الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ١٨
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
الجزء الثامن عشر
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

الكتاب: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة (ج 18)
المؤلف: العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني (قدس سره)
الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب‍: قم المشرفة
المطبوع: 500 نسخة.
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
كتاب التجارة
وفيه مقدمات وفصول
المقدمة الأولى
إعلم أنه قد استفاضت الأخبار بالحث على طلب الرزق والكسب الحلال،
ولا سيما بطريق التجارة مع الاجمال في الطلب والاقتصار على الحلال. وعلى هذا
كان جملة فضلاء أصحاب الأئمة عليهم السلام، كزرارة بن أعين، وهشام بن الحكم، ومحمد
ابن النعمان مؤمن الطاق، ومحمد بن عمير وأضرابهم، كما لا يخفى على من لاحظ
السير والأخبار.
قال الله تعالى:: " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا
3

من رزقه " (1). وقال سبحانه: " فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله (2). وقال
تعالى: " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " (3).
وروى ثقة الاسلام، عن أبي خالد الكوفي، رفعه إلى أبي جعفر عليه السلام قال:
قال رسول الله. صلى الله عليه وآله وسلم: " العبادة سبعون جزء فضلها طلب الحلال " (4).
وعن عمر بن يزيد في الموثق قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل، قال: لأقعدن
في بيتي ولأصلين ولأصومن ولأعبدن ربي، فأما رزقي فسيأتيني، فقال أبو عبد الله عليه السلام:
" هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم " (5).
وعن عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: " أرأيت لو أن رجلا دخل بيته
وأغلق بابه كان يسقط عليه شئ من السماء؟ " (6).
وعن أيوب أخي أديم بياع الهروي قال: كنا جلوسا عند أبي عبد الله عليه السلام إذ أقبل
العلاء بن كامل فجلس قدام أبي عبد الله عليه السلام فقال: ادع الله أن يرزقني في دعة، فقال:
لا أدعو لك، أطلب كما أمرك الله " (7).
وعن سليمان بن معلى بن خنيس عن أبيه قال: " سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل
وأنا عنده، فقيل له: أصابته الحاجة، فقال: فما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربه!
قال: من أين قوته؟ قيل: من عند بعض إخوانه! فقال أبو عبد الله عليه السلام: والله

(1) سورة الملك: 15
(2) سورة الجمعة: 10
(3) سورة المزمل: 20
(4) الكافي ج 5 ص 78 رقم: 6
(5) الكافي ج 5 ص 77 رقم: 1
(6) الكافي ج 5 ص 77 رقم: 2
(7) الكافي ج 5 ص 78 رقم: 3
4

الذي يقوته أشد عبادة منه " (1)
وعن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام " قال: من طلب الرزق في الدنيا استعفافا " عن الناس،
وتوسيعا على أهله، وتعطفا على جاره، لقي الله عز وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر
ليلة البدر " (2).
وعن علي بن الغراب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ملعون
من ألقى كله عن الناس " (3).
وروى المشايخ عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " أوحى الله عز وجل
إلى داود عليه السلام: أنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال، ولا تعمل بيدك شيئا،
قال: فبكى داود عليه السلام: أربعين صباحا، فأوحى الله عز وجل إلى الحديد أن لن لعبدي
داود عليه السلام فألان الله تعالى له الحديد، وكان يعمل كل يوم درعا، فيبيعها بألف درهم،
فعمل ثلاثمائة وستين درعا فباعها بثلاثمائة وستين ألفا، واستغنى عن بيت المال " (4).
وروى الصدوق عن المعلي بن خنيس قال: رآني أبو عبد الله عليه السلام وقد تأخرت
عن السوق، فقال: " اغد إلى عزك " (5).
وبإسناده عن روح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " تسعة أعشار الرزق في التجارة " (6).
وروى في كتاب الخصال عن عبد المؤمن الأنصاري عن أبي جعفر عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " البركة عشرة أجزاء تسعة أعشارها في التجارة، والعشر الباقي

(1) الكافي ج 5 ص 78 رقم 4
(2) الكافي ج 5 ص 78 رقم: 5
(3) الكافي ج 5 ص 77 رقم: 7
(4) الكافي ج 5 ص 74 رقم: 5
(5) الوسائل ج 12 ص 3 رقم: 2
(6) الوسائل ج 12 ص 3 رقم: 3
5

في الجلود " (1).
قال الصدوق قدس سره يعني بالجلود: الغنم، واستدل بما يأتي.
وروى فيه عن الحسين بن زيد بن علي عن أبيه زيد بن علي آبائه عليهم السلام عن
النبي صلى الله عليه وآله قال: " تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي في السابياء، يعني
الغنم " (2).
وروى في الكافي عن محمد الزعفراني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " من طلب
التجارة استغنى عن الناس، قلت: وإن كان معيلا؟ قال: وإن كان معيلا، أن تسعة
أعشار الرزق في التجارة " (3).
وعن هشام الأحمر قال: كان أبو الحسن عليه السلام يقول لمصادف: اغد إلى عزك "
يعني السوق (4).
وعن علي بن عقبة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لمولى له: " يا عبد الله، احفظ عزك
قال: وما عزى جعلت فداك؟ قال: غدوك إلى سوقك، واكرامك نفسك ". وقال لآخر مولى
له: " ما لي أراك تركت غدوك إلى عزك؟ قال: جنازة أردت أن أحضرها، قال: فلا تدع
الرواح إلى عزك " (5).
وروى المشايخ الثلاثة عن سدير، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أي شئ على
الرجل في طلب الرزق؟ قال: إذا فتحت بابك وبسطت بساطك، فقد قضيت ما عليك " (6)
وروى في الكافي عن الطيار، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: أي شئ تعالج؟

(1) الخصال ج 2 ص 445، الوسائل ج 12 ص 3 رقم: 4
(2) الخصال ج 2 ص 446، الوسائل ج 12 ص 3 رقم: 5
(3) الكافي ج 5 ص 148 رقم: 3
(4) الكافي ج 5 ص 149 رقم: 7
(5) الوسائل ج 12 ص 5 رقم: 13
(6) الوسائل ج 12 ص 34 رقم: 1
6

أي شئ تصنع؟ فقلت ما أنا في شئ، فقال فخذ بيتا واكنس فنائه، ورشه، وابسط
فيه بساطك فإذا فعلت ذلك فقد قضيت ما يجب عليك، قال: فقدمت الكوفة ففعلت
فرزقت " (1).
وروى في الكافي والتهذيب عن أبي عمارة الطيار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
إني قد ذهب مالي، وتفرق ما كان في يدي، وعيالي كثير! فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إذا
قدمت الكوفة، فافتح باب حانوتك وابسط بساطك، وضع ميزانك وتعرض للرزق
ربك.
قال: فلما أن قدم الكوفة، فتح باب حانوته وبسط بساطه، ووضع ميزانه،
فتعجب من حوله من جيرانه أنه ليس في بيته قليل ولا كثير من المتاع، ولا عنده شئ!
فجاءه رجل فقال: اشتر لي ثوبا، قال: فاشترى له ثوبا، وأخذ ثمنه وصار الثمن إليه،
قال ثم جاءه آخر فقال له: يا أبا عمارة اشتر لي ثوبا، فطلب له في السوق واشترى له
ثوبا وأخذ ثمنه، فصار في يده، وكذلك يصنع التجار، يأخذ بعضهم من بعض، ثم
جائه رجل آخر فقال له يا أبا عمارة إن عندي عدلا من كتان، فهل تشتريه مني وأؤخرك
بثمنه سنة؟ قال: نعم، أحمله وجئني به
قال: فحمله إليه، فاشتراه منه بتأخير سنة، قال: فقام الرجل فذهب ثم أتاه
آت من أهل السوق، فقال له: يا أبا عمارة ما هذا العدل؟ قال هذا عدل اشتريته، قال
بعني نصفه وأعجل لك ثمنه، قال: نعم، فاشتراه منه وأعطاه نصف المتاع وأخذ
نصف الثمن.
قال: فصار في يده الباقي إلى سنة، فجعل يشتري بثمنه الثوب والثوبين،
ويعرض ويشتري ويبيع، حتى أثرى وعز وجهه (2) وصار معروفا " (3).

(1) الوسائل ج 12 ص 34 رقم: 2
(2) في نسخة الكافي: وعرض وجهه
(3) الكافي ج 5 ص 304 حديث: 3
7

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة
الوداع: إلا أن الروح الأمين نفث في روعي (1) أنه لا يموت نفس حتى يستكمل
رزقها، فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق
أن تطلبوه بشئ من معصية الله، فإن الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا،
ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله عز وجل وصبر آتاه الله برزقه من حله. ومن هتك حجاب الستر
وعجل فأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة " (2).
وبهذا المضمون أخبار عديدة، وروى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله
عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورواه في الفقيه مرسلا
" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم العون على تقوى الله الغني " (3).
وروى في الكافي عن عمرو بن جميع قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
" لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكف به وجهه ويقضي به دينه، ويصل به
رحمه " (4).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: " نعم العون على الآخرة الدنيا " (5).
وعن علي الأحمسي، عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام قال: " نعم العون الدنيا،
على طلب الآخرة " (6).
وروى في الفقيه مرسلا قال: قال الصادق عليه السلام: " ليس منا من ترك دنياه لآخرته،

(1) الروع - بضم الراء -: سواد القلب، والمراد: روحه الكريمة كناية عن الباطن.
(2) الوسائل ج 12 ص 27 حديث: 1
(3) الكافي ج 5 ص 71 حديث: 1
(4) الكافي ج 5 ص 72 حديث: 5
(5) الكافي ج 5 ص 72 حديث: 9
(6) الكافي ج 5 ص 73 حديث: 14
8

ولا آخرته لدنياه " (1).
قال: روى عن العالم عليه السلام أنه قال: " اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدأ
واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " (2).
إذا عرفت ذلك ففي هذا المقام فوائد لطيفة، وفرايد منيفة، تهش إليها الطباع
القويمة، وتلتذ بها الأسماع السليمة:
الفائدة الأولى
إعلم أنه كما استفاضت الأخبار بالأمر بطلب الرزق وذم تاركه، حتى ورد لعن من
ألقى كله على الناس، كما تقدم (3) وورد الترغيب فيه كما تقدم، حتى ورد أيضا أن
العبادة سبعون جزءا، أفضلها طلب الحلال، كما قد استفاضت الأخبار بطلب العلم و
وجوب التفقه في الدين وأنه فريضة على كل مسلم كما في الكافي (4) والتهذيب و
غيره من الأخبار المتكاثرة بذلك.
وجملة من عاصرناه من علمائنا الأعلام ومشايخنا الكرام ومن سمعنا به قبل هذه
الأيام كلهم كانوا على العمل بهذه الأخبار، فإنهم كانوا مشغولين بالدرس والتدريس
ونشر أحكام الشريعة والتصنيف والتأليف من غير اشتغال بطلب المعاش وغير ذلك
مع ما عرفت من تلك الأخبار من مزيد الذم لتارك الطلب حتى ورد لعنه، الدال على
مزيد الغضب.
وحينئذ فلا بد من الجمع بين أخبار الطرفين على وجه يندفع به التنافي من البين،
وذلك بأحد وجهين:

(1) الوسائل ج 12 ص 49 حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 49 حديث: 2
(3) راجع: الكافي ج 5 ص 72
(4) راجع: - الأصول - ج 1 ص 30 فما بعد
9

الأول - ولعله الأظهر، كما هو بين علمائنا أشهر - تخصيص الأخبار الدالة على
وجوب طب الرزق بهذه الأخبار الدالة على وجوب طلب العلم، بأن يقال بوجوب
ذلك على غير طالب العلم المشتغل بتحصيله واستفادته أو تعليمه وإفادته.
وبهذا الوجه صرح شيخنا الشهيد الثاني في كتاب " منية المريد في آداب المفيد
والمستفيد " حيث قال في جملة شرايط تحصيل العلم ما لفظه:
" وإن يتوكل على الله ويفوض أمره إليه ولا يعتمد على الأسباب فيوكل إليها
وتكون وبالا عليه، ولا على أحد من خلق الله تعالى، بل يلقي مقاليد أمره إلى الله تعالى
في أمره ورزقه وغيرهما يظهر له من نفحات قدسه ولحظات أنسه ما يقوم به أوده، و
يحصل مطلوبه، ويحصل به مراده. وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله " إن الله
تعالى قد تكفل لطالب العلم برزقه خاصة عما ضمنه لغيره " بمعنى أن غيره يحتاج
إلى السعي على الرزق حتى يحصل غالبا، وطالب العلم لا يكلف بذلك بل بالطلب،
وكفاه مؤنة الرزق إن أحسن النية وأخلص العزيمة، وعندي في ذلك من الوقايع و
الدقايق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الله تعالى من حسن صنيع الله بي وجميل معونته،
منذ اشتغلت بالعلم وهو مبادئ عشر الثلاثين وتسعمائة، إلى يومي هذا، وهو منتصف شهر
رمضان سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وبالجملة ليس الخبر كالعيان.
وروى شيخنا المقدم محمد بن يعقوب الكليني باسناده إلى الحسين بن علوان،
قال: كنا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعض
أصحابنا: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت: فلانا: فقال: إذا والله لا تسعف حاجتك (1)
ولا يبلغك أملك، ولا تنجح طلبتك! قلت: وما علمك رحمك الله؟ قال إن أبا عبد الله
عليه السلام: حدثني أنه قرأ في بعض الكتب: أن الله تبارك وتعالى يقول وعزتي وجلالي
ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعن أمل كل مؤمل (من الناس) غيري باليأس،
ولا كسونه ثوب المذلة عند الناس ولأنحينه من قربي، ولأبعدنه من فضلي، أيؤمل

(1) أي لا تقضى
10

غيري في الشدايد، والشدايد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري؟ وبيدي
مفاتيح الأبواب، وهي مغلقة.
وبابي مفتوح لمن دعاني فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني
لعظيمة فقطعت رجائه مني؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي وملأت
سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا
بقولي!
ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد
إذني فما لي أراه لاهيا عني، أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده،
وسأل غيري. أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي! أبخيل أنا
فيبخلني عبدي؟! أوليس الجود والكرام لي؟! أوليس العفو والرحمة بيدي؟!
أوليس أنا محل الآمال؟ فمن يقطعها دوني؟! أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا
غيري؟!.
فلو أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل
الجميع، ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟!،
فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني، ولم يراقبني (1).
ورواه الشيخ المبرور بسند آخر عن سعيد بن عبد الرحمن، وفي آخره:
" فقلت: يا ابن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - امل علي، فأملاه على، فقلت: لا والله
ما أسأله حاجة بعدها.
أقول: ناهيك بهذا الكلام الجليل الساطع نوره من مطالع النبوة على أفق
الولاية من الجانب القدسي، حاثا على التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، والاعتماد في
جميع المهمات عليه، فما عليه مزيد من جوامع الكلام في هذا المقام " (2).

(1) الكافي - الأصول - ج 2 ص 66 - 67
(2) منية المريد ص 46 - 47 طبعة النجف
11

انتهى كلام شيخنا المشار إليه، أفاض الله شآبيب قدسه عليه.
أقول: ويدل على ذلك أيضا بأصرح دلالة ما رواه شيخنا ثقة الاسلام في الكافي
أيضا باسناد إلى أبي إسحاق السبيعي عمن حدثه قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام
يقول: " أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإن طلب
العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم
وضمنه، وسيفي لكم والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه. (1).
ولا يخفى ما في هذا الخبر من الصراحة في المدعى. أما الأمر بطلب العلم دون
طلب المال، لأن الرزق كما ذكره عليه السلام مقسوم مضمون وهو إشارة إلى قوله تعالى:
" نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " (2) وقوله تعالى: " وما من دابة في
الأرض إلا على الله رزقها " (3).
ويؤكده ما رواه شيخنا المذكور في كتابه المشار إليه، بسنده عن أبي جعفر
- عليه السلام - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يقول الله - عز وجل - وعزتي و
جلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي
إلا شتت أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قبله بها ولم أؤته منها إلا ما قدرت له. وعزتي
وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا
استحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل
تاجر وآتته الدنيا وهي راغمة (4).
وقد حكى لي والدي العلامة عن جمع من فضلاء بلادنا (البحرين) الذين
بلغوا من الفضل علما وعملا وتقوى ونبلا ما هو أشهر من أن ينقل:

(1) الكافي - الأصول - ج 1 ص 30 حديث: 4
(2) سورة الزخرف: 32
(3) سورة هود: 6
(4) الكافي - الأصول - ج 2 ص 335 حديث: 2
12

منهم العلامة الفقيه الشيخ سليمان بن علي الشاخوري وهو أستاد شيخنا الشيخ
سليمان بن عبد الله البحراني، ومنهم العلامة المحقق المدقق الشيخ محمد بن يوسف
المعابي البحراني، ومنهم الشيخ الفقيه الذي رجعت إليه رياسة البلاد في زمانه أمرا
ونهيا وفتوى، الشيخ محمد بن سليمان البحراني، فإنهم كانوا في مبدء الاشتغال على
غاية من الفقر والحاجة، حتى أن الشيخ سليمان بن علي المذكور، كان يحضر الدرس في
حلقة الشيخ العلامة الشيخ علي بن سليمان البحراني وهو أحد تلامذة شيخنا البهائي
وهو أول من نشر علم الحديث بالبحرين وكان الشيخ سليمان المذكور يحضر حلقة
درسه حتى إذا صار قريب الظهر ودخل الشيخ على البيت لأجل الغذاء، وتفرق
المجلس، مضى الشيخ المزبور للصحراء في وقت الربيع وأكل من حشايش التراب
ما يسد جوعه، ثم بعد خروج الشيخ يعود للحضور.
ومن هذا القبيل حكايات الباقين مما يطول بنقله الكلام. وحيث إنهم رضوان
الله عليهم طلقوا الدنيا وقصروا على الرغبة في الأخرى، ارتقوا من الدنيا أعلى مراتبها
وانقادت لهم بأزمتها وتراقيها حتى صار كل منهم نابغة زمانه ونادرة أوانه، وهو وفق
الحديث القدسي المتقدم.
لكن ينبغي أن يعلم أن هذه المرتبة ليست سهلة التناول لكل طالب، ولا ميسرة
إلا باخلاص النية له في طلب العلم، فإن مدار الأعمال على النيات، وبسببها يكون العلم
تارة خزفة لا قيمة لها، وتارة جوهرة فاخرة لا يعلم قيمتها، لعظم قدرها، وتارة يكون
وبالا على صاحبه مكتوبا في ديوان السيئات، وإن كان ما أتى به بصورة
الواجبات.
فيجب على الطالب أن يقصد بطلبه الاخلاص لوجه الله تعالى وامتثال أمره،
واصلاح نفسه وارشاد عباده إلى معالم دينه، ولا يقصد بذلك شيئا من الأعمال الدنيوية
من تحصيل مال، وجاه، ورفعة وشهرة بين الناس، أو المباهاة والمفاخرة للأقران، والترفع
على الإخوان ونحو ذلك مما يوجب البعد منه سبحانه وتعالى، والخذلان، مضافا إلى
13

ذلك التوكل عليه سبحانه في جميع الأمور، والقيام بأوامره ونواهيه في الورود
والصدور كما تقدم في كلام شيخنا المذكور.
الثاني: التفصيل في ذلك ويتوقف على بيان كلام في المقام:
وهو أنه ينبغي أن يعلم أولا: أن العلم منه ما هو واجب وما هو مستحب، والأول
منه ما هو واجب عينا ومنه ما هو واجب كفاية. فأما الواجب عينا فهو العلم بالله سبحانه
وصفاته وما يجوز عليه ويمتنع، حسبما ورد في الكتاب العزيز والسنة النبوية على
الصادع بها وآله أشرف صلاة وتحية، وما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحوال المبدء والمعاد
مما علم تواتره من دينه صلى الله عليه وآله وسلم ولو تقليدا تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب وما يحصل
به الاذعان والتصديق، وفاقا لجمع من متأخري أصحابنا - رضوان الله عليهم - وما زاد
على ذلك من الأدلة التي قررها المتكلمون والخوض في دقايق علم الكلام فهو فرض
كفاية على المشهور صيانة للدين عن شبه المعاندين والملحدين.
ومن الواجب العيني أيضا تحصيل العلم بواجبات الصلاة حيث يكلف بها
ولو تقليدا وواجبات الصيام كذلك، والزكاة ممن يخاطب بها، والحج كذلك
أيضا وهكذا من كل ما يجب على المكلف بوجود أسبابه، وما زاد من تحصيل العلوم
في هذه الحال على ما ذكرناه فهو مستحب.
ومن الواجب العيني أيضا ما يحصل به تطهر القلب من الملكات الردية المهلكة،
كالرياء والحسد والعجب والكبر ونحوها كما حقق في محل مفرد، وهو من أجل
العلوم قدرا وأعلاها ذكرا بل هو الأصل الأصيل للعلوم الرسمية، وإن كان الآن قد
اندرست معالمه بالكلية وانطمست مراسمه العلية، فلا يرى له أثر ولا يسمع له خبر.
وأما الواجب كفاية فهو ما فوق هذه المرتبة فيما تقدم ذكره حتى يبلغ
درجة العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، وهو المعبر عنه في ألسنة الفقهاء
بالاجتهاد.
هذا إذا لم يوجد من يتصف به ويقوم به في ذلك القطر، وإلا كان ذلك مستحبا
14

لأن الواجب الكفائي مع وجود من يقوم به يسقط وجوبه عن الباقين، فيكون مستحبا
ويكون هذا من القسم الثاني في التقسيم الأول. وما يتوقف عليه الوصول إلى مرتبة
الاجتهاد من العلوم الآتية وغيرها تابع له في الوجوب والاستحباب.
ثم إعلم أيضا أن تحصيل الرزق منه ما يكون واجبا وهو ما يحصل به البلغة
والكفاف لنفسه وعياله الواجبي النفقة عليه بحيث يخرج عن أن يكون مضيقا. ومنه
ما يكون مستحبا، وهو طلب ما زاد على ذلك للتوسعة على نفسه وعياله، وهو الصرف
في وجوه البر والخيرات. ومنه ما يكون مكروها وهو ما يقصد به الزيادة في جمع المال
وادخاره والمكاثرة والمباهاة به والحرص عليه. ومنه ما يكون محرما وهي ما يقصد
بتحصيله الصرف في اللهو واللعب والمعاصي ونحو ذلك.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن وجه ما أشرنا إليه آنفا من التفصيل، هوان هيهنا
صورا:
(إحديها) تعارض الواجب العيني من طلب العلم مع الواجب من طلب الرزق،
والظاهر أن الواجب هنا تقديم طلب الرزق إن انسدت عليه وجوه التحصيل مما سواه
لأن في تركه حينئذ القاء باليد إلى التهلكة. والمعلوم من الشارع في جملة من الأحكام
تقديم مراعاة الأبدان على الأديان، ولهذا أوجب الافطار على المريض المتضرر
بالصوم وإن أطاقه. والتيمم على المتضرر بالماء وإن لم يبلغ المشقة، والقعود في
الصلاة على المتضرر بالقيام. وأباح الميتة لمن اضطر إليها، ونحو ذلك مما
يقف عليه المتتبع. أما لو حصل له من وجه الزكاة أو نحوها مما يمونه وجب تقديم
العلم البتة.
(وثانيها) تعارض الواجب العيني من العلم، مع المستحب من طلب الرزق ولا ريب
في تقديم طلب العلم.
(وثالثها) تعارض الواجب من طلب الرزق، مع الواجب الكفائي من طلب
العلم، ولا ريب أيضا في تقديم طلب الرزق لما ذكر في الصورة الأولى.
15

هذا إذا لم يمكن الجمع بين الأمرين، وإلا وجب الجمع بقدر الامكان في
الواجبين. وباقي الصور يعرف بالمقايسة.
ولا يخفى أن ما ذكرناه في هذا المقام وإن كان خارجا عن موضوع الكتاب،
إلا أن فيه فوائد جمة، لا تخفى على ذوي الأفهام والألباب والله العالم.
الفائدة الثانية
قد عرفت مما قدمناه من الأخبار ومثلها غيرها مما لم نذكره، الدلالة على وجوب
طلب الرزق، واستحباب جمع المال بتجارة كان أو زراعة أو صناعة، مع أنا نرى
في هذه الأوقات ولا سيما في أرض العراق زيادة جور السلاطين وظلمهم على من اشتغل
بشئ من ذلك حتى آل الأمر إلى تركهم ذلك أو الفرار من ديارهم إلى بعض الأقطار
ومنه يحصل الاشكال في العمل بتلك الأخبار، اللهم إلا أن يقال: إن السبب التام في
تعدي الحكام على أولئك الأنام، إنما هو تعديهم الحدود الشرعية والأحكام، في أعمالهم
أو غيرها، وعدم القيام بما أوجبه الملك العلام.
ويدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب المجالس بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
قال الله تعالى: " أنا خلقت الملوك وقلوبهم بيدي، فأيما قوم أطاعوني جعلت قلوب
الملوك عليهم رحمة، وأيما قوم عصوني، جعلت قلوب الملوك عليهم سخطة. ألا لا تشغلوا
أنفسكم بسب المملوك. توبوا إلى، أعطف قلوبهم عليكم " (1).
وهو كما ترى ظاهر الدلالة واضح المقالة، في أن تسلط الملوك عليهم وظلمهم
لهم إنما نشأ من ظلمهم أنفسهم، وتعديهم الحدود الشرعية، ومن ثم منعهم من سب
الملوك وتظلمهم من الحكام، فإنه سبحانه هو الذي سلطهم عليهم، وأمرهم بالتوبة
والإنابة، ليعطف قلوب الحكام عليهم.
ويؤيده ما ورد في بعض الأخبار التي يحضرني الآن موضعها، من قوله تعالى:

(1) أمالي الصدوق ص 220 - بحار الأنوار ج 75 ص 341
16

" إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني " (1).
وما قيل أيضا: أعمالكم عمالكم. وبه يزول الاشكال من هذا المجال والله العالم.
الفائدة الثالثة
قد دلت جملة من الأخبار المتقدمة على أن الواجب هو التعرض للرزق ولو
بالجلوس في السوق، متعرضا لذلك والله سبحانه مسبب الأسباب، يسوق
إليه رزقه، إذا كان جلوسه عن نية صادقة وتوكل على الله سبحانه وثيق، فإنه تعالى
هو الرزاق، وأما ما يفعله بعض أبناء هذا الزمان من شغل فكره وبدنه بالسعي في التحصيل
والكدح والحيل ونحوها ليستغرق أوقاته ويشتغل بها عن إقامة الطاعات والمحافظة
على السنن والواجبات ولا يبالي بتحصيله من وجوه الحلال كان أو من الشبهات
أو المحرمات، فهو من تسويلات الشيطان الرجيم، وفعله الذميم.
ويعضد ما قلناه ما تقدم مما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوادع: " إلا أن الروح الأمين
نفث في روعي أنه لا يموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله عز وجل واجملوا
في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله، فإن الله
تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما، فمن اتقى الله عز وجل
وصبر أتاه الله برزقه من حله، ومن هتك حجاب الستر وعجل فأخذه من غير حله، قص
به من رزقه الحلال، وحوسب عليه يوم القيامة " (2).
وبمضمونه أخبار عديدة وفي بعضها: " لو كان العبد في جحر لأتاه الله
رزقه " (3).

(1) الكافي ج 2 ص 276 حديث: 31
(2) الكافي ج 5 ص 80 حديث: 1
(3) الكافي ج 5 ص 81 حديث: 4 والحجر: الغار البعيد الغور. وهو بتقديم الجيم المفتوحة.
17

وفي آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام " كم من متعب نفسه مقتر عليه. ومقتصد في
الطلب قد ساعدته المقادير " (1).
وبالجملة فإن الانسان متى أيقن أن الرزق بيد الله سبحانه وأنه قد قسمه من عالم
الأزل، وضمن ايصاله لصاحبه وأنه إنما أمره بالطلب والتعرض له من مظانه، لكي
يأتيه كما وعد به، وقد روى: " الرزق رزقان، رزق تطلبه ورزق يطلبك " (2).
وحينئذ فالعاقل العالم بذلك لا يهم بذلك ولا يشغل فكره، ولا يتعب ليله ونهاره،
ولا يتجاوز الحدود الشرعية في طلبه. ولكن الشيطان الرجيم والنفس الأمارة، والجهل
بالأحكام الشرعية والحدود المرعية، هي السبب في وقوع الناس في شباك (3) الخناس
وتضييعهم الدين في طلب هذه الدنيا الدنية، فإنهم يرون أن ما يحصلونه إنما حصل
بجدهم واجتهادهم وحيلهم وأفكارهم وسعيهم الليل والنهار في ذلك، وهذا هو الداء
الذي لا دواء له.
وقد روى في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " كان أمير المؤمنين عليه السلام كثيرا
ما يقول: إعلموا علما يقينا، إن الله عز وجل لم يجعل للعبد وإن اشتد جهده وعظمت
حيلته وكثرت مكابدته، أن يسبق ما سمى له في الذكر الحكيم، ولم يحل بين العبد في
ضعفه وقلة حيلته، أن يبلغ ما سمى له في الذكر الحكيم.
أيها الناس إنه لن يزداد امرء نقيرا بحذقه ولم ينقص امرء نقيرا لحمقه، فالعالم
لهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته. والعالم لهذا التارك له أعظم الناس شغلا
في مضرته. ورب منعم عليه مستدرج بالاحسان إليه، ورب مغرور من الناس مصنوع
له. فأفق أيها الساعي من سعيك وقصر من عجلتك، وانتبه من سنة غفلتك " الحديث. (4)

(1) الكافي ج 5 ص 81 حديث: 6
(2) الوسائل ج 12 ص 31 حديث: 5
(3) الشباك: جمع شبكة وهي المصيدة
(4) الكافي ج 5 ص 82 حديث: 9
18

الفائدة الرابعة
قد تقدم في الفايدة الأولى الإشارة إلى أن الواجب العيني بالنسبة إلى العلم بالأحكام
الشرعية ما يتوقف عليه صحة العمل، الذي يشتغل به المكلف من حج أو زراعة أو تجارة
فإنه لا بد من التفقه في ذلك العمل. ومعرفة أحكامه وما لا يجوز وما يصح به ويفسد،
فينبغي لمريد التجارة أن يبدأ بالتفقه فيما يتولاه منها، ليتمكن بذلك من الاحتراز
عما حرم الله تعالى عليه في ذلك، ويعرف ما أحله وحرمه، لا سيما الربا وبيع المجهول
وشرائه، مما يشترط فيه الوزن والكيل، وبيع غير البالغ العاقل وشرائه ونحو
ذلك مما سيأتي انشاء الله تعالى في محله مما يوجب صحة البيع وفساده، وآداب التجارة
من مستحباتها ومكروهاتها، وإن كان أهل هذا الزمان والأيام لمزيد جهلهم بأحكام
الملك العلام، لا يبالون بما وقعوا فيه من حلال وحرام وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: التاجر فاجر،
والفاجر في النار، إلا من أخذ الحق وأعطى الحق " (1).
وروى الصدوق عن الأصبغ بن نباته، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول على المنبر:
" يا معشر التجار، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب
النمل على الصفا، شوبوا ايمانكم بالصدق، التاجر فاجر والفاجر في النار إلا من أخذ الحق
وأعطى الحق ".
ورواه في الكافي عن الأصبغ بن نباته مثله (2).
وعن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: " من
اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم " (3).
قال: وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: " لا يقعدن في السوق إلا من يعقل الشراء

(1) الوسائل ج 12 ص 285 حديث: 5
(2) الكافي ج 5 ص 150 رقم: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 283 رقم: 2
19

والبيع " (1).
وقال الصادق عليه السلام على ما رواه شيخنا المفيد في المقنعة: " من أراد التجارة
فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط
في الشبهات " (2).
وروى في الكافي بسنده عن عمرو بن المقدام عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال:
" كان أمير المؤمنين عليه السلام عند كونه بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف
في أسواق الكوفة سوقا سوقا، معه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى
السبيبة فيقف على أهل كل سوق، فينادي: يا معشر التجار اتقوا الله عز وجل، فإذا سمعوا
صوته ألقوا ما بأيديهم وارعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم فيقول عليه السلام: قدموا الاستخارة
وتبركوا بالسهولة واقتربوا من المبتاعين وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين و
جانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا وأوفوا
الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. فيطوف
في أسواق الكوفة، ثم يرجع فيقعد للناس " (3).
ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا. وفي المحاسن مسندا في الصحيح عن محمد
ابن قيس عن أبي جعفر عليه السلام نحوه. وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من باع واشترى فليحفظ خمس خصال، وإلا فلا يشترين ولا يبيعن: الربا
والحلف، وكتمان العيب، والحمد إذا باع والذم إذا اشترى " (4).
وعن أحمد بن محمد بن عيسى رفع الحديث قال كان أبو أمامة صاحب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " أربع من كن فيه طاب مكسبه:

(1) الوسائل ج 12 ص 283 رقم: 4
(2) الوسائل ج 12 ص 283 رقم: 4
(3) الكافي ج 5 ص 151 رقم: 3
(4) الكافي ج 5 ص 150 رقم: 2
20

إذ اشترى لم يعب، وإذا باع لم يحمد، ولا يدلس، وفيما بين ذلك لا يحلف " (1).
وروى الصدوق مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يا معشر التجار ارفعوا
رؤوسكم، فقد وضح لكم الطريق، تبعثون يوم القيامة فجارا إلا من صدق حديثه،
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التاجر فاجر، والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق ".
قال: قال عليه السلام: " يا معشر التجار صونوا أموالكم بالصدقة تكفر عنكم ذنوبكم،
وأيمانكم التي تحلفون فيها، وتطيب لكم تجارتكم " (2)
وروى السيد رضي الدين بن طاووس في كتاب الاستخارات عن أحمد بن محمد
ابن يحيى قال: أراد بعض أوليائنا الخروج للتجارة، فقال: لا اخراج حتى أتى
جعفر بن محمد عليه السلام فأسلم عليه وأستشيره في أمري هذا وأسأله الدعاء لي. قال:
فأتاه فقال له: يا ابن رسول الله، إني عزمت على الخروج إلى التجارة، وإني آليت
على نفسي أن لا أخرج حتى ألقاك وأستشيرك وأسألك الدعاء لي. قال: فدعا له و
قال عليه السلام: عليك بصدق اللسان في حديثك ولا تكتم عيبا يكون في تجارتك ولا تغبن
المسترسل (3) فإن غبنه لا يحل. ولا ترض للناس إلا ما ترضى لنفسك. واعط الحق وخذه
ولا تخف ولا تخن. فإن التاجر الصدوق مع السفرة الكرام البررة يوم القيامة، واجتنب
لحلف فإن اليمين الفاجرة تورث صاحبها النار، والتاجر فاجر إلا من أعطى الحق
وأخذه.
وإذا عزمت على السفر أو حاجة مهمة فأكثر الدعاء والاستخارة، فإن أبي حدثني
عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أصحابه الاستخارة كما يعلمهم السورة

(1) الوسائل ج 12 ص رقم: 3
(2) الوسائل ج 12 ص 285 رقم: 4 و 5 و 6
(3) قال في مجمع البحرين: الاسترسال: الاستيناس والطمأنينة إلى الانسان والثقة به
فيما يحدث. وأصله الكون والثبات. ومنه الحديث: أيما مسلم استرسل إلى مسلم فغبنه فهو
كذا ومنه: غبن المسترسل سحت. ومنه: غبن المسترسل ربا. منه قدس سره.
21

من القرآن " (1) الحديث.
أقول: قد تقدم في كتاب الصلاة في باب صلاة الاستخارة أن أحد معانيها:
طلب الخير منه سبحانه، وهو المراد هنا أي طلب الخير في البيع والشراء.
وما اشتمل عليه حديث عمرو بن أبي المقدام (2) من أنه عليه السلام كان يطوف أسواق
الكوفة والدرة على عاتقه. والدرة بكسر الدال: السوط، والجمع: درر، مثل سدرة
وسدر.
وفي هذا الخبر: لها طرفان. وفي خبر آخر: لها سبابتان،
وقال في كتاب مجمع البحرين: الدرة بالكسر التي كان يضرب بها. و
هو يرجع إلى ما ذكرناه من السوط. فإنه الذي يضرب به في الحدود الشرعية. وأما
لفظ السبيبة فضبطه بعض المحدثين بالمهملة والمثناة التحتانية بين الموحدتين.
وظاهر كلام بعض أصحابنا المحدثين من متأخري المتأخرين: أنه ربما كان
الموجود من هذا اللفظ في الخبر إنما هو بمركزين بعد السين أولهما باء موحدة، و
الثانية تاء مثناة فوقانية.
قال: السبتية بكسر السين وسكون الموحدة قبل المثناة الفوقانية: جلود البقر
تحذى منها النعال السبتية. فعلى هذه النسخة يمكن أن تكون درته عليه السلام مأخوذة
منها والله العالم.

(1) الوسائل ج 12 ص 28 رقم: 7
(2) الوسائل ج 12 ص 284 رقم: 1. وتقدم في ص 20
22

المقدمة الثانية
في آداب التجارة
وأوجبها وأهمها التفقه في الدين. وقد تقدم الكلام في ذلك وتقدمت الأخبار
الدالة عليه بأوضح دلالة. ليعرف كيفية الاكتساب ويميز بين صحيح العقود وفاسدها
لأن العقد الفاسد لا يوجب نقل الملك عن مالكه. بل هو باق على ملك الأول. فيلزم
من ذلك تصرفه في غير ملكه ويركب المآثم من حيث لا يعلم، إلى غير ذلك من المفاسد
والمآثم المترتبة على الجهل.
ومن ثم استفاضت الأخبار كما عرفت بالحث على التفقه وتعلم أحكام
التجارة.
ومنها أنه يستحب أن يساوي بين المبتاعين والبايعين، فالصغير عنده بمنزلة
الكبير، والغني كالفقير، والمجادل كغيره، والمراد أن لا يفاوت بينهما في الانصاف
بالمماكسة وعدمها.
والظاهر أنه لو فاوت بينهما بسبب الدين والفضل فلا بأس. قيل: ولكن يكره
للأخذ قبول ذلك، حتى نقل أن السلف كانوا يوكلون في الشراء من لا يعرف، هربا
من ذلك.
23

والذي وقفت عليه في هذا المقام من الأخبار: ما رواه في الكافي عن عامر بن جذاعة،
عن أبي عبد الله عليه السلام " أنه قال في رجل عنده بيع فسعره سعرا معلوما فمن سكت عنه
ممن يشتري منه باعه بذلك السعر، ومن ماكسه وأبى أن يبتاع منه زاده،
قال: لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس فأما أن يفعله بمن
أبى عليه وكايسه ويمنعه ممن لم يفعل ذلك فلا يعجبني إلا أن يبيعه بيعا واحدا " (1)
أقول: قوله: عنده بيع أي متاع يبيعه، والمراد بالزيادة يعني من المتاع لا
السعر، كما ربما يتوهم من ظاهر السياق: والمراد أن من لم يماكسه يبيعه بسعره المعلوم
ومن ماكسه نقص له السعر وزاده من المتاع. والظاهر أن تجويز الرجلين والثلاثة لما
قدمناه من رعاية حالهم للفقر أو العلم والصلاح.
قيل: ويحتمل أن المعنى أنه إذا كان التفاوت في السعر، لأن المشتري منه يشترى
جميع المتاع، أو أكثره بيعا واحدا فيبيعه أرخص ممن يشتري منه شيئا قليلا كما هو
الشايع فلا بأس. ولعله أظهر انتهى.
أقول: لا يخفى حسن هذا المعنى في حد ذاته، أما فهمه من سياق الخبر فالظاهر أنه
لا يخلو من بعد.
وكيف كان فظاهر هذه الرواية، كما ترى، كراهة المفاوتة بسبب المماكسة
وعدمها.
وما رواه في الكافي - أيضا - عن ميسر " قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام:
إن عامة من يأتيني من إخواني، فحد لي من معاملتهم ما لا أجوزه إلى غيره، فقال:
إن وليت أخاك فحسن، وإلا فبع بيع البصير المداق " (2).
أقول: الظاهر أن قوله: " إن وليت أخاك " من التولية بمعنى البيع بالثمن الذي
اشتريت من غير زيادة ولا نقصان، وهو الربح والمواضعة. وأما ما قيل من أن المراد

(1) الكافي ج 5 ص 152 حديث: 10
(2) الكافي - الفروع - ج 5 ص 153 حديث: 19 والتهذيب ج 7 ص 7 حديث 24
24

بالتولية: الوعد بالاحسان، أو هو بالتخفيف بمعنى المعاشرة واختيار الايمان فلا يخفى
ما فيه من البعد الظاهر.
وظاهر الخبر أنه البيع برأس المال، وتجوز المداقة، وهي المناقشة في الأمور
ومنه الحديث " إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول
في الدنيا " (1).
وفي القاموس: المداقة أن تداق صاحبك في الحساب، وظاهر الخبر: جواز
كل من الأمرين، وإن كان الأول أفضل.
وقيل: إن المعنى: إن كان المشتري أخاك المؤمن فلا تربح عليه وإلا فبع بيع
البصير المداق، والأول ألصق بسياق الخبر، والثاني أحسن وأظهر في حد ذاته وإن
أمكن حمل الخبر عليه.
(ومنها): كراهة الربح على المؤمن، وعلى الموعود بالاحسان. أما الثاني فلما
رواه في الكافي والتهذيب عن علي بن عبد الرحيم عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
سمعته يقول: " إذا قال الرجل للرجل: هلم أحسن بيعك. يحرم عليه الربح " (2).
وهو مبالغة في الكراهة، كما صرح به الأصحاب.
وأما الأول فقد صرح الأصحاب بكراهة الربح على المؤمن إلا مع الضرورة،
فيربح قوت يومه له ولعياله إذا كان شراؤه للقوت ونحوه، أما لو كان للتجارة فلا بأس
بالربح عليه مطلقا، لكن يستحب الرفق به.
والظاهر أن المستند فيه هو ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن سليمان بن صالح
وأبي شبل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ربح المؤمن على المؤمن ربا، إلا أن يشتري بأكثر
من مأة درهم فاربح عليه قوت يومك، أو يشتريه للتجارة. فاربحوا عليهم وارفقوا بهم " (3).

(1) أصول الكافي ج 1 ص 11 حديث: 7
(2) التهذيب ج 7 ص 7 حديث: 21. والكافي ج 5 ص 152 حديث: 9
(3) الكافي ج 5 ص 154 حديث: 22
25

وظاهر الخبر: كراهة الربح عليه مطلقا إذا كان الشراء لغير التجارة، إلا أن
يشتري بأكثر من مأة درهم، فيجوز أن يربح عليه قوت يومه.
ولا يخفى ما فيه من المخالفة لكلامهم، مع أنه قد روى الشيخ في التهذيب والصدوق
في الفقيه عن علي بن سالم عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخبر الذي روي
" أن ربح المؤمن على المؤمن ربا " ما هو؟ فقال: " ذلك إذا ظهر الحق وقام قائمنا
- أهل البيت عليهم السلام - فأما اليوم فلا بأس أن تبيع من الأخ المؤمن وتربح
عليه (2).
وروى الشيخان المذكوران عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: جعلت فداك إن الناس يزعمون أن الربح على المضطر حرام وهو من الربا،
فقال: وهل رأيت أحدا اشترى غنيا أو فقيرا إلا من ضرورة، يا عمر قد أحل الله البيع
وحرم الربا، فاربح ولا ترب. قلت: وما الربا؟ فقال: درهم بدراهم، مثلين بمثل،
وحنطة بحنطة، مثلين بمثل (3).
أقول: ظاهر هذين الخبرين يؤذن بأن الخبر الأول إنما خرج مخرج التقية،
لأن الأول منهما - وإن دل على مضمون الخبر الأول - لكن خصه بما بعد
خروج القائم عليه السلام دون هذه الأوقات، إلا أن الخبر الثاني دل على نسبة الخبر المذكور
للناس الذي هو كناية عن المخالفين، وهو عليه السلام قد كذبهم في ذلك، ورد عليهم في أن
المشتري مطلقا لا يشتري إلا من حيث الحاجة والضرورة إلى ذلك الذي يشتريه.
فإن قيل: إنه لا منافاة، لجواز حمل الخبر الأول على كراهة الربح على المؤمن،

(1) أقول بهذه الرواية نقله في كتاب الفقه الرضوي، فقال - عليه السلام -: وروى ربح المؤمن
على أخيه ربا إلا أن يشتري منه بأكثر من مأة درهم فيربح فيه قوت يومه أو يشتري متاعا للتجارة
فيربح عليه خفيفا. انتهى منه قدس سره.
(2) الوسائل ج 12 ص 294 حديث: 4
(3) التهذيب ج 7 ص 18 حديث: 78. الفقيه ج 3 ص 176 حديث: 13
26

كما تقدم، وإن بالغ في الكراهة بجعله من قبيل الربا، والخبرين المذكورين على
الجواز.
قلنا: لو كان المعنى كما ذكرت لكان الأنسب في جواب السائلين المذكورين
في هذين الخبرين، بأن الخبر المذكور إنما أريد به الكراهة دون ما يدل عليه ظاهره
من التحريم، لا أنه عليه السلام يقر السائل على ظاهر الخبر من التحريم وبحمله في أول
الخبرين على زمان القائم عليه السلام وفي ثانيها يكذبه ويرده، ثم يأمر في الخبرين بالربح
على المؤمن بخصوصه كما في الأول، ومطلقا كما في الثاني.
ومما ذكرناه يظهر أن ما ذكره الأصحاب من الحكم المذكور لا مستند له في
الباب، ولم يحضرني كلام لأحد منهم في المقام زيادة على ما قدمنا نقله عنهم من الكلام.
ومما يؤكد الخبرين المذكورين - مما يدل على جواز الربح بل استحبابه
- أولا -: هو أن المقصود الذاتي من التجارة والأمر بها والحث عليها لأجل الاستغناء
عن الناس وكف الوجه عن السؤال والاستعانة بالدنيا علي الدين ونحو ذلك، كما
تقدم جميع ذلك في الأخبار المتقدمة، ومتى كان مكروها في البيع على المؤمنين مع أن
جل المشترين بل كلهم في بلاد المؤمنين إنما هم المؤمنون، فمن أين يحصل ما دلت
عليه هذه الأخبار؟!.
وثانيا - الأخبار الدالة على ذلك:
منها: ما رواه في الكافي عن محمد بن عذافر عن أبيه، قال: أعطى أبو عبد الله
عليه السلام أبي ألفا وسبعمأة دينار، فقال له: اتجر بها. ثم قال: أما أنه ليس لي رغبة
في ربحها، وإن كان الربح مرغوبا فيه، ولكني أحببت أن يراني الله عز وجل متعرضا
لفوائده، قال: فربحت له فيها مأة دينار. ثم لقيته فقلت له: قد ربحت لك فيها مأة دينار.
قال: ففرح أبو عبد الله عليه السلام بذلك فرحا شديدا، قال لي: أثبتها في رأس
مالي - الحديث (1).

(1) الكافي ج 5 ص 76 حديث: 12
27

وروى الصدوق في الفقيه عن محمد بن عذافر عن أبيه قال: دفع إلى أبو عبد الله
عليه السلام سبعمأة دينار، وقال: يا عذافرا صرفها في شئ ما. وقال: ما أفعل هذا على
شره مني، ولكن أحببت أن يراني الله تبارك وتعالى متعرضا لفوائده. قال عذافر:
فربحت فيها مأة دينار، فقلت له في الطواف: جعلت فداك قد رزق الله عز وجل فيها مأة
دينار. قال: أثبتها في رأس مالي " (1).
وفي تفسير الإمام العسكري عليه السلام عن آبائه عن موسى بن جعفر عليه السلام " أن رجلا
سأله مأتي درهم يجعلها في بضاعة يتعيش بها - إلى أن قال - فقال: أعطوه ألفي درهم.
وقال: اصرفها في العفص (2) فإنه متاع يابس ويستقبل بعد ما أدبر، فانتظر به سنة
واختلف به إلى دارنا وخذ الأجر في كل يوم، فلما تمت له سنة، وإذا قد زاد في ثمن
العفص للواحد خمسة عشر، فباع ما كان اشترى بألفي درهم، بثلاثين ألف درهم ".
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على جواز الربح بل استحبابه.
نعم لا بأس بالمسامحة ولا منافاة فيها. ويحمل عليه ما رواه في الكافي عن أبي
أيوب الخزاز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يأتي على الناس زمان عضوض، يعض
كل امرء على ما في يده وينسى الفضل وقد قال الله: " ولا تنسوا الفضل بينكم " ثم ينبري
في ذلك الزمان أقوام يعاملون المضطرين، أولئك هم شرار الناس (3).
ومما يدل على استحباب المسامحة: ما رواه في الفقيه عن إسماعيل بن مسلم،
عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عليه السلام قال: " أنزل الله على بعض أنبيائه عليهم السلام للكريم فكارم.
وللسمح فسامح. وعند الشكس فالتو ".
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " السماح وجه من الرباح " (4).

(1) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 96 حديث: 16
(2) نوح من البلوط، الوسائل ج 12 ص 312 حديث 3
(3) الوسائل ج 12 ص 330 حديث: 2
(4) من لا يحضره الفقيه ج 3 - ص 122
28

(ومنها): أنه يستحب أن يقيل من استقاله، فروى في الكافي عن عبد الله بن القاسم
الجعفري، عن بعض أهل المدينة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن لحكيم بن حزام
بالتجارة حتى ضمن له إقالة النادم وانظار المعسر وأخذ الحق وافيا وغير واف " (1).
وعن هارون بن حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أيما عبد أقال مسلما في بيع
أقال الله تعالى عثرته يوم القيامة ".
ورواه الصدوق مرسلا إلا أنه قال: " أيما مسلم أقال مسلما ندامة في البيع " (2).
وروى الصدوق في الخصال في الموثق عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: أربعة ينظر الله إليهم يوم القيامة: من أقال نادما أو أغاث لهفانا أو أعتق نسمة
أو زوج عزبا (3).
ومما يؤكد أن ذلك على جهة الاستحباب: ما رواه في الكافي عن هذيل بن صدقة
الطحان، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري المتاع أو الثوب، فينطلق به
إلى منزله، ولم ينفذ شيئا فيبدو له، فيرده، هل ينبغي ذلك؟ قال: " لا، إلا أن تطيب
نفس صاحبه " (4).
(ومنها): استحباب الدعاء بالمأثور، والشهادتين عند دخول السوق. فروى
ثقة الاسلام والصدوق في كتابيهما عن سدير، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: " يا أبا الفضل
أما لك مكان تقعد فيه، فتعامل الناس؟ قال: قلت: بلى، قال: ما من رجل مؤمن يروح
أو يغدو إلى مجلسه أو سوقه، فيقول حين يضع رجله في السوق:
" اللهم إني أسألك من خيرها وخير أهلها (وأعوذ بك من شرها وشر أهلها) (5) إلا

(1) الكافي ج 5 ص 151 حديث: 4
(2) الوسائل ج 12 ص 286 حديث: 2
(3) الخصائل ص 224 حديث: 55
(4) الوسائل ج 12 ص 286 حديث: 3
(5) ما بين المعقوفتين ليس في نسخه الكافي المعروفة
29

وكل الله عز وجل به من يحفظه ويحفظ عليه حتى يرجع إلى منزله، فيقول له: قد أجرت
من شرها وشر أهلها يومك هذا بإذن الله عز وجل وقد رزقت خيرها وخير أهلها
في يومك هذا، فإذا جلس مجلسه قال حين يجلس: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم إني أسألك من فضلك حلالا طيبا وأعوذ بك
من أن أظلم أو أظلم وأعوذ بك من صفقة خاسرة ويمين كاذبة. فإذا قال ذلك، قال له الملك
الموكل به: أبشر فما في سوقك اليوم أحدا وفر منك حظا قد تعجلت الحسنات ومحيت عنك
السيئات. وسيأتيك ما قسم الله لك موفرا حلالا طيبا مباركا فيه (1).
وروى في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
إذا دخلت سوقك فقل: " اللهم إني أسألك من خيرها وخير أهلها وأعوذ بك من شرها
وشر أهلها اللهم إني أعوذ بك من أن أظلم أو أظلم أو أبغي أو يبغي علي أو أعتدي أو يعتدى علي،
اللهم إني أعوذ بك من شر إبليس وجنوده وشر فسقة العرب والعجم. وحسبي الله
لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم " (2).
وروى في الفقيه عن عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " من دخل
سوقا أو مسجد جماعة، فقال مرة واحدة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا. وسبحان الله بكرة وأصيلا، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله. عدلت له حجة مبرورة " (3).
قال في الفقيه: وروي أنه من ذكر الله عز وجل في الأسواق غفر له بعدد ما فيها من
فصيح وأعجم " والفصيح: ما يتكلم. والأعجم: ما لا يتكلم.
قال: وقال الصادق عليه السلام: " من ذكر الله عز وجل في الأسواق غفر له بعدد

(1) الكافي ج 5 ص 155 رقم: 1
(2) الكافي ج 5 ص 156 رقم: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 301 رقم: 3
30

أهلها " (1).
(ومنها): استحباب الدعاء عند الشراء، فروى في الكافي والتهذيب في الصحيح
أو الحسن عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا اشتريت شيئا من متاع أو غيره فكبر
ثم قل: اللهم إني اشتريته التمس فيه من فضلك، فصل على محمد وآل محمد. اللهم فاجعل لي فيه
فضلا اللهم إني اشتريته التمس فيه من رزقك، فاجعل لي فيه رزقا. ثم أعد كل واحدة ثلاث
مرات " (2).
أقول: قوله عليه السلام: ثم أعد كل واحدة ثلاث مرات، ربما يتوهم منه الترديد
أربع مرات.
والظاهر أنه ليس كذلك، بل المراد إنما هو أعد كلا من هاتين الجملتين إلى أن يبلغ ثلاث مرات. وروى الصدوق عن العلاء عن محمد بن مسلم قال: قال أحدهما عليه السلام: " إذا
اشتريت متاعا فكبر الله ثلاثا، ثم قل: اللهم إني اشتريته التمس فيه من خيرك فاجعل
لي فيه خيرا. اللهم إني اشتريته... (3) الحديث. كما تقدم.
وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله
الصادق - عليه السلام - قال: " إذا أردت أن تشتري شيئا فقل: يا حي يا قيوم يا
دائم يا رؤوف يا رحيم أسألك بعزتك وقدرتك وما أحاط به علمك أن تقسم لي من
التجارة اليوم أعظمها رزقا وأوسعها فضلا وخيرها عاقبة فإنه لا خير فيما لا عاقبة
له " (4) قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: " إذا اشتريت دابة أو رأسا فقل: اللهم قدر لي أطولها
حياة وأكثرها منفعة وخيرها عاقبة " (5)

(1) الوسائل ج 12 ص 303 رقم: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 304 رقم: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 404 - رقم: 2
(4) الكافي - الفروع - ج 5 ص 157 حديث: 3
(5) الكافي - الفروع - ج 5 ص 157 حديث: 3
31

وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: " إذا اشتريت دابة فقل: اللهم إن كانت عظيمة البركة فاضلة المنفعة ميمونة
الناصية فيسر لي شراءها، وإن كان غير ذلك فاصرفني عنها إلى الذي هو خير لي
منها، فإنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب. تقول ذلك ثلاث
مرات " (1).
وروى في الفقيه عن عمر بن إبراهيم عن أبي الحسن عليه السلام قال: " من اشترى
دابة فليقم من جانبها الأيسر ويأخذ من ناصيتها بيده اليمنى ويقرأ على رأسها فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، وآخر الحشر وآخر بني إسرائيل: قل
ادعو الله أو ادعو الرحمن، وآية الكرسي. فإن ذلك أمان تلك الدابة من الآفات " (2)
وروى في الكافي عن هذيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا اشتريت جارية فقل:
اللهم إني أستشيرك وأستخيرك " (3) وفي الفقيه عن ثعلبة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" إذا اشتريت جارية فقل: اللهم إني أستشيرك وأستخيرك، وإذا اشتريت دابة أو رأسا
فقل: اللهم قدر لي أطولهن حياة وأكثرهن منفعة وخيرهن عاقبة " (4).
(ومنها): أنه إذا قال انسان للتاجر: اشتر لي متاعا، فالمشهور أنه لا يجوز له أن
يعطيه من عنده وإن كان ما عنده أحسن مما في السوق.
ويدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن، عن هشام بن
الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إذا قال لك الرجل: اشتر لي، فلا تعطه من عندك،
وإن كان الذي عندك خيرا منه (5). وما رواه في التهذيب في الموثق عن إسحاق بن عمار

(1) الكافي - الفروع - ج 5 ص 157 حديث: 4
(2) الفقيه ج 3 ص 125 حديث: 547
(3) الكافي ج 5 ص 157 حديث: 2
(4) الفقيه ج 3 ص 126 حديث: 548
(5) الوسائل ج 12 ص 288 حديث: 1
32

قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يبعث إلى الرجل يقول له: ابتع لي ثوبا فيطلب
له في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق، فيعطيه من عنده، قال: لا يقربن هذا
ولا يدنس نفسه، إن الله عز وجل يقول: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا " وإن كان عنده خير
مما يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده " (1).
وقال في كتاب الفقه الرضوي: إذا سألك رجل شراء ثوب فلا تعطه من عندك،
فإنه خيانة، ولو كان الذي عندك أجود مما عند غيرك (2).
ونقل عن ابن إدريس أنه علل المنع هنا، بأن التاجر صار وكيلا في الشراء،
ولا يجوز للوكيل أن يشتري لموكله من نفسه، لأن العقد يحتاج إلى ايجاب وقبول،
وهو لا يصلح أن يكون موجبا قابلا، فلأجل ذلك لم يصلح أن يشتري له من عنده.
وفيه: أنه لم يقم دليل لنا على ما ذكره من منع كونه موجبا قابلا، كما سيأتي تحقيقه
انشاء الله تعالى. بل الظاهر أن العلة هنا: إنما هي خوف التهمة، كما يدل عليه:
ما رواه في الفقيه عن ميسر، قال: قلت له: يجيئني الرجل فيقول: اشتر لي، فيكون
ما عندي خيرا من متاع السوق؟ قال: إن أمنت أن لا يتهمك فاعطه من عندك، فإن
خفت أن يتهمك فاشتر له من السوق (3).
أقول: وهذه المسألة ترجع إلى مسألة الوكالة، فيما لو وكله على
يبع أو شراء أو أطلق ولم يفهم منه الإذن ولا عدمه بالنسبة إلى الوكيل، فهل يكفي
هذا الاطلاق في جواز بيعه عن نفسه أو شرائه لنفسه؟ قولان.
ظاهر أكثر المتأخرين المنع، ويدل عليه بالنسبة إلى الشراء: ما ذكرناه من
صحيحة هشام أو حسنته، أو موثقة إسحاق، وعبارة كتاب الفقه الرضوي.

(1) الوسائل ج 12 ص 289 حديث: 2
(2) مستدرك الوسائل ج 2 ص 464 حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 289 حديث: 4
33

ويدل عليه بالنسبة إلى البيع: ما رواه في التهذيب عن علي بن أبي حمزة
قال: سمعت معمر الزيات يسأل أبا عبد الله عليه السلام فقال: جعلت فداك إني رجل أبيع الزيت
يأتيني من الشام فآخذ لنفسي شيئا مما أبيع؟ قال: ما أحب لك ذلك! فقال: إني لست
أنقص لنفسي شيئا مما أبيع، قال: بعه من غيرك، ولا تأخذ منه شيئا، أرأيت لو أن الرجل قال لك:
لا أنقصك رطلا من دينار، كيف كنت تصنع؟ لا تقربه " (1).
أقول: ظاهر قوله " أرأيت لو أن الرجل.. الخ ": إن شراء الوكيل لنفسه أو بيعه من
نفسه لا يدخل تحت ذلك الاطلاق، الذي اقتضته الوكالة، وإلا فإن مقتضى الوكالة صحة البيع
والشراء بما رآه الوكيل وفعله، فلا معنى لقوله بالنسبة إليه -: " لا أنقصك رطلا من
دينار " لو كان داخلا في اطلاق الوكالة. ويؤكد ذلك: ما قدمناه من كلام الرضا عليه السلام
في الفقه الرضوي وموثقة إسحاق. (2)
ومما يدل على ما دل عليه خبر علي بن حمزة بالنسبة إلى البيع أيضا: ما رواه
في التهذيب عن خالد القلانسي، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يجيئني بالثوب
فأعرضه، فإذا أعطيت به الشئ زدت فيه وأخذته. قال: لا تزده. فقلت: فلم؟ قال: أليس
أنت إذا عرضته أجبت أن تعطي به أوكس من ثمنه؟ قلت: نعم، قال: لا تزده " (3).
أقول: ومعنى الخبر المذكور - على ما يظهر لي -: هو أن الرجل يجيئه بالثوب
ليبيعه له فيعرضه على المشتري، مع كونه مضمرا إرادة شرائه، فإذا أعطاه المشتري
قيمة في ذلك الثوب زاد هو على تلك القيمة شيئا، وأخذ الثوب لنفسه، فنهاه الإمام عليه السلام
عن ذلك، وبين له أن العلة في النهي: هو أنه لما كان قصده أخذ الثوب لنفسه، وإنما
يعرضه على المشتري لأجل أن يبرئ نفسه عن التهمة بأخذه بأقل من قيمته. ولكن
الظاهر أن العادة المطردة فيمن أراد أن يشتري شيئا: إنه ينقص عن ثمنه الواقعي لأجل

(1) الوسائل ج 12 ص 290 حديث: 2
(2) فإن نسبة ما يعطيه من عنده إلى الخيانة يؤذن بأن غير داخل في ذلك الاطلاق كما لا
يخفى. منه قدس سره
(3) الوسائل ج 12 ص 290 حديث: 1
34

أن يأخذه رخيصا، وهذا الوكيل يحب أن يكون الأمر كذلك، مع علمه بما هنالك،
فهو في الواقع لا يخرج عن الخيانة، وإن زاد شيئا على ما ذكره المشتري، فمن أجل
ذلك منعه عليه السلام.
وأما ما ذكره في الوافي - في معنى الخبر المذكور - حيث قال: ولعل المراد
أن الرجل يجيئني بالثوب فيقومه علي فأعرضه على المشتري، فإذا اشتراه مني بزيادة
بعته منه، وأخذت ثمنه، فقال عليه السلام: ألست إذا أنت عرضته على المشتري أحببت
أن تعطي صاحبه أنقص مما أخذت منه؟ قلت: نعم. قال: لا ترده، وذلك لأنه خيانة
بالنسبة إلى المشتري بل البايع أيضا انتهى. فظني: بعده، لما فيه من التكليف والبعد
من سياق الخبر، بل الظاهر هو ما ذكرناه. وبالجملة فإن ظاهر الأخبار المذكورة
التحريم، نعم لو أمن التهمة أو أخبره بذلك فرضي، فالظاهر أنه لا اشكال.
(القول الثاني) في المسألة، الجواز على كراهة، ذهب إليه جمع من الأصحاب،
منهم أبو الصلاح، والعلامة في التذكرة والمختلف، والشهيد في الدروس (1).
قال في المختلف: للوكيل أن يبيع مال الموكل على نفسه، وكذا كل من له الولاية،
كالأب والجد والوصي والحاكم وأمينه.
وقال في الخلاف: لا يجوز لغير الأب والجد. نعم لو وكل في ذلك صح.
وقال أبو الصلاح بما اخترناه، قال: ويكره لمن سأله غيره أن يبتاع متاعا أن
يبيعه من عنده أو يبتاع منه ما سأله أن يبيعه له، وليس بمحرم، مع أنه يحتمل أن يكون
قصد مع الاعلام. لنا: أنه بيع مأذون فيه فكان سائغا، أما المقدمة الأولى فلأنه
مأمور ببيعه على المالك الدافع للثمن والوكيل كذلك، ويدخل تحت الإذن، وأما
الثانية فظاهرة، كما لو نص له على البيع من نفسه.
احتج الشيخ بأنه لا دليل على الصحة. والجواب: الدليل على ما تقدم. وعموم

(1) قال في الدروس في تعداد المكروهات: وشراء الوكيل من نفسه وبيعه على نفسه.
وروى هشام وإسحاق المنع عن الشراء. انتهى منه قدس سره
35

قوله تعالى: " أحل الله البيع وحرم الربا " (1) قال الشيخ: وكذلك لا يجوز له أن
يشتري مال الموكل لابنه الصغير، لأنه يكون في ذلك البيع قابلا موجبا، فتلحقه
التهمة ويتضاد الفرضان، وكذلك لا يجوز أن يبيعه من عبده المأذون له في التجارة
لأنه وإن كان القابل غيره، فالملك يقع له، وتلحقه التهمة فيه، ويبطل الفرضان.
والحق عندي: الجواز في ذلك كله، فكونه موجبا قابلا لا استحالة فيه، لأنه موجب
باعتبار كونه بايعا، وقابل باعتبار كونه مشتريا، وإذا اختلف الاعتبار إن لم يلزم المحال،
وينتقض ببيع الأب والجد مال الصبي من نفسه، لحوق التهمة متطرق في حقهما "
انتهى كلامه.
وليت شعري كأنه لم يقف على شئ ما قدمناه من الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام
والظاهر أنه كذلك، وإلا لذكرها في المقام، فإنها واضحة الدلالة في المنع وبه يظهر
ما في قوله " إنه مأذون فيه " كيف يكون مأذونا فيه، والأخبار المتقدمة كلها متفقة
على النهي، على أبلغ وجه؟! وأن ذلك خيانة كما صرح به حديث كتاب الفقه
الرضوي، وأشار إليه موثقة إسحاق بن عمار، من الاستدلال بالآية المذكورة المؤذن
بكون الشراء من نفسه خيانة، وكذا خبر علي بن أبي حمزة بالتقريب الذي ذكرناه
في ذيله.
وبالجملة فإن الناظر فيما قدمناه من الأخبار وما ذيلناها به من التحقيق الواضح
لذوي الأفكار لا يخفى عليه ما في كلامه من الضعف الظاهر لكل ناظر من ذوي الاعتبار
والله العالم.
(ومنها): أنه يكره مدح البايع لما يبيعه وذم المشتري لما يشتريه، واليمين
على البيع. ويدل عليه: ما تقدم من الأخبار في الفائدة الرابعة، من المقدمة الأولى.
ومنها زيادة على ما تقدم: ما رواه في الكافي عن أبي حمزة رفعه، قال: قام أمير
المؤمنين عليه السلام على دار ابن أبي معيط " وكان مقام فيها الإبل، فقال: يا معشر السماسرة،

(1) سورة البقرة: 275
36

أقلوا الأيمان، فإنها منفعة للسلعة ممحقة للبركة " (1).
قال في الوافي: المنفقة بكسر الميم -: آلة النفاق وهو الرواج.
أقول: الظاهر بعد ما ذكره، وأن المراد بالمنفقة - في الخبر -: إنما هو من
" نفق " بمعنى نفد، وفنى.
قال في القاموس: نفق - كفرح ونصر -: نقد وفنى - وقال: " أنفق: افتقر. و
ماله أنفده ".
وقال في الصحاح: أنفق الرجل: افتقر، وذهب ماله. ومنه قوله عز وجل
" إذا لأمسكتم خشية الانفاق " (2) أي الفقر والفاقة.
ويعضده: ما رواه في الكافي - أيضا - عن أبي إسماعيل رفعه عن أمير
المؤمنين عليه السلام: أنه كان يقول: " إياكم والحلف فإنه ينفق السلعة ويمحق البركة " (3)
فإنه ظاهر في أن المراد إنما هو أن الحلف موجب لبيع السلعة ورغبة المشتري فيها
لمكان الحلف، إلا أنه مذهب لبركة الثمن وممحق له.
وروى في الكافي والتهذيب، عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسى
- عليه السلام - قال: " ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، أحدهم: رجل
اتخذ الله بضاعة لا يشتري إلا بيمين ولا يبيع إلا بيمين ". (4)
(ومنها): كراهة السوم، ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، قال في المسالك
أي الاشتغال بالتجارة في ذلك الوقت.
أقول: ويدل عليه ما رواه في الكافي بسنده عن علي بن أسباط رفعه قال: " نهى

(1) الوسائل ج 12 ص 309 حديث: 1
(2) سورة الإسراء: 100
(3) الكافي ج 5 ص 162 حديث: 4
(4) المصدر حديث: 3
37

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السوم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس " (1) ورواه
الصدوق مرسلا. ويعضده أيضا ما ورد في جملة من الأخبار: (2) أن هذا الوقت
موظف للتعقيب، والدعاء، وأن الدعاء فيه أبلغ في طلب الرزق من الضرب في
الأرض.
(ومنها): كراهة مبايعة الأدنين، وذوي العاهات والمحارف، ومن لم ينشأ في
الخير، والأكراد.
قال في المسالك: وفسر الأدنون بمن لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه. وبالذي
لا يسره الاحسان ولا تسؤه الإساءة. وبالذي يحاسب على الدون. وذووا العاهات أي
ذووا النقص في أبدانهم انتهى.
أقول: والذي يدل على الأول: ما رواه في الكافي والتهذيب مسندا عن أبي
عبد الله عليه السلام والصدوق مرسلا، قال عليه السلام: " لا تستعن بمجوسي ولو على أخذ قوائم شاتك
وأنت تريد أن تذبحها. وقال: إياك ومخالطة السفلة، فإن السفلة لا يؤل إلى
خير " (3).
قال الصدوق - رحمه الله - جاءت الأخبار في معنى السفلة على وجوه:
منها: أن السفلة: الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه.
ومنها: أن السفلة: من يضرب بالطنبور.
ومنها: أن السفلة: من لم يسره الاحسان ولم تسؤه الإساءة.
والسفلة: من ادعى الإمامة وليس لها بأهل. وهذه كلها أوصاف السفلة. من
اجتمع فيه بعضها أو جميعها وجب اجتناب مخالطته.
أقول: وكان الأولى في العبارة هو التعبير بهذا اللفظ إلا أنا جرينا على ما جرى

(1) الكافي ج 5 ص 152 حديث: 12
(2) الوسائل ج 4 ص 1013، الباب الأول من أبواب التعقيب وما يناسبه.
(3) الوسائل ج 12 ص 308 حديث: 1 و 2
38

عليه تعبير الأصحاب.
وأما ما يدل على الثاني، فهو ما رواه في الكافي والتهذيب عن ميسر بن عبد العزيز
قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: " لا تعامل ذا عاهة فإنهم أظلم شئ " (1) وما رواه
في الكافي والفقيه، مسندا في الأول، عن أحمد بن محمد رفعه قال: قال أبو عبد الله
عليه السلام ومرسلا في الثاني، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: " احذروا معاملة
أصحاب العاهات، فإنهم أظلم شئ " (2).
قال بعض متأخري المتأخرين: لعل نسبة الظلم إليهم، لسراية أمراضهم، أو
لأنهم مع علمهم بالسراية لا يجتنبون من المخالطة انتهى.
ولا يخفى بعده، بل الظاهر أنما هو كون الظلم أمرا ذاتيا فيمن كان كذلك.
وأما ما يدل على الثالث، فهو ما رواه المشايخ الثلاثة في أصولهم، مسندا في
الكافي والتهذيب عن العباس بن الوليد بن صبيح عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام، ومرسلا
في الثالث، قال: قال الصادق عليه السلام: " يا وليد لا تشتر من محارف، فإن صفقته لا بركة
فيها " (3) وفي الفقيه: لا تشتر لي - إلى أن قال - فإن خلطته. وفي التهذيب: فإن
حرفته.
أقول: المحارف هو المحروم الذي أدبرت عنه الدنيا فلا بخت له، ويقابله
من أقبلت عليه الدنيا واتسع له مجالها، وانفتحت عليه أبواب أرزاقها.
وأما ما يدل على الرابع، فهو ما رواه المشايخ الثلاثة مسندا في الكافي
والتهذيب، في الموثق عن ظريف بن ناصح، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام، ومرسلا
في الثالث، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: " لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في

(1) المصدر ص 307 حديث: 3
(2) المصدر حديث: 2
(3) المصدر ص 305 حديث: 10
39

الخير " (1) وفي نهج البلاغة: قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: " شاركوا الذي قد أقبل
عليه الرزق، فإنه أخلق للغني وأجدر باقبال الحظ " (2).
ويعضده: ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن حفص بن البختري،
قال: استقرض قهرمان لأبي عبد الله عليه السلام من رجل طعاما لأبي عبد الله عليه السلام، فألح في
التقاضي، فقال أبو عبد الله عليه السلام: ألم أنهك أن تستقرض لي ممن لم يكن فكان (3)
وما رواه في التهذيب عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إنما مثل
الحاجة إلى من أصاب ماله حديثا كمثل الدرهم في فم الأفعى، أنت إليه محوج،
وأنت منها على خطر (4) وعن داود الرقي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي:
يا داود، تدخل يدك في فم التنين إلى المرافق، خير لك من طلب الحوائج إلى من
لم يكن فكان (5).
أقول التنين كسكين: الحية العظيمة.
وأما ما يدل على الخامس، فهو ما رواه في الكافي عن أبي الربيع الشامي،
قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام فقلت: إن عندنا قوما من الأكراد، وأنهم لا يزالون يجيئون
بالبيع، فنخالطهم ونبايعهم؟ قال: يا أبا الربيع لا تخالطوهم، فإن الأكراد حي من
أحياء الجن، كشف الله تعالى عنهم الغطاء فلا تخالطوهم (6) وروى الصدوق عن

(1) المصدر ص 306 حديث: 6
(2) المصدر حديث: 7
(3) الكافي ج 5 ص 158
والقهرمان: القائم بالأمور. قوله: لم يكن فكان، أي كان معدما لا مال له ثم
استغنى.
(4) الوسائل ج 12 ص 48 حديث: 1
(5) المصدر حديث: 2
(6) المصدر ص 307 حديث: 1 باب 23 من أبواب آداب التجارة.
هذا حديث مشتبه يجب رد علمه إلى أهله، ولا يصلح مستندا لحكم شرعي. أو لعل
المراد: أنهم قوما مغمورين لا عهد لهم بالحضارة فكانت فيهم شئ من غلظة البداوة.
ولا شك أنهم بعد طول الزمان وقربهم إلى معالم المدنية أصبحوا كسائر الناس المتدنين، ولا
يشملهم الحكم المذكور. م. ه‍. معرفة
40

أبي الربيع عنه عليه السلام أنه قال لا تخالط الأكراد فإن الأكراد حي من الجن كشف الله
عنهم الغطاء (1).
قال بعض مشايخنا من متأخري المتأخرين: ربما يؤول بأنهم لسوء أخلاقهم
وجبلتهم أشباه الجن، فكأنهم منهم كشف الغطاء عنهم انتهى.
(ومنها): كراهة الاستحطاط من الثمن بعد العقد.
والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك، ما رواه المشايخ الثلاثة رحمهم الله عن
إبراهيم بن أبي زياد قال: اشتريت لأبي عبد الله عليه السلام جارية، فلما ذهبت أنقدهم
الدراهم، قلت أستحطهم؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الاستحطاط بعد
الصفقة (2).
وفي التهذيب بأحد أسانيده (3) " الصمنة " بالنون أي لزوم البيع وضمان كل
منهما ما صار إليه.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن زيد الشحام قال: أتيت أبا عبد الله عليه السلام بجارية
أعرضها، فجعل يساومني وأساومه ثم بعتها إياه فضم على يدي، قلت: جعلت
فداك، إنما ساومتك لأنظر المساومة تنبغي أو لا تنبغي، وقلت: قد حططت عنك عشرة
دنانير. فقال: هيهات ألا كان هذا قبل الضمة، أما بلغك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الوضيعة

(1) الوسائل ج 12 ص 308 حديث:
(2) الكافي ج 5 ص 286 حديث:
(3) الوسائل ج 12 ص 334، حيث: 6
41

بعد الضمة حرام (1).
ورواه في الفقيه عن زيد الشحام، قال: أتيت أبا جعفر عليه السلام مثله (2) وفي الفقيه
والتهذيب " ضمن على يدي " عوض " وقبض " وفيها " الضمنة " عوض " الصفقة " وقد تقدم معناه.
وروى في الفقيه عن يونس بن يعقوب، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل
يشتري من الرجل البيع، فيستوهبه بعد الشراء من غير أن يحمله على الكره؟ قال:
لا بأس به (3) وروى في التهذيب عن معلى بن خنيس عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سألته عن الرجل يشتري المتاع ثم يستوضع؟ قال: لا بأس. وأمرني فكلمت
له رجلا في ذلك (4) وعن يونس بن يعقوب عن الصادق عليه السلام قال: قلت له: الرجل يستوهب
من الرجل الشئ بعد ما يشتري، فيهب له أيصلح له؟ قال: نعم (5) وروى في الكافي
والتهذيب عن أبي العطارد، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أشتري الطعام، فأضع في أوله،
وأربح في آخره، فأسأل صاحبي أن يحط عني في كل كر كذا وكذا؟ فقال: هذا
لا خير فيه، ولكن يحط عنك جملة. قلت: فإن حط عني أكثر مما وضعت؟ قال:
لا بأس (6).
أقول: وهذه الأخبار - كما ترى - ظاهرة في جواز الاستحطاط وعدم حرمته
والشيخ - رحمه الله - قد جمع بينها بحمل الخبرين الأولين على الكراهة، وتبعه
الجماعة كما هي عادتهم غالبا. وأنت خبير بأن صريح الخبر الثاني التحريم، وقد
فسر فيه نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي تضمنه الخبر الأول بالتحريم. وهو ظاهر الخبر

(1) الكافي ج 5 ص 286
(2) الوسائل ج 12 ص 334، حديث: 6
(3) المصدر ص 334 حديث: 7
(4) الوسائل ج 12 ص 334
(5) المصدر حديث: 4
(6) المصدر حديث: 5
42

الأول ومن ثم جمع في الوافي بين الأخبار المذكورة، بحمل أخبار الجواز على
ما إذا كان الاستحطاط على جهة الهبة، كما تضمنه بعضها، حملا لمطلقها على مقيدها،
وابقاء الخبرين الأولين على ظاهرهما، من التحريم، وهو جيد.
(ومنها): كراهة الزيادة في السلعة وقت النداء، بل يصبر عليه حتى يسكت، ثم
يزيد إذا أراد.
والدخول في سوم المسلم.
والنجش - بالنون ثم الجيم ثم الشين المعجمة - وهو زيادة الرجل في ثمن
السلعة وهو لا يريد شرائها، ليسمعه غيره فيزيد بزيادته.
والذي يدل على الأول، ما رواه في الكافي عن أمية بن عمرو الشعيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إذا نادى المنادي فليس لك أن
تزيد، وإنما يحرم الزيادة النداء، ويحلها السكوت (1) ورواه الشيخ بإسناده عن
أمية بن عمرو مثله ورواه الصدوق أيضا عن أمية بن عمرو، وزاد بعد قوله " تزيد "
" وإذا سكت أن تزيد ".
وأما ما يدل على الثاني فهو ما رواه الصدوق في حديث المناهي المذكور في
آخر الفقيه بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم.
أقول: والمراد بدخول الرجل في سوم أخيه هوان يزيد في الثمن الذي يريد
أن يشتريه الأول ليقدمه البائع، لأجل الزيادة. هذا بالنسبة إلى الدخول في السوم
في صورة الشراء.
وأما بالنسبة إلى الدخول في السوم في صورة البيع، فهو أن يبذل الداخل للمشتري
متاعا من عنده، غير ما اتفق عليه البايع الأول مع المشتري، وقد اختلف الأصحاب

(1) المصدر ص 337 حديث: 1
(2) المصدر ص 338 حديث: 3
43

في ذلك تحريما وكراهة. فذهب الشيخ وجماعة إلى التحريم والمشهور بين المتأخرين:
الكراهة: قال في المسالك - بعد أن نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: لا يسوم الرجل على
سوم أخيه -: وهو خبر معناه النهي، والأصل في النهي التحريم. فمن ثم ذهب
الشيخ وجماعة إلى تحريمه، واستظهر المصنف الكراهة، للأصل، والجهل بسند
الحديث. ولو صلح تعين القول بالتحريم انتهى.
أقول: والظاهر أن الخبر المنقول في كلامه - عليه الرحمة - إنما هو من
الأخبار المتناقلة في كتب الفروع، غير مسند إلى أصل من الأصول، ولا إلى أحد من
الأئمة - عليهم السلام - بخلاف الخبر الذي نقلناه عن الفقيه، فإنه مسند في الكتاب
المذكور بجميع ما اشتمل عليه من المناهي. وإن ضعف سنده باصطلاحهم، إلا أنه
من مرويات الفقيه، التي لها مزية وزيادة على غيرها، بما ضمنه في صدر كتابه.
وكيف كان فإنهم قد صرحوا - رضي الله عنهم - بأن النهي تحريما أو كراهة،
إنما يثبت بعد تراضي الأولين، صريحا أو ظاهرا، فلو ظهر ما يدل على عدم الرضا،
وطلب الزيادة، أو جهل حاله، لم يتعلق به الحكم المذكور. وهو كذلك، لأصالة
الصحة، وقوفا في النهي على القدر المتقين.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن ابن إدريس قال في سرايره - ما صورته -: قال شيخنا
أبو جعفر في نهايته: وإذا نادى المنادي على المتاع فلا يزيد في المتاع، فإذا سكت
المنادي زاد حينئذ إن شاء، وقال في مبسوطه: وأما السوم على سوم أخيه فهو حرام،
لقوله عليه السلام: لا يسوم الرجل على سوم أخيه. هذا إذا لم يكن المبيع في المزائدة، فإن
كان كذلك فلا تحرم المزايدة. وهذا هو الصحيح، دون ما ذكره في نهايته. لأن
ذلك على ظاهره غير مستقيم، لأن الزيادة في حال النداء غير محرمة، ولا مكروهة.
فأما الزيادة المنهي عنها فهي عند الانتهاء وسكون نفس كل واحد من البيعين على
البيع، بعد استقرار الثمن، والأخذ والشروع في الإيجاب والقبول، وقطع المزائدة
فعند هذه الحال لا يجوز السوم على سوم أخيه انتهى.
44

والعلامة في المنتهى - بعد أن نقل كلام ابن إدريس المذكور - ذكران الشيخ
عول هنا على رواية الشعيري ثم قال - بعد نقلها -: وهذه الرواية إن صح سندها
حملت على ما إذا وقع السكوت عن الزياد لا للشراء.
ثم قال: والتحقيق هنا أن تقول: لا تخلو الحال عن أربعة أقسام.
أحدها: أن يوجد من البايع التصريح بالرضا بالبيع. فهنا يحرم السوم.
الثاني: أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضا. فهذا لا تحرم فيه الزيادة.
الثالث: أن لا يوجد ما يدل على الرضا ولا على عدمه. فهنا أيضا يجوز السوم.
الرابع: أن يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح، والوجه هنا التحريم
أيضا. انتهى ملخصا.
أقول: والذي يقرب في فكري الكليل، وذهني العليل: أن ما ذكره هذان
العمدتان في المقام لا يخلو من النظر الظاهر لذوي الأفهام. فإنه لا يخفى أن كلا من
الحكمين المذكورين، لا تعلق له بالآخر ولا ارتباط بينهما، ليتوهم حصول المنافاة
بينهما، ويحتاج إلى الجمع كما ذكره في المنتهى، أو اطراح، أحدهما، كما توهمه
ابن إدريس، فإنه لا يخفى أن النداء على السلعة التي تضمنه خبر الشعيري إنما هو أن
يعطي بعض المشترين ثمنا، فينادي به الدلال قبل أن يقع بينهما تراض عليه، فإن
حصل من أعطى أزيد من الأول فربما باعه وتراضى مع ذلك المعطي عليه، وربما
نادى به أيضا طلبا للزيادة، والإمام عليه السلام قد نهى من الزيادة في حال النداء، وجوزها
في حال السكوت، والوجه فيما قاله عليه السلام هنا غير ظاهر لدينا، ولا معلوم عندنا،
وينبغي أن يحمل ذلك على مجرد التعبد الشرعي، تحريما أو كراهة.
وأما السوم على السوم فهو شئ آخر، وهو أن يقع بين البايع والمشتري
المساومة، التي هي عبارة عن المجاذبة بينهما في فصل الثمن، وتعيينه وليس هنا
نداء بالكلية، لأنه مع حصول التراضي المانع من الدخول في السوم، لا معنى للنداء
على السلعة وطلب الزيادة، كما لا يخفى، ومع عدم حصول التراضي فلا معنى للنداء
45

بالكلية. فالداخل في السوم يفصل فيه بما ذكره في المنتهى من الصور الأربع المذكورة
كما قدمنا إليه الإشارة أيضا.
ورد ابن إدريس على الشيخ في النهاية إنما نشأ من عدم وقوفه على الخبر المذكور،
وتوهم منافاة ذلك لما ذكره في المبسوط، وهو في غير محله. لأن ما ذكره في كل من
الكتابين حكم على حدة غير الآخر كما لا يخفى
وأما ما يدل على الثالث فهو ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله: الواشمة والمتوشمة، والناجش والمنجوش
ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم (1) وروى في كتاب معاني الأخبار، بإسناده عن
القاسم بن سلام، باسناد متصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تناجشوا ولا تدابروا (2). قال:
ومعناه: أن يزيد الرجل في ثمن السعلة وهو لا يريد شرائها ليسمعه غيره فيزيد بزيادته.
والناجش خائن. والتدابر الهجران.
أقول: وما اشتمل عليه الخبر الأول، من ذكر الناجش والمنجوش، وأنهما
ملعونان، فالظاهر أن المراد به: هو أن يواطئ البايع رجلا، إذا أراد بيعا، أن
يساومه بثمن كثير، ليقع فيه غيره.
والمشهور في كلام الأصحاب: تحريمه، بل قال في المنتهى: أنه محرم
اجماعا، لأنه خديعة. وقد صرحوا بأنه لا يبطل البيع به، بل العقد صحيح.
ونقل في الدروس عن ابن الجنيد: أنه إذا كان من البايع أبطل، وعن القاضي:
أنه يتخير المشتري، لأنه تدليس.
وقطع في المبسوط بأنه لا خيار إذا لم يكن بمواطاة البايع. وقوى عدم الخيار
أيضا بمواطاته.
وقيد الفاضلان الخيار بالغبن كغيره من العقود.

(1) الوسائل ج 12 ص 337 حديث: 2
(2) المصدر ص 338 حديث: 4
46

أقول: ولا ريب أن ظاهر النهي هو التحريم، ولا يبعد القول بذلك في الفردين
الآخرين أيضا، لظاهر الخبرين المتقدمين، مع عدم المعارض.
(ومنها) استحباب المماكسة إلا في مواضع مخصوصة.
ويدل على ذلك ما رواه في الكافي عن الحسن بن علي عن رجل يسمى سوادة،
قال: كنا جماعة بمنى فعزت علينا الأضاحي، فنظرنا فإذا أبو عبد الله عليه السلام واقف على
قطيع، يساوم بغنم ويماكسهم مكاسا شديدا فوقفنا ننظر، فلما فرغ أقبل علينا،
فقال: أظنكم قد تعجبتم من مكاسي! فقلنا: نعم. فقال: إن المغبون لا محمود ولا مأجور.
الحديث (1).
وعن الحسين بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول وقد قال له أبو حنيفة:
عجب الناس منك أمس، وأنت بعرفة تماكس ببدنك أشد مكاس يكون - فقال أبو عبد الله
عليه السلام: فما لله من الرضا، أن أغبن في مالي قال: فقال أبو حنيفة: لا والله مالله في هذا
من الرضا، قليل ولا كثير، ما نجيئك بشئ إلا جئتنا بما لا مخرج لنا منه (2).
وروى الصدوق، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ماكس المشتري فإنه أطيب للنفس،
وإن أعطى الجزيل، فإن المغبون في بيعه وشرائه غير محمود ولا مأجور (3).
وفي عيون الأخبار بسنده عن الرضا عليه السلام عن آبائه - عليهم السلام - قال:
المغبون لا محمود ولا مأجور (4).
أما ما استثنى من ذلك فيدل عليه ما رواه في الفقيه عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان علي بن الحسين يقول لقهرمانة: إذا أردت أن تشتري لي من

(1) الكافي ج 4 ص 496 حديث: 3
(2) الوسائل ج 10 ص 118 حديث: 2
(3) المصدر ج 12 ص 335 حديث: 2
(4) المصدر حديث: 3
47

حوائج الحج شيئا فاشتر ولا تماكس (1).
وبإسناده عن حماد بن عمرو، وأنس بن محمد، عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن آبائه - عليهم السلام - في وصية النبي لعلي عليه السلام قال: يا علي، لا تماكس في
أربعة أشياء: شراء الأضحية، والكفن، والنسمة، والكراء إلى مكة (2).
وفي الخصال بسند مرفوع، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا تماكس في أربعة
أشياء: في الأضحية، والكفن، وثمن النسمة، والكراء إلى مكة (3).
قال في الوافي: ينبغي تخصيص هذه الأخبار ببعض المواضع، كما إذا كان
البايع مؤمنا. وحمل الأولين على مواضع أخر، كما إذا كان البايع مخالفا أو غير
ذلك انتهى. وهو جيد.
(ومنها): أن يكون سهل البيع والشراء، والقضاء والاقتضاء لما رواه الشيخ
في الموثق عن حنان، عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: قال رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم -: بارك الله تعالى على سهل البيع، سهل الشراء، سهل
القضاء، سهل الاقتضاء (4) وروى الصدوق مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إن الله تبارك وتعالى يحب العبد في أن يكون سهل البيع، سهل الشراء، سهل القضاء
سهل الاقتضاء (5).
وروى في الخصال بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: غفر الله تعالى
لرجل كان قبلكم، كان سهلا إذا باع، سهلا إذا قضى، سهلا إذا اقتضى (6).

(1) المصدر. أبواب التجارة باب: 46. حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 336 حديث: 2
(3) المصدر حديث: 3
(4) المصدر ص 332 باب: 42 أبواب آداب التجارة حديث: 1
(5) المصدر حديث: 2
(6) المصدر حديث: 3
48

وروى في الكافي عن حماد بن عثمان، قال: دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام
فشكى إليه رجلا من أصحابه، فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال له أبو عبد الله عليه السلام
مغضبا: ما لفلان يشكوك؟ فقال له: يشكوني أني استقضيت منه حقي! قال: فجلس أبو عبد الله
عليه السلام مغضبا ثم قال: كأنك إذا استقيت حقك لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله عز وجل في
كتابه فقال: " يخافون سوء الحساب " أترى أنهم خافوا الله أن يجوز عليهم! لا والله، ما خافوا
إلا الاستقضاء. فسماه الله - عز وجل - سوء الحساب. فمن استقضى فقد أساء (1).
(ومنها): استحباب البيع عند حصول الربح، وكراهة تركه.
ويدل عليه: ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سعيد الدغشي، قال:
كنت على باب شهاب بن عبد ربه، فخرج غلام شاب، فقال: إني أريد أن أسأل
هاشم الصيدناني عن حديث السلعة والبضاعة. قال: فأتيت هاشما، فسألته عن
الحديث، فقال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن البضاعة والسلعة، فقال: نعم ما من أحد
يكون عنده سلعة أو بضاعة. إلا قيض الله - عز وجل - له من يربحه، فإن قبل وإلا صرفه
الله تعالى إلى غيره. وذلك لأنه رد بذلك على الله - عز وجل - (2) وروى في الفقيه
مرسلا، قال: قال علي عليه السلام: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجل معه سلعة يريد بيعها. فقال:
عليك بأول السوق (3).
أقول: يعني أول من يربحك في سلعتك في السوق، كما يدل عليه الخبر
الأول.
أقول: وهذا من المشهورات، بل المجربات. ومن الأمثال المتعارفة بين
الناس، قولهم: عليك بثاني زينة! قال: والأولى؟ قال: لست من رجالها. والمعنى:
أنك لا توفق للأولى لمزيد الطمع، مع أنها أو أنها أوفر مما تعطي بعدها، فإن فاتتك

(1) الكافي ج 5 ص 100 - 101
(2) الكافي ج 5 ص 153 حديث: 17
(3) الوسائل ج 12 ص 296 حديث: 3
49

فلا تفوتك الثانية.
ويؤيده الأخبار المذكورة: ما ورد من كراهة استقلال قليل الرزق، (1) وأنه يؤدي
إلى حرمان الكثير.
روى في الكافي عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
من طلب قليل الرزق كان ذلك داعية إلى اجتلاب كثير من الرزق (2).
وعن الحسن بن بسام الجمال، قال: كنت عند إسحاق بن عمار الصيرفي،
فجاءه رجل يطلب غلة بدينار، وقد كان أغلق باب الحانوت وختم الكيس، فأعطاه
غلة بدينار، فقلت: ويحك يا إسحاق، ربما حملت لك من السفينة ألف ألف درهم!
فقال: ترى كان بي هذا، لكني سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من استقل قليل الرزق
حرم كثيره، ثم التفت إلى، فقال: يا إسحاق لا تستقل قليل الرزق فتحرم كثيره (3).
" ومنها ": استحباب المبادرة إلى الصلاة وترك ما بيده من التجارة و
الاشتغال بها.
ويدل عليه: ما رواه في الكافي عن الحسين بن يسار، عن رجل رفعه، في قول الله تعالى
" رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " قال: هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة و
لا بيع عن ذكر الله تعالى، إذا دخل مواقيت الصلاة، أدوا إلى الله تعالى حقه
منها (4).
وعن أسباط بن سالم قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وساق الخبر عنه عليه السلام
إلى أن قال: يقول الله عز وجل: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " يقول

(1) الوسائل ج 12 ص 338 باب: 50 أبواب آداب التجارة. والاستقلال:
عد الشئ قليلا
(2) المصدر حديث: 1
(3) المصدر حديث: 2
(4) الكافي ج 5 ص 154 حديث: 21
50

القصاص: إن القوم لم يكونوا يتجرون، كذبوا ولكنهم لم يكونوا يدعون الصلاة
في ميقاتها، وهو أفضل ممن حضر الصلاة ولم يتجر (1).
وعن أبي بصير في الصحيح أو الموثق، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كان
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤمن فقير شديد الحاجة من أهل الصفة وكان لازما لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عند مواقيت الصلاة كلها، لا يفقده في شئ منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يرق له وينظر إلى حاجته وغربته. ثم يقول: يا سعد، لو قد جائني شئ لأغنيتك، قال
فأبطأ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاشتد غم رسول الله، فعلم الله - عز وجل - ما
دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غمه بسعد، فأهبط جبرئيل عليه السلام ومعه درهمان. فقال
له: يا محمد، إن الله - عز وجل - قد علم ما دخل عليك من الغم بسعد، أفتحب أن
تغنيه؟ قال: نعم. فقال له: فهاك هذين الدرهمين، فاعطه إياهما، ومره أن يتجر بهما،
فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جبرائيل عليه السلام.
ثم خرج إلى صلاة الظهر، وسعد قائم على باب حجرات رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - ينتظره. فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال:
يا سعد أتحسن التجارة؟ فقال له سعد: والله ما أصبحت أملك مالا أتجر به، فأعطاه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدرهمين، فقال له: أتجر بهما، وتصرف لرزق الله عز وجل، فأخذهما
سعد ومضى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صلى معه الظهر والعصر فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قم
واطلب الرزق، فقد كنت بحالك مغتما يا سعد.
قال: فأقبل سعد لا يشتري بدرهم شيئا إلا باعه بدرهمين، ولا يشتري بدرهمين
إلا باعه بأربعة دراهم، وأقبلت الدنيا عليه، حتى كثر متاعه وماله، وعظمت تجارته
واتخذ على باب المسجد موضعا وجلس فيه، وجمع تجاراته إليه، وكان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أقام بلال للصلاة يخرج وسعد مشغول بالدنيا، لا يتطهر ولا يتهيأ كما
كان يفعل قبل أن يتشاغل بالدنيا، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يا سعد، شغلتك الدنيا

(1) الكافي ج 5 ص 75 حديث: 8
51

عن الصلاة! وكأن يقول: ما أصنع، أضيع مالي؟ هذا رجل قد بعته وأريد أن أستوفي
منه، وهذا رجل قد اشتريت منه وأريد أن أوفيه، فدخل رسول الله من أمر سعد غم
شديد أشد من غمه بفقره فهبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله تعالى قد علم غمك
بسعد، فأيما أحب إليك: حاله الأولى أو حاله هذه؟ فقال: يا جبرئيل، بل حاله
الأولى، فقد ذهبت دنياه بدينه وآخرته. فقال له جبرئيل عليه السلام: إن حب الأموال و
الدنيا فتنة ومشغلة عن الآخرة، قل لسعد، يرد عليك الدرهمين الذين دفعتهما إليه،
فإن أمره يصير إلى الحال التي كان عليها أولا، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمر
بسعد، فقال له: أما تريد أن ترد علينا الدرهمين الذين أعطيتكهما؟ فقال له سعد: و
مأتين. فقال له: لست أريد منك إلا الدرهمين، فأعطاه سعد درهمين. قال: فأدبرت
الدنيا عن سعد، حتى ذهب ما كان معه وما جمع، وعاد إلى حالته التي كان
عليها (1).
" ومنها ": أن لا يتوكل حاضر لباد. والمراد بالبادي: الغريب الجالب
للبلد، أعم من أن يكون من البادية أو قرويا. ومعناه: أن يحمل البدوي أو القروي
متاعه إلى بلد فيأتيه البلدي، ويقول له: أنا أبيعه لك بأعلى ما تبيعه، قبل أن يعرفه السعر،
ويقول: أنا أبيع لك. وأكون سمسارا. كذا ذكره في المسالك.
وقد اختلف الأصحاب في ذلك تحريما وكراهة فذهب الشيخ في النهاية إلى الثاني.
وهو قول العلامة في المختلف، واختيار المحقق في الشرايع، والشهيد في الدروس.
وفي المبسوط والخلاف إلى الأول، إلا أنه قيده في المبسوط بما يضطر إليه
الناس، بأن يكون في فقده اضرار بهم.
وقال ابن البراج في المهذب كقول الشيخ في المبسوط. وبه قال ابن إدريس،
والعلامة في المنتهى.

(1) الوسائل ج 12 ص 297 باب: 14 أبواب آداب التجارة حديث: 2 والكافي
ج 5 ص 312 حديث: 38
52

أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام، ما رواه في الكافي عن
عروة بن عبد الله، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتلقى أحدكم
تجارة، خارجا من المصر، ولا يبيع حاضر لباد، والمسلمون يرزق الله بعضهم من
بعض (1) وروى الشيخ الطوسي في مجالسه بسنده عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (2).
ولا يبعد أن يكون الخبر المذكور من طريق العامة، لأن أكثر رجاله منهم.
وعن يونس بن يعقوب قال: تفسير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا يبيعن حاضر لباد ":
إن الفاكهة وجميع أصناف الغلات، إذا حملت من القرى إلى السوق، فلا يجوز أن
يبيع أهل السوق لهم من الناس، بل ينبغي أن يبيعه حاملوه من القرى والسواد. فأما
من يحمل من مدينة إلى مدينة فإنه يجوز، ويجري مجرى التجارة.
وأنت خبير بأن ظاهر هذا الخبر تخصيص ما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم في الحديثين الأولين
بالفاكهة وجميع أصناف الغلات. إذا حملت من القرى، وهو خلاف ما عليه الأصحاب
من العموم في هذا الحكم، إلا أن ظاهر الخبر المذكور إنما هو من كلام يونس،
فيهون الاشكال.
ومن ذهب من أصحابنا إلى التحريم أخذ بظاهر النهي في الحديثين الأولين.
ومن ذهب إلى الكراهة، اعتمد على الأصل، ورد الخبرين بضعف السند،
وحملها على الكراهة تفاديا من طرحهما.
وقد ذكر الأصحاب في تحريمه أو كراهته شروطا:
أحدها: أن يكون الحاضر عالما بورود النهي. وهذا شرط يعم جميع المناهي.
الثاني: أن يظهر من ذلك المتاع سعر في البلد، فلو لم يظهر، إما لكبر البلاد،
أو لعموم وجوده، ورخص السعر، فلا تحريم ولا كراهة. لأن المقتضي للنهي تفويت الربح

(1) الكافي ج 5 ص 168 باب التلقي حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 327 باب 37 أبواب آداب التجارة حديث: 3
53

وفقد الرفق على الناس، ولم يوجد هنا.
الثالث: أن يكون المتاع المجلوب بما تعم الحاجة إليه، فما لا يحتاج إليه
إلا نادرا، لا يدخل تحت النهي.
الرابع: أن يعرض الحضري ذلك على البدوي ويدعو إليه، فلو التمس
الغريب ذلك لم يكن به بأس.
الخامس: أن يكون الغريب جاهلا بسعر البلد، فلو كان عالما به لم يكره،
بل يكون مساعدته محض الخير.
أقول: أنت خبير بأن الظاهر، أن ما عدا الأول والأخير من هذه الشروط،
تقييد للنص من غير دليل، إلا مجرد هذه التخرصات.
والظاهر: أن أكثر هذه الشروط مأخوذة من كلام العامة.
أما استثناء الأول والأخير فظاهر، لأن الخطاب تحريما أو كراهة إنما يتوجه
إلى العالم. والتعليل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: يرزق الله تعالى الناس بعضهم من بعض، إنما
يترتب على الجهل بسعر البلد لامع العلم. فلا بأس باشتراطهما،
ثم إنه على القول بالتحريم فالظاهر هو صحة البيع. وإن أثم، لأصالة الصحة،
وبه صرح جملة من الأصحاب.
وأما شراء البلدي للبادي، فلا اشكال في جوازه، لعدم دخوله تحت النص
المذكور وللعامة فيه قولان.
" ومنها ": تلقي الركبان.
وهل التلقي مكروه أو محرم؟ قولان للشيخ - عليه الرحمة -.
وقد صرح في النهاية بالكراهة، ونقله في الخلاف عن المفيد أيضا، وقال
في المبسوط والخلاف: لا يجوز.
وحمل العلامة في المختلف كلامه في المبسوط والخلاف على الكرامة المؤكدة،
قال: لأنه كثيرا ما يستعمل لفظ " لا يجوز " في المكروه وهو غير بعيد.
54

وبالتحريم صرح ابن البراج، وتبعه ابن إدريس، وهو قول أبي الصلاح
أيضا، واختاره في المنتهى.
وأما الأخبار الواردة في هذا المقام فمنها: ما تقدم في سابق هذه المسألة، من
حديث عروة بن عبد الله.
ومنها: ما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: لا تلق، ولا تشتر ما تلقى ولا تأكل منه (1).
وما رواه في الفقيه عن منهال القصاب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن تلقي الغنم،
فقال: لا تلق ولا تشتر ما تلقي ولا تأكل من لحم ما تلقى (2).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب. قال: قال أبو عبد الله عليه السلام
لا تلق، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التلقي. قلت وما حد التلقي؟ قال: ما دون
غدوة أو روحة. قلت وكم الغدوة والروحة؟ قال: أربعة فراسخ (3) قال ابن أبي
عمير: وما فوق ذلك فليس بتلق.
وأنت خبير بأن الأخبار المذكورة متفقة على النهي عن ذلك، وهو حقيقة
في التحريم عندهم، والخروج عنه من غير دليل صارف غير معقول.
وغاية ما أجاب به العلامة في المختلف - بعد اختياره القول بالكراهة ونقله
خبر منهال الأول، وكذا خبر عروة، إلى أن قال -: والجواب: أن النهي كما يدل
على التحريم، فكذا يدل على الكراهة.
ولا يخفى ما في هذا الجواب من النظر الظاهر لكل ناظر! وكيف لا وهو وغيره
قد صرحوا بأن الأصل في النهي التحريم، وهو المعنى الحقيقي له، والحمل على
الكراهة مجاز لا يصار إليه إلا مع القرينة، ولو تم ما ذكره هنا من هذا الكلام لزم أن

(1) الوسائل ج 12 ص 326 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 326 حديث: 3
(3) الوسائل ج 12 ص 326 حديث: 1
55

لا يقوم النهي دليلا على التحريم، في حكم من الأحكام بالكلية.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك: أن الوجه في الكراهة هو التمسك
بالأصل. وضعف الأخبار المذكورة. فلا تنهض حجة في الخروج عن مقتضى
الأصل. فتحمل على الكراهة، تفاديا من طرحها.
وفيه ما قد أوضحناه في غير موضع مما تقدم.
وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور:
" الأول ": الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا - رضوان الله تعالى عليهم - في أن
حد التلقي المنهي عنه أربعة فراسخ.
قال في المنتهى: حد علماؤنا التلقي بأربعة فراسخ، فكرهوا التلقي إلى ذلك
الحد، فإن زاد على ذلك كان تجارة وجلبا، ولم يكن تلقيا. وهو ظاهر، لأنه بمضيه،
ورجوعه يكون مسافرا، ويجب عليه التقصير، فيكون سفرا حقيقيا. إلى أن قال:
ولا نعرف بين علمائنا خلافا فيه. انتهى.
أقول: ويدل على التحديد بالأربعة كما ذكروه ما تقدم في رواية منهال القصاب
وظاهره أن التلقي المنهي عنه، هو ما يكون فيما دون مسافة الأربعة، بمعنى أنه
إذا بلغ الأربعة خرج عن محل النهي، فيحمل اسم الإشارة في كلام ابن أبي عمير على
الرجوع إلى ما دون الأربعة.
وأظهر منه في هذا المعنى ما رواه في الفقيه مرسلا، قال: وروي أن حد التلقي
روحة، فإذا صار إلى أربعة فراسخ فهو جلب. بمعنى أنه متى قطع الأربعة ووصل
على رأسها فهو جلب، لأنه حينئذ يصير سفرا برجوعه كما تقدم في كتاب الصلاة،
وبذلك يظهر ما في كلام الأصحاب من المسامحة، كما في عبارة العلامة المتقدمة،
حيث إنه جعل كرامة التلقي إلى حد تمام الأربعة، وخص التجارة والجلب بما زاد
عن الأربعة، وعلله أنه يكون حينئذ مسافرا. وأنت خبير بأنه يكون مسافرا بالحصول
على رأس الأربعة، وإن لم يزد عليها.
56

والظاهر أن منشأ التسامح هو أن الحصول على رأس الأربعة بلا زيادة
ولا نقصان نادر.
ومن الأخبار في ذلك: ما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب، قال:
قلت له: ما حد التلقي؟ قال: روحة (1).
واجماله يعرف من خبره المتقدم. وتفسير الروحة والغدوة بأربعة فراسخ،
لأن الغدوة من أول النهار إلى الزوال، والروحة من الزوال إلى الغروب وبياض اليوم
- كما تقدم في كتاب الصلاة - عبارة من ثمانية فراسخ فيكون كل نصف من النهار
أربعة فراسخ.
" الثاني ": قد صرح بعض الأصحاب بتقييد التحريم أو الكراهة هنا بقيود:
(منها): ما تقدم من تحديد التلقي، وأن ما زاد عليه ليس بتلق.
(ومنها): كون الخروج بقصد ذلك فلو خرج لا لذلك فاتفق الركب لم يحرم
ولم يكره.
(ومنها): تحقق مسمى الخروج من البلد، فلو تلقى الركب في أول وصوله
البلد، لم يثبت الحكم.
(ومنها): جهل الركب بسعر البلد فيما يبيعه ويشتريه، فلو علم بهما أو بأحدها
لم يثبت الحكم فيه.
أقول: وإليه يشير التعليل في رواية عروة بن عبد الله المتقدمة، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم
والمسلمون يرزق الله تعالى بعضهم من بعض.
(ومنها): أن يكون التلقي للبيع عليه أو الشراء منه، فلو خرج لغيرهما من
المقاصد، ولو في بعض المعاملات كالإجارة، لم يثبت الحكم. وفي الحاق الصلح
ونحوه من عقود المغابنات اشكال، فيحتمل ذلك للعلة المذكورة، والعدم اقتصارا
فيما خالف الأصل على القدر المتقين.

(1) الوسائل ج 12 ص 326 حديث: 4
57

أقول: والظاهر أن الأقرب الأول.
" الثالث ": لو خالف وتلقى، ثم اشترى منهم أو باع عليهم، انعقد البيع، وإن
قلنا بالتحريم. إما لأن النهي في المعاملات لا يقتضي البطلان، وإنما ذلك في العبادات
على الوجه المقرر فيها، أو أن النهي وإن اقتضى ذلك في المعاملات، إلا أنه مخصوص
بما إذا تعلق بحقيقة البيع، ويرجع إلى البيع من حيث هو، لا إلى أمر خارج كالبيع
وقت النداء يوم الجمعة. وقد تقدم (1) منا تحقيق نفيس في ذلك.
وظاهر المنتهى: اتفاق العلماء على الصحة. ونقل في ذلك من ابن الجنيد
الخلاف في ذلك.
ثم إنه مع الحكم بصحة البيع، فالمشهور أنه لا خيار إلا مع الغبن الفاحش.
ونقل في المختلف عن ابن إدريس أنه قال: التلقي محرم، والبيع صحيح، ويتخير
البايع.
والأقرب هو القول المشهور، لأن الأصل لزوم البيع، قام الدليل على الخيار
في الغبن الفاحش، وبقي ما عداه على الأصل.
ولعل ابن إدريس استند هنا إلى ما روي من طريق العامة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار (2).
وأجاب عنه في المنتهى بأن المفهوم من جعل الخيار إذا أتى السوق، إنما
هو لأجل معرفة الغبن بالسوق، ولولا ذلك لكان له الخيار من حين البيع.
(ومنها): الاحتكار وهو افتعال من الحركة - بالضم - وهو جمع الطعام و
حبسه يتربص به الغلاء.
وقد اختلف الأصحاب أيضا في كراهته وتحريمه، فنقل في المختلف عن

(1) وهو في الباب الثالث في بقية الصلوات، في فضل صلاة الجمعة، في المسألة الثانية
من المطلب الرابع في اللواحق (منه قدس سره) ج 10 ص 172 فما بعد
(2) صحيح مسلم ج 5 ص 5
58

الصدوق في الهداية القول بالتحريم. قال: وبه قال ابن البراج. والظاهر من كلام
ابن إدريس. واختاره في المسالك.
وقال العلامة في المنتهى، والشيخ في المبسوط، والمفيد في المقنعة: إنه
مكروه. وبه قال أبو الصلاح في المكاسب من كتاب التلقي. وقال في فصل
البيع: إنه حرام. ثم استقرب في المختلف الكراهة، وهو اختيار المحقق في
الشرايع أيضا.
وأما الأخبار الواردة في المقام، فمنها: ما رواه في التهذيب عن السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ورواه في الفقيه مرسلا قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحتكر الطعام إلا خاطئ (1).
وما رواه في الكافي عن حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نفد الطعام
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه المسلمون. فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام
ولم يبق الشئ إلا عند فلان، فمره ببيعه، قال فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا فلان،
إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد، إلا شيئا عندك فأخرجه فبعه كيف شئت
ولا تحبسه (2).
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن، عن الحلبي عن أبي عبد
الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يحتكر الطعام، يتربص به هل يجوز ذلك؟ فقال: إن
كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس، وإن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره
أن يحتكر الطعام، ويترك الناس ليس لهم طعام! (3).
وعن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الجالب
مرزوق والمحتكر ملعون. ورواه الصدوق مرسلا (4).

(1) الوسائل ج 12 ص 315 حديث: 12
(2) المصدر ص 317 حديث: 1
(3) المصدر ص 313 حديث: 2
(4) المصدر حديث: 3
59

وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الحركة في الخصب أربعون يوما، و
في البلاء والشدة ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون، و
ما زاد في العسرة على ثلاثة أيام فصاحبه ملعون (1) ورواه في الفقيه بإسناده عن السكوني
وأيضا روى في الفقيه مرسلا، قال: نهى أمير المؤمنين عليه السلام عن الحركة في الأمصار (2)
وما رواه في التهذيب عن الحسين بن عبيد الله بن ضمرة عن جده عن علي بن أبي طالب عليه السلام
أنه قال: رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه مر بالمحتكرين، فأمر بحكرتهم
إلى أن تخرج إلى بطون الأسواق، وحيث ينظر الابصار إليها فقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لو قومت عليهم؟ فغضب حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوم عليهم! إنما
السعر إلى الله تعالى يرفعه إذا شاء، ويضعه إذا شاء (3).
وما رواه الشيخ في كتاب المجالس بسنده عن أبي مريم، عن أبي جعفر عليه السلام
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به غلاء
المسلمين، ثم باعه فتصدق بثمنه، لم يكن كفارة لما صنع (4).
وما رواه في كتاب قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد (ع) عن
أبيه عليه السلام أن عليا عليه السلام، كان ينهى عن الحكرة في الأمصار. وقال: ليس الحكرة إلا في
الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن (5) وما رواه في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين
عليه السلام في كتابه إلى مالك الأشتر، قال فيه: فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا، بموازين عدل، واسعا لا يجحف بالفريقين
من البايع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه، فنكل وعاقب في غير

(1) المصدر ص 312 حديث: 1
(2) المصدر ص 314 حديث: 9
(3) المصدر ص 317 حديث: 1
(4) المصدر ص 314 حديث: 6
(5) المصدر حديث: 7
60

إسراف (1).
وفي كتاب ورام ابن أبي فراس - وهو جد السيد رضي الدين بن طاووس لأمه،
وكان يثني عليه ثناء زائدا، ويعتمد كتابه - عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل، قال: اطلعت
في النار فرأيت واديا في جهنم يغلي، فقلت: يا مالك، لمن هذا؟ فقال: لثلاثة:
المحتكرين، والمدمنين الخمر، والقوادين (2).
أقول: هذا ما وقفت عليه من الأخبار في ذلك، وكلها كما ترى ما بين صريح
أو ظاهر في التحريم. وليس فيها ما يمكن التعلق به للقول الآخر. إلا لفظ الكراهة في
صحيحة الحلبي أو حسنته. واستعماله في التحريم في الأخبار أكثر كثير، كما تقدم
في غير موضع من كتاب الطهارة والصلاة. فالواجب: حمله على ذلك، بقرينة جملة
أخبار المسألة. ومنه يظهر قوة القول بالتحريم.
ولا يخفى أن من ذهب إلى هذا القول، فإنه لم يمعن نظره في الأخبار، ولم
يتتبعها حق التتبع الرافع عن وجه الحكم المذكور غبار الاستتار. كما هي عادتهم
غالبا في سائر الأحكام، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار.
فروع: الأول: المفهوم من الأخبار أن الاحتكار إنما هو في الحنطة والشعير
والتمر والزبيب والزيت والسمن ومنها: ما تقدم في حديث أبي البختري المنقول عن قرب الإسناد، وقد اشتمل على ما عدا الزيت. وما رواه في الخصال بسنده عن السكوني
عن جعفر بن محمد عليه السلام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الحركة في ستة أشياء: في
الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت (3).
وروى المشائخ الثلاثة عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال

(1) المصدر ص 315 حديث: 13
(2) الوسائل ج 12 ص 314 حديث: 11
(3) المصدر حديث: 10
61

ليس الحركة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب (1). وزاد في الفقيه، والزيت.
ومما يدل على دخول الزيت أيضا ما في صحيحة الحلبي أو حسنته عن أبي عبد الله
- عليه السلام -، وفيها: قال: وسألته عن الزيت؟ فقال: إن كان عند غيرك فلا بأس
بإمساكه.
والمشهور بين الأصحاب: تخصيص الاحتكار بما عدا الزيت من الأشياء
المذكورة في هذه الأخبار، حتى قال الشيخ في النهاية - بعد عدها -: ولا يكون
الاحتكار في سوى هذه الأجناس. وتبعه ابن إدريس وابن البراج والفاضلان وغيرهم.
وقال المفيد: الحركة احتباس الأطعمة. وأبو الصلاح: الغلات، والصدوق
في المقنع: الأشياء الستة المذكورة في الخصال. وفي المبسوط: زاد على الخمسة
المشهورة الملح. وتبعه ابن حمزة.
قال في المختلف: بعد نقل هذه الأقوال: وأجود ما وصل إلينا في هذا الباب
ما رواه غياث بن إبراهيم في الموثق، وساق الرواية المتقدمة. ثم قال: وحينئذ يبقى
ما عداه على الأصل.
وأنت خبير بما فيه، حيث إنه ناش عن قصور التتبع في الأخبار كما عرفت.
وأما الملح فنقله في النهاية والشرايع قولا في المسألة. وقد عرفت أنه قول
الشيخ في المبسوط. قال في المسالك: هذا القول قوي.
أقول: والظاهر أن وجه قوته عنده من حيث شدة الاحتياج إليه، وتوقف أغلب
المآكل عليه، مع أنه لم يذكر في الأخبار الواردة في المسألة. ولعل السر في عدم
ذكره، أن الله تعالى لعلمه بما فيه من مزيد الحاجة والاضطرار إليه جعله في كثرة
الوجود والرخص قريبا من الماء الذي لأقوام للأبدان والأديان إلا به، فمن ثم لم
يتعرضوا له في الأخبار.
الثاني: حد الشيخ الحكرة في الرخص بأربعين يوما، وفي الغلاء والشدة

(1) الوسائل ج 12 ص 312 حديث: 7
62

بثلاثة أيام، عملا برواية السكوني المتقدمة (1). ويؤيدها ظاهر رواية كتاب
المجالس (2).
والأشهر العدم، لاطلاق الأخبار المتقدمة، ومنها: صحيحة الحلبي (3)
أو حسنته. ورواية الحسين بن عبد الله بن ضمرة (4). وتقييد هذه الأخبار بالخبر المذكور،
كما هو القاعدة، وإن أمكن، إلا أن الظاهر بعده من ظواهرها، كما لا يخفى على
المتأمل.
الثالث: هل يشترط في الاحتكار شراء الغلة؟ بمعنى أن يشتريها ويحبسها
لذلك، أو يشمل ما كان من غلته؟ نقل في ذلك عن العلامة الأول. قال: وفي حسنة
الحلبي دلالة عليه.
أقول: الظاهر أنه أشار بها إلى ما رواه المشايخ الثلاثة، عن الحلبي في الصحيح
أو الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: الحركة أن يشتري طعاما ليس في المصر غيره
فيحتكره، فإن كان في المصر طعام أو يباع غيره فلا بأس أن يلتمس بسلعته الفضل،
قال: وسألته عن الزيت؟ فقال: إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه (5).
ويؤيده أيضا رواية مجالس الشيخ المتقدمة (6).
ثم أنه قال في ذلك: والأقوى عموم التحريم مع استغنائه وحاجة الناس.
أقول: أنت خبير بأن القول بالعموم، مع اعترافه بدلالة الحسنة المذكورة
على التخصيص بالمشتري لأجل ذلك، لا يخلو من الاشكال، لأن القاعدة تقتضي تقييد

(1) الوسائل ج 12 ص 312 حديث: 1. باب 27. أبواب آداب التجارة.
(2) المصدر ص 314 حديث: 6
(3) المصدر ص 313 حديث: 2
(4) المصدر ص 317 حديث: 1. باب 30. أبواب آداب التجارة.
(5) المصدر ص 315 حديث: 2. باب 28. أبواب آداب التجارة.
(6) المصدر 314 حديث: 6
63

اطلاق ما عدا هذه الحسنة بها، فيبقى القول بالعموم خاليا من الدليل، والقول
بالعموم لا مستند له، إلا اطلاق سائر الأخبار، ومتى قيد بهذه الرواية، عملا بالقاعدة المذكورة،
لم يبق للقول بالعموم مستند كما لا يخفى.
(الرابع): لا خلاف بين الأصحاب في أن الإمام يجبر المحتكرين على
البيع. وعليه تدل جملة من الأخبار المتقدمة. وأما أنه هل يسعر عليهم أم لا؟ الظاهر:
أن المشهور: هو الثاني.
ونقل في المنتهى عن المفيد وسلار أن للإمام عليه السلام أن يسعر عليهم. قال المفيد
- على ما نقله في المختلف -: وللسلطان أن يسعرها على ما يراه من المصلحة، ولا
يسعرها بما يخسر به أربابها فيها.
وقال الشيخ: لا يجوز للسلطان أن يجبر على سعر بعينه، بل يبيعه بما يرزقه
الله تعالى. وبه قال ابن البراج وابن إدريس. والظاهر أنه هو المشهور بين
المتأخرين.
وقال ابن حمزة: لا يسعر إلا إذا شدد. وإن خالف وأخذ في السعر بزيادة أو نقصان
لم يتعرض عليه. واختار هذا القول في المختلف. وإليه يميل كلام المسالك. و
هو جيد.
لنا على عدم التسعير عليه. ما تقدم في حديث الحسين بن عبد الله بن ضمرة. و
ما رواه في الفقيه مرسلا، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو سعرت لنا سعرا. فإن الأسعار تزيد و
تنقص! فقال: ما كنت لألقى الله تعالى ببدعة لم يحدث إلى فيها شيئا. فدعوا عباد الله
تعالى يأكل بعضهم من بعض، فإذا استنصحتم فأنصحوا (1).
ويؤيده ما ورد في جملة من الأخبار: أن الله عز وجل وكل بالأسعار ملكا
يدبرها (2) وفي بعضها: فلن يغلو من قلة ولن يرخص من كثره (3). وفي آخر: علامة

(1) الوسائل ج 12 ص 318 حديث: 2
(2) الكافي ج 5 ص 163 حديث: 4
(3) المصدر 162
64

رضا الله تعالى في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم، وعلامة غضب الله تعالى على
خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم (1).
ولنا على التسعير عليه إذا شدد حديث " لا ضرر ولا ضرار " (2).
قال في المسالك - بعد اختيار القول المشهور، وهو أنه لا يسعر عليه -: وهو
أظهر إلا مع الاجحاف، فيؤمر بالنزول عنه إلى حد ينتفي الاجحاف. وإلا لانتفت
فائدة الاجبار، إذ لا يجوز أن يطلب في ماله ما لا يقدر على بذله، أو يضر بحال الناس،
والغرض دفع الضرر انتهى. وهو جيد، ومرجعه إلى ما ذكرنا من الخبر، وبه
يخصص اطلاق الأخبار المتقدمة.
ويحتمل العمل باطلاق تلك الأخبار، مؤيدا بخبر " الناس مسلطون على أموالهم " (3)
وما رواه في التهذيب والفقيه في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام،
أنه قال في تجار قدموا أرضا اشتركوا في البيع، على أن لا يبيعوا بيعهم إلا بما أحبوا.
قال: لا بأس بذلك (4).
وأظهر من ذلك تأييدا: قوله عليه السلام في حديث حذيفة بن منصور المتقدم: وبعه
كيف شئت (5).
(الخامس): لا يخفى أن جملة من الأخبار المتقدمة، وإن كانت مطلقة
في النهي عن الاحتكار، إلا أن جملة منها قد قيدت ذلك بما إذا لم يكن في البلد طعام
غيره، فلو كان كذلك لم يدخل تحت النهي، وإن سمي احتكارا، كما تقدم.

(1) الكافي ج 5 ص 162 حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 364 حديث: 4
(3) بحار الأنوار ج 2 ص 272 الطبقة الحديثة
(4) الوسائل ج 12 ص 312 حديث: 2
(5) المصدر ص 317 حديث: 1. باب 29 أبواب آداب التجارة
65

ومن الأخبار المقيدة ما تقدم في صحيحة الحلبي أو حسنة الأولى. وكذا ما في
الثانية (1) المذكورة في الفرع الثالث.
ونحوهما ما رواه المشايخ الثلاثة عن أبي الفضل سالم الحناط في الصحيح،
قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ما عملك؟ قلت: حناط، وربما قدمت على نفاق، وربما
قدمت على كساد، فحبست قال: فما يقول من قبلك فيه؟ قلت: يقولون: محتكر!
قال: يبيعه أحد غيرك؟ قلت ما أبيع أنا من ألف ألف جزء جزء. قال: لا بأس،
إنما كان ذلك رجل من قريش، يقال له: حكيم بن حزام، وكان إذا دخل الطعام
المدينة اشتراه كله، فمر عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا حكيم بن
حزام، إياك أن تحتكر (2).

(1) الوسائل ج 12 ص 313 حديث: 2 و ص 315 حديث: 1
(2) المصدر ص 316 حديث: 3
66

المقدمة الثالثة
فيما يكتسب به
ويحسن هنا تقديم خبر في المقام، قد اشتمل على قواعد كلية في هذه الأحكام،
قل من تعرض إليه من علمائنا الأعلام، وإن طال به زمام الكلام، فإنه من أهم المهام
روى الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن مولانا الصادق عليه السلام، أنه
سئل من معايش العباد، فقال: جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما
يكون لهم فيه المكاسب، أربع جهات.
ويكون منها حلال من جهة وحرام من جهة، فأول هذه الجهات الأربع الولاية، ثم
التجارة، ثم الصناعات، تكون حلالا من جهة حراما من جهة، ثم الإجارات.
والفرض من الله تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال،
والعمل بذلك الحلال منها، واجتناب جهات الحرام منها.
فإحدى الجهتين من الولاية: ولاية ولاة العدل الذين أمر الله تعالى بولايتهم
على الناس. والجهة الأخرى ولاية ولاة الجور.
فوجه الحلال من الولاية: ولاية الوالي العدل، وولاية ولاته بجهة ما أمر به
67

الوالي العادل، بلا زيادة ولا نقصان، فالولاية له، والعمل معه، ومعونته، وتقويته
حلال محلل.
وأما وجه الحرام من الولاية، فولاية الوالي الجاير، وولاية ولاته، والعمل
لهم، والكسب، معهم، لجهة الولاية لهم، حرام محرم معذب فاعل ذلك، على
قليل من فعله أو كثير، لأن كل شئ من جهة المعونة له، معصية كبيرة من الكبائر،
وذلك أنه في ولاية الوالي الجائر وهن الحق كله، فلذلك حرم العمل معهم، ومعونتهم،
والكسب معهم، إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة.
وأما تفسير التجارات في جميع البيوع، ووجوه الحلال من وجه التجارات التي
يجوز للبايع أن يبيع مما لا يجوز له، وكذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه مما
لا يجوز له، فكل مأمور به مما هو غذاء للعباد وقوامهم به، في أمورهم في وجوه
الصلاح، الذي لا يقيمهم غيره، مما يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون
ويستعملون في جميع المنافع، التي لا يقيمهم غيرها، وكل شئ يكون فيه الصلاح،
من جهة من الجهات، فهذا كله حلال بيعه وشراؤه، وامساكه واستعماله، وهبته
وعاريته.
وأما وجوه الحرام من البيع والشراء، فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي
عنه من جهة أكله وشربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شئ
يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم
الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش والطير أو الخمر، أو شئ
من وجوه النجس، فهذا كله حرام ومحرم، لأن ذلك منهي عن أكله وشربه ولبسه
وملكه وامساكه والتقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام.
وكذلك كل بيع ملهو به، وكل منهي عنه، ما يتقرب به لغير الله تعالى، أو يقوى
به الكفر والشرك، من جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به الحق، فهو حرام
محرم بيعه وشراؤه وامساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلب فيه إلا في حال
68

تدعو الضرورة فيه إلى ذلك.
وأما تفسير الإجارات، فإجارة الانسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره، من قرابته
أو دابته أو ثوبه لوجه الحلال من جهات الإجارات، أو يؤجر نفسه أو داره أو أرضه
أو شيئا يملكه فيما ينتفع به، من وجوه المنافع، أو العمل بنفسه وولده ومملوكه
أو أجيره، من غير أن يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي، فلا بأس أن يكون أجيرا
يؤجر نفسه أو ولده أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته، لأنهم وكلاء الأجير من عنده،
ليس هم بولاة الوالي، نظير الحمال يحمل شيئا بشئ معلوم، فيجعل ذلك الشئ
الذي يجوز له حمله، بنفسه أو بملكه أو دابته، أو يؤجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل
بنفسه، حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة، كافرا أو مؤمنا، فحلال إجارته،
وحلال كسبه، من هذه الوجوه.
فأما وجوه الحرام من وجوه الإجارة، نظير أن يؤجر نفسه في صنعة ذلك الشئ
أو حفظه، أو لبسه، أو يواجر نفسه في هدم المساجد ضرارا، وقتل النفس بغير حل،
أو عمل التصاوير، والأصنام، والمزامير، والبرابط، والخمر، والخنازير، والميتة،
والدم، أو شئ من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه، من غير جهة الإجارة فيه،
وكل أمر نهي عنه من جهة من الجهات، فمحرم على الانسان إجارة نفسه فيه، أو له،
أو شئ فيه، أو له، إلا لمنفعة من استأجره، كالذي يستأجر له الأجير يحمل له الميتة
ينحيها عن أذاه أو أذى غيره، وما أشبه ذلك - إلى أن قال -: وكل من آجر نفسه
أو آجر ما يملكه أو يلي أمره، من كافر أو مؤمن، ملك أو سوقة، على ما قررناه، مما
تجوز الإجارة فيه، فحلال محلل فعله وكسبه.
وأما تفسير الصناعات، فكلما يتعلم العباد أو يعلمون غيرهم، من أصناف
الصناعات، مثل الكتابة والحساب والنجارة والصياغة والسراجة والبناء والحياكة
والقصارة والخياطة وصنعة صنوف التصاوير، مما لم يكن مثل الروحاني، وأنواع صنوف
الآلات التي يحتاج إليها العباد، منها منافعهم، وبها قوامهم، وفيها بلغة جميع حوائجهم،
69

فحلال تعلمه وتعليمه والعمل به لنفسه ولغيره، وإن كانت تلك الصناعة وتلك الآلة
قد يستعان بها على وجوه الفساد ووجوه المعاصي، وتكون معونة على الحق والباطل،
فلا بأس بصناعته وتعليمه، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد، وتقوية
ومعونة لولاة الجور وكذلك السكين والسيف والرمح والجوشن وغير ذلك من
وجوه الآلة التي تصرف إلى وجوه الصلاح والفساد، وتكون آلة ومعونة عليهما،
فلا بأس بتعلمه وتعليمه وأخذ الأجرة عليه والعمل به وفيه. لمن كان له فيه جهات
الصلاح من جميع الخلائق، ومحرم عليهم فيه تصريفه إلى جهات الفساد والمضار،
فليس على العالم والمتعلم إثم ولا وزر، لما فيه من الرجحان في منافع جهات
صلاحهم وقوامهم وبقائهم، وإنما الإثم والوزر على المتصرف بها في وجوه الفساد
والحرام.
وذلك أنما حرم الله تعالى الصناعة التي هي حرام كلها التي يجئ منها الفساد
محضا، نظير البرابط والمزامير والشطرنج، وكل ملهو به، والصلبان والأصنام
وما أشبه ذلك، من صناعات الأشربة الحرام، وما يكون منه وفيه الفساد محضا، ولا يكون
منه ولا فيه شئ من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه وتعلمه، والعمل به وأخذ الأجرة
عليه، وجميع التقلب فيه، من جميع وجوه الحركات، إلا أن تكون صناعة قد تصرف
إلى جهات المنافع، وإن كان قد يتصرف بها ويتناول بها وجه من وجوه المعاصي،
فلعلة ما فيه من الصلاح حل تعلمه والعمل به، ويحرم على من صرفه إلى غير وجه
الحق والصلاح.
فهذا بيان وجه اكتساب معايش العباد وتعليمهم في وجوه اكتسابهم. الحديث (1).
ورواه المرتضى عليه الرحمة في رسالة " المحكم والمتشابه ".
وإنما نقلناه بطوله لجودة مدلوله ومحصوله، ومنه يستنبط جملة من
الأحكام التي وقع فيها الاشكال بين جملة من علمائنا الأعلام، مثل الاستيجار على

(1) الوسائل ج 12 ص 54. تحف العقول ص 331
70

الصلاة، كما توقف فيه بعض محدثي متأخري المتأخرين، ومثل التتن والقهوة
ونحو ذلك، فإنه ظاهر في جواز الأول وحل الثاني، وسيأتي الإشارة أيضا انشاء الله
تعالى إلى جملة من الفوائد التي اشتمل عليها في مواضعها اللائق بها.
ويؤيد الخبر المذكور ما ذكره الرضا عليه السلام في كتاب " الفقه " حيث قال: إعلم
يرحمك الله تعالى أن كل مأمور به على العباد، وقوام لهم في أمورهم، من وجوه
الصلاح، الذي لا يقيمهم غيره، مما يأكلون ويشربون ويلبسون ويملكون ويستعملون
فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته، وكل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهى عنه،
من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وامساكه لوجه الفساد، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير
والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك، فحرام ضار للجسم وفساد
للنفس (1) انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن ما يكتسب به ينقسم إلى محرم، ومكروه، ومباح.
فها هنا بحوث ثلاثة.
الأول، في المحرم. وهو أنواع. فمنه: الأعيان النجسة ومنه: ما لا ينتفع به،
كالمسوخ برية أو بحرية. والسباع ومنه: ما هو محرم في نفسه، كعمل الصور
المجسمة، والغناء، ومعونة الظالمين ونحوه. مما سيأتي انشاء الله تعالى. ومنه: ما يحرم
لتحريم ما يقصد به، كآلات اللهو. ونحوها مما سيأتي انشاء الله. ومنه الأجرة على
ما يجب فعله على الانسان مما سيأتي انشاء الله فها هنا مقامات:
الأول في الأعيان النجسة، وفيه مسئلتان.
الأولى: يحرم بيع الأعيان، كالعذرة من غير مأكول اللحم والبول منه أيضا،
والدم، والميتة، والخنزير، والكلب، على تفصيل فيه يأتي انشاء الله تعالى، والخمر
بجميع أنواعه حتى الفقاع، ونحو ذلك.
ومن الأخبار الواردة في المقام ما رواه في التهذيب عن سماعة قال: سأل رجل
أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر، فقال: إني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها

(1) مستدرك الوسائل. باب 2 ما يكتسب به حديث: 1 فقه الرضا ص 33
71

وثمنها. وقال: لا بأس ببيع العذرة (1).
وعن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: ثمن العذرة من
السحت (2).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مضارب عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
لا بأس ببيع العذرة (3).
وما رواه في الفقيه عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ثمن كلب
الصيد، فقال: لا بأس بثمنه، والآخر لا يحل ثمنه. وقال أجر الزانية سحت، وثمن
الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، وأجر الكاهن سحت، وثمن الخمر سحت، وثمن
الميتة سحت، فأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم (4).
وما رواه في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: السحت ثمن
الميتة وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغي، والرشوة في الحكم، وأجر
الكاهن (5).
وعن عمار بن مروان، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغلول، فقال: كل
شئ غل من الإمام فهو سحت، إلى أن قال: والسحت أنواع كثيرة، منها: أجر
الفواجر، وثمن الخمر، والنبيذ المسكر، والربا بعد البينة، وأما الرشا في الحكم
فإن ذلك الكفر بالله العظيم جل اسمه وبرسوله (6) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة
في المقام.

(1) الوسائل ج 12 ص 126 باب 40 من أبواب ما يكتسب به. حديث: 2
(2) المصدر. حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 127 حديث: 3
(4) المصدر ص 63 حديث: 8
(5) المصدر ص 62 حديث: 5
(6) المصدر ص 61 حديث: 1
72

والكلام يقع فيها في مواضع.
(الأول): أنه لا يخفى أن ما ذكرناه من الأخبار، وإن كان إنما اشتمل على بعض
جزئيات ما ذكرناه من الأمر الكلي، إلا أن الخبر الذي قدمناه في صدر المقدمة، قد دل
على ذلك حسبما عنونا به الكلام في هذا المقام.
ونقل في المنتهى اجماع المسلمين كافة على تحريم بيع الميتة والخمر
والخنزير. قال: قال الله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " والمراد:
تحريم الأعيان ووجوه الاستمتاع.
وأنت خبير بأنه قد روى في التهذيب عن أبي القاسم الصيقل، وولده، قال:
كتبوا إلى الرجل عليه السلام: جعلنا الله تعالى فداك، إنا قوم نعمل السيوف، وليست لنا
معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرون إليها، وإنما علاجنا من جلود الميتة من
البغال والحمير الأهلية، لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها
ومسها بأيدينا وثيابنا، ونحن نصلي في ثيابنا، ونحن محتاجون إلى جوابك في المسألة
يا سيدنا، لضرورتنا، فكتب عليه السلام: اجعلوا ثوبا للصلاة (1) ونحوه حديث آخر - أيضا -
بهذا المعنى، قد تقدم في كتاب الطهارة (2).
والخبران المذكوران ظاهران في خلاف ما دلت عليه الأخبار المتقدمة، من
عدم جواز بيع الميتة، وإن ثمنها من السحت، وأنه لا يجوز العمل بها.
ويؤيده هذين الخبرين - أيضا - ما ورود في حسنتي الحلبي أو صحيحته، من
جواز بيع اللحم المختلط ذكيه بميته ممن يستحل الميتة (3). وسيأتي الكلام في
ذلك انشاء الله تعالى، والمسألة محل الاشكال.
(الثاني): ظاهر الروايات المتقدمة في العذرة، الاختلاف في حكم بيعها،

(1) الوسائل ج 12 ص 125 حديث: 4
(2) المجلد الخامس ص 63 - 64
(3) الوسائل ج 12 ص 67 و ص 68 حديث: 1 و 2
73

حلا وحرمة.
والشيخ رضي الله عنه قد جميع بينها، بحمل ما دل على التحريم، على عذرة
الانسان، وما دل على الجواز، على عذرة البهايم.
واحتمل في الذخيرة حمل الأول على الكراهة، والثاني على الجواز، قال:
لكني لا أعلم به قائلا.
وقد عرفت ما في هذا الحمل، في غير موضع مما تقدم، لا سيما في كتابي
الطهارة والصلاة، فإن الخبرين الدالين على التحريم، صريحان في ذلك، واخراجهما
عن صريحهما يحتاج إلى قرينة واضحة، ووجود ما ظاهره المعارضة ليس من قرائن
المجاز، مع أن لكراهة حكم شرعي، يتوقف على الدليل الواضح، واختلاف
الأخبار لا يصلح أن يكون دليلا على ذلك، لا سيما مع وجود محمل صحيح آخر
تجتمع عليه الأخبار.
وقال شيخنا المجلسي - رحمة الله عليه - في حواشيه على كتب الأخبار: يمكن
حمل عدم الجواز على بلاد ينتفع بها والجواز على غيرها، أو الكراهة الشديدة
والجواز أو التقية في الحرمة، فإن أكثرهم على الحرمة، بأن يكون قد أجاب السائل
علانية، ثم رآى غفلة منهم، فأفتى بعدم البأس، لكنه خلاف المشهور بل المجمع
عليه انتهى.
أقول: لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد، والعمل على ما ذكره الشيخ والأصحاب،
فإنه الحمل السديد.
نعم يبقى الكلام في عذرة غير الانسان مما لا يؤكل لحمه. والظاهر: أنه لا مستند
لهم في تحريم بيعها، إلا الاجماع المدعى في المقام، ويشكل بأن الشيخ في الإستبصار
احتمل حمل العذرة في خبر الجواز على ما عدا عذرة الانسان مطلقا، وهو يوذن بجواز
بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه.
قال في الذخيرة: وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ في الإستبصار، يقتضي جواز
74

بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه من غير الانسان، وادعاء الاتفاق على خلافه كما اتفق
لصاحب المسالك، محل اشكال. وبالجملة إن ثبت اجماع في تحريم بيع شئ من
العذرات، فذلك، وإلا كان الجواز متجها فيما ينتفع به انتهى،
أقول: لا يخفى أن ما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار في مقام الجمع من الاحتمالات،
لا يوجب أن يكون ذلك مذهبا له، لينافي دعوى الاجماع في المقام، ولو جعلت تلك
الاحتمالات مذاهب له لم تنحصر مذاهبه في عد، ولم تنته إلى حد، فالتحقيق: أن
المستند في تحريم بيع عذرة ما عدا الانسان من غير مأكول اللحم، إنما هو ما قدمناه
من خبر تحف العقول صريحا، وخبر الفقه الرضوي ظاهرا، لعده في الأول ما كان
من أفراد النجس في المحرمات، ودلالة الثاني عليه بقوله " وما أشبه ذلك " كما لا يخفى
على المتأمل في سياق الخبر. وبذلك يظهر ما في قوله: وبالجملة إن ثبت اجماع..
الخ.
(الثالث): قد اختلف الأصحاب - رضوان الله عليهم - في أرواث وأبوال
ما يؤكل لحمه، فذهب جماعة إلى جوازه مطلقا، نظرا إلى أنها عين طاهرة ينتفع بها،
وهو المنقول عن المرتضى - رضي الله عنه - ومن تبعه. وادعى عليه الاجماع. وبه
قال ابن إدريس والعلامة في المنتهى وغيره والظاهر أنه المشهور.
وآخرون إلى المنع من بيع العذرات والأبوال كلها، لاستخباثها إلا أبوال
الإبل، للاستشفاء بها، للنص عليها (1).
ونقله في المختلف عن المفيد، حيث قال: قال المفيد: وبيع العذرة والأبوال
كلها حرام، الأبوال الإبل خاصة، ثم قال: وكذا قال سلار.
وقال في المسالك - بعد نقل القولين المذكورين -: والأول أقوى، خصوصا
في العذرات، للانتفاع بها في الزرع وغيره نفعا بينا مع طهارتها، وأما الأبوال فكذلك،
إن فرض لها نفع مقصود، وإلا فلا. انتهى.

(1) الوسائل ج 2 ص 1012 حديث: 15
75

ونقل جملة من المتأخرين عن الشيخ في النهاية تحريم جميع الأبوال وإن
كانت مما يؤكل لحمه، إلا بول الإبل للاستشفاء. وعبارته هنا لا تخلو من الاشكال،
فإنه قال: جميع النجاسات يحرم التصرف فيها، والتكسب بها، على اختلاف
أجناسها، من سائر أنواع العذرة والأبوال وغيرهما، إلا بول الإبل للاستشفاء به عند
الضرورة انتهى.
وهذا الكلام بالنظر إلى صدره يقتضي صرف الأبوال التي عدها، إلى أبوال
ما لا يؤكل لحمه كالعذرة، فإن غيرها ليس بنجس، وبالنظر إلى استثناء بول الإبل،
صرف الأبوال إلى الأبوال مطلقا وإن كانت مما لا يؤكل لحمه، وبالجملة فكلامه
هنا مشتبه كما ترى.
وقال سلار: يحرم بيع الأبوال إلا بيع أبوال الإبل خاصة، وهو قول المفيد،
كذا نقله في المختلف. وهو مؤذن بالمنع من بيع ما يؤكل لحمه إلا ما استثني. والظاهر
عندي هو ما ذكره في المسالك من الجواز متى كان لها منافع تترتب عليها، لعموم
خبري تحف العقول والفقه الرضوي (1).
أقول: والأصحاب في هذا المقام لم يذكروا من الأبوال التي دلت النصوص
على جواز شربها، من مأكول اللحم إلا أبوال الإبل خاصة، مع أنه قد وردت
الرخصة أيضا في بول البقر والنغم، كما رواه الشيخ في الموثق، عن عمار الساباطي
عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه سئل عن بول البقر يشربه الرجل؟ قال: إن كان محتاجا
إليه يتداوى به يشربه، وكذلك بول الإبل والغنم (2).
وما رواه سماعة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر

(1) تحف العقول ص 331. والوسائل ج 12 ص 54. ومستدرك الوسائل باب 2 من
أبواب ما يكتسب به، رقم: 1. فقه الرضا ص 33
(2) الوسائل ج 2 ص 1012 حديث: 15
76

والغنم، ينعت له من الوجع، هل يجوز له أن يشرب؟ قال: نعم لا بأس به (1).
ومما يدل على بول الإبل زيادة على الخبرين المذكورين، ما رواه في الكافي
بسنده عن موسى بن عبد الله بن الحسن، قال: سمعت أشياخنا يقولون: البان اللقاح
شفاء من كل داء وعاهة ولصاحب الربو أبوالها (2).
ونقل في الوسائل في هذا الباب ما رواه عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن
السندي بن محمد عن أبي البختري، عن جعفر عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا بأس
ببول ما أكل لحمه (3).
وأنت خبير بما فيه من الاجمال، لاحتمال كون نفي البأس باعتبار الطهارة،
لا باعتبار حل الشرب.
(الرابع): ما اشتملت عليه الأخبار المتقدمة من تحريم الميتة، وأن ثمنها سحت،
المراد به مما ينجس بالموت مما له نفس سائلة، فيشمل ما قطع مت جسده، حيا كان أو ميتا.
وأما تخصيص صاحب المسالك ومثله صاحب المعالم ذلك بجسد الميت دون الأجزاء،
فهو ضعيف، وقد تقدم البحث معهما في ذلك في كتاب الطهارة، في بحث النجاسات
وقد أوردنا جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة فيما ذكرناه.
وظاهر الأخبار وكلام الأصحاب، أن الطهارة والنجاسة دائرتان مدار حلول
الحياة وعدمه، فكل ما تحله الحياة يكون نجسا، ويكون الانتفاع به محرما وثمنه
سحتا، بمقتضى الأخبار المتقدمة، إلا أنه قد وقع الاشكال في ذلك في جلد الميتة،
باعتبار دلالة ما تقدم من الأخبار، في الموضع الأول على جواز الانتفاع به، وظاهر
الصدوق في الفقيه طهارته، لما رواه فيه من جواز جعل اللبن والسمن فيه، وكذا

(1) الوسائل ج 17 ص 88 حديث: 7
(2) الكافي ج 6 ص 338. وفي المصدر المطبوع: " ولصاحب البطن أبوالها "، غير أن نسخة الوسائل ج 17 ص 88 حديث: 4 موافقة للمتن.
(3) الوسائل ج 2 ص 1012 حديث: 17
77

الماء. وإليه يميل كلام صاحبي المدارك والمعالم، وهو أشد اشكالا. وقد تقدم
البحث معهم في ذلك في كتاب الطهارة وبينا حمل ما دل على ذلك على التقية.
والمشهور في كلام الأصحاب تحريم الاستصباح بما قطع من أليات الغنم، بناء
على ما ذكرناه من أنها ميتة، ولا ميتة لا ينتفع بشئ منها مما تحله الحياة.
ونقل الشهيد عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء، ثم قال: وهو
ضعيف، إلا أنه روى ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي، عن الرضا عليه السلام
قال: سألته عن رجل يكون له الغنم، يقطع من ألياتها وهي أحياء، أيصلح له أن
ينتفع بما قطع؟ قال: نعم، يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها (1).
وروى هذه الرواية أيضا الحميري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن
جده علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام مثله (2). والرواية المذكورة كما ترى
ظاهرة الدلالة في القول المذكور.
وظاهر شيخنا المجلسي - رحمة الله عليه - في البحار: الميل إلى العمل بهذه
الرواية، حيث قال - بعد نقل الخلاف في هذه المسألة -: والجواز عندي أقوى،
لدلالة الخبر الصحيح المؤيد بالأصل على الجواز، وضعف حجة المانع، إذ المتبادر
من تحريم الميتة تحريم أكلها، كما حقق في موضعه، والاجماع ممنوع انتهى.
وفيه: أنه - وإن كان المتبادر من الآية، وهي قوله تعالى " حرم عليكم الميتة "
إنما هو تحريم الأكل كما ذكره - إلا أن الدليل ليس منحصرا فيها بل الدليل على
ذلك: إنما هو الأخبار الصريحة في أن الميتة لا ينتفع بشئ منها.
ومن تلك الأخبار ما هو في خصوص موضع البحث، وها أنا أورد لك ما حضرني
الآن منها، فمنها: ما رواه في الكافي عن الحسن بن علي الوشاء، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام
فقلت: جعلت فداك، إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم، فيقطعونها. فقال:
حرام هي. فقلت: جعلت فداك، فنصطبح بها؟ فقال: أما عملت أنه يصيب اليد والثوب،

(1) السرائر ص 469
(2) قرب الإسناد ص 115
78

وهو حرام (1) وقوله: وهو حرام أي نجس.
وعن الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام، وأنا عنده عن قطع أليات الغنم،
فقال: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثم قال: إن في كتاب علي عليه السلام: إن
ما قطع منها ميت لا ينتفع به (2).
ومنها: ما في صحيح علي بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك
الميتة ينتفع منها بشئ؟ فقال لا. الحديث (3). ومن المحتمل قريبا في الحديث
المذكور خروجه مخرج التقية، كما أنهم ذهبوا إلى طهارة جلد الميتة بالدباغ،
حسبما قدمنا تحقيقه في كتاب الطهارة.
وابن إدريس - في السرائر - لما أورد خبر البزنطي المذكور، قال: لا يلتفت
إلى هذا الحديث، فإنه من نوادر الأخبار، والاجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف
فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر. انتهى.
وأما ما لا تحله الحياة منها فهو طاهر يجوز الانتفاع به ويحل بيعه وشراؤه
اتفاقا، نصا وفتوى، إلا اللبن في ضرع الشاة الميتة، فقد اختلف الأصحاب فيه طهارة
ونجاسة، فالمشهور: أنه كغيره مما لا تحله الحياة، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك
في كتاب الطهارة.
(الخامس): لا خلاف بين الأصحاب - رضي الله عنهم - في جواز بيع كلب
الصيد وعدم جواز بيع ما عداه، وعدا كلب الماشية والزرع والحائط، وإنما الخلاف
في هذه الثلاثة، فقال الشيخ في النهاية: ثم الكلب سحت إلا إذا كان سلوقيا للصيد،
فإنه يجوز بيعه وشراؤه وأكل ثمنه والتكسب به، وكذا قال المفيد.
وقال في المبسوط: الكلاب ضربان، أحدهما لا يجوز بيعه بحال، والآخر

(1) الكافي ج 6 ص 255 حديث: 3
(2) الكافي ج 6 ص 255 حديث: 1
(3) الوسائل ج 2 ص 1080 حديث: 2
79

يجوز ذلك فيه. فما يجوز بيعه: ما كان معلما للصيد، وروي أن كلب الماشية والحايط
مثل ذلك، وما عدا ذلك كله لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به.
وقال في الخلاف: يجوز بيع كلاب الصيد، ويجب على قاتلها قيمتها إذا
كانت معلمة ولا يجوز بيع غير الكلب المعلم على حال.
قال في - المنتهى بعد نقل عبارة الشيخ في النهاية وكذا الشيخ المفيد - عطر الله
مرقديهما -: وعنى بالسلوقي كلب الصيد، لأن سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلمة
فنسب الكلب! إليها انتهى. ومنه يظهر مراد الشيخ بهذه العبارة، وأنها خرجت مخرج
التجويز والكناية عن كلب الصيد، لا تخصيص الحكم بما كان من كلاب تلك القرية،
وبنحو ما عبر به الشيخ وقع التعبير في الأخبار أيضا، كما في جملة منها " دية
الكلب السلوقي أربعون درهما " والمراد كلب الصيد، سواء كان من هذه القرية
أو من غيرها.
وقال ابن الجنيد: ولا بأس بشراء الكلب الصائد والحارس للماشية والزرع.
وقال ابن البراج: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره من الكلاب.
وقال ابن إدريس: ويجوز بيع كلب الصيد، سواء كان سلوقيا وهو المنسوب
إلى " سلوق " قرية باليمن، أو غير سلوقي. وكلب الزرع والماشية. وكلب الحايط
وبه قال ابن حمزة.
قال في المختلف: وهو الأقرب عندي ونحو ذلك في المنتهى أيضا واختاره
في المسالك أيضا.
وألحق بكلب الحائط كلب الدار أيضا. وتردد المحقق في الشرايع، ثم
قال: والأشبه المنع.
ونقل في المنتهى عن الشيخ في باب الإجارة من المبسوط: أنه سوغ بيعها،
وحينئذ فيكون كلامه في الكتاب المذكور مختلفا.
أقول: والذي وصل إلينا من الأخبار المتعلقة بالكلب في هذا الباب، متفق
80

الدلالة، متعاضد المقالة: على تخصيص الجواز بكلب الصيد خاصة، وأن ما عداه
ثمنه سحت. ومنها رواية ابن بصير المتقدمة.
ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الله العامري، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
ثمن الكلب الذي لا يصيد، فقال: سحت. قال: وأما الصيود فلا بأس (1).
ومنها: ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبي
عبد الله عن أبي عبد الله - عليه السلام -، قال: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، وقال: لا بأس
بثمن الهر (2).
وعن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ثمن كلب الصيد؟ فقال:
لا بأس بثمنه، والآخر لا يحل ثمنه (3).
وهذه الأخبار كلها - كما ترى - متفقة على ما ذكرناه من أن ما عدا كلب الصيد،
فإنه لا يجوز بيعه ولا شراؤه، ولم أقف على خبر يتضمن استثناء غيره، سوى ما في
عبارة المبسوط من قوله " وروي أن كلب الماشية والحائط مثل ذلك " وفي الاعتماد
على مثل هذه الرواية في تخصيص هذه الأخبار اشكال.
وأصحابنا القائلون باستثناء الثلاثة المذكورة، إنما استندوا إلى مشاركة هذه
الثلاثة لكلب الصيد في المنفعة التي يترتب عليها استثناؤه، وهو من حيث العقل قريب.
إلا أن ظواهر النصوص المذكورة - كما ترى - تدفعه.
قال في المسالك: والأصح جواز بيع الكلاب الثلاثة لمشاركتها كلب الصيد
في المعنى المسوغ لبيعه، ودليل المنع ضعيف السند وقاصر الدلالة.
وفيه: أنه يجوز أن يكون المسوغ - شرعا - إنما هو هذه المنفعة الخاصة
بكلب الصيد، فمن ثم اقتصروا - عليهم السلام - في هذه الأخبار عليها، لا كل منفعة.

(1) الوسائل ج 12 ص 83 حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 83 حديث: 3
(3) الوسائل ج 12 ص 83 حديث: 5
81

وأما الطعن في الأخبار بضعف، السند، فقد عرفت أن فيها الصحيح باصطلاحهم، وهو
صحيحة محمد بن مسلم وعبد الرحمان المذكورة. وأما الطعن بقصور الدلالة، فهو
ضعيف إذ لا أصرح في الدلالة على التحريم من هذه الألفاظ الواردة في هذه الأخبار،
من قولهم في جملة منها: " إن ثمنه سحت ". وقوله في رواية أبي بصير " والآخر
لا يحل ثمنه ".
واستدل العلامة في المنتهى على إباحة الثلاثة الباقية - زيادة على ما تقدم -
بأن لهادية وقيمة لو أتلفت - على ما يأتي انشاء الله - والدية تستلزم التملك المستلزم
لجواز التصرف.
وفيه: ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، حيث قال: وربما فهم بعضهم
من ثبوت دياتها جواز بيعها، نظرا إلى أنها أموال محترمة كما في الحيوانات.
وفيه: منع ظاهر، فإن ثبوت الديات لها ربما دل على عدم جواز بيعها، التفاتا إلى
أن ذلك في مقابلة القيمة، فإنك تجد كل ما له دية لا قيمة له، كما في الحر. وما له
قيمة لا دية له، كما في الحيوان المملوك، غير الآدمي انتهى، وهو جيد.
وبالجملة فالظاهر هو الاقتصار على ما دلت عليه الأخبار المذكورة والله العالم.
(السادس): ظاهر المشهور بين الأصحاب: أنه لا بأس ببيع الهرة وحل
ثمنها، وعليه تدل صحيحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن المتقدمة (1).
قال في المسالك: وأما الهرة فنسب جواز بيعها في التذكرة إلى علمائنا وهو
يعطي الاتفاق عليها انتهى.
ونقل في المختلف عن ابن البراج: أنه قال: من باع هرة فليتصدق بثمنها،
ولا يتصرف فيه في غير ذلك، ثم قال: والوجه عدم وجوب ذلك. لنا أنها مملوكة
فكان الثمن ملكه كغيرها. انتهى وهو جيد. للصحيح المذكور.

(1) الوسائل ج 12 ص 83 حديث: 3
82

المسألة الثانية
لا يحل بيع المايع النجس نجاسة عارضة، لنجاسته المانعة من جواز
الانتفاع به.
على المشهور بين الأصحاب، عدا الدهن للاستصباح، لورود الأخبار به.
وهو مبني على عدم قبول تلك المايعات للتطهير، كما هو الأشهر الأظهر،
وأما على القول بقبولها للطهارة فإنه يجوز بيعها مع الاعلام.
قال: في المسالك - بعد قول المصنف بتحريم كل مايع نجس عدا الأدهان
لفائدة الاستصباح بها تحت السماء - ما لفظه: بناء على أن المايعات النجسة لا تقبل
التطهير بالماء، فإنه أصح القولين. ولو قلنا بقبولها الطهارة جاز بيعها مع الاعلام
بحالها، ولا فرق في عدم جواز بيعها - على القول بعدم قبولها للطهارة - بين صلاحيتها
الانتفاع على بعض الوجوه وعدمها، ولا بين الاعلام وعدمه، على ما نص عليه الأصحاب
وغيرهم انتهى.
أقول: وقد تقدم البحث في قبولها الطهارة وعدمه في كتاب الطهارة، وبينا:
أن الظاهر هو العدم بالنسبة إلى الدهن، وأما غيره فإنه لا يقبل الطهارة إلا باضمحلاله
83

في الماء على وجه يخرج عن حقيقته وماهيته، وهذا لا يسمى في الحقيقة تطهيرا.
وظاهر الكفاية: المناقشة في الحكم المذكور، حيث قال: والمعروف أن
المايعات التي لا تقبل التطهير لا يجوز بيعها سوى الأدهان لفائدة الاستصباح. ونقل
في المنتهى الاجماع عليه، ولا حجة لذلك سواه - إن تم - وعموم الأدلة مع حصول
الانتفاع بها يقتضي الجواز، انتهى وهو جيد.
وأما بيع الأدهان لفائدة الاستصباح فظاهر الأصحاب: الاتفاق عليه، وعليه
تدل الأخبار الآتية، وظاهره أيضا الاتفاق على تخصيص ذلك بالدهن المتنجس،
دون ما كان نجسا من أصله كالأليات المقطوعة من الغنم.
قال في المسالك - بعد نقل الخلاف في تخصيص الاستصباح بكونه تحت
السماء أو عمومه - ما لفظه: وموضع الخلاف ما إذا كان الدهن متنجسا بالعرض،
فلو كان نفسه نجسا كالأليات الميتة والمبانة من حي، لا يصح الانتفاع به مطلقا،
لاطلاق النهي عن استعمال الميتة. ونقل عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء
وهو ضعيف، انتهى.
أقول: وقد تقدم من الأخبار ما يدل على كلام العلامة المذكور هنا، واختيار
شيخنا المجلسي. وهو أيضا ظاهر صاحب الكفاية، حيث نقل الروايتين المتقدمتين
الدالتين على ذلك، بعد أن تنظر فيما ذكره في المسالك، وأيدهما بحسنتي الحلبي (1)
الواردتين في قطع اللحم المختلط ذكيه بميته، وصحيحة حفص بن البختري (2) في
العجين بالماء النجس.
أقول ويؤيده أيضا روايتا الصيقل المتقدمتان (3) في الموضع الأول.

(1) الوسائل ج 12 ص 68 حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 68 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 68 حديث: 3
84

والمسألة لذلك قوية الاشكال، لتعارض هذه الأخبار الواردة في هذا المجال.
بقي الكلام في أنه هل يجب كون الاستصباح به تحت السماء، فلا يجوز تحت
الظلال أم لا؟ ظاهر كلامهم: الأول. فنقل في المختلف عن الشيخين وابن البراج:
أن الدهن إذا وقعت فيه نجاسة، جاز الاستصباح به، فإن دخانه يكون طاهرا ولا يكون
نجسا، لأن الأصل الطهارة وبراءة الذمة، والحكم بالنجاسة وشغل الذمة يحتاج
إلى دليل.
وقال في المبسوط: الأدهان إذا ماتت فيها فأرة تنجس، ويجوز عندنا وجماعة
الاستصباح به في السراج، ولا يؤكل ولا ينتفع به في غير الاستصباح، وفيه خلاف.
وروى أصحابنا: أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف، وهذا يدل على أن دخانه
نجس، غير أن عندي أن هذا مكروه، فأما دخانه ودخان كل نجس من العذرة وجلود
الميتة والسرجين والبعر وعظام الموتى عندنا ليس بنجس. وأما ما يقطع بنجاسته
قال قوم: دخانه نجس. وهو الذي قدمناه من رواية أصحابنا. وقال آخرون - وهو
الأقوى - أنه ليس بنجس.
وقال ابن إدريس: يجوز الاستصباح به تحت السماء، ولا يجوز الاستصباح
به تحت الظلال، لا لأن دخانه نجس، بل تعبدا، لأن دخان الأعيان النجسة ورمادها
طاهر عندنا بغير خلاف بيننا. ثم نقل كلام المبسوط، ثم قال: قوله: روى أصحابنا
أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف، هذا يدل على أن دخانه نجس، غير أن
عندي أن هذا مكروه. ويريد به الاستصباح تحت السقف.
قال محمد بن إدريس: ما ذهب أحد من أصحابنا إلى أن الاستصباح به تحت
الظلال مكروه، بل محظور بلا خلاف منهم، وشيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في
جميع كتبه، إلا ما ذكره ها هنا، والأخذ بقوله وقول أصحابنا أولى من الأخذ بقوله
المنفرد عن قول أصحابنا انتهى.
85

واعترضه العلامة في المختلف، فقال - بعد نقل كلامه -: وهذا الرد على
شيخنا جهل منه وسخف، فإن الشيخ - رضوان الله عليه - أعرف بأقوال علمائنا،
والمسائل الاجماعية والخلافية، والروايات الواردة هنا في التهذيب مطلقة غير مقيدة
بالسماء، ثم ساق صحيحة معاوية بن وهب وصحيحة زرارة الآتيتين انشاء الله تعالى،
ثم قال: وكذا باقي الأحاديث، ثم قال: إذا عرفت هذا فنقول: لا استبعاد
فيما ذكره شيخنا في المبسوط من نجاسة دخان الدهن النجس، لبعد
استحالة كله، بل لا بد أن يتصاعد من أجزائه قبل إحالة النار لها، فتثبت السخونة
المكتسبة من النار إلى أن يلقى الظلال، فتتأثر بنجاسته ولهذا منعوا عن الاستصباح به تحت الظلال، فإن هذا القيد مع طهارته لا يجتمعان، لكن الأولى: الجواز مطلقا،
للأحاديث، ما لم يعلم أو يظن بقاء شئ من أجزاء أعيان الدهن، فلا يجوز الاستصباح به
تحت الظلال انتهى.
أقول: والواجب أولا نقل الأخبار، ثم الكلام فيها.
فمنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر
- عليه السلام - قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه، فإن كان جامدا
فألقها وما يليها وكل ما بقي، وإن كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به، والزيت مثل
ذلك (1).
ومنها ما رواه أيضا الكليني والشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب عن أبي
عبد الله عليه السلام، قال: قلت له. جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل، فقال: أما السمن
فيؤخذ الجرذ وما حوله، والزيت يستصبح به، وزاد في رواية التهذيب، وقال في
بيع ذلك الزيت: بعه وبينه لمن يشتريه ليستصبح به (2).

(1) الوسائل ج 12 ص 66 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 66 حديث: 1 و 4
86

ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن سعيد الأعرج - وساق الخبر - إلى أن قال:
وعن الفأرة تموت في الزيت، فقال: لا تأكله ولكن أسرج به (1).
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفأرة
والدابة تقع في الطعام والشرب فتموت فيه، فقال: إن كان سمنا أو عسلا أو زيتا فإنه
ربما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله وكله، وإن كان الصيف فارفعه حتى
تسرج به الحديث (2).
وعن سماعة في الموثق قال سألته عن السمن تقع فيه الميتة، فقال: إذا كان
جامدا فألق ما حوله وكل الباقي. وقلت: الزيت؟ فقال: أسرج به (3).
وعن أبي بصير في الموثق، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفأرة تقع في
السمن أو في الزيت فتموت فيه، فقال: إن كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل
ما بقي، وإن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته (4).
ومنها: ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد عن محمد بن خالد
الطيالسي، عن إسماعيل بن عبد الخالق، قال: سأله سعيد الأعرج السمان وأنا حاضر،
عن السمن والزيت والعسل، تقع فيه الفأرة فتموت، كيف يصنع به؟ فقال: أما
الزيت فلا تبعه، إلا لمن تبين له، فيبتاع للسراج، وأما الأكل فلا. وأما السمن فإن
كان ذائبا فهو كذلك، وإن كان جامدا والفأرة في أعلاه، فيؤخذ ما تحتها وما حولها،
ثم لا بأس به، والعسل كذلك أن كان جامدا (5).

(1) الوسائل ج 16 ص 462 حديث: 4
(2) الوسائل ج 16 ص 462 حديث: 3
(3) الوسائل ج 16 ص 462 حديث: 5
(4) الوسائل ج 12 ص 66 حديث: 3
(5) الوسائل ج 12 ص 67 حديث: 5
87

ومنها: ما رواه الراوندي في كتاب النوادر، بسنده فيه عن موسى بن جعفر
عليه السلام، في حديث قال: وسئل عن الزيت يقع فيه شئ له دم فيموت، فقال: يبيعه
لمن يعمله صابونا (1).

(1) مستدرك الوسائل ج 1 ص 163 حديث: 8
88

فوائد
(الأولى): هذه الروايات - على كثرتها - لا اشعار في شئ منها، فضلا
عن التصريح، بما ذكروه من تقييد الجواز بالاستصباح تحت السماء، والمنع من
كونه تحت الظلال، حتى ذهب من ذهب إلى نجاسة دخانه لذلك كما عرفته من كلام
الشيخ في المبسوط، أو أن ذلك محض تعبد كما ذكره في المختلف عن ابن إدريس.
فإن الكل نفخ في غير ضرام، ونزاع لا أصل له في أخبارهم عليهم السلام. وقد صرح
بمثل ما ذكرنا في المسالك (1).
(الثانية): المفهوم من كلام الأصحاب تخصيص الانتفاع بالدهن بصورة
الاستصباح خاصة فلا يتعدى إلى غيرها، بناء على تحريم الانتفاع بالنجس مطلقا،
خرج منه ما وردت به أخبار الاستصباح المذكورة، فيبقى ما عداه.
قال في المسالك: وأما الأدهان النجسة عارضية، كالزيت تموت فيه

(1) حيث قال: والمشهور بين الأصحاب تقييد جواز الاستصباح بها بكونه تحت السماء،
بل ادعى عليه ابن إدريس في السرائر الاجماع. وفي الحكم بالتخصيص نظر، وفي دعوى
الاجماع منع، والصحيحة مطلقة، والمقيد لها بحيث يجب الجمع بينهما غير معلوم، فالقول
بالجواز متجه، وإليه ذهب الشيخ في المبسوط، والعلامة في المنتهى. انتهى منه قده.
89

الفأرة، فيجوز بيعها لفائدة الاستصباح بها. وإنما خرج هذا الفرد بالنص، وإلا لكان
ينبغي مساواتها لغيرها من المايعات النجسة، التي يمكن الانتفاع بها بعض الوجوه،
وقد ألحق بعض الأصحاب ببيعها للاستصباح ببيعها ليعمل صابونا، أو ليدهن بها الأجرب
ونحو ذلك، ويشكل بأنه خروج عن موضع النص المخالف للأصل، فإن جاز،
لتحقق المنفعة، فينبغي مثله في المايعات النجسة التي ينتفع بها، كالدبس يطعم النحل
ونحوه انتهى.
أقول: يمكن أن يقال: إن ذكر الاستصباح في هذه الأخبار إنما خرج مخرج
التمثيل لا الحصر، حيث إنه أظهر وجوه الاستعمالات واعم فوائدها، كما أن تخصيص
المنع بالأكل فيها غير دال على الحصر فيه. ويؤيده ذلك خبر الراوندي الدال على عمله
صابونا، كما ذهب إليه البعض الذي نقل عنه ذلك. ولعله استند إلى الخبر المذكور،
على أنه لم يقم هنا - أعني بالنسبة إلى ما نجاسته عارضية في المايعات - ما يدل
على عموم المنع من الانتفاع به، والأصل وعموم الأدلة يؤيد ما ذكرناه.
وإليه مال - أيضا - شيخنا المجلسي في البحار، وقبله الفاضل في الذخيرة و
الله العالم.
(الثالثة): لا يخفى أنه على تقدير القول بوجوب الاستصباح بالدهن النجس
تحت السماء، فإن الظاهر كون ذلك تعبدا شرعيا، كما ذكره ابن إدريس، لا لنجاسة
دخانه، كما دل عليه كلام الشيخ المتقدم، والعلامة في المختلف، لما تقدم تحقيقه
في كتاب الطهارة، من طهارة الدخان والرماد، وإن كانا من النجاسات العينية.
وما ذكره العلامة هنا من التعليل، ضعيف عليل ومحض تخرص لا يروي الغليل.
وأصالة العدم أظهر ظاهر في رده.
(الرابعة) قد دل صحيح معاوية بن وهب، وموثق أبي بصير، وخبر قرب الإسناد على الأمر بالاعلام إذا أراد بيعه، وحينئذ فلو باعه من غير اعلام فالظاهر

(1) تقدمة الروايات في ص 87
90

- على قواعد الأصحاب - هو صحة البيع، وإن أثم بمخالفة الأمر بالاعلام ويتخير المشتري
بعد العلم.
واستشكل الجواز في المسالك، بناء على تعليله بالاستصباح. قال: فإن مقتضاه
الاعلام بالحل، والبيع لتلك الغاية.
أقول: وتوضيحه: أن الشارع إذا كان إنما جوز البيع لفائدة الاستصباح خاصة
فإذا لم يعلمه يكون قد اشتراه لغير تلك الفائدة، وهي محرمة، والبيع للفائدة المحرمة
حرام، فيكون باطلا.
وفيه: ما لا يخفى، فإن الشئ إذا كان له في حد ذاته منافع عديدة، منها ما هو
محرم، ومنها ما هو محلل، لا يجب في البيع قصد منفعة من المنافع المحللة، وإلا لبطل
البيع في أكثر المبيعات وهي لا تخلو من المنافع المحرمة، كما لا يخفى.
وكيف كان، فهو على تقدير تسليمه لا يجري فيما اخترناه مما قدمنا ذكره، من
جواز البيع، لأي منفعة تترتب على ذلك.
وظاهر هذه الأخبار وجوب الأخبار بالنجاسة متى أريد بيعه، مع أنه قد تقدم
تحقيقه في كتاب الطهارة من الأخبار، ما ظاهره كراهة الأخبار، لا سيما موثقة ابن بكير،
الدالة على جواز إعارة الثوب الذي لا يصلي فيه، لمن يصلي فيه (1)، وصحيحة محمد
ابن مسلم، الدالة على أن من رآى في ثوب أخيه دما وهو يصلي لا يعلمه، حتى ينصرف من
صلاته (2).
ويؤيده ما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة، من أن الطهارة والنجاسة والحل والحرمة
ليست من الأحكام النفس الآمرية، وإنما هي بالنظر إلى علم المكلف بنجاسته، لا ما كان
كذلك في الواقع.
وحينئذ فهذا الدهن، وإن كان نجسا، باعتبار علم البايع، إلا أنه بالنظر

(1) الوسائل ج 2 ص 1069 حديث: 3
(2) الوسائل ج 2 ص 1069 حديث: 1
91

إلى المشتري غير العالم طاهر، والجمع بين الأخبار في هذا المقام لا يخلو عن
اشكال.
نعم لو قلنا بأن النجاسة من الأحكام النفس الآمرية، كما هو ظاهر الأصحاب،
اتجه القول بهذه الأخبار على ظاهرها.
لكن قد تقدم التحقيق في كتاب الطهارة، بأن الأمر ليس كذلك، بل هي إنما بالنظر
إلى علم المكلف، كما يدل عليه جملة من الأخبار المذكورة ثمة ومنها الموثقة و
الصحيحة المذكورتان والله العالم.
92

المقام الثاني
فيما لا ينتفع به كالسباع والمسوخ
والمشهور في كلام المتقدمين تحريم التجارة في السباع والمسوخ.
قال المفيد - عليه الرحمة -: التجارة في القردة والسباع والفيلة والذئبة وسائر المسوخ
حرام، وأكل أثمانها حرام، والتجارة في الفهود والبزاة وسباع الطير، التي بها
يصاد حلال. وكذا حرم الشيخ في النهاية: بيع سائر المسوخ وشراءها والتجارة فيها
والتكسب بها، مثل القردة والفيلة والذئبة وغيرها من أنواع المسوخ، وبيع جميع
السباع، والتصرف فيها، والتكسب بها محظور، إلا الفهود خاصة منها تصلح
للصيد.
وقال سلار: يحرم بيع القردة والسباع والفيلة والذئاب.
وقال في المبسوط: الحيوان الذي هو نجس العين كالكلب والخنزير وما تولد
منهما وجميع المسوخ، وما تولد من ذلك أو من أحدهما، فلا يجوز بيعه ولا إجارته
ولا الانتفاع به، ولا اقتناؤه، بحال، اجماعا، إلا الكلب. ثم قال: والظاهر أن غير
مأكول اللحم مثل الفهد والنمر والفيل وجوارح الطير مثل الصقور والبزاة والشواهين
93

والعقبان والأرانب والثعالب وما أشبه ذلك، فهذا كله يجوز بيعه، وإن كان مما
لا ينتفع به فلا يجوز بيعه، بلا خلاف مثل الأسد والذئب.
وقال ابن أبي عقيل: جميع ما يحرم بيعه وشراؤه ولبسه عند آل الرسول
- عليهم السلام - بجميع ما ذكرنا من الأصناف التي يحرم أكلها، من السباع والطير
والسمك والثمار والنبات والبيض.
وقال ابن الجنيد: لا خير فيما عدا الصيود والحارس من الكلاب، وفي سائر
المسوخ، واختار في أثمان ما لا يؤكل لحمه من السباع والمسوخ أن لا يصرف بائعه
ثمنه في مطعم أو مشرب له ولغيره من المسلمين.
وقال ابن البراج: لا يجوز بيع ما كان مسخا من الوحوش. ويجوز بيع جوارح
الطير والسباع من الوحوش.
وقال ابن إدريس في سرائره - بعد نقل عبارة النهاية -: قال محمد بن إدريس:
قوله - عليه الرحمة -: والفيلة والذئبة. فيه كلام. وذلك أن ما جعل الشارع وسوغ
الانتفاع به فلا بأس ببيعه وابتياعه لتلك المنفعة، وإلا يكون قد حلل وأباح وسوغ
شيئا غير مقدور عليه، وعظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن وأمشاطا وغير
ذلك، والذئب ليس بنجس السور بل هو من جملة السباع، فعلى هذا جلده بعد ذكاته
ودباغه طاهر انتهى.
والظاهر: أنه على هذه المقالة نسج المتأخرون كالفاضلين ومن تأخر عنهما،
فإنهم جعلوا مناط الجواز طهارة العين وحصول المنفعة بجلد أو شعر أو ريش أو عظم
أو نحو ذلك.
قال في المختلف - بعد نقل الأقوال التي قدمنا ذكرها -: والأقرب الجواز
لنا: أنه عين طاهرة ينتفع بها، فجاز بيعها. أما أنها عين طاهرة فلأنا قد بينا فيما سلف
طهارة المسوخ، وأما الانتفاع بها فلأنها ينتفع بجلودها وعظامها، وأما جواز بيعها
حينئذ فللمقتضي، وهو عموم قوله تعالى " أحل الله البيع " وزوال المانع. وهو
94

النجاسة، إلى آخر كلامه زيد مقامه.
وهو المختار الذي تعضده الأخبار الجارية في هذا المضار، وهو التي عليها
الاعتماد في الإيراد والاصدار.
ومنها: ما رواه في الكافي في الصحيح عن العيص بن القاسم، قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن الفهود وسباع الطير، هل يلتمس التجار فيها؟ قال: نعم (1). ورواه
الشيخ في الصحيح مثله.
وما رواه الشيخان المذكوران عن عبد الحميد بن سعيد، قال: سألت أبا إبراهيم
عليه السلام عن عظام الفيل، يحل بيعه أو شراؤه، الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: لا بأس،
قد كان لي منها مشط أو أمشاط (2).
وما رواه في الكافي عن موسى بن يزيد قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام يمتشط
بمشط عاج، واشتريته له (3).
وما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه، قال: سألته عن جلود السباع وبيعها
وركوبها أيصلح ذلك؟ قال: لا بأس، ما لم يسجد عليها (4).
وما رواه الشيخ عن أبي مخلد، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه
معتب، فقال له: بالباب رجلان، فقال: ادخلهما فدخلا، فقال أحدهما: إني رجل
سراج، أبيع جلود النمر، فقال: مدبوغة هي؟ قال: نعم. قال: ليس به بأس (5).

(1) الوسائل ج 12 ص 123 حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 123 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 123 حديث: 3
(4) الوسائل ج 12 ص 124 حديث: 5
(5) الوسائل ج 12 ص 124 حديث: 1 قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين:
هذا الخبر يدل مذهب من قال بعدم جواز استعمال جلود ما لا يؤكل لحمه بدون الدباغة، ويمكن
الحمل على الكراهة. منه قدس سره.
95

وما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام، قال، سألته عن
لحوم السباع وجلودها؟ فقال: أما لحوم السباع، والسباع من الطير فإنا نكرهه وأما الجلود
فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون فيه (1).
وعن سماعة - أيضا - عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن لحوم السباع
وجلودها؟ قال: أما لحوم السباع فمن الطير والدواب فإنا نكره، وأما الجلود
فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئا تصلون فيه (2).
وما رواه علي بن أسباط عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام، قال: سألته عن ركوب
جلود السباع؟ قال: لا بأس ما لم يسجد عليها (3).
وما رواه البرقي (في المحاسن) عن سماعة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن جلود
السباع؟ فقال: اركبوا ولا تلبسوا شيئا تصلون فيه (4).
وهذه الأخبار - كما ترى - ظاهرة الدلالة في كون السباع قابلة للتذكية،
لإفادتها جواز الانتفاع بجلودها، لطهارتها، فيجوز بيعها وشراؤها.
نعم ورد النهي عن القرد، كما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن مسمع
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القرد أن يباع أو يشترى (5)
فيمكن استثناء القرد بهذه الرواية من عموم الجواز المدلول عليه بالأصل والآية
والرواية، مع احتمال حملها على الكراهة.
ولم نقف للقائلين بالتحريم، على دليل يعتد به، إلا أن يكون ما ذهب إليه
الشيخ، من نجاسة المسوخ، وهو الذي نقله العلامة في المختلف.

(1) الوسائل ج 3 ص 256 حديث: 3 و 4
(2) الوسائل ج 3 ص 256 حديث: 3 و 4
(3) الوسائل ج 3 ص 256 حديث: 5
(4) الوسائل ج 3 ص 256 حديث: 3 و 4
(5) الوسائل ج 12 ص 124 حديث: 4
96

قال: احتج المانعون بأنها نجسة فيحرم بيعها، وبما رواه مسمع، ثم ساق
الخبر المذكور، ثم قال: والجواب: المنع من النجاسة. وقد تقدم، وعن الحديث
بالمنع من صحة السند، والحمل على الكراهة جمعا بين الأدلة.
ومن هذا الباب في المنع: الحشرات، والجري، والطافي من السمك، وهو
ما مات في الماء ثم طفى على وجهه، والضفادع، والسلاحف. كذا صرح به جملة
من الأصحاب.
97

المقام الثالث
فيما هو محرم في نفسه
كعمل الصور، والغناء، ومعونة الظالمين بما يحرم، ونوح النائحة بالباطل،
وحفظ كتب الضلال ونسخها لغير النقص، وهجاء المؤمنين، وتعلم السحر والكهانة،
والقيافة، والشعبدة، والقمار، والغش بما يخفى، وتدليس الماشطة، وتزين الرجل
بما يحرم عليه. فها هنا مسائل:
الأولى: في عمل الصور.
لا خلاف بين الأصحاب - رضي الله عنهم - في تحريم التماثيل في الجملة،
فظاهر جملة منهم: التصريح بتحريم التماثيل المجسمة وغيرها، من المنقوش على
جدار أو بساط أو نحو ذلك. وظاهر بعض: التخصيص بالمجسمة من ذوات الأرواح.
وآخرين بالمجسمة من ذوات الأرواح وغيرها. وظاهر بعض: التخصيص بذوات
الأرواح مطلقا، مجسمة أو غير مجسمة.
والأول، نقله في المختلف عن ابن البراج، وظاهر أبي الصلاح. ونقل الثالث،
عن الشيخين وسلار، والرابع عن ابن إدريس، والثاني، نقله في المسالك،
98

ولم يذكر قائله.
والذي وقفت عليه من الأخبار، في هذا المقام، ما رواه الكافي في الصحيح
عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام، في قوله تعالى " يعلمون له ما يشاء من محاريب
وتماثيل " فقال: والله ما هي تماثيل الرجال، والنساء، ولكنها الشجر و
شبهه (1).
وعن أبي العباس قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: يعملون له ما يشاء من محاريب
وتماثيل وجفان كالجواب قال: ما هي تماثيل الرجال والنساء، لكنها تماثيل الشجر
وشبهه (2).
وعن جعفر بن بشير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: كانت لعلي بن الحسين
وسائد وأنماط فيها تماثيل يجلس عليها (3).
وعن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: لا بأس بتماثيل
الشجر (4).
وعن محمد بن مسلم في الصحيح قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن تماثيل الشجر
والشمس والقمر؟ فقال: لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان (5).
وما رواه الشيخ عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: إنا
نبسط عندنا الوسائد، فيها التماثيل ونفترشها؟ فقال: لا بأس بما يبسط منها ويفترش
ويوطأ، وإنما يكره منها ما نصب على الحائط وعلى السرير (6).

(1) الوسائل ج 12 ص 320 حديث: 1
(2) الوسائل ج 3 ص 561 حديث: 6
(3) الوسائل ج 3 ص 564 حديث: 4
(4) الوسائل ج 12 ص 220 حديث: 2
(5) الوسائل ج 12 ص 220 حديث: 3
(6) الوسائل ج 12 ص 220 حديث: 4
99

وما رواه الصدوق في بن زيد، عن الصادق عليه السلام،
قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التصاوير، وقال: من صور صورة كلفه الله تعالى يوم
القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ، ونهى أن يحرق شئ من الحيوان، ونهى عن التختم
بخاتم صفر أو حديد، ونهى أن ينقش شئ من الحيوان على الخاتم (1).
وما رواه في الخصال عن محمد بن مروان عن الصادق عليه السلام، قال: سمعته يقول:
ثلاثة يعذبون يوم القيامة: من صور صورة من الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها وليس
بنافخ فيها - الحديث (2).
وعن ابن عباس، قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صور صورة عذب وكلف أن ينفخ
فيها وليس بنافخ (3).
أقول: ظاهر هذه الأخبار - بعد حمل مطلقها على مقيدها -: هو تخصيص التحريم
بتصوير صورة ذوي الروح، أعم من أن يكون مجسمة أو منقوشة على جدار وشبهه.
وهذا هو القول الرابع من الأقوال المتقدمة، وهو قول ابن إدريس.

(1) الوسائل ج 12 ص 220 حديث: 6
(2) الوسائل ج 12 ص 221 حديث: 7
(3) الوسائل ج 12 ص 221 حديث: 9
100

المسألة الثانية
(في الغناء - بالمد ككساء -) قيل: هو مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، فلا يحرم بدون
الوصفين، أعني الترجيع والاطراب، كذا عرفه جماعة من الأصحاب، والطرب:
خفة تعتريه تسره أو تحزنه.
ورده بعضهم إلى العرف، فما سمي فيه غناء يحرم وإن لم يطرب. واختاره
في المسالك وغيره، وهو المختار (1) ولا خلاف في تحريمه فيما أعلم.
ولا فرق في ظاهر كلام الأصحاب، بل صريح جملة منهم، في كون ذلك في
قرآن أو دعاء أو شعر أو غيرها، إلى أن انتهت النوبة إلى المحدث الكاشاني فنسج في هذا

(1) أقول: وممن صرح بما اخترناه هنا الفاضل المولى محمد صالح المازندراني في
شرح الأصول، حيث قال - بعد الكلام في الغناء -: وعرفه جماعة من أصحابنا بالترجيع
المطرب، فلا تتحقق ماهيته بدون الترجيع والاطراب، ولا يكفي أحدهما. ورده بعضهم إلى العرف
فما سماه أهل العرف غناء حرام، أطرب أم لم يطرب، ولا يخلو من قوة، لأن الشائع في مثله
مما لم يعلم معناه لغة ولم يظهر المقصود منه شرعا هو الرجوع إلى العرف. منه قدس سره
101

المقام على منوال الغزالي ونحوه من علماء العامة، فخص الحرام منه بما اشتمل
على محرم من خارج، مثل اللعب بآلات اللهو كالعيدان، ودخول الرجال، والكلام
بالباطل، وإلا فهو في نفسه غير محرم.
وما ذكره وإن أوهمه بعض الأخبار، إلا أن الحق فيه ليس ما ذهب إليه واعتمد في هذا
الباب عليه، وإن كان قد تبعه في ذلك أيضا صاحب الكفاية، وهو - كما ستعرف -
في الضعف والوهن إلى أظهر غاية.
والواجب هنا - أولا - نقل جملة الأخبار:
فمنها: ما رواه في الكافي - في الصحيح - عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد
الله - عليه السلام -: بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ولا تجاب فيه الدعوة ولا يدخله
الملك (1).
وعن زيد الشحام، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل " واجتنبوا
قول الزور " (2) قال: الزور الغناء (3). وعن أبي الصباح - في الصحيح - عن أبي
عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: " لا يشهدون الزور ". (4) قال: الغناء (5) وعن أبي الصباح الكناني - في الصحيح - عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل " و
الذين لا يشهدون الزور " قال: هو الغناء (6).
وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: الغناء مما وعد الله
تعالى عليه النار. وتلا هذه الآية " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله

(1) الوسائل ج 12 ص 225 حديث: 1 باب: 99 أبواب ما يكتسب به.
(2) سورة الحج: 30
(3) الوسائل ج 12 ص 225 حديث: 2
(4) سورة الفرقان: 72
(5) الوسائل ج 12 ص 226 حديث: 3
(6) الوسائل ج 12 ص 226 حديث: 5
102

بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين " (1).
وعن عمران بن محمد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: الغناء مما قال
الله عز وجل " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " (2).
وعن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى " و
اجتنبوا قول الزور " قال: الزور الغناء (3).
وعن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عز وجل " فاجتنبوا الرجس
من الأوثان واجتنبوا قول الزور " قال: الغناء (4).
وعن أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الغناء غش النفاق (5). وعن
الوشاء قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يسأل عن الغناء فقال: هو قول الله عز وجل
" ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " (6).
وعن إبراهيم بن محمد المدني عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سئل
عن الغناء، وأنا حاضر، فقال: لا تدخلوا بيوتا الله معرض عن أهلها (7).
وعن يونس، قال: سألت الخراساني - صلوات الله عليه - عن الغناء، وقلت:
إن العباسي ذكر عنك أنك ترخص في الغناء، فقال: كذب الزنديق، ما هكذا قلت له،
سألني عن الغناء، فقلت له: إن رجلا أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء، فقال:
يا فلان، إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل فقال:

(1) الوسائل ج 12 ص 224 حديث: 6
(2) الوسائل ج 12 ص 224 حديث: 7
(3) الوسائل ج 12 ص 227 حديث: 8
(4) الوسائل ج 12 ص 227 حديث: 9
(5) الوسائل ج 12 ص 227 حديث: 10
(6) الوسائل ج 12 ص 227 حديث: 11
(7) الوسائل ج 12 ص 227 حديث: 12
103

قد حكمت (1).
ورواه في عيون الأخبار عن الريان بن الصلت، قال سألت الرضا يوما بخراسان
وذكر نحوه (2). ورواه الحميري في قرب الإسناد عن الريان بن الصلت وعن عبد الأعلى
قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغناء، وقلت: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
رخص في أن يقال: حيونا حيونا نحييكم! فقال: إن الله تعالى يقول: " وما خلقنا
السماء والأرض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن
كنا فاعلين، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل
مما تصفون " ثم قال: ويل لفلان مما يصف. رجل لم يحضر المجلس (3).
وعن الحسن بن هارون، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الغناء مجلس
لا ينظر الله إلى أهله، وهو مما قال الله عز وجل " ومن الناس من يشتري لهو الحديث
ليضل عن سبيل الله " (4).
وروى في العيون بأسانيده عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن علي - عليهم السلام -،
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أخاف عليكم استخفافا بالدين وبيع الحكم وقطيعة
الرحم، وأن تتخذوا القرآن مزامير، وتقدمون أحدكم وليس بأفضلكم في الدين (5).
وعن محمد بن أبي عباد، وكان مستهترا بالسماع، ويشرب النبيذ، قال:
سألت الرضا عن السماع، فقال: لأهل الحجاز فيه رأي وهو في حيز الباطل واللهو،
أما سمعت الله يقول: " وإذا مروا باللغو مروا كراما " (6).

(1) الوسائل ج 12 ص 227 حديث: 13
(2) الوسائل ج 12 ص 227 حديث: 14
(3) الوسائل ج 12 ص 228 حديث: 15 والآية في سورة الأنبياء: 16
(4) الوسائل ج 12 ص 228 حديث: 16
(5) الوسائل ج 12 ص 229 حديث: 18
(6) الوسائل ج 12 ص 229 حديث: 19
104

وروى في كتاب معاني الأخبار بسنده عن عبد الأعلى، قال: سألت جعفر بن
محمد عليه السلام عن قول الله عز وجل " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور "
قال: الرجس من الأوثان، الشطرنج. وقول الزور: الغناء. قلت: قول الله عز وجل
" ومن الناس من يشتري لهو الحديث " قال: منه الغناء (1).
وعن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الزور، قال:
منه قول الرجل، للذي يغني: أحسنت (2).
وروى في المقنع مرسلا قال: قال الصادق عليه السلام: شر الأصوات: الغناء (3).
وروى في كتاب الخصال بسنده المعتبر عن الحسن بن هارون، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول: الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر (4).
وروى في المجالس عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن عمرو بن حزم، في
حديث قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فقال: اجتنبوا الغناء، اجتنبوا الغناء،
اجتنبوا قول الزور. فما زال يقول: اجتنبوا الغناء، اجتنبوا، فضاق بي المجلس
وعلمت أنه يعنيني (5).
وفي رواية عبد الله بن سنان المروية في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: اقرؤا القرآن بألحان العرب وأصواتها: وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل
الكبائر، فإنه سيجئ بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية،
لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم (6).

(1) الوسائل ج 12 ص 229 حديث: 20
(2) الوسائل ج 12 ص 229 حديث: 21
(3) الوسائل ج 12 ص 229 حديث: 22
(4) الوسائل ج 12 ص 230 حديث: 23
(5) الوسائل ج 12 ص 230 حديث: 24
(6) الوسائل ج 4 ص 858 حديث: 1
105

وروى في مجمع البيان، قال: روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن
الرضا - عليهم السلام -، في قول الله عز وجل " ومن الناس من يشتري لهو الحديث
ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين " أنهم قالوا: منه
الغناء (1).
وروى علي بن إبراهيم في تفسيره - في الصحيح أو الحسن - عن هشام عن أبي
عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور "
قال الرجس من الأوثان: الشطرنج، وقول الزور: الغناء (2).
وروى فيه عن أبيه بسنده إلى عبد الله بن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - في
حديث - قال: إن من أشراط الساعة إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والميل
إلى الأهواء. إلى أن قال: فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله، ويتخذونه
مزامير - إلى أن قال: ويتغنون بالقرآن. إلى أن قال: فأولئك يدعون في ملكوت
السماوات: الأرجاس الأنجاس (3).
أقول: فهذه جملة من الأخبار الصريحة الدالة، في تحريم الغناء مطلقا، من غير
تقييد بما قدمنا ذكره عن المجوز له في حد ذاته.
ويعضدها: الأخبار الدالة على تحريم الاستماع له (4) والأخبار الدالة على
تحريم ثمن المغنية (5).
فروى في الكافي عن مسعدة بن زياد، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، فقال له
رجل: بأبي أنت وأمي، إني أدخل كنيفا، ولي جيران وعندهم جوار يتغنين ويضربن

(1) الوسائل ج 12 ص 230 حديث: 25
(2) الوسائل ج 12 ص 230 حديث: 26
(3) الوسائل ج 12 ص 230 حديث: 27
(4) الوسائل باب 101 من أبواب ما يكتسب به
(5) الكافي ج 5 ص 119
106

بالعود، فربما أطلت الجلوس استماعا مني لهن! فقال: لا تفعل. فقال الرجل: والله
ما أتيتهن وإنما هو سماع أسمعه بأذني. فقال: بالله أنت، أما سمعت الله تعالى يقول
" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا "؟ فقال: بلى والله كأني لم أسمع
بهذه الآية من كتاب الله تعالى من عجمي ولا عربي. لا جرم إني لا أعود انشاء الله تعالى،
وأني أستغفر الله فقال له: فاغتسل فصل ما بدا لك، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم،
ما كان أسوأ حالك لومت على ذلك. أحمد الله وسله التوبة من كل ما يكره، فإنه
لا يكره إلا كل قبيح، والقبيح دعه لأهله، فإن لكل أهلا (1).
وعن عنبسة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: استماع الغناء واللهو ينبت النفاق في
القلب كما ينبت الماء الزرع (2).
وعن الحسين بن علي بن يقطين عن أبي جعفر عليه السلام، قال: من اصغي إلى
ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله وإن كان الناطق يؤدي
عن الشيطان فقد عبد الشيطان (3).
وروى في الكافي والتهذيب عن الحسن بن علي الوشاء قال سئل أبو الحسن
الرضا عليه السلام عن شراء المغنية، فقال: قد تكون للرجل الجارية تلهيه وما ثمنها إلا ثمن
الكلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في النار (4).
وما رواه في الكافي عن سعيد بن محمد الطاطري عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام.
قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات. فقال: شراؤهن وبيعهن حرام، وتعليمهن

(1) الوسائل ج 2 ص 957 باب 18 حديث: 1 من أبواب الأغسال المندوبة. ومستدرك
الوسائل ج 2 ص 459 باب 80 حديث: 3
(2) الوسائل ج 12 ص 236 حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 236 حديث: 5
(4) الكافي ج 5 ص 120 حديث: 4
107

واستماعهن نفاق (1).
وعن نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: المغنية ملعونة.
ملعون من أكل كسبها (2).
وروى في الفقيه مرسلا، قال: روي " أن أجر المغني والمغنية سحت " (3).
وعن إبراهيم بن أبي البلاد قال أوصى إسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له
مغنيات أن نبيعهن ونحمل ثمنهن إلى أبي الحسن عليه السلام. قال إبراهيم: فبعت الجواري
بثلاثمأة ألف درهم وحملت الثمن إليه. فقلت له، إن مولى لك يقال له: إسحاق بن
عمر، قد أوصى عند موته ببيع جوار له مغنيات، وحمل الثمن إليك، وقد فعلت وبعتهن
وهذا الثمن ثلاثمأة ألف درهم، فقال: لا حاجة لي فيه، إن هذا سحت، تعليمهن
كفر، والاستماع منهن نفاق، وثمنهن سحت (4).
والتقريب في هذه الأخبار، أنه لو كان الغناء جايزا، وحلالا بل مستحبا - كما
هو ظاهر كلامهم في نحو القرآن والأدعية والمناجاة، وإنما يحرم بسبب ما
يعرض له من المحرمات الخارجة، كما ادعوه - فكيف يتم الحكم بتحريم سماعه
وتحريم ثمن المغنية، وأن تعليمه كفر. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ذي عقل
وروية، لا ينكره إلا من قابل بالصدود أو الاستكبار عن الحق بالكلية.
* * *
هذا وأما الأخبار التي استند إليها الخصم في المقام، فمنها: ما رواه في الكافي
عن أبي - بصير وهو يحيى بن القاسم، بقرينة رواية على عنه - قال: قلت لأبي جعفر
عليه السلام: إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جائني الشيطان، فقال: إنما ترائى بهذا

(1) الكافي ج 5 ص 120 حديث: 5
(2) الكافي ج 5 ص 120 حديث: 6
(3) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 105 حديث: 436
(4) الكافي ج 5 ص 120 حديث: 7
108

أهلك والناس، فقال: يا أبا محمد، اقرأ قراءة بين القرائتين، تسمع أهلك،
ورجع بالقرآن صوتك، فإن الله تعالى يحب الصوت الحسن، يرجع به
ترجيعا (1).
وعن أبي بصير وهو المرادي بقرينة عبد الله بن مسكان - عن الصادق
- عليه السلام - قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أجمل الجمال الشعر الحسن، ونغمة
الصوت الحسن (2).
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لكل شئ حلية،
وحيلة القرآن الصوت الحسن (3).
وبهذا الاسناد عن الصادق عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يعط أمتي أقل
من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ (4).
وبهذا الاسناد عن الصادق عليه السلام، قال: إن الله تعالى أوحى إلى موسى بن
عمران " إذا وقفت بين يدي، فقف موقف الذليل الفقير، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها
بصوت حزين " (5).
وعن علي الميثمي عن رجل عن الصادق عليه السلام، قال: ما بعث الله عز وجل نبيا
الأحسن الصوت (6).
وعن علي بن عقبة عن رجل عن الصادق عليه السلام، قال: كان علي بن الحسين
عليه السلام أحسن الناس صوتا بالقرآن، وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه يستمعون

(1) الوسائل ج 4 ص 859 حديث: 5 والكافي ج 2 ص 616 حديث: 13
(2) الكافي ج 2 ص 615 حديث: 8
(3) الكافي ج 2 ص 615 حديث: 9
(4) الكافي ج 2 ص 615 حديث: 7
(5) الكافي ج 2 ص 615 حديث: 6
(6) الكافي ج 2 ص 616 حديث: 10
109

قراءته، وكان أبو جعفر عليه السلام أحسن الناس صوتا (1).
وعن علي بن محمد النوفلي، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: ذكرت الصوت
عنده، فقال: إن علي بن الحسين عليه السلام كان يقرأ القرآن، فربما مر به المار فصعق
من حسن صوته، وأن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس من حسنه. قلت:
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون (2).
وما رواه في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه، قال: سألته عن الغناء،
هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال لا بأس ما لم يعص به (3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن
كسب المغنيات، فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعي إلى الأعراس
ليس به بأس، وهو قول الله عز وجل " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن
سبيل الله " (4).
وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام، قال: المغنية التي تزف العرايس لا بأس
بكسبها (5).
وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أجر المغنية التي تزف العرايس
ليس به بأس، وليست التي يدخل عليها الرجال (6).
وروى في الفقيه، قال سأل رجل علي بن الحسين عليه السلام عن شراء جارية لها

(1) الكافي ج 2 ص 616 حديث: 11
(2) الكافي ج 2 ص 615 حديث: 4
(3) الوسائل ج 12 ص 58 حديث: 5
(4) الوسائل ج 12 ص 84 حديث: 1
(5) الوسائل ج 12 ص 85 حديث: 2
(6) الوسائل ج 12 ص 85 حديث: 3
110

صوت؟ فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة، يعني بقراءة القرآن والزهد
والفضائل، التي ليست بغناء، وأما الغناء فمحظور (1).
قال في الوافي - بعد نقل الخبر -: الظاهر أن هذا التفسير من كلام الصدوق
- عليه الرحمة - ويستفاد منه أن من مد الصوت وترجيعه بأمثال ذلك ليس بغناء، أو
بمحظور، وفي الأحاديث التي مضت في أبواب قراءة القرآن، من كتاب الصلاة
دلالة على ذلك، والذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة فيه، اختصاص حرمة الغناء
وما يتعلق به من الأجر والتعليم والاستماع والبيع والشراء كلها، بما كان على النحو المتعارف
في زمن بني أمية وبني العباس، من دخول الرجل عليهن، وتكلمهن بالأباطيل، ولعبهن
الملاهي، من العيدان والقصب وغيرها، دون ما سوى ذلك من أنواعه، كما يشعر
به قوله " ليست بالتي يدخل عليها الرجال " إلى أن قال:
وعلى هذا فلا بأس بسماع التغني بالأشعار المتضمنة لذكر الجنة والنار، و
التشويق إلى دار القرار، ووصف نعم الملك الجبار، وذكر العبادات والترغيب في
الخيرات والزهد في الفانيات ونحو ذلك، كما أشير إليه في حديث الفقيه بقوله " فذكرتك
الجنة " وذلك لأن هذا كله ذكر الله تعالى، وربما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم
ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله تعالى.
وبالجملة لا يخفى على ذوي الحجى، بعد سماع هذه الأخبار تمييز حق الغناء
من باطله وأن أكثر ما يتغنى به المتصوفة في محافلهم من قبيل الباطل انتهى.
وعلى هذا النحو حذى الخراساني في الكفاية.
وفيه: - أولا - أنهم وإن زعموا الجمع بين أخبار المسألة بما ذكروه، إلا أن
جل أخبار التحريم، التي قدمناها، لا يقبل لك، فإنها طاهرة، بل بعضها صريح في
تحريم الغناء من حيث هو، لا باعتبار انضمام بعض المحرمات، من خارج إليه.
ولا سيما أخبار استماع الغناء وبيع المغنية وشرائها، بالتقريب بالذي قدمناه في ذيل تلك

(1) الوسائل ج 12 ص 86 حديث: 2
111

الأخبار.
وقوله - في رواية المقنع -: شر الأصوات الغناء وقوله - في رواية عبد الله
ابن سنان - يرجعون القرآن ترجيح الغناء. وحديث يونس المروي بعدة طرق كما
تقدم، وأمثال ذلك مما تقدم. فإنها ما بين صريح وظاهر، في قصر الحكم على الغناء
من حيث هو، وكذلك الآيات، فإن قوله عز وجل " واجتنبوا قول الزور " المفسر
في تلك الأخبار بالغناء، صريح في المنع من القول المفسر بالغناء من حيث هو.
وثانيا - أنه من القواعد المقررة عن أصحاب العصمة - عليهم السلام - في
مقام اختلاف الأخبار، هو العرض على كتاب الله تعالى، والأخذ بما وافقه، وأن
ما خالفه يضرب به عرض الحايط، والعرض على مذهب العامة، والأخذ بخلافه.
ولا ريب في أن مقتضى الترجيح بهاتين القاعدتين، المتفق عليهما نصا وفتوى،
هو القول بالتحريم مطلقا، وأن ما دل على الجواز يرمي به، لمخالفته لظاهر القرآن،
وموافقته للعامة.
هذا فيما كان صريحا في الجواز، وهو أقل قليل في أخبارهم، لا يبلغ قوة
المعارضة لما قدمناه من أخبار التحريم.
فأما تمسكهم بأخبار قراءة القرآن بالصوت بالحسن والتحزن، فهو لا يستلزم
الغناء، إذ ليس كل صوت حسن أو حزين يسمى غناء، وهذا - بحمد الله سبحانه -
ظاهر.
وأما ما يوهمه بعض تلك الأخبار، من التغني بالقرآن، مثل ما نقله في مجمع
البيان عن عبد الرحمن بن السائب، قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص، فأتيته مسلما
عليه، فقال: مرحبا بابن أخي. بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن؟ قلت: نعم
والحمد لله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن القرآن نزل بالحزن،
فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به، فإن من لم يتغن بالقرآن
فليس منا.
112

قال في مجمع البيان: تأوله بعضهم بمعنى استغنوا به، وأكثر العلماء على أنه
تزيين الصوت وتحزينه. انتهى (1).
قال في الكفاية - بعد نقل ذلك -: وهذا يدل على أن تحسين الصوت بالقرآن
والتغني به مستحب عنده، وأن خلاف ذلك لم يكن معروفا بين القدماء انتهى.
أقول: - أولا - إن الخبر المذكور عامي، فلا ينهض حجة. وثانيا: أنه معارض
بجملة من الأخبار المتقدمة، الدالة على المنع من قراءة القرآن بالغناء، وإنما يقرؤه
بالصوت الحسن على جهة الحزن، ما لم يبلغ حد الغناء، فإنه محرم في قرآن أو
غيره.
ومنها: خبر الفقيه الأخير من الأخبار المتقدمة، بناء على كون التفسير الذي في
آخره من الخبر، كما فهمه صاحب الوافي.
ورواية العيون المتقدمة، ورواية تفسير علي بن إبراهيم الثانية.
ومنها: رواية عبد الله بن سنان، وهو أصرح صريح في ذلك.
وأما ما ذكره في الكفاية، من حمل الأخبار الدالة على المنع من التغني بالقرآن
على قراءة تكون على سبيل اللهو، كما يصنعه الفساق في غنائهم، قال: وتؤيده رواية
عبد الله بن سنان المذكورة، فإن في صدر الخبر الأمر بقراءة القرآن بألحان العرب،
واللحن هو الغناء، ثم بعد ذلك المنع من القراءة بلحن أهل الفسق، ثم قوله: سيجئ
من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء. انتهى. فهو مما لا ينبغي أن يصغى إليه
ولا يعرج في مقام التحقيق عليه.
أما أولا، فإن الغناء الممنوع منه في القرآن، على ما يكون على سبيل اللهو،
كما يصنعه الفساق في غنائهم، لا محصل له. فإنه إن أراد به القراءة مع مصاحبة آلات
اللهو كالعود ونحوه، فإن أحدا لا يصنع ذلك.
وإن أرد قراءة القرآن التي تقع على سبيل اللهو، فإنه لا يعقل له معنى، لأنها إن

(1) مجمع البيان ج 1 ص 16 الفن السابع من المتقدمة.
113

وقعت بطريق الغناء الذي هو محل البحث، فهذا هو الذي ندعي تحريمه، سواء كان
من الفساق أو الزهاد، وإن كان كذلك فإنه لم يعهد هنا نوع ممنوع منه، غير ما ذكرناه،
حتى أنه يخصه بالفساق، لأن مجرد الترجيع وتحسين الصوت والتحزن به لا يستلزم
الغناء، كما أشرنا إليه آنفا فهو إن بلغ إلى حد الغناء وصدق عليه عرفا أنه غناء، كان
ممنوعا ومحرما، وإلا فلا.
وأما ثانيا، فإن قوله: " فإن اللحن في أول الخبر هو الغناء " ممنوع، فإنه وإن
كان لفظ اللحن مما ورد بمعنى الغناء، لكنه ورد أيضا في اللغة لمعان أخر، منها:
اللغة، وترجيح الصوت، وتحسين القراءة، والشعر، إلا أن الأنسب به هنا: هو الحمل
على اللغة، بمعنى لغات العرب وأصواتها، وهو الذي حمل عليه الخبر في مجمع البحرين
فقال: اللحن واحد الألحان. واللحون: اللغات، ومنه الخبر " أقروا القرآن بلحون
العرب ".
أقول: وحاصل معنى الخبر: اقرؤا القرآن بلغات العرب وأصواتها وإياكم و
لحون أهل الفسق والكبائر، والمراد به هنا: الغناء كما يفسره قوله " فإنه سيجئ
بعدي أقوام... الخ " هذا هو المعنى الظاهر من الخبر، وما تكلفه في معنى الخبر فإنه
بعيد عن سياقه.
وأما خبر علي بن الحسين عليه السلام. فحاشا أن يكون ذلك من حيث كونه
غناء، كما توهموه، وإنما هذه حالات مختصة بهم، بالنسبة إلى الأصوات والألوان
والحلي ونحوها، كما يدل عليه حديث دخول الجواد عليه السلام على زوجته بنت المأمون،
لما التمست أمها دخوله لتسر برؤيته مع ابنتها، مع أنه عليه السلام معها في سائر الأوقات
والأيام والليالي ولم تستنكر منه (1). وحديث السراج في أصابع الرضا عليه السلام (2).

(1) مشارق النوار للحافظ البرسي ص 98 - 99 الفصل: 11
(2) مدينة المعاجز ص 473 حديث: 3 ونقل المصنف - هنا في الهامش - حديث
عسكر مولى ابن جعفر - عليه السلام - ومشاهده من غريب حاله - عليه السلام -. فراجع: مناقب ابن شهرآشوب
ج 4 ص 387 - 388.
114

وحديث الشيخين في حق أمير المؤمنين عليه السلام ونحو ذلك. ويشير إلى ما ذكرناه قوله
في الحديث المذكور: " وأن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس " (1).
وقال في الكفاية - أيضا -: وكثير من الأخبار المعتمدة وغيرها تدل على تحريم
بيع الجواري المغنيات وشرائهن وتعليمهن الغناء، وبإزائها الرواية السابقة المنقولة عن
علي بن الحسين عليه السلام (2) ورواية عبد الله بن الحسن الدينوري عن أبي الحسن عليه السلام،
في جملة حديث، قال: قلت: جعلت فداك، فأشتري المغنية والجارية تحسن أن
تغني، أريد به الرزق، لا سوى ذلك؟ قال: اشتر وبع (3) انتهى.
وفيه: أن الرواية الأولى قد نقلها كما قدمناه بالتفسير الذي في آخرها، وهي
على تقديره غير منافية لتلك الأخبار، بل صريحة في الانطباق عليها ولهذا أن المحدث
الكاشاني استظهر أن هذا التفسير من كلام الصدوق كما قدمنا نقله عنه، ليتم له التعلق
بالرواية.
وأما الرواية الثانية فهي ظاهرة في أن شراء المغنية إنما هو لأجل التجارة وطلب
الربح والفائدة، وهو مما لا اشكال فيه، كما صرح به الأصحاب، والمحرم إنما
شراؤها وبيعها لأجل الغناء.
قال في المنتهى - بعد نقل خبر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن بيع المغنيات
وتحريم أثمانهن وكسبهن -: وهذا يحمل على بيعهن للغناء، كما أن العصير لا يحرم
بيعه لغير الخمر لصاحب الخمر.
* * *
ثم إن المشهور بين الأصحاب استثناء مواضع من تحريم الغناء.
ونقل في المسالك عن جماعة من الأصحاب، منهم العلامة في التذكرة، تحريم

(1) راجع: قضاياه - عليه السلام - مع الشيخين في مدينة المعاجز ص 77 - ص 87
(2) الوسائل ج 12 ص 86 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 86 حديث: 1
115

الغناء مطلقا، ونقله في المختلف عن أبي الصلاح، وهو المنقول عن ابن إدريس أيضا
استنادا إلى الأخبار المطلقة في تحريمه.
ومن تلك المواضع المستثنيات - على تقدير القول المشهور -: غناء المرأة
التي تزف العرائس، بشرط أن لا يدخل عليها الرجال، ولا يسمع صوتها الأجانب
من الرجال ولا تتكلم بالباطل، ولا تعمل بالملاهي.
ومرجعه إلى أن لا يكون مستلزما لمحرم آخر، وقد تقدمت الأخبار الدالة
على ذلك.
وما توهمه من استدل بهذه الأخبار على جواز الغناء - وإنما تحريمه من حيث
أمر آخر، كدخول الرجال لقوله عليه السلام في بعض تلك الأخبار: لأنها ليست بالتي يدخل
عليها الرجال، وأن فيه إشارة إلى أن التحريم إنما هو من هذه الجهة - فليس بشئ،
لقصر التعليل على مورد النص، بمعنى أن التي تزف العرائس يباح لها الغناء لعدم
دخول الرجال عليها المستلزم لتحريمه.
نعم قوله في رواية أبي بصير الأولى، لما سأله عن كسب المغنيات التي يدخل
عليه الرجال: حرام، ظاهر فيما ذكره، إلا أنه يجب حمله على التقية وهكذا كل
خبر ظاهر في ذلك.
وبالجملة فإن الأخبار المذكورة ظاهرة في جوازه في هذه الصورة، فيجب
تخصيص الأخبار المطلقة بها. وبه يظهر ضعف قول من ذهب إلى عموم التحريم.
ومنها: الحداء، وهو سوق الإبل بالغناء لها.
ولم أقف في الأخبار له على دليل. قال المحقق الأردبيلي - رحمه الله - قد استثنى
الحداء، بالمد، وهو سوق الإبل بالغناء لها، وعلى تقدير صحة استثنائه، يمكن
اختصاصه بكونه الإبل فقط، كما هو مقتضى الدليل، ويمكن التعدي أيضا إلى البغال
والحمير انتهى.
ولا أدري أي دليل أراد، فإن المسألة خالية عن النص، وكأنه ظن أن ذكر
116

الأصحاب له، لا يكون إلا عن دليل، وإلا فالدليل لم نقف عليه، ولم يذكره هو ولا أحد
غيره.
وبعضهم استثنى مراثي الحسين عليه السلام - أيضا - قال في الكفاية: وهو غير بعيد.
أقول: بل هو بعيد غاية البعد، لما عرفت مما قدمناه من الأخبار المتكاثرة،
إلا أن ما ذكره جيد على مذهبه في المسألة مما قدمنا نقله عنه.
وبالجملة فإنه لم يقم دليل على استثناء شئ من اطلاق الأخبار المتقدمة، سوى
التي تزف العرائس. وعليها اقتصر في المنتهى في الاستثناء ولم يستثن سواها. والله
العالم.
117

المسألة الثالثة
في معونة الظالمين
والمشهور في كلام الأصحاب، تقييدها بما يحرم، وأما ما لا يحرم كالخياطة
لهم والبناء ونحو ذلك فإنه لا بأس به.
قال في الكفاية: ومن ذلك معونة الظالمين بما يحرم، أما ما لا يحرم كالخياطة
وغيرها فالظاهر جوازه.
لكن الأحوط الاحتراز عنه لبعض الأخبار الدالة على المنع، وقوله تعالى:
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " (1) قال في مجمع البيان: فقيل معناه:
ولا تميلوا إلى المشركين في شئ من دينكم، عن ابن عباس وقيل: لا تداهنوا الظلمة،
عن السدي وابن زيد قيل: إن الركون إلى الظالمين المنهي عنه، هو الدخول معهم
في ظلمهم، واظهار موالاتهم، وأما الدخول عيلهم ومعاشرتهم دفعا لشرهم فجائز.
عن القاضي. وقريب منه ما روي عنهم - عليهم السلام -: أن الركون هو المودة
والنصيحة والطاعة لهم انتهى.

(1) سورة هود: 113
118

أقول: الظاهر من الأخبار الواردة في هذا المقام، هو عموم تحريم معونتهم.
بما يحرم وما لا يحرم.
منها: ما رواه الكافي في الصحيح عن هشام بن سالم، عن أبي بصير قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام، عن أعمالهم، فقال لي: يا أبا محمد، لا ولا مدة قلم، إن أحدكم
لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله (1) أو قال: حتى تصيبوا من دينه مثله،
الوهم من ابن أبي عمير (2).
وعن ابن أبي يعفور قال: كنت عند الصادق عليه السلام، فدخل عليه رجل من
أصحابنا، فقال له: أصلحك الله تعالى، أنه ربما أصاب الرجل منا الضيق والشدة،
فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال
أبو عبد الله عليه السلام: ما أحب أني عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء، وأن لي ما بين
لابتيها، لا ولا مدة بقلم. إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من النار حتى يحكم الله
عز وجل بين العباد (3).
وما رواه في التهذيب عن يونس بن يعقوب في الموثق، قال: قال لي أبو عبد الله
عليه السلام: لا تعنهم علي بناء مسجد (4).
وعن صفوان بن مهران الجمال قال: دخلت على أبي الحسن الأول عليه السلام، فقال
لي: يا صفوان، كل شئ منك حسن جميل، ما خلا شيئا واحدا، فقلت: جعلت
فداك، أي شئ؟ قال: اكراؤك جمالك هذا الرجل - يعني هارون - قلت: والله
ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا لصيد ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق، يعني
طريق مكة، ولا أتولاه بنفسي، ولكني أبعث معه غلماني. فقال لي: يا صفوان، أيقع

(1) الوسائل ج 12 ص 129 حديث: 5
(2) الراوي عن هشام بن سالم
(3) الوسائل ج 12 ص 129 حديث: 6
(4) المصدر حديث: 8
119

كراؤك عليهم؟ قلت: نعم، جعلت فداك. فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج
كراؤك؟ قلت: نعم قال: فمن أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وروده
في النار. قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها. فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني
فقال لي: يا صفوان، بلغني أنك بعت جمالك، قلت: نعم. قال: ولم؟ قلت: أنا
شيخ كبير وأن الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهات هيهات، إني لأعلم من أشار
عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر عليه السلام. فقلت: ما لي ولموسى بن جعفر
عليه السلام! فقال: دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك (1).
وما رواه في عقاب الأعمال، بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمد عليه السلام،
عن آبائه - عليهم السلام -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان يوم القيامة نادى
مناد: أين أعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواة، أو ربط كيسا، أو مد لهم مدة قلم،
فاحشروه معهم (2) وروى الثقة الجليل، ورام بن أبي فراس، في كتابه، قال:
قال عليه السلام: من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج عن الاسلام. قال:
وقال عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة، وأشباه الظلمة
حتى من برى لهم قلما ولاق لهم دواة! قال: فيجتمعون في تابوت من حديد، ثم يرمى به
في جهنم (3).
ويعضد ذلك ما رواه في الكافي، عن سهل بن زياد، رفعه عن الصادق عليه السلام،
في قول الله عز وجل " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " قال: هو الرجل يأتي
السلطان فيحب بقاءه إلى أن يدخل يده في كيسه فيعطيه.
وعن فضيل بن عياض، عن الصادق عليه السلام، قال: ومن أحب بقاء الظالمين

(1) الوسائل ج 12 ص 131 - 132 حديث: 17
(2) الوسائل ج 12 ص 130 حديث: 11
(3) الوسائل ج 12 ص 131 حديث: 15 و 16
(4) الوسائل ج 12 ص 134 حديث: 1 باب: 44 أبواب ما يكتسب به.
120

فقد أحب أن يعصي الله تعالى، إن الله تبارك وتعالى حمد نفسه عند هلاك الظالمين،
فقال: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (1).
وعن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه السلام في حديث، قال: إياكم وصحبة
العاصين ومعونة الظالمين (2).
وعن محمد بن عذافر، عن أبيه، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: نبئت أنك
تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟! قال فوجم أبي،
فقال له أبو عبد الله عليه السلام لما رآى ما أصابه: أي عذافر، إني إنما خوفتك بما خوفني الله
عز وجل. قال محمد: فقدم أبي، فما زال مغموما مكروبا حتى مات (3).
إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع، وهي صريحة في تحريم
معونة الظالمين بالأمور المحللة، على أبلغ وجه وآكده. وبذلك يظهر لك ما في
كلام الفاضل المذكور تبعا للمشهور والكل ناش عن الغفلة عن تتبع الأخبار والوقوف
عليها من مظانها.
نعم يجب أن يستثنى من ذلك ما إذا ألجأته ضرورة التقية والخوف، فإن
الضرورات تبيح المحظورات.
* * *
وأما معونة الظالمين بما كان ظلما ومحرما فيدل على تحريمه: العقل والنقل،
كتابا وسنة.
ومنه: قوله عز وجل " ولا تركنوا.. الآية.
قيل: والركون هو الميل القليل. وقال في مجمع البحرين في تفسير الآية: أي
لا تطمئنوا إليهم، ولا تسكنوا إلى قولهم، والرضا بأفعالهم، ومصاحبتهم ومصادقتهم

(1) الوسائل ج 11 ص 501 حديث: 5
(2) الوسائل ج 12 ص 128 حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 127 حديث: 3
121

ومداهنتهم انتهى.
وحينئذ فإذا كان هذا القدر من الميل إليهم موجبا لدخول النار فبالطريق الأولى
إعانتهم على الظلم ومشاركتهم فيه.
وقد تقدم في مرسلة سهل: أن الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى أن يدخل
يده في كيسه فيعطيه (1). وفي باب جمل من مناهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم المذكور في الفقيه،
قال صلى الله عليه وآله وسلم: من مدح سلطانا جائرا أو تخفف وتضعضع له طمعا فيه، كان قرينه في
النار، قال الله عز وجل ولا تركنوا.. الآية (2).
وظاهر الخبرين المذكورين: الدلالة على أن الميل إليه لتحصيل شئ من
دنياه وحب بقائه ووجوده لذلك، داخل تحت الآية.
ثم إن الظاهر أن المراد من هذا التشديد والتأكيد في هذه الأخبار الواردة في
هذا المقام، مما تقدم ويأتي، إنما هو سلاطين الجور المدعين للإمامة، من الأموية
والعباسية ومن حذا حذوهم، كما هو ظاهر من سياقها، ومصرح به في بعضها لا مطلق
الظالم والفاسق وإن كان الظلم والفسق محرما مطلقا.
وعلى هذا فلو أحب أحد بقاء حاكم جور من المؤمنين والشيعة، لحبه المؤمنين
وحفظه بيضة الدين من الأعداء والمخالفين، فالظاهر أنه غير داخل في الآية، ولا الأخبار
المذكورة.
ويعضد ذلك ما رواه في الكافي عن الولد بن صبيح في الصحيح، قال: دخلت
على أبي عبد الله عليه السلام، فاستقبلني زرارة، خارجا من عنده. فقال لي أبو عبد الله عليه السلام:
يا وليد، أما تعجب من زرارة، سألني عن أعمال هؤلاء، أي شئ كان يريد؟ أيريد
أن أقول له: لا، فيروي ذلك علي؟! ثم قال يا وليد، متى كانت الشيعة تسأل عن
أعمالهم، إنما كانت الشيعة تقول: يؤكل من طعامهم؟ ويشرب من شرابهم؟ ويستظل

(1) الوسائل ج 12 ص 133 حديث:
(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 6
122

بظلهم؟ متى كانت الشيعة تسأل عن هذا؟!
وفي الخبر للمذكور ذم لزرارة (1)، ولكن جلالة قدره تقتضي صرفه عن ظاهره
والحمل على ما يقتضيه مقامات الحال يومئذ.
* * *
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الأخبار قد اختلفت في جواز الدخول في أعمالهم،
والولاية من قبلهم.
فمنها: ما دل على المنع من ذلك. ومنها: ما ظاهره الجواز، لكن بشرط
إمكان الخروج مما يجب عليه ويحرم. وبذلك صرح الأصحاب أيضا.
فأما ما يدل على الأول من الأخبار، فمنها: ما رواه في الكافي عن إبراهيم بن
مهاجر، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: فلان يقرؤك السلام، وفلان وفلان فقال:
وعليهم السلام. فقلت: يسألونك الدعاء، قال: وما لهم؟ قلت: حبسهم أبو جعفر،
فقال: ما له وما لهم؟ قلت: استعملهم فحبسهم، فقال: ما لهم ولهذا؟ ألم أنههم ألم
أنههم ألم أنههم؟ هم النار هم النار هم النار. ثم قال: اللهم أجدع عنهم سلطانهم.
قال فانصرفت من مكة، فسألت عنهم، فإذا هم قد خرجوا بعد هذا الكلام بثلاثة
أيام (2).
وعن داود بن زربي في الصحيح، قال: أخبرني مولى لعلي بن الحسين عليه السلام،
قال: كنت بالكوفة، فقدم أبو عبد الله - عليه السلام - الحيرة فأتيته، فقلت له:
جعلت فداك، لو كلمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فادخل في بعض هذه الولايات،
فقال: ما كنت لأفعل، فانصرفت إلى منزلي، فتفكرت فقلت ما أحسبه منعني
إلا مخافة أن أظلم أو أجور. والله لآتينه وأعطينه الطلاق والعتاق والأيمان
المغلظة. أن لا أظلمن أحدا ولا أجور، ولأعدلن. قال: فأتيته فقلت جعلت فداك، إني
فكرت في إبائك علي، فظننت، أنك إنما منعتني وكرهت ذلك، مخافة أن أجور

(1) الوسائل ج 12 ص 135 و 136 حديث: 1 و 3
(2) الوسائل ج 12 ص 135 و 136 حديث: 1 و 3
123

أو أظلم، وأن كل امرأة لي طالق، وكل مملوك لي حر، وعلي وعلي إن ظلمت أحدا
أو جرت على أحد أو إن لم أعدل، قال: فكيف قلت؟ فأعدت عليه الأيمان، فرفع
رأسه إلى السماء فقال: تنال السماء أيسر عليك من ذلك (1).
وعن جهم بن حميد، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: أما تغشى سلطان هؤلاء؟
قال: قلت: لا. قال: ولم؟ قلت: فرارا بديني، قال: وعزمت على ذلك؟ قلت: نعم.
قال لي: الآن سلم لك دينك (2).
وعن حميد، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إني وليت عملا، فهل لي من ذلك
مخرج؟ فقال: ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه! قلت: فما ترى؟ قال:
أن تتقي الله تعالى ولا تعود (3).
وما رواه في التهذيب عن ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي، عن أبي عبد الله
- عليه السلام -، قال: من سود اسمه في ديوان ولد سابع، حشره الله تعالى يوم
القيامة خنزيرا (4).
أقول: " سابع " مقلوب " عباس " كنى به تقية، كما يقال: رمع مقلوب عمر.
وما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن هارون بن مسلم، عن مسعدة
ابن صدقة، قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام عن قوم من الشيعة، يدخلون في أعمال
السلطان، يعملون لهم ويجبون لهم، ويوالونهم؟ قال ليس هم من الشيعة، ولكنهم
من أولئك. ثم قرأ أبو عبد الله عليه السلام هذه الآية " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على

(1) الوسائل ج 12 ص 136 حديث: 4 الظاهر أن المراد أنه لا يمكنك الوفاء بتلك
الأيمان لما يعلمه من حال الرجل المذكور وإلا فيشكل الجمع بينه وبين ما يأتي من الأخبار
في المقام مما يدل على الجواز لمن قام بذلك (منه قدس سره)
(2) الوسائل ج 12 ص 129 حديث: 7
(3) الوسائل ج 12 ص 136 حديث: 5
(4) الوسائل ج 12 ص 130 حديث: 9
124

لسان داود وعيسى بن مريم - إلى قوله - ولكن كثيرا منهم فاسقون " قال: الخنازير على لسان
داود، والقردة على لسان عيسى، " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا
يفعلون " كانوا يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور، ويأتون النساء أيام حيضهن،
ثم احتج الله تعالى على المؤمنين الموالين للكفار فقال: " ترى كثيرا منهم يتولون
الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم - إلى قوله - ولكن كثيرا منهم فاسقون "
فنهى الله عز وجل أن يوالي المؤمن الكافر إلا عند التقية (1).
وما رواه العياشي في تفسيره عن سليمان الجعفري، قال: قلت لأبي الحسن
الرضا عليه السلام: ما تقول في عمال السلطان؟ فقال: يا سليمان، الدخول في أعمالهم، والعون
لهم والسعي في حوائجهم، عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد، من الكبائر التي
يستحق بها النار (2). إلى غير ذلك من الأخبار التي تجري هذا المجرى.
ثم إن الواجب على الداخل في أعمالهم رد ما اكتسبه في عملهم على أصحابه،
ومع عدم معرفتهم فالواجب الصدقة به عنهم، كما صرح به الأصحاب. والتوبة
النصوح في هذا الباب.
ويدل على ذلك خبر علي بن أبي حمزة، قال: كان لي صديق من كتاب
بني أمية، فقال لي: استأذن لي على أبي عبد الله عليه السلام، فاستأذنت له، فلما أن دخل
سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من
دنياهم مالا كثيرا، وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: لولا أن بني أمية وجدوا
من يكتب لهم، ويجبى لهم الفئ، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، ما سلبونا حقنا،
ولو تركهم الناس وما في أيديهم، ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم.
قال: فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي مخرج منه؟ قال: إن قلت لك تفعل؟
قال: أفعل. قال له: فاخرج من جميع ما اكتسب في ديونهم، فمن عرفت منهم رددت
عليه، ومن لم تعرف تصدقت له، وأنا أضمن لك على الله تعالى الجنة. فأطرق الفتى

(1) الوسائل ج 12 ص 138 حديث: 10. والآية في سورة المائدة: 80
(2) الوسائل ج 12 ص 138 حديث: 12
125

طويلا، ثم قال: قد فعلت، جعلت فداك.
قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئا على وجه
الأرض إلا خرج منه، حتى ثيابه التي كانت على بدنه. قال: فقسمت له قسمة، واشتريت له ثيابا، وبعثت إليه نفقة، قال: فما أتى عليه إلا أشهر قلائل حتى مرض،
فكنا نعوده قال: فدخلت يوما وهو في السوق، قال: ففتح عينيه، ثم قال: يا علي، وفي لي والله
صاحبك ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فلما نظر إلى، قال:
يا علي وفينا والله لصاحبك.
قال: فقلت: صدقت، جعلت فداك، هكذا والله قال لي عند موته (1).
وأما ما يدل من الأخبار الجواز بالقيد المتقدم ذكره، فجملة من الأخبار،
إلا أن جملة من الأصحاب عبروا هنا - مع الأمن من الدخول بالحرام، والتمكن
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالجواز. وعبر بعضهم بالاستحباب،. و
قال بعضهم: إن مقتضى الشرط المذكور هو الوجوب، لأن القادر على الأمر بالمعروف
يجب عليه وأن يوله الجائر وهو جيد.
قال في المسالك: ومقتضى هذا الشرط وجوب التولية، لأن القادر على الأمر
بالمعروف يجب عليه، وإن لم يوله الظالم.
ولعل الوجه في عدم الوجوب كونه بصورة النائب عن الظالم، وعموم النهي
عن الدخول معهم وتسويد الاسم في ديوانهم، فإذا لم يبلغ حد المنع، فلا أقل من
الحكم بعدم الوجوب، ولا يخفى ما في هذا الوجه. انتهى.
وما ذكره من أن مقتضى الشرط المذكور الوجوب جيد، لكن على تفصيل
سنذكره انشاء الله تعالى، بعد نقل الأخبار.
فنقول: من الأخبار في المقام ما رواه في الكافي عن زياد بن أبي سلمة، قال:
دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام، فقال لي: يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان؟ قال:

(1) الوسائل ج 12 ص 144 - 145. والسوق: شدة نزع الروح
126

قلت: أجل، قال لي: ولم؟ قلت: إني رجل لي مروة، وعلى عيال، وليس وراء
ظهري شئ، قال: فقال لي: يا زياد، لأن أسقط من حالق فأنقطع قطعة قطعة أحب
إلي من أن أتولى لأحد منهم عملا، أو أطأ بساط رجل منهم، إلا، لماذا؟ قلت: لا
أدري جعلت فداك، فقال: إلا لتفريج كربة عن مؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه. يا زياد
إن أهون ما يصنع الله تعالى بمن تولى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من النار،
إلى أن يفرغ الله سبحانه من حساب الخلائق. يا زياد، فإن وليت شيئا من أعمالهم
فأحسن إلى إخوانك، فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك. يا زياد، أيما رجل
منكم تولى لأحد منهم عملا ثم ساوى بينكم وبينهم، فقولوا له: أنت منتحل كذاب.
يا زياد، إذا ذكرت مقدرتك على الناس، فاذكر مقدرة الله عليك غدا، ونفاد ما أتيت
إليهم عنهم، وبقاء ما أبقيت إليهم عليك (1).
وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال: ذكر عنده رجل من هذه العصابة قد ولي
ولاية، فقال: كيف صنيعه إلى إخوانه؟ قال: قلت: ليس عنده خبر. قال: أف،
يدخلون فيما لا ينبغي لهم، ولا يصنعون إلى إخوانهم خيرا (2).
ومنها: ما رواه علي بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: ما تقول في
أعمال هؤلاء؟ قال: إن كنت لا بد فاعلا فاتق أموال الشيعة، قال: فأخبرني على، أنه
كان يجبيها من الشيعة علانية ويردها عليهم في السر (3).
وعن الحسن بن الحسين الأنباري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: كتبت
إليه: أربع عشرة سنة استأذنه في أعمال السلطان، فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه،
أذكره أني أخاف على خيط عنقي، وأن السلطان يقول لي: إنك رافضي، ولسنا نشك
في أنك تركت عمل السلطان للفرض، فكتب إلى أبو الحسن عليه السلام: قد فهمت كتابك

(1) الوسائل ج 12 ص 140 حديث: 9
(2) الوسائل ج 12 ص 141 حديث: 10
(3) الوسائل ج 12 ص 140 حديث: 8
127

وما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وليت، عملت في
عملك بما أمرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تصير أعوانك وكتابك أهل ملتك (1)، وإذا
صار إليك شئ واسيت به فقراء المؤمنين، حتى تكون واحدا منهم، كان ذا بذا، و
وإلا فلا (2).
وعن أبي بصير عن عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من جار إلا ومعه
مؤمن يدفع الله تعالى به عن المؤمنين وهو أقلهم حظا في الآخرة، يعني أقل المؤمنين
حظا لصحبة الجبار (3).
وما في التهذيب عن عمار في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام سئل عن عمل السلطان
يخرج فيه الرجل، قال: لا إلا أن لا يقدر على شئ يأكل ولا يشرب، ولا يقدر
على حيلة، فإن فعل فصار في يده شئ، فليبعث بخمسه إلى أهل البيت - عليهم
السلام - (4).
وما رواه في الكافي عن يونس بن عمار، قال: وصفت لأبي عبد الله عليه السلام من يقول
بهذا الأمر ممن يعمل عمل السلطان، وقال: إذا ولوكم يدخلون عليكم الرفق وينفعونكم
في حوائجكم؟ قال: قلت: منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعل. قال: من لا يفعل
ذلك منهم فابرؤا منه، برء الله منه (5).
وما رواه في الكافي والفقيه عن علي بن يقطين، قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام:
إن لله عز وجل مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه (6).

(1) قوله: " تصير " من باب التفعيل، أي تجعل وتختار عمالك من أهل ملتك.
(2) الوسائل ج 12 ص 125 حديث: 1 باب 48 أبواب ما يكتسب به
(3) الوسائل ج 12 ص 134 حديث: 4
(4) الوسائل ج 12 ص 146 حديث: 3
(5) الوسائل ج 12 ص 142 حديث: 12
(6) الوسائل ج 12 ص 139 حديث: 1
128

قال في الفقيه: وفي خبر آخر: أولئك عتقاء الله من النار. قال: وقال الصادق
- عليه السلام -: كفارة عمل السلطان، قضاء حوائج الإخوان (1).
وروى الكشي في الرجل في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: كان
محمد بن إسماعيل من رجال أبي الحسن موسى عليه السلام، وأدرك أبا جعفر الثاني عليه السلام،
وقال حمدويه عن أشياخه: أنه وأحمد بن حمزة كانا في عداد الوزراء قال: وفي
رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع " قال الرضا عليه السلام: إن لله تعالى بأبواب الظالمين
من نور الله تعالى له البرهان، ومكن له في البلاد، ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله
تعالى به أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضر، وإليهم يفزع ذو الحاجة
من شيعتنا، وبهم يؤمن الله تعالى روعة المؤمن في دار الظلم، أولئك المؤمنون حقا.
أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيته يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل
السماوات كما تزهر الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم يوم القيامة
تضئ منه القيامة، خلقوا والله للجنة، وخلقت الجنة لهم، فهنيئا لهم، ما على أحدكم
أن لو شاء لنال هذا كله. قال: قلت بماذا - جعلني الله فداك -؟. قال: يكون معهم
فيسرنا بادخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد (2).
وروى الكشي في الكتاب المذكور قال: لما قدم أبو إبراهيم موسى عليه السلام
العراق، قال علي بن يقطين: أما ترى حالي وما أنا فيه؟ فقال له: يا علي أن لله تعالى
أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي (3).
وروى في قرب الإسناد بسنده عن علي بن يقطين أنه كتب إلى أبي الحسن

(1) الوسائل ج 12 ص 139 حديث: 2 و 3
(2) قاموس الرجال ج 8 ص 59 - 60 وتنقيح المقال ج 2 رقم: 10393 نقلا عن
الكشي.، وقد سقط المطبوع في النجف
(3) رجال الكشي ص 367 في ترجمة " علي بن يقطين ". وروى صدره صاحب الوسائل
في ج 12 ص 139 حديث: 1
129

عليه السلام أن قلبي يضيق مما أنا عليه السلطان، وكان وزيرا لهارون، فإن أذنت
- جعلني الله فداك - هربت منه. فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم (1).
وروى في مستطرفات السرائر مما استطرفه من كتاب " مسائل الرجال من عملهم ومكاتباتهم.
إلى مولانا أبي الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام " قال: وكتبت إليه أسأله عن العمل
لبني العباس وأخذ ما أتمكن من أموالهم، هل فيه رخصة. وكيف المذهب في ذلك؟
فقال: ما كان الداخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر، وما خلا ذلك فمكروه،
ولا محالة قليله خير من كثيره، وما يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبب على يديه
ما يسر له فينا وفي موالينا قال: وكتبت إليه في جواب ذلك، أعلمه أن مذهبي في
الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى إدخال المكروه على عدوه وانبساط اليد في
التشفي منهم، بشئ أن أتقرب به إليهم، فأجاب: من فعل ذلك فليس مدخله في العمل
حراما بل أجرا وثوابا (2).
وروى في المقنع قال: روي عن الرضا عليه السلام: أنه قال: إن لله تعالى مع السلطان
أولياء، يدفع بهم عن أوليائه. قال: وسئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل يحب آل محمد
صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ديوان هؤلاء فيقتل تحت رايتهم، فقال: يحشره الله على نيته (3).
وروى في الأمالي عن زيد الشحام في الصحيح، قال: سمعت الصادق عليه السلام
يقول: من تولى أمرا من أمور الناس فعدل، وفتح بابه، ورفع ستره، ونظر في أمور
الناس، كان حقا على الله عز وجل أن يؤمن روعته يوم القيامة، ويدخله الجنة (4).
وروى في الكافي والتهذيب عن محمد بن جمهور وغيره، من أصحابنا قال:
كان النجاشي - وهو رجل من الدهاقين - عاملا على الأهواز وفارس، فقال بعض

(1) الوسائل ج 12 ص 143 حديث: 16
(2) مستطرفات السرائر ص 479
(3) الوسائل ج 12 ص 139 حديث: 5 و 6
(4) الوسائل ج 12 ص 140 حديث: 7
130

أهل عمله لأبي عبد الله عليه السلام: أن في ديوان النجاشي على خراجا، وهو ممن يدين
بطاعتك، فإن رأيت أن تكتب لي إليه كتابا؟ فكتب إليه أبو عبد الله عليه السلام:
" بسم الله الرحمن الرحيم، سر أخاك يسرك الله تعالى ".
قال: فلما ورد عليه الكتاب وهو في مجلسه فلما خلا، ناوله الكتاب، فقال:
هذا كتاب أبي عبد الله عليه السلام؟ فقبله ووضعه على عينيه، قال: ما حاجتك؟ فقال، على
خراج في ديوانك. قال له: كم هو؟ قال: عشرة آلاف درهم. قال: فدعى كاتبه
فأمره بأدائها عنه، ثم أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل. ثم قال له: هل سررتك؟
قال: نعم قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى، فقال له، هل سررتك؟ فقال:
نعم جعلت فداك فأمر له بمركب ثم أمر له بجارية وغلام وتخت ثياب، في كل ذلك
يقول: هل سررتك؟ فكلما قال: نعم، زاده، حتى فرغ قال له: احمل فرش هذا
البيت الذي كنت جالسا فيه، حين دفعت إلى كتاب مولاي، وارفع إلى جميع
حوائجك، قال ففعل وخرج الرجل، فصار إلى أبي عبد الله عليه السلام بعد ذلك فحدثه
بالحديث، على وجهه، فجعل يستبشر بما فعل فقال له الرجل: يا ابن رسول الله، كأنه
قد سرك ما فعل بي؟ قال: أي والله، لقد سر الله تعالى ورسوله (1).
أقول: لا يخفى ما في هذه الأخبار، باعتبار ضم بعضها إلى بعض، من التدافع
والتمانع.
ومجمل القول فيها: أنه لا شك أنه قد علم من الأخبار المتقدمة حرمة الدخول
في أعمالهم على أوكد وجه، بل مجرد محبتهم والركون إليهم وحب بقائهم، فضلا
عن مساعدتهم وإعانتهم بالأعمال، إلا أن الأخبار الدالة على الجواز ظاهرة فيه بالقيود
المذكورة فيها، لكنها ظاهرة الاختلاف، فإن منها ما يدل على أنه بالاتيان بتلك
الشروط إنما تحصل له بها الكفارة، بأن تكون هذه الشروط كفارة لدخوله في العمل،

(1) الوسائل ج 12 ص 142 حديث: 13
131

كما يشير إليه قوله - في حديث أبي بصير المتقدم -: وهو أقلهم حظا في الآخرة (1).
إلى أقل المؤمنين. وقوله - في خبر الحسن بن الحسين الأنباري -: كان ذا بذا (2).
وفي خبر زياد بن أبي سلمة: فواحدة بواحدة (3).
ولعله عليه السلام - في رواية الأنباري - كان يعلم عدم حصول القتل عليه بعدم
دخوله، وإلا فمنعه عن الدخول - والحال هذه - خروج عن الأدلة القطعية، آية ورواية
في العمل بالتقية، كما لا يخفى.
ومنها: ما يدل على أنه ينال بذلك الحظ الأوفر والمنزلة العليا، كما يدل عليه
كلام الرضا عليه السلام في رواية الكشي (4). وأخبار علي بن يقطين وعلو مرتبته
عند الكاظم عليه السلام (5). وخبر النجاشي وما قاله الصادق عليه السلام في حقه (6).
ويؤيده خبر منع الكاظم عليه السلام لعلي بن يقطين عن الخروج من أعمالهم.
* * *
والتحقيق في ذلك: أن هنا مقامات ثلاثة:
(الأول): أن يدخل في أعمالهم لحب الدنيا، وتحصيل لذة الرياسة، والأمر
والنهي. وهو الذي يحمل عليه أخبار المنع.
(الثاني): أن يكون كذلك، ولكن يمزجه بفعل الطاعات وقضاء حوائج
المؤمنين وفعل الخيرات. وهذا هو الذي أشير إليه في الأخبار المتقدمة، كما عرفت
من قوله عليه السلام: ذا بذا. وقوله: واحدة بواحدة. وقوله: وهو أقلهم حظا.

(1) الوسائل ج 12 ص 134 حديث: 4
(2) الوسائل ج 12 ص 145 حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 140 حديث: 9
(4) تقدم نقلا عن قاموس الرجال ج 8 ص 59 - 60
(5) الوسائل ج 12 ص 140 حديث: 8
(6) الوسائل ج 12 ص 142 حديث: 13
132

ونحو ذلك.
(الثالث): أن يكون قصده من الدخول فيها، إنما هو محض فعل الخير، و
دفع الأذى عن المؤمنين، واصطناع المعروف إليهم، وهو الفرد النادر وأقل قليل،
حتى قيل إنه من قبيل اخراج اللبن الخالص من بين فرث ودم.
ويشير إلى هذا الفرد عجز حديث السرائر المتقدم (1) وعلى هذا يحمل دخول
مثل الثقة الجليل علي بن يقطين، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وأمثالهما من أجلاء
الرواة عنهم، النجاشي المتقدم ذكره، وكذلك جملة من علمائنا الأعلام، كالمرتضى
والمحقق الخواجة نصير الدين والملة، وآية الله العلامة الحلي، ومن المتأخرين
المحقق الثاني في سلطنة الشاه إسماعيل، وشيخنا البهائي، وشيخنا المجلسي، و
نحوهم عطر الله مراقدهم. مع تسليم دعوى العموم. وبذلك يزول الاشكال
والله العالم.

(1) تقدم عن مستطرفات السرائر ص 479
133

تتمة مهمة
أقول: ومن هنا يعلم الكلام في جواز الدخول في أعمالهم وعدمه، والأصحاب
قد صرحوا هنا بأنه لا يجوز الدخول في أعمالهم إلا مع التمكن من القيام بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وقسمة الصدقات والأخماس على مستحقيها، وصلة الإخوان،
ولا يرتكب في ذلك المآثم، علما أو ظنا، وإلا فلا يجوز الولاية بلا خلاف، كما
نقله في المنتهى.
وعلى الأول تحمل الأخبار الدالة على رضا الأئمة عليهم السلام ببعض الولاة،
كمن أشرنا إليهم في آخر البحث.
وعلى الثاني تحمل الأخبار المانعة من الدخول كما تقدم.
والظاهر أن القسم الثاني الذي قدمنا ذكره داخل في الأول من هذين القسمين،
كما تقدم في رواية الأنباري (1)، فهو أعم منهما.
والفرق بينهما حينئذ - مع اشتراكهما في الإذن والقيام بالأمور المذكورة -
من جهة ما قدمنا ذكره، من قصد أمر زائد في الدخول على هذه الأمور المذكورة،
وهو حب الرياسة والأمر والنهي ونحو ذلك، وعدمه. فمع قصده يكون من القسم

(1) الوسائل ج 12 ص 145 حديث: 1
134

الثاني المتقدم ذكره، ومع عدمه يكون من القسم الثالث الذي هو أقل قليل: وأما
لو أكرهه الجائر على الدخول فإنه يجوز له الولاية دفعا للضرر عن نفسه، ولا يجوز
له أن يتعدى الحق ما أمكنه، فإن أكره على استعمال ما لا يجوز شرعا جاز له، ما لم
يبلغ إلى الدماء، فإنه لا تجوز التقية فيها على حال.
* * *
بقي الكلام في الدماء التي لا تقية فيها، هل هي أعم من القتل والجرح أو مخصوصة
بالقتل، قولان.
والمدعي للعموم ادعى ورود رواية بأنه لا تقية في الدماء.
والمدعي للتخصيص نقل رواية بأنه لا تقية في القتل.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام، ما رواه في الكافي في الصحيح عن
محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم
فإذا بلغ الدم فليس تقية (1).
وروى الشيخ في الموثق عن أبي حمزة الثمالي، قال، قال أبو عبد الله
عليه السلام: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية (2).
وأنت خبير بما فيهما من الاجمال، لاحتمال حمل الدم على ظاهره الشامل
للجرح، واحتمال إرادة القتل خاصة، فإنه مما يعبر عنه بهذه العبارة غالبا.
وبالجملة فالمسألة لأجل ذلك محل اشكال والله العالم.

(1) الوسائل ج 11 ص 483 حديث: 1 باب: 13 أبواب الأمر والنهي.
(2) الوسائل ج 11 ص 483 حديث: 2
135

المسألة الرابعة
نوح النائح بالباطل
بأن تذكر ما لا يجوز ذكره، كالكذب. فلو كان بحق فإنه لا بأس به، ونحوه
مع عدم سماع الأجانب صوتها، على القول بتحريمه، وحينئذ فالمنع منه إنما هو
لاشتماله على المحرم، وإلا فإنه في نفسه جائز على المشهور.
وعلى ذلك تدل الأخبار:
ومنها: ما رواه في الكافي والتهذيب في الموثق عن يونس بن يعقوب، عن
الصادق عليه السلام، قال: قال لي أبي: يا جعفر، أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب
تندبني عشر سنين بمنى، أيام منى (1).
قيل: الندب أن تذكر النائحة الميت بأحسن أوصافه وأفعاله، والبكاء عليه، و
الاسم: الندبة - بالضم -.
قال بعض مشائخنا: يدل الخبر على رجحان الندبة عليهم وإقامة مأتم لهم، لما
فيه من تشييد حبهم وبغض ظالميهم في القلوب، وهما العمدة في الايمان.

(1) الوسائل ج 12 ص 88 حديث: 1
136

فظاهر: اختصاصه بهم - عليهم السلام - لما ذكرنا. انتهى.
ومنها: ما روياه - أيضا - في الكتابين المذكورين، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
مات الوليد بن المغيرة، فقالت أم سلمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة
فاذهب إليهم؟ فأذن لها، فلبست ثيابها وتهيأت، وكانت من حسنها كأنها جان، و
كانت إذا قامت وأرخت شعرها جلل جسدها، وعقدت طرفه بخلخالها، فندبت ابن
عمها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت:
أنعى الوليد، ابن الوليد * أبا الوليد، فتى العشيرة
حامي الحقيقة، ماجدا * يسمو إلى طلب الوتيرة
قد كان غيثا في السنين * وجعفرا غدقا وميرة
فما عاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها ذلك ولا قال شيئا (1).
والجعفر: النهر الواسع والملآن. والغدق: الماء الكثير، ومنه الآية " ماء
غدقا ". والميرة الطعام.
وعن حنان بن سدير، قال: كانت امرأة معنا في الحي، ولها جارية نائحة،
فجاءت إلى أبي، فقالت: يا عم، كنت تعلم أن معيشتي من الله ثم من هذه الجارية،
فأحب أن تسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك، فإن كان حلالا وإلا بعتها وأكلت ثمنها حتى
يأتي الله بالفرج، فقال لها أبي: والله إني لأعظم أبا عبد الله عليه السلام أن أسأله عن هذه
المسألة، قال: فلما قدمنا عليه - عليه السلام - لأخبرته أنا بذلك، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أتشارط؟
قلت: والله ما أدري تشارط أم لا! فقال أبو عبد الله عليه السلام: قل لها: لا تشارط وتقبل ما
أعطيت (2).

(1) الوسائل ج 12 ص 89 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 89 حديث: 3
137

وظاهر هذا الخبر كراهته مع الاشتراط، أو زيادة الكراهة به، لما سيأتي من
الأخبار الدالة على الكراهة.
وما رواه في الكافي عن عذافر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن كسب النائحة،
فقال: تستحله بضرب إحدى يديها على الأخرى (1).
قيل: لعل المراد أنها تعمل أعمالا شاقة تستحق الأجرة فيما، أو إشارة إلى أنه لا ينبغي أن تأخذ الأجرة على النياحة، بل على ما يضم إليها من الأعمال.
انتهى.
وقيل: هو كناية عن عدم اشتراط الأجرة. ولا يخفى ما فيه.
أقول: لعل الأقرب: أن المراد بيان أقل ما تستحق الأجرة، وهو ضرب إحدى
اليدين على الأخرى.
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا بأس
بأجر النائحة التي تنوح على الميت.
وروى في الفقيه مرسلا، قال: وسئل الصادق عليه السلام عن أجر النائحة؟ فقال:
لا بأس به، قد نيح على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وقال عليه السلام لا بأس بكسب النائحة إذا
قالت صدقا (2).
أقول: الظاهر أن هذه الرواية هي ما ذكره عليه السلام في الفقه الرضوي، حيث قال:
ولا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا ثم قال عليه السلام، ولا بأس بكسب الماشطة إذا لم
تشارط إلى آخر كلامه عليه السلام (3).
وما رواه في التهذيب عن سماعة في الموثق، قال: سألته عن كسب المغنية

(1) الوسائل ج 12 ص 90 حديث: 4
(2) الوسائل ج 12 ص 90 - 91 حديث: 7 و 10 و 9
(3) مستدرك الوسائل ج 12 ص 431 باب: 15 حديث: 17 حديث: 1
138

والنائحة؟ فكرهه (1).
أقول: يجب حمل الكراهة في المغنية على التحريم البتة، لما تقدم في مسألة
الغناء، وأما في النائحة فعلى ما يأتي. فأما ما رواه في الكافي عن عمرو الزعفراني، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من أنعم الله عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفرها،
ومن أصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفرها (2).
وما رواه في الفقيه في حديث المناهي عن الحسين بن زيد، عن جعفر بن محمد،
عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه نهى عن الرنة عند المصيبة، ونهى عن النياحة والاستماع
إليها، ونهى عن تصفيق الوجه (3).
وما رواه في الخصال عن عبد الله بن الحسين بن زيد بن علي عن أبيه عن جعفر بن
محمد عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربعة لا تزال
في أمتي إلى يوم القيامة، الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء؟
بالنجوم، والنياحة على الميت وأن النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقوم يوم القيامة
وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب (4).
وما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه، قال: سألته عن النوح على الميت،
أيصلح؟ قال: يكره (5).
وما رواه في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى، قال: سألته عن
النوح، فكرهه (6).

(1) الوسائل ج 12 ص 90 حديث: 8
(2) الوسائل ج 12 ص 90 حديث: 5
(3) الوسائل ج 12 ص 91 حديث: 11
(4) الوسائل ج 12 ص 91 حديث: 12
(5) الوسائل ج 12 ص 92 حديث: 13
(6) الوسائل ج 12 ص 92 حديث: 14
139

وبظاهر هذه الأخبار قال في المبسوط، وابن حمزة، بل ادعى الشيخ عليه
الاجماع فهي محمولة على ما اشتمل على معصية ومحرم، من النوح بالباطل ونحوه،
مع احتمال الحمل على التقية، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام، وذكر الخلاف
بين الأصحاب في المسألة أيضا في الجلد الثاني من كتاب الطهارة، في بحث غسل
الميت (1) فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه، وتحقيق الحال بما ينكشف به غشاوة
الاشكال، والله العالم.

(1) راجع: الجزء الرابع ص 165 - 169 من هذه الطبعة
140

المسألة الخامسة
في حفظ كتب الضلال ونسخها لغير النقض
كذا صرح به جملة من الأصحاب، بل ظاهر المنتهى: أنه اجماع. ولم أقف
في النصوص على ما يتعلق بهذا الباب.
قال في المسالك: المراد حفظها من التلف أو على ظهر القلب، وكلاهما محرم
لغير النقض والحجة على أهلها، لمن له أهليتها لا مطلقا، خوفا على ضعفاء البصيرة
من الشبهة، ومثله نسخها. وكذا يجوز للتقية، وبدونها يجب اتلافها إذا لم يمكن افراد
موضع الضلال وإلا اقتصر عليها حذرا من اتلاف ما يعد مالا، من الجلد والورق، إذا كان
لمسلم أو لمحترم المال انتهى.
وعندي في الحكم من أصله توقف، لعدم النص، والتحريم والوجوب ونحوهما
أحكام شرعية، يتوقف القول بها على الدليل الشرعي، ومجرد هذه التعليلات الشايعة
في كلامهم، لا تصلح عندي لتأسيس الأحكام الشرعية.
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد: لعل دليل التحريم، أنه قد يؤل إلى
ما هو المحرم، وهو العمل به، وإن حفظها ونسخها ينبئ بالرضا بالعمل والاعتقاد
بما فيه، وأنها مشتملة على البدعة، ويجب دفعها من باب النهي عن المنكر. انتهى.
141

ولا يخفى ما فيه.
قيل: ولعل المراد بها أعم من كتب الأديان المنسوخة وكتب المخالف للحق،
أصولا وفروعا، والأحاديث المعلوم كونها موضوعة، لا الأحاديث التي رواها
الضعفاء، لمذهبهم ولفقههم مع احتمال الصدور، وحينئذ يجوز حفظ الصحاح
الستة، غير الموضوع المعلوم كالأحاديث التي في كتبنا مع ضعف رواتها، لكونهم
زيدية وفطحية وواقفية، ولا ينبغي الاعراض عن الأخبار النبوية، التي رواها العامة،
فإنها ليست الأمثل ما ذكرنا.
أقول: لو كان الحكم المذكور منصوصا عليه، والعلة من النص ظاهرة،
لأمكن استنباط الأحكام من النص، بما يناسب تلك العلة، ويناسب سياق النص،
وأمكن التفريع على ذلك بما يقتضيه الحال من ذلك النص، وحيث إن الأمر ليس
كذلك، فهذه التفريعات والتخريجات كلها إنما هي من قبيل الرمي في الظلام.
وقال المحقق المتقدم ذكره: ثم إن الظاهر أن الممنوع منه هو كتب الضلال
فقط، لا مصنف المخالف في مذهبه مطلقا وإن وافق الحق، فتفاسير المخالفين ليست
بممنوع منها إلا المواضع المخصوصة المعلوم بطلانها وفسادها من الدين، فإن الظاهر
لا قصور في أصول فقههم إلا نادرا، إذ الحق هنا ما ثبت بالدليل وليس شئ هنا مقرر
في الدين قد خولف، بل كتبهم في ذلك مثل كتبنا في نقل الخلاف واختيار ما هو
المبرهن، وهو الحق وكذلك بيعها وسائر التكسب بها، على أنه يجوز كله للأغراض
الصحيحة، بل قد يجب كالتقية والنقض والحجة واستنباط الفروع ونقلها ونقل
أدلتها إلى كتبنا، وتحصيل القوة وملكة البحث على أهلها. انتهى.
أقول: والكلام هنا يجري على حسب حال ما قدمناه، فإن تخصيص المنع
بالضلال فقط جيد لو كان ثمة دليل على حسب ما ذكروه، ولكنهم هنا إنما يبحثون
على تقدير هذه العبارة التي قدمناها، وهي التي يذكرونها في هذا المقام، وقد عرفت
أنه لا مستند لهم، من أخبارهم عليهم السلام.
142

هذا مع تطرق الاشكال إليها والاحتمال، بأن المراد من كتب الضلال يعني
كتب أهل الضلال، وهو مجاز شائع في الكلام، وبه ينتفي ما ذكروه من التخصيص
بالضلال، ويصير عاما لمصنفات أهل الضلال مطلقا. وهذا هو المناسب لما ورد من
النهي عن الجلوس إليهم والاستماع منهم ولو للرد عليهم، خوفا من شمول اللغة و
العذاب له كما يشير إليه بعض الأخبار (1).
وأما قوله: فتفاسير المخالفين ليست بممنوع منها، فإنه وإن سلم أنها ليست
ممنوعا منها من هذه الجهة المذكورة، إلا أنها ممنوع منها بما استفاض في الأخبار
من النهي عن تفسير القرآن إلا بما ورد عنهم عليهم السلام (2)، وإن كان المشهور
بينهم عدم العمل بهذه الأخبار، كما يعطيه كلامه هنا، نسأل الله سبحانه المسامحة لنا
ولهم من عثرات الأقلام وزلات الأقدام.
ولعل ذلك لعدم اطلاعهم عليها، وامعان النظر في تتبعها من مظانها، وإلا
فهي في الكثرة والدلالة على ما قلناه أشهر من أن ينكر، كما بسطنا الكلام عليه في غير
المقام من مؤلفاتنا، وأشرنا إلى ذلك في المقدمة الثالثة من مقدمات الكتاب وبينا أن
جملة الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام متفقة الدلالة على المنع من تفسيره إلا بما
ورد عنهم عليهم السلام (3).
ولذلك تصدى لذلك جملة من فضلاء المتأخرين المتبحرين، منهم السيد
العلامة السيد هاشم الكنكاني البحراني في تفسيره المسمى بالبرهان في تفسير القرآن،
فجمع تلك الأخبار الواردة بتفسير الآيات عنهم - عليهم السلام -، ولقد أحاط
بجملة من الأخبار في تفسير الآيات، ولم يسبقه سابق إلى وصول هذه المقامات.
ثم الشيخ عبد العلي الحويزاوي في كتاب نور الثقلين.

(1) راجع: الوسائل ج 8 ص 430
(2) راجع: تفسير البرهان ج 1 ص 18
(3) راجع: تفسير الصافي المقدمة الخامسة. والجزء الأول ص 27 من هذا الكتاب
143

ثم المحدث الكاشاني في تفسيره الصافي، وهو الحق الحقيق بالاتباع.
وأما قوله: فإن الظاهر أنه لا قصور في أصول فقههم.. الخ ففيه أنه لا ريب
أن هذا العلم واختراع التصنيف فيه والتدوين لأصوله وقواعده، إنما وقع أولا من
العامة، فإن من جملة من صنف فيه الشافعي، وهو في عصر الأئمة - عليهم السلام -
مع أنه لم يرد عنهم - عليهم السلام - ما يشير إليه، فضلا عن أن يدل عليه، ولو كان
حقا (1) كما يدعونه، بل هو الأصل في الأحكام الشرعية كما يزعمونه، لما غفل عنه
1 - إنا لنستغرب هكذا هجمات قاسية من مثل شيخنا المحدث في هذا الموضع.
بل ولهجته العنيفة التي تأباه المباحث العلمية في ثنايا الكتاب.
ولتساءل الشيخ المصنف: ما هو علم الأصول الذي يستنكره بهذه الصورة
الغريبة؟! أما مباحث الألفاظ فهي جملة من مباحث لغوية بحتة يجب على الفقيه
تفهمها ليتمكن من استنباط الحكم الشرعي من نصوص الكتاب والسنة، وهي جارية
على أساليب اللغة المتعارفة، فكما يجب عليه درس متن اللغة وقواعدها الأدبية،
كذلك يجب عليه درس هذه المباحث، لنفس الغاية.
وأما الأصول العملية فهي قواعد فقهية مأخوذة من جملة روايات صحت عن
أهل البيت - عليهم السلام - لا بد لكل فقيه أن يرجع إليها عند اعوزاز الدليل الاجتهادي
على الحكم فإذا لم يجد دليلا على حرمة شئ أو دليلا على وجوب شئ، فلا بد
حينئذ من اللجوء إلى حديث الرفع المتواتر الذي يقبله الأصولي والأخباري. وهكذا
الاستصحاب وغيره.
نعم لا يرجع إليه الأخباري في الشبهات التحريمية، ويقتصر في الأخذ بحديث
الرفع في الشبهات الوجوبية فحسب. وهذا المقدار لا يصلح فارقا لتكوين مذهبين،
وتبريرا لمثل هذا التشنيع القاسي. بل التشنيع موجه إلى الأخباري نفسه الذي يترك
العمل بعموم دستور صدر عن أهل البيت - عليهم السلام - فيؤمن بالبعض ويترك
البعض لا عن سبب معقول.!
عصمنا الله من طيش القلم وزلة العصبية في المقال. (م. ه‍. معرفة.)
144

الأئمة عليهم السلام، مع حرصهم على هداية شيعتهم، إلى كل نقير وقطمير، كما
لا يخفى على من تتبع أخبارهم، إذ ما من حالة من حالات الانسان، في مأكله ومشربه
وملبسه ونومه ويقظته ونكاحه ونحو ذلك من أحواله، إلا وقد خرجت فيه السنن عنهم
عليهم السلام حتى الخلاء، ولو أراد انسان أن يجمع ما ورد في باب الخلاء لكان كتابا
على حدة، فيكف يغفلون عن هذا العلم الذي هو بزعمهم مشتمل على القواعد الكلية
والأصول الجلية، والأحكام الشرعية، وكذلك أصحابهم في زمانهم عليهم السلام،
مع رؤيتهم العامة عاكفين على تلك القواعد والأصول، يعملون به إلى أن انتهت
النوبة بعد الغيبة إلى الشيخ - رحمه الله - فصنف فيه استحسانا لما رآه في كتبهم،
وخالفهم فيما لا يوافقون أصول مذهبنا وقواعده، ثم جرى على ذلك من بعده من أصحابنا،
كما هي قاعدتهم غالبا من متابعته في فتاويه وأحكامه وتصانيفه.
وبالجملة فإن الأمر فيما ذكرنا أظهر من أن يخفى عند الخبير المنصف.
فكتبهم فيه لا تخرج عن كتب أهل الضلال، أن عممنا الحكم في المقام، إلا أنك
قد عرفت أن أصل البناء كان على غير أساس، فصار معرضا لحصول الشك والشبهة
والالتباس.
وكيف كان فالظاهر على تقدير ثبوت التحريم، أنه إن كان الغرض من ابقائها
الاطلاع على المذهب والأقوال ليكون على بصيرة في تمييز الحق من الباطل وعرض
ما اختلف من الأخبار عليها والأخذ بخلافه، حيث إنه مأمور بذلك عنهم عليهم السلام
ونحو ذلك من الأغراض الصحيحة، فلا اشكال في الجواز. وإليه يشير قوله - قدس
سره - أخيرا: على أنه يجوز للأغراض الصحيحة.... الخ. والله العالم وأولياؤه.
145

المسألة السادسة
في هجاء المؤمن والغيبة
والمراد بالأول: ذكر معايبه في الأشعار. والثاني: القول بما يكرهه ويغيظه،
وإن كان حقا.
قال في المسالك: وخرج بالمؤمنين غيرهم، فيجوز هجاؤهم كما يجوز لعنهم.
ولا فرق هنا بين المؤمن الفاسق وغيره، اللهم إلا أن يدخل هجاء الفاسق في
مراتب النهي عن المنكر بحيث يتوقف ردعه عليه، فيمكن جوازه حينئذ إن فرض
انتهى.
وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد: والظاهر أن عموم أدلة الغيبة من
الكتاب والسنة يشمل المؤمنين وغيرهم، فإن قوله تعالى " ولا يغتب بعضكم بعضا "
أما للمكلفين كلهم أو المسلمين فقط، لجواز غيبة الكافر. ولقوله بعده " لحم أخيه
ميتا " وكذا الأخبار، فإن أكثرها بلفظ " الناس " أو " المسلم " مثل ما روي في الفقيه
" من اغتاب امرءا مسلما بطل صومه، ونقص وضوؤه، وجاء يوم القيامة يفوح من فيه
رائحة أنتن من الجيفة، يتأذى به أهل الموقف، وإن مات قبل أن يتوب مات مستحلا
146

لما حرم الله تعالى " (1) " ألا ومن سمع فاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها " (2) " ومن
اصطنع إلى أخيه معروفا فامتن به أحبط الله تعالى عمله، وأثبت وزره ولم يشكر له
سعيه " (3).
وقال الشيخ زين الدين في رسالة الغيبة: " قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كل المسلم على
المسلم حرام، دمه وماله وعرضه. والغيبة: تناول العرض، وقد جمع بينه وبين المال
والدم. وقال عليه السلام: لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضا، وكونوا
- عباد الله - إخوانا وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مررت ليلة أسري بي
على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء
الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم وقال البراء: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى
أسمع العواتق في بيوتهن. قال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين
ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه
ولو في جوف بيته " (4). إلى غير ذلك، وبالجملة عموم أدلة الغيبة. وخصوص ذكر المسلم
يدل على التحريم مطلقا، وإن عرض المسلم كدمه وماله، فكما لا يجوز أخذ مال
المخالف وقتله، ولا يجوز تناول عرضه الذي هو الغيبة، وذلك لا يدل على كونه مقبولا
عند الله تعالى، لعدم جواز أخذ ماله وقتله، كما في الكافر. ولا يدل جواز لعنه في
النص على جواز الغيبة، مع تلك الأدلة، بأن يقول: إنه قصير أو طويل أو أعمى
أو أجذم أو أبرص وغير ذلك، وهو ظاهر. وأظن أني رأيت في قواعد الشهيد رحمه الله
أنه يجوز غيبة المخالف، من حيث مذهبه ودينه الباطل وكونه فاسقا من تلك
الجهة لا غير، مثل أن يقال أعمى ونحوه والله أعلم، ولا شك أن الاجتناب أحوط.

(1) الفقيه ج 4 ص 8
(2) الفقيه ج 4 ص 9
(3) الفقيه ج 4 ص 10
(4) كشف الريبة ص 6 - 7
147

انتهى (1).
وصاحب الكفاية قد نقل صدر هذا الكلام، فقال: وقال بعض المتأخرين،
إلى قوله: إلا من سمع الفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها، ثم قال: ونقل عن رسالة
الشهيد الثاني أخبار، بعضها بلفظ الناس، وبعضها بلفظ المسلم. وظاهره: الجمود
عليه وموافقته فيما ذكره، حيث لم يتعرض لرده ولا قدح فيه.
أقول: وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور، وإن كان مبنيا علي ما هو المعروف
المشهور من الحكم باسلام المخالفين، إلا أن أخبار أهل البيت - عليهم السلام -
ظاهرة في رده، متكاثرة مستفيضة على وجه لا يعتريها الفتور.
وقد بسطنا الكلام في الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب، وقد قدمنا نبذة في
ذلك في كتاب الطهارة في باب نجاسة الكافر، وأوضحنا كفر المخالفين غير المستضعفين،
ونصبهم وشركهم بالأخبار المتكاثرة، التي لا معارض لها في البين، وأنه ليس اطلاق
المسلم عليهم، إلا من قبيل اطلاقه على الخوارج وأمثالهم، من منتحلي الاسلام،
وتوجه الطعن إلى كلام هذا المحقق أكثر من أن يأتي عليه قلم البيان.
ولكن لا بد من التعرض لما لا بد منه مما يندفع به الاشكال، عن الناظر في هذا
المقال، فنقول:
فيه - أولا -: أن ما ادعاه من الحكم باسلامهم مردود، للأخبار المستفيضة
والآيات الطويلة العريضة، الدالة على الكفر. ولأجل إزاحة ثقل المراجعة على
النظار في الرجوع إلى ما قدمناه في كتاب الطهارة من الأخبار، نشير إلى نبذة منها
على جهة الاختصار.
ففي الكافي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إن الله عز وجل نصب عليا علما بينه
وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن جهله كان ضالا (2).

(1) انتهى كلام المحقق الأردبيلي
(2) الكافي ج 1 ص 438 حديث: 7
148

وقال: إن عليا عليه السلام باب فتحه الله فمن دخله كان مؤمنا، خرج منه كان كافرا،
ومن لم يدخل فيه لم يخرج منه كان في الطبقة الذين قال الله تبارك وتعالى: لي فيهم
المشية (1).
وعن الصادق عليه السلام قال: من عرفنا كان مؤمنا، ومن أنكرنا كان كافرا، ومن
لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا، حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه
من طاعتنا الواجبة، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء (2).
وبهذا المضمون أخبار عديدة.
وروى فيه بسنده إليه الصادق عليه السلام، قال: أهل الشام شر من أهل الروم، وأهل
المدينة شر من أهل مكة، وأهل مكة يكفرون بالله جهرة (3).
وبسنده فيه عن أحدهما - عليهما السلام - قال: إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة
وأن أهل المدينة أخبث من أهل مكة، أخبث منهم سبعين ضعفا (4).
وقد روى في الكافي جملة من الأخبار في تفسير الكفر، في جملة من الآيات
القرآنية، بترك الولاية.
منها: ما رواه بسنده إلى الصحاف قال: سألت الصادق عليه السلام، عن قوله تعالى
" فمنكم كافر ومنكم مؤمن " (5) قال: عرف الله ايمانهم بولايتنا وكفرهم بها، يوم
أخذ عليهم الميثاق في صلب آدم وهم ذر (6). ونحوه غيره فليرجع إلى الكتاب

(1) الكافي ج 1 ص 437 حديث: 8
(2) الكافي ج 1 ص 187 حديث: 11
(3) الكافي ج 2 ص 209 حديث: 3
(4) الكافي ج 2 ص 410 حديث: 4
(5) سورة التغابن: 3
(6) الكافي ج 1 ص 413 حديث: 4 و ص 426 حديث: 74 ولفظ الحديث في الموضع
الثاني: " بموالاتنا " بدل " بولايتنا ".
149

المذكور من أحب الاطلاع عليه فأين ثبوت الاسلام لأولئك الطغام، مع هذه الآيات
والأخبار الواضحة لكل ناظر من ذوي الأفهام!!
وأظهر من ذلك ما رواه في الخصال بسنده عن مالك الجهني، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم،
ولهم عذاب أليم، من ادعى إماما ليست إمامته من الله تعالى، ومن جحد إماما إمامته
من عند الله تعالى، ومن زعم أن لهما في الاسلام نصيبا (1).
ورواه النعمان في كتاب الغيبة في الصحيح عن عمران الأشعري، عن جعفر
ابن محمد مثله. نعوذ بالله من زيغ الأفهام وطغيان الأقلام، ونسأله سبحانه المسامحة
لنا ولهم في أمثال هذا المقام.
وثانيا: أن ما ذكره بقوله: " والظاهر أن عموم أدلة تحريم الغيبة من الكتاب
والسنة يشمل المؤمنين وغيرهم، فإن قوله تعالى، لا يغتب بعضكم بعضا، إما للمكلفين
أو المسلمين... الخ " من العجب العجاب عند ذوي العقول والألباب. فإن صدر
الآية " يا أيها الذين آمنوا " فالخطاب للمؤمنين خاصة، فكيف يقول: إن الخطاب
للمكلفين أو المسلمين؟! وكأنه غفل عن صدر الآية حتى بنى عليها هذا الكلام الواهي
البالغ غاية الضعف.
وبالجملة، فإن الآية إنما هي عليه، لا له، لما سيأتيك أيضا زيادة على ما ذكرناه.
وثالثا: إن الآية التي دلت على تحريم الغيبة، وإن كان صدرها مجملا، إلا أن
قوله فيها " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " مما يعين الحمل على المؤمنين،
فإن اثبات الأخوة بين المؤمن والمخالف له في دينه، لا يكاد يدعيه من شم رائحة
الايمان، ولا من أحاط خبرا بأخبار السادة الأعيان، لاستفاضتها بوجوب معاداتهم،
والبراءة منهم.
ومنها: ما رواه الصدوق في معاني الأخبار، والعيون والمجالس، وصفات

(1) رواه في الكافي ج 1 ص 373 حديث: 4 وفي الخصال باب الثلاثة رقم: 2 / 61
150

الشيعة والعلل، عن محمد بن القاسم الاسترآبادي، عن يونس بن محمد بن زياد،
وعلي بن محمد بن سيار، عن أبويهما عن الحسن بن علي العسكري عن آبائه
- عليهم السلام -، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد الله
أحب في الله وأبغض في الله، ووال في الله وعاد في الله، فإنه لن تنال ولاية الله إلا بذلك
ولا يجد الرجل طعم الايمان، وإن كثرت صلاته وصيامه، حتى يكون كذلك،
وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتواددون وعليها
يتباغضون، وذلك لا يغني من الله شيئا. فقال الرجل: يا رسول الله، فكيف لي أن أعلم
أني قد واليت في الله وعاديت في الله؟ ومن ولى الله حتى أواليه؟ ومن عدوه حتى أعاديه؟ فأشار
صلى الله عليه وإليه وسلم إلى علي عليه السلام فقال: أترى هذا؟ قال: بلى. قال: ولى الله هذا فواله، وعدو هذا عدو الله
فعاده. ثم قال: وال ولي هذا، ولو أنه قاتل أبيك وولدك، وعاد عدو هذا ولو أنه
أبوك وولدك (1).
أقول: فليختر هذا القائل، أن المخالف هل هو من أولياء علي عليه السلام فتجب
موالاته وتثبت إخوته ويجب الحكم بدخوله الجنة لذلك؟ أو أنه عدو له عليه السلام فتجب
معاداته وبغضه بنص هذا الخبر الصحيح الصريح عنه صلى الله عليه وآله وسلم؟ ولو لم يكن إلا هذا الخبر
لكفى به حجة، فكيف والأخبار بهذا المضمون مستفيضة متكاثرة.
ومنها ما رواه أيضا في الكافي عن عمرو بن مدرك عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أي عرى الايمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم.
وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة، وقال بعضهم: الصيام. وقال بعضهم:
الحج والعمرة. وقال بعضهم: الجهاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكل ما قلتم فضل
وليس به، ولكن أوثق عرى الايمان: الحب في الله والبغض في الله، وتوالي أولياء الله،
والتبري من أعداء الله (2).

(1) علل الشرايع ص 141 باب: 119 الحديث: 1
(2) الكافي ج 2 ص 125 حديث: 6
151

ومنها ما رواه في الكافي عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
كل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين فلا دين له (1).
وبالإسناد عن أبي عبد الله عليه السلام في رسالته إلى أصحابه، قال: أحبوا في الله من
وصف صفتكم، وأبغضوا في الله من خالفكم وابذلوا مودتكم ونصيحتكم لمن وصف
صفتكم، ولا تبذلوها لمن رغب عن صفتكم (2).
وروى في كتاب صفات الشيعة للصدوق بسنده عن ابن فضال، عن الرضا عليه السلام،
قال: من وإلى أعداء الله فقد عادى أولياء الله، ومن عادى أولياء الله فقد عاد الله، وحق على الله
أن يدخله نار جهنم (3).
وروى في كتاب ثواب الأعمال وكتاب صفات الشيعة. عن صالح بن سهل
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من أحبنا وأبغض عدونا في الله، من غير ترة وترها إياه
في شئ من أمر الدنيا، ثم مات على ذلك فلقى الله وعليه من الذنوب مثل زبد البحر
غفرها الله له (4) إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن نقلها المقام.
ويعضد هذه الأخبار العلية المنار الساطعة الأنوار قوله عز وجل " يا أيها الذين
آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " (5) وقوله عز وجل " لا تجد قوما يؤمنون بالله
واليوم الآخر يوادون من حاد الله " (6).
وإذا كان الله عز وجل نهى أهل الايمان عن ولايتهم ومحبتهم، فكيف يجوز
الحكم في الآية المشار إليها بأخوتهم!؟ ما هذا إلا سهو واضح من هذا التحرير، وبذلك

(1) الكافي ج 2 ص 127 حديث: 16
(2) الكافي ج 8 ص 12
(3) كتاب صفات الشيعة رقم: 11 ص 49 ط طهران.
(4) ثواب الأعمال: 165. بحار النوار ج 27 ص 55 حديث: 10
(5) سورة الممتحنة: 1
(6) سورة المجادلة: 22
152

يظهر لك أيضا حمل خبر البراء الذي نقله، على المؤمن أيضا، لقوله فيه " من تتبع
عورة أخيه " إذ لا إخوة بين المؤمن والمخالف، كما عرفت.
وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله، وبين من كفر
بالأئمة - عليهم السلام -؟ مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين بنص الآيات
والأخبار الواضحة الدلالة كعين اليقين.
ورابعا: أن ما استند إليه من ورود الأخبار الدالة على تحريم الغيبة بلفظ " المسلم "
ففيه:
أولا: إنك قد عرفت أن المخالف كافر، لاحظ له في الاسلام بوجه من الوجوه،
كما حققناه في كتابنا " الشهاب الثاقب ".
وثانيا: مع تسليم صحة اطلاق الاسلام عليه، فالمراد به: إنما هو منتحل
الاسلام، كما تقدمت الإشارة إليه، والمراد هنا: إنما هو الاسلام بالمعنى الأخص،
وهو المؤمن الموالي لأهل البيت - عليهم السلام -.
إذ لا يخفى وقوع اطلاق الاسلام على هذا المعنى في الآيات والروايات، ومنه:
قوله تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " (1) وقوله عز وجل في حق الأئمة -:
" هو سماكم المسلمين " (2) وقوله: " فما وجدنا غير بيت من المسلمين " (3).
كما أن الايمان يطلق أيضا تارة على الاسلام بالمعنى الأعم، كقوله عز وجل:
" يا أيها الذين آمنوا آمنوا " (4) فإن المخاطبين هم المقرون بمجرد اللسان، أمرهم بالايمان
بمعنى التصديق. واطلاق المسلم بالمعنى الذي ذكرناه في الأخبار أكثر كثير، كما لا يخفى
على من له أنس بالأخبار.

(1) سورة آل عمران: 19
(2) سورة الحج: 78
(3) سورة الذاريات: 36
(4) سورة النساء: 136
153

وثالثا أن الموجود في أكثر الأخبار الواردة من طرقنا، إنما هو بلفظ " المؤمن "
ونحوه، مثل ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير، عن بعض
أصحابه عن الصادق عليه السلام: من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين
قال الله عز وجل: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم " (1).
وعن عبد الرحمن بن سيابة، قال: سمعت الصادق عليه السلام يقول: الغيبة: أن
تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأما الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا. والبهتان:
أن تقول فيه ما ليس فيه (2).
وعن داود بن سرحان، قال: سألت الصادق عليه السلام عن الغيبة، فقال: هو أن
تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، وتبث عليه أمرا قد ستره الله عليه، لم يقم عليه فيه
حد (3).
وما رواه في الفقيه مرسلا، قال: قال الصادق عليه السلام في حديث: ومن اغتاب
أخاه المؤمن من غير ترة بينهما فهو شرك شيطان (4). الحديث، إلى غير ذلك
من الأخبار.
وحينئذ فيجب حمل " المسلم " على ما ورد في هذه الأخبار المتضمنة للفظ المؤمن
والأخ. على أن أكثر ما نقله من الأخبار إنما هو من روايات العامة، التي لا يقوم بها
حجة، لا سيما على ما هو المعهود من قاعدته وقاعدة أمثاله من أصحاب هذا الاصطلاح،
في رد الأخبار المروية في الأصول المشهورة بضعف السند باصطلاحهم المحدث،
فكيف بالأخبار العامة.

(1) الوسائل ج 8 ص 598 حديث: 6 والآية في سورة النور: 19
(2) الوسائل ج 8 ص 604 حديث: 2
(3) الوسائل ج 8 ص 604 حديث: 1
(4) الفقيه ج 4 ص 299 من حديث: 85. يقال: وتره وترا وتره أي ظلمه وأبغضه.
والمراد: العداء والتباغض.
154

وخامسا: أن قوله: " إنه كما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله لا يجوز تناول
عرضه " فإن فيه - زيادة على ما عرفت - (1): أن الأخبار قد جوزت قتله وأخذ ماله مع
الأمن وعدم التقية، ردا عليه وعلى أمثاله ممن حكم باسلامه، وهي جارية على مقتضى
الأخبار الدالة على كفره.
فروى الشيخ في الصحيح عن حفص بن البختري عن الصادق عليه السلام، قال: خذ
مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس (2).
وعن إسحاق بن عمار، قال: قال الصادق عليه السلام: مال الناصب وكل شئ
يملكه حلال لك، إلا امرأته فإن نكاح أهل الشرك جائز، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: لا تسبوا أهل الشرك فإن لكل قوم نكاحا، ولولا أنا نخاف عليكم أن يقتل رجل

(1) أقول: من أوضح الواضحات في جواز غيبة المخالفين طعن الأئمة - عليه السلام -
بأنهم أولاد زنا، فمن ذلك ما رواه الكافي ج 8 ص 285 عن أبي حمزه عن أبي جعفر
- عليه السلام - قال: قلت له: إن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم، فقال: الكف
عنهم أجمل. ثم قال: والله يا أبا حمزه، إن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا... ثم قال: فنحن أصحاب الخمس والفئ وقد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا.
وما رواه في التهذيب ج 4 ص 136 عن ضريس الكناسي، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:
أتدري من أين دخل على الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري. فقال: من قبل خمسنا - أهل
البيت - إلا لشيعتنا الأطيبين، فإنه محلل لهم لميلادهم. ونحوهما في أخبار الخمس
كثير. فإذا كان الأئمة - عليه السلام - قد طعنوا فيهم بهذا الطعن واغتابوهم بهذه الغيبة التي لا أعظم
منها في الدين بالنسبة إلى المؤمنين والمسلمين فكيف يتم ما ذكره من المنع من غيبتهم.
وبالجملة فالأمر فيما ذكرناه أشهر من أن ينكر. وحينئذ فيحمل قوله في الخبر الأول
" الكف عنهم أجمل " على رعاية التقية، حيث إنه بعد هذا الكلام عقبه بتصديق ما نقله
عن بعض أصحابنا. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر. منه قدس سره.
(2) الوسائل ج 6 ص 340 حديث: 6
155

منكم برجل منهم، ورجل منكم خير من ألف رجل منهم، لأمرناكم بالقتل لهم، ولكن
ذلك إلى الإمام (1). وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن يزيد بن معاوية العجلي، قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام عن مؤمن قتل ناصبيا معروفا بالنصب على دينه، غضبا لله ورسوله
صلى الله عليه وآله وسلم أيقتل به؟ قال: أما هؤلاء فيقتلونه به ولو رفع إلى إمام عادل ظاهر لم يقتله
به. قلت: فيبطل دمه؟ قال: لا ولكن إذا كان له ورثة كان على الإمام أن يعطيهم الدية من بيت
المال، لأن قاتله إنما قتله غضبا لله عز وجل وللإمام ولدين المسلمين (2).
وروى في العلل عن الصحيح عن داود بن فرقد، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
ما تقول في قتل الناصب؟ قال: حلال الدم، ولكن اتقى عليك، فإن قدرت أن تقلب
عليه حائطا أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل. قلت فما ترى في ماله؟ قال:
أتوه ما قدرت عليه (3).
وروى في العيون بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السلام فيما كتبه
للمأمون، قال عليه السلام: فلا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية، إلا قاتل
أو ساع في فساد، وذلك إذا لم تخف على نفسك وأصحابك (4).
وروى في الفقيه عن محمد بن مسلم في الصحيح، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
قلت له: أرأيت من جحد الإمام منكم ما حاله؟ فقال من جحد إماما من الله وبرئ منه
ومن دينه فهو كافر مرتد عن الاسلام، لأن الإمام من الله، ودينه من دين الله، ومن
برئ من دين الله فهو كافر، ودمه مباح في تلك الحال، إلا أن يرجع ويتوب إلى الله

(1) الوسائل ج 11 ص 60 حديث: 2
(2) التهذيب ج 10 ص 213 حديث: 48 / 843
(3) الوسائل ج 18 ص 463 حديث: 5. واتواء المال: تضييعه وافساده
(4) الوسائل ج 11 ص 62 حديث: 9
156

مما قال (1).
وروى الكشي في كتاب الرجال بسنده فيه إلى علي بن حديد، قال: سمعت
من سأل أبا الحسن عليه السلام، فقال: إني سمعت محمد بن بشير يقول: إنك لست موسى
ابن جعفر، الذي أنت إمامنا وحجتنا فيما بيننا وبين الله. فقال: لعنه الله - ثلاثا -
وأذاقه الله حر الحديد، قتله الله أخبث ما يكون من قتلة. فقلت: جعلت فداك، إذا أنا
سمعت ذلك منه أوليس حلال لي دمه، مباح، كما أبيح دم الساب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والإمام؟ فقال: نعم، بلى والله حل دمه، وأباحه لك ولمن يسمع ذلك منه، إلى أن قال: فقلت أرأيت إن أنا لم
أخف أن أرم به بريئا ثم لم أفعله ولم أقتله، ما علي
من الوزر؟ فقال: يكون عليك وزره أضعافا مضاعفة من غير أن ينتقص من وزره شئ
أما علمت أن أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله تعالى ورسوله بظهر الغيب،
ورد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (2).
فإن قيل: إن أكثر هذه الأخبار، إنما تضمن الناصب، وهو - على المشهور -:
أخص من مطلق المخالف، فلا تقوم الأخبار حجة على ما ذكرتم!
قلنا إن هذا التخصيص قد وقع اصطلاحا من هؤلاء المتأخرين، فرارا من
الوقوع في مضيق الالزام، كما في هذا الموضع وأمثاله، وإلا فالناصب حيثما أطلق
في الأخبار وكلام القدماء، فإنما يراد به المخالف، عدا المستضعف. وايثار هذه
العبارة للدلالة على بعض المخالفين للأئمة الطاهرين.
ويدلك على ذلك ما رواه في مستطرفات السرائر من كتاب " مسائل الرجال
ومكاتباتهم لمولانا علي بن محمد الهادي عليه السلام " في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى،
قال: كتبت إليه: أسأله عن الناصب، هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه
الجبت والطاغوت، واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو

(1) الوسائل ج 18 ص 544 حديث: 1
(2) رجال الكشي - طبع النجف - ص 408
157

ناصب (1).
وهو صريح في أن مظهر النصب والعداوة، هو القول بإمامة الأولين.
وروى في العلل عن عبد الله بن سنان، عن الصادق عليه السلام، قال: ليس الناصب
من نصب لنا - أهل البيت - لأنك لا تجد أحدا يقول إني أبغض محمدا وآل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكن الناصب من نصب لكم، وهو يعلم أنكم تتولونا وإنكم
من شيعتنا (2).
ونحوه رواية معلى بن خنيس، وفيها " ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم
أنكم تتولونا وتتبرأون من أعدائنا " (3).
فهذا تفسير الناصب في أخبارهم، الذي تعلقت به الأحكام، من النجاسة، وعدم
جواز المناكحة، وحل المال والدم ونحوه، وهو عبارة عن المخالف مطلقا عدا
المستضعف، كما دل عليه استثناؤه في الأخبار، وما ذكروه من التخصيص بفرد خاص
من المخالفين مجرد اصطلاح منهم، لم يدل عليه دليل من الأخبار، بل الأخبار في رده
واضحة السبيل (4).

(1) مستطرفات السرائر ص 479 والوسائل ج 6 341 حديث 14
(2) الوسائل ج 6 ص 339 حديث: 3
(3) معاني الأخبار ص 104 والبحار ج 27 ص 233
(4) أقول: وفي بعض الأجوبة المنسوبة إلى ابن إدريس، وقد سئل عن الناصب
والمستضعف: من هما، وما الفرق بينهما؟ فأجاب بجواب طويل، يتضمن أن الناصب هو المخالف
غير المستضعف، وأكثر من الأخبار الدالة على ذلك، وكلام المتقدمين من الأصحاب وغيرهم،
ومنها: قول المتنبي:
إذا علوي لم يكن نسل طاهر * فما هو إلا حجة للنواصب
وقول المعري - على ما شاع عنه -:
اضرب بعاد قفا ثمود * وبالنصارى قفا اليهود
وبالروافض قفا النواصب
158

ومن أراد تحقيق الحال وتفصيل هذا الاجمال، فليرجع إلى كتابنا المتقدم
ذكره فإنه واف وشاف، محيط بأطراف الكلام، وإبرام النقض ونقض الابرام.
وقد خرجنا بما ذكرنا من تطويل الكلام في المقام، عما هو المقصود والمرام،
لمزيد الإيضاح، لما في كلام هذا المحقق من الوهن والقصور الظاهر لمن وفق للاطلاع
على أخبارهم - عليهم السلام -.
* * *
إذا ثبت هذا فاعلم: أنه كما تحرم الغيبة فإنه يحرم استماعها أيضا، لما رواه
الصدوق في الفقيه في حديث المناهي، عن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه
عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الغيبة والاستماع إليها - إلى أن قال: - ألا ومن تطول على أخيه في غيبة سمعها فيها في مجلس فردها عنه، رد الله
عنه ألف باب من شر الدنيا والآخرة، فإن هو لم يردها وهو قادر على ردها، كان عليه
كوزر من اغتابه سبعين مرة (1).
* * *
وذكر بعض الأصحاب: أن كفارة الغيبة هو التحلل ممن اغتابه إن كان حيا،
والاستغفار له إن كان ميتا.
والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك. ما رواه من الكافي والفقيه عن حفص
ابن عمير عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما كفارة الاغتياب؟ قال:
تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته (2).

وغيرها. وكلها صريحة في أن الناصب عبارة عن المخالف غير المستضعف. وبه يظهر
أن ما اشتهر بين المتأخرين من تخصيصهم الناصب بمعنى أخص من المخالف لا وجه له ولا دليل عليه، بل الدلالة على خلافه ظاهره كما عرفت والله العالم. منه قدس سره.
(1) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 8 - 9
(2) الوسائل ج 8 ص 606
159

وظاهر الخبر المذكور: أن كفارة الغيبة: الاستغفار مطلقا، حيا كان من اغتابه
أو ميتا. ويعضده: أن أخباره بذلك ربما أثار فتنة أو زيادة حقد وبغض في القلوب،
كما هو ظاهر من أحوال أكثر الناس.
تتمة مهمة
قد استثنى الأصحاب جملة من المواضع، فجوزوا الغيبة فيها:
منها: التظلم عند من يرجو زوال ظلمه، إذا نسب من ظلمه إلى الآثام.
قال في الكفاية - بعد نقل ذلك -: ولعل الأحوط الاقتصار على أقل الحاجة.
انتهى.
ولم أقف على من استند هنا إلى دليل.
ويمكن الاستدلال على ذلك بما رواه في الكافي عن ثعلبة بن ميمون عمن ذكره
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: كان قوم عنده يحدثهم إذ ذكر رجل منهم رجلا، فوقع
فيه وشكاه، فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: وأنى لك بأخيك كله، وأي الرجال
المهذب (1).
ويمكن الاستدلال على ذلك أيضا بقوله عز وجل " لا يحب الله الجهر بالسوء من
القول إلا من ظلم " (2) ففي مجمع البيان: عن الباقر عليه السلام " لا يحب الله الشتم في الانتصار
(إلا من ظلم) فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه، بما يجوز الانتصار به في الدين " (3).

(1) الكافي ج 2 ص 651 حديث: باب الاغضاء. وقوله: بأخيك كله أي هو الأخ
الكامل التام. وقوله: أي الرجال المهذب، أيضا إشارة إلى الكمال، كما في قول الشاعر:
ولست بمستبق أخا لا تلمه * على شعث، أي الرجال المهذب
(2) سورة النساء: 148
(3) مجمع البيان ج 3 ص 131
160

قال في الكتاب المذكور: ونظيره: " وانتصروا من بعد ما ظلموا " (1).
وفي تفسير على ابن إبراهيم - قدس سره -: وقوله تعالى " لا يحب الله الجهر
بالسوء من القول إلا من ظلم " أي لا يحب الله أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ولا يظلم،
إلا من ظلم، فقد أطلق له أن يعارضه بالظلم (2).
وفي المجمع - أيضا - عن الصادق عليه السلام: أنه الضيف ينزل بالرجل فلا يتحسن
ضيافته، فلا جناح عليه أن يذكره بسوء ما فعله (3).
وفي تفسير العياشي - أيضا - عنه عليه السلام في هذه الآية: من أضاف قوما فأساء
ضيافتهم فهو ممن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه. وعنه عليه السلام: الجهر بالسوء
من القول، أن يذكر الرجل بما فيه (4).
أقول: الظاهر أن التفسير بالضيف من حيث دخوله في عموم الآية واطلاقها،
فلا منافاة فيه للتفسير الأول. وظاهر ما نقلناه عنهم: تخصيص الحكم بالتظلم عند
الحاكم الشرعي ونحوه، يرجى به دفع الظلم عنه، بأن يقول: إن فلانا غصبني
أو ضربني أو نحو ذلك. ومقتضى ظاهر الآية: العموم. وكذا ظاهر الأخبار المنقولة
في تفسيرها.
(ومنها): الاستفتاء، كما يقول المستفتي: ظلمني أبي أو أخي، فكيف طريقي
في الخلاص؟ قال في الكفاية: والأسلم هنا التعريض، بأن يقول: ما قولك في رجل ظلمه
أبوه أو أخوه؟ وقد روي: " أن هندا قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح،
وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك

(1) سورة الشعراء: 227
(2) البرهان ج 1 ص 325 حديث: 3
(3) مجمع البيان ج 3 ص 131
(4) تفسير العياشي ج 1 ص 283
161

وولدك بالمعروف " (1). فذكرت الشح والظلم لها وولدها، ولم يزجرها صلى الله عليه وآله وسلم
إذ كان قصدها الاستفتاء. وفي هذا الحكم اشكال، إذ كان سبيل إلى التعريض وعدم
التصريح. انتهى.
أقول: ما ذكره من الاستدلال بهذه الرواية، مع تسليم ورودها من طرقنا، محل
نظر. فإن أبا سفيان منافق كافر، قد لعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير مقام فلا غيبة له.
ولكن الاستدلال بهذه الرواية هنا جرى على ما قدمنا ذكره عنه ثمة، من نقله كلام
المقدس الأردبيلي وجموده عليه، وقد عرفت ما فيه مما أظهر ضعف باطنه وخافيه.
نعم يمكن الاستدلال على ذلك بما رواه في الكافي والتهذيب، عن حماد بن
عثمان، قال: دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام، فشكى رجلا من أصحابه، فلم يلبث
أن جاء المشكو، فقال له أبو عبد الله عليه السلام - مغضبا -: ما لفلان يشكوك؟ فقال له:
يشكوني أني استقضيت منه حقي، قال: فجلس أبو عبد الله عليه السلام مغضبا، ثم قال:
كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ! أرأيت ما حكى الله عز وجل في كتابه: " يخافون
سوء الحساب " (2) أنهم خافوا الله أن يجور عليهم؟! لا والله ما خافوا إلا الاستقضاء،
فسماه الله عز وجل سوء الحساب، فمن استقضى فقد أساء (3).
إلا أنهم قد عنونوا هذا الموضع بالاستفتاء، وما تضمنه الخبر ليس من قبيل
الاستفتاء، ويمكن جعل العنوان ما هو أعم، أو يجعل هذا الخبر من أدلة الموضع الأول.
(ومنها): تحذير المؤمن من الوقوع في الخطر والشر، ونصح المستشير. قالوا:
إذا رأيت متفقها يتلبس بما ليس من أهله، فلك أن تنبه الناس على نقصه وقصوره

(1) البخاري ج 7 ص 85. ومسلم ج 5 ص 129. واللفظ للأول. ورواه في المستدرك
عن غوالي اللئالي. ج 2 ص 108
(2) سورة الرعد: 21
(3) الكافي ج 5 ص 101 وقد تقدم الحديث في ص 49 ولفظ " مغضبا " الأول في الموضعين،
ليس في نسخ المصدر.
162

مما أهل نفسه له، وتنبههم إلى الخطر اللاحق لهم بالانقياد إليه، وكذلك إذا رأيت
رجلا يتردد إلى فاسق يخفى أمره، وخفت عليه من الوقوع بسبب صحبته فيما لا يوافق
الشرع، فلك أن تنبهه على فسقه، مهما كان الباعث الخوف من انشاء البدعة وسراية
الفسق. إلا أن هذا الموضع محل الخديعة من الشيطان، إذ ربما يكون الباعث إنما
هو الحسد على تلك المنزلة، فيلتبس عليك الشيطان، كما هو غالب فاش في أبناء
الزمان، فينبغي للداخل في ذلك أن يلاحظ نفسه فيما بينه وبين ربه.
ومن ذلك - أيضا -: بيان الأغلاط الواقعة من العلماء. والظاهر: أن من هذا
القبيل طعن العلماء بعضهم على بعض في المسائل الفقهية حتى أنجر إلى التجهيل، كما لا يخفى
على من وقف على الرسالة المنسوبة إلى المفيد والسيد المرتضى، في الرد على الصدوق
في تجويزه السهو على المعصوم، فإنها اشتملت على قدح عظيم في حق الصدوق،
لا يليق بمثله أن ينسب إليه ذلك، وكما وقع من المحقق والعلامة في الطعن علي ابن
إدريس في مواضع لا تحصى، مما يؤذن بتجهيله، مع ما هو عليه من الفضل وعلو
الشأن ونحو ذلك.
وقد وقع بين جملة من مشائخنا المعاصرين ممن عليهم الاعتماد بين العباد في
البلاد ما يؤدي إلى أعظم الاشكال في هذا المجال، حتى أن رجلين منهم كانا يصليان
الجمعة في أقل من مسافة الفرسخ. والناس يقتدون بكل منهما. وكان بعض من عاصرناه
من المشائخ ينقل حديثا - إن صح هان الأمر في ذلك - وإلا فالمقام مقام خطر واشكال.
وصورة الخبر الذي ينقله في حق العلماء: أنه عليه السلام قال: خذوا بما يفتون
ولا تنظروا إلى ما يقول بعضهم في بعض، فإنهم يتغايرون كما تتغاير النساء. هذا
حاصل معناه.
ومما يؤيد ذلك: دلالة جملة من الأخبار على حصول الحسد بين العلماء،
خصوصا زيادة على ما بين سائر الناس.
وبالجملة فالداء عضال، لا يكاد ينفك منه إلا من عصمه الله تعالى بالتوفيق في
163

جملة الأحوال.
نعم قد ورد في جملة من الأخبار جواز الوقيعة في أصحاب البدع، ومنهم الصوفية،
كما رواه في الكافي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي، فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم
والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الاسلام، ويحذرهم
الناس، ولا يتعلموا من بدعهم، ويكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به
الدرجات في الآخرة (1).
وبمضمونه أخبار عديدة.
وكذلك إذا رأيت رجلا يشتري مملوكا، وقد عرفت أن في ذلك المملوك عيوبا
منقصة، فلك أن تذكرها للمشتري، فإن في سكوتك ضررا للمشتري، وفي ذكرك ضررا
للعبد، ولكن المشتري أولى بالمراعاة.
ومن اللازم: أن يقتصر على العيب المنوط بذلك، فلا يذكر في عيب التزويج
ما يخل بالشركة والمضاربة مثلا، بل إنما يذكر ما يتعلق بذلك، من غير تجاوز عنه.
أقول: ويمكن أن يستدل على ذلك بالأخبار الدالة على وجوب نصح المؤمن،
لا سيما مع الاستشارة، كما رواه في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: يجب للمؤمن
على المؤمن النصيحة في المشهد والمغيب (2).
وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لينصح الرجل منكم أخاه
كنصيحته لنفسه (3).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أعظم الناس منزلة عند الله
تعالى يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه (4).

(1) الوسائل ج 12 ص 508 حديث: 1
(2) الكافي ج 2 ص 208 حديث: 2
(3) الكافي ج 2 ص 208 حديث: 4
(4) الكافي ج 2 ص 208 حديث: 5
164

وعنه عليه السلام قال: من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي، سلبه الله عز وجل
رأيه (1).
(ومنها): الجرح للشاهد والراوي للأخبار، صيانة لحقوق المسلمين، وحفظا
للأحكام والسنن الشرعية.
ومن ثم وضع العلماء كتب الجرح والتعديل للرواة، وقسموهم إلى الثقاة
والمجروحين، وذكروا الأسباب الموجبة للقدح والجرح، وكونه كذابا وضاعا
للحديث، ولكن لا ينبغي أن يذكر إلا ما يخل بالشهادة والرواية ولا يتعرض لشئ من عيوبه
التي لا تعلق لها بذلك، وقوفا على القدر الذي يمكن تخصيص عموم أخبار النهي
عن الغيبة به.
وكيف كان، فينبغي التحفظ والاخلاص في ذلك، بأن لا يكون الباعث أمرا
آخر غير قصد الأمر الذي قدمنا ذكره.
أقول: ولا أعلم لهم حجة على ذلك زيادة على ما ذكرناه.
وربما يستند لذلك بالأخبار التي وردت عنهم - عليهم السلام - في ذم بعض
الرواة، وأنهم من الكذابين والغالين، إلا أن مورد هذه الأخبار إنما هو غير الشيعة،
ممن يظهر التلبس بهم، فلا حجة فيها.
ويمكن أن يستدل بما ورد في الأخبار من ذمهم - عليه السلام - لجملة من الرواة، كزرارة وهشام
ابن الحكم، ويونس بن عبد الرحمان، وغيرهم. بأن يكون الوجه في ذلك التحذير
عن العمل بأخبارهم، إلا أن الأمر بالنسبة إلى ما ذكرناه إنما هو العكس مما دلت عليه
هذه الأخبار، لاستفاضة الأخبار بجلالة شأنهم وعلو قدرهم، وإنما الغرض من هذه الأخبار معان أخر، مثل الذب عنهم والتقية عليهم، كما يفصح عنه حديث الكشي بالنسبة
إلى زرارة وعذر الصادق عليه السلام له بأنه ذمه دفاعا عنه وعن أمثاله.
وحينئذ فيكون في هذه الأخبار دلالة على موضع آخر لم يذكره الأصحاب - فيما

(1) الكافي ج 2 ص 363 حديث: 5
165

أعلم - وهو جواز الغيبة والذم لدفع الضرر عن ذلك المستغاب.
(ومنها): أن يكون القول فيه بما يكون متظاهرا به كالفاسق المتظاهر بفسقه، بحيث
لا يستنكف أن يذكر بذلك الفعل.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك: ما رواه الصدوق في المجالس
عن هارون بن الجهم، في الصحيح - على الأقوى - عن الصادق عليه السلام، قال: إذا جاهر الفاسق
بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة (1).
ورواية أبي البختري عن جعفر بن محمد أبيه عليها السلام، قال: ثلاثة ليس
لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن بالفسق (2).
وروى شيخنا الشهيد الثاني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ألقى جلباب الحياء
عن وجهه فلا غيبة له (3).
وما ورد في صحيحة عبد الله ابن أبي يعفور الطويلة، الواردة في عدالة الشاهد،
عن الصادق عليه السلام:
حيث قال عليه السلام: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا غيبة إلا لمن صلى في بيته ورغب عن
جماعتنا، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته، وسقطت بينهم
عدالته، ووجب هجرانه، وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذره، فإن حضر
جماعة المسلمين وإلا أحرق عليه بيته، ومن لزم جماعتهم حرمت غيبته وثبتت بينهم
عدالته (4).
وأنت خبير بأن الظاهر الأخبار الثلاثة الأول، هو جواز غيبته وإن استنكف عن
ذلك، وأنه لا يختص الجواز بالذنب الذي يتظاهر به، كما هو ظاهر كلام جملة من

(1) الوسائل ج 8 ص 605 حديث: 4
(2) الوسائل ج 7 ص 605 حديث: 5
(3) ورواها الشيخ المفيد في الإختصاص عن الإمام الرضا - عليه السلام - المستدرك ج 2 ص 108
(4) الوسائل ج 18 ص 289 حديث: 2 / 34010
166

الأصحاب، وإن كان الاقتصار على ما ذكروه أحوط، إلا أن يكون لذكر ما زاد على
ذلك تأثير في ارتداعه عما هو عليه من الفسق والتظاهر به ولعل الأخبار المشار إليها
إنما خرجت بناء على ذلك.
وكيف كان، فالظاهر أن حكام الجور والظلمة وأتباعهم المتظاهرين بالظلم
والفسق، وأخذ أموال الناس، واللعب بالباطل، كما هو معروف الآن في جميع
الأصقاع والبلدان بين الشيعة وغيرهم، من هذا القبيل بل من أظهر أفراد هذه الأخبار.
وظاهر الخبر الرابع: جواز الغيبة بمجرد ظهور الفسق وإن لم يكن متظاهرا
به، وإن ترك الجماعة فسق وإن لم يقل به الأصحاب فيما أعلم، حيث إنهم صرحوا
بأن ترك المستحبات لا يمنع من العدالة، إلا أن ظاهر الأخبار خلافه لتظافرها بجواز
حرق بيته عليه.
وبالجملة فالخبر المذكور ظاهر في حصول الفسق بذلك وأنه يجوز غيبته
وإن لم يتظاهر به، إلا أن يخص ذلك بمورد الخبر المذكور من صلاة الجماعة، تنويها
بشأنها وعلو مكانها.
ويؤيد العموم ما في بعض الأخبار، من قوله عليه السلام: لا غيبة لفاسق. إلا أنه يشكل
ذلك بأن الغيبة التي هي عبارة عن ذكر الرجل بالعيب الذي فعله وستره الله تعالى عليه،
إنما مورده الفاسق، لأنه إنما اغتابه بما فعله من الذنب الموجب لفسقه، مع أن الله
تعالى قد حرم ذكره بذلك وجعله من قبيل أكل لحم أخيه ميتا. وحينئذ فإذا كان الفسق
حاصلا مع تحريم الله سبحانه غيبته وذكره به، فكيف يتم نفي الغيبة عن الفاسق
مطلقا؟ بل الظاهر هو تقييد اطلاق الخبر المذكور بما إذا كان متظاهرا به، كما دلت
عليه الأخبار الأولة.
وحينئذ فالظاهر قصر الصحيحة المذكورة على موردها والله العالم.
(ومنها): ما أشرنا إليه - آنفا - من جواز غيبته لدفع الضرر عنه، وإن لم يتعرض
له أحد من الأصحاب فيما أعلم.
167

ويدل على ذلك ما رواه الكشي في كتاب الرجل، في الصحيح أو الحسن عن
عبد الله بن زرارة، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: اقرأ مني على والدك السلام، وقل
له: إني إنما أعيبك دفاعا مني عنك، فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه
وحمدنا مكانه. لادخال الأذى فيمن نحبه ونقربه، ويذمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه
منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله، ويحمدون كل من عبناه نحن فإنما أعيبك لأنك
رجل اشتهرت بنا بميلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر،
لمودتك لنا ولميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك،
ويكون ذلك منا دافع شرهم عنك - يقول الله عز وجل: أما السفينة فكانت لمساكين
يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا.
هذا التنزيل من عند الله سبحانه صالحة، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك
ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ، والحمد الله فافهم
المثل يرحمك الله تعالى، فإنك والله أحب الناس إلى، وأحب أصحاب أبي إلى،
حيا وميتا، فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإن من ورائك لملكا
ظلوما غصوبا، يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى، ليأخذها غصبا
فيغصبها وأهلها، فرحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه عليك ميتا، ولقد أدى إلى
ابناك الحسن والحسين رسالتك، أحاطهما الله وكلاهما ورعاهما وحفظهما، بصلاح
أبيهما، كما حفظ الغلامين، فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك أبي عليه السلام وأمرتك به،
وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به، لا والله ما أمرناك ولا أمرناه إلا بأمر وسعنا
ووسعكم الأخذ به، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق، فلو أذن لنا لعلمتم
أن الحق في الذي أمرناكم به، فردوا إلينا الأمر وسلموا لنا، واصبروا لأحكامنا
وارضوا بها، والذي فرق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله أمر خلقه، وهو أعرف
بمصلحة غنمه، في فساد أمرها... الحديث (1).

(1) رجال الكشي ص 125 - ص 127 طبعة النجف
168

أقول: والظاهر أنه لهذا كان زرارة ربما قدح في الإمام عليه السلام وعاب، كما هو
مروي في أخبار ذمه، بأن يكونوا - عليهم السلام - رخصوا له ذلك للعلة المذكورة
في هذا الخبر.
وبهذا الخبر أيضا يجاب عما ورد في الهشامين - رضي الله عنهما - لا سيما
ما نقل عنهما من القول بالجسم والصورة، وتقرير الأئمة - عليهم السلام - على ذلك
وذمهم لهما، مع ما ورد من الأخبار الدالة على منزلتهما، ولا سيما هشام بن الحكم.
ونسبة هذين القولين الشنيعين لهما - رضي الله عنهما - إما أن يكون مع عدم
معرفتهما بذلك عن الأئمة - عليهم السلام - وهو بعيد، أو مع معرفتهما بذلك، وأنهما
قصدا إلى خلاف ما عليه الأئمة - عليهم السلام - وهو أشد بعدا. فلم يبق إلا ما قلنا
من الرخصة لهما في إظهار ذلك دفاعا عنهما بالتقريب المتقدم.
وروى في الكتاب المتقدم في الصحيح أو الموثق عن الحسين بن زرارة، قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن أبي يقرأ عليك السلام ويقول: جعلت فداك أنه لا يزال الرجل
والرجلان يقدمان فيذكران إنما ذكرتني، وقلت في. فقال: اقرأ أباك السلام، وقل
له: أنا والله أحب لك الخسر في الدنيا وأحب لك الخير في الآخرة، وأنا والله عنك
راض، فما تبالي ما قال الناس بعد هذا (1).
(ومنها): أن يكون الانسان معروفا باسم يعرب عن غيبته كالأعرج والأعمش
والأشتر ونحوها.
قالوا: فلا إثم على من يقول ذلك، فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف.
وقال الشهيد الثاني: والحق أن ما ذكره العلماء المعتمدون من ذلك، يجوز
التعويل فيه على حكايتهم، وأما ذكره عن الأحياء فمشروط بعلم رضاء المنسوب
إليه به، لعموم النهي. وحينئذ يخرج عن كونه غيبة. وكيف كان فلو وجد عنه
معدلا وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى. انتهى. وهو جيد.

(1) الكشي ص 128
169

والذي حضرني من الأخبار في هذا المقام، ما رواه في الكافي، عن الحسن بن
زيد الهاشمي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديث (1).
وسيأتي قريبا - إن شاء الله تعالى - في تحريم الغش.
(ومنها): ما إذا علم اثنان أو ثلاثة مثلا معصية من آخر فذكرها بعضهم للآخر
في غيبة صاحب المعصية، فإنه يجوز ذلك، لأنها لا تؤثر عند السامع شيئا، زيادة
على علمه سابقا.
أقول: وهو من حيث الاعتبار جيد إلا أن أدلة النهي عن الغيبة من آية أو رواية
أعم من ذلك. والتخصيص بمثل هذا الوجه الاعتباري مشكل.

(1) الكافي ج 8 (الروضة) ص 153 حديث: 143
170

المسألة السابعة
في السحر، ونحوه القيافة، والكهانة، والشعبدة
ولا خلاف في تحريم تعليم الجميع وأخذ الأجرة عليه. ولا بد من بسط الكلام
هنا في مقامات:
(الأول) في السحر.
قال في المنتهى: السحر عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئا
يؤثر في بدن المحسور، أو قلبه، أو عقله، من غير مباشرة له.
وزاد الشهيدان شيئا آخر من جملة السحر، قال في المسالك: وهو كلام
أو كتابة أو رقية أو أقسام أو عزائم ونحوها، يحدث بسببها ضرر على الغير، ومنه عقد
الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر على وطئها، والقاء البغضاء بينهما، ومنه استخدام
الملائكة والجن، واستنزال الشياطين، في كشف الغائبات وعلاج المصاب،
واستحضارهم، وتلبسهم ببدن صبي أو امرأة، وكشف الغائب على لسانه، فتعلم
ذلك وشبهه، وعلمه وتعليمه كله حرام، والتكسب به سحت، ولو تعلمه ليتوفى به،
وليدفع به المتنبي بالسحر، فالظاهر جوازه، وربما وجب على الكفاية، كما
171

اختاره في الدروس. ويجوز حله بالأقسام والقرآن، كما ورد في رواية العلا. انتهى.
وقال في الدروس نحو ما في المسالك
ثم إنه قد وقع الخلاف بين كافة العلماء في السحر، هل له حقيقة أو أنه تخيل؟
قال في المسالك: الأكثر على أنه لا حقيقة له بل هو تخيل. ثم قال: ويشكل بوجدان
أثره في كثير من الناس، والتأثر بالتوهم إنما يتم لو سبق لقابل علم بوقوعه، ونحن
نجد أثره فيمن لا يشعر به أصلا حتى يضربه انتهى.
وقيل: أكثره تخيل، وبعضه حقيقي، لأنه تعالى وصفه بالعظمة في سحرة
فرعون.
أقول: وصفه بالعظمة لا يدل على كونه حقيقة، بل ظاهر الآية خلاف ذلك،
كما ذكره الطبرسي في تفسيره، وغيره حيث قال: فلما ألقوا، أي فلما ألقى السحرة
ما عندهم من السحر، احتالوا في تحريك العصي والحبال، بما جعلوه فيها من الزيبق،
حتى تحركت بحرارة الشمس، وغير ذلك من الحيل وأنواع التمويه والتلبيس،
وخيل إلى الناس أنها تتحرك على ما تتحرك الحية، وإنما سحروا أعين الناس، لأنهم أروهم
شيئا لم يعرفوا حقيقته، وخفى ذلك عليهم، لبعده منهم، لأنهم لم يخلوا الناس يدخلون
فيما بينهم. وفي هذا دلالة على أن السحر لا حقيقة له، لأنها لو صارت حياة حقيقة،
لم يقل الله سبحانه: سحروا أعين الناس، بل كأن يقول: فلما ألقوا صارت حياة.
انتهى.
وقال الرازي: احتج القائلون بأن السحر محض تمويه، بهذه الآية.
وقال القاضي البيضاوي: لو كان السحر حقا لكانوا. قد سحروا في قلوبهم وأعينهم،
فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة. مع أن الأمر في الحقيقة ما كان
على وفق ما تخيلوه.
وقال الواحدي: قيل إن المراد، سحروا أعين الناس، أي قلبوها عن صحة
أدركها، بسبب تلك التمويهات.
172

أقول: لا يخفى أن الذي حصل من فعل السحرة يومئذ، هو كون تلك الحبال
والعصي التي ألقوها حياة تتحرك، ومن الظاهر أن الحركة الثابتة لها ناشئة من
الزيبق بعد طلوع الشمس عليها، وأما كونها حياة في نظر الناظر إليها يومئذ بهذا،
هو الذي حصل به السحر في أعين الناس حيث إنهم بعد رؤيتها حبالا أولا وعصيا.
صارت حياة في نظرهم ثانيا، وأكد ذلك حركتها، فكونها حياة في نظرهم لا بد
من حمله على مجرد التخيل والتوهم، الذي نشأ من سحرهم ولذلك قال سبحانه:
" يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " (1). ولأنه لو أمكن الساحر أن يقلب حقيقة من
الحقايق إلى حقيقة أخرى، لزم مشاركته لله تعالى في الخلق، وهو باطل عقلا ونقلا،
ولأمكن أن يعيد نفسه من الهرم إلى الصغر، ويدفع عن نفسه الأسقام والآلام، والكل
مما يقطع ببطلانه عند جملة الأنام.
وقد ورد في حديث الزنديق الذي سأل الإمام الصادق عليه السلام المروي في
الاحتجاج (2)، قال: أفيقدر الساحر أن يجعل الانسان بسحره في صورة الكلب
والحمار أو غير ذلك؟ قال: هو أعجز من ذلك وأضعف من أن يغير خلق الله سبحانه،
إن من أبطل ما ركبه الله تعالى وصوره فهو شريك الله تعالى في خلقه، تعالى الله عن
ذلك علوا كبيرا، لو قدر الساحر على ما وصفت، لدفع عن نفسه الهرم والآفة والمرض،
ونفى البياض عن رأسه، والفقر عن ساحته وقال عليه السلام في الحديث المذكور لما سأله الزنديق
فيما سأله، فقال: أخبرني عن السحر ما أصله وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه
وما يفعل؟ قال عليه السلام: إن السحر على وجوه شتى، وجه منها بمنزلة الطب، كما أن الأطباء وضعوا
لكل داء دواء فكذلك علم السحر، احتالوا لكل صحة آفة، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى
حيلة، ومنه نوع آخر: خطفة وسرعة ومخاريق وخفة ونوع منه ما يأخذ أولياء الشياطين
منهم. قال: من أين علم الشياطين السحر؟ قال: من حيث عرف الأطباء الطب،

(1) سورة طه: 66
(2) احتجاج الطبرسي ج 2 ص 81 - 82 طبعة النجف الأشرف.
173

بعضه تجربة وبعضه علاج. قال: فما تقول في الملكين هاروت وماروت، وما يقول
الناس بأنهما يعلمان الناس السحر؟ فقال: إنهما موضع ابتلاء وموقف فتنة، تسبيحهما
اليوم " لو فعل الانسان كذا وكذا لكان كذا، ولو يعالج بكذا أو كذا صار كذا - أصناف
السحر " فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما، فيقولان لهم: إنما نحن فتنة فلا تأخذوا
عنا ما يضركم ولا ينفعكم، إلى أن قال عليه السلام: وأن من أكبر السحر النميمة، يفرق بها
بين المتحابين، ويجلب العداوة بين المتصافين، ويسفك بها الدماء وتهدم بها الدور،
ويكشف بها الستور، والنمام أشد من وطأ على أرض بقدم، وأقرب أقاويل السحر
من الصواب: أنه بمنزله الطب، إن الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء،
فجاء الطبيب فعالجه فأبرأه (1).
أقول: ومن الأخبار الواردة في المقام، ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم
عن أبيه عن شيخ من أصحابنا الكوفيين، قال: دخل عيسى بن سيفي (2) على أبي
عبد الله عليه السلام، وكان ساحرا يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الأجر، فقال له: جعلت
فداك: أنا رجل كانت صناعتي السحر، وكنت آخذ عليها الأجر، وكان معاشي منه،
وقد حججت منه ومن الله على بلقائك، وقد تبت إلى الله عز وجل، فهل لي في شئ من
ذلك مخرج؟ قال: فقال له أبو عبد الله عليه السلام: حل ولا تعقد (3) ورواه الصدوق باسناد
عن عيسى المذكور نحوه.
ورواه الحميري في قرب الإسناد - باسناده - عن عيسى بن سيفي مثله.
قال في الوسائل بعد نقل الخبر المذكور: أقول: خصه بعض علمائنا بالحل

(1) الإحتجاج، ج 2 ص 82
(2) اختلف نسخ الكافي والتهذيب والفقيه وقرب الإسناد وغيرها في هذا اللفظ، ففي
بعضها: " شقفى ". وفي بعضها: " شقفى ". وفي بعضها: " سعفى ". وفي بعضها: " سيفي ".
والأخير هو الصحيح. نظرا إلى نسخة أصل التفسير ورواية جامع الرواة ومن ثم أثبتناه
(3) الكافي ج 5 ص 115 حديث: 7
174

بغير السحر كالقرآن والذكر والتعويذ ونحوها، وهو حسن، إذ لا تصريح بجواز الحل
بالسحر (1).
أقول: لا يبعد العمل به على ظاهره من جواز الحل (2)، كما يظهر من الأخبار
الآتية، ويؤيده ما تقدم في كلام الشهيد من جواز تعلمه للتوقي به ودفع المتنبي بالسحر،
بل وجوبه كفاية.
* * *
ومنها ما رواه الصدوق بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه
- عليهما السلام -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ساحر المسلمين يقتل، وساحر
الكفار لا يقتل. قيل: يا رسول الله، لم لا يقتل ساحر الكفار؟ قال: لأن الشرك أعظم
من السحر، ولأن السحر والشرك مقرونان (3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

(1) الوسائل ج 12 ص 106
(2) أقول: وبما ذكرناه صرح المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، حيث قال:
ويمكن أن يكون تعلم السحر للحل جائزا، بل قد يجب لغاية معرفة المتنبي ودفعه
ودفع الضرر عن نفسه وعن المسلمين. وقد أشار إليه في شرح الشرايع عن الدروس.
ويدل على الجواز ما في رواية إبراهيم بن هاشم، قال: حدثني شيخ من أصحابنا
الكوفيين، قال: دخل عيسى بن سيفي، ثم ساق الخبر - كما في الأصل - وقال:
العلامة في التحرير: والذي يحل السحر بشئ من القرآن والذكر أو الأقسام فلا بآس
به، وإن كان بالسحر حرم على اشكال. وظاهره في المنتهى: التحريم من حيث إنه
سحر من غير اشكال. واستدل بحديث عيسى على الحل بالقرآن ونحوه. وفيه
ما عرفت في المتن. وبالجملة فما ذكروه هو الأحوط، وما ذكرناه هو الظاهر من الأدلة
والله العالم. منه قدس سره.
(3) الوسائل ج 12 س 106 حديث: 2 و ج 18 ص 575 حديث: 1
175

الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه (1).
وما رواه في التهذيب عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه عن آبائه
عن علي عليه السلام، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الساحر فقال: إذا جاء رجلان عدلان
فشهدا عليه فقد حل دمه (2).
وعن السكوني عن جعفر بن محمد عليه السلام عن أبيه أن عليا عليه السلام كأن يقول:
من تعلم شيئا من السحر كان آخر عهده بربه وحده القتل إلا أن يتوب (3).
ورواه في قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري عنه عليه السلام مثله.
أقول: قد حمل هذه الأخبار بعض مشائخنا على من يستحل ذلك (4)، وهو كذلك
كما يظهر من الخبر الأخير، يعضده غيره من الأخبار المذكورة في المقام.
ومنها ما رواه في العلل - بعد نقل رواية السكوني الأولى - قال: وروي أن
توبة الساحر أن يحل ولا يعقد (5).
وما رواه في عيون الأخبار بإسناده عن الحسن العسكري عليه السلام، عن آبائه في
حديث، في قوله عز وجل " وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " قال:
كان بعد نوح عليه السلام قد كثرت السحرة والمموهون، فبعث الله عز وجل ملكين إلى
نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويرد به كيدهم،
فتلقاه النبي من الملكين، وأداه إلى عباد الله تعالى أن يقفوا به على السحر وأن يبطلوه،

(1) الوسائل ج 18 ص 576 حديث: 2 وفي نسخة: " على أم رأسه "
(2) الوسائل ج 18 ص 576 حديث، 1 باب: 3
(3) الوسائل ج 18 ص 576 حديث: 2 باب: 3
(4) قال العلامة في المنتهى: لا خلاف بين علمائنا في تحريم تعلم السحر وتعليمه،
وهل يكفر أم لا؟ الحق أنه إن استحل ذلك فقد كفر، وإلا فلا، وسيأتي البحث في ذلك. انتهى،
منه قدس سره.
(5) الوسائل ج 12 ص 106 حديث: 3
176

ونهاهم أن يسحروا به الناس، وهذا كما يدل على السم ما هو وما يدفع به غائلة السم،
إلى أن قال: وما يعلمان من أحد ذلك السحر وابطاله حتى يقولا للمتعلم: إنما نحن
فتنة وامتحان للعباد ليطيعوا الله فيما يتعلمون من هذا ويبطلون به كيد السحرة
ولا يسحروهم، فلا تكفر باستعمال هذا السحر وطلب الاضرار به، ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنك به تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فإن ذلك كفر،
إلى أن قال: " ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم "، لأنهم إذا تعلموا ذلك السحر ليسحروا
به ويضروا به، فقد تعلموا ما يضرهم في دينهم ولا ينفعهم فيه، الحديث. (1)
قال في الوسائل - بناء على ما قدمنا نقله عنه، بعد ذكر هذا الخبر في جملة
الأخبار التي نقلها -: لا يخفى أنه يحتمل كون ما مر من جواز الحل بالسحر مخصوصا
بتلك الشريعة المنسوخة. انتهى.
وفيه: أن الظاهر من نقل الأئمة - عليهم السلام - حكايات الأحكام الشرعية،
عن الأمم المتقدمة، إنما هو لأجل الاستدلال بها على ثبوت تلك الأحكام في هذه
الشريعة أيضا، كما يظهر من كثير من الأخبار التي اشتملت على ذلك، وإلا فمجرد
حكايتها من غير غرض شرعي يترتب عليها، يكون من قبيل اللغو العاري عن الفائدة،
إذا كل أحد يعلم أن تلك الشرائع صارت منسوخة بهذه الشريعة، فلا معنى لنقل أحكامها
إذا لم يكن المراد منها ما ذكرنا.
ويؤيد ما ذكرناه الرواية المرسلة المتقدم نقلها عن العلل، مضافا إلى ذلك
رواية عيسى المتقدمة.
* * *
ومنها: ما رواه في العيون أيضا بسنده عن علي بن الجهم عن الرضا عليه السلام في
حديث قال: وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليحترزوا به من
سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم، وما علما أحدا من ذلك شيئا حتى قالا: إنما نحن
فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز منه، وجعلوا يفرقون بما

(1) الوسائل ج 12 ص 106 - 107 حديث: 4
177

تعلموه بين المرء وزوجه. قال الله عز وجل " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله "
يعني بعلمه. (1)
وقال علي بن إبراهيم في تفسيره في حديث هجرة جعفر بن أبي طالب - رضي الله
تعالى عنه - وأصحابه إلى الحبشة: وبعث قريش عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص
إلى النجاشي ليردوهم - وساق الحديث الطويل - إلى أن قال: وكان على رأس
النجاشي وصيفة له تذب عنه فنظرت إلى عمارة وكان فتى جميلا فأحبته، فلما رجع
عمرو بن العاص إلى منزله، قال لعمارة: لو راسلت جارية الملك، فراسلها فأجابته
فقال عمرو: قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا. فقال لها، فبعثت إليه. فأخذ
عمرو من ذلك الطيب وأدخله على النجاشي وأخبره بما جرى بين عمارة وبين الوصيفة
ووضع الطيب بين يديه، فغضب النجاشي وهم بقتل عمارة. ثم قال: لا يجوز قتله،
لأنه دخل بلادي بأمان، فدعى السحرة وقال: اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل.
فأخذوه ونفخوا في إحليله الزيبق، فصار مع الوحش يغدو ويروح. وكان لا يأنس
بالناس، فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش،
فأخذوه، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتى مات. الخبر (2).
وقد ورد في بعض أخبارنا - وفاقا لروايات العامة - وقوع السحر على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأنه سحره لبيد بن أعصم اليهودي (3).
وقد أنكره جملة من أصحابنا، منهم العلامة في المنتهى. قال: وهذا القول

(1) الوسائل ج 12 ص 107 حديث: 5
(2) بحار الأنوار - ج 18 414 - 416. وفي نقل المصنف هنا تلخيص واختصار.
(3) جاءت القصة في البخاري ج 4 ص 148 و ج 7 ص 176. وفي مسلم ج 7 ص 14.
وجاءت في كتبنا، لكن لا بالصورة التي جاءت في كتب العامة. راجع: بحار الأنوار ج 18 ص 70
نقلا عن طب الأئمة ومجمع البيان وغيرهما. وقد أوضحنا بطلان الحديث بالشكل الذي ترويه
العامة في كتابنا " التمهيد " إلى علوم القرآن ج 1 ص 132 - 137. م. ه. معرفة.
178

عندي ضعيف، والروايات ضعيفة، خصوصا رواية عايشة، لاستحالة تطرق السحر
إلى الأنبياء - عليهم السلام -.
وأنكره الشيخ في الخلاف أيضا، وقال - بعد ذكر بعض الأخبار عن عايشة -:
وهذه الأخبار آحاد لا يعمل عليها في هذا المعنى. وقد روي عن عايشة أنها قالت:
سحر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فما عمل فيه السحر. وهذا يعارض ذلك.
انتهى.
وقال شيخنا في البحار: " وأما تأثير السحر في النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام
فالظاهر عدم وقوعه، وإن لم يقم برهان على امتناعه، إذا لم ينته إلى حد يخل بغرض
البعثة، كالتخبيط والتخليط، فإذا كان الله تعالى أقدر الكفار لمصالح التكليف، على
حبس الأنبياء والأوصياء وضربهم وجرحهم وقتلهم بأشنع الوجوه، فأي استحالة على أن يقدروا على فعل يؤثر فيهم هما أو مرضا ".
" لكن لما عرفت أن السحر يندفع بالعوذة والآيات والتوكل، وهم - عليهم
السلام - معادن جميع ذلك، فتأثيره فيهم - عليهم السلام - مستبعد، والأخبار الواردة
في ذلك أكثرها عامية، أو ضعيفة ومعارضة بمثلها، فيشكل التعويل عليها في اثبات
مثل ذلك ".
أقول: لا يخفى أن محل الاشكال إنما هو باعتبار ما دلت عليه تلك الأخبار،
من تأثير السحر فيهم - عليهم السلام - كغيرهم من الناس، بحيث يوجب ذهاب العقل
أو المرض أو نحو ذلك، هذا هو الذي أنكره أصحابنا. ولو صح لصدق ما حكى الله
سبحانه عن الكفار بقولهم: " إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ". على أن ما ذكره من القياس
على تسليط الله عز وجل الكفار على أنزال القتل والحبس بهم - عليهم السلام - لمصالح،
مردود، بأن الوجه في ذلك هوانه عز وجل أمرهم بالانقياد لأمراء الجواز، مدة هذه
الدنيا الدنيئة، ومنعهم من الدعاء عليهم وحثهم على الانقياد إليهم.
وإليه يشير قوله عز وجل: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله
179

ليجزي قوما.. الآية، فقد ورد في تفسيرها ما يدل على ما ذكرناه (1). بخلاف ما ذكره
من تأثير السحر فيهم، وإن كان بمجرد الهم أو المرض، فإنه لم يرد دليل على أمرهم
بقبول ذلك، مع وجوب دفع الضرر عن النفس مع القدرة والامكان، ولا ريب في
إمكان ذلك بالنسبة إليهم - عليهم السلام -.
ألا ترى إلى ما ورد في جملة من الأخبار في دفعهم كيد السحرة الفجار، مثل
ما رواه في العيون بسنده عن علي بن يقطين، قال استدعى الرشيد رجلا يبطل به أمر
أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ويقطعه ويخجله في المجلس، فانتدب له رجل مغرم،
فلما أحضرت المائدة عمل ناموسا على الخبز، فكان كلما رام أبو الحسن عليه السلام تناول
رغيف من الخبز طار من بين يديه، واستفز هارون الفرح والضحك لذلك، فلم
يلبث أبو الحسن أن رفع رأسه إلى أسد مصور على بعض الستور، فقال له: يا أسد الله،
خذ عدو الله: فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع. فافترست ذلك المغرم،
فخر هارون وندماؤه على وجوههم مغشيا عليهم. وطارت عقولهم خوفا من هول
ما رأوا. فلما أفاقوا من ذلك بعد حين قال هارون لأبي الحسن عليه السلام: سألتك بحقي
عليك لما سألت الصورة أن ترد الرجل. فقال: إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته
من حبال القوم وعصيهم، فإن هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل: فكان ذلك
أعمل الأشياء في إماتة نفسه (2): ونحو ذلك روى في كتاب الخرائج والجرايح عن
الإمام الهادي عليه السلام مع المتوكل لعنه الله تعالى. وفي كتاب الثاقب في المناقب عن
الصادق عليه السلام مع المنصور (3).

(1) قال الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي (قدس سره) في تفسيره لهذه الآية: قال:
يقول لأئمة الحق: لا يدعون على أئمة الجور، حتى يكون الله هو الذي يعاقبهم في قوله: ليجزي
قوما بما كانوا يكسبون. انتهى. منه قدس سره.
(2) مدينة المعاجز ص 446 حديث: 67
(3) وملخص الأول: أنه وقع رجل مشعبذ من ناحية الهند إلى المتوكل فأمره
أن يخجل الإمام الهادي عليه السلام، وأحضر على المائدة خبزا رقاقا، فكان كلما مد الإمام عليه السلام يده إلى قرص من ذلك الخبز طيرها ذلك المشعبذ، فتضاحك الناس، وكان
على مستورة صورة أسد، فضرب الإمام عليه السلام يده على تلك الصورة، وقال: خذه. فوثبت تلك الصورة من المستورة فابتلعت الرجل، وعادت في المستورة كما
كانت، فتحير الجميع ونهض الإمام، فقال المتوكل: سألتك بالله إلا جلست ورددته، فقال: والله لا يرى بعدها، أتسلط أعداء الله على أولياء الله، خرج من عندهم، فلم ير الرجل بعدها (مدينة المعاجز ص 548 حديث 52).
وملخص الخبر الثاني: إن المنصور وجه إلى سبعين رجلا من أهل بابل،
فدعاهم وقال: إنكم ورثتم السحر من آبائكم من أيام موسى بن عمران، وإنكم لتفرقون
بين المرء وزوجه، وأن أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام كاهن ساحر مثلكم، فاعملوا
شيئا من السحر، فإنكم إن أبهتموه أعطيتكم الجائزة العظيمة، فقاموا إلى المجلس
الذي فيه المنصور، فصوروا سبعين صورة من السباع، وجلس كل واحد منهم جنب
صاحبه، وجلس المنصور على سرير ملكه، ووضع التاج على رأسه، وقال لحاجبه ابعث إلى أبي عبد الله عليه السلام واحضره الساعة، قال: فلما أحضره دخل عليه. فلما نظر
إلى ما قد استعد له غضب عليه السلام فقال: يا ويلكم، أتعرفوني، أنا حجة الله الذي أبطل
سحر آبائكم في أيام موسى بن عمران، ثم نادى برفيع صوته: أيتها الصور الممثلة،
ليأخذ كل واحد منكم صاحبه بإذن الله تعالى، فوثب كل سبع إلى صاحبه وافترسه
وابتلعه في مكانه، ووقع المنصور مغشيا عليه من سريره، فلما أفاق قال: الله الله
يا أبا عبد الله، أقلني، فإني تبت توبة لا أعود إلى مثلها أبدا، فقال عليه السلام: قد عفوتك
ثم قال: يا سيدي قل السباع أن تردهم إلى ما كانوا، فقال: هيهات هيهات، إن أعادت
عصى موسى سحرة فرعون فستعيد هذه السباع هذه السحرة (مدينة المعاجز ص 362
حديث: 23). منه قدس سره
180

وبالجملة فالظاهر ذكره شيخنا المذكور لا يخلو من استعجال وعدم تأمل
في المقام. والحق هو عدم جوازه عليهم بوجه من الوجوه، والأخبار الواردة من
طرقنا في حقه صلى الله عليه وآله وسلم مع ضعفها وشذوذها، يمكن حملها على
التقية لاتفاق العامة على جواز ذلك.
* * *
181

(الثاني): في القيافة.
وهي - على ما ذكره في المسالك - الاستناد إلى علامات ومقادير، يترتب
عليها الحاق بعض الناس ببعض ونحوه. قال: وإنما تحرم إذا جزم به، أو رتب عليه
محرما. انتهى.
وقال المقدس الأردبيلي في شرح الإرشاد: ولعل دليل التحريم الاجماع المذكور
في المنتهى.
أقول: ربما يدل على ذلك ما رواه الصدوق في الخصال، بسنده عن أبي
بصير، عن الصادق - عليه السلام -، قال: من تكهن أو تكهن له، فقد برئ من دين محمد
صلى الله عليه وآله وسلم. قال، قلت: فالقافة؟ قال: ما أحب أن تأتيهم. وقيل: ما يقولون شيئا إلا كان
قريبا مما يقولون. فقال: القيافة من فضلة النبوة، ذهبت في الناس حيث بعث النبي
صلى الله عليه وآله وسلم (1).
إلا أن الحديث المذكور لا ظهور له في التحريم كما علله الأصحاب، مع أنه قد روى في الكافي عن زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي، قال: سمعت علي بن جعفر يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين، فقال: والله لقد نصر الله
أبا الحسن الرضا عليه السلام. فقال له الحسن: أي والله، جعلت فداك.
لقد بغى عليه إخوته. فقال علي بن جعفر: أي والله، ونحن عمومته بغينا
عليه. فقال له الحسن: جعلت فداك، كيف صنعتم؟ فإني لم أحضركم: قال: قال

(1) الوسائل ج 12 ص 108 حديث: 2
182

له إخوته ونحن أيضا: ما كان فينا إمام قط حائل اللون: فقال لهم الرضا عليه السلام: هو
ابني. قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قضى بالقافة، فبيننا وبينك القافة، قال: ابعثوا
أنتم إليهم، وأما أنا فلا. ولا تعلموهم لما دعوتموهم، ولتكونوا في بيوتكم. فلما
جاؤوا أقعدونا في البستان، واصطف عمومته وإخوته وأخواته، وأخذوا الرضا عليه السلام
وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها، ووضعوا على عنقه مسحاة. قالوا له: أدخل
البستان، كأنك تعمل فيه، ثم جاوا بأبي جعفر عليه السلام، فقالوا: الحقوا هذا الغلام
بأبيه! فقالوا: ليس له هنا أب، ولكن هذا عم أبيه، وهذا عمه، وهذه عمته، وإن
يكن له هاهنا أب فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو -
الحسن عليه السلام، قالوا: هذا أبوه، قال علي بن جعفر: فقمت فمصصت ريق أبي جعفر
عليه السلام، ثم قلت له: أشهد أنك إمامي عند الله عز وجل، الحديث (1).
فظاهر هذا الخبر جوازها والاعتماد عليها:
أما أولا، فلأنهم لما دعوه إلى حكم القافة أجابهم إلى ذلك، ولو كان ذلك
محرما لا يجوز الاعتماد عليه، لما أجابهم بل منعهم، وقال: إنه محرم غير مشروع.
ولا يجوز الاعتماد عليه في نفي ولا اثبات.
وأما ثانيا، فإنهم نقلوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالقافة، وظاهره عليه السلام تقريرهم
على ذلك، حيث لم يكذبهم.
وأما قوله عليه السلام: ابعثوا أنتم إليهم وأما أنا فلا، فالظاهر أن المراد منه إنما هو
لدفع التهمة عنه عليه السلام، بأنه ربما يكون اعلامه لهم بذلك قرينة لهم على الحاقه به،
كما يشعر به قوله: ولا تعلموهم لما دعوتموهم، لا أن المراد منه ما ربما يتوهم من أنه
لما لم يكن مشروعا لم يرض عليه السلام بأن يكون هو الداعي لهم.
وبالجملة فإن ظاهر الخبر هو ما ذكرناه من جواز ذلك، وصحة الاعتماد

(1) الكافي ج 1 ص 322 - 323 حديث: 14
183

عليه.
اللهم إلا أن يقال: إنه لما كان عليه السلام يعلم أن القافة يلحقونه به. ويندفع بهم
شبهة أعمامه وإخوته من انكارهم كونه ابنه، رضي بذلك.
وفيه: ما فيه. فإنه بالدلالة على ما ندعيه أنسب، وإلى ما ذكرناه أقرب، من أن القافة لا يقولون إلا حقا، ولا يحكمون إلا صدقا.
وبالجملة فالدليل من الأخبار على التحريم غير ظاهر، وليس إلا ما يدعى
من الاجماع.
نعم يمكن أن يقال: إن الحكم بالحق شخص بآخر، الموجب لترتب
أحكام كثيرة، مثل حل النظر، والميراث، وتحريم المناكحة، ونحو ذلك،
يحتاج إلى دليل شرعي قاطع، والخبر المذكور لا دلالة فيه على وجه يوجب ذلك
مطلقا. والله العالم.
(الثالث): في الكهانة.
قال في المسالك: هي بكسر الكاف، عمل يوجب طاعة بعض الجان له و
اتباعه له، بحيث يأتيه بالأخبار الغائبة. وهو قريب من السحر.
أقول: ويدل على تحريمها ما تقدم في حديث أبي بصير، المذكور في الموضع
الثاني (1).
وما رواه في مستطرفات السرائر - نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب
عن الهيثم، قال: قلت للصادق عليه السلام: إن عندنا بالجزيرة رجلا ربما أخبر من يأتيه
يسأله عن الشئ يسرق أو شبه ذلك فنسأله، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مشى
إلى ساحر أو كاهن أو كذاب يصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله من كتاب (2).

(1) في ص 182 عن الوسائل ج 12 ص 108 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 109 حديث: 3
184

وأنت خبير بأنه قد تقدم في كلام المسالك، في تعريف السحر، ومثله في
كلام الدروس، أن من جملة السحر استنزال الشياطين في كشف الغائبات، وهو
بظاهره مما يدل على دخول الكاهنة تحت السحر. وفي كلامه هنا ما يؤذن للمغايرة،
وإن كان قريبا منه، ولا يخلو من نوع تدافع. والخبر الثاني مما يؤيد ما ذكره
هنا من المغايرة، وهو الأظهر، للخبر.
(الرابع) في الشعبذة.
وهي الحركات السريعة التي يترتب عليها الأفعال العجيبة، بحيث يلتبس
على الحس الفرق بين الشئ وشبهه، لسرعة الانتقال منه إلى شبهه.
وقد صرح في المنتهى بنفي الخلاف عن التحريم. والظاهر: أنه لا دليل
سواه، فإني لم أقف بعد التتبع على خبر يدل على ذلك.
185

المسألة الثامنة
في القمار
قال في المنتهى: القمار حرام بلا خلاف بين العلماء. وكذا ما يؤخذ منه. قال
الله تعالى: إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر و
الميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهلا أنتم منتهون (1). إلى أن قال: فإن جميع
أنواع القمار حرام، من اللعب بالنرد، والشطرنج، والأربعة عشر، واللعب بالخاتم،
حتى لعب الصبيان بالجوز. على ما تضمنته الأحاديث، ذهب إليه علماؤنا أجمع.
وقال الشافعي: يجوز اللعب بالشطرنج. وقال أبو حنيفة بقولنا. انتهى.
أقول: والأخبار بما ذكروه هنا مستفيضة متكاثرة، ومنها ما في الكافي عن أبي عبيدة الحذاء في الصحيح قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل
" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " (2) فقال: كانت قريش تقامر الرجل بأهله
وماله، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك (3).

(1) سورة المائدة: 91
(2) سورة البقرة: 188
(3) الكافي ج 5 ص 122 حديث: 1
186

وعن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لما أنزل الله عز وجل على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه " (1) قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ فقال: ما تقومر به حتى الكعاب والجوز.
قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوه لآلهتهم. قيل: فما الأزلام؟ قال قداحهم التي
يستقسمون بها (2).
وعن الوشاء عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار (3).
وعن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الصبيان يلعبون بالجوز
والبيض، ويقامرون. فقال: لا تأكل منه فإنه حرام (4).
وعن السكوني، عن الصادق عليه السلام، قال: كان ينهى عن الجواز يجيئ به
الصبيان من القمار أن يؤكل. قال: هو سحت (5).
وعن عبد الحميد بن سعيد، قال: بعث أبو الحسن غلاما يشتري له بيضا،
فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلما أتى به أكله، فقال له مولى له: إن فيه
من القمار. قال فدعى بطشت فتقيأه (6).
وعن محمد بن مسلم، عن أحدهما - عليهما السلام - قال: لا تصلح المقامرة
ولا النهبة (7).
وعن السكوني عن الصادق عليه السلام، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اللعب

(1) سورة المائدة: 90
(2) الكافي ج 5 ص 123 حديث: 2
(3) الكافي ج 5 ص 124 حديث: 9
(4) الكافي ج 5 ص 124 حديث: 10
(5) الكافي ج 5 ص 123 حديث: 6
(6) الكافي ج 5 ص 123 حديث: 3
(7) الكافي ج 5 ص 123 حديث: 5
187

بالشطرنج والنرد. (1)
وعن أبي جندب عمن أخبره (2) عن الصادق عليه السلام، قال: الشطرنج ميسر
والنرد ميسر. (3)
وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام النرد و
الشطرنج هما الميسر. (4)
وعن عمر بن يزيد عن الصادق عليه السلام، قال: إن لله عز وجل في كل ليلة من
شهر رمضان عتقاء من النار، إلا من أفطر على مسكر، أو مشاحن، أو صاحب
شاهين. قلت: وأي شئ الشاهين؟ قال الشطرنج. (5)
قال في الوافي: المشاحن المعادي. والشحناء العداوة. ولعل المراد منه
هنا: صاحب البدعة المفارق للجماعة. كذا فسره الأوزاعي في الحديث النبوي
" يغفر الله تعالى لكل عبد ما خلا مشركا أو شاحنا ". وشاهين تثنية شاه، وهو من آلات
الشطرنج، وهما اثنان.
أقول: لعل الأظهر في الخبر هو الحمل على من أضمر عداوة لأخيه المؤمن.
وعن زرارة عن الصادق عليه السلام، أنه سئل عن الشطرنج وعن لعبة شبيب التي
يقال لها: لعبة الأمير. وعن لعبة الثلاث، فقال: أرأيتك إذا ميز الله الحق، والباطل،
مع أيهما تكون؟ قال: قلت: مع الباطل. قال: فلا خير فيه (6).

(1) الوسائل ج 12 ص 238 حديث: 9
(2) وذلك لأنه من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا - عليهما السلام - ولم يدرك الإمام الصادق - عليه السلام -.
(3) الوسائل ج 12 ص 240 حديث: 14
(4) الوسائل ج 12 ص 242 حديث: 2
(5) الوسائل ج 11 ص 238: 4
(6) الوسائل ج 12 ص 238: 5
188

أقول: وكما يحرم اللعب بذلك، كذلك يحرم حضور المجالس التي يلعب
فيها بذلك، النظر إلى ذلك،. فروى في الكافي عن حماد بن عيسى في
الصحيح أو الحسن، قال: دخل رجل من البصريين على أبي الحسن الأول عليه السلام
فقال له: جعلت فداك، إني أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج، ولست ألعب بها، و
لكن أنظر. فقال، ما لك ولمجلس لا ينظر الله إلى أهله (1).
وعن سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: المطلع في الشطرنج
كالمطلع في النار (2) وعن ابن رئاب قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فقلت له:
جعلت فداك، ما تقول في الشطرنج؟ فقال: المقلب لها كالمقلب للحم الخنزير.
قال: فقلت: ما على من قلب لحم الخنزير؟ قال: يغسل يده (3).
وفي مستطرفات السرائر من جامع البزنطي عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام،
قال: بيع الشطرنج حرام، وأكل ثمنه سحت، واتخاذها كفر، واللعب بها شرك،
والسلام على اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة، والخائض فيها يده كالخائض يده
في لحم الخنزير، ولا صلاة له حتى يغسل يده كما يغسلها من لحم الخنزير، والناظر
إليها كالناظر في فرج أمه، واللاهي بها والناظر إليها في حال ما يلهي بها والسلام على
اللاهي بها في حالته تلك، في الإثم سواء. ومن جلس على اللعب بها، فقد تبوأ مقعده
من النار، وكان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة. وإياك ومجالسة اللاهي والمغرور
بلعبها، فإنها من المجالس التي باء أهلها بسخط من الله، يتوقعونه في كل ساعة
فيعمك معهم (4).

(1) الوسائل ج 12 ص 241 حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 241 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 242 حديث: 3
(4) الوسائل ج 12 ص 241 حديث: 4
189

المسألة التاسعة
في الغش بالخفي، وتدليس الماشطة، وتزيين الرجل بما يحرم عليه.
والكلام هنا يقع في موارد ثلاثة: -
(الأول): في الغش بالخفي، كشوب اللبن بالماء.
ولا خلاف في تحريمه، كما حكاه في المنتهى.
أما لو غش بما لا يخفى، كالتراب يجعله في الحنطة، والردي منها بالجيد،
فظاهر الأصحاب عدم التحريم، وإن كان مكروها، لظهور العيب المذكور للمشتري
فهو إنما اشترى راضيا به.
ولعل وجه الكراهة عندهم: أنه تدليس في الجملة، وأنه ربما يغفل عنه المشتري
لا سيما مع كثرة الجيد إذا خلطه بالردى.
والذي يدل على الحكم الأول من الأخبار: ما رواه في الكافي عن هشام
ابن سالم في الصحيح أو الحسن - بإبراهيم بن هشام - عن الصادق عليه السلام، قال: ليس
منا من غشنا (1).
وبهذا الاسناد عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل يبيع التمر:

(1) الوسائل ج 13 ص 208 حديث: 1. وإبراهيم لا غمز فيه فالرواية صحيح
190

يا فلان، أما علمت أنه ليس من المسلمين من غشهم 1) ورواه الشيخ، وكذا
الذي قبله.
وعن هشام بن الحكم، في الصحيح أو الحسن قال: كنت أبيع السابري
في الظلال، فمر بي أبو الحسن الأول موسى عليه السلام راكبا، فقال لي: يا هشام، إن
البيع في الظلال غش، والغش لا يحل (2) ورواه الصدوق باسناده، عن هشام مثله.
أقول: السابري ثياب رقيقة جيدة وفيه دلالة على تحريم بيع الثياب في المكان
المظلم، بطريق أولى.
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام، قال نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشاب اللبن بالماء
للبيع (3) ورواه الصدوق بإسناده عن إسماعيل بن مسلم مثله.
وعن موسى بن بكر، قال: كنا عند أبي الحسن موسى عليه السلام، وإذا دنانير
مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار، فأخذه بيده، ثم قطعه بنصفين، ثم قال لي:
ألقه في البالوعة حتى لا يباع شئ فيه غش (4).
وعن الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: جاءت زينب العطارة
الحولاء إلى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عندهن، فقال: إذا أتيتنا طابت بيوتنا فقالت:
بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله، قال: إذا بعت فأحسني ولا تغشي، فإنه أنقى وأبقى
للمال. الحديث (5) وعن عيسى بن هشام عن رجل من أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام،
قال: دخل عليه رجل يبيع الدقيق، فقال: إياك والغش، فإن من غش غش في ماله،

(1) الوسائل ج 12 ص 208 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 208 حديث: 3
(3) الوسائل ج 12 ص 208 حديث: 4
(4) الوسائل ج 12 ص 209 حديث: 5
(5) الوسائل ج 12 ص 209 حديث: 6
191

وإن لم يكن له مال غش في أهله (1) وعن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السلام قال:
مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيبا، وسأله
عن سعره، فأوحى الله عز وجل إليه أن يدس يديه في الطعام، ففعل فأخرج طعاما رديا
فقال لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشا للمسلمين (2) وعن الحلبي في
الصحيح أو الحسن، عن أبي عبد لله عليه السلام، في الرجل يكون عنده لونان من طعام
واحد سعرهما بشئ، أحدهما أجود من الآخر، فيخلطهما جميعا ثم يبيعهما
بسعر واحد. فقال: لا يصلح له أن يغش المسلمين يبينه (3).
وعن الحسين بن المختار، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا نعمل القلانس
فنجعل فيها القطن العتيق، فنبيعها ولا نبين لهم، ما فيها؟ قال: أحب لك أن تبين
لهم ما فيها (4).
وعن الحلبي في الصحيح، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري
طعاما، فيكون أحسن له وأنفق له أن يبله، من غير أن يلتمس فيه زيادته،. فقال: إن كان
بيعا لا يصلحه إلا ذلك ولا ينفقه غيره، من غير أن يلتمس فيه زيادة، فلا بأس. وإن كان
إنما يغش به المسلمين فلا يصلح (5).
أقول: ظاهر هذا الخبر أن الجواز وعدمه دائران مدار قصد البايع، في بلة
الطعام. فإنه متى كان قصده إنما هو لأجل انفاق السلعة وشرائها، وأنه بدون ذلك
يكسد عليه، فلا بأس بما يفعله. وإن كان غرضه إنما هو لأجل زيادة في الوزن، فهو
غير جائز.

(1) الوسائل ج 12 ص 209 حديث: 7
(2) الوسائل ج 12 ص 209 حديث: 8
(3) الوسائل ج 12 ص 420 حديث: 2
(4) الوسائل ج 13 ص 210 حديث: 9
(5) الوسائل ج 12 ص 421 حديث: 3
192

وأما ما يدل على الحكم الثاني، فما رواه في الكافي والتهذيب، عن محمد بن
مسلم في الصحيح عن أحدهما أنه سئل عن طعام يخلط بعضه ببعض، وبعضه أجود
من بعض. فقال: إذا رؤيا جميعا فلا بأس، ما لم يغط الجيد الردئ (1).
أقول: قد عرفت دلالة خبر سعد الإسكاف على تحريم تغطية الجيد الردئ،
وهو المشار إليه في هذا الخبر، فظاهر الخبرين الحرمة في الصورة المذكورة، ويمكن
حمل ذلك على ما إذا أحصل الاشتباه ولم يعلم. ولو فرض العلم بعد البيع بظهور ذلك
الردئ، فيمكن القول بالكراهة وأن للمشتري الخيار بظهور العيب حينئذ.
ثم إنه مع خفاء الغش - كما هو الحكم الأول - فقد عرفت أنه لا خلاف في
التحريم، وإنما الخلاف في أنه هل يصح البيع؟ وإن ثبت للمشتري الخيار بعد ظهور
ذلك، ويكون حكمه حكم ما لو ظهر في المبيع عيب من غير الجنس، أم لا؟ قولان.
جزم في المسالك بالأول، لما ذكرناه، ثم قال: وربما احتمل البطلان: بناء
على أن المقصود بالبيع هو اللبن، والجاري عليه العقد هو المشوب، فيكون كما
لو باعه هذا الفرس فظهر حمارا. وقد ذكروا في هذا المثال اشكالا من حيث تغليب
الإشارة أو الاسم. والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر. انتهى.
أقول: الظاهر أن ما ذكره في تعليل البطلان من قوله: فيكون كما لو باعه
إشارة إلى ما ذكره في الذكرى في باب صلاة الجماعة، حيث قال: ولو نوى الاقتداء
بالحاضر على أنه زيد فبان عمرا، ففي ترجيع الإشارة على الاسم فيصح، أو بالعكس
فيبطل، نظر. ونظيره: أن يقول المطلق لزوجته التي اسمها عمرة هذه زينب طالق
أو يشير البايع إلى حمار، فيقول: بعتك هذا الفرس. انتهى.
أقول: من المحتمل قريبا أن النهي في الأخبار المتقدمة وما في معناه، إنما
هو من حيث عدم صلاحية المبيع المذكور للبيع من حيث الغش، كبيع العذرة و
نحوها مما منعت منه الأخبار، لعدم قابليتها للانتقال، وإن اختلف الوجه في كل منها

(1) الوسائل ج 12 ص 420 حديث: 1 باب: 9 من أبواب العيون
193

وأن الوجه في المنع في العذرة الخمر ونحوها من حيث النجاسة، وفيما نحن من
حيث الغش. والفرق بينه وبين ما ذكره في المسالك في وجه الصحة من أن حكمه
حكم ما لو ظهر في المبيع عيب، ظاهر، لأن ما نحن فيه مما استفاضت الأخبار،
كما عرفت بالنهي عن بيعه، وليس الوجه فيه إلا ما ذكرنا، وعموم أدلة صحة البيع
ظاهرة في تجويز بيع ما فيه عيب، وصحته مع جبره بالخيار للمشتري. والله
العالم.
المورد الثاني
في تدليس الماشطة:
والمراد بذلك: ما إذا أرادت تزويج امرأة برجل، ومثله بيع أمة، بأن تستر
عيوبها وتظهر لها محاسن ليست فيها، كتحمير وجهها ووصل شعرها ونحو ذلك،
مما يوجب رغبة الزوج في تزويجها أو المالك في شرائها.
والظاهر: أن ذكر الماشطة في كلامهم، إنما خرج مخرج التمثيل، وإلا
فلو فعلت المرأة بنفسها ذلك للغرض المذكور، فالظاهر أن الحكم فيها كذلك.
ولعل الوجه في تحريم ذلك من حيث التدليس والغش، وهو محرم كما
تقدم.
ولم أقف فيما حضرني من الأخبار، على ما يدل على الحكم المذكور، سوى
ما أشرنا إليه من دخوله تحت الغش والتدليس، وإليه أشار المقدس الأردبيلي، حيث
قال: وكأن دليل التحريم الاجماع وأنه غش وهو حرام، كما تدل عليه الأخبار و
قد تقدمت. انتهى.
هذا كله مع عدم علم الزوج والمشتري بذلك. وأما فعل الزوجة بنفسها
194

ذلك، وفعل الماشطة بها لقصد إظهار الزينة لزوجها، فالظاهر أنه لا بأس به، لما
يدل عليه رواية سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لا بأس على المرأة بما
تزينت به لزوجها، قال: قلت له: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن الواصلة والموصولة؟
فقال: ليس هناك، إنما لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواصلة الموصولة التي تزني في شبابها
فلما كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة والموصولة (1).
ويؤيده ما في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن، عن جده علي بن جعفر، أنه
سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام، عن المرأة التي تخف الشعر من وجهها، قال:
لا بأس (2).
هذا، والظاهر من الأخبار: أنه لا بأس بكسب الماشطة، إلا أن الأفضل لها
أن لا تشارط وتقبل ما تعطى. فروى في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم عن أبي
عبد الله عليه السلام، قال: لما هاجرت النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هاجرت فيهن امرأة
يقال لها أم حبيب، وساق الخبر إلى أن قال: وكان لأم حبيب أخت يقال لها أم عطية
وكانت مقنية يعني ماشطة، فلما انصرفت أم حبيب إلى أختها أخبرتها بما قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لها، فأقبلت أم عطية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما قالت لها أختها، فقال
لها رسول الله: أدني مني يا أم عطية، إذا أنت قنيت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة،
فإن الخرقة تشرب ماء الوجه، وفي التهذيب: بماء الوجه (3).
وعن ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام قال دخلت ماشطة على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت: يا رسول الله أنا أعمله
إلا أن تنهاني عنه فأنتهي، فقال: افعلي، فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرق فإنه

(1) الوسائل ج 14 ص 135 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 95 حديث: 8 قال في المصباح المنير: حفت المرأة وجهها
حفا من باب قتل: زينته بأخذ شعره. وحف شاربه: إذا أعفاه. منه قدس سره.
(3) الوسائل ج 12 ص 92 حديث: 1. و ص 93 حديث: 1
195

يذهب بماء الوجه، ولا تصلي الشعر بالشعر (1).
وروى في الفقيه مرسلا، قال: قال عليه السلام: لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط
وقبلت ما تعطى، ولا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، وأما شعر المعز فلا
بأس بأن يوصل بشعر المرأة (2) وروى في التهذيب عن علي عليه السلام: قال: سألته
عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك، وقد دخلها ضيق. قال: لا
بأس، ولكن لا تصل الشعر بالشعر (3).
وعن عبد الله بن الحسن، قال: سألته عن القرامل. قال وما القرامل؟ قلت:
صوف تجعله النساء في رؤسهن. قال: إن كان صوفا فلا بأس به، وإن كان شعرا
فلا خير فيه، من الواصلة والموصولة (4).
وروى في معاني الأخبار بسنده عن علي بن غراب عن جعفر بن محمد عن
آبائه عليه السلام، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النامصة والمنتمصة، والواشرة والموتشرة،
والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة (5).
قال الصدوق: قال علي بن غراب: النامصة التي تنتف الشعر، والمتنمصة
التي يفعل ذلك بها، والواشرة التي تشر أسنان المرأة وتفلجها وتحددها، والموتشرة
التي يفعل ذلك بها، والواصلة التي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، والمستوصلة
التي يفعل ذلك بها، والواشمة التي تشم وشما في يد المرأة أو في شئ من بدنها،
وهو أن تغرز بدنها أو ظهر كفها أو شيئا من بدنها بأبرة حتى تؤثر فيه، ثم تحشوه
بالكحل أو بالنورة، فتخضر، والمستوشمة التي يفعل ذلك بها.

(1) الوسائل ج 12 ص 94 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 95 حديث: 6
(3) الوسائل ج 12 ص 94 حديث: 4
(4) الوسائل ج 12 ص 95 حديث: 5
(5) الوسائل ج 12 ص 95 حدى ث: 7
196

بقي الكلام في أن جملة هذه الأخبار، قد اتفقت في الدلالة على النهي عن وصل
الشعر بشعر امرأة غيرها، وظاهر حديث سعد الإسكاف المتقدم: أنه لا بأس بما
تزينت به المرأة لزوجها، وإن كان بوصل شعرها بشعر امرأة غيرها، فإنه لما سأله
السائل عن الحديث المتضمن للعن والواصلة والمستوصلة، فسره عليه السلام بمعنى آخر،
تنبيها على الجواز، وأن الخبر ليس المراد به ذلك، مع استفاضة هذه الأخبار كما
ترى بالمنع والنهي
وجمع بعض الأصحاب (1) بين هذه الأخبار بحمل الأخيرة على الكراهة.
ويؤيده نفي البأس في رواية قرب الإسناد عن حف الشعر عن الوجه، مع دلالة
رواية علي بن غراب على النهي عن نتف الشعر.
وربما حملت أيضا على قصد التدليس عند إرادة التزويج، والظاهر بعده عن
سياق الأخبار المذكورة
واحتمل ثالث حمل النهي من حيث عدم جواز الصلاة في شعر الغير، وهو
أبعد، فإنه لم يقم عليه دليل، بل الدليل على خلافه واضح السبيل كما تقدم تحقيقه
في كتاب الصلاة، في بحث لباس المصلي.
المورد الثالث
في تزيين الرجل بما يحرم عليه، كتزيينه بالذهب والحرير، إلا ما استثنى.
وظاهر المسالك: تفسيره بما يختص بالنساء كلبس السوار والخلخال
والثياب المختصة بهن بحسب العادة. قال: ويختلف ذلك باختلاف الأزمان و
الأصقاع.

(1) هو المولى محمد تقي المجلس في حواشيه على التهذيب. منه قدس سره
197

أقول: الظاهران الأقرب هو ما ذكرناه أولا، وهو الذي فسره به بعض الأصحاب
أيضا، لأن الثاني على تقدير تسليم تحريمه لا يكون مطردا، بل يختلف على الوجه
الذي ذكره، بخلاف ما ذكرناه أولا، فإن التحريم ثابت معلوم مطرد في جميع
الأوقات والأزمان، إلا مواضع مخصوصة دل الدليل على استثنائها.
قال في المسالك: وكذا يحرم على المرأة التزين بزينة الرجل والتحلي بحليه
المختصة به، كلبس المنطقة والعمامة والتقليد بالسيف. ولا فرق في الأمرين بين
مباشرة الفاعل لذلك بنفسه أو تزيين غيره له، إلا أن المناسب للعبارة هنا فعل الغير
بهما ليكتسب به، أما فعلهما بأنفسهما فلا يعد تكسبا إلا على تجوز بعيد، انتهى.
أقول: لم أقف في هذا الموضع على خبر ولا دليل يدل على ما ذكروه، سوى
ما ورد من عدم جواز لبس الرجل الذهب والحرير، فلو خص تحريم التزيين بذلك
لكان له وجه لما ذكرناه، وأما ما عداه فلم نقف على دليل تحريمه، لا بفعل الانسان و
لا بفعل الغير به.
ويشير إلى ما ذكرناه ما صرح به المقدس الأردبيلي في هذا المقام، حيث
قال - بعد ذكر نحو ما قدمناه -: ولعل دليله الاجماع بنفسه، وأنه نوع غش، و
هو محرم. والاجماع غير ظاهر فيما قيل، وكذا كونه غشا وهو ظاهر. انتهى.
أقول: قد عرفت صحة هذا الحكم بالنسبة إلى تزيين الرجل بالذهب و
الحرير، لما ذكرناه وإنما موضع الاشكال ما عدا ذلك مما قدمنا نقله عنهم.
نعم قد ورد في بعض الأخبار: لعن المتشبهين بالنساء ولعن المتشبهات بالرجال.
إلا أن الظاهر منها - باعتبار حمل بعضها على بعض - إنما هو باعتبار التأنيث
وعدمه، لا باعتبار اللبس والزي.
فقد روى في الكافي بسنده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول
صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: لعن الله المحلل والمحلل له، ومن يوالي غير مواليه، ومن ادعى
نسبا لا يعرف، والمتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال،
198

ومن أحدث حدثا في الاسلام، أو آوى محدثا، ومن قتل غير قاتله، أو ضرب غير
ضاربه (1).
وروى الصدوق في العلل عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي
عليه السلام أنه رأى رجلا به تأنيث، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: أخرج من
مسجد رسول الله، يا لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال علي - عليه السلام -: إني سمعت
رسول الله يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء
بالرجال (2).
قال: وفي حديث آخر: أخرجوهم من بيوتكم فإنهم أقذر شئ (3).
وبهذا الاسناد عن علي عليه السلام، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا في
المسجد حتى أتاه رجل به تأنيث، فسلم عليه فرد عليه السلام ثم أكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إلى الأرض يسترجع، ثم قال: مثل هؤلاء في أمتي؟! إنه لم يكن مثل هؤلاء في أمة
إلا عذبت قبل الساعة (4).

(1) روضة الكافي (ج 8) ص 71
(2) الوسائل ج 12 ص 211 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 212 حديث: 3
(4) الوسائل ج 12 ص 212 حديث: 4
199

المقام الرابع
فيما يحرم لتحريم ما يقصد به
كآلات اللهو مثل العود والزمر. وهياكل العبادة (1) المبتدعة، كالصليب (2)
والصنم. وآلات القمار كالنرد والشطرنج. وإجارة المساكن والسفن للمحرمات.
وبيع العنب ليعمل خمرا. وبيع الخشب ليعمل صمنا. ويكره بيع ذلك لمن يعملها.
وتحقيق الكلام في هذا المقام يتوقف على بسطه في مواضع:
الأول: لا خلاف بين الأصحاب في تحريم عمل آلات اللهو والتكسب
بها وبيعها. مثل العود والدفوف والطبول والمزامير ونحوها مما ذكر.

(1) الهيكل في الأصل: بيت الصنم. كما نص عليه الجوهري وغيره. وأما اطلاقه على
نفس الصنم، كما وقع في كلام الأصحاب في هذا المقام: فالظاهر: أنه من باب المجاز،
اطلاقا لاسم المحل على الحال. منه قدس سره.
(2) قال في مجمع البحرين: صليب النصارى: هيكل مربع يدعون النصارى أن
عيسى - عليه السلام - صلب على خشبة، على تلك الصورة. وفي المغرب: هو شئ مثلث كالتماثيل
تعبده النصارى. انتهى. منه قدس سره
200

قال في المنتهى: ويحرم عمل الأصنام وغيرها من هياكل العبادة المبتدعة وآلات
اللهو، كالعود والزمر، وآلات القمار كالنرد والشطرنج والأربعة عشر، وغيرها من
آلات اللعب، بلا خلاف بين علمائنا في ذلك. انتهى.
أقول: وقد تقدمت جملة من الأخبار المتعلقة بآلات اللهو، في المسألة الثانية
من المقام المتقدم (1)، دالة على الأحكام المذكورة.
وبالجملة فلا ريب في تحريم البيع بقصد تلك الأغراض المحرمة، بل مطلقا
أيضا، حيث إنه لا غرض يترتب على هذه الأشياء إلا ذلك.
أما لو أمكن الانتفاع بها في غير ذلك، فيحتمل الجواز، إلا أنه فرض نادر،
فيمكن التحريم مطلقا، بناء على أن الغرض المتكرر المترتب على تلك الآلات إنما
هو ما ذكرنا، فلا يلتفت إلى الأفراد النادرة الوقوع.
نعم لو كان الغرض من البيع كسرها مثلا وبيعت لأجل ذلك، فالظاهر أنه لا ريب في الجواز إذا كان المشتري
ممن يوثق به في ذلك.
قال في المسالك: ولو كان لمكسورها قيمة، وباعها صحيحة للكسر، وكان
المشتري ممن يوثق بديانته، ففي جواز بيعها وجهان. وقوى في التذكرة جوازه مع
زوال الصفة، وهو حسن. والأكثر أطلقوا المنع. انتهى.
أقول: الظاهر أن اطلاق الأكثر المنع إنما هو من حيث ندور هذا الفرض،
وإلا فمع وقوعه على الوجه المذكور فإنه لا مانع من صحة البيع شرعا كما لا يخفى.
قال في المسالك: وهل الحكم في أواني الذهب والفضة كذلك؟ يحتمل،
بناء على تحريم عملها والانتفاع بها في الأكل والشرب. وعدمه، لجواز اقتنائها للادخار
وتزيين المجالس والانتفاع بها في غير الأكل والشرب، وهي منافع مقصودة وفي
تحريم عملها مطلقا نظر، انتهى.
أقول: وقد تقدم في آخر كتاب الطهارة: أن المشهور بين الأصحاب هو تحريم

(1) راجع صفحة 101 فما بعد من هذا الجزء
201

اتخاذها، وإن كان للقنية والادخار. وعليه تدل ظواهر جملة من الأخبار المذكورة
ثمة (1) وبذلك يظهر كونها من قبيل ما نحن فيه.
الثاني: المشهور في كلام الأصحاب: تحريم إجارة السفن والدابة للمحرمات،
مثل حمل الخمر والبيت ليباع فيه الخمر، والخشب ليعمل صلبانا، أو شيئا من
آلات اللهو، والعنب ليعمل خمرا.
بمعنى أن البيع أو الإجارة وقع لهذه الغايات، أعم من أن يكون قد وقع شرطها
في متن العقد، أو حصل الاتفاق عليها. صرح بذلك غير واحد من الأصحاب بل
في المنتهى: أنه موضع وفاق.
أما لو كانت الإجارة أو البيع لمن يعمل ذلك ولم يعلم أنه يعملها، فإنه
يجوز على كراهة ومع العلم قولان. فقيل بالجواز على كراهية، وقيل بالتحريم
واختاره في المسالك. قال: والظاهر أن غلبة الظن به كذلك. وإلى هذا القول أيضا
مال المقدس الأردبيلي رحمة الله عليه.
والأخبار لا تخلو من اختلاف واضطراب في المقام، فلا بد أولا من نقلها، ثم
الكلام فيها:
ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أذينة، قال: كتبت
إلى أبي عبد الله عليه السلام: أسأله عن الرجل يواجر سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو عليها
الخمر والخنازير؟ قال: لا بأس (2).
وما رواه فيه أيضا، وفي التهذيب عن صابر، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الرجل يواجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: حرام أجرته (3).
وما رواه في الكافي عن ابن أذينة في الصحيح أو الحسن، قال: كتبت إلى أبي

(1) راجع الجزء الخامس ص 509 - 510 من هذه الطبعة
(2) الوسائل ج 12 ص 126 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 12 حديث: 1
202

عبد الله عليه السلام: أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط؟ فقال: لا بأس به.
وعن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا؟ قال: لا (1).
وعن عمرو بن حريث، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن التوت أبيعه ممن
يصنع الصليب والصنم؟ قال: لا (2).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن، فقال: لو باع
ثمرته ممن يعلم أنه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس، فأما إذا كان عصيرا فلا يباع
إلا بالنقد (3).
وعن محمد الحلبي، قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن بيع عصير العنب ممن
يجعله حراما، قال: لا بأس به تبيعه حلالا ليجعله حراما فأبعده الله وأسحقه (4).
وما رواه في الكافي عن ابن أذينة في الصحيح أو الحسن، قال: كتبت إلى أبي
عبد الله عليه السلام: أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمرا
أو سكرا؟ فقال: إنما باعه حلالا في الابان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه (5).
وعن أبي كهمس، قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام - إلى أن قال -: ثم قال
عليه السلام: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا (6).
وما رواه في التهذيب عن رفاعة بن موسى في الصحيح، قال: سئل الصادق عليه السلام
- وأنا حاضر - عن بيع العصير ممن يخمره، قال: حلال. ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله

(1) الوسائل ج 12 ص 127 حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 127 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 169 حديث: 1
(4) الوسائل ج 12 ص 169 حديث: 4
(5) الوسائل ج 12 ص 169 حديث: 5
(6) الوسائل ج 12 ص 170 حديث: 6
203

شرابا خبيثا!؟ (1)،
وعن الحلبي في الصحيح عن الصادق عليه السلام: أنه سئل عن بيع العصير ممن
يصنعه خمرا، فقال: بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب إلى، ولا أرى بالأول بأسا (2).
وعن يزيد بن خليفة الحارثي، عن الصادق عليه السلام، قال: سأله رجل - وأنا
حاضر - قال: إن لي الكرم. قال تبيعه عنبا! قال: فإنه يشتريه من يجعله خمرا،
قال فبعه إذا عصيرا. قال: فإنه يشتريه مني عصيرا فيجعله خمرا في قربتي، قال:
بعته حلالا، فجعله حراما فأبعده الله (3) الحديث.
هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمقام.
والشيخ قد حمل الخبر الثاني على من يعلم أنه يباع فيه الخمر، ولهذا حرم
الأجرة. والأول على من لا يعلم ما يحمل عليها.
وفيه: أن أخبار العصير كلها متفقه على جواز البيع مع العلم بأنه يعمله خمرا.
ومقتضى كلام أصحاب الذي قدمنا نقله عنهم: حمل الخبر الثاني على أن يكون
الإجارة لهذه الغاية، بحيث ذكرت وشرطت في أصل العقد أو وقع الاتفاق عليها.
والخبر الثاني على ما لم يكن كذلك.
وجمع في الوافي بين الخبرين المذكورين، فقال: لا منافاة بين الخبرين.
لأن البيع غير الحمل، والبيع حرام مطلقا، والحمل يجوز أن يكون للتخليل.
وفيه - أولا -: ما عرفت من عدم تحريم البيع مطلقا، لأخبار العصير المذكورة،
إلا أن يقيد بما ذكره الأصحاب.
وثانيا: أن الحمل للتخليل، وإن احتمل في الخمر، لكن لا مجال لهذا الاحتمال
في الخنزير الذي ذكر معه في الخبر.

(1) الوسائل ج 12 ص 170 حديث: 8
(2) الوسائل ج 12 ص 170 حديث: 9
(3) الوسائل ج 12 ص 170 حديث: 10
204

فالأولى إنما هو حمل الخبر الثاني على ما ذكره الأصحاب من الاشتراط
أو الاتفاق.
وعلى هذا أيضا تحمل أخبار بيع الخشب ليعمل صلبانا أو أصناما.
ويمكن أن تحمل أخبار المنع على الكراهة، جميعا بينها وبين ما دل على
الجواز.
ويشير إلى ذلك صحيحة ابن أذينة أو حسنته الثانية، حيث نفى البأس فيها
عن بيع الخشب ليعمل برابط، ومنع من البيع ليعمل صلبانا، مع أن الأمرين من
باب واحد. بأن يقال بشدة الكراهة في عملها صلبانا فنهى عنه وإن كان جائزا.
والمقدس الأردبيلي - هنا - قد استدل على تحريم البيع والإجارة ممن يعلم
بترتب تلك الغاية المحرمة على البيع أو الإجارة، وإن لم يحصل الاشتراط، على
الوجه الذي ذكره الأصحاب - بأن فيه معاونة على الإثم والعدوان، مع وجوب
النهي عن المنكر، وايجاب كسر الهياكل، وعدم جواز الحفظ، وكسر آلات
اللهو، ومنع الشرب والحديث الدال على لعن حامل الخمر وعاصرها، المذكور
في الكافي، ومنع بيع السلاح لأعداء الدين، فإنه يحرم للإعانة، وهو ظاهر.
وفيه: أن ما ذكره جيد في حد ذاته، لو سلم من المعارضة بأخبار العصير
المذكورة، فإنها ما بين صريح وظاهر في صحة البيع في الصورة المذكورة، مع
كثرتها وصحة كثير منها.
وأما قوله - رحمه الله -: ويمكن حملها على وهم البايع أن المشتري يعمل
هذا المبيع خمرا لكونه ممن يجعله خمرا، أو يكون الضمير راجعا إلى مطلق العصير
والتمر لا المبيع، ولا صراحة في الأخبار ببيعه ممن يعلم بجعل هذا المبيع خمرا.
بل لا نعلم فتوى المجوز بذلك. وبالجملة فالظاهر: التحريم مع علمه بجعل هذا
المبيع خمرا بل ظنه أيضا فتأمل. انتهى.
فلا يخفى ما فيه من التعسف والتكليف، والخروج عن ظاهر الأخبار بل صريحها،
205

فإنها مطابقة المقالة، واضحة الدلالة على أن البايع يعلم أن المشتري يصنع ذلك
المبيع من العنب والتمر خمرا، ولا سيما قوله في خبري محمد الحلبي ويزيد بن
خليفة -: بعته حلالا فجعله حراما. فإن ظاهره ينادي بأن المدار في التحريم والتحليل
إنما هو بالنسبة إلى حال المبيع، فإن كان المبيع مما يحل بيعه في ذلك الوقت و
تلك الحال صح البيع، وإلا فلا، ولا تعلق لصحة البيع بما يؤل إليه حال المبيع
بعد البيع، علمه أم لم يعلمه. وما ذكره من الحمل على توهم البايع أو رجوع
الضمير إلى مطلق العصير والتمر لا المبيع، عجيب من مثله! وكيف لا وهو عليه السلام
يقول: إنا نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا وشرابا خبيثا. أي يصنع ذلك
التمر الذي نبيعه إياه، كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم والفهم القويم.
وبالجملة فإنه لو قامت هذه الاحتمالات البعيدة لا نغلق باب الاستدلال.
وقد تلخص من ذلك: أن الظاهر من هذه الأخبار - بعد ضم بعضها إلى بعض -
هو: قصر التحريم على ما إذا وقع الاشتراط في العقد أو الاتفاق على البيع أو الإجارة
لتلك الغاية المحرمة، وحل ما سوى ذلك. وما ذكره الأصحاب من الكراهة في
موضع التحليل، وإن كان جيدا في حد ذاته، إلا أن ظواهر الأخبار لا تساعده،
لا سيما أخبار بيع التمر والعنب ليعمل خمرا. والله العالم.
الثالث: المشهور بين الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه: تحريم بيع
السلاح على أعداء الدين.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام: ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي
بكر الحضرمي، في الحسن قال: دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام، فقال له حكم السراج:
ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج وأداتها؟ فقال: لا بأس، أنتم اليوم بمنزلة
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنكم في هدنة، فإذا كانت المباينة؟ حرم عليكم أن
تحملوا إليهم السروج والسلاح (1).

(1) الوسائل ج 12 ص 69 حديث: 1
206

والظاهر: أن المراد بقوله " بمنزلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أي الباقين على
صحبته ودينه بعد موته، كما يشير إليه قوله " إنكم في هدنة " أي سكون من الفتن
بالصلح مع أعداء الدين.
وما رواه المشايخ الثلاثة عن هند السراج، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام:
أصلحك الله، إني كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم، فلما عرفني الله
هذا الأمر ضقت بذلك، وقلت: لا أحمل إلى أعداء الله. فقال لي: إحمل إليهم و
بعهم، فإن الله يدفع بهم عدونا وعدوكم، يعني الروم، فإذا كانت الحرب بيننا فلا
تحملوا، فمن حمل إلى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشترك (1).
وما رواه في الكافي عن محمد بن قيس في الصحيح، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح؟ فقال: بعهما ما يكنهما، الدرع
والخفين ونحو هذا (2).
وعن السراد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: إني أبيع السلاح، قال: لا
تبعه في فتنة (3).
وفي التهذيب رواه عن السراد عن رجل عنه وهو الظاهر، حيث إن السراد
المذكور إنما يروي عن أبي عبد الله عليه السلام بالواسطة (4)، هذا إن حمل أنه الحسن بن
محبوب المشهور بهذا اللقب (5) وإلا فلا، ويكون الرجل مهملا.

(1) الوسائل ج 12 ص 70 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 70 حديث: 3
(3) الوسائل ج 12 ص 70 حديث: 4 والحديث في الوسائل: " عن السراج ". لكنه
في الكافي والتهذيب " عن السراد " كما في المتن.
(4) لأنه ولد بعد وفاة الإمام الصادق - عليه السلام - (148) بسنة (149 - 224)
(5) وهو: " السراد " ويقال له " الزراد " أيضا. وهما بمعنى واحد، وهو صانع الزرد والسرد وهما بمعنى الدرع.
207

وما رواه في التهذيب عن أبي القاسم الصيقل، قال: كتبت إليه أني رجل
صيقل أشتري السيوف وأبيعها من السلطان، أجائز لي بيعها؟ فكتب - عليه السلام -
لا بأس به (1).
وما في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر، ورواه
علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى - عليه السلام -، قال: سألته عن حمل
المسلمين إلى المشركين التجارة، قال: إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس (2).
وما رواه في الفقيه بإسناده عن حماد بن أنس وأنس بن محمد عن أبيه عن
جعفر بن محمد عن آبائه - عليهم السلام - في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام،: يا علي
كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة - إلى أن قال: - وبايع السلاح من أهل
الحرب (3).
* * *
والكلام في هذه الأخبار يقع في مواضع:
(الأول): أن المستفاد من الخبر الأول والثاني: تخصيص تحريم حمل السلاح
إلى الأعداء بوقت المباينة دون وقت الصلح والهدنة. وكلام الأصحاب - كما قدمنا
نقله عنهم - مطلق. فالواجب تقييده بما ذكرنا من الخبرين. وإلى ذلك أشار في
المسالك - بعد ذكر عبارة المصنف الدالة باطلاقها على العموم - فقال: وإنما يحرم
مع قصد المساعدة أو في حال الحرب أو التهيأ له.
(الثاني): لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مشركين أو مسلمين
كالمخالفين.
ويدل عليه الخبران الأولان، لاشتراكهما في الوصف وهو العداوة للدين، بل

(1) الوسائل ج 12 ص 70 حديث: 5
(2) الوسائل ج 12 ص 70 - 71 حديث: 6
(3) الوسائل ج 12 ص 71 حديث: 7
208

لا يبعد - كما ذكره جملة من المتأخرين - دخول مثل قطاع الطريق ونحوهم من
الظالمين، لما تقدم من تحريم إعانة الظالمين ولو بالمباحات، بل الطاعات، فضلا
عما في الإعانة على الظلم. ويعضده ظاهر الآية من النهي عن الإعانة على الإثم و
العدوان. وحديث السراد المتقدم (1)
(الثالث): محل البحث في كلام الأصحاب وكذا في أخبار تحريم السلاح
هو السيف والرمح ونحوهما. أما ما يتخذ جنة كالدرع والبيضة ولباس الفرس
المسمى بالتجفاف - بكسر التاء - فالظاهر عدم دخوله في الحكم المذكور. وبذلك
صرح في المسالك أيضا.
ويدل صحيحة محمد بن قيس المتقدمة، إلا أن ظاهر رواية أبي بكر
الحضرمي: دخول السروج فيما يحرم بيعه، وهي ليست من السلاح. فلو قيل
بالعموم لما يحصل به المساعدة، من سلاح وغيره، لكان أوجه، فإنه لا شك أن
الإعانة بالدرع والبيضة التي تقي لابسها عن القتل أشد وأعظم من الإعانة بالسرج
الذي قد صرحت الرواية المشار إليها بتحريمه.
ويمكن الجواب عن الصحيحة المذكورة بأنها لم تتضمن المعونة لأعداء
الدين على المسلمين، وإنما دلت على المعونة على مثلهم من أهل الباطل، والظاهر أن
الفرقتين من أعداء الدين. إلا أنه يشكل ذلك بتخصيص التجويز بالجنة دون السلاح
وبالجملة فادخال نحو السرج في الحكم المتقدم واخراج نحو الدرع لا يخلو عن
اشكال.
(الرابع): لو باع على تقدير التحريم، هل يصح البيع ويملك الثمن وإن
أثم، أم يبطل؟ قولان، استظهر في المسالك الثاني، قال: لرجوع النهي إلى نفس
المعوض. وإليه مال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، قال: لأن الظاهر أن
الغرض من النهي هنا عدم التملك وعدم صلاحية المبيع لكونه مبيعا، لا مجرد الإثم،

(1) في ص 207 رقم: 3
209

فكان المبيع لا يصلح لأن يكون مبيعا لهم كما في بيع الغرر انتهى. ولا يخلو من
قرب، وإن كان للمناقشة فيه مجال، لامكان رجوع النهي إلى المعونة، وإلا فالعوض
من حيث هو صالح للنقل، فيكون توجه النهي إنما هو لأمر خارج كالبيع وقت
النداء في يوم الجمعة، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في بعض مجلدات هذا الكتاب (1)
بما يكشف عن وجهها نقاب الشك والارتياب.
(الخامس): ظاهر خبر هند السراج (2): جواز حمل السلاح إلى أعداء الدين
وقت الهدنة لأجل الاستعانة به على دفع الكفار، وعليه يحمل خبر القاسم الصيقل،
مع أنك قد عرفت في الموضع الأول جواز الحمل في حال الهدنة مطلقا.

(1) في الجزء العاشر ص 177 من هذه الطبعة
(2) تقدم في ص 207 رقم: 1
210

المقام الخامس
في حكم أخذ الأجرة على ما يجب على الانسان فعله، كتغسيل الموتى و
تكفينهم ودفنهم.
ويلحق بذلك أخذ الأجرة على الأذان، وبيع القرآن، وكذا أخذ الأجرة
على الصلاة بالناس، والقضاء والحكم بين الناس.
وتفصيل هذه الجملة يقع في موارد: -
الأول: المشهور في كلام الأصحاب - من غير خلاف يعرف - أن تغسيل
الموتى وتكفينهم ودفنهم والصلاة عليهم، من الواجبات الكفائية، على من علم
بالموت من المسلمين، فلا يجوز أخذ الأجرة على شئ من ذلك.
قال في المنتهى: يحرم أخذ الأجرة على تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم
والصلاة عليهم، لأن ذلك واجب عليهم، فلا يجوز لهم أخذ الأجرة على فعله،
كالفرائض انتهى.
ونحن قدمنا البحث معهم في هذه المسألة في فصل غسل الأموات من كتاب
الطهارة (1) وكذا في كتاب الصلاة (2) في باب الصلاة على الأموات. وذكرنا

(1) في الجزء الثالث ص 359 من هذه الطبعة
(2) في الجزء العاشر ص 382 فما بعد
211

أن الخطابات الواردة من الشارع في هذه المواضع إنما توجهت إلى الولي بأن يفعل
ذلك أو يأمر من يفعله، إلا أن لا يكون للميت ولي، وعلى ما ذكرنا لا يتجه تحريم
أخذ الأجرة على الاطلاق كما ذكروه، وإن كان ظاهرهم الاتفاق على ما نقلناه
عنهم.
إلا أن يقال: إنه إذا أذن الولي وجب عليه حينئذ وهو بعيد، لعدم الدليل عليه
فإنا لم نقف لهم في دعوى الوجوب الكفائي في هذا المقام على دليل يعتمد عليه
من الأخبار وليس إلا ظاهر اتفاقهم عليه.
والأصحاب قد نقلوا في هذا المقام عن المرتضى جواز أخذ الأجرة بالتقريب
الذي ذكرناه.
قال في المسالك - بعد ذكر المصنف لأصل الحكم -: هذا هو المشهور بين
الأصحاب، وعليه الفتوى، وذهب المرتضى إلى جواز أخذ الأجرة على ذلك لغير
الولي بناء على اختصاص الوجوب به، وهو ممنوع، فإن الوجوب الكفائي لا يختص
به، وإنما فائدة الولاية توقف الفعل على إذنه، فيبطل منه ما وقع بغيره، مما يتوقف
على النية. انتهى.
وفيه: أن ما ادعاه - رحمه الله - وغيره من الوجوب الكفائي عار عن الدليل
كما عرفت.
وأما قوله: إن فائدة الولاية توقف الفعل على إذنه، فإن فيه: أن النصوص
الدالة على ذلك ظاهرة بل صريحة في توجه الأمر بالاتيان بتلك الأفعال إلى الولي،
كقول أمير المؤمنين عليه السلام - فيما رواه في الفقيه -: يغسل الميت أولى الناس به
أو من يأمره الولي بذلك (1) وبمضمونه خبر آخر في الغسل (2).

(1) الوسائل ج 2 ص 718 باب: 26 حديث: 1
(2) الوسائل ج 2 ص 718 باب: 26 حديث: 2
212

وقول الصادق عليه السلام: يصلي على الجنازة أولى الناس بها أو يأمر من يحب (1)
ونحوه أخبار ولاية الزوج لزوجته، وأنه أولى الناس بالصلاة عليها والغسل بها (2)
وهكذا في ساير ما يتعلق بالميت، فإن الخطاب بايقاع ذلك الفعل إنما توجه إلى
الولي خاصة، أما بأن يوقعه بنفسه أو يأذن لغيره. وأين هذا من الوجوب الكفائي،
الذي يدعونه؟!
وبذلك يظهر: أن فائدة الولاية هو اختصاص الفعل به، بأن يغسله ويصلي
عليه ويكفنه ونحو ذلك، أو يأذن لغيره في هذه الأمور.
وحينئذ فلو فرضنا أن الغير امتنع من امتثال أمر الولي إلا بالأجرة جاز له ذلك،
لأنه غير مخاطب بهذه الأمور، ولا مكلف بها حتى يحرم عليه أخذ الأجرة كما ادعوه،
نعم لو سلمنا صحة ما ادعوه من الوجوب الكفائي، صح ما رتبوه عليه من تحريم
أخذ الأجرة.
ثم إن مقتضى تخصيص الأصحاب الحكم بالواجب من هذه الأمور، جواز
أخذ الأجرة على المستحب، مثل زيادة الحفر على ما يستر ريحه عن الشياع، ويكن
جثته عن السباع، بمقدار الترقوة، ونقله إلى المشاهد المشرفة، وتثليث الغسلات
في التغسيل، ووضوء الميت على تقدير القول باستحبابه، وتكفينه بالقطع المندوبة
ونحو ذلك.
وقيل بالمنع. نقله في المسالك عن بعض الأصحاب، محتجا باطلاق النهي!
وأنت خبير بأنا لم نقف على نهي في هذا الباب، ولا ذكره أحد من الأصحاب، بل
ذكر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد أيضا، أنه لم يقف عليه، قال - بعد نقل
القول المذكور -: ووجهه غير ظاهر، ولعله أنها عبادة وهي تنافي الأجرة ومنعه ظاهر، ألا ترى
جواز أخذ الأجرة على الحج وساير العبادات بالاجماع والأدلة. قيل: لاطلاق
النهي، وما رأيت النهي. انتهى.

(1) الوسائل ج 2 ص 801 حديث: 1
(2) الوسائل ج 2 ص 802 باب: 24
213

الثاني: المشهور بين الأصحاب تحريم أخذ الأجرة على الأذان.
واستدل عليه ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن عبد الله
المنبه عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه
عن علي عليه السلام، أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين والله إني أحبك لله، فقال له: لكني
أبغضك لله. قال: ولم؟ قال: لأنك تبغي في الأذان أجرا، وتأخذ على تعليم القرآن أجرا،
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخذ على تعليم القرآن أجرا كان حظه يوم القيامة (1).
وذهب المرتضى إلى جواز أخذ الأجرة عليه، تسوية بينها وبين الارتزاق.
وإلى هذا القول يميل كلام المقدس الأردبيلي، استضعافا للخبر المذكور،
لأن رجاله من العامة الزيدية. قال: والشهرة ليست بحجة، وأيد ذلك باشتمال الخبر
على النهي عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، مع كون ذلك على الكراهة عند
الأصحاب. قال: ويبعد كون أحدهما مكروها والآخر حراما. والأصل، وجواز أخذ
الأجرة في المندوبات، يؤيد عدم التحريم. انتهى.
أقول: ما ذكره وإن أمكن تطرق المناقشة إليه (2) إلا أن الخبر المذكور مع
الاغماض عن المناقشة في سنده لا ظهور له في التحريم، فإنهم كثيرا ما يزجرون عن
المكروهات بما يكاد يدخلها في حيز المحرمات، ويحثون على المستحبات بما
يكاد يلحقها بالواجبات، وهذا ظاهر لمن تتبع موارد الأحكام الواردة في أخبارهم

(1) الوسائل ج 12 ص 12 ص 114 باب: 30 حديث: 1
(2) بأن يقال: إن من قواعدهم جبر الخبر الضعيف بالشهرة بين الأصحاب، بمعنى
أنه بانضمام أحدهما إلى الآخر يصير كالدليل الواحد، وهو لا يقصر عن خبر صحيح.
واشتمال الخبر على النهي عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، يمكن ابقاؤه على ظاهره
من التحريم أيضا.
وكون المشهور بينهم حمله على الكراهة لا يوجب ثبوت ذلك ولا يعين حمله على الكراهة
هنا كما لا يخفى منه قدس سره.
214

- عليهم السلام -.
وعلى تقدير القول بالتحريم، هل يحرم الأذان أيضا بذلك أم لا؟
قال ابن البراج: يحرم ورجحه العلامة في المختلف، قال: الأذان على هذا
الوجه غير مشروع، فيكون بدعة.
والظاهر: بعده، لأن النهي هنا إنما توجه إلى أخذ الأجرة، لا إلى الأذان،
فالقول بعدم مشروعيته وأنه بدعة مع دخوله تحت الأخبار العامة الدالة على صحة
الأذان ومشروعيته مشكل.
نعم يكون ما فعله من أخذ الأجرة عليه محرما، هذا مقتضى قواعدهم وأصولهم.
* * *
ثم إن الظاهر من كلام الأصحاب: أنه لا خلاف في جواز الارتزاق من بيت
المال، وهو ما أعد لمصالح المسلمين من مال الخراج والمقاسمة.
وهل يشترط أن يكون ذلك بإذن الإمام عليه السلام أو نائبه، أم يجوز ولو كان من
الجائر؟ قولان. المشهور: الثاني. وسيأتي تحقيق المسألة انشاء الله تعالى في محلها.
* * *
والظاهر أيضا: جواز أخذ ما وقف للمؤذنين أو نذر لهم، لأن للمالك أن يفعل
في ماله ما يشاء، ويعينه لمن يشاء، والظاهر أنه لا يحرم وإن قصد بالأذان ذلك.
قال في المسالك: والفرق بين الأجرة والارتزاق أن الأجرة تفتقر إلى تقدير
العمل والعوض، وضبط المدة والصيغة الخاصة، وأما الارتزاق فمنوط بنظر الحاكم،
لا يتقدر بقدر. انتهى.
وهو يشعر بأن ما يأخذه من الأجرة بغير القيود المذكورة لا تسمى أجرة ولا تكون
محرمة وأنه لا يكون إلا من بيت المال، لأنه من قبيل الارتزاق دون الأجرة. والظاهر:
بعده، فإن الظاهر من الأجرة في هذا المقام: إنما هو ما يعطى لأجل الأذان، بحيث
215

لو لم يعط لم يوذن، بأن يقال له: أذن ونعطيك كذا وكذا، فيؤذن لذلك، سواء
عينت مدة الأذان أم لا، وقعت بالصيغة المخصوصة أم لا، وسواء كان ما يعطى من بيت
المال أو من شخص معين أو من أهل البلد كملا.
وبما ذكرنا صرح المحقق الأردبيلي أيضا. ويؤيده خلو أخبار البيوع والإجارات
ونحوهما من أكثر هذه القيود والشروط المذكورة في كلامهم في هذه الأبواب،
وإنما العمدة وقوع التراضي بالألفاظ، مع معلومية ما يقع عليه العقد، ولو في الجملة.
الثالث: اختلف الأصحاب في جواز أخذ الأجرة على القضاء والحكم
بين الناس.
فقال الشيخ في النهاية: لا بأس بأخذ الأجرة والرزق على الحكم والقضاء بين الناس
من جهة السلطان العادل.
وقال المفيد: لا بأس بالأجرة في الحكم والقضاء بين الناس. والتبرع بذلك
أفضل، وأقرب إلى الله سبحانه.
وقال أبو الصلاح: يحرم الأجر على تنفيذ الأحكام من قبل الإمام العادل.
وقال ابن إدريس: يحرم الأجر على القضاء، ولا بأس بالرزق من جهة
السلطان العادل، ويكون ذلك من بيت المال، دون الأجرة، على كراهية
فيه.
وقال في المختلف: الأقرب أن نقول: إن تعين القضاء عليه إما بتعيين الإمام عليه السلام
أو بفقد غيره أو بكونه الأفضل وكان متمكنا، لم يجز الأجر عليه، وإن لم يتعين أو
كان محتاجا فالأقرب الكراهة. لنا: الأصل الإباحة على التقدير الثاني، وأنه فعل
لا يجب عليه فجاز أخذ الأجرة عليه كغيره من العبادات الواجبة.
وقال في المنتهى: يحرم الأجر على القضاء، ويجوز الرزق فيه من بيت المال.
واستدل على الأول بصحيحة عبد الله بن سنان الآتية. وقال المحقق في الشرايع
- على ما نقله في المسالك -: إن تعين عليه بتعيين الإمام، أو بعدم قيام أحد غيره، حرم
216

عليه أخذ الأجرة مطلقا، لأنه حينئذ يكون واجبا عليه، والواجب لا يصح أخذ الأجرة
عليه، وإن لم يتعين عليه، فإن كان له غنى لم يجز أيضا، وإلا جاز.
قال في المسالك - بعد نقل كلام المحقق المذكور -: وقيل: يجوز مع عدم
التعيين مطلقا. وقيل: يجوز مع الحاجة مطلقا ومن الأصحاب من جوز أخذ
الأجرة عليه مطلقا. والأصح المنع مطلقا، إلا من بيت المال على جهة الارتزاق،
ويتقدر بنظر الإمام. ولا فرق في ذلك بين أخذ الأجرة من السلطان ومن أهل
البلد والمتحاكمين، بل الأخير هو الرشوة التي ورد في الخبر " أنها كفر بالله
ورسوله " انتهى.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام: ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح
عن عبد الله بن سنان، قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من
السلطان على القضاء الرزق، فقال: ذلك السحت. (1) وما تقدم في صدر هذا
البحث من الأخبار الدالة على أن الرشا في الحكم هو الكفر بالله العظيم.
ونحوها: ما رواه في الكافي عن سماعة - في الموثق - عن أبي عبد الله عليه السلام،
قال: الرشا في الحكم هو الكفر بالله. (2)
وما رواه الشيخ عن جابر، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
من نظر إلى فرج امرأة لا تحل له، ورجلا خان أخاه في امرأته، ورجلا احتاج
الناس إليه لتفقهه فسألهم الرشوة. (3)
وظاهر الأصحاب - حيث جوزوا الارتزاق -: حمل الخبر الأول على الأجر.
ولا يخلو من اشكال، لعدم المعارض، مع ظهور اللفظ في الارتزاق.
نعم يمكن أن يقال: إن الارتزاق لما كان جائزا لجملة المسلمين المحتاجين من بيت

(1) الوسائل ج 18 ص 162 حديث: 1
(2) الوسائل ج 18 ص 162 حديث: 3
(3) الوسائل ج 18 ص 163 حديث: 5
217

المال، فلا وجه للفرق فيه بين القاضي وغيره، إلا أنه يمكن دفعه بأنه لما كان أخذه
هنا إنما هو في مقابلة القضاء، كما يدل عليه ظاهر الخبر الأول، كان حراما لهذه
الجهة، ولا ينافي لما حله له من حيث كونه من جملة المسلمين أو المحتاجين.
والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد اختار القول بالتحريم مطلقا، استنادا
إلى أخبار تحريم الرشا، وإلى أنه مع تعينه عليه بأحد الوجوه المتقدمة يكون
واجبا، والواجب لا يجوز أخذ الأجرة عليه.
وفيه: أن أخبار الرشا أخص من المدعى، لأن الرشوة ما يؤخذ من المتحاكمين
على الحكم لصاحب الرشوة، فتكون الرشوة في مقابلة الحكم له، والمدعى:
تحريم الأجر بقول مطلق.
والأظهر هو الاستدلال بصحيحة عبد الله بن سنان المذكورة، بحمل الرزق
فيها على ما هو أعم من الارتزاق من بيت المال أو الأجرة.
* * *
وظاهر جملة من الأصحاب: عد الصلاة بالناس فيما تحرم الأجرة عليه، و
نقل في المختلف عن ابن البراج: أنه عد في أقسام المحرمات، الأذان والإقامة و
الصلاة بالناس، وتغسيل الموتى وحملهم والصلاة عليهم ودفنهم، فإنه لا يحل أخذ
الأجرة عليها.
ولم يحضرني الآن خبر في هذا الحكم.
ومن جملة من صرح بذلك صاحب الوسائل، مع أنه لم يورد في الباب ما
يدل عليه وإنما أحال على ما قدمه من أحاديث التظاهر بالمنكرات، واختتال الدنيا
بالدين، وجهاد النفس، وفي استفادة الدلالة على ذلك منها نظر، لا سيما مع ورود
الاستيجار على العبادات ومشروعيته، وكيف كان فالاحتياط: فيما ذكروه.
الرابع: صرح جملة من الأصحاب بأنه لا يجوز بيع المصحف، وإنما يباع
الورق والجلد ونحوهما من الآلات التي اشتمل عليها ذلك الكتاب.
218

وعليه تدل الأخبار المتكاثرة: فروى في الكافي عن عبد الرحمن بن سليمان
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: إن المصاحف لن تشترى، فإذا اشتريت
فقل: إنما اشترى منك الورق وما فيه من الأديم وحليته، وما فيه من عمل يدك، بكذا
وكذا (1).
وعن عثمان بن سعيد عن الصادق عليه السلام، قال سألته عن بيع المصاحف و
شرائها؟ قال: لا تشتر كتاب الله ولكن اشتر الحديد والورق والدفتر، وقل:
اشتريت منك هذا بكذا وكذا، (2).
وعن عنبسة الوراق، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، فقلت له: أنا رجل أبيع
المصاحف، فإن نهيتني لم أبعها، فقال: ألست تشتري ورقا وتكتب فيه؟ قلت:
بلى، وأعالجها، قال: لا بأس بها (3).
وروى في التهذيب عن عثمان بن عيسى عمن سمعه (4)، قال: سألته عن
بيع المصاحف وشرائها. فقال: لا تشتر كتاب الله ولكن اشتر الحديد والجلود و
الدفتين، وقل: أشتري منك هذا بكذا وكذا (5).
وعن عبد الله بن سليمان، قال: سألته عن شراء المصاحف، فقال: إذا أردت
أن تشتري فقل: أشتري منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا (6).
وعن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا تبيعوا المصاحف، فإن
بيعها حرام. قلت: فما تقول في شرائها؟ قال: اشتر منه الدفتين والحديد و

(1) الوسائل ج 12 ص 114 حديث: 1 باب: 13
(2) الوسائل ج 12 ص 114 حديث: 3
(3) الوسائل ج 12 ص 115 حديث: 5
(4) وفي الكافي: " عن سماعة " ج 5 ص 121
(5) الوسائل ج 12 ص 114 حديث: 2
(6) الوسائل ج 12 ص 115 حديث: 6
219

الغلاف، وإياك أن تشتري منه الورق وفيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراما،
وعلى من باعه حراما (1).
أقول: " قوله: وإياك أن تشتري الورق وفيه القرآن " يعني: تجعله المقصود
بالشراء فيلزمه التحريم.
فوائد
الأولى: قد صرح الأصحاب بكراهة تعشيره بالذهب، واستدلوا على ذلك
بما رواه في التهذيب عن سماعة - في الموثق - قال: سألته عن رجل يعشر المصاحف
بالذهب، فقال: لا يصلح. فقال: إنها معيشتي: فقال: إنك إن تركته لله جعل الله تعالى
لك مخرجا (2).
وروى في الكافي - ومثله في التهذيب - عن محمد الوراق، قال: عرضت
على أبي عبد الله عليه السلام كتابا فيه قرآن مختم معشر بالذهب، وكتب في آخره سورة
بالذهب، فأريته إياه فلم يعب فيه شيئا إلا كتابة القرآن بالذهب، فإنه قال: لا يعجبني
أن يكتب القرآن إلا بالسواد كما كتب أول مرة (3).
وفي هذا الخبر: ما يدل على حمل الخبر الأول على الكراهة، وفيه أيضا
دلالة على كراهة كتابة القرآن بغير السواد.
الثانية: جواز أخذ الأجرة على كتابته.
والظاهر: أنه لا خلاف فيه. ويدل عليه أيضا: ما رواه الشيخ عن روح بن
عبد الرحيم، عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث - قال: قلت: ما ترى أعطي على

(1) الوسائل ج 12 ص 116 حديث: 11
(2) الوسائل ج 12 ص 117 حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 117 حديث: 2
220

كتابته أجرا؟ قال: لا بأس. الحديث (1).
وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن أم عبد الله
بنت الحسن أرادت أن تكتب مصحفا فاشترت ورقا من عندها، ودعت رجلا فكتب
لها على غير شرط، فأعطته حين فرغ خمسين دينارا. وأنه لم تبع المصاحف
إلا حديثا (2).
وفي هذا الخبر: إشارة إلى كراهة اشتراط الأجرة على كتابة القرآن، كما
سيأتي انشاء الله تعالى في مسألة تعليم القرآن، وأخذ الأجرة على التعليم.
الثالث: يكره محو شئ من كتابة القرآن بالبزاق، لما رواه في الفقيه
في حديث المناهي، المذكور، في آخر الكتاب، عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ونهى أن يمحي شئ من كتاب الله العزيز بالبزاق أو
يكتب به (3).

(1) الوسائل ج 12 ص 116 حديث: 9
(2) الوسائل ج 12 ص 116 حديث: 10
(3) الوسائل ج 12 ص 117 حديث: 3
221

البحث الثاني
فيما يكره التكسب به، وهي أمور:
الأول: الصرف. لأن صاحبه لا يكاد يسلم من الربا.
ويدل عليه من الأخبار: ما في الكافي والتهذيب، عن إسحاق بن عمار قال:
دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فأخبرته أنه ولد لي غلام. فقال: ألا سميته محمدا!
قال. قلت: قد فعلت. قال: فلا تضرب محمدا ولا تشتمه، جعله الله قرة عين لك
في حياتك، وخلف صدق بعدك. قلت: جعلت فداك في أي الأعمال أضعه؟ قال:
إذا عدلت عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت، لا تسلمه صيرفيا، فإن الصيرفي لا يسلم
من الربا ولا تسلمه بياع الأكفان فإن صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان. ولا تسلمه نخاسا
فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: شر الناس من باع الناس. ولا تسلمه بياع الطعام، فإنه لا
يسلم من الاحتكار. ولا تسلمه جزارا، فإن الجرار تسلب منه الرحمة (1).
وروى في الكافي والفقيه عن سدير الصيرفي، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام:
حديث بلغني عن الحسن البصري، فإن كان حقا فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال:

(1) الوسائل ج 12 ص 97 حديث: 1 مع تقديم وتأخير لبعض فقراته الأخيرة
222

وما هو؟ قلت: بلغني أن الحسن كأن يقول: لو غلى دماغه من حر الشمس ما استظل
بحايط صيرفي. ولو تفرثت كبده عطشا لم يستسق من دار صيرفي ماءا!
وهو عملي وتجارتي، وفيه نبت لحمي ودمي، ومنه حجى وعمرتي! فجلس عليه السلام
ثم قال: كذب الحسن، خذ سواءا واعط سواءا. فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك،
وانهض إلى الصلاة، أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة (1)؟
ومن هذين الخبرين يعلم ما ذكرناه من جواز التصريف على كراهية.
وأما قوله - في آخر الخبر الثاني -: أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا
صيارفة، ففيه بحث قد استوفينا الكلام فيه في كتابنا الدرر النجفية.
ويمكن أن يقال: إن الجواز على كراهة، مخصوص بمن لم يكن يتمكن من
التحرز من الوقوع في تلك الأشياء، للنهي عنها، وعليه يحمل الخبر الأول. وأما
من تمكن من ذلك فلا يكره في حقه، وعليه يحمل الخبر الثاني.
ويؤيده أن إسحاق المذكور في الخبر الأول من أعاظم الصيارفة، وهو
بالمحل الأدنى (2) عندهم، وهو إسحاق بن عمار بن حيان التغلبي، المذكور في كتاب
النجاشي، من بيت كبير من الشيعة.
ويؤيد ما قلناه - أيضا - إنه قد تقدم في الخبر الأول النهي عن كونه نخاسا، مع أنه قد روى في الموثق عن ابن فضال، قال: سمعت رجلا يسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام
فقال: إني أعالج الرقيق فأبيعه، والناس يقولون: لا ينبغي فقال له الرضا عليه السلام: و
ما بأسه؟ كل شئ مما يباع إذا اتقى الله فيه العبد فلا بأس به (3).

(1) الوسائل ج 12 ص 99 - 100 حديث: 1 باب: 22
(2) من الدنو وهو القرب. أي كان من التقرب إلى الأئمة - عليهم السلام - في المنزلة
القربى.
(3) الوسائل ج 12 ص 96 حديث: 5
223

وعلى هذا الوجه حمل الشيخ الرواية الأولى، كذا رواية إبراهيم بن عبد
الحميد الآتية فقال في التهذيب: هذان الخبران محمولان على من لا يتمكن من أداء
الأمانة، ولا يحترز في شئ من هذه الصنايع، فأما من تحفظ فليس عليه في شئ
منها بأس، وإن كان الأفضل غيرها. ثم ذكر رواية ابن فضال المذكورة.
الثاني: بيع الأكفان، وبيع الطعام، وبيع الرقيق، والذبح، والصياغة،
والحياكة، والحجامة.
وعلى ذلك تدل جملة من الأخبار:
منها: خبر إسحاق بن عمار المتقدم ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن
طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عليه السلام، قال: قال رسول الله عليهما السلام: إني أعطيت خالتي غلاما
ونهيتها أن تجعله قصابا أو حجاما أو صائغا (1).
وعن إسماعيل الصيقل الرازي، قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ومعي
ثوبان، فقال لي: يا أبا إسماعيل، تجيئني من قبلكم أثواب كثيرة وليس يجيئني مثل
هذين الثوبين الذين تحملهما أنت: فقلت: جعلت فداك تغزلهما أم إسماعيل وأنسجهما
أنا. فقال لي: حايك؟ قلت: نعم فقال: لا تكن حايكا: قلت: فما أكون؟ قال: كن
صيقلا. وكانت معي مائتا درهم، فاشتريت بها سيوفا ومرايا عتقا. وقدمت بها
إلى الري فبعتها بربح كثير (2).
وروى في الكافي عن أحمد بن محمد بعض أصحابه، رفعه إلى أبي عبد الله
- عليه السلام -، قال: ذكر الحايك عند أبي عبد الله عليه السلام أنه ملعون. فقال: إنما ذلك الذي
يحوك الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (3).
وما رواه المشايخ الثلاثة عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى

(1) الوسائل ج 12 ص 97 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 100 حديث:: 1 باب 23
(3) الوسائل ج 12 ص 101 حديث: 2
224

ابن جعفر عليه السلام، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، قد علمت ابني هذا الكتاب، ففي أي شئ أسلمه؟ فقال: أسلمه - لله أبوك - ولا تسلمه في خمس:
لا تسلمه سباء، ولا صايغا، ولا قصابا، ولا حناطا، ولا نخاسا. قال: فقال: يا رسول
الله ما السباء؟ قال: الذي يبيع الأكفان، ويتمنى موت أمتي. والمولود من أمتي
أحب إلى مما طلعت عليه الشمس. وأما الصايغ فإنه يعالج غبن أمتي. وأما القصاب
فإنه يذبح حتى تذهب الرحمة من قلبه، وأما الحناط فإنه يحتكر الطعام على أمتي
ولأن يلقى الله العبد سارقا أحب إلى من أن يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوما. و
أما النخاس فإنه أتاني جبرئيل، فقال: يا محمد إن شرار أمتك الذين يبيعون
الناس (1).
أقول: قال بعض مشايخنا: اتفقت نسخ أخبارنا في قوله سباء - بالباء الموحدة -
وقال في الوافي: والسباء في النسخ التي رأيناها من الكتب الثلاثة، بالباء الموحدة
المشددة.
أقول: وهذا الخبر قد روته العامة - بالياء المثناة من تحت - كما ذكره ابن
الأثير في النهاية، وجعله من السوء والمساءة (2).

(1) الوسائل ج 12 ص 98 حديث: 4
(2) أقول: قال في النهاية: لا تسلم ابنك سياء. جاء تفسيره في الحديث: أنه
الذي يبيع الأكفان ويتمنى موت الناس ولعله من السوء والمساءة أو من السيئ
- بالفتح - وهو اللبن الذي يكون في مقدم الضرع. يقال: سيأت الناقة إذا اجتمع
السئ في ضرعها، وسيأتها: حلبت ذلك منها. فيجوز أن يكون فعالا من سيأتها إذا
حلبتها. كذا قال أبو موسى، انتهى. منه قدس سره.
* * *
قلت. ولعل الصحيح هي رواية الباء الموحدة، مأخوذة من قولهم: " تفرقوا أيادي سبأ " أي يتمنى بائع الأكفان إبادة الناس بالموت الذريع، كما جاء في رواية
225

وقوله: يعالج غبن أمتي، قيل: معناه: أنه يفسد عليهم الدينار والدرهم،
فيكون منشأ الكراهة فيه ذلك.
وفي التهذيب: زين أمتي - بالزاي - والمراد: أنه يلهيهم بذلك عن الآخرة
فيكون ذلك وجه الكراهة في هذه الصناعة.
ونقل بعض مشائخنا في حواشيه على التهذيب: أنه بالمهملة بخط الشيخ
- رحمه الله - وأنه كتب في الحاشية " والرين: الذنب ". وفي اللغة: الرين:
الطبع والختم، كما قال تعالى " بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " أي غلب على
قلوبهم حب الدنيا بحيث لا يستطيعون الخروج منها.
ثم قال شيخنا المشار إليه: وأكثر النسخ بالزاي، كما في العلل، وهو
أنسب. انتهى.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
سألته عن كسب الحجام؟ فقال: لا بأس به إذا لم يشارط (1).
وما رواه في الكافي عن حنان بن سدير، قال: دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام،
ومعنا فرقد الحجام، فقال له: جعلت فداك إني أعمل عملا وقد سألت عنه غير واحد
ولا اثنين. فزعموا أنه عمل مكروه، وأنا أحب أن أسألك عنه فإن كان مكروها
انتهيت عنه وعملت غيره من الأعمال، فإني منته في ذلك إلى قولك. قال: وما هو؟
قال: حجام. قال: كل من كسبك يا ابن أخي، وتصدق به، وحج، وتزوج،

إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام " فإن صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان "
الوسائل ج 12 ص 97 حديث: 1، فالسباء، بالباء الموحدة المشدة، هو الذي يتوقع
إبادة الناس بكثرة الموت وتفشيه بين الأنام، لأن حرفته الخاصة تدعوه - لا شعوريا -
إلى هذا الأمل الذميم ومن ثم كانت مكروهة شرعا، والله العالم.
م - ه‍ - معرفة
(1) الوسائل ج 12 ص 71 حديث: 1
226

فإن نبي الله تعالى قد احتجم وأعطى الأجر، ولو كان حراما ما أعطاه. قال: جعلني
الله فداك إن لي تيسا (1) أكريه، ما تقول في كسبه؟ قال: كل كسبه، فإنه لك
حلال، والناس يكرهونه، قال حنان: لأي شئ يكرهونه وهو حلال؟ قال: لتعبير
الناس بعضهم بعضا (2).
وما رواه في الكافي والفقيه عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: احتجم رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم حجمه مولى لبني بياضة وأعطاه. ولو كان حراما ما أعطاه، فلما فرغ قال
له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين الدم؟ قال: شربته يا رسول الله: فقال: ما كان ينبغي لك
أن تفعل وقد جعله الله عز وجل لك حجابا من النار فلا تعد (3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة - في الموثق - قال: سألت أبا
جعفر عليه السلام عن كسب الحجام، فقال: مكروه له أن يشارط، ولا بأس عليك أن
تشارطه وتماكسه، وإنما يكره له ولا بأس عليك (4).
وما رواه المشايخ الثلاثة - في الصحيح من بعض طرقه - عن معاوية بن عمار
قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن كسب الحجام، فقال: لا بأس به (5).
وما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام، أن رجلا
سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب الحجام، فقال: لك ناضح (6)؟ قال: نعم. قال:
اعلفه إياه ولا تأكله (7).

(1) التيس: الذكر من المعز. وجمعه: تيوس. وكان يكريه للضراب
(2) الوسائل ج 12 ص 72 حديث: 5 و ص 77 حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 72 حديث: 7
(4) الوسائل ج 12 ص 73 حديث: 9
(5) الوسائل ج 12 ص 72 حديث: 6
(6) الناضح: البعير الذي يستقى عليه الماء من البئر.
(7) الوسائل ج 12 ص 71 حديث: 2
227

وما رواه في التهذيب عن رفاعة، قال، سألته عن كسب الحجام، فقال: إن
رجلا من الأنصار كان له غلام حجام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هل لك ناضح
قال: نعم، قال: فاعلفه ناضحك (1).
وما رواه في الكافي عن سماعة، قال: قال أبو عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: السحت أنواع
كثيرة، منها: كسب الحجام إذا شارط (2).
وما رواه في التهذيب عن سماعة، قال، السحت أنواع كثيرة، منها كسب
الحجام (3).
تنبيهات
(أحدها): ينبغي أن يعلم: أن كراهة هذه الأشياء التي قدمنا ذكرها، مخصوصة
بما إذا كانت صناعة للعامل بها، كما هو المستفاد من ظاهر هذه الأخبار،
وقد صرح به الأصحاب - رضوان الله عليهم - أيضا. فأما المرة والمرتان والثلاث
ونحوها، فالظاهر: أنه ليس كذلك.
(ثانيها): قد اختلفت الأخبار - كما ترى - في الحجامة والمفهوم من كلام
الأصحاب: الكراهة مع الاشتراط، وعدمها مع عدمه.
قال في المنتهى: كسب الحجام إذا لم يشترط حلال طلق، وأما إذا اشترط
فإنه يكون مكروها، وليس بمحظور، عملا بأصل الإباحة انتهى وهو جيد وعليه يمكن
جمع الأخبار المتقدمة بعد تقييد مطلقها بمقيدها، فإن منها ما هو مطلق في الحل ونفي البأس.

(1) الوسائل ج 12 ص 71 حديث: 3
(2) الوسائل ج 12 ص 62 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ض 62 حديث: 2
228

ومنها: ما قيد فيه النهي بالشرط، وعلق نفي البأس على عدم الشرط.
وأما ما دل على أن يعلفه ناضحه ولا يأكله، فهو مع معارضته بما هو أكثر
عددا وأصرح دلالة على جواز الأكل منه، يجب حمله على تغليظ الكراهة
مع الشرط وهو ظاهر في الحل، لأنه لو كان حراما لم يجز أخذه لعلف دابته أو
غيره.
وأما أمره بالتنزه عن أكله، فيحمل على وقوع الشرط فيه الذي دلت تلك الأخبار على المنع منه على جهة الكراهة.
وبالجملة فإنه لا اشكال في عدم التحريم، وإنما الكلام في الكراهة وعدمها،
وقضية الجمع بين الأخبار ثبوت الكراهة مع الشرط، وأما ما تضمنه موثق زرارة
من كراهة اشتراط الحجام وجواز المماسكة والاشتراط، فلعل المراد به: أنه يجوز
لك المماسكة والاشتراط بأجرة مخصوصة، وينبغي له الرضا بذلك ولا يماكس
ولا يشترط.
(ثالثها): أن ما تضمنه خبر فرقد الحجام من كسب التيس، بمعنى أنه يواجره
للضراب، مما يدل على جواز ذلك من غير ذلك من غير كراهة، والأصحاب قد عدوا ذلك في
جملة المكروهات من هذا الباب، مع أنه عليه السلام نسب الكراهة إلى الناس بعد
حكمه بالحل.
وفي المسالك نسب المنع منه إلى العامة.
ومثل هذه الرواية، ما رواه في الكافي والتهذيب في تتمة صحيحة معاوية
ابن عمار المتقدمة - بعد ذكر ما تقدم منها - قال: فقلت: أجر التيوس، قال: إن كانت
العرب لتعاير به، ولا بأس به (1). وهو - أيضا - ظاهرة في الجواز بلا كراهة،
إلا أنه روى في الفقيه مرسلا، قال، نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عسيب الفحل، وهي

(1) الوسائل ج 12 ص 77 حديث: 2
229

أجرة الضراب (1) والظاهر أن هذا التفسير من كلام الصدوق، الذي يدخله غالبا
في الأخبار.
لكن بعض متأخري مشائخنا المحققين وهو المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد
أسند هذا الخبر إلى الجمهور، قال: ويدل عليها - أيضا - خبر مروي من طريق
الجمهور: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن عسيب الفحل، وحينئذ فيضعف الاعتماد عليه في
تخصيص الخبرين المتقدمين.
والمحقق المتقدم ذكره، قال - بعد ذكر الخبرين المشار إليها -: كأنه
يفهم منهما كراهة أجر الضراب، فإن التيس قيل فحل العنز انتهى
أقول: لعل هذا التشبيه بالنظر إلى قوله عليه السلام إن الناس أو العرب لتعاير به.
ولا يخفى ما فيه من الغموض وعدم الظهور، بل ظهور في العدم أقرب.
وبالجملة فإني لا أعرف للكراهة وجها وجيها.
نعم لو ثبت الحديث النبوي المذكور من طرقنا لتم ما ذكروه والله العالم.
الثالث: المشهور بين الأصحاب كراهية أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
قال في المنتهى: ويكره الأجر على تعليم القرآن وليس بمحظور، عملا بالأصل
الدال على الإباحة، وبأنها طاعة فيكره أخذ الأجرة عليها.
وظاهرة: أنه لا فرق بين الاشتراط وعدمه.
وقال الشيخ في النهاية: يكره أخذ الأجرة على تعليم شئ من القرآن ونسخ
المصاحف وليس بمحظور، وإنما يكره إذا كان هناك شرط فإن لم يكن هناك شرط
فلا بأس. وكذا قال ابن البراج.
وقال المفيد: لا بأس بالأجرة على تعليم القرآن والحكم كلها، والتنزه أفضل.
وقال أبو الصلاح: يحرم أجرة تعليم المعارف والشرايع وكيفية العبادة - إلى أن قال - وتلقين القرآن.

(1) الوسائل ج 12 ص 77 حديث: 3
230

وقال في الإستبصار: يحرم مع الشرط ويكره بدونه.
وقال ابن إدريس: يكره مع الشرط ولا بأس بدونه.
وقال في المختلف -: الأقرب إباحته على كراهية، لنا الأصل الإباحة، ولأن
فيه منفعة تعليم القرآن وتعميم إشاعة معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأنه يجوز جعله مهرا فجاز
أخذ الأجرة عليه، ولو حرمت الأجرة لحرم جعله مهرا. انتهى.
أقول: والأخبار الواردة في هذه المسألة ظاهرة التنافي.
فمنها: ما رواه المشايخ الثلاثة عن الفضل بن أبي قرة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
إن هؤلاء يقولون: إن كسب المعلم سحت. فقال: كذبوا - أعداء الله - إنما أرادوا أن
لا يعلموا أولادهم القرآن، ولو أن المعلم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلم مباحا (1).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن حسان المعلم، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن التعليم، قال: لا تأخذ على التعليم أجرا. قلت: الشعر والرسائل وما أشبه ذلك،
أشارط عليه، قال: نعم، بعد أن يكون الصبيان عندك سواء في التعليم، لا تفضل
بعضهم على بعض (2).
وما رواه في التهذيب عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه عن آبائه
عن علي عليه السلام - ورواه في الفقيه مرسلا عن علي عليه السلام - أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين
والله إني لأحبك لله: فقال له: والله إني لأبغضك لله. قال: ولم؟ قال: لأنك تبغي على الأذان
كسبا، وتأخذ على تعليم القرآن أجرا (3).
وزاد في التهذيب: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخذ على تعليم القرآن
أجرا كان حظه يوم القيامة (4).

(1) الوسائل ج 12 ص 112 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 112 حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 114 حديث: 1
(4) نفس المصدر
231

وفي الفقيه: وقال علي عليه السلام: من أخذ على تعليم القرآن.. الحديث.
وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار عن العبد الصالح، قال: قلت له:
إن لي جارا يكتب، وقد سألني أن أسألك عن عمله، قال: مره إذا دفع إليه الغلام أن يقول لأهله: إني إنما أعلمه الكتاب والحساب واتجر عليه بتعليم القرآن حتى يطيب له
كسبه (1).
وعن جراح المدايني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المعلم لا يعلم بالأجر، ويقبل
الهدية إذا أهدى إليه (2).
وعن قتيبة الأعشى، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني أقرأ القرآن فيهدى إلى
الهدية فاقبلها؟ قال: لا قلت: إني لم أشارطه، قال: أرأيت لو لم تقرأ كان يهدى إليك؟
قال: قلت: لا. قال: فلا تقبله (3).
وعن جراح المدايني قال: نهى أبو عبد الله عليه السلام عن أجر القارئ الذي لا يقرأ
إلا بأجرة مشروطة. ورواه في الفقيه مرسلا عنه عليه السلام قال نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أجر
القارئ.. الحديث (4).
وفي الفقه الرضوي: واعلم أن أجرة المعلم حرام إذا شارط في تعليم القرآن. أو معلم
لا يعلم إلا قرآنا فقط، فحرام أجرته إن شارط أم لم يشترط. وروى عن ابن عباس
في قوله تعالى: " أكالون للسحت قال: أجرة المعلمين الذين يشارطون في تعليم
القرآن، وروى أن عبد الله بن مسعود جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أعطاني
فلان الأعرابي ناقة بولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يا بن مسعود؟ فقال: إني كنت
علمته أربع سور من كتاب الله. فقال: رد عليه يا ابن مسعود، فإن الأجرة على القرآن.

(1) نفس المصدر ص 112 حديث: 3
(2) الوسائل ج 12 ص 113 حديث: 5
(3) الوسائل ج 12 ص 112 حديث: 4
(4) الوسائل ج 112 ص 113 حديث: 6 و 7
232

حرام. انتهى ما ذكره في الرضوي (1).
والشيخ جمع بين الأخبار بحمل الرواية الأولى على عدم الاشتراط، والروايات
المطلقة في المنع على الاشتراط.
قال: لا تنافي بين هذا الحديث وبين الخبر الدال على إباحة أخذ الأجرة، لأن
الدال على التحريم محمول على أنه لا يجوز له أن يشارط في تعليم القرآن أجرا
معلوما، والخبر الآخر محمول على أنه إذا أهدى إليه فإنه يكون مباحا، لما رواه
جراح المدايني - ثم ذكر الرواية المتقدمة - ثم نقل ما عارضها من رواية قتيبة الأعشى،
وحملها على الكراهة.
وهذا الكلام منه مؤذن بالتحريم مع الشرط، والكراهة مع عدمه.
قال في المنتهى - بعد نقل مجمل كلام الشيخ -: وهذا التأويل من الشيخ يعطي
أنه يرى التحريم مع الشرط. ونحن نتوقف في ذلك.
وأنت خبير بأن توقفه هنا مؤذن بالعدول عما صرح به في صدر المسألة، مما
قدمنا نقله عنه.
والمفهوم من كلام الأصحاب: هو العمل بالخبر الأول الدال على الجواز، وحمل
الأخبار الأخر على الكراهة، اشترط أو لم يشترط.
ولا يبعد عندي حمل جملة الأخبار الناهية عن الأجرة، والمبالغة في تحريمها،
وأنها سحت، على التقية، كما هو ظاهر الخبر الأول، بل صريحه.
ويؤيده ما ذكره الأصحاب هنا من أصالة الحل، وإشاعة معجزته صلى الله عليه وآله وسلم، فإن
القرآن هو أظهر معاجزه صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم اندراسه، فإنك لا تجد أحدا ينصب نفسه ويترك
معاشه، وتحصيل الرزق له ولعياله، ويجلس لتعليم القرآن لأولاد الناس بغير أجرة
تعود إليه.
وإلى ما ذكرنا يشير قوله - عليه السلام - في الخبر الأول " إنما أرادوا أن لا يعلموا

(1) مستدرك الوسائل ج 2 ص 435 باب: 26
233

أولادهم القرآن ".
ومما يعضد ما ذكرنا كلام الرضا عليه السلام في كتاب الفقه، واستدلاله على ما ذكره،
وتأييده بما نقله عن ابن عباس وابن مسعود، مما يدل على التحريم، فإن عليه السلام في
الكتاب المذكور كثيرا ما يجزي على ذلك، حيث إن أكثر من يحضره كان من
المخالفين، كما نبه عليه بعض مشائخنا المتأخرين. وهذان المذكوران من المعتمدين
عند العامة، وإلا فهو عليه السلام لا يرجع إلى غير آبائه - عليهم السلام -
وبالجملة فإن ظواهر الأدلة المانعة هو التحريم، والحمل على الكراهة، وإن
كان إحدى القواعد التي جرى عليها الأصحاب في الجمع بين الأخبار.
إلا أنك عرفت في غير مقام مما قدمناه في مجلدات كتاب الطهارة والصلاة، أنه لا دليل عليه.
فاللازم أما القول بالتحريم، كما هو ظاهر هذه الأخبار، ورد الخبر الأول
وطرحه مع تأيده بفتوى الأصحاب قديما وحديثا، وهذا مما لا يلزمه محصل.
وأما العمل بذلك الخبر المؤيد بفتوى الأصحاب، وطرح هذه الأخبار، أو حملها
على ما ذكرناه من التقية. وهو الظاهر الذي عليه العمل.
ولا بأس بالقول بالكراهة كما ذكروه (رضوان الله عليهم).
وإليه يشير قوله عليه السلام - في رواية عمرو بن خالد - " وسمعت رسول الله.. الخ "
فإنه لو كان الأجر محرما لم يقتصر على كونه حظه يوم القيامة، الذي هو عبارة عن
عدم ايصال الثواب إليه، بل يكون مستحقا للعقاب لارتكابه فعلا محرما.
فوائد
الأولى: ما تضمنه خبر قتيبة الأعشى (1)، من النهي عن الأجرة للقرآن،
ولو مع عدم الشرط، المؤذن بالتحريم، لم أقف على قائل به من الأصحاب، والموجود

(1) الوسائل ج 12 ص 112 حديث: 4
234

في كلامهم هو الكراهة مع الشرط، كما صرح به الشيخ وغيره.
وقال في الدروس: فلو استأجره لقراءة ما يهدى إلى ميت أو حي لم يحرم، وإن كان تركها
أفضل. ولو صرفه إليه بغير شرط فلا كراهة، انتهى. وهو ظاهر خبر جراح المدايني الأخير.
والظاهر: أنهم بنوا في الصحة على العمومات الدالة على جواز الإجارة، لا سيما في
العبادات، مثل الصوم والصلاة ونحوهما، كما مر تحقيقه في كتاب الصلاة في باب القضاء.
وهو قوي.
وحينئذ فالواجب حمل خبر الأعشى على تأكد الكراهة مع الشرط، والكراهة
في الجملة مع عدمه، ولا ينافي ذلك خبر جراح المدايني المذكور، ولأن غايته
الجواز مع عدم الشرط، ولا ينافيه كون ذلك على كراهية، مما دل عليه خبر قتيبة
المذكور.
وبه يظهر أن ما ذكروه من نفي الكراهة بالكلية مع عدم الشرط ليس في محله.
والظاهر أنهم بنوا ما ذكروه على خبر جراح المدايني المذكور وغفلوا
عما دل عليه خبر قتيبة من النهي، ولو مع عدم الشرط.
الثانية: ما تضمنه خبر حسان المعلم، من جواز أخذ الأجرة على تعليم الشعر
والرسائل ونحوها من الآداب والحكم، كالعلوم الأدبية من النحو والصرف والمنطق
وعلم المعاني والبيان ونحوها، فالظاهر: أنه لا اشكال ولا خلاف في جواز أخذ
الأجرة عليه، مع الشرط وعدمه، عملا بالعمومات. ويخرج هذا الخبر شاهدا.
وأما العلوم الفقهية ففيها تفصيل بين الواجب منها وغيره، فتحرم الأجرة
في الواجب من حيث الوجوب كما تقدم، للأخبار الدالة على وجوب التعليم (1)،
ومنها: ما أخذ الله العهد على الجهال بأن يتعلموا حتى أخذ على العلماء بأن يعلموا.
الثالثة: ما تضمنه الخبر المذكور من أنه ينبغي مع الشرط أن يكون
الصبيان عند المعلم سواء في التعليم، لا يفضل بعضهم على بعض، فينبغي تقييده
بما إذا استؤجر على تعليمهم على الاطلاق، أما لو تفاوتت الأجرة بالزيادة في التعليم و

(1) راجع: الكافي ج 1 ص 41
235

عدمها، فالظاهر: أنه لا اشكال في جواز الزيادة لبعضهم على بعض، باعتبار
ما زاده من الأجرة.
وكذا لو وقعت الإجارة على تعليم مخصوص لهذا، وتعليم مخصوص
للآخر، وهكذا. فإنه لا بأس بزيادة بعضهم على بعض، عملا بما وقع عليه التراضي
في الإجارة.
هذا، وقد تقدم جملة من المكروهات، ويأتي منها انشاء الله تعالى في
مواضعها.
* * *
وما عدا ما ذكر من المحرمات والمكروهات المتقدمة والمشار إليها،
يكون من المباحات. وحيث كانت غير منحصرة في العد طوينا البحث (1)
عنها، اكتفاء بما ذكرناه مما عداها، فإن الشئ يعرف بمعرفة ما عداه وضبط
ما نافاه. والله العالم.

(1) وهو البحث الثالث من البحوث التي وعد التكلم فيها في صدر المقال في ص 71.
فقد تكلم عن المكاسب المحرمة. وعن المكاسب المكروهة. وطوى الكلام عن المكاسب
المباحة. لعدم الحاجة إليه، بعد معرفة البحثين، فما عداهما هو من المباح، وهذا المقدار
كاف من التكلم في شأنه. لأن الشئ يعرف بضده.
236

المقدمة الرابعة
في تحقيق مسائل تدخل في حيز هذا المقام، وتنتظم في سلك هذا النظام:
الأولى: لو دفع انسان إلى غيره مالا ليصرفه في قبيل، وكان المدفوع
إليه منهم، فإن علم عدم دخوله فيهم، ولو بقرينة مقامية، كأن يعين له حصة على
حدة من ذلك، فلا اشكال في عدم جواز أخذه منه.
وإن علم دخوله فيهم، ولو بقرينة حالية، بأن يصرح له بأن الغرض وصوله
إلى هذا الصنف - مثلا - أيا كان، وكان هو منهم، فإنه يجوز له الأخذ.
ولا خلاف بين أصحابنا في الحالتين المذكورتين، وإنما الخلاف مع
عدم العلم بأحد الأمرين المذكورين.
وقد اختلف كلامهم، بل كلام الواحد منهم في ذلك والمشهور هو الجواز.
ذهب إليه الشيخ في النهاية، إلا أنه قيده بقدر ما يعطى غيره، وهكذا شرط من
جوز له الأخذ.
وفي المبسوط: منع من ذلك. وتبعه العلامة في المختلف. وفي المنتهى:
اختار الجواز بقدر ما يعطى غيره.
وبالجواز قال ابن إدريس في كتاب المكاسب، ومنع في كتاب
237

الزكاة.
والمحقق في كتاب المكاسب من الشرايع جوز ذلك، ومنع في كتاب
النافع.
ولكل من القائلين علل اعتبارية زيادة على ما استند إليه من الأخبار.
فمن قال بالجواز كالعلامة، علل ذلك بأصالة الجواز، وكون الوكيل
متصفا بما عين له من أوصاف المدفوع إليهم، لأنه المفروض.
قال في المنتهى: لأنه باطلاق الأمر، وعدم التعيين قد وكل إليه وفوض إليه
التعيين، ولا فرق بينه وبين غيره في الاستحقاق، إذ التقدير ذلك، فيجوز له
التناول.
ومن قال بالمنع، علل بأن المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب إياه في أمر
غيره، فإن الله تعالى إذا أمر نبيه أن يأمر أمته أن يفعلوا كذا لم يدخل هو في
ذلك الأمر.
وأنت خبير بما قدمناه في غير مقام، من عدم صلوح أمثال هذه التعليلات
لتأسيس الأحكام الشرعية، المبنية على الأدلة الواضحة الجلية، بل القطعية.
* * *
وأما الروايات الواردة في المسألة، فمنها: ما رواه في الكافي في الصحيح
عن سعد بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يعطى الزكاة يقسمها في
أصحابه أيأخذ شيئا منها؟ قال: نعم (1).
وعن الحسين بن عثمان في الصحيح أو الحسن - بإبراهيم بن هاشم - عن أبي
إبراهيم عليه السلام، في رجل أعطي مالا يفرقه فيمن يحل له، أله أن يأخذ منه شيئا
لنفسه، وإن لم يسم له؟ قال: يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطي غيره (2).

(1) الوسائل ج 6 ص 199 حديث: 1 باب: 40
(2) الوسائل ج 6 ص 200 حديث: 2
238

وعن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام،
عن الرجل يعطي الرجل الدراهم يقسمها ويضعها في مواضعها، وهو ممن تحل له الصدقة،
قال: لا بأس أن يأخذ لنفسه كما يعطي غيره. قال: ولا يجوز له أن يأخذ إذا أمره أن
يضعها في مواضع مسماة إلا بإذنه (1).
وإنما وصفنا هذه الرواية بالصحة وإن كان في طريقها محمد بن عيسى عن
يونس، وقد نقل عن القميين الطعن فيما تفرد به محمد بن عيسى عن يونس، تبعا
لجملة من مشائخنا المحققين المتأخرين، لعدم ثبوت ما ذكره القميون. وقد وصفها
العلامة في المنتهى أيضا بالصحة، وهو ظاهر في عدم العمل بما نقل عنهم من الطعن
المذكور.
وأنت خبير بما في هذه الروايات - مع صحتها - من وضوح الدلالة على
القول المشهور، وهو المؤيد المنصور.
ويؤيده أيضا ما رواه في التهذيب في الصحيح، عن عبد الرحمن بن الحجاج،
عن أبي عبد الله عليه السلام، في رجل أعطاه رجل مالا ليقسمه في المساكين، وله عيال
محتاجون أيعطيهم منه من غير أن يستأمر صاحبه؟ قال: نعم (2)
وأما ما يدل على القول الثاني، فهو ما رواه الشيخ بالاسناد الأخير عن
عبد الرحمن المذكور، قال. سألته عن رجل أعطاه رجل مالا يقسمه في محاويج
أو مساكين، وهو محتاج، أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه؟ قال: لا يأخذ منه شيئا، حتى
يأذن له صاحبه: (3)
وربما طعن بعضهم في هذه الرواية بالاضمار. والظاهر ضعفه، لما تقدم
تحقيقه في غير مقام، من أن مثل هؤلاء الأجلاء لا يعتمدون في أحكام دينهم على

(1) الوسائل ج 6 ص 200 حديث: 3
(2) الوسائل ج 12 ص 206 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 206 حديث: 3
239

غير الإمام، ولما ذكره غير واحد من الأصحاب، في سبب الاضمار الواقع في
الأخبار. على أن العلامة في التحرير أسندها إلى الصادق عليه السلام، كما نقله في المسالك،
قال: وهو شهادة الاتصال. ولعله رحمه الله اطلع على المسؤول من محل آخر
غير المشهور في كتب المحدثين. انتهى.
وأنت خبير بأن الرواية المذكورة وإن كانت ظاهرة فيما ذكروه، إلا أنها
معارضة بما هو أكثر عددا، من الروايات المتقدمة. ولهذا حملها الشيخ على الكراهة،
ونفى عنه البأس في المسالك.
واحتمل بعض مشايخنا رضوان الله عليهم أيضا الحمل على ما إذا علم أن
مورده غيره، أو الأخذ زيادة على غيره ولا بأس بالجميع في مقام الجمع، وإن
بعد كل واحد منها في حد ذاته عن ظاهر الخبر.
ولا يحضرني الآن مذهب العامة في المسألة، فلعل هذه الرواية إنما خرجت
مخرج التقية.
وظاهر شيخنا الشهيد في الدروس التوقف في المسألة، حيث اقتصر على
نقل أدلة القولين، فقال: وفي جواز أخذه لنفسه رواية صحيحة، وعليها الأكثر،
وربما جعله الشيخ مكروها، لرواية أخرى صحيحة بالمنع انتهى.
والظاهر أن مراده بالرواية الأولى الجنس، وإلا فهي كما عرفت ثلاث
روايات.
فروع:
الأول: ظاهر الشرط المذكور في روايتي حسين و عبد الرحمن وهو
عدم الزيادة على غيره وجوب التسوية في القسمة على غيره من أصحاب ذلك
القبيل، وأنه لا يجوز له تفضيل بعضهم على بعض، لأنه من جملتهم.
240

ويشكل ذلك في غير المحصورين كالفقراء فإنه يجوز التفاضل مع عدم
قرينة خلافه كما دلت عليه أخبار قسمة الزكاة، فإن التسوية فيها غير واجبة، والمسألة
هنا مفروضة فيما هو أعم من الواجب والندب.
نعم لو كانوا محصورين أمكن ذلك، كما صرحوا به في المال الموصى به
لأشخاص معينين، مع إمكان المناقشة هنا أيضا، لعموم الدليل وصدق التفريق مع
التفاضل.
وبالجملة فالظاهر: أن منع المأمور عن أخذ الزيادة على غيره لا يدل على
وجوب التسوية. ولهذا قال العلامة في التحرير: وإن لم يعين تخير في اعطاء من
شاء من المحاويج كيف شاء، مع قوله في الكتاب المذكور بعدم تفضيله نفسه على
غيره.
وأما الوصية، فثبوت ذلك فيها بدليل خاص إن كان، لا يقتضي ثبوته فيما
لا دليل عليه.
ولعل المراد بعدم تفضيله نفسه على غيره، مع القول بجواز التفضيل في
القسمة، كما هو الظاهر هو أنه متى وقعت القسمة بالتفضيل بالمزايا الموجبة كذلك،
فينبغي أن يراعي المقسم نفسه بكونه من أهل المزايا الموجبة للتفضيل أم لا، فيأخذ
بنسبة القبيل الذي هو منهم، لا يزيد على ذلك.
الثاني: الظاهر أنه لا اشكال ولا خلاف على القولين المذكورين في أنه
يجوز له أن يدفع إلى عياله وأقاربه، كما يدفع إلى غيرهم، من تسوية أو تفاضل،
اقتصارا في موضع المنع على مورد الروايات المتقدمة، وهو نفسه وتخرج
صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الثانية شاهدة على ذلك.
241

الثالث: الظاهر: أنه لا فرق على القولين بين أن يقول له الآمر: اقسمه
أو اصرفه أو ادفعه إليهم أو ضعه فيهم أو نحو ذلك، لاشتراك الجميع عرفا في
المعنى.
ونقل عن بعضهم الفرق فجوز له الأخذ إن كانت الصيغة " ضعه فيهم " أو ما
أدى هذا المعنى، ومنع من الأخذ إذا كانت الصيغة بلفظ " ادفعه " أو " اصرفه " أو
نحوهما والظاهر ضعفه.
242

المسألة الثانية
الظاهر: أنه لا خلاف بين الأصحاب رضوان الله عليهم، في أن ما يأخذه السلطان
الجائر باسم المقاسمة والخراج من الأراضي والغلات، وما يأخذه باسم الزكاة
من الأنعام والغلات ونحو ذلك ويجوز شراؤه، وقبول اتهابه. بل ظاهر كلام
جملة من الأصحاب دعوى الاجماع على ذلك.
ولم أقف على مخالف في الحكم المذكور، إلا المقدس الأردبيلي في شرح
الإرشاد، وقبله الفاضل الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي أصلا، والحلي مسكنا،
وهذا الشيخ كان معاصرا للمحقق الشيخ علي بن عبد العالي الكركي، و
جرت بينهما مناقشات ومباحثات، رد فيها كل منها على الآخر، منها هذه المسألة
فإن المحقق الشيخ على قد صنف فيها رسالة في حل الخراج، فصنف الشيخ إبراهيم
ردا عليه رسالة في تحريمه.
قال في المسالك - بعد قول المصنف: " ما يأخذه السلطان الجائر من الغلات
باسم المقاسمة أو الأموال باسم الخراج عن حق الأرض ومن الأنعام باسم الزكاة،
يجوز ابتياعه وقبول هبته، ولا يجب إعادته على أربابه وإن عرف بعينه " ما
صورته:
243

" المقاسمة: حصة من حاصل الأرض، تؤخذ عوضا عن زراعتها.
" والخراج: مقدار من المال يضرب على الأرض أو الشجر حسبما يراه الحاكم.
" ونبه بقوله " باسم المقاسمة واسم الخراج " على أنهما لا يتحققان إلا
بتعيين الإمام العادل.
" إلا أن ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمتنا - عليهم السلام - في التناول منه.
" وأطبق عليه علماؤنا، لا نعلم فيه خلافا، وإن كان ظالما في أخذه
لاستلزام تركه والقول بتحريمه الضرر والحرج العظيم على هذه الطائفة.
" ولا يشترط رضاء المالك، ولا يقدح فيه تظلمه ما لم يتحقق الظلم بالزيادة
عن المعتاد أخذه من عامة الناس في ذلك الزمان.
" واعتبر بعض الأصحاب في تحققهما اتفاق السلطان والعمال على القدر، و
هو بعيد الوقوع والوجه.
" وكما يجوز ابتياعه واستيهابه يجوز سائر المعاوضات.
" ولا يجوز تناوله بغير إذن الجائر، ولا يشترط قبض الجائر له، وإن أفهمه
قوله " ما يأخذه " فلو أحال به أو وكله في قبضه أو باعه وهو في يد المالك أو ذمته
حيث يصح البيع كفى ووجب على المالك الدفع.
" وكذا القول فيما يأخذه باسم الزكاة، ولا يختص ذلك بالأنعام كما أفادته
العبارة، بل حكم زكاة الغلات والأموال كذلك.
" لكن يشترط هنا أن لا يأخذ الجائر زيادة عن الواجب شرعا في مذهبه، و
أن يكون صرفه لها على وجهها المعتبر عندهم، بحيث لا يعد عندهم عاصيا، إذ
يمتنع الأخذ منه عندهم أيضا.
" ويحتمل الجواز مطلقا، نظرا إلى اطلاق النص والفتوى، ويجئ مثله في
المقاسمة والخراج، لأن مصرفها مصرف بيت المال، وله أرباب مخصوصون
عندهم أيضا.
" وهل تبرأ ذمة المالك من اخراج الزكاة مرة أخرى؟ يحتمله، كما في
244

المقاسمة والخراج، مع أن حق الأرض واجب لمستحق مخصوص، والتعليل بكون
ذلك حقا واجبا عليه.
" وعدمه، لأن الجائر ليس نائب المستحقين فيتعذر النية، ولا يصح
الاخراج بدونها.
" وعلى الأول، تعتبر النية عند الدفع إليه كما تعتبر في سائر الزكوات.
" والأقرب عدم الاجتزاء بذلك، بل غايته سقوط الزكاة عما يأخذه إذا لم
يفرط فيه، ووجوب دفعه إليه أعم من كونه على وجه الزكاة أو المضي معهم في
أحكامهم والتحرز عن الضرر بمباينتهم.
" ولو أقطع الجائر أرضا " مما تقسم أو تخرج، أو عاوض عليها، فهو تسليط
منه عليها، فيجوز للمقطع له أخذها من الزراع والمالك، كما يجوز إحالته
عليه.
" والظاهر: أن الحكم مختص بالجائر المخالف للحق، نظرا إلى معتقده
واستحقاقه ذلك عندهم، فلو كان مؤمنا لم يحل أخذ ما يأخذه منها، لاعترافه بكونه
ظالما فيه، وإنما المرجع حينئذ إلى رأي الحاكم الشرعي.
" مع احتمال الجواز مطلقا، نظرا إلى اطلاق النص والفتوى.
" ووجه التقييد: أصالة المنع إلا ما أخرجه الدليل، وتناوله للمخالف متحقق،
والمسؤول عنه للأئمة - عليهم السلام - إنما كان مخالفا للحق فيبقى الباقي. وإن وجد
مطلق فالقرائن دالة على إرادة المخالف منه، التفاتا إلى الواقع أو الغالب. انتهى
كلامه زيد اكرامه.
وقال في الكفاية: والظاهر أن الأئمة عليهم السلام لما علموا انتفاء تسلط السلطان
العادل إلى زمان القائم (عجل الله تعالى فرجه)، وعلموا أن للمسلمين حقوقا في الأراضي المفتوحة
عنوة، وعلموا أنه لا يتيسر لهم الوصول إلى حقوقهم في تلك المدة المتطاولة إلا
بالتوسل والتوصل إلى السلاطين والأمراء، حكموا بجواز الأخذ منهم. إذ في
245

تحريم ذلك حرج وغضاضة عليهم وتفويت لحقوقهم بالكلية. انتهى.
وقال المحقق الأردبيلي رحمه الله في شرح الإرشاد - بعد قول المصنف ما
تقدم نقله عن الشرايع ما صورته -: إعلم أن الخراج والمقاسمة هما المقدار المعين
من المال، بمنزلة الأجرة في الأرض الخراجية، أي المعمورة المفتوحة عنوة بإذن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام على المشهور. والمأخوذة بالصلح، بأن يكون الأرض
للمسلمين ولهم السكنى، وهي لمصالح المسلمين، والأمر فيها إليهم - صلوات الله
عليهم - والمقاسمة: الحصة المعينة من حاصل تلك الأرض، مثل العشر. والخراج:
المال المضروب عليها غالبا، فلا يضر اطلاق الخراج على المقاسمة، كما ورد
في بعض الروايات والعبارات، والأمر في ذلك هين، فإن المقصود ظاهر، لأن
المراد منهما ومن الطسق والقبالة واحد، وهو: ما يؤخذ من الأرض المذكورة
بمنزلة الأجرة، سوى الأجرة للعملة. وإنما الاشكال في الإباحة وعدمها حال الغيبة
أو حين الحضور، والأمر واضح ظاهر والمعصوم يفعل ما يريد، وكذا تحقق
الأرض التي يؤخذ منها.
ثم ساق الكلام في تحقيق الأرض الخراجية إلى أن قال:
وأما حليتهما يعني الخراج والمقاسمة كما هو ظاهر أكثر العبارات، لكل أحد
مستحق لذلك كالمصالح أم لا، قليلا، كان لم كثيرا، بشرط عدم التجاوز عن العادة التي
تقتضي كونهما أجرة، بإذن الجائر مطلقا، سواء كان مخالفا أو موافقا، قبضهما أم لا،
وعدمها بدون إذنه مع كونه جائرا وظالما في الأخذ والإذن، وعدم إباحتهما له، مع
وجوب الدفع إليه وإلى من يأمره، وعدم جواز كتمان الرعية والسرقة منهما بوجه
من الوجوه، مع كونهما أجرة للأرض ومنوطة برأي الإمام ورضاء الرعية كما هو
في الإجارات، فهي بعيدة جدا ويدل على العدم العقل والنقل، ولا دليل عليها مع
الاشكال في ثبوتها وتحققها في نفسها ثم العلم بها ثم ثبوتها بالنقل وحجيته. وما ادعى
ولا نقل أيضا الاجماع صريحا، بل قيل: إنه اتفاق - ونقل عبارات البعض في الرسالة
246

المدونة لهذه المسألة بخصوصها مع كثرة الاهتمام بتحقيقها واثبات الإباحة فيها -
ثم قال: وهو اجماع. وفيه ما فيه لعدم ثبوت الاجماع بعبارات البعض مع خلو البعض عنه،
ولهذا ترى بعض العبارات خالية عن هذه. وقد ذكر إباحة الشراء فقط. مثل عبارة نهاية
الشيخ على ما نقل في هذه الرسالة. ويظهر من شرح الشرايع أيضا دعوى الاجماع في
الجملة، فالسماع منهما مشكل وقد ادعى فيهما دلالة الأخبار المتظافرة عليه وما عرفتها
وما فهمتها من خبر واحد، وكأنه لذلك ما أدى في المنتهى، بل استدل على ذلك بالضرورة
ودفع الجرح، واثبات مثله بمثله بعيد، كما ترى. انتهى كلامه.
أقول: والتحقيق - كما ستقف عليه انشاء الله تعالى -: إن ما استدل به من الأخبار على
القول المشهور، منه ما هو ظاهر المقصود، ومنه ما يظهر منه ذلك، لكنه لا يفي بتمام ما ادعوه
في هذا المقام، وما ذكره المانع أيضا في أكثر هذا المجال لا يخلو من البحث والاشكال.
* * *
وها أنا أسوق لك ما استدل به للقول المذكور، مذيلا كل خبر بما يتعلق به من
الكلام، بالذي يتجلى به غشاوة الابهام. فأقول - مستمدا منه تعالى العصمة من زيغ
الأفهام وزلل الأقدام -:
(الأول) من الأخبار المشار إليها: ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن
جميل بن صالح قال: أرادوا بيع تمر عين أبي زياد، فأردت أن اشتريه، ثم قلت
حتى استأمر أبا عبد الله عليه السلام. فأمرت مصادفا فسأله فقال: قل له فليشتره، فإنه إن
لم يشتره اشتراه غيره (1).
استدل به في المنتهى على جواز ابتياع المقاسمة والزكاة.
وقال المحقق الشيخ على قدس سره في رسالته التي وضعها في المسألة:
احتج بذلك في المنتهى على حلهما.
ورده المحقق الأردبيلي، بعدم الدلالة على المطلوب، قال: ويمكن أن

(1) الوسائل ج 12 ص 162 حديث: 1 باب: 53
247

يكون المعنى جواز شراء مال الظلمة مع عدم العلم بالغصب بعينه، كما يدل عليه
الأصل والأخبار الكثيرة الدالة على جواز أخذ جوائزهم مع كراهة ولكن تزول مع
الضيق. انتهى.
أقول: الحق هنا ما ذكره المحقق الأردبيلي رحمه الله، على أنه قد روى في
الكافي في باب نادر، آخر أبواب الزكاة، ما يدل على أن عين أبي زياد المذكورة
في هذا الخبر كانت ملكا لأبي عبد الله عليه السلام:
روى فيه عن يونس أو غيره عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له:
جعلت فداك، بلغني أنك تفعل في غلة عين زياد شيئا فأنا أحب أن أسمعه منك.
قال: فقال لي: نعم، كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل
الناس ويأكلوا، وكنت آمر في كل يوم أن توضع عشر بنيات يقعد على كل بنية
عشرة، كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى، يلقى لكل نفس منهم مد من رطب، و
كنت آمر لجيران الضيعة كلهم، الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة، و
من لا يقدر أن يجئ فيأكل منها، لكل انسان منهم مد، فإذا كان الجذاذ أوفيت القوام
والوكلاء والرجال أجرتهم، وأحمل الباقي إلى المدينة ففرقت في أهل البيوتات
والمستحقين، الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم: وحصل
لي بعد ذلك أربعمائة دينار، وكان غلتها أربعة آلاف دينار (1).
ومن هذا الخبر يظهران الضيعة المذكورة كانت له عليه السلام ثم اغتصبت منه،
وأن استيماره عليه السلام في الشراء من ثمرتها إنما هو من حيث كونه له عليه السلام.
ولعل المعنى في جوابه عليه السلام وقوله للسائل: إن لم يشتره اشتراه غيره، بمعنى
أن تركه شراءه لا ينفع في قلع الظالم عن ظلمه وارتداعه، فإن غيره يشتريه، نعم لو
اتفق الناس على عدم شرائه، لربما كان ذلك رادعا لهم عن الظلم، كما تقدم في
خبر علي بن أبي حمزة، في المسألة الثالثة من المقام الثالث من مقامات المقدمة

(1) الكافي ج 3 ص 569 حديث: 2
248

الثالثة، من قوله عليه السلام: لو لم يجد بنو أمية من يحضر جماعاتهم، ويجبى لهم
الخراج ويكتب لهم، ما غصبونا حقنا (1).
ولا ينافي ما ذكرنا اشتمال الخبر الأول على تسمية الضيعة المذكورة بعين
أبي زياد، وتسميتها في هذا الخبر بعين زياد، فإن مثل هذا التجوز كثير في
الكلام.
وأما قوله في الوافي - بعد ذكر الخبر الأول في كتاب المتاجر - " أبو -
زياد كان من عمال السلطان " فهو تخرص، وإنما هو اسم الصيغة المذكورة، وكأنه
غفل عن الخبر الذي نقلناه، وهو قد قدمه في كتاب الزكاة.
وبالجملة فإن الخبر المذكور لا دلالة فيه على ما ادعوه من حل الخراج و
المقاسمة ونحوهما بوجه، وقصاراه - مع قطع النظر عما ذكرناه - هو ما ذكره
المقدس الأردبيلي رحمه الله.
* * *
(الثاني): ما رواه الشيخ، في الصحيح عن عبد الرحمان بن الحجاج، قال:
قال لي أبو الحسن عليه السلام: ما لك لا تدخل مع علي في شراء الطعام، إني أظنك
ضيقا، قال: قلت: نعم، فإن شئت وسعت على، قال: اشتره (2).
وأنت خبير بما فيه من الاجمال المانع من صحة الاستناد إليه في الاستدلال،
إذ لا تعرض فيه - ولو بالإشارة - إلى كون ذلك الطعام من وجه الخراج أو المقاسمة
أو الزكاة بوجه، ومجرد احتمال كون المقام من أحد هذه الوجوه لا يكفي في
الدلالة.
(الثالث): ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحذاء عن الباقر عليه السلام قال:

(1) نقله هنا بالمعنى. راجع: ص 125 من هذا المجلد، والوسائل ج 12
ص 144 - 145
(2) الوسائل ج 12 ص 161 حديث: 1
249

سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنمها وهو يعلم أنهم
يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم. قال: فقال: ما الإبل والغنم الأمثل
الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس، به حتى تعرف الحرام بعينه. قيل له: فما
ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا، فنقول: بعناها فيبيعناها، فما ترى
في شرائها منه،؟ فقال: إن كان قد أخذها أو عزلها فلا بأس فقيل له: فما ترى في
الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعز له بكيل، فما ترى
في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه
منه من غير كيل (1).
واعترض المحقق الأردبيلي على هذه الرواية، بأنه لا دلالة فيها على إباحة
المقاسمة بوجه من الوجوه، ولكن لها دلالة على جواز شراء الزكاة، ولهذا
جعلها في المنتهى دليلا عليه فقط، وفي الدلالة - أيضا - تأمل، إذ لا دلالة في قوله
" لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه " إلا أنه يجوز شراء ما كان حلالا بل مشتبها أيضا،
ولا يجوز شراء ما هو معروف أنه حرام، ولا يدل على جوار شراء الزكاة بعينها صريحا.
نعم ظاهرها ذلك، ولكن لا ينبغي الحمل عليه، لمنافاته العقل والنقل.
ويحتمل أن يكون سبب الاجمال التقية ويؤيده عدم الحمل على الظاهر: أنه غير
مراد بالاتفاق، إذ ليس بحلال ما أخذه الجائر فتأمل انتهى.
وأجاب عن ذلك في الكفاية، فقال - بعد نقل هذا الكلام -: وفيه نظر، لأن
السؤال وقع عن أصل الصدقة والجواب: أنه لا بأس به، لأنه يحتمل أن يكون
مفروضا في غيره، لكن لما فرض السائل أنه يعلم أنهم يأخذون أكثر من الحق، فقد
فرض وقوع الحرام في الصدقات التي في أيديهم، فوقع الحاجة إلى الاستثناء الذي
فعله عليه السلام، وكان غرض السائل كان متعلقا باستعلام الحكم باعتبار الاختلاط المذكور،

(1) الوسائل ج 12 ص 162 حديث: 5
250

وكان جواز شراء أصل الصدقة مستغنيا عن البيان عنده. ثم قوله: لا ينبغي الحمل عليه
لمنافاته العقل والنقل، محل نظر. إذ لا أعرف دليلا عقليا ولا نقليا يدل على ما ذكروه
حتى يقع الحاجة إلى التأويل أو الحمل على التقية، إذ ذلك غير سائغ. ودعوى
الاتفاق الذي ذكره غير ظاهر. انتهى.
أقول: أما ما ذكره الأردبيلي - رحمه الله - من عدم دلالة الرواية على إباحة المقاسمة
بوجه، فجيد، إلا أنه من المحتمل قريبا، أن المراد بالقاسم في قوله " يجيئنا القاسم
فيقسم لنا حظنا " هو الأخذ لمال المقاسمة، لأنك قد عرفت أن المقاسمة حصة من حاصل
الأرض تؤخذ عوضا عن زراعتها. بقرينة التعبير عن آخذ الزكاة في صدر الخبر
بالمصدق، أي جامع الصدقات إلا أن الخبر غير صريح في ذلك، لاحتمال الحمل
على قسمه حق الزكاة أيضا، وإن عبر عنه أولا بعبارة أخرى.
وأما ما ذكره من التأمل في جواز شراء الزكاة بالتقريب الذي ذكره، فليس بجيد.
والحق هنا هو: ما ذكره في الكفاية، فإن سوق الكلام ظاهر فيه.
وأما ما ذكره الأردبيلي - قدس سره - من الاعتراف بأن الجواز ظاهر فيه الرواية
لكن لا ينبغي الحمل عليه لمنافاته العقل والنقل فغير بعيد، بل هو محتمل احتمالا قريبا.
وقول صاحب الكفاية: إنه لا يعرف دليلا عقليا ولا نقليا يدل على ما ذكره
فيه: أن الظاهر أن مراد المحقق المذكور بالدليل العقلي والنقلي في هذا المقام،
إنما هو ما دل على قبح التصرف في مال الغير إلا بإذنه، فإن العقل والنقل متطابقان على
ذلك. وما نحن فيه من جملة ذلك، إلا أن يقوم الدليل على ما ادعوه في هذه المسألة
من الحلية، فيكون موجبا لخروج هذا الفرد، وإلا فلا.
ومن أجل منافاة ظاهر هذه الرواية لما ذكره، من دلالة العقل والنقل على عدم
جواز التصرف في مال الغير بغير إذنه حملها على التقية، ثم أيده بما ذكره من أن
ظاهرها غير مراد بالاتفاق. ومراده الاتفاق على أن ما يأخذه الجائر محرم عليه. وهو
كذلك، فإن القائلين بالحل يعترفون بذلك، ولكن يدعون أن الأئمة - عليهم السلام -
251

قد أذنوا ورخصوا في جواز شرائه وقبول هبته ونحو ذلك، فقول صاحب الكفاية
هنا أيضا: أن دعوى الاتفاق الذي ذكره فيه غير ظاهر، غفلة أو تغافل.
وبالجملة، فإن غاية ما يدل عليه ظاهر الرواية المذكورة: جواز الشراء من
الزكاة التي يأخذونها من الأنعام كانت أو من الغلات، مع معارضة ذلك بالأدلة الدالة
على المنع من التصرف في مال الغير إلا بإذن صاحبه. وتلك الأدلة قطعية تضعف هذه
الرواية عن معارضتها لدلالة العقل والنقل، كتابا وسنة، والاجماع على ذلك. إلا
أن ظاهر جملة من الأخبار الآتية مما يعضد هذه الرواية. وبذلك يجب تخصيص الأدلة
المذكورة بهذه الأخبار، مع قطع النظر عن هذه المعارضة.
فغاية ما تدل عليه هو جواز الشراء من الزكاة إذا أخذه الجائر قهرا، فلا دلالة
فيها على الجواز في غيرها، إلا على الاحتمال المتقدم، ولا على جواز دفع الزكاة
إليهم اختيارا، كما يدعونه في المسألة أيضا.
وقال الأردبيلي - رحمه الله - أيضا: وعلى تقدير دلالتها على جواز الشراء
من الزكاة فلا يمكن أن يقاس عليه جواز الشراء من المقاسمة، وعلى تقديره أيضا لا يمكن
أن يقاس عليه جواز قبول هبتها وساير التصرفات فيها مطلقا كما هو المدعى، إذ قد
يكون ذلك مخصوصا بالشراء بعد القبض، بسبب لا نعرفه كساير الأحكام الشرعية.
ألا ترى أن أخذ الزكاة لا يجوز منهم مطلقا. ويجوز شراؤها منهم.
وقال في الكفاية - في الجواب عن هذا الكلام -: أما لو سلمنا أن أخذ السلطان
وجمعه حق الخراج من الأرضين حرام مطلقا، حتى لو كان مقصوده جمع حقوق
المسلمين وصرفه في مصارفه الشرعية بقدر طاقته، كان حراما أيضا، لكن لا نسلم أن
اعطائه لأحد في هذه الصورة هبة أو غير ذلك حرام، إذا كان الأخذ مستحقا لفقره أو كونه
من مصالح المسلمين، كالغازي والقاضي والذي له مدخل في أمور الدين، وإن كان
الأخذ حراما أولا. ولا أجد - بحسب نظري - دليلا على ذلك ولا الأصل يقتضيه.
انتهى.
252

أقول: فيه أن الخصم يدعي أن الجائر هنا غاصب، للدليل العقلي والنقلي
الذي تقدمت الإشارة إليه " أنه لا يحل مال امرء إلا بإذنه " فجميع تصرفاته المتفرعة على
هذا الغصب باطلة شرعا، وهو قد وافق على تحريم أخذه لهذا المال، فكيف يصح
تصرفاته بالهبة له ونحوها.
نعم قام الدليل - بناء على تسليم القول بالرواية المذكورة - على جواز الشراء
منه في الصورة المذكور، فيجب استثناء ذلك بالنص، ويبقى ما عداه على حكم
الأصل، من قبح التصرف في مال الغير.
وبالجملة، فإن الحق هنا فيما ذكره المحقق الأردبيلي - رحمة الله عليه - وكلام
صاحب الكفاية هنا ظاهر القصور.
وبذلك يظهر لك أيضا ما في قوله في الكفاية: ثم يظهر من الحديث أن تصرف العامل
بالبيع جائز، إذ لو كان حراما لكان الظاهر أن يكون الشراء منه حراما أيضا، لكونه
إعانة على الفعل المحرم، وحيث ثبت أن التصرف بنحو البيع والشراء جائز، ظهر
أن أصل التصرف فيه ليس بحرام.
وفيه - زيادة على ما عرفت -: أن قضية تحريم الأخذ على الجائر، المتفق
عليه، الموجب لكون ذلك غصبا، هو اجراء أحكام الغصب على هذا المأخوذ من
وجوب رده على المالك، وتحريم التصرف فيه بأي نحو كان.
هذا هو الموافق للقواعد الشرعية والضوابط المرعية.
نعم قام الدليل - بناء على تقدير تسليمه - على جواز الشراء فوجب استثناؤه
من ذلك، فكيف يمكن ادعاء حل البيع للبايع ونحوه بمجرد دلالة الرواية على جواز
الشراء، مع أن جواز الشراء باطل بمقتضى القواعد التي ذكرناها. ولكنا إنما صرنا إلى
اخراجه، بهذه الرواية.
وبالجملة فإن الحكم على خلاف مقتضى الأصول، فيجب الاقتصار فيه على
مورد النص. ولو تمت هذه الدعوى التي ادعاها، من أن جواز الشراء مستلزم لحل
253

جميع التصرفات، لأمكن أيضا أن يدعى أن جواز الشراء مستلزم لحل أخذ الجائر لهذا
المال، حيث إنه لم يعهد في القواعد الشرعية تحريم الغصب وحل التصرف في
المغصوب، فمتى دل الدليل على جواز التصرف كان مستلزما لحل الأخذ وعدم
تحريمه، مع أنه خلاف الاتفاق في المقام.
ولحق هو ما تقدمت إليه الإشارة، في كلام المحقق المتقدم ذكره، من أنه
قد يكون ذلك مخصوصا بالشراء بعد القبض بسبب لا نعرفه كساير الأحكام الشرعية.
وبالجملة، فإن كلام صاحب الكفاية هنا، عند من عض على المسألة بضرس
قاطع، مما يحسبه الظمآن ماء أو هو سراب لامع، وكيف كان فإن هذه الرواية من
معتمدي أدلة القول المشهور، وهو على ما ترى من القصور، بالنسبة إلى الخراج.
والمقاسمة، وأما بالنسبة إلى الزكاة فقد تحقيق القول. فيها.
* * *
(الرابع): ما رواه في التهذيب عن أبي بكر الحضرمي، قال: دخلت على أبي
عبد الله عليه السلام وعنده إسماعيل ابنه فقال: ما يمنع ابن أبي السماك أن يخرج شباب
الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطي الناس؟ ثم قال لي: لم تركت عطاءك؟
قلت: مخافة على ديني! قال: ما منع ابن أبي السماك أن يبعث إليك بعطائك، أما
علم أن لك في بيت المال نصيبا؟ (1)
قال الأردبيلي - رحمه الله، بعد نقله الرواية -: ليس فيها دلالة أصلا، الأعلى
جواز اعطاء مال من بيت المال الذي هو لمصالح المستحقين من الشيعة. وأين هذا
من الدلالة على جواز أخذ المقاسمة من الجائر على العموم الذي تقدم. والعجب
أنه (2) قال - في المنفردة -: هذا نص في الباب، لأنه عليه السلام بين أن لا خوف للسائل
على دينه إذ لم يأخذ إلا حقه من بيت المال. وقد ثبت في الأصول: تعدي الحكم بتعدي
العلة - المنصوصة وأنا ما فهمت هنا منها دلالة ما، كيف وغاية دلالتها ما ذكر، وذلك

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث: 6
(2) الضمير يعود إلى " الشيخ على " الذي ألف رسالة منفردة في هذه المسألة.
254

قد يكون من بيت المال الذي يجوز أخذه واعطائه للمستحقين، مثل أن يكون منذورا
أو وصية لهم بأن يعطيه ابن أبي المساك أو غير ذلك ثم أطال الكلام.
أقول: لا يخفى على المتتبع للسير والآثار، والمتطلع في كتب الأخبار: أن
بيت المال المذكور في أمثال هذا المقام، إنما هو المشتمل على الأموال المعدة لمصالح
المسلمين وأرزاقهم، كما يدل عليه أخبار اعطاء المؤذن والقاضي، والديات التي
يعطى من بيت المال ونحو ذلك. وليس في الأموال التي يأخذها الإمام عادلا أم جائرا،
ويكون في بيت المال، ما يكون كذلك إلا مال الخراج والمقاسمة، وإلا فالزكاة لها
أرباب مخصوصون.
واحتمال الحمل على ما ذكره من بيت المال يكون منذورا أو وصية، عجيب
من مثله رحمة الله عليه، لا سيما مع ما صرح به غير واحد من المحققين، من أن الاطلاق
الواقع في الأخبار إنما يحمل على الأفراد الشايعة المتكثرة لها وأنها هي التي
ينصرف إليها الاطلاق دون الفروض النادرة.
وبالجملة فإن مناقشته هنا في بيت المال، بالحمل على غير ما ذكرناه ضعيفة.
وأما كون أحد مصاريف بيت المال ارتزاق الشيعة أو هم مع غيرهم، فالأخبار
به أكثر من أن يأتي عليها المقام، كما لا يخفى على المتتبع للأخبار بعين التحقيق
والاعتبار.
وبالجملة فإن الخبر المذكور، بمعونة غيره من الأخبار في جواز ارتزاق الشيعة
من بيت المال، مما لا يحوم حوله الاشكال، وإن كانت أبواب المناقشة منسدة في هذا
المجال.
والظاهر - أيضا - من قوله " ما يمنع ابن أبي السماك أن يخرج شباب الشيعة "
أي إلى جباية الخراج وجمعه ويعطيهم ما يعطي غيرهم، والظاهر أن الرجل المذكور
كان منصوبا من قبل الخليفة على جمع الخراج وحفظه وخزنه في بيت المال
وقسمته. ومراده عليه السلام حث الرجل المذكور على نفع الشيعة وصلتهم، بجعلهم
255

أعوانا له على جمع الخراج ليحصل لهم أجرة ذلك. وجواز أخذ الشيعة من بيت
المال الذي قد عرفت أنه الخراج والمقاسمة. هذا هو ظاهر الخبر و
سياقه.
وكيف كان، فإن الخبر وإن كان ظاهره ما ذكرناه، إلا أنه لا يفي بتمام
ما ادعوه في هذا المقام، مما تقدمت الإشارة إليه في كلام المحقق الأردبيلي
* * *
(الخامس): ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسحاق بن عمار، في الموثق
قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم، فقال: يشتري منه ما لم يعلم
أنه ظلم فيه أحدا (1).
قال المحقق المتقدم ذكره: ولا دلالة فيها أصلا إلا على شراء شئ لا يكون
ظلم فيه أحدا، فالاستدلال بها على المطلوب بعيد. انتهى.
أقول: الظاهر أن الاستدلال بهذه الرواية بتقريب: أن العامل - في الخبر المذكور -
شامل لمن يجبي المقاسمة ويجمعها، فيكون الخبر من حيث العموم دالا على جواز
الشراء من المقاسمة، ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا.
والاستدلال بالخبر إنما هو بالنظر إلى عموم العامل لمن قد ذكرناه، لا من
حيث شراء شئ لا يكون فيه ظلم، كما ذكره حتى ينتفي بذلك الاستدلال به. و
الخبر - بهذا التقريب - صالح للاستدلال، كما لا يخفى.
* * *
(السادس): الأخبار الدالة على جواز قبالة الخراج والجزية. استدل بها في الكفاية.
ومنها: ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح. عن إسماعيل بن الفضل،
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل يتقبل بخراج الرجال وجزية رؤوسهم و

(1) الوسائل ج 12 ص 163 حديث: 2 باب: 53
256

خراج النخل والشجر والآجام والمصايد والسمك والطير، وهو لا يدري لعل هذا
لا يكون أبدا أو يكون، أيشتريه، وفي أي زمان يشتريه، ويتقبل منه؟ فقال: إذا
علمت أن من ذلك شيئا واحدا قد أدرك فاشتره وتقبل به (1). وما رواه الكليني و
الشيخ في الموثق عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله عليه السلام، في الرجل
يتقبل بجزية رؤوس الرجال وبخراج النخل والآجام والطير، وهو لا يدري و
لعله لا يكون. الخبر المتقدم بأدنى تفاوت.
قال: وظاهره أن غرض السائل متعلق بالسؤال من حيث إنه لا يدري، يكون
من ذلك شئ أم لا، ولهذا لم يذكر خراج الأرض، فكأن أصل الجواز من حيث
كون ذلك خراجا أمر مسلم عندهم.
ومنها: ما رواه الشيخ عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام، في
جملة حديث قال: لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض وأهلها من السلطان، وعن
مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث، قال: نعم لا بأس به، وقد قبل
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خيبر، أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالجز، و
الجز هو النصف (2).
أقول: لا يخفى أن غاية ما تدل عليه هذه الأخبار - بناء على ما ذكره - هو أنه
يجوز للانسان أن يتقبل من السلطان الجزية التي على رؤوس أهل الذمة، وهي
المشار إليها بخراج الرجال في صدر الخبر، فيكون العطف تفسيريا، وكذا خراج
النخل ونحوه مما ذكر من الأرض الخراجية، بأن يستأجر من السلطان ما يأخذه من
هذه الأشياء المعدودة، بمبلغ معين يدفعه إليه. وفيها دلالة على حل ذلك وإن كان
من الجائر، وإشارة إلى أن حكم تصرف الجائر في هذه الأرض حكم تصرف

(1) الوسائل ج 12 ص 264 حديث: 4
(2) الوسائل ج 12 ص 200 حديث: 8
257

الإمام العادل، ردا على القول الآخر. إلا أنه لا يفي بتمام ما ادعاه الأصحاب في المقام
مما تقدمت الإشارة إليه.
ونحو هذه الروايات أيضا فيما قلناه ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل
ابن الفضل عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن رجل استأجر من السلطان أرض
الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى، ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه
النصف أو أقل من ذلك أو أكثر، وله في الأرض بعد ذلك فضل، أيصح له ذلك؟ قال
نعم، إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك، فله ذلك، قال: وسألته عن
رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة
قطعة أو جريبا جريبا بشئ معلوم، فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان، ولا
ينفق شيئا. أو يواجر تلك الأرض قطعا على أن يعطيهم البذر والنفقة فيكون له في ذلك
فضل على إجارته، وله تربة الأرض لو ليست له؟ فقال له: إذا استأجرت أرضا
فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها، فلا بأس بما ذكرت (1).
ومنها ما رواه في الفقيه مرسلا، قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل استأجر
أرض الخراج... الحديث (2).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: جعلت فداك، ما تقول في الأرض أتقبلها من السلطان ثم أواجرها أكرتي على أن ما أخرج الله منها من شئ، كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حق السلطان
قال: لا بأس به كذلك أعامل أكرتي (3).
وبالجملة فإن هذه الروايات - باعتبار ما دلت عليه جواز قبالة الخراج و

(1) الوسائل ج 12 ص 261 حديث: 3 و 4
(2) الوسائل ج 12 ص 262
(3) الوسائل ج 12 ص 208 حديث: 3
258

الأرض الخراجية، مع ما تقدم في رواية أبي بكر الحضرمي، وما ذيلناها به، و
صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم في حكم الزكاة وجواز شرائها - مما يثمر الظن الغالب بجواز تناول الخراج والمقاسمة من الجائر، وأن تصرفه في ذلك
يجري مجرى تصرف الإمام عليه السلام.
لكن لا في جميع الوجوه التي ذكروها، من أنه لا يحل انكار ذلك عنه، و
لا خيانته فيه ولا سرقته ونحو ذلك. حيث إن غاية ما يفهم من هذه الروايات: هو
التوصل إلى الانتفاع من هذه الأراضي الخراجية، وخراجها بقبول ذلك من الجائر،
والاستيجار منه، والشراء من مال الخراج والزكاة التي قبضها.
وأما ما ذكروه من الزيادة على ذلك من عدم جواز انكاره، ووجوب دفعه
له، فربما دلت بعض الأخبار على خلافه، مثل صحيحة عيص بن القاسم، عن أبي
عبد الله عليه السلام في الزكاة، قال: ما أخذه منكم بنو أمية فاحتسبوا به، ولا تعطوهم
شيئا ما استطعتم، فإن المال لا يبقى على هذا أن يزكيه مرتين (1).
والرواية وإن كان موردها الزكاة خاصة، إلا أن فيها إشارة إلى أنه لا يجوز،
دفع الحقوق الشرعية لغير مستحقها وأهلها، لا سيما مع ما يستلزمه من إعانة الظلمة،
الذي تقدم التصريح بتحريمه. وإلى ذلك أيضا تشير صحيحة زيد الشحام، قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك أن هؤلاء المصدقين يأتوننا فيأخذون الصدقة
فنعطيهم إياها أتجزي عنا؟ قال: لا، إنما هؤلاء قوم غصبوكم - أو قال ظلموكم -
أموالكم، وإنما الصدقة لأهلها (2).
وحمله الشيخ على استحباب الإعادة، جميعا بينه وبين ما يدل على الاجزاء
من الأخبار. وقد تقدمت في كتاب الزكاة.

(1) الوسائل ج 6 ص 174 حديث: 3
(2) الوسائل ج 6 ص 174 حديث: 6. والراوي هو زيد بن يونس أبو -
أسامة الشحام
259

والأظهر في وجه الجمع. إنما هو حمل ما دل على الاجزاء على عدم التمكن
من انكارها ومنعها، وإنما تؤخذ منه قهرا. وما دل على العدم على من تمكن من
عدم الدفع ودفعها لهم اختيارا، كما تدل عليه صحيحة العيص المذكورة. و
الله العالم.
(السابع): الأخبار الدالة على جواز أخذ جوائز خلفاء الجور. ومنها:
ما رواه في التهذيب عن يحيى بن أبي العلا عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عليه السلام: أن
الحسن والحسين - عليهما السلام - كانا يقبلان جوائز معاوية (1) ونحوها من
الأخبار الآتية في المسألة التالية انشاء الله. وأنت خبير بما فيه من الضعف الغني
عن التنبيه.

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث: 4
260

المسألة الثالثة
لا اشكال ولا خلاف في حل جوائز السلطان وجميع الظلمة، على كراهية
ما لم يخبره بأن ذلك من ماله، فإنه لا كراهة. وما لم يعلم بكونه حراما فيجب رده على
مالكه، أو الدقة به عنه.
ويدل على الثالث: ما تقدم في مسألة تحريم معونة الظالمين، من رواية على
ابن أبي حمزة (1).
وعلى الأول والثاني: أصالة الحل، المدلول عليها الأخبار المتكاثرة، و
قد تقدم شطر منها في مقدمات الكتاب.
وعلى الكراهة في الأول: وقوع الشبهة فيها، باحتمال كونها من الحرام
أو دخول الحرام في تلك الجزائز، لعدم تورع الدافع لها، مع عدم اخباره
بالحل.
ولهذا صرح الأصحاب باستحباب اخراج الخمس منها، من حيث احتمال
الاختلاط، وخروج الخمس محلل للمال المختلط حلاله بحرامه.
قال في المنتهى: ولو لم يعلم حراما جاز تناولها وإن كان المجيز لها ظالما،

(1) تقدمت في صفحة: 125 من هذا الجزء.
261

وينبغي له أن يخرج الخمس من جوائز الظالم، ليطهر، بذلك ماله، لأن الخمس
يطهر المختلط بالحرام فيطهر، ما لم يعلم فيه الحرام. وينبغي أن يصل إخوانه من
الباقي بشئ وينتفع هو بالباقي.
أقول: ومن الأخبار الواردة في المقام ما تقدم قريبا من خبر يحيى بن أبي
العلا (1).
وما رواه في التهذيب والفقيه في الصحيح، عن أبي ولاد، قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: ما تقول في الرجل يلي أعمال السلطان ليس له كسب إلا من أعمالهم،
وأنا أمر به وأنزل عليه فيضيفني ويحسن إلى، وربما أمر لي بالدراهم، والكسوة،
وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي: كل وخذ منه، لك المهنا وعليه
الوزر (2).
وما رواه في الفقيه عن أبي المعزا، قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام وأنا
عنده، فقال: أصلحك الله أمر بالعامل أو آتي العامل، فيجيزني بالدراهم آخذها؟
قال: نعم، وحج بها (3). ورواه الشيخ في الصحيح مثله بدون قوله " أو آتي
العامل ".
وما رواه الشيخ عن محمد بن هشام أو غيره، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
أمر بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال: نعم. قلت: وأحج منها؟ قال: نعم حج
منها (4).
وعن محمد بن مسلم وزرارة قالا: سمعناه يقول: جوائز العمال ليس بها

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث: 4
(2) الوسائل ج 12 ص 156 حديث: 1 باب: 51
(3) الوسائل ج 12 ص 156 حديث: 2
(4) الوسائل ج 12 ص 157 حديث: 3
262

بأس (1).
وعن عمار في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن عمل السلطان
يخرج فيه الرجل؟ قال: لا، إلا أن لا يقدر على شئ يأكل ولا يشرب، ولا يقدر
على حيلة، فإن فعل فصار في يده شئ فليبعث بخمسه إلى أهل البيت - عليهم السلام - (2).
وما رواه في الكافي عن عمر أخي عذافر، قال: دفع إلى انسان ستمأة درهم
أو سبعمأة درهم لأبي عبد الله عليه السلام فكانت في جوالقي، فلما انتهيت إلى الحفيرة
شق جوالقي وذهب بجميع ما فيه، ورافقت عامل المدينة بها، فقال: أنت الذي
شق جوالقك وذهب بمتاعك؟ قلت: نعم. قال: إذا قدمنا المدينة فأتنا نعوضك.
قال فلما انتهينا إلى المدينة، دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال: يا عمر شقت
زاملتك وذهب بمتاعك؟ فقلت: نعم. فقال: ما أعطاك الله تعالى خير مما أخذ
منك - إلى أن قال - فائت عامل المدينة فتنجز منه ما وعدك، فإنما هو شئ دعاك
الله إليه لم تطلبه منه (3).
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على صلة خلفاء بني العباس للأئمة - عليهم
السلام - وقبولهم ذلك منهم.
فوائد
الأولى: ما ذكره الأصحاب - رضوان الله عليهم - من كراهة هذه الجوائز.
لما تقدم ذكره، ربما نافاه الأخبار الدالة على قبولهم - عليهم السلام - لجوائز

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث: 5
(2) الوسائل ج 12 ص 146 حديث: 3
(3) الوسائل ج 12 ص 158 حديث: 8
263

خلفاء الجور، وقد تقدم خبر قبول الحسن والحسين عليهما السلام لجوائز معاوية، و
مثله ما رواه في كتاب الإحتجاج في حديث: أنه كان يبعث إلى الحسين عليه السلام في
كل سنة ألف ألف درهم سوى عروض وهدايا من كل ضرب (1).
ويمكن الجواب عن ذلك، بوجوه:
(أحدها): أن الأرض وما فيها لهم - عليهم السلام - كما دلت عليه جملة من
الأخبار التي قدمناها في كتاب الخمس (2) فكيف بما في أيدي هؤلاء الفجرة من
ذلك.
و (ثانيها): أنه من المحتل - قريبا - أن قبولهم لها لا يستلزم أكلهم منها،
فيجوز أن يتصدقوا بها، لأنها من مال المسلمين فيصرفونها عليهم.
ويدل على ذلك: ما رواه في العيون عن صاحب الفضل بن الربيع، عن أبي
الحسن موسى عليه السلام، في حديث: أن الرشيد بعث إليه بخلع وحملان ومال.
فقال: لا حاجة لي بالخلع والحملان والمال، إذا كان فيه حقوق الأمة. فقلت:
ناشدتك بالله أن لا ترده فيغتاظ. قال: اعمل به ما أحببت (3).
وفي خبر آخر، أن الرشيد أمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير.
فقال عليه السلام: والله لولا أني أرى من أزوجه بها من عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع
نسله ما قبلتها (4).
وروى في الكافي عن محمد بن قيس بن رمانة قال: دخلت على أبي عبد الله
عليه السلام فذكرت له بعض حالي، فقال: يا جارية هاتي ذلك الكيس، هذه أربعمأة دينار

(1) الوسائل ج 12 ص 159 حديث: 14
(2) الجزء 12 ص 234 من هذه الطبعة.
(3) الوسائل ج 12 ص 158 حديث: 10
(4) الوسائل ج 12 ص 159 حديث: 11
264

وصلني بها أبو جعفر، فخذها وتفرج بها (1) الحديث.
و (ثالثها): جواز فعلهم للمكروه أحيانا، كما دلت عليه جملة من الأخبار
لبيان جوازه، وأنهم لو امتنعوا من قبول ذلك امتنع الناس التابعون لهم
بامتناعهم منه اقتداء بهم، ولزم به إدخال الضرر عليهم في بعض الموارد، لا سيما
في مقام الضرورة، مع حل ذلك شرعا.
و (رابعها): أن لهم حقا في بيت المال، فيكون ذلك من حقوقهم الواجبة
لهم، ويحمل الامتناع منهم في بعض الأوقات على التنزه والله العالم.
الثانية: ما ذكره الأصحاب هنا من استحباب اخراج الخمس من هذه
الجوائز لم أقف فيه على خبر، إلا ما قدمناه من خبر عمار (2).
ومورده إنما هو الدخول في أعمالهم وحصول شئ له من ذلك. والفرق
بينه وبين الجوائز ظاهر، لما تقدم من اختلاف الأخبار في جواز الدخول في أعمالهم،
وقد تقدمت في تلك المسألة، بخلاف مسألة الجوائز، فإن الأخبار متفقة على حلها،
ومعارضة بالقاعدة المتفق عليها - نصا وفتوى - كل شئ فيه حلال وحرام، فهو لك
حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (3).
ومورد أخبار الخمس - الكثيرة بالنسبة إلى هذا الفرد - إنما هو المال المعلوم
دخول الحرام فيه، مع عدم معلوميته بعينه، وعدم معلومية صاحبه. وقد تقدمت في
كتاب الخمس (4).
وظاهر عبارة العلامة المتقدمة: أنه إنما استند في اخراج الخمس في هذا المقام

(1) الوسائل ج 12 ص 158 حديث: 9
(2) الوسائل ج 12 ص 126 حديث: 3
(3) الوسائل ج 17 ص 91 حديث: 1 و 2
(4) في الجزء الثاني عشر ص 363 - 364
265

إلى هذه الأخبار باعتبار دلالتها على ذلك بطريق الأولوية. حيث إنها دلت على تطهير
المال المعلوم فيه وجود الحرام باخراج الخمس، فتطهير ما ظن كونه حراما أو دخل فيه
الحرام بطريق أولى.
وفيه منع ظاهر، بل هو قياس محض مع الفارق، للاتفاق هنا على الحل نصا
وفتوى، مع الاعتضاد - كما عرفت - بالقاعدة المتفق عليها نصا وفتوى، بخلاف
ما لو علم فيه الحرام، إذ لا خلاف في تحريمه بمقتضى النصوص الواردة في المحصور
من ذلك، لكن لما وردت هذه الأخبار بتحليله باخراج الخمس منه وجب استثناؤه
من النصوص المذكورة.
الثالثة: قد صرحت موثقة عمار المتقدمة (1) بأنه يبعث بخمس المال الذي
يصير في يده من عملة الظالمين إليهم - عليهم السلام - والظاهر من ذلك: أن مصرفه
مصرف الخمس المأخوذ من الغنائم ونحوها، مما تقدم في كتاب الخمس، مع أن
هذا الموضع مما لم يتعرض أحد من الأصحاب لعده في كتاب الخمس في عداد تلك
الأشياء وقد وقع في الخمس المأخوذ من الحلال المختلط بالحرام بحث في مصرفه
قدمنا ذكره في الكتاب المشار إليه.
والظاهر: أن عدم تعرض الأصحاب لهذا الفرد، أما من حيث عدم وجوبه،
فإن ظاهرهم إنما هو الاستحباب، أو ندور الرواية المذكورة.
وكيف كان فاخراج الخمس مخصوص بمورد الخبر، وهو العمل لهم، دون
ما نحن فيه من الجوائز. والله العالم.
الرابعة: قد عد بعض مشائخنا المحققين من محدثي متأخري المتأخرين
جوائز الظالم، في الشبهات الواردة في أخبار التثليث " حلال بين، وحرام بين، وشبهات
بين ذلك " (2) بناء على أن ما احتمل الحرمة وإن كان بحسب ظاهر الشرع حلالا،

(1) في صفحة: 263
(2) راجع: الكافي ج 1 ص 68
266

إلا أنه من جملة أفراد الشبهة المعدودة في هذه الأخبار.
وعد من ذلك - بناء على هذا الأصل الذي ذكره أيضا - ما اختلف فيه الأخبار،
مع ترجيح أحد طرفيها في نظر الفقيه، كمسألة نجاسة البئر مثلا، مع القول
بالطهارة.
وفيه - أولا -: أن الحل والحرمة - كما حققناه في محل أليق وقد تقدم أيضا
في المجلد الثاني من كتاب الطهارة - ليس عبارة عما كان كذلك في نفس الأمر
والواقع، وإنما ذلك بالنظر إلى علم المكلف، وكذلك الطهارة والنجاسة، فالحلال
هو ما لم يعلم المكلف حرمته، وإن كان حراما في الواقع، لا ما علم عدم حرمته.
والطاهر: ما لم يعلم نجاسته، لا ما علم عدم نجاسته.
ولا يقال: هذا حلال بحسب الظاهر وحرام في الواقع، إذ لا واقع هنا لذلك،
فإن الأحكام الشرعية لم يجعلها الشارع منوطة بالواقع ونفس الأمر الذي لا يعلمه
إلا هو، وإنما جعلها منوطة بعلم المكلف.
وتحقيق البحث في المقام واسع، وقد تقدم في الموضع المشار إليه.
وثانيا: أن المفهوم من الأخبار في هذا القسم الثالث - أعني قسم الشبهة - هو
الكف والتثبت والرد إلى الأئمة - عليهم السلام (1) كما أن الحكم في الحلال البين
والحرام البين، هو الإباحة في الأول، والمنع مع المؤاخذة بالمخالفة في الثاني.
ومن الأخبار المشار إليها: قول أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل: وما اشتبه
عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا (2).
وقول الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الأمور ثلاثة، أمر تبين لك رشده

(1) راجع: الكافي ج 1 ص 50 حديث: 10
(2) الوسائل ج 18 ص 123 حديث: 43
267

فاتبعه، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى الله عز وجل (1).
وقول الصادق عليه السلام: أورع الناس من وقف عند الشبهة (2).
وقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: أوصيك يا بني - إلى أن
قال -: والصمت عند الشبهة (3).
وقوله عليه السلام: الوقوف عند الشبهة، خير من الاقتحام في الهلكة (4) إلى غير ذلك
من الأخبار.
وما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لتصريح الأخبار به، واتفاق الأصحاب
على الحل من غير توقف.
وبالجملة، فإن دخول ما ذكره في افراد الشبهة المعدودة في هذه الأخبار ظاهر
الفساد لمن تأمل في ما ذكرناه بعين الفكر والسداد.
نعم يمكن أن يقال: إن معنى الشبهة لا ينحصر في هذا الفرد المذكور في هذه
الأخبار، بل من جملته ما يستحب التنزه عنه فيما إذا حصل الشك أو الظن باحتمال
النقيض لما قام الدليل على حليته أو طهارته على الاطلاق كما فيما نحن فيه، فإن الدليل
دل على أن كل شئ حلال حتى تعلم حرمته، وجوائز الظالم من هذا القبيل كما صرحت به
أخبارها، لكن يحتمل قريبا بسبب العلم بأخذه الحرام كون هذا الفرد منه، وإن لم
يعلم المكلف. فالأفضل له التورع عنه. والله العالم.
الخامسة: روى في الإحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، أنه
كتب إلى صاحب الزمان - عجل الله فرجه - يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف

(1) الكافي ج 1 ص 68. واللفظ في الوسائل ج 18 ص 118 حديث: 23
(2) الوسائل ج 18 ص 118 حديث: 24
(3) الوسائل ج 18 ص 123 حديث: 42
(4) الكافي ج 1 ص 68 واللفظ في الوسائل ج 18 ص 112 حديث: 2
268

مستحلا لما في يده، لا يتورع عن أخذ ماله ربما نزلت في قريته وهو فيها، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه فيدعوني إليه، فإن لم آكل من طعامه عاداني عليه، فهل يجوز
لي أن آكل من طعامه، وأتصدق بصدقة، وكم مقدار الصدقة؟ وإن أهدى هذا الوكيل
هدية إلى رجل آخر فيدعوني إلى أن أنال منها، وأنا أعلم أن الوكيل لا يتورع عن
أخذ ما في يده فهل علي فيه شئ إذا أنا نلت منها؟ الجواب: إن كان لهذا الرجل مال
أو معاش غير ما في يده، فكل طعامه وأقبل بره، وإلا فلا (1) ورواه الشيخ - رحمه الله -
في كتاب الغيبة أيضا.
وأنت خبير بأن ظاهر هذا الخبر: عدم جواز قبول جوائز الظالم إلا مع العلم
بأن له معاشا أو مالا حلالا، وظواهر الأخبار المتقدمة أعم من ذلك، فالواجب تقييد
تلك الأخبار به.
إلا أن ذلك خلاف ما عليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب في هذا الباب، فإنهم
يكتفون في الحكم بالحلية بمجرد مجهولية الحال وإن لم يعلم أن له مالا حلالا أو معاشا
حلالا، وهو ظاهر الأخبار المتقدمة. وإنما يستثنون معلومية كونه حراما.
اللهم إلا أن يقال: إن ظاهر هذا الخبر يعطي: أن السائل عالم بأن هذا
الوكيل ليس له مال إلا مال الوقف الذي في يده، وأنه يستحل أكله، وعلى هذا
فيكون جميع ما يصرفه ويهديه إنما هو من هذا المال الذي في يده، فأجابه عليه السلام إن
كان كذلك فلا يجوز الأكل من عنده، وإن كان له معاش أو مال غير ذلك، بحيث
يحتمل كون ما يعطيه من ذلك المال الحلال جاز الأكل، وحينئذ فلا يدخل في
هذا مجهول الحال الذي دل كلام الأصحاب وظواهر الأخبار المتقدمة على حل
جوائزه.
السادسة: قد صرح الأصحاب، وعليه دلت الأخبار، بأنه لا بأس بمعاملة

(1) الوسائل ج 12 ص 160 حديث: 15
269

الظلمة والبيع عليهم والشراء منهم، وإن كان مكروها.
ومن الأخبار في ذلك ما تقدم في المسألة السابقة، من موثقة إسحاق بن عمار
الدال على أنه يشتري من العامل ما لم يعلم أنه يظلم فيه أحدا (1).
وما رواه في التهذيب عن محمد بن أبي حمزة عن رجل، قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: اشترى طعاما فيجيئني من يتظلم يقول: ظلموني، فقال: اشتره (2).
أقول: إنما أمره عليه السلام بالاشتراء، لأنه لم يعلم أن ظلمه كان في ذلك الطعام
بعينه، بل أخبره بأنهم يظلمون الناس. وقد عرفت أن ذلك غير مانع من جواز
الشراء منهم، ما لم يعلم الظلم في ذلك المبيع المعين المعلوم.
وعن علي بن عطية، قال أخبرني زرارة، قال: اشترى ضريس بن عبد الملك
وأخوه من هبيرة أرزا بثلاثمأة ألف، قال: فقلت له: ويلك - أو ويحك - انظر
إلى خمس هذا المال فابعث به إليه واحتبس الباقي، فأبى علي، قال: فأدى
المال، وقدم هؤلاء (3) فذهب أمر بني أمية. قال: فقلت ذلك لأبي عبد الله عليه السلام
فقال - مبادرا للجواب -: هوله هوله. فقلت: إنه قد أداها، فعض على إصبعه (4).
وظاهر سياق الخبر المذكور: أن هبيرة كان من بني أمية أو عمالهم، و
أن الشراء وقع في مقدمات ذهاب دولتهم على يد العباسية. وزرارة لما علم ذلك
أمر ابن أخيه أن يبقى الثمن ولا يدفعه إلى البايع، وأن يبعث بخمسه إلى الإمام عليه السلام
ليحل له المال، لأنه مال الناصب المأمور باخراج الخمس منه، فامتنع ابن أخيه من
ذلك، فلما أخبر زرارة الإمام عليه السلام قبل أن يتم له الحكاية، حلل له الخمس الذي

(1) أصل الحديث في الوسائل ج 12 ص 163 حديث: 2 باب 53
(2) الوسائل ج 12 ص 161 حديث: 3
(3) أي بنو العباس. والمقصود: ظهور أمرهم واستيلائهم على سرير الخلافة
(4) الوسائل ج 12 ص 161 حديث: 2
270

أمره بارساله، ثم لما أخبره زرارة أنه دفع الثمن عض على يديه ندما على ما
فعل ضريس من دفع الثمن، ففي الخبر المذكور دلالة على حل مال الناصب كما
ورد به غيره، وعلى اخراج خمسه، وعلى تحليل الإمام عليه السلام بالخمس، كما تقدم
في كتاب الخمس، وعلى جواز معاملة الظلمة كما هو المقصود بالبحث، إلى غير
ذلك من الأخبار الواردة في المقام.
وأما الكراهة فالوجه فيها: ما تقدم بيانه في الجوائز. والله العالم.
271

المسألة الرابعة
قد اختلفت الأخبار وكلمة الأصحاب، وإن كان الأول أشد اختلافا، فيما
يأخذ كل من الولد والوالد من مال الآخر.
فقال الشيخ في الإستبصار - بعد ايراد صحيحة محمد بن مسلم، وصحيحة
أبي حمزة الثمالي، وحسنة محمد بن مسلم الآتي (1) جميع ذلك انشاء الله تعالى -
ما لفظه: هذه الأخبار كلها دالة على أنه يسوغ للوالد أن يأخذ من مال ولده، إذا
كان محتاجا، فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز له أن يتعرض له، ومتى كان محتاجا
وقام الولد به وبما يحتاج إليه فليس له أن يأخذ من ماله شيئا، وإن ورد في الأخبار
ما يقتضي جواز تناوله من مال ولده مطلقا، من غير تقييد. فينبغي أن يحمل على هذا
التقييد. انتهى.
وقال في النهاية: لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده شيئا على كل حال،
إلا بإذنه قل ذلك أم كثر، لا مختارا ولا مضطرا، فإن اضطر ضرورة شديدة حتى
يخاف تلف النفس، أخذ من ماله ما يمسك به رمقه، كما يتناول من الميتة والدم.
والوالد فما دام الولد ينفق عليه مقدار ما يقوم بأوده وسد خلته، من الكسوة

(1) بعد الانتهاء من نقل كلمات الأصحاب - رضوان الله عليهم -.
272

والطعام بالمعروف، فليس للوالد أن يأخذ من ماله شيئا. وإن لم يكن الولد ينفق
عليه وكان الوالد مستغنيا عن ماله، فلا يجوز له أيضا أن يأخذ من ماله شيئا على
حال. فإن احتاج إلى ذلك أخذ من ماله قدر ما يحتاج إليه من غير إسراف. بل على
طريق القصد. وإذا كان للولد مال ولم يكن لوالده، جاز له أن يأخذ منه ما يحج
به حجة الاسلام، فأما حجة التطوع فلا يجوز له أن يأخذ نفقتها من ماله إلا بإذنه،
وإذا كان للولد جارية ولم يكن وطأها ولا مسها بشهوة، جاز للوالد أن يأخذها و
يطأها، بعد أن يقومها على نفسه بقيمة عادلة، ويضمن قيمتها في ذمته. ومن كان
له ولد صغار فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من أموالهم إلا قرضا على نفسه، والوالدة لا يجوز
لها أن تأخذ من مال ولدها شيئا إلا على سبيل القرض على نفسها. انتهى.
وقال ابن إدريس في السرائر: لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده شيئا،
قليلا كان أو كثيرا إلا بإذنه، لا مختارا ولا مضطرا. وإن اضطر ضرورة يخاف
معها على تلف نفسه أخذ من ماله ما يمسك به رمقه، كما يتناول من الميتة
والدم.
" هذا إذا كان الوالد ينفق عليه ويقوم بواجب حقه، لأن نفقة الولد عندنا تجب
على الوالد إذا كان الولد معسرا، سواء كان بالغا أم غير بالغ، ويجبر الوالد
على ذلك. فأما إذا كان الولد موسرا فلا تجب نفقته على والده، سواء كان صغيرا.
أو كبيرا، بلا خلاف بيننا.
" فإذا تقرر ذلك فإن أنفق عليه وإلا رفعه إلى الحاكم، وأجبره الحاكم على
الانفاق. فإن لم يكن حاكم يجبره على ذلك، فللولد عند هذه الحال الأخذ من مال
والده، مقدار ما ينفقه على الاقتصاد، ويحرم عليه ما زاد على ذلك.
" والوالد فما دام الولد ينفق عليه مقدار ما يقوم بأوده وسد خلته، من الكسوة
والطعام بالمعروف، فليس لوالده أن يأخذ من ماله بعد ذلك شيئا، لا لقضاء ديونه،
ولا ليتزوج به، ولا ليحج به، ولا لغير ذلك. فإن لم يكن الوالد معسرا وكان مستغنيا.
273

من مال ولده، فلا يجوز أن يأخذ من ماله شيئا على كل حال، لا بالمعروف ولا غيره.
لأن نفقة الوالد لا تجب على الولد عندنا إلا مع الاعسار، فأما مع الاستغناء فلا تجب
النفقة على ولده ".
ثم نقل عن الشيخ في النهاية: جواز أخذ الوالد لحج الاسلام. ثم قال: إلا
أنه رجع عنه في الإستبصار. فإنه - رحمه الله - قال.. - ثم نقل عبارته المتقدمة في صدر
المسألة، ثم نقل عنه في الإستبصار في حيزه: أما موثقة سعيد بن يسار الآتية انشاء الله،
الدالة على الحج من مال ابنه الصغير، وأنه ينفق من مال ولده. وأنه أجاب عن الانفاق
بالحمل على ما إذا امتنع الولد من القيام، به، وعن الحج بأنه محمول على أنه يأخذ
على وجه القرض على نفسه، إذا كان وجبت عليه حجة الاسلام.
ثم نقل عنه في الإستبصار أيضا، بحمل الأخبار الدالة على أنه يطأ جارية ابنه،
على ما إذا كان الابن صغيرا وقومها على نفسه، أو يكون هو القيم بأمورهم والناظر
في أموالهم.
ثم اعترضه في تجويزه أخذ نفقة الحج قرضا. قال: فإن هذا لا يجوز، لأنه
لا تجب عليه الاستدانة ليحج بها، إلا أنه لو حج به كانت الحجة مجزية عما وجبت،
واستقر في ذمته. انتهى.
أقول: وأنت خبير بأن ما ادعاه ابن إدريس هنا، من أن الشيخ رجع عما ذكره
في النهاية، من جواز أخذ الوالد للحج في الإستبصار، واستدل بالعبارة المتقدمة،
لا يخلو من خدش، فإن من تأمل كلام الإستبصار في هذا المقام، من أوله إلى آخره،
يعلم أن العبارة المتقدمة، وإن أوهمت ما ذكره، إلا أن آخر كلامه وحكمه بجواز
القرض إذا كانت ذمة الأب مشغولة بالحج، مخصص للكلام المتقدم.
ولا فرق بين كلامه في النهاية وكلامه في الإستبصار، لا اطلاقه في النهاية " جواز
الأخذ للحج وإن لم يستطع قبل ذلك " وتقييده في الإستبصار بما إذا كانت الذمة مشغولة
274

بالحج، وأخذه على سبيل القرض. ولهذا نازعه في جواز القرض للحج أيضا. وبهذا
يظهر أنه لم يرجع عن أصل المسألة، كما هو ظاهر كلامه، وإنما رجع عن ذلك
الاطلاق إلى هذا التقييد.
ثم إن ما ذكره في النهاية أيضا، بالنسبة إلى وطي الأب جارية ابنه، مطلق
بالنسبة إلى الولد صغيرا كان أو كبيرا، وظاهر الإستبصار التخصيص بالصغير،
قال ابن إدريس: وهذا هو الصحيح الذي عليه الاجماع، فأما إذا كان الولد
كبيرا بالغا فلا يجوز للوالد وطي جاريته إلا بإذنه على كل حال.
ثم إنه في السرائر اعترض على الشيخ - رحمة الله عليه - أيضا في قوله في آخر
كلامه بجواز أخذ الأم قرضا من مال ولدها مع الاستغناء، فقال بعد نقل كلام الشيخ
رحمه الله المتقدم: وهذا غير واضح، لأنه لا دلالة على ذلك. وقوله عليه السلام: " لا يحل
مال امرء إلا عن طيب نفس منه " (1) وأيضا التصرف في مال الغير بغير إذنه قبيح
عقلا وسمعا، فمن جوزه فقد أثبت حكما يحتاج في اثباته إلى دليل شرعي. انتهى.
وما ذكره ابن إدريس هنا محل نظر، لما سيأتي انشاء الله تعالى عند نقل الأخبار،
من جواز أخذها قرضا، مع تحقيق المسألة.
أقول: والواجب هنا أولا نقل الأخبار الواردة في المقام، ثم الكلام فيها بتوفيق
الملك العلام، بما ينحل به عنها شبهة الابهام، وينجلي عنها غياهب الظلام.
(الأول): ما رواه في الكافي والفقيه، في الصحيح، عن محمد بن مسلم عن الصادق
عليه السلام قال: سألته عن رجل لابنه مال، فيحتاج الأب إليه، قال: يأكل منه. فأما الأم
فلا تأكل منه إلا قرضا على نفسها (2).
(الثاني): ما رواه في الكافي عن علي بن جعفر عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: سألته

(1) راجع الوسائل ج 3 ص 424 باب: 3 من أبواب مكان المصلي
(2) الوسائل ج 12 ص 196 حديث: 5
275

عن الرجل يأكل من مال ولده؟ قال: لا، إلا أن يضطر إليه فيأكل منه بالمعروف،
ولا يصلح للولد أن يأخذ من مال والده شيئا، إلا بإذن والده (1).
ورواه الحميري في قرب الإسناد، عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن
جعفر، إلا أنه قال: لا، إلا بإذنه أو يضطر فيأكل بالمعروف أو يستقرض منه حتى يعطيه
إذا أيسر (2).
(الثالث): ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي،
عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل: أنت ومالك لأبيك. ثم قال
أبو جعفر عليه السلام: ما أحب أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لا بد منه، إن الله عز وجل
لا يحب الفساد (3).
(الرابع) ما رواه في الكافي عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل
يكون لولده مال فأحب أن يأخذ منه، قال: فليأخذ. وإن كانت أمه حية فما أحب
أن تأخذ منه شيئا إلا قرضا على نفسها (4).
(الخامس): ما رواه في الكافي والتهذيب، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: سألته عن الرجل يحتاج إلى مال ابنه، قال: يأكل منه ما شاء من غير سرف.
وقال: في كتاب علي عليه السلام: إن الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلا بإذنه، والوالد
يأخذ من مال ابنه ما شاء، وله أن يقع على جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها وذكران
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: أنت ومالك لأبيك (5).
ورواه الصدوق عن العلا، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في كتاب

(1) الوسائل ج 12 ص 196 حديث: 6
(2) الوسائل ج 12 ص 196 حديث: 6
(3) الوسائل ج 12 ص 195 حديث: 2
(4) الوسائل ج 12 ص 196 حديث: 7
(5) الوسائل ج 12 ص 194 - 195 حديث: 1
276

علي عليه السلام: إن لم يكن الابن وقع عليها. ثم قال: وفي خبر آخر: لا يجوز أن يقع
على جارية ابنه إلا بإذنه (1).
(السادس): ما رواه في الكافي والفقيه، عن الحسين بن أبي العلا، قال: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال: قوته بغير سرف إذا اضطر
إليه. قال: فقلت له: فقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي أتاه فقدم أباه، فقال له:
أنت ومالك لأبيك؟ فقال: إنما جاء بأبيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله هذا
أبي، وقد ظلمني ميراثي من أمي، فأخبره الأب أنه قد أنفقه عليه وعلى نفسه، فقال:
أنت ومالك لأبيك ولم يكن عند الرجل شئ أو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبس الأب للابن؟!
ورواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار في الحسن (2).
(السابع): ما رواه الشيخ في الموثق عن سعيد بن يسار، قال: قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: أيحج الرجل من مال ابنه وهو صغير؟ قال: نعم. قلت: يحج حجة الاسلام
وينفق منه؟ قال: نعم، بالمعروف. ثم قال: نعم، يحج منه وينفق منه، إن مال الولد
للوالد، وليس للولد أن يأخذ من مال والده إلا بإذنه (3).
(الثامن): ما رواه عن الحسين بن علوان، عن زيد بن علي، عن آبائه - عليهم
السلام - قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: يا رسول الله، إن أبي عمد إلى مملوك لي،
فأعتقه كهيئة المضرة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت ومالك من هبة الله لأبيك، أنت
سهم من كنانته؟، يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور، ويجعل من يشاء
عقيما. جازت عتاقة أبيك، يتناول والدك من مالك وبدنك، وليس لك أن تتناول
من ماله ولا من بدنه شيئا إلا بإذنه (4).

(1) الوسائل ج 14 ص 544 حديث: 6 و 7
(2) الوسائل ج 12 ص 197 حديث: 8
(3) الوسائل ج 12 ص 195 - 196 حديث: 4
(4) الوسائل ج 16 ص 78 حديث: 1 باب: 67 من أبواب العتق
277

(التاسع): ما رواه أيضا في الصحيح عن ابن سنان (1) - والظاهر أنه عبد الله -
قال: سألته - يعني أبا عبد الله عليه السلام - ماذا يحل للوالد من مال ولده؟ قال: أما إذا أنفق
عليه ولده بأحسن النفقة، فليس له أن يأخذ من ماله شيئا. وإن كان لوالده جارية
للولد فيها نصيب، فليس له أن يطأها إلا أن يقومها قيمة تصير لولده قيمتها عليه. قال:
ويعلن ذلك قال: وسألته عن الوالد، أيرزأ من مال ولده شيئا؟ قال: نعم، ولا يرزأ الولد
من مال والده شيئا إلا بإذنه، فإن كان لرجل ولد صغار، لهم جارية، فأحب أن يفتضها
فليقومها على نفسه قيمة، ثم ليصنع بها ما شاء، إن شاء وطأ وإن شاء باع (2).
(العاشر): ما رواه أيضا عن إسحاق بن عمار في الموثق، عن أبي عبد الله عليه السلام،
قال: سألته عن الوالد، يحل له من مال ولده إذا احتاج إليه؟ قال: نعم، وإن كان له
جارية فأراد أن ينكحها قومها على نفسه ويعلن ذلك، قال: وإذا كان للرجل جارية
فأبوه أملك بها أن يقع عليها ما لم يمسها الابن (3).
(الحادي عشر): ما رواه الصدوق في العيون والعلل، بسنده عن محمد بن سنان،
أن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائلة: وعلة تحليل مال الولد لوالده
بغير إذنه، وليس ذلك للولد، لأن الولد موهوب للوالد في قوله عز وجل: " يهب
لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " مع أنه المأخوذ بمؤنته صغيرا وكبيرا.
والمنسوب إليه والمدعو له، لقوله عز وجل " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " ولقول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت ومالك لأبيك " وليس للوالدة مثل ذلك، لا تأخذ من ماله شيئا
إلا بإذنه أو بإذن الأب، ولأن الوالد مأخوذ بنفقة الولد ولا تؤخذ الأم بنفقة ولدها (4).

(1) بقرينة رواية ابن المغيرة عنه. وروايته عن الصادق - عليه السلام -
(2) الوسائل ج 12 ص 195 حديث: 3. والارزاء: الإصابة من شئ. يقال: أرزأ
الرجل ما له - بنصب المفعولين - أي أصاب من ماله شيئا بمعنى الأخذ مهما كان.
(3) الوسائل ج 12 ص 198 - 199 حديث: 2
(4) الوسائل ج 12 ص 197 حديث: 9
278

(الثاني عشر): ما رواه علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى عليه السلام قال:
سألته عن الرجل يكون لولده الجارية، أيطأها؟ قال: إن أحب. وإن كان لولده
مال، وأحب أن يأخذ منه فليأخذ. وإن كانت الأم حية فلا أحب أن تأخذ منه شيئا
إلا قرضا (1).
(الثالث عشر): ما في الفقه الرضوي، حيث قال عليه السلام: إعلم أنه جائز للوالد
أن يأخذ من مال ولده بغير إذنه، وليس للولد أن يأخذ من مال والده إلا بإذنه (2).
* * *
أقول: ظاهر كلام الأصحاب - في غير مسألتي الحج ووطئ الجارية -:
الاتفاق على أنه لا يجوز للوالد الأخذ من مال ولده شيئا متى أنفق عليه وقام بما يحتاج
إليه إلا بإذنه.
قال في المنتهى: ولا يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده البالغ مع الغناء عنه،
ولا مع أنفاق الولد عليه. بالاتفاق، لأن الأصل عصمة مال الغير، انتهى.
ويدل على ذلك، من هذه الأخبار المذكورة: الخبر الثاني. لا سيما برواية
الحميري.
والمراد بما يضطر إليه فيه: هو القوت الواجب على الولد، كما فسره الخبر
السادس.
ويدل على ذلك - أيضا -: الخبر الثالث والسادس والتاسع.
وما دلت عليه هذه الأخبار، المعتضدة باتفاق كلمة الأصحاب، هو الموافق
للقواعد الشرعية، من الآيات القرآنية، والسنة النبوية، الدالة على تحريم التصرف
في مال الغير إلا بإذن صاحبه.

(1) الوسائل ج 12 ص 198 حديث: 10
(2) مستدرك الوسائل ج 2 ص 454 باب: 62 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3
279

ولهذا أن الأصحاب أجمعوا على طرح ظاهر هذه الأخبار المخالفة لذلك،
وتأولوها بالحمل على كون أخذ الوالد للنفقة.
إلا أن الأخبار المذكورة تنبو عن ذلك، إذ لا فرق حينئذ بين الولد والوالد،
مع أن الروايات المذكورة دلت على الفرق، وأنه إنما يباح الأخذ للوالد خاصة
دون الولد.
وكذلك الفرق في الأخبار المذكورة بين الأم والأب حيث منعت الأم من الأخذ
مع أنها واجبة النفقة أيضا كالأب.
وبالجملة فإن الحمل المذكور، وإن أمكن اجراؤه في بعض، إلا أنه لا يتم
في الجميع، كما عرفت.
وأجاب بعض الأصحاب، بأن ما تضمن جواز أخذ الأب من مال الولد، محمول
أما على قدر النفقة الواجبة عليه مع الحاجة، أو على الأخذ على وجه القرض، أو على
الاستحباب بالنسبة إلى الولد. وما تضمن منع الولد، محمول على عدم الحاجة،
أو على الأخذ لغير النفقة الواجبة، وكذا ما تضمن منع الأم، لجواز وجود الزوج
لها فتجب نفقتها عليه لا على الولد.
وأنت خبير بما في ذلك كله من البعد، إلا أنه لا مندوحة عن المصير إليه
لعدم إمكان الوقوف على ظواهر هذه الأخبار.
والأظهر عندي هو: حمل هذه الأخبار - وإن تعددت - على التقية، لاتفاق
الأصحاب على ترك العمل بها، مضافا إلى خروجها عن مقتضى القواعد الشرعية.
وبعد التأويلات التي ذكروها، مع إمكان ارجاع بعضها إلى ما يوافق القول
المشهور.
ويشير إلى ما ذكرناه من الحمل المذكور: الخبر الثالث، حيث إنه عليه السلام
بعد أن نقل الخبر النبوي الدال على الحكم المذكور، أضرب عنه تنبيها وإشارة
إلى عدم صحته. وإلا فكيف ينقله وهو صحيح عنده، ثم يخالفه ويسمي ذلك فسادا،
280

وأن الله لا يحب الفساد.
وقد اشتمل خبر الحسين بن علوان - وهو الخبر الثامن ورجاله من العامة
والزيدية - على المبالغة التامة في معنى هذا الخبر، وأكثر أخبار الجواز إنما تدور
على هذا الخبر، مع أنك عرفت من الخبر السادس تأويل الخبر المذكور بما يدفع
الاستناد إليه.
وأما الكلام في وطئ جارية الابن، فقد عرفت من كلام الشيخ في
الإستبصار، التخصيص بالصغير، مع تقويم الجارية على نفسه وإن أطلق ذلك
في النهاية.
وأنت خبير بأن ظاهر الخبر الخامس: جواز وقوعه على جارية ابنه الكبير،
فإن قوله عليه السلام فيه: " إن لم يكن الابن وقع عليها " لا يجري في الصغير. والخبر
التاسع، ظاهر في جواز وطئه لجارية ولده.
وأما الخبر العاشر فهو مطلق شامل باطلاقه للولد الصغير والكبير، وعجزه
ظاهر في الابن الكبير.
وكذلك الخبر الثاني عشر مطلق. ومن ذلك يعلم مستند كلام الشيخ في
النهاية ويظهر أن اعتراض ابن إدريس فيما تقدم من كلامه على النهاية ليس
في محله.
إلا أنه يمكن أن يقال: إن هذه الأخبار الظاهرة في جواز وطئ الأب
جارية ابنه الكبير بغير إذنه، مخالفة لمقتضى القواعد الشرعية، وحينئذ يكون
سبيلها سبيل الروايات المتقدمة، من وجوب الحمل والتأويل فيها بما قدمناه،
وأما الابن الصغير فالأمر فيه أهون، لأن ولاية التصرفات في ماله للأب، و
الروايات قد دلت على تصرف الأب في جاريته على الوجه المذكور فيها، و
ليس فيها من الخروج عن القواعد ما في رواية جارية الابن الكبير.
281

وأما مسألة الحج، فقد تقدم الكلام فيها في كتاب الحج، وبينا: أن سبيل
الرواية الواردة به، سبيل الروايات الدالة على الأخذ من مال الابن مطلقا، ولا
معنى لمنع القول بتلك الروايات، مع القول بهذه، كما صار إليه الشيخ ومن
تبعه والله العالم.
تتمة
اتفق الأصحاب على أن المرأة لا يجوز لها أن تتصدق بشئ من مال زوجها.
إلا المأدوم.
قال في المنتهى: لا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها شيئا قل أو كثر، إلا
المأموم اجماعا، فإنه يجوز لها أن تأخذ منه الشئ اليسير وتتصدق به، ما لم يؤد
إلى الضرر بالزوج، أو لم يمنعها بصريح القول، انتهى.
ويدل على ذلك: ما رواه في الكافي والتهذيب، في الموثق، عن ابن بكير،
قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام ما يحل للمرأة أن تتصدق به من مال زوجها بغير إذنه؟
قال: المأدوم (1).
وأما ما رواه في التهذيب عن علي بن جعفر عليه السلام أنه سأل أخاه موسى عليه السلام
عن المرأة، لها أن تعطي من بيت زوجها بغير إذنه؟ قال: لا، إلا أن يحللها (2)
فيجب حمله على الخبر الأول، حمل المطلق على المقيد، كما هو القاعدة المشهورة
نصا وفتوى.
ومثل هذا الخبر الأخير: ما رواه في الفقيه في حديث وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام

(1) الوسائل ج 12 ص 201 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 200 حديث: باب: 82
282

عن حماد بن عمرو، وأنس بن محمد، عن أبيه جميعا، عن جعفر بن محمد، عن
آبائه - عليهم السلام - قال: يا علي، ليس على النساء جمعة - إلى أن قال - ولا
تعطي من بيت زوجها شيئا بغير إذنه (1).
ويحتمل العمل بظاهر هذين الخبرين، وحمل الأول على حصول الرضا و
إن لم يصرح بالإذن.
وإلى ذلك يميل كلام صاحب الوسائل، إلا أن شهرة الحكم بين الأصحاب،
بل الاتفاق عليه كما عرفت، يوجب المصير إلى التأويل الأول.
قال في الدروس: والمأدوم: ما يؤتدم به كالملح واللحم. وفي التعدية
إلى الخبز والفواكه نظر، انتهى.
ولا يجوز للرجل - أيضا - أن يأخذ من مال زوجته إلا بإذنها، للأصل الدال
على عصمة مال الغير، فأما إذا أباحته أو وهبته، اقتصر على ما تعلق به ذلك.
وروى الكليني والشيخ، في الموثق، عن سعيد بن يسار، قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، امرأة دفعت إلى زوجها مالا من مالها ليعمل به، و
قالت له - حين دفعت إليه -: أنفق منه، فإن حدث بك حدث فما أنفقت منه لك
حلال طيب، وإن حدث بي حدث فما أنفقت منه فهو حلال طيب فقال: أعد على
يا سعيد المسألة، فلما ذهبت أعيد عليه المسألة، اعترض فيها صاحبها وكان معي
حاضرا فأعاد عليه مثل ذلك، فلما فرغ، أشار بإصبعه إلى صاحب المسألة، وقال:
يا هذا، إن كنت تعلم أنها قد أفضت (2) بذلك إليك فيما بينك وبينها وبين الله
فحلال طيب - ثلاث مرات - ثم قال: يقول الله جل اسمه في كتابه: " فإن طبن لكم
عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " (3).

(1) الوسائل ج 12 ص 201 حديث: 3
(2) وفي التهذيب بدل " أفضت ": " ارضت "
(3) الوسائل ج 12 ص 199 حديث: 1
283

وروى في التهذيب في الموثق، عن سماعة قال: سألته عن قول الله عز وجل
" فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " قال: يعني بذلك أموالهن
التي في أيديهن مما يملكن (1).
وعن هشام وغيره في الصحيح، عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل تدفع إليه
امرأته المال فتقول: أعمل به واصنع به ما شئت. أله أن يشتري الجارية يطأها؟
قال: لا، ليس له ذلك (2).
وعن الحسين بن المنذر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: دفعت إلى امرأتي
مالا أعمل به، فأشتري من مالها الجارية أطأها؟ قال: فقال: أرادت أن تقر عينك و
تسخن عينها (3)؟! ورأوه في الفقيه عن حفص بن البختري عن الحسين المنذر.
أقول: في هذين الخبرين ما يشير إلى تقييد المطلق بما دلت عليه قرائن الحال،
فإن الإذن في الخبرين، ولا سيما الأول، وإن كان مطلقا في جميع وجوه الانتفاع،
إلا أنه لما كان المعلوم من المرأة الغيرة وعدم الرضا بامرأة عليها، جارية أو غيرها
منعه عليه السلام من ذلك.
وظاهر الخبرين المذكورين: تحريم الشراء، وقوفا على ظاهر النهي، في
الأول والتعليل في الثاني.
وظاهر كلام من وقفت عليه: الكراهة. صرح بذلك في القواعد، و
المحقق، والشيخ على في الشرح.
فقال - بعد ذكر المصنف ذلك -: لأن فيه مقابلة نفعها باضرارها بها.
ولقول الصادق عليه السلام وقد سأله الحسين بن المنذر. ثم ساق الرواية كما قدمناه.
وقال في الدروس: والزوج يحرم عليه تناول شئ من مالها، إلا برضاها،

(1) الوسائل ج 12 ص 199 - 200 حديث: 22490
(2) الوسائل ج 12 ص 200 حديث: 1 باب: 81
(3) الوسائل ج 12 ص 200 حديث: 2 باب 81
284

ولو ملكته (1) مالا كره له التسري به، ويحتمل كراهة جعله صداقا لضرة إلا بإذنها.
انتهى.
وأنت خبير بما فيه - أما أولا - فلما عرفت من دلالة الخبرين المذكورين
على التحريم. و - أما ثانيا - فلاتفاقهم على تحريم تصرف الزوج في مال زوجته
إلا بإذنها. ومن المعلوم المقطوع، بالنظر إلى قرائن الأحوال، كما أشار إليه
عليه السلام في الخبرين المذكورين، عدم الإذن في هذا التصرف الخاص فإن حاصل
كلامه عليه السلام: أن هذا التصرف مستثنى من عموم اللفظ الدال على إباحتها له التصرف
في مالها.

(1) الظاهر أنه إشارة إلى ما دل عليه الخبران المتقدمان. وأنت خبير بأنهما لا ظهور
لهما في التمليك، بل ظاهر هما إنما هو الإذن له في الاتجار به، المكنى عنه بالعمل به.
نعم فيه الإذن بأن يتصرف فيه بالأكل والشرب واللبس ونحوها. والظاهر: أنه لهذا منعوا
- عليه السلام - من أن يتسرى منه. والحمل على التحريم والحال هذه ظاهر. وأما مع تمليكه فالظاهر أنه كذلك لما ذكرناه في الأصل. منه قدس سره.
285

المسألة الخامسة
اختلف الأصحاب في جواز التناول لمن مر بالزرع أو الشجر اتفاقا، هل يجوز
له الأكل منه أم لا؟
فالمشهور، الجواز، بل ادعى عليه في الخلاف الاجماع.
قال الشيخ في النهاية: إذا مر الانسان بالثمرة، جاز له أن يأكل منها بقدر
كفايته، ولا يحمل منها شيئا على حال.
وكذا قال علي بن بابويه وابنه في المقنع. وبذلك قال ابن البراج و
أبو الصلاح.
وقال ابن إدريس: إذا مر الانسان بالثمرة جاز له أن يأكل منها قدر كفايته، و
لا يحمل منها شيئا على حال، من غير قصد إلى الثمرة للأكل، بل كان مجتازا في
حاجة، ثم مر بالثمار، سواء كان أكله منها لأجل الضرورة أو غير ذلك، على
ما رواه أصحابنا، وأجمعوا عليه. لأن الأخبار في ذلك متواترة، والاجماع منهم
منعقد. ولا يعتد بخبر شاذ، أو خلاف من لا يعرف اسمه ونسبه، لأن الحق
مع غيره.
ونقل عن الشيخ - في المسائل الحايرية -: تخصيص الجواز بالنخل.
286

وإلى المنع مال جملة من المتأخرين، منهم العلامة في المختلف وفي
القواعد جعل المنع أحوط.
وبالمنع صرح ولده " فخر المحقين " في الشرح على ما نقله عنه بعض
مشائخنا المعاصرين. وكذا المحقق الشيخ على في شرحه، قال: والحق أنه لا
يجوز. تمسكا بالدلايل القاطعة على تحريم مال المسلم إلا عن طيب نفسه منه، سوى
بيوت من تضمنته الآية الأكل من بيوتهم. والقائل: الشيخ، استنادا إلى بعض
الأخبار التي لا تنهض معارضتها لدلائل التحريم.
ونقل في المسالك القول بالمنع عن المرتضى في المسائل الصيداوية.
واختلف كلام المحقق هنا في الشرايع، ففي كتاب البيع، جزم بالجواز
من غير نقل خلاف. وفي كتاب الأطعمة، تردد في الجواز.
وكذلك كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، فإن ظاهره في كتاب البيع
الميل إلى الجواز، حيث إنه نقل عن العلامة حمل أخبار الجواز على ما إذا علم
بشاهد الحال الإباحة. ثم قال: وهو بعيد. ثم نقل عن الشيخ الجمع بين الأخبار
بحمل أخبار المنع على الكراهة أو على النهي عن الحمل، ثم قال: وهو جمع حسن هذا
كلامه - رحمه الله - هنا.
وقال في كتاب الأطعمة - بعد ذكر المصنف المسألة -: وقد اختلف الأصحاب
فيه بسبب اختلاف الرواية وبالجواز قال الأكثر، وبه روايتان مرسلتان لا تقاومان
ما دل عليه الدليل عموما، من تحريم تناول مال الغير بغير إذنه، فالمنع لا يحتاج إلى
رواية تخصه، وما ورد فيه فهو مؤكد، مع أنه من الصحيح. انتهى. وهو كما
ترى ظاهر في اختياره المنع.
استدل القائلون بالمنع بصحيحة الحسن بن يقطين الآتية، واعتضادها بالقرآن
الكريم المتضمن للنهي عن أكل مال بغير تراض، وبقبح التصرف في مال الغير،
وباشتمالها على الحظر وهو مقدم على ما تضمن الإباحة عند التعارض، لأن دفع
287

الضرر أولى من جلب النفع. وحملوا الأخبار المنافية على ما تقدم في كلام المسالك
نقلا عن العلامة.
واحتج المجوزون بمرسلة ابن أبي عمير، ورواية محمد بن مروان، وقد
تقدم نقل جمع الشيخ بين الأخبار.
* * *
أقول: والواجب هنا أولا نقل ما وصل إلي من الأخبار الواردة عنهم - عليهم
السلام - ثم الكلام فيها بما يقتضيه المقام.
فمنها: ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا
بأس بالرجل يمر على الثمرة ويأكل منها ولا يفسد، قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
تبنى الحيطان بالمدينة لمكان المارة قال: وكان إذا بلغ نخلا أمر بالحيطان
فخرقت (فخربت) لمكان المارة (1). ورواه أحمد بن أبي عبد الله البرقي في المحاسن
عن أبيه عن يونس بن عبد الرحمان عن عبد الله بن سنان مثله.
وعن أبي الربيع عن أبي عبد الله عليه السلام نحوه إلا أنه قال: ولا يفسد ولا
يحمل (2).
وروى في الفقيه مرسلا، قال: قال الصادق عليه السلام: من مر ببساتين فلا بأس
أن يأكل من ثمارها ولا يحمل منها شيئا (3).
وما رواه في التهذيب بطرق ثلاثة، عن أبي داود عن بعض أصحابنا عن
محمد بن مروان، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أمر بالثمرة فأكل منها؟ قال: كل و
لا تحمل. قلت: جعلت فداك، إن التجار قد اشتروها ونقدوا أموالهم، قال:

(1) الوسائل ج 6 ص 139 حديث: 1 باب: 17.
(2) الوسائل ج 6 ص 140 حديث: 2 باب 17
(3) الوسائل ج 12 ص 16 حديث: 8
288

اشتروا ما ليس لهم (1) كذا في سند من الأسانيد الثلاثة المذكورة. وفي سند آخر
" قلت: فإنهم اشتروها؟ قال: كل ولا تحمل ".
وعن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن الرجل
يمر بالبستان وقد حيط عليه أو لم يحط عليه، هل يجوز أن يأكل من ثمره؟ وليس
يحمله على الأكل من ثمره إلا الشهوة، وله ما يغنيه من الأكل من ثمره، وهل له أن
يأكل من جوع؟ قال: لا بأس أن يأكل ولا يحمله ولا يفسده (2).
وعن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن
الرجل يمر بالنخل والثمرة، فيجوز له أن يأكل منها من غير إذن صاحبها، من
ضرورة أو غيرها؟ قال: لا بأس (3).
وما رواه في الكافي عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فيمن سرق الثمار في كمه، فما أكل منه فلا إثم عليه، وما حمل فيغرمها و
يغرم قيمته مرتين (4). ورواه الشيخ أيضا.
وما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليه السلام، قال: سألته عن
الرجل يمر على ثمرة فيأكل منها، قال: نعم قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تستر
الحيطان برفع بنائها (5).
وروى الصدق في كتابه " اكمال الدين " بسنده عن محمد بن جعفر الأسدي،
فيما ورد عليه من محمد بن عثمان العمري، في جواب مسائله عن صاحب الزمان،
عليه السلام وعجل الله تعالى فرجه، قال: أما ما سألته من أمر الثمار من أموالنا يمر به

(1) الوسائل ج 13 ص 14 حديث: 4
(2) الوسائل ج 13 ص 15 حديث: 5
(3) الوسائل ج 13 ص 14 حديث: 3
(4) الوسائل ج 13 ص 14 حديث: 1
(5) الوسائل ج 13 ص 14 حديث: 2
289

المار فيتناول منه ويأكل، هل يحل له ذلك؟ فإنه يحل له أكله، ويحرم عليه
حمله (1) ورواه الطبرسي في الإحتجاج عن أبي الحسن محمد بن جعفر مثله.
وروى في مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا
أبا الحسن علي بن محمد - عليهما السلام -، من مسائل داود الصرمي، قال: سألته
عن رجل دخل بستانا، أيأكل من ثمرها من غير علم صاحب البستان؟ قال:
نعم (2).
* * *
هذا ما وقفت عليه (3) من الأخبار الدالة على القول المشهور، وهي ظاهرة
الدلالة على ذلك تمام الظهور، وقد تقدم - أيضا - من برهان المسألة الثانية، مرسلة

(1) الوسائل ج 12 ص 16 حديث: 9
(2) الوسائل ج 12 ص 16 حديث: 11
(3) أقول: والعلامة في المنتهى لم ينقل في هذا المقام إلا رواية محمد بن
مروان ومرسلة يونس الدالتين على الجواز، ثم نقل مرسلة مروك بن عبيد، وقال.
والحديثان الأولان يدلان على إباحة التناول من الثمرة، فإن عملنا بهما خصصناهما
بالثمرة مع عدم العلم بكراهة المالك، على الأقوى. أما لو علم من صاحبه الكراهة
فالوجه عندنا: التحريم. أما الزرع فالأظهر عندي تحريم التناول، عملا بالرواية
وبالأصل الدال على التحريم السالم من المعارض. انتهى، وكلامه - كما ترى -
يدل على الفرق بين الثمرة والزرع، ولم أقف على قائل به سواه، مع أن صحيحة
ابن أبي عمير المرسلة قد دلت على الجواز في الزرع، ولكنه لم يطلع عليها، فما
ذكره من الفرق غير جيد، إلا أن الأظهر هو ما أشرنا إليه في الأصل، من أن إدخال
السنبل في المسألة ليس مما ينبغي، لعدم الأكل منها على تلك الحال.
منه قدس سره
290

يونس الدالة على ما كان يفعله الصادق عليه السلام في ضيعته " عين زياد " (1).
وأما ما يدل من الأخبار على القول الآخر، فمنها: ما رواه الشيخ في الصحيح
عن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يمر بالثمرة من الزرع
والنخل والكرم والشجر والمباطخ وغير ذلك من الثمر، أيحل له أن يتناول منه
شيئا، ويأكل بغير إذن صاحبه؟ وكيف حاله أن نهاه صاحب الثمرة، أو أمره القيم
فليس له، وكم الحد الذي يسعه أن يتناول منه؟ قال: لا يحل له أن يأخذ منه
شيئا (2).
وعن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام قال: قلت له:
الرجل يمر على قراح الزرع ويأخذ منه السنبلة. قال: لا. قلت: أي شئ السنبلة!
قال: لو كان كل من يمر به يأخذ منه سنبلة كان لا يبقى شئ (3).
أقول: الظاهر أن هذا الخبر لا يدخل في سياق هذه الأخبار، فلا معنى لاجرائه
في هذا المضمار، فإن موضوع المسألة هو الأكل من الثمار في مكانه من غير أن
يحمله ومن الظاهر أن السنبلة ليست من المأكول على تلك الحال. وأن الظاهر
إنما هو إرادة حمله معه، لا إرادة أكله. والمنع في هذه الصورة مما لا
خلاف فيه.
وعن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن البستان أن يكون
عليه المملوك أو أجير ليس له من البستان شئ. فيتناول الرجل من بستانه؟ فقال:
إن كان بهذه المنزلة لا يملك من البستان شيئا، فما أحب أن يأخذ منه شيئا وروى في
قرب الإسناد عن مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه سئل عما يأكل الناس
من الفاكهة والرطب مما هو حلال لهم، فقال: لا يأكل أحد إلا من ضرورة، ولا

(1) الوسائل ج 6 ص 140 حديث: 2 باب: 18
(2) الوسائل ج 13 ص 15 حديث: 7
(3) الوسائل ج 13 ص 15 حديث: 6
291

يفسد، إذا كان عليها فناء محاط، ومن أجل الضرورة نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبنى
على حدائق النخل والثمار بناء لكي لا يأكل منها أحد (1).
* * *
وأنت خبير بأن هذه الأخبار تقصر عن معارضة الأخبار المتقدمة، إلا أنه مع
عدم القول بها فلا بد لها من محمل تحمل عليه.
وقد تقدم حمل الشيخ لها على الكراهة، أو الحمل. وقد تقدم أيضا حمل
العلامة للأخبار الدالة على الجواز على ما إذا علم ذلك بشاهد الحال. وهو غير
بعيد، بقرينة روايات هدم الحيطان
وجمع في الوافي بين الأخبار بأنه يمكن تخصيص الجواز بالبلاد التي تعرف
من أرباب بساتينها وزروعها عدم المضائقة في مثله لوفورها عندهم. وهو وإن كان
لا يخلو عن بعد، إلا أنه في مقام الجمع غير بعيد.
وربما أشعر ظاهر رواية قرب الإسناد بالجمع بين الأخبار بالضرورة وعدمها
حيث إنها أشعرت بأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما نهى عن الحيطان من أجلها، إلا أنه يدفعه ما تقدم
من الأخبار الدالة على الجواز من غير ضرورة.
وبالجملة، فإن القول المشهور، وإن كان لا يخلو من قوة، لكثرة الأخبار
الدالة عليه، إلا أن المسألة غير خالية عن شوب الاشكال، لعدم المحمل الظاهر
لأخبار المنع.
ولا يحضرني الآن مذهب العامة في هذه المسألة لعرض هذه الأخبار عليه
فيؤخذ منها بما يخالفه ويصار إليه.
* * *
وكيف كان، فإن الظاهر من النصوص وكلام الأصحاب في المقام أنه يشترط
في الجواز شروط ثلاثة:

(1) الوسائل ج 13 ص 16 حديث: 10
292

(أحدها): أن يمر بالثمر، بمعنى أن يكون المرور اتفاقيا. وعلى هذا فلو
قصدها ابتداء لم يجز له الأكل، اقتصارا في الرخصة المخالفة للأصل على موضع
اليقين. وهو اتفاق النص والفتوى.
والمراد بالمرور هنا: أن يكون الطريق قريبة منها، بحيث يصدق - عرفا -
أنه مر بها، لا أن يكون الطريق على نفس الشجرة أو ملاصقة للبستان.
و (ثانيها): أن لا يفسد. والظاهر أن المراد بالافساد: هدم حايط، أو
كسر غصن، أو نحو ذلك.
وزاد بعض الأصحاب: أن لا يأكل منها شيئا كثيرا، بحيث يورث فيها أثرا
بينا يصدق معه الافساد عرفا. قال: ويختلف ذلك باختلاف كثرة الثمرة وقلتها، و
كثرة المارة وقلتهم وهو غير بعيد أيضا وإن كان المتبادر الأول.
و (ثالثها): أن لا يحمل منها شيئا، بل يأكل في موضعه وقد دل خبر السكوني
المتقدم على أنه يغرم ما حمله، أو يغرم قيمته. والظاهر أن المراد بقوله " مرتين " إن
الغرم يتعدد.
وزاد بعض الأصحاب (رابعا) وهو: عدم علم الكراهة.
و (خامسا) هو: عدم ظنها. واستحسنه في المسالك.
ويدفعه: قوله - في رواية محمد بن مروان: " قد اشتروا ما ليس لهم " فإنه يشعر بأن
هذا حق للمارة ليس لهم المنع منه.
و (سادسا) هو: كون الثمرة على الشجرة
أقول: ولا بأس به، فإنه هو الظاهر من الأخبار.
293

المسألة السادسة
في أحكام الأرضين
وهي - على ما ذكره الأصحاب، رضوان الله عليهم، وصرحت به الأخبار عنهم
- عليهم السلام -: على أربعة أقسام:
الأول - المفتوحة عنوة.
الثاني - أرض أسلم عليها أهلها طوعا.
الثالث - أرض الصلح.
الرابع - أرض الأنفال.
فالبحث هنا يعق في مقامات أربعة:
الأول: الأرض المفتوحة عنوة، أي بالقهر والغلبة والسيف.
وحكمها - على ما صرح به غير واحد من الأصحاب. وبه صرح أيضا أخبار الباب -
أنها للمسلمين قاطبة، من وجد ومن سيوجد إلى يوم القيامة، ليس للغانمين منها
إلا كغيرهم من المسلمين.
إلا أن جملة من الأصحاب صرحوا بأن ذلك بعد اخراج خمسها لذوي الخمس.
وربما خصه بعضهم بزمان وجود الإمام عليه السلام، قال: وأما في الغيبة ففي الأخبار
294

ما يدل على أنه لا خمس فيها.
قال في المنتهى: الأرضون أربعة أقسام، أحدها: ما يملك بالاستغنام ويؤخذ قهرا
بالسيف فإنها تكون للمسلمين قاطبة، فلا تختص بها المقاتلة، بل يشاركهم
غير المقاتلة من المسلمين وكما لا يختصون بها كذلك لا يفضلون، بل هي للمسلمين
قاطبة. وذهب إليه علماؤنا أجمع.
وقال في المبسوط - بعد كلام في المقام، وذكر مكة وأرض السواد ونحوهما -:
والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فتحت عنوة، يكون
خمسها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة، الغانمون وغير
الغانمين في ذلك سواء.
" ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه
في مصالح المسلمين وما ينوبهم من سد الثغور ومعونة المجاهدين وبناء القناطر وغير
ذلك من المصالح، وليس للغانمين في هذه الأرض خصوصا شئ، بل هم والمسلمون
فيه سواء.
" ولا يصح بيع شئ من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تملكيه ولا وقفه
ولا رهنه ولا إجارته ولا إرثه، ولا يصح أن تبنى دورا ومنازل ومساجد وسقايات
ولا غير ذلك من أنواع التصرفات التي تتبع الملك، ومتى فعل شئ من ذلك كان
التصرف باطلا وهو باق على الأصل.
" وعلى الرواية التي رواها أصحابنا " أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير إذن
الإمام فغنمت تكون الغنيمة للإمام خاصة " هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول
إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليه السلام إن صح شئ من ذلك، يكون للإمام خاصة، ويكون
من جملة الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره انتهى.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام: ما رواه الشيخ في الصحيح
عن محمد الحلبي، قال: سئل الصادق عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع
295

المسلمين، لمن هو اليوم ولمن يدخل في الاسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد، فقلت:
الشراء من الدهاقين؟ قال: لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا
شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها. قلت: فإن أخذها منه قال: يرد عليه رأس ماله،
وله ما أكل من غلتها بما عمل (1).
وعن محمد بن شريح، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شراء الأرض من أرض
الخراج فكرهه، وقال: إنما أرض الخراج للمسلمين. فقالوا له: فإنه يشتريها
الرجل وعليه خراجها. فقال: لا بأس، إلا أن يستحي من عيب ذلك (2).
وما رواه في التهذيب والفقيه عن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال لا تشتر من أرض السواد شيئا إلا من كانت له ذمة، فإنما هو فئ للمسلمين (3).
وما رواه في التهذيب عن صفوان في الصحيح، قال: حدثني أبو بردة بن رجاء
قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: ومن يبيع
ذلك، وهي أرض المسلمين. قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده. قال: ويصنع
بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال: لا بأس أن يشتري حقه منها ويحول حق المسلمين
عليه، ولعله يكون أقوى عليها وأملي بخراجهم منه (4).
وما رواه الشيخ في الموثق عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول:
رفع إلى أمير المؤمنين عليه السلام رجل مسلم اشترى أرضا من أراضي الخراج. فقال
أمير المؤمنين عليه السلام: له ما لنا وعليه ما علينا، مسلما كان أو كافرا، له ما لأهل الله وعليه
ما عليهم (5).

(1) الوسائل ج 12 ص 274 حديث: 4
(2) الوسائل ج 12 ص 275 حديث: 9
(3) الوسائل ج 12 ص 274 حديث: 5
(4) الوسائل ج 11 ص 118 حديث: 1 باب: 71
(5) الوسائل ج 11 ص 119 حديث: 6
296

وما رواه في الكافي عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر جميعا.
قالا: ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج، وما سار فيها أهل بيته. فقال:
من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر، مما سقي بالسماء والأنهار، ونصف
العشر مما كان بالرشا، فيما عمروه منها. وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممن
يعمره، وكان للمسلمين. وعلى المتقبلين في حصصهم العشر ونصف العشر. وليس
في أقل من خمسة أوسق شئ من الزكاة. وما أخذ بالسيف، فذلك إلى الإمام يقبله
بالذي يرى، كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، قبل سوادها وبياضها، يعني أرضها
ونخلها. والناس يقولون: لا تصلح قبالة الأرض والنخل، وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
خيبر. قال: وعلى المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر في حصصهم. ثم
قال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر وإن مكة دخلها
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عنوة، وكانوا أسراء في يده فأعتقهم، وقال: اذهبوا
فأنتم الطلقاء (1).
وما رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: ذكرت
لأبي الحسن الرضا - عليه السلام - الخراج وما سار به أهل بيته. فقال: العشر
ونصف العشر على من أسلم طوعا، تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف
العشر فيما عمر منها. وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره، وكان للمسلمين
وليس فيما كان أقل من خمسة أو ساق شئ. وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي
يرى، كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، قبل أرضها ونخلها، والناس يقولون:
لا تصلح قبالة الأرض والنخل، إذا كان البياض أكثر من السواد. وقد قبل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم خيبر وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر (2).
وفي مرسلة حماد بن عيسى الطويلة عن العبد الصالح أبي الحسن الأول عليه السلام

(1) الوسائل ج 11 ص 120 حديث: 1 باب: 72 من أبواب جهاد العدو
(2) الوسائل ج 12 ص 120 حديث: 2
297

والأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في أيدي من يعمرها
ويحييها، ويقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم، من حق الخراج:
النصف أو الثلث أو الثلثين على قدر ما يكون لهم صلاحا ولا يضرهم ثم ذكر اخراج
العشر ونصف العشر من الخارج (1).
* * *
وتنقيح البحث في المقام يقع في موارد:
الأول: ظاهر عبارة المبسوط المتقدمة هو: المنع من التصرف في هذه
الأراضي بجميع وجوه التصرفات، مطلقا في حضور الإمام وغيبته. ونحوه صرح
في المنتهى. وهو ظاهر عبارات أكثر الأصحاب في هذا الباب.
وظاهر كلام الدروس: التخصيص بحال حضور الإمام. قال - رحمه الله -
ولا يجوز التصرف في المفتوح عنوة، بإذن الإمام عليه السلام سواء كان بالوقف أو البيع
أو غيرهما. نعم في حال الغيبة ينفد ذلك وأطلق في المبسوط: أن التصرف فيها لا ينفد
انتهى.
وإلى ذلك يميل كلام المحقق الثاني في شرح القواعد، فإنه - بعد ذكر عبارة
المصنف الدالة باطلاقها على ما ذكره في المبسوط - قال، ما صورته: هذا في حال ظهور
الإمام عليه السلام أما في حال الغيبة فينفذ ذلك كله، كما صرح به في الدروس وصرح
به غيره. انتهى.
واعتراض ذلك المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد بأن هذه الأراضي ملك
للغير، والبيع والوقف موقوفان على كونها ملكا للبايع والواقف. قال: بل تحصل
الشبهة في جواز هذه حال الحضور، لبعد حصول الإذن بذلك منه عليه السلام إلا أن يقتضي
المصالح العامة ذلك، بأن يجعل قطعة منها مسجدا لهم، أو حصل الاحتياج إلى ثمنها.
انتهى.

(1) الوسائل ج 11 ص 84 - 85 حديث: 1 باب: 41
298

وظاهر كلام جملة من الأصحاب، ومنهم ابن إدريس، أن جواز التصرف
بالبيع ونحوه إنما هو فيما يملكه البايع من الآثار التي في تلك الأرض.
قال ابن إدريس - بعد نقله القول بالمنع من التصرف، ما صورته -: إن قيل:
نراكم تبيعون وتشترون وتقفون أرض العراق وقد أخذت عنوة! قلنا: إنا نبيع ونقف
تصرفنا فيها وتحجيرنا وبنياننا، فأما نفس الأرض فلا يجوز ذلك فيها.
وبذلك أيضا صرح في المسالك، فقال - بعد قول المصنف " ولا يصح بيعها
ولا وقفها ": إنه لا يصح شئ من ذلك في رقبتها مستقلة، أما فعل ذلك لها تبعا لآثار
التصرف، من بناء وغرس وزرع ونحوها، فجائز على الأقوى. فإذا باعها بايع مع
شئ من هذه الآثار دخلت في البيع على سبيل التبع، وكذا الوقف وغيره، ويستمر
ذلك ما دام شئ من الآثار باقيا، فإذا ذهبت أجمع انقطع حق المشتري والموقوف
عليه وغيرهما عنها. هكذا ذكره جمع من المتأخرين وعليه العمل. انتهى.
أقول: وتحقيق الكلام في المقام أن يقال: لا ريب أن هذه البلاد المفتوحة عنوة، منها
ما هو عامر وقت الفتح، ومنها ما هو بائر. والأشهر الأظهر أن الحكم مخصوص
بالعامر، دون القسم الآخر فإنه للإمام، نظرا إلى عموم الأخبار الدالة على اختصاص
موات الأرضين به - عليه السلام - وأنها من جملة الأنفال كما تقدم تحقيقه في كتاب
الخمس.
* * *
بقي الكلام في أنها وقت الفتح كانت تلك الأملاك، من دور ونخيل وبساتين،
في أيدي ملاك لها يومئذ؟.
وظاهر الأخبار وكلام الأصحاب الدال على أن ما كان عامرا وقت الفتح فهو
للمسلمين كافة، شامل للأرض وما فيها من تلك الآثار يومئذ، وأن مرجع ذلك إلى
الإمام - عليه السلام - يقبله ويصرف حاصله في مصالح المسلمين. وحينئذ
فليس لأولئك الملاك قبل الفتح التصرف إلا بإذن الإمام عليه السلام والاستيجار منه عليه السلام
299

فقول ابن إدريس ومن تبعه: إنا نبيع أملاكنا وآثارنا وبنياننا، إنما يتم لو كان الذي
للمسلمين وقت الفتح إنما هو رقبة الأرض العامرة خاصة، وأما الأملاك فإنها على هذا
ملك لمن في يده، وهو خلاف الظاهر من الأخبار ومن كلامهم، كما عرفت.
وبالجملة، فإني لا أعرف لكلامهم وجه استقامة، إلا أن يخص ملك المسلمين
وقت الفتح برقبة الأرض دون ما فيها. وفيه: ما عرفت. أو أنه يجدد أحد بعد الفتح
بناء أو غرسا أو نحو ذلك فالبيع والشراء أو الوقف ونحوها إنما هو فيما كان كذلك
وهذا أيضا غير مستقيم، لأن هذه الأرض حينئذ إنما هي من البائرة وقت الفتح التي
قد عرفت أنها من الأنفال وهي خارجة عن محل البحث.
نعم يمكن أن يقال: إن هذه الأملاك والأراضي بعد الفتح إذا تقبلها أحد من
الإمام وعمرها وبنى فيها وغرس وزرع وتصرف بهذه التصرفات ونحوها، مع دفعه
كل سنة وجه القبالة له عليه السلام أو نايبه، فإنه يجوز البيع والشراء والوقف في تلك
الأملاك المحدثة، مع القيام بما عليها من وجه القبالة، دون رقبة الأرض.
وإلى ذلك يشير خبر بردة بن رجاء المتقدم، ورواية محمد بن شريح المتقدمة
أيضا، ونحوهما غيرهما، وظاهر هذه الأخبار وقوع البيع والشراء في هذه الأراضي
في وقتهم - عليهم السلام - وإن لم يكن بإذنهم. ومنه يظهر قوة ما ذهب إليه ابن
إدريس ومن تبعه. إلا أن هذا لا يجري في بناء المساجد.
إلا أن يقال: إنها من المصالح العامة للمسلمين التي هي أحد مصارف هذه
الأراضي، فيجوز بناؤها لذلك، وأما وقف أرضها على المسجدية، كما هو ظاهر
كلام الأصحاب في بحث المساجد، فلا يتصور هنا. لأن الأراضي غير مملوكة
للواقف وهو شرط صحة الوقف، إلا أنك قد عرفت في بحث المساجد من كتاب
الصلاة: أنه لا دليل على ما ذكروه من اشتراط الوقفية في أرض المسجد، فلا
اشكال.
وعلى ما حققناه فيجب تقييد كلام الشيخ وأتباعه بالمنع من التصرف في
300

الأرض المفتوحة عنوة، بما ذكره ابن إدريس ومن تبعه من تخصيص ذلك برقبة
الأرض والأملاك الموجودة فيها حال الفتح، دون ما يحدث فيها من العمارات و
الزراعات والغرس ونحو ذلك من المتقبلين لها كما ذكرناه، ويخص أيضا كلام
ابن إدريس بذلك، فإن ظاهر اطلاق كلامه شمول ما ذكره للعمارات الموجودة
يوم الفتح. وقد عرفت أنها للمسلمين قاطبة، فلا يجري فيها ما ذكره. بل يجب
تخصيصه بما ذكرناه.
* * *
والتحقيق عندي في هذا المقام، على ما أدى إليه فهمي القاصر من أخبارهم
- عليهم السلام - وإن كان خلاف ما عليه علماؤنا الأعلام، هو: أنه مع وجود
الإمام عليه السلام أو نائبه وتمكنهما من القيام بالأحكام الشرعية، فالمرجع إليهما في ذلك
ولا يجوز التصرف بشئ من أنواع التصرفات إلا بإذن أحدهما.
وأما مع عدم ذلك فظاهر كلمة الأصحاب: الرجوع إلى الجائر المتولي لأخذ
الخراج من تلك الأراضي، كما تقدم ذكره في مسألة حل الخراج، فإن ظاهرهم:
وجوب الرجوع إليه وعدم جواز التصرف إلا بإذنه، وإن أمكن الرجوع إلى
النائب في الاستيذان. وعندي فيه نظر، لعدم الدليل عليه، بل وجود الدليل على خلافه
كما ستعرف انشاء الله تعالى.
واحتمال التصرف فيها للشيعة مطلقا، والحال هذه، لا يخلو من قوة لأنها
وإن كانت منوطة بنظر الإمام عليه السلام كما هو مدلول خبري أحمد بن محمد بن أبي نصر
المتقدمتين، وكذا رواية حماد بن عيسى، مع وجوده وتمكنه، إلا أنه مع عدم ذلك
لا يبعد سقوط الحكم وجواز التصرف، وليس الرجوع إلى حاكم الجور - بعد
تعذر الرجوع إليه - عليه السلام - كما عليه ظاهر الأصحاب - بأولى من الرجوع إلى المسلمين
يتصرفون كيف شاؤوا وأرادوا، لا سيما مع استلزام ما ذكروه المعاونة على الإثم و
العدوان، وتقوية الباطل وتشييد معالمه، للنهي عنه كتابا وسنة.
301

وغاية ما يدل عليه الأخبار التي استندوا إليها فيما ذكروه من الأحكام، هو: أنه
إذا استولى الجائر على تلك الأراضي جاز الأخذ منه والشراء ونحو ذلك، ولا
دلالة في شئ منها على المنع من التصرف إلا بإذنه كما ادعوه.
ويدل على ما ذكرناه - أولا - الأخبار الدالة على أن الأرض كلها لهم عليهم السلام
وأن شيعتهم في سعة ورخصة من التصرف فيها في زمن عدم تمكنهم.
فمن ذلك صحيحة أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: وجدنا في
كتاب علي - عليه السلام - " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " (1) أنا
وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلها لنا، فمن أحيى
أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها.
فإن تركها وأخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها، فهو
أحق بها من الذي تركها يؤدي خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها حتى
يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها، لما حواها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ومنعها، إلا ما كان في أيدي شيعتنا، فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك
الأرض في أيديهم (2).
وفي صحيحة عمر بن يزيد المتضمنة لحمل مسمع بن عبد الملك إلى الصادق
عليه السلام مالا من الخمس ورده عليه السلام له عليه وإباحته له، ما صورته: يا أبا سيار، إن
الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شئ فهو لنا - إلى أن قال -: يا أبا سيار
قد طيبناه لك وحللناك منه. فضم إليك مالك، وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم
محللون ومحلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فنجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم،
فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم

(1) سورة الأعراف: 128
(2) الوسائل ج 17 ص 329 حديث: 2
302

منها صغرة (1).
وقد تقدمت جملة من الأخبار الدالة على أن الأرض كلها لهم - عليهم السلام -
في كتاب الخمس.
لا يقال: إنه يجب تخصيص هذه الأخبار بالأراضي الموات لمعلومية ملك
الناس لما في أيديهم، وبيعه وشراؤه وتوارثه ونحو ذلك.
لأنا نقول: لا منافاة بين ما دلت عليه هذه الأخبار من كونها كملا لهم - عليهم السلام -
وبين ما ذكره، لأن تملكهم على حسب ملك الله فإنه هو المالك الحقيقي، وملكهم
متفرع على ملكه سبحانه، كما يشير إليه بعض الأخبار المتقدمة في الموضع المشار
إليه، من قول أبي جعفر - عليه السلام -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: خلق الله
آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم فهو لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وما
كان لرسول الله فهو للأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم (2).
وإلى ذلك يشير حكمهم - عليهم السلام - بأن ما في أيدي مخالفيهم من
الأراضي غصب محرم عليهم التصرف فيه (3).
بل ورد في بعض الأخبار تحريم مشيهم على الأرض (4)، حيث إنها لهم
- عليهم السلام - وأنه بعد خروج القائم - عجل الله فرجه الشريف - يخرجهم من
الأرض ويجعلها دونهم، وأن ما في أيدي الشيعة الآن من الأملاك قد أحلوهم به،
فتصرفهم وتملكهم إنما هو من حيث التحليل لهم، وأنه بعد خروج قائمهم يأخذ
الطسق منهم ويقرهم على ما في أيديهم ولا يخرجها من أيديهم، وحينئذ فلا منافاة

(1) الوسائل ج 6 ص 382 حديث: 12
(2) الكافي ج 1 ص 409 حديث: 7
(3) تقدم من ذلك في صحيحة عمر بن يزيد عن الوسائل ج 17 ص 329 حديث: 2
(4) راجع: الكافي ج 1 ص 407 والوسائل ج 6 ص 379 فما بعد
303

بحمد الله سبحانه.
ومما ذكرناه ثبت جواز تصرفهم في هذه الأراضي التي هي محل البحث
لدخولها تحت عموم هذه الأخبار، ويخص ما ورد من التوقف على إذن الإمام بزمان
وجوده وبسط يده، أو وجود نائبه كذلك، جمعا بين الأدلة.
وثانيا: الأخبار التي قدمناها، مثل موثقة حريز، (1) ورواية محمد بن
شريح، (2) ورواية أبي بردة بن رجاء (3) ونحوها رواية إسماعيل بن الفضل
الهاشمي عن الصادق عليه السلام في حديث، قال: وسألته عن رجل اشترى أرضا من
أرض الخراج فبنى بها أو لم يبن، غير أن أناسا من أهل الذمة نزلوها، له أن يأخذ
منهم أجرة البيوت، إذا أدوا جزية رؤسهم؟ قال: يشارطهم فما أخذه بعد الشرط
فهو حلال (4).
فإن ظاهر هذه الأخبار - كما ترى باعتبار ضم بعضها إلى بعض - هو: جواز
البيع والشراء من تلك الأراضي مع قيام المشتري بما عليها من الخراج، وإن لم
يكن البيع بإذنهم - عليهم السلام -.
وحمل ذلك على كون البيع أولا وبالذات إنما تعلق بملك البايع وآثاره
التي في تلك الأرض، وبيع الأرض إنما وقع ثانيا وبالعرض، كما تقدم نقله عن
جملة من الأصحاب، لا اشعار في تلك الأخبار، به كما لا يخفى على من راجعها
وتأملها.
وأما قوله - في رواية أبي بردة -: " لا بأس أن يشتري حقه " فيمكن حمله على -

(1) الوسائل ج 11 ص 119 حديث: 6
(2) الوسائل ج 12 ص 275 حديث: 9
(3) الوسائل ج 11 ص 118 حديث: 1
(4) الوسائل ج 12 ص 275 حديث: 10
304

الحق الذي هو بمعنى أولوية التصرف فيها (1) حيث سبق إليها وملكها بذلك.
ويحمل ظاهر المنع - الذي أشعرت به تلك الأخبار من حيث كونها فيئا.
للمسلمين - على الشراء على وجه يتملكه بذلك، من غير وجوب دفع حق المسلمين
منها، وهو خراج الأرض المذكورة، كما ينادي به سياقها.
وعلى ذلك يحمل اطلاق رواية أبي الربيع الشامي (2).
وأما ما تضمنه صحيح الحلبي (3) من " جواز الشراء من الدهاقين وأنه إن
شاء ولي الأمر أن يأخذها " فهو محمول على وجود الإمام عليه السلام وتمكنه.
ويعضد ذلك، الأخبار الدالة على أن لهم من الحق منها ما هو أزيد من
ذلك، وأنهم بعد خروج صاحب الأمر يزادون، كما في صحيحة عبد الله بن سنان
عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إن لي أرض خراج، وقد ضقت بها ذرعا.
قال: فسكت هنيئة، ثم قال: إن قائمنا لو قد قام كان نصيبك في الأرض أكثر منها،
ولو قد قام قائمنا كان الأستان أمثل من قطايعهم (4):

(1) أقول: ومما يعضد ذلك ويوضحه: ما في رواية محمد بن مسلم وعمر
ابن حنضلة عن أبي عبد الله - عليه السلام -، قال: سألته عن ذلك، فقال: لا بأس بشرائها، فإنها
إذا كانت بمنزلتها في أيديهم، تؤدي عنها كما يؤدون عنها (الوسائل ج 11 ص 119
حديث: 3)، فإنها كما ترى ظاهرة الدلالة في أن الجواز والمنع دائران مدار
قيام المشتري بخراجها ودفعه للإمام عليه السلام وعدمه. فالبيع فيها جائز وإن كانت
ليست ملكا حقيقيا كسائر الأملاك التي لا يتعلق بها طسق ولا خراج. والنهي إنما
هو من حيث شرائها لتكون ملكا له لا يدفع خراجها ولا أجرتها. وبالجملة فالأمر
ضاهر لمن نظر في هذه الأخبار. منه قدس سره.
(2) الوسائل ج 12 ص 274 حديث: 5
(3) الوسائل ج 12 ص 274 حديث: 4
(4) الكافي ج 5 ص 283 حديث: 5. والأستان - بضم الهمزة: مجموعه قرى
كانت قرب بغداد.
305

وعن أبي إبراهيم بن أبي زياد في الموثق قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الشراء من أرض الجزية، قال: فقال: اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من
ذلك (1).
وعن زرارة في الصحيح عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: إذا كان
ذلك كنتم إلى أن تزادوا أقرب منكم إلى أن تنقصوا (2).
* * *
المورد الثاني، قال في المبسوط: ظاهر المذهب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فتح مكة عنوة بالسيف ثم أمنهم بعد ذلك. وإنما لم يقسم الأرضين والدور،
لأنها لجميع المسلمين، كما نقوله في كل ما يفتح عنوة، إذا لم يمكن نقله إلى
بلاد الاسلام، فإنه يكون للمسلمين قاطبة، وقد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجال من المشركين
فأطلقهم. وعندنا: أن للإمام عليه السلام أن يفعل ذلك وكذلك أموالهم من عليهم لما رآه
من المصلحة. وأما السواد فهي الأرض المغزوة من الفرس التي فتحها عمر، وهي
سواد العراق. فلما فتحت بعث عمار بن ياسر أميرا، وابن مسعود قاضيا وواليا
على بيت المال، وعثمان بن حنيف ماسحا، إلى أن قال: وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام
لما أفضى إليه الأمر أمضى ذلك، لأنه لم يمكنه أن يخالف ويحكم بما يجب عنده.
والذي يقتضيه المذهب: أن هذه الأراضي وغيرها.. إلى آخر ما قدمنا نقله عنه
في صدر المسألة.
أقول: ظاهر كلام الشيخ في هذا المقام يؤذن بعدم ثبوت كون أرض السواد
عنده من المفتوحة عنوة، حيث إن الذي فتحها ليس بإمام حق، وأن اجراء أمير المؤمنين
عليه السلام في زمان خلافته عليها حكم الأرض المفتوحة عنوة، إنما هو من حيث عدم

(1) الوسائل ج 11 ص 119 حديث: 4
(2) رواه في الوسائل عن حريز. ولكن التهذيب رواه عن حريز عن زرارة. راجع
الوسائل ج 11 ص 119 حديث: 5
306

تمكنه من إقامة الحكم الشرعي فيها، كما في كثير من الأحكام، فإن مقتضى الحكم
فيها حيث إنها فتحت بغير إذنه أن تكون من الأنفال، لكن رعاية التقية أوجبت له العمل
فيها بما جرى عليه الولاة المتقدمون.
وعندي فيه نظر، وإن تلقاه بعض متأخري مشائخنا المحققين عنه بالقبول، و
ذلك فإن الظاهر من بعض الأخبار: أن أكثر الفتوحات التي صدرت من عمر كان
برأي الإمام وإذنه عليه السلام فروى الصدوق في الخصال في باب السبعة، في بيان ما
امتحن الله تعالى أوصياء الأنبياء - عليهم السلام - عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث
طويل مع اليهودي - قال عليه السلام -: في أثنائه: وأما الرابعة يا أخا اليهودي، فإن القائم
بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور ومصادرها فيصدرها عن أمري ويناظرني في
غوامضها فيمضيها عن رأيي، الحديث (1).
ويعضد ذلك حكم الأئمة - عليهم السلام - بأن أرض السواد مما فتح عنوة
كما تقدم في صحيحة الحلبي (2) ورواية أبي الربيع الشامي (3) ورواية أحمد بن
محمد بن أبي نصر (4).
فإن الجميع ظاهر في أنها من الأراضي الخراجية التي يجب اجراء أحكام
الأراضي الخراجية عليها، ولو كان ما يدعيه الشيخ ومن تبعه حقا، لما كان لهذه الأخبار معنى.
وظاهر الأصحاب: القول بها من غير خلاف يعرف، إلا ما يظهر من كلام
المبسوط. والظاهر أنه نشأ عن غفلة عن ملاحظة الأخبار المذكورة.
ويزيد ذلك تأييدا ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي

(1) الخصال باب السبعة ج 2 ص 374
(2) الوسائل ج 12 ص 274 حديث: 4
(3) الوسائل ج 12 ص 274 حديث: 5
(4) الوسائل ج 11 ص 120 حديث: 2
307

جعفر عليه السلام، قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: إن أمير المؤمنين قد سار في أهل العراق سيرة هي إمام لساير الأرضين (1)
الحديث.
ويعضد ذلك قبول سلمان ولاية المدائن، وعمار إمارة العساكر، كما تقدم
في كلام الشيخ.
وبذلك يظهر ما في كلام المحقق الأردبيلي في هذا المقام، حيث إنه يظهر
منه المناقشة في كون أرض العراق فتحت عنوة، مستندا إلى وقوع الخلاف بين
العلماء في ذلك، حيث نقل العلامة في التذكرة أن بعض الشافعية قال: إنها فتحت
صلحا. قال: وهو محكي عن أبي حنيفة. وقال بعضهم: اشتبه الأمر علي، ولا
أدري فتح عنوة أو صلحا.
ثم قال المحقق المذكور: على أنه قد اشترط - في المشهور عندنا وكاد
يكون اجماعا - في المفتوحة عنوة كون الفتح بإذن الإمام عليه السلام، والعلم بذلك في
شئ من الأراضي غير معلوم، لأن العراق المشهورة بذلك فتحت في زمان الثاني،
وما تحقق كونه بإذن أمير المؤمنين عليه السلام، بل الظاهر عدمه، لعدم اختياره، وما
ثبت كون مولانا الحسن عليه السلام معهم.. ثم نقل كلام الشيخ وقوله: وعلى رواية رواها
أصحابنا.. إلى آخره، كما قدمناه.
ثم قال: وهذه كالصريحة في نفي كون العراق مفتوحة عنوة، بل في عدم
كونها مفتوحة بالمعنى الذي تقدم، انتهى ملخصا.
وليت شعري كأنه لم يراجع الأخبار التي أشرنا إليها، مما هو صريح الدلالة
واضح المقالة في اجرائهم - عليهم السلام - حكم المفتوحة عنوة على ذلك
الأراضي.
وأما قوله: وما تحقق كون الفتح بإذن أمير المؤمنين عليه السلام. إلى آخره.

(1) الوسائل ج 11 ص 117 حديث: 2
308

ففيه: أن الظاهر أنما هو رضاه عليه السلام به إن لم نقل إنه بإذنه. وذلك لأنه عليه السلام صاحب
الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو يحب ظهور الاسلام وقوته، وإن لم يكن على يده، فإن
الغرض من أصل البعثة ومن النيابة فيها إنما خمود منار الكفر وظهور صيت الاسلام
فهو عليه السلام وإن لم يكن متمكنا من الأمر والنهي وتنفيذ الجيوش، إلا أن غرضه
الأصلي ومطلبه الكلي حاصل بذلك فكيف يكرهه ولا يرضاه؟! وهذا بحمد الله سبحانه
وجه وجيه، لمن أخذ بالانصاف وارتضاه، ويخرج ما قدمنا شاهدا لمن عرف الحق
ووعاه.
ويؤيد ذلك - أيضا - ما ورد في أخبارنا، وكذا في أخبار العامة: أن الله يؤيد
هذا الدين أو يعزه بالظلم (1) - هذا حاصل الخبر حيث لا يحضرني الآن نفسه.
* * *
ونقل بعض فضلائنا عن بعض كتب التواريخ قال: وكأنه من الكتب المعتبرة
في هذا الفن، أن الحيرة وهي من قرى العراق تقرب الكوفة فتحت صلحا، وأن
نيسابور من بلاد خراسان فتحت صلحا، وقيل: عنوة. وبلخ وهرات منها، وقوشج

(1) جاء في وسائل الشيعة ج 4 ص 1170 باب أنه يكره أن يقال: " اللهم
اجعلني ممن تنتصر به لديك " إلا أن يقيده بما يزيل الاحتمال. من أبواب الدعاء
من كتاب الصلاة. عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كتب إليه بعض
أصحابه يسأله أن يدعو الله أن يجعله ممن ينتصر به لدينه، فأجابه عليه السلام وكتب في
أسفل كتابه: " يرحمك الله، إنما ينتصر الله لدينه بشر خلقه ".
وورد في البخاري في كتاب الجهاد الحديث رقم: 182. وفي كتاب
المغازي الحديث رقم: 38. وفي مسلم في كتاب الايمان الحديث رقم 178. و
في سنن ابن ماجة في كتاب الفتن الحديث رقم: 35. وفي مسند أحمد بن حنبل
ج 2 ص 309: " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " وهكذا في ج 5 ص 45
فراجع.
م. ه‍. معرفة
309

والتوابع فتحت صلحا. وبعض آخر فتح صلحا وبعض عنوة. وبالجملة فإن بلاد
خراسان مختلفة في كيفية الفتح.
وأما بلاد الشام ونواحيها فحكي أن حلب وحمى وحمص وطرابلس فتحت
صلحا وأن دمشق فتحت بالدخول من بعض الأبواب غفلة، بعد أن كانوا طلبوا الصلح.
وأن أهل طبرستان صالحوا أهل الاسلام وأن آذربايجان فتحت صلحا. وأن أهل
أصفهان عقدوا أمانا. والري فتحت عنوة. انتهى.
وحكى العلامة في المنتهى عن الشافعي: أن مكة فتحت صلحا بأمان قدمه
صلى الله عليه وآله وسلم لهم قبل دخوله. قال: وهو منقول عن أبي سلمة بن عبد الرحمن و
مجاهد.
ثم إنه - رحمه الله - نسب إلى الظاهر من المذهب: أنها فتحت بالسيف ثم
أمنهم بعد ذلك. ونقله عن مالك وأبي حنيفة والأوزاعي.
وقد ذكر في المنتهى أن حد سواد العراق في العرض، من منقطع الجبال
بحلوان إلى طرف القادسية المتصل بعذيب من أرض العرب. ومن تخوم الموصل
طولا إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة، فأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما
هي اسلامي مثل شط عثمان ابن أبي العاص وما والاها كانت سباخا ومواتا فأحياها
عثمان ابن أبي العاص.
أقول: والذي يظهر لي من الأخبار هو فتح مكة والعراق عنوة، وإن كان قد
من على أهل مكة كما تقدم في كلام الشيخ بأموالهم. وأما غير هذين الموضعين
المذكورين فهو محل الاشتباه، لعدم النص الوارد في شئ من ذلك. والاعتماد
في الأحكام الشرعية على مجرد كلام المؤرخين محل اشكال والله العالم.
* * *
المورد الثالث: قد عرفت فيما تقدم، أن موات الأرض المفتوحة
عنوة وقت الفتح إنما هو للإمام عليه السلام من جملة الأنفال. وإن كان ظاهر بعض العبارات
310

كون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين كافة من غير تقييد بالعامرة، إلا أن كلام
الأكثر قد اشتمل على التقييد بالعمرة، وهو الظاهر، نظرا إلى اطلاق الأخبار
الدالة على أن موات الأرض من جملة الأنفال، أعم من أن تكون الأرض من المفتوحة
عنوة أم لا.
ومن هنا ينقدح اشكال في هذا المقام، وذلك لأن ما يكون معمورا من
الأراضي لا يعلم أنه كان معمورا وقت الفتح حتى يجب العمل فيه بحكم المفتوحة
عنوة، من كونه للمسلمين وما يترتب على ذلك من أحكام الخراج. إذ يجوز أن يكون في ذلك الوقت مواتا، وإنما أحيى بعد ذلك، وقد عرفت: أن موات الأرض
لهم - عليهم السلام - وأنهم قد أحلوا شيعتهم بالتصرف فيها، فتكون للمحيين،
لا يتعلق بها خراج بالكلية.
وأما ما صار إليه بعض أصحابنا من الاستدلال على أن المعمور الآن كان
معمورا وقت الفتح بضرب الخراج الآن، ولو من الجائر وأخذه المقاسمة
من ارتفاعها، عملا بأن الأصل في تصرفات المسلمين الصحة. فإنه لا يخفى
ما فيه، فإن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات الواهية لا يخلو عن مجازفة
كما عرفت في غير مقام مما تقدم، لا سيما مع ما نشاهده الآن ونعلمه علما قطعيا لا
يختلجه الريب من تعدي الحكام وظلم الرعية، وأخذهم الزيادات على الحقوق
الموظفة عرفية كانت أو شرعية، فكيف يمكن الاستدلال بمجرد ضربهم الخراج
الآن على أرض معمورة أنها كانت كذلك أيام الفتح، نعم لو كان الإمام إمام عدل
لتم البحث.
وبالجملة فإن التمسك بأصالة العدم أقوى دليل في المقام حتى يقوم ما يوجب
الخروج عنه كما هو القاعدة بينهم في جملة الأحكام.
وأما التمسك هنا بأن الأصل في تصرفات المسلم الصحة فالظاهر ضعفه.
أما أولا فلما عرفت من معلومية الظلم والجور من هؤلاء الذين ادعى حمل
311

تصرفاتهم على الصحة، وعدم وقوفهم عند الحدود الشرعية والرسوم المحمدية.
وأما ثانيا، فلأن الظاهر أن المستند في هذا الأصل إنما هي الأخبار الدالة على
حسن الظن بالمؤمن (1) مثل خبر " إحمل أخاك المؤمن على سبعين محملا من الخير "
الحديث ونحوه، ومن الظاهر أنه لا سبيل إلى دخول هؤلاء الفجرة الفساق، الذين
قد اشتهروا بفسقهم وكفرهم على الاطلاق، بالخروج عن القول بإمامة إمام الآفاق
على أنا لا نسلم دخولهم في المسلمين إلا على سبيل التجوز بمنتحل الاسلام، كما
عليه الخوارج وأمثالهم في هذا المقام، وقد تقدم في كتاب الطهارة تفصيل هذا
الاجمال وتوضيحه بما لا يداخله النزاع ولا الجدال، وإلا فأنا لا نعرف لهذه الأصالة
معنى، إذا لم يرد بمضونها خبر على الخصوص، وإنما مستندها ما أشرنا إليه من النصوص،
والحال فيها ما عرفت من عدم دخول أولئك اللصوص.
وعلى هذا فيزول جملة الاشكال في هذا المقام، ويجب الحكم بتملك
كل من في يده شئ من تلك الأراضي، من غير أن يجب عليه دفع ما يدعونه من الخراج،
وأن ما يؤخذ منه الآن من الخراج ظلم وعدوان في أمثال هذه الأزمان وأما ما يتعلق
بإحياء الموات من الأحكام التي ذكرها الأصحاب - رضي الله عنهم - في المقام ووردت
بها الأخبار عنهم - عليهم السلام - فسيأتي انشاء الله تعالى في كتاب احياء الموات.
* * *
المورد الرابع: قد تقدم في عبارة المبسوط وجوب اخراج الخمس
من هذه الأراضي المفتوحة عنوة، كغيرها من الغنائم المنقولة. وبذلك صرح من تأخر
عنه من أصحابنا من غير خلاف يعرف، إلا أن المسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال،
وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في كتاب الخمس، فليرجع إليه من أحب الوقوف
عليه.

(1) ورد في الكافي ج 2 ص 362: " ضع أمر أخيك على أحسنه... " كتاب
الايمان والكفر. باب التهمة وسوء الظن.
312

المقام الثاني
في الأرض التي أسلم عليها أهلها طوعا
والظاهر: أنه لا خلاف بين الأصحاب في أن أرضهم لهم، يتصرفون فيها تصرف
الملاك في ملاكهم، إذا عمروها، وإنما عليهم فيها الزكاة خاصة.
إنما الخلاف فيما إذا تركوا عمارتها وبقيت خرابا فالمنقول عن الشيخ وأبي
الصلاح: أن الإمام عليه السلام يقبلها ممن يعمرها، ويعطي صاحبها طسقها ويعطي المتقبل
حصته، وما يبقى فهو لمصالح المسلمين، يجعل في بيت مالهم.
وقال ابن حمزة: إذا تركوا عمارتها صارت للمسلمين، وأمرها للإمام - عليه
السلام -.
وقال ابن البراج: وإذا تركوا عمارتها حتى صارت خرابا كانت حينئذ لجميع
المسلمين، يقبلها الإمام عليه السلام ممن يقوم بعمارتها بحسب ما يراه، من نصف أو ثلث
أو ربع.
وقال ابن إدريس: الأولى ترك ما قاله الشيخ، فإنه مخالف للأصول والأدلة
العقلية والسمعية، فإن ملك الانسان لا يجوز لأحد أخذه ولا التصرف فيه بغير إذنه
313

واختياره، فلا يرجع عن الأدلة بأخباره الآحاد.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك ما تقدم قريبا، من رواية صفوان
وأحمد بن محمد بن أبي نصر جميعا (1) وصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر (2)
الدالتين على أن ما لم يعمروه من تلك الأراضي يأخذه الإمام عليه السلام فيقبله ممن يعمره،
ويكون للمسلمين.
وهما ظاهرتا الدلالة في قول ابن البراج وابن حمزة.
وما ذكره الشيخ من أنه يعطي صاحبها طسقها، لا اشعار فيهما به، فضلا عن
الدلالة عليه.
وقال في المختلف - بعد نقل ما قدمناه من الأقوال -: والأقرب ما اختاره الشيخ.
لنا: أنه أنفع للمسلمين وأعود عليهم، وكان سائغا، فأي عقل يمنع من الانتفاع
بأرض يترك أهلها عمارتها، وايصال أربابها حق الأرض، مع أن الروايات متظافرة
بذلك. ثم ذكر رواية صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر وصحيحة أحمد بن محمد
ابن أبي نصر.
ثم إنه احتج لابن حمزة وابن البراج، بما رواه معاوية بن وهب في الصحيح
قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أيما رجل أتى خربة فاستخرجها، وكرى أنهارها
وعمرها، فإن عليه فيها الصدقة، وإن كانت أرض لرجل قبله فغاب عنها وتركها
فأخر بها ثم جاء بعد يطلبها، فإن الأرض لله ولمن عمرها (3) ثم أجاب عن الرواية

(1) الوسائل ج 11 ص 120 حديث: 1 باب: 72
(2) الوسائل ج 11 ص 120 حديث: 2 باب: 72
(3) الكافي ج 5 ص 279 حديث: 2 والرواية كانت ملحونة في المتن جدا، كما في
غالب ما ينقله المؤلف - رحمه الله - فصححناها على نسخ المصادر الصحيحة.
م. ه‍. معرفة
314

بالحمل على أرض الخراج.
أقول: لا يخفى ما في كلامه - رحمه الله - في هذا المقام.
أما أولا، فلأن ما ذكره من التعليل العقلي عليه عليل لا يبرد الغليل ولا يهدي إلى
سبيل. فإن كلام ابن إدريس - هنا لولا الروايتين المذكورتين - قوي متين، إذ لا ريب
في قبح التصرف في ملك الغير بغير رضاه، كما دلت عليه الآية والرواية (1) وهذا
هو الذي أشار إليه ابن إدريس بالدليل العقلي هنا.
وأما ترتب الانتفاع للمسلمين فلا يصح لأن يكون وجها في حل التصرف بغير
رضا صاحبها، وإلا لجاز غصب أموال الناس وصرفها في مصالح المسلمين، وهذا
لا يقول به أحد.
وبالجملة فإنه مع قطع النظر عن الخبرين المذكورين، فقول ابن إدريس
جيد متين.
وأما ثانيا، فلأن الخبرين - كما عرفت - إنما يدلان على قول ابن حمزه وابن
البراج، لا على قول الشيخ كما زعمه.
وأما ثالثا، فلأن ما أورده من صحيحة معاوية بن وهب، (2) لا دلالة لها على
القول المذكور بوجه، كما لا يخفى.
والظاهر من صدر الخبر المذكور إنما هو: الحمل على أرض الأنفال، وهي
الأرض الخربة من أي صنف كانت من أصناف الأراضي، فإن المحيي لها أحق

(1) والآية هي: قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجاره
عن تراض منكم " سورة النساء: 29
والرواية هي: قوله عليه السلام -: " لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه ". راجع:
الوسائل ج 3 ص 424 حديث: 4090
(2) قد تكرر من المصنف قوله: " معاوية بن عمار " هنا وفيما سبق، ولكنا صححناه بما
في المتن في كلا الموضعين، وفق نسخة المصدر الصحيحة.
315

بالتصرف فيها.
وأما قوله " وإن كانت أرضا لرجل قبله " فيحتمل حمله على الأرض الخراجية،
بعد زوال آثار تصرف المالك الأول، فإنها كما تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني،
تخرج عن ملك الأول، لزوال آثار ملكه، وتعود إلى أصلها، من كونها للمسلمين
قاطبة.
وعلى ما قدمناه يجوز التصرف فيها لمن سبق إليها.
ويحتمل الحمل - أيضا - على أرض الأنفال التي أحلوا - عليهم السلام -
للشيعة التصرف فيها زمان الغيبة، فإنه بعد زوال آثار تصرف المالك الأول ترجع
إلى حالها الأصلي، وهو ملك الإمام عليه السلام.
ونحوها في ذلك ما تقدم في صحيحة أبي خالد الكابلي، من قوله عليه السلام " فإن
تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها فهو أحق بها من الذي
تركها " الحديث (1) ونحوهما صحيحة عمر بن يزيد (2).
وظاهر هذه الأخبار: انقطاع حق الأول منها، وأنها تكون ملكا صرفا للمحيي
الثاني، وهو أحد القولين في المسألة.
وقيل بالعدم، ويدل عليه صحيحة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها
ماذا عليه؟ قال: عليه الصدقة. قلت: فإن كان يعرف صاحبها. قال: فليؤد إليه
حقه (3).
والأقرب عندي في الجمع بين هذه الرواية وبين الروايات المتقدمة، هو حمل
الروايات المتقدمة على ما إذا ملكها الأول بالاحياء، فإنه يزول ملكه بعد زوال آثاره،

(1) الكافي ج 5 ص 279 حديث: 5.
(2) الوسائل ج 6 ص 382 حديث: 12
(3) الوسائل ج 17 ص 329 حديث: 3
316

وترجع إلى حالها الأول، كما تقدم. وتحمل هذه الرواية على ما إذا ملكها الأول
بغير الاحياء، من شراء أو إرث ونحوهما، فإنه لا يزول ملكه عنها، وإن صارت
خربة.
والقائلون بالقول الثاني من القولين المذكورين اختلفوا، فبعض قال بأنه لا يجوز
احياؤها ولا التصرف فيها مطلقا، إلا بإذن الأول. وذهب جماعة إلى جواز احيائها
وكون الثاني أحق بها، لكن لا يملكها بذلك، بل عليه أن يؤدي طسقها إلى الأول
أو وراثه. ولم يفرقوا في ذلك بين ما يدخل في ملكه بالاحياء أو غيره من الأسباب الموجبة
للملك، إذا صار مواتا. ونقل عن الدروس: أنه ذهب إلى وجوب استيذان المحيي
من المالك الأول، فإن امتنع فالحاكم. فإن تعذر الأمران جاز الاحياء، وعلى المحيي
طسقها للمالك.
وضعف هذه الأقوال ظاهر، بضعف القول الذي تفرعت عليه لدلالة الأخبار
التي قدمناها على خلافه، وصحيحة سليمان بن خالد التي هي مستند هذا القول،
لا صراحة فيها على ما ادعوه، لامكان حملها على ما قدمناه، وبه تجتمع مع الأخبار
الآخر، والله العالم بحقايق أحكامه.
* * *
317

المقام الثالث
في أرض الصلح
وهي التي صولح أهلها على أن تكون الأرض لهم، وأنهم يقرون على دينهم،
ولكن عليهم الجزية، أما على رؤسهم أو على أرضهم، حسب ما يراه الإمام - عليه
السلام -.
وجعلها على الأرض، بأن يصالحهم على ثلث الحاصل أو ربعه أو نصفه مثلا،
وهذه الأرض ملك لهم يتصرفون فيها بما شاؤوا من بيع وغيره، وعليهم الجزية المقررة.
ويملكها المسلم بوجه مملك كالبيع ونحوه، ولا ينتقل ما على الأرض
لو كانت الجزية عليها إلى المسلم. لأن المسلم لا جزية عليه، بل ترجع إلى البايع
الذمي.
ولو أسلم صاحب الأرض سقطت الجزية عنه، لما عرفت من أن المسلم لا جزية عليه،
وكانت أرضه له لا يتعلق بها جزية، كما في سائر المسلمين.
ولو وقع الصلح بأن تكون الأرض للمسلمين خاصة ويكون للكفار السكنى
خاصة، كان حكم هذه الأرض حكم المفتوحة عنوة، معمورها - حال الفتح -
318

للمسلمين ومواتها عليه السلام حسبما تقدم الكلام فيه مفصلا.
ومما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه الأرض: ما رواه في الكافي والفقيه
عن زرارة في الصحيح، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما حد الجزية على أهل الكتاب؟
وهل عليهم في ذلك شئ موظف، لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال: ذلك إلى الإمام عليه السلام يأخذ من كل انسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يطيق. إنما هم قوم فدوا أنفسهم
من أن يستعبدوا أو يقتلوا، فالجزية تأخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم به حتى
يسلموا، فإن الله عز وجل قال: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " وكيف
يكون صاغرا ولا يكترث بما يؤخذ منه حتى يجد ذلا (1) لما أخذ منه فيألم لذلك
فيسلم.
قال: وقال محمد بن مسلم: قلت للصادق عليه السلام أرأيت ما يأخذ هؤلاء
من الخمس من أرض الجزية، ويأخذون من الدهاقين جزية رؤوسهم أما عليهم في ذلك
شئ موظف؟ فقال: كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، وليس للإمام أكثر
من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم، وليس على أموالهم شئ وإن
شاء فعلى أموالهم. وليس على رؤسهم شئ فقلت: فهذا الخمس؟ فقال: إنما
هذا شئ كان صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).
وما رواه في الفقيه عن مصعب بن يزيد الأنصاري قال استعملني أمير المؤمنين
عليه السلام على أربعة رساتيق المداين: البهقياذات، ونهر سير، ونهر جوير، ونهر الملك،
وأمرني أن أضع على كل جريب زرع غليظ درهما ونصفا. وعلى كل جريب
زرع وسط درهما، وعلى كل جريب زرع رقيق ثلثي درهم. وعلى كل جريب
كرم عشرة دراهم. وعلى كل جريب نخل عشرة دراهم. وعلى كل جريب البساتين،

(1) في نسخة الوسائل ج 11 ص 113 حديث 1 من باب 68 " حتى لا يجد ذلا ". ولكن نسخة
الكافي موافقة للمتن.
(2) الوسائل ج 11 ص 114، حديث: 2.
319

التي تجمع النخل والشجر، عشرة دراهم. وأمرني بأن ألقى كل نخل شاذ عن
القرى، لمارة الطريق وأبناء السبيل، ولا آخذ منه شيئا. وأمرني أن أضع على
الدهاقين الذين يركبون البرازين ويتختمون بالذهب، على كل رجل منهم ثمانية
وأربعين درهما، وعلى أوساطهم والتجار منهم، على كل رجل أربعة وعشرين درهما،
وعلى سفلتهم وفقرائهم، على كل انسان منهم اثني عشر درهما، على كل انسان منهم.
قال فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة (1).
أقول: " نهر سبر " ضبطه ابن إدريس بالباء الموحدة والسين المهملة وحمل
هذا الخبر في التهذيب على ما رآه أمير المؤمنين عليه السلام مصلحة في ذلك الوقت بحسب
حالهم، فلا ينافي عدم التوظيف في الجزية.
وما رواه في التهذيب عن أبي بصير وإسحاق بن عمار جميعا، عن أبي عبد الله
- عليه السلام - قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطى أناسا من أهل نجران الذمة على سبعين
بردا (2).
وما رواه في الكافي عن حريز عن محمد بن مسلم، قال: سألته عن
أهل الذمة ماذا عليهم مما يحقنون به دمائهم وأموالهم؟ قال: الخراج. فإن أخذ من
رؤسهم الجزية فلا سبيل على أراضيهم، وإن أخذ من أراضيهم فلا سبيل على رؤوسهم. (3)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة من هذا القبيل.
* * *

(1) الوسائل ج 11 ص 115 حديث: 5
(2) التهذيب ج 6 ص 172 حديث: 12 / 334
(3) الوسائل ج 11 ص 115 حديث: 3
320

المقام الرابع
في أرض الأنفال
وقد تقدم الكلام فيها في كتاب الخمس، ونقل جملة من أخبارها، إلا أن من
جملة أخبارها، مما لم يتقدم ذكره: ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة، قال: سألته
عن الأنفال، فقال: كل أرض خربة أو شئ كان للملوك فهو خالص للإمام ليس للناس
فيه سهم. قال ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (1).
أقول: ظاهر هذا الخبر: أن البحرين مما أسلمت للمسلمين طوعا من غير قتال،
وأنها من الأنفال حينئذ، وبذلك صرح في الروضة في كتاب الخمس، إلا أنه في كتاب
احياء الموات، عدها مع المدينة المشرفة وأطراف اليمن فيما أسلم عليه أهله طوعا،
وحكم بأن أرضها لهم (2) لذلك. ولا يخفى ما فيه من المناقضة لكلامه في كتاب.
الخمس.

(1) الوسائل ج 6 ص 367 حديث: 8 والتهذيب ج 4 ص 133 حديث: 7 / 373
(2) أي ملكا لأصحاب الأراضي الذين أسلموا طوعا.
321

المسألة السابعة
في أحكام اليتامى وأموالهم
وتحقيق الكلام في هذا المقام يقع في مناهج أربعة:
(الأول): في ولي اليتيم.
المفهوم من كلام الأصحاب: أن الولاية على الصغير للأب ثم الجد له
وإن علا على الترتيب، الأقرب فالأقرب للميت، فإن عدم الجميع فالوصي من جهة
الأب، ثم الوصي من جهة الجد على الترتيب المتقدم، ثم مع عدم جميع هؤلاء فالحاكم
الشرعي.
وممن صرح بذلك شيخنا في المسالك، حيث قال - بعد نقل قول المصنف
" ولو مات انسان ولا وصي له كان للحاكم النظر في تركته " - ما صورته: الأمور المفتقرة
في الولاية، إما أن تكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا، فإن كان الأول فالولاية
فيهم لأبيه ثم جده ثم لمن يليه من الأجداد، على ترتيب الولاية، للأقرب منهم إلى
الميت فالأقرب، فإن عدم الجميع فوصي الأب ثم وصي الجد وهكذا، فإن عدم
الجميع فالحاكم. والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي ثم الحاكم... إلى آخر
كلامه رحمه الله.
322

ونقل في الدروس عن ابن الجنيد: أن للأم الرشيدة الولاية بعد الأب، ثم رده
بأنه شاذ.
أقول: وكان الواجب أن يعد في ذلك، الولاية بعد الحاكم لعدول المؤمنين،
كما صرح به جملة من الأصحاب (1) من أنه مع تعذر الحاكم فلعدول المؤمنين، تولي
بعض الحسبيات، المنوطة بنظر الحاكم الشرعي.
وعليه تدل الأخبار المذكورة أيضا:
ومنها: ما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن
بزيع، قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص، فرفع أمره إلى قاضي الكوفة،
فصير عبد الحميد القيم بماله،، وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري، فباع
عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قبله في بيعهن، إذ لم يكن الميت صير إليه
وصيته، وكان قيامه بهذا بأمر القاضي، لأنهن فروج. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر
عليه السلام فقلت: يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص إلى أحد، ويخلف جواري، فيقيم
القاضي منا رجلا لبيعهن، أو قال يقوم بذلك رجل منا، فيضعف قبله لأنهن فروج،
فما ترى في ذلك القيم؟ قال: فقال: إذا كان القيم به مثلك أو مثل عبد الحميد فلا
بأس (2).
وروى في الكافي والفقيه في الصحيح من الثاني، عن ابن رئاب، قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن رجل بيني وبينه قرابة، مات وترك أولادا صغارا، وترك
مماليك غلمانا وجواري، ولم يوص. فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية، يتخذها

(1) المشهور بين الأصحاب: أنه مع تعذر الحاكم، أو وجوده ولكن في غير البلد مع
حصول المشقة الشديدة في الرجوع إليه، فإن يجوز لعدول المؤمنين تولي بعض الحسبيات
ونقل عن ابن إدريس المنع، وهو محجوب بالأخبار التي ذكرناها في الأصل.
منه قدس سره
(2) الوسائل ج 12 ص 270 حديث: 2
323

أم ولد، وما ترى في بيعهم؟ فقال: إذا كان لهم ولي يقوم بأمرهم، باع عليهم ونظر
لهم كان مأجورا فيهم، قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتخذها أم ولد؟
قال لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم، فليس لهم أن يرجعوا
عما صنع القيم لهم الناظر فيما يصلحهم (1).
أقول: وهذا الخبر وإن كان مجملا، إلا أن الظاهر منه بعد التأمل: أن المراد
بالولي فيه إنما هو أحد عدول المؤمنين، لأن انتفاء الوصي ظاهر من الخبر، وانتفاء
الحاكم الشرعي الذي هو أحد الأولياء أيضا ظاهر، إذ ليس في وقته - عليه السلام -
حاكم شرعي - أصالة - سواه. واحتمال الجد بعيد من سياق الخبر. وبالجملة فإن
الحكم المذكور مما لا ريب فيه.
ثم إن الأصحاب - بناء على ما قدمنا نقله عنهم، من أن الولاية على الصغار
مخصوصة بالأب والجد له وإن علا، دون غيرهما من الوصي والحاكم - فرعوا
على ذلك ما لو أوصت الأم لطفلها بمال، أو أحد أقاربه، وعين عليه وصيا ليصرفه في
مصالح الطفل، فإن للأب أو الجد انتزاعه من ذلك الوصي، لثبوت ولايتهما عليه شرعا،
فلا تنفذ وصية الموصي بالولاية لغيرهما.
قال في الدروس: ولا ولاية للأم على الأطفال. فلو نصبت عليهم وليا لغي.
ولو أوصت لهم بمال ونصبت عليه قيما لهم صح في المال خاصة. ثم نقل قول ابن
الجنيد الذي قدمنا نقله عنه.
وبنحو ذلك صرح في المسالك، فقال - أيضا في شرح قول المصنف " لو أوصى
بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب لم يصح، وكانت الولاية إلى جد اليتيم -
ما صورته: قد عرفت من المسألة السابقة أن الولاية للجد وإن علا على الولد مقدمة
على ولاية وصي الأب، فإذا نصب الأب وصيا علي ولده المولى عليه مع وجود جده للأب
لم يصح، لأن ولاية الجد ثابتة له بأصل الشرع، فليس للأب نقلها عنه، ولا اثبات

(1) الوسائل ج 13 ص 474 حديث: 1
324

شريك معه.. إلى آخر كلامه رحمه الله.
والظاهر: أن الحكم المذكور مما لا خلاف فيه إلا ما تقدم نقله عن ابن الجنيد،
وضعف أقواله غالبا معلوم من قواعده.
* * *
(المنهج الثاني): في الاتجار بمال الصغير والعمل به.
ولا تخلو الحال في ذلك، إما بأن يكون الاتجار لليتيم من الولي، أو الاتجار
للولي نفسه بمال اليتيم، أو يكون المتصرف غير ولي شرعي.
قال في النهاية: ومتى اتجر الانسان بمال اليتيم، نظرا لهم وشفقة عليهم، فربح
كان الربح لهم، وإن خسر كان عليهم، ويستحب له أن يخرج من جملته الزكاة.
ومتى اتجر به لنفسه، وكان متمكنا في الحال من ضمان ذلك المال وغرامته، إن حدث
به حادث، جاز ذلك وكان المال قرضا عليه، فإن ربح كان له، وإن خسر كان عليه،
وتلزمه في حصته الزكاة، كما يلزمه لو كان المال له، ندبا واستحبابا. ومتى اتجر
لنفسه بما لهم وليس بمتمكن في الحال من مثله وضمانه، كان ضامنا للمال. فإن ربح
كان للأيتام، وإن خسر كان عليه دونهم. انتهى.
وقال ابن إدريس: ومتى اتجر الانسان المتوالي لمال اليتيم، نظرا لهم وشفقة
لهم فربح كان الربح لهم، وإن خسر كان عليهم. وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته:
ويستحب أن يخرج من جملته الزكاة. والذي يقوى عندي: أنه لا يخرج ذلك، لأنه
لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة مقطوع بها، ولا اجماع. ولأنه لا يجوز التصرف إلا فيما
فيه مصلحة لهم، وهذا لا مصلحة لهم فيه، من دفع عقاب ولا تحصيل ثواب، لأن
الأيتام لا يستحقون ثوابا ولا عقابا، لكونهم غير مخاطبين بالشرعيات. وقال شيخنا
أبو جعفر في نهايته: ومتى اتجر به لنفسه -، ثم نقل العبارة كما قدمناها - ثم قال: قال
ابن إدريس: هذا غير واضح ولا مستقيم، ولا يجوز له أن يستقرض منه شيئا
من ذلك سواء كان متمكنا في الحال من ضمانه وغرامته أو لم يكن، لأنه أمين
325

والأمين لا يجوز له أن يتصرف لنفسه في أمانته بغير خلاف منا - معشر الإمامية -
ولا يجوز له أن يتجر فيه لنفسه على حال من الأحوال، وإنما أورده شيخنا ايرادا لا اعتقادا،
من جهة أخبار الآحاد، كما ورد أمثاله في هذا الكتاب، وهو غير عامل عليه. قال في
الكتاب المشار إليه: ومتى اتجر لنفسه بمالهم - إلى آخر ما قدمناه -: ثم قال: وقد
قلنا: إنه لا يجوز له أن يتجر لنفسه في ذلك المال بحال من الأحوال. انتهى ما ذكره
ابن إدريس ملخصا...
أقول: أما اتجار الولي لليتيم نظرا له وشفقة عليه، فالظاهر: أنه لا خلاف
في كون الحكم فيه ما ذكره الشيخ، من أن الربح لليتيم والنقصان له، إلا أن الأخبار
في هذه الصورة لا تخلو من تدافع، وكذا بقية الأخبار في المسألة لا تخلو من الاشكال
كما سيظهر لك انشاء الله تعالى.
وأما لو اقترضه الولي مع كونه مليا، فإنه يكون الربح له وهو ضامن
لمال اليتيم.
ومنع ابن إدريس هنا من اقتراض الولي، مردود بالأخبار الآتية في المقام
انشاء الله تعالى. وكذا منعه من الزكاة في الصورة الأولى، مردود بالأخبار، كما
تقدم تحقيقه في كتاب الزكاة.
وأما لو كان التصرف مع عدم استكمال الشرطين المتقدمين، فظاهر الأخبار
وكلام جملة من الأصحاب: أن الربح في هذه الصورة لليتيم وهو على اطلاقه لا
يخلو من اشكال، كما سيأتي بيانه انشاء الله تعالى في المقام.
* * *
والواجب أولا: نقل ما وصل إلينا من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة، ثم
بيان ما هو المستفاد منها بتوفيق الله سبحانه.
فمنها - مما تدل على جواز الاقتراض من مال اليتيم، ردا على ابن إدريس:
- ما رواه في الكافي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل ولي مال
326

يتيم، أيستقرض منه؟ قال: إن علي بن الحسين عليه السلام كان يستقرض من مال أيتام
كانوا في حجره (1) ورواه الصدوق في الصحيح أيضا عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام مثله وزاد: " فلا بأس بذلك " (2).
وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل
يكون في يده مال لأيتام فيحتاج إليه، فيمد يده فيأخذه، وهو ينوي أن يرده إليهم،
فقال: لا، ولكن ينبغي له أن لا يأكل إلا بقصد ولا يسرف. فإن كان من نيته: أن
لا يرد عليهم فهو بالمنزل الذي قال الله عز وجل: إن الذين يأكلون أموال اليتامى
ظلما (3).
وروى العياشي في تفسيره مثله، وزاد: قال: قلت له: كم أدنى ما يكون من
مال اليتيم إذا هو أكله، وهو لا ينوي رده، حتى يكون يأكل في بطنه نارا؟ قال:
قليله وكثيره واحد، إذا كان من نفسه ونيته أن لا يرده إليهم (4).

(1) الوسائل ج 12 ص 192 حديث: 1 أقول: ومما يؤيد هذا الخبر: ما رواه ابن
إدريس، في مستطرفات السرائر، نقلا عن كتاب جامع البزنطي، قال: سألته عن رجل كانت
عنده وديعة لرجل، فاحتاج إليه، هل يصلح له أن يأخذ منها - وهو مجمع على أن يردها -
بغير إذن صاحبها؟ قال: إن كان عنده وفاء فلا بأس بأن يأخذ ويرده (الوسائل ج 13 ص 233
حديث: 2) وابن إدريس بعد أن أورد هذا الخبر رده، وقال: لا يلتف إليه. قال:
لأن الاجماع منعقد على تحريم التصرف في الوديعة بغير إذن ملاكها، فلا يرجع
عما يقتضيه العلم إلى ما يقتضيه الظن. وبعد هذا فأخبار الآحاد لا يجوز العمل بها
على كل حال في الشرعيات، على ما بيناه. انتهى. وهو جيد على أصله غير الأصيل.
منه قدس سره.
(2) هذه الزيادة موجودة في رواية الكافي أيضا ج 5 ص 131 حديث: 5
(3) الوسائل ج 12 ص 192 حديث: 2
(4) تفسير العياش ج 1 ص 224 حديث: 42
327

* * *
ومنها - مما يتعلق بأصل المسألة -: ما رواه الكافي والتهذيب عن أسباط
ابن سالم، قال: قلت للصادق عليه السلام: كان أخ هلك، وأوصى إلى أخ أكبر مني،
وأدخلني معه في الوصية وترك ابنا له صغيرا، وله مال، أفيضرب به أخي، فما
كان من فضل سلمه إلى اليتيم، وضمن له ماله؟ فقال: إن كان لأخيك مال يحيط
بمال اليتيم إن تلف فلا بأس به، وإن لم يكن له مالا فلا يعرض لمال اليتيم (1).
وما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام
في مال اليتيم، قال: العامل به ضامن، ولليتيم الربح، إذا لم يكن للعامل به مال.
وقال: إن عطب أداه (2).
وعن ربعي في الصحيح عن الصادق عليه السلام قال: في رجل عنده مال اليتيم
فقال: إن كان محتاجا وليس له مال، فلا يمس ماله. وإن هو اتجر به فالربح
لليتيم، وهو ضامن (3).
وعن أسباط بن سالم، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام فقلت: أخي أمرني أن
أسألك عن مال يتيم في حجره يتجر به فقال: إن كان لأخيك ما يحيط بمال اليتيم
إن تلف أو أصابه شئ غرمه، وإلا فلا يتعرض لمال اليتيم (4).
وما رواه في التهذيب، قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون في يده
مال لأخ له يتيم وهو وصيه، أيصلح له أن يعمل به؟ قال نعم، كما يعمل بمال غيره
والربح بينهما. قال: قلت: فهل عليه ضمان؟ قال: لا، إذا كان ناظر له (5).

(1) الوسائل ج 12 ص 190 حديث: 1 باب: 75 من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل ج 12 ص 191 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 191 حديث: 3
(4) الوسائل ج 12 ص 191 حديث: 4
(5) الوسائل ج 6 ص 58 حديث: 6 ر 11595
328

وعن منصور الصيقل، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ما اليتيم يعمل به،
قال: فقال: إذا كان عندك مال وضمنته، فلك الربح وأنت ضامن للمال، وإن كان
لا مال لك وعملت به فالربح للغلام، وأنت ضامن للمال (1).
وما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: مال اليتيم، إن عمل به من وضع على يديه ضمنه، ولليتيم ربحه، قالا: فقلنا
له: قوله " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف "؟ قال: إنما ذلك إذا حبس نفسه
عليهم في أموالهم، فلم يتخذ لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم (2).
وما رواه في الكافي عن سعيد السمان، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
ليس في مال اليتيم زكاة إلا أن يتجر به فإن اتجر به فالربح لليتيم، وإن وضع فعلى
الذي يتجر به (3).
وما رواه في الفقيه عن زرارة وبكير، في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال:
ليس في الجوهر وأشباهه زكاة وإن كثر، وليس في نقر الفضة زكاة، ولا على مال
اليتيم زكاة، إلا أن يتجر به، فإن اتجر به ففيه الزكاة، والربح لليتيم وعلى التاجر
ضمان المال (4).
وما رواه في التهذيب عن بكر بن حبيب، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل
دفع إليه مال يتيم مضاربة، فقال: إن كان ربح فلليتيم، وإن كان وضيعة فالذي أعطى

(1) الوسائل ج 6 ص 58 حديث: 7
(2) تفسير العياش ج 1 ص 244 حديث: 43 والمصنف نقل الحديث عن الوسائل
ملحونا فأصلحناه على نسخة التفسير.
(3) الوسائل ج 6 ص 57 حديث: 2. قوله: " وإن وضع " أي خسر المال.
(4) من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 9 حديث: 2
329

ضامن (1).
وفي الفقه الرضوي: وروى أن من اتجر بمال اليتيم فربح كان لليتيم، و
الخسران على التاجر، ومن حول مال اليتيم أو اقترض شيئا منه كان ضامنا لجميعه،
وكان عليه زكاته دون اليتيم - إلى أن قال - وروي أن لرئيس القبيلة وهو فقيهها و
عالمها: أن يتصرف لليتيم في ماله بما يراه حظا وصلاحا، وليس عليه خسران، و
لا له ربح، والربح والخسران لليتيم وعليه انتهى.
هذا ما حضرني من الأخبار في هذا المقام، والذي يدل منها على ما قدمنا نقله
عن الشيخ ومن تبعه، من أنه متى اتجر الولي لليتيم نظرا له، فإن الربح لليتيم والنقيصة
عليه: رواية أبي الربيع المذكورة (2) ورواية الفقه الرضوي.
إلا أن ظاهر رواية أسباط بن سالم الأولى (3) المنافاة لذلك. حيث إن ظاهرها:
أن المتجر ولي اليتيم، مع أنه شرط عليه السلام في صحة تصرفه وتجارته لليتيم " الملاء "
المؤذن ذلك بضمانه النقصان.
ويؤيد الخبر الأول ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب على الحكم المذكور، فإني
لم أقف على مخالف فيه، وحينئذ فلا بد من ارتكاب التأويل في الخبر الثاني، وإن
بعد، بحمله على ما إذا لم يكن وليا للطفل، وإن كان وصيا علي ما عداه من الأموال
والتصرفات.
والذي يدل على ما ذكره الأصحاب من أنه متى كان وليا مليا فإنه يجوز له
الاقتراض من مال الطفل، والاتجار لنفسه، وأن الربح له والنقيصة عليه، فأما على

(1) الوسائل ج 13 ص 189 - 190 حديث 1 باب: 10
(2) وهي التي رواها المنصف عن التهذيب من غير أن يذكر الراوي عن الإمام - عليه السلام -
قال: سئل أبو عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يكون في يده... الوسائل ج 6 ص 58 حديث: 6
(3) تقدمت في ص 328 عن الوسائل ج 12 ص 190 حديث: 1 باب: 75
330

الاقتراض فما تقدم من صحيحة منصور بن حازم (1). وأما على باقي الأحكام
فرواية منصور الصيقل (2) حيث صرحت بأنه إذا كان عنده مال وضمنه فله الربح.
وهي وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى كونه وليا، إلا أنه يجب حملها على ذلك، لما سيأتي
بيانه انشاء الله تعالى، من أنه متى لم يكن وليا، فإنه غاصب وتصرفه باطل، فلا يكون
مستحقا للربح.
ويدل ذلك أيضا مفهوم صحيحة ربعي (3) ورواية أسباط بن سالم الثانية (4).
وهما أيضا، وإن كانتا مطلقتين بالنسبة إلى كونه وليا، إلا أنه يجب حملهما على
ذلك لما ذكرناه.
ويعضده: أنه هو الأغلب، إذ لا خلاف بين الأصحاب في تحريم التصرف في
مال اليتيم إلا بالشرطين المتقدمتين.
نعم استثنى جملة من المتأخرين الأب والجد من شرط الملاءة، فجوزوا لهما
التصرف وإن كانا غير مليين. واستشكله في المسالك والظاهر: أن ما ذكره الأصحاب
أقرب، لا سيما مع الضمان كما هو المفروض، لما تقدم في المسألة الرابعة، من الأخبار
الكثيرة الدالة على حل مال الولد للوالد. وبالجملة، فالظاهر: أن الحكم في هاتين
الصورتين مما لا اشكال فيه.
والذي يدل على ما ذكروه من أنه اتجر في مال اليتيم بدون الشرطين
المتقدمتين، فإن الربح لليتيم، والمتصرف ضامن، فأما بالنسبة إلى الضمان، فلأن
تصرفه غير شرعي، وهو يوجب الضمان البتة.
وأما بالنسبة إلى كون الربح لليتيم، فأكثر الأخبار المتقدمة، مثل صحيحة

(1) تقدمت في ص 326 عن الوسائل ج 12 ص 192 حديث: 1
(2) تقدمت في ص 329 عن الوسائل ج 6 ص 58 حديث: 7
(3) تقدم في ص 328 عن الوسائل ج 12 ص 191 حديث: 3
(4) تقدمت في ص 328 عن الوسائل ج 12 ص 191 حديث: 4
331

محمد بن مسلم (1) وصحيحة ربعي (2) وعجز رواية منصور الصيقل (3) ونحوها غيرها
مما ذكر أيضا، وقد اشترك الجميع في الدلالة على أنه متى لم يكن له مال واتجر به،
فإنه ضامن، والربح لليتيم، كما ذكرناه، أعم من أن يكون وليا أو غير ولي، اتجر
للطفل أو لنفسه، وقع الشراء بعين المال أو في الذمة.
إلا أن في هذا المقام اشكالا، قد نبه عليه جملة من علمائنا الأعلام.
منهم: صاحب المدارك، قال - عليه الرحمة - في كتاب الزكاة: أما أن ربح
المال يكون لليتيم، فلأن الشراء وقع بعين ماله كما هو المفروض، فيملك المبيع
ويتبعه الربح، لكن يجب تقييده بما إذا كان المشتري وليا أو أجازه الولي، وكان
للطفل غبطة في ذلك، وإلا وقع الشراء باطلا، بل لا يبعد توقف الشراء على الإجازة
في صورة شراء الولي أيضا، لأن الشراء لم يقع بقصد الطفل ابتداء، فإنما أوقعه
المتصرف لنفسه، فلا ينصرف إلى الطفل بدون الإجازة، ومع ذلك كله فيمكن المناقشة
في صحة مثل هذا العقد، وإن قلنا بصحة الفضولي مع الإجازة ابتداء، لأنه لم يقع
للطفل ابتداء من غير من إليه النظر في ماله، وإنما أوقعه المتصرف في مال الطفل لنفسه
على وجه منهي عنه. انتهى.
وحاصله: أن ما ذكرناه من مقتضى اطلاق الأخبار المذكورة، مناف لجملة
من القواعد المقررة بين كافة الأصحاب:
منها: أنه لو لم يكن وليا واتجر بعين مال الطفل لنفسه، فالطاهر أنها تجارة
باطلة، أو موقوفة على الإجارة من الولي أو الطفل بعد بلوغه، إن قلنا بصحة عقد
الفضولي، وعلى تقدير البطلان أو عدم الإجازة فلا ربح لأحد، بل يجب رد ما أخذ
على صاحبه ورد مال اليتيم إلى محله مع أن ظاهر الأخبار المتقدمة: صحة البيع،

(1) تقدمت في ص 328 عن الوسائل ج 12 ص 191 حديث: 2
(2) تقدمت في ص 328 عن الوسائل ج 12 ص 191 حديث: 3
(3) تقدمت في ص 329 عن الوسائل ج 6 ص 58 حديث: 7
332

وأن الربح لليتيم.
ومنها: أنه لو اتجر في الذمة لنفسه، فإن مقتضى القواعد صحة البيع والشراء، وكون
الربح له، وإن كان تصرفه في مال اليتيم بدفعه عما في الذمة، فلا تبرأ ذمته عما عليه
من الثمن، بل يجب دفع الثمن من غيره، ورد مال اليتيم إلى محله. مع أن مقتضى
اطلاق الأخبار المذكورة: صحة العقد، وكون الربح لليتيم أيضا.
ومنها: أنه لو لم يكن وليا " واتجر للطفل، فإن الظاهر: أن هذه الصورة كالأولى،
في الوقوف على الإجازة أو البطلان، بناء على القول بصحة عقد الفضولي. مع أن
ظاهر اطلاق النصوص المذكورة: الصحة، وأن الربح لليتيم.
ومن هنا يظهر وجه الاشكال في العمل بظاهر الأخبار المذكورة، إلا أن
الأظهر العمل بما دلت عليها، لتكاثرها وتعددها، مع ظهورها في ذلك، وعدم
إمكان تقييدها بما تقتضيه القواعد المشار إليها، كما سمعتها من كلام صاحب
المدارك.
فاللازم حينئذ إما طرحها. وفيه من الشناعة ما لا يخفى وإما العمل بها،
ويكون هذا الحكم مستثنى من تلك القواعد المذكورة.
ويشير إلى ما ذكرناه: ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب على الحكم المذكور.
من أنه متى وقع الاتجار في مال الطفل بدون الشرطين المتقدمين فإن الربح
لليتيم، والعامل ضامن من غير تفصيل وتقييد، حسبما دل عليه اطلاق الأخبار
المذكورة.
وهذه المناقشة حصلت من متأخري المتأخرين، كالسيد في المدارك، و
قبله المحقق الأردبيلي، ومن تأخر عنهما.
وبالجملة فالمسألة لذلك محل اشكال، وإن كان العمل باطلاق الأخبار
المذكورة، وفاقا لظاهر الأصحاب، لا يخلو من قوة، والله أعلم.
* * *
333

(المنهج الثالث): فيما يحل لقيم مال اليتيم.
وقد اختلف الأصحاب - رضوان الله عليهم - في ذلك على أقوال:
(أحدها): أجرة مثل عمله. وبه صرح في الشرايع، وعلله في المسالك،
قال: لأنها عوض عمله، وعمله محترم فلا يضيع عليه، وحفظه بأجرة مثله
وقال في مجمع البيان: والظاهر من روايات أصحابنا: أن له أجرة المثل،
سواء كان قدر كفايته أو لم يكن.
أقول: وفي ظهوره من الروايات كما ادعاه نظر، كما سيظهر.
(وثانيها): أن يأخذ قدر كفايته لقوله عز وجل: " ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف " (1) والمعروف: ما لا إسراف فيه ولا تقتير.
ونقل في المجمع هذا القول عن عطا بن أبي رباح وقتادة وجماعة، قال: و
لم يوجبوا أجرة المثل بما كانت أكثر من قدر الحاجة.
واستظهر هذا القول بعض مشائخنا المعاصرين، قال: وهذا هو الظاهر من
الأخبار، ولكن ليس على اطلاقه المتناول للغني وقلة المال وعدم الاشتغال عن
أمور نفسه، فاطلاقه مشكل انتهى.
أقول: وسيأتي - انشاء الله تعالى - توضيح ما ذكره.
(وثالثها): أقل الأمرين من الأجرة والكفاية، واحتج له بوجهين:
أحدهما: أن الكفاية إن كانت أقل من الأجرة، فلأن - مع حصولها - يكون
غنيا، ومن كان غنيا وجب عليه الاستعفاف عن بقية الأجرة، وإن كانت أجرة المثل
أقل، فإنما تستحق عوض عمله، فلا يحل له أخذ ما زاد عليه.
وثانيهما: أن العمل لو كان لمكلف يستحق عليه الأجرة، لم يستحق أزيد
من أجرة مثله، فكيف يستحق الأزيد مع كون المستحق عليه يتيما.
وفيه بحث يأتي ذكره - انشاء الله تعالى - بعد نقل روايات المسألة، وتحقيق

(1) سورة النساء: 6
334

ما هو الحق الظاهر منها.
(ورابعها): استحقاق أجرة المثل مع فقره، وعلل بأنه يمكن حمل الأكل
بالمعروف عليه، لأن أجرة المثل إن كانت أقل من المعروف بين الناس فالانسان
لا يأخذ عوض عمله من غير زيادة عن عوضه المعروف وهو أجرة مثله ومثل هذا يسمى
أكلا بالمعروف، والزيادة عليه أكل بغير المعروف. هذا إذا كان فقيرا، أما لو
كان غنيا فالأقوى وجوب استعفافه مطلقا، عملا بظاهر الآية.
(وخامسها): جواز أخذ أقل الأمرين، من أجرة مثله وكفايته، مع
فقره.
قال في المسالك: ولو تحقق للكفاية معنى مضبوط، كان هذا القول أجود
الأقوال. ومثبتو أحد الأمرين من غير تقييد بالفقر، حملوا الأمر بالاستعفاف على
الاستحباب، وادعوا أن لفظ الاستعفاف مشعر به، وله وجه انتهى.
* * *
أقول: والواجب - أولا - بسط الروايات الواردة عنهم - عليهم السلام -
والتنبيه على ما يمكن استنباطه من الأحكام منها.
فمنها: ما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة في الموثق، عن الصادق عليه السلام
في قول الله تعالى " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " فقال: من كان يلي شيئا
لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه، وهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم
فليأكل بقدر ولا يسرف وإن كانت ضيعتم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يرزأن من
أموالهم شيئا (1).
وما رواه في التهذيب عن ابن سنان في الصحيح، قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام
وأنا حاضر عن القيم لليتامى، في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم، أله أن يأكل
من أموالهم؟ فقال: لا بأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف، كما قال الله عز وجل

(1) الوسائل ج 12 ص 185 - 186 حديث: 4
335

في كتابه " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا
إليهم أموالهم. ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا. ومن كان غنيا فليستعفف.
من كان فقيرا فليأكل بالمعروف " قال: المعروف هو القوت. وإنما عنى الوصي
لهم والقيم في أموالهم ما يصلحهم (1).
وما رواه الشيخان المتقدمان عن عبد الله بن سنان في الصحيح، عن أبي
عبد الله عليه السلام في قول الله " فليأكل بالمعروف " قال: المعروف هو القوت، وإنما
عنى الوصي والقيم في أموالهم ما يصلحهم (2).
وعن حنان بن سدير في الموثق، قال: قال الصادق عليه السلام سألني عيسى بن
موسى عن القيم للأيتام في الإبل،، ما يحل له منها فقلت: إذا لاط حوضها، وطلب
ضالتها وهنأ جرباها فله أن يصيب من لبنها من غير نهك لضرع، ولا فساد لنسل (3).
وعن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل " ومن كان
فقيرا
فليأكل بالمعروف " (4) فقال: ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس
أن يأكل بالمعروف، إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كان المال قليلا فلا يأكل
منه شيئا. قال: قلت: أرأيت قول الله عز وجل " وإن تخالطوهم فإخوانكم " (5)؟
قال: تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم وتخرج من مالك قدر ما يكفيك، ثم
تنفقه، قلت، أرأيت أن كانوا يتامى صغارا وكبارا، وبعضهم أعلى كسوة من بعض،
وبعضهم أكل من بعض، وما لهم جميعا. فقال: أما الكسوة فعلى كل انسان ثمن
كسوته، وأما الطعام فاجعلوه جميعا، فإن الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير (6).

(1) البرهان ج 1 ص 344 حديث: 8
(2) التهذيب ج 6 ص 340 حديث: 71
(3) التهذيب ج 6 ص 340 حديث: 72، لاط حوضها أي طينها، وهنأ جرباها: إذا طلاه
بالهناء أي القطران، وهو ما يتخذ من حمل شجرة العرعر. والنهك: استيفاء ما في الضرع من اللبن.
(4) سورة النساء: 6
(5) سورة البقرة: 220
(6) التهذيب ج 6 ص 341 حديث: 73
336

وما رواه الشيخ في الصحيح عن هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عمن تولى مال اليتيم، ماله أن يأكل منه؟ فقال: ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من
الأجر لهم، فليأكل بقدر ذلك (1).
وما رواه الثقة الجليل محمد بن مسعود العياشي في تفسيره، عن محمد بن
مسلم، قال: سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ يتيم (2) في حجره. أيخلط أمرها
بأمر ماشيته؟ فقال: إن كان يليط حياضها، ويقوم على هنأتها، ويرد شاردها،
فليشرب من ألبانها، غير مجهد للحلاب ولا مضر بالولد. ثم قال: ومن كان غنيا
فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف (3).
وروى هذه الرواية في مجمع البيان إلى قوله " ولا مضرة بالولد " (4) ورواه
الزمخشري في الكشاف، عن ابن عباس (5).
وما رواه العياشي في تفسيره عن أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى
" فليأكل بالمعروف " فقال: ذلك رجل يحبس نفسه على أموال اليتامى، فيقوم لهم
فيها، ويقوم لهم عليها، فقد شغل نفسه عن طلب المعيشة، فلا بأس أن يأكل
بالمعروف، إذا كان يصلح أموالهم، وإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا (6).
وما رواه في الكتاب المذكور (7) عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته
عن قوله " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " فقال: بلى

(1) التهذيب ج 6 ص 343 حديث: 81
(2) لفظة " يتيم " ليست في نسخة المصدر المطبوعة
(3) تفسير العياشي ج 1 ص 231 حديث: 28
(4) مجمع البيان ج 3 ص 9
(5) الكشاف ج 1 ص 475 باختلاف يسير
(6) تفسير العياشي ج 1 ص 221 حديث: 29
(7) وهو تفسير العياشي.
337

من كان.. الحديث كما تقدم عن الكافي، إلا أنه قال: " ليس له شئ " عوض
قوله ثمة " وليس له ما يقيمه " (1).
وما رواه العياشي في تفسيره - أيضا - عن إسحاق بن عمار عن أبي بصير،
عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف " فقال: هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية، ويشغل فيها
نفسه. فليأكل منه بالمعروف، وليس ذلك له في الدنانير والدراهم التي عنده
موضوعة (2).
وما رواه فيه أيضا عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله
" ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " قال: ذلك إذا حبس نفسه في أموالهم، فلا
يحترث لنفسه، فليأكل بالمعروف من مالهم (3).
وما رواه فيه أيضا عن رفاعة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله " فليأكل بالمعروف "
قال: كان أبي يقول: إنها منسوخة (4).
وقال في مجمع البيان في تفسيره: قوله " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف "
معناه، ومن كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة والكفاية، على جهة القرض،
ثم يرد عليه ما أخذ إذا وجد. عن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري و
عبيدة السلماني، وهو مروي عن الباقر عليه السلام. وقيل: معناه يأخذ ما يسد به جوعته و

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 221 - 222 حديث: 30 وفرق آخر قوله " بلى من
كان ". ولم تكن " بلى " في حديث الكافي: كما لم يذكرها المصنف، ولكنا أثبتناها وفق
المصدر الأصل.
(2) المصدر حديث: 31
(3) العياشي ج 1 ص 232 حديث: 32. وفي نسخة الوسائل ج 12 ص 187
حديث: 10 " فلا يحترف "
(4) العياشي ج 1 ص 222 حديث: 33
338

يستر عورته، لا على جهة القرض. عن عطاء بن أبي رباح وقتادة وجماعة، ولم
يوجبوا أجرة المثل، لأنها ربما كانت أكثر من قدر الحاجة. والظاهر من روايات
أصحابنا: أن له أجرة المثل، سواء كان قدر كفايته أو لم يكن. انتهى (1).
أقول: وبالله سبحانه التوفيق، المستفاد من هذه الأخبار المذكورة - بعد ضم
بعضها إلى بعض، عدا الرواية الأخيرة من روايات العياشي -: أنه يشترط في صحة
أكل الولي من مال اليتيم شروط:
(أحدها): فقره، فمتى كان غنيا فليس له أن يأكل منه شيئا.
وعلى ذلك دل ظاهر الكتاب بحمل الأمر بالاستعفاف - في الآية - على
الوجوب. فأما الحمل على الاستحباب - كما تقدم نقله عن المسالك، وظاهره الميل
إليه - فلا أعرف له وجها، إلا مجرد الاجتهاد في مقابلة النصوص، لأن الأصل
تحريم أكل مال الغير، خرج منه في هذا الموضع بالآية والروايات المرخصة
للولي إذا كان فقيرا، مع اتفاقهم على أن أوامر القرآن للوجوب، إلا ما خرج
بدليل، والحال أنه لا معارض هنا، بل المؤيد المؤكد موجود من الأخبار، والآية
الدالة على اشتراط الفقر.
و (ثانيها): اشتغاله باصلاح أموالهم بحيث يمنعه ذلك عن الاشتغال لأمر
نفسه فلو لم يكن قائما بها أو كان كذلك، ولكن لا يشغله عن تحصيل المعاش لنفسه
وعياله، فإنه لا يجوز له أن يأكل منه شيئا.
وبهذا الشرط صرحت الروايات المتقدمة عن تفسير العياشي، وبه وبالذي
قبله صرحت موثقة سماعة المنقولة من الكافي في صدر الأخبار.
وثالثها: سعة مال اليتيم، فلو كان قليلا لم يجز له الأكل منه، والآية
الشريفة وإن كانت بالنسبة إلى هذا الشرط مطلقة، إلا أن الأخبار قد صرحت به كرواية
أبي الصباح، ورواية أبي سلمة المنقولة من تفسير العياشي.

(1) مجمع البيان ج 3 ص 9 - 10
339

والظاهر أن الوجه فيه هو أنه متى كان قليلا فإنه لا يشغله عن تحصيل المعيشة
لنفسه ولا موجب لحبس نفسه على اصلاح أموالهم
و (رابعها): كون الأكل مقدار الكفاية من غير إسراف، لقوله عز وجل
" بالمعروف " والمعروف: ما لا إسراف فيه ولا تقتير، وهو الحد الوسط.
وإلى هذا الشرط يشير قوله - في صحيحة عبد الله ابن سنان -: " المعروف
هو القوت " وقوله - في موثقة سماعة -: " فليأكل بقدر ولا يسرف ".
ومن هنا يعلم صحة القول الثاني من الأقوال المتقدمة باعتبار هذا الشرط،
وإن كان بالنظر إلى اطلاقه غير صحيح، لما عرفت من اشتراط الأكل بالشروط
التي ذكرناها، وكذا غيره من الأقوال المتقدمة إن أخذت على اطلاقها، كما هو ظاهر
قولهم بها ونقل الناقلين لها.
وحينئذ يكون ما اخترناه هنا (1) قولا سادسا.
أما القول باعتبار أجرة المثل - كما هو أول الأقوال المتقدمة - فأنكره بعض
مشائخنا المعاصرين (2) بعد اختياره القول الثاني، لعدم وجود الدليل عليه، وادعى
أنه ليس في الأخبار تقييد أجرة المثل، وإنما هو تخريج محض واستنباط صرف،
وهو في مقابلة النص غير معتبر. قال: وهذا كاف في رد هذا القول. انتهى.
أقول: يمكن أن يستدل على هذا القول بقوله عليه السلام في صحيحة هشام بن
الحكم " ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك " فإنه - كما
ترى - ظاهر في الرجوع إلى أجرة المثل، وحينئذ فيكون هذا الخبر مستند القول
المذكور.

(1) وهو القول الثاني مقيدا بالشروط الأربعة المذكورة
(2) هو شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني قدس سره في
أجوبة مسائل سئل عنها. منه قدس سره.
340

نعم يبقى الكلام في الجمع بين هذا الخبر وبين ما دل على الكفاية.
والظاهر: هو حمل هذا الخبر على تلك الأخبار الدالة على الكفاية، لاعتضاد
تلك الأخبار بظاهر الآية الشريفة، حيث دلت على الأكل بالمعروف، وهو كما
عرفت ما لا إسراف فيه ولا تقتير، وهو الحد الوسط. وبذلك يظهر أن ما أطال بها
أصحابنا فيما قدمناه من أقوالهم، من القول بأقل الأمرين، بناء على الجمع بذلك
بين الدليلين، من الاحتمالات والتخريجات لا ضرورة تلجئ إليه بل الأظهر الجمع
بما ذكرناه، وحينئذ تجتمع الأخبار على القول بالكفاية حسبما يأتي تحقيقه
انشاء الله تعالى.
ثم لا يخفى أن ظاهر الأخبار المتقدمة - بعد التأمل فيها يعين التحقيق -: أن
المراد بالكفاية هو ما كان له ولعياله الواجبي النفقة.
أما - أولا - فلأن الآية والأخبار - كما عرفت - قد دلا على اشتراط الفقر
في جواز الأخذ، ومنعا من الأخذ حال الغنى، ومن الظاهر المعلوم: أنه لو اقتصر
في الكفاية على نفقته خاصة مع وجود الواجبي النفقة عليه، فإنه لا يخرج بذلك عن
الفقر، ولا يدخل في الغنى، للاتفاق نصا وفتوى على أن الغنى إنما يحصل بملك
مؤنة السنة لنفسه وعياله الواجبي النفقة قوة وفعلا وإلا فهو فقير.
وبالجملة فإن شرط الفقر الموجب لجواز الأخذ موجود، والغنى المانع
من الأخذ مفقود، وحينئذ فلا معنى لتخصيص الكفاية به خاصة دون عياله
المذكورين.
وأما - ثانيا - فلأن الأخبار قد دلت على اشتراط حبس نفسه على اصلاح أموالهم
في جواز الأخذ، وحينئذ فاللازم من تخصيص الأخذ بما يكفيه خاصة ضياع عياله الواجبي
النفقة، مع أنه يجب عليه الانفاق عليهم.
وبذلك يظهر جواز أخذه الكفاية له ولعياله المذكورين، ولا يختص بالأكل،
341

وإن كان ظاهر صحيحتي عبد الله بن سنان ذلك، بل يتعدى الحكم إلى الكسوة (1)
أيضا، لأن المفروض أنه حبس نفسه على أموالهم ليس له مكسب سوى ذلك،
وحينئذ يحمل القوت في الخبرين المذكورين على التمثيل، لأنه الضروري
اللا بدي. (2)
قال في المسالك: إن الأكل بالمعروف يحتاج إلى تنقيح، فإن أريد به الأكل
المتعارف - كما يظهر من الآية والرواية وجعل مختصا بالولي - لا يتعدى إلى عياله،
فلا منافاة بين الفقر وحصول الكفاية منه بهذا الاعتبار، لأن حصول القوت يحتاج معه
إلى بقية مؤنة السنة من نفقة وكسوة ومسكن وغيرها، حتى يتحقق ارتفاع الفقر، إن
لم نشترط حصول ذلك في بقية عياله الواجبي النفقة، وحينئذ فقولهم - في الاستدلال
بثبوت أقل الأمرين " أنه مع حصول الكفاية يكون غنيا فيجب عليه الاستعفاف عن
بقية الأجرة " - غير صحيح. وإن أريد به مطلق التصرف كما هو المراد من قوله
" ولا تأكلوها إسرافا، وبدارا " " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " " إن الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلما " وغير ذلك، فقيد المعروف من ذلك غير واضح المراد، ليعتبر

(1) أقول: وعلى هذا فالمراد بالأكل في قوله تعالى " فليأكل بالمعروف " مطلق التصرف
كما وقع مثله في جملة من الآيات، كقوله تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " وقوله
" ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا " وقوله " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " وحينئذ
فالمراد والله سبحانه أعلم: أنه يتصرف في أموالهم ويأخذ ما يحتاج إليه من نفقة وكسوة و
نحو ذلك له ولعياله بالمعروف، من غير افراط ولا تفريط باسراف أو تقتير: منه قدس سره
(2) وإلا فاللازم من التخصيص بالقوت كما هو ظاهر الخبرين مع فرض حبس نفسه عن
تحصيل المعاش حصول الضرر عليه، إن أوجبنا عليه القيام باصلاح أموالهم، كما هو ظاهر
أو الاضرار بالأيتام إن لم نوجب عليه ذلك، فيجوز له السعي فيما له ولعياله من الكسوة ونحوها
وترك أموالهم معطلة خرابا، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه - منه قدس سره.
342

صحة أقل الأمرين، لأن التصرف على الوجه المعروف يختلف باختلاف الأشخاص
والحاجة، وربما أدى ذلك إلى الاضرار بمال اليتيم.. إلى آخر كلامه.
ومما قدمنا من التحقيق في المقام قد انكشف غشاوة الابهام عما استشكل هنا وكذا
غيره من الأعلام. هذا.
وأما ما ذكره الشيخ الطبرسي فيما قدمنا نقله منه، من الرواية عن مولانا الباقر
عليه السلام " أن الأكل إنما هو على جهة القرض " فلم يصل إلينا. ويمكن أن يكون ذلك
إشارة إلى رواية رفاعة المنقولة من تفسير العياشي، الدالة على أن هذه الآية منسوخة،
فإنه متى ثبت النسخ تعين عدم جواز الأكل إلا قرضا، إلا أنك قد عرفت تكاثر الأخبار
واستفاضتها بخلاف ما دلت عليه هذه الرواية، مضافا إلى ظاهر الآية أيضا لدلالتها
على جواز الأكل كما عرفت، فلا عمل عليها وهي مرجئة إلى قائلها.
وأما قوله " والظاهر من رواياتنا.. إلى آخر كلامه. فقد عرفت أنه خلاف الظاهر،
بل الظاهر منها بمعونة ظاهر الآية الشريفة إنما هو الكفاية على الوجه الذي قدمنا
تحقيقه.
(المنهج الرابع) قد استفاضت الأخبار بتحريم أكل مال اليتيم ظلما
وعدوانا. ويعضدها القرآن العزيز، حيث قال - عز من قائل -: " إن الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " (1) أي ما يجر إلى
النار والسعير.
ومن الأخبار في ذلك: ما رواه في الكافي عن سماعة في الموثق، قال: قال
أبو عبد الله عليه السلام: وعد الله عز وجل في أكل مال اليتيم بعقوبتين، إحداهما: عقوبة
الآخرة: النار، وأما عقوبة الدنيا فقوله عز وجل " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم
ذرية ضعافا خافوا عليهم " (2) يعني ليخش إن أخلفه في ذريته أن يصنع بهم كما صنع

(1) سورة النساء: 10
(2) سورة النساء: 9
343

بهؤلاء اليتامى (1).
وعن عجلان بن صالح، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أكل أموال اليتامى
فقال: هو كما قال الله - عز وجل - " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون
في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " ثم قال - من غير أن أسأله -: من عال يتيما حتى
ينقطع يتمه أو يستغني بنفسه، أوجب الله - عز وجل - له الجنة، كما أوجب النار
لمن أكل مال اليتيم (2).
وروى في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: قيل لأبي
عبد الله - عليه السلام -: إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم، فنقعد على
بساطهم، ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم، وربما أطعمنا فيه الطعام من عند
صاحبنا، وفيه من طعامهم. ما ترى في ذلك؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة
لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا. وقال عليه السلام " بل الانسان على نفسه بصيرة " فأنتم
لا يخفى عليكم، وقد قال الله - عز وجل - " والله يعلم المفسد من المصلح " (3).
وروى في الكافي عن علي بن المغيرة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن لي
ابنة أخ يتيمة فربما أهدي لها شئ، فأكل منه ثم أطعمها بعد ذلك شيئا من مالي،
فأقول. يا رب هذا بذا، فقال: لا بأس (4).
وروى في التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن الصادق عليه السلام قال:
سألته عن الرجل يكون للرجل عنده المال، أما بيع وأما قرض، فيموت ولم يقضه
إياه، فيترك أيتاما صغارا فيبقى لهم عليه لا يقضيهم، أيكون ممن يأكل أموال اليتامى

(1) الوسائل ج 12 ص 181 حديث: 2
(2) الوسائل ج 12 ص 180 حديث: 1
(3) الوسائل ج 12 ص 183 حديث: 1
(4) الوسائل ج 12 ص 184 حديث: 2
344

ظلما؟ قال: لا، إذا كان نوى أن يؤدي إليهم (1).
وعن سماعة في الموثق قال: سألت الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل " وإن
تخالطوهم فإخوانكم " فقال: يعني اليتامى، إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره،
فليخرج من ماله على قدر ما يحتاج إليه على قدر ما يخرجه لكل انسان منهم، فيخالطهم
ويأكلون جميعا، ولا يزرأن من أموالهم شيئا، إنما هي النار (2).
وقد تقدم نحو هذا الخبر في جواب أبي الصباح الكناني (3).
وروى العياشي في تفسيره عن علي عليه السلام عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن
قول الله في اليتامى " وإن تخالطوهم فإخوانكم " قال: يكون لهم التمر واللبن ويكون
لك مثله على قدر ما يكفيك ويكفيهم، ولا يخفى على الله المفسد من المصلح (4).
وعن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: قلت له:
يكون لليتيم عندي الشئ وهو في حجري أنفق عليه منه، وربما أصيب مما يكون له
من الطعام، وما يكون مني إليه أكثر. قال: لا بأس بذلك (5).
وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن صفوان عن ابن مسكان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما نزلت " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون
في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " أخرج كل من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في اخراجهم، فأنزل الله تعالى " ويسئلونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير
وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " قال: وقال الصادق عليه السلام

(1) الوسائل ج 12 ص 194 حديث: 3
(2) الوسائل ج 12 ص 188 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 188 حديث: 1
(4) الوسائل ج 12 ص 189 حديث: 3
(5) الوسائل ج 12 ص 189 حديث: 4
345

لا بأس أن تخلط طعامك بطعامهم، فإن الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير، وأما
الكسوة وغيرها فيجب على كل رأس صغير وكبير ما يحتاج إليه (1). أقول: ويستفاد من هذه الأخبار الشريفة جملة من الأحكام المنيفة:
(منها): أن أكل أموال اليتامى ظلما - كما دلت عليه الآية - إنما هو في صورة
ما لو لم ينو رده، كما يظهر من رواية عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة، ونحوها
ما تقدم في المنهج الثاني من رواية أحمد بن أبي نصر.
وربما أشعر ذلك بجواز التصرف في مال اليتيم، ولو من غير الولي إذا كان ينوي
الرد (2) مع أن ظاهر كلام الأصحاب: التحريم حيث خصوا جواز الاقتراض

(1) الوسائل ج 12 ص 189 حديث: 5 و 6
(2) أقول: ومما يعضد ذلك ما رواه في الكافي ج 5 ص 132 حديث: 7 في
الصحيح أو الحسن عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن عليه السلام في الرجل يكون
عند بعض أهل بيته مال لأيتام فيدفعه إليه فيأخذ منه دراهم يحتاج إليها ولا يعلم الذي
كان عنده المال للأيتام أنه أخذ من أموالهم شيئا، ثم تيسر بعد ذلك. أي ذلك خير
له، أيعطيه الذي كان في يده أم يدفعه إلى اليتيم وقد بلغ؟ وهل يجزيه أن يدفعه إلى
صاحبه على وجه الصلة ولا يعلمه أنه أخذ له مالا؟ فقال: يجزيه أي ذلك فعل، إذ
أوصله إلى صاحبه. فإن هذا من السرائر، إذا كان من نيته، إن شاء رده إلى اليتيم إن كان
قد بلغ على أي وجه شاء، وإن لم يعلمه إن كان قبض له شيئا. وإن شاء رده إلى الذي
كان في يده المال. وقال: إن كان صاحب المال غائبا فليدفعه إلى الذي كان المال
في يده
والتقريب - في الخبر المذكور -: أن الإمام عليه السلام لم ينكر على السائل المذكور
في أخذه وتصرفه في مال اليتيم، مع صراحة الخبر في أنه ليس بولي، بل أقره على
ما فعله، حيث كان من نيته الأداء، كما يشير إليه قوله " فإن هذا من السرائر إذا كان
من نيته... إلى آخره "
منه قدس سره
346

بالولاية والملائة، وحكموا بكون غيره عاصيا غاصبا.
ويمكن الجمع بأن عدم دخول هذا التصرف في مدلول الآية لا يستلزم الحل
له، بل غاية ذلك أنه لا يكون عقوبته عقوبة الناوي، وهو الذي يأكل في بطنه نارا
وسيصلى سعيرا. وإن كان ذلك محرما ومستوجبا للعقاب في الجملة.
وأنت خبير بأن روايات جواز الاقتراض من مال اليتيم التي تقدمت، ليست
نصا فيما ذكره الأصحاب من الاشتراط، بل ربما ظهر منها الجواز مطلقا، إلا أن
الأحوط الوقوف على ما ذكروه حسما لمادة الشبهة.
(ومنها): أن التصرف في أموالهم يتوقف على نوع مصلحة لهم في ذلك، مثل
الجلوس على فرشهم والشرب من مائهم واستخدام خادمهم ونحو ذلك، كما يظهر
من رواية الكاهلي المتقدمة، بأن يكون التصرف بأحد هذه الأنواع ممن يصل إليهم
نفعه بأي وجوه المنافع فيكون هذا بهذا.
ولو لم يكن كذلك فهو مجرد مفسدة وضرر عليهم وداخل تحت قوله تعالى
" والله يعلم المصلح من المفسد " ويشير إلى هذا رواية علي بن المغيرة، ورواية عبد الرحمن
ابن الحجاج المنقولة عن العياشي.
(ومنها): جواز خلط طعام الأكل معهم بطعام الأيتام مع تساوي الغذاء والأكل
جميعا، معللا بأنه ربما كان الصغير يأكل مثل الكبير، أما لو علمنا يقينا أن الصغير
لا يأكل ذلك المقدار فاشكال. من ظواهر الأخبار المذكورة، ومن أصالة التحريم.
والاحتياط لا يخفى.
(ومنها): جواز أكل شئ من مالهم إذا كان اليتيم يأكل عوضه أو أكثر. إلى
غير ذلك من الفوائد التي يمكن استنباطها منها. والحمد لله رب العالمين.
347

أحكام العقود والمعاملات
الفصل الأول
(في البيع)
وأركانه ثلاثة: الصيغة، والمتعاقدان، والعوضان.
والبحث عن ذلك يقتضي بسطه في مقامات:
الأول: المشهور - بل كاد يكون اجماعا - هو اشتراط الصيغة الخاصة في
البيع كغيره من العقود، فلا يكفي التقابض من غير تلك الصيغة، وإن حصل من
الألفاظ والأمارات ما يدل على إرادة البيع، سواء كان في الخطير والحقير.
قال في الشرايع: ولا ينعقد إلا بلفظ الماضي (1)، فلو قال: اشتر، أو ابتع
أو أبيعك لم يصح، وإن حصل القبول. وكذا في طرف القبول، مثل أن يقول: بعني

(1) قالوا: لا بد من صيغة الماضي، لأنه صريح في إرادة نقل الملك. وأما المستقبل
فإنه شبيه بالوعد. والأمر بعيد عن المراد جدا. وكذا في سائر العقود اللازمة. منه رحمه الله.
348

أو تبيعني، لأن ذلك أشبه بالاستدعاء أو بالاستعلام.
وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول أم لا؟ فيه تردد والأشبه: عدم الاشتراط.
وقال في الدروس: فالايجاب: بعت وشريت وملكت. والقبول: ابتعت
واشتريت وتملكت وقبلت - بصيغة الماضي. فلا يقع الأمر والمستقبل، ولا ترتيب
بين الإيجاب والقبول على الأقرب، وفاقا للقاضي - إلى أن قال -: ولا تكفي المعاطاة
وإن كان في المحقرات، نعم يباح التصرف في وجوه الانتفاعات، ويلزم بذهاب
إحدى العينين ويظهر من المفيد الاكتفاء بها مطلقا وهو متروك. انتهى.
وعلى هذا النهج كلام العلامة وغيره
وبالجملة، فإنه لا بد عندهم من لفظ دال على الإيجاب وآخر على القبول،
وأن يكون بلفظ الماضي.
ومنهم من أوجب قصد الانشاء.
ومنهم من أوجب تقديم الإيجاب على القبول.
ومنهم من أوجب فورية القبول وأنه لا يضر الفصل بنفس أو سعال ونحوهما.
ومنهم من أوجب وقوع الإيجاب والقبول بالعربية إلا مع المشقة. إلى غير
ذلك مما يقف عليه المتتبع لكلامهم.
قال الشهيد الثاني - في شرح قول المصنف " ولا يكفي التقابض من غير لفظ.
إلى آخره " هذا هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون اجماعا، غير أن ظاهر
كلام المفيد يدل على الاكتفاء في تحقق البيع بما يدل على الرضا من المتعاقدين،
إذا عرفاه وتقابضا. وقد كان بعض مشائخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك أيضا، ولكن
يشترط في الدال كونه لفظا، واطلاق كلام المفيد أعم منه، والنصوص المطلقة من
الكتاب والسنة على حل البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغ خاصة تدل على ذلك، فإنا لم
نقف على دليل صريح في اعتبار لفظ معين، غير أن الوقوف مع المشهور هو الأجود،
349

مع اعتضاده بأصالة بقاء ملك كل واحد لعوضه إلى أن يعلم الناقل.
وقال في أواخر البحث - بعد أن نقل عن متأخري الشافعية وجميع المالكية
انعقاد البيع بكل ما دل على التراضي وعده الناس بيعا - ما صورته: وهو قريب
من قول المفيد وشيخنا المتقدم، فما أحسنه وأتقن دليله، إن لم ينعقد الاجماع على
خلافة. انتهى.
أقول: وإلى هذا القول مال جملة من محققي متأخري المتأخرين، وبه جزم
المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، وأطال في نصرته والاستدلال عليه، وبه جزم
أيضا المحقق الكاشاني في المفاتيح، والفاضل الخراساني في الكفاية، وإليه يميل
والدي، والشيخ عبد الله بن صالح البحراني، ونقلاه أيضا عن شيخهما العلامة الشيخ
سليمان بن عبد الله البحراني.
وهو الظاهر عندي من أخبار العترة الأطهار التي عليها المدار في الإيراد و
الاصدار، كما سيظهر لك انشاء الله تعالى على وجه لا تعتريه غشاوة الانكار. هذا.
وأما ما ذكره في المسالك من أن الأجود القول المشهور، فلا أعرف له وجها
في المقام، بعد ما صرح به من الكلام، وأما الاعتضاد بأصالة بقاء ملك كل واحد لعوضه
إلى أن يعلم الناقل. ففيه: أنه قد اعترف هو بأن اطلاق الكتاب والسنة دال على
حصول البيع بكل ما دل على التراضي من قول أو فعل، وصرح في آخر كلامه بأنه
ما أحسنه وامتن دليله، وهو اعتراف منه بوجود الناقل، فكيف يصح منه الحكم
بأجودية القول المشهور لهذا التعليل العليل المذكور، ولم يبق إلا التعلق بالشهرة
بين الأصحاب، وهي ليست بدليل شرعي في هذا الباب ولا غيره من الأبواب.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أنه لا بد في هذا البيع (1) من جميع الشرائط المعتبرة في
صحة البيوع، سوى الصيغة الخاصة التي ادعوها، فإنه لا دليل عليها.
بل ظاهر الروايات الواصلة إلينا في أبواب البيوع والأنكحة ونحوهما من

(1) يريد به بيع المعاطاة الخالية من الصيغة الخاصة
350

سائر العقود والمعاملات: أن المعتبر فيها، إنما هو الألفاظ الجارية في البين، مما
يدل على الرضا من الطرفين.
ولا بأس بايراد ما خطر بالبال من الأخبار الجارية على هذا المنوال:
فمنها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألته عن الرجل يأتي
بالدراهم إلى الصيرفي فيقول له: آخذ منك المأة بمأة وعشرة، أو بمأة وخمسة،
حتى يراوضه على الذي يريد، فإذا فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة دينارا أو ذهبا،
ثم قال له: قد راددتك البيع (1) وإنما أبايعك على هذا، لأن الأول لا يصلح، أو
لم يقل ذلك، وجعل ذهبا مكان الدراهم: فقال: إذا كان أجرى البيع على الحلال
فلا بأس بذلك (2).
وظاهر الخبر - كما ترى - أن البيع إنما وقع بهذا اللفظ المذكور الذي
وقع بينهما أولا من المحاورة على الزيادة، حتى تراضيا علي قدر معلوم، غاية
الأمر أنه لما كان البيع باطلا بسبب الزيادة الجنسية المستلزمة للربا، فمتى أبدلها
بغير الجنس صح البيع وتم.
ومنها: حسنة الحلبي عن الصادق عليه السلام قال قدم لأبي متاع من مصر فصنع
طعاما، ودعى له التجار، فقالوا له: نأخذه منك بده دوازده (3) فقال لهم أبي:
وكم يكون ذلك؟ فقالوا في العشرة آلاف الفان، فقال لهم أبي: فإني أبيعكم هذا
المتاع باثني عشر ألف درهم. فباعهم مساومة (4).
والحديث - كما ترى - صريح في صحة البيع بهذا اللفظ، مع أنه غير
جار على مقتضى قواعدهم التي اشترطوها، من تقديم الإيجاب على القبول، كما

(1) أي نسخت البيع الأول
(2) التهذيب ج 7 ص 105 حديث: 55
(3) بزيادة اثنين على كل عشرة
(4) الوسائل ج 12 ص 385 حديث: 1
351

هو المشهور بينهم، وكونهما بلفظ الماضي لا المستقبل والأمر، كما عليه ظاهر
اتفاقهم، فإنه لا قبول في الحديث بالكلية إلا ما يفهمه قولهم أولا: " نأخذ منك بده
دوازده " يعني على جهة المرابحة. وهو عليه السلام باعهم بهذه القيمة مساومة. ويفهم من
الخبر أن رأس المال كان عشرة آلاف درهم. والايجاب هنا إنما هو بلفظ
المستقبل.
ومنها: رواية زرارة عن الصادق عليه السلام في زرع بيع وهو حشيش ثم سنبل.
قال: لا بأس إذا قال: أبتاع منك ما يخرج من هذا الزرع. فإذا اشتراه وهو حشيش
فإن شاء أعفاه وإن شاء تربص به (1).
والتقريب، ظاهر فإن صيغة البيع هي هذه التي حكاها الإمام عليه السلام عن لسان
المشتري ورضاء البايع بذلك.
ومنها: رواية إسحاق بن عمار قال: قلت للصادق عليه السلام: يكون للرجل عندي
الدراهم الوضح، فيلقاني فيقول: كيف سعر الوضح اليوم؟ فأقول: كذا وكذا.
فيقول: أليس لي عندك كذا وكذا ألف درهما واضحا؟ فأقول: نعم فيقول: حولها
لي دنانير بهذا السعر، وأثبتها لي عندك. فما ترى في هذا؟ فقال لي: إذا كنت قد
استقصيت له السعر يومئذ فلا بأس بذلك. فقلت: إني لم أوازانه؟ ولم أناقده، و
إنما كان كلام مني ومنه فقال أليس الدراهم والدنانير من عندك؟ قلت: بلى.
قال: فلا بأس (2) أقول: الوضح الدرهم الصحيح. فانظر إلى بيع هذه الدراهم
بالدنانير بأي نحو وقع، والراوي إنما استشكل من حيث كونه صرفا يجب فيه
النقد والتقابض في المجلس فأزال عليه السلام استشكاله بأنه لما كان النقدان كلاهما
عنده كفى تحويل أحدهما بالآخر في صحة الصرف.
ومنها: رواية محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم

(1) الوسائل ج 13 ص 22 حديث: 9
(2) التهذيب ج 7 ص 102 حديث: 47
352

فقالت: زوجني، فقال: من لهذه؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، زوجنيها.
فقال: ما تعطيها؟ فقال: ما لي شئ، فقال: لا، فأعادت فأعاد رسول الله الكلام. فلم يقم
غير الرجل، ثم أعادت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المرة الثالثة: أتحسن من القرآن
شيئا؟ قال: نعم. قال: قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن، فعلمها إياه (1).
وهذه الرواية مخالفة لقواعدهم من وجوه، منها: وقوع القبول من الزوج بلفظ
الأمر، والظاهر من كلامهم وجوب كونه بلفظ الماضي. ومنها: تقديم القبول
على الإيجاب. ومنها: الفصل بين الإيجاب والقبول بزيادة على ما اعتبروه.
وفي حديث تزويج الجواد عليه السلام بابنة المأمون، المروي في ارشاد المفيد و
غيره، قال الجواد عليه السلام في خطبة النكاح: ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب
أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت
محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خمسمأة درهم جياد، فهل زوجته يا أمير المؤمنين على هذا
الصداق المذكور؟ قال: نعم، قد زوجتك يا أبا جعفر ابنتي على الصداق المذكور،
فهل قبلت ذلك؟ قال: أبو جعفر: قبلت ذلك ورضيت به (2).
وفي رواية أبان بن تغلب، قال: قلت للصادق عليه السلام: كيف أقول لها إذا
خلوت بها؟ قال: تقول: أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لا وارثة و
لا موروثة كذا وكذا يوما، وإن شئت كذا وكذا سنة، وبكذا وكذا درهما. و
تسمي من الأجر ما تراضيتما عليه، قليلا كان أو كثيرا فإذا قالت: نعم، فقد رضيت،
فهي امرأتك (3) الحديث.
وبمضمون هذه الرواية أخبار عديدة في صورة عقد المتعة بلسان الزوج.
وفي موثقة سماعة. قال: سألته عليه السلام عن بيع الثمرة، هل يصلح شراؤها قبل

(1) الوسائل ج 14 ص 195 حديث: 3
(2) الوسائل ج 14 ص 194 حديث: 2
(3) الوسائل ج 14 ص 466 حديث: 1
353

أن يخرج طلعها؟ فقال: لا، إلا أن يشتري معها شيئا من غيرها. رطبة أو بقلا،
فيقول: أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر (1) بكذا وكذا، فإن
لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل (2).
وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما - عليهما السلام - أنه قال في
رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه، ولا يدري كل واحد منهما كم له
عند صاحبه، فقال: كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي، فقال: لا بأس
بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما (3).
أقول: وهذا من صيغ الصلح الدالة هنا على انتقال ما في يد كل منهما إليه،
وبرائة ذمته من مال الآخر من ذلك المال المشترك وبمثل ذلك في باب الصلح
أخبار عديدة.
وفي صحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام أنه قال في الرجل يعطي الرجل المال
فيقول له: ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها، قال فإن جاوزها و
هلك المال فهو ضامن (4) الحديث.
أقول: وهذه من صيغ المضاربة التي أوجبت للعامل استحقاق حصة من الربح،
وإن لم يصرح بها في الخبر، لكون الغرض من سياقه بيان مخالفة العامل في تجاوزه
عن البلدة المأمور بها. إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع. الدالة
على سهولة الأمر في العقود، وأن الألفاظ الجارية بين المتعاقدين الدالة على الرضا،
والمقصود من تلك العقود الرافعة للنزاع والاشتباه بأي نحو كان، كافية في صحة
العقد وترتب أحكام الصحة عليه.

(1) أي ثمرة هذا الشجر، لأن السؤال كان عنها
(2) الوسائل ج 13 ص 90 حديث: 1
(3) الوسائل ج 13 ص 166 حديث: 1
(4) الوسائل ج 13 ص 181 حديث: 2
354

* * *
وتمام الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور:
(الأول) المفهوم مما نقله في المسالك عن بعض مشائخه المعاصرين، هو
اشتراط وجود اللفظ الدال على التراضي من الطرفين.
والمفهوم مما نقل عن المفيد: الاكتفاء بمجرد التراضي، ولو بالإشارة و
القرائن، وإن لم يحصل بينهما ألفاظ دالة على ذلك، واختاره في المفاتيح و
سجل عليه.
والظاهر هو الأول. لتطرق القدح إلى ما ذكره، فإن الأصل بقاء ملك كل
واحد لماله حتى يعلم الناقل شرعا، وغاية ما يفهم من الأخبار الجارية في هذا
المضار - مما تلوناه عليك ونحوه - هو النقل وصحة العقد بالألفاظ الجارية من
الطرفين، الدالة على التراضي بمضمون ذلك العقد، دون الصيغ الخاصة التي
اعتبرها الأكثر.
وأما مجرد التراضي والتقابض من غير لفظ يدل على ذلك فلم يقم عليه دليل، وحديث
" إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام " (1) مؤيد ظاهر لما قلنا، وغاية ما تدل عليه الأدلة التي
استند (2) إليها، من الهدايا والهبة ووقوع الشراء قديما وحديثا من البائع بغير
كلام إذا كان السعر معهودا ونحو ذلك، هو جواز التصرف، وهو مما لا نزاع
فيه ولا اشكال، أما كونه موجبا للنقل من المالك السابق ما دامت العين موجودة،
بحيث لا يجوز لصاحبها الرد فيها، فغير معلوم، كيف وقد صرحوا بأنه لا خلاف
في جواز الرد في الهدايا ما دامت العين موجودة، وحديث " إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام "
مؤيد أيضا، إذا لم يحصل من الكلام ما أوجب الانتقال حتى يحرم الرد والرجوع، وأما
جواز التصرف فلا ينافي الخبر المذكور، لأنه محمول على اللزوم وعلى ما بعد

(1) الوسائل ج 12 ص 376 حديث: 4
(2) صاحب المفاتيح
355

الرجوع، جمعا بينه وبين ما دل على الإباحة بالتراضي.
وبالجملة فالتمسك بأصالة بقاء الملك حجة قوية، إلى أن يحصل المخرج
عن ذلك من الحجج الشرعية، وغاية ما يستفاد من الأخبار - كما عرفت - هو
الاكتفاء بالتراضي الحاصل من الألفاظ، دون مجر التراضي.
(الثاني): المشهور بين القائلين بعدم لزوم بيع المعاطاة: هو صحة المعاطاة
المذكورة، إذا استكملت شروط البيع غير الصيغة المخصوصة، وأنها تفيد إباحة
تصرف كل منهما فيما صار إليه من العوض المعين، من حيث إذن كل منهما في
التصرف، وتسليطه على ما دفعه إليه إلا أنه لا يفيد اللزوم ما دامت العين باقية، بل لكل
منهما الرجوع فيما دفعه للآخر.
وعن العلامة - في النهاية - القول بفساد بيع المعاطاة، وأنه لا يجوز لكل
منهما التصرف فيما صار إليه من حيث الاخلال بالصيغة الخاصة، إلا أن جمعا من
الأصحاب نقلوا رجوعه عن هذا القول في باقي كتبه.
قال في المسالك - على أثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه في صدر المسألة -:
فلو وقع الاتفاق بينهما على البيع، وعرف كل منهما رضا الآخر بما يصير إليه من
العوض المعين، الجامع لشرائط المبيع غير اللفظ المخصوص، لم يفد اللزوم.
لكن هل يفيد إباحة تصرف كل منهما فيما صار إليه من العوض؟ نظرا إلى إذن كل
منهما للآخر في التصرف، أو يكون بيعا فاسدا، من حيث اخلال شرطه وهو
الصيغة الخاصة، المشهور الأول. فعلى هذا يباح لكل منهما التصرف، ويجوز
له الرجوع في المعاوضة، ما دامت العين باقية، فإذا ذهبت لزمت. أما جواز التصرف،
فلما فرض من تسليط كل منهما الآخر على ما دفعه إليه وإذنه له فيه، ولا نعني لإباحة
التصرف إلا ذلك. وأما لزومها مع التلف، فلرضاهما بكون ما أخذه كل منهما
عوضا عما دفعه، فإذا تلف ما دفعه كان مضمونا عليه، إلا أنه قد رضي بكون عوضه
هو ما بيده، فإن كان ناقصا فقد رضي به، وإن كان زائدا فقد رضي به الدافع، فيكون
بمنزلة ما لو دفع المديون عوضا عما في ذمته ورضي به صاحب الدين. انتهى.
356

أقول: لقائل أن يقول: إنه لا يخفى ما في هذا الكلام من تطرق المناقشة إليه،
وإن كان ظاهر هم الاتفاق عليه. وذلك فإنه متى كانت الصيغة الخاصة عندهم
أحد أركان البيع (1) كما صرحوا به مع تصريحهم هنا باشتراط جميع شروط البيع في
صحة المعاطاة ما عدا الصيغة الخاصة، فقضية ذلك هو بطلان هذه المعاطاة وفسادها،
لفوات أحد أركان الصحة، وهو الصيغة الخاصة، كما ذكره العلامة في النهاية.
وهم إنما تمسكوا في صحة المعاطاة وإفادتها الإباحة مع وجود العين، واللزوم مع
تلفها، بالرضا من كل من المتعاقدين، كما يدور عليه كلامه في المسالك.
ولا ريب أن إفادة الرضا لما ذكروه فرع المشروعية، ألا ترى أنهما لو تراضيا
على بيع المجهول وشرائه، أو الربوي أو نحو ذلك، مما لا يصح بيعه شرعا، فإنه
لا يصح. ولا ثمرة لهذا الرضا بالكلية، فكذا فيما نحن فيه، بناء على ما حكموا به
من ركنية الصيغة الخاصة، ودوران الصحة والابطال مدارها، وجودا وعدما.
وبالجملة فإنه بالنظر إلى مقتضى الأدلة الشرعية، فاللازم هو صحة المعاطاة،
وأن حكمها حكم البيع المترتب على الصيغة الخاصة، من غير فرق كما هو المختار.
وإليه ذهب من عرفت من علمائنا الأبرار. وبالنظر إلى قواعدهم وتصريحاتهم بما
قدمنا ذكره، فالواجب هو الحكم بالفساد، لما عرفت. وما ذكروه تفريعا على الصحة
من إباحة التصرف وعدم اللزوم، إلا بعد ذهاب العين، بناء على ما عرفت من تعليلات
المسالك، فإنه غير موجه عندي ولا ظاهر كما أوضحناه.
فإن قيل: إن اشتراط الصيغة الخاصة إنما هو في البيع، وهذا ليس ببيع، وإنما
هي معاملة أخرى تفيد الإباحة على الوجه المذكور في كلامهم.
قلنا: فيه - أولا -: إن صحة هذه المعاملة على الوجه الذي ذكروه، موقوفة

(1) حيث إنهم عبروا بأن أركان البيع ثلاثة: العقد والمتعاقدان والعوضان. صرح
به العلامة في القواعد والارشاد، وغيره في غيرها. ومرادهم بالعقد - كما عرفت - هو الصيغة
الخاصة التي ذكروا شروطها بما نقلناه عنهم في الأصل. منه رحمه الله.
357

على الدليل الشرعي، وليس إلا مجرد هذه التعليلات التي ذكروها، وقد عرفت
ما فيها.
وثانيها: اشتراطهم جميع شروط البيع عدا الصيغة الخاصة في ترتب تلك
الأحكام على المعاطاة، ينافي ما ذكرت. فإن الناظر في ذلك يجزم بأنه بيع (1) فإن
ثبت اشتراط صحة البيع بالصيغة الخاصة كان بيعا فاسدا، وإن لم يثبت - كما هو
المختار - كان بيعا صحيحا.
نعم لو لم يشترط شرط صحة البيع في المعاطاة لأمكن أن يقال: إنها معاملة
أخرى غير البيع، وإن لم يقم عليها دليل، إلا أن الأمر ليس كذلك، كما عرفت.
وبالجملة، فاللازم إما فساد هذه المعاملة أو كونها بيعا حقيقيا، وما ذكروه
من التعليلات كما صرحوا به وإن كانت ترى في بادئ النظر صحته، إلا أنه بالتأمل
فيما ذكرناه يظهر فساده، وهو مؤيد لما قلناه في غير مقام من مجلدات كتابنا هذا، من أن الاعتماد على أمثال هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مما لا ينبغي العمل
عليها، بل الاعتماد إنما هو على الأخبار إن صرحت به، أو أومأت إليه.
(الثالث): قال في المسالك: هل المراد بالإباحة الحاصلة بالمعاطاة قبل ذهاب
العين، إفادة ملك متزلزل كالمبيع في زمن الخيار، وبالتصرف يتحقق لزومه، أم
الإباحة المحضة التي هي بمعنى الإذن في التصرف، وبتحققه يحصل الملك له وللعين
الأخرى؟ يحتمل الأول، بناء على أن المقصود للمتعاقدين إنما هو الملك، فإذا لم
يحصل كانت فاسدة ولم يجز التصرف في العين، وأن الإباحة إذا لم تقتض الملك فما
الذي أوجب حصوله بعد ذهاب العين الأخرى؟ ويحتمل الثاني، التفاتا إلى أن الملك
لو حصل بها لكانت بيعا، ومدعاهم نفي ذلك، واحتجاجهم بأن الناقل للملك لا بد

(1) أقول: وممن صرح بأنها بيع، المحقق الشيخ على في شرح القواعد، حيث قال
في ضمن كلام في المقام: فإن المعروف بين الأصحاب أنها بيع، وإن لم يكن كالعقد في اللزوم
خلافا لظاهر عبارة المفيد.
منه رحمه الله
358

أن يكون من الأقوال الصريحة في الانشاء المنصوبة من قبل الشارع وإنما حصلت
الإباحة باستلزام اعطاء كل واحد منهما للآخر سلعته مسلطا عليها الإذن في التصرف فيها
بوجوه التصرفات، فإذا حصل كان الآخر عوضا عما قابله، لتراضيهما على ذلك، وقبله
يكون كل واحد من العوضين باقيا علي ملك مالكه، فيجوز الرجوع فيه، ولو كانت
بيعا قاصرا عن إفادة الملك المترتب عليه لوجب كونها بيعا فاسدا، إذ لم تجتمع شرائط
صحته، ومن ثم ذهب العلامة في النهاية إلى كونها بيعا فاسدا، وأنه لا يجوز لأحدهما
التصرف فيما صار إليه أصلا. انتهى.
أقول: وبالاحتمال الأول جزم المحقق الشيخ على في شرح القواعد كما سيأتي
نقل كلامه، لما تقدم من التعليل.
ثم أقول: إنه لما كان البناء في هذه المسألة - كما قدمنا الإشارة إليه - على
غير أساس، حصل الشك فيه والالتباس، إذ لم يقم لهم دليل شرعي على صحة هذه
الدعوى، من إفادة المعاطاة جواز التصرف، من غير أن تكون ملكا حقيقيا، سواء
سمي ملكا متزلزلا أو إباحة، وإنما مقتضى الأدلة - كما عرفت - هو كونها بيعا حقيقيا
موجبا للانتقال وعدم جواز الرجوع، وإن كانت العين موجودة، حسبما قيل في
البيع المشتمل على الصيغة الخاصة، واللازم على تقدير ما ذهبوا إليه في هذا المقام، إنما
هو فساد البيع، كما قدمنا ذكره، لأنه لا خلاف بينهم في أن البيع المترتب عليه الانتقال
وصحة التصرف، مشروط بشروط عديدة، بالنسبة إلى الصيغة والمتعاقدين والعوضين
وأنه باختلال شرط من تلك الشروط يكون البيع فاسدا، وإن حصل التراضي، فإن
التراضي لا أثر له في تصحيح ما حكم الشارع بابطاله، وبيع المعاطاة عندهم مما يجب
استكماله جميع شروط البيع غير الصيغة الخاصة، مع تصريحهم بكون الصيغة
الخاصة أحد أركان البيع وقضية ذلك بطلان البيع بالاخلال بها كما في الاخلال
بغيرها من الشروط.
ودعوى استثنائها من تلك الشروط، بأن تركها لا يوجب البطلان، وإنما يكون
359

الحكم هو الإباحة أو الملك متزلزلا، تحكم محض. ولم نظفر لهم بدليل إلا ما عرفت
من التعليلات المبنية على التراضي، مع أنها جارية في صورة اختلال غيرها من الشروط،
لجواز تراضيهما على بيع المجهول والربوي ونحوهما مما منع الشارع منه، مع أنهم
لا يقولون به، والكلام في الصيغة الخاصة - بناءا على دعواهم وجوبها وأنه لا يلزم
البيع إلا بها - كذلك، وبذلك بظهر لك ما في قوله في المسالك في تعليل الاحتمال
الأول من أنه مبني على أن المقصود للمتعاقدين إنما هو الملك، فإذا لم يحصل كانت
فاسدة، فإن فيه: أنهم قد أوجبوا في حصول القصد المذكور دلالة لفظ صريح عليه،
وخصوه بالصيغة الخاصة ولم تحصل، وإلى ذلك يشير قوله في الإحتجاج للاحتمال
الثاني: إن الناقل للملك لا بد أن يكون من الأقوال الصريحة، فاللازم حينئذ هو فساد
المعاطاة كما ذكرنا، لانتفاء الدال على ذلك المقصود، وكذا في قوله - في تعليل
الاحتمال الثاني - من أنه إنما حصل باستلزام اعطاء كل واحد منهما للآخر سلعته،
فإن فيه: أن هذا لو صلح وجها لما ذكروه من الإباحة لاطرد في صورة الاخلال بغير
هذا الشرط من شروط صحة البيع ولزومه، مع أنهم لا يلتزمونه، وتخصيصه بهذا الموضع
تحكم كما عرفت.
وقال المحقق الشيخ على في شرح القواعد - بعد قول المصنف " ولا يكفي
المعاطاة " - ما ملخصه: وظاهره أنها لا تكفي في المقصود بالبيع، وهو نقل الملك،
وليس كذلك، فإن المعروف بين الأصحاب أنها بيع وإن لم تكن كالعقد في اللزوم،
خلافا لظاهر عبارة المفيد، وقوله تعالى: " أحل الله البيع " (1) يتناولها، لأنها بيع
بالاتفاق حتى من القائلين، بفسادها، لأنهم يقولون هي بيع فاسد، وقوله: " إلا أن تكون
تجارة عن تراض " (2) فإنه عام إلا فيما أخرجه الدليل، وما يوجد في عبارة جمع من
متأخري الأصحاب، أنها تفيد الإباحة وتلزم بذهاب إحدى العينين، يرون به عدم

(1) سورة البقرة: 275
(2) سورة النساء: 29
360

اللزوم في أول الأمر، وبالذهاب يتحقق اللزوم، لامتناع إرادة الإباحة المجردة عن
أصل الملك، إذ المقصود للمتعاطيين إنما هو الملك فإذا لم يحصل كانت فاسدة ولم
يجز التصرف في العين، وكافة الأصحاب على خلافه. انتهى.
أقول: ما ذكروه من أن المعاطاة بيع وأنها تفيد الملك، إذ مقصود المتعاطيين
إنما هو الملك، وشمول الآيات الدالة على حل البيع وصحته لذلك، جيد متين.
لكن يبقى الكلام في دعوى عدم اللزوم مع وجود العوضين، فإنه يحتاج إلى
دليل، إذا مقتضى ما ذكروه هو الصحة واللزوم وكونه بيعا حقيقيا، ولا أعرف لهم دليلا
على هذه الدعوى هنا، إلا الاستناد إلى الاخلال بالصيغة الخاصة، بناء على ظاهر
اتفاقهم على أنها ركن من أركان البيع، وقضية ذلك أنما هو الفساد لا الصحة مع عدم
اللزوم.
فإن قيل: أنهم يستندون إلى وقوع المعاطاة في الصدر الأول مع الاخلال
بالصيغة.
قلنا: فيه - أولا - إنك قد عرفت أن هذه الصيغة الخاصة لم يقم عليها دليل.
وثانيا: أن المعاطاة في الصدر الأول إنما كانوا يقصدون بها البيع الحقيقي
كما عرفت من الأخبار المتقدمة ونحوها، وتوقف ذلك على تلف إحدى العوضين
غير معلوم ولا مدلول عليه بدليل.
وأنت إذا ضممت ما دلت عليه الأخبار المتقدمة، من صحة بيع المعاطاة وغيره
من العقود بالألفاظ الدالة على مجرد التراضي، مع الأخبار الدالة على الخيار بأنواعه،
والأخبار الدالة على النزاع بين المشتري والبائع ونحو ذلك، مما يتفرع على البيع
صحة وبطلانا، ظهر لك أن ذلك كله مترتب على بيع المعاطاة كالبيع بالصيغة
الخاصة عندهم.
وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه هنا وجه استقامة، واللازم أما كون المعاطاة
بيعا حقيقيا - كما اخترناه - أو بيعا فاسدا - كما هو مقتضى قواعدهم.
361

ثم إنه مما يتفرع على الاحتمالين المذكورين في عبارة المسالك من الملك
أو الإباحة، حصول النماء. فإن قلنا بالملك كان تابعا للعين في الانتقال والملك، وإن
قلنا بالإباحة احتمل كونه مباحا لمن هو في يده كالعين، وعدمه.
وأما وطئ الجارية، فقيل: الظاهر أنه كالاستخدام يدخل في الإباحة منها.
وأما العتق فعلى القول بالملك (1) يكون جائزا لأنه مملوك، وعلى الإباحة
يتجه العدم، إذ لا عتق إلا في ملك، ومقتضى حكمهم بتجويز جميع التصرفات في
بيع المعاطاة يدفع التفريع على الإباحة هنا، فيكون هذا مما يؤيد القول بالملك.
(الرابع): لا اشكال ولا خلاف عندهم في أنه لو تلف العينان في بيع المعاطاة
فإنه يصير لازما، وإنما الكلام في تلف إحداهما خاصة، وقد صرح جمع منهم بأنه
كالأول، فيكون موجبا لملك العين الأخرى لمن هي في يده، نظرا إلى ما قدمنا نقله
عن المسالك في الأمر الثاني، واحتمل هنا أيضا العدم، التفاتا إلى أصالة بقاء الملك
لمالكه، وعموم " الناس مسلطون على أموالهم " (2).
ثم إنه حكم بأن الأول أقوى، وعلله بأن من بيده المال مستحق قد ظفر
بمثل حقه بإذن مستحقه فيملكه، وإن كان مغايرا له في الجنس والوصف، لتراضيهما
على ذلك.
أقول: قد عرفت آنفا أن الاستناد إلى أمثال هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مشكل، وإنما المدار على النصوص الدالة على المراد بالعموم أو الخصوص.
والمسألة عارية عن ذلك من أصلها، فضلا عن فرعها وأما على ما اخترناه فإنه لا اشكال

(1) أي القول بعدم جواز العتق تفريعا على القول بالإباحة ينافي ما صرحوا به من جواز
التصرف بجميع أنواعه في بيع المعاطاة، فيكون ذلك مؤيدا للقول بالملك، إذ لو تم القول
بالإباحة لصح هذا الفرع المترتب عليه، مع خلاف ما صرحوا به في المقام.
منه رحمه الله
(2) بحار الأنوار ج 2 ص 272
362

في هذا المجال.
ثم إنه لو تلف بعض إحداهما فهل يكون حكمه حكم تلف الجميع أولا،
وجهان. اختار أولهما المحقق الشيخ على في شرح القواعد. قال: ويكفي تلف
بعض إحدى العينين لامتناع التراد في الباقي إذ هو موجب لتبعيض الصفقة والضرر،
ولأن المطلوب كون إحداهما في مقابلة الأخرى.
وتنظر فيه في المسالك، قال: لأن تبعيض الصفقة لا يوجب بطلان أصل المعاوضة،
بل غايته جواز فسخ الآخر، فيرجع إلى المثل أو القيمة كما في نظائره، وأما الضرر
الحاصل من التبعيض المنافي لمقصودهما، من جعل إحداهما في مقابلة الأخرى،
فمستند إلى تقصيرهما في التحفظ بايجاب البيع، كما لو تبايعا بيعا فاسدا، ويحتمل
حينئذ أن يلزم من العين الأخرى في مقابلة التالف ويبقى الباقي على أصل الإباحة
بدلالة ما قدمناه. انتهى.
وهو جيد بناءا على قواعدهم وأما على ما اخترناه فالأمر ظاهر، إذ صحة المعاملة
المذكورة ولزومها لا تتوقف على تلف أحد العوضين أو بعضه، بعين ما قرروه في
العقد بالصيغة الخاصة عندهم.
(الخامس): إن من فروع المسألة بناء على ما قرروه فيها، ما لو وقعت المعاوضة
بقبض أحد العوضين خاصة، كما لو دفع إليه سلعة بثمن وافقه عليه أو دفع إليه ثمنا
عن عين موصوفة بصفات السلم، فتلف العوض المقبوض، ففي لحوق أحكام
المعاطاة ولزوم الثمن المسمى والثمن الموصوف اشكال، ينشأ من عدم صدق اسم
المعاطاة، لأنها مفاعلة تتوقف على العطاء من الجانبين، ولم يحصل.
ويعضده أيضا الاقتصار فيما يخرج عن الأصل على موضع اليقين إن كان،
ومن صدق التراضي على المعاوضة، وتلف العين المدعى كونه كافيا في التقابض
من الجانبين.
وبالصحة هنا صرح في الدروس فقال: ومن المعاطاة أن يدفع إليه سلعة بثمن
363

يوافقه عليه من غير عقد، ثم يهلك عند القابض فيلزمه الثمن المسمى. انتهى.
أقول: ويؤيده أن التسمية بالمعاطاة في هذا البيع إنما وقعت في كلامهم.
إذ لا نص في المقام فوجوب ترتب الصحة على الاعطاء من الجانبين - بناءا على
هذا اللفظ - لا وجه له نعم لو كان هنا نص ورد بهذه التسمية لاقتضى تفريع ذلك
عليه. وحينئذ فالمرجع في ذلك - بناء على أصولهم في هذه المسألة - إلى ما علل
به في الوجه الثاني - بناء على ما اخترناه - دلالة النصوص على كون ذلك بيعا
صحيحا شرعيا، لما عرفت آنفا من أن اشتراط هذه الصيغة الخاصة غير ثابت، بل
يكفي مجرد الألفاظ الدالة على التراضي، مع استكمال باقي الشرائط المعتبرة في
البيع. والله العالم.
(السادس): قال في المسالك: ذكر بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة
والهبة، بأن يأمره بعمل معين ويعين له عوضا، فيستحق الأجرة بالعمل، ولو كانت
إجارة فاسدة لم يستحقق شيئا مع علمه بالفساد، بل لم يجز له العمل والتصرف في
ملك المستأجر، مع اطباقهم على جواز ذلك، واستحقاق الأجر. إنما يكون الكلام
في تسمية المعاطاة، في الإجارة، وذكر في مثال الهبة: ما لو وهبه بغير عقد فيجوز للقابض
اتلافه، وتملكه به، ولو كانت هبة فاسدة لم يجز. ولا بأس به، إلا أن في مثال
الهبة نظرا، من حيث إن الهبة لا تختص بلفظ، بل كل لفظ يدل على التمليك بغير
عوض كاف فيها كما ذكروه في بابه، وجواز التصرف في المثال المذكور موقوف على
وجود لفظ يدل عليها، فيكون كافيا في الإيجاب. اللهم إلا أن يعتبر القبول اللفظي
مع ذلك ولا يحصل في المثال فيتجه ما قاله. انتهى.
أقول: لا يخفى على من مارس الأخبار أنه لا وجه لتخصيص هذا البعض ما ذكره
بالإجارة والهبة، وذلك فإن غاية ما يستفاد منها بالنسبة إلى جميع العقود، أنه لا يعتبر
فيها أزيد من الألفاظ الدالة على الرضا بمضمون ذلك العقد، كيف كانت، وعلى
أي نحو صدرت، ومع استكمال جميع ما يشترط فيه، من غير توقف على الصيغ
364

الخاصة التي أوجبوها في كل عقد.
وأما الاشكال في كون ذلك يسمى معاطاة أم لا، كما يشير إليه كلام شيخنا
المذكور، ففيه: ما أشرنا إليه آنفا، من أن هذه التسمية إنما هي اصطلاحية ذكروها
في باب البيع، وجعلوها في مقابلة البيع بالصيغة التي اتفقوا عليها فقسموها إلى
البيع بالعقد المخصوص وإلى بيع المعاطاة، وجعلوا لكل منهما أحكاما، كما تقدم
ذكره، ولما كانت هذه الصيغة تتضمن المفاعلة من الطرفين، استشكلوا في اجرائها
في هذه المواضع ونحوها.
وأنت خبير بأنه مع الرجوع إلى الأخبار فلا وجود لهذه التسمية ولا أثر يترتب
عليها في باب البيع ولا غيره، وقد عرفت أنهم في باب البيع قد خرجوا عنها في صحة
المعاطاة بقبض أحد العوضين دون الآخر، وظاهر كلامه - عليه الرحمة - أن المستند في
صحة الإجارة والهبة في هذا المقام إنما هو اطباق الناس على جواز التصرف في الصورتين
المذكورتين، واستحقاق الأجرة في الإجارة، وأنت خبير بما فيه: وإن كان فيه نوع إيماء إلى
الاجماع، بل الحق في ذلك أنما هو كون ذلك غاية ما يستفاد من الأدلة في هذين
الموضعين وغيرهما ولا يستفاد منها ما ادعوه من الصيغ الخاصة التي جعلوا بها هذه الأفراد
قسيما لما اتفقوا على صحته. والله العالم.
(السابع): الظاهر أنه لا خلاف في أن اشتراط الاتيان بالصيغة الخاصة أو مجرد
ما دل من الألفاظ على الرضا، إنما هو بالنسبة إلى من يتمكن من التلفظ، فأما من لم
يمكنه ذلك كالأخرس ومن بلسانه آفة، فإنه تكفيه الإشارة المفهمة.
قيل: وفي حكمه الكتابة أيضا على ورق أو خشب أو نحو ذلك واعتبر العلامة
في الكتابة أن تدل على رضاه. والظاهر عدم وجوب التوكيل في الصورة المذكورة
وربما قيل بالوجوب.
قيل: ويجب وقوع الإيجاب والقبول باللفظ العربي، مراعيا فيهما أحكام
الاعراب والبناء، وكذا كل عقد لازم، لأن الناقل هو الألفاظ المخصوصة، وغيرها
365

لم يدل عليه دليل، ومعلوم أن العقود الواقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهما السلام إنما
كانت بالعربية، نعم يجوز لمن لا يعلم ذلك، الايقاع بمقدوره، ولا يجب التوكيل،
للأصل. نعم يجب التعلم أن أمكن من غير مشقة عرفا. انتهى.
أقول. قد عرفت أن غاية ما يستفاد من الأخبار الواردة في البيوع والصلح والأنكحة
ونحوها وجود الألفاظ الدالة على التراضي بما دلت عليه بأي نحو كانت، وكون
العقود في وقتهم - عليهم السلام - كانت باللغة العربية وعلى النهج العربي الصحيح،
لا يدل ما ذكروه من اشتراط ذلك، لأن ذلك أنما صدر من حيث إن محاوراتهم ومحادثاتهم
وكلامهم كانت على ذلك النحو، في عقد كان أو غير عقد، فهو من قبيل السليقة والجبلة التي
طبعت عليها ألفاظهم ومحاوراتهم وألسنتهم. واشتراط ذلك في صحة العقود يحتاج
إلى دليل واضح وبرهان لائح، وأصالة العدم أقوى متمسك في المقام، وإن كان
الاحتياط فيما ذكروه، لا سيما في باب النكاح المبني على الاحتياط. والله العالم.
366

المقام الثاني
قد عرفت أن أحد أركان البيع: المتعاقدان. فيشترط فيهما البلوغ والعقل
والاختيار والملك ونحوه، بأن يكون مالكا أو مأذونا على خلاف في هذا الموضع
يأتي انشاء الله تعالى بيانه فلا يصح بيع الصبي ولا شراؤه ولا المجنون ولا المكره
ولا المغمى عليه ولا السكران ولا غير المالك ومن في حكمه.
وتفصيل هذه الجملة يقع في مسائل:
الأولى: ظاهر كلام جمهور الأصحاب أنه لا يصح بيع الصبي ولا شراؤه
ولو أذن له الولي. وأنه لا فرق في الصبي بين المميز وغيره. ولا فرق بين كون المال
له أو للولي أو لغيرهما. أذن مالكه أو لم يأذن.
ونقل جماعة من الأصحاب هنا قولا بجواز بيع الصبي وشرائه إذا بلغ عشرا
وكان عاقلا، وردوه بالضعف.
قال في المسالك: والمراد بالعقل هنا الرشد، فغير الرشيد لا يصح بيعه، و
إن كان عاقلا، اتفاقا. انتهى.
قال العلامة في التذكرة: الصغير محجور عليه بالاجماع، سواء كان مميزا
أولا، في جميع التصرفات إلا ما استثنى، كعباداته واسلامه واحرامه وتدبيره و
367

وصيته وايصال الهدية وإذنه في دخول الدار، على خلاف في ذلك قال الله تعالى
" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " (1).
وقوله تعالى: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " (2) يعني
أموالهم. ولعل قوله " وارزقوهم فيها واكسوهم " (3) قرينة له. وقوله: " وإن
كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه " (4).
قيل: السفيه المبذر، والضعيف الصبي، لأن العرب تسمي كل قليل العقل
ضعيفا، والذي لا يستطيع التغلب مغلوب على عقله.
وظاهره دعوى الاجماع على الحكم المذكور، مع أنك قد عرفت وجود
المخالف في ذلك.
ويظهر من المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد المناقشة في هذا المقام، حيث
قال - بعد ما نقل هذا الكلام - ما ملخصه: والاجماع مطلقا غير ظاهر، والآية غير
صريحة الدلالة، لأن عدم دفع المال إليهم وعدم الاعتداد باملائهم، لا يستلزم
عدم جواز ايقاع العقد وعدم الاعتبار بكلامهم، خصوصا مع إذن الولي
والتمييز.
ويؤيده اعتبار المستثنى، فإنه لو كان ممن لا اعتداد بكلامه ما كان ينبغي
الاستثناء، ولهذا قيل بجواز عقده إذا بلغ عشرا أو عقده حال الاختيار، فإن ظاهر
الآية كون الاختيار قبل البلوغ، ولئلا يلزم التأخير في الدفع مع الاستحقاق - إلى أن قال -: وبالجملة إذا جاز عتقه ووصيته وصدقته بالمعروف وغيرها من القربات،
كما هو ظاهر الروايات الكثيرة، لا يبعد جواز بيعه وشرائه وسائر معاملاته، إذا

(1) سورة النساء: 6
(2) سورة النساء: 5
(3) سورة النساء: 5
(4) سورة البقرة: 282
368

كان بصيرا مميزا (1) رشيدا يعرف نفعه وضره بالمال، كما نجده في كثير من
الصبيان، فإنه قد يوجد منهم من هو أعظم في هذه الأمور من آبائهم، فلا مانع
له من ايقاع العقد، خصوصا مع إذن الولي أو حضوره بعد تعيينه الثمن. انتهى.
أقول: لا يخفى أن ما ذكره وإن كان جيدا من حيث الاعتبار بالنظر إلى ما عده
من الأفراد، إلا أنه بالنظر إلى الأخبار لا يخلو من تطرق الإيراد.
وها أنا أذكر ما وصل إلي من الأخبار الجارية في هذا المضمار.
فمنها: ما رواه في الكافي عن حمزة بن حمران عن حمران قال: سألت أبا
جعفر - عليه السلام - قلت له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامة و
يقام عليه ويؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عن اليتم فأدرك، قلت: فلذلك حد يعرف
به؟ فقال: إذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك، أقيمت
عليه الحدود التامة، وأخذ بها، وأخذت له، قلت: فالجارية متى تجب عليها الحدود
التامة وتؤخذ بها ويؤخذ لها؟ قال: إن الجارية ليست مثل الغلام، لأن الجارية
إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وجاز أمرها
في الشراء والبيع، وأقيمت عليها الحدود التامة، وأخذ لها وبها، قال: والغلام
لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة،
أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك (2) ورواه في مستطرفات السرائر نقلا من
كتاب المشيخة للحسن بن محبوب إلا أنه رواه عن حمزة بن حمران، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام من غير واسطة حمران.
أقول: والخبر - كما ترى - ظاهر فيما ذكره الأصحاب - رضي الله عنهم -

(1) ظاهر الفاضل الخراساني في الكفاية التوقف في هذا المقام. حيث قال: في المميز
اشكال. والظاهر أن منشأه هو وقوفه على كلام المحقق المذكور وعدم إمعان النظر في
الأخبار التي ذكرناها. منه رحمه الله
(2) الوسائل ج 1 ص 30 حديث: 2
369

من أنه لا يجوز بيع الصبي ولا شراؤه وكذا الصبية إلا بعد البلوغ، المعلوم بأحد
الأمور المذكورة، والطعن بضعف السند غير موجه عندنا، مع رواية الخبر
المذكور أيضا في كتاب المشيخة المشار إليه الذي هو أحد الأصول المعتمدة.
وما رواه الصدوق في الخصال عن عبد الله بن سنان، عن الصادق عليه السلام قال:
سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال حتى يبلغ أشده. قال: وما
أشده؟ قال: احتلامه قال: قلت: قد يكون الغلام ابن ثماني عشرة سنة أو أقل أو
أكثر ولا يحتلم. قال: إذا بلغ وكتب عليه الشئ جاز أمره، إلا أن يكون سفيها
أو ضعيفا (1).
والتقريب فيها: أن المراد بجواز أمره هو التصرف في ماله بالبيع والشراء
ونحوهما، كما أفصح عنه في حديث حمران المتقدم، وقد أناط عليه السلام ذلك بالبلوغ،
وهو ظاهر في أنه ما لم يبلغ فإنه لا يجوز أمره ولا تصرفه فيه بوجه من الوجوه، إلا
ما دل دليل من خارج على استثنائه، فالقول بأنه لا منافاة بين صحة بيعه وبين عدم دفع
المال إليه - كما يظهر من كلام المحقق الأردبيلي المتقدم ذكره - لا معنى له، فإن
الخبر المذكور دل على عدم جواز أمره، يعني تصرفه بجميع أنواع التصرفات،
والعقد الواقع منه إن كان صحيحا موجبا لنقل الملك فهو التصرف الذي منع
منه الخبر، وإلا فهو لغو لا عبرة به ولا ثمرة تترتب عليه، وإذن الولي والتميز إنما
يكون مؤثرا في الصحة مع قيام الدليل، وليس فليس.
وبالجملة فأصالة بقاء الملك لكل من المتعاقدين حتى يقوم دليل واضح على
النقل، أقوى متمسك.
وما رواه الصدوق في الفقيه عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام قال: إذا
بلغ الغلام أشده: ثلاث عشرة سنة، ودخل في الأربع عشرة سنة، وجب عليه ما
وجب على المحتلمين، احتلم أو لم يحتلم. وكتبت عليه السيئات وكتبت له

(1) جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 97 ب 11 من أبواب المقدمات حديث 7
370

الحسنات، وجاز له كل شئ، إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا (1) والتقريب في الخبر
المذكور: دلالته بمفهوم الشرط - الذي هو حجة عند المحققين، ودلت عليه
الأخبار التي قدمناها في مقدمات كتاب الطهارة - على أنه ما لم يبلغ أشده (السنين
المذكورة) فإنه لا يجوز له شئ، يعني من التصرفات، كما دل عليه الخبران
المتقدمان.
وما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام
في حديث، قال فيه: قوله " وابتلوا اليتامى " قال: من كان في يده مال بعض
اليتامى فلا يجوز له أن يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم، فإذا احتلم وجب عليه
الحدود وإقامة الفرائض، ولا يكون مضيعا ولا شارب خمر ولا زانيا، وإذا آنس
منه الرشد دفع إليه المال وأشهد عليه، فإن كانوا لا يعلمون أنه قد بلغ، فإنه يمتحن
بريح إبطه ونبت عانته، فإذا كان فقد بلغ، فيدفع إليه ماله إذا كان رشيدا، ولا
يجوز أن يحبس عنه ماله ويعتل عليه بأنه لم يكبر بعد (2).
أقول: والخبر المذكور - كما ترى - صريح في أنه محجور عليه حتى
يبلغ وظاهر الخبر أن المراد بالآية المذكورة: أنه يجب اختبار اليتامى بالبلوغ وعدمه،
فإذا علم البلوغ بأحد أسبابه وجب دفع ماله إليه إذا آنس منه الرشد، وإلا فلا يدفع إليه.
وبذلك يظهر ما في قول المحقق المتقدم ذكره.
ويؤيده اعتبار المستثنى، فإن استثناء عدم الدفع إنما هو بالنسبة إلى البالغ
من حيث عدم الرشد بالنسبة إلى اليتيم قبل البلوغ، كما يظهر من كلامه، والاختيار
بالرشد وعدمه إنما هو بعد تحقق البلوغ.
وما رواه العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
متى يدفع إلى الغلام ماله؟ قال: إذا بلغ أو أونس منه الرشد، ولم يكن سفيها و

(1) جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 97 حديث: 9
(2) تفسير البرهان ج 1 ص 343 حديث: 1
371

لا ضعيفا " الحديث " (1).
والتقريب فيه: دلالته على أنه محجور عليه لا يدفع إليه ماله إلا بعد البلوغ
والرشد، ومن الظاهر أن وقوع البيع والشراء منه فرع وجود مال في يده ليأخذ
به ويعطي، ولا معنى لصحة عقده وجواز تصرفه بمجرد انشاء صيغة البيع وقبول
الشراء، مع كونه محجورا عليه في دفعه وقبضه.
على أنك قد عرفت أن البيع لا يتوقف على صيغة خاصة، بل هو عبارة عن
التراضي على القبض والاقباض بمجرد الكلام الجاري بينهما.
وبالجملة فإن الظاهر من هذه الأخبار التي ذكرناها ونحوها غيرها مما يقف
عليه المتتبع: أن الصبي ما لم يبلغ فإنه محجور عليه ولا يجوز بيعه ولا شراؤه، و
دلالة بعض الأخبار على تصرفه بالعتق والوصية أو الصدقة، لا يدل على الجواز في
محل البحث، بل يجب الوقوف فيه على مورد تلك الأخبار المذكورة، ويكون
ذلك مستثنى بها مما دلت عليه هذه الأخبار ونحوها، والحاق غيره به قياس لا يوافق
أصول المذهب، لا سيما مع تصريح بعض هذه الأخبار بعدم جواز البيع و
الشراء منه.
وبذلك يظهر لك قوة القول المشهور، وأنه المؤيد المنصور، وضعف ما
ذكره المحقق المذكور. والله العالم.
وأما ما يتحقق به البلوغ فقد تقدم الكلام فيه مستوفى في كتاب الصيام.

(1) جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 97 حديث: 10
372

المسألة الثانية
لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط الاختيار، فلا يصح عقد المكره، لفوات
الشرط المذكور.
وظاهرهم - أيضا - الاتفاق على أنه لو أجازه - بعد وقوعه حال الاكراه - صح
بخلاف ما تقدم من عقد الصبي والمجنون، إذ لا قصد لهما إلى العقد ولا أهلية، لفقد
شرطه وهو العقل، بخلاف المكره فإنه بالغ عاقل، وليس ثمة مانع إلا عدم القصد
إلى العقد حين ايقاعه، وهو مجبور بلحوق الإجازة، فيكون كعقد الفضولي حيث
انتفى القصد إليه من مالكه الذي يعتبر قصده حين العقد، فلما لحقه القصد بالإجازة صح،
وحينئذ فلا مانع من الصحة إلا تخيل اشتراط مقارنة القصد للعقد، ولا دليل
عليه.
وينبه على عدم اعتباره عقد الفضولي، وعموم الأمر بالوفاء بالعقد يشمله، فلا
يقدح فيه اختصاص عقد الفضولي بالنص، كذا صرح به في المسالك، وإليه يرجع
كلام غيره أيضا.
وظاهر كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد: المناقشة فيما ذكروه من
الفرق بين عقد الصبي والمجنون وبين عقد المكره، بصحة الثاني مع لحقوق
الإجازة، بخلاف الأول. حيث قال - في أثناء البحث في بيان الأحكام التي اشتملت
عليها عبارة المصنف، التي من جملتها استثناء عقد المكره من البطلان متى لحقته
الإجازة - ما لفظه: فالتفريع كله ظاهر - إلى قوله -: ولو أجازا، وإلا المكره.
فإن الاستثناء غير واضح، بل الظاهر البطلان أيضا، لعدم حصول القصد، بل و
عدم صدور القصد عن تراض، والظاهر اشتراطه على ما هو ظاهر الآية، ولأنه
373

لا اعتبار بذلك الإيجاب في نظر الشارع، فهو بمنزلة العدم، وهو ظاهر. لعدم الفرق
بينه وبين غيره من الطفل ونحوه، والفرق في كلامهم بأنه لا اعتبار به بخلاف المكره
فإنه معتبر إلا أنه لا رضاء معه فإذا وجد الرضا صح لوجود شرطه، بعيد جدا لما عرفت.
وبالجملة لا اجماع فيه ولا نص، والأصل الاستصحاب وعدم الأكل بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض مما يدل على عدم الانعقاد إلا أن المشهور الصحة وما نعرف لهم دليلا،
وهم أعرف. ولعل لهم نصا ما نقل إلينا. انتهى وهو جيد.
ويؤيده - بأظهر تأييد - أن الأحكام الشرعية مترتبة على النصوص الجلية
وليس للعقول فيها مسرح بالكلية، والأصل بقاء الملك في كل من العوضين لمالكه
الأصلي حتى يقوم الدليل الشرعي على الانتقال وهم قد سلموا بأن عقد المكره
حال الاكراه باطل اتفاقا، فتصحيحه بالإجازة أخيرا يتوقف على نص واضح يدل
على ذلك، والتعلق في ذلك، بعقد الفضولي مع قطع النظر عن كون ذلك قياسا
لو ثبت صحة العقد الفضولي، مردود بما سنوضحه انشاء الله تعالى في تلك المسألة
من بطلانه.
وقوله: فلا يقدح اختصاص العقد الفضولي بنص، مردود بأن هذا النص إنما
هو من طريق العامة، وهو حديث البارقي، ونصوصنا ظاهرة بخلافه كما ستقف
عليه انشاء الله.
وقوله: إن عموم الأمر بالوفاء بالعقد يشمله، إشارة إلى قوله عز وجل " أوفوا
بالعقود " مردود بالاتفاق على أن المراد بالعقود: العقود الصحيحة، وإلا لتناول
العقد حال الاكراه.
ودعوى كون هذا العقد صحيحا بعد الإجازة مع اتفاقهم على البطلان قبلها،
يتوقف على الدليل الواضح، وإلا فهو محض المصادرة.
وقوله: إن مقارنة القصد للعقد لا دليل عليه، مردود بأنه هو المستفاد من
النصوص، وغيره لا دليل عليه، فإن المستفاد من النصوص التي قدمناها في بيع
المعاطاة ونحوها: إنه لا بد في صحة العقد من حصول الرضا بتلك الألفاظ الجارية
374

بين المتعاقدين في أي عقد كان، وهذا هو القدر المحقق منها في شرط صحة
العقد، وأما أنه يصح بالإجازة بعد وقوعه على جهة الاكراه، بحيث يكون الرضا
به والقصد إليه متأخرا عن العقد، فهو المحتاج إلى الدليل.
وبالجملة فإن دعواه معكوسة عليه، كما لا يخفى على من رجع إلى الانصاف
وجنح إليه.
وإلى ما ذكرنا هنا يشير كلام المحقق الشيخ على في شرح القواعد، حيث
قال: واعلم أن هذه المسألة إن كانت اجماعية فلا بحث، وإلا فللننظر فيها مجال،
لانتفاء القصد أصلا ورأسا مع عدم الرضا، ولا يتحقق العقد المشروط بذلك إذا لم
يتحقق، لأن الظاهر من كون العقود بالقصود: اعتبار القصد المقارن لها دون المتأخر
انتهى. وهو جيد.
وأما قوله في المسالك - على أثر الكلام المتقدم نقله -: " وبهذا يظهر ضعف
ما قيل هنا من انتفاء القصد أصلا ورأسا مع عدم الرضا وأن الظاهر من كون العقود
بالقصود: المقارن دون المتأخر "، فهو إشارة إلى رد كلام المحقق المذكور،
وقد عرفت ما فيه من القصور، فإن ما ذكره من الوجوه التي زعم بها ضعف هذا
الكلام، قد كشفنا عن وجوه قصورها نقاب الابهام.
على أن عود الصحة بعد البطلان غير معقول، إلا أن يقول بأن العقد حال
الاكراه جائز صحيح، ولزومه موقوف على الإجازة، مع أن الأمر ليس كذلك،
فإنهم لا يختلفون في البطلان لفقد شرط الصحة وهو الاختيار، ولهذا إنهم في العقد
الفضولي حكموا بجوازه صحته، وإنما منعوا من لزومه، فجعلوا لزومه وعدمه
مراعى بإجازة المالك وعدمها.
ثم إنه قد أورد عليهم في هذا المقام اشكال، وهو أنهم قد حكموا بفساد عقد
الهازل، ولم يذكروا لزومه لو لحقه الرضا، مع أن ظاهر حاله أنه قاصد إلى
اللفظ دون مدلوله، كما في المكره، لأنه بالغ عاقل، فاللازم حينئذ إما الحاقه
375

بالمكره في لزوم عقده مع لحقوق الرضا به، أو بيان وجه الفرق بينهما.
ودعوى كونه غير قاصد للفظ، بعيدة عن جادة الصواب.
* * *
هذا. وينبغي أن يعلم: أن الحكم ببطلان بيع المكره مخصوص بما إذا
كان الاكراه بغير حق، فلو كان بحق كان صحيحا لا يضره الاكراه، وقد ذكروا
لذلك مواضع:
منها: أن يتوجه عليه بيع ماله لوفاء دين عليه، أو شراء مال أسلم إليه قيمته
فأكرهه الحاكم عليه، صح بيعه وشراؤه، لأنه اكراه بحق.
ومنها: تقويم العبد على معتق نصيبه منه، وتقويمه في فكه من الرق ليرث،
واكراهه على البيع لنفقته ونفقة زوجته مع امتناعه، وبيع الحيوان إذا امتنع من
الانفاق عليه، والعبد إذا أسلم عند الكافر، والعبد المسلم والمصحف إذا اشتراهما
الكافر وسوغناه، فإنهما يباعان عليه قهرا، والطعام عند المجاعة يشتريه خائف
التلف، والمحتكر مع عدم وجود غيره واحتياج الناس إليه، فإن جميع هذه
الصور مستثناة من قولهم " إن بيع المكره غير صحيح " وضابطها: " الاكراه بحق "
والله العالم.
المسألة الثالثة
قد عرفت فيما تقدم أن من شروط صحة البيع: كون البايع مالكا أو في
حكمه على المختار، إلا أنه قد وقع الخلاف بين أصحابنا في عقد الفضولي.
والكلام فيه يقع في مقامين:
المقام الأول: اختلف الأصحاب في صحة بيع الفضولي وبطلانه،
376

فالمشهور - بل كاد أن يكون اجماعا -: هو الأول. وإن توقف لزومه على الإجازة،
وذهب في الخلاف والمبسوط وتبعه ابن إدريس إلى الثاني. وهو الظاهر من
عبارة أبي الصلاح في الكافي. ولم أر من نقل عنه، إلا أن الذي يظهر من عبارته
ذلك، فإنه قال في الكتاب المذكور - بعد تعريف البيع بأنه عقد يقتضي استحقاق
التصرف في المبيع والثمن وتسليمهما - ما صورته: ويفتقر صحته إلى شروط ثمانية:
صحة الولاية في البيعين - إلى أن قال - واعتبرنا صحة الولاية لتأثير حصولها
بثبوت الملك أو الإذن، وصحة الرأي في صحة العقد، وعدم ذلك في فساده. ثم
قال - في موضع آخر -: ومن ابتاع غصبا يعلمه كذلك فعليه رده إلى المالك، ولا درك
له على الغاصب، وإن لم يعلمه فللمالك انتزاعه منه، ويرجع بالدرك على من
باع. انتهى.
فإنه جعل المؤثر في صحة العقد هو حصول الولاية المسببة عن الملك أو
الإذن كالوكيل ونحوه: فالفضولي ليس له ولاية بشئ من المعنيين، وفي فساده
عدم ذلك. وأوجب فيمن ابتاع غصبا رده إلى المالك لا وقوفه على الإجازة.
ونقل الفاضل المقداد في التنقيح هذا القول عن شيخه. ولا أعلم من أراد به
من مشائخه.
واختار هذا القول - أيضا - فخر المحققين هنا وفي كل موضع من العقود
الفضولية، وتبعه على ذلك العماد مير محمد باقر الداماد، حيث قال في رسالته،
الرضاعية ما هذا لفظه: عندي أن عقد النكاح بل مطلق العقد الصادر من الفضولي،
وهو الذي ليس له ولاية ولا وكالة، باطل من أصله، والإجازة اللاحقة غير مؤثرة
في تصحيحه، ولا كاشفة عن صحته أصلا انتهى.
وممن ظاهره القول بالبطلان هنا - أيضا - المحقق الأردبيلي في شرح
الإرشاد، حيث قال - بعد قول المصنف " ولو باع الفضولي وقف على الإجازة "
ما ملخصه: هذا هو المشهور، وما نجد عليه دليلا. ثم نقل الرواية العامية الآتية
377

انشاء الله تعالى، وبعض تعليلاتهم العقلية. ثم قال: ومعلوم عدم صحة الرواية و
معارضتها بأقوى منها دلالة وسندا، لقوله عليه السلام لحكيم بن حزام: لا تبع ما ليس عندك.
ومعلوم - أيضا - عدم صدوره من أهله، لأن الأهل هو المالك أو من له الإذن. و
بالجملة: الأصل، واشتراط التجارة عن تراض، الذي يفهم من الآية الكريمة، و
الآيات والأخبار الدالة على عدم جواز التصرف في مال الغير إلا بإذنه، وكذا
العقل، يدل على عدم الجواز، عدم الصحة وعدم انتقال المال من شخص إلى
آخر. انتهى.
ويظهر ذلك - أيضا - من الشيخ الحر في الوسائل.
وهذا القول هو الظاهر عندي من الأخبار، على وجه لا يعتريه الشك والانكار،
إلا ممن قابل بالصد عن الحق والاستكبار، وسيأتيك أخباره انشاء الله تعالى في
المقام ساطعة الأنوار علية المنار.
* * *
هذا وظاهر الأصحاب: أن المراد بالبيع الفضولي هو من باع مال غيره مع
عدم الإذن من مالكه، أعم من أن يكون البيع لنفسه أو للمالك، فيدخل فيه بيع
الغاصب ونحوه، وأدلتهم التي استدلوا بها في المقام شاملة بعمومها لما قلناه، و
كأن بنائهم في الحكم بصحة البيع المغصوب، مع كونه منهيا عن التصرف فيه،
أنه لا منافاة بين الصحة والنهي، لكون النهي إنما يؤثر الابطال في العبادات، وأما
في المعاملات فغاية ما يترتب عليه لحوق الإثم بالمخالفة، فيصح بيعه وإن أثم البايع
بالتصرف، وسيجئ تحقيق الكلام في المقام انشاء الله تعالى.
وقد احتج الأصحاب على ما ذهبوا إليه - هنا من الصحة - بأن مقتضى الصحة موجود
وهو العقد الجامع للشرائط، وليس ثم مانع إلا إذن المالك، وبحصوله يزول المانع
ويجتمع الشرائط، كذا قرره في المسالك.
واحتج على ذلك في المختلف بأنه بيع صدر من أهله في محله فكان صحيحا
378

أما صدوره من أهله فلصدوره من بالغ عاقل مختار، ومن جميع الصفات كان أهلا للايقاعات،
وأما صدوره في محله فلأنه وقع على عين يصح تملكها وينتفع بها، وتقبل النقل من مالك
إلى آخر، وأما الصحة فلثبوت المقتضي السالم عن معارضة، وكون الشئ غير
مملوك للعاقد غير مانع من صحة العقد، فإن المالك لو أذن قبل البيع لصح فكذا بعده،
إذ لا فارق بينهما.
واحتج أيضا بما رواه عن عروة البارقي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه دينارا ليشتري
به شاة، فاشترى شاتين ثم باع إحداهما بدينار في الطريق. قال فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بدينار والشاة فأخبرته، فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك (1).
واحتج الشيخ في الخلاف على ما ذهب إليه من القول بالبطلان باجماع الفرقة.
قال: ومن خالف لا يعتد بقوله، لأنه لا خلاف في أنه ممنوع من التصرف في ملك غيره
والبيع تصرف، وأيضا روى حكيم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع ما ليس عنده (2)،
وهذا نص وروى شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا طلاق إلا فيما
يملك، ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك (3) فنفى عليه السلام البيع في غير الملك
ولم يفرق.
وأجاب القائلون بالصحة عن الاجماع بمنعه مع وجود المخالف وهو من
جملة المخالفين في نهايته، وعن المنع من التصرف في ملك الغير بأنه مسلم، لكن
إذا كان بغير إذنه والإذن هنا موجود، وهو الإجازة القائمة مقامه. وعن النفي بأنه
إذا دخل على حقيقة، أريد به نفي صفة من صفاتها، فيكون المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم " لا بيع
إلا فيما يملك ": لا لزوم للبيع إلا فيما يملك، وإلا لزم بطلان بيع الوكيل والوصي
والولي، فيكون المراد: لا بيع إلا فيما هو ملك أو كالملك بسبب الإذن وقد حصل.

(1) مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 376
(2) سنن الترمذي ج 3 ص 534
(3) مستدرك الوسائل ج 2 ص 460 حديث: 3 و 4
379

أقول: وعندي فيما ذكروه من الأدلة على الصحة، وفيما ذكروه من الأجوبة
عن أدلة الشيخ نظر يتوقف بيانه على ذكرها واحدة واحدة، ليتأكد بذلك صحة ما اخترناه
وقوة ما قويناه، ويكون ذلك في مواضع:
(الأول): ما احتج به في المسالك من كون المقتضي للصحة موجودا وهو الجامع
للشرائط، ففيه: أنه لم يقم لهم دليل على اعتبار هذا العقد الذي ذكروه، والصيغة
التي اشترطوها، وإنما المتحقق من الناقل الذي يترتب عليه أحكام البيع، هو حصول
التراضي من الطرفين، وبذلك صرح هو أيضا في مسالكه، فقال - بعد أن نقل عن
ظاهر المفيد الاكتفاء في تحقق البيع بما دل على الرضا به من المتعاقدين إن عرفاه
وتقابضا، وعن بعض مشائخه المعاصرين أنه يذهب إلى ذلك لكن يشترط
في الدال كونه لفظا - ما صورته: والنصوص المطلقة من الكتاب والسنة الدالة على حل
البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغ خاصة تدل على ذلك، فإنا لم نقف على دليل صريح في
اعتبار لفظ معين، وقد عرفت فيما تقدم ميل جملة من العلماء إلى هذا القول.
وحينئذ فإذا اعترف بأنه لا دليل على اعتبار هذا العقد الذي ذكروه، وإنما
المدار على حصول التراضي من الطرفين أعم من أن يكون بهذا اللفظ أو بغيره مما يدل
عليه، كان الناقل المترتب عليه الأحكام إنما هو الرضا من المالك، وحيث لم يحصل
- كما هو المفروض - فلا وجود للبيع من أصله، ولا يترتب أثر عليه. فكيف يحتج
هنا بأن المقتضي للصحة موجود وهو العقد الجامع للشرائط.
لا يقال: إن لقائل أن يقول: إن البايع الفضولي يجوز أن يتراضى مع المشتري
على نحو من الوجوه، ويكون ذلك التراضي بيعا موقوفا.
لأنا نقول: التراضي الذي دل عليه الدليل - عندنا - هو ما يكون بين المالك
والمشتري، أعم من أن يكون مالك الأصل أو المتصرف كالولي والوصي والوكيل،
وأيضا فإن ذلك القائل لا يرتضيه ولا يقول به لتصريحه بوجوب تلك الصيغة المخصوصة.
(الثاني): ما احتج به في المختلف من أنه بيع صدر من أهله، وجعله الأهلية عبارة
380

عن البلوغ والعقل والاختيار، ففيه: منع ظاهر، لأن الخصم يقول: إن الأهلية عبارة
عن ذلك بإضافة المالكية للأصل أو التصرف، ولا يسلم له ما ادعاه من أهلية الفضولي،
وإن الأهلية عبارة عما ذكره، بل هو أول المسألة.
وأما ما ذكره من صدوره في محله باعتبار وقوعه على عين يصح تملكها وتقبل
النقل فيه، ففيه: ما في الأول، فإن الخصم يقول: إن محله المال المملوك أصلا
أو تصرفا، لا ما يصلح للتملك ويقبله في حد ذاته.
وبالجملة فإن ما ذكره من الدليل مصادرة على المطلوب كما لا يخفى.
وأما ما ذكره من أنه لا فرق بين الإذن قبل البلوغ أو بعده فغير مسلم أيضا، لأن التصرف
بعد الإذن شرعي بلا خلاف فلا يترتب عليه إثم ولا ضمان، وأما قبله فغصبي يترتب عليه الضمان
والإثم، لقبح التصرف في مال الغير بغير إذنه، ومنع الشارع من ذلك. وقد صرحوا بذلك
في مواضع عديدة، وإلا لجازت الصلاة في الأماكن مطلقا، وفي الثياب كذلك، وجاز
أكل الغير والتصرف فيه بأنواع التصرفات، بناء على الإذن المتأخر. حيث لا فرق
بينه وبين الإذن المتقدم، فإن أذن المالك وإلا غرم له أجرة ذلك، وتكون التصرفات
على التقديرين تصرفات شرعية، وهو مخالف للمعقول والمنقول.
وأما ما احتج به من الرواية فلا تقوم بها حجة في هذا المجال، وإن اشتهر نقلها
في كتب الاستدلال، حيث إنها عامية والعجب منه - رحمه الله - وممن تبعه في ذلك
حيث إنهم كثيرا ما يطعنون في الأحاديث الصحيحة ويردونها لمخالفتها ما اصطلحوا
عليه من هذا الاصطلاح الجديد، ويعتمدون هنا في أصل الحكم على رواية عامية،
ويفرعون عليها فروعا ويرتبون عليها أحكاما، والحال كما ترى.
وأنت خبير بأن المفهوم من هاتين الحجتين: أن المراد بالبائع: من باع لنفسه
أو للمالك - كما أشرنا إليه سابقا.
ويؤيده: أنهم جعلوا بيع الغاصب من قبيل بيع الفضولي، ومن الظاهر أن الغاصب
إنما يبيع لنفسه لا لمالكه، وقد صرح بذلك العلامة في القواعد، والشيخ على في
381

شرحه. فقال - بعد قول المصنف " وكذا الغاصب " ما صورته: أي حكم الغاصب
كالفضولي، وهو أصح الوجهين، وإن احتمل الفساد نظرا إلى القرينة الدالة على
عدم الرضا، وهي الغصب.
وكذلك في الدروس، حيث قال - بعد ذكره البيع -: ولا يقدح في ذلك علم
المشتري بالغصب. انتهى.
ومن العجب هنا منعه في التذكرة في بيع ما لا يملك ثم يمضي ليشتريه من مالكه
ويسلمه إلى المشتري. قال: ولا نعلم فيه خلافا، لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع ما ليس
عندك، ولاشتماله على الضرر فإن صاحبها قد لا يبيعها وهو غير مالك لها ولا قادر على
تسليمها. انتهى.
وسؤال الفرق متجه، فإن ما ذكره من الدليلين الأولين على المنع شامل لما
نحن فيه، ونسبة إجازة المالك في الفضولي بعد العقد كنسبة بيع المالك على البائع
الفضولي، في أن حصول كل منهما مصحح، ويلزم بالعقد السابق. وإن كان هناك
غرر كما ذكره ففي الفضولي أيضا غرر بأنه قد لا يجيز المالك أيضا، وعدم المالكية
ثابتة في الموضعين، وعدم القدرة على التسليم مشترك أيضا، لأن تسليم البائع
الفضولي من غير إذن المالك تصرف غصبي منهي عنه شرعا، فيصدق في حقه أنه غير
قادر على التسليم شرعا.
وبالجملة فإن تجويزه في بيع الفضولي الذي هو محل البحث، ومنعه هنا
مما لا وجه له.
(الثالث): ما أجابوا به عن حجة الشيخ من جهة المنع من التصرف في مال الغير بأنه
مسلم، لكن إذا كان بغير الإذن، والإذن هنا موجود وهو الإجازة القائمة مقامه، ففيه ما عرفت
من حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه إلا ما استثنى، وليس منه هذا ولا شك أن هذا العقد
الواقع بغير إذن المالك وما يترتب عليه من دفع المبيع وقبض الثمن من ذلك القبيل، وإذنه
أخيرا لا يخرج تلك التصرفات السابقة عن أن تكون غصبا. نعم يعفى عما جناه
من ذلك، كما لو جنى شخص على شخص ثم أبرأه من ذلك. ولو لم يأذن المالك.
382

فإن حكم الغصب باق فيكون هو مؤاخذا لجميع تصرفاته دينا ودنيا، أما الأول
فبالمعاقبة وأما الثاني فبوجوب ارجاع كل حق إلى مستحقه.
(الرابع): ما أجابوا به عن النهي بأنه لا يستلزم الفساد في المعاملات، فهو وإن
كان مشهورا بينهم، إلا أنا كثيرا ما نرى عقودا قد حكموا ببطلانها بسبب النهي الوارد
في الروايات، ومن تتبع كتاب النكاح، وكتاب البيع فيما حرموه من بيع الخمر
والكلب والخنزير ونحوها، ظهر له ذلك، وما ذكروه من هذه الكلية إنما هو اصطلاح
أصولي لا تساعد عليه الآيات والروايات على اطلاقه، كما لا يخفى على من أعطى المسألة
حقها من التتبع.
* * *
والذي يخطر بالبال في الجمع بين ما ذكروه - من هذه القاعدة - وبين ما ورد
من الأخبار الدالة على النهي، وحكم الأصحاب بالفساد عملا بمضمونها، أن يقال:
إن النهي الواقع من الشارع عليه السلام في ذلك العقد إما أن يكون باعتبار عدم قابلية
المعقود عليه لذلك كالكلب والخنزير ونجس العين ونحوها في البيع مثلا. وإحدى
المحرمات ونحوها في النكاح مثلا، وحينئذ لا اشكال في الفساد.
أو يكون باعتبار أمر خارج، مثل كون ذلك في زمان مخصوص أو حال مخصوصة
أو نحو ذلك من الأمور الخارجية عن العوضين المتقابلين فربما يقال بما ذكروه وتخص
القاعدة المذكورة بهذا الفرد كالبيع وقت النداء، فإن النهي عنه وقع من حيث
الزمان، فيقال بصحة البيع لعدم تعلق النهي بذات شئ من العوضين، باعتبار عدم
قابليته للعوضية، بل وقع باعتبار أمر خارج من ذلك، وإن أثم باعتبار ايقاعه في هذا
الزمان المنهي عن الايقاع فيه. وما نحن فيه إنما هو من قبيل الأول، لأن الظاهر أن توجه
النهي إليه إنما هو من حيث عدم صلاحية المعقود عليه لذلك، لكونه تصرفا في مال
الغير بغير إذنه، وهو قبيح عقلا ونقلا كتابا وسنة. وإذن المالك أخيرا على تقدير
وقوعه لا يخرج تلك التصرفات عن كونها غصبا كما تقدم بيانه في الموضع الثالث.
383

وهذا التفصيل مما خطر ببالي العليل في سابق الزمان، وهو جيد وجيه، وقد تقدم في
المباحث السابقة من هذا الكتاب ما يؤيده.
ويؤيد هذا التفصيل الذي ذكرناه ما وفق الله سبحانه للوقوف عليه في كلام شيخنا
زين الملة والدين في المسالك في مسألة العقد علي بنت الأخ وبنت الأخت على العمة
والخالة بغير إذنها حيث إنه قيل في المسألة ببطلان العقد، وقيل بالصحة وأن للعمة
والخالة الخيار في فسخه وعدمه.
وقد استدل القائل بالبطلان بالنهي عنه. ورده في المسالك بأن النهي لا يدل
على الفساد في المعاملات، ثم قال - بعد ذلك - فإن قيل: النهي في المعاملات وإن
لم يدل على الفساد بنفسه، لكنه إذا دل على عدم صلاحية المعقود عليها للنكاح فهو دال
على الفساد من هذه الجهة، كالنهي عن نكاح الأخت، وكالنهي عن بيع الغرر،
والنهي في محل النزاع من هذا القبيل. قلنا: لا نسلم دلالتها هنا على عدم صلاحية
المعقود عليها للنكاح، فإنها عند الخصم صالحة له، ولهذا صلحت مع الإذن، بخلاف
الأخت، وبيع الغرر، فإنهما لا يصلحان أصلا، وصلاحية الأخت على بعض الوجوه
- كما لو فارق الأخت - لا يقدح، لأنها حينئذ ليست أخت الزوجة، بخلاف بنت الأخت
ونحوها فإنها صالحة للزوجية، مع كونها بنت أخت الزوجة والأخبار دلت على النهي
عن تزويجها، وقد عرفت أنه لا يدل على الفساد، فصار النهي عن هذا التزويج من
قبيل ما حرم لعارض كالبيع وقت النداء لا لذاته. والعارض هو عدم رضاء الكبيرة،
فإذا لحقه الرضا زال النهي. انتهى.
وقد ظهر منه ما ذكرناه من التفصيل، باعتبار رجوع النهي تارة إلى المعقود
عليه من حيث عدم صلاحيته لايقاع العقد عليه فيكون العقد باطلا، وتارة إلى أمر
خارج عنه فلا يستلزم الفساد، ومنه بنت الأخ وبنت الأخت، كما اختاره. فإن النهي
عنهما إنما وقع باعتبار أمر خارج، وهو عدم رضاء العمة والخالة، فيكون العقد
صحيحا مراعى بالرضا، ولا يخفى أنه قد تقدم لنا تحقق في هذه المسألة في باب صلاة
384

الجمعة من كتاب الصلاة بنحو ما ذكرناه هنا، إلا أنه ربما تعسر على الناظر في هذه
المسألة الرجوع إلى ذلك الكتاب، فلم تكتف بالحوالة على ذلك الموضع، بل
أوضحنا المسألة في المقام، لدفع ثقل المراجعة على الناظر في هذا الكلام
ثم إنه ينبغي أن يعلم أن ما ذكرناه هنا، وأطلنا به البحث ليس ذبا عن الحديث
الذي استدل به الشيخ، فإنه حديث عامي لا تنهض عندنا حجة، وإنما هو تحقيق في
المسألة في حد ذاتها أولا. وثانيا أنه على جهة المجاراة معهم في الاستدلال بالخبر
المذكور، فإنه لا وجه لرده من هذه الجهة التي ذكروها، بل كان الأولى رده بما
ذكرناه، من أنه حديث عامي لا ينهض حجة.
(الخامس): ما أجابوا به عن النفي بأنه إذا دخل على حقيقة أريد به نفي صفة
من صفاتها فمسلم، إلا أنا نقول: إن تلك الصفة هي الصحة لا اللزوم كما يقولونه، و
قولهم: وإلا لزم بطلان بيع الوكيل، فيه: أن وجه الملازمة غير ظاهر، ومع ذلك نقول:
المراد بالمملوك: ما هو أعم من أن يكون مملوك العين أو التصرف، كما تقدم
ذكره، وهو مستعمل في كلامهم كثيرا.
وبالجملة فإن ما ذهب إليه الشيخ ومن تبعه من البطلان هو الموافق لمقتضى
الأصول الشرعية والعقلية، وعليه تدل جملة من الأحاديث المعصومية، التي هي
المعتمد في كل حكم وقضية، والعجب أنهم مع قولهم بالبطلان استدلوا بتلك
الرواية العامية في كتبهم الفروعية، حتى من مثل المحقق الأردبيلي كما تقدم في
كلامه، ودعواه أنها أقوى دلالة وسندا من رواية البارقي، مع أن الجميع من طريق
العامة، وروايات أهل البيت - عليهم السلام - مكشوفة القناع، صريحة الدلالة
على هذه المقالة، مع تعددها في كتب الأخبار، فكيف غفلوا عنها، مع عكوفهم
على كتب الأخبار، مطالعة وتدريسا، وبذلك يظهر لك صحة المثل السائر " كم
ترك الأول للآخر ".
* * *
385

فمن الأخبار المشار إليها: صحيحة محمد بن الحسن الصفار: أنه كتب إلى أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام في رجل باع له قطاع أرضين، وعرف حدود
القرية الأربعة، وإنما له في هذه القرية قطاع أرضين، فهل يصلح للمشتري ذلك
وإنما له بعض هذه القرية، وقد أقر له بكلها؟ فوقع عليه السلام: لا يجوز بيع ما ليس
بملك، وقد وجب الشراء من البائع على ما يملك (1).
والأصحاب قد أفتوا في هذه المسألة التي هي مضمون هذه الرواية - بلزوم
البيع فيما يملكه ووقوفه فيما لا يملك على الإجازة من المالك، بمعنى أنه صحيح
لكونه فضوليا موقوفا في لزومه على إجازة المالك، والرواية - كما ترى - تنادي
بأنه " لا يجوز " الدال على التحريم. وليس ثمة مانع يوجب التحريم سوى عدم
صلاحية المبيع للنقل بدون إذن مالكه.
ومنها: صحيحة محمد بن القاسم بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن الأول
عن رجل اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطايعهم، وكتب عليها كتابا بأنها قد
قبضت المال ولم تقبضه، فيعطيها المال أم يمنعها؟ قال: قل له: ليمنعها أشد المنع،
فإنها باعت ما لا تملكه (2).
أقول: فلو كان البيع الفضولي صحيحا - كما يدعونه - ودفع الثمن للبائع
الفضولي جائزا - كما يقولونه - لما أمر عليه السلام بمنعها من الثمن أشد المنع، معللا
ذلك بأنها باعت ما لا تملكه.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال فيه:
سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، وأهل الأرض يقولون: هي
أرضهم، وأهل الأستان يقولون: هي من أرضنا قال: لا تشترها إلا برضاء أهلها (3).

(1) الوسائل ج 12 ص 252 حديث 1 والمؤلف اختزل من الحديث.
(2) الوسائل ج 12 ص 249 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 249 حديث: 3
386

لا يقال: إن السؤال في الرواية إنما وقع عن أرض متنازع فيها، معلوم عدم
إجازة المالك فيها على تقدير الفضولية، لأنا نقول: موضع الاستدلال في الخبر
إنما هو قوله " لا تشترها إلا برضاء أهلها " الدال على تحريم الشراء قبل تقدم الرضا.
ودعوى قيام الإجازة المتأخرة مقام الرضا السابق، مع كونه لا دليل عليه، مردود
بما ينادي به الخبر من المنع والتحريم، إلا مع تقدم الرضا.
وحاصل معنى الجواب تطبيقا على السؤال: أن الأرض المذكورة لما كانت
محل النزاع فلا تشترها حتى تعلم مالكها من أي الفريقين، ويكون راضيا
بالبيع.
ومنها: موثقة سماعة قال: سألته عن شراء الخيانة والسرقة. فقال: إذا عرفت أنه
كذلك فلا (1)، فقد نهى عليه السلام عن الشراء مع العلم. والنهي دليل التحريم، وليس ذلك
إلا من حيث إن المبيع غير صالح للنقل، لكون التصرف فيه غصبا محضا، و
التصرف في المغصوب قبيح عقلا ونقلا. والأصحاب في مثل هذا يحكمون بالصحة
والوقوف على الإجارة، وهل هو إلا رد لهذا الخبر ونحوه، ولكنهم معذورون من
حيث عدم الاطلاع على هذه الأخبار، إلا أنه يشكل هذا الاعتذار بالمنع من الفتوى
إلا بعد تتبع الأدلة من مظانها، والأخبار المذكورة في كتب الأخبار المتداولة في
أيديهم مسطورة.
ومنها: ما رواه في الإحتجاج مما خرج من الناحية المقدسة، في توقيعات
محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، في السؤال عن ضيعة للسلطان فيها حصة
مغصوبة، فهل يجوز شراؤها من السلطان أم لا؟ فأجاب عليه السلام الضيعة لا يجوز ابتياعها
إلا من مالكها أو بأمره أو رضا منه (2).
والتقريب فيها ما تقدم من تحريم الشراء إلا بعد تقدم رضاء المالك.

(1) الوسائل ج 12 ص 250 حديث: 6
(2) الوسائل ج 12 ص 250 حديث: 8
387

ومنها: ما رواه في الفقيه بإسناده عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد،
عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المناهي، قال: ومن
اشترى خيانة وهو يعلم فهو كالذي خانها (1).
ومنها: ما رواه الشيخ عن أبي بصير، قال: سألت أحدهما عن شراء الخيانة
والسرقة، قال: لا (2).
ومنها: ما رواه عن جراح المدايني عن الصادق عليه السلام قال: لا يصلح شراء
الخيانة والسرقة إذا عرفت (3).
ومنها: ما في قرب الإسناد بسنده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال:
سألته عن رجل سرق جارية ثم باعها، يحل فرجها لمن شراها؟ قال: إذا أنبأهم أنها
سرقة لا يحل، وإن لم يعلم فلا بأس (4).
فهذه جملة من الأخبار الواضحة الظهور كالنور على الطور في عدم جواز
بيع الفضولي وعدم صحته، ولو كان ما يدعونه من صحة بيع الفضولي وتصرفه
بالدفع والقبض صحيحا وإنما يتوقف على الإجازة، لصرح به بعض هذه الأخبار أو أشير
إليه ولا جابوا - عليهم السلام - بالصحة، وإن كان اللزوم موقوفا على الإجازة، في بعض
هذه الأخبار إن لم يكن في كلها، مع أنه لا أثر فيها لذلك ولو بالإشارة، فضلا عن صريح العبارة.
ومنها: ما رواه الشيخ في المجالس بإسناده عن زريق قال: كنت عند الصادق
عليه السلام - إذ دخل عليه رجلان - إلى أن قال - فقال أحدهما: إنه كان على مال لرجل من
بني عمار، وله بذلك ذكر حق وشهود، فأخذ المال ولم استرجع منه الذكر الحق،
ولا كتبت عليه كتابا، ولا أخذت عليه براءة، وذلك لأني وثقت به وقلت له: مزق الذكر
الحق الذي عندك، فمات وتهاون بذلك ولم يمزقها، وعقب هذا أن طالبني بالمال

(1) الوسائل ج 12 ص 248 حديث: 1
(2) الوسائل ج 12 ص 249 حديث: 4
(3) الوسائل ج 12 ص 250 حديث: 7
(4) الوسائل ج 12 ص 252 حديث: 12
388

وراثه، وحاكموني وأخرجوا بذلك الذكر الحق، فأقاموا العدول فشهدوا عند الحاكم
فأخذت بالمال وكان المال كثيرا، فتواريت عن الحاكم، فباع على قاضي الكوفة
معيشة لي وقبض القوم المال، وهذا رجل من إخواننا ابتلي بشراء معيشتي من القاضي.
ثم إن ورثة الميت أقروا أن المال كان أبوهم قد قبضه، وقد سألوه أن يرد على معيشتي و
يعطونه في أنجم معلومة، فقال: إني أحب أن تسأل أبا عبد الله - عليه السلام - عن هذا.
فقال الرجل - يعني المشتري -: جعلني الله فداك، كيف أصنع؟ فقال: تصنع أن ترجع
بما لك على الورثة وترد المعيشة إلى صاحبها، وتخرج يدك عنها، قال: فإذا فعلت ذلك
له أن يطالبني بغير هذا؟ قال: نعم، له يأخذ منك ما أخذت من الغلة ثمن الثمار،
وكل ما كان مرسوما في المعيشة يوم اشتريتها، يجب عليك أن ترد ذلك، إلا ما كان
من زرع زرعته أنت فإن للزارع قيمة الزرع، فإما أن يصبر عليك إلى وقت حصاد
الزرع، فإن لم يفعل كان ذلك له ورد عليك قيمة الزرع، وكان الزرع له.
قلت: جعلت فداك، فإن كان هذا قد أحدث فيها بناء وغرسا. قال: له قيمة ذلك، أو يكون
ذلك الحدث بعينه يقلعه ويأخذه. قلت أرأيت أن كان فيها غرس أو بناء فقلع الغرس
وهدم البناء؟ فقال: يرد ذلك إلى ما كان أو يغرم القيمة لصاحب الأرض - فإذا رد
جميع ما أخذ من غلاتها إلى صاحبها ورد البناء والغرس وكل محدث إلى ما كان، أو
رد القيمة كذلك، يجب على صاحب الأرض أن يرد عليه كلما خرج عنه في اصلاح
المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة، ودفع النوائب عنها، كل ذلك
مردود عليه (1).
أقول: هذا الخبر، وإن تضمن أن البائع هو الحاكم وهو صحيح بحسب الظاهر،
بناء على ما ورد عنهم - عليهم السلام - من الأخذ بأحكامهم في زمان الهدنة والتقية، إلا أنه بعد
ظهور الكاشف عن بطلانه واعتراف الورثة بقبض الدين، يكون من باب البيع
الفضولي. وهو كما سيأتي - انشاء الله تعالى - على قسمين: أحدهما ما يكون المشتري

(1) الوسائل ج 12 ص 253 حديث: 1
389

عالما بالغصب، وأنه ليس ملكا للبايع، وثانيهما: أن يكون جاهلا أو ادعى البائع الإذن
من المالك، وما اشتمل عليه الخبر من القسم الثاني. إلا أن ما اشتمل عليه الخبر المذكور من
رجوع المشتري بما اغترمه على المالك، خلاف ما سيأتي في كلامهم، من أنه إنما
يرجع إلى البائع، وما ذكره عليه السلام هو الأوفق بالقواعد، كما سيظهر لك انشاء الله
تعالى.
والعجب هنا كل العجب من صاحب المفاتيح، حيث جرى في هذه المسألة
على ما هو المشهور في أصلها وفروعها، كما لا يخفى على من راجعه، مع أن جل الأخبار
التي ذكرناها مما نقله في الوافي، ولكن العذر له على ما ذكره في حواشيه على الكتاب
المذكور من أنه اعتمد في العبادات على كتاب المدارك، وفي غيرها على المسالك
وهو عذر ضعيف واه من مثله، لا سيما مع تصريحه في الكتاب المذكور بجملة من
متفرداته في الأحكام، الدالة على أنه من رؤوس العلماء الأعلام، الذين لا يجوز لهم
الجمود على التقليد في الأحكام، ولا الاعتماد على غيرهم من الأنام.
* * *
فإن قيل: إن البيع الفضولي عند الأصحاب هو أن يبيع مال غيره أو يشتري،
بأن يكون ذلك البيع أو الشراء للمالك، لكنه من غير إذنه ولا رضاه، وما دلت عليه
هذه الأخبار إنما هو البيع أو الشراء لنفسه لا للمالك، وأحدهما غير الآخر!
قلنا: فيه - أولا - إن المفهوم من كلام الأصحاب تصريحا في بعض، وتلويحا
في آخر، أن البيع والشراء الفضولي أعم من كل الفردين المذكورين، وقد تقدم
ذكر ذلك، وتصريح جملة منهم كالعلامة والشهيد في الدروس، والمحقق الشيخ
على، بأن بيع الغاصب من أفراد البيع الفضولي.
وثانيا -: إن السؤالات الواقعة في الأخبار المذكورة، وإن تضمنت بيع
البايع أو شرائه لنفسه، إلا أن الأجوبة منهم - عليهم السلام - من قوله عليه السلام في الرواية الأولى
" لا يجوز بيع ما ليس يملك " وقوله في الثانية، في تعليل المنع من دفع الثمن " فإنها
390

باعت ما لا تملك " وقوله عليه السلام في الثالثة " لا تشترها إلا برضاء أهلها " ونحوها رواية
الإحتجاج، ورواية قرب الإسناد، ظاهرة العموم للفردين المذكورين، وخصوص
السؤال لا يدافع عموم الجواب كما تقرر في أصولهم، والعبرة إنما هو بعموم الجواب
فإنها ظاهرة بل صريحة في أن ما لا يملكه الانسان لا يجوز وقوع البيع فيه، أعم من
أن يكون البيع للبايع أو لصاحب ذلك المبيع، من غير رضاه وإذنه.
وبالجملة فالقول بما عليه الشيخ وأتباعه من البطلان هو المختار، كما دلت
عليه صحاح الأخبار على أنا لا نحتاج في الابطال إلى دليل، بل المدعي للصحة
عليه الدليل، كما هو القاعدة المعلومة بين العلماء جيلا بعد جيل، وقد عرفت ما في
أدلتهم وأنها لا تسمن ولا تغني من جوع كما لا يخفى.
* * *
المقام الثاني قال في الشرايع - بعد أن صرح بوقوف البيع الفضولي على
الإجازة -: فإن لم يجز كان له انتزاعه من المشتري ويرجح المشتري على البائع
بما دفع إليه وبما اغترمه من نفقة أو عوض عن أجرة أو نماء، إذا لم يكن عالما أنه لغير
البائع أو ادعى البائع أن المالك أذن له، وإن لم يكن كذلك لم يرجع بما اغترمه.
وقيل: لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب. انتهى.
وعلل في المسالك عدم رجوع المشتري بما اغترمه، قال: لأنه حينئذ غاصب
مفرط فلا يرجع بشئ مما يغرمه للمالك مطلقا، وعلل عدم رجوعه بالثمن مع العلم
بالغصب بأنه دفعه إليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه، فيكون بمنزلة الإباحة.
أقول: الظاهر أن المراد بالغصب - هنا - المعنى الأعم من الغصب الصرف
ومن الفضولي، وهو البيع من غير إذن، فإنه حكم في شرح اللمعة بأنه لا رجوع
بالثمن مع العلم بكونه غير مالك ولا وكيل، لأنه سلطه على اتلافه مع علمه بعدم
استحقاقه له، فيكون بمنزلة الإباحة.
391

هذه عبارته هناك بلفظها، فعبر عن الغاصب الذي صرحت به عبارة الشرايع
بكونه غير مالك ولا وكيل.
ونحو ذلك وقع في عبارة الدروس، فإنه قال: إن المالك يرجع عند هلاك
العين على المشتري مع العلم، وعلى الغاصب مع الجهل، أو دعوى الوكالة. فعبر
عن البائع الفضولي بالغاصب، وظاهرهم هنا دعوى الاجماع على عدم رجوع المشتري
على البائع بالثمن مع تلفه، نقله العلامة في التذكرة.
قال في المسالك في شرح قوله " وقيل لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب ": هذا
هو المشهور بين الأصحاب، مطلقين الحكم فيه الشامل لكون الثمن باقيا وتالفا،
ووجهوه بأن المشتري قد دفعه إليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه
له، فيكون بمنزلة الإباحة. وهذا يتم مع تلفه، أما مع بقائه فلا، لأنه له وهو مسلط
عليه بمقتضى الخبر، ولم يحصل منه ما يوجب نقله عن ملكه، لأنه إنما دفعه عوضا
عن شئ لا يسلم له لا مجانا، فمع تلفه يكون إذنا فيه، أما مع بقائه فله أخذه، لعموم
النصوص الدالة على ذلك، بل يحتمل الرجوع بالثمن مطلقا، وهو الذي اختاره
المصنف في بعض تحقيقاته، لعدم جواز تصرف البائع فيه، حيث إنه أكل مال
بالباطل، فيكون مضمونا عليه، ولولا ادعاء العلامة في التذكرة الاجماع على عدم
الرجوع مع التلف، لكان في غاية القوة، وحيث لا اجماع مع بقاء العين فيكون
العمل به متعينا.
فإن قيل: كيف يجامع تحريم تصرف البائع في الثمن عدم رجوع المشتري
به مع التلف، فإنه حينئذ لا محالة غاصب آكل للمال بالباطل، فاللازم إما جواز
تصرفه أو جواز الرجوع إليه مطلقا.
قلنا: هذا اللازم في محله، ومن ثم قلنا: إن القول بالرجوع مطلقا متجه، لكن
لما أجمعوا على عدمه مع التلف كان هو الحجة
وحينئذ نقول: إن تحقق الاجماع فالأمر واضح وإلا فمن الجائز أن يكون عدم
392

جواز رجوع المشتري العالم عقوبة له، حيث دفع ماله معاوضا به على محرم، وعلى
هذا يكون البائع مخاطبا برده أورد عوضه مع التلف، فإن بذله أخذه المشتري
وإن امتنع منه بقي للمشتري في ذمته، وإن لم يجز له مطالبته به، ونظير ذلك ما لو حلف
المنكر على عدم استحقاق المال في ذمته، فإنه لا يجوز للمدعي مطالبته ولا مقاصته،
وإن كان الحق مستقرا في ذمته المنكر في نفس الأمر، وذلك لا يمنع من تكليفه برده
وعقوبته عليه لو لم يرده
ولا فرق في هذا الحكم بين كون البائع غاصبا صرفا مع علم المشتري به
أو فضوليا ولم يجز المالك، كما هو مقتضى الفرض. انتهى.
* * *
أقول: ظاهرهم: أن البيع الفضولي هو ما لو باع مال غيره بغير إذن صاحبه،
أعم من أن يكون المشتري عالما بذلك أو جاهلا، أو مع دعوى البائع الإذن، وهو كذلك
بناء على قاعدتهم في المسألة المذكورة، وظاهرهم أنه مع الإجازة يصح البيع
المذكور بجميع أفراده، وإنما يظهر الافتراق فيها مع عدم الإجازة، فإنه متى كان
المشتري جاهلا أو ادعى البائع الإذن له في البيع فإنه يرجع المالك على المشتري بعين
ماله إن كانت موجودة، وإلا فبالقيمة. وكذا يرجع عليه بمنافعها ونمائها، وبالقيمة
مع التلف، ويرجع المشتري على البائع بما اغترمه على ذلك المبيع من نفقة ونحوها.
وأنت خبير بأن رواية زريق المتقدمة قد صرحت بأن الرجوع بما غرمه على
ذلك المبيع إنما هو على المالك لا على البائع، وإنما يرجع بالثمن خاصة. فإنه عليه السلام
بعد أن حكم برجوع المالك على المشتري بعد قبض المبيع بما استوفاه من منافعه
وما أحدثه في الضيعة المذكورة من الفساد أو قيمته، حكم بعد ذلك برجوع المشتري
على المالك بما أنفقه في اصلاح الضيعة ودفع النوائب عنها.
وظاهر كلام شيخنا في الروضة: أن المشتري يرجع على البائع أيضا بمنافع
393

المبيع ونمائه مما حصل له في مقابلته نفع (1).
قال: لغروره ودخوله على أن يكون ذلك له بغير عوض، أما ما أنفقه عليه ونحوه
مما لم يحصل له في مقابلته نفع فيرجع به قطعا. انتهى.
وفيه: أن المستفاد من الخبر المذكور، وقوله فيه: " تصنع أن ترجع بمالك
على الورثة وترد المعيشة على صاحبها " إن الرجوع على البائع إنما هو بالثمن
خاصة، والمقام مقام بيان، مع حكمه عليه السلام في الخبر برجوع المالك على المشتري
بعوض المنافع، فلو كان للمشتري الرجوع بها على البائع لذكره عليه السلام مع ذكره
أخيرا أن المشتري يرجع بما أنفقه على المالك لا على البائع.
وبالجملة فإن المطابق للأصول: أنه لا رجوع هنا للمشتري، لأن المالك إنما أخذ
منه عوض منافعه التي استوفاها من ماله، فسبيلها كسبيل العين في وجوب الرد على
المالك، وظهور البطلان الموجب لرد العين على مالكها موجب لرد ما استوفاه المشتري
من منافعها.
وتعليله بأن دخوله على أن يكون ذلك له بغير عوض، عليل لا يصلح لتأسيس
حكم شرعي، لا سيما مع دلالة الخبر على ما قلناه، ومتى كان المشتري عالما فإنه
يرجع المالك على المشتري بجميع ما تقدم ذكره، وأما المشتري فإنه بالنسبة إلى
ما غرمه للمالك لا يرجع به، لما علله به في المسالك مما تقدم ذكره وأما بالنسبة إلى
الثمن فقد عرفت من كلام شيخنا في المسالك، أن المشهور عدم الرجوع به عليه،

(1) قال في المختلف: لو رجع المالك على المشتري الجامل بالعين والمنافع،
رجع المشتري على البائع بالثمن اجماعا. وأما المنافع التي استوفاها هل يرجع
بها أم لا؟ قال الشيخ في المبسوط الأقوى أنه لا يرجع، لأنه غرمه في مقابلة نفع،
فلا يرجع به على أحد وقال بعض علمائنا: له الرجوع، لأنه مغرور، فكان الضمان
على الفار، كما لو قدمه إليه طعام الغير فأكله مع جهل، فإنه إذا رجع على الأكل
رجع الأكل على الأمر بجهله وتغرير الأمر له، وسيأتي البحث في ذلك في باب
الغصب انشاء الله تعالى. منه رحمه الله
394

باقيا كان الثمن أو تالفا.
وقيل بالرجوع مطلقا، كما نقل عن المحقق في بعض تحقيقاته.
وقيل بالتفصيل، بالتلف وعدمه، فيرجع على الثاني دون الأول، وظاهره في
المسالك الميل إليه.
والاشكال هنا في موضعين:
(أحدهما): في عدم رجوع المشتري على البائع بما اغترمه في صورة العلم،
لما علله به في المسالك من أنه حينئذ غاصب مفرط، فلا يرجع بشئ مما يغرمه للمالك
مطلقا.
فإن فيه: أن مقتضى ما صرحوا به من صحة عقد الفضولي، وجوب الحكم بصحة
ما يترتب عليه من التصرفات، إذ لا ثمرة لهذه الصحة مع بطلان ما يترتب عليها، فكيف يكون
مع عدم الإجازة غاصبا؟!
اللهم إلا أن يقول: إن العقد وإن كان صحيحا، لكن لا يجوز للمشتري قبض
الثمن إلا بعد الإجازة، وإلا فهو غاصب. وصريح كلامهم خلافه.
ومتى حكم ببطلان هذه التصرفات انتفى الحكم بأصل العقد، فضلا عن صحته.
مع أن العقد عندهم عبارة عن الإيجاب والقبول الدالين على نقل الملك بعوض، وأنه
يقتضي استحقاق التصرفات في المبيع والثمن وتسليمها كما تقدم نقله عن أبي الصلاح
وقد صرحوا بأن حكم العقد تقابض العوضين، إلا أن يشترط تأخيرهما.
وبالجملة فالموافق لحكمهم بصحة العقد هو صحة ما يترتب عليه من التصرفات.
نعم بعد ظهور الكاشف، وهو عدم الإجازة، يظهر أن تلك التصرفات كلها
كانت باطلة، ويكون من قبيل البيع الصحيح بحسب ظاهر الشرع ثم يظهر بطلانه،
فيجب عود كل شئ إلى محله، وكل حق إلى مستحقه.
فالقول بصحة البيع وجواز قبض المشتري المبيع لذلك، مع الحكم بأنه
مع عدم الإجازة لا يرجع المشتري بما اغترمه لكونه غاصبا مفرطا فيما أنفقه، مشكل
395

لا أعرف له وجها.
و (ثانيهما): في عدم الرجوع بالثمن في الصورة المذكورة، موجودا كان
أو تالفا، فإن فيه: أن ما عللوه به، من أن المشتري قد دفعه إليه وسلطه عليه مع علمه بعدم
استحقاقه له فيكون بمنزلة الإباحة، مردود:
أولا - بأن قضية تصحيح الفضولي، وإن كان موقوفا في لزومه، تصحيح دفع
الثمن مع الموقوفية أيضا، وأن يجعل له التصرف في قبض الثمن مثل تصرفه في البيع
والاقباض.
وحينئذ فمع عدم الإجازة يرجع كل مال إلى مقره، وكل الثمن والمثمن
إلى مالكه.
ويؤيده: ما صرحوا به - كما نقله في الدروس عن الشيخ - من أنه لو قبض
الفضولي الثمن دفع إلى المالك عند إجازته.
ونقل عن العلامة: أنه اشترط إجازة قبض الثمن على حياله، واستحسنه وإن
كان الثمن في الذمة. وظاهره موافقة الشيخ في الاكتفاء بإجازة العقد، وإن كان قد
دفعه للبائع، وحينئذ فكيف يحكم بصحة القبض مع الإجازة وأنه يصير للمالك
ويحكم بكونه باطلا ومجانا مع عدمها، فإنه إن كان صحيحا في حال الدفع فهو في
الموضعين المذكورين، وإلا ففيهما معا.
وثانيا - أن المشتري إنما دفع الثمن متوقعا للإجازة من المالك، فهو إنما دفعه
عوضا عن شئ لكن لم يسلم له ولم يدفعه مجانا حتى يصير بمنزلة الإباحة.
وقوله في المسالك - بعد نقل التعليل المذكور -: وهذا يتم مع تلفه.. إلى
آخره، مردود بأن ما علل به الرجوع مع بقائه جار أيضا مع تلفه، فإن الخبر الذي
أشار إليه - وهو قوله عليه السلام " الناس مسلطون على أموالهم " لا اختصاص له بالعين، بل
يشمل في الذمم أيضا. وكذا قوله: ولم يحصل منه ما يوجب نقله، جار أيضا في
صورة ما لو أتلفه.
396

وأما قوله: فمع تلفه يكون إذنا فيه فإنه ضعيف في غاية الضعف بل بعيد
الصدور من مثله، مع ما عرفت.
وكيف يصح اجتماع الحكم بوجوب الرد مع وجود العين، وعدم جواز
التصرف فيها مع الحكم ببرائة ذمة من يجب عليه رده ويحرم عليه التصرف فيها
لو أتلفها.
وأما اعتماده على الاجماع في أمثال هذه البقاع، فهو مردود بما حققه، في رسالة
صلاة الجمعة - كما قدمنا ذكره في كتاب الصلاة في باب صلاة الجمعة، حيث إنه
قد مزقه تمزيقا، وجعله حريقا.
وأما قوله: على تقدير عدم تحقق الاجماع، وإلا فمن الجائز أن يكون عدم
جواز رجوع المشتري العالم عقوبة.
ففيه - أولا -: ما عرفت في غير موضع مما تقدم في مباحث الكتاب، أن أمثال
هذه التعليلات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية، بل المدار إنما هو على النصوص
الجلية والأحاديث المعصومية.
و - ثانيا -: ما عرفت آنفا، من أن ذلك مناف لحكمهم بصحة العقد، فإن
قضية صحته صحة ما يترتب عليه، من قبض الثمن واقباض المثمن، وحينئذ فكيف
يتم قوله " بأنه مع عدم الإجازة وقعت المعاوضة على محرم فلا يستحق عوض ما دفعه "
فإن كان هذا التحريم ثابتا حال العقد فالمعاوضة باطلة، والإجازة بعدها لا تؤثر معها
شيئا بالكلية، وإن كان إنما علم بعد ذلك فالمعاوضة الأولى صحيحة، وبعد ظهور
الكاشف عن بطلانها يحكم بالبطلان من حينه، ورجوع كل شئ إلى مقره، وتحريم
رجوع المشتري فيما دفعه من الثمن، مع كونه إنما دفعه بناء على صحة العقد وتوقع الإجازة
من المالك، مما لا وجه له بالكلية.
وما نظره به من مسألة حلف المنكر قياس مع الفارق، فإن تلك المسألة منصوصة،
قد دلت النصوص فيها على ذلك، بخلاف محل البحث، إذ ليس فيه إلا مجرد هذه
397

التعليلات العليلة التي أوضحنا ضعفها.
وبالجملة فتعليلاتهم في هذا المقام كلها عليلة، لكون البناء على غير أساس
وثيق، كما لا يخفى على من تأمل في ما ذكرناه من هذا التحقيق.
وأنت خبير بأن هذه المسألة في كلامهم نظيرة مسألة الهبة قبل لزومها، فإنهم
صرحوا هناك بأن العقد صحيح غير لازم إلا بالتصرف أو التعويض أو نحوهما، فمع
قبض المتهب العين بناءا على ما هو المشهور، من أن القبض من شروط الصحة
لا اللزوم وعدم حصول شئ من الأسباب الموجبة للزوم العقد، لو حصل هناك نماء،
ثم بعد ذلك رجع الواهب في العين، فإنهم قالوا إن النماء، إن كان متصلا كالسمن
فهو للواهب، وإن كان منفصلا كالولد واللبن ونحوهما فهو للمتهب، قالوا: لأنه
نماء حدث في ملكه فيختص به، وحكموا بأنه لو عابت العين والحال كذلك لم يرجع
الواهب في الأرش، لأنه حدث في عين مملوكة.
ونحن نقول هنا - بناء على حكمهم بصحة الفضولي -: إن وجه الصحة في
الموضعين واحد، والتصرفات المتفرعة عليهما كذلك، ولا فرق بينهما، إلا أن رجوع
الواهب ليس كاشفا عن فساد العقد السابق، فلا يؤثر فيما تقدم، وفيما نحن فيه -
لكشفه عن فساد ما وقع فغايته وجوب رجوع كل مستحق إلى مستحقه.
وبالجملة فهو من قبيل البيع الذي ظهر فساده، فيوجب هنا ما يوجبه هناك.
وحيث كانت المسألة على تقدير كلامهم خالية عن النص الشرعي، فالقول
بها والجزم بالحكم في فروعها أمر مشكل جدا.
وأما على ما اخترناه فلا اشكال، لقيام النصوص عموما وخصوصا على العدم.
أما الأولى، فلما علم كتابا وسنة من تحريم التصرف في مال الغير من غير إذنه،
ولو اكتفى بالإجازة المتأخرة لجاز التصرف في أموال الناس بجميع وجوه التصرف
بناءا على ذلك، وهو قبيح عقلا.
وأما الثانية، فهو ما قدمناه من النصوص الواردة في البيع بخصوصه، الدالة
398

على المنع إلا بعد رضاء المالك.
ولم أقف على من تعرض لهذه المسألة بما ذكرناه من هذه التنبيهات، ولا كشف
عن نقابها بمثل هذه التحقيقات، ولله سبحانه المنة على ما منحنا به من التوفيق، ونسأله
النجاة من كل مضيق، والهداية إلى سواء الطريق في أحكامه عز شأنه بحسن التقريب
لها والتحقيق، أنه أكرم مسؤول وأجود مأمول.
المسألة الرابعة
قد صرح الأصحاب بأنه إذا باع ملكه وملك غيره بغير إذن من ذلك الغير، فإنه
يصح فيما ملكه ويبقى موقوفا على الإجازة فيما لا يملكه.
وهو مبني على ما هو المشهور بينهم، من صحة عقد الفضولي كما تقدم، فإن
لم يجز المالك صح فيما ملكه وبطل فيما لا يملك.
هذا إذا كان المشتري عالما، ولو كان جاهلا بكون بعض المبيع غير مملوك
للبائع تخير - لتبعيض الصفقة - بين الفسخ والامضاء. فإن فسخ رجع كل ملك
إلى مالكه، وإن رضي صح البيع فيما يملكه. وإن كان الأمر فيما لا يملك ما ذكرناه
أولا.
قالوا: ويقسط الثمن بأن يقوما جميعا ثم يقول أحدهما ويرجع على البائع
بحصته من الثمن. وكذا يقسط الثمن أيضا فيما لو صح البيع في الجميع، بأن أجاز
المالك في صورة بيع ما يملكه وما لا يملكه.
وكذا لو باع ما يملك - بالبناء للمجهول - وما لا يملك، كالعبد مع الحر،
والشاة مع الخنزير، والخل مع الخمر.
وتفصيل هذا الاجمال يقع في مواضع:
399

(الأول): قد عرفت أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على الصحة فيما يملكه والبطلان
فيما لا يملك مع عدم الإجازة.
واحتمل بعض المحققين (1) من متأخري المتأخرين بطلان العقد رأسا. قال: فإنه إنما
حصل التراضي والعقد على المجموع وقد بطل، ولم يحصل التراضي بالعقد على
البعض.
وفيه - مع تسليمه - إنما يتجه على تقدير الجهل، لأنه مع العلم قادم على أنه
ربما لا يسلم له عين المملوك لعدم رضا المالك.
نعم إن تم ذلك فإنما يتم في صورة الجهل، إلا أنه مجبور بالخيار في هذه
الحال.
والظاهر أن بناء القول المشهور، على أن العقد على الكل بمنزلة عقود متعددة
على الاجزاء، ولهذا لو خرج المبيع مستحقا للغير لا يبطل إلا فيه.
وظاهر كلامهم في هذا المقام أنه لا نص في هذه المسألة، وإنما بنوا الكلام
فيها على ما قربوه من التعليلات المستفادة من قواعد أحكام البيوع، مع أنه قد تقدم في
صحيحة محمد بن الحسن الصفار المذكورة في المقام، الأول (2) من المسألة
المتقدمة، الدالة على عدم جواز البيع فيما لا يملك، وثبوت الشراء فيما يملك، وهي
دالة على بطلان ما احتمله المحقق المتقدم ذكره، من بطلان العقد رأسا، حيث إنه عليه السلام
حكم بالصحة فيما يملك والبطلان فيما لا يملك.
وفيها أيضا رد لما ذكره الأصحاب من صحة بيع الفضولي وأنه موقوف على
الإجازة - كما تقدم ذكره في ذيل الرواية المذكورة.
ثم إن ظاهر الصحيحة المذكورة: أن الحكم في المسألة على ما ذكره عليه السلام أعم
من أن يكون المشتري عالما أو جاهلا.

(1) هو المحقق الأردبيلي - قدس سره - في شرح الإرشاد. منه رحمه الله
(2) في صفحة: 386
400

وحينئذ فما ذكروه من الخيار في صورة الجهل لتبعيض الصفقة مشكل، إلا أن
يقوم دليل من خارج على ثبوت هذا الخيار، وهو وإن كان مشهورا في كلامهم ومتداولا
على رؤوس أقلامهم، إلا أنه لا يحضرني الآن دليل عليه من الأخبار، فإن وجد فلا بد من
تخصيص هذا الخبر به، وإلا كان العمل باطلاق الخبر المذكور متجها، وسيجئ
تحقيق المسألة انشاء الله تعالى عند ذكر أقسام الخيار.
(الثاني): قد عرفت أنه لا فرق في اعتبار تقسيط الثمن بين ما إذا صح البيع في
الجميع بالإجازة، أو صح في المملوك خاصة إذا لم يجز، فإنه يقسط الثمن بنسبة
المالين، ليأخذ المالك المجيز حصته منه في الأول، ويرجع المشتري على البائع
بقسط غير المملوك، في الثاني.
وطريق التقسيط المذكور - على ما صرح به جمع منهم -: أن يقوما جميعا
بقيمة عادلة، ثم يقوم أحدهما منفردا، ثم ينسب قيمة المنفرد إلى قيمة المجموع،
ويؤخذ من الثمن الذي وقع على العقد بتلك النسبة.
فإذا قوما جميعا بعشرين درهما مثلا، وقوم أحدهما بعشرة، فالنسبة بينهما
النصف. فيصح البيع في المملوك بنصف ذلك الثمن الذي وقع عليه العقد.
وكذا في صورة إجازة المالك، فإن لكل من المالك البائع، والمالك المجيز،
النصف.
وإنما أخذ بنسبة القيمة، ولم يخصه من الثمن قدر ما قوم به، لاحتمال زيادة
النسبة عن قدر ما يقوم به ونقصانها، فربما جمع في بعض الفروض بين الثمن والمثمن على
ذلك التقدير.
كما لو اشترى المجموع بعشرة، وقوم أحدهما بعشرة، فإنه لو أخذ قدر ما قوم
به المملوك من الثمن المذكور وهو العشرة المذكورة، للزم الجمع بين العوض
والمعوض، وذهب الثوب عن المالك البائع عن نفسه بغير عوض، وعلى هذا فقس
زيادة ونقصانا.
401

قالوا: وإنما يعتبر قيمتهما مجتمعين إذا لم يكن لاجتماعهما مدخل في زيادة قيمة
كل واحد منفردا، كعبدين وثوبين مثلا. أما لو استلزم زيادة القيمة كمصراعي باب،
كل واحد لمالك فإنهما لا يقومان مجتمعين إذ لا يستحق كل واحد حصته إلا منفردا،
فلا يستحق ما يزيد باجتماعهما.
وطريق تقويمهما - على هذا -: أن يقوم كل واحد منهما منفردا وينسب
قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين، ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة.
فإذا قوم كل منهما منفردا بعشرة يؤخذ نصف الثمن، لأنه نسبة أحدهما إلى
المجموع. وهذا واضح في بيع ما يملكه البائع وما لا يملكه في عقد.
فلو فرض كونهما لمالك واحد، كما لو باع الفضولي المصراعين معا فأجاز
مالكهما في أحدهما خاصة دون الآخر، ففي تقديرهما مجتمعين كالغاصب، أو منفردين
كما لو كانا لمالكين، نظر،
ولم أقف في هذا المقام - بعد التتبع - على خبر يدل على ما ذكروه من التقسيط
ولو مجملا، إلا أن الظاهر أن ما ذكروه لا يخرج عن مقتضى القواعد، وإن كان الاحتياط
بالمصالحة أولى.
(الثالث): قد ذكر الأصحاب في طريق التقسيط - فيما لو باع حرا مع عبد أو خمرا
مع خل أو شاة مع خنزير -: أن يقوم الحر لو كان عبدا بالوصف الذي هو عليه، من
كبر وصغر وبياض وغيرها، فيصح البيع في العبد ونحوه بنسبة قيمته إلى مجموع
القيمتين، ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة، كما تقدم
وأما الخمر والخنزير فيرجع فيهما إلى قيمتهما عند مستحلهما، لا بمعنى قبول
قولهم في القيمة، لاشتراط عدالة المقوم، بل يمكن فرضه في تقويم عدلين قد أسلما
عن كفر كان يشتمل على استحلالهما. أو أخبار جماعة كثيرة منهم يؤمن من تواطئهم على
الكذب، ويحصل بقولهم الظن الغالب المقارب للعلم كما احتمله في المسالك.
وهو يشعر بأن المعتبر عند الأصحاب إنما هو الأول.
قال في المسالك: وبقي في المسألة اشكال من وجهين.
402

أحدهما: أن المشتري لهذين الشيئين إن كان جاهلا بما لا يملك توجه
ما ذكروه، لقصده إلى شرائهما، فإذا لم يتم له الأمران وزع الثمن، أما إذا كان عالما
بفساد البيع فيما لا يملك، اشكال صحة البيع مع جهله بما يوجبه التقسيط، لافضائه إلى
الجهل بثمن المبيع حال البيع. لأنه في قوة: بعتك العبد بما يخصه من ألف إذا وزعت
عليه وعلى شئ آخر وهو باطل. وقد نبه على ذلك العلامة في التذكرة، وقال: إن
البطلان ليس ببعيد من الصواب.
الثاني: إن هذا الحكم - أعني التوزيع - إنما يتم أيضا قبل اقباض المشتري
الثمن، وبعده مع جهله بالفساد، وأما مع علمه فيشكل التقسيط ليرجع بقسطه، لتسليطه
البائع عليه أو إباحته له، فيكون كما لو دفعه إلى بائع مال غيره كالغاصب، وقد تقدم
أن الأصحاب لا يجيزون الرجوع بالثمن، إما مطلقا أو مع تلفه، فينبغي هنا مثله،
إلا أن يقال: ذلك خرج بالاجماع، وإلا فالدليل قائم على خلافه، فيقتصر على
مورده. وهو حسن. انتهى. أقول: وهذه المسألة أيضا لم أقف فيها على نص، إلا أن بعض أحكامها جار
على مقتضى القواعد الشرعية.
المسألة الخامسة
كما أنه يصح العقد من المالك، كذا يصح من القائم مقامه.
وهم ستة - على ما ذكره الأصحاب - وسبعة - على ما يستفاد من الأخبار - وبه
صرحوا أيضا في غير هذا الموضوع: -
الأب، والجد له - لا الأم - والوصي من أحدهما - على من لهما الولاية عليه -
والوكيل من المالك، أو ممن له الولاية، والحاكم الشرعي حيث فقد الأربعة المتقدمة،
وأمينه، وهو المنصوب من قبله لذلك، أو لما هو أعم، وعدول المؤمنين، مع تعذر
403

الحاكم، أو تعذر الوصول إليه.
ولم يذكره الأصحاب هنا مع تصريحهم بجواز تولية بعض الحسبيات التي
هي وظيفة الحاكم لعدول المؤمنين مع عدمه، أو عدم إمكان الوصول إليه.
قالوا: ويحكم الحاكم المقاص، وهو من يكون له مال على غيره فيجحده
أو لا يدفعه مع وجوبه.
قالوا: ويجوز للجميع تولي طرفي العقد.
واستثنى بعضهم الوكيل والمقاص، فلا يجوز لهما تولي طرفيه، بل يبيعان
من الغير.
* * *
وتحقيق الكلام في هذه المسألة يقع في مواضع: - (الأول): لا خلاف في ثبوت
الولاية للأب والجد له على الطفل، إلى أن يبلغ رشيدا أي غير سفيه ولا مجنون،
فلو عرض له الجنون والسفه قبل البلوغ واستمر به إلى بعد البلوغ، استمرت
الولاية عليه.
وظاهره في المفاتيح في كتاب النكاح: أنه لا خلاف فيه، حيث قال: ثبت الولاية في
النكاح للأب والجد وإن علا، على الصغير، للنصوص المستفيضة، وعلى السفيه
والمجنون، ذكورا كانوا أو إناثا، مع اتصال السفه والجنون بالصغر، بلا خلاف
انتهى.
مع أنه قال - بعد ذلك في الباب الخامس في التصرف بالنيابة، بعد أن صرح
بتخصيص ما ذكرنا من التفصيل بالجنون -: قيل وكذا حكم الولاية في مال من بلغ سفيها،
استصحابا لولاية الأب والجد، أما من تجدد سفهه بعد أن بلغ رشيدا فولايته للحاكم
لا غير.
وقيل: بل الولاية في السفيه مطلقا للحاكم لا غير، وهو أشهر. انتهى.
ولا يخفى ما بين الكلامين من المدافعة، فإن ظاهر الأول: نفي الخلاف
404

عن ثبوت ولاية الأب والجد على من بلغ سفيها، استصحابا للولاية السابقة فتستمر مع استمرار
السفه، وظاهر الثاني أن هذا القول خلاف الأشهر، وأن الأشهر ثبوت الولاية للحاكم
على السفيه مطلقا، تجدد سفهه بعد البلوغ أو استمر إلى بعد البلوغ (1).
والذي يفهم من الأخبار. كما ستمر بك انشاء الله تعالى - هو كون الولاية
للأب والجد كما ذكره أولا.
والجواب عن المدافعة المذكورة بالفرق بين النكاح والمال، لم أقف على
قائل به.
والمفهوم من كلام الأصحاب - في كتاب النكاح -: أن هذا الاجماع إنما
هو في الجنون خاصة، بمعنى أن من بلغ مجنونا، فإن ولايته للأب والجد بلا خلاف،
وأما من بلغ سفيها ففيه خلاف، فقيل بكونهما لهما، وقيل بكونها للحاكم. هذا.
وأما لو بلغ عاقلا، ثم عرض له الجنون أو السفه، فالذي وقفت عليه في كلام
جملة منهم: أن الولاية هنا للحاكم.
قال في المسالك - بعد قول المصنف " وتنقطع ولايتهما بثبوت البلوغ والرشد " -
ما لفظه: ويشترط في ثبوت ولايتهما على غير الرشيد استمرار سفهه قبل البلوغ،
فيستصحب حكم الولاية لهما عليه من الصغر، فلو بلغ رشيدا ثم زال رشده لم تعد
ولايتهما، بل تكون للحاكم، وكذا القول في المجنون. انتهى.
وظاهره في المفاتيح - في كتاب النكاح -: أن في المسألة قولا برجوع
الولاية إلى الأب والجد أيضا.

(1) قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد: وكذا من حصل له جنون أو سفه
بعد البلوغ، فإن أمره أيضا إلى الحاكم، إذ قد انقطعت ولايتهم بالبلوغ والرشد،
ولا دليل على العود، فهم كالمعدوم، فيكون للحاكم كما في غيره. وقال في الكفاية:
والأب والجد يبقى تصرفهما ما دام الولد غير بالغ وكذا إذ بلغ واستمر عدم رشده. انتهى.
ولم يشر أحد منهم إلى خلاف هنا غير ما عرفت من عبارة المفاتيح. منه رحمه الله.
405

قال: وإن طرأ الوصفان بعد البلوغ والرشد، ففي ثبوت ولايتهما قولان.
ولم أقف فيما حضرني من كتب الأصحاب على من نقل الخلاف هنا غيره.
ثم إن ما يدل على الولاية للأب والجد على من بلغ مجنونا أو سفيها، لا الحاكم
بالنسبة إلى السفيه، كما نسبه في المفاتيح إلى الأشهر - أولا - أصالة بقائها، حيث
إنها قبل البلوغ ثابتة لهما بالاتفاق، فيستصحب إلى أن يثبت المزيل، والبلوغ على
الكيفية المذكورة في حكم العدم، فإنهم كالصغير في الحجر والمنع من التصرفات.
وثانيا: قوله عليه السلام في رواية هشام بن سالم: وإن احتلم ولم يؤنس منه رشده،
وكان سفيها أو ضعيفا، فليمسك عنه وليه ماله (1).
وروى في الفقيه عن الصادق عليه السلام: أنه سئل عن قول الله تعالى " فإن آنستم
منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ": قال: إيناس الرشد حفظ المال (2).
ونقل في مجمع البيان عن الباقر - عليه السلام - تفسير إيناس الرشد بالعقل
واصلاح المال.
وحينئذ فالموجب لدفع ماله إليه من الولي هو البلوغ مع الرشد، فلو لم يحصل
فالولاية ثابتة ومستمرة عليه.
وبه يضعف القول بكون الولاية للحاكم في الصورة المتقدم ذكرها، وإن
كان هو الأشهر، كما في المفاتيح والعجب أنه لم يتنبه لذلك مع ظهور الأخبار
المذكورة فيه.
(الثاني): قد عرفت مما قدمنا، أن الولاية بعد الأب والجد وكيلهما أو وصيهما
للحاكم، وهو مما لا خلاف فيه إلا من ابن الجنيد، فإنه جعلها للأم الرشيدة بعد الأب،
وهو شاذ متروك عند الأصحاب، بل نقل عنه في المختلف ثبوت الولاية للجد من قبلها
في النكاح.

(1) الوسائل ج 12 ص 268 حديث: 2
(2) الوسائل ج 13 ص 143 حديث: 4
406

بقي الكلام في تعارض ولايتي الأب والجد لو اختلفا أو تصرفا دفعة، هل يقدم الأب
على الجد؟
ثم في ترتيب أجداد الأب أو اشتراكهم مع وجود الأعلى والأدنى أقول، نقل
ذلك في المفاتيح.
والذي وقفت عليه في كلام من حضرني كلامه هو تقديم الأب على الجد الأدنى
من الجدود، والأدنى على الأعلى.
والظاهر أنه المشهور، إلا أن بعض الأخبار دل على تقديم الجد على الأب في
النكاح مع التعارض.
قال في المسالك - في كتاب الوصايا، بعد قول المصنف " وكذا لو مات انسان
ولا وصي له كان للحاكم النظر في تركته " - ما صورته: إعلم أن الأمور المفتقرة إلى
الولاية إما أن تكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا، فإن كان الأول فالولاية فيهم
لأبيه ثم لجده لأبيه، ثم لمن يليه من الأجداد، على ترتيب الولاية الأقرب منهم إلى
الميت فالأقرب، فإن عدم الجميع فوصي الميت، ثم وصي الجد، وهكذا. فإن
عدم الجميع فالحاكم. انتهى.
وعلى هذا النهج كلام غيره من غير نقل خلاف في المقام إلا أنه قال
في المسالك - في كتاب الحجر أيضا -: لا خلاف في كون الولاية عليهما للأب والجد
له وإن علا، وإنما الكلام في أنهما إذا تعارضا أو وقع العقد دفعة فهل يقع باطلا،
لاستحالة الترجيح، أو تقديم عقد الجد أو عقد الأب.
الذي اختاره في التذكرة في هذا الباب هو الثاني، والكلام في المال. وأما
في التزويج فسيأتي في كتاب الوصايا من التذكرة، قال: إن ولاية الأب مقدمة على
ولاية الجد، وولاية الجد مقدمة على ولاية الوصي للأب، والوصي للأب والجد
أولى من الحاكم (1).

(1) قال في المختلف: المشهور عند علمائنا أجمع إلا ابن الجنيد أن الأم والجد
لها لا ولاية لهما في النكاح. وقال ابن جنيد: فأما الصبية غير البالغة فإذا عقد عليها
أبوها فبلغت لم يكن لها اختيار، وليس ذلك لغير الأب وآبائه في حياته. والأم
وأبوها يقومان مقام الأب وآبائه في ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر نعيم بن النجاح
أن يستأمر أم بنته في أمرها. وقال وأمروهن في بناتهن. انتهى. ولا ريب أن حديثه
عامي، وأخبارنا ترده كما سيأتي تحقيق المسألة في محلها. منه رحمه الله
407

أقول: والمسألة خالية من النص، فمن أجل ذلك حصل التردد فيها، والاحتمال
في تقديم كل من الجد والأب على الآخر ثم إنه ينبغي أن يعلم: أن ولاية وصي الأب لا تنفذ إلا مع فقد الجد وإن علا،
لأن الولاية له بعد الأب أصالة، فلا يجوز أن يعين وصيا على أطفاله مع وجود أحد
آبائه وإن علا، لأن ولايته ثابتة بأصل الشرع، فليس للأب أن ينقلها إلى غيره، ولا جعل
شريك معه في ذلك وبذلك صرح الأصحاب.
(الثالث): المشهور بين الأصحاب أنه مع فقد الإمام في موضع تكون الولاية
على الأطفال راجعة إليه، فلعدول المؤمنين النظر في ذلك.
وعن ابن إدريس المنع، قال: لأن ذلك موقوف على الإذن الشرعي وهو منتف.
والأول مختار الشيخ والأكثر، لما فيه من المعاونة على البر والتقوى المأمور
بهما، ولقوله عز وجل: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " (1) خرج منه
ما أجمع على عدم ولايتهم فيه فيبقى الباقي تحت العموم.
ويمكن أيضا استفادة ذلك من عموم دلائل الأمر بالمعروف، وهذا كاف في رد
ما ادعاه من عدم الإذن الشرعي.
ويؤيده - أيضا - تطرق الضرر إلى مال الطفل بعدم القيم الحافظ له.
والمعارضة بطرو الضرر بالتصرف فيه مدفوعة باشتراط العدالة في الولي المانعة من
اقدامه على ما يخالف المصلحة للطفل.

(1) سورة براءة: 71
408

ويؤيد ذلك بأوضح تأييد ما قدمناه في المسألة السابعة في أحكام اليتامى وأموالهم
من المقدمة الرابعة، من صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع، وصحيح ابن رئاب (1)
ومثلهما في ذلك. بل أوضح من ذلك رواية سماعة، قال: سألته عن رجل مات وله
بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية، وله خدم ومماليك وعقار، كيف يصنع
الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس (2).
وعن إسماعيل بن سعد، قال: سألت الرضا عليه السلام عن رجل مات بغير وصية
وترك أولادا ذكرانا وغلمانا صغارا وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع
الجواري؟ قال: نعم (3).
واطلاق هذا الخبر محمول على الأخبار المتقدمة الصريحة في التقييد بالعدل
من المؤمنين.
وبذلك يظهر لك زيادة ضعف ما ذهب إليه ابن إدريس، من قوله بالمنع لمجرد
خيال تخيله.
(الرابع): لو كان له على غيره مال فجحده أو تعذر استيفاؤه منه، فإنه يجوز
له الاستقلال بأخذ جنس ماله إن وجده، وإلا فمن غيره بالقيمة، مخيرا بين بيعه من
نفسه ومن غيره ولا يشترط إذن الحاكم وإن أمكن بوجوده ووجود البينة التي يثبت
بها حقه، على الأشهر الأظهر، إلا أن يحلف الجاحد أو يكون وديعة. على خلاف
في ذلك.
والأصل في ذلك الأخبار، بعد ظاهر قوله عز وجل: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (4).

(1) مرتا في صفحة 323
(2) الوسائل ج 13 ص 474 حديث: 1
(3) المصدر ص 475 حديث: 3
(4) سورة البقرة: 194
409

ومنها: ما رواه الشيخ في الصحيح عن داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن
موسى عليه السلام: إني أخالط السلطان فتكون عندي الجارية، فيأخذونها والدابة
الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثم يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ فقال: خذ مثل
ذلك ولا تزد عليه (1).
وعن أبي بكر الأرمني، قال: كتبت إلى العبد الصالح عليه السلام جعلت فداك،
إن كان لي على رجل دراهم فجحدني فوقعت له عندي دراهم فأقبض من تحت يدي
ما لي عليه؟ فإن استحلفني حلفت أن ليس له شئ علي؟ قال: نعم، فاقبض من تحت
يدك، وإن استحلفك فاحلف له أنه ليس له عليك شئ (2).
وعن علي بن مهزيار، قال أخبرني إسحاق بن إبراهيم، أن موسى بن عبد الملك كتب
إلى أبي جعفر عليه السلام يسأله عن رجل دفع إليه مالا ليصرفه في بعض وجوه البر، فلم
يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي أمره به، وقد كان له عليه بقدر هذا المال،
فسأل هل يجوز لي أن أقبض مالي أو أرده عليه؟ فكتب - عليه السلام - اقبض مالك
مما في يدك (3).
وعن علي بن سليمان قال: كتب إليه: رجل غصب رجلا مالا أو جارية ثم وقع
عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه، أيحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب
إليه: نعم، يحل له ذلك أن كان بقدر حقه، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان له عليه
ويسلم الباقي إليه انشاء الله (4).
أقول: الظاهر أن علي بن سليمان هو الرازي، والمكتوب إليه صاحب الأمر
- عليه السلام -. وفيه دلالة على جواز المقاصة من الوديعة.

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث: 7
(2) الوسائل ج 16 ص 214 حديث: 1 باب: 47
(3) الوسائل ج 12 ص 204 حديث: 8
(4) الوسائل ج 12 ص 204 حديث: 9
410

وعن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له على
الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده، أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد
بذلك؟ قال: نعم (1).
وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح في بعضها عن أبي بكر الحضرمي، وهو
ممدوح، عن الصادق عليه السلام قال: قلت له: رجل كان له على رجل مال فجحده إياه
وذهب به، ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله، أيأخذه مكان ماله الذي
ذهب به منه ذلك الرجل؟ قال: نعم، ولكن لهذا كلام، يقول: اللهم إني آخذ
هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني، وأني لم آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلما (2)
إلى غير ذلك من الأخبار.
وقيل: لو كان لصاحب الحق بينة يثبت بها الحق عند الحاكم لو أقامها وأمكن
الوصول إلى حقه بذلك لم تجز له المقاصة مطلقا، لأن التسلط على مال الغير على
خلاف الأصل، فيقتصر منه على موضع الضرورة وهي هنا منتفية، ولأن الممتنع
يتولى القضاء عنه الحاكم.
وأنت خبير بما في هذه الوجوه في مقابلة النصوص الصريحة وهل هو إلا اجتهاد
في مقابلة النص.
* * *
وظاهر الأصحاب، وعليه دل أكثر النصوص، أنه لا تجوز المقاصة فيما
حلف عليه.
ومنها ما رواه في الكافي والفقيه عن خضر بن عمر والنخعي، عن الصادق عليه السلام في
الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده، قال: إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه بعد اليمين
شيئا، وإن احتسبه عند الله تعالى فليس له أن يأخذ شيئا، وإن تركه ولم يستحلفه فهو

(1) الوسائل ج 12 ص 205 حديث: 10
(2) الوسائل ج 12 ص 204 حديث: 5
411

على حقه (1).
أقول: لعل معنى احتسابه عند الله سبحانه هبته له أو قصد التصدق به أو ابراء
ذمته، فإن جميع ذلك احتساب عند الله.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن خضر النخعي، عن الصادق عليه السلام في الرجل
يكون له على الرجل مال فيجحده، قال: فإن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئا، فإن تركه
ولم يستحلفه فهو على حقه (2).
وعن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض أصحابنا في الرجل يكون له على الرجل
المال فيجحده إياه فيحلف له يمين صبر أن ليس له عليه شئ؟ قال: لا ليس له أن يطلب
منه، وكذلك أن احتسبه عند الله فليس له أن يطلب منه (3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن أبي يعفور، عن الصادق عليه السلام قال:
إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قبله ذهبت
اليمين بحق المدعي فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت عليه بينة عادلة؟ قال: نعم،
وإن أقام بعد أن استحلفه بالله خمسين قسامة، ما كان له حق وكانت اليمين قد أبطلت
كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه (4)
وما رواه في الفقيه مرسلا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:
من حلف لكم بالله فصدقوه ومن سألكم بالله فأعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدعي
ولا دعوى له (5).
وما رواه المشائخ الثلاثة في الصحيح في بعضها، عن سليمان بن خالد، قال:

(1) الوسائل ج 16 ص 215 حديث: 1
(2) نفس المصدر
(3) نفس المصدر حديث: 2
(4) الوسائل ج 18 ص 179 حديث: 1 باب: 9
(5) نفس المصدر حديث: 2
412

سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف، ثم وقع له
عندي مال فأخذه لمكان مالي الذي أخذه وجحده وحلف عليه كما صنع؟ فقال: إن
خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عتبه عليه (1).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن وضاح، قال: كان بيني وبين رجل
من اليهود معاملة فخانني بألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت
أنه حلف يمينا فاجرة فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة، فأردت أن أقتص
الألف درهم التي كانت لي عنده وحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن عليه السلام فأخبرته
إني قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي
حلف عليها فعلت. فكتب عليه السلام لا تأخذ منه شيئا إن كان ظلمك فلا تظلمه ولولا أنك رضيت
بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنت رضيت بيمينه، وقد ذهبت اليمين
بما فيها. فلم آخذ منه شيئا، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن عليه السلام (2).
* * *
وأما ما رواه الشيخ في الصحيح إلى أبي بكر الحضرمي وهو ممدوح عندهم،
قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي - إن وقع
له قبلي دراهم - أن آخذ منه بقدر حقي؟ قال: فقال: نعم، ولكن لهذا كلام قلت:
وما هو؟ قال: تقول اللهم لم آخذه ظلما ولا خيانة، وإنما أخذته مكان مالي الذي
أخذه مني لم أزد عليه شيئا (3) فحمله الصدوق والشيخ على أنه حلف من غير أن يستحلفه
صاحب الحق، وهو جيد. هذا.
* * *
وأما الوديعة فالمشهور أيضا أنه لا يجوز المقاصة منها لوجوب أداء الأمانات،

(1) الوسائل ج 12 ص 204 حديث: 7
(2) الوسائل ج 18 ص 180 حديث: 2
(3) الوسائل ج 12 ص 203 حديث: 4
413

ولجملة من الأخبار.
منها: ما رواه المشائخ الثلاثة، في الصحيح عن معاوية بن عمار، قال: قلت
للصادق عليه السلام: الرجل يكون لي عليه حق فيجحدنيه ثم يستودعني مالا، إلى أن آخذ
مالي عنده؟ قال: لا، هذه خيانة (1).
وما رواه في التهذيب عن ابن أبي عمرو، عن ابن أخي الفضيل بن يسار، قال:
كنت عند الصادق عليه السلام ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها، فقالت لي: أسأله،
فقلت: عماذا؟ فقالت: إن ابني مات وترك مالا، كان في يد أخي فأتلفه، ثم أفاد مالا
فأودعنيه، فلي أن آخذ بقدر ما أتلف من شئ؟ فأخبرته بذلك، فقال: لا، قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك (2).
وما رواه في الفقيه بإسناده عن زيد الشحام، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: من
ائتمنك بأمانة فأدها إليه، ومن خانك فلا تخنه (3).
والشيخ حمل هذه الأخبار على الكراهة، جمعا بينها وبين ما دل على الجواز،
مثل ما قدمناه من خبر علي بن سليمان المتضمن لكون المال وديعة، مع أنه عليه السلام جوز
له المقاصة منه،
ونحوه ما رواه في التهذيب في الصحيح عن أبي العباس البقباق، أن شهابا
ما رآه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العباس
فقلت له: خذها مكان الألف الذي أخذ منك، فأبى شهاب. قال: فدخل شهاب على أبي عبد الله عليه السلام فذكر له ذلك، فقال: أما أنا فأحب أن تأخذ وتحلف (4).

(1) الوسائل ج 12 ص 205 حديث: 11
(2) المصدر ص 202 حديث: 2
(3) المصدر ص 205 حديث: 12
(4) المصدر ص 202 حديث: 2. وقوله: " مارا " من المراء والمماراة بمعنى الجدل
واللجاج.
414

قال في الوافي - بعد نقل هذا الخبر - وفيه اشكالان: أحدهما: جواز الأخذ
من الوديعة، مع أنه خيانة كما مر. والثاني: محبته عليه السلام ذلك ويمكن التفصي
عنهما بحمله على ما إذا كان الغاصب المودع هو العامل، فإن ماله إما فئ للمسلمين
أو هو للإمام، وللإمام الإذن في أخذه، فإن لم يكن كله للإمام، فلا أقل من الخمس،
ويشعر بذلك عدم ذكر الغاصب والاتيان بصيغة المعلوم في الاستيذان، كأنه كان
معلوما بينهما، وكان ممن يتقى منه. انتهى.
* * *
أقول: ملخص الكلام في المقام، إن هذه الأخبار قد خرجت على أقسام ثلاثة:
(الأول): من وقع بيده مال لرجل فجحده حقه أو امتنع من اعطائه.
ولا خلاف ولا اشكال في جواز مقاصته،. وعليه تدل الأخبار الأولة.
(الثاني): من جحد وحلف.
الظاهر - أيضا - أنه لا اشكال في أنه إن استحلفه المدعي فلا تجوز المقاصة
كما تدل عليه الأخبار الثانية. والخبر المنافي ظاهر - كما عرفت - في أنه محمول على
حلف من عليه المال بدون استحلاف صاحب المال، وهو كمن لم يحلف إذ لا أثر
لهذه اليمين اتفاقا، بل لو أحلفه الحاكم بدون طلب صاحب الدعوى، فإنها لاغية.
(الثالث): الوديعة.
وقد عرفت اختلاف الأخبار فيها.
وجمع الشيخ بينها بحمل أخبار المنع من المقاصة على الكراهة.
وما ذكره صاحب الوافي من الحمل على كون ذلك الغاصب المنكر عاملا،
فالظاهر أنه بعيد عن سياق الخبرين المذكورين الدالين على ذلك.
ومن المحتمل عندي قريبا في المقام: هو الجمع بين الأخبار المشار إليها بالاتيان
بالدعاء المذكور وعدمه، وأن التصرف إنما يكون خيانة مع عدمه، كما يشير إليه
قوله عليه السلام في رواية الحضرمي الأولى " وإني لم آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلما ".
415

وكذا في الرواية الثانية.
والأولى وإن كانت مطلقة حيث ذكرناها في عداد الروايات الأولى، إلا أن
الظاهر حملها على الوديعة، فإن جواز المقاصة في غير الوديعة صحيح شرعي،
لا يتوقف على هذا الدعاء.
ونحوها الرواية الثانية - أيضا - بحملها على ذلك، والحلف فيها - قد عرفت -
أنه بحكم العدم.
وهذا الدعاء يشير إلى ما دلت عليه روايات المنع من المقاصة من الوديعة، من
كون ذلك خيانة، فهذا الدعاء في هذا المقام كأنه بمنزلة الصيغ الشرعية والعقود
الناقلة في المعاملات، فيحتاج إليه لانتقال المال إليه مكان ماله عليه، كما يحتاج إلى
العقود الناقلة في المعاملات.
وقال في الفقيه - بعد ذكر خبر الحضرمي الأول - وفي خبر آخر ليونس بن
عبد الرحمن عن الحضرمي مثله إلا أنه قال: يقول: اللهم إن لم آخذ ما أخذت خيانة
ولا ظلما. قال: وفي خبر آخر: إن استحلفه على ما أخذ فجائز له أن يحلف، إذا
قال هذه الكلمة.
وبالجملة فإن المقاصة في الصورة الأولى مما لا خلاف فيه والاشكال في جوازها
- كما دلت عليه أخبارها - من غير توقف على شئ بالكلية. وفي الصورة الثانية
لا اشكال ولا خلاف في عدمها. وإنما محل الاشكال والخلاف في الثالثة. والمستفاد
من هذه الأخبار هو أنه مع قول هذا الدعاء والاتيان به يجوز المقاصة وإلا فلا. والله
العالم.
* * *
(الخامس) قد صرح جمع من الأصحاب منهم في المسالك والروضة والدروس:
بأنه يجوز لجميع من تقدم ذكره ممن له الولاية حتى المقاص، تولي طرفي العقد،
بأن يبيع من نفسه وممن له الولاية عليه.
416

واستثنى بعضهم الوكل والمقاص من الحكم المذكور، فمنع من توليهما
طرفي العقد.
واقتصر آخر على استثناء الوكيل خاصة، على تفصيل فيه.
وممن ظاهره القول بالعموم هنا المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد.
ولا فرق في ذلك في عقد البيع وغيره من العقود حتى النكاح أيضا.
وتفصيل كلامهم في التوكيل، هو أنه إذا أذن الموكل لوكيله في بيع ماله
من نفسه، أو وكلته المرأة على أن يعقد بها على نفسه، فهل يجوز له تولي طرفي
العقد أم لا؟ المشهور بين أصحابنا هو الأول، وإليه مال في المسالك، قال: لوجود
المقتضي - وهو الإذن المذكور - وانتفاء المانع. إذ ليس إلا كونه وكيلا، وذلك
لا يصلح للمانعية.
وعن الشيخ وجماعة: المنع، للتهمة وأنه يصير موجبا قابلا. ورد بأن التهمة
مع الإذن ممنوعة، ومنع جواز تولي الطرفين على اطلاقه ممنوع. فإنه جائز عندنا
في الأب والجد، كما قرر في محله.
وظاهر كلامهم أن ذلك جار في جميع العقود، من بيع ونكاح، مع أنه قد روى
عمار في الموثق، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن امرأة تكون في أهل بيت، فتكره
أن يعلم بها أهل بيتها، أيحل لها أن توكل رجلا يريد أن يتزوجها، تقول له: قد وكلتك،
فاشهد على تزويجي. قال: لا. قلت: جعلت فداك، وإن كانت أيما؟ قال: وإن
كانت أيما. قلت له: فإن وكلت غيره فيزوجها؟ قال: نعم (1).
وهذه الرواية - كما ترى - صريحة في المنع من ذلك مع الإذن صريحا بالنسبة
إلى النكاح، وليس في هذه الرواية ما يمكن استناد المنع إليه، إلا تولي طرفي العقد.
وأما غير النكاح من العقود فلم أقف فيه على خبر، وما عللوا به من الجواز لا ينهض

(1) الوسائل ج 14 ص 217 حديث: 4
417

دليلا على اثبات حكم شرعي مخالف للأصل، والأصل عصمة الفروج والأموال
حتى يقوم دليل شرعي واضح على زوالها، والأحوط المنع، كما ذهب إليه الشيخ
ومن تبعه.
هذا مع الإذن أما مع الاطلاق فهل يجوز البيع من نفسه أم لا؟ ظاهر جملة
من الأصحاب - وكأنه المشهور - المنع. وإليه مال في المسالك، لأن المفهوم من
الاستنابة هو البيع على غيره، فلا يتناوله الاطلاق. وللأخبار. وقيل بالجواز على
كراهة.
وقد مر شرح الكلام في هذا المقام في المقدمة الثانية في آداب التجارة في مسألة
" ما لو قال انسان للتاجر اشتر لي، فهل يجوز أن يعطيه مما عنده أم لا " ونقلنا القولين
في المسألة والأخبار الدالة على المنع (1) وبها تظهر قوة القول المشهور وصحته.
وما ذكرنا يعلم أن ليس الخلاف في هذه المسألة من جهة اعتبار تولي الواحد
طرفي العقد وعدمه.
أما أولا، فلأن جماعة ممن قال بالجواز في الصورة الأولى، منعوا في الصورة
الثانية.
وأما ثانيا، فلأنه يمكن المغائرة بالتوكيل في القبول والايجاب، مع أنه
لا يجدي نفعا في مقام المنع، كما لو وكل ذلك الوكيل أعم من أن يكون مأذونا له
أو مطلقا في الإيجاب والقبول، فإن ظاهر النصوص المشار إليها العدم، لأن النهي فيها
إنما وقع عن اعطائه من الجنس الذي عنده، وأخذه من الجنس الذي وكل في بيعه،
أعم من أن يكون هو الموجب أو القابل، أو يجعل غيره وكيلا في ذلك.
وأما ثالثا، فإن المانع إنما استند إلى الأخبار، مضافة إلى ما قدمنا نقله من عدم
تناول الاطلاق لذلك، لا إلى عدم جواز تولي طرفي العقد.

(1) راجع: الصفحة: 32 - 34
418

وأما رابعا، فلأن الأخبار المشتملة على المنع قد علل ذلك في بعضها بالتهمة،
فلو لم يخف التهمة جاز الشراء من نفسه أو لنفسه، وفي بعضها ما يشير إلى عدم دخول
جواز البيع على نفسه تحت الاطلاق كما تقدم ذكر جميع ذلك في الموضع المشار
إليه.
قال في المسالك - في شرح قول المصنف في كتاب الوكالة: " إذا أذن الموكل
لوكيله في بيع ماله من نفسه فباع جاز، وفيه تردد، وكذا في النكاح " - ما لفظه:
والخلاف في المسألة في موضعين، وينحل إلى ثلاثة:
أحدها: أن الوكيل هل يدخل في اطلاق الإذن أم لا. الثاني: مع التصريح
بالإذن هل له أن يتولاه لنفسه، وإن وكل في القبول أم لا. الثالث. على القول بالجواز
مع التوكيل، هل يصح تولي الطرفين أم لا. والشيخ - عليه الرحمة - على المنع
في الثلاثة. والعلامة في المختلف على الجواز في الثلاثة. وفي غيره في الأخيرين.
والمصنف يجوز الأخير ويمنع الأول. وقد تردد في الوسط. انتهى.
* * *
ولو كان المتولي لطرفي العقد وكيلا فيهما بأن وكله شخص على الشراء،
وآخر على البيع فهل له أن يتولى العقد نيابة عنهما؟ المشهور ذلك.
قال في الروضة: وموضع الخلاف مع عدم الإذن توليه لنفسه، وأما لغيره
بأن يكون وكيلا لهما فلا اشكال في الصحة، إلا على القول بمنع كونه موجبا قابلا.
انتهى.
وهذا الكلام في الوصي أيضا جار عندهم، فإنه إن كان توليه الطرفين لنفسه
فهو محل الخلاف المتقدم، وإن كان لغيره فالمشهور الجواز، إلا عند من يمنع من
كونه قابلا موجبا.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن جملة ما استدلوا له على صحة تولي الواحد طرفي
419

العقد في جملة المواضع المتقدمة، هو عموم أدلة البيع، مثل قوله سبحانه: " أوفوا
بالعقود " و " أحل الله البيع ". ولأنه عقد صدر من أهله في محله مع الشرائط فيصح،
والأصل عدم اشتراط شرط آخر، وعدم اشتراط التعدد وعدم مانعية كونه من شخص واحد
وللاتفاق على الجواز في الأب والجد، وهو صريح في عدم مانعية الوحدة، وعدم
اشتراط التعدد.
وأنت خبير بما في هذه الأدلة، من إمكان تعدد المناقشة، فإن للخصم أن
يتمسك بأن الأصل عصمة مال الغير حتى يثبت الناقل له شرعا، وعصمة الفرج حتى
يثبت المبيح. والمعهود الذي جرى عليهم الأئمة - عليهم السلام - وأصحابهم،
وجملة السلف والخلف، في العقود الناقلة في بيع كان ونحوه أو نكاح، إنما هو تعدد
المتولي للإيجاب والقبول، وما ذكر هنا من جواز تولي الواحد إنما وقع فرضا في
المسألة ولم ينقل وقوعه في عصر من الأعصار. وبذلك يظهر لك الجواب عن
الاستدلال باطلاق الآيات المتقدمة، حيث إنهم قرروا في غير مقام أن الاطلاق في
الأخبار إنما ينصرف إلى الأفراد المتكررة الشائعة، دون الفروض النادرة التي ربما
لا توجد، والأمر فيما نحن فيه كذلك. فالواجب حملها على ما هو المعهود المعلوم
الذي جرى عليه التكليف في هذه المدة المتطاولة، وهو وقوع العقد من موجب وقابل،
ويخرج موثقة عمار المتقدمة (1) شاهدا على ما ذكرنا، فإن ظاهرها: أن وجه المنع
مع إذنها ورضاها إنما هو من حيث لزوم تولي طرفي العقد وكونه موجبا قابلا، وما
استندوا إليه من الاتفاق على ذلك في الأب والجد، ففيه - مع الاغماض عن تطرق
المناقشة إليه أيضا بعدم الدليل وعدم الاعتماد في الأحكام على مثل هذا الاجماع إن
تم وما عداه محل الخلاف في المقام كما عرفت، وقولهم أنه عقد صدر من أهله في
محله: أنها مصادرة محضة، فإن الخصم لا يسلم ذلك، بل هو محل النزاع والبحث،

(1) مرت في الصفحة: 417
420

كما عرفت.
وبالجملة فالمسألة محل اشكال.
* * *
(السادس): المشهور بين الأصحاب: أنه يجوز للوصي أن يقوم على نفسه
ويقترض إذا كان مليا، وكثير منهم لم ينقل خلافا في المقام، فيشترط بعضهم مع ملائته
الرهن عليه حذرا من افلاسه وزيادة ديونه فيحفظ بالرهن مال الطفل. قال في مسالك
وهو حسن.
وكذا يعتبر الاشهاد حفظا للحق، وإنما يصح له التقويم مع كون البيع مصلحة
للطفل، إذ لا يصح بيع ماله بدونها، مطلقا. قالوا: وأما الاقتراض فيشترط عدم الاضرار
بالطفل وإن لم تكن المصلحة موجودة. ومنع ابن إدريس من الاقتراض من مال الطفل
مطلقا.
وجملة من الأخبار تدل على الجواز. وقد تقدم الكلام في ذلك منقحا في المسألة
السابعة من مسائل المقدمة الرابعة (1). ولا دلالة في شئ من تلك الأخبار على
ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط الرهن، وغاية ما تدل عليه: اشتراط الملاءة، كما هو
متفق عليه.
وبها فسر قوله سبحانه: " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " (2).
فقيل: إن المراد بالتي هي أحسن: أن يكون للمتصرف مال بقدر مال الطفل
زائدا على المستثنيات في الدين، وعن قوت يوم وليلة له ولعياله الواجبي النفقة.
وفسره بعض المتأخرين بكون المتصرف بحيث يقدر على أداء المال المأخوذ

(1) تقدمت في ص 322
(2) سورة الأنعام: 152
421

من ماله إذا تلف بحسب حاله.
أقول: لم أقف في الأخبار على مستند لشئ من هذين التفسيرين، وحينئذ
فيكون من قبيل التفسير بالرأي المنهي عنه في الأخبار، وظاهر الآية: أن يختار
ما هو الأحسن لليتيم، من حفظ ماله واصلاحه وتنميته ونحو ذلك من المصالح، وفيها
إشارة إلى ما صرح به الأصحاب من اشتراط المصلحة والغبطة لليتيم في التصرف
في ماله.
وبالجملة فإن الاستناد إلى الآية فيما ذكروه بعيد عن ظاهر لفظها.
نعم قد دلت جملة من الأخبار المتقدمة في المسألة المشار إليها على المنع من
التصرف إلا أن يكون مليا، مثل قوله عليه السلام في رواية أسباط بن سالم " إن كان لأخيك
مال يحيط بمال اليتيم إن تلف فلا بأس به، وإن لم يكن له مال فلا يعرض لمال
اليتيم " (1) ونحوه في روايته الأخرى (2). ونحوهما غيرهما أيضا. والجميع خال
من اشتراط الرهن.
وكيف كان فإنه أحوط، لكن لا على جهة الاشتراط في صحة القرض، إذ لم
يقم عليه دليل كما عرفت والله العالم.
المسألة السادسة
قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجب أن يكون المشتري مسلما إذا ابتاع
عبدا مسلما.

(1) تقدمت في ص 328
(2) تقدمت في ص 328
422

قال في المسالك - بعد قول المصنف ذلك -: يمكن أن يريد بالمسلم من حكم
باسلامه ظاهرا لأن ذلك هو المتبادر من لفظ المسلم، واجراء أحكامه عليه، فيدخل
فيه فرق المسلمين المحكوم بكفرهم، كالخوارج والنواصب، ويمكن أن يكون
يريد به المسلم حقيقة نظرا إلى أن غيره إذا حكم بكفره دخل في دليل المنع الدال على انتفاء السبيل للكافر على المسلم، وهذا هو الأولى، لكن لم أقف على مصرح به،
وفي حكم العبد المسلم المصحف وأبعاضه دون كتب الحديث النبوية، وتردد في
التذكرة فيها. انتهى.
أقول: فيه - أولا - إن قوله " لأن ذلك هو المتبادر من لفظ المسلم " إن أراد بحسب
عرف الناس فيمكن، ولكن لا يجدي نفعا، وإن أراد في الأخبار التي عليها المدار في
الإيراد والاصدار، فهو ممنوع أشد المنع. لأن منها الأخبار الكثيرة المستفيضة بأنه
بني الاسلام على خمسة وعد منها الولاية، وأنه لم يناد بشئ كما نودي بالولاية، وهي
أعظمهن وأشرفهن. (1) ومن الأخبار المستفيضة المتكاثرة الواردة في بيان الفرق
بين الايمان والإسلام، بأن الاسلام ما يحقن به الدم والمال ويجري عليه النكاح و
المواريث والطهارة.
ومنها قوله عليه السلام في حسنة الفضيل بن اليسار " والإسلام ما عليه المناكح والمواريث
وحقن الدماء " (2) الحديث.
وقوله عليه السلام في صحيحة حمران " والإسلام ما ظهر من قول وفعل، وهو الذي
عليه جماعة الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز
النكاح " الحديث (3) إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت بهذا المضمون، ولا

(1) الوسائل ج 1 ص 10 حديث: 10. والكافي ج 2 ص 21
(2) الكافي ج 2 ص 26 حديث: 3
(3) الكافي ج 2 ص 26 حديث: 5
423

ريب أنه من المتفق عليه بينهم: عدم جواز اجراء شئ من هذه الأحكام على من ذكره
من الخوارج والنواصب، فيكف يدعى أنه المتبادر من لفظ المسلم، واجراء أحكامه
عليه، وأي أحكام يريد؟ وهذه أحكام الاسلام المترتبة عليه في الأخبار، والأخبار
مستفيضة بكفر هؤلاء، مصرحة به، بأوضح تصريح، ولا سيما النواصب، واطلاق
الاسلام عليهم إنما وقع في كلام الأصحاب، مع تعبيرهم بمنتحلي الاسلام، بمعنى
أنه لفظي محض، لاحظ لهم في شئ مما يترتب عليه من الأحكام التي ذكرناها فكيف
يدخلون تحت تبادر هذا اللفظ والحال كما عرفت.
وثانيا: أن المستفاد من كلامه هنا وكلام غيره أيضا: أن المستند في أصل هذه
المسألة إنما هو الآية الكريمة، أعني قوله عز وجل: " ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا " (1) وأنت خبير بما فيه، فإنه لو أريد بالسبيل هنا ما يدعونه من سلطنة
الكافر على المسلم بالملك والدخول تحت طاعته ووجوب الانقياد لأمره ونهيه، لا تنقض
ذلك - أولا - بما أوجبه الله تعالى على أئمة العدل من الانقياد إلى أئمة الجور، والصبر
على ما ينزل بهم من أئمة الجور، وعدم الدعاء عليهم، كما ورد في تفسير قوله عز وجل
" قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يعلمون " (2)
وثانيا - بما أوقعوه بالأنبياء والأئمة - عليهم السلام - من القتل فضلا عن
غيره من أنواع الأذى، وأي سبيل أعظم من هذا السبيل.
- وثالثا - بما رواه الصدوق في العيون (3) من أنه قيل له: إن في سواد الكوفة
قوما يزعمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع عليه السهو، فقال: كذبوا - لعنهم الله - إن
الذي لا يسهو هو الله، لا إله إلا هو.

(1) سورة النساء: 141
(2) سورة الجاثية: 14
(3) عيون أخبار الرضا - عليه السلام - ج 2 ص 203
424

قيل: ومنهم قوم يزعمون أن الحسين بن علي لم يقتل وأنه ألقى إليه شبهة على
حنظلة بن أسعد الشامي، فإنه رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم عليه السلام، ويحتجون
بهذه الآية " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ".
فقال: كذبوا - عليهم غضب الله ولعنته - وكفروا بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
أخباره بأن الحسين - عليه السلام - سيقتل، والله لقد قتل الحسين وقتل من كان خيرا " من الحسين
عليه السلام أمير المؤمنين والحسن بن علي وما منا إلا مقتول، وإني والله لمقتول بالسم
باغتيال من يغتالني، أعرف ذلك بعهد معهود إلي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره به جبرئيل
عن رب العالمين عز وجل.
وأما قوله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " فإنه يقول: لن
يجعل الله للكافر على مؤمن حجة. ولقد أخبر الله عن كفار قتلوا نبيين بغير حق، ومع
قتلهم إياهم لم يجعل لهم على أنبيائه - عليهم السلام - من طريق الحجة.
أقول: والخبر - كما ترى - صريح في تفسير السبيل المنفي في الآية بالحجة
والدليل، فتعلق أصحابنا بظاهر هذه الآية في مواضع من الأحكام، بناء على المعنى
الذي نقلناه عنهم، مع ظهور انتقاضه بما قدمنا ذكره، وورود هذا الخبر، مما لا ينبغي
أن يصغى إليه، والعذر لهم ظاهر في عدم الوقوف على الخبر المذكور.
وهذا مما يؤيد ما صرحنا به في مواضع من أبواب العبادات من هذا الكتاب،
أنه لا ينبغي المسارعة إلى الاستدلال بظواهر الآيات قبل مراجعة الأخبار الواردة في
تفسيرها عن أهل العصمة - عليهم السلام -
وبالجملة فإني لا أعرف لهم دليلا في هذا المقام سوى ما عرفت مما لا يروي غليلا
ولا يشفي عليلا.
نعم يمكن أن يستدل على ذلك بمفهوم رواية حماد بن عيسى عن الصادق عليه السلام
أن أمير المؤمنين - عليه السلام - أتى بعبد ذمي قد أسلم، فقال: اذهبوا فبيعوه من
425

المسلمين وادفعوا ثمنه لصاحبه، ولا تقروه عنده (1) رواه الكليني والشيخ في التهذيب
والنهاية.
والتقريب فيه: أنه ليس للأمر ببيعه قهرا سبب ولا علة إلا رفع السلطنة والسبيل
عنه، وعدم جواز تملكه، وحينئذ فيمتنع شراؤه ويحرم تملكه، لما فيه من وجود
السلطنة والسبيل على المسلم. والله العالم.
فروع
الأول: قد صرحوا - بناء على ما قدمنا ذكره من تحريم شراء الكافر
للمسلم - باستثناء ما لو كان العبد المسلم ممن ينعتق عليه بعد الشراء كالأب ونحوه،
فإنه يجوز شراؤه لأنه ينعتق عليه قهرا بعد الدخول في ملكه.
وهو اختيار العلامة في المختلف، ونقله عن والده.
ونقل عن المبسوط وابن البراج عدم الجواز وعدم ترتب العتق عليه.
والمشهور الأول، قالوا: وفي حكمه كل شراء يستعقب العتق، كما لو أقر
بحرية عبد غيره ثم اشتراه فإنه ينعتق عليه بمجرد الشراء.
وصرحوا - أيضا - بأنه إنما يمتنع دخول العبد المسلم في ملك الكافر اختيارا
كالشراء والاستيهاب أما غيره كالإرث واسلام عبده الكافر، فإنه يجبر على بيعه بثمن المثل
على الفور، إن وجد راغب وإلا حيل بينهما إلى أن يوجد الراغب، ونفقته زمن المهلة
عليه وكسبه إليه وفي حديث حماد بن عيسى المتقدم (2) ما يشير إلى ذلك.

(1) الوسائل ج 12 ص 282 حديث: 1 باب: 28
(2) نفس المصدر
426

الثاني: قد صرح جملة من الأصحاب - رضي الله عنهم - بأنه لا يجوز للكافر
استيجار المسلم، وعللوه بحصول السبيل المنفي في الآية المتقدمة، وفصل آخرون
بأنه إن كانت الإجارة لعمل في الذمة فإنه يجوز وتكون حينئذ كالدين الذي في ذمته
لو استدان منه دراهم مثلا، ونفي السبيل في هذه الصورة كما في صورة الدين، وإن كانت
على العين، حرمت للعلة المتقدمة، وهو وجود السبيل المنفي في الآية.
واختار هذا التفصيل جملة من المتأخرين، كالمحقق الشيخ على في شرح
القواعد، والشهيد الثاني في المسالك. وممن صرح بالأول الشهيد في الدروس،
وهو ظاهر العلامة في القواعد.
وأنت خبير بما في الجميع - بعد ما عرفت - ويؤيده جملة من الأخبار بأن عليا
عليه السلام كان يؤجر نفسه من اليهود يسقي لهم النخل. وكفاك ما ورد من الأخبار في قصة
نزول سورة هل أتى الدالة على غزل فاطمة - عليها السلام - الصوف لليهود بأصواع
من الشعير (1).
الثالث: قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجوز رهن العبد المسلم عند
الكافر إن وضع على يد مسلم، وإن وضع عند الكافر حرم.
وعللوا الأول بأن استحقاق أخذ الدين من قيمته لا يعد سبيلا. وعللوا الثاني
بوجود السبيل متى وضع عنده.
وفي عاريته قولان، قال في المسالك: أجودهما المنع قال: وفي ايداعه
وجهان أجودهما الصحة، لأنه فيها خادم لا ذو سبيل.
وأنت خبير بما في هذه التفريعات، بعد ما عرفته في الأصل، من عدم ثبوته وعدم
قراره، فكيف يتم ما يبني عليه.
الرابع: مقتضى شرطية الاسلام في المشتري - متى كان المبيع مسلما أو مصحفا

(1) راجع: أمالي الصدوق ص 155 فما بعد
427

هو بطلان البيع لو لم يكن كذلك وقيل بصحة البيع ولكن يجبر على بيعه ويؤمر
بإزالة ملكه للآية المتقدمة بالنسبة إلى المسلم، ولما في ملك الكافر للقرآن من الإهانة
ومنافاة التعظيم المأمور به.
قيل: وفي حكم المسلم ولده الصغير والمجنون ومسبيه المنفرد به، إن ألحقناه
به فيه، ولقيط يحكم باسلامه ظاهرا، بأن يكون في دار الاسلام أو في دار الحرب
وفيها مسلم يمكن تولده منه.
428

المقام الثالث
قد عرفت أن أحد أركان البيع العوضان. والكلام في ذلك وتحقيق البحث فيه
يقتضي بسطه في مسائل:
الأولى: المشهور بين الأصحاب أنه يشترط في العوضين:
أن يكونا عينا،
فلا يصح بيع المنفعة، خلافا للشيخ في المبسوط، حيث جوز بيع خدمة العبد على
ما نقل عنه، وهو شاذ لا أعلم عليه دليلا.
وأن يكونا ذوي نفع محلل مقصود لأرباب العقول، فلا يصح بيع ما لا منفعة
تترتب عليه من الأعيان النجسة والمتنجسة مما لا يقبل التطهير، وقد تقدم البحث في
جملة من هذه الأشياء، كالعذرات والأبوال والسباع والميتة والكلاب وآلات اللهو
وهياكل العبادة ونحو ذلك والأخبار المتعلقة بها، وتحقيق القول فيها، في المقدمة
الثالثة من مقدمات هذا الكتاب.
وملخص الكلام فيها: أن كل ما كان له نفع محلل مقصود للعقلاء فإنه يجوز
بيعه والتجارة فيه، إلا ما قام الدليل على خلافه.
قالوا: لا يصح بيع ما لا منفعة فيه من الخنافس والعقارب ونحوهما، وفضلات
الانسان كشعره وأظفاره ورطوباته، لعدم عد شئ من ذلك مالا عرفا وشرعا، وعدم
429

المنفعة المقابلة للمال الذي يجعل قيمة لها، ولا اعتبار بما ورد في الخواص من منافع
بعض هذه الأشياء، فإنه مع ذلك لا يعد مالا.
نعم صرحوا باستثناء اللبن من فضلات الانسان، حيث إنه طاهر ينتفع به،
فيجوز بيعه وأخذ الأجرة عليه، مقدرا بالقدر المعين أو المدة المعلومة، كما في
إجارة الظئر. خلافا لبعض العامة.
وقد عدوا من هذا الباب ما لم تجر العادة بملكه، كحبه حنطة، وإن يجز غصبها
من مالكها، فيضمن المثل إن تلفت وردها إن بقيت، كذا صرح به في الدروس.
وظاهر المحقق الأردبيلي - في شرح الإرشاد - المناقشة في هذا المقام، حيث
قال - بعد قول المصنف " ولا ما لا ينتفع به لقتله كالحبة من الحنطة " - ما صورته:
كأنه أشار إلى أن المراد بالملك الذي يحصل به النفع، فهو عطف على الحر،
فلا يصح ولا يجوز المعاملة بما لا ينتفع به لقلته، وإن كان ملكا كحبة من الحنطة، ولهذا،
لا يجوز أخذه من غير إذن صاحبه، وإن لم يجب الرد والعوض، بناء على ما قيل،
ولعل دليله يظهر مما مر، من أن بذل المال في مقابلة مثله سفه عقلا وشرعا، فلا يجوز
وأنه ليس معاملة مثله متعارفا، والمتعاملة المجوزة تصرف إليها.
وفيه تأمل، لأنه قد ينتفع به وذلك يكفي، ولهذا قيل: لا يجوز سرقة حبة من
الحنطة، وينبغي الضمان والرد أيضا كما في سائر المعاملات.
وإن قيل بعدمها ومجرد كونه ليس بمتعارف لا يوجب المنع، نعم لا بد من
بذل ما لا يزيد عليه لئلا يكون سفها وتبذيرا كما في سائر المعاملات، فإنه قد يشتري
حبة حبة ويجتمع عنده ما يحصل فيه نفع كثير، وقد يحصل النفع بالانضمام إلى
غيره أيضا.
وبالجملة ما لا نفع فيه أصلا وبوجه من الوجوه لا يجوز معاملتها للسرف، وأما
ماله نفع في الجملة كالحبة ليس بظاهر عدم جواز المعاملة بأمثالها. انتهى.
وهو بناء على ظاهره جيد، إلا أن الظاهر أن بناء كلام الأصحاب هنا في الحكم
430

بكون الحبة من الحنطة لا يجوز المعاملة عليها لعدم الانتفاع بها، إنما جرى على الغالب،
لا على هذا الفرض النادر الذي ذكره، والأحكام الشرعية - كما تقدم في غير مقام،
ولا سيما في كتب العبادات - إنما يبني الاطلاق فيها على الأفراد المتكررة الوقوع
المتعارفة الدوران لا على الفروض النادرة التي ربما لا تقع بالكلية، وإن جاز فرضها،
وأن ما ذكره من الفرض المذكور معارض بما هو معلوم قطعا من أحوال الناس، فإنه
قد ينتشر من الانسان الحنطة والأرز ونحوهما فيجمع منه ما يعتد به وينتفع به ويبقى
في الأرض منه حبات كثيرة ويعرض عنها ويتركها لعدم ما يترتب عليها من النفع لقلتها
بل لو تعرض لجمع تلك الحبات ولقطها من الأرض لنسب إلى الجهالة والحماقة
وقلة العقل، لما ارتسم في قلوب العقلاء أن الأليق بذوي المروات هو الاعراض عن
مثل ذلك، وأن خلافه عيب عندهم، وهذا أمر معلوم مجزوم به عادة.
المسألة الثانية
من الشرائط: أن يكون العوضان مملوكين لمن له البيع والشراء، وهو ظاهر
عقلا ونقلا، إذ لا معنى لبيعه ما ليس له، ولا الشراء بما ليس له، بأن يتوجه العقد إلى
تلك الأعيان.
وإنما قيدناه بما ذكرنا، احترازا عما لو وقع البيع والشراء في الذمة، ودفع
ذلك عوضا عما في الذمة، فإن البيع والشراء صحيح، حيث إنه لم يقع على تلك العين
غير المملوكة ولا بها، وإنما وقع على شئ في الذمة، فغاية ما يلزم هو حصول الإثم بدفع المال
غير المملوك ثمنا أو مثمنا، وإلا فالبيع صحيح كما هو ظاهر، إلا أن الشيخ قال في النهاية:
من غصب غيره ما لا واشترى به جارية، كان الفرج له حلالا وعليه وزر المال، ولا يجوز
أن يحج به فإن حج به لم يجزه عن حجة الاسلام انتهى.
431

وهو على اطلاقه - مشكل ولهذا اعترضه ابن إدريس هنا، فقال: إن كان
الشراء بالعين بطل ولم يجز الوطي، وإن كان قد وقع في الذمة صح البيع وحل
الوطي.
أقول: ما ذكره ابن إدريس هو المشهور في كلام المتأخرين، وبه صرح الشيخ
في أجوبة المسائل الحائرية.
والوجه في ذلك - زيادة على ما ذكرنا -: أولا، الجمع بين ما رواه في الكافي
عن محمد بن يحيى، قال: كتب محمد بن الحسن إلى أبي محمد - عليه السلام - رجل اشترى
من رجل ضيعة أو خادما بمال أخذه من قطع الطريق أو من سرقة. هل يحل له ما يدخل
عليه من ثمرة هذه الضيعة، أو يحل له أن يطأ هذا الفرج الذي اشتراه من سرقة أو من
قطع الطريق؟ فوقع عليه السلام: لا خير في شئ أصله حرام، ولا يحل له استعماله (1) ورواه
الشيخ - أيضا - بسنده إلى الصفار.
وبين ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه - عليهم السلام -
قال: لو أن رجلا سرق ألف درهم فاشترى بها جارية، أو أصدقها امرأة، فإن الفرج
له حلال، وعليه تبعة المال (2).
بحمل الأول على الشراء بعين المال، والثاني على الشراء في الذمة.
وبالجملة فإنه لا خلاف ولا اشكال في شرطية الملك، فلا يجوز بيع الحر اتفاقا،
ولا بيع ما اشترك فيه المسلمون، كالماء والكلاء، إذا كانا في أرض مباحة. كذا وقع
في عبائر جمع من الأصحاب.
واعترض بأنه يدل على ملكية المسلمين له على جهة الشركة، كالأرض المفتوحة
عنوة، مع أنه ليس كذلك، إنما هما قابلان لملك كل انسان بعد الحيازة.
وفيه: أن الظاهر أن التعبير هنا خرج مخرج التجوز، وأن المراد إنما هو ما اشترك

(1) الوسائل ج 12 ص 58 حديث: 1 باب: 3 من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل ج 14 ص 578 حديث: 1 باب: 81 من أبواب نكاح العبيد والإماء
432

المسلمون في جواز حيازته الموجبة للملك بعد ذلك، وإنما قيد بكونه في أرض مباحة، لأنه
إذا كان في أرض مملوكة كان تابعا للأرض في الملك، فيصح بيعه وشراؤه، ويحرم
على غير المالك أخذه بغير إذن منه، فعلى هذا لو باع الأرض لم يدخل فيها الماء
والكلاء، إلا أن ينص عليهما في البيع، أو يذكر لفظا يعمهما.
وقد صرحوا هنا بأنه لا يجوز بيع الأرض المفتوحة عنوة، لأنها للمسلمين
قاطبة، وقيل بالجواز تبعا لآثار التصرف. وقد تقدم البحث في هذه المسألة منقحا
في المسألة السادسة من المقدمة الرابعة، وبينا فيها ما هو المختار، الظاهر عندنا
من الأخبار.
ومنع الشيخ من بيع بيوت مكة وإجارتها، ومنع المسلمين من سكناها إذا كانت
خالية، محتجا بالخبر وآية الاسراء من المسجد الحرام، مع أنه كان من دار أم هاني.
ونقل في الخلاف الاجماع على ذلك وجملة ممن تأخر عنه تبعه في هذه الدعوى،
وبعض تردد لذلك.
والظاهر أن المشهور قالوا بالجواز. ولله در شيخنا الشهيد الثاني في الروضة،
حيث قال: وربما علل المنع بالرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عنه، وبكونها في حكم
المسجد لآية الاسراء، مع أنه كان من بيت أم هاني، ولكن الخبر لم يثبت، وحقيقة
المسجدية منتفية، ومجاز المجاورة والشرف والحرمة ممكن، والاجماع غير متحقق،
فالجواز متجه. انتهى. وهو جيد.
أقول: وقد مر في الموضع المشار إليه آنفا ما يؤيد ما اختاره هنا أيضا.
والظاهر أن الخبر الذي احتج به الشيخ في هذه المسألة، هو نقله عنه في
المختلف، وهو ما رواه عبد الله بن عمرو بن عاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مكة حرام،
وحرام أرباعها، وحرام أجر بيوتها (1).
أقول: أنظر إلى هذا التساهل في الأحكام من كل من هؤلاء الأعلام، في الاعتماد

(1) سنن البيهقي ج 5 ص 34
433

على هذه الرواية العامية، التي هي من أضعف رواياتهم، حتى أن منهم من وافق الشيخ
في المسألة، ومنهم من تردد في الحكم، وهذا مستنده، مع تصلبهم في هذا الاصطلاح،
برد جملة من الروايات المروية في الأصول التي عليها المدار، بزعم أنها ضعيفة
أو غير موثقة، لا سيما مثل المحقق والعلامة ونحوهما الذين قد وافقوه في هذه المسألة فبين
من تردد في ذلك كالمحقق في الشرايع، حيث قال " وفي بيع بيوت مكة تردد، والمروي
المنع " وبين من وافقه والحال كما ترى
المسألة الثالثة
وقد صرحوا بأن من الشرائط يكون المبيع مقدورا على تسليمه، أو يضم
إليه ما يصح بيعه منفردا، فلو باع الحمام الطائر أو غيره من الطيور المملوكة لم
يصح إلا أن تقضي العادة بعوده فيصح، لأنه يكون كالعبد المنفذ في الحوائج والدابة
المرسلة.
وتردد العلامة في النهاية في الصحة بسبب انتفاء القدرة في الحال على التسليم،
وأن عوده غير موثوق به، إذ ليس له عقل باعث.
قال في المسالك: وهو احتمال موجه، وإن كان الأول أقوى.
أقول: لم أقف في هذا المقام على نص يقتضي صحة البيع في الصورة المذكورة،
فتردد العلامة في محله، وإن كان الأول قريبا، تنزيلا للعادة منزلة الواقع، إلا أن الفتوى
بذلك بمجرد هذا التعليل مشكل، على قاعدتنا في الفتاوى.
* * *
ولو باع المملوك الآبق لم يصح إلا على من هو في يده أو مع الضميمة إلى ما يصح
بيعه منفردا، فإن وجده المشتري وقدر على اثبات اليد عليه، وإلا كان الثمن بإزاء
434

الضميمة، ونزل الآبق بالنسبة إلى الثمن بمنزلة المعدوم ولكن لا يخرج بالتعذر
عن ملك المشتري، فيصح عتقه عن الكفارة وبيعه على آخر مع الضميمة أيضا.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة، ما رواه في الكافي في
الصحيح عن رفاعة النخاس، قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام قلت له: يصلح لي
أن أشتري من القوم الجارية الآبقة وأعطيهم الثمن فأطلبها أنا؟ قال: لا يصلح شراؤها
إلا أن تشتري معها ثوبا أو متاعا، فنقول لهم: اشترى منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع
بكذا وكذا درهما، فإن ذلك جائز (1).
وما رواه الشيخ عن سماعة في الموثق عن الصادق عليه السلام في الرجل يشتري العبد
وهو آبق عن أهله، قال: لا يصلح إلا أن يشتري معه شيئا آخر، ويقول: أشتري منك
هذا الشئ وعبدك بكذا وكذا، فإن لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى
معه (2) ورواه الصدوق بإسناده عن سماعة مثله، ورواه الكليني عن محمد بن يحيى
عن أحمد بن محمد مثله.
وفي الرواية الأولى إشارة إلى كون الضميمة شيئا له قيمة كالثوب والمتاع
ونحو ذلك، وينبغي أن يحمل عليها اطلاق الشئ في الرواية الثانية.
وفي الثانية دلالة على ما قدمنا ذكره من أنه مع تعذر المبيع يكون الثمن - وإن كثر -
في مقابلة الضميمة - وإن قلت - وفيه، وكذا في أمثاله، من مواضع الضمايم الآتية
انشاء الله تعالى في مواضعها، رد على بعض الفضلاء المعاصرين فيما تفرد به، من أن
ذلك غير جائز، لأنه غير مقصود وأن المشتري لا ينقد هذا الثمن الكثير في مثل هذا
المبيع اليسير في سائر الأوقات وما جرت به العادة. وهو اجتهاد في مقابلة النصوص
وجرأة على أهل الخصوص.

(1) الوسائل ج 12 ص 262 حديث: 1 باب: 11
(2) الوسائل ج 12 ص 263 حديث: 2 باب: 11
435

وفي الخبرين المذكورين تأييد لما قدمنا ذكره في المقام الأول من هذا الفصل.
من الاكتفاء في صيغة البيع بالألفاظ الدالة على الرضا كيف اتفقت، فإن ما ذكره في
الخبرين من قوله " تقول: أشتري " هو عقد البيع وصيغته الجارية بين المتبايعين،
وهو ظاهر في عدم وجوب تقديم الإيجاب على القبول كما ادعوه، ولا كونه بلفظ
الماضي كما زعموه، ولا وجوب المقارنة كما ذكروه.
تنبيهات
الأول: لا خيار للمشتري مع العلم بالإباق، لقدومه على النقض ورضاه به.
أما لو جهل الإباق جاز له الفسخ إن قلنا بصحة البيع.
الثاني: ينبغي أن يعلم أنه يشترط في بيعه ما يشترط في غيره من كونه معلوما
وموجودا وقت العقد وغير ذلك سوى القدرة على تسليمه. فلو ظهر تلفه حين العقد
أو استحقاق الغير له بطل البيع فيما قابله من الثمن. ولو ظهر كونه مخالفا للوصف
تخير المشتري.
الثالث: قال في الدروس عن المرتضى: أنه جوز بيع الآبق منفردا لمن
يقدر على تحصيله، ثم قال: وهو حسن. واختار ذلك أيضا في اللمعة، وإليه جنح
جمع من المتأخرين، منهم العلامة والمحقق الشيخ على في شرح القواعد. ولا يخلو
عن قوة، لحصول الشرط وهو القدرة على تسليمه.
ووجه الاشتراط: صدق الإباق معه، الموجب للضميمة بالنص، وكون الشرط
التسليم وهو أمر آخر غير التسليم ويضعف بأن الغاية المقصودة من التسليم حصوله
بيد المشتري بغير مانع وهي موجودة، والموجب للضميمة العجز عن تحصيله وهي
مفقودة، فلا مانع من الصحة والخبران المتقدمان محمولان على عدم قدرة المشتري
436

وقت العقد، وفي الثاني منهما ما يشير إلى ذلك، من قوله " فإن لم يقدر على العبد
كان الذي نقده فيما اشترى معه " فإنه ظاهر في كون البيع وقع في حالة لا يتحقق
فيها قدرة المشتري على تحصيله، بل هي تحتمل للأمرين، وبه يظهر قوة القول
المذكور.
الرابع: قد صرح جملة من الأصحاب، منهم صاحب التذكرة والروضة
وغيرهما، بأنه لا يلحق بالآبق في هذا الحكم ما في معناه، كالبعير الشارد، والفرس
الغائر، والضالة من البقر والغنم ونحوهما، بل المملوك المتعذر تسليمه بغير الإباق،
كالجحود مثلا، فإن الظاهر جواز بيعها من غير ضميمة شئ، للأصل وعموم أدلة
العقود، وحصول الرضا، واقتصارا فيما خالف الأصل على موضع النص، وحينئذ
فيصح البيع ويراعى بامكان التسليم، فإن أمكن في وقت قريب لا يفوت به شئ من
المنافع يعتد به، أو رضي المشتري بالصبر إلى أن يسلم، لزم العقد. وإن تعذر
فسخ المشتري إن شاء، وإن شاء التزم بالعقد وبقي على ملكه، فينتفع بالعبد بالعتق
ونحوه.
الخامس: قيل: وكما يجوز جعل الآبق مثمنا يجوز جعله ثمنا، سواء
كان في مقابله آبق آخر أم غيره، لحصول معنى البيع في الثمن والثمن، وفي احتياج
جعل العبد الآبق المجعول ثمنا إلى الضميمة احتمال، لصدق الإباق المقتضي لها،
ولعله الأقرب لاشتراكهما في العلة المقتضية لها.
وحينئذ يجوز أن يكون أحدهما ثمنا والآخر مثمنا مع الضميمتين، كذا قيل.
وللتوقف فيه مجال، فإن الحكم وقع خلاف الأصل كما اعترفوا به، فالواجب الاقتصار
فيه على مورد النص المتقدم، ومورده إنما هو الثمن لا الثمن.
السادس: أن الآبق يخالف غيره من المبيعات في أشياء:
منها: اشتراط الضميمة في صحة بيعه.
437

ومنها: أنه ليس له قسط من الثمن.
ومنها: أن تلفه قبل القبض من المشتري.
ومنها: أنه لا تخيير للمشتري مع فقده، وكل ما شرط أو ذكر في العقد يتخير
المشتري مع فواته.
السابع: لو وجد المشتري في الآبق عيبا سابقا، أما بعد القدرة عليه أو قبلها
كان له الرجوع بأرشه، بأن يقوم العبد صحيحا مع الضميمة بعشرة مثلا، ويقومان
معيبا بتسعة، فالأرش هو العشر، يرجع به المشتري من القيمة التي وقع عليها
العقد، وهكذا لو ظهر العيب في الضميمة وكان سابقا على البيع، فإن الحكم فيه
كذلك.
الثامن: لا يكفي في الضميمة، إلى الثمن أو المثمن، ضم آبق آخر،
لأن الغرض من الضميمة أن تكون ثمنا أو مثمنا إذا تعذر تحصيل ما ضمت إليه، فلا بد
أن تكون جامعة لشرائطه التي من جملتها إمكان التسليم، والآبق المجعول ضميمة
ليس كذلك.
المسألة الرابعة
قد صرحوا بأن من الشرائط: أن يكون المبيع طلقا فلا يصح بيع الوقف العام
مطلقا. بضميمة كان أو بغير ضميمة.
والمشهور: استثناء موضع خاص، إلا أنهم قد اختلفوا في شروطه اختلافا
شديدا فاحشا، حتى من الواحد في الكتاب الواحد في باب البيع وباب الوقف، فقلما
يتفق فتوى واحد منهم. فضلا عن المتعددين، وإن أردت الاطلاع على صحة ما قلناه
فارجع إلى شرح الشهيد على الإرشاد، فإنه قد بلغ الغاية في ذلك، في بيان المراد
438

بنقل جملة من فتاويهم، وبين الاختلاف فيها باعتبار الشروط المجوزة للبيع.
ونحن ننقل لك ذلك في هذا المقام، إزاحة لثقل المراجعة عمن إرادة من الأعلام،
وتقريبا لمسافة وصوله إلى الأفهام، فنقول:
قال في الكتاب المذكور: قال الصدوق بجواز بيع " الوقف على قوم دون
عقبهم " ومنع من بيع " الوقف المؤبد ". وقال المفيد: إنه يجوز بيع الوقف إذا خرب
ولم يوجد له عامر، أو يكون غير مجد نفعا، أو اضطر الموقوف عليه إلى ثمنه، أو كان
بيعه أعود عليه، أو يحدث ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرب إلى الله بصلتهم، قال:
فهذه خمسة مجوزة للبيع، ليس بعضها مشروطا ببعض.
وقال الشيخ في المبسوط، بجوازه إذا خيف خرابه أو خيف خلف بين أربابه،
فجوزه في أحد الأمرين. وفي الخلاف ظاهر كلامه جوازه عند خرابه بحيث لا يرجى
عوده. فقد خالف عبارة المبسوط في شيئين: أحدهما: أنه ذكر هناك خوف الخراب،
وهنا تحققه، وثانيهما: أنه لم يذكر الخلف بين أربابه في الخلاف. وقال في النهاية:
لا يباع إلا عند خوف هلاكه أو فساده، أو كان بالموقوف عليهم حاجة ضرورية يكون
بيعه أصلح، أو يخاف خلف يؤدي إلى فساد بينهم. فهذه أربعة بعضها غير مشروط
ببعض. ومخالفتها لعبارتي الكاتبين ظاهرة. وتبعه صاحب الجامع، إلا أنه لم
يذكر هلاكه أو فساده، بل قال - عند خرابه -: وقيد الفساد بينهم بأن تستباح فيه
الأنفس.
وقال المرتضى: يجوز إذا كان لخرابه بحيث لا يجدي نفعا، أو تدعو الموقوف
عليهم ضرورة شديدة، فقد وافق المفيد خمسي الموافقة.
وقال ابن البراج وأبو الصلاح: لا يجوز بيع المؤيد، وأما المنقطع فيجوز
بقيود النهاية، وتجويز بيع المنقطع أشد اشكالا من الكل.
439

وقال سلار: فإن تغير الحال في الوقف حتى لا ينتفع به على أي وجه كان،
أو يلحق الموقوف عليه حاجة شديدة، جاز بيعه،
وابن حمزة في كتابيه جوزه عند الخوف من خرابه أو الحاجة الشديدة التي
لا يمكنه معها القيام به.
والشيخ نجم الدين - في التجارة من الشرايع - جوز إذا أدى بقاؤه إلى خرابه
لخلف بين أربابه، ويكون البيع أعود. وفي كتاب الوقف جوز بيعه إذا خشي
خرابه لخلف بين أربابه، ولم يقيد بكون البيع أعود. ثم استشكل فيما لم يقع خلف
ولا خشي خرابه، بل كان البيع أعود، واختار المنع.
ففي ظاهر كلامه الأخير رجوع عن الأول، وفي تقييده بقوله " إذا لم يقع خلف
ولا خشي خرابه " افهام جواز بيعه عند أحدهما أيا ما كان، وهو مخالف لما ذكر في
الموضعين. وعبارته في هذه المواضع الثلاثة اختارها المصنف في القواعد في هذه
المواضع أيضا، فيلزمه ما لزمه وفي النافع أطلق المنع من البيع، إلا أن يقع خلف
يؤدي إلى فساد، فإنه تردد فيه.
وقال المصنف في متاجر التحرير: يجوز بيعه إذا أدى بقاؤه إلى خرابه، وكذا
إذا خشي وقوع فتنة بين أربابه على خلاف. وفي مقصد الوقف منه: لو وقع خلف
بين أرباب الوقف بحيث يخشى خرابه جاز بيعه على ما رواه أصحابنا. ثم قال: ولو
قيل بجواز البيع إذا ذهبت منافعه بالكلية، كدار انهدمت وعادت مواتا ولم يتمكن
من عمارتها، ويشتري بثمنها وقفا، كان وجها. وفي التلخيص جوز عند وقوع
الخلف الموجب للخراب، وبدونه لم يجوز وجوز في القواعد بيع حصير المسجد
إذا خلق وخرج عن الانتفاع به فيه، وبيع الجذع غير المنتفع به إلا في الاحراق.
هذه عبارات معظم المجوزين.
وابن الجنيد أطلق المنع، ونص ابن إدريس على اطلاق المنع، وزعم الاجماع
440

على تحريم بيع المؤيد، والمصنف في هذا الموضع من الإرشاد قيد البيع بالخراب
وأدائه إلى الخلف بين أربابه، فخالف عبارات الأصحاب في الخراب، وخالف
المحقق المقيد بأدائه إلى الخلف بين الأرباب. وفي الوقف من هذا الكتاب، وبيع
الوقف من الشرايع والقواعد جوز فيه شرط البيع عند ضرورة الخراج والمؤن
وشراء غيره بثمنه. وفي المختلف جوز بيعه مع خرابه وعدم التمكن من عمارته أو مع
خوف فتنة بين أربابه يحصل منها فساد ولا يستدرك مع بقائه. انتهى كلامه.
ومنه يعلم أن في المسألة أقوالا:
أحدها: المنع مطلقا. وهو المنقول عن ابن الجنيد وابن إدريس.
وثانيها: المنع في المؤبد خاصة. وهو مذهب الصدوق وأما غيره فيجوز.
وثالثها: قول الصدوق المذكور إلا أنهم قيدوا البيع في غير المؤبد بالقيود
المذكورة في النهاية، وهو قول أبي الصلاح وابن البراج.
ورابعها - وهو المشهور -: الجواز مطلقا، بالشروط التي ذكروها على
اختلافها كما عرفت.
* * *
أقول: والأصل في هذا الاختلاف اختلاف الأفهام فيما رواه علي بن مهزيار في
الصحيح، قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السلام أن فلانا ابتاع ضيعة فوقفها وجعل لك
في الوقف الخمس، ويسأل عن رأيك في بيع حصتك من الأرض أو تقويمها على نفسه
بما اشتراها به، أو يدعها موقوفة. فكتب عليه السلام إلي: أعلم فلانا أني آمره أن يبيع حقي
من الضيعة، وايصال ثمن ذلك إلى، وأن ذلك رأيي انشاء الله. أو يقومها على نفسه إن
كان ذلك أوفق له.
قال: وكتبت إليه: إن الرجل ذكر أن بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافا
شديدا، وأنه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف
441

ويدفع إلى أكل انسان منهم ما كان وقف له من ذلك أمرته. فكتب عليه السلام بخطه إلي:
واعلمه أن رأيي له، إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن بيع الوقف
أمثل فإنه ربما جاء في الاختلاف ما فيه تلف الأموال والنفوس (1).
قال شيخنا الشهيد في الكتاب المذكور المتقدم ذكره - بعد نقل هذه الرواية -
ما صورته: والذي جوز في غير المؤبد نظر إلى صدر الرواية، الآخر نظر إلى
عجزها. قلت: لو سلمت المكاتبة فلا دلالة في الصدر، إذ الوقف مشروط بالقبول
إذا كان على غير الجهات العامة ولم ينقل أن الإمام قبل الوقف، وإنما قبل الجعل
وأمره ببيعه. وحملها على هذا أولى لموافقته الظاهر وأما العجز فدل على جواز البيع
لخوف الفساد بالاختلاف من غير تقييد بخوف خرابه، فيبقى باقي ما ذكروه من القيود
غير مدلول عليها منها. انتهى.
وظاهره هنا: اشتراط جواز البيع لخوف الفساد بالاختلاف خاصة، وفي
الدروس اكتفى في جواز بيعه بخوف خرابه أو خلف أربابه المؤدي إلى فساده.
وفي اللمعة نسب الجواز - بما لو أدى بقاؤه إلى خرابه لخلف أربابه - إلى المشهور،
ولم يجزم بشئ. وقد لزمه ما سجل به على غيره من اختلاف الواحد منهم في فتواه
في هذه المسألة.
وقال الصدوق - بعد ذكر الخبر المذكور -: هذا وقف كان عليهم دون من
بعدهم، ولو كان عليهم وعلى أولادهم ما تناسلوا ومن بعدهم على فقراء المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يجز بيعه أبدا.
أقول: والمعتمد عندي في معنى هذه الرواية ما وقفت عليه في كلام شيخنا
المجلسي في حواشيه على بعض كتب الأخبار، حيث قال: والذي يخطر بالبال أنه يمكن
حمل هذا الخبر على ما إذا لم يقبضهم الضيعة الموقوفة عليهم ولم يدفع إليهم. وحاصل

(1) الوسائل ج 13 ص 304 - 305 حديث: 5 و 6
442

السؤال أن الواقف يعلم أنه إذا دفعها إليهم يحصل منهم الاختلاف ويشتد، لحصول
الاختلاف قبل الدفع بينهم في تلك الضيعة، أو في أمر آخر. أيدعها موقوفة ويدفعها
إليهم أو يرجع عن الوقف، لعدم لزومه بعد، ويدفع إليهم ثمنها. أيهما أفضل؟ فكتب
عليه السلام: البيع أفضل لمكان الاختلاف المؤدي إلى تلف النفوس والأموال. فظهر
أن هذا الخبر ليس بصريح في جواز بيع الوقف، كما فهمه القوم، واضطروا إلى
العمل به مع مخالفته لأصولهم. والقرينة: إن أول الخبر محمول عليه كما عرفت، وإن
لم ندع أظهرية هذا الاحتمال أو مساواته للآخر، فليس ببعيد، بحيث تأبى عنه الفطرة
السليمة في مقام التأويل والله الهادي إلى سواء السبيل. انتهى كلامه، علت في الخلد
أقدامه.
وما يشعر به آخر كلامه، إن كان على سبيل التنزل والمجاراة مع القوم فجيد،
وإلا فإنه لا معنى للخبر غير ما ذكره، فإنه هو الذي ينطبق عليه سياقه. ويؤيده - زيادة
على ما ذكره - أن البيع في الخبر إنما وقع من الواقف، وهو ظاهر في بقاء الوقف في
يده، والمدعى في كلام الأصحاب: أن البيع من الموقوف عليهم، لحصول الاختلاف
في الوقف، والخبر لا صراحة فيه على حصول الاختلاف في الوقف، ويعضده
- أيضا - أن هؤلاء الموقوف عليهم من أهل هذه الطبقة لا اختصاص لهم بالوقف، بل
نسبتهم إليه كنسبة سائر الطبقات المتأخرة، فهو من قبيل المال المشترك الذي لا يجوز
لأحد الشركاء بيعه كلا، وإنما يبيع حصته المختصة به، والموقوف عليه هنا ليس
له حصة في العين وإنما له الانتفاع بالنماء مدة حياته، ثم ينتقل إلى غيره، لأن الوقف
- كما عرفوه - عبارة عن تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
ويؤكده قوله عليه السلام في صحيحة الصفار الآتية انشاء الله تعالى " الوقوف على حسب
ما يوقفها أهلها " وكذا جملة من الأخبار الآتية في المقام انشاء الله تعالى. ويزيده تأكيدا
- أيضا - الأدلة العامة من آية أو رواية، الدالة على المنع من التصرف فيما لا يملكه
443

الانسان، ويتأكد ذلك بما إذا اشترط الواقف في أصل الوقف بأن لا يباع ولا يوهب.
ولو قيل بأنه متى أدى الاختلاف إلى ذهابه وانعدامه فالبيع أولى، فإنه مع
كونه غير مسموع في مقابلة النصوص، مدفوع بأنه يمكن استدراك ذلك بأن يرجع
الأمر إلى ولي الحسبة، فيقيم له ناظرا لاصلاحه وصرفه في مصارفه. وبالجملة فإن
الظاهر عندي من الرواية المذكورة أنها ليست في شئ مما نحن فيه، فجميع ما أطالوا
به من الكلام في المقام نفخ في غير ضرام.
* * *
ومن الأقوال في المسألة - أيضا - زيادة على الأربعة المتقدمة - خروج الموقوف
عن الانتفاع به فيما وقف عليه، كجذع منكسر وحصير خلق ونحوهما. قيل: فلا يبعد
للمتولي الخاص بيعه، ومع عدمه فالحاكم أو سائر عدول المؤمنين. وشراء ما ينتفع
فيه، لأنه احسان وتحصيل غرض الواقف مهما أمكن.
* * *
ومنها - أيضا - جواز البيع إذا حصل للموقوف عليهم حاجة شديدة وضرورة
تامة لا تندفع بعلة الوقف، وتندفع ببيعه، وعليه يدل ظاهر خبر جعفر بن حسان الآتي
انشاء الله.
والواجب - أولا - نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ثم الكلام فيها بما رزق الله
فهمه منها. فمنها: ما رواه الصدوق والشيخ في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار:
أنه كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد الحسن عليه السلام في الوقف وما روى فيه عن
آبائه - عليهم السلام - فوقع: " الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها " (1) ورواه
الكليني عن محمد بن يحيى.
ومنها: ما رواه في الكافي في القوي عن علي بن راشد، قال: سألت أبا الحسن

(1) الوسائل ج 13 ص 295 حديث: 1
444

عليه السلام قلت: جعلت فداك اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم، فلما وفيت
المال خبرت أن الأرض وقف. فقال: لا يجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلة في ملكك،
وادفعها إلى من أوقفت عليه، قلت لا أعرف لها ربا. فقال: تصدق بغلتها (1).
وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن أيوب بن عطية الحذاء، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفئ فأصاب عليا أرض فاحتفر فيها
عينا فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير، فسماها " عين ينبع " فجاء البشير
يبشره فقال: عليه السلام: بشر الوارث، هي صدقة بتا بتلا. في حجيج بيت الله وعابر
سبيل الله، لا تباع ولا توهب ولا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (2).
وما رواه الصدوق في الفقيه عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
تصدق أمير المؤمنين عليه السلام بدار له في المدينة في بني زريق، فكتب بسم الله الرحمن
الرحيم، هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب وهو حي سوي، تصدق بداره التي في
بني زريق، لا تباع ولا توهب حتى يرثها الذي يرث السماوات والأرض، واسكن
هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهن، فإذا انقرضوا فهي لذوي الحاجة من
المسلمين (3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن عجلان أبي صالح قال: أملى علي أبو عبد الله
عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به فلان بن فلان وهو حي سوي،
بداره التي في بني فلان بحدودها، صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، حتى يرثها
وإرث السماوات والأرض، وأنه قد أسكن صدقته هذه فلانا وعقبه، فإذا انقرضوا فهي

(1) الوسائل ج 12 ص 271 حديث: 1 باب: 17
(2) الوسائل ج 13 ص 303 حديث: 2
(3) الوسائل ج 14 ص 304 حديث: 4
445

على ذوي الحاجة من المسلمين (1).
أقول: وهذه الأخبار كلها - ونحوها غيرها - ظاهرة الدلالة واضحة المقالة في
تحريم بيع الوقف.
وأجاب عنها شيخنا الشهيد بأنها عامة، والرواية الأولى خاصة، فيبنى العام على
الخاص.
وفيه ما عرفت: أن تلك الروايات لا دلالة لها على ما ادعوه منها - كما أوضحناه -
ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة. في الصحيح، عن جعفر بن حنان، وهو غير
موثق (2) - قال: سألت الصادق عليه السلام عن رجل أوقف غلة له على قرابته من أبيه
وقرابته من أمه، وأوصى لرجل ولعقبه من تلك الغلة ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمأة
درهم كل سنة، ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أمه. فقال: جائز للذي
أوصى له بذلك. قلت أرأيت أن لم تخرج من غلة الأرض التي أوقفها إلا خمسمائة درهم.
فقال: أليس في وصيته أن يعطي الذي أوصى له من الغلة ثلاثمأة درهم ويقسم الباقي
على قرابته من أبيه وقرابته من أمه؟ قلت: نعم. قال: ليس لقرابته أن يأخذوا من
الغلة شيئا حتى يوفوا الموصى له ثلاثمأة درهم، ثم لهم ما يبقى بعد ذلك - إلى أن
قال - قلت: فللورثة من قرابة الميت أن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج
من الغلة؟ قال نعم إذا كانوا رضوا كلهم، وكان البيع خيرا لهم باعوا (3).
أقول: وبهذه الرواية استدل من قال بجواز الوقف مع الحاجة والضرورة
إذا لم تف الغلة بذلك.

(1) الوسائل ج 13 ص 303 حديث: 3
(2) أي لم يوثقوه صريحا وإن كانت تظهر وثاقته من بعض القرائن كما لا يخفى على
من راجع ترجمة الرجل.
(3) الوسائل ج 13 ص 306 حديث: 8
446

وظاهر شيخنا الشهيد في الكتاب المذكور: القول بها، فإنه بعد أن طعن فيها
أولا قال في آخر البحث: والأجود العمل بما تضمنه الحديثان السابقان وأشار بهما
إلى صحيحة علي بن مهزيار وإلى هذه الرواية وقد عرفت الجواب عن الصحيحة
المذكورة. وأما هذه الرواية فهي غير ظاهرة في كون الوقف فيها مؤبدا، فحملها
على غير المؤبد - كما هو ظاهرها - طريق الجمع بينها وبين ما ذكرنا من الأخبار
الصحيحة الصريحة في تحريم بيع الوقف المؤبد.
وأكثر الأصحاب - ممن قال بالقول المشهور - ردوا هذه الرواية بضعف
السند.
ثم إن جملة ممن صرح بجواز البيع - فيما دلت عليه صحيحة علي بن مهزيار -
أوجب أن يشترى بالقيمة ما يكون عوضه وقفا.
قال في الروضة: وحيث يجوز بيعه يشترى بثمنه ما يكون وقفا على ذلك الوجه
إن أمكن، مراعيا للأقرب إلى صفته فالأقرب، والمتولي لذلك الناظران كان وإلا الموقوف
عليهم إذا انحصروا، وإلا الناظر العام. انتهى.
وأنت خبير بأنه مع قطع النظر عن الرواية التي استندوا إليها في المقام -
لما عرفت من النقض والابرام والرجوع إلى أقوالهم المتقدمة وإن كانت مختلفة مضطربة -
فإنه لا يطرد هذا الحكم كليا علي تقدير القول بالجواز، وإنما يتم على البعض، ولعله
الأقل من تلك الأقوال، وذلك فإن من المجوزين من جعل السبب المجوز في جواز
البيع هو شدة احتياج الموقوف عليهم لعدم وفاء الغلة بذلك، ومقتضى ذلك أنما هو
أكل ثمنه والتصرف فيه بالملك لا بالشراء، وهو ظاهر. ومنهم من جعل السبب المجوز
خوف خرابه أو خوف الخلف بين أربابه، وعلى هذا أيضا لا معنى للشراء بثمنه
ما يجعل وقفا، لجريان العلتين المذكورتين فيه، لأنه كما يخاف على الأول من أحد
الأمرين، كذلك يخاف على الثاني بعد البيع والشراء، إذ العلة واحدة.
447

نعم يمكن ذلك بناء على من يجعل علة الجواز خرابه بالفعل وعدم الانتفاع به
بالكلية، مع ما عرفت من أنه لا دليل عليه. وبالجملة فإني لا أعرف لهم دليلا على
الحكم المذكور، مع ما عرفت في الانطباق على أقوالهم من القصور.
المسألة الخامسة
لا خلاف بين الأصحاب بل وغيرهم - تفريعا على ما تقدم في سابق هذه المسألة -
في عدم جواز بيع أم الولد، مع حياة ولدها ودفع قيمتها أو القدرة على دفعها.
والمراد بها أمة حملت في ملك سيدها منه، ويتحقق الاستيلاد بعلوقها به في
ملكه، وإن لم تلجه الروح. والتقييد بحياة ولدها - كما ذكرنا ووقع في كثير من
عبارات الأصحاب - مبني على الغالب أو التجوز، لأنه قبل ولوج الروح لا يوصف
بالحياة
وألحق بالبيع هنا سائر ما يخرجها عن الملك أيضا كالهبة والصلح وغيرهما،
للاشتراك في العلة، ولأنه لو جوز غيره لانتفى فائدة منعه وتحريمه وهي بقاؤها على
الملك لتعتق على ولدها.
وقد ذكر الأصحاب جملة من المواضع التي يجوز بيعها فيها:
منها: ما إذا مات ولدها، فإنها تكون كغيرها من الإماء. وهذا مما لا خلاف
فيه عندنا.
ويدل عليه جملة من الأخبار الآتية في المقام انشاء الله تعالى.
ومنها: ما إذا كان ثمنها دينا على مولاها. مع اعساره. والمراد باعساره: أن
لا يكون له مال زائدا على المستثنيات في وفاء الدين.
وهل يشترط موت المالك؟ قال في الشرايع: فيه تردد وقال في المسالك:
448

الأقوى عدم اشتراط موته، لاطلاق النص، ثم قال: وهذان الفردان المستثنيان
مورد النص وقد ألحق بهما بعض الأصحاب مواضع أخر، انتهى.
والواجب - أولا - نقل الأخبار المتعلقة بهذا المقام، ثم الكلام فيها بما دلت
عليه من الأحكام.
فمنها: ما في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل اشترى جارية
يطأها فولدت له ولدا فمات ولدها فقال: إن شاؤوا باعوها في الدين الذي يكون
على مولاها من ثمنها، وإن كان لها ولد قومت على ولدها من نصيبه (1).
وعن عمر بن يزيد عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: سألته عن أم الولد تباع
في الدين؟ قال: نعم في ثمن رقبتها (2).
وعن عمر بن يزيد في الصحيح، قال: قلت للصادق عليه السلام كما في الكافي، أو
قلت لأبي إبراهيم عليه السلام كما في الفقيه: أسألك؟ فقال: سل. قلت: لم باع أمير المؤمنين
عليه السلام أمهات الأولاد؟ قال في فكاك رقابهن. قلت: وكيف ذلك؟ قال: أيما رجل اشترى
جارية فأولدها ثم لم يؤد ثمنها ولم يدع من المال ما يؤدي عنه، أخذ ولدها منها فبيعت
وأدى ثمنها. قلت: فبيعهن فيما سوى ذلك من دين؟ قال: لا (3).
وفي الكافي عن يونس في أم ولد ليس لها ولد، مات ولدها ومات عنها صاحبها
ولم يعتقها، هل يحل لأحد تزويجها؟ قال: لا هي أمة لا يحل لأحد تزوجها إلا بعتق من
الورثة. فإن كان لها ولد وليس على الميت دين فهي للولد، وإذا ملكها الولد فقد
عتقت بملك ولدها لها، وإن كانت بين شركاء فقد عتقت من نصيب ولدها، وتستسعى
في بقية ثمنها (4).

(1) الوسائل ج 13 ص 52 حديث: 4
(2) الوسائل ج 13 ص 51 حديث: 2
(3) المصدر حديث: 1
(4) المصدر ج 16 ص 126 حديث: 3
449

وفي التهذيب عن أبي بصير، قال سألت الصادق عليه السلام عن رجل اشترى جارية
يطأها فولدت له ولدا فمات. فقال: إن شاء أن يبيعها باعها وإن مات مولاها وعليه دين
قومت على ابنها، فإن كان ابنها صغيرا انتظر به حتى يكبر ثم يجبر على قيمتها، وإن
مات ابنها قبل أمه بيعت في الميراث إن شاء الورثة (1).
وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام في رجل اشترى جارية يطأها فولدت له
ولدا فمات، قال إن شاء الورثة أن يبيعوها باعوها في الدين الذي يكون على مولاها
من ثمنها، وإن كان لها ولد قومت على ولدها من نصيبه، وإن كان ولدها صغيرا انتظر
به حتى يكبر. الحديث السابق (2).
وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام في رجل اشترى جارية فولدت منه ولدا فمات،
قال إن شاء أن يبيعها، باعها في الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها. الحديث كما
تقدم (3).
أقول: مما يدل على الفرد الأول - أعني جواز البيع مع موت الولد - الرواية
الأولى. وذكر الدين الذي على مولاها إنما خرج مخرج التمثيل. ورواية يونس ورواية
أبي بصير الأولى من التهذيب لقوله عليه السلام في صدرها " إن شاء أن يبيعها باعها " وفي عجزها
" فإن مات ابنها قبل أمه بيعت في ميراث الورثة إن شاء الورثة " ومثلها الرواية التي
بعد هذه الرواية.
وبالجملة فإن الحكم المذكور متفق عليه رواية وفتوى.
أما الفرد الثاني - أعني بيعها مع وجود الولد في أداء قيمتها - فيدل عليه رواية
عمر بن يزيد الأولى، وظاهرها جواز البيع في حال حياة السيد أو بعد موته. ولعل قوله

(1) المصدر ج 13 ص 52 حديث: 4 و 5
(2) المصدر السابق
(3) المصدر نفسه
450

في المسالك فيما قدمنا من كلامه " لاطلاق النص " إشارة إلى هذه الرواية.
وبه يظهر أن اعتراض المحقق الأردبيلي - في شرح الإرشاد - على شيخنا
المذكور في هذا المقام، إنما نشأ عن غفلة عن مراجعة الخبر المذكور، حيث قال:
والظاهر عدم الخلاف إذا كان بعد موت الولي، ويدل عليه رواية أبي بصير عن أبي
عبد الله عليه السلام، ثم نقل الرواية الثانية من روايات أبي بصير الثلاث الأخيرة المنقولة من
التهذيب.
ثم قال: وهذه غير صحيحة، لوجود المجهول مثل القصرى وخداش، ولوجود
محمد بن عيسى المشترك. على أن في متنها أيضا تأملا، وما رأيت غيرها. ففي استثناء
غير الصورتين، بل في استثناء بيعها مع حياة المولى أيضا تأمل. وما عرفت وجه تعليل
هذا الفرد بقوله - في شرح الشرايع - " لاطلاق النص " وما رأيت نصا آخر. وفي
دلالة هذه على البيع بعد موت المولى فقط أيضا تأمل ظاهر، فيمكن الاقتصار على
موضع الوفاق وهو البيع في الدين مع موت المولى وموت الولد فلا يستثنى
غيرهما من موضع الاجماع ولكن لا يبعدان يقال: إن الاستصحاب وأدلة العقل والنقل دل
على جواز التصرف في الأملاك مطلقا، فيجوز مطلق التصرف في أم الولد، بيعها مطلقا
وغيره إلا ما خرج بدليل، وما ثبت بالدليل وهو الاجماع هنا إلا في منع البيع مع بقاء
الولد وعدم اعسار المولى بثمنها، فيجوز بمجرد موت الولد مطلقا، لعدم الاجماع،
وفي ثمن رقبتها كذلك لذلك، فتأمل واحتط. انتهى.
أقول: ما ذهب إليه من تخصيص الجواز بموت المولى أحد القولين في المسألة
وهو منقول أيضا عن ابن حمزة فإنه شرط في بيعها في ثمن رقبتها بعد موت مولاها.
قال السيد السند في شرح الإرشاد، ورده جدي باطلاق النص، فإنه متناول لموت
المولى وعدمه، ويشكل بأن ظاهر قوله عليه السلام " ولم يدع من المال ما يؤدي عنه " وقوع
البيع بعد وفاة المولى، فيشكل الاستدلال بها على الجواز مطلقا. انتهى.
451

أقول: وكلام السيد السند هنا - أيضا - مبني على عدم الاطلاع على رواية عمر
ابن يزيد المتقدمة، وإنما اطلع على صحيحته، ولا ريب أنها ظاهرة فيما ذكره، لكن
الرواية المشار إليها ظاهرة فيما ذكرنا من الاطلاق كما لا يخفى.
وأما ما أطال به المحقق الأردبيلي - هنا مما قدمنا نقله عنه - فلا يخفى ما فيه.
ولكن عذره ظاهر، حيث إنه لم يشرح بريد نظره في روايات المسألة، ولم يقف منها
إلا على هذه الرواية المجملة، وإلا فقد عرفت أن رواية أبي بصير، وهي الأولى من
روايات التهذيب، ظاهرة في بيعها بعد موت الولد وحياة الأب. وأن البائع هو الأب
لأنه سأل عن رجل اشترى جارية فولدت منه ولدا فمات - يعني الولد - فقال: إن شاء
أن يبيعها باعها. يعني إن شاء ذلك الرجل الذي اشترى الجارية بعد موت الولد أن يبيع
الجارية باعها. ولا يجوز أن يكون الضمير في مات راجعا إلى الرجل، لأنه لا معنى
لقوله إن شاء أن يبيعها.
بقي قوله - بعد هذا الكلام - " وإن مات مولاها وعليه دين " فإنه يجب ارتكاب
التأويل فيه والتقدير، بأن يكون المعنى " وإن مات مولاها مع بقاء الولد وعدم موته..
إلى آخر ما ذكر في الخبر ".
ومثل رواية أبي بصير الأولى وروايته الثالثة - أيضا - من روايات الشيخ،
بارجاع الضمير في مات إلى الولد كما ذكرنا في الأولى.
ووجه الاشكال عنده في الرواية التي نقلها: أنه جعل الضمير في " فمات " راجعا
إلى الرجل الذي اشترى الجارية. والظاهر أنما هو رجوعه إلى الولد، لقوله بعد
ذلك " وإن كان لها ولد " وهو قد اعتضد فيما ذهب إليه بقوله عليه السلام " باعوها في الدين
الذي يكون على مولاها من ثمنها " وفيه: أنه لا دلالة على الحصر في هذا الفرد. فيجوز
أن يكون إنما خرج مخرج التمثيل، لأنه أظهر الأفراد. وكيف كان فإنه ينافر هذا المعنى
ما ذكرنا من قوله - بعد ذلك " - وإن كان لها ولد ".
452

وبالجملة فإن روايات أبي بصير الثلاثة الأخيرة لا تخلو من تشويش في معانيها
واضطراب في ربط ألفاظها. ثم إن ما يدل - أيضا - على بيعها في قيمتها مع وجود الولد: صحيحة عمر بن
يزيد، وظاهرها: البيع بعد موت المالك، كما جنح إليه. وبما ذكرنا يظهر لك صحة
استثناء هذين الموضعين من تحريم بيع أم الولد.
* * *
وأما ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر
عليه السلام قال سألته عن أم الولد. قال: أمة، تباع وتوهب وتورث، وحدها
حد الأمة (1).
وفي الصحيح عن وهب ابن عبد ربه، عن أبي عبد الله - عليه السلام - في رجل
زوج أم ولد له عبدا له، ثم مات السيد، قال: لا خيار لها على العبد، هي مملوكة
للورثة (2).
وهذان الخبران لمخالفتهما لما عليه ظاهر اتفاق الأصحاب، من أن حكم أم
الولد غير حكم من لم يكن لها ولد، وأنها تنعتق بموت السيد على ابنها من حصته من
الميراث، تأولوهما بالحمل على من مات ولدها، وأن التسمية بذلك وقع تجوزا
باعتبار ما كان.
ويدل على ذلك ما رواه في الفقيه عن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال:
أم الولد حدها حد الأمة إذا لم يكن لها ولد (3).
وأما خبر وهب بن عبد ربه، فهو وإن رواه الصدوق بما قدمنا نقله عنه، إلا أن

(1) الوسائل ج 13 ص 52 حديث: 3
(2) الفقيه ج 3 ص 82 حديث: 295
(3) الفقيه ج 4 ص 32 حديث: 92 - 3
453

الشيخ رواه بما يندفع به عنه الاشكال ويزول به الاختلال، حيث إنه رواه هكذا:
عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل زوج عبدا له من أم ولد له ولا ولد لها من السيد
ثم مات السيد.. إلى آخر ما تقدم (1).
وظاهر الصدوق في الفقيه حيث اقتصر على نقل الخبرين الأولين القول بمضمونهما
بناء على ما ذكره في صدر كتابه.
وظاهره فيه - أيضا - أن أم الولد لا تنعتق على ولدها بمجرد ملكه لها بل
تحتاج إلى أن يعتقها، كما يدل عليه بعض الأخبار، وهو خلاف ما عليه كافة الأصحاب
في هذا الباب، وسيجئ تحقيق المسألة في محلها انشاء الله تعالى، وفق الله لبلوغه.
* * *
أقول: ومن المواضع التي زادها جملة من الأصحاب وجوزوا بيع أم الولد
فيها: ما ذكره شيخنا في اللمعة وهي ثمانية، وزاد عليه غيره ما تبلغ إلى عشرين موضعا،
ونحن نذكرها واحدا واحدا لتحصيل الإحاطة بالاطلاع عليها:
(أحدها): في ثمن رقبتها مع اعسار مولاها، سواء كان حيا أو ميتا. قاله
الشارح أما مع الموت فموضع وفاق، وأما مع الحياة فعلى أصح القولين، لاطلاق
النص.
و (ثانيها): إذا جنت على غير مولاها. قال الشارح: فيدفع ثمنها في الجناية
أو رقبتها إن رضي المجني عليه، ولو كانت الجناية على مولاها لم يجز، لأنه لم يثبت
له مال على ماله.
و (ثالثها): إذا عجز مولاها عن نفقتها. قال الشارح: ولو أمكن تأديها ببيع
بعضها وجب الاقتصار عليه، وقوفا فيما خالف الأصل على موضع الضرورة.
و (رابعها): إذا مات قريبها ولا وارث له سواها. قال الشارح: لتنعتق وترثه،

(1) التهذيب ج 8 ص 206 حديث: 728 - 34
454

وهو تعجيل عتق أولى بالحكم من بقائها لتعتق بعد وفاة مولاها.
و (خامسها): إذا كان علوقها بعد الارتهان. قال الشارح: فيقدم حق المرتهن
لسبقه. وقيل: يقدم حق الاستيلاد لبناء العتق على التغليب. ولعموم النهي عن بيعها.
و (سادسها): إذا كان علوقها بعد الافلاس. قال الشارح أي بعد الحجر على
المفلس، فإن مجرد ظهور الافلاس على المفلس لا يوجب تعلق حق الديان بالمال.
والخلاف هنا كالرهن.
و (سابعها): إذا مات مولاها ولم يخلف سواها وعليه دين مستغرق، وإن لم
يكن ثمنا لها قال الشارح: لأنها إنما تنعتق بموت مولاها من نصيب ولدها، ولا نصيب
له مع استغراق الدين، فلا تعتق فتصرف في الدين.
و (ثامنها): بيعها على من تنعتق عليه، فإنه في قوة العتق. قال
الشارح: فيكون تعجيل خير يستفاد من مفهوم الموافقة، حيث إن المنع من البيع
لأجل العتق.
و (تاسعها): بيعها بشرط العتق.
قال المصنف: وفي جواز بيعها بشرط العتق نظر. أقربه الجواز. قال الشارح:
لما ذكر، فإن لم يف المشتري بالشرط فسخ البيع وجوبا، فإن لم يفسخه المولى احتمل
انفساخه بنفسه، وفسخ الحاكم إن اتفق.
وهذا موضع تاسع.
وما عدا الموضع الأول من هذه المواضع غير منصوص بخصوصه، وللنظر
فيه مجال، وقد حكاها في الدروس بلفظ قيل، وبعضها جعله احتمالا من غير ترجيح
لشئ.
ثم قال الشارح: وزاد بعضهم مواضع أخر:
و (عاشرها): في كفن سيدها إذا لم يخلف سواها ولم يمكن بيع بعضها فيه
455

وإلا اقتصر عليه.
و (حادي عشرها): إذا أسلمت قبل مولاها إذ لا نصيب لولدها.
و (ثالث عشرها): إذا جنت على مولاها جناية تستغرق قيمتها.
و (رابع عشرها): إذا قتلته خطأ.
و (خامس عشرها): إذا حملت في زمن خيار البائع أو المشتري ثم فسخ البائع
بخياره.
و (سادس عشرها): إذا خرج مولاها عن الذمة وملكت أمواله التي هي منها.
و (سابع عشرها): إذا لحقت هي بدار الحرب ثم استرقت.
و (ثامن عشرها): إذا كانت لمكاتب مشروط ثم فسخ كتابته.
و (تاسع عشرها): إذا شرط أداء الضمان منها قبل الاستيلاد ثم أولدها، فإن
حق المضمون له أسبق من حق الاستيلاد كالرهن والفلس السابقين.
و (العشرون) إذا أسلم أبوها أو جدها وهي مجنونة أو صغيرة ثم استولدها
الكافر بعد البلوغ قبل أن تخرج من ملكه وهذه في حكم اسلامها عنده
وفي كثير من هذه المواضع نظر. انتهى.
أقول: قد تقدم في صحيحة عمر بن يزيد: أنها لا تباع فيما سوى تلك الصورة
المتفق عليها.
وأنت خبير بأن الظاهر أن مبنى من ذكر هذه الصور الزائدة على محل النص
هو أن أم الولد حكمها حكم غيرها من أموال السيد إلا في تلك الصورة الخاصة.
ولا يخفى ما فيه، فإنه قياس مع الفارق، لأن هذه قد تشبثت بالحرية بسبب الولد،
ومن الجائز أن الاستيلاد قد صار مانعا من التصرف فيها بهذه الوجوه التي ذكروها،
ومقدما عليها، وحينئذ فتكون موروثة بعد موت السيد وإن كان عليه دين مستغرق أو نحو
ذلك من الأمور التي ادعوا أنها مقدمة على الاستيلاد، وابنها من جملة الورثة فتعتق
456

عليه بالحصة التي له.
وهو جيد من حيث الاعتبار المذكور، وإن كانت الفتوى به محل توقف، لعدم
النص الصريح بذلك، ثم يسري العتق وتستسعى، أو يفكها الولد، كما تضمنته
الأخبار، وتخرج الصحيحة المذكورة شاهدا على ذلك، وكذا مفهوم صحيحة زرارة،
وقوله فيها " أم الولد حدها حد الأمة إذا لم يكن لها ولد " فإن مفهومها: أنه إذا كان لها ولد
فإنها ليست على حد الأمة التي يباح التصرف فيها بتلك الأنواع المذكورة ونحوها.
وأما حمل الحد في الرواية المذكورة على الحد الذي يوجبه الجناية، بمعنى
أنها إذا فعلت ما يوجب الحد فإن حدها حد الأمة التي ليست أم ولد إذا لم يكن لها ولد،
فالظاهر بعده، وإن كان الصدوق قد ذكر الخبر المذكور، في باب الحدود حملا له
على ذلك، بناء على مذهبه الذي قدمنا الإشارة إليه، من أن أم الولد عنده كغيرها ممن
لا ولد لها، إلا أن يعتقها ابنها.
وهو مذهب غريب مخالف لظاهر اتفاق الأصحاب من أنها تنعتق على ابنها من
نصيبه كلا أو بعضا بمجرد الملك من غير توقف على عتق. ويدل عليه جملة من الأخبار،
وإن كان ما ذكره الصدوق هنا أيضا قد دلت عليه صحيحة محمد بن قيس، ولتحقيق
المسألة المذكورة محل آخر يأتي انشاء الله تعالى.
* * *
بقي هنا شئ آخر يجب التنبيه عليه، وهو أنه لو مات ولد الأمة ولكن له
ولد (1) فهل يصدق عليها بذلك أنها أم ولد أم لا؟ فقيل بالأول لأنه ولد، وقيل بالثاني
لعموم ما دل على أن أم ولد إذا مات ابنها ترجع إلى محض الرق، فإنه يتناول موضع
النزاع، وقيل: إن كان ولد ولدها وارثا، بأن لا يكون للمولى ولد لصلبه كان حكمه
حكم الولد، لأنها تنعتق عليه، وإن لم يكن وارثا لم يكن حكمه حكم الولد، لانتفاء
الملك المقتضي للعتق.

(1) أي لولد الأمة ولد
457

واختار هذا التفصيل السيد السند السيد محمد - قدس سره - في شرح النافع.
المسألة السادسة
من فروع ما تقدم من اشتراط كون المبيع طلقا: عدم جواز بيع الرهن أيضا إلا
مع الإذن، وبيع العبد الجاني على التفصيل الآتي انشاء الله تعالى.
أما الأول، فظاهر بالنسبة إلى الراهن، لأنه بالرهن صار ممنوعا
من بيعه، بل مطلق التصرف فيه إلا بإذن المرتهن. وأما المرتهن فأظهر لأنه غير مالك
إلا أن يكون وكيلا من قبل الراهن في البيع، فيتوقف بيعه على الإذن من المالك،
وإن امتنع استأذن الحاكم الشرعي، وإن تعذر جاز له البيع بنفسه على الأظهر،
وكيف كان فإنه لا يجوز له بيع الرهن مطلقا، بل على بعض الوجوه. وتحقيق المقام
كما هو حقه يأتي انشاء الله تعالى في بابه.
وأما الثاني، فالمشهور بين الأصحاب أنه لا تمنع جناية السيد عن بيعه، عمدا
كانت الجناية أو خطأ ونقل عن الشيخ في المبسوط الخلاف هنا في جناية العبد
فأبطل البيع، لتخيير المجني عليه بين استرقاقه وقتله، ورد بأنه غير مانع من صحة
البيع، لعدم اقتضائه خروجه عن ملك مالكه. نعم لو جنى العبد خطأ لم تمنع جنايته
عن بيعه لأنه لا يخرج بالجناية عن ملك مولاه، والمولى مخير في فكه، فإن شاء فكه
بأقل الأمرين من أرش الجناية، إذ هو اللازم بمقتضى الجناية، وقيمته إذ الجاني لا يجني
أكثر من نفسه، وإن شاء دفعه إلى المجني عليه أو وليه ليستوفي من رقبته ذلك، فلو باع
بعد الجناية كان التزاما بالفداء على أحد القولين، ثم إن فداه وإلا جاز للمجني عليه
استرقاقه، فينفسخ البيع وإن استوعب الجناية قيمته، لأن حقه أسبق، وإن لم يستوعب
458

رجع بقدر أرشه على المشتري فلم ينفسخ البيع في نفسه.
نعم لو كان المشتري جاهلا بعيبه تخير أيضا بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين
الامضاء وله الرجوع حينئذ بالثمن فيما لو كانت الجنابة مستوعبة لرقبته وأخذ بها،
وإن كانت غير مستوعبة لرقبته رجع بقدر أرشه، ولو كان المشتري عالما بعيبه راضيا
بتعلق الحق به لم يرجع بشئ، لأنه اشترى معيبا عالما بعيبه.
ثم إن فداه السيد أو المشتري فالبيع بحاله، وإلا بطل مع الاستيعاب وعدم فداء
المشتري له، كقضاء دين غيره يعتبر في رجوعه عليه إذنه فيه.
هذا كله في الجناية خطأ، ولو جنى عمدا فالمشهور أن البيع موقوف على
رضى المجني عليه أو وليه، لأن التخيير في جناية العبد إليهما، وإن لم يخرج عن
ملك سيده، وبالنظر إلى الثاني يقع البيع، وبالنظر إلى الأول يثبت التخيير. وذهب
الشيخ هنا إلى بطلان البيع كما تقدم، وقد تقدم بيان ما فيه، وأنه لا يقصر عن بيع
الفضولي.
ثم على القول المشهور، إن أجاز البيع ورضي بفدائه بالمال وفكه المولى
لزم البيع، وإن قتله أو استرقه بطل، كذا يستفاد من تصاريف كلامهم الدائر في المقام
على رؤوس أقلامهم.
وفي استفادة كثير من هذه التفاصيل من الأخبار اشكال. وتحقيق المسألة - كما
هو حقه - يأتي انشاء الله تعالى في محله اللائق بها.
المسألة السابعة
من الشروط المعتبرة: معلومية الثمن والمثمن، حذرا من الغرر المنهي عنه
وقطعا للنزاع. ولكن المعلومية لكل شئ بحسبه، كما يأتي انشاء الله تعالى.
459

والكلام هنا يقع في مواضع:
الأول: قد صرحوا بأنه يشترط العلم بالثمن قدرا ووصفا وجنسا، قبل ايقاع
عقد البيع، فلا يصح البيع بحكم أحد المتبايعين أو أجنبي اجماعا ولا بالثمن المجهول
القدر، وإن كان مشاهدا، لبقاء الجهالة، وثبوت الغرر المنفي معها، خلافا للشيخ
في الموزون. وللمرتضى في مال السلم. ولابن الجنيد في المجهول مطلقا، إذا كان
المبيع صبرة، مع اختلافهما جنسا. ولا مجهول الصفة، كمأة درهم، وإن كانت
مشاهدة لا يعلم وصفها، مع تعدد النقد الموجود يومئذ. ومجهول الجنس، إن علم
قدره، لتحقق الجهالة في الجميع.
أقول: ما ذكروه من عدم صحة البيع بحكم أحد المتبائعين، فهو وإن ادعى
عليه الاجماع في التذكرة، إلا أنه قد روى الصدوق في الفقيه، والشيخ في التهذيب،
عن الحسن بن محبوب، عن رفاعة، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام فقلت: ساومت
رجلا بجارية له فباعنيها بحكمي فقبضتها منه على ذلك، ثم بعثت إليه بألف درهم،
فقلت له: هذه ألف درهم حكمي عليك أن تقبلها فأبى أن يقبضها مني، وقد كنت مسستها
قبل أن أبعث إليه بالثمن فقال: أرى أن تقوم الجارية قيمة عادلة، فإن كان قيمتها أكثر
مما بعثت إليه كان عليك أن ترد عليه ما نقص من القيمة، وإن كان ثمنها أقل مما بعثت
إليه فهو له. قلت: أرأيت أن أصبت بها عيبا بعد ما مسستها، قال: ليس لك أن تردها
إليه، ولك أن تأخذ قيمة ما بين الصحة والعيب منه (1).
ورواه الكليني عن العدة عن سهل وأحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب مثله،
وطريق الصدوق في المشيخة إلى الحسن بن محبوب صحيح كما في الخلاصة. وطريق
الكليني ظاهر الصحة، وطريق الشيخ إلى الحسن بن محبوب حسن بإبراهيم بن هاشم
الذي هو في حكم الصحيح عندهم، بل هو من الصحيح على الاصطلاح الجديد.

(1) الوسائل ج 12 ص 271 حديث: 1 باب: 18
460

فالرواية من جهة السند لا يتطرق إليها طعن.
وهي - كما ترى - ظاهرة في خلاف ما ذكروه، وقد اضطرب في التفصي عنها
كلام جملة من المتأخرين.
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد - بعد ذكر الرواية وبيان صحة سندها -
ما صورته: وهي تدل على جواز الجهل في الثمن، وأنه يقع البيع صحيحا، وينصرف
إلى القيمة السوقية إذا بيع بحكم المشتري. ولكن نقل العلامة في التذكرة
الاجماع على اشتراط العلم مع عدم ظهور خلافه، يمنع القول بها، ولكن تأويلها
مشكل، وكذا ردها، فيمكن أن يكون حكما في قضية، ولا تتعدى. انتهى.
وقال الفاضل السيد حسين المشهور بخليفة سلطان، في حواشيه على كتاب
الفقيه على هذا الخبر ما صورته: لا يخفى أن البيع بحكم المشتري أو غيره في الثمن
باطل اجماعا، كما نقله الفاضل في التذكرة وغيره، لجهالة الثمن وقت البيع، فعلى
هذا يكون بيع الجارية المذكورة باطلا، وكان وطئ المشتري محمولا على الشبهة،
وأما جواب الإمام عليه السلام للسائل فلا يخلو من اشكال، لأن الظاهر أن الحكم حينئذ رد
الجارية مع عشر القيمة أو نصف العشر، أو شراؤها مجددا بثمن يرضى به البائع مع
أحد المذكورين، سواء كان بقدر ثمن المثل أم لا، فيحتمل حمله على ما إذا لم يرض
البائع بأقل من ثمن المثل، ويكون حاصل الجواب حينئذ: أنه تقوم بثمن المثل إن
أراد، ويشتري به مجددا، وإن كان المثل أكثر مما وقع، ندبا واستحبابا، بناء على أنه أعطاه سابقا، وهذا الحمل وإن كان بعيدا عن العبارة، مشتملا على التكلف لكن لا بد
منه لئلا يلزم طرح الحديث الصحيح بالكلية. انتهى.
أقول: لا يخفى أن مدار كلامهم في رد الخبر المذكور على الاجماع الذي
ادعى في التذكرة في هذه المسألة، فإنه لا معارض له سواه. وأنت خبير بأن من لا يعتمد
على مثل هذه الاجماعات المتناقلة في كلامهم، والمتكرر دورانها على رؤوس أقلامهم،
461

تبقى الرواية المذكورة سالمة عنده من المعارض، فيتعين العمل بها، خصوصا مع
صحة السند واعتضاد ذلك برواية صاحب الفقيه، المشعر بقوله بمضمونها والعمل
بها، بناء على قاعدته المذكورة في أول الكتاب، كما تكرر في كلامهم من عد مضامين
أخباره مذاهب له، بناء على القاعدة المذكورة.
وليس هنا بعد الاجماع المذكور إلا العمومات التي أشاروا إليها، من حصول
الغرر، وتطرق النزاع ونحو ذلك. وهذه العمومات - مع ثبوت سندها وصحته -
يمكن تخصيصها بالخبر المذكور، بل من الجائز - أيضا - تخصيص الاجماع المذكور،
مع تسليم ثبوته، بهذا الخبر الصحيح، كما يخصص عمومات الأدلة من الآيات
والروايات، وهو ليس بأقوى منها، إن لم يكن أضعف، بناء على تسليم صحته.
وحينئذ فيقال باستثناء صورة حكم المشتري، وقوفا على ظاهر الخبر. وما المانع
من ذلك؟ وقد صاروا إلى أمثاله في مواضع لا تحصى، على أنه سيأتيك ما يؤيد ما ذكرناه
ويشيد ما اخترناه.
وأما ما ذكروه من عدم الصحة مع كون المبيع مجهول القدر، وإن كان مشاهدا
فقد تقدم ذكر خلاف الجماعة المتقدم ذكرهم في ذلك.
قال في الدروس: ولا تكفي المشاهدة في الوزن، خلافا للمبسوط، وإن كان
مال السلم، خلافا للمرتضى، ولا القول بسعر ما بيعت مع جهالة المشتري، خلافا
لابن الجنيد، حيث جوزه، وجعل للمشتري الخيار، وجوز ابن الجنيد بيع الصبرة
مع المشاهدة جزافا بثمن جزاف مع تغاير الجنس ومال في المبسوط إلى بيع الجزاف
وفي صحيحة الحلبي كراهية بيع الجزاف. انتهى.
أقول: صحيحة الحلبي المذكورة هي: ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح،
عن الحلبي عن الصادق عليه السلام في رجل اشترى من رجل طعاما، عدلا بكيل معلوم، ثم
إن صاحبه قال للمشتري: ابتع هذا العدل الآخر بغير كيل، فإن فيه مثل ما في الآخر
462

الذي ابتعته. قال: لا يصلح إلا أن يكيل وقال: وما كان من طعام سميت فيه كيلا
فإنه لا يصلح مجازفة، هذا مما يكره من بيع الطعام (1) وروى في الفقيه في الصحيح
عن الحلبي، والشيخ في الصحيح أو الحسن عن الحلبي، عن الصادق عليه السلام قال:
ما كان من طعام.. الحديث كما تقدم.
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد - بعد قول المصنف " ولو باع المكيل
والموزون والعدد جزافا، كالصرة بطل وإن شوهد " - ما لفظه: اعتبارهما فيهما هو
المشهور بينهم، ولكن ما رأيت له دليلا صالحا، وأدل ما رأيته حسنة الحلبي في الكافي
- ثم ساق الرواية الأولى - وناقش في السند بما لا طائل في نقله، إلى أن قال: وبقي
في المتن شئ لأنها تدل بظاهرها على عدم الاعتبار بخبر البائع بالكيل، وهو خلاف
ما هو المشهور بينهم وفي الدلالة على المطلب أيضا تأمل للاجمال، وللاختصاص
بالكيل والطعام في قوله " ما كان من طعام سميت فيه كيلا " ولقوله " هذا مما يكره من بيع
الطعام " وكأنه لذلك قال البعض بجواز بيع المكيل والموزون بدونها مع المشاهدة،
ويمكن القول به مع الكراهة، ويؤيد الجواز الأصل، وعموم أدلة العقود، ويدل
عليه بعض الأخبار، مثل ما ذكر في جواز بيع الطعام من غير قبض. انتهى.
وظاهره الميل إلى الجواز في الصورة المذكورة، وفاقا للجماعة
المتقدمين وفيه - كما ترى - تأييد ظاهر لما قدمنا ذكره من البيع بحكم المشتري،
وأن ذلك مستثنى من عدم جواز البيع مع جهل الثمن، إن صح الدليل عليه للخبر
الصحيح الصريح، وإذا جاز البيع في هذه الصورة مع اختلال الشرط الذي ذكروه،
استنادا إلى عدم الدليل على ما ادعوه من الشرط المذكور، سوى هذه الرواية التي
طعنوا فيها بما عرفت في كلام المحقق المذكور، ونحوه صاحب الكفاية، فلم لا يجوز
فيما ذكرناه مع دلالة الصحيحة الصريحة على ذلك، وما ذكره المحقق المذكور

(1) الوسائل ج 12 ص 254 حديث: 2 باب: 4
463

من تأييد الجواز هنا بالأصل وعموم أدلة العقود، صالح للتأييد لما ذكرنا أيضا وبذلك
يظهر لك ما في كلامه الذي قدمنا ذكره في تلك المسألة واستشكاله فيها فإنه
لا وجه له بعد ما عرفت من كلامه في هذه المسألة، والشرطان من باب واحد.
ومما يؤيد جواز بيع المكيل والموزون بغير وزن ولا كيل - كما ذهب إليه
أولئك المتقدم ذكرهم - ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله
البصري، قال: سألت الصادق عليه السلام عن الرجل يشتري بيعا فيه كيل أو وزن بغيره (1)
ثم يأخذه على نحو ما فيه: فقال: لا بأس به (2).
قال في الوافي - بعد نقل هذا الخبر - أي بغير ما يكال ويوزن على نحو ما فيه،
أي بغير كيل ولا وزن. ويشبه أن يكون يعيره بالمثناة التحتانية والعين المهملة من التعيير،
فصحف. انتهى.
ومما يؤيد ذلك أيضا الأخبار الدالة على جواز الاعتماد على أخبار البائع
بكيله أو وزنه، والأخبار الدالة على وزن بعض الأحمال وأخذ الباقي على نحو ذلك
الموزون.
روى الكليني في الكافي عن عبد الملك بن عمرو، قال: قلت للصادق عليه السلام
اشترى مأة راوية من زيت، فاعترض راوية أو اثنتين وازنها، ثم آخذ سائره على
قدر ذلك، قال: لا بأس (3) ورواه الصدوق عن عبد الملك بن عمرو، والشيخ عن أبي سعيد المكارى مثله.
وروى الشيخ عن محمد بن حمران، قال: قلت للصادق عليه السلام: اشترينا طعاما
فزعم صاحبه أنه كاله فصدقناه وأخذنا بكيله، فقال: لا بأس. فقلت: فيجوز أن أبيعه

(1) في نسخة " يعيره "
(2) الوسائل ج 12 ص 255 حديث: 4
(3) الوسائل ج 12 ص 255 حديث: 1 باب: 5
464

كما اشتريته منه بغير كيل؟ قال: أما أنت فلا تبعه حتى تكيله (1).
وفي الفقيه عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، أنه سأل أبا عبد الله - عليه السلام -
عن الرجل يشتري الطعام، اشتريه منه بكيله وأصدقه؟ فقال: لا بأس، ولكن لاتبعه
حتى تكيله (2).
وروى في الكافي والتهذيب عن سماعة في الموثق، قال: سألته عن شراء
الطعام مما يكال أو يوزن، هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال: إما أن يأتي
رجلا في طعام قد كيل أو وزن فيشترى منه مرابحة فلا بأس إن أنت اشتريته ولم تكله
ولم تزنه، إذا كان المشتري الأول قد أخذه بكيل أو وزن، فقلت له عند البيع: إني
أربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس به (3).
أقول: ومن هذه الأخبار ونحوها يعلم أن ما ذكروه من الشرط المذكور ليس
كليا، بل يجب الوقوف فيه على موارد النصوص، مما دل على الجواز في بعض
الموارد والعدم في آخر، ومنه يعلم صحة ما قدمناه في الشرط الأول من الصحة بحكم
المشتري في صورة الجهل بالثمن، لدلالة الصحيحة المتقدمة عليه فإن الطعن فيها
وردها بمجرد ما ادعوه من الاجماع غير الحقيق بالاتباع، مجازفة محضة.
فإن قيل: أن العلم بالقدر هنا حاصل باخبار البائع والتفاوت اليسير مغتفر،
كما في تفاوت المكائيل والموازين.
قلنا: دعوى حصول العلم باخبار البائع لا سيما على قواعدهم المعلومة البطلان
حيث يمنعونه في أخبار العدل بل العدلين، وغاية ما يفيده أخبار العدلين عندهم مجرد الظن،
كما صرحوا به في غير موضع، فكيف يمكن أن يدعى هنا حصول العلم باخبار

(1) الوسائل ج 12 ص 256 حديث: 3
(2) المصدر ص 257 حديث: 8
(3) المصدر حديث: 7
465

البائع، كائنا من كان. وهذه الدعوى إنما وقعت هنا لضيق الخناق في المقام بسبب
هذه الأخبار الظاهرة الدلالة على خلاف قواعدهم في هذه الأحكام. فالأخبار ظاهرة
في تأييد ما ذكرناه كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
ومن هذه الأخبار أيضا يظهر أن ما اشتملت عليه صحيحة الحلبي المتقدمة، من
عدم صحة بيع العدل الثاني، بعد وزن الأول، وعدم تصديق البائع في ذلك، مما يحتاج
إلى ارتكاب التأويل فيه، والاخراج عن ظاهره.
الموضع الثاني: لا يخفى أنه متى قلنا بعدم الصحة في بعض الموارد
لاختلال أحد هذه الشرائط المذكورة، وقد قبض المشتري المبيع، مع ما عرفت من
بطلان البيع، فإنهم قد صرحوا بأنه يكون مضمونا عليه، لما تقرر عندهم من أن " كل
عقد يضمن بصحيحة يضمن بفاسده ". ويؤيد الخبر المشهور " على اليد ما أخذت حتى
تؤدي " وكذا كل مأخوذ بالبيع الفاسد، عالما بالفساد كان أو جاهلا.
ويظهر من المحقق الأردبيلي - في شرح الإرشاد - المناقشة هنا في عموم الحكم
قال - بعد قول المصنف " والمقبوض بالسوم أو البيع الفاسد مضمون على المشتري " -
ما لفظه:
ثم الذي يظهر من كلامهم: عدم الخلاف في أن المقبوض بالسوم أي المال
الذي أخذ للبيع أو الشراء مضمون مثل الغصب، ولو تلف مطلقا فالقابض ضامن.
ووجهه غير ظاهر مع الأصل، والذي يقتضيه النظر كونه أمانة، ولعل لهم نصا
أو اجماعا، كما هو الظاهر من تشبيه البيع الفاسد به في الضمان، فتأمل.
وكذا المأخوذ بالبيع الفاسد كان القابض عالما بالفساد أو جاهلا، ودليلهم
الخبر المشهور " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " والقاعدة المشهورة " كل عقد يضمن
بصحيحة يضمن بفاسده " و " ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده " وصحتها غير ظاهرة.
والأصل يقتضي العدم، وهو مع الجهل بالفساد قوي، ومع علم الآخر أقوى.
466

ومع ذلك قال في شرح الشرايع: لا اشكال في الضمان مع الجهل بالفساد، فتأمل ومع
علمه بالفساد، وبعدم جواز التصرف وحفظه ووجوب رده إلى مالكه معجلا كالمغصوب.
وذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك، على تقدير الفساد وعدم رضاه بكونه عنده، وفتوى
العلماء له بذلك، فهو ضامن للأصل. وما يتفرع عليه كما قيل في الغصب، حتى أنه
يضمن العين والمنفعة، وإن لم ينفع بها، مثل أجرة الدابة في المدة التي كانت عنده،
وأما مع الجهل بالفساد لا سيما في أمر غير ظاهر الفساد، وكذا بعد العلم به، ولكن
مع عدم العلم بوجوب الرد في الحال، والضمان غير ظاهر.
ولو ظن أن المالك رضي لهذا المال بالبدل المعلوم، فهو راض بأن يتصرف
فيه عوضا عما في يده، فالأكل حينئذ ليس بالباطل، بل بالرضا، فإنه رضي بالتصرف
فيه بأن يجوز له التصرف في بدله، وقد جوز صاحبه ذلك، وعرف كل واحد من
صاحبه ذلك. فحينئذ يجوز تصرف كل واحد في بدل ماله وإن لم يكن بسبب البيع،
بل بسبب الإذن المفهوم مع البدل، وكأنه يرجع إلى المعاطاة والإباحة مع العوض
من غير بيع، ولا تجد منه مانعا، غاية الأمر أنه يكون لكل واحد الرجوع عن قصده
الأول وأخذ ماله عينا وزيادة.
نعم إذا علم عدم الرضا إلا بوجه البيع، أو اشتبه ذلك، يتوجه عدم جواز التصرف
والضمان على تقدير فهم عدم الرضا بالمكث عنده، وكونه أمانة على تقدير غيره ويحتمل
جواز التصرف على تقدير التقابض أيضا في بعض المحال، بأن غاب وامتنع الاطلاع
عليه وايصاله إليه وأخذ ماله منه. كما غير هذه الصورة.
وبالجملة دليل حكم المشهور بينهم، وهو جعل حكم المقبوض بالسوم والعقد
الفاسد مثل الغصب في أكثر الأحكام، حتى في إلزامه بالايصال إلى صاحبه فورا "،
فلا يصح عباداته في أول وقتها، على تقدير القول بمنافاة حقوق الآدمي، كما هو ظاهر
كلامه غير ظاهر، فالحكم مشكل، ولا شك أنه ينبغي ملاحظة ذلك مهما أمكن.
467

فتأمل انتهى.
وإنما أوردناه بطوله لقوته وجودة محصوله. وأما ما استظهر في آخر كلامه
من عدم صحة العبادة في أول وقتها، مع منافاة حق الآدمي، فهو مبني على مذهبه في المسألة
الأصولية، من أن الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده الخاص. والذي حققناه فيما
تقدم من كتب العبادات من هذا الكتاب عدم ثبوت هذه القاعدة وما يترتب عليها من
الفائدة.
الموضع الثالث: لو تلف المبيع في يد المشتري في صورة يكون
مضمونا عليه، فإن كان قيميا فقيمته، إلا أنه قد وقع الخلاف هنا في القيمة.
فقيل: قيمة يوم التلف لأنه وقت الانتقال إلى القيمة، وأما قبل التلف فهو مخاطب
برد العين وأدائها لا بالقيمة، وجعله شيخنا الشهيد الثاني في الروضة هو الأقوى.
وقيل: يوم القبض، لأنه مضمون عليه من ذلك الوقت بسبب فساد البيع، وهو
اختيار الشرايع.
وقيل: الأعلى من يوم القبض إلى يوم التلف، وهو منقول عن ابن إدريس،
واستحسنه شيخنا الشهيد الثاني، إن كان التفاوت بسبب نقص في العين أو زيادة، لأن
زيادة العين مضمونة مع بقائها، وكذا مع تلفها فيرجع عليه بأعلى القيمتين، أما
لو كان التفاوت باختلاف السوق فإن الواجب القيمة يوم التلف، كما هو القول
الأول. فالأقوال في المسألة: أربعة.
أقول: لا يخفى أن الاعتماد على هذه التعليلات الاعتبارية، لا سيما مع تضادها،
لا يخلو من الاشكال، مع أنه قد روى ثقة الاسلام في الوافي، والشيخ في التهذيب.
عن أبي ولاد الحناط في الصحيح، قال: اكتريت بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا
بكذا، وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت
أن صاحبي توجه إلى النيل، فلما أتيت النيل خبرت أنه قد توجه إلى بغداد، فاتبعته
468

فلما ظفرت به وفرغت عما بيني وبينه رجعت إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي
خمسة عشر يوما، فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلل منه بما صنعت
وأرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهما، فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة فأخبرته
بالقضية وأخبره الرجل.
فقال لي: ما صنعت بالبغل؟ قلت قد دفعته إليه سليما قال: نعم بعد خمسة عشر
يوما قال: فما تريد من الرجل؟ قال: أريد كري بغلي، وقد حبسه على خمسة عشر
يوما قال: ما أرى لك حقا، لأنه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه إلى
النيل وإلى بغداد، فضمن قيمة البغل وسقط الكري، فلما رد الرجل البغل سليما وقبضته
لم يلزمه الكري.
قال: فخرجنا من عنده، وجعل صاحب البغل يسترجع. فرحمته مما أفتى به أبو حنيفة
فأعطيته شيئا وتحللت منه، وحججت في تلك السنة فأخبرت أبا عبد الله عليه السلام بما أفتى
به أبو حنيفة فقال لي: في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء مائها وتمنع الأرض
بركتها. قال: فقلت لأبي عبد الله عليه السلام: فما ترى أنت؟ قال: إن له عليك مثل كري
البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل، ومثل كري البغل راكبا من النيل إلى بغداد، ومثل
كري البغل من بغداد إلى الكوفة، توفيه إياه.
قال: فقلت - جعلت فداك -: قد علفته بدراهم، فلي عليه علفه؟ قال: لا،
لأنك غاصب. فقلت: أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني؟ قال: نعم،
قيمة البغل يوم خالفته. فقلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال: عليك
قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترد عليه. قلت: فمن يعرف ذلك؟ قال: أنت وهو
إما أن يحلف هو على القيمة وتلزمك، وإن رد اليمين عليك فحلفت على القيمة فيلزمك
ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا،
فيلزمك. فقلت: كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحللني.
469

فقال: إنما رضي بذلك وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم.
ولكن ارجع إليه فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حل بعد معرفته فلا شئ عليك
بعد هذا. قال أبو ولاد: فلما انصرفت من وجهي ذلك، لقيت المكارى فأخبرته بما
أفتاني أبو عبد الله عليه السلام، وقلت له: قل ما شئت حتى أعطيك. فقال: قد حببت إلى
جعفر بن محمد، ووقع في قلبي له التفصيل، وأنت في حل. وإن أحببت أن أرد عليك
الذي أخذت منك فعلت (1).
وأنت خبير بأن ما نحن فيه - أحد جزئيات مسألة الغصب، كما عرفته آنفا من
كلام المحقق الأردبيلي، ونقل ذلك عن الأصحاب.
ومن هذه الرواية يظهر قوة القول الثاني، وهو قيمة يوم القبض، لأن ظاهره:
أنه عليه السلام أوجب عليه قيمة البغل يوم المخالفة، التي بها صار مغصوبا وصار في
ذلك اليوم مضمونا عليه، إلا أن في الخبر المذكور احتمالا آخر، وهو أن يكون
قوله عليه السلام " يوم خالفته " ظرفا؟ للزوم القيمة، بمعنى أنه يلزم القيمة في ذلك اليوم، وأما
قدر القيمة فهو غير معلوم من الخبر، فيحتاج في تعيينه إلى دليل آخر، والاستدلال
بالخبر - كما ذكرنا - أولا مبني على كون الظرف المذكور ظرفا للقيمة، يعني
قيمة ذلك اليوم. وتغائر الوجهين واضح. وبذلك بقيت المسألة في قالب الاشكال.
* * *
هذا إن كان قيميا، وإن كان مثليا فالمعروف من مذهب الأصحاب: أنه يضمنه
بمثله، إلا أنه قد اضطرب عباراتهم في ضبط المثلي. فالمشهور بينهم: أنه ما يتساوى
قيمة أجزائه. وضبطه بعضهم بالمقدر بالكيل أو الوزن. وبعض بأنه ما يتساوى أجزاؤه
في الحقيقة النوعية، وزاد آخرون: اشتراط جواز السلم فيه. وعرفه في الدروس
بأنه المتساوي الأجزاء المتقاربة الصفات. قيل: وهو أقرب التعريفات إلى السلامة.
فلو كان المثل موجودا ولم يسلمه حتى فقد - والمراد بفقدانه أن لا يوجد في

(1) الوسائل ج 13 ص 255 - 257 حديث: 1 باب: 17 أبواب أحكام الإجازة.
470

تلك البلاد وما حولها مما يتعارف نقله عادة من الأماكن بعضها إلى بعض - فاللازم
القيمة. وفيها أوجه:
أولها - وهو أشهرها عندهم - اعتبار قيمته حين تسليم البدل.
وثانيها: اعتبارها وقت الاعواز. قال في المسالك: وهو الأقوى.
وثالثها: اعتبار أقصى القيم من حين الغصب إلى حين دفع العوض، وهو المعبر
عنه بيوم الاقباض.
ورابعها: اعتبار الأقصى من حينه إلى حين الاعواز.
وخامسها: اعتبار الأقصى من حين الاعواز إلى حين دفع القيمة، ولم نجد لهم
دليلا شرعيا علي شئ من هذه الأقوال، إلا مجرد اعتبارات ترجع بها إلى ما ذكروه
كما تقدم نقله عنهم في القيمي.
الرابع: قد صرح الأصحاب بأن المراد بالمكيل والموزون هو ما ثبت في
زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وحكم الباقي في البلدان ما هو المتعارف فيها، فكل ما كان مكيلا أو موزونا
في بلد يباع كذلك وإلا فلا. وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد المناقشة في
ذلك، حيث قال - بعد نقل ذلك عنهم -: وفي تأمل، لاحتمال إرادة الكيل أو الوزن
المتعارف عرفا عاما في أكثر البلدان أو في الجملة مطلقا أو بالنسبة إلى كل بلد بلد
كما قيل في المأكول والملبوس في السجدة، من الأمر الوارد بها لو سلم، والظاهر
هو الأخير. انتهى.
أقول: لا ريب أن الواجب في معاني الألفاظ الواردة في الأخبار هو الحمل على
عرفهم - عليهم السلام - فكلما علم كونه مكيلا أو موزونا في زمنهم - عليهم السلام -
وجب اجراء الحكم بذلك عليه في الأزمنة المتأخرة، وما لم يعلم فهو - بناء على
قواعدهم - يرجع إلى العرف العام، إلى آخر ما ذكروه من التفصيل.
ويمكن أن يستدل على الرجوع إلى العرف بما تقدم في صحيحة الحلبي من قوله
471

عليه السلام " وما كان من طعام سميت فيه كيلا، فإنه لا يصلح مجازفة، هذا مما يكره من بيع
الطعام " فإن ظاهره: أن الرجوع في كونه مكيلا إلى تسميته كيلا عرفا، فكلما وقع
التسمية عليه بأنه مكيل فلا يجوز بيعه مجازفة.
ويمكن أن يقيد بما إذا لم يعلم حاله في زمنهم - عليهم السلام - وإلا لوجب
الأخذ به كما ذكرناه. وكيف كان فالخبر لا يخلو عن اجمال يمنع الاستناد إليه في
الاستدلال.
وأما ما يفهم من كلامه من الرجوع إلى العرف مطلقا وإن علم كونه مكيلا أو موزونا
أو علم عدمه في زمانهم - عليهم السلام - فالظاهر أنه بعيد ومخالف لما صرح به الأصحاب
في غير موضع، من تقديم العرف الخاص: أعني عرفهم - عليهم السلام - على العرف
العام، أو عرف كل بلد بلد.
وبالجملة فمحل الاشكال فيما يجهل حاله في زمنهم - عليهم السلام - من كونه
مكيلا أم لا، وموزونا أم لا، فهل يكون المرجع فيه إلى العرف العام، أو إلى ما ذكره
من الأفراد، ووجه الاشكال ما تقدم التنبيه عليه في غير موضع، من أن العرف مع تسليم
إمكان الوقوف عليه في كل بلد بلد وقطر وناحية، لا انضباط له، فإن لكل قطر عرفا
وعادة بخلاف ما عليه غيرها من النواحي والأقطار، ومن الظاهر أن الأحكام الشرعية
متحدة لا اختلاف فيها، فلا تناط بالأمور غير المنضبطة.
الخامس: أنه متى ثبت الكيل أو الوزن في بعض الأشياء، فهل يجوز بيع
المكيل وزنا وبالعكس أم لا؟ أو يختص الجواز ببيع المكيل وزنا دون العكس؟
احتمالات، بل أقوال.
للأول: حصول الانضباط بهما. ورجحه في سلم الدروس، لرواية وهب.
وللثاني: عدم الدليل على ذلك.
وللثالث: أن الوزن أصل الكيل وأضبط منه، وإنما عدل إلى الكيل تسهيلا.
472

أقول: قال في الدروس: ولو أسلم في الكيل وزنا أو بالعكس فالوجه الصحة
لرواية وهب، عن الصادق عليه السلام. وأشار بالرواية المذكورة إلى ما رواه الشيخ عن
أحمد بن أبي عبد الله عن وهب عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال: لا بأس بالسلف ما
يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن (1) ورواه في الفقيه عن وهب.
وأنت خبير بأن الظاهر من قوله " لا بأس يسلف المكيل في الموزون وبالعكس "
أن يكون أحدهما ثمنا ولآخر مثمنا، لا ما ذكره من كيل الموزون ووزن المكيل، كما
هو المدعى.
ويعضد ما ذكرناه ذكر الشيخ الرواية المذكورة في باب اسلاف السمن بالزيت
واحتمال أنه أشار بالرواية إلى رواية أخرى غير هذه الرواية بعيد، إذ لم نقف في
الباب على غيرها ويحتمل في عبارة الدروس أن يقال: إن وزنا بمعنى الموزون، فيوافق
ظاهر الرواية، إلا أن سياق كلامه يأبى الحمل على ذلك. وبذلك يظهر لك قوة القول
الثاني.
وبالجملة فإن مقتضى القاعدة المتقدمة هو الوقوف في كل شئ على ما ورد، فالمكيل،
لا يباع إلا كيلا وكذا الموزون والمعدود، إلا مع ورود دليل شرعي على جواز الاكتفاء
بأحدها عن الآخر، ومجرد هذه التعليلات التي يتداولونها في مثل هذه المقامات
لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.
نعم قد روى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن ابن مسكان والحلبي، عن أبي عبد الله
عليه السلام أنه سئل عن الجوز لا نستطيع أن نعده فيكال بمكيال ثم يعد ما فيه، ثم يكال ما بقي
على حساب ذلك العدد، فقال: لا بأس به (2).
وهذا في الحقيقة لا يخرج عن بيعه عددا وإن دل على اغتفار التفاوت اليسير

(1) الوسائل ج 13 ص 63 حديث: 1
(2) الوسائل ج 14 ص 259 حديث: 1 باب: 7
473

الحاصل بذلك، كما ورد مثله في رواية عبد الملك بن عمرو المتقدمة، في اشتراء مأة
رواية من الزيت ووزن واحدة منها وأخذ الباقي بذلك الوزن
وقيد بعض الأصحاب جواز بيع كيل المعدود بتعذر عده، وبعض بتعسره، قال
شيخنا الشهيد الثاني: ولو قيل بجوازه مطلقا، لزوال الغرر، وحصول العلم، واغتفار
التفاوت، لكان حسنا. وفي بعض الأخبار دلالة عليه.
أقول: الظاهر أن من شرط أحد الأمرين المذكورين في المعدود نظر إلى قوله
في الرواية " لا نستطيع أن نعده " وأن الجواب إنما بني على ذلك، لكن ينافي ذلك رواية
الزيت المذكورة، وهي التي أشار إليها شيخنا المتقدم ذكره، بقوله: وفي بعض
الأخبار دلالة عليه. وإلى الجواز مطلقا - كما اختاره شيخنا المتقدم ذكره - مال في
المفاتيح، قال: لورد مثله في الزيت من غير تقييد ولا قائل بالفرق بين المعدود والموزون
مع أن الأول أدخل في الجهالة وأقل ضبطا، ولانتفاء الغرر، وحصول العلم، واغتفار
التفاوت اليسير، كما في اختلاف المكائيل والموازين كما يستفاد من المعتبرة،
وتجويزهم اندار ما يحتمل الزيادة والنقيصة للظروف من الموزونات، وجواز بيعها
مع الظروف من غير وضع، بناء على أن معرفة الجملة كافية، وللأخبار في الاندار، و
في بعضها " إذا كان عن تراض منكم فلا بأس " (1) " وإن كان يزيد ولا ينقص فلا تقربه " (2)
وكذا تجويزهم - بلا خلاف - الجمع بن شيئين مختلفين في عقد واحد بثمن واحد كبيع
وإجارة ونكاح، وإن كان عوض كل منهما بخصوصه غير معلوم حال العقد. انتهى.
وهو جيد إلا أنه يبقى الكلام في محمل تحمل عليه رواية الجوز المذكورة.
السادس: قد صرحوا بأنه إذا كان العوضان من المكيل والموزون أو المعدود
فلا بد من اعتبارهما بما هو المعتاد من الكيل والوزن والعدد، فلا يكفي المكيال المجهول

(1) الوسائل ج 12 ص 273 حديث: 1 باب: 20
(2) المصدر حديث: 4
474

كقصعة حاضرة وإن تراضيا بها، ولا الوزن المجهول كالاعتماد على صخرة معينة وإن
عرفا قدرها تخمينا، ولا العدد المجهول بأن عولا عليه ثم اعتبر العدد به، للغرر المنهي
عنه في ذلك كله.
أقول: ومما يدل على ما ذكروه: ما رواه الصدوق في الحسن عن الحلبي، عن
الصادق عليه السلام قال: لا يصلح للرجل أن يبيع بصاع غير صاع المصر (1) ورواه الكليني
في الحسن مثله.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: لا يحل للرجل
أن يبيع بصاع غير صاع المصر. قلت: فإن الرجل يستأجر الحمال في المكيل الكيال
فيكيل له بمد بيته، لعله يكون أصغر من مد السوق، ولو قال هذا أصغر من مد السوق لم
يأخذ به، ولكنه يحمله ذلك ويجعله في أمانته،. فقال: لا يصلح إلا مد واحد والأمناء
بهذه المنزلة (2) قوله: الأمناء جمع منا مقصورا، وهو المن في اللغة المشهورة في
ألسن الناس، وما ذكر في الخبر هو الأفصح مما هو المشهور الآن في الألسن. وتثنيته
منوان.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن سعد بن سعد عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سئل
عن قوم يصغرون القفزان يبيعون بها. قال: أولئك الذين يبخسون الناس أشياءهم (3)
وظاهر المحقق الأردبيلي: المناقشة في المقام، بحمل حسنة الحلبي - وهي
الأولى - على المنع من البيع بغير صاع البلد بسعر البلد لاحتمال كونه ناقصا أو زائدا،
ثم أيد ذلك برواية محمد الحلبي المذكورة بعدها، واستند فيما عدا ذلك إلى الأدلة
العامة الكثيرة، الدالة على الوفاء بالعقود، وعلى هذا فلو حصل التراضي من البائع

(1) الوسائل ج 12 ص 258 حديث: 4
(2) الوسائل ج 12 ص 280 حديث: 2
(3) المصدر ص 258 حديث: 1 باب: 6
475

والمشتري على مكيال مجهول كقصعة ونحوها وحجر مخصوص مجهول، وقرر
القيمة بناء على ذلك صح البيع بمقتضى ما اختاره.
وفيه: أن اطلاق قوله عليه السلام في الخبرين " لا يصلح " كما في الأول، و " لا يحل " كما
في الثاني " للرجل أن يبيع بصاع غير صاع المصر " أعم من أن يكون البيع بسعر صاع
المصر، وتقدير القيمة والسعر على ذلك المكيال المجهول. وورود ما ذكره في تتمة
الرواية الثانية حكم آخر، فلا منافاة فيه، مع أن الجواب الصادر منه عليه السلام في الرواية
الثانية باطلاقه شامل للمنع من الصورة التي ادعى جوازها، وخصوص السؤال لا يخصصه
كما تقرر في كلامهم.
وبالجملة فإن عبارات هذه الأخبار شاملة باطلاقها لما ذكرنا، وتخصيصها
يحتاج إلى دليل، ومع ورود المنع في الصورة التي وافق عليها كما في صحيحة سعد بن
سعد، فإنها ظاهرة فيما ذكره، لا يوجب تخصيص ذلك الاطلاق. فإن هذا أحد فردي
المطلق الذي دلت عليه تلك الأخبار.
وأما الاستناد إلى عموم أدلة الوفاء بالعقد، فإنه لا يخفى أن العقود، منها: ما هو
صحيح ومنها ما هو باطل، ومن الظاهر أن وجوب الوفاء إنما يترتب على العقد
الصحيح، فلا بد - أولا - من النظر في العقد صحة وبطلانا، ليمكن ترتب وجوب
الوفاء به عليه فالاستناد إلى الاستدلال بهذا العموم قبل النظر في العقد - كما ذكرنا -
مجازفة ظاهرة.
ثم إن المحقق المشار إليه قال - في المقام -: ومنه يعلم البحث في المعدود
والظاهر عدم الدليل على عدم جواز بيعه إلا عدا، وعموم أدلة جواز العقود، والوفاء
بها، يدل على الجواز، وعدم اشتراط العد، والأصل والعمومات، وحصول التراضي
الذي هو العمدة في الدليل، دليل قوي. فاثبات خلافه مشكل، وإن كان المشهور عدم
الجواز، والاحتياط معه قبل وقوع العقد، نعم الأولى عدم ارتكابه، والترك لبائعه على
476

تقدير رضاه فتأمل انتهى
أقول: لا ريب أنه لم يرد هنا دليل واضح في الدلالة على ما ذكره الأصحاب، من
عدم الجواز، إلا أن صحيحة الحلبي وابن مسكان المتقدمة: الواردة في الجوز مؤيدة
لما ذكروه، وإن لم تكن الدلالة صريحة في ذلك، فإن الظاهر من السؤال: أن الحكم
في بيع الجوز هو العد، والسائل رتب سؤاله على ذلك، فقال: إنه إذا كان مما
لا يجوز بيعه إلا عدا، والحال أنه لا يستطيع عده لكثرته، فلو كيل على هذا النحو،
فهل يجزي أم لا؟ والإمام عليه السلام قد قرره على ذلك، وإلا لكان يجيبه بأنه لا يحتاج إلى
ذلك بل يبيعه مجازفة، كما يدعيه المحقق المذكور وقد تقرر أن تقريره عليه السلام حجة
كقوله وفعله.
وحينئذ فيكون الخبر ظاهرا في تأييد ما ذكره الأصحاب، بل دالا عليه. وإذا
ثبت هذا الحكم في الجوز يثبت في غيره مما يباع عددا، ويتعدى إلى ما سواه بتنقيح
المناط القطعي، كما في جل الأحكام، إذ لا خصوصية لذكر الجوز هنا إلا من حيث
وقوع السؤال عنه
وأما استناده إلى ما ذكره من عموم أدلة الوفاء بالعقود، فقد عرفت ما فيه، وأما
الأصل فإنه معارض بأن الأصل بقاء كل ملك لمالكه حتى يقوم دليل شرعي على انتقاله
عنه إلى غيره.
وأما حصول التراضي الذي جعله العمدة، ففيه - أولا -: أنه لا يطرد كليا، وإلا لجرى
في الصرف والربا ونحوهما بمجرد التراضي، وسقط ما اشترط فيهما من الشروط.
و - ثانيا - أن غاية ما يفيده التراضي مجرد الإباحة، والمدعى هو البيع الناقل
عن الملك والمخرج له عن صاحبه.
و - ثالثا - ما يتضمنه من الغرر المنهي عنه، كما علله به بعض الأصحاب، مع
اعتضاد ذلك بالاحتياط كما اعترف به. وبالجملة فالأظهر ما ذكره الأصحاب.
477

السابع: قد صرحوا بأنه يجوز ابتياع جزء معلوم بالنسبة كالنصف
والثلث - مثلا - مشاعا، تساوت أجزاؤه كالحبوب والأدهان أو اختلفت كالجواهر
والحيوان، إذا كان الأصل الذي بيع جزؤه معلوما بما يعتبر فيه من كيل أو وزن أو عد
أو مشاهدة، فيصح بيع نصف الصبرة المعلومة المقدار والوصف، ونصف الشاة
المعلومة بالمشاهدة أو الوصف.
أقول: ودليل الجواز فيما ذكروه هنا ظاهر، وهو عموم أدلة البيع بشروطه
المعتبرة فيه، فلو باع شاة غير معلومة من قطيع غنم معلوم العد مشاهد، وإن تساوت
أثمان ما اشتمل عليه من الشاة، لم يصح لمجهولية المبيع،
ولو باع قفيزا من جرة مجهولة، فهل يعتبر العلم باشتمالها على المبيع، أو
أخبار البائع بذلك، وإلا لم يصح، أو أنه يصح البيع، فإن نقصت تخير المشتري
بين أخذ الموجود منها بحصته من الثمن، وبين الفسخ، لتبعض الصفقة قولان.
والظاهر: أن المشهور الأول. والثاني اختيار الشهيد في اللمعة.
ثم إنه مع العلم باشتمالها على المبيع وصحة البيع - كما هو قول المشهور فهل
يتنزل على الإشاعة، أو يكون المبيع قفيزا في الجملة، وجهان. قرب في المسالك
الثاني. وتظهر الفائدة فيما لو تلف بعضها، فعلى الأول فيتلف من المبيع بالنسبة،
وعلى الثاني يبقى المبيع ما بقي قدر المبتاع.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار، مما يتعلق بهذه المسألة: ما رواه الشيخ
في الصحيح عن بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل اشترى من رجل عشرة
آلاف طن في أنبار بعضه على بعض من أجمة واحدة، والأنبار فيه ثلاثون ألف طن،
فقال البائع: قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن، فقال المشتري. قد قبلت
واشتريت ورضيت. فأعطاه من ثمنه ألف درهم، ووكل المشتري من يقبضه، فأصبحوا
وقد وقع النار في القصب فاحترق منه عشرون ألف طن، وبقي عشرة آلاف طن،
478

فقال: عشرة آلاف طن التي بقيت هي للمشتري. والعشرون التي احترقت من مال
البائع (1).
وهي ظاهرة في أن الجزء المباع من الجملة ليس على سبيل الإشاعة بحيث يلحقه
جزء من النقص الواقع على المجهول، كما هو أحد الوجهين المتقدمين، بل يعتبر ذلك
القدر المبيع بعينه، كما قربه في المسالك.
والطن - بالضم - الحزمة من حطب أو قصب. والجمع أطنان، مثل قفل
وأقفال.
قالوا: ولو قال: بعتك كل قفيز منها بدرهم لم يصح، ولو قال: بعتكها كل قفيز
منها بدرهم فالمشهور أنه لا يصح أيضا مطلقا، خلافا للشيخ، ونفى عنه البعد في الكفاية
فقال: وقول الشيخ غير بعيد.
وظاهر هذا الكلام هو صحة هذه الأحكام، أعم من أن تكون الجملة مجهولة
أو معلومة، وخص في الدروس البطلان في الصورة الثانية بما إذا كان المجموع
مجهولا.
قال: ولو كان قال " بعتكها كل قفيز بدرهم " بطل مع الجهالة. وظاهر الشيخ
الصحة مطلقا. انتهى.
قال في الروضة: واعلم أن أقسام بيع الصبرة عشرة، ذكر المصنف بعضها منطوقا وبعضها
مفهوما وجملتها: أنها إما أن تكون معلومة أو مجهولة، فإن كانت معلومة صح بيعها أجمع،
وبيع جزء منها معلوم مشاع، وبيع مقدار كقفيز تشتمل عليه، وبيعها كل قفيز منها بكذا
لا بيع كل قفيز منها بكذا والمجهولة. تبطل في جميع الأقسام الخمسة إلا الثالث. انتهى.
ومنه يعلم: أن بيعها كل قفيز بكذا يصح مع المعلومية، ويبطل مع المجهولية
إلا على قول الشيخ، حيث نقل عنه الصحة مطلقا.
479

وأما بيع كل قفيز منها بكذا فهو باطل مطلقا، وبه يتبين ما في الكلام الأول من
الاجمال.
وقد صرحوا - أيضا - بأنه لا يجوز ابتياع شئ مقدر غير معين منه، إذا لم يكن
متساوي الأجزاء، كالذراع من الثوب، والجريب من الأرض، وعبد من عبيد، وشاة
من قطيع. ولو عينه من جهة، كما لو قال: من هذا الطرف إلى حيث ينتهي، ففي
صحته قولان، أشهرهما: الصحة. ويجوز ذلك في المتساوي الأجزاء، كالقفيز
من الكر.
أقول: لا يبعد التفصيل في هذا المقام، بأن يقال بعدم الصحة في نحو عبد من
عبدين أو عبيد، وشاة من قطيع. والصحة في نحو ذراع من الثوب وجريب من الأرض.
لحصول المجهولية في الأول فيبطل البيع لذلك، لتفاوت أفراد العبيد وأفراد الشاة
تفاوتا فاحشا، بخلاف أجزاء الثوب وأجزاء الأرض، إذ الغالب في الثوب المصنوع
أن تكون صنعته من أوله إلى آخره على نهج واحد. وكذلك الأرض. وحينئذ فلا
فرق بين أن يبيعه ذراعا معينا مشارا إليه - كما اعترفوا بالصحة فيه - ولا بين أن يبيعه
ذراعا من أي طرف أراد المشتري. وهكذا في الأرض.
ويؤيده ما تقدم من الاكتفاء بالمعلومية في الجملة من المواضع. وإلى ما ذكرنا
يشير كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، حيث قال - بعد أن نقل عنهم المنع
من عدم تعيين الموضع، والجواز مع تعيينه، كأن يقول - ابتداء -: الذرع من هذا
الرأس وابتداء الجريب من هذا الجانب من الأرض - ما لفظه: وفيه تأمل، إذا لم يقم
دليل على اعتبار هذا المقدار من العلم فإنهما إذا تراضيا علي ذرع من هذا الكرباس،
من أي رأس أراد المشتري، أو من أي جانب كان من الأرض، فما المانع بعد العلم
بذلك، مع أن الغالب هو التساوي في طول ثوب الكرباس - مثلا - وأرض متصلة
الأجزاء بمعنى عدم تفاوت بين أجزائها المستلزم لتفاوت في قيمته. فتأمل فيه. انتهى.
480

وهو جيد.
وبالجملة فإن ما ذكروه من القاعدة المذكورة بالنسبة إلى غير متساوي الأجزاء
ليس على اطلاقه، بل ينبغي التفصيل فيه بما ذكرنا. والله العالم.
الثامن: قالوا: تكفي في بيع الثوب والأرض المشاهدة وإن لم يمسحا.
ونقل في التذكرة الاجماع على ذلك، مع أنه نقل في الدروس عن ظاهر الخلاف
المنع.
وينبغي أن يعلم: أن المراد بمشاهدة الثوب الكافية في صحة بيعه: مشاهدته
منشورا، فلو كان مطويا لم يكف إلا مع تقليبه على وجه يوجب معرفته، هذا بالنسبة
إلى غير المكيل والموزون والمعدود، وإلا فإنه يجب مع ذلك الاستعلام بأحد الثلاثة
المذكورة ولا تكفي المشاهدة وحدها.
ومن هنا ينقدح اشكال في هذا المقام، فإنه متى اعتبر أحد هذه الثلاثة فيما كان
كذلك، زيادة على المشاهدة، فكيف يقال بأنه تكفي المشاهدة خاصة في الثوب،
مع أنه مذروع. وكما يشير إليه كلامهم فيما تقدم من قولهم: ذراع من هذا الثوب،
ولأن المتعارف في الثوب هو الذرع. إلا أن يقال: المراد به هنا المخيط فقط.
أو يقال: إن الذرع غير مشروط في المذروع. كما في الثلاثة المتقدمة، فإن ذلك
شرط فيها.
ويؤيده إضافة الأرض. فإنها قد تكون مذروعة أيضا، مع أنه يجوز بيعها مشاهدة
وموصوفة بلا ذرع من غير خلاف.
وتكفي مشاهدة المبيع عن وصفه، ولو غاب وقت الابتياع، بشرط أن لا يكون
مما يتغير عادة، كالأرض والأواني والحديد والنحاس ونحوها، أو لا تمضي مدة تتغير
فيها عادة، ويختلف باختلافه زيادة ونقصانا، كالفاكهة والطعام والحيوان. فلو مضت
مدة كذلك لم يصح البيع، لتحقق الجهالة المترتبة على تغيره عن تلك الحالة. وإن
481

احتمل التغير كفى البناء على الأول، أعني المشاهدة السابقة، وصح البيع.
فإن ظهر التغير زيادة أو نقصانا فإن كان مما يتسامح بمثله عادة فلا خيار، وإلا تخير
المغبون منهما، وهو البائع إن ظهر زائدا والمشتري إن ظهر ناقصا.
ولو اختلفا في التغير الموجب للخيار، وهو الذي يتسامح بمثله - كما عرفت -
فقيل: إن قول المشتري بيمينه إن كان هو المدعي للتغير والبائع ينكره، لأن
البائع يدعي علمه بهذه الصفة، ويقول: إني بعتكه بهذه الصفة التي هو عليها الآن،
وهو ينكره. ولأن الأصل عدم وصول حقه إليه، فيكون في معنى المنكر، ولأصالة
بقاء يده على الثمن.
وقيل بتقديم قول البائع لتحقق الاطلاع المجوز للبيع، وأصالة عدم التغير.
والمشهور الأول والمسألة عارية من النص. والركون إلى أمثال هذه التعليلات
في تأسيس الأحكام الشرعية قد عرفت ما فيه في غير مقام.
ولو باعه أرضا على أنها جربان معينة فظهرت أقل من ذلك، فقيل بأن للمشتري
الخيار بين فسخ البيع وبين أخذها بحصتها من الثمن. وقيل: بل بكل الثمن.
وللشيخ قول ثالث، بأن البائع إن كان له أرض بجنب تلك الأرض تفي بالناقص
فعليه الاكمال منها وإلا تخير المشتري بين الأخذ بحصتها من الثمن وبين الفسخ.
ويدل على هذا القول ما رواه الصدوق والشيخ عن عمر بن حنظلة عن الصادق
عليه السلام في رجل باع أرضا على أنها عشرة أجربة، فاشترى المشتري ذلك منه بحدوده،
ونقد الثمن ووقع صفقة البيع وافترقا، فلما مسح الأرض إذا هي خمسة أجربة، قال:
إن شاء استرجع فضل ماله وأخذ الأرض، وإن شاء رد البيع وأخذ ماله كله، إلا أن يكون له إلى جنب تلك
الأرض - أيضا - أرضون فلتؤخذ ويكون البيع لازما له،
وعليه الوفاء بتمام البيع، فإن لم يكن له في ذلك المكان غير الذي باع، فإن شاء
المشتري أخذ الأرض واسترجع فضل ماله وإن شاء رد الأرض وأخذ المال كله (1)

(1) الوسائل ج 12 ص 361 حديث: 1 باب: 14
482

وربما طعن في الخبر بضعف السند. وهو غير مرضي عندنا ولا معتمد، والرواية
لا معارض لها، وهي دالة على صحة القول الأول، مع عدم وجود الأرض للبائع
ثمة، فالعمل بها متعين.
وفي الكفاية نقل عن الشيخ - هنا - مع عدم وجود الأرض: أنه يتخير المشتري
بين الأخذ بجميع الثمن والفسخ. قال: ومستنده رواية عمر بن حنظلة عن الصادق
عليه السلام لكنها غير نقية السند. وفيه: أن الرواية إنما تدل على الأخذ بحصته من الثمن،
وهو ما يخص المبيع كما هو القول الأول، لا بجميع الثمن كما هو القول الثاني.
والظاهر أن ما ذكره سهو من قلمه.
التاسع: يختبر ما يراد طعمه كالدبس، أو ريحه كالمسك أو يوصف.
ويدل على ذلك: ما رواه الشيخ عن محمد بن العيص قال: سألت أبا عبد الله
- عليه السلام - عن رجل اشترى ما يذاق، يذوقه قبل أن يشتري؟ قال: نعم،
فليذقه، ولا يذوقن ما لا يشتري (1) ورواه البرقي في المحاسن مثله.
فلوا اشتراه من غير اختيار أو وصف بناء على الأصل - وهو الصحة - فالمشهور
بين المتأخرين: الجواز مع العلم به من غير هذه الجهة، كالقوام واللون وغيرهما
مما يختلف قيمته باختلافه.
وقيل: لا يجوز بيعه إلا بالاختيار أو الوصف للغرر المنهي عنه. وهو منقول عن
الشيخين وسلار والتقي والقاضي وابن حمزة.
والأول مذهب المحقق والعلامة ومن تأخر عنهما.
ويرجح الأول: جواز البناء على الأصل إحالة على مقتضى الطبع، فإنه
أمر مضبوط عرفا لا يتغير غالبا إلا لعيب، فيجوز الاعتماد عليه، لارتفاع الغرر
به كالاكتفاء بروية ما يدل بعضه على باقيه غالبا كظاهر الصبرة، وينجبر النقص بالخيار،

(1) الوسائل ج 12 ص 279 حديث: 1
483

فإن خرج معيبا تخير المشتري بين الرد والأرش إن لم يتصرف فيه تصرفا زائدا على
اختباره، وإلا تعين الأرش لو تصرف كذلك، كما في غيره من أنواع المبيع. وإن
كان المشتري المتصرف أعمى، لتناول الأدلة خلافا لسلار حيث خير الأعمى بين الرد
والأرش وإن تصرف.
وأولى بالجواز من غير اختبار ما يؤدي اختباره إلى فساده كالجوز والبطيخ
والبيض، فإن شراءه جائز مع جهالة ما في بطونه، ويثبت للمشتري الأرش بالاختبار
مع العيب دون الرد. وفي بعض عبارات الأصحاب: جاز شراؤه بشرط الصحة. وفي
عبارة الشيخ وجماعة: بشرط الصحة أو البراءة من العيوب. والأول أجود.
ثم إن أطلق اقتضى الاطلاق الصحة ورجع بأرش العيب مع ظهوره بعد الكسر لا الرد
كما عرفت، للتصرف.
وإن شرط البائع البراءة من العيوب صح ولا خيار لو ظهر معيبا. كذا أطلقه
الجماعة.
قال في المسالك - بعد نقل ذلك عنهم -: ويشكل فيما لو ظهر كله معيبا ولم
يكن لمكسوره قيمة كالبيض، فإن مقتضى الشرط رجوعه بالثمن كله لعدم وجود
ما يقابله، وهو مناف لمقتضى العقد، إذ لا شئ في مقابلة الثمن فيكون أكلا للمال
بالباطل فيتجه بطلان الشرط، وقد نبه على هذا في الدروس انتهى. وهو جيد.
قالوا: ولو لم يكن لمكسوره قيمة كالبيض الفاسد رجع بالثمن أجمع، لبطلان
البيع حيث لا يقابل الثمن مال.
وهل يكون العقد مفسوخا من أصله؟ نظرا إلى عدم المالية من حين العقد
فيقع باطلا ابتداء، أو يطرأ عليه لفسخ بعد الكسر وظهور الفساد، التفاتا إلى حصول
شرط الصحة حين العقد وإنما تبين الفساد بالكسر، وجهان بل قولان.
جزم في الدروس بالثاني وجعل الأول احتمالا. قال: ولو لم يكن له قيمة بطل البيع
484

من حينه ويحتمل من أصله.
قال شيخنا الشهيد الثاني - بعد نقل ذلك عنه -: وهو ظاهر الجماعة، ورجح
الأول. قال: ورجحان الأول واضح، لأن ظهور الفساد كشف عن ظهور عدم
المالية في نفس الأمر حين البيع لا احداث عدمها حينه، والصحة مبنية على الظاهر.
انتهى.
والمسألة محل توقف وفرعوا على القولين الكلام في مؤنة النقل من الموضع
الذي اشتراه فيه إلى موضع الاختبار، فعلى الأول على البائع، وعلى الثاني على
المشتري لوقوعه في ملكه.
العاشر -: المشهور بينهم من غير خلاف يعرف -: أنه يجوز بيع
المسك في فأره وإن لم يفتق، بناء على أصل السلامة، فإن ظهر بعد الفتق، معيبا تخير
المشتري، كما هو القاعدة في كل معيب. والفأر بالهمزة: الجلدة التي فيها المسك.
قالوا: وفتقه بأن يدخل فيه خيط بأبرة ثم يخرج فيشم.
والفأر في عبائرهم - كما في العبارة المذكورة -: جمع فأرة كتمر وتمرة،
فهو في العبارة مضاف إلى ضمير المسك، وقد نص جملة من الأصحاب على أنه بالهمزة
في المفرد والجمع. وفي مجمع البحرين: أنه يهمز ولا يهمز وهكذا في فأرة
البيوت.
ولم أقف لهم في هذا الحكم على نص، قال المحقق الأردبيلي: قواعدهم
تقتضي عدم جواز بيعه في الفأرة للجهالة، لأنهم ما يجوزون في ظاهر، كلامهم بيع المشموم
بالمشاهدة بل يوجبون الشم معها، وقد جوزوا بيعه مع مشاهدة الفأرة في المسك من
دون مشاهدته وشمه. ولعله لاجماع ونص فهم ذلك من فحواه، ويؤيده عموم الأدلة
التي أشرنا إليها غير مرة مع الأصل وعدم مانع ظاهر يصلح لذلك، ووجود العلم
الجملة، وعدم وجوب الاستقصاء مع عدم تفويت حق، إذ لو كان معيبا تخير،
485

وأيضا قد يعلمه أهل الخبرة في الفأرة، وهذا مؤيد لعدم اشتراط العلم في كثير مما
سبق فتذكر، ومؤيد أيضا لعدم نجاسة ما ينفصل من الحي، فإنها طاهرة عندهم
بالاجماع، مع أنها جلدة رماها الغزال فتأمل. انتهى.
ولا وجه لهذه التأييدات مع عدم نص على الحكم المذكور كما اعترف به،
بل الجميع من قبيل الدعاوى العارية عن الدليل، وقد عرفت أن مقتضى القاعدة المذكورة
المتقدمة هو المشاهدة أو الوصف الرافع للجهالة، والكيل والوزن والعدد فيما كان
من هذه الأقسام، واستثناء بعض الأفراد عن مقتضى القاعدة يحتاج إلى دليل بل لو ورد
الدليل في بعض الموارد لردوه كما في مسألة البيع بحكم المشتري أو البائع أو أجنبي،
فإنهم قد ردوا الرواية المتقدمة الصحيحة الصريحة في جواز البيع بحكم المشتري،
وهذا المحقق المذكور ممن وافقهم على ذلك كما تقدم في كلامه في تلك المسألة،
فكيف مع عدم الدليل كما في هذه المسألة. ومجرد شهرة الحكم بينهم لا يوجب
التخصيص لتلك القاعدة.
على أنه قد روى في التهذيب عن عبد الأعلى بن أعين، قال نبئت عن أبي جعفر
عليه السلام أنه كره شراء ما لم تره (1).
وروى في الخصال عن محمد بن سنان مسندا إلى أبي جعفر عليه السلام أنه كره بيعين:
اطرح وخذ من غير تقليب، وشراء ما لم تر (2).
واستعمال الكراهة بمعنى التحريم في الأخبار كثير كثير كما نبهنا عليه في غير موضع
والخبران المذكوران مؤيدان لما ذكروه من القاعدة في هذا المقام، فالخروج عنها
بغير دليل غير معقول، إلا أن يقال - كما قدمنا الإشارة إليه -: إنه لا ضابطة ولا قاعدة
في ذلك، بل المرجع إلى النصوص فيما دلت عليه جوازا ومنعا، والحال أنه لا نص

(1) الوسائل ج 12 ص 279 حديث: 1
(2) المصدر حديث: 3
486

في هذا المقام، فالاحتياط بعدم جواز البيع إلا مع المعلومية بالفتق كما ذكروه -
واجب، لاشتباه الحكم، وإن وقع في كلامهم على جهة الاستحباب. والله العالم.
الحادي عشر: المشهور أنه لا يجوز بيع سمك الآجام مع ضميمة القصب
أو غيره للجهالة، ولو في بعض المبيع. ولا اللبن في الضرع - وهو الثدي لكل ذي
خف أو ظلف - لذلك وإن ضم إليه شيئا ولو لبنا محلوبا. قالوا: لأن ضميمة اللبن
المعلوم إلى المجهول تجعل المعلوم مجهولا، فأما عدم الجواز بدون الضميمة فموضع
وفاق عندهم، وإنما الخلاف معها. فالمشهور - كما عرفت - هو المنع. وقيل
بالجواز.
والظاهر: أن محل الخلاف هو المسك المملوك المقدور قبضه، فإن غير
المملوك ولا المقدور لا يجوز بيعه اتفاقا، وأيضا المراد به غير المحصور ولا المشاهد،
وإلا فلو كان كذلك فإنه لا خلاف في جواز البيع، كما صرح به بعضهم في الموضعين،
ومنه يعلم أن محل الخلاف إنما هو السمك المملوك المقدور غير معلوم العدد
ولا المشاهد مع الضميمة المعلومة. وقد ذهب الشيخ هنا إلى الجواز أيضا. كما ذهب
إلى الجواز في بيع اللبن في الضرع إذا ضم إليه لبن محلوب، بل مع الضميمة إلى
ما يوجد في مدة معلومة.
وفصل آخرون - والظاهر: أنه المشهور بين المتأخرين - بأنه إن كان المقصود
بالبيع هو الضميمة المعلومة وجعل ما عداها تابعا صح البيع، وإن عكس أو كانا
مقصودين لم يصح، وكذا القول في كل مجهول ضم إليه معلوم.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام: ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ
في التهذيب، عن سماعة في الموثق، قال: سألته عن اللبن يشتري وهو في الضرع؟
فقال: لا، إلا أن يحلب لك منه اسكرجة فيقول: اشتر مني هذا اللبن الذي في
الاسكرجة وما بقي في ضرعها بثمن مسمى، فإن لم يكن في الضرع شئ كان ما في
487

الاسكرجة (1) أي كان المبيع ما في سكرجة. واسكرجة - بضم الهمزة وسكون السين،
وضم الكاف، والراء المشددة -: إناء صغير فارسي معرب.
وهذه الرواية - كما ترى - ظاهرة فيما ذهب إليه الشيخ. والأصحاب ردوها
بضعف السند، وهو عندنا غير معتمد. وظاهر هذه الرواية عدم اشتراط الكيل والوزن
في اللبن.
وما رواه في الكافي في الصحيح عن عيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد الله
- عليه السلام - عن رجل له غنم يبيع ألبانها بغير كيل، قال: نعم، حتى تنقطع أو شئ،
منها (2).
قال المحدث الاسترآبادي - عطر الله مرقده - في حواشيه على الكافي: قوله
" يبيع البانها بغير كيل " يعني اللبن في الضرع كالثمرة على الشجرة ليس مما يكال
عادة، فهل يجوز بيعها بغير كيل؟ قال: نعم. لكن لا بد من تعيين ذلك، بأن يقال:
إلى انقطاع الألبان أو إلى انفصال اللبن من الضرع، فيوافق الخبر الثاني. والله يعلم.
انتهى.
وقال المحدث الكاشاني في الوافي - ذيل الخبر المذكور -: أي يشترط أن
ينقطع الألبان من الثدي، أي تحلب إما كلها أو بعضها، وأما إذا كان كلها في الثدي
ولم يحلب شئ منها بعد فلا يجوز بيعها ويشبه أن يكون " حتى " تصحيف " متى ".
أقول: يأتي - على احتمال المحدث الأول - جواز بيعها في ضروعها كالثمرة
على النخلة. وظاهره صحة ذلك من غير ضميمة، لكن لا بد من التقييد بانقطاع الألبان،
ونحوها مما ذكره وعلى كلام المحدث الثاني،: جواز بيع ما في الضروع مع انفصال
بعضه كما دل عليه موثق سماعة، وأن الممنوع منه إنما هو البيع ما دام في الضرع

(1) الوسائل ج 12 ص 259 حديث: 2 باب: 8
(2) المصدر حديث: 1 باب 8
488

ولم يحلب منه شئ بالكلية فعلى كل من الاحتمالين فالخبر دال على خلاف ما هو
المشهور من عدم الجواز كذلك.
وكيف كان فظاهر هذا الخبر - أيضا - جواز بيع اللبن بغير كيل ولا وزن.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن البزنطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله
عليه السلام قال إذا كانت أجمة ليس فيها قصب، أخرج شئ من السمك، فيباع وما في
الأجمة (1).
وظاهر الخبر: أنه لو كان فيها قصب فإنه لا يحتاج إلى ضميمة أخرى زائدة
على القصب وسمك الأجمة، لأن القصب معلوم بالمشاهدة.
وما رواه الشيخ في الموثق عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس
أن يشتري الآجام إذا كان فيها قصب (2). وهي كسابقتها بل أصرح.
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله في شراء الأجمة ليس فيها قصب إنما هي ماء.
قال: يصيد كفا من سمك، فتقول: أشتري منك هذا السمك وما في الأجمة بكذا
وكذا (3).
والأصحاب أيضا ردوا هذه الروايات بضعف السند. قال في المسالك -، في مسألة
بيع الآجام -: والقول بالجواز مع الضميمة مذهب الشيخ استنادا إلى أخبار ضعيفة
ثم رجح ما اختاره المتأخرون من التفصيل الذي قدمنا نقله عنهم. وقال - في مسألة
بيع اللبن في الضرع -: جوزه الشيخ مع الضميمة ولو إلى ما يوجد في مدة معلومة
استنادا إلى رواية ضعيفة، والوجه المنع إلا على التفصيل السابق.
أقول: العجب منهم في مسألة بيع المسك في فأره يجوزونه مع الجهالة المطلقة

(1) الوسائل ج 12 ص 263 حديث: 2 باب: 12
(2) المصدر ص 264 حديث: 5
(3) المصدر حديث: 6
489

وعدم المعلومية بوجه، ويخرجون عن مقتضى قاعدتهم المتقدمة من غير دليل، ويمنعونه
في هذا الموضع مع ورود الأخبار بجوازه وقوفا على تلك القاعدة وتمسكا بها، وردا
للأخبار المذكورة لمخالفتها لها، مع حصول المعلومية في الجملة، وتأيد هذه الأخبار
في موضع الحاجة إليها، وغض النظر عن ضعفها.
وبالجملة فإن الحق هنا ما ذهب إليه الشيخ فيما دلت عليه هذه الأخبار، وإلى
ذلك يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، والفاضل الخراساني في الكفاية.
الثاني عشر: المشهور أنه لا يجوز بيع الجلود والأصواف والأشعار
على الأنعام وإن ضم إليه غيره أيضا، لجهالة مقداره، مع كون غير الجلود موزونا،
فلا يصح بيعه جزافا.
قال في المسالك - بعد نقل ذلك عنهم -: والأقوى جواز بيع ما عدا الجلد
منفردا أو منضما مع مشاهدته وإن جهل وزنه، لأنه غير موزون كالثمرة على الشجرة،
وإن كان موزونا لو قلع كالثمرة. وفي بعض الأخبار دلالة عليه. انتهى. وهو جيد.
والظاهر أن الرواية التي أشار إليها هي: ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ
في التهذيب عن إبراهيم الكرخي، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل
اشترى من رجل أصواف مأة نعجة وما في بطونها من حمل بكذا وكذا درهما؟ فقال:
لا بأس إن لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله في الصوف (1).
والرواية - كما ترى - دالة على جواز بيع الصوف ونحوه من الأوبار والأشعار
على ظهر الدابة وحدها وكذا صريحها يدل على ما قدمنا نقله عن المسالك من الجواز
هنا. لكن قيده بما إذا كان المقصود بالذات هو ما على الظهور، وقوفا على القاعدة
التي قدمناها عنهم. في ضم المعلوم إلى المجهول.
وبذلك صرح - أيضا - في الكتاب المذكور، حيث قال - بعد قول المصنف

(1) الوسائل ج 12 ص 261 حديث: 1
490

في تعداد ما لا يجوز بيعه " وكذا الجلود والأصواف والأوبار والشعر على الأنعام،
ولو ضم إليه غيره، وكذا ما في بطونها، وكذا لو ضمهما " - ما صورته: ضمير المثنى
يعود إلى النوعين السابقين، وهما ما في بطونها وما على ظهورها من الصوف الشعر
والوبر، والمراد: أنه لا يصلح بيع كل واحد منهما منفردا ولا منضما إلى غيره، ولا
أحدهما منضما إلى الآخر. وحيث عرفت أن بيع ما على الظهور من المذكورات
صحيح، فيجوز ضم ما في البطن إليه إذا كان المقصود بالذات هو ما على الظهر،
ما تقدم في القاعدة. انتهى.
وفيه: أن روايات الضمائم - على تعددها - لا أشعار فيها بهذا التقييد الذي
كروه، من أن المقصود بالذات هو الضميمة خاصة. وغاية ما تدل عليه هو: أنه مع
عدم حصول ذلك المجهول يصير الثمن في مقابل الضميمة المعلومة. وأما كونها
هي المقصودة بالبيع فلا. بل ربما أشعر ظاهرها: أن المقصود بالبيع إنما هو ذلك
المبيع المضموم إليه، وإنما جعلت هذه الضميمة من قبيل الحيل الشرعية، لئلا يلزم
أخذ الثمن بغير عوض يقابله ليخرج من باب البيع المبني على المعاوضة.
وقال في الدروس: والأقرب جواز بيع الصوف والوبر والشعر على ظهور
الأنعام منفردا إذا أريد جزه في الحال، أو بشرط بقائه إلى أوان جزة.
وأنت خبير - بناء على ما حققناه كما دلت عليه الرواية المتقدمة واختاره في
المسالك - أنه لا ثمرة لهذا الشرط، إذ المبيع حينئذ مشاهد، والوزن غير معتبر فيه
في تلك الحال، فيجوز بيعه. واشتراط جزه لا مدخل له في الصحة بوجه فالأظهر
عدم اشتراطه. وغاية ما يلزم: أنه ببقائه يمتزج بمال البائع وهو لا يقتضي بطلان البيع،
إذ المرجع حينئذ إلى الصلح كما سيأتي مثله انشاء الله في لقطة الخضر.
ثم إن ظاهر عبارة المسالك المتقدمة - أولا -: هو عدم جواز بيع الجلد على
ظهر الحيوان مطلقا. وكأنه اتفاقي بينهم، وإلا فما المانع من بيعه مع الضميمة كما
491

في الأشعار والأوبار مع مشاهدة الحيوان الذي عليه الجلد، فالمشاهدة مشتركة بين
الجلد من الأشعار ونحوها وعموم الأدلة والاكتفاء بالمعلومية الجملية كما في غير
موضع مما عرفت وستعرف يقتضي الصحة كما لا يخفى.
ثم إن رواية الكرخي (1) المتقدمة قد دلت على جواز بيع الحمل مع ضميمة
الصوف كما عرفت، والأصحاب قد صرحوا بالعدم إلا إذا ضم الحمل إلى الأم، وكانت
الأم هي المقصودة بالبيع، عملا بالقاعدة التي تقدم نقلها منهم.
قال العلامة - في التذكرة -: لو باع الحمل مع أمه جاز اجماعا سواء كان
في الآدمي أو غيره. ثم قال - بعد هذا -: لو قال: بعتك هذه الدابة وحملها لم يصبح
عندنا، لما تقدم أن الحمل لا يصلح مبيعا ولا جزء منه.
أقول: والأقرب هو الجواز مع الضميمة مطلقا للخبر المتقدم المعتضد بما
صرحوا به في غير موضع من الاكتفاء بمعلومية المبيع في الجملة، ومنع الأصحاب
من بيع الملاقيح - وهو: ما يلقحه الفحل وتحمله الناقة - منفردا أو منضما، وجهه
ظاهر، لأنه معدوم، ومن شرط المبيع أن يكون موجودا حال البيع.
ويمكن أن يستدل عليه بما رواه الشيخ في الحسن - بإبراهيم بن هاشم - عن
محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا تبع راحلة عاجلة بعشر ملاقيح من أولاد
جمل في قابل (2).
والتقريب فيها: البناء على عدم الفرق بين الشراء والبيع.
وروى الصدوق في معاني الأخبار عن محمد بن هارون الزنجاني عن علي بن
عبد العزيز عن القاسم بن سلام باسناد متصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن المجر، وهو
أن يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة. ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن الملاقيح والمضامين.

(1) الوسائل ج 12 ص 261 حديث:
(2) المصدر ص 262 حديث: 3
492

فالملاقيح: ما في البطون، وهي الأجنة. والمضامين: ما في أصلاب الفحول وكانوا
يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضرب الفحل في عامه وفي أعوامه. ونهى صلى الله عليه وآله وسلم
عن بيع حبل الحبلة. ومعناه: ولد ذلك الجنين الذي في بطن الناقة، أو هو نتاج النتاج،
وذلك غرر انتهى (1).
الثالث عشر: قالوا: إذا كان المبيع في ظرف جاز وزنه وبيعه معه، وأن
يندر (2) للظرف ما جرت به العادة مما يحتمل كونه بذلك القدر أو أزيد قليلا أو أنقص
كذلك، فلو علم يقينا زيادة المسقط على وزنه لم يصح إلا بتراضي المتبايعين، لأن
في ذلك تضييعا لمال أحدهما، بخلاف ما إذا كان برضاهما.
قيل: وكما لا يجوز وضع ما يزيد كذا ما ينقص لاشتراكهما في المعنى.
قالوا: ويجوز بيعه مع الظرف بغير وضع، بمعنى جعل الموزون المجموع
من الظرف والمظروف بسعر واحد، ولا يضر جهل وزن كل واحد، لأن معرفة الجملة
كافية كنظائره مما يباع منضما.
وقيل: لا يصح حتى يعلم مقدار كل واحد منهما منفردا، لأنها في قوة مبيعين.
ورد بأنه ضعيف.
أقول: والذي وقفت عليه هنا من الأخبار المتعلقة بهذا الحكم: ما رواه الشيخان
في الكافي والتهذيب عن حنان في الموثق، قال: كنت جالسا عند أبي عبد الله عليه السلام
فقال له معمر الزيات: إنا نشتري الزيت في زقاقه فيحسب لنا النقصان فيه لمكان
الزقاق. فقال له: إن كان يزيد وينقص فلا بأس، وإن كان يزيد ولا ينقص فلا تقربه (3).
وروى في التهذيب عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت معمر الزيات يسأل
أبا عبد الله عليه السلام فقال: جعلت فداك، إني رجل أبيع الزيت - إلى أن قال -: فإنه

(1) الوسائل ج 12 ص 262 حديث: 2
(2) الاندار - بالدال المهملة -: الاسقاط
(3) الوسائل ج 12 ص 273 حديث: 4
493

يطرح لظروف السمن والزيت لكل ظرف كذا وكذا رطلا، فربما زاد وربما نقص.
قال: إذا كان عن تراض منكم فلا بأس (1).
وروى محمد بن جعفر الحميري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده
علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام عن الرجل يشتري المتاع وزنا في الناسية
والجوالق، فيقول: أدفع للناسية رطلا أو أكثر من ذلك. أيحل ذلك البيع؟ قال: إذا
لم يعلم وزن الناسية والجوالق فلا بأس إذا تراضيا (2).
ويستفاد من الخبر الأول: أنه مع احتمال الزيادة والنقصان في الظروف فإنه
لا بأس لوقوع أحدهما موقع الآخر، إلا أن الخبر الثاني قيده بالتراضي، وكذا ظاهر
الخبر الثالث، وهو أحوط ودل الخبر الأول على أنه - مع معلومية الزيادة - فلا يجوز
وظاهر الخبر: المنع وإن حصل التراضي والأصحاب - كما عرفت - جوزوه
مع التراضي، إلا أن يحمل الخبر على ذلك، لأن المدار في البيع على التراضي،
إلا أن يمنع عنه مانع من خارج في مواضع مخصوصة منصوصة.
ثم إن ما قيل من قياس النقيصة على الزيادة في عدم الجواز إلا مع التراضي - كما
تقدم نقله - يمكن الخدشة فيه بأن المراد من كلامهم المنقول - أولا - أن اندار المحتمل
لا يحتاج إلى المراضاة، وإنما المحتاج إليها ما يزيد. ولعل الوجه: أنه يجوز ذلك
للمشتري لقلة التفاوت لو كان التسامح بمثله بين الناس غالبا، مع أنه غير معلوم فيحمل
على الغالب مع عدم اليقين. ولا يجوز له اندار الزيادة إلا مع رضاء البائع، وحينئذ
فلا يرد اشتراط ذلك في النقصان.
وبالجملة فإن الاندار إنما هو حق المشتري، لأنه قد اشترى - مثلا - مأة من
من السمن في هذه الظروف، فالواجب دفع قيمة المأة المذكورة، وله اسقاط ما يقابل

(1) المصدر ص 272 حديث: 1 باب: 20
(2) المصدر ص 273 حديث: 3
494

الظروف من هذا الوزن المذكور، فمتى كانت الظروف فيها ما يزيد وينقص حمل
زيادتها على نقيصتها - كما تقدم في الأخبار - وأسقط ذلك، إذ فيها ما يحتمل الزيادة
والنقيصة قليلا بحيث جرت العادة بالتسامح في مثله، فإن له اسقاطه. أما لو كان معلوم
الزيادة فليس له الاسقاط إلا برضاء البائع لدخول النقص عليه بذلك، وأما معلوم
النقيصة فإن البائع لا يندره ويدخل على نفسه الضرر بالنقصان. وبذلك يظهر لك أن
قياس أحدهما على الآخر ليس في محله. والله العالم.
وأما ما ذكروه من أنه يجوز بيعه مع الظروف من غير وضع، فإنه وإن جاز
من حيث عدم ضرر الجهل بكل منهما على حدة، لأن معرفة الجملة كافية كما ذكروه
إلا أنه يستلزم كون قيمة الظرف قيمة المظروف، والغالب التفاوت، وربما يكون
فاحشا، فيلزم الضرر بالمشتري فالواجب تقييده برضاء المشتري، كما قيدوا به في
صورة زيادة الظرف يقينا. والحكم المذكور غير منصوص ليتبع فيه اطلاق
النص، إلا أن يقال: إن اطلاق كلامهم يحمل على ذلك.
* * *
إلى هنا تم الجزء الثامن عشر حسب تجزئتنا. وبه يكتمل أحكام المكاسب
والبيوع. ويبتدئ الجزء التالي (19) بأحكام الخيارات.
ونسأل الله التوفيق في اكمال هذه الموسوعة الجليلة
التي يفخر بها فقه الإمامية على طول
الزمان. والله ولي التوفيق
17 ربيع الأغر
1397 ه‍.
495