الكتاب: المحصول
المؤلف: الرازي
الجزء: ٤
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور طه جابر فياض العلواني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٢
المطبعة: مؤسسة الرسالة - بيروت
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

المحصول
في علم أصول الفقه (4)
1

بسم الله الرحمن الرحيم
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثالثة
1418 ه‍ / 1997 م
2

المحصول
في علم أصول الفقه
للامام الأصولي النظار المفسر
فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي
544 - 606 ه‍ / 1149 - 1209 م
دراسة وتحقيق
الدكتور طه جابر فياض العلواني
الجزء الرابع
مؤسسة الرسالة
3

بسم الله الرحمن الرحيم
4

نموذج لورقة الغلاف من نسخة دار الكتب المصرية
(131) أصول والتي رمزنا لها ب‍ (أآلهتنا)
5

نموذج للورقة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية
(131) أصول والتي رمزنا لها ب‍ (أآلهتنا).
6

نموذج الورقة الأخيرة من نسخة دار الكتب المصرية
(131) أصول والتي رمزنا لها ب‍ (أآلهتنا).
7

نموذج من الورقة التي تبدأ بها نسخة سوهاج
والتي رمزنا لها ب‍ (ج).
8

نموذج الورقة الثانية من النسخة (9) سوهاج
التي رمزنا لها ب‍ (ج) وتلاحظ آثار الرطوبة عليها.
9

نموذج من الورقة الأخيرة من النسخة (9) سوهاج
والتي رمزنا لها ب‍ (ج) ويلاحظ عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ.
10

المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله
وأصحابه ومن تبعه، واهتدي بهديه إلى يوم الدين، اما بعد:
فقد أنعم الله - تعالى - بفضله ومنه باتمام طبع الجزء الأول باقسامه الثلاثة
وها نحن نتبعه بالجزء الثاني، وذلك تنفيذا لتوجيهات معالي مدير الجامعة
الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي - الذي حرص - حفظه الله ان يقدم
الكتاب كاملا بجميع أقسامه بأقرب فرصته وأبهى حلة ليكون في متناول أيدي
الباحثين.
فسارعت - مستعينا - بالله تعالى - مستمدا منه - جل شأنه - العون والتوفيق
لاعداده وانجازه.
وهذا الجزء - من الكتاب قد اشتمل على
:
1 - كتاب الاجماع وقد رتبه الامام المصنف في سبعة أقسام، وفي كل قسم
مجموعة من المسائل.
فالقسم الأول في أصل الاجماع، والقسم الثاني: فيما اخرج من
الاجماع وهو منه، والقسم الثالث: فيما ادخل في الاجماع وليس منه،
والقسم الرابع: فيما يصدر عنه الاجماع والقسم لا خامس: في
المجمعين والقسم السادس: فيما عليه ينعقد الاجماع، والقسم السابع:
في حكم الاجماع.
11

2 - الكلام في الاخبار: وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام:
وقد اشتملت المقدمة على خمس مسائل.
واما القسم الأول فهو في ثلاثة أبواب ادرج تحت كل باب مجموعة من
المسائل. واما القسم الثاني فقد رتب القول فيه على أقسام وفصول ضمن
كل قسم وفصل مجموعة من المسائل وكذلك فعل في القسم الثالث.
3 - الكلام في القياس: وهو في مقدمة وأقسام ثلاثة: ضمن المقدمة عددا من
المسائل وادرج تحت كل قسم مجموعة من الأبواب والفصول تناول فيها
مباحث القياس كلها، وهذا القسم من الجزء أطول أقسامه وأوسعها.
4 - الكلام في التعادل والترجيح، وهو مرتب على أربعة أقسام في كل قسم
مجموعة من المسائل المندرجة تحته.
5 - الكلام في الاجتهاد: وقد رتبه في أربعة أركان.
6 - الكلام في المفتي والمستفتي: وقد جعله في ثلاثة أقسام.
7 - الكلام فيما اختلف فيه لا مجتهدون من أدلة الشرع وفيه إحدى عشرة مسألة
بالفراغ منها تم الكتاب.
واما النسخ - التي حققناه عليها - فهي سبع نسخ بدلا من الستة التي
حققنا الجزء الأول عليها، فقد أضفنا نسختين:
أولاهما:
نسخة دار الكتب المصرية رقم (131) أصول الفقه، وهي نسخة كاملة
للجزء الثاني - وحده - كتبت بخط معتاد أوراقها (177) سبع وسبعون ومائة
ورقة وابعادها (22 * 5، 16 سم).
12

فرغ من نسخها سنة (655) خمس وخمسين وستمائة هجرية.
ناسخها: عبد الواحد بن أبي طالب النعجواني.
وعليها تملكا وتواقيع منها الظاهر ومنها المطموس (يمكن ملاحظتها في
نموذج صورة الورقة الأولى).
وقد رمزنا بالحرف (أآلهتنا).
والثانية:
نسخة (سوهاج) برقم (9) أصول، وهي أقدم النسخ - التي اطلعنا عليها -
حيث فرغ من سنخها سنة (609) تسع وستمائة - بعد وفاة الامام المصنف
بثلاث سنوات وهي نسخة مكتوبة بخط معتاد، وقد بلغت أوراقها (229) تسعا
وعشرين ومائتي ورقة. وابعادها (16 * 26 سم).
وفيها نقص من أولها يقرب من ثماني ورقات حيث تبدأ في الكلام على
حجية الاجماع كما يلاحظ في صورة الورقة الأولى منها.
وقد وصلت إلى مكتبة جامعة الامام صورة عن نسخة (جستربتي) وهي
أقدم النسخ التي اطلعنا عليها، حيث فرغ من نسخها سنة (598) ه‍ - اي قبل
وفاة المؤلف بثماني سنوات وبها نقص في الجزء الأول من الكتاب من أوله حتى
(النظر الخامس) لكن هذا لا نقص لا يقلل كثيرا من قيمة هذه النسخة
وأهميتها. ولقد بادرنا لتصوير نسخة عنها استفدنا منها فيما لم يكن قد طبع من
الجزء الثاني، وسنستفيد منها كلها إن شاء الله في الطبعة القادمة للكتاب.
وبعد: فهذا كتاب (المحصول في علم أصول الفقه) نقدمه - لأول مرة -
كاملا وبجميع اجزائه لطلاب العلم والباحثين محققا ومرتبا ليكون في متناول
أيدي أهل العلم بعد مرور ثمانية قرون على تأليفه.
واني لأرجو ان أكون قد وفقت في وضع بنية هامة في بناء صرح ثقافتنا
الاسلامية وعلوم شريعتنا الغراء بتقديم هذا الكتاب.
13

والله - تعالى - اسأل ان يتقبل هذا العمل بقبول حسن - وان يجعله خالصا
لوجهه الكريم، وان يحقق به النفع المأمول. انه سميع مجيب.
د. طه جابر فياض العلواني
14

المحصول
في علم أصول الفقه
للامام الأصولي النظار المفسر
فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي
544 - 606 ه‍ / 1149 - 1209 م
دراسة وتحقيق
الدكتور جابر فياض العلواني
الجزء الرابع
15

بسم الله الرحمن الرحيم
الكلام في الاجماع
هو مرتب على سبعة أقسام
17

القسم الأول
في أصل الاجماع
المسألة الأولى
الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين
أحدهما
العزم قال الله تعالى فأجمعوا أمركم
وقال عليه الصلاة والسلام لا صيام لمن لم يجمع الصيام من
الليل
19

وثانيهما
الاتفاق يقال أجمع الرجل إذا صار ذا جمع كما يقال ألبن
وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر فقولنا اجمعوا على كذا أي صاروا
ذوي جمع عليه
وأما في اصطلاح العلماء فهو عبارة عن اتفاق أهل الحل والعقد من
أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور
ونعني ب الاتفاق الاشتراك إما في الاعتقاد أو القول أو الفعل أو
إذا أطبق بعضهم على الاعتقاد وبعضهم على القول أو الفعل الدالين
على الإعتقاد
ونعني بأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية
وإنما قلنا على أمر من الأمور ليكون متناولا للعقليات والشرعيات
واللغويات
20

عليه المسألة الثانية
من الناس من زعم أن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون
معلوما بالضرورة محال كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول
الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة محال
وربما قال بعضهم كما أن اختلاف العلماء في الضروريات محال فكذا اتفاقهم في النظريات محال
والجواب
أن الاتفاق إنما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال كالمأكول المعين
والكلمة المعينة
21

أما عند الرجحان وذلك عند قيام الدلالة أو الأمارة الظاهرة فذلك
غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
واتفاق الشافعية والحنفية مع كثرتهما على قوليهما مع أن أكثر أقوالهما
صادر عن الأمارة
ومن الناس من سلم إمكان هذا الاتفاق في نفسه لكنه قال لا طريق
لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيا أو لا يكون
أما الوجداني فكما يجد كل واحد منا من نفسه من جوعه وعطشه
ولذته وألمه إلى غير ذلك ولا شك أن العلم بحصول اتفاق أمه محمد
صلى الله عليه وسلم ليس من هذا الباب
وأما الذي لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته
إما الحس وإما الخبر وإما النظر العقلي
أما النظر العقلي فلا مجال له في أن الشخص الفلاني قال بهذا القول
أو لم يقل به
بقي أن يكون الطريق إليه إما الحس وإما الخبر لكن من المعلوم
أن الإحساس بكلام الغير أو الإخبار عن كلامه لا يمكن إلا بعد معرفته
فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد من الأمة لكن
ذلك متعذر قطعا فمن الذي يعرف جميع الناس الذين هم بالشرق
والغرب
وكيف الأمان من وجود إنسان في مطمورة لا خبر عندنا منه فإنا إذا
أنصفنا علمنا أن الذين بالشرق لا خبر عندهم من أحد من علماء
22

الغرب فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذاهبه
وأيضا فبتقدير العلم بكل واحد من علماء العالم لا يمكننا معرفة
اتفاقهم لأنه لا يمكن ذلك إلا بالرجوع إلى كل واحد منهم وذلك لا يفيد
حصول الاتفاق لاحتمال أن بعضهم أفتى بذلك على خلاف اعتقاده
تقية أو خوفا أو لأسباب أخرى مخفية عنا
وأيضا فبتقدير أن نرجع إلى كل واحد منهم ونعلم أن كل
واحد منهم أفتى بذلك من صميم قلبه فهو لا يفيد حصول الإجماع
لاحتمال أن علماء بلدة إذا أفتوا بحكم فعند الارتحال عن بلدهم
والذهاب إلى البلدة الأخرى رجعوا عن ذلك الحكم قبل فتوى أهل البلدة
الأخرى بذلك
وعلى هذا التقدير لا يحصل الاتفاق لأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت
إلى قسمين وأحد القسمين أفتى بحكم والآخر أفتى بنقيضه ثم انقلب
المثبت نافيا والنافي مثبتا لم يحصل الإجماع
وإذا كان كذلك فمع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين بحصول
الإجماع
بل ها هنا مقام اخر وهو أن أهل العلم بأسرهم لو اجتمعوا في
موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة وقالوا أفتينا بهذا الحكم
23

فهذا مع امتناع وقوعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال أن يكون
بعضهم كان مخالفا فيه فخاف من مخالفة ذلك الجمع العظيم أو خاف
ذلك الملك الذي أحضرهم أو أنه أظهر المخالفة لكن خفى صوته
فيما بين أصواتهم
فثبت أن معرفة الإجماع ممتنعة
فإن قلت ما ذكرتموه باطل بصور
إحداها
أنا نعلم بالضرورة أن المسلمين معترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وبوجوب الصلوات الخمس ونعلم اتفاق أصحاب الشافعي على القول
ببطلان البيع الفاسد واتفاق الحنفية على القول بانعقاد وإن كانت الوجوه
التي ذكرتموها بأسرها حاصلة ها هنا
وثانيها
أنا نعلم أن الغالب على أهل الروم النصرانية وعلى بلاد الفرس
الإسلام وإن كنا ما لقينا كل واحد من هذه البلاد ولا كل واحد من
ساكنيها
وثالثها
أن السلطان العظيم يمكنه أن يجمع الناس في موضع واحد بحيث يمكن معرفة
اتفاقهم واختلافهم
24

قلت أما قوله نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم
قلت إن كنت تعني بالمسلمين المعترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
فقولك نعلم اتفاق المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يجرى مجرى أن
يقال نعلم اتفاق القائلين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وإن كنت تعني به شيئا اخر غير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا نسلم
أنا نقطع أن القائل بذلك قائل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ولا نسلم أيضا أنا نقطع بأن كل من قال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال
بوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وإن كنا نعترف بحصول الظن
والذي يدل عليه أن الانسان قبل الإحاطة بالمقالات الغربية
والمذاهب النادرة يعتقد اعتقادا جازما أن كل المسلمين يعترفون أن ما
بين الدفتين كلام الله عز وجل ثم إذا فتش عن المقالات الغربية وجد في
ذلك اختلافا شديدا نحو ما يروى عن ابن مسعود أنه أنكر كون الفاتحة
والمعوذتين والمعوذتين من القرآن
25

ويروى عن الميمونية قوم من الخوارج أنهم أنكروا كون سورة
يوسف من القرآن
ويروى عن كثير من قدماء الروافض أن هذا القرآن الذي عندنا ليس
هو ذلك الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بل غير وبدل ونقص عنه وزيد فيه
وإذا كان كذلك علمنا أنا وإن اعتقدنا في الشئ أنه مجمع عليه
33

اعتقادا قويا لكن ذلك الاعتقاد لا يبلغ حد العلم ولا يرتفع عن درجة
الظن
قوله نعلم استيلاء بعض المذاهب على بعض البلاد
قلنا علمنا ذلك بخبر التواتر وفرق بين معرفة حال الأكثر وبين
معرفة حال الكل لأن من دخل بلدا ورأى شعائر الإسلام في جميع
المحلات والسكك ظاهرة علم بالضرورة أن الغالب على أهل تلك المدينة
الاسلام
فأما أن يعلم قطعا أنه ليس في البلدة أحد إلا مسلم ظاهرا
وباطنا فذلك مما لا سبيل إليه ألبتة والعلم بامتناعه ضروري
قوله السلطان العظيم يمكنه جمع علماء العالم في موضع واحد
قلنا هذا السلطان المستولي على جميع معمورة العالم مما لم يوجد
إلى الآن
وبتقدير وجودة فكيف يمكن القطع بأنه لم ينفلت منه أحد في أقصى
الشرق الغرب أو اقصى فإن ذلك الملك ليس بعلام أبي الغيوب
وبتقدير أن لا ينفلت منه أحد فكيف يمكن القطع بأن الكل أفتوا بذلك
الحكم طائعين راغبين غير مكرهين ولا مجبرين
والإنصاف انه لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع الا في زمان
34

الصحابة حيث كان المؤمنين قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على
التفضيل
المسألة الثالثة
إجماع أمه محمد صلى الله عليه وسلم حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج
لنا وجوه
الأول قول تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير
35

سبيل المؤمنين الآية جمع الله تعالى بين مشاقة الرسول واتباع
غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما
جمع بينه وبين المحظور كما لا يجوز أن يقال إن زنيت وشربت الماء
عاقبتك
فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة
ومتابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى غير قولهم
وفتواهم وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة
ضرورة أنه لا خروج من القسمين
فإن قيل لا نسلم أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة على
الاطلاق ولم لا يجوز أن يكون كونها محظورة مشروطا بمشاقة الرسول
صلى الله عليه وسلم ولا تكون محظورة بدون هذا الشرط خرج على هذا قوله إن
زنيت وشربت الماء عاقبتك لأن شرب الماء غير محظور لا مطلقا ولا بشرط
الزنا
فإن قلت إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما عند حصول المشاقة
وجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا عند حصول المشاقة لأنه لا
36

خروج عن القسمين لكن ذلك باطل لأن المشاقة ليست عبارة عن المعصية
كيف كانت وإلا لكان كل من عصى الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقا له بل هي
عبارة عن الكفر به وتكذيبه
وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول
عليه الصلاة والسلام وذلك باطل لأن العلم بصحة الإجماع متوقف
على العلم بالنبوة فايجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون
تكليفا بالجمع بين الضدين وهو محال
قلت لا نسلم أنه إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما عند المشاقة
كان اتباع سبيل المؤمنين واجبا عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثا وهو
عدم الاتباع أصلا
سلمنا أنه يلزم وجوب اتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة لكن لا
نسلم أنه ممتنع
قوله المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر به وإيجاب العمل
بالإجماع عند حصول الكفر محال
قلنا لا نسلم أن المشاقة لا تحصل إلا مع الكفر
بيانه أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق وكون
الآخر في الشق الآخر وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر
37

أو لم يبلغه سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر فلم قلت
إن حصول الكفر ينافي تمكن العمل بالاجماع
بيانه أن الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يكون بالجهل بكونه صادقا فقد
يكون أيضا بأمور أخر كشد الزنار ولبس الغيار وإلقاء المصحف في
القاذورات والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم مع الاعتراف بكونه نبيا وإنكار نبوته
باللسان مع العلم بكونه نبيا وشئ من هذه الأنواع من الكفر لا ينافي
العلم بوجوب الإجماع
سلمنا هذه المنافاة فلم قلت إنها مانعة من التكليف
بيانه أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله
تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فيكون أبو لهب
مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن وذلك متعذر
وهذا التوجيه ظاهر أيضا في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء
عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وإن أولئك الذي أخبر الله
عنهم بهذا الخبر كانوا مكلفين بالإيمان فكانوا مكلفين بتصديق هذه
الآية وباقي التقرير ظاهر
38

سلمنا أن هذه الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين لا
بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى أولا بهذا الشرط الأول
مسلم والثاني ممنوع
بيانه أنه تعالى ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرط فيها تبين الهدى ثم
عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين فوجب أن يكون تبين الهدى شرطا
في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين لأن ما كان شرطا في المعطوف
عليه يجب أن يكون شرطا في المعطوف واللام في الهدى للاستغراق فيلزم
أن لا يحصل التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع
الهدى ومن جملة أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل
الإجماع إلى ذكر الحكم
وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة
وأيضا فالإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه فهم
منه تبين صدق قوله بشئ غير قوله فكذا ها هنا يجب أن يكون تبين
صحة إجماعهم بشئ وراء إجماعهم وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع
39

إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه لم يبق للتمسك بالإجماع
أثر وفائدة
سلمنا انها تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن عن متابعة
كل ما كان غير سبيل المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك
الأول ممنوع وبتقدير التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن
لفظ الغير ولفظ السبيل كل واحد منهما لفظ منفرد فلا يفيد العموم
وأما أن بتقدير التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية
أن كل من اتبع كل ما كان مغايرا لكل ما كان سبيل المؤمنين
يستحق العقاب وهذا يقتضي أن يكون المتبع لبعض ما غاير سبيل
المؤمنين مستحقا للعقاب
والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض
سبيل المؤمنين أو بعض ما غاير كل سبيل المؤمنين أو كل ما غاير بعض
سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي يغايره هو
الكفر بالله تعالى وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا التأويل متعين لوجهين
أحدهما أنا إذا قلنا لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة
40

غير سبيل الصالحين فيما به صاروا غير صالحين ولا يفهم منه المنع من
متابعة سبيل غير الصالحين في كل شئ حتى في الأكل والشرب
وثانيهما أن الآية نزلت في رجل ارتد وذلك يدل على أن الغرض منها المنع
من الكفر
سلمنا حظر اتباع غير سبيلهم مطلقا لكن لفظ السبيل حقيقة
في الطريق الذي يحصل فيه المشي وهو غير مراد ها هنا بالاتفاق فصار
الظاهر متروكا فلا بد من صرفه إلى المجاز وليس البعض أولى من
البعض فتبقى الآية مجملة
وأيضا فإنه لا يمكن جعله مجازا عن اتفاق الأمة على الحكم لأنه
لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على
شئ من الأحكام وشرط حسن التجوز حصول المناسبة
سلمنا أنه يجوز جعله مجازا عن ذلك الاتفاق لكن يجوز أيضا جعله
مجازا عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم فإنهم إذا أجمعوا
على الشئ فإما أن يكون ذلك الإجماع عن استدلال أو لا عن استدلال
فإن كان عن استدلال فقد حصل لهم سبيلان الفتوى والاستدلال فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال على
الفتوى
41

بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق
الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق
المسلوك توصل البدن إلى المطلوب فكذا الحركة الذهنية في مقدمات
ذلك الدليل توصل الذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن
المجاز
وإذا كان كذلك كانت الآية تقتضي إيجاب اتباعهم في سلوك الطريق
الذي لأجله اتفقوا على الحكم ويرجع حاصله إلى إيجاب الاستدلال بما
استدلوا به على ذلك الحكم
وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة
وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال والقول لا عن استدلال
خطأ فيلزم إجماعهم على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع
سلمنا دلالة الآية على تحريم متابعة غير قولهم لكن لا نسلم أن كلمة
من للعموم وأن لفظ المؤمنين لعموم فإنا لو حملناه على للعموم
لزم تطرف التخصيص إلى الآية لعدم دخول العوام والمجانين والنساء
والصبيان في الإجماع
سلمنا ذلك لكن لم قلت إنه يلزم من حظر اتباع غير سبيلهم وجوب
اتباع سبيلهم
42

بيانه أن لفظ غير وإن كان يستعمل في الاستثناء لكنهم أجمعوا
على أنه في الأصل للصفة
وإذا كان كذلك كان بين اتباع غير سبيل المؤمنين وبين اتباع
سبيلهم قسم ثالث وهو ترك الاتباع
فإن قلت ترك متابعة سبيل المؤمنين غير سبيل المؤمنين فمن ترك
متابعة سبيلهم فقد اتبع غير سبيلهم
قلت لم لا يجوز أن يقال الشرط في كون الإنسان متابعا لغيره كونه آتيا
بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير أتى به فمن ترك متابعة سبيل
المؤمنين وهو إنما تركه لأجل أن غير المؤمنين تركوه كان متبعا في ذلك
سبيل غير المؤمنين
أما من تركه لأن الدليل دل عنده على وجوب ذلك الترك أو لأنه
لما لم يدل شئ على متابعة المؤمنين تركه على الأصل لم يكن ها هنا
متبعا لأحد فلا يدخل تحت الوعيد
سلمنا دلالة الآية على وجوب متابعة سبيل المؤمنين لكن في
كل الأمور أو في بعضها
الأول ممنوع لوجوه
43

أحدها
أن المؤمنين إذا اتفقوا على فعل شئ من المباحات فلو وجب اتباع
سبيلهم في كل الأمور لزم التناقض لأنه يجب عليهم فعله من حيث إنهم
فعلوه ولا يجب ذلك لحكمهم بأنه غير واجب
وثانيها
أن أهل الإجماع قبل اتفاقهم على ذلك الحكم كانوا متوقفين في
المسألة غير جازمين بالحكم بل كانوا جازمين بأنه يجوز البحث عنها ويجوز
الحكم لكل أحد بما أدى إليه اجتهاده ثم إنهم بعد الإجماع قطعوا بذلك
الحكم فلو وجب متابعتهم في كل ما يقولونه لزم اتباعهم في النقيضين وهو
محال
فإن قلت الإجماع الأول على تجويز التوقف وطلب الدلالة والحكم بما
أدى إليه الاجتهاد ما كان مطلقا بل كان بشرط عدم الاتفاق على حكم
واحد فإذا حصل الاتفاق زال شرط الإجماع فزال بزواله
قلت المفهوم من عدم حصول الإجماع حصول الخلاف فلو
شرطنا تجويز الخلاف بعدم الإجماع لزم أن يكون تجويز وجود الشئ
مشروطا بوجوده
وأيضا ف لو جاز في أحد الإجماعين أن يكون مشروطا بشرط جاز
أيضا في الإجماع الثاني والثالث ويلزم منه أن لا يستقر شئ من
الإجماعات
44

وثالثها
أن اتفاق المجمعين على ما أجمعوا عليه إما أن لا يكون عن استدلال
أو يكون عن استدلال
والأول باطل لأن القول بغير استدلال خطأ بالإجماع فلو اتفق أهل
الإجماع عليه كانوا مجمعين على الخطأ وذلك يقدح في كون الإجماع
حجة
وإذا كان الثاني فذلك الدليل إما الإجماع أو غيره
والأول باطل لأن الإجماع إما أن يكون نفس حكمهم أو نتيجة
حكمهم والدليل على الحكم متقدم على الحكم
والثاني يقتضي أن يكون سبيل المؤمنين إثبات ذلك الحكم بغير
الإجماع فيكون إثباته بالإجماع اتباعا لغير سبيلهم فوجب أن لا يجوز
فظهر أنا لو حملنا الآية على اقتضاء متابعة المؤمنين في كل الأمور لزم
التناقض
وإذا بطل ذلك وجب حملها على اقتضاء المتابعة في بعض الأمور
وحينئذ نقول بموجبه ونحمله على الإيمان بالله تعالى ورسوله
ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه
أحدها
أن القائل إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه الأمر باتباعهم فيما
به صاروا صالحين فكذا ها هنا
45

وثانيها
أنا إذا حملنا الآية على ذلك كان ذلك السبيل حاصلا في الحال
ولو حملناه على إجماعهم على الحكم الشرعي كان ذلك مما سيصير
سبيلا في المستقبل لأنه لا يوجد إلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة
والسلام فالحمل على الأول أولى
وثالثها
أن السلطان إذا قال ومن يشاقق وزيري من الجند ولم يتبع سبيل
فلان ويشير به إلى أقوام متظاهرين في طاعة الوزير عاقبتهم فإنه انما
يعنى بالسبيل المذكور سبيلهم في طاعة الوزير دون سائر السبل
سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة في كل الأمور لكنها تدل على
وجوب متابعة بعض المؤمنين أو كلهم
الأول باطل لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق ولأن
إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة
والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام
الساعة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم
إجماع كل المؤمنين
فإن قلت المؤمنون هم المصدقون وهم الموجودون وأما الذين لم
46

يوجدوا بعد فليسوا بمؤمنين
قلت إذا وجد أهل العصر الثاني ففي العصر الثاني لا يصح القول بأن
أهل العصر الأول هم كل المؤمنين فلا يكون اجماع أهل العصر الأول
عند حصول أهل العصر الثاني قولا لكل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل
العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني
سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين لكن الآية إنما نزلت في زمان
الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت وهذا يقتضي أن يكون
إجماعهم حجة لكن التمسك بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
فما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم
إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم
تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع ولكن ذلك غير معلوم في شئ
من الإجماعات الموجودة في المسائل بل المعلوم خلافه لأن كثيرا منهم
مات زمان حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فسقط الاستدلال بهذه الآية
سلمنا دلالاتها على وجوب متابعة مؤمني كل عصر لكن المراد
متابعة كل مؤمني ذلك العصر أو بعضهم
الأول باطل وإلا لاعتبر في الإجماع قول العوام بل الأطفال
والمجانين
47

والثاني نقول به لأن عندنا يجب في كل عصر متابعة بعض من كان
فيه من المؤمنين وهو الإمام المعصوم
سلمنا أن المراد متابعة جميع مؤمني العصر لكن الإيمان عبارة عن
التصديق بالقلب وهو أمر غائب عنا فكيف يعلم في المجمعين كونهم
مصدقين بقلوبهم لاحتمال أنهم وإن كانوا
مصدقين باللسان لكنهم كفرة
بالقلب وإذا جهلنا ذلك جهلنا كونهم مؤمنين وإذا كان
الواجب علينا
اتباع المؤمنين فمتى جهلنا كونهم مؤمنين لم يجب علينا اتباعهم
وهو أيضا لازم على المعتزلة القائلين بأن المؤمن هو المستحق
للثواب لأن ذلك غير معلوم أيضا
وأيضا فالأمة متى أجمعت لم نعلم كونهم مستحقين للثواب إلا بعد
العلم بكونهم محقين في ذلك الحكم إذ لو لم نعلم ذلك لجوزنا كونهم
مخطئين وأن يكون خطؤهم كثيرا يخرجهم عن استحقاق الثواب واسم
الايمان
فإذن إنما نعرف كون المجمعين مؤمنين إذا عرفنا أن ذلك الحكم
صواب فلو استفدنا العلم بكونه صوابا من إجماعهم لزم الدور
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المراد من المؤمنين المصدقين باللسان
كما في قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن
قلت لا شك أن إطلاق اسم المؤمنين على المصدقين باللسان
48

دون القلب مجاز فإذا جاز لكم حمل الآية على هذا المجاز فلم لا يجوز
لنا حملها على مجاز آخر وهو أن نقول المراد إيجاب متابعة السبيل الذي
من شأنه أن يكون سبيلا للمؤمنين كما إذا قيل اتبع سبيل الصالحين لا
يراد به وجوب اتباع سبيل من يعتقد فيه كونه صالحا بل وجوب اتباع
السبيل الذي يجب أن يكون سبيلا للصالحين
سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة لكن دلالة قطيعة أم ظنية
الأول ممنوع والثاني مسلم لكن المسألة قطعية فلا يجوز التمسك
فيها بالدلائل الظنية
بيانه ما تقدم في كتاب اللغات أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد
اليقين ألبتة
فإن قلت إنا نجعل هذه المسألة ظنية
قلت إن أحدا من الأمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول
دليل ظني بل كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلا أصلا
ومنهم من جعله دليلا قاطعا فلو أثبتناه دليلا ظنيا لكان هذا تخطئه لكل
الأمة وذلك يقدح في الإجماع
49

والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار
وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق
إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع
مقطوع به ومخالفه كافر أو فاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من
الأصل وذلك غفلة عظيمة
سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة بالكتاب
والسنة والمعقول
أما الكتاب فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول الباطل والفعل
الباطل كقوله عز وجل وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والنهي عن الشئ لا يجوز إلا إذا كان المنهي
عنه متصورا
وأما السنة فكثيرة
50

أحدها
قصة معاذ وأنه لم يجر فيها ذكر الإجماع ولو كان ذلك مدركا شرعيا
لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه لأن تأخير البيان عن
وقت الحاجة لا يجوز
وثانيها
قوله عليه الصلاة والسلام لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي
وثالثها
قوله عليه السلام لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم
رقاب بعض
ورابعها
قوله عليه الصلاة والسلام إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه (من العباد
ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء
51

جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
وخامسها قوله عليه الصلاة والسلام تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول
ما ينسى
وسادسها
قوله عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر
الجهل
52

وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات
وأما المعقول فمن وجهين
الأول
أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه فوجب جوازه على الكل
كما أنه لو كان كل واحد من الزنج أسود كان الكل سودا
الثاني
أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة أو لأمارة أو لا لدلالة ولا لأمارة
فإن كان لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العلم تكون
واقعة عظيمة ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع
الذي لأجله أجمعوا فكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة
وحينئذ لا تبقى للتمسك بالإجماع فائدة
وإن كان لأمارة فهو محال لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها
فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها
ولأن في الأمة من لم يقل بكون الأمارة حجة فلا يمكن اتفاقهم لأجل
الأمارة على حكم
وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان ذلك خطأ فادحا في الإجماع
ولو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل وذلك قادح في الإجماع
53

والجواب
قوله الآية تقتضي التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين بشرط المشاقة
قلنا هذا باطل لأن المغلق على الشرط إن لم يكن عدما عند عدم
الشرط فقد حصل غرضنا
وإن كان عدما عند عدم الشرط فلو كان التوعد على اتباع غير سبيل
المؤمنين مشروطا بالمشاقة ل كان عند عدم المشاقة اتباع غير سبيل
المؤمنين جائزا مطلقا وهذا باطل لأن مخالفة الإجماع إن لم تكن خطأ
لكن لا شك في أنه لا يكون صوابا مطلقا فبطل ما ذكروه
قوله تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين مشروط بتبين الهدى قلنا
لا نسلم لأن تبين الهدى شرط في الوعيد عند المشاقة لا عند اتباع غير
سبيل المؤمنين ولا نسلم أنه يلزم من العطف اشتراك إحدى الجملتين بما
كانت الجملة الأخرى مشروطه به
سلمنا أن العطف يقتضي الاشتراك في الاشتراط لكن الهدى الذي نتبينه شرطا في حصول الوعيد عند مشاقة الرسول هو الدليل الدال على
التوحيد والنبوة لا الدليل الدال على أحكام الفروع وإذا لم يكن تبين
54

الدليل على مسائل الفروع شرطا في لحوق الوعيد على مشاقة الرسول
صلى الله عليه وسلم وجب أن لا يكون ذلك شرطا أيضا في لحوق الوعيد على اتباع غير
سبيل المؤمنين وإلا لم تكن الجملة الثانية مشروطة بالشرط المعتبر في
الجملة الأولى بل بشرط لم يدل عليه الدليل أصلا
سلمنا أن مقتضى العطف ما ذكرتموه لكن معنا دليل يمنع منه من
وجهين
الأول
أن هذه الآية خرجت مخرج المدح للمؤمنين وتمييزهم عن غيرهم ولو
حملناه على ما ذكره السائل لبطل ذلك ألا ترى أن اليهود والنصارى إذا عرفنا
أن قولا من أقاويلهم هدى فإنه يلزمنا أن نقول بمثله مع أنه لا تبعية
لهم فيه
الثاني
أن اتباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأجل أنهم كانوا ه لا
لأنه صح ذلك بالدليل ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود والنصارى في قولنا
بإثبات الصانع ونبوة موسى وعيسى عليهما السلام وإن شاركناهم في ذلك
الاعتقاد لأجل أنا لم نذهب إلى ذلك لأجل قولهم
قوله لفظ الغير والسبيل ليس للجمع فلا يقتضي تحريم كل ما كان
غيرا لكل ما كان سبيلا للمؤمنين
قلنا العموم حاصل من حيث اللفظ ومن حيث الإيماء
55

أما اللفظ فلوجهين
الأول
أن القائل إذا قال من دخل غير داري ضربته فهم منه العموم بدليل
صحة الاستثناء لكل واحد من الدور المغايرة لداره
الثاني
أنا لو حملنا الآية على سبيل واحد مع أنه غير مذكور صارت الآية
مجملة ولو حملناها على العموم لم يلزم ذلك وحمل كلام الله عز
وجل على ما هو أكثر فائدة أولى لا سيما إذا كانت هذه اللفظة إنما تستعمل
في العرف لإفادة العموم
أما الإيماء فلما سيأتي في باب القياس إن شاء الله عز وجل أن
ترتيب الحكم على الاسم مشعر بكون المسمى علة لذلك الحكم فكانت
علة التهديد كونه اتباعا لغير سبيل المؤمنين فيلزم عموم الحكم لعموم هذا
المقتضي
قوله إذا حملناه على الكل سقط الاستدلال
قلنا ذلك إنما يلزم لو حملناه
على الكل من حيث هو كل أما لو حملناه على كل واحد لم يلزم ذلك ولا شك أنه هو المتبادر إلى الفهم لأن
من قال من دخل غير داري فله كذا لا يفهم منه أنه أراد به من دخل جميع
الدور المغايرة لداره
قوله المراد منه المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير
56

مؤمنين وهو الكفر
قلنا لا نسلم بل الأصل اجراء الكلام على عمومه
وأيضا فلأنه لا معنى لمشاقة الرسول الا اتباع سبيل المؤمنين فيما به
صاروا غير مؤمنين فلو حملنا قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين على
ذلك لزم التكرار
قوله نزلت في رجل ارتد
قلنا تقدم بيان أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
قوله السبيل هو الطريق الذي يحصل المشي فيه
قلنا لا نسلم لقوله تعالى قل هذه سبيلي وقوله أدع إلى
سبيل ربك
سلمناه لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك غير مراد ها هنا ولا نزاع في
أن أهل اللغة يطلقون لفظ السبيل على ما يختاره الإنسان لنفسه في
القول والعمل
وإذا كان ذلك مجازا ظاهرا وجب حمل اللفظ عليه لأن الأصل عدم
المجاز الآخر
57

وحينئذ يحمل اللفظ على هذا المعنى إلى أن يذكر الخصم دليلا
معارضا
وبه نجيب عن قولهم لا مناسبة بين الاتفاق على الحكم وبين
الطريق الذي يحصل المشي فيه
قوله لم لا يجوز أن يكون المراد وجوب متابعتهم في الاستدلال
بالدليل الذي لأجله أثبتوا ذلك الحكم
قلنا هب أن الأمر كذلك ولكن لما أمر الله تعالى باتباع سبيلهم
في الاستدلال بدليلهم ثبت أن كل ما اتفقوا عليه صواب
وأيضا فمن أثبت الحكم لدليل لم يكن متبعا لغيره
قوله لم قلت إن لفظة من والمؤمنين للعموم
قلنا لما تقدم في باب العموم
قوله لم قلت إنه يلزم من حظر اتباع غير سبيلهم وجوب اتباع
سبيلهم
قلت لأنه يفهم في العرف من قول القائل لا تتبع غير سبيل
الصالحين الأمر بمتابعة سبيل الصالحين حتى لو قال لا تتبع غير
سبيل الصالحين ولا تتبع سبيلهم أيضا لكان ذلك ركيكا بلى لو قال
لا تتبع سبيل غير الصالحين فإنه لا يفهم منه الأمر بمتابعة سبيلهم ولذلك
58

لا يستقبح أن يقال لا تتبع سبيل غير الصالحين ولا سبيلهم
وبالجملة فالفرق معلوم بالضرورة في العرف بين قولنا لا تتبع غير
سبيل الصالحين وبين قولنا لا تتبع سبيل غير الصالحين
قوله يجب اتباع سبيل المؤمنين في كل الأمور أو في بعضها
قلنا بل في كلها ولذلك يصح الاستثناء لأنه لما ثبت النهي عن
متابعة كل ما هو غير سبيل المؤمنين وثبت أنه لا واسطة بينها وبين اتباع سبيل
المؤمنين لزم أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا في كل شئ
قوله يلزم وجوب اتباعهم في فعل المباحات
قلنا هب أن هذه الصورة مخصوصة للضرورة التي ذكرتموها
فتبقى حجة فيما عداها
قوله الناس قبل حصول الإجماع كانوا مجمعين على التوقف في
الحكم وطلب الدليل
قلنا الإجماع على ذلك مشروط بأن لا يحصل الاتفاق
قوله عدم الإجماع هو الاختلاف فيلزم أن يكون جواز الاختلاف
مشروطا بوقوع الاختلاف
قلنا هب أنه كذلك فأي محال يلزم منه
قوله لو جاز أن يكون هذا الاجماع مشروطا لجاز مثله في سائر
الإجماعات
قلنا ذلك جائز ولكن أهل الإجماع حذفوا هذا الشرط عند
59

حصول الاتفاق على الحكم ولم يحذفوه عند الاتفاق على جواز
الاختلاف
قوله أهل الإجماع أثبتوا ذلك الحكم بغير الإجماع وإثباته
بالإجماع مغاير لسبيل المؤمنين
قلنا لما أثبتوا الحكم بدليل سوى الإجماع فقد فعلوا أمرين
أحدهما
أنهم أثبتوا ذلك الحكم بدليل
والآخر
أنهم تمسكوا بغير الاجماع والآية لما دلت على وجوب متابعتهم في
كل الأمور كانت متناولة للصورتين إلا أنه ترك العمل بمقتضى الآية في إحدى
الصورتين لانعقاد الإجماع على أنه لا يجب علينا الاستدلال بما استدل
به أهل الإجماع فبقى العمل بها في الباقي
قوله إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه إيجاب اتباع سبيلهم
فيما به صاروا صالحين
قلنا لا نسلم لأن سبيل الصالح شئ مضاف إلى الصالح
60

والمضاف إلى الشئ خارج عنه والصلاح جزء من ماهية الصالح وداخل فيها
والخارج عن الشئ لا يكون نفس الداخل فيه
سلمنا لكن المتابعة في الصلاح ممكنة أما في الإيمان فلا لأنه لا
يحصل بالتقليد وقد بينا أن الاتباع هو الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أن
ذلك الغير فعله
قوله إذا حملناه على الإيمان كان ذلك السبيل حاصلا في الحال ولو
حملناه على الإجماع لم يكن حاصلا في الحال
قلنا لما دللنا على أنه لا يجوز حمله على الإيمان وجب حمله على
ذلك
غايته أنه يفضي إلى المجاز لكنه مجاز سائغ لأن تسمية الشئ
باسم ما يؤول إليه مشهور
قوله السلطان إذا قال ومن يشاقق وزيري ويتبع غير سبيل فلان
ويعني به المطيعين لذلك الوزير فهم منه أنه أراد بذلك سبيلهم في
طاعته
قلنا لا نسلم فإن اللفظ يقتضي العموم وما ذكرتموه قرينة عرفية
تقتضي الخصوص والدلالة اللفظية راجحة على القرينة العرفية
قوله المراد إيجاب اتباع كل المؤمنين أو بعضهم
قلنا الكل
قوله كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام الساعة
61

قلنا هذا مدفوع لوجهين
الأول
أن جميع المؤمنين هم الذين دخلوا في الوجود لأن المؤمن هو
المتصف بالإيمان والمتصف بالإيمان يجب أن يكون موجودا وما س‍
يوجد في المستقبل ولم يوجد في الحال فهو غير موجود
قوله الموجودون في العصر الأول لا يصدق عليهم في العصر الثاني
أنهم كل المؤمنين
قلنا لكن لما صدق عليهم في العصر الأول أنهم كل المؤمنين وهم
في العصر الأول اتفقوا على أنه لا يجوز لأحد من سائر الأعصار
مخالفتهم وجب أن يكون ذلك الحكم منهم صدقا في العصر الأول فإذا
ثبت في العصر الأول أن ذلك الحكم حق في كل الأعصار ثبت ذلك في
كل الأعصار إذ لو لم يكن حقا في العصر الثاني لما صدق في العصر
الأول أنه حق في كل الأعصار مع أنا فرضنا أن ذلك حق
الثاني
أن الله عز وجل علق العقاب على مخالفة كل المؤمنين زجرا عن
مخالفتهم وترغيبا في الأخذ بقولهم فلا يجوز أن يكون المراد جميع
المؤمنين إلى قيام الساعة لأنه لا فائدة في التمسك بقولهم بعد قيام الساعة
قوله إذا كان المراد من المؤمنين الموجودين في ذلك العصر كانت
62

الآية دالة على أن إجماع الموجودين في وقت نزول الآية حجة
قلنا لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى إيجاب اتباع مؤمني ذلك العصر
لأن قول المؤمنين حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان مطابقا لقوله كانت
الحجة في قوله لا في قولهم فيصير قولهم لغوا ولما بطل ذلك ثبت أن
المراد إيجاب العمل بقول المؤمنين في أي عصر كان
قوله المراد كل مؤمني العصر أو بعضهم
قلنا ظاهره الكل إلا ما أخرجه الدليل المنفصل وهم العوام والأطفال
والمجانين فبقى غيرهم وهم جمهور العلماء داخلا تحت الآية
قوله نحمله على الإمام المعصوم
قلنا هذا باطل لأن الوعيد على مخالفة المؤمنين فحمله على الواحد
ترك للظاهر
قوله المراد بالمؤمن المصدق في الباطن وهو غير معلوم الوجود
قلنا المؤمن في اللغة هو المصدق باللسان فوجب حمله عليه إلى
قيام المعارض
والذي يدل عليه أنه تعالى لما أوجب علينا اتباع سبيلهم فلابد
وأن نكون متمكنين من معرفتهم والاطلاع على الأحوال الباطنة ممتنع
فوجب حمله على التصديق باللسان
قوله لم لا يجوز أن يكون المراد إيجاب اتباع السبيل الذي من شأنه
63

أن يكون سبيلا للمؤمنين
قلنا هذا عدول عن الظاهر من غير ضرورة
قوله هذه الدلالة ظنية فلا يجوز إثبات الحكم القطعي بها
قلنا عندنا أن هذه المسألة ظنية ولا نسلم انعقاد الإجماع عن أنها
ليست ظنية
قوله أعطيتم الفرع من القوة ما ليس للأصل
قلنا نحن لا نقول بتكفير مخالف الإجماع ولا بتفسيقه ولا نقطع
أيضا به وكيف وهو عندنا ظني
قوله هذه الدلالة معارضة بالآيات الدالة على النهي عن الباطل
قلنا لا نسلم أن ذلك النهي خطاب مع الكل بل خطاب مع كل واحد
منهم والفرق بين الكل وبين كل واحد منهم معلوم ونحن إنما ندعي
عصمة الكل لا عصمة كل واحد
سلمنا كونه خطابا للكل لكن النهي لا يقتضي إمكان المنهى عنه من من!
كل وجه لأن الله عز وجل ينهى المؤمن عن الكفر مع علمه بأنه
لا يفعله وما علم أنه لا يوجد فهو محال الوجود
وأما حديث معاذ فهو إنما ترك ذكر الإجماع لأنه لا يكون حجة في زمان
64

حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي فهو يدل على
حصول الشرار في ذلك الوقت فأما أن يكونوا بأسرهم شرارا فلا
وكذا القول في سائر الحديث
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب
بعض ففي صحته كلام
سلمناه لكن لعلة خطاب مع قوم مخصوصين
قوله جاز الخطأ على كل واحد فيجوز على الكل
قلنا لا نسلم أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد والمثال الذي
ذكره يدل على أن ذلك قد يكون كذلك ولا يدل على أنه لابد وأن يكون
كذلك
سلمنا أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد ولكن عندنا يجوز الخطأ
على الكل أيضا لكن ليس كل ما جاز وقع والله تعالى لما أخبر
عنهم أن ذلك لا يقع علمنا أنهم لا يتفقون على الخطأ
قوله اتفاقهم إما أن يكون لدلالة أو لأمارة
65

قلنا لم لا يجوز أن يكون لدلالة إلا أنهم ما نقلوها اكتفاء منهم
بالإجماع فإنه متى حصل الدليل الواحد كان الثاني غير محتاج إليه والله
أعلم
المسلك الثاني
التمسك بقوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمه وسطا لتكونوا شهداء
على الناس الله تعالى أخبر عن كون هذه الأمة وسطا والوسط من
كل شئ خياره فيكون الله عز وجل قد أخبر عن خيرية هذه الأمة فلو أقدموا
على شئ من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا
يقدمون على شئ من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة
فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي
اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من
حملها على البعض ونحن نحملها على الأئمة المعصومين
سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم أن الوسط من كل
شئ خياره ويدل عليه وجهان
الأول
أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من
فعل الرجل وقد أخبر الله تعالى أنه جعلهم وسطا فاقتضى ذلك أن
66

كونهم وسطا من فعله تعالى وذلك يقتضي أن يكون ذلك غير عدالتهم التي
ليست من فعل الله تعالى
الثاني
أن الوسط اسم لما يكون متوسطا بين شيئين فجعله حقيقة
في العدل يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل
سلمنا أن الوسط من كل شئ خياره فلم قلتم أن خبر الله
تعالى عن خيرية قوم يقتضي اجتنابهم عن كل المحظورات ولم لا يجوز
أن يقال إنه يكفي فيه اجتنابهم ما عن الكبائر فأما عن الصغائر فلا
وإذا كان كذلك فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من
الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم
ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولا ليكونوا
شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة
سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن
اتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس ومعلوم أن هذه الشهادة
إنما تكون في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة
الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل وذلك مما لا نزاع فيه لأن
الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلتم إنهم في الدنيا كذلك
سلمنا وجوب كونهم عدولا في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم
67

الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد
بعد محال
وإذا كان كذلك فهذا يقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في
ذلك الوقت ولا يقتضي عدالة غيرهم
فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك
بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك يقضي
حصول العلم بأعيانهم والعلم ببقاءهم لا إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولما كان
ذلك مفقودا تعذر التمسك بشئ من الإجماعات
والجواب
قوله الآية متروكة الظاهر
قلنا لا نسلم
قوله لأنها تقتضي كون كل واحد منهم عدلا
قلنا لما ثبت أنه لا يجوز إجراؤها على الظاهر وجب أن يكون المراد
منه امتناع خلو هذه الأمة من! العدول
قوله تحمله على الإمام المعصوم
قلنا قوله وكذلك جعلناكم أمه وسطا صيغة جمع فحمله على
68

الواحد خلاف الظاهر
قوله لم قلت إن الوسط في كل شئ خياره
قلنا للآية والخبر والشعر والنقل والمعنى
أما الآية فقوله عز وجل قال أوسطهم أي أعدلهم
وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوسطها أي أعدلها
69

وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط قريش نسبا
وقال عليه السلام عليكم بالنمط الأوسط
70

وأما الشعر فقوله
هموا وسط يرضى الأنام بحكمهم
وأما النقل فقال الجوهري في الصحاح وكذلك جعلناكم أمة وسطا
أي عدولا
وأما المعني فلأن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين فالشئ
71

الذي يكون بعيدا عن طرفي الإفراط والتفريط الذين هما رديان
أن كان متوسطا فكان فضيلة ولهذا سمي الفاضل في كل شئ وسطا
قوله عدالتهم من فعلهم لا من فعل الله تعالى
قلنا هذا ممنوع على مذهبنا
قوله لم قلت إن إخبار الله تعالى عن عدالتهم يقتضي اجتنابهم عن
الصغائر
قلنا من الناس من قال لا صغير على الإطلاق بل كل ذنب فهو
صغير بالنسبة إلى ما فوقه كبير بالنسبة إلى ما تحته فسقط عنه هذا
السؤال
وأما من اعترف بذلك فجوابه أن الله تعالى عالم بالباطن والظاهر
فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد وصحة شهادته إلا والمخبر عنه مطابق
للخبر فلما أطلق الله تعالى القول بعدالتهم وجب أن يكونوا عدولا في
كل شئ بخلاف شهود الحاكم حيث تجوز شهادتهم وأن جاز عليهم
الصغائر لأنه لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن فلا جرم اكتفى
بالظاهر
قوله الغرض من هذه العدالة أداء الشهادة في الآخرة وذلك يوجب
72

عدالتهم في الآخرة لا في الدنيا
قلنا لو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة لقال سنجعلكم أمة
وسطا
ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة فلا يبقى في الآية تخصيص
لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة
قوله المخاطب بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه
الآية
قلنا مر الجواب عن مثل هذا السؤال في المسلك الأول والله أعلم
وأحكم
المسلك الثالث
قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر ولام الجنس تقتضي الاستغراق فدل على أنهم أمروا بكل
معروف ونهوا عن كل منكر فلو أجمعوا على خطأ قولا لكان قد
أجمعوا على منكر قولا ولو كانوا كذلك لكانوا آمرين بالمنكر ناهين عن
المعروف وهو يناقض مدلول الآية
فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن قوله كنتم خير أمة خطاب
معهم وهو يقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف والمعلوم
خلافة
فثبت أنه لا يمكن إجراؤها على ظاهرها فنحملها على أن المراد
73

من الأمة بعضهم وعندنا أن ذلك البعض هو الإمام المعصوم
سلمنا أنه يمكن إجراء الآية على ظاهرها لكن لا نسلم أنهم كانوا
يأمرون بكل معروف لما مر في باب العموم أن المفرد المعرف لا يفيد
الاستغراق
سلمنا العموم لكن الآية تقتضي اتصافهم بالأمر بالمعروف في الماضي
أو الحاضر
الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم بأنهم بقوا على هذه
الصفة في الحال
فإن قلت لأن هذه الآية خرجت مخرج المدح لهم في الحال
ولا يجوز أن يمدح إنسان في الحال بما فعله من قبل إذا عدل عنه إلى
ضده فإن الناهي عن المنكر إذا صار آمرا به استحق الذم
قلت لا نسلم أن هذه الآية خرجت مخرج المدح ولم لا يجوز أن
يقال ليس فيها إلا بيان أن هذه الأمة كانوا قبل ذلك خيرا من سائر الأمم
ومجرد الإخبار لا يقتضي المدح
سلمنا دلالتها على المدح لكن لم لا يجوز أن يدمح على الإنسان
74

في الحال بما صدر عنه في الماضي وإن كان يستحق الذم في الحال
بما صدر عنه في الحال فإن عندنا الجمع بين استحقاق الذم والمدح
غير ممتنع على ما ثبت في مسألة الاحتياط
سلمنا دلالة الآية على حصول هذا الوصف في الحال لكن قوله عز
وجل كنتم خير أمة صريح في أن هذا الوصف إنما حصل لهم في
الزمان الماضي ومفهومه يدل على عدم حصوله في الحال
سلمنا دلالة الآية على اتصافهم بتلك الصفة في الحال ف لم
لا يجوز خروجهم عنها بعد ذلك فإنه لا نزاع في أنه يحسن مدح الإنسان بما
له من الصفات في الحال وإن كان يعلم زوالها في المستقبل
فإن قلت ف يلزم أن يكون إجماعهم حجة في ذلك الزمان
قلت هب أنه كذلك لكنا لا نقطع على شئ من الإجماعات بإنه
حصل في ذلك الزمان وإذا وقع الشك في الكل خرج الكل عن كونه
حجة
سلمنا اتصافهم بهذا الوصف في الماضي والحال والمستقبل لكن
الآية خطاب مع الموجودين في ذلك الوقت فيكون إجماعهم حجة أما
75

إجماع غيرهم فلا يكون حجة على ما مر من تقرير هذا السؤال في
المسلكين الأولين
والجواب
قوله الآية متروكة الظاهر
قلنا لا نسلم
قوله لأنها تقتضي أن يكون كل واحد منهم آمرا بالمعروف وليس
كذلك
قلنا المخاطب بقوله تعالى كنتم خير أمة ليس كل واحد من
الأمة
أما أولا فلأنه تعالى وصف المخاطب بهذا الخطاب بكونه خير أمة
فلو كان المخاطب بهذا الخطاب كل واحد من الأمة لزم وصف كل واحد من
الأمة بأنه خير أمة وذلك غير جائز لأن الشخص الواحد لا يوصف بأنه أمه
إلا على سبيل المجاز كما في قوله تعالى إن إبراهيم كان أمة
بدليل أن المتبادر إلى الفهم من قوله حكمت الأمة بكذا المجموع
وأما ثانيا فلأنه يلزم في كل واحد أن يكون خير أمة أخرجت للناس
وإن كان كل واحد خير أمة وجب أن يكون كل واحد خيرا من صاحبه
ولما بطل ذلك ثبت أن المجموع هو المخاطب بهذا الخطاب وهو
76

يجري مجرى قول الملك لعسكره أنتم خير عسكر في الدينا تفتحون
القلاع وتكسرون الجيوش فإن هذا الكلام لا يفهم منه أن الملك وصف كل
واحد من آحاد العسكر بذلك بل إنه وصف المجموع بذلك بمعنى أن في
العسكر من هو كذلك فكذا ها هنا وصف الله تعالى مجموع الأمة
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى أن منهم من هو كذلك وحمله
على الإمام المعصوم غير جائز لأنه واحد ولفظ الأمة لفظ الجمع
قوله المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق
قلنا كثير من الناس ذهب إلى أنه يقتضيه
وأيضا فلفظ المعرف لو لم نحمله على الاستغراق لوجب حمله
على الماهية ويكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة فيكون معناه
أنهم أمروا بمعروف واحد ونهوا عن منكر واحد وهذا القدر حاصل في سائر
الأمم لأن كل واحد منهم قد كان آمرا بمعروف واحد وهو الدين الذي
قبله وناهيا عن منكر واحد وهو الكفر الذي رده
وحينئذ لا يثبت بذلك كون هذه الأمة خيرا من سائر الأمم لكن الله
تعالى ذكره لبيان ذلك الحكم فعلمنا أنه وجب حمله على الاستغراق
77

تحصيلا للغرض فإنا لو لم نحمله على الاستغراق ولا نحمله على
الماهية كان ذلك مخالفا للغة
قوله الآية تقتضي الاتصاف بهذا الوصف في الماضي أو الحاضر
قلنا بل في الحاضر لأن قوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر لا يتناول الماضي
قولة لفظة كنتم تدل على الماضي
قلنا لا نسلم ل أن قوله كنتم إما أن تكون ناقصة أو زائدة أو
تامة
فإن كنت ناقصة فنقول إنه وان أفاد تقدم كونهم كذلك لكن قوله
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يقتضي كونهم كذلك في
المستقبل ودلالة قوله تعالى كنتم على تقدم هذا الوصف لا يمنع من
حصوله في المستقبل فتبقى دلالة قوله تأمرون بالمعروف على كونهم
كذلك في المستقبل سليمة عن المعارض
وأما الوجهان الآخران فالاستدلال معهما ظاهر
78

قوله لم قلت إنهم يكونون في الزمان المستقبل كذلك على
هذه الصفة
قلنا لأن صيغة المضارع بالنسبة إلى الحال والاستقبال كاللفظ العام
فوجب تناولها لهما معا
قوله هذه الآية خطاب مع الحاضرين
قلنا مر الجواب عنه في المسلك الأول والله أعلم
المسلك الرابع
التمسك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على خطأ
والكلام ها هنا يقع في موضعين
أحدهما إثبات متن الخبر
والثاني
كيفية الاستدلال به
أما الأول فللناس فيه طرق ثلاثة
الفريق الأول ادعاء الضرورة في تواتر معنى هذا الخبر قالوا لأنه
نقل هذا المعنى بألفاظ مختلفة بلغت حد التواتر
79

الأول روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال أمتي لا
تجتمع على خطأ
الثاني ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
الثالث لا تجتمع أمتي على ضلالة
الرابع يد الله على الجماعة رواه ابن عمر رضي الله عنهما
الخامس سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على الضلالة فأعطيتها
السادس لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وروى ولا
على خطأ
وروي عن الحسن البصري وابن أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
80

الخبر
وكان الحسن يقول إذا حدثني أربعة من الصحابة تركتهم وقلت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الخبر من مراسليه
السابع عليكم بالسواد الأعظم وذلك جماعة الأمة لأن كل من
دونهم فالأمة بأسرها أعظم منه
الثامن أبو سعيد مرفوعا يد الله على الجماعة ولا نبالي بشذوذ من
شذ
التاسع من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة
الاسلام عن عنقه
العاشر من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية
81

الحادي عشر أبو أمامة مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي على
الحق لا يضرهم من خالفهم
الثاني عشر عمران بن الحصين مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي
يقاتلون على الحق حتى يقاتلها الدجال
الثالث عشر قام ابن عمر في الناس خطيبا وقال إن نبي الله
صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله
الرابع عشر ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل
لله والنصح لأئمة المسلمين ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم
رواه جبير بن مطعم وجابر
الخامس عشر من سره أن يسكن بحبوحة الله الجنة فليلزم
الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد خطب به رسول الله
صلى الله عليه وسلم وخطب به أيضا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جماعة من
82

الصحابة رضي الله عنهم
السادس عشر لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من
ناوأهم إلى يوم القيامة
السابع عشر ثوبان مرفوعا لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر
الله
الثامن عشر أنس وقوم آخرون عنه عليه الصلاة والسلام
ستفترق أمتي كذا وكذا فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة قيل ومن تلك
الفرقة قال هي الجماعة
وهذه الأخبار كلها مشتركة في الدلالة على معنى واحد وهو أن
الأمة بأسرها لا تتفق على الخطأ وإذا اشتركت الأخبار الكثيرة في الدلالة
على شئ واحد ثم إن كل واحد من تلك الأخبار يرويه جمع كثير صار
ذلك المعنى مرويا بالتواتر من جهة المعنى
83

الطريق الثاني الاستدلال وهو من وجهين
أحدهما
أن هذه الأخبار لو صحت لثبت بها أصل عظيم مقدم على الكتاب
والسنة وما هذا شأنه كانت الدواعي متوفرة على البحث عنه بأقصى الوجوه
أما الأولياء فلتصحح قال هذا الأصل العظيم بها
وأما الأعداء فلدفع مثل هذا الأصل العظيم فلو كان في متنها
خلل لاستحال ذهولهم عنه مع شدة بحثهم عنه وطلبهم له فلما لم
يقدر أحد على الطعن فيها علمنا صحتها
وثانيهما
أنه قد ظهر من التابعين إجماعهم على أن الإجماع حجة وظهر منهم
استدلالهم على ذلك بهذه الأخبار والاستقراء دل على أن أمتنا لا يجمعون
على موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا ويكونون قاطعين بصحة ذلك الخبر
فهذا يدل على قطعهم بصحة هذا الخبر
90

الطريق الثالث أنا نسلم أن هذه الأخبار من باب الآحاد وندعي الظن
بصحتها وذلك مما لا يمكن النزاع فيه
ثم نقول إنها تدل على أن الإجماع حجة فيحصل حينئذ ظن أن
الإجماع حجة
وإذا كان كذلك وجب العمل به لأن دفع الضرر المظنون واجب
وهذا الطريق أجود الطرق
فنقول أما الطريق الأول وهو ادعاء التواتر فبعيد فإنا لا نسلم بلوغ
مجموع هذه الأخبار إلى حد التواتر لأن العشرين بل الآلف لا يكون
متواترا لأنه ليس يستبعد في العرف إقدام عشرين إنسانا علي الكذب
في واقعة معينة بعبارات مختلفة
وبالجملة فهم مطالبون بإقامة الدلالة على أن مجموع هذه الروايات
يستحيل صدوره عن الكذب
سلمنا حصول القطع بهذه الأخبار في الجملة لكنكم إما أن تدعوا
القطع بلفظها أو بمعناها
أما القطع بلفظها فهو أن يقال إنا وإن جوزنا في كل واحد من هذه
الأحاديث أن يكون كذبا إلا أنا نقطع بأن مجموعها يستحيل أن يكون كذبا
بل لا بد أن يكون بعضها صحيحا
91

وأما القطع بمعناها فهو أن يقال إن هذه الألفاظ على اختلافهما
مشتركة في إفادة معنى واحد فذلك المشترك يصير مرويا بكل هذه الألفاظ
فيصير ذلك المشترك منقولا بالتواتر
فنقول إن أردتم الأول فهو مسلم لكن المقصود لا يتم إلا إذا بينتم
أن كل واحد من هذه الألفاظ يدل على أن الإجماع حجة دلالة قاطعة
إذ لو وجد فيها ما يدل على المطلوب لا على هذا الوجه لم يحصل الغرض
لأن الذي ثبت عندكم ليس إلا صحه أحد هذه الأخبار فيحتمل أن
يكون الصحيح هو ذلك الخبر الذي لا يدل دلالة قاطعة على حقية
الإجماع لكنا نرى المستدلين بهذه الأخبار بعد فراغهم من تصحيح
المتن يتمسكون بواحد منها على التعيين كقوله عليه الصلاة والسلام
لا تجتمع أمتي على خطأ ويبالغون فيه سؤالا وجوابا ومعلوم أنه باطل
وأما إن أردتم الثاني فنقول ذلك المعنى المشترك بين الأخبار إما
أن يكون هو أن الإجماع حجة أو معنى يلزم منه كون الإجماع حجة
فإن كان الأول فقد ادعيتم أنه نقل نقلا متواترا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن الإجماع حجة ومعلوم أن ذلك باطل وإلا لكان العلم بكون الإجماع
حجة جاريا مجرى العلم بغزوة بدر وأحد ولما وقع الخلاف فيه
92

وأيضا
فإنا نراكم بعد الفراغ من تصحيح متن هذه الأخبار تتمسكون بلفظ
خبر واحد وتوردون عن عليه الأسئلة والأجوبة ولو كان ذلك منقولا على سبيل
التواتر لكان ذلك الاستدلال عبثا
وبهذا يظهر الفرق بين علمنا بشجاعة علي وسخاوة حاتم بسبب
الأخبار المتفرقة وبين هذه المسألة فإنا بعد سماع تلك الأخبار المتفرقة لا
نحتاج إلى الاستدلال ببعض تلك الأخبار على شجاعة علي بل يحصل
العلم الضروري بذلك
أما ها هنا فقد سلمتم أن بعد سماع هذه الأخبار نفتقر إلى الاستدلال
ببعضها على هذا المطلوب فعلمنا أن كون الإجماع حجة ليس جزءا من
مفهوم هذه الألفاظ
وإن ادعيتم من أن هذه الأخبار دالة على معنى مشترك بين كلها وذلك
المعنى يقتضي كون الإجماع حجة فلا بد من الإشارة إلى ذلك المعنى ثم
من إقامة الدليل على أنه يلزم من ذلك المشترك كون الإجماع حجة وأنتم
ما فعلتم ذلك
فإن قلت القدر المشترك بين هذه الأخبار تعظيم أمر هذه الأمة وبعدها
عن الخطأ وما يجري هذا المجرى
قلت تدعون التواتر في مطلق التعظيم أو في تعظيم ينافي إقدامهم
93

على الخطأ في شئ ما
الأول
مسلم ولا يفيد الغرض
والثاني
ادعاء للتواتر في نفس كون الإجماع حجة وقد تقدم إبطاله
وأما الطريق الثاني وهو الاستدلال فضعيف
قوله لو كانت هذه الأحاديث ضعيفة لطعنوا فيها
قلت وقد طعنوا فيها بأنها من الآحاد
فإن قلت إن أحدا من الصحابة والتابعين لم يقل إنها من الآحاد بل
اتفقوا على أنها متواترة
سلمنا أنهم طعنوا فيها من هذا الوجه لكن كان يجب أن يطعنوا فيها
على سبيل التفصيل
قلت الجواب عن الأول
إن النقل عن المؤمنين أنهم جعلوها من باب التواتر ثبت بالتواتر أو
بالآحاد
94

الأول
يقتضي كونها متواترة عندنا لأنه متى كان الخبر متواترا وصح عندكم
بالتواتر كونها متواترة عندهم لزم كونها متواترة عندكم لكنكم في
هذا المقام سلمتم أنها ليست كذلك
والثاني
يقتضي أن تكون هذه الأخبار من الآحاد لأن كونها متواترة عن الصحابة
والتابعين لما لم يثبت عندنا إلا بالآحاد كانت عندنا من باب
الآحاد لأن استواء الطرفين والواسطة معتبر في التواتر
وعن الثاني أن نقول ليس كل من لا يعلم صحته وجب أن يعلم
فساده فالصحابة والتابعون ما عرفوا صحة هذه الأخبار ولا فسادها بل ظنوا
صحتها فلا يجب عليهم في هذه الحالة أن يطعنوا فيها على سبيل
التفصيل
وأما الوجه الثاني في الاستدلال وهو قوله
الصحابة والتابعون اجمعوا على صحة الإجماع وانما اجمعوا على
صحته لهذا الأخبار وعادة امتنا انهم لا يجمعون على موجب خبر لأجل
ذلك الخبر الا وكان الخبر مقطوعا به
95

قلنا المقدمات الثلاثة ممنوعة فلا نسلم إجماع الصحابة والتابعين
على صحة الإجماع
سلمناه لكن لا نسلم أنهم إنما ذهبوا إلى ذلك لأجل هذه الأخبار بل
إنما قالوا به لأجل الآيات
فإن ادعوا التواتر في هذين المقامين كان ذلك مكابرة فإن تلك الأخبار
أظهر بكثير من ادعاء هذين المقامين ولما لم يدعوا التواتر في تلك الأخبار
فلأن لا يجوز ادعاؤه في هذين المقامين كان أولى
سلمنا هما لكن لا نسلم أن عادتهم جارية بأنهم لا يجمعون على
موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا وقد قطعوا بصحته ألا ترى أن الصحابة
أجمعوا على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن وأجمعوا على أن المرأة
لا تنكح على عمتها ولا خالتها بخبر واحد
وبالجملة فهم مطالبون بالدلالة على هذه العادة التي ادعوها
فثبت بما ذكرنا ضعف هذه الوجوه وثبت أن الصحيح هو الطريق
الثالث وهو أن نجعلها من أخبار الآحاد
96

وعلى هذا لا نحتاج إلى تكثيرها بل كل واحد منها يكفي في
الاستدلال
المقام الثاني في كيفية الاستدلال التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم لا
تجتمع أمتي على خطأ
فإن قيل إن كان المراد بقوله أمتي كل من يؤمن به إلى يوم
القيامة خرج الإجماع عن كونه حجة
وإن كان المراد به الموجودين وقت نزول ذلك الخبر دل ذلك
على أن إجماعهم حجة لكنا إنما نعرف إجماعهم إذا عرفناهم
بأعيانهم وعرفنا بقاءهم إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك غير معلوم
فحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة
سلمنا أن المراد بالأمة أهل كل عصر لكن لم قلت إن هذه اللفظة تدل
على نفي الخطأ عنهم لاحتمال أن قوله لا تجتمع أمتي على خطأ جاء
بسكون العين على أن يكون ذلك نهيا منه صلى الله عليه وسلم لأمته عن أن
يجتمعوا على خطأ فاشتبه ذلك على الراوي فنقله مرفوعا على أن يكون
خبرا
97

سلمنا كونه خبرا لكن لم قلت إنه يدل على نفي الخطأ
بأسره عنهم ولا نسلم أن النكرة في النفي تعم
وإذا كان كذلك فإما أن نحمله على نفي السهو أن نفي الكفر جمعا بينه
وبين الحديث المروي في هذا الباب وهو قوله صلى الله عليه وسلم أمتي لا تجتمع
على ضلالة
سلمنا كون الأمة مصيبين في كل أقوالهم وأفعالهم فلم لا يجوز
مخالفتهم فإن المجتهد قد يكون مصيبا مع أن المجتهد الآخر يكون متمكنا
من مخالفته
والجواب
أما السؤال الأول فمدفوع بسائر الأحاديث الواردة في هذا الباب
وهي قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وقوله ما
رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وقوله من فارق الجماعة قيد شبر فقد
خلع ربقة الإسلام من عنقه
قوله لعل هذا الحديث ورد على صيغة النهي
قلنا عدالة الراوي تفيد ظن صحة تلك الرواية ومطلوبنا ها هنا
الظن وإلا لو فتحنا هذا الباب لا نسد باب الاستدلال بأكثر
النصوص
98

ثم إنه مدفوع بسائر الأحاديث
وأما أن النكرة في النفي تعم فقد تقدم بيانه في باب العموم
قوله نحمله نفي السهو
قلنا اجتماع الجمع العظيم على عدم السهو ممتنع ف لا
يمكن ذكره في معرض التعظيم ولأنه لا يكون في تخصيص أمته بذلك
فضيلة
قوله نحمله على نفي الكفر كقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على
ضلالة
قلنا كل حديث مستقل بنفسه ولأن الضلال لا يقتضي الكفر
قال الله تعالى ووجدك ضالا فهدى وقال فعلتها إذن وأنا من
الضالين
قوله هب أن الأمة مصيبون في إجماعهم فلم لا تجوز مخالفتهم
قلت لأن الأمة على قولين منهم من قال إن الإجماع حجة لا
تجوز مخالفته
99

ومنهم من قال إنه ليس بحجة فلو قلنا إنه حجة تجوز مخالفتها
لكان قولا خارجا عن أقول الأمة فلو كان الحق ذلك لكانت الأمة
متفقين على الخطأ وذلك باطل بالحديث
المسلك الخامس دليل العقل
وهو الذي عول عليه إمام الحرمين رحمه الله فقال إجماع الخلق
العظيم على الحكم الواحد يستحيل أن يكون إلا لدلالة أو أمارة
فإن كان لدلالة فقد كشف الإجماع عن وجود تلك الدلالة فيكون
خلاف الإجماع خلافا لتلك الدلالة
وإن كان لأمارة فقد رأينا التابعين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا
الإجماع فلولا اطلاعهم على دلالة قاطعة مانعة من مخالفة هذا الإجماع
وإلا لاستحال اتفاقهم على المنع من مخالفته
وهذه الدلالة ضعيفة جدا لاحتمال أن يقال إنهم قد اتفقوا على
الحكم لا لدلالة ولا لأمارة بل لشبهة وكم من المبطلين من
100

كثرتهم وتفرقهم في الشرق والغرب قد اتفقت كلمتهم لأجل الشبهة
سلمنا الحصر فلم لا يجوز أن يكون لأمارة تفيد الظن
قوله رأينا الصحابة مجمعين على المنع من مخالفة هذا الإجماع
وذلك يدل على اطلاعهم على دليل قاطع مانع من مخالفة هذا
الإجماع
قلنا لا نسلم اتفاق الصحابة على ذلك
سلمناه لكنك لما جوزت حصول الإجماع لأجل الأمارة فلعلهم
أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع الصادر عن الأمارة لأمارة
أخرى
فإن قلت إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة وقد
تعصبوا في هذا الإجماع فدل على أن هذا الإجماع ما كان عن أمارة
قلت إذا سلمت أنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة
ف قد بطل قولك إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع
المسألة الرابعة
أما الشيعة فقد استدلوا على أن الإجماع حجة بأن زمان التكليف
لا يخلو عن الإمام المعصوم ومتى كان كذلك كان الإجماع حجة
101

بيان الأول يتوقف على إثبات أمرين
الأول أنه لا بد من الإمام
والدليل عليه أن الإمام لطف وكل لطف واجب فالإمام واجب
وإنما قلنا إن الإمام لطف لأنا نعلم أن الخلق إذا كان لهم رئيس
قاهر يمنعهم عن القبائح ويحثهم على الواجبات كان حالهم في الإتيان
بالواجب والاجتناب عن القبيح أتم من حالهم إذا لم يكن لهم هذا
الرئيس والعلم بذلك بعد استقراء العادة ضروري
وإنما قلنا إن اللطف واجب لوجهين
الأول
أن اللطف كالتمكين في كونه إزاحة لعذر المكلف فإذا كان التمكين
واجبا فكذا اللطف
إنما قلنا إن اللطف كالتمكين لأنه يثبت في الشاهد أن أحدنا إذا
دعا غيره إلى طعام وكان غرضه نفع ذلك الغير وبقي على ذلك الغرض إلى
وقت التناول ولم يبدله وعلم أنه متى تواضع له فإنه يتناول طعامه ومتى لم
يفعل ذلك لم يتناوله فإنه تركه التواضع في هذه الحال يجرى مجرى رد
الباب عليه والعلم به ضروري
الثاني
أن المكلف لو لم يجب عليه فعل اللطف لم يقبح منه فعل المفسدة
102

أيضا لأنه لا فرق في العقل بين فعل ما يختار المكلف عنده
القبيح وبين ترك ما يخل المكلف عنده بالواجب
فثبت أن اللطف واجب وثبت أنه لا بد في زمان التكليف من
الإمام
الثاني
أن ذلك الإمام يجب أن يكون معصوما
والدليل عليه أنه إنما احتاج الخلق إلى الإمام لصحة
القبيح عليهم فلو تحققت هذه الصحة في الأمام لافتقر الإمام إلى إمام
اخر ولزم التسلسل وهو محال
فثبت أنه يجب أن يكون معصوما وثبت أنه لا بد في زمان التكليف
من إمام معصوم
وإذا ثبت هذا وجب كون الإجماع حجة لأنه مهما اتفق العلماء على
حكم فلا بد وأن يوجد في أثناء قولهم قول ذلك المعصوم لأنه أحد
103

العلماء بل هو سيدهم وإلا لم يكن ذلك قولا لكل الأمة وقول المعصوم
حق
فإذن إجماع الأمة يكشف عن قول المعصوم الذي هو حق فلا جرم
قلنا الإجماع حجة
قالوا وظهر بهذا أن العلم بكون الإجماع حجة لا يتوقف على العلم
بالنبوة أصلا وأن إجماع كل الأمم حجة كما أن إجماع أمتنا حجة
والسؤال عليه أنا لا نسلم أنه لا بد من إمام ولا نسلم أنه
لطف ولا نسلم أن الخلق إذا كان لهم رئيس يمنعهم عن القبائح
ويحثهم على الطاعات كانوا أقرب إليها مما إذا لم يكن لهم هذا
الرئيس
بيانه أنكم تزعمون إن الله عز وجل ما أخلى العالم قط من
رئيس فقولكم وجدنا متى خلا عن الرئيس حصلت المفاسد باطل لأنكم
إذا لم تجدوا العالم خاليا عنه قط ف كيف يمكنكم أن تقولوا إنا
وجدنا العالم متى خلا عن الإمام حصلت المفاسد بل الذي جربناه أنه متى
كان الإمام في الخوف والتقية حصلت المفاسد لكنكم لا توجبون ظهوره
104

وقوته فالذي تريدونه من أن ظهور المفسدة عند عدمه أزيد مما
وجدتموه عند خوفه وتستره شئ ما جربتموه
والذي جربتموه وهو ظهور المفسدة عند ضعفه وخوفه فأنتم لا
تقولون به فظهر فساد قولكم
سلمنا إمكان هذه التجربة لكنا نقول تدعون اندفاع هذه
المفاسد بوجود الرئيس كيف كان أو بوجود الرئيس القاهر
الأول ممنوع فلا بد من الدلالة واستقراء العرف لا يشهد لهم البتة
لأن الخلق إنما ينزجرون من السلطان القاهر
فأما السلطان الضعيف فلا بل الشخص الذي لا يرى ولا يعرف ولا
يظهر منه في الدنيا أثر ولا خبر فإنه لا يحصل بسببه انزجار عن القبائح ولا
رغبة في الطاعات فلم قلتم إن مثل هذا الإمام يكون لطفا
وإن أرددتم في الثاني فهو مسلم لكنكم لا توجبونه
فالحاصل أن الذي عرف بالاستقراء كونه لطفا أنتم لا توجبونه والذي
توجبونه لا يعرف بالاستقراء كونه لطفا
105

فإن قلت نحن الآن في إثبات وجوب أصل الإمام فأما البحث
عن كيفية فذاك يتعلق بالفضل ونحن الآن لا نتكلم فيه
ثم السبب في تستره ظاهر وهو أن الإمام لو أزيل عنه الخوف لظهر
ولزجر بن الناس عن القبائح ورغبهم في الطاعات فحيث أخافوه كان الذنب
من قبلهم
قلت إنكم ادعيتم وجوب نصب الإمام كيف كان سواء كان ظاهرا أو
مخفيا ودللتم على وجوبه بكونه لطفا ودللتم على كونه لطفا بتفاوت
حال الخلق معه في الطاعات والمعاصي فلا بد من إثبات هذه المقدمة عند
وجود الإمام كيف كان الإمام حتى يمكن الاستدلال به على وجود الأمام
كيف كان
ونحن نمنع ذلك فإن تمسكتم باستقراء أحوال العالم
قلنا ذلك التفاوت إنما يحصل من الإمام القاهر وأنت محتاج إلى
بيان حصول التفاوت من وجود الإمام كيف كان فما لم تشتغلوا بإثبات هذه
المقدمة لا يتم دليلكم فأي نفع لكم ها هنا في أن تذكروا السبب في
غيبته وخوفه
سلمنا أن نصب الإمام يقتضي تفاوت حال الخلق من الوجه الذي
ذكرتموه لكنه متى يجب نصبه إذا خلا عن جميع جهات القبح أو إذا
لم يخل
106

الأول
مسلم ولكن دليلكم لا يتم إلا إذا أقمتم الدلالة على خلوه عن جميع
جهات المفسدة وأنتم ما فعلتم ذلك
والثاني
ممنوع لأن بتقدير اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح لا يجوز
نصبه لأنه يكفي في كون الشئ قبيحا اشتماله على جهة من جهات القبح
ولا يكفي في حسنه اشتماله على جهة واحدة من جهات الحسن ما لم يعرف
انفكاكه عن كل جهات القبح
فإن قلت ما ذكرته مدفوع من أربعة أوجه
أحدها
أنه لو جاز القدح في كون الإمام لطفا بما ذكرته جاز القدح في كون
معرفة الله تعالى لطفا بذلك لأن الذي يمكننا في بيان أن معرفة الله تعالى
لطف هو أنها باعثة على أداء الواجبات والاحتراز عن القبائح العقلية
فأما بيان خلوها عن جميع جهات القبح فمما لو يوجبه أحد فلو
قدح هذا في كون الإمامة لطفا لقدح في كونه معرفة الله تعالى لطفا
وثانيها
أن ما ذكرته يفضي إلى تعذر القطع بوجوب شئ على الله تعالى
107

لكونه لطفا لأنه لا شئ يدعى كونه لطفا إلا والاحتمال المذكور قائم فيه
وثالثها
أنه لا دليل على اشتمال الإمامة على جهة قبح وما لا دليل عليه
وجب نفيه
ورابعها
أن جهات القبح محصورة وهي كون الفعل كذبا وظلما وجهلا وغيرها
من الجهات وهي بأسرها زائلة عن الإمامة فوجب القطع ينفي اشتمالها
على جهة من جهات القبح
قلنا
أما الأول فغير لازم لأن هذا الاحتمال الذي ذكرناه في الإمامة
إن كان بعينه قائما في المعرفة من غير فرق وجب الجواب عنه في
الموضعين ولا يلزم من تعذر الجواب عنه في الصورتين الحكم بسقوطه
من غير جواب
وإن حصل الفرق بين الصورتين بطل ما ذكرتموه
ثم إن الفرق أن معرفة الله عز وجل من الألطاف التي يجب علينا
فعلها فإذا علمنا اشتمال المعرفة على جهة مصلحة ولم نعلم اشتمالها
على جهة مفسدة غلب على ظننا كونها لطفا والظن في حقنا قائم مقام
108

العلم في اقتضاء العمل فإنه كما يقبح الجلوس تحت الجدار المائل
الذي يعلم سقوطه كذلك يقبح إذا ظن ذلك فلا جرم وجب علينا فعل
المعرفة
أما الإمامة فهي من الألطاف التي توجبونها على الله عز وجل ولا
يكفي في الإيجاب على الله تعالى ظن كونها لطفا لأنه عز وجل
عالم بجميع المعلومات فما لم يثبت خلو الفعل عن جميع جهات القبح
لا يمكن إيجابه على الله عز وجل فظهر الفرق
وعن الثاني
أنا لا نقول في فعل معين إنه لطف فيكون واجبا على الله عز
وجل لأن الاحتمال المذكور قائم فيه بل نقول الذي يكون لطفا في نفسه
فإنه يجب فعله على الله عز وجل وذلك لا يقدح فيه الاحتمال المذكور
وعن الثالث
أن نقول ما المراد من قولك ما لا دليل عليه وجب نفيه
إن عنيت به أن ما لا يعلم عليه دليل وجب نفيه فهذا باطل وإلا وجب
على العوام نفي أكثر الأشياء لعدم علمهم بأدلتها
109

وإن عنيت أن ما لا يوجد دليل عليه في نفس الأمر في نفس الأمر! وجب نفيه فهذا
أيضا ممنوع
وبتقدير التسليم لكن لا نسلم أنه لم يوجد عليه دليل فلعله وجد
وأنتم لا تعلمونه
فإن قلت سبرت وبحثت فما وجدت
قلت أقم الدلالة على أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود
وعن الرابع
أن صوم أول يوم من شوال لم يشتمل على كونه ظلما وجهلا وكذبا مع
أنه قبيح فجوز ها هنا مثله
وبالجملة فالتقسيم الذي يكون حجة هو المنحصر أما غيره فلا
سلمنا أنه لا بد في القدح في كونه لطفا من تعيين جهة المفسدة
لكن ها هنا جهتان
أحداهما
أن نصب الإمام يقتضي كون المكلف تاركا للقبيح لا لكونه قبيحا بل
للخوف من الإمام
110

وإما عند عدم الإمام فالمكلف إنما يتركه لقبحه لا للخوف من
الإمام
فإن قلت هذا باطل بترتب العقاب على فعل القبيح فإنه
يقتضي أن يكون المكلف تاركا للقبيح لا لقبحه بل للخوف من العقاب
قلت أنا سائل فيكفيني أن أقول لم لا يجوز أن تكون هذه الجهة
مفسدة مانعة وعليك الدلالة على أنها ليست كذلك
ولا يلزم من قولنا ترتيب العقاب عليه لا يقتضي هذه الجهة من المفسدة
أن يكون نصب الإمام غير مقتض لها لاحتمال أن يكون حال كل
واحدة منهما بخلاف حال الآخر
والذي يحقق ذلك أن ترتيب العقاب على فعل القبيح لا يعلم إلا
بالشرع فقبل ورود الشرع يجوز أن تكون فيه مفسدة من هذه الجهة فلما
ورد الشرع به علمنا أنه لا مفسدة فيه من هذه الجهة لأن الشرع لا يأتي
بالمفسدة فنظيره في مسألتنا أن تقولوا يجوز قبل ورود الشرع أن
يكون نصب الإمام مفسدة من هذه الجهة فلما ورد الشرع به علمنا أنه لم
يكن مفسدة من هذه الجهة لكن على هذا التقدير يصير وجوب
الإمامة شرعيا
111

وثانيهما
أن يقال فعل الطاعة وترك المعصية عند عدم الإمام أشق منهما
عند وجوده فيكون نصب الإمام سببا لنقصان الثواب من هذا الوجه
وبتقدير هذا الاحتمال فلا نسلم أنه يحسن نصب الإمام فضلا عن
وجوبه
سلمنا أن الإمام لطف لكن في كل الأزمنة أو في بعضها الأول
ممنوع والثاني مسلم
بيانه
أن من الجائز أن يتفق في بعض الأزمنة وجود قوم يستنكفون عن
طاعة الغير ويعلم الله تعالى منهم أنه متى نصب لهم رئيسا قصدوه
بالقتل وإثارة الفتن العظيمة وإذا لم ينصب لهم رئيسا فإنهم لا يقدمون
على القبائح ولا يتركون الواجبات فيكون نصب الرئيس في ذلك
الوقت مفسدة
ثم هذا وإن كان نادرا إلا أنه لا زمان إلا ويجوز أن يكون هو ذلك
الزمان النادر
وحينئذ لا يمكن الجزم بوجوب نصب الإمام في شئ من الأزمنة
112

فإن قلت هذا مدفوع من وجهين
الأول
إن الاستنكاف إنما يكون عن الرئيس المعين وليس الكلام الآن
فيه بل في مطلق الرئيس
الثاني
أن هذه مفسدة نادرة والمفاسد الحاصلة عند عدم الإمام غالبة
وإذا تعارض الغالب والنادر كان الغالب أولى بالدفع
قلت الجواب عن الأول
أنه كما يتفق الاستنكاف عن طاعة رئيس معين فقد يتفق الاستنكاف
عن طاعة مطلق الرئيس
وأيضا
فإذا سلمتم أن الاستنكاف قد يقع عن طاعة الرئيس المعين فيكون
نصب ذلك المعين مفسدة ثم إذا لم يمكن تحصيل المطلق إلا في ذلك
المعين كما هو قولكم في الإمامة في أشخاص معينين كان ذلك
المطلق أيضا مفسدة
وعن الثاني
هب أن الزمان الذي يقع فيه ذلك الاحتمال نادر إلا أن كل زمان لما
113

احتمل أن يكون هو ذلك النادر لم يمكنا القطع بوجوب نصبه في شئ من
الأزمنة
سلمنا أن الإمامة لطف في كل الأزمنة لكنها لطف يقوم غيرها
مقامها أو لا يقوم
الأول مسلم ولكن لما قام غيرها مقامها لم يمكن الجزم بوجوبها
على التعين
والثاني ممنوع فلا بد من الدلالة عليه
ثم إنا نبين إمكان البدل على الإجمال تبرعا فنقول إنكم توجبون
عصمة الإمام ولسيت عصمة الإمام بإمام اخر معصوم وإلا وقع التسلسل
فإذن له شئ سوى الإمام وقع لطفا في الاحتراز عن القبائح وأداء
الواجبات
وإذا ثبت ذلك في الجملة فلم لا يجوز أن يحصل للأمة لطف قائم
مقام الإمام وحينئذ لا يكون نصب الإمام واجبا عينا
سلمنا كون الإمام لطفا على التعين لكن في المصالح الدنيوية
أو الدينية
114

الأول مسلم والثاني ممنوع
بيانه
أن ما ذكرتموه من منفعة وجود الأمام ليس إلا في حصول نظام العالم
واندفاع الهرج والمرج وذلك كله مصلحة دنيوية وتحصيل الأصلح في
الدنيا غير واجب على الله تعالى فما يكون لطفا فيه أولى أن لا يجب
أو في إقامة الصلوات وأخذ الزكوات وذلك كله مصالح شرعية فما
يكون لطفا فيه لا يجب وجوده عقلا
وإن ادعيتم كونه لطفا في شئ آخر وراء ذلك فهو ممنوع
فإن قلت الإمام لطف في المصالح الدينية العقلية لأنه إذا زجرهم
عن القبائح وأمرهم بالواجبات العقلية مرة بعد أخرى تمرنت نفوسهم
عليها وإذا تمرنت نفوسهم عليها تركوا القبائح لقبحها وأتوا بالواجبات لوجه
وجوبها وذلك مصلحة دينية
قلت لا نسلم تفاوت حال الخلق بسبب وجود الإمام في هذا المعنى
فإن بوجود الإمام ربما وقعت أحوال القلوب على ما ذكرتموه وربما
صارت بالضد من ذلك لأنهم إذا أبغضوه بقلوبهم وعاندته نفوسهم ازدادت
المفسدة وربما أقدموا على الأفعال والتروك لمحض الخوف منه
وبالجملة فالتفاوت الحاصل في أحوال الخلق إنما يظهر فيما عددناه
من المصالح الدنيوية أو فيما عددناه من المصالح الشرعية
115

فأما فيما تعدونه من المصالح الدينية العقلية فهذا التفاوت
ممنوع فيه فإن الاحتمالات متعارضة فيها
سلمنا أنه لطف فلم قلتم إن كل لطف واجب
قوله في الوجه الأول فعل اللطف جار مجرى التمكين
قلنا هذا قياس وقد بينا أنه لا يفيد اليقين
ثم نقول لا نسلم أن فعل اللطف جار مجرى التمكين
قوله من قدم الطعام إلى إنسان وأراد منه تناوله إلى اخره
قلنا لا نسلم أن ترك التواضع في تلك الحالة يقدح في تلك الإرادة
على الإطلاق
بيانه
أن الإرادات مختلفة فقد يريد الإنسان من غيره أن يتناول طعامه إرادة
في الغاية حتى يقرر مع نفسه أنه يفعل كل ما يعلم أن ذلك الضيف لا
يتناول طعامه إلا عند فعله
وقد تكون الإرادة لا إلى ذلك الحد كمن يقول أريد أن تأكل طعامي
لكن لا إلى حيث أنك لو لم تأكل طعامي إلا عند تقبيلي هذه رجلك فعلته
بل إرادة دون ذلك
إذا لبث هذا فنقول الإرادة إن كانت على الوجه الأول كان ترك
التواضع قادحا في تحققها لكن لو كانت على الوجه الثاني لم يلزم من عدم
التواضع عدمها
116

إذا ثبت هذا فنقول لم قلت إن الله عز وجل أراد من المكلفين
فعل الطاعات والاجتناب عن القبائح إرادة على الوجه الأول حتى يلزمه
فعل اللطف
بيانه
أن التكليف تفضل وإحسان والمتفضل لا يجب عليه أن يأتي
بجميع مراتب التفضل
قوله في الوجه الثاني إن ترك اللطف كفعل المفسدة
قلنا إنه قياس فلا يفيد اليقين لاحتمال أن ما به وقع التغاير
يكون شرطا أو مانعا
ثم نقول الفرق أن فعل المفسدة إضرار وترك اللطف ترك للإنفاع
سنة وليس يلزم من قبح الإضرار قبح ترك الإنفاع فإنه يقبح منا الإضرار
بالغير ولا يقبح ترك إنفاعه
عمرو سلمنا أنه يجب فعل اللطف لكن يجب فعل اللطف
المحصل أو فعل اللطف المقرب
الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم إن الإمام لطف محصل
117

بيانه
أنه لا يمكن القطع بأنه عند وجود الإمام يقدم الإنسان على الطاعة
ويحترز عن المعصية لا محالة بل الذي يمكن ادعاؤه قبل أن الإنسان عند
وجود الإمام يكون أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية فيكون الإمام
لطفا مقربا
وإذا كان كذلك فلم قلت بوجوبه على الله تعالى وخرج على هذه
المسألة مسألة الضيف فإن المضيف إنما يجب عليه التواضع للضيف
إذا علم أنه لو تواضع له لأجابه إلى المقصود أو ظن ذلك
فأما إذا علم قطعا أنه لا يجيب به إليه فلا نسلم أنه يحسن
منه فعل ذلك التواضع فضلا عن الوجوب
وعلى هذا لا يبعد أن يوجد زمان علم الله أن نصب الإمام في ذلك
الزمان لا يكون لهم لطفا محصلا فلم قلت يجب على الله عز وجل
نصب الإمام في ذلك الزمان
سلمنا أن اللطف واجب مطلقا لكن متى إذا أمكن فعله أو إذا لم
يمكن
الأول مسلم والثاني ممنوع
118

بيانه
إذا علم الله عز وجل أن كل من خلقه في ذلك الزمان
فإنه يكون كافرا أو فاسقا فحينئذ لا يكون خلق المعصوم في ذلك
الزمان مقدورا له
وإذا كان كذلك فلم قلت إنه لا يحسن التكليف في هذه الحالة
وإذا حسن هذا التكليف جوزنا في كل زمان أن يكون هو ذلك الزمان
فلا يمكننا القطع بوجوب الإمام في شئ من الأزمنة
وخرج عليه مسألة الضيف فإن هناك إنما يجب عليه التواضع إذا كان
ذلك التواضع مقدورا له فأما إذا لم يكن مقدورا له لم يتوقف
التماس المضيف تناول الطعام على فعل التواضع بل حسن ذلك
الالتماس بدون التواضع
سلمنا كل ما ذكرتموه ولكنه بناء على التحسين والتقبيح العقليين
وإنه باطل على ما ثبت في الكتب الكلامية
فهذا هو الاعتراض على مقدمات دليلهم على الترتيب
ثم نقول دليلكم منقوض بصور
119

إحداها أنه لو كان القضاة والأمراء والجيوش معصومين لكان حال الخلق
في الاجتناب عن القبائح أقرب مما إذا لم يكن كذلك
وثانيتها أنه لو وجد في كل بلد امام معصوم
وثالثتها لو كان الإمام عالما بالغيوب وقادرا على التصرف في
الشرق والغرب والسماء والأرض
ورابعتها لو كان بحيث لو شاء لاختفى يحيى عن الأعين ولطار
الرحمن مع الملائكة فإن خوف المكلفين ها هنا يشتد منه لأن كل أحد يقول
لعله معي وإن كنت لا أراه فكان انزجاره عن القبيح أشد
ولا خلاص عن هذه الإلزامات إلا بأحد أمرين
الأول
أن يقال إن هذه الأشياء وإن حصلت فيها هذه المنافع لكن
علم الله تعالى فيها وجه مفسدة لا نعلمه نحن ولذلك لم يجب على الله
تعالى فعلها
الثاني
أن يقال إنها وإن كانت خالية عن جميع جهات المفسدة لكن لا
120

يجب على الله تعالى فعلها
ثم إن كل واحد من هذين الاحتمالين قائم فيما ذكروه فيبطل به
أصل دليلهم
سلمنا أنه لا بد من الإمام فلم قلت إنه معصوم
قوله ولو لم يكن معصوما لافتقر إلى لطف اخر
قلنا نعم لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك اللطف هو الأمة
فإنا قبل قيام الدلالة على أن الإجماع حجة نجوز كونه حجة
وذلك التجويز يكفينا في ذلك المقام لأنهم هم المستدلون فيكفينا أن
نقول لم لا يجوز أن يكون الإمام لطفا لكل واحد من آحاد الأمة ويكون
مجموع الأمة لطفا للإمام فعليهم إقامة الدليل على أنه لا يجوز أن يكون
مجموع الأمة معصوما
ومعلوم أنه لا يكفي في ذلك قدحهم في أدلتنا على أن الاجماع
حجة
سلمنا كونه معصوما فلم قلت إن الإجماع يشتمل على قوله
وتقريره ما بيناه في أول الباب أن العلم باتفاق كل الناس بحيث
121

يقطع بأنه لم يشد واحد منهم في الشرق والغرب متعذر لا سبيل إليه
سلمنا وجود قوله لكن لا نسلم أن قوله صواب لأن عندهم يجوز أن
يفتي الإمام بالكفر والبدعة على سبيل التقية والخوف ويحلف بالله
تعالى والأيمان التي لا مخرج منها أن الأمر كذلك
وإذا كان كذلك فلعله لما رأى أهل العالم متفقين على ذلك القول
خاف من مخالفتهم فأظهر الموافقة على ذلك الباطل
كيف وعندهم قد أظهر علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع جميع
رهط الهاشميين والأمويين والأنصار التقية خوفا من أبي بكر ومن عمر رضي
الله عنهما مع قلة أنصارهما وكان وأعوانهما فإذا جاز الخوف والتقية في هذه
الصورة فكيف لا يخاف الرجل الواحد جميع أهل العالم عند اتفاقهم على
الباطل
122

سلمنا أنه افتى به عن اعتقاد فلم لا يجوز أن يكون ذلك خطأ
123

من باب الصغائر وعند ذلك يحتاجون إلى إقامة الدلالة على أنه لا تجوز
الصغيرة على الأئمة فإن عولوا فيه على حديث التنفير فهو ضعيف
لأن العجز الشديد والفتوى بالكفر والفسق وإباحة الدماء والفروج مع
الأيمان الغليظة أدخل في باب التنفير من وقوع الصغيرة فإذا جاز أن لا يكون منزها عنه فلم لا يجوز أن لا
يكون منزها عن الصغيرة
فهذا ما على هذه الطريقة من الاعتراضات ومن أحاط بها تمكن من
القدح في جميع مذاهب الشيعة أصولا وفووعا روى! لأن أصولهم في الإمامة مبنية
على هذه القاعدة ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية على التمسك بهذا
الإجماع والله أعلم
124

القسم الثاني
فيما أخرج من الاجماع وهو منه
المسألة الأولى
كل مسألة فالحكم فيها إما أن يكون بالإيجاب الكلي أو بالسلب الكلي أ
وبالإيجاب في البعض والسلب في البعض فهذه احتمالات ثلاثة لا
مزيد عليها
فإذا اختلف أهل العصر الأول على قولين من هذه الثلاثة فهل لمن
بعدهم أن يذكروا الثالث
الأكثرون منعوه
وأهل الظاهر جوزوه
127

والحق أن إحداث القول الثالث إما أن يلزم منه الخروج عما
أجمعوا عليه أو لا يلزم
فإن كان الأول لم يجز إحداث القول الثالث
مثاله الأمة اختلفت في الجد مع الأخ على قولين
منهم من جعل المال كله للحد
ومنهم من قال إنه يقاسم الأخ
فالقول الثالث وهو صرف المال كله إلى الأخ غير جائز لأن أهل العصر
الأول القائلين بالقولين الأولين اتفقوا على أن للجد قسطا من المال فالقول
بصرف المال كله إلى الأخ يبطل ذلك
128

وأما الثاني فإن إحداث القول الثالث فيه جائز لأن المحذور مخالفة
الإجماع أو القول بما يلزم منه مخالفته
فأما إذا لم يكن إحداث القول كذلك وجب جوازه
واحتج المانعون بأمرين
أحدهما
أن الأمة لما اختلفت على قولين فقد أوجب كل واحد من الفريقين
الأخذ إما بقوله أو بقول صاحبه وتجويز القول الثالث يبطل ذلك
فإن قلت إنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يظهر وجه ثالث فإذا ظهر
فقد زال شرط ذلك الإجماع
قلت لو جوزنا هذا الاحتمال لجوزنا أن يقال إنما أوجبوا التمسك
بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا يظهر وجه القول الثاني فإذا
ظهر فقد زال شرط ذلك الإجماع فيجوز الخلاف
وثانيهما
أن الذهاب إلى القول الثالث إنما يجوز لو أمكن كونه حقا ولا
يمكن كونه حقا إلا عند كون الأولين باطلين ضرورة أن الحق واحد
وحينئذ يلزم إجماع الأمة على الباطل
129

والجواب عن الأول
أن ايجاب الأخذ بأحد ذينك القولين مشروط بأن لا يظهر الثالث
قوله لو جاز ذلك لجاز مثله في القول الواحد
قلنا إنه جائز لكنهم منعوا من اعتباره فليس لنا أن نتحكم عليهم
بوجوب التسوية
وعن الثاني
أن هذا الإشكال غير وارد على القول بأن كل مجتهد مصيب فإنه
لا يلزم من حقية أحد الأقسام فساد الباقي
وأما على القول بأن المصيب واحد فلا يلزم من التمكن من إظهار
القول الثالث كونه حقا لأن المجتهد قد تمكن من العمل بالاجتهاد
الخطأ والله أعلم
المسألة الثانية
الأمة إذا لم تفصل بين مسألتين فهل لمن بعدهم أن يفصل بينهما
وأعلم أن هذا يقع على وجهين
أحدهما
أن يقولوا لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام أو في
130

الحكم الفلاني
والآخر
أن لا ينصوا على ذلك لكن ما كان فيهم من فرق بينهما
أما القسم الأول فإنه لا يجوز الفصل بينهما
ثم إنه على ثلاثة أقسام
أحدها
أن تحكم الأمة في المسألتين بحكم واحد إما ب التحليل
أو بالتحريم
وثانيها
أن يحكم بعض الأمة فيهما بالتحريم والبعض الآخر بالتحليل
وثالثها
ان لا ينقل إلينا عنهم حكم فيهما
ففي هذه الصورة الثالثة متى دل الدليل في إحدى المسألتين على
تحليل أو تحريم وجب أن يكون الحال في الأخرى كذلك
وأما القسم الثاني فقيل فيه إن علم أن طريقة الحكم في
المسألتين واحدة فذلك جار مجرى أن يقولوا لا فصل بينهما
فمن فصل بينهما فقد خالف ما اعتقدوه
131

مثاله من ورث العمة ورث الخالة ومن منع إحداهما منع الأخرى
وإنما جمعوا بينهما من حيث انتظمهما حكم ذوي الأرحام فهذا
مما لا يسوغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا بينهما إلا أن هذا الاجماع متأخر
عن سائر الإجماعات في القوة
وأما إن لم يكن كذلك فالحق جواز الفرق لمن بعدهم لأنه لا يكون
بذلك مخالفا لما أجمعوا عليه لا في حكم ولا في علة حكم
ولأنه لو امتنع الفرق لكان من وافق الشافعي رضي الله عنه في مسألة
لدليل وجب عليه أن يوافقه في كل المسائل
احتج المانعون من الفصل مطلقا بوجهين
132

الأول
أن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة في المسألتين وقال النصف
الآخر بالحل فيهما فقد اتفقوا على أنه لا فصل بين المسألتين فيكون
الفصل بينهما رد للإجماع
الثاني
أن الأمة إذا اختلفت على قولين في مسألتين فقد أوجبت كل واحدة من
الطائفتين على الأخرى أن تقول بقولها أو بقول الطائفة الأخرى وحظرت
ما سوى ذلك وذلك يمنع من الفرق بين المسألتين
والجواب عن الأول
إنكم إن عنيتم بقولكم اتفقوا على أنه لا فصل بينهما
أنهم نصوا على استوائهما في الحكم أو هما مستويان في علة
الحكم فليس كذلك لأن النزاع ليس ها هنا
وإن عنيتم به أن كل من قال بأحدى المسألتين فقد قال أيضا
بالأخرى فلم قلتم إن ذلك يمنع من الفصل فإن هذا أول المسألة
وعن الثاني
أنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يفرق بعض المجتهدين بين
133

المسألتين فإن أدعوا أنه لا التفات إلى هذا الشرط فهذا عين المتازع
ولم فيه
ومن الناس من جوز الفصل مطلقا استدلالا بعمل ابن سيرين في
زوج وأبوين أن للام ثلث ما يبقى
وقال في امرأة وأبوين للام ثلث المال فقال في إحداهما بقول ابن
عباس وفي الأخرى بقول عامة الصحابة
والثوري قال الجماع ناسيا يفطر والأكل ناسيا لا يفطر وفرق بين
المسألتين مع أنه جمعتهما طريقة واحدة والله أعلم
134

المسألة الثالثة
يجوز حصول الاتفاق بعد الخلاف
وقال الصيرفي لا يجوز
لنا
إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر رضي الله عنه بعد اختلافهم
فيها
135

واتفاق التابعين على المنع من بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة
فيه
احتج الخصم بأن أهل العصر الأول اتفقوا على جواز الأخذ بأي
136

القولين كان إذا أدى الاجتهاد إليه فلو أجمعوا على أحد القولين وجب
أن يكون الإجماعان صوابا ويكون المتأخر ناسخا للمتقدم لكن ذلك
باطل على ما مر في باب النسخ
ولأنه لو جاز ذلك لجاز أن يتفق أهل عصر على قول ويتفق أهل
عصر ثان على خلافه
والجواب
أن الإجماع على الأخذ بأي القولين شاء مشروط بعدم الاتفاق فإذا
حصل الاتفاق زال شرط الإجماع فزال لزوال شرطه
قوله لو جاز ذلك لجاز مثله عند الاتفاق
قلنا مر الجواب عنه في المسألة الأولى والله أعلم
137

المسألة الرابعة
إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كان ذلك
اجماعا لا تجوز مخالفته خلافا لكثير من المتكلمين وكثير من فقهاء
الشافعية والحنفية
لنا
أن ما أجمع عليه أهل العصر الثاني سبيل المؤمنين فيجب اتباعه لقوله
عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين
ولأنه إجماع حدث بعد ما لم يكن فيكون حجة كما إذا حدث بعد تردد
138

أهل الإجماع فيه حال التفكر
واعلم أن هذا المقيس عليه ينقض على المخالف أكثر أدلته
احتجوا بأمور
أحدها
قوله عز وجل فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
أوجب الرد إلى كتاب الله تعالى عند التنازع وهو حاصل لأن حصول
الاتفاق في الحال لا ينافي ما تقدم من الاختلاف فوجب فيه الرد إلى
كتاب الله تعالى
وثانيها
قوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ظاهره
يقتضي جواز الأخذ بقول كل واحد من الصحابة ولم يفصل بين ما يكون
بعده إجماع أو لا يكون
وثالثها
أن في ضمن اختلاف أهل العصر الأول الاتفاق على جواز
الأخذ بأيهما أريد فلو انعقد إجماع في العصر الثاني لتدافع الإجماعان
139

ورابعها
لو كان قولهم إذا اتفقوا بعد الاختلاف حجة لكان قول إحدى الطائفتين
إذا ماتت الأخرى حجة
وفيه كون قولهم حجة بالموت
وخامسها
لو كان اتفاق أهل العصر الثاني حجة لكانوا قد صاروا إليه لدليل
وذلك باطل لأنه لو وجد ذلك الدليل لما خفى على أهل العصر الأول
وسادسها
أن أهل العصر الثاني بعض الأمة فلا يكون اتفاقهم بين وحدهم إجماعا
وسابعها
أنه قد ثبت أن أهل العصر الأول إذا اختلفوا على قولين لم يجز لمن
بعدهم إحداث قول ثالث وأهل العصر الأول لما اختلفوا لم يكن
القطع بذلك الحكم قولا لواحد منهم فيكون القطع بذلك إحداثا لقول
ثالث وإنه غير جائز
وثامنها
أن الصحابة في الحادثة التي اختلفوا فيها كالأحياء ألا ترى أنه تحفظ
في ذلك أقوالهم ويحتج لها وعليها وإذا لم ينعقد الإجماع مع تلك
الأقوال حال حياة القائلين بها وجب أيضا أن لا ينعقد حال وفاتهم
140

وتاسعها
أن هذا الإجماع لو كان حجة لوجب ترك القول الآخر ولكان إذا حكم
به حاكم ثم انعقد الإجماع على خلافه وجب نقضه لكونه واقعا على
مضادة دليل قاطع لكن ذلك باطل لأن أهل العصر الأول اتفقوا على نفوذ
هذا القضاء فنقضه يكون على خلاف الإجماع
الجواب عن الأول
أن التعلق بالإجماع رد إلى الله والرسول
ولأن أهل العصر الثاني إذا اتفقوا فهم ليسوا بمتنازعين أهل فلم يجب
عليهم الرد إلى كتاب الله لأن المعلق بالشرط عدم عند عدم
شرطه
وعن الثاني
أنه مخصوص بتوقف الصحابة في الحكم حال الاستدلال مع أنه لا
يجوز الاقتداء به في ذلك بعد انعقاد الإجماع فوجب تخصيص محل
النزاع عنه والجامع ما تقدم
وعن الثالث
ما مر غير مرة أن ذلك الإجماع مشروط
141

ثم إنه منقوض باتفاقهم حال الاستدلال على التوقف وتجويز
الأخذ بأي قول ساق الدليل إليه
ولأنكم إذا جوزتم أن لا يكون اتفاق أهل العصر الثاني حجة
فلم لا يجوز أن لا يكون اتفاق أهل العصر الأول حجة إذ ليس أحد
الاتفاقين حديث أولى من الآخر
وإذا لم يكن الاتفاق الأول حجة لم يلزم من حصول الاتفاق الثاني ما
ذكرتموه من المحذور فثبت أن هذه الحجة متناقضة
وعن الرابع
أنا نتبين بموت إحدى الطائفتين أن قول الطائفة الأخرى حجة لاندراج
قولهم تحت أدلة الإجماع لا ان الموت نفسه هو الحجة
وعن الخامس
أنه لا يجوز أن يخفى ذلك الدليل على كلهم لكن يجوز خفاؤه عند على
بعضهم
عن السادس
أنه لو كان أهل العصر الثاني بعض الأمة لوجب أن لا يكون اتفاقهم
142

الذي لا يكون مسبوقا بالخلاف حجة وهذا يقتضي أن لا يكون الحجة إجماع
الصحابة فقط بل إجماع الذين كانوا موجودين عند ظهور أدلة الإجماع
وهذا القائل لا يقول بهذه المذاهب
وعن السابع
أنه لا يجوز إحداث قول ثالث إذا كان الإجماع منعقدا على عدم
جوازه مطلقا
أما إذا كان مشروطا بشرط جاز ذلك عند عدم ذلك الشرط
كما ذكرنا أنهم حال الاستدلال مطبقون على جواز التوقف وعدم
القطع مع أن ذلك لا ينافي اتفاقهم على القطع بعده
وعن الثامن
قوله أقوال الصحابة باقية بعد وفاتهم إن عنى بذلك كونها مانعة
من انعقاد الإجماع فهذا عين النزاع
وإن عنى به علمنا بأنهم ذكروا هذه الأقوال فلم قلت إن ذلك ينفي
انعقاد الإجماع
وان عنيتم ثالثا فبينوه
143

وعن التاسع
أنا لا ننقض ذلك الحكم لأنه صار مقطوعا به في زمان عدم هذا
الإجماع ونحن إنما ننقض الحكم الذي حكم به القاضي إذا وقع ذلك
الحكم في زمان قيام الدلالة القاطعة على فساده والله أعلم
المسألة الخامسة
أهل العصر إذا انقسموا إلى قسمين ثم مات أحد القسمين صار قول
الباقين إجماعا لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك القسم وحده تحت
أدلة الإجماع
وكذا القول إذا انقسموا إلى قسمين ثم كفر أحدهما فإنه يصير القول
144

الثاني حجة والله أعلم
المسألة السادسة
أهل العصر إذا اختلفوا على قولين ثم رجعوا إلى أحد ذينك القولين هل
يكون ذلك إجماعا
أما من قال بانعقاد الإجماع في المسألتين السابقتين فقوله به ها هنا
أولى ونثبت هذه الأولوية من وجهين
أحدهما
أن في المسألتين السابقتين لقائل أن يقول المجمعون ليسوا كل
الأمة فلا يكون اتفاقهم قولا لكل الأمة فلا يكون حجة
وأما ها هنا فهذه الشبهة زائلة لأن الذين اتفقوا هم بعينهم الذين
اختلفوا فكان المجمعون كل الأمة
وثانيهما
أن في المسألتين السابقتين ما صار القول الثاني مرجوعا عنه أصلا
145

وها هنا صار كذلك
وأما المنكرون لانعقاد الإجماع هناك فقد اختلفوا ها هنا
فأما من اعتبر انقراض العصر فإنه جوز ذلك قال لأن
الانقراض لما كان شرطا في الإجماع وهم لم ينقرضوا على ذلك
الخلاف فلم يحصل الإجماع على جواز الخلاف فلم يكن الاتفاق
حاصلا بعد الإجماع على جواز الخلاف
وأما من لم يعتبر الانقراض فقد اختلفوا
فمنهم من أحال وقوعه
ومنهم من جوزه وزعم أنه لا يكون حجة
ومنهم من جعله إجماعا يحرم خلافه وهو المختار
لنا
ما تقدم من أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في الإمامة ثم
اتفقوا بعد ذلك عليها
وإذا ثبت وقوعه وجب أن يكون حجة لقوله عز وجل ويتبع غير
سبيل المؤمنين والشبه التي يذكرونها ها هنا هي التي مرت
والله أعلم
146

المسألة السابعة
انقراض العصر غير معتبر عندنا في الإجماع خلافا لبعض
الفقهاء والمتكلمين منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك
لنا
قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وصفهم بالخيرية
وإجماعهم لا على الصواب يقدح في وصفهم بالخيرية
وأيضا
فقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على الخطأ ينافي إجماعهم على
الخطأ ولو في لحظة واحدة
ومما تمسكوا به في المسألة أنا لو اعتبرنا الانقراض لم ينعقد إجماع
لأنه قد حدث من التابعين في زمن الصحابة قوم من أهل الاجتهاد
فيجوز لهم مخالفة الصحابة لأن العصر لم ينقرض
ثم الكلام في هذا العصر كالكلام في العصر الأول فوجب أن لا
يستقر إجماع أبدا
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المعتبر انقراض عصر من كان مجتهدا
147

عند حدوث الحادثة لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اعتبار عصر
التابعين إذا حدث فيهم مجتهد بعد حدوث الحادثة
قلت بتقدير أن يحدث في التابعين واحد من أهل الاجتهاد قبل
انقراض عصر من كان مجتهدا عند حدوث الحادثة من الصحابة ففي ذلك
الوقت إجماع الصحابة غير منعقد فوجب أن يجوز للتابعي مخالفتهم
وكذلك يحدث في تابعي التابعين قبل انقراض عصر من كان مجتهدا من
التابعين وهلم جرا إلى زماننا فيلزم أن لا ينعقد الإجماع على ذلك التقدير
ثم إنا نجوز هذا الاحتمال في كل الإجماعات ولا نعلم عدمه
فوجب أن لا ينعقد شئ من الإجماعات
واحتج المخالف بأمور
أحدها
أن عليا رضي الله عنه سئل عن بيع أمهات الأولاد فقال قد كان
148

رأيي ورأي عمر أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له عبيدة السلماني
رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك فدل قول عبيدة عن أن
الإجماع كان حاصلا مع أن عليا رضي الله عنه خالفه
وثانيها
أن الصديق كان يرى التسوية في القسم ولم يخالفه أحد في زمانه
ثم خالفه عمر بعد ذلك
149

وثالثها
أن الناس ما داموا في الحياة يكونون في التفحص والتأمل فلا يستقر
الاجماع
ورابعها
قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس ومذهبكم! يقتضي أن
يكونوا شهداء على أنفسهم أيضا
وخامسها
أن قول المجمعين لا يزيد على قول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كانت وفاة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم شرطا في استقرار الحجة من قوله فلأن يعتبر ذلك في قول
أهل الاجماع أولى
والجواب عن الأول
أن قول السلماني رأيك في الجماعة دل على أن المنع من
بيعهن كان رأي جماعة ولم يدل على أنه كان رأي كل الأمة وإنما أراد
أن ينضم قول علي إلى قول عمر رضي الله عنهما لأنه رجح قول الأكثر على
قول الأقل
وعن الثاني
أنا لا نسلم انعقاد الإجماع على فعل أبي بكر رضي الله عنه بل نقل
150

أن عمر رضي الله عنه نازعه فيه
وعن الثالث
أنهم إن أرادوا بنفي الاستقرار أنه لا يحصل الاتفاق فهو باطل لأن
كلامنا في أنه لو حصل لكان حجة
وإن أرادوا به أنه بعد حصوله لا يكون حجة فهو عين النزاع
وعن الرابع
أن كونهم شهداء على الناس لا ينافي شهادتهم على أنفسهم
وعن الخامس
أنه جمع بين الموضعين من غير دليل وبالله التوفيق
المسألة الثامنة
اختلفوا في أنا لو جوزنا انعقاد الإجماع عن السكوت فهل يعتبر
فيه الانقراض
ذهب كثير ممن لم يعتبر الانقراض في الإجماع القولي إلى اعتباره
ها هنا لأن سكوته يمكن أن يكون للتفكر في حكم تلك الحادثة
فأما إذا مات عليه علمنا حينئذ أن سكوته كان رضى
وهذا ضعيف لأن السكوت إن دل على الرضا وجب أن يحصل ذلك
قبل الموت
وإن لم يدل عليه لم يحصل ذلك أيضا بالموت لاحتمال أنه مات
على ما كان عليه قبل الموت والله أعلم
151

المسألة التاسعة
الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة خلافا لأكثر الناس
لنا
أن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر
المظنون
ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز
بمعلومه قياسا على السنة
ولأنا بينا أن أصل الإجماع قاعدة ظنية فكيف القول في تفاصيله
152

القسم الثالث
فيما ادخل في الاجماع وليس منه
المسألة الأولى
إذا قال بعض أهل العصر قولا وكان الباقون حاضرين لكنهم سكتوا
وما أنكروه
فمذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الحق أنه ليس بإجماع ولا
حجة
وقال الجبائي إنه إجماع وحجة بعد انقراض العصر
وقال أبو هاشم ليس بإجماع ولكنه حجة
وقال أبو علي بن أبي هريرة إن كان هذا القول من حاكم لم يكن إجماعا
ولا حجة وإن لم يكن من حاكم كان إجماعا وحجة
لنا
أن السكوت يحتمل وجوها أخر سوى الرضى وهي ثمانية
أحدها
أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول وقد تظهر عليه قرائن
السخط
153

وثانيها
ربما رآه قولا سائغا أدى اجتهاده إليه وإن لم يكن موافقا عليه
وثالثها
أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الإنكار فرضا أصلا
ورابعها
ربما أراد الإنكار ولكنه ينتهز فرصة التمكن منه ولا يرى المبادرة
إليه مصلحة
وخامسها
أنه لو أنكر لم يلتفت إليه ولحقه بسبب ذلك ذل كما قال ابن عباس
في سكوته عن العول هبته وكان والله مهيبا
154

وسادسها
ربما كان في مهلة النظر
وسابعها
ربما سكت لظنه أن غيره يقوم مقامه في ذلك الإنكار وإن كان قد غلط
فيه
وثامنها
ربما رأى ذلك الخطأ من الصغائر فلم ينكره
وإذا احتمل السكوت هذه الجهات كما احتمل الرضى علمنا أنه لا
يدل على الرضا لا قطعا ولا ظاهرا وهذا معنى قول الشافعي رحمه الله
لا ينسب إلى ساكت قول
واحتج الجبائي
بأن العادة جارية بأن الناس إذا تفكروا في مسألة زمانا طويلا
156

واعتقدوا خلاف ما انتشر من القول أظهروه إذا لم تكن هناك تقية
ولو كانت هناك تقية لظهرت واشتهرت فيما بين الناس فلما لم يظهر
سبب التقية ولم يظهر الخلاف علمنا حصول الموافقة
وجوابه
ما بينا أن وراء الرضى احتمالات أخرى
واحتج أبو هاشم
بأن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا
لم يعرف له مخالف
وجوابه
أن ذلك ممنوع
واحتج أبو علي بن أبي هريرة
بأن هذا القول إن كان من حاكم لم يدل سكوت الباقين على
الإجماع لأن الواحد منا قد يحضر مجالس الحكام فيجدهم يحكمون
بخلاف مذهبه وما يعتقده ثم لا ينكر عليهم
وإن كان من غير الحاكم كان إجماعا
وهو ضعيف لأن عدم الإنكار إنما يكون بعد استقرار المذهب
وأما حال الطلب فالخصم لا يسلم جواز السكوت إلا عن الرضى سواء كان
157

مع الحاكم أو مع غيره والله أعلم
158

المسألة الثانية
اختلفوا فيما إذا قال بعض الصحابة قولا ولم يعرف له مخالف
والحق أن هذا القول إما أن يكون مما تعم به البلوي أولا يكون
فإن كان الأول ولم ينتشر ذلك القول فيهم فلا بد وأن يكون لهم
في تلك المسألة قول إما موافق أو مخالف ولكنه لم يظهر ف‍
يجرى ذلك مجرى قول البعض بحضرة الباقين وسكوت الباقين عنه
وإن كان الثاني لم يكن إجماعا ولا حجة لاحتمال ذهول البعض
عنه
وبهذا التقدير لا يكون للذاهلين فيه قول فلا يكون الإجماع حاصلا
المسألة الثالثة
إذا استدل أهل العصر بدليل أو ذكروا تأويلا ثم استدل أهل العصر
الثاني بدليل آخر أو ذكروا تأويلا آخر فقد اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال
التأويل القديم لأنه لو كان ذلك باطلا وكانوا ذاهلين عن التأويل الجديد
الذي هو الحق لكانوا مطبقين على الخطأ وهو غير جائز
159

وأما التأويل الجديد فإن لزم من ثبوته القدح في التأويل القديم لم
يصح كما إذا اتفقوا على تفسير اللفظ المشترك بأحد معنييه ثم جاء من
بعدهم وفسره بمعناه الثاني لم يجز ذلك لأنا قد دللنا على أن اللفظ
الواحد لا يجوز استعماله لإفادة معنييه جميعا فصحة هذا التأويل الجديد
تقتضي فساد القديم وإنه غير جائز
أو يقال إنه تعالى تكلم بتلك اللفظة مرتين وهو باطل لانعقاد
الإجماع على ضده
وإما إذا لم يلزم من صحة التأويل الجديد فساد التأويل
القديم جاز ذلك
والدليل عليه أن الناس يستخرجون في كل عصر أدلة وتأويلات جديدة
ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعا
وللمانع أن يحتج بأمور
أولها
أن الدليل الجديد مغاير لسبيل المؤمنين فوجب أن يكون محظورا
لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين
وثانيها
أن قوله تعالى كنتم خير أمة خطاب مشافهة فلا يتناول إلا
أهل العصر الأول
160

ثم قوله تأمرون بالمعروف يقتضي كونهم آمرين بكل معروف
فكل ما لم يأمروا به ولم يذكروه وجب أن لا يكون معروفا فكان منكرا
وثالثها
أن الدليل الثاني والتأويل الثاني لو كان صحيحا لما جاز
ذهول الصحابة مع تقدمهم في العلم عنه
والجواب عن الأول
أن قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين خرج مخرج الذم فيختص بمن
اتبع ما نفاه المؤمنون لأن ما لم يتكلم فيه المؤمنون بنفي ولا بإثبات لا يقال
فيه إنه اتباع لغير سبيل المؤمنين
وأيضا
فالحكم بفساد ذلك الدليل ما كان سبيلا للمؤمنين فوجب كونه باطلا
وعن الثاني
أن قوله وتنهون عن المنكر يقتضي نهيهم عن كل المنكرات فكل
ما لم ينهوا عنه وجب أن لا يكون منكرا لكنهم ما نهوا عن هذا الدليل
الجديد فوجب أن لا يكون منكرا
وعن الثالث
أنه لا استبعاد في أنهم اكتفوا بالدليل الواحد والتأويل الواحد وتركوا
161

طلب الزيادة والله أعلم
المسألة الرابعة
قال مالك اجماع أهل المدينة وحدها حجة
وقال الباقون ليس كذلك
حجة مالك
قوله صلى الله عليه وسلم إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد
والخطأ خبث فكان منفيا عنهم
فإن قيل وجد في الخبر ما يقتضي كونه مردودا لأن ظاهره أن كل
162

من خرج عنها فإنه من الخبث الذي تنفيه المدينة وذلك باطل لأنه قد
خرج منها الطيبون كعلي وعبد الله رضي الله عنهما بل ذكروا ثلاثمائة ونيفا
من الصحابة الذين انتقلوا إلى العراق وهم أمثل من الذين بقوا فيها كأبي
هريرة وأمثاله
سلمنا سلامته عن هذا الطعن لكنه من أخبار الآحاد فلا يجوز التمسك
به في مسألة علمية
سلمنا صحة متنه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك محمولا على من خرج
منها لكراهية المقام بها مع أن في المقام بها بركة عظيمة بسبب
جوار الرسول وجوار مسجده صلى الله عليه وآله وسلم ومع ما ورد من الثناء الكثير على
المقيمين بها لأن الكاره للمقام بها مع هذه الأحوال لا بد وأن يكون
ضعيف الدين ومن كان كذلك فهو خبث
163

سلمنا أن المراد كونها نافية للقول الباطل لكن قوله لتنفي خبثها
ليس فيه صيغة عموم
سلمناه لكن لم لا يجوز تخصيص هذا القول بزمانه ويكون المراد
بالخبث الكفار
ثم إنه معارض بأمور ثلاثة
الأول
أن الذي دل على كون الإجماع حجة وارد بلفظين لفظ المؤمنين في
آية المشاقة ولفظ الأمة في غيرها وهاتان اللفظتان غير مخصوصتين
ببلدة دون بلدة فوجب اعتبار الكل
الثاني
أن الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة
الثالث
أن القول به يودي إلى المحال لأن من كان ساكن المدينة كان قوله
حجة فإذا خرج منها لا يكون قوله حجة ومن كان قوله حجة في مكان كان قوله حجة في
كل مكان كالرسول صلى الله عليه وسلم
والجواب
قوله يقتضي أن كل من خرج من المدينة فهو خبث
164

قلنا لا نسلم لأن الخبر يقتضي أن كل ما كان خبثا فإن المدينة
تخرجه وهذا لا يقتضي أن كل ما تخرجه المدينة فهو خبث
قوله إنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في العلميات
قلنا لا نسلم أن هذه المسألة علمية بل لما ثبت بهذا الخبر ظن أن
إجماع أهل المدينة حجة والعمل بالظن واجب وجب العمل به
قوله نحمله على من كره المقام بالمدينة
قلنا تقييد المطلق خلاف الأصل ولو جاز ذلك لجاز في قوله ويتبع
غير سبيل المؤمنين
وفي قوله عليه الصلاة والسلام لا تجتمع أمتي على خطأ
حمله على بعض الصور ولما كان جواب الجمهور أن تخصيص العام
وتقييد المطلق خلاف الأصل وأنه لا يجوز القول به من غير ضرورة
فكذا ها هنا
قوله ليس في قوله لتنفى خبثها صيغة عموم
قلنا لا نسلم فإن الحقيقة لا تنتفي إلا عند انتفاء جميع أفرادها فلولا
انتفاء جميع أفراد الخبث عن المدينة وإلا لما صح القول بأنها تنفى
الخبث
قوله لم لا يجوز تخصيصه بزمانه
165

قلنا لأن التخصيص خلاف الأصل
قوله الأدلة على أن الإجماع حجة غير مختصة بقوم دون قوم
قلنا تلك الأدلة لا تقتضي أن إجماع أهل المدينة حجة ولكنها لا
تبطل ذلك فإذا أثبتناه بدليل منفصل لم يلزمنا محذور
قوله لا أثر للمكان
قلنا لا استبعاد في أن يخص الله تعالى أهل بلدة معينة بالعصمة
كما أنه لا استبعاد في أن يخص تعالى أهل زمان معين بالعصمة فإنه
تعالى خص أمتنا بالعصمة من بين سائر الأمم بلى العقل لا يدل على
ذلك وإنما الرجوع فيه إلى السمع
قوله من كان قوله حجة في مكان كان حجة في كل مكان كالنبي
صلى الله عليه وسلم
قلنا هذا قياس طردي في مقابلة النص فكان باطلا والله أعلم
فهذا تقرير قول مالك رحمه الله وليس بمستبعد كما اعتقد هو و
جمهور أهل الأصول والله أعلم
166

المسألة الخامسة
إجماع العترة وحدها ليس بحجة خلافا للزيدية والإمامية
169

لنا
أن عليا رضي الله عنه خالفه الصحابة في كثير من المسائل ولم
يقل لأحد ممن خالفه إن قولي حجة فلا تخالفني
احتجوا بالآية والخبر والمعنى
أما الآية فقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا والخطأ رجس فيجب أن يكونوا مطهرين عنه
وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام إني تارك فيكم ما إن
تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي
170

وأما المعنى فإن أهل البيت مهبط الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم منهم
وفيهم فالخطأ عليهم أبعد
والجواب عن الأول
أن ظاهر الآية في أزواجه صلى الله عليه وسلم لأن ما قبلها وما بعدها خطاب
معهن لأنه تعالى قال وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية
الأولى ويجرى هذا المجرى قول الواحد لابنه تعلم وأطعني إنما
أريد لك الخير
ومعلوم أن هذا القول لا يتناول إلا ابنه فكذا هاهنا
فإن قلت هذا باطل من وجوه
أحدها
أنه لو أرادهن لقال إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس
وثانيها
أن أهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم لأنه
171

لما نزلت هذه الآية لف الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم كساء وقال هو أهل
بيتي
وثالثها
أن كلمة إنما للحصر فهي تدل على أنه تعالى ما أراد أن يزيل
الرجس عن أحد ألا عن أهل البيت وهذا غير جائز لأنه تعالى أراد زوال
الرجس عن الكل وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على زوال
بعض الرجس عنهم لأن ذكر السبب لإرادة المسبب جائز وزوال
الرجس هو العصمة
فإذن هذه الآية تدل على عصمة أهل البيت وكل من قال ذلك زعم
أن المراد به علي وفاطمة والحسن والحسين لا غير فلو حملناه على غيرهم
كان ذلك قولا ثالثا
172

قلت الجواب عن الأول
أن التذكير لا يمنع من إرادتهن بالخطاب وإنما يمنع من القصر عليهن
وعن الثاني
أنه معارض بما يروى عن أم سلمة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست
من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله
ولأن لفظ أهل البيت حقيقة فيهن لغة فكان تخصيصه ببعض الناس
خلاف الأصل
وعن الثالث
لا نسلم دلالة الآية على زوال كل رجس لأن المفرد المعرف لا يفيد
العموم
والجواب عن التمسك بالخبر
أنه من باب الآحاد وعند الإمامية لا يجوز العمل به فضلا عن العلم
فإن قلت بل هو صيح! قطعا لأن الأمة اتفقت على قبوله بعضهم
للاستدلال به على أن إجماع العترة حجة وبعضهم للاستدلال به
على فضيلتهم
قلت قد تقدم أن هذا لا يفيد القطع بالصحة
سلمنا صحة الخبر لكنه يقتضي وجوب التمسك بالكتاب والعترة
وذلك مسلم فلم قلتم إن قول العترة وحدها حجة
173

(و) الجواب عن التمسك بالمعنى
انه باطل بزوجاته صلى الله عليه وسلم فإنهن شاهدن أكثر أحواله مع أن قولهن ليس
وحده بحجة
المسألة السادسة
إجماع الأئمة الأربعة وحدهم ليس بحجة
وحكى أبو بكر الرازي أن أبا حازم القاضي كان يقول إجماع الخلفاء
الأربعة حجة ولهذا لم يعتد بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي
الأرحام وحكم برد أموال حصلت في بيت مال المعتضد إلى ذوي
الأرحام وقبل المعتضد فتياه وأنفذ قضاءه وكتب به إلى الآفاق
174

ومن الناس من جعل إجماع الشيخين حجة
واحتج أبو حازم بقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجد
واحتج الباقون بقوله عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي
بكر وعمر ولما لم يكن الاقتداء بهما حال اختلافهما وجب ذلك حال
اتفاقهما
175

والجواب
أنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم لأنه اهتديتم مع
أن قول كل واحد من الصحابة وحده ليس بحجة
176

المسألة السابعة
إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة
خلافا لبعضم
لنا
لو كان قول التابعي باطلا لما جاز رجوع الصحابة إليه لكنهم قد
رجعوا إليه
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن فريضة فقال سلوها
سعيد بن جبير فإنه أعلم به
وعن أنس رضي الله عنه ربما سئل عن شئ فقال سلوا مولانا
الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا
وسئل ابن عباس عن النذر بذبح الولد فأشار إلى مسروق فأتاه
177

السائل بجوابه فتابعه عليه وفي أمثال هذه الروايات كثرة
واحتج المخالف بالآية والخبر والأثر
أما الآية فقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت
الشجرة ولن يرضى عنهم إلا إذا كانوا غير مقدمين على فعل شئ
من المحظورات ومتى كذلك كان قولهم حجة
أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام لو أنفق غيرهم ملأ الأرض ذهبا
ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وذلك يدل على أن التابعي إذا خالف
178

فالحق ليس مع التابعي بل معهم
وأما الأثر فهو أن عائشة رضي الله عنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد
الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل
وقالت فروج يصيح مع الديكة
179

والجواب عن الأول
أن الآية مختصة بأهل بيعة الرضوان وبالاتفاق لا اختصاص لهم
بالإجماع
وعن الخبر
أنه يلزم منه أن الصحابي الواحد إذا قال نقيض قول التابعي أن نقطع
بأن الحق قول الصحابي
وعن الأثر
أن إنكارها على أبي سلمة لعله كان لأنه خالف بعد الإجماع أو في مسألة
قطعية أو لأنه خالف قبل أن كان أهلا للاجتهاد أو لأنه أساء الأدب في
المناظرة
ولأن قول عائشة رضي الله عنهما ليس بحجة
المسألة الثامنة
اختلفوا في انعقاد الإجماع مع مخالفة المخطئين من أهل القبلة في
مسائل الأصول
فإن لم نكفرهم اعتبرنا قولهم لأنهم إذا كانوا من المؤمنين ومن
الأمة كان قول من عداهم قول بعض المؤمنين فلا يكون حجة
وإن كفرناهم انعقد الإجماع بدونهم لكن لا يجوز التمسك بإجماعنا
عن كفرهم في تلك المسائل لأنه إنما ثبت خروجهم عن الإجماع بعد
ثبوت كفرهم في تلك المسائل فلو أثبتنا كفرهم فيها بإجماعنا
وحدنا لزم الدور
180

واعلم أن قول العصاة من أهل القبلة معتبر في الإجماع لأن
من مذهبنا أن المعصية لا تزيل اسم الإيمان فيكون قول من عداهم قول
بعض المؤمنين فلا يكون حجة
المسألة التاسعة
الإجماع لا يتم مع مخالفة الواحد والاثنين خلافا لأبي الحسين الخياط
من المعتزلة ومحمد بن جرير الطبري وأبي بكر الرازي
لنا
أن جمع الصحابة أجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة وخالفهم فيه
أبو بكر رضي الله عنه وحده فيه ولم يقل أحد إن خلافه غير معتد به بل
لما ناظروه رجعوا إلى قوله
وكذلك ابن عباس وابن مسعود خالفا كل الصحابة في المسائل
181

الفرائض وخلافهما باق إلى الآن
واحتج المخالف بأمور
أحدها
أن لفظي المؤمنين والأمة يتناولهم مع خروج الواحد والاثنين
منهم كما يقال في البقرة إنها سوداء وإن كانت فيها شعرات بيض
وكما يقال للزنجي إنه أسود مع بياض حدقته وأسنانه
وثانيها
قوله عليه الصلاة والسلام عليكم بالسواد الأعظم
وقوله الشيطان مع الواحد وهذا يقتضي أن الواحد المنفرد بقوله
مخطئ
وثالثها
أن الإجماع حجة على المخالف فلو لم يكن في العصر مخالف لم
يتحقق هذا المعنى
ورابعها
أن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافة للباقين في الصرف
182

وخامسها
أن المسلمين اعتمدوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على الإجماع
مع مخالفة سعد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
وسادسها
أن في رواية الأخبار يحصل الترجيح بكثرة العدد فكذا في أقوال
المجتهدين
وسابعها
أن تفاق الجمع على الكذب ممتنع عادة واتفاق الجمع القليل على
ذلك غير ممتنع فإذا اتفقت الأمة على الحكم الواحد إلا الواحد منهم
أو الاثنين كان ذلك الجمع العظيم قد أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين
وذلك لا يحتمل الكذب
وأما الواحد والاثنان لما أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين فذلك
يحتمل الكذب
وإذا كان كذلك كان ما اتفق عليه الكل سوى الواحد والاثنين هو
سبيل المؤمنين قطعا فوجب أن يكون حجة
وثامنها
لو اعتبرنا مخالفة الواحد والاثنين لم ينعقد الإجماع قطعا لأنه لا
183

يمكننا أن ندعي في شئ من الإجماعات أنه ليس هناك واحد أو اثنان
يخالفون فيه
والجواب عن الأول
أن ألفاظ العموم لا تتناول الأكثر على سبيل الحقيقة في اللغة لأنه
يجوز أن يقال لما عدا الواحد من الأمة ليسوا كل الأمة ويصح استثناؤه
أخبرنا عنهم
وعن الثاني
أن السواد الأعظم كل الأمة لأن من عدا الكل فالكل أعظم منه ولولا
ما ذكرناه لدخل تحته النصف من الأمة إذا زاد على النصف الآخر
بواحد
وأما قوله عليه الصلاة والسلام الشيطان مع الواحد فذلك لا يقتضي
أن يكون مع كل واحد وإلا لم يكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وحده حجة
وعن الثالث
أنه حجة على المخالف الذي يوجد بعد ذلك ولو كان الأمر كما
ذكرتم لوجب في كل إجماع أن يكون فيه مخالف شاذ
184

وعن الرابع
أن الصحابة ما أنكروا على ابن عباس مخالفته للإجماع بل
مخالفته خبر أبي سعيد رضي الله عنهما
وعن الخامس
أن الإمامة لا يعتبر في انعقادها حصول الإجماع بل البيعة كافية
وعن السادس
لم قلتم إن الحال في الإجماع كالحال في الرواية فلو كان كذلك
لحصل الإجماع بقول الواحد والاثنين كالرواية
وعن السابع
أنا وإن عرفنا في ذلك الجمع كونهم مؤمنين لكنا لا ندري أنهم كل
المؤمنين فلا جرم لم يجب علينا أن نحكم بقولهم
وعن الثامن
أنا إنما نتمسك بالإجماع حيث يمكننا العلم بذلك كما في
زمان الصحابة رضي الله عنهم
المسألة العاشرة
الإجماع إذا لم يحصل فيه قول من كان متمكنا من الاجتهاد وإن لم يكن
مشهورا له لم يكن حجة لأن قول من عداه قول بعض المؤمنين فلا
يندرج تحت أدلة الإجماع والله أعلم
185

القسم الرابع
فيما يصدر عنه الإجماع
المسألة الأولى
لا يجوز حصول الإجماع إلا عن دلالة أو أمارة
وقال قوم يجوز صدوره عن التبخيت
187

لنا
أن القول في الدين بغير دلالة أو أمارة خطأ فلو اتفقوا عليه
لكانوا مجمعين على الخطأ وذلك يقدح في الإجماع
احتج المخالف بأمرين
الأول
أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة ولا
يبقى في الإجماع فائدة
الثاني
أن الإجماع لا عن الدلالة ولا عن الأمارة قد وقع كإجماعهم
على بيع المراضاة وأجرة الحمام
188

والجواب عن الأول
أن ذلك يقتضي أن لا يصدر الإجماع عن دلالة ولا عن أمارة ألبتة
وأنتم لا تقولون به
ولأن فائدة الإجماع أنه يكشف عن وجود دليل في المسألة
من غير حاجة إلى معرفة ذلك الدليل والبحث عن كيفية دلالته على
المدلول
وعن الثاني
أن الصور التي ذكرتموها غايتكم أن تقولوا لم ينقل إلينا فيها دليل ولا
أمارة ولا يمكنكم القطع بأنهما ما كانا موجودين فلعلها كانا موجودين
لكن تركوا نقلهما للاستغناء بالإجماع عنهما
المسألة الثانية
القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن طريق اتفقوا على جواز
وقوعه عن الدلالة
والحق عندنا جواز وقوعه عن الأمارة أيضا
وقال ابن جرير الطبري لو ذلك غير ممكن
189

ومنهم من سلم الإمكان ومنع الوقوع
ومنهم من قال الأمارة إن كانت جلية جاز وإلا فلا
لنا
أن ذلك قد وقع روي عن عمر رضي الله عنه أنه شاور الصحابة في
حد الشارب فقال علي رضي الله عنه إذا شرب سكر وإذا سكر
هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد
ثمانون
فإن قلت لعلهم أجمعوا على تبليغ الحد ثمانين لنص استغنوا
بالإجماع عن نقله
190

قلت هذا جائز لو لم ينصوا على فزعهم إلى الاجتهاد في هذه المسألة
وأيضا
أثبتوا إمامة أبي بكر رضي الله عنه بالقياس على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه
191

في الصلاة ثم أجمعوا عليها
واحتج المخالف بأمور
أحدها
أن الأمة على كثرتها واختلاف دواعيها لا يجوز أن تجمعها الأمارة مع
خفائها كما لا يجوز اتفاقهم في الساعة الواحدة على أكل الزبيب الأسود
والتكلم باللفظة الواحدة
وهذا بخلاف إجماعهم على مقتضى الدليل والشبهة لأن
الدلالة قوية والشبهة تجري مجرى الدلالة عند من صار إليها
وبخلاف اجتماع الخلق العظيم في الأعياد لأن الداعي إليه ظاهر
وثانيها
من الأمة من يعتقد بطلان الحكم بالأمارة وذلك يصرفه عن الحكم بها
وثالثها
أن ذلك يفضي إلى اجتماع أحكام متنافية لأن الحكم الصادر عن
الاجتهاد لا يفسق مخالفة وتجوز مخالفته ولا يقطع عليه ولا على تعلقه
بالأمارة والحكم المجمع عليه بالعكس في هذه الأمور فلو صدر ال‍
إجماع عن الاجتهاد لأجتمع النقيضان فيه
192

والجواب عن الأول
أنه منقوض باتفاق أصحاب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله على
قوليهما
وعن الثاني
أن الخلاف في صحة القياس حادث
ولأنه يجوز أن تشتبه الأمارة بالدلالة فيثبت الحكم بالأمارة على اعتقاد
أنه أثبته بالدلالة
ولأنه ينتقض بالعموم وخبر الواحد فإنه يجوز صدور الإجماع عنهما مع
وقوع الخلاف فيهما
وعن الثالث
أن تلك الأحكام المرتبة على الاجتهاد مشروطة بأن لا تصير المسألة
إجماعية فإذا صارت إجماعية فقد زال الشرط فتزول تلك الأحكام
والله أعلم
المسألة الثالثة
قال أبو عبد الله البصري الإجماع الموافق لمقتضى خبر يدل
على أن ذلك الإجماع لأجل ذلك الخبر
والحق أنه غير واجب لأن قيام الدلائل الكثيرة على المدلول الواحد
جائز فلعلهم أثبتوا مقتضى الخبر بدليل اخر سواه والله أعلم
193

القسم الخامس
في المجمعين
قبل الخوض في المسائل لا بد من مقدمة وهي
أن الخطأ جائز عقلا على هذه الأمة كجوازه على سائر الأمم لكن
الأدلة السمعية منعت منه
وهي واردة بلفظين
أحدها
لفظ المؤمنين في آية المشاقة
والآخر
لفظ الأمة في سائر الآيات والخبر
فأما لفظ المؤمنين فقد مر في باب العموم أنه للاستغراق
وأما لفظ الأمة فإنه يتناول كافة الأمة
فعلى هذا يجب أن يكون المعتبر قوق كل المؤمنين وقول كل الأمة فإن
خرج البعض فلا بد من دليل منفصل
195

وإن اكتفينا بالبعض لم يمكن إثباته بهذه الأدلة بل لا بد من دليل اخر
إلا أن هذه الأدلة كما لا تقتضي ذلك الحكم في البعض لا تمنع
من ثبوته في البعض لأن ما يدل على ثبوت حكم في الكل لا يمنع
من ثبوته في البعض ولا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء المدلول
المسألة الأولى
لا يعتبر في الإجماع اتفاق الأمة من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم
القيامة لأن الذي دل على الإجماع دل على وجوب الاستدلال به وذلك
الاستدلال إما أن يكون قبل يوم القيامة وهو محال على التقدير الذي
قالوه لجواز أن يحدث بعد ذلك قوم آخرون
أو بعده وهو باطل لأنه لا حاجة في ذلك الوقت إلى الاستدلال
المسألة الثانية
لا عبرة في الإجماع بقول الخارجين عن الملة لأن آية المشاقة دالة على
وجوب اتباع المؤمنين وسائر الأدلة دالة على وجوب اتباع الأمة
والمفهوم من الأمة في عرف شرعنا الذين قبلوا دين الرسول صلى الله عليه وسلم
المسألة الثالثة
لا عبرة بقول العوام خلافا للقاضي أبي بكر رحمه الله
196

لنا وجوه
أحدها
أن العالم إذا قال قولا وخالفه العامي فلا شك أن قول العامي حكم في
الدين بغير دلالة ولا اماره فيكون خطأ فلو كان قول العالم أيضا
خطأ لكانت الأمة بأسرها مخطئة في مسألة واحد وإن كان ذلك
الخطأ من وجهين ولكنه غير جائز
وثانيها
أن العصمة من الخطأ لا تتصور إلا في حق من تتصور في حقه
الإصابة والعامي لا يتصور في حقه ذلك لأن القول في الدين بغير طريق
غير صواب
وثالثها أن خواص الصحابة رضي الله عنهم وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة
بقول العوام في هذا الباب
ورابعها
أن العامي ليس من أهل الاجتهاد فلا عبرة بقوله كالصبي والمجنون
احتج المخالف
بأن أدلة الإجماع تقتضي متابعة الكل
والجواب
إيجاب متابعة الكل لا يقتضي أن لا يجب إلا متابعة الكل والأدلة
197

التي ذكرناها تقتضي وجوب متابعة العلماء فوجب القول به
المسألة الرابعة
المعتبر بالإجماع في كل فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن وإن
لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره
مثلا العبرة بالاجماع في مسائل الكلام بالمتكلمين وفي مسائل
الفقه بالمتمكنين يكون من الاجتهاد في مسائل الفقه فلا عبرة بالمتكلم في
الفقه ولا بالفقيه في الكلام بل من يتمكن من الاجتهاد في الفرائض
دون المناسك يعتبر وفاقه وخلافه في الفرائض دون المناسك
ولا عبرة أيضا بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن متمكنا
من الاجتهاد
والدليل على هذه المسائل أن هؤلاء كالعوام فيما لا يتمكنون من
الاجتهاد فيه فلا يكون بقولهم عبرة
أما الأصولي المتمكن من الاجتهاد إذا لم يكن حافظا للأحكام فالحق
أن خلافه معتبر خلافا لقوم
والدليل عليه أنه متمكن من الاجتهاد الذي هو الطريق إلى التمييز بين
الحق والباطل فوجب أن يكون قوله معتبرا قياسا على غيره
198

المسألة الخامسة
لا يعتبر في المجمعين بلوغهم إلى حد التواتر لأن الآيات والأخبار دالة
على عصمة الأمة والمؤمنين فلو بلغوا والعياذ بالله إلى الشخص الواحد
كان مندرجا تحت تلك الدلالة فكان قوله حجة
فأما من أثبت الإجماع بالعقل من حيث إن اتفاقهم يكشف عن وجود
الدليل فيعتبر فيه بلوغ المجمعين حد التواتر لكنه باطل عندنا
على ما مر
المسألة السادسة
إجماع غير الصحابة حجة خلافا لأهل الظاهر
لنا أن التابعين إذا اجمعوا كان قولهم سبيلا للمؤمنين فيجب
اتباعه بالآية
فإن قلت الآية إنما دلت على وجوب اتباع سبيل المؤمنين الذين كانوا
حاضرين عند نزول الآية لأنهم كانوا هم المؤمنين أما الذين سيوجدون
بعد ذلك فلا يصدق عليهم في ذلك الوقت أنهم مؤمنون
قلت فهذا يقتضي أنه لو مات من أولئك الحاضرين واحد أن لا ينعقد
199

الإجماع بعد ذلك لكن كثيرا منهم مات قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن
لم نقطع بذلك لكن لا يمكننا القطع ببقائهم بعد وفاته فيكون الشك فيه
شكا في انعقاد الإجماع
احتج المخالف بأمور
أحدها
أن أدلة الإجماع لا تتناول إلا الصحابة فلا يجوز القطع بأن إجماع
غيرهم حجة
بيان الأول أن قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا
وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس لا شك أنه خطاب مواجهة فلا
يتناول إلا الحاضرين
وأما قوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين فكذلك لأن من
سيوجد بعد ذلك لا يصدق عليه في الحال اسم المؤمنين فالآية لا
تتناول إلا من كان مؤمنا حال نزولها
وكذا القول في قوله صلى الله عليه وسلم أمتي لا تجتمع على خطأ
وإذا ثبت أن هذه الأدلة لا تتناول إلا الصحابة وثبت أنه لا طريق إلى
200

إثبات الإجماع إلا هذه الأدلة وجب أن لا يكون إجماع غير الصحابة
حجة
وثانيها
أن أهل العصر الثاني لو أجمعوا لكان إجماعهم إما أن يكون لقياس
أو لنص
والأول باطل لأن القياس ليس بحجة عند الكل فلا يجوز أن يكون
طريقا إلى صدور الإجماع من لكل فيبقى الثاني وهو أنهم إنما أجمعوا من
جهة النص والنص إنما وصل إليهم من الصحابة فكان إجماع الصحابة على
ذلك الحكم لأجل ذلك النص أولى فلما لم يوجد إجماعهم علمنا عدم
ذلك النص
وثالثها
أنه لا بد في الإجماع من اتفاق الكل والعلم باتفاق الكل لا يحصل
إلا عند مشاهدة الكل مع العلم بأنه ليس هناك أحد سواهم وذلك لا
يتأتى إلا في الجمع المحصور كما في زمان الصحابة
أما في سائر الأزمنة فمع كثرة المسلمين وتفرقهم في مشارق الأرض
ومغاربها يستحيل أن يعرف اتفاقهم على شئ من الأشياء
ورابعها
أن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها فأنه يجوز
الاجتهاد فيها فالمسألة التي لا تكون مجمعا عليها بين الصحابة تكون
201

محلا للاجتهاد بإجماع الصحابة فلو أجمع التابعون عليها لخرجت عن أن
تكون محلا للاجتهاد وذلك يفضي إلى تناقض الإجماعين
وخامسها
أن الصحابة إذا اختلفت على قولين ثم أجمع التابعون على أحدهما لا
يصير القول الثاني مهجورا كما تقدمت هذه المسألة
وإذا كان كذلك فنقول المسألة التي أجمع التابعون عليها يحتمل أن
يكون لواحد من الصحابة فيها قول يخالف قول التابعين مع أن ذلك القول
لم ينقل إلينا ومع هذا الاحتمال لا يثبت الإجماع
فإن قلت لو فتحنا هذا الباب لزم أن لا يبقى شئ من النصوص دليلا
على شئ من الأحكام لاحتمال طريان النسخ والتخصيص
قلت الفرق أن حصول إجماع التابعين مشروط بأن لا يكون لأحد من
الصحابة قول يخالف قولهم فالشك فيه شك في شرط يتوقف ثبوت
الإجماع عليه فيكون ذلك شكا في حدوث الإجماع والأصل بقاؤه على
العدم
وأما في مسألة الإلزام ف اللفظ بظاهره يقتضي العموم والشك
إنما وقع في طريان المزيل والأصل عدم طريانه فظهر الفرق
والجواب عن الأول
أن الذي ذكرتموه يقتضي أنه لما مات واحد من أولئك الحاضرين أن
202

لا يبقى إجماع الباقين حجة وذلك يقضي إلى سقوط العمل بالإجماع
وهم لا يقولون به
وعن الثاني
أنه يحتمل أن تكون تلك الواقعة ما وقعت في زمن الصحابة فلم
يتفحصوا عما يمكن الاستدلال به عليها ثم إنها وقعت في زمن التابعين
فتفحصوا مع عن الأدلة فوجودا بعض ما نقلته الصحابة دليلا عليه
وعن الثالث
أن حاصل ما ذكرتموه راجع إلى تعذر حصول الإجماع في غير زمان
الصحابة وهذا لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه لو حصل كان حجة
وعن الرابع
ما مر من الجواب عنه غير مرة
وعن الخامس
أنه يلزمكم أن لا يكون إجماع الصحابة حجة لاحتمال أن يكون
الصحابي الذي مات قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام له فيه قول والله
أعلم
203

القسم السادس
فيما عليه ينعقد الاجماع
المسألة الأولى
كل ما لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به أمكن إثباته
بالإجماع
وعلى هذا لا يمكن إثبات الصانع وكونه تعالى قادرا عالما بكل
المعلومات وإثبات النبوة بالإجماع
أما حدوث العالم فيمكن إثباته به لأنه يمكننا إثبات الصانع بحدوث
الأعراض ثم نعرف صحة النبوة ثم نعرف به الإجماع ثم نعرف به
حدوث الأجسام
وأيضا
يمكن التمسك به في أن الله عز وجل واحد لأننا قبل العلم بكونه
واحدا يمكننا أن نعلم صحة الإجماع
المسألة الثانية
اختلفوا في أن الإجماع في الآراء والحروب هل هو حجة
205

منهم من أنكر
ومنهم من قال إنه حجة بعد استقراء الرأي وأما قبله فلا
والحق أنه حجة مطلقا لأن أدلة الإجماع غير مختصة ببعض
الصور
المسألة الثالثة
هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين وأحد القسمين مخطئون في
مسألة والقسم الآخر مخطئون في مسألة أخرى
مثل إجماع شطر الأمة على أن القاتل لا يرث والعبد يرث وإجماع
الشطر الآخر على أن القاتل يرث والعبد لا يرث
والأكثرون على أنه غير جائز لأن خطأهم في مسألتين لا يخرجهم
عن أن يكونوا قد اتفقوا على الخطأ وهو منفي عنهم
ومنهم من جوزه وقال لأن الخطأ ممتنع على كل الأمة لا على
بعض الأمة والمخطؤن سعيد في كل واحدة من المسألتين بعض الأمة
المسألة الرابعة
لا يجوز اتفاق الأمة على الكفر
206

وحكى عن قوم أنه يجوز أن ترتد الأمة لأنها إذا فعلت ذلك لم يكونوا
مؤمنين ولا سبيلهم سبيل المؤمنين وإذا كذبت الرسول خرجت من أن تكون
من أمته
وجه القول الأول أن الله عز وجل أوجب اتباع سبيل
المؤمنين واتباع سبيلهم مشروط بوجود سبيلهم وما لا يتم الواجب
المطلق إلا به فهو واجب هذا إذا حملنا لفظ المؤمنين على الإيمان
بالقلب
أما إذا حملناه على التصديق باللسان ظهر أن الآية دالة على أن
المصدقين في الظاهر لا يجوز إجماعهم على الخطأ ذلك يؤمننا من
إجماعهم على الكفر
المسألة الخامسة
يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به لأن عدم العلم بذلك
الشئ إذا كان صوابا لم يلزم من إجماعهم عليه محذور
وللمخالف أن يقول لو اجمعوا على عدم العلم بذلك الشئ
207

لكان عدم العلم به سبيلا للمؤمنين فكان يجب اتباعهم فيه حتى يحرم
تحصيل العلم به
208

القسم السابع
في حكم الاجماع
المسألة الأولى
جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر خلاف لبعض الفقهاء
209

لنا
أن أدلة أصل الإجماع ليست مفيدة للعلم فما تفرع عليها أولى
أن لا يفيد العلم بل غايته الظن ومنكر المظنون لا يكفر بالإجماع
وأيضا
فبتقدير أن يكون أصل كون الإجماع حجة معلوما لا مظنونا لكن
العلم به غير داخل في ماهية الاسلام وإلا لكان من الواجب على الرسول
صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإسلام أحد حتى يعرفه أن الإجماع حجة ولما لم يفعل
ذلك بل لم يذكر هذه المسألة صريحا طول عمره صلى الله عليه وسلم علمنا أن العلم به
ليس داخلا في ماهية الإسلام وإذا لم يكن العلم بأصل الإجماع معتبرا
في الإسلام وجب أن لا يكون العلم بتفاريعه داخلا فيه
المسألة الثانية
الإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة خلافا للحاكم صاحب
المختصر
210

لنا
أنهم لما أجمعوا على ذلك الحكم صار سبيلا لهم فوجب اتباعه
للآية
فإن قلت ومن سبيلهم إثباته بالاجتهاد وجواز القول بخلافه إذا لاح
اجتهاد اخر
قلت ومن سبيلهم إثباته بطريق كيف كان فأما تعينه فقد
أجمعوا على أنه غير معتبر
وعن الثاني
أن تجويزهم القول بخلافة حاصل لا مطلقا بل بشرط أن لا يحصل
الاتفاق
المسألة الثالثة
اختلفوا في أنه هل يجوز انعقاد الإجماع بعد إجماع على خلافه
ذهب أبو عبد الله البصري إلى جوازه لأنه لا امتناع في إجماع الأمة
على قول شرط أن لا يطرأ عليه إجماع اخر ولكن أهل الإجماع لما اتفقوا
على أن كل ما أجمعوا عليه فإنه واجب العمل به في كل الأعصار فلا جرم
أمنا من وقوع هذا الجائز
وذهب الأكثرون إلى أنه غير جائز لأنه يكون أحدهما خطأ لا محالة
وإجماعهم على الخطأ غير جائز
211

والقول الأول عندنا أولى
المسألة الرابعة
إذا أجمعوا على شئ وعارضه قول الرسول صلى الله عليه وسلم
فإما أن يعلم أن قصد النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه ما هو ظاهره وقصد أهل
الإجماع بكلامهم ما هو ظاهره
أو يعلم أحدهما دون الثاني
أو لا يعلم واحد منهما
والأول غير جائز لامتناع تناقض الأدلة
وإن كان الثاني قدمنا ما علم ظهوره
وإن كان الثالث فإن كان أحدهما أخص من الآخر خصصنا الأعم
بالأخص توفيقا بين الدليلين بقدر الإمكان
وإن لم يكن كذلك تعارضا لأنا نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم والأمة أراد
أحدهما بكلامه غير ظاهرة لكنا لا نعلم أيهما كذلك فلا جرم يتساقطان والله
أعلم
212

الكلام في الأخبار
وهو مرتب على مقدمه وقسمين
213

أما المقدمة ففيها مسائل
المسألة الأولى
لفظ الخبر حقيقة في القول المخصوص وقد يستعمل في غير
القول كقول الشاعر
215

تخبرني العينان ما القلب كاتم
وكقول المعري
نبي من الغربان ليس على شرع
يخبرنا أن الشعوب إلى صدع
وكقولهم خبر الغراب بكذا لكنه مجاز فيه بدليل أن من وصف
216

غيره بأنه مخبر أو أخبر لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول
المسألة الثانية
ذكروا في حده أمورا ثلاثة
أحدها
أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب
وثانيها
أنه الذي يحتمل التصديق أو التكذيب
وثالثها
ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من
الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا
قال واحترزنا بقولنا بنفسه عن الأمر فإنه يفيد وجوب الفعل
لكن لا بنفسه لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل والصيغة لا تفيد إلا هذا
القدر
ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك وكذا القول في دلالة النهي
على قبح الفعل فأما قولنا هذا الفعل واجب أو قبيح فإنه يفيد
بصريحه تعلق الوجوب أو القبح بالفعل
وأعلم أن هذه التعريفات ردية
أما الأول فلان الصدق والكذب نوعان تحت الخبر والجنس جزء
217

من ماهية النوع وأعرف منها فإذن لا يمكن تعريف الصدق والكذب
إلا بالخبر فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور
واعترضوا عليه أيضا من ثلاثة أوجه
أحدها
أن كلمة أو للترديد وهو ينافي التعريف ولا يمكن إسقاطها هاهنا
لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا
وثانيها
ان كلام الله عز وجل لا يدخله الكذب فكان خارجا عن هذا
التعريف
وثالثها
أن من قال محمد ومسيلمة صادقان فإن هذا خبر مع أنه ليس
بصدق ولا كذب
ويمكن أن يجاب عن الأول
بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد وهم إمكان تطرق أحد هذين الوصفين
إليه وذلك لا ترديد فيه
وعن الثاني
أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وخبر الله تعالى
كذلك لأنه صدق
218

وعن الثالث
ان قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران وإن كانا في اللفظ
خبرا واحدا لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد عليه الصلاة والسلام
والى مسيلمة وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب
سلمنا أنه خبر واحد لكنه كاذب لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما
معا وليس الأمر كذلك فكان كذبا لا محالة
وأما التعريف الثاني فالاعتراض عليه
أن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقا
وكذا فقولنا الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب جار مجرى أن يقال
الخبر هو الذي يجوز الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون هذا تعريفا
للخبر بالخبر وبالصدق والكذب
والأول هو تعريف الشئ بنفسه
والثاني تعريف الشئ بما لا يعرف إلا به
وأما الثالث فالاعتراض عليه من ثلاثة أوجه
219

أحدها
أن وجود الشئ عند أبي الحسين عين ذاته فإذا قلنا إن السواد
موجود فهو خبر مع أنه إضافة شئ إلى شئ اخر
فإن قلت السؤال إنما يلزم أن لو قال إضافة أمر إلى أمر اخر
وإنه لم يقل ذلك بل قال إضافة أمر إلى أمر وهذا أعم من قولنا
إضافة أمر إلى أمر اخر
وأيضا فقولنا السواد موجود معناه أن المسمى بلفظ السواد
مسمى بلفظ الموجود
قلت الجواب عن الأول
أن الإضافة مشعرة بالتغاير إذ لو لم يكن ذلك معتبرا لدخل اللفظ
المفرد في الحد
وعن الثاني
أن موضع الإلزام ليس هو الإخبار عن التسمية بل عن وجوده وحصوله
في نفسه ومعلوم أن من تصور ماهية المثلث أمكنه أن يشك في أنه
هل هو موجود أم لا فموضع الإلزام ها هنا لا هناك
وثانيها
أنا إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي فقولنا الحيوان الناطق
220

يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان مع أنه ليس بخبر لأن الفرق بين النعت
والخبر معلوم بالضرورة
فإن قلت أزيد في الحد قيدا اخر فأقول إنه الذي يقتضي نسبة
أمر إلى أمر بحيث يتم معنى الكلام والنعت ليس كذلك
قلت إن عنيتم بكون الكلام تاما إفادته لمفهومه فذاك حاصل في
النعت مع المنعوت لأن قول القائل الحيوان الناطق بكر يفيد معناه بتمامه
وإن عنيتم به إفادته لتمام الخبر لم يعقل ذلك إلا بعد تعقل الخبر
فإذا عرفتم به الخبر لزم الدور
وإن عنيتم به معنى ثالثا فاذكروه
وثالثها
أن قولنا نفيا وإثباتا يقتضي الدور لأن النفي هو الإخبار عن عدم
الشئ والإثبات هو الإخبار عن وجوده فتعريف الخبر بهما دور
وإذا بطلت هذه التعريفات فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر
غني عن الحد والرسم لدليلين
الأول
أن كل أحد يعلم بالضرورة معنى قولنا إنه موجود وإنه ليس
بمعدوم وأن الشئ الواحد لا يكون موجودا ومعدوما ومطلق الخبر جزء
221

من الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور
مطلق ماهية الخبر موقوفا على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى
أن يكون كذلك فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا ولما لم
يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرناه
والثاني
أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن
الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا
وإلا لم يكن الأمر كذلك
فإن قلت الخبر نوع من أنواع الألفاظ والألفاظ ليست تصوراتها
بديهية فكيف قلت إن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا
قلت حكم الذهن بين أمرين بأن أحدهما له الآخر أوليس له الآخر
معقول واحد لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل أحد يدركه من نفسه
ويجد التفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية من ألمه ولذته وجوعه وعطشه
وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الخبر هو الحكم
الذهني فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل
وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالاشكال غير وارد
أيضا لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى البديهي التصور يكون أيضا
بديهي التصور
222

المسألة الثالثة
قيل لا بد في الخبر من الإرادة لأن هذه الصيغة قد تجئ ولا
تكون خبرا إما لصدورها عن الساهي والحاكي أو لأن المراد منها الأمر مجازا
كما في قوله تعالى والجروح قصاص وإذا كانت الصيغة صالحة
للدلالة على الخبرية وعلى غيرها لم ينصرف إلى أحد الأمرين دون
الآخر إلا لمرجح وهو الإرادة أو الداعي
والكلام في هذا الأصل قد تقدم في أول باب الأمر
وأيضا
فلا معنى لكون الصيغة خبرا إلا أن المتلفظ تلفظ بها وكان مقصودة
تعريف الغير ثبوت المخبر به للمخبر عنه أو سلبه عنه
وزعم أبو علي وأبو هاشم أن الصيغة حال كونها خبرا صفة معللة
بتلك الإرادة وإبطاله أيضا قد مضى في أول باب الأمر
المسألة الرابعة
إذا قال القائل العالم حادث فمدلول هذا الكلام حكمه بثبوت
223

الحدوث للعالم لا نفس ثبوت الحدوث للعالم إذ لو كان مدلوله نفس
ثبوت الحدوث للعالم لكان حيثما وجد قولنا العالم محدث كان العالم
محدثا لا محالة فوجب أن لا يكون الكذب خبرا
ولما بطل ذلك علمنا أن مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة لا نفس
النسبة
بقي ها هنا البحث عن ماهية الحكم فإنه لا يجوز أن يكون المراد منه
الاعتقاد لأن الإنسان قد يخبر عما لا يعتقد فيه البتة لأن من لا يعتقد أن
زيدا في الدار يمكنه والحالة هذه أن يقول زيد في الدار ولا يجوز أن
يكون المراد منه الإرادة لأن الإخبار قد يكون عن الواجب والممتنع مع
أن الإرادة يمتنع تعلقها به فلم يبق إلا أن يكون الحكم الذهني أمرا مغايرا
لجنس الاعتقادات والقصود وذلك هو كلام النفس الذي لا يقول به أحد
إلا أصحابنا
المسألة الخامسة
اتفق الأكثرون على أن الخبر لا بد وأن يكون إما صدقا وإما كذبا خلافا
للجاحظ
224

والحق أن المسألة لفظية لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر فإما أن يكون
مطابقا للمخبر عنه أو لا يكون
فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان وبالكذب الخبر الغير
المطابق كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب
وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقا مع أن المخبر يكون عالما بأنه غير
مطابق كان هناك قسم ثالث بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم
قائله أنه مطابق أم لا
فثبت أن المسألة لفظية فنقول
للجاحظ أن يحتج على قوله بالنص والمعقول
أما النص فقوله تعالى حكاية عن الكفار أفترى على الله كذبا أم
به جنة جعلوا إخباره عن نبوة نفسه إما كذبا وإما جنونا مع أنهم كانوا
يعتقدون أنه ليس برسول الله على التقديرين وهذا يقتضي أن يكون إخباره
عن نبوة نفسه حال جنونه مع أنه ليس نبي عندهم لا يكون كذبا لأن
225

المجعول في مقابلة الكذب لا يكون كذبا
وأما المعقول فمن وجهين
الأول
أن من غلب على ظنه أن زيدا في الدار فأخبر عن كونه في الدار
ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد إنه كذب في هذا الخبر
الثاني
أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة فلو كان الخبر الذي
لا يطابق المخبر كذبا لتطرق الكذب إلى كلام الشارع
واحتج الجمهور
باتفاق الأمة على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أن
فيهم من لا يعلم فساد تلك المذاهب
ويمكن أن يجاب عنه
بأن أدلة الإسلام لما كانت جلية قوية كان حالهم شبيها بحال من أخبر
عن الشئ مع العلم بفساده
تنبيه
واعلم أن الخبر إما أن يقطع بكونه صدقا أو بكونه كذبا أو لا يقطع
بواحد منهما فلا جرم رتبنا هذا الكتاب على قسمين
القسم الأول في الخبر المقطوع به وهو إما أن يكون صدقا أو كذبا
أما الصدق فطريق هذا القطع إما أن يكون هو التواتر أو غيره
ونحن نتكلم أولا في التواتر ثم في سائر الطرق المفيدة للقطع ثم
في الطرق التي يظن أنها تفيد القطع وإن لم تكن كذلك
226

الباب الأول
في التواتر
المسألة الأولى
التواتر في أصل اللغة عبارة عن مجئ الواحد بعد الواحد بفترة
بينهما مأخوذ من قوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترا أي رسولا بعد
رسول بفترة بينهما فكذا التواتر في المخبرين المراد به مجيئهم على
غير الاتصال
وأما في اصطلاح العلماء فهو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث
حصل العلم بقولهم
المسألة الثانية
أكثر العلماء اتفقوا على أن أمثال هذه الأخبار قد تفيد العلم
سواء أكان إخبارا على أمور موجودة في زماننا كالإخبار عن البلدان الغايبة
قد أو عن أمور ماضية كالإخبار عن وجود الأنبياء والملوك الذي كانوا في القرون
الماضية
227

وحكي عن السمنية أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا
لا يفيد العلم اليقيني ألبتة بل الحاصل منه الظن الغالب القوي
ومنهم من سلم أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا يفيد
العلم لكن الخبر عن الأمور الماضية في القرون الحالية لا يفيد العلم
ألبتة
لنا
أنا نجد أنفسنا جازمة ساكنة بوجود البلاد الغائبة والأشخاص
الماضية جزما خاليا عن التردد جاريا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات
فيكون المنكر لها كالمنكر للمشاهدات فلا يستحق المكالمة
قال الخصم أنا لا أنكر وجود الظن الغالب القوي الذي لا يكاد يتميز
عند الأكثرين عن اليقين التام لكن الكلام في أنه هل حصل اليقين أو لا
والذي يدل على أن الحاصل ليس بيقين وجهان
الأول
أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين وعرضنا على
228

عقولنا وجود جالينوس وفلان وفلان عند هذه الأخبار المتواترة وجدنا
الجزم الأول أقوى وآكد من الجزم الثاني وقيام التفاوت يدل على
احتمال تطرق النقيض إلى الاعتقاد الثاني وقيام هذا الاحتمال فيه
كيف كان يخرجه عن كونه يقينا
الثاني
أن جزمي بوجود هذه المخبرات وفي ليس أقوى من جزمي بأن ولدي
الذي أراه في هذه الساعة هو الذي رأيته بالأمس ثم هذا الجزم ليس
بيقين لأنه يجوز أن يوجد شخص مساو لولدي في الشخص والصورة من
كل الوجوه إما لأن القادر المختار خلقه أو لأن شيئا من التشكلات
الفلكية يقتضي وجوده عند منكري القادر فثبت أن هذا الجزم ليس بيقين
بل ظن فكذلك الجزم الحاصل عقيب خبر التواتر
فإذا قلت لو جوزنا أن يكون هذا الشخص الذي أراه الآن غير الذي
رأيته بالأمس أدى ذلك إلى الشك في المشاهدات
قوله لعل القادر خلق مثله أو الشكل الغريب الفلكي اقتضاه
قلنا بل ها هنا قام برهان مانع منه وهو أن الله تعالى لو فعل ذلك
لأفضى إلى اشتباه الشخص وذلك تلبيس وهو على الله تعالى محال
229

قلنا لا نسلم أن تجويزه يفضي إلى الشك في المشاهدات لأن
المشاهد هو وجود هذا الذي أراه الآن فأما أن هذا هو الذي رأيته
بالأمس فهو غير مشاهد فلا يلزم من تطرق الشك إلى هذا المعنى تطرقه
إلى المشاهدات
وأما البرهان الذي ذكره على امتناع هذا الاحتمال فلا يدفع الإلزام لأن
هذا الجزم لو كان بناء على ذلك البرهان لكان الجاهل بذلك البرهان خاليا
عن ذلك الجزم لكن العوام لا يعرفون هذا البرهان فيجب أن لا يحصل لهم
ذلك الجزم
والجواب
أن هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق الجواب كما أن شبه
منكري المشاهدات لا تستحق الجواب لمثل هذا السبب
المسألة الثالثة
العلم الحاصل عقيب خبر التواتر ضروري وهو قول الجمهور خلافا
230

لأبي الحسين البصري والكعبي من المعتزلة ولإمام الحرمين والغزالي
منا
231

وأما الشريف المرتضى من الشيعة فإنه كان متوقفا فيه
لنا
لو كان ذلك العلم نظريا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر
كالصبيان والبله ولما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري
اعترض أبو الحسين والمرتضى على هذا الوجه بكلام واحد وهو أن
النظر في ذلك ليس إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين وهذا القدر حاصل
للعامة والمراهقين لأنه قد حصل في عقولهم علوم كثيرة وهم يستنتجون كل من
تركيبها علوما أخر
سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكن معنا ما يبطله من ثلاثة أوجه
232

الأول
ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أن الاستدلال عبارة عن ترتيب
علوم أو ظنون يتوصل بها إلى علوم أو ظنون وكل اعتقاد توقف وجوده على
ترتيب اعتقادات أخر فهو استدلالي والعلم الواقع بالتواتر هذا سبيله لأنا
لا نعلم وجود ما أخبرنا أهل التواتر عنه إلا إذا علمنا أنه لا داعي للمخبرين
إلى الكذب ولا لبس في المخبر عنه وأنه متى كان كذلك استحال كون
الخبر كذبا وإذا بطل كونه كذبا ثبت كونه صدقا فالسامع لخبر التواتر ما
لم يتقرر عنده كل واحدة من هذه المقدمات لم يحصل له العلم فكان
ذلك العلم استدلاليا
الثاني
أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر لو كان ضروريا لكنا مضطرين
إليه بحيث لا يمكننا الانفكاك عنه ولو كان كذلك لعلمنا بالضرورة كوننا
عالمين على سبيل الاضطرار بذلك وكان ينبغي أن يعلم بالضرورة كل
عاقل كون هذا العلم ضروريا كما في سائر العلوم الضرورية ولما لم يكن
كذلك علمنا أن هذا العلم ليس بضروري
الثالث
ذكره الكعبي وهو أنه لو جاز أن يعلم ما غاب عن الحس
233

بالضرورة لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال ولما بطل هذا بطل
الأول
والجواب
قوله ذلك الاستدلال سهل يتأتى من كل أحد
قلنا سنبين إن شاء الله تعالى في فصل مفرد أن ذلك
الاستدلال غامض جدا
وهو الجواب بعينه عن المعارضة الأولى
وعن الثاني
أن كون العلم ضروريا كبقية للعلم ويجوز أن يكون أصل الشئ معلوما
وتكون كيفيته مجهولة
وعن الثالث
أنه لا بد من الجامع
المسألة الرابعة
استدل أبو الحسين البصري على أن خبر أهل التواتر صدق وقال
لو كان كذبا لكان المخبرون إما أن يكونوا ذكروه مع علمهم بكونه كذبا أو
لا مع علمهم بكونه كذبا والقسمان باطلان فبطل كونه كذبا فتعين كونه
234

صدقا فكان مفيدا للعلم
إنما قلنا إنه لا يجوز أن يذكره المخبرون مع علمهم بكونه كذبا لأنهم
على هذا التقدير إما أن يكونوا قصدوا فعل الكذب لغرض ومرجح أو لا
لغرض ومرجح
والثاني محال
أما أولا فلان الفعل لا يحصل في وقت دون وقت إلا لمرجح
وإلا لزم ترجح أحد الطرفين على الآخر من غير مرجح وهو محال
وأما ثانيا فلان كونه كذبا جهة قبح وجهة القبح صارفة عن الفعل
ومع حصول الصارف القوي عن الفعل يستحيل حصول الفعل إلا لداع
أقوى من ذلك الصارف
وأما القسم الأول
وهو أنهم قصدوا فعل الكذب لغرض فذلك الغرض إما نفس كونه
كذبا أو شئ أخر
والأول باطل لأن كونه كذبا جهة صرف لا جهة دعاء
والثاني باطل لأن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا
وعلى التقديرين فإما أن يكون رغبة أو رهبة
وعلى التقديرات فإما أن يقال كلهم كذبوا لداع واحد من هذه
235

الأقسام أو يقال فعله بعضهم لبعض هذه الدواعي وبعضهم للبعض
الآخر
وعلى كل التقديرات فإما أن تحصل تلك الدواعي بالتراسل أو
لا بالتراسل والأقسام كلها باطلة
أما أنه لا يجوز أن يكون للدين فلان قبح الكذب متفق عليه سواء كان
ذلك بالعقل أو بالشرع فكان ذلك صارفا دينيا لا داعيا دينيا
وأما الرغبة الدنيوية فقد تكون رجاء عوض على الكذب أو لأجل
أن يسمع غيره شيئا غريبا وإن كان لا أصل له
والأول باطل لأن كثيرا من الناس لا يرضى بالعوض الكثير في مقابلة
الكذب وإن احتاج إليه وكذا القول في القسم الثاني
وأما الرهبة فهي لا تكون إلا من السلطان لكن السلطان لا يقدر على
أن يجمع الجمع العظيم على الكذب ألا ترى أن السلطان لا يمكنه ذلك
في جميع أهل بغداد لأنه لا يعلم كل واحد منهم حتى يجعله مضطرا إلى
ذلك الكذب
ولأن السلطان كثيرا ما يخوف الناس عن التحدث بكلام مع أنهم آخر
الأمر يقولونه حتى يصير مشهورا بينهم
ولأنا نعلم في كثير من الأمور أنه لا غرض للسلطان في أن يخبر عنه
بالكذب
ولا يجوز أيضا أن يقال الجماعة العظيمة كذبوا بعضهم للرغبة
وبعضهم للرهبة وبعضهم للتدين لأن كلامنا في جماعة عظيمة أبعاضها
236

جماعات عظيمة يمتنع تساوي أجزائها في قوة هذه الدواعي
وأما القسم الثاني وهو أنهم كذبوا مع أنهم لم يعلموا كونهم كاذبين
فذاك لا يمكن إلا إذا اشتبه عليهم الشئ بغيره والاشتباه في الضروريات
باطل وشرط خبر التواتر أن يكون واقعا عما علم وجوده بالضرورة وهذا
إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة
وأما ما توسط بين من أخبرنا وبين من شاهد ذلك واسطة واحدة أو
وسائط فإنه لا يحصل العلم بخبرهم إلا إذا علمنا كون الوسائط متصفين
بالصفات المعتبرة في أهل التواتر وذلك إنما يعلم بطريقين
الأول
أن يكون أهل التواتر الذين رأيناهم أخبروا أن أولئك الذين مضوا كانوا
مستجمعين للشرائط المعتبرة في أهل التواتر
والثاني
أن كل ما ظهر بعد خفاء وقوى بعد ضعف فلا بد وأن يشتهر فيما بين
الناس حدوثه ووقت حدثوه فإن مقالة الجهمية والكرامية لما حدثت
237

بعد أن لم تكن لا جرم اشتهر في ما بين الناس وقت حدوثها فلما لم
يظهر شئ من ذلك علمنا أن الأمر كان كذلك في كل الأزمنة
هذا تمام الاستدلال
والاعتراض عليه أن يقال لأبي الحسين
إما أن يكون غرضك من هذا الاستدلال ظنا قويا بكون الخبر صدقا
فذلك مسلم
أو اليقين فلا نسلم أن ما ذكرته يفيد اليقين لأن التقسيم المفضي إلى
اليقين يجب أن يكون دائرا بين النفي والإثبات ثم نبين فساد كل قسم سوى
المطلوب بدليل قاطع وهذا الذي ذكره أبو الحسين ليس كذلك
فلنبين هذه الأشياء فنقول لم لا يجوز أن يقال كذبوا لا لغرض
قوله الفعل بدون المرجح محال
قلنا هذا لا يتم على مذهبك لأنه يقتضي الجبر وأنت لا تقول به بيان
أنه يقتضى الجبر أن قادرية العبد صالحة للفعل والترك وإلا لزم الجبر فلو
لم يترجح أحد الطرفين إلا لمرجح فذاك المرجح إن كان من فعل العبد عاد
238

الطلب من أنه لم فعل مرجح أحد الطرفين دون الآخر
وإن كان ذلك لمرجح اخر من فعله لزم التسلسل أو ينتهي إلى
مرجح ليس من فعله فعند حصول ذلك المرجح الذي ليس من فعله
إما أن يكون ترتب أثره عليه واجبا أو لا يكون واجبا فإن كان الأول لزم
الجبر
وإن كان الثاني فهو باطل وبتقدير صحته فالإلزام عليك وارد
أما أنه باطل فلانه إذا لم يجب ترتب أثره عليه جاز حينئذ أن لا
يترتب عليه في بعض الأوقات ذلك الأثر وجاز في وقت آخر أن يترتب إذ لو
لم يجز ذلك أصلا لما كان ذلك مرجحا تاما وكلامنا في المرجح التام
وإذا كان كذلك فترتب الأثر عليه في أحد الوقتين دون الوقت
الآخر إما أن يكون لمزية يختص بها ذلك الوقت دون الوقت الثاني وإما
لا يكون كذلك
فإن كان الأول فقبل حصولك * تلك المزية ما كان المرجح التام حاصلا
لكنا قد فرضناه حاصلا هذا خلف
ثم إننا ننقل الكلام إلى تلك المزية فنبين أنها من فعل الله عز وجل
وبعد حصولها فإن وجب ترتب الأثر عليها لزم الجبر
وإن لم يجب افتقر إلى مزية أخرى لا إلي نهاية وهو محال
وأما إن لم يكن ترتب الأثر على ذلك المرجح في ذلك الوقت لأجل
239

حصول مزية في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كانت نسبة تلك المزية
إلى زماني ترتب الأثر عليه ولا ترتبه عليه على السواء ولا مرجح ولا
مخصص البتة فيكون اختصاص ذلك الوقت بترتب ذلك الأثر على ذلك
المرجح دون الوقت الثاني يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن المساوي
على الآخر من غير مرجح وهو محال
وقد بان بهذا أنه ما لم يحصل للعبد مرجح من قبل الغير يمتنع أن
يكون فاعلا وإذا حصل المرجح وجب أن يكون فاعلا وهذا هو الجبر
وأما بتقدير أن لا يجب ذلك فالإشكال وارد لأن عند حصول مرجح
الوجود إذا جاز أن لا يوجد الوجود كان اللاوجود فلا واقعا لا عن مرجح
أصلا وإذا جوزت ذلك بطل قولك الفعل لا يقع إلا عن الداعي فلم
لا يجوز في أهل التواتر أن يكذبوا لا لداع
وأما قوله ثانيا كونه كذبا جهة صرف لا جهة دعاء
قلنا هذا بناءا على أن الكذب قبيح لكونه كذبا وقد مر الكلام في
إبطاله في أول الكتاب
سلمناه لكن عند حصول الصارف لو وجب الترك لزم الجبر
وأنت لا تقول به
240

وإن لم يجب فقد جوزت عند حصول الصارف أن لا يقع العدم
وجواز أن لا يقع العدم يقتضي جواز أن يقع الوجود فقد جوزت مع
الصارف عن الفعل أن يوجد الفعل فلم يلزم من كون الكذب جهة صرف
امتناع أن يوجد الكذب
سلمنا أنه لا بد من داع فلم لا يجوز أن يوجد فيه شهوة متعلقة بالكذب
لكونه كذبا ومتى كان كذلك أقدم العاقل على الكذب لا لغرض اخر سوى
كونه كذبا
فإن قلت إنه من المحال أن يشتهي العاقل الكذب لمجرد كونه
كذبا
وإن سلمنا جوازه لكن في حق الواحد والاثنين
أما في حق الجمع العظيم فمحال وهذا كما أنه جاز على كل واحد
منهم وحده أن يأكل في الساعة المعينة من اليوم المعين طعاما واحدا لكن
لا يجوز اتفاق الكل عليه
قلت
الجواب عن الأول
أنا لا نسلم امتناع ذلك فما الدليل عليه وكيف ونرى جمعا اعتادوا
الكذب بحيث لا يصبرون عنه وإن كانوا يعلمون أن ذلك يضرهم
عاجلا أو اجلا وإذا كان كذلك علمنا أن دعوى الضرورة باطلة
241

وعن الثاني
نسلم أن استقراء العادة يفيد ظنا قويا بأن الخلق العظيم لا يتفقون على أكل
طعام معين في زمان معين لكن لا نسلم حصول اليقين التام بذلك كيف
وذلك جائز على كل واحد منهم وصدوره من كل واحد منهم لا يمنع صدوره
عن الباقي فيكون صدوره عن كلهم كصدوره عن كل واحد منهم ومع
هذه الحجة اليقينية على الجوار كيف تدعى ضرورة الامتناع
سلمنا أنه لا بد من غرض سوى كونه كذبا فلم قلت إن ذلك
الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا أو رغبة أو رهبه منه وما الدليل القاطع على
الحصر
سلمناه فلم لا يجوز أن يكون دينيا
قوله حرمة الكذب متفق عليها
قلنا مطلقا لا نسلم فإن كثيرا من الناس يعتقد أن الكذب المفضى
إلى حصول مصلحة في الدين جائز ولذلك نرى جمعا من الزهاد وضعوا
أشياء كثيرة من الأحاديث في فضائل الأوقات وزعموا أن غرضهم منه
حمل الناس على العبادات وإذا كان كذلك فلعلهم اتفقوا على الكذب لما
أنهم اعتقدوا فيه حصول مصلحة دينية وإن كان الأمر بخلاف ما تخيلوه
سلمنا أنه ليس الغرض دينيا فلم لا يجوز أن يكون لرغبة دنيوية
قوله الرغبة إما أخذ المال أو إسماع الغير كلاما غريبا
242

قلنا أين الدليل على الحصر ثم أين الدليل القاطع على فساد هذين
القسمين
قوله الجماعات العظيمة لا يشتركون في الرغبة إلى الكذب لأجل
هذين الغرضين
قلنا إن أدعيت الظن القوي فلا نزاع وإن ادعيت الجزم المانع من
النقيض فما الدليل عليه فإنه إذا جاز ذلك في العشرة أو المائة ولم
يكن ثبوت هذا الحكم للبعض مانعا من ثبوته للباقي فلم قلت إنه يمتنع
كون الكل كذلك
والذي يؤكده أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو
عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك
لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء
حكماء جاز في مثل هذه الصورة أن يتطابقوا على الكذب وإن كانوا
كثيرين جدا
فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب لأجل الرغبة
سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون للرهبة
قوله السلطان لا يمكنه إسكات الكل
قلنا إن ادعيت الظن القوي فمسلم وإن ادعيت اليقين فما الدليل
243

عليه فإنه إذا جاز إسكات الألف والألفين رهبة فلم لا يجوز إسكات الكل
وما الضابط فيما يجوز وفيما لا يجوز
فإن قلت أجد العلم ضروري بذلك من غير دلالة
قلنا هذا الاعتقاد ليس أقوى من الاعتقاد الحاصل بوجود محمد وموسى
وعيسى عليهم الصلاة والسلام فلم لا تدعون الضرورة في ذلك حتى
تتخلصوا عن مثل هذه الدلالات الضعيفة
سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال إنهم كذبوا لدواع مختلفة بعضهم
للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم بالمراسلة وبعضهم بالمشافهة
قوله الكلام في جماعة عظيمة بعضها جماعات عظيمة
قلنا إما أن يكون من شرط أهل التواتر أن يكون أبغاضهم بالغين حد
التواتر أوليس من شرطهم ذلك
والأول باطل وإلا لزم أن يكون كل واحد من أبعاض تلك الأبعاض
كذلك ولزم التسلسل
والثاني حق ونحن نفرض الكلام فيما إذا كان الأمر كذلك وحينئذ
يبطل ما ذكروه
سلمنا أنهم ما كذبوا عمدا فلم لا يجوز أن يقال كذبوا سهوا لأن
الأمر اشتبه عليهم والاشتباه حاصل في المحسوسات بدليل العقل والنقل
أما العقل فمن وجهين
244

الأول
أن الله تعالى قادر على أن يخلق شخصا اخر مثل زيد في شكله
وفي تخطيطه وبهذا التقدير لا يبقى اعتمادا على التواتر لجواز أن يكونوا
قد رأوا أمثل زيد فظنوه زيدا
ومما يؤكد ذلك أن الأجسام المعدنية والنباتية قد تتشابه بحيث
يعسر تمييز بعضها عن بعض وكذلك الحيوانات: لا سيما البرية والجبلية قد
تبلغ مشابهة بعضها بعض إلى حد يعسر التمييز
وإذا كان كذلك فلم لا يجوز مثله في الناس غايته أنه نادر
ولكن الندرة لا تمنع الاحتمال
فإن قلت أن حكمته تعالى تمنعه من خلق شخص مثل زيد لما فيه
من التلبيس
قلت قد سبق جوابه
الثاني أن غلط الناظر أمر مشهور فإن الإنسان قد يرى المتحرك
ساكنا وبالعكس وذلك يقتضي حصول اللبس في الحسيات
وأما النقل فمن وجهين
245

الأول
أن المسيح عليه السلام شبه بغيره
فإن قلت هذا لا يلزم من وجوه
أحدها
أن ذلك كان في زمان عيسى عليه السلام وخرق العادة جائز في زمان
الأنبياء دون سائر الأزمنة
وثانيها
أن المصلوب تتغير خلقته وشكله فيكون الاشتباه أكثر وأما المباشرون
لذلك العمل فكانوا قليلين فيجوز عليهم الكذب عمدا
وثالثها
أنهم نظروا إليه من بعيد وذلك مظنة الاشتباه
قلت الجواب عن الأول
أنه لو جاز ذلك في زمان الأنبياء لجاز مثله في سائر أزمنة الأنبياء
وحينئذ لا يمكننا القطع بأن الذي أوجب الصلوات الخمس هو
المصطفى صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون شخصا اخر شبه به
وأيضا
فلم لا يجوز انخراق العادات في هذا الزمان ككرامات غير الأولياء فان
246

منعوها قلنا هذا لا يستقيم على قول أبي الحسين فإنه لا يمنعها
ولأن بتقدير امتناعها فليس ذلك الامتناع معلوما إلا بالبرهان فقبل
العلم بذلك البرهان يكون التجويز قائما والعلم بصحة خبر التواتر موقوف
على فساد هذا الاحتمال فوجب أن لا يحصل العلم بخبر التواتر لم لمن
يعرف بالدليل امتناع الكرامات
وعن الثاني
أن التغير إنما يكون بعد الصلب والموت فأما حال الصلب فلا
وعندكم أن الاشتباه حصل حال الصلب لأنهم لو ميزوا بين ذلك
الشخص وبين المسيح عليه السلام لما صلبوا ذلك الشخص
وعن الثالث
أن الذين مارسوا الصلب كانوا قريبين منه وناظرين إليه
ولأن النصاري يروون بالتواتر أنه بقي بعد الصلب وقبل الموت مدة
طويلة بحيث رآه الجمع العظيم في بياض النهار وذلك يبطل قولكم
الوجه الثاني
روي أن جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة
دحية الكلبي
247

وأن الملائكة يوم بدر تشكلوا بأشكال الأدميين
الوجه الثالث
أن الإنسان ربما يتشبح أحمد له عند الخوف الشديد أو الغضب
الشديد أو الفكر الشديد صورة لا وجود لها في الخارج وكل ذلك
مما يؤكد احتمال الاشتباه
سلمنا صحة دليلكم في التواتر عن الأمور الموجودة فلم قلتم إن خبر
التواتر عن الأمور الماضية في القرون الحالية قد وجدت هذه الشروط في
كل الطبقات الماضية
قوله في الوجه الأول أهل التواتر في زماننا قد أخبرونا بأن أولئك
الذين مضوا كانوا موصوفين بصفات أهل التواتر
قلنا هذا بهت صريح لأن الذين أخبرونا ما أخبرنا كل واحد منهم
أن الذين أخبروه كانوا بصفة أهل التواتر وأن الذين أخبروا كل واحد ممن
أخبره كانوا كذلك بل الذي يمكن ادعاؤه عليهم أنهم سمعوا هذا الخبر من
248

أناس كثيرين فأما أن يدعى عليهم ما ذكرتموه فبهت لأن أكثر الفقهاء
والنحاة لا يتصورون هذه الدعوى على وجهها فضلا عن العوام فضلا عن
أن يقال إنهم علموا ذلك بالضرورة
قوله لو كان حادثا لظهر زمان حدوثه
قلنا لا نسلم أن كل مقالة ظهرت بعد الخفاء فلا بد وأن يشتهر فيما بين
الخلق حدوث ظهورها ووقت ظهورها لجواز أن يضع الرجل الواحد مقالة
ثم إنه يذكرها لجماعة قليلين ثم كل واحد من أولئك يذكر ذلك الخبر
لجماعة أخرى من غير أن يسنده إلى القائل الأول إلى أن يشتهر ذلك الخبر
جدا مع أن كل واحد منهم لا يعرف حدوث تلك المقالة ولا زمان
حدوثها وبهذا الطريق تحدث الأراجيف بين الناس
وبالجملة فعليهم إقامة الدلالة على فساد هذا الاحتمال
ثم الذي يفيد القطع بصحة ما ذكرنا أن الوقائع الكبار التي وقعت
لعظماء الملوك الذين كانوا قبل الإسلام بل كيفية وقائع نوح وإدريس
وموسى وعيسى عليهم السلام لم ينقل شئ منها إلينا نقل الآحاد فضلا عن
التواتر مع كونها من الأمور العظام فعلمنا أن وصول الأخبار إلينا غير
واجب
فإن قلت ذلك لتطاول مدتها أو لعدم الداعي إلى نقلها
قلت فلا بد من ضبط طول المدة وقصرها
249

وأيضا
فيلزم أن لا يكون خبر التواتر بوجود نوح وإبراهيم وإدريس وغيرهم
مفيدا للعلم لأنه لا يفيد ما لم يثبت استواء الطرفين والواسطة في نقل
الرواة وذلك لا يثبت إلا بأنه لو كان موضوعا لأشتهر الواضع وزمان الوضع
فإذا لم يجب ذلك عند تطاول المدة لم يفد ذلك الخبر العلم
سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن خبر التواتر يفيد العلم لكن معنا ما يبطله
من وجوه
الأول
لو أفاد خبر التواتر العلم لأفاد إما علما ضروريا أو نظريا والقسمان
باطلان فالقول بالإفادة باطل
إنما قلنا إنه لا يفيد علما ضروريا لأن العلم الضروري هو الذي لا
يلزم من وقع الشك في غيره من القضايا وقوعه فيه وها هنا يلزم من وقوع
الشك في غير هذه القضية وقوعه فيها لأنا لو جوزنا أن يكذبوا لا لغرض أو
لغرض من رهبة أو رغبة أو لوقوع التباس فإن مع استحضار
الشك في هذه المقدمات لم يمكن الجزم بأن الأمر كما أخبروا عنه
وإذا كان كذلك لم يكن هذا العلم ضروريا
ولا جائز أن يكون نظريا لأن النظر في الدليل لا يتأتى للصبيان
250

والمجانين فكان يجب أن لا يحصل لهم العلم لكن الاعتقاد الذي في هذا
الباب للعقلاء لا يزيد في القوة على قوة اعتقاد الصبيان والبله فإذا لم
يكن اعتقادهم علما فكذا اعتقاد العقلاء
الثاني
أن كون التواتر مفيدا للعلم يتوقف على عدم تطرق اللبس إلى الخبر
على ما مر بيانه لكن اللبس يتطرق إليه على ما مر فوجب أن لا يفيد
العلم
الثالث
لو حصل العلم عقيب التواتر لحصل إما مع الجواز أو مع الوجوب
فإن حصل مع جواز أن لا يحصل امتنع القطع بحصوله فلا يمكن
القطع بأن التواتر يفيد العلم لا محالة بل يجري حصول العلم عقيب خبر
التواتر مجرى حصوله عند سماع صرير الباب ونعيق الغراب
وإن حصل مع الوجوب فالمستلزم بعد إما قول كل واحد أو قول
المجموع
الأول باطل أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة أن قول الواحد لا يفيد
العلم
وأما ثانيا فلأن قول كل واحد منهم إذا كان مستقلا بالاستلزام
فإن وجدت الأقوال دفعة لزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة
بالتأثير وهو محال
251

وإن وجدت على التعاقب فإذا حصل الأثر بالسابق استحال حصول ذلك
الأثر بعينه باللاحق لامتناع ايجاد الموجود واستحال أيضا حصول
مثله باللاحق لاستحالة الجمع بين المثلين فيلزم أن يبقى اللاحق خاليا
عن التأثير فتكون العلة القطعية منفكة عن المعلول وهو محال
ولا جائز أن يكون المؤثر قول المجموع أما أولا فلان قول كل واحد إن
بقي عند الإجتماع كما كان عند الانفراد ولم يحدث عند الاجتماع أمر
زائد البتة فكما لم يكن الاستلزام حاصلا عند الانفراد وجب أن لا يحصل
عند الاجتماع
وإن حدث أمر ما إما بزوال أو بالحدوث فإن كان المقتضي لذلك
الحدوث قول كل واحد عاد المحذور المذكور
وإن كان المجموع عاد التقسيم المذكور
وإن كان لحدوث أمر آخر لزم التسلسل
وأما ثانيا وهو أن المستلزمية نقيض اللامستلزمية يقول التي هي أمر عدمي
فكانت المستلزمية أمرا ثبوتيا فإن كان الموصوف بها هو المجموع لزم
حلول الصفة الواحدة في الأشياء الكثيرة وهو محال
252

وأما ثالثا فلأن التواتر في الأكثر إنما يكون بورود الخبر عقيب
الخبر وإذا كان كذلك كان عند حصول كل واحد منهما حال وجود
الثاني معدوما فلا يكون للمجموع وجود في زمان أصلا فيستحيل أن يكون
المؤثر هو المجموع لأن الشئ ما لم يوجد في نفسه لا يقتضي وجود غيره
وأما رابعا وهو الكلام المشهور في هذا المسألة أن قول كل واحد لما
لم يكن مؤثرا وجب أن يكون قول الكل غير مؤثر كما أن كل واحد من
الزنج لما لم يكن أبيض استحال كون الكل أبيض
الوجه الرابع
في استحالة أن يكون خبر التواتر مستلزما للعلم لأن المستلزم إما آحاد
الحروف وهو باطل أو المجموع وهو محال لأن المجموع لا وجود له وما
لا وجود له استحال أن يستلزم شيئا اخر
فإن قلت الموجب هو الحرف الأخير بشرط وجود سائر الحروف
قبله أو بشرط مسبوقية الحرف الأخير بسائر الحروف
قلت الشرط لا بد من حصوله حال حصول المشروط والحروف
السابقة غير حاصلة حال حصول الحرف الأخير
253

وعن الثاني
أن مسبوقية الشئ بغيره لا تكون صفة وإلا كانت صفة حادثة
فتكون مسبوقتيها الذي بالغير صفة أخرى ولزم التسلسل
وإذا كانت المسبوقية أمرا عدميا استحال أن يكون جزء العلة أو شرطها
أما الذين سلموا أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة يفيد العلم
لكنهم منعوا من كون التواتر عن الأمور الماضية مفيدا للعلم فقد احتجوا
بأن التواتر عن الأمور الماضية وقع عن أمور باطلة فوجب أن لا يكون حجة
بيان الأول
أن اليهود والنصارى
254

والمجوس والمانوية على كثرة كل فرقة
منهم وتفرقهم في الشرق والغرب يخبرون عن أمور هي باطلة قطعا عند
المسلمين وذلك يقتضي القدح في التواتر
فإن قلت شرط التواتر استواء الطرفين الواسطة وهو غير حاصل في
هذه الفرق لأن اليهود قل عددهم في زمان بختنصر والنصارى كانوا
قليلين في الابتداء وكذا القول في المجوس والمانوية
قلت صدقتم حيث قلتم لا بد من استواء الطرفين والواسطة لكن
الطريق إليه إما العقل أو النقل أو ما هو مركب منهما
والعقل المحض لا يكفي
255

وأما النقل فإما من الواحد أو من الجمع وقول الواحد إنما يفيد لو
كان معصوما وهو مفقود في زماننا
وأما الجمع فهو أن يقال إن أهل التواتر في زماننا على كثرتهم
يخبرون إنهم كانوا كذلك أبدا لكن كما أن أهل الإسلام يدعون ذلك
فهذه الفرق الأخرى تدعي ذلك فليس تصديق إحداهما وتكذيب الأخرى
أولى من العكس
وأما المركب منهما فهو أن يقال لو كان خبرا موضوعا لعرفنا أن الأمر
كذلك وقد عرفت ضعف هذه الطريقة
ثم إن جميع هذه الفرق يصححون قولهم بمثل هذه الطريقة فليس
قبول أحد القولين أولى من الآخر
فأما الذي يقال إن بختنصر قتل اليهود حتى لم يبق منهم عدد أهل
التواتر
قلنا هذا محال لأن الأمة العظيمة المتفرقة في الشرق والغرب
يستحيل قتلها إلى هذا الحد
وأما النصارى فلو لم يكونوا بالغين في أول الأمر إلى حد التواتر لم
يكن شرعه حجة إلى زمان ظهور محمد صلى الله عليه وسلم لكنه باطل باتفاق المسلمين
256

وها هنا وجوه أخر من المعارضات مذكورة في كتاب النهاية فهذا
تمام الاعتراضات
واعلم أن بعض هذه الأسئلة والمعارضات لا شك أن فسادها أظهر من
صحتها لكن ذلك إنما يكفي في ادعاء الظن القوي لا في ادعاء اليقين التام
وكان غرضنا من الإطناب في هذه الأسئلة إن الذي قاله أبو الحسين من
أن الاستدلال بخبر النوادر على صدق المخبرين أمر سهل هين مقرر في عقول
البله والصبيان ليس بصواب بل لما فتحنا باب المناظرة دق الكلام ولا
يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عن كل هذه الإشكالات وذلك لو أمكن
فإنما يمكن بعد تدقيقات في النظر عظيمة ومن البين لكل عاقل أن علمه
بوجود مكة ومحمد صلى الله عليه وسلم أظهر من علمه بصحة هذه الدلالة وإبطال ما فيها
من الأقسام سوى القسم المطلوب وبناء الواضح على الخفي غير جائز
فظهر أن الحق ما ذهبنا إليه من أن هذا العلم ضروري
وحينئذ لا نحتاج إلى الخوض في الجواب عن هذه الأسئلة لأن
257

التشكيك في الضروريات لا يستحق الجواب
المسألة الخامسة في شرائط التواتر
اعلم أن هذه الأخبار التي نعلم مخبرها باضطرار الحجة علينا فيها
هو العلم ولا حاجة بنا إلى اعتبار حال المخبرين بل يجب أن يعتبر
السامع حال نفسه فإذا حصل له العلم بمخبر تلك الأخبار صار محجوجا
بها وإلا فالحجة عنه زائلة
ثم إنه بعد وقوع العلم بمخبر خبرهم صح أن نبحث عن أحوالهم
فنقول لو لم يكونوا على هذه الصفة لما وقع لنا العلم بخبرهم
وأعلم أن ها هنا أمور معتبرة في كون التواتر مفيدا للعلم وأمورا
ظن أنها معتبرة مع أنها في الحقيقة غير معتبرة
أما القسم الأول فنقول إن تلك الأمور إما أن تكون راجعة إلى
السامعين أو إلى المخبرين
أما الأمور الراجعة إلى السامعين فأمران
الأول
أن لا يكون السامع عالما بما أخبر به اضطرارا لأن تحصيل الحاصل
محال وتحصيل مثل الحاصل أيضا محال وتحصيل التقوية أيضا محال لأن العلم الضروري أيضا
يستحيل أن يصير أقوى مما كان
مثاله
إن كان العلم حاصلا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان لم
258

يكن للاخبار عنه تأثير في العلم به
والثاني
قال الشريف المرتضي يجب أن لا يكون السامع قد سيق بشبهة أو تقليد
إلى اعتقاد نفى موجب الخبر وهذا الشرط إنما اعتبره الشريف لأن عنده
الخبر عن النص على إمامة علي رضي الله عنه متواتر ثم لم يحصل
العلم به لبعض السامعين فقال ذلك لأنهم اعتقدوا نفي النص لشبهة
واحتج عليه
بأن حصول العلم عقيب خبر التواتر إذا كان بالعادة جاز أن يختلف
ذلك باختلاف الأحوال فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك
الحكم قبل ذلك الحكم ولا يحصل له إذا اعتقد ذلك
فإن قلت يلزمكم عليه أن تجوزوا صدق من أخبركم بأنه لم يعلم
وجود البلدان الكبار والحوادث العظام بالأخبار المتواترة لأجل شبهة
اعتقدها في نفي تلك الأشياء
قلت إنه لا داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور ولا
شبهة في نفي تلك الأشياء أصلا
أما ما يرجع إلى المخبرين فأمران
259

الأول
أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه لأن غير الضروري يجوز دخول
الالتباس فيه فلا جرم لا يحصل العلم به ولذلك فإن المسلمين يخبرون
اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يحصل لهم العلم بها
الثاني
العدد وفيه مسائل
المسألة الأولى
قال القاضي أبو بكر اعلم أن قول الأربعة لا يفيد العلم أصلا وأتوقف
في قول الخمسة واحتج عليه
بأنه لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين لوقع بخبر كل أربعة
صادقين وهذا باطل فذاك مثله
بيان الملازمة أنه لو وقع العلم بقول أربعة ولا يقع بقول مثلهم
مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط لم يمتنع أن
تخبرنا قافلة الحاج بوجود مكة فنعرفها ثم هم بأعيانهم يخبروننا بوجود
المدينة فلا نعرفها ولما لم يجز ذلك صح قولنا
وإنما قلنا إن العلم لا يحصل بخبر كل أربعة لأنه لو وقع العلم بخبر
260

كل أربعة إذا كانوا صادقين لكان يجب إذا شهد أربعة انهم شاهدوا فلانا
على الزنا أن يستغنى القاضي عن التزكية لأنهم إذا كانوا صادقين وجب
أن يحصل له العلم بقولهم وحينئذ يستغنى عن التزكية
وإن لم يحصل له العلم بقولهم قطع بكونهم كاذبين قطعا وحينئذ
يسغنى لأن أيضا عن التزكية ولما لم يكن كذلك بل أجمعوا على وجوب
إقامة الحد وإن لم يضطر القاضي إلى صدقهم علمنا أن العلم لا يحصل
بخبر الأربعة
فإن قيل الملازمة ممنوعة
قوله لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين ولا يقع بخبر أربعة صادقين
آخرين لزم كذا وكذا
قلنا لم قلت إنه يلزم ذلك
بيانه
أن العلم بمخبر الأخبار حاصل عن فعل الله تعالى عندكم
261

وإذا كان كذلك جاز منه تعالى أن يخلق ذلك العلم عند خبر أربعة ولا
يخلقه عند خبر أربعة أخرى ولا تجري العادة في ذلك على طريقة واحدة
وإن كانت العادة في أخبار الجماعات العظيمة جارية على طريقة واحدة
كما أن التكرار على البيت الواحد ألف مرة سبب لحفظه في العادة
المطردة
وأما تكراره مرتين أو ثلاثا فقد يكون سببا لحفظه وقد لا يكون
والعادة فيه مختلفة
سلمنا أنه يلزم من اطراد العادة في شئ اطرادها في مثله فلم
قلت يلزم من حصول العلم عند رواية أربعة حصوله عند شهادة
أربعة
بيانه
أن الشهادة وإن كانت خبرا في المعنى لكن لفظ الشهادة مخالف للفظ
الخبر الذي ليس بشهادة فلم لا يجوز أن يجري الله تعالى عادته بفعل
العلم الضروري عند الخبر الذي ليس فيه لفظ الشهادة ولا يفعله عند لفظ
الشهادة وإن كان الكل خبرا
سلمنا أن التفاوت بين لفظ الشهادة وبين لفظ الخبر الذي ليس
بشهادة غير معتبر فلم لا يجوز أن يقال لما كان من شرط الشهادة أن
يجتمع المخبرون عند الشهادة وذلك الاجتماع يوهم الاتفاق على
262

الكذب فلا جرم لم يفد العلم بخلاف الرواية
سلمنا أن ما ذكرته يوجب الجزم بأن قول الأربعة لا يفيد العلم لكنه
يوجب الجزم بأن قول الخمسة لا يفيد أيضا لأن قول الخمسة لو أمكن أن يفيد
فإذا شهدوا فإن كانوا صادقين وجب أن يفيد العلم الضروري
وإن لم يحصل العلم بصدقهم وجب القطع بكذبهم فهذا يقتضي أن
تكون الخمسة كالأربعة في القطع بأنها لا تفيد
سلمنا ذلك لكن يلزمكم أن تقطعوا بأن عدد أهل القسامة لا يفيد
العلم لعين ما تقدم ذكره في الخمسة
263

والجواب
أما الأسئلة وقد الثلاثة الأولى فواردة ولا جواب عنها
وأما المعارضة بقول الخمسة فالجواب أنه لا يمتنع أن يقع العلم بخبر
خمسة والحاكم إنما لم يعلم صدق هؤلاء الخمسة
وإن وجب عليه إقامة الحد لجواز أن يكون أربعة منهم شاهدوا ذلك
والخامس ما شاهده فلزم إقامة الحد بقول أربعة منهم وإن لم يعرفهم
بأعيانهم وكان الخامس كاذبا فلا جرم وجب عليه البحث عن أحوالهم
وهذا بخلاف الأربعة فإنه إذا لم يحصل العلم بقولهم وجب أن يكون
واحد منهم كاذبا
وبهذا التقدير تسقط الحجة بقولهم ولزم على الحاكم رد قولهم
وإقامة الحد عليهم فظهر الفرق
واعلم أن هذا الجواب يقتضي القطع بكذب واحد من الخمسة أو
القطع بأن قول الخمسة لا يفيد العلم أصلا أو القول بأنه لا يلزم من كون قول
الخمسة مفيدا للعلم أن يكون قول كل خمسة مفيدا للعلم
قوله يلزمكم أن تقطعوا بأنه لا يقع العلم بخبر أهل القسامة
264

قلنا أهل العراق يقولون يحلف خمسون من المدعى عليهم كل واحد
منهم على أنه ما قتل ولا عرف قاتلا فكل واحد منهم يخبر عن
غير ما يخبر عنه الآخر
وعند الشافعي رضي الله عنه يحلف خمسون من المدعين كل
واحد منهم بحسب ظنه فخبر كل واحد منهم غير خبر الآخر
المسألة الثانية
الحق أن العدد الذي يفيد قولهم العلم غير معلوم فإنه لا عدد يفرض
إلا وهو غير مستبعد في العقل صدور الكذب عنهم وإن الناقص عنهم
بواحد أو الزائد عليهم بواحد لا يتميز عنهم في جواز الإقدام على
الكذب
ومنهم من اعتبر فيه عددا معينا وذكروا وجوها
أحدها
الاثنا عشر لقوله تعالى وبعثنا منهم أثني عشر نقيبا
265

وثانيها
العشرون وهو قول أبي الهذيل قال لقوله تعالى إن يكن منكم
عشرون صابرون يغلبوا مائتين أوجب الجهاد على العشرين وإنما خصهم
بالجهاد لأنهم إذا أخبروا حصل العلم بصدقهم
وثالثها
الأربعون لقوله تعالى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين
نزلت في الأربعين
ورابعها
السبعون لقول تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا
266

وخامسها
ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر
وسادسها
عدد بيعة الرضوان
واعلم أن كل ذلك تقييدات لا تعلق للمسألة بها
267

فإن قلت إذا جعلتم العلم معرفا لكمال العدد تعذر عليكم الاستدلال
به على الخصم
قلت إنا لا نستدل ألبتة على حصول العلم بالخبر المتواتر بل
المرجع فيه إلى الوجدان كما تقدم بيانه
فهذه هي الشرائط المعتبرة في خبر التواتر إذا أخبر المخبرون عن
المشاهدة
فأما إذا نقلوا عن قوم آخرين فالواجب حصول هذه الشرائط في كل
تلك الطبقات ويعبر عن ذلك بوجوب استواء الطرفين والواسطة
وأما القسم الثاني وهي الشرائط التي اعتبرها قوم مع أنها غير
معتبرة فأربعة
الأول أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو باطل لأن أهل الجامع
لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لكان إخبارهم
مفيدا للعلم
الثاني
أن لا يكونوا على دين واحد وهذا شرط اعتبره اليهود وهو باطل لأن
268

التهمة لو حصلت لم يحصل العلم سواء كانوا على دين واحد أو على
أديان وإن ارتفعت حصل العلم كيف كانوا
الثالث
أن لا يكونوا من نسب واحد ولا من بلد واحد والقول فيه ما تقدم
الرابع
شرط ابن الرواندي وجود المعصوم في المخبرين لئلا يتفقوا على
الكذب وهو باطل لأن المفيد حينئذ قول المعصوم لا خير أهل التواتر
المسألة الثالثة
في خبر التواتر من جهة المعنى
مثاله
أن يروي واحد أن حاتما وهب عشرة من العبيد وأخبر اخر أنه وهب
خمسة من الإبل وأخبر اخر أنه وهب عشرين ثوبا ولا يزال يروي كل
واحد منهم من هذا الخبر شيئا فهذه الأخبار تدل على سخاوة حاتم من
وجهين
269

الأول
أن هذه الجزئيات مشتركة في كلي واحد وهو كونه سخيا والراوي
للجزئي بالمطابقة راو للكلي المشترك فيه بالتصمت علي فإذا بلغوا حد
التواتر صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر
الثاني
أن نقول هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا بل لا بد وأن يكون الواحد
منهم صادقا وإذا كان كذلك فقد صدق جزئي واحد من هذه الجزئيات
المروية ومتى صدق واحد منها ثبت كونه سخيا
والوجه الأول أقوى لأن المرة الواحدة لا تثبت السخاوة
270

الباب الثاني
فيما عدا التواتر
من الطرق الدالة على كون الخبر صدقا
271

القول في الطرق الصحيحة
وهي ثمانية
الأول
الخبر الذي عرف وجود مخبره بالضرورة
الثاني
الخبر الذي عرف وجود مخبره بالاستدلال
الثالث
خبر الله تعالى صدق باتفاق أرباب الملل والأديان ولكنهم
اختلفوا في الدلالة عليه بحسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح
والمخلوق
أما أصحابنا فقد قال الغزالي رحمة الله يدل عليه دليلات
أقواهما إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن امتناع الكذب على الله تعالى
والثاني
أن كلامه تعالى قائم بذاته ويستحيل الكذب في كلام النفس على
من يستحيل عليه الجهل إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم والجهل
على الله تعالى محال
273

ولقائل أن يعترض على الأول بأن العلم بصدق الرسول موقوف على
دلالة المعجزة على صدقه صلى الله عليه وسلم وذلك إنما كان لأن المعجز قائم مقام
التصديق بالقول
وإذا كان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مستفادا من تصديق الله تعالى إياه
وذلك إنما يدل أن لو ثبت أن الله صادق إذا لو جاز الكذب عليه
لم يلزم من تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم كونه صادقا
فإذن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم موقوف على العلم بصدق الله تعالى
فلو استفدنا العلم بصدق الله تعالى من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم للزم
الدور
فإن قلت لا نسلم أن دلالة تصديق الله تعالى للرسول على كونه
صادقا يتوقف على العلم بكون الله تعالى صادقا لأن قوله للشخص
المعين أنت رسولي جار مجرى قول الرجل لغيره أنت وكيلي فإن
هذه الصيغة وإن كانت إخبارا في الأصل لكنها إنشاء في المعنى
والإنشاء لا يتطرق إليه التصديق والتكذيب
وإذا كان كذلك فقول الله تعالى للرجل المعين أنت رسولي
يدل على رسالته سواء قدر أن الله تعالى صادق أو لم يقدر ذلك وعلى
هذا ينقطع الدور
قلت هب أن قوله في حق الرسول المعين إنه رسولي إنشاء
274

ليس يحتمل الصدق والكذب لكن الإنشاء تأثيره في الأحكام الوضعية لا في
الأمور الحقيقية
وإذا كان كذلك لم يلزم من قول الله تعالى له أنت رسولي أن
يكون الرسول صادقا في كل ما يقول لأن كون ذلك الرجل صادقا أمر
حقيقي والأمور الحقيقية لا تختلف باختلاف الجعل الشرعي
فإذن لا طريق إلى معرفة كون الرسول صادقا فيما يخبر عنه إلا من
قبل كون الله تعالى صادقا وحينئذ يلزم الدور
وعلى الثاني
أن البحث في أصول الفقه غير متعلق بالكلام القائم بذات الله
تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت بل عن الكلام المسموع الذي هو
الأصوات المقطعة
وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الكلام القائم بذاته تعالى صدقا
كون هذا المسموع صدقا فلعلمنا حتى أن هذه الحجة مغالطة
وأيضا يقال
لم قلت إن الكلام القائم بذاته تعالى صدق
قوله لأنه تعالى ليس بجاهل ومن لا يكون جاهلا استحال أن يخبر
بالكلام النفساني خبرا كاذبا
قلنا هذه القضية غير بديهية فما البرهان
وأما المعتزلة فهم ظنوا أن هذا البحث ظاهر على قواعدهم
فقالوا الكذب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح
275

والاعتراض أن نقول إن البحث عن أن الله تعالى لا يصح
عليه الكذب يجب أن يكون مسبوقا بالبحث عن ماهية الكذب لأن التصديق
مسبوق بالتصور فنقول
أما أن يكون المراد من الكذب الكلام الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه
في الظاهر سواء كان بحيث لو أضمر فيه زيادة أو نقصان أو تغيير صح
وإما أن يكون المراد منه الكلام الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه
في الظاهر ولا يمكن أن يضمر فيه ما عنده يصير مطابقا
فإن أردتم بالكذب المعنى الأول لم يمكنكم أن تحكموا بقبحه وبأنه
لا يجوز ذلك على الله تعالى لأن أكثر العمومات في كتاب الله
مخصوص
وإذا كان كذلك لم يكن ظاهر العموم مطابقا للمخبر عنه
وكذا الحذف والإضمار واقعان باتفاق أهل الإسلام في كتاب الله
تعالى حتى إنه حاصل في أوله فإن الناس اختلفوا في معنى بسم الله
الرحمن الرحيم فمنهم من قدم المضمر وهو الأمر أو الخبر ومنهم من
أخره وكذا الحمد لله رب العالمين قالوا معناه قولوا الحمد لله
276

فالإضمار متفق عليه
ولأن المعتزلة اتفقوا على حسن المعاريض على أنه لا معنى لها إلا
الخبر الذي يكون ظاهره كذبا ولكنه عند إضمار شرط خاص وقيد خاص
يكون صدقا
وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يمكن تفسير الكذب الممتنع على الله
تعالى بالوجه الأول
وأما التفسير الثاني فنقول نسلم أنه قبيح بتقدير الوقوع ولكنه غير
ممكن الوجود لأنه لا خبر يفرض كونه كذبا إلا وهو بحال متى أضمرنا
فيه زيادة أو نقصانا صار صدقا
وعلى هذا التقدير يرتفع الأمان عن جميع ظواهر الكتاب والسنة
فإن قلت لو كان مراد الله غير ظواهرها لوجب أن يبينها وإلا كان
ذلك تلبيسا وهو غير جائز
ولأنا لو جوزنا ذلك لم يكن في كلام الله تعالى فائدة فيكون عبثا
وهو غير جائز
قلت الجواب عن الأول
ما الذي تريد بكونه تلبيسا
إن عنيت به أنه تعالى فعلا يحتمل إلا التجهيل والتلبيس
فهذا غير لازم لأنه تعالى لما قرر في عقول المكلفين أن اللفظ
المطلق جائز أن يذكر ويراد به المقيد بقيد غير مذكور معه ثم أكد ذلك بأن
277

بين للمكلف وقوع ذلك في أكثر الآيات والأخبار فلو قطع المكلف بمقتضى
الظاهر كان وقوع المكلف في ذلك الجهل من قبل نفسه لا من قبل الله
تعالى حيث قطع لا في موضع القطع وهذا كما يقال في إنزل
المتشابهات فإنها وإن كانت موهمة للجهل إلا أنها لما لم تكن متعينة
لظواهرها تعالى بل كان فيها احتمال لغير تلك الظواهر الباطلة لا جرم كان القطع
بذلك تقصيرا من المكلف لا تلبيسا من الله تعالى
وعن الثاني
أنا لو ساعدنا على أنه لا بد لله تعالى في كل فعل من غرض
معين لكن لم قلت إنه لا غرض من تلك الظواهر إلا منهم معانيها الظاهرة
أليس أنه ليس الغرض من إنزال المتشابهات فهم ظواهرها بل الغرض من
إنزالها أمور أخرى فلم لا يجوز أن يكون الأمر ها هنا كذلك
فإن قلت جواز إنزال المتشابهات مشروط بأن يكون الدليل قائما على
امتناع ما أشعر به ظاهر اللفظ فما لم يتحقق هذا الشرط لم يكن إنزال
المتشابهات جائزا
قلت لا شك أن إنزال المتشابه غير مشروط بأن يكون الدليل المبطل
للظاهر معلوما للسامع بل هو مشروط بأن يكون ذلك الدليل موجودا في
نفسه سواء علمه السامع لذلك المتشابه أو لم يعلمه
278

وإذا كان كذلك فما لم يعلم السامع أنه ليس في نفس الأمر دليل مبطل
لذلك الظاهر لا يمكنه اجراؤه على ظاهره
ثم لا يكفي في العلم بعدم الدلل فإن العقلي المبطل للظاهر عدم
العلم بهذا الدليل المبطل لأنا بينا في الكتب الكلامية أنه لا يلزم من
عدم العلم بالشئ العلم بعدم الشئ
إذا كان كذلك فلا ظاهر نسمعه إلا ويجوز أن يكون هناك دليل عقلي
أو نقلي يمنع من حمله على ظاهره وإذا كان هذا التجويز قائما لم يقع الوثوق
بشئ من الظواهر على مذهب المعتزلة ألبتة
ولما بينا ضعف هذه الطرق فالذي نعول عليه في المسألة أن
الصادق أكمل من الكاذب والعلم به ضروري فلو كان الله جده وتقدست
أسماؤه كاذبا لكان الواحد منا حال كونه صادقا أكمل وأفضل من الله
تعالى وذلك معلوم البطلان بالضرورة فوجب القطع بكون الله تعالى
صادقا وهو المطلوب
الرابع
خبر الرسول صلى الله عليه وسلم
قال الغزالي رحمه الله دليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع
استحالة ظهور على يد الكذابين لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الله
تعالى عن تصديق رسله
279

ولقائل أن يقول إذا كان يلزم من اقتدار الله تعالى على إظهار
المعجز على يد الكاذب عجزه تعالى عن تصديق الرسول فكذا يلزم
من الحكم بعدم اقتداره عليه عجزه فلم كان نفي أحد العجزين عنه
أولى من الآخر
وأيضا
إذا فرضنا أن الله تعالى قادر على إقامة المعجزة على يد الكاذب
فمع هذا الفرض إما أن يكون تصديق الرسول ممكنا أو لا يكون
فإن أمكن بطل قوله إنه يلزم من قدرة الله تعالى على إظهار
المعجز على يد الكاذب عجزه عن تصديق الرسول
وإن لم يكن ذلك ممكنا لم يلزم إنما يتحقق عما
يصح أن يكون مقدورا في نفسه ألا ترى أن الله لا يوصف بالعجز عن خلق
نفسه
وأيضا
فإذا استحال يقدر الله تعالى على تصديق رسله إلا استحال منه
إظهار المعجزة على يد الكاذب وجب أن ينظر أولا أن ذلك هل هو محال
أم لا وأن لا يستدل باقتداره على تصديق الرسل على عدم قدرته على
إظهاره على يد الكاذب لأن ذلك تصحيح الأصل بالفرع وهو دور
وأيضا
إذا تأملنا علمنا أن ذلك غير ممتنع لأن قلب العصا حية لما كان
280

مقدورا لله تعالى وممكنا في نفسه لم يقبح من الله تعالى فعله في شئ
من الأوقات وبشئ من الجهات فبأن قال زيد كاذبا أنا رسول
الله يستحيل أن ينقلب الممكن ممتنعا والمقدور معجوزا
سلمنا ذلك لكن المعجز يدل على كونه صادقا في ادعاء الرسالة
فقط أو على صدقه في كل ما أخبر عنه
الأول مسلم والثاني ممنوع
بيانه
أن يكون إذا ادعى الرسالة وأقام المعجز كان المعجز دالا على صدقه
فيما ادعاه وهو كونه رسولا لا على صدقه في غير ما ادعاه فإن الرسول ما
ادعى كونه صادقا في جميع الأمور أو لا يعلم أنه ادعى الصدق في كل
الأمور
فإذن هذا المطلوب لا يتم إلا بإقامة الدلالة على أنه ادعى كونه صادقا
في جميع ما يخبر عنه ثم أقام المعجزة عليه وذلك لا يكفي فيه قيام المعجز
على ادعاء الرسالة وكيف والعلماء اختلفوا في جواز الصغائر على الأنبياء
بل جوز بعضهم الكبائر عليهم واتفقوا على جواز السهو والنسيان
بل الصواب أن يقال إن ظهر المعجز عقيب ادعاء الصدق في كل ما
281

يخبر عنه وجب الجزم بتصديقه في الكل وإلا ففي القدر المدعى فقط
الخامس
خبر كل الأمة عن الشئ يجب أن يكون صدقا لقيام الدلالة على أن
الإجماع حجة
السادس
خبر الجمع العظيم عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة
والنفرة لا يجوز أن يكون كذبا
وأيضا
الجمع العظيم البالغ إلى حد التواتر إذا أخبر واحد منهم عن شئ
غير ما أخبر عنه صاحه عمر! فلا بد وأن يقع فيها ما يكون صدقا ولذلك نقطع
بأن الأخبار المروية عنه صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد ما هو قوله وإن كنا
لا نعرف ذلك بعينه
السابع
اختلفوا في أن القرائن هل تدل على صدق الخبر أم لا
فذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إليه
والباقون أنكروه
احتج المنكرون بأمور
أولها أن الخبر مع القرائن التي يذكرها النظام لو أفاد العلم لما جاز
انكشافه عن الباطل لكن قد ينكشف عنه لأنا قد علمنا أن الخبر عن موت
282

إنسان مع القرائن التي يذكرها النظام من البكاء عليه والصراخ وإحضار
الجنازة والأكفان قد ينكشف عن الباطل فيقال انه أغمي عليه أو لحقته
سكتة أو أظهر ذلك ليعتقد السلطان موته فلا يقتله
فثبت أن هذه القرائن لا تفيد العلم
الثاني
لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم لجاز أن لا يقع العلم عند خبر
التواتر لعدم تلك القرائن ولما لم يجز ذلك بطل قوله
الثالث
لو وجب العلم عند خبر واحد لوجب ذلك عند خبر كل واحد كما
أن الخبر المتواتر لما اقتضاه في موضع اقتضاه في كل موضع
والجواب عن الأول
أن الذي ذكرتموه لا يدل إلا على أن ذلك القدر من القرائن لا يفيد
العلم ولا يلزم منه أن لا يحصل العلم بشئ من القرائن لأن القدح في
صورة خاصة لا يقتضي القدح في كل الصور
وعن الثاني
أن النظام يلتزم ويقول خبر التواتر ما لم تحصل فيه القرائن لم يفد
العلم
ومن تلك القرائن أن يعلم أنه ما جمعهم جامع من رغبة أو رهبة أو
التباس
283

سلمنا ذلك لكن لا يلزم من قولنا القرائن تفيد العلم قولنا إنها هي
المفيدة وبتقدير أن تكون هي المفيدة فلم قلت يجوز انفكاك خبر التواتر
عنها
وعن الثالث
أن خبر الواحد إنما يفيد العلم لا لذاته فقط بل بمجموع القرائن
فمتى حصل ذلك المجموع مع أي خبر كان أفاد العلم
وأيضا
فالعلم الحاصل عقيب خبر التواتر عندكم حاصل بالعادة فيجوز
أيضا أن يكون حصوله عقيب القرائن بالعادة
وإذا كان كذلك جاز أن تكون هذه العادة مختلفة وإن كانت مطردة في
التواتر
والمختار أن القرينة قد تفيد العلم إلا القرائن لا تفي العبارات بوصفها فقد
تحصل أمور يعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجلا أو وجلا
مع أنا لو حاولنا التعبير عن جميع تلك الأمور لعجزنا عنه والإنسان إذا أخبر
عن كونه عطشانا فقد يظهر على وجهه ولسانه من أمارات العطش ما يفيد
العلم بكونه صادقا والمريض إذا أخبر عن ألم في بعض أعضائه مع أنه يصيح
وترى عليه علامات ذلك الألم ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج لو لم يكن
المريض صادقا في قوله لكان ذلك العلاج قاتلا له فها هنا يحصل العلم
بصدقه
وبالجملة فكل من استقرأ العرف عرف أن مستند اليقين في الأخبار
ليس إلا القرائن
فثبت أن الذي قاله النظام حق
284

القول
في الطرق الفاسدة
وهي خمسة
الأول
إذا أخبر واحد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن شئ والرسول ترك الإنكار
عليه قال بعضهم ذلك يدل على كون ذلك الخبر صدقا
والحق أن يقال ذلك الخبر إما أن يكون خبرا عن أمر يتعلق بالدين أو
بالدنيا
فإن كان عن الدين فسكوته عليه الصلاة والسلام عن الإنكار يدل على
صدقه لكن بشرطين
أحدهما
أن لا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم
والثاني
أن يجوز تغير ذلك الحكم عما بينه فيما قبل
وإنما وجب اعتبار هذين الشرطين لأن بيان الحكم لو تقدم وأمنا عدم
تغيره كان فيما سبق من البيان ما يغني عن استئناف البيان ولهذا لا يلزمه
عليه الصلاة والسلام تجديد الإنكار حالا بعد حال على الكفار
285

وأما القسم الثاني وهو الخبر عن أمر متعلق بالدنيا فسكوته عليه
الصلاة والسلام يدل على الصدق بأحد شرطين
أحدهما
أن يستشهد بالنبي صلى الله عليه وسلم ويدعي عليه علمه بالمخبر عنه
وثانيهما
أن يعلم الحاضرون علم النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصة ففي كل واحد من
هذين الوجهين يجب صدق الخبر إذ سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم ها هنا يوهم
التصديق فلو كان المخبر كاذبا لكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوهم تصديقه وأنه
غير جائز
وأما إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المخبر عنه أو جوزنا ذلك
لم يلزم حينئذ من السكوت عن التكذيب حصول التصديق لأنه عليه الصلاة
والسلام يجوز سكوته لاحتمال كونه متوقفا في الأمر
الثاني
قالوا إذا أخبر الواحد بحضرة جماعة كثيرة عن شئ بحيث لو كان
كذبا لما سكتوا عن التكذيب كان ذلك دليلا على صدقه فيه لأنهم إما
أن يكونوا سكتوا مع علمهم بكذبه أو لا مع علمهم بكذبه
والأول باطل لأن الداعي إلى التكذيب قائم والصارف زائل ومع
286

حصول هذين الشرطين يجب الفعل فلما لم يوجب دل على أنهم لم يعلموا
كذبه
وإنما قلنا إن الداعي حاصل لأن من استشهد على خبر كذب فأراد
الصبر على التكذيب وجد من نفسه مشقة على ذلك الصبر وذلك يدل على
حصول الداعي
وأما زوال الصارف فإن ذلك الصارف إما رغبة أو رهبة والجمع
العظيم لا يعمهم من الرغبة أو الرهبة ما يحملهم على كتمان ما يعلمونه ولهذا
لا يجتمعون على كتمان الرخص والغلاء العظيمين
فأما القسم الثاني وهو أن يقال سكتوا لعدم علمهم بكذب القائل
فباطل لأنه يبعد عن الجمع العظيم أن لا يطلع واحد منهم عليه
واعلم أن هذا الطريق لا يفيد اليقين بل الظن لأنه لا يمكنا القطع
بامتناع اشتراك الجماعة الذين حضروا في رغبة أو رهبة مانعة من
السكوت
وإن سلمناه لكن لا يستبعد غفلة الحاضرين عن معرفة كونه كذبا إذ
ربما لم يتعلق لهم به غرض فلم يبحثوا عنه
الثالث
زعم أبو هاشم والكرخي وتلميذهما أبو عبد الله البصري أن الإجماع على
العمل بموجب الخبر يدل على صحة الخبر وهذا باطل من وجهين
أحدهما
أن عمل كل الأمة بموجب الخبر لا يتوقف على قطعهم بصحة ذلك
287

الخبر فوجب أن لا يدل على صحة ذلك الخبر
أما الأول
فلأن العمل بخبر الواحد واجب في حق الكل فلا يكون عملهم به متوقفا
على القطع به
وأما الثاني
فلانه لما لم يتوقف عليه لم يلزم من ثبوته ثبوته
الثاني
أن علمهم بمقتضى ذلك الخبر يجوز أن يكون لدليل اخر لاحتمال قيام
الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد
واحتجوا
بأن المعلوم من عادة السلف فيما لم يقطعوا بصحته أن يرد مدلوله
بعضهم ويقبله الآخرون
والجواب
هذه العادة ممنوعة بدليل اتفاقهم على حكم المجوس بخبر عبد
الرحمن
الرابع
قال بضع الزيدية بقاء النقل مع ترفر النبي الدواعي على إبطاله
الدواعي على إبطاله يدل على صحة الخبر كخبر الغدير والمنزلة فإنه
288

سلم نقلهما في زمان بني أمية مع توفر دواعيهم على ابطالهما
وهذا أيضا ليس بشئ لاحتمال أنه كان من باب الآحاد أولا
ثم اشتهر فيما بين الناس بحيث عجز العدو عن إخفائه
ولأن الصوارف من جهة بني أمية وإن حصلت لكن الدواعي من جهة
الشيعة حصلت
ولأن الناس إذا منعوا من إفشاء فضيلة إنسان كانت محبتهم له وحرصهم
على ذكر مناقبه أشد مما إذا لم يمنعوا
الخامس
اعتمد كثير من الفقهاء والمتكلمين في تصحيح خبر الإجماع وأمثاله
بأن الأمة فيه على قولين
منهم من احتج به ومنهم من اشتغل بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على
قبوله
وهو ضعيف أيضا لاحتمال أن يقال إنهم قبلوه كما يقبل خبر
الواحد
ويمكن أن يجاب عنه بأن خبر الواحد يقبل في العمليات لا في
العلميات وهذه المسألة علمية فلما قبلوا هذا الخبر فيها دل ذلك على
اعتقادهم في صحته
والجواب
لا نسلم أن كل الأمة قبلوه بل كل من لم يحتج به في الإجماع طعن
289

فيه بأنه من باب الآحاد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية بل هب أنهم
ما طعنوا فيه على التفصيل لكن لا يلزم من عدم الطعن من جهة واحدة
عدم الطعن مطلقا
290

الباب الثالث
في الخبر الذي يقطع بكونه كذبا
وهو أربعة
الأول
الخبر الذي ينافي مخبره وجود ما علم بالضرورة سواء كان المعلوم
بالضرورة حسيا أو وجدانيا أو بديهيا
ومن هذا الباب قول القائل الذي لم يكذب قط أنا كاذب فهذا
الخبر كذب لأن المخبر عنه بكونه كاذبا إما أن تكون الأخبار التي وجدت
قبل هذا الخبر أو هذا الخبر
والأول باطل لأن تلك الأخبار ما كانت كذبا فإخباره عن نفسه بكونه
كاذبا فيها كذب
والثاني باطل لأن الخبر عن الشئ يتأخر في الرتبة عن المخبر عنه
فإن جعلنا الخبر عين المخبر عنه لزم تأخر الشئ عن نفسه في الرتبة وهو
محال
الثاني
الخبر الذي يكون مخبره على خلاف الدليل القاطع
ثم ذلك الخبر إما أن يحتمل تأويلا صحيحا أو لا يحتمله فإن احتمله
فإما أن يحتمل تأويلا قريبا أو تأويلا متعسفا
فإن كان قريبا جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم به لإرادة ذلك
291

المعنى كما في متشابهات الكتاب
وإن كان متعسفا حكم إما بكذبه وإما بأنه كان معه زيادة أو نقصان
يصح الكلام معه مع أنه لم ينقل وكذا القول فيما لا يقبل التأويل
الثالث
وهو في الحقيقة داخل تحت القسم الثاني الأمر الذي لو وجد
لتوفرت الدواعي على نقله على سبيل التواتر إما لتعلق الدين به كأصول
الشرع أو لغرابته كسقوط المؤذن من المنارة أو لهما جميعا
كالمعجزات ومتى لم يوجد ذلك دل على كذبه
والخلاف فيه مع الشيعة فإنهم جوزوا في مثل هذا الشئ أن لا يظهر
لأجل الخوف والتقية
لنا
لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بين البصرة وبين بغداد بلدة أعظم
منهما مع أن الناس ما أخبروا عنها
ولجوزنا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب عشر صلوات لكن الأمة ما
نقلت إلا خمسة ولما كان ذلك باطلا فكذا ما أدى إليه
فإن قيل هذا الكلام ظلم لأن العلم بعدم هذه الأمور إما أن يكون
متوقفا على العلم بأنه لو كان لوجب نقله أو لا يكون متوقفا عليه
فإن كان الأول وجب أن يكون الشاك في الأصل شاكا في هذه
الفروع لكن الناس كما يعلمون بالضرورة وجود بغداد والبصرة يعلمون
بالضرورة عدم بلدة بينهما أكبر منهما والعلم الضروري لا يكون متوقفا على
العلم النظري
292

وإن كان الثاني فحينئذ العلم بعدم هذه البلدة غير متوقف على العلم
بأنها لو كانت لنقلت فلا يلزم من عدم هذا عدم ذاك
سلمنا توقف العلم بعدم هذه الأمور على العلم بأنها لو كانت لنقلت
لكن ما ذكرتموه مثال واحد ولا يلزم من حصول الحكم في مثال واحد
على وفق قولكم حصوله في كل الصور على وفق قولكم فإن قستم سائر
الصور على هذه الصورة فقد بينا أن القياس لا يفيد اليقين لاحتمال أن
يكون ما به فارق الأصل الفرع شرطا في الأصل أو مانعا في الفرع
ثم الذي يبين أن الأمر ليس كذلك في كل الصور أمور
أحدها
أن إفراد الإقامة وتثنيتها من أظهر الأمور وأجلاها ثم إن ذلك لم ينقل
بالتواتر
وثانيها
القول في هيئات الصلاة من رفع اليدين والجهر بالتسمية كل ذلك أمور
ظاهرة مع أنها لم تنقل نقلا متواترا
وثالثها
انشقاق القمر
293

وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل
294

ونبوع الماء من بين الأصابع أمور عظيمة ثم إنها لم تنقل بالتواتر
فإن قلت ذلك لأنهم استغنوا بنقل القرآن عن نقلها
قلت لا نسلم حصول الاستغناء بنقل القرآن لأن كون القرآن معجزا أمر
لا يعرف إلا بدقيق النظر والعلم بكون هذه الأشياء معجزات علم ضروري
فكيف يقوم أحدهما مقام الآخر
فلأن قلتم لا نزاع في حصول التفاوت من هذه الجهة ولكن لما كان
القرآن دليلا قاطعا جاز أن يصير ظهوره واشتهاره سببا لفتور الدواعي عن نقل
سائر المعجزات وإن كانت أظهر من القرآن
فنقول
لم لا يجوز أن يقال إن دلالة قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله
295

ودلالة خبر الغدير والمنزلة على إمامة علي بن أبي طالب
رضي الله عنه وإن كانت خفية إلا أن ذلك صار سببا لفتور الدواعي عن
نقل النص الجلي
ورابعها
أن أقاصيص الأنبياء المتقدمين والملوك الماضين ما نقلت نقلا متواترا
وهو يقدح في قولكم
والجواب قوله العلم بعدم الواقعة العظيمة إما أن يتوقف على العلم بأنها
لو كانت لنقلت أو لا يتوقف
قلنا يتوقف عليه
قوله العلم بعدم بلدة بين البصرة وبغداد أكبر منهما علم ضروري
وهذه القاعدة نظرية والضروري لا يستفاد من النظري
297

قلنا لا نسلم أنه ضروري ولذلك فإن كل من ادعى نفي هذه البلدة
إذا قيل له كيف عرفت عدمها فلا بد وأن يقول لأنها لو كانت موجودة
لأشتهر خبرها كما اشتهر خبر بغداد والبصرة فعلمنا أن ذلك العدم مستفاد
من هذا الأصل
قوله ما ذكرته مثال واحد
قلنا لم نذكر ذلك المثال لاختصاص دليلنا به بل للتنبيه على القاعدة
الكلية
قوله ينتقض بالإقامة
قلنا اختلف أصحابنا في الجواب عنه على وجهين
الأول
وهو قول القاضي أبي بكر لعل المؤذن كان ينفرد مرة ويثنى أخرى
فإن قلت فكان يجب أن ينقل بالتواتر كونه كذلك
قلت يحتمل أن الراوي روى بعض ما رأى وأهمل الباقي لاعتقاده أن
التساهل في مثل هذا الباب سهل ولا يتعلق به غرض أصلا في
الدين نفيا وإثباتا
والثاني
لعلهم عرفوا أن هذه المسألة من الفروع التي لا يوجب الخطأ فيها كفرا
ولا بدعة فلذلك تساهلوا فيها ولما تساهلوا فيها نسوا ما شاهدوه لا سيما
وكانوا مشتغلين بالحروب العظيمة والذين شاهدوها في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم
298

قتلوا وقلوا فصارت الرواية من باب الآحاد
وأما اختلافهم في الجهر بالتسمية فعنه أيضا جوابان
الأول
لعل فعله فيه كان مختلفا
الثاني
أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ابتدأ بالقراءة أخفى صوته ثم يعلو صوته على
التدريج وعلى هذا التقدير يجوز أن يسمع جهره بالتسمية القريب دون
البعيد وأما سائر المعجزات قلنا لعل الذين شاهدوا تلك الأشياء كانوا
قليلين فلا جرم ما حصل النقل المتواتر
فأما الذين سمعوا النص الجلي في الإمامة فان كانوا قليلين صارت
الرواية من الآحاد فلا تكون حجة قطعية
وإن كانوا بالغين حد التواتر وجب ظهور النقل
وأما أقاصيص سائر الأنبياء فإنما لم تنقل بالتواتر لأنه لا يتعلق بروايتها
غرض أصلي في الدين بخلاف النص الجلي في الإمامة
الرابع
الخبر الذي يروي في وقت قد استقرت فيه الأخبار فإذا فتش عنه فلم يوجد
في بطون الكتب ولا في صدور الرواة علم أنه لا أصل له
وأما في عصر الصحابة حين لم تكن قد استقرت الأخبار فإنه يجوز أن
299

يروي أحدهم ما لم يوجد عند غيره
مسألة
في أن الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالآحاد قد وقع فيها ما يكون
كذبا
ثم في بيان الداعي إلى وضع الكذب عليه فهما مقامان
أما المقام الأول فالذي يدل عليه وجوه
أحدها
ما روي عنه عليه الصلاة والسلام سيكذب علي فهذا الخبر إن
300

كان صدقا فلا بد من أن يكذب عليه وإن كان كذبا فقد كذب عليه أيضا
وثانيها
أنه قد حصل في الأخبار ما لا يجوز نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يقبل
التأويل وإذا كان كذلك وجب القطع بكونه كذبا
وثالثها
ما روي عن شعبة أن نصف الحديث كذب
301

وأما المقام الثاني وهو سبب الكذب فاعلم أن ذلك إما أن يكون
من جهة السلف أو من جهة الخلف
أما السلف فهم منزهون عن تعمد الكذب إلا أنه لو وقع لوقع ذلك لوقع
على وجوه
أحدها
أن يكون الراوي يرى نقل الخبر بالمعنى فيبدل مكان اللفظ اخر لا يطابقه
في معناه وهو يرى أنه يقوم مقامه
وثانيها
أنهم لا يكتبون الحديث في الغالب فإذا قدم العهد فربما نسي اللفظ
فأبدل به لفظا اخر وهو يرى أن ذلك اللفظ هو المسموع وربما نسي زيادة
يصح بها الخبر
وثالثها
ربما أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يروي متن الخبر ولم يذكر
إسناده إلى غيره فيظن أن الخبر من جهته صلى الله عليه وسلم ولهذا كان عليه الصلاة
والسلام يستأنف الحديث إذا أحس بداخل ليكمل له
ومن ذلك ما وري أنه عليه الصلاة والسلام قال الشؤم في
ثلاثة المرأة والدار والفرس فقالت عائشة رضي الله عنها إنما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حكاية عن غيره
302

ورابعها
أنه ربما خرج الحديث على سبب وهو مقصور عليه ويصح معناه به وما
هذا سبيله ينبغي أن يروى مع سببه فإذا لم يعرف سببه أوهم
الخطأ كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال التاجر فاجر فقالت
عائشة رضي الله عنها إنما قال ذلك في تاجر دلس
وخامسها
ما روي أن أبا هريرة كان يروي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وكعب يروي أخبار
304

اليهود والسامعون ربما ألبس عليهم ذلك فرووا في الخبر أنهم سمعوا من
أبي هريرة وإنما سمعوا من كعب
وأما سبب الكذب في الأخبار من جهة الخلف فوجوه
أحدها
أن الملاحدة وضعوا الأباطيل ونسبوها إلى الرسول عليه الصلاة
305

والسلام تنفيرا للعقلاء منه كما يروي ذلك عن عبد الكريم بن أبي
العوجا
وثانيها
ما قيل إن الإمامية يسندون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما صح عندهم
عن بعض أئمتهم قالوا لأن جعفر بن محمد قال حدثني أبي وحدثني
جدي وحديث أبي وجدي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حرج عليكم إذا
سمعتم مني حديثا أن تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
306

وثالثها
أن يكون الراوي يرى جواز الكذب المؤدي إلى صلاح الأمة
فإن من مذهب الكرامية أنه إذا صح المذهب جاز وضع الأخبار فيه لأن
ذلك سبب لترويج الحق فوجب أن يكون جائزا
ورابعها
الرغبة كما وضعوا في ابتداء دولة بني العباس أخبارا في النص على إمامة
العباس وولده
مسألة
في تعديل الصحابة رضي الله عنهم
مذهبنا إن الأصل فيهم العدالة إلا عند ظهور المعارض للكتاب
والسنة
أما الكتاب فقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله
تعالى لقد رضى الله عن المؤمنين وقوله تعالى والسابقون
الأولون
وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم
307

اقتديتم اهتديتم وقوله ولا تسبوا أصحابي وقوله لو أنفق أحدكم ملأ
الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقوله خير الناس قرني
وقد بلغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الجاحظ عنه في
كتاب الفتيا ونحن نذكر ذلك مجملا ومفصلا
أما مجملا فإنه روي من طعن بعضهم في بعض أخبارا كثيرة يأتي
تفصيلها وقال النظام رأينا بعض الصحابة يقدح في البعض وذلك
يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذبا وإما في المقدوح فيه إن
كان القادح صادقا
بيان المقام الأول من وجوه
أقال عمران بن الحصين والله لو أردت لحدثت عن رسول الله عليه
الصلاة والسلام يومين متتابعين فإني سمعت كما سمعوا وشاهدت كما
شاهدوا ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما
شبه لهم
308

ب عن حذيفة أنه يحلف لعثمان بن عفان على أشياء بالله أنه ما
309

قالها وقد سمعناه قالها فقلنا له فيه فقال إني اشتري ديني بعضه ببعض
310

مخافة أن يذهب كله
ج بن عباس رضي الله عنهما بلغه أن ابن عمر رضي الله عنهما
يروي أن الميت ليعذب ببكاء أهله قال ذهل أبو عبد الرحمن إنما مر
النبي عليه الصلاة والسلام بيهودي يبكي على ميت فقال إنه ليبكي
عليه وإنه ليعذب
311

د ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال في
الضب كل لا آكله ولا أحله ولا أحرمه فقال زيد الأصم قلت لابن عباس
إن ناسا يقولون إنه عليه الصلاة والسلام قال في الضب كل لا آكله ولا أحله
312

ولا أحرمه قال بئس ما قلتم ما بعث الله النبي محللا ولا محرما
ه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال هل
وجدتم ما وعد ربكم حقا ثم قال إنهم الآن يسمعون ما أقول فذكروه
لعائشة رضي الله عنها فقالت لا بل قال إنهم ليعلمون أن الذي كنت
313

أقول لهم هو الحق
قال النظام وهذا هو التكذيب
ولما روت فاطمة بنت قيس أن زوجي طلقني ثلاثا ولم يجعل لي
رسول الله عليه الصلاة والسلام سكنى ولا نفقة فقال عمر لا نقبل
قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت
وقالت عائشة رضي الله عنها يا فاطمة قد قتلت الناس ومعلوم أنها
كانت من المهاجرات مع أنها عند عمر وعائشة رضي الله عنهما كاذبة
ز أراد وإن عمر رضي الله عنه ضرب أبي موسى رضي الله عنه في خبر
الاستيذان حتى شهد له أبو سعيد الخدري
ح كان علي رضي الله عنه يستحلف الرواة فلو كانوا غير متهمين
لما استحلفهم فإن عليا أعلم بهم منا
314

حميد كما بن عبد الرحمن الحميري بعث ابن أخ له إلى الكوفة وقال
سل علي بن أبي طالب عن الحديث الذي رواه عنه أهل الكوفة في البصرة
فإن كان حقا فخبرنا عنه فأتى الكوفة فلقى الحسن بن علي رضي الله
عنهما فأخبره الخبر فقال له الحسن أرجع إلى عمك وقل له قال أمير
المؤمنين يعني أباه إذا حدثتكم عن رسول الله فإني لن أكذب على الله
ولا على رسوله وإذا حدثتكم برأيي فإنما أنا رجل محارب
ويروي عنه هذا المعنى بروايات
قال عمرو بن عبيد الله وهاشم الأوقص يرى أن
315

قوله أمرت أن أقاتل الناس أو القاسطين أو المارقين من ذلك
وقوله في ذي الثدية ما كذبت ولا كذبت فإنما ربما كان الشئ
عنده حقا فيقول إن الرسول أمرني به لأن الرسول كان آمرا بكل حق
316

ى ورويتم هو عن أبي سعيد الخدري وجابر وأنس رضي الله عنهم قال
وذكر سنة مائة أنه لا يبقى على ظهرها نفس منفوسة
ثم يروي أن عليا رضي الله عنه قال لأبي مسعود إنك تفتي الناس
قال أجل وأخبرهم أن الأخير شر قال فأخبرني ما سمعت منه قال
سمعته يقول لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف فقال
علي أخطأت وأخطأ في أول فتواك إنما قال ذلك لمن حضره يومئذ وهل
317

الرجاء الا بعد مائة
يا أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام
الشمس والقمر نوران مكوران في النار يوم القيامة قال الحسن ما ذنبهما
قال أبو هريرة أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
318

وهذا من الحسن رد على أبي هريرة
يب قال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين إن كان هذا
جهد رأيهم فقد قصروا وإن كانوا قاربوك فقد غشوك
وهذا من علي رضي الله عنه حكم بجواز اللبس
يج أبو الأشعث قال كنا في غزاة وعلينا معاوية رضي الله عنه
فأصبنا ذهبا وفضة فأمر معاوية رجلا ببيعها للناس في أعطياتهم فتسارع الناس
319

فيها فقام عبادة بن الصامت رضي الله عنه فنهاهم فردوها فأتى الرجل
معاوية فشكا إليه فقام معاوية خطيبا فقال ما بال رجال يحدثون عن رسول
الله عليه الصلاة والسلام أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها
منه
فقام عبادة وأعاد القصة ثم قال والله لنحدثن عن رسول الله عليه
الصلاة والسلام وإن كره معاوية أو قال وأن رغم ما أبالي أن لا أصحبه
في جنده ليلة سوداء
فهذا يدل إما على كذب عبادة أو كذب معاوية ولو كذبنا معاوية لكذبنا
وسلم أصحاب صفين كالمغيرة عنه وغيره
320

وعلى أن معاوية لو كان كذابا لما ولاه عمر وعثمان على الناس
يد إن أبا موسى قام على منبر الكوفة لما بلغه أن عليا رضي الله عنه
أقبل يريد البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة والله ما أعلم
واليا أحرص على صلاح الرعية مني والله لقد منعتكم حقا كان لكم بيمين
كاذبة فأستغفر الله منها
321

وهذا إقرار منه على نفسه باليمين الكاذبة
يه روى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يوم السقيفة أنه عليه الصلاة
والسلام قال الأئمة من قريش ثم رويتم أشياء ثلاثة تناقضه
أحدها
قول عمر رضي الله عنه في آخر حياته لو كان سالم حيا لما
تخالجني فيه شك وسالم مولى امرأة من الأنصار وهي حازت ميراثه
322

وثانيها
أنه عليه الصلاة والسلام قال اسمع وأطع ولو كان عبد حبشيا
وثالثها
قوله عليه الصلاة والسلام لو كنت مستخلفا من هذه الأمة أحدا من غير
مشورة لاستخلفت ابن أم عبد
يو لما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن المرأة
والكلب والحمار يقطعن الصلاة مشت عائشة رضي الله عنها في خف
323

واحدة وقالت لأخشن أبا هريرة فإني ربما رأيت الرسول عليه الصلاة
والسلام وسط السرير وأنا على السرير بينه وبين القبلة
يز روي أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن الميت
على من غسله الغسل وعلى من حمله الوضوء فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها
فقالت أنجاس موتاكم
324

يح عن إبراهيم أن عليا رضي الله عنه بلغه أن أبا هريرة يبتدئ
بميامينه في الوضوء وفي اللباس فدعا بماء فتوضأ وبدأ بمياسيره وقال
لأخالفن أبا هريرة
يط إن أصحاب عبد الله لما بلغهم خبر أبي هريرة من قام من منامه فلا
يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا قالوا إن أبا هريرة مكثار فكيف
نصنع بالمهراس
ك لما قال أبو هريرة حدثني خليلي قال له علي رضي الله عنه
متى كان خليلك
325

وقال عمرو بن عبيد الله كأنه ما سمع قوله عليه الصلاة والسلام لو
كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا
كا لما روي أبو هريرة من أصبح جنبا فلا صوم له أرسل مروان في
ذلك إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما فقالتا كان النبي عليه الصلاة
والسلام يصبح جنبا ثم يصوم فقال للرسول اذهب إلى أبي هريرة فأخبره
بذلك فقال أبو هريرة أخبرني بذلك الفضل بن عباس
قال النظام والاستدلال به من ثلاثة أوجه
326

أحدها
أنه استشهد ميتا
وثانيها
أنه لو لم يكن متهما فيه لما سألوا غيره
وثالثها
أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما كذبتاه
كب ولما روى أبو سعيد الخدري خبر الربا قال ابن عباس نحن
أعلم بهذا وفينا نزلت آية الربا فقال الخدري أحدثك عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتقول لي ما تقول والله لا يظلني وإياك سقف بيت وهذا تكاذب بين
ابن عباس وأبي سعيد
كج لما قدم ابن عباس البصرة سمع الناس يتحدثون عن أبي موسى
عن النبي صلى الله عليه وسلم فكتب إليه فقال أبو موسى لا أعرف منها حديثا
327

كد روى أن عمر رضي الله عنه كان إذا ولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأعمال وشيعهم قال لهم عند الوداع أقلوا الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال النظام فلولا التهمة لما جاز المنع من العلم
كمه رووا عن سهل بن أبي خيثمة في القسامة ثم إن عبد الرحمن بن
عبيد قال والله ما كان الحديث كما حدث سهل ولقد وهم وإنما كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خبير إن قتيلا وجد في أو ديتكم فدوه فكتبوا
يحلفون بالله ما قتلوه فواده رسول الله من عنده
328

وقال محمد بن إسحاق سمعت عمرو بن شعيب في المسجد الحرام
يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن حديث سهل ليس كما حدث
كو قال أصحاب الشعبي إنك لا ترى طلاق المكره قال أنتم
تكذبون علي وأنا حي فكيف لا تكذبون على إبراهيم وقد مات
329

كز قال ابن أبي ملكية ألا تعجب حدثني عروة عن عائشة رضي الله
عنها أنها قالت أهللت بعمرة وقال القاسم إنها قالت بحجة
كح قال صدقة بن يسار سمعت أنه عليه الصلاة والسلام قال في
الذي يسافر وحده وفي الاثنين شيطان وشيطانان إن فلقيت القاسم بن
محمد فسألته فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث البريد وحده وكان النبي
330

وصاحبه وحدهما
فهذا من القاسم تكذيب بهذا الخبر
كط كان ابن سيرين يعيب الحسن في التفسير وكان الحسن يعيبه في
التعبير ويقول كأنه من ولد يعقوب
331

ل ابن عباس رضي الله عنهما الحجر الأسود من الجنة وكان أشد
بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك فسئل ابن الحنفية عن
الحجر وقيل ابن عباس يقول هو من الجنة فقال هو من بعض الأودية
قال النظام لو كان كفر أهل الجاهلية يسود الحجر لكان إسلام المؤمنين
يبيضه ولأن الحجارة قد تكون سوادء وبيضاء فلو كان ذلك السواد من الكفر
لوجب أن يكون سوادها بخلاف سائر الأحجار ليحصل التمييز ولأنه لو كان
كذلك لأشتهر ذلك لأنه من الوقائع العجيبة كالطير الأبابيل
لا روى أبو سعيد الخدري أنه لا هجرة بعد الفتح لكن جهاد
ونية فقال له مروان كذبت وعنده رافع ابن خديج وزيد بن ثابت وهما
332

قاعدان على سريره فقال أبو سعيد لو شاء هذان لعرفاك إلا ولكن هذا يخاف
أن تنزعه عن عرافة قومه وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة فسكتا فرفع
مروان عليه الدرة فلما رأيا ذلك قالا صدق
لب عطاء بن أبي رباح قيل له روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال
سبق الكتاب الخفين قال كذب أنا رأيت ابن عباس يمسح على
الخفين
لج قال أيوب لسعيد بن جبير إن جابر بن زيد يقول إذا زوج السيد
العبد فالطلاق بيد السيد قال كذب جابر
لد قال عروة لابن عباس أضللت الناس يا ابن عباس قال وما ذاك
يا عروة قال تأمرنا بالعمرة في هذه الأيام وليست فيها عمرة قال أفلا
تسأل أمك عن هذا فإنها قد شهدته قال عروة فإن أبا بكر وعمر كانا لا
يفعلانه قال هذا الذي أضلكم أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونني
فيه عن أبي بكر وعمر فقال عروة أبو بكر وعمر كانا أتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأعلم بها منك
وهذا تكذيب من عروة لابن عباس
333

له رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تضلني! وأي
أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأي
ثم رويتم أنه سئل عن الكلالة فقال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا
فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان
قال النظام وهذان الأثران متناقضان
ثم رويتم أن عمر رضي الله عنه قال إني لأستحيي أن أخالف أبا
بكر قال النظام فإن كان عمر استقبح مخالفة أبي بكر فلم خالفه في
سائر المسائل فإنه قد خالفه في الجد وفي أهل الردة وقسمة الغنائم
ثم إن النظام قدح في ابن مسعود رضي الله عنه خاصة من وجوه
آ زعم أنه رأى القمر انشق وهذا كذب ظاهر لأن الله تعالى ما شق
القمر له وحده وإنما يشقه آية للعالمين فكيف لم يعرف ذلك غيره ولم
يؤرخ الناس به ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم
334

على ملحد
ب أنكر ابن مسعود كون المعوذتين من القرآن فكأنه ما شاهد قراءة
الرسول صلى الله عليه وسلم لهما ولم يهتدء صلى إلى ما فيهما من فصاحة المعجزة أو لم يصدق
جماعة الأمة في كونهما من القرآن
فإن كانت تلك الجماعة ليست حجة عليه فأولى أن لا تكون حجة
علينا فنحن معذورون في أن لا نقبل قولهم
ج اختار المسلمون قراءة زيد وهو خالف الكل ولم يقرأ بها
د لما صلى عثمان رضي الله عنه بمنى أربعا عابه فقيل له فيه
فقال الخلاف شر والفرقة شر ثم إنه عمل بالفرقة في أمور كثيرة
ه وما زال يقدح القول في عثمان ويسر القول فيه منذ اختار قراءة زيد
ورأى أناسا من الزط فقال هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن
ثم قال علقمة قلت لابن مسعود أكنت مع النبي عليه الصلاة والسلام
ليلة الجن فقال ما شهدها منا أحد
335

ز سأله عمر رضي الله عنه عن شئ من الصرف فقال لا بأس
به
فقال عمر رضي الله عنه لكني أكرهه فقال قد كرهته إذ كرهته
فرجع عن قول إلى قول بغير دليل
قال النظام فقد ثبت قدح بعضهم في البعض فإن صدق القادح فقد
توجه العيب وإن كذب فكذلك
أما الخوارج فقد طعنوا في الصحابة رضي الله عنهم ولعن مبغضيهم
من وجوه
أحدها
قالوا رأيناهم قبلوا خبر الواحد على مناقضة كتاب الله تعالى وذلك
336

يوجب القطع بفساد ذلك الخبر والطعن في العامل به
بيانه
أن الله تعالى ذكر أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة فلما ذكر
الزنا استقصى الكلام فيه فإنه تعالى نهى عنه فقال ولا تقربوا
الزنا ثم أوعد عليه بالنار كما صنع وبجميع المعاصي ثم ذكر
الجلد ثم خصه بإحضار المسلمين وبالنهي عن رحمته والرأفة عليه بقوله
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله
ثم جعل على من رمى مسلما بالزنا ثمانين جلدة ولم يجعل ذلك على
من رماه بالقتل ولا بالكفر وهما أعظم
ثم قال ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون
ثم ذكر من رمى به زوجته وبين هناك أحكام اللعان وقال والزانية
لا ينكحها إلا زان أو مشرك
ثم خصه بأن جعل الشهود عليه أربعا فمع هذه المبالغة العظيمة كيف
يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم مراتبها وهو الرجم
ثم إنه تعالى ذكر آيات صريخة وقال في نفي الرجم
أحدها
قوله الزانية والزاني فاجلدوا وهذا صريح في وجوب الجلد على
كل الزناة وصريح في نفي الرجم
337

وثانيها
قوله فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب والرجم لا
نصف له
وثالثها
وهو الدلالة العقيلة أن الرجم لو كان مشروعا لوجب أن ينقل نقلا
متواترا لأنه من الوقائع العظيمة فحيث لم ينقل دل على أنه غير مشروع
ثم أنهم قبلوا خبر الواحد في الرجم مع كونه على مناقضة هذه الأدلة
الشرعية والعقلية فكان الطعن متوجها قطعا
وثانيها
رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوما على أصحابه وهم يكتبون
أحاديث من أحاديثه فقال ما هذه الكتب أكتابا أنه مع كتاب الله تعالى
يوشك أن يقبض الله تعالى بكتابه فلا يدع في قلب ولا رق منه شيئا إلا
أذهبه
ورويتم أيضا أنه قال إذا حدثتم بحديث فاعرضوه على كتاب الله
338

تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ثم إنكم مع ذلك جوزتم
المسح على الخفين مع صريح قوله تعالى إذا قمتم إلى
الصلاة
وقلتم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ويحرم نكاح المرأة على
عمتها وخالتها وبنت أخيها وأختها مع قوله تعالى وأحل لكم ما وراءه
ذلكم
وكيف يجلد العبد القاذف أربعين مع قوله تعالى والذين يرمون
المحصنات ولم يذكر حرا ولا عبدا
وكيف يجلد العبد على الزنا خمسين وإنما ذكر الله تعالى الإماء دون
العبيد فقال فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب
وكيف رددتم شهادة العبد مع قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل
منكم ومع قوله ممن ترضون من الشهداء
وكيف منعتم من إمامة غير القرشي مع قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم
339

وثالثها
ما يروى من شتم بعضهم بعضا ولنذكر من ذلك حكايات
الحكاية الأولى حكى ابن داب في مجادلات قريش قال
اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان
والوليد بن عقبة والمغيرة بن شعبة ثم أحضروا الحسن بن علي رضي الله
عنهم ليسبوه
وهو فلما حضر تكلم عمرو بن العاصي وذكر عليا رضي الله عنه ولم يترك
340

شئ من المساوئ الا ذكر فيه
وفيما قال إن عليا شتم أبا بكر وشارك في دم عثمان إلى أن قال
اعلم أنك وأباك من شر قريش
ثم خطب كل واحد منهم بمساوئ علي والحسن رضي الله عنهما
ومقابحهما صلى الله عليه وسلم ونسبوا عليا إلى قتل عثمان ونسبوا الحسن إلى الجهل والحمق
فلما آل الأمر إلى الحسن رضي الله عنه خطب ثم بدأ يشتم معاوية
رضي الله عنه وطول فيه إلى قال له إنك كنت ذات يوم تسوق بأبيك
ويقود به أخوك هذا القاعد وذلك بعدما عمي أبو سفيان فلعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم الجمل وراكبه وسائقه وقائده فكان أبوك الراكب وأخوك القائد وأنت
السائق
ثم قال لعمرو بن العاص إنما أنت سبة كما أنت فأمك زانية اختصم
فيك خمسة نفر من قريش كلهم يدعي عليك أنك ابنه فغلب عليك جزار
قريش من الأمهم حسبا وأقلهم منصبا وأعظمهم لعنة ما أنت إلا شانئ
محمد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم إن شانئك هو الأبتر
ثم هجوت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعين قافية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم
إني لا أحسن الشعر فالعنه بكل قافية لعنة
وأما أنت يا ابن أبي معيط فوالله ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في
الخمر وفي الزنا وقتل أباك صبرا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وسماه الله
341

تعالى في عشر آيات مؤمنا وسماك فاسقا وأنت فاسقا وأنت علج من أهل النورية
أما أنت يا عتبة فما أنت بحصيف إذا فأجيبك ولا عاقل فأعاتبك فقال وأما
وعدك إياي بالقتل فهلا قتلت الذي وجدت في فراشك مع أهلك
وأما أنت يا مغيرة بن شعبة فمثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة
استمسكي فإني عليك نازلة فقالت النخلة والله ما شعرت بوقوعك أي علي
وأما زعمك أنه قتل عثمان فلعمري لو قتل عثمان ما كنت منه في شئ
وإنك لكاذب
قال الخوارج فهذه المشاتمة العظيمة المتناهية التي دارت بينهم تدل
على أنهم ما كانوا يمسكون ألسنتهم عن القذف والقدح في الدين والعرض
وذلك بوجب القدح العظيم في إحدى الطائفتين
342

الحكاية الثانية
أن عثمان رضي الله عنه أخر عن عائشة رضي الله عنها بعض
أرزاقها فغضبت ثم قالت يا عثمان أكلت أمانتك وضيعت الرعية
وسلطت عليهم الأشرار من أهل بيتك والله لولا الصلوات الخمس لمشى
إليك أقوام ذوو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل
فقال عثمان رضي الله عنه ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح
وامرأة لوط الآية فكانت عائشة رضي الله عنها تحرض عليه جهدها
وطاقتها وتقول أيها الناس هذا قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبل وقد بليت
سنته اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا
ثم إن عائشة ذهبت إلى مكة فلما قضت حجها وقربت من المدينة
أخبرت بقتل عثمان فقالت ثم ماذا فقالوا بايع الناس علي بن أبي
طالب فقالت عائشة قتل عثمان والله مظلوما وأنا طالبة بدمه والله
ليوم من عثمان خير من علي الدهر كله
فقال لها عبيد بن أم كلاب ولم تقولين ذلك فوالله ما أظن أن بين
343

السماء والأرض أحدا في هذا اليوم أكرم على الله من علي بن أبي طالب
فلم تكرهين ولايته ألم تكوني تحرضين الناس على قتله فقلت اقتلوا النعثل
ثنا فقد كفر فقالت عائشة لقد قلت ذلك ثم رجعت عما قلت وذلك أنكم
أسلمتموه حتى إذا جعلتموه في القبضة قتلتموه والله لأطلبن بدمه
فقال عبيد بن أم كلاب هذا والله تخليط يا أم المؤمنين
344

الحكاية الثالثة
الخصومة العظيمة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار
وبين عثمان
والخصومة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله
عنهم حتى آل الأمر إلى الضرب والنفي عن البلد واللعن وكل ذلك يقتضي
توجه القدح إلى عدالة بعضهم
الحكاية الرابعة
مقتل عثمان رضي الله عنه والجمل وصفين
345

ثم قالت الخوارج رأينا هؤلاء المحدثين يجرحون الراوي بأدنى سبب ثم
إنهم مع علمهم بهذه القوادح العظيمة يقبلون روايات الصحابة ويعملون
بروايات القادح والمقدوح به فيه وهذا ليس من الدين في شئ بل هؤلاء
المحدثون أتباع كل من عز وعبيد كل من غلب ويروون لأهل كل دولة في
ملكهم فإن انقضت دولتهم تركوهم
ومما رواه الكل أن إماما سيكون منهم وأنه سيملأ الأرض عدلا بعد أن
ملئت جورا فروت الحسينية ذلك لنفسها وروت العباسية لنفسها حتى
سموا ولد المنصور مهديا وحتى روت الأموية مثل ذلك في السفياني وسموا
سليمان بن عبد الملك مهديا وحتى روت اليمانية في الأصغر القحطاني
347

إلى أن خرج ابن الأشعث على ذلك الطمع تارة ويزيد بن الملهب
أخرى
ورابعها
قالوا إنا نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم متى كان يشرع في الكلام
فالصحابة ما كانوا يكتبون كلامه من أوله إلى آخره لفظا وإنما كانوا يسمعونه
ثم يخرجون من عنده وربما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة
ومن المعلوم أن العلماء الذين تعودوا تلقف الكلام ومارسوه هذا وتمرنوا عليه
لو سمعوا كلاما قليلا مرة واحدة فأرادوا إعادته في تلك الساعة بتلك الألفاظ
من غير تقديم ولا تأخير لعجزوا عنه فكيف الكلام الطويل بعد المدة
المتطاولة من غير تكرار ولا كتابة
348

ومن أنصف قطع بأن هذه الأخبار التي رووها ليس شئ من ألفاظها لفظ
الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من يعيد الكلام بعد هذه المدة لا يمكنه أن يعيد
معناه بتمامه فإن الإنسان مظنة النسيان بل لا يعيد الا بعضه
وإذا كان كذلك لزم القطع بسقوط الحجة عن هذه الألفاظ لا سيما وقد
جربناهم فرأيناهم يذكرون الكلام الواحد في الواقعة الواحدة بروايات كثيرة
مع زيادات ونقصانات
ثم وأحسن الأحوال في ذلك أن نحمل ما قلناه من عدم حفظ الألفاظ
وتغيير التقديم والتأخير بسبب طول المدة وكل ذلك يوجب القدح في هذه
الأخبار
والجواب
اعلم أن اعتماد أصحابنا في هذا الباب على حجة واحدة وهي
أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم من المطاعن
وإذا كان كذلك وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع
349

على الطعن فيهم
وأما هذه المطاعن التي ذكرتموها فمروية رسول بالآحاد فإن فسدت رواية
الآحاد فسدت هذه المطاعن
وإن صحت فسدت هذه المطاعن أيضا فعلى كل التقديرات هذه
المطاعن مدفوعة فيبقى الأصل الذي ذكرناه سليما
وأما طعن الخوارج فهو بناء على أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد لا
يجوز وقد تقدم القول فيه
وأما قولهم أن الظاهر أن هذه الألفاظ ليست ألفاظ الرسول
عليه الصلاة والسلام
قلت لما ثبت الظاهر من حال الراوي العدالة وقد أخبر بأنها
ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تصديقه فيه ظاهرا والله أعلم
350

القسم الثاني
في الخبر الذي لا يقطع بكونه
صدقا أو كذبا
وفيه أبواب
351

الباب الأول
في إقامة الدليل على أنه حجة في الشرع
اختلف الناس فيه فالأكثرون جوزوا التعبد به عقلا
والأقلون منعوا منه عقلا
أما المجوزون فمنهم من قال وقع التعبد به
ومنهم من قال لم يقع التعبد به
والذين قالوا وقع التعبد به اتفقوا على أن الدليل السمعي دل عليه
واختلفوا في أن الدليل العقلي هل دل عليه
فذهب القفال وابن سريج منا وأبو الحسين البصري من المعتزلة
إلى أن دليل العقل دل على وقوع التعبد به
أما الجمهور منا ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد
الجبار فقد اتفقوا على أن دليل التعبد به السمع فقط
وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية
353

أما الذين قالوا لم يرد التعبد به فهم فرق ثلاث
الأولى أنه لم يوجد ما يدل على كونه حجة فوجب القطع بأنه ليس
بحجة
والثانية أنه جاء في الأدلة السمعية ما يدل على أنه ليس بحجة
والثالثة أن الدليل العقلي قائم على امتناع العمل به
ثم إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا تعلم
صحته كما في الفتوى وفي الشهادة وفي الأمور الدنيوية
لنا
النص والإجماع والسنة المتواترة والقياس والمعقول
أما النص فوجهان
الأول
قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
وجه الاستدلال أن الله تعالى أوجب الحذر بإخبار الطائفة والطائفة ها هنا
عدد لا يفيد قولهم العلم ومتى وجب الحذر باخبار عدد لا يفيد قولهم العلم
فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته
وإنما قلنا أنه أوجب الحذر عند إخبار الطائفة لأنه أوجب الحذر بإنذار
الطائفة والإنذار هو الإخبار
وانما قلنا أنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة لقوله تعالى
354

ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وكلمه لعل للترجي
وذلك في حق الله تعالى محال
وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على المجاز وذلك لأن
المترجي طالب للشئ فإذا كان الطلب لازما للترجي وجب حمل هذا
اللفظ على الطلب فيلزم أن يكون الله طالبا للحذر وطلب الله تعالى هو
الأمر فثبت أن الله تعالى أمر بالحذر عند انذار الطائفة
وإنما قلنا إن الإنذار هو الإخبار لأنه عبارة عن الخبر المخوف والخبر
داخل في الخبر المخوف فثبت أن الله تعالى أوجب الحذر عند إخبار
الطائفة
وإنما قلنا إن الطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم لأن كل ثلاثة
فرقة والله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة والطائفة من
الثلاثة واحد أو اثنان وقول الواحد أو الاثنين لا يفيد العلم
وإنما قلنا إنه تعالى لما أوجب الحذر عند خبر العدد الذي لا يفيد
قولهم العلم وجب العمل بذلك الخبر لأن قوما إذا فعلوا فعلا وروي الراوي
لهم خبرا يقتضي المنع من ذلك الفعل فإما أن يجب عليهم تركه عند سماع
ذلك الخبر أو لا يجب
فإن وجب فهو المراد من وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر وإذا
ثبت وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر في هذه الصورة وجب العمل به في
سائر الصور ضرورة أن لا قائل بالفرق
355

وإن لم يجب الترك لم يجب الحذر وذلك ينافي ما دلت الآية عليه
من وجوب الحذر
فإن قيل لا نسلم أنه تعالى أوجب الحذر عند إنذار الطائفة وأما
قوله تعالى لعلهم يحذرون قلنا سلمتم أنه لا يمكن حمله على
ظاهره فلم قلتم إنه يجب حمله على ذلك المجاز ولم لا يجوز حمله
على مجاز اخر لا بد فيه من الدليل
سلمنا وجوب الحذر عند الإنذار لكن لا نسلم إن الإنذار هو
الإخبار فإن الإنذار من جنس التخويف فنحن نحمل الآية على التخويف
الحاصل من الفتوى بل هذا أولى لأنه أوجب التفقه لأجل الإنذار والتفقه
إنما يحتاج إليه في الفتوى لا في الرواية
فإن قلت الحمل على الفتوى متعذر لوجهين
الأول
أنا لو حملناه على الفتوى لاختص لفظ القوم بغير المجتهدين
لأن المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى المجتهد لكن التقييد غير جائز لأن
الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم سواء كانوا مجتهدين أو لم يكونوا كذلك
أما لو حلمناه ولا على رواية الخبر لا يلزمنا ذلك لأن الخبر كما يروي لغير
356

المجتهد فقد يروي أيضا للمجتهد
والثاني
أن من شرب النبيذ فروى إنسان خبرا يدل على أن شاربة في النار فقد
أخبره بخبر مخوف ولا معنى للإنذار إلا ذلك فصح وقوع اسم الإنذار على
الرواية
ثم بعد ذلك نقول لا يخلو إما أن لا يقع اسم الإنذار على الفتوى أو
يقع
فإن لم يقع فقد حصل الغرض من أن المراد من الانذار الرواية لا
الفتوى
وإن وقع لم يجز جعله حقيقة فيهما دفعا للاشتراك فوجب جعله حقيقة
في القدر المشترك وهو الخبر المخوف
وعلى هذا التقدير يكون متناولا للرواية والفتوى جميعا وذلك مما لا
يضرنا
قلت الجواب عن الأول
أنه كما يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص لفظ القوم بغير
المجتهد يلزم من حمله على الرواية تخصيص لفظ القوم بالمجتهد
لإجماعنا على أنه لا يجوز للعامي أن يستدل بالحديث فالتقييد لازم عليكم
كما أنه لازم علينا فعليكم الترجيح
ثم أنه معنا لأن غير المجتهد أكثر من المجتهد والتقييد كلما كان أقل
كان أولى
357

وعن الثاني
أنه إذا كان المراد من الإنذار القدر المشترك بين الفتوى والرواية
والمأمور به إذا كان مشتركا فيه بين صور كثيرة كفى في الوفاء بمقتضى الأمر
الاتيان بصورة واحدة من تلك الصور لأنه إذا كان المطلوب إدخال القدر
المشترك بين الفتوى والرواية في الوجود وذلك المشترك يحصل في
الفتوى فالقول بكون الفتوى حجة يكفي في العمل بمقتضى النص فلا
تبقى للنص دلالة على وجوب العمل بالرواية
سلمنا أن المراد من الإنذار رواية الخبر فقط لكن لم لا يجوز أن
يكون المراد رواية أخبار الأولين وكيفية ما فعل الله تعالى بهم لأن سماع
أخبارهم يقتضي الاعتبار على ما قال الله تعالى لقد كان في قصصهم
عبرة لأولى الألباب
أو يكون المراد منه التنبيه على وجوب النظر والاستدلال
سلمنا أن الآية تقتضي وجوب الحذر عند خبر الطائفة فلم قلت
إن الطائفة اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم
قوله لأن كل ثلاثة فرقة والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان
قلنا لا نسلم أن كل ثلاثة فرقة فما الدليل
ثم إن الذي يدل على بطلانه وجهان
الأول
أنه يقال الشافعية فرقة واحدة لا فرق ولو كان كل ثلاثة فرقة لما
358

كان الشافعية واحدة بل فرقا
الثاني
أنه تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه ولو
كان كل ثلاثة فرقة لوجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد وذلك باطل
بالاتفاق
سلمنا أن الطائفة اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم فلم قلت إنه
يقتضي وجوب الحذر بقول عدد لا يفيد قولهم العلم
بيانه
أن الطائفة عندكم اسم للواحد أو الاثنين وقوله ولينذروا قومهم ض
مير جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما تقدم
فإذن قوله ولينذروا ليس عائدا إلى كل واحد من تلك الطوائف
بل إلى مجموعها فلم قلت إن مجموع تلك الطوائف ما بلغوا حد
التواتر
سلمنا أن الآية تقتضي وجوب الحذر عند خبر من لا يفيد قولهم
العلم فلم قلت إنها تقتضي وجوب العمل بذلك الخبر فإنا إنما نوجب
عليهم ذلك الترك للاحتياط حتى إنه لو كان عاميا وجب عليه الرجوع إلى
359

المفتي فإن أذن له جاز له العود إليه
وإن كان مجتهدا نظر في سائر الأدلة فإن وجد فيها ما يقتضي المنع من
ذلك الفعل امتنع منه وإلا جاز له العود إليه
والجواب
قوله لم قلت إنه يفيد وجوب الحذر
قلنا لثلاثة أوجه
الأول
أنه لا يجوز حمله على ظاهره فوجب حمله على الأمر به
قوله لم قلت ليس ها هنا مجاز اخر
قلت لأن الأصل عدم المجاز فإذا وجد هذا المجاز الواحد فالظاهر
عدم سائر المجازات
الثاني
أن قوله تعالى لعلهم يحذرون يقتضي إمكان تحقق الحذر في
حقهم والحذر هو التوقي من المضرة والفعل الذي يقتضي خبر الواحد
المنع منه قد لا يكون مضرا في الدنيا فلا بد وأن يكون مضرا في الآخرة
وإلا لم يكن الحذر ممكنا ولا معنى لمضره لم الآخرة إلا العقاب فإذا كان
هو بحال يحذر عنه وجب أن يكون بحال يترتب العقاب على فعله ولا
معنى لقولنا خبر الواحد حجة إلا هذا القدر
360

الثالث
أن قوله تعالى لعلهم يحذرون إن لم يقتض وجوب الحذر
فلا أقل من أن يقتضي حسن الحذر وذلك يقتضي جواز العمل بخبر الواحد
والخصم ينكره فصار محجوجا به
قوله لم لا يجوز أن يكون المراد الفتوى
قلنا للوجهين المذكورين
أحدهما
أنا لو حملناه على الفتوى لزم تخصيص القوم بغير المجتهد
قوله ولو حملناه على الرواية لزم تخصيصه بالمجتهد
قلنا لا نسلم فإن الخبر كما يروى للمجتهد فقد يروى لغير
المجتهد بلى لا يجوز لغير المجتهد أن يتمسك به ولكن ينتفع به
من وجوه أخر
منها أنه ينزجر عن فعله ويصير ذلك داعيا له إلى الرجوع إلى المفتي
وربما بحث عنه واطلع على معناه
الوجه الثاني انا نحمله على القدر المشترك
قوله يكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة
قلنا الجواب عنه من وجهين
361

الأول
أنه رتب وجوب الحذر على مسمى الإنذار الذي هو القدر المشترك
فوجب كون هذا القدر المشترك علة للحكم فوجب أن يكون الحكم ثابتا
أينما ثبت هذا المسمى
والثاني
أن قبل ورود هذه الآية إما أن يقال كان الأمر بقبول الفتوى واردا
أو ما كان واردا
فإن كان واردا لم يجز حمل هذه الآية عليه وإلا كان ذلك تكريرا من
غير فائدة
وإن قلنا إنه ما كان واردا وجب حمله على الأمر بالصورتين وإلا
تطرق الإجمال إلى الآية وهو خلاف الأصل
قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من الإنذار رواية أخبار الأولين
قلنا الجواب عنه كما تقدم على السؤال الأول
قوله لم قلت كل ثلاثة فرقة
قلنا لأن الفرقة في أصل اللغة فعلة من فرق أو فرق كالقطعة
من قطع أو قطع وكل شئ حصل الفرق أو التفريق فيه كان فرقة كما أن
كل ما حصل القطع أو التقطيع فيه كان قطعة ولذلك من شق الخشبة يقال
فرقها فرقا
362

وإذا كان كذلك فالفرقة في اللغة تقع على كل واحد من الأشخاص
حقيقة إلا أنا خصصناها في هذه الآية بالثلاثة حتى يمكن خروج
الطائفة عنها فوجب أن تبقى حقيقة في الثلاثة
قوله أصحاب الشافعي رضي الله عنه فرقة واحدة
قلنا ذلك لأنهم بحسب المذهب امتازوا عن غيرهم فلأجل هذا
الافتراق سموا فرقة واحدة أما بحسب الشخص فهم فرق
قوله إن الله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة
للتفقه ولا يجب ذلك على كل ثلاثة
قلنا ترك العمل به في حق هذا الحكم فيبقى معمولا به في الباقي
قوله لم لا يجوز أن يكون المراد أن ينذر مجموع الطوائف قومهم
قلنا هذا باطل لقوله إذا رجعوا إليهم لأنه لا يجوز أن
يقال فلان رجع إلى ذلك الموضع إلا بعد أن كان فيه ومعلوم أن الطائفة
من كل فرقة ما كانت في غير تلك الفرقة ولا يمكن أن يقال كل طائفة ترجع
إلى كل الفرق بل إنما يمكن رجوعها إلى فرقتها الخاصة
قوله الضمير في قوله ولينذروا ليس ضمير الواحد والاثنين
قلنا هذا لا يضرنا لأنه تعالى قابل مجموع الطوائف بمجموع
363

القوم فيتوزع البعض على البعض
قوله لم قلت إنه يدل على وجوب الترك بذلك الخبر قلنا لما
تقدم
قوله يجب عليه الترك في الحال ليستفتى إن كان عاميا وليتأمل إن
كان مجتهدا
قلنا هذا باطل لأن العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل إلا بعد أن
يعلم أولا جواز ذلك الفعل من جهة المفتي ومتى علم الفتوى لم
يجب عليه الاستفتاء مرة أخرى
وأما المجتهد فإن كان خبر الواحد حجة عليه فهو المطلوب وإن لم
يكن دليلا لم يجب عليه التوقف لانعقاد الإجماع على أن الذي لا يكون
دليلا لا يمنعه عن فعل ما ثبت له جواز فعله بدليل متقدم
المسلك الثاني
لو وجب في خبر الواحد أن لا يقبل لما كان كون خبر الفاسق غير مقبول
معللا بكونه فاسقا لكنه معلل به فلم يجب في خبر الواحد أن لا يقبل فإذا
364

لم يجب أن لا يقبل جاز قبوله في الجملة وهو المقصود
بيان الملازمة أن كون الراوي الواحد واحدا أمر لازم لشخصه
المعين يمنع خلوه عنه عقلا
وأما كونه فاسقا فهو وصف عرضي يطرى ويزول وإذا اجتمع في
المحل وصفان أحدهما لازم والآخر عرضي مفارق وكان كل واحد منهما
مستقلا باقتضاء الحكم كان الحكم لا محالة مضافا إلى اللازم لأنه
كان حاصلا قبل حصول المفارق وموجبا لذلك الحكم وحين جاء المفارق
كان ذلك الحكم حاصلا بسبب ذلك اللازم وتحصيل الحاصل مرة
أخرى محال فيستحيل إسناد ذلك الحكم إلى ذلك المفارق
مثاله يستحيل أن يقال الميت لا يكتب لعدم الدواة والقلم
عنده لأن الموت لما كان وصفا لازما مستقلا بامتناع صدور الكتابة عنه
لم يجز تعليل امتناع الكتابة بالوصف العرضي وهو عدم الدواة والقلم
وإنما قلنا إنه معلل به لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا أمر بالتثبت مرتبا على كونه فاسقا والحكم المرتب على
الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللا بما منه الاشتقاق ولا شك
في أن الفسق يناسب عدم القبول فثبت بما ذكرنا أن خبر الواحد لو
365

وجب أن لا يقبل لامتنع تعليل أن لا يقبل خبر الفاسق بكونه فاسقا وثبت أنه
معلل به فخبر الواحد لا يجب أن لا يقبل فهو إذن مقبول في الجملة
ومن الناس من تمسك بالآية على وجه آخر وهو أنه تعالى أمر
بالتثبت بشرط أن يكون الخبر صادرا عن الفاسق والمشروط بالشئ عدم عند
عدم الشرط فوجب أن لا يجب التثبت إذا لم يوجد مجئ الفاسق فإذا
جاء غير الفاسق ولم يتثبت فإما أن يجزم بالرد وهو باطل وإلا كان خبر
العدل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهو باطل بالإجماع فيجب القبول وهو
المطلوب
المسلك الثالث السنة المتواترة
وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث رسله إلى القبائل لتعليم الأحكام
مع أن كل واحد من أولئك الرسل ما كانوا بالغين حد التواتر
واعترض أبو الحسين البصري على هذه الدلالة بسؤال واقع فقال
كان يبعثهم إلى القبائل للفتوى أو لرواية الخبر
الأول مسلم والثاني ممنوع
366

بيانه
أن العوام في القبائل كانوا أكثر من المجتهدين فكانت حاجتهم إلى
الفتوى أشد من حاجتهم إلى من يروى لهم الخبر ليحتجوا به
وبالجملة هب أن هذا الاحتمال ليس أظهر لكن لا بد من قيام الدلالة
على قطع هذا الإحتمال ليتم الاستدلال
المسلك الرابع الإجماع
العمل بخبر الواحد الذي لا يقطع بصحته مجمع عليه بين الصحابة
فيكون العمل به حقا
إنما قلنا إنه مجمع عليه بين الصحابة لأن بعض الصحابة عمل
بالخبر الذي لا يقطع بصحته ولم ينقل عن أحد منهم إنكار على فاعله
367

وذلك يقتضي حصول الإجماع
وإنما قلنا إن بعض الصحابة عمل به لوجهين
الأول
وهو أنه روى بالتواتر أن يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه
على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش مع أنه
مخصص لعموم قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم قبلوه ولم ينكر عليه أحد ولم يقل له أحد كيف تحتج علينا
بخبر لا نقطع بصحته فلما لم يقل أحد منهم ذلك علمنا أن ذلك كان
كالأصل المقرر عندهم
الثاني
الاستدلال بأمور لا ندعي التواتر في كل واحد منها بل في مجموعها
وتقريره أن نبين أن الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد ثم نبين أنهم إنما
عملوا به لا بغيره
أما المقام الأول فبيانه من وجوه
الأول
رجوع الصحابة إلى خبر الصديق في قوله عليه الصلاة والسلام
368

الأنبياء يدفنون حيث يموتون وفي قوله
الأئمة من قريش وفي قوله
نحن معاشر الأنبياء لا نورث
وإلى كتابه في معرفة نصب الزكوات ومقاديرها
الثاني
روي أن أبا بكر رضي الله عنه رجع في توريث الجدة إلى خبر
المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة
ونقل عنه أيضا أنه قضى بقضية بين اثنين فأخبره بلال أنه عليه
الصلاة والسلام قضى فيها بخلاف قضاءه فرجع إليه
الثالث
روي أن عمر رضي الله عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية
ويفصل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البصر تسعة وفي الوسطى
والسبابة عشرة عشرة وفي الإبهام خمسة عشر فلما روي له في كتاب
369

عمرو بن حزم أن في كل أصبع عشرة رجع عن رأيه
الرابع
وقال في الجنين رحم اله امرأ سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الجنين شيئا فقام إليه حمل بن مالك فأخبره بأن الرسول عليه الصلاة
والسلام قضى فيه بغرة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره
370

الخامس
أنه كان لا يرى ثوريث حدثنا المرأة من دية زوجها فأخبره الضحاك أنه عليه
الصلاة والسلام كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع
إليه
السادس
تظاهرت الرواية أن عمر قال في المجوس ما أدري ما أصنع بهم
فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا
بهم سنة أهل الكتاب فأخذ منهم الجزية وأقر هم على دينهم
371

السابع
أنه ترك العمل برأيه في بلاد الطاعون بخبر عبد الرحمن
الثامن
روي عن عثمان أنه رجع إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد
الخدري حين قالت جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأذنه بعد وفاة زوجي في
موضع العدة
فقال صلى الله عليه وسلم امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك
372

ولم ينكر عليها الخروج للاستفتاء فأخذ عثمان بروايتها في الحال
وفي أن المتوفي عنها زوجها تعتد في منزل الزوج ولا تخرج ليلا
وتخرج نهارا إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها
التاسع
اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه كان يحلف الراوي وقبل رواية أبي بكر
رضي الله عنه من غير حلف
وأيضا قبل رواية المقداد بن الأسود في حكم المذي
العاشر
رجوع الجماهير إلى قوم عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من
373

التقاء الختانين
الحادي عشر
رجوع الصحابة في الربا إلى خبر أبي سعيد
الثاني عشر
قال ابن عمر كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى به بأسا حتى روى لنا
رافع بن خديج نهيه عليه الصلاة والسلام عن المخابرة
الثالث عشر
قال أنس كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب إذا أتانا آت
فقال حرمت الخمر فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها
فقمت فكسرتها
374

الرابع عشر
اشتهر عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد
الخامس عشر
قيل لابن عباس رضي الله عنهما إن فلان يزعم أن موسى صاحب
الخضر ليس موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني
أبي بن كعب قال خطب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر موسى والخضر بشئ
يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل
السادس عشر
عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من أواني الذهب والفضة بأكثر
375

من وزنها قال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه فقال
معاوية لا أرى به بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن
الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض
أبدا
فهذه الأخبار قطرة من بحر هذا الباب ومن طالع كتب الأخبار وجد فيها
من هذا الجنس ما لا حد له ولا حصر وكل واحد منها وإن لم يكن
متواترا لكن القدر المشترك فيه بين الكل وهو العمل على وفق الخبر الذي
لا تعلم صحته معلوم فصار ذلك متواترا في المعنى
وأما المقام الثاني
وهو أنهم انما عملوا على وفق هذه الأخبار لأجلها فبيانه من
وجهين
الأول
لو لم يعلموا لأجلها بل لأمر آخر إما لاجتهاد تجدد لهم أو ذكروا شيئا
سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام لوجب من جهة العادة والدين
أن يظهروا ذلك
أما العادة فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس ثم زال
اللبس عنهم فيه لدليل سمعوه أو لرأي حدث فيه فإنه لا بد لهم من
إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر به والتعجب من ذهاب ذلك
عليهم فإن جاز في الواحد أن لا يظهر له ذلك لم يجز في الكل
376

أما الدين فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل وعملهم عند الخبر
بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب اية سمعوها
على أنهم عملوا لأجلها وأيهام الباطل غير جائز
كما أنه لو قال لهم قائل احكموا في هذه المسألة بمجرد شهوتي
فتذكروا عند ذلك خبرا سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحسن من جهة
الدين أن لا يبينوا أنهم إنما حكموا لذلك الدليل لا لشهوة ذلك القائل
الثاني
أن طلب أبي بكر من المغيرة رضي الله عنهما شاهدا في إرث الجدة
دليل على أنه كان يرى أن الحكم متعلق بروايتهما
ولأن عمر رضي الله عنه قال في الجنين لولا هذا لقضينا فيه
برأينا وترك رأيه في دية الأصابع بالخبر الذي سمعه
وصرح ابن عمر برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع
وصرحوا بأنهم رجعوا إلى وجوب الغسل بالتقاء الختانين لأجل قول
عائشة رضي الله عنها
فثبت بمجموع هذين المقامين أن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لم
يعلم صدقه
وأما بيان المقدمتين الباقيتين وهو أنه لم يظهر من أحد منهم الإنكار
وأنه متى كان كذلك انعقد الإجماع فتقريره سيأتي إن شاء الله تعالى
في مسألة القياس
فإن قيل لا نسلم عمل بعض الصحابة على وفق الخبر الذي لم تعلم
صحته
377

أما دعوى الضرورة فممنوعة قال المرتضى إن الضرورة لا يختص
بها البعض مع المشاركة في طريقها والإمامية وكل مخالف في خبر
الواحد من النظام وجماعة من شيوخ المتكلمين يخالفونهم فيما ادعوا فيه
الضرورة مع الاختلاط بأهل الأخبار ويقسمون على أنهم لا يعلمون ذلك
ولا يظنونه فإن كذبتموهم ابن فعلتم ما لا يحسن وكلموكم قوله بمثله
وأما الاستدلال فضعيف لأن الروايات التي ذكرتموها وإن بلغت
المائة والمائتين فهي غير بالغة إلى حد التواتر فلا تفيد العلم ويرجع حاصله
إلى إثبات خبر الواحد بخبر الواحد
سلمنا صحة هذه الروايات لكن لا نسلم أنهم عملوا بتلك الأخبار
ولم لا يجوز أن يقال إنهم لما سمعوا تلك الأخبار تذكروا دليلا دلهم على تلك
الأحكام
قوله لو كان كذلك لوجب إظهاره من جهة الدين والعادة
قلنا لا نزاع في أن ما ذكرتموه هو الاحتمال الأظهر لكن القطع بوجوبه
على كل حال ممنوع والمسألة قطعية فلا يجوز بناؤها على مقدمة ظنية
سلمنا عمل بعض الصحابة بهذه الأخبار لكن لا نسلم سكوت
الكل عن الإنكار فما الدليل عليه
ثم نقول إنهم أنكروه في صور
إحداها
توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوبل خبر ذي اليدين إلى أن شهد له أبو بكر
378

وعمر رضي الله عنهما
وثانيها
رد أبي بكر خبر المغيرة في توريث الجدة حتى أخبره محمد بن مسلمة
وثالثها
رد أبو بكر وعمر خبر عثمان فيما رواه من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد
الحكم بن أبي العاص حتى طالباه بمن يشهد معه به
379

ورابعها
رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري حتى شهد له أبو
سعيد الخدري
وخامسها رد عمر خبر فاطمة بنت قيس
380

وسادسها
رد علي خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق
وأيضا
فقد ظهر عنه تحليف الرواة
وسابعها
رد عائشة خبر بن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه
وثامنها
أن عمر منع أبا هريرة من الرواية
381

سلمنا سكوتهم عن الإنكار لكن السكوت إنما يدل على الإجماع إذا
صدر عن الرضا فلم قلت إن الأمر كذلك بل ها هنا احتمالات أخر سوى
الرضا من التقية والخوف
سلمنا إجماعهم على قبول الخبر الذي لا يعلم صحته لكن دل
على أنهم قبلوا جميع أنواع الخبر الذي يكون كذلك أو على أنهم قبلوه في
الجملة
والأول ظاهر الفساد
والثاني يقدح في غرضكم لأنهم لما اتفقوا على قبول نوع من
أنواع الخبر الذي لا تعلم صحته لم يلزم من إجماعهم على قبول ذلك
النوع إجماعهم على قبول سائر الأنواع لاحتمال أن يأمر الله تعالى
بالعمل بذلك النوع دون النوع الآخر ثم إنه لما لم ينقل إلينا ذلك النوع
الذي أجمعوا على قبوله لم يعرف ذلك النوع
فإذن لا نوع من أنواع خبر الواحد إلا ولا يدري أنه هل هو ذلك النوع
الذي أجمعوا على قبوله أو غيره
وإذا كان كذلك وجب التوقف في الكل
سلمنا أن النوع الذي أجمعوا على العمل به معلوم فلم قلت
إنه لما جاز لهم العمل بخبر الواحد جاز لنا
بيانه
أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الرسول عليه الصلاة والسلام وعرفوا
382

مجاري كلامه ومناهج أموره وإشاراته وعرفوا أحوال أولئك الرواة في
العدالة وعدمها في الأفعال الموجبة للعدالة والأفعال المنافية لها
وإذا كان كذلك كان ظنهم بصدق تلك الأخبار وعدالة الرواة أقوى من
ظن من لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم البتة ولا سمع كلامه ولم يشاهد حال
أولئك الرواة فلم يعرف عدالتهم ولا فسقهم إلا بالروايات المتباعدة والوسائط
الكثيرة
وإذا كان كذلك فلم قلت إن انعقاد الإجماع على قبول الخبر الذي
لا يقطع بصحته عند حصول الظن القوي في صحته يوجب قبوله عندما لا
يحصل ذلك الظن القوي
فإن قلت إن كل من قال بقبول بعض هذه الأنواع في بعض الأزمنة
قال بقبوله في كل نوع وفي كل زمان
قلت هذه الحجة إنما تنفع في زمان التابعين وقد بينا في أول باب
الإجماع أنه لا سبيل إلى القطع بهذا الإجماع لكثرة المسلمين وتفرقهم في
الشرق والغرب
والجواب
إما دعوى الضرورة فلما مر تقريرها من أنه نقل إلينا بالتواتر حضور أبي
بكر مع الأنصار يوم السقيفة وتمسكه عليهم بقوله عليه الصلاة
والسلام الأئمة من قريش ولم ينكر عليه أحد
383

فأما قول المرتضى إن النظام وجمعا من شيوخ المعتزلة والقاشاني
والإمامية ينكرون ذلك ويقسمون بالله إنهم لا يجدون علما ولا ظنا
قلنا رواية المذاهب لا تجوز بالتشهي واليمين والنظام ما أنكر ذلك
بل سلم إلا أنه قال إجماع الصحابة ليس بحجة على ما حكيناه قبل
ذلك وكذا قول سائر شيوخ المعتزلة
وأما الإمامية فالاخباريون له منهم مع أن كثرة الشيعة في قديم
الزمان ما كانت إلا منهم فهم لا يعولون في أصول الدين فضلا عن
فروعه إلا على الأخبار التي يروونها عن أئمتهم
وأما الأصوليون فأبو جعفر الطوسي وافقنا على ذلك فلم يبق ممن ينكر
العلم هذا إلا المرتضى مع قليل من أتباعه فلا يستبعد اتفاق مثل هذا
الجمع على المكابرة في الضروريات
ومما يحقق ذلك أنه قال إنهم يقسمون بالله على أنهم لا
يعلمون بل لا يظنون ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الروايات وإن
تقاصرت عن العلم إلا أنها ما تقاصرت عن الظن فعلمنا أن غرض المرتضى
مما ذكر محض المكابرة
384

قوله لم لا يجوز أن يقال إنهم عند سماع هذه الأخبار تذكروا دليلا
آخر
قلنا لما ذكرنا أن الدين والعادة يوجبان إظهار ذلك الدليل
قوله ما الدليل عليه
قلنا الرجوع فيه إلى العرف فإنا نعلم بالضرورة أن الجمع العظيم
إذا اشتبه عليهم أمر من الأمور ثم أنهم عند سماع شئ يوهم أنه هو
الدليل تذكروا شيئا اخر هو الدليل حقيقة فإنه يستحيل اتفاقهم
بأسرهم على السكوت عن ذكر ذلك الدليل ورفع ذلك الوهم الباطل
قوله من الصحابة من رد خبر الواحد
قلنا الجواب عنه من وجهين
الأول
أن الذين نقلتم عنهم أنهم لم يقبلوا خبر الواحد هم الذين نقلنا عنهم
أنهم قبلوا فلا بد من التوفيق وما ذاك إلا أن يقال إنهم قبلوا خبر الواحد
إذا كان مع شرائط مخصوصة وردوها عند عدم تلك الشرائط
الثاني
أن الروايات التي ذكرتموها كما دلت على ردهم خبر الواحد دلت على
قبولهم خبر الاثنين والثلاثة ونحن لم ندع في هذا المقام إلا قبول الخبر
الذي لا تقطع بصحته
385

فأما الأسئلة الثلاثة الأخيرة فالجواب عنها سيأتي في مسألة القياس إن
شاء الله تعالى
المسلك الخامس القياس
أجمعوا على أن الخبر الذي لا يقطع بصحته مقبول في الفتوى
والشهادات فوجب أن يكون مقبولا في الروايات والجامع تحصيل
المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة
بل الروايات أولى بالقبول من الفتوى لأن الفتوى لا تجوز إلا إذا
سمع المفتي دليل ذلك الحكم وعرف كيفية الاستدلال به وذلك دقيق
صعب يغلط فيه الأكثرون
أما الرواية فلا يحتاج فيها إلا إلى السماع
فإذن الرواية أحد أجزاء الفتوى فإذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد
فلأن تكون الرواية مقبولة كان أولى
فإن قيل هذا قياس وأنه لا يفيد اليقين على ما تقدم
ثم نقول الفرق بين الفتوى والشهادة وقبول خبر الواحد من وجهين
الأول
وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي صيرورة ذلك الحكم شرعا
386

عاما في حق كل الناس والعمل بالشهادة والفتوى ليس كذلك
ولا يلزم من تجويز العمل بالظن الذي قد يخطئ وقد يصيب في حق
الواحد تجويز العمل به في حق عامة الخلق
الثاني
العمل بالفتوى ضروري لأنه لا يمكن تكليف كل واحد في كل واقعة
بالاجتهاد وكذا الشهادة ضرورية في الشرع لأجل تمييز المحق عن
الباطل ()
أما العمل بخبر الواحد فغير ضروري لأنا إن وجدنا في المسألة
دليلا قاطعا عملنا به وإلا رجعنا إلى البراءة الأصلية
ولا يلزم من جواز العمل بالظن عند الضرورة جواز العمل به لا عند
الضرورة وأنه قياس فاسد
والجواب
أما السؤال الأول فحق
وأما الفرق الأول فملغي ذلك بشرعية أصل الفتوى فإنه أمر لكل باتباع الظن
وأما الفرق الثاني فضعيف لأنه لا ضرورة في الرجوع إلى الشهادة
والفتوى لإمكان الرجوع إلى البراءة الأصلية
387

المسلك السادس دليل العقل
وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به
واجبا
بيان المقدمة الأولى
ان الراوي العدل إذا أخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بهذا الفعل
حصل ظن أنه وجد الأمر وعندنا مقدمة يقينية أن مخالفة الأمر سبب
لاستحقاق محمد العقاب فحينئذ يحصل من ذلك الظن وذلك العلم ظن أنا لو
تركنا قوله لصرنا مستحقين للعقاب فوجب أن يجب العمل به لأنه إذا
حصل الظن الراجح والتجويز المرجوح فإما أن يجب العمل بهما وهو محال أو يجب تركهما وهو
محال أو يجب ترجح المرجوح على الراجح
وهو باطل بضرورة العقل أو ترجيح الراجح على المرجوح وحينئذ يكون
العمل بمقتضى خبر الواحد واجبا
واعلم أن هذه الطريقة يتمسك بها في مسألة القياس ونستقصي إلى الكلام
فيها سؤالا وجوابا إن شاء الله تعالى
388

وأما المنكرون فمنهم من عول على العقل ومنهم من عول على
النقل
أما العقل فمن وجوه
أحدها
لو جاز أن يقول الله تعالى مهما غلب على ظنكم صدق الراوي
فاعملوا بمقتضى خبره جاز أن يقول الله تعالى أيضا مهما غلب
على ظنكم صدق كان المدعي للرسالة فاقبلوا شرعه وأحكامه لأنا في كلتا
الصورتين نكون عاملين بدليل قاطع وهو إيجاب الله تعالى علينا العمل
بالظن أو إيجاب العقل علينا ذلك ولما لم يجز ذلك هناك فكذا
ها هنا
وثانيها
لو جاز التعبد بأخبار الآحاد في الفروع لجاز التعبد بها في الأصول
حتى يكتفي في معرفة الله تعالى بالظن
وثالثها
الشرعيات مصالح والخبر الذي يجوز كذبه لا يمكن التعويل عليه في
تحصيل المصالح
فإن قلت لم لا يجوز أن تكون المصلحة هي إيقاع ذلك الفعل
المظنون
قلت كون الفعل مصلحة إما أن يكون بسبب ذلك الظن أولا بسببه
389

والأول باطل
لأنه لو جاز أن يؤثر ظننا في صيرورة ما ليس بمصلحة مصلحة لجاز أن
يؤثر ظننا بمجرد التشهي في ذلك حتى يحسن من الله تعالى أن يقول
أطلقت لك في أن تحكم بمجرد التشهي من غير دليل ولا أمارة ومعلوم
أنه باطل
وأما الثاني فنقول
إذا كان كون الفعل مصلحة ليس تابعا لظننا فيجوز أن يكون
الظن مطابقا وأن لا يكون فيكون الإذن في العمل بالظن إذنا في فعل ما
لا يجوز فعله وأنه غير جائز
وأما المعولون أو على النقل فقد تمسكوا بقوله تعالى ولا تقف ما ليس
لك به علم وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إن الظن لا يغني
من الحق شيئا
والجواب عن الوجوه العقلية
أنها منقوضة بالعمل بالظن في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية فان من
أخبر أن هذا الطعام مسموم وحصل ظن صدقه فإنه لا يجوز تناوله
ثم إنا نطالبهم فيها بالجامع العقلي اليقيني ثم ببيان امتناع
الجامع
390

وأيضا
ينتقض بتعويل) أهل العالم على الظن في أمر الأغذية والأشربة
والعلاجات والأسفار والأرباح
وأما التمسك بالآيات فسيأتي الجواب عنها في القياس إن شاء الله
391

الباب الثاني
في شرائط العمل بهذه الأخبار
وهذه الشرائط إما أن تكون معتبرة في المخبر
أو المخبر عنه
أو الخبر
القسم الأول
في المخبر وهو مرتب على فصول ثلاثة
الفصل الأول
في الأمور التي يجب وجودها حتى يحل للسامع أن يقبل روايته
والضابط فيه كونه بحيث يكون اعتقاد صدقه راجحا على اعقاد عبد كذبه ثم
نقول تلك الأمور خمسة
الأول
أن يكون عاقلا فإن المجنون والصبي غير المميز لا يمكنه الضبط
والاحتراز عن الخلل
والثاني
أن يكون مكلفا
وفيه مسألتان
393

المسألة الأول
رواية الصبي غير مقبولة لثلاثة أوجه
الأول
أن رواية الفاسق لا تقبل فأولى أن لا تقبل رواية الصبي فإن الفاسق
يخاف الله تعالى والصبي لا يخاف الله تعالى ألبتة
الثاني
أنه لا يحصل الظن بقوله فلا يجوز العمل به كالخبر عن الأمور
الدنيوية
الثالث
الصبي إن لم يكن مميزا لا يمكنه الاحتراز عن الخلل وإن كان مميزا
علم أنه غير مكلف فلا يحترز عن الكذب
فإن قلت أليس يقبل قوله في إخباره عن كونه متطهرا حتى يجوز
الاقتداء به في الصلاة
قلت ذلك لأن صحة صلاة المأموم غير موقوفة على صحة صلاة
الإمام
394

المسألة الثانية
إذا كان صبيا عند التحمل بالغا عند الرواية قبلت روايته لوجوه أربعة
الأول
إجماع الصحابة فإنهم قبلوا رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن
بشير رضي الله عنهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده
الثاني
إجماع الكل على إحضار الصبيان مجالس الرواية
الثالث
أن إقدامه على الرواية عند الكبر يدل ظاهرا على ضبطه للحديث
الذي سمعه حال الصغر
الرابع
أجمعنا على أنه تقبل منه الشهادة التي تحملها حال الصغر فكذا
الرواية
والجامع أنه حال الأداء مسلم عاقل بالغ يحترز من الكذب
الشرط الثالث
أن يكون مسلما
395

وفيه مسألتان
المسألة الأولى
الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة أجمعت الأمة على أنه لا تقبل
روايته سواء علم من دينه المبالغة في الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم
المسألة الثانية
المخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته
أم لا
الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لم تقبل روايته وإلا قبلناها وهو
قول أبى الحسين البصري
وقال القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم
لنا
أن المقتضي للعمل به قائم ولا معارض فوجب العمل به
بيان أن المقتضي قائم أن اعتقاده تحريم الكذب يزجره عن الإقدام
عليه فيحصل ظن صدقه فيجب العمل به على ما بيناه
وبيان أنه لا معارض
أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل
روايته وذلك الكفر منتف ها هنا
396

واحتج أبو الحسين
بأن كثيرا من أصحاب الحديث قبلوا أخبار سلفنا كالحسن وقتادة
وعمرو بن عبيد مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم
واحتج المخالف بالنص والقياس
أما النص فقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أمر بالتثبت
عند نبأ الفاسق وهذا كافر فوجب التثبت عند خبره
وأما القياس فأجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل
القبلة لا تقبل روايته فكذا هذا الكافر
والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين وهو منصب
شريف والكفر يقتضي الإذلال وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال
هذا الكافر جاهل بكونه كافرا لكنه لا يصلح عذرا لأنه ضم إلى كفره جهلا
اخر وذلك لا يوجب رجحان حاله على الكافر الأصلي
والجواب عن الأول
أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم
397

على الكبيرة
وعن الثاني
الفرق بين الموضعين أن كفر الخارج عن الملة أعظم من كفر
صاحب التأويل فقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة مع ظهور
الفرق لا يجوز الجمع
الشرط الرابع
العدالة وهي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى
398

والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفس بصدقه
ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف في
الحبة وسرقة باقة من البقل وعن المباحاث عليه القادحة في المروءة كالأكل في
الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزاح
والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن معه جرأته على الكذب ترد به الرواية
وما لا فلا
ويتفرع على هذا نوعان من الكلام
النوع الأول في أحكام العدالة
وفيه مسائل
المسألة الأولى
الفاسق إذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقا لم تقبل روايته
بالإجماع
وإن لم يعلم كونه فسقا فكونه فاسقا إما أن يكون مظنونا أو مقطوعا
فإن كان مظنونا قبلت روايته بالاتفاق قال الشافعي رضي الله عنه
أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ
399

وإن كان مقطوعا به قبلت روايته أيضا قال الشافعي رضي الله عنه
أقبل رواية أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور
لموافقيهم
400

وقال القاضي أبو بكر لا تقبل
لنا
أن ظن صدقه راجح والعمل بهذا الظن واجب والمعارض المجمع
عليه منتف فوجب العمل به
واحتج الخصم
بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل فسقه
ولكن جهله بفسقه فسق آخر فإذا منع أحد الفسقين من قبول الرواية
فالفسقان أبي أولى بذلك المنع
والجواب
أنه إذا علم كونه فسقا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية
بخلاف ما إذا لم يعلم ذلك
المسألة الثانية
المخالف الذي لا نكفره ولكن ظهر عناده لا تقبل روايته لأن المعاند
يكذب مع علمه بكونه كذبا وذلك يقتضي جرأته على الكذب فوجب أن
لا تقبل روايته
401

المسألة الثالثة
قال الشافعي رضي الله عنه رواية المجهول غير مقبولة بل لا بد فيه
من خبرة ظاهرة والبحث عن سيرته وسريرته
وقال أبو حنيفة رحمة الله وأصحابه يكفي في قبول الرواية
الإسلام بشرط سلامة الظاهر عن الفسق
402

لنا أوجه
الأول
الدليل ينفي العمل بخبر الواحد لقوله تعالى إن الظن لا يغني من
الحق شيئا خالفناه في حق من اختبرناه لأن الظن هناك أقوى فيبقى
في المجهول على الأصل
الثاني
الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد إلا إذا قطعنا بأن الراوي ليس
بفاسق ترك العمل به فيما غلب على ظننا أنه ليس بفاسق بسبب كثرة
الاختبار فيبقى فيما عداه على الأصل
403

بيان الثاني
أن عدم الفسق شرط جواز الرواية فوجب أن يكون العلم به شرطا لجواز
الرواية
وإنما قلنا إن عدم الفسق شرط جواز الرواية لقوله تعالى إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وهو صريح في المنع من قبول رواية الفاسق
وإنما قلنا إن عدم الفسق لما كان شرطا لجواز الرواية وجب أن يكون
العلم به شرطا لجواز الرواية لأن الجهل بالشرط يوجب الجهل
بالمشروط
وبيان الفارق
أن العدالة أمر كامن في الباطن لا اطلاع عليه حقيقة بل الممكن فيه
الاستدلال بالأفعال الظاهرة وذلك وإن لم يفد العلم لكنه يفيد الظن ثم
الظن الحاصل بعد طول الاختبار أقوى من الظن الحاصل قبله
404

وإذا كان كذلك لم يلزم من مخالفة الدليل عند وجود المعارض
القوي مخالفته عند وجود المعارض الضعيف
الثالث
أجمعنا على أنه لما كان الصبا والرق والكفر وكونه محدودا في القذف
مانعا من الشهادة لا جرم اعتبر في قبول الشهادة العلم بعدم هذه الأشياء
ظاهرا فوجب أن يكون الأمر كذلك في العدالة والجامع الاحتراز عن
المفسدة المحتملة
الرابع
إجماع الصحابة رضي الله عنهم على رد رواية المجهول رد عمر
رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس وقال كيف نقبل قول امرأة لا ندري
أصدقت أم كذبت ورد علي رضي الله عنه خبر الأشجعي في
المفوضة
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلف الراوي ثم إن أحدا
من الصحابة ما أظهر الإنكار على ردهم وذلك يقتضي حصول
الإجماع
405

واحتج المخالف بأمور
أحدها
أنه يقبل قول المسلم في كون اللحم لحم المذكى وفي كون الماء
في الحمام طاهرا وفي كون الجارية المبيعة رقيقة وفي كون المرأة غير
مزوجة ولا معتدة وفي كونه على الوضوء إذا أم الناس وفي إخباره للأعمى
عن القبلة فكذا ها هنا
وثانيها
أن الصحابة قبلت قول العبيد والصبيان والنسوان لأنهم عرفوهم
لا بالاسلام وما عرفوهم بالفسق
وثالثها
أنه عليه الصلاة والسلام قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال مع
أنه لم يظهر منه إلا الإسلام
406

ورابعها
قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا والمعلق على شرط
عدم عند عدم الشرط فما لم يعلم فسقه لم يجب التثبت
والجواب عن الأول
لم قلتم إنه لما قبل قول المجهول في تلك الصور قبل قوله في
الرواية
والفرق أن منصب الرواية أعلى من تلك المناصب فإن ألغوا هذه الزيادة
بإيماء قوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر قلنا ترك العمل
بهذا الإيماء في الكفر والحرية فكذا ها هنا
وعن الثاني
لا نسلم أن الصحابة قبلت قول المجاهيل فإن هذا هو نفس المسألة
وعن الثالث
لا نسلم أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يعرف من حال ذلك
الأعرابي إلا مجرد الاسلام
وعن الرابع
لما وجب التوقف عند قيام المفسق وجب أن نعرف أنه في نفسه
407

هل هو فاسق أم لا حتى يمكننا أن نعرف أنه هل يجب التوقف في قوله أم
لا
النوع الثاني
في طريق معرفة العدالة والجرح وهو أمران
أحدهما الاختبار
وثانيهما التزكية
والمقصود ها هنا بيان احكام التزكية والجرح
وفيه مسائل
المسألة الأولى
شرط بعض المحدثين العدد في المزكي والجارح في الرواية
والشهادة
وقال القاضي أبو بكر لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية
الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكي
وقال قوم يشترط في الشهادة دون الرواية وهو الأظهر لأن العدالة
التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية وشرط الشئ لا يزيد
408

على أصله فالإحصان يثبت بقول اثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بقول
أربعة وكذلك نقول تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية كما يقبل
قولهما
المسألة الثانية
قال الشافعي رضي الله عنه يجب ذكر سبب الجرح دون
التعديل لأنه قد يجرح بما لا يكون جارحا لاختلاف المذاهب فيه
وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد
وقال قوم يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح لأن مطلق الجرح
409

يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء على
الظاهر فلا بد من سبب
وقال قوم لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام
الفريقين
وقال القاضي أبو بكر لا يجب ذكر السبب فيهما جميعا لأنه إن
لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم تصح تزكيته وإن كان بصيرا فلا معنى
للسؤال
والحق أن هذا يختلف باختلاف أحوال المزكي فإن علمنا كونه عالما
بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه
وإن علمنا عدالته في نفسه ولم نعرف اطلاعه على شرائط الجرح
والتعديل استخبرناه (عن أسباب الجرح والتعديل
المسألة الثالثة
إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع
عليها المعدل ولا نفاها
410

فإن نفاها بطلت عدالة المزكي إذا النفي لا يعلم اللهم إلا إذا
جرحه بقتل انسان فقال المعدل رأيته حيا فها هنا يتعارضان
وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن
سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد
المسألة الرابعة
للتزكية مراتب أربعة
أعلاها أن يحكم بشهادته
والثانية أن يقول هو عدل لأني عرفت منه كيت وكيت فإن لم يذكر
السبب وكان عارفا بشروط العدالة كفى
والثالثة أن يروي عنه خبرا واختلفوا في كونه تعديلا
والحق أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية
إلا عن عدل كانت الرواية تعديلا
وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية عن كل من سمعوه ولو كلفوا الثناء
عليهم سكتوا
فإن قلت لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين
411

قلت إنه لم يوجب على غيره العمل به بل قلت سمعت فلانا يقول
كذا وصدق فيه ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا بالعدالة فروى ووكل
البحث إلى من أراد القبول
والرابعة العمل بالخبر إن أمكن حملة على الاحتياط أو على العمل
بدليل اخر وافق الخبر فليس بتعديل
وإن عرف يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل
لفسق
المسألة الخامسة
ترك الحكم بشهادته لا يكون جرحا في روايته وذلك لأن الرواية
والشهادة مشتركتان في هذه الشرائط الأربعة أعني العقل والتكليف
والاسلام والعدالة
واختصت الشهادة بأمور ستة هي غير معتبرة في الرواية وهي عدم
القرابة والحرية والذكورة والبصر والعدد والعداوة والصداقة
فهذه الستة تؤثر في الشهادة لا في الرواية لأن الولد له أن يروي عن
412

والده بالإجماع والعبد له أن يروي أيضا والضرير له أن يروي
أيضا ذلك لأن الصحابة رووا عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم في
حقهن كالضرير
الشرط الخامس
أن يكون الراوي بحيث لا يقع له الكذب والخطأ وذلك يستدعي
حصول أمرين
أحدهما
أن يكون ضابطا
والآخر
أن لا يكون سهوه أكثر من ذكره ولا مساويا له
أما ضبطه فلأنه إذا عرف بقلة الضبط لم تؤمن الزيادة والنقصان في
حديثه
ثم هذا على قسمين
أحدهما
أن يكون مختل الطبع جدا غير قادر على الحفظ أصلا ومثل هذا
الإنسان لا يقبل خبره ألبتة
والثاني
أن يقدر على ضبط قصار الأحاديث دون طوالها وهذا الإنسان يقبل منه
413

ما عرف كونه قادرا على ضبطه دون ما لا يكون قادرا عليه
أما إذا كان السهو غالبا عليه لم يقبل حديثه لأنه يترجح أنه سها في
حديثه
وأما إذا استوى الذكر والسهو لم يترجح أنه ما سها
والفرق بين أن لا يكون ضابطا وبين أن يعرض له السهو أن من لا يضبط
لا يحصل الحديث حال سماعه
ومن يعرض له السهو قد يضبط الحديث حال سماعه وتحصيله إلا
أنه قد يشذ عنه بعارض السهو
فإن قلت لم لا يجوز أن يقبل حديثه لأنه لو لم يكن ضبطه أو ضبطه
ثم سها عنه لم يروه مع عدالته
قلت عدالته تمنع من الكذب والخطأ عمدا لا سهوا فجاز أن يتصور
مع عدالته فيما لم يضبطه أنه ضبطه وانه لم يسه فيما سها عنه فوجب
أن لا يقبل حديثه
414

الفصل الثاني
في الأمور التي يجب ثبوتها حتى يحل للراوي
أن يروي الخبر
اعلم أن لذلك مراتب
فأعلاها
أن يعلم أنه قرأه على شيخه أو حدثه به ويتذكر ألفاظ قراءته ووقت
ذلك فلا شبهة في أنه يجوز له روايته والأخذ به
وثانيها
أن يعلم أنه قرأ جميع ما في الكتاب أو حدثه به ولا يتذكر ألفاظ قراءته
ولا وقت ذلك فيجوز له روايته لأنه عالم في الحال أنه سمعه
وثالثها
أن يعلم أنه لم يسمع ذلك الكتاب ولا يظن أيضا أنه سمعه أو يجوز
الأمرين تجويزا على السوية فلا تجوز له روايته لأنه لا يجوز له أن يخبر
بما يعلم أنه كاذب فيه أو ظان أو شاك فيه
ورابعها
أن لا يتذكر سماعه ولا قراءته لما فيه لكنه يظن ذلك لما يرى من
415

خطه وها هنا اختلفوا فيه
فعند الشافعي رضي الله عنه تجوز له روايته وهو قول أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله
وقال أبو حنيفة رحمه الله لا تجوز
لنا
الإجماع والمعقول
أما الإجماع فهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تعمل على كتب
رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو كتابه لعمرو بن حزم من غير أن يقال إن راويا روى
ذلك الكتاب لهم وإنما علموا ذلك لأجل الخط وأنه منسوب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز مثله في سائر الروايات
وأما المعقول فلأن الظن حاصل ها هنا والعمل بالظن واجب
احتج أبو حنيفة رحمه الله
بأنه إذا لم يعلم السامع لم يؤمن الكذب
جوابه
أنه يروي بحسب الظن وذلك يكفي في وجوب العمل
416

الفصل الثالث
فيما جعل شرطا في الراوي
مع أنه غير معتبر
والضابط في هذا الباب كل خصلة لا تقدح في غالب الظن بصحة
الرواية ولم يعتبر الشرع تحقيقها تعبدا فإنها لا تمنع من قبول الخبر
وفيه مسائل
المسألة الأولى
رواية العدل الواحد مقبولة خلافا للجبائي فإنه قال رواية العدلين
مقبولة
وأما خبر العدل الواحد فلا يكون مقبولا إلا إذا عضده ظاهر أو عمل
بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشرا فيهم
وحكى عنه القاضي عبد الجبار أنه لم يقبل في الزنا إلا خبر
أربعة كالشهادة عليه
417

لنا وجهان
الأول
إجماع الصحابة عمل أبو بكر على خبر بلال وعمل عمر على خبر
حمل بن مالك وعلى خبر عبد الرحمن في المجوس وعمل علي على خبره
المقداد وعملت الصحابة على خبر أبي سعيد في الربا وعملت على خبر
رافع ابن خديج في المخابرة وعلى خبر عائشة في التقاء الختانين وكان
علي يقبل خبر أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين
فإن قلت لعلهم قبلوا ما قبلوه لأن الاجتهاد عضده
قلت إنهم كانوا يتركون اجتهادهم بهذه الأخبار وكانوا لا يرون
بالمخابرة بأسا حتى روى لهم رافع بن خديج نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها
الثاني
أن العمل بخبر الواحد العدل يتضمن دفع ضرر مظنون فيكون واجبا
احتج الخصم بأمور
أحدها
أنه عليه الصلاة والسلام لم يقبل خبر ذي اليدين حتى شهد له أبو بكر
وعمر رضي الله عنهم
وثانيها
أن الصحابة اعتبرت العدد فإن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة في الجدة
حتى رواه معه محمد بن مسلمة
418

ولم يعمل عمر على خبر أبي موسى في الاسئذان حتى رواه أبو سعيد
الخدري
ورد خبر فاطمة بنت قيس
ورد أبو بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم أجمعين في رد الحكم بن
العاص
وثالثها
قياس الرواية على الشهادة بل أولى لأن الرواية تقتضي شرعا عاما
والشهادة شرعا خاصا فإذا لم تقبل رواية الواحد في حق الإنسان الواحد
فلأن لا تقبل في حق كل الأمة كان أولى
ورابعها
الدليل ينفي العمل بالخبر المظنون لقوله تعالى إن الظن لا يغني
من الحق شيئا ترك العمل به في خبر العدلين والعدل الواحد ليس في
معناه لأن الظن هناك أقوى مما ها هنا فوجب أن يبقى على الأصل
والجواب عن الأول
أن ذلك إن دل فإنما يدل على اعتبار ثلاثة أبي بكر وعمر وذي اليدين
رضي الله عنهم ولأن التهمة كانت قائمة هناك لأنها كانت واقعة في
محفل عظيم والواجب فيها الاشتهار
419

وعن الثاني
أن بينا أنهم قبلوا خبر الواحد وها هنا اعتبروا العدد فلا بد من التوفيق
فنقول ما ذكرناه من الروايات يدل على أن العدد ليس بشرط في أصل
الرواية وما ذكروه دل على أنهم طلبوا العدد لقيام تهمة في تلك
الصور
وعن الثالث
أنه منقوض بسائر الأمور التي هي معتبرة في الشهادة لا في الرواية
كالحرية والذكورة والبصر وعدم القرابة
عن الرابع
لا نسلم أن قول الله تعالى إن الظن لا يغني من الحق
شيئا يمنع من التعلق بخبر الواحد فإنا لما علمنا أن الله تعالى أمرنا
بالتمسك كان تمسكنا به معلوما لا مظنونا
المسألة الثانية
زعم أكثر الحنفية أن راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث قدح ذلك
في رواية الفرع
والمختار أن نقول راوي الفرع إما أن يكون
420

جازما بالرواية أو لا يكون فإن كان جازما فالأصل إما أن يكون جازما بفساد الحديث أو بصحته
أو لا يجزم بواحد منهما
فإن كان الأول فقد تعارضا فلا يقبل الحديث ولأن قبول الحديث من
الفرع لا يمكن إلا بالقدح في الأصل وذلك يوجب القدح في الحديث
وأما الثاني فلا نزاع في صحته
وأما الثالث
فإما أن يقول الأغلب على ظني أني ما رويته أو الأغلب أني
رويته أو الأمران على السواء أو لا يقول شيئا من ذلك
ويشبه أن يكون الخبر في كل هذه الأقسام مقبولا لأن الفرع جازم ولم
يوجد في مقابلته جزم يعارضه فلا يسقط به الاستدلال
وأما إذا لم يكن الفرع جازما بل يقول أظن أني سمعته منك فإن جزم
الأصل بأني ما رويته لك تعين الرد
وان قال أظن انى ما رويته لك تعارضا والأصل العدم
وإن ذهب إلى سائر الأقسام فالأشبه قبوله
والضابط أنه حيث يكون قول الأصل معادلا بقول الفرع
421

تعارضا وحيث ترجح أحدهما على الآخر فالمعتبر هو الراجح
واحتج المانعون مطلقا
بأن الدليل ينفي قبول خبر الواحد فالفناه ما فيما إذا لم يوجد هذا
المعنى لأن الظن هناك فيبقى فيما عداه على الأصل
والجواب ما تقدم
المسألة الثالثة
لا يشترط كون الراوي فقيها سواء كانت روايته موافقه للقياس أو
مخالفة له خلافا لأبي حنيفة رحمه الله فيما يخالف القياس
لنا
الكتاب والسنة والعقل
أما الكتاب فقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
فوجب أن لا يجب التبين في غير الفاسق سواء كان عالما أو جاهلا
422

وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها إلى
قوله فرب حامل فقه ليس بفقيه
وأما العقل فهو أن خبر العدل يفيد ظن الصدق فوجب العمل به لما
تقدم من أن العمل بالظن واجب
واحتج الخصم بوجهين
الأول
أن الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد خالفناه إذا كان الراوي
فقيها لأن الاعتماد على روايته أوثق
الثاني
أن الأصل أن لا يرد الخبر على مخالفة القياس والأصل أيضا
423

صدق الراوي فإذا تعارضا تساقطا ولم يجز التمسك بواحد منهما
وأيضا
فبتقدير صدق الراوي لا يلزم القطع بكون ذلك الخبر حجة لأنه إذا
جرى حديث منافق عند الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا جاء ذلك الرجل فقال الرسول
صلى الله عليه وسلم اقتلوا الرجل علم الفقيه أن الألف واللام ها هنا ينصرف إلى
المعهود والعامي ربما ظن أن المراد منه الاستغراق
والجواب عن الأول ما مر
وعن الثاني
أن في التعارض تسليما بصحة أصل الخبر
قوله يجوز أن يشتبه عليه المعهود بالاستغراق
قلنا التمييز بين الأمرين لا يتوقف على الفقه بل كل من كانت له
فطنه سليمة أمكنه التمييز بين الأمرين
وأيضا
فإن ذلك يقتضي اعتبار الفقه في رواة خبر التواتر
424

المسألة الرابعة
إذا عرف منه التساهل في أمر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في أنه
لا يقبل خبره
وأما إذا عرف منه التساهل في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعرف منه الاحتياط جدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبول خبره
على الرأي الأظهر لأنه يفيد الظن ولا معارض فوجب العمل به
المسألة الخامس
لا يعتبر في الراوي أن يكون عالما بالعربية وبمعنى الخبر لأن الحجة
في لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام والأعجمي والعامي يمكنهما حفظ
اللفظ وكذلك يمكنهما حفظ القرآن
ولا يعتبر أيضا أن يكون ذكرا أو حرا أو بصيرا وهو مجمع عليه
المسألة السادسة
تقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا
فأما إذا أكثر من الروايات مع قلة مخالطته لأهل الحديث فإن
425

أمكن تحصيل ذلك القدر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان قبلت
أخباره وإلا توجه الطعن في الكل
المسألة السابعة
لا يجب كون الراوي معروف النسب بل إذا حصلت الشرائط المعتبرة
المذكورة فيه قبل خبره وإن لم يعرف نسبه
وأما إذا كان له اسمان وهو بأحدهما أشهر جازت الرواية عنه
وأما إذا كان مترددا بينهما وهو بأحدهما مجروج وبالآخر معدل
لم يقبل لأجل التردد
426

القسم الثاني
في البحث عن الأمور العائدة إلى المخبر عنه
اعلم أن الشرط العائد إلى المخبر عنه في العمل بالخبر هو عدم
دليل قاطع يعارضه
والمعارض على وجهين
أحدهما
أن ينفي أحدهما ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته الآخر كما إذا
قال في أحدهما ليصل فلان في الوقت الفلاني على الوجه الفلاني
وينهى في الثاني عن ذلك الحد في ذلك الوقت
وثانيهما
أن يثبت أحدهما ضد ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته الآخر مثل
أن يوجب عليه صلاة أخرى في عين ذلك الوقت في غير ذلك
المكان
والدليل القاطع ضربان عقلي وسمعي
فإن كان المعارض عقليا نظرنا فإن كان خبر الواحد قابلا للتأويل
كيف كان أولناه فلم نحكم برده
427

وإن لم يقبل التأويل قطعنا بفساده لأن الدالة العقلية غير محتملة
للنقيض
فإذا كان خبر الواحد غير محتمل للنقيض في دلالته وهو محتمل
للنقيض في متنه قطعنا بوقوع ذلك المتحمل وإلا فقد وقع الكذب من
الشرع وإنه غير جائز
وأما أدلة السمع فثلاثة الكتاب والسنة المتواترة والإجماع
وأعلم أنه لا يستحيل عقلا أن يقول الله تعالى أمرتكم بأن تعملوا
بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع بشرط أن لا يرد خبر واحد على
مناقضته فإذا ورد ذلك فيكفيكم لا أن تعملوا بخبر الواحد لا بهذه الأدلة
لكن الإجماع عرفنا أن هذا المحتمل لم يقع لأن الإجماع منعقد على أن
الدليلين إذا استويا ثم اختص أحدهما بنوع قوة غير حاصل في الثاني
فإنه يجب تقديم الراجح
فها هنا هذه الأدلة الثلاثة لما كانت مساوية لخبر الواحد في الدلالة
واختصت هذه الأدلة الثلاثة بمزيد قوة وهي بكونها قاطعة في متنها لا
جرم وجب تقديمها على خبر الواحد
وأما أن خبر الواحد هل يقتضي تخصيص عموم الكتاب والسنة
المتواترة فقد تقدم القول فيه
428

القول
فيما ظن أنه شرط في
هذا الباب
وليس بشرط
429

المسألة الأولى
خبر الواحد إذا عارضه القياس فإما أن يكون خبر الواحد يقتضي
تخصيص القياس أو القياس يقتضي تخصيص خبر الواحد
وإما أن يتنافيا بالكلية
فإن كان الأول فمن يجيز تخصيص العلة يجمع بينهما
ومن لا يجيزه يجري هذا القسم مجرى ما إذا تنافيا بالكلية
وإن كان الثاني كان ذلك تخصيصا لعموم خبر الواحد بالقياس وأنه
جائز لأن تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس لما كان جائزا
فها هنا أولى
وأما الثالث وهو ما إذا كان كل واحد منهما مبطلا لكل مقتضيات الآخر
فنقول
ذلك القياس لا بد وأن يكون أصله قد ثبت بدليل وذلك الدليل إما أن
يكون هو ذلك الخبر أو غيره
فإن كان الأول فلا نزاع أن الخبر مقدم على القياس
وإن كان الثاني فهذا يحتمل وجوها ثلاثة وذلك لأن القياس يستدعي
أمورا ثلاثة
431

أحدها ثبوت حكم الأصل
وثانيها كونه معللا بالعلة الفلانية
وثالثها حصول تلك العلة في الفرع
ثم لا يخلو كل واحد من هذه الثلاثة إما أن تكون قطعية أو ظنية أو
بعضها قطعي وبعضها ظني
فإن كان الأول كان القياس مقدما على خبر الواحد لا محالة لأن هذا
القياس يقتضي القطع وخبر الواحد يقتضي الظن ومقتضى القطع مقدم على
مقتضى الظن
وإن كان الثاني كان الخبر لا محالة مقدما على القياس لأن الظن كلما
كان أقل كان بالاعتبار أولى
وإن كان الثالث فهذا يحتمل أقساما كثيرة ونحن نعين منها صورة
واحدة وهي أن يكون دليل ثبوت الحكم في الأصل قطعيا إلا أن كونه
معللا بالعلة المعينة ووجود تلك العلة في الفرع ظنيا فها هنا اختلفوا
فعند الشافعي رضي الله عنه الخبر راجح
وعند مالك رحمه الله القياس راجح
432

وقال عيسى بن أبان إن كان راوي الخبر ضابطا عالما وجب تقديم خبره
على القياس وإلا كان في غير محل الاجتهاد
وقال أبو الحسن البصري طريق ترجيح أحدهما على الآخر الاجتهاد
فإن كانت أمارة القياس أقوى عنده من عدالة الراوي وجب المصير
إليها وإلا فبالعكس
ومن الناس من توقف فيه
لنا وجوه
الأول
أن الصحابة كانوا يتركون اجتهادهم لخبر الواحد من ذلك
قصة عمر رضي الله عنه في الجنين حتى قال كدنا نقضي فيه برأينا
وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأيضا ترك اجتهاده في المنع من توريث المرأة من دية زوجها
وأيضا قال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا
وأضلوا
433

وأيضا فإن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم فيه برأيه
لحديث سمعه من بلال
فإن قلت إن ابن عباس رد خبر أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
إذا استيقظ أحدكم من نومه حتى قال فما نصنع بمهراسنا
قلت ظاهر هذا القول لا يقتضي رد الخبر وإنما هو وصف للمشقة
في العمل بموجبه مع عظم المهراس
سلمنا أنه ترك هذا الحديث لكن إنما تركه لأنه لا يمكن الأخذ به
من حيث لا يمكن قلب المهراس على اليد
فإن قلت ليس فيه تكليف ما لا يطاق لأنه كان يمكنهم غسل أيديهم من
إناء اخر ثم ادخالها في المهراس
قلت ومن أين يعلم أن قياس الأصول يقضي غسل اليدين من
ذلك الإناء حتى يكون قد رد الخبر لذلك القياس
الثاني
أن قصة معاذ تقتضي تقديم الخبر على القياس
الثالث
أن التمسك بالخبر لا يتم إلا بثلاث مقدمات
434

إحداها
ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وثانيتها
دلالته على الحكم
وثالثها
وجوب العمل به
والمقدمة الأولى ظنية والثانية والثالثة يقينية
وأما التمسك بالقياس فلا يتم إلا بخمس أن مقدمات
إحداها
ثبوت حكم الأصل
وثانيتها
كونه معللا بالعلة الفلانية
وثالثتها
حصول تلك العلة في الفرع
ورابعتها
عدم المانع في الفرع عند من يجيز تخصيص العلة
وخامستها
وجوب العمل بمثل هذه الدلالة
والمقدمة الأولى والخامسة يقينية
435

وأما الثانية والثالثة والرابعة فظنية
وإذا كان كذلك كان العمل بالخبر أقل بالخبر أقل ظنا من العمل بالقياس فوجب
أن يكون الخبر راجحا
فإن قلت إذا كانت الأمارة الدالة على ثبوت الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم
ضعيفة والإمارات الدالة على المقدمات الثلاثة الظنية في جانب القياس
قوية بحيث يتعارض ما في أحد الجانبين من الكمية بما في الجانب
الآخر من الكيفية فها هنا يتعين الاجتهاد والرجوع إلى الترجيح
قلت لو خلينا والعقل لكان الأمر كما ذكرت إلا أن الدليلين
الأولين منعا منه
المسألة الثانية
إذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عمل بخلاف موجب الخبر فالخبر
إما أن يكون متناولا للرسول صلى الله عليه وسلم أو غير متناول له
فإن لم يتناوله لم يخل من أن يكون قد قامت الدلالة على أن حكمنا
وحكمه صلى الله عليه وسلم فيه سواء أو لم تقم الدلالة على ذلك
فإن لم يقم عليه دليل جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك
الحكم وعلى هذا التقدير لا يكون بين فعله وبين الخبر تناف فلا يرد
الخبر لأجله
وإن قامت الدلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكمنا فيه سواء نظر في
الخبرين فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر فعل وإن لم يمكن كان
أحدهما متواترا عمل بالتواتر
436

وإن لم يكونا متواترين عمل فيهما بالترجيح
المسألة الثالثة
عمل أكثر الأمة بخلاف الخبر لا يوجب رده
وعمل أكثر الأمة بموجب الخبر لا يوجب قبوله لأن أكثر الأمة بعض
الأمة وقول بعض الأمة ليس بحجة إلا أن ذلك وإن لم يكن حجة
فإنه من المرجحات
المسألة الرابعة
الحفاظ إذا خالفوا الراوي في بعض ذلك الخبر فقد اتفقوا على أن
ذلك لا يقتضي المنع من قبول ما لم يخالفوه فيه لأن ظاهر حاله
الصدق ولم يوجد معارض فوجب قبوله
وأما القدر الذي خالفوه فيه فالأولى أن لا يقبل لأنه وإن جاز أن
يكونوا سهوا وحفظ هو لكن الأقوى أنه سها وحفظوا هم لأن السهو على
الواحد أجوز منه على الجماعة
437

المسألة الخامسة
خبر الواحد إذا تكاملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب
قال الشافعي رضي الله عنه لا يجب لأنه لا تتكامل شروطه إلا
وهو غير مخالف للكتاب
وعند عيسى بن أبان يجب عرضه عليه لقوله صلى الله عليه وسلم إذا روي لكم
عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإلا
فردوه
المسألة السادسة
لا شبهة في أن الناسخ يجب أن يكون غير مقارن للكتاب
فإن علم أن خبر الواحد غير مقارن للكتاب لم يقبل لما ثبت أن نسخ
الكتاب بخبر الواحد لا يجوز
وإن شك فيه قبل عند القاضي عبد الجبار قال لأن الصحابة
رفعت بعض أحكام القرآن لأخبار الآحاد ولم تسأل هل كانت مقارنة أم
لا
438

المسألة السابعة
اختلفوا فيما إذا كان مذهب الراوي بخلاف روايته
فالأول
هو قول بعض الحنفية الراوي للحديث العام إذا خصه رجع إليه
لأنه لما شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان أعرف بمقاصده ولذلك حملوا رواية أبي
هريرة فولوغ الكلب أنه يغسل سبعا على الندب لأن أبا هريرة كان
يقتصر على الثلاث
الثاني
وهو قول الكرخي أن ظاهر الخبر أولى
والثالث
أنه إن كان تأويل الراوي بخلاف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث
وإن كان هو أحد محتملات الظاهر رجع إلى تأويله وهو ظاهر مذهب
الشافعي رضي الله عنه
والرابع
وهو قول القاضي عبد الجبار إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه إلا أنه
علم بالضرورة قصد النبي صلى الله عليه وسلم إليه وجب المصير إليه
وإن لم يعلم ذلك بل جوزنا أن يكون قد صار إليه لنص أو قياس
وجب النظر في ذلك فإن اقتضى ما ذهب إليه صير إليه وإلا فلا
وكذا إن كان الحديث مجملا وبينه الراوي كان بيانه أولى
439

حجة الشافعي رضي الله عنه أن المقتضى وهو ظاهر اللفظ قائم
والمعارض الموجود وهو مخالفة الراوي لا يصلح أن يكون معارضا
لاحتمال أن يكون قد تمسك في تلك المخالفة بما ظنه دليلا مع أنه
لا يكون كذلك
فإن قلت الظاهر من دينه أنه لا يخالف إلا لدليل
قلت دينه يمنعه عن الخطأ عمدا لا سهوا وغلطا وليس
ها هنا ظاهر يدل على أنه كان من العلم بحيث لا يعرض له ذلك
الخطأ
المسألة الثامنة
خبر الواحد إما أن يقتضي علما أو عملا
فإن اقتضى علما فإما أن يكون في الأدلة القاطعة ما يدل عليه أو لا
يكون
فإن كان الأول جاز قوله لأنه لا يمتنع أن يكون عليه الصلاة والسلام
قاله واقتصر به على آحاد الناس واقتصر بغيرهم على الدليل الآخر
وإن كان الثاني وجب رده سواء اقتضى مع العلم عملا أو لم يقتضه
لأنه لما كان التكليف فيه بالعلم مع أنه ليس له صلاحية إفادة العلم كان
440

ذلك تكليفا بما لا يطاق اللهم إلا أن يقال لعله عليه الصلاة والسلام
أوجب العلم به على من شافهه دون من لم يشافهه فإن ذلك جائز
فأما إذا اقتضى عملا وكان البلوي به عاما فعندنا لا يجب رده
وعند الحنفية يجب رده
لنا وجوه
أحدها
عموم قوله تعالى ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وقوله إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
وثانيها
أن خبر الواحد العدل في هذا الباب يفيد ظن الصدق
فيكون العمل دافعا لضرر مظنون فيكون واجبا
وثالثها
رجوع الصحابة إلى عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين مع أن
ذلك مما تعم به البلوي
441

ورابعها
أن البلوي عام بمعرفة أحكام القئ والرعاف والقهقهة في الصلاة ووجوب
الوتر مع أنهم يقبلون خبر الواحد فيه وليس يعصمهم من ذلك أنه قد تواتر
النقل بالوتر لأن وجوبها يعم به البلوي ولم يتواتر نقله
واحتجوا بالإجماع والمعقول
أما الإجماع فهو أن أبا بكر رد حديث المغيرة في الجدة ورد عمر خبر
أبي موسى في الاسئذان
وأما المعقول فهو أنه لو كان صحيحا لأشاعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولأوجب
نقله على جهة التواتر مخافة أن لا يصل إلى من كلف به فلا يتمكن من
العمل به ولو فعل ذلك لتوافرت على الدواعي إلى نقله على جهة التواتر
والجواب عن الأول
أنه أنما كان يجب ذلك الذي قلتم لو لم يقبلوا فيه إلا خبرا متواترا
فأما إذا لم يقبلوا خبر الواحد وقبلوا خبر الاثنين فلا وقد قبلوا خبر
الاثنين فيه فلم ينفعكم ذلك
وعن الثاني
أن ذلك يجب أن لو كان يتضمن علما أو أوجب العمل به على
كل حال
442

فأما إذا أوجبه بشرط أن يبلغه فليس فيه تكليف ما لا طريق إليه ولو وجب
ذلك فيما تعم به البلوي لوجب في غيره لجواز أن لا يصل إلى من كلف به
فإن قلتم هناك إنه كلف العمل به بشرط أن يبلغه قيل لكم مثله فيما
تعم به البلوي
443

القسم الثالث
في الإخبار
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في كيفية ألفاظ الصحابة في نقل الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهي على سبع مراتب
المرتبة الأولى
أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني
رسول الله أو حدثني رسول الله أو شافهني رسول الله صلى الله عليه وسلم
المرتبة الثانية
أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فهذا ظاهره النقل إذا صدر عن
445

الصحابي وليس نصا صريحا إذ قد يقول الواحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه صلى الله عليه وسلم
إما إذا صدر عن غير الصحابي فليس ظاهره ذلك
المرتبة الثالثة
أن يقول أمر رسول الله بكذا أو نهى عن كذا وهذا يتطرق إليه الاحتمال
الأول مع احتمال اخر وهو أن مذاهب الناس في صيغ الأوامر النواهي
مشهورة فربما ظن ما ليس بأمر أمرا ولأجله اختلف الناس في أنه هل هو
حجة أم لا
والأكثرون على أنه حجة لأن الظاهر من حال الراوي أن لا يطلق هذا
اللفظ إلا إذا تيقن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم
ولقائل أن يقول لم لا يكفي فيه الظن
فإن قلت لأن هذه الصيغة حجة فلو أطلقه الراوي مع تجويزه
خلافه لكان قد أوجب على الناس ما يجوز أن لا يكون واجبا عليهم وذلك
يقدح في عدالته
فنقول على هذا لا يمكنكم العلم بأن هذا الراوي ما اطلق هذه
اللفظة إلا بعد علمه بمراد الرسول إلا إذا علمتم أنه حجة وأنتم إنما أثبتم
كونه حجة بذلك فلزم الدور
446

وفي المسألة احتمال ثالث وهو أن قول الراوي أمر الرسول بكذا
ليس فيه لفظ يدل على أنه أمر الكل أو البعض دائما أو غير دائم فلا يجوز
الاستدلال به إلا إذا ضم إليه قوله عليه الصلاة والسلام حكمي على
الواحد حكمي على الجماعة
المرتبة الرابعة
أن يقول الصحابي أمرنا بكذا أو أوجب كذا ونهينا عن كذا وأبيح
كذا
قال الشافعي رضي الله عنه إنه يفيد أن الآمر هو الرسول عليه
الصلاة والسلام
والكرخي خالف فيه
لنا وجهان
الأول
أن من التزم طاعة رئيس فإنه متى قال أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك
الرئيس ألا ترى أن الرجل من خدم السلطان إذا قال في دار
السلطان أمرنا بكذا فهم كل أحد من كلامه أمر السلطان
الثاني
أن غرض الصحابي أن يعلمنا الشرع فيجب حمله على من صدر الشرع
447

عنه دون الأئمة دون والولاة فلا يحمل هذ القول على أمر الله تعالى لأن
أمره تعالى ظاهر للكل لا نستفيده من قول الصحابي ولا على أمر
جماعة الأمة لأن ذلك الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه
المرتبة الخامسة
أن يقول الصحابي من السنة كذا فهم منه سنة الرسول عليه
الصلاة والسلام للوجهين المذكورين
فإن قلت هذا غير واجب للخبر والعقل
أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام من سن سنة حسنة فله
أجرها وأجر من عمل بها وعنى به سنة غيره
وأما العقل فهو أن السنة مأخوذة من الاستنان وذلك غير مختص
بشخص دون شخص
448

قلت لا يمتنع ما ذكرتموه بحسب اللغة ولكن بحسب الشرع
يفيد ما قلنا
المرتبة السادسة
أن يقول الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم يحتمل أن يقال
إنه أخبره إنسان آخر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لم يسمعه منه
وقال آخرون بل الأظهر أنه سمعه منه
المرتبة السابعة
قوله الصحابي كنا نفعل كذا فالظاهر أنه قصد أن يعلمنا بهذا الكلام
شرعا ولن يكون كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه
بذلك ومع أنه صلى الله عليه وسلم ما كان ينكر ذلك عليهم وهذا يقتضي كونه شرعا
عاما
فأما إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه فحسن الظن به يقتضي
أن يكون قاله عن طريق فإذا لم يمكن الاجتهاد فليس إلا السماع من النبي
صلى الله عليه وسلم
449

المسألة الثانية
في كيفية رواية غير الصحابي
وهذا أيضا على سبع مراتب
المرتبة الأولى
أن يقول الراوي حدثني فلان أو أخبرني فلان أو سمعت فلانا
فالسامع يلزمه العمل بهذا الخبر
وأما أن السامع كيف يروي فنقول إن الراوي إن قصد إسماعه
خاصة ذلك الكلام أو كان هو في جمع قصد الراوي إسماعهم فله
أن يقول ها هنا أخبرني وسمعته يحدث عن فلان
إما أن لم يقصد إسماعه لا على التفصيل ولا على الجملة فله أن
يقول سمعته يحدث عن فلان لكن ليس له أن يقول أخبرني ولا
حدثني لأنه لم يخبره ولم يحدثه
المرتبة الثانية
أن يقال للراوي هل سمعت هذا الحديث عن فلان فيقول
نعم أو يقول بعد الفراغ من القراءة عليه الأمر كما قرئ على
فها هنا العمل بالخبر لازم على السامع
وله أيضا أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعت فلانا ألا ترى
أنه لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يقول البائع وبين أن يقرأ عليه
450

كتاب البيع فيقول الأمر كما قرئ علي
المرتبة الثالثة
أن يكتب إلى غيره بأني سمعت كذا من فلان فللمكتوب إليه أن
يعمل بكتابه إذا علم أنه كتابه وإذا ظن أنه خطه جاز له ذلك أيضا
لكن ليس له أن يقول سمعت أو حدثني لأنه ما سمع ولا حدث بل يجوز
أن يقول أخبرني لأن من كتب إلى غيره كتابا يعرفه فيه واقعة جاز
له أن يقول أخبرني
المرتبة الرابعة
أن يقال له هل سمعت هذا الخبر فيشير برأسه أو بأصبعه فالإشارة
ها هنا كالعبارة في وجوب العمل
ولا يجوز أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته لأنه ما سمع
شيئا
المرتبة الخامسة
أن يقرأ عليه حدثك فلان فلا ينكر ولا يقر بعبارة ولا بإشارة
451

فها هنا إن غلب على الظن أنه ما سكت إلا لأن الأمر كما قرئ عليه وإلا
كان ينكره لزم السامع العمل به لأنه حصل ظن أنه قول الرسول عليه
الصلاة والسلام والعمل بالظن واجب
واختلفوا في جواز الرواية فعامة الفقهاء والمحدثين جوزوه
والمتكلمون أنكروه
وقال بعض أصحاب الحديث ليس له إلا أن يقول أخبرني قراءة عليه
وكذا الخلاف فيما لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث عليه
أرويه عنك فقال نعم
فالمتكلمون قالوا لا تجوز له الرواية عنه ها هنا أيضا
حجة الفقهاء
أن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهذا السكوت قد
أفاد العلم بأن هذا المسموع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام فوجب أن
يكون إخبارا
وأيضا فلا نزاع في أن لكل قوم من العلماء اصطلاحات مخصوصة
يستعملونها في معان مخصوصة إما لأنهم نقلوها بحسب عرفهم إلى
تلك المعاني
أو لأنهم استعملوها فيها على سبيل التجوز ثم صار المجاز شائعا
والحقيقة مغلوبة ولفظ أخبرني وحدثني ها هنا كذلك لأن هذا
452

السكوت شابه الإخبار في إفادة الظن والمشابهة إحدى أسباب المجاز
وإذا كان هذا الاستعمال مجازا ثم استقر عرف المحدثين عليه صار
ذلك كالاسم المنقول بعرف المحدثين أو كالمجاز الغالب وإذا ثبت
ذلك وجب جواز استعماله قياسا على سائر الاصطلاحات
حجة المتكلمين
أنه لم يسمع من الراوي شيئا فقوله حدثني وأخبرني وسمعت كذب
والجواب
ما تقدم من أنه بعد هذا النقل العرفي لا نسلم أنه كذب
المرتبة السادسة
المناولة وهي أن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه فيقول قد سمعت
ما في هذا الكتاب فإنه يكون بذلك محدثا ويكون لغيره أن يروي عنه سواء
قال له أروه عني أو لم يقل له ذلك
فأما إذا قال له حدث عني ما في هذا الجزء ولم يقل له قد
سمعته فإنه لا يكون محدثا له وإنما جاز للتحدث له وليس له أن يحدث
به عنه لأنه يكون كاذبا
وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور فليس له أن يشير إلى نسخة
أخرى من ذلك الكتاب ويقول سمعت هذا لأن النسخ تختلف إلا أن
453

يعلم أنهما متفقتان
المرتبة السابعة
الإجازة وهي أن يقول الشيخ لغيره قد أجزت لك أن تروي ما صح
عني من أحاديثي
واعلم أن ظاهر الإجاز يقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث بما لم
يحدثه به وذلك إباحة الكذب لكنه في العرف يجري مجرى أن يقول
ما صح عندك أني سمعته فاروه عني
المسألة الثالثة
ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المرسل غير مقبول
وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور المعتزلة إنه مقبول
454

لنا
أن عدالة الأصل غير معلومة فلا تكون روايته مقبولة
إنما قلنا إن عدالة الأصل غير معلومة لأنه لم توجد إلا رواية الفرع
عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له إذا المعدل قد يروي عمن لو سئل
عنه لتوقف فيه أو لجرحه
وبتقدير أن يكون تعديلا لا يقتضى كونه عدلا في نفسه لاحتمال أنه
لو عينه لنا لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل فثبت أن عدالته غير معلومة
وإذا كان كذلك وجب أن لا تقبل روايته لأن قبول روايته يقتضي
وضع شرع عام في حق كل المكلفين من غير رضاهم وذلك ضرر والضرر
على خلاف الدليل ترك العمل به فيما إذا علمت عدالة الراوي فيبقى
في الباقي على الأصل
فإن قيل لا نسلم أن عدالته غير معلومة
قوله لم يوجد إلا رواية الفرع عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له
لأنه قد يروي عن العدل وغيره
قلنا لا نزاع في جوازه في الجملة لكن لم لا يجوز أن يقال روايته
عن العدل أرجح من روايته عن غيره
وبيانه من وجهين
الأول
أن الفرع مع عدالته لا يجترئ أن يخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وله
455

الإخبار بذلك ولا يكون له ذلك إلا وهو عالم أو ظان بكونه قولا للرسول
صلى الله عليه وسلم
لأنه لو استوى الطرفان لحرم الإخبار ولا يكون عالما ولا ظانا بكونه
قولا للرسول إلا إذا علم أو ظن عدالة الأصل
الثاني
أن الفرع مع عدالته ليس له أن يوجب شيئا على غيره أو يطرحه عنه إلا
إذا علم أنه عليه الصلاة والسلام أوجب ذلك أو ظنه
فثبت بهذين الدليلين رجحان هذا الاحتمال وهذا يقتضي كون الأصل
عدلا ظاهرا فوجب قبول روايته كما في سائر العدول
وهذه هي النكتة التي عولوا عليها في وجوب قبول المرسل
ثم ما ذكرتموه من الدليل معارض بالنص والإجماع والقياس
أما النص فعموم قوله تعالى ولينذروا قومهم وقوله تعالى
إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فإذا جاء من لا يكون فاسقا وجب القبول
والراوي للفرع ليس بفاسق فوجب قبول خبره
وأما الإجماع فإن البراء بن عازب قال ليس كل ما حدثناكم به عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه غير أنا لا نكذب
456

وروى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام من أصبح جنبا فلا
صوم له ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس
وروى ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ربا إلا
في النسيئة ثم أسنده إلى أسامة
وروى أيضا ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة
ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس رضي الله عنهما
وهذه الروايات تدل على جواز قبول المرسل
وأما القياس فلأنه لو لم يقبل المرسل لما قبل ما يجوز كونه مرسلا
فكان ينبغي إذا قال الراوي عن فلان أن لا يقبل لأنه لا يجوز أن يكون
أخبر عنه
457

والجواب
قد بينا أن العدل يروي عن العدل وعن من لا يكون عدلا
قوله لم لا يجوز أن يقال روايته عن العدل أرجح من روايته عمن
ليس بعدل
قلنا لأنه إذا ثبت أنه لا منافاة بين كونه عدلا وبين روايته عمن ليس
بعدل كان ذلك ممكنا بالنسبة إليه من حيث هو هو والممكن لا يترجح
أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح منفصل فقبل حصول ذلك المرجح لا
يبقى إلا أصل الإمكان قوله أولا الفرع مع عدالته أخبر عن الرسول ولا يجوز له ذلك
الإخبار إلا وقد اعتقد عدالة الراوي
قلنا الفرع إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي الجزم بأن
هذا القول قول رسول الله والجزم بالشئ مع تجويز نقيضه كذب
وذلك يقدح في عدالة الراوي
فإذن لا بد من صرف هذا اللفظ عن ظاهره فليسوا بأن يقولوا المراد
منه أني أظن أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من أن نقول نحن المراد
منه أني سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه لو صرح بهذا القدر
لم يكن فيه تعديل للأصل لأنه لو سمعه من كافر متظاهر بالكفر لحل أن
458

يقول سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنا سقوط ما ذكروه
قوله ثانيا الفرع مع عدالته ليس يجوز له أن يوجب شيئا على غيره
إلا إذا علم أو ظن أنه عليه الصلاة والسلام أوجبه
قلنا روايته إنما توجب على الغير شيئا لو ثبت كون الراوي عدلا فإن
بينتم إثبات كونه عدلا بأن هذه الرواية توجب على غيره شيئا لزم الدور
ثم نقول ينتقض ما ذكرتموه من الوجهين بشاهد الفرع إذا لم يذكر
شاهد الأصل فإن ما ذكرتموه قائم فيه مع لا تقبل شهادته
فإن قلت الفرق من وجهين
الأول
أن الشهادة تتضمن إثبات حق على عين والخبر يتضمن إثبات الحق
على الجملة من دون تخصيص ويدخل من التهمة في إثبات
الحقوق على الأعيان ما لا يدخل في إثباتها على الجملة فجاز ان
تؤكد الشهادة بما لا تؤكد به الرواية كما أكدنا باعتبار العدد فيها دون
الرواية
الثاني
أن شهود الأصل لو رجعوا عن شهادتهم لزمهم الضمان على قول بعض
الفقهاء فإذا لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد الحاكم إلى ذلك لو رجعوا وجب أن
459

يعرفهم بأعيانهم ليتأتى إلزامهم الضمان إن هم رجعوا
قلت الجواب عن الأول
أن إثبات الحق على الأعيان لو ترجح على إثبات الحق في الجملة
من ذلك الوجه فهذا يترجح على ذلك من وجه اخر وهو أن الخبر يقتضي
شرعا عاما في حق جميع المكلفين إلى يوم القيامة فالاحتياط فيه أولى من
الاحتياط في إثبات الحكم في حق مكلف واحد
وعن الثاني
أنه ملغي بما إذا كان شاهد الأصل قد مات ولم يبق له في الدنيا دينار
ولا درهم فكيف يمكن تضمينه
وأما المعارضة الأولى فجوابها
أن هذه النصوص خصصت في الشهادة فوجب تخصيصها في الرواية
والجامع الاحتياط
وعن الثانية أن هذه المسألة عندنا اجتهادية فلعل بعض الصحابة
كان قائلا به ومخالفوهم ما أنكروه عليهم لكون المسألة اجتهادية
وأيضا فالصحابي الذي رأى الرسول إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان الظاهر منه الإسناد
وإذا كان كذلك وجب على السامع قبوله ثم بعد ذلك إذا بين
الصحابي أنه كان مرسلا ثم بين إسناده وجب أيضا قبوله ولم يكن قبوله
460

في إحدى الحالتين دليلا على العمل بالمرسل
وعن الثالث أن مدار العمل بهذه الأخبار على الظن فإذا قال
الراوي قال فلان عن فلان وقد أطال صحبته كان ذلك دليلا على أنه
سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه (كان ذلك دليلا على أنه)
سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه لم يقبل حديثه
فروع
الأول
قال الشافعي رضي الله عنه لا اقبل المرسل إلا إذا كان الذي أرسله
مرة أسنده أخرى أقبل مرسله أو أرسله هو وأسنده غيره وهذا إذا لم تقم
الحجة بإسناده أو أرسله راو اخر ويعلم أن رجال أحدهما غير رجال
الآخر أو عضده قول صحابي أو توى أكثر أهل العلم أو علم أنه لو نص
لم ينص إلا على من يسوغ قبول خبره
قال وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب لأني اعتبرتها فوجدتها بهذه
الشرائط
قال ومن هذه حاله أحببت قبول مراسليه ولا أستطيع أن أقول إن
الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل
461

قالت الحنفية أما قوله أقبل مراسيل الراوي إذا كان أسنده مرة
فبعيد لأنه إذا أسند قبل لأنه مسند وليس لإرساله تأثير
وأما قوله يقبل مرسل الراوي إذا كان قد أسنده غيره فلا يصح
لما ذكرنا ولأن ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا عضدته الحجة
وأما قوله أقبل المرسل إذا كان أرسله اثنان وشيوخ أحدهما غير شيوخ
الآخر لا يصح لأن ما ليس بحجة إذا انضاف إليه ما ليس بحجة لا يصير
حجة إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد قائما عند الاجتماع
وهو الجهل بعدالة راوي الأصل وهذا بخلاف الشاهد الواحد فإن المانع
من قبول شهادته الانفراد وهو يزول عند انضمام غيره إليه
والجواب
أن غرض الشافعي رضي الله عنه من هذه الأشياء حرف واحد
462

وهو أنا إذا جهلنا عدالة راوي الأصل لم يحصل ظن كون ذلك الخبر
صدقا فإذا انضمت هذه المقويات إليه قوى بعض القوة فحينئذ
يجب العمل به إما دفعا للضرر المظنون وإما لقوله عليه الصلاة والسلام
أقضي بالظاهر فظهر فساد هذا السؤال
الثاني
إذا أرسل الحديث وأسنده غيره فلا شبهة في قبوله عند من يقبل
المرسل وكذا عند من لا يقبله لأن إسناد الثقة يقتضي القبول إذا لم يوجد
مانع ولا يمنع منه إرسال المرسل لأنه يجوز أن يكون أرسله لأنه سمعه
مرسلا أو سمعه متصلا لكنه نسى شيخ نفسه وهو يعلم أنه ثقة في الجملة
وكذا القول فيما إذا أرسله مرة وأسنده أخرى لأنه يجوز أن يوجد بعض
ما ذكرنا
الثالث
إذا الحق الحديث بالنبي ووافقه غيره على الصحابي فهو متصل لأنه
يجوز أن يكون الصحابي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة وذكر عن نفسه على
سبيل الفتوى مرة فرواه كل واحد منهما بحسب ما سمعه أو سمعه
أحدهما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم فنسى ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه
الرابع
إذا وصله بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة ووقفه على الصحابي أخرى فإنه يجعل
463

متصلا لجواز أن يكون سمعه من الصحابي يرويه مرة عنه عليه الصلاة
والسلام ومرة عن نفسه أو سمعه وصله بالنبي صلى الله عليه وسلم فنسى ذلك وظن أنه
ذكره عن نفسه
فأما إذا أرسله أو أوقفه زمانا طويلا ثم أسنده أو وصله بعد ذلك فإنه يبعد
أن ينسى ذلك الزمان الطويل إلا أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما قد
نسيه الزمان الطويل
الخامس
من يرسل الأخبار إذا أسند خبرا هل يقبل أو يرد
أما من يقبل المراسيل فإنه يقبله
وأما من لا يقبلها فكثير منهم قبله أيضا لأن إرساله مختص
بالمرسل دون المسند فوجب قبول مسنده
ومنهم من لم يقبله قال لأن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر
الراوي لضعفه فستره له والحالة هذه خيانة
واختلف من قبل حديث المرسل إذا أسنده كيف يقبل
فقال الشافعي رضي الله عنه لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه
حدثني أو سمعت فلانا ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم
464

وقال بعض المحدثين لا يقبل إلا إذا قال سمعت فلانا وهؤلاء
يفرقون بين أن يقال حدثني فلان وأخبرني فيجعلون الأول دالا على
أنه شافهه بالحديث ويجعلون الثاني مرددا بين المشافهة وبين أن يكون
إجازة له أو كتب إليه وهذه عادة لهم وإن لم يكن بينهما فرق في
اللغة
465

المسألة الرابعة
في التدليس
إذا روى الراوي الحديث عن رجل يعرف باسم فلم يذكره بذلك
وذكره باسم لا يعرف به فإن فعل ذلك لأن من يروى عنه ليس بأهل أن يقبل
حديثه فقد غش الناس فلا يقبل حديثه
وإن لم يذكر اسمه لصغر سنه لا لأنه ليس بثقة فمن يقول يكفي ظاهر
الاسلام في العدالة قبل هذا الحديث
ومن يقول لا بد من التفحص عن عدالته بعد إسلامه فمن لا يقبل
المراسيل فإنه لا يقبله لأنه لم يتمكن من التفحص عن عدالته حيث لم
يذكر اسمه فهو كالمرسل
ومن يقبل المراسيل ينبغي أن يقبله لأن عدالته تقتضي أنه لولا أنه ثقة
عنده لما ترك ذكر اسمه فصار كما لو عدله
المسألة الخامسة
يجوز نقل الخبر بالمعنى وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة
والشافعي رضي الله عنهم خلافا لابن سيرين وبعض المحدثين
466

ولكن بشرائط ثلاث
أحدها
أن لا تكون الترجمة قاصرة عن الأصل في إفادة المعنى
وثانيها
أن لا تكون فيها زيادة ولا نقصان
وثالثها
أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء لأن الخطاب
تارة يقع بالمحكم وتارة بالمتشابه لحكم وأسرار استأثر الله بعلمها فلا
يجوز تغييرها عن وضعها
لنا وجوه
الأول
أن الصحابة نقلوا قصة واحدة بألفاظ مختلفة مذكورة في مجلس
واحد ولم ينكر بعضهم على بعض فيه وذلك يدل على قولنا
الثاني
أنه يجوز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية
فبأن يجوز إبدالها بعربية أخرى كان أولى
ومن أنصف علم أن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها
467

وبين العجمية
الثالث
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا أصبتم المعنى فلا
بأس
468

وعن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو
نحوه
الرابع
وهو الأقوى أن نعلم بالضرورة أن الصحابة الذين رووا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس وما كانوا
يكررون عليها في ذلك المجلس بل كما سمعوها تركوها وما ذكروها
إلا بعد الأعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك
الألفاظ
احتج المخالف بالنص والمعقول
أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله امرءا اسمع مقالتي
فوعاها ثم أداها كما سمعها قالوا وأداؤها كما سمعها هو أداء اللفظ
المسموع ونقل الفقه إلى من هو أفقه منه معناه والله أعلم أن الأفطن
ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ لما لم يفطن له الراوي لأنه ربما
كان دونه في الفقه
وأما المعقول فمن وجهين
469

الأول
أنه لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما
لم يتنبه له أهل الأعصار السالفة من العلماء والمحققين فعلمنا أنه لا يجب
في كل ما كان من فوائد اللفظ أن يتنبه له السامع في الحال وإن كان فقيها
ذكيا فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم مع أن الراوي
يظن أنه لا تفاوت
الثاني
أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ نفسه كان للراوي
الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه بل هذا أولى لأن جواز تبديل لفظ
الراوي أولى من جواز تبديل لفظ الشارع وكذا في الطبقة الثالثة والرابعة
وذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق
الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل فإذا توالت هذه التفاوتات الله كان
التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع
مناسبة
والجواب عن الأول
أن من أدى تمام معني كلام الرجل فإنه يوصف بأنه أدى كما سمع
وإن اختلفت الألفاظ وهكذا الشاهد والترجمان يقع عليهما الوصف
بأنهما أديا كما سمعا وإن كان لفظ الشاهد خلاف لفظ المشهود عليه ولغة
470

المترجم غير لغة المترجم عنه
وعن الثاني والثالث
ما تقدم من قبل
471

المسألة السادسة
الراويات إذا اتفقا على رواية خبر وانفرد أحدهما بزيادة وهما ممن يقبل
حديثه فإما أن يكون المجلس واحدا أو متغايرا فإن كان متغايرا قبلت
الزيادة لأنه لا يمتنع أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الكلام في
أحد المجلسين مع زيادة وفي المجلس الثاني بدون تلك الزيادة
وإذا كان كذلك فنقول عدالة الراوي تقتضي قبول قوله ولم يوجد ما
يقدح فيه فوجب قبوله
وإن كان المجلس واحدا فالذين لم يرووا الزيادة إما أن يكونوا عددا لا
يجوز أن يذهلوا عما يضبطه الواحد أو ليسوا كذلك
فإن كان الأول لم تقبل الزيادة وحمل أمر راويها على أنه يجوز مع عدالته
أن يكون قد سمعها من غير النبي صلى الله عليه وسلم وظن أنه قد سمعها منه
وإن كان الثاني فتلك الزيادة إما أن لا تكون مغيرة لإعراب الباقي
أو تكون
فإن لم تغير إعراب الباقي قبلت الزيادة عندنا إلا إن يكون الممسك
عنها أضبط من الراوي لها خلافا لبعض المحدثين
لنا
أن عدالة راوي الزيادة تقتضي قبول خبره وإمساك الراوي
الثاني عن روايتها لا يقدح فيه لاحتمال أن يقال إنه كان حال ذكر
473

الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الزيادة عرض له سهو أو شغل قلب أو
عطاس أو دخول انسان أو فكر أذهله عن سماع تلك الزيادة وإذا وجد
المقتضي لقبول الخبر خاليا عن المعارض وجب قبوله
فإن قلت كما جاز السهو على الممسك جاز أيضا على الراوي
قلت لا نزاع في الجواز على الجملة لكن الأغلب على الظن أن راوي
الزيادة أبعد عن السهو لأن ذهول الإنسان عما سمعه أكثر من توهمه فيما
لم يسمع أنه سمعه بلي لو صرح الممسك بنفي الزيادة وقال إنه
عليه الصلاة والسلام وقف على قوله فيما سقت السماء العشر فلم
يأت بعده بكلام آخر مع انتظاري له فها هنا يتعارض القولان ويصار إلى
الترجيح
أما إذا كانت الزيادة مغيرة لإعراب الباقي كما إذا روى أحدهما أدوا عن
كل حر أو عبد صاعا من بر ويروى الآخر نصف صاع من بر فالحق
أنها لا تقبل خلافا لأبي عبد الله البصري
لنا
أنه حصل التعارض لأن أحدهما إذا رواه صاعا فقد رواه بالنصب
والآخر إذا روى نصف صاع فقد روى الصاع بالجر والنصب ضد الجر
فقد حصل التعارض
وإذا كان كذلك وجب المصير إلى الترجيح
474

فرع
الراوي الواحد إذا روى الزيادة مرة ولم يروها غير تلك المرة فإن
أسندهما إلى مجلسين قبلت الزيادة سواء غيرت اعراب الباقي أو لم
تغير
وإن أسندهما إلى مجلس واحد فالزيادة إن كانت مغيرة للإعراب
تعارضت روايتاه كما تعارضتا من راويين
وإن لم تغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات
الإمساك أو بالعكس أو يتساويان
فإن كانت مرات الزيادة أقل من مرات الإمساك لم تقبل الزيادة لأن حمل
الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه اللهم إلا أن يقول الراوي
إني سهوت في تلك المرات وتذكرت في هذه المرة فها هنا يرجح
المرجوح على الراجح لأجل هذا التصريح
وإن كانت مرات الزيادة أكثر قبلت لا محالة لوجهين
أحدهما
ما ذكرنا أن حمل الأقل على السهو أولى
والثاني
ما ذكرنا أن حمل السهو على نسيان ما سمعه أولى من حمله
على توهم أنه سمع ما لم يسمعه
وأما إن تساويا قبلت الزيادة لما بينا أن هذا السهو أولى من
ذلك والله أعلم
القسم الثاني
475