
74

الباب السابع والعشرون
الأمر ما هو؟
75

باب
القول في الأمر ما هو
قال أبو بكر
قول القائل لمن دونه افعل إذا أراد به الإيجاب وذلك لأن أهل اللغة حين قسموا
77

الكلام جعلوا الأمر أحد أقسامه وقالوا هو قول القائل افعل كما ذكروا الخبر
والاستخبار والطلب وقول القائل افعل يستعمل على سبعة أوجه على جهة إيجاب
الفعل وإلزامه كقوله تعالى اتقوا الله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوها
وعلى الندب كقوله تعالى وافعلوا الخير وقوله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين
وعلى الإرشاد إلى الأوثق والأحوط ولم لنا كقوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم
وقوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقوله تعالى فرهان مقبوضة وقوله
78

تعالى في شأن الرجعة وأشهدوا ذوي عدل منكم وعلى الإباحة كقوله تعالى
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا
وعلى التقريع والتعجيز كقوله قل فأتوا بسورة مثله وقوله تعالى فأتوا بعشر
سور مثله مفتريات وقوله تعالى فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين
وعلى الوعيد والتهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم وقوله تعالى واستفزز من
استطعت منهم بصوتك
وهذه الوجوه كلها تكون خطابا من القائل لمن دونه
وتكون على وجه المسألة والطلب ولا يكون ذلك إلا لمن فوقه كقولنا ربنا اغفر
لنا وارحمنا ونحو ذلك
ولا يختلف أهل اللغة وأهل العلم أن ما كان من ذلك على وجه التقريع أو الوعيد
أو المسألة لا يسمى أمرا وإن كانت صورته صورة الأمر
واختلف أهل العلم في قوله افعل إذا كان ندبا أو إباحة أو إشارة هل يسمى
أمرا بعد اتفاقهم على أنه إذا أراد الإيجاب كان أمرا
فقال قائلون جميع ذلك يسمى أمرا وليس وروده مطلقا أولى بأحد هذه الوجوه
الثلاثة منه بالآخر وجميعه يسمى أمرا
وقال آخرون حقيقة الأمر ما كان إيجابا وما عداه فليس بأمر على الحقيقة وان
79

أجري عليه الاسم في حال كان مجازا وكذلك كان يقول أبو الحسن رحمه الله في ذلك
وهذا القول هو الصحيح وذلك لأن القول الثاني يؤدي إلى أن يكون
للإيجاب صيغة في اللغة تختص به عند الاطلاق والضرورة داعية لأهل كل لغة إلى أن
يكون في لغتهم صيغة موضوعة للأمر الذي هو إيجاب كما أن بهم ضرورة إلى أن
يكون منها لفظ موضوع للخبر ولفظ موضوع للاستخبار ولفظ موضوع للعموم وكما سمى
الأجناس ونحوها
فلما كان ذلك وجب أن يكون في لغتهم لفظ موضوع لإيجاب المأمور به فثبت أن
قول القائل لمن دونه افعل هو لفظ الأمر الموضوع للإيجاب
ويدل على أن حقيقته الإيجاب أن كل واجب يتعلق وجوبه بهذا اللفظ فهو
مأمور به عند الجميع وأنه جائز أن ينتفى ذلك عنه والندب والإباحة قد ينتفي عنهما
80

ذلك لأن من قال إن الله تعالى أمر بصلاة الظهر وصوم شهر رمضان كان صادقا
ولو قال لم يأمرنا الله تعالى بذلك كان كاذبا خارجا من الملة ولو قال رجل
لرجل إن الله تعالى أمرك في هذا الوقت بصلاة تطوع أو صدقة نفل أو بالاصطياد أو
بالشراء والبيع بعد صلاة الجمعة لم يكن مصيبا في قوله وكان واضعا للأمر في غير موضعه
ولو قال رجل ليس عليه صلاة ولا صدقة ما أمرني الله تعالى بفعل الصلاة والصدقة
في هذا الوقت كان مصيبا في قوله فلما كان اطلاق لفظ الأمر ممتنعا في النوافل والمباحات
على الوجوه التي ذكرنا غير منتف عن الفروض والواجبات بحال دل ذلك على أن لفظ
الأمر يختص بالإيجاب حقيقة وأنه لا يكون أمرا متى لم يصادف واجبا
ويدل على ذلك أيضا ان العربي يسمي تارك الأمر عاصيا يدل عليه قوله
تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام أفعصيت أمري وقال تعالى لإبليس ما منعك
أن لا تسجد إذ أمرتك ومنه قول دريد بن الصمة
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى * غوايتهم وأنني غير مهتدي
فسمى تارك الأمر عاصيا وسمة العصيان لا تلحق إلا تارك الواجبات فدل على أن
لفظ الأمر مختص بالإيجاب
81

الباب الثامن والعشرون
في
لفظ الأمر إذا صدر لمن تحت طاعته
على الوجوب هو أم على الندب؟
83

باب
القول في لفظ الأمر إذا صدر لمن تحت طاعته
على الوجوب هو أم على الندب
قال أبو بكر
اختلف أهل العلم في ذلك
فقال قائلون الذي يفيده هذا اللفظ عند الاطلاق الدلالة على حسن المأمور به
كونه مرغبا فيه ولا يصرف إلى الإيجاب ولا الإباحة إلا بدلالة
وقال آخرون هو على الإباحة حتى يثبت الندب أو الإيجاب
وقال آخرون اللفظ محتمل للإيجاب والندب والإباحة فهو موقوف الحكم حتى
تقوم دلالة من غيره على المراد به
وقال آخرون هو على الإيجاب حتى تقوم الدلالة على غيره وهو مذهب أصحابنا
وإليه كان مذهب شيخنا أبي الحسن
85

والدليل على صحة هذا القول قول الله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا
قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل
ضلالا مبينا فدلت هذه الآية على وجوب الأمر من وجهين
أحدهما نفيه التخيير فيما أمر به وقول من يقول بالندب والإباحة يثبت
معهما التخيير وذلك خلاف مقتضى الآية
والثاني قول الله تعالى ومن يعص الله ورسوله فسمى تارك الأمر عاصيا
واسم العصيان يلحق إلا بترك الواجبات ولا لفظ للأمر في لغة العرب غير قولهم
افعل فدل أنه للإيجاب حتى تقوم الدلالة على غيره ويدل عليه أيضا قوله تعالى
87

فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما
قضيت ويسلموا تسليما والقضاء يسمى أمرا قال الله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا
إلا إياه وبالوالدين احسانا معناه أمر متضمن لزوم الأمر
ويدل عليه أيضا قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة
ومعلوم أن الوعيد لا يلحق تارك الندب والمباح فدل على لزوم الأمر ووجوبه لولا ها ما
استحق الوعيد بتركه
وإن قيل إنما أوعد من خالف الأمر وتارك المأمور به غير مخالف للأمر
قيل له بل هو مخالف للأمر لأن أحدا لا يمتنع أن يقول لمن أفطر في شهر
رمضان من غير عذر خالفت أمر الله تعالى فدل على أن ترك المأمور به مخالف للأمر
ويدل عليه قوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك فعلق ذمه بترك
الفعل المأمور به فدل على أن تارك الأمر مستحق للوم وذلك حكم الواجبات
فإن قيل إنما ذمه لأنه استكبر لما في الآية الأخرى إلا إبليس أبى واستكبر
قيل له قد ذمه على الأمرين جميعا على ترك الأمر وعلى الاستكبار ولولا أن ترك
الأمر بمجرده مذموم لما قرنه إلى الاستكبار فيما عنفه عليه
88

وأيضا فإن قوله افعل لا يخلو من أن يكون للايجاب أو الندب أو الإباحة
فيكون مقتضيا لجميع ذلك على الحقيقة أو لبعضها حقيقة ولبعضها مجازا
فإن كان حقيقة في الإيجاب مجازا فيما سواه على ما يقوله فالواجب حمله على
الحقيقة فلا يصرف إلى المجاز إلا بدلالة
وإن كان حقيقة في كل شئ من ذلك فقد صار حقيقة في الإيجاب وأفادنا باللفظ فغير
جائز صرفه عنه إلى غيره لأن حكم اللفظ استعماله على الحقيقة
فإن قيل ما أنكرت أن يكون حقيقة في كل واحد من ذلك وأن الواجب إذا كان
كذلك جاز حمله على الندب والإباحة حتى تقوم دلالة الإيجاب لأن ما صلح
للإيجاب ولغيره لم يجز أن يجعله واجبا إلا بدلالة غير اللفظ أو نقف فيه حتى تقوم دلالة
المراد إذ لم يجز ان يتناول جميع هذه الوجوه في حال واحدة لتضادها
قيل له حقيقة الأمر أنه للإيجاب بما قد دللنا عليه في الباب الذي قبله ولو
سلمنا لك ما ادعيته من الحقيقة في كل واحد من هذه الوجوه لكان حمله على الإيجاب
أولى
وذلك لأن المباح ما لا يستحق بفعله الثواب ولا بتركه العقاب
والندب ما يستحق بفعله الثواب ولا يستحق بتركه العقاب ففيه زيادة معنى
على المباح
89

والواجب ما يستحق بفعله الثواب وبتركه العقاب ففيه زيادة حكم على الندب
فلو سلم لك أن اللفظ حقيقة في جميع هذه الوجوه كان الأولى حمله على الوجوب لأنه
أكثر ما يتناوله ويقتضيه وهو يفيد هذه المعاني فيه حقيقة كما أن لفظ العموم وإن كان
حقيقة في الثلاثة فما فوقها نحو قوله تعالى فاقتلوا المشركين كان الواجب حمله على
أكثر ما يتضمنه ويقتضيه ولم يجز الاقتصار به على الأقل إلا بقيام الدلالة
كذلك لفظ الأمر إذا كان يفيد الإيجاب حقيقة فقد تضمن وروده استيعاب جميع ما تعلق به
من الحكم فلا جائز الاقتصار به على البعض وثبت أن اللفظ إن كان حقيقة في الجميع
فهو يقتضي عند الاطلاق لزوم الفعل وإن كان لفظ الأمر حقيقة في بعض هذه
الوجوه التي ذكرناها مجازا في البعض وليس يخلو ما هو حقيقة فيه أن يكون هو
الإيجاب أو الندب أو الإباحة
فإن كان للإيجاب حقيقة فالواجب حمله عليه وإن كان يتناول الندب والإباحة
حقيقة دون غيرهما فهذا يوجب أن يكون من استعماله للإيجاب عند قيام الدلالة فقد
صرفه عن الحقيقة إلى المجاز واستعمله في غير موضعه وهذا لا يقوله أحد ويلزم قائله أن
يقول لم يأمر الله تعالى بالإيمان حقيقة في قوله آمنوا بالله ورسوله ولم يأمر بالتقوى على
الحقيقة في قوله تعالى واتقوا ربكم فلما بطل ذلك ثبت أنه حقيقة في الإيجاب
90

فإن قال قائل موضوع اللفظ لإفادة كون المأمور به حسنا ممدوحا وأنه للإيجاب
متعلق بإرادة الآمر فمتى صار عاريا عن دلالة الإيجاب لم نحمله عليه لفقد علمنا
بإرادته إذ كانت الصيغة لا تفيد الإيجاب لأنها لو كانت تفيده لأفادته حيث وجدت وقد
علمنا أنها قد ترد ولا يراد بها الإيجاب
قيل له فما تقول إذا وردت الصيغة مقارنة لدلالة الإيجاب أيكون اللفظ عندك
مستعملا للإيجاب حقيقة أم مجازا
فإن قال حقيقة
قيل له إن الحقائق لا تختلف أحكامها بالإرادات ولا تنتفي عما هي موضوعة
له في مواصفات أهل اللغة فيها بحال فإذا قد أعطيت أنه مستعمل للإيجاب حقيقة عند إرادة
الآمر ذلك فهلا دلك هذا على أن اللفظ حقيقة في الأصل للإيجاب فيعقل به ذلك عند
وروده فلا يحتاج أن يقف فيه إلى أن يعرف إرادة القائل إذا لم يقرنه بدلالة تزيله عن حقيقته
بل يكون وروده مطلقا دلالة على إرادة القائل للإيجاب لأن ذلك حقيقة فيجب إمضاؤه
على حقيقته وموضوعه في اللغة كما أن سائر الأسماء الموضوعة لمسمياتها حقيقة في أصل
اللغة متى وردت مطلقة لم يجز الوقوف فيها إلى أن يتعرف إرادة القائل بإطلاقها ووجوب
امضائها على موضوعها في اللغة متى لم يقرنه بدلالة تزيله عن حقيقته وكلفظ العموم لما
كان في موضوع اللغة أنه للشمول والاستيعاب لم يحتج عند وروده مطلقا إلى مساعدة
الدلالة في حمله على العموم
فإن قال إن لفظ الأمر متى ورد مقارنا لدلالة الإيجاب كان مجازا مستعملا في غير
موضوعه رفع بذلك أن يكون للفظ الإيجاب صيغة في اللغة وخرج به أيضا عن قول
أهل اللغة وغيرهم ولزمه ما قدمناه ذكره فيما سلف
91

وأما قوله إن الصيغة نفسها لو كانت موجبة
لذلك لما اختلف حكمها في إيجابها لذلك ولما وردت إلا موجهة فإنا نقول له إن الصيغة موضوعة لذلك في الأصل فمتى
صدرت والمراد الندب أو الإباحة فهي مجاز في هذا الموضوع لا حقيقة كما تقول في سائر
ألفاظ المجاز وليس ورود الصيغة عارية من حكم الإيجاب لقيام الدلالة بمانع أن
يكون أصلها وبابها الوجوب كما أن صيغة العموم تقتضي الاستيعاب ولا يمتنع وروده
مع إرادة الخصوص ولا يمنع ذلك اعتبار دلالة اللفظ على وجوب الاستيعاب عند تعريه من
دلالة الخصوص
وأيضا فإن من قال إن ظاهر الأمر الندب فقد أعطى بأنه قد أريد منه إيقاع الفعل وإذا صح أنه موضوع لإرادة إيقاع
الفعل وجب فعله عند الإمكان واحتجنا في
جواز تركه إلى الدلالة من غيره
وأيضا فلو لم يكن الأمر مقتضيا للإيجاب لكان المأمور به مخيرا بعد ورود الأمر بين
الفعل والترك ولا دلالة فيه على التخيير فلا يصح إثبات التخيير إلا بلفظ يقتضيه
أو بدلالة غير الأمر
فإن قيل لم يثبت التخيير بلفظ الأمر وإنما أثبتناه لأنه كان مخيرا قبل ورود الأمر وكان
تركه مباحا فبقيناه حديث على ما كان عليه إذ لم يثبت الوجوب
قيل له إنما كان الترك مباحا قبل ورود الأمر فأما بعد وروده وإرادة الآمر إيقاعه
فما الدليل على إباحة تركه وقد أعطينا أن الآمر قد أراد منه إيقاع الفعل
فإن قال لأنه ليس في إرادة الفعل كراهة لتركه إذ ليس يمتنع اجتماعهما في الحسن
92

قيل له ما أنكرت ان لفظ الامر موضوع لإيقاع الفعل وكراهة الترك كما أن لفظ
النهي موضوع لكراهة الفعل وإرادة الترك ولو جاز أن يقال في الأمر إنه لا دلالة فيه على
كراهة الترك لجواز اجتماعهما في الحسن لجاز مثله في النهي حتى يقال إن النهي لا دلالة فيه
على كراهة المنهي عنه وإنما فيه الدلالة على إرادة ضده كما قلت في الامر لأنه لا
يمنع اجتماع المنهي عنه وضده في الحسن
فإن قال ما من نهي إلا ومعه كراهة الفعل
قيل له وما من أمر إلا ومعه كراهة الترك
فإن قال قد يرد الامر ولا يراد كراهة ضده
قيل له لا نسلم لك أن هذا أمر ومع هذا فقد يرد النهي ولا يراد به كراهة
الفعل لقوله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم وفعل الفضل ليس بواجب وقال تعالى ولا
يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله وليس بواجب على من عرف الشروط أن يكتب
للناس ألا ترى إلى قوله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد يعنى والله أعلم بأن
يشغل عن حوائجه ويضر به وقد قال ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبير
إلى أجله وهو ندب في هذه المواضع
93

ألا ترى إلى قوله تعالى فإن أمن بعضكم بعض فلم يرد بهذا النهي كراهة
الفعل
فإن قال ليس هذا بنهي وإن كان في صورة النهي
قيل له ولفظ الأمر إذا لم يقارنه كراهة الترك فليس بأمر على الحقيقة وإن كان في
صورة الأمر كما قلت في النهي سواء
دليل آخر وهو أن تارك الأمر يلحقه سمة العصيان في اللغة قال الله تعالى
أفعصيت أمري وقال وما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك فذمه ولعنه على ترك المأمور
به قاصدا له
فإن قيل لم يستحق إبليس الذم بترك الأمر بمجرده وإنما استحقه بالاستكبار لأن
الله تعالى حكى عنه أنه أبى واستكبر
قيل له قد استحق الذم بالأمرين جميعا بترك الأمر على حياله
وبالاستكبار لأنه أيضا لأن قوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قد اقتضى
توجيه اللائمة إليه لترك الأمر متعريا من الاستكبار والآية الأخرى أوجبت الذم
بالاستكبار
ويدل على أن تارك الأمر يستحق سمة العصيان في اللغة قول دريد بن الصمة
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى * غوايتهم وأني غير مهتد
فسمى تارك الأمر عاصيا ولا يستحق سمة العصيان إلا تارك الواجبات
94

وأيضا فإن تارك أمر من يلزمه طاعته فيما بينا مستحق للتعنيف واللائمة
وأوامر الله تعالى محمولة على المعقول المتعارف بيننا بقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا
بلسان قومه وقال تعالى بلسان عربي مبين ولا شئ يستحق به تارك الأمر
اللوم فيما بينا إلا وروده مطلقا فدل على أنه موضوع للإيجاب
وكذلك معلوم متقرر عند الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمر رجلا بالقيام أو القعود أمرا
مطلقا فلم يفعله كان معنفا عند الجميع مستحقا للذم فدل على أنه يقتضي
الإيجاب
فإن قيل إنما وجب ذلك في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وأوامرنا فيما بيننا لعبيدنا ومن تلزمه
طاعتنا لأن المأمور يقع له علم الضرورة بمراد الآمر وذلك معدوم في خطاب الله تعالى
قيل له يقع للسامع علم الضرورة بإرادة الآمر الوجوب بنفس الأمر أو بمعنى
يقارنه
فإن قال بنفس الأمر
قيل له فينبغي أن يقع له ذلك في سائر الأوامر لوجوب الضرورة الموجبة لعلم
الضرورة
وإن قال إنما يقع له ذلك بأحوال مقارنة
قيل له فكل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن غيره ممن تجب طاعته مقارنة
حال يعلم المأمور إرادة الأمر لإيجابه ضرورة
95

فإن قال نعم علم بطلان قوله ضرورة لأنه معلوم أنه قد يرد لفظ الأمر من
الآمر لمن يخاطبه به ولا يقارنه حال يعلم بها الوجوب ضرورة بل يشك في أنه أراد
الإيجاب أم لا ثم لم تعتبر الناس الأحوال لإلحاق الذم بتارك الأمر فعلمنا أنه إنما
يستحق الذم عندهم لتركه الأمر بمجرده
وأيضا فإن كان كما قال من أن لزوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن يخاطبه به من جهة ما يقع
للسامع من العلم الضروري بمراده فينبغي أن يختلف حكم الأمر لمن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم ولمن
لم يشاهده ممن بلغه أمره فيلزم المشاهد له والسامع منه ولا يلزم المبلغ لأن
المشاهد وقع له العلم بمراده من جهة الضرورة والمبلغ لا يقع له ذلك ومعلوم أن أمر
النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف في السامع والمبلغ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم السامعين بالتبليغ بقوله نضر
الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فدل على أن السامع
والمبلغ في حكم الأمر سواء ولو كان يختلف حكمهما فيما تعبدا به لقيده عليه السلام بمعنى
غير إطلاق اللفظ يستوى في العلم بمراده السامع والمبلغ
وأيضا لو ساغ أن يقال هذا في الأوامر لساغ لنفاة العموم أن يقولوا مثله في نفيه لأن
الناس قد يعرف بعضهم مراد بعض في العموم والخصوص ضرورة فوجب في
96

مخاطباتنا اعتبار العموم لوقوع علم السامع بمراد القائل ضرورة ولا يجب مثله في
خطاب الله تعالى لأنه لا يقع لنا العلم بمراده ضرورة فلا يجب أن يحمل ما ورد عن الله
تعالى من ألفاظ العموم على عمومه حتى تقوم الدلالة على إرادته العموم وكذلك نقول
في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لمن شاهده أنه على العموم ومن بلغه ذلك لا يلزمه اعتبار العموم
لأن من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم مراده ضرورة لخطابه لمقارنة الأحوال الموجبة لذلك
وكان يلزم السامع اعتبار العموم لهذه العلة ومن لم يشاهد لم يقع له علم الضرورة بمراده
بورود لفظ العموم عليه فلا يجوز له اعتبار العموم إلا بدلالة غير اللفظ فلما بطل ذلك كان
قول المحتج بمثله في نفس وجوب الأمر بمثابته
وأيضا معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تلا عليهم الآيات التي فيها الأوامر نحو قوله
تعالى وقاتلوا المشركين كافة وقوله تعالى فاقتلوا المشركين وقوله انفروا
خفافا وثقالا وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فمن شهد
منكم الشهر فليصمه لم يكونوا محتاجين إلى مسألته في إن ذلك على الوجوب بل
كان المتخلف عندهم عن ذلك معنفا تاركا لأوامر الله ولم يزدهم النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة
الآية ولم يعقبها بالإخبار عن مراد الله تعالى في إيجابه
97

ومعلوم أن الآيات لم توجب لهم علم الضرورة بمراد الله تعالى فيها لأن مراد الله
تعالى لا يعلم ضرورة فثبت بذلك سقوط اعتراض من اعترض بما ذكر في الفصل بين
أوامر الله تعالى وبين أوامر الآدمي
وقد استدل بعض أهل العلم بأن قوله افعل لو صلح للإيجاب والندب لكان
المصير إلى جهة الإيجاب أولى لما فيه الاحتياط والأخذ بالثقة وهذا وإن كان استدلالا من
غير جهة اللفظ فإنه احتجاج صحيح في وجوب الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام
بين وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال إن لكل ملك حمى
وإن حمى الله تعالى محارمه ومن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه فأمر صلى الله عليه وسلم بالاحتياط
والأخذ بالثقة فيما يحتمل وجهين
فإن قال قائل اعتبار الاحتياط في إيجاب الأمر هو ترك الاحتياط من قبل أنه إن لم
يكن مراد الله تعالى الإيجاب واعتقدنا فيه الوجوب فقد أقدمنا على ما لا يجوز الاقدام عليه
من اعتقادنا الشئ على خلاف ما هو عليه
قيل له ليس هذا كما ظننت لأنا لم نكلف في هذه الحال غير الاحتياط والأخذ
بالحزم فقد تيقنا متى فعلنا ذلك أنا غير معتقدين للشئ على خلاف ما هو عليه
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر ذلك حين قال فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك
وعلتك أخبرنا قائمة فيه لأنك لا تأمن أن تدعه على أن عليه تركه وليس عليه تركه في
98

الحقيقة وقال عليه السلام للرجل الذي أخبرته امرأة سوداء أنها أرضعته وزوجته دعها
عنك فقال يا رسول الله إنها سوداء يعني المخبرة فقال عليه السلام كيف وقد قال
دعها عنك فأما بالاحتياط والأخذ بالحزم والثقة مع عدم العلم بصحة خبرها واعتبار
الاحتياط والأخذ بالثقة أصل كبير من أصول الفقه قد استعمله الفقهاء كلهم وهو في
العقل كذلك أيضا لأن من قيل له إن في طريقك سبعا أو لصوصا كان الواجب عليه الأخذ
بالحزم وترك الإقدام على سلوكها حتى يتبين أمرها
وأيضا قد صح عندنا أن النهي عن الشئ أمر بضده من جهة الدلالة إذا لم يكن
إلا ضد واحد فمن حيث كان ما دل عليه لفظ النهي من فعل ضده على الوجوب وجب أن
يكون اللفظ الموضوع للأمر أدل على الإيجاب مما يتعلق به منه بدلالة لفظ النهي
فإن قال قائل في القول بإيجاب الأمر المطلق إثبات الوعيد على تاركه وليس ذلك في
اللفظ فغير جائز إثباته إلا بدلالة من غيره إذ كان لفظ الأمر لا ينبئ عنه
قيل له لا يخلو من أن تعطى ان لفظ الأمر إذا أريد به الإيجاب كان مستعملا في
موضعه حقيقة أو يمتنع ذلك فإن أعطيت أنه مستعمل في الإيجاب حقيقة سقط سؤالك
لأن حقيقة الواجب ما يستحق الذم بتركه فلا معنى حينئذ لقولك إنه غير جائز إثبات الوعيد
على تاركه إلا بلفظ ينبئ عنه
وإن كنت ممن يأبى أن يكون لفظ الأمر إذا أريد به الإيجاب كان مستعملا فيه على
جهة الحقيقة كان اتفاق أهل اللغة وغيرهم قاضيا بفساد قولك ولزمك أن لا تثبت
للأمر صيغة في اللغة وهذا قول ظاهر الفساد
99

وأيضا فإنا قد اتفقنا على أن النهي عن الإيجاب يستحق مرتكبه الذم مع عدم
الوعيد مذكورا في اللفظ فانتقض بذلك ما أحلت من امتناع إثبات الوعيد إلا بلفظ ينبئ
عنه
وأيضا فإن هذا السائل إن كان ممن يقول إن ظاهر لفظ الأمر إنما يقتضي الدلالة
على حسن الشئ المأمور به وكونه ممدوحا مرغبا فيه فإنه قد أثبت له ضربا من الثواب بفعل
المأمور به وليس لفظ الأمر عبارة عن استحقاق الثواب فما ينكر من اثبات الوعيد على تاركه
وإن لم يكن اللفظ عبارة عنه
وأيضا معلوم في تعارفنا وعاداتنا أن من أمر عبده بفعل شئ فتخلف عنه استحق
التعنيف وإن لم يكن ما يستحقه من ذلك مذكورا في اللفظ بل كان معقولا منه من
حيث عقل وجوب الأمر
وأما من قال إني اجعله على الإباحة حتى تقوم دلالة الندب أو الإيجاب فإنه
يطالب بإقامة الدلالة على ما قال فلا سبيل له إليها
ويقال له فإذا قامت دلالة الإيجاب كان اللفظ مستعملا فيه حقيقة أو
مجازا
فإن قال حقيقة
قيل له فهلا حملته على الإيجاب إذا كان مقتضاه من غير دلالة تطلبها من غيره
فإن قال يكون مجازا في الإيجاب أكذبته اللغة وخرج عن قول الأمة
ويقال له مع ذلك أيضا ما أنكرت أن لا يدل على الإباحة أيضا لأنه قد يرد ولا
يراد به الإباحة كقوله تعالى اعملوا ما شئتم فيؤدي هذا القول اللفظ إلى إسقاط
فائدته رأسا
100

الباب التاسع والعشرون
الأمر إذا صدر غير مؤقت
هل هو على الفور أو على المهلة؟
101

باب القول في الأمر إذا صدر غير مؤقت
هل هو على الفور أو على المهلة
قال أبو بكر:
اختلف أهل العلم في ذلك
فقال قائلون هو على المهلة وله تأخيره إلى الوقت الذي يخشى الفوات بتركه في
آخر عمره
وقال آخرون هو على الفور يلزم المأمور فعله في أول أحوال الإمكان
وكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يحكي ذلك عن أصحابنا ويستدل عليه بقولهم
في فرض الحج أنه على الفور على من استطاع إليه سبيلا وأنه لا يسعه تأخيره
103

والدليل على صحة هذا القول أنه قد ثبت أن الأمر على الوجوب بما قدمنا
والفعل مراد من المأمور في الحال بدلالة اتفاق الجميع على أن فاعله فيها مؤد للواجب
بالأمر فإذا كان فعله في الحال مرادا بالأمر صار بمنزلة قوله افعله في أول أحوال الامكان
فلزم فعله في الحال واحتجنا في جواز التأخير إلى دلالة وأنه لو نص على الوقت فقال
افعله في هذا الوقت لزمه فعله فيه ولم يسعه التأخير إلى وقت غيره
كذلك لما ثبت بالدلالة التي ذكرنا أن الفعل مراد في الحال لم يجز لنا التأخير
إلا بدلالة تدل عليه
فإن قال قائل فلو أخر الأمر المطلق حتى فعله في الوقت الثاني والثالث إلى انقضاء
عمره كان مؤديا للواجب بالأمر فينبغي أن يدل ذلك على جواز التأخير لأنه قد ثبت أن
فعله في هذه الأوقات مراد بالأمر
قيل له لم قلت إنه مؤد للواجب ولا دلالة فيه على جواز التأخير لأن تقديره افعله
في الوقت الأول ولا تؤخره فإن أخرته إلى الوقت الثاني فافعله فيه ولا تؤخره فلا يدل
ذلك على جواز التأخير إذ قد يكون مأمورا بالتعجيل ثم إذا أخره لزمه فعله في الوقت الذي
105

يليه فإن لم يفعله ففي الوقت الذي يليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها
فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ولا كفارة لها إلا ذلك فألزمه فعلها عند الذكر
ومنعه التأخير ولو آخرها كان تاركا للواجب ولزمه فعلها في الثاني وما يليه من
الأوقات
وكالديون الواجبة للآدميين يلزمه أداؤها بعد حال الوجوب فإن أخره عن
الحال لزمه في الثاني أداؤه وإن آخره لزمه في الوقت الذي يليه فدل ذلك على
سقوط سؤال من اعترض علينا بما وصفنا وأنه لا دلالة في كون الفعل مرادا في الوقت
الثاني إذا تركه في الوقت الأول على جواز التأخير
وأيضا فلما ثبت أن المأمور به مراد فعله احتجنا في جواز تركه في الحال إلى دلالة
أخرى كما احتجنا في جواز تركه رأسا إلى دلالة فمن حيث دلت صورة الأمر
على الإيجاب فهي تدل على وجوبه على الفور
وأيضا فإن من جعله على المهلة فقد أثبت تخييرا غير مذكور في لفظ الأمر وغير
جائز إثبات التخيير إلا بدلالة
وأيضا فإن الديون وسائر حقوق الآدميين إذا لم يكن فيها شرط التأخير لزم أداؤها
على الفور ولم يجز للذي هي عليه تأخيرها إلا بإذن الذي له الحق فوجب أن يكون
كذلك حقوق الله تعالى والمعنى الجامع بينهما أن وجوبهما غير مؤقت
ويدل على ذلك أيضا أن المتعارف المعتاد من أوامرنا لعبيدنا ومن تلزمه طاعتنا
أنه على الفور فوجب مثله في أوامر الله تعالى لأن ذلك قد صار موجب القول ومقتضاه
106

وقد خاطبنا الله تعالى بالمتعارف من مخاطباتنا فيما بيننا وبقوله تعالى وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قومه
وأيضا فلو احتمل الفور والمهلة جميعا لكان الأخذ بالثقة واستعمال الحزم في
المبادرة أولى من تأخيره على ما ذكرنا في دلالة وجوب الأمر من جهة أخرى أنه لا يأمن
اخترام المنية إياه فيحصل مفرطا في التأخير فوجب عليه المسارعة إليه ويدل على صحة
اعتبار هذا المعنى قوله تعالى فاستبقوا الخيرات وقوله تعالى إنهم كانوا يسارعون في
الخيرات وقوله فاستبقوا الخيرات يمكن أن يكون دليلا مبتدأ على لزوم التعجيل
لأن الأمر على الوجوب
ودليل آخر لا يخلو القول في الأمر المطلق إذا لم يكن آخر وقته معلوما عند
المخاطب من أحد وجهين
إما أن يكون على الفور على ما قلنا أو على المهلة على ما قال مخالفنا
فإن كان على المهلة لم يخل المأمور من أحد وجهين إما أن يكون له تأخيره أبدا
حتى لا يلحقه التفريط ولا يستحق اللوم وإن مات قبل فعله أو يكون مفرطا مستحقا
للوم إذا مات قبل فعله
فإن قلنا إنه لا يكون مفرطا بتركه في حياته خرج الأمر من حيز الوجوب وصار في
حيز النوافل لأن ما كان المأمور مخيرا بين فعله وتركه فهو نافلة أو مباح ولما ثبت وجوب
107

الأمر بطل هذا القول
وإن قلنا إنه يلحقه التفريط بالموت فغير جائز أن يلحقه التفريط في وقت لا يعلم
أنه الوقت المضيق عليه تأخير الفعل عنه ولم ينصب له دليل يوصله إلى العلم به فغير
جائز أن يكون من هذا وصفه منهيا عن تأخير الفعل عن الوقت الذي إذا أخره عنه لم
يستدرك فعله كما لا يصح أن يتعبده الله تعالى بعبادة لا يعلمه بها ولا ينصب له عليها
دليلا فلما كان آخر عمر الانسان الذي يخشى فيه فوات الفعل غير معلوم عنده لم يجز أن
يكلف فعله فيه وهذا يوجب أن لا يكون مفرطا بتركه إلى أن يموت فيعود القول فيه
إلى القسم الذي قد دللنا على بطلانه فلما بطل ذلك ولم تحتمل المسألة وجها غير ما ذكرنا
وبطل الوجهان الآخران صح الثالث
وقد كان شيخنا أبو الحسن احتج بهذا مرة فألزمت عليه الزكوات والنذور وقضاء
شهر رمضان وما جرى مجراه من حقوق الله تعالى التي ثبتت في ذمته في وقت غير
معين
وقلت له إن هذا الاعتلال يقتضي أن يكون لزوم جميع ذلك متعلقا بأول
أحوال الإمكان بعد حال وجوبه وثبوته في ذمته فالتزم ذلك وقال لا يسعه تأخير شئ من
ذلك
قال أبو بكر:
ويدل على أن جميع ذلك لا يسع من لزمه تأخيره من غير عذر قول النبي صلى الله عليه وسلم من
نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك وفي
108

بعض الألفاظ لا وقت لها إلا ذلك لما أثبتها في ذمته منعه تأخيرها عن وقت لزومها في
الذمة وليس ذلك بمنزلة صلاة الظهر في جواز تأخيرها إلى آخر الوقت لأن آخر وقتها معلوم
فإذا لم يبق من الوقت إلا مقدار ما يؤدي ف فيه الفرض تعين عليه الفعل في وقت عنده ومتى لم
يكن آخر وقت الفعل معينا فإن مخالفنا إنما يلزمه التفريط في وقت لم ينصب له عليه دليل أنه
آخر أوقاته ويجعله منهيا عن ترك فعل لا يعلم أنه منهي عنه ولم ينصب له عليه دليل
فإن قال قائل قد روي عن عائشة أنها قالت كان يكون علي قضاء أيام من
رمضان فلا أقضيها إلا في شعبان فقد كانت تؤخرها ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا
خلاف قولكم ان قضاء رمضان واجب في أول أحوال الامكان
قيل له لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقرها عليه
وأيضا يجوز أن يكون عندها أن قضاء رمضان فرض موقت بالسنة كلها إلى أن
يجئ رمضان آخر فيجوز تأخيره إلى آخر الوقت كصلاة الظهر لأن الوقت المنهى عن
تأخيره عنه معلوم معين
دليل آخر وهو أن الامر لما كان على الوجوب اقتضى كراهة تركه فكان بمنزلة من
نهى عن تركه وقد اتفق الجميع على أن النهي يقتضي ترك المنهي عنه على الفور فإن
قيل ما الدليل على أنه اقتضى كراهة تركه في الحال دون أن يكون قد كره منه تركه في عمره
كله
قيل له إذا كان الأمر به قد تضمن كراهة الترك وكان ما كره تركه فهو
109

منهي عنه في المعنى صار كمن قيل له لا تتركه فاقتضى ذلك كراهة تركه على الفور
فوجب أن يلزم فعله والحال على وجه الإيجاب فإن قال قائل في القول بإيجاب الأمر على
الفور إثبات الوعيد على تاركه في الحال ولفظ الأمر لا ينبئ عن ذلك فلا يجوز إثباته إلا
بدلالة
قيل له قد ثبت وجوب الأمر وما كان واجبا فهو يقتضي ذم تاركه فلسنا نحتاج بعد
ذلك إلى استئناف دلالة على ذم تاركه ولو صح هذا السؤال لاعترض على القول بوجوب
الأمر في الأصل ولساغ لمن ينفي ذلك أن يستدل به على نفي الوجوب رأسا فلما لم يصح
ذلك لمن نفى وجوب الأمر للدلائل الدالة على وجوبه كذلك لا يعترض على القول
بلزومه على الفور
فإن قيل قد يرد الأمر والمراد الفور وقد يرد والمراد المهلة ولا دلالة في اللفظ
على لزوم فعله في الحال فغير جائز إلزامه في الحال إلا بدلالة
قيل له لم يثبت أمر على المهلة إلا وآخر وقته معلوم معين
فقولك إنه قد يرد والمراد المهلة خطأ على هذا الاطلاق وعلى أنه لو ثبت وروده
والمراد المهلة لما كان مؤثرا في صحة قولنا لأن ذلك إنما يصار إليه بدلالة غير اللفظ
كما يخص العموم بدلالة وكما يصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز بدلالة ولا يؤثر ذلك في
صحة اعتبارنا القول بالعموم ووجوب حمل اللفظ على الحقيقة
فإن قال لو كان الأمر لازما على الفور لسقط فعله بتركه على الفور كما يسقط الأمر
المؤقت بترك فعله في الوقت
قيل له الذي كان واجبا في الوقت الأول ليس هو الواجب في الوقت التالي بل قد
110

سقط ما وجب في الوقت الأول بفوات وقته كما سقط الظهر بفوات وقتها والذي يجب
بعد الوقت فرض غير الأول فقد استويا في هذا الوجه فإن قال لو كان كذلك لاحتجنا
إلى دلالة أخرى غير الأمر في إيجابه في الوقت الثاني فلما كان الواجب في الوقت الثاني
إذا تركه في الوقت الأول واجبا بالأمر دل ذلك على أن لزومه لم يتعلق بالحال دون المهلة
وليس كذلك الظهر وسائر الفروض المؤقتة لأن فوات الوقت قبل فعلها يسقطها ولا يلزمه
فرض آخر بالأمر الأول وإنما يلزمه القضاء بدلالة أخرى
قيل له ان تقرير الأمر المطلق عندنا أن صل في أول حال الامكان فإن تركته
فافعله في الثاني فإن تركته فافعله في الثالث فتضمن الأمر فعله في هذه الأوقات إذا لم
يفعله قبل ذلك وإذا كان ذلك كذلك لم يمتنع أن يكون لزومه متعلقا بالأمر على هذا
الوجه ولا يدل ذلك على جواز التأخير لأنه لو قيده بما ذكرناه كان جائزا
ألا ترى ان مخالفنا يقول معنا فيمن ترك الظهر حتى فات الوقت أنه يصليها عند
الذكر فإن أخرها عن حال الذكر من غير عذر استحق اللوم وكذلك إن أخرها عن
الوقت الثاني إلى الثالث ولم يدل ذلك على جواز تأخيرها عن وقت الذكر
وبذلك ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها
فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك
فإن قال لو كان لزوم الأمر على الفور لكان فعله بعد ذلك واقعا على وجه
القضاء كالظهر إذا فات وقتها قبل فعلها
111

قيل له تسميتنا إياه قضاء أو غير قضاء إنما هو كلام في العبارة وقد قلنا إن المفعول
في الوقت الثاني غير المتروك في الوقت الأول وأنه فرض آخر غيره
فإن شئت بعد ذلك أن تسميه قضاء لم نمنعك منه فإن قال قائل لما لم
نتبين في الخبر عما يكون في المستقبل مقتضيا للفور كقول الله تعالى لتدخلن
المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ولم يدخله على الفور وكقوله الله تعالى وعد الله
الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ولم يكن في فور الخطاب
وكقول القائل والله لأضربن زيدا ولأكلمن عمرا فلا يقتضي الفور وجب أن يكون
الأمر مثله
قيل له ولم وجب إذا كان الاخبار عن أمر يقع في المستقبل مقتضيا للفور أن
يكون الأمر مثله وبأية علة وجب الجمع بينهما وكيف وجه دلالة أحدهما على الآخر
وعلى أن الإخبار عن الاستقبال لا يقتضي إلزام شئ لأن من قال والله لأدخلن الدار ولأكلمن
زيدا لم يلزمه بهذا القول فعل المخبر عنه ولو تركه لم يكن عليه شئ وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن
يمينه فأمره بترك ما حلف عليه أن يفعله ولا يحنث فيه وقال الله تعالى ولا يأتل
أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا
112

وليصفحوا روي أنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة حين حلف أبو بكر ألا ينفق عليه
لما كان منه في أمر عائشة فأمره الله تعالى بترك ما حلف عليه فثبت أن حلفه
على فعل أن يفعله في المستقبل لا يلزمه فعله فكما جاز له تركه رأسا فكيف لا يجوز له
تركه على الفور
فإن قيل إنما وجه استدلالنا منه أن الخبر واليمين لم تفيدا فعل المخبر عنه والمحلوف
عليه على الفور ولم يقتض اللفظ ذلك فكذلك الأمر واختلافهما من جهة ما يعلق بالأمر من
الإيجاب دون الخبر لا يوجب الفرق بينهما من الوجه الذي ذكرنا
قيل له فالذي فيه إلزام الفعل إنما كان على الفور من أجل ما تعلق به من
الوجوب والذي ليس فيه إلزام الفعل لم يقتض الحال لعدم الالزام
فإن قيل لما كان ورود الأمر يقتضي عموم فعله في سائر الأزمان ما لم يفعله كان له
في أي وقت شاء منها لأن في إلزامه إياه على الفور تخصيصا لوقت دون وقت ت ولا يجوز ذلك
إلا بدليل
قيل له قولك إنه عموم في الأزمان غلط لأن الزمان غير مذكور فيكون عموما من
طريق اللفظ وإنما لم يسقط عنه لتركه في الوقت الأول من قبل أنه قد ثبت في ذمته
113

وجوبها فلا يسقط عنه إلا بأدائه كالديون إذا أخرها من هي عليه عن وقت
وجوبها
ولو جاز أن يقال إن ورود الأمر المطلق يقتضي عمومه جواز فعله في سائر الأزمان
فيجوز تأخيره لجاز مثله في الديون الحالة
فإن قيل قد أخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج عن وقت وجوبه لأنه بعث أبا بكر رضي الله عنه
على الحج ولم يحج هو حتى حج في السنة الثانية مع تقدم فرض الحج على السنة التي حج
فيها فدل على أنه لم يقتض الفور
قيل له ليس هذا بسؤال في المسألة التي نحن فيها لأن الكلام بيننا وبين مخالفنا
في الأصل ونحن لا نأبى أن تقوم الدلالة في الأمر المطلق على جواز التأخير ثم الكلام في
أعيان المسائل أنها مما يجوز تأخيره أو لا يجوز يكون كلاما في الدلالة الموجبة لجواز التأخير في
تلك المسألة بعينها وفي ذلك خروج عن مسألتنا وكلام في غيرها كما أن الكلام في دلالة
التخصيص لفظ ظاهره العموم ليس هو كلاما في أصل القول بالعموم أو نفيه ولا قادحا
فيه فلو صح ان وجوب الحج قد كان متقدما للسنة التي حج النبي صلى الله عليه وسلم فيها لما دل ذلك
على موضع الخلاف لجواز أن يكون اخره لعذر أوجب تأخيره على أنه قد قيل إن
114

فرض الحج إنما نزل في سنة عشر وهي السنة التي حج النبي صلى الله عليه وسلم فيها وقيل في سنة تسع
فإن كان في سنة تسع فجائز أن يكون بعد حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
وإن كان في سنة عشر فقد انتفى أن يكون واجبا قبله
والذي يدل على هذا ظاهر الحال وهو أن أبا بكر لم يحج في تلك السنة حجة
الاسلام وإنما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بحضور الموسم والوقوف بتلك المشاهد متنفلا به على الرسم
الذي كانوا يحجونه ليعلم العرب ومن شهد ذلك الموسم أن من شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم فعل
الحج اقتداء بسنة إبراهيم صلى الله عليه وسلم والدليل على أنه لم يحج حجة فرضه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج
في السنة الثانية خطب الناس في عرفات فقال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق
الله السماوات والأرض فروي في معنى ذلك أن الحج قد صار في تلك السنة إلى
115

الوقت الذي ابتدأ الله تعالى الحج فيه حين أمر به إبراهيم عليه السلام وقد كان
المشركون قبل ذلك ينسئون الشهور فيتفق الحج في أكثر السنين في غير وقته المأمور
فيه واتفق عوده إلى وقته المفروض فيه في السنة التي حج النبي صلى الله عليه وسلم فلا محالة إذا كان هذا
هكذا أن حج أبي بكر كان في غير وقت الحج فلم يكن ما فعله أبو بكر ومن حج معه في
تلك السنة حجة الاسلام
وهذا يدل على أن فرض الحج لم يكن تقدم وجوبه قبل تلك السنة التي حج النبي
صلى الله عليه وسلم فيها
وكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يحتج لعذر النبي صلى الله عليه وسلم في تأخره عن الحج في
السنة التي بعث فيها أبا بكر أن المشركين قد كانوا يحجون البيت وكانت تلبيتهم شركا وكفرا
وكان منهم من يطوف بالبيت عريانا الرجال والنساء فصان الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن مشاهدة
ذلك فأمره بتأخير الحج إلى السنة الأخرى لينبذ إلى المشركين عهودهم في تلك السنة
وقال لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
116

كغيره لأن من كشف عورته بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم استخفافا كان كافرا ولا يكون كذلك إذا
فعله بحضرة غيره
فإن قيل فقد أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم قوم لم يحجوا قيل له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له
بد بأن يكون بحضرته قوم من المسلمين لكثرة الكفار والمنافقين هناك وحول المدينة
فكانوا معذورين في المقام فإن قيل فقد حبس النبي صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب رضي الله
عنه لما نزلت سورة براءة وأمره أن يلحق أبا بكر فيقرأ سورة براءة على المشركين بالموسم
فبعث به بعد أن حبسه عنده فدل على أنه لم يكن معذورا في الابتداء إذن قد جاز أن يبعث
به بعد حبسه ندبا
قيل له قد كان كونه عند النبي صلى الله عليه وسلم فرضا في الابتداء ثم لزمه فرض الخروج للتبليغ
عنه فيما عهد إليه فيفقد كان هذا أوجب من الأول فلذلك بعث به
117

الباب الثلاثون
في
الأمر المؤقت
119

باب
القول في الأمر المؤقت
قال أبو بكر
إذا ورد الأمر مؤقتا بوقت له أول وآخر وأجيز له تأخيره إلى آخر الوقت نحو صلاة
الظهر فإن أهل العلم مختلفون في وقت وجوبه
فقال بعض أصحابنا قد وجب في أول الوقت وجوبا موسعا فإذا انتهى إلى آخر
الوقت بمقدار ما يؤدي فيه الفرض صار وجوبه مضيقا
وكذلك قال هؤلاء في الزكاة أنها قد وجبت بوجوب النصاب وجوبا موسعا إلى آخر
الحول فإذا حال الحول صار وجوبها مضيقا لأن الوجوب عندهم في الشريعة يتعلق بالشئ
على معنيين
أحدهما ثبوت الواجب عليه ولزومه إياه وإن لو يلزمه معه الفعل
والآخر وجوب الأداء كالدين المؤجل أن وجوبه قد تعلق في ذمته وإن لم يلزمه
الأداء في الحال ثم إذا أجل تعلق عليه وجوب الأداء
والدليل على أن الدين المؤجل قد تعلق وجوبه في ذمته أنه لو لم يكن كذلك لما جاز
أن يشتري عبدا بألف درهم مؤجلة لأن الوجوب لو كان متعلقا بحلول الأجل لما صح العقد
إذ غير جائز أن يتعلق حدوث الملك فيه بمجئ الوقت
ألا ترى أنه لا يصح أن يقول إذا جاء غد فقد بعتك هذا العبد لأنه علق وجوب
الملك على مجئ الوقت فثبت بذلك أن الدين المؤجل قد ملك في ذمة من هو عليه وان لم
يجب أداؤه إلا بعد حلول الأجل
قالوا فكذلك الفرض قد وجب في أول الوقت وجوبا موسعا حتى إذا صار إلى آخر
الوقت لزمه الأداء ولم يسعه التأخير
121

وقد حكي لنا معنى هذا المذهب عن محمد بن شجاع الثلجي رحمه الله
وقال غيره من أصحابنا أن الوجوب في مثله يتعلق بآخر الوقت فإن أول
الوقت لم يوجب عليه شيئا
ثم اختلفوا فقال منهم قائلون إن ما فعله في أول الوقت نفل يمنع لزوم الفروض
في آخره مثل رجل محدث توضأ قبل مجئ وقت الصلاة فيكون متنفلا بطهارته ومنع ذلك
لزوم فرض الطهارة له عند مجئ وقت الفرض
وكذلك قالوا في الزكاة إذا عجلها قبل الحول بعد وجود النصاب
ويستدلون على ذلك من قول أصحابنا بما لا خلاف بينهم فيه ان امرأة لو حاضت
في آخر الوقت لم يكن عليها قضاء تلك الصلاة
وكذلك لو سافر رجل في آخر الوقت لزمه القصر ولم يكن لما سلف من الوقت تأثير في
لزوم الفرض
ولا خلاف بين الفقهاء ان امرأة لو طهرت في آخر الوقت لزمها فرض الصلاة ولو أن مسافرا أقام في آخر الوقت قبل أن يصلي لزمه الاتمام قالوا فلما كان هذا هكذا
علمنا أن لزوم فرض الصلاة متعلق بآخر الوقت وان ما قبل ذلك من الوقت لا تأثير
له في الإيجاب
وقالت الفرقة الأخرى من أصحابنا ما فعله في أول الوقت مراعى فإن لحق آخره
وهو من أهل الخطاب بها كان ما أداه فرضا وإن لم يكن من أهل الخطاب بها كان المفعول في
أول الوقت نفلا
122

وكذلك قالوا في الزكاة إذا عجلها بعد وجوب النصاب قبل الحول أنه إن كان في آخر
الحول من أهل الخطاب بها كان المؤدي فرضا وإن لم يكن كذلك كان المؤدي تطوعا
وقد قال أصحابنا فيمن له أربعون من الغنم فعجل للمصدق شاة ثم حال الحول
وليس عنده إلا ثمانية وثلاثون شاة أنه يأخذ الشاة من المصدق إذا كانت قائمة بعينها
وإن حال الحول وعنده تسعة وثلاثون أجزأته الشاة عن الصدقة ولم يكن له أن
يأخذها فجعلوا حكم الشاة مراعى في جوازها عن الفرض وكونها غير مجزية عنه
قالوا وليس يمنع في الأصول أن يكون المفعول على وجه الفرض مراعى بموقوف
الحكم فيصير تارة في حيز الواجب وتارة في حيز النفل
ألا ترى أن مريضا أو مسافرا لو صلى الظهر في بيته قبل أن يصلي الامام كان
ظهره مراعى فإن حضر الإمام بعد ذلك فصلى معه الجمعة تبينا أن الأولى لم تكن ظهرا وإن
لم يصل الجمعة كانت الأولى ظهرا
قال أبو بكر
والذي حصلناه عن شيخنا أبي الحسن رحمه الله في ذلك أن وقت الظهر كله
وقت لأداء الفرض والواجب يتعين فيه بأحد وقتين
أما إذا لم يصح الظهر حتى ينتهي إلى آخره فإن الوجوب يتعين عليه بآخر
الوقت وهو الوقت الذي يسعه تأخيرها عنه
وأما إذا فعلها قبل ذلك فإن حكم الوجوب يتعين بالوقت المفعول فيه
الصلاة كما يقول في كفارة اليمين ان الواجب أحد الأشياء الثلاثة ولم يتعين الوجوب عليه
123

في واحد كالحنث حتى إذا فعل أحدها تعلق به حكم الوجوب
فكان كأنه هو الواجب وكما يقول فيمن باع قفيز حنطة من صبرة أن المبيع لم يتعين بنفس العين فإن
كال منها قفيزا وسلمه تعين فيه حكم العقد ويصير كأنه هو المبيع بعينه وإنما تعين فيه
حكم العقد بالتسليم كذلك حكم الوجوب يجوز أن يتعلق بالفعل وإن كان لو لم يفعله لم
يكن للوقت تأثير في وجوبه فإن قال قائل لا يجوز أن يتعين عليه حكم الوجوب
بالفعل لأن المفعول لا يصح إيجابه ولا الأمر به وإنما يتعلق حكم الإيجاب بما لم يفعله
مما يصح وقوعه منه
قيل له لم نقل أن الأمر بالفعل توجه إليه في حال الفعل
وإنما قلنا إن حكم الوجوب يتعين فيه وهو كما نقول في الحانث في يمينه أنه متى
فعل واحدا من الأشياء الثلاثة تعين حكم الوجوب بالمفعول منها وانتفى عما لم يفعل فصار
كأنه هو الواجب وإن لم يكن تعين الوجوب فيه بالأمر وكما يلزمه فرض أداء الزكاة
125

إلى مساكين لم يتعينوا بوجوب الفرض ثم إذا أعطاها مساكين بأعيانهم تعين حكم الوجوب
فيهم وإن كان له في الابتداء الانصراف عنهم إلى غيرهم
فإن قال لا يشبه ما ذكرت كفارة اليمين لأنه قد تعلق عليه وجوب أحد الأشياء
الثلاثة بالحنث في الحال فله أن يفعل أيها شاء فأيها فعل كان هو الواجب وأنت لا تقول
إنه تعلق عليه وجوب إحدى الصلوات التي لم يمكن فعلها في الوقت من أوله إلى
آخره لأنه إنما يمكنه فعلها على حسب مجئ الأوقات ولا سبيل له إلى فعل أيها شاء
بدخول الوقت كما يمكنه فعل أحد الأشياء الثلاثة من الكفارة بالحنث فلا يخلو حينئذ في
أول الوقت من أن تكون قد وجبت وجوبا موسعا أو أن يكون فاعلها متنفلا
قيل له لا يوجب ما ذكرت الفرق بينهما من الوجه الذي ذكرنا وذلك لأن تعلق
فعل الصلاة بالأوقات المستقبلة لا يمنع أن يكون الخطاب قد توجه إليه بها في أن يفعل
ما شاء منها إلى آخر الوقت كأنه قيل له إن شئت تصلي الظهر فصلها في أول الوقت
فإن لم تفعل ففي الثاني وإن لم تفعل ففي الثالث على أنك مخير فيها فلا يختلف حكمها
وحكم كفارة اليمين لأن حكم الوجوب قد تعلق عليه بفعلها في أول الوقت أو تركها إلى
صلاة أخرى تليها كما تعلق حكم الوجوب بأحد الأشياء الثلاثة في الكفارة لا
بجميعها لأنه لا يصح له جميعها في الإيجاب
ألا ترى أنه لو كفر بالجميع في حال واحدة لم يكن الواجب إلا واحدا منها كما لا
يكون الواجب إلا إحدى الصلوات المفعولة في الوقت دون جميعها
وكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يستدل على أن الفرض لم يتعلق وجوبه بأول
الوقت إذا لم يفعل فيه أن له تأخيرها عنه لا إلى بدل لأن المفعول في آخر الوقت ليس ببدل
126

عن المتروك في أوله ولو كان الوجوب قد تعلق به لما كان له ذلك لأن ما كان له تركه
انصرف عنه لا إلى بدل منه فليس بفرض
فإن قال قائل فهذا يدل على أن المفعول في أول الوقت نفل لأنه قد كان له
تركه لا إلى بدل
قيل له لا يجب ذلك لأن أحد الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين إذا تركه
انصرف عنه لا إلى بدل منه لأن بعضها ليس ببدل عن بعض وأيها فعل مع ذلك كان
فرضا ولم يكن نفلا وكذلك تارك الصلاة في أول الوقت إلى آخره وإن كان تاركا لها لا إلى
بدل منها فليس يمنع ذلك أن يكون متى فعلها تعلق فيها حكم الوجوب بالفعل
ويدل على أن المفعول في أول الوقت ليس بنفل قول النبي صلى الله عليه وسلم أول وقت الظهر إذا
زالت الشمس
فإن قيل إنما أراد به وقت النفل الذي يمنع وجوب الظهر
127

قيل له الظهر لا يكون نفلا وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم وقتا لها فدل على أن فاعله فاعل
للفرض إذ كان لا يصح أن يقال إنه وقت الظهر إلا وقد جعل وقتا لوجوبها أو لأدائها
وقد علمنا أنه لم يرد الوجوب فدل على أنه أراد أنه وقت لأداء الظهر
ويلزم هذا القائل أن يقول إن مصلي الجمعة في أول وقت مصلي نفل ولا خلاف أن
الجمعة لا يتنفل بها بحال
فإن قال قائل ليس يخلو وقت الوجوب من أن يكون مقدار ما يلحق فيه افتتاح
الصلاة فيلزم الطاهر من الحيض فرضها ويلزم المسافر الاتمام إذا نوى الإقامة فيه أو أن
يكون الفرض متعلقا في الوقت بمقدار ما يمكن استيفاء أفعال الصلاة فيه قبل خروجه
فإن كان الفرض إنما يتعين بآخر الوقت الذي يلحق فيه مقدار الافتتاح فواجب ألا يأثم
بتأخير الافتتاح إلى ذلك الوقت لأن الوجوب لا يتعين عليه إلا فيه فهو بمنزلة أول
الوقت فإن كان يأثم بتأخير الافتتاح إلى ذلك الوقت فإنما يتعين من الوجوب عليه في
أول الوقت الذي يلحقه الإساءة بتأخير الافتتاح عنه وإذا كان ذلك كذلك
لزمك على هذا أن تقول في المرأة إذا حاضت بعد الوقت الذي تكون مسيئة بتأخير الافتتاح
أن يلزمها فرض الصلاة لأنها قد أدركت من وقت الفرض مقدار الافتتاح كما قلت فيمن
طهرت وقد بقي من الوقت ما يمكنها فيه الافتتاح لزمها فرض الوقت
قيل له أن لزوم فرض الوقت عندنا متعلق بآخره وهو مقدار ما يلحق فيه الافتتاح
وما قبله ليس بوقت للوجوب فلذلك لم يلزم الطاهر إذا حاضت في آخر الوقت فرض الصلاة
وإن كانت قد أدركت منه وهي طاهر المقدار الذي لو تحرمت فيه بالصلاة لم يمكنها قضاؤها
128

حتى يخرج الوقت لأنها لم تلحق وقت الوجوب وإنما نهى عن التأخير إذا لم يبق من الوقت
إلا مقدار ما يصلى فيه لأنه لو أخرها لحصل فعل بعض الصلاة بعد خروج الوقت فمنع من
التأخير من أجل ذلك وليس كونه منهيا عن التأخير بموجب أن يكون هو وقت لزوم
الفرض إذ لا يمتنع أن يكون ممنوعا من ذلك لمعنى غيره كما يقول فيمن أدرك من
وقت الفجر مقدار ما يصلى فيه ركعة أنه منهي عن التحريمة لأن بعض صلاته تحصل بعد
طلوع الشمس وإن كان مدركا لوقت الفرض فكذلك لا يمتنع أن يؤمر بتقديم الفعل
على وقت لزوم الفرض لهذه العلة
فإن قال قائل كيف يجوز أن يكون مأمورا بفعل الصلاة قبل وجود وقت وجوبها وينهى عن
تركها وهي صورة الواجب إلا أن يكون مأمورا بفعله منهيا عن تركه وهذا يدل على أن
وقت الوجوب هو الذي لا يلحقه الإساءة بتأخيرها
قيل له ليس يمتنع هذا في الأصول
ألا ترى أن صوم ثلاثة أيام في الحج للمتمتع قبل وجوبه يوم النحر لأن يوم
النحر هو الوقت الذي يجب فيه الهدي والصوم بدل منه ثم أمر بتقديمه على وقت وجوبه
لئلا يحصل في الوقت المنهى عنه فيه الصوم وهو يوم النحر وأيام التشريق وكذلك لا يمتنع
أن يكون مأمورا بتقديم افتتاح الصلاة على وقت وجوبها لئلا يحصل فعل بعضها بعد خروج
الوقت
129

الباب الحادي والثلاثون
في
الامر المطلق هل يقتضي التكرار؟
وفيه فصل: الامر إذا كان مطلقا أو معلقا
بوقت أو شرط أو صفة هل يقتضي التكرار
131

باب
القول في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار
اختلف الناس في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أم لا فقال أكثر الفقهاء لا يجب
التكرار إلا بدلالة ومتى فعل المأمور به مرة واحدة فقد قضى عهدة الأمر
قال أبو بكر رحمه الله
والذي يدل عليه مذهب أصحابنا رحمهم الله أن الأمر يقتضي الفعل مرة واحدة
ويحتمل أكثر منها إلا أن الأظهر حمله على الأقل حتى تقوم الدلالة على إرادة أكثر منها لأن
الزيادة لا تلزمه إلا بدلالة
والذي يدل على ذلك من مذهب أصحابنا قولهم فيمن قال لامرأته طلقي
نفسك أن هذا على واحدة إلا أن يريد ثلاثا فيكون ثلاثا وقولهم فيمن قال لعبده تزوج
أنه على امرأة واحدة إلا أن يريد ثنتين فيكون الأمر على ما عنى فهذا يقتضي أن
يكون مذهبهم في الأمر إذا لم يتعلق بعدد مذكور في اللفظ أنه يتناول مرة واحدة ويحتمل
أكثر منها إلا أنه لا يحمل على الأكثر إلا بدلالة
وقال بعضهم يقتضي التكرار إلا أن تقوم الدلالة على غيره
133

الدليل على صحة القول الأول إنه متى فعل المأمور به مرة واحدة فقد
تناوله إطلاق الوصف بأنه قد فعل ما أمر به ولا يقول أحد أنه فعل بعض المأمور به وإن
كان يقتضي التكرار لما جاز أن يقال إنه قد فعل ما أمر به
134

فإن قيل فإذا فعله مرة أخرى وثالثة يطلق عليه أنه قد فعل المأمور به فينبغي
أن يدخل في الأمر من حيث صلح له اللفظ على موضوعك
قيل له لم نجعل جواز اطلاق القول بأنه قد فعل المأمور به علة لوجوب الأمر فيلزمنا
ما ذكرت وإنما قلنا إنه لما كان يطلق عليه أنه فعل المأمور به ولم يقتض الأمر أكثر من ذلك
فمن أثبت شيئا غيره احتاج إلى دلالة أخرى غير لفظ الأمر وعلى أن قول القائل إنه إذا
فعله مرة ثانية وثالثة فقال إنه قد فعل المأمور به خطأ لأنه لا يكون فعله في الثاني
والثالث على وجه التكرار آتيا بما أمر به وإنما يكون نفلا وتطوعا فهذا سؤال ساقط
دليل آخر وهو أن في إيجاب التكرار اثبات عدد وجمع ليس اللفظ موضوعا له
ولا يجوز إثبات ذلك إلا بلفظ أو دلالة فلم يجب التكرار
ويدل عليه أيضا ان للتكرر لفظا موضوعا في اللغة نحو قولهم كل وكلما ولغير
التكرار صيغة معروفة فيها فغير جائز إيجاب التكرار إلا مع وجود حرف التكرار وقيام دلالة
من غيره
ويدل على ذلك أيضا أن المعقول من الخبر عن ماض أو مستقبل في الإثبات
فعل مرة واحدة لا أكثر منها كقولك دخل زيد الدار أو سيدخلها لا يعقل منه التكرار
ولو قال بدل هذا قد دخلها كل يوم أو كلما مضى يوم كان المعقول منه وجود الدخول مكررا
على حسب عدد الأيام فلما كان ذلك كذلك وجب أن يكون الأمر كذلك إذا لم يفارقه
لفظ التكرار
135

وغير جائز اثبات التكرار فيما ليس فيه حرف التكرار كما لا يجوز اسقاط حرف التكرار
عما ذكر فيه
فإن قال قائل لما لم يتوقف الأمر وكان متى فعل المأمور به في أي زمان كان فاعلا
للمأمور به علمنا أنه قد أريد منه الفعل في هذه الأوقات على وجه التكرار
قيل له هذا خطأ لأنه لو قيل له افعله ما بينك وبين خمسين سنة كان مؤديا
للغرض في أي وقت فعله من هذه المدة ومعلوم مع ذلك أنه لم يرد منه فعله على وجه
الاتصال والدوام في هذه الأوقات كلها لعجزه عنه ولانقطاعه به عن سائر الفرض
فدل على سقوط قولك أنه من حيث كان مؤديا للواجب في أي وقت فعله من هذه
الأوقات وجب أن تكون هذه الأوقات كلها وقتا للفعل فيها على وجه التكرار فهذا
سؤال ساقط من هذا الوجه
وأيضا فإنا نقول إنما يكون مؤديا للواجب في أي وقت فعله من عمره ما لم يفعل
المأمور به مرة فأما إذا فعله مرة فإن الوقت الذي يوجد بعد الفعل ليس بوقت للفرض كما
يقول المسلمون جميعا إن فرض صلاة الظهر في الوقت مرة واحدة فإن فعلها مرة واحدة ما
بين أول الوقت وآخره لم يكن عليه غيرها ولم يكن ما بعد وقوع الفعل وقتا للوجوب ولم يجب
من أجل كون الوقت كله وقتا لها ما لم يقيدها بأن يكون فعل الظهر واجبا على وجه التكرار
من أول الوقت إلى آخره
وأيضا لو كان الأمر يقتضي التكرار لما كان بعض الأوقات أولى بفعل المأمور
به فيه من بعض بل كان الواجب أن تكون الأوقات كلها متساوية في باب وجوب فعل
المأمور به فيه وهذا مقتضى وجوب فعله دائما متصلا غير منقطع ومعلوم أن هذا ليس في
وسع أحد من الناس فإذن المراد منه فعله في بعض الأوقات وليس بعضها بأولى بإيقاع
الفعل من بعض فيحصل الأمر مجملا مفتقرا إلى البيان غير معلوم منه تنفيذ الحكم ولما
اتفق الجميع على أن المأمور بفعل ظاهر المعنى بين المراد يلزمه فعله قبل ورود بيان الوقت
الذي يفعله فيه علمنا أنه لم يقتض التكرار في الأوقات إذ كان وجوب اعتبار ذلك يؤدي إلى
136

أن يكون لزوم المأمور به موقوفا على ورود بيان الوقت
فإن قال ما أنكرت أن يكون هذا بمنزلة العموم كقوله تعالى فاقتلوا
المشركين فيجب اعتباره أبدا حتى تقوم دلالة الخصوص
قيل له هذا غلط من قبل إن الوقت غير مذكور في الأمر فيعتبر عمومه فقولك فقولك إن
اعتبار فعله في الأوقات واجب حتى تقوم دلالة خصوصه في بعض الأوقات دون بعض
خطأ
وعلى أنه لو كان الوقت مذكورا بلفظ عموم لم يكن ذلك عموما في الأمر لأن قوله
تعالى ولله على الناس حج البيت ليس بعموم في الحج لأنه مذكور بلفظ يقتضي
فعله مرة واحدة فلا معنى لاعتبار ذكر عموم الوقت لو ذكر مع عدم لفظ العموم في
المأمور به
ألا ترى أنه لو قال له ادخل الدار اليوم كان الذي يلزمه بهذا القول دخولها مرة
واحدة في اليوم وإن كان الوقت مذكورا بعموم لفظ ينتظم سائر أجزائه
ويدل على صحة ما قلنا أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحج في
كل عام أو مرة واحدة فقال بل حجة واحدة ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتموه
لضللتم قد حوى هذا الخبر الدلالة على صحة ما ذكرنا من ثلاثة أوجه
137

أحدها أن التكرار لو كان معقولا من الآية لما سأل الأقرع عنه لأنه كان رجلا من
أهل اللسان
والثاني قوله عليه الصلاة السلام بل حجة واحدة فأخبر أن الآية لم تقتض
إيجاب أكثر من حجة
والثالث قوله صلى الله عليه وسلم ولو قلت نعم لوجبت فأخبر أنه لو قال نعم كان واجبا بقوله لا
بالآية
فإن قال قائل لو اقتضت الآية وجوبها مرة واحدة لما سأل عنه
قيل له لم يشكل عليه أن الآية لم تقتض فعله إلا مرة واحدة وإنما أراد أن يعرف هل
أراد بالأمر أكثر من حجة أو هل من النبي عليه السلام حكم في إيجابه في كل سنة زيادة
على ما اقتضت الآية وجوبه فأخبره عليه السلام أنه لم يوجب غير ما في الآية
138

ويدل على ذلك أيضا أن المعقول من مخاطباتنا فما بيننا أن من قال لعبده أعط هذا
الفقير درهما أنه لم يقتض أمره أن يفعل المأمور به مكررا دائما متصلا فوجب أن يكون
خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم محمولا على ذلك لقوله تعالى وما أرسلنا من رسول
إلا بلسان قومه
وليس الأمر في هذا كالنهي لأن النهي يقتضي نفي ما تعلق به فوجب أن ينتفي
أبدا
ألا ترى أنه لو أدخل حرف النفي على الخبر كان المخبر عنه منتفيا ابدا لأنه
لو قال ما دخل زيد الدار أو قال لا يدخلها فعلق الخبر على ماض أو مستقبل بحرف النفي
علق به نفي جميع ما تضمنه في سائر الأوقات وليس كذلك الأمر لأن الأمر يقتضي
الإثبات والخبر إذا وقع عن اثبات فعل ماض أو مستقبل لم يقتض التكرار كذلك الأمر إذا
كان موضوعه الاثبات فمتى فعل المأمور به مرة فقد أدى موجب الأمر وإن فعل المنهي عنه
مرة لم يسقط عنه حكم النهي فيما بعد لأن النهي لما تناول نفي المنهي عنه في سائر الأوقات
صار كمن قيل له لا تفعل ذلك في شئ من هذه الأوقات فإذا أوقع الفعل في شئ
منها لم يبطل حكم النهي عن فعله في باقي الأوقات
فإن قال قائل لما تضمن الأمر وجوب الاعتقاد للزوم فعله كما تضمن وجوب
139

الفعل ثم كان الاعتقاد لوجوب فعله لازما على وجه التكرار وجب أن يكون كذلك الفعل
لأن كلاهما من مضمون الأمر
قيل له هذا غلط لأنه لا يجب عليه تكرار الاعتقاد بل يكفيه الاعتقاد الأول إلى أن
يوقع الفعل فقولك إن الأمر يتضمن تكرار الاعتقاد خطأ
وأيضا لو فعله عقيب وروده لم يجب عليه تكرار الاعتقاد وإنما ظن السائل أن لزوم
الثبات على اعتقاد وجوبه إلى وقت ايقاعه تكرار للاعتقاد وليس هو كما ظن وعلى أنه
منتقض باتفاق الجميع وعلى أنه لو قيل له حج في عمرك حجة واحدة لكان عليه
الثبات على اعتقاد وجوبها إلى وقت إيقاعها ولم يجب عليه تكرار الحج من حيث لزومه
الثبات على الاعتقاد إلى وقت إيقاعها
فصل
قال أبو بكر رحمه الله
ولا فرق عند أصحابنا بين الأمر إذا كان مطلقا أو معلقا بوقت أو شرط أو صفة أنه لا
يقتضي التكرار إذا لم يكن في اللفظ حرف التكرار ولا قامت عليه الدلالة من غيره
140

وذلك نحو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقوله تعالى فإذا
أفضتم من عرفات لم يقتض ظاهر الأمر التكرار لأن أصحابنا رحمهم الله قد قالوا فيمن
قال لامرأته إذ دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها طلقت ولو دخلتها مرة أخرى لم
تطلق وأنه لو قال كلما دخلت الدار فأنت طالق أن الطلاق يتكرر عليها بتكرار الدخول
لأن إذا ليس فيها تكرار وإنما هي شرط فيه وقت
فإن قيل يلزمك على هذا أن تقول إن أحدا لم يتوضأ بالآية إلا مرة واحدة
قيل له المرة الثانية لم يتناولها اللفظ والذي تناول اللفظ من ذلك مرة واحدة وإنما
دخلت المرة الثانية في الحكم من طريق المعنى لأن المراد إذا قمتم وأنتم محدثون فلما كان
الحكم متعلقا بالحدث لا بالقيام إلى الصلاة لزمته الطهارة متى أراد الصلاة وهو محدث
فإن قيل إذا كانت إذا للوقت فواجب أن تقتضي التكرار لوجود الأوقات التي
علق الفعل بها
قيل له لا يجب ذلك لأنه لما لم يكن في اللفظ ما يوجب تكرار الفعل لم يكن لذكر
الوقت تأثير في إيجابه
ألا ترى أنه لو قال له صل في هذا اليوم أو صم في هذه السنة لم يقتض ذلك
تكرار الفعل في الأوقات لأجل تعليقه إياه باسم ينتظم عدة أوقات فكذلك ما وصفناه
وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لامرأته أنت طالق إذا شئت أن لها أن تطلق
142

نفسها متى شاءت واحدة لا أكثر منها ولا تكون مشيئتها مقصورة على المجلس لأنه
علقها بسائر الأوقات المستقبلة فيثبت لها المشيئة فيها وان لم يملك إلا إيقاع تطليقه واحدة
وفرقوا بينه وبين قوله أنت طالق إن شئت في باب الوقت فجعلوا ذلك على
المجلس إذ لم يكن في اللفظ دلالة على الوقت وكان من ألفاظ التمليك وألفاظ
التمليك تتعلق على المجلس ما لم تتعلق بوقت بعده
والعلة في كون الأمر المعلق بشرط أو وقت على مرة واحدة دون وجوب التكرار
في الأمر المطلق هي أن التكرار لا يصح إيجابه إلا بوجود لفظ التكرار أو بقيام
الدلالة عليه
ولذلك يجب أن يكون القول في نحو قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس
أن الذي يقتضيه اللفظ صلاة واحدة فلا يمتنع مع ذلك أن يراد به تكرار الفعل بتكرار
الوقت لأن اللفظ يصلح لذلك وإن كان ظاهره ما وصفنا
ونظير قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس ما قال أصحابنا فيمن قال لامرأته
أنت طالق للسنة وأراد ثلاثا أنه كما نوى وجعلوا قوله للسنة محتملا أن يكون معناه
لأوقات السنة فيتكرر الطلاق عليها بتكرار الأوقات كقول الرجل أنت طالق في ثلاثة
143

أطهار وكقوله تعالى فطلقوهن لعدتهن أنه قد تناول الطلاق الثلاث
متفرقة في أوقات السنة وقد قال عيسى بن أبان رحمه الله إن قوله تعالى فطلقوهن
لعدتهن قد تناول الطلاق الثلاث والواحدة فوجب على هذا أن يصح أن
يكون المراد بقوله تعالى لدلوك الشمس لزوم فعل الصلاة مكررا عند أوقات الدلوك إلا
أن اللفظ وإن كان محتملا لذلك فغير جائز حمله عليه إلا بدلالة
144

الباب الثاني والثلاثون
في
الامر إذا تناول أحد أشياء على جهة التخيير
وفيه ثمانية فصول:
فصل: تكرار لفظ الامر
فصل: من شرط صحة الامر ان يكون المأمور ممكنا من فعله في حال لزومه
فصل: امره تعالى لمن علم أنه لا يمكن من الفعل
فصل: من امر بأحد شيئين على وجه التخيير ففعل أحدهما
فصل: الامر بفرض الكفاية
فصل: في حكم تكليف الكفار
فصل: الامر بالشئ يقتضي كراهة ضده.
فصل: الامر المضمن بوقت بعينه.
145

باب
القول في الأمر إذا تناول أحد أشياء على جهة التخيير
إذا خير المأمور بين فعل أحد أشياء مثل كفارة اليمين فالواجب في الحقيقة أحدها
ولا يجوز عندنا أن يقال إن جميعها هو الواجب لأن الواجب هو ما لا يجوز له الانصراف
عنه مع الإمكان إلا إلى بدل ومعلوم أن كل واحد منها إذا تعين بالفعل منفردا عن
غيره كان في الحكم هو الواجب لا على معنى أنه بدل من غيره فلما كان له ترك ما عدا
الواحد لا إلى بدل علمنا أنه ليس بواجب
ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع من مخالفينا في ذلك على أنه لو فعل الجميع دفعة
واحدة كان المفعول على وجه الوجوب واحدا منها لا جميعها فدل على أن الواجب
واحد فيها إذ لو كان الجميع واجبا لكان الجميع إذا فعله مفعولا على وجه الوجوب لأنه
محال أن يكون واجبا قبل الفعل ثم إذا وقع الفعل وقع نفلا لا واجبا فثبت بما ذكرنا أن
الواجب أحدها لا بعينه لا جميعها وأن ما فعل من ذلك يتعين حكم الوجوب فيه
بالفعل وهو مثل ما يقول في أنه مخير في أن يعطى زكاته من شاء من المساكين فأيهم أعطى
كان مؤديا للواجب وغير جائز مع ذلك أن يقال إن الواجب اعطاء مساكين أهل الأرض
من حيث جاز اعطاؤه لمن شاء منهم
147

فإن قال قائل بل إذا كان وجه الإيجاب ما يتعلق به م‍ المصلحة ومن أجله يقبح
تركه فلا بد من أن يفصل بينه وبين ما ليس بواجب فإذا خير بين أحد أشياء ولم يفصل
بين شئ منها علمنا أن حكم الوجوب قد تعلق بالجميع
قيل له ليس يمتنع أن يعلم الله تعالى أن المصلحة في إيجاب واحد منها بغير عينه
على وجه التخيير على أنه أيها فعل منها كانت المصلحة فيه كنهى يا في الآخر لو فعله فإذا لم
يكن هذا ممتنعا لم يجب أن يكون الوجوب متعلقا بالجميع على ما ذكره
فصل
في تكرار لفظ الأمر
قال أبو بكر
تكرار الأمر يوجب تكرار الفعل وإن كان في صور الأول ما لم تقم الدلالة
على أن المراد بالثاني هو الأول نحو قول القائل تصديق بدرهم ثم يقول له بعد
ذلك تصدق بدرهم فيكون الثاني غير الأول
وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لامرأته أنت طالق أنت طالق أن الثاني غير
الأول
وقال أبو حنيفة فيمن أقر لرجل بدرهم ثم أقر له بدرهم إن الثاني غير الأول
وإنما كان هذا هكذا من قبل أن لكل واحد من اللفظين حكما في نفسه فغير جائز
148

تضمينه بغيره إلا بدلالة ولأن حكم الكلام أن يكون محمولا على فائدة محدودة وحكم
مستأنف فلا يجوز أن يرده إلى الأول ويجعله تكرارا إلا بدلالة
والدلالة الموجبة لذلك يجوز أن تكون في مضمون اللفظ وظاهر الحال ويجوز أن
تكون في غيره نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجدت الماء فأمسه جلدك ثم يقول في حال
أخرى إذا وجدت الماء فأمسه جلدك معلوم من ظاهر الخطاب والحال التي خرج عليها
الكلام أنه لم يرد بالثاني غير الأول فلا يجب تكرار استعمال الماء لأجل تكرار اللفظ لأن
تكراره إنما تعلق بسؤال سائل أو حدوث حال احتيج فيه إلى بيان الحكم لغير من قيل له
ذلك أولا ولولا ذلك لوجب أن يكون الثاني غير الأول
فصل
قال أبو بكر
من شرط صحة الأمر أن يكون المأمور ممكنا من فعله في حال لزومه ولا اعتبار بحال
فصول الأمر من الآمر والدليل على ذلك أن أوامر الله تعالى قد تناولت جميع الناس
من المكلفين ممن كان منهم في عصر النبي عليه السلام ومن حدث بعدهم إلى قيام الساعة
وقد بين الله تعالى ذلك بقوله تعالى نذيرا للبشر وقوله تعالى لأنذركم به ومن
149

بلغ وقوله تعالى قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فمن حيث كان رسولا
إلى أهل سائر الأعصار إلى قيام الساعة وجب أن يكون آمرا لهم وإن لم يكن جميعهم
موجودين وقت الأمر لأن الآمر انفصل من أمره للمأمورين على شرط
التمكين ولو لم تكن أوامر الله تعالى أمرا لنا لأنا لم نكن موجودين وقت الأمر لوجب
أن لا يكون الرسول رسولا إلينا لأنا لم نكن موجودين وقت الرسالة ولم نكن مأمورين
بها الان وهذا لا يقوله مسلم فصح أن أوامر الله تعالى لجميع المكلفين ممن كانوا
موجودين في وقت الأمر ومن وجد بعده على شرط بلوغ الأمر والتمكين من الفعل
وليس يمتنع أن ينفصل الآمر من أمره متوجها إلى المأمور معقودا بشرط التمكين
وإن لم يكن ممكنا منه في حال فصول الأمر
ألا ترى أنه يصح أن يقال للمريض إذا برأت فصم وصل وقاتل المشركين وقال
الله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة فقد صح خطاب العاجز بالفعل على شريطة
التمكين
فإن قيل كيف يصح أمر المعدوم
قيل له ليس هذا بأمر للمعدوم بأن يفعله وهو معدوم وإنما قلنا إن الأمر قد
150

يصح وجوده والمأمور غير موجود لأن الأمر هو قول القائل افعل وقد حصل أمر لمن وجد
بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يوجد بعده أمر يكونون مخاطبين به ولو لزمنا أن لا نجيز
للمعدم لتعذر الفعل واستحالته منه في حال الأمر للزم أن لا يصح خطاب المريض
بقتال المشركين على شرط البرء والامكان وهذا لا ينكره أحد
فصل
وقد اختلف في أمر الله تعالى لمن في المعلوم أنه لا يمكن منه ويحال بينه وبينه على
شرط بلوغه في حال التمكين
فأبى ذلك قوم وقالوا لا يجوز أن يأمر أحدا بشئ إلا وفي المعلوم أنه سيبلغ حال
التمكين منه فيفعله أو يتركه مع القدرة عليه
وقال آخرون يجوز أن يأمره الله على شريطة التمكين وبلوغ حال القدرة
وارتفاع الموانع وإن كان في معلومه أنه سيحال بينه وبينه ويقطع دونه إذا جوز المأمور
أنه لا يحال بينه وبينه
151

فذهبت الفرقة الأولى إلى أن هذا لو جاز لجاز أن يأمر الله تعالى بصعود السماء
ونقل الجبال عن مواضعها بشرط الإمكان وهذا سفه وعبث لأن في معلومه أن ذلك لا
يتأتى منا ولا يمكن منه بحال كذلك كل ما كان في معلومه أن المأمور لا يبلغ حال
التمكين منه لم يصح تكليفه إياه لا مطلقا ولا معلقا بشرط ومن أجل هذا القول ذهبوا
إلى أن المكلف لا يدري أنه مأمور فيما يستقبل من عمره بالإيمان وأنه منهي عن الكفر إذا لم
يكن على ثقة بالبقاء وأنه لا يدري هل هو منهي عن القتل والزنا وسائر القبائح لأنه لا
يدري هل يبلغ الحال الثانية أم لا
وأبى هذا القول مخالفوهم وقالوا قد أجمع المسلمون على استنكار هذا القول ممن
ظهر فيه
قالوا وقد وجدنا ما أجزناه من ذلك جائزا فيما بيننا في أوامرنا لعبيدنا
ألا ترى أن من قال لعبده اسقني ماء كان عالما باضطرار أنه قد أمر عبده بشئ
وأراده منه وإن لم يحط علما ببقائه إلى وقت الفعل ومع تجويزه أنه يحال بينه وبينه وكان
معلوما مع ذلك مع ورود أمره أن مراده إيقاع الفعل على شرط الإمكان والبقاء
وكذلك يصح في أوامر الله تعالى لنا على هذه الشريطة لأن المأمور إذا جوز بلوغ وقوع
حال الشرط وقد قيل له إن قدم زيد فتصدق بدرهم وإن لم يقدم فلا تفعله فيكون المأمور
متعبدا بشيئين في الحال
152

أحدهما الاعتقاد أنه إن قدم لزمه فعله وأنه سيفعله إن قدم
والآخر أنه إن لم يقدم وجب عليه تركه كان هذا معنى سائغا وتكليفا جائزا
يستفيد به المأمور توطين النفس على فعله إن وجد الشرط وعلى تركه إن لم يوجد فيستحق
الثواب عليه وليس هذا بمنزلة أمرنا بصعود السماء وقلع الجبال على شرط التمكين لأن
هذا قد وقع الإياس من وجوده فلا يكون الأمر به إلا عبثا لا فائدة فيه
والأول الذي قد يجوز عندنا وجود التمكين منه ويجوز غيره غير ممتنع مثله في عادات
الحكماء على الشرط الذي وصفنا
ولو قال رجل لعبده اقلع الجبال واشرب ماء البحر على شرط التمكين منه والقدرة
عليه كان عابثا واضعا للامر في غير موضعه فكذلك أوامر الله تعالى لنا تجري على هذا
المنهاج
فإن قال قائل يجوز على هذا أن يرد الامر معلقا بشرط أن لا ينسخ مثل أن
يقول صل غدا إن لم ننسخ هذه الصلاة عليكم كما أجزت أن يقول صل غدا إن
مكنت منها ولم يحل بينك وبينها وما الفصل بين الأمر المعلق بشرط التمكين وبينه معلقا
بشرط ألا ينسخ
قيل له لا يجوز ورود الأمر معقودا بشريطة أن افعلوه إن لم أنسخه عنكم قبل
وقت الفعل والفصل بينه وبين ما ذكرنا أنه إذا أمر بأمر فقد أراده منه وإذا نهاه عنه فقد
كرهه منه ولا يصح أن يقول قد أردته منك إن لم أكرهه فلما لم يصح أن يجمع ذلك في
لفظ الأمر لم يصح الأمر به معقودا بهذه الشريطة ولا يمتنع أن تقول افعله إن قدرت
153

عليه وإن أمكنك فلما صح الجمع بين هذين اللفظين على هذا الوجه صح وورد الأمر
معلقا بالشرط على هذا الوجه
ألا ترى أن الأمر منا لعبيدنا جائز على هذه الشريطة وأنه لا يصح أن يقول
واحد منا لعبده قد أردت منك هذا الفعل إن لم أكرهه إلا ومعناه عنده إن لم يبد لي
وذلك لا يجوز على الله تعالى لأنه تعالى عالم بالعواقب لا يجوز عليه البداء
فصل
ومن أمر بأحد شيئين بغير عينه على وجه التخيير ففعل أحدهما فقد فعل المأمور به
وليس عليه غيره نحو كفارة اليمين وجزاء الصيد وما خير الإنسان فيه بين أن يفعله أو
يفعل غيره
وإذا نهي عن شيئين لم يجز له فعل واحد منهما وذلك لأن أو تتناول أحد ما تدخل
عليه بغير عينه فإذا أدخلت على النهي تناولت كل واحد على حياله بالنهي
وإذا دخلت على الإيجاب تناولت أيضا أحد ما دخلت عليه بغير عينه فإذا دخلت على
النهي لم يجز إيقاع شئ منه لأن فعله لواحد منه لا يخرجه من أن يكون قد أوقع المنهي
عنه
ويدل عليه أيضا قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقوله تعالى إلا
154

ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم لما دخلت أو على النهي تناولت كل
واحد منه على حياله
وإذا دخلت على الإيجاب تناولت واحدا منه إلا أنه أيها فعل أجزأه وكان مؤديا لما
عليه على نحو ما ذكرنا في كفارة اليمين وغيرها
فصل
ومن الأمر ما يكون فرضا على الكفاية ويتوجه به الخطاب إلى جماعتهم نحو
الجهاد والصلاة على الجنائز ودفن الموتى وغسلهم ونحو التفقه في الدين قال الله تعالى
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم فدل على
أنه فرض على الكفاية والجهاد كذلك لأنه معلوم أن فرض الجهاد لازم لإظهار دين
الله ولو لزم كل واحد ذلك لتعطل الناس عن سائر أمورهم وفي ذلك ظهور أعدائهم
عليهم فدل على أنه وان كان الخطاب به متوجها إلى الجميع فإن لزوم فرضه مقصور
على وقوع الكفاية به من بعضهم فمن وقع ذلك منهم نابوا عن الناس
الباقين على هذا مضى السلف وسائر الخلف من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا
155

فصل
في حكم تكليف الكفار
قال أبو بكر
والكفار مكلفون بشرائع الإسلام وأحكامه كما هم مكلفون بالإسلام وكذلك
كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يقول
156

والدليل على صحة ذلك أالله تعالى قد ذم الكفار على ترك كثير مما تعلق لزومه
بالشرع نحو قوله تعالى الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ونحو حكايته
عن أهل النار قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا
نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فيه إخبار عن عقابهم على ترك الصلاة وترك
إطعام المساكين مع ما استحقوا من العقاب على كفرهم وقال الله تعالى في صفة
المنافقين وذمهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا
قليلا وقال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم
عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه فذمهم الله على فعل الربا فدل
157

على أنهم منهيون عنه في حال الكفر مستحقون للعقاب عليه والعقاب لا يستحق إلا
بترك الواجبات
ويدل عليه أيضا وجوب حد الزنا والسرقة على أهل الذمة عقوبة لهم على
فعلهم فدل جميع ما وصفنا على أن الكفار مخاطبون بالشرائع معاقبون على تركها سوى
عقوبة الكفر
فإن قال قائل كيف يجوز أن يكونوا مخاطبين بها ولا يصح منهم فعلها قبل
الإسلام في حال الكفر
قيل له لأنه قد جعل لهم السبيل إلى فعلها بأن يسلموا ثم يأتوا بها كما أن
الجنب لا يصح منه فعل الصلاة في حال الجنابة ولم يسقط عنه فرضها إذ كان قد جعل له
السبيل إلى فعلها بطهارة يقدمها أمامها كذلك الكافر قد جعل له السبيل إلى التمسك
بشرائع الإسلام بأن يقدم أمامها فعل الإيمان
فإن قال لو كانوا مخاطبين بها لما أجاز إقرارهم على تركها كالمسلمين قيل له
هم مخاطبون بالإيمان عند الجميع وقد أقروا على تركه بالجزية كذلك شرائعه
فصل
الأمر بالشئ يقتضي كراهة ضده على ما تقدم من بيانه فيما سلف من أن لفظ
الأمر يقتضي الإيجاب
158

ثم اختلف بعد ذلك من قال بذلك في إطلاق لفظ النهي على ضده
فقال قائلون يجوز أن يقال إن الأمر بالشئ نهى عن ضده فيكون لفظ الأمر
مقتضيا لذلك وموجبا له
وقال آخرون لا يجوز أن يكون لفظ الأمر موجبا للنهي عن ضده من جهة اللفظ
لكن من جهة الدلالة على أنه لا يجوز له فعل ضده المنافي له في وقت وجوبه
وقال آخرون لا يجوز أن يقال إن الأمر بالشئ نهى عن ضده لا من جهة اللفظ
ولا من جهة الدلالة وإن كان لفظ الأمر قد دل على كراهة ضده لأن للنهي صيغة
يختص بها في اللغة كما أن للأمر لفظا يختص به فغير جائز فيما لم يكن وجوبه أو حظره من
159

طريق اللفظ أن يقال إنه مأمور به وإن كان قد لزمه فعله أو منهي عنه وان لزمه اجتنابه
إذا كان ثبوت هذا الحكم له من جهة الدلالة لا من جهة اللفظ لا يسمى أمرا أو
نهيا
وهذه الأقاويل إنما تصح معانيها على قول من يجعل الأمر للوجوب
فأما من لم يجعل الأمر على الوجوب فإنه لا يجعل لفظ الأمر دليلا على كراهة ضده
وإنما يحتاج فيه إلى دلالة من غيره متى اقتضى الأمر الإيجاب في وقت مضيق لا يسع المأمور
تأخيره عنه فمحظور عليه تركه فيه
وزعم بعض الناس أن الأمر بالشئ وكون المأمور به واجبا لا يقتضي قبح
تركه وأنه إنما يستحق الذم إذا ترك المأمور به لا لأنه فعل قبيحا بل لأنه لم يفعل ما وجب
عليه وهذا مذهب فاحش قبيح لأنه يوجب استحقاق العقاب لا على فعل كان من
العبد
ثم اختلف من أطلق لفظ الأمر والنهي فيما كان وجوبه أو حظره من طريق الدلالة في
الأمر بالشئ هل يكون نهيا عن ضده فكل من جعل من هذه الطائفة الأمر على الفور
فإنه يقول إن الأمر بالشئ نهى عن ضده من جهة الدلالة
وقالت الطائفة التي بدأنا بذكرها في صدر هذا الباب إنه نهي عن ضده من
160

جهة اللفظ وكل من جعل الأمر على المهلة فإنه لا يجعل الأمر بالشئ نهيا عن ضده في
الحال من طريق اللفظ ولا من جهة الدلالة لأن له أن يفعل سائر أضداده ويتركه إلى
الوقت الذي يتعين عليه فعل المأمور به ولا يسعه تأخيره عنه فيجب عليه حينئذ فعله وترك
سائر أضداده
وأما النهي عن الشئ فإنه إذا لم يكن له إلا ضد واحد فإنه أمر بضده عند من يطلق
لفظ الأمر في مثله أما من جهة اللفظ أو الدلالة يجوز أن يقول له لا تتحرك فإن
السكون ضد لسائر الحركات التي نهى عنها فهو مأمور بفعل السكون إذ ليس يجوز أن
ينفك من سائر الحركات إلا إلى سكون ويستحيل أن يخلو من الحركة والسكون جميعا
وإن كان ذا أضداد كثيرة فإن النهي عنه لا يكون أمرا بشئ من أضداده وذلك نحو أن
تقول له لا تسكن فللسكون لو أضداد كثيرة وهي حركاته في الجهات الست
ومن الناس يقول إن النهي عن الشئ أمر بضده وإن كان ذا أضداد كثيرة
وجعل هؤلاء أفعال المكلف على ضربين واجبا أو محظورا وأسقطوا القسم
المباح ويلزمهم على فود قولهم إسقاط المندوب إليه أيضا لأن كل من نهى عن شئ فكل
فعل يفعله مما يضاد المنهي عنه فهو مأمور به عندهم وإذا أمر بشئ فكل فعل يضاد المأمور
به فهو محظور عندهم فلا يبقى ها هنا فعل يكون واقعا على وجه الإباحة لا واجبا ولا
محظورا
161

والصحيح عندنا أن الأمر بالشئ نهى عن ضده سواء كان ذا ضد واحد أو
أضداد كثيرة
وذلك لأنه قد ثبت عندنا وجوب الأمر وأنه على الفور فيلزمه بوروده ترك سائر
أضداده فكان بمنزلة من قيل له لا تفعل أضداد هذا الفعل المأمور به في هذا الوقت
مثل أن يقول لمن كان في الدار اخرج في هذا الوقت من هذه الدار فقد كره له سائر ما
يضاد الخروج منها نحو القعود والقيام والاضطجاع والحركة في الجهات الست إلا ما
كان منها خروجا من الدار فصار كمن نهى عن هذه الأفعال بلفظ يقتضي كراهة فعلها
والنهي عن هذه الأفعال في وقت واحد نهي صحيح لو نص عليها بلفظ النهي لم يكن مستحيلا
ولا ممتنعا فكذلك إذا تضمنه لفظ الأمر من الوجه الذي ذكرنا كانت هذه الأفعال محظورة
يلزم المأمور اجتنابها عند ورود الأمر
وأما النهي عن الشئ فإنه أمر بضده إذا لم يكن له إلا ضد واحد لأنه لا يصح منه
ترك المنهي عنه واجتنابه إلا بفعل ضده إذ غير جائز أن ينفك منهما إذا لم يكن له إلا ضد
واحد
وأما إذا كان له أضداد كثيرة فليس النهي عنه أمرا بسائر أضداده لأن له أن ينصرف
162

عن كل واحد منهما إلى غيره على وجه الإباحة
ألا ترى أنه يصح أن يقول قد نهيتك عن السكون وأبحت لك الحركة في الجهات
الست فيطلق لفظ الإباحة على الحركة في هذه الجهات ولو كانت الحركة في هذه الجهات
أوفي شئ منها واجبة لما صح اطلاق لفظ الإباحة عليها وليس كذلك إذا كان له ضد
واحد لأنه لا يجوز أن يقول له قد نهيتك عن الحركة في الجهات الست وأبحت لك السكون
لأن السكون إذا كان ضدا لهذه الحركات وهو لا ينفك منها أو منه فالسكون واجب
لا محالة فلا يصح اطلاق لفظ الإباحة على ما هو واجب ولهذه العلة قلنا ان الأمر
بالشئ نهى عن ضده من جهة الدلالة وإن كان ذا أضداد كثيرة لأنه لا يصح أن
يقول قد أوجبت عليك فعل المأمور به على الفور وأبحت لك سائر أضداده أو واحدا
من أضداده فلما انتفى عن سائر أضداده اسم الإباحة والإيجاب صح أنه مدلول
بالأمر كراهة ولزم اجتنابه
163

ومن جهة أخرى إنا لو قلنا إن النهي عن الشئ أمر بضده وان كان ذا أضداد كثيرة
لأدى ذلك إلى إسقاط قسم المباح والمندوب إليه من أقسام الأفعال وقد علمنا أن أفعال
المكلف إذا كانت واقعة عن قصد وإرادة ولم تكن واقعة على وجه السهو تنقسم أقساما
أربعة واجب ومحظور ومندوب إليه ومباح فلو كان النهي عن الزنا أمرا بسائر أضداد
الزنا لوجب ان يكون المشي إلى السوق وصلا التطوع وصوم النفل والطواف بالبيت وكل
ما يضاد الزنا من هذه الأفعال مأمورا به واجبا
وقد علمنا أن كل فعل مندوب إليه أو مباح فإنه يضاد فعل المحظور بتلك الجارحة
ومعلوم أن من أمكنه فعل المباح أو المندوب إليه فهو يمكنه فعل أضداده من المحظورات
فإذا ترك أضداده من المحظورات بفعل المباح أو المندوب فواجب على قضية من حكينا
قوله أن كل ما يضاد ذلك مأمور به فيكون هذا مؤديا إلى أن لا يكون في الشرع فعل
مباح ولا مندوب إليه وهذا فاسد لان المسلمين قد عقلوا ان في الشريعة مباحا ومندوبا
إليه مرغبا فيه ليس بواجب فصح بطلان كل قول يؤدي إلى دفع ذلك
فإن قال قائل هلا قلت إن النهي عن الشئ أمر بضده فإن كان له أضداد كثيرة
كان أمرا بواحد من أضداده وهو الذي يتفق فعله في وقته مما ينافي فعل المنهى عنه
فلا يكون مأمورا بفعل جميع أضداده إلا على وجه التخيير كما يقول في كفارة اليمين
ان الواجب منها أحد ثلاثة أشياء على وجه التخيير
164

قيل له ما تقدم يسقط هذا السؤال وهو أنه يصح أن يقول قد نهيتك عن
السكون وأبحت لك سائر أضداده من الحركات فنطلق اسم الإباحة على الجميع وكفارة
اليمين وما جرى مجراها من الأشياء التي تعلق الوجوب بواحد منها على وجه التخيير لا
يصح إطلاق لفظ الإباحة على واحد منها بل يقال له افعل أيها شئت على وجه
الوجوب فلذلك اختلفا
وأيضا فلو كان لا ينصرف عن فعل مأمور به فيما وصفت إلا إلى واجب مثله على
حسب ما ذكرت من كفارة اليمين لوجب أن يستحق الثواب بفعل ما يفعله من ذلك كما
يستحقه بما فعل من كفارة اليمين أي الأشياء الثلاثة فعل منها فلما لم يكن مستحقا للثواب
فيما وصفنا باتفاق الجميع علمنا أن فعله غير مأمور به ولا واجب وأنه يفعله على وجه
الإباحة إذ غير جائز أن لا يستحق على فعل الواجب الثواب
165

فصل
كل أمر مضمن بوقت بعينه فهو واجب في ذلك الوقت إن كان الوقت يستوعب
الفعل كصوم رمضان مؤقت بالشهر فعليه فعله فيه ولا يسعه التأخير إلا من عذر
وإن كان الوقت يتسع لإيقاع ذلك الفعل فيه مرارا كثيرة فوجوبه متعلق بأول أوقاته
حتى تقوم الدلالة على جواز تأخيره ويكون حينئذ فائدة ذكر الوقت من أوله إلى آخره أنه
إن أخره عن الوقت الأول لزمه فعله في الثاني والثالث إلى آخر الوقت وإن لم يفعله في هذه
الأوقات لم يكن عليه فعله بعد خروج الوقت بالأمر الأول وإن أبيح لنا تأخير الفعل إلى
آخر الوقت كان القول فيه على ما بيناه في وجوب الظهر وتعلق فرضه بالوقت على الوصف
الذي قدمنا ومتى فات الوقت قبل فعله لم يلزمه بالأمر الأول فعله بعد خروج الوقت لأن
الأمر يوجه في الابتداء إلى فعله في الوقت وما بعد الوقت لم يتضمنه الأمر لأنه غير ما
دخل تحت الأمر فلا يجوز إيجابه إلا بدلالة أخرى غير الأمر الأول وكذلك حكم النهي إذا
كان مؤقتا فإن مضي الوقت يزيل حكمه ويحتاج في إثبات حكمه إلى دلالة أخرى من
غيره
166

الباب الثالث والثلاثون
في
النهي هل يوجب فساد ما تعلق به
من العقود والقرب أم لا؟
وفيه فصل الدلالة على صحة
ما جاء في أصل الباب
167

باب
القول في النهي هل يوجب فساد ما تعلق به من
العقود والقرب أم لا
قال أبو بكر رحمه الله
مذهب أصحابنا أن ظاهر النهي يوجب فساد ما تناوله من العقود والقرب إلا أن
تقوم دلالة الجواز
169

وهذا المذهب معقول من احتجاجاتهم لإفساد ما أفسدوه من
170

العقود والقرب لمجرد النهي دون غيره نحو احتجاجهم لإفساد الصلاة عند طلوع
الشمس وعند الزوال بظاهر النهي الوارد من النبي عليه السلام واحتجاجهم
لإفساد بيع ما ليس عند الإنسان وبيع ما لم يقبض بظاهر ما ورد فيهما من النهي المطلق
وكذلك كان يقول شيخنا أبو الحسن رحمه الله إلا أنه كان يقول مع ذلك قد قامت
الدلالة على أن المنهي عنه إذا كان النهي عنه إنما تعلق بمعنى في غيره لا لنفسه لم
يوجب فساد هذه العقود ولا القرب المفعولة على هذا الوجه ونحن نفصل ذلك بعد
وهذا الذي كان يقوله في ذلك هو أيضا عندي مذهب أصحابنا ومسائلهم تدل عليه
وحكاية عبد الوارث بن سعيد مشهورة في المعنى الذي قدمناه في هذا الباب وهي أنه
قال أتيت مكة فوجدت بها أبا حنيفة رحمه الله وابن أبي ليلى وابن شبرمة رحمهم الله
فأتيت أبا حنيفة فقلت له ما تقول في رجل ابتاع بيعا واشترط شرطا فقال البيع
باطل والشرط باطل فأتيت ابن أبي ليلى فسألته عن ذلك فقال البيع جائز والشرط
172

باطل فأتيت ابن شبرمة فسألته عن ذلك فقال البيع جائز والشرط جائز قال فقلت
ثلاثة من فقهاء الكوفة اختلفوا علينا في مسألة واحدة فأتيت أبا حنيفة رحمه الله
فذكرت له ذلك فقال لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في بيع وأتيت ابن أبي ليلى فذكرت له ذلك فقال لا أدري
ما قالا حدثني هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لها اشتري بريرة واشترطي الولاء لهم فإن الولاء لمن أعتق البيع جائز والشرط
173

باطل قال فأتيت ابن شبرمة فذكرت له ذلك فقال لا أدري ما قالا حدثني مسعر بن
كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال بعت النبي صلى الله عليه وسلم ناقة واشترط لي
حملانه إلى المدينة فأجاز البيع والشرط فاحتج أبو حنيفة في افساد ما أفسد بظاهر النهي
دون غيره
قال أبو بكر رحمه الله وهذا مذهب السلف وفقهاء الأمصار لا نعلم أن أحدا
منهم قال إن النهي لا يدل على فساد ما تناوله من هذه العقود أو القرب بل ظاهر
احتجاجاتهم ومناظراتهم تدل على أن النهي عندهم يقتضي فساد ما تناوله من هذه
العقود
ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم لما اختلفوا في المرأة بقوله تعالى فإن لم تكونوا
دخلتم بهن فلا جناح عليكم فقال منهم قائلون إنه راجع إلى الربائب دون أمهات
النساء وقال آخرون منهم هو راجع إليهما ثم اتفق الجميع منهم على أنه إذا رجع
174

إلى أمهات النساء وجب فساد نكاحهن ولم يلجأ من أفسده برجوع الحكم إليه إلا إلى
ظاهر ما علق به من التحريم المذكور في أول الآية وهو قوله تعالى حرمت عليكم
أمهاتكم وكذلك تحريم نكاح المشركات قد عقل منه فساد العقد عليهن
قال ابن عمر وقد سئل عن نكاح النصرانية فقال حرم الله المشركات على
المؤمنين ولا أعلم من الشرك شيئا أعظم من قول المرأة عيسى أو عبد من العباد الله
وكذلك قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء من حمله على الوطء أفسد
به النكاح بعد الوطء ومن حمله على العقد دون الوطء منع من تزويجها بعد
عقد الأب عليها ولا يمنعه بعد وطئها بالزنا وكذلك من حرم نكاح الزانية منهم لم
يرجع في إفساد نكاحها إلا إلى قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة إلى قوله
تعالى وحرم ذلك على المؤمنين
وكذلك قوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح يعني في العدة حتى يبلغ
175

الكتاب أجله وقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا عقلت الأمة من ظاهره
أن ما كان من هذه العقود اقتضى فساد العقد وعقلت الصحابة من ظاهر قول
النبي صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب مثلا بمثل مع ذكره الأصناف الستة فساد البيع فيها إذا
عقد عليها على الوجه الذي حظره الخبر وقال في الصرف لا تبيعوا غائبا بناجز وقال
إذا اختلف الصنفان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد وحاجوا ابن عباس في تجويزه الصرف
بهذا الخبر ولم يخالفهم ابن عباس في مقتضى لفظ الخبر أنه يوجب فساد البيع وإنما
عارضهم بخبر أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ربا إلا في النسيئة ثم لما تواتر عنده
الأخبار بذلك رجع عن قوله في الصرف وعقل السلف من نهيه عن الدين بالدين
فساد العقد إذا حصل على هذا الوجه بعد الافتراق وكذلك نهيه عن بيع ما لم
176

يقبض وعن بيع الغرر وبيع المجر ما في البطون ونحو ذلك من البياعات ولم
يرجعوا في افسادها إلا إلى ظاهر النهي
ونظائر ذلك في القرآن والسنن أكثر من أن تحصى فهذا يدل على أنه كان من
مذهبهم أن ظاهر النهي يقتضي فساد ما تناوله من هذه العقود وكذلك احتجاج أصحابنا
في كتبهم في افساد هذه العقود بظاهر النهي دون غيره يوجب أن يكون مذهبهم فيه
ما وصفنا ومن أصل أصحابنا أن النهي وإن منع جواز هذه العقود والقرب إذا تناولها
فإنه غير مانع من وقوعها على فساد وقد ذكر محمد هذا المعنى في كتاب الصوم فقال
في نهي النبي عليه السلام من صوم يوم النحر وأيام التشريق إنه لولا أنه إذا صام فيهن
كان صومه صوما لما كان للنهي معنى وقال مع ذلك إنه إن صام هذه الأيام عن صوم
واجب عليه في ذمته لم يجزه فدل ذلك من قوله على معنيين
أحدهما أن ظاهر النهي لا يمنع وقوع المنهي عنه على فساد
والثاني أنه يمنع جوازه عن واجب عليه
وكان أبو الحسن رحمه الله يقول إن ظاهر النهي يدل على فساد ما تناوله على أن
المنهي عنه غير مجزئ عن فاعله إلا أنه قد قامت الدلالة على أن النهي إذا لم يتناول معنى
177

في نفس العقد أو القربة المفعولة أو ما هو من شروطها التي يخصها لم يمنع جواز
ذلك نحو البيع عند أذان الجمعة وتلقى الجلب وبيع حاضر لباد والتفريق بين السبي
لذوي الرحم المحر في البيع إذا كانوا صغارا ومثل الصلاة في الأرض المغصوبة
والطهارة بماء مغصوب وغسل النجاسة به والوقوف بعرفات على جمل مغصوب أن
كون الفعل فيها عنه في هذه الوجوه لا يمنع جوازه لأن النهي عنها لم يتناول معنى
في نفس المفعول وإنما تناول معنى في غيره وكون الإنسان مرتكبا للنهي عاصيا في غير
المعقود عليه لا يمنع وقوع فعله موقع الجواز كما أن كونه عاصيا في تركه الصلاة لا يمنع
صحة صيامه إذا صام
والدليل على صحة ما ذكرنا أن رجلا لو رأى رجلا يغرق وهو يصلي وقد كان
يمكنه تخليصه انه منهي عن المضي في هذه الصلاة ومأمور بتخليص الرجل
وكذلك لو رأى رجلا يقتل آخر ويمكنه دفعه عنه ان عليه ترك الصلاة ودفع القاتل
عمن يريد قتله فإن لم يفعل ومضى في صلاته كانت صلاته مجزئة
وكذلك لو استنفر الناس إلى عدو أظلهم من المشركين كان على من قدر على
ذلك أن ينفر إليهم فلو اشتغل بفعل الظهر في أول وقتها وترك الخروج كانت صلاته
ماضية مع كونه منهيا عن الاشتغال بها في هذه الحال
ولولا أن ذلك كذلك لكان واجبا أن لا يجوز لأحد منا فعل الصلاة في أول الوقت
إذا ألزمنا الخروج إلى طرسوس لقتال العدو وفي اتفاق المسلمين على جواز صلاة من
178

هذا وصفه دلالة على أن النهي إذا لم يتعلق بمعنى في نفس العقد أو في نفس القربة المفعولة
أو بما هو من شروطها التي تختص بها انه لا يمنع صحة العقد ووقوع القربة موقع
الجواز
ألا ترى أن تخليص الرجل من الغرق ليس من الصلاة ولا من شروطها في
شئ
ألا ترى أن من عليه تخليص الغريق لو اشتغل بالصلاة أيضا كان عاصيا في
اشتغاله عن تخليصه وأن أذان الجمعة ليس من نفس البيع ولا من شرطه فلم يفسد
البيع من أجله وان كان منهيا عنه لأن المعنى فيه الاشتغال عن صلاة الجمعة لا
البيع لأنه لو لم يعقد البيع في ذلك الوقت واشتغل بغيره كان النهي قائما في اشتغاله بغير
الصلاة فعلمت أن النهي إنما تناول الاشتغال عن الجمعة لا البيع نفسه
وكذلك النهي عن تلقي الجلب وبيع حاضر لباد إنما هو لأجل حق الغير لا
لأجل البيع
وكذلك هذا في استيام الرجل على سوم أخيه انه منهي عنه ولو عقد البيع على
هذا الوجه كان العقد صحيحا مع كونه منهيا عنه لأن النهي عنه إنما تعلق لحق المساوم لا
بالعقد نفسه
وكذلك في الخلع إذا وقع على أكثر من المهر الذي تزوجها عليه كان جائزا مع
الكراهة لأنه لم تتعلق كراهته بمعنى في العقد إنما تعلق بالذي أخذته أقل مما أعطت
179

ألا ترى أن مهرها لو كان مثل هذا أو أكثر لجاز له أن يخلعها به إذا لم يكن النشوز من قبله
ونظائر ذلك كثيرة وفيما ذكرنا تنبيه على المعنى في أشباهه فصار ما ذكرنا أصلا في
هذه المسائل
ثم العقود وما سبيله أن يفعل على وجه القربة إذا فعلت على وجه منهي عنها على
وجوه فمنها ما يكون حاله ما وصفنا من تعلق النهي بمعنى في غير العقد وفي غير
شروطه التي تخصه فلا يمنع جواز العقد
ومنها ما يتعلق النهي فيه بمعنى في نفس العقد أو في شروطه التي تخصه فهذا على
وجهين
فما كان منه مختلفا فيه أنه جائز أو غير جائز وهو مما يلحقه الفسخ ويسوغ الاجتهاد
فيه فإن كونه منهيا عنه لا يمنع وقوعه على فساد ويجب فسخه مع ذلك
ومنها ما لا يلحقه الفسخ بعد وقوعه
فأما ما يلحقه الفسخ من ذلك مما تعلق النهي فيه بمعنى في نفس العقد وفي شروطه
التي تخصه فكبيع العبد بالخمر والخنزير بثمن مجهول وبيع الغرر وبيع ما ليس عند
الإنسان فهذا تعلق النهي فيه بنفس المعقود عليه لأن المعقود عليه بدل ومبدل عنه فإذا
جعل الخمر والخنزير والمجهول والغرر وما ليس عنده بدلا وهو منهي عنه فقد تعلق النهي
بنفس المعقود عليه فأوجب فساده
وأما شروطه التي تخصه فنحو القبض والأجل وإلحاق شرط به لا يوجبه العقد فإذا
باع إلى أجل مجهول أو باع ما لم يقبض أو شرط أن لا يبيع ولا يهب أو شرط أن لا يسلم
إلى المشترى ونحو ذلك من الأمور التي يوجبها العقد فمتى تعلق النهي بهذه
180

الأوصاف أوجب فساد البيع ولا يمنع ما تناول النهي من هذه العقود وقوعها على فساد
لأن هذه كلها عقود مختلف فيها
قال أبو يوسف في بيع العبد بالخمر والخنزير إنه مختلف فيه لأن من الناس من
يجيز البيع في مثله بالقيمة والبيع إلى العطاء والدياس ونحو ذلك مختلف فيه فمن
الصحابة من أجاز ذلك ويروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في البيع إلى العطاء
أنه جائز فلما كان كذلك لم يمنع ما تعلق به من النهي الذي تناول نفس المعقود عليه أو
بعض شروطه من وقوعه على فساد وإنما كان هذا هكذا عندهم من قبل أن الدلالة قد
دلت على أن كل عقد يجوز أن تلحقه إجازة بحال فإن كونه منهيا عنه لا يمنع وقوعه
على فساد ووقوع الملك به عند القبض إذا وجد التسليط من مالكه لمشتريه على
ذلك
والبيوع المختلف فيها وما يسوغ الاجتهاد فيه قد تلحقه الإجازة بحال لأن قاضيا لو
قضي بجوازه نفذ حكمه وصح وإن كان فاسدا عندنا قبل حكم الحاكم به فصار
كالبيع الموقوف الذي يجوز أن تلحقه الإجازة من جهة من وقف عليه فيملك مشتريه بدله
إذا قبضه وقد بينا وقوع الملك بالعقد الفاسد إذا اتصل به القبض في مواضع من غير هذا
الكتاب
واستدل أبو يوسف على ذلك بأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة واشترطت
الولاء لمواليها ثم أعتقتها ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجاز عتقها وقد كان البيع
فاسدا بشرطها الولاء لهم هذا معنى قضية بريرة عندنا وان كانت الألفاظ الواردة فيها
181

مختلفة فهذا الضرب من العقود يقع فاسدا ويملك به المعقود عليه عند القبض
وكذلك النكاح الفاسد إذا اتصل به الوطء تعلق به حكم النكاح الصحيح في باب لزوم
المهر ووجوب العدة وثبوت النسب
وكذلك الكتابة الفاسدة إذا اتصل بها الأداء أعتق به العبد وان وقعت في الأصل
على فساد
وضرب آخر مما يتناوله النهي فلا يقع رأسا مثل بيع العبد بالحر والميتة والدم
لأن هذه ليست بعقود إذ غير جائز أن تلحقها الإجازة بحال لأن أحدا لا يجيز بيع
العبد بهذه الابدال لا بقيمة ولا غيرها فلما لم يكن عقدا بحال صار لغوا لا حكم له
ومن أصحابنا من يعبر عن هذه العقود بأن قال هي على ثلاثة
منها عقد جائز وهي المبايعات الصحيحة ومنها عقد فاسد وهي كشراء العبد
بالخمر والخنزير وبالأثمان المجهولة أو إلى آجال مجهولة أو يشرط فيها شروطا
فاسدة وسائر العقود الفاسدة التي يقع الملك فيها عند القبض ومنها عقد باطل وهو
الشراء بالخمر وبالميتة ولا يتعلق به حكم الملك قبض أو لم يقبض فيفرقون بين
الفاسد والباطل وهذا إنما هو كلام في العبارة ولا يضيق أن يعبر بهذه العبارات
182

ويفرق بين معانيها للأفهام وأما ما كان من ذلك واقعا على وجه منهي عنه مما لا يلحقه
فسخ فإن كونه واقعا على وجه منهي لا يمنع صحة وقوعه لما ذكرنا من أن كونه منهيا
عنه لا يمنع وقوعه على وجه الفساد وما يقع فاسدا فإنه قد تتعلق به أحكام العقد
الصحيح في باب وقوع الملك به عند القبض فيما يملك وإنما يجب فسخه بعد وقوعه لانتفاء
أحكام الصحة عنه فما يلحقه الفسخ فهو واقع فيصير في حكم الصحيح من حيث صار
بحال لا يلحقه الفسخ وذلك مثل الطلاق في الحيض فإنه وان تعلق النهي لمعنى
في نفس الطلاق وفيما هو من شروطه إذا أراد إيقاعه على الوجه المسنون فإن كونه
منهيا عنه لم يمنع وقوعه كما لا يمتنع ذلك في سائر العقود التي يلحقها الفسخ على
الوجه الذي بينا إلا أن ذلك لما لم يجز أن يلحقه الفسخ نفذ وصح وقد نهى النبي عليه
السلام عن الطلاق في الحيض وأجاز مع ذلك طلاق ابن عمر وكذلك في الحرية
183

إذا أوقعها على وجه منهي عنه مثل أن يعتقه في المرض ولا مال له غيره قاصدا به
اضرار الورثة فينفذ عتقه وان وقع منهيا عنه
وقال عليه السلام في الذي أعتق ستة أعبد له عند موته لو أدركته ما صليت
عليه وأعتق مع ذلك ثلث ذلك الرقيق مع كونه منهيا عنه ومتى وقعت هذه الأمور التي
لا يلحقها الفسخ بعد وقوعها كالطلاق والعتق والعفو من دم العمد على ابدال مذكورة منهي
عنها كانت واقعة نافذة لا يبطلها بطلان البدل
وإن كان مما لا يصح دخوله تحت العقد نحو أن يطلق امرأته على خمر أو ميتة أو
يعتق عبده على خمر أو يعفو من دم عمد على خمر أو ميتة فيقع الطلاق وينفذ العتق
ويصح العفو ولم يستحق عنها بدلا لأن هذه الأشياء مما لا يصح أن تكون بدلا ولم يكن
184

من العاقد غرور للمعقود له لعلمه بأنه خمر وميتة لا يستحقها من جهة العقد فلم يكن
هذا عقدا بحال وإنما وقع به الطلاق ونظائره مما وصفناه من حيث علقه بشرط القبول لأن
هذه الأشياء مما تعلق على الاخطار والشروط
ألا ترى أنه يصح تعليقها بدخول الدار ونحوه لأنها مما يصح إيقاعها بالقبول
دون شرط البدل فلا يقدح فساد البدل في صحة وقوعه ولأنه لما علقه بشرط القبول
صار كقوله إن قبلت فأنت حر
وأما عقد النكاح إذا وقع على خمر وميتة ونحوهما فإنه يشبه العتق ونظائره الواقعة
على هذه الابدال من وجه واحد وهو أنه يصح بالقول من غير شرط البدل فلا يقدح فساد
البدل في صحته ويفارقها من جهة تعلقها بالأخطار والشروط لأن عقد النكاح لا
يتعلق بالأخطار ولا على الشروط الفاسدة كقوله إن دخلت الدار فقد تزوجتك فإنما جاز
مع فساد البدل لأحد المعنيين اللذين ذكرناهما في العتق ونظائره وهو جواز وقوعه بالقول
دون شرط البدل
فإن قال قائل هذا الأصل ينتقض عليك في عقود البياعات وسائر عقود
التمليكات الواقعة على أبدال إذا وقعت على خمر أو ميتة أو نحوهما لأن ما يملك بالبيع
185

من نحو العبد والدار يجوز أن يملك بالهبة من غير شرط البدل ثم لم يمنع ذلك
فساد عقد البيع لأجل فساد البدل
قيل له لو تأملت ما قلناه لعلمت بطلان هذا السؤال لأنا إنما قلنا إن
ما يصح إيقاعه بالقول على وجه على غير شرط البدل لم يقدح فساد البدل في
صحته كالطلاق والعتق والعفو عن دم العمد والنكاح لأن هذه العقود مما تصح بالقول
وأما تمليك الأعيان على جهة الهبة فإنه لا يصح بالقول دون انضمام معنى
آخر إليه وهو القبض فلم يلزم على ما قدمنا ولم يجز لنا تصحيح البيع المعقود على بدل
فاسد لأجل أن الهبة قد تصح بغير بدل لأنا لو صححناه لكان إنما يجب تصحيحه
بالقول من غير إثبات البدل فيه والقول لا تأثير له في إيجاب تمليك العين من غير
بدل وكذلك الوصية لا تلزم على هذا لأن الوصية أيضا لا تصح بالقول وإنما تحتاج في
صحة الوصية بعد القول إلى موت الموصي حتى تملك بها
فإن قال البراءة من الدين تصح بالقول ومع ذلك إذا عقدها على بدل فاسد لم
يصح كالبيع
قيل له البراء في هذا الوجه بمنزلة الهبة وإنما صحت من حيث كان الدين في ذمة
186

المبرأ وكان بمنزلة الهبة المقبوضة فلم يخل أن تكون صحتها متعلقة بالقول وبمعنى
آخر ينضم إليه
ومن جهة أخرى إن حكم الملك الواقع بالهبة مخالف لحكم الواقع بالبيع لما تتعلق
بكل واحد من الأحكام التي لا تتعلق بالآخر وليس حكم الطلاق الواقع ببدل
مخالفا لحكم وقوعه بغير بدل
وكذلك العتق والصلح من دم العمد فلما لم يختلف حكم هذه الأشياء في نفسه
سواء وقعت ببدل أو غير بدل وجب أن لا يؤثر فساد البدل في وقوعها على الوجه
الذي كان يقع عليه لو لم يكن هناك بدل لأن الموقع في الحالين واحد غير مختلف
الحكم في نفسه
ولما كان المملوك بالبيع حكمه في نفسه مخالفا لحكم المملوك بالهبة كان لفساد البدل
تأثير في منع صحته لأنه لا يخلو من أن يكون واقعا على غير بدل أو على بدل فاسد
على ما شرط فإن أوقعناه مع علي غير بدل كنا قد ألزمناهما عقد هبة لم يعقداها وان
أوقعناه على بدل فاسد فواجب أن يفسد البيع بفساد البدل إذ لا يصح إلا ببدل صحيح
وهذا الاعتبار الذي ذكرناه في العقود واجب فيما سبيله أن يكون قربة إذا أوقعه على وجه
منهي عنه في أن النهي متى تناول معنى في نفس الفعل أو في شروطه التي تخصه فما
187

كان من ذلك مختلفا فيه فإنه يقع على فساد ولا يجزئ عن الواجب عليه في ذمته وما لا
خلاف فيه أنه من شروطه وبه تتعلق صحته فإنه متى أخل به بطل حكم فعله رأسا فصار
بمنزلة ما لم يفعله
فالأول مثل الصلاة عند طلوع الشمس والصلاة بغير قراءة هي فاسدة إذا
وقعت على هذا الوجه ولم يخرجها الفساد من ثبات حكمها على فساد ولم يجزه من
ذلك عن الفرض وإن ضحك فيها أعاد وأعاد الوضوء عند أبي حنيفة وأبي
يوسف
والثاني مثل الكلام في الصلاة والصلاة بغير طهارة فوجود الكلام فيها يمنع بقاء
حكمها ناسيا كان أو عامدا وكذلك عدم الطهارة يمنع صحة فعلها وثبوت حكمها لأنه
لا خلاف ان تر ك الكلام فيها من شروطها وان وجود الطهارة شرط في صحة فعلها
فمتى أخل بذلك خرج منها وكان نظيرها من عقود البياعات العقد على حر وميتة
ودم ومدبر
188

فصل
في الدلالة على صحة ما قدمنا في أصل الباب
والدليل على صحة ما قدمنا من أن ظاهر النهي يقتضي فساد ما تعلق به قول الله
تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك
بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا إلى آخر الآية
قد حوت هذه الآية الدلالة على صحة ما ذكرنا من أربعة أوجه
أحدها قوله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس فنهى عن أكل الزيادة المأخوذة عن عقد الربا لما تقدم من نهيه عنه من
قوله تعالى لا تأكلوا الربا فدل أن ظاهر نهيه قد اقتضى وجوب الامتناع من التصرف
فيما أخذ عن عقد الربا
والثاني قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا فذم من سوى بين الربا
المنهى عنه وبين البيع المباح ودل ذلك على أن المباح من ذلك والمحظور لا يستويان في
الحكم الواجب فظاهر اللفظ أن يكون المحظور مخالفا للمباح
فإذا كان وقوعه على الوجه المباح يوجب صحته فواجب أن يكون وقوعه على الوجه
المحظور موجبا لفساده بما في فحوى الآية من إيجاب التفرق بينهما من هذه الجهة
والثالث قوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا فاقتضى ظاهر النهى رد
189

الزيادة المأخوذة عن عقد الربا إلى بائعها وذلك لا يكون إلا مع فساد العقد وكان ذلك
متعلقا بظاهر النهي
والرابع قوله تعالى وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم لما نهى عنه حكم برد
رأس المال فلولا أن ظاهر النهي قد اقتضى الفساد لكان مملوكا بعقد صحيح لا يجب رده
وكذلك قال النبي عليه السلام كل ربا في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا أضعه ربا
العباس فلما تعلق الفساد فيما ذكرنا بما دلت عليه الآية بالنهي ثبت أن ظاهر النهي
يقتضي فساد ما تناوله حتى تقوم دلالة الجواز
والدليل على ذلك أيضا ان هذه العقود والقرب لا يخلو من أن يكون سبيلها أن
تكون مفعولة على وجه الفرض أو الندب أو الإباحة وكونه منهيا عنه يخرجه
من أن يكون مفعولا فرضا أو مباحا إذ غير جائز أن يكون المنهي عنه هو الفرض أو
الندب أو المباح
فلما كان ذلك كذلك وجب ألا يكون فاعلا للمأمور به ولا لما قصد إلى فعله
190

من ندب أو إباحة فوجب أن يبقى ما كان عليه في ذمته من فرض على ما كان عليه وأن
لا تصح له قربة ولا فعل المباح فإذا كان ما فعله عقدا من عقود المعاملات فيما بين العباد
الذي سبيله أن يفعله على الوجه المباح فهو إذا كان منهيا عن العقد نفسه أو ما يتعلق به
من شروطه فهو غير فاعل في هذه الحال للعقد المباح فينبغي أن لا يصح عقده على هذا
الوجه وأن لا يزول ملك مالكه عنه بهذا العقد وذلك لأن الملك الواقع بذلك إنما هو
حكم متعلق بإباحة الله تعالى إياه وحكمه به وإذا حكم بنهيه فغير جائز وقوع الحكم
الذي يتعلق به من إيقاع الملك فوجب أن يقع فاسدا لا حكم له
وكذلك نقول في سائر البياعات الفاسدة إنها لا توجب الملك ولا يتعلق بها حكم
بنفس العقد ثم إذا اتصل به القبض ثبت للمقبوض حكم الملك من وجه لقيام الدلالة
ونحن فإنما كلامنا هاهنا في إفساد العقد بظاهر النهي وذلك موجود في كل عقد منهي
عنه لمعنى في نفس المعقود عليه
ودليل آخر وهو أن النهي يتناول ما يتعلق به على وجه النهي بأن لا يفعله
ومعلوم أن ما وقع من الإيجاب والقبول لهذه العقود لا يصح النهي عنه بعد وقوعه وإن
كان قبل وقوعه منهيا عنه وعن التصرف فيه فإذا وجب ذلك كان لزوم فسخه حقا لله تعالى
ولزم الحاكم إذا اختصموا إليه أن يمنع من قبضه والتصرف فيه وإذا لم يستحق قبض المبيع
لم يصح العقد وان قبضه ثم اختصما كان ممنوعا من سائر وجوه التصرف وكان المنع من
ذلك حقا لله تعالى متعلقا بظاهر النهي لأنه معلوم أن النهي إنما يتناول أحكام العقد
المتعلقة به وإذا كانت هذه الأحكام ممنوعة بعد العقد بظاهر النهي وجب فسخه ما لم تقم
الدلالة على نفاذ تصرفه
191

وهذا هو معنى قولنا إن العقد واقع على فساد لأن النهي إنما تناول العقد على
الوجه الذي قدمنا
وأما إذا تناول النهي معنى ليس هو نفس المعقود ولا من شرائطه وإنما هو معنى في
غيره فخارج عن هذا الأصل لما قدمنا فيما سلف وهو أن كونه فاعلا لما نهي عنه لا يمنع
صحة فعله لشئ آخر لم يتعلق النهي به من عقد أو قربة
ألا ترى أن تارك الصلاة لا يمنع تركه لصلاته صحة صومه وكذلك سائر الفروض
متى ارتكب النهي في ترك بعضها لا يمنعه من صحة فعل ما فعل منها
ألا ترى أن تحريم نكاح الأمهات وذوات المحارم والمعتدة لما تعلق بمعنى في نفس
المعقود عليه وبما هو من شروطه منع صحة العقد
وأن نكاح من خطب على خطبة أخيه وإن كان منهيا عنه لم يمنع ذلك صحة قوعه
لأن النهي تناول معنى في غير المعقود عليه فبان بذلك صحة ما وصفنا
192

الباب الرابع والثلاثون
في الناسخ والمنسوخ
وفيه فصل الكلام في ماهية النسخ
193

باب الكلام في الناسخ والمنسوخ
فصل
في الكلام في ماهية النسخ
اختلف العلماء في معنى النسخ في موضوع اللغة
فقال قائلون هو النقل ومنه قولهم نسخ الكتاب أي نقل ما فيه إلى غيره
فيطلقون اسم النسخ والنقل على ذلك وقال آخرون معناه الإبطال ومنه قولهم
نسخت الرياح الآثار
وهذه الألفاظ متقاربة المعاني وأيها كان المعنى في اللغة فإنه متى استعمل في نسخ
الأحكام فهو مستعمل فيها على وجه المجاز دون الحقيقة وذلك لأنه إن كان معنى النسخ
في موضوع اللغة هو النقل فهذا المعنى بعينه غير موجود في نسخ الحكم لأن للنقل معنى
معقولا في اللغة لا تصح حقيقته في نسخ الحكم ولا يخلو حينئذ من أن يكون المراد به
نقل الحكم نفسه أو نقل المتعبد به عن الحكم الأول إلى غيره
فإن كان المراد الحكم فإن الحكم ليس هو معنى يصح نقله في الحقيقة لأن النقل
المعقول في اللغة هو نقل الشئ من مكان إلى غيره وذلك مستحيل في الحكم وإن كان
195

المراد نقل المتعبد بالحكم إلى حكم غيره فإنه لم يحصل فيه نقل بأن يتعبد بحكم غير
الأول
فعلمت أن الاسم إن كان موضوعا للنقل في أصل اللغة حقيقة فإنه مجاز في
الحكم فكأنه إنما سمي بذلك على جهة التشبيه لأن النقل يوجب تغيير المنقول عن
الحال التي كان عليها إلى غيرها فشبه تغيير الحكم في الثاني بالنقل
وعلى أن نسخ الكتاب إنما يسمى نقلا مجازا أيضا لا حقيقة لأن المكتوب بدءا هو باق في
موضعه غير منقول عنه وإنما سمي ما نسخ منه منقولا تشبيها له بالشئ المنقول من مكان
إلى غيره فلم يحصل معنى النسخ أنه نقل ما في الكتاب ولا في الأحكام إلا مجازا
وأما من قال النسخ هو الإزالة في اللغة فإنه لا يرجع منه أيضا إلا إلى المجاز في اللغة
والحكم جميعا لأن قولهم نسخت الرياح الآثار قد يطلق في الريح إذا أعفت آثار
الديار بأن سفت عليها التراب فأخفتها قد وهي باقية كما يقال عفت الديار ودرست
ويدل عليه أيضا أنه لا يصح إطلاق النسخ على كل مزال لأنه لو أزال جسما من مكان إلى
غيره لم يجز أن يقال له أنه قد نسخه فلما كان من الأشياء المزالة ما ينتفي عنه اسم
النسخ دل ذلك على أن إطلاق لفظ النسخ في إزالة الريح الأثر مجاز لا حقيقة وهو في الحكم
أيضا كذلك لأن الحكم الأول لا يصح إزالته بعد ثبوته إذ كان المأمور به بعينه غير جائز
أن يكون منهيا عنه فلم يكن هناك حكم أزيل بالنسخ وإنما النسخ يبين أن مثل ذلك
196

الحكم لا يجب في المستقبل فلا يكون النسخ بمعنى الإزالة على هذا الوجه إلا تشبيها له بما
كان ثابتا في موضوع فأزيل عنه إلى غيره
ويدل على ما ذكرنا أيضا أن إزالة الشئ في اللغة لا يقتضي ارتفاع عينه ولا إبطاله لأنه
يصح أن تقول أزلت الحجر عن موضعه وهو باق العين في موضع غيره والحكم الأول
ليس بباق بعد النسخ فلا يصح فيه معنى الإزالة إلا على وجه المجاز
وأما من قال معناه الإبطال في اللغة واستدل عليه بقولهم نسخت الشمس الظل
فإنه يوجب أيضا أن يكون هذا اللفظ مجازا لأنهم قد قالوا نسخت الكتاب وليس فيه إبطال
شئ وقال الله سبحانه وتعالى إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ولم يرد إبطال
شئ بل معناه إثبات مقاديرها وما يستحق عليها من ثواب أو عقاب والله أعلم
وهو في معنى نسخ الكتاب وإثبات مثله في هذا الوجه أولى بمعنى اللفظ من الإبطال
ولو ثبت أيضا أن معناه الإبطال لما صح إطلاقه في الأحكام إلا مجازا لأن الحكم الأول
لا يصح إبطاله بحال وإن ما ثبت في الثاني حكم غير الأول والأول لم يكن قط
مرادا في الثاني فليس هناك حكم أبطل بالنسخ والنسخ في الشريعة هو بيان مدة الحكم
الذي كان في توهمنا وتقديرنا جواز بقائه فتبين لنا أن ذلك الحكم مدته إلى هذه الغاية وأنه
لم يكن قط مرادا بعدها
ولا يجوز أن يكون لنسخ الأحكام معنى غيره لأنه غير جائز أن يكون الحكم
الأول مرادا في الوقت الثاني الذي ورد فيه النسخ ثم أبطله ونهى عنه لأن ذلك هو
197

البداء ولا يجوز على الله تعالى إذ هو العالم بالعواقب فغير جائز أن يبدو له علم شئ لم
يكن علمه في الأول فثبت بذلك أن معنى النسخ في الشرع ما وصفنا
وعلى أي وجه كان معنى النسخ في اللغة فإنه لا يخل بمعناه في الشرع لأنه إذا كان
معلوما وقوعه في الشرع على الحد الذي وصفنا وقد أريد به معنى ليس الاسم
موضوعا له في اللغة فقد صار اسما شرعيا قال الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت
بخير منها أو مثلها وليس في اللغة أن توقيت المدة فيما كان يظن بقاؤه ودوامه يسمى
نسخا فثبت أنه اسم شرعي ويدل على أنه اسم شرعي إطلاقه في أوامرنا لمن تلزمه
طاعتنا من عبيدنا ومن تحت أيدينا وأن هذا الاسم مخصوص بأحكام الشرع
وليس كل ما بين به مدة الحكم يسمى نسخا لأنه لو كانت المدة معلومة مع ورود
الأمر بأن قال صلوا في هذا اليوم ولا تصلوا في غيره لم يكن زوال الأمر بمضي الوقت
نسخا لأنا قد علمنا عند ورود الأمر توقيت مدته وإنما يطلق اسم النسخ فيما يكون في
توهمنا وتقديرنا تجويز بقائه على الدوام فيأتي الحكم الناسخ ويبين أن ما كان في تقديرنا من
بقاء الحكم غير ثابت وأن مدة الحكم الأول قد انقضت
ومن الناس من يظن أن النسخ رفع الحكم وهذا جهل مفرط وذلك لأن ما ثبت من
الأحكام لا يجوز رفعه لأنه يدل على البداء وإنما يدلنا النسخ أن الحكم المنسوخ لم يكن
مرادا في هذا الوقت
198

الباب الخامس والثلاثون
في
ما يجوز نسخه وما لا يجوز
وفيه فصل حكم الألفاظ الواردة فيما يجوز نسخه
من الأحكام وما لا يجوز نسخه منها
199

باب
القول فيما يجوز نسخه وما لا يجوز
الأصل في هذا الباب أن أفعال المكلفين إذا وقعت عن قصد فاعلها فهي على ثلاثة
أنحاء في العقل
منها واجب لا يجوز عليه التغيير والتبديل كتوحيد الله عز وجل وتصديق رسله وشكر
المنعم واجتناب المقبحات في العقول
ومنها ممتنع محظور انقلابه عن حال نحو كفران النعمة والكذب وتكذيب رسل الله
وارتكاب المقبحات في العقول فهذان البابان يجريان في حكم العقل على شاكلة واحدة لا
يجوز عليهما التغيير والتبديل ولا يصح مجئ العبادة فيهما بخلاف ما في العقول من
حكمها ومن أجل ذلك لم يصح نسخهما وذلك لأن العقل حجة لله تعالى فما حسنه من
شئ فهو حسن وما قبحه فهو قبيح والسمع حجة لله تعالى أيضا وغير جائز أن تتضاد
حجج الله تعالى ولا يجوز أن تتنافيا وفي فثبت أن السمع لا يرد برفع ما في العقل وجوبه
ولا إيجاب ما في العقل حظره فلذلك قلنا إن هذين الوجهين لا يجوز ورود النسخ فيهما
201

وأما الوجه الثالث فهو ما يجوز العقل إيجابه تارة وحظره أخرى وإباحته مثل
الصلاة والصيام والحج وذبح البهائم وما جرى مجرى ذلك فهذا الضرب مما يجوز ورود
النسخ فيه على الوجه الذي كان يجوز العقل مجئ الشرع به وإنما صار النسخ يتطرق
على هذا الوجه لأن حكمه مردود إلى ما في علم الله تعالى من المصلحة فإذا علم المصلحة
في إيجابه أوجبه وإذا علمها في حظره بعد الإيجاب حظره وإذا علمها في إباحته دون إيجابه
وحظره فعل فلذلك جاز أن يأمر بصيام شهر رمضان والصلوات في أوقاتها المعلومة ويحظر
صيام يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق ويحظر الصلاة عند طلوع الشمس وعند
غروبها ويبيح فعل الصيام في غير هذين الوقتين وكذلك الصلاة فلذلك ليس يمتنع
أن يتعبد الله تعالى بفعل هذه الأشياء على وجه الإيجاب ثم ينسخه بحظرها أو إباحتها
ويدلك على الفرق بينه وبين الوجهين الأولين أنه جائز ورود العبادة بلزوم الصلاة
والصيام بعض المكلفين وحظر هما على بعضهم كنحو ما أمر الطاهر بفعل الصلاة
والصوم ونهي عنهما وهو في هذا الباب يجري مجرى سائر أفعال الله تعالى في تدبير عباده من
الغني والفقر والصحة والمرض ومن إحداث الحر والبرد وكل شئ من ذلك في وقت
دون وقت لما علم تعالى فيه من مصالح عباده فكذلك سبيل هذا الضرب الذي
يتطرق عليه مجئ العبادة به تارة وبضده أخرى على حسب المصلحة
202

كل الأولان لا يختلف حكم سائر المكلفين فيهما ألا ترى أنه لا يصح أن يكون
بعض المكلفين مأمورين بالتوحيد وتصديق الرسول عليه السلام وبعضهم منهيون عنه أو
مباحا لهم تركه والإعراض عنه وكذلك لا يصح أن يكلف بعضهم مجانبة المقبحات في
العقل من نحو كفران النعمة والكذب وتكذيب الرسل ويؤمر بعضهم بارتكابها
فلما لم يختلف حكم سائر المكلفين في هذين البابين في زمان واحد لم يختلف حكم سائر
المكلفين فيها في الأزمنة المختلفة فلم يجز من أجل ذلك ورود النسخ فيهما ولما جاز في
غيرهما مما وصفنا اختلاف أحكام المكلفين فيها في الزمان الواحد جاز مثله في الأزمنة
المختلفة فيتعبدون بالحظر في زمان وبالإيجاب أو الإباحة في زمان غيره
وأما الخبر الوارد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ينتظم معنيين أحدهما العبادة
باعتقاد مخبره على ما أخبر به فهذا ما لا يجوز نسخه ولا تبديله ولا التعبد فيه بغير الاعتقاد
الأول
والمعنى الآخر حفظه وتلاوته وهذا مما يجوز نسخه بأن يأمر بالإعراض عنه وترك
تلاوته حتى يندرس على مرور الأزمان فينسى كما نسخت تلاوة سائر كتب
الله تعالى القديمة كصحف إبراهيم وكثير من الأنبياء عليهم السلام قد نسخت
تلاوة حتى صارت لا يتلوها أحد ولا يحفظها
203

وإنما لم يجز ورود العبادة بنسخ اعتقاد معنى الخبر وإن جاز ورودها بنسخ الخبر الذي
هو التلاوة من قبل أنه لو جاز ذلك لكان فيه إيجاب التعبد باعتقاد الشئ على خلاف
ما هو به لأن خبر الله تعالى لا بد أن يكون صدقا يلزمنا عند وروده اعتقاد مخبره على ما هو
به وهذا لا يجوز على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم ولو جاز أن يأمرنا باعتقاد ذلك لجاز
أن يأمرنا بالإخبار عنه على حسب ما أمرنا باعتقاده فيكون أمرا لنا بالكذب ولو جاز أن
يأمرنا بالكذب لجاز أن يفعله هو تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
فلذلك قلنا إن معاني الأخبار الواردة من الله تعالى لا يجوز ورود النسخ على
اعتقادنا فيها بأن يتعبدنا باعتقاد ضد مخبرها لأن المخبر عنه لا يجوز عليه التغيير
والتبديل بتغير الأحوال والأزمان
فلذلك لم يجز أن نعتقد فيها خلاف ما أوجبه ورود الخبر وهذا نظير ما أمر الله تعالى
به من العبادات واستقر عليه أحكامها ومضى عليها أوقات فعلها فغير جائز أن ترد
العبادة بنسخ اعتقاد صحتها وثبوتها في الأوقات الماضية لأن في نسخ ذلك الاعتقاد وجوب
اعتقاد فساد ما أمر الله تعالى به واعتقاد ذلك قبح لا يجوز ورود العبادة به فلذلك كان
الأمر فيه على ما وصفنا ومما يبين أن اعتقاد معاني الأخبار الواردة عن الله تعالى وعن رسوله
صلى الله عليه وسلم جار مجرى التوحيد وتصديق الرسل وسائر ما لا يجوز فيه النسخ والتبديل فإنه مخالف لما
له في العقول حالان من الأمور التي يجوز ورود العبادة بها تارة وبأضدادها أخرى أنه يمتنع
الأمر بالاعتقادين في خطاب واحد لزمانين * مختلفين فلا يجوز أن يقول اعتقدوا في خبري
هذا أنه على ما هو عليه إلى مدة كذا فإذا انقضت المدة فاعتقدوا فيه ضده كما لا
يجوز أن يقول اعتقدوا صحة التوحيد وتصديق الرسل إلى وقت كذا فإذا انقضى الوقت
فاعتقدوا ضدهما ولا يمتنع أن يقول صلوا وصوموا إلى وقت كذا فإذا مضى الوقت
204

فلا تصوموا ولا تصلوا فثبت أن اعتقاد معنى الخبر يجري في حكم العقل على شاكلة
واحدة كاعتقاد التوحيد والعدل وتصديق الرسل عليهم السلام فلا يجوز ورود النسخ على
واحد منهما
ومن جوز النسخ في اعتقاد معاني خبر الله تعالى وخبر الرسول عليه السلام فقد
وصف الله تعالى بالبداء وأنه ظهر له في الثاني ما لم يكن علمه قبل لأن البداء معناه
الظهور قال الله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم يعني إن تظهر لكم
وقال تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ومن جوز البداء
على الله تعالى فهو خارج عن ملة الإسلام
فإن قال قائل قال الله تعالى يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب
وهذا يدل على جواز نسخ الأخبار إذا شاء الله تعالى نسخها
قيل له ليس في الآية دلالة على ما ذكرت لأنه لم يقل تعالى يمحوا الله ما يشاء
من معاني الأخبار الواردة من جهته فإن تعلقت بعمومه فجعلته على الخبر وغيره فالواجب
عليك أولا أن تثبت أن نسخ معاني الأخبار مما يجوز أن يشاءه الله وقد دللنا آنفا على أن
هذا سفه وقبح لا يجوز أن يشاءه الله تعالى والاحتجاج بظاهر في هذا المعنى باطل
ساقط وعلى أنه لو ثبت أن المراد نسخ الخبر لكان المعنى نسخ تلاوته لا مخبره لأنه
ليس هو الخبر وقد بينا جواز نسخ التلاوة وامتناع جواز نسخ اعتقاد مخبره
205

وقد روي في تأويل هذه الآية عن جماعة من السلف أقاويل ليس في شئ منها أن
المراد نسخ الأخبار لأن ابن عباس قال معناه إن الله تعالى يبدله ما يشاء من القرآن
فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبد له وعنده أم الكتاب يعني جملة ذلك عنده في أم
الكتاب
وعن زيد بن أسلم يمحو الله ما يشاء مما ينزله على الأنبياء ويثبت ما يشاء مما
ينزله على الأنبياء وعنده أم الكتاب لا يغير ولا يبدل
وعن الحسن قال يمحو الله من جاء أجله فيذهب ويثبت الذي هو حي يجري
إلى أجله
فصل من هذا الباب
قد بينا القول فيما يجوز نسخه ومالا يجوز نسخه بما فيه كفاية
ونبين الآن حكم الألفاظ الواردة في القبيل الذي يجوز نسخه من الأحكام وما لا يجوز
نسخه منها
فنقول إن الحكم الوارد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن مؤقتا ولا مقرونا
206

بلفظ التأبيد في الأزمان المستقبلة فإن الذي يجب على سامعه من المكلفين له والمتعبدين به
لزوم اعتقاد جواز نسخه ما دام النبي عليه السلام حيا كقوله صلوا وصوموا في
مستقبل الأيام ونحو ذلك وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم نعلمه وأما إذا
قرنه بوقت بعينه نحو أن يقول صلوا هذه السنة في كل يوم أو يقول صوموا
شهر رمضان القابل فإن هذا لا يجوز ورود النسخ فيه عندنا بحال وسنفرد القول فيه بعد
هذا
وأما إذا قال صلوا الظهر أبدا في مستقبل أعماركم ومن بعدكم إلى أن تقوم الساعة
فإن من الناس من يجيز ورود النسخ في مثله إذا كان هذا القول من شرائع الأنبياء عليهم
السلام الذين كانوا قبل نبينا خاتم النبيين ولا يجوز النسخ بعده
ومن الناس من لا يجيز ورود النسخ على مثل هذه الألفاظ
فأما الوجه الأول الذي بدأنا بذكره في هذا الفصل فإنما جاز نسخه لأنه لما لم يحصره
توقيت ولا مدة وكان جواز النسخ قائما في مثله وجب علينا ألا نعتقد عند وصوله إلينا
بقاء حكمه على التأبيد مع بقاء النبي عليه السلام بل الواجب علينا في مثله اعتقاد جواز
نسخه
وإذا كان ذلك كذلك جاز ورود النسخ فيه حتى إذا توفي النبي صلى الله عليه وسلم قبل نسخه
استقر حكمه على التأبيد لأن النسخ لا يجوز بعد موته عليه السلام
وأما إذا قرنه بالتأبيد فقال افعلوه أبدا أنتم ومن يحدث بعدكم إلى
207

أن تقوم الساعة فإن الأظهر في مثله أنه لا يجوز نسخ ما كان هذا وصفه لأنه قد
ألزمنا اعتقاد بقائه مؤبدا وغير جائز أن يكون المراد بقاؤه إلى وقت ومدة لأن تجويز ذلك
يؤدي إلى إبطال دلالة الكلام على حسب ما تقدم القول فيه في إثبات العموم وامتناع
جواز تأخير بيان الخصوص فيما سلف
فإن قال قائل إن اليهود تزعم أن في التوراة الأمر بالتمسك بالسبت ما دامت
السماوات والأرض وقد ورد نسخه على لسان كثير ممن جاء بعده من الأنبياء عليهم
السلام
قيل له لم يثبت أن في التوراة هذا الذي قالوه ولو كان ثابتا لم يمنع أن يكون
اللفظ الذي ادعوه في التوراة باللسان العبراني يحتمل التأبيد ويحتمل غيره فحمله هؤلاء
على التأبيد من جهة التأويل وإذا لم يكن عندنا علم بحقيقة معنى اللفظ المذكور في التوراة
في هذا الباب لم يثبت ما ذكروه
وأيضا فلو كان ما ادعوه في ذلك ثابتا وكان العلم به واقعا لوجب أن يقع لنا العلم
به مع سماعنا لذلك كوقوع علمهم به في زعمهم فلما لم يثبت عندنا ذلك مع سماعنا لهذه
الأخبار علمنا بطلان ما ادعوه ومن أجاز ذلك في أزمان الأنبياء عليهم السلام مع ذكر
التأبيد فيه ممن وصفنا قولهم فإنما أجازه لأن علينا اعتقاد صحة ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم بعد
ذلك من الشريعة مما يخالف ذلك أو يوافقه فيصير تقدير ذكر التأبيد فيه مقرونا بجواز
النسخ كأنه قال افعلوا هذه الأفعال في الزمان المستقبل أبدا ما لم أنسخه
والصحيح عندنا هو الأول لأن هذا لو جاز مثله في العموم فيقال إنا نعتقد فيه
208

العموم إن لم يكن أراد الخصوص ولجاز في الحكم المفروض في وقت بعينه أن يقول له
افعله في ذلك الوقت ما لم أنسخه وهذا قول فاحش قبيح لا يصح فثبت بذلك ما
وصفنا
209

الباب السادس والثلاثون
في
الدلالة على جواز النسخ في الوجوه التي بينا
211

باب
في الدلالة على جواز النسخ في الوجوه التي بينا
قال أبو بكر
من ينكر النسخ فريقان
أحدهما اليهود والآخر فريق من أهل الملة من المتأخرين لا يعتد بهم
فأما اليهود فإن منهم من أنكر تجويز النسخ فيما زعم من طريق العقل
ومنهم من يجوزه في العقل إلا أنه يزعم موسى عليه السلام قد أعلمهم أن شريعة التوراة
وتحريم يوم السبت لا ينسخ أبدا فأما من منع منهم ذلك من جهة العقل فإنه ذهب
إلى أن هذا بداء ورجوع عن إرادة الشئ إلى كراهته وهذا لا يكون إلا ممن
كان جاهلا بالعواقب والله تعالى عالم الأشياء قبل كونها فإن كان المأمور به صحيحا
فالرجوع عن الصحيح لا يفعله حكيم وإن كان فاسدا لم يجز أن يشرعه الله تعالى في وقت
من الأوقات
قال أبو بكر رحمه الله وهذا الذي قالوه جهلا منهم بمعنى النسخ لأن المأمور به غير
المنهي عنه فيما يقع فيه النسخ وإنما النسخ يبين أن زمان الفرض الأول قد انقضى
213

والواجب في الزمان المستقبل غير الواجب الذي كان في الماضي وهذا لو نص عليه
فخطاب واحد كان جائزا مستقيما ألا ترى أنه لو قال تمسكوا بتحريم السبت إلى مائة
سنة ثم أحلوه كان جائزا وكذلك لا يمتنع أن تطلق القول بتحريم السبت ثم تبين الوقت
الذي انتهى إليه مدة التحريم على حسب ما علم سبحانه من مصالح العباد فيه وكما
أنه جاز أن يخالف بين أحكام العباد فيتعبد بعضهم بحكم ويتعبد بعضهم بضد
ذلك الحكم في زمان واحد نحو تحريم الصلاة والصوم على الحائض وإيجابهما على
الطاهر على حسب ما علم من مصالحهم
كذلك لا يمتنع أن يخالف بين أحكامهم في زمانين وكما جاز أن يخالف بينهم في
تغييره وأفعاله فيهم نحو أن يميت واحدا ويخلق آخر ويمرض واحدا ويصح آخر ويغني
واحدا ويفقر آخر ويفعل ذلك بواحد في زمانين مختلفين ولم يكن شئ من ذلك دليلا
على البداء وعلى الرجوع عما أراده لأن الذي أراده في الثاني غير الذي أراده في الأول
وكذلك العبادات تجري على هذا المنهاج
وأيضا فإنه قد كان مباحا لولد آدم من صلبه أن يتزوج الأخ منهم بأخته ولولا ذلك لم
يكن بينهم تناسل وهو محرم في شريعة التوراة وسائر الشرائع بعدها ولم يكن فيه ما يوجب
البداء وكذلك تحريم السبت وسائر الشرائع التي يجوز العقل حظرها تارة وإباحتها أخرى
جائز نسخها والإبانة عن مضي وقت تحريمها
وأما من زعم منهم أن موسى عليه السلام قد أعلمهم أن شريعة التوراة لا تنسخ فإنه
معترف أن التوراة قد أنبأت عن نبوة أنبياء بعد موسى عليه السلام وإذ كان كذلك فمعلوم
أن تحريم السبت معلق بتوقيف الأنبياء بعد موسى عليه السلام فإذا أحلته صار ذلك
214

مقرونا إلى لفظ التحريم كأنه قال حرموا السبت ما لم أحله على لسانك
وعلى أن ما يدعونه من توقيف موسى عليه السلام على التمسك بتحريم
السبت أبدا لو كان ثابتا لوجب أن يقع لنا العلم به مع سماعنا للخبر عنه به كما
أدعى هؤلاء لأنفسهم
فلما لم يقع لنا العلم بذلك مع سماعنا الأخبار التي سمعوها في ذلك علمنا أنهم إنما
صاروا إلى ذلك من طريق التأويل فأخطئوا فيه
وقد تكلم الناس عليهم في هذا الباب بأشياء كثيرة لا انفصال لهم منها وليس
غرضنا في هذا الموضع الكلام على هؤلاء وإنما القصد الكلام في أصول الفقه إلا أنه لما
عرض فيه القول بالنسخ أحببنا ألا نخليه من جملة تدل عليه وعلى بطلان قول من أبي ذلك
من الفرقة التي تنتحل دين الإسلام ثم ضاهت اليهود في امتناعها من تجويز نسخ
الشريعة
فنقول بعد تقدمة القول في جواز النسخ في الجملة إن الفرقة المنكرة للنسخ من أهل
الصلاة قد خالفت الكتاب والآثار المتواترة واتفاق السلف والخلف جميعا فيما صارت إليه
من هذه المقالة
فأما مخالفتها للكتاب فقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
فأثبت النسخ في الكتاب
215

وأمره بالتوجه إلى الكعبة بقوله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة
ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ثم قال تعالى سيقول السفهاء من الناس
ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم فأخبر أنهم قد كانوا على قبلة غيرها ثم نقلوا عنها وقد كان حد الزانيين
الحبس والأذى فنسخا عن غير المحصنين بقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد
منهما مائة جلدة وكانت عدة المتوفي عنها زوجها سنة لقوله تعالى متاعا إلى الحول غير
إخراج ثم نسخ منه ما عدا الأربعة الأشهر والعشرة بقوله تعالى يتربص بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا ومثال ذلك أكثر من أن يحصى في الكتاب والسنة
وقد نقلت الأمة الناسخ والمنسوخ وتوارثوهما فلا قرنا عن قرن لا يتناكرونه ولا يشكون
فيه
وذكر من أبي وجود النسخ في القرآن أن النسخ المذكور في القرآن إنما هو نسخه
من اللوح المحفوظ وتنزيله على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يوجب أن يكون القرآن كله منسوخا وكله
216

وإن قال قائل إنما أراد النسخ في هذا الموضع الإزالة والإسقاط
قيل له لا يخلو من أن يريد به إزالة الحكم أو إزالة الرسم فإن أردت إزالة
الحكم فقد وافقت وإن أردت إزالة الرسم مع بقاء الحكم فإن هذا فاسد من وجهين
أحدهما أن عموم اللفظ يقتضي الأمرين ومن حمله على أحد الوجهين دون الآخر
بغير دليل فهو متحكم قائل بغير علم
والوجه الآخر أنا لو سلمنا لك ما ادعيت من إزالة الرسم فدلالته قائمة على
ما ادعينا لأنه قد أسقط عنا فرض تلاوته واعتقاد كونه من القرآن بعد أن كان لزمنا
ذلك ووجه آخر وهو أنه قد ذكر في الآية الإزالة والإسقاط أيضا في قوله تعالى أو
ننسها فعلمنا أن مراده بذكر النسخ هو نسخ الحكم وقال تعالى وإذا بدلنا آية مكان
آية وقال تعالى يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وقال تعالى لكل
جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وأخبر عن نسخ بعض أحكام الشرائع المتقدمة بقوله تعالى
ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وقال تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي
ظفر وقال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وقد ورد
من طريق النقل المستفيض والخبر المتواتر الذي لا يتطرق إليه الفساد والبطلان أن
النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يصلي إلى بيت المقدس إلى أن نسخ الله تعالى الصلاة إلى تلك الجهة
217

ناسخا وهذا محال ممتنع عند الأمة
وقول هذه الطائفة أظهر فسادا وأبين انحلالا من أن يحتاج إلى الإكثار في الإبانة
عن قبحه وشناعته
218

الباب السابع والثلاثون
في
نسخ الحكم بما هو أثقل منه
219

باب
نسخ الحكم بما هو أثقل منه
اختلف الناس في ذلك
فقال قائلون وهم الأكثر لا يمتنع نسخ الحكم بما هو مثله وبما هو أخف منه وبما هو
أثقل منه
وقال آخرون لا ينسخ حكم إلا بما هو أخف منه
ومنهم من يقول ينسخ بمثله وبما هو أخف منه ولا ينسخ بما هو أثقل منه وكل
واحدة من هاتين المقالتين إنما هي تظنين وحسبان من قائليها لا يرجع منها إلى
دلالة يعضد بها مقالته
والصحيح هو القول الأول
وهو عندي قول أصحابنا رحمهم الله
والأصل فيه أن العبادات إنما ترد من الله تعالى على حسب ما يعلم من
مصالحنا فيها وليس يمتنع أن تكون المصلحة تارة في الأخف وتارة في الأثقل فينقل
المتعبد من أحدهما إلى الآخر على حسب ما تقتضيه المصلحة ألا ترى أنه قد ينقلهم
221

من الرخاء إلى الشدة تارة ومن الشدة إلى الرخاء أخرى فيغني في وقت ثم يفقر في
وقت آخر ويصح في وقت ويمرض في وقت آخر كذلك العادات جارية هذا
المجرى والعلة في الجميع واحدة وهي جهة المصلحة وهذا أيضا معلوم من تدبير الحكماء
لمن يلون أمرهم من أولادهم وعبيدهم أنهم ينقلونهم منه من الشدة إلى الرخاء ومن الرخاء إلى
الشدة فينقلونهم من حال إلى حال على حسب ما يرون لهم من المصلحة في أحوالهم
وأيضا فإن مقالة هاتين الطائفتين يوجب ألا يفرض الله شيئا أبدا بعد أن لم يكن
مفروضا لأن إيجاب الفرض تكليف وهو أثقل من الإباحة وقد وجدنا في كتاب الله تعالى
ما يوضح عن بطلان قول هؤلاء قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات
أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثير ا فأخبر أنه نقلهم من الإباحة إلى الحظر وهو
أشد على المكلف
وروي عن معاذ بن جبل وابن عباس وسلمة بن الأكوع وابن عمر وجماعة من
التابعين في تأويل قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فكان من
شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا ثم أنزل الله تعالى فمن شهد منكم الشهر
فليصمه فجعل الصوم حتما وأسقط التخيير وأيضا فإن الخمرة قد كانت مباحة في
222

أول الإسلام ثم حرمها الله تعالى وقد كان النبي عليه السلام مأمورا بترك قتال المشركين
بقوله تعالى فاعف عنهم واصفح ثم أوجبه الله تعالى بقوله أذن للذين يقاتلون
بأنهم ظلموا وقال تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقال تعالى وقاتلوا
في سبيل الله ونحوه من الآيات فنقلهم من الأخف إلى ما هو أشق عليهم وقد كان
حد الزانين الحبس والأذى فنقلوا إلى الجلد والرجم وقد كان من قتل مسلما لا كفارة
عليه ثم أوجبها الله تعالى ومن كان يفطر في شهر رمضان لم تكن تجب عليه
كفارة ثم أوجبها النبي عليه السلام على المجامع وكفارة اليمين لم تكن واجبة حتى أوجبها
الله تعالى
وكذلك سائر البياعات المحرمة لم يكن تحريمها متقدما ثم حرمت
والعلة الموجبة لجواز النسخ في الأصل لا تفرق بين نسخ الأخف بالأثقل وبين نسخ
الأثقل بالأخف لأن المعنى في الجميع ما يعلم الله تعالى من مصلحة المتعبد به ولا
يمكن أحد أن يقول قد علمت أنه لا مصلحة في نقل المتعبد من الأخف إلى الأثقل لأن
ذلك شئ لا يعلمه إلا الله تعالى العالم بكل شئ
وأيضا لو جمع الأمران جميعا في خطاب واحد لم يتنافيا بأن يقول قد أ بحت لكم كذا
223

إلى وقت إذا ثم هو محرم عليكم كما أباح الإفطار في سائر السنة إلى دخول شهر
رمضان فإذا جاء شهر رمضان حظر الإفطار فيه وكما قالت عائشة رضي الله
عنها فرضت الصلاة في السفر والحضر ركعتين ركعتين ثم زيدت في صلاة الحضر
وأقرت صلاة السفر على ما كانت
فإن قيل قال الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وهذا
يدل على أنه لا ينقل إلى ما هو أشق علينا وإنما ينقل إلى مثله أو أخف منه قيل له
ليس أن يكون الأثقل خيرا لنا وأصلح ألا ترى أن فعل الصلاة والصوم والحج أشق على
العباد من تركها وفعلها مع ذلك خير لنا من تركها فليس الخير إذن عبارة عن الأخف
ولا الأثقل فلا دلالة في الآية على ما ذكره والله أعلم وأحكم
224

الباب الثامن والثلاثون
في
القول في نسخ الحكم قبل مجئ وقته
وفيه فصل في الدلالة على امتناع
جواز نسخ الأمر قبل مجئ وقته
225

باب
القول في نسخ الحكم قبل مجئ وقته
ليس يخلو الأمر في تعليقه بالمأمور من أحد أقسام خمسة
أما أن يتعلق به في وقت بعينه نحو قوله صلوا إذا زالت الشمس أو يقول صوموا
شهر رمضان بعينه
أو أن يعلقه بوقت بغير عينه نحو أن يقول صلوا صلاة واحدة في أي يوم شئتم
وصوموا شهر رمضان في أي شهر رمضان شئتم
وأن يكون مطلقا غير محصور بوقت يتناول فرضا في واحد إلا على وجه تكراره في
الأوقات ولا التخيير في أوقات فعله نحو قوله صلوا صلاة واحدة وصوموا يوما أو شهرا
واحدا
أو أن يكون مؤقتا بالتأبيد نحو أن يقول صلوا أبدا في كل يوم ما بقيتم
وصوموا شهر رمضان فكل سنة ما حييتم
أو أن يكون واردا بلفظ يقتضي أدنى الجمع حقيقة ويحتمل أكثر منه ويقتضي
فعله مكررا في الأزمان إلا أنه غير مقرون بذكر التأبيد
فالأمر الوارد عن الله تعالى وعن رسوله عليه السلام لا يخلو من أن يكون واردا على
أحد هذه الأقسام
227

فأما هذه الأقسام الأربعة التي قدمنا ذكرها فغير جائز ورود النسخ فيها بحال وإن
كان قد يسقط عنا الفرض بأمور أخرى على غير وجه النسخ
والقسم الخامس هو الذي يجوز فيه النسخ
وأصل في ذلك أن كل مأمور به تعلق وجوب فعله بوقت بعينه أو بغير عينه فغير
جائز ورود نسخه لأنه يكون نهيا عن المأمور بعينه وغير جائز أن يكون المأمور به من
أحكام الله تعالى هو المنهي عنه
والأقسام الأربعة التي قدمنا ذكرها هي من هذا القبيل وذلك لأن قوله صلوا إذا
زالت الشمس من هذا اليوم وصوموا شهر رمضان من هذه السنة فرض قد تعلق
بوقت بعينه فليس يخلو من أن ينسخ قبل مجئ وقت الفعل أو بعده وغير جائز نسخه قبل
مجئ وقت الفعل لما نستند عليه إن شاء الله تعالى
وإذا مضى وقت الفعل قبل أن يفعله فإن ما يتعلق بالأمر من لزوم الفعل قد
سقط بمضي وقته لما بيناه فيما سلف من الأبواب المتقدمة وسقوط الفرض بمضي وقته لا
يسمى نسخا لأن ذلك كان معقولا مع ورود الأمر وما لا يتوهم بقاؤه لأن ما بلفظ
الأمر لا يسمى سقوطه بمضي وقته نسخا ألا ترى أنه لو قال صوموا يوم عاشوراء من
هذه السنة واقتصر عليه فلم يصمه لم يلزمه القضاء بذلك الأمر وأنه يحتاج في لزوم
228

القضاء إلى دلالة من غيره وأن سقوطه بمضي الوقت على هذا الوجه لا يسمى نسخا
وأما القسم الثاني وهو قوله صلوا صلاة واحدة في أي وقت شئتم أو صوموا شهرا
أي شهر شئتم على قول من يجيز ورود الأمر بمثله فإن هذا لو صح الأمر به لم يصح
نسخه وذلك لأنه ما دام حيا فأي وقت فعل فيه المأمور به كان ذلك وقت فرضه
والأظهر عندنا أنه غير جائز ورود الأمر بمثله لما بينا فيما سلف من أنه لو صح ذلك
وسعه التأخير أبدا ثم لا يصير مفرطا بالموت لعدم علمه بالوقت الذي يعين عليه فيه
الفرض فيخرج ذلك الأمر من أن يكون فرضا إلا أنا تكلمنا فيه على قول من يجيز ورود
الأمر بمثله فقلنا واجب ألا يجوز نسخه لأن كل وقت يأتي عليه إذا فعله فيه كان فاعلا
للمأمور به بذلك الأمر بعينه فغير جائز ورود نسخه قبل مجئ وقته لما وصفنا في القسم
الأول وأما إذا فعله فقد سقط عنه فرضه فليس هناك أمر يتوهم بقاؤه فينسخ
وأما القسم الثالث وهو أن يكون الفرض منهما غير محصور بوقت وهو فرض واحد لا
يقتضي لفظ الأمر فعله مكررا في أوقات مستقبلة فإنه لا يصح نسخه أيضا وذلك لأن
عليه فعله على الفور عند ورود الأمر في أول أحوال الإمكان فغير جائز نسخه قبل وقته
فإن لم يفعله ففي الثاني فإن لم يفعله في الوقت الأول لزمه فعله في الثاني بذلك الأمر
بعينه فإن لم يفعله في الثاني لزمه فعل مثله في الثالث بالأمر أيضا فصار تقدير الأمر أن
يفعله في الوقت الأول فإن لم يفعله ففي الثاني فإن لم يفعله ففي الثالث فلما كان كل وقت
لم يفعله فيه كان الذي يليه وقتا لفعله بالأمر الأول ثم لم يخل من أن ينسخه قبل
الفعل أو بعده
ولا يجوز نسخه قبل وقته كما قلنا في نسخ الفعل قبل مجئ وقته المعين له أو أن
229

ينسخه بعد الفعل وهذا محال لأنه قد أدى الواجب عليه بالأمر ومن سقط عنه
الفرض بأدائه فغير جائز أن يقال إنه قد نسخ عنه ما قد أداه ولم يقض لفظ الأمر
لزوم غير ما فعله فلم يكن ها هنا شئ نسخ في الحقيقة
وأما القسم الرابع وهو أن يوجب فعله مكررا في أوقات ويقرنه بذكر التأبيد نحو
قوله صلوا أبدا ما بقيتم في كل يوم وصوموا شهر رمضان في كل سنة أبدا ما حييتم
إلى أن تقوم الساعة فإن هذا قد ذكرنا حكمه فيما سلف واختلاف الناس في جواز نسخه
وامتناعه
وبينا أن الأظهر من أمره أنه لا يجوز نسخه
وأما القسم الخامس وهو أن يكون وروده بلفظ تناول أدنى الجمع حقيقة ويحتمل
أكثر منه ويقتضي فعله مكررا في أوقات مستقبلة من غير أن يكون مؤقتا ولا مقرونا بذكر
التأبيد فإن هذا هو الذي يجوز نسخه بعد التمكن من فعله على أدنى ما يتناوله لفظه سواء
فعله المأمور به أو لم يفعله
وأقسام النهي فيما يجوز نسخه وما لا يجوز على هذا النحو الذي ذكرناه في الأمر إلا
في وجه واحد وهو أن قوله صل وصم ونحو ذلك إنما يقتضي فعله مرة واحدة إذا لم تقم
الدلالة على أن المراد فعله مكررا فمتى فعله لم يلزمه شئ آخر بالأمر فلم يصح معنى
النسخ فيه قبل فعله ولا بعد فعله
230

وأما النهي فإنه إذا قال لا تصم أو لا تصل ففعل المنهي عنه لم يسقط عنه حكم النهي
فيما يستقبل ويكون في توهمنا وتقديرنا بقاء حكم النهي ما لم يرد النسخ فيصح ورود النسخ
فيه فأما في سائر الوجوه التي ذكرناها فهو والأمر سواء على ما بينا
فصل
في الدلالة على امتناع جواز
نسخ الأمر قبل مجئ وقته
الدلالة على امتناع جواز ذلك أن إطلاق لفظ الأمر يقتضي لزوم فعله في الوقت
الذي علق به وقد علمنا أن الله عز وجل لا يأمر إلا بحسن ولا ينهى إلا عن قبيح
فكل ما أمر الله به فقد دل بأمره به على حسنه وعلى قبح تركه وكل ما نهى
عنه فقد دل على قبحه بنهيه فجرى ذلك مجرى الإخبار فيه فيكون المأمور به حسنا
ويكون تركه قبيحا وإذا صح هذا لم يجز أن ينهى عما ورد الأمر به مما هذا وصفه لأنه
لو نهى عنه لكان نهيه دلالة منه على قبحه وعلى حسن تركه وكان ذلك بمنزلة الإخبار
231

منه بكونه قبيحا إذا وقع من فاعله وغير جائز أن يدل على فعل شئ في وقت بعينه أنه
حسن ثم يدل عليه أيضا أنه قبيح من الوجه الذي دل عليه حسنه لأن هذا يقضي
تناقض دلالته وتنافيها تعالى الله عن ذلك
وكما لا يجوز أن يخبرنا عنه بأنه حسن ويخبر عنه أيضا بأنه قبيح فكذلك لا يجوز أن
يتناوله الأمر والنهي على هذا الوجه لما قدمنا أن الأمر والنهي يجريان مجرى الإخبار في باب
الدلالة على الحسن أو القبيح
فإن قال قائل ما أنكرت أن يكون المأمور به فيما ذكرت غير المنهي عنه وإن كان معينا
بوقت محصور
قيل له هذا محال لأنه قد دل بالأمر على أنه متى أوقع هذا الفعل في ذلك الوقت
على الوجه المأمور به وقع حسنا والنسخ إذا ورد فإنما تناول ذلك الفعل بعينه لا فعلا غيره
لأنه لم يكن هناك فعل غير ما تعلق حكمه بالأمر فيتناوله النسخ على أنه إن كان النهي
الذي وقع به النسخ لم يتناول ذلك المأمور به بعينه فواجب أن يبقى وجوب فعله بعد
النهي على حسب اقتضائه الأمر بدءا وهذا يدل على أن هذا السائل لم يحصل معنى ما
قال
دليل آخر وهو أنه معلوم أن ما أمر الله به فقد أراد منا فعله وما نهانا عنه فقد كره
منا فعله لأنه لو جاز ألا يكون مريدا لما أمر به لجاز أن يكون مريدا بضده ولو جاز ذلك لما
كان المأمور مطيعا بفعل ما أمر به لأنه إنما يكون مطيعا له بفعل ما أراده منه وكان لا يكون
عاصيا بفعل ما نهاه عنه لأنه قد أراده منه فكان يجب أن يكون مرتكب النهي مطيعا لله
232

تعالى لأنه فعل ما أراده منه وهذا يوجب سقوط معنى الأمر والنهي ويجعل ورودهما عبثا
وسفها فإذا صح هذا ثم ورد الأمر مقتضيا لإرادة الفعل لم يجز أن يكرهه منه بعد ذلك من
الوجه الذي أراده منه وفي النهي عنه بعد الأمر به كراهة لذلك الفعل بعينه من الوجه
الذي أراده وهذا هو البداء الذي هو منفي عن الله تعالى لأنه لا يكرهه بعد إرادته له إلا
وقد استحدث علما لم يكن علمه وقت إرادته أو أن يكون الأمر عبثا وسفها في الابتداء
والوجهان جميعا منفيان عن الله عز وجل وليس يمتنع أن يراد الفعل من وجه ويكره من وجه
آخر فتتعلق الإرادة والكراهة به من وجهين مختلفين فأما من وجه واحد فلا
وتعلق الإرادة والكراهة من وجهين أن يريد الفعل عبادة لله ويكرهه عبادة
للشيطان ومن وجه واحد أن يريده منه عبادة لله تعالى ويكرهه عبادة لله تعالى وهذا
هو حقيقة النسخ قبل مجئ وقت الفعل الذي أجازه مخالفونا في ذلك وذلك غير جائز على
الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ومن الناس من يأبى جواز تعلق الحظر والإباحة
لفعل واحد من وجهين مختلفين ويزعم أن الفعل الذي تعلقت الإباحة به غير الفعل الذي
تعلق به الحظر وأي الوجهين صح منهما فلا يتعلق به لجواز النسخ قبل مجئ الفعل لما
بينا
ودليل آخر وهو أن النسخ إنما يجوز وروده على وجه يجوز شرطه مع الأمر به في
خطاب واحد مثل أن يقول صلوا إلى وقت كذا إلى بيت المقدس ثم صلوا بعد ذلك
إلى الكعبة
233

وما لا يجوز شرطه مع لفظ الأمر في خطاب واحد لم يصح ورود النسخ به وما
ذكرنا وصفه من نسخ الأمر قبل مجئ وقت الفعل هو من هذا القبيل ألا ترى أنه لا يجوز أن
يقول قد فرضت عليكم الظهر ونهيتكم عنه بعينه فلما لم يجز أن يكون النهي مذكورا مع
لفظ الأمر يصح أن يريده الله عز وجل ولا يتعبد بالنهي عنه بعده ألا ترى أن سائر ما يجوز
نسخه إنما يجوز على وجه لو ذكر مع لفظ الأمر بدءا لم يتناقض وأنه لا يجوز أن يريد بما لو ذكر
مع لفظ الأمر تناقض الكلام واستحال فدل على صحة ما ذكرنا من امتناع جواز
نسخ ما هذه صفته
فإن قال قائل ما أنكرت أن يجوز ورود النسخ فيما كان هذا وصفه إذا كان لفظ
الأمر مطلقا وإن لم يجر ذكر النهي عنه من لفظ الأمر بأن يكون الأمر معلقا بعدم ورود النسخ
فيصير تقديره افعلوا إن لم أنسخه عنكم
قيل له فهذا هو المستنكر الذي لا يجوز شرطه في لفظ الأمر لأنه يصير في معنى قوله
قد أمرتكم به إن لم أنهكم عنه وقد أردته منكم ان لم أكرهه ولا يجوز شرط ذلك في الأمر
فكذلك قوله افعلوه إن لم أنسخه عنكم إذا كان يقتضي ذلك لم يجز أن يشرطه مع الأمر
وعلى أن قائل هذا لا يخلو من أن يقول بان الأمر يقتضي فعل المأمور به في الوقت
المعين على جهة الإيجاب أو الندب على حسب اختلاف الناس فيه أو أن يقول إن صيغة
الأمر لا تقتضي شيئا من ذلك وإنما يكون حكمه في اقتضاء الفعل المأمور موقوفا على دلالة
غير اللفظ فإن كان ممن يأبى القول باقتضاء ورود الأمر فعل المأمور به وهو أن
يقول إنه موقوف على الدليل فإن الأمر مع ذلك في صيغته وحيال: وروده ليس بالإيجاب
234

أولى منه بالنهي حتى إذا ورد النهى علمت أنه لم يرد الأمر الإيجاب فهذا قول مردود
خارج عن أقاويل الأمة إذ ليس أحد منهم يجوز أن يكون المراد بالأمر النهي وإن كان ممن
يقول إن الأمر يقتضي إيقاع الفعل على أحد الوجوه التي اختلف الناس فيه فغير جائز
أن يكون معلقا بشرط ألا ينسخ لأن اللفظ قد اقتضى إيقاعه على جهة الإيجاب أو الندب
فلا يجوز أن يجعل معلقا بشرط ولا مقيدا بوصف غير مذكور في اللفظ كما يقول في ألفاظ
العموم والحقائق أنها متى وردت مطلقة كانت مقتضية لأحكامها الموضوعة لها في أصل
اللغة ولزمنا بها اعتقاد موجب صيغتها ثم غير جائز أن ترد بعد أن استقر حكمها على ما
اقتضته صورتها بحصول الفراغ فيها غير مقيد بشرط ولا وصف أن المراد بها غير ما اقتضته
حقيقة لفظها فكذلك الأمر إذا ورد مطلقا مقتضيا لفعل المأمور به في الوقت المذكور
فغير جائز أن يجعل مقيدا بشرط ألا ينسخ وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل إنما هو كلام في
نفي إثبات الشرط في الأمر المطلق العاري من الشرط على حسب ما ذكره السائل
وسنتكلم بعد هذا في أنه لا يجوز ورود الأمر مقيدا بهذا الشرط
فإن قال قائل أليس لو قال الله تعالى لنا صلوا الظهر في مستقبل أعماركم أو
صوموا شهر رمضان في مستقبل السنين كان الواجب علينا اعتقاد وجوبه في مستقبل
الأوقات مكررا ثم جائز مع ذلك عندك ورود نسخه بعد التمكين من فعل أدنى ما يقتضيه
اللفظ فلم أنكرت أن يجوز ورود النسخ فيه قبل مجئ وقته والتمكن من فعل شئ
منه كما أجزت وروده فيما يستقبل من فعل الصلاة والصوم على الوجه الذي بيناه
قيل له ليس هذا مما ذكرناه في شئ وذلك لأن ورود الأمر على هذه الصفة
مقارن لجواز نسخه بعد التمكين من أدنى فعل ما تناوله اللفظ ما دام النسخ قائما ببقاء النبي
صلى الله عليه وسلم فإذا ورد النسخ علمنا أن الفرض كان المقدار الذي وقع التمكين منه إلى وقت
235

النسخ وأن ما بعد الوقت لم يكن مرادا بالأمر وليس كذلك مسألتنا لأنه إذا قال لنا صلوا
إذا زالت الشمس من هذا اليوم لزمنا اعتقاد وجوبها في الوقت المذكور من غير تجويز لغيره
فمتى ورد نسخه كان نهيا عن المأمور بعينه وقد بينا فساده
فإن قيل فهلا أجزت ورود الأمر معقودا بشرط فعله في وقت إن لم ينه عنه
ولم ينسخه فيقول صلوا عند الزوال إن لم أنسخه عنكم
قيل له هذا لا يجوز لأنه يصير بمنزلة قوله قد أردته منكم إن لم أكرهه وكقوله
هو حسن في ذلك الوقت إن لم يكن قبيحا وكقوله خبري هذا صدق إن لم يكن كذبا
تعالى الله عن ذلك وكقوله قد أمرتكم به إن لم يبد لي في ذلك الأمر وهذا لا يقوله
إلا جاهل بالعواقب وبقبح الأمر أو بحسنه لأن الأمر بالشئ ليس هو الموجب لحسن
المأمور به ولا النهي عنه موجبا لقبحه وإنما يدلان إذا وردا من الله تعالى على حسنه أو
قبحه لأنه الله تعالى عالم بحسن المأمور به قبل الأمر به وعالم بقبحه قبل النهي عنه فغير
جائز منه جواز شرط النهي فيما علم حسنه ولا يجوز شرط الأمر فيما علم قبحه
فإن قال أليس جائز فيما بيننا أن يقول الرجل لعبده ادخل الدار غدا ما لم أنهك عنه
ولا يكون هذا مستنكرا عند العقلاء فما أنكرت من تجويز مثله في أوامر الله تعالى
قيل له إنما يجوز هذا فيما بيننا لجواز البداء علينا والتنقل في الرأي واستحداث
العلم بالأمر فجاز أن يقول الواحد منا لعبده افعل غدا كذا ما لم أنهك عنه كما يجوز
أن يقول افعله إن لم بيد لي فيه والله تعالى لا يجوز عليه البدءات غير ولا استحداث العلم
236

بالأمور فلذلك امتنع جواز شرط ذلك في أوامره ألا ترى أن من قال مثل ذلك منا
لعبده عقلنا من لفظه أنه إنما جوز على نفسه انتقاله عن الرأي الأول إلى غيره لما
عسى أن يبدو له في المستأنف وأن سيحدث علما لم يكن علمه في الأول فلما كان كذلك
وجب ألا يجوز مثله على الله تعالى كما لا يجوز عليه البداء واستحداث العلم بالأمور
فإن قال قد أجزت فيما سلف من الأبواب المتقدمة ورود الأمر من الله تعالى معلقا
بشرط التمكين منه مثل أن يقول صل إذا زالت الشمس إن كنت صحيحا في ذلك
الوقت وقاتل المشركين غدا إن أمكنك وإن كان في المعلوم أنه لا يبلغ حال التمكين ولا
يمنع ذلك عندك صحة الأمر معلقا بهذه الشريطة فهلا جوزت أن يقول صل عند
الزوال إن لم أنهك عنه
قيل له ما قدمنا من علة كل واحد من المثلين في الجواز أو الامتناع هو الموجب
للفصل بينهما وهو أنه لا يصح أن يقول قد أردته منك إن لم أكرهه وأن أمري إياك حسن
إن لم يك قبيحا وإن هذا القول منه يقتضي تجويز البداء وهذه الصفة منفية وليس في
قوله صل إن قدرت عليه اقتضاء صفة حكمها أن تكون منفية عن الله تعالى فلم يمتنع
وروده على هذه الشريطة
ومن جهة أخرى أن شرط صحة الأمر وكونه حسنا وجود التمكين في حال لزوم فعله
فلا يمتنع وروده مقرونا بهذه الشريطة وإن كان في المعلوم أنه لا يبلغ حال التمكين
ويدل على هذا أيضا أنه يصح أن يأمر الله تعالى بفعل يفعله في الثاني مع عمله
بأنه يفعل في الثاني ما يضاد فعل المأمور به ومعلوم امتناع وقوع الفعل منه في حال وجود
ضده كما أنه معلوم امتناع وقوعه منه مع عدم التمكين منه ثم لم يمتنع ورود الأمر
237

بفعل في وقت معين لأجل ما في المعلوم من وقوع ضده منه في تلك الحال بدلا منه ولم يكن
هذا عبثا ولا سفها كذلك الأمر المعلق بشرط التمكين أمر صحيح وإن كان في معلوم
الله تعالى إن المأمور لا يبلغ حال التمكين ومن منع حسن الأمر على شرط التمكين إذا
كان في المعلوم إنه لا يتمكن منه فإنما منع ذلك من جهة أن الأمر إذا كان عالما بذلك كان
أمره به عبثا كأمره لنا بصعود السماء ونحوه
وفرق بين أوامر الله تعالى وأوامرنا لعبيدنا ومن يلزمه طاعتنا في جوازه معلقا بشرط
التمكين منه لأن الأمر منا يجوز في مثله بلوغ المأمور حال التمكين ولو كان وجوده من المأمور
فيما بيننا ميؤسا منه لما كان الأمر به حسنا
قال وكذلك إذا كان في معلوم الله تعالى أن المكلف لا يبلغ حال التمكين لم يصح
أمره
والجواب عن هذا إن هذا إنما جاز وروده من الله تعالى مقرونا بهذه الشريطة فيما
يجوز فيه بلوغ حال التمكين وإن كان في معلوم الله إنا لا نبلغها أحمد لأنا متى جوزنا
ذلك لزمنا بورود اعتقاد وجوبه على الشريطة المذكورة فيه ويلزمناها بعد توطين النفس عليه
وتسهيله عليها إن بلغنا حال التمكين وهذه عبادة يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بها ويلزمنا
ها في الحال
وليس هذا بمنزلة الأمر بصعود السماء بشرط الإمكان لأنا قد تيقنا أنا لا نبلغ حال
التمكين منه أبدا ولا يصح مع ذلك اعتقاد جواز بلوغ حال الإمكان وتوطين النفس على
الفعل إذا بلغناها فإذا لم يتعلق بهذا الأمر وجوب الفعل ولا اعتقاد شئ تصح العبادة به
238

كان عبثا فلم يصح أن يفعله الله تعالى
فإن قال ما أنكرت على هذا أن يجوز ورود الأمر معقودا بشريطة أن يقول
افعلوا ما لم أنسخه عنكم قبل مجئ وقت الفعل وأن تكون العبادة علينا فيه اعتقاد وجوبه
إن لم ينسخه
قيل له لا يخلو من أن يلزمه اعتقاد وجوبه بورود الأمر أو أن يلزمه اعتقاد وجوبه
إن كان واجبا أو اعتقاد حظره إن كان محظورا فيعتقد أحدهما بغير عينه أو يعتقد أنه واجب
عليه إن لم ينهه عنه
فإن قلنا أنه يلزمه بورود الأمر المعقود بشريطة أن لا ينهي عنه اعتقاد وجوبه فهذا
الإعتقاد ليس هو مما يقتضيه لفظ الأمر المقيد بالشرط على الوصف الذي ذكرت بل
هو مقتضى اعتقاد الأمر المبهم الذي لا شرط فيه فيؤدي هذا إلى إسقاط فائدة الشرط
وقد دللنا على فساد القول بجواز نسخ الأمر المبهم العاري من الشرط إذا تناول
وقتا محصورا وأيضا فإن كونه معقودا بشريطة أن لا ينهي عنه يمنع وقوع العلم
بوجوبه لأنه ليس اعتقاد وجوب فعله عند مجئ وقته بأولى من اعتقاد وجوب تركه فلو
لزمنا بورود الأمر الذي هذه صفته اعتقاد وجوبه كان في ذلك إيجاب اعتقاد ما ليس بواجب
وهذا أمر باعتقاد الشئ على خلاف ما هو به وجواز الأمر بمثله منتف عن الله تعالى فبطل
هذا القسم بما وصفنا فإن كان إنما يلزمه بورود الأمر الذي هذا وصفه اعتقاد وجوبه إن
239

كان واجبا أو حظره إن كان محظورا على وجه الشك فهذا لم يحصل بعد على اعتقاد شئ
لا حظر ولا إيجاب وهذا يؤدي إلى سقوطه رأسا لأن حاله بعد ورود الأمر كهي قبل
وروده لأنه قد كان يعتقد قبل ورود الأمر أن ما يوجه الله تعالى عليه في المستأنف فهو
واجب وأن ما يحظره فهو محظور فيؤدي هذا القول إلى إسقاط فائدة الأمر رأسا
فبطل هذا القسم أيضا
فإن قلنا إنه يعتقد أنه واجد عليه إن لم ينهه عنه لم يصح هذا لأنه لا يصح مجئ
العبادة به كما لا يجوز أن يقول قد أردته منك إن لم أكرهه وهو حسن إن لم يكن قبيحا وأن
هذا الخبر صدق إن لم يكن كذبا فلما لم يجز ورود الخطاب من الله تعالى بذلك لم يجز أن
يعتقد في خطابه مالا يجوز عليه فلما لم يكن للاعتقاد في الأمر الذي وصفه ما ذكرت وجه
غير ما وصفنا ولم يصح شئ منها لما بينا ثبت امتناع جواز وروده على هذه الشريطة
فإن قال ما أنكرت أن يجوز ورود الأمر على هذه الشريطة
فنقول قد أمرتك به إن لم أنسخه ويكون الذي يلزمنا بورود الأمر الذي هذه
صورته أن هذا الخطاب قد تعلق به حكم مجمل يرد بيانه في الثاني من حظر أو إباحة
ويكون بيان حكمه مترقبا بمجئ وقت الفعل فإن حظره علمنا أن المراد بالخطاب
المتقدم كان الحظر وإن لم ينسخه علمنا أن المراد به كان الإيجاب كما نقول في
سائر الألفاظ المجملة التي لا سبيل إلى استعمالها إلا بورود بيانها ولا يؤدي إلى إبطال فائدة
الأمر كما لا يكون اللفظ المجمل عاريا من الفائدة لوروده مجملا
240

قيل له هذا فاسد من وجهين أحدهما أن قوله صل ركعتين عند زوال الشمس أو
تصدق بدرهم غدا ليس بمجمل من حيث اقتضى وجوب الفعل في الوقت المذكور له فقد
ألزمنا بوروده اعتقاد وجوبه فلو جاز أن يقرن به قوله افعل ما لم أنسخه لما كان ذلك
مؤثرا في نفس الأمر أنه مقتضى الإيجاب إلا أنه شرط جواز رفعه وقد بينا أن ذلك لا
يجوز
وأما المجمل فمن حيث لم يلزمنا فيه اعتقاد شئ بعينه جاز أن يكون حكمه موقوفا
على البيان فما ورد فيه من بيان الحكم علمنا أنه كان المراد بالجملة
والوجه الآخر أن النهي لو ورد بعد ذلك لم يجز أن يكون لفظ الأمر عبارة عنه
فقولك إن لفظ الأمر المقرون بجواز شرط النهي موقوف على ورود البيان خطأ لأن
النسخ لو صح لما كان الأمر باقيا بل يكون مرفوعا زائلا فكيف يكون ما يوجب دفعه
وإسقاطه بيانا له وهو يوجب أيضا أن يكون لفظ الأمر موضوعا للنهي ولفظ الإيجاب
موضوعا للحظر في هذا الموضع وهذا خلف من القول
وأما ورود بيان المجمل فغير مزيل لحكم اللفظ لأن لفظ الجملة قد كان يصلح
له ويصح أن يكون عبارة عنه إما في اللغة أو الشرع فلم يكن بيانه منافيا لحكم الجملة
وقد احتج من أجاز نسخ الحكم قبل مجئ وقته بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليه
وعلى أمته ليلة أسري به إلى السماء خمسون صلاة فما زال يسأل الله حتى ردها إلى خمس
قالوا فقد نسخ فرض الخمسين إلى الخمس قبل مجئ وقت الفعل
وبأمر الله تعالى إبراهيم بذبح ابنه وأنه نسخ قبل مجئ وقت الفعل ويصلح النبي
صلى الله عليه وسلم قريشا على أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلما ثم نسخ ذلك عن النساء قبل
241

مجيئهن إليه وقوله تعالى إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة فإذا لم
تفعلوا وتاب الله عليكم فأخبر أنه نسخه قبل مجئ وقت فعله
والجواب عن ذلك أن ما روى من فرض الخمسين صلاة يجوز أن يكون ورد في الابتداء
معقودا بشرط اختيار النبي عليه السلام لذلك كما قال تعالى فإذا استأذنوك لبعض
شأنهم فأذن لمن شئت منهم قال ابن عباس فجعل النبي عليه السلام بما على
النظرين في ذلك ليس يمتنع عندنا تعلق الفرض باختيار المأمور به كاختلاف حكم صلاة
السفر والحضر باختياره السفر والإقامة وكما يلزمنا القرب بالنذر وإيجابنا لها على أنفسنا
وكما يكون الحانث في يمنيه مخيرا في أن يكفر يمينه بواحدة من الأشياء الثلاثة وبأيها كفر
تعين حكم الفرض به دون غيره
فإن قيل لا يجوز أن يكون إيجاب الفرض موكولا إلى اختيار أحد من المأمورين
لأن الفروض والأوامر إنما هي حسب المصالح ولا علم لأحد غير الله تعالى بمصالح
العباد
قيل له ليس يمتنع عندنا أن يكون في معلوم الله تعالى أن هذه الأشياء متساوية
من جهة الصلاح فإذا خير النبي عليه السلام في ذلك لا يختار إلا ما هو صلاح فيكل
وجوب الفرض إلى اختياره
وقد قال بعض أهل العلم جائز أن يكون الله عز وجل قد جعل لنبيه عليه السلام
أن يسن ما رأى ويفرض ما شاء باختياره من غير وحي يأتيه في ذلك الشئ بعينه كما قال
242

للأقرع بن حابس لما سأله عن الحج أواجب في كل عام أو حجة واحدة فقال عليه
السلام بل حجة واحدة ولو قلت نعم لوجبت وكما استثنى الإذخر عند مسألة العباس
إياه ذلك حين قال لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها فقال العباس إلا الإذخر
يا رسول الله فقال إلا الإذخر بعدما أطلق النهي في الجميع قال فهذا يدل
على أنه قد كان حكم التحريم أو الإباحة معلقا باختياره
وكما قال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب
عام والثيب بالثيب الجلد والرجم فدل على أن إيجاب ذلك كان مجعولا إليه وموقوفا على
اختياره وليس الغرض الكلام في هذه المسألة ألا أنا بينا أن ذلك غير ممتنع عند قوم من
أهل العلم وإن لم يثبت عندنا صحته إذا لم يكن قوله فيه من طريق الاجتهاد وإذا كان
ذلك كذلك لم يمتنع عندنا أن نكل فرض الخمسين إلى اختيار النبي صلى الله عليه وسلم المسألة فيه
فما زال صلوات الله عليه يسأل الله تعالى في ذلك حتى استقر الفرض على خمس
فإن قيل فإن كان الفرض في الابتداء موكولا إلى اختيار النبي عليه السلام فما
معنى مسألته التخفيف ومراجعته فيه
قيل له إنما قلنا إنه لا يمتنع أن يكون موكولا إلى اختيار النبي عليه السلام بأن
243

يسأل الله تعالى التخفيف عن أمته فتكون مسألته سببا للتخفيف كما قلنا في فرض
السفر والإقامة أنه موقوف على اختيارنا للسفر أو الإقامة فيختلف الفرض باختلاف الحالين
اللذين هما موقوفان على اختيارنا
وقد بينا فيما سلف أن الفرض وكفارة اليمين أحد الأشياء الثلاثة لا جميعها وأن
حكم المفروض فيها متعلق باختيار المكفر حتى يتعين به الحكم إذا فعله دون غيره وأما أمر
الله تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه فقد قيل فيه وجوه
أحدها أنه إنما أمره بذبحه في وقت بعينه على شرط التمكين منه وارتفاع الموانع
الحائلة بينه وبينه وقد بينا جواز ورود الأمر معقود ا بهذه الشريطة فلما عالج أسباب الذبح
حيل بينه وبينه بضرب من المنع
وقد قال بعض أهل العلم في التفسير ضرب الله تعالى على حلقه صفيحة
نحاس فلم تعمل فيها الشفرة فقيل له بعد ذلك قد صدقت الرؤيا لأنه فعل ما أمكنه
وبذل المجهود فيه ولم يكن عليه غيره وهذا التأويل غير مخالف لقوله تعالى إني أرى في
المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى لأنه جائز أن يكون إنما رأى في المنام فعل
أسباب الذبح ومعالجته وقد فعل وسماه ذبحا لأنه سبب يقع بمثله الذبح في العادة ما لم يحدث
منع كما يسمى الشئ باسم غيره إذا كان مجاورا له أو كان منه بسبب
فإن قال قائل فلا معنى إذن للفدية إذا لم يكن مأمورا بالذبح لعدم التمكين منه ولا
يقع ما سمي فدية موقع الفدية لأن الفدية ما قام مقام الشئ
244

وما فدي به عندك لم يقم مقام شئ أمر به ثم لم يفعله إذا كان جميع ما أمر به قد
فعله عندك
قيل له ليس يمتنع أن يكون قد سمي فدية لما كان يتوقعه إبراهيم عليه السلام
من حدوث الموت بالذبح ففدي ما كان فتقديره أنه سيقع بما قدر به
وقد قيل إنه ذبحه وفري الأوداج ثم وصلها الله في أسرع من لمح الطرف قبل
خروج الروح وهذا جائز غير ممتنع
وأما صلح النبي عليه السلام قريشا على ما صالحهم عليه ونسخ الحكم عن النساء
فلا دلالة فيه على ما ذكر لأنه قد كان مضى من وقت الحكم إلى أن نزل القرآن برد
النساء مدة يمكن استعمال الحكم فيها فليس في هذا نسخ الحكم قبل مجئ وقته وكذلك
نسخ الصدقة عند مناجاة الرسول عليه السلام وهو على هذا السبيل لأنه قد كان مضى من
وقت نزول الحكم إلى وقت ورود النسخ مدة يمكن استعمال الحكم فيها ونسخ مثله
غير ممتنع وليس هو من مسألتنا في شئ فثبت بما ذكرنا امتناع جواز النسخ قبل مجئ وقت
الفعل وجميع الأقسام التي ذكرنا أنه لا يجوز نسخها هو في معنى ذلك
وأما القسم الذي ذكرنا جواز نسخه وهو أن يرد لفظ يقتضي ظاهره عموما في جنس
يوجب فعله على الدوام في مستقبل الأوقات من غير ذكر توقيت فهو من نحو قوله
تعالى فاقتلوا المشركين وقوله تعالى والذين يرمون المحصنات وما جرى مجرى
245

ذلك من ألفاظ العموم وفيما يقتضي مستقبل الأوقات كقوله صوموا عاشوراء فيما
يستقبل من السنين ونحو ذلك قوله لبني إسرائيل تمسكوا بتحريم السبت في
مستقبل الزمان فيجب على من كان مخاطبا بها اعتقاد موجب لفظها وتجويز نسخها مع
ذلك إذا وجد من وقت الفعل أدنى ما يتناوله لفظ الأمر لأن لفظ العموم لما كان عبارة عن
ثلاثة فما فوقها وذكره بمستقبل الأوقات يصلح أن يكون عبارة عن قليل الأوقات وكثيرها
لم يمتنع ورود النسخ فيه بأن يبين تارة أن حكم بعض المشركين إلى هذه الغاية وجوب
قتلهم ومن الآن قبول الجزية منهم ويبين أن حكم بعض القاذفين إلى هذا الوقت
الجلد ومن الآن اللعان وهم قاذفو يقول الزوجات ويبين أن صوم عاشوراء فرضه إلى وقت
نزول الأمر بصوم شهر رمضان وأن تحريم السبت إلى الوقت الذي نسخه
على لسان نبي آخر جاء بعده وسواء في ذلك فعل المأمور به أو لم يفعل فإن نسخه جائز
عندنا وذلك لأنه إذا وقع التمكين من الفعل فقد لزمه فرضه وتفريطه فيه لا يمنع نسخه
عنه كما يجوز أن يعلقه في الابتداء بوقت بعينه فإذا مضى الوقت قبل فعله سقط عنه
الفرض وكما يجوز أن يشرط ذلك في الابتداء فتقول له إن فعلته عند وجود التمكين منه
فذاك وإن تركته فأنت معاقب على تركه ولا فرض عليك بعده ويدل على ذلك أيضا
أن ورود النسخ جائز وإن ترك بعض المأمورين ما أمر به في وقت لزومه ولولا أن ذلك
كذلك لكان الرسول عليه السلام إذا أراد نسخ شئ سألهم هل ترك أحد منكم فعل
المأمور به حتى يصح نسخه على قول المخالف ولو فعل ذلك لنقل فلما لم يسألهم عن ذلك
في شئ مما نسخه بل قد روي عنه أنه نسخ أشياء كثيرة من غير بحث منه عن حال
246

المأمورين في فعله أو تركه دل ذلك على أنه ليس شرط جواز النسخ فعل المأمور به
وأيضا فقد اتفق الجميع على أن النهي يصح نسخه بعد التمكين من تركه وإن
ارتكب المنهي فعله ولم يكن ارتكابه للفعل المنهي عنه مانعا من نسخه كذلك تركه لفعل
المأمور به لا يمنع جواز نسخه
247

الباب التاسع والثلاثون
في
نسخ التلاوة مع بقاء الحكم
249

باب في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم
اختلف الناس في نسخ رسم القرآن وتلاوته مع بقاء حكمه
فقال قوم لا يكون رفع حكمه إلا برفع رسمه وتلاوته فيرتفع الحكم بارتفاعها
وقال آخرون يجوز رفع أحدهما مع بقاء الآخر أيهما كان من تلاوة أو حكم
وقالت طائفة لا يجوز نسخ القرآن وتلاوته ولكن يجوز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة
قال أبو بكر رحمه الله أما جواز نسخ الحكم فلا خلاف فيه بين الأمة إلا فرقة شذت
عنها وقد حكينا فيما تقدم قولها
وأما نسخ الرسم والتلاوة فإنما يكون بأن ينسيهم الله تعالى إياه ويرفعه من أوهامهم
أو يأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف فيندرس على الأيام كسائر كتب الله
القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله تعالى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف
إبراهيم وموسى ولا نعرف اليوم منها شيئا ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمان النبي
صلى الله عليه وسلم حتى إذا توفي لا يكون متلوا من القرآن أو يموت وهو متلو موجود بالرسم ثم ينسيه
الله الناس ويرفعه من أوهامهم
وغير جائز عندنا نسخ شئ من القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا رسمه ولا حكمه ولا
خلاف بين الأمة أن نسخ القرآن وسائر الأحكام لا يكون بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوم ملحدة
يستهزئون بإظهار الإسلام ويقصدون إفساد الشريعة بتجويز نسخ الأحكام بعد موت
النبي عليه السلام
وأما نسخ رسم القرآن دون حكمه في حياة النبي عليه السلام فإن في مذهب
أصحابنا ما يدل على تجويزهم نسخ التلاوة قبل وفاة النبي عليه السلام مع بقاء الحكم وأما
بعد وفاته عليه السلام فغير جائز
251

والذي يدل على مذهب أصحابنا على ما ذكرنا إيجابهم التتابع في صوم كفارة
اليمين لما ذكروا أن في حرف عبد الله بن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات ومعلوم أن
ذلك ليس في القرآن اليوم ولا يجوز تلاوته فيه ولا القطع بأنه منه وقد كان حرف عبد الله
مستفيضا عندهم في ذلك العصر
ومعلوم أن النسخ غير جائز وقوعه بعد موت النبي عليه السلام لأنه لو جاز بعد موته
لم نأمن من أن تكون الشريعة كانت عند وفاة النبي عليه السلام أضعاف ما في أيدينا اليوم
فرفعها الله من أوهام الأمة ولو جاز ذلك لجاز ألا يكون شئ مما في أيدينا من الشريعة مما
كان موجودا في عصر النبي عليه السلام بأن يكون أنسى الأمة جميع ما أتى به النبي عليه
السلام ورفعه من أوهامهم ثم ألف بين قلوبهم وألهمهم هذه الشريعة التي في أيدينا
اليوم
وفي القول بهذا المصحف خروج عن الملة فثبت امتناع جواز النسخ بعد وفاة النبي
عليه السلام وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ما ذكروه من شرط التتابع في كفارة اليمين
في حرف عبد الله بن مسعود منسوخ التلاوة في حياة النبي عليه السلام بأن يكون قد أمروا
بألا يقرؤوه من القرآن ولا يكتبوه في الصحف فلذلك لم ينقل إلينا من الطريق التي نقل
القرآن ويكون معنى قولهم أنه في حرف عبد الله أن ذلك كان من القرآن في حرف
عبد الله ثم نسخت التلاوة وبقي الحكم لأنه لو كان المراد أنه ثابت في حرف عبد الله بعد
وفاة الرسول عليه السلام لما جاز أن يكون نقله إلينا إلا من الوجه الذي نقل إلينا منه سائر
القرآن وهو التواتر والاستفاضة حتى لا يشك أحد في كونه منه فلما لم يرد نقله على هذا
الوجه دل ذلك على أن مرادهم أنه مما كان في حرف عبد الله وأن تلاوته منسوخة
252

فإن قال قائل فإذا لم ينقل ذلك إلينا إلا من طريق الأحاديث فلا يثبت حكمه ولا
يعترض به على حكم القرآن لأن من أصلك أن الزيادة في نص القرآن لا يجوز إلا
بمثل ما يجوز به النسخ
قيل له قد كان هذا الحكم مستفيضا عندهم أنه كان متلوا من القرآن فأثبتنا الحكم
بالاستفاضة وبقاء تلاوته غير ثابت بالاستفاضة لأنه جائز بقاء الحكم مع نسخ التلاوة
فلذلك لم نثبته متلوا فيه
قال قائل فإن كان الحكم ثابتا بالاستفاضة فأثبت التلاوة بمثلها لأنه الوجه
الذي منه نقل الرسم
له لا يجب ذلك لأن التلاوة لما لم يبق حكمها اليوم من جهة نقل الاستفاضة إذا
لم تثبت في سائر المصاحف علمنا إنها منسوخة وليس في ترك تلاوتها ما يوجب نسخ
حكمها إذ لا يمتنع بقاء أحدهما مع عدم الآخر
فأما نسخ التلاوة والحكم جميعا فجائز أيضا عندنا في زمان النبي عليه السلام
ويجوز عندنا أيضا نسخ الأخبار دون مخبرها في حياته عليه السلام على ما بينا فيما
سلف ولا يجوز ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وذلك لأن العبادة تتعلق بنا لورود رسم القرآن
من وجهين
أحدهما التلاوة والآخر الحكم فليس يمتنع زوال العبادة بالأمرين جميعا
253

أما نسخ الحكم فبأن يتعبد بضده
وأما نسخ التلاوة فبأن ينسيه النبي عليه السلام ومن كان حفظ من الأمة في عصره
ويرفعه من أوهامهم أو يأمرهم بألا يثبتوه في المصحف ولا يتلوه فينسى على مر الأوقات
قبل وفاة النبي عليه السلام
وقد روي أن نسخه بالنسيان قد كان في زمان النبي عليه السلام وأن بعضهم أنسي
سورة قد كان حفظها فسأل النبي عليه السلام عن ذلك فقال عليه السلام إنها نسخت
وروي أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة سورة فترك آية منها فقال له رجل تركت آية
كذا فقال ألا أذكرتنيها فقال الرجل ظننت أنها نسخت ولئن شئنا لنذهبن
بالذي أوحينا إليك
وقال تعالى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله وقال تعالى ما ننسخ من آية
أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
وروي في التفسير أو ننسها من النسيان وروي أنه من الترك بألا ينسخها
وأقل أحوال الآية إذا كانت محتملة للنسيان تجويز ما وصفنا فيها
وأما ما طعن به بعض أهل الإلحاد ممن ينتحل دين الإسلام وليس منه في شئ ثم
كشف قناعه وأبدى ما كان يضمره من إلحاده بأن القرآن مدخول فاسد النظام لسقوط كثير
منه
ويحتج فيه بما روي أن عمر رضي الله عنه قال إن آية الرجم في كتاب الله تعالى
254

وسيجئ أقوام يكذبون بالرجم وأنه كان فيه إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة وأن
أبي بن كعب قال أن سورة الأحزاب كانت توازي البقرة أو هي أطول وأنه كان
فيها آية الرجم وأنه كان فيها لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ
جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب
255

وأنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه
كفر بكم
وروي عن أنس أنهم كانوا يقرءون بلغوا قوما عنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا
وأرضانا ونحو ذلك مما يروى أنه كان في القرآن فإنه لا مطعن لملحد فيه لأن
هذه الأخبار ورودها من طريق الآحاد فغير جائز إثبات القرآن بها ثم لا يخلو من أن تكون
صحيحة في الأصل ثابتة على ما روي فيها أو سقيمة مدخولة فإن كانت مدخولة
فالكلام عنا فيها ساقط وإن كانت صحيحة في الأصل لم يخل من أحد وجهين
إما أن تكون محتملة أن يكون المراد بها أنها من القرآن ومحتملة لغيره أو لا تحتمل
إلا كونها من القرآن فما لم يحتمل منها إلا أن يكون قد كانت من القرآن فهو من الخبر
الذي قلنا إنه منسوخ التلاوة والرسم في زمان النبي عليه السلام وما احتمل منها لفظه
وجهين أحدهما أن يكون مراده أنه آية من القرآن واحتمل أن يكون المراد آية
من حكم الله ومما أنزله الله وإن لم يكن من القرآن فليس القطع فيه بأحد وجهي
الاحتمال بأولى من الآخر فالكلام فيه عنا ساقط وعلى أي الوجهين حمل فلا اعتراض
فيه لملحد لأنه إن حمل على أنه كان من القرآن فهو من القبيل الذي هو منسوخ
256

التلاوة وعلى أن كل خبر ذكر في سياقه لفظه فليس في ظاهره دلالة على المراد به أنه كان
من القرآن مثل خبر عمر رضي الله عنه فإن لفظه يحتمل معنيين ولا دلالة فيه على أن
المراد به أنه كان من القرآن لأنه قال إن الرجم في كتاب الله قرأناه ووعيناه الذي فهذا يحتمل
أن يكون مراده أنه في فرض الله كما قال تعالى كتاب الله عليكم يعني فرضه
وكقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله يعني في فرضه وكقوله
تعالى كتب عليكم الصيام أي فرض عليكم وكتب عليكم القتال يعني
فرض عليكم وإذا كان ذلك كذلك لم يثبت أن مراده أنه كان من القرآن فنسخت
تلاوته لأن ذلك لا يعلم إلا باستفاضة النقل في لفظ لا يحتمل إلا معنى واحدا
ويدل على أن مراده كان ما وصفنا أنه قال لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب
الله لكتبته في المصحف فلو كان عنده آية من القرآن لكتبه فيه قال الناس ذلك أو لم يقولوه
فهذا يدل على أنه لم يرد بقوله إن الرجم في كتاب الله أنه من القرآن وروي عنه أنه
قال إن الرجم مما أنزل الله وسيجئ قوم يكذبون به وهذا اللفظ أيضا لا دلالة فيه
على أنه أراد به أنه من القرآن لأن فيما أنزل الله تعالى قرآنا وغير قرآن قال الله تعالى في
وصف الرسول عليه السلام وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وروي في
257

بعض ألفاظ هذا الحديث أنه قال إن مما أنزل الله آية الرجم وهذا اللفظ لو ثبت لم يدل
أيضا على أن مراده أنه كان من القرآن لأن ما يطلق عليه اسم الآية لا يختص بالقرآن دون
غيره قال تعالى ومن آياته خلق السماوات والأرض ثم قال تعالى إن في ذلك
لآيات فسمى الدلالة القائمة مما خلق على توحيده آية فليس يمتنع أن يذكر
آية الرجم وهو يعني أن ما يوجب الرجم أنزله الله على رسوله عليه السلام بوحي من
عنده وأيضا فإنه يحتمل أن يكون أصل الخبر ما ذكر فيه أن مما أنزل الله الرجم ثم
كان تغيير الألفاظ فيه من جهة الرواة فعبر كل منهم بما كان عنده أنه هو المراد لأن من
الرواة من يرى نقل المعنى عنده دون اللفظ فظن بعض الرواة أنه إذا قال إنه مما أنزل
الله فقد قال إنه من القرآن وإنه آية منه فعبر عنه بذلك
فإن قيل فلو لم يكن عنده من القرآن كيف كان يجوز له أن يقول لولا أن يقول
الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبته في المصحف وكيف يجوز أن يكتب في المصحف ما ليس
منه
قيل له يجوز أن يكون مراده أنه كان يكتبه في آخر المصحف ويبين مع ذلك أنه ليس من
القرآن ليتصل نقله ويتواتر الخبر به كما يتصل نقل القرآن لئلا يشك فيه شاك ولا يجحده
258

جاحد فقال لولا أن يظن ظان أنه من القرآن أو يقول قائل إن عمر زاد في القرآن لكتبته
في المصحف
ويدل عليه ما روى ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما أنه قال لقد هممت أن
أكتب في المصحف شهد عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجم ورجمنا بعده وسيجئ قوم يكذبون بالرجم وبالشفاعة وبقوم يخرجون من النار فبين
بهذا الحديث أن مراده كان إشاعته وإظهاره ليستفيض نقله لا أنه من القرآن وذلك لأنه
كان سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول سيجئ قوم يكذبون بذلك لأنه غير جائز أن يكون قوله
سيجئ قوم يكذبون بالرجم من قبل نفسه من غير توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم له لأن ذلك لا
يعلم إلا بطريق الوحي
وأما حديث أبي بن كعب فإن ثبت وصح فهو من المنسوخ التلاوة لا محالة وما روي
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم فلا
دلالة فيه على أنه كان يراه من القرآن لأن السنن وسائر كلام الناس يقرأ وكذلك
حديث أنس
259

فإن قال قائل تأويلكم لهذه الأخبار أنه إن ثبت الخبر فإنه من الخبر المنسوخ
التلاوة والرسم كلام متناقض لأن كل منسوخ الرسم والتلاوة لا يعرفه الناس ولا
يقرءونه وقد أخرت ثبوت الخبر وقراءتهم إياه بعد وفاة النبي عليه السلام فكيف يكون
منسوخ الرسم مما بقيت تلاوته ورسمه إلى يومنا هذا
قيل له تجويزنا لثبوت الخبر لا يمنع ما ذكرنا ولا ينقض تأويلنا لأن الخبر لم يقتض أن
يكون هذا المنقول بعينه هو الذي كان من ألفاظ القرآن على نظامه وتأليفه حسب ما نقلوه
إلينا وليس يمتنع أن يكون ذلك قد نقلوه على نظم آخر ونسخ ذلك النظم وأنسي من
كان يحفظه ولم ينسخ الحكم فنقلوه بلفظ غير اللفظ الذي كان رسم القرآن حين نزوله
إلى أن رفع فلا يكون هذا من القرآن وهذا جائز أن يفعله الله وذلك لأن قوله من القرآن
ومن رسمه يتعلق به أحكام لا تتعلق بغيره
منها أنه مما يلزم الجميع اعتقاد أنه كلام الله تعالى الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم
على نظامه وترتيبه من غير تغيير لنظمه ولا إزالة لتأليفه فإذا نسخ رسمه ونظامه أسقط عنا
التعبد بالاعتقاد والذي ألزمناه في حال كونه غير منسوخ
والثاني ما يتعلق به من حكم جواز الصلاة به وأن قراءته فيها لا تفسدها وإذا كان
من غير القرآن أفسدها
والثالث العبادة بالتقرب إلى الله تعالى بتلاوته وما يستحق من الثواب الجزيل
بقراءته
والرابع أن نكون مأمورين بحفظه وإثباته في مصاحفنا ونقله على نظامه وترتيبه فهذه
كلها أحكام متعلقة بوجود رسم القرآن دون معانيه وأحكامه المذكورة فيه فلا يمتنع إذا
260

كان هذا كما وصفنا أن ينسخ الرسم فتزول هذه الأحكام عن المنسوخ ويبقى حكمه فيكون
بمنزلة سائر السنن كما نسخ رسم الكتب القديمة وتلاوتها وكثير من أحكامها ومعانيها باقية
فإن قال قائل كيف يجوز نسخ الرسم والتلاوة وهو مما لا يجوز أن يختلف حكم الاعتقاد
فيه فيعتقد في حال أنه قرآن وفي حال أنه غير قرآن وهلا كان بمنزلة سائر الأشياء التي لا
يجوز نسخها كأخبار الله تعالى أن اعتقادنا في مخبراتها لما لم يختلف حكمها في حال فنعتقد في
حال نزولها موجب مخبراتها ونعتقد في حال أخرى خلاف ذلك لم يجز نسخها
قيل له ما ذكرت لا يمنع نسخ الرسم والتلاوة على الوجه الذي ذكرنا وذلك
لأن القرآن إنما كان قرآنا لوجوده على هذا الضرب من النظام المعجز للإنس والجن
والله قادر على إزالة النظم ورفعه من قلوب عباده وأوهامهم كما قال تعالى ولئن شئنا
لنذهبن بالذي أوحينا إليك فإذا ذهب به وأنساه خلقه لم يكن قرآن لأن ما ليس
بموجود لا يسمى قرآنا وإذا كان كذلك لم يمتنع ورود النسخ فيه على هذا الوجه إلا أن
الاعتقاد الأول باق في أن ما أنزل على ذلك الضرب من النظام كان قرآنا حين كان
موجودا متلوا ومسطورا لأن فإذا عدم ذلك فيه لم يكن في هذا الحال قرآنا وليس كذلك مخبر
اخبار الله تعالى لأنه قد لزمنا اعتقاد معناه على ما وقع عليه ورود الخبر به وذلك المعنى الذي
ورد الخبر لم يتغير ولم يتبدل فلا يصح أن نتعبد بخلاف معتقده وأما النظم الذي
من أجله كان قرآنا إذا زال فقد زال المعنى الذي من أجله لزم الدوام على الاعتقاد في
بقائه في المستقبل قرآنا فلذلك اختلفا
261

فإن قال قائل قال الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقال تعالى
إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وظاهره يقتضي أن يكون
حافظا له أبدا وأن البيان به حاصل لجميع الأمة إذ لم يخص وقتا من وقت ولا قوما من قوم
وقال تعالى إن هو إلا ذكرى للعالمين فأخبر أن جميعه ذكر للعالمين وذلك يؤمننا وقوع
نسخ تلاوته ورسمه لأن ما رفع وأنسي ولم ينقل لا يكون ذكرا للعالمين وقال تعالى
لأنذركم به ومن بلغ فأخبر أنه منذر بجميع القرآن في كل الأوقات وما رفع لا يصح
إلا نذر به وقال تعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل
من حكيم حميد وهذا يمنع جواز رفعه وقال تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي
هي أقوم فأخبر أن جميعه يهدي ولم يستثن وقتا من وقت فوجب أن توجد الهداية في
جميعه أبدا
وقال تعالى مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين وذلك خبر عن جميعه
والجواب بأن جميع ما ذكر لا يمنع جواز نسخ رسمه وتلاوته كما لم تمنع هذه الآيات
من جواز نسخ أحكامه وموجباته لأن القرآن ينتظم شيئين النظم والمعنى فإذا لم تمنع
هذه الآيات من جواز نسخ أحكامه لم تمنع جواز نسخ رسمه وتلاوته وكانت معاني هذه
الآيات محمولة على غير جواز النسخ
262

وأما نسخ الرسم والتلاوة بعد وفاة الرسول فغير جائز كما لا يجوز نسخ الحكم ولو جاز
ذلك في رسمه وتلاوته لجاز مثله في أحكامه فلما امتنع نسخ أحكامه بعد وفاة الرسول
عليه السلام امتنع نسخ رسمه وتلاوته لأن الرسم قد تعلق به الأحكام على ما بيناه فيما
سلف وفي نسخه نسخ تلك الأحكام
وقد احتج الشافعي لاعتبار الخمس رضعات في إيجاب التحريم بما روى أبو بكر بن محمد
ابن عمرو بن حزم ويحيى بن شعبة الأنصار عن عمرة عن عائشة رضي الله
عنها قال كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلوما ت يحرمن ثم نسخن بخمس
263

معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مما يقرأ من القرآن وفي بعض ألفاظ هذا
الحديث وكانت في صحيفة تحت السرير فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتغلنا بدفنه
فدخلت داجن فأكلتها
فلا يخلو المحتج بهذا الحديث من إحدى منزلتين أما أن يجيز نسخ رسم القرآن
وتلاوته بعد وفاته عليه السلام أو لا يجيزه
فإذا أجازه ارتكب أمرا شنيعا قبيحا خارجا عن أقاويل الأمة كطرق
الملحدين الطاعنين في القرآن بأنه لم ينقل أكثره وأنه قد فقد عظمه ولا يمكنه مع ذلك
الفصل بين إجازة نسخ رسمه وتلاوته وبين إجازة نسخ أحكامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
بيناه فيما سلف وإن منع جواز نسخ رسمه وتلاوته بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصح له
الاحتجاج به لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ورسمه باق لأنها قالت توفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن فإن كان الخبر ثابتا عنده فالواجب عليه إثباته من القرآن
264

لأنه قد أعطى امتناع جواز النسخ بعد وفاة النبي عليه السلام
فإن قال إنما أثبت الحكم دون التلاوة كما أثبت أنت التتابع في كفارة اليمين لما في
حرف عبد الله وإن لم تثبت الرسم
قيل له ليس في حرف عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى وهو من القرآن وكونه من القرآن
في وقت لا يوجب كونه من القرآن أبدا ما دام النبي عليه السلام باقيا فوجب إذ لم
يثبت نقله قرآنا من طريق التواتر ألا نثبته قرآنا بعد وفاة النبي علية السلام وفي خبر عائشة
هذا أنه كان قرآنا بعد وفاته وما ثبت في ذلك لا يجوز بعد ذلك نسخه على أنه قد ذكر
فيه أن ذهابه كان لأجل أن الداجن أكل الصحيفة التي كان فيها ذلك ولا يجوز أن يتوهم في
كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنه كان معرضا لأكل الداجن له
وذهابه بعد وفاة النبي عليه السلام
فإن قيل فما وجه هذا الحديث عندكم
قيل له يحتمل أن يكون لفظ عائشة فيه على غير الوجه الذي روي في هذا الحديث
بأن تكون قالت إنه كان فيما أنزل الله تعالى أو في كتاب الله كيت وكيت ونحوه من
الألفاظ التي يحتمل أن يراد به القرآن ويراد به وحي غير قرآن فظن الراوي أن معنى
اللفظين واحد وأن المراد كان قرآنا إلى أن توفي فنقل المعنى عنده على نحو ما ذكرنا
في خبر عمر في الرجم وإذا احتمل ذلك سقط الاحتجاج به في إثبات ما روي فيه لا سيما
وهو معنى يرده الكتاب وإجماع الأمة قال الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون وقال تعالى إنا علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه
265

ونحوه من الآي المقتضية لبقاء رسم القرآن ونظمه بعد وفاة النبي عليه السلام فإن قيل
فأثبتوا الحكم وإن لم تثبتوا الرسم كما أثبتم التتابع في كفارة اليمين بحرف عبد الله بن مسعود
وإن لم يثبت له الرسم
قيل له الفرق بينهما أن حديث عائشة لا يخلو من أحد معنيين إما ان يكون واهنا
سقيما غير ثابت في الأصل من طريق الرواية فيسقط الاحتجاج به في إثبات الأحكام أو أن
يكون ثابتا على غير الوجه الذي ورد النقل به فلا يصح إثبات حكمه لما قد بان من خطأ
الراوي له في نقله إذ غير جائز أن يكون لفظه ثابتا على ما روي فيه وإذا لم يثبت لفظ
الحديث ولم يكن لنا سبيل إلى معرفة حقيقته لم يجز إثبات حكمه لأنه ليس معنى من المعاني
يقصد إلى إثباته إلا وجائز أن يكون وهو مما غلط فيه راويه كغلطه وقد في لفظه وجائز أن
يكون قد حذف منه أيضا بعض لفظه مما يوجب الاقتصار بحكمه على بعض الأحوال وفي
بعض الموضعين دون بعض بأن يكون قد كان حكما في رضاع الكبير خاصة فلما تعذر
الوقوف على حقيقة لفظه وسياقة معناه سقط الاحتجاج به
وأما حرف عبد الله في التتابع فليس في ظاهر لفظه ما يدفع لأن أكثر ما فيه أن ذلك كان
من القرآن وهذا معنى صحيح غير مدفوع وليس لأنه كان من القرآن ما يوجب أن يكون
منه في كل وقت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم
وأما نسخ الحكم مع بقاء الرسم فموجود في القرآن في كثير من المواضع نحو قوله
تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم إلى آخرها منسوخ الحكم بالجلد تارة
266

وبالرجم أخرى وكقوله تعالى إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة
منسوخ بقوله تعالى فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وقوله
تعالى متاعا إلى الحول غير إخراج منسوخ بقوله والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا وقوله تعالى وعلى الذين
يطيقونه فدية طعام مسكين روي أن الصحيح كان مخيرا بين الصوم والفدية فنسخ
بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه وأشباه ذلك كثير في القرآن
267

باب
القول في الوجوه التي يعلم بها النسخ
قال أبو بكر رحمه الله نسخ أحكام الشرع على وجهين
أحدهما نسخ جميع الحكم
والآخر نسخ بعضه
والوصول إلى معرفة الناسخ من المنسوخ من وجوه أربعة الكتاب والسنة
والإجماع ثم بدلائل الأصول إذا عدم ذلك
والحكم الناسخ هو الذي يرد بعد استقرار حكم المنسوخ والتمكين من فعله مما ينافي
بقاء حكم المنسوخ ويمتنع معه اجتماعهما في أمر واحد في حال واحدة لشخص واحد
فيكون الآخر ناسخا للأول وإن اقتضى زوال جميعه وإن اقتضى بعضه فهو ناسخ
لذلك البعض
فأما نسخ الجميع فنحو قوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب
عليكم وعفا عنكم روي أنه قد كان حرم عليهم الجماع والأكل والشرب بعد النوم في
ليالي الصوم فنسخ ذلك بقوله تعالى فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر الآية فأباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم بعد
النوم وقبله ونحوه قوله تعالى فاعف عنهم واصفح ونحو قوله تعالى فإذا
271

الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم نسخه قوله تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم
ظلموا
وأما نسخ بعض الحكم فنحو الصلاة إلى بيت المقدس إنما نسخ منها التوجه إلى
هناك وسائر أحكامها باقية وصلاة الليل نسخ منها الوجوب وسائر أحكامها باقية من
أوصاف أفعالها وشرائطها وكونها قربة ثابتة ونحو ما أوجب الله تعالى من الجلد على
قاذف الأجنبيات والزوجات بقوله والذين يرمون المحصنات الآية ثم نسخ الجلد
عن قاذف الزوجات وأوجب اللعان إذا كانا على صفة ويدل على أن حد الجميع كان
الجلد قوله عليه السلام لهلال بن أمية حين قذف امرأته ائتني بأربعة يشهدون وإلا
فحد في ظهرك وقالت الأنصار الآن يجلد هلال بن أمية وتبطل شهادته في
المسلمين
ولم يوجب النبي عليه السلام غير الجلد فلما نزلت آية اللعان أمره باللعان ولم يحده
وإذا عرف تاريخ الحكمين اللذين لا يصح اجتماع التعبد بهما في حال واحدة
272

لشخص واحد فإن الآخر منهما ناسخ للأول
قال ابن عباس رضي الله عنهما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث
فالأحدث من أمره
وإنما قلنا إن النسخ يقع بما لا تصح العبادة به مع الحكم الأول في حال واحدة
لشخص واحد وإنما يصح اجتماعه مع الأول في حال واحدة لم ولا يكون نسخا لأن
ما جازت العبادة به في حال واحدة لشخص واحد فليس في تكليف أحدهما ما ينفي لزوم
الآخر فوجب أن يثبتا جميعا إذا ورد أحدهما بعد الآخر
والدليل على ذلك أنه كان يصح التعبد بهما معا في حال واحدة في أمر
واحد فإذا لم يتنافيا إذا وردا معا وجب ألا يتنافيا إذا ورد أحدهما بعد الآخر ألا ترى
أن الصلاة والصيام لما صح الأمر بهما في حال واحدة لم يكن أحدهما ناسخا للآخر ولا مانعا
من بقاء حكمه إذا ورد بعده وهذا الاعتبار واجب في نظائر ذلك من العبادات
وقد يرد حكم يصح اجتماعه مع الأول ويكون وروده عقيب نسخ الأول فيطلق
بعض الناس أن الأول منسوخ بالثاني وإن كان النسخ في الحقيقة واقعا بغيره وإطلاق
هذا مجاز عندنا ليس بحقيقة وإنما سمي هذا نسخا لأنه ورد عقيب النسخ متصلا به وسمي
باسمه كما يسمى الشئ باسم غيره إذا كان مجاورا له وكان منه بسبب على جهة
المجاز والتشبيه به وذلك نحو قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم إلى آخر القصة فروي أن هذا كان حد الزانيين في أول الأمر
273

قال ابن عباس وهو منسوخ بقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة ومعلوم أنا لو خلينا والآيتين لم يكن يمتنع الجمع بين حكمهما على
شخص واحد في حال واحدة فيكون حده الحبس والأذى والجلد مع ذلك فلا يكون
وجوب جلد غير المحصن مانعا من بقاء حكم الحبس والأذى ولا يكون ذلك مزيلا لهما من
هذا الوجه إلا أنه كان يكون نسخا من جهة أخرى وهي الزيادة في النص لأن
الزيادة في النص توجب النسخ عندنا لما سنبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى فعلمنا أن
زوال حكم الحبس والأذى لم يتعلق بوجوب الجلد وإنما تعلق بشئ غيره فلما أوجب
الجلد على الزاني غير المحصن عند نسخهما أطلق عليه أنه نسخه وهذا الذي قلناه هو في
الزاني غير المحصن فأما الزاني المحصن فهذا الحكم محالة منسوخ عنه بسنة الرسول
عليه السلام في إيجابه الرجم على المحصن إذ لا يصح اجتماع الرجم والحبس
والأذى
فإن قال قائل قد كان يصح اجتماع الحبس والأذى والرجم عليه ويكونان جميعا
عقوبته بأن يكون الرجم بعد الحبس والأذى
قيل له أما الذي في الآية من ذلك فلم يكن يصح اجتماعه مع الرجم لأنه
قال حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا فكان الحبس والأذى هما الحد إلى أن
تموت حتف أنفها أو يجعل الله لها سبيلا غيرهما ووقوع الرجم يمنع استيفاء
ذلك فقد نسخ الرجم هذا الحكم بحيث لم يصح اجتماعهما في حال واحدة
274

ومن جهة أخرى إن الرجم إذا كان مستحقا بالزنى وقد كان قبل ذلك حدهما
الحبس والأذى في الحال التي أبدل مكانها الرجم فغير جائز ثبوت الحبس والأذى في
الحال التي وجب فيها الرجم لأن وقوع الرجم ينافيهما فثبت أنهما منسوخان به على
الحقيقة
ويدل على ذلك أيضا أن النبي عليه السلام قال خذوا عني قد جعل الله لهن
سبيلا وهذا يعني والله أعلم السبيل المذكور في قوله تعالى حتى يتوفاهن الموت أو
يجعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة والثيب بالثيب الجلد والرجم فأخبر بزوال
الحبس لأن الله تعالى أوجب حبسهن إلى وقت ورود السبيل فبين الرسول عليه السلام
ذلك السبيل وأخبر بنسخ حكم الآية عن الزاني غير المحصن لا بإيجاب الجلد لكن
بمعنى غيره ونسخه عن المحصن بالرجم لأن وقوع الرجم ينافي الحبس
ونحو قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين
والأقربين قيل إنها منسوخة بالميراث ومعلوم أن وجوب الميراث لم يكن ينافي بقاء
الوصية فيستحقهما جميعا معا إلا أنه لما نسخت الوصية وأوجب عقيبها الميراث قيل على
وجه المجاز إنها منسوخة به
ولو خلينا والآيتين لاستعملناهما علي جميعا ومثله ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيام
عاشوراء ثم نسخ بصيام شهر رمضان وأن الزكاة نسخت كل صدقة كانت واجبة
قبلها وأن الأضحية نسخت كل ذبيحة كانت واجبة قبلها وأن قوله عليه السلام الماء
من الماء منسوخ بإيجاب الغسل بالتقاء الختانين ولم يكن يمتنع اجتماع ذلك كله فعلمنا
275

أن شيئا من هذه الأحكام لم ينسخ بالأحكام الواردة بعدها فإن من سمى ذلك نسخا فإنما
سماه به مجازا لا حقيقة لأنه لما نسخ الأول وجب الثاني عقيبه وإن كان النسخ واقعا
لغيره
وأما كل حكمين لا يصح مجئ التعبد بهما في حال واحدة لشخص واحد فإن الثاني
منهما يكون ناسخا للأول إذا ورد بعد استقرار حكمه وذلك نحو قوله تعالى فإن جاءوك
فاحكم بينهم أو أعرض متى استقر هذا الحكم ثقال تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل
الله فأوجب ذلك نسخ التخيير المذكور فيه إذ لا يصح اجتماعهما في حال واحدة ألا
ترى أنه لا يصح أن يقول قد خيرتك بين الحكم والإعراض ومع ذلك فاحكم بينهم من
غير إعراض لأن اللفظ يتناقض به ويستحيل معناه ومن أجل ذلك منعنا أن يعترض
بقوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب على قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من
القرآن لأن الآية اقتضت التخيير في المفروض من القراءة وإذا حمل معنى التخيير
على تعيين فرض القراءة بفاتحة الكتاب أوجب إسقاط التخيير الذي في الآية فيكون ناسخا
له ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد
ونحو قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة
يغلبوا ألفا فأوجب على العشرين مقاومة المائتين وعلى المائة مقاومة الألف وحظر عليهم
الفرار منهم ثم قال الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة
يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين فصار الثاني ناسخا للأول لاستحالة
اجتماعهما في حال واحدة فثبت نسخ الأول بالثاني ومن هذه الجهة قلنا إن الزيادة في
النص يوجب نسخه إذا وردت بعد استقرار حكمه وكذلك النص إذا ورد منفردا عن ذكر
276

الزيادة بعد ذكر الزيادة مع النص واستقرار حكمها فإنه يكون ناسخا للزيادة وذلك
لاستحالة جمعهما في حال واحدة فالوجه الأول نحو قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق اقتضى ظاهره وحقيقته جواز الصلاة بغسل هذه الأعضاء فصار
كقوله قد أجزأتكم صلاتكم بغسلها دون وجود النية فيه فلا يصح أن يقول مع ذلك
النية واجبة في غسلها فإن لم تنووا به الطهارة لم تجزكم حتى صلاتكم
وكذلك قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم تعالى لا يصح اجتماعه مع
الشاهد واليمين في امر واحد مع استعمال حكم الآية على حسب مقتضاها وموجبها لأنه لا
يصح ان تقول قد أوجبت عليكم الحكم بالشاهدين والرجل والمرأتين دون غيرهم
وأجزت لكم مع ذلك الحكم بالشاهد واليمين لأن اللفظ يتناقض ويستحيل معنا
وكذلك قوله تعالى فإن والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلده يقتضي
أن يكون المائة حدهما وأن وجودهما يوجب وقوعها موقع الجواز واستيفاء كمال الحد بها
فغير جائز أن تقول بعد ذلك هذا بعض الحد دون جميعه وأن كماله بوجود النفي معه
ونظائر ذلك كثير فلما امتنع وجودهما في أمر واحد وجب أن يكون وروده بعد استقرار
الحكم الأول موجبا لنسخه ولا فرق بين ورود النص منفردا عن ذكر الزيادة في كونها ناسخا
للنص المتقدم له المعقود بذكر الزيادة وبين ورود الزيادة بعد ورود النص منفردا عنها فأما
ورود النص بعد الزيادة فنحو قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة
جلدة فاقتصر منها على ذكر الجلد دون النفي والرجم وقد كان تقدم قبل نزول هذه الآية
من النبي عليه السلام ذكر النفي والرجم مع الجلد في حال وجود الإحصان أو عدمه بقوله
خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب
الجلد والرجم وبه نسخ الحبس والأذى لأن هذا السبيل هو السبيل المذكور في قوله تعالى
أو يجعل الله لهن سبيلا فعلمنا أن قوله تعالى الزانية والزاني لم يكن نزل حينئذ لأنه لو
277

كان نزل لكان السبيل قد جعل لهن قبل قوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا فلما
أخبر أن السبيل المذكور في الآية مأخوذ عنه بما ذكر علم أن الآية لم تكن نزلت قبله فلما
نزلت الآية بعده منفردة عن ذكر النفي والرجم وجب أن يكون حكمها مستعملا على
حسب مقتضاها وموجبها فيكون الجلد المذكور فيها هو كمال الحد وتكون ناسخة للنفي
والرجم المذكورين في الخبر حدا مع الجلد
فإن قال قائل قد قلت فيما سلف إن النسخ إنما يصح على الوجه الذي يجوز
ورود الأمر به في خطاب واحد وأن مالا يصح اجتماع ذكره مع المنسوخ في خطاب واحد لم
يصح نسخه به والزيادة مع الأصل مما يصح وجوده معه في خطاب واحد
قيل له ليس فيما ذكرنا إلى هاهنا من حكم أحكام الزيادة في النص نفي لما
قلنا من اعتبار جواز النسخ في الأصل بل هما جميعا صحيحان وذلك لأنا قلنا إن ما
لا يصح ورود التعبد به في حال واحدة حتى يكون مأمورا باعتقاد الحكم على وجه
ومأمورا أيضا في تلك الحال باعتقاده على خلافه في ذلك الوقت الذي يلزمه تنفيذ الحكم
لا يصح ورود النص به نحو ما ذكرنا في أن الآية إذا كانت موجبة لكون الحد جلد مائة
فقد ألزمنا اعتقاد كونه حدا كاملا ولا يصح أن يقول فاعتقدوا في هذه الحال أيضا أن
جلد المائة هو بعض الحد إذ غير جائز أن يكون هو بعض الحد وهو جميعه وكما لا يصح أن
يقول عدة المتوفى عنها زوجها سنة وعدتها أيضا أربعة أشهر وعشرا فلا يصح الأمر
باعتقاد كل واحدة من المدتين عدة كاملة في حال واحدة وأما ما قلنا في اعتبار جواز
النسخ باجتماع ذكر الحكمين جميعا في خطاب واحد فهو صحيح لأن هناك أمرين مدة كل
واحد منهما غير مدة الآخر نحو قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية
278

لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فكان هذا حكما ثابتا في عدة المتوفى عنها زوجها
ثم نزل قوله تعالى يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فكان ناسخا لما عدا هذه
المدة من الحول المذكور في الآية الأخرى وقد كان يجوز أن يجمعهما في خطاب واحد بأن
نتعبد بهما في حالين بجواز أن تقول عدة المتوفى عنها زوجها حول إلى أن يمضي خمس
سنين فإذا مضت السنون الخمس كانت عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا
فإن قال قائل ما ذكرت من حكم الزيادة في النص لا يقتضي ما ذكرت من إيجابها
النسخ لأنه يصح أن تقول حد الزانيين الجلد والنفي ويجوز أن يقول واستشهدوا
شاهدين من رجالكم أو شاهدا ويمينا وأن غسل الأعضاء الأربعة فرض مع إحضار النية
له ولا يتناقض الخطاب به فليس في ورود أحدهما بعد الآخر ما يوجب النسخ
قيل له هذا سؤال ساقط محال على هذا الوجه لأنهما إذا وردا معا لا يكونان زيادة
في النص وإنما يكون المذكور جميع النص لأن ما جمعه أمر واحد وخطاب واحد لا
يصح أن يقال إن بعضه زيادة في بعض وإنما الزيادة في النص أن يرد النص مفردا عن ذكر
الزيادة ثم ترد الزيادة منفصلة عن خطاب النص نحو قوله تعالى الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فتكون الآية موجبة لكون جلد المائة حدا واقعا موقع
الجواز في عقاب الزاني فإذا قال بعد ذلك فاجلدوهم مائة جلدة وانفوهم فقد تغير
بورود الزيادة على هذا الوجه اعتقاد موجب حكم الآية فكل ما ورد بعده مما يوجب زيادة فيه
أو نقصانا منه فهو لا محالة نسخ لاستحالة ورود الخطاب به في أمر واحد بل يقول
279

جلد المائة هو جميع الحد وهو بعضه فأما أن يردا معا فهذا غير ممتنع ويكون زيادة كما لا
يمتنع أن تكون عدة المتوفى عنها زوجها سنة ويكون الأربعة الأشهر والعشر داخلة فيها
ويمتنع أن يقول العدة سنة والعدة أربعة وعشرا وكما لا يمتنع أن نقول صلوا إلى بيت
المقدس وإن شئتم فإلى الكعبة ويمتنع أن نقول صلوا إلى بيت المقدس وصلوا إلى
الكعبة في خطاب واحد
ومتى استقر أحدهما ثم ورد الآخر كان ناسخا للأول فكذلك الزيادة هاهنا في
النص هي على هذا المعنى
وأيضا فإنا نقول في الزيادة كما يقول مخالفنا معنا في النقصان فلما كان النقصان بعد
استقرار الفرض نسخا كذلك الزيادة وذلك نحو أن يقول العدة سنة ثم يقول العدة
أربعة أشهر وعشرا كان ذلك نسخا ولو جمعهما في خطاب واحد بأن قال العدة سنة إلا
كذا وكذا وشهرا لم يكن نسخا كذلك الزيادة إذا وردت مع النص في خطاب واحد
فليس بنسخ وإذا وردت بعد استقرار حكم النص كان نسخا وهذا الذي ذكرناه إنما هو
كلام في الزيادة إذا وردت بعد النص فأما إذا أورد النص منفردا عن ذكر الزيادة ووردت
الزيادة ولا يعلم تاريخهما فإن هذا له شريطة أخرى غير ما كنا فيه وسنذكرها أيضا فيما
بعد وإن كان قد تقدم ذكر شئ منها فيما سلف من هذا الباب
قال أبو بكر قد بينا كيفية وجود النسخ
ونبين الآن الوجوه التي توصل إلى العلم بالناسخ والمنسوخ من الجهات التي ذكرنا أن
النسخ يقع بها
فنقول إن ما يعلم به النسخ على وجوه منها أن يرد لفظ يشتمل على ذكر الناسخ
والمنسوخ معا مع ذكر تاريخهما فلا يشكل على سامعهما أن الثاني منهما في التاريخ ناسخ
للأول نحو قوله تعالى فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام
280

وقد قال تعالى قبل ذلك سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا
عليها فأخبر أنهم قد كانوا على قبلة غيرها ثم حولوا إليها ونحو قوله تعالى إن يكن
منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين فكان هذا حكما ثابتا ثم قال الآن خفف الله
عنكم وعلم أن فيك ضعفا إلى آخر الآية فدل ذكره للتخفيف أنه وارد بعد حكم
هو أثقل منه فصار ناسخا له ونحو قوله تعالى إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي
الليل ونصفه وثلثه إلى قوله تعالى فتاب عليكم يعني خفف عنكم وهذا بعد
قوله تعالى قم الليل إلا قليلا ثم قال علم أن سيكون منكم مرضى إلى آخر
السورة فاقتضت القصة بفحواها ومضمون خطابها أن فرض صلاة الليل منسوخ بما
تضمنت من إباحة تركها وكقوله تعالى إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم
صدقة ثم قال تعالى فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة وكقوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا
عنكم يعني والله أعلم سهل عليكم وخفف عنكم فدل على نسخ حظر الأكل والشرب
والجماع بعد النوم في ليالي رمضان فانتظمت هذه الآيات ذكر الناسخ والمنسوخ معا في
خطاب واحد والسنة على وجهين قول من النبي عليه السلام وفعل وقد يقع النسخ
بكل واحد منهما فأما النسخ بالسنة من جهة القول فنحو قول النبي عليه السلام كنت
نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وكنت نهيتكم عن الأوعية فاشربوا ولا تسكروا
وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا فانتظم الخبر ذكر
الناسخ والمنسوخ معا
281

وكما روى عبد الله بن المغفل أن النبي عليه السلام أمر بقتل الكلاب ثم قال مالي
وللكلاب ثم رخص في كلب الصيد وقال جابر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم أذن
لطوائف
فهذه الآي والأخبار مما نقل إلينا فيه حكم الناسخ والمنسوخ وكل ما كان هذا وصفه
فلا إشكال على أحد في حكمه
وأما النسخ من جهة الفعل فنحو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من شرب الخمر فاجلدوه
فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه ثم قال في الرابعة فإن عاد فاقتلوه ثم روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي بشارب الخمر في الرابعة فلم يقتله ومثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
282

أكل لحما وصلى ولم يتوضأ نسخ به ما روي من قوله توضئوا مما مست النار
ومن الألفاظ ما يوجب النسخ من جهة قيام الدلالة على تأخر حكمها عن الحكم
المنسوخ وإن لم يكن الحكم المنسوخ مذكورا معها كقوله تعالى فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم ثم قال تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا
سبيلهم فمنع تخلية سبيلهم إلا بشرط الإيمان
وروي أن سورة براءة من آخر ما أنزل من القرآن فوجب بذلك أن يكون ناسخا
للفداء المذكور في قوله تعالى فإما منا بعد وإما فداء
ومثله ما روي عن النبي عليه السلام أنه رضخ رأس يهودي قتل جارية على أوضاح
283

لها وأنه قطع أيدي العرنيين وأرجلهم وسمل أعينهم لما ارتدوا وقتلوا راعي الإبل
وساقوها
وروي عنه أنه أشعر البدن ثم روي عنه عليه السلام في أخبار مستفيضة أنه نهى عن
المثلة وقال سمرة ابن جندب ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأمرنا بالصدقة ونهانا عن
المثلة فاقتضى ذلك وجوب النهي عنها في آخر خطبة خطبها فيكون ناسخا لسمل
أعين المحاربين ورضخ الرأس على وجه القصاص وإشعار البدن لأن جميع ذلك من المثلة
ومثله ما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يصلي بالهجر حين قدم المدينة ثم قال
أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم فأخبرنا بأن الأمر بتأخير الظهر في شدة الحر
284

كان متأخرا فالواجب أن يقضي على خبر خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء
فلم يشكنا لأنه قد ثبت أن الأمر بالتأخير كان متأخرا
ومن الألفاظ الدالة على تأخير أحد الحكمين عن الأخر ما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال لا قود إلا بالسيف فهذا يدل على أن حكم وجوب القود متقدم لهذا
الخبر لأنه لا يذكر كيفية القود إلا وقد تقدم ذكر وجوبه فغير جائز لأحد أن يستدل بقوله
تعالى كتب عليكم القصاص على إيجاب القود بكل ما قتل به لأن إيجاب القود
بالسيف متأخر عنه فهو قاض عليه
ونحو قوله عليه السلام ألا أن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه الدية مغلظة
فلم يذكر خطأ العمد إلا وقد تقدم ذكر العمد والخطأ ومثله ما روي في شاة ميمونة أن
النبي عليه السلام قال حين رآها ميتة هلا انتفعتم بإهابها فقالوا إنها ميتة فدل على
285

أن تحريم الميتة كان متقدما لذلك
وكذلك قوله عليه السلام إنما الرضاعة من المجاعة وكذلك قوله إنما الرضاع
ما أنبت اللحم وأنشز العظم يقتضي أن يكون إيجاب التحريم بالرضاع متقدما لهذا
الخبر ونظائر ذلك كثيرة
ويجوز أن يجعل إخبار الصحابي والتابعي عن تاريخ الحكمين عيارا في هذا الباب
فيوجب به النسخ نحو ما روي عن مجاهد وعكرمة أن قوله تعالى وأن احكم بينهم بما
أنزل الله نزل بعد قوله تعالى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ونحو ما روي
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما ذكر له الرضعة الرضعتان قال قد كان ذلك فأما
اليوم فلا خبر عن تقدم علمه بهذا الخبر وأخبر أنه قد كان وإن كان حكمه غير
286

ثابت الآن فصار ذلك إخبارا منه بنسخه وتاريخ حكمه
ومثله ما روي عن الزهري أن النبي عليه السلام رد زينب ابنته عليها السلام على أبي
العاص بن الربيع وكانت هاجرت وبقي هو مشركا ثم جاء مسلما بعد سنين قال الزهري
وكان هذا قبل أن تنزل الفرائض
ونحوه ما روي من قصة ذي اليدين في الكلام في الصلاة قال الزهري إنما كان
ذلك قبل أن استحكمت الفرائض
وإنما قلنا إن الصحابي والتابعي إذا أخبرا بنسخ حكم كان خبرهما مقبولا فيه من
قبل أن العلم بالتاريخ لا سبيل إليه من طريق اجتهاد الرأي وإنما يعلم من جهة السماع
والتوقيف فعلمنا أنه لم يقل ذلك إلا من جهة التوقيف فهذه الوجوه التي ذكرنا
287

من الكتاب والسنة مما أوصل إلى العلم بتاريخ الحكمين إما بذكر الناسخ والمنسوخ معا
مع ذكر تاريخهما أو بذكر الناسخ وتاريخه دون ذكر المنسوخ من جهة اللفظ أو فحوى الخطاب
ودلالته
وأما الاستدلال بالإجماع على النسخ فقد ذكره عيسى بن أبان رحمه الله وذلك أنه
قال إذا روي خبران متضادان والناس على أحدهما فهو الناسخ للآخر فاستدل بالإجماع
على النسخ
قال أبو بكر ولسنا نقول إن الإجماع يوجب النسخ لأن الإجماع إنما يثبت حكمه بعد
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
وأما في حياته فالمرجع إليه ص في معرفة الحكم لمن كان في حضرته ولا اعتبار بالإجماع
فيه
ومعلوم أن النسخ لا يصح إلا من طريق التوقيف ولا يصح بعد وفاة الرسول عليه
الصلاة والسلام إلا أن الإجماع إذا حصل على زوال حكم قد ثبت بالنص دلنا الإجماع
على أنه منسوخ بتوقيف وإن لم ينقل إلينا اللفظ الناسخ له فمما دلنا الإجماع على
نسخه قوله تعالى وإن فاتكم شمن أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت
أزواجهم مثل ما أنفقوا ولم يعلم زوال هذا الحكم إلا من طريق الإجماع
ونحو حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله
فليتوضأ وحديث سلمة بن المحبق فيمن وطئ جارية امرأته فقال عليه السلام إن كانت
طاوعته فعليه مثلها وهي له وإن استكرهها فهي حرة وعليه مثلها وحديث النعمان بن
بشير عن النبي عليه السلام فيمن وطئ جارية امرأته أنها إن كانت أذنت له جلد مائة
288

وإن لم تكن امرأته أذنت له فعليه الرجم
فهذه الأحكام التي ذكرناها لم يثبت نسخها إلا بدلالة الإجماع عليه
وأما اعتبار دلائل النظر على الناسخ من الحكمين فإنما يجب فيما لا يعرف تاريخه من
جهة النقل على الوجوه التي بينا فيرجع فيه إلى شواهد الأصول ودلائل النظر فيثبت
منه ما أثبتته وينتفى منه ما نفته
وقد ذكر عيسى بن أبان رحمه الله في هذا المعنى جملة يعرف بها عامة هذا الباب من فهم
معاني كلامه
قال عيسى إذا روي خبران متضادان والناس على أحدهما فهو الناسخ وإن اختلفوا
ساغ الاجتهاد فيهما واستعمال أشبههما بالأصول وإن علم تاريخهما فالآخر ناسخ الأول إذا
لم يحتمل الموافقة وإن احتمل الموافقة ساغ الاجتهاد فيه
وإن عمل الناس بالأول وهو الظاهر في أيدي أهل العلم والآخر خامل لا يعمل به إلا
الشاذ نظر فإن سوغ الذين عملوا بالأول العمل بالآخر ساغ الاجتهاد فيه وإن عابوا من
عمل بالآخر كان ما عمل به الناس هو المستعمل لأن النسخ لو كان ثابتا لما عرفوا الأول
ولظهر النسخ منهم كما ظهر الفرض الأول حتى لا يشذ عنه إلا القليل ألا ترى أن لحوم
الأضاحي قد ظهرت الإباحة فيها كما ظهر الحظر وكذلك زيارة القبور وإباحة
الظروف ومتعة النساء
قال أبو بكر رحمه الله أما قوله أما إذا كان الناس على أحدهما فهو الناسخ فإن
وجهه أنه قد ثبتت صحة حجة الإجماع فحيثما وجدت فواجب الحكم بصحته
289

وإن وجد الحكم بصحة ما اجمعوا عليه واستحال ثبوت ما يضاده من الحكم في حال ثبوته
ثبت هو وانتفى ما يضاده وكان هذا دليلا على أن الحكم الآخر منسوخ بما أجمعوا عليه
وأما قوله إذا اختلفوا ساغ الاجتهاد واستعمل أشبههما بالأصول فإن مراده في هذا
الفصل إذا لم يعلم تاريخهما فإذا كان هكذا وجب الاستدلال بالأصول على الناسخ منهما
وجهات الاستدلال بها على الناسخ منهما مختلفة وأنا ذاكر منها طرفا تستدل به على جملة
القول فيه
فنقول قبل أن نشرع في ذكر جهات الاستدلال على الحكم الناسخ
إن الدليل على وجوب الاستدلال على الحكم الناسخ منهما على أن اختلاف
الناسخ في حكم الخبرين المتضادين اللذين لا يحتملان غير النسخ يجعل الحكم الذي
تضمنه كل واحد منهما في معنى سائر أحكام الحوادث التي قد اختلف الناس فيها على
وجوه مختلفة ثم كان طريق استدراك حكمها بالنظر والاستدلال بالأصول فوجب أن
يكون طريق إثبات حكم أحد الخبرين دون الآخر اعتبار شواهد الأصول فيكون
الخبر الذي تعضده الأصول منها أولى بالإثبات كحكم الحادثة إذا عاضدته دلائل
الأصول فيكون أولى بالإثبات من غيره مما اختلف فيه
وأيضا فإن الخبرين إذا تضادت أحكامهما على هذا الوجه فإن أقل أحوالهما أن يسقطا
كأنهما لم يردا فيجعل الحكم موقوفا على شواهد الأصول فما دلت الأصول على ثباته
من الحكمين فهو ثابت دون الآخر
وأيضا فإن حكما يوجبه الأثر ودلائل الأصول أولى بالإثبات من حكم ينفرد بإيجابه
الأثر دون دلائل الأصول
فدل جميع ما وصفنا على وجوب اعتبار الاستدلال بالأصول على الناسخ من الخبرين
وأما قوله إن علم تاريخهما فالآخر أولى إذا لم يحتمل الموافقة فمن قبل أن الآخر ثابت الحكم
290

لأنه لم يوجد بعده ما يزيله وفي ثبوته نفي الأول لتضادهما
وأما قوله ان احتمل الموافقة ساغ الاجتهاد فلأنه إذا احتمل النسخ واحتمل الموافقة لم
يجز إثبات النسخ بالاحتمال ولا الحكم بالموافقة أيضا بالاحتمال إذ ليس أحد وجهي
الاحتمال بأولى من الآخر فصار طريقه الاجتهاد والاستدلال بالأصول على ثبوتهما
بالحمل على الموافقة أو إثبات حكم أحدهما بإثبات النسخ
فإن قال قائل هلا حكمت بالموافقة دون النسخ من غير اعتبار الأصول لأن
الأصل أن كل خبر حكمه ثابت قائم بنفسه حتى يثبت ما يزيله فإذا احتمل كون الثاني
ناسخا للأول واحتمل كونه موافقا له لم يزل عن الحكم الأول إلا بيقين ولم يثبت النسخ
بالشك
قيل له هذا غلط لأن هاهنا أصل آخر وهو أن الخبر الثاني إذا كان حكمه
منافيا للحكم الأول فهو ناسخ له فإذا احتمل الموافقة صار بقاء الحكم الأول مشكوكا فيه
وصار إيجاب النسخ مشكوكا فيه أيضا فلما تطرق الشك على الحكمين جميعا
احتجنا إلى اعتبارهما بالأصول فإن شهدت الأصول لأحد الحكمين دون الآخر كان
حكمه ثابتا فإن كان هو الأول حمل الثاني على موافقته وإن شهدت الأصول للثاني دون
الأول كان الخبر الثاني ثابت الحكم وكان الأول محمولا على موافقة الثاني
وأما قوله فإن عمل الناس بالأول وهو الظاهر في يد أهل العلم والآخر خامل لا
يعمل به إلا الشاذ نظر فإن سوغ الذين عملوا بالأول العمل بالآخر ساغ الاجتهاد فيه
وان عابوا من عمل بالآخر كان ما عمل به الناس هو المستعمل فإن الأصل فيه أن
عملهم بالأول مع تركهم النكير على من عمل بالثاني دليل على أن طريق استعمال حكم
كل واحد منهما الاجتهاد لولا ذلك لكان الآخر عندهم نسخا للأول ولظهر النكير
291

منهم على من عمل بالأول فكان في ترك بعضهم النكير على بعض فيما ذهب إليه من
حكم أحد الخبرين دلالة على جواز الاجتهاد عندهم في استعمال أحد الخبرين أيهما كان
دون الآخر
وأما قوله وان عابوا من عمل بالآخر كان ما عمل به الناس هو المستعمل فلأنهم إذا
عابوا على الآخرين ما ذهبوا إليه من ذلك فقد أبانوا عن نسخ الآخر وأفصحوا به ولولا
أن ذلك كذلك لكان الاجتهاد فيه سائغا عندهم وما يسوغ فيه الاجتهاد لا يسع
بعضهم إظهار النكير فيه على بعض فدل ظهور النكير منهم على الآخرين فيما ذهبوا
إليه على أن خبرهم ثابت عندهم غير منسوخ فصار ذلك كالإخبار منهم بأن الثابت
هو الذي استعملوه دون الآخر ولأن نسخ الأول لو كان ثابت لعرفوه كما عرفوا الأول
ولظهر النسخ فيهم كما ظهر الأول حتى لا يشذ عن علمه إلا القليل منهم كالنهي عن
لحوم الأضاحي وزيارة القبور والشرب في الظروف ومتعة النساء على حسب ما حكيناه
عن عيسى بن أبان رحمه الله
فإن قال قائل كيف يكون الأول ناسخا للآخر
قيل له لم نقل ان الأول ناسخ للآخر وإنما قلنا إن ما ذكرناه من حال يدل على أنه هو
الثابت الحكم دون الآخر وأن الآخر لا ينفك من أحد معنيين إما أن يكون غير ثابت في
الأصل وإن كان ثابتا فهو محمول على معنى لا يخالف الأول أيكون منسوخا بالأول
ولكن بمعنى آخر لم ينقل إلينا كما قلنا فيما دل الإجماع على نسخه من الأخبار قال
أبو بكر وما حكيناه عن عيسى من أن نسخ الأول لو كان ثابتا لظهر فيهم كظهور الحكم
الأول صحيح يجب اعتباره وذلك لأن الحكم إذا ثبت وانتشر في الكافة ثم أحدث
النبي عليه السلام نسخا فلا بد من أن يظهره عليه السلام للكافة حتى يعرفوه كما كانوا
عرفوا المنسوخ قبل نسخه لأنه إذا علم أنهم ثابتون على الحكم الأول معتقدون لبقائه
292

عليهم فغير جائز أن يقرهم على اعتقاد ثبوته والعمل به مع إيجاب نسخه لأنه لو أقرهم
على ذلك لكان فيه إقرارهم على اعتقاد الشئ على خلاف ما هو عليه وعلى
العمل بالمنسوخ الذي لا يجوز العمل به ولكان فيه أيضا ترك الإبلاغ الذي أمره الله تعالى
به بقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وقوله تعالى فاصدع بما
تؤمر وكان صلى الله عليه وسلم من أشد الناس مسارعة إلى اتباع أمر الله تعالى فوجب من أجل
ذلك إظهار الحكم الناسخ ممن عرف الحكم المنسوخ بدءا ومتى أظهره فيهم
نقلوه كما نقلوا الأول ولو نقلوه لاستفاض فيهم وظهر كظهور الأول فلما لم ينقل الحكم
الآخر إلا الشاذ منهم وثبت الحكم الأول بنقل الكافة كان الحكم الأول ثابتا غير مرفوع
بالشاذ الذي لا يوازيه في النقل والاستعمال
وأيضا فإن الحكم الآخر إذا كانت الحاجة إلى معرفته ماسة ثم عرف الأول
فالواجب توقيفهم عليه وإعلامهم إياه فيكون الحكم الناسخ بمنزلة الأشياء التي تعم
البلوى بها فلا يقبل فيه إلا نقل الكافة ولا يلتفت فيه إلى نقل الشاذ فيصير الحكم
بالآخر حينئذ بمنزلة ما لم يرد فيه نقل وصار الأول ثابتا غير معارض بالآخر
قال أبو بكر رحمه الله وينبغي أن يكون كذلك حكم الآيتين إذا أوجبتا حكمين لا
يصح اجتماعهما على الوجوه التي ذكرها في الأخبار فإن قال قائل إنما وجب ذلك من
جهة أن عمل الناس بأحدهما يدل على ضعف الآخر ووهانته كما من طريق النقل أو على
293

إغفال بعض الرواة لبعض معانيه وما جرى مجرى ذلك فيصير المعمول به عند الناس
كالمنقول من طريق التواتر والآخر كخبر الواحد فلا يعترض به عليه وأما الآتيان فجواز
وقوع ذلك فيهما مأمون منهما
قيل له ليس كذلك لأن عيسى لم يفرق ما بين الخبرين المتضادين إذا وردا من جهة
التواتر وبينهما إذا وردا من طريق الآحاد فعلمنا أنه لم يعتبر ما ذكرت وعلى أنه لما
اعتبر ظهور الحكم الناسخ أنه ناسخ كظهور المنسوخ كان عندهم بدءا وجب ألا يختلف
في ذلك حكم الآيتين والخبرين لأن نقل الناسخ منهما أنه ناسخ واجب على من عمله كذلك
كنقل لفظه وأحكامه وإذا لم ينقل أنه هو الناسخ علمنا أن حكمه موكول إلى الاجتهاد
واعتبار الأصول
قال أبو بكر وأما طرق الاستدلال على الحكم الناسخ منهما من جهة الأصول فعلى
وجوه كثيرة يتعذر وصف جميعها ولكنا نذكر منها جملا يعتبر بها نظائرها وتدل على أمثالها
فنقول وبالله التوفيق إن مما يجب اعتباره في حكم الخبرين المتضادين إذا لم يعلم
تاريخهما وجاز على أحدهما أن يكون منسوخا بالآخر أن ما كان من ذلك مباح الأصل ثم
ورد فيه خبران أحدهما يوجب الإباحة والآخر الحظر فحكم الحظر أولى ويصير خبر الحظر
رافعا للإباحة
ومن الناس من لا يسمى ذلك نسخا إذا لم تكن الإباحة المتقدمة ثابتة من جهة الشرع
وليس غرضنا في هذا الموضع الكلام في أن ذلك يسمى نسخا أو لا يسمى لأن ذلك كلام
في العبارة فلا معنى للاشتغال به وإنما يجب أن يكون كلامنا في المعنى وفي إثبات
الحكم وزواله وفي أن أي الخبرين يجب أن يكون قاضيا على الآخر ومزيلا لحكمه
فنقول إن الدلالة على صحة ما ذكرنا من وجوب القضاء بخبر الحظر دون الإباحة
أنا قد علمنا ورود النقل عن الإباحة التي كانت الأصل بخبر الحظر والخبر المبيح جائز
أن يكون وروده مؤكدا للإباحة التي كانت هي الأصل من طريق دلالة العقل إذ ذلك
غير ممتنع وفي القرآن والسنن منه ما يفوق الإحصاء نحو قوله تعالى قل من حرم زينة
الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقوله تعالى فامشوا في مناكبها وكلوا من
294

رزقه وكقوله تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ونحو ذلك
فإذا كان خبر الإباحة جائز أن يكون ورد مؤكدا لما كان في العقل منها وكان خبر
الحظر طارئا لا محالة على الإباحة وناقلا عنه إلى الحظر وجب أن يكون حكم الحظر ثابتا
وألا يعترض عليه بخبر الإباحة إن لم نتيقن وروده على الحظر وناقلا عنه وقد روي نحو
هذا الاعتبار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين سئل عن الجمع بين الأختين
بملك اليمين فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى فأثبت حكم الحظر عند
تعارض موجب الآيتين فهذه الجملة قد كان يقولها شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله في
هذا المعنى وذلك نحو خبر جرهد الأسلمي ومعمر بن عبد الله عن النبي عليه السلام
أنه أمر بتغطية الفخذ وقال إنها عورة وما روي أن أبا بكر الصديق وعمر رضي الله
عنهما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم وفخذه مكشوف فلم يغطها ثم دخل عثمان فغطاها فقيل له في
ذلك فقال أما أستحي من رجل تستحي منه الملائكة فاقتضى هذا الخبر إباحة كشف
295

الفخذ واقتضى خبر جرهد ومعمر حظر كشفهما فصار خبر الحظر أولى وكذلك
ما روى عن النبي عليه السلام أنه نهى عن أكل الضب كل وروي عنه أنه إباحة فكان
خبر الحظر أولى لما وصفنا
فإن قال قائل فهلا وقفت حكم الحظر والإباحة فيما كان هذا وصفه على دلالة أخرى
من غير هذين الخبرين لأن خبر الحظر وإن كان يقينا في وردوه على إباحة الأصل فإن
بقاءه مع ورود خبر الإباحة ليس بيقين لجواز أن يكون خبر الإباحة واردا بعد الحظر
فيكون رافعا له وإذا كان ذلك جائزا فيهما فقد وقف كل واحد من الخبرين موقف
الاحتمال فلا يخلو حينئذ من أن يجعلا كأنهما لم يردا فيبقى الشئ على حكم الإباحة
المتقدمة أو يوقف حكمه ويطلب حكم حظره أو إباحته من وجه غيرهما
قيل له لا يجب ذلك لأنا لما علمنا ورود الحظر على الإباحة وثبوت حكمه بعده لم
يجز لنا الحكم بزواله إلا بيقين لأن خبر الإباحة لو كان متأخرا عن الحظر يعرفه من
عرف الحظر فكان يجب أن ينقل الجميع تاريخ الإباحة متأخرا عن الحظر لأنهم عرفوا
الحظر بعد الإباحة المتقدمة كما قلنا في خبر زيارة القبور وما ذكر معها ومتعة النساء
ونظائرها فلما لم ينقلوا تاريخ الإباحة متأخرا عن الحظر علمنا أن خبر الإباحة وارد
296

على الأصل الذي كان عليه حال الشئ المحكوم فيه قبل ورود حظره
وأيضا فإن ما كان أصله الإباحة قبل ورود السمع ثم أقر النبي عليه السلام الناس
عليه وترك النكير عليهم في إتيانهم إياه على وجه الإباحة فإن ذلك يكون بمنزلة
الإخبار عن النبي عليه السلام بإباحته فلما لم يمنع ما كان أصله ما وصفنا من القضاء بخبر
الحظر عليه وإزالته عن حكم الإباحة المتقدمة كذلك ورود خبر الإباحة مع خبر الحظر لا
يمنع القضاء بالحظر دون الإباحة كما لم يمنع النبي عليه السلام الناس عن إباحة شئ
من إزالته بخبر الحظر
فإن قال قائل يلزمك على هذا الأصل أن تقضي بخبر إيجاب الوضوء من مس
الذكر على الخبر النافي له لأن خبر النفي وارد على الأصل وخبر الإيجاب ناقل عنه
فوجب حظر الصلاة قبل إحداث الطهارة بعد المس
قيل له لا يلزمنا ذلك لأن خبر الوضوء من مس الذكر لو انفرد عن معارضة خبر
النفي لما لزمنا قبوله على أصلنا لأنه مما بالناس إلى معرفته حاجة عامة فلا يقبل فيه أخبار
الآحاد وإنما ذكرنا الاعتبار الذي وصفنا في الخبرين إذا توازيا هو وتساويا في النقل ووجه
الاستعمال فأما إذا كانا على غير هذا الوجه فلهما حكم آخر وكذلك يجب على هذا
الاعتبار الذي قدمنا أن نقول لو علمنا شيئا كان أصله الحظر ثم ورود خبر يبيحه وخبر
يحظره يجب أن تكون الإباحة أولى لأن الإباحة في هذه الحال طارئة على الحظر لا
محالة والحظر يجوز أن يكون تأكيدا لما كانت عليه حاله قبل ورود إباحته فخبر الإباحة
ناقل عن الحظر فلا يعلم خبر الحظر طارئا عليها ناقلا عنها فوجب أن يكون خبر الإباحة
أولى ما لم تعم الدلالة على ورود خبر الحظر بعد خبر الإباحة
ولا أحفظ عن أبي الحسن رحمه الله شيئا في هذا الفصل الأخير واعتلاله لما
ذكرنا في الفصل المتقدم يدل على أن خبر الإباحة في مثله أولى لما ذكرنا من ثبوت ورودها
على الحظر وإزالتها لحكمه يقينا وغير معلوم ورود خبر الحظر عليها بعد ذلك بل جائز
أن يكون ورد تأكيدا لما كان عليه حكم الحظر قبل ورود الإباحة إلا أني قد سمعته
297

يحتج أيضا بوجوب استعمال خبر الحظر دون الإباحة في الفصل المتقدم إذا وردا على الجهة
التي وصفنا بأن ترك المباح لا يستحق عليه العقاب وفعل المحظور يستحق عليه العقاب
فالاحتياط عند الشك اجتنابه والامتناع من موافقته
قال أبو بكر والذي يعضد هذا الحجاج قول النبي عليه السلام الحلال بين
والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال فمن تركهن
كان أشد استبراء لعرضه ودينه وقال عليه السلام إن لكل ملك حمى وحمى الله
محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه
قال أبو بكر والحجاج الذي حكيناه عن أبي الحسن في هذا الفصل يوجب أن يختلف
الحكم في وجوب اعتبار الحظر لاختلاف حال الشئ المحكوم فيه في الأصل من حظر أو
إباحة لأنه إذ كان المعنى الموجب لاستعمال خبر الحظر فيما وصفنا ما لزم من الأخذ بالحزم
والاحتياط للدين فهذا موجود فيما كان أصله الحظر ثم ورد فيه خبران أحدهما حاظر
والآخر مبيح وتجويز ورود خبر الحظر بعد الإباحة قائم فالواجب أن يكون ما لزم من
الاحتياط للدين والأخذ بالحزم موجبا للحظر دون الإباحة
فإن قال قائل ليس في استعمال الحظر دون الإباحة احتياط وأخذ بالحزم من الوجه
الذي ذكرت لأنه محظور عليه اعتقاد الحظر فيما هو مباح كما حظر علينا اعتقاد الإباحة
فيما هو محظور فمن اعتقد الحظر فيما جاز أن يكون مباحا فهو تارك للاحتياط
قيل له ليس كذلك لأنه إذ كان مأمورا بترك الإقدام على مالا يأمنه محظورا وكان
ذلك أصلا ثابتا في الشريعة وجب اعتباره فيما وصفنا وقد بينا ذلك فيما سلف من القول في
وجوب الأمر
قال أبو بكر رحمه الله وقد ذهب عيسى بن أبان إلى غير هذا المذهب الذي حكيناه
عن أبي الحسن رحمه الله فيما كان أصله الإباحة ثم ورد خبران حاظر ومبيح ولم يعلم
298

تاريخهما فقال عيسى فيهما إذا عريا من شواهد الأصول وتساويا في جهة النقل فإنهما إذا
تعارضا ولم يحتملا وسلم الموافقة سقطا وصارا كأنهما لم يردا وبقي الشئ على أصل الإباحة
كأنه لم يرد فيه خبر وذكر من نظائر ذلك حديث النبي عليه السلام كل شراب أسكر فهو
حرام وما روي عنه أنه أتي بنبيذ فرفعه إلى فيه فقطب فقيل له أحرام هو فدعاء بماء
فصبه عليه ثم شربه وروي عنه من خشي من شرابه فليكثره بالماء
وذكر أن خبر الإباحة أولى لأن الحظر لو كان ثابتا في مثله لعرفه جل الصحابة وقد
روي عنهم الإباحة ولأن خبر الحظر يحتمل المعاني وخبر الإباحة لا يحتملها ثم قال بعد
ذلك ولو لم يكن في واحد من الخبرين إلا وفي الآخر مثله لكان الأمر عندنا على
إحلاله لأن التحريم لا يثبت إذا تضاد الخبران كذلك ما أشبه هذا من الأخبار
المتضادة
وذكر أيضا خبر الوضوء من مس الذكر وما روي عن النبي عليه السلام أنه قال
لا وضوء فيه ثم ذكر وجوه الترجيح للخبر النافي للوضوء من ذلك ثم قال بعد ذلك
ولو لم يكن في ذلك إلا تضاد الخبرين ولم يكن لأحدهما ما ليس للآخر كان الخبران كأنهما
لم يأتيا وكان الأمر على أن لا وضوء فيه
وذكر عيسى بن أبان عن ابن عباس وابن عمر أن كل واحد منهما بعث رجلين
ينظران إلى الفجر فقال أحدهما قد طلع وقال الآخر لم يطلع فقال ابن عباس
اختلفتما إذا شذا بي وقال ابن عمر مثل ذلك
قال عيسى فأسقطا الخبرين عند التعارض وتركا الأمر على الأصل
قال أبو بكر رحمه الله فهذا المذهب خلاف ما حكيناه عن أبي الحسن رحمه الله
299

ووجه ما ذهب إليه عيسى رحمه الله أن كل واحد من خبري الحظر والإباحة
لما احتمل أن يكون طارئا على صاحبه فنسخه وجب أن يسقطا جميعا إذا تساويا كأنهما
لم يردا فيبقي الشئ على ما كان عليه حكمه قبل ورودهما وقد بينا وجه ما كان
يقوله أبو الحسن رحمه الله في ذلك
ومذهب أبي الحسن في هذا أظهر القولين عندي والله أعلم بالصواب
فإن قال قائل قلتم في رجل دعي إلى طعام أو شراب فقال له رجل مسلم ثقة إن
هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب قد خالطه خمر وأخبره آخر أنه طاهر حلال
أو كان ذلك في ماء أراد الوضوء به وقال له أحد المخبرين قد حلته نجاسة وقال
الآخر هو طاهر أنه ينظر في ذلك فيعمل على آكد ظنه فإن لم يكن له رأي في
ذلك واستوت الحالان عنده جاز له أكل ذلك وشربه والوضوء به وأسقطتم الخبرين
لما تعارضا وجعلتموه بمنزلة ما لم يرد فيه خبر فهلا قلتم مثله في الخبرين المتضادين إذا
رويا عن النبي عليه السلام وتساويا في النقل ودلالة الأصول أنهما يتعارضان
ويسقطان
قيل له الفرق بينهما أن أخبار النبي عليه السلام لما جاز فيها ورود الحظر على الإباحة
ثم ورود الإباحة بعد الحظر وقد علمنا الحظر طارئا على الإباحة لا محالة والإباحة لو
وردت بعد الحظر لظهر أمرها وانتشر تاريخها فيمن عرف الحظر لأن النبي عليه السلام كان
لا محالة يظهر الإباحة لكافة من علم الحظر حتى ينتشر فيهم ويظهر كظهور الحظر قبلها
على نحو ما قلناه في خبر النهي عن زيارة القبور وما ذكر معها ومتعة النساء ونحوها
فلما فقدنا ذلك فيما وصفنا دل ذلك على أن خبر الإباحة ورد على الأصل وأن خبر
الحظر متأخر عنه وكانت هذه جهة توجب لخبر الحظر مزية ليست الخبر الإباحة وتغلب
300

بها في النفس أنه أولى منه كما قلنا في المخبرين إذا أخبر أحدهما بنجاسة الطعام والشراب
والآخر بطهارته أنه متى غلب في الظن صحة أحد الخبرين عملنا عليه وألغينا الآخر
فالخبران المتضادان عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات حكم الحظر دون الإباحة بمنزلة غلبة الظن في
خبر أحد المخبرين بالنجاسة والطهارة ولا يشبه تساوي الخبرين المتضادين في هذا الوجه
تساوي خبر المخبرين في الطهارة والنجاسة فيسقطان ويبقى الشئ مباحا على
الأصل لأنه غير جائز ارتفاع حكم النجاسة بعد حلولها في الطعام أو الشراب فيعتبر فيه
ورود الإباحة على الحظر وظهور أمرها لو ثبت على حسب ما قلنا في أخبار النبي عليه
السلام فلما لم يكن هاهنا حال يغلب بها جهة الحظر دون الإباحة تساوي الخبران جميعا
وسقطا ولم يثبت لهما الحكم وصارا كأنهما لم يردا وبقي الشئ على أصل الإباحة
فإن قال قائل إن كانت العلة في تغليب جهة الحظر على الإباحة ما ذكرت من أن
الإباحة لو كانت بعد الحظر لظهر أمرها وانتشر تاريخها حتى يعرفها عامة من عرف الحظر
فإن ذلك يلزمك مثله في الإباحة لأن الحظر لو كان ثابتا بعد الإباحة لظهر تاريخ الحظر
عنها ولعرفه إن عامة من عرف الإباحة متأخرا عنها
قيل له لا يجب ذلك لأن ورود خبر الإباحة ليس بأكثر في إيجابه ما أوجب من ذلك
بأكثر من علمنا بكون الشئ مباحا على الأصل وإقرار النبي عليه السلام الناس عليها
ثم لم يجب إذا ورد خبر الحظر عاريا عن خبر الإباحة لفظا عن النبي عليه السلام أن
تكون الإباحة أولى بل أن يكون الحظر أولى ولا يحتاجون أن ينقلوا إلينا أن هذا الحظر
كان بعد إقرار النبي عليه السلام الناس على الإباحة المتقدمة كذلك إذا نقل لفظ الإباحة
عن النبي عليه السلام ونقل الحظر فليس يجب عليهم ذكر ورود الحظر بعد الإباحة لأن
ذلك قد علم كونه على هذا الوجه فلا يحتاج فيه إلى نقل التاريخ وأما إذا ثبت الحظر ثم
نقلوا عنه إلى الإباحة فلا بد من نقل تاريخه وظهوره فيمن عرف الحظر فإذا لم يوجد بهذا
الوصف فعلى أن الإباحة واردة على ما كان عليه الأصل وأن الحظر وارد بعدها فكان
أولى
فإن قال قائل ما ذكرت في الفصل بين أخبار النبي عليه السلام وبين خبر
301

المخبرين بالطهارة والنجاسة بأن ما يثبته النبي عليه السلام من ذلك شرعا يجوز فيه
ورود الإباحة على الحظر تارة وورود الحظر على الإباحة أخرى وأن ذلك ممتنع في مخالطة
النجاسة للطعام والشراب لأنه لا يصير طاهرا بعد أن كان نجسا فوجب تأكيد حبر
النجاسة والتحريم على خبر الطهارة والتحليل لأنه إذا حلته النجاسة فغير جائز أن تطهر
بعده وما حظره النبي عليه السلام يجوز أن يبيحه بعده
قيل له لا يجب ذلك من قبل أنا لم نجعل الفصل بين المسألتين أن أحدهما يجوز
فيها ورود كل واحد من حظر أو إباحة على صاحبه وأن الأخرى لا يجوز فيها ورود الإباحة
بعد الحظر فحسب دون ما ذكرنا من أن أخبار الشرع في الحظر والإباحة لما جاز فيها
ورود الإباحة على الحظر وقد علمنا صحة الحظر طارئا على الإباحة امتنع وجود الإباحة
بعده إلا مع ورود تاريخهما متأخرا عن الحظر منتشرا ظاهرا عند من ثبت عنده الحظر أو
أكثرهم فلما عدمنا ذلك علمنا أن خبر الإباحة وارد على الأصل وأن خبر الحظر
بعده وقلنا إن مثل ذلك ممتنع في خبر المخبرين بالنجاسة والطهارة لامتناع
ورود الطهارة على الماء بعد ورود النجاسة فلم يكن ها هنا جهة توجب كون إثبات
النجاسة أولى من إثبات الطهارة
إلا ويبين لك الفصل بينهما أنك لا تخالفنا في صحة خبر الحظر طارئا على إباحة
الأصل وإنما تريد إثبات الإباحة التي هي قول من النبي عليه السلام أو فعل طارئ
على الحظر ولا نقول مثله في خبر المخبرين بالنجاسة والطهارة لأنك تمنع إثبات الطهارة
بعد النجاسة وإنما عارضت أحدهما بالآخر فأسقطتهما فيه جميعا وبقيت الشئ على
ما كان عليه حاله قبل خبر المخبرين
ومما يدل على الفصل بين خبر النجاسة والطهارة وبين أخبار الشرع في الحظر
والإباحة أن المخبرين بالنجاسة والطهارة إنما تناول خبراهما صلى عينا واحدة أخبر أحدهما
302

بنجاستها والآخر بطهارتها ويستحيل وجود مخبريهما وقال على ما أخبرا به من حكم
المخبر عنه فلما كان كذلك علمنا أن أحد المخبرين قد أو هم في خبره وأخبر عن الشئ
على خلاف حقيقة حاله فلما لم يعرف الغالط منهما ولم يكن أحدهما أولى بقبول
خبره من الآخر سقط الخبران جميعا فصار وجود خبريهما أنه على هذا الوصف قادحا في
نفس الخبر وليس كذلك حكم أخبار الشرع إذا وردت متعارضة في الحظر والإباحة لأن
ورودها على هذا الوجه لم يقدح في نفس الخبر ولم يوجب كونه مشكوكا فيه إذ لا فرق عندنا
في ذلك بين ما ورد من طريق التواتر ومن جهة الآحاد وإنما تعارض الخبران من حيث فقدنا
العلم بتاريخهما لأنهما لم يردا في حكم شئ واحد في حال واحدة ألا ترى أن خبر
الحظر إذا ورد على ما علمت إباحته في الأصل وقد أقر النبي عليه السلام الناس
عليها أنه يقضي على الإباحة ويرفعها ولا يكون ذلك تعارضا ولا تضادا في الخبرين
لأن ما حظر من ذلك غير ما كان مباحا فلم يرد الخبران في عين واحدة في حال واحدة
أنه محظور مباح فلما كان ذلك كذلك ثبت حكم الحظر دون الإباحة للعلة التي ذكرنا
وكان خبر الإباحة صحيحا محكوم به أيضا إلا أنه قبل الحظر في غير ما ورد فيه الحظر
فلذلك لم يتعارضا على هذا الوجه لأن الخبرين جميعا في إثبات الإباحة والحظر ثابتان إلا
أنا حكمنا بتقدم الإباحة على الحظر وأثبتنا الحظر بعدها فالكلام في ذلك إنما هو في تاريخ
الحكمين أيهما المتقدم لصاحبه
وأما المخبران بطهارة الماء أو بنجاسته فإن كل واحد منهما يثبت ما أخبر به في حال
يثبت صاحبه فيها ضده فلم يصح ثبوتهما إذا تساويا ولم يجر الحكم بتأخير حلول النجاسة
عن الحال التي أخبر المخبر الآخر منهما بالطهارة لأن المخبر بالطهارة يزعم أنه طاهر في
الحال وأن ما أخبر به ثابت الحكم والمخبر بالنجاسة يقول هو نجس في الحال لا يجوز
استعماله فتناول خبرهما عينا واحدة بحكمين متضادين فتعارض موجب خبرهما عند
استواء حالهما وسقط كأن لم يرد وبقي الشئ على ما كان عليه ومن حكم الإباحة
ويكون هذا نظير شاهدين شهدا على رجل أنه قتل عمرا يوم النحر بالكوفة وشهد آخران
303

أنه قتل زيدا يوم النحر بمكة فتبطل شهادة الفريقين لتضادهما إذ قد علمنا كذب
أحدهما وكل واحد منهما يثبت كونه بالموضع الذي ذكره في شهادته في الحال التي أثبت
الآخر كونه بالموضع الآخر وذلك متناف متضاد لا يصح إثباته وليس أحد الفريقين
بأولى بقبول شهادته من الآخر فسقطت شهادتهما جميعا فقد تبين بما ذكرنا أن مسألة
السائل عما وصفنا ليست من تعارض الخبرين المتضادين اللذين يجوز على كل واحد
منهما أن يكون هو الناسخ لصاحبه في شئ وإنما نظير المسألة التي سأل عنها السائل
أن يرد خبران متضادان في عين واحدة يخبر كل واحد منهما عنه بحال تضاد ما أخبر عنه به
صاحبه فيحتاج حينئذ فيه إلى اعتبار آخر نحو ما روي أن النبي عليه السلام تزوج
ميمونة وهو محرم وما روي أنه تزوجها وهو حلال وكان ذلك تزويجا واحدا ونحو ما
304

روي أن زوج بريرة كان حرا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعتقت وروي أنه كان عبدا
وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة حين دخلها وروي أنه لم يصل فيها وليس
ذلك من الناسخ والمنسوخ في شئ وله شروط أخر سنذكرها إن شاء الله تعالى إذا
انتهينا إلى موضع الكلام في الخبرين المتضادين
305

فصل
من هذا الباب قال أبو بكر رحمه الله وأما إذا ورد خبر ان في أحدهما إيجاب شئ
وفي الآخر حظر وهما مما لا يجوز أن يكون أحدهما ناسخا للآخر على حسب ما قدمنا
فإن ما ورد فيه ذلك لا يخلو من أن يكون من خبر المباح قبل ورود السمع أو من خبر
المحظور فإن كان قبل ورود السمع من خبر المحظور الذي يجوز استباحته على حسب
مجئ السمع بها فقد علمنا يقينا ورود الإيجاب على الحظر وإزالته لحكمه
وجائز أن يكون خبر الحظر واردا على جهة التأكيد لما كان عليه حاله قبل ورود
السمع فالحكم في مثله ينبغي أن يكون الإيجاب للعلة التي وصفنا
وإن كان ذلك الشئ في الأصل قبل ورود السمع من خبر المباح فليس ورود الحظر
بأن يكون طارئا على إباحة الأصل بأولى من ورود خبر الإيجاب عليها فإذا لم يكن معنا
تاريخ فليس أحد الخبرين بأولى بالحكم من الآخر فالواجب حينئذ طلب الدليل على
الثابت من حكم الخبرين والاستدلال بالأصول عليه فإن لم يكن في الأصول ما يشهد
لثبوت حكم أحد الخبرين دون الآخر فإنه يحتمل أن يقال إن الواجب في مثله أن يتعارضا
وأن يسقطا ويصيرا وهو كأنهما لم يردا ويحتمل أن يقال إن الواجب الامتناع من الفعل لأنه
غير جائز لنا الإقدام على فعله على أنه طاعة ولم يثبت ذلك عندنا
وغير جائز أيضا فعله على وجه الإباحة لأن المخبرين قد أخرجاه من حيز الإباحة
وألحقاه بحكم الحظر أو الإيجاب والاحتياط في مثله الكف عن الإقدام لأنه ليس
بمباح فيفعل على وجه الإباحة ولا يعلمه واجبا ولا مندوبا إليه فيفعله على هذا الوجه
فالاحتياط به إذن لم يثبت إيجابه وعلى أنا بحمد الله لم نجد خبرين أحدهما يحظر والآخر
يوجب إلا والدلائل قائمة على ثبوت أحدهما دون الآخر إما من جهة العلم بتاريخهما أو
قيام دلائل من الأصول على الثابت منهما
وإنما تكلمنا على حال عدم الدليل على ثبوت حكمهما وتساويهما في موجب لفظهما
لستويا في الكلام في المسألة حسب ما يقتضيه أقسام الاحتمال
306

ومما يستدل به على الناسخ أن يرد خبران متضادان مع احتمال نسخ أحدهما
بالآخر فيختلف أهل العلم في الناسخ منهما بعد اتفاق الجميع على نسخ بعض أحكام
أحدهما فيدل ذلك من أمره على أنه متقدم على الخبر الذي لم يتفق على نسخ شئ
منه فواجب أن يكون ما اتفق على نسخ بعضه منسوخا بالآخر لدلالة الاتفاق على أن
بعض ما فيه قد نسخ بالآخر وأن الآخر قد صار متأخرا عنه في وجوب نسخ بعضه
وذلك نحو ما روي أن النبي عليه السلام كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع وإذا
سجد وإذا رفع رأسه من السجود وإذا نهض إلى القيام
وروي عن عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع
يديه إلا في التكبيرة الأولى وقد اتفق الجميع على ترك الرفع عند السجود وعند رفع
رأسه منه وإذا نهض إلى القيام فدل على أن خبر رفع اليدين في هذه الأحوال
متقدم لخبر الترك فوجب أن يجعل منسوخا به وذلك لأنه لم يثبت هنا خبر يوجب نسخ
الرفع عند السجود وبعده إلا الخبر الذي روي فيه ترك الرفع في الركوع وفي سائر أحوال
الصلاة إلا عند الافتتاح وإذا ثبت أن هذا هو الناسخ للرفع عند السجود صار متأخرا عنه
في التاريخ فوجب أن ينسخ الرفع عند الركوع إذ ليس في لفظه وما يقتضيه عمومه فرق
بين الرفع عند الركوع وعند السجود
ونظيره أيضا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في المغرب والعشاء والفجر وفي سائر
الصلوات وروي عنه ترك القنوت في سائر الصلوات واتفقت الجميع على تركه في
307

المغرب والعشاء والظهر والعصر فدل على أن خبر الترك متأخر عنه فوجب أن يكون
ناسخا لجميعه إذ كان قد قضى عليه وأوجب نسخ بعضه وغير جائز أن يقال إن فعل
القنوت في المغرب والعشاء لم ينسخ بهذا الخبر لأنه ليس معنا خبر غيره يوجب نسخه
فوجب أن يحكم بأنه الناسخ دون غيره كما أنا إذا وجدنا الأمة مجتمعة على معنى
مذكور في القرآن والسنة وجب أن يحكم بأن الإجماع حصل عن القرآن أو السنة فكذلك
ما وصفنا ومثله ما روي عن النبي عليه السلام في صفة صلاة الكسوف أنه ركع ركوعين
ثم سجد وروي أنه ركع ثلاث ركعات ثم سجد وروي أنه ركع أربع ركعات ثم
308

سجد وروي أنه صلى كهيئة صلاتنا وأنه قال صلوا كأحدث صلاة صليتموها
صلى اتفق الجميع على أنه لا يركع في ركعة أكثر من ركوعين فصار ما زاد على
الركوعين منسوخا بخبر ما فعلمنا أنه متأخر فوجب أن يكون متأخرا عن الركوعين أيضا
ناسخا لهما كنسخه لما زاد عليهما
ومما يستدل به على النسخ أيضا أن يكون أحد الحكمين متفقا على استعماله والآخر
مختلفا في استعماله فالواجب فالواجب فيما كان هذا سبيله أن يقضى فيه بالمتفق عليه على
المختلف فيه فيصير ناسخا له إن اقتضى لفظه رفع جميعه وإن اقتضى رفع بعضه كان
ناسخا لذلك البعض وذلك نحو قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم الآية
وروي عن النبي عليه السلام أنه قضى بشاهد ويمين فلو ثبت الخبر على الوجه الذي
يدعيه المخالف لكانت الآية ناسخة له لاتفاق الجميع على ثبات حكمها واختلافهم
في ثبوت حكم الخبر ونحو وقول النبي عليه السلام التمر بالتمر مثلا بمثل ونهيه عن
309

المزابنة فهذان الخبران متفق على استعمالهما وخبر الخرص والعرايا مختلف فيهما
فهما منسوخان بهما ولذلك نظائر كثيرة قد ذكرنا بعضها فيما سلف من القول في العام
والخاص
310

وأما الاستدلال على الناسخ من الخبرين بالقياس والنظر فنحو ما ذكرنا عن
عيسى بن أبان رحمه الله تعالى فيما روي عن النبي عليه السلام أنه قال توضئوا مما مست
النار وروي عنه أنه أكل مما مست النار ثم صلى ولم يتوضأ
وروي فيه عن السلف اختلاف فكان ترك الوضوء منه أشبه بالسنة لأنا لم نر
الوضوء في السنة القائمة إلا في الأنجاس الخارجة وكذلك ما روي في الوضوء من مس
الذكر وقروي فيه أنه لا وضوء فيه ووجدنا كمس ما هو أنجس من الذكر فلا يجب
فيه الوضوء فكان الأمر فيه عندنا أن لا وضوء فيه
فاستدل عيسى بشهادة الأصول لأحد الخبرين ومعاضدة القياس له على بيان
حكمه دون الآخر
قال أبو بكر رحمه الله ومن نظائر ذلك ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في
المحرم الذي وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وروى عن
311

ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال غطوا رؤوس موتاكم ولا تشبهوا
باليهود وروى عنه عليه السلام أنه قال إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة
جارية وعلم يعمل به بعد موته وولد صالح يدعو له فكان النظر معاضدا لهذين
الخبرين ومنافيا لخبر النهى عن تغطية رأس المحرم لاتفاق الناس على أن من مات محرما
لا يوقف به بعرفة ولا بالمزدلفة ولا يطاف به ولا يفعل به سائر أفعال المناسك فدل على
انقطاع إحرامه وعلى أن خبر النهي عن تخمير رأسه منسوخ بالخبرين اللذين ذكرنا
وكذلك ما روي عنه عليه السلام أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة وروي أنها
تتوضأ لوقت كل صلاة فكان الخبر الذي ذكرنا فيه اعتبار الوقت أولى من قبل أنا قد
وجدنا في الأصول طهارة مقدرة بوقت وهو المسح على الخفين وليس منها طهارة مقدرة بفعل
الصلاة ونظيره أيضا ما روي من الأخبار المتضادة في صلاة الكسوف فقلنا إن خبرنا
أولى لاتفاق الجميع على سائر الصلوات ليس فيها الجمع بين ركوعين من غير سجود
بينهما فكانت الأصول شاهدة بخبرنا فدل على أنه ناسخ لسائر الأخبار التي تخالفه ونظائر
ذلك كثيرة وفيما ذكرنا تنبيه على ما تركنا وقد تقدم ذكر الدلالة في مواضع على أن
شهادة الأصول لحكم أحد الخبرين يوجب كونه أولى مما تنافيه الأصول في
مواضع فكرهنا إعادته مخافة التطويل
312

فصل
من هذا الباب قال أبو بكر قد بينا فيما سلف من هذا الباب أن الزيادة في النص إذا
وردت بعد استقرار حكمه منفردا عنها كان نسخا وأن الزيادة إن وردت متصلة بالنص
معطوفة عليه كاتصال الاستثناء بالجملة فإنهما جميعا مستعملان فيكون النص مستعملا
بالزيادة الواردة معه وغير جائز في مثله إفراد أحدهما عن الآخر كما لا يجوز إفراد الجملة
عن الاستثناء
ونذكر الآن حكم الزيادة إذا وردت وقد ورد النص منفردا عنها ولا نعلم تاريخهما
فنقول إن الزيادة إن كانت وردت من جهة ثبت النص بمثلها فإن طريقه
الاستدلال بالأصول فإن شهدت الأصول من عمل السلف أو النظر على ثبوتهما معا
أثبتناهما فإن شهدت بالنص منفردا عنها أثبتناه دونها وإن لم يكن في الأصول دلالة
على إسقاط حكم الزيادة وإثبات النص دونها فالواجب أن يحكم في ذلك بورودهما معا
ويكونان بمنزلة الخاص والعام إذا وردا ولا نعلم تاريخهما ولا في الأصول دلالة على وجوب
القضاء بأحدهما على الآخر فيكونان مستعملين جميعا
كذلك إذا وردت الزيادة والنص ولم نعلم تاريخها ولا مع أحدهما دلالة من الأصول
ولا استعمال الناس للنص دون الزيادة فالحكم بورودهما معا واجب فيكون النص ثابتا
بزيادته
وأما إذا كان ورود النص من جهة توجب العلم بموجبه نحو أن يكون نص الكتاب
أو سنة ثابتة بالنقل المستفيض وكان ورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد فإنه لا يجوز
إلحاقها بالنص الثابت بالكتاب أو بالنقل المستفيض لأن الزيادة لو كانت ثابتة موجودة مع
النص لنقلها إلينا من نقل النص إذ غير جائز أن يكون المراد إثبات النص معقودا
بالزيادة فتقتصر النبي عليه السلام على إبلاغ النص منفردا منها فواجب
313

إذن أن يذكرها معه ولو ذكرهما معا لنقل الزيادة من نقل النص
فإن كان النص مذكورا في القرآن والزيادة واردة من جهة السنة فغير جائز أن يقتصر
النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة الحكم المنزل في القرآن دون أن يعقبها بذكر الزيادة لأن حصول
الفراغ من النص الذي يمكن استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه نحو قوله
تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فإن كان الحد هو الجلد
والنفي أو الجلد والرجم فغير جائز أن يتلو النبي عليه السلام الآية على الناس عارية
من ذكر النفي والرجم عقيبها لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها
ولأن المذكور فيها هو كمال الحد الواقع موقع الجزاء عند إيقاعه ولو كان هناك معه نفي أو
رجم مستحق بالفعل لكان الجلد بعض الحد وغير جائز أن يكون مراده أنه بعض
الحد وأنه جميعه فإذا أخلى النبي عليه السلام التلاوة من ذكر النفي والرجم عقيبها فقد
ألزمنا اعتقاد الجلد المذكور في الآية حدا كاملا فغير جائز إلحاق الزيادة به إلا على
وجه النسخ ألا ترى أنه لما قال عليه السلام اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت
فارجمها ولم يذكر معه جلدا كان ذلك نسخا لما في حديث عبادة بن الصامت عن النبي
عليه السلام من قوله والثيب بالثيب الجلد والرجم
وكذلك لما رجم ما عزا ولم يجلده دل على أنه نسخ الجلد مع الرجم
كذلك يجب أن يكون قوله تعالى الزانية والزاني عاريا عن ذكر النفي والرجم
موجبا لنسخ النفي المذكور في حديث عبادة بن الصامت البكر بالبكر جلد مائة
وتغريب عام فلو كانت هذه الزيادة ثابتة مع الأصل لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عقيب التلاوة ولو
ذكرها لنقلتها الكافة التي نقلت الأصل إذ غير جائز عليهم أن يعلموا الحد الجلد
314

والنفي جميعا فينقلوا الجلد دون النفي كما لا يجوز أن ينقلوا بعض الحد دون بعض وقد
سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الجميع فلما عدمنا نقل الكافة للزيادة حسب نقلها للنص علمنا
أنه لم يكن من النبي عليه السلام عقيب التلاوة ذكر الزيادة إذ كان السامعون للآية
معتقدين نقل الزيادة المذكورة مع الأصل وغير جائز عليهم التبعيض وترك النقل
فيما كان هذا وصفه فامتنع من أجل ذلك إلحاق الزيادة بالنص من جهة توجب العلم
بنقل الكافة إياها فلا تخلو حينئذ الزيادة الواردة من جهة الآحاد إن كانت ثابتة من أن
تكون قبل النص أو بعده
فإن كانت بعده فقد نسخها النص المطلق عاريا من ذكر الزيادة وإن كانت بعده
فهذا يوجب نسخ الآية وغير جائز نسخ الآية بخبر لا يوجب العلم ومن نحو ذلك قوله
تبارك وتعالى فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا والقياس الذي شرط في الرقبة
الإيمان يوجب نسخ ما في الآية على الوجه الذي بينا
ومن جهة أخرى إن النبي عليه السلام أعتق رقبة وكذلك قال للذي سأله عن
الإفطار في شهر رمضان أعتق رقبة ولم يشرط فيها الإيمان مع علمه بجهل السائل بالحكم
فلا يجوز زيادة شرط الإيمان فيها إلا على وجه النسخ وهذا يمنع استعمال القياس
وإلحاق شرط الإيمان بها من وجهين
أحدهما أن نسخ الآية لا يجوز بالقياس
والثاني أن القياس لو أوجب شرط الإيمان فيها لأخبره النبي عليه السلام بذلك لئلا
يعتقد السائل غيره ولئلا يقدم في الحال على تنفيذها في رقبة كافرة إذ قد أمره بعتقها في
الحال ألا ترى أنه لما قال عليه السلام اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت
فارجمها عقلنا من هذا أنه لا شئ عليها غير الرجم إذ كان مأمورا في الحال بتنفيذ هذا
315

الحكم وإمضائه على هذا الوجه فوجب أن يكون هذا الحد لا غير
كذلك أمره السائل برقبة مطلقة في الحال أي رقبة كانت يقتضي أن تكون هي الواجبة
كافرة كانت أو مسلمة
وأما إذا كان ثبوت النص من جهة أخبار الآحاد فإنه جائز إلحاق الزيادة به بخبر
الواحد على الوجه الذي يجوز نسخه به على الاعتبار الذي ذكرنا في الخبرين المتضادين إذا
لم يعلم تاريخهما ولم يرد مع النص في خطاب واحد معطوف بعضه على بعض وإذا كانت
واردة مع النص في خطاب واحد فليست هذه زيادة في النص على الحقيقة بل الجملة
كلها هي النص فجميعها ثابت الحكم
وأما القياس فإنه لا يجوز وقوع النسخ به وهذا ما لا نعلم فيه خلافا بين السلف
والخلف ممن يعتد بقوله
وحكي لي عن بعض من كان ببغداد من أذناب المتأخرين أنه كان يجيز نسخ
القرآن قياسا على نص في القرآن وكذلك نسخ السنة قياسا على سنة أخرى
والذي يحكى عنه هذا القول خامل غير معروف من أهل العلم وخلافه في ذلك
كخلاف رجل من العامة لا يعتد به لو خالف على أهل عصره فكيف به إذا خالف على
السلف والخلف جميعا من أهل الأعصار المتقدمة وهو مع ذلك قول مخالف للمأثور
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحة الاجتهاد عند عدم النص فمنه ما روي بالنقل الشائع الذي
تلقاه الناس بالقبول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن بم تقضي قال بكتاب
الله قال فإن جاءك شئ ليس في كتاب الله قال أقضي بما قضى به رسول الله قال
فإن جاءك شئ ليس في كتاب الله ولا فيما قضى به رسول الله قال أجتهد رأيي
قال الحمد لله الذي وفق رسوله لما يحبه رسول الله
316

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن جواز الاجتهاد مقصور على عدم النص المتوارث عن الصدر الأول
ومن بعدهم من فقهاء سائر الأعصار إذا ابتلوا بحادثة طلب حكمها من النص ثم إذا
عدموا النص فزعوا إلى الاجتهاد والقياس ولا يسوغون لأحد الاجتهاد واستعمال
القياس مع النص ألا ترى إلى ما روي عن جماعة من الصحابة من أتاه منكم أمر ليس في
كتاب الله ولا سنة رسوله فليجتهد رأيه وكان عمر رضي الله عنه إذا نزل به نازلة
من أمر الأحكام سأل الصحابة هل فيكم من يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئا فإذا
روي له فيها أثر قبله ولم يفتقر معه إلى مشاورة ولا اجتهاد فإذا عدم حكمها
في الكتاب والسنة فزع إلى مشاورة الصحابة وإلى اجتهاد الرأي فيها
وكذلك كان أمر سائر الصحابة والتابعين ومن بعدهم إنما كانوا يفزعون إلى النظر
والاستدلال عند عدم النصوص ولم يحك عن أحد منهم مقابلة النص بالقياس ولا
معارضته بالاجتهاد
ومما يدل على صحة ما قلنا أن نص القرآن والسنة الثابتة من طريق التواتر يوجبان
317

العلم بما تضمناه والقياس الشرعي لا يفضي إلى العلم بموجبه وإنما هو غالب ظن
فغير جائز رفع ما أوجب العلم بما لا يوجبه وقد بينا ذلك فيما سلف من القول في
تخصيص النص بالقياس
فإن قال قائل يلزمك على هذا ألا تزيل الإباحة الثابتة في الأصل من غير جهة
الشرع بالقياس وخبر الواحد لأن ثبوتها من طريق الدلائل العقلية الموجبة للعلم
قيل له هذا غلط من قبل أن العقل وإن دل على إباحة أشياء في الجملة فإنا
متى قصدنا إلى استباحة شئ منها بعينه فإنما نستبيحه من طريق الاجتهاد وغالب
الظن
ألا ترى أنه لو غلب في ظننا أن علينا في تناوله ضررا أكثر مما نرجو من نفعه لم يجز
لنا تناوله وهذا الضرب من الاستباحة طريقه غلبة الظن لا حقيقة العلم لأن الإباحة لما
كانت معقودة بألا يلحقنا ضرر أكثر مما نرجو من نفعه وكان هذا المعنى موقوفا على غلبة
الظن بطل قول القائل أن استباحة هذه الأشياء في الجملة من طريق يوجب العلم
وهذا نظير ما نقول إنه قد ثبت من طريق يوجب العلم قبول شهادة شاهدين عدلين في
الديون بقوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم ثم إذا أردنا قبول شهادة
شاهدين بأعيانهما كان طريق قبولهما الاجتهاد وغلبة الظن لا من جهة تفضي إلى العلم
بصحة مقالتهما فكذلك ما وصفنا
وأيضا فإن النسخ لما كان بيانا لمقدار مدة الحكم وكان لا سبيل إلى إثبات المقادير من
طريق المقاييس كتوقيت مقدار فرض الصوم وركعات الظهر لم يجز إثبات النسخ بالقياس لما
فيه من تقدير مدة الفرض
318

باب
القول فيما ينسخ بعضه ببعض وما لا ينسخ
قال أبو بكر رحمه الله قد ثبت نسخ القرآن بقرآن مثله وقد تقدم بيانه
وكذلك نسخ السنة بسنة مثلها وقد تقدم ذكره
وجائز عندنا نسخ السنة بالقرآن ونسخ القرآن بالسنة الثابتة من طريق التواتر
321

ولا يجوز نسخ القرآن ولا نسخ السنة الثابتة من جهة التواتر بخبر الواحد
ويجوز نسخ ما ثبت بخبر الواحد بمثله وبما هو آكد منه
وجملة الأمر فيه أن ما ثبت من طريق يوجب العلم فجائز نسخه بما يوجب العلم فلا يجوز نسخه بما لا يوجب العلم
وما ثبت من طريق لا يوجب العلم وإنما
يوجب العمل فجائز نسخه بمثله وبما هو آكد منه مما يوجب العلم
فصل
والدليل على جواز نسخ السنة بالقرآن قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا
لكل شئ فإذا كان النسخ بيانا لمدة الحكم على ما بينا اقتضى عموم الكتاب جواز
نسخ السنة به
وأيضا لما جاز نسخ السنة بوحي ليس بقرآن وجب أن يجوز نسخها أيضا بوحي هو
قرآن لأنهما وحي من الله تعالى
وأيضا لا خلاف بين السلف في جواز نسخ السنة بالقرآن لأن الروايات قد
تظاهرت عنهم في أشياء من السنن ذكروا أنها منسوخة بالقرآن
منها ما روي في شأن القبلة أن النبي لما قدم المدينة صلى بضعة عشر
322

شهرا إلى بيت المقدس ثم أنزل الله تعالى فول وجهك شطرا المسجد الحرام ونسخ به
التوجه إلى بيت المقدس
وروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقال
الناس يا رسول الله
ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم قل
أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين
قال أبو بكر فأخبر أن نسخ قتل الكلاب كان بالآية
وروي أنهم كانوا يشربون الخمر حتى نزل قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر
قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ثم أنزل قوله يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
وروي أنه قد كان الأكل والشرب والجماع محظورا عليهم في ليالي الصوم بعد النوم
فأنزل الله تعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من
الفجر فنسخ به الحظر المتقدم
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشا على أنه يرد إليهم من جاءه من نسائهم بغير إذن
وليها فنسخ ذلك بقوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار الآية
روي عن جماعة من السلف أنه رد عليه السلام زينب على أبي العاص منسوخ
بقوله تعالى لا هن حل لهم وقال قتادة كان رده إياها إليه قبل أن تنزل سورة
323

براءة فرأى أن هذا الحكم منسوخ بسورة براءة يعني والله أعلم قوله تعالى فاقتلوا
المشركين
وروي أن الناس كانوا يدخلون على النبي عليه السلام ونساؤه عنده فأنزل الله آية
الحجاب بعد أن كن غير محجبات
ومنها تبني النبي عليه السلام زيد بن حارثة وتبني أبي حذيفة سالما نسخه
قوله تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقوله تعالى ادعوهم لآبائهم هو
أقسط عند الله
وكان النبي عليه السلام أمرهم في حجة الوداع بفسخ الحج وقال عمر بن الخطاب
ذلك منسوخ بقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله
ونظائر ذلك كثيرة وقد اعترض بعض المخالفين على هذا وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد
كان يقف من تأويل مجمل الكتاب على مالا يشركه في الوقوف عليه أحد من أمته فليست
له سنة لا كتاب فيها إلا وقد يحتمل أن يكون لها في الكتاب جملة تدل عليها فخص
الله تعالى رسوله بعلم ذلك فلم يثبت أن آية نسخت سنة لأن تلك السنة قد تكون
مأخوذة من جملة هذا الكتاب وإن خفي علينا علم ذلك
قال أبو بكر وهذا الكلام بين الانحلال ظاهر السقوط وذلك لأن جواز ما ذكره
324

يمنع وجود نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالسنة وذلك لأن كل آيتين ظاهرهما النسخ
فجائز أن يكون نسخ إحداهما إنما كان بسنة الرسول وإن لم ينقل إلينا إلا بقرآن وأن
القرآن إنما نزل بعد ذلك بحكم قد سنه الرسول صلى الله عليه وسلم ونسخ به القرآن وكل سنتين كان
ظاهرهما النسخ فجائز أن يكون نسخ المنسوخ منهما إنما كان بحكم أوجبه جملة من القرآن نحو
قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوله تعالى
فاتبعوه وقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وعلى أن هذا يوجب ألا يكون
للنبي عليه السلام سنة رأسا وأن يكون كل ما سنه فإنما هو بيان لجملة مذكورة في
القرآن وقد علم النبي عليه السلام تفسيرها دوننا لما خصه الله تعالى به من النبوة والعلم
بتأويل الآية التي لا يشركه فيه غيره
وبطلان هذا القول معلوم من اتفاق الأمة لأنها قد عقلت أن في الشريعة أحكاما
مأخوذة من الكتاب وأحكاما ليست من الكتاب مأخوذة من السنة
فإن قال قائل إن هذا القول الذي عارضت به ما حكيت يرده
ظاهر الكتاب لأن الله تعالى قال ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
وقال تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية فقد أفصح الكتاب بأن بعضه ينسخ بعضا
قيل له نقول لك إنما أفصح الكتاب بوجود النسخ في القرآن ولا دلالة فيه على أنه
نسخه بقرآن مثله أو بغيره لأنه لا يمتنع أن يكون مراده ما ننسخ من آية بسنة نوحي
بها إليك نأت بخير منها
325

وكذلك قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية بأن ننسخها بوحي ليس بقرآن ثم
ننزل أخرى مكانها وإن لم تكن ناسخة لها فلا يمكن القائل بما وصفنا الانفصال ممن نفى
نسخ الكتاب إلا بالسنة ونسخ السنة إلا بالكتاب فإن قال قد اتفق أهل العلم على
جواز نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالسنة
قيل له الذين اتفقوا على ذلك هم الذين اتفقوا على جواز نسخ السنة بالكتاب
فإن قال قائل الشافعي يخالف في ذلك
قيل له من تقدم الشافعي قد أجازوا ذلك فكيف يكون الشافعي خلافا عليهم وهو
لا يمكنه أن يحكي هذا القول عن أحد ممن تقدمه
وقد حكينا نحن عن خلق من السلف جوازه فإن جاز أن يكون الشافعي خلافا على
من تقدمه من أهل العلم جاز أن يكون هذا القائل الذي حكينا قوله وعارضنا به قول
الشافعي خلافا علينا وعلى الشافعي جميعا
ثم قال هذا القائل لم نر من خالف في هذا أورد آية نسخت عنده لسنة
وقد وجدنا لها جملة في الكتاب نحو ما ادعوه من نسخ استقبال بيت المقدس واستحلال الخمر
وتحريم المباشرة والأكل والشرب بعد النوم في ليالي الصوم
فقد يكون استقبال بيت المقدس مأخوذا من جملة قوله تعالى أولئك الذين هدى
الله فبهداهم اقتده وشرب الخمر مأخوذ من قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل
فيهما إثم كبير ومنافع للناس ومعلوم أن شربها لا يحل وفيه إثم وقد روي أنهم كانوا
يشربونها بعد نزول هذه الآية ثم نزل قوله تعالى إنما الخمر والميسر الآية وتحريم
ما يحل للمفطر في ليالي الصوم قد يكون مأخوذا من جملة قوله يا أيها الذين آمنوا كتب
عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم أي على تلك الهيئة
وكذلك ما أشبه هذه الآيات قد يمكن تخريجها على ذلك
326

قال وإن ورد مالا يمكن فيه فقد يجوز أن يكون مأخوذا من الكتاب وإن خفي
علينا علمه فيقال له بم تنفصل ممن قال لك إن هذا القول يؤدي إلى ألا
يكون في شريعة الرسول عليه السلام ناسخ ولا منسوخ لأن قوله تعالى أولئك الذين
هدى الله فبهداهم اقتده فيه الأمر بالاقتداء بالأنبياء المتقدمين في شرائعهم وجائز أن
يكون جميع ما شرعه الله تعالى في كتابه وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كان من شرائع الأنبياء
المتقدمين وأن معنى الناسخ والمنسوخ أنه كان في شريعة من قبلنا بقاء الحكم المنسوخ
فيهم هذه المدة من الزمان ثم نقلوا إلى الحكم الثاني فلا شئ في هذه القضية من حظر أو
إيجاب أو إباحة إلا وقد كان مثله في شريعة من قبلنا على الوجه الذي ثبت في شريعتنا
وإنما صار في شريعتنا بقوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم
اقتده
فإن قال لا يجب ذلك لأنا قد علمنا كون أشياء مباحة في شريعة من قبلنا حظرت في
شريعتنا كالخمر ونحوها وكون أشياء محظورة في شريعتهم اباحتها شريعتنا كقوله تعالى
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها
قيل له نقول لهذا القائل ليس شئ مما حظر بعد الإباحة وأبيح بعد الحظر إلا وقد
كان في شريعة من كان من قبلنا كذلك مدة من الزمان فتعبد النبي عليه السلام
بالاقتداء بهم في الحكم في مثل المدة التي كان فيها الحظر أو الإباحة
ثم يقال له ما أنكرت أن تكون هذه الآية دالة على جواز نسخ السنة بالقرآن لأنه
ليس يمتنع أن يكون قد كان في شريعة من قبلنا أن سنن الأنبياء قد كان يجوز نسخها
بالكتاب المنزل عليهم من الله تعالى إذ ليس معنا نص ولا إجماع يمنع من ذلك
327

ثم قال تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فينتظم جواز نسخ السنة
بالكتاب كما كان في شريعة الأنبياء المتقدمين
وأما قوله في حظر الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم بعد النوم ونسخه بقوله
تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم وأنه جائز أن يكون
كذلك في الشرائع المتقدمة فانتظمت الآية إثباته علينا على هذا الوجه فإنه يلزمنا ألا
نجعل هذا الحكم منسوخا بقوله تعالى فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وأنه
إنما زال بعد ثبوته في المدة التي كان بقي فيها لأنه كذلك كان فشريعة من كان قبلنا من
الأنبياء فلا يكون في ذلك من شريعتنا ناسخ ولا منسوخ كما لو قال كتب عليكم
الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ثم قال حظر عليهم الأكل والشرب
والمباشرة في ليالي الصوم بعد النوم مقدار سنة واحدة ثم كان بعد مضي السنة إباحة
جميع ذلك بالليل بعد النوم وقبله لم يكن فيه نسخ شئ وإنما كان يكون فيه إيجاب
حكم إلى وقت معلوم ولا يمكنه مع ذلك الانفصال ممن ينفي من أهل الملة وجود
ناسخ ومنسوخ في القرآن لأن من ينفي من ذلك إنما نسلك فيه هذه الطريقة ويجري
فيه على هذا المنهاج في نفي النسخ
وهذا قول ظاهر الفساد وعلى أنه إنما ذكر أنه كتب علينا الصيام والصيام لا يكون
بالليل وإن حظر الأكل فيه بعد النوم فكيف يتناول الليل وقد بين ذلك في سياق الآية
328

في قوله تعالى أياما معدودات فأخبر أن الصوم الذي كتب علينا كما كتب على الذين
من قبلنا إنما هو أيام معدودات فلم يتناول الليل قط فسقط قوله إن ما نسخ من
ذلك قد كان موجبا بالآية قبل نسخها
وأما قوله في شرب الخمر أنه كان مباحا بقوله تعالى ومنافع للناس وأنه قد قرنها
بالإثم بقوله تعالى قل فيهما إثم كبير ثم قال تعالى وإثمهما أكبر من نفعهما وهذا
اللفظ قد اقتضى تحريمها لأن الإثم كله محرم بقوله تعالى قل إنما حرم ربي
الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم وذكر المنافع التي فيها لا يدل على الإباحة
لأن سائر المحظورات قد يمكن الانتفاع بها في أمور الدنيا مع بقاء الحظر
وأما قوله إنهم قد كانوا يشربونها بعد نزول الآية فلا دلالة فيه على الإباحة لأنه
ليس فيه أنهم كانوا يشربونها مع علم النبي عليه السلام بشربهم إياها وإقراره إياهم عليه
وجائز أن يكون قد كان يشربه من لم يعلم بالحظر وظن أن الآية لم توجب تحريمها
فإن قال قائل ليس في تحريم الخمر بعد إباحتها دلالة على ما ذكرت لأن
إباحتها قبل نزول الآية كانت من طريق العقل وكون الأشياء مباحة في الأصل قبل ورود
الشرع ومثل هذا لا يطلق فيه اسم النسخ فلا يمتنع ورود الكتاب بحظرها ولا يدل على
جواز نسخ السنة بالقرآن لأن موضع الخلاف بينك وبينهم إنما هو فيما يثبت حكمه
بالسنة هل يجوز نزول القرآن بزواله ونسخه أم لا
قيل له هذا غلط من وجهين
أحدهما أنهم قد كانوا يشربونها في أول الإسلام مع علم النبي عليه السلام بذلك
فصار إقراره إياهم عليه إباحة منه بشربها من طريق الشرع بمنزلة قوله لو قال قد أبحت
لكم شربها لا فرق بين وجود لفظه منه عليه السلام من ذلك وبين إقراره إياهم عليه وقد
وردت الآية بعد ذلك بنسخه على الوجه الذي ذكرنا فثبت نسخ السنة بالقرآن
329

والوجه الآخر أن دلالتنا على ما استدللنا به عليه قائمة لأن هذا كلام
في الاسم لا في المعنى وإذا جاز أن يزيل الله حكما أقام عليه الدلالة في الأصل من طريق
العقل بالقرآن جاز أن يزيل به ما حكم به على لسان الرسول عليه السلام لأن الجميع
من عنده فجهة الاستدلال بالآية صحيحة على ما ذكرنا
وأما قول هذا الرجل وكذلك ما أشبه هذه الآيات قد يمكن تخريجها على ذلك وإن
ورد ما لا يمكن فيه فقد يجوز أن يكون مأخوذا من الكتاب وإن خفي علينا علمه
فإنه يقال له هل يجوز عندك أن يكون لله تعالى مراد في حكم يشتمل عليه لفظ
مذكور في الكتاب فيخفى عامه على جميع الأمة
فإن قال نعم جواز أن يكون ها هنا أحكام كثيرة في الكتاب والسنة قد خفي
علمها عن الأمة فأخطئوها وحكموا بغيرها وهذا يوجب جواز اجتماعهم على الخطأ وقد
علمنا أن وقوع ذلك مأمون منهم
وإن قال لا يجوز ذلك قيل له فلم أجزت ان ترد آية تشتمل على حكم مذكور
فيها ثم ينسخ ذلك الحكم فلا يعلم الناس الحكم المنسوب من الكتاب فهذا يقتضي
أن يكون هذا الحكم قد ذهب عن الأمة لأن مخالفيك يقولون ليس في الكتاب حكم قد
خفي علينا في المعنى الذي اختلفنا فيه وإنما الكتاب في مثل ذلك ورد في نسخ السنة وتزعم
أنت أنك لا تقف عليه ولا تعلمه ويجوز أن يكون هناك حكم قد خفي عليك فقد أداك
هذا إلى خفاء الحكم عن الأمة بأسرها
ولو جاز هذا ليجوز أن يقال إن في كتاب الله تعالى أحكاما كثيرة نحن
متعبدون بها لم تقف الأمة على شئ منها وهذا قول ظاهر السقوط
330

ويقال له فعلى هذا يجوز أن يقال كل ما سنه النبي عليه السلام فهو مما أوجبته جملة
مذكورة في الكتاب ولم نقف عليها وكذلك ما نسخه النبي عليه السلام بعد ثبات حكمه
من سنته يجوز أن يكون نسخه بما اقتضته جملة في الكتاب لم نقف على معناها ويجب
على هذا القول ألا يكون للنبي عليه السلام سنن بوحي غير القرآن
وهذا قول ساقط مردود على أنه لو جاز أن يكون في كتاب الله تعالى أحكام
تخفى على الأمة لما صح الرد إلى كتاب الله تعالى ولبطل الاستدلال والنظر لأنا متى أردنا
رد الحادثة إلى الأصل وجوزنا مع ذلك أن يكون في الأصول ما قد خفي علينا حكمه لم
نأمن أن يكون أصل هذه الحادثة هو مما قد خفي علينا حكمه من الكتاب وهذا
يؤدي إلى بطلان القياس وكفى بقاعدة تؤدي الباني عليها إلى هذه الجهالات فسادا من
إبطال نسخ الكتاب والسنة ومن أنه لو ثبت النسخ فيهما لم يثبت نسخ الكتاب بالكتاب ولا
السنة بالسنة وإلى تجويز خفاء حكم مذكور في الكتاب على الأمة فلا نعلمه ولا نقف
عليه وإلى تجويز ألا يكون للنبي عليه السلام سنة وأن جميع ما سنه فهو في القرآن
وإلى بطلان رد الحادثة إلى الكتاب لجواز أن يكون أصلها مما لم تقف عليه الأمة
وذكر هذا الرجل وجها ثالثا في زعمه لتخريج هذه الآيات قد ذكره الشافعي
سنذكره عند حكايتنا بقوله في هذا الباب وعلى أن الآي التي احتججنا بها إنما يطلب لها
تأويل يوافق مذهب من أقام الدلالة على صحة المقالة في الأصل فأما من لم يعضد قوله
بحجة ولا شبهة فلم يلجأ فيه إلى دلالة من عقل ولا شرع ثم استغل مطلب تأويل
331

الآي الموجبة لفساد مقالته وحملها على وجوه تناقض الأصول وتنافيها كان قوله ساقطا
مطروحا
فإن قال قائل الدليل على صحة مقالتنا قوله تعالى لتبين للناس ما نزل
إليهم فأخبر أن النبي عليه السلام بعث مبينا فلا يكون الكتاب إذن مبينا لقوله
وقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها يدل على أنه إنما
ينسخ آية مثلها وكذلك قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية
قيل له لا يخلو قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم من أحد وجهين
إما أن يكون المراد به إظهاره وترك كتمانه فيتناول جميع القرآن ما افتقر منه إلى بيان
وما لم يفتقر فيكون بمعنى قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من
ربك أن يكون المراد منه ما احتاج منه إلى بيان الرسول دون غيره
فإن كان المراد به الوجه الأول فليس يمتنع أن ينزل الله تعالى إليه النسخ للسنة
فيبينه للناس بإظهاره إياه فهذا لا يكون دلالة على جواز نسخ السنة بالقرآن
أقرب منه إلى أن يمنع منه
وإن كان المراد الوجه الثاني فلا دلالة فيه أيضا على ما ذكرت لأنه ليس في
لزوم النبي عليه السلام بيان مجمل الكتاب ما ينفي نسخ السنة بحكم في القرآن غير مفتقر
332

إلى بيان النبي عليه السلام لأنه لو نص عليه على هذا الوجه بأن يقول لتبين مجمل
الكتاب لم ينف بذلك أن يكون ما لا يحتاج إلى البيان منه ناسخا لسنته
وأيضا فإذا كان ما يحصل من بيان النبي عليه السلام فالله تعالى المتولي لتبيينه فقال بوحي
من عنده ولم يكن قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم مانعا أن يكون ما حصل من
البيان فهو من عند الله وهو المتولي لذلك منه ولم يمتنع أيضا أن يبين مدة السنة فينسخها
بالكتاب كما تولى تبيينها على لسان الرسول عليه السلام
وأيضا ليس في أن النبي عليه السلام يبين القرآن ما يمنع أن يكون القرآن يبين
السنة أيضا كما أن القرآن يبين القرآن ولم يمنع ذلك نسخه به وكما أن السنة تبين السنة
وتنسخها أيضا فليس إذن في وصف النبي عليه السلام تبيين القرآن ما يمنع أن ينسخ سنة
بالقرآن
وأيضا فالذي قال لتبين للناس ما نزل إليهم هو الذي قال ونزلنا عليك
الكتاب تبيانا لكل شئ فهلا أجزت لعمومه تبيين مدة السنة إذ لم يكن في قوله
لتبين للناس ما نزل إليهم ما يوجب تخصيصه ألا ترى أنه يصح أن يقول لتبين للناس
ما نزل إليهم ولتبيين الكتاب ما يسنه إذ ليس بيان مجمل الكتاب بسنة النبي عليه
السلام وإنما يبين النبي عليه السلام أن الله تعالى قال كذا أو أن مراده بما قال كذا فلا
يسمى هذا سنة فلم يعترض على قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ
وإيجاب تخصيصه
وأما قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فليس له
333

تعلق بما ذكرنا لأن أكثر ما فيه أنه إذا نسخ آية أتى بخير منها أو مثلها ولا دلالة فيه
أن السنة لا تنسخ بها وكذلك قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية أنه لا يمنع أن
يبدل آية مكان سنة وإنما ذكر حكاية قول الكفار عند نسخ آية بآية مثلها ولم ينف نسخ السنة
بآية
وقال الشافعي في كتاب الرسالة وسنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة رسول الله ولو
أحدث الله لنبيه في أمر سن منه غير ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسن فيما أحدث الله إليه حتى
يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفنا وهذا مذكور في السنة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم
فإن قال قائل فقد وجدنا الدلالة على أن القرآن ينسخ القرآن لأنه لا مثل له
فأوجبنا ذلك في السنة
قال الشافعي فيما وصفت من فرض الله على الناس اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل
على أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قبلت عن الله فمن قبلها فكتاب الله تعالى يتبعها ولا
نجد خبرا ألزمه الله عز وجل خلقه نصا مبينا إلا كتابه ثم سنة نبيه عليه السلام
فإذا كانت السنة كما وصفت لا شبه لها من قول خلق من خلق الله تعالى لم يجز
أن ينسخها إلا مثلها ولا مثل لها غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو بكر رحمه الله تعالى هذا الفصل من كلامه يشتمل على ضروب من
الاختلال منها قوله إن السنة لا ينسخها إلا سنة رسول الله فمنع بذلك نسخ السنة
إلا بسنة مثلها ثم نقض ذلك بقوله في سياق كلامه ولو أحدث الله عز وجل لنبيه في أمر
سن فيه غير ما سن رسول الله ليس فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة
ناسخة فأجاز بذلك أن ينسخ الله سنة نبيه بالقرآن وهذا ينقض قوله بدءا أن السنة لا
ينسخها إلا سنة
334

فإن قال قائل لم يقل إن أحدث الله ذلك بقرآن ينزله ويحتمل أن يكون مراده انه
ينسخه بوحي ليس بقرآن
قيل له فإذن يكون ما أحدث سنة للنبي عليه السلام لأن ما نزل به وحي
غير قرآن من الأحكام هي من سنن النبي عليه السلام فما معنى قوله لسن فيما أحدث
الله إليه والذي أحدث الله إليه سنة لا يفتقر في وقوع النسخ بها إلى سنة
أخرى
وعلى أن الشافعي قد أبطل تأويل هذا القائل بقوله بعد ذلك في هذا الفصل
فإن قال قائل فهل تنسخ السنة بالقرآن
قيل له لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي عليه السلام فيه سنة تبين أن سنته
الأولى منسوخة حتى تقوم الحجة على الناس فإن الشئ ينسخ بمثله فأجاز نسخها
بالقرآن إذا سن النبي عليه السلام ما يبين أن سنته الأولى منسوخة
وقوله لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها
كلام متناقض مستحيل لأنه أخير أن الله نسخه بما أحدثه من خلاف سنة النبي عليه
السلام
وقوله أيضا لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة
للتي قبلها فما قد نسخه الله تعالى كيف يجوز أن ينسخه النبي صلى الله عليه وسلم بعده وكيف يجوز
نسخ المنسوخ ومن جهة أخرى أن ما قد نسخه الله تعالى كيف يجوز من النبي عليه السلام
الإخبار عنه بأن سنته نسخته فيكون فيه الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه حاشا له
335

من ذلك عليه السلام
ثم استدل على أن السنة لا ينسخها إلا سنة بما ذكر من أمر الله الناس باتباع نبيه
عليه السلام
وهذا لا دليل فيه على أن السنة لا ينسخها القرآن إذ ليس في الأمر باتباع النبي ص
ما ينفي جواز نسخها بالقرآن كما لا ينفي جواز نسخها بوحي من عند الله ليس بقرآن فإذن
ليس في الأمر باتباع النبي عليه السلام تعلق بنسخ السنة بقرآن ولا غيره لأنا إنما
أمرنا باتباع سنة النبي عليه السلام التي لم تنسخ فأما إذا نسخها القرآن أو
سنة له أخرى فنحن مأمورون حينئذ باعتقاد نسخها وزوال حكمها وقد أمر الله باتباع
كتابه بقوله اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولم يمنع جواز نسخه بالقرآن
وأما قوله إن السنة لا شبه لها من قول خلق من خلق الله فليس يخلو مراده من ذلك
من أحد معنيين
إما أن يريد أن نظمها معجز غير مقدور للخلق
أو أن يكون مراده الحكم
فإن كان مراده اللفظ فإن أحدا من المسلمين لا يقول إن كلام النبي عليه السلام
معجز بالنظم وإن كان عليه السلام أفصح الخلق ولو كان كلامه معجزا لكان مساويا
للقرآن في إعجاز النظم وهذا خلف من القول لأن القرآن هو المختص بإعجاز النظم دون
سائر الكلام
ولو كان كلام النبي عليه السلام معجزا لتحدى به العرب كما تحداهم بالقرآن
ولا استغنى الناس به عن طلب الشبه لمباينته لكلام غيره من البشر في إعجاز
336

نظمه كما بان القرآن من سائر الكلام بالنظم المعجز والتأليف البديع الذي ليس في وسع
أحد من الخلق الاتيان بمثله فبطل هذا القسم
وإن كان مراده الحكم الثابت من جهة السنة فإن أحدا من المسلمين لا يقول إن
لغير النبي عليه السلام من الخلق أن يشرع الشرائع ويبتدع الأحكام فلا معنى
لذكره هاهنا إذ ليس هو موضع الخلاف لأن كلامنا إنما هو في نسخ السنة بالقرآن الذي لا
شبه له من قول أحد من الخلق لا في نسخها بماله شبه كلام من كلام المخلوقين
وعلى أنه لو ثبت أن السنة لا شبه لها من قول أحد من المخلوقين على أي وجه حصل
معنى كلامه لما دل على أن القرآن لا ينسخها لأن القرآن لا شبه له من قوله أحد من
الخلق وينسخه القرآن كذلك السنة لا يكون لها شبه من قول الخلق وينسخها
القرآن الذي لا يشبه قول المخلوقين فلم يحصل له من كلامه في هذا الفصل
وجه الدلالة على منع نسخ السنة بالقرآن
قال الشافعي بعد ذلك ولو جاز أن يقال قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخت سنته
بالقرآن ولا يؤثر عن النبي عليه السلام السنة الناسخة جاز أن يقال فيما حرم رسول
الله تعالى من البيوع كلها قد يحتمل أن يكون حرمها قبل أن تنزل عليه وأحل الله البيع
وحرم الربا وفيمن يرجم من الزنا قد يحتمل أن يكون الرجم قبل نزول قوله
337

تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة
قال أبو بكر وهذا الفصل نظير ما تقدم لأنه قال ونسخت سنته بالقرآن ولا يؤثر
عن النبي عليه السلام والسنة الناسخة فأطلق نسخها بالقرآن ثم أوجب نسخها بعد
ذلك بالسنة ومعلوم أن ما نسخ بالقرآن يستحيل نسخه بالسنة لامتناع جواز نسخ
المنسوخ
وأما قوله لو جاز أن ينسخ الله سنة بالقرآن ولا يؤثر عن النبي عليه السلام السنة
الناسخة جاز أن يقال فيما حرم الله من البيوع إلى آخر ما ذكر فإن هذه القضية إن
صحت منعت نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالسنة إلا أن يكون مع الناسخ منهما سنة
تبين النسخ فإذ قد وجدنا في القرآن والسنن ناسخا ومنسوخا من غير أن يكون مع الناسخ
منهما سنة تبين الناسخ من المنسوخ ومن غير ذكر تاريخ في واحد منهما بل يكون استدراك
حكم الناسخ من المنسوخ وتفضيل أحدهما من الأخر والتمييز بينه وبينه موكولا إلى
الاستدلال بغيره
كذلك يجوز نسخ السنة بالقرآن ويكون سبيل معرفة الناسخ من المنسوخ طلب تاريخ
الحكم من سائر الأصول إذا لم يكن عندنا علم بتاريخهم أي ولا كان في لفظهما ما يدل على
الناسخ منهما
وعلى أن الشافعي قد نص على نسخ السنة بالقرآن في باب صلاة الخوف في
كتاب الرسالة فقال بعد أن ذكر حديث أبي سعيد الخدري في تأخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم
الخندق بالصلوات حتى كان هوي من الليل ثم قضاهن قال أبو سعيد وكان
338

ذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف ثم ذكر حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات
في صلاة الخوف قال الشافعي فنسخ الله تعالى تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف
إلى أن يصلوها كما أنزل الله وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها ونسخ رسول الله
سنته في تأخيرها بفرض الله تعالى في كتابه ثم بسنته صلاها في وقتها كما وصفت فنص
في هذا الموضوع على نسخ السنة بالقرآن إلا أنه وصله بما يستحيل كونه لأنه قال
نسخها بفرض الله في كتابه ثم بسنته وما قد نسخ بالكتاب لا يصح نسخه بعد ذلك لا
بالسنة ولا بغيرها
339

الباب الثاني والأربعون
في
القول في نسخ القران بالسنة
وفيه فصل
نسخ حكم القرآن وما ثبت من السنة
من طريق التواتر بخبر الواحد
341

باب
القول في نسخ القرآن بالسنة
اختلف الناس في نسخ القرآن بالسنة فأجازه أصحابنا إذا جاءت السنة مجيئا يوجب
العلم ولم يكن من أخبار الآحاد
وكان أبو الحسن رحمه الله يحكي عن أبي يوسف أن السنة التي يجوز نسخ القرآن بها
هي ما ورد من طريق التواتر ويوجب العلم نحو خبر المسح على الخفين
ومنع الشافعي ذلك
واختلف أصحابه فقال بعضهم هو جائز في العقل إلا أن الشرع لم يرد به ولم
يمنعه أيضا
وقال آخرون منهم قد منع الشرع جوازه
والدليل على جوازه قول الله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم
والنسخ بيان مدة الحكم الذي كان في توهمنا بقاؤه على حسب ما تقدم وصفنا
له فانتظم قوله لتبين للناس ما نزل إليهم سائر وجوه البيان فلما كان النسخ ضربا من
البيان وجب أن تستوعبه الآية
فإن قال قائل المراد به إظهار ما أنزل وتبليغه
قيل له هذا أحد ما تناوله اللفظ ولم ينف غيره من سائر ضروب البيان
ألا ترى أنه قد دل على جواز تخصيصه بالسنة إذا كان ضربا من البيان ولم يكن
استعمال اللفظ على الأمر بإظهار وترك كتمانه مانعا من دخول بيان التخصيص تحته
343

كذلك بيان مدة الحكم الذي هو النسخ واجب أن يتناوله اللفظ
فإن قيل إذا كانت السنة تبين القرآن استحال أن تنسخه لأنه لا يجوز أن ينسخ
الشئ بما يبينه
قيل له إن هذه دعوى ليس عليها دلالة وهو موضوع الخلاف بيننا وبينكم
فكأنك إنما جعلت موضع الخلاف دلالة على المسألة
وعلى أن النسخ ضرب من البيان فلا يمتنع وقوعه بالسنة كما أن القرآن يبين
القرآن بقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ولم يمتنع نسخه به
ودليل آخر وهو قوله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله وقال
تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
فلما كان الناسخ لحكم القرآن صراط الله وجب أن يصح وقوعه بالسنة لإخبار
الله تعالى بأنه يهدي إلى صراط الله ولأن السنة لما كانت واجبا من الله تعالى جاز أن
ينسخ بها وحي وهو قرآن كما جاز نسخ القرآن بالقرآن من حيث هما وحي من الله تعالى
وأيضا فإن نسخ القرآن يكون من وجهين
أحدهما نسخ التلاوة
والثاني نسخ الحكم
وقد جاز عند الجميع نسخ التلاوة لا بقرآن على ما بينا فيما سلف لأن نسخ
التلاوة يكون بالإنساء تارة وبالأمر بالإعراض عن كتبها وحفظها أخرى وكلا الوجهين من
ذلك يجوز وقوعه بغير قرآن
ألا ترى أن نسخ التلاوة وجد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا قرآن موجود نسخت به
فلما جاز نسخ التلاوة لا بقرآن وجب أن يجوز نسخ الحكم لأنه أحد وجهي نسخ القرآن
344

ولأن التلاوة يتعلق بها حكم في جواز الصلاة بها وما يستحق به من الثواب إذ
كانت قرآنا ولا تستحق بغيره فدل ذلك من وجهين على نسخ حكم القرآن بالسنة
أحدهما أن نسخ التلاوة لا محالة يقتضي نسخ حكم
والثاني أنه قد ثبت قرآن منسوخ بغير قرآن فوجب مثله في حكم تضمنه لفظ القرآن
دليل آخر وهو أن الأصل في الناسخ والمنسوخ أن ما صح اجتماعه في خطاب واحد
جاز النسخ به على حسب ما تقدم القول منا فيه فلما لم يمنع أحد من تجويز سنة النبي
صلى الله عليه وسلم عقيب تلاوة القرآن موجبة لتوقيت حكمه أن مراد الله في فعل ذلك إلى وقت كذا
ثم ليس عليكم فعله بعده وإنما عليكم بعد مضي المدة عبادة أخرى كما جاز أن يقول
الزكاة واجبة بعد الحول والحج واجب في وقت دون وقت وكذلك سائر الفروض وجب
أن لا يمنع إبهام القول في حكم القرآن ثم ترد سنة الرسول عليه السلام بزوال
ذلك الحكم ووجوب ضده كما جاز وجود ذلك منه عقيب نزول القرآن
ودليل آخر وهو اتفاق الجميع على جواز تخصيص القرآن بالسنة والتخصيص إنما هو
بيان الحكم في بعض المسميات فلا يمتنع على ذلك نسخة بالسنة إذ كان النسخ
تخصيصا بالوقت دون وقت على الوجه الذي بينا والمعنى الجامع بينهما أن كل واحد
منهما وارد على وجه التخصيص
فإن قيل يلزمك على هذا تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس كما جوزت
تخصيصه بخبر الواحد وبالقياس
قيل له لنا في تجويز تخصيص القرآن بخبر الواحد وبالقياس شرايط قد بينا
345

بعضها فيما سلف وجملته أن ما كان منه ظاهر المعنى بين المراد لم يجز تخصيصه بخبر
الواحد ولا بالقياس إلا أن يختلف السلف فيه ويسوغوا ثنا الاجتهاد في تركه أو يتفقوا على
خصوصه فيكون العلم بموجب عمومه من طريق الاجتهاد فيجوز تركه بخبر الواحد
وبالقياس
وأما ما لم يكن بهذا الوصف فموجب حكمه ثابت من طريق يوجب العلم فلا يجوز
تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس وكذلك لا يجوز نسخه بذلك إذا كان موجبه ثابتا من
طريق يوجب العلم فإنما يجوز التخصيص بما يجوز به النسخ في مثله
فإن قال الفرق بين التخصيص والنسخ أنه يبقى مع التخصيص من حكم
اللفظ ما يصح استعماله ولا يبقى مع النسخ حكم يستعمل
قيل له هذا فرق من وجه آخر لا يمنع الجمع بينهما من الوجه الذي
ذكرنا وعلى أن النسخ لا يصح إلا وقد مضى من وقت الحكم ما يصح استعماله فيه وذلك
الوقت هو بمنزلة ما تبقى من حكم الاسم بعد التخصيص ولا فرق بينهما من هذه الجهة
فثبت بما ذكرنا جواز نسخ القرآن بالسنة
وأما من نفي جوازه من المخالفين بما ادعى فيه من ورود السمع فإنه احتج فيه
بقول الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
قال والسنة لا تكون خيرا من القرآن ولا مثله بوجه
فنقول وبالله التوفيق إنه لا دلالة في هذه الآية على ما ذكره بل فيها الدلالة على
جواز نسخ القرآن بالسنة من وجوه نذكرها إن شاء الله تعالى
فنبدأ ببيان وجه الدلالة من هذه الآية على صحة قولنا ثم نشرع في الإبانة عن
346

فساد استدلالهم به بها على ما ادعوه إن شاء الله
فأما وجه الدلالة منها على صحة قولنا فمن وجهين أحدهما أن قوله تعالى بخير
منها لا يخلو من أن يكون المراد به خيرا منها في نظمها وصورتها وحروفها أو خيرا
منها أصلح لنا وأنفع فأما الوجه الأول ففاسد لأن أحدا لا يقول إن هذه الآية خير من
هذه الآية في نفسها فثبت الوجه الثاني وليس يمتنع أن يكون حكم ثبت من جهة السنة
أصلح لنا وأنفع منه لو نزل به قرآن ومن أجل ذلك أنزل الله ببعض الأحكام قرآنا وأنزل
ببعضها وحيا ليس بقرآن على حسب علمه بمصالحنا فيها
وإذا كان المراد بالآية ما وصفنا فقد دلت على جواز نسخها بالسنة لجواز إطلاقها
أنها خير لنا من الوجه الذي ذكرنا
والوجه الثاني أن قوله مثلها لا يخلو من أن يكون المراد المماثلة بينهما من جميع جهاتهما
أو من بعضها فلو كان المرا وجود المماثلة بينهما من جميع الجهات لوجب أن يكون الناسخ
مثل المنسوخ في نظمه وصورته وحروفه ومعانيه وهذا يوجب أن يكون الناسخ هو المنسوخ
ويوجب بطلان النسخ رأسا فلما بطل هذا علمنا أن المراد وجود المماثلة بينهما من بعض
الجهات وقد يصح إطلاق اسم المثل إذا تماثلا من بعض الوجوه كما قال تعالى
وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون فأطلق اسم المماثلة لمماثلتها من بعض
الوجوه إذ معلوم أن الحور العين غير مماثلة للؤلؤ من جميع الجهات وإنما مثلهن به من جهة
الصفاء والنقاء ونحو ذلك والله أعلم
فمتى استحق اسم المماثلة من وجه فهو داخل تحت الآية وقد تكون السنة مثل
الآية من جهة النفع والصلاح ومن جهة أنهما جميعا وحي من الله تعالى فوجب أن يجوز
نسخه بها لعموم اللفظ
347

فإن قال قائل لا يطلق اسم المماثلة على الحقيقة إلا فيما يكون مماثلا له من
جميع جهاته فإذا لم يكن كذلك فإنما يقال هو مثله على التقييد
قيل له لم يرد بالمثل ها هنا ما ذكرت لما بينا فثبت أنه أراد المماثلة من بعض
الوجوه فقدت دلت الآية في هذين الوجهين على جواز نسخ القرآن بالسنة
وأما ما قلنا إنه لا دلالة فيها على ما ذهبوا إليه فمن جهة أن الذي في الآية أنه إذا
نسخ آية أتى بخير منها ولم يذكر الناسخ لها وإنما قلنا فيها أنه يأت بخير من
المنسوخ أو مثله وليس يمتنع أن ينسخ الآية بالسنة ثم يأتي بآية أخرى مثلها ولا تكون
هي الناسخة إذ لم يقل ما ننسخ من آية نأت بما ينسخها خيرا منها
ويدل على ذلك أن قوله نأت بخير منها راجع إلى الحكم والتلاوة ونسخ
التلاوة لا يكون بآية مثلها بل بغير آية ثم يأتي بآية خير منها ليست هي الناسخة للتلاوة
فكذلك هذا في الحكم
وأيضا فإن الذي تقتضيه حقيقة اللفظ هو نسخ التلاوة والنظم دون الحكم
لأن الآية في الحقيقة اسم للنظم ألا ترى أن الآية قد تكون باقية والحكم منسوخ وقد
تنسخ الآية والحكم باق فدل على أن الآية اسم للرسم والنظم دون الحكم فوجب أن
يحمل قوله ما ننسخ من آية على نسخ التلاوة والرسم دون الحكم وألا يدخل الحكم
فيه إلا بدلالة
وأيضا لا يخلوا قوله تعالى ما ننسخ من آية من أحد أوجه ثلاثة
إما أن يريد به نسخ التلاوة دون الحكم أو نسخ الحكم دون التلاوة أو نسخهما
معا
348

فإن كان المراد نسخ التلاوة دون الحكم لم يعترض على موضوع الخلاف لأن
الخلاف بيننا في نسخ الحكم ولم نختلف أن نسخ التلاوة قد يكون بغير القرآن
وإن كان المراد نسخ الحكم دون التلاوة لم يمتنع نسخه بالسنة لجواز أن يكون حكم
السنة خيرا لنا من حكم القرآن في باب أنه أصلح لنا وأنفع لأن اسم الخير لا يطلق في
مثل هذه إلا بإضمار إضافته إلى من يحصل له لأنك لا تقول إن هذا خير من هذا إلا
ومرادك أنه خير لمن تعبد به أو جعل له أو ما جرى مجرى ذلك
وإن كان المراد نسخ التلاوة والحكم معا فإن نسخ التلاوة قد يجوز عند الجميع
بغير قرآن بأن ينسي الله من يحفظها أو يأمر على لسان رسول الله بالإعراض عنها
فتنسى
وقد بينا أن الآية لم تمنع نسخ الحكم على الانفراد بالسنة وكذلك لا يمتنع
نسخهما معا بالسنة
فإن قال قائل ما أنكرت أن يجوز أن يكون المراد بقوله بخير منها أو مثلها
أن يكون خيرا من الأولى من جهة ما يستحق من زيادة الثواب بتلاوتها كما روي أن
قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وأن قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن
يعني فيما يستحق بتلاوتها من الثواب زيادة على ما يستحق بغيرها
وإذا كان قوله بخير منها أو مثلها يحتمل أن يكون هذا معناه لم يكن لنا أن نعدل به
عن قرآن مثله إلى غيره مما ليس بقرآن من جهة ما ذكر ثم إن القرآن لا يكون بعضه خيرا
من بعض
349

الجواب إن هذا لا يعترض على شئ مما قدمنا ولا يمنع جواز نسخ القرآن بالسنة
على الوجه الذي بينا من وجوه
أحدهما أنا إذا سلمنا له ما ادعاه من ذلك في كون التلاوة خيرا له لما
يستحق بها من زيادة الثواب فقد ثبت أن في الآية ضميرا ليس مذكورا في اللفظ وهو كون
ثوابها خيرا لنا فحينئذ لا يكون خصمنا أولى بصرف معناها إليه منا بصرفه إلى
الحكم وما لنا فيه من النفع والصلاح
ووجه آخر وهو أنه قد ثبت أن المراد بقوله خيرا منها أنه خير لنا لأن الآية ليست خيرا
من آية أخرى غيرها في نفسها وإذا كان كذلك فقد ثبت أن المراد أنه أنفع لنا وأصلح
إما من جهة استحقاق زيادة الثواب وإما من جهة النفع والصلاح ثم لا يختلف حينئذ
الحكم الثابت بالسنة والحكم الثابت بالقرآن إن كان هذا الإطلاق يجوز أن يتناول كل
واحد منهما على حياله بأنه خير لنا في باب أنه أصلح لنا فليس إذن فيما ذكره هذا القائل
ما يمنع كون الثاني خيرا من الأول على الوجه الذي بينا
وأيضا فإذا كان جائز أن يكون حكم السنة خيرا لنا من حكم لو كان في القرآن وجاز
هذا الإطلاق فيه كما جاز فيما ذكره من استحقاق زيادة الثواب كان أقل أحواله تجويز
الأمرين من نسخها بقرآن مثلها أو خير منها من جهة الثواب ومن نسخها بالسنة من جهة
ما يكون خيرا لنا في باب النفع والصلاح
وأيضا فإن الذي يقتضيه حقيقة اللفظ نسخ النظم والتلاوة لأن الآية اسم للنظم
والرسم لا الحكم ولا دلالة فيه على نسخ الحكم إذ جائز بقاء الحكم مع نسخ التلاوة
وإذا كان كذلك صار تقدير الآية ما ننسخ من نظم آية ورسمها نأت بخير منها أو مثلها فلا
يعترض ذلك على موضوع الخلاف لأن الخلاف بيننا إنما هو في نسخ حكم الآية
بالسنة لا في نسخ النظم والتلاوة إذ لا خلاف بين من يجيز نسخ التلاوة أنه جائز وقوعه
بغير قرآن لما بيناه فيما سلف
وأيضا فليس في قوله تعالى نأت بخير منها أو مثلها دلالة على أن المأتي به
350

هو الناسخ لها إذ لم يقل نأت بما ينسخها خيرا منها أو مثلها ومن ادعى أن المراد به نأت
بناسخ خير منها لم يسلم له دعواه إلا بدلالة وسقط استدلاله بالآية على موضع الخلاف
بيننا إذ ليس أحد الخصمين بأولى بما ادعاه من أحد وجهي الاحتمال من الآخر بل لو
قلنا إن الأظهر والذي يقتضيه فحوى الخطاب نسخ الآية بأي وجه كان من وجوه النسخ
قرآنا أو غير قرآن ثم يأتي بعد ذلك بخير منها أو مثلها كان قولا سديدا أو أشبه
بالصواب من قول مخالفنا
فإن قال قوله تعالى في سياق الآية ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير يدل
على أن المراد نسخ الآية بقرآن معجز لا يقدر أحد غير الله على الإتيان بمثله فثبت أنه منع
نسخها بالسنة
قيل له ولو سلمنا لك ما ادعيت لم يعترض على موضع الخلاف وذلك لأنه
يقتضي نسخ التلاوة ونسخ التلاوة والنظم لا يقدر عليه أحد غير الله وهذا ما لا
خلاف فيه بيننا فما الدلالة منها على أن هذا يدل على امتناع جواز نسخ الحكم الذي
تضمنته الآية
ومن وجه آخر لا دلالة فيه على ما وصفت لأنه ليس في الآية أن الذي هو خير
منها أو مثلها هو الناسخ لها فإذا لم يكن ذلك في الآية لم يجز لأحد أن يدعيه إلا بدلالة من
غيرها فلا يمتنع حينئذ أن يكون المراد نسخ حكم القرآن أو تلاوته بوحي من عنده ليس
بقرآن ويأتي مع ذلك بقرآن خير منها أو مثلها على حسب ما يحتمله اللفظ ويجوز فيه فلا
يدل ذلك على أن الناسخ يجب أن يكون قرآنا وإن كان الذي يأتي به بعد النسخ
يكون قرآنا إن اقتضت الآية ذلك
ووجه آخر وهو أنه جائز أن يكون الذي يأتي به حكما من جهة وحي ليس بقرآن
ويصح الوصف له من أجل ذلك أنه على كل شئ قدير لأن الحكم الذي هو
أصلح لا يعلمه أحد غير الله الذي على كل شئ قدير فلا دلالة فيه على أن الذي يأتي
به بعد النسخ قرآن معجز
351

فإن قيل قال الله تعالى وقال الذين لا يرجون لقاءنا من ائت بقران غير هذا أو
بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي
فدل أنهم سألوه تبديل الآية نفسها وقد أخبر أنه لا يبدله من تلقاء نفسه ولو
جاز نسخه بالسنة لكان قد بدله من تلقاء نفسه
قيل له هذا استدلال فاسد من وجوه
أحدها أنهم إذا كانوا سألوه تبديل الآية نفسها لم يعترض على ذلك الحكم
وكلامنا إنما هو في الحكم الذي يثبت بالقرآن هل يجوز نسخه بالسنة أم لا وعلى أنه
لا يخلو من أن يكون سألوه تبديل النظم والرسم أو تبديل الحكم أو تبديلهما جميعا
فإن كانوا سألوه تبديل النظم وهو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ فلا دلالة فيه على
موضع الخلاف من المسألة لما بينا ولأن أحدا غير الله لا يقدر على تبديل نظم القرآن إلى
نظم آخر معجز فلا معنى للاشتغال بهذا الوجه في موضع الخلاف
وإن كانوا سألوه تبديل الحكم دون النظم لم يعترض أيضا على قولنا لأن أكثر ما فيه
نفي تبديله من تلقاء نفسه ونحن لا نقول إنه يبدله من تلقاء نفسه وإنما يبدله الله بوحي من
عنده إما قرآن وإما غير قرآن ويدل على ذلك قوله في سياق الخطاب إن أتبع إلا
ما يوحى إلي والوحي لا يختص بالقرآن دون غيره فهذا يدل على جواز تبديل حكمه
بوحي ليس بقرآن وعلى أنه لا يجوز لنا حمل المعنى على الحكم لأن الذي يقتضيه ظاهر
اللفظ نسخ النظم والرسم إذ كان المعنى الذي من أجله كان قرآنا وجوده على ضرب من
النظم وإن كانوا سألوه تبديل النظم والحكم معا فلا دلالة فيه أيضا على ما اختلفنا فيه
لأنا لم نقل أنه يبدل شيئا منه من تلقاء نفسه وإنما قلنا إنما يتبع ما يوحى إليه
352

وما يوحى إليه قد يكون قرآنا وغير قرآن
فإن قال قائل قال الله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما
أنت مفتر وهذا يدل على أنه إنما تنسخ الآية بآية مثلها قطعا لحجج الكفار وإبطالا
لدعواهم أنه افتراها وأنه أتى بها من قبل نفسه
قيل له وما في قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية ما يوجب أن حكم القرآن لا
ينسخ بالسنة وإنما أكثر ما فيه الإخبار بأنه إذا بدل آية مكان آية قال الكفار إنما أنت
مفتر ولم يقل إنه لا ينسخها بالسنة
وأما قوله إنه إنما بدل آية مكان آية قطعا لحجج الكفار وبطلانا لدعواهم فإنه
قد أخبر الله تعالى أنهم لم ينتهوا عن قولهم هذا مع تبديل آية مكان آية ولم يمنع
قولهم ذلك من نسخ آية أخرى وكذلك لا يمنع نسخها بالسنة وإن قال الكفار ذلك
وعلى أن قوله وإذا بدلنا آية مكان آية إنما يتناول نفس المتلو لا الحكم وليس
في المتلو ما يوجب تبديل الحكم والاختلاف بيننا في الحكم لا في المتلو فليس لما
ذكروه تعلق بموضع الخلاف
فإن قيل لو نسخها بالسنة لارتاب الكفار وقالوا إنه من عنده
قيل له قد ارتاب الكفار مع نسخها بآية أخرى ولم يمنع ارتيابهم من
نسخها بآية غيرها فكذلك لا يمنع نسخها بالسنة
وقد دللنا على جواز نسخ القرآن بالسنة بما قدمنا وأنه ليس في العقل ولا في
353

السمع ما يمنع من ذلك وندل الآن على بطلان قول من زعم أنه لا يجد نسخ
القرآن بالسنة بعد موافقته إيانا على تجويزه
فنقول إن أصحابنا قد ذكروا أحكاما في القرآن لم يثبت نسخها إلا بالسنة منها قوله
تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
فأمسكوهن إلى قوله تعالى توابا رحيما
فاتفق السلف من أهل العلم بالتفسير منهم ابن عباس وغيره أن حد الزانيين
المحصن وغير المحصن كان الحبس والأذى المذكورين في هذه الآية ثم نسخ ذلك عنهما
بالجلد لغير المحصن والرجم للمحصن
قال أبو بكر والموجب لنسخ ذلك حديث عبادة بن الصامت عن النبي عليه
السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم والدليل
على أن الحبس والأذى نسخا بالخبر قول النبي عليه السلام في هذا الحديث خذوا عني
قد جعل الله لهن سبيلا فنبهنا على وجود السبيل الذي ذكره الله تعالى في قوله أو
يجعل الله لهن سبيلا ودل بقوله خذوا عني على معنيين
أحدهما الإخبار بالنسخ في الحال وأنه لم يتقدمها قبل هذا الوقت
والثاني أن هذا النسخ واقع لا بقرآن بل بسنته عليه السلام
فإن قال قائل إنما نسخ ذلك بقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة
قيل له هذا غلط من وجهين
أحدهما أن قوله خذوا عني قد أفاد وقوع النسخ ثم بسنته لا بالقرآن
354

والثاني قوله قد جعل الله لهن سبيلا قد دل على أن آية الجلد لم تكن نزلت وأن
السبيل كان متقدما فلم يكن يصح الإخبار بأن السبيل مأخوذ عنه ولا ينبههم على
وجوده إلا مع تقدم علمهم بها وتقريرها قبل ذلك عندهم
وعلى أنه لو كان الأمر على ما ذكرت لكانت دلالة الخبر قائمة على وقوع نسخها
بالسنة وهي أن آية الجلد معلوم أن حكمها مقصور على غير المحصن وقد كان الحبس
والأذى حدا ثابتا على المحصن وغيره لأن أحدا من السلف لم يقل إنه كان حدا لأحد
الفريقين دون الآخر وكانت آية الجلد ناسخة للحبس والأذى عن غير المحصن
ولو خلينا بعد ذلك ومقتضى حكم آية الحبس والأذى وآية الجلد لأوجب ذلك بقاء
حكم الحبس والأذى في المحصنين ولا شئ نسخه عنهما إلا إيجاب الرجم والرجم
إنما ثبت بالسنة وعلى أنه ليس في آية الجلد ما يوجب نسخ الحبس والأذى لأنه لم
يكن يمتنع اجتماعهما وما يصح اجتماعه مع الأول لا يجوز وقوع النسخ به فعلمنا أن
النسخ وقع بغيره وليس في القرآن ما يوجب نسخه فثبت أنه منسوخ بالسنة
فإن قيل ما أنكرت ألا يدل حديث عبادة في الجلد والرجم على نسخ الحبس والأذى
لأن الذي في الآية من ذلك مؤقت بقوله تعالى أو يجعل الله لهن سبيلا فإنما بين
الرسول عليه السلام ذلك السبيل كما لو قال في الآية إلى سنة لم يكن مضي السنة موجبا
لنسخها
قيل له ليس هذا كما ظننت لأن قوله أو يجعل الله لهن سبيلا ليس بتوقيت إذا لم
يكن يمتنع مع وجود هذا القول ألا يجعل الله لهن سبيلا فيكون حدهما الحبس والأذى على
355

التأبيد ولو لم يعطف عليه قوله أو يجعل الله لهن سبيلا لكان معقولا من الآية ثبات
حكمها إلى أن ينسخها الله تعالى بغيرها من الأحكام وذكر السبيل إنما أفاد تأكيد بقاء
الحكم إلى وقت وقوع النسخ وعلى أنا لو سلمنا لك ما ادعيت كانت دلالة الخبر قائمة
على صحة ما ذكرنا وذلك لأن السبيل مذكور في النساء خاصة غير مذكور في الرجال
لأن حد الرجل كان الأذى إلى أن يتوب بقوله تعالى فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا
عنهما وهو منسوخ الآن برجم المحصن وجلد غير المحصن
وقد بينا أن ثبوت الرجم الناسخ لحكم الآية ثابت بالسنة فلا محالة قد أوجب نسخ
القرآن بالسنة
وقد قال بعض المخالفين يحتمل أن يكون الحبس والأذى كان في غير
المحصن فنسخ بقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا ولم يكن للمحصن حكم
ثابت فكان وجوب الرجم حدا مبتدأ
قال أبو بكر رحمه الله وهذا غلط من قائله من وجهين
أحدهما أن كل من روي عنه تأويل هذه الآية من السلف قد قال إن ذلك كان حد
الزانيين ولم يذكروا فرقا بين المحصن وغيره ولو كان حدا لأحد الفريقين دون الآخر لنقل
ولفرقوا رسول بينهما إذ غير جائز أن يعلموه حد لفريق دون فريق فينقلوا ما يوجب كونه حدا
للفريقين جميعا فدل ذلك على سقوط قول هذا القائل
والوجه الآخر أن قوله عليه السلام خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا إخبار بأن
السبيل لجميع من تضمنته الآية التي فيها ذكر السبيل للفريقين من المحصنات
وغيرهن لولا ذلك لاقتصر بذكر السبيل على غير المحصنة فلما جمع الفريقين من
356

المحصنات وغيرهن في بيان السبيل فقال البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب
بالثيب الجلد والرجم دل ذلك على أن الحبس والأذى المذكورين في الآية كان للفريقين
ومن أجل ذلك صار السبيل المذكور في الخبر ناسخا للحكم عن الفريقين جميعا
وعلى أن الشافعي قد قال نسخ الحبس والأذى عن المحصنين بقول النبي عليه
السلام الثيب بالثيب الجلد والرجم
فمن منع ذلك من أصحابه فإنما ينقض بذلك قول صاحبه
وقال قائل يحتمل أن يكون الحبس والأذى منسوخين عن المحصن بالرجم الذي كان في
آية من القرآن وقد نسخت تلاوته فلا يدل ما ذكرت على أنه منسوخ بالسنة وهذا
أيضا غلط لأن النبي عليه السلام أخبر في حديث عبادة أن السبيل في الآية كان
عقيب ما أوجبه بقوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا فعلمنا أنهم نقلوا من الحبس
والأذى إلى ما هو هذا الحديث بلا واسطة حكم بينهما
ولا يقول أحد من الناس إن ما روي في خبر عبادة من قوله خذوا عني قد جعل
الله لهن سبيلا كان قرآنا في وقت من الأوقات وكيف يكون قرآنا مع إخباره عليه السلام
بأنه مأخوذ عنه لا عن القرآن
فدل على أن الحبس والأذى منسوخان عن المحصن بالرجم المذكور في خبر عبادة
الذي لم يكن قرآنا قط ولو كان قرآنا منسوخ التلاوة لما قال عليه السلام خذوا عني ولكان
السبيل الذي جعل لهن متقدما لهذا القول بالقرآن المنسوخ التلاوة الثابت الحكم وفي
خبر عبادة ما ينفي هذا فدل على أن الحبس والأذى منسوخان عن المحصن بالرجم الذي لم
يكن ثبوته بقرآن نسخت تلاوته
ومن جهة أخرى إنه لو شاع هذا التأويل في ذلك لجاز أن يقال في كل سنة ثبتت عن
النبي عليه السلام أنها من القرآن المنسوخ التلاوة فيوجب هذا ألا يثبت للنبي عليه السلام
سنة ولجاز أن يقال في جميع ما نسخ من القرآن مما قد وجد في القرآن ما يوجب نسخه إنه إنما
نسخ بالقرآن المنسوخ التلاوة ثم نزلت الآية الأخرى بالحكم الآخر وهذا خلف من
القول
357

ولجاز أن يقال ما نسخت سنة قط إلا بقرآن قد نسخت تلاوته فيوجب هذا بطلان
قول مخالفنا إن السنة لا ينسخها القرآن
فإن قال قائل كيف يجوز أن يكون حديث عبادة ناسخا لحكم القرآن وهو من أخبار
الآحاد ومن أصلكم أنه لا يجوز نسخ القرآن بأخبار الآحاد
فالجواب عن هذا من وجهين
أحدهما وهو أن خبر عبادة وإن كان وروده من طريق الآحاد فقد اجتمعت
الأمة على استعمال حكمه في إيجاب الرجم إلا من شذ عليها ممن لا يعتبر خلافه خلافا من
الخوارج وما كان هذا سبيله من أخبار الآحاد فهو موجب للعلم في معنى الخبر المتواتر ويجوز
نسخ القرآن به
ألا ترى أن قوله عليه السلام لا وصية لوارث هو من أخبار الآحاد وقد أجاز أصحابنا
نسخ القرآن به لتلقي الناس إياه بالقبول واتفاقهم على استعمال حكمه
والوجه الآخر أن رجم المحصن قد ثبت عن النبي عليه السلام بأخبار متواترة
منتشرة موجبة للعلم بمخبراتها فإنما أثبتنا الرجم بهذه الأخبار وبخبر عبادة وأثبتنا بها
نسخ الحبس والأذى عن المحصنات فصار حظ خبر عبادة في إثبات تاريخ الرجم وأنهم
نقلوا أمر الحبس والأذى إلى الرجم بلا واسطة حكم بينهما ولا نزول آية قبله أوجبت
نسخهما
وقد يجوز إثبات تاريخ الحكم بمثله وإن تعلق به حكم النسخ إذا كان النسخ واقعا
به وبغيره مما يوجب العلم بخبره عند اجتماعهما
ومما قيل إنه نسخ من حكم القرآن بالسنة قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر
أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين
وقوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فقد كانت
الوصية لهم واجبة بهذه الآية لأن قوله تعالى كتب عليكم معناه فرض عليكم كقوله
كتب عليكم الصيام ونحوه وليس في القرآن ما يوجب نسخه فلم ينسخ إلا بقول النبي
عليه السلام لا وصية لوارث
358

فزعم مخالفونا أن ذلك منسوخ بآية المواريث لقول النبي عليه السلام حين نزلت آية
المواريث إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث فأخبر أن الوصية
للوارث منسوخ بآية المواريث كما لو قال لا وصية لوارث لأنه قد جعل له الميراث
كان معقولا أن الناسخ للوصية هو استحقاق الميراث لا قوله لا وصية لوارث
والجواب إن ما ذكره من ذلك لا يوجب كون الميراث ناسخا للوصية وذلك
أنه لا يمتنع اجتماع الميراث والوصية في حال واحدة لشخص واحد وآية المواريث إنما فيها
إيجاب الميراث بعد الوصية لقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين فلو
خلينا والآيتين لجمعنا لهما بين الميراث والوصية لأن كل حكمين يجوز اجتماعهما في حال
واحدة لشخص واحد فليس في ورود أحدهما بعد الآخر ما يوجب نسخه على ما بيناه
فيما سلف فوجب على هذا متى وجدنا حكمين قد نسخ أحدهما عند إيجاب الآخر مما يصح
اجتماعه أن يقول إن النسخ واقع بغيره لأنا لو خلينا وإياهما لما أوجبنا نسخا وقوله عليه
السلام إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث لا يوجب ما ذكروه لأن آية
الميراث إذن لم توجب نسخ الوصية لما بينا فليس يجوز أن يقول النبي عليه السلام إنها هي
الناسخة لها
وأما قولهم إن هذا بمنزلة قوله لو قال لا وصية لوارث لأن الله تعالى قد أعطى
كل ذي حق حقه
فإنا لو سلمنا لهم ذلك لم يدل على ما قالوا لأنه لا يمتنع أن يقول لا وصية لوارث
لأن الله قد أعطى الميراث فنسخ وصيته بوحي من عنده لا بآية الميراث فإذا لم يكن
هذا ممتنعا بل يكون سائغا جائزا لم يجز لنا أن نقول إن هذا القول يقتضي كون الوصية
منسوخة بالميراث وإنما معنى ذكره عليه السلام الميراث عند ذكر نسخ الوصية أنه
والله أعلم أراد أن يبين أنه وإن حرم حظه من الوصية فإنه قد أعطي من حظ الميراث ما
359

عسى أن يكون خيرا له من الوصية فأخبر عليه السلام أنه لم يخله في الحالين قبل نسخ
الوصية وبعدها من حظ في مال الميت فبان بما وصفنا أنه ليس فيما اعترض به المخالف ما
ينفي أن يكون الميراث منسوخا بقوله لا وصية ولا لوارث والذي عندي أن الوصية للوالدين
والأقربين يجوز أن تكون منسوخة بقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين فأجاز له
وصية أي وصية كانت لأنه أطلقها بلفظ منكور ثم جعل باقي المال للورثة على
السهام فلا يبقى بعد ذلك وصية يستحقها الوالدان والأقربون فتضمنت هذه الآية نسخ
إيجاب الوصية لهم من هذه الجهة
فإن قال قائل ليس في قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين نفي لجواز
نسخ الوصية للوالدين والأقربين إذ كان المذكور في الآية وصية منكورة غير مقصورة
على قوم فهي جائزة للوارث بظاهر الآية فلم ينسخ جوازها للوارث إلا قوله عليه السلام
لا وصية لوارث
قيل له الذي في القرآن ذكر إيجاب الوصية للوالدين والأقربين بقوله كتب
عليكم إذا حضر أحدكم الموت وليس فيه ذكر جوازها إلا عن الواجب ولم تقتض الآية
جوازها على جهة التبرع بها والوصية المذكورة في آية المواريث لما كانت مطلقة على وجه
النكرة فقد تضمنت نسخ إيجابها
فإذن قوله عليه السلام لا وصية لوارث لم ينسخ به شئ من حكم الآية لأن
الذي فيها الإيجاب قد نسخ بما ذكرنا
وأما الجواز على غير وجه الإيجاب فهو حكم آخر ليس له ذكر في الآية
فإن قال يحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو
دين الوصية التي أوجبها للوالدين والأقربين بالآية الأخرى
360

قيل له لو كان كذلك لقال من بعد الوصية حتى يرجع اللفظ إلى الوصية المعهودة
التي قد تقدم ذكر إيجابها للوالدين والأقربين ويخصصها بلفظ يوجب الاقتصار عليها فلما
أطلقها بلفظ النكرة اقتضى ذلك جواز وصية لمن كان من الناس فدل بذلك عل نسخ
وجوبها للوالدين والأقربين إذ جعل باقي المال بعد هذه الوصية للورثة ومن أجل ذلك
قلنا إن إيجاب الوصية للوالدين والأقربين إذا لم يكونوا ورثة منسوخة بقوله تعالى من بعد
وصية توصون بها أو دين لأنه اقتضى جوازها لسائر الناس وجعل باقي المال بعدها
للورثة فتضمن ذلك نسخ وجوبها للوالدين والأقربين وارثين كانوا أو غير وارثين واستدللنا
بذلك على بطلان قول طاووس ومسروق ومسلم بن يسار في آخرين حين أثبتوا
فرض الوصية للوالدين والأقربين إذا لم يكونوا ورثة ولم يجوزوها للأجنبيين ما دام هؤلاء
موجودين
وقد استدل الشافعي على جواز الوصية للأجنبي لأن النبي عليه السلام جعل
361

للمعتقين في المرض الثلث ولم يكن بينهم وبين الميت قرابة قال فقد دل هذا
على بطلان إيجاب الوصية للوالدين والأقربين وهذا يقتضي منه إجازة نسخ الوصية المذكورة
للوالدين والأقربين إذا لم يكونوا ورثة بالخبر
ومما قيل إنه نسخ من القرآن بالسنة قول الله تعالى فول وجهك شطر المسجد
الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره
قالوا فقد كان هذا حكما عاما مستقرا في سائر الصلوات بإجماع الأمة إذ غير
جائز ورود دليل الخصوص بعد استقرار حكم العموم إلا على وجه النسخ
قالوا والدليل على أن صلاة الخوف إنما نزلت بعد ذلك أن النبي عليه السلام أخر
الصلوات يوم الخندق ولم يصل صلاة الخوف لأنها لم تكن نزلت
قالوا وقد اعترف الشافعي بذلك في أمر صلاة الخوف
قال أبو بكر وهذا عندي لا دليل فيه على وجود النسخ لأنه لا يمكن لأحد أن
يدعي أن التوجه إلى الكعبة قد كان واجبا في حال الخوف وفي السفر على الراحلة للمتنفل
ثم نسخ ترك التوجه إليهما في هاتين الحالتين بل يجوز أن يقال لم يؤمروا بدءا بالتوجه
إلى الكعبة إلا في حال الأمن وفي غير حال السفر للمتنفل على الراحلة وإنما كانت حال
الخوف مخصوصة من قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام لأن النبي
عليه السلام لم يصل صلاة الخوف إلا بعد مضي مدة من لزوم فرض التوجه إلى الكعبة
مما يوجب أن يكون لزوم التوجه إليها قد كان عاما في سائر الصلوات ثم نسخ لأنه لا يمتنع
أن يكون الصحابة قد علمت حين نزول الآية من خطاب النبي عليه السلام ما أوجب
كون ذلك مقصورا على حال الأمن والإقامة دون حال الخوف والسفر ثم لم يتفق
فعلها غير متوجه إلى الكعبة إلا عند الحاجة وعلى أن في سياق قصة الأمر
362

بالتوجه إلى الكعبة ما يدل على أنهم كانوا مأمورين بها في حال دون حال وهو قوله
تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله وظاهر الآية يقتضي جواز التوجه إلى سائر الجهات إلا
أنه لما كان قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام يقتضي لزوم التوجه إليه حتما كان قوله
تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله مستعملا في حالتي الخوف والسفر للتنقل على الراحلة
اللتين صلى النبي عليه السلام فيهما إلى غير الكعبة ولا يجوز أن يقال في مثل هذا أنه نسخ
كما لا يقال في قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم أنه ناسخ لبعض ما انتظمه قوله تعالى
فانكحوا ما طاب لكم من النساء وما جرى مجرى ذلك من الآي الخاصة والعامة وعلى
أنه لو كان ناسخا لكان نسخ القرآن بقرآن وهو قوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله
وقد روى عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تطوعا حيث توجهت به راحلته وهو يأتي من مكة إلى المدينة قال
ابن عمر وأنا أصلي حيث توجهت بي راحلتي تطوعا ثم تلا ولله المشرق والمغرب فأينما
تولوا فثم وجه الله وقال في هذا نزلت هذه الآية
فأخبر ابن عمر أن هذه الآية هي التي أباحت الصلاة في هذه الحال إلى غير الكعبة
فلا يخلو من أن يكون خصت الآية التي فيها الأمر باستقبال الكعبة عاما أو نسختها وأي
الوجهين كان فلا دلالة فيه على نسخ القرآن بالسنة
وأما قول الشافعي وغيره ممن قال ذلك من أصحابنا إن صلاة الخوف لم تكن نزلت
يوم الخندق وقد كانوا مأمورين في حال الخوف بالتوجه إلى الكعبة فلذلك لم يصلها يومئذ
363

لتعذر التوجه إليها فإنه دعوى ليس عليها دليل وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي
جميعا أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق ولم يختلفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى بذات الرقاع
صلاة الخوف فثبت أن صلاة الخوف قد كانت نزلت قبل الخندق وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم
صلاة الخوف يوم الخندق لأنه شغل بالقتال عن الصلاة ومن أجل ذلك قلنا إنه
لا يجوز للمسايف لم والمقاتل صلاة وأنه يؤخرها حتى ينقضي القتال
ولذلك قال النبي عليه السلام يومئذ ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن
الصلاة الوسطى
ومما قيل إنه منسوخ من القرآن بالسنة قول الله تعالى وإن فاتكم شئ من
أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا وهذا الحكم
منسوخ الآن عند الجميع وليس في القرآن ما يوجب نسخه فعلمنا أن نسخه كان
بالسنة
ومما نسخ منه أيضا بغير قرآن ما روى عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة
364

رضي الله عنها في قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد قالت ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء وروي عنها حتى أحل له نساء أهل
الأرض
وليس في القرآن ما يوجب نسخ ذلك فثبت أنه نسخ بالسنة
فإن قيل نسخه قوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت
أجورهن
قيل له لا دلالة في هذا على ما ذكرت لأن هذه الإباحة مقصورة على النساء
المذكورات في الآية لأنه قال تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما
ملكت يمينك إلى آخر الآية فلم يوجب نسخ قوله لا يحل لك النساء من بعد
وعلى أنه قد روي في التفسير أن قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد نزلت بعد
قوله إنا أحللنا لك أزواجك
وأما نسخ حكم القرآن وما ثبت من السنة من طريق التواتر بخبر الواحد فإنه غير جائز
عندنا لأن خبر الواحد لا يوجب العلم والقرآن وما ثبت بالتواتر يوجبان العلم بصحة
ما تضمناه فغير جائز أن ينزل ما كان هذا وصفه بما لا يوجب العلم
فإن قال قائل قد يجوز ترك ما يوجب العلم بما لا يوجبه لأن ما ثبت من إباحة
الأشياء في الأصل قبل ورود المنع قد وقع العلم بصحتها ويقبل مع ذلك خبر الواحد
365

في حظرها
قيل له ليس كذلك لأن النقل وإن كان قد دل على إباحة أشياء في الجملة
على حسب ما تقدم منا القول فيه فإنا متى قصدنا إلى استباحة شئ منها بعينه فإنما
طريق استباحته الاجتهاد وغلبة الظن في ألا يلحقنا به ضرر أكثر مما نرجو به من نفع
ألا ترى أن التصرف في التجارات والخروج في الأسفار وشرب الأودية وأكل الأطعمة إنما
يصح لنا منها استباحة ما لا يلحقنا به ضرر أكثر من النفع الذي نرجوه بها في غالب ظننا
وقد بينا ذلك فيما سلف وذكرنا أن نظيره ما أمر الله تعالى به في قبول شهادة
شاهدين مرضيين في الجملة وذلك ثابت بما أوجب لنا العلم الحقيقي ثم متى عينا
شاهدين كان قبول شهادتهما من طريق غالب الظن لا من جهة حقيقة العلم ألا ترى أنه
يسع الاجتهاد في رد شهادتهما على حسب ما يغلب في الظن من قبولها أوردها
فكذلك ما وصفنا في كون الأشياء مباحة في الأصل هو على هذا السبيل
366