الكتاب: الفوائد الحائرية
المؤلف: الوحيد البهبهاني
الجزء:
الوفاة: ١٢٠٦
المجموعة: أهم مصادر رجال الحديث عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى المحققة
سنة الطبع: شعبان المعظم ١٤١٥
المطبعة: باقري - قم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك:
ملاحظات:

الفوائد الحائرية
1

الفوائد الجديدة لمولانا آغا محمد باقر
6

بسم الله الرحمن الرحيم
يلاحظ أن مؤرخي علم الأصول يشيرون إلى أن علم أصول الفقه قد
نشأ وترعرع في أحضان علم الفقه، واشتدت الحاجة إليه كلما ازداد
الفاصل الزمني عن عصر النصوص.
والفكر الأصولي - في مدرسة أهل البيت عليهم السلام - قد مر
بعصور متميزة ثلاثة:
1 - العصر التمهيدي: وهو عصر وضع البذور الأساسية له، وقد
استمر حتى منتصف القرن الخامس الهجري متمثلا في فقهاء أصحاب
الأئمة عليهم السلام حتى فقهاء القرن الأول من عصر الغيبة الكبرى
كابن أبي عقيل العماني، وابن الجنيد الإسكافي، والشيخ المفيد و
السيد المرتضى وسلار الديلمي، وينتهي بظهور الفقيه المجدد محمد
بن الحسن الطوسي (ت: 460).
2 - عصر العلم: وهو عصر اختمار البذور وأثمارها حيث تحددت فيه
معالم الفكر الأصولي فأصبح علما له دقته وصناعته وذهنيته
العلمية على يد الفقيه المجدد الطوسي وكبار رجالات مدرسته كابن
إدريس والمحقق
7

والعلامة (الحليين) والشهيدين وصاحب المعالم والفاضل التوني
قدس الله أسرارهم حتى ظهور الفقيه المجدد الوحيد البهبهاني.
وقد استمر هذا العصر أكثر من سبعة قرون حيث توقف نمو الفقه و
الأصول طيلة قرن كامل بعد مضي الطوسي ثم دبت والحركة في
البحث الفقهي والأصولي.
3 - عصر الكمال العلمي: وبعد أن مني علم الأصول بصدمة عارضت
نموه متمثلة في الحركة الأخبارية المناهضة لعلم الأصول في أوائل
القرن الحادي عشر الهجري - على يد الميرزا محمد أمين
الاسترآبادي (ت: 1021) واستفحل أمرها حتى نهاية القرن الثاني
عشر
الهجري ظهرت مدرسة جديدة حمل لواءها المجدد الوحيد البهبهاني
فقاوم الحركة الأخبارية بكل جد وانتصر لعلم الأصول حتى
تضاءل الاتجاه الاخباري ومني بالهزيمة... فنمى الفكر الأصولي على
يد هذا المجدد والمحققين والنوابغ من تلامذة مدرسته حيث
واصلوا جهادهم عبر أجيال متعاقبة، فكان حدا فاصلا بين عصرين من
تاريخ علم الأصول للقفزة الكبيرة التي أعطته ملامح عصر جديد،
وبذلك تميزت مدرسة الوحيد البهبهاني عن المدارس التي كانت
تتلاشى بموت رائدها.
وقد تعاقبت ثلاثة أجيال من فطاحل هذه المدرسة:
الجيل الأول: ويمثله تلامذة الوحيد نفسه، كالسيد مهدي بحر العلوم
(ت: 1212)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت: 1227)، والميرزا
أبي
8

القاسم القمي (ت: 1227)، والسيد علي الطباطبائي (ت: 1221)، و
الشيخ أسد الله التستري (ت: 1234).
الجيل الثاني: ويمثله نوابغ تلامذة الجيل الأول كالشيخ محمد تقي بن
عبد الرحيم (ت: 1248)، وشريف العلماء (ت: 1245)، والمولى
أحمد النراقي (ت: 1245)، والشيخ محمد حسن النجفي صاحب
جواهر الكلام (ت: 1266)، وغيرهم.
الجيل الثالث: ويمثله تلميذ شريف العلماء وهو المحقق الفذ و
الأستاذ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري الذي ولد بعيد ظهور مدرسة
الوحيد وعاصرها وهي في أوج نموها ونشاطها وقدر له أن يرتفع
بعلم الأصول إلى القمة.
ولا يزال الفكر الأصولي السائد في الحوزات العلمية الامامية يعيش
العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الوحيد البهبهاني قدس سره.
وقد خلف لنا الوحيد عصارة أفكاره الأصولية في مجموع ما دونه
يراعه الشريف من تعاليق وشروح على الكتب الأصولية المتقدمة
عليه كالمعالم والوافية، أو الرسائل التي أفردها بالتأليف كالفوائد
الحائرية (العتيقة والجديدة) وهي الكتاب الذي بين يديك، وهو
يكاد يجمع جل أفكاره الأصولية التي تناثرت في سائر رسائله.
وقد تصدى مجمع الفكر الاسلامي لتحقيق هذا التراث وإحيائه و
تقديمه لذوي الاختصاص بالصورة التي تيسر الارتواء من معينه أداء
لبعض الواجب الذي يتحمله كل جيل نتيجة لجهاد العظماء الذين
أثروا الفكر الاسلامي بل الانساني بنتائج عبقرياتهم الفذة.
ويشكر المجمع كل الاخوة الأفاضل الذين ساهموا في تحقيق هذا
9

السفر، ونخص منهم بالذكر حجة الاسلام الشيخ محمد باقر درياب و
حجة الاسلام الشيخ سامي الخفاجي.
كما نشكر أصحاب الفضيلة الشيخ محمد سعيد الواعظي والشيخ
مجتبى المحمودي والشيخ صادق الكاشاني الذين أسهموا في
المرحلة
النهائية للتحقيق.
ونقدم جزيل الشكر لسماحة الحجة المفضال الشيخ محمد مهدي
الآصفي دامت بركاته حيث أتحفنا ببحثه القيم عن دور الوحيد
البهبهاني
في تجديد علم الأصول وإدخاله إلى عصر الكمال العلمي.
وختاما نسأل العلي القدير أن يتقبل منا ومنهم هذا الجهد بفضله و
كرمه، إنه سميع مجيب.
مجمع الفكر الاسلامي 18 من جمادى الأولى 1414 ه ق.
10

الوحيد البهبهاني حياته - عصره - آثاره
حياته الشخصية:
اسمه وألقابه:
محمد باقر بن المولى محمد أكمل. وعرف بالوحيد البهبهاني و
المحقق الثالث والعلامة الثاني وأستاذ الكل والأستاذ الأكبر.
نسبه:
محمد باقر بن محمد أكمل بن محمد صالح بن أحمد بن محمد بن
إبراهيم بن محمد رفيع بن أحمد بن إبراهيم بن قطب الدين بن كامل
بن
علي بن محمد بن علي بن محمد بن محمد بن النعمان (الشيخ
المفيد) قدس سره.
11

والدته:
بنت العالم الرباني الآقا نور الدين بن المولى محمد صالح
المازندراني.
والده:
قال المترجم له عن والده: المحقق المدقق الباذل، بل الأعلم الأفضل
الأكمل، أستاذ الأساتيذ الفضلاء وشيخ المشايخ العظماء، مولانا
محمد
أكمل غمره الله تعالى برحمته الواسعة وألطافه البالغة.
ولادته:
في مدينة أصفهان عام 1116 أو 1117 أو 1118.
رحلاته:
هاجر من مولده إلى النجف الأشرف لتحصيل العلم، ثم هاجر إلى
بهبهان وقطن فيها مدة ثلاثين سنة ثم هاجر منها إلى كربلا المقدسة.
زوجته:
بنت أستاذه السيد محمد الطباطبائي.
أولاده:
الآقا محمد علي والآقا عبد الحسين.
وفاته:
في كربلا عام 1206.
مدفنه:
في رواق حرم الامام أبي عبد الله الحسين عليه السلام مما يلي أرجل
12

الشهداء.
جمل الثناء عليه:
1 - وصفه تلميذه السيد محمد مهدي بحر العلوم في بعض إجازاته
بقوله: (شيخنا العالم العامل العلامة وأستاذنا الحبر الفاضل الفهامة
المحقق النحرير والفقيه العديم النظير بقية العلماء ونادرة الفضلاء
مجدد ما اندرس من طريقة الفقهاء ومعيد ما انمحى من آثار القدماء
البحر الزاخر والامام الباهر الشيخ محمد باقر ابن الشيخ الأجل الأكمل
والمولى الأعظم الأبجل المولى محمد أكمل أعزه الله تعالى
برحمته الكاملة وألطافه السابغة الشاملة).
2 - قال تلميذه الشيخ أبو علي الحائري: (أستاذنا العلامة وشيخنا
الفاضل الفهامة، علامة الزمان، نادرة الدوران، عالم عريف، فاضل
غطريف، ثقة وأي ثقة، ركن الطائفة وعمادها، وأورع نساكها و
عبادها، مجدد ملة سيد البشر في رأس المائة الثانية عشر، باقر العلم
ونحريره، والشاهد عليه تحقيقه وتحبيره، جمع فنون الفضل
فانعقدت عليه الخناصر، وحوى صنوف العلم فانقاد له المعاصر،
فالحري
به أن لا يمدحه مثلي ويصف، فلعمري تفنى في نعته القراطيس و
الصحف لأنه المولى الذي لم يكتحل عين الزمان له بنظير كما يشهد له
من شهد فضائله ولا ينبئك مثل خبير).
3 - وقال تلميذه الشيخ أسد الله الكاظمي الدزفولي عنه: (الأستاذ
الأعظم، شيخنا العظيم الشأن، الساطع البرهان، كشاف قواعد
الاسلام،
13

حلال معاقد الاحكام، مهذب قوانين الشريعة ببدائع أفكاره الباهرة،
مقرب أفانين الملة المنيعة بفرائد أنظاره الزاهرة، مبين طوائف
العلوم الدينية بعوالي تحقيقاته الرائقة، مزين صحائف رسوم الشريعة
بلآلئ تدقيقاته الفائقة، فريد الخلائق، واحد الآفاق في محاسن
الفضائل ومكارم الأخلاق، مبيد شبهات أولي الزيغ واللجاج و
الشقاق على الاطلاق، بمقاليد تبيانه الفاتحة للاغلاق، الخالية عن
الاغلاق،
الفائز بالسباق، الفائت عن اللحاق، شيخي وأستاذي في مبادئ
تحصيلي، وشيخ مشايخي المحقق الثالث والعلامة الثاني، الزاهد
العابد،
الأتقى الأورع، العالم العلم الرباني، مولانا آقا محمد باقر بن محمد
أكمل الأصفهاني الحائري الشهير بالبهبهاني قدس الله نفسه الزكية،
وأحله في الفردوس في منازل العلية).
4 - قال الشيخ عبد النبي القزويني عنه: (فقيه العصر، فريد الدهر،
وحيد الزمان، صدر فضلا الزمان، صاحب الفكر العميق والذهن
الدقيق، صرف عمره في اقتناء العلوم واكتساب المعارف الدقائق و
تكميل النفس بالعلم بالحقائق.
فحباه الله باستعداده علوا لم يسبقه فيها أحد من المتقدمين ولا يلحقه
أحد من المتأخرين إلا بالأخذ منه، ورزقه من العلوم ما لا عين رأت
ولا اذن سمعت، لدقتها ورقتها ووقوعها موقعها، فصار اليوم إماما في
العلم وركنا للدين، وشمسا لإزالة ظلم الجهالة، وبدرا لإزالة
دياجير البطالة، فاستنار الطلبة بعلومه، واستضاء الطالبون بفهومه، و
استطارت فتاواه كشعاع الشمس في الاشراق، مد الله ظلاله على
العالمين وأيدهم بجود وجوده إلى يوم
14

الدين. وبالجملة شرح فضله وأخلاقه وعبادته ليس في مقدرتنا ولا
يصل إليه مكنتنا وقدرتنا).
5 - قال المحدث النوري عنه: (الأستاذ الأكبر مروج الدين في رأس
المائة الثالثة عشر المولى محمد باقر الأصفهاني البهبهاني
الحائري).
6 - قال الفاضل الدربندي عنه: (ولا يخفى عليك أن العلامة كان
مجدد الرسوم على رأس المائة الثانية عشر وكان أتقى الناس في زمانه
وفي هذه الأزمنة، وأورعهم وأزهدهم.
وبالجملة كان في الحقيقة عالما عاملا بعلمه متأسيا مقتديا بالأئمة
الهداة صلوات الله عليهم أجمعين، فلأجل خلوص نيته وصفاء
عزيمته
وصل كل من تلمذ عنده إلى مرتبة الاجتهاد وصاروا أعلاما في
الدين).
7 - وقال عنه عمر رضا كحالة في معجم المؤلفين: (فقيه أصولي
متكلم).
8 - وقال عنه الزركلي في الاعلام: (فاضل إمامي).
عصر الوحيد البهبهاني:
طغت في عصره ظاهرتان غريبتان على السلوك الديني:
1 - النزعة الصوفية.
15

2 - النزعة الأخبارية المتطرفة. حتى أن الطالب الديني في مدينة
كربلا خاصة أصبح يجاهر بتطرفه ويغالي فلا يحمل مؤلفات العلماء
الأصوليين إلا بمنديل خشية أن تنجس يده من ملامسة حتى جلدها
الجاف وكربلا يوم ذاك أكبر مركز علمي للبلاد الشيعية.
إن القرن الثاني عشر هو قرن فتور الروح العلمية إلى حد بعيد.
وأغلب الظن إن أهم الأسباب لهذا الفتور العلمي وطغيان نزعة
التصوف والنزعة الأخبارية هو الوضع السياسي والاجتماعي اللذان
آلت إليهما البلاد الاسلامية في ذلك القرن من نحو التفكك واختلال
الامن في جميع أطراف البلاد، والحروب الطاحنة بين الامراء و
الدول، لا سيما بين الحكومتين الإيرانية والعثمانية وبين الإيرانية و
الأفغانية. تلك الحروب التي اصطبغت على الأكثر بصبغة مذهبية، و
هذا كله مما يسبب البلبلة في الأفكار والاتجاهات، وضعف الروح
العامة المعنوية.
فأوجب ذلك من جهة ضعف ارتباط رجال الدين بالحياة الواقعية و
السلطات الزمنية ويدعو ذلك عادة إلى الزهد المغالي في جميع
شؤون الحياة، واليأس من الاصلاح، فتنشأ هنا نزعة التصوف، وتتخذ
حينذاك صرحا علميا على إنقاض الفلسفة الاشراقية الاسلامية
المطاردة المكبوتة، التي سبق أن دعا لها أنصار أقوياء كالمولى صدر
الدين الشيرازي المتوفى عام 1050 وأضرابه وأتباعه، مع
المغالاة في أفكارها. وساند طريقة التصوف مبدئيا أن السلطة الزمنية
في إيران وهي سلطة الصفوية قامت على أساس الدعوة إلى
التصوف، وظلت تؤيدها وتمدها سرا.
ومن جهة أخرى حدث رد فعل لهذا الغلو، فأنكر على الناس أن يركنوا
إلى العقل وتفكيره، والتجأ إلى تفسير التعبد بما جاء به الشارع
16

المقدس بمعنى الاقتصار على الأخبار الواردة في الكتب الموثوق بها
في كل شئ، والجمود على ظواهرها، ثم دعا الغلو بهؤلاء إلى ادعاء
أن كل تلك الأخبار مقطوعة الصدور على ما فيها من اختلاف، ثم اشتد
بهم الغلو، فقالوا بعدم جواز الاخذ بظواهر القرآن وحده، من دون
الرجوع إلى الأخبار الواردة، ثم ضربوا بعد ذلك علم الأصول عرض
الجدار، بادعاء أن مبانيه كلها عقلية لا تستند إلى الاخبار، والعقل
أبدا لا يجوز الركون إليه في كل شئ، ثم ينكرون الاجتهاد وجواز
التقليد. وهكذا تنشأ فكرة الأخبارية الحديثة التي أول من دعا إليها
أو غالى في الدعوة إليها (المولى أمين الدين الاسترآبادي) المتوفى
1033 ثم يظهر آخر شخص لهذه النزعة له مكانته العلمية المحترمة
في الفقه هو (صاحب الحدائق) وهذا الثاني - وإن كان أكثر اعتدالا
من الأول وأضرابه - كاد أن يتم على يديه تحويل الاتجاه الفكري
بين طلاب العلم في كربلا إلى اعتناق فكرة الأخبارية هذه. وعند ما
وصلت هذه الفكرة الأخبارية إلى أوجها، ظهر في كربلا علم
الاعلام الشيخ الوحيد الآقا البهبهاني الذي قيل عنه بحق: مجدد
المذهب على رأس المائة الثالثة عشر.
فإن هذا العالم الجليل كان لبقا مفوها ومجاهدا خبيرا، فقد شن على
الأخبارية هجوما عنيفا بمؤلفاته وبمحاججاته الشفوية الحادة مع
علمائها - وقد نقل في بعض فوائده الحائرية ورسائله نماذج منها - و
بدروسه القيمة التي كان يلقيها على تلامذته الكثيرين الذين
التفوا حوله، وعلى يديه كان ابتدأ تطور علم الأصول الحديث و
خروجه عن جموده الذي ألفه عدة قرون، واتجه التفكير العلمي إلى
ناحية جديدة غير مألوفة، فانكمشت في عصره النزعة الأخبارية على
نفسها، ولم تستطع أن تثبت أمام قوة
17

حجته.
حياته العلمية:
أساتذته:
1 - والده المولى محمد أكمل الأصفهاني.
2 - السيد محمد الطباطبائي البروجردي، أستاذه في المعقول.
3 - السيد صدر الدين الرضوي القمي، شارح وافية الفاضل التوني،
أستاذه في الفقه والأصول.
معاصروه:
1 - الشيخ يوسف البحراني، صاحب الحدائق (ت: 1186).
2 - الشيخ محمد مهدي الفتوني (ت: 1183).
3 - الشيخ محمد تقي الدورقي النجفي.
4 - الآقا محمد باقر الهزار جريبي المازندراني (ت: 1205).
5 - الآقا السيد حسين القزويني (ت: 1218).
6 - الشيخ عبد النبي القزويني (ت: 1208).
7 - الآقا السيد حسين الخوانساري، صاحب (مشارق الشموس) (ت:
1191).
8 - مير عبد الباقي الخاتون آبادي الأصفهاني.
9 - الميرزا محمد باقر الشيرازي.
10 - السيد جعفر السبزواري.
18

تلامذته:
1 - السيد محمد شفيع الشوشتري (ت: 1206).
2 - السيد أحمد الطالقاني النجفي (ت: 1208).
3 - المولى مهدي النراقي (ت: 1209).
4 - السيد محمد مهدي بحر العلوم (ت: 1212).
5 - الشيخ أبو علي الحائري (ت: 1215).
6 - السيد أحمد العطار البغدادي (ت: 1215).
7 - الميرزا محمد هادي الشهرستاني (ت: 1216).
8 - المولى محمد كاظم الهزار جريبي، الشهيد في حملة الوهابيين
على كربلا (ت: 1216).
9 - المولى عبد الجليل الكرمانشاهي.
10 - السيد علي الطباطبائي (ت: 1231).
11 - السيد ميرزا محمد تقي القاضي الطباطبائي (ت: 1222).
12 - الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت: 1227).
13 - الميرزا أبو القاسم القمي (ت: 1227).
14 - السيد محسن الأعرجي الكاظمي (ت: 1227).
15 - مير محمد حسين بن المير عبد الباقي خاتون آبادي (ت:
1233).
16 - السيد دلدار علي نصيرآبادي الهندي (ت: 1235).
17 - السيد ميرزا يوسف التبريزي (ت: 1242).
18 - المولى أحمد النراقي (ت: 1245).
19

19 - الحاج محمد إبراهيم الكلباسي الأصفهاني (ت: 1261).
20 - الشيخ أسد الله التستري الدزفولي الكاظمي (ت: 1234).
21 - السيد جواد العاملي (ت: 1226).
22 - الشيخ عبد الصمد الهمداني الشهيد (ت: 1216).
23 - السيد محمد حسن الزنوزي الخوئي (ت: 1246).
24 - الشيخ محمد حسين الخراساني (ولد 1310).
25 - شمس الدين بن جمال الدين البهبهاني (ت: 1247).
26 - الميرزا أحمد حسن القزويني.
27 - السيد محمد القصير الخراساني (ت: 1255).
28 - الشيخ محمد تقي الأصفهاني (ت: 1248).
29 - الحاج ملا محمد رضا الاسترآبادي.
30 - الميرزا مهدي بن هداية الله بن طاهر الخراساني (الشهيد) (ت:
1218).
مؤلفاته:
1 - في الرجال:
1 - التعليقة البهبهانية على (منهج المقال) المعروف بالرجال الكبير،
مطبوعة على هامشه.
2 - تعليقة على رجال الاسترآبادي (مقدمة).
3 - الفوائد الرجالية.
4 - تعليقة على الرجال المتوسط، للميرزا محمد الاسترآبادي.
20

5 - تعليقة على رجال السيد مصطفى التفريشي.
2 - في الحديث:
1 - حاشية تهذيب الأحكام.
2 - حاشية على الوافي.
3 - حاشية على الكافي.
3 - في الكلام:
1 - الإمامة، (فارسي)، مبسوط.
2 - إثبات التحسين والتقبيح العقليين.
3 - أصول الدين، (فارسي، مختصر).
4 - حل شبهة الأشاعرة.
5 - رسالة مفصلة في الإمامة.
6 - رسالة في الجبر والاختيار.
7 - الرد على الأشاعرة ونفي الرؤية في الآخرة.
8 - بم يعرف الناجي.
9 - حاشية على الحاشية الخفرية على الشرح الجديد للتجريد.
10 - مناظرة مع أحد علماء العامة في استحالة رؤية الله تعالى.
11 - رسالة في الأصول الخمسة.
12 - رسالة في تسمية بعض الأئمة أولادهم بأسماء الجائرين.
21

4 - في أصول الفقه:
1 - الحواشي على المعالم.
2 - حاشية على قوانين الأصول.
3 - إبطال القياس: جعله تتمة لحاشيته على ذخيرة السبزواري.
4 - الاجتهاد والاخبار الاجتهاد والتقليد، (في الرد على الأخباريين)،
طبع في إيران مع عدة الأصول.
5 - الجمع بين الاخبار المتعارضة رسالة في بيان أقسام الجمع في
التعادل والتراجيح.
6 - حاشية على ديباجة المفاتيح، فيها ثلاث مقالات: مقالة في
الأصول المحتج بها في الاحكام وبيان وجه حجيتها. ومقالة في
الأمور
المضاهية للقياس وليست منها. ومقالة في الاجماع وأقسامه.
7 - رسالة في حجية الاجماع. ذكر فيها: أقسام الاجماع وتفاصيل
أحكامه وحكم الشهرة بين الأصحاب وهي مرتبة على سبعة فصول.
8 - وله رسالة ثالثة في حجية الاجماع أيضا.
9 - رسالة في أن الأحكام الشرعية توقيفية.
10 - رسالة في عدم توقيفية الموضوعات.
11 - رسالة في حجية الاستصحاب وبيان أقسامه.
22

12 - رسالة في تفصيل المذاهب في أصالة البراءة.
13 - رسالة في الشهرة.
14 - رسالة في الأدلة الأربعة.
15 - حجية ظواهر الكتاب.
16 - خطاب المشافهة.
17 - حجية المفهوم بالأولوية.
18 - رسالة في الصحيح والأعم.
19 - الوجوب النفسي والغيري في الطهارة.
20 - الحكم الشرعي وبيان حقيقته.
21 - الحقيقة الشرعية.
22 - رسالة في أن الناس صنفان مجتهد ومقلد. وهل يتصور لهما
ثالث؟ (رسالة في عدم الواسطة بين المجتهد والمقلد).
23 - الفوائد الأصولية.
24 - الرد على شبهات الأخباريين.
25 - الفوائد الحائرية العتيقة، وتشتمل على 36 فائدة وخاتمة. وهي
الكتاب الأول الذي بين يديك.
26 - الفوائد الحائرية الجديدة، وتشتمل على 35 فائدة. وهي
الكتاب الثاني بين يديك.
27 - حاشية على حاشية الميرزا جان على المختصر للعضدي.
28 - حاشية على حاشية الميرزا جان على المختصر للحاجبي.
23

5 - في الفقه:
1 - أصول الاسلام والايمان وحكم منكرها وبيان معنى الناصب.
2 - رسالة في كفر النواصب والخوارج.
3 - رسالة في بطلان عبادة الجاهل من غير تقليد.
4 - تقليد الميت، (التقريرات في المنع عن تقليد الميت).
5 - رسالة في العبادات المكروهة الإفادة الاجمالية.
6 - رسالة في اللباس.
7 - رسالة في الحيض وأحكامه.
8 - رسالة في حكم الدماء المعفو عنها.
9 - رسالة في بيان حكم العصير العنبي والتمري والزبيبي.
10 - رسالة في الصلاة والطهارة، عربية.
11 - رسالة في الصلاة والطهارة، فارسية.
12 - رسالة في الكر ومقداره.
13 - رسالة في استحباب صلاة الجمعة.
14 - رسالة أخصر في صلاة الجمعة.
15 - رسالة في صلاة الجمعة، فارسية.
16 - رسالة في الحج، (مناسك الحج)، فارسية.
17 - رسالة في الخمس والزكاة، فارسية. رسالة الخمس.
18 - التقية.
19 - رسالة في النكاح.
20 - رسالة في حلية الجمع بين فاطميتين. رد فيها على الصوارم
القاصمة للشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق.
24

21 - رسالة أخرى مبسوطة.
22 - رسالة أخصر منها.
23 - رسالة في فساد العقد على الصغيرة.
24 - رسالة في القرض بشرط المعاملة المحاباتية.
25 - رسالة في تحريم الغناء.
26 - المتاجر.
27 - الفوائد الفقهية.
28 - حيل الربا.
29 - رسالة في المعاملات، أحكام العقود.
30 - رسالة في صحة المعاملة، أصالة الصحة.
31 - رسالة في قاعدة الطهارة، أصالة الطهارة.
32 - رسالة في الحلية والحرمة في الدين.
33 - رسالة في عدم الاعتداد برؤية الهلال قبل الزوال.
34 - الحاشية على المسالك.
35 - الحاشية على المدارك.
36 - الحاشية على شرح الارشاد.
37 - الحاشية على شرح القواعد.
38 - الحاشية على الذخيرة.
39 - الرد على صاحب المفاتيح.
40 - حواشي على المفاتيح متفرقة.
41 - الرد على مقدمات المفاتيح، الحاشية على مفاتيح الشرائع.
42 - النقد والاختيار (من الطهارة إلى الديات).
25

43 - شرح مفاتيح الفقه (8 مجلدات).
44 - مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع.
45 - رسالة في الأحكام الشرعية وحدها.
46 - المناهج (غير تام).
47 - حاشية على كفاية المقتصد.
48 - التحفة الحسينية، في الطهارة والصلاة والصوم.
49 - الفوائد الفقهية.
50 - رسالة في النقد والانتخاب والنقض والابرام للجوابات
المجلسية.
6 - رسائل أخرى وإجازات:
1 - الصحيفة البيضاء.
2 - مزار الآقا باقر.
3 - رسالة في الإجازة للمولى محمد علي بن محمد طاهر الخراساني.
4 - جوابات مسائل كثيرة.
5 - إجازة لمحمد بن يوسف بن عماد مير فتاح الحسني الحسيني.
6 - إجازة لعلي بن كاظم التبريزي.
7 - إجازة للشيخ أبي علي الحائري.
8 - إجازة للسيد محمد مهدي بحر العلوم.
9 - إجازة للسيد علي بن محمد علي الطباطبائي.
10 - إجازة لسعيد بن محمد يوسف القراچه داغي النجفي.
11 - إجازة لحسين خان.
26

نسخ (الفوائد الحائرية):
اعتمدنا على مخطوطتين من مجموعة المخطوطات الكثيرة
المتواجدة في ثلاث مكتبات في قم وطهران:
المخطوطة الأولى وهي الأحسن نسخا والأقل أخطأ، مستنسخها
محمد بن رضا بن أبي القاسم عام 1241 - 1261، وفي نهايتها
تصريح
بالمقابلة بواسطة محمد حسن بن الحاج علي عام 1270. وهي
موجودة في مخطوطات مكتبة المسجد الأعظم التي أسسها آية الله
العظمى
السيد البروجردي قدس سره، ورمزنا لها ب (ف).
والمخطوطة الثانية هي إحدى مخطوطات الفوائد الحائرية في مكتبة
آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي قدس سره وتاريخ
استنساخها 1242، وهي أردأ خطا وأكثر أخطأ، ورمزنا لها ب (م).
وهناك نسخة ثالثة مطبوعة للفريد الگلپايگاني، استفيد منها أيضا في
بعض الموارد بشكل نادر.
منهجنا في التحقيق: ويتلخص في ما يلي:
1 - الاستنساخ وتقطيع النص.
2 - تقويم النص. وقد حذفنا عند اختلاف النسخ الموارد المقطوع
بخطأها وأبقينا كل مورد يحتمل فيه الصحة، وقدمنا الأنسب للعبارة
أو الأصح وأثبتناه في المتن وجعلنا الثاني في الهامش.
3 - استخراج الآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء من مصادرها.
27

مصادر الترجمة:
1 - الاعلام، للزركلي.
2 - أعيان الشيعة، للسيد محسن أمين العاملي.
3 - بحوث في علم الأصول.
4 - تتميم أمل الآمل.
5 - تنقيح المقال.
6 - الدرة النجفية.
7 - روضات الجنات.
8 - ريحانة الأدب.
9 - الفوائد الرضوية.
10 - الكرام البررة.
11 - الكنى والألقاب.
12 - مستدرك الوسائل.
13 - مرآة الأحوال.
14 - معارف الرجال في تراجم العلماء والأدباء.
15 - المعالم الجديدة.
16 - معجم المؤلفين.
17 - مقابس الأنوار.
لجنة التحقيق
30

دور الوحيد البهبهاني رحمه الله في تجديد علم الأصول
علم الأصول قبل عصر الوحيد البهبهاني:
اكتسب علم الأصول في عصر الشيخ حسن بن زيد الدين الشهيد
الثاني (صاحب المعالم) (المتوفى 1011 ه) حدا كبيرا من النضج و
المنهجية في كتاب (معالم الأصول) لهذا الفقيه الجليل. وقد استمر
هذا الكتاب إلى اليوم الحاضر محورا للتدريس في المراحل الأولية من
دراسة هذا العلم، ومحورا للتحقيق ومن أهم التحقيقات التي كتبت
حول هذا الكتاب حاشية الشيخ محمد تقي رحمه الله وهي من أفضل
ما
كتب في هذا العلم.
وقد سئل الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه الله بعد أن شاع كتاب فرائد
الأصول لم لم يشفع المباحث العقلية التي دونها في كتابه الجليل
(فرائد الأصول) بكتاب آخر في مباحث الألفاظ لتكتمل عنده دورة
كاملة في
31

الأصول فقال رحمه الله إن الشيخ محمد تقي الأصفهاني أغنانا عن
ذلك بما كتبه من التعليقة على المعالم.
الاتجاه الاخباري والأمين الاسترآبادي:
إلا أن حدثا جديدا طرأ على هذا العلم، فقد ظهر في هذه الفترة اتجاه
جديد في الاجتهاد عند الشيخ على يد الشيخ محمد أمين
الاسترآبادي (المتوفى 1036 ه) مؤلف كتاب (الفوائد المدنية) في
الاستغناء عن القواعد العقلية. وعرف هذا الاتجاه الجديد ب
(الأخبارية) في مقابل المدرسة الأصولية السائدة في الأوساط الفقهية
الشيعية.
ورغم أن الأمين الاسترآبادي يحاول أن يبرز لهذا الاتجاه عمقا تاريخيا
يمتد إلى عصر الصدوقين والفقهاء الأوائل ولكن من الواضح
أن هذا الاتجاه بأبعاده وخصائصه وقواعده - الذي يذكره الأمين
الاسترآبادي في (الفوائد المدنية) - اتجاه جديد في الاجتهاد عند
الشيعة.
وقد كاد هذا الاتجاه الجديد أن يحدث صدعا في الاجتهاد عند
الشيعة لولا أن الفقهاء والأصوليين وقفوا أمام هذا التوجه ودافعوا عن
الطابع العقلي للأصول مما أدى إلى تقلصه وتراجعه بالتدريج وضعفه
عن مواصلة التحرك والتأثير على الوسط الفقهي في المدارس
الشيعية.
ويبدو أن الخلفية التي كانت من وراء ظهور هذه المدرسة هي التخوف
من الاستغراق في اعتماد العنصر العقلي في الاجتهاد، والابتعاد
عن النص الشرعي، كما حدث ذلك لمدرسة الرأي عند أهل السنة،
حيث
32

استدرجهم اعتماد الرأي إلى القياس والاستحسان ومحاولة استنباط
أحكام الله تعالى بمثل هذه المصادر الظنية التي لا تغني عن الحق
شيئا.
غير أن الأمين الاسترآبادي ومن جاء بعده من أعلام الأخباريين غالوا
في هذا التحفظ والتخوف حتى أدى بهم ذلك إلى موقف سلبي
من العقل والملازمات العقلية والتشكيك في حجية الاحكام العقلية
إلا ما كان له مبدأ حسي أو قريب من الحس كالرياضيات.
الدليل العقلي بين الأصوليين والأخباريين:
وقد وجدت أن كلمات الأخباريين مضطربة ومختلفة في أمر اعتماد
العنصر العقلي في الاجتهاد حتى أن المحقق الخراساني رحمه الله
استقرب في كتابه (كفاية الأصول) أن يكون مقصود الأخباريين واحدا
من اثنين أحدهما كبروي والاخر صغروي، أما الامر الكبروي
فهو منع الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي (بين ما يجب
بالعقل وما يجب بالشرع)، وأما الامر الصغروي فهو التشكيك في
إمكان الوصول إلى نتائج قطعية من المقدمات العقلية وأن نتائج
المقدمات العقلية لا تزيد على أن تكون أحكاما ظنية.
ويعتقد المحقق الخراساني أن كلمات الأخباريين ولا سيما في كتاب
(الفوائد المدنية) لا تفقد الدليل على وجود مثل هذا الاتجاه السلبي
تجاه العقل.
ولو أن علماء الأخباريين كانوا يستوعبون الموقف السائد في المدرسة
33

الأصولية في التفريق بين الظن والرأي الذي لا يغني عن الحق من
جانب وبين حكم العقل القطعي من جانب آخر لما سلكوا هذا
المسلك
العسير من الرأي.
فإن الحجة عند الأصوليين هو الدليل الذي يثبت متعلقه ثبوتا قطعيا
سواء كانت حجيته ذاتية وهو القطع (العلم) أو كانت حجيته عرضية و
هي الطرق والامارات التي تثبت حجيتها بدليل قطعي وحجية القطع
ذاتية لا يمكن أن تناله يد التشريع لا سلبا ولا إيجابا فإن القطع هو
انكشاف المقطوع به للقاطع، وما كان كذلك كانت الحجية حاصلة له
بالذات، ولا معنى لتحصيل ما هو حاصل بالذات، كما لا معنى
لسلبها، وأما الامارات والطرق الظنية فإن حجيتها تؤول أخيرا إلى ما
يكون حجة بالذات أخذا بالقاعدة العقلية المعروفة القائلة (إن كل
ما بالعرض لا بد أن ينتهي إلى ما بالذات).
ومن لوازم الحجية العقلية: المنجزية والمعذرية، فيحكم العقل بحسن
عقاب العبد على تقدير مخالفة الحجة إذا أصابت الحجة الواقع، كما
يحكم بقبح عقابه وإعذاره على تقدير موافقة الحجة أصابت الحجة
الواقع أم لا. وهذه القضايا من بديهيات علم الأصول.
ولا سبيل للنقاش في شئ من ذلك والأدلة العقلية قائمة على هذه
البديهية.
وأما الرأي الذي يستند الظن ولا يستند حجة ذاتية أو حجة مجعولة
من قبل الشارع قطعا فلا شأن له في الاستنباط.
ولو أن الأخباريين كانوا يستوعبون هذه البديهية في الحجية لما حدث
هذا الصدع في الاجتهاد، ولما تجاوز الخلاف بينهم وبين
الأصوليين الخلاف الصغروي في قيام الحجة وعدمها، لا التشكيك
في أصل حجية
34

الاحكام العقلية وملازمتها في الشرع في فرض وقوعها وحصولها.
وهذه هي النقطة الجوهرية في الخلاف بين الأخباريين والأصوليين.
المسائل الخلافية الأخرى بين المدرستين:
وأهم المسائل التي اختلفت فيها هاتان المدرستان بعد مسألة حجية
العقل والتلازم بين الحكم العقلي والشرعي هي:
أولا: قطعية صدور كل ما ورد في الكتب الحديثية الأربعة من الروايات
لاهتمام أصحابها بتدوين الروايات التي يمكن العمل والاحتجاج
بها وعليه فلا يحتاج الفقيه إلى البحث عن أسناد الروايات الواردة في
الكتب الأربعة ويصح له التمسك بما ورد فيها من الأحاديث وهذا
هو رأي المدرسة الأخبارية.
أما الأصوليون فلهم رأي آخر في ما ورد في الكتب الأربعة ويقسمون
الحديث إلى الأقسام الأربعة المشهورة: الصحيح والحسن و
الموثق والضعيف ويأخذون بالأولين أو بالثلاثة الأول دون الأخير.
ثانيا: عدم جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية وهو رأي
للأخباريين، أما الأصوليون فيذهبون إلى صحة جريان البراءة في
الشبهات الحكمية الوجوبية والتحريمية بالعقل والأدلة النقلية.
ثالثا: نفي حجية الاجماع وهو رأي معروف للأخباريين أما الأصوليين
فيتمسكون بالاجماع إذا كان من الاجماع المحصل.
رابعا: نفي الاحتجاج بالكتاب العزيز. وقد توقف الأخباريون عن
العمل بالقرآن ما لم يرد فيه إيضاح من الحديث وذلك لطرو
مخصصات ومقيدات من السنة لعموماته ومطلقاته، ولما ورد من
الأحاديث الناهية عن
35

تفسير القرآن بالرأي.
ومهما يكن من أمر فقد توسعت هذه الحركة العلمية وشقت طريقها
إلى الأوساط العلمية الشيعية وفرضت طريقتها على العقلية الفقهية
الشيعية بفضل الجهود التي بذلها مؤسس هذه الطريقة الأمين
الاسترآبادي رحمه الله فقد كان الأمين الاسترآبادي شخصية قوية من
الناحية العلمية، ويبدو على مناقشاته وأبحاثه في كتابه (الفوائد
المدنية) القدرة على البحث العلمي والدقة العلمية.
وقد أشغلت هذه المعارضة العلمية التي قادها الأمين الاسترآبادي
فقهاء الشيعة فترة من الزمان، وأدخلتهم في صراع لم يكن لهم به
عهد من قبل.
وقد يكون الذي حدث خيرا لهذا العلم فإن هذا الصراع قد فتح لهذا
العلم فرصا جيدة للنمو والتكامل والتلاقح... لم يتم لولا ظروف هذا
الصراع.
تطور علم الأصول بعد الأمين الاسترآبادي:
وظهر في هذه الفترة نفر من كبار علماء الأصول جاءوا من بعد هذه
المعركة الفكرية التي أثارها الأمين الاسترآبادي... حاولوا أن
يثروا هذا العلم بتحقيقات جديدة وأن يحكموا بناء هذا العلم ويقننوه
ويحدثوا في مناهج البحث الأصولي تغييرات جوهرية.
وهذه الحركة العلمية التي قام بها هذا النفر من العلماء كان لها دور كبير
في إعادة الحيوية إلى البحث الأصولي وإن لم يكن لها دور
حاسم في أضعاف الاتجاه الاخباري وتطويقه، فقد بقيت المدرسة
الأخبارية رغم ظهور علماء كبار في أصول الفقه في هذه الفترة
تتحرك بقوة في أوساط الفقه
36

والاجتهاد. ولم يتم عزل هذه المدرسة إلا على يد الفقيه محمد باقر
البهبهاني المعروف على لسان تلاميذه بالوحيد البهبهاني، كما
سوف نرى إن شاء الله تعالى في هذا البحث.
إلا أن من الحق أن العلماء الذين جاءوا في هذه الفترة وألفوا وحققوا
في الأصول كان لهم دور كبير في إنضاج مدرسة الوحيد
البهبهاني والشيخ الأنصاري.
والتحقيقات التي تمت في هذه الفترة من ظهور مدرسة الأمين إلى
ظهور مدرسة الوحيد كان لها تأثير مباشر وقوي في تنقيح وبلورة
وتقنين الفكر الأصولي لدى كل من المدرستين اللتين ظهرتا بعد
المدرسة الأخبارية وهما مدرسة (الوحيد البهبهاني) ومدرسة
(الشيخ الأنصاري) وهاتان المدرستان تدينان لهما.
وأبرز العلماء الذين ظهورا في هذه الفترة هم:
الحسين بن رفيع الدين محمد الحسيني (المتوفى سنة 1064 ه):
ويعرف ب (سلطان العلماء) لان الشاه عباس الصفوي استوزره فترة
من الزمان وزوجه ابنته، كما استوزره الشاه صفي والشاه عباس
الثاني، كتب على كتاب (المعالم) تعليقة معروفة فيها كثير من
التحقيقات النقدية لنظريات صاحب المعالم.
الفاضل التوني (المتوفى سنة 1071 ه):
ألف مجموعة من الكتب في الفقه والأصول، ولكن لم يبق لنا من هذه
37

المجموعة إلا (الوافية) الذي هو من خير ما ألف في هذا العلم على ما
فيه من إيجاز وقد طبع الكتاب قبل زمن طويل في الهند ونفذ في
حينه، ولم يعد لهذا الكتاب وجود وأثر في الأوساط العلمية حتى
أقدم أخيرا مجمع الفكر الاسلامي بإعادة طبعه وإخراجه بصورة
جيدة، وقد تم تحقيق هذه الطبعة بجهود أخينا الجليل السيد محمد
حسين الكشميري حفظه الله وجزاه الله خيرا.
وللشيخ الأنصاري في (فرائد الأصول) اهتمام بليغ بهذا الكتاب فهو
يذكره ويشيد ب آرائه وينتقده باحترام خاص.
وقد سبق الفاضل التوني معاصريه في تنظيم أبواب الأصول ونقد
المنهج الأصولي المعمول به لدى العلماء في عصره ومن قبلهم. فهو
يرى أن علم الأصول ينقسم إلى شطرين، مباحث الألفاظ والمباحث
العقلية وهو التقسيم المعمول به إلى حد ما حتى اليوم. ويرى أن
مباحث مقدمة الواجب والضد والمفاهيم يجب أن تندرج في
المباحث العقلية دون مباحث الألفاظ في الوقت الذي كان العلماء
المعاصرون له ومن قبلهم يدرجون هذه المباحث في بحث الألفاظ.
وحتى اليوم، فإن المنهج المعمول به والمتعارف في الكتب الأصولية
ودروس الأصول هو درج هذه الأبحاث في مباحث الألفاظ،
فالمحقق الخراساني مثلا وضع هذه المباحث في المجلد الأول من
كتابه (كفاية الأصول) وهو المجلد الخاص بمباحث الألفاظ... وفي
(الوافية) يضع الفاضل التوني هذه المباحث ضمن الأبحاث العقلية
تحت عنوان (التلازم بين الحكمين) وقد وجدنا من المتأخرين
المحقق
الشيخ محمد الحسين الأصفهاني يلتزم بهذا النظم إلى حد ما في كتابه
القيم الذي وضعه في أصول الفقه وهو: (الأصول
38

على النهج الحديث).
ومما يلاحظ في (الوافية) تقسيم الأدلة إلى أدلة شرعية (وهي الكتاب
والسنة والاجماع) وأدلة عقلية ويقسمها إلى ما يستقل بحكمه
العقل وما لا يستقل.
ومهما يكن من أمر فإن هذا العالم الجليل قد فتح للعلماء في كتابه
الصغير هذا من فرص التفكير والتجديد والابداع الشئ الكثير.
والذي يقارن بين هذا الكتاب وكتاب (المعالم) للشيخ محمد بن زين
الدين رحمه الله وهو بحجمه يلمس الفارق الكبير في المستوى و
العمق بين هذين الكتابين اللذين ألفهما عالمان من أعلام هذا العلم
يفصل بينهما نصف قرن من الزمان تقريبا وهو زمن قصير في عمر
تاريخ العلم.
المحقق السيد حسين الخوانساري (المتوفى سنة 1098 ه):
خلف لنا هذا العالم الجليل كتابه الكبير الواسع (مشارق الشموس في
شرح الدروس) وقد كان الكتاب طبع من قبل طباعة على الحجر
غير محققة ولا منظمة ونفذت نسخ الكتاب، وأعادت أخيرا مؤسسة
آل البيت عليهم السلام طبع هذا الكتاب على نفس النسخة المطبوعة
السابقة بالأفست. والكتاب حافل بالتحقيقات العلمية، ونأمل أن
يوفق الله العلماء إلى تحقيق هذا الكتاب وإخراجه بالشكل المناسب
الذي يلائم قيمته العلمية.
وللكتاب طابع عقلي واضح ويطغى هذا الطابع العقلي على منهجه و
طريقته في البحث... وقد يصح أن نقول: إن هذا المحقق الجليل هو
من أوائل الذين
39

أدخلوا الدقة العقلية في أبحاث هذا العلم والتي استمرت فيما بعد، و
كانت صفة متميزة للدراسات الأصولية عند الشيعة الإمامية.
ولا تزال كلمات هذا العالم المحقق موضع عناية واهتمام المحققين
من علماء الأصول حتى اليوم.
المحقق الشيرواني (المتوفى سنة 1099 ه‍):
لديه تعليقة معروفة على المعالم، أكمل دراساته في النجف وطلب
منه الملك سليمان الصفوي أن ينتقل إلى أصفهان فانتقل إليها وتخرج
على يده جمع من العلماء، منهم مؤلف (الرياض).
وتحقيقات هذا العالم الجليل حول محور كتاب (المعالم) تدل على
عمق ودقة واستيعاب.
الصراع بين المدرسة الأصولية والأخبارية:
رغم ظهور علماء كبار في هذه الفترة في العراق وإيران (في النجف و
كربلا وأصفهان) من أمثال الفاضل التوني والمحقق
الخوانساري فإن الاتجاه الاخباري بقي قويا ونافذا ومتحركا في
الأوساط الفقهية الشيعية في (العراق) و (البحرين) و (إيران) و (جبل
عامل) وهي الأوساط الفقهية الشيعية الأربعة المعروفة في ذلك
الوقت.
ونحن نجد في هذه الفترة دعوة قوية إلى هذا الاتجاه من قبل علماء
معروفين في هذه الحواضر الأربعة درسوا وألفوا وحققوا على
الطريقة الأخبارية ومنحوا هذه الطريقة قوة وعمقا. وكان من أبرزهم و
أفقههم الفقيه
40

الجليل المحقق صاحب (الحدائق الناضرة) رحمه الله.
وقد استمر هذا الصراع قائما خلال هذه الفترة في حواضر الفقه الإمامي.
أثر العامل السياسي في الصراع بين المدرستين:
ولا نستبعد أن يكون للعامل السياسي دور في تعميق هذا الصراع و
توسعته، فقد كان ملوك الصفوية يوم ذاك يحكمون إيران و
العراق. وهما بلدان معروفان بالولا لأهل البيت عليهم السلام، وكانوا
يتقربون إلى الفقهاء، ويقربونهم، ويضعونهم في مواضع
حساسة من الدولة. ويدعمون حكمهم بتأييد ودعم الفقهاء، وقد
استضافوا خلال هذه الفترة جمعا غفيرا من العلماء من جبل عامل و
العراق والبحرين.
ولكن الذي يتتبع سير الأمور في العاصمة الصفوية في ذلك الوقت
يجد أن ملوك الصفوية رغم حاجتهم إلى العلماء، ورغم اهتمامهم
بهجرة الفقهاء إلى عاصمة ملكهم كانوا يراقبون اتساع دائرة نفوذ
العلماء في أجهزة الحكم وفيما بين الناس بقلق... وقد كان ذلك
يؤدي بهم أحيانا إلى طلب الهجرة العكسية من بعض الفقهاء من
أصفهان إلى العراق، كما حدث ذلك للمحقق الكركي رحمه الله. فقد
كانوا
يجدون في اتساع دائرة نفوذ العلماء ما يزاحم نفوذهم وسلطانهم و
شعبيتهم. ولنا أدلة وشواهد عديدة على ذلك لسنا الان بصدد
استعراضها ودراستها.
وعلى ذلك فلا نستبعد أن يكون لملوك الصفوية دور في اتساع رقعة
الخلاف وتعميقها بين المدرستين الشيعيتين في الاجتهاد
(الأخبارية والأصولية).
41

ومهما يكن من أمر فقد اتسعت دائرة هذا الصراع، واكتسب عمقا أكثر
مما يستحق، وكاد أن يكون له دور سلبي في نمو وتكامل هذا
العلم الشريف الذي لا بد منه في الاجتهاد.
وشاء الله أن يحتدم هذا الصراع الفكري في كربلا بين اثنين من أبرز
فقهاء هاتين المدرستين، وأكثرهما عمقا وإنصافا ودينا و
ورعا وهما صاحب الحدائق رحمه الله والوحيد البهبهاني رحمه الله.
ولنقرأ قصة هذا الصراع في كربلا.
الصراع بين المدرستين في كربلا:
انتقل الشيخ يوسف صاحب الحدائق رحمه الله إلى كربلا، و
ازدهرت به هذه الحاضرة العلمية وانتعشت المدرسة الأخبارية، و
كانت
هي الاتجاه السائد للاجتهاد في هذه المدينة المقدسة يوم ذاك، و
كانت الدروس والتحقيقات العلمية تجري على هذا المنوال.
الصراع الفكري بين الوحيد وصاحب الحدائق في كربلا:
كان الوحيد البهبهاني (المتوفى سنة 1206 ه‍) يوم ذاك في مدينة
بهبهان، تعز له هذه المدينة المنزوية عن المشاركة الفعالة في
الصراع الدائر بين هاتين المدرستين، وكان يشعر بفداحة الخسارة لو
أن الفكر الأصولي انزوى عن الساحة، وفقد دوره في إدارة
الاجتهاد والاستنباط... فهاجر إلى كربلا، وانتقل إلى هذا الجو
العلمي الحافل بالصراع والاخذ والرد، وحضر
42

درس الشيخ يوسف صاحب الحدائق بعض الأيام. ويومئذ لا يعرفه
أحد ممن حضر درس الشيخ، ولا يعرف ما قدر الله له من دور كبير
في هذا الصراع. فقام في بعض الدروس - بعد أن انفض الدرس - على
قدميه ونادى بجماهير الطلبة الذين كانوا يحضرون دروس
الشيخ يوم ذاك بصوت عال:
(أنا حجة الله عليكم) وشرح لهم الاخطار التي تحيق بالاجتهاد بعزل
علم الأصول عن الحوزات العلمية... وتحولت مدرسة (كربلا) يومئذ
- بعد قدوم هذين العلمين - إلى ساحة لصراع فكري عنيف من أعنف
ما يكون الصراع وفي نفس الوقت من أنزه ما يكون الصراع بين
هاتين المدرستين، وبشكل خاص بين هذين الشيخين الجليلين
صاحب الحدائق والوحيد البهبهاني رحمهما الله.
حدث الشيخ عباس القمي في (الفوائد الرضوية) عن صاحب
(التكملة) عن الحاج كريم (فراش الحرم الحسيني الشريف) أنه كان
يقوم
بخدمة الحرم في شبابه، وذات ليلة التقى بالشيخ يوسف البحراني و
الوحيد البهبهاني داخل الحرم الحسيني الشريف وهما واقفان
يتحاوران، وطال حوارهما حتى حان وقت إغلاق أبواب الحرم فانتقلا
إلى الرواق المحيط بالحرم واستمرا في حوارهما وهما واقفان،
فلما أراد السدنة إغلاق أبواب الرواق انتقلا إلى الصحن وهما
يتحاوران، فلما حان وقت إغلاق أبواب الصحن انتقلا خارج الصحن
من
الباب الذي ينفتح على القبلة، واستمرا في حوارهما وهما واقفان
فتركهما وذهب إلى بيته ونام، فلما حل الفجر ورجع إلى الحرم
صباح اليوم الثاني سمع صوت حوار الشيخين من بعيد، فلما اقترب
منهما وجدهما على نفس الهيئة التي تركهما عليها في الليلة الماضية
مستمران في الحوار والنقاش، فلما أذن المؤذن لصلاة الصبح رجع
الشيخ يوسف إلى
43

الحرم ليقيم الصلاة جماعة ورجع الوحيد البهبهاني إلى الصحن و
افترش عبأته على طرف مدخل باب القبلة، وأذن وأقام وصلى
صلاة
الصبح.
وفي أمثال هذه المحاورات كان الوحيد يتمكن من خصومه الفكريين
ويدحض شبهاتهم ويكرس الاتجاه الأصولي ويعمقه.
ولا بد أن نقول مرة أخرى اعترافا بالفضل للشيخ يوسف مؤلف
(الحدائق): إن تقوى الشيخ وخلوصه وصدقه وابتغاءه للحق كان من
أهم عوامل هذا الانقلاب الفكري الذي جرى على يد الوحيد في
كربلا، ولو كان الشيخ يوسف يبتغي الجدل العلمي في حواره مع
الوحيد
البهبهاني لطالب محنة هذه المدرسة الفقهية، واتسعت مساحة
الخلاف فيها، وتعمق فيها الخلاف، ولكن الشيخ يوسف كان يؤثر
رضا
الله والحق على أي شئ آخر، ومكن الوحيد البهبهاني في حركته
الاصلاحية العلمية.
ومن غرائب ما يروى عن هذا العبد الصالح، أن الوحيد كان يحظر على
تلاميذه حضور دروس الشيخ يوسف، ولكن الشيخ في المقابل
كان يسمح لتلاميذه بحضور دروس الوحيد، وكان يقول كل يعمل
بموجب تكليفه، ويعذر الوحيد في ذلك، وهو نموذج رائع من
نماذج
سعة الصدر والتقوي في فقهائنا الاعلام.
ونشط الوحيد البهبهاني يومئذ في التدريس وحفل درسه بفضلاء
الطلبة وعلماء كربلا، وبرز في مجلس درسه عدد كبير من العلماء
والمحققين والمجتهدين ممن تخرجوا عليه.
ولو تحرينا نحن فروع شجرة فقهاء أهل البيت في القرن الثاني عشر و
الثالث عشر والرابع عشر وجدنا أنهم جميعا يرجعون بصورة
مباشرة أو غير مباشرة إلى الوحيد البهبهاني ولذلك يطلق عليه (أستاذ
الكل)
44

أو (الأستاذ الأكبر) وهو لقب يختص به هذا المحقق الجليل.
تآليف الوحيد:
خلف الوحيد البهبهاني من بعده كتبا قيمة من آثاره وأفكاره، يقول
تلميذه الشيخ أبو علي في (منتهى المقال): إن تآليف الأستاذ يقرب
من ستين كتابا، وقد خصص الوحيد البهبهاني جملة من كتبه في رد
الشبهات عن المدرسة الأصولية، ودحض شبهات الأخباريين، و
نظرياتهم من قبيل رسالة (الاجتهاد والاخبار) ورسالة (حجية
الاجماع) ورسالة (الفوائد الحائرية) القديمة ورسالة (الفوائد
الجديدة)
وغير ذلك من التآليف.
وكتب الوحيد متينة ومشحونة بالأفكار الفقهية والأصولية، وتعتبر
جملة من أفكاره التي دونها والتي درسها لتلاميذه أسسا لعلم
الأصول الحديث.
تلاميذ الوحيد البهبهاني وخلفاؤه:
وبعد الوحيد البهبهاني تولى تلاميذه التدريس والتحقيق في هذا
العلم ومارسوا نشاطا واسعا في التحقيق والابداع فيه وأثروا
الأصول بكثير من الأفكار الجديدة والتحقيقات النقدية نذكر منهم:
1 - المحقق الميرزا أبو القاسم بن محمد حسن القمي (1151 1231
ه) صاحب (القوانين) وهو من أفضل ما كتب في الأصول، في
مباحث
الألفاظ والمباحث العقلية.
45

وقد توسع المحقق القمي في بحث حجية الدليل العقلي وفي بحث
الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي بما لا نجد له نظيرا في
أبحاث المتقدمين عليه وما يقل نظيره في أبحاث المتأخرين.
2 - ومن هؤلاء الشيخ أسد الله بن إسماعيل الكاظمي (1186 -
1234 ه) مؤلف كتاب (كشف القناع عن حجية الاجماع) وهو كتاب
قيم
في البحث عن حجية الاجماع.
3 - والشيخ محمد تقي بن محمد رحيم الأصفهاني (1248 ه)
صاحب الحاشية المعروفة على معالم الأصول باسم (هداية
المسترشدين)
وهذا الكتاب هو واحد من أبرز وأفضل ما كتب في مباحث الألفاظ
في أصول الفقه، وقد ذكرنا سابقا أن الشيخ الأنصاري رحمه الله
كان يقول: إنه اكتفي بما كتبه الشيخ محمد تقي الأصفهاني على
المعالم عن الكتابة في مباحث الألفاظ واقتصر فقط في كتابه الفرائد
على مباحث القطع والظن والشك.
ولا تزال الآراء التي طرحها الشيخ محمد تقي في هذا الكتاب تعد
مادة للتحقيق والنقد عند المتأخرين وخاصة الشيخ الأنصاري رحمه
الله.
4 - ومنهم الشيخ محمد حسين الأصفهاني (1250 ه) صاحب
كتاب (الفصول) وهو من الكتب القيمة في علم الأصول، وكان هذا
الكتاب
وكتاب (القوانين) من الكتب الدراسية في علم الأصول إلى وقت
قريب.
5 - ومحمد شريف بن حسن علي الآملي المعروف ب (شريف
العلماء
46

توفي في 1245 ه) وهو من أساتذة الشيخ الأنصاري وتخرج عليه
جمع من كبار العلماء في الأصول، والشيخ الأنصاري يذكر آراء
أستاذه الشريف باحترام وإكبار.
6 - والشيخ ملا أحمد النراقي (المتوفى في 1245 ه) من أساتذة
الشيخ الأنصاري، له كتاب (مستند الشيعة) في الفقه وكتاب (عوائد
الأيام) في جملة من القواعد الفقهية والأصولية.
7 - والسيد محسن الأعرجي الكاظمي (المتوفى سنة 1227 ه)
تتلمذ على الوحيد البهبهاني وألف في الأصول (المحصول في علم
الأصول) و (الوافي في شرح الوافية).
وهؤلاء هم من أبرز رجال هذه المرحلة من تاريخ علم الأصول، وقد
ساهموا بدور فعال في إيضاح الفكر الأصولي وتعميقه ونقده و
تنميته... ولا شك أن الجهد الذي بذله هؤلاء الاعلام كان له تأثير فعلي
في ظهور مدرسة الشيخ الأنصاري بعد مدرسة الوحيد البهبهاني.
والذي يقرأ كتاب (الفوائد الحائرية) للوحيد و (فرائد الأصول) للشيخ
الأنصاري يلمس بوضوح أثر الجهد الذي بذله هؤلاء الاعلام قبل و
بعد الوحيد في تكوين هذه المدرسة وتلك وبلورة الأفكار و
التحقيقات الفكرية التي جاء بها الوحيد والشيخ الأنصاري رحمهما
الله.
47

دراسة أهم النظريات الأصولية للوحيد البهبهاني:
وفيما يلي سوف نحاول إن شاء الله إبراز أهم النظريات الأصولية التي
ابتكرها هذا الفقيه المجدد في علم الأصول في كتابه القيم
(الفوائد الحائرية) لنعرف القيمة العلمية الرائدة لهذا الأثر العلمي
الجليل.
فإن هذا الكتاب الجليل يعتبر في الحقيقة فتحا من أهم الفتوحات
العلمية المعاصرة في هذا العلم الشريف.
وتقويم هذا الكتاب ودراسته ومعرفة موقعه من علم الأصول
الحديث يحتاج إلى استقراء سريع للنظريات التي أبدعها هذا الفقيه
الجليل وربطها بالتطورات التي ألحقها الفقهاء من بعده بهذه النظريات
للتمكن من معرفة الدور الرائد لنظريات الوحيد رحمه الله في
علم الأصول.
وإليك عرضا وشرحا موجزا لأهم هذه النظريات:
1 - التفريق بين الامارات والأصول:
يبدو أن الجذور الأولى لفكرة التفريق بين الامارات والأصول تعود إلى
الوحيد البهبهاني رحمه الله ومن قبل الوحيد لم يكن الفقهاء
يفرقون بين هذين النوعين من الحجج والأدلة. كما إن فقهاء المذاهب
الأربعة لا يميزون لحد اليوم بين الامارات والأصول ويدرجون
الامارات والأصول كلها في سياق البحث عن الأدلة والحجج.
ولأول مرة نلتقي بدايات هذا التمييز عند الوحيد البهبهاني.
فقد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله في بداية المقصد الثالث (من
فرائد الأصول) أن التمييز بين الامارات والأصول وتسمية الامارات
بالأدلة الاجتهادية والأصول بالأدلة الفقاهتية كان من الوحيد
البهبهاني.
48

وقد استعرضت كتابي الفوائد الحائرية للوحيد رحمه الله القديم و
الحديث فلم أظفر بهذا المصطلح الذي نقله الشيخ عن الوحيد و
يمكن
أن يكون ذلك في غير هذين الكتابين من مصنفات الوحيد.
ولعل المناسبة التي اقتضت تسمية الامارات والطرق نحو خبر الواحد
والاجماع والشهرة بالأدلة الاجتهادية، والأصول من البراءة و
الاشتغال والتخيير والاستصحاب بالأدلة الفقاهتية، هو ما ورد في
تعريف الاجتهاد بأنه تحصيل الظن بالحكم الشرعي وما ورد في
تعريف الفقه بأنه العلم بالحكم الشرعي.
ومهما يكن من أمر فإن فكرة الأصول والتفريق بينها وبين الامارات
اختمرت كما يظهر لأول مرة لدى الوحيد البهبهاني حيث وجد أن
الأدلة الشرعية الموصلة إلى الحكم الشرعي (الأعم من الواقعي و
الظاهري) على نحوين وليست على نحو واحد.
فهناك طائفة من الأدلة يوظفها المجتهد للوصول إلى الأحكام الإلهية
الواقعية والكشف عنها، كالسنة والاجماع والشهرة مثلا.
وهذه الأدلة هي مجموعة الطرق والامارات التي يستخدمها المجتهد
أو مطلق المكلف للوصول إلى الأحكام الشرعية الواقعية غير أنها
قد تصيب وقد لا تصيب الاحكام الواقعية، وتكون حالة الإصابة فيها
ظنية، وهي الأدلة التي اصطلح الوحيد البهبهاني رحمه الله على
تسميتها ب (الأدلة الاجتهادية) وطائفة أخرى من الأدلة تقع في
امتداد هذه الأدلة في طولها وليس في عرضها يوظفها المكلف
للوصول
إلى الوظائف الشرعية المقررة للجاهل في ظرف الجهل بالحكم
الشرعي، كالبراءة بالنسبة إلى المكلف في ظرف الشك في التكليف و
الاحتياط المقرر في ظرف الشك في المكلف به،
49

فإن كلا من البراءة والاحتياط وظائف للمكلف في ظرف الشك في
التكليف بالنسبة إلى البراءة وفي المكلف به بالنسبة إلى الاحتياط
فلا ينهض دليل البراءة والاحتياط بأكثر من تحديد الوظيفة المقررة
للجاهل عند الشك في التكليف والمكلف به، ولا يدعي المكلف
خلو
الواقعة من التكليف في مورد الشك في التكليف ولا يدعي ثبوت
الحكم الشرعي في مورد الشك في المكلف به وإنما هما وظيفة
عملية
مقررة للمكلف تخرجه عن الحيرة في ظرف الجهل والشك بالحكم
الشرعي.
وهذه الطائفة من الأدلة هي التي اصطلح الوحيد البهبهاني رحمه الله
على تسميتها ب (الأدلة الفقاهتية).
وواضح أن علاقة هاتين الطائفتين من الأدلة بعضها ببعض علاقة
طولية، تقع بموجبها الطائفة الثانية في طول الطائفة الأولى ويحق
للمكلف الفقيه استخدامها عند ما يعجز عن استخدام الطائفة الأولى
من الأدلة، ولا مجال لها عند إمكان استخدام الطائفة الأولى من
الأدلة.
فتتقدم إذن الطائفة الأولى من الأدلة على الطائفة الثانية غير أني لم
أجد في كلمات الوحيد رحمه الله في الفوائد القديمة والجديدة
توضيحا دقيقا لتقديم الأدلة الاجتهادية على الأدلة الفقاهتية.
وقد يكون الشيخ الأنصاري رحمه الله هو أول من مكنه الله تعالى من
التفريق بين موارد استعمال الأدلة الاجتهادية والفقاهية وتقنين
العلاقة بينهما بتقديم الأدلة الاجتهادية على الأدلة الفقاهتية، وتقديم
الأدلة الفقاهية بعضها على بعض، وتنظيم علم الأصول بموجب ذلك
على أساس جديد ومنهجية جديدة ثبتت إلى اليوم الحاضر.
50

التنظير والتقسيم للشك:
يغطي مباحث الشك في علم الأصول الحديث مساحة واسعة من هذا
العلم، إن لم يغط معظم مسائل ومباحث هذا العلم، وذلك لان
الأصول
العملية جميعا تندرج في مباحث الشك، ومباحث الأصول العملية
من أوسع وأهم مباحث هذا العلم.
ولم يكن للشك في دراسات القدماء، للأصول عنوان خاص وباب
معين، فضلا من أن يغطي هذا العنوان مساحة واسعة كالمساحة التي
يستوعبها هذا العنوان من علم الأصول في كتاب (فرائد الأصول)
للشيخ الأنصاري وما صدر بعد هذا الكتاب من الدراسات الأصولية.
والشيخ الأنصاري رحمه الله هو رائد أول تنظيم منهجي لمباحث
الشك في علم الأصول من دون شك، كما هو رائد التنظيم المنهجي
الحديث للمباحث العقلية عموما، والتي تشمل مباحث القطع والظن
والشك، ولكن الوحيد البهبهاني هو مؤسس التنظير الحديث للشك،
وتقسيم الشك إلى الشك في التكليف والشك في المكلف به، وهذا
الفتح في هذا العلم مما يسره الله تعالى لهذا العبد الصالح الذي آثره
الله بفتوحات جمة في هذا العلم وليس من شك أن علم الأصول
الحديث مدين في هذا التنظير والتقسيم للشك للوحيد البهبهاني
رحمه
الله.
وما استنبطه الوحيد رحمه الله من الوظيفة لكل من حالتي الشك في
التكليف والشك في المكلف به، بحكم العقل، مما لا نجد له ذكرا
واضحا بصورة منهجية ومنظمة في آثار المحققين من علماء الأصول
ممن سبقوا الوحيد رحمه الله ونحن فيما يلي نستعرض كلمات
الوحيد رحمه الله تعالى في أقسام الشك.
51

يقسم الوحيد البهبهاني رحمه الله الشك إلى قسمين:
1 - الشك في التكليف.
2 - الشك في المكلف به.
والوظيفة العملية العقلية التي استنبطها الوحيد رحمه الله لكل من
هذين القسمين هي:
1 - البراءة العقلية في موضع الشك في التكليف بموجب قاعدة (قبح
العقاب بلا بيان) العقلية.
2 - الاشتغال والاحتياط في موضع الشك في المكلف به بموجب
القاعدة العقلية (الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية) وفيما يلي
سوف نتحدث عن آراء الوحيد رحمه الله في هذه النقاط، ونتوسع في
ذكر هذه النقاط والإشارة إلى الآراء المتأخرة عن الوحيد
البهبهاني رحمه الله بقدر ما نستطيع أن نوصل الحاضر بالماضي، و
نتعرف على الدور الرائد لهذا العالم المحقق في علم الأصول
الحديث.
أقسام الشك:
انتبه الوحيد البهبهاني رحمه الله إلى أن شك المكلف من حيث
المتعلق على نوعين وليس نوعا واحدا، أحدهما يتعلق بالتكليف و
الاخر
يتعلق بالمكلف به والاشتباه بينهما يؤدي إلى أخطأ منهجية كبيرة.
وللعقل في كل منهما حكم يختلف عن حكمه في الاخر وهو البراءة
العقلية في مورد الشك في التكليف، واشتغال الذمة والاحتياط في
مورد الشك في المكلف به.
وقد يكون السبب في تمسك الأخباريين بالاحتياط في مورد الشبهة
52

الحكمية التحريمية هو عدم التمييز الدقيق بين موارد الشك في
التكليف والشك في المكلف به.
وقد استنبط الوحيد لحكم العقل في مورد الشك في التكليف قاعدة
(قبح العقاب بلا بيان) واستند إلى هذه القاعدة في كل مورد من
موارد الشك في التكليف، كما استنبط لحكم العقل في مورد الشك
في المكلف به قاعدة (الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني).
وقد نهج من جاء بعد الوحيد رحمه الله هذا النهج في الأصول
العملية، ووضعوا هذا التمييز بين الشك في التكليف والشك في
المكلف به
أساسا للتمييز بين موارد البراءة العقلية والاحتياط العقلي، كما
تمسكوا بهاتين القاعدتين، عدا الفقيه الشهيد الصدر رحمه الله الذي
خالف المشهور من الأصوليين في التشكيك في القيمة العقلية لقاعدة
قبح العقاب بلا بيان.
ولكن إذا كان الوحيد رحمه الله قد وضع مفتاح هذه المسألة الأصولية
بيد علماء الأصول، فإن من الحق أن نقول: أن الشيخ الأنصاري
رحمه الله كان أول من وضع هذين الأصلين، على أسس علمية متينة و
قننهما وقعدهما على قواعد علمية محكمة، وبحثهما بحثا علميا
مستوفيا ضمن منهجية علمية متينة لا تزال قائمة حتى اليوم.
ونحن فيما يلي نتحدث إن شاء الله حول كلمات الوحيد البهبهاني في
التمييز بين موارد الشك في التكليف والشك في المكلف به. و
جريان البراءة في الأول والاحتياط في الثاني والتمسك بقاعدة قبح
العقاب بلا بيان في المورد الأول وبقاعدة الاشتغال اليقيني
يقتضي الفراغ اليقيني في المورد الثاني.
53

الشك في التكليف والمكلف به:
يقول الوحيد رحمه الله في الفوائد القديمة في التفريق بين الشك في
أصل التكليف والشك في المكلف به (أي الشك في الخروج عن
عهدة التكليف الثابت بالقطع):
(فرق بين مقام ثبوت التكليف ومقام الخروج عن عهدة التكليف
الثابت، إذ بمجرد الاحتمال لا يثبت التكليف على المجتهد والمقلد
له،
لما عرفت من أن الأصل براءة الذمة حتى يثبت التكليف، ويتم
الحجة، وأنه ما لم يتم الحجة لم يكن مؤاخذة أصلا وقبح في
الارتكاب أو
الترك مطلقا.
وأما مقام الخروج من عهدة التكليف فقد عرفت أيضا أن الذمة إذا
صارت مشغولة، فلا بد من اليقين في تحصيل براءتها للاجماع و
الاخبار، وتثبت أيضا من العقل والنقل والآيات القرآنية والأخبار المتواترة
والاجماع من جميع المسلمين وجوب الإطاعة للشارع، و
معلوم أن معناها هو الاتيان لما أمر به، فلا يكفي احتمال الاتيان ولا
الظن به، لان الظن بالاتيان غير نفس الاتيان.
ومما ذكرنا يعلم أنه إن استيقن أحد بأن عليه فريضة فائتة فلا يعلمها
بخصوصها أنها الظهر أو الصبح، أو يعلم أن عليه فريضة فائتة و
لم يعلم أنها فائتة أو حاضرة، يجب عليه أن يأتي جميعا حتى يتحقق
الامتثال).
وفيما يلي إيضاح وشرح لهذا الاجمال:
54

التمييز بين الشك في التكليف والشك في المكلف به:
التمييز بين الشك في التكليف والشك في المكلف به يسير في مقام
المفهوم وعسير وصعب في موضع تشخيص وفرز مصاديق و
مفردات الشك في التكليف عن الشك في المكلف به.
أما من حيث التمييز في المفهوم فإن الشك قد يكون في أصل
التكليف كما لو شككنا في التكليف بزكاة مال التجارة مثلا. وقد يكون
الشك في المكلف به وهو أمر آخر يختلف عن الشك في التكليف
اختلافا واضحا ويكون فيه التكليف واضحا عند المكلف إلا أنه يشك
في الخروج عن عهدة التكليف بامتثال ما يشك في كونه مصداقا
للمكلف به بهذا التكليف، كما إذا شككنا في أن الصلاة المكلف بها
ظهر
يوم الجمعة هو الجمعة أم الظهر؟ أو الصلاة المكلف بها على نقطة
رأس أربع فراسخ هي القصر أم التمام؟ فليس يشك المكلف أن عليه
تكليفا من الله تعالى بالصلاة ظهر يوم الجمعة ولا يشك أن عليه
تكليفا بالصلاة على رأس أربع فراسخ، ولكنه يشك في أن الذي كلفه
الله تعالى (المكلف به) هو صلاة الجمعة أو الظهر في المورد الأول و
القصر أو التمام في المورد الثاني.
وخلاصة الكلام في هذا التمييز أن الشك في المكلف به لا يكون إلا
بعد العلم بالتكليف بينهما يشك المكلف في أصل التكليف في حالة
الشك في التكليف، وهو أمر واضح.
إلا أن هذا التوضيح وحده لا يكفي في التمييز بين موارد الشك في
التكليف والشك في المكلف به في المصاديق التي يشتبه أمرها بين
هذين الشكين ولا بد أن يستخدم الفقيه المقاييس بدقة ليتمكن من
فرز موارد البراءة عن موارد الاحتياط.
55

أقسام الشك الأربعة:
ولكي نلقي بعض الضوء على هذه الموارد نقول:
إن للشك أربع حالات:
1 - الشك في أصل التكليف وهو الالزام والحكم بالايجاب أو
التحريم.
2 - الشك في متعلق التكليف، كالصلاة والزكاة وشرب الخمر الذي
يتعلق به حكم إلزامي بالايجاب أو التحريم.
3 - الشك في متعلق المتعلق (الموضوع) كالخمر في الحكم بتحريم
شرب الخمر والنقدين والغلات والانعام في وجوب الزكاة فيها.
4 - الشك في شروط التكليف العامة، كالبلوغ والعقل، والخاصة،
كالاستطاعة المالية في الحج.
تشخيص مواضع الشك في التكليف:
وضابط الشك في التكليف:
1 - هو ما كان الشك في أصل التكليف الإلزامي وهو الامر الأول كما
لو شككنا في وجوب زكاة مال التجارة أو حرمة شرب التبغ.
2 - وما كان الشك في الموضوع (متعلق المتعلق) وهو الامر الثالث،
فإن الموضوع يدخل لا محالة في فعلية التكليف سلبا أو إيجابا، فلا
يكون الحكم بحرمة شرب الخمر فعليا في حق المكلف إلا بتشخيص
الخمر وما لم يشخص الخمر ويعلم بأن المائع الذي بين يديه من
الخمر المسكر لا ينجز عليه الحكم بحرمة شربه ولا يكون الحكم في
حقه فعليا.
وكذلك حكم الزكاة لا يكون فعليا ما لم يحرز المكلف ملكيته للنقدين
56

والغلات والانعام.
3 - وما كان الشك في شروط وقيود التكليف العامة والخاصة (وهو
الرابع) كالشك في البلوغ أو الشك في الاستطاعة أو الشك في
حلول الوقت فإن الشك فيها من الشك في أصل التكليف بالضرورة.
الشك في هذه الموارد جميعا يكون من الشك في أصل التكليف و
يكون المورد موردا للبراءة بلا كلام.
تشخيص مواضع الشك في المكلف به:
وأما ضابط الشك في المكلف به فهو:
1 - أن يكون الشك في المكلف به (متعلق التكليف) رأسا (وهو الامر
الثاني) كما لو شك أنه قد صلى الظهر أو لم يصل وهو من الشك
في الامتثال.
2 - أو كان الشك في متعلق المتعلق (الموضوع) (وهو الامر الثالث)
إذا كان يعلم بوجوده في الخارج وفي دائرة ابتلائه ومتناوله، و
لكنه كان يتردد في تشخيصه بين مجموعة من المصاديق كما لو علم
بوجود الخمر في مجموعة من السوائل بين يديه، إلا أن الخمر كان
مشتبها بين هذه السوائل فلا يكاد يميزه عن غيره من السوائل، فإن
حرمة الشرب لا محالة فعلية لوجود الخمر بين يديه، واشتباهه بين
مجموعة محدودة من السوائل لا يرفع فعلية حرمة شرب الخمر ولا
يجوز له تناوله، كما كان يجوز له ذلك في الشبهة البدوية
الموضوعية إذا اشتبه في سائل أنه خمر أم لا، فيكون المورد من موارد
الشك في المكلف به.
وكذا لو اشتبه أمر القبلة عليه، فإن وجوب التوجه إلى القبلة في الصلاة
يبقى فعليا ولا يسقط فعلية وجوب التوجه إلى القبلة باشتباه
القبلة
57

بين الأطراف الأربعة وعلى المكلف أن يحتاط حتى يحرز القبلة
بحسب القواعد، لولا وجود النصوص الخاصة في البين. وهذا المورد
كذلك من موارد الشك في المكلف به، وهو مجرى الاحتياط كما
علمنا.
والخلاصة أن الشك في التكليف والشك في الموضوعات والقيود و
الشروط التي لها دخل في فعلية التكليف، والشك في كل ما من
شأنه أن يستتبع الشك في التكليف يعتبر من الشك في التكليف وما
عدا ذلك يعتبر من الشك في المكلف به.
أقسام الشك في التكليف:
والشك في التكليف على أقسام متعددة:
لأن الشك في التكليف قد يكون في الشبهة الحكمية (كالشك في
حلية لحم الأرنب)، وقد يكون في الشبهة الموضوعية (كالشك في
طهارة الكحول، فإن منشأ هذا الشك هو الشك في مصداقية الكحول
للمسكرات، وليس من الشك في نجاسة المسكر، وإنما الشك في أن
الكحول من مصاديق المسكر أم لا).
وعلى كل حال فإن الشبهة قد تكون وجوبية كالشك في وجوب جهاد
الكفار ابتدأ، وقد تكون تحريمية كالأمثلة المقدمة في الشبهة
الموضوعية والحكمية.
وهذه أربعة أقسام رئيسية للشك في التكليف، ومنشأ الشبهة الحكمية
(بقسميها الوجوبية والتحريمية) قد يكون فقدان النص، وقد
يكون إجمال النص، وقد يكون تعارض النصين.
والحكم في جميع هذه الأقسام واحد وهو البراءة عدا بعض الأقسام
58

منها.
وقد أفرد الشيخ الأنصاري رحمه الله ومن تبعه من الأصوليين هذه
الأقسام بشروح مستقلة، إلا أن الخلاف المعروف بين الأصوليين و
الأخباريين هو في خصوص الشبهة الحكمية التحريمية فقط، حيث
ذهب الأخباريون في موردها إلى التوقف أو الحرمة وذهب
الأصوليون فيها إلى البراءة قولا واحدا.
ولا خلاف يذكر بين هاتين المدرستين في غير هذا المورد.
أقسام الشك في المكلف به:
ومن التوضيح السابق نستطيع أن نصنف الشك في المكلف به إلى
قسمين رئيسيين: ما لا يقترن الشك في المكلف به بالعلم الاجمالي، و
ما يقترن فيه بالعلم الاجمالي.
والقسم الأول وهو ما لا يقترن فيه الشك في المكلف به بالعلم
الاجمالي يكون مرجعه لا محالة إلى الشك في امتثال المتعلق
(المكلف به)
كما لو شك في الاتيان بصلاة الظهر، وهو من أظهر مصاديق الشك في
امتثال المكلف به بعد العلم بالتكليف وهو مجرى الاحتياط
قطعا.
والقسم الثاني وهو ما يقترن فيه الشك في المكلف به بالعلم
الاجمالي وفي هذا القسم قد يكون متعلق العلم الاجمالي هو متعلق
التكليف،
كما لو تردد في التكليف يوم الجمعة بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة.
وقد يكون متعلق العلم الاجمالي والترديد هو موضوع الحكم
(متعلق المتعلق) كالخمر في المثال السابق، كما لو علم بوجود الخمر
في إناء مردد بين مجموعة من الأواني، إلا أنه لم يكن يشخص إناء
الخمر بخصوصه، فإن التكليف باجتناب
59

تناول الخمر يكون تكليفا فعليا ناجزا لا محالة، وفعلية التكليف و
تنجزه بالاجتناب عن إناء الخمر يتطلب الاحتياط باجتناب كل
الأواني، واشتباه إناء الخمر بغيره من الأواني لا يضر بفعلية التكليف و
تنجزه على المكلف، ما دام المكلف عالما بأصل التكليف، حتى و
إن كان العلم على نحو الاجمال وليس على نحو التفصيل.
تنجيز العلم الاجمالي في كلمات الوحيد:
ويبحث الوحيد رحمه الله في الفوائد عن تنجيز العلم الاجمالي في
بحثين:
فيما إذا كانت أطراف العلم الاجمالي محصورة في دائرة صغيرة و
محدودة، وفيما إذا كانت أطراف العلم غير محصورة وفي دائرة
واسعة فيذهب إلى تنجيز العلم الاجمالي في القسم الأول وينفي
اقتضاء العلم الاجمالي في القسم الثاني للتنجيز.
ويرى في القسم الأول إن العلم الاجمالي علة لحرمة المخالفة القطعية
كما هي علة أو مقتض لوجوب الموافقة القطعية، ويجري في هذا
البحث العميق على أسس علمية عقلية متينة.
يقول رحمه الله: (ثم اعلم أن جمعا من المجتهدين فرقوا في اشتباه
موضوع الحكم بين المحصور وغير المحصور، وحكموا بالمنع في
الأول، بناء على أن الحكم بحلية المجموع يستلزم الحكم بحلية ما هو
حرام علينا قطعا، وطهارة ما هو نجس جزما كالإناءين المشتبهين
والثوبين.
وإن حكمنا أن أحدهما نجس أو حرام فهو ترجيح من غير مرجح
شرعي.
والفرق بين المحصور وغير المحصور أن في المحصور: يتأتى التنزه
عن
60

الكل بحيث لا يلزم الحرج المنفي بخلافه، وذلك لان الحرمة و
النجاسة تكليفان يحب امتثالهما، فحيث يمكن الامتثال بترك
المحتملات
من باب المقدمة الواجبة، وحيث لا يمكن لعدم تأتي ترك الجميع و
عدم الترجيح الشرعي لا يكون مكلفا).
والوحيد البهبهاني رحمه الله يدخل - كما يرى القاري - هذا البحث
العميق من مباحث الأصول، ويتحدث عنه ويقسمه إلى أقسامه و
يبحث عن حكم كل قسم بصورة علمية وعلى نهج علمي دقيق، وهو
أمر مثير للإعجاب ولولا موقع الشيخ الأنصاري من مدرسة الأصول
الحديثة لقلنا بأبوة الوحيد البهبهاني لمدرسة الأصول الحديثة.
ولكن إذا كانت هذه الأبوة موضع نقاش بسبب موقع الشيخ الأنصاري
من هذه المدرسة فإن مما لا شك فيه أن الوحيد البهبهاني من أكبر
رواد هذه المدرسة ودوره الرائد في المدرسة الأصولية الحديثة قبل
الشيخ الأنصاري رحمه الله وأسبق منه.
دوران الامر بين الأطراف المتباينة أو الأقل والأكثر:
وهذا القسم من الشك في المكلف به الذي يقترن بالعلم الاجمالي
ينقسم إلى قسمين أساسيين:
القسم الأول: ما يكون الترديد فيه بين الأطراف المتباينة، كالمثال
السابق في الخمر المشتبه بين الأواني المتعددة المختلفة.
والقسم الثاني: ما يكون الترديد فيه بين الأقل والأكثر، كما لو علم
61

المكلف بالتكليف بالزكاة وشك في أن الواجب المكلف به خمسة
دنانير أو عشرة دنانير، وهذا هو الأقل والأكثر الاستقلاليان، ولا
إشكال في أن العلم الاجمالي ينحل في هذا المورد ويتنجز فيه
وجوب الأقل للعلم التفصيلي به ويكون الزائد عليه مشكوكا شكا
بدويا و
تجري فيه البراءة.
والقسم الاخر من الأقل والأكثر هو الأقل والأكثر الارتباطيان، كما لو
شك في أن الصيام الواجب إلى غروب الشمس أو إلى زوال
الحمرة المشرقية بعد غروب الشمس، وهو موضع خلاف معروف
بين المحققين من الأصوليين، ومنشأ الخلاف أن هذا القسم من التردد
بين الأقل والأكثر هل هو من قبيل التردد بين الأقل والأكثر المستقلين
فينحل العلم الاجمالي بتنجيز الأقل، أو أنه من قبيل دوران الامر
بين المتباينين، فينجز فيه الأكثر وهو الاستمرار في الصيام إلى غياب
الحمرة المشرقية؟.
ولا بد من التنبيه إلى أن دوران الامر بين الأقل والأكثر كما يجري في
موضوعات الواجبات (متعلق المتعلق) كالمثال الذي ذكرناه
للأقل والأكثر المستقلين كذلك يجري في نفس الواجب (المتعلق)
كالمثال الذي ذكرناه لدوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
الوظيفة العقلية لدى الشك في التكليف:
لا شك في أن وظيفة المكلف عند الشك في التكليف هو الاخذ
بالبراءة والخلاف بين الأصوليين في مصدر هذه الوظيفة. هل هو
الشرع
أم الشرع والعقل. والوحيد البهبهاني رحمه الله يذهب إلى الرأي
الثاني.
وما يهمنا هنا في هذا البحث هو الوظيفة العقلية للمكلف لدى الشك
في التكليف ورأي الوحيد البهبهاني رحمه الله في ذلك.
62

والبرأة التي تجري بحكم العقل في هذا القسم من الشك هو ما
يصطلح عليه علماء الأصول ب (البراءة العقلية) في مقابل (البراءة
الشرعية)
التي تجري في نفس المورد بموجب الأدلة الشرعية التي تحكم
بالبراءة عند الشك في التكليف.
وقد اشتهر بين علماء الأصول التمسك بالدليل العقلي على البراءة
إلى جنب التمسك بالأدلة الشرعية على البراءة إلا أننا لا نجد قبل
المحقق الحلي رحمه الله (676 ه) صياغة علمية دقيقة للبراءة العقلية
أو البراءة الأصلية على مصطلح القدماء بموجب حكم العقل.
تاريخ البراءة العقلية عند القدماء:
ونجد أول محاولة فنية لصياغة البراءة العقلية عند المحقق الحلي
رحمه الله حيث يقول:
(لو كان الحكم ثابتا لدلت عليه إحدى تلك الدلائل، لأنه لو لم يكن
عليه دلالة لزم التكليف بما لا يطاق للمكلف إلى العلم به وهو تكليف
بما لا يطاق).
وهذا الكلام لا يخلو من مناقشة لان التكليف بالمشكوك يمكن
بالاحتياط وليس مما لا يطاق، إلا أن يكون المقصود به بالمجهول
المطلق، وهو أمر آخر وليس موضوع البحث.
واستقر القول بالبراءة العقلية لدى الفقهاء بعد المحقق الحلي ضمن
هذه الصياغات أو صياغات أخرى قريبة منها حتى عصر الوحيد
البهبهاني الذي
63

توفق إلى صياغة فنية متينة لهذه القاعدة اتبعه عليها الأصوليون الذين
جاءوا من بعده بما فيهم مدرسة الشيخ الأنصاري ومن تخرج من
هذه المدرسة.
قاعدة قبح العقاب بلا بيان:
وهذه القاعدة هي القاعدة المعروفة ب (قبح العقاب بلا بيان) ولعل
المعركة الفكرية التي دخلها الوحيد ضد المدرسة الأخبارية كان من
وراء هذه الصياغة العقلية لأصالة البراءة.
يقول الوحيد رحمه الله في كتابه (الفوائد الحائرية):
(اعلم أن المجتهدين ذهبوا إلى أن ما لا نص فيه والشبهة في موضوع
الحكم الأصلي فيهما البراءة. والمقصود بالأول الشبهة الحكمية و
بالثاني الشبهة الموضوعية).
ثم يقول: (دليل المجتهدين حكم العقل بقبح التكليف والمؤاخذة ما
لم يكن بيان).
وقد عدل صياغته من بعده سبطه السيد محمد المجاهد الطباطبائي
ابن السيد علي صاحب (رياض المسائل) في موسوعته الأصولية
الكبيرة (مفاتيح الأصول) فقال في الاستدلال للبراءة العقلية: ومنها ما
أشار إليه جدي (الوحيد البهبهاني) فقال: (إن دليل المعظم إنه إذا
لم يكن نص لم يكن حكم فالعقاب قبيح، ثم قال: فالصواب أن يجعل
الدليل هكذا:
64

إذا لم يصل الحكم لم يكن عقابا لقبح التكليف والعقاب حينئذ).
وقد اعتبر الشيخ الأنصاري هذه القاعدة من القضايا البديهية التي لا
يشك فيها أحد من العقلا ولم يتعرض الشيخ للاستدلال لهذه
القاعدة اعتمادا على وضوحها وبداهتها.
تقرير المحقق النائيني للبراءة العقلية:
وذهب المحقق النائيني في توجيه هذه القاعدة والاستدلال لها إلى
أن البيان ما لم يصل إلى المكلف لا يكون محركا له ووجود البيان
الواقعي كعدمه لا يصلح أن يكون سببا في تحريك المكلف، كما لا
تصلح الأمور التكوينية المثيرة للرغبة والحركة في الانسان لإثارة
الانسان وتحريكه بوجودها الواقعي بل بوجودها الواصل إلى
المكلف.
تقرير المحقق الأصفهاني للبراءة العقلية:
ويقرر المحقق الأصفهاني رحمه الله البراءة العقلية بطريقة أخرى
فيرى أن أحكام العقل العملي تؤول بالنتيجة إلى حسن العدل وقبح
الظلم بالضرورة ولا شك أن تمرد العبد على أوامر المولى ونواهيه إذا
أقام عليها الحجة من الظلم والخروج عن طور العبودية وهو
من أقبح الأمور ويستحق العبد عليه العقاب.
65

أما ما لم تقم عليه الحجة، ولم يصل بيانه إلى المكلف من أوامر
المولى ونواهيه فلا يعتبر مخالفته من قبل المكلف من الظلم و
الخروج
عن طور العبودية، فلا يستحق بذلك العقاب ولا يصح عقابه من قبل
المولى، بل يقبح عقابه من جانب المولى الحكيم، لأنه لم يرتكب
ظلما
في علاقته بمولاه لتحسن عقوبته.
مناقشة الشهيد الصدر للبراءة العقلية:
وللمحقق الشهيد الصدر رحمه الله رأي معروف في نفي البراءة
العقلية والتشكيك في القيمة العقلية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وخلاصة رأي هذا المحقق الجليل أن من غير الجائز قياس حق الطاعة
لله سبحانه وتعالى على عباده بحق طاعة الموالي العرفية على من
يتولون أمرهم وذلك لان مولوية الله تعالى ذاتية، ومولوية الموالي
العرفية مجعولة، ولا تقاس أحكام المولوية الذاتية في حق الطاعة
بالمولوية العرفية.
وبناء عليه فإن انحصار حق الطاعة للمولى على المكلفين فيما
وصلهم من التكاليف فقط حق إلا أنه يختص بالموالي العرفية، أما حق
طاعة
الله تعالى على عباده فلا يقاس بما سبق بل يشمل التكاليف المحتملة
أيضا.
يقول رحمه الله: (ونحن نؤمن في هذا المسلك بأن المولوية الذاتية
الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختص بالتكاليف المقطوعة بل تشمل
مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالا وهذا من مدركات العقل
العملي، وهي غير مبرهنة.
فكما إن أصل حق الطاعة للمنعم والخالق مدرك أولي للعقل العملي
66

غير مبرهن، كذلك حدوده سعة وضيقا، وعليه فالقاعدة العملية
الأولية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجاد
في
ترك التحفظ على ما تقدم في مباحث القطع).
ولكن أصالة الاشتغال العقلية، على رأي الشهيد الصدر رحمه الله لما
كانت مقيدة بعدم ورود ترخيص من الشارع في موارد الشك في
التكليف كانت أدلة البراءة الشرعية واردة بطبيعة الحال على الأصل
العقلي الحاكم بالاشتغال.
مناقشة الشهيد الصدر لرأي العلمين النائيني والأصفهاني:
وبهذا الصدد يناقش رحمه الله تقرير كل من العلمين المحققين
النائيني والأصفهاني رحمهما الله الذي سبق وأن شرحناه.
فيقول في مناقشة تقرير المحقق النائيني: (إن هذا الكلام مصادرة لان
عدم المقتضي فرع ضيق دائرة حق الطاعة وعدم شمولها عقلا
للتكاليف المشكوكة، لوضوح أنه مع الشمول يكون المقتضي للتحرك
موجودا، فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حق الطاعة).
ويقول في مناقشة تقرير المحقق الأصفهاني:
(والتحقيق أن ادعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لاحكام
العقل العملي بالقبح عموما وأنها كلها تطبيقات له وإن كان هو
المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره من المحققين إلا إنه لا
محصل له،
67

لأننا إذا حللنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنه عبارة عن الاعتداء وسلب
الغير حقه، وهذا يعني افتراض ثبوت حق في المرتبة السابقة، و
هذا الحق بنفسه من مدركات العقل العملي. فلو لا أن للمنعم حق
الشكر في المرتبة السابقة لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره،
فكون
شئ ظلما وبالتالي قبيحا مترتب دائما على حق مدرك في المرتبة
السابقة، وهو في المقام حق الطاعة فلا بد أن يتجه البحث إلى أن حق
الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي أو
يختص بما كان واصلا بالوصول القطعي، بعد الفراغ من عدم شموله
للتكليف بمجرد ثبوته واقعا ولو لم يصل بوجه).
مناقشة رأي المحقق الشهيد الصدر رحمه الله:
ويبدو لي ان التقرير التالي لنظرية (قبح العقاب بلا بيان) يرفع
الملاحظات العلمية التي أوردها المحقق الشهيد قدس الله نفسه
الطاهرة
على هذه النظرية التي اعتبرها الشيخ الأعظم قدس الله سره من
البديهيات.
وهذا التقرير يتألف من ثلاث نقاط:
النقطة الأولى:
ليس من ريب في أن للمولى على المكلف حق الطاعة، وهذا الحق من
الحقوق الثابتة بالقطع ولا مجال للتشكيك فيه، على خلاف في
مصدر هذا الحق.
فإن الرأي الرسمي في علم الكلام هو شكر المنعم. والذي يتبناه
68

علماء الأصول هو المولوية اللازمة للخلق و الملك وكل منهما حق و
لكن ضمن الصيغة التي يعرضها القرآن وهي الميثاق.
والولاية والانعام بغير هذه الصيغة لا ينهضان بحق الطاعة. وقد
شرحت النظرية القرآنية بصورة مستوفاة في كتاب (الميثاق).
ومهما يكن من أمر فإن حق الطاعة للمولى على المكلف من
المسلمات التي لا مجال فيها للمناقشة. ولا يختلف العقلا أيضا في
أن حق
الطاعة إنما يثبت للمولى على من يتولاه - في غير حق الله تعالى على
عباده - في حال وصول التكليف إلى المكلف وصولا قطعيا.
وليس للمولى حق الطاعة على المكلف ما لم يبلغه التكليف - بصورة
قطعية - إذا تحرى المكلف عن التكليف في مظانه، ولا يكفي
احتمال التكليف في إثبات حق الطاعة للمولى على المكلف.
وهذا الشرط (الوصول القطعي للتكليف) من أهم شروط (حق
الطاعة) عند العقلا عامة.
وإذا توقفنا عند ملاحظة المحقق الشهيد الصدر رحمه الله في حق
طاعة الله تعالى على عباده، فلا يتوقف أحد في هذا الشرط في حق
الطاعة لغيره تعالى من الموالي على المكلفين.
ولا يختلف في ذلك مولى عن مولى، ولا يفرق الناس بين درجات
الموالي في هذا الشرط.
وعلى هذا يتطابق العقلا جميعا، والمناقشة في ذلك مناقشة في
البديهيات، والمحقق الشهيد رحمه الله نفسه لا ينفي ذلك، ولا
يشك فيه.
يبقى أن نعرف قيمة هذا التطابق بين العقلا من الناحية العلمية.
لا شك أن هذا التطابق قائم على حكم العقل العملي بنفي حق
69

الطاعة في حال عدم الوصول القطعي للتكليف، مع التحري عنه في
مظانه، وثبوت حق الطاعة للمولى على المكلف عند الوصول القطعي
للتكليف.
وهذا الحكم العقلي من مدركات العقل العملي ومثله في ذلك مثل
حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم، وهو حكم عقلي قطعي، و
إمارة
ذلك تطابق العقلا على ذلك.
ولا تتوقف حجية مثل هذه الأحكام العقلية على إمضاء الشارع لها
ليصح كلام المحقق الشهيد رحمه الله في رده حيث يقول رحمه الله:

كأنهم قاسوا ذلك ببعض المولويات العقلائية التي لا تثبت في غير
موارد وصول التكليف، نعم لو قيل بأن الشارع أمضى السيرة و
الطريقة المعتادة في المولويات الثابتة عند العقلا وبمقدار ما
تستوجبها من الحق فلا بأس به، ويكون مرجع هذا بحسب الحقيقة
إلى
البراءة الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء السيرة العقلائية).
فإن المورد ليس من موارد السيرة العقلائية قطعا، وإنما هو من موارد
حكم العقل العملي، شأنه في ذلك شأن حكم العقل بحسن العدل و
قبح الظلم وإمارة ذلك جزم العقل وحكمه بثبوت ونفي حق الطاعة
عند وجود هذا الشرط وعدمه، والسيرة العقلائية هي السلوك
الخارجي للعقلاء، والمرتكزات العقلائية وهي عبارة أخرى عن عرف
العقلا في شؤون الحياة، كما يقول تعالى في الطلاق:... فإمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان....
70

فإن الامساك بالمعروف هو الامساك بما يتعارف عليه العقلا في مثل
هذه الموارد من الرفق والانفاق والاحسان.
وأين ذلك من حكم العقلا جميعا على إثبات أو نفي حق الطاعة
للمولى على المكلف عند وجود أو عدم هذا الشرط.
وإذا ثبت أن هذا الحكم حكم عقلي من أحكام العقل العملي فلا
نحتاج في حجيته إلى إمضاء الشارع وإنما يلازمه الحكم الشرعي
بموجب
حكم العقل النظري، من باب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
وشتان بين إمضاء الشارع للسيرة العقلائية - الذين يؤول أمره كما يقول
المحقق الشهيد رحمه الله إلى البراءة الشرعية - وبين
الملازمة بين حكم العقل العملي والحكم الشرعي الذي قررناه في
هذا التقرير.
نعم، لا شك ان للمولى، إذا وجد أهمية متميزة لبعض أحكامه أن يأمر
المكلف بالاحتياط فيما لم يصله الحكم على نحو القطع واليقين، كما
في موارد الدماء والأموال والفروج مثلا لاهتمام الحاكم والمولى به
أكثر من غيره، ولكن بشرط تبليغ الامر بالاحتياط، ومن دون
التكليف بالاحتياط، لا تحق له الطاعة من دون وصول التكليف.
ولا إشكال عند القائلين بالبراءة العقلية بوجوب الاحتياط عند ما يأمر
المولى بالاحتياط فيكون المورد من موارد الاحتياط الشرعي.
النقطة الثانية:
ويحكم العقل كذلك حكما قطعيا بقبح العقاب على المولى الحكيم
للمكلفين إذا خالفوه في أمر أو نهي في كل مورد ليس له حق الطاعة
عليهم، لان العقاب والمؤاخذة فيما لا يكون للمولى على المكلف
(حق الطاعة) قبيح ومخالف للعدل والحكمة.
71

وبهذا النهج من البحث نصل بالدقة إلى ما يريده قدس الله نفسه من
ابتناء مسألة (قبح العقاب بلا بيان) علميا على عدم وجود (حق
الطاعة) للمولى على المكلف في مرحلة سابقة فيما لم يصل التكليف
إلى المكلف بصورة قطعية.
يقول رحمه الله في كلام سابق له نقلناه في مناقشته لتقرير المحقق
الأصفهاني: (فلا بد أن يتجه البحث إلى أن حق الطاعة للمولى هل
يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي أو يختص بما كان واصلا
بالوصول القطعي).
وهو كلام دقيق وجيه، لا ريب فيه.
وقد حرصنا نحن أن نسلك هذا النهج فنثبت أولا، في النقطة الأولى
من البحث نفي حق الطاعة للمولى على المكلف فيما لم يصله
التكليف
بصورة قطعية بعد التحري والبحث عنه في مظانه.
وإذا ثبت لنا ذلك بموجب حكم العقل العملي، كما أسلفنا، رتبنا على
ذلك حكم العقل القطعي بقبح عقاب المولى للمكلف عند مخالفته
للتكليف إذا لم يصله التكليف وصولا قطعيا، وهو معنى القاعدة
المعروفة لدى المشهور من الأصوليين ب (قبح العقاب بلا بيان).
وهذه القاعدة - كما نرى - مزج بين حكمين عقليين، وليس حكما
عقليا واحدا.
ونقطة الارتكاز في نقد المحقق الشهيد رحمه الله لكلمات المحققين
من الأصوليين هي اعتبار القاعدة منطلقة من حكم عقلي واحد، و
ليست تركيبا من حكمين عقليين بالطريقة التي شرحناها.
72

النقطة الثالثة:
وتبقى بعد ذلك النقطة الأخيرة في هذا البحث، وهي أن غاية الجهد
الذي قدمه هذا التقرير إثبات القاعدة إثباتا عقليا بديهيا كما يقول
الشيخ رحمه الله للموالي على المكلفين، ولكن في غير حق الطاعة
لله تعالى، ولا يقاس حق الطاعة لله تعالى على عباده بحق الطاعة
الثابتة للموالي العرفية العقلائية ولا يلازم ثبوت هذه القاعدة العقلية
في الموالي العقلائية العرفية المجعولة ثبوتها في المولوية الذاتية
المطلقة لله تعالى يقول المحقق الشهيد رحمه الله:
(فلا بد من جعل منهج البحث ابتدأ عن دائرة مولوية المولى وأنها
بأي مقدار وهنا فرضان:
1 - ان تكون مولوية المولى أمرا واقعيا موضوعها واقع التكليف بقطع
النظر عن الانكشاف ودرجته، وهذا باطل جزما لأنه يستلزم أن
يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزا ومخالفته عصيانا، و
هو خلف القطع وواضح البطلان.
2 - أن يكون حق الطاعة في خصوص ما يقطع به ويصل إلى
المكلفين من المولى وهذا هو روح موقف المشهور الذي يعني
التبعيض في
المولوية بين موارد القطع والوصول وموارد الشك، ولكنا نرى بطلان
هذه الفريضة أيضا لأنا نرى أن مولوية المولى من أتم مراتب
المولوية على حد سائر صفاته، وحقه في الطاعة على العباد أكبر حق
لأنه ناشئ من المملوكية والعبودية الحقيقية.
3 - المولوية في حدود ما لم يقطع بالعدم، وهذه هي التي ندعيها و
على أساسها ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي على أساسها
ذهب المشهور إلى التبعيض في المولوية، وكأنهم قاسوا ذلك ببعض
المولويات العقلائية التي
73

لا تثبت في غير موارد وصول التكليف).
وبناء على ذلك تبقى لدينا مهمة واحدة ليتم بها تقرير هذه القاعدة
العقلية وشمولها ل (حق الطاعة) لله تعالى على عباده وهي تعميم
هذه
القاعدة العقلية لتشمل (حق الطاعة) لله تعالى على عباده.
وهذا التعميم يثبت بصورة قطعية بملاحظة وحدة مصدر الطاعة
الشرعية، أو وحدة حق الطاعة. فليس لدينا حقان ومصدران للطاعة،
حق الطاعة لله وحق الطاعة لغير الله تعالى من الموالي، وإنما هو حق
واحد ومصدر واحد.
وتوضيح ذلك: ان الطاعة لا تزيد على حالتين: اما أن تكون طاعة
شرعية أو تكون طاعة غير شرعية.
والطاعة الشرعية هي طاعة الله تعالى وطاعة كل من يأمر الله تعالى
بطاعته من أنبيائه ورسله عليهم السلام وأوصيائهم عليهم السلام
ومن يؤمرونهم على الناس من الامراء ومن الدرجة الثانية والثالثة... و
تدخل في هذا الحقل من الطاعة، طاعة الزوج، وطاعة الوالدين،
وطاعة الأجير فان كل ذلك يتم بأمر من الله تعالى. وفي الحقيقة هي
مصاديق لطاعة الله تعالى، وفي امتداد طاعة الله وتحمل نفس قيمة
وقوة طاعة الله، وإن كانت تختلف عن طاعة الله في مساحة الطاعة
فان حق طاعة الزوج محدود في مساحة معينة، بعكس مساحة حق
الطاعة لله فإنها مساحة مطلقة وغير محدودة.
وهذه المساحة هي التي تتحدد بالجعل من قبل الله تعالى فمهما أمر
الله
74

تعالى بطاعة لاحد في مساحة يحددها للطاعة وجبت تلك الطاعة في
تلك المساحة، من دون أن تختلف قيمة هذه الطاعة.
فإن قيمة حق الطاعة في كل طاعة مشروعة واحدة، لأنها جميعا تصدر
عن حق طاعة الله تعالى على عباده.
وليس من شك أن العقلا يتطابقون على أن حق الطاعة مشروط
بوصول التكليف إلى المكلف وما لم يصل التكليف إلى المكلف
وصولا
قطعيا لم يكن للمولى حق للطاعة على المكلف.
وإذا عرفنا بوحدة حق ومصدر الطاعة الشرعية أمكننا أن نعمم الحكم
العقلي السابق في مورد حق الله تعالى على عباده بالطاعة.
وليس من شك أن لله تعالى أن يطلب الطاعة من عباده بالاحتياط في
حال احتمال التكليف والشك بل الوهم أيضا، ولكن بشرط
التبليغ، ومن دون التبليغ يبقى الحكم العقلي الثابت في موارد الطاعة
المشروعة نافذا في حق طاعة الله تعالى على عباده، من دون فرق،
لوحدة حق الطاعة ومصدرها. فما يشترط من شرط في حق الطاعة
هناك يشترط في حق الطاعة لله وما لا يشترط هناك لا يشترط في
حق الطاعة لله، وذلك لان هذه النماذج من الطاعة واحدة. وحق
الطاعة لها ولله تعالى من المتواطئ الذي لا تختلف أفراده من حيث
الزيادة والنقيصة وليس من مقولة المشكك، وإن اختلفت في مساحة
الطاعة.
ولا فرق فيها بين وجوب ووجوب، وطاعة وطاعة، فإن وجوب
طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله ووجوب طاعة أوصيائه وخلفاء
أوصيائه والحكام والمسؤولين الشرعيين من وجوب طاعة الله.
ولدى التزاحم بين هذه الواجبات نرجح الأهم من حيث متعلق الامر
75

والوجوب لا الأهم من حيث مصدر الامر والوجوب، كما هو مقتضى
باب التزاحم. فإن رد السلام - مثلا - واجب بصريح القرآن فلو
تزاحم رد السلام مع تكليف الوالد لولده بمهمة خطيرة قدم الولد أمر
الأب على رد السلام وذلك لان طاعة الأب هي من طاعة الله تعالى
ولا فرق بين طاعة وطاعة إلا من حيث أهمية متعلق الامر.
فإذا كان متعلق الامر في تكليف الوالد أهم من رد السلام قدمه عليه
لدى التزاحم على قاعدة تقديم الأهم على المهم.
فإن طاعة الوالد من الطاعة لله تعالى ووجود الوسائط لا يغير جوهر
الطاعة. فيتم تقديم طاعة على طاعة بموجب أهمية متعلق الامر لا
بموجب أهمية مصدر الامر، فإن مصدر الامر في كل هذه النماذج هو
الله تعالى.
وهذه حقيقة مهمة تعيننا في درك عمومية قاعدة (قبح العقاب بلا
بيان) في مورد طاعة الله تعالى وعدم وجود استثناء في البين.
والفرق بين الولايتين بأن إحداهما ذاتية والأخرى مجعولة وبالعرض
غير فارق فيما هو المهم من هذه المسألة في اشتراط حق الطاعة
للمولى بوصول التكليف أو عدم الاشتراط.
وذلك لان المولويات العرضية المشروعة التي هي من النحو الثاني
تتم بجعل من الله تعالى. وليست لها طاعة ومعصية مستقلة عن طاعة
الله ومعصيته.
وإلى ذلك تشير النصوص الواردة عن أولياء أمور المسلمين في أن
طاعتهم من طاعة الله ومعصيتهم من معصية الله ومن أطاعهم فقد
أطاع الله ومن عصاهم فقد عصى الله.
فليس لهؤلاء حق في الطاعة غير حق الله تعالى.
76

ولا وجود لحقوق متعددة في الطاعة حتى يمكن أن يكون حق الطاعة
في الموالي المجعولة مشروطا بوصول التكاليف وحق الطاعة من
الله تعالى غير مشروط بوصول التكليف.
فإذا ثبت بالدليل العقلي اشتراط حق الطاعة المشروعة لاحد (غير الله
تعالى) بالوصول والبلوغ، فإن معنى ذلك اشتراط حق الطاعة لله
تعالى على عباده بالوصول والبلوغ بالضرورة، لان ذلك الحق من هذا
الحق بل لا حق إلا هذا الحق. وكل حق آخر للطاعة موهوم
بالنظرة العقلية الدقيقة.
ويدل على ذلك دلالة قطعية ما سبق أن أشرنا إليه من تقديم الأهم
على المهم من متعلق الأمر والنهي فيما إذا تزاحم أمران مولويان على
المكلف أحدهما من جانب الله تعالى والاخر ممن له طاعة مشروعة
على المكلف، ولا يلحظ في تقديم أحدهما على الاخر ملاحظة
مصدر
الطاعة ولا يلاحظ تقديم أمر الله على الامر الاخر.
نعم يصح كلام هذا المحقق الشهيد رحمه الله فيما إذا كان مصدر حق
للطاعة غير الله تعالى كما في حق طاعة أولياء الأمور في المجتمعات
الديمقراطية، فإن مصدر الطاعة في النظرية الديمقراطية هو الشعب، و
ليس هو الله تعالى، فإذا صلح وثبت شرط عقلي في الطاعة في
النظام الديمقراطي فليس يجب أن يثبت بالضرورة نفس الشرط في
طاعة الله تعالى، للاختلاف العظيم بين الولاية الذاتية الثابتة لله
تعالى والولاية الموهومة للشعب.
وهذا حق، لا نناقش فيه، ولكنا وجدنا أن شرط وصول التكليف إلى
المكلف يعم كل حالات الطاعة المشروعة عقلا، فإذا ثبت هذا الشرط
العقلي في مورد من موارد الطاعة المشروعة عقلا كان لا بد أن يثبت
في حق
77

الله تعالى على عباده بالطاعة بالضرورة.
وبناء عليه فإن قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) العقلية تعم كل موارد
الطاعة، ولا يحتمل خروج حق طاعة الله تعالى عن هذه القاعدة
العقلية، وهو الذي قرره الوحيد البهبهاني رحمه الله تعالى.
الوظيفة العقلية للمكلف لدى الشك في المكلف به:
ووظيفة المكلف لدى الشك في المكلف به هي الاحتياط بعكس
حالة الشك في التكليف، وهذه الوظيفة عقلية وهي موضوع اتفاق
الأصوليين والأخباريين وتثبت بالقاعدة العقلية المعروفة: (اشتغال
الذمة اليقيني يستدعي البراءة اليقينية) وهي قاعدة عقلية محكمة لا
مجال للتشكيك فيها، وقد اعتمدها علماء الأصول أساسا عقليا
لأصالة الاحتياط كلما كان المورد من موارد العلم بالتكليف والشك
في
المكلف به أو في متعلقه وهذه القاعدة العقلية نجدها لأول مرة
واضحة في كلمات الوحيد البهبهاني وقد طور علماء الأصول وخاصة
الشيخ الأنصاري هذه القاعدة ومجالات استخدامها فيما بعد ولكن
تبقى كلمات الوحيد البهبهاني في (الفوائد) هي المصدر الأول الذي
استوحى منها علماء الأصول تفاصيل البحث في هذه القاعدة العقلية.
قاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) في كلمات الوحيد:
يقول رحمه الله في تقرير هذه القاعدة العقلية:
(التكليف بالمجمل صحيح إذا تيسر الامتثال بإتيان المحتملات التي
بإتيانها يتحقق المكلف به يقينا أو عرفا، كوجوب التنزه عن الإناءين
المشتبهين وقضاء الفريضة المنسية من الخمس وغيرها. فتعين
الاتيان بها
78

حينئذ من باب المقدمة. ولأن شغل الذمة بها يقيني، والبرأة اليقينية
تتوقف على الاتيان بها حينئذ. ولأنه مخاطب بالإطاعة والامتثال،
ولا يعد ممتثلا إلا أن يأتي بها إذ بغير الاتيان يكون البراءة على سبيل
الاحتمال وهو غير مجز عندهم قطعا).
تفصيل القاعدة:
وتتألف هذه القاعدة من شطرين:
1 - إن العلم بالتكليف علة لاشتغال الذمة اليقيني.
2 - والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
ولا بد من إيضاح لكل من هاتين النقطتين وإيضاح مجالات استخدام
هذه القاعدة.
1 - اشتغال الذمة اليقيني:
وقد أدرج علماء الأصول تفصيل البحث عن هذا الشطر من القاعدة
في مباحث حجية القطع حيث اعتبروا الحجية من لوازم القطع الذاتية
التي لا يمكن إضافتها إليه وجعلها له كما لا يمكن سلبها عنه، لأنها من
ذاتيات القطع التي لا يوجد القطع من دونها.
ولازم الحجية صحة الاحتجاج بها من قبل الله تعالى على عبده إذا
تخلف المكلف من امتثال الحكم الذي قطع به، وأصاب قطعه الواقع،
و
لم يخطئ فيصح أن يؤاخذه الله تعالى بقطعه ويعاقبه على تخلفه،
بدليل حجية
79

القطع، وهذا هو معنى تنجيز الحكم الشرعي الثابت بالقطع على
المكلف، وهو أحد لازمي الحجية.
واللازم الاخر للحجية هو صحة احتجاج العبد بعلمه عند مولاه إذا
قطع بانتفاء الحكم الإلزامي من جانب الله فأخطأ قطعه الواقع، فإنه
يحق له أن يعتذر عن تخلفه عن الحكم الإلزامي بقطعه بانتفاء الالزام
من جانب الله، وهذا هو معنى المعذرية وهو اللازم الثاني للحجية.
وقد جعل علماء الأصول المنجزية والمعذرية من لوازم القطع.
وهما في الحقيقة من لوازم قطع المكلف بالحكم الشرعي من جانب
الله ووصوله إليه لا من لوازم القطع.
المنجزية:
والذي يهمنا هنا هو المنجزية بالخصوص ومعنى المنجزية هو
وصول التكليف إلى المكلف ودخوله في عهدته واشتغال ذمته به
بصورة قطعية.
والمنجزية تتألف من كبرى وصغرى أما الكبرى فهي حق المولوية و
الطاعة من الله تعالى على عبده في كل تكليف واصل إلى العبد.
وأما الصغرى فهي وصول التكليف إلى العبد بالقطع.
والنتيجة التي نستنتجها من ضم هاتين الجملتين إلى بعض هي تنجز
التكليف على المكلف ودخوله في عهدته واشتغال ذمته به يقينا.
وعندئذ تشتغل ذمة المكلف بالتكليف الشرعي بصورة قطعية.
وهذا هو معنى اشتغال الذمة
80

2 - الفراغ اليقيني:
وهذا هو الشطر الثاني من القاعدة القاضية بأن اشتغال الذمة اليقيني
يستدعي الفراغ اليقيني لذمة المكلف.
وهو من أحكام العقل العملي حيث يحكم العقل بوجوب الامتثال
حتى الفراغ عن عهدة التكليف اليقيني ويحكم بقبح المخالفة و
التهاون في الامتثال قبل اليقين من فراغ الذمة من التكليف القطعي.
وذلك إن الطاعة حق من حقوق الله على عبده وأداء هذا الحق من
مصاديق العدل ورفض الأداء من المصاديق الظلم، والعقل العملي
يحكم
بحسن العدل وقبح الظلم فإذا قطع المكلف بالتكليف واشتغلت به
ذمته وجب عليه القيام بامتثال التكليف حتى يقطع بفراغ ذمته منه، و
قبح عليه التهاون في الامتثال قبل القطع بفراغ الذمة.
تطبيقات القاعدة:
ومجال استخدام هذه القاعدة العقلية في الأصول هو موارد العلم
بالتكليف والشك في المكلف به ولها تطبيقان اثنان:
فقد يكون الشك في المكلف به ناشئا من الشك في الامتثال، وقد
يكون ناشئا من الشك في التطبيق.
والتطبيق الأول كما لو علم بالتكليف بصلاة العصر وشك في امتثاله
لها، ولا ريب في تطبيق القاعدة عليه لاشتغال الذمة بالتكليف
بصلاة العصر وشكه في امتثال المكلف به.
81

والتطبيق الثاني ما إذا كان الشك في المكلف به ناشئا من تردد
المكلف به أو متعلقه بين مجموعة من الموارد. كما لو شك المكلف
من
أن الصلاة المكلف بها ظهر يوم الجمعة هل هي صلاة الظهر أو صلاة
الجمعة، أو علم بوجود إناء للخمر بين مجموعة من الأواني، وعلم
بوجوب الاجتناب عنه، إلا أنه تردد في تمييز إناء الخمر عن غيره، و
لم يتمكن من تشخيصه وفرزه عن غيره من الأواني.
تنجيز العلم الاجمالي:
وليس من شك أن العلم الاجمالي بالمكلف به أو بمتعلقه ينجز
التكليف على المكلف كما كان العلم التفصيلي ينجز ذلك، ولا فرق
بين
العلم التفصيلي والاجمالي في ذلك فإن التنجيز كما ذكرنا من لوازم
القطع بالحكم الشرعي سواء كان علم المكلف بالحكم الشرعي و
متعلقه تفصيليا أو إجماليا، فإن القطع بالحكم الشرعي لا ينفك عن
الحجية والحجية لا تنفك عن المنجزية والمعذرية. ولكن هل التنجيز
هنا على نحو العلية أو الاقتضاء، وإذا كان التنجيز على نحو العلية فهل
يختص ذلك بمورد حرمة المخالفة القطعية أو تعم مورد حرمة
المخالفة القطعية والموافقة القطعية أبحاث معمقة أفاض فيها علماء
الأصول. والذي يهمنا نحن من ذلك كله إن هذه القاعدة العقلية تجري
بصورة قطعية في كل صور الشك في المكلف به سواء كان الشك في
المكلف به من ناحية الامتثال أو من ناحية تردد المكلف به أو
متعلقاته بين أفراد متباينة أو تردده بين الأقل والأكثر (فيما إذا كان
مصداقا للشك في المكلف به لا الشك في التكليف).
محمد مهدي الآصفي
82

متن الفوائد
تأليف الأستاذ الأكبر الأصولي المجدد الشيخ محمد باقر بن محمد
أكمل المشتهر ب الوحيد البهبهاني المتوفى 1206 ه ق
84

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حمدا لا يقوى على
إحصائه إلا هو، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين صلاة
يرضون بها عنا منتهى الرضا، ويشفعون بها لنا، ونستعينه، ونستهديه،
ونتوكل عليه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا خير إلا ما أعطى،
ونسأله أن يوفقنا لما يرضى، وينفعنا بما وفق وهدى.
أما بعد:
فإنه لما بعد العهد عن زمان الأئمة عليهم السلام وخفي أمارات الفقه
والأدلة، على ما كان المقرر عند الفقهاء، والمعهود بينهم بلا خفاء،
بانقراضهم وخلو الديار عنهم، إليه أن انطمس أكثر آثارهم، كما كانت
طريقة الأمم السابقة، والعادة الجارية في الشرائع الماضية أنه
كلما يبعد العهد عن صاحب
85

الشريعة تخفي أمارات، ويحدث خيالات جديدة، إلى أن تضمحل
تلك الشريعة.
توهم متوهم: أن شيخنا المفيد رحمه الله، ومن بعده من فقهائنا إلى
الان كانوا مجتمعين على الضلالة، مبدعين بدعا كثيرة غير عديدة
ضالين مضلين، متابعين للعامة، مخالفين لطريقة الأئمة عليهم السلام،
ومغيرين لطريقة الخاصة، مع غاية قربهم لعهد الأئمة عليهم السلام
ونهاية جلالتهم وعدالتهم ومهارتهم في الفقه والحديث وتبحرهم و
زهدهم وورعهم وتقواهم وتقدمهم، وكونهم المؤسسين لمذهب
الشيعة، المروجين له في رأس كل مائة، المتكفلين لأيتام الأئمة عليهم
السلام مع كونهم في غاية الفهم والفطانة والقوة القدسية، بل ربما
كانوا في صغر سنهم كذلك، فضلا عن الكبر، وبناء شرع الشيعة من
بعد غيبة إمامهم إلى الان على قولهم في أصول دينهم، وفروع
مذهبهم في الاعصار والأمصار.
فمن هذا التوهم اجتراء كل من لا اطلاع له أصلا بمباني أدلة الفقه و
قواعده، حتى أدخل نفسه في الفقه، وحصل لنفسه فقها جديدا من
تركيبه مقدمتين:
الأولى: أن كل من ظن من جهة الأحاديث حكما، وفهم في نفسه منها
أمرا يكون ذلك حجة له، ولا يجوز له تقليد غيره، لأنه فقيه.
الثانية: أن كل ما لم يظهر له وجهه، وما لم يفهمه مما ذكره الفقهاء لا
أصل له. ويكتفي في ذلك بمن قال: ومن أين ثبت؟ فربما يعد نفسه
أفقه من جميع فقهائنا، ويحكم بصحة فقهه الحاصل له من المقدمتين
الفاسدتين، وبطلان فقه الفقهاء، وان كان ذلك أمرا متفقا عليه
86

بينهم.
ولا يتأمل في أنه كيف يكون فكره - الواحد الفاتر، القاصر، البعيد
العهد غاية البعد عن صاحب الشرع، الجاهل بجميع مباني أفهام
الماهرين القريبي العهد، الذين هم أئمة في فن الفقه - صوابا؟ و
الأفكار القوية المتراكمة الماهرة القريبة العهد - إلى غير ذلك مما
أشرنا إليه - خطأ؟ ولو كان له إنصاف لحكم بكون فكره وهما من جهة
مخالفته لها، كما هو الحال في سائر العلوم، والأمور التي
مرجعها إلى أهل الخبرة، مع أنه وغيره من العقلا لا يختارون خلافهم،
بل يتبعونهم، ويقلدونهم، ويعدون الراجح في نظرهم هو الذي
اختاروه، وإن كان في ظن أنفسهم أن الامر ليس كما اختاروا، مع أنه لا
يتأمل في أنه من أين ثبت أن كل من ظن حكما يكون حجة له؟
كيف؟ وهو مخالف للآيات والاخبار والاعتبار، كما ستعرف إن شاء
الله تعالى.
وإن توهم: أن المجتهد يعمل بظنه فهو توهم فاسد، لأنه في الحقيقة
يعمل باليقين كما ستعرف.
هذا مع أنه ثبت بالأدلة أنه يجوز تقليد المجتهد، كما ستعرف إن شاء
الله تعالى، ولم يثبت أن كل من ظن أمرا يكون ظنه حجة، فالتقليد
على مثله واجب لازم بالنسبة إليه، صحيح البتة، لعموم الأدلة، بخلاف
الاجتهاد لعدم الدليل، بل دليل العدم كما ستعرف. مع أنه لو تم
لثبت حجية ظن الجهال والأطفال والنساء أيضا.
مع أنه لو ضاع من هؤلاء درهم أو فلس ليجتهدون غاية الجهد في
87

تحصيله، ويشتدون في الطلب، ولا يسامحون، ولا يكتفون بقول من
قال: ومن أين ثبت؟ ولا يقنعون بمجرد ذلك، بل يستفرغون
الوسع في الفحص، حتى إنهم لو لم يجدوا لا يرفعون اليد عن الفحص،
ويعملون على وفق مضمون:
(من طلب شيئا وجد وجد)، (وقرع بابا ولج ولج).
وأين الفقه عن الفلس؟ ولو عاملوا فيه معاملتهم في الفلس لوجدوا
كما وجده المحققون الأعاظم، وصاروا بذلك فريدي دهرهم و
عصرهم، مقبولين عند العالم.
نعم ربما يلاحظ بعضهم لكن بقلب آب قد اشرب في قلبه حب الشبهة
الردية الماضية والآتية، فيصير في غاية الاباء، فلم يدرك شيئا.
ومعلوم أن القلب إذا كان بهذه المثابة لا يدرك البديهي، فضلا عن
النظري، ولا يتفطن بالقطعي، فضلا عن الظني.
وشبهتهم الأخرى، وهي أيضا مخالفة للبديهة، وهي: أن رواة هذه
الأحاديث ما كانوا يعملون بقواعد المجتهدين، مع أن الحديث كان
حجة لهم، فنحن أيضا مثلهم لا نحتاج إلى شرط من شرائط الاجتهاد، و
حالنا بعينه حالهم.
ولا يتفطنون أن الراوي كان يعلم أن ما سمعه كلام إمامه، وكان يفهم -
من حيث إنه من أهل اصطلاح زمان المعصوم - مرامه، ولم يكن
مبتلى
88

بشئ من الاختلالات التي ستعرفها، ولا محتاجا إلى علاجها، وفي
كل فائدة فائدة - مما سنذكره سوى الفائدة الأولى - ما ينادي
بأعلى صوته: أن في الآيات والاخبار - بالنسبة إلينا - اختلالات
بأنحاء شتى، فضلا عن مجموع الفوائد، وإنه لا بد من علاج تلك
الاختلالات حتى يتمسك بها فلاحظ، سيما الفائدة الرابعة والسابعة
وبعض آخر منها.
وعلى فرض أن الراوي كان مبتلى ببعضها كان يعرف علاجها البتة، و
نحن نحتاج إلى المعرفة البتة.
وعلى فرض أن يكون الرواة ما كانوا عالمين بالعلاج، وكان عملهم
بغير مستمسك شرعي لكان خطأ البتة، فكيف يصير متابعتهم
حجة؟ وبالجملة نحن نجد بالعيان اختلالات لا تحصى: من جهة
السند، ومن جهة المتن، ومن جهة الدلالة، ومن جهة التعارض، ومن
جهة
العلاج، ونشير إلى الكل مشروحا، وإلى علاجها، ووضع هذا الكتاب
لأجل هذا، يسر الله تعالى لاتمامه وتشييده وتسديده على حسب
ما يحب، وأن ينتفع منه المؤمنون الطالبون نفعا كاملا بالغا بمحمد و
آله.
ولما كان تأليفي له حين التجائي إلى حرم سيد الشهداء وخامس آل
العبأ - عليه وعلى آبائه وأبنائه والمستشهدين بين يديه، وعلى
الملائكة الحافين حول حرمه الشريف ألف ألف تحية وسلام وصلاة
وثناء - سميته ب (الفوائد الحائرية) على مشرفه ألف تحية.
89

الفائدة الأولى في عظم خطر الفقه
اعلم أن المسامحين في التفقه لا يقربون إلى الطب ومثله، خوفا من
خطره، ولو كانوا يتعلمونه، ويعملون له لكانوا يبالغون غاية
المبالغة في الاحتياط والتأمل والملاحظة، حذرا من الضرر، مع أن
الفقه أعظم خطرا، وأشد ضررا، لان ضرره في الأبدان والفقه فيها و
في الفروج والأنساب والأموال والايمان وغير ذلك، حتى في مثل
فعل الطبيب أيضا، لأنه برخصته وتجويزه.
مع أن أثر الطب يفنى، وأثر الفقه يبقى، وربما يبقى إلى يوم القيامة، و
أثره عام يشيع ويذيع بخلاف الطب.
ومع أن الطب تجربيات وعقليات، والفقه تعبدي غالبا لا طريق للعقل
والتجربة إليه، فليس بيد الانسان شئ لا من جهة عقله، ولا من
جهة
91

تجربته، ولا غيرهما.
وأيضا الطب لا يقع فيه الاختلالات الشديدة، المتكثرة غاية الكثرة،
المحتاجة إلى بذل الجهد في علاجها.
وأيضا التهديدات التي وردت في الفقه لم ترد في الطب.
قال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله الآية، فحكم بالظلم، و
الفسق، والكفر، جميعا في آيات متوالية.
وقال في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعز الخلق إليه، و
أقربهم لديه -: ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية، فانظر إلى
هذا التهديد الشديد في الآية، وانظر إلى غيرها من الآيات والاخبار،
حتى أنه ورد: (من حكم بدرهمين بغير ما أنزل الله تعالى فقد كفر
بالله).
وعنهم عليهم السلام: أنه (تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء، و
تولول منه الفتيا، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم به الفرج
الحلال، ويأخذ المال من أهله، ويدفعه إلى غيره).
92

وورد أيضا: (ان المفتي ضامن قال: أنا ضامن، أو لم يقل).
وورد: (أن القضاة أربعة: ثلاثة في النار، وواحد في الجنة، ومن الثلاثة
من يقول الحق، لكن لا يدري أنه حق).
وورد مكررا: (أنه هلك وأهلك) إلى غير ذلك.
ومنه (ان المفتي على شفير السعير). و (إن أجرؤكم على الفتيا
أجرؤكم على الله تعالى).
وأيضا إن الفقه كله ظني لا طريق لنا إلى اليقين مع أن الظن ربما كان في
غاية القرب من الشك. مع أنه قريب منه البتة وبأدنى شئ من
المسامحة والغفلة يزول، ويصير شكا، بل وربما يصير وهما، وليس
مثل العلم لبعده عنهما، سيما وأن يكون الظن وقع فيه الاختلالات
التي سنذكرها، وفي العلاج عنها، حتى أنه يكثر في بلدة أو محلة
أطباء، ولا يوجد في عصر فقيه سلمه
93

أهل ذلك العصر، نعم ربما يكون بعد فقده مسلما.
وأيضا اشتهر عند أهل المعرفة أن الطبيب إذا كان قاصرا ناقصا فهو
عدو النفوس والأبدان، وأما الفقيه إذا كان كذلك فهو عدو الدين
والايمان.
والفقهاء كثيرا ما يأمرون بالمبالغة في الاحتياط في الفتوى ويحذرون
من ضررها.
94

الفائدة الثانية [في دفع توهمين]
ربما توهم بعض أن كل شئ يجب أخذه من الشارع ووظيفته توقيفي
موقوف على نصه.
وتوهم بعض آخر: أنه ربما يرجع في بعض الأحكام الشرعية إلى
العرف. وفساد الوهمين واضح.
وعند المجتهدين والأخباريين أن الأحكام الشرعية بأسرها توقيفية
موقوفة على نصه: سواء كانت في العبادات أو المعاملات، وسواء
كانت الأحكام الخمسة، أو الوضعية مثل: النجاسة، والطهارة، و
الصحة، والفساد، وكون شئ جز شئ، أو شرط شئ، أو مانع
شئ،
وأمثال ذلك، وسواء كانت مما يستقل بإدراكها العقل أم لا، لان مجرد
إدراكه لا يجعلها حكما شرعيا ما لم يثبت أن الشارع حكم بها.
لكن فقهاء الشيعة والمعتزلة لما قالوا
95

بالملازمة بين حكم العقل والشرع وكون الثاني كاشفا عن الأول، و
بالعكس جعلوا حكم العقل من جملة أدلة حكم الشرع لا نفسه.
وتدل على ذلك الأخبار الكثيرة الدالة على كون العقل حجة، وأنه
يجب متابعته على الاطلاق، وأن كثيرا من أصول الدين مبني على
تحسينه وتقبيحه، مثل عدم صدور القبيح عن الحكيم، وقبح ترجيح
المرجوح، وغير ذلك، مع أن أصول الدين أشد من الفروع.
وربما تأمل بعض في ذلك محتجا بالآية، والاخبار الظاهرة في عدم
التكليف ما لم يكن من الشارع بيان، وأنه يجب الاخذ من الأئمة
عليهم السلام وأن دين الله تعالى لا يصاب بالعقول.
ويمكن الجمع بينهما بحمل الثانية على ما لا يستقل العقل بإدراكه أو
غيره، إلا أنه لا ثمرة في كونه دليلا، لان كل موضع يستقل العقل
بإدراكه بعنوان الجزم يظهر من دليل شرعي آخر أنه كذلك، لكن ما
عاضده العقل يصير يقينيا.
وأما موضوعات الاحكام - وهي عبارة عما تعلق به الاحكام، وما
96

يتعلق بما تعلق به الاحكام - ومعنى لفظ الوجوب، وصيغة الامر، و
أمثال ذلك فهي ليست بتوقيفية إلا العبادات.
والمراد منها: ما يتوقف صحتها على النية، لا كل ما هو راجح، ولذا
يقولون: إن العبادات توقيفية ووظيفة الشرع، يعنون بيان ماهيتها،
لا أحكامها، فإن أحكام المعاملات عندهم توقيفية أيضا قطعا.
والمراد من المعاملات (هنا) ما قابل العبادات المذكورة، فدخل فيه
(مثل) غسل الثوب النجس للصلاة، وغيره من شروط العبادات ما لم
يكن هو عبادة مثل غسل الجنابة، وكذا ما يقول به الشارع في بيان
ماهية العبادة، مثلا قوله تعالى: إذا نودي للصلاة الآية.. حكم
الشارع فيها - وهو وجوب السعي، وترك البيع وقت النداء - توقيفي
قطعا.
وأما كلمة - إذا، ويوم، والجمعة، والبيع، وصيغة ذروا ومادتها، و
أمثال ذلك - فليست بتوقيفية، وليس بيانه وظيفة الشارع، بل
يرجع فيه إلى اللغة أو العرف، أو غير ذلك مما نبينه.
وأما لفظ الصلاة والنداء - إذا كان المراد منه الاذان - وذكر الله - إذا
كان المراد منه الصلاة - فتوقيفي أيضا، إذ لا يمكن للعرف أو
اللغة أو العقل أو غير ذلك إدراك ماهية الصلاة والنداء ما لم يكن بيان
من الشرع. وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
كما أن الحكم الشرعي توقيفي يكون ظاهرا أيضا وستجئ الأدلة على
ذلك.
إنما الخفاء في مقامين:
97

الأول: الفرق بين مثل غسل النجاسة مما هو داخل في المعاملات، و
غسل الجنابة مما هو داخل في العبادات والثمرة في الفرق.
الثاني: في دليل الرجوع في المعاملات إلى غير الشرع. وسنذكر
المقامين إن شاء الله.
وأما ما يقول الشارع في بيان ماهية العبادات فليس بتوقيفي أيضا -
كما قلنا ذلك - مثل أن يقول في الوضوء: اغسل وجهك ويديك، و
غير ذلك، فلا يحتاج إلى البيان ما لم يكن فيه إجمال، مثل: (الصعيد)
في (التيمم) وغير ذلك.
والفرق بين (المجمل) و (العبادات) أن (المجمل) يكون له معنى
معروف إلا أنه غير متعين، بخلاف (العبادات) فإنا لا نعلم معناها، وإن
كنا نعلم أن فيها أمرا معتبرا، مثل: (الغسل للجنابة) مثلا نعلم أنه معتبر
فيه غسل، لكن نعلم أنه بعد يكون فيه شئ لا نعرفه، فبمجرد
استماع اللفظ لا نعرف مجموع معناه.
لكن القاضي من العامة ذهب: إلى أن ما زاد على الغسل المعلوم
شرائط الصحة بحسب الشرع، وجعل العبادات مثل المعاملات في
أنه إذا
ورد لفظها يحمله على المعنى اللغوي، أو العرفي، فإذا ورد من الشرع:
- أنه لا بد فيه من كذا وكذا - يجعله من شرائط صحتها بحسب
الشرع، لا أنه داخل في ماهيتها.
فإذا قال لنا: (اغسل ثوبك) نحمله على الغسل اللغوي أو العرفي
(فيصح من غير الماء أيضا) من دون تأمل، وهو مسلم عند الكل، فإذا
قال:
98

لا بد من أن يكون بالماء، وأن يكون غسالته غير متغيرة - وغير ذلك،
مما ثبت منه نجعله شرائط الصحة بعد ما ثبت، ولو لم يثبت
نقتصر على اللغة والعرف ولا نتعداهما أصلا، كما هو الشأن في كل
موضع من مواضع المعاملات.
وكذلك يجعل القاضي قول الشارع: - اغتسل من الجنابة، وصل، و
أذن، وغير ذلك - بأنه يحمله على الغسل العرفي واللغوي، والصلاة
على مجرد الدعاء، والاذان على مجرد الاعلام، إلى غير ذلك: حتى
يثبت شرائط الصحة، فما لم يثبت فالأصل عدمه، وفساده في مثل
الصلاة والاذان في غاية الوضوح.
وأما في مثل غسل الجنابة، فكذلك أيضا على القول بثبوت الحقيقة
الشرعية.
وأما على القول بعدمه، فبعد وجود القرينة الصارفة عن المعنى
اللغوي، وإرادة المعنى الشرعي، نحمله على المعنى الجديد
الشرعي، لان
نزاعهم ليس إلا أنه حقيقة في اصطلاح الشارع، أو مجاز، وكيف كان
فهو معنى جديد مغاير للمعنى اللغوي ثبت لنا من استقرأ كلام
الشارع، ولا يخفى على المطلع وسيجئ ما يفصل ذلك.
والحاصل أن الحقيقة المتشرعة في المعنى المستحدث من الشرع
المعلوم إجمالا يقينية وإجماعية، وأمارات الحقيقة مثل التبادر، و
عدم
صحة السلب، وغيرهما متحققة فيها، ولا شك في أنه معنى مغاير
للغوي والعرفي، سواء كان حقيقة شرعية، أم لا، ويفهم من مجرد
اللفظ، أو بانضمام القرينة.
99

وأما المعاملات فلم يتحقق فيها حقيقة المتشرعة، - كما هو ظاهر -
مع أنه يكفي عدم الثبوت، والأصل بقاء المعنى على ما كان، وعدم
النقل.
فظهر أن طريقة الاستدلال في العبادات مغايرة لطريقته في
المعاملات، ومن لا يعرف الفرق بينهما ولا يميز يخرب في الفقه من
أوله
إلى آخره تخريبات كثيرة هذا حال الأحكام الشرعية، وموضوعاتها.
أما الاحكام الغير الشرعية وموضوعاتها فليست بتوقيفية، مثل
الاحكام العادية، والعقلية والظنية، والمنطقية، وغير ذلك، إذ لا مانع
من
أن يقول هذا قبيح عندنا، أو في عادتنا، أو عندي مثلا، بعد أن لا يكون
كذبا، وإن لم يكن قبيحا عند غيره أو في عادة غيره.
ولا مانع أيضا من متابعتها، والعمل بها ما لم يجعلها داخلة في الشرع،
وما لم يرد عن العمل بها مانع من الشرع، لان الأصل عندنا براءة
الذمة، كما ستعرف، بل مدار العالم في أمور المعاش على ذلك، بل و
لا مانع من أن يجعل أحد أمرا وسيلة لنجاته بحسب استحسان عقله،
بعد أن لا يدخله في الدين، ولا يدل على منعه مانع من الشرع.
100

الفائدة الثالثة [عدم ثبوت مجموع الأجزاء الواجبة وشروطها من
النص إلا نادرا]
قد عرفت أن الموقف على النص ليس إلا نفس الحكم الشرعي و
ماهية العبادات، لكن ثبوت ماهيتها من النص لا يكاد يمكن إلا بالنسبة
إلى قليل منها.
نعم يثبت أجزاؤها غالبا من النص وأما مجموع الأجزاء الواجبة و
شروطها - من حيث المجموع - فقل ما يثبت من النص.
ومنهم من يثبتها بضميمة أصل العدم، مع أن الأمور التوقيفية لا تثبت
به ألا ترى أنهم لا يقولون: الامر حقيقة في الاذن لأصالة عدم
مدخلية غيره في معناه، وكذا الحال في غيره من الألفاظ لا يثبتون
معناها بضميمة الأصل أبدا مع جريانه فيه، وكذا معاجين الأطباء، و
أدويتهم المركبة.
مع أن التمسك بالأصل موقوف على ثبوته حجية الاستصحاب، حتى
101

في نفس الحكم الشرعي، لان حال العبادات حال نفس الحكم.
مع أنه ربما يعارضه أصالة عدم كونها العبادة المطلوبة، وأن شغل
الذمة اليقيني مستصحب حتى يثبت خلافه، وهذا يعارض أصل
البراءة
أيضا لو تمسك به، ولا يثبت إلا بإجماع أو نص، والثاني مفقود، فتعين
كون البيان بالاجماع.
ولا شك أن التي وقع الاجماع على كونها عبادة تكون العبادة
المطلوبة، فإن الخطاب إنما يتعلق بما هو مثل المجمل، والامتثال
ميسر
بإتيان كل ما هو محتمل، فيصح التكليف وتعين ذلك الامتثال.
وربما يثبت الاجماع من تسليم المخالف: أنه لو لم يكن هذا المقتضي
- أي مقتضي وجوب جز أو شرط أو فساد - لكانت العبادة
صحيحة، ويثبت بطلان مقتضية وغفلته فيه، وربما لا يسلم ذلك
صريحا لكن يظهر من كلامه فإنه أيضا كاف في ثبوت الاجماع.
ويمكن إثباتها من اصطلاح المتشرعة بأن يقال: المتبادر في
اصطلاحهم هو هذا، فيكون حقيقة عند المتشرعة، فيكون مما ورد
الامر به
من الشارع أيضا.
أما على القول بثبوت الحقيقة الشرعية فظاهر. وأما على القول بالعدم
فيكفي وجود القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي إذ سلم حينئذ أن
المراد هو هذا المعنى الحقيقي عند المتشرعة، لان كثرة الاستعمال
من الشارع فيه صار إلى حد اعتقد الفحول أنه صار اللفظ حقيقة فيه
عند الشارع، فيترجح في النظر: أنه هو المراد، لا المعنى الذي لم يعهد
من الشارع استعماله فيه، أو ندر استعماله فيه.
مع أن الحقيقة الشرعية عندنا ثابتة في زمن الصادقين عليهما السلام و
من
102

بعدهما، كما سيجئ، وقل ما نحتاج إلى أخبار غيرهم.
لكن الفقهاء من المتشرعة وقع بينهم نزاع في أن ألفاظ العبادات: هل
هي أسام للصحيحة المستجمعة لشرائط الصحة، أم للأعم منها؟ فعلى
هذا يشكل الثبوت من هذه الطريقة. هذا إذا وقع النزاع في شرائط
الصحة.
وأما إذا وقع في الأجزاء فلا يمكن الثبوت مطلقا، سواء كانت أسام
للصحيحة أو الأعم، فحينئذ ينحصر الثبوت في الاجماع.
وأما على تقدير كونها أسامي للأعم يسهل طريقة الاثبات، بل يصير
حالها حال المعاملات من دون فرق، لكن الشأن في ثبوت ذلك.
حجة هذا المذهب: أنها تتصف بالصحة والفساد، وتنقسم إليهما و
مورد القسمة أعم، وأنها تستعمل كثيرا في الأعم.
وفيه إن غاية ما ثبت منهما الاستعمال، وهو أعم من الحقيقية. إلا أن
يدعى الظهور من الاخبار (لكن الشأن فيه لا الأول).
وحجة المذهب الأول: التبادر عند الاطلاق، وصحة السلب عن
العاري عن الشرائط، وكون الأصل في مثل: (لا صلاة إلا بطهور
الاستعمال في نفي الحقيقة، لأنه المعنى الحقيقي.
104

الفائدة الرابعة [في جواز أخذ عنوان المعاملات من غير الشارع]
قد عرفت أن موضوع الحكم إذا كان المعاملات يجوز أخذه من غير
الشارع.
والدليل على ذلك قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.
وفي الحديث: (إن الله تعالى أجل من أن يخاطب قوما بخطاب ويريد
منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمون).
وأيضا نجزم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم
السلام إذا كانوا
105

يتكلمون مع قوم ويخاطبونهم، ويكالمونهم لا يريدون منهم إلا ما هو
مصطلحهم، وما يفهمونه، وما هو طريقتهم، وإلا لزم الاغراء
بالجهل، وتكليف ما لا يطاق، وهما قبيحان قطعا.
وأيضا عمدة فائدة الرسول والإمام عليه السلام إبلاغ الاحكام، و
تحصيل الانتظام للدنيا والآخرة، ولا يتأتى إلا بالمخاطبة والأفهام
بها. ولا يحصل إلا بأن يريدوا منهم، ما هو مصطلحهم، وما يفهمون و
ما هو طريقتهم.
وأيضا تتبع تضاعيف أحاديثهم يكشف عن ذلك مع أنه مجمع عليه
بين المسلمين، بل وجميع المليين.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي اقتضته الأدلة: هو حجية عرف الشارع و
اصطلاحه مع الراوي المخاطب خاصة، وأنه هو الحجة في
الأحاديث لا غير، لا اصطلاح أهل اللغة، ولا اصطلاح عرف زماننا، و
لا العرف العام، ولا الخاص، ولا اصطلاح أحد آخر.
فإن ثبت اصطلاح الشارع فهو المطلوب، وإلا فيرجع إلى عرفنا، و
نضم إليه أصالة عدم النقل، وعدم التغيير والتعدد وبقاء ما كان على
ما كان، فنقول: معنى اللفظ على ما هو في عرفنا هذا كان كذلك في
عرف زمان الشارع، وفي اصطلاحه أيضا، بل وفي اللغة أيضا
كذلك، إلا أن المقصود هو اصطلاح الشارع.
أو نرجع إلى كلام اللغوي، ونقول: المظنون أنه صادق لكونه من أهل
الخبرة ونضم إلى كلامه أصالة عدم معنى آخر غير ما ذكر أو أن
المظنون عدمه، فيحصل في ظننا أنه هو المعنى الذي أراده الشارع
هذا إذا كان معنى عرفنا، أو معنى عرف أهل اللغة واحدا.
وأما إذا كان معنى عرفنا أو معنى عرف أهل اللغة متعددا فنبذل الجهد
106

في تحصيل الحقيقي باستعمال أماراته: مثل التبادر، وعدم صحة
السلب، وغيرهما. ثم نضم إليه أصل العدم وغيره، ويصير بحسب
ظننا
أنه عرف الشارع. هذا إذا كنا نجد المعنى في عرفنا فقط دون اللغة أو
بالعكس.
وأما لو وجدناه فيهما معا، فيحصل الاشكال، ووقع النزاع العظيم في
أن الحجة حينئذ عرفنا أو عرف اللغة: فمنهم من قدم العرف، و
منهم من قدم اللغة.
فإذا كان عرفنا عرف المتشرعة مثل الصلاة والصوم فالنزاع بعينه هو
النزاع المشهور: في أن الحقيقة الشرعية ثابتة أم لا:
فمنهم من أثبتها مطلقا.
ومنهم نفاها كذلك.
ومنهم من ادعى الثبوت في زمان الصادقين عليهما السلام ومن
بعدهما قطعا، وأن حالهما حال المتشرعة في ذلك، وربما يدعى
عدم
الخلاف في ذلك.
ومنهم من ادعى التفصيل بالنسبة إلى الألفاظ، حتى أنه يتأمل في مثل
لفظ السنة، والكراهة، والنجاسة، والطهارة في جميع زمان الأئمة
عليهم السلام والمعروف من القائل بالثبوت مطلقا: أن الشارع نقل
الألفاظ من أول الامر، ثم فهم معانيها بالترديد وبالقرائن وظهر
ذلك علينا بالاستقراء.
وربما احتمل بعضهم أنه استعمل من أول الامر مجازا، إلا أنه اشتهر
في زمانه، فيحصل الاشكال في الثمرة.
والمنقول من دليل المذهبين في غاية الفساد، والمعتمد في الثبوت
هو الاستقراء، وهو الظاهر من كلام الحاجبي، وفي النفي هو أصالة
العدم، والبقاء - يعني أصالة تأخر الحادث كما تشير إليه عبارة بعضهم
-.
والحق الثبوت في زمان الصادقين عليهما السلام ومن بعدهما بشهادة
107

الاستقراء، وأن النزاع في ذلك لعله وقع في زمانهما عليهما السلام، أو
ما قاربه، فيدل على التحقق فيه.
بل الظاهر الثبوت بالقياس إلى مثل الصلاة، والصوم، في زمن الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم.
بل ولا يبعد ذلك بالقياس إلى ما قبل زمانه صلى الله عليه وآله وسلم
أيضا، لان الأمم السابقة كان لهم، صلاة، وصوم، وزكاة، وحج،
فتأمل.
نعم بالنسبة إلى مثل السنة والكراهة ربما يبقى التأمل في زمانهما
عليهما السلام أيضا، فتأمل.
وأما إذا كان عرفنا عرف العام - مثل الدابة، والإقامة في البلد، وأمثال
ذلك - فالنزاع فيه أيضا بين الفقهاء واقع.
منهم من يقدم اللغة استنادا إلى أصالة تأخر الحادث.
ومنهم من يقدم العرف استنادا إلى الاستقراء، ويؤيده أنه يبعد تغيير
عرف الجميع في هذه المدة.
والثاني أقرب في النظر.
ومما وقع النزاع فيه ما إذا ظهر مغايرة اصطلاح المعصوم عليه السلام
لاصطلاح الراوي مثل الرطل وغيره، فمنهم من قدم اصطلاح
المعصوم، ومنهم من قدم اصطلاح الراوي، ولعل الثاني لا يخلو عن
رجحان ضعيف لا يعتمد عليه، ولا يكفي حتى يظهر الرجحان من
القرائن الخارجية.
ومما وقع النزاع فيه: أن الامر في اصطلاح الشارع هل هو حقيقة في
الوجوب، أو السنة، أو غيرهما؟ وكذا حقيقة في الفور، أو التراخي،
أو الطبيعة؟ وكذا الحال في المرة والتكرار، وكذا الحال في النهي، و
كذا الحال في
108

بعض أدوات العموم مثل: كلمة (إذا) والمفرد المحلى باللام، وأمثال
ذلك.
ومنشأ النزاع وقوع الاشتباه من كثرة الاستعمال بمعونة القرائن في هذا
أو ذاك إلى أن صعب التمييز.
والحق كون الامر حقيقة في الوجوب، والقدر المشترك بين الفور و
التراخي، والمرة، والتكرار، لأنه المتبادر من الخالي عن القرينة
في عرفنا، فكذا في عرف الشارع، لأصالة عدم التغيير.
والنهي حقيقة في الحرمة، والفور، والاستمرار، لما ذكر. وتحقيق
ذلك في الأصول المبسوطة.
وكذا النزاع في مادة الأمر والنهي أي أمر ونهي، والمختار المختار، و
الدليل الدليل.
وعدم دلالة (إذا) والمحلى باللام وغيرهما على العموم لغة، وإفادتها
العموم العرفي في أمثال الحكم الشرعي، إلا أن عمومها ليس
بمثابة العموم اللغوي، لانصرافه إلى الافراد الشائعة خاصة.
ومما وقع النزاع فيه: حجية مفاهيم كلام الشارع، لعدم نطقه وقابلية
الاحتمالات الاخر، وتحققها في مواضع أخر من كلامه.
والحق حجية الكل سوى الوصف، والملقب، لضعف الدلالة فيهما
سيما اللقب.
ومما وقع النزاع فيه: أن الشارع إذا استعمل لفظا في معنى بعنوان
المجاز، وظهر أن المراد المشاركة في الحكم الشرعي.
فهل المراد المشاركة في جميع الأحكام إلا أن يثبت المخرج؟ لان
الاتحاد حقيقة لا معنى له فتعين المشاركة والمشابهة في الاحكام، إلا
ما
أخرجه الدليل، لأنه مسلم أنه إذا تعذر الحقيقة فالحمل على أقرب
المجازات
109

متعين، أو القدر المشتهر الشائع منها إن كان، وإلا فالعموم، أو مجمل.
وخيرها أوسطها، لان بناء الاستعارة والتشبيه على هذه الطريقة.
ومما وقع النزاع فيه: اشتراط بقاء المبدأ في المشتق لكثرة الاستعمال،
وظهور الحقيقة في الماضي في بعض الموارد.
وسيجئ التفصيل في هذا وما سبق على حسب ما اقتضاه المقام و
الداعي، وكذا في المواضع الاخر التي وقع فيها النزاع. وسيجئ دليل
حجية هذه الظنون.
ثم اعلم أن الحجة في الموضوعات ليست منحصرة في اللغة و
العرف، بل النحو والصرف والمعاني والبيان كلها حجة، بل وداخلة
في
اللغة، ومن هذا القبيل قول المفسرين، فكما أنهم يعتمدون على قول
اللغويين في التفسير، ويفسرون به، فكذلك قول المفسرين إذا لم
يعارضه دليل. فتأمل.
ومما يعتمد عليه قول المنجم وأهل الهيئة في الموضع الذي نحن
مأمورون بتحصيل الظن والتحري، ولا شك في حصول التحري
منهما
بل وأقوى أنواع التحري، بل وربما يحصل منه اليقين بجهة القبلة
لتوسعها.
هذا بالقياس إلى حقائق الحديث.
وأما المجازات ففي أي موضع وجد قرينة فالأصل بقاؤها على حالها
من زمن الشارع إلى الان، وكذا الأصل صحتها، وعدم تكونها من
الحوادث التي سنشير إليها.
وكذا الحال في عدم القرينة بأن الأصل عدم القرينة، وعدم ذهابها من
الحوادث.
ومما ذكر ظهر أن من الأمور المعتمد عليها: الأصول والظاهر، بل لا
محيص عنهما في سند الحديث ومتنه ودلالته وعلاج تعارضه، و
هذا أيضا مما
110

اتفق عليه الكل.
ومما يعتمد عليه قول الطبيب في ضرر الطهارة المائية والصوم وغير
ذلك.
وكذا قول جميع أهل الخبرة في مثل الأرش وغيره.
111

الفائدة الخامسة [دفع توهمين وبيان أمور أخرى]
قد ظهر مما سبق أن اصطلاح الشارع مقدم على العرف واللغة و
غيرهما. ولا يخفى أنه إنما يقدم عليهما بالقياس إلى نفس كلام
الشارع، وبالنسبة إلى حقائق كلامه. وإنما نبهنا على ذلك دفعا
لتوهمين وقعا هنا من غير واحد من الفضلاء:
الأول: أن اصطلاح الشارع مقدم بالقياس إلى عبارات من أوقع عقدا أو
إيقاعا.
مثلا يقولون: إذا باع أحد دارا يدخل في بيعه ما هو في اصطلاح الشارع
داخل إن عرف، وإلا فاصطلاح اللغة والعرف.
وفيه أن البائع ما باع إلا ما هو مقصوده، والمشتري ما اشترى إلا
كذلك، ومقصودهما من المطلق ليس إلا ما هو باصطلاحهما. بل لو
صرف
113

إلى اصطلاح آخر يلزم بطلان العقد من جهة أخرى أيضا وهو مجهولية
المبيع حال العقد.
نعم إذا عرفا اصطلاح الشارع، وأوقعا العقد عليه يكون المرجع
اصطلاح الشارع. لكن لا من جهة تقديمه على اصطلاحهما، بل من
جهة
تعيينهما، كما إذا أوقعاه باصطلاح طائفة أخرى.
والثاني: أن القاصرين في أصول الفقه متى ما رأوا إطلاقا من الشارع، و
عرفوه بالقرينة يجعلون ذلك المعنى اصطلاح الشارع، و
يقدمونه على العرف واللغة.
وهو فاسد أيضا، لان طريقة مكالمات الشارع هي الطريقة المتعارفة
بين الناس كما عرفت، والمتعارف بينهم أنهم بمجرد الاستعمال
لا يريدون وضع اصطلاح جديد، بل المتعارف الغالب أنهم يريدون
المجاز، ولذا ذهب بعض المحققين إلى أنه مجاز، لأصالة عدم النقل،
وعدم تعدد الوضع، ويؤيده أن أغلب لغة العرب، وأغلب
استعمالات الشارع مجازات.
وأما المشهور فيقولون: الاطلاق أعم من الحقيقة، وإذا وجدوا معنى
حقيقيا آخر يحكمون بأنه مجاز، لان المجاز خير من الاشتراك، و
علة كونه خيرا من الاشتراك ما ذكرناه، وإن ذكروا وجوها أخر أيضا، إلا
أنها ليست بشئ كما أن القائلين بخيرية الاشتراك ذكروا
وجوها ليست بشئ، وإذا لم يكن له معنى آخر فربما يظهر منهم أنه
حقيقة حينئذ، لأصالة عدم التعدد، وللرجحان في النظر.
نعم مذهب السيد رحمه الله ومن وافقه أن الأصل في الاطلاق
الحقيقة، إلا أنهم يبنون على الاشتراك لا على وضع الاصطلاح و
تغييره.
وأيضا الظاهر أنهم إنما يقولون بخيرية الاشتراك، وكونه الأصل في
114

موضع لم يكن فيه أمارات المجاز، مثل تبادر الغير، وصحة السلب، و
غيرهما.
ثم اعلم أن الفقهاء رضوان الله عليهم عادتهم التمسك بأصالة
الحقيقة، ولا يتوهم التناقض منهم، لان مرادهم الموضع الذي علم
معناه
الحقيقي، ولم يعلم استعماله فيه، فالأصل الحقيقة قطعا بالأدلة التي
ذكرناها في الفائدة السابقة.
والموضع الذي يقولون: - إن الاستعمال أعم من الحقيقة - هو ما إذا
علم المستعمل فيه، لكن لم يعلم كونه حقيقة أو مجازا.
وعليك بمعرفة الفرق وملاحظة دليلهما ومراعاة الفرق حتى لا
تخلط، ولا تخبط في الفقه.
واعلم أيضا أنه على تقدير كون استعمال الشارع مجازا - كما هو
المختار - فالظاهر أنه في غير المجاز المرسل استعارة وتشبيه، و
أن المراد المشابهة في الحكم الشرعي.
فإن كان للمعنى الحقيقي حكم شرعي شائع، أو أحكام كذلك،
فالذهن ينصرف إليهما، كما ينصرف إلى الشجاعة في استعمال الأسد
في
الادمي، لا مثل البخر والصورة أو غيرهما، وإلا فالظاهر العموم
بالدليل الذي يقتضي العموم في الاطلاقات لا الاجمال.
ومن المسلمات أيضا: أنه إذا تعذر الحقيقة فأقرب المجازات متعين،
فمقتضاه المماثلة من جميع الوجوه، إلا ما أخرج بالدليل حتى صارت
منشأ القول بأنه هو هو.
ومما ذكرنا ظهر أن الشارع بمجرد استعمال الكافر، أو الناصب، أو
الخمر، أو غير ذلك في غير المعاني اللغوية، أو العرفية لا يمكن
الحكم بكونها
115

حقائق جديدة وكذا لا يمكن الحكم بالاشتراك
في جميع الأحكام، ولا البناء على الاجمال.
واعلم أيضا: أنه إذا قال: هو بمنزلته، فهل يقتضي عموم الاحكام البتة،
أو يكون حاله حال الاستعمال المجازي؟ والظاهر العموم، إلا ما
أخرجه الدليل.
116

الفائدة السادسة [جواز العمل بالظن وعدم جوازه]
توهم بعض: عدم جواز العمل بالظن في نفس الأحكام الشرعية، وفي
موضوعاتها مطلقا، وآخر بجوازه فيهما كذلك.
وذهب الأخباريون إلى جوازه في موضوعات الأحكام الشرعية التي
ليست بعبادة، دون نفس الاحكام، وماهيات العبادات.
والمجتهدون إلى عدم جوازه مطلقا، إلا ظن المجتهد الحي
المستجمع لشرائط الفتوى، والمقلد له في المسائل الاجتهادية.
ويدل على بطلان التوهم الأول ما مر في الفائدة الرابعة من: أن المعتبر
اصطلاح الشرع لا اصطلاحنا الان.
واصطلاحنا منه ما نعلم أنه اصطلاح الشرع، ومنه ما نظن، ومنه ما
نشك، ومنه ما نظن أنه ليس اصطلاحه، ومنه ما نجزم.
117

والحجة ليست إلا الأولين، والأول وإن كان قطعيا، إلا أنه ربما كان
قرائن حالية، أو مقالية على أن المراد منه المجاز، كيف؟ وجل
أخبارنا يظهر المراد منها من ملاحظة الاخر، فيمكن أن يكون ما لم
يظهر مثل ما ظهر، لكن لم يصل إلينا، وذهب فيما ذهب من كتب
الشيعة، أو وصل إلينا، لكن لم نطلع على روايته، أو على كتابه، أو
اطلعنا لكن لم نتفطن بالدلالة، فإنا كثيرا ما نلاحظ الحديث، أو كلام
العلماء، أو كلام غيرهم، ولا نفهم منه أمرا، نفهمه بعد الملاحظة الثانية
أو الثالثة وهكذا، وبعد دقة النظر والتعمق، بل ربما يظهر لنا
في المرتبة الثانية أو الثالثة خلاف ما فهمناه وضده ونقيضه وربما
نفهم في الثالثة خلاف ما فهمناه في الثانية، وهكذا.
ونقل عن المحقق المدقق مولانا الشيرواني أنه قال: درست شرح
الكافية للجامي عشرين مرة، كل مرة فهمت أن المرة السابقة ما فهمته
كما هو.
ومما يشير إلى ما ذكرنا: أن كثيرا من الآيات والاخبار صار فهمها معركة
للآراء بين العلماء، بل ربما يفهم واحد منهم ضد ما فهمه
الاخر مع جودة فهم الكل، واستقامة سليقتهم.
وأيضا القرائن ظنية والدلالات غالبا كذلك.
وأيضا ربما سقط من الرواية شئ، أو وقع تصحيف، أو تحريف، أو
زيادة، أو تقديم، أو تأخير، أو غير ذلك بل وقعت في كثير من
أخبارنا، كما لا يخفى على المطلع.
118

وأيضا أحاديثنا لم تكن في الأصول هكذا، بل تقطعت تقطعا كثيرا، و
هذا يوجب التغيير.
وقد وجدنا من الشيخ أنه قطع بعض الأحاديث من الكافي، فتغير
الحكم من جهته.
وأيضا كثيرا ما كان الرواة ينقلون بالمعنى، فلعل في النقل بالمعنى
يتحقق التفاوت، فإنا نرى الان أن كثيرا من أهل الفهم (لا يعبرون
عن مرادنا) بعبارة تؤدي عين مطلوبنا من دون أن يتحقق تفاوت
أصلا.
نعم الظاهر أنهم أفادوا عين مراد المعصوم عليهم السلام، من دون
تحقق تفاوت، فيحتاج إلى أصالة عدم التغيير، أو غيرها من الظنون.
وبالجملة: الأصول التي يتمسك بها ظنية، مثل أصل العدم، وغيره، و
القرآن ظني الدلالة بلا شبهة، والاجماع المنقول بخبر الواحد
كذلك ظني، والاجماع القطعي لا ينفع بغير ضميمة أمر آخر ظني،
مثلا الاجماع واقع على وجوب الركوع، لكن واجباته وشرائطه و
مفسداته، وأنها لا يجب أزيد من المجمع عليه كلها ظنية، لاستنادها
إلى الظنيات، ومثل: القرآن، والاجماع، والخبر المتواتر مع ندرته
.] 1 [
وأما الخبر الواحد فظني سندا ومتنا ودلالة وتعارضا، إذ قل ما يتحقق
] 1 [كذا في الأصل ولعل المقصود أن الأحكام الشرعية تستند إلى أدلة
ظنية في الأعم الأغلب، وفي الأقل النادر تستند إلى الأدلة القطعية
كالقرآن والاجماع والخبر المتواتر.
119

منه بغير معارضة خبر أو آية أو إجماع ظني أو غير ذلك، وقل ما ينتهي
علاج تعارضه إلى حد القطع.
وأما ظنية متنه ودلالته فقد عرفت، وستعرف زائدا عليه.
وأما ظنية السند فلانه وصل إلينا بوساطة جماعة متعددة لم يعلم
عدالتهم، فضلا عن العصمة.
نعم حصل لنا الظن بعدالة جمع منهم، لكن عدالة القدماء. ومع ذلك
نحتاج - في تعيين المشترك وترجيح التعديل ودفع الطعن عنهم -
إلى ظنون أخرى، ولا يكاد يسلم جليل منهم من طعن.
وأيضا ربما وقع في السند سقط أو تبديل، أو غير ذلك كما وجدناه
كثيرا، ولا يؤمن في الباقي عن ذلك لطرو احتمالها، مع أن
الاحتمال في نفسه موجود، فنحتاج إلى الأصول الظنية.
على أنه على تقدير القطع بالعدالة، فليسوا أعلى شأنا من الكليني، و
الصدوق، والمفيد، والشيخ، وأضرابهم، وقد وجدنا منهم الغفلة و
الاشتباه كثيرا، كما لا يخفى على المتتبع.
وأعجب من هذا أن هؤلاء المتوهمين يقولون: إن إجماع فقهائنا ليس
بشئ، لجواز اجتماعهم على الخطأ، ومع ذلك يدعون حصول
القطع لهم من قول واحد منهم: إن حديث فلان صحيح، وإن ذلك عن
المعصوم عليه السلام قطعا، بل بمجرد علمه به أيضا يدعون ذلك،
بل بمظنته أنه عمل به يدعون ذلك.
120

وأيضا هؤلاء العظام - مع قرب عهد كل واحد منهم للاخر، ونهاية
معرفته به، بل وربما عاشره وصاحبه - لا يعتمد كل منهم بحديث
الاخر، ولا يفتي إلا بما انتخبه نفسه، ولا يجعل كتابه تتمة لكتاب
الاخر، بل يصنف كتابا برأسه مغايرا لكتاب الاخر، ويقول: هذا هو
الحجة عندي، بل وكثيرا ما يطعن على حديث الاخر، بل وربما
يصرح بأنه موضوع، كما بسطناه في الرسالة.
فمع ذلك كيف يحصل لنا العلم بقطعية أحاديث كل واحد منهم؟ مع
شدة المخالفة بينهم، وكل واحد منهم يبني على خطأ الاخر.
وأيضا الشيخ صرح في (العدة) وأول (الاستبصار) بأنه يعتمد
على الأحاديث الظنية، ويفتي بها، وادعى أن الشيعة كانوا يعتمدون
عليها.
والصدوق صرح بأنه يصحح الحديث بمجرد تصحيح شيخه ابن
الوليد. ومعلوم قطعا أن مجرد تصحيحه لا يجعل الحديث قطعيا.
وظهر أيضا من غير واحد من كلامه أنه كان يعتمد على الظني كما
أشرنا إلى توجيهه في (الرسالة).
والكليني أيضا ربما يظهر من كلامه: أن مراده من العلم علمي العمل،
لا الصدور كما أشرنا إليه في (الرسالة).
121

وأيضا يحصل من تتبع الرجال القطع بأن القدماء كانوا يعملون
بأحاديث الثقات، مع أن قول الثقة لا يفيد إلا الظن.
وأيضا (الشيخ) و (الصدوق) وغيرهما كثيرا ما قدحوا في رواياتهم
بأنها موضوعة، وأمثال ذلك، وبمجرد عدم قدحهم كيف
يحصل القطع بأنه من المعصوم عليه السلام؟ ومما ذكرنا ظهر فساد ما
ادعوه: من أن أحاديثنا مأخوذة من الأصول (القطعية)، فتكون
قطعية، لأنه إذا كان المشايخ القدماء - الذين هم قريبو العهد، و
الماهرون في الأحاديث الخبيرون المطلعون المضطلعون في الرواية -
ما كان يحصل لهم القطع من الجهة التي ادعوها في ذلك الزمان فكيف
يحصل لنا الان؟ مع أنهم هم الوسائط، وهم الناقلون، والأحاديث
خرجت منهم، ولولا نقلهم لنا ما كنا ندري أن الحديث ما ذا؟ وأنه له
أصل أم لا؟ وإن علمنا على سبيل الاجمال أنه صدرت أحاديث عن
الأئمة عليهم السلام كما صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
و (الأنبياء) السابقين وضبطها الشيعة في أصولهم.
ولكن نعلم يقينا أنه كثيرا ما كانوا يكذبون على الأئمة عليهم السلام و
وصل إلينا بالاخبار المتواترة، بل ورد الحديث الصحيح: أن
(المغيرة بن سعيد) كان يدس في كتب أصحاب الأئمة عليهم السلام
أحاديث لم يحدثوا بها، وكذا
122

(أبو الخطاب).
وورد في (الاحتجاج): أن من أسباب اختلاف الأحاديث عن أهل
البيت الكذب والافتراء عليهم عليهم السلام، وورد أيضا: أنهم كثيرا
ما يفترون وهما واشتباها وخطأ ذكرنا بعضها في الرسالة.
وأيضا نجزم أن القدماء كثيرا ما كانت رواياتهم معنعنة متصلة إليهم يدا
عن يد، إلى غير ذلك مما كتبناه في الرسالة. وأيضا نقطع بأن
طريقتهم أنهم كانوا ينقدون الاخبار، وينتخبون، وكان كل ينقد على
رأيه.
وأيضا الظن حاصل بأن الرواة أيضا كانوا يعملون بأخبار الآحاد
123

سيما بملاحظة دعوى الشيخ الاجماع عليه. وبالجملة ما ذكر - و
أضعاف ما ذكر - صار سببا لعمل القدماء - مثل الشيخ، والصدوق، و
أضرابهما - على الظنون، وصدر من كل واحد منهم ما صدر بالقياس
إلى أحاديث الاخر.
وذكرنا في الرسالة أن كثيرا من الأصول كانت خفية عليهم، وما كانت
ظاهرة لديهم، فكثيرا ما كانوا يلاحظون الطريق إليها من جهة
الزيادة والنقيصة وكيفية النسخة وغير ذلك.
على أنه على تقدير القطع بأنهم ادعوا القطع لا يجب أن يكون قطعهم
مطابقا للواقع، فربما أخطئوا، وهو ظاهر.
وبالجملة بسطنا الكلام في المقام غاية البسط في الرسالة، وأجبنا عن
الشكوك، وأظهرنا شنائعها الكثيرة.
وأما الظنية بحسب التعارض فلان الأخبار الواردة في علاج التعارض
بين الاخبار في غاية التعارض، ولا يمكن الجمع أو الترجيح بينها
إلا بالظنون الاجتهادية. وهو واضح، وسنذكر إن شاء الله.
وبما ذكرنا ظهر فساد مختار الأخباريين أيضا.
مضافا إلى أن عدم تجويزهم الظن إن كان من جهة الأدلة الدالة على
المنع منه فلا وجه لتجويزهم العمل بكل ظن يكون في الموضوعات،
وإن كان تجويزهم ذلك من جهة أن عدم العمل به يلزمه سد باب
إثبات الاحكام ففيه أنه على هذا لم تفرقون بين نفس الحكم و
موضوعه؟ ولم تشددون النكير على المجتهد، وتحرمون عليه
الاجتهاد، بل وترمونه بالفسق؟ مع أنكم
124

تدرون أنه أعلم منكم، وتتبعه أكثر، وتدرون أنه صادق في عدم
حصول العلم له.
وأيضا لم لا تدعون أن الظن في الموضوع علم شرعي لا ظن، كما
تدعون في نفس الحكم فتدبر.
وبطلان الوهم الثاني، وحقيقة مختار المجتهدين سنذكرهما (إن شاء
الله تعالى).
125

الفائدة السابعة [رد دعوى الأخباريين من أن مرادهم من العلم هو
الظن]
اعلم أن بعض متأخري الأخباريين لما رأوا فساد مذهبهم، وشناعته
الواضحة رجعوا القهقرى، وادعوا أن مرادنا من العلم واليقين ما هو
الظن، ونزاعنا لفظي مع المجتهدين.
وفيه نظر من وجوه:
الأول: أن المجتهدين ليس عملهم واعتمادهم على الظن، بل هذا
كذب عليهم، نعم الظن في طريق صغرى دليلهم، يقولون: هذا ما أدى
إليه
ظني، وكل ما أدى إليه ظني فهو حكم الله في حقي يقينا وحق
مقلدي فالصغرى يقينية وجدانية، والكبرى ستعرفها في الفائدة
التاسعة
فاعتمادهم في الحقيقة على اليقين، ولولا كبراهم اليقينية لما عملوا
بالظن أبدا.
والأخباريون ليس لهم كبرى يقينية، بل اعتمادهم على نفس ظنهم
127

الذي يسمونه علما كما ستعرف.
مثلا: شهادة العدلين حجة، لا لأجل الظن الحاصل من قولهما، بل لما
ثبت بالدليل اليقيني أنه حجة، ولولاه لم يكن فرق بينها وبين الظنون
الحاصلة من شهادة الفاسقين، والرمل، وغيره، فالحجة في الحقيقة:
هي ما دل على قبول شهادتهما لا نفس الشهادة.
وقس عليهما حال اليد، والحلف، والأنساب، وغير ذلك.
وعمل المجتهد بخبر الواحد وأمثاله من دليله اليقيني، ولذا يستدل
على حجيتها، ودليله لو كان ظنيا يلزم الدور أو التسلسل، بل ينتهي
إلى اليقين كما ستعرفه.
الثاني: أن الأخباريين ديدنهم الطعن على المجتهدين بأنهم يعملون
بالظن، ويخالفون ما ثبت من الآيات والاخبار من حرمة العمل به، و
يحكمون صريحا بحرمة العمل به في نفس الاحكام دون
موضوعاتها.
مع أنهم إن أرادوا الظن الذي لا يعتبر شرعا ففساده واضح، ووفاقي إن
أرادوا المعتبر شرعا، فأي فرق بين القسمين حتى يجعلوا الأول
علما شرعيا دون الثاني؟ وكيف يحكمون بخروج الثاني عن الآيات و
الاخبار دون الأول؟ الثالث: أنهم يحكمون بحرمة الاجتهاد
صريحا ويأبون عن الاسم وعن كونهم مجتهدين، بسبب أن الاجتهاد
بحسب الاصطلاح: استفراغ الوسع في
128

تحصيل الحكم الشرعي بطريق ظني فالتقييد بالظن هو المنشأ، مع أن
القيد هو الظن المعتبر شرعا لا غير، كما لا يخفى.
مع أنه لا وجه لتخصيصهم إياه بغير المعتبر، مع أن الحكم بكون الأول
اجتهادا دون الثاني تحكم، وكذا كون الثاني اجتهادا حلالا دون
الأول.
الرابع: أن لفظ العلم والظن من موضوعات الاحكام، فيكون المرجع
فيه إلى العرف واللغة - كما اعترفوا بذلك، وصرحوا به - فلا وجه
لجعل الأول علما، سيما الحكم بكون خاصة علما دون الثاني، وما
الدليل على ذلك؟ وما المرخص؟ مع أن تغيير اللفظ بمجرد الجعل لا
يصير منشأ لاختلاف الحكم، فإن تسمية الخمر خلا لا يصير منشأ
لحليتها. نعم لو ثبت الحلية في موضع فهي خمر حلال في خصوص
الموضع، لا أنه ليس بخمر لأنه حلال.
الخامس: إن أرادوا أن الظن من حيث هو ظن حجة عند الأخباريين،
فيرجع هذا إلى الوهم الثاني الذي ذكرناه في الفائدة السابقة، و
سنبطله مشروحا في (الفائدة التاسعة)، مع أن نسبة هذا إلى الأخباريين
في غاية الغرابة؟ وإن أرادوا أنه ليس بحجة حتى يدل على
حجيته دليل، وقد دل، واعتمادهم على ذلك الدليل فهو بعينه طريقة
المجتهدين، لا طريقتهم قطعا.
واعتذر بعضهم أيضا أن مراد الأخباريين من العلم هو العلم العادي،
فيجتمع مع تجويز النقيض، واستدلوا بقول السيد رحمه الله في
تعريفه:
إنه ما تطمئن إليه النفس.
وفيه نظر أيضا من وجوه:
الأول: أن العلم العادي مساو للعقلي في المنع عن النقيض، إلا أنه
بملاحظة العادة، وتجويزه للنقيض من حيث نفسه مع قطع النظر عن
العادة.
129

وأي عقل يجوز أن يصير أرواث الحمير دفعة - كل واحد منها - آدميا
عالما بجميع العلوم، وماهرا في جميع الفنون ومزينا بأنواع
الجواهر واليواقيت، إلى غير ذلك.
نعم مع قطع النظر عن العادة يجوزه، وليس عنده مثل اجتماع
النقيضين.
الثاني: أن اطمئنان النفس لا يحصل مع تجويز النقيض، اللهم إلا أن
تطمئن النفس بمجرد مظنة بسبب وداع.
الثالث: انا لا نجوز أن نقول: اليهودي يعلم أن نبينا عليه السلام ليس
بنبي، والمشرك يعلم أن الله ليس بواحد، إلى غير ذلك، وهذا واضح.
نعم نقول موضع يعلم: يظن ويطمئن، لان العلم ما طابق الواقع،
بخلاف الظن والاطمئنان.
والرابع: أنه مع تجويز الخطأ كيف يحكم بأنه حكم الله تعالى من دون
رخصة من الشرع؟ مع أنه يظهر من الأدلة المنع من الحكم متى ما
يجوز النقيض.
وبالجملة يرد عليه ما سبق، وما سيأتي.
130

الفائدة الثامنة [رد الأخباريين حيث قالوا بعدم جواز التقليد]
قد عرفت أن مناط الفرق بين الاخباري والمجتهد هو نفس الاجتهاد -
أي العمل بالظن - فمن اعترف بالعمل به فهو مجتهد، ومن ادعى
عدمه، بل كون عمله على العلم واليقين فهو أخباري، ولذا لا يجوز
الاخباري تقليد غير المعصوم عليه السلام وفي الحقيقة هو مانع عن
التقليد، لان تقليد المعصوم عليه السلام ليس تقليدا، وبناء أمره على
أن أصول الدين - من حيث أنه علمي - لا يجوز فيه الاجتهاد
الاصطلاحي ولا التقليد، فكذا أخبارنا قطعية تحتاج إلى التنبه و
الارشاد، كما هو الحال في أصول الدين، ويستندون في ذلك إلى ما
دل
على ذم التقليد، والعمل بالظن، وهو نوع من الظن.
131

ويدل على بطلان ذلك: أن النص الصريح ورد في جواز التقليد - رواه
في الاحتجاج - وآية (فلو لا نفر) ظاهرة فيه كما لا يخفى.
والأخبار الدالة على جواز الفتوى صريحة فيه، والاخبار كثيرة، و
كذلك الأخبار الدالة على جواز المحاكمة، والتحاكم إلى الفقيه، و
هي كثيرة: منها: ما أشرنا: ان واحدا من الأربعة في الجنة.
وبالجملة: تتبع الاخبار يكشف عن جوازه بحيث لا يبقى تأمل.
مع أنه في الرجال أيضا يظهر ذلك، ويؤيده أن طائفة كانوا زرارية، و
طائفة كانوا يعفورية، وهكذا. وكثيرا ما أمروا بأخذ معالم
الدين عن فلان وفلان.
مع أنه من البديهيات أن النساء والعوام - في أعصار النبي صلى الله
عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام - كان بناؤهم على التقليد.
132

مع أن جوازه إجماعي، بل بديهي الدين.
وأيضا الضرورة قاضية بجوازه.
مع أن الاخباري إنما ينكره باللسان، وإلا فمداره على ذلك، وجعل
تقليده عين تقليد المعصوم عليه السلام كما ترى.
ومما يترتب على مذهب الاخباري من دعواه العلمية: أنهم لا
يشترطون شرائط الاجتهاد التي اعتبرها المجتهدون، ولأن العلم حجة
بنفسه، فلا حاجة في حجيته إلى الشرائط، لان الاستدلال مبني على
عدم العلم، وإثباته بالدليل العلمي، وانتهائه إلى العلم، ففي كل شرط
من شرائط الاجتهاد، يتكلمون، ويعترضون، والمجتهدون يجيبون
حتى أنهم في اشتراط العلوم اللغوية يتأملون ويعترضون.
فمن أراد الاطلاع فعليه بملاحظة (الرسالة)، وسنشير في بعض
المقامات إلى بعض.
نعم يدعي بعض أنه من الأخباريين وأنه يحتاج إلى العلوم اللغوية
خاصة.
ويرد عليه: أن المقتضي للاحتياج إليها مقتض للاحتياج إلى مثلها من
الشرائط، وما استندتم عليه في عدم الحاجة إلى الشرائط شامل
لها، والفرق تحكم كما لا يخفى.
133

الفائدة التاسعة [في إبطال الوهم الثاني]
اعلم: أن جمعا يدعون أنهم أخباريون، ويشنعون عليهم في ادعائهم
علمية الاخبار، وعدم حجية القرآن، لكن ينفون شرائط الاجتهاد، و
يقولون:
إن الحجة ليست إلا الآية والاخبار، وإنه يجب الاقتصار على نفس
متونهما، وبناؤهم على العمل بالظن من حيث هو ظن، ولو سئلوا عن
دليل حجية الظن ربما يجيبون بظن آخر، أو شك آخر، أو وهم آخر، و
لا يتأملون في أن الدليل ليس بأضعف من المدلول، ولا مساو له
في الاحتياج إلى الدليل، إلا أن ينتهي إلى القطع، ففي الحقيقة الدليل
هو القطعي.
ويدل على فساد طريقهم الآيات والأخبار الدالة على حرمة العمل
بالظن، وما ليس بعلم أو يقين، وهي من الكثرة بمكان، وكذا
التهديدات البالغة، والتحذيرات الهائلة فيها، وفي الفتوى بغير ما أنزل
الله، وغير ذلك
135

مما أشرنا إلى بعضها في الفائدة الأولى.
وأيضا إجماع جميع المسلمين على أنه في نفسه ليس بحجة، ولذا
كل من يقول بحجية ظن يقول بدليل، فإن تم، وإلا فينكر عليه، ويقال
بعدم الحجية.
وأيضا ما استدلوا به على عدم حجية العقول في الأحكام الشرعية
يدل عليه أيضا.
وأيضا الأصل عدم حجية الظن.
وأيضا العقل يمنع من الاتكال على مجرد الظن في الدماء والفروج و
الأنساب والأموال وغيرها.
وأيضا ظن الرجل أمر، وحكم الله أمر آخر، وكونه هو بعينه، أو عوضه
يحتاج إلى دليل حتى يجعل هو إياه أو عوضه شرعا.
وخرج من جميع ذلك ظن المجتهد بالاجماع وقضاء الضرورة، إذ
المسلمون أجمعوا على أن من استفرغ وسعه في درك الحكم
الشرعي، وراعى عند ذلك جميع ما له دخل في استحكام المدرك
وتشييده وتسديده، وحصل ما هو أحرى يكون ذلك حجة عليه، و
الضرورة قاضية بأنه لو كان ظن حجة فهذا حجة، وكذا لو كان لا بد من
العمل بالظن (جاز التعويل على ذلك).
وأيضا بقاء التكليف إلى يوم القيامة يقيني، وسد باب العلم معلوم كما
عرفت.
ومن استفرغ وسعه في جميع ما له دخل في الوثوق والمتانة، و
حصل ما
136

هو أقرب لا يكلفه الله أزيد من ذلك يقينا، لقوله تعالى لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها، وقوله وما جعل عليكم في الدين من حرج وما
ورد:
من أنه تعالى لا يكلف ما لا يطاق.
ولعل القطع بحجية مثله - فيما نحن فيه - يظهر من تتبع الاخبار و
الاحكام أيضا.
وأيضا العقل حاكم بحجيته حينئذ قطعا.
وأيضا جميع العلوم والصنائع المحتاج إليها في انتظام المعاد و
المعاش يكون الحال فيها كما ذكرنا بلا شبهة، والعلة التي فيها جارية
فيما نحن فيه أيضا قطعا.
وبالجملة: فنأخذ قياسا هكذا: هذا ما أدى إليه اجتهادي واستفراغ
وسعي، وكل ما أدى إليه اجتهادي واستفراغ وسعي فهو حكم الله
يقينا في حقي، فالصغرى يقينية، وكذا الكبرى، فالنتيجة قطعية يقينية.
وبالجملة: خروج ظن المجتهد مما ذكر قطعي بلا تأمل. وأما كل ظن
يكون، لا قطع بخروجه، بل ولا ظن أيضا.
مع أنك عرفت حال الظن وعدم نفعه أصلا، وكونه محتاجا إلى دليل،
وأنه لا يكون حجة حتى ينتهي إلى القطع، لاستحالة الدور و
التسلسل.
مع أن من لم يراع الشرائط، ولم يستفرغ وسعه حين ما حصل له ظن -
يحتمل أن يكون بعد ما يراعي ويستفرغ - يزول ذلك الظن
عنه، ويتبدل
137

بخلافه، ويظهر عنده أن حكم الله تعالى خلاف ذلك، بل ربما يحصل
له القطع بأنه ليس حكم الله تعالى، فكيف يكون ما حصل له بدارا
حجة له؟ مع تمكنه من معرفة كونه حكم الله، أو عدم كونه حكم الله،
أو أن الظاهر أنه ليس حكم الله، بل الأدلة تقتضي عدم كونه حجة، كما
أن الحال في سائر العلوم والصنائع المحتاج إليها كذلك، لان ما دل
على عدم الحجية في العلوم والصنائع، بل والمنع عن العمل به
شامل
لما نحن فيه، بل ما نحن فيه كذلك بطريق أولى - كما لا يخفى - وظهر
وجهه أيضا.
وأيضا لو تم ما ذكره لزم حجية ظن كل عامي جاهل، أو امرأة، أو صبي،
لاشتراك الدليل والمانع. والظاهر أنه لا يقول بحجية ظنون
هؤلاء.
وأيضا قد عرفت - من (الفائدة الثامنة) - جواز التقليد وصحته
عموما، خرج المجتهد بالاجماع والأدلة المذكورة، وأن ظنه أقوى في
نظره من ظن تقليد غيره، بخلاف كل ظان فإن الامر فيه بالعكس، إذ
لا شك في أن الظن الحاصل من تقليد العارف الماهر المراعي
جميع ما له دخل في المتانة، والمستفرغ وسعه في ذلك أقوى من ظن
من لم يكن كذلك، ولم يراع مطلقا، كما هو الحال في العلوم، و
الصنائع، لكن درك ما ذكرنا موقوف على الانصاف والتخلية الكاملين.
وبالجملة: هؤلاء يراعون في كل علم، بل وفي كل أمر من الأمور أن
المرجع قول المجتهد في ذلك العلم وذلك الامر، والتقليد لهم - لا
أن كل ظن حصل يكون حجة - سوى الفقه، مع أن الخطر فيه أعظم
بمراتب، والاضلال فيه أكثر بمراتب شتى.
138

هذا مع أنه ورد النهي عن العمل بما خالف القرآن، وما وافق العامة، و
بما حكامهم وقضاتهم إليه أميل، وما خالف السنة، أو غير المشتهر
بين الأصحاب، وما رواه غير الأعدل والأفقه والأورع إلى غير
ذلك، وكذا ورد الامر بمعرفة العام والخاص والمحكم والمتشابه و
الناسخ والمنسوخ، وورد (عليكم بالدرايات دون الروايات) إلى
غير ذلك.
مع أن أكثر أحكامنا من الجمع بين الاخبار، فلا بد من معرفة ما هو
العذر في الجمع وأنحاء الجمع.
وأيضا، تلك الأنحاء مبنية على الظنون فلا بد من معرفة ما هو حجة، و
ما ليس بحجة، إلى غير ذلك مما ستعرفه.
لان الظن لو كان حجة مطلقا لزم أن يكون ظن الأطفال والنساء و
الجهال حجة، وهذا يدل على أن الظن - من حيث أنه ظن - ليس
بحجة.
وما ذكر - من عدم حجية سوى متون الآيات والاخبار - فسيظهر لك
حجية الاجماع والاستصحاب وغيرهما.
وما ذكره من عدم مدخلية شئ فقد ظهر فساده من الفوائد السابقة، و
سيظهر لك أيضا.
ووضع الكتاب لذكر ما له دخل، بحيث لو لم يعرف، ولم يراع يلزم
تخريب الفقه.
ومما ذكر ظهر أن كل ظن له مدخلية في فهم الآيات والاخبار يكون
139

حجة، وأن الحجة منه ظن المجتهد خاصة.
140

الفائدة العاشرة [حجية الخبر الواحد]
قد عرفت ظنية الآحاد، والنزاع في حجية مثله مشهور.
واستدل للحجية بالاجماع، ومفهوم آية إن جاءكم فاسق، وأن باب
العلم مسدود، والتكليف باق والاجماع - على تقدير ثبوته
بعنوان القطع - فإنما يظهر منه الحجية في الجملة، لا أي خبر يكون،
بل الاجماع واقع على أن كل خبر يكون، ليس بحجة، والظاهر أن
القدر الثابت منه حجية أخبار الثقات لا غير، وكذا مفهوم الآية.
وأما الدليل الأخير وإن كان يثبت منه أعم من ذلك، إلا أن الذي
141

يظهر من الآية، والاجماع - الذي ادعاه الشيخ في (العدة) ويظهر
حقيته من ملاحظة الرجال وغيره - اشتراط العدالة، لكن لا بالنحو
الذي فهمه (صاحب المدارك) ومشاركوه، من أن خبر غير العدل
ليس بحجة أصلا، ولا ينفعه الانجبار بعمل الأصحاب وغيره، بل هو
خلاف المعروف من الأصحاب - كما بيناه في التعليقة - ومع ذلك
في نفسه غلط، لان مقتضى الآية العمل بخبر غير العدل بعد التثبت، و
مدار الشيعة في الأعصار والأمصار كان على ذلك بالبديهة، فإذن
العدالة شرط في العمل بالخبر من دون حاجة إلى التثبت لا مطلقا.
ثم العدالة التي هي شرط، يكتفي فيها بالظنون - كما أشرنا إليه في
(الفائدة السادسة) - بل الظنون الضعيفة أيضا مثل: أن (علي بن
الحكم) هو الكوفي بقرينة رواية (أحمد بن محمد) عنه، لما ذكر في
الرجال: أنه يروي عنه، و (أحمد) يروي عن جماعة كثيرة، وأهل
الرجال ما يتعرضون لذكر الكل.
وبالجملة المدار فيها على الظنون، سواء قلنا إنها من باب الشهادة، أو
باب الخبر، أو باب الظنون الاجتهادية، قال بكل قائل.
والاكتفاء فيها بالظنون من جهة أنه لو لم يكتف يلزم سد باب التكليف،
وهذا بعينه وارد في جانب التثبت أيضا، إذ عمل الشيعة بأخبار
142

غير العدول أضعاف عملهم بأخبار العدول، فكيف يكتفي في الثاني
بمجرد الظنون، ولا يكتفي في جانب الأول؟ مع أن المانع و
المقتضي في الكل واحد.
وأي فرق بين اشتراط العدالة وغيره من الاحكام؟ بل الخبر المنجبر
بعمل الأصحاب أقوى من الصحيح - من حيث هو صحيح - بمراتب
شتى، وبالقبول أحرى.
وبناء الفقهاء في الأعصار والأمصار كان كذلك إلى زمان (صاحب
المدارك).
ومما ذكر ظهر كون الموثق حجة على الاطراد، لحصول التثبت الظني
من كلام الموثقين، ولأن الاجماع الذي ذكره الشيخ في (العدة)
يظهر منه أن مراده العدالة بالمعنى الأعم الشامل للموثق، ويظهر ذلك
من عمل الشيعة، ولا يظهر من الآية ما يضر بذلك، لان الظاهر من
الفسق بحسب العرف ما هو بالجوارح، لا العقيدة أيضا - كما حققناه
في التعليقة - على أن التثبت حصل من كلامهم.
وأما الحسن: فكثير منه يكون حجة، وهو الذي يظهر منه التثبت
الظني، وكذلك القوي، وأسباب التثبت الظني يظهر من التعليقة، و
سنشير إليها مجملا في (الفائدة الثانية والعشرين)، ومن أراد التفصيل
فليرجع إليها. وهذه الطريقة طريقة المجتهدين من القدماء و
المتأخرين سوى قليل منهم، كما أثبتناه في التعليقة.
143

الفائدة الحادية عشر [ة] تنقيح المناط وحجية القياس المنصوص
العلة
قد عرفت أن الموضوعات في غير العبادات مرجعها إلى مثل العرف و
اللغة، فلا يجوز الخروج عن المدلول اللغوي والعرفي أصلا، ولا
مخالفته مطلقا.
ولكن بعض العلماء يقرون العلوم اللغوية، ويميزون بين المجاز و
الحقيقة، وبين مدلول لغة العرب وغير مدلوله، لأجل فهم الآية و
الحديث، واستنباط الحكم منهما، إلا أنهم كثيرا ما يفهمونهما على
طبق ما رسخ في قلوبهم من فتاوى الفقهاء.
مثلا: يفهمون من صيغة الامر: تارة الوجوب، وتارة الاستحباب، و
الأخرى الاذن، وكذا النهي، ومن العام الخاص، ومن الخاص العام، و
من
145

الخطاب بشخص خاص الجميع، مع أن (افعل) و (أنت) ليستا
موضوعتين إلا لمخاطب واحد، ومن الحكم للرجل الحكم للمرأة، و
بالعكس، وهكذا من غير قرينة في متنهما، ولا من آية أو حديث آخر.
والحاصل: أن ديدنهم تطبيق الحديث على ما رسخ في ذهنهم، لا
تطبيق فهمهم على الحديث، ومع ذلك ربما يتفطنون، فيعترضون
على
الفقهاء بمخالفتهم للنص، أو الخروج عنه وأنهم يعملون بالقياس
فيفتون بخلاف فتواهم، ولا يتفطنون أنهم في أكثر المسائل يقلدونهم،
ويفهمون الحديث على طبق فتواهم، وأن المنشأ فيما لم يتفطنوا وما
تفطنوا واحد، ولو اعترض عليهم في الموافقة والمخالفة لقالوا:
هكذا نفهم هناك، لكن لا نفهم هنا مع أن من لم يبلغ رتبتهم يعترض
عليهم بعين ما اعترضوا على الفقهاء، وهم يشمئزون من اعتراضهم،
وينسبونهم إلى القصور، ولا يتفطنون أن ذلك بعينه حال الفقهاء
بالنسبة إليهم، ولا يسعون للبلوغ إلى رتبتهم، فربما كانوا يتفطنون
بالمنشأ ونحن جربنا حالنا في حال القصور وأوائل السن، وحالنا
الان، وإن كنا بعد في القصور، لكن وجدنا بعنوان القطع: أن الذي
كنا نفهم سابقا كان فاسدا قطعا، بل وما أسوأ حالنا لو كنا باقين على
تلك الحالة، فكان فتوانا تؤثر وتنشر، فنسأل الله الهداية و
العصمة عن الغواية بمحمد وآله صلوات الله عليهم والحاصل: أن
الواجب على المجتهد أن لا يخرج عن متون النصوص أصلا ورأسا إلا
بدليل شرعي، ويعرف ذلك بالدليل كي لا يكون مقلدا غافلا، و
يجتهد، إذ قد عرفت أن المعتبر هو ظن المجتهد، وقد عرفت أيضا أن
الذي
146

يحكم بالحق، ويعرف أنه حق هو من أهل الجنة، لا الثلاثة الأخر.
وأيضا ربما يكون الذي يفهمه بسبب ما رسخ في ذهنه يكون مبنيا
على قاعدة ليست بحجة عنده، إذ الخطأ غير مأمون على الظنون، و
كل مجتهد مكلف بما أدى إليه ظنه بعد ما استفرغ وسعه على النحو
الذي ذكرنا وظهر دليله أيضا، والدليل الذي يخرج بسببه عن النص
بأن يتعدى عنه، أو يحمل على خلاف ظاهره، لا بملاحظة نص هو
الاجماع غالبا بسيطا أو مركبا، فلا بد من ملاحظة دليل الاجماع و
تحققه وسيأتي بيانهما إن شاء الله.
وربما يخرج بحكم العقل، مثلا: إذا ورد في امرأة اشتبه دم حيضها
بالعذرة إن خرجت القطنة مطوقة فهو عذرة.... إلخ نجزم أن هذا
حالة جميع النساء، لان خلقتهن واحدة، لا خصوصية لامرأة فيه، و
ربما يخرج بقاعدة تنقيح المناط، وهو مثل القياس، إلا أن العلة
المستنبطة فيه يقينية، بناء على القاعدة المسلمة عند الشيعة من كون
الحسن والقبح عقليين، وعدم جواز تخلف المعلول عن العلة التامة،
و
التنقيح لا يحصل إلا بدليل يقيني شرعي، فينحصر دليله في الاجماع
والعقل، ومن هذا لا يذكر فقهاؤنا في كتبهم الاستدلالية اسم (تنقيح
المناط غالبا لان الحجة في الحقيقة هي تنقيح المناط بعنوان
اليقين، وهو منحصر فيما ذكر.
وإنما قلنا: بعنوان اليقين، لان الظني: إن كان بغير النص فهو بعينه
147

القياس الحرام، وإن كان النص فهو القياس المنصوص العلة، وفي
حجيته خلاف:
قيل: بعدم الحجية مطلقا.
وقيل: بالحجية مطلقا، وهو المشهور المعروف في الكتب
الاستدلالية.
وقيل: إن قام دليل من الخارج على عدم مدخلية خصوص المادة فهو
حجة، وإلا فلا.
وخيرها أوسطها، للفهم العرفي من دون تأمل منهم أ لا ترى أنه إذا قال
الطبيب لواحد - لا تأكل هذا، لأنه حامض أو حلو - يعلم بلا تأمل
أن الطبيب منعه عن أكل كل حامض أو حلو، وهكذا جميع
استعمالاتهم، فيكون العموم مدلول اللفظ عرفا، وقد مر أن الشارع
يتكلم
بعنوان العرف، ويخاطب على طريقتهم.
ومما يخرج بسببه القاعدة الثابتة عن نص مثل قولهم:
(إذا قصرت، أفطرت، وإذا أفطرت قصرت)، وهذا كسابقه، وإن كان
مما يخرج عن النص بملاحظة النص، إلا أنهما بعنوان القاعدة.
ومما يوجب التعدي عن مقتضى النص أيضا: القياس بطريق أولى، و
الشيعة مجتمعة على حجيته.
نعم نزاعهم في طريقها.
والحق: أنه الدلالة الالتزامية، فلو لم يصل إلى هذا الحد لا يكون
148

حجة، ولذا ورد في بعض الاخبار المنع عن العمل بعد ما قال السائل:
نقيس على أحسنه هذا. وربما تكون الدلالة يقينية.
ومما يوجب التعدي أيضا القاعدة المسلمة عندهم (ككون البينة على
المدعي، واليمين على المنكر). (وأن النكول موجب للحكم).
ومما يوجب التعدي أيضا: اتحاد طريق المسألتين، مثل: الحكم
بتحريم ذات البعل بالزنا بها، بسبب تحريم المعتدة بالعدة الرجعية
بالزنى بها، للنص على أنها بحكم الزوجة، فالزوجة أولى، فإن
الظاهر من الفقهاء أنه ليس بقياس أصلا، وأن المنشأ الفهم العرفي، و
هو كذلك بعد وجود ذلك النص وملاحظته.
ويعضده تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلية، سيما وهذا
الوصف شرط في التحريم بلا ريبة.
مضافا إلى الاستقراء في كون حكمها حكم ذات البعل في كثير من
149

الاحكام.
ومما يوجب التعدي أيضا عموم المنزلة: مثل أن التيمم بمنزلة الطهارة
المائية.
ومما يوجب ذلك أيضا عموم المشابهة كما في التشبيهات و
الاستعارات في مقام يظهر أن المشابهة هي المشابهة في الحكم
الشرعي، و
أن الغرض تفهيم الراوي ذلك، هذا إذا كان مجموع وجه الشبه على
حد سواء في الظهور، وانصراف الذهن، أو القدر الذي يكون كذلك،
مثل: (الطواف بالبيت صلاة) و (الفقاع خمر)، وإطلاق الخمر على
النبيذ، وغير ذلك، وهذا أيضا منشأه الفهم العرفي.
ومما يوجب التعدي أيضا: عموم البدلية، مثل: حكمهم في التيمم
بوجوب تقديم مسح اليمين على اليسار، لأنه بدل وغير ذلك، و
المنشأ في
هذا أيضا الفهم العرفي.
150

الفائدة الثانية عشر [ة] إذا خوطب جماعة هل يعم غير المشافهين؟
قد عرفت: إنه إذا ورد حكم وارد في شخص يفهم منه الشمول
للجميع، لكن لا كل مكلف، بل المكلف الذي يكون من صنف ذلك
الشخص،
أي لا يكون متصفا بالوصف الذي وقع النزاع في اتحاد حكمه مع
حكم ذلك الشخص، أو وقع الاجماع على عدم الاتحاد مثل: أن يكون
حاضرا، ووقع النزاع في المسافر، أو مختارا، ووقع الاجماع على
مخالفة المضطر له، وهكذا سائر الأوصاف.
وكذلك لأنك عرفت أن دليل التعدي مستنده الاجماع، وهو غير
متحقق في محل النزاع، ولذلك لا يفهم العموم بالنسبة إلى محل
النزاع،
وهذا دليل على أن فهم التعدي إنما هو من الاجماع وبواسطته.
وأما إذا خوطب جماعة مثل: - يا أيها الناس افعلوا - ففيه النزاع
151

المشهور: في أنه هل يعم غير المشافهين من الموجودين والمعدومين
أم لا؟ والشيعة بأجمعهم على عدم العموم اللغوي، وذلك لان هذه
الصيغة موضوعة للمشافهين ك (أنت، وأنتم، وأفعل، وافعلا، و
افعلي) وغير ذلك، ولا شك في كون الكل حقيقة في الحاضرين،
فالاستعمال في الغائبين، أو الملفق منهما مجاز قطعا، فيتوقف على
القرينة، ولا قرينة، إذ الكلام فيه، ومجرد الاشتراك في التكليف لا
يكون قرينة على تعميم الخطاب والإرادة، ألا ترى أنا الان نقول
لواحد: افعل، ولجماعة: افعلوا، ولا شك في أنا لا نتكلم إلا مع
الحاضرين، ولم نرد إلا إياهم، ولا يخطر ببالنا سواهم أصلا ورأسا، مع
أنا نجزم من الخارج باشتراك من سواهم معهم في الذي نقول
لهم: افعلوه، ونقطع بأن الأئمة عليهم السلام حين ما كانوا يقولون -
لرجل: افعل كذا، ولامرأة: افعلي كذا، ولحاضرين: افعلوا كذا - ما
كانوا يريدون إلا ما نريد، وكان مكالماتهم مثل مكالماتنا.
وجوز بعض الأشاعرة توجيه الخطاب إلى المعدوم، ومال بعض
منا إلى هذا المذهب مستدلا بجواز أن نقول: افعلوا، ونريد
الحاضرين والغائبين.
وفيه: أنهم إن أرادوا الجواز بعنوان الحقيقة فلا شك في فساده، كما
عرفت. وإن أرادوا بعنوان المجاز فلا نزاع في صحته، بل وفي
صحة استعماله
152

في المعدومين خاصة أيضا، ولم يقل به أحد في المقام. وصحة هذا
إذا كانت قرينة، لا بغير قرينة، لان الأصل في الألفاظ أن تحمل على
الحقيقة إن لم تكن قرينة صارفة، ومحل النزاع هو ما ليست فيه قرينة،
بل محل النزاع ليس إلا الخطاب مع المعدوم، وما ذكرت ليس
بخطاب قطعا، بل غيبة، أو خطاب وغيبة. ومن نازع في الغيبة؟ و
كيف يتصور النزاع فيها؟ ثم اعلم: أنه غفل بعض أعاظم الفحول في
المعقول والمنقول، وقال:
النزاع هنا لا ثمرة فيه، بعد أن علم الاجماع على الاشتراك في
التكاليف، وذلك لان فيه ثمرتين عظيمتين ديدن الفقهاء التعرض
لهما:
الثمرة الأولى: ما ذكره صاحب المعالم فيه في الدليل الرابع الذي أتى
به لحجية أخبار الآحاد: من أن المدار في فهم القرآن على الظنون
الاجتهادية كالحديث، وذلك لان الخطاب لو كان معنا لكنا نحكم بأن
الشارع أراد منا ما نفهم، وما هو الاصطلاح بيننا وبين الشارع
بلا تأمل، لقبح الخطاب معنا بما لا نفهمه.
وأما إذا كان مع غيرنا فلا شك في أنه يريد منه - في هذا الخطاب -
الذي يفهمه هو لا الذي يفهمه الغائبون، فعلى هذا نبذل جهدنا في
استحصال مفهوم الراوي، وحيث لا يحصل لنا العلم، فنتحرى ونعمل
بالاجتهاد في تحصيل ما هو أقرب إلى ظننا، كما ذكرناه في
(الفائدة الرابعة).
والثمرة الثانية: هي ما ذكرناه الان من أن الشرط أن يكون غير
المخاطب من صنف المخاطب، لان الاجماع إذا وقع كان دليلا فلا
يكون
153

في محل النزاع.
مثلا إذا استدل الموجب لصلاة الجمعة بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة... الآية. يجيبون: بأن الخطاب مع
المشافهين، والمشافهون كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم أو من ينصبه، فلا نزاع في وجوب الصلاة حينئذ، وأن كل
من هو مثلهم في وجود المنصوب من قبل الشارع له يكونون مشاركين
مع المشافهين إلى يوم القيامة، فالقدر الثابت من الاجماع هو هذا
القدر خاصة، لان غيره محل النزاع.
وأما إذا كان الخطاب شاملا لغيرهم إلى يوم القيامة فلا شك في
الشمول لهم من غير تقييد بوجود المنصوب لاطلاق الآية.
ثم إنك عرفت: أن الحكم إذا ورد للرجل فيفهم، اشتراك المرأة معه
فيه، وإذا ورد للمرأة اشترك الرجل معها، لكن هذا الفهم في
الموضع الاجماعي، لما عرفت من أن المنشأ للفهم هو الاجماع.
وأما الموضع الخلافي: فذهب بعض المتأخرين: إلى اختصاص
حكم كل بنفسه للأصل.
وربما مال آخر إلى أن الأصل الاشتراك إلا أن يثبت الاختصاص، و
ربما كان بناؤه على أن الاجماع وقع كذلك، أو ان من الاستقراء و
تتبع تضاعيف الاحكام يظهر ذلك، أو مما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
154

أنه قال: (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة).
لكن ثبوت هذه الأمور يحتاج إلى التأمل في أن الاجماع هل وقع
كذلك؟ فلا بد من التأمل. وأن الاستقراء أي شئ يفيد؟ والتأمل في
الخبر بحسب السند والدلالة: بأن المراد لعل (ه) الجماعة التي تكون
من صنفه، أي جماعة ذلك الواحد. فتأمل، لأنه صلى الله عليه وآله و
سلم لم يقل على جميع الأمة، بل قال: (على الجماعة)، وهي لفظ
مقابل للواحد، والفرق بينهما واضح.
على أنه لو كان المراد الجميع لزم خروج ما لا يحصى كثرة.
هذا مع أن في السند ما لا يخفى.
155

الفائدة الثالثة عشر [ة] دفع توهم
قد عرفت عدم جواز التعدي عن مدلول لفظ الحديث، وتوهم بعض
أن الامر حقيقة في الطلب، والفقهاء يخرجون حيث يحملونه على
الوجوب، وكذا النهي، محتجا بعدم تبادر غير الطلب منهما، لان المنع
عن الترك في الأول وعن الفعل في الثاني لا يتبادر إلى الذهن
أصلا.
وفيه: أنه إذا أراد مفهوم المنع عنهما فمسلم لكن المفهوم ليس جز
مفهومهما، بل المصداق، وإن أراد ما صدق عليه المنع فالحكم بعدم
التبادر مكابرة، كما لا يخفى فإن المتبادر إلى الذهن طلب خاص، أي
بعنوان عدم الرضا بهما.
157

وبالجملة: هو جز عقلي يعرفه العقل في ظرف التحليل، وإلا ففي
الواقع ليس إلا طبيعة واحدة، كما هو الحال في الأنواع.
مثلا: إذا سمعنا لفظ الفرس لا يتبادر إلى الذهن سوى صورة واحدة
بسيطة تنحل في ظرف العقل إلى أجزأ كثيرة كل جز مصداق
مفهوم مثل:
الجوهرية، والقبول للابعاد الثلاثة، وهكذا، وأما تلك المفاهيم، فلا
تخطر ببالنا.
والمتبادر من الصيغتين طلب بعنوان عدم الرضا بالفعل أو الترك، بل
المتبادر في الدعاء، والالتماس أيضا كذلك، إلا أنه لا يجب
امتثالهما عرفا وعند العقلا، لعدم كونهما على سبيل العلو، فلا يذم
تاركهما وهما مقيدان به حقيقة لغة وعرفا ولذا يذم تاركهما، لا
لان الوجوب شرعي، أو الذم وعدم العصيان شرعي، ولا لأنهما
حقيقتان في القدر المشترك بين الامر والدعاء والالتماس.
فظهر فساد أوهام كون الوجوب شرعيا، أو الذم شرعيا، أو كونهما
حقيقة في القدر المشترك المزبور.
ثم اعلم: أن صاحب المعالم رحمه الله ذكر: أن الامر في أخبار الأئمة
عليهم السلام قد كثر استعماله في الندب بحيث ارتفع الوثوق في
الحمل على الوجوب.
وفيه نظر: لان الأصل البقاء على المعنى اللغوي حتى يثبت خلافه، و
بمجرد كثرة الاستعمال لا يثبت.
مع أنه في مبحث الحقيقة الشرعية رجح عدم الثبوت وكون الألفاظ
باقية على المعنى اللغوي لأصالة عدم النقل. مع أن استعمالها في كلام
الشارع
158

في المعاني الشرعية أكثر منه في المعاني اللغوية بمراتب.
وأيضا رجح في مبحث العموم كون ألفاظه باقية على العموم، ظاهرة
فيه، مع أن استعمالها في الخصوص إلى حد اشتهر: أنه ما من عام
إلا وقد خص، ومسلم هذا عنده.
وأيضا أكثر اللغات مجازات، وأكثر استعمالات العرب مجازات، بل
الحقائق في جنبها قليلة.
وأيضا لو تم ما ذكره لزم ارتفاع الوثوق بأخبار، إذ قل ما يوجد حديث
لا يكون محمولا على خلاف ظاهره من التخصيص، والتقييد و
غيرهما.
وأيضا نفس المستحبات في غاية الكثرة، والواجبات في جنبها في
غاية القلة، والرواة كثيرون في غاية الكثرة، والمعصومون عليهم
السلام أيضا كثيرون، فلو كثر الاستعمال، فلانه بالنسبة إلى كل واحد
من الرواة وقع قليل، فتحقق الكثرة والمعتبر فهم الراوي كما
قلنا، وفي كل واحد من آحاد الأوامر الكثيرة لم يتحقق الكثرة، حتى
يرتفع الوثوق للراوي.
مع أنه ورد أيضا عن الصادق عليه السلام أنه قال لهشام: (إذا أمرتكم
بشئ فافعلوه)، والقرينة واضحة على أن المراد هنا الوجوب و
معظم الامر إنما ورد عنه عليه السلام.
159

ثم إن صاحب الذخيرة تبعه في ذلك إلا أنه في الموضع الذي حكم
المشهور بالوجوب يقول بالوجوب معللا بأنهم فهموا الوجوب. وفيه:
ان كل الشيعة قالوا إن الامر للوجوب في كلام الأئمة أيضا فهم يفهمون
ذلك البتة وفهمهم وحكمهم من هذه الجهة وأنت متأمل فيه
فكيف إذا حكم المشهور منهم بالوجوب بسبب أنهم فهموه.
واعلم أيضا أن القول بأن إيجاب ذي المقدمة إيجاب لمقدمته أيضا
مطلقا كما هو المشهور أو إذا كانت شرطا كما قال به بعض، أو إذا
كان [ت] سببا كما قال به بعض خروج عن مدلول النص، وتعد عنه
من غير دليل، لعدم كونه مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما، لعدم
اللزوم عقلا وعرفا.
وما استدل به على اللزوم مدخول غير تام.
نعم في الموضع الذي يكون قرينة فالامر على حسب ما اقتضاه
القرينة.
والكلام في أن الامر بالشئ هل يستلزم النهي عن ضده الخاص؟ مثل
ما ذكر.
وربما توهم متوهم: أن القائل بوجوب المقدمة يقول بالعقاب على
تركها على حدة.
وليس كذلك، لأنهم قد صرحوا: بأن العقاب إنما هو على ترك ذي
المقدمة.
160

نعم الثمرة متحققة في أن المقدمة لا يمكن أن تصير منهيا عنها، وأن
من نذر فعلا واجبا متعددا يكون آتيا بالمنذور بواسطة المقدمة
أيضا، وغير ذلك فتأمل.
161

الفائدة الرابعة عشر [ة] النهي عن الشئ هل يقتضي الفساد
إذا وقع النهي عن شئ: فهل يقتضي فساد ذلك الشئ، فيكون الفساد
مدلولا التزاميا للنهي، أم لا، فيكون خارجا عن المدلول، والحكم به
تعديا عن المدلول؟ قيل: نعم.
وقيل: لا.
وقيل: نعم في العبادات، دون المعاملات، وهو المشهور.
والفساد في المعاملات: عبارة عن عدم ترتب أثر شرعي أصلا.
وفي العبادات: عدم موافقة الامر، أو عدم إسقاط القضاء، أو غير ذلك.
فلنتكلم أولا في العبادات:
163

فنقول: العبادات الواجبة لا تكون إلا مأمورا بها، فإذا ورد النهي فإما أن
يكون بين المأمور به والمنهي عنه: تساو، أو تباين، أو عموم
مطلق، أو عموم من وجه:
والأول: لا بد فيه من الجمع والتأويل إن أمكن، وإلا فطرح أحدهما
متعين كما سيجئ في تعارض الاخبار.
والثاني: لا غبار عليه.
والثالث: يجمع بينهما بتخصيص العام، لأنه من جملة العام والخاص
المتنافي الظاهر.
وقال بعض الأصوليين: بجواز اجتماع الأمر والنهي فيه كما في العام
من وجه.
وفيه نظر: لان أهل العرف لا يفهمون من ذلك سوى التخصيص مثلا:
إذا قال المولى لعبده - أكرم عالما ولا تكرم زيدا - لا يفهمون منه
سوى التخصيص والاستثناء كما في قوله - أكرم العلماء ولا تكرم زيدا
- لا يفهمونه إلا أنه يريد من العلماء من سوى زيد، لا أنه يريد
إكرام زيد أيضا من حيث أنه عالم، وعدم إكرامه من حيث الخصوصية.
وهذا واضح [لمن] تتبع استعمالات أهل العرف وطريقة الفقهاء
مثل: اقرأ سورة بعد الحمد، ولا تقرأ السجدة، وصم، ولا تصم يوم
العيد إلى غير ذلك.
وقد عرفت: أن طريقة خطابات الشرع طريقة خطابات أهل العرف، و
لا يريد منهم سوى ما يفهمون، وإن قلنا: بأن الاجتماع فيه غير
مستحيل عقلا. فتأمل.
164

وأما العموم من وجه: ففيه النزاع المشهور بين الشيعة والأشاعرة:
فإن الأشاعرة يقولون: بجواز الاجتماع فيكون العمومان باقيين على
حالهما من غير تخصيص ولا تعارض بينهما فيكون الآتي بما فيه
التصادق ممتثلا وعاصيا معا.
والشيعة يقولون: بعدم الاجتماع فيكون ما تصادق فيه العمومات
بحسب ظاهر اللفظ خارجا عن أحد العمومين قطعا، ويكون بينهما
التعارض من وجه بنحو يكون أحدهما مخصصا للاخر.
فإن كان أحدهما أقوى بحسب الدلالة أو غيرها فيتعين أن يكون
المخصص للاخر هو، لا الاخر، وإلا فيرجع فيه إلى الأصول والقواعد.
ولما كان في المثال الذي مثلوه - وهو الصلاة في الدار المغصوبة -
طرف النهي أقوى من حيث الدلالة، وبعض الوجوه الخارجية أيضا: -
وهو أن دفع المفسدة أهم من جلب المنفعة التي [ت] تحقق بالطريق
الاخر - اختاروا الحرمة وجعلوا ما دل عليها هو المخصص للاخر، و
إن كان بعض المتأخرين اختار الصحة وعدم الحرمة، وجعل الامر
بالعكس، مع أن الظاهر من المسلمين كون الحرمة مجمعا عليها
عندهم.
وجمع من محققي المتأخرين (1) اختاروا مذهب الأشاعرة، ويدعون
معلومية عدم استحالة الاجتماع، ويقولون: إن المستحيل اجتماع
المطلوب من جميع الوجوه، والمبغوض كذلك، وأما المحبوب و
المبغوض من وجه فلا.
والحق ما ذهب إليه الشيعة: فإن الامر المبعد عن (الله) تعالى كيف

(1) هم المحقق الأردبيلي والفاضل الشيرواني وسلطان العلماء و
غيرهم قدس الله أسرارهم على ما حكى عنهم الميرزا القمي رحمه
الله
في كتابه القوانين: 140.
165

يصير مقربا إليه حينما هو مبعد؟ والموجب لدخول النار كيف يصير
موجبا لدخول الجنة؟ بل المقرب إلى العقاب مبعد عن الثواب، و
المقرب إلى الثواب مبعد عن العقاب، فكيف يجدي تعدد الجهة؟
(نظير أن يقول في الكفارة المخيرة: صم شهرين، أو أطعم، أو أعتق، و
إلا
لعاقبتك، ولكن لا تختر في هذه الكفارة من بين الخصال الثلاث
المذكورة خصلة واحدة منها: مثل العتق، أو الصوم، أو الاطعام، وإلا
لعاقبتك، فإن شناعتها واضحة. سيما بعد ملاحظة أن ما اختاره
المكلف يتعين كونه الواجب خاصة).
وأيضا إذا أراد المصلي أن يركع في المغصوب فكيف يقول تعالى له:
لا تركع هذا الركوع البتة، ولو ركعت لعاقبتك، ويهدده ويخوفه على
الفعل، ومع ذلك يقول له: اركع هذا الركوع أو غيره أيهما شئت،
ولو تركت لعاقبتك ويهدد ويحذر على الترك؟ وكيف يتأتى للعاقل
أن ينسب ذلك إلى حكمته تعالى؟ فضلا عن أن ينسب مثل ذلك
إلى كل واحد واحد من حركات الصلاة وسكناتها، وكل واحد من
أجزأ جميع ما تصادق عليه فيه عمومات كذلك، فإن ذلك مما لا
يرضى
عاقل أن ينسبه إلى عاقل، فضلا عن أن يكون حكيما، فكيف ينسب
إليه تعالى؟ قال بعض الأعاظم: (1) لو قلنا بأن متعلق التكليف هو
الطبيعة فلا

(1) راجع شرح الوافية للسيد صدر الدين وهو أستاذ المصنف رحمه
الله: 26، وهي مخطوطة برقم 2656، من النسخ الخطية لمكتبة آية
الله العظمى السيد المرعشي قدس سره حيث قال: (إذ العقل لا يأبى
عن اجتماع المطلوبية والمبغوضية في شئ بجهتين
166

إشكال في جواز الاجتماع، ولو قلنا بأنه الافراد فلا إشكال في عدم
الجواز.
وفيه نظر: لان الكلام إنما هو فيما اختاره المكلف وأتى به للامتثال، و
أن النزاع في صحة كونه طاعة وعصيانا معا، ولا شك في أن
الجز الحقيقي، والشخص الواحد الخارجي لا تركيب فيه من
الطبيعتين تركيبا خارجيا، بل الموجود في الخارج ليس إلا الشخص
الواحد
البسيط الذي هو بعينه غصب، وهو بعينه جز من الصلاة، لان
الطبيعتين في الخارج وجود كل منهما فيه عين وجود الاخر، وعين
وجود
الفرد، فإن الشخص البسيط إذا كان مبعدا عن الله تعالى فكيف يكون
مقربا إليه تعالى؟ مع أن قصد القربة شرط في العبادات وفاقا من
الخصم، بل بالاجماع والآية والاخبار، فكيف يمكن قصد التقرب
بفعل يكون هو بعينه وبشخصه مبعدا عن الله تعالى؟ بل لو قلنا
بتركيب هذا الشخص في الخارج من المقرب والمبعد فكيف يمكن
أن يكون مقربا إليه تعالى في حال كونه مبعدا عنه تعالى؟ وأيضا:
الإطاعة هي الاتيان بما أمر به، والعصيان هنا هو الاتيان بما نهى عنه،
والآتيان إيجاد الشئ في الخارج. وقد عرفت: أن الذي يوجده
المكلف في الخارج ليس إلا الشخص الواحد البسيط، فيلزم أن يكون
هو بعينه مأمورا به، لان الإطاعة لا تتحقق إلا بالموجود، والموجود
ليس إلا هو، وهو أيضا بعينه منهي عنه، لان العصيان لا يتحقق إلا
بالموجود.
ومجرد الاتصاف بوصفين ممتازين في الذهن دون الخارج كيف
ينفع؟
واستلزامه امتناع الإطاعة في طرف النهي سلم على تقدير تعلق
الوجوب بالافراد وأما على تقدير تعلقه بالماهية فممنوع).
167

ولو كان ينفع لكان ينفع أيضا على تقدير كون متعلق التكليف هنا
الفرد، لعدم تعقل فرق أصلا.
وأيضا لا شك في أن هذا الشخص من القيام مثلا تصرف في ملك
الغير بغير إذنه، فيكون غصبا، فيكون حراما، لان كل شخص من
الغصب حرام عقلا وإجماعا واستفادة من النصوص لغة وعرفا، ولأن
أحكام الغصب تترتب على أشخاص الغصب وتتفاوت بتفاوتها
كما وكيفا مثل: الضمان، واشتغال الذمة بأجرة المثل، وأعلى القيم، و
أعلى الأجرتين. ولا شك: في أن ذلك الشخص من القيام بعينه جز
الصلاة وركن فيها.
وأيضا متعلق الوجوب والحرمة وغيرهما هو نفس أفعال المكلفين، و
ليس الموجود ثلاثة أفعال: (أحدها) فعل المكلف، (وثانيها) ركن
الصلاة، و (ثالثها) الغصب، بل الموجود ليس إلا شخصا واحدا من
فعله الذي هو غصب بعينه، وهو ركن الصلاة بعينه.
ومما يؤيده أيضا: أنهم يبنون العام على الخاص في العام والخاص
المطلقين بلا تأمل، مع أن اختلاف الجهتين متحقق فيه أيضا.
والذي أوقع الأشاعرة في الوهم أنه ربما يؤمر بشئ، لا لأنه مطلوب،
بل لأنه وسيلة إلى مصلحة هي مطلوبة، ونرى أنه تتأتى تلك
المصلحة بذلك المأمور به، وإن كان منهيا عنه.
والحاصل: أن الذي وجوبه توصلي لا مانع من أن يجتمع مع النهي بعد
ما علمنا أن المصلحة تتحقق به مطلقا، إلا أنه على الطريقة المحرمة
يكون حراما أيضا، مثل: إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق، ونحوهما، فإنها
لو وقعت بوجه حرام، وحصل الانقاذ والاطفاء تحققت تلك
المصلحة قطعا، ولا يجب أن يغرق أو يحرق تارة أخرى، ثم ينقذ أو
يطفئ بعد ذلك بالنحو المشروع،
168

وإن فعل حينئذ يكون معاقبا قطعا.
وكذا الواجبات الكفائية التي هي من المعاملات مثل الزراعة و
التجارة، وسائر الصناعات، فإن قصد القربة لا يشترط فيها وإن فعلها
بقصدها يثاب، لكن لو تركها لم يعاقب. نعم لو فعلها بقصد الأجرة أو
غيرها فلا يستحق ثوابا، وإن فعلها بقصد حرام فلا يعاقب (بإزاء
عدم فعلها) ولا يقال له: لأي شئ ما أتيت بها؟ بخلاف العبادات،
بل يعاقب، ويقال: لم قصدت هذا القصد الحرام؟ والفقهاء صرحوا
في قطع طريق الحج: بأن الوجوب التوصلي يجتمع مع الحرام، ومن
هذا القبيل: غسل الثوب، والبدن، أو الظروف عن النجاسة بالماء
المغصوب أو بعنوان الغصب، أو غير ذلك من الوجوه المحرمة.
ومن هذا القبيل: ما لو أمر المولى عبده بخياطة ثوبه، ونهاه عن الكون
في مكان خاص، فخاطه فيه، بل ولو نهاه عن الخياطة في ذلك
المكان أيضا، كما لا يخفى على المتأمل.
وحيث عرفت: أن الأمر والنهي لا يجتمعان فالنهي في العبادة يقتضي
الفساد إذا تعلق بنفسها أو بجزئها أو بشرطها، لعدم الدخول في
المأمور به، فلا يكون عبادة.
وأما العبادات المكروهة: فليس فيها المانع (1) الذي ذكرناه، وذلك
لان أحد فردي الواجب المخير ربما يكون مرجوحا بالنسبة إلى
الاخر كالقصر

(1) وهو ان المبعد لا يكون مقربا والمعصية لا تكون طاعة.
169

في المواطن الأربعة، والظهر في يوم الجمعة على المشهور، وغير
ذلك، ولا مانع من أن تصل المرجوحية إلى حد يستأهل إطلاق اسم
الكراهة عليه، والمرجوحية بالقياس إلى غيره تجتمع مع الرجحان في
نفسه إلا أنه مرجوح بالنسبة إلى غيره حال التمكن من ذلك الغير،
فالرجحان حقيقي والمرجوحية إضافية، وعدم التضاد بينهما بين، فلا
داعي إلى ارتكاب العنايات فإن هذه الشبهة ما نشأت إلا من
طرف تضاد الاحكام، فكما لا يكون تضاد بين الوجوب لغيره، و
الاستحباب لنفسه بلا شك ولا شبهة - كغسل الجنابة على المشهور،
فأنه مستحب لنفسه، وواجب لغيره، وواجب لنفسه ومستحب لغيره
إذا كان للصلاة والطواف المندوبين على القول بوجوبه لنفسه، أو
يكون منذورا - كذا لا يكون تضاد بينه وبين الكراهية للغير، لعدم
تعقل فرق، ولشهادة الوجدان بعدم التضاد فيهما أيضا، كصلاة
الصائم وقت الافطار مع منازعة النفس، أو انتظار الرفقة.
والفقهاء ذكروا المكروه بالغير كثيرا، وثبت من الاخبار أكثر مثل:
الاتزار فوق القميص للصلاة، واشتمال الصماء (1) وغير ذلك، مع أن
جواز تحققه بديهي فيكفي ذلك لرفع الشبهة بلا شبهة.
وبالجملة المكروه: هو الراجح الترك، الجائز الفعل، سواء كان رجحان
تركه مطلقا أو لذاته، أو بالقياس إلى بدله وفرد آخر، ولا شك
في أن

(1) اشتمال الصماء: عن الصادق عليه السلام (هو أن يدخل الرجل
رداءه تحت إبطيه، ثم يجعل طرفيه على منكب واحد) مجمع البحرين
6:
103.
170

المرجوحية بالقياس إلى الغير لا تضاد الرجحان النفسي وإن كان في
المستحب.
لا يقال: لعل الصلاة في الدار المغصوبة تكون كذلك أيضا.
لأنا نقول: قيام الصلاة مثلا تصرف في مثلك الغير من دون إذنه فيكون
نفسه غصبا، والغصب حرام بنفسه كالقتل، والزنا، وأمثالهما.
مع أن الحرام الإضافي وبالقياس إلى الغير ليس معناه إلا أنه حرام في
صورة كذا، أو بانضمام كذا، وأمثال ذلك كما لا يخفى، بخلاف
المرجوح الإضافي، والمرجوح إلى الغير، وبالنسبة إلى الغير، وفي
جنب الغير.
ولعله إلى ما ذكرناه نظر من قال بأن الحرمة ترجع إلى ذات الفعل،
بخلاف الكراهة، فإنها ربما ترجع إلى الخارج عنه. فتأمل جدا.
فإن قلت: الجمع بين هذين التكليفين غير ممكن.
قلت: لا ضرر في ذلك أصلا لمكان تجويز الفعل والترك. كيف؟ و
المستحبات من الكثرة بحيث لا يمكننا الجمع بين عشر معشارها، و
مع ذلك يكون الكل مستحبا، لو أتينا بأي واحد منها يكون المأتي
راجحا، وإن كان الذي تركناه، وعدلنا عنه يكون أولى وأرجح
بمراتب شتى، بل وإن كان واجبا على ما هو الحق من أن الامر بالشئ
لا يستلزم النهي عن الضد.
ومما ذكر ظهر الجواب عن الصلاة في الأوقات المكروهة أيضا - لو
سلم الكراهة - لان الاحكام صدرت على ما هو مقتضى العادة، و
خارج عن العادة، أن يصلي أحد جميع أوقات إمكان الصلاة.
والأشاعرة عجزوا عن جوابها، لان استحباب الصلاة مستوعب لجميع
أوقات إمكان فعلها.
ويمكن أن يقال بعنوان القاعدة: إن كل مرجوحية تحققت في فرد
171

باعتبار خصوصية أوجبت نقصا في قدر الرجحان الذي يكون لنفس
طبيعة عبادة يستأهل إطلاق اسم الكراهة عليه بسبب تلك
المرجوحية. فتأمل.
172

الفائدة الخامسة عشر [ة] [في النهي عن المعاملات]
اعلم أن الصحة فيها: عبارة عن ترتب الأثر الشرعي عليها من جهتها أي
أثر يكون.
والصحة حكم شرعي يتوقف ثبوتها على دليل شرعي، فلو لم يكن
دليل شرعي لم يحكم بصحتها، فعدم الصحة لا يحتاج إلى دليل، بل
يكفي عدم دليل له.
وأما إذا ورد النهي عن معاملة خاصة، وكان هناك دليل يقتضي الصحة
بعمومه فالمشهور أنه لا يقتضي عدم الصحة، لان المقتضي
للصحة موجود، والمانع عنها مفقود، لعدم التنافي بين الصحة و
الحرمة، كمن وطئ زوجته حال الحيض، فإنه يلزمه المهر كاملا، و
العدة
وصحة النسب.
وقيل: باقتضائه الفساد، لان أهل العرف يفهمون كذلك، ولما ورد في
173

بعض الاخبار: من صحة عقد المملوك إذا كان بغير إذن مولاه، ثم
رضي مولاه معللا بأن ذلك لأنه (لم يعص الله بل عصى سيده).
فإن الفقهاء في الأعصار والأمصار كانوا يستدلون بالنهي على الفساد.
وفيه: أنهم كثيرا ما يصرحون بأن النهي فيها لا يدل على الفساد، فربما
توهم التناقض في كلامهم، وليس كذلك، لان الموضع الذي
يستدلون به على الفساد هو الموضع الذي يكون [فيه] مقتضي الصحة
منحصرا في مثل:
أحل الله البيع وحرم الربا وأوفوا بالعقود وأوفوا بالعهد وتجارة
عن تراض.
وذلك لان (أحل الله البيع) لا يقتضي صحة البيع الذي ليس بحلال،
بل مقتضاه صحة البيوع التي لم يرد النص بحرمتها، لان الحلال و
الحرام متضادان قطعا، والحلية تدل على الصحة بالالتزام، وذلك: لان
مقتضي عقد البيع ومعناه نقل المبيع إلى المشتري بإزاء نقله
الثمن إلى البائع، وكانوا يعاملون كذلك، وواضع الصيغة للوجوب هو
العرب، والله تعالى أمضاه بقوله: أحل الله البيع وحرم الربا، و
كذلك أوفوا بالعقود،
174

ومقتضاه صحة العقد الذي يجب الوفاء به، والحرام لا يجب الوفاء
به، لكونه تعالى يعاقب بفعله، فكيف يعاقب بترك الوفاء به؟ فالظاهر
أن أهل العرف يفهمون التنافي بين هذين. فتأمل.
وكذا الكلام في أوفوا بالعهد.
وأما تجارة عن تراض فهو مستثنى عن أكل الأموال المنهي عنه،
فمعناه: أن هذا ليس بحرام، فهو نقيض صريح لقوله تعالى: حرم. (1)
والحاصل: أن المنهي عنه ليس له مقتض للصحة، فلا يمكن الحكم
بالصحة، وقد عرفت أن عدم المقتضي كاف لعدم الصحة، مضافا إلى
أصالة بقاء الحكم السابق، ولو كان له مقتض للصحة غير ما ذكرنا لم
يكن النهي مانعا عن الصحة. نعم هو مناف لخصوص المقتضيات
المذكورة.
فالفرق بين ما نحن فيه وبين العبادات: أن النهي هنا مناف لهذه
المقتضيات، لا لنفس الصحة ولا لمقتض آخر لا يكون مثل هذه، وأن
اقتضاءه الفساد إنما هو في هذه الصورة لا مطلقا، وأنه لا يقتضي
الفساد واقعا، بل غايته عدم حكمنا بالصحة واقعا، والحكم بالفساد
ظاهرا استصحابا للحالة السابقة، بخلاف العبادات فإنه يقتضي الفساد
فيها دائما وواقعا لاستحالة الاجتماع، ومنافاته لنفس الصحة
هناك.

(1) ف: حرام، والظاهر أن المصنف رحمه الله يريد ب (لقوله تعالى:
حرام أو حرم) مفاد قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا
ان تكون.. الآية.. النساء: 29.
175

هذا مع أنه ربما يظهر من النهي في خصوص المقام أنه لا يترتب عليه
الصحة، لكن هذا بمعونة القرينة.
وأما الرواية: فلا تدل على المطلوب أصلا إن حملنا العصيان على
قسم خاص، لاشتراط الخصوصية وعدم معلوميتها، وإلا فلا شك
في أن عصيان السيد عصيان الله تعالى، بل الامر بالعكس، لأنه عصى
الله ولم يعص سيده، لان العصيان معناه مخالفة الامر، والسؤال في
الرواية لم يقع إلا عن تزويج العبد بغير إذن السيد، والمفروض أنه لم
يقع من السيد نهي.
نعم هو عصى الله - جل شأنه - في هذا العقد، لان الله تعالى أمره
بعدم التصرف بغير إذن السيد، والمفتي به عند جميع الفقهاء ليس إلا
الوقوع بغير إذنه، فالمراد من العصيان هو الوقوع بغير الاذن.
ولا شك في أن العمومات تقتضي صحة هذا العقد كالفضولي، مع
أنك قد عرفت أن المسألة مفروضة فيما إذا كان هناك دليل شرعي
يقتضي الصحة.
فالمراد من قوله: (لم يعص الله) أن فعل العبد موافق لقول الله الذي
يقتضي الصحة، غاية ما في الباب أنه وقع بغير إذن مولاه، فلو كان
السيد هو المعقود عليه، ووقع العقد عليه (1) بغير إذنه يكون العقد
صحيحا إن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، فكذا العقد على عبده، لاتحاد
دليل الصحة ومقتضاه، فالرواية تدل على عدم اقتضاء النهي الفساد
في المعاملات كما عليه المعظم.

(1) كذا في الأصل لكن الصحيح هو: فلو كان السيد هو المعقود له و
وقع العقد له وكذا الكلام في قوله (فكذا العقد على عبده).
176

وأما فهم العرف فلا شبهة في أنهم في كثير من المواضع لا يفهمون
جريان الصحة، ففي الموضع الذي يفهمون الصحة قد سبقت
الإشارة إلى منشئه، فإنهم يسمعون الفقهاء يقولون: فسد لنهي النبي
صلى الله عليه وآله وسلم مثلا، فيتوهمون ما توهم بعض العلماء.
177

الفائدة السادسة عشر [ة] [ورود الامر في مقام الحظر وتوهمه]
إذا ورد الامر في مقام الحظر فالمتبادر منه نفي الحظر لا أزيد، وكذا في
مقام توهم الحظر.
والنهي أيضا كذلك إذا ورد في مقام الوجوب، أو توهم الوجوب،
فالمتبادر منه نفي الوجوب وأيضا الامر بشئ مع انتفاء شرطه غير
جائز على الله تعالى.
وما ورد: في إبراهيم عليه السلام فإنه من باب البدأ الذي تقول به
الشيعة: أي ظهر (ل) إبراهيم عليه السلام أنه مأمور بذبح إسماعيل
عليه السلام، ثم بدا لله تعالى في ذلك أي ظهر من الله تعالى عدم
إرادته ذلك، من قبيل
179

الذي بدا له في أمر، وإلا فالبداء الحقيقي محال على الله تعالى عند
الشيعة أيضا، والبدأ الذي يقولون به من باب: يمحو الله ما يشأ، و
يثبت.
ثم اعلم: أن زيادة وقت الواجب عن مقدار أدائه - وهو الواجب
الموسع - لا إشكال فيها لان عدم العقاب في ترك الواجب في جز
من
ظرفه لا يستلزم عدمه في تركه.
كما أن مكان الفعل إذا كان موسعا كعرفة للوقوف، لا يصدق على ترك
الوقوف في جز من أجزائها أنه ترك الوقوف فيها إلا أن يكون
ترك نفس الوقوف.
مع أن الواجب هو الذي يكون العقاب على تركه في الجملة، وهذا
القدر كاف في الخروج عن المستحب.
ولا شك أن الواجب ليس منحصرا في المضيق والفوري، بل ليس
منحصرا في الجز الحقيقي كما هو مقتضى شبهتكم، لان ترك الكلي
إنما هو بترك جميع أفراده، دون بعضها، ولذا يكون النهي مفيدا للفور،
والتكرار، دون الامر، وسيما لو صرح () في المقام بوحدة
المطلوب، وعدم الفورية، فتأمل.
ومما ذكر: ظهر أنه لا إشكال في الواجب التخييري أيضا، لان الواجب
وإن كان عند الشيعة هو خصوص كل واحد منهما كما هو مقتضى
الأدلة، إلا أنه يكفي العقاب في الجملة.
والأشاعرة يؤولونه إلى وجوب أحدهما، ويرجعونه إلى الوجوب
العيني، ويلزمهم إنكار التخييري حقيقة.
180

وعلى رأي الشيعة يسقط الوجوب عن الاخر بعد فعل أحدهما،
كالواجب الكفائي، وإن كان في الكفائي يكون العقاب على الكل عند
الترك.
ثم اعلم: أن الواجب قد يكون لنفسه: (كالصلاة) مثلا، وقد يكون لغيره:
(كالوضوء)، وقد يكون لهما معا: (كالايمان).
و (الواجب) لغيره: أعم من أن يكون شرطا خارجا (كالوضوء) أو جز
(كالحمد للصلاة).
والواجب لنفسه يكون العقاب على ترك نفسه، والواجب لغيره يكون
العقاب على ترك ذلك الغير كما صرح به الفقهاء.
فعلى هذا يصح ما ذكره الفقهاء: من أن الوضوء - مثلا - بعد دخول
الوقت واجب لغيره، إلى أن يصلي المصلي، ثم يرتفع الوجوب، و
يبقى
الاستحباب النفسي، إذا لا مانع حينئذ من تعدد الوضوء الواجب لتلك
الصلاة إذا توضأ، ثم أحدث، ثم توضأ لها، لاتصاف الكل برجحان
الفعل، والعقاب على ترك مشروطه، كما أن أجزأ الفعل اتصفت
بالوجوب باعتبار رجحان الفعل، والعقاب على ترك المجموع، بل في
الشرط أيضا يمكن أن يكون العقاب على ترك المجموع من الشرط و
المشروط، إذ المطلوب شرعا هو المجموع من حيث المجموع و
لعل هذا هو مراد الفقهاء.
مع أنه يمكن أن يقال: بعد الحدث يرتفع وصف الوجوب للغير، و
يبقى الاستحباب النفسي.
كما أن جز العبادة ربما يصير كذلك: بأن يرتكب لاتمام العبادة، ثم
يرفع اليد عنه اضطرارا، ويخرب، فتأمل.
181

لكن يشكل الامر على القائل: بأنه بعد كل حدث يجب الطهارة وجوبا
موسعا لا يتضيق إلا بتضيق وقت العبادة، أو مظنة الموت، وأن كل
وضوء يتوضأ المكلف بسبب الحدث لا بد من أن ينوي فيه نية
الوجوب، لكونه واجبا لنفسه وكذا الغسل.
وجه الاشكال: أنه لو لم يتطهر عقيب الاحداث سوى ما يظن الموت
بعده، وما يتضيق بتضيق العبادة لا يكون عليه عقاب أصلا. ولو
تطهر عقيب كل حدث حدث يكون آتيا بواجبات لا تحصى، فكيف
يتحقق واجب لنفسه لا يكون على تركه العقاب أصلا؟ ولا يمكن أن
يقال: إنه بعد الحدث تصير الطهارة السابقة عليه لغوا محضا، أو
مستحبا، ويرتفع صفة الوجوب، إذ لا شك في أنه عبادة صحيحة، فإن
الغسل الواقع بعده حدث كيف يمكن أن يقال: إنه لغو بحث أو
مستحب؟ فإنهم لا يقولون بهما، مع أن الحكم بكونه لغوا خلاف
المعلوم من
الأدلة أيضا.
وأيضا أكثر الطهارات - سيما الوضوء - لا يكون عند تضيق وقت
العبادة، ولا مظنة الموت، بل عند الظن الغالب بالبقاء، وربما يفعل
لحدث آخر مثل: الوضوء لجماع الحامل، والنوم، وكذا الغسل.
واعلم: أنه ربما يطلق الوجوب على كون الشئ شرطا لشئ، ويعبر
عنه بالوجوب الشرطي.
182

الفائدة السابعة عشر [ة] [مفهوم الشرط وغيره]
اعلم أن الامر وغيره من الخطابات إذا علق على شرط يدل ذلك على
أنه عند انتفاء الشرط ينتفي المشروط.
وذلك لان مفاد كلمة (إذا) مثلا الشرطية أي شرطية شئ لشئ. هذا
بحسب اللغة والعرف معا.
ومقتضى معنى الشرط: انتفاء المشروط عند انتفائه، ولا فرق بين أن
يكون مفاد الكلمة الاسمية، أو الفعلية، أو الحرفية. مثل: أعط زيدا
درهما، بشرط أن يكرمك، أو الشرط فيه أن يكرمك، أو يشترط فيه أن
يكرمك، أو إن أكرمك، أو إذا أكرمك.
ومما ذكر ظهر أن حكم المفهوم عام، كما هو المعروف من المشهور،
لان معنى الشرطية: أنه كلما انتفى الشرط انتفى المشروط.
183

مع أنه لو لم يكن الشرط بالنسبة إلى كل فرد فرد لزم أن لا يكون الشرط
هو ما ذكر بل مع شرط آخر وبانضمامه، مثلا في قوله صلى
الله عليه وآله وسلم (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ) لزم أن لا
يكون الكرية فقط شرطا، بل كون الماء جاريا مثلا شرطا آخر
أو جز شرط.
ويؤيده أيضا: أن المطلق يرجع إلى العموم في إثبات الاحكام.
فتأمل.
وقيل: بعدم العموم للمفهوم، مستدلا بعدم اللفظ الدال عليه، ولأن
تحقق المخالفة في الجملة يكفي لتحقق فائدة أداة الشرط.
وفيه: أن كلمة الشروط تدل على العموم كما عرفت.
وفائدة: الشرط: إن أردت تحققها من حيث الشرطية فقد عرفت أنها
تفيد العموم، ولا ربط ولا مناسبة للمخالفة في الجملة بالنسبة إلى
الشرطية المطلقة.
وإن أردت تحققها من حيث إنه زيادة في كلام الحكيم - والزيادة لا
بد لها من فائدة، من غير خصوصية كون الفائدة هي الشرطية -
فمع أنه غلط هو بعينه كلام منكر حجية المفهوم، ولا خصوصية له
بحكاية المخالفة.
ثم اعلم: ان المفاهيم كلها حجة مثل: مفهوم الحصر، وهو مفهوم (ما، و
إلا)، ومفهوم (إنما)، وغيرهما، ومفهوم الغاية مثل: صوموا إلى
الليل، ومفهوم العدد مثل: أقل الحيض ثلاثة أيام، ومفهوم العلة مثل:
الاعراب
184

يتمون لان بيوتهم معهم، إلا مفهوم الصفة ومفهوم اللقب.
والدليل في الكل: الفهم اللغوي، والعرفي بحيث لا تأمل فيه.
وأما مفهوم الصفة ففيه إشعار، لان تعليق الحكم على الوصف مشعر
بالعلية فيكفي لجعله مؤيدا، أو يخرج شاهدا، أو بأدنى قرينة يصير
دالا.
وأما مفهوم اللقب فهو أضعف من مفهوم الوصف، إذ ليس فيهما دلالة،
لان إثبات الشئ لا ينفي ما عدا، وليس في الأخير إشعار أيضا.
وبالجملة معنى كون المفهوم حجة: أن للمنطوق دلالة وحكما، و
للمفهوم دلالة أخرى، وحكما آخر.
فعلى القول بالحجية يتحقق حكمان من دلالتين، وعلى القول بعدمها
ليس إلا حكم واحد من دلالة واحدة.
فإن قلت: على ما ذكرت من حرمة التعدي عن مدلول الحديث
فالمنكر للحجية: إن تعدى في المنطوق، وجعل حكم المفهوم موافقا
للمنطوق فقد تعدى عن مدلول الحديث، وعمل بالقياس الفاسد عند
أهل السنة أيضا، لعدم الجامع، بل وجود الفارق فإنه عليه السلام إذا
قال: (في الغنم السائمة زكاة) فلا شك في أن المنصوص هو السائمة،
لا المعلوفة - أيضا -.
مع أنه لا تأمل في أن الحكم يرجع إلى القيد، فكيف يتعدى ويقول:
بأن المعلوفة أيضا كذلك؟ وإن لم يتعد، ويقتصر على المنصوص فلا
شك في أنه يحكم بأن الزكاة
185

في السائمة فقط فأي نزاع بينه وبين القائل بالحجية.
وكذا الكلام في مفهوم الشرط، وغيره.
قلت: إنه يقتصر على المنطوق المنصوص قطعا، والنزاع في أنه هل
الشارع قال بعدم الزكاة في المعلوفة في القول المذكور؟ فإذا ورد
خبر: - في أن المعلوفة فيها الزكاة - يكون معارضا لهذا، ويذهب إلى
الترجيح، أو الجمع، وإذا قال: - ليس في المعلوفة زكاة - فهل
قال: في السائمة زكاة؟ فيكون هذا دليلا على ثبوت الزكاة فيها، كما أنه
دليل على النفي في المعلوفة.
وهذا كله على قول من قال بالحجية، أو أنه ما قال سوى: أن السائمة
فيها زكاة. وأما المعلوفة فهو ساكت عن حكمها، فيحكم بعدم
الزكاة فيها من جهة عدم جواز التعدي وعدم دليل آخر، وأن الحكم
الشرعي لا بد له من دليل، وأنه إذا لم يكن دليل فالأصل عدمه، وإذا
وجد دليل: على أنه في المعلوفة أيضا زكاة يحكم به أيضا من دون
تأمل، لعدم المعارض له أصلا.
وإذا قال: ليس في المعلوفة زكاة فلا يدل على سوى نفي الزكاة عن
المعلوفة خاصة، لا أن في السائمة زكاة، فلا يحكم بالزكاة في
السائمة بمجرد هذا، بل يحكم: بأن الأصل عدم الزكاة فيها، فلا زكاة
فيها أيضا إلا أن يدل دليل من الخارج.
وهذا كله على قول من لم يقل بالحجية.
وكذا الكلام في سائر المفاهيم. فافهم، ولا تتوهم.
ومن المفاهيم مفهوم الموافقة مثل: مفهوم قوله تعالى: فلا تقل لهما
أف، ولا نزاع في حجيته.
186

نعم وقع النزاع في طريق دلالته.
والمعتبر عندي: الدلالة العرفية ودوران الحجية معها ووجهه ظاهر
187

الفائدة الثامنة عشر [ة] [دلالة الجمع المحلى باللام على العموم]
لا نزاع بينهم في عموم الجمع المحلى باللام كالنكرة في سياق النفي،
وسائر ألفاظ العموم مثل: كل، ومن، وما، ومتى ومهما، وأمثال
ذلك.
والنكرة في سياق الاثبات لا تفيد العموم لغة، وربما تفيده بمعونة
القرينة - وهي كون الكلام مفيدا للسامع - فلا يحمل على غير
المعين، ولا قرينة على إرادة معين، فلا بد من العموم، لكن مثل هذا
العموم ينصرف إلى الافراد الشائعة، لا أزيد منها.
ألا ترى أن من قال: (بع هذا بنقد) لا يحمل إلا على النقود الشائعة
الغالبة، بخلاف ما إذا قال: بأي نقد يكون. ومن لا يفرق بين العمومين
كثيرا ما يخرب الفقه.
وربما يختار النكرة توغلا في الابهام، وتحصيلا للعموم على سبيل
189

البدلية بالنسبة إلى أي فرد كان، وإن كان من الافراد النادرة.
نعم إن أريد منها العموم الاستغراقي بمعونة القرينة لا جرم لا يتعدى
عن الافراد الشائعة، ويكون عمومها فيها خاصة، والمعنى حينئذ
مجازي لا حقيقي.
وقيل: العموم الذي في المفرد المحلى باللام من هذا القبيل في
المواضع التي له عموم فيها.
وقيل: هو موضوع بحسب اللغة للعموم.
وربما قيل: موضوع للمعاني الأربعة المشهورة. (1) على سبيل
الاشتراك، والقرينة المذكورة معينة للاستغراق.
والحق: أنها موضوعة لتعريف الجنس، لان لفظ المفرد وضع للجنس،
واللام موضوعة للتعريف والإشارة، فيكون المعنى الحقيقي
الجنس المعرف فإذا حمل الحكم الشرعي عليه يكون ظاهرا في
دوران الحكم مع الطبيعة في

(1) ذكر علماء العربية للمفرد المعرف باللام معاني كثيرة منها: أ -
لتعريف الجنس ويشار بها لحقيقته الحاضرة في الذهن مثل: الرجل
خير من المرأة. ب - للعهد الذكري مثل قوله تعالى: (كما أرسلنا إلى
فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول)، أو العلمي مثل قوله تعالى:
(إذ هما في الغار)، واللام في العهدين قد أشير بها إلى فرد معين في
الخارج. ج - للعهد الذهني مثل قوله تعالى: (وأخاف أن يأكله
الذئب) حيث لا يريد ذئبا معينا، وبها يشار إلى حصة غير معينة في
الخارج بل في الذهن. د - لاستغراق أفراد الجنس مثل قوله تعالى:
(إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا.).
ه - لاستغراق خصائص الجنس مبالغة مجازا مثل: أنت الرجل علما و
أدبا. والظاهر أن مراد المصنف رضي الله عنه من المعاني الأربعة
المشهورة هي ما عدا الأخير لأنه معنى مجازي.
190

أي فرد تتحقق تلك الطبيعة، فيكون ظاهرا في العموم مثل: أحل الله
البيع.
وكذا: إذا طلب ترك الطبيعة، لان تركها بترك جميع أفرادها.
فإذا طلب إيجاد تلك الطبيعة يكفي في الامتثال إيجاد فرد من تلك
الطبيعة، وإذا أريد فرد من الطبيعة، فهو كقوله: بع هذا بالنقد.
والمراد بالطبيعة: هو المعنى المتبادر من اسم الجنس.
فان لم يكن مطلقا منصرفا إلى الافراد الشائعة، فالعموم لغوي وإلا
فعرفي، وستعرفهما.
وقولهم: - الرجل خير من المرأة - جعله من قبيل الأول - بجعل
المراد:
كل فرد منه خير من كل فرد منها من حيث الطبيعة خاصة - لا ينفع في
الأحكام الشرعية في إفادة العموم، إذ كونه خيرا من الحيثية
المذكورة، لا يقتضي كون كل فرد منه خيرا، إذ ربما كان الخصوصية
مانعة، فإذا قلنا:
- البيع من حيث الطبيعة حلال - لا يقتضي حلية كل فرد منه على
سبيل الاطلاق، ولذا لم يجعل في علم المنطق كل قضية طبيعية
محصورة
كلية، بل جعلوا كلا منهما قسما برأسه مغايرا للاخر. فتدبر.
وبالجملة إذا ورد الانسان كذا - شرعا مثلا - لا يظهر منه أن كل فرد
منه كذا.
وكذا الحال في الجنس المنطقي، والصنف مثل: الرجل كذا، فإن
مرادنا من الجنس: ما يعم الكل، فإن كان الجنس لغويا فالعموم لغوي
مثل: الكلب نجس، والخنزير حرام، وإن كان له أفراد متعارفة شائعة
حاضرة في
191

الأذهان، وأفراد نادرة بعيدة عن الأذهان، بحيث لا ينصرف الذهن من
إطلاق لفظ ذلك الجنس إلا إلى خصوص الشائعة المتعارفة،
فالاطلاق ينصرف إليها - كما حققناه عند الجمع بين قولهم: التبادر
علامة الحقيقة، وقولهم: إن الاطلاق ينصرف إلى الافراد الشائعة -
فعلى هذا يكون العموم عرفيا ومتعارفا.
وربما يرجع الثاني إلى الأول بالاجماع في الموضع المجمع عليه
مثل:
طهورية الماء المستحيل عن الهواء، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
وربما يتحقق الاجماع في أمثال بعض الافراد، مع تأمل في البعض
الاخر. وهذا أيضا يرجع إلى الأول في التأمل فيه أيضا، بناء على أن
أمثاله داخلة في العموم قطعا، فكذلك هذا الظهور كون المراد من
العموم ما يشمل غير المتعارف الشائع أيضا، فالأصل بقاء العموم على
ظاهر لفظه مثل ما ورد من اشتراط الصلاة بالطهور، وكونه واجبا لها،
فعلى تقدير كون الافراد الشائعة منها هي الوضوء من البول و
الغائط والنوم، والغسل من الجنابة مثلا، ويكون التأمل في اشتراط
كون الطهور من حدث المس، أو كون غسل المس واجبا لها كما
اتفق لبعض، وإن كان ما ظهر من الفقهاء عدم التفاوت أصلا.
وبعد تسليم الاجماع في اشتراط الوضوء من الاغماء، والسكر، و
الجنون، وكذلك الغسل لوط دبر الغلام، وسائر الحيوانات، و
النفاس، وخصوص الاستحاضة المتوسطة، يظهر عدم اختصاص ما
دل على اشتراط
192

الطهور للصلاة ووجوبه لها بخصوص الافراد الشائعة المذكورة، و
شموله لها ولغيرها مما هو أشد - مما يتأمل فيه - بمراتب، فلا
معنى لشموله للجميع إلا فردا واحدا من الطهور ليس إلا، مع كونه
أقل شذوذا من كثير منها بمراتب.
مضافا إلى أن مقتضى مدلول العبادة - من حيث هو هو - العموم
اللغوي، وأن العبادات توقيفية، (لا طريق للعقل، ولا العرف بالنسبة
إليها) فتأمل جدا.
وربما يرجع العموم العرفي إلى اللغوي، من تعليق الحكم بالوصف
المشعر بالعلية كقول القائل: المؤمن يستحق الاكرام، وكذا العالم، و
نحوهما، فإن الكل يشمل ذا الرأسين البتة.
ومن هذه الجهة أيضا يرجع ما دل على اشتراط الطهارة للصلاة إلى
العموم اللغوي كما لا يخفى.
ويظهر التأمل في مثل ما دل على وجوب الغسل بحدث المس، في
شموله من مسه قبل تمامية غسله، ويكون مسه ذلك مس موضع
غسل
بعد ملاحظة ما ورد في غسل الجنابة: أن ما جرى عليه الماء فقد
طهر، وما
193

ورد من أن الماس يغتسل كغسل الجنابة فتدبر.
وقد وقع النزاع في أن (إذا): هل تفيد العموم لغة أم لا؟.
والحق: أنها لا تفيد لغة، بل بمعونة القرينة، كما أن كلمة (إن) أيضا تفيد
بمعونة القرينة.
ومن جملة ما يفيد العموم: ترك الاستفصال في مقام جواب السؤال
مع قيام الاحتمال.
والقول بأن الترك لعله لمانع أو جهة أخرى فاسد، لان الأصل عدمهما،
والظاهر أنه للعموم، ولا يخفى أن قيام الاحتمال كاف، وإن
كان متساوي الطرفين، لو لم نقل بأن المرجوحية في الجملة أيضا
كافية، كما هو المتعارف في مقام جواب سؤال الجاهلين خوفا من
أنهم لجهلهم ربما يجوزون الحكم فيه، فلا بد من الاستفصال.
نعم إذا كان بعيدا يشكل التعميم بالنسبة إليه، لعدم الاعتبار عادة، و
مثله الاحتمال الناشئ من عروض عارض، بل المرجوح في الجملة
أيضا ربما لا يخلو من تأمل ما. فتأمل.
وأما مقام الاستدلال بدلالة اللفظ فالمعتبر هو الراجح بالرجحان
المعتد به، وكذا لا يكتفون بالاشعار. فتأمل جدا.
ومما يفيد العموم: القياس المنصوص العلة بالنسبة إلى جميع
المواضع التي تلك العلة موجودة فيها، كما مرت الإشارة إلى ذلك، و
إلى
الخلافات في
194

ذلك، والتحقيق فيه.
ومما يفيد العموم: الإضافة حيث لا عهد.
ومن جملة ما يفيد العموم: أن يؤتى لموضوع الحكم بقيد احترازي،
فإن الاحتراز فرع البناء على العموم. سيما إذا أتى بقيدين، أو أزيد،
إذ كلما يزيد القيد يتقوى البناء على العموم، خصوصا إذا كان الذي
احترز عنه أظهر خروجا من الذي لم يحترز عنه لو فرض خروجه، و
جوز.
مثل قوله: (المرأة التي ملكت نفسها - غير السفيهة، ولا المولى
عليها - تزويجها بغير ولي جائز)، فإنه عليه السلام أتى بقيود ثلاثة، و
مع ذلك خروج السفيهة والمولى عليها من هذا العموم كان أظهر من
البالغة، الرشيدة البكر، بل لو كانت خارجة لكانتا خارجتين
بطريق أولى، بل ثم أولى بمراتب شتى، ولا يجوز دخولها تحت
المولى عليها، إذ لا يجوز حمل المولى عليها على المولى عليها في
التزويج، إذ يصير المعنى حينئذ: أن التي ليست مولى عليها في
التزويج ليست مولى عليها في التزويج، ولا يخفى شناعته، (سيما
بملاحظة أنه يلزم على هذا أن تكون الصبية والمجنونة خارجتين منه
داخلتين في التي تزويجها بغير ولي جائز) وفيه أيضا ما فيه.
ومع ذلك يلزم أن يكون الراوي عارفا بكون البالغة الرشيدة مولى
عليها جزما، ولا يدري أن البالغة السفيهة مولى عليها أم لا؟ وفيه
أيضا ما فيه.
195

ومن جملة ما يفيد العموم: أن يؤتى لموضوع الحكم خاصة معرفة
مثل قولك: الحيوان الضاحك كذا.
وفي الاخبار مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كانت المرأة
مالكة أمرها: تبيع، وتشتري، وتعتق، وتشهد، وتعطي من مالها ما
شاءت، فإن تزويجها بغير ولي جائز).
(إذ معلوم: أن القيد لتعريف التي تزويجها بغير ولي جائز،) فلا يجوز
التخلف، حتى لا يصير تعريفا غير جامع، أو غير مانع، فإن
الطفل لا يعرف تعريفا غير جامع، أو غير مانع، فضلا عن الشارع.
ثم أعلم أنه إذا ورد حكم بلفظ يفيد العموم، لكن في محل خاص، فهل
العبرة بعموم اللفظ أو خصوص المحل؟ قيل بالثاني.
والمشهور الأول، وهو الحق، لوجود مقتضي العموم، وعدم مانع منه
بسبب الورود في خصوص محل، إذ لا دلالة على التخصيص بإحدى
الدلالات الثلاث، ولا منافاة بينهما ظاهرا حتى ترفع بالبناء على
التخصيص.
واعلم أيضا: أنه إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر، فالبناء على
التخصيص بشرط أن يكونا متكافئين، فالخاص الضعيف لا يخصص
العام الصحيح، وكذا الموافق للتقية لا يخصص المخالف لها، وكذا
المخالف للقرآن لا يخصص موافقة، وكذا ضعيف المتن أو الدلالة لا
يخصص قويهما.
ولذا قيل: المنطوق العام لا يكافئه المفهوم الخاص، ولا يخصصه.
196

وفيه أن بناء القوة والضعف إنما هو بحسب الدلالة، لا كونهما بحسب
المنطوق والمفهوم، فإن كثيرا من المفاهيم أقوى دلالة من
العمومات والاطلاقات، لكثرة شيوع التخصيص، حتى قيل: (ما من
عام إلا وقد خص)، ولا يكاد يوجد مفهوم لا دلالة فيه.
مع أن دلالة العام من حيث العموم ضعيفة، ودلالة الخاص من حيث
أنه خاص قوية سيما أن يكون قويا في نفسه مثل: مفهوم الحصر، و
الموافقة، بل الشرط، والعدد، والغاية، كلها قوية.
وتخصيص القرآن بخبر الواحد فيه نزاع مشهور:
حجة المانع: أن قطعية متن الكتاب لا يقاومها شئ، وورد في الأخبار الكثيرة
: إن ما خالف القرآن فاتركوه.
وحجة المجوز أن الكتاب خوطب به المشافهون، فلعلهم كانوا
مطلعين على قرينة بها كانوا يفهمون، والحجة ما هم كانوا يفهمون، كما
مر، فلا بد لنا من بذل الجهد في تحصيل أماراتهم، وأسباب فهمهم، و
ربما كان الخبر الواحد كاشفا عن بعض منها.
لكن الانصاف أنه بعد لا يخلو عن إشكال، إلا أن يكون ذلك الخبر
معمولا به عند الأصحاب، أو يعضده شئ آخر يكون مثل عمل
الأصحاب في القوة. فتأمل، وشهرة العمل منهم كافية أيضا. فتأمل.
هذا إذا كان لعموم القرآن قوة ووضوح تام مثل قوله تعالى: وأحل
197

لكم ما وراء ذلكم بعد قوله تعالى: حرمت عليكم.. الآية، وإلا
فخبر الواحد المستجمع لشرائط الحجية إذا عارضه، ويكون قوية
الدلالة
وواضحتها يصير مقاوما له، وإن كان القرآن قطعي المتن، ولأن
حجية خبر الواحد تثبت من القرآن أيضا، فالمتن القطعي دال على
الحجية.
مضافا إلى أدلة أخر منها: الأخبار المتواترة بالمعنى، والاجماع و
الاعتبار - وهو انسداد باب العلم في التكاليف الفقهية على حسب ما
مر - وهذه الحجج أيضا تؤيد الخبر الخاص، وتقويه لمقاومة عام
القرآن، مضافا إلى ما ذكرناه.
وبالجملة مراعاة المقاومة لازمة قطعا ووفاقا من الفقهاء كما لا يخفى.
ثم اعلم أنه توهم بعض: أن الجمع غير منحصر في التخصيص، بل
يجوز بغيره أيضا، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
وفيه: أن التخصيص راجح دائما لا يقاومه شئ لغلبة تحققه إلى أن
اشتهر وتلقي بالقبول: (أنه ما من عام إلا وقد خص).
وأيضا المتبادر إلى الذهن هو التخصيص، ولذا لو قيل: (أكرم العلماء)،
ثم قيل: (لا تكرم زيدا) يتبادر إلى الذهن التخصيص، والاخراج،
وهذا هو المنشأ في غلبة التخصيص.
وأيضا الفقهاء كلهم في كتبهم الأصولية والاستدلالية وغيرها اتفقوا
على ذلك.
198

وأيضا المدار في الأعصار والأمصار كان على ذلك.
وورد في الاخبار الإشارة إلى ذلك حيث قالوا عليهم السلام: (عام و
خاص...) فتأمل.
وبالجملة لو رفع اليد عن التخصيص لخرب معظم الفقه.
واعلم: أنه في الاخبار النبوية صلى الله عليه وآله وسلم ربما يدور
الامر بين النسخ والتخصيص، لكن التخصيص أيضا أرجح لما ذكرنا.
ولأن التخصيص دفع - أي منع عن ثبوت الحكم في الخاص - و
النسخ:
رفع الحكم الثابت للخاص، والدفع أولى من الرفع، لأنه موافق
لمقتضى الأصل، بخلاف الرفع، لأنه مخالف، (ولا شك أن الموافق له
خير
من المخالف له).
وأما أخبار الأئمة عليهم السلام فالتخصيص متعين، بأن نقول: الخاص
ورد قبل حضور وقت العمل، لكن هذا في أكثر الاخبار في غاية
البعد، لان الراوي للعام ربما روى العام عن الباقر عليه السلام و
الخاص عن الجواد عليه السلام ومن بعده أو بالعكس، بل الراوي عن
المعصوم عليه السلام الواحد أيضا فيه الاشكال، لان راوي العام رجل
وراوي الخاص رجل آخر، مع أنه يظهر أنه في مقام الحاجة.
فالظاهر أن الراوي للعام كان مطلعا على الخاص بالقرائن الحالية أو
المقالية، لكن ذهبت بالحوادث مثل: تقطيع الأحاديث، وذهاب
الكتب، والبناء غالبا على الاجماعيات والمشهورات المسلمة
عندهم في ذلك الزمان
199

كما سيجئ الإشارة [إليه] في مسألة الاجماع.
مع أنه في بعض المواضع ربما يكون المطلع على العام مكلفا به
بحسب المصلحة، والمطلع على الخاص مكلفا به أيضا كذلك، كما
هو
الحال الان أن من اطلع على الخاص يكون مكلفا به، ومن لم يطلع
على الخاص يكون مكلفا بالعام. فتأمل جدا.
ويحتمل أن لا يكون راوي العام محتاجا إلى العمل أصلا، كمن روى
وجوب الجهاد وأمثاله مما يعلم عدم وجوب العمل به على الراوي و
أمثاله.
وبالجملة: الوجوه الثلاثة كلها ممكنة في المقام وغيره من الاخبار
المختلفة التي يجمع بينها.
وهل يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى الواحد؟ أم لا بد من بقاء الأكثر
أو اثنين، أو ثلاثة؟ أقوال.
والحق: أن العلاقة إن كانت العموم والخصوص، فلا بد من إبقاء
الأكثر، لقبح قول: أكلت كل رمانة في البستان، وفيه آلاف منها وقد
أكل واحد منها، أو اثنتين، أو ثلاثة.
وإن كانت العلاقة أمرا آخر فربما يصح التخصيص إلى واحد مثل: أنه
أكل رمانة واحدة تشبه الكل في الجنة، أو الجودة، أو غيرها، وأن
يكون غير هذا الواحد بمنزلة العدم، لكونه في غاية الصغر أو في غاية
قلة النفع، أو غيرهما، فكأنه لم يكن من الرمان.
والأظهر في العام والخاص كون العلاقة هي العموم والخصوص، إلا
أن يظهر من الخارج كون العلاقة غيره، فتأمل.
200

الفائدة التاسعة عشر [ة [] عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص عن
المخصص]
قد عرفت أن العمل بالظن حرام، إلا ظن المجتهد بعد استفراغ وسعه
في جميع ما له دخل في المعرفة.
فلا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص إجماعا، ويكفي
الفحص المحصل للظن بعدمه إن لم يتيسر العلم بعد ما استفرغ
وسعه.
وربما توهم جواز العمل قبل الفحص بأن بناء مكالمات الشارع على
طريقة أهل العرف، وفي العرف إذا قال المولى لعبده: - خذ ما في
الصندوق من الدراهم واتجر به - ليأخذ من دون تربص، في أنه هل له
مخصص، أو ناسخ، أو قرينة على الاستحباب إلى غير ذلك؟ بل لو
تربص لذلك عد عاصيا.
وبأن كل راو كان عمله على ما رواه هو من دون تفحص، إذ لو
201

فحص فاطلع على المخصص لكان يرويه أيضا، وما كان يكتفي بالعام
فقط.
وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر وجوه الجمع، فلا حاجة إلى الطريقة
الصعبة التي يسمونها اجتهادا.
وفساد الوجهين ظهر مما مر سابقا.
ونزيد التوضيح: بأن ما قاله المولى خطاب شفاهي معلوم من المولى،
والإرادة معلومة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فلو
أخر عن وقت الحاجة يصير عاصيا البتة.
وكذلك كان حال رواة الأحاديث، كما أن الحال الان بالنسبة إلى مقلد
المجتهد أيضا كذلك.
وأما المجتهد فوصل إليه حديث بوسائط كثيرة غير معصومين، فلا بد
من استفراغ وسعه في أنه يحصل العلم بأنه من المعصوم عليه
السلام أم لا؟.
وعلى الثاني: فهل خبر الواحد حجة أم لا؟ وعلى الأول، هل يشترط
العدالة، أم يكفي كونه خبر مجهول الحال، أو يجوز العمل بخبر
الفاسق أيضا؟ وعلى اعتبار العدالة، فالعدالة ما هي؟ وكيف تثبت؟ و
كيف يكتفي؟ والجرح مقدم أم لا؟ إلى غير ذلك.
ومع عدم ثبوت العدالة، هل يكفي الظن الحاصل من التثبت أم لا؟.
وأيضا ربما كان في السند سقط أو اشتباه أو سهو، فعلاجه ما ذا؟ أو أن
الحسن حجة أم لا؟ وكذلك الموثق، وكذا القوي إلى غير ذلك
مما يتعلق بالسند.
202

وأما المتن فغير معلوم أنه كلام المعصوم عليه السلام، فربما كان كلام
الراوي نقلا بالمعنى، فلا يعلم أنه أفاد عين مقصود المعصوم عليه
السلام من دون تفاوت أم لا، ومع عدم العلم هل يكفي الظن بذلك أم
لا؟ ودليل حجية هذا الظن ما ذا؟ سيما بعد ما عرفت من الأدلة على
عدم حجيته وحرمة العمل به.
هذا مع أنه غير معلوم أنه كلام الراوي عن المعصوم عليه السلام، بل
ربما كان نقلا بالمعنى عن الراوي، وهكذا إلى أن وصل إلينا هذا.
مع أنه لم يعلم أنه لم يقع اشتباه من النساخ أو الرواة أو المشايخ بسقط،
أو تصحيف، أو تبديل أو تحريف، أو تغيير، أو زيادة، إلى غير
ذلك مما وجدناه كثيرا.
مع أن جل أحاديثنا تقطعت بعضها عن بعض، لأنها في الأصول لم
تكن كذلك، ولم تكن مبوبة.
مع أن في التقطيع كثيرا ما يحصل التفاوت، كما وجدناه أيضا، ومع
جميع ذلك فالعلاج ما ذا؟ وحجيته من أين؟ وأما الدلالة فقد مر
حالها في الفائدة الرابعة، وغيرها. وسيجئ أيضا.
وأما العيوب الاخر مثل الورود على التقية، أو مخالفا للقرآن، أو السنة،
أو المشتهر بين الأصحاب، إلى غير ذلك مما نهى الشارع عن
جعله حجة، وأمر بطرحه فقد مضى وقد يأتي أيضا، وأما التعارض:
فنعلم علما إجماليا أن جل أخبارنا لا يخلو عن معارض خبرا يكون،
أو دليلا آخر، وأن البناء على الترجيح، والجمع بالتخصيص، أو
التقييد، أو الحمل على الاستحباب، أو غير ذلك من الوجوه
203

الكثيرة.
وأما العامي: فقد حصل له ذلك الاجمالي أيضا بالتظافر، والتسامع من
الفقهاء الماهرين الذين هم أهل هذا الفن، وهم الخبيرون، ولا
ينبئك مثل خبير، بل وسمعوا أشد من هذا، وآكد، والتهديدات
الشديدة منهم:
أن تحصيل الفقه من هذه الأحاديث ليس شأن غير الجامع لشرائط
الفتوى، فكيف يجترئ على العمل بأي حديث رآه؟ مع أن تجويز هذا
يوجب تخريب الفقه بالمرة، وتبديل محاسنه بالمساوي، وجعل
الفقه هو الهرج والمرج في العبادات، والأموال، والفروج والأنساب،
وغير ذلك، فكيف يجعل الدين المتين القويم، والصراط المستقيم، و
مذهب الفرقة الناجية المحقة العدلية هكذا.
مع أنه ظهر من الاخبار أنه لا بد من معرفة العام والخاص، والمحكم
والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك.
وبالجملة: شنائع هذا التوهم في غاية الكثرة أشرنا إلى قليل منها في
الرسالة.
ومما ذكرنا ظهر فساد ما ذكر: من أن الرواة كان عملهم مقصورا على
مجرد ما وصل إلينا من رواياتهم، إذ لو كان كذلك لكان شرعهم
غير شرع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام
البتة.
وإن شئت معرفة ذلك فخذ مجموع روايات راو واحد، وخذ فقها من
ذلك المجموع من دون تعد إلى روايات راو آخر.
204

فإن قلت: إنك جوزت أن يكون راوي العام مكلفا به، وراوي الخاص
مكلفا بالخاص.
قلت: جوزت على سبيل الامكان ووجود مصلحة بأن يكون راوي
العام حكم الله تعالى الظاهري بالنسبة إليه هو العام، مع أن حكم الله
الواقعي هو الخاص في أفراد ذلك العام.
وظاهر أن مثل هذا لو كان واقعا فعلى سبيل الندرة، لأصالة عدم
المصلحة، واشتراك المكلفين في التكليف.
ومع ذلك من أين علم وجود تلك المصلحة له؟ حتى يكتفي بمجرد
العام، إذ لعل تكليفه التكليف الواقعي، سيما مع كون الأصل عدم
المصلحة، وأن المكلف به هو حكم الله الواقعي، هذا مثل أن يعمل
أحدنا بالحديث الوارد على سبيل التقية معتذرا: بأن راوي ذلك
الحديث
كان يعمل به فأنا أعمل به أيضا، لاشتراك التكاليف، مع أنه لا يكون
عليه تقية فيه.
205

الفائدة العشرون [إذا تعارض الخبران]
قد عرفت: عدم حجية الظن، وحرمة العمل به إلا ظن المجتهد بعد
استفراغ وسعه في تحصيل ما هو أقوى، وبالصواب أحرى، وما يكون
الأظهر عنده أنه حكم الله تعالى.
فإذا ورد خبران متعارضان، فلا بد من استفراغ الوسع في تحصيل
الأقوى والأظهر والأحرى بالمرجحات المفيدة لذلك، فإذا حصلت
له
يكون حكمه تعالى مقصورا فيه لا يتعدى إلى غيره، لان ذلك الغير
داخل في عموم ما دل على حرمة العمل بالظن لا مخرج له أصلا، لان
الذي خرج هو الأظهر أنه حكم الله تعالى بالأدلة التي عرفت.
مع أنه إذا كان أحد الخبرين عنده يصير الأظهر أنه حكم الله تعالى.
ويصير المعارض له عنده خلاف ذلك، وأن الأظهر عنده أنه ليس
حكم الله
207

تعالى، لان حكم الله تعالى عند الشيعة واحد لا تعدد فيه أصلا و
أخبارهم صريحة في ذلك.
وحكم الله الظاهري عبارة عما ظهر عند فقيه انه حكم الله تعالى في
الواقع، وحصل ظنه بذلك، لا الذي ظهر عنده أنه ليس حكم الله
واقعا، بل ولا الذي شك في أنه حكم الله واقعا أم لا، فضلا عن أن
يكون ظهر عنده أنه ليس حكم الله تعالى.
فحكم الله الظاهري ليس إلا مظنون حكم الله الواقعي، لكون الظاهر
أنه هو، ولذا نقول: حكم الله الظاهري... وبالجملة: إذا كان حكم من
الاحكام مرجوحا عند الفقيه أنه حكم الله لا يمكن للفقيه الفتوى بأنه
حكم الله تعالى والعمل به قطعا.
بل المتساوي الطرفين لا يمكنه، فضلا عن المرجوح.
بل الراجح عنده ليس إلا ظنا، وكون الظن حكم الله تعالى واقعا يحتاج
إلى دليل شرعي قطعي لولاه لكان الفتوى به والعمل به حراما
أيضا قطعا، كما عرفت، وعرفت أنه إجماعي أيضا عند جميع
المسلمين فضلا عن الشيعة.
وأيضا خبر الواحد - من حيث كونه ظنا - نزاعي بين المسلمين، فضلا
عن الشيعة حتى أن السيد رحمه الله ادعى: أن حرمة العمل به من
ضروريات مذهب الشيعة كالقياس، ووافقه جمع كثير من فقهائنا، و
نسب العامة ذلك إلى الشيعة، فظهر أنهم كانوا معروفين بهذا.
وصرح المتكلمون من قدماء الشيعة بذلك في كتبهم الكلامية
208

والأصولية حتى أن منهم من استحال التعبد به، وهم كانوا معاصرين
للأئمة عليهم السلام، وفي غاية قرب العهد منهم عليهم السلام.
وبالجملة خبر الواحد - من الحيثيات المذكورة وغيرها - يحتاج
حجيته إلى دليل تام شرعي، ولا دليل على حجية الخبر الموهوم و
المرجوح، بل والمشكوك أيضا فضلا عن المرجوح، لان دليل
حجيته:
إما الاجماع، وهو على تقدير الثبوت، والتمامية إنما يشمل ما هو
راجح لا المشكوك والمرجوح - وإن قلنا بعدم الاجماع على حرمة
العمل بهما والافتاء -.
مع أن الظاهر وقوع الاجماع على حرمة العمل بل لا تأمل في الاجماع
عليها.
وإما مفهوم آية إن جاءكم فاسق فعلى تقدير القول بعموم المفهوم
غير خفي أنها غير شاملة للخبرين المتعارضين من العادل، فضلا
عن شمولها للمرجوح منهما، سيما بعد ملاحظة العلة الواردة فيها
لعدم العمل بخبر الفاسق، ولزوم التبين فيه.
وأما آية فلو لا نفر فغير خفي أنه ليس فيها سوى إطلاق منصرف إلى
غير الانذارين المتعارضين.
وأما بعد سد باب العلم يكون الطريق منحصرا في الظن، وهذا يقتضي
انحصار الحجية في المظنون والراجح.
209

وأيضا ترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا فكذا شرعا بناء على
أن الحسن والقبح عقليان.
وورد الأخبار الكثيرة في كون (العقل إحدى الحجتين) و (وجوب
متابعته مطلقا) وقد مر الكلام في ذلك.
وأيضا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (دع ما يريبك إلى
ما لا يريبك)، وورد أيضا (عليكم بالدرايات دون الروايات)
وأمثال ذلك.
وورد في مقام التعارض أنهم عليهم السلام قالوا: (إن لكل حق حقيقة،
ولكل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه)، ولا يخفى
شموله لكل حقيقة وكل نور، لا خصوص موافقة الكتاب بل هو تفريع
لا تخصيص.
مع أنه ورد غيره من المرجحات الأخرى في نصوص كثيرة، حتى أنه
ورد أن مثل مجرد الأعدلية مرجح ومعين للعمل، فكيف مثل
علو السند،
210

وكثرة الروايات، بل ونهاية العلو ونهاية الكثرة؟ وبالجملة من تتبع
الاخبار يجد أنهم عليهم السلام أمروا بالتحفظ والاستيثاق، و
الاتقان، والاحتياط والتحرز عن محتمل الضرر] 1 [فضلا عن
مظنونه، سيما في الأحكام الشرعية مع ما فيها مما مر في (الفائدة
الأولى).
ومما ذكر ظهر فساد ما اعترض به بعض الأخباريين على المجتهدين
بأنهم في مقام الترجيح يتعدون عن النصوص، ويجوزون بغير
المنصوص أيضا مثل علو السند، وكثرة الروايات وغيرهما.
مع أنه يرد على الأخباريين: أن المرجحات المنصوص عليها
بالخصوص لا تثبت لنا الان، إذ لا نعرف أن الأعدل من هو إلا نادرا، و
كذا
المشتهر بين أصحاب الراوي، وكذا الموافق للتقية في ذلك الزمان،
فإنا كثيرا ما نرى أن ذلك الزمان في التقية مغاير لما في هذه
الأزمان.
وكذا الامر في موافقة السنة.
وكذا الامر في موافقة القرآن، فإنهم يزعمون: أنه ما لم يظهر تفسير
القرآن من المعصوم عليه السلام لا يكون فيه حجية.
وكذا موافقة ما حكامهم وقضاتهم إليه أميل.
] 1 [كالروايات الواردة في باب الصوم منها رواية حريز عن أبي عبد الله
عليه السلام (قال الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر)
انظر الوسائل 7: 155 الباب 19 من أبواب من يصح منه الصوم
الحديث 1. أو رواية عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (في الرجل
يصيبه
العطاش حتى يخاف على نفسه قال يشرب بقدر ما يمسك رمقه ولا
يشرب حتى يروي). انظر الوسائل 7: 152 الباب 16 من أبواب من
يصح منه الصوم الحديث 1.
211

حتى أن (الكليني) رحمه الله مع غاية قرب عهده، ونهاية مهارته في
الحديث، وشدة جهده في التحصيل، والتنقيح، والتصحيح اعترف
في أول كتابه بالعجز عن درك هذه المرجحات إلا ما قل، فكيف
الحال بالنسبة إلينا في هذا الزمان؟ وبالجملة: كثير من المرجحات لا
يظهر أصلا، وما يظهر فإنما يظهر علينا بعنوان الظنون التي لم يرد فيها
وفي حجيتها خبر أصلا، بل ربما كانت ظنونا ضعيفة. فلاحظ.
ويرد على الأخباريين أيضا: أنهم وإن كانوا يطعنون إلا أنهم يقلدونهم
من حيث لا يشعرون، في أنهم أيضا ربما لا يقتصرون على
النصوص، بل ولا يراعون الترتيب الوارد فيها أصلا، بل ولا يعتدون
ببعض المنصوص مطلقا. مثل: الاخذ بالأحدث.
كما أنهم في مقام الجمع بين الاخبار أيضا يتعدون عن النصوص، مثلا:
إذا ورد خبر بالامر بشئ وآخر بالنهي عن ذلك الشئ يحملونهما
على الكراهة، ويخرجون عن مدلول كلا الخبرين، ويفتون بما هو
خارج عنهما معا. مع أن النصوص الصريحة في هذا أنه يعمل
بالتراجيح ثم الاحتياط والتوقف.
وبالجملة ديدنهم الخروج عن المنصوص، وعن النصوص الواردة في
العلاج معا.
وأيضا يرد عليهم: أن الأخبار الواردة في تعارض الاخبار وكيفية علاج
المتعارضين متعارضة جدا كما ستعرف.
212

والبناء على أن كل واحد منها وارد في موارد خاص - والاختلاف من
جهة خصوصيات المقام - يهدم بنيان اعتراضهم.
ويظهر مما ذكر: أنه لا ضرر في عدم تعرض المعصوم عليه السلام
لخصوص بعض ما اعتبره الفقهاء بعنوان النص، والخصوص، سيما
مع أنهم عليهم السلام تعرضوا بعنوان العموم، على أن ما ذكر ظن أيضا
ليس على اعتباره خبر.
وكذا لو بني على الترجيح، فإن الترجيح من نفس تلك الأخبار يوجب
الدور. فتأمل.
ومما يعضد ما ذكرنا: أن مشايخنا القدماء، ورواة الاخبار - الوسائط
بيننا وبين المعصوم عليه السلام - طريقتهم في الاخبار النقد و
الانتخاب، وتصحيح الحديث على ظنونهم والبناء عليها وعدم
قصرهم على الترجيحات المنصوصة، وقد أثبتنا ذلك في الرسالة.
وحيث ظهر أن بناء الترجيح على ما يورث الظن والرجحان، فلا
اعتداد ببعض المرجحات التي ذكرها بعض:
مثل الفصاحة والأفصحية، إلا أن يريد بالأفصحية ما يصل إلى قدر لا
يجوز كون الكلام عن غيرهم عليهم السلام، أو يصعب تجويز ذلك،
أو يبعد غاية البعد، مثل: خطب (نهج البلاغة) و (الصحيفة السجادية).
وأمثالها، ولا شك في أن مثل هذا من أقوى المرجحات، ويرفع
الاختلالات التي في الاخبار بحسب السند، وكذا بحسب المتن.
وأيضا ظهر مما ذكر: أن كثيرا من المرجحات ربما يكون أقوى من
العدالة، مثل: الانجبار بعمل الأصحاب، أو الشهرة بحسب الرواية و
الفتوى، أو الفتوى، لا الرواية فقط من دون فتوى، فإن ذلك يضعف
الخبر بلا شبهة.
213

هذا كله إذا كان ترجيح.
وإن لم يكن ترجيح أصلا ولا يمكن الجمع فالعمل التخيير للنص، و
لان الحجة دائرة بينهما ولا ترجيح.
وقيل: بسقوطهما واطراحهما، والرجوع إلى ما اقتضاه الأصل.
وقد بسطنا الكلام في رسالتنا في أصل البراءة.
والأخباريون يقولون بوجوب التوقف حينئذ، وسيجئ.
214

الفائدة الإحدى والعشرون [في ذكر المرجحات المنصوص عليها]
روى عمر بن حنظلة عن الصادق عليه السلام انه قال: (الحكم ما
حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا
يلتفت إلى ما حكم به الاخر. قلت: أنهما عدلان مرضيان لا يفضل
واحد منهما على صاحبه؟ قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا الذي
حكما به، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، ويترك
الشاذ الذي ليس بمشهور، فإن المجمع عليه لا ريب فيه.
إلى أن قال: قلت: الخبران عنكما مشهوران، رواهما الثقات عنكم؟
215

قال عليه السلام: ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة
يؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق
العامة. قلت: إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدا
أحد الخبرين موافقا للعامة والاخر مخالفا؟ قال: ما خالف العامة
ففيه الرشاد. قلت: فان وافقهما الخبران؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل
حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر قلت: فان وافق
حكامهم الخبرين قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك). وفي
الغوالي عن زرارة عن الباقر عليه السلام أنه سأله عن الخبرين
المتعارضين فقال: (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر،
قلت: إنهما مشهوران عنكم فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك،
فقلت:
إنهما عدلان مرضيان؟ قال عليه السلام: ما وافق منهما العامة فاتركه و
خذ بما خالفهم فان الحق فيما خالفهم، قلت: ربما كانا موافقين
لهم أو مخالفين فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك ما
خالف الاحتياط. فقلت: انهما موافقان للاحتياط أو مخالفان؟ فقال:
إذن فتخير أحدهما).
وفي رواية أخرى: (إذن فأرجه حتى تلقى إمامك).
وعن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله عن الصادق عليه السلام: (إذا ورد
عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله تعالى، فما
وافقه فخذوه، وما خالفه فذروه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله تعالى
فاعرضوهما على
216

أخبار العامة، فما خالفها فخذوه وما وافقها فذروه).
وعن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام في الأحاديث
المختلفة:
(اعرضها على كتاب الله وأحاديثنا: فإن كانت تشبههما فهو منا، وإلا
فليس منا. قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين،
فلم نعلم أيهما الحق؟ قال: فموسع عليك بأيهما أخذت).
وعن عبد الله بن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام: عن اختلاف
الحديث يرويه من نثق به، ومن لا نثق به؟ قال: (إذا وجدتم له شاهدا
من كتاب الله، أو من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلا
فالذي جاءكم أولى به.
وعن الكاظم عليه السلام: (إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما
على كتاب الله وعلى أحاديثنا، فإن أشبههما فهو حق، وإلا فهو
باطل).
وفي العيون في حديث طويل في آخره أنه (اعرضوا الخبرين
المختلفين على كتاب الله فما وافقه فاتبعوه، وما لم يكن في الكتاب،
فاعرضوه على سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قال:
فإن لم تجدوا فردوا إلينا،
217

ولا تقولوا فيه ب آرائكم، الحديث).
وورد أخبار كثيرة بالتخيير من أول الامر من دون مراعاة مرجح.
وورد أيضا: النهي عن العمل بواحد منهما من أول الامر من دون
مراعاة مرجح.
فقد رأيت الاخبار في غاية الاختلاف:
منها: أنهم ما رخصوا العمل بالمرجح أصلا، إما بناء على التوسعة، أو
على حرمة العمل.
ومنها: ما لم يرخصوا سوى العرض على الكتاب والسنة: إما معا، أو
على الترتيب، ولو لم يكن موافقا لهما فهو باطل، من دون مراعاة
مرجح آخر أصلا.
ومنها: العرض على كتاب الله، ثم على أحاديث العامة من غير تجويز
أمر آخر.
بل ورد في أخبار كثيرة لا تحصى: أن كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو
زخرف وباطل وأمثال ذلك، وإن لم يكن له معارض.
218

وورد أيضا: ان كل حديث يوافق العامة فهو باطل كذلك.
وأما رواية عمر بن حنظلة فواردة في القاضي دون الراوي، إلا أن
يلتزم أن كل راو قاض، وحاكم شرع.
وفيه ما فيه، ومع ذلك يعارضها جميع ما ذكر، حتى رواية زرارة
أيضا، لان رواية عمر بن حنظلة حكم فيها باعتبار الأعدلية و
الأصدقية والأورعية والأفقهية، أولا، وبعد التساوي فالمجمع عليه
بين الأصحاب الذي لا ريب فيه، لا بمجرد الشهرة، وبعد التساوي
فالعرض على الكتاب والسنة والعامة إلى آخره، ورواية زرارة حكم
فيها باعتبار الشهرة أولا، ثم بعد التساوي فبالأعدلية فقط، وبعد
التساوي فبالعرض على مذهب العامة إلى آخره.
وأيضا ومع ذلك إن كانت الشهرة المذكورة هي المذكورة في رواية ابن
حنظلة كما هو الظاهر، يبقى الشهرة المصطلح عليها لا دليل
على اعتبارها، إذ عرفت أن المراد بها المجمع عليه الذي لا ريب فيه.
ومع ذلك يبقى إشكال آخر: وهو أن المجمع عليه إذا كان لا ريب فيه
فكيف يتأخر عن الأعدلية التي هي ظنية ضعيفة؟ بل وكيف يؤخر
موافقة الكتاب عنه مع أنه ورد فيه ما ورد؟ بل المستفاد من الأخبار المتواترة
أن العرض على الكتاب مقدم على
219

جميع التراجيح، ومعتبر مطلقا.
وكذا الكلام في مخالفة العامة، سيما مع التعليلات الواردة بأن الرشد
في خلافهم، وأنهم ما هم من الحقيقة في شئ إلى غير ذلك.
ومع ذلك إشكال آخر: وهو أن الواو تفيد الجمعية، فيقتضي أن يكون
مجموع الأعدلية وأخواتها مرجحة واحدة.
وكذا الكتاب، والسنة، والحمل على معنى أو مجاز خلاف الأصل
يحتاج إلى القرينة.
وعند الأخباريين أن بناء المرجحات على التعبد.
وإشكال آخر: وهو أن القرآن عندهم ليس بحجة، وورد تفسير ثابت
من أهل البيت عليهم السلام ينفع في الترجيحات، ويصير القرآن
مرجحا من جهة مما لا يكاد يتحقق.
وأما التقية: فالمعتبر مذهب العامة في ذلك الزمان وكذا قضاتهم و
حكامهم.
ونقل عن تواريخهم: أن عامة أهل الكوفة كان عملهم في عصر
الصادق عليه السلام على فتاوى أبي حنيفة وسفيان الثوري ورجل
آخر،
وأهل مكة على فتاوى ابن جريح، وأهل المدينة على فتاوى مالك و
رجل آخر وأهل البصرة على فتاوى (عثمان) و (سوادة) وغيرهما،
وأهل (الشام) على (الأوزاعي) و (الوليد)، وأهل (مصر) على (الليث
بن سعد)، وأهل
220

(خراسان) على (عبد الله بن المبارك) وفيهم من أهل الفتوى غير
هؤلاء إلى أن استقر رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة في سنة
خمس وستين وثلاثمائة كما قيل.
وبالجملة: الاعتراضات على الأخباريين كثيرة مر بعضها في (الفائدة
السابعة).
وأما المجتهدون فلما كان بناؤهم على التحري وتحصيل ما هو أقرب
إلى ظنهم في السند، والدلالة، والتوجيه فلا يستشكلون في هذه الأخبار
أيضا، وكل يبني الامر فيها على ما هو الأقرب عنده. فتأمل.
221

الفائدة الثانية والعشرون [في المرجحات التي اعتبرها الفقهاء زائدا
عما في النصوص:] ومر في الفائدة السابقة وجه اعتبارهم
إياها]
منها: كثرة رواة أحدهما، أو أضبطية رواته، ونحو ذلك مما كان من
الأوصاف.
ومنها علو الاسناد.
ومنها ترجيح المروي بلفظ المعصوم عليه السلام على المروي
بالمعنى.
ومنها التأكيد في الدلالة بقسم أو غيره.
وربما اعتبر بعض الأصوليين كون المدلول في أحدهما حقيقيا وفي
223

الاخر مجازيا، والعام الغير المخصص على العام المخصص، وكذا
المطلق.
ومنها الأفصحية.
وشئ منها ليس بشئ سوى الأفصحية بالنحو الذي ذكرنا سابقا.
ومنها: موافقة الأصل على الأقرب.
ومنها: موافقة المشهور بين قدمائنا.
ومنها: موافقة المشهور بين المتأخرين. فتأمل.
ثم اعلم: أنه قد شاع بعد صاحبي (المعالم) و (المدارك) أنهم يطرحون
أخبارنا المعتبرة التي اعتبرها فقهاؤنا القدماء، بل والمتأخرون
أيضا - كما بينته وأثبته في التعليقة - طرحا كثيرا بسبب أنهم لا
يعتبرون من الامارات الرجالية سوى التوثيق، وقليل من أسباب
الحسن.
وبسبب ذلك اختل أوضاع فقههم وفتاواهم، وصار بناؤهم على
عدم ثبوت المسائل الفقهية غالبا.
وذلك فاسد، لان أسباب التثبت الظنية موجودة في غاية الكثرة، و
حصول الظن القوي منها لا يتأمل فيه.
ومر اعتبار الظن في التثبت كاعتباره في ثبوت العدالة من دون تفاوت.
وهذه الأسباب اعتبرها الفقهاء في كتبهم الاستدلالية، وأهل الرجال
في علم الرجال، فلا بد من معرفتها وملاحظتها، لئلا يطرح
الأخبار المعتبرة الكثيرة، ولا يخالف طريقة فقهاء الشيعة القدماء و
المتأخرين منهم، ولا يبقى في التحير والتردد في معظم المسائل
الفقهية، ثم يترك أو يقلد فيها
224

المجتهدون.
والأسباب والامارات:
منها كون الراوي ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، و
هم معروفون في الرجال.
ومنها كون الراوي ممن قالوا فيه أنه ثقة في الحديث.
ومنها: قولهم: أسند عنه، والظاهر أنه مدح، أي سمع منه الحديث
على وجه الاستناد.
وقيل: إنه كالتوثيق.
ومنها: قولهم: لا بأس به، لعل المراد لا بأس من جميع الوجوه، ولعله
لهذا قيل بإفادته التوثيق واستقربه الميرزا محمد في متوسطه، و
المشهور أنه يفيد الحسن كسابقه.
وقيل: لا بأس بمذهبه أو روايته، (والمشهور أنه يفيد الحسن). (1)
ومنها: قولهم: عين ووجه. وقيل: هما يفيدان التعديل.
وأقوى منهما: عين من أعيان الطائفة، ووجه من وجوه أصحابنا.
ومنها: قولهم: مضطلع بالرواية: أي قوي أو عال لها. ومنها: سليم
الجبنة. قيل: معناه سليم الأحاديث، وسليم الطريقة.

(1) هو الميرزا محمد بن علي بن إبراهيم الفارسي الاسترآبادي المتوفى
(1028) وهو صاحب منهج المقال في علم الرجال المعروف ب
(الرجال الكبير) وله رجال وسيط وله أخرى تسمى الوجيز: ولكن
الموجود من الثلاثة هو الكبير والوسيط والظاهر المطبوع منهما
هو منهج المقال راجع الذريعة 6: 225، و 25: 42.
225

ومنها: خاصي، وقد أخذه خالي رحمه الله مدحا.
ومنها: قريب الامر، وأخذه أهل الدراية مدحا.
ومنها كون الراوي من مشايخ الإجازة، والمتعارف عده حسنا.
وربما يظهر من بعض دلالته على الوثاقة، ومن بعض آخر أنه في
أعلى درجات الوثاقة والجلالة، والشهيد الثاني رحمه الله على أن
مشايخ الإجازة لا يحتاجون إلى التنصيص على تزكيتهم.
وقيل: إن التعديل بهذه الجهة طريقة كثير من المتأخرين.
ومنها: كونه وكيلا للأئمة عليهم السلام، وقيل: إنهم ما كانوا يجعلون
الفاسق وكيلا.
ومنها: أن يكون ممن يترك رواية الثقة أو الجليل، أو يؤول محتجا
بروايته، ومرجحا لها عليهما، أو يؤتى بروايته بإزاء روايتهما،
فتأمل.
ومنها: كونه كثير الرواية: وهو موجب للعمل بروايته عند عدم الطعن
عند الشهيد رحمه الله.
وعن العلامة رحمه الله انه من أسباب قبول الرواية.
وقيل: انه من شواهد الوثاقة.
وقيل: انه من أسباب الحسد أو القوة وأولى منه كونه كثير السماع.
ومنها كونه ممن يروي عنه أو عن كتابه جماعة من الأصحاب، فأنه من
أمارات الاعتماد عليه، وربما يظهر ذلك من النجاشي في ترجمة
عبد الله
226

ابن سنان.
ومنها: عكس ذلك أنه يروي عن الجماعة، وربما يذكر ذلك في مقام
المدح.
ومنها: رواية الاجلاء عنه، وربما كان فيه إشارة إلى الوثاقة كما ذكرنا
في التعليقة سيما ان يكون ممن يطعن بالرواية عن المجاهيل
وأمثال ذلك، أو يكون فيهم من يطعن كأحمد بن محمد بن عيسى.
ومنها: أن يروي عنهم صفوان بن يحيى أو ابن أبي عمير أو ابن أبي
النصر البزنطي، لما ذكر في (العدة) من أنهم لا يروون إلا عن ثقة.
والمحققون الميرزا محمد والشيخ محمد وصاحب (الذخيرة)
(1) يقولون بأن ذلك من أمارات الوثاقة وقبول الرواية وقريب منهم
علي بن الحسين الطاطري ومحمد بن إسماعيل بن ميمون وجعفر
بن بشير، أو من يروي عن الأخيرين. فتأمل.

(1) حيث قال: (فتوثيق الأصحاب. لابن بكير ومخالطتهم إياه ورواية
أجلائهم كابن أبي عمير وصفوان وغيرهما عنه مما يدل على
كمال ثقته). انظر ذخيرة المعاد: 5.
227

ومنها رواية (علي بن الحسين بن فضال) عنه لما ذكر وظهر في
ترجمته أنه من المرجحات. فليلاحظ وليتأمل.
ومنها: أخذه معرفا للثقة أو الجليل.
ومنها: كونه ممن يروي عن الثقات، ويجعل هذا مدحا وأمارة
للاعتماد.
ومنها: كونه ممن يكثر الرواية عنه، مفتيا بمضمونها، فإن (المحقق)
اعترف بكونه أمارة للاعتماد عليه.
ومنها: رواية الثقة عن شخص مشترك الاسم، وإكثاره منها: عدم إتيانه
بما يميزه عن الثقة.
ومنها: اعتماد شيخ من الشيوخ عليه، كما يظهر من الخلاصة و
النجاشي وعلي بن محمد بن قتيبة، فإذا كان جمع منهم اعتمدوا
[عليه]
فهو في مرتبة معتد بها من الاعتماد عليه، سيما إذا كثر منهم الاعتماد.
ومنها: اعتماد القميين عليه وعلى روايته، لأنهم كانوا يخرجون من
(قم) من كان يروي عن المجاهيل ويعتمد المراسيل.
ومنها: ان يكون رواياته جلها مقبولة أو سديدة. ومنها: اتفاق الجل أو
الكل على الحكم بصحة حديث هو في سنده، وكون طريقتهم
ذلك.
ومنها: وقوعه في سند حديث وقع الطعن في سنده من غير جهته.
228

فربما يظهر من بعض أنه دليل الوثاقة، ومن بعض دليل المدح والقوة،
ومن بعض عدم ممدوحيته، فتأمل.
ومنها: وجود الرواية في (الكافي) أو (الفقيه) لما ذكرا في أولهما (1) و
اعتمد على ذلك جمع، وإذا اتفق وجودها فيهما معا ففيه
اعتماد معتد به بالغ كامل، وإذا اتفق وجودها في (الكتب الأربعة) من
غير قدح فيه فهو في غاية مرتبة من الاعتداد به، والاعتماد عليه،
وإذا وجد في غيرها أيضا كذلك فأزيد وأزيد على حسب ما وجد فيه.
ومنها: إكثار (الكافي) أو (الفقيه) من الرواية عن شخص، فإنه أيضا
أخذ دليلا على الوثاقة، سيما إذا أكثرا معا.
ومنها: أن يكون يعمل به الجماعة الذين لا يعملون بخبر الواحد مثل
(السيد) و (ابن إدريس) وغيرهما، فإنه دليل على كونه قطعيا
عندهم فيكون في غاية القوة.
ومنها: قولهم: معتمد الكتاب والحديث وربما جعل ذلك في مقام
التوثيق.

(1) قال في الكافي: (إنك تحب ان يكون عندك كتاب كاف مجمع
(فيه) من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه
المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة
عن الصادقين عليهم السلام والسنن القائمة التي عليها العمل وبها
يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه) انظر الكافي 1: 8 خطبة الكتاب.
وقال في الفقيه: (ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما
رووه بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته واعتقد فيه أنه
حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته). انظر الفقيه 1:
3.
229

ومنها: قولهم: بصير بالحديث والرواية.
ومنها: قولهم: فقيه من فقهائنا وهذا يفيد الجلالة بلا شبهة، وربما
يشير إلى الوثاقة، سيما بملاحظة اشتراط العدالة في الفقيه، وعبارة
النجاشي في (إسماعيل بن عبد الخالق) تشير إلى ما ذكرنا.
وقريب من ذلك قولهم فقيه. ومنها قولهم: فاضل دين.
ومنها قولهم: أوجه من فلان مع كون فلان ثقة، أو وجيها، وكذا قولهم:
أصدق من فلان أو أوثق.
ومنها: توثيق (ابن فضال) و (ابن عقدة) ويمكن ثبوت العدالة بناء
على كونه من باب الامارات الاجتهادية، ولذا يحكم بالعدالة بهذا
خالي رحمه الله ويعتمد عليه علماء الرجال، كما لا يخفى على
المطلع.
وأما توثيق (ابن نمير) (1) ومن ماثله فربما يحصل منهما اعتداد وقوة
ما بملاحظة اعتداد المشايخ بذلك.
ومنها: كون رواية الثقة عن رهط أو عن غير واحد أو عن أشياخه، فإذا
علم أن فيهم ثقة، أو ظن فالحديث صحيح، وإلا فربما يعد من
الصحاح أيضا، فالظاهر أنه يقصر عن الصحيح بحسب المظنة.

(1) ابن نمير: هو عبد الله وهو من علماء العامة. قال أبو إسماعيل
الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظم ابن نمير تعظيما عجيبا. وقال
أحمد
بن صالح: ما رأيت في العراق مثله ومثل أحمد. مات سنة 234.. و
كثيرا ما ينقل العلامة منه توثيق بعض الرواة.
230

ومنها: أن يروي (محمد بن أحمد بن يحيى) عنه، ولم يكن من جملة
ما استثناه (القميون)، وفيه شهادة على العدالة والصحة، وعليه
جماعة من المحققين منهم: (السيد الداماد) رحمه الله، و (صاحب
الذخيرة).
وكذا الحال في استثنائهم بالنسبة إلى غير (محمد بن أحمد) مثل
استثناء رواية (محمد بن عيسى) بالخصوص عن (يونس)، ففيه شهادة
على أن (إسماعيل بن مرار) و (صالح بن السندي) مقبولا الرواية.
ومنها: أن يذكر الجليل شخصا مترضيا أو مترحما عليه، وغير خفي أنه
من أمارات الحسن.
ومنها: أن يقول الثقة: حدثني الثقة، فإن الظن بالوثاقة حاصل، ولا يضر
عدم معرفته واحتمال كونه ضعيفا عندنا، لأنه خلاف الأصل، و
الظاهر.
ومنها: قول الثقة: لا أحسبه إلا فلانا، أي شخصا ثقة.
قال: (المحقق الشيخ محمد): ظاهرهم العمل به والبناء عليه. ثم
اعترض بأن الظن ليس بحجة، إلا أن يكون عليه الاجماع، وتحققه في
المقام في غاية البعد. ولا يخفى فساد اعتراضه بعد الإحاطة بما
ذكرناه سابقا.
ومنها كون الراوي من الذين ادعى (الشيخ) في (العدة) اتفاق الشيعة
على العمل بروايتهم: وهم (السكوني)، و (حفص بن غياث)، و
(غياث بن كلوب)، و (نوح بن دراج)، ومن ماثلهم من العامة مثل
(طلحة بن زيد). بل وصرح (الشيخ) بأن (السكوني) ومن ماثله ثقات.
231

وممن ادعي اتفاق الشيعة على العمل بروايتهم: (عبد الله بن بكير) (و
سماعة بن مهران) و (بنو فضال)، و (الطاطريون)، و (عمار
الساباطي)، و (علي بن أبي حمزة البطائني)، و (عثمان بن عيسى).
ومنها: وقوعه في السند الذي حكم (العلامة) بصحته.
ومنها: أن يكون (للصدوق رحمه الله طريق إليه، وحسنه خالي رحمه
الله لذلك فتأمل.
ومنها: أن يرد في مدحه، ووثاقته حديث غير صحيح، والمشايخ
اعتدوا بذلك الحديث.
ومن أراد تحقيق الحال، والبسط فيه، وفي جميع ما ذكر، وأزيد مما
ذكر فعليه بملاحظة التعليقة.
ومن الامارات: موافقة الحديث لحكم العقل، أو التجربة، مثل ما ورد
من قراءة آخر الكهف للانتباه في الساعة التي يراد، وقرأة سور
(هل أتى) في صلاة الصبح يوم الاثنين ويوم الخميس لوقاية الله
شرهما، وغير ذلك.
وبالجملة: القرائن كثيرة تظهر للمجتهد.
232

الفائدة الثالثة والعشرون [الجمع بين الخبرين المتعارضين]
اعلم أنه قد شاع في أمثال زماننا: أنه متى رأوا خبرين متعارضين
يبادرون إلى الجمع بينهما بأي وجه اتفق، وأي جمع استحسنوا، و
يجعلون هذا الجمع هو المفتي به، ويبنون العمل عليه، ويجعلونه
حكم الله تعالى يتمسكون في ذلك: (بأن الجمع مهما أمكن أولى من
الطرح)، ولم نجد لهذا دليلا ورخصة من الشارع، بل الذي يظهر من
الاخبار خلاف ذلك، وأنهم عليهم السلام ما قالوا في مقام
التعارض: أجمع بينهما، بل صرحوا بالبناء على الترجيحات، ثم
التوقف، أو غيره.
مع أنه خروج عن مدلول كلامهم، وقد عرفت أنه غير جائز، وأن
الواجب التمسك بمعاني ألفاظ عباراتهم.
مع أن ذلك لم يكن طريقة قدمائنا إلى زمان (الشيخ) رحمه الله،
233

و (الشيخ) رحمه الله وإن أحدث ذلك، إلا أنه أحدثه لعذر اعتذر به، و
هو ارتداد بعض من كان من الشيعة، من جهة ما زعم من التناقض
بين كلماتهم عليهم السلام فرده بأن التناقض إنما يلزم إذا لم يحتمل
التوجيه، ويحتمل أنه كان قرائن لو بقيت لما صار بين ظاهريهما
تناف، وذهبت القرائن بسبب الحوادث، فشرع بالجمع، والآتيان
بالشواهد مهما أمكن، ولم يجعل كل جمع ارتكبه مفتى به مذهبا له، و
لذا يقول غالبا: يحتمل كذا ويحتمل كذا، ومجرد (يحتمل كذا) ليس
فتوى بلا تأمل. نعم في بعض المواضع يظهر أنه فتواه وإن ادعى
بعض أن فتوى (الشيخ) رحمه الله لا يظهر من كتابي الاخبار.
وبالجملة: أولا يرجح الحديث بالمرجحات التي تكون في أحدهما، و
يجعله هو المفتي به، ثم يأتي بالمعارض الذي ليس بحجة، ويؤوله
حتى يرجع إلى الذي هو حجة، ويوافقه، وإلا ففتواه بما هو راجح،
كما أمر الأئمة عليهم السلام بذلك. وكثيرا ما لا يظهر المرجح، لما
اعتذر به في أول (الاستبصار).
نعم في بعض المقامات يكون فتواه من الجمع مثل التخصيص و
التقييد وأمثال ذلك، لما ستعرف من أنه هو الوجه.
وكان طريقة (الشيخ) مسلوكة إلى أمثال زماننا، فصاروا بمجرد الجمع
- وأي جمع يكون - يفتون - كما أشرنا - بسبب أنسهم و
ألفتهم بالتوجيه، حتى صار التوجيه والتأويل من جملة معاني أخبار
خصوص الأئمة عليهم السلام مشاركا للمعاني الظاهرة المتبادرة،
في الحجية ووجوب التمسك، بل وجعله
234

مراد الشارع، ولذا يقولون: (الجمع بين الدليلين أولى من الطرح)، وفي
الحقيقة لو كان جمعا بين الدليلين لكان أولى ومتعينا، لكنه
ليس بجمع، لان الدليل ليس إلا ما هو المتبادر من كلامهم عليهم
السلام، والظاهر، لا المؤول والموجه، سيما وكثيرا ما يكون بعيدا
غاية
البعد.
هذا، مع أن كثيرا من فقه الشيعة حصل من الجمع بين الأدلة، بحيث لو
بني على عدم الجمع لم يكن الفقه فقه الشيعة البتة.
فظهر أن كثيرا من الجمع يجب شرعا، وكثيرا منه لا يجب، بل يحرم
في مقام الفتوى والعمل، وإن كان لا بأس به في مقام العذر الذي
اعتذر به (الشيخ). فلا بد من الفرق بين المقامين، وجعل الفتوى
مستندة إلى حجة شرعية، وعذر عند الله تعالى.
فنقول: الجمع الذي هو حجة هو ما يكون له شاهد من نفس
المتعارضين، أو من أحدهما، أو من حديث آخر، أو من إجماع بسيط
أو
مركب، أو حكم عقلي يقيني.
أو يكون بملاحظة المتعارضين يتبادر إلى الذهن مراد المعصوم عليه
السلام مثل التخصيص والتقييد، كما يتبادر من قول: أكرم العلماء
ولا (تكرم زيدا) أنه مستثنى، و (أعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة كافرة)، أنها
مقيدة، كما ذكرنا سابقا.
وكذا مثل: التخصيص والتقييد، كل جمع يحصل به الظن أو الظهور
بملاحظة المتعارضين، بأن يكون أحدهما قرينة صارفة ومعينة
للاخر، أو كل واحد منهما للاخر، فيكون الفهم من جهة القرينة، لا أنه
بمحض اعتقاد (أن
235

الجمع أولى من الطرح) يحدث جمعا وإن لم يكن من ذلك القبيل.
إذ لا شك في أن الأئمة عليهم السلام كانوا يتكلمون متخالفا متعارضا
كثيرا غاية الكثرة، حتى أنهم قالوا: هذا الاختلاف منا ونحن
أوقعناه بين الشيعة، وأنه أبقى لنا ولهم، وكثيرا ما قال الرواة لهم: قد
اختلف الاخبار من آبائكم، واختلف الشيعة في أحاديثكم،
فكيف نصنع؟ فأجابوهم: باختيار أحدهما، أو غير ذلك، ولم
ينكروا الاختلاف، بل وأقروا به، ولم يقولوا:
أجمعوا، ووجه الجمع كذا، أو إنه ليس بينها تعارض. نعم في نادر غاية
الندرة تعرضوا لوجه الجمع، وإلا فالباقي بنوا فيه على عدم الجمع
كما هو الظاهر منهم عليهم السلام.
ومن جملة الجمع الذي لا مانع منه ما أشرنا إليه، من تأويل ما ليس
بحجة، وإرجاعه إلى ما هو حجة.
والحاصل: أن الجمع - بعد التقاوم هو إرجاع ما هو مرجوح إلى
الراجح الذي هو الحجة، إذ عرفت من الفائدة السابقة: أن الحجة هي
الراجح فقط، وهذه الطريقة هي الطريقة المسلوكة للمجتهدين، لكن
الان بعض من لا اطلاع له بحقيقة الحال يخرب تخريبا عظيما يقدم
الجمع على الترجيح، وربما يخرب الراجح الذي هو الحجة بسبب
المرجوح الذي على الترجيح، وربما الراجح ويرجعه إلى المرجوح،
و
إن كان الراجح في أعلى
236

درجات الرجحان، والمرجوح في أسفل دركات المرجوحية ويؤولون
أخبارا - كثيرة صحاحا مفتى بها، موافقة للقرآن، مخالفة للعامة،
إلى غير ذلك من المرجحات المجتمعة فيه - بخبر واحد ضعيف
مرجوح بالوجوه الكثيرة. وقد كتبنا رسالة مبسوطة في الجمع بين
الاخبار.
237

الفائدة الرابعة والعشرون [أصالة البراءة]
الأصل: ما يبنى عليه الشئ لغة.
وفي اصطلاح الفقهاء - على ما قاله الشهيد الثاني رحمه الله - يطلق
على معان أربعة.
الدليل، والراجح، والاستصحاب، والقاعدة.
لا كلام في الأول، ولا الثاني، فقد عرفت حال ظن المجتهد والمقلد له
وغيرهما، والاستصحاب سنذكره، والقواعد كثيرة، وذكرنا
الأصول المعتبرة عند الفقهاء ووجه اعتبارهم إياها في حاشيتنا على
ديباجة (المفاتيح) فلاحظ فيها.
ولنتكلم في أصالة البراءة لكونها العمدة:
اعلم: أن المجتهدين ذهبوا إلى أن ما لا نص فيه، والشبهة في موضوع
239

الحكم، الأصل فيهما البراءة.
والمراد من الثاني: أن حكم الشئ شرعا يكون معلوما، لكن وقع
الشبهة في موضوعه.
مثلا: (الميتة حرام البتة)، و (المذكى حلال كذلك)، ولكن وجد لحما
لا يدرى أنه فرد الميتة أو المذكى.
والأخباريون على أربعة مذاهب فيما لا نص فيه.
الأول: التوقف، وهو المشهور بينهم.
الثاني: الحرمة ظاهرا.
الثالث: الحرمة واقعا.
الرابع: وجوب الاحتياط.
ويحتمل أن يكون القول بالتحريم مختصا بما قبل ورود الشرع غير
مختص بالأخباري.
وألحق الأخباريون بما لا نص فيه ما تعارض فيه النصان، والافراد غير
ظاهرة الفردية.
وصرح بعضهم: بأن هذه المذاهب فيما إذا احتمل الحرمة وغيرها من
الاحكام، وأما إذا احتمل الوجوب وغيره سوى الحرمة، فهم مثل
المجتهدين يقولون بالبراءة. هذا فيما لا نص فيه، وأما في الشبهة في
موضوع الحكم فهم مثل المجتهدين يقولون بالبراءة.
دليل المجتهدين: حكم العقل بقبح التكليف والمؤاخذة ما لم يكن
بيان، و (الآيات) الكثيرة، و (الأخبار المتواترة) المتضمنة لنفي
التكليف
240

والمؤاخذة ما لم يكن بيان وعلم، وأنه لا يخلو الزمان عن إمام ليعرف
الناس ما يصلحهم، وما يفسدهم إلى غير ذلك. و (الاجماع) نقله
جمع منهم:
الصدوق رحمه الله في اعتقاداته، والمحقق (1) والعلامة، وكثير
من المتأخرين، وهو الظاهر من كلام الكليني، والمفيد رحمه
الله، والشيخ رحمه الله.
ولا شبهة في كونه حقا، لأنا نقطع أن المسلمين من زمن الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم إلى زمان القائم عجل الله فرجه الشريف ما
كانوا يتوقفون في كل واحد واحد من حركاتهم، وسكناتهم في كل
واحد واحد من أعضائهم، وكذا في كل واحد واحد من مأكولهم، و
مشروبهم، وملبوسهم، ومحل جلوسهم، وحركتهم، وغير ذلك، مما
يصير متعلقا للحكم، ما كانوا يتوقفون في هذه الأمور وغيرها على
الرخصة الثابتة من الشرع، وعلى قدر الرخصة.
ونجزم أيضا: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم بعث لم
يلزمهم على ذلك، بل كان يبلغهم التكليف، لا أنه صلى الله عليه وآله
و
سلم يبلغهم الرخصة والإباحة، ورفع التكليف بالتوقف أو الحرمة كما
يقول الأخباريون.
وكذا كان حال الأئمة عليهم السلام وكذلك كان طريقة المسلمين في
الأعصار والأمصار.

(1) معارج الأصول: 208 وإليك نص كلامه رحمه الله (الوجه الرابع
أطبق العلماء على أن مع عدم الدلالة الشرعية يجب بقاء الحكم على
ما
تقتضيه البراءة الأصلية... إلخ).
241

ويدل على مذهب المجتهدين أيضا استصحاب عدم التكليف
السابق.
حجة الأخباريين: الأخبار الدالة على التوقف إذا لم يعلم الحكم.
وفيه: أن المجتهدين قائلون بمضمونها، بل أساس اجتهادهم و
مذهبهم على مضامين هذه الأخبار، إذ عرفت أنهم - من جهة أن
الفتوى لا
بد من أن تنتهي إلى العلم - يقولون: إن الحجة ظن المجتهد الجامع
الشرائط، لا ظن غيره، لوجود العلم واليقين بحجية ظنه.
ويرد عليهم اعتراضات أخر ستعرفها.
واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (حلال بين، وحرام
بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات و
من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم).
وفيه أيضا نظر من وجوه:
الأول: أنه لا يدل على وجوب التوقف أو الحرمة، بل ظاهره أنه إن اتفق
كونه حراما في الواقع يهلك، وإلا فلا.
والحاصل: أن في الخبر تصريحا بأن الشبهة غير الحرام، وأنها بين
الحلال والحرام، وتصريحا أيضا: بأن الهلاك من حيث لا يعلم، فلا
يكون الهلاك بإزاء ارتكاب الشبهة، لأنها معلومة والهلاك من حيث
لا يعلم، فلا يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أخذ
بالشبهات ارتكب المحرمات)
242

باقيا على ظاهره، إذ يلزم أن يكون الشبهة حراما، وبإزائها الهلاك، و
كونها من حيث يعلم.
إلا أن يقال: الشبهات جمع محلى باللام يفيد العموم، فمن ارتكب أي
شبهة عرضت، لا محالة ارتكب الحرام المتعدد، إذ يبعد غاية البعد أن
يتفق كون جميع ما ارتكبه حلالا واقعا.
أما كون المحرمات ليست على عمومها فمسلم عند الجميع.
وأما كون المراد من الشبهات العموم المذكور، فلانه إذا تعذر الحقيقة
فأقرب المجازات متعين مضافا إلى القرينة.
لكن هذا أيضا لا ينفع المجتهدين، لأنهم لا يقولون بالحرمة، بل يقولون
بالكراهة.
والأظهر أن المراد: يوشك أن يقع في المحرمات، كما وقع التصريح
بذلك في أخبارهم، وأخبارهم يفسر بعضها بعضا.
مع أن الخبر صدر بعنوان الوعظ والارشاد، والمتعارف - في العرف -
الاتيان بالحظر المحتمل باللفظ الدال على الوقوع، مثل أنهم
يقولون:
(لا تذهب في البرية، فيأكلك السبع، ويسلبك السارق) وغير ذلك،
كما أن المتعارف في الاخبار أيضا كذلك.
مع أن هذا الخبر وارد فيما تعارض فيه نصان، وستعرف عدم وجوب
التوقف فيه، وفي مطلق الشبهة.
فتعين أن المراد: أن ارتكاب الشبهات ربما يؤدي إلى ارتكاب
المحرمات المعلومة عند المرتكب، ولا يعلم أنه حرام، وإن كان لو لم
يلتبس
243

عليه نفسه كان يعلم أنه حرام، فإن نفسه بشقاوته تخفي عليه أمره، كما
ورد:
(ان الرياء أخفى من دبيب النملة) وورد (أنه شرك خفي). وأمثال
ذلك وأن المراد من الهلاك غير العقوبة، بل آثار الحرام
الواقعي المترتبة عليه، التي لا تنفك عنه، أو لا تكاد تنفك. والله أعلم.
الثاني: أنه يدل على كون الحكم ثلاثة: - وهذا موافق لمذهب
المجتهدين - من أنه حلال بين، وحرام بين، وشبهات مكروهة.
وأما الحكم عند الاخباري فأزيد من الثلاثة إن قالوا: بأن مثل مال
الغاصب والسارق شبهة، وكذا كون امرأة أختا من الرضاعة شبهة، و
غير ذلك مما ورد التنزه، والاجتناب عنه، والاحتياط فيه من الشرع.
وإن لم يقولوا بذلك وقالوا: بأنه حلال بين - كما صرح به بعضهم -
ففيه:
أنه كيف يكون هذا حلالا بينا، وما لا نص فيه من جميع ما خلق لنا
يكون واجب الاجتناب أو حراما، وهذا عجيب.
الثالث: انه شامل للشبهة في الموضوع، وما احتمل الوجوب وغير
الحرمة من الاحكام، فما يقولون فيهما فهو جواب المجتهدين أيضا من
دون تفاوت كما أثبتناه في رسالتنا في أصل البراءة.
الرابع: أن كون ما لا نص فيه شبهة أول الكلام، فإن الأدلة السابقة واحد
منها يكفي لخروجه عن الشبهة، فضلا عن الاجتماع، وسيما
التواتر
244

والاجماع.
الخامس: أن الظاهر من أخبار أخر أن الشبهات لا عقاب على ارتكابها:
منها: ما رواه (علي بن محمد الخزاز) في (الكفاية في النصوص)
بسنده إلى الحسن عليه السلام أنه قال في جملة حديث له: (إن في
حلالها - أي الدنيا - حسابا، وفي حرامها عقابا، وفي الشبهات عتابا،
فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة: إن كان حلالا كنت قد زهدت فيها، وإن
كان حراما لم تكن قد أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فإن
العتاب يسير).
السادس: أنه لا يقاوم أدلة المجتهدين فضلا من أن يغلب عليها.
السابع: أنه ورد نصوص كثيرة في أن الشبهة في موضوع الحكم شبهة
البتة، وأن الأحوط الاجتناب عنها مهما أمكن، سيما في الفروج،
بل ورد في صحيحة (عبد الرحمن) التصريح: بأن الجهل بنفس الحكم
أعذر من الجهل بموضوع الحكم، وتمام الكلام في الرسالة.
ثم اعلم أن جمعا من المجتهدين فرقوا في شبهة موضوع الحكم بين
المحصورة وغير المحصورة، وحكموا بالمنع في الأول، بناء على أن
الحكم بحلية المجموع يستلزم الحكم بحلية ما هو حرام علينا قطعا، و
طهارة ما هو نجس جزما كالإناءين المشتبهين، والثوبين كذلك،
والدرهمين اللذين أحدهما غصب جزما، إلى غير ذلك.
وإن حكمنا أن أحدهما نجس، أو حرام بعينه فهو ترجيح من غير
245

مرجح شرعي، والنصوص وردت في الإناءين ونظائرهما كما قالوا.
والفرق بين المحصور وغير المحصور أن المحصور يتأتى فيه التنزه
عن الكل، بحيث لا يلزم الحرج المنفي، وغيره بخلافه.
ذلك لان الحرمة والنجاسة تكليفان يجب امتثالهما، فحيث يمكن
الامتثال بترك المحتملات - من باب مقدمة الواجب - يكون مكلفا
به، و
حيث لا يمكن لعدم تأتي ترك الجميع، وعدم الترجيح الشرعي لا
يكون مكلفا به.
وأيضا المحصور: ارتكاب جميع محتملاته يتحقق غالبا، فيتحقق
اليقين باستعمال الحرام أو النجس.
وأما غير المحصور: فلا يتحقق العلم عادة للمكلف الواحد بأنه ارتكب
الجميع، فارتكب الحرام أو النجس يقينا.
وكون المكلفين بأجمعهم ارتكبوا الكل لا يضر، لان كلا منهم مكلف
بعلم نفسه، ولو لم يكن لم يكن تكليف عليه.
كما هو الحكم في وجدان المني في الثوب المشترك لعدم علم كل
واحد منهما بتكليف وقع به، بخلاف ثوبي شخص واحد أو ثوبين
مطلقا، يكون أحدهما نجسا، والمكلف عالم بذلك، فإن علمه بذلك
تكليف بتنزهه عن النجس اليقيني، ولا يمكن إلا بالتنزه عنهما جميعا.
وأيضا يظهر من الاخبار: أن النجاسة مثلا لا يجب من أول الامر
246

الفحص عنها في أنها هل بلغت ثوبه مثلا أم لا؟ بل ولا يجب ذلك
عند أمارة محتملة أيضا، بل متى علم بها بحسب الاتفاق تنزه عنها، و
إلا
فلا.
وفي غير المحصورة: لا يحصل العلم غالبا بأن النجاسة وقعت فيها
بحيث يكون نسبتها إلى الكل على السوية، بحيث يصير الكل مقدمة
للترك حيث الخطاب. فليتأمل.
مع أن عدم وجوب الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين
الكل، ولا ريب فيه، ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار كان
على
ذلك، وقد حققناه في موضع آخر.
وكثيرا ما يعضده أصالة الصحة في تصرفات المسلمين.
وبالجملة أدلة أصالة البراءة (وغيرها مما ذكر) شاملة لما هو مثل:
وجدان المني المذكور، لعدم العلم بالتكليف أصلا، وللشبهة في غير
المحصور وغيرها مما ذكر، لعدم العلم في كل واحد منهما.
وأما العلم بالكلي الاجمالي بينها فلا يقاوم تلك الأدلة بحيث
يخصصها، ويخرج جميع الافراد الغير المحصورة منها، ويدخلها في
الحرام
والنجس، بأن يقال: (العلم بالتكليف بكل واحد واحد حاصل من
حيث كونه مقدمة للواجب) لما ذكرنا من لزوم تكليف ما لا يطاق أو
الحرج.
مع أن الخاص لا بد أن يكون أقوى من العام حتى يغلب عليه و
يخصصه، على أن التساوي لا أقل منه إجماعا - كما عرفت - وهو
فيما نحن
فيه محل تأمل، لو لم نقل بأنه ليس كذلك.
247

وأما الشبهة المحصورة فعند هؤلاء ليست بداخلة فيما لا يعلم،
حتى يشملها أدلة الأصل، لان حرمة أحدهما أو نجاسته يقينية
فيجب
امتثالهما قطعا لعموم أطيعوا الله وغيره، والامتثال ممكن وخال
عن الحرج، ولا يتأتى إلا بترك المجموع فأحدهما حرام أو نجس، و
الثاني يجب اجتنابه من باب المقدمة.
والأمور الواجبة كلها كليات والامتثال يتحقق بأفرادها وإن كان
الخصوصية لا مدخل لها في الوجوب، لكن لا بد من ارتكابها لكونها
شرطا في الوجوب. هذا كما أن من يعلم أن عليه فائتة، ولا يدري أنها
الصبح، أو الظهر، أو أنها أيها من الخمس، فإن الواجب الاتيان
بالكل لتحصيل الامتثال.
أقول هذه قاعدة وجيهة، إلا أنه ورد في الذي فيه الحلال والحرام أنه
حلال حتى تعرف الحرام بعينه.
وفي الصحيح عن أبي عبيدة عن الباقر عليه السلام: جواز الشراء من
العامل الذي يعلم أنه يأخذ أكثر من الحق،... (حتى يعرف الحرام
بعينه).
وفي الصحيح عن أحدهما عليهما السلام (عن الشراء الخيانة، و
السرقة؟ قال: لا، إلا أن يكون قد اختلط معه غيره فأما السرقة بعينها
248

فلا شراء).
وفي الموثق عن إسحاق بن عمار (جواز الاشتراء من العامل الذي
يظلم، ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا) إلى غير ذلك.
وورد في الاخبار في المال المختلط: (إخراج الخمس وحلية
الباقي). وتفصيل الأمور في الفقه.
والاحتياط والأولى - مهما أمكن - التجنب عن الشبهات، و
ارتكاب الاحتياط في الفتوى وعدم الاتكال على أصل البراءة مهما
أمكن،
لان ما ورد في الاحتياط يكون في غاية الكثرة والشدة، وموافق
لمسلك النجاة سيما في زمان الحيرة، وخصوصا بعد ملاحظة وهن
العمومات، وشمولها لما يقع فيه الاحتياط، وإن كان الاتكال على
أصل البراءة لا مانع منه أصلا، لكن في مثل دوران المرأة بين كونها
بنتا، أو زوجة أو أختا، وأمثال ذلك يجب الاجتناب البتة.
وكذا في المأكولات مثل: كون أحد الإناءين فيه السم المهلك جزما، و
لم يعرف بعينه، وأمثال ذلك.
والله الهادي إلى سبيل النجاة.
وأما ما ورد فيه نصان متعارضان: فالأظهر فيه التخيير لكثرة ما ورد فيه
من الأخبار الدالة عليه، وموافقتها للأصل، وقوة دلالتها.
249

وأما ما دل على التوقف فيحتمل، الحمل على الاستحباب، أو صورة
إمكان الرجوع إلى الإمام عليه السلام، أو في حقوق الناس - على
حسب ما ستعرف -، مع عدم مقاومته لما دل على التخيير لما ذكر.
لكن الاحتياط فيه كما ذكر، إن كان محتمل الوجوب وغير الحرمة.
أما محتملهما: فقيل: بأن الأحوط فيه الترك، لظاهر الأدلة. ولأن دفع
المفسدة أهم من جلب المنفعة. وفيه ما فيه.
لكن الفقهاء في الصلاة الفريضة يقدمون جانب الوجوب والفعل.
ولعله لنهاية شدة وجوبها، وكونها أوجب الواجبات بعد أصول الدين.
ثم اعلم: أنه ذكر لصحة التمسك بأصل البراءة شروط: الأول: أن لا
يكون مثبتا لتكليف من جهة أخرى، وهو ظاهر، وقد مر وجهه.
الثاني: أن لا يكون في مقام الاضرار بمسلم أو بمن في حكمه لان
عموم (نفي الضرر والاضرار) الذي هو ثابت عقلا وشرعا يمنعه، بل
لا بد من الحكم بالتدارك لو فعل الضرر.
الثالث: أن لا يكون المتمسك فيه جز عبادة مركبة لأنها توقيفية:
فإن ورد النص بالأجزاء فلا يمكن التمسك في النفي بالأصل، وإلا فلا
يمكن أيضا، لان اشتغال الذمة بها يقيني، فلا يرفع بمجرد
الاحتمال، ولأن الأصل عدم كونه عبادة.
إلا أن يقال: لا نسلم اشتغالها بأزيد من القدر اليقيني الذي ثبت من
250

الاجماع أو غيره.
وفيه أن التكليف إذا وقع بالاتيان بفعل مجمل: فإن لم يمكن الاتيان به
فلا يكون تكليف به، بل لا بد من البيان، وإن أمكن الاتيان به
بارتكاب مقدمات لا مانع منها شرعا فلا مانع من التكليف به حينئذ،
فالمقتضي موجود، والمانع مفقود.
نعم لو وقع الاشكال: في أن المقدمات مانعة مبطلة أم لا، فيكون من
قبيل الأول.
وتمام الكلام قد ذكرنا في الفائدة الثالثة.
251

الفائدة الخامسة والعشرون [تمسك المجتهد بأصل البراءة]
اعلم أنه لا يجوز للمجتهد التمسك بأصل البراءة، إلا بعد بذل الجهد،
واستفراغ وسعه في الأدلة، وتحصيل الحكم، فإن لم يوجد دليل على
التكليف تمسك به، فهو لا يعارض دليلا أبدا.
نعم يصلح لتأييد دليل، على الخلاف فيه أيضا.
وإنما قلنا: لا يجوز، لان الأحكام الشرعية مع نهاية كثرتها ووفورها، و
بقائها إلى يوم القيامة من ضروريات الدين.
على أن العادة المستمرة في الأنبياء السابقين من لدن آدم عليه السلام
إلى خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم أنهم أولو الشرائع و
الاحكام في الدين، فكل من دخل في دين نبي يعلم أن فيه أحكاما
كثيرة يجب معرفتها والعمل بها، بل هذا هو الفائدة في بعث الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم.
253

مع أنه يرد منهم بحسب العادة أوامر، وتأكيدات في معرفة أحكامهم،
كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم
السلام ما زاد على حد التواتر، ووصل إلى كل أحد.
ففي الحقيقة نحن عالمون بتلك الاحكام علما إجماليا، وإن لم نكن
عارفين بتفاصيلها.
ومثلنا، مثل: عبد أعطاه سيده طومارا، وقال له: أمرتك بأحكام
كثيرة في هذه الطومار وعليك بمطالعته والعمل بجميع ما فيه، فلا
يمكنه التمسك بأصل البراءة وعدم المطالعة وترك العمل.
وكذلك حال العوام لا يمكنهم التمسك بالأصل.
ومما ذكرنا ظهر دليل المجتهدين في قولهم بعدم معذورية الجاهل
بنفس الحكم الشرعي، إلا المواضع التي استثنوها.
نعم بعد بذل الجهد، واستفراغ وسعهم لو وقع غفلة أو جهل لم يكن
عليهم شئ من جهة عدم تقصيرهم، لان ضروري مذهب (الشيعة)
بل
وكل (العدلية) أن المؤاخذة بالتقصير، وأن التكليف بحسب الوسع،
بل (الأشاعرة) أيضا يقولون بذلك من جهة السمع.
وأما المجتهد والعامي فبعد بذل جهدهما واستفراغهما في تحصيلها
بالنهج الثابت شرعا يكون ما حصل لهما حكم (الله) الظاهري في
حقهم طابق الواقع أم لا، وقد مر النهج الثابت ودليله.
وأما مع التقصير فالمشهور بين المجتهدين عدم صحة عباداتهم،
طابقت الواقع أم لا.
254

أما مع عدم المطابقة فظاهر، لان الصحة هي موافقة الامر، فإذا لم تكن
توافقه تكون غير صحيحة لا محالة ولا نزاع لاحد في ذلك وأنه
يجب الأداء لو تفطن في الوقت.
وأما القضاء: فالمشهور أنه يجب أيضا، لأنه ما صلى مثلا، وكل من لم
يصل فات صلاته، وكل من فات صلاته يجب عليه القضاء، لعموم ما
دل على وجوب قضاء الفوائت. هذا على القول بأن القضاء ليس تابعا
للأداء، بل بفرض جديد. وأما على القول الاخر: فالوجوب في كل
موضع ثابت من غير حاجة إلى العموم.
وأما إذا طابقت الواقع: فإما أن لا يكون له ظن بأنها المطلوبة فهي أيضا
باطلة، لعدم تأتي نية القربة، وكذا لو كان له ظن إلا أنه ما كان
يثق بظنه، وكان متزلزلا، وما كان يدري أنه معتبر شرعا حتى يتأتى منه
نية القربة.
وفي الحقيقة: هاتان الصورتان داخلتان في غير المطابقة للواقع.
وأما إذا كان له وثوق بحيث يتأتى منه نية القربة فهي أيضا باطلة، لأنك
قد عرفت: أن الظن ليس بحجة، ولا يجوز التعويل عليه شرعا،
إلا أن يدل عليه دليل، وحجة شرعية.
والحجة إنما نهضت على التقليد للمجتهد الحي، لا أي ظن يكون،
مثل الظن الحاصل من تقليد الاباء والأمهات، وسائر الناس، أو من
مجرد هوى النفس، أو تقليد المجتهد الميت، لعدم دليل على حجية
هذه الظنون، بل الدليل
255

على عدمها كما عرفت.
وأيضا: الفقه أحكامه خلافية، وأدلتها متعارضة، فكيف يمكن الحكم
بالصحة؟ مع أن بعض الأقوال والأدلة يحكم بفساده، فلا يمكن
للعامي حكمه بالصحة والبطلان من غير تقليد. وأما المجتهد فيحكم
بصحته وبطلانه معا: الصحة بالنسبة إلى مقلد مجتهد يحكم
بالصحة، والبطلان بالنسبة إلى من يقلد الحاكم بالبطلان، وهذا لم يقلد
أحدا (مطلقا، فتأمل).
وأما لو وافق ظن الكل فهو موافق لمظنون حكم الله، ولا دليل على أن
كل موافق لمظنون حكمه تعالى محسوب من حكمه تعالى، فتأمل.
وأيضا شغل ذمته يقيني يتوقف برأته على دليل يقيني، لقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: (لا تنقض اليقين إلا بيقين مثله).
وأيضا الإطاعة العرفية واجبة قطعا لقوله تعالى: أطيعوا الله وغير
ذلك. والامتثال العرفي لا يتحقق إلا بالاتيان بذلك الشئ بحسب
الواقع، لا أن كل ظن يكون يكفي، إلا أن يجوز الامر كل ظن يكون.
وأيضا: الموافق لمذهب العدلية أن الثواب والعقاب بإزاء الافعال، و
معلوم أن هذا وهن لم يطابق عبادته الواقع في الفعل واحد، و
التقصير أيضا واحد من دون تفاوت أصلا، غاية الامر أنه اتفق هذا الظن
في موافقته للواقع، كما أنه اتفق ذلك في مخالفته للواقع، ومحض
الاتفاق كيف يصلح
256

للثواب الدائم، والعقاب الطويل أو المخلد - إذا كان في أصول الدين
-؟ والعقاب بإزاء ترك الفرائض هنا صحيح، لأنه غير غافل بل
مقصر.
على أن الخطأ في أصول الدين ليس بمعذور، والخاطئ كافر خارج
عن الاسلام أو الايمان، ولا يجتمع هذا أبدا مع الظن والتقليد، لان
الخطأ غير مأمون عليهما، والتكليف بالإصابة للواقع تكليف بما لا
يطاق، مع أنه على هذا لا يكون ظنا وتقليدا، بل علما واجتهادا.
وأصول الدين دليلها علمي ظاهري بحيث يكون الخطأ فيه من جهة
تقصير ما من جهة عدم ملاحظة الدليل، أو من عدم التخلية، أو من
المسامحة، وعدم جد وجهد واستفراغ وسع.
على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام
بالغوا وأكثروا في المبالغة في وجوب طلب العلم، والتفقه في الدين،
و
المعرفة، وأن لا يسامح أحد فيها أصلا، وبعدهم الفقهاء أيضا بالغوا، و
شددوا، وأكدوا، وأكثروا من الموعظة، كي يكون عباداتهم و
عقائدهم على وفق الحق والصواب والرشد، ومع جميع هذا يسامح
العوام غاية المسامحة، فلا يعرفون الدين وأحكامه، والعبادات و
غيرها كلها فاسدة بالنحو الذي نشاهد منهم، فإذا سمعوا أن كل ظن
يحصل لهم - من أي طريق يحصل - يكفي إذا وافق الواقع،
فيطمئنون إذن بظنونهم الفاسدة قطعا، ويخربون الامر بالمرة، لأنهم
يظنون أن ظنونهم مطابقة للواقع فيرفعون اليد عن تحصيل
المعرفة بالمرة.
والله يستر هذه الشكوك عليهم حفظا لدينهم وعباداتهم وغيرها.
257

وأيضا روى الكليني رحمه الله في الصحيح عن الباقر عليه السلام
قال: بني الاسلام على خمسة - إلى أن قال -: لو أن رجلا قام ليله، و
صام نهاره، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية
ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على
الله حق في ثوابه، ولا كان من أهل الايمان الحديث.
وما دل على أن العبادة لا بد من أن تكون بالمعرفة من قبل الأئمة
عليهم السلام كثير. ومجرد الظن كيف يكون يغني؟ وأيضا: نحن
في أمر من الأمور الجزئية لو أردنا ثبوته شرعا من شهادة العدلين
لاحتجنا إلى دليل يدل على أن شهادة العدلين حجة في إثبات ذلك، و
لو لم يكن دليل لا يثبت بها البتة، فكيف يمكن القول بحجية قول عوام
الناس، والظنون التي تحصل بمجرد هوى النفس في جميع
عبادات العوام، والحكم بالصحة شرعا لذلك؟ فتأمل.
وأيضا من أصول ديننا أن الحجة منحصرة في قول من لا يجوز الخطأ
عليه، ويظهر ذلك من الأخبار الكثيرة، ولذا قلنا باشتراط العصمة
في النبي والإمام عليه السلام، فلا يكون الحجة في قول المجتهد أصلا
فضلا عن الميت، وفضلا عن العامي، وغيره من الظنون.
ورجوع العامي إلى المجتهد الحي ثبت بدليل، ففي الحقيقة الحجة
هو دليل جواز الرجوع. وظن المجتهد ليس نفس قول الشارع، لجواز
أن يكون غيره، سيما (و) أقوال المجتهدين مختلفة، بل وقول مجتهد
واحد يختلف كثيرا،
258

وحكم الله عندنا واحد كما عرفت. وكون قول الشارع حجة لا يستلزم
حجية ظن المجتهد.
وما قيل: من أن ظن المجتهد حجة إذا كان من دليل شرعي فيجوز
تقليده حيا وميتا، لان المستند لا يموت وإلا فليس بحجة أصلا حيا
كان أو ميتا، فهو من المزخرفات التي لا يقول بها إلا من هو في غاية
الغفلة، لان كونه من الدليل: إن أريد منه أن يكون مطابقا للدليل
الشرعي وموافقا للحق المرعي، ففيه: أن ظن اليهودي، والمجنون، و
الصبي، والمجوسي إذا طابق نفس الدليل الشرعي يكون حجة، بل
لا معنى لحجية هذه الظنون، بل الحجة ليست إلا نفس الدليل، وليس
مستند المقلد نفس الدليل، بل ظن المجتهد، فإن استناده إنما هو إليه،
وإلا فهو لا يعرف الدليل أصلا.
وإن أريد مجرد كونه وأخذه من الدليل بأي وجه يكون، ففيه: أن هذا
لا يستلزم حجيته، ولذا يفهم كل من الدليل خلاف ما فهمه الاخر،
حتى أن الأخباريين لا يتفقون على فهم، وإن كان كل منهم يقول: ما
أفهمه عين مراد المعصوم عليه السلام قطعا.
مع أن المجتهدين يقولون: هؤلاء ما يفهمون سوى تقليد
المجتهدين، ولو تعدوا عن تقليدهم فيخربون الدين لقصورهم و
غفلتهم، و
عدم اطلاعهم بحقيقة الحال.
مع أن هذا الكلام لا يصح من الاخباري كتحريمهم التقليد، ولا من
المجتهد، لأنه مناف لقاعدة الفهم فضلا من قواعدهم المثبتة التي
تراكمت
259

عليها الافهام وتوافقت عليها أحكام أولي الأحلام.
وأيضا إن أراد من الدليل الشرعي ما هو دليل شرعي عند ذلك
المجتهد، فمن المعلوم أن كل مجتهد إذا حكم بشئ من دليل، فهو
جازم
بأنه دليل شرعي.
وإن أراد الدليل الشرعي بحسب الواقع فالعامي من أين يعرف الدليل
الشرعي الواقعي من غيره؟ إذ لو علمه لكان أعلى درجة من
المجتهد الذي يقلده، لأنه لا يميز، وهو مميز، بل يصير أعلى درجة
من جميع المجتهدين.
وأيضا لم يقل: أحد بأن دليل المجتهد يموت، بل يقولون: دليل
العامي يفوت بموت مجتهده، لما عرفت من الدليل.
ولأن مستنده إذا كان ظن المجتهد - لا دليل ظنه كما عرفت - فإذا
مات ذهب المستند، كما أن المجتهد إذا تغير ظنه لا يكون ظنه السابق
حجة قطعا، ولا ينفع أن دليله بعد باق وما مات، ولا شك في أنه بعد
التغيير لا يمكن الاخذ بالسابق، والسبب لعدم الامكان هنا بعينه
موجود في الموت.
ولا يرد: أن الموت مثل صورة تغير رأيه ولما يظهر بعد على مقلده،
لان الاستصحاب حجة، وهو هنا موجود، بخلاف ما إذا علم المقلد
بالموت للقطع بزوال الظن حينئذ: فإما أن يتغير بصورة أخرى، أو لم
يبق منه شئ أصلا.
وأيضا المستند ليس نفس الظن من حيث هو ظن، بل الأدلة التي
مرت، وهي موجودة في حال الحياة دون الموت.
ومنها الاجماع، وهنا نقلوا الاجماع على عدم الجواز، بل وربما جعل
من المعلوم من مذهب الشيعة، وربما يظهر ذلك من كتب أهل
السنة أيضا، وعلى تقدير عدم تمامية هذا الاجماع، فالاجماع على
الجواز باطل قطعا. وقد
260

كتبنا رسالة مبسوطة في هذا المعنى، فليرجع إليها من أراد أزيد من
هذا.
ومما ذكر ظهر حال أصول الدين أيضا، وأنه لا يجوز التقليد فيها لأنه
ظن لا دليل عليه، بل الأدلة على عدمه، إلى غير ذلك مما يظهر
بالتأمل.
مع أنه روى الكليني رحمه الله في باب المسألة في القبر: رواية
ظاهرة في عدم جواز التقليد فيه. فلاحظ.
وبعض العلماء حكم بصحة عبادة العامي، وأن ظنه حجة، وأنه يجوز
له تقليد أي شخص كان حتى المجتهد الميت. ودليله: أنه لم لا
يجوز؟ ولم لا يكفي؟ وعدم الجواز أول الدعوى والمسألة. وبأمثال
هذه الكلمات العجيبة يكتفي ويعتقد أنه برهان، ويعترض على
المحققين، ولا يخفى ما في أدلته واعتراضه.
ثم اعلم: أن ما ذكره في صورة يتمكن العامي من الاخذ عن المجتهد، و
إن لم يتمكن من ذلك، ولا يمكنه أن يصير مجتهدا فيكفيه الاخذ
بالاحتياط: بأن يبذل جهده بقدر وسعه في تحصيله، ثم يعمل به، لأنه
تعالى لا يكلف ما هو فوق الوسع، ولا يكتفي حينئذ بمجرد التقليد.
261

الفائدة السادسة والعشرون [نقد المصنف لكلام المقدس الأردبيلي]
قال الفاضل المقدس المحقق الأردبيلي في شرح قول العلامة: (و
يجب معرفة واجبات أفعال الصلاة)... إلخ:
(لا خفاء في صعوبة العلم الذي اعتبروه، سيما بالنسبة إلى النساء و
الأطفال في أوائل البلوغ، فإنهم كيف يعرفون المجتهد، وعدالته، و
عدالة المقلد والوسائط؟ مع أنهم ما يعرفون العدالة، ومعرفتهم إياها و
أخذهم عنهم فرع العلم بعدالتهم، ومعرفة العدالة لا تحصل غالبا
إلا بمعرفة المحرمات والواجبات، وهم الان ما حصلوا شيئا، وليس
بمعلوم لهم العمل بالشياع بأن فلانا عدل مع عدم معرفتهم حقيقة
العدالة، بل ولا بالعدلين، بل
263

ولا بالمعاشرة، وتحقيقهم ذلك كله بالدليل لا يخفى صعوبته، مع
عدم الوجوب عليهم قبل البلوغ بل بعده أيضا لعدم العلم بالتكليف
بها.
نعم يمكن فرض الحصول فحينئذ يصح التكليف، ولكن قد لا يكون و
المراد أعم.
والحاصل أنه لا دليل يصلح إلا أن يكون إجماعا، وهو أيضا غير
معلوم، بل ظني أنه يكفي في الأصول الوصول إلى المطلوب كيف كان
بدليل ضعيف باطل وتقليد كذلك كما مر الإشارة إليه، وعدم نقل
إيجاب من السلف بل كانوا يكتفون بمجرد الاعتقاد... إلخ).
وقال في بحث وجوب العلم بدخول الوقت: (كل من فعل ما هو في
نفس الامر - وان لم يعرف كونه كذلك - ما لم يكن عالما بنهيه وقت
الفعل حتى لو أخذ المسائل من غير أهله، بل لو لم يأخذ من أحد و
ظنها وفعل فإنه يصح.... إلى أن قال: وفي كلام الشارع إشارات، مثل
مدحه جماعة للطهارة بالماء مع عدم العلم بحسنها، وصحة حج من
مر بالموقف وقوله لعمار: (ألا فعلت كذا) (1) فإنه يدل على أنه لو
فعل كذا لصح، وفي الصحيح من

(1) إشارة إلى ما ورد في الذي مر بالميقات ولم يحرم لجهل أو نسيان
راجع الوسائل 8:
238، الباب 14 من أبواب المواقيت، الحديث 2. والرواية بكاملها
هي: (قال أبو جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و
آله
وسلم ذات يوم لعمار في سفر له يا عمار بلغنا أنك أجنبت فكيف
صنعت؟ قال: تمرغت يا رسول الله في التراب قال:
فقال له: كذلك يتمرغ الحمار أ فلا صنعت كذا ثم أهوى بيديه إلى
الأرض فوضعهما على الصعيد ثم مسح جبينه (جبينيه) بأصابعه و
كفيه
إحداهما الأخرى ثم لم يعد ذلك.
انظر الوسائل 2: 977 الباب 11 من أبواب التيمم الحديث 8.
264

نسي ركعة، ففعلها، واستحسنه عليه السلام... إلخ).
أقول: أي صعوبة في معرفة الواجب من الصلاة عن مستحبها، و
التمييز؟ فإن قابلية النساء والأطفال لكمالات وصنائع دقيقة وأمثالها
في
غاية الظهور، وعند السعي والجهد يحصلون، وهي أصعب مما ذكر
بمراتب، بل رفع الأخلاق الردية المهلكة، وتصحيح النفس بالجهاد
الأكبر أصعب وأصعب بمراتب شتى، بل التكليفات الظاهرية أكثرها
أصعب، ومن جهة القابلية كلفهم الله تعالى ولو فرض أن أحدا لم
يكن له القابلية فلا شك في عدم كونه مكلفا بما هو فوق طاقته، ولا
يتأمل أحد من الشيعة في ذلك - فضلا عن فقهائهم - بل العامة أيضا
لا
يرضون.
على أنه لو تم ما ذكره لزم أن يكون عباداتهم صحيحة، وإن خالفت
الواقع، إذ قل ما يتفق أن يكون عبادات أمثالهم مستجمعة لجميع
شرائط الصحة وأجزائها، بل المسنون والشيوخ أيضا يكونون كذلك
غالبا فيلزم صحة عباداتهم لعدم إمكان علمهم بالمجتهد والعدالة
على حسب ما ذكره. (1)
وأما أنهم كيف يعرفون المجتهد... إلخ؟ ففيه: أنه شبهة ومغالطة
أوردت على نفي إمكان التقليد مطلقا، ولا وجه للتعرض لخصوص
العدالة،

(1) ورد في هامش نسخة (ف) هذه العبارة: (وفي بعض النسخ ذكر في
هذا المقام العبارة التي مرت في الفائدة السابقة وهي قوله: (على أن
الخطأ في أصول الدين ليس بمعذور...) إلى قوله: (والله يستر هذه
الشكوك عليهم حفظا لدينهم وعدالتهم وغيرها) وذكرها في
الفائدة السابقة أنسب بالمعنى. وفي نسخة (م) هذه الزيادة المشار
إليها آنفا موجودة في هذا الموضع.
265

فان الاجتهاد له شروط كثيرة لا يعرفها إلا المجتهدون الماهرون، و
العدالة أسهل الكل.
والجواب: أن العلم العادي أو الظن القوي يحصل بكون رجل ماهرا
في الفقه، طبيبا لعلاج الجهل في مسائله، وان لم يكن له وقوف بالفقه
أصلا، كما هو الحال في سائر العلوم والصناعات، وكما جرت الحال
في خصوص الفقه أيضا في أعصار الأئمة عليهم السلام، والأمصار،
إلى الان وانه على ذلك كان المدار بلا شبهة، وغبار.
فيظهر من الاجماع أن الأئمة كانوا راضين بذلك، وأقروا، بل وأمروا
كذلك. وكذا يظهر من أحاديثهم الصريحة في جواز التقليد، و
غيرها من الأدلة الدالة عليه كما مرت الإشارة إليها.
ويظهر من تلك الأحاديث أنهم عليهم السلام ما جوزوا تقليد كل
واحد، والعمل بكل ظن بل ما جوزوا إلا تقليد الفقيه العادل الزاهد في
الدنيا، المخالف لهواه، العارف بأحكام الشرع، الناظر في الحلال و
الحرام، إلى غير ذلك، بل صرح في رواية (الاحتجاج) بحرمة تقليد
العالم الذي ليس كذلك، فإذا كانوا ما جوزوا الاخذ عن كل عالم،
فكيف يجوز الاخذ عن كل جاهل، بل وبكل ظن؟ وأيضا إذا كانوا
عليهم السلام يسألون: عمن نأخذ معالم ديننا؟ كانوا يقولون: عن
فلان - أي رجل خاص - وما كانوا يرخصون الاخذ عن كل
266

أحد ومن أي ظن كان، بل ربما كانوا يبالغون في أن الحكم الشرعي و
معالم الدين لا بد أن تؤخذ من أنفسهم عليهم السلام لا غير، منها
ما مر في الفائدة السابقة. ومنها قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون فإنه تعالى لم يقل: إسألوا كل أحد، واعملوا بكل
ظن، بل لا شك في أنه تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم و
الأئمة عليهم السلام منعوا عن ذلك أشد المنع، وورد عنهم عليهم
السلام: (نحن أهل الذكر)، وعلى تقدير التعميم أيضا لا يشمل
العوام وكل أحد، لأنهم ليسوا من أهله قطعا.
وبالجملة: الأخبار الدالة على أنه لا يجوز الرجوع إلى غير الأئمة
عليهم السلام كثيرة، خرج منها الرجوع إلى الفقيه فقط للأدلة التي
مضت بل ورد: أن (حكمهم هو حكم الله وحكم الأئمة)، وورد
(أنهم الحجة على العوام، والأئمة حجة عليهم).
فظهر من جميع ما ذكر: أن الحجة على العامي منحصرة في تقليد
الفقيه، وأن كل ظن يحصل له لا عبرة به أصلا، فكيف يمكن الحكم
بصحة أي ظن يحصل له، وإن طابق الواقع؟ بل ورد في الاخبار (إنه لا
عمل إلا بالفقه، وبالمعرفة، وبالعلم،
267

وبإصابة السنة) وأمثال ذلك.
ومعلوم أن الظاهر منه نفي الصحة، ومسلم عند الكل، والاخذ بقول
العوام وكل ظن ليس من الفقه قطعا، وكذا ليس من العلم، وإصابة
السنة، بل ليس مرادهم عليهم السلام إلا المنع عن أمثال هذه الأمور.
والحاصل: أن معرفة الفقيه الجامع للشرائط ممكنة وحاصلة قطعا
ممن لا يعرف شيئا من الشرائط ولا حصولها. ولا شك في أن معرفة
تلك الشرائط ليست شرطا في معرفة المجتهد، ولم يقل أحد بذلك،
بل وصرحوا بخلاف ذلك. نعم وجود تلك الشرائط شرط لوجود
الاجتهاد، كما أن معرفة القوانين الطبية شرط في الطبيب، وليست
معرفتها شرطا في معرفته.
وأما أنهم لا يعرفون عدالة الواسطة، ففيه: أنهم - بعد ما عرفوا الفقيه -
يقدرون على استعلام أمرهم، في أنهم كيف يصنعون؟ وأنه
يجوز بوساطة فلان أم لا؟ وكيف يصنع؟ كما هو الحال في الشيوخ و
الشباب في هذا الباب، وفي كل باب.
وأما ما ذكره من الإشارة - فمع أن الإشارة لا تعارض الأدلة الظنية، بل
القطعية - لو تمت على النحو الذي ذكرت لاقتضت أنهم عليهم
السلام كانوا يرضون في العبادات التوقيفية، والأحكام الشرعية الاخذ
بكل ظن يحصل وبأي نحو يحصل، وبأي قدر من القصور يكون
الشخص. وهذا مخالف لاجماع جميع المسلمين، بل وجميع
المليين فضلا عن الشيعة، ومناف للأدلة
268

الكثيرة الواضحة المسلمة عند الكل، بل يحصل منها القطع كما لا
يخفى.
وبالجملة: التمسك بأمثال ما ذكر في غاية الغرابة.
أما حكاية الأنصار فلأنهم أحدثوا في الدين ما لم يكن وغيروا، و
بدلوا، كما أنهم غيروا القبلة في الدفن من بيت المقدس إلى الكعبة،
لكن الله تعالى أمضاه بعد ذلك، وجعله شرعا بعده. فهل يجوز لنا
الان التشريع في الدين بناء على ذلك؟ لا شك في أنه لو فعلناه لعذبنا
قطعا من جهة التشريع، ومن جهة بقاء النجاسة، وعدم صحة الصلاة،
وغير ذلك مما يترتب على النجاسة.
وأما حكاية عمار: فلان العبادات التوقيفية لا يمكن فعلها من غير
الطهور من الشرع قطعا، ومحال جزما، فلو كان فعل التيمم كما قال
صلى الله عليه وآله وسلم لكان فعله بتعليم الشرع بلا شبهة.
مع أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أ فلا صنعت هكذا) توبيخ و
تقريع.
ولا شك أن ذلك إنما يتوجه إلى فعله الاختياري، وفعل التيمم كذلك
بغير اطلاع من الشرع كان محالا، فالتوبيخ يرجع إلى التعلم، وإن
كان فعله بالقياس إلى مسببه فإن المراد التوبيخ على سببه.
وأما تصحيح فعل الركعة فلانه إنما فعله بقاعدة شرعية عنده البتة، إذ
لا يمكن التعبير والتصرف في العبادة بمحض الجعل، ولذا قام و
فعله بقصد
269

القربة، واطمأن بأن هذه تقربه إلى الله، وبأن ذمته برئت، مع أنه كان
إمام القوم، والمعصوم عليه السلام قال له: (كنت أصوب فعلا من
المأمومين)، وعلل بما علل، فظهر أنه صحح اجتهاده ومستنده.
وأما السلف فلا شك في أنهم في الأعصار والأمصار كانوا يأمرون
بتحصيل المعرفة في الدين والعبادة.
واستدل بعض العلماء: بأنه لو كان الاخذ من الفقيه - بغير واسطة أو
بواسطة - شرطا لزم فساد عبادة أكثر العوام، وكيف يجوز
الحكم بذلك؟ وفيه ما لا يخفى: فإن هذا الاستدلال نظير ما يستدل
على حلية الغيبة (باستلزام) حرمتها كون أكثر الناس عاصين. و
العامة يستدلون على فساد مذهب الشيعة: بأنه يستلزم كون الصحابة
عاصين مرتدين إلا نادرا منهم:
وهم ثلاثة أو أربعة. على أنا قد أشرنا إلى أن عبادة أكثر العوام ليست
مستجمعة لجميع شرائط الصحة قطعا، فيلزم صحتها مما ذكره.
واستدل على بطلان ما ادعى الفقهاء: - من عدم جواز التقليد في
أصول الدين، وادعوا الاجماع عليه، وأقاموا البراهين العقلية والنقلية
على ذلك، وقد أشرنا إليه في الجملة - بأن ذلك يستلزم كفر العوام، و
هو باطل قطعا.
وفيه أن كثيرا من العوام يأخذون الدين بالدليل، والدليل على القدر
الذي يدخلون في الايمان ويطمئنون عليه في غاية السهولة، ولم
يشترط أكثر من ذلك، فإن دفع جميع الشكوك والشبهات واجب
كفائي شأن المجتهدين
270

اتفاقا. وأما الباقون فأكثرهم ليس لهم عقيدة صحيحة: ربما يعتقدون
جسمية الرب تعالى، أو كونه في سمت السماء، أو في جهة أخرى،
أو كونه في ظرف العالم، أو غير ذلك.
وربما لا يعرفون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو معنى الرسول
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أنه كان معصوما، أو أنه
آدمي، أو ملك مقرب، إلى غير ذلك، وكذا الامام لا يدرون معناه، أو لا
يعرفون أشخاصهم، وكذا أمر العدل والمعاد. وربما يعتقدون
اعتقادات (الصوفية) أو (الجبرية) وغير ذلك.
وأما الباقون فكثير منهم مستضعفون، والمستضعف ليس بكافر قطعا،
سيما المستضعفين من الشيعة. والمستضعف صنفان: صنف من
جهة عقله، وصنف من جهة عدم تمكنه من تحصيل الدليل أو
المعرفة أيضا.
وأما غير المستضعفين فلم يقل أحد من الفقهاء: بأنهم كفار مع كونهم
من الشيعة، بل يكونون مثل المستضعف واسطة بين الايمان و
الكفر داخلا في فرق الشيعة.
ثم اعلم أن ما ذكرناه بالنظر إلى الأدلة، وأقوال الفقهاء، وإلا فالرجاء من
لطفه تعالى، وعظم امتنانه أن يكون الامر على ما ذكره
المحقق الأردبيلي رحمه الله ومشاركوه، سيما و (حب علي حسنة لا
يضر معها سيئة)، وكذا حب أهل البيت عليهم السلام، لكن مخالفة
الأدلة وإجماع فقهائنا لا يجوز، ولا يمكن شرعا فتأمل.
271

الفائدة السابعة والعشرون [في الاستصحاب]
قد عرفت في الفائدة الرابعة وغيرها أن الأصحاب محتاجون - في
إثبات اصطلاح المعصوم عليه السلام وإثبات اللغات، وإثبات أنه لم
يتغير سند الحديث، أو متنه، أو عدم القرينة، أو بقاء القرينة، أو غير
ذلك - إلى استصحاب العدم، أو استصحاب البقاء، أو أصالة تأخر
الحادث.
وأيضا الاحكام التي ليست موقتة، ولا فورية تكون من قبيل الموقتة
إذا ثبتت شرعا تدوم البتة: إما بدليل الاجماع، أو الاخبار، أو
غيرهما.
لكن مع ذلك ربما يعرض موضوعها تغير ما: إما بحسب الصفة مثل:
الماء القليل النجس يصير كرا. أو العلة مثل: الماء المتغير بالنجاسة زال
273

تغيره من قبل نفسه. أو حال من أحواله: مثل الإناءين المشتبهين وقع
في أحدهما نجاسة ثم وقع الاشتباه. فيحصل الاشكال في أن البقاء
كان باقيا على حاله، أم تغير وتبدل بحكم باق آخر؟ فإن الماء القليل
المنفعل بالملاقاة ما دام باقيا على قلته يكون نجسا جزما، وكذا
الحال في الشقين الأخيرين.
والمواضع التي وقع النزاع فيها بين العلماء في الفقه إنما هي من
جملة ما ذكرناه، وأما أنه تكليف آني وقع النزاع في بقائه، فلم نجده
إلى الان.
والحاصل: أن الاستصحاب على ثلاثة أقسام:
الأول: في متعلق الحكم الشرعي: وهو الذي يثبت اللغات، وأمثالها.
والثاني: في نفس الحكم الشرعي: بأن يثبت حكما شرعيا غير معلوم
لموضوع معلوم، مثلا: لا ندري أن الذي المعلوم الوقوع ناقض
للوضوء أم لا: فنقول: قبل وقوعه كان متطهرا، فهو الان متطهر، فليس
بناقض.
والثالث عكس الثاني، مثلا: نعلم أن البول ناقض للوضوء، لكن لا نعلم
تحققه، فنقول: الأصل عدمه، فهو متطهر.
وقد وقع الخلاف في حجية الاستصحاب:
والمشهور بين الفقهاء: الحجية مطلقا.
ومنهم: من أنكر مطلقا، لكن تراهم يتمسكون بالقسم الأول، وإن كان
كلامهم في مقام الانكار مطلقا، وكذا دليلهم.
274

ومنهم من أنكر حجية القسم الثاني خاصة وهو الظاهر من صاحب
(الذخيرة)، وصريح كلام الأخباريين.
ثم إنه هنا استصحاب آخر أنكره بعض القائلين بحجيته: وهو من قبيل
الأول في كونه في متعلق الحكم إلا أنه لا يثبت به سند، ولا متن،
ولا دلالة، ولا علاج تعارض، بل هو مثل: رطوبة ثوب نشر على
الشمس، فوجد يابسات مطروحا على العذرة، بأن يقال: الأصل بقاء
الرطوبة إلى حين الملاقاة للنجاسة، فالثوب نجس. ولا يخفى: أن مثل
هذا ليس بحجة، لأنه معارض بأصالة الطهارة، وأصالة عدم
الوقوع حال كونه رطبا، فتأمل.
استدل للمشهور: بأن الباقي لا يحتاج في بقائه إلى المؤثر.
ورد بمنع ذلك، لان الشئ إذا ثبت جاز أن يدوم، وجاز أن لا يدوم و
أجيب: بأن الغالب بقاؤه، فالظن يلحق بالأغلب.
ورد: بمنع الغلبة أيضا، بل الموجودات غير القارة بالذات أكثر، والقارة
تدوم على حسب عادة الله تعالى، لا مطلقا.
والحق إن شأن غير الفقيه أعلى من أن يستدل في هذا الأصل - الذي
بناء الفقه عليه كلا أو بعضا - بهذا الكلام السخيف فضلا عن الفقيه،
فضلا عن اجتماع أكثرهم عليه - لو لم نقل بالكل -، لان بناء الجميع
على الاستدلال بالاستصحاب في نفس الاحكام في كتب الاستدلال،
وفي المتعلق في كتب الاستدلال وفي غيرها.
واستدل لهم: بأن الاستصحاب معتبر في بعض الموارد إجماعا، فكذا
275

في الكل لحصول الظن، وكل ظن المجتهد حجة. ولعل مرادهم - من
بعض الموارد - أكثرها، وهو كذلك، بل عرفت: أنه لا يتحقق
موضوع بغير الاستصحاب، إلا أن النزاع في أمر آخر.
واعترف بعض المحققين بحصول الظن، إلا أنه منع حجية كل ظن
للمجتهد.
والمعروف من المحققين النافين: أنهم يمنعون حصول الظن، وإلا
فكل ظن المجتهد يكون حجة، مسلم عندهم من جهة الدليل الذي
ذكروا: وهو أن باب العلم مسدود، والطريق منحصر في الظن، فيكون
حجة، ولا ترجيح لظن على ظن.
غير أن الظن الذي يحصل من القياس والاستحسان والرمل وأمثالها
ليس بحجة عندهم وفاقا للوفاق. ولأنه كان منهيا عنه في زمان
الأئمة عليهم السلام والصدر الأول، فكذا بعده، بخلاف الظنون التي
يحتمل أنها كانت في ذلك الزمان أيضا حجة مثل: الخبر الواحد، وما
يتوقف عليه ثبوته، والاحتجاج به من جهة السند، والمتن، والدلالة،
وعلاج التعارض ومثل الاستصحاب، وغير ذلك.
واستدل أيضا على حجية كل ظن: بأن عدم العمل به ترجيح
المرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلا، فكذا شرعا.
وفيه منع إلا أن يكون المراد بعد بذلك الجهد، واستجماع شرائط
الاجتهاد، ولزوم عمله بأحدهما - أي الراجح والمرجوح -.
276

والأولى التمسك بالاستقراء. ويقال: إن الفقهاء ربما يحكمون بحكم
كلي بتتبع جزئيات كثيرة غاية الكثرة، إلى حد يحصل لهم
الاعتقاد بعدم مدخلية الخصوصية مثل: حكمهم بحجية شهادة
العدلين شرعا، وغير ذلك. وهذه الكثرة موجودة في الاستصحاب،
إلى حد
رسخ في أذهان المتشرعة: أن الحكم الشرعي إذا ثبت فثبوت خلافه
يحتاج إلى دليل شرعي، ويصعب عليهم تجويز خلاف ذلك، ولذلك
لا يزال فقهاؤنا يتمسكون بذلك في كتبهم الاستدلالية والفقهية من
دون تأمل وتزلزل.
والحاصل: ان هذا الاستقراء، والاخبار الظاهرة في حجية
الاستصحاب المشيرة إلى ما حصل من الاستقراء تكفي للحكم، و
الاخبار هذه:
روى زرارة في الصحيح عن الباقر عليه السلام (قال: قلت له الرجل ينام
- إلى أن قال - قلت: فان حرك إلى جنبه شئ وهو لا يعلم -
قال - لا حتى يستيقن أنه نام حتى يجي من ذلك أمر بين، وإلا فإنه
على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشك أبدا، ولكن ينقضه
بيقين آخر).
وقوله: (فإنه على يقين... إلخ) تعليل ظاهر في العموم، مع أن اللام هنا
يفيد العموم لما حقق في محله من أن المفرد المحلى باللام حقيقة
في الجنس المعرف، والطبيعة من حيث هي هي، والحكم المعلق
بالطبيعة يدور مع الطبيعة.
وأيضا إذا تعلق الحكم بالوصف يدور مع الوصف، مثل قولهم:
(المؤمن يستحق الاكرام) فإنه يدل على أن من اتصف بوصف الايمان
277

يستحقه لا خصوص الافراد الشائعة، ويؤكده قوله: (أبدا).
وروي أيضا في الصحيح في آخره: قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم
أتيقن، فنظرت فلم أر شيئا، ثم صليت فرأيت فيه؟ قال: (تغسله ولا
تعيد الصلاة) قلت: ولم ذلك؟ قال: (لأنك كنت على يقين من
طهارتك، ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا)
قلت:
فإني علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو؟ قال عليه السلام (تغسل
الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك)
إلى أن قال (لأنك لا تدري لعله شئ وقع عليك، فليس ينبغي أن
تنقض اليقين بالشك) الحديث.
وروي أيضا في الصحيح: قال: قلت: من لم يدر في أربع هو أم في
اثنين؟ قال: (يركع ركعتين - إلى أن قال - ولا ينقض اليقين بالشك و
لا يدخل الشك في اليقين، ولكن ينقض الشك باليقين ويتم على
اليقين ولا يعتد بالشك في حال من الحالات).
وعن بكير عن الصادق عليه السلام: (إذا استيقنت أنك قد توضأت
فإياك أن تحدث وضوءا أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت).
وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان: أن رجلا سأل الصادق عليه
السلام:
إني أعير الذمي ثوبي، وأنا أعلم أنه يشرب الخمر - إلى أن قال - قال
278

الصادق عليه السلام: (صل فيه، ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته
إياه وهو طاهر، ولم تستيقن نجاسته، فلا بأس أن تصلي فيه، حتى
تستيقن نجاسته).
وفي الخصال بسنده عن الباقر عليه السلام: أن أمير المؤمنين عليه
السلام علم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب معرفة، منها أنه
قال
عليه السلام: (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن اليقين
لا يدفع بالشك).
ورواه خالي العلامة المجلسي في (البحار) في باب من شك في
شئ من الافعال هكذا: (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه،
فإن
الشك لا ينقض اليقين).
وذكر رحمه الله أنه: (رأى رسالة قديمة مفردة فيها هذا الخبر بطريقين
صحيحين - في أحدهما البرقي مكان محمد بن عيسى، وفي
الاخر مشارك له - عن القاسم بن يحيى، عن جده، عن أبي بصير، و
محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، فيها هكذا: (من كان على يقين
فأصابه شك فيه فليمض إلخ) ورواه فيه عن (تحف العقول) أيضا
مرسلا، ثم قال: أصل هذا الخبر في غاية الوثاقة والاعتبار على
طريقة القدماء، واعتمد عليه الكليني رحمه الله، وذكر أكثر أجزائه
متفرقة، وكذا غيره من المحدثين). انتهى كلامه أعلى الله
279

مقامه.
وفي (التهذيب): عن الصفار عن القاساني قال: كتبت إليه عن اليوم
الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه السلام:
(اليقين
لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية، وأفطر للرؤية).
قال المدقق الاسترآبادي بعد إيراد هذه الأخبار: (لا يقال: هذه القاعدة
تقتضي جواز العمل باستصحاب أحكام الله كما ذهب إليه المفيد
والعلامة، رحمهما الله ويقتضي بطلان قول أكثر علمائنا. لأنا نقول:
هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الأصوليين والفقهاء، و
قد أجبنا عنها في (الفوائد المدنية) إلى آخر ما قال.
وملخص جوابه: حمل هذه الأخبار على عدم صورة الاستصحاب، و
لم يقل على ما ذا تحمل؟ وأجاب ثانيا: بأنه تواتر الاخبار بأن كل ما
يحتاج إليه الأمة ورد فيه حكم، حتى في أرش الخدش، وتواتر الاخبار
بحصر الحكم في بين الرشد، وبين الغي وما يجب فيه التوقف).
انتهى.
ولا يخفى أنه معترف أن هذه القاعدة تقتضي جواز العمل
باستصحاب أحكام الله تعالى فكيف يقول: هذه شبهة عجز عنها
الفحول؟ لان
حجية الاستصحاب ليست بكفر ولا فسق ولا مخالفة لضروري أو
إجماعي، فما
280

الداعي إلى عدة شبهة، والعناية في حلها، والحكم بالعجز عن الحل،
ثم الجواب بالجوابين الفاسدين الركيكين؟ فإن الاخبار صريحة في
تغير وصف الموضوع، ومعلوم أنه مورد الاستصحاب، واعترف هو
بذلك.
ومع ذلك لا معارضة بين الاستصحاب وما ادعاه من التواتر، لان
الاستصحاب أيضا خطاب وحكم حكم به الشرع.
كيف، وكثير من المواضع يكون الحكم فيه مستصحبا بالنص أو
الاجماع، ولا يقال إنه مخالف لحكم الله تعالى وخطابه، وكذا لا
يخالف ما ورد من تثليث الحكم. وكتبنا رسالة مبسوطة في
الاستصحاب.
ثم اعلم أنهم ربما يستدلون بأصالة عدم البلوغ كرا، وهذا إنما يتم إذا
كان تحقق الكر وأنقص منه بوجود تدريجي شيئا فشيئا، وأما مع
الوجود الدفعي فلا، إذ لا تفاوت بين الأقل والمساوي والأزيد.
فليتأمل.
واعلم أيضا أن شرط الحجية أن لا يتغير الموضوع بحيث يصير حقيقة
أخرى واقعا أو عرفا، مثل: أن يصير الكلب ملحا، والعذرة دودا، و
الميتة ترابا، والدهن دخانا، وأن يحترق شئ، فيصير رمادا. وكذا
الانتقال مثل أن ينتقل دم الادمي إلى القمل والبرغوث والبق وغير
ذلك من أمثال ما ذكر، لان النجس هو الكلب والعذرة والميتة و
الدهن، لا الملح والدود والتراب والدخان.
وتأمل بعض المتأخرين في الأمور المذكورة، واحتمل جريان
الاستصحاب فيها أيضا، وليس بشئ.
واعلم أيضا أن تغيره على أقسام: منه ما يعلم جريان الاستصحاب
281

معه، ومنه ما يظن الجريان، ومنه ما يشك، ومنه ما يظن العدم، ومنه
ما يجزم به، والشك في موضع يعارض الاستصحاب استصحاب
آخر يقاومه أو قاعدة أخرى كذلك، والظن من جهة مصادمة ما هو
أقوى أو أضعف، فلا بد للمجتهد من ملاحظة ذلك.
282

الفائدة الثامنة والعشرون [في حجية القرآن]
الأخباريون: منعوا عنها مطلقا، وهو في غاية الغرابة، لان الحجة قول
الله تعالى، وأما قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة
عليهم السلام إنما يكون حجة في الأحكام الشرعية من حيث كونه
كاشفا عن قوله تعالى، فلا معنى للتوقف في كون قول الله تعالى حجة،
فكيف يحكم بعدم كونه حجة من جهة ما يتوهم من بعض الاخبار؟ إذ
على تقدير أن يكون نصا صريحا في عدم حجية قول الله تعالى
كيف يجوز العمل به؟.
وحاشاهم عليهم السلام أن يأمروا بعدم إطاعة قول الله، وعدم جعله
حجة، كيف وهم عليهم السلام صرحوا مكررا كثيرا أنه ما لم يكن
حديثهم
283

موافقا للقرآن (فاضربوه عرض الجدار)، وأنه زخرف، وأنا لا نقول
خلاف القرآن أبدا، وأنه ما لم تجدوا للحديث شاهدا من
القرآن فلا تعملوا به، وصرح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في
الخبر المتواتر عنه: بأنه تارك فينا الثقلين: كتاب الله، وعترته
أهل البيت وجعلهما حجة علينا إلى يوم القيامة وأمرنا بالأخذ بهما
وأكد وشدد. وورد عنهم عليهم السلام: (أنه يعرف هذا وأشباهه
من كتاب الله تعالى) حين سألوا عن وضع المرارة على الإصبع حال
الوضوء إلى غير ذلك.
وفقهاء الشيعة في الأعصار والأمصار كان ديدنهم الاستدلال و
التمسك به.
والحاصل: أن القرآن كلامه تعالى يقينا، فإذا ظهر مراده تعالى فلا
يمكن التأمل، لأنه في الحقيقة تأمل في كونه تعالى حجة يجب اتباع
قوله تعالى وامتثال أمره ونهيه والاعتداد بخطاباته وأحكامه، ولا
يرضى بذلك كافر فضلا عن مؤمن، سيما أن يكون التأمل من جهة
ادعاء ظهور من ظواهر بعض الاخبار وأين سند القرآن ومتنه من سنده
ومتنه؟ وأما الدلالة فربما كانت قطعية، وربما كانت ظنية في
غاية القوة، وربما كانت ظنية مقابلة للظن الحاصل من الاخبار، مع أنه
حجة عندهم قطعا،
284

وما دل على حجيته يشمل هذا أيضا، بل بطريق أولى، لأنه مفهوم
كلام الشارع القطعي سندا أو متنا بخلاف مفهوم كلام لا يعلم أنه متن
كلام الشارع لاحتمال كونه كلام الراوي، وأنه ليس من المعصوم عليه
السلام أصلا، أو أنه منه لكن نقلا بالمعنى، بل هذا هو الأظهر، كما
يظهر من مخالفة ألفاظ حديث واحد في مقامات متعددة وأنهم عليهم
السلام رخصوا النقل بالمعنى وغير ذلك بل كثير من الروايات
يحصل القطع بأنه ليس من كلام المعصوم مثل روايات عمار وغير
ذلك وهي حجة عندهم قطعا مع أن ما فهموه ليس إلا محض التوهم
مما ورد - من أن علم القرآن منحصر في الإمام عليه السلام - ولا
شك في أن المراد علم الجميع، وكل حكم يكون فيه، إذ لا شك في
أن
الأطفال يعلمون أن مراده تعالى من لا تقربوا الزنى المنع عنه، و
أمثال ذلك من الاحكام، والمواعظ، والقصص بحيث لا يحصى، بل
يفهمون من قوله تعالى:
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه جواز المتابعة بغير
المتشابه، وكذا من قوله تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين
وغير ذلك.
وتوهموا أيضا من أنهم عليهم السلام منعوا عن تفسير القرآن بالرأي.
وفيه أن التفسير لا يكون إلا في موضع لا يكون الدلالة ظاهرة، و
المطلب واضحا.
والقول - بأنه لعله كان في حال نزول الآيات قرائن - هو مشترك بين
285

القرآن والاخبار، فما هو جوابكم فهو جوابنا.
مع أنهم صرحوا بالأخذ بالقرآن على وجه يحصل القطع بأن المراد ما
يفهم من القرآن، لا أنه إذا ورد حديث يفسره، مع أن الحديث
المفسر إذا خالف مدلول القرآن يكون داخلا في الاخبار المردودة
فتأمل في الاخبار تجد. وبالجملة ليس هذا مما يحتاج إلى الاستدلال.
وربما حكم بعض المحققين: بأن ظاهر القرآن ليس بحجة، نعم
صريحه حجة.
وهذا أيضا ليس بشئ يظهر وجهه من التأمل في الأدلة والاخبار.
ومقتضى الأدلة المزبورة: أنه لم يقع في القرآن تغير مانع عن
الاحتجاج، والأصحاب متفقون على ذلك.
لكنهم اختلفوا في أنه هل وقع فيه تغير أم لا؟ الظاهر من الأخبار الكثيرة
هو الوقوع.
ثم اعلم أنه وقع بين القراء وقدماء العامة النزاع على عدم جواز العمل
بغير قراءة السبعة المشهورة أو العشرة المشهورة.
والمشهور بيننا: جواز العمل بقراءة السبعة المشهورة، والدليل على
ذلك تقرير الأئمة عليهم السلام بل الامر بأنه (يقرأ كما يقرأ الناس
إلى قيام القائم عليه السلام.
ولا بحث في الاختلاف الذي لا يختلف به الحكم. وأما ما يختلف فيه
الحكم فالمشهور التخيير في العمل بأيهما شاء.
286

وذهب (العلامة) إلى رجحان قراءة (عاصم) بطريق (أبي بكر).
وربما استند بعضهم في حجية قراءة القراء السبعة بما ورد في بعض
الاخبار: من أن القرآن نزل على سبعة أحرف، ولا دلالة فيه
على القراءات السبع. مع أنه روي في الخصال عن الصادق عليه
السلام حين قال له (حماد): إن الأحاديث تختلف منكم: أن القرآن نزل
على
سبعة أحرف وأدنى ما للامام أن يفتي على سبعة وجوه ثم قال: (هذا
عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب). وظاهر هذا عدم كون
المراد السبع المشهورة، مع أنه ورد عنهم عليهم السلام تكذيب ذلك،
(وأنه نزل على حرف واحد من عند الواحد).
287

الفائدة التاسعة والعشرون [التعدي عن مورد النص في الفقه]
قد عرفت: أنه لا بد للمجتهد من مراعاة العلوم اللغوية، والعرف العام
والخاص، وأنه لا يجوز التعدي عن مدلول النصوص أصلا ورأسا،
ولا مخالفته مطلقا، وأن من تعدى أو خالف بقدر ذرة، أو عشر معشار
رأس شعرة يكون حاكما بغير ما أنزل الله، ومفتريا على الله
تعالى ومتعديا حدود الله وعاملا بالقياس، هالكا ومهلكا للناس،
مبتدعا بدعا كثيرة في الدين، ومضيعا سنة خير المرسلين، إلى غير
ذلك مما أشرنا إليه في (الفائدة الأولى) و (الثانية).
لكن مع ذلك ترى أنه من أول الفقه إلى آخره في كل نص يقع التعدي و
المخالفة بلا شبهة، بل لا يجوز عدم التعدي، ولو لم نتعد لحكمنا
بغير ما أنزل الله وافترينا على الله وشرعنا في الدين إلى غير ذلك.
289

مثلا إذا ورد: - أن الرجل إذا شك في أفعال الوضوء يفعل كذا وكذا، و
إذا بال يجب غسل بوله - نفهم منه بمجرده أن المرأة بل الخنثى
بل الصبيان والخصيان أيضا مشاركون بلا شبهة، وبلا توقف على دليل
يدل عليها، ومع عدم علم وشعور بأن الدليل ما ذا، وأن سند
ذلك أو متنه كيف، هل يصلح للحجية أم لا؟ بل ربما لا يكون آية أو
حديث يدل على ذلك، وعلى تقدير الوجود فهما ظنيان، وهذا الفهم
و
التعدي قطعي، والظن لا يصير مستند القطع.
ومع ذلك إذا اطلعنا على حديث مضمونه هكذا: (رجل جهر فيما لا
ينبغي الجهر فيه... إلخ) لا نفهم المشاركة المزبورة أصلا.
كما أنه لو سمعنا حديث (بول الرجل في البئر) لا نفهم منه بول المرأة و
غيرها.
وأيضا لو سمعنا حديث في الامر بقراءة دعاء يوم عرفة أو الجمعة أو
وقت أو مكان أو عند فعل إلى غير ذلك من حديث يتضمنه لا
نفهم من ذلك الامر سوى الاستحباب، ولا يتبادر إلا ذلك، من دون أن
يكون في ذلك الحديث قرينة، أو يكون اطلعنا من الخارج على
حديث يدل على عدم الوجوب، وأن سنده كيف، ومتنه كيف، وأنه
يقاوم هذا الحديث، ويترجح عليه حتى يرتكب التأويل فيه من جهته،
بل ربما لا يكون حديث يدل على عدم الوجوب أصلا ورأسا، فضلا
عن أن نكون مطلعين عليه، وفضلا عن أن نكون حين سماعنا لحديث
الامر مطلعين، ويكون مد نظرنا، وأنه لجهته حكمنا بالاستحباب من
جهة مقاومته.
290

ومع ذلك متى اطلعنا على الامر بشئ آخر يتبادر الوجوب.
فإذا سمعنا: - اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه - نفهم منه
الوجوب الشرطي، لأجل مثل الصلاة، والاستعمالات، مع أن مدلوله
الوجوب الشرعي بعنوان الوجوب لنفسه.
ومع ذلك نفهم من لفظ الثوب أن البدن أيضا كذلك، وكذا موضع
السجدة، والمساجد، والمصاحف، والضرائح، وغير ذلك.
ومن استماع لفظ البول نفهم أن الغائط، والمني، والدم وغيرها من
النجاسات أيضا كذلك.
ومن لفظ اغسل الظاهر في الوجوب لنفسه - لا الوجوب لغيره - و
الظاهر في الوجوب الشرعي لا الوجوب الشرطي، بل وجميع أحكام
النجاسات مثل التحريم إن وقع في اللبن وأمثال ذلك من المطعومات
والمشروبات، وغير ذلك مما لا يحصى كثيرة، ونفهم تلازم
جميع تلك الأحكام. كل ذلك من لفظ اغسل الذي ليس مدلوله سوى
إجراء الماء أو المياه المضافة على الموضع، مع أنه لم يرد حديث على
أن أحكام النجاسة الشرعية ما هي وأنها متلازمة، فضلا أن يفهم
الجميع من مجرد لفظ اغسل.
مع أنه صرح صاحب (المدارك) بأن وجوب الغسل ليس وجهه
منحصرا في النجاسة، ولذا لا يفهم النجاسة في كل موضع ورد فيه
لفظ
اغسل. وأيضا إذا سمعنا أن الدم مثلا إذا وقع في مرقة أنه حرم تلك
المرقة نفهم جميع أحكام النجاسة من حرمة الشرب وغيرها، وفي
جميع المائعات والمياه المضافة، مع أنه لم يرد نص على أن كل مائع
ينفعل، فضلا عن كل ماء مضاف، مع أنا
291

نحكم كلية بعنوان الجزم.
مع أنا إذا سمعنا أن (الصدوق) رحمه الله يجوز الوضوء بماء الورد
لحديث يدل عليه لا يحتمل في ذلك الحديث أن يكون جميع
المياه
المضافة يجوز الوضوء بها، لان الكل متشاركة في الحكم.
وأيضا إذا سمعنا: أنه منع الشارع من الوضوء بماء وطئت الدجاجة
عذرة، ودخلت فيه نفهم أن كل ماء قليل ينفعل بالنجاسة من كل
نجاسة من النجاسات العشر وإن كان بول الرضيع، وأقل الدرهم من
الدم، وغير ذلك.
وإذا سمعنا أن العذرة وقعت في البئر، وينزح لها كذا وكذا لا نفهم
أن جميع النجاسات كذلك.
وكذا إذا سمعنا الامر بغسل الثوب من البول مرتين لا نفهم أن جميع
النجاسات كذلك.
مع أن مجرد المنع عن الوضوء كيف يدل على جميع أحكام النجاسة
مع أنه إذا سمعنا أن الفأرة إذا ماتت في قربة من الماء يجوز الوضوء
منه، نفهم منه بمجرده ان القليل لا ينفعل بنجاسة من النجاسات مع أنا
نرى أن الميتة لا ينجس اللبن الذي في ضرعها فلعل الماء القليل
أيضا يكون مثل ذلك اللبن فكيف يدل على عدم انفعال الماء القليل
بالملاقاة مع أنا بعد ما جزمنا
292

بالتعارض بين حديث الفأرة ورواية العذرة لا نجعل اختصاص كل بما
دل عليه وجها للجمع ونحكم بفساد ذلك قطعا.
وبالجملة جميع ما ذكرنا واضح وكذا كون المدار في الفقه على أمثال
ما ذكرنا ليس بخفي على من له أدنى فطانة.
فظهر مما ذكرنا أنه يحرم التعدي عن النصوص جزما ويحرم عدم
التعدي أيضا جزما ويحرم مخالفة النصوص جزما ويحرم عدم
المخالفة جزما، فلا بد للمجتهد من معرفة المقامين، وتمييزهما و
معرفة دليل التعدي، حتى يكون مجتهدا، لما عرفت أن الحجة ظن
المجتهد لا غير، وأن المجتهد لا بد من أن يعلم أن فتواه حق، حتى لا
يدخل النار.
وعدم الفرق بين المقامين أعظم خطرا على المجتهد، فلو كان أحد لم
يفرق، ولم يعرف ما به الفرق يخرب في الدين تخريبات كثيرة
من أول الفقه إلى آخره، إذ ربما لا يتفطن بدليل التعدي فيترك التعدي،
أو دليل المخالفة فيتركها، زعما منه أنه تعد حرام، ومخالفة
حرام، وربما يعكس الامر فيتعدى في الموضع الذي لا يجوز تعديه
قياسا له بما يجب فيه التعدي، وكذا المخالفة، كما وجدنا غير واحد
من العلماء أنهم يفعلون كذلك.
ثم اعلم أن التعدي المعتبر عند الفقهاء كثير، كما ذكرناه سابقا، وذكرنا
أيضا في الحاشية التي كتبناها على ديباجة المفاتيح فلاحظ. و
نشير إلى بعض هنا أيضا، ونقول:
إن التعدي ربما يكون بعد ملاحظة أمر، مثل القياس المنصوص العلة،،
ومثل التلازم بين الحكمين، مثل قوله: (إذا قصرت أفطرت، وإذا
أفطرت
293

قصرت)، هذا ولا كلام إنما الكلام في مثل المواضع التي أشرنا إليها،
من أنه بمجرد اللفظ يفهم التعدي أو المخالفة، ومعلوم أن ذلك لم
يتحقق إلا بمنشأ، وهو التظافر والتسامع من المسلمين أو الفقهاء، و
الانس بطريقتهم، وما فهموا من فتاواهم، وما رسخ في الخواطر
من معاشرتهم ومخالطتهم، فربما يكون إجماعا ضروريا، وربما
يكون إجماعا نظريا، وربما يكون إجماعا ظنيا، وربما يكون
مجرد الشهرة بين الفقهاء.
فلا بد من التمييز بين هذه الأقسام، فإن القسمين الأولين لا تأمل في
حجيتهما، والآخرين وقع النزاع في كل واحد منهما، فلا بد من
التشخيص، ومعرفة الدليل، ثم الاعتماد والفتوى.
واعلم أيضا أن التعدي ربما يصير بتنقيح المناط، وهو مثل القياس إلا
أن العلة فيه منقحة، أي حصل اليقين بأن خصوصية الموضع لا دخل
لها في الحكم، وكذا اليقين بعدم المانع في مورد آخر، فيجزم
بالتعدي، لامتناع تخلف المعلول عن العلة. مثل قول النبي صلى الله
عليه و
آله وسلم للأعرابي - حين سأله:
جامعت أهلي في شهر رمضان؟ -: (كفر)، فإن القطع حاصل بأن
العلة هي الجماع فيه من غير مدخلية الاعرابية، ولا كون الجماع
بالزوجة الدائمة، بل المتعة والجارية، والزنا أيضا كذلك، وربما لا
يحصل القطع بالنسبة إلى الزنا.
وكيف كان، فالقطع إنما حصل بالاجماع، وهو المنقح، إذ لا بد
للتنقيح
294

من منقح شرعا وليس فيما نحن فيه سوى الاجماع. نعم في بعض
المواضع يصير المنقح هو حكم العقل على سبيل اليقين لكنه قليل
جدا.
فالعمدة والأصل هو الاجماع، ولذا قال بعض المحققين: إنه لا يمكن
فهم الحكم من حديث من أول الفقه إلى آخره، إلا بمعونة الاجماع،
فلا بد من البحث عن الاجماع.
295

الفائدة الثلاثون [طرق ثبوت الأحكام الشرعية]
قد عرفت فيما سبق: أن نفس الأحكام الشرعية وموضوعاتها
العباداتية توقيفية موقوفة على النص من الشارع ليس إلا، فإذا نص
الشارع وظهر منه: فإما أن يضبط نصه فينقل للاخر، فهو حديث، بأن
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلا، أو يقول: فعل
عليه السلام كذا، فإنه في حكم النص، وكذا التقرير. وإن لم يضبط
نصه، يعني لم ينقل للاخر، بل الاخر يطلع على نصه من طريق آخر،
فهذا نسميه إجماعا.
وتفصيل ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ما كان نصه
على حكم أو عبادة لم يضبط، بأن ينقل للاخر، بل بعد ما نص
لامته تلقوه منه عليه السلام بالقبول، وضبطوه في أذهانهم، وشرعوا
في العمل به في مقامات حاجاتهم، وشاع وذاع بينهم، وكانوا
يقولون للاخر: إن الحكم شرعا كذا،
297

من غير أن يقولوا بعنوان الحديث والرواية، لأنه كان مسلما عندهم، و
معلوميتها عندهم مفروغا عنها، وكان علمهم بذلك ضروريا من
غير حاجة إلى كتب إما بأنهم سمعوا جميعا بأنفسهم، أو حصل
لبعضهم بالتظافر والتسامع، كما حصل العلم بوجود مكة والبصرة.
ولا شك في أنه ما كان بيد كل واحد منهم دواة وقلم حتى يكتب
جميع ما يسمع، بل المدار كان على الحفظ في الأذهان والعمل
بالأركان والمعروفية والمعهودية بينهم كذلك كما هو الحال في كل
مكان وزمان إلى الان، سيما بالنسبة إلى ضروريات الدين و
الايمان، فإنه من جهة البداهة لا يكتب، ولا يضبط ولا يثبت كما هو
الشأن في جميع الأمور البديهية أنها لا تكتب، ولا تثبت إلا ما ندر من
جهة تقريب وداع بالنسبة إلى ذلك النادر، ولذلك نرى فقهاءنا
المتقدمين والمتأخرين ما كتبوا جميع ضروريات الدين والمذهب.
نعم
تعرضوا لذكر نادر منه من جهة تقريب وداع، كما تعرضنا لذكر بعض
في الفائدة السابقة، ومع ذلك ليس اعتماد الذاكر واعتمادنا
على ذكره، ووجوده كعدمه، ولا تفاوت بينه وبين ما لم يذكر، بل
العوام أيضا يعرفون مطمئنين، ولذا لم يتحقق في مثله اجتهاد ولا
تقليد، ومنكره كافر.
ومما ينبه عليه: أن أمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وشيعة
الأئمة عليهم السلام - مع كونهم من الكثرة بحيث ملئت الأمصار منهم
-
لم يرووا كلهم عنهم، بل ولم يرو من كل آلاف منهم إلا واحد، وذلك
الواحد أيضا لم يرو جميع فقهه، بل روى قليلا، ولذا فقهنا من
مجموع روايات مجموعهم.
ومما يشير أيضا تتبع الأحاديث، حيث يظهر منها أن الأئمة عليهم
السلام حين ما ألقوا إلى راو حكما ما كانوا يستوعبون جميع أحكام
المسألة، بل إلقاؤهم على وجه أن الراوي كان يعرف الباقي، وكذلك
يظهر من أسئلة
298

الرواة، ومع ذلك لا يروون جميع أحكام ما سألوه، كما رووا القدر
الذي سألوا.
ثم إن البداهة التي ذكرناها ربما سرت من الطبقة الأولى إلى الطبقة
الثانية، ومنها إلى الثالثة، وهكذا إلى أن وصل إلينا.
وهذا في الغالب إنما هو في الأمور التي يعم بها البلوى، وأما غيرها
فربما يصير كذلك أيضا بسبب وداع وتقريبات، كما أن الأمور
التي تعم بها البلوى ربما تصير خفية غير ظاهرة بسبب الحوادث، كما
صار في مسح الرجل في الوضوء وأمثاله، لكن في زمان الأئمة
عليهم السلام أظهروا الحق فيها بحيث صارت ضرورية مذهب
الشيعة، وحال الشيعة فيها كحال أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم الضروري ربما يصير خفيا بالنسبة إلى الطبقة الثانية أو الثالثة أو
الرابعة، وهكذا إلى أمثال زماننا. لكن بعد ملاحظة حال الطبقة
الذين كان الحكم ضروريا عندهم، ربما يحصل القطع بحقية الحكم، و
كونه عن رئيسهم.
كما نرى الان أن الخارج عن دين الاسلام إذا رأى المسلمين متفقين في
الصلوات الخمس والاذان وغير ذلك، وأنه لا يتأمل أحد منهم
فيها، بل اتفقوا كل الاتفاق، يحصل له القطع بأن هذه الأمور من
رئيسهم، وأنها في دينهم.
كما أنا إذا رأينا الحنفية كلهم متفقة على طريقة، والشافعية كلهم على
طريقة غير طريقة الحنفية، نجزم بأن كل واحد منهما من رئيسهما.
فما ظنك باتفاق المسلمين، أو الفرقة المحقة؟ بل إذا رأينا مقلدين
لمجتهد اتفقوا على طريقة أو حكم امتازوا بهما عن غيرهم نجزم أن
ذلك من مجتهدهم، فما ظنك باتفاق جميع المسلمين أو الفرقة
المحقة الناجية؟ وأيضا إذا رأينا فتوى من
299

فقيه ما هو متشرع بشرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والامام
يحصل في نظرنا رجحان بأن فتواه هذه حق، وإن كنا نجوز الخطأ
عليه، لكن ليس وجود هذه الفتوى بعينها كعدمها من دون تفاوت
أصلا، ولذا يحصل لمقلد المجتهد ظن بحقية فتواه بالبديهة، بل ظن
قوي بحيث يطمئن به ويعمل، ويجعله حكم الله تعالى في عباداته و
معاملاته، وليس وجود هذه الفتوى مثل عدمها على السواء بالبديهة،
بل ومن يدعي ذلك فلا شك في أنه مكابر، وإذا كان الراجح طرف
الحقية، فمع موافقة فتوى فقيه آخر وانضمامه يتقوى الظن و
الرجحان.
لان بنفس الفتوى يحصل رجحان، وبالانضمام والموافقة رجحان
آخر، وهكذا إذا انضم معه فتوى آخر يحصل رجحانات، وهكذا إلى
أن يصل إلى حد العلم، كما هو الشأن في الخبر المتواتر.
ويزيد الاجماع على الخبر المتواتر أنا نرى الفقهاء مختلفين في الفهم و
المذاق والمشرب في أصول الاحكام ونفس الاحكام و
استنباطها وتأسيسها غاية الاختلاف، ومع هذا كلهم متفقون على أنه
لا يجوز لمجتهد أن يقلد مجتهدا آخر، ويوجبون على كل مجتهد
بذل تمام جهده، واستفراغ جميع وسعه، ومراعاة شرائط الفهم و
الاجتهاد، ويأمرون ويحذرون، بل أكثرهم التزموا بتجدد النظر، و
لذا وقع من كل منهم اختلاف كثير في الفتوى، فإذا كانوا مع هذه الحالة
متفقين فلا يبقى للتأمل مجال.
هذا مع أنك قد عرفت في الفائدة السابقة وجدان الاجماع في كل
مسألة، بحيث لا يتم مسألة من حديث أو آية إلا بانضمام الاجماع، و
أن
العلم
300

بهذه الاجماعات حصل لنا من غير حديث أو آية، بل بالوجدان نجد
بالبديهة أن منشأ هذا العلم ليس إلا التظافر والتسامح، وغير خفي
على المتتبع الماهر المطلع أن كل واحد واحد من الاجماعات لم
يصل إلى حد البداهة، بحيث يكون المتأمل فيه كافرا، ويكون بحيث
لا
يقبل الاجتهاد والتقليد بل يكون العامي والفقيه حالهما واحدا في
العلم به كما هو حال الضروري.
على أنه إذا جاز أن يحصل من اتفاق المسلمين أو الشيعة العلم إلى حد
الضرورة، فحصول العلم الذي لم يبلغ إلى حد الضرورة بطريق
أولى، لان هذا العلم مقدم رتبة على الضروري، فتجويز حصول العلم
البديهي من الاتفاق دون العلم النظري فيه ما فيه، والمجوز لحصول
الضروري من الاتفاق دون ما هو أضعف من الضروري مكابر عنود
منكر للبديهة كما هو غير خفي، وصرح أستاذ الكل في الكل في
(شرح الدروس) أن العلم الضروري في كثير من الاحكام حاصل
للعلماء والعوام، فإذا جاز أن يصل إلى حد الضرورة للعوام والخواص
قطعا فأي استبعاد في أن يصل إلى حد يحصل القطع أو الظن للخواص
أو لبعضهم؟ انتهى ووافقه على ذلك غير واحد من المحققين، مع
أنه بديهي، فلا يحتاج إلى الاستشهاد.
فما يحصل من الاتفاق على درجات أعلاها البداهة للخواص و
العوام، ويسمى الضروري - ضروري الدين، أو المذهب - وقد
عرفت
الفرق بينهما ويسمى بالاجماع أيضا. وأوسطها العلم للخواص و
يسمى بالاجماع. وأدناها الظن، ويسمى بالشهرة - وسنذكرها - و
الاجماع المنقول بخبر الواحد الذي هو إجماع ظني.
301

وبالجملة لا نزاع بين الشيعة في كون الاجماع حجة، بل لا يمكنهم
النزاع، لان الاجماع كاشف عن قول (المعصوم) عليه السلام فهو
طريق إلى الحجة - كالخبر - وطريق قطعي. ولا نزاع بينهم أيضا في
وجوده والعلم به، ومدار الشيعة من (الكليني) رحمه الله ومن
تقدم عليه ومن تأخر عنه على العمل به في كتبهم الاستدلالية و
الأصولية والأخبارية والفقهية، كما أشرنا إليه في رسالتنا في إثبات
الاجماع، وبسطنا الكلام فيه، وأبطلنا الشكوك الواهية المخالفة
للبديهة والرسالة في غاية المتانة فليلاحظ.
وأيضا الشيعة والسنة في كتبهم الأصولية صرحوا باتفاق الشيعة على
الحجية، والعلم به، ووقوعه، وأن الخلاف في الأمور الثلاثة
منحصر في أهل السنة.
وأيضا يدل على حجية الاجماع الأخبار المتواترة في أن الزمان لا
يخلو عن حجة، كي إن زاد المؤمنون شيئا ردهم، وإن نقصوا أتمه
لهم، ولولا ذلك لاختلط على الناس أمورهم. ومضمون هذه الأخبار
ضروري مذهب الشيعة، وجعلوه من الاعتقادات وأصول
الدين في
كتبهم الكلامية.
واختار الشيخ (1) هذه الطريقة أيضا لحجيته، ووافقه غيره من
المحققين. ويعضده أيضا ما ورد: من أنه: (لا تزال طائفة من أمتي على

(1) حيث قال: (والذي نذهب إليه ان للأمة لا يجوز ان تجتمع على
خطأ وان ما تجمع عليه لا يكون إلا صوابا وحجة لان عندنا انه لا
يخلو
من الاعصار من امام معصوم حافظ للشرع يكون قوله حجة يجب
الرجوع إليه كما يجب الرجوع إلى قول الرسول صلى الله عليه وآله و
سلم انظر عدة الأصول 2: 64.
302

الحق) وإطلاق هذه الأخبار يقتضي أنه متى وقع الاجماع يكون حجة.
ويعضده ما دل على أن تقرير المعصوم عليه السلام حجة.
واعترض على هذه الطريقة بأنه يمكن أن يكون الامام يكتفي بحديث
منهم في رد المجمعين، إذ لا يجب على الامام ردهم قهرا وما
كانوا يفعلون، وكان أمرهم إراءة الطريق، لا الايصال إلى المطلوب، و
معلوم أن كلامهم واحد، لا حاجة إلى كلام جديد.
وفيه أن هذا الاعتراض لو تم لاقتضى عدم حجية تقرير المعصوم عليه
السلام ومع ذلك لا يرد على الاجماع الذي ليس له معارض من
حديث، وكذا الذي له معارض إلا أن معارضه لا يستأهل للرد و
الحجية، إذ ليس مثل هذا ردا وإراءة الطريق قطعا.
وأما الذي يستأهل فالعادة المعروفة من الفقهاء أنهم بعد بذلك
جهدهم يقولون بحجيته البتة، ولو لم يقل بها كلهم فبعضهم لا أقل منه
قطعا، ولو لم يقل أحد منهم به أصلا فلا شك في أن مثله لا يستأهل
الحجية قطعا، كما لا يخفى على المطلع بأحوال الفقهاء.
على أن كل فقيه يستفرغ وسعه، ولا يقول بشئ إلا من مستند قطعا،
فإذا كان مع الاستفراغ لا يقول بهذا المعارض، ويعدل عنه إلى ما
يقتضي خلافه، فلا شك في أن المعارض عنده مرجوح لا يجوز الاخذ
به، فضلا من أن يتفق الكل بخلاف المعارض إذ حينئذ يصير
المعارض مقطوعا بفساده.
واعترض أيضا بأنا نرى خلافيات كثيرة.
وفيه أن استدلال (الشيخ) رحمه الله إنما هو بما ورد في المتواتر: من
أنهم عليهم السلام لا يدعون المؤمنين أن يجتمعوا على الباطل و
الخطأ لا أنهم يمنعونهم عن الاختلاف، كيف والاخبار في غاية الكثرة
في أنهم عليهم السلام أوقعوا
303

الاختلاف بين الشيعة؟ هذا مع أن المستند الشرعي في الخلافيات
موجود قطعا، وهو يكفي لإراءة الطريق - كما أشرنا إليه - فالمقصر
عليه أن يرجع، وغير المقصر يكون حكم الله تعالى بالنسبة إليه هو ما
أدى إليه اجتهاده إذا كان من مستند شرعي.
كما أنهم عليهم السلام في زمان الحضور كانوا يلقون الخلاف بين
الشيعة ويأمرون أحدهم بخلاف ما أمروا به الاخر، وما كان ذلك
منافيا، لما قالوا: إن زاد المؤمنون ردهم عليهم السلام، وإن نقصوا
أتمه عليه السلام لهم، فتأمل.
مع أنهم ربما كانوا لا يرضون بالاجماع على الخطأ بناء على أنه (1) لا بد
أن يكون طائفة من الأمة على الحق، ولا يتفق الكل على الضلال،
يومي إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة)... (2) وقوله
عليه السلام: (وإن زادوا

(1) ورد في نسخة (م) في هذا الموضع زيادة هذه العبارة: (بناء على أنه
قبيح عدم المنع عن الاجماع عليه، لأنه يصير الكل على الضلال،
فينتفي فائدة البعثة، ولذا قالوا: لا بد أن.)..
(2) لعل مراد المصنف رحمه الله من هذه العبارة الإشارة إلى الحديث
المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا تزال طائفة من
أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)، راجع سنن البيهقي
9: 39 باب ما يجب على الامام من الغزو...
304

وإن نقصوا...)] 1 [أو قوله: (لاختلط على الناس...) إلخ. فتأمل.
ومما يعضد حجية الاجماع قوله عليه السلام: (خذ بالمجمع عليه،
فإن المجمع عليه لا ريب فيه)، إذ هو تنبيه واضح على حجية
المجمع
عليه، لما فيه من التعليل بعلة عقلية ظاهرة، لا شرعية تعبدية، حتى
يقال: لعله مخصوص بالخبر المجمع عليه. مضافا إلى أن العلة
المنصوصة حجة كما قلنا.
مع أنك عرفت: أن إجماعنا هو الخبر المجمع عليه، إلا أنه لم ينقل
ذلك بطريق معنعن مثلا، بل بوفاق الكل، أو القدر الذي يحصل به
العلم
بذلك الخبر، وربما جعل هذا دليلا مستقلا على حجية الاجماع.
ويعضده أيضا الأخبار الكثيرة الواردة في الامر بلزوم الجماعة، وأن
(من فارق جماعة المسلمين قدر شبر خلعت ربقة] 2 [الايمان من
عنقه)] 3 [
] 1 [لعل أراد المصنف رحمه الله من هذه العبارة الإشارة إلى حديث 4
من باب في أنهم يعرفون الزيادة والنقصان في الأرض من الحق و
الباطل ما هذا لفظه: (قال أبو عبد الله عليه السلام لن تبقى الأرض إلا و
فيها رجل منا يعرف الحق فإذا زاد الناس فيه قال قد زادوا وإذا
انقصوا منه قال قد نقصوا... إلخ. بصائر الدرجات: 331.
] 2 [الربقة: بكسر الراء وسكون الباء الموحدة: حبل مستطيل فيه عرى
تربط فيه صغار البهم، توضع في أعناقها أو يدها تمسكها.
فاستعير ذلك للاسلام بأن جعل الاسلام الجامع للمسلمين بمنزلة
عروة من تلك العرى. مجمع البحرين 5: 166.
] 3 [البحار 88: 13 الحديث 23 إلا أن الحديث في المصدر هكذا: (عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: من خلع جماعة المسلمين قدر شبر
خلع
ربقة الايمان من عنقه). نقلا عن المحاسن: 85.
305

وهي كثيرة.
لا يقال: إنه يدل على حجية إجماع أهل السنة.
لأنا نقول: الاجماع باصطلاح أهل السنة حجة عند الشيعة قطعا
لدخول المعصوم عليه السلام فيه.
ويؤيده أيضا: أن المستضعفين إن أخذوا بالمتفق عليه نجوا - كما ورد
في الاخبار -.
وقد عرفت مما ذكرنا طريقين للاجماع.
وهنا طريق ثالث: وهو أنه ربما يحصل العلم العادي الاجمالي باتفاق
جميع فقهاء الاسلام في الفتوى والرأي، فيعلم أن رئيسهم أيضا
داخل في الفتاوى، من قبيل من يحصل له العلم الاجمالي بكلية
الكبرى في الاشكال، ولا شك في إمكان حصول العلم الاجمالي و
تحققه،
بل المدار في الاستدلالات على ذلك، والعلم بضروري الدين أو
المذهب من هذا القبيل، فإذا أمكن البديهي فأي مانع من الكسبي؟
كما
أشرنا إليه.
وصرح بعضهم: بأن المراد من دخول قوله عليه السلام في الأقوال: هو
أن يكون قوله موافقا للأقوال، لا أن يكون شخصه داخلا في
أشخاصهم، والمغالطة في عدم إمكان هذا هي المغالطة في عدم
إمكان الاستدلال.
لكن على هذه الطريقة لا بد من وجود مجهول النسب، لان الجميع لو
كانوا معروفي النسب لا يكون إجماعا قطعا، يكون الامام من
جملتهم أم لا، لان بعد معرفة شخص الإمام عليه السلام يكون الحجة
قوله عليه السلام،
306

فالاجماع لغو، بخلاف عدم المعروفية بشخصه، فإن الاجماع حجة
من حيث إنه كاشف عن قوله عليه السلام، ولا مانع من أن لا نعرفه
بشخصه في جملة المجمعين، ونعرف قوله عليه السلام في جملة
الأقوال، كما هو الحال في الضروريات.
وأيضا على هذه الطريقة يضر خروج مجهول النسب، لا معلوم النسب
الذي ليس بإمام.
وأيضا على هذه الطريقة لا يمكن الاطلاع على الاجماع من جهتها في
أمثال زماننا من غير جهة النقل.
وأيضا على هذه الطريقة لا يتحقق الاجماع من مجرد عدم ظهور
المخالف.
307

الفائدة الحادية والثلاثون [أقسام الاجماع]
اعلم أن الاجماع ربما يحصل من اتفاق الأكثر، مثل الاجماع على
حرمة القياس، وعدم وجوب قراءة دعاء الهلال، إلى غير ذلك، وهو
في
الفقه كثير.
وأيضا الاجماع ربما يكون بسيطا كالأمثلة المذكورة.
وربما يكون مركبا كما مر في انفعال الماء القليل: أن الاجماع واقع في
أنه إذا انفعل من العذرة ينفعل من البول أيضا، وكذا سائر
النجاسات، إلا ما لا يدركه الطرف من الدم، على إشكال فيه أيضا، و
هذا الاجماع أيضا في الفقه كثير.
ولا يجوز خرق هذا الاجماع عندنا، لاستلزامه مخالفة الامام فلو ثبت
من نص بعض مطلوب أحد الطرفين فلا بد من القول بجميعه، و
أكثر التعديات من النصوص من جهته.
ولما كان المجتهد هو الذي يفهم الحكم من الدليل - لا أنه يفهم
الدليل
309

من الحكم - يحصل الفقه ويعرفه من جهته، ويعرف أن الفقه من أين
حصل.
وأما المقلدون العاملون فكل واحد منهم من أول الامر [يقرأ] فقه
المجتهد ويرسخ في ذهنه غاية الرسوخ، كما أنه يحصل في ذهنه
كثير من الشرع أيضا بالتظافر والتسامع، ثم يشرع بعد ذلك في
الحديث والآية ويريد أن يجتهد، فلا يفهم منهما سوى ما رسخ في
ذهنه، فديدنه فهم الدليل على حسب ما رسخ في ذهنه، عكس
المجتهد، فربما يفهم من لفظ الأرض معنى السماء، ومن الضب معنى
النون،
فيزعم أنه مثل المجتهد يحصل له الفقه من الدليل، ولا يتفطن بأن أمره
بالعكس، ومن جهة عدم تفطنه بمباني الفقه والفهم يخرب الفقه
كثيرا، ففي الموضع الذي يجب أن لا يتعدى ربما يتعدى قياسا على
الموضع الذي يجب فيه التعدي، وربما يعكس الامر، ومع ذلك
يشنع
على الفقهاء بأنهم يتعدون، ويقيسون، ويقولون ما لا يعلمون، وربما
يتمسكون بالشبهات التي تمسك بها السوفسطائية في إبطال
البديهيات، في إبطال الاجماع أشرنا إليها وإلى شائعها في رسالة
منفردة في الاجماع.
وربما ينكرون مطلق الاجماع بأن ناقل الاجماع ليس بمعصوم، فربما
أخطأ في فهمه الاجماع، ولا يفرقون بين نفس الاجماع ومطلقه،
وبين المنقول بخبر الواحد منه. والأول: متفق عليه بين الأصحاب. و
الثاني: مختلف فيه وإن كان المشهور حجيته أيضا.
مع أن الخطأ وقع في الأحاديث كثيرا غاية الكثرة، ومع ذلك
310

لا يعدون هذا مانعا من حجيتها، ولا يتزلزلون مطلقا، ولا يدرون أن
حال الاجماع المنقول بخبر الواحد حال الخبر الواحد، بل في
الحقيقة هو نوع من خبر الواحد، لما عرفت من أن الاجماع عندنا
يرجع إلى السنة والحديث، وقد عرفت أن خبر الواحد الظني لا يكون
حجة حتى يدل على حجيته دليل شرعي، وأن المعتبر والمستند في
الحقيقة هو ذلك الدليل الشرعي، فلو كان ذلك الدليل شاملا
للاجماع فلا وجه في التأمل في حجيته، وإلا لكان (خبر الواحد)
داخلا في الظنون المحرمة وسوى الاجماع من باقي الأدلة يشمله، و
الاجماع إنما يتم في حجية خبر الواحد في الجملة لا مطلقا وتمام
الكلام في الرسالة.
والاعتراض عليه: بأن (السيد) و (الشيخ) ربما يريدان من الاجماع ما
هو المصطلح عند العامة، لعله ليس بشئ، إذ - مضافا إلى أنه نوع
تدليس - قد عرفت أن إجماع العامة حجة عند الشيعة أيضا.
والقول بأنهما يكتفيان بمجرد إجماع الجميع في عصرهما، مع قطع
النظر عن قطعهما بقول المعصوم عليه السلام - فمع أنه أيضا
تدليس - لا شبهة في حصول الظن منه بقول المعصوم عليه السلام إذ
اتفاق جميع الشيعة في عصرهما وقبل عصرهما يورث الظن بذلك
قطعا، والاجماع المنقول لا يفيد سوى الظن، والاعتراض عليه
بوجدان المخالف محض الغفلة، كالاعتذار بأن المراد منه الشهرة أو
غيرها، لان الاجماع عندنا ليس اتفاق الكل، بل عرفت أن كثيرا من
الاجماعات كذلك.
311

والاعتراض بالمخالفة من نفس المدعي أو غيره أيضا ليس بشئ، لان
الأدلة والامارات كلها أو جلها لا تخلو عن ذلك، وسيما الأحاديث
والعلوم اللغوية، بل ربما يتحقق المخالفة في غاية الكثرة كما في
تخصيص العمومات، واستعمال الامر في غير الوجوب وغير ذلك.
مع
أنه ربما كان الحكمان صدرا عنهم عليهم السلام واتفق على كل واحد
طائفة إلى أن يحصل القطع كما في العمل بخبر الواحد. لا يقال:
الخبر حسي، والاجماع حدسي.
لأنا نقول: ما دل على حجية خبر الواحد يشمل الامرين معا، مع أن
المكاتبة حدسي، والمنقول بالمعنى أيضا كذلك حدسي، وكثير من
الاخبار طريق أخذها الحدس - كما حقق في الأصول والدراية - مع
أن جميع أخبار الآحاد يتوقف على الأصول والظواهر، كما عرفت،
فتأمل.
وأما الشهرة بين الأصحاب فاختلف في حجيتها، والمشهور عدم
الحجية، وإن كانت مرجحة للحجة.
وقال بعض الفقهاء مثل (الشهيد) رحمه الله وغيره بحجيتها محتجا:
بأن عدالتهم تمنع من الاقتحام في الفتوى من غير دليل.
و أجيب: بأن الخطأ جائز عليهم. وفيه: أن هذا مانع عن القطع، وأما
الظن فالظاهر أنه ليس بمانع عنه، إلا أن يقال بعدم حجية أمثال هذه
الظنون، وسيجئ الكلام في ذلك في ملحقات الفوائد.
مع أن المشهور أن الشهرة ليست بحجة، فكيف تصير حجة؟ ومع
ذلك لا ينبغي مخالفة المشهور، لما ذكر، ولما تتبعت و وجدت أن لما
ذهب إليه المشهور حجة واضحة متينة، إلا ما شذ وندر، ولعله في
الشاذ
312

أيضا يكون القصور منا.
وربما توهم عدم حصول الظن من الشهرة بين المتأخرين عن (الشيخ)
رحمه الله بادعاء أن الفقهاء بعده كلهم مقلدون له.
وهذه الدعوى في غاية الغرابة، لان مخالفة المتأخرين لرأي (الشيخ)
أكثر من مخالفة القدماء بعضهم لبعض بمراتب شتى، بل بالوجدان
نشاهد أنهم في كل مسألة مسألة يتأملون، ويجتهدون، ومن كثرة
الملاحظة وتجديد النظر وقع منهم اختلاف كثير في فتاواهم، بل و
في كتاب واحد ربما يفتون بفتاوى مختلفة. نعم الشهرة بين القدماء
أقوى من حيث أقربية العهد وإن كان المتأخرون أدق نظرا، وأشد
تأملا، وأزيد ملاحظة، ومن هذه الجهة يظهر القوة في شهرتهم، ومن
هذه الحيثية تكون أرجح من شهرة القدماء، فتأمل.
ثم اعلم أنهم كثيرا ما يدعون الاجماع، ويريدون مجرد الوفاق، لا كونه
كاشفا عن رأي المعصوم أيضا، بناء على أنه لا معنى لكون
المجمع عليه قول المعصوم عليه السلام بل يظهرون ذلك في
عباراتهم مثل أنهم يقولون:
أجمع أهل اللغة، أو أجمع الأصوليون، أو اجتمعت العصابة على
تصحيح ما يصح عن فلان، أو أجمعت الشيعة على العمل بروايات
فلان، كما
مر الإشارة إليها ولا يخفى أن مثل هذه الاجماعات تعتبر في مقام
اعتبار الظنون والرجحان والقوة، إذ لا شك في حصولها منها من
حيث كونهم من أهل الفن والمهارة والخبرة والاطلاع، بل وأقوى من
كثير من الظنون والمرجحات، بل الخبر الذي اتفق الشيعة على
العمل به أقوى من الصحيح بمراتب.
313

الفائدة الثانية والثلاثون [ما هو الأصل في فعل المعصوم؟]
فعل المعصوم عليه السلام حجة، فهل الأصل فيه الوجوب، أو
الاستحباب، أو الإباحة إلا أن يظهر وجهه؟ فقيل: بالأول لما ورد من
الامر
بالاتباع مطلقا.
وأجيب: بأن الاتباع هو فعل ما فعل، على الوجه الذي فعله، فالذي
يفعله بعنوان الإباحة، ففعله بعنوان الوجوب لا يكون متابعة، فالذي
يفعله المكلف بقصد الوجوب لعله كان مباحا، فتأمل.
وأيضا كثير من أفعاله لا يجب متابعته قطعا، فكما يجوز التخصيص كذا
يجوز حمل الامر على الطلب، أو أن يفعل كل فعله على الوجه
الذي فعله، فتأمل.
315

وقيل بالثاني: للاحتياط لدورانه بين الوجوب وغيره، والاحتياط
عندهم مستحب، لأصالة البراءة كما مر.
وأيضا الاقتداء بهم حسن على كل حال.
وقيل بالأخير، لأصالة البراءة، وفيه ما عرفت.
ثم اعلم أن فعلهم ربما يكون بيانا للمجمل، فيجب مراعاته في تحقق
المجمل والبيانية، وربما يظهر من القول مثل قوله صلى الله عليه و
آله وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أو بالقرائن، ومع هذا إن
صدر عنهم أفعال في مقام البيان، فما كان منها مستحدثا عنهم في
المقام علمنا أنه من الكيفية، وما كانوا عليه قبل يتبادر إلى ذهننا أنه
ليس بداخل إلا بدليل مثل الستر في الصلاة، وكذا ما يتوقف على
فعله شئ آخر من أجزأ المطلوب كالهوي للسجدة، والنهوض
للركعة، وأمثالهما من الانتقال من جز إلى جز آخر للصلاة.
ثم المستحدث قد يصدر بكيفيات:
منها: ما يحكم بخروجه، مثل سرعة ما أو بط ما بحيث لا يعتد به
عرفا، لاستحالة التكليف بالخصوصية بحيث لا يتفاوت أصلا.
ومنها: ما يتردد في دخوله وخروجه، مثل أنهم متى ما فرغوا من جز
في الوضوء شرعوا في جز آخر، وأنه ابتدأ في الغسل من أعلى
الوجه واليدين إلى الأسفل، فإنا لا ندري أنه بمجرد الاتفاق، وأنه أحد
أفراد الكلي، أو أنه داخل في الكيفية.
ثم نفس المطلوب الذي كان الفعل مبينا له: إما أن يكون واجبا فقط، أو
مطلوبا: منه واجب، ومنه مستحب، والثاني قد يتردد في الدخول
في
316

الواجب، أو المستحب.
ثم المتردد هل يجري فيه أصل العدم؟ بأن يقال: الأصل عدم
الدخول، أو عدم الوجوب، أو لا، بل لا بد من اعتباره لتحقق
المطلوب، لان
الأصل عدم كون ما بقي هو المطلوب، ولأن شغل الذمة اليقيني
يستدعي البراءة اليقينية أو العرفية. قد مر الإشارة إلى ذلك.
فإن قلت: تعلق التكليف بالمجمل كيف يمكن؟ لان التكليف إنما
يكون بالشئ المعلوم، فالقدر الذي علم أنه مكلف به ثبت التكليف به
خاصة لأصالة البراءة عما لم يعلم.
قلت: التكليف والخطاب إنما يتعلق بالمجمل قطعا، وبعد إمكان
الامتثال - ولو بارتكاب مقدمة - فلا مانع من التكليف: كناسي فريضة
واحدة لم يعرفها بشخصها وغير ذلك، فالمقتضي موجود، والمانع
مفقود.
ثم اعلم أن تقرير المعصوم عليه السلام أيضا حجة، وهو أن يفعل
بحضوره أو اطلاعه فعل، ولم ينكر على الفاعل، أو ظهر من مكلف
اعتقاد بوجوب شئ أو حرمته، أو غيرهما من الأحكام الشرعية،
فقرره عليه، ولم يمنعه عنه، إذ الظاهر من المقامين رضاه بهما، و
الظهور يكفي، لما عرفت من كون المدار عليه. ويشترط أن لا يظهر
مانع من الانكار من تقية، أو مصلحة.
وظن عدم المانع يكفي، بل وكون الأصل عدمه.
واعلم أنه قد وقع الخلاف: في أن الحكم الذي حكم به المعصوم عليه
السلام في الرؤيا هل هو حجة أم لا؟ قال بعضهم بالحجية، لما ورد:
(من أن من رآه فقد رآه، وأن الشيطان
317

لا يتمثل به).
وقال بعضهم بعدم الحجية، لأنها فرع أن يعرف بصورته في اليقظة،
حتى يعلم في المنام أنه هو، وصورة ما رآه صورته.
وأجيب: بأنه ورد في زمان الأئمة عليهم السلام مثل الرضا عليه السلام
أن الراوي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
المنام؟ فقال: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رآه فقد
رآه). ومعلوم أنه ما كان رآه في ذلك الزمان، لكن ربما نرى أحدا
منهم في المنام بصورة عالم أو صالح، فيظهر بعد اليقظة انه كان ذلك
العالم، أو الصالح، مثل الرؤيا التي رآها (المفيد) رحمه الله وغيره
مما نرى كثيرا.
إلا أن يقال: إن الصورة صورتهم، إلا أنهم عليهم السلام أظهروا كذلك
إظهارا لجلالة ذلك العالم أو الصالح.
مع أن كثيرا من المنامات يظهر منها المعجزة أو غيرها من القرائن التي
يظهر منها أن الصورة صورتهم، والحكم حكمهم عليهم السلام.
وشرط بعضهم: بأن لا يكون ذلك الحكم مخالفا للأحكام التي وصلت
إلينا.
318

الفائدة الثالثة والثلاثون [تعارض الأدلة والنصوص]
اعلم أن الفقهاء كثيرا ما يقولون: هذا النص مخالف للقاعدة، فلا يكون
حجة، وعلى هذا مدارهم.
وربما يطعنون عليهم: بأن النص إذا كان كلام الشارع كان حجة، فلا
وجه لهذا القدح، إذ يجوز أن يكون مورد النص مستثنى عنها، كما
أن كثيرا من الموارد مستثنى عنها وفاقا. وأيضا القاعدة أمر كلي، فإذا
ورد عام وخاص متنافيا الظاهر، فالخاص مقدم.
وفيه: أن العام والخاص المتنافيين إذا كانا متكافئين، أو الخاص أقوى،
فالخاص مقدم، وأما إذا كان العام أقوى فلا بد من العمل على
العام، والخاص يطرح. أو يؤول بحيث يرجع إلى العام، لما عرفت من
أن المعارض إذا كان أقوى فالعمل به متعين، لأنه الراجح، ومقابله
يصير مرجوحا.
319

وقد عرفت أن المرجوح لا يمكن أن يجعل حكم الله، لان معنى كونه
مرجوحا أن الظاهر أنه ليس حكم الله.
وأيضا ورد: أن الحديث إذا ورد عليكم فاعرضوه على السنة، فإن
وافقها فخذوا به وإلا فدعوه، وكذا ورد كثيرا بالنسبة إلى القرآن
- كما أشرنا سابقا - وقس على هذا حال ما اشتهر بين الأصحاب، و
غير ذلك. فإن كان العام موافقا لهذه الأمور لا جرم يكون المعمول
به هو العام حينئذ بلا تأمل، لما ورد في تلك الأخبار وغيرها مضافا
إلى الاعتبار.
وكذا ورد عنهم عليهم السلام: (أعرضوا الحديث على سائر أحكامنا
فإن وجدتموه يشبهها فخذوا به، وإلا فلا).
وأيضا: القاعدة إذا كانت قطعية فلا يجوز أن يخصصها علمي لو فرض،
فضلا عن ظني.
وبالجملة لا شبهة لاحد في بعض المواضع ولا تأمل في أن النص
المخالف ليس بحجة، ولا بد من الطرح أو التأويل. مثل ما ظهر من
بعض الاخبار من أنه يجوز أن يتطهر بالنجس حال الاضطرار (1) وإن
الشئ ربما يصير نجسا حال الاختيار وطاهر حال الاضطرار،
ومثل أن الماء القليل

(1) الرواية هكذا: كتبت إلى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء
ويستسقى فيه من بئر فيستنجي فيه الانسان من بول أو يغتسل
فيه الجنب ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب لا تتوضأ من مثل هذا إلا من
ضرورة إليه. انظر التهذيب 1: 418.
320

ينفعل بالميتة المنسلخة دون غير المنسلخة (1) إلى غير ذلك مما هو
في الفقه في غاية الكثرة.
وكذا لا شبهة لاحد في بعض المواضع في خروج صورة عن الكلية و
القاعدة مثل جواز بيع الآبق منضما وبيع العرية وغير ذلك مما هو
في الفقه في غاية الكثرة، وكثير من المواضع صار محل النزاع
لاختلاف الأنظار واضطراب الافهام. لكن القاعدة والمعيار هو ما
ذكرناه: من أن هذا في الحقيقة من جملة العام والخاص المتنافيي
الظاهر، فلا بد من اعتبار ما هو المعتبر في تخصيص العمومات، وإن
كانت الافهام مضطربة أيضا في فهم التكافؤ وعدمه.
ثم اعلم أن النص إذا خالف ما عليه الأصحاب لا يكون حجة إجماعا،
ويطرح أو يؤول - مثل ما ورد من (أن المستحاضة إذا أخلت
بالأغسال تقضي صومها دون صلاتها) وغير ذلك وهو كثير، لكونه
من الشواذ والشاذ لا عمل عليه عندهم، لرفع الوثوق والاعتماد
عندهم، وورد النص به أيضا، فإما أن يطرح أو يؤول حتى يخرج عن
الشذوذ وأما النص الذي لم يوجد مفت بمضمونه فهل هو أيضا من
الشواذ؟ - بناء على أن الناقلين له والمطلعين عليه لم يعتنوا بشأنه
أصلا، وإلا لوجد قائل واحد بمضمونه لا أقل على ما يقتضيه عادة
الفقهاء، أو أنه ربما غفلوا عنه أو عن

(1) وقد وردت رواية بهذا المضمون عن زرارة عن أبي جعفر عليه
السلام قال قلت له راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة
ميتة قال: إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها وإن كان
غير متفسخ فاشرب منه الحديث. انظر الوسائل 1:
104 الباب 3 من أبواب المطلق الحديث 8.
321

الدلالة أو كانوا متأملين، فيشمله عموم ما دل على حجية خبر الواحد،
ولا يصلح مجرد عدم وجدان القائل بمضمونه للتخصيص - فيه
خلاف، لاختلاف الافهام فيه أيضا.
322

الفائدة الرابعة والثلاثون [علامات الحقيقة والمجاز]
أكثر ألفاظ الحديث والآية خالية من القرينة، فيجب حملها على
المعاني الحقيقية بناء على أن الأصل عدم القرينة، فلا يصلح إرادة غير
المعنى الحقيقي منها كما مر.
ومعلوم أن الرجوع غالبا إلى اللغة والعرف، ومعلوم أيضا أن العرف
غالبه المجازات، وكذا اللغة، كما صرح به المحققون، وظاهر
للمتتبع العارف.
فلا بد من معرفة الحقيقي عن المجازي وتمييزه عنه، لأنهما مخلوطان
خلطا تاما يصعب التمييز، ولا يمكن إلا بالقواعد الأصولية. ألا ترى
أن صيغة
323

افعل تستعمل في معان مختلفة شتى، ومن شدة الخلط وقع النزاع بين
أرباب المعرفة، فقال كل طائفة منهم بقول إلى أن تحقق أقوال
كثيرة، وهكذا بالقياس إلى كثير من الألفاظ فلا بد من معرفة أمارات
الحقيقة والمجاز وهي متعددة:
الأولى: نص الواضح وإن كان بقوله: اسم لكذا، فإن الظاهر منه أنه
حقيقة فيه، أو يذكره مقدما على سائر المعاني، لبعد أن يكون الجميع
مجازات أو المجاز مقدما، فتأمل.
الثانية: التبادر: إما مطلقا، أو من حيث الإرادة على الخلاف. مثلا:
(المشترك) على الأول: جميع معانيه متبادرة على الاجتماع، وعلى
الثاني:
جميعها متبادرة على سبيل البدلية، ولا ثمرة بينهما. وعلامة المجاز:
عدم التبادر.
وربما جعل علامة الحقيقة عدم تبادر الغير، وعلامة المجاز تبادر
الغير.
واعلم أنه من المسلمات أن المطلق ينصرف إلى الافراد الشائعة،
فيكون غيرها غير متبادر، مع أنه من الافراد الحقيقية، لا المجازية،
لعدم
صحة السلب، مع أنه من المسلمات.
ويمكن أن يقال: التبادر على صورتين:
الأولى: انه هو المراد لا غير وأنه المعنى ليس إلا، وهذا علامة كون
المعنى بهذا النحو حقيقة، فيكون عدم هذا التبادر علامة المجاز.
والثانية: تبادر الفرد الشائع من الافراد، لا أنه المعنى الحقيقي ليس
324

إلا، بل غير الشائع في محل الشك، فعدم التبادر بهذا المعنى ليس
علامة المجاز، لكن هذا لا يخلو عن إشكال ظاهر.
وأولى من هذا أن يقال: عدم التبادر علامة المجاز إن لم يمنع مانع مثل
أنه ثبت من الواضع نص على كونه حقيقة، ومثل عدم صحة
السلب، وغير ذلك.
واعلم أن تبادر كل قوم علامة الحقيقة في اصطلاحهم فقط، فلو كان
يتبادر من كلام اللغة مثلا معنى في عرفنا فلا يدل على أنه حقيقة لغة،
بل حقيقة في عرفنا.
نعم لو لم نجد له معنى حقيقيا سواه فالأصل عدم التعدد، فيكون
معنى حقيقيا لغويا أيضا. وإن وجد له معنى حقيقي آخر فلا ينفع
التبادر
لاثبات غير عرفنا. ومن لم يفرق بين المقامين وقع منه خلط، فلا
يعرف الاصطلاحات الحادثة، ولا يفرق بينها وبين اصطلاحات زمان
المعصوم عليه السلام وغيرها من الاصطلاحات القديمة، ويخبط
خبطا كثيرا كما مر الإشارة إليه.
الثالثة: صحة السلب للمعنى المجازي، وعدمها للمعنى الحقيقي و
هذه أيضا بالنسبة إلى عرفنا كسابقتها.
وأورد عليها أنه إن أريد صحة سلب جميع المعاني فهو فاسد، وإن
أريد المعنى الحقيقي، ففيه دور واضح.
والجواب عنه: أنا نريد سلب ما يستعمل فيه اللفظ المجرد من القرينة
وما يفهم منه كذلك عرفا، إذ لا شك في أنه يصح عرفا أن يقال
للبليد: إنه ليس بحمار، ولا يصح أن يقال: ليس برجل أو ببشر أو
بإنسان. والحاصل أن الصحة العرفية وعدمها العرفي أمارتان.
325

الرابعة: الاطراد للحقيقة، وعدم الاطراد للمجاز، فإنه يقال: (اسأل
القرية)، ولا يقال: (اسأل البساط)، بخلاف (اسأل زيدا وعمرا) وهكذا
كل من يكون قابلا للسؤال عنه حقيقة. وعدم إطلاق السخي والفاضل
على (الله): إما من جهة أن أسامي الله تعالى توقيفية، أو من جهة
أنهما موضوعان لمن هو من شأنه البخل أو الجهل. وكذا الكلام في
القارورة، فإنه منقول إلى ما هو مقر، ويكون زجاجا.
ثم اعلم أن من ليس له معرفة بأصول الفقه لا يميز الحقيقة من المجاز،
فيخرب تخريبا كثيرا في الفقه، وربما لا يميز اصطلاحا من
اصطلاح، فيخرب أيضا كما أشرنا.
ومن جملة ذلك أنه ربما يرون اصطلاحا وتعريفا من فقيه، فيتوهمون
أنه اصطلاح المعصوم عليه السلام والراوي، ولا يدرون أنه
اجتهاد منهم في حكم الشارع، لا في معنى لفظ الشارع، وظهور
اصطلاح منه أو الراوي.
مثلا يرون أنهم يعرفون البيع: بأنه إيجاب وقبول كذا وكذا، فيتوهمون
أنه بحسب اصطلاح الشارع كذا، والحال أنه غلط، لان الشارع
ما غير الاصطلاح في البيع وأمثاله على ما هو عند الفقهاء، لأصالة
العدم وبقاء ما كان على ما كان، وللتبادر، وغيره من الامارات.
مضافا إلى اتفاق الجميع، ولذا يشرعون في إثبات قيود التعريف، وإن
كان يقولون بثبوت الحقيقة الشرعية.
وربما يحصل بينهم نزاع مثلا يقول (العلامة): (الربا بيع المثلين بمثل)،
وباقي الفقهاء يقولون: (معاوضة المثلين بمثل)، وهكذا في كثير
من المواضع، ولا يخفى على المتتبع الماهر الفطن.
وربما يتوهم: أنه اصطلاح المتشرعة، فيكون على القول بثبوت
الحقيقة
326

الشرعية يرجع إلى اصطلاح الشارع، وعلى القول بعدمه بمجرد
القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي يرجع إليه كما أشرنا سابقا ولا
يدري أنه ليس اصطلاح المتشرعة، بل اصطلاح الفقيه في كتبه
الفقهية، وربما كان اصطلاح فقيه واحد، واصطلاح المتشرعة
اصطلاح
جميعهم: من الفقهاء والعوام من جميع المسلمين، مثل الوضوء و
الصلاة.
ومن التوهم المذكور يتوهم أن القيود داخلة في الماهية، لا أنها شروط
في الصحة، فيصدر منه التخريب والمفسدة، ومن هذا القبيل أن
الفقهاء ربما يذكرون معنى للحديث اجتهادا أو تأويلا جمعا بين الأدلة،
فيتوهم أنه المعنى الحقيقي ومؤدى الحديث الواقعي فيقلدون و
يخربون.
وأشد من هذا: أنهم بمجرد الاستعمال المعلوم من جهة القرينة
يحكمون أن المستعمل فيه حقيقة، زعما منهم: أن الأصل في
الاستعمال
الحقيقة. وقد عرفت فساده، وعرفت الحق والمختار. نعم بعض
القدماء جعل هذا الأصل من جملة أمارات الحقيقة، لكن في موضع لا
يكون
فيه أمارة المجاز، وعرفت فساد هذا أيضا.
والذي لم يعرف أصول الفقه ربما يحكم بالحقيقة من جهة هذا الأصل
وإن كان في موضع يكون فيه أمارة المجاز بل وأماراته.
وربما يحكم بعدم الحقيقة في موضع يكون فيه أمارات الحقيقة، بل
ربما يجعل ما وجده في الحديث من معنى لفظ فهمه من القرينة معنى
حقيقيا في عبادة أي شخص يكون مثلا، إذا وقف شخص شيئا على
ساكن حول قبره يحكمون بأن حد (الحول) خمسة فراسخ، لما ورد
في قبر (الحسين عليه السلام)،
327

أو اثنا عشر لما ورد في مكة. (1)
وربما يشمئزون إن سمعوا أن الحقيقة الشرعية غير ثابتة، والحقيقة
اللغوية أو العرفية ثابتة، بأن الشرع كيف يصير أسوأ حالا من اللغة
أو العرف؟ وإنما تعرضنا لهذه الأمور بل وكررنا تنبيها للغافل، و
توضيحا للجاهل.
وبالجملة لا بد للمجتهد من معرفة الاصطلاحات التي هي حجة من
الاصطلاحات التي ليست بحجة، ومعرفة وجه الحجية. مثلا يعرف أن
التبادر في عرفنا علامة الحقيقة فيه، لان الدلالة منحصرة في القرينة أو
الوضع، وحيث لم يكن قرينة وحصل الفهم علم الوضع، ويعلم أنه
في اصطلاح المعصوم عليه السلام أيضا كذلك في موضع لم يكن
للفظ معنى حقيقي سوى هذا، لأصالة عدم التغير وغيرها.
ومرادنا من الوضع هنا ما هو أعم من تخصيص مخصص واحد و
التخصيص الحاصل من غلبة الاستعمال، فإن الحقائق العرفية وغيرها
من المنقولات وضعها من قبيل الثاني، لان الظاهر أنه ليس لها
مخصص خاص،

(1) هذا الكلام إشارة إلى المسافة المعتبرة لأهل مكة لسقوط المتعة
عنهم وهي اثنا عشر ميلا والظاهر لم يرد نص بهذا التحديد بل
استفيد من رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت لأبي جعفر
عليه السلام قول الله عز وجل في كتابه (ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام) قال يعني أهل مكة ليس عليهم متعة كل من
كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا ذات عرق وعسفان كما يدور
حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية وكل من كان أهله وراء ذلك
فعليهم المتعة) فالثمانية والأربعون ميلا موزعة على أربعة جهات
كما صرح به الشهيد الثاني في الروضة 2: 204. الوسائل 8: 187 الباب
6 من أبواب أقسام الحج، الحديث 3.
328

ولذا ربما يعبرون عنها بالاشتهار في الثاني كما فعله في (المعالم) و
(تهذيب المنطق).
وكيف كان، مرادنا من الحقيقة: ما يتبادر من اللفظ العاري عن القرينة،
وهو المعتبر فأما أن يكون لها مخصص خاص أم لا فلا عبرة به
أصلا.
ومما ذكر ظهر اللهم في صحة السلب وعدمها.
وأما عدم الاطراد فلكونه من خواص المجاز على ما وجد من
الاستقراء.
329

الفائدة الخامسة والثلاثون [المشتق]
إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة، وقد مر أدلته.
وكذا إذا دار بينها وبين الاضمار لأصالة عدمه.
وكذا إذا دار بينها وبين الاشتراك لأصالة عدم تعدد الوضع و
الموضوع له.
وكذا إذا دار بينها وبين النقل.
وأما إذا دار بين المجاز والاشتراك، فالمجاز خير من الاشتراك لأصالة
عدم تعدد الوضع، ولغلبة شيوع وجود المجاز، ونهاية ندرة
الاشتراك.
وكذا إذا دار بين المجاز والنقل.
وكذا إذا دار بينه وبين الاضمار، فإنه لا يخلو عن رجحان ما.
331

وأما إذا دار بينه وبين التخصيص فالتخصيص راجح لنهاية شيوعه،
حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خص).
وكذا إذا دار بينه وبين غير المجاز سوى الحقيقة.
ثم اعلم أن المشتق إذا دار بين أن يكون مبدؤه متحققا أو لم يتحقق بعد
- كالمثمر لما يثمر بعد - فالثاني مجاز اتفاقا، فهو خلاف الأصل
لا يصار إليه إلا بالقرينة.
وأما الأول: فإن كان حين وجود المبدأ فحقيقة اتفاقا، وإن كان بعده
ففيه مذاهب:
فإذا دار بينهما، فقيل: بتعين الأول وكون الثاني مجازا. وقيل: بعدم
التفاوت بينهما أصلا لكون المشتق حقيقة عنده فيما تحقق مبدؤه
أعم من أن يكون باقيا أو ذاهبا. ويحتج: بأن المؤمن مثلا يصدق على
النائم والغافل حقيقة قطعا، كما كان القائل بالمجازية يستدل بأن
الكافر الذي أسلم ليس بكافر حقيقة، وكذا العنب الحلو ليس بحامض،
والتمر ليس بأخضر، إلى غير ذلك.
وقيل: بتخصيص الدعوى بما إذا لم يطرأ على المحل ضد المبدأ - أي
ما يعد ضدا له -، كالايمان بالنسبة إلى الكفر، والحلاوة بالنسبة
إلى الحموضة، وهكذا. وادعى اتفاق القائلين بالحقيقة على ذلك، فلا
يرد عليهم الايرادات، إلا أن الكلام في ثبوت الدعوى على أن صدق
المؤمن على النائم - مثلا - لعله من اصطلاح الشرع، ولا مشاحة، مع
أنه يمكن أن يكون المبدأ في الخزانة، وأنه يكفي.
واستدل عليه أيضا: بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة، وعدم كونه
مجازا.
332

وفيه: أن هذا إنما يتم على القول بأنه حقيقة في القدر المشترك كما
نقلناه، وهو الظاهر من كلام جماعة. وأما لو قيل: بالاشتراك لفظا
- كما قيل:
أنه الظاهر من كلام بعض - فلا، لان المجاز خير من الاشتراك، ومع
ذلك نقول: يلزمهم المجاز لو استعمل في خصوص الفردين، لأنه
استعمال في غير ما وضع له. وما اشتهر من أن استعمال لفظ الكلي في
الفرد حقيقة، إنما هو في ما إذا استعمل في القدر المشترك و
يراد الخصوصية من القرينة، فيكون هناك دالان على مدلولين، كما
حقق في محله.
مع أن استعمال المشتق في خصوص الفرد الذي هو حين وجود المبدأ
حقيقة وفاقا كما نقل، بل الظاهر أنه لا تأمل فيه، وكيف يجوز أحد
أن يكون إطلاقه بملاحظة وجود المبدأ فيه مجازا؟ هذا مع كون الأصل
في الاستعمال الحقيقة بهذا المعنى محل نزاع كما حققناه سابقا.
وربما يتوهم من تفسير مثل الضارب بذات ثبت له الضرب، و
المضروب بذات وقع عليه الضرب، كونه حقيقة في الماضي.
وليس بشئ، لان معنى الضارب والمضروب معنى بسيط، واللفظ
مفرد، بخلاف المفسر فإن المعنى مركب، وكذا اللفظ بتركيبين، و
الأول صورة واحدة، والثاني صور متعددة. وبالجملة: المسألة
مشكلة، ولذا توقف جماعة. وهنا مذاهب أخر: منها: الفرق بين
المشتق
بمعنى الثبوت، وبمعنى الحدوث بأن الأول حقيقة دون الثاني.
ومنها: إن كان المبدأ ممكن البقاء فمجاز، وإلا فحقيقة، مثل التكلم.
ومنها الفرق بين ما إذا وقع محكوما عليه فحقيقة مطلقا، أو محكوما به
ففيه النزاع، فتأمل.
333

الفائدة السادسة والثلاثون [في ذكر شرائط الاجتهاد على سبيل
الاجمال]
وهي معرفة العلوم اللغوية، لأنه إن لم يعرفها فربما يزل، فيضل و
يضل، وخطؤه ليس مثل خطأ المجتهد، لما عرفت من الدليل على
عدم
ضرورة، وأن خطأ غير المجتهد ليس بمعذور.
وأثبتنا شرطية هذه العلوم في رسالتنا في الاجتهاد مشروحا، وكذا
دفع الشكوك التي أوردوها لنفي الحاجة إليها، وأظهرنا
شناعتها.
335

ومن الشرائط معرفة العرف العام والخاص الذي هو حجة في الفقه، و
ربما يدخل في ذهن المجتهد بعض الشبهات فيصير ذهنه مئوفا
في معرفة العرف، مع أنه من جملة العرف، ولا يفهم مثلهم لتطرق
الشبهة، فاللازم عليه أن يرجع في ذلك إلى غيره من الجماعة الذين لم
يتطرق إلى أذهانهم شبهة، ومن لم يتفطن بما ذكرناه يخرب كثيرا في
الفقه.
ومن الشرائط الكلام، لتوقفه على معرفة أصول الدين، وأن الحكيم لا
يفعل القبيح، ولا يكلف ما لا يطاق، وأمثال ذلك بالدليل، وإلا
لكان مقلدا.
ومن الشرائط المنطق، لشدة الاحتياج إلى الاستدلال في الفقه، وفي
العلوم التي هي شرط في الاجتهاد لان الجميع نظريات، وكل واحد
منها مجمع شكوك وشبهات لا تحصى، ولا يتم الاستدلال في أمثال
هذه إلا بالمنطق.
ومن الشرائط أصول الفقه، والحاجة إليه من البديهيات كما صرح به
المحققون وكل واحدة واحدة من الفوائد التي ذكرناها تنادي
بأعلى صوتها بالاحتياج إليه من وجوه متعددة، وتنادي أيضا بخطر
الجهل فيه، وضرر الغفلة، بل شدة الخطر وعظم الضرر. بل وإنه
الميزان في الفقه، والمعيار لمعرفة مفاسده، وأعظم الشرائط، وأهمها
كما صرح به المحققون الماهرون الفطنون الذين ليسوا بجاهلين
ولا غافلين ولا مقلدين من حيث لا يشعرون. وبسطنا الكلام في
الرسالة في إظهار شنائع الشكوك المخالفة للبديهة، بل بينا أن هذا
336

العلم ليس بحادث، بل كان في زمان المعصوم عليه السلام ومن أراد
الاطلاع فليرجع إلى الرسالة. ومن الشرائط العلم بالأحاديث
المتعلقة بالفقه. ومن الشرائط العلم بالتفسير. ومن الشرائط معرفة فقه
الفقهاء وكتب استدلالهم:
وكونه شرطا غير خفي على من له أدنى فطانة، إذ لو لم يطلع عليها
رأسا لا يمكن الاجتهاد والفتوى، وإن كان ما ذكرنا ربما يخفى
على الغافل المطلع على كتب فقه الفقهاء واستدلالهم الذي لا يدري
من أين حصل له.
ومن الشرائط معرفة الرجال، للوثوق بالسند من حيث العدالة أو
الانجبار، أو لأجل الترجيح، فظهر وجه الحاجة مما أسلفناه وبيناه
مشروحا في الرسالة.
ومن الشرائط، القوة القدسية، والملكة القوية وهو أصل الشرائط، لو
وجد ينفع باقي الشرائط وينتفع من الأدلة والامارات والتنبيهات،
بل وبأدنى إشارة يتفطن بالاختلالات وعلاجها، بل بأدنى توجه من
النفس يتفطن بالاحتياج إلى الشرائط، ويدري أنها لعلاج
الاختلالات، وأن العلاج لا بد منه، وأنه منحصر في الشرائط، ولو لم
يوجد لم ينفع تنبيه للبديهيات، ولا دليل للنظريات، كما نشاهد
الان. واعلم أن هذا الشرط يتضمن أمورا:
الأول: أن لا يكون معوج السليقة، فإنه آفة للحاسة الباطنة، كما أن
الحاسة الظاهرة ربما تصير مئوفة مثل: أن يكون بالعين آفة تدرك
الأشياء بغير ما هي عليه، أو بالذائقة أو غيرهما كذلك. والاعوجاج:
ذاتي - كما ذكر - وكسبي، باعتبار العوارض مثل: سبق تقليد، أو
شبهة أعجبته غفلة، فإن الحاسة تصير حينئذ مئوفة كالأول. ونظيره
نظير عين لاحظت الخضرة أو الصفرة إلى أن تأثرت، فبعد هذا كل
شئ تراه أصفر أو أخضر مثلا، والذائقة ربما صارت مرا بالعوارض، و
كل شئ تذوق تجده مرا، وقس
337

عليهما سائر الحواس.
وطريق معرفة الاعوجاج: العرض على أفهام الفقهاء و اجتهاداتهم فإن
وجد فهمه واجتهاده وافق طريقة الفقهاء، فليحمد الله، ويشكره،
وإن وجده مخالفا فليتهم نفسه، كما أن من رأي الأشياء خضرا - فيقول
له أولو الابصار السليمة: ليس فيها خضرة - يجزم بأن عينه
مئوفة مغشوشة.
لكن ربما يلقي الشيطان في قلوبهم: أن موافقة الفقهاء تقليد لهم، وهو
حرام ونقص فضيلة، فلا بد من المخالفة حتى يصير الانسان
مجتهدا فاضلا.
ولا يدري أن هذا غرور من الشيطان، وأن حاله حينئذ حال ذي العين
المئوفة، أو الذائقة المئوفة، أو غير ذلك حين ما قالوا له: ليس
هاهنا خضرة أو مرارة أو غير ذلك، فيقول لهم: أنا أرى خضرة ولا
أقلدكم فأفعل الحرام، وتكونون أفضل مني.
الثاني: أن لا يكون رجلا بحاثا، في قلبه محبة البحث والاعتراض و
الميل إليه، متى ما سمع شيئا يشتهي أن يعترض: إما حبا لاظهار
الفضيلة، أو انه مرض قلبي كالكلب العقور، كما نشاهد الحالين في كثير
من الناس، ومثل هذا القلب لا يكاد يهتدي، ولا يعرف الحق من
الباطل بل ربما رأينا بعض الفضلاء الزاهدين البالغين أعلى درجة
الفضل والزهد فسد عليه بعض أصول دينه، فضلا عن الفروع بسبب
هذه الخصلة الذميمة.
الثالث: أن لا يكون لجوجا عنودا، فإنا نرى كثيرا من الناس - إذا حكموا
بحكم في بادي نظرهم، أو تكلموا بكلام غفلة أو تقليدا، أو من
شبهة سبقت إليهم - أنهم يلجون، ويكابرون، ومن قبيل الغريق
يتشبثون بكل حشيش، للتتميم والتصحيح، وليس همتهم متابعة
الحق،
بل جعلوا الحق تابع قولهم.
338

وهذا أيضا كسابقيه لا يهتدي، بل ربما ينكرون البديهي، ويدعون
خلاف البديهي.
هذا حالهم في البديهيات فما ظنك بالنظريات القطعية، فضلا عن
الظنية، فان الظن قريب من الشك والوهم وبأدنى قصور أو تقصير
يخرب، سيما الظنيات التي وقع فيها اختلالات من وجوه متعددة،
يحتاج رفعها وعلاجها إلى شرائط كثيرة.
الرابع: أن لا يكون في حال قصوره مستبدا برأيه، فإنا نرى كثيرا من
طلاب العلم في أول أمرهم في نهاية قصور الباع وفقدان الاطلاع،
ومع ذلك يستبدون بهذا الرأي القاصر الجاهل الغافل، فإذا رأوا كلام
المجتهدين ولم يفهموا مرامهم - لقصورهم وفقد اطلاعهم -
يشرعون في الطعن عليهم:
بأن ما ذكرتم من أين؟ وكلما لا يفهمون، ينكرون، بل ويشنعون
عليهم، ولا يتأملون أن الانسان في أول أمره قاصر عن كل علم، وكذا
عن كل صنعة، وكذا عن كل أمر جزئي سهل، فضلا عن الأمور الكلية
العظام المشكلة، وأنه ما لم يكد ويجد في الطلب والتعب في
تحصيل ذلك الجزئي لم يحصل له، فكيف يتوقع درك الأمور المشكلة
العظيمة، والوصول إلى مرتبة المحققين المجتهدين؟ مع أنه لم يتهم
بعد رأيه القاصر، ولم يهتم بتحصيل ما يخالف فهمه القاصر، ولم
يدر (أن من طلب شيئا وجد وجد)، و (من قرع بابا ولج ولج)،
ولا ينظر إلى أنه في حال تعلم الصنعة السهلة، أو الامر
339

الجزئي، إذا لم يعتقد بإسناده، ولم يسلم بأمره وقوله، ويستبد برأيه لا
يحصل له ذلك الجزئي أبدا، ويكون في مرتبة قصوره باقيا
دائما. هذا حال الطلبة، وأما المجتهد فهو أيضا لا بد من أن لا يستبد
برأيه بمجرد أول نظرة، بل يتردد، ويتأمل.
الخامس: أن لا يكون له حدة ذهن زائدة، بحيث لا يقف ولا يجزم
بشئ مثل أصحاب الجربزة. (1)
السادس: أن لا يكون بليدا لا يتفطن بالمشكلات والدقائق، ويقبل
كلما يسمع، ويميل مع كل قائل، بل لا بد فيه من حذاقة وفطنة،
يعرف
الحق من الباطل، ويرد الفروع إلى الأصول، ويدري في كل فرع يوجد
ويبتلى به أنه من أي أصل يؤخذ ويجري مسائل أصول الفقه في
الآيات والاخبار وغيرهما، ويدري موضع الجريان وقدره وكيفيته.
السابع: أن لا يكون مدة عمره متوغلا في الكلام، أو الرياضي، أو
النحو، أو غير ذلك مما هو طريقته غير طريقة الفقه، ثم يشرع بعد ذلك
في

(1) الجربز والقربز معربان عن (كربز) الفارسية كما في القاموس و
شرحه وهما بمعنى واحد هو: الخب - ضد الغر - وهو الخداع
المفسد - لسان العرب مادة: جربز وخبب - هذا أصل الجربزة في
اللغة، ولكن لها في اصطلاح علماء الأخلاق معنى آخر - له صلة
بالمعنى اللغوي - وهو: صفة من رذائل القوة العاقلة في جانب
الافراط موجبة لخروج الذهن عن الاستقامة والاستقرار على شئ،
بل لا
يزال يستخرج أمورا دقيقة غير مطابقة للواقع، ويتجاوز عن الحق، ولا
يستقر عليه، وربما أدى في العقليات إلى الالحاد وفساد
الاعتقاد بل إلى نفي حقائق الأشياء كما في السوفسطائية وفي
الشرعيات إلى الوسواس. (جامع السعادات للنراقي رحمه الله ج 1
ص
100، بتصرف).
340

الفقه، فأنه يخرب الفقه بسبب أنس ذهنه بغير طريقته، وألف فهمه
بطريقة الكلام وأمثاله، كما شاهدنا كثيرا من الماهرين في العلوم
من أصحاب الأذهان الدقيقة السليمة أنهم خربوا الفقه من الجهة التي
ذكرناها.
الثامن: أن لا يأنس بالتوجيه والتأويل في الآية والحديث إلى حد
يصير المعاني المؤولة من جملة المحتملة المساوية للظاهر المانعة عن
الاطمئنان به، كما شاهدنا من بعض، ولا يعود نفسه بتكثير
الاحتمالات في التوجيه، فإنه أيضا ربما يفسد الذهن.
التاسع: أن لا يكون جريئا غاية الجرأة في الفتوى، كبعض الأطباء الذين
هم في غاية الجرأة، فإنهم يقتلون كثيرا بخلاف المحتاطين
منهم.
العاشر: أن لا يكون مفرطا في الاحتياط، فإنه أيضا ربما يخرب الفقه،
كما شاهدنا كثيرا ممن أفرط في الاحتياط، بل كل من أفرط فيه لم
نر له فقها، لا في مقام العمل لنفسه، ولا في مقام الفتوى لغيره.
واعلم أيضا أن علم المعاني والبيان والبديع، والحساب، والهيئة، و
الهندسة والطب من مكملات الاجتهاد. وجعل جمع علم المعاني و
البيان من شروط الاجتهاد مثل: السيد المرتضى والشهيد الثاني و
الشيخ أحمد بن المتوج البحراني، بل الأخيران عدا علم البديع
أيضا من الشرائط. وقد أشرنا إلى أنه ربما يحصل العلم من جهة
الفصاحة والبلاغة بكون الكلام عن
341

الإمام عليه السلام، فمن هذه الجهة ربما يكون لهما مدخلية في
الاشتراط، بل البديع أيضا.
وأما الهيئة فبعض مسائله ربما يكون شرطا، أيضا مثل: ما يتعلق
بالقبلة، وكون الشهر ثمانية وعشرين يوما بالنسبة إلى بعض
الأشخاص والقدر الذي هو شرط من جميع العلوم المذكورة هو
الذي يندفع به الضرورة، وإن كان لا يحصل إلا بعد الاطلاع على
الجميع من كل واحد واحد منها، لكن اطلاع في الجملة من دون
حاجة إلى المبالغة والاكثار وصرف العمر الكثير في تحصيل المهارة
التامة كما لا يخفى.
342

خاتمة [خطورة طريق الاجتهاد]
قد عرفت ضرر عدم معرفة شرائط الاجتهاد، وعدم مراعاتها، والخطر
الشديد الذي فيها، لكن في معرفة تلك الشرائط خطر أيضا لا بد
من عدم الغفلة عنه، وحفظ النفس عنه، وذلك الخطر من وجوه:
الأول: أنه - من شدة الانس بها، والاستناد إليها والاعتماد عليها -
ربما يغفل عن قرائن الحديث غافل، ولا تنجلي له سيما إذا كانت
خفية.
مثلا: حقق في أصول الفقه أن مفهوم الوصف ليس بحجة، وفي كثير
من الاخبار يظهر اعتبار ذلك المفهوم باعتبار خصوصية المقام،
فالغافل يعترض عليه: بأنه مفهوم الوصف، وهو ليس بحجة - على ما
هو محقق في
343

الأصول - سيما إذا كانت القرينة لم تكن بذلك الجلا، إذ قد عرفت أن
تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، والاشعار موجود على أي
حال، فإذا تقوى ذلك الاشعار بخصوصية مقام يحصل القدر المعتبر
من الظهور، وإن كان الاشعار لا يكفي لو لم يكن القوة. وبالعكس
إلا أنه بانضمامهما معا حصل الكفاية، بل ربما يجد القرينة في غاية
الظهور، ومع ذلك يعترض ذلك الاعتراض.
مثل: ما ورد في صحيحة الفضيل في غاية خيار الحيوان، فإنه قال له:
قلت: ما الشرط في الحيوان؟ فقال: (ثلاثة أيام للمشتري)، فقلت:
ما الشرط في غير الحيوان؟ قال: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا).
وهذا كالصريح في تخصيصه بالمشتري، ومع ذلك يعترض: بأن
دلالته بمفهوم الوصف، وهو ليس بحجة.
وقس على ذلك سائر القواعد الأصولية، وكذا القواعد النحوية، أو
الصرفية، أو غيرهما.
الثاني: انه بعد ما عرف علما من تلك العلوم، ربما يعجبه التكرار و
الاكثار في المعاودة، والمباحثة، وتحصيل المهارة الكاملة، وربما
يتوهم لزوم ذلك إلى أن يصرف عمره فيه، ولذا ترى غالب الطلبة لا
يبلغون درجة الاجتهاد بل يموتون، وغاية ما يصل إليه آحادهم أنه
نحوي، أو صرفي، أو منطقي، أو كلامي، إلى غير ذلك، فيصرف تمام
عمره في تحصيل مقدمة من مقدمات ذي المقدمة.
مع أن الفقه أيضا مقدمة للعبادة التي خلق لأجلها فيضيع عمره،
344

ويصرفه في غير مصرفه.
وأعجب من هذا أنهم يصرفون عمرهم في الرياضي والحساب، و
أمثال ذلك، ويعتذرون أنه ربما يكون له نفع للفقه. وربما يشرعون
في الفقه في أواخر عمرهم، وبحسب العادة يصعب حصول معرفة
صنعة، أو علم في أواخر العمر، وسيما إذا تشوش الذهن بسبب أنسه
بالاحتمالات والاعتراضات الحكمية والكلامية وغيرها، ولذا ربما
يتكلمون بكلمات يشمئز منها الفقيه غاية الاشمئزاز. ولعدم أنسهم
بطريقة الفقاهة يعترضون على أدلة الفقه بأي احتمال يكون، فلا يكاد
يثبت عندهم مسألة فقهية، ومدارهم في عملهم، وفتواهم لغيرهم
على قول الفقهاء، وعدم الخروج عنه.
وأيضا لا بد من صرف مدة من العمر في تهذيب الأخلاق، لما عرفت
من اشتراط القوة القدسية. ولأن (العلم نور يقذفه الله في قلب من
يشأ) (1) سيما الفقه، والنور لا يقذف في قلب ردي، مع أنه لو قذف
فنعوذ بالله من العالم الردي، فإنه شر الناس بعد (فرعون) و
(شداد) وفلان وفلان، وإنه من الصادين عن سبيل الله، وقطاعي
الطريق إليه تعالى.
وصرف العمر فيما ذكر من العلوم يمنع عن التهذيب، بل وربما يورث
القساوة كما ورد في الحديث في معرفة النحو، ونشاهد في
غيرها، مع أن تهذيب الأخلاق من أوجب الأشياء كما لا يخفى.

(1) لم نعثر على هذا الحديث بهذا اللفظ في الجوامع الحديثية حسب
فحصنا والذي ظفرنا عليه ما هو لفظه: ليس العلم بالتعلم انما هو نور
يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى ان يهديه راجع البحار 1:
225، ذيل الحديث 17. وكذا نقل في كنز العمال بهذا النص (علم
الباطن سر من أسرار الله عز وجل وحكم من حكم الله يقذفه في
قلوب من يشأ من عباده) راجع كنز العمال 10: 159 حديث
28820.
345

والله الهادي إلى طريقه، ولا يحصل الهداية إلا بالارشاد وتوفيقه و
إليه حسن ألم آب.
تم هذا الكتاب المستطاب من تأليفات المحقق المدقق مولانا آغا
محمد باقر المسمى ب (الفوائد الحائرية) في يوم الاثنين، العشرين
من
شهر ربيع الأول، سنة الف ومائتين واثنتين وأربعين سنة 1242.
وصلى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين وآله المعصومين، و
الحمد لله رب العالمين.
346

الفوائد الجديدة
347

(الفوائد الجديدة) وهي في الحقيقة تعتبر ملحقات لفوائده الحائرية
القديمة وتشتمل على مسائل أصولية مختلفة من: تأخير البيان عن
وقت الخطاب، والحسن والقبح العقليين، والتكليف بالمجمل، و
أصالة البراءة، والجمع بين الخبرين المتعارضين وغيرها من سائر
البحوث الأصولية التي لم يتعرض لبعضها في الفوائد الحائرية القديمة
وقد بينها في ضمن خمس وثلاثين فائدة.
349

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، وصلى
الله على محمد وآله أجمعين رب وفق واهد وأنفع فيقول الأقل
الأذل محمد باقر بن محمد أكمل عفا عنهما بمنه وكرمه.
350

فائدة 1 [في إخلال ما يثبت جزئيته أو شرطيته للعبادة]
إذا ظهر - من فعل الشارع أو قوله المطلق - أن شيئا جز العبادة،
فالأصل كونه ركنا تبطل العبادة بتركه عمدا أو سهوا أو جهلا، إلا
يثبت خلافه، بأنه لا يضر في بعض الصور. وكذا تبطل بزيادته حيث أن
الجز لم يكن بهذه الزيادة، إلا أن يثبت عدم الضرر كذلك.
والدليل واضح، لان مع الاخلال لم يأت بالمأمور به على وجهه، فلا
يكون ممتثلا، ولا نعني بالبطلان إلا ذلك. ومثل الجز الشرط، و
الدليل الدليل.
فظهر فساد ما طعن بعض الغافلين أو القاصرين على الفقهاء في ذكرهم
الأركان وأحكامها، وكذا أحكام الشروط.
351

[فائدة 2 في مناط كون الحكم تقية]
اعلم أن كون الحكم تقية إنما هو إذا كان موافقا لمذهب العامة كلهم أو
بعضهم، على ما هو المعروف من الأصحاب القدماء والمتأخرين.
إلا أنه توهم بعض الأخباريين فجوز كونه تقية، وإن لم يكن موافقا
لمذهب أحد من العامة، بل لمجرد تكثير المذهب في الشيعة، كي لا
يعرفوا، فيؤخذوا ويقتلوا.
وهذا التوهم فاسد من وجوه:
الأول: إن الحكم إذا لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامة يكون رشدا
وصوابا، لما ورد في الاخبار: (فإن الرشد في خلافهم)، وفيما
لم يذهبوا
353

إليه، فكيف يكون مثل هذا تقية؟ لان المراد من الرشد والصواب ما
هو في الواقع رشد وصواب، لا من جهة التقية ودفع الضرر، وإلا
فجميع ما ذهب إليه العامة يصير رشدا وصوابا. وأيضا إذا كان رشدا و
صوابا فلم حكمت بأنه تقية، ومخالف لمذهب الشيعة.؟ الثاني: إنه
غير خفي على من له أدنى اطلاع وتأمل أن العامة بأدنى شئ كانوا
يتهمون الشيعة بالرفض، وأذيتهم للشيعة إنما كانت بالتهمة غالبا،
وهذه كانت طريقتهم المستمرة في الأعصار والأمصار، فكيف يكون
الحال إذا رأوا أنهم يفعلون فعلا لا يوافق مذهبا من مذاهبهم ولا
يقول به أحد منهم؟ إذ لا شبهة في أنهم كانوا يتهمون بذلك، بل بمثل
ترك التكتف في الصلاة كانوا يتهمون، مع أنه مذهب مالك رئيسهم
الأقدم الأعظم في ذلك الزمان وغيره.
والأئمة عليهم السلام كانوا يأمرون بمثل التكتف (1) وأدون منه كما لا
يخفى على متتبع الاخبار، وكانوا يبالغون في احترازهم عن
أسباب التهمة، فكيف كانوا يأمرون بما لم يوافق مذهبا من مذاهبهم.
بل غير خفي أن العامة ما كانوا مطلعين على مذهب الشيعة في ذلك
الزمان من الخارج إلا نادرا، وكانوا كلما يرون مخالفا لمذهبهم
يعتقدون أنه مذهب الشيعة، ويبادرون بالأذية، وما كانوا يصبرون إلى
أن يروا ما يخالف

(1) منها ما ورد في رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام:
قال قلت له أ يضع الرجل يده على ذراعه في الصلاة؟ قال: (لا
بأس.). إلخ. راجع مستدرك الوسائل 5: 421 الباب 14 من أبواب
قواطع الصلاة.
354

ذلك منه أو من غيره من الشيعة، مع أن رؤيته من غيره كيف تنفع؟ هذا
سيما إذا كان موافقا لمذهب أهل السنة كلهم أو بعضهم، بل لو كان
الكل مخالفا لمذهبهم ورأوه منه لا ينفع، لان الكل خلاف الحق
عندهم، وهم ربما كانوا يؤذون من هو سني عندهم جزما بمخالفته
للحق، فكيف غيره؟ الثالث: إن الحق عندنا واحد، والباقي باطل،
(فما ذا بعد الحق إلا الضلال)، وفي المثل: (الكفر ملة واحدة) فأي
داع إلى مخالفة التقية، وارتكاب الخطر الذي هو أعظم لأجل تحقق
التقية التي هي أخف وأسهل؟ فتأمل.
الرابع: أن التقية اعتبرت لأجل ترجيح الخبر الذي هو الحق على الذي
ليس بحق ورشده على ما يظهر من الاخبار وما عليه الفقهاء في
الأعصار والأمصار - وهذا الفاضل المتوهم أيضا اعتبر ما ادعاه من
التقية التي توهمها لأجل الترجيح، وبنى عليه المسألة الفقهية، فإذا لم
يكن موافقا لمذهب أحد من العامة، فبأي نحو يعرف أنه هو التقية،
حتى يعتبر في مقام الترجيح، ويقال: إن معارضه حق ومذهب
الشيعة؟
فإن قلت: إذا رأينا المعارض مشتهرا بين الأصحاب يحصل الظن بأنه
مذهب الشيعة.
قلت: على تقدير التسليم يكفي مجرد الشهرة، فلا حاجة إلى اعتبار
355

التقية، لأن المفروض ظهور مذهب الشيعة، والشهرة مرجح على
حدة، فعلى هذا لو لم يوجه الخبر الذي توهم منه ما توهم لا يضر.
فتأمل.
ومضمون الخبر: إني أوقعت الخلاف بين شيعتي إذ لو كانوا على
طريقة واحدة لعرفوا وأخذوا.
356

[فائدة 3 هل الغاية داخلة في المغيا، أم لا؟]
قيل نعم، وقيل: لا، وهو الأصوب، لأنها قد تكون داخلة، كقوله تعالى:
من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد تكون خارجة،
كقوله تعالى: أتموا الصيام إلى الليل، وعليه الأكثر. وقيل: بالتوقف.
وقيل: إن كانت من جنس المغيا فداخلة، وإلا فلا.
وربما يظهر من كلام بعض: إذا لم تتميز من المغيا فداخلة.
357

[فائدة 4 تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز]
وقيل: بعدم الجواز مطلقا. وقيل: بعدم الجواز إن كان له ظاهر، وأريد
خلاف ظاهره. والقولان ليسا بشئ كما حقق في محله.
وأما تأخيره عن وقت الحاجة فغير جائز باتفاق جميع العلماء، لأنه
تكليف بما لا يطاق، وإغراء بالجهل، وهما غير جائزين عن الحكيم.
وتوهم بعض الأخباريين فقال: بالجواز زعما منه أنه ورد في بعض
الاخبار جوازه حيث قالوا عليهم السلام: (لا يجب علينا جواب كل ما
تسألون عنا، إن شئنا أجبنا، وإن شئنا سكتنا).
359

ولا يخفى أنه لا تأمل في مدلول هذه الأخبار، لأنهم عليهم السلام إنما
يجيبون على حسب ما رأوا من المصلحة، ولا دلالة فيه على أنه
يجوز التكليف بما لا يطاق، والاغراء بالجهل، مع أن عدم جوازهما
مجمع عليه عند جميع من له من العلم نصيب ثابت بعنوان اليقين من
العقل والكتاب والاخبار والاجماع، فالسائلون لو كانوا مكلفين و
مخاطبين بما سألوا فعدم الجواب حينئذ تكليف بما لا يطاق، وإغراء
بالجهل البتة، وإلا فلا يكون وقت سؤالهم وقت الحاجة، لعدم
الحاجة، ولعدم التكليف والخطاب.
ولا شبهة في أن مراد الفقهاء من الحاجة هي الحاجة الشرعية التي
تكون من جهة الشرع، ولو عمت الحاجة بحيث تشمل العقلية التي
هي
بحسب اعتقاد السائل أيضا، فلا يضر، لان الشرعية - عند القائل بها -
كاشفة عن العقل، فعدم جوابهم دليل على عدم العقلية أيضا.
وبالجملة عدم جوابهم دليل على عدم حاجتهم عند سؤالهم.
360

[فائدة 5 المطلق يرجع إلى العموم بشرطين]
أحدهما: أن لا يكون بعض أفراده شائعا، بحيث ينصرف الذهن إليه
عند الاطلاق، إذ لو كان كذلك لانصرف الذهن إليه خاصة - إن
خاصا فخاص، وإن عاما فعام - وهو الذي يعبر عنه تارة بالعموم
العرفي، وتارة بالعموم الشرعي.
والثاني: أن يكون ذكره لأجل بيان حكم نفسه، من حيث يراد إثبات
عمومه، لا أن يكون مذكورا على سبيل التقريب لبيان حكم آخر
(كقوله تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم فإن ذكره لاظهار حل
361

ما يصيده الكلب، من حيث إنه صاده، لا من حيث الغسل وعدم
الغسل) لان رجوعه إلى العموم إنما هو لئلا يخلو الكلام عن الفائدة،
و
الفائدة هنا متحققة، وإن لم يرجع إليه. فتأمل.
362

[فائدة 6 الحسن والقبح العقليان]
الشيعة والمعتزلة والحكماء والبراهمة وغيرهم من العقلا يقولون
بالحسن والقبح العقليين، سوى الأشاعرة، والظاهر أن إنكارهم
في اللسان، وفي مقام المخاصمة، وإلا فهم في مقام الموعظة، و
تهذيب الأخلاق يصرحون بهما، ويؤكدون، ويبالغون، كما لا يخفى
على من لاحظ كتب الأخلاق، مثل (إحياء العلوم للغزالي)، و
(الفتوحات) و (المثنوي) وغير ذلك، بل في مقام المكالمات و
المخاطبات
أيضا يظهر منهم، ومن لاحظ ما ذكروه في تلك الكتب حصل له اليقين
الكامل بوجودهما، بل وكونهما من مسلمات أرباب
363

بصائرهم أيضا.
مع أنهما من الوجدانيات التي لا خفاء فيها، فإنا كما نجد أن للحواس
الظاهرة منا ملائمات ومنافرات، مثل: أن السمع يلائم الغناء و
الصوت الحسن، وينافر أنكر الأصوات، وقس على هذا سائر
الحواس.
كذا نجد: أن لنا قوى شهوية، وقوى غضبية، وقوى شيطانية، وقوة
قدسية ملكية يعبر عنها (بالقوة العاقلة)، ونجد أن لكل منها
ملائمات ومنافرات، ومقتضيات وجودية أو عدمية، فعلية أو تركية،
بالتفاصيل المذكورة في تلك الكتب في جميع أبوابها، سيما (باب
شرح عجائب القلب)، وأن العاقلة شغلها الامر بالحكمة والمصلحة،
وجميع ما هو حسن، وترك ما هو خلاف تلك الأمور، والتي كلها
قبيح، ومقتضى النفس الامارة بالسوء وجميعها مهلكات، كما أن
مقتضى العاقلة كلها منجيات، بها تحصيل الدرجات، والوصول إلى
عليين، وجنة النعيم، كما أن الأولى، بها تحصل دركات وتنزلات إلى
أسفل السافلين، والنار الجحيم.
وبالجملة من أراد اليقين بالبسط والتفصيل فعليه بملاحظة تلك
الكتب.
وأيضا الأشاعرة يقولون: بحجية القياس، والاستحسان، ولا يتمشى
القول بهما إلا على الحسن والقبح العقليين: أما الاستحسان فظاهر.
وأما القياس فلان (1) الجامع الذي هو شرط وعلة في الحكم ليس إلا
أمرا عقليا يدركه العقل ويحكم به. والأدلة التي يستدلون [بها] على
حجية القياس

(1) في الأصل: (فلان العلة والجامع الذي هو شرط وعلة). والظاهر أن
ما أثبتناه هو الصحيح.
364

ترشد أيضا على الحسن والقبح العقليين.
والآيات القرآنية مثل: ويحل لهم الطيبات وغيرها شاهدة.
على أنا نقول: إذا اطلع العاقلة على أن رجلا مثلا له أولاد صغار أبناء
خمس سنين أو ما قاربه يضربهم ويقهرهم على أن ينكحهم في
دبرهم، فيتمكن من وط دبرهم بعد الضرب الشديد، والجرح، وهم
يستغيثون إليه ويصرخون، ويبكون، ويتضرعون، ولا يتأثر
أصلا ولا يرحمهم مطلقا، بل ينكحهم في أدبارهم مكشوفة جهارا بين
جمع الناس، وروس الاشهاد، ويلح في الوط، حتى يقتلهم واحدا
بعد واحد، ويرمي أجسادهم للكلاب والسباع، أو يفعل جميع ما ذكر
بوالديه وأجداده، أو يأمر آباءه وأولاده وأجداده أن يفعلوا ذلك
به وينكحوه في دبره مكشوفة وجهارا ويقهرهم عليه بضرب شديد و
جرح وتشديد، فإن العاقلة إذا اطلعت على هذه الفحشاء أو
أشد منها فاحشة تنفر منها، وتشمئز، وتنكرها، بل إذا اطلعت على
أدون منها فاحشة، ولو بمراتب لنافرتها، وأنكرتها، فكيف لو
اطلعت عليها، وعلى ما فوقها. ولو اطلعت على أضدادها من
المحاسن للامتها، وآنستها، وانبسطت إليها بالضرورة، مع قطع النظر
عن
شرع أو عرف، أو غيرهما من عادة، أو مصلحة، أو مفسدة.
وأجابوا بمنع كون ذلك بالضرورة، بل بأحد ما ذكر من الشرع أو العرف
أو غيرهما، وبمنع الضرورة في الحسن والقبح بالمعنى
المتنازع فيه،
365

بل بالمعنى الذي لا نزاع فيه: وهو أن الشارع أمر به أو نهى عنه أو أنه
مخالف للعرف أو العادة أو غرض من الاغراض.
وهذا الجواب فاسد بلا شبهة، لان العقل لا منافرة له بالنسبة إلى مثل
ترك الصلاة والحج مما هو قبحه شرعي من بديهيات الدين، ولا
يدرك عقولنا جهة قبحه، على أن البديهة حاكمة بالفرق بين ما ذكر من
الفحشاء والقبائح وبين أضدادها من المحاسن، وكذا بين
الصدق النافع والكذب الضار، فكيف يكون المنافرة من جهة الشرع؟
وكذا لا منافرة له بالنسبة إلى ما خالف العرف إذا كان ملائما
للعقل، وكذا ما خالف العادة إذا كان ملائما للعقل والغرض، ولا شبهة
في هذا أيضا.
سلمنا لكن منافرته من حيث كونه عصيانا للرب تعالى في الشرعيات،
وهو عين المطلوب، إذ المطلوب: أن العقل يحسن، ويقبح، ولا
شك في أنه يقبح عصيان المولى، كما أنه يقبح عصيان كل عبد لما أمر
به مولاه، ونهاه عنه، فأمر المولى ونهيه ليس حسنا وقبحا، بل
علة لتحقق الحسن في الإطاعة، والقبح في المعصية، وكذا الكلام في
مخالفة العرف وغيره، بأن منافرة العقل منه من حيث كونه مخالفة
العرف أو العادة أو الغرض، والعقل لا يرضى بمخالفة ما صار عرفا من
حيث إنه صار عرفا، أو عادة كذلك، أو غرضا كذلك، وإن كان
يرضى (1) بها في صورة تحقق عدم منافرة العقل لها.

(1) أي أن العقل يرضى بمخالفة ما صار عرفا أو عادة أو غرضا وذلك
في صورة نفوره من ذلك.
366

والحاصل: أن المجيب إن سلم أن للعقل ملائمة بواسطة الإطاعة و
الموافقة، ومنافرة بواسطة العصيان والمخالفة فهو عين المطلوب، إذ
المطلوب أنه يلائم الافعال، وينافرها، ويحكم بالحسن والقبح، وإن
كان حكمه بهما يتوقف على وجود علة لتحسينه وتقبيحه. وإن لم
يسلم بل يقول: ليس للعقل إلا أن يدرك أن الفعل حسن وقبيح شرعا
أو عرفا أو غيرهما، يعني المعنى الذي لا نزاع فيه. ففيه: أنه مكابرة
محضة، إذ لا شبهة في أنه ينافر عن القبائح التي أشرنا إليها وما هو أشد
منها قبحا، وأن هذه القبائح ليست عند العاقلة مساوية
للحسنات، سيما ما هو في أعلى درجة الحسن.
مع أنه لو كان حكمه بالحسن والقبح بالمعنى الذي لا نزاع فيه لكان
حين حكمه بالحسن أو القبح مدركا للشرع أو العرف أو غيرهما،
لان المعنى الذي لا نزاع فيه معان إضافية (1) لا يمكن إدراكها بدون
إدراك ما أضيف إليها، مع أنه حين منافرته أو ملائمته لا يدرك
شرعا ولا عرفا ولا غيرهما، فضلا عن أن يدرك مخالفته لها، وسيما
أن يدرك أن حكمه لأجل المخالفة لها، بل حين المنافرة مثلا لا
يدرك إلا نفس الفعل وينافره، ولا يزيد عليها أمرا آخر.
مع أن حكمه بقبح ترك الحج وأمثاله من التعبديات إنما هو بعد العلم
بأن الشارع أمر بها، وملاحظته له، وأنه لولا ذلك لم يكن عند
العقل فرق بينها وبين غيرها من الافعال المباحة أو المحرمة، مثل
العبادات المخترعة المبتدعة، وما هو لعب ولهو.
وأيضا لو كان الذي يدركه هو الذي لا نزاع فيه، فلا وجه لحكمه بقبح

(1) كذا في الأصل، ولعل الصحيح: المعنى الذي لا نزاع فيه من
المعاني الإضافية...
367

المخالفة في موضع، وعدمه في موضع، أو قبح عدم المخالفة في
موضع، مع أن الكل مشترك في ذلك من دون تفاوت.
وأيضا لو اطلع على المحاسن التي أشرنا إليها من حيث هي هي، مع
قطع النظر عن الأمور الخارجية، و القبائح التي ذكرت في الجملة من
حيث هي هي، مع قطع النظر عنها، ودار أمره بين أن يختار الأولى أو
الثانية يختار الأولى البتة.
وأجابوا بأن لكل منهما لوازم في نفس الامر، بها يختار، وإن انقطع
نظره عنها. وفرض التساوي فيها ولا يلزم من فرض تساويه
وقوع التساوي وإنما يتبادر الذهن إلى الجزم باختيار الأولى مع الفرض
فيغلط.
وهذا الجواب أيضا فساده واضح، إذ يلزم من عدم الاعتماد على
الجزم، وعدم حصول العلم. وهذا بعينه كلام السوفسطائية الذين
يمنعون حصول العلم، إذ في كل مقام يجزم الذهن يجوز أن يكون
غلطا ووهما.
فإن قلت: لعله في بعض المقامات يجزم بأنه ليس بتوهم وغلط قلت:
لعله في هذا أيضا غالط ومتوهم.
وأيضا لو لم يكن العقل حكم بها لزم إفحام الرسل، وانتفاء فائدة البعثة
والأحكام الشرعية، إذ الظاهر أنه: (ما لم يكن مطبوع لا ينفع
مسموع) (1) كما قال أمير المؤمنين عليه السلام ولذا لا يتكلم الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم مع المجانين والأطفال الذين يسمعون
كلامه، ويفهمون مرامه ولا يدرون أنه يجب مراعاة كلامه، وامتثال
أمره، ومثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ

(1) نهج البلاغة صبحي الصالح باب المختار من الحكم ص 534 رقم:
338 وتمام كلامه عليه السلام: (العلم علمان مطبوع ومسموع ولا
ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع).
368

مثل واحد أجنبي يقول لنا: أوجبت عليكم كذا، وحرمت عليكم كذا،
فإنا نسمع كلامه، ونفهم مرامه، لكن لا نرى وجوب مراعاته، وامتثال
أوامره، وانتهاء مناهيه. ولذا لا يمكنه أن يثبت علينا شيئا، اللهم إلا أن
يكون ممن يحتمل الضرر في عدم مراعاة قوله، وامتثال أوامره و
الانتهاء عن نواهيه.
فما أجابوا - بأن وجوب النظر في معجزة الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم وامتثال أوامره ثابت عندنا بالشرع - بديهي الفساد، لان
الكلام ما كان إلا في الواجبات الشرعية لأنها ليست إلا أن يقول الشارع:
انظر، ووجب عليك النظر مثلا إلى غير ذلك، لان المكلف لا
يسمع إلا لفظا، ولا يفهم إلا معنى ذلك اللفظ، ولا يزيد على ذلك
شيئا فلو كان مجرد هذا مستلزما لثبوت التكليف وإتمام الحجة لزم
بالنسبة إلى كل من يقول هذا الكلام، بل بالنسبة إلى مثل من أشرنا إليه
من المجانين، والأطفال أيضا.
وما أجابوا أيضا: - بأن ذلك مشترك الالزام لان وجوب النظر في
معجزته، وامتثال أوامره نظري العقل فما لم يثبت عنده لم ينظر، و
لم يمتثل - فاسد، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يمكنه
إثباتهما بالدليل.
مع أنه إذا قال للمكلف: إن الذي خلقك، وخلق العالم بعثني إليك، و
خلقك لغرض، فاسمع مني، وانظر إلى معجزتي، واسمع مني
الغرض،
فلا شك في أن العقل حينئذ يحكم بوجوب النظر، وبعد ثبوت
الرسالة بوجوب امتثاله.
وأيضا لو لم يكن للعقل حكم بهما ينسد باب إثبات النبوة والأحكام الشرعية
، لتجويز الكذب على الله تعالى عقلا، إذ لا يجد العقل مانعا
عن كذبه، ودليلا على استحالته سوى ما ذكر، ولم يشر أحد من
العقلا والمتكلمين إلى ما يتوهم كونه دليلا بعنوان الاحتمال، فضلا
عن
العلم واليقين،
369

مع أن العلم بالاستحالة لازم على جميع آحاد المكلفين.
والجواب: بأن الكذب صفة نقص، مجرد تمحل، إذ لا يجد العقل
سبيلا إلى الحكم بالنقص به، إلا من جهة حكمه بالقبح عن الحكيم، و
إلا فلا
دليل غيره أصلا.
فما قالوه: - بأن عادة الله جرت بإظهار المعجزة على يد غير الكاذب - بديهي الفساد:
أما بالنسبة إلى النبي الأول ففي غاية البداهة. (1)
وأما بالنسبة إلى الباقين فلان كل واحد لم يتحقق قبله عادة، وتحقق العلم العادي فرع تحقق اليقين بالنسبة إلى كل واحد واحد حتى
يحكم بكون ذلك صار عادة، فيحتاج مع ذلك إلى تحقق كثرة في تلك الآحاد اليقينية إلى حد يستحيل العقل خلافه.
عادة كصيرورة الأواني المنكسرة دفعة فقهاء، لا مثل تحقق إنسان ذي رأسين.
وما قيل: أن العلم الضروري بالحقية يحصل عقيب المعجزة فاسد أيضا، للعلم بأن الحقية إنما هي من إتيانه بخارق العادة - الذي هو فعله
تعالى خاصة - والاتفاق على أن هذا هو المثبت، ولأن حصول العلم الضروري من غير دليل وسبب خلاف عادته تعالى بالوجدان، ولأن
تجويز ذلك يوجب مفاسد كثيرة: مثل جواز إفحام النبي صلوات الله عليه، ومثل كون المعجزة لغوا،

(1) أي أن فساد الاستدلال بعادة الله تعالى بالنسبة للنبي الأول في غاية البداهة إذ لا عادة له تعالى في ذلك الوقت.
370

بل وإرسال الرسل، وغير ذلك مما لا يخفى، فتأمل.
ثم اعلم: أن المعتزلة: منهم من قال: بأن الحسن والقبح مقتضى ذات الفعل من حيث هي هي ومنهم من قال: بأنهما من مقتضى وصفه
اللازم.
ومنهم من قال: بالوجوه والاعتبارات.
وأما غير المعتزلة فلعلهم لا يعينون ذلك، ويقولون: بالأعم والقدر المشترك. وهو الصواب.
وقال بعض المتأخرين منا: إن الصواب هو الأخير، أي بالوجوه والاعتبارات. وليس هو كذلك، إذ في بعض المقامات يظهر أن منافرة
العقل من ذات الفعل، حتى أنه في مقام إيجابه له يكون المنافرة باقية مثل: قتل النساء والأطفال والرجال، سيما المقدسين إذا تترس
بهم الكفار والمفسدون، وأكل الوالدين لحم ولدهما الميت اضطرارا، ونظر الأجنبي إلى فرج امرأة لا زوج لها وباطن فرجها
للمعالجة، إلى غير ذلك، بل في مقام الكذب الضروري يشق على الحكيم، ويصعب غاية الصعوبة أن يكذب، وكذا مثله من القبائح، سيما
ما هو أشد قبحا، ولذا يعتذرون عن الفعل القبيح، ولا يعتذر عن الصدق، لا الضروري وغيره، ولا يشق عليه.
ثم اعلم أنهم استدلوا على بطلان القولين (1)
الأولين: بأنهما يستلزمان امتناع النسخ عن الحكيم. وأيضا القطع حاصل بأن الفعل الواحد
يصير تارة حسنا، وتارة قبيحا مثل: الكذب قد يحسن إذا كان فيه عصمة نبي عن ظالم، وكذلك القتل والضرب.
والجواب عن مثل الكذب والقتل والضرب: بأن ذوات هذه الأفعال

(1) وهما القول بكون الحسن والقبح من مقتضى ذات الفعل أو مقتضى وصفه اللازم.
371

من حيث هي هي مرجوحة عند العقل إلا أنه إذا لزمها فعل ضروري، مثل: عصمة نبي، يصير رجحانها غالبا لا أن المرجوحية زالت، وكذا
نجد الفرق بالبديهة بين الصدق الضروري والكذب الضروري على حسب ما نبهناك. وكذا الكلام في النسخ، غاية الامر أن العقل ربما لا
يستقل بإدراك الحسن والقبح في المنسوخ، والشرع يكون كاشفا.
ويمكن الجواب أيضا عن الكل: بمنع اتحاد الحسن منها مع القبيح منها بحسب الذات والصفات اللازمة، ولا استبعاد فيه، لان الفعل من
مقولة العرض، فلا مانع من أن يتميز ذات منه عن ذات بسبب انضمام زمان وأمثاله من الصفات والاعراض. ولا شك في أن مراد
القائلين من بالذات ليست الحقيقة الجنسية، لتصريحهم: بأن الفعل منه حسن بالذات، ومنه قبيح، وكذا الحال في قول من قال: بالصفة
اللازمة فتأمل.
واستدلوا أيضا بلزوم
(1) اجتماع النقيضين إذا قيل: لأكذبن غدا، أو لأقتلن الرسول صلوات الله عليه، أو لأفعلن قبيحا.
والجواب عنه أيضا ظهر مما تقدم، إذ فرق بالبديهة بين ما ذكرت وبين لأصدقن غدا، أو لأتركن الكذب غدا وقس على ما ذكر
الباقي.
مضافا إلى أن التهديد والوعيد لا يوجب أحد صدقه والوفاء به، وما نحن فيه من جملته، فلا يكون داخلا في الصدق الذي يقولون بحسن
ذاته

(1) أي استدلوا على بطلان القولين الأولين: بأنه يلزم منهما اجتماع النقيضين، حيث إنه لو كذب في غد لكان فعله قبيحا ذاتا من حيث إنه
كذب، وليس قبيحا بل حسنا من حيث إنه وفاء بالتزامه.
372

فتأمل.
وأيضا الترك في مثله حسن بالذات قبيح بالعرض، لاتصافه بالقبح باعتبار لازمه الذي هو الكذب، فلا يجتمع النقيضان في محل واحد
حقيقة كاتصاف جالس في السفينة بالحركة.
واستدل الأشاعرة على بطلان الحسن والقبح العقليين بقوله تعالى:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.
وفيه: أن مفاد الآية عدم فعلية العذاب الدنيوي فيما مضى، وأين هذا من عدم القبح؟ لجواز عدم استحقاق العذاب إلا بعد البعث، بل
يستحق اللوم والتوبيخ قبله، ولجواز العفو كما هو رأي الشيعة - والأول أيضا اختاره بعض الشيعة -، ولجواز كون استحقاق العذاب
الدنيوي بعد البعث أو وقوعه كذلك.
وأيضا عند الشيعة: ان الزمان لا يخلو من حجة. وأما غيرهم فيقولون: بأن آدم عليه السلام بعث، وهو تعالى قال حتى نبعث رسولا أي
رسول كان، فإذا قال لهم الرسول الأول: اتركوا كذا، واعلموا هذا منه، يكفي لوقوع العذاب، ولا حاجة إلى تكرار الرسول إلا أن يكون
ذلك خفيا عليهم، فيكون الرسول الجديد منشأ لاظهاره، فيكون المراد: فيما لا يعلمونه
.. ((1)
(حتى نبعث رسولا)، فيحصل وهن آخر،
فتأمل.

(1) أي يكون معنى الآية: وما كنا معذبين - فيما لا يعلمونه - حتى نبعث رسولا.
373

وما ادعى بعضهم - من ظاهر الآية: أنه ليس من شأننا التعذيب قبل البعث - فاسد بل الظاهر منها الامتنان على الأمة أو الأعم.
وما قال بعضهم: - من أن نفي العذاب الدنيوي إنما هو من حيث إنه لا يليق برحمته وحكمته، فنفي الأخروي أولى لأنه أكبر - فاسد
أيضا: لان جل العاصين لا يعذبون في الدنيا بل الغالب أنهم أرفه حالا في الدنيا من المطيعين لأنها (سجن المؤمن، وجنة الكافر) ولو
كان الكل كافرين لكان لبيوتهم سقف من فضة، ومعارج عليها يظهرون مع أنه ورد منه عليه السلام أن الآخرة دار الجزاء والمكافأة.
هذا مع أن الآية دليل ظني ظاهري يؤول باليقيني، سيما مع معارضتها ب آيات كثيرة على تقدير دلالتها على نفي القبح العقلي.
واستدلوا أيضا: بأن الطلب لا يعقل حقيقة إلا متعلقا بمطلوب، فلو كان طلب الشارع بواسطة ما ذكرتم لتوقف على شئ كما هو الحال
في جميع مطالب العباد، فإن وجودها يتوقف على شئ بالبديهة، وإن كان مفهوم الطلب لا يعقل إلا متعلقا بمطلوب.
واستدلوا أيضا: بأنه لو حسن الفعل، أو قبح لذاته لم يكن الباري تعالى مختارا.
وفيه: أن امتناع الفعل لقيام صادف القبح لا ينفي الاختيار.
374

فائدة (
[7]
ما أنكره الأشاعرة
مما أنكره الأشاعرة وخالفوه جميع أرباب العقول: كون العبد فاعلا لفعله، ويقولون: إن الفاعل حقيقة هو (الله) تعالى، والفعل فعله
تعالى بحكم العقل، وإن كان فعل العبد بحسب اللغة والعرف.
ولازم قولهم بل نفس قولهم أن الزاني واللائط والسارق والمفسد والمكذب للرسل وقاتل الأنبياء والأولياء.. وغير ذلك من
الفواحش والقبائح هو الله تعالى حقيقة عند العقل، وبحسب نفس الامر، تعالى عن جميع ذلك علوا كبيرا.
ومن القبائح الكذب، والتدليس، والغارية، والمكر، والخديعة، وأمثال ذلك من الأمور التي يوجب تجويزها على الله تعالى انسداد باب
ثبوت الشرع.
375

ولا شك في أن العباد يكذبون ويفترون، ويخدعون، فإن كان الفاعل في هذه الأمور حقيقة وبحسب الواقع هو العبد يبطل مذهب
الأشاعرة، ويخرب دليلهم، وإن كان هو الله تعالى لزم انسداد باب إثبات النبوة والشرع.
والقول - باستحالة صدورها عنه تعالى ب آلة، وعدم استحالته منه تعالى ب آلة أخرى، بل وتحققه عنه بتلك الآلة، بل ونهاية كثرة التحقق
- تمحل فاسد، وتحكم ظاهر.
لان مقتضي الاستحالة: إن كان القبح العقلي - فمع أنهم لا يقولون به - عام بالبديهة، وإن كان نقص الذات - فمع أنه يرجع إلى القبح
العقلي كما عرفت - هو أيضا عام، مع قطع النظر عن الرجوع، إذ لا شبهة في أن اختلاف الآلة لا دخل له في عدم النقص وثبوته. وإن
كان ما ادعوه من العلم بعادة الله تعالى، ففيه أنه إذا كان عادته الجارية المستمرة الشائعة الذائعة هو الكذب والخدعة، فكيف يمكن
دعوى العلم بخلافه؟ وإنه هو عادته؟ مضافا إلى ما عرفت من الدور الواضح. وأيضا لا خفاء في أن الأشاعرة إذا أحسن إليهم محسن غاية
الاحسان أحبوه محبة شديدة، وأكرموه، وأحسنوا إليه، من حيث أن نفوسهم مطمئنة بأنه المحسن، وإذا ظلمهم أحد بأن قتل آباءهم و
أولادهم وإخوانهم، أو أكل أموالهم، أو ضيعها، أو ضربهم أو جرحهم، أو شتمهم، أو هتك عرضهم، فلا شك في أنهم يمتلئون غيظا عليه، و
يشددون الانكار والعتاب والتوبيخ بالنسبة إليه، ويصرحون بقولهم: أنت الذي فعلت كذا وكذا، بل ويستحقونه للقتل والحرق، و
أن يجعلوه قطعا،
376

ويقطعوه إربا، ويمزقوه كل ممزق، ولو قال: لهم أنا ما فعلته، بل الله تعالى فعله، يصير ذلك سببا لزيادة غيظهم وضغنهم وبغضهم و
الانكار عليه والعتاب والتوبيخ وغير ذلك. ولو ظهر عليهم صدق قوله بأن الله تعالى فعل تلك الأمور لما تحقق عنهم الغيظ والتوبيخ و
غير ذلك.
وكذا الحال لو سمعوا أحدا يسب الشيخين، أو يظهر منه علامة من علامات الرافضة، بل إذا كسر طفل كوزا منهم، أو ضيع فلسا منهم
خطأ ضربوه وشتموه، وعاتبوه: بأنك ما تحفظت كمال التحفظ حتى لا يصدر هذا الخطأ منك. وربما يفعلون ذلك لأجل التأديب كي لا
يقع بعد ذلك منه، ويصرحون بأن التأديب لازم بالنسبة إلى الأطفال والغلمان وغيرهما من الجهال، وأنه لو ترك تأديبهم يضيعون، و
يفسدون وينكرون على من ترك التأديب، وكذا على من قصر في حفظ ماله أو عرضه أو نفسه أو غير ذلك من أمور دنياه، أو آخرته، و
كذا حالهم في مقام الموعظة والنصيحة ربما يبالغون غاية المبالغة ونفوسهم مطمئنة بلزومهما ونفعهما، وبأنه لولاهما ليضيع و
يخرب الامر ويفسد، وكذا حالهم في مقام تحصيلهم المعاش وحفظ النفس والعرض والمال وعلاج المرض وغير ذلك من أمور دنياه
أو آخرته.
وبالجملة لا تفاوت بينهم، وبين غيرهم أصلا في أمثال المقامات بل هم أيضا جازمون بأن الفعل فعل العبد، وأنه يؤثر، والأثر أثره و
أنه لولاه لم يكن الأثر، أو يمكن أن لا يكون وغير ذلك، وفي الحقيقة الوجدان حاكم بما ذكرنا، والنفوس مطمئنة، وتكذيب الوجدان
فاسد، وموجب لانسداد باب العلم، فيلزم منه انسداد إثبات أصول الدين.
377

وأيضا نعلم بالوجدان والبداهة أنا نقدر أن نرفع جوزة من الأرض، ونرمي، وأن لا نرفع ولا نرمي، وتكذيب الوجدان قد عرفت، مع
أنه أقوى من كثير من مقدمات ما يثبت به أصول الدين، سيما مع ما دل على حدوث العالم، فإن الأشاعرة يثبتون أصول الدين به و
أمثاله.
وبالجملة إنهم ينكرون ما حكم به حسهم، مثل السوفسطائية، وأهل الجزيرة، بسبب شبهات مخالفة للبديهة والحس كما سنشير إليها.
وفيه ما فيه، مع أن الحس لو جاز خطاؤه وكذبه فالشبهات بطريق أولى، فكيف يمكن إبطال الحس والبداهة بالشبهة؟ بل كيف يمكن
للعاقل ارتكاب جميع المفاسد - التي أشرنا إلى بعضها، ونشير إلى بعض آخر - بمجرد حكم شبهة؟ وأيضا قد بينا في الفائدة السابقة
حقيقة الحسن والقبح العقليين، فكيف يمكن لحكيم أن يفعل هو فعلا ويؤاخذ غيره بسبب هذا الفعل، ويعاقبه، وينكر عليه: بأنك لم
فعلت كذا وكذا؟ يعني هذا الفعل الذي فاعله ليس إلا هذا الحكيم، ثم يعذبه عذابا شديدا، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا... الآية،
إلى غير ذلك مما ورد في الآيات والاخبار من شدائد عذابه، ثم يقول: هذا جزأ ما فعلت، وما كسبت يداك، وانتقام منه، وربما يقول:
عفوت عنك، إلى غير ذلك، بل لو كان الحكيم شريكا في الفعل لا يمكنه أن يفعل ما ذكر سيما وأنه الشريك الأقوى، بل لو كان له شركة
ما - ولو كانت قليلة غاية القلة - لا يمكنه أن يفعل، وإن لم يكن الشريك الأقوى،
378

فكيف إذا كان تمام الفعل منه بلا مشاركة؟ ولا يمكن لغيره من المشاركة أصلا، بل هو الفاعل القاهر الغالب الذي لا قوة سوى قوته، ولا
أثر سوى أثره، بل كل ما كان الحكمة أزيد وأكثر كان القبح أشد وأوفر، وليس هذا من قبيل عدم منع المخلوقين عن المعاصي، لأنه
لغرض التكليف والابتلاء، بأن يظهر درجة كل، ويبلغ كل مرتبته من السعادة والشقاوة، وما استحقه بهما، والقرب منه تعالى و
البعد منه، وأمثال ذلك، ولا يتم ذلك إلا به، وفي مثل هذا لا قبح قطعا، بل يثبت - من الآيات والاخبار والاجماع والاعتبار - أنه تعالى
لا يظلم أحدا أصلا ورأسا، وما ذكر أشد أنواع الظلم لغة وعرفا وعقلا، بل المرجع في الألفاظ ليس إلا العرف واللغة، ولا خفاء في
كونه أعلى درجات الظلم عندهم. ولو فرض تحققه بالنسبة إلى المخلوقين أيضا، ولو فرض عدم القطع، فلا نقطع بالقبح والظلم قطعا.
وأيضا لو لم يمكن تحقق فعل من العبد فلا معنى لبعث الرسل، وإتمام الحجة، وبسط التكاليف، والوعد والوعيد، والمبالغة فيهما وفي
التبليغ، والاهتمام التام في الارشاد، والهداية، والموعظة، والنصيحة، والجد والجهد في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، و
الحسبة، والحدود. وقول الله تعالى:
ولكم في القصاص حياة وأمثال ذلك مما لا يحصى كثرة، وكذا البناء على التقصير وعدمه، والتفرقة بين المقدور وعدمه، والفرق
بين العمد والنسيان والخطأ، والغفلة والغرور، والعلم والجهل، والاختيار والاضطرار، وغير ذلك، وكذا بين المباشر والسبب في
الغصب والاتلاف والجنايات،
379

وكون المباشر أقوى في أكثر الصور، والسبب أقوى في بعض الصور، وغير ذلك من أمثال ما ذكر، فإن الفعل في الكل هو فعل الله
تعالى، ولا أثر لقدرة العبد، ولا فعل له أصلا، حتى يتحقق هذه الأمور.
وأيضا لا معنى لان يقول: السيئة من نفسك وظهر الفساد في البر والبحر الآية وما ظلمناهم... إلى آخرها، وأما من خاف... إلخ
الآية،، ولنعلم من يتبع الرسول الآية، ومن جاء بالحسنة الآية، وإن الانسان لفي خسر السورة، وأن ليس للانسان إلا ما سعى
الآيات، ولا تزر وازرة وزر أخرى الآية، الله أذن لكم الآية، ومثل يفسقون وعصوا، وأعرضوا ويزعمون،
380

ويظنون ويحسبون مما لا معنى لنسبته إليه تعالى وغير ذلك مما ورد في الآيات والاخبار بعنوان التواتر وفوق التواتر، ولا
يمكن عدها، ولا يصل اليد إلى تأويلها.
وما ورد في بعض الآيات والاخبار - بعنوان التواتر - مما ظاهرها الجبر البحث، والأشاعرة أيضا يتحاشون عن الجبر البحت فلا بد
من التأويل ولها تأويل ظاهر ومجاز متعارف، كما حقق في محله.
مع أنها لمعارضتها للأدلة العقلية والنقلية التي لا حد لها ولا حصر - وقد أشرنا هنا إلى بعضها، وسنشير أيضا - يتعين حملها، بخلاف
تلك الآيات والاخبار الخارجة عن حد العد، فإنها لا داعي لتأويلها، بل الدواعي كثيرة إلى إبقائها على ظواهرها، مضافا إلى الأصول و
القواعد، بل لا يصل اليد إلى تأويل الجميع، بل الأكثر أيضا، فتدبر.
وأيضا البديهة تحكم بالفرق بين الفعل الاختياري وغيره مثل: حركة المرتعش وإن كان عالما بهذه الحركة ومريدا لها. وما أجابوا
بأن الفارق هو وجود الاختيار، لا تأثيره، ففساده ظاهر، لان وجوده غير مؤثر كعدمه عند العقل في إسناد الفعل.
مع أنه إذا لم يتأت لهذا الاختيار تأثير أصلا، ولا يمكن مطلقا فلا يكون اختيارا، ولا وجه لتسميته بالاختيار، فإن الاختيار إنما يكون
اختيارا بحسب التأثير، أي يؤثر الفاعل بالاختيار لا بالاضطرار، فإذا لم يتمكن من
381

التأثير، ويكون المؤثر غيره البتة، فكيف يكون مختارا في التأثير؟ وأيضا لو كان جميع الأفعال عند العقل من الله تعالى، فلا حاجة في
إثبات النبوة إلى المعجزة، ويكون كل من ادعى النبوة صادقا في دعواه، وإن كان متنبئا، لان الغرض من المعجزة حصول العلم بكونها
من الله تعالى فيظهر تصديقه عز وجل لمن جرت في يده من جهة أنه فعله تعالى، فتأمل.
وأيضا لا شك في أن قدرته تعالى عامة، وليس بعاجز من أن يخلق خلقا يفعل الأشياء بقدرته واختياره، كما أنه تعالى يفعل كذلك،
فيكون ما فعله ذلك المخلوق باختياره أيضا أثر فعله تعالى واختياره، لأنه هو الذي أعطاه هذا التأثير، وخلقه فيه، وأودعه، فالمقتضي
موجود: وهو عموم قدرته تعالى مضافا إلى ما مر كما أشرنا إليه، وان معرفته تعالى، واستحقاقه للعبادة، والتقرب إليه، وتعظيمه
لصفاته الجلالية والجمالية، وحمده لكونه مستجمعا لجميع الكمالات، وحبه لكونه مجموعة جميع الكمالات، والخضوع له لكونه في أعلى
درجة الجلال والعظمة، والخوف من سطوته لكونه في أقصى مراتب القهر والسلطنة، لا يتم إلا بكون جميع ذلك من فعل العبد و
المخلوق، وباختياره وتأثيره. فلو كان جميع الأفعال فعله تعالى فكيف يتحقق هذه الأمور وأمثالها؟ فالمقتضي موجود، والمانع مفقود،
فلا معنى لارتكاب مخالفة البديهة، بل ومخالفات لها كما عرفت، ولا وجه لتكذيب الوجدان والحاسة، سيما من وجوه عديدة، و
ارتكاب شنائع أخرى كما عرفت.
فإن قلت: المانع أنه قد جرى في علمه تعالى الأمور والافعال، فلو
382

كان العبد قادرا مختارا لزم تخلف علمه تعالى وصيرورته جهلا.
قلت: لو تم ما ذكرت لزم أن لا يكون الواجب تعالى أيضا قادرا ومختارا مثل ما ذكرت في العبد، لأنه تعالى علم في الأزل أنه ما ذا يفعل
مع أن الأشاعرة عادتهم الاستدلال بالعلم الحاصل من عادة الله تعالى في أفعاله تعالى في إثبات أصول دينهم وفروعه، ولزم من ذلك
اضطراره تعالى في أفعال العادية، ولا يكون له عز وجل اختيار فيها أصلا، لأنهم لا يجوزون تخلف علمه فيها، إذ مع التجويز يكون ظنا
لا علما، فيلزم: إما بطلان أصول دينهم وفروعه، أو خروج الواجب تعالى عن الاختيار، فظهر أن هذه شبهة ظاهرة الفساد.
وحلها أن العلم يطابق المعلوم، بأن المعلوم - لما كان كذا وكذا - علمه كذا، لا أنه لما علمه كذا صار كذا، كما هو الحال في تمام علومنا،
من غير فرق بين تقدم المعلوم وتأخره، ولذا لا يلزم أن يكون ما أخبر الله تعالى من أفعاله في الآخرة والدنيا فيما سيأتي أن يكون
غير مختار فيها، للعلم بعدم جواز كذبه، وهذا أيضا يرد على الأشاعرة وغير هذا من الشنائع، مثل: أنا نعلم من عادته تعالى أنه يفعل
فيما سيأتي من جميع أمور الدنيا مثل ما مضى، مثل: أن لا يفعل الأواني المنكسرة الخرقة علماء ماهرين في العلوم، وغير ذلك مما لا
ينتهي عددا. ومثل: أن المولى إذا قال لعبده الذي عصاه في أمر:
إني كنت أعلم أنك تعصيني فيه، فيقول العبد: فإذن لا اختيار لي في إطاعتك فيه. إلى غير ذلك من الشنائع.
فإن قلت: المانع أمر آخر، وهو أن المخلوق: إن كانت أفعاله لازمة
383

الصدور عنه فليس بمختار، وإن كانت جائزا صدورها وعدمه: فإذا افتقر إلى مرجح، فمع المرجح يعود التقسيم فيه بأن كان لازما
فاضطراري، وإلا احتاج إلى مرجح آخر، فيلزم التسلسل، وإن لم يفتقر إلى مرجح، بل يصدر عنه تارة ولا يصدر أخرى من دون مرجح
في الحالين، وصدور أمر من الفاعل فهو أمر اتفاقي فلا يكون اختياريا أيضا.
قلت هذه أيضا شبهة في مقابل البديهة، بل في مقابل البديهيات، وغيرها من اليقينيات - كما عرفت - ومع ذلك لو تمت لزم خروج
الواجب تعالى أيضا عن الاختيار.
وما أجابوا - بأن تعلق إرادته قديم، فلا يحتاج إلى مرجح متجدد - غير نافع أصلا لان تعلق الإرادة في القديم إن كان لازم الصدور عنه
تعالى بحيث لا يمكنه الترك فواضح أنه غير مختار، وإن كان جائزا وجوده وعدمه:
فإن افتقر إلى مرجح، فمع المرجح يعود التقسيم فيه إلى آخر الشبهة من دون تفاوت أصلا، كما هو واضح على من له أدنى فهم.
وبالجملة ما في هذه الشبهة: إن كان علة تامة لنفي الاختيار يلزم أن يكون الواجب تعالى كذلك أيضا لعدم جواز التخلف، وإن لم يكن
علة تامة لنفي الاختيار، أو يجوز تخلف المعلول عن العلة التامة كما يقول به الأشعري، فلا يتحقق المانع في طرف العبد أيضا قطعا، سيما
مع ما أشرنا إليه من أن اختيار العبد وتأثيره من فعله تعالى وأثر فعله، فلا مانع من أن يكون أثر أثره.
وهذه الشبهة شبهة الحكماء الذين ينفون عنه تعالى الاختيار، تعالى
384

عن ذلك علوا كبيرا.
والجواب عنها: أن المختار لا يختار بغير مرجح، وبعد ما تحقق في نظره ما هو المرجح عنده - وإن لم يكن واقعا - يختار البتة و
باختياره وبإرادته يصدر عنه البتة، إلا أنه قادر على خلافه ومتمكن منه، وتحقق الصدور لا ينافي القدرة على الخلاف.
وقد كتبنا في هذا رسالة مبسوطة مشروحة، على أن الشبهتين لا تنفعان الأشاعرة على تقدير تماميتهما، لان مقتضاهما كون العبد غير
مختار، لا أن فعله فعل الله تعالى، وأنه ليس له فعل.
فإن قلت: جميع ما أوردت عليهم إنما يرد عليهم إذا لم يقولوا: بأن للعبد قدرة كاسبة.
قلت: إن قالوا: بأن قدرة العبد مؤثرة في الكسب، فهو نقض لدليلهم، ورجوع عن قولهم إلى قول الخصم، ومع ذلك لا ينفعهم أصلا، لان
كون الفعل فعله تعالى - لا فعل العبد - مخالف للبديهة، بل البديهيات واليقينيات، وموجب للشنائع، لأنه الشريك الأقوى، بل الفعل فعله
تعالى على سبيل الاختيار لا الاضطرار، إذ بمجرد كسب العبد لا يصير ملجأ ومضطرا إلى الفعل قطعا، فالشنائع جميعا بحالها.
ونزيد عليها: أنه لا معنى للقول بأن قدرته مؤثرة في الكسب خاصة، ولا يتمكن من التأثير من غيره أصلا، لان المقتضي عام، والمانع
عام إن كان مانعا.
385

فائدة
[8]
إنكار صاحب المدارك حجية الاجماعات المنقولة
]
أنكر صاحب المدارك
(1)
ومن وافقه حجية الاجماعات المنقولة، بأن العلم بقول المعصوم عليه السلام في زماننا وما شابهه غير ممكن،
لتوقفه على العلم بقول كل مجتهد مجهول، وهو مما لا سبيل إليه في هذه الأزمان.
ولئن قيل: بجواز نقله عن الغير، إلى أن يتصل بزمان يمكن فيه ذلك.
أجبنا عنه: بأن ذلك يخرج الخبر من الاسناد إلى الارسال وهو مما يمنع من العمل به كما حقق. انتهى.
أقول: طريقته في المدارك وغيره ادعاء الاجماع مركبا وبسيطا على

(1) مدارك الأحكام 1: 43 حيث قال رحمه الله (فان الاجماع إنما يكون حجة مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم في جملة...).
387

سبيل الاحتجاج والاستناد والاعتماد، بل ربما لا يكون له مستند سواه، فكيف يحصل له العلم؟ ولا يمكن حصوله لجماعة من فقهائنا
القريبين للعهد، بل مدارهم على الاجماع، بل لا يمكن إثبات حكم من آية أو حديث إلا بمعونة الاجماع، كما نبهنا عليه في رسالتنا
المكتوبة في تحقيق الاجماع، وأشرنا مجملا في (الفوائد الحائرية). بل نبهنا في الرسالة على إمكان حصول العلم في هذه الأزمان و
تحققه، وناقل الاجماع يدعي العلم بالاجماع كما يظهر من كلامه في مواضع الدعوى، مضافا إلى أن دعوى الاجماع غير رواية الاجماع
فهو خبر عالي السند مثل: أن يروي (الصفار) أو (علي بن بابويه) أو نظائرهما عن المعصوم عليه السلام بلا واسطة، وليس هذا خبرا
مرسلا مثل: أن يخبر أحد بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان موجودا، وادعى الرسالة، وهذا العلم حصل له بالتسامع والتظافر،
وكذا العلم بوجود رستم من غير أن يعلم أن الخبر بعدد التواتر في كل واحد واحد من سلسلة سنده إلى زمانه صلى الله عليه وآله وسلم
وزمان رستم، بل ربما لا يعلم أن له سلسلة سند سوى المخبر الذي أخبره، والقرائن التي ظفر بها، بل ربما لا يكون مخبر أخبره، بل
وجده في الكتب. والعلم من التظافر والتسامع يحصل في الاجماع أيضا كما حصل في ضروري الدين.
على أنه لم يعهد أصلا نقل الاجماع معنعنا ومسلسلا إلى ذلك الزمان، بل القطع حاصل بعدم ذلك.
على أنه على تقدير نقله عن الغير، فلا شك في أن ناقل الاجماع لا يكون سوى الفقهاء، لأنه شغلهم. سيما وأن يكون الفقيه يحكم به
بسبب نقله، والمنع عن العمل بالمرسل إنما هو من جهة مجهولية الواسطة.
على أنه أي فرق بين الحضور والغيبة في حصول العلم بقول كل مجتهد
388

مجهول، مع أن الشيعة لم يعتبروا في الاجماع كون الاتفاق في عصر واحد، مع أن ضروري الدين يحصل العلم فيه بقول كل مجتهد فأي
مانع من حصوله في النظري مع أنا حققنا في الرسالة وغيرها عدم الحاجة إلى مجهول النسب.
389

فائدة
[9]
(التكليف بالمجمل
التكليف بالمجمل صحيح، إذا تيسر الامتثال بإتيان المحتملات التي بإتيانها يتحقق المكلف به يقينا أو عرفا، كوجوب التنزه عن الإناءين
المشتبهين، والثوبين كذلك، وقضاء الفريضة المنسية من الخمس وغيرها.
ومن ذلك التكليف بالعبادات، لأنها كيفية لا يمكن معرفتها إلا من نص الشرع، ويتيسر الاتيان بالخلافيات التي لا يمكن إثبات عدم
وجوبها بنص، فتعين الاتيان بها حينئذ من باب المقدمة، لان شغل الذمة بها يقيني، والبرأة اليقينية تتوقف على الاتيان بها، والبرأة
اليقينية لازمة للاستصحاب، وقولهم (لا تنقض اليقين إلا بيقين مثله)
. (1)

(1) ورد بهذا المضمون في الوسائل 1: 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء الحديث 1 عن زرارة، جاء فيه: (ولا تنقض اليقين أبدا
بالشك، وإنما تنقضه بيقين آخر).
391

ولأنه مخاطب بالإطاعة والامتثال، ويرجع فيها إلى العرف، ولا يعد ممتثلا إلا أن يأتي بها، إذ بغير الاتيان يكون البراءة على سبيل
الاحتمال، وهو غير مجز عندهم قطعا.
ويظهر من بعض المحققين: أنه إذا وقع الاجماع على وجوب قدر من الاجزاء، ووقع الخلاف في قدر ان المكلف به ليس إلا المجمع عليه،
لا المختلف فيه، إلا أن يثبت دخول ما اختلف فيه أيضا بنص من الكتاب أو السنة، وما لم يثبت لا يكون واجبا، لان الأصل عدم الوجوب
فيما لم يثبت وجوبه، وعدم الاستحباب فيما لم يثبت استحبابه. نعم يقولون بأولوية ارتكابه، خروجا عن الخلاف.
وهذا إنما يتم إذا كان المثبت للتكليف هو ذلك الاجماع أو النص، وأما إذا تعلق الخطاب بالعبادة التي هي مثل المجمل، مثل أن قالوا
عليهم السلام:
توضأ، أو صل، أو صم، وأمكن الامتثال بالنحو الذي ذكر، ولم يتحقق حرج في الامتثال أصلا، فالتكليف بها حينئذ صحيح، والامتثال
بذلك النحو متعين، سواء كان ثبوت التكليف المذكور بالاجماع المرادف للضروري أو النظري أو الكتاب أو السنة.
وأصل عدم التكليف إنما هو في موضع لم يثبت التكليف بالدليل الشرعي، وقد ثبت بالأدلة المذكورة، وتكفي () للاثبات، والتكليف
بالمجمل لا يصح في موضع لم يتيسر الامتثال بالنحو الذي ذكر، إذ لم يثبت مانع منه
392

حينئذ، بل معلوم عدم المانع، كما هو الحال في قضاء الفريضة المنسية وما ماثله مما هو في غاية الكثرة. فتأمل.
393

فائدة
[10]
ادعاء بعض الأخباريين
بعض من يدعي أنه أخباري ينكر كون إجماع الفقهاء حجة، ويقول:
إن جميع الفقهاء إذا أجمعوا على مسألة لا يكون بإجماعهم اعتداد أصلا، لأنهم ليسوا بمعصومين جزما، ويجوز عليهم الخطأ، فوجود هذا
الاجماع وعدمه على السواء، ولا تفاوت بين الوجود والعدم أصلا، ومع هذا لو اتفق أن بعضا من الفقهاء نقل حديثا، يحكم هذا البعض
بالقطع بكون هذا الحديث من المعصوم عليه السلام من دون شائبة شبهة وتطرق ريبة، بل يحكم بالقطع بكونه بهذا السند وبهذا المتن
وبهذه الدلالة من المعصوم عليه السلام، مع أنه يشاهد أن جل أخبار الكتب الأربعة، وغيرها من الكتب المعتبرة لم يسلم من الاختلال إما
في السند أو المتن أو غيرهما، ونشاهد أيضا: أن قدماء فقهائنا ما كان يرضى واحد منهم بالأحاديث التي رواها الاخر، وإن كان
أستاذه وشيخه، بل ما
395

كان يعتمد إلا على أحاديث نفسه، بل كثير الطعن على أحاديث الاخر. هذا حال القدماء الذين كانوا عارفين بأحوال الأصول والأحاديث،
فما ظنك بحال المتأخرين.
وربما يقول هذا الاخباري: القطع حاصل، لان الفقيه يقول: هذا الحديث صحيح.
وبالجملة: الفقيه عنده بمجرد نقل الحديث يصير معصوما، بل جميع سلسلة سنده يكونون معصومين، لأنهم نقلوا الحديث، وإذا أجمعوا، و
اتفقوا على حكم يصيرون خاطئين، بل وربما يكون عصمة الراوي عندهم منشأ لعدم عصمة المعصوم عليه السلام عن السهو، لان
الراوي روى ما يدل عليه، وهو واحد من الرواة لا يمكن أن يسهو فالمعصوم عليه السلام عنده يسهو ومن العجائب أنه يدعي أن كل ما
يفهمه يكون حجة قطعا، ولا يتأمل أنه أيضا ليس بمعصوم وأن فهمه يجوز عليه الخطأ، سيما وأن يقول:
الظاهر عندي أن المراد كذا، ولا يأتي بحديث يدل على أن كل من يفهم من حديث يكون فهمه حجة - أي شئ فهم منه - وإن كان فهمه
مخالفا لفهم غيره.
وأعجب من هذا أنه ربما يحكم بفساد ما فهمه غيره مما يخالف فهمه، ويقطع بأنه ليس بحجة وإن كان أعلم منه وأفضل وأعرف
بالعلوم العربية وغيرها مما يكون له دخل في فهم الحديث.
وأعجب من هذا أنه ربما يحكم بفساد ما فهمه جميع الفقهاء الماهرين في الفقه، والعلوم المذكورة وغيرها ويقول: إنه ليس بحجة بل
هو غلط ليس
396

لاحد أن يعمل به، لأني أفهم خلافه.
وأعجب من هذا أن الفقهاء لما قالوا: - بأن الفقيه إذا مات لا يكون قوله حجة بل يموت قوله أيضا - يطعن عليهم بأنهم بأي دليل يقولون
بأن قوله ليس بحجة، ولا يتأمل في أنه إذا أجمع جميع فقهائنا الاحياء منهم، والأموات على حكم يقول: بأن قولهم لا يساوي نصف فلس،
ووجوده كعدمه من دون تفاوت، لأنهم ليسوا بمعصومين، فكيف يطعن عليهم بأنكم لم تقولون: بأن قول المجتهد الميت ليس بحجة و
يطالبهم بدليل يدل على عدم الحجية؟ وأعجب من هذا أنه ربما يقول إن قول الميت إذا وافق الدليل الشرعي يكون حجة، لان الدليل
حجة، وقول الحي إذا لم يوافق لا يكون حجة أصلا، ولا يتأمل أنه على هذا يكون قول الفاسق الجاهل بمجرد خياله أيضا حجة، من دون
فرق بينه وبين المجتهد، بل الكافر أيضا من دون فرق بين الصبي والمجنون، بل المخالف إذا قال بقياسه أو استحسانه، بل يلزم أن
نفس القياس الحرام والاستحسان، والرأي أيضا يكون حجة إذا وافق الدليل الشرعي من دون فرق بين هذه الأمور وبين المجتهد، وأي
عاقل يتفوه بهذا.
ومع ذلك هذا سد لباب التقليد بالمرة، لان العامي لا يمكنه التمييز، ومعرفة أن قول المجتهد هل هو ما وافق الدليل الشرعي أم لا؟ بل
الفقهاء لا يمكنهم هذا، لان كلا منهم يحكم بخطأ الاخر في كثير من المواضع، مع أنهم متفقون على كونهم مخطئة لا مصوبة، مع أن العامي
إذا تمكن من الفرق
397

والتمييز، فكيف يجوز له التقليد؟ بل لا يمكن له تحقق التقليد حينئذ لان اعتماده ليس إلا على فهمه وتمييزه، فكيف يكون تقليدا؟ على أن
العامي عنده أن كل ما يقول المجتهد هو من الشارع، بل اعتماده على المجتهد أزيد منه على الاخباري لما يرى من وفور علمه وشهرته،
وعجز الاخباري عن المباحثة معه، وغير ذلك.
فإن قلت: لعله يمنع كون الاجماع حجة على خصوص المجتهد، لا العامي وإلا فقول فقيه واحد حجة على العامي عنده، وإن كان ميتا فضلا
عن اجتماع جميع الاحياء والأموات من الفقهاء.
قلت هو يمنع حجية الاجماع مطلقا بالعلة التي يعلل بها، وهي مشتركة بين العامي والمجتهد، فإذا لم يكن إجماع جميعهم حجة فقول
واحد منهم بطريق أولى، وقول ميت منهم أولى فأولى.
فإن قلت: الامر كما ذكرت إلا أنه وردت الأدلة على كون قول المجتهد حجة على العامي وإن جاز عليه الخطأ، ولم يرد دليل على أن قول
غير المجتهد أيضا حجة على العامي، فيكون استناده إلى غير المجتهد حراما.
قلت: إن كان الامر كما ذكرت فالعبرة بتلك الأدلة ولولاها لكان استناده إلى المجتهد أيضا حراما، لكن الفقهاء يقولون: إن الأدلة
منحصرة مختصة بالمجتهد الحي، ولا عموم فيها بحيث يشمل الميت، وقد ذكرنا الأدلة في الفوائد. ويظهر منها أن الامر كما قالوا، ومع
ذلك لو ادعى هذا الاخباري العموم، فالواجب عليه إثبات العموم، إذ قد عرفت واعترف بأن العبرة بالدليل، وألا يكون الاستناد حراما،
فكيف يطعن على الفقهاء: بأنه لا دليل لهم على عدم حجية قول الميت، ويشنع عليهم في ذلك؟
398

مع أن الأخباريين يحرمون التقليد مطلقا حيا كان الفقيه أو ميتا، فكيف يدعي الأخبارية، ويطعن بذلك ويشنع؟ مع أنهم نقلوا إجماع
الشيعة على عدم الجواز.
وما دل على حجية خبر الواحد يشمل الاجماع المنقول بخبر الواحد فكما أنه يدل على حجية الخبر الواحد يدل على حجية هذا الاجماع
أيضا سوى الاجماع الذي نقله الشيخ، وهو - مع أنه معارض بالاجماع الذي نقله السيد - موقوف على حجية الاجماع المنقول بخبر الواحد
فتأمل.
399

فائدة
[11]
إشكال القول بوجوب الغسل لنفسه
]
بعض المجتهدين يقول بوجوب الغسل لنفسه، لان المعصوم عليه السلام قال: اغتسل، وأمثال هذه العبارة مما هو ظاهر في الوجوب
لنفسه، ونحن أبطلنا هذا الاستدلال في حاشيتنا على المدارك والذخيرة على هذه العبارة، وليس المقام مقام بيانه.
من أراد التحقيق فليرجع إليهما.
لكن وقع إشكال لم يتعرض له أحد، وهو أن القائل بالوجوب النفسي يقول: لو ترك من أول عمره إلى آخره لم يكن عليه عقاب أصلا، إلا
أن يحصل له الظن بالموت، فحينئذ لو ترك لا يكون عليه إلا عقاب واحد وهو عقاب هذا الترك، ولو اغتسل عقيب كل حدث إلى آخر
عمره يكون عليه واجبا أن يغتسل بوجوب موسع، لا يتضيق إلا بظن الموت، فيلزم من كلامه
401

تعدد واجبات لا تحصى ولا يكون على ترك واحد منها عقاب أصلا، مع أن الشئ الواجب لا يكون واجبا إلا أن يكون على تركه عقاب في
الجملة.
فان قلت: إنهم يقولون بتضيقه بتضيق وقت العبادة المشروطة به أيضا.
قلت: هذا التضيق إنما هو من جهة كون العبادة مشروطة به، وهو شرطها، لا من جهة الوجوب النفسي، إذ لا مدخلية لتضيق المشروطة به
في الوجوب النفسي، فالتضيق إنما هو بالوجوب الشرطي، والعقاب حينئذ على ترك المشروط كما صرحوا به، والعقاب الذي على ترك
نفس الغسل إنما هو في الترك عند الموت - كما ذكرنا - مع أنه قيل: عند الظن لا يكاد يتحقق عادة منه غسل كما هو ظاهر.
فالأوامر الكثيرة الواردة في الاخبار، لا يكون المراد منها إلا الوجوب بالقياس إلى الغير، لأنه المتحقق عادة لا الوجوب النفسي، لأنه غير
متحقق عادة، والاخبار محمولة على الفروض المتعارفة لا النادرة، سيما الذي لا يكاد يتحقق، فكيف يأمر الشارع في الأخبار الكثيرة
بالوجوب وإتيان الغسل بعنوان الوجوب باعتبار فرض لا يكاد يتحقق، بل لا شبهة في أنه باعتبار تحقق الصلاة مثلا كما فهمه المشهور
وجل الفقهاء، ويظهر من أخبار أخر مثل: (إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة) وغير ذلك مما ذكرنا في الحاشيتين المذكورتين.
وحال الامر بالطهارة حال الامر بغسل الثوب والبدن والظروف وغير ذلك. مع أنه على تقدير أن يكون ضيق وجوبه
402

بتضيق وقت العبادة بالقياس إلى وجوبه النفسي - وإن كان لا معنى له، وصرحوا أيضا بأنه ليس كذلك - فالاشكال بعد بمكانه، لان
الكلام حينئذ في الأغسال التي تفعل عقيب كل حدث حدث إلى وقت ضيق العبادة.
وأيضا ربما يتوضأ لايجاد الحدث مثل النوم ووطء الجارية بعد أخرى، فإن بعضهم قالوا في الوضوء أيضا كذلك.
فإن قلت: لعل اتصافها بالوجوب من جهة العقاب الذي يكون على ترك الطهارة الأخيرة ببعض الوجوه.
قلت: لا يكون الشئ واجبا إلا من جهة العقاب الذي يكون على ترك نفسه لا على ترك فعل آخر غيره، ولا معنى لان يكون هذا واجبا
باعتبار أن يكون على ترك غيره عقاب.
فإن قلت: الغير من نوع هذا أيضا.
قلت: وإن كان، كيف يكون فرد من نوع واجبا باعتبار العقاب الذي على ترك فرد آخر، مع أنه لا عقاب على تركه أصلا، وأيضا عرفوا
الواجب بأنه على تركه العقاب لا على ترك غيره، وإن كان من نوعه، وأيضا إن كان المراد من النوع أنه واجب أيضا، وكون الكل من
النوع الواجب، فهو عين الاشكال، وأول المسألة.
وإن كان النوع أعم من الواجب، فالاشكال بحاله مع أنه يلزم اتصاف المستحبات بالوجوب، بل التشريعات أيضا، فيلزم أن يكون نزاعه
مع المشهور لفظيا، مع كون الحق مع المشهور.
وأما أنه يجب عند ظن الموت طهارة فهو نزاع آخر، مع أن الحق فيه أيضا مع المشهور، لأصالة البراءة عن زيادة التكليف، وليس عليه
دليل، بل الظاهر من الأخبار الواردة: - في أن المريض يوصي، ويفعل كذا وكذا من
403

المستحبات والآداب - أنه لا يجب عليه طهارة حين ظن الموت. وأيضا:
البناء في الأعصار والأمصار عند جميع المسلمين على عدم الالتزام بالطهارة، ولا الالزام بها حينئذ.
فان قلت: يمكن أن يكون هذه الافراد في صورة تركها تتداخل مع الأخير، فإذا ترك الأخير يكون على تركه عقاب في الجملة، فمعنى
وجوب كل واحد واحد: أنه لو ترك وترك الأخير أيضا يكون عليه عقاب.
قلت: العقاب إنما هو على ترك الأخير من غير مدخلية هذه الآحاد، فلو ترك الأخير يكون معاقبا على أي تقدير: فعل هذه الآحاد، أو لم
يفعل ولو فعل الأخير لا يكون له عقاب أصلا، فعل هذه الآحاد، أم لم يفعل مع أن التداخل عند الفقهاء: عبارة عن اجتماع واجبات يكون
على ترك كل واحد عقاب على حدة في فعل واحد. وأنتم لا تقولون بعقاب على تركها إلا الأخير، فعل الأول، أو لم يفعل، مع أنه كيف
يحكم الشارع بالوجوب والالزام بمجرد هذا الخيال الركيك، سيما في أخبار لا تحصى.
على أنه معلوم أن الواجب ليس قسما برأسه، بل داخل إما في العيني أو التخييري أو الكفائي أو الموسع، وكل واحد تعريفه وحكمه
معلوم.
على أنه ليس الاشكال في صورة الترك والاكتفاء بالأخير، لان الواجب شخص واحد يكون على تركه في الجملة عقاب.
وإنما الاشكال أن يأتي بالافراد ويوجدها في الخارج، فكل واحد واحد فعل للمكلف موجود في الخارج مستقل بنفسه متميز عن
الاخر موصوف عندكم بالوجوب على حدة: هذا واجب، وذلك أيضا واجب
404

آخر، وهكذا كل شخص وجد، وجد شخص من الواجب، فيتحقق أشخاص لا تحصى من الواجب، كل واحد واحد واجب لا بد أن يفعل بنية
الوجوب مع عدم ظن الموت أصلا، بل مع ظن عدم الموت، بل ربما يكون الظن المتاخم، بل ربما يحصل العلم العادي بعدم الموت إلى
الحدث في مثل الوضوء للنوم، فإن نفسه في غاية الاطمئنان بالبقاء آنا ما بعد الطهارة حتى ينام أو يطأ جاريته أو الحامل، مع أن بعد
الدخول في حدث آخر وبقائه إلى أن وجب عليه الطهارة، فالطهارة السابقة عندكم متصفة بالوجوب، مع أنه أحدث بعدها، ولم يكن
على تركها - ولو ترك - عقاب قطعا.
وبالجملة حين التداخل يكون الواجب شخصا واحدا ليس إلا، وحين عدم التداخل شخص واجب، ثم شخص آخر أيضا واجب، ثم شخص
آخر أيضا كذلك وهكذا، وكل واحد واحد واجب مستقل برأسه لا أنه جز للواجب ومع ذلك يكون المكلف مخيرا في إيجاد واجب
واحد، أو واجبات لا تحصى، فيكون مخيرا بين فعل الواجب وتركه، فيكون الواجب يجوز فعله وتركه معا، مع أن الواجب ما لا يجوز
تركه.
وصرح الفقهاء باستحالة أن يكون المكلف مخيرا بين فعل الواجب وتركه، وصرحوا بذلك في مسألة استظهار المستحاضة وغيرها،
مع أنه في غاية الوضوح، وجعلوا التفصي بأنها بعد الغسل تصير العبادة عليها واجبة لا يجوز عليها تركها، ولم يقل بهذا التفصي في
المقام بل قال: بأن وجوبها موسع.
وبالجملة يمكن التفصي بأن المكلف بمجرد اختيار الطهارة تصير عليه واجبة، ولو ترك يكون معاقبا حينئذ، لكن لا يقولون بهذا كما لا
يخفى، مع أنه ليس مدلول الاخبار قطعا، وحجتهم أن ظاهر الاخبار الوجوب النفسي.
405

فإن قلت: الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل، وهنا الفعل الأخير بدل.
قلت: الفعل الأخير على تركه عقاب قطعا، على أي تقدير فهو واجب في نفسه فكيف يصير وجوبه بدلا عن غيره إذ فعل الغير أو لم يفعل
يجب عليه الأخير قطعا. كما أنه لو فعل الأخير أو لم يفعل يكون ما فعله أولا واجبات، ولم تخرج عن وجوبها.
فإن قلت: نظير ما ذكروه في الأحكام الشرعية كثير.
قلت: إن كان مثل ما نحن فيه، فالاشكال وارد فيه أيضا، والغرض دفع الاشكال، وإلا فلا فائدة فيما ذكرت.
فإن قلت: هذا الاشكال وارد على القول بالوجوب للغير أيضا.
قلت: الفقهاء صرحوا: بأن الواجب لغيره لا يكون على ترك نفسه العقاب بل على ترك الغير، كأجزاء الواجب فإن العقاب ليس على ترك
ذلك الجز، بل على ترك المجموع من حيث المجموع، مثل حرف الباء في (بسم الله) لو ترك عمدا يكون معاقبا بترك الصلاة، وليس
على ترك كل واحد واحد من الحروف في القراءة والأذكار، وكل جز جز من الحركات والسكنات عقاب على حدة.
فإن قلت: اتصافها بالوجوب من جهة أنه إن مات بعدها يكون آتيا بالمأمور به.
قلت: إن ترك لم يكن عليه عقاب، لعدم ظن الموت، بل ولظن البقاء.
فان قلت: يكفي لاتصافهما بالوجوب أنه لو كان يحصل له الظن بالموت ويكون تاركا يكون آثما، وإن لم يكن الان بالترك آثما.
قلت فعلى هذا يمكن فعل المستحب بقصد الوجوب بالنحو الذي
406

ذكرت، مثل: صوم يوم الشك يفعله بقصد الوجوب، بأنه إن كان يكشف له أن اليوم من (رمضان) - ويتفق ذلك - يكون على تركه
العقاب مع أن هؤلاء يقولون: بأنه إن نوى الوجوب صومه باطل، وإن انكشف أنه كان من شهر رمضان.
فإن قلت: لعل المأمور به هو إيجاد الطبيعة المشتركة بين الافراد، فالعقاب على ترك الطبيعة، لا على ترك الفرد.
قلت: إن أراد الشارع إيجاد نفس الطبيعة، فإيجادها في فرد واحد يكفي، بل يشكل إيجادها مرة ثانية في فرد آخر لعدم الدليل على
المطلوبية ثانيا وثالثا - كما حقق في محله - وإن أوجب إيجادها في ضمن كل فرد فرد، فالواجب واجبات لا تحصى، على ترك كل
واحد عقاب البتة.
فان قلت: الواجب الموسع على تركه العقاب لو ترك في مجموع الوقت.
قلت: إن كان الموسع واجبا واحدا فبفعله مرة واحدة خرج عن عهدة التكليف، بل فعله ثانيا حرام إذا كان عبادة، ولغو إذا كان غيرها،
وعلى أي تقدير لا يكون واجبا ولا مطلوبا - كما حقق في محله -، وإن كان متعددا يكون على ترك كل واحد عقاب على حدة لكونه
واجبا على حدة، كصلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
فإن قلت: بعض الفقهاء ذكر في كفارة الحيض وغيرها: أن المكلف إذا تكرر منه الحرام (الذي كل واحد منه يوجب) الكفارة: إن كفر
عقيب كل حرام يكن عليه واجبا، وإن لم يكفر إلا عقيب الكل لم يكن عليه إلا كفارة
407

واحدة، وهذا نظير ما نحن فيه.
قلت: قد عرفت أن الاعتراض ليس على خصوص ما نحن فيه، وإنما ذكرته من باب المثال، مع أنه إن أراد - أن الفعل الأخير يسقط
العقاب الذي كان على ترك كل واحد من الافعال الأول - يمكن أن يكون له وجاهة، في موضع يقبل دليل وجوب الواجبات ذلك، ومع
ذلك فيما نحن فيه لا يقولون بذلك، لان منشأ العقاب ليس إلا ظن الموت، ومنشأ عدم العقاب هو التوسعة الناشئة عن ظن البقاء فليس في
ترك الأول عقاب أبدا، كما أنه في ترك الأخير عقاب مطلقا.
ومما ذكرنا ظهر الكلام في جميع الواجبات التي يقول بعض الفقهاء
[
فيها
]
بالتداخل معللا بأن الأسباب الشرعية من قبيل المعرفات
يجوز اجتماعهما على مسبب واحد.
وفيه: أنه لا تأمل في جواز اجتماعهما، إنما الكلام في تحقق الاجماع. مع أن الظاهر من تعدد الأسباب تعدد مسبباتها أيضا إلا أن يثبت
خلافه، ومع ذلك إنما هو في موضع لم يلزم المفسدة التي أشرنا إليها فتأمل جدا.
408

فائدة
[12]
وجوب حمل المطلق على المقيد
]
في وجوب حمل المطلق على المقيد لا بد من التعارض بينهما حتى يجب، وإلا فلا يجب، بل ولا يجوز عند الفقهاء، لأنه إبطال للدليل
الشرعي - وهو الاطلاق - من غير جهة ورخصة، لان المطلق مع عدم معارض له يقتضي كون الحكم على سبيل الاطلاق، فإذا لم يكن ما
يعارضه ويقاومه فلا معنى لتقييده، لان المقتضي موجود والمانع مفقود.
فظهر فساد ما توهم بعض: من عدم اشتراط التعارض، ولا يتأمل في أنه إذا ورد مثلا: أعتق رقبة من غير تقييد بالمؤمنة كان مقتضاه
تحقق الامتثال بعتق الرقبة الكافرة قطعا، لان المكلف به لم يكن مقيدا بالايمان، وإذا ورد: أعتق رقبة مؤمنة يكون مقتضاه عدم
الامتثال بعتق الرقبة الكافرة، لان المطلوب ليس عتق مطلق الرقبة بل خصوص رقبة وهي
409

المؤمنة لا غير، فلا يتحقق الامتثال بالكافرة لأنها ليست مطلوبا عتقها، فلا يكون معتقها آتيا بالمأمور به.
ثم نقول: هذا الوارد المقيد معلوم أنه تكليف كالمطلق: فإما أن يكون عين التكليف بالمطلق المذكور مثل: إن ظاهرت فأعتق رقبة، ثم
يقول: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، ونعلم بالاجماع أو غيره أن الظهار لا يوجب إلا عتق رقبة واحدة، لا تكرار في عتقها أصلا علمنا
من هذا وقوع التعارض بين الخبرين جزما، لان مقتضى المطلق جواز عتق الكافرة وتحقق الامتثال به، ومقتضى المقيد عدم الجواز و
عدم الامتثال، فلا بد من حمل المطلق على المقيد، لأنه مقتضى الفهم العرفي، ولأن المقيد أقوى دلالة من المطلق، إذا علمنا بالمقيد فقد
علمنا بالمطلق أيضا، فيكون قد عملنا بالدليلين معا، لان الرقبة المؤمنة أيضا رقبة بخلاف العكس.
وإما أن يكون التكليف بالمقيد غير التكليف بالمطلق، فلا يجوز حينئذ حمل المطلق على المقيد، لأنه تكليف على حدة، والمقيد أيضا
تكليف على حدة، فكل تكليف يكون مقتضاه باقيا على حاله، فيجب عتق رقبتين:
إحداهما أن تكون مؤمنة البتة، والأخرى: نحن مخيرون فيها بين المؤمنة وغيرها، فيصح بالكافرة كما عرفته.
وأما إذا لم نعلم كونه عين التكليف بالمطلق أو غيره فالأصل يقتضي بقاء كل تكليف على حقيقته وظاهره، لعدم ثبوت خلاف الحقيقة و
الظاهر، ومقتضى ذلك كون التكليف بعتق الرقبتين وبالنحو الذي ذكر.
وأما إذا قلنا: الأصل عدم زيادة التكليف حتى يثبت خلافه، ولم يثبت، لاحتمال اتحاد التكليفين، فيصير مثل عتق الظهار بعينه، لكن
الاحتمال خلاف الأصل والظاهر، لان الأصل الحقيقة، وإرادة رقبة مؤمنة من رقبة مطلقة
410

مجاز، فتأمل.
نعم إذا قلنا: بأن مفهوم الوصف حجة يمكن أن يقال بتحقق التعارض مطلقا، لان الكلام في قوة ان يقال: أعتق رقبة، ولا تعتق رقبة غير
مؤمنة، أو: ليس بواجب عتق الرقبة الغير مؤمنة، فتأمل.
411

فائدة
[13]
الأصل بقاء حكم الشريعة السابقة
الحكم الشرعي الثابت من الشرع السابق على شرعنا، يكون الأصل بقاءه إلى زماننا، إلا أن يثبت خلافه، لان الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم ما نسخ جميع الأحكام السابقة، بل معلوم من الاخبار والاجماع بقاء كثير منها، بل ربما صرحوا عليهم السلام: (بأن هذا ملة
إبراهيم عليه السلام، وهذا شرع آدم عليه السلام). على أن نسخ الجميع لم يثبت، وهذا القدر يكفي. ومن هذا يستدل الفقهاء بكثير مما
ورد في الشرع السابق، مع أنه ربما يظهر حسنه الان أيضا، لأنه تعالى يذكره في مقام مدحهم على وجه يظهر أن حسنه ذاتي، وانه
كذلك في جميع الشرائع، وكذا الحال في القبح والذم، فتأمل.
413

فائدة
[14]
عدم معذورية الجاهل
الفقهاء يقولون: الأصل براءة الذمة، حتى يثبت التكليف، ومع ذلك يقولون: الجاهل ليس بمعذور إلا في مواضع مخصوصة معروفة،
فربما يتوهم التنافي بين القولين.
وليس كذلك، لان الأصل براءة الذمة إلى أن يحصل العلم بالتكليف أعم من أن يكون العلم به تفصيلا أو إجمالا.
والأول: ظاهر عدم براءة الذمة فيه.
وأما الثاني: فبأن يعلم أن عليه أن يفعل واجبا أو واجبات لا يعرفها، أو أن عليه أن يترك حراما أو محرمات لا يعرفها، فلا بد من بذل
الجهد في معرفة تلك الواجبات والمحرمات البتة، لان الواجب معناه: أنه إن ترك يكون معاقبا، والحرام معناه: أنه إن فعل يكون معاقبا
على فعله، فإذا قصر
415

في المعرفة مع تمكنه من تحصيلها لم يخرج الواجب بمجرد هذا التقصير عن وجوبه، وكذا الحرام عن حرمته.
مثلا: إذا قال المولى لعبده لا أعاقبك إلا أن تعلم تكليفي، وتخالف، ثم أعطاه طومارا، وقال: كلفتك في هذا الطومار بتكليفات لو
تركتها وخالفت لعاقبتك، فعليك بفتح الطومار والعمل بما فيه. فلا شك في أن هذا العبد عالم بأنه مكلف بما في الطومار، ولا ينفعه
تقصيره في فتح الطومار وتحصيل قراءة ما فيه، ولا يجعله داخلا في عدم العلم بالتكليف، لان العلم الاجمالي بالتكليف علم بالتكليف، لا
عدم علم به، كمن يعلم أن عليه قضاء فريضة من الخمس لا يعرفها بعينها.
نعم لو لم يتمكن من معرفة تلك التكليفات ولم يتيسر له الامتثال بارتكاب الاحتمالات - كما تيسر في قضائه الفريضة التي لم يعرفها
بعينها، وأمثال ذلك مما يتيسر الامتثال بتأتي الاحتمالات إلى أن يعلم الاتيان - فلا شك في سقوط التكليف حينئذ، وأن الأصل براءة
ذمته، بمعنى: أنه لا يجب عليه التوقف وغيره مما ذهب إليه الأخباريون. وكذا لو لم يعلم التكليف لا إجمالا ولا تفصيلا، فإن الأصل براءة
ذمته بالمعنى المذكور.
إذا عرفت هذا فنقول: من ضروريات دين الاسلام، بحيث يعرفها كل خاص وعام من أهل الاسلام، والخارج عنه: أن في دين الاسلام
واجبات كثيرة، ومحرمات كثيرة، وكل ذلك في غاية الكثرة، بل يعلم بعنوان الضرورة أن فيه من الواجبات: الوضوء، والغسل، والتيمم
والصلاة، والزكاة والصوم، و الحج، وغسل النجاسات من الثوب والبدن وغيرهما، وغير ذلك من الضروريات للدين أو المذهب.
وأيضا ورد في القرآن، والأخبار المتواترة: (إن طلب العلم فريضة
416

على كل مسلم ومسلمة) ونادى بذلك الفقهاء والعلماء في المنابر والمجالس وكل مكان بل غيرهم أيضا في جميع الأعصار والأمصار
بحيث إنه صار كالشمس في رابعة النهار، واطلع عليه المخدرات في الأستار، بل الأطفال الصغار، بتعليم المعلمين في المكتب وغيره، و
كذا الاباء والأمهات، بل لا تأمل في أن ذلك أيضا من ضروريات الدين.
وأيضا ترى جميع أمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يلتزمون بفعل الوضوء، والغسل، والتيمم، والصلاة، وغير ذلك مما لا
حصر له.
فمع جميع ذلك كيف يكون الجاهل معذورا في تقصيره بترك معرفة تفاصيل الأمور التي يعلم وجوبها على الاجمال؟ بل لا بد من بذل
الجهد في تحصيل المعرفة بالأدلة إن كان مجتهدا، والاخذ من المجتهد إن كان عاميا بقدر الوسع إلى أن يحصل المظنة للمجتهد بعدم
الدليل والمعرفة منه، وللمقلد بأنه ليس بأزيد منه عند المجتهد. أو أن يحصل العلم العادي بذلك، ويكون بعد ذلك الأصل براءة الذمة
بالمعنى المذكور، وكذا الحال في أثناء التحصيل.
فإن قلت: أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام ورد فيهم بأن الأصل براءة ذمتهم.
قلت: لا تفاوت بيننا وبينهم في كونهم عالمين بالتكليفات إجمالا، وأنهم حصلوا معرفة المجملات المكلف بها على حسب ما تمكنوا وما
لم يتمكنوا كان الأصل براءة ذمتهم، وكذا ما لم يعرفوا أنهم مكلفون به بعد تحصيل القدر الذي عرفوا تكليفهم به، فإن الأصل براءة
ذمتهم فيه أيضا.
ثم اعلم أن ما ذكرنا ليس مختصا بالواجبات والمحرمات بل إذا صدرت منهم معاملة فاسدة جهلا منهم في فسادها، فلا شك في كونها
فاسدة قطعا، تتميز أصلا ولا ينفعهم جهلهم بالفساد وزعمهم الصحة. نعم ليسوا
417

بمعاقبين في التصرف في مال الاخر مع رضاء صاحب المال، إلا أن يكون الرضا بشرط كون المعاملة صحيحة، فإنه يتصرف في مال
نفسه، لا أنه يتصرف في مال الصاحب، مع أنه ربما يقع في المحرم مثل الربا وغيره.
نعم لو اتفق ان المعاملة صارت صحيحة مستجمعة لجميع شرائط الصحة، تكون صحيحة، لكن الحكم بالصحة إنما يتمشى ويتحقق من
المجتهد، لان باب العلم بالأحكام الشرعية مسدود كما حقق في محله، لأنه لا بد من اعتبار أخبار الآحاد، وأصالة العدم، أو البقاء أو براءة
الذمة، أو كلام اللغوي، وأمارات الحقيقة والمجاز، أو غير ذلك من الظنون، كما مر الإشارة إليه في الفوائد.
مع أن العلمي في الفقه مثل: الاجماع، والمتواتر، لا يمكن للعامي معرفته، سيما في المتواتر، للحاجة إلى الظنون بحسب الدلالة، والقطعي
الدلالة غير موجود، وعلى فرض الوجود لا يتمكن العامي من معرفته قطعا.
وبالجملة لا شبهة في أن العامي لا يمكنه معرفة الفقه من جهة إلا من جهة التقليد، كما ذكر في الفوائد وواضح أيضا. نعم ضروري الدين
أو المذهب يكون معرفته من غير جهة التقليد، ولذا يمكنه الحكم بفساد المعاملة إذا كان الفساد ضروريا، وإلا فلا. هذا حال معاملات
الجاهل.
وأما عباداته: فأما أن تكون عبادته فاسدة عند جمهور الفقهاء، أو صحيحة عند بعضهم فاسدة عند بعضهم، أو صحيحة عند الجميع على
تقدير حصول معرفته.
والأولى: فاسدة عند الجميع، وإن اتفق كونها صحيحة بحسب الواقع، لأنا مكلفون الان بالتكليفات الظاهرية لا الاحكام الواقعية كما
حقق في محله. والمراد من التكليفات الظاهرية، أن الظاهر عند المجتهد أنه حكم الله
418

الواقعي.
وأما الثانية: فلعلها أيضا تكون فاسدة عند الجميع، لان الجاهل لم يقلد القائل بالصحة، والقائل بالصحة إنما يقول بالصحة لنفسه ولمن
قلده، ولذا يحكم بالفساد للقائل بالفساد ولمن قلده، ويحتمل أن تكون صحيحة عند القائل بالصحة، فاسدة عند القائل بالفساد، لكن لا
ينفعه قول القائل بالصحة ما لم يقلده، إذ لا وجه للحكم بالصحة وترجيحه على الفساد مع عدم التقليد أصلا. وأما أن التقليد لا بد من أن
يكون تقليد المجتهد الحي لا الميت فقد مر الكلام فيه.
وأما الثالثة: فالمعروف من أصحابنا الفساد أيضا لان المراد في الفقه على الظنون كما عرفت، والظن ليس بحجة ما لم يكن عليه دليل
شرعي، كما حقق في محله، وذكرنا في الفوائد، وقد بسطنا الكلام فيه في رسالتنا في (الاجتهاد والاخبار)، وأن العمل في الحقيقة على
اليقين لا الظن، لأنه في الطريق كالعمل بشهادة العدلين وغيره، وليس ذلك محل تأمل لاحد من الفقهاء، ولا يمكن أن يصير محل تأمل
لاحد إلا الغافل. وقد ذكرنا في الفوائد أن الظن الذي ثبت كونه حجة ظن المجتهد والمقلد له، وحقق ذلك في محله.
وأيضا ورد في الاخبار أنه لا عمل إلا بالفقه والمعرفة وإصابة السنة وأمثال ذلك.
وأيضا ورد في الاخبار عدم الرجوع إلى غير الأئمة عليهم السلام وأنه لا يجوز العمل بالرأي والظنون وتقليد غير المعصوم عليه
السلام سوى الفقهاء، بل تقليد الفقهاء في الحقيقة تقليد المعصوم عليه السلام، لأنه إنما يقلده بأمر المعصوم عليه السلام وتجويزه عليه
السلام، كما ذكر في الفوائد وغيرها، وحقق في الكلام أن الحجة قول الله تعالى وقول المعصوم عليه السلام ليس إلا.
419

وأيضا شغل ذمة الجاهل يقيني كما عرفت فلا بد من البراءة اليقينية لقولهم عليهم السلام: (لا تنقض اليقين، إلا بيقين مثله)، وحصول
الامتثال العرفي لقوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، ولأن التكليف يستدعي الامتثال، ولا يتحقق الامتثال إلا بإتيان المطلوب
كما هو هو، أو يرخص الامر بالاكتفاء بالظن عوض مطلوبه، فلا يعلم أنه ممتثل.
وأيضا الموافق للقواعد العدلية أن المؤاخذة من جهة الفعل أو الترك، وكذا الثواب الذي بإزاء الفعل أو الترك إنما هو بإزائهما، ومعلوم
أن الجاهل الذي اتفق مطابقة عبادته للواقع، والجاهل الذي اتفق مخالفتها له في الفعل والترك والتقليد والتقصير واحد من دون
تفاوت، ومجرد اتفاق المطابقة والمخالفة ليس بفعلهما وقصدهما وإرادتهما، لان كلا منهما قصده المطابقة وعدم المخالفة، ومحض
الاتفاق كيف يصير سببا للعقاب الطويل، أو المخلد إن كان المطلوب من أصول الدين، ومنشأ للثواب الدائم الذي هو بإزاء عمل المكلف.
وأيضا النية شرط في صحة العبادة فإذا لم يعرف أنها عبادة مطلوبة منه، فحين فعله كيف ينوي أنه يفعلها طاعة لله تعالى وقربة إليه؟
مع أنه لا يعلم أنه إطاعة له تعالى ومقرب إليه، لأنه لا يعلم أن هذا الشخص من الفعل الذي يفعله هو الذي أمر الله تعالى به، وإذا علم أنه
هو الذي أمر الله تعالى به يكون عالما لا جاهلا، والمفروض أنه جاهل بذلك، وإن ظن أنه
420

المطلوب منه بمجرد تقليده الاباء والأمهات أو باستحسان عقله فكيف ينوي التقرب مع أنه لا يعلم أنه تعالى راض بالتعويل على ذلك
التقليد أو الاستحسان؟ بل قد عرفت أن وجوب تحصيل المعرفة، وعدم جواز المسامحة والتقصير في المعرفة، من المتواترات
المعروفة، وضروريات الدين، وأنه كالشمس وغير ذلك مما مر، بل ومر أنه لا يجوز الاعتماد على الرأي والاستحسان وقول غير
المعصوم عليه السلام أو غير من يأمر به المعصوم عليه السلام.
وأيضا العبادات توقيفية موقوفة على النص، لا على أي ظن يكون وعلى الاستحسان وتقليد من ليس بحجة.
واختار المقدس الأردبيلي ومن وافقه صحة عبادة الجاهل بشرط أن تطابق الواقع، وإن لم تطابق تكن فاسدة عنده أيضا، لعدم إتيانه
بالمأمور به، وإذا طابقت يكون آتيا بالمأمور به، لان المعرفة ليست جزا للمأمور به، ولا شرطا لصحته، لعدم ثبوت ذلك، بل وثبوت
العدم كما يظهر مما ورد في تيمم عمار وطهارة بعض الأنصار وغير ذلك مما ذكرنا في الفوائد، وذكرنا الجواب عنه.
ونقول هنا: إن أراد المقدس انه لا عقاب على الجاهل أصلا فقد عرفت أنه ليس بجاهل في التكليف، فإن الأطفال - فضلا عن النساء، فضلا
عن الرجال - يعلمون أن في الدين تكليفات، بل ويعلمون أنه لا بد من معرفتها على ما أشرنا إليه، بل ومن يدخل في الدين أيضا يجزم
أن في الدين شرائع وتكليفات، بل كل دين كذلك.
وإن أراد أنه مؤاخذ في ترك التعلم الذي هو فريضة عليه، لكن عبادته صحيحة إن طابقت الواقع.
421

ففيه أولا: أنه قد عرفت عذر الفقهاء.
وثانيا: إن اعتقاد الصحة من المقدس كيف ينفع الجاهل الذي لا يعرف انها صحيحة؟ غاية ما في الباب أنه يزعم الصحة لا أنه يعرفها من
الشرع، فإن كان هذا الزعم كافيا للصحة عنده وحصول براءة ذمته فيلزم من هذا أن تكون ما خالفت الواقع أيضا صحيحة ومبرئة
للذمة، لان زعمه الصحة موجود فيما خالفت الواقع أيضا من دون فرق عنده أصلا بل ربما كانت المخالفة للواقع عنده أوثق في كونها
صحيحة، مع أنه لا بد من دليل على كون هذا الزعم كافيا لبراءة ذمته، مع أن الأدلة تقتضي عدم الكفاية بل وعدم جواز متابعته كل زعم
أو ظن أو رأي أو استحسان أو تقليد، إلا ما رخص الشارع وجعله حجة على حسب ما عرفت.
وبالجملة إن بني الامر على أن المكلف لا بد من أن يعرف امتثاله وخروجه عن العهدة حتى يصير بري الذمة، فقد عرفت أنه لا يمكنه
معرفة المطابقة للواقع وتمييزها عن المخالفة للواقع، بل بزعمه أن الكل مطابق للواقع، فزعمه لا يكون كافيا لبراءة ذمته البتة، مع أن
الأدلة أيضا تدل على خلافه، وإن أراد أنه إذا قلد المجتهد الذي يقول بالصحة تكون صحيحة، فيصير حينئذ عالما غير جاهل، أو يخرج
من المفروض، مع أنه لا يمكنه تمييز ما طابق الواقع عن غيره، والشرط من مجتهده أنها صحيحة بشرط المطابقة فلا ينفع التقليد أيضا.
وإن بني الامر على أن الصحة والخروج يتحقق من غير حاجة إلى معرفة التكليف.
ففيه: أن امتثال الامر عرفا إنما يتحقق إذا علم الخروج، إذ لو اعتقد أنه لم يتمثل ولا يريد الامتثال فلا شك في كونه عاصيا.
422

والحاصل أنه لا بد من أن يعرف أنه ممتثل ومطيع، حتى يقال عرفا أنه مطيع ممتثل لله تعالى، وكذا قوله عليه السلام: (لا تنقض اليقين
إلا بيقين مثله) يقتضي عدم نقض المكلف يقينه بالتكليف السابق، والاستصحاب أيضا يقتضي ذلك، والفقهاء أيضا بناؤهم على ذلك، و
المدار في الأعصار والأمصار على ذلك، وكذا سائر الأدلة السابقة يقتضي ذلك، فلاحظ، وتأمل جدا.
هذا مع أن الفقهاء يقولون: لا يكفي مجرد المطابقة، وهم سمعوا ذلك، فكيف يطمئنون بالامتثال؟ بل عندهم أن امتثال هذا مرجعه
الفقهاء، فمقتضى ذلك عدم الامتثال إن لم يكن مسامحتهم في الدين.
مع أن الذي يقول بالكفاية يشترط تحقق المطابقة، وعدم كفاية اعتقاد المطابقة، فمن أين يدرون تحقق الشرط؟ مع أن الأصل عدم
التحقق فتأمل جدا.
وثالثا: أن استدلاله بالاخبار لا يخلو عن غرابة، لأنها لو دلت على ما ذكر لدلت على مفاسد وشنائع مثل قول الرسول صلى الله عليه و
آله وسلم لعمار:
(أ فلا صنعت هكذا)، فإنه إذا جعل المدلول أنك لو صنعت هكذا من غير الاخذ من الشرع لكان صحيحا ولم يكن عليك شئ، فيلزم من
ذلك أن لا يكون عليه عقاب بترك التعلم الذي فريضة على كل مسلم وأن يكون الرجوع إلى غير الشرع في العبادات التوقيفية جائزا،
فلم يكن وظيفة الشرع، والرجوع إلى غير الشرع لا يكون إلا بالرجوع إلى الرأي والاستحسان ومجرد الجعل والاختراع وأمثال
ذلك، فيكون هذه الأمور حجة. ويلزم أيضا الاكتفاء في مقام الامتثال بمجرد الخيال والاحتمال، وعدم
423

الحاجة إلى قصد القربة، مع أن فعل التيمم الصحيح من غير الاخذ من الشرع محال جزما، لعدم طريق للعقل إليه ولا غير العقل، فكيف
يقول
[له:]
أ فلا صنعت المحال؟ وبالجملة بملاحظة جميع ما ذكرت لا يبقى تأمل في أن مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الفعل
هكذا بالنحو الذي يمكن عقلا وشرعا، وليس إلا بالأخذ من الشارع.
ومثل: طهارة الأنصاري، إذ يظهر من الخبر أنه فعل الغسل من غير ورود الشرع به، ولا يخفى أنه أدخل في الدين وغير التطهير
الشرعي، وهو غير محل النزاع، ومع ذلك مخصوص بخصوص واقعة لا يجوز التمسك به، والاحتجاج به، لأنه يلزم أن يكون التشريع و
البدعة جائزا وراجحا - أيضا - موجبا لمدح وثناء من الله العظيم.
ومثل: الامام الذي سلم في الركعتين، فقام وأضاف إليهما ركعة، والمعصوم عليه السلام قال: (كنت أصوب فعلا).
فإن قيامه وإضافته الركعة إن كان بالأخذ من القاعدة الشرعية فلا دخل له في المقام، لأنه كان مجتهدا، فصوب عليه السلام اجتهاده، و
هو الظاهر من الخبر.
وإن كان ذلك من غير الاخذ من الشرع لا جرم يكون مجرد الرأي والاستحسان والاختراع، فيكون المعصوم عليه السلام حكم بكون
هذه الأمور حجة حتى في العبادات الموقوفة على النص، بل ويكون أقوى من الحجة الشرعية وهو: أنه إذا لم يعلم الصحة شرعا يجب
الاحتياط، وتحصيل براءة
424

الذمة اليقينية، والامتثال العرفي، وغير ذلك مما ظهر من الأدلة المذكورة المعلومة، وهذا لا يتأتى إلا بالإعادة كما فعل المأموم.
ويلزم أيضا عدم وجوب طلب العلم والمعرفة والاكتفاء في الامتثال بمحض الجعل والخيال وغير ذلك مما مر من المفاسد: مثل أنه
كيف قام إلى ركعة، وبنى على أنها عبادة شرعية، ونوى القربة والامتثال؟ مع أنه لم يظهر عليه دليل شرعي أو قاعدة شرعية أن
الشارع طلبها منه بل قام بمجرد الجعل. وكيف يقول للمعصوم عليه السلام: إني بمجرد الاختراع قمت وصليت ركعة وبقصد القربة
فعلت، وبعض الرواة قال له عليه السلام: إني اخترعت دعاء فزبره المعصوم عليه السلام، وقال: (دعني من اختراعك)، فكيف يقول في
مثل هذه الفريضة: (كنت أصوب فعلا)؟. (1)
ومثل صحة حج من مر بالميقات جاهلا به، فإنه لا شك في أن المار لم يكن عالما بأنه ميقات، ولم يرد الإطاعة أصلا ولم يقصد القربة،
فهو مثل الجهل بنجاسة ثوب المصلي، وغيره مما يتعلق بالعبادات، إذ العبادة لا تصح

(1) هذا قطعة من حديث ما لفظه: عن علي بن النعمان الرازي (قال كنت مع أصحاب لي في سفر وأنا إمامهم فصليت بهم المغرب فسلمت
في الركعتين الأولتين فقال أصحابي إنما صليت بنا ركعتين فكلمتهم وكلموني فقالوا اما نحن فنعيد فقلت لكني لا أعيد وأتم بركعة
فأتممت بركعة ثم صرنا فأتيت أبا عبد الله عليه السلام فذكرت له الذي كان من أمرنا فقال لي: أنت كنت أصوب منهم فعلا... الحديث)
راجع الوسائل 5:
307 الباب 3 من أبواب الخلل الحديث 3.
425

بغير نية، فلا دخل له في المقام.
وعلى تقدير التسليم فغاية ما في الباب أن الجهل في هذا الموضع يصير أيضا عذرا إذ لا نزاع في أنه في بعض المواضع يصير الجهل
عذرا، لا أن عبادة الجاهل مطلقا صحيحة. هذا على تقديره صحة الخبر، وكونه معمولا به.
ثم اعلم يا أخي: أن الله تعالى ورسوله والأئمة صلوات الله عليهم قد أكثروا في إيجاب طلب العلم والفقاهة والمعرفة والاقتصار في
الاخذ من الشرع وغير ذلك مما أشرنا إليه، وأكدوا غاية التأكيد، وشددوا نهاية التشديد، كي تصح عباداتهم وأعمالهم، ولا يزيد
كثرة سيرهم زيادة البعد عن الطريق، فيضلوا، ويهلكوا. وكذا فعل الفقهاء في كل عصر ومصر، ومع ذلك نرى العوام يسامحون في
الدين، وأعمالهم وعباداتهم مخالفة لنهج الشرع، فكيف يجوز تسهيل ما شدد الله والحجج المعصومون عليهم السلام، ورفع التأكيد
فيما أكدوا، وتجرئة العوام وتغريرهم. والله يعلم.
ويمكن أن يقال: إذا حصل للعامي ظن قوي بكون ما فعله على وفق الشرع وما أفتى به المفتي، ووثق بظنه إلى حد يتأتى منه قصد
الامتثال والقربة حين شروعه في الفعل، وفعل قربة إلى الله تعالى، ثم عرض فعله على المجتهد، فرأى أنه صحيح، فعلم من ذلك موافقة
ظنه للواقع، وعدم خطئه به يحصل امتثاله والخروج عن العهدة به، سيما إذا صرح المجتهد بالكفاية.
426

ويمكن أن يقال أيضا إنه وإن لم يخرج عن العهدة حال الأداء إلا أن القضاء بفرض جديد، ولا دليل على وجوب القضاء مع تحقق
المطابقة، لان القضاء يثبت بفوات الفعل، والظاهر من الفوت ترك نفس الفعل لا ترك المعرفة بأنه فعله.
ويمكن أن يقال بمثل هذا في الإعادة أيضا بأنه لا يقتضي بأن المعرفة شرط لثبوت الامتثال والخروج عن العدة، فتأمل في الأدلة حتى
تعرف الحال لان ما ذكر أيضا لا يخلو عن إشكال.
ومن العجائب أن بعض الأخباريين يصرح بأنه لا يجوز في المسائل الشرعية أن يستند إلى غير نص المعصوم عليه السلام، ولا يكتفي
فيها بالاستناد إلى الاجماع وغيره من أدلة المجتهدين، ويشنع على من يكتفي بها بأنه ليس نص المعصوم عليه السلام فكيف يكتفي في
الشرعيات بغير نصه؟ ومع ذلك يكتفي للعامي الجاهل أن يستند إلى رأيه واستحسانه، أو يستند إلى قول كل عامي فاسق، أو غير ذلك
مما ليس بنص المعصوم عليه السلام، وأين قول العامي الفاسق من إجماع الفقهاء؟ وأين ظن الجاهل ورأيه واستحسانه من أدلة
المجتهدين؟ فتأمل.
وأعجب من هذا استدلال بعضهم على الصحة بعموم (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) (1)
وأمثاله.

(1) الخصال 2: 417، الحديث 9. ونصه هكذا: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رضي الله عنه قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن
يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، و
التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة).
427

ولا يتفطن بأن هذا لو تم لكان يقتضي أن تكون عبادته الفاسدة كلها صحيحة شرعا، فإني رأيت من الجهال من لا يعرف من الصلاة
سوى القيام والقعود، من دون طهارة ولا قراءة ولا ركوع ولا سجود ولا تشهد ولا تسليم بل اعتقاده أن قيامها وقعودها لا حد لهما،
كلما يزيد يكون أولى، ويقول: هذه صلاتنا وأما صلاة العلماء والصلحاء فغير هذه، ولا حاجة إلى تعريف عبادة الجهال بل يراها كل
أحد.
وأيضا يقتضي أن كل جاهل اعتقد في الدين حكما بمحض اعتقاده، بل يكون دينه أحكاما فاسدة، وهو يعتقد شرعيتها بمحض جهله أو
تقليده الجهال، أو يخترع عبادات بكيفيات عجيبة - كما ترى ذلك في النساء، بل وفي الرجال أيضا - ويكون جميع ذلك صحيحة
شرعية، من جهة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال (رفع عن أمتي ما لا يعلمون).
بل ربما اقتضى ذلك أن عبادات أهل السنة، وجهالهم وبدعهم أيضا تكون صحيحة، حتى أنه عندهم أن قتل الشيعة وأسرهم وسبي
نسائهم واستحلال فروجهن من أقرب القربات عند الله عز وجل فيلزم أن تكون صحيحة موجبة للثواب، ولا يكون فيها عقاب، لأنهم
من الأمة، مع أنه ربما يتحقق أمثال ذلك في جهال الشيعة أيضا.
وربما يقتضي أيضا أن العوام لو تركوا جميع عباداتهم التي ما أخذوها من الفقيه لا يكونون آثمين أصلا لقول الرسول صلى الله عليه و
آله وسلم: (رفع...) إلخ، لان مقتضى هذا أنه لا إثم ولا مؤاخذة، لا أن أحكامهم وعباداتهم صحيحة شرعا، فمقتضى الحديث جواز الترك،
ولا الصحة شرعا.
428

فإن قالوا: إنهم عالمون بأنهم مكلفون، سيما بالعبادات والواجبات المعلومة بالضرورة، ولا شك في أن التكليف: عبارة عن اشتغال
ذمتهم، ولا شك في أن شغل الذمة يستدعي البراءة، والخروج عن العهدة، ولا يتحقق ذلك إلا بإتيان ما كلفوا به، ولا يمكن ذلك إلا
بمعرفته، وبعد المعرفة يخرجون عن الجهل وعن محل النزاع.
والقول: بأن كل توهم يكون معرفة، وكذا تقليد كل جاهل - مما لا يصح أن يصدر عن عاقل.
429

فائدة
[51]
إجراء أحكام المبدل منه على البدل
اعلم أن الفقهاء يجرون في البدل الشرعي عن المبدل منه الشرعي أحكام ذلك المبدل منه إلا أن يثبت خلاف ذلك من الشرع مثلا:
يحكمون في التيمم بوجوب البدأة من الأعلى في المسح، وترتيب اليدين بتقديم اليمين على اليسار، وغير ذلك. وكذا وجوب الاخفات
في التسبيح بدل الحمد في الركعتين الأخيرتين، وغير ذلك مما لا يحصى.
والظاهر أن دليلهم هو الفهم العرفي، أ لا ترى أن عمارا تمعك
(1) في

(1) في حديث عمار (وقد أصابته جنابة فتمعك). أي جعل يتمرغ في التراب ويتقلب.. يقال معكته في التراب معكا من باب نفع: دلكته. و
المراد أنه ماس التراب بجميع بدنه، فكأنه لما رأى التيمم في موضع الغسل ظن أنه مثله في استيعاب جميع البدن. (مجمع البحرين - 5:
288 - مادة معك).
431

التراب، وتمرغ في تيممه مع صلاحه وتقواه وتدينه، وكونه من أهل المعرفة واللسان، ولعلك بملاحظة محاورات العرف و
معاملاتهم يظهر ذلك عليك.
وبالجملة أي موضع يتحقق فيه الفهم العرفي يمكن الاستناد والاحتجاج وأما كون الامر كذلك كليا فمحتمل، ويحتاج ثبوت ذلك إلى
تأمل تام، وعرفت في الفوائد اعتبار الفهم العرفي وكونه حجة، فلاحظ، وتأمل.
432

فائدة
[61]
الاستدلال على صحة العقود الخلافية
اعلم أنه تعارف الان أن العلماء يستدلون على صحة العقود الخلافية بقوله تعالى: أوفوا بالعقود، وقوله عليه السلام: (المؤمنون عند
شروطهم).
ولا يخلو عن إشكال.
وأما قوله تعالى: أوفوا بالعقود فإن بني على معناه اللغوي: أي أي عقد عقدتم، وبأي نحو اخترعتم، وتخيلتم، وأحدثتم يجب الوفاء به،
433

ويصير حكما شرعيا، وداخلا في دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وشرعا من شرعه من غير حد وضبط وحصر، فمع أنه لا
يخلو عن حزازة ظاهرة يلزم أن لا يكون المعاملات وعقودها على النهج المقرر في الفقه والمسلم عند الفقهاء من انحصارها شرعا في
البيع، والصلح، والهبة، والإجارة، وغيرها من المعاملات المعهودة المضبوطة المعروفة المثبتة في كتب الفقه، بل يلزم عدم الانضباط
شرعا في المعاملات أصلا ورأسا، وعدم الانحصار في كيفية ونحو ذلك مطلقا.
وإن بني على أنه خرج ما خرج بالاجماع أو النص وبقي الباقي لزم التخصيص الذي لا يرضى به المحققون، لخروج الأكثر، بل الباقي
في جنب الخارج في غاية القلة، بل بمنزلة العدم.
وإن بني على أن المراد العقود المتحققة الموجودة المتداولة في ذلك الزمان يشكل الاستدلال، لأنه فرع ثبوت التداول والتعارف.
وأما قوله عليه السلام: (المؤمنون عند شروطهم) فالامر فيه أشكل، ولذا صرح المحققون بأنه محمول على الاستحباب، وإن كان
بعضهم يستدل به، والظاهر أنه غفلة منه، أو الغرض التأييد. ومع هذا يشكل رفع اليد عن الاستدلال بالآية، لان المدار في تصحيح كثير
من المعاملات بل كل المعاملات عليه.
ويمكن أن يقال المراد: العقود المتحققة الموجودة في ذلك الزمان، وأنه لا شك في كون ماهية البيع والصلح والهبة وغيرها مما ضبط
في الفقه كانت متحققة في ذلك الزمان ومتداولة ومعروفة. والاشكال عند الفقيه إنما هو في الحكم بصحتها شرعا، وأن لها شرطا
شرعيا للصحة أم لا، فيتمسك في الحكم بصحتها بالآية وكذا بعدم شرط الصحة، إلا أن يثبت من الدليل الشرعي.
434

وأما الصحة فللأمر بوجوب الوفاء، فلو لم تكن صحيحة شرعية لما أمر بوجوب الوفاء، لأنه ظاهر في الامضاء والتقرير.
وأما عدم الشرط لها، فللعموم والاطلاق. لكن يشكل الاستدلال بها على صحة العقود الجائزة مثل: الشركة والمضاربة، وغيرهما، لعدم
وجوب الوفاء بها جزما، إلا أن يجعل المراد وجوب الوفاء بمقتضاها في موضع ثبت المقتضي، لا في موضع لم يثبت.
وكذا لا يمكن الاستدلال بها على صحة العقد الذي لا يمكن للعاقد الوفاء بمضمونه، إذ ليس شئ يتأتى للعاقد الوفاء به مثل: عقد الولي
على بنته الرضيعة متعة يوما أو مثله، لعدم تأتي تمتع بها، ولا ثمر آخر يتأتى للعاقد الوفاء به، والخروج عن عهدته.
وأما الثمرات التي تكون فرع ثبوت صحته ومشروطة بها مثل: حلية النظر إلى أمها، فلا يمكن الاستدلال عليها، للزوم الدور. مع أنها
ليست بيد الولي ولا من الأحكام التكليفية، حتى يقال: يجب على الولي الوفاء بها قطعا، بل من الأحكام الوضعية القهرية شرعا.
مع أن النظر إلى الام ليس بيد الولي قطعا، إن كان حلالا فحلال، وإلا فلا، من غير مدخلية للولي أصلا، بل الام أولى بالخطاب بكشف
الوجه للمتمتع بها من الولي، مع أنها ليس باختيارها حلية النظر وحرمته، مع أنها ليست بطرف للعقد قطعا. وقد كتبنا في هذا رسالة
مبسوطة.
ومما ذكر ظهر أنه لا يمكن الاستدلال بها وبنظائرها، على صحة عقود الصبيان ومعاملاتهم، كما فعله بعض المحققين غفلة، لعدم
وجوب شئ عليهم،
435

وعدم خطابهم بالواجبات.
بل ويشكل الاستدلال ب آية أحل الله البيع أيضا للسياق حيث قال: وحرم الربا مع أن الاحلال أيضا ظاهر في كونه بالنسبة إلى من هو
قابل لان يحرم عليه الشئ، فتأمل جدا. مع أنه مطلق، والمطلق ينصرف إلى الافراد الشائعة الغالبة، فتأمل.
436

فائدة
[71]
إذا تعذر بعض أجزأ الواجب
الواجب الذي له أجزأ، إذا كان بعض أجزائه غير ممكن الحصول، أو حصوله في غاية المشقة بحيث يستلزم الحرج، فهل يسقط وجوبه
بالمرة، إلا أن يدل دليل على وجوب الاتيان بما بقي؟ مثل وضوء الأقطع وغيره مما دل الاجماع أو الاستصحاب أو النص على وجوبه، أو
يجب الاتيان بما بقي إلا أن يدل دليل على عدم وجوبه؟ مثل: الصلاة بالقياس إلى الركعات وما ماثلها من الاجزاء، وكذا الصوم، و
أمثالها من الواجبات التي وقع الاجماع أو دليل آخر على عدم مشروعية بعضها منفردا مطلقا ظاهر كثير من فقهائنا الثاني، لقول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم (1)

(1) عوالي اللئالي 4: 58 الحديث 206 وورد فيه: وقال عليه السلام (إذا أمرتم بأمر فأتوا منه بما استطعتم).
437

ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الميسور لا يسقط بالمعسور)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: (ما لا يدرك كله لا يترك
كله). والاخبار الثلاثة يذكرها الفقهاء في كتبهم الاستدلالية على وجه القبول وعدم الطعن في السند أصلا، ونقلت في الغوالي عنهم
عليهم السلام ومشهورة في ألسن جميع المسلمين يذكرونها ويتمسكون بها في محاوراتهم ومعاملاتهم من غير نكير، مع جريان
الاستصحاب في كثير منها بل جلها لو لم نقل كلها.
وظاهر بعضهم الأول، لان الواجب هو المجموع من حيث المجموع، وما بقي ليس هو المجموع من حيث المجموع، فلا وجه للحكم
بوجوبه، مع أن الأصل براءة الذمة.
وأما الاخبار فيطعن في سندها، وربما يطعن في الدلالة بأن البعض ليس من المأمور به، وكذا الكلام في الخبرين الأخيرين، ويحمل
الكلام على ما إذا كان المطلوب متعددا، والمتعدد كل واحد واحد مطلوبا، ولا شك في أن الاحتياط في الثاني، لو لم نقل برجحانه
بحسب الفتوى. الظاهر الرجحان.
والظاهر عدم جريان هذه القاعدة في الاجزاء العقلية، لاتحادها في الخارج وبساطتها، وكون التعدد في طرف تحليل العقل، وكون
وجود أحدهما عين وجود الاخر.
وربما قيل بجريانها فيه أيضا ولعله لا يخلو من الاحتياط، فتأمل.
438

فائدة
[81]
هل الواو تفيد الترتيب أم لا
]
الواو لا تفيد الترتيب على المشهور والأقوى، كما حقق في محله. وقيل:
بإفادتها له. وليس بشئ.
وأما الترتيب الذكري: فربما قيل بإفادته الترتيب شرعا، وبحسب الحكم الشرعي، وربما كان نظره إلى أن الفاعل المختار لا يختار
بغير مرجح، فإذا كان شارعا فالمرجح يكون شرعيا.
وفيه نظر ظاهر، لأنه لا بد من تقديم وتأخير على أي تقدير، فاختيار صورة ربما يكون من جهة كونها أحد أفراد المخير، والترجيح
في الاختيار يكفي كونه بمرجح ما - أي مرجح يكون - ولا يتوقف على كونه حكما شرعيا، وإن كان الفاعل هو الشارع، إذ لا يلزم أن
يكون كل ترجيح منه بمرجح شرعي يكون حكما شرعيا.
439

مع أن طريقة مكالماته ومخاطباته ومحاوراته مع المكلفين بطريقة العرف واللغة - كما ذكرنا في الفوائد -، وأهل العرف لا يفهمون
ذلك، كما أن اللغة أيضا لا تقتضي ذلك، فكيف يكتفي في الايصال والابلاغ والبيان وإتمام الحجة عليهم بما ذكر، مع أنه شئ لا يعرفه
العلماء والبلغاء، فكيف عامة المكلفين؟ نعم ورد في غير واحد من الأخبار المعتبرة المفتي بمضمونها الحجة عند الأصحاب أنهم عليهم
السلام قالوا: (ابدأ بما بدأ الله)
(1)
مشيرين إلى ما بدأ الله في القرآن، وإن ورد ذلك في مواضع خاصة مثل: الوضوء والصفا والمروة
(2)
على ما هو ببالي، أو غير ذلك.
إلا أنه تحقق أن العبرة بعموم اللفظ، لا خصوص المحل، فيظهر من هذا أن القاعدة في الترتيب الذكري الذي هو في القرآن أن يترتب
بحسب الحكم الشرعي، ويؤيده أن في القرآن إشارات للأذكياء الحذاق، فتأمل.

(1) الوسائل 1: 316، الباب 34 من أبواب الوضوء الحديث 1. جاء في ذيله (ابدأ بما بدأ الله عز وجل به).
(2) والآيتان هما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم و
أرجلكم إلى الكعبين) المائدة: 6 وقوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما
ومن تطوع خيرا فان الله شاكر عليم) البقرة: 158.
440

فائدة
[19]
لو شك في جزئية شئ أو شرطيته
قد ذكرنا في الفوائد أن العبادات توقيفية، لعدم معرفة ماهيتها إلا بنص الشارع أو فعله، وذكرنا أيضا أن بيانها إذا كان بذكر أجزائها
لا يكون الألفاظ الدالة على الاجزاء توقيفية، بل يرجع فيها إلى العرف واللغة، لعدم الاجمال فيها وعدم الجهل بمعانيها، لانصراف الذهن
منها إلى معانيها وفهمها منها.
فعلى هذا لو كان التكليف بعبادة أولا وبالذات تكليفا وخطابا بالاتيان بأجزائها لا يكون فيها حينئذ إجمال، كلما يفهم من الاجزاء
بحسب العرف يكون مكلفا به، والأصل عدم زيادة جز أو شرط، إلا أن يثبت.
ويكون حال هذه العبادات حال المعاملات، كما قال صاحب
441

المدارك هذا المعنى في الوضوء: بأن الله تعالى أمر بغسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين كيف كان الغسل والمسح، فلا
إجمال أصلا.
فما يثبت من دليل اعتباره مثل الترتيب والموالاة والنية وغير ذلك نقول به، وما لا يثبت فالأصل عدمه، ولا حاجة إلى بيان فعلي أو
قولي كما هو الحال في العبادات.
لكن غير خفي أن سورة المائدة آخر سور القرآن نزولا، والوضوء كان في أول الشريعة واجبا، فلا يكون إنشاء التكليف بالوضوء من
هذه الآية، وليست بيانا لماهيته، لأنهم في ذلك الزمان يعرفونها. ولأن البيان لا بد أن يكون وافيا محيطا بجميع المبين، والآية ليست
كذلك قطعا، فتأمل.
442

فائدة
[20]
تحصيل البراءة بالظن الاجتهادي
لا تأمل لاحد من الفقهاء في أن شغل الذمة إذا كان يقينيا فلا بد من البراءة اليقينية.
وأدلته متعددة تامة كما ذكرناها في الفوائد.
نعم ربما يكتفون في تحصيل البراءة بالظن الاجتهادي الحاصل بجميع شرائط الاجتهاد بناء على حصول اليقين منه، لان المجتهد يجعله
صغرى، وهو يقيني وجداني، يقول: هذا ما حصل به ظني وله كبرى يقينية وهي: أن كلما حصل به ظني فهو حكم الله يقينا في حقي وحق
مقلدي وقد أثبتنا الكبرى في الفوائد، فالنتيجة يقينية.
وربما يتمسك بعضهم بأصل البراءة، لا لأنه محصل لليقين بالبراءة، بل لأنه لا يحصل اليقين باشتغال الذمة بما نفوه بالأصل، بناء على أن
القدر الذي
443

يثبت اشتغال الذمة به يقينا هو الذي ثبت بالاجماع، والنص، وأزيد من ذلك لم يثبت اشتغال الذمة به أصلا، والأصل براءة الذمة. فالقدر
الذي تيقنوا اشتغال الذمة به يحكمون بوجوب تحصيل البراءة اليقينية له، والقدر الذي لا يحكمون بتحصيل البراءة له يحكمون بعدم
اشتغال الذمة به أصلا: إما بناء على أن التكليف بتلك العبادة ثبت أولا وبالذات بالامر بالاتيان بأجزائها مفصلة - كما نقلناه في الفائدة
السابقة - أو لأنهم يقولون بجريان أصل البراءة في الماهية المجملة أيضا إذا ثبت قدر منها بالاجماع أو النص، أو أنه لا يتحقق التكليف
بالمجمل أصلا، بل التكليف إنما يكون بالمبين خاصة، كما نقلناه عنهم في الفوائد، وذكرنا أنه خلاف ما ذهب إليه الأكثر، وذكرنا دليل
الأكثر.
ومن هذا توهم بعض: أن القاعدة المذكورة - وهي أن شغل الذمة اليقيني يستدعي البراءة اليقينية - ليست مسلمة عند الكل، وليست كما
توهم، كما لا يخفى على المطلع المتأمل.
444

فائدة
[21]
الفرق بين الاحتياط ووجوب تحصيل البراءة اليقينية
فرق بين الاحتياط عند المجتهدين، ووجوب تحصيل البراءة اليقينية، لان الاحتياط عندهم من المستحبات، وأنه إنما يكون إذا حصل ظن
اجتهادي بكفاية شئ، إلا أن الأوثق شئ آخر مثلا: إن يترجح عندهم أن الظن في الركعتين الأوليين مثلا يكفي وصحيح، إلا أن بعض
الفقهاء يقولون:
بعدم جواز التعويل عليه فيهما، ويظهر ذلك من بعض الاخبار، وإن كان الأظهر عندهم الكفاية، يحكمون بحسن الاحتياط بإعادة تلك
الصلاة.
وأيضا الأصل براءة الذمة من تكليف، حتى يثبت بدليل تام شرعي.
لكن ربما يرون: أن بعض الأدلة الناقصة يقتضي تكليفا، أو يظهر من دليل احتمال تكليف، أو الدليل الدال على التكليف معارض بما
يقاومه، فيحكمون بحسن الاحتياط بارتكاب ذلك التكليف. وقس على ذلك.
445

والاحتياط يحكم به العقل، وورد به النقل مثل قولهم عليهم السلام: (احتط لدينك بما شئت) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دع ما
يريبك إلى ما لا يريبك).
وكون الامر به للاستحباب من جهة تعارض الاخبار والأدلة، وحقق في محله.
نعم الأخباريون بعضهم يحكمون بوجوب الاحتياط في بعض المواضع، كما أشرنا في الفوائد.
والمجتهدون ربما يقولون يجب الاحتياط، لكن مرادهم في الموضع الذي لم يتحقق ظن اجتهادي مستجمع لشرائط الاجتهاد. وربما
يقولون في الموضع الذي وقع الاجماع على وجوبه، مثل: ركعات الاحتياط في الشك في الصلاة، وليس هذا على قاعدتهم، لأنه واجب
بالأصالة، لا أنه يفعل احتياطا، ونظيره الحال في سابقه.
446

فائدة
[22]
عدم دلالة الامر على الفور والتراخي
الامر لا يدل على الفور، ولا على التراخي، كما لا يدل على الوقت إجماعا، ثم إن كان قرينة على أن المطلوب فوري فبفوات الفور يفوت
المطلوب. ولا يمكن التمسك بقولهم: (الميسور لا يسقط بالمعسور) وغيره كما عرفت.
نعم إن ظهر من الدليل أن الفور المطلوب زائد على نفس الطبيعة، فبفواته لا يفوت مطلوبية الطبيعة، وإن احتمل الامرين، فالأصل عدم
تعدد المطلوب، والأحوط البناء على التعدد.
وكذا الكلام في الموقت، ولذا اخترنا أن القضاء بفرض جديد
447

- كما اختاره المحققون منا - لا أنه تابع للأداء.
لكن قد عرفت أن هذا فيما إذا ظهر كون المطلوب مقيدا بالوقت. وأما إذا ظهر كون الوقت زيادة المطلوب فالحق مع من يقول: بأن
القضاء تابع للأداء، وأما إذا احتمل الامرين فقد عرفت حاله.
ثم لا يخفى أنه على أي تقدير سواء قلنا: بأن القضاء بفرض جديد أو أنه تابع للأداء، لا بد من تحقق الفوت حتى يتحقق القضاء ويحكم بأنه
قضاء، (لان القضاء تدارك ما فات)، فإن لم يتحقق فوت أصلا بوجه من الوجوه يكون الواجب فرضا جديدا ابتدائيا كصلاة الظهر و
غيرها، فإنها ليست بقضاء بالنسبة إلى ما قبل الوقت قطعا وإجماعا، ومن هذا يحكمون: بأن من لم يدرك من الوقت بمقدار الصلاة و
مقدماتها ثم فاتته لم يجب القضاء بالنسبة إليه لعدم تحقق الفوت.
وربما يفرقون بين شرائط التكليف مثل: دخول الوقت، والبلوغ، والعقل، وموانع تحقق المكلف به في الخارج مثل: النوم، والنسيان، و
غيرهما من أسباب عدم التمكن والقدرة.
والفرق بين المقامين خفي في بعض المقامات: مثل عدم التمكن من الطهور، هل هو مانع من تحقق المطلوب في الخارج، فيتحقق الفوت
من جهته، ويتحقق وجوب القضاء من عموم ما دل على وجوب قضاء ما فات من الصلاة، أو أن التمكن من شرائط التكليف كالوقت وما
ماثله، فلا يتحقق حينئذ الفوت حتى نقول بوجوب القضاء من العموم المذكور؟ ويظهر من كلام بعض الفقهاء قوله بالأول، ومن بعض
آخر قوله بالثاني.
ولعل الأول أظهر كما لا يخفى على المتدبر.
ومثل الحيض لا يعلم أنه مانع، والشارع أسقط وجوب القضاء عنها
448

في خصوص الصلاة تفضلا، أو عدمه شرط، وأوجب قضاء الصوم، وسماه قضاء مشاكلة، أو أنه بالنسبة إلى الصوم مانع جزما. ولا ثمرة
في هذا بعد ثبوت القضاء في الصوم، نصا وإجماعا، دون الصلاة كذلك، إلا إذا أدركت من الوقت طاهرة بأقل من مقدار الصلاة وما
تتوقف عليه، لكن الظاهر أنه لا إشكال فيه أيضا، وأنه يعتبر في وجوب القضاء إدراك مقدار الصلاة وما تتوقف عليه طاهرة، حتى لا
يكون قضاء حال الحيض، ويكون قضاء حال الطهر، فيدخل في العموم، فتأمل جدا.
ومع ذلك ورد الاخبار في هذا الباب، وليس المقام مقام تحقيقه.
449

فائدة
[23]
حجية القياس المنصوص العلة وما هو بمنزلته
قد ذكرنا في الفوائد أن القياس المنصوص العلة حجة مطلقا، لفهم العرف، وكون البناء في الاخبار على محاورات العرف وتفاهمهم.
وقال بعض المحققين بحجية ما هو بمنزلته، مثل: الحكم بعدم الاعتناء بحال كثير الشك في الوضوء، وغيره من الواجبات، بسبب ما ورد
منهم عليهم السلام في حكم كثير الشك في الصلاة: (لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه، فإن الشيطان خبيث معتاد لما
عود). هذا وأمثال ذلك.
والحق أنه حجة إذا كان بحيث يفهمه أهل العرف، أو يكون المناط
451

منقحا، وإلا فلا، وأما إذا لم يصل إلى هذا الحد فهو يصلح لتأييد دليل شرعي وتقويته وترجيحه إذا أفاد الظن.
والفقهاء رحمهم الله ربما يجعلون القياس المفيد للظن مؤيدا مطلقا، وإن اتفقوا على عدم حجيته وحرمة العمل به لا بأن يكون دليل
الحكم ومستنده.
452

فائدة
[24]
المستثنى الواقع عقيب الجمل المتعددة
المستثنى الواقع عقيب الجمل المتعددة، وكذا الخاص والمخصص عقيب عمومات متعددة، وكذا القيد عقيب إطلاقات متعددة، ويكون
كل واحد مما ذكر صالحا للرجوع إلى الجميع وإلى خصوص الأخيرة ولا قرينة معينة، فالأخير مخصص ومقيد إجماعا وجزما لحصول
الفهم كذلك قطعا. وأما ما تقدم فالمشهور عدم الرجوع، لأصالة بقائه على الحقيقة والاطلاق والعموم حتى يثبت خلافه، وباحتمال
الرجوع لا يثبت.
وربما ادعى الوضع للرجوع إلى الأخيرة خاصة، وهو بعيد. كما ادعى بعض الوضع للرجوع إلى المجموع، فهو أيضا بعيد، لان الظاهر
عدم تحقق الوضع في خصوص المقام، بل هو من جملة مقامات استعماله.
فلا يكون موضوعا لكل واحد من الامرين بعنوان الاشتراك اللفظي
453

كما قال بعض. ولا بعنوان الاشتراك المعنوي أعم من أن يكون وضعه عاما والموضوع له خاصا، أو وضعه عاما والموضوع له أيضا
عاما كما قال بعض.
وقال بعض المحققين من المتأخرين: إنه يحتمل الرجوع إلى المجموع قطعا، لعدم ثبوت الوضع لخصوص الأخيرة، ومع الاحتمال لا
يظهر الشمول لهذا الخاص ويحصل الشك في أنه المراد أيضا، ويرتفع الفهم.
والأصل عدم تعلق الحكم به أيضا.
وأصالة الحقيقة لم يثبت لنا دليل على اعتبارها وحجيتها بحيث ينفع مثل المقام، لان القدر الثابت حجيته ما هو ظاهر ومظنون إرادته
بالنسبة إلى العالم بالاصطلاح، وأما أزيد منه فلم يثبت، فإن كانت العمومات المتقدمة مقتضاها نفي الحكم والتكليف فهذا الخاص داخل،
وإلا فهو خارج، ومقتضى هذا أن الألفاظ تنصرف إلى الافراد المتبادرة خاصة كما ذكر عن بعض في الفوائد. ولعله الأقوى، وظهر
وجهه، والعمومات التي لا تأمل في رجوعها إلى المتبادرة وغير المتبادرة جميعا، فعدم التأمل إما من إجماع كالوضوء وصحته بأي ماء
يكون، أو تكون العلة ظاهرة كالأمر بإكرام المؤمن، فتأمل.
454

فائدة
[25]
تقليد المجتهد
تقليد المجتهد إنما يصح في الأحكام الشرعية الفرعية، وموضوعاتها التي هي العبادات التوقيفية، لا موضوعاتها التي ليست بتوقيفية،
للأدلة الكثيرة الدالة على منع العمل بالظن والتقليد، خرج الحكم الشرعي الفرعي وموضوعاته التي هي وظائف الشرع بالدليل الذي
ذكرنا في الفوائد، بل بأدلة متعددة، ويبقى الباقي تحت المنع، وأدلة المنع أيضا ذكرناها في الفوائد.
بل ذكرنا أيضا - في مسألة عدم معذورية الجاهل من الفوائد - عدم جواز التقليد في أصول الدين.
مع أن الآيات والاخبار واردة في المنع عن التقليد فيها بالخصوص.
455

والاجماع واقع أيضا على ذلك من الشيعة، كما نقلوه، والخلاف من أهل السنة، بل معظم أهل السنة على جواز التقليد، ووافقهم شاذ من
متأخري الشيعة.
مع أن الخطأ غير مأمون على الظنون، فكيف يصح الابتناء عليها فيها؟ مع أن الخطأ فيها يوجب الخلود في النار والقتل والأسر والبيع و
التملك وأمثال ذلك في هذه الدار. مع أن الكفار حصل لهم الظن، بل ربما يكون أقوى مما حصل للمسلمين.
واشتراط مطابقة ظنهم للواقع غلط واضح، لأنه إن أريد أنه لا بد من أن يحصل لهم العلم بالمطابقة، فهذا ينافي كونه ظنا، وإن أريد
الظن بذلك، فالظن كان حاصلا لهم، وإن أريد بحسب نفس الامر، لا أنه يحصل لهم العلم أو الظن بذلك، فهذا تكليف بما لا يطاق، وإن
أراد أن المعتبر في تحقق الايمان هو تحقق المطابقة، فإن تحققت يكن مؤمنا، وإلا لا يمكن مؤمنا، فهذا تصريح بعدم جواز الاكتفاء
بالتقليد، وعدم اعتبار التقليد، وأن اللازم تحصيل الجزم بالمطابقة.
وبالجملة عدم جواز التقليد دليله في غاية المتانة والوضوح، كما عرفت مما ذكر هنا، وما ذكرنا في الفوائد.
ومن هذا يظهر عدم جواز الاعتماد على الظن في أصول الدين من غير جهة التقليد أيضا. فما يعرف من بعض العلماء - من أن الاعتماد
على أخبار الآحاد أو ظواهر الآيات، ومن جماعة من الصوفية من الاستناد إلى التخمينيات والخيالات والشعريات - ظاهر الفساد، بل
غالب المفاسد في
456

أصول الدين من الاتكال على الظن والتخمين ومتابعتهما كما لا يخفى على من له أدنى تأمل.
حجة المجوز للتقليد أن الذي يظهر من الاخبار أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتفي بمجرد القول بالشهادتين وغيرهما
مما يعتبر في أصول الدين من غير مطالبة ببيان الدليل.
وهذه الحجة - مع قطع النظر عن عدم ارتباطها بالمقام، لان مجرد القول غير حصول الظن - سخيفة من وجوه:
الأول: إن الأدلة الدالة على عدم الجواز منهما يقيني عقلي، ومنها نقلي يقيني كما عرفت. والظاهر لا يقاوم اليقين، والنقل لا يقاوم العقل.
والثاني: إنها لو تمت لزم عدم اعتبار الظن أيضا، ولم يقل به أحد، بل يلزم كون الاسلام والايمان هو الاظهار فقط، وإن كان المظهر
شاكا، بل وإن كان ظانا حقية خلاف ما يظهر، بل وإن كان جازما أيضا، ولذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي من
المنافقين أيضا بإظهارهم من دون تفاوت بينهم وبين غيرهم في الاكتفاء الذي ذكرت.
فان أردت من الاسلام: هو الاسلام الظاهري، فلا تأمل لاحد في أنه يكفي مجرد الاظهار، وإن كان معتقدا بعنوان الجزم ببطلان ما
أظهر، فضلا عن الشك، فضلا عن الظن بالحقيقة، فلا يدل على اعتبار الظن والتقليد أصلا.
وإن أردت أنه بمجرد الاظهار كان يحكم بالاسلام الواقعي، والايمان الباطني.
فلا نسلم ذلك. بل الذي يظهر هو خلاف ذلك كما هو ظاهر.
ولئن تنزلنا عن ذلك فظهور الخلاف من أين؟ ولئن تنزلنا فظهور ذلك من الأخبار المتواترة من أين؟ والثالث: غاية ما يحصل على
تقدير التنزل هو الظن والظهور،
457

والاستناد إلى ذلك يوجب الدور أو التسلسل، إذ الكلام في الاكتفاء بالظن.
وعلى تقدير التنزل وتسليم دعوى العلم مما ذكرتم، فلا شك في معارضته لما ذكرناه من الأدلة، فعلى تقدير تسليم التقاوم فالرجحان
من أين؟ ولو سلمنا الرجحان فكونه بحيث يورث اليقين من أين؟ والظن قد عرفت حاله، وإن سلمنا كونه متاخما للعلم.
الرابع: إن دليل النبوة هو المعجزة، واطلاع الحاضرين عليها في غاية السهولة، بل كانوا أعلم بها منا البتة. والقدر الذي كانوا مكلفين به
من أصول الدين كان علمهم به من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أيضا كذلك، وهذا يكفي لكونه دليلا قطعيا، وتقليد الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم بعد ثبوت رسالته، برهان لا تقليد.
لا يقال: يتوقف ثبوت النبوة منها على العلم بوجود الله تعالى وعموم علمه وقدرته وحكمته.
لأنا نقول: من العلماء من يقول: بعدم التوقف. وعلى تقدير التوقف نقول: لا شك في أنهم كانوا عالمين بالأمور المذكورة غير متأملين
فيها أصلا، ولذا بمجرد ثبوت المعجزة كانوا يجزمون وما كانوا يناقشون، ولا نقاش أحد منهم وأحدا من الأنبياء في شئ منها أصلا:
إما لكونها من الفطريات على ما قاله جمع من العلماء، وهو الأظهر، كما لا يخفى على المتدبر، ويظهر أيضا من الخبر الوارد عن
الصادق عليه السلام: (هل ركبت البحر)... إلخ.
458

أو لكون مقدماتها في غاية السهولة كما قال آخرون.
أو لان ذلك حصل لهم بالدليل كما هو المحتمل، فتأمل.
فظهر حقية ما عليه الشيعة، وبطلان ما هو المعروف عند أهل السنة من جواز التقليد.
نعم الشيخ رحمه الله يقول: بأن المقلد وإن كان آثما في تقليده إلا أنه مؤمن واقعا إذا طابق اعتقاده الواقع، محتجا بالحجة المذكورة عن
أهل السنة في جواز التقليد.
وفيه أنه إن تمت فظاهرها الجواز وعدم الاثم أيضا، وإن بنى على أن الدليل اليقيني يصرف عن الظاهر فيمكن أن يقال: لعل الاسلام
المقبول منهم هو الاسلام الظاهري، لا الواقعي، من جهة كونهم آثمين قطعا.
وبالجملة لا ثمرة للنزاع بالنسبة إلى المجتهد، لان معاملة أحكام الاسلام شأن المجتهد، والمعاملة متحققة، وإن لم يكونوا مؤمنين في
الواقع.
وأما الثواب والعقاب، والجنة والنار، فهي أمر من الله تعالى، والرجاء بالنسبة إليهم موجود متحقق يقينا، إذ غاية ما يكون أنهم مرجون
لأمر الله تعالى، وليسوا بالمشركين قطعا وإجماعا، ولا كافرين جزما واتفاقا، بل هم من المسلمين يقينا ووفاقا، ويعاملون معاملة
المؤمنين بلا تأمل، فتأمل جدا.
ومما ذكرنا ظهر وجه عدم تجويز المجتهدين تقليد المجتهد مجتهدا آخر. نعم يجوز له في مقام تعويله على الظنون والامارات بعد بذل
جهده في التحري وتحصيل الأقوى، لأنه نوع ظن وأمارة، فهذا التقليد في الحقيقة اجتهاد.
ويظهر أيضا وجه عدم جواز التقليد في الموضوعات فيما فعله بعض من يدعي الاجتهاد من الامر بتقليده في الموضوعات أيضا غفلة منه
أو
459

قصور، مثلا يقول: فلان عندي عادل، فصلوا خلفه، واقبلوا قوله أو شهادته، أو يقول: فلان مات، فاقتسموا إرثه، وتزوجوا زوجته. إلى
غير ذلك من أمثال ما ذكر.
نعم إن كان عادلا، ويخبر بعنوان العلم واليقين يكون شاهدا واحدا تعتبر شهادته في مقام اعتبار الشهادة بعد استجماع جميع شرائط
القبول، ومنها أن يكون مستند علمه الحس، لا الحدس، كما هو المشهور عند الفقهاء.
نعم يعتبر تقليده في مقام اعتبار الظن والتخمين، ولذا يجوزون التقليد في معرفة القبلة بعد العجز من العلم والامارات القوية فيجوز
حينئذ أن يقلد المجتهد العامي، فضلا عن المجتهد.
بل ربما يجوز تقليد العامي دون المجتهد إذا كان العامي أبصر، والظن الحاصل من قوله أقوى، فهذا التقليد أيضا يرجع إلى الاجتهاد لا
أنه تقليد اصطلاحي كسابقه.
460

فائدة
[26]
بيان معنى (أعطاك من جراب النورة)
قد ورد في الاخبار: أن الشيعة كانوا يقولون في الحديث الذي وافق التقية: (أعطاك من جراب النورة).
قيل: مرادهم تشبيه المعصوم عليه السلام بالعطار، وكانوا يبيعون أجناس العطارين بالجربان، وكان النورة أيضا يبيعونها في
جرابها، فإذا أعطى التقية قالوا: أعطاك من جرابها - أي ما لا يؤكل، ولو أكل لقتل - والفائدة فيه دفع القاذورات وأمثالها.
461

وقيل: إن النقباء لما خرجوا في أواخر زمن بني أمية في خراسان، وأظهروا الدعوة لبني العباس بعثوا إلى إبراهيم الامام منهم بقبول
الخلافة، فقبل، وهو في المدينة، وكانت هي وسائر البلدان تحت سلطنة بني أمية وحكمهم، سوى خراسان إذ ظهر فيها النقباء، و
كانوا يقاتلون ويحاربون، ولما اطلع بنو أمية قبول إبراهيم الخلافة أخذوه، وحبسوه، وقتلوه خفية، ووضعوا جراب النورة في
حلقه، فخنقوه، فصار ضرب المثل بالنسبة إلى ترك التقية وتاركها، وكان هذا الكلام من الشيعة إشارة إلى هذه الحكاية، ومثلا
مأخوذا منها.
462

فائدة
[27]
أن الأئمة كانوا يتكلمون على طريقة المحاورات العرفية]
ربما يقول: المعصوم عليه السلام أن الامر كذا، ونرى في الخارج أنه ليس كذا. والظاهر أن المراد في الغالب كذا، - يعني وإذا كان
واقعا يكون في الغالب كذا -، لأنه الموافق لطريقة المحاورات العرفية، لأنهم عليهم السلام منزهون عن الخطأ والكذب، فمرادهم ما هو
المتعارف، بل بناء الفقه على ذلك.
مثلا قالوا: دم الحيض أسود، ودم الاستحاضة أصفر، والمني دافق
463

ومع الشهوة، والوجه من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.
وإذا لم يكن في الغالب كذلك فالظاهر أنه مجاز أو تشبيه، مثل:
(الطواف بالبيت صلاة)، (والفقاع خمر)، و (تارك الصلاة كافر)، و (الناصب من نصب لكم العداوة)، إلى غير ذلك مما لا
يحصى. والمراد المشابهة في الحكم الشرعي إما في الجملة فمجمل، أو عموما فعام، أو في الاحكام الشائعة إن كان له أحكام شائعة، وإلا
فعام أو مجمل على الأقوال التي أشرنا
[إليها]
في الفوائد الحائرية.
ووجهه ما ذكرنا: من أن المطلق ينصرف إلى الافراد الشائعة والغالبة.
ومن أن الأئمة عليهم السلام كانوا يتكلمون على طريقة المحاورات العرفية - كما حقق في محله -، وأهل العرف يحاورون كذلك.
مع أن الاستعمال أعم من الحقيقة، والأصل عدم النقل.
مع أنه لو كان منقولا لشاع وذاع، لان النقل لغرض التفاهم، ولم يشع
464

أصلا، بل الفقهاء طريقتهم البناء على المجازات الشائعة، فالشائع خلاف ذلك.
مع أن في ثبوت الحقيقة الشرعية خلافا، مع أن القائل بالثبوت إنما يقول به فيما هو عند اصطلاح المتشرعة حقيقة في المعنى الشرعي، و
منقول عن اللغة البتة، قائلا: بأن النقل والحقيقة من الشرع، لا فيما ليس كذلك، بل عند المتشرعة خلاف ذلك.
فعلى فرض أن يكون الشارع نقل، لكن لم يطلع عليه أصحابه أو أغلب أصحابه، لا ينفع أصلا، لان غير المطلع يبني على اللغة والعرف
جزما، فيكون مراد الشارع منه هو الذي يفهمه بلا شك، ومن أين يدري أن الراوي اطلع عليه أم لا؟ مع أن الأصل عدم اطلاعه وبقاء ما
كان على ما كان.
ثم إنه ربما يكون المراد مما ذكره المعصوم عليه السلام: أنه كذا شرعا، ولا يجري هذا إلا فيما هو وظيفة الشارع، مثل الأحكام الشرعية
التكليفية، والوضعية، وموضوع الاحكام إذا كان عبادة لكونها توقيفية، ولا يجري في غير ذلك قطعا، لاستلزامه الكذب، إلا أن يكون
المراد الغالب والمجاز، على حسب ما عرفت. وصاحب المدارك توهم اتحاد ما يكون المراد منه الغالب مع ما هو المراد منه شرعا، (و
وقع منه الاشتباه وعدم الفرق بينهما في خصوص الحيض والاستحاضة. واعترض على الفقهاء أيضا من جهة الاشتباه المذكور، وغير
الطريقة من أول بحث الحيض والاستحاضة إلى آخرهما عن طريقة الفقهاء) وتبعه غيره من المحققين أيضا غفلة، وإن كان
465

في بحث المني وافق القوم كما لا يخفى على المطلع المتأمل.
ثم لا يخفى أنه ربما كان المراد منه شرعا مخالفا للقاعدة الشرعية فلا عبرة به إلا أن يكون ثابتا ظاهرا مقاوما للقاعدة، فيكون قاعدة
شرعية مستثناة من القاعدة الشرعية، على حسب ما عرفت سابقا.
466

فائدة
[28]
الفرق بين مقام ثبوت التكليف ومقام الخروج عن عهدته
فرق بين مقام ثبوت التكليف ومقام الخروج عن عهدة التكليف الثابت، إذ بمجرد الاحتمال لا يثبت التكليف على المجتهد والمقلد له
بعد استفراغ وسع المجتهد في الاجتهاد، والمقلد في التقليد، لما عرفت من أن الأصل براءة الذمة حتى يثبت التكليف ويتم الحجة، وانه
ما لم يتم الحجة لم يكن مؤاخذة أصلا وقبح في الارتكاب أو الترك مطلقا.
نعم الاحتمال معتبر في مقام ترك الاستفصال عند السؤال كما عرفت، لكن في الحقيقة ليس المثبت للتكليف هو الاحتمال، بل العموم
الحاصل من ترك الاستفصال حينئذ، وعرفت أن من ليس بمجتهد ولا مقلد ليس بمعذور، لعدم معذورية الجاهل، بل عليه تقليد المجتهد
إن أمكن، وإلا فعليه الاحتياط مهما تيسر، وإن أمكنه التقليد، ولم يقلد يكون مقصرا، ومع ذلك
467

يكون عليه الاحتياط مهما أمكنه، وقد عرفت أن الاجتهاد و التقليد إنما يكونان في نظريات الدين والمذهب لا ضرورياتهما، وأن
الضروريات لا فرق فيها بين المجتهد والمقلد.
وأما مقام الخروج عن عهدة التكليف، فقد عرفت أيضا أن الذمة إذا صارت مشغولة فلا بد من اليقين في تحصيل براءتها، للاجماع و
الاخبار، مثل قولهم: (ولا تنقض اليقين إلا بيقين مثله) وغيره، ولما يظهر من تتبع تضاعيف الأخبار الواردة في مقام تحقق الامتثال و
الخروج عن العهدة أنه بمجرد الشك في الفعل لا يكون ممتثلا، بل بالظن أيضا إلا في مواضع مخصوصة.
وأيضا ثبت - من العقل والنقل والآيات القرآنية والأخبار المتواترة والاجماع من جميع المسلمين بل المليين - وجوب إطاعة الشارع،
بل كل أمر ونهي منه يقتضي وجوب إطاعته، ومعلوم أن الإطاعة من جملة موضوعات الاحكام التي مرجعها إلى العرف، واللغة. ومعلوم
أن معناها هو الاتيان بما أمر به، فلا يكفي احتمال الاتيان ولا الظن به، لان الظن بالاتيان غير نفس الاتيان، والآتيان هو الايجاد واقعا،
فعلى هذا لا يكفي الشك بالبراءة ولا الظن، إلا أن يكون الشارع يرضى بهما، ويثبت منه ذلك.
ومما ذكرنا علم أنه إن استيقن بأن عليه فريضة فاتته، فلا يعلمها بخصوصها أنها الظهر أو الصبح، أو يعلم أن عليه فريضة، ولم يعلم أنها
فائتة، أو حاضرة، مثل: أنه لا يدري أنها الظهر أو صلاة الزلزلة، يجب عليه أن يأتي بهما جميعا حتى يتحقق الامتثال.
ولا يتوهم أحد أن الاتيان بالثانية زيادة في الدين، لان الواجب عليه كان واحدا لا غير، فيكون تشريعا. لان التشريع هو: إدخال ما ليس
في
468

الدين فيه عمدا وتقصيرا، لا من جهة تحصيل البراءة الشرعية، ولا من جهة الاحتياط، إذ لو كان يعلم أنه في الدين، فلا معنى لكونه
احتياطا، بل يكون واجبا بالأصالة ولو لم يعلم، فلا يتأتى الاحتياط على ما توهم، مع أن الاحتياط ثابت عقلا ونقلا وإجماعا. وكذا الحال
في مقدمة الواجب.
على أنا نقول في هذا المقام: إن الثانية داخلة في الدين على الجزم واليقين، لما عرفت من البراهين، ولما في كتب الأصول في مقدمة
الواجب وفي الاحتياط ومما ذكرنا علم أيضا أن المكلف في يوم الجمعة مثلا يعلم يقينا أنه لم يخرج عن التكليف، ولم يصر مثل الأطفال
والمجانين، بل عليه إما الظهر أو الجمعة عند استجماع جميع الشرائط سوى المنصوب من قبل الإمام عليه السلام. وعلمه بذلك من جهة
ضروري الدين، لا من جهة الاجتهاد أو التقليد، أو غيرهما من الظنون أو العلم النظري. نعم تعيين كونها الظهر أو الجمعة من نظريات
الدين، بل من معضلاته عند المطلعين الخبيرين، وإن كان عند الجاهلين الغافلين أنها ليست كذلك.
وكيف كان، لا شك في كونها من النظريات، لا الضروريات، فالمجتهد إن لم يرجح إحداهما، ويكون متوقفا متحيرا لا جرم يكون عليه
الاتيان بهما جميعا بإجماع جميع العلماء، لما عرفت من البراهين. وكذا الحال في مقلده، وكذا الحال فيمن لم يجتهد ولم يقلد.
بل عرفت أنه إن حصل له ظن بتعين إحداهما لا ينفعه أصلا، لعدم حجية ظنه، بل وحرمة العمل به، لما عرفت من أن العمل بالظن حرام
إجماعا، للأدلة الكثيرة الواضحة، إلا الظن الذي رخص الشارع العمل به، وليس ظنه من جملته قطعا، فلا شبهة في حرمته، وإن كان عنده
في غاية القوة، بل وإن ادعى الجزم، كما يدعيه بعض الجاهلين الغافلين المنغمرين في
469

بحار الغفلة، التائهين في براري الجهالة، إذ لا شك ولا شبهة في كونه جهلا مركبا يعرف ذلك من له أدنى اطلاع بحقيقة الحال.
فإذا كان ظنه بل جزمه أيضا غير معتبر في نفسه شرعا، فكيف يمكنه الاكتفاء به في مقام تحصيل البراءة اليقينية، سيما بعد ملاحظة
قولهم:
(لا تنقض اليقين إلا بيقين مثله)، إذ أين اليقين الحاصل بالضرورة من الدين من هذا الجزم الذي يدعي حصوله بالنظر؟ سيما مع ما يرى
من اختلاف الفقهاء الخبيرين المطلعين المتقين العادلين المقدسين، أرباب القوى القدسية والملكة التامة في الفقه مع نهاية كثرتهم و
شهرتهم وقرب عهد قدمائهم إلى المعصوم عليه السلام بل ومتأخروهم أيضا أقرب عهدا منه بمراتب، ومع ذلك اتفقوا على خلاف ما
فهم، أو كاد أن يتفقوا، بل اتفقوا على عدم اليقين، وكونه من المسائل الاجتهادية.
وأما المجتهد الذي رجح إحداهما فالظاهر من طريقة بعض فقهائنا أنه أيضا في مثل هذه المسألة لا يجوز له الاكتفاء بظنه، لما عرفت
من البراهين، وأن اليقين بشغل الذمة يستدعي اليقين بالبراءة، وأن ظن المجتهد حجة فيما لم يتأت له اليقين، إلا فيما يثبت من الشرع
تجويز التعويل عليه، ولم يثبت في مثل المقام، وأيضا من المسلمات عند المجتهدين أنه مع تيسر العلم لا يجوز التعويل على الظن، ومع
تيسر الأقوى لا يجوز التعويل على الأضعف.
لكن الظاهر من طريقة الباقين تجويز التعويل على ظنه حينئذ، لما دل على كون ظنه حجة، وتيسر اليقين ليس مخصوصا بالمقام، بل
غالب مقامات
470

الفقه يتيسر حصول اليقين بالنسبة إلى آحاده، إلا أنه بالنسبة إلى المجموع لا يتيسر، بل لا يمكن، وترجيح خصوص مقام على آخر من
غير مرجح شرعي مما لا يمكن، والتزام تحصيل اليقين مهما تيسر بعنوان الوجوب ربما يوجب العسر والحرج أيضا، بل لعله لا يمكن،
لعدم إمكان معرفة خصوص حد الواجب الذي على تركه العقاب بحيث لا يحتمل الزيادة والنقيصة أصلا ورأسا، حتى يراعى في العمل، و
في المقام تحصيل امتثال الواجب، فلا يدري عادة أنه أيه يختار، وأيه لا يختار، وأي حد منه صار حرجا منفيا وأي حد لم يصر، والتزام
المقدمات لحصول ذلك الحد يوجب العسر والحرج بلا شبهة.
وبالجملة: ذلك أيضا ربما ينافي الملة السمحة السهلة. لكن مع هذا يأمرون بالاحتياط استحبابا، ويبالغون، ولذا طريقتهم في الفقه أنهم
يقولون: الأقرب كذا، والأحوط كذا، وأمثال هذه العبارة.
فإن قلت: الاحتياط كيف يتحقق هنا؟ لان جمعا منهم يقولون بحرمة الجهة، ودليلهم يقتضيها.
قلت: يقولون بحرمتها على من وافقهم رأيه، وإلا فهم متفقون على أن كل مجتهد مكلف بما ادعى إليه اجتهاده، وكذا مقلده، ومتفقون
على أن المجتهد المتحير يجب عليه وعلى مقلده الجمع بينهما كما عرفت، وكذا من لم يجتهد ولم يقلد بمقتضى ما عرفت من البراهين، و
متفقون على حسن الاحتياط على المجتهد المعول على ظنه مهما أمكنه.
وما ذكرت من أن دليلهم يقتضيها.
ففيه: أن احتمال الحرمة إنما هو من المقام الأول وهو مقام ثبوت التكليف، والثاني: مقام الخروج عن العهدة كما ذكرت في أول
الفائدة.
وجميع الفقهاء متفقون، على أنه ما لم يتم الحجة لم يحرم شئ، ولم يكن
471

في ارتكابه قبح أصلا، وأن الأصل براءة ذمتنا حتى يثبت التكليف والقبح.
وأما فعل الجمعة في مقام تحصيل البراءة اليقينية فقد عرفت أنه مقتضى البراهين ومتفق عليه. غاية ما في الباب أن يكون المجتهد
المرجح لاحداهما يجوز له التعويل على ترجيحه، من باب أن الضرورات تبيح المحظورات، لما عرفت من أن التعويل على الظن محظور،
سيما في مقام تحصيل البراءة اليقينية المأمور به ولأجله، وهذا لا يمنع حسن الاحتياط، وفرق واضح بين الشئ الذي لم يثبت حرمته و
الشئ الحرام الذي أبيح لنا من جهة أن عدم إباحته يوجب الحرج علينا، فإنا لو تركناه، وضيقنا على أنفسنا فلا شك في حسنه، كما إذا
اشتغلنا في جميع أوقاتنا بالصلاة النافلة أو غيرها من العبادات، إذ لا شك في حسنه مع أنه حرج، على أن الجمع بينهما ليس بحرج جزما،
وإنما الحرج لو حصلنا اليقين بعنوان الوجوب في جميع ما يمكننا تحصيل اليقين فيه كما عرفت، وأين هذا من ذاك؟ هذا كله مع قطع
النظر عما ذكرنا في الفوائد من أن الصلاة الفريضة إذا احتملت الوجوب والحرمة يقدم جانب الوجوب فيها عند علمائنا، لأنه ليس شئ
بعد معرفة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام أوجب من الصلاة ().
ولأنها (إذا قبلت قبل ما سواها).
ولأنها (مثل عمود الفسطاط) إلى غير ذلك من التأكيدات. ومنها
472

(أن المتهاون بها كافر)، إلى غير ذلك.
ثم لا يخفى أن عند الجمع بعنوان الوجوب، يفعلان بقصد الوجوب على القول بوجوب قصد الوجه، لان إحداهما واجبة بالأصالة، والثانية
من باب المقدمة على ما هو المشهور، ومقدمة الواجب المطلق واجبة شرعا على المشهور، مع أن من لم يقل بوجوبها شرعا يقول
بوجوبها عقلا في مثل المقام، لما عرفت من الأدلة على وجوب خصوص المقدمة أيضا، وتعلق خطاب الشرع به على حدة. والنزاع إنما
هو فيما لم يتعلق به خطاب الشارع على حدة، على أن من الفقهاء من يقول بوجوب الصلاتين معا بالأصالة بالنسبة إلى تلك الجماعة،
للأدلة المذكورة فتأمل.
473

فائدة
[29]
هل المعاملات كالعبادات توقيفية
اعلم أنه ربما يقول بعض الفقهاء في العبادات والمعاملات في مقام التعريف: إنه لغة كذا، وشرعا كذا.
ولعل المراد: معنى اللفظ المذكور لتلك العبادة أو المعاملة أعم من أن يكون حقيقيا أو مجازيا، لنزاعهم في ثبوت الحقيقة الشرعية.
أو يكون مراده أعم من الشرع والمتشرعة. أو يكون المراد من المعنى: المعنى الصحيح شرعا، والمعتبر عند الشارع، والمثمر بحسب
الشرع.
وهذا هو الأقرب، فيندفع الاشكال الأخير: وهو أن العبادات توقيفية دون المعاملات. فلو كان المعنى في المعاملات بحسب الشرع
مغايرا للمعنى
475

العرفي واللغوي لكانت المعاملات أيضا توقيفية ووظيفة للشرع، لعدم إمكان الاطلاع على المعنى الاصطلاحي إلا من جهة صاحب
الاصطلاح وتعريفه، مع أن الفقهاء متفقون على أن العبادات توقيفية دون المعاملات، كما لا يخفى على من لاحظ طريقتهم.
مع أنهم يصرحون في المعاملات - في مقام الاستدلال على محل النزاع والجدال: - أن المعتبر هو المعنى العرفي أو اللغوي. مثلا يقولون
في البيع:
ما يعد في العرف بيعا، وفي الصلح ما يعد فيه وفي اللغة صلحا، إلى غير ذلك، ويجعلون ما ورد من الأمور المعتبرة من الشرع شرطا
للصحة.
476

فائدة
[30]
عدم جريان الأصل في لغات العبادة وغيرها
صرح الأصوليون والفقهاء بأن اللغة لا تثبت بالدليل، بل مقصورة على السماع، ونص الواضع، أو فهم منه بالترديد بالقرائن، هذا في
الحقائق.
وأما المجازات فتجويز نوعها، وأما إفادتها فبالقرينة الصارفة، عن الحقيقي، والمعينة للمجازي.
ومن جملة اللغات ألفاظ العبادات، والمعاجين والأدوية المركبة والبسيطة.
ولذا صرح في الأصول المبسوطة بأن أصل العدم لا يجري في بيان ماهية العبادات.
وفي كتب الفقه والاستدلال بأن العبادات توقيفية موقوفة على نص الشارع، أو يقولون كيفية متلقاة من الشرع ووظيفة الشرع و
موقوفة على
477

بيان الشارع، أو على قوله أو فعله، إلى غير ذلك من التصريحات، حتى أنهم ربما لا يكتفون بالاطلاقات الكثيرة الصادرة منه مثل: قوله
عليه السلام: (كبر للاحرام) أو (للافتتاح)، أو (سبع تكبيرات) إلى غير ذلك. ومع ذلك يقولون: لا بد من الاقتصار على قول (الله أكبر)
بهمزة (الله) المفتوحة، ولا تقطع، ولا تغير هذه الهيئة مطلقا، لأنها القدر الذي ثبت لنا من فعل الشارع.
وتمسكهم بأصل العدم في بعض المقامات إنما هو بالنسبة إلى الشرط الخارج، بناء على ترجيحهم كون اللفظ اسما للأعم من الصحيحة، و
كون الأعم معلوما بالنص والاجماع، لا في ماهية العبادات، ولذا منعهم الذين يقولون بأن اللفظ اسم لخصوص الصحيحة، وهذا واضح في
أنهم متفقون على عدم الجريان في الماهية.
وأيضا ضبطوا أمارات الحقيقة والمجاز وما به يعرفان، وهي: نص الواضع فيها، والتبادر وعدم صحة السلب وما ماثلهما في معرفة
الحقيقة، وعدم التبادر، وصحة السلب، وما ماثلهما في معرفة المجاز.
وليس شئ من ذلك دليلا، بل خاصة لهما غير منفك عنهما، فحاله حال القرائن المعينة لاحد معنيي المشترك، ولا فرق بين كون
المعنيين حقيقيين، أو أحدهما حقيقة والاخر مجازا.
والمراد من الدليل الأدلة العقلية. وإن كانت معتبرة شرعا في غير المقام مثل أصل العدم وغيره على أنك عرفت أن كلماتهم صريحة في
انحصار معرفات المعنى وما اعتبر فيه في الأمور التي أشرنا إليها. وأصل العدم وما ماثله ليس داخلا في تلك الأمور قطعا.
وتمسكهم بالأصل في عدم تعدد المعنى، أو عدم تغيره بعد معلومية
478

المعنى وثبوته - كما ذكرنا في الفوائد - ليس تمسكا في بيان ماهية المعنى أو ما هو داخل فيها، بل في أمر آخر، ولا مانع من هذا
التمسك كما ستعرف.
على أنهم كثيرا ما لا يجدون معرفاتهم للحقيقة أو المجاز فيتوقفون ولا يتمسكون بالأصل، مع وضوح جريانه لو صح، ولم يكن له مانع.
وبالجملة: طريقة الفقهاء والأصوليين فيما ذكرنا في غاية الوضوح، إلا أن يكون جاهلا بطريقتهم، أو غافلا عنها يحتاج إلى ما نبهنا، و
أشرنا إليها.
وأما عدم إمكان معرفة اللغة بالدليل فهو من أجلى البديهيات، إذ يعرف كل طفل أنه لا يمكنه معرفة لغة أهل الفرنج، أو الهند، أو الخزر،
أو الصقالبة، أو اللغة اليونانية، أو السريانية، أو العبرانية، أو غيرها بدليل من الأدلة، ولا بمجموع الأدلة، ويعرف أنهما مقصورة
على السماع، أو الترديد بالقرائن ليس إلا. وكذا الحال في مجازات تلك اللغات على حسب ما أشرنا.
وكذا الحال في معرفة حقائق اصطلاحه عن مجازاته من غير جهة خواصهما التي أشرنا إلى بعضها، وضبطوها في كتبهم.
مع أنهم تأملوا في المعرفة ببعض ما ذكروه، فكيف الحال في الأدلة مع
479

اتفاقهم على عدم المعرفة بها.
على أنه ربما نطلع على شئ من هذه المعاني بعنوان اللا بشرط بسبب الشياع أو القرائن، فلا يمكننا أن نقول: المعنى هو الذي اطلعنا
عليه لأصالة عدم الزيادة، فعلمنا هذه اللغات، وعرفناها.
مثلا: اطلعنا بالشياع أن (الايارج) - باللغة اليونانية - دواء، ولم نعرفه أنه مطلق الدواء أو دواء خاص، فلا يمكننا أن نقول: هو مطلق
الدواء، للأصل.
أو اطلعنا أنه دواء الصبر، ولم نعرف أنه هل فيه جز آخر أم لا؟ فنقول: هو مطلق الصبر يداوى به من غير اعتبار شئ في كيفية المداواة
به أصلا، لأصالة العدم.
أو علمنا أنه فيه جز آخر هو الإهليلج ولم نعرف أنه هل فيه جز آخر أم لا، ولم نعرف أيضا أنه تعتبر في هذين الجزأين كمية أو
كيفية في التركيب والترتيب، أو كونهما مسحوقين أو غير مسحوقين، أو منقوعين أم لا، أو مطبوخين أم لا، أو أحدهما كذلك دون الاخر
بالنسبة إلى الكل أو البعض، إلى غير ذلك. فنقول: الأصل عدم اعتبار جميع ذلك ف (الايارج) هو الجزءان لا غير، كيف كانا ولو قلنا ذلك
وداوينا المرض بالجزين كيف كانا لألحقنا بالمجانين في حكمنا بأنه (الارياج). وكنا مؤاخذين على اليقين في المداواة.
480

بل لغتنا لا يمكن ذلك فيها، فكيف لغة الغير؟ مثلا: إذا سمعنا المداوى بماء الشعير فلا يمكننا أن نقول هو الماء والشعير كيف كانا، أو
الممزوج منه كيف كان، وكذا الحال في المفرح الياقوتي، وأمثال ذلك من الأدوية المركبة، بل المفردة أيضا مثل: ماء الجبن، وغير
ذلك.
فإذا كان لغتنا لا يمكن ذلك، فكيف الحال في تلك اللغات؟ فإذا كانت اللغات العامة لا يمكن ذلك فيها، فما ظنك بالاصطلاحات الخاصة، و
المجازات المستعملة؟ إذ كلما كان الشئ أخص كان توغله في الابهام أزيد، وعدم معرفته أشد.
وإذا كانت الاصطلاحات الخاصة كذلك فما ظنك بالعبارات التوقيفية على خصوص الشرع ليس إلا. والمراد من التوقيفي: ما أحدثه
الشرع خاصة، ولو كان غير العبادة أيضا كذلك كان أيضا كذلك، إلا أنه لم يوجد منه كما مر.
وجز العبادة ربما يكون توقيفيا كالركوع، والسجود، وربما لم يكن كالقيام، والقعود، في الصلاة، وكذا شرطها: كالطهارة من
الحدث، وغسل الخبث. وأصل العدم يجري في غير العبادات، وإن كان جز العبادة أو شرطها، إن لم يحتمل كون المنفي بهذا الأصل
جزا على حدة في نفس العبادة، ومعتبرا في تحقق ماهيتها بملاحظة وفاق أو غيره من الأدلة.
ويدل أيضا على عدم جريان أصل العدم في اللغات - لغات العبادة وغيرها - (أن الأصل عدم كل شئ)، فكيف يستدل به على ثبوت
كون شئ معنى اللفظ؟ مع أن ذلك الشئ يكون الأصل عدم كونه أيضا معناه، إذ لم يكن قبل الوضع معناه قطعا، وبعد الوضع لم يكن
فرق بينه وبين ما تنفيه بالأصل، بل إذا كان المنفي جزا واحدا، والمثبت أجزأ متعددة،
481

فكيف يغلب الأصل الواحد أصولا متعددة؟ لان كل جز يكون الأصل عدمه.
فإن قلت: ما تقول في جريانه في الموضع الذي ثبت - من إجماع أو غيره - دخول تلك الأجزاء في المعنى واعتبارها فيه فيكون النزاع
في خصوص جز أو أزيد؟ مثلا بالاجماع ندري تسعة أجزأ فيه، والنزاع في جز واحد، وأن المعنى عشرة أو تسعة، فنقول: التسعة
ثبتت بالاجماع، والواحد ينفيه الأصل، فيكون تسعة.
قلت: (الشئ ما لم يتشخص لم يوجد) بالبديهة، ومسلم ذلك عند الكل، فما لم يوجد يكن باقيا على العدم الأصلي ولم يثبت خلاف
العدم فيه، فالمعنى ما لم يتعين لم يكن موضوعا له ولا مستعملا فيه بالبديهة، بل يكن باقيا على الحالة السابقة على الوضع والاستعمال.
فإن أردت أن المعنى تسعة أجزأ - أعم من أن يكون الجز العاشر جزا من ذلك المعنى، بحيث لو لم يكن لم يكن المعنى تاما، وأن لا
يكون جزا أصلا، بل يكون خارجا عن المعنى، وتمام المعنى بتلك التسعة من الاجزاء - فغلط واضح وتناقض محال.
وإن أردت أن المعنى تسعة أجزأ بحيث لا يكون للعاشر مدخلية فيه أصلا، ولم يكن تمام المعنى به، بل بتلك التسعة، وإن كنا قبل
ملاحظة الأصل نجوز الأول أيضا، إلا أنه ظهر لنا من الأصل أنه الثاني.
ففيه أنه كما كان قبل الوضع لم يكن العاشر معتبرا في معناه من جهة أنه لم يكن وضع أصلا، لكن بعد الوضع بقي العاشر على العدم
الأصلي،
482

وكذلك التسعة بالنحو الذي ذكرت لم يكن قبل الوضع معناه قطعا، فكذا بعد الوضع بعين ما ذكرت، وثبوت القدر المشترك بينها و
بين العشرة لا يعين ما ذكرت، لان العام لا يدل على الخاص، وتحقق القدر المشترك لا يقتضي تحقق خصوص فرد إذ التسعة التي ذكرت
فرد من القدر المشترك الثابت، قسم التسعة التي تكون مع العاشرة. والأصل كما يقتضي عدم خصوص فرد يقتضي عدم الاخر الذي هو
قسيمه.
على أن كل قسيم يتضمن فصلا أو قيدا يتقوم به ويتميز به وبسببه عن قسيميه، يكون الأصل عدم ذلك الفصل والقيد، وإن كان مثل
الساذجية في التصور الساذج الذي هو قسيم التصور مع الحكم.
على أن الحادث الثابت من الاجماع مثلا: هو الوضع، أو تجويز النوع، أو الإرادة في الاستعمال، وكل واحد منها شخص واحد من الحادث
لا تعدد فيه، سواء تعلق ببسيط أو مركب، قليل الاجزاء أو كثيرة. والتركيب وزيادة الجز في المتعلق لا يصير منشأ لتعدد الوضع و
الإرادة كلفظ تسعة ولفظ عشرة، وليس الوضع في لفظ العشرة متعددا: وضعا للتسعة، ووضعا للواحد، إذ لو كان كذلك لزم أن يكون
وضع لفظ العشرة عشرة أوضاع، بل عشرين، لان نصف الواحد جزؤه، فيكون جز الموضوع له، بل ثلاثة أيضا جزؤه، فيكون ثلاثين
وضعا، وربعه أيضا جزؤه، فيكون أربعين وضعا، وهكذا فيكون آلاف ألف وضع، بل لا نهاية للوضع، لعدم انتهاء الجز واستحالة
الجز الذي لا يتجزأ، وهو بديهي البطلان.
فظهر أن زيادة جز الموضوع له لا يصير سببا للزيادة في الوضع، فلا يكون الأصل عدم كون الوضع للمركب بالقياس إلى الوضع
للبسيط، وهكذا، بل لو صارت منشأ لزيادة الوضع كما أو كيفا - مع كون الوضع
483

حادثا - لا نسلم أن يكون الأصل عدمه بالقياس إلى غير الواحد كذلك.
مثلا: إذا سمعنا صوت رجل في دار علمنا وجود رجل أما أن يكون أصغر ما يكون من الرجال وأقصر - لأنه أقل ما يكون من الرجال، و
الأصل عدم زيادة الجثة أو الطول أو غيرهما - فلا، وهو ظاهر. وحققناه في رسالتنا في الاستصحاب ردا على من يقول: الأصل عدم
البلوغ كرا في الماء الموجود دفعة.
نعم فيما يوجد قليلا قليلا على سبيل التدريج يكون الأصل كما قال:
لأنه موجودات متعاقبة وحوادث متعددة.
ثم اعلم أن توقيفية العبادات إنما هي إذا ثبتت المطلوبية بألفاظ لا يعرف معناها إلا من الشرع، لأنها إما اصطلاح منه خاصة: وكل لفظ
في اصطلاح إنما يرجع في معرفة معناه وماهية ذلك المعنى إلى صاحب ذلك الاصطلاح. وإما مجاز: وقد عرفت أن معناه لا يعرف إلا
من قرينة معينة نصبها المستعمل تدل على ما هو في قلبه وذهنه، سيما وأن يكون المجاز من المجازات الغريبة التي لم تتحقق أصلا و
رأسا في عصر أو مصر، ولا عند قوم أو جماعة ولا عند آحاد أيضا إلا عند الشارع ومنه.
فلو قال الشارع - من أول تكليفه بالغسل - مثل: اغسل رأسك وعنقك، ثم اغسل يمينك ثم شمالك من أولهما إلى آخرهما بقصد الطاعة
لله لما كان هناك توقيف أصلا لفهمنا جميع ذلك من أول الامر كالمعاملات.
وكذا إذا كان المثبت للتكليف هو الاجماع كما عرفت.
وكذا إذا كان هناك عموم أو إطلاق بحيث يصلح أن يكون نصا وبيانا.
484

وكذا إذا فعل فعلا ابتدأ واطلعنا على ذلك الفعل، وأنه عبادة، فالأصل براءة الذمة عن الوجوب، فهو مستحب كما عرفت.
ومما ذكر ظهر أن ما صدر من البعض من التمسك بالأصل - فيما هو داخل في العبادة عند الخصم المنازع وإبطال مذهبه به، مجرد
توهم - مع تصريحه بأن العبادة توقيفية موقوفة على نص الشارع، وأمثاله من العبادات.
بل مع بنائه على عدم الفتوى من أول الفقه إلى آخره إلا من نص الشارع، حتى مع ورود المطلقات منه، مثل: الاقتصار على هيئة أفعل في
(الله أكبر) كما قلناه إلى غير ذلك.
وأعجب منه، عدم كون الاستصحاب حجة عنده، مع أن أصل العدم استصحاب (1)
حال العدم، يجري فيه ما ذكره عند منعه حجية
الاستصحاب.
لكن الظاهر أن هذا البعض لا يتمسك به إلا للتأييد حيث يكون له مستند يعتمد عليه، كما يتمسك بالخبر الضعيف والاعتبار وغيرهما
من المؤيدات التي ليست بحجة عنده جزما، كما هو طريقة سائر الفقهاء، حتى أنهم يذكرون القياس - في مقام التأييد - والاستحسان
أيضا، مع تصريحهم بحرمة الاحتجاج بهما كما لا يخفى.

(1) أي إذا فعل المعصوم عليه السلام فعلا بلا بيان قولي لاستحبابه أو وجوبه، وكان الفعل عبادة..
485

فائدة
[131]
حجية خبر الواحد الضعيف المنجبر
اتفق المتقدمون والمتأخرون من القائلين بحجية خبر الواحد على أن الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة وأمثالها حجة، بل استنادهم إلى
الضعاف أضعاف استنادهم إلى الصحاح، بل الضعيف المنجبر صحيح عند القدماء من دون تفاوت بينه وبين الصحيح، ولا مشاحة في
الاصطلاح، إلا أن اصطلاح المتأخرين أزيد فائدة، إذ يظهر منه ثمر قواعد:
وهي أن كل خبر العدل حجة إلا أن يمنع مانع، وخبر غير العدول بخلافه وعكسه. وخبر الموثقين عند من يقول بأنه مثل الصحاح مثل
الصحاح وعند من يقول بأنه الضعاف مثل الضعاف، وكذا الحال في الحسان.
لكن كلهم اتفقوا على كون المنجبر حجة، بل معظم الفقه من الاخبار الغير الصحيحة بلا شبهة، بل الطريقة فيه: أنه عند معارضة الضعيف
المنجبر
487

مع الصحيح الغير المنجبر يرجح ذلك الضعيف على ذلك الصحيح، كما ستعرف، وستعرف وجهه أيضا.
والمحقق في (المعتبر) بالغ في التشنيع على من اقتصر على الصحيح.
والعلامة في (الخلاصة) بنى على حجية الخبر الغير الصحيح، وبنى خلاصته على القسمين في القسم الأول من أوله إلى آخره.
وجميع تأليفات جميع الفقهاء مبنية على ذلك، بل ضعافهم أضعاف الصحاح إلا النادر من المتأخرين، بل النادر أيضا في كثير من المواضع
عمل بالمنجبر، مصرحا بأنه وإن كان ضعيفا إلا أنه عمل به الأصحاب، مثل:
حكم من أدرك ركعة من وقت الصلاة وغيره، وإن كان في بعض المواضع يناقش: بأن العدالة شرط في حجية الخبر الواحد، والمشروط
عدم عند عدم شرطه.
ولا شك في فساد المناقشة، لاقتضائها سد باب إثبات الفقه بالمرة، إذ لا شبهة في أن عشر معشار الفقه لم يرد فيه حديث صحيح، و
القدر الذي ورد فيه الصحيح لا يخلو ذلك الصحيح من اختلالات كثيرة بحسب السند، وبحسب المتن، وبحسب الدلالة، ومن جهة
التعارض بينه وبين الصحيح الاخر، أو القرآن، أو الاجماع، أو غيرهما - كما أشرنا إليه في الفوائد وظهر لك من التأمل فيها، وفي
الملحقات أيضا إلى هنا - وبدون العلاج كيف يجوز الاحتجاج به؟ وكذا إذا لم يكن العلاج حجة.
وكون العلاج هو الخبر الصحيح أو مختصا به بديهي البطلان، إذ لا شك في أن العلاج هو ظن المجتهد ولا خصوصية له بالصحيح، بل
ظنه من الخبر
488

المنجبر بالشهرة أقوى من الصحيح الغير المنجبر بمراتب شتى، كما ستعرف.
وكون العدالة شرطا: إن كان من قول الأصحاب فقد عرفت الاتفاق على العمل بغير الصحيح أيضا، بل ضعيفهم أضعاف صحيحهم، إلى
غير ذلك مما أشرت. وإن كان من ظاهر إطلاق كلام البعض في كتب الأصول، فالظاهر لا يقاوم المحسوس بالبديهة.
والتوجيه أن مرادهم بحسب الأصل ومن دون حاجة إلى التبين، إذ بعد التبين خبر الفاسق أيضا حجة عندهم بلا شبهة، ويظهر من
كلامهم في الأصول أيضا.
والبناء على أن التبين لا بد أن ينتهي إلى اليقين، دون العدالة التي هي شرط - إذ يكفي فيها أي ظن يكون من المجتهد - فتحكم، لأنه
تعالى اعتبر في قبول الخبر أحد الشيئين: إما العدالة أو التبين، ولم يثبت من الأدلة، ولا أقوال العلماء أزيد من هذا، فالاكتفاء في أحدهما
بأي ظن يكون دون الاخر فيه ما فيه. والمدار في التعديل على ظنون المجتهد - كما عرفت -، لان التعديل المعتبر من القدماء - إلا ما
شذ - ولم يظهر مذهبهم في العدالة أنها الملكة، أو حسن الظاهر، أو عدم ظهور الفسق، مع أن الأول خلاف ما يظهر من القدماء، وكذا لم
يظهر أنهم أي شئ اعتبروا في العدالة، وأن عدد الكبائر عندهم أي قدر، إلى غير ذلك مما وقع فيه الخلاف.
مع أنهم يوثقون الامامي بمثل ما يوثقون غيره، حتى أنهم يوثقون الغالي وأمثاله كتوثيق الامامي، وكثيرا ما لا يتعرضون لرداءة مذهب
الرواة اتكالا على الظهور أو غيره، بل هذه طريقتهم في الغالب، مع أنه قلما يسلم جليل عن قدح، أو خبر يدل على ذمه، فلا بد من الترجيح
أو الجمع، ولا يتأتيان إلا بظنون المجتهد.
489

وكذا الحال في تعيين المشترك، إلى غير ذلك، مثل: أنه ربما يقع في الطريق سقط أو تبديل أو تصحيف وأمثال ذلك، والعلاج غالبا
بالظنون، بل ربما كانت ضعيفة كما لا يخفى على المطلع، بل لا نسبة بين هذه الظنون وبين ما هو مثل الشهرة بين الأصحاب كما سنشير
إليه.
والحاصل أن معاصري الأئمة عليهم السلام وقريبي العهد منهم كان عملهم على أخبار الثقات مطلقا وغيرهم بالقرائن، وكانوا يردون
بعض الاخبار أيضا لما ثبت بالتواتر من أن الكذابة كانوا يكذبون عليهم عليهم السلام، لكن خفي علينا الأقسام الثلاثة، ولا يمكننا العلم
بها كما مر في الفوائد، كما أن نفس أحكامهم أيضا خفيت علينا كذلك، وانسد طريق العلم، فالبناء على الظن في تميز الأقسام، كما أن
البناء في نفس أحكامهم أيضا عليه، والدليل في الكل واحد كما مر هناك.
ومما ذكر ظهر فساد ما قيل: من أن الشرط في حجية المنجبر أن يظهر كون عمل المشهور على نفس ذلك الخبر لا ما يطابقه، لان
المدار إذا كان على حصول الظن بصدق ذلك الخبر من جهة التبين، فلا جرم يكون الحجية دائرة مع تلك المظنة، ولا شك في حصولها
من الموافقة لما اشتهر بين الأصحاب، لظهور كونه حقا، والموافق للحق حق. نعم لو تضمن ما زاد على ذلك لحصل الاشكال في الزائد.
ثم إنه ظهر من جميع ما ذكر فساد ما ذكره في المدارك: من أن الشهرة إن بلغت حد الاجماع فهو الحجة، لا الخبر، وإلا فأي فائدة فيها؟
مضافا إلى أن الايمان والاسلام والعدالة وغيرها شرط في كون الخبر حجة عنده، مع أن شيئا منها ليس بحجة وحده، وليس الخبر
حجة بدونها، لكونها شرطا فيها. وكذا الحال في جميع الظنون الاجتهادية المتعلقة سند
490

الخبر ومتنه ودلالته ورفع تعارضه وغير ذلك، إذ ليست حجة ما لم تتعلق بالأدلة الخمسة، والأدلة لا تكون حجة بدون تلك الظنون، و
قس على ذلك شرائط سائر الأدلة مع تلك الأدلة.
ومما ذكر ظهر أيضا أنه إذا وقع التعارض بين الضعيف المنجبر بالشهرة والصحيح الغير المنجبر، يكون الضعيف مقدما عليه، كما هو
طريقة القدماء وأكثر المتأخرين - كما لا يخفى على المطلع والتنبيه على مواضع تقديمهم إياه عليه يوجب بسطا طويلا غاية الطول -
خصوصا بعد ملاحظة أن العدالة عندهم شرط في قبول الخبر، فمع وجود الشرط في الصحيح، وعدمه في الضعيف لا يعدلون منه إليه إلا
لداع عظيم، بعد ملاحظة كونهم من أهل الخبرة والمهارة وقرب العهد بالأئمة عليهم السلام، وكونهم مشايخ الإجازة، ومؤسسي مذهب
الشيعة، ومتكفلي أيتام الأئمة عليهم السلام بعد الغيبة، وفقهاء الشيعة في الحضور والغيبة، ومجددي دين الرسول صلى الله عليه وآله و
سلم في كل قرن ورأس كل مائة، وحجج الله على العباد بالنص من الأئمة عليهم السلام، والحكام عليهم بنصهم عليهم السلام في مقبولة
ابن حنظلة ورواية أبي خديجة، إلى غير ذلك مما ورد في شأنهم أو ظهر من حالتهم، وخصوصا بعد ملاحظة تحريمهم التقليد على
المجتهد، وإيجابهم استفراغ الوسع وأمرهم بالاحتياط ومبالغتهم فيه وفي الاهتمام به وعدم المسامحة.
هذا مع نهاية كثرتهم وموافقة كل منهم الاخر، مع غاية الاختلاف بينهم في تأسيس الأصول، وتفريعهم الفروع، بل الواحد منهم كثر
اختلافه في الفقه فكيف المجموع؟ إلى غير ذلك مما ذكرنا في حجية إجماعهم في (الفوائد) و (الرسالة)، فلاحظ وتأمل جدا.
491

فائدة
[32]
عدم جواز التقليد في أصول الدين
الاجتهاد والتقليد إنما يتمشيان في الأمور التكليفية، والتي وقع الحاجة إلى معرفتها، ومع ذلك يكون باب العلم إلى معرفته مسدودا، و
يكون الطريق منحصرا في الظن، ولو لم يكن أحد هذين الشرطين لم يجز فيه الاجتهاد والتقليد عند المجتهدين.
أما جريانهما فيما اجتمع فيه الشرطان فواضح، وعرفت أيضا. وإذا انتفى الشرط الأول فعدم الجريان واضح أيضا، لعدم داع إلى اعتبار
الظن، مع كون الأصل فيه عدم الاعتبار، وكونه مذموما شرعا، ومنهيا عن العمل به، كما عرفت في الفائدة الأولى.
وأما إذا انتفى الشرط الثاني: بأن يكون باب العلم غير مسدود فيه:
كأصول الدين، وموضوعات الاحكام التي ليست من قبيل الألفاظ والقرائن
493

والمرجحات الاجتهادية التي يعرف بها الاحكام من الكتاب والسنة وما يتوقف عليها.
أما أصول الدين فلا شك في عدم انسداد باب العلم فيها كما بين في الكلام، وظهر منه، مع أنه مع الانسداد كيف يكون الخاطئ فيه غير
معذور، مع أن الخطأ غير مأمون على الظنون، ولا معنى للظن إلا بأن يجوز خلافه، مع أنه لو كان ظنيا فلا وجه لجعله من أصول الدين و
سائر الظنيات فروعه.
ولما ذكرنا اجتماع الشيعة على عدم جواز التقليد في أصول الدين الخمسة.
وما صدر من البعض غفلة قد عرفت حاله.
وأما تلك الموضوعات، مثل: صيرورة شئ نجسا بملاقاة النجاسة، أو طاهرا بالمطهر الشرعي، أو حراما بعروض المحرم، أو حلالا
بطرو المحلل، أو كون الرجل عادلا ليصلى خلفه، إلى غير ذلك من أمثال ذلك مما يكن العلم به بالمشاهدة، أو الخبر المحفوف بالقرينة،
أو التواتر، فلا يجري فيها الاجتهاد والتقليد.
وربما جوز الشارع ثبوتها بالظنون الشرعية أيضا مثل: شهادة العدلين، أو كونه في اليد، أو القسم، أو الاقرار، أو الظن بدخول وقت
الصلاة مثلا مع عدم إمكان العلم، وأمثال ذلك، وهذه ليست بظنون اجتهادية وتقليدية، بل أمور خاصة صدرت من الشرع بخصوصها
إما للقاضي من حيث هو قاض، أو للكل مثل: الظن بدخول الوقت وأمثاله.
وبالجملة هذه الموضوعات لا يجري فيها الاجتهاد والتقليد لما عرفت من أن المجوز لهما، والمبيح إياهما، ليس إلا اجتماع الشرطين
جميعا لما عرفت وجهه، وعرفت من الأدلة ومن كلام المجتهدين في موضوعه، وأشرنا إليه في الجملة.
494

فظهر أن ما قال بعض: من أن نجاسة المتنجس - يعني انفعاله بملاقاة النجاسة - يكفي فيها المظنة - اشتباه منه لان مقتضى الأدلة
اشتراط العلم، مثل قولهم عليهم السلام: (كل ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر)
(1)
وقولهم عليهم السلام:
(كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر) إلى غير ذلك، وكون ظن المجتهد وتقليده يثمران ثمرة العلم إنما هو بدلائل عرفتها، وكون
موردهما ما اجتمع فيه الشرطان أيضا قد عرفت. وليس فيما نحن فيه منه قطعا، بل التقليد إنما هو في نفس الأحكام الشرعية، و
الاجتهاد فيها وفي الموضوعات والمرجحات التي يتوقف عليها تلك الأحكام، لا مثل ما نحن فيه والتقليد لا يجري في الموضوعات
مطلقا، وقد عرفت الوجه.
مع أن ما نحن فيه من ظنون المكلفين من حيث أنهم مكلفون مثل:
الظن بدخول الوقت، لان المجتهد لا يبذل جهده لتحصيل ظنه بملاقاة

(1) الوسائل 1: 99 كتاب الطهارة الباب 1، الحديث 2: (كل ماء طاهر إلا ما علمت أنه قذر) وفي ص 100 حديث 5: (الماء كله طاهر حتى
يعلم أنه قذر) وفي ص 106 الباب 4 من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة حديث 2 لكن ورد فيه (حتى تعلم) وذكر الفيض رحمه الله
في الوافي 1: كتاب الطهارة والتزين من باب الطهارة الماء وطهوريته الحديث 2 ب (يعلم) و (تعلم) عن الكافي بإسنادين وعن الفقيه
بإسناد واحد وعن التهذيب بإسنادين كما ذكره الميرزا النوري رحمه الله في مستدركه 1: كتاب الطهارة الماء المطلق الباب 1، أنه
طاهر مطهر الحديث 7 عن الصدوق في الهداية وفي الباب 4 عن القطب الراوندي رحمه الله في فقه القرآن وورد فيها ب (تعلم) وهذا هو
أقرب نص إلى ما في المتن وفي الجميع (الماء كله.). وليس في واحد منها: (كل ماء) كما في المتن.
495

النجاسة، فيعمل به، ويفتي مقلده، ويأخذ بقوله من دون اطلاع منه أصلا، أو من غير اعتماد منه إلا على ظن مجتهده.
على أنه لو اتفق أن مجتهدا فعل كذلك، وقلده مقلده بالنحو الذي ذكر فلا نسلم جريان الاجتهاد والتقليد وصحتهما في المقام، لعدم
الدليل، بل لدليل العدم. فما لم يثبت من الشرع فيه جواز التعويل على الظن لا يجوز التعويل عليه، وإن ثبت جاز، كما هو الحال في الظن
بدخول الوقت.
وأمثاله.
ومما ذكر ظهر فساد توهم بعض آخر حيث لم يجوز ثبوت نجاسة شئ أو ماء بالظنون الاجتهادية معللا بأنها ظنون، والوارد في
الاخبار اشتراط العلم بالنجاسة، مثل: نجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة، لان ظن المجتهد وتقليده يثمران ثمر العلم، لما عرفت من
الأدلة. مع أن مقتضى الآيات والاخبار وغيرهما عدم جواز التعويل على غير العلم - كما مر في إثبات أصل البراءة في الفائدة الأولى -
فلو لم يثمر ثمر العلم لم يثبت تكليف أصلا، ولا حكم مطلقا في غير ضروريات الدين أو الاجماع اليقيني أو اليقين العقلي.
وأما الموضوعات التي يتوقف عليها معرفة الاحكام فحالها حال الاحكام - إلا أنه لم يجر فيها التقليد - بل انسداد باب العلم فيها مع شدة
الحاجة إليها أظهر.
ولذا وافق الأخباريون المجتهدين في جريان الاجتهاد فيها مع مخالفتهم إياهم في نفس الاحكام. نعم منعوا الحاجة إلى علم الرجال، بل
وإلى العلوم اللغوية أيضا، وكذا إلى أصول الفقه وغيرهما، وهذا غير الحاجة إلى معرفة الموضوعات عندهم، وإن كانوا خاطئين في
ذلك خطأ عظيما
496

واضحا غاية الوضوح، وأشبعنا الكلام في رسالتنا في (الاجتهاد) و (الاخبار).
497

فائدة
[33]
الوظائف المحولة للمجتهد
المجتهد والفقيه والمفتي والقاضي وحاكم الشرع المنصوب عبارة الان عن شخص واحد، لأنه بالقياس إلى الأحكام الشرعية الواقعية
يسمى مجتهدا، لما عرفت من انسداد باب العلم.
وبالقياس إلى الاحكام الظاهرية يسمى فقيها، لما عرفت من كونه عالما بها على سبيل اليقين.
وبالقياس إلى أنه يفتي يسمى مفتيا.
وبالقياس إلى أنه يرفع خصومة المترافعين إليه يسمى قاضيا.
ومع قطع النظر عن الترافع إليه يسمى حاكم الشرع بالنسبة إلى مثل:
ولاية الأيتام، والغائبين، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ومذكورة في الفقه.
وبالقياس إلى شرائط الاجتهاد يسمى محدثا متكلما أصوليا رجاليا إلى
499

غير ذلك.
ثم اعلم أن أحواله بالنسبة إلى الأسامي ربما تتفاوت تفاوتا ظاهرا، فإن المجتهد منصبه العمل بالأدلة الشرعية لنفس الاحكام، وكذا
موضوعاتها التي يتوقف عليها ثبوت الاحكام، ويجوز للعامي تقليده في الأول دون الثاني.
وعرفت أن الاجتهاد والتقليد إنما يجريان فيما يجب العمل به، ويحتاج إليه وينسد باب العلم بمعرفته.
وأيضا لا يجوز للمجتهد تقليد المجتهد، نعم ربما يستند إلى قوله من باب التأييد والمرجحات الاجتهادية، فلا يكون مقلدا.
وكذا استناده إلى قول علماء الرجال واللغة وأمثالهما ليس تقليدا، لأنه لا يستند بمجرد قولهم حتى يكون تقليدا، بل يبذل الجهد في أنه
هل له معارض أم لا؟ فإذا وجد المعارض يبذل جهده في الترجيح والجمع، ويبذل جهده في معرفة كون الترجيح أو الجمع حجة أم لا، و
بعد معرفة الحجة يبني عليها، وإذ لم يجد المعارض بنى على أصل العدم، والظاهر كونهما حجة، وكذا كون الاستناد إلى كون أقوال
هؤلاء حجة، فإذا علم حجية الكل يعمل، فهذا ليس بتقليد.
وأيضا قد عرفت أن الشيعة بحسب الظاهر متفقون على عدم جواز تقليد الميت من المجتهد، عكس العامة، فإن المشهور والمعروف
بينهم جوازه.
هذه أحوال المجتهد من حيث هو مجتهد، وليست منحصرة فيما ذكر، بل ربما يوجد غيره، فتتبع مظانه تجد منها أن كلامه حجة على
من قلده،
500

ويجب على مقلده العمل بقوله خاصة، دون مجتهد آخر لا يعتقد به، فلا يقلده، ومع وجود الأعلم الأفقه يتعين تقليده، ومع التساوي
يتخير. إلى غير ذلك.
وأما القاضي فشأنه القضاء في موضوعات الاحكام، فيكون عمله على الشاهد واليمين والنكول والاقرار واليد وأمثالها، لا الأدلة
الخمسة التي هي مستند الفقيه.
ويجوز للمجتهد الترافع إليه، بل قد يجب، مع أنه يجز له تقليد المجتهد، كما عرفت. وكذا الحال في غير المجتهد سواء كان مقلده أم لا،
فحكمه ماض على المجتهد والعامي المقلد له، وغير المقلد له، لان من بلغ رتبة القضاء فهو منصوب من قبل المعصوم عليه السلام على
سبيل العموم، فلا يوجد في هذه الأزمنة قاضي التحكيم. فتأمل جدا.
ولأنه لا يستقيم حكمه، ولا يصح إلا أن يكون كذلك، فإنه لا بد من البيع والشراء أو الانتقالات الاخر أو التصرفات الاخر إلى غير ذلك.
ولأنه نائب المعصوم عليه السلام.
وأيضا بعد ما حكم به القاضي حكمه ثابت دائما، وإن مات، وحاله بعد موته كحاله في حياته بالنسبة إلى ما حكم به، ولا يموت حكمه
بموته، ولا يجوز الترافع إلى الميت، ولا يمكن، ولو قيل بجواز تقليد الميت. هذا وغيره من الاحكام المختصة بالقاضي المذكورة في
موضعها.
وأما حاكم الشرع فقد أشرنا إلى أشغاله ومناصبه، وهي مما ينتظم به أمر المعاد والمعاش للعباد، والظاهر أن حكمه مثل حكم
القاضي ماض على العباد: مجتهدين أم مقلدين: مقلدين له أم لغيره. أم لا يكونون قلدوا أحدا لاشتراك العلة وهي كونه منصوبا من
المعصوم عليه السلام ولأن حصول النظام
501

لا يكون إلا بذلك، ولأنه نائب المعصوم عليه السلام.
والمعروف من المتأخرين: أن ثبوت الهلال من مناصبه فيثبت عنده فيحكم بالصوم أو الفطر أو غيرهما.
وربما قيل: إن بعد الثبوت عنده يصح الصوم أو الفطر أو غيرهما قبل تحقق حكمه بذلك، ولا يتوقف عليه.
والدليل على كونه من مناصبه: أن الأئمة عليهم السلام كانوا يفعلون كذلك، يثبت عندهم فيأمرون المكلفين بالصوم وغيره.
ولأن الثبوت على كل مكلف بشهادة العدلين عنده يوجب الحرج، سيما مع عدم معرفته حكم الشهادة والعدالة وغيرهما.
مع أن الفقهاء صرحوا في كتاب القضاء: بأن الحكم بشئ من الشهادة، والعمل بالشهادة منصب الفقيه.
ولأنه نائب المعصوم عليه السلام، ولو فعل المعصوم عليه السلام لكان صحيحا البتة، فكذا نائبه.
وربما سمعنا من بعض العلماء، أو اطلعنا على قوله: بعدم جواز التقليد في ثبوت الهلال في الأمور المذكورة، لأنه متعلق بفعل المكلف من
حيث أنه مكلف، كالعلم بدخول الوقت، وأمثاله.
ولأنه ربما كان الظاهر من الاخبار كون الحجة هي الشهادة خاصة لا فتوى الحاكم أيضا، وكون الاعتماد على خصوص الشهادة لا
على حكمه أيضا فتأمل جدا.
502

ولأن التقليد خلاف الأصل، وحرام حتى يثبت المخرج، سيما تقليد من لم يقلده.
ويمكن الجواب عن الكل بما مر من الأدلة، مضافا إلى أنه بعيد غاية البعد أن يكون المشهور في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمة عليهم السلام ومن بعدهم من الفقهاء الخبيرين الماهرين القريبين للعهد منهم يدرون في المحلات والبيوت ليشهدوا عند كل
واحد من المكلفين، أو يطلع على شهادتهم، بحيث يعرفهم بالعدالة واستجماع الشرائط المعتبرة لقبول الشهادة، سيما وأكثرهم النساء
والسفهاء وغيرهم ممن لا يتيسر ذلك الاطلاع بالحيثية المذكورة منهم البتة، لو لم نقل كلهم إلا الفقهاء.
بل لا يخفى على المتأمل كون ما ذكر من القطعيات، يعنى قطع أنه لم يكن كذلك، سيما بملاحظة أنه أمر يعم به البلوى، ويشتد به الحاجة،
ويكثر وقوعه في الأزمنة بحسب العادة، فلو كان الشهود يدارون، أو يطلع على شهادتهم بالحيثية المذكورة، لكون ذلك لازما،
لاشتهر اشتهار الشمس، مع أن الامر بالعكس - كما ظهر لك - وفتوى المتأخرين وعملهم أيضا في الأعصار والأمصار على ما عرفت.
والله يعلم.
503

فائدة
[43]
رد شبهة المانعين عن وجوب الاجتهاد
شبهة أوردها المانعون عن وجوب الاجتهاد: بأن استفراغ الوسع إن أريد الوسع في جميع أوقات العمر، فلا يتحقق رتبة الاجتهاد إلا
عند الوفاة، وإن أريد في وقت التكليف والحاجة إلى المسألة، فربما كان في ذلك الوقت ما حصل شرائط الاجتهاد كلا أو بعضا، أو
حصل على سبيل التقليد، وأنتم لا ترضون به، لأنه مركب من الاجتهاد والتقليد الذي تتحاشون عنه.
وإن حصل على سبيل الاجتهاد فالاجتهاد متفاوت، لأنه يحتمل عند المحصل أنه لو استفرغ وسعه أزيد مما فعله لربما ظهر له خلاف ما
ظهر أولا، وأنتم أوجبتم شرائط الاجتهاد فرارا من هذا، وقلتم كيف يعتمد على ظنه مع هذا؟ فمع كونه موجودا هنا فكيف اكتفيتم؟ وإن
لم تكتفوا إلا باستفراغ ثان، فننقل الكلام إليه، وهكذا لعدم الانتهاء إلى العلم.
505

وإن بنيتم في الاكتفاء على الاعتماد على تصديق مجتهد وتجويزه فهو تركب الاجتهاد والتقليد، مع أنا ننقل الكلام إلى المجتهد المجوز.
والجواب أولا: بالنقض: بأنكم إن جوزتم أن كل إنسان - سواء كان ذكرا أو أنثى، سفيها أو عاميا أو أعجميا قحا، إذا فهم من الأحاديث
شيئا بأي نحو فهم من غير جهة قاعدة وضابطة بل بخلاف القاعدة، وإن فهم ضد المطلوب أو نقيضه، بل ربما لم يكن رابطة لفهمه، بل
رجما بالغيب - يكون فهمه حجة يجب عليه العمل به، ولا يمكنه تقليد غيره - ولو في حكمه. بأن فهمه غلط فاسد جزما - فوا فضيحتاه، و
لستم حينئذ أهلا للمكالمة ومستأهلين للجواب.
وإن قلت: إنه لا بد للفهم من اطلاع على أمر وتتبع ومعرفة، ننقل الكلام إليه ونورده عليك حرفا بحرف، إلا أن تجوز التركب، وهو
في الحقيقة تقليد لا اجتهاد، والكلام فيه. مع أنه لا يصدقه مجتهد، ولا يجوزه فقيه، لان الشيعة بأجمعهم، بل أهل السنة أيضا لا يجوزونه، و
بينا بطلانه في رسالتنا في الاجتهاد. هذا مع أنكم لا تجوزون تقليد غير المعصوم عليه السلام، والتركب ليس تقليد المعصوم عليه
السلام، كما هو ظاهر.
هذا مع أن الذي أورد الشبهة يعتبر في الفقاهة وفهم الحديث معرفة العلوم العربية واللغوية والتتبع التام في الأحاديث وأمثال ذلك،
فالنقض عليه في غاية الشدة.
وأيضا جميع العلوم والحرف والصنائع - التي
[هي]
واجبة كفاية أو
506

عينا، لنظم أمر المعاد والمعاش - هذه الشبهة واردة فيها: بأنه إن لم يحتج إلى مهارة وخبرة واطلاع على ما تبتني عليه وتتوقف
عليه فباطل بالبديهة، ولا يتحقق نظم المعاد والمعاش، بل به يصير الفساد أزيد بلا شبهة. ومعلوم أن علم الفقه أيضا من جملة تلك
العلوم واجب عينا أو كفاية لنظم المعاد والمعاش، بل أشد مدخلية فيه بمراتب شتى، بل جميع تلك العلوم والصنائع من شعبات الفقه و
مسائله: أرى فسادها من فساد الفقه، كما مر في أول الفوائد.
ومع ذلك أن جميع ما هو علم أو صنعة أو حرفة باقية على حالها من القول بلزوم المهارة والخبرة، والاطلاع على ما تتوقف عليه، أو
عسى أن تتوقف عليه. وكذا مراعاة الأساتيذ واحترامهم، وقبول قولهم، وكون الحق معهم، لان الأساتيذ وأهل الخبرة والمهارة
يسمعون فيها البتة، وإن كان في نظر التلامذة أن ما قالوا ليس كذلك، إلا أنهم يقولون: إنهم أساتيذ هذا الفن، فالخطأ منا، ومن هذه
يسمعون قولهم ويطيعونهم ويخدمونهم إلى أن يبلغوا مرتبة الأستاذية، ومع ذلك أستاذهم أسنادهم ما داموا في الحياة، ومع ذلك
يعظمونهم غاية التعظيم، وإذا وقع كسر في خطهم، أو غيره من صنائعهم لا يجبرونه، ويجعلون التصرف في صنعهم، وإن كان خبيرا
لكسرها دليلا على سلب التوفيق، وسوء الأدب، وموجبا لنكال شديد، من حيث كونهم أساتيذ، مع كون العلماء والأساتيذ في الغالب
كفارا أو ضلالا أو فساقا، بل ربما كان كفرهم أشد كفر، وفسقهم أعظم فسق، يعظمونه من حيث الأستاذية، ويقبلون
507

قولهم بسبب الخبرية، كما قال عز وجل: ولا ينبئك مثل خبير.
بخلاف الفقيه، فإن الشيطان - لغاية عظم رتبته، ونهاية شدة ضرر الغلط فيه - ألقى في قلوب القاصرين: أنه لو وافق أحد فهمه وفقهه
فهم الفقهاء وفقههم يكون مقلدا لهم، فلا بد من مخالفة الفقهاء، وعدم الموافقة لهم، وتخريب فهمهم وفقههم، حتى يصير فقيها، وربما
يطعنون عليهم ويسيئون الأدب معهم، مع أنهم يرونهم أئمة هذا الفن، والمؤسسين له، والماهرين الخبيرين القريبين لعهد الأئمة عليهم
السلام أو أقرب عهدا منهم بمراتب، وأعرف بجميع ما له دخل، وأزيد تتبعا للأدلة، أصحاب الكمالات النفسية، وأرباب القوى القدسية
في حال صغر سنهم فضلا عن الكبر، مع نهاية تقواهم وورعهم وعدالتهم وقربهم إلى الله تعالى، إلى غير ذلك، مع نهاية كثرتهم، و
زيادة حقوقهم، بحيث لولاهم لما كنا نعرف الدين والمذهب والفروع والأصول.
مع كونهم المجددين لدين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رأس كل مائة، والمروجين له في كل قرن، والمتكفلين لأيتام الأئمة
عليهم السلام في زمان الغيبة، المستنقذين لهم من أيدي الأباليس والمنتحلين والمبطلين والغالين، والحجج على الخلق والأئمة عليهم
السلام حجج عليهم، إلى غير ذلك مما ورد في الاخبار والآثار، وشهد له الاعتبار، ولا يفي لجمعها الدفاتر، وكل قلم ولسان عن الذكر
قاصر، بل لو لم نطلع على أقوالهم، أو لم نلاحظ كتبهم لم يمكننا فهم حكم واستنباط مسألة من الحديث، ولا يخفى ذلك على المنصف
الفطن.
وثانيا بالحل: بأن من سمع مقالة أئمة هذا الفن: وهي أنه لا يتأتى
508

الاجتهاد إلا بعد استجماع شرائطه، ولا يجوز العمل بالظن الذي ورد في القرآن والاخبار المنع عن العمل به، وجعله حكم الله، مضافا
إلى أنه خلاف الأصل والعقل، فإن حكم الله حق ومن الله، وظننا ظن ومنا، فكيف يكون أحدهما عين الاخر؟ إلا أن نعلم علما يقينا أن الله
تعالى يرضى به عوض حكمه، ولا يكفي الظن به، لأنه أيضا ظن، فيدور أو يتسلسل، إلى غير ذلك مما ذكرنا في أول الفوائد وغيره، و
لا يتحقق العلم واليقين إلا لمن استجمع الشرائط... وبالجملة من سمع مقالتهم، ويكون قلبه خاليا من الشوائب، سالما عن المعايب، ليبادر
بالقول البتة، ولا يجعلهم أسوأ حالا من أرباب العلوم والصنائع الذين هم في الغالب يعلم عدم عدالتهم، بل وفسقهم وكفرهم أيضا، ومع
ما عرفت قولهم بأن ما ذكروه حق يقينا - كما لا يخفى على من له أدنى فهم - مضافا إلى أدلتهم على لزوم كل شرط شرط على حدة -
كما بينا في رسالتنا في الاجتهاد - بحيث لا يبقى للجاهل تأمل أصلا، فضلا عن العالم، فيشرع في تحصيل الشرائط: من العلوم، والقوة
القدسية.
أما القوة القدسية فبجهاد النفس، والسؤال من الله تعالى، والتضرع إليه، والالحاح عليه، والاستمداد من الأرواح القدسية المعصومة، و
بعدهم من الفقهاء رضوان الله عليهم، ويبالغ في تعظيمهم وأدبهم ومحبتهم والركون إليهم، (فإن القلب يهدي إلى القلب)، فإذا
استحكم الروابط بين القلوب أو بين القلب والأرواح الذين هم أحياء عند ربهم يفتتح أبواب الفيوض والكمالات،
509

وينشرح بأنوار المعرفة والعلم، (فإنه نور يقذفه الله في قلب من يشأ) (1)
يا أخي قد حصل التجربة لي، فعليك بما ذكرت، ثم عليك بما ذكرت، وإياك، ثم إياك من تنفر قلبك من فقهائنا، وميله عنهم إلى نفسك،
فإن فيه المحرومية عن نيل درجة الفقه البتة أصلا ورأسا، والوقوع في وادي التيه والحيرة والضلالة والجهل والحمق الشديد، كما
شاهدت عيانا بالله من ذلك.
وأما تحصيل العلوم فبالشروع في المذاكرة والمطالعة، مع الاستمداد من الله تعالى والتضرع إليه والتوسل والتشفع بالنفوس
المقدسة، وتخلية القلب عن الميل والنفرة، فما وجد من المسائل المسلمة غير المشكلة أخذها، وأما المشكلة والخلافية فيجتهد فيها
بحسب وسعه كما ذكرنا.
فبعد تحصيل الكل يشرع في الفقه، ويجعل تحصيله من مقدمتين:
الأولى: هذا ما أدى إليه اجتهادي، والثانية: كل ما أدى إليه اجتهادي فهو حكم الله يقينا في حقي، ولا بد أن يكون في المقدمة الأولى
صادقا، وبالثانية عالما متيقنا حتى تصير النتيجة صادقة يقينية.
وأما أجزأ الشرائط على سبيل الاجمال: فبأن يعرف أن أدلة الفقه منحصرة في الخمسة المعروفة، ويتأمل في كل دليل دليل هل هو دليل
أم لا؟ وكونه دليلا بشرط أو بغير شرط؟ وعلى الأول الشرط ما ذا؟ مثلا يتأمل في أن خبر الواحد حجة أم لا، وعلى الأول مشروط

(1) لم نعثر على هذه الرواية بهذا اللفظ في الجوامع الحديثية حسب فحصنا والذي ظفرنا عليه ما هو لفظه: (ليس العلم بالتعلم إنما هو
نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه)، راجع البحار 1: 225 ذيل الحديث 17، وقد نقله صاحب كنز العمال بهذه النص
(علم الباطن سر من أسرار الله عز وجل وحكم من حكم الله يقذفه في قلوب من يشأ من عباده) كنز العمال 10: 159 الحديث 28820.
510

بالعدالة أو الموثقية أيضا أو الحسن أيضا أو القوة أيضا، أم لا وأن الضعيف ينجبر أم لا؟ والجوابر ما هي؟ إلى غير ذلك مما ذكرنا في
الفوائد. مثل: أن العدالة هل هي الملكة، أو حسن الظاهر، أو عدم ظهور الفسق؟ وأن ثبوتها من باب الشهادة أو الخبر أو الظن
الاجتهادي؟ ويتجسس عن الثبوت، وفي الثبوت يحتاج غالبا إلى الاجتهاد، بل كليا - كما ذكرنا - إلى غير ذلك مما يتعلق بالسند، أو
المتن، أو الدلالة، أو رفع التعارض، أو علاجه، إلى غير ذلك مما ذكرناه في الفوائد والملحقات، فإن جميعها معالجات للاحتمالات و
الاختلافات التي لا بد من علاجها، حتى يتمكن من الاستدلال بعنوان الاجتهاد لا بالتقليد، فجميع الشرائط إنما هي علاجات الاستدلال
بالاجتهاد ولا يمكن إلا بها - اللهم إلا أن يكون مقلدا -.
فإذا حصل المسألة بالنحو الذي ذكرناه فهو مجتهد.
ومع ذلك، الأحوط أن يعرض اجتهاده على اجتهاد المجتهدين: فإن وجده في الغالب يوافق طريقتهم، فليحمد الله تعالى على هذه النعمة
العظمى حمدا كثيرا كثيرا، ويشكره شكرا كثيرا كثيرا، فيظهر أنه نال هذه الرتبة الهنية السنية، ويتضرع إليه في حفظه عن الخلاف في
البقية.
وإن وجده بخلاف ذلك فليتهم البتة نفسه نهاية التهمة، وليسرع في إصلاحها بالمجاهدات والتضرعات والاستمدادات وغيرها، و
تخليتها عن الشوائب، وتخليصها عن المعايب، حتى يهب الله تعالى له هذه الرتبة.
وهذا القدر يكفي، يعني أي مسألة تحتاج إلى الاجتهاد، - سواء كان مقدمة الفقه أو نفسه - حين ما أراد الاجتهاد فيها استفرغ وسعه ذلك
الحين، فأي شئ أداه إليه اجتهاده يكفي، وإن كان يحتمل عنده أنه بعد ما زاد مهارته أو ممارسته ربما يتغير ظنه، إلا أن الظاهر عنده
أنه ليس كذلك، ومع
511

ذلك هذا الحين هذا القدر وسعه، وهذا الذي أدى إليه اجتهاده، وهو مكلف، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ولأنه لو لم يكفه لم ينفعه اجتهاده ما دام حيا، فلا بد له من التقليد، وربما لم يوجد له فتوى فقيه حتى يقلده، والتزام الاحتياط بالنسبة
إلى جميع المسائل حرج، بل تكليف بما لا يطاق، وترجيح البعض من غير مرجح فاسد على حسب ما عرفت سابقا.
مع أن الفقهاء متفقون على أن المجتهد لا يجوز له تقليد غيره، ويريدون من المجتهد هذا الذي ذكرناه، لأنه بعد اطلاعه على جميع ما له
دخل في الفهم وبذل جهده فيه يظهر عنده أن حكم الله كما فهمه، وغيره ليس حكم الله، فإن كان فتواه موافقا لفتوى الكل فنعم الوفاق،
ويتعين عليه العمل به، وكذا إن كان موافقا لفتوى المشهور أو الأكثر لغاية قوة فتواه.
وأما إذا وافق البعض دون البعض فكذلك لما عرفت، سيما وأن المجتهد في مثله يبذل جهده في تعريف دليل المخالف وصحته و
سقمه، ويبالغ، ومع ذلك يجد أن الحق معه ومع من وافقه، وكذا لو خالف البعض ولم يجد موافقا، لان الظاهر عنده أن حكم الله كذا، و
أن ما عليه البعض ليس حكم الله، فكيف يصح التمسك به، ويدع فتواه؟ مع أنه في هذا المقام يبالغ أزيد مما تقدم.
وأما إذا خالف فتوى الكل فيجب عليه ترك فتواه، لأنه خطأ البتة، وكذلك لو خالف المشهور بين القدماء والمتأخرين إلا النادر، وذلك
النادر أيضا كان رجع عن فتواه، ووافق القوم، ويظهر ذلك مع أنه في كتابه المتأخر
512

وافقهم، وغير ذلك، وهذا يرجع إلى الأول، فما تعارف الان - من اعتداد فقهائنا بقول النادر الذي يرجع عنه القائل - ظاهر الفساد، إذا
لا فرق بينه وبين أن لا يكون نادرا من القول. ومع الوفاق لا يخالفون إلا نادرا غفلة، أو بناء على أنه ليس وفاق الكل عنده.
ومثل الصورتين السابقتين أن تكون المسألة مما يعم به البلوى، ويشتد إليه الحاجة، ومع هذا صار المشهور عند قدمائنا والمتأخرين
إلا النادر كذا، فإن خالفه يكون معلوم الفساد كما لا يخفى على المتأمل.
وأما المشهور بين خصوص القدماء فليس بتلك المثابة، يمكن الفتوى بخلافه، إذا كان الداعي عظيما، وكذلك المشهور بين المتأخرين
خاصة، إلا أن الأحوط مراعاة المشهور في العمل كيف كان، كما هو دأب المحققين.
بل الأحوط مراعاة كل فقيه مهما أمكن كما هو دأبهم في مقام الاحتياط، لكن ليس بمثابة المشهور، إذا تراكم أفواج الافهام السديدة من
أصحاب القوى القدسية والمهارة التامة عليه إلى أن اعتقد الفحول كونه حجة كما مر، ومر الكلام.
وإني تتبعت فوجدت: أن كلما هو المشهور يكون دليله أقوى وأمتن البتة، إلا ما شذ، ولعل ما شذ يكون بسبب قصوري ما علمت كون
دليله أمتن.
فإن قلت: ربما كان مخالف هذا المجتهد أزيد مهارة، أو متعددا وجماعة، وفيهما مظنة الأصوبية.
قلت: لا شك في أن الأحوط مراعاتهم في العمل - كما عرفت -، وأما الفتوى فهذا المجتهد مطلع على ما ذكرت، ويلاحظه في مقام
اجتهاده، بأن يبالغ في الاجتهاد عند ملاحظة الأدلة، ويزيد التأمل والتدبر، ويكثر إلى أن
513

يحصل له ما يقابل ما ذكرت من المظنة، ويغلب عليه، وربما يظهر أن الحق معهم، فيرجع هذا.
مع أنهم إن كانوا أمواتا فلا يجوز تقليدهم مطلقا، وإن كانوا أحياء فيتمكن من المناظرة معهم لتعرف الحال، ولو لم يتمكن فيزيد التأمل
في الأدلة.
ومع ذلك قد عرفت أنهم متفقون على أن المجتهد لا يجوز له التقليد، للأدلة الدالة على حرمته، خرج عنها العامي للاجماع وغيره، وهما
لا يشملان المجتهد، فلاحظ.
ثم اعلم أن المجتهد إذا تجدد له الحاجة إلى ما اجتهد فيه يجب عليه تجدد الاجتهاد والنظر لأنه في وسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا
وسعها، فلعله بتجدد الاجتهاد يظهر له خطاؤه سابقا، نعم إن لم يكن في وسعه تجدده يجز له العمل باجتهاده السابق، وعلى ما
ذكرناه غير واحد من المحققين، وقد حققناه في رسالتنا في الاجتهاد تحقيقا تاما أيضا أتم مما حققناه هنا، فليلاحظ.
فإن قلت: لم لم يصر قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وأمثاله عذر غير المجتهد أيضا إذا أمكنه فهم الأدلة بوجه من الوجوه؟
قلت: لما عرفت من الأدلة، مع أنه لو كان قلبه سالما من العيب والشوب كيف يطمئن بفهمه وترجيحه؟، مع أنه لا يعرف أسبابهما و
شروطهما.
514

فإن قلت: إذا كان العالم الذي ما بلغ رتبة الاجتهاد عنده أن مجتهده أخطأ في اجتهاده في مقدمة من المقدمات أو غيرها، فكيف يجوز له
تقليده، فضلا عن أن يجب عليه؟ قلت: إن كان المجتهد ميتا فلا يجوز له تقليده على حال - كما عرفت - وإن كان حيا فليناظره ليعرف
الحق، فإن ظهر أن الحق مع المجتهد فلا كلام، وإن ظهر للمجتهد أن الحق كما قال العالم فكذلك، وإن كان بعد المناظرة يكون المجتهد
على رأيه والعالم على اعتقاده يكون الحق مع المجتهد، لأنه غير غافل، وهو الأستاذ الماهر، وإمام الفن، إلا أن يكون العالم أيضا إماما
في هذا الفن خاصة، وماهرا فيه، لكن الماهر في جميع الفنون يمكن أن يكون أقوى، مع أن فرض من لا يعرف الرجوع إلى من يعرف
كما مر سابقا، وهذا العالم ممن لا يعرف البتة كما عرفت، وهذا المجتهد ممن يعرف البتة، لأنه مكلف بما أدى إليه اجتهاده كما عرفت،
ومع ذلك غاية ما في الباب أن يكون العالم في خصوص هذه المسألة يحتاط، ولا يجوز له العمل باجتهاده لما عرفت، فتأمل جدا.
515

فائدة
[53]
رد مناقشة صاحب الذخيرة لأصالة الطهارة
الأصل طهارة الأشياء، وهو من المسلمات عند المجتهدين والأخباريين.
ناقش في ذلك صاحب (الذخيرة)
(1)
قائلا: إن الطهارة حكم شرعي يتوقف على النص، كالنجاسة، من دون تفاوت، وما ورد في الموثق
(2) من

(1) ذخيرة المعاد: 116 س 14 حيث قال: (لا نسلم أن الأصل في كل شئ الطهارة لان الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان وكل منهما
يعلم ببيان الشارع).
(2) سمي بذلك لان راويه ثقة وإن كان مخالفا ويقال له القوي أيضا لقوة الظن بجانبه بسبب توثيقه. انظر شرح البداية في علم الدراية:
86.
517

قولهم عليهم السلام: (كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر) موثق، فلا يكون حجة. وعلى تقدير التسليم لا دلالة له، لامكان إرادة: أن كل
ما هو طاهر شرعا طهارته مستصحبة، حتى تعلم أنه قذر.
مع أن ثبوت هذا الأصل الكلي بهذا محل تأمل.
وفيه أن الموثق حجة، كما حقق في محله، بل هو معترف بحجيته، مصر في المبالغة فيها.
مع أنها متأيدة بعمل الأصحاب، فإن الظاهر منهم الاتفاق على هذا الأصل، والأصل الكلي يثبت بدليل إذا كان حجة شرعية.
مع أن النجاسة الشرعية لا معنى لها سوى وجوب الاجتناب عن الصلاة معها، والأكل والشرب بملاقاتها رطبا فضلا عن أكل نفسها و
شربها، وكذا وجوب الإزالة عن المسجد وأمثاله، وغير ذلك من أحكامها. ولا شك في أن الأصل عدم الوجوب، لأنه تكليف، والأصل
براءة الذمة، والطهارة الشرعية في مقابل النجاسة فمعناها عدم تعلق التكليف بالاجتناب شرعا.
فإن قلت: أصل البراءة حجة فيما إذا لم يتحقق التكليف من جهة أخرى.
مثلا: إذا انحصر الماء في الماء الذي يحكم بطهارته من جهة الأصل يلزم على المكلف الطهارة به لأجل الصلاة، ولو لم يكن طاهرا لم يجب
الطهارة، ومجرد وجود مقتضي الوجوب لا يكفي في التكليف ما لم يكن الماء طاهرا، وإذا ظهر وجب، وإلا فلا وجوب البتة. فأصل
الطهارة إن كان
518

عبارة عن أصالة عدم التكليف يكون مقتضى عدم ماهية التكليف وطبيعته ونفي جميع أفراده، لا خصوص وجوب الاجتناب عنه، فكيف
يقتضي أصل البراءة وجوب الطهارة؟ قلت: مقتضى الطهارة هو وجوب الوضوء، أو الغسل بما هو ماء حقيقة، خرج عنه ما علم نجاسته
شرعا، ويبقى المشكوك فيه داخلا في العموم، إذ القدر الذي ثبت المنع عن الطهارة به شرعا هو ما ثبت نجاسته شرعا، لا ما احتمل،
فليس وجوب الطهارة به من جهة أصالة الطهارة.
سلمنا، لكن هذه الصورة النادرة لا يتمسك فيها بأصل البراءة، بل بالموثقة المنجبرة بما ذكر، المتأيدة بقوله تعالى: خلق لكم ما في
الأرض وأمثاله، أما في غيرها فيتمسك بها وبالأصل جميعا، مع أنها الصورة المتعارفة الشائعة في غالب الاحكام على الصور
المتعارفة، لا الفروض النادرة، فيصح أن يصير الأصل أيضا مستندا، مع أن الأدلة الفقهية ربما يكون بعضها غير واف بجميع المطلوب،
بل لا بد من ثبوت الحكم بالأدلة كيف كان.
تم الكتاب بعين الملك الوهاب المسمى بالفوائد الجديدة لمولانا آغا محمد باقر في يوم الأربعاء الواحد والعشرين من شهر ربيع الثاني
في سنة الألف والمائتين والاثنين والأربعين بعد الهجرة النبوية على هاجرها أفضل التحية.
519