الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ٢١
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: محرم الحرام ١٤٠٥ - مهر ١٣٦٣ ش
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
الجزء الحادي والعشرون
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

الكتاب: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة (ج 21)
المؤلف: العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني (قدس سره)
الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب‍: قم المشرفة
المطبوع: خمسة آلاف نسخة
التاريخ: المحرم الحرام 1405 الموافق لشهر مهر 1363
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين
كتاب الضمان
إعلم أن الضمان عند الفقهاء لفظ مشترك يطلق على معنيين أحدهما أخص
من الآخر والمعنى الأعم عبارة عن عقد شرع للتعهد بمال أو نفس، والتعهد بالنفس
هو الكفالة والتعهد بالمال إن كان ممن في ذمته مال فهو الحوالة وإلا فهو الضمان
بالمعني الأخص إلا أن في هذا المقام اشكالا من حيث الخلاف في الحوالة، وأنه
هل يشترط فيها شغل الذمة أم لا قولان: والأقسام الثلاثة إنما تتم بناءا على الأول
وأما على الثاني فهي داخلة في الضمان بالمعنى الأخص. والمحقق في الشرايع
مع قوله بعدم اعتبار شغل لذمة المحال عليه للمحيل قائل بالتقسيم إلى الأقسام
الثلاثة، وهو جعل الحوالة قسيما للضمان بالمعنى الأخير وهو مشكل لما عرفت و
لا مخرج من هذا الاشكال إلا بجعل التقسيم مخصوصا بمحل الوفاق، أو
باعتبار القسم الآخر للحوالة، وهو تعهد مشغول الذمة للمحيل، فيكون هو أحدا
للأقسام الثلاثة خاصة، ويكون القسم المشترك ذا جهتين من حيث تسميته هنا ضمانا
خاصا وحوالة، فيسهل الخطب بذلك.
3

وكيف كان فالمراد هنا عندنا بالضمان هو المعنى الأخص وهو التعهد بالمال
من البرئ وللمتبادر من اطلاق لفظ الضمان في كلامهم هو المعنى الأخص ولذا
أن جملة منهم أفراد لكل من الثلاثة كتابا على حدة وبعض لاحظ المعنى الأعم، و
جعل الثلاثة في كتاب واحد، وقسمه إلى الأقسام الثلاثة كالمحقق في الشرايع، و
العلامة في الإرشاد وغير هما في غير هما، وعلى هذا النهج جرينا في هذا الكتاب،
وحينئذ فالبحث في هذا الكتاب يقع في مقاصد ثلاثة الأول في الضمان بالمعنى
الأخص وهو التعهد بالمال من البرئ وفيه بحوث ثلاثة:
الأول في الضامن: والكلام فيه يقع في مواضع، أحدها لا خلاف في أنه
يشترط في الضامن جواز التصرف المالي، فلا يصح ضمان ولا المجنون، بل
الغافل والساهي أيضا، والظاهر أنه لا خلاف فيه كما ذكره بعضهم، الظاهر أن السفيه
المحجور عليه لسفهه كذلك، وبه صرح في التذكرة وغيرها.
وأما المملوك فإن ضمن بغير إذن سيده ففي صحته قولان: أحدهما وبه
قطع المحقق في الشرايع من غير نقل خلاف العدم، وهو قول الشيخ ابن الجنيد،
واستدلوا عليه بأن العبد لا يقدر على شئ كما وصفه الله تعالى (1) وذمته مملوكة
للمولى، فلا يملك اثبات شئ فيها إلا بإذنه.
وقيل: بالصحة، واختاره العلامة في المختلف، وقربه في التذكرة، وعلل
بانتقاء الضرر على المولى، لأن استحقاق المطالبة له بما يستقر في ذمته بعد العتق
لا ضرر فيه، كما لو استدان بغير إذن سيده، وأجاب في المختلف عن الآية بأن المراد
بالشئ المال، لقوله في مقابلته: " ومن رزقناه منا رزقا حسنا " والمسألة محل
توقف واشكال، وإن كان ضمانه بإذن سيده، فإنه يصح اجماعا كما ذكره العلامة في
المختلف.

(1) سورة النحل الآية 75.
4

لكن بقي الكلام في أنه لو أطلق له الإذن ولم يشترط له الأداء من كسبه،
ولا الصبر إلى أن يعتق، فهل يتعلق بذمته أم بكسبه، قولان: قال في المبسوط:
قيل: إنه يتعلق بكسبه، وقيل: إنه يتعلق بذمته، وأن عينه في ذمته أو كسبه أو
غيرهما من أمواله تعين، ووجب قضاؤه، ولم يرجح الشيخ هنا شيئا من القولين
المذكورين، وعلل القول الأول بأن اطلاق الضمان أعم من كل منهما، والعام لا يدل
على الخاص، فلم يقع من المولى ما يدل على التزامه في ملكه، وكسبه ملكه، و
لأن الإذن في الكلي ليس إذنا في الجزئي المعين، وإن كان لا يوجد إلا في ضمنه
كما حقق في الأصول، وعلل القول الثاني بأنه إنما يتعلق بكسبه، لأن اطلاق
الضمان إنما يحمل على الضمان الذي يستعقب الأداء فإنه المعهود، والأداء من غير
مال السيد يمتنع، وكذا في مال غير الكسب، وإلا لكان هو الضامن لا العبد، وهو
خلاف التقدير فيكون في كسبه، قال في المسالك: والبحث في ذلك قريب مما لو
أذن له في الاستدانة فينبغي ترتب قول ثالث، وهو أن الضمان يتعلق بالمولى و
لا يختص بكسب العبد، ولعله أقوى. انتهى.
أقول: هذا القول الثالث مستقر على حمله هذه المسألة على مسألة الإذن في
الاستدانة، فإنه لا اشكال في كون ذلك على السيد، وسواء كان الاستدانة للعبد أو
السيد كما تقدم تحقيقه في كتاب الديون، وحينئذ فيتجه هنا هذا القول الثالث بناء
على ذلك، وهو قريب من حيث الاعتبار، لأن الإذن في الضمان في معنى الإذن في
الاستدانة، إلا أن المسألة لخلوها من النص بجميع شقوقها محل اشكال. والله العالم
الثاني هل يشترط علم الضامن بالمضمون له، والمضمون عنه، ومعرفتهما
بنسبهما أو وصفهما، قيل: نعم، وقيل: لا يشترط، وقيل: يشترط معرفة المضمون عنه
دون معرفة المضمون له، والقول الأول للشيخ في المبسوط، والثاني له أيضا في
الخلاف، وهو اختيار المحقق في الشرايع، والشهيد، والعلامة في غير المختلف،
والشهيد الثاني في المسالك وجماعة، والثالث للعلامة في المختلف، وعلى القول
5

الثاني فإنه وإن لم يشترط المعرفة على الوجه المتقدم، لكن يشترط عندهم أن يمتاز
المضمون عنه عند الضمان بما يصح معه القصد إلى الضمان عنه.
استدل العلامة في المختلف على اشتراط معرفة المضمون عنه قال: لنا إن
المضمون عنه لا بد وأن يتميز عند الضامن، ويتخصص عن غيره ليقع الضمان عنه،
وذلك يستدعي العلم به.
وما رواه أبو سعيد الخدري (1) " قال كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في جنازة فلما وضعت قال (صلى الله عليه وآله): هل على صاحبكم من دين؟
قالوا: نعم، درهمان، فقال: صلوا على صاحبكم، فقال علي (عليه السلام): هما على
يا رسول الله وأنا لهما ضامن، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلى عليه،
ثم أقبل على على فقال: جزاك الله عن الاسلام خيرا، وفك رهانك كما فككت رهان
أخيك ".
وروى جابر بن عبد الله (2) " أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان لا يصلي على
رجل عليه دين فأتى بجنازة فقال: هل على صاحبكم دين؟ فقالوا: نعم ديناران،
فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة هما على يا رسول الله قال: فصلى عليه فلما
فتح الله على رسوله، قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك مالا فلورثته، و
من ترك دينا فعلي ".
وهما يدلان على صحة الضمان مع عدم العلم بالمضمون له، ثم قال: احتج
الشيخ في الخلاف بالحديثين، " فإن النبي صلى الله عليه وآله " لم يسأل عليا (عليه
السلام) ولا أبا قتادة عن صاحب الدين ولا الميت، فلا يشترط علمهما وعلى قوله في
المبسوط بأنه يشترط معرفة المضمون له ليعرف هل هو سهل المعاملة أم لا، ومع
انتقاء ذلك يتطرق الغرر، ومعرفة المضمون عنه لينظر هل يستحق بذلك عليه أم لا.

(1) الوسائل ج 13 ص 151 الباب 3 من أبواب أحكام الضمان الرقم 2.
(2) الوسائل ج 13 ص 151 الباب 3 من أبواب أحكام الضمان الرقم 3.
6

ثم قال: والجواب عن الأول القول بالموجب في المضمون له، وأما المضمون
عنه فإنه متعين لتسثخصه، وحضوره عنده ولا يشترط علمه بنسبه ولا حاله، والغرر
ليس بمعتبر، إذ لا يشترط علمه حال الضمان بحسن معاملة المضمون له، وعدمه، و
إن علمه بعينه اجماعا فلو كان الغرر معتبرا كان العلم بهذا الوصف شرطا، وليس
كذلك بالاجماع انتهى.
أقول: وبذلك علم حجج هذه الأقوال المذكورة في المقام، وهي عند التحقيق
لا اعتماد عليها في تأسيس الأحكام، أما قوله لنا: إن المضمون عنه إلى آخره، ففيه
أولا أنه مصادرة محضة، لأن هذا عين المدعى، ومع تسليمه فإنه يكفي التميز بوجه ما،
كما اعترف به القائلون بعدم الاشتراط بالنسبة إلى المضمون عنه، وبه يظهر ضعف
قوله وذلك يستدعي العلم به.
وأما الخبران المذكوران فإنهما وإن ذكرهما الشيخ في الخلاف، إلا أن
الظاهر أنهما من روايات العامة، فإنهم كثيرا ما يستسلفون رواياتهم، ولا سيما الشيخ
في الكتاب المذكور، فلا تقوم بهما حجة، ومع تسليم صحتهما فهما بالدلالة على
العدم في كل من المضمون له، وعنه أقرب، كما ذكره الشيخ في الخلاف،
حيث استدل بهما على ذلك بالتقريب الذي تقدم نقله عنه. (1)
وأما ما استدل به الشيخ في المبسوط فهو أظهر ضعفا من أن يتعرض لبيانه،

(1) أقول: هذان الخبران وإن لم ينقلا في كتب أخبارنا، لكن في بعض الأخبار، ما يشير
إلى ذلك، كصحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أنه ذكر لنا أن
رجلا من الأنصار مات وعليه ديناران دينا فلم يصل عليه النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: صلوا
على صاحبكم حتى ضمنهما عنه بعض قرابته فقال أبو عبد الله (عليه السلام) ذلك الحق، ثم قال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما فعل ذلك ليتعظوا وليرد بعضهم على بعض، ولئلا يستخفوا
بالدين. الحديث. الوسائل ج 13 ص 79 الباب 2 من أبواب الدين والقرض الرقم 1. وقد
تقدم في صدر كتاب الدين منه رحمة الله.
7

ولو صح بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات الواهية لاتسع المجال و
الكلام في تشريع الأحكام مع استفاضة النصوص عن ذوي الخصوص بالمنع من القول
فيها إلا بما ورد عنهم (عليهم السلام) وإلا فالسكوت، وما أجاب به في المختلف عن
حجة المبسوط بالنسبة إلى المضمون عنه بأنه متعين لتشخصه وحضوره عنده إنما
يتم بالنسبة، إلى مورد الخبرين، والمدعى أعم من ذلك.
وبالجملة فإن الاعتماد في تأسيس الأحكام على مثل هذا الكلام مجازفة محضة
في أحكام الملك العلام، والعجب منهم (رضوان الله عليهم) أنهم يطعنون في الأخبار
المتفق على روايتها في الأصول المشتهرة المعتمدة، بناء على الاصطلاح المحدث،
ويعولون هنا على نقل هذه الروايات الواهية التي هي كبيت العنكبوت، وأنه لأوهن
البيوت مضاهية.
وبذلك يظهر لك أن الأصح من هذه الأقوال هو القول بعدم الاشتراط مطلقا، و
مما يدل صريحا على عدم معرفة المضمون له ما رواه في الكافي عن فضيل وعنبيد (1)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: لما حضر محمد بن أسامة الموت دخل عليه
بنو هاشم فقال لهم: لد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم، وعلى دين فأحب أن تقضوه
عني، فقال علي بن الحسين (عليهما السلام) ثلث دينك على، ثم سكت وسكتوا، فقال
علي بن الحسين (عليهما السلام) على دينك كله، ثم قال علي بن الحسين (عليهما السلام)
أما أنه لم يمنعني أن أضمنه أو لا إلا كراهة أن يقولوا: سبقنا " وهذا الخبر كما أنه
يدل على عدم اشتراط معرفة المضمون له، وكذلك يدل على عدم اشتراط معرفة قدر
الدين، وسيأتي الكلام فيه انشاء الله تعالى، والأصحاب القائلون بعدم الاشتراط
مطلقا عللوا عدم اعتبار العلم بالمضمون عنه بأن الضمان وفاء دين عنه، وهو جايز
عن كل مديون.
وأما المضمون له فإن اعتبر القبول لفظا كما هو مقتضى العقد اللازم،
8

اقتضى ذلك تميزه وإن لم يعتبر، فإنه لا يعتبر العلم به.
أقول: الأظهر في الاستدلال على ذلك هو التمسك بأصالة العدم حتى يقوم
دليل على الاشتراط في المضمون عنه، أو المضمون له.
وأما اعتبار القبول وأنه لا بد من عقد يشتمل عليه فقد عرفت من الخبر المذكور
ما يدفعه، فإنه (عليه السلام) بمجرد اخبار محمد المذكور أن عليه دينا ضمنه من
غير فحص، ولا علم بصاحب الدين بالكلية، ولا علم بقدر الدين، وكذلك يؤيده الخبران
المتقدمان هذا.
وأما ما ذكره القائلون بهذا القول - من اشتراط امتياز المضمون عنه عند
الضامن ليصح معه القصد إلى الضمان عنه كما قدمنا نقله عنهم.
فقيل: إن وجهه أن الضمان يتوقف على القصد، وهو متعلق بالمضمون عنه
والحق، فلا بد من تميزه بوجه تزول عنه الجهالة ليمكن القصد إليه.
وأورد عليه بأنه يشكل بمنع توقف القصد على ذلك، فإن المعتبر القصد إلى
الضمان، وهو التزام المال الذي يذكره المضمون له في الذمة، وهو غير متوقف
على معرفة من عليه الدين، والدليل إنما دل على اعتبار القصد في العقد، لا في من
كان عليه الدين، فلو قال شخص مثلا: إني استحق في ذمة شخص مئة درهم، فقال له
آخر: ضمنتها لك، كان قاصدا إلى عقد الضمان، على أي من كان الدين عليه، ولا
دليل على اعتبار ما زاد عن ذلك.
وإلى ذلك مال في التذكرة حيث قال: " وهل يشترط معرفة ما يميزه عن
غيره؟ الأقرب العدم، بل لو قال: ضمنت الدين الذي لك على من كان من الناس
جاز. نعم لا بد من معرفة المضمون عنه بوصف يميزه عند الضامن، بما
يمكن القصد معه إلى الضمان عنه، لو لم يقصد الضمان عن أي من كان. انتهى
أقول: ما حكموا به من صحة الضمان وثبوته في هذه الصورة بمعنى على أي
من كان من الناس لم أقف فيه على نص يدل عليه، أو يشير إليه، والمفهوم من الروايات
9

الواردة في هذا الباب إنما هو اعتبار معرفة المضمون عنه ولو بوجه ما، والحكم
بالصحة فيما ذكروه يتوقف على الدليل، لأن الأصل براءة الذمة، والحكم باشتغالها
يحتاج إلى دليل واضح، والر كون إلى هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة كما
عرفت، ودعوى العموم في بعض روايات الضمان - على وجه يشتمل هذه الصورة -
ممنوعة، وبذلك يظهر أن الأظهر في الاحتجاج على اعتبار ذلك أنما هو كونه هو
الوارد في النصوص، لا ما عللوا به من القصد الذي تطرقت إليه هذه المناقشة.
والله العالم.
الثالث - المشهور عند الأصحاب اشتراط رضا المضمون له في صحة الضمان،
وعللوه بأن حقه يتحول من ذمة غريمه إلى ذمة الضامن، والناس يختلفون في حسن
المعاملة وسهولة القضاء، فلو لم يعتبر رضاه لزم الضرر والغرر، ونقل عن الشيخ قول
بعدم اشتراط رضاه، محتجا بأن عليا (عليه السلام) وأبا قتادة ضمنا الدين عن الميت،
ولم يسأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن رضا المضمون له، وأجيب بأنها واقعة لا عموم
لها، وأن ذلك أنما يدل على عدم بطلان الضمان قبل علمه ورده، ونحن نقول بموجبه،
لأنه صحيح، ولكن لا يلزم إلا برضا المضمون له.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الاسلام
والشيخ نور الله تعالى مرقديهما عن عبد الله بن سنان (1) في الصحيح " عن أبي عبد الله
(عليه السلام) في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء، فقال: إذا رضي
به الغرماء فقد برئت ذمة الميت ".
ورواه في الفقيه (2) عن الحسن بن محبوب عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله، والحسن بن صالح زيدي ضعيف، والخبر المذكور
ظاهر في الدلالة على القول المشهور، وبه استدل جملة من أصحابنا المتأخرين من
غير أن ينقلوا له معارضا في ذلك، مع وجود المعارض في الأخبار، بل تعدده كما

(1) التهذيب ج 6 ص 187 ح 17 وفروع الكافي ج 5 ص 99 ح 2
(2) الفقيه ج 3 ص 116 ح 33
10

ستقف عليه.
ومثل هذا الخبر قول الرضا (عليه السلام) في كتاب فقه الرضوي (1) حيث
قال (عليه السلام): " وإن كان لك على رجل مال، وضمنه رجل عند موته وقبلت
ضمانه فالميت قد برء وقد لزم الضامن رده عليك ".
ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن إسحاق بن عمار (2) عن أبي
- عبد الله (عليه السلام) في الرجل يكون عليه دين فحضره الموت فيقول وليه: على
دينك قال: يبرئه ذلك، وإن لم يوفه وليه من بعده، وقال: أرجو أن لا يأثم، وإنما
إثمه على الذي يحبسه،
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن الجهم في الموثق " قال: سألت
أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل مات وله على دين، وخلف ولدا رجالا ونساءا و
صبيانا، فجاء رجل منهم فقال: أنت في حل مما لأبي عليك من حصتي وأنت في حل
مما لإخوتي وأخواتي، وأنا ضامن لرضا هم عنك، قال: تكون في سعة من ذلك وحل،
قلت فإن لم يعطهم؟ قال: كان ذلك في عنقه، قلت: فإن رجع الورثة على فقالوا: اعطنا
حقنا، فقال: لهم ذلك في الحكم الظاهر، فأما بينك وبين الله عز وجل فأنت منها في حل
إذا كان الرجل الذي أحل لك يضمن لك عنهم رضاهم فيحتمل الضامن لك " الحديث (3)
والخبران المذكوران ظاهرا الدلالة، صريحا المقالة، ولا سيما الثاني في
صحة الضمان ولزومه، من غير توقف على رضا المضمون له، فإن الثاني صريح في
أنه مع عدم الرضا، فإن الضمان لازم، وقد ذكرنا في هذا الخبر جملة من الفوايد

1 المستدرك ج 2 ص 491 2 التهذيب ج 6 ص 188 ح 22
3 فروع الكافي ج 7 ص 25 كتاب الوصايا ح 7، وفي التهذيب ج 9 ص 167 كتاب
الوصايا ح 28 إذا كان الرجل الذي حللك يضمن عنهم رضاهم فيحتمل لما ضمن لك، وفي
الوسائل ج 13 ص 152 الباب 4 من أبواب أحكام الضمان إذا كان الرجل الذي حللك
يضمن عنهم رضاهم فيحمل لما ضمن لك.
11

الزايدة على محل الاستدلال في كتاب الديون.
ويدل على ذلك أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن حبيب الخثعمي و
الصدوق في الفقيه عن ابن أبي عمير عن حبيب الخثعمي عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" قال: قلت له: الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه بغير إذن صاحبه قال: لا
يأخذ إلا أن يكون له وفاء قال: قلت أرأيت إن وجدت من يضمنه ولم يكن له وفاء
وأشهد على نفسه الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال: نعم ". (1)
وهو كما ترى أيضا ظاهر في صحة الضمان من غير اشتراط رضا المضمون له،
والمراد من الخبر أن الضامن أشهد على نفسه بأنه ضامن، ينبغي تقييده بملائة الضامن
أيضا، وحمله على ذلك.
ولم أقف على من تعرض لنقل هذه الأخبار في المقام، فضلا عن الجواب عنها
سوى صاحب الكفاية، فإنه نقل موثقة إسحاق بن عمار، وأجاب عنها بأنها تضعف عن
مقاومة الخبر الصحيح المعتضد بالشهرة بين الأصحاب، وهو كما ترى، مع أن المخالفة
غير منحصرة في الموثقة المذكورة كما عرفت، والمسألة عندي محل توقف واشكال،
لعدم معلومية ما يجمع به بين هذه الأخبار. (2)
1 (في الوسائل ج 13 ص 232 كتاب الوديعة الباب 8 قال: قلت.. بغير إذن
فقال.. أرأيت أن وجد من.. الخ) (وفي من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 194 ح 4) (وفي التهذيب ج 7 ص 180 ح 5 كتاب الوديعة).
2 والعجب من المحدث الكاشاني في المحجة حيث أنه ممن اختار القول المشهور
فقال: بعد ذكر المسألة خلافا للشيخ في أحد قوليه للخبر وهو قاصر الدلالة، والظاهر
أنه أشار بالخبر إلى موثقة إسحاق بن عمار ولا أدري بما أراد من قصور الدلالة مع أنها
واضحة الدلالة على القول المذكور فإن ظاهرها أنه بمجرد قول وليه على دينك، تبرء ذمة
المضمون عنه من الدين، وتنتقل إلى ذمة الولي المذكور، من غير توقف على العلم بالمضمون له،
فضلا عن رضاه بذلك، وأخرج منها رواية الحسين بن الجهم كما عرفت. منه رحمه الله.
12

ثم إنه بناء على القول المشهور من اشتراط رضا المضمون له فهل المعتبر
مجرد رضاه كيف اتفق ولو مع التراخي؟ أم لا بد من كونه بصيغة القبول، قولان:
استجود في المسالك الثاني، قال: لأنه عقد فلا بد فيه من القبول، ولا صالة بقاء ما
كان من شغل ذمة المضمون عنه وسلامة ذمة الضامن، انتفاء حق المضمون له إلى
أن يتحقق المزيل، وحينئذ فيعتبر فيهما يعتبر في ساير العقود من التواصل المعهود
بين الإيجاب والقبول، وكونه بلفظ الماضي واللفظ العربي، لأنه من العقود اللازمة.
ثم قال: ووجه العدم قصة علي (عليه السلام) وأصالة عدم الاشتراط، ومخالفته
لغيره من العقود المملكة، لأن الضمان لا يثبت ملكا جديدا وإنما يتوثق به الدين
الذي كان مملوكا، وفيه أن استحقاق المضمون له عند الضامن حقا ضرب من التملك
ثم ينتقض بالرهن، فإنه فائدته التوثق مع اشتراطه فيه انتهى.
أقول جميع ما ذكره وأطال به لا يخرج عن مجرد الدعوى، ولم أره استند
إلى دليل يدل عليه ولا برهان يلجأ إليه إلا التمسك بأصالة بقاء شغل ذمة المضمون عنه،
وعدم شغل ذمة الضامن، وفيه أنه وإن كان الأمر كذلك لكن يجب النظر في الدليل
المخرج عن ذلك من الأخبار الواردة في هذا المضمار، لا مجرد الدعاوى العارية
عن الاعتبار.
وأنت خبير بأنه لم يرد في الأخبار مما يدل على اشتراط رضا المضمون له
إلا صحيحة عبد الله بن سنان، وقوله " فيها إذا رضي به الغرماء فقد برئت ذمة الميت "
وظاهر ها بل صريحها هو توقف ذلك ما يدل على الرضا بأي لفظ كان، بل بغير
لفظ أيضا، وفي معناها عبارة كتاب الفقه الرضوي، ومن أين يفهم من ذلك اشتراط
كونه عقدا مشتملا على الإيجاب والقبول بهذه الاعتبارات التي أطال بها، مضافا إلى
ما عرفته في كتاب البيع من عدم دليل على هذه الأمور المذكورة، بل قيام الدليل
على خلافها، وهو ممن وافق على ذلك ثمة، على أنك قد عرفت من الروايات الثلاث
التي أوردناها أنه يكفي في حصول الضمان - وانتقال المال إلى ذمة الضامن - قوله
13

" على دينك أو أنا ضامن لرضاهم عنك "، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على ذلك،
وبالجملة فإن كلامه هنا بمحل من الضعف الذي لا يخفى على المنصف والله العالم.
الرابع: ظاهر جملة من الأصحاب إن رضي المضمون عنه غير شرط في صحة
الضمان، بل يظهر من المسالك أن ذلك موضع وفاق، حيث قال بعد قول المصنف:
- ولا عبرة برضا المضمون عنه، لأن الضمان كالقضاء، هذا موضع وفاق، ولأن أداء
الدين كما يجوز بغير إذنه فالتزامه في الذمة أولى، ولصحة الضمان عن الميت كما مر
في واقعة المصلى عليه ولا يتصور رضاه. انتهى
وأشار بالواقعة المذكورة إلى حديثي علي (عليه السلام) وأبي قتادة المتقدمين.
أقول: ما نقله هنا من الاتفاق على الحكم المذكور ينافيه ما نقله في المختلف
عن الشيخ أنه قال في النهاية: متى تبرع الضامن من غير مسألة المضمون عنه، وقبل
المضمون له ضمانه، فقد برء عهدة المضمون عنه، إلا أن ينكر ذلك ويأباه، فيبطل
ضمان المتبرع، ويكون الحق على أصله لم ينتقل عنه بالضمان، ثم نقل عن ابن البراج
أنه قال: إذا تبرع انسان بضمان حق ثم أنكر المضمون عنه ذلك كان الحق باقيا في
جهته، لم ينتقل إلى المتبرع بضمان ذلك، قال: وهذا يوافق قول الشيخ من اعتبار
رضى المضمون عنه في الضمان، وبه قال ابن حمزة، وقول شيخنا المفيد رحمه الله
في المقنعة، ثم نقل عن ابن إدريس أنه لا يعتبر رضى المضمون عنه، بل يلزم الضمان
مع رضى الضامن والمضمون له، قال: وهو مذهب والدي رحمه الله، ثم استدل على
ذلك فقال: لنا قوله (عليه السلام) (1) " الزعيم غارم " وما رواه داود الرقي (2) في
الصحيح عن الصادق (عليه السلام) قال: مكتوب في التوراة " كفالة ندامة غرامة "
ولأنه كالقضاء فلا خيار له كما لو قضى عنه. انتهى
ومنه يظهر ما في دعوى الاتفاق مع ظهور خلاف هؤلاء الأجلاء والقائلون

(1) المستدرك ج 2 ص 497
(2) الوسائل ج 13 الباب من أبواب الضمان ص 155 ح 5.
14

بعدم اشتراط رضى المضمون عنه، قالوا: تفريعا على ذلك: بأنه لو أنكر المضمون عنه
بعد الضمان لم يبطل الضمان، وعللوه بأنه لا أثر له، فإنه إذا لم يعتبر رضاه ابتداء
فلا عبرة بإنكاره بعده، ثم نقلوا هنا خلاف الشيخ وجماعة حيث حكموا ببطلانه بعد
انكاره، وردوه بأنه ضعيف جدا.
أقول: إن الشيخ إنما حكم هنا ببطلان الضمان بالانكار تفريعا على قوله
باشتراط رضى المضمون عنه في صحة الضمان، مع أنهم لم ينقلوا خلافه هناك، بل
ادعوا الاتفاق، وهو يشعر بموافقة الشيخ لهم في تلك المسألة، وتخصيص مخالفته
بهذه، ومن ثم نسبوه إلى كونه ضعيفا جدا.
وأنت خبير بأنا لم نجد لهم دليلا شافيا على ما ادعوه من عدم اشتراط رضى
المضمون عنه في صحة الضمان، إلا ما يذكرونه من جواز أداء الدين عنه بغير رضاه،
وغاية ما يستند إليه هنا في أداء الدين حديث الضمان عن الميت، حيث أنه لا يتصور
الرضا أو عدمه من الميت.
وما ادعوه من جواز أداء الدين عن الحي وبرائة ذمته مع عدم رضاه بذلك
لم نقف له على دليل ومع وجود الدليل عليه فحمل الضمان على ذلك قياس، وإن
كان مما يرجع إليه بنوع من الاعتبار والاستناد إلى الضمان عن الميت أو الأداء عنه
غير دال على ما نحن فيه، لظهور الفرق بين الحي والميت، فهو قياس مع الفارق،
وما ذكره العلامة من الدليل عليل لا يهدي إلى سبيل وبالجملة فالمسألة لما عرفت
محل اشكال.
الخامس: الظاهر أنه لا خلاف في أنه متى تحقق الضمان على الوجه المعتبر
شرعا انتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، وبرء المضمون عنه من
حق المضمون له، وإنما يبقى الحق في ذمة الضامن إذا كان الضمان بإذنه دون ما إذا
كان تبرعا وخالف كافة العامة في ذلك حيث قالوا: بأن الضمان غير ناقل، وإنما هو
ضم ذمة إلى ذمة، فللمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه.
15

ويدل على القول المذكور مضافا إلى اتفاق الأصحاب (رضوان الله عليهم)،
صحيحة عبد الله بن سنان، وموثقة إسحاق بن عمار، وموثقة الحسين بن الجهم المتقدمات،
فإنها صريحة في خلو ذمة المضمون عنه، وانتقال المال إلى ذمة الضامن، فعلى هذا
لو أبرأ المضمون له ذمة المضمون عنه لم يفد شيئا، بل كان لغوا وذلك لأنك قد عرفت
أنه بالضمان انتقل المال إلى ذمة الضامن، وبرئت ذمة المضمون عنه من حق المضمون له،
فهذا الابراء لم يصادف محلا لأنه غير مشغول الذمة له.
نعم لو أبرأ ذمة الضامن برئا جميعا، أما الضامن فلأنه مشغول الذمة له، فإذا
أبرئه برئت ذمته، وأما المضمون عنه فلأن الضامن لا يرجع عليه إلا بما أداه عنه، و
هو هنا لم يؤد عنه شيئا، فلا يرجع إليه بشئ، وخالف الجمهور في ذلك، فقالوا:
إن كل واحد من الضامن والمضمون عنه ذمته مشغولة، فإذا أبرأ المضمون له
المضمون عنه فقد أبرأ الضامن، لسقوط الحق كما لو أدى المال، ولو أبرأ الضامن
لم يبرء المضمون عنه، لأن الضامن عندهم كالوثيقة فلا يلزم من سقوطها سقوط الدين
كفك الرهن.
والحكم المذكور اتفاقي بين أصحابنا كما ذكره في التذكرة: حيث ادعى
اجماع علمائنا على ذلك، والمحقق في الشرايع نسبه إلى قول مشهور، وربما كان فيه
اشعار بوجود مخالف منا، أو إشارة إلى عدم تحقق الاجماع المدعى.
السادس: قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يشترط في الضامن الملاءة أو
العلم باعساره والمراد أنه شرط في اللزوم لا في الصحة فلو ضمن ثم بأن اعساره كان
للمضمون له الفسخ، قالوا: لأن عقد الضمان مبني على الارتفاق، فإذا فات هذا المقصود
ثبت للمضمون له الخيار بين الصبر على الضامن، وبين فسخ العقد والرجوع على
المضمون عنه.
وهل الخيار هنا على الفور أم لا لم أقف فيه على كلام لهم، والأصل يقتضي
16

امتداده إلى أن يثبت المزيل، والمراد بالملاءة المشترطة في الضامن أن يكون مالكا
لما يؤدي به الدين فاضلا عن المستثنيات في البيع، وإنما تعتبر الملاءة ابتداء لا استدامة
فلو كان مليا وقت الضمان ثم تجدد عدمها قبل الأداء لم يبطل الضمان، ولم يجز له
الفسخ، لحصول الشرط حين الضمان.
ولم يحضرني الآن خبر في المقام إلا ما رواه ثقة الاسلام في الكافي والشيخ في
التهذيب عن عيسى بن عبد الله قال احتضر عبد الله بن الحسن ورواه في الفقيه مرسلا
قال: " وروي أنه احتضر عبد الله بن الحسن فاجتمع إليه غرماؤه فطالبوه بدين لهم فقال
لهم: ما عندي ما أعطيكم ولكن ارضوا بمن شئتم من أخي وبني عمي علي بن الحسين
أو عبد الله بن جعفر فقال الغرماء: أما عبد الله بن جعفر فملي مطول، وأما علي بن الحسين،
فرجل لا مال له صدوق وهو أحبهما إلينا، فأرسل إليه فأخبره الخبر فقال عليه السلام:
أضمن لكم المال إلى غلة ولم تكن له غلة فقال القوم: قد رضينا وضمنه فلما أتت
الغلة أتاح الله عز وجل له المال فأداه ". (1)
والخبر مع ضعف سنده وعدم اسناده إلى الإمام (عليه السلام) لا دلالة فيه على
محل البحث، وظني أن الأصحاب لو جعلوا الشرط هنا رضا المضمون له بالضامن،
وقبوله له مليا كان أو غير ملي لكان أظهر، فإن مجرد الملاءة مع حصول المطل كما
تضمنه هذا الخبر لا تفيد فائدة في ترتب الأثر عليها.
وبالجملة فإن اشتراطهم رضا المضمون له كما هو المشهور بينهم بالضمان
والضامن كاف عن هذا الشرط هنا، مع أنه لا دليل عليه إلا ما ذكروه من التعليل الذي
يحصل بالرضا بالضامن، إلا أنك قد عرفت اختلاف الأخبار في ذلك، وأن أكثر
الأخبار ظاهر في العدم. والله العالم

(1) الكافي ج 5 ص 97 باب قضاء الدين ح 7 وفي التهذيب ج 6 ص 211 ح 12
وفي من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 55 باب الحوالة حديث 2 (ولا يخفى أن في النسخ
اختلافا جزئيا) وفي الوسائل ج 13 ص 152 ح 1.
17

السابع - الحق المضمون إما أن يكون حالا أو مؤجلا، ثم إنه إما أن يضمنه
الضامن حالا أو مؤجلا، وعلى تقدير ضمان المؤجل مؤجلا، إما أن يكون الأجل
الثاني مساويا للأول، أو أنقص أو أزيد، وعلى التقادير إما أن يكون الضمان تبرعا،
أو بسؤال المضمون عنه، فالصور اثني عشرة، وقد صرح جملة من محققي المتأخرين
ومتأخريهم بأنها كلها جايزة، للأصل، وعموم دلائل مشروعية الضمان، وتحقق
الغرض المطلوب منه في الجميع، ولأنه كالقضاء عن المدين، وبعض هذه الصور
اجماعي، وبعضها محل خلاف، إلا أن محل الخلاف في كلامهم غير محرر.
وظاهر كلام المحقق في الشرايع أن الضمان المؤجل جائز اجماعا، وفي
الحال تردد أظهره الجواز، والمراد من الثاني الذي هو محل التردد عنده ما لو كان
الدين مؤجلا فضمنه الضامن حالا.
والمنقول عن الشيخ وجماعة منه الضمان هنا، لأن مبنى عقد الضمان على
الارفاق، وتسهيل الأمر على المضمون عنه، والضمان في هذه الصورة ينافي الغرض
المذكور، لأن الدين مؤجل والضامن يريد أن يضمنه حالا، ويرجع به على
المضمون عنه، ووجه آخر وهو أن ثبوت المال في ذمة الضامن فرع ثبوته في ذمة
المضمون عنه، والفرع لا يكون أقوى من الأصل، (1) والقائلون بالصحة أجابوا
عن ذلك بأن المنتقل بالضمان هو الدين، وأما الأجل فإذا أسقطه المديون وأدى
المال حالا جاز، فكذا إذا سأل الضمان كذلك، لأن الضامن أنما ضمن كذلك بإذنه
وسؤاله، فهو في معنى الاسقاط له، لكنه لا يرجع على المضمون عنه الأبعد تمام

(1) قال في المبسوط: إذا ضمن المؤجل حالا الأقوى أنه لا يصح، لأنه لا يجوز أن يكون الفرع أقوى من الأصل، قال في المختلف: بعد نقل ذلك عنه: الوجه عندي الصحة،
ولا نسلم تحقق القوة هنا، فإنه يجوز للمضمون عنه دفع المال معجلا كذا يجوز الضمان معجلا،
فإن الضمان كالقضاء إذا ثبت هذا، فإذا ضمن حالا لم يكن له الرجوع على المضمون عنه،
إلا بعد الأجل وإن أخذ منه المال حالا انتهى. منه رحمه الله
18

الأجل، وإن أداه حالا بمقتضى الضمان، ولو كان الضامن متبرعا بالضمان فأولى بعدم الاشتراط، إذ لا رجوع له على المضمون عنه فيكون في معنى ما لو أدى عنه
دينه المؤجل قبل الأجل، وهو جائز.
ومن ذلك يظهر أن الجواز هو الأقوى وفي هذه الصورة أعني صورة الضمان
حالا صورة أخرى، وهي ما إذا كان الدين حالا، وسيأتي الكلام فيها في المقام.
إن شاء الله تعالى.
وأما الصورة الأولى مما نقلناه من كلام المحقق وهي قوله إن الضمان المؤجل
جايز اجماعا فهي شاملة لجملة من الصور، منها ما لو كان الدين حالا فضمنه مؤجلا،
وهذه الصورة مجمع عليها، ودعواه الاجماع هنا في محله، والتعليل بالارتفاق و
تسهيل الأمر على المضمون عنه هنا متجه، لأن الدين حال وبالضمان صار مؤجلا،
قالوا: وليس هذا تعليقا للضمان على الأجل، بل تأجيل للدين الحال في عقد لازم، (1)
ومن حكم هذه الصورة أن المضمون عنه لا يطالب قبل حلول الأجل.
أما من المضمون له، فلأنه لا طلب له عليه، لانتقال حقه إلى ذمة الضامن، و
أما من الضامن فلأنه ليس له المطالبة حتى يؤدي ولو كان حالا فمع الأجل أولى و
ليس للمضمون له أيضا مطالبة الضامن قبل حلول الأجل عملا بمقتضى الشرط.
ومن صور تلك الصورة المشار إليها ما لو كان الحق مؤجلا مع قصور أجل
الضمان أو مساواته وتعليل الشيخ والجماعة المانعين من ضمان المؤجل حالا يقتضي
المنع من هاتين الصورتين، لما عرفت من أنهم عللوا ذلك وبه صرح في المختلف و
غيره أيضا بأن الضمان ارفاق، (2) فالاخلال به يقتضي تسويغ المطالبة للضامن،

(1) بمعنى أنه ليس له مطالبة المضمون عنه حتى يؤدي ما ضمنه في صورة حلول الدين،
فكيف في صورة الأجل، فهو بطريق أولى. منه رحمه الله
(2) أما لو كان أجل الضمان أزيد من أجل الحق، فإنه داخل في الاجماع، لأن الأجل
الزائد يحصل فيه الارتفاق المطلوب من الضمان. منه رحمه الله
19

فيتسلط على مطالبة المضمون عنه في الحال، فينتفي فائدة الضمان، وهذا التعليل
بعينه آت في الأجل المساوي والقاصر، ويقتضي أن الضامن لو كان متبرعا لم يضر،
لانتفاء المانع من التسلط على المضمون عنه.
والشيخ فخر الدين منع من ضمان الحال كما ذهب إليه الشيخ، إلا أنه علله
بعلة أخرى قال: لأنه ضمان ما لم يجب، وهذا التعليل يجري في الأجل القاصر عن
أجل الدين، كما هو شامل للحال، ومخرج للمساوي (1) وبالجملة فاطلاق كلام
الشيخ ومن تبعه حيث خصوا المنع بصورة ضمان المؤجل حالا يقتضي ثبوت الاجماع
المدعى في صورة الضمان مؤجلا لما كان حالا أو مؤجلا بجميع أقسامه، وبالنظر
إلى التعليلات يدل على اختصاصه بغير الصورتين المذكورتين، وأما الضمان حالا
فإن كان الدين مؤجلا فقد اتفق المانعون على منعه نصا وتعليلا كذا قيل.
وفيه أن الشيخ فخر الدين من القائلين بهذا القول، وقد تقدم تعليله بغير ما
علل به الشيخ وإن كان حالا، فالشيخ فخر الدين وأتباعه جوزوه لوجوب الحق، و
الشيخ وأتباعه منعوه لعدم الارتفاق. والله العالم.
الثامن: لو ضمن مؤجلا مع كون الدين حالا ثم مات قبل حلول الأجل حل
الدين المذكور، وأخذ من تركته، لما تقدم من أن الميت تحل ديونه المؤجلة
بموته، وهذا من جملة أفرادها، وللورثة حينئذ مطالبة المضمون عنه، لأن الدين
عليه حال كما هو المفروض، ولم يحصل ما يقتضي تأجيله، والمؤجل إنما هو الدين
الذي في ذمة الضامن، لا الذي في ذمته، والضامن إنما امتنع رجوعه عليه في حياته

(1) قال العلامة في المختلف: بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه في الحاشية المقدمة من
نقل كلام الشيخ في المبسوط ورده له: ما صورته وقد استخرج ولدي العزير محمد جعلت
فداه وجها هنا يقوى قول الشيخ رحمه الله، وهو أن الحلول زيادة في الحق، ولهذا يختلف
الأثمان به، وهذه الزيادة غير واجبة على المديون، ولا ثابتة في ذمته، فيكون ضمان ما لم يجب
فلا يصح عندنا انتهى. منه رحمه الله
20

من حيث أنه لا يرجع إلا بعد دفع ما ضمنه وحيث أنه قد مات وحل عليه الدين و
أخذ من تركته زال المانع من مطالبة المضمون عنه، ويأتي مثله أيضا في ما لو
دفع الضامن المال في حياته قبل حلول الأجل باختياره، فإن له الرجوع على
المضمون عنه، لعين ما ذكر.
وهذا بخلاف ما لو كان الدين مؤجلا على المضمون عنه فضمنه الضامن كذلك،
فإنه بحلوله عليه بعد الموت وأخذه من تركته لا يحل على المضمون عنه، لأن الحلول
عليه لا يستلزم الحلول على الآخر كما لا يحل عليه المؤجل لو ضمنه الضامن حالا
على القول بذلك.
التاسع: قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه متى حصل الضمان على
الوجه المعتبر شرعا، فإنه يرجع الضامن على المضمون عنه بما دفعه إلى المضمون له
إن ضمن بإذنه ولو أدى بغير إذنه، ولو ضمن بغير إذنه لم يرجع عليه، وإن أدى بإذنه،
ولو ضمن بإذنه وأدى بإذنه فأولى بالضمان، ولو ضمن بغير إذنه وأدى بغير إذنه فأولى
بعدم الضمان.
وظاهر المحقق الأردبيلي (قدس سره) المناقشة في هذا المقام، حيث قال:
بعد ذكر عدم الرجوع مع عدم الإذن في الضمان ما صورته: وأما الرجوع مع الإذن
في الضمان مع الإذن في الأداء وعدمه ففيه تأمل، إذ الإذن في الضمان والأداء لا يدل
على قبول أداء العوض، بشئ من الدلالات، والأصل عدمه، إلا أن تدل قرينة حال
أو مقال على ذلك، كما في لزوم الأجرة على من أمر شخصا بفعل له أجرة عادة، ولهذا
قال في التذكرة: لو قال: أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع، وكذا لو قال: أعتق عبدك
أو الق متاعك في البحر عند خوف الغرق وعدمه، إلا أن ينضم إليه ما يدل على قبول
العوض، مثل قوله عني في الأولين، وعلى ضمانه وعوضه في الثالث، وبهذا المقدار
يلزم، وهذا دليل على عدم اشتراط الصيغة الخاصة، والمقارنة وغيرهما فافهم، ولي
في اللزوم مع انضمام قوله عني أيضا تأمل، وإن قالوه إلا أن ينضم إليه قرينة، و
21

يعلم من التذكرة الاجماع على الرجوع مع الإذن في مجرد الضمان فتأمل. انتهى
أقول: ويدل على ما ذكره الأصحاب مضافا إلى الاجماع المنقول عن التذكرة
ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسين بن خالد " قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام:
جعلت فداك قول الناس الضامن غارم، قال: فقال: ليس على الضامن غرم، الغرم على
من أكل المال ". (1)
وهو ظاهر كما ترى في رجوع الضامن على المضمون عنه بما اغترمه للمضمون له،
وأنه لا غرم عليه، بمعنى عدم رجوعه على المضمون عنه، ولو صح ما ذكره من عدم
الرجوع للزم حصول الغرم عليه، مع أنه (عليه السلام) قد نفاه عنه، وجعل الغرم
على من أكل المال وهو المضمون عنه، وبالخبر المذكور يجب الخروج عن الأصل
الذي استند إليه، والخبر وإن كان مطلقا إلا أنه محمول على ما إذا كان الضمان بإذن
المضمون عنه.
وما رواه الشيخ بإسناده عن عمر بن يزيد (2) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل ضمن ضمانا ثم صالح على بعض ما صالح عليه قال: ليس له، إلا الذي صالح
عليه " ورواه الكليني عن عمر بن يزيد في الموثق (3) ورواه ابن إدريس في مستطرفات
السرائر من كتاب عبد الله بن بكير عنه (4) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
رجل ضمن عن رجل ضمانا ثم صالح على بعض ما ضمنه فقال قال: ليس له إلا الذي
صالح عليه " وهو أيضا ظاهر في الرجوع، ومحمول على الإذن في الضمان، ولو كان
ما توهمه من عدم الرجوع حقا لنفاه (عليه السلام) ولم يثبت له الرجوع بشئ بالكلية.
وبالجملة فإن كلامه هنا ناش عن عدم الوقوف على شئ من الأخبار المذكورة، وأما

(1) التهذيب ج 6 ص 209 ح 485 و ص 206 ح 4.
(2) التهذيب ج 6 ص 209 ح 485 و ص 206 ح 4.
(3) الكافي ج 5 ص 259 ح 7.
(4) التهذيب ج 6 ص 210 الباب 84 باب الكفالات والضمانات.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 149 الباب 1 و ص 153 الباب 6 من كتاب الضمان.
22

قياسه على لزوم الأجرة فهو - مع كونه قياسا لا يجوز التعويل عليه في الأحكام الشرعية -
قياس مع الفارق، لأنه إن كان ذلك الفعل المأمور به يرجع إلى الأمر بمعنى أنه أمره
أن يفعله له - فإن دعوى عدم استحقاق الأجرة ممنوعة، وإن كان لا كذلك كالأمر
برمي ماله في البحر ونحوه فهو ليس من محل البحث في شئ والفرق بينه وبين
ما نحن فيه ظاهر، والقياس عليه قياس مع الفارق كما ذكرناه. والله العالم
العاشر: لو دفع الضامن للمضمون له عما في ذمته عروضا برء الضامن مما عليه،
وكان له الرجوع مع الإذن في الضمان بأقل الأمرين من قيمة العروض وما تباع به
في السوق، ومما كان في ذمة المضمون عنه، لأن الضامن لا يستحق أكثر مما أدى،
والمضمون عنه لا يؤدي أكثر مما في ذمته ومما أداه الضامن، فلو فرضنا أن الذي في
ذمته كان مئة درهم، والعروض التي دفعها الضامن كانت تساوي خمسين درهما فليس
عليه إلا الخمسين، وكذا لو فرضنا أن العروض كانت تساوي مئة وعشرين فليس عليه
إلا المئة.
أما الأول فلأن الضامن لا يستحق الرجوع بأزيد مما دفعه، ولهذا لو أبرأ
المضمون له لم يرجع بشئ ولو أبرأ عن البعض لم يرجع إلا بالباقي.
وأما الثاني فلأن المضمون عنه لا يجب عليه أداء أكثر مما في ذمته اتفاقا،
وقال ابن الجنيد على ما نقل عنه في المختلف: لو ضمن زيد لعبد الله دينا على عمرو،
فصالح زيد عبد الله عن جملة ضمانه عن عمرو، على ما يجوز التتابع به بينهما، فإن
كان ذلك قبل وجوب الحكم على زيد بالمال الذي ضمنه (1) لم يكن له إلا قيمته،
أو قدر ما أعطاه عبد الله يرجع به على عمرو، وإن كان بعد وجوب الحكم كان له
الرجوع بأصل الحق على عمرو.
وأجاب عنه العلامة فقال لنا: إنه وضع للارفاق، والرجوع بأكثر مما دفع

(1) أقول: الظاهر أن مراده بوجوب الحكم على زيد كناية عن وقت المطالبة ووجوب
الدفع عليه. منه رحمه الله
23

مناف له، فلا يصح ثم قال: احتج بأن الثابت في ذمة الضامن قدر المال، ودفع الأقل
بعد الحكم عليه، وبالأكثر ابتداء عطية من المضمون له للضامن فلا يسقط.
والجواب ما تقدم من منافاة الضمان لذلك، فالحكمة يقتضي عدم الصحة. انتهى
أقول: والأظهر في الجواب هو ما قدمناه سابق هذا الموضع من روايتي (2)
عمر بن يزيد وعبد الله بن بكير الواردتين في الصلح، وأنه ليس له إلا الذي صالح عليه،
وهي مبنية على أنه أقل الأمرين كما هو الغالب، فإن الظاهر من المصالحة هو دفع
ما هو أقل من الحق وتراضي الطرفين عليه، وإلا فلو كان ذلك قدر الحق كان أداء للدين،
ولا يحتاج إلى صلح ولا تراض عليه، والرواية دالة باطلاقها على ذلك، سواء كان قبل
الحكم الذي هو كناية عن المطالبة، والحكم بوجوب الدفع أو بعده، وما ذكره
العلامة طاب ثراه يكون مؤيدا لذلك. والله العالم
الحادي عشر: قال الشيخ في المبسوط: إذا ضمن بإذنه كان له مطالبة المضمون عنه
بتخليصه وإن لم يطالبه المضمون له، وقال أيضا في الكتاب المذكور: إذا ادعى
الضامن الجنون حالة الضمان ولم يعرف له حالة الجنون كان القول قوله، لأن الأصل
براءة الذمة، وكلا الحكمين محل بحث واشكال.
أما الأول فإن ظاهر الأصحاب هو المنع من المطالبة في الصورة المذكورة،
لأنه إنما يرجع عليه بعد الأداء بما يؤديه، والحال أنه هنا لم يؤد شيئا، ولعل المضمون له
يبرؤه من الدين كلا أو بعضا فكيف يتسلط الآن على المطالبة، وأما الثاني فإن
ما استند إليه من أصالة البراءة معارض أيضا بأن الأصل عدم الجنون، والأصل صحة
الضمان فيعارض ما ذكره من الأصل بأحد هذين الأصلين، ويبقى الأصل الثاني سالما
عن المعارض.
الثاني عشر: - قال الشيخ في المبسوط: إذا ضمن رجل عن رجل ألف درهم
وضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز، لأن المضمون عنه أصل للضامن، وهو فرع
للمضمون عنه، فلا يجوز أن يصير الأصل فرعا والفرع أصلا، وأيضا فلا فائدة فيه.
24

قال في المختلف بعد نقل ذلك: والوجه عندي صحة ذلك لوجود المقتضي،
وانتفاء المانع، أما وجود المقتضي فلأن عقد الضمان صدر من أهله في محله، وأما
انتفاء المانع فليس إلا الأصالة والفرعية، وذلك لا يصح للمانعية، لتحقق المال في
ذمة الضامن، وبرائة ذمة المضمون عنه، فيكون كالا جنبي، قوله " لا فايدة فيه " قلنا:
ممنوع لجواز أن يضمن الحال مؤجلا وبالعكس انتهى.
أقول: ظاهر كلام جملة من الأصحاب جواز التسلسل في الضمان، بأن يضمن
ضامن، ثم يضمن عنه آخر، وهكذا، ويصح دوره، كما صرح به العلامة فيسقط بذلك
الضمان، ويرجع الحق كما كان، ولم يخالف في ذلك إلا الشيخ كما عرفت.
ومن فروعه المترتبة عليه أنه لو وجد المضمون له الأصل الذي صار ضامنا
معسرا جاز له الفسخ والرجوع إلى الضامن السابق، ومنها الاختلاف، بأن يضمن
الحال مؤجلا وبالعكس، كما ذكره العلامة، وبه يندفع كلام الشيخ أنه لا فائدة فيه.
وبالجملة فإنه لا مخالف في الحكم المذكور إلا ما تقدم حكايته عن الشيخ،
والعجب هنا من المحقق الأردبيلي حيث ادعى الاتفاق على الحكم المذكور، مع
اشتهار خلاف الشيخ، وتصريح الأصحاب به (1) والله العالم.

(1) حيث إنه (قدس سره) قال بعد قول المصنف وترامى الضمان ما صورته أي
يصح أن يضمن ضامن شخصا ثم يضمنه آخر وهكذا ويسمى التسلسل ويكون حكم كل لاحق
مع سابقه حكم الأولين والظاهر عدم الخلاف عند الأصحاب في ذلك ووجهه ظاهر مما تقدم
وكأنهم يريدون الرد على بعض العامة والظاهر تجويز دوره أيضا عندهم بخلاف العامة. انتهى
ومما ذكرنا يعلم أن الأصحاب إنما أرادوا بما ذكروه الرد على الشيخ كما عرفت، لكنه
لما غفل عن خلاف الشيخ، وظن الاتفاق في الحكم حمل كلامهم على الرد في هذا المقام
على العامة. منه رحمه الله
25

البحث الثاني في الحق المضمون
وفيه مسائل - الأولى يشترط في المال المضمون أن يكون ثابتا في الذمة
وإن لم يكن مستقرا، كالثمن في مدة الخيار فيصح ضمانه، وهذا الضمان قد يكون
للبايع القابض الثمن، فيضمن له عن المشتري على تقدير ظهور كونه مستحقا للغير،
أو على تقدير ظهور عيب فيه، ليرجع بأرشه، وقد يكون ضمانه للمشتري على تقدير
ظهور كون البيع مستحقا للغير ليرجع به، وعلى التقديرين فإنما هو ضمان لعهدته،
لا له نفسه، والفرق بين الضمانين ظاهر من جهة اللفظ والمعنى.
أما الفرق اللفظي فإنه في ضمانه نفسه، يقول ضمنت لك الثمن الذي في ذمة
زيد مثلا، وفي ضمان العهدة يقول ضمنت لك عهدته أو دركه.
وأما المعنوي فإنه بالنسبة إلى ضمانه نفسه يفيد انتقاله إلى ذمة الضامن، كما
عرفت فيما تقدم، وبرائة المضمون عنه، وضمان العهدة ليس كذلك، بل إنما يفيد
ضمان دركه على بعض التقديرات، وفي ضمان المال ليس بلازم، ولكن يؤل إلى
اللزوم كمال الجعالة قبل فعل ما شرط، ومال السبق والرماية على خلاف.
ووجه الصحة - على ما ذكروه - هو أن الجعالة وإن كانت من العقود الجايزة
والمال فيها لا يلزم إلا بتمام العمل، فإن بقي منه شئ وإن قل فليس له شئ إلا أنه
يؤل إلى اللزوم بتمام العمل، وقد وجد سبب اللزوم، وهو العقد فيكون كالثمن في
مدة الخيار،
وأجيب عن ذلك بمنع وجود السبب، فإنه العقد والعمل معا لا العقد وحده،
وإنما هو جزء السبب، ولم يحصل به ثبوت ولا لزوم، حتى أنه لو لم يتم العمل وبقي
منه شئ، فإنه لا يستحق شيئا بما مضى، فيكون الباقي بمنزلة الشرط في استحقاق
الجميع، فكيف إذا كان قبل الشروع في العمل، والفرق بينه وبين الثمن في مدة
الخيار ظاهر، لأن الثمن ثابت في ذمة المشتري - مملوك للبايع، غاية الأمر أنه
26

متزلزل بخلاف الجعالة، فإنها لا ثبوت لها أصلا حتى يكمل الفعل كما عرفت.
نعم يمكن أن يستدل على هذا القول بظاهر قوله عز وجل (1) " ولمن جاء
به حمل بعير وأنا به زعيم " فإن فيها دلالة على جواز ضمان مال الجعالة قبل العمل،
لأنه ضمنه قبل العمل، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على جملة من مسائل الجعالة
والضمان، والظاهر أن ما نحن فيه من قبيل ذلك.
وقطع العلامة في التذكرة بعدم الجواز قبل الشروع في العمل، لأنه ضمان
ما لم يجب، واستقرب الجواز بعد الشروع، هذا بالنسبة إلى الجعالة، وأما مال السبق
والرماية فلا اشكال في جواز ضمانه بعد العمل كما تقدم، وأما قبله، فإنه يبنى على
كونه جعالة أو إجارة، وفيه خلاف سيأتي ذكره انشاء الله تعالى في موضعه، قال
في المسالك: والأقوى أنه عقد لازم كيف كان فيلزم المال فيه بالعقد فيصح ضمانه.
الثانية: اختلف الأصحاب في مال الكتابة المشروطة هل يصح ضمانه أم لا؟
فقيل: بالثاني، لأنه ليس بلازم ولا يؤل إلى اللزوم، وهو مذهب الشيخ في المبسوط،
قال: لأنه ليس بلازم في الحال، ولا يؤل إلى اللزوم لأن للمكاتب اسقاطه بفسخ الكتابة
للعجز فلا يلزم العبد في الحال ولا يؤول إلى اللزوم، لأنه إذا أداه عتق، وإذا عتق خرج
عن أن يكون مكاتبا، فلا يتصور أن يلزمه في ذمته مال الكتابة بحيث لا يكون له
الامتناع، ولأن الضمان اثبات مال في الذمة، والتزام لأدائه، وهو فرع للمضمون عنه،
فلا يجوز أن يكون المال في الأصل غير لازم ويكون في الفرع لازما، فلهذا منعنا
من صحة ضمانه.
والمشهور الجواز، وبه صرح المحقق والعلامة، والخلاف هنا مبني على
الخلاف في مال الكتابة المشروطة هل هو لازم أم لا؟ وحيث أن مذهب الشيخ عدم
لزومه من قبل العبد، لأنه لو عجز نفسه رجع، وقد بنى عليه مسألة الضمان.
ومذهب الأصحاب لما كان هو القول باللزوم ثمة، قالوا: باللزوم هنا.

(1) سورة يوسف الآية 72
27

قال في المسالك: ولو تنزلنا إلى الجواز فالصحة متجهة أيضا، لأن المال ثابت
في ذمة المكاتب بالعقد، غايته أنه غير مستقر كالثمن في مدة الخيار، فعلى هذا متى
ضمنه ضامن انعتق لأنه في حكم الأداء بناء على أنه ناقل، وامتنع التعجيز كما أدى
المال بنفسه.. انتهى.
وبالجملة فالظاهر هو المشهور لما عرفت، وموضع الخلاف كما عرفت هو
الكتابة المشروطة.
أما المطلقة، فالظاهر أنه لا خلاف في لزومها وصحة ضمانها. والله العالم
الثالثة: لا خلاف في أنه يصح ضمان نفقة الزوجة الماضية والحاضرة،
لاستقرارها في ذمة الزوج.
أما المستقبلة كنفقة الشهر المستقبل فلا، ووجه الفرق بين الحالين أن النفقة
عوض التمكين، وهو بالنسبة إلى الزمان المستقبل غير حاصل، لجواز النشوز،
فالنفقة فيه غير متعلقة بالذمة، فلا يصح ضمانها، ثم إن ما علل به الضمان في الموضعين
الأولين من استقرار النفقة في الذمة إنما يتجه في النفقة الماضية، وأما الحاضرة فإنه
لا اشكال عندهم في وجوبها وثبوتها في الذمة مع التمكين.
لما صرحوا به من أنها تجب في كل يوم حاضر بطلوع فجره مع التمكين.
وأما استقرارها ففيه اشكال، مبني على أنها لو نشزت في أثناء النهار هل يسترد
منها نفقة ذلك اليوم أم لا؟ وفيه خلاف يأتي الكلام فيه انشاء الله تعالى في محله.
قالوا: أما لو ماتت أو طلقها استقرت، وفي تخصيص نفقة الزوجة بالذكر في
هذا المقام مع وجوب الانفاق على غيرها من العمودين إشارة إلى عدم الضمان في
نفقة غيرها، لأن الفائت منها لا يثبت في الذمة، كما تثبت نفقة الزوجة، بل غاية ما
يلزم من الاخلال بها الإثم والمؤاخذة، لأن الغرض المقصود من الأمر بها البر والصلة،
فتفوت بفوات وقتها، بخلاف نفقة الزوجة فإنها معاوضة، وقعت في مقابلة التمكين
فسبيلها سبيل الدين.
28

وقد وقع الخلاف هنا في موضعين:
الأول - قال الشيخ في المبسوط: يصح ضمان النفقة الماضية والحاضرة
للزوجة دون المستقبلة، لأنها تجب بالتمكين، ومتى ضمن النفقة فإنما يصح مقدار
نفقة المعسر، لأنها ثابتة لكل حال، وأما الزيادة عليها إلى تمام نفقة الموس، فهي
غير ثابتة لأنها تسقط باعساره، وتبعه ابن البراج على ذلك.
وهذا الكلام غير خال من الاشكال بل الاختلال، لأنه متى كان الذي يجب
قضاؤه إنما هو النفقة الماضية والحاضرة، والزوج يضمن بنسبة حاله، فإن كان موسرا
ضمن نفقة الموسر، وإن كان معسرا ضمن نفقة المعسر، ولا يسقط الزايد على نفقة
المعسر باعسار الموسر بعد وجوبه.
ولا يتم هذا الكلام إلا على مذهب من يقول بضمان النفقة المستقبلة، كما
صرح به في المختلف حيث قال: وإنما يتم ذلك على مذهب القائلين بصحة ضمان
النفقة المستقبلة، وقول الشيخ في المبسوط كأنه مذهب المخالف، وتفريع على
تسويغ ضمان النفقة المستقبلة، وتبعه ابن البراج توهما أن ذلك فتواه. انتهى
وما ذكره (قدس سره) جيد في حد ذاته، إلا أن تطبيق عبارة الشيخ عليه
مشكل، والحق أن كلامه (قدس سره) هنا في المبسوط لا يخلو عن سهو وغفلة،
لعدم ارتباط العبارة وانتظامها.
الثاني: قال ابن إدريس: في الموضع الذي يصح ضمانها فلا تصح إلا أن تكون
معلومة، لأن ضمان المجهول على الصحيح من المذهب وعند المحصلين من أصحابنا
لا يصح، وهو ظاهر في عدم صحة ضمان النفقة مع مجهوليتها، وعدم معلومية قدرها
وكميتها، وفيه ما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في هذه المسألة.
الرابعة: اختلف الأصحاب في ضمان المجهول، والمراد به ما يمكن استعلامه
بعد ذلك كما لو ضمن ما في ذمته، أما لو لم يكن الاستعلام لم يصح الضمان قولا
واحدا كما لو قال: ضمنت لك شيئا مما لك على فلان، لصدق الشئ على القليل
والكثير، واحتمال لزوم أقل ما يتناوله الشئ كالاقرار، يندفع بأنه ليس هو المضمون،
وإن كان بعض أفراده.
29

وممن قال بصحة الضمان في المسألة، والشيخ في النهاية، وشيخنا المفيد في
المقنعة، وابن الجنيد وسلار وأبو الصلاح وابن زهرة وابن البراج في الكامل،
والمحقق والعلامة وهو القول المشهور على ما نقله في المسالك.
وممن ذهب إلى العدم، الشيخ في المبسوط والخلاف، وبه قال ابن البراج في
المهذب وابن إدريس.
احتج في المختلف على القول الأول قال: لنا الأصل الصحة، وعموم قوله
تعالى (1) " وأنا به زعيم " وأشار إلى حمل البعير، والأصل عدم تعينه، وقوله
(عليه السلام) (2) " الزعيم غارم " وما رواه عطا عن الباقر (3) (عليه السلام) قال:
قلت له: جعلت فداك إن علي دينا إذا ذكرته فسد على ما أنا فيه: فقال: عليه السلام سبحان الله
أو ما بلغك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول في خطبته: من ترك ضياعا
فعلي ضياعه، ومن ترك دينا فعلي دينه، ومن ترك مالا فأكله (4) فكفالة رسول الله
(صلى الله عليه وآله) ميتا ككفالته حيا وكفالته حيا ككفالته ميتا، فقال الرجل:
نفست عني جعلني الله فداك " ولو لم يكن ضمان المجهول صحيحا لم يكن لهذا الضمان
حكم ولا اعتبار، إذ الباطل لا اعتبار به فامتنع من الإمام (عليه السلام) الحكم بأن
النبي (صلى الله عليه وآله) كافل.
ثم نقل عن الشيخ: أنه احتج بأن النبي (صلى الله عليه وآله) " نهى عن الغرر "
وضمان المجهول غرر، لأنه لا يدري كم قدرا من المال عليه، ولعدم الدليل على
صحته، ثم أجاب عنه (قدس سره) بأن الغرر إنما هو في المعاوضات التي تفضي إلى
التنازع، أما مثل الاقرار والضمان وشبههما، فلأن الحكم فيها معين، وهو الرجوع
إلى قول المقر في الاقرار، وإلى البينة في الضمان، فلا غرر هنا، والدليل قد بيناه انتهى.

(1) سورة يوسف الآية 72
(2) المستدرك ج 2 ص 497
(3) التهذيب ج 6 ص 211 ح 11 والوسائل ح 13 ص 92 ح 5
(4) قيل قوله فأكله أي أرثه، لأنه صلى الله عليه وآله والأئمة من بعده وارث من لا وارث له.
منه رحمه الله
30

أقول: ويدل على القول المشهور زيادة على المذكور ما تقدم من حديث
ضمان علي بن الحسين (1) عليهما السلام، لدين عبد الله بن الحسن، وحديث ضمانه
عليه السلام لدين محمد بن أسامة (2) فإنهما ظاهران بل صريحان في عدم معلومية
الدين قدره وكميته وقت الضمان، إلا أن لقائل أن يقول: إن الظاهر من كلام
المانعين من ذلك من حيث الغرر أن محل البحث والخلاف في المسألة إنما هو
بالنسبة إلى الضمان الذي يرجع به صاحبه على المضمون عنه، وظاهر هذه الأخبار
أعني خبر ضمان النبي (صلى الله عليه وآله) وضمان علي بن الحسين (عليهما السلام)
أنه ليس كذلك فلا تكون هذه الأخبار من محل البحث في شئ، وهكذا الكلام في
الآية فإنه متى خص محل البحث بما ذكرناه، فإن الآية ليست من ذلك في شئ
أيضا، لأن الظاهر منها إنما هو ضمان الجعالة كما تقدمت الإشارة إليه.
وبالجملة فإنه إن جعل موضع البحث الضمان بقول مطلق، فالحق في جانب
القول المشهور للآية والأخبار المذكورة، وإن خص بما ذكرناه فباب المناقشة
غير مسدود لما عرفت. والله العالم.
الخامسة: قد عرفت في سابق هذه المسألة أن المشهور صحة ضمان المجهول،
إلا أن القائلين بذلك اختلفوا فما يرجع إليه في بيان ذلك المجهول وتعيين قدره،
فقيل بالرجوع في ذلك إلى البينة، بأنه كان ثابتا في ذمته وقت الضمان، لا ما يوجد
في كتاب، ولا ما يقر به المضمون عنه ولا ما يحلف عليه المضمون له برد اليمين عليه
من المضمون عنه، فلو لم يكن ثابتا وقت الضمان بأن تجدد بعده، فإنه لا يصح لأنه
ضمان ما لم يجب، والشهادة به لا تفيد فائدة - ولا عبرة أيضا بما يوجد في دفتر أو كتاب
لعدم الثبوت في ذمته بذلك، وإنما يلزم ضمان الثابت، ولا ما يقر به المضمون عنه،
لأن اقراره إنما ينعقد على نفسه لا على غيره ولا يحلف عليه المضمون له برد اليمين عليه
من المضمون عنه، لأن الخصومة الآن بين الضامن والمضمون عنه، فلا يلزم ما ثبت

(1) الوسائل ج 13 ص 151 و ص 153 الباب 3 و 5 من أبواب الضمان
(2) وقد تقدم حديث محمد بن أسامة في المواضع الثاني من البحث الأول، وأما حديث
عبد الله بن الحسن فقد تقدم في المواضع السادس من البحث المذكور منه البحث المذكور منه رحمه الله
31

بمنازعة غيره، كما لا يثبت بما يقر به.
نعم لو كان حلف المضمون له برد اليمين عليه من ا لضامن، فإن كان النزاع
بينه وبين الضامن ثبت على الضامن ما حلف عليه المضمون له وقيل: بلزوم ما يقر به
الغريم أيضا، ونقل عن أبي الصلاح وابن حمزة، وفيه ما عرفت آنفا من أن اقرار
المقر إنما ينعقد على نفسه لا على غيره (1).
نعم لو كان الاقرار سابقا على الضمان فإنه يلزم الضامن ما أوجبه الاقرار،
كما صرح في المختلف، وقيل: بلزوم ما يحلف عليه المضمون له مطلقا (2) وهو منقول
عن الشيخ المفيد، قال (قدس سره) - على ما نقله عنه في المختلف: ضمان المجهول
لا زم، كضمان المعلوم حتى يخرج منه بحسب ما تقوم به البينة للمضمون عنه، أو
يحلف عليه، وتفسير هذا أو يقول: لإنسان قد لازم عليه على حق له عنده خل سبيله،
وأنا ضامن لحقك عليه كائنا ما كان، فإن أقام المضمون له البينة على مقدار الحق
خرج له الضامن، ولا يقبل دعواه بغير بينة، إلا أن يحلف على ما يدعيه، ولا يجوز أ ن
يضمن انسان عن غيره ما يدعيه كائنا ما كان، ولا ما يقترحه من الحقوق، ولا ما يخرج
حساب في كتاب لا حجة فيه إلا أن يتعين المضمون، أو يقوم به حجة على ما ذكر
انتهى.
وهو ظاهر في إلزام الضامن ما يحلف عليه المضمون له وهو قول الشيخ أيضا
إلا أنه قيده برضا الضامن بالحلف، وحينئذ فيكون هذا قولا رابعا في المسألة،
وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمل أن المراد بالرضا هنا الرد من
الضامن بأن حلف المضمون له برد اليمين عليه من الضامن كما هو أحد فردي
الاطلاق في عبارة الشيخ المفيد، وقد عرفت آنفا أنه في هذه الصورة يلزم الضمان
ويجب عليه الأداء.

(1) وأما إذا كان حلفه إنما هو لدفع المضمون عنه واثبا ته الدعوى عليه باليمين
المردودة من قبل المضمون عنه فلا يلزم منهما ثبوت ذلك على الضامن والدعوى الآن إنما هو
معه كما لا يخفى. منه رحمه الله
(2) أي أعم من أن يكون رد اليمين عليه من الضامن أو المضمون عنه منه رحمه الله
32

وإنما الاشكال في صورة رد المضمون عنه، وحينئذ بناء على هذا الاحتمال
يرجع إلى قول المفيد، ويكون تخصيصا له بهذه الصورة، وهو جيد، إلا أنه باعتبار
حمل الرضا على الرد لا يخلو من بعد، لأن الرد أعم من ذلك كما عرفت.
والعلامة في المختلف فرع ذلك على أن يمين المدعى هل هي كالبينة، أو
كالاقرار؟ قال: والتحقيق أن يقول: إن جعلنا يمين المدعي كالبينة كان له
الرجوع على الضامن، سواء رضي بيمينه أم لا، وإن جعلناها كالاقرار افتقر إلى
رضا الضامن إذا ضمن المجهول.
وبالجملة فالقدر المتيقن من ذلك هو القول الأول وهو الحكم بالبينة وكذا
مع رد اليمين من الضامن وحلف المضمون عليه وما عدا ذلك محل توقف واشكال
والعجب هنا من المحقق الأردبيلي (قدس سره) حيث قال: ولا يلزمه ما يقر به
المضمون عنه ولا ما يثبت عليه برد اليمين، لأن الاقرار والحلف لا يؤثر في ثبوت
حق على الغير وهو ظاهر، وكأنه مجمع عليه انتهى.
وتوهم الاجماع على الانحصار في البينة مع وجو د الخلاف كما عرفت،
وانتشاره في كتب الأصحاب كالمسالك والمختلف وغيرهما عجيب منه (قدس سره)
ولو ضمن ما يشهد به عليه لم يصح إلا أن يكون ثابتا في ذمته وقت الضمان فإنه لا مانع
من صحة ضمانه، وأما ما تجدد بعد ذلك فلا، لأنه ضمان ما لم يجب، ومن شرط صحة
الضمان تعلقه بالدين الثابت في الذمة وقت الضمان، وحينئذ فضمانه لما يشهد به عليه
شامل لما كان ثابتا في ذمته وقت الضمان وما كان متجددا، والأول صحيح دون الثاني
وبذلك يظهر أن اطلاق بعض العبارات بأنه لا يصح أن يضمن ما يشهد به عليه
لأنه لا يعلم بثبوته في الذمة وقت الضمان - ليس في محله.
السادسة قد صرح أكثر الأصحاب بجواز ضمان الأعيان المضمونة التي يجب
على من هي في يده ردها، ولو تلفت رد قيمتها كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد،
والعارية المضمونة كأحد النقدين المشروط قال في التذكرة: يجوز ضمان أعيانها
فإنه مال مضمون على المضمون عنه فجاز الضمان عنه، ولو ضمن قيمتها لو تلفت
فالأقوى عندي الصحة، لأن ذلك ثابت في ذمة القابض انتهى.
33

وتردد المحقق في الشرايع ثم قال: الأشبه الجواز.
أقول: ضمان هذه الأعيان إما أن يكون بمعنى تكليف الضامن برد أعيانها
على مالكها، أو بمعنى ضمان قيمتها لو تلفت عند الغاصب، والمستام ونحوهما،
أو الأعم منهما، وفي صحة الكل اشكال، لعدم الدليل على ما ذكروه من الجواز،
والأصل عدمه.
وما استدلوا به - من أن منشأه وجود سبب الضمان للعين، والقيمة وهو
القبض على الكيفية المخصوصة، فيصح، أما الأول فلأنه ضمان مال مضمون على
المضمون عنه، وأما الثاني فلثبوت القيمة في ذمة الغاصب ونحو لو تلفت - منظور
فيه بأن الثابت في الأول إنما هو وجوب الرد، وهو ليس بمال، والثاني ليس بواقع،
فهو ضمان ما لم يجب وإن وجد سببه، لأن القيمة لا تجب إلا بالتلف ولم يحصل.
ومنه يظهر أن الأظهر عدم الجواز وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك لما ذكرناه وزاد أيضا في القسم الأول فسادا من وجه آخر، وهو أن من
خواص الضمان كما قد عرفت انتقال الحق إلى ذمة الضامن، وبراءة المضمون عنه،
وهنا ليس كذلك، لأن الغاصب مخاطب بالرد ومكلف به اجماعا، وإنما يفيد
هذا الضمان ضم ذمة إلى ذمة، وليس من أصولنا.
ومرجعه إلى ما قدمناه من أن الحق الواجب على من بيده المال إنما هو الرد
إلى صاحبه، وهو لا ينتقل، كما هو الحكم الجاري في الضمان، بل يجب على من
هو في يده رده، ولا يخاطب به غيره.
وأما ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدس سره) حيث قال: ويحتمل الثبوت
لصدق الضمان عرفا مع ثبوت شرعيته مطلقا، وليس بمعلوم كون ما ذكر من لوازمه
أو شرائطه. نعم غالبا إنما يكون كذلك، ولهذا قال في التذكرة: ضمان المال عندنا
ناقل، وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة اشكال، أقربه عندي جواز مطالبة
كل من الضامن والمضمون عنه إلى آخره، بعد أن اختار جواز ضمان الأعيان
المضمونة والعهدة، وكأنه لذلك تردد البعض واستشكل فتأمل. انتهى
ففيه نظر لأن الرجوع إلى صدق الضمان عرفا ممنوع، إذ لا مدخل للعرف
34

هنا مع وجود النهي الشرعي وثبوته نصا وفتوى، ودعوى ثبوت شرعيته مطلقا
ممنوع أيضا فإنه محل البحث ومطرح النزاع، فإن الخصم يمنع من ثبوت شرعيته
على الوجه المذكور.
وقوله - إنه ليس بمعلوم كون ما ذكر من لوازمه أو شرايطه، مشيرا بذلك
إلى ما احتج به الخصم من أن مقتضى الضمان الانتقال إلى ذمة الضامن، وبراءة
المضمون عنه - فيه أنه قد تقدم في الموضع الخامس من البحث الأول ما يدل على
أن الحكم اتفاقي نصا وفتوى، ودعوى كونه غالبا دون أن يكون كليا ممنوعة.
نعم هذا الحكم إنما ورد في المواضع التي قام الدليل على صحة الضمان فيها، وأما
ما ذكر هنا من ضمان الأعيان فإنا لم نقف في الأخبار ما يدل عليه، وإنما جوزه
من جوزه بما عرفت من ذلك الوجه الاعتباري الذي تقدم ذكره مع انتقاضه بما
عرفت أيضا، وكلامه في التذكرة لأذى استند إليه هنا لا يسمن ولا يغني من جوع
فإنه يرد عليه جميع ما ذكرنا.
وبالجملة فإنه لما لم يقم هنا على الضمان كما ادعوه دليل واضح، فالمانع
مستظهر، والأصل العدم، ودعوى عموم أدلة الضمان لذلك ممنوع لما عرفت، ثم إنه بناء على المشهور من الحكم بجواز ضمان الأعيان المضمونة نفوا الجواز عن
الأعيان الغير المضمونة كالوديعة والعارية الغير المضمونة ومال المضاربة وما في
يد الوكيل وأمين الحاكم والوصي فإنه لا يصح ضمانها، وقد ادعى في التذكرة
الاجماع على ذلك، وجعلوا الفرق بينها وبين ما سبق باعتبار الضمان، وعدمه،
فحيث كانت تلك الأعيان مضمونة على من هي في يده، لأن يده يد عارية صح جواز
الضمان فيها، بخلاف هذه حيث أنه لا ضمان عليه، وإن فرض ضمانه لها على تقدير
التعدي والتفريط، إلا أن السبب الآن ليس بواقع.
نعم لو كان قد تعدى فيها وصارت مضمونة عليه جاز الضمان، وصارت من جملة
أفراد تلك المسألة، لوجود السبب وهو كونها مضمونة، والبحث فيها عن جواز
ضمان الأعيان المضمونة أعم من أن يكون ضمانها بالأصل أو العارض، وأنت خبير
بما في هذا الفرق الذي بنوا عليه، لما عرفت من أن مجرد كونها مضمونة على من
35

هي بيده لا تصلح سببا لجواز ضمانها، لاختلال شروط الضمان كما عرفت، والعمدة
في ثبوت الأحكام على النصوص الشرعية وحيث لم يرد فيها نص فاثبات الحكم
والاعتماد على مثل هذه التعليلات مجازفة سيما مع ما عرفت من انتقاضها وعدم
تمامها، والله العالم.
البحث الثالث في اللواحق
وفيه أيضا مسائل، الأولى - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب " رضوان الله
عليهم " في جواز ضمان العهدة، وهو أن يضمن عهدة الثمن للمشتري عن البائع
إذا كان قد قبضه البايع في كل موضع يثبت فيه بطلان البيع من أصله، بأن يكون
مستحقا لغير البايع، ولم يجز المالك البيع على تقدير صحة بيع الفضولي أو أجازه
ولم يرض بقبض الثمن ومثله ما لو تبين خلل في البيع اقتضى فساده كتخلف شرط
فيه أو اقترانه بشرط فاسد على القول بكون ذلك مبطلا لأصل العقد، وملخصه اشتغال
الذمة بالمضمون على أحد هذه الوجوه وقت الضمان، فإن ضمان الثمن للمشتري
يصح في جميع ذلك وكما يصح ضمان العهدة عن البايع للمشتري، يصح للبايع أيضا
عن المشتري، بأن يخرج الثمن مستحقا لغيره ونحوه، وأن يكون معيبا يستحق الأرش به
وظاهر جملة منهم أن دليل هذا النوع من الضمان إنما هو الاجماع أو الضرورة
فإنه لو لم يجز مثله للزم تعطيل بعض المعاملات، فإن كثيرا ما يحتاج الانسان إلى
المعاملات مع من لا يوثق به في تلف الثمن، على تقدير بطلان البيع وعمل المسلمين
وإلى ذلك أشار في التذكرة فقال: وهذا الضمان عندنا صحيح إن كان البايع قد
قبض الثمن، إلى أن قال: لا طباق الناس عليه في جميع الأعصار، ولأن الحاجة تمس
إلى معاملة من لا يعرف ولا يوثق بيده وملكه ويخاف عدم الظفر به لو خرج مستحقا
للغير.
أقول: وكأنه لذلك: قال به من قال: بعدم جواز ضمان الأعيان، قال في
المسالك: وفي الحقيقة هذا فرد من أفراد الأعيان المضمونة على تقدير كونه
موجودا حالة الضمان، وقد تقدم ما في ضمان الأعيان والمصنف هنا إنما رتب الحكم
على مذهبه هناك، أو أن هذا الفرد خارج من البين، لمكان الضرورة: فإن ظاهر هم
36

الاطباق على جوازه انتهى.
وأنت خبير بما في تعليلاتهم في المقام من عدم الصلوح لتأسيس الأحكام،
ولو تم الرجوع إلى مثل هذه التعليلات العليلة في تأسيس الأحكام الشرعية لاتسع
المجال، وكثر الخبط في شريعة ذي الجلال، مع استفاضة الأخبار عن الآل بالمنع
عن الفتوى إلا بما يعلم عنهم (صلوات الله عليهم) والأمر بالرد إليهم فيما لم يرد فيه
نص عنهم، والأمر بالسكوت عما سكت الله عنه ونحو ذلك كما لا يخفى على من تتبع
الأخبار، وجاس خلال تلك الديار.
نعم لا يبعد فيما ذكروه في ضمان الثمن بعد التصرف فيه ورجوعه إلى الذمة،
فإنه يصير حينئذ من قبيل ضمان ما في الذمة لا ضمان الأعيان، وهو مما لا خلاف فيه،
فإنه متى كان ثابتا في ذمة المضمون عنه وضمنه الضامن والحال هذه فإنه لا اشكال
في صحته.
وقال المحقق الأردبيلي (قدس سره) ولا استبعاد في ضمان الأعيان بمعنى جواز
طلب العين ممن في يده والضامن مخير في وجوب رد العين عليهما، وعوضها بعد
التلف بعد الضمان، بل لا يبعد كونه ناقلا أيضا بمعنى وجوب الرد، فيطلب العين
عن الضامن فيأخذها من المضمون عنه ويردها إلى أهلها إن ثبت النقل بالدليل مطلقا
وإلا يكون النقل مخصوصا فيما يمكن من الأموال التي في الذمة.
قال في التذكرة ضمان المال عندنا ناقل للمال من ذمة المديون إلى ذمة
الضامن على ما يأتي، وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة اشكال، أقربه عندي
جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه، أما الضامن فللضمان، وأما المضمون
عنه فلوجود العين في يده أو تلفها فيه، وفي العهدة إن شاء المشتري طالب البايع
وإن شاء طالب الضامن، لأن القصد هنا بالضمان التوثق لا غير انتهى.
ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام فإنه مجرد دعوى وعارية عن الدليل، والبحث
في صحة الضمان في هذا المقام واثباته بالدليل الظاهر ليمكن بناء ما ذكروه
من هذه الأحكام عليه، وإن كان بنوع من التجوز في بعض الموارد، ومتى كان
ذلك غير ثابت ولا صحيح.
37

فجميع هذا الكلام نفخ في غير ضرام، وتفسير الضمان بمعنى طلب العين
ممن في يده كما ذكره في صدر كلامه مجاز بعيد، لا يصار إليه إلا بدليل، وإلا فمعنى
الضمان شرعا هو انتقال الحق إلى ذمة الضامن، وتفسير النقل بما ذكره من وجوب
الرد أبعد، وقوله وألا يكون النقل مخصوصا بما في الذمة فيه ما تقدمت الإشارة
إليه من أنه إنما اختص بما في الذمة، لكونه هو مورد الضمان شرعا.
وأما غيره مما ذكروه في ضمان العين المضمونة والعهدة الراجع إليه أيضا
فليس من الضمان في شئ لعدم الدليل عليه، فلم يترتب عليه الحكم المذكور
وتكلف ترتيبه عليه بهذه التجوزات السخيفة فرع ثبوته أولا، وليس فليس.
وبما ذكرنا يظهر لك أن ضمان العهدة إن تعلق بالعين الموجودة فهو داخل
تحت ضمان الأعيان المضمونة وإن كان ظاهر هم هنا الاتفاق عليه للضرورة كما
ادعوه بخلافه ثمة لما تقدم من الخلاف في تلك المسألة وإن تعلق بالثمن بعد تلفه
واستقراره في الذمة فهو داخل في ضمان الديون التي في الذمة، ولا اشكال في الصحة.
تنبيهات الأول
قال في التذكرة المناط في ضمان العهدة أن يقول الضامن للمشتري: ضمنت
لك عهدته أو ثمنه أو دركه أو خلصتك، والظاهر أن مراده من ذكر هذه الألفاظ مجرد
التمثيل، بمعنى أن كل لفظ يفهم منه ذلك كهذه الألفاظ ونحوها، فإنه، يقع به
الضمان، ويصح ذلك للبايع أو المشتري، ومحل الضمان المذكور كل موضع يظهر
فيه بطلان العقد، كما تقدم.
الثاني - قد عرفت مما تقدم أن من شروط صحة ضمان العهدة اشتغال الذمة
بالمضمون على أحد الوجوه السابقة، وحينئذ فالمعتبر في ضمان العهدة وجود
الضمان حالته، فلا عبرة بالتجدد بعد ذلك كالفسخ بالتقابل، وتلف المبيع قبل القبض،
والفسخ بخيار الحيوان، وخيار المجلس ونحوها فإنه حالة الضمان ليس بفاسد،
ولم يحصل الاستقرار في الذمة الذي هو شرط في الضمان، فلم يكن مضمونا فضمانه
على هذا التقدير يكون من قبيل ضمان ما لم يجب وحينئذ فلا يدخل هذا في ضمان
العهدة، ومثله أيضا لو فسخ المشتري بعيب سابق فإنه لا يدخل ذلك في ضمان العهدة
38

فلا يلزم الضامن الثمن على تقدير الفسخ بالعيب بل يرجع به المشتري على البايع،
ويطالبه به، لأن الفسخ بالعيب إنما أبطل العقد من حينه، لا من أصله كما في ضمان
العهدة الذي تقدم تحقيقه فلم يكن حالة الضمان وهو وقت البيع مضمونا.
حتى أنه لو صرح بضمانه في ذلك الوقت فسد (1) لأنه ضمان ما لم يجب،
والذمة إنما اشتغلت به بعد الفسخ، والشرط الذي يبني عليه الضمان كما تقدم هو
ضمانه حال اشتغال الذمة به، فوقت الضمان الذمة غير مشغولة، ووقت الاشتغال
متأخر لم يقع فيه ضمان، فلم يصادف الضمان محله، ولا يؤثر هنا تقدم سبب الفسخ،
وهو العيب الموجود حال البيع، لأنك قد عرفت أن المدار على اشتغال الذمة وقت
الضمان، وهو غير حاصل، ومجرد تقدم السبب مع أنه قد يرضى به المشتري ولا
يفسخ العقد غير موجب لصحة الضمان لما عرفت.
الثالث - قد اشتهر في كلام الفقهاء تسمية هذا الضمان بضمان العهدة،
وضمان الدرك، وقد صرح العلامة في التحرير وغيره في غيره بأن العهدة، في الأصل
اسم للوثيقة، أو الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع، ويذكر فيه مقدار الثمن
وأحواله من وصف وحلول وتأجيل، ثم نقل إلى نفس الثمن، وغلب فيه.
وقال في التذكرة: سمي ضمان العهدة لالتزام الضامن ما في عهدة البايع رده،
لما ذكره في الصحاح، فقال: يقال في الأمر: عهدة بالضم: أي لم يحكم بعد
وفي عقله عهدة أي ضعف، فكان الضامن ضمن ضعف العقد، والتزم ما يحتاج إليه فيه
من عزم، أو أن الضامن من التزم رجعة المشتري عليه عند الحاجة. انتهى.
وأما تسمية ضمان الدرك فقال في التذكرة أيضا: وأما الدرك فقال في الصحاح
الدرك التبعة، وقيل: سمي ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند ادراك المستحق عين ماله.
وقال في المسالك: وقيل: يسمى ضمان الدرك لالتزامه لغرامة عند ادراك
الشخص عين ماله.
أقول: قال في القاموس الدرك ويسكن: التبعة، وفي الصحاح، الدرك:

(1) فيه إشارة إلى الرد على من قال بدخول هذا الفرد في الاطلاق وصحة ضمانه
وأنه من جملة ضمان العهدة لتقدم سبب الفسخ فيه ما عرفت في الأصل. منه رحمه الله:
39

التبعة، وقال في كتاب المصباح المنير بعد أن قال: أدركته إذا طلبته فلحقته،
والدرك بفتحتين وسكون الراء لغة من أدركت الشئ، ومنه ضمان الدرك انتهى.
الرابع - قد عرفت أنه لو فسخ المشتري بعيب سابق فإنه لا يدخل ذلك في
ضمان العهدة، ولا يلزم الضامن الثمن لعدم اشتغال ذمة المضمون عنه وقت العقد
بالثمن، وإنما حصل ذلك بعد الفسخ.
وإنما يبقى الاشكال (1) (فيما لو طالب المشتري بالأرش، فهل يرجع به
على الضامن متى ضمنه لأن استحقاقه ثابت وقت العقد، وهو مناط الفرق بين
الثمن والأرش، فيدخل الأرش في ضمان العهدة، دون الثمن على تقدير الفسخ
بالعيب، فإن الثمن أنما يجب بالفسخ اللاحق المتأخر عن الضمان.
وأما الأرش فإنه جزء من الثمن ثابت به وقت الضمان، فيندرج في ضمان
العهدة غاية الأمر أنه مجهول القدر، وقد تقدم صحة ضمان المجهول على التفصيل
المتقدم، والحكم هنا مبني على ما ثبت هناك، أم لا يرجع نظرا إلى أن الاستحقاق
للأرش إنما جعل العلم بالعيب، واختيار أخذ الأرش، والموجود حالة العقد
من العيب ما كان يلزمه بغير الأرش، بل اللازم التخيير بينه وبين الرد، فلم يتعين
الرد إلا بالاختيار.
وملخص الاشكال المذكور يرجع إلى أن الأرش هل هو ثابت بالعقد،
وإنما يزول بالفسخ، والرجوع إلى الثمن أو أن سببه وإن كان حاصلا، فإنه لا يثبت
إلا باختياره، ولعل الأول أقرب، بناء على هذه التعليلات، نظرا إلى أن الأرش
كان واجبا بالأصل، لأنه عوض جزء فايت من مال المعاوضة، ويكفي في ثبوته
بقاء المشتري على الشراء وإنما ينتقل إلى الثمن بارتفاق آخر حيث لم يسلم له
المبيع تاما، والله العالم.
المسألة الثانية - قالوا: إذا خرج المبيع مستحقا رجع على الضامن، أما

(1) وفيه إشارة إلى أنه لو كان الضمان إنما هو بعهدة الثمن فإنه لا يشمل الأرش، إلا أن يكون ذلك معلوما ومقصودا منهما، ويمكن أن يكون هذا وجه الرد والاشكال، وأما إذا
ضمن الأرش وخرج به، فإنه لا اشكال في صحة الضمان لما ذكرناه في الأصل، وظاهر هم أن محل
الخلاف إنما هو إذا ضمن الثمن خاصة، وكلام الأكثر خال من التخصيص با الثمن. منه رحمه الله.
40

لو خرج بعضه فإنه يرجع على الضامن بما قابل المستحق، وكان في الباقي بالخيار،
فإن فسخ رجع بما قابله على البايع خاصة.
أقول: أما الكلام فيما إذا خرج الجميع مستحقا فظاهر، وأما فيما لو خرج
بعضه مستحقا فإنه يطالب الضامن بحصته من الثمن، وذلك فإن ثمن ذلك البعض
حيث أن البايع باعه، وهو لا يستحقه بقي في ذمة البايع وقت البيع، فصح ضمانه.
ولو قلنا بصحة بيع الفضولي توقف على إجازة المالك لذلك البعض، فإن
أجازه صح، وإن لم يجز فالحكم كما ذكر، ثم إن المشتري يتخير بين الفسخ
لتبعيض الصفقة، وبين الرضا على الوجه المذكور، فإن فسخ في الباقي رجع
بثمنه على البايع خاصة على المشهور، لعدم تناول الضمان له، فإن ثبوت ثمن
هذا الباقي إنما حصل بعد الفسخ، لا حال الضمان، ومن شرط الضمان كما تقدم
اشتغال الذمة بالمضمون حال الضمان.
ونقل عن الشيخ الخلاف هنا، والقول بجواز الرجوع على الضامن للجميع
قال في المختلف: إذا خرج بعض المبيع مستحقا رجع المشتري على الضامن للعهدة
بما قابل المستحق من الثمن، فإن فسخ البيع لتبعيض الصفقة، قال الشيخ: رجع
بما قابل الباقي أيضا على الضامن أن شاء، وليس بجيد، لنا أنه حصل بسبب متأخر
وهو الفسخ المتجدد بعد البيع، فلا يرجع به على الضامن لعدم دخوله في ضمانه،
لأنه لم يجب وقت الضمان، احتج الشيخ: بأن السبب فيه الاستحقاق الذي حصل في
بعضه، والجواب المنع، بل السبب الفسخ، انتهى.
أقول: قد تقدم في مسألة الرجوع بالأرش بسبب العيب إن الأشهر الأظهر
الرجوع به على الضامن، لوجود سبب الاستحقاق وقت الضمان، فإنه ضمنه، والمبيع
معيب يستحق للمشتري فيه الأرش، لأنه عوض من ذلك الجزء الفائت من المبيع
وما نحن فيه كذلك كما ذكره الشيخ، فإن تبعيض الصفقة الذي هو سبب الفسخ
الناشئ من استحقاق ببعض المبيع كان متحققا وقت المبيع، والقائل - بعدم جواز
الضمان هنا - عليه بيان الفرق بين الموضعين، فإنهما من باب واحد لا يعرف بينهما
فرق، وبذلك يظهر أن المسألة لا تخلو من الاشكال، والله العالم.
41

المسألة الثالثة - قالوا لو ضمن ضامن للمشتري درك ما يحدث من بناء أو غرس لم
يصح، لأنه ضمان ما لم يجب، والمراد أنه حيث كان للمشتري التصرف فيما
يشتريه وبالبناء والغرس ونحو ذلك، فلو خاف ظهور كون المبيع مستحقا ويذهب
ما يغرسه فيه ويبنيه مجانا فضمن له ضامن أنه إن ظهر كونه مستحقا وقلع المالك
الغرس وهدم البناء فهو ضامن لدرك ذلك، هل يصح هذا الضمان أم لا؟ الوجه أنه
لا يصح، لأنه ضمان ما لم يجب، لأنه حين الضمان لم يكن مستحقا للأرش على البايع،
وإنما استحقه بعد القلع، وخراب البناء، المتأخرين عن وقت الضمان.
والمراد بالدرك الذي ضمنه الضامن هو الأرش الذي يلزم للمشتري في مثل
هذه الصورة، وهو تفاوت ما بين قيمة تلك الأشجار، والبناء مثبتة ومقلوعة، ويأتي على
ما تقدم من صحة الضمان مع تقدم سبب الاستحقاق صحة الضمان هنا، لأنه وإن كان
الأرش غير مستحق إلا بعد القلع وهو الذي بنى عليه عدم الضمان كما عرفت، إلا
أن سببه كان موجودا وقت الضمان، وهو كون الأرض مستحقة للغير، فينبغي
جريان الاحتمال السابق فيما نحن فيه، وحيث إنه قد تقرر وعلم أنه إذا ظهرت
الأرض مستحقة وقد بنى المشتري فيها أو غرس، فأزال المالك ما أحدثه فإن له
الرجوع على البايع بالأرش كما تقدم، فلو ضمن البايع والحال هذه درك ذلك.
فهل يصح الضمان، قيل: نعم، لأنه لازم بنفس العقد، وكأنه أريد أنه لازم
بالعقد ضمن أم لم يضمن، فضمانه يصير مؤكدا.
وأورد عليه بأنه لا يلزم من ضمانه لكونه بايعا مسلطا له على الانتفاع مجانا
ضمانه، لعقد الضمان، مع عدم شرائطه التي من جملتها كونه ثابتا حال الضمان،
فعدم الصحة أولى.
وبذلك يظهر أنه ليس الخلاف في ثبوته على البايع أم لا فإنه ثابت عليه
بغير اشكال كما تقدم، بل الخلاف إنما هو في ثبوته بسبب الضمان - وإن كان
ثابتا بدونه، بمعنى أن كلا منهما سبب على حدة، ويظهر الفائدة فيما لو أسقطا لمشتري
عن البايع حق الرجوع بسبب البيع، فإنه يبقى له الرجوع بسبب الضمان لو قلنا
بصحته كما لو كان له خياران فأسقط أحدهما فإن له الفسخ بالآخر إن شاء، والله العالم.
42

المسألة الرابعة - إذا اختلف الضامن والمضمون له في قبض مال الضمان
وادعى الضامن دفعه مع كون ضمانه بإذن المضمون عنه، وأنكر المضمون له ذلك
فإن مقتضى القاعدة أن القول قول المضمون له بيمينه، لأنه منكر، والأصل عدم
الدفع فها هنا أحوال:
الأولى - هذه الحال ومقتضاها أنه ليس للضامن رجوع على المضمون عنه بشئ
لأنه إنما يرجع عليه بما غرمه، وهنا لم: يتحقق غرمه، واستحقاق الرجوع مشروط به
وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون ضمانه بالإذن وعدمه، وإنما قيدنا بالإذن أولا
ليترتب الأحكام الآتية عليه، إذ لا تهمة مع التبرع - ولا رجوع.
الثانية - أن يشهد المضمون عنه للضامن بأنه دفعه، بشرط عدالته وعدم تطرق
التهمة إليه، فإنه تثبت شهادته على القول بدفعه، والوجه فيه أن شهادته بذلك متضمنة
للشهادة على نفسه، حيث إنه لما كان الضمان بإذنه موجبا لرجوع الضامن عليه
فشهادته بالأداء شهادة على نفسه، وشهادة لغيره فتسمع، إلا أن يتطرق إليها التهمة.
وقد فرضوا للتهمة صورا، منها - أن يكون الضامن قد صالح على أقل من
الحق، فيكون رجوعه إنما هو بذلك الأقل، فشهادة المضمون عنه له بذلك تجر
إلى نفسه نفعا، فإن ذلك إذا لم تثبت يبقى مجموع الحق في ذمته للضامن.
ورد ذلك بأنه يكفي في سقوط الزايد عن المضمون عنه اعتراف الضامن بذلك
ولا حاجة إلى الثبوت بالبينة كما سيأتي، وعلى هذا تندفع التهمة فتقبل الشهادة.
قالوا: ومنها أيضا أن يكون الضامن معسرا ثم يعلم المضمون له باعساره، فإن
له الفسخ حيث لا تثبت الأداء، ويرجع المضمون له على المضمون عنه، فيدفع
بشهادته عود الحق إلى ذمته.
ومنها أن يكون الضامن قد تجدد عليه الحجر بالفلس، والمضمون عنه عليه
دين، فإنه يوفر بشهادته مال الضمان، فيزداد ما يضرب به.
الثالثة - أن لا يكون شهادة المضمون عنه مقبولة لأحد الوجهين المتقدمين،
فيحلف المضمون له، فإنه متى حلف كان له مطالبة الضامن، ويرجع الضامن
على المضمون عنه بما ادعى أنه أداه أو لا، لاعترافه بأنه لا يستحق سواه، وأن ما أخذ
43

منه بعد اليمين إنما هو ظلم وعدوان، مع موافقة المضمون عنه له على ذلك،
وينبغي أن يعلم أن رجوعه بما دفعه أولا مقيد بأن يكون مساويا للحق أو أقل منه،
وإلا رجع بأقل الأمرين لأنه لا يستحق الرجوع بأزيد من الحق.
الرابعة - لو لم يشهد المضمون عنه قالوا: يرجع الضامن بما أداه أخيرا، لأنه
لم يثبت ظاهرا أداء سواه، هذا إذا لم يزد على ما ادعاه أولا ولا على الحق، وإلا رجع
بالأقل من الثلاثة، لأن الأقل إن كان هو ما غرمه أولا فلزعمه أنه لا يستحق سواه،
فإن الثاني ظلم، وإن كان الأقل ما غرمه ثانيا، فلأنه لم يثبت ظاهرا سواه، وإن
كان الأقل هو الحق، فلأنه إنما يرجع بالأقل من المدفوع والحق، هذا.
أقول: وعندي في الفرق بين هذه الصورة وسابقتها تأمل. حيث حكم في
هذه بالرجوع بما أداه أخيرا لما ذكروا في سابقتها بما أداه أولا لما تقدم، مع إمكان
اجراء كل من العلتين بل في كل من الموضعين.
وبالجملة فالغرض من التطويل بهذه الأحكام مع عدم النصوص فيها من أهل
الذكر (عليهم السلام) تشحيذ الأذهان الأفهام، والاطلاع على تفريعا تهم في كل
مقام، مع أن جملة منها لا يمكن استنباطه من القواعد الشرعية، والضوابط المرعية،
والعمل على الاحتياط، في كل حكم خلا من النصوص. والله العالم.
المسألة الخامسة: إذا كان له على رجلين مال، فضمن كل منهما صاحبه،
فإنه لا اشكال في صحة هذا الضمان من استكمال شرائطه المتقدمة، وعلى هذا
يتحول ما كان على كل واحد منهما إلى صاحبه، وحينئذ فإن تساوى المالان وكان
ضمان كل واحد بسؤال الآخر ولم يتغير وصف الدين بالحلول والتأجيل، ففائدة
هذا الضمان تعاكسهما في الأصالة والفرعية.
ومما يترتب على ذلك، ما لو أبرأ المضمون له أحدهما، فإنه يبرء الآخر،
وهذا الابراء إنما ينصرف إلى ما ضمنه عن صاحبه، لأنه هو الباقي في ذمته للمضمون له،
وإلا فأصل المال الذي دفعه قد انتقل بالضمان إلى ذمة صاحبه، فلا معنى للإبراء
منه كما تقدم، وحينئذ فإذا أبرأه من مال الضمان لم يكن له الرجوع على صاحبه،
لأنه لا يرجع عليه إلا بما اغترمه عنه، والحال أنه لم يغرم شيئا بسبب الابراء، فمن
44

أجل ذلك برئت ذمة الآخر من ذلك.
وأما ما اشتغلت به ذمة الآخر من مال الضمان الذي ضمنه عن ذلك الذي
أبرأه المضمون له، فهو باق في ذمته فبراءة ذمة الآخر إنما هو مما كان عليه لا مما ضمنه،
وإنما يتحول ما كان على كل واحد إلى صاحبه مع ضمانهما دفعة، ورضى المضمون له
بهما فلو رد أحدهما واجتمع الحقان على الآخر، وكذا لو ضمنا على التعاقب اجتمعا
على الأخير إلا أن يحصل التخصيص. (1)
المسألة السادسة - إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال، أو أبرأه
من بعضه لم يرجع على المضمون عنه إلا بما أداه ولو أبرأ من بعضه لم يرجع على
المضمون عنه إلا بما أداه ولو أبرأه منه كاملا لم يرجع بشئ، وكذا لو دفع الضامن
عرضا عما في ذمته للمضمون له، فإنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من
قيمته السوقية ومن أصل الدين.
قال في المسالك: ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد رضي المضمون له
بالعرض عن دينه بغير عقد، وبين أن يصالحه الضامن به عن ماله، فلو كان ثوبا
يساوي مئة وصالحه عن الدين وهو مائتان لم يرجع إلا بقيمة الثوب هذا إذا أجرى
البيع على العرض بنفس المال المضمون له.
أما لو صالحه عليه في المثال بمأتين مطلقا ثم تقاصا فالمتجه رجوعه بالمأتين
لأنها تثبت له في ذمته بغير الاستيفاء، وإنما وقع الأداء بالجميع، ويحتمل الرجوع
بقيمته خاصة، لأن الضمان وضع للارفاق، وتوقف في التذكرة في ذلك. انتهى.
أقول: وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في الموضع الخامس والموضع العاشر
من البحث الأول.

(1) ووجهه أنه إذا ضمن زيد ما في ذمة عمرو انتقل ما في ذمة عمرو إلى ذمة زيد مع
ما كان في ذمة زيد أولا، وحينئذ فإذا ضمن عمرو ما في ذمة زيد انتقل جميع ما في ذمة زيد
من الدين الذي عليه أولا ومال الضمان الذي ضمنه عن عمرو كله إلى ذمة عمرو، أما لو خصص
الضمان فإن قال: ضمنت ما في ذمتك من المال الذي استدنته من فلان اختص الضمان به،
وهذا فائدة القيد الذي رويناه في الأصل. منه رحمه الله.
45

المسألة السابعة - قد صرح الأصحاب بجواز ترامي الضمان ودوره، بأن يضمن
ضامن ثم يضمن عنه آخر وهكذا إلى عدة ضمناء، ولا مانع منه لتحقق شرطه، وهو
ثبوت المال في ذمة المضمون عنه، وهو هنا كذلك، وحينئذ فيرجع كل ضامن على
من ضمن عنه إذا كان الضمان بإذنه بما أداه عنه، ويصح دوره، بأن يضمن الأصل ضامنه،
أو ضامن ضامنه وإن تعدد، فيسقط بذلك الضمان، ويرجع الحق كما كان، ويترتب
عليه أحكامه، كما لو وجد المضمون له الأصل. الذي صار ضامنا معسرا مثلا.
فإن له الفسخ والرجوع إلى الضامن السابق، وقد يختلفان بأن يضمن الحال
مؤجلا، وبالعكس كما تقدم في الموضع السابع من البحث الأول، وقد تقدم نقل
خلاف الشيخ في ذلك. والله العالم.
المقصد الثاني في الحوالة
والبحث فيها يقع في مسائل: الأولى: قيل الحوالة عقد شرع لتحويل المال
من ذمة إلى ذمة مشغولة بمثله، وفي التذكرة: عرفها بأنها تحويل الحق من ذمة
إلى ذمة، ولم يشترط في الذمة المحول إليها الاشتغال بمثل المال المحول، ادخالا
للحوالة على البرئ في التعريف المذكور، وظاهر التعريف الأول خروجه، مع
أنهم عدوا الحوالة على البرئ من هذا الباب وأورد على العلامة في تعريفه في التذكرة
- بأنه وإن قصد باسقاط هذا القيد المحاولة لادخال هذا الفرد لئلا ينتقض التعريف
في عكسه، إلا أنه وقع فيما هو أصعب منه، لشموله حينئذ للضمان بالمعنى الأخص
لأن المال يتحول فيه من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، فانتقض في طرده.
وأجاب عنه المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه)، بأن المراد كما هو الظاهر
التحويل من ذمة المحول الذي هو المحيل لا مطلقا، قال: على أنه ليس أصعب،
لأن التعريف بالأعم جائز عند المتقدمين، بخلاف الأخص فإنه غير جائز عند أحد
فقوله في شرح الشرايع: فوقع فيما هو أصعب منه محل التأمل، انتهى.
ثم إن في تعريفهم لها بأنها تحويل الحق أو تحويل مال، ما يشير إلى أن
الحوالة ناقلة للمال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ومن أجل ذلك سميت
حوالة.
46

قال في التذكرة: الحوالة عقد لازم، فلا بد فيها من ايجاب وقبول، كغيرها
من العقود، والايجاب كل لفظ يدل على النقل والتحويل مثل أحلتك وقبلتك
واتبعتك، والقبول ما يدل على الرضا نحو رضيت وقبلت، ولا تقع معلقة بشرط ولا
صفة، بل من شرطها التنجيز، فلو قال: إذا جاء رأس الشهر أو إن قدم زيد فقد
أحلتك عليه لم يصح، لا صالة البراءة وعدم الانتقال، ولا يدخلها خيار المجلس.
لأنه مختص بالبيع، وليست بيعا عندنا، وهل يدخلها خيار الشرط، منع منه أكثر
العامة، والحق جواز دخوله لقولهم (1) (عليهم السلام): " كل شرط لا يخالف
الكتاب والسنة فإنه جائز "، ولو قال: أحلني على فلان، فقال أحلتك، افتقر إلى
القبول، ولا يكفي الإيجاب، انتهى.
أقول: قد عرفت في غير موضع ولا سيما في كتاب البيع مما في اشتراطهم
للإيجاب والقبول ونحوهما من الشروط التي أوجبوها في العقود من عدم الدليل على
ذلك، بل اطلاق الأخبار وعبارات العقود المذكورة فيها ترد جميع ما ذكروه، وأن
الأمر في العقود أوسع مما ضيقوه، والظاهر أيضا تطرق المناقشة إلى ما ذكره من
عدم جواز كونها معلقة على شرط، لعدم الدليل عليه، ولعموم (2) " المسلمون عند
شروطهم "، والله العالم.
الثانية - لا يخفى أن أركان الحوالة ثلاثة: المحيل، والمحتال، والمحال عليه
ويعتبر رضا الثلاثة عند الأصحاب، أما المحيل فموضع وفاق، قال في التذكرة:
يشترط في الحوالة رضي المحيل، وهو الذي عليه الحق اجماعا، فلو أكره على
أن يحيل فأحال بالاكراه لم يقع الحوالة، ولا نعرف فيه خلافا، فإن من عليه الحق
مخير من جهات القضاء، فله أن يقضي من أي جهة شاء، لا يتعين عليه بعض الجهات قهرا.
وأما المحتال فالوجه في اعتبار رضاه أن حقه ثابت في ذمة المحيل، فلا يلزمه
نقله إلى ذمة أخرى إلا برضاه، والحكم في ذلك أيضا اجماعي كما صرح به في
التذكرة، فقال: يشترط رضاء المحتال عند علمائنا أجمع، وبه قال الشافعي
وأبو حنيفة، ثم ذكر نحو ما ذكرناه من التعليل.

(1) الوسائل ج 12 الباب 6 من أبواب الخيار ص 353
(2) الوسائل ج 12 الباب 6 من أبواب الخيار ص 353
47

وأما المحال عليه فالمشهور بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) اعتبار رضاه أيضا، (1)
بل ادعى عليه الشيخ الاجماع، قال في المختلف: احتج الشيخ على ما اختاره بأن
الاجماع واقع على صحة الحوالة مع رضى المحال عليه ولا دليل على صحتها من غير
رضاه، ولأن اثبات المال في ذمة الغير مع اختلاف الغرماء في شدة الاقتضاء وسهولته
تابع لرضاه.
ويمكن أن يجاب بأن نفي الاجماع نفي دليل خاص، ونفي الخاص لا يستلزم
نفي العام، مع أن الأصل يقتضي الصحة لقوله تعالى " أوفوا بالعقود " (2)، ونمنع
اعتبار رضاه كما لو باعه، ولم نقف على حديث - يتضمن ما ادعاه علمائنا في
هذا الباب، مع أن الشيخ المفيد لم يذكر اعتبار رضى المحال عليه، بل عبارته تشعر
بعدم اعتبار رضاه، ثم نقل العبارة المذكورة، ثم قال: وكذا قال الشيخ في النهاية.
أقول: لا يخفى أنه وإن لم يرد في الأخبار ما يقتضي رضى أحد من هذه الثلاثة
المذكورة، إلا أن ما علل به رضى الأولين مضافا إلى الاجماع على ذلك لا يخلو من
قوة، وأما ما علل به الأخير فهو ظاهر الضعف عند التأمل، و مثله أيضا ما قيل: من
أن الأصل بقاء المال في ذمة المحال عليه للمحيل، فيستصحب.
والتحقيق كما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، أن المحيل قد أقام
المحتال مقامه في القبض بالحوالة، فلا وجه لافتقاره إلى رضاء من عليه الحق، كما لو
وكله في القبض منه، بخلاف الأولين لما عرفت.

(1) المفهوم من كلام الملامة في التذكرة أيضا عدم الخلاف في ذلك حيث قال: في
أصحابنا من يشترط رضى الثلاثة، وقال في موضع آخر: ويشترط عندنا رضى المحال عليه،
ثم نقل الخلاف عن بعض العامة فقط، وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه، مع أنه في المختلف
كما نقلناه في الأصل خالف في ذلك، وتبعه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، وهو الأقرب
كما أوضحناه في الأصل، ويشير أيضا إلى وجود الخلاف في المقام، ما في عبارة ابن حمزة
على ما نقله في المختلف، حيث قال: تصح الحوالة بشروط عشرة إلى أن قال: ورضى المحال
عليه على الصحيح، قال في المختلف وهو يشعر بوجود قول لبعض أصحابنا ينافيه وأنه
لا يعتبر رضاه، انتهى وبذلك يظهر ما في كلام المحقق الأردبيلي حيث إنه نسب الخلاف في
هذه المسألة إلى الشهيد الثاني في المسالك خاصة مع اعترافه بنقل الشيخ الاجماع وفيه
ما عرفت. منه رحمه الله.
(2) سورة المائدة الآية 1
48

واختلاف الناس في الاقتضاء لا يمنع مطالبة المستحق ومن يعينه لذلك،
والتوقف على رضاه محل البحث، فأخذه في الدليل مصادرة محضة.
قوله: ولأن اثبات المال في ذمة الغير تابع لرضاه، بمعنى أن نقله من ذمة
المحيل إلى ذمة المحال عليه يتوقف على رضاه، يمكن دفعه، بأنا نمنع من اقتضاء
الحوالة النقل، وإنما هي ايفاء لما في ذمة الغير، فلا نقصر عن بيعه كما أشار إليه
العلامة فيما تقدم من جوابه عن كلام الشيخ، وأصالة بقاء الحق معارضة بأصالة عدم
الاشتراط، والاستصحاب انقطع بما ذكرناه، خصوصا مع اتفاق الحقين جنسا ووصفا.
نعم لو كانا مختلفين وكان الغرض استيفاء مثل الحق المحال، توجه اعتبار
رضى المحال عليه، لأن ذلك بمنزلة المعاوضة الجديدة، فلا بد من رضى المتعاوضين، ومع
ذلك لو رضي المحتال بأخذ جنس ما على المحال عليه، زال المحذور.
وبذلك يظهر قوة القول بعدم اشتراط رضى المحال عليه، إلا في صورة اختلاف
المال المحال، مع ما في ذمة المحال عليه، وعدم رضا المحتال بأخذه، لما عرفت.
تنبيهات الأول - ينبغي أن يعلم أنه على تقدير القول المشهور من اعتبار رضى
الثلاثة فإن اعتبار رضى المحال عليه ليس على حسب رضى الآخرين، فإن الآخرين ركنا
العقد الذي لا يتم إلا بالايجاب والقبول، فالايجاب من المحيل والقبول من المحتال،
ويعتبر في عقدها عند الأصحاب ما يعتبر في غيره من العقود من اللفظ والمقاربة
ونحوهما بخلاف المحال عليه، فإنه يعتبر رضاه كيف اتفق، مقارنا أو متراخيا،
أو متقدما أيضا، لحصول الغرض المطلوب منه على كل من هذه الوجوه.
الثاني - لا يخفى أنه على ما اخترناه من القول بعدم اعتبار رضى المحال عليه،
إنما يتجه فيما إذا كان مشغول الذمة بمال المحيل، أما لو كان برئ الذمة وقلنا
بصحة الحوالة كما هو أصح القولين - فإنه يشترط رضاه اجماعا.
الثالث - أن ما تقدم من الاجماع على اشتراط رضى المحيل في صحة الحوالة
مخصوص بما إذا لم يتبرع عنه متبرع بوفاء الدين الذي عليه، أما لو تبرع المحال
عليه بالوفاء فإنه لا تعتبر رضى المحيل قطعا، لأنه وفاء دينه وضمانه بغير إذنه،
49

والعبارة عنه أن يقول المحال عليه للمحتال: احتلت بالدين الذي لك على فلان على
نفسي، فيقبل، وفي هذه الصورة إنما يشترط رضى المحتال والمحال عليه ويقومان
بركن العقد.
الثالثة - المشهور أنه مع تحقق الحوالة فإنه يبرأ المحيل من حق المحتال
من غير أن يتوقف على الابراء بل يبرئ بمجرد الحوالة، وذهب الشيخ: في النهاية
وابن الجنيد والشيخ المفيد وابن البراج وابن حمزة وأبو الصلاح إلى توقف ذلك
على الابراء زيادة على الحوالة، وقال ابن إدريس ومن تأخر عنه: بالأول.
ويدل على ما ذهب إليه المشايخ المتقدم ذكرهم: ما رواه ثقة الاسلام والشيخ
بأسانيد فيها الصحيح عن زرارة (1) عن أحدهما (عليهما السلام) في الرجل يحيل
الرجل بمال كان له على رجل آخر فيقول له: الذي احتال: برئت من مالي عليك،
قال: إذا أبرأه فليس له أن يرجع إليه، وإن لم يبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله ".
وهي ظاهرة الدلالة فيما ذكروه: والمفهوم منها أن الحوالة لا تفيد نقل المال
من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، لأنه مع حصول النقل بالحوالة لا يصادف
الابراء محلا.
هذا إن تأخر الابراء عن الحوالة، وإلا لم يصادف الحوالة محلا، ولا خلاف
بين الأصحاب في أن الحوالة تفيد نقل المال إلى ذمة المحال عليه، وأن المحتال
ليس له الرجوع على المحيل.
وعلى ذلك تدل الأخبار، ومنها ما رواه في الكافي (2) عن منصور بن حازم
" قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع
عليه قال: لا يرجع عليه أبدا إلا أن يكون قد أفلس قبل ذلك ".
وما رواه الصدوق في الفقيه (3) عن أبي أيوب أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)

(1) الكافي ج 5 ص 104 ح 2، التهذيب ج 6 ص 211 ح 1
(2) الكافي ج 5 ص 104 ح 4
(3) الفقيه ج 3 ص 55 ح 3
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 الباب 11 ص 158 ح 2 و 3 و 1
50

عن الرجل يحيل الرجل بالمال أيرجع عليه؟ قال: لا يرجع عليه أبدا إلا أن
يكون قد أفلس قبل ذلك ".
وما رواه في التهذيب (1) عن عقبة بن جعفر عن أبي الحسن (عليه السلام)
قال: سألته عن الرجل يحيل الرجل بمال على الصير في ثم يتغير حال الصير في
أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضى فقال: لا "
وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في نقل الحوالة وبرائة ذمة المحيل بعد
الحوالة، للمنع من رجوع المحتال عليه معتضدة باتفاق الأصحاب على ذلك.
وبالجملة فإن كلا من الحوالة والبراءة موجب لخلو ذمة المحيل، فأيهما
سبق كان الثاني لاغيا، لا أثر له.
وبه يظهر ما في الرواية المذكورة من الاشكال، ومخالفة القواعد الشرعية (2)
وقد تأولها الأصحاب بتأويلات بعيدة، أقلها بعدا ما ذكره في المسالك، وهو أن
الابراء في الخبر كناية عن قبول المحتال الحوالة، فمعنى قوله برئت من مالي
عليك أني رضيت بالحوالة الموجبة للتحويل، فبرئت أنت فكنى عن الملزوم باللازم
وهكذا القول في قوله: ولو لم يبرأه فله أن يرجع، لأن العقد بدون رضاه غير
لازم، فله أن يرجع فيه.
ومذهب جمهور العامة في هذه المسألة موافق لمذهب أصحابنا في عدم التوقف
على البراءة، ويمكن حملها على التقية، لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار ما قدمناه في
المقدمة الأولى من المقدمات المذكورة في صدر كتاب الطهارة من أنهم (صلوات
الله عليهم) كثيرا ما يقصدون المخالفة في الأحكام تقية وإن لم يكن بها قائل من
العامة محافظة على الشيعة لو اتفقوا على نقل الأحكام عنهم كما تقدم تحقيقه ثمة، فإن
الخبر كما عرفت: فيه من الاشكال، ومخالفة القواعد المتفق عليها ما يمنع من العمل به.

(1) التهذيب ج 6 ص 212 ح 6، الوسائل ج 13 ص 158 ح 4.
(2) منها ما إذا ظهر اعسار المحال عليه حل الحوالة فإن له الرجوع على المحيل
إذا لم يبرءه، ومنها ما إذا اشترط المحيل الباءة فإنه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر
افلاس المحال عليه فلا يخفى فيه من البعد عن سياق الخبر وإن كان في حد ذاته جيدا إلا أن
فهم ذلك من الخبر إنما هو من قبيل الألغاز والمعما. منه رحمه الله.
51

وما ذكر من التأويلات لا يخلو من التعسف، وليس بعد ذلك إلا ما ذكرناه. والله العالم.
الرابعة - قد صرح جملة من الأصحاب، والظاهر أنه المشهور بجواز
الحوالة على البرئ للأصل، فإن الأصل الجواز، والأصل أيضا عدم اشتراط شغل
ذمة المحال عليه بمال المحيل.
والشيخ في المبسوط في أول كتاب الحوالة جوزها على من ليس عليه شئ
للمحيل، ثم قوى في آخره المنع، ولم ينقل المنع هنا عن غير الشيخ.
قال في المسالك: ومبنى القولين على أن الحوالة هل هي استيفاء أو اعتياض؟
فعلى الأول يصح دون الثاني، لأنه ليس على المحال عليه شئ يجعل عوضا عن
حق المحتال.
أقول: لا يخفى أن الوارد من الأخبار في هذه المسألة، وهو ما قدمناه في
سابق هذه المسألة، وليس غيره في الباب دالا بظاهر اطلاقه على صحة الحوالة،
أعم من أن يكون المحال عليه مشغول الذمة أو بريئا، فالأظهر في الاستدلال على
هذا الحكم هو الاستناد إلى اطلاق الأخبار المذكورة، وعدم التعويل على هذه
الاعتبارات المتكلفة، والله العالم.
الخامسة - من شروط الحوالة رضى الثلاثة المتقدم ذكرهم، وقد عرفت الكلام
في الاتفاق على المحيل والمحتال، والخلاف في المحال عليه.
ومنها كمالهم وعدم الحجر عليهم، وأكثر هم لم يذكر هذا الشرط وكأنه
لظهوره والاكتفاء بذكره في أمثال هذا المقام من الضمان ونحوه.
ومنها أنه يشترط ملاءة المحال عليه أو العلم باعساره وقت الحوالة، فلو قبل
الحوالة جاهلا بحاله ثم بأن اعساره وقت الحوالة كان له فسخ الحوالة، والرجوع
على المحيل، ويدل عليه ما تقدم من رواية منصور بن حازم (1) ورواية أبي أيوب (2).
ولو كان وقت الحوالة مليا ثم تجدد له الاعسار فلا خيار، وتدل عليه رواية
عقبة بن جعفر المتقدمة (3) ومفهوم الروايتين المذكورتين أيضا حيث منعتا من

(1) ص 50
(2) ص 50
(3) ص 51
52

الرجوع بعد الحوالة مطلقا إلا في صورة افلاسه وقت الحوالة.
ولو انعكس الفرض المذكور بأن كان وقت الحوالة معسرا ثم تجددت الملاءة
قبل أن يفسخ المحتال، فهل يزول الخيار أم لا؟ اشكال، لزوال الضرر المترتب على
الاعسار، فيزول الخيار، ومن ثبوت الخيار أولا فيستصحب، لأن الموجب للخيار
ليس هو الاعسار مطلقا، ليزول بزواله بل الاعسار وقت الضمان وهو، متحقق فيثبت
حكمه، ورجحه في المسالك، فقال: بأن الأقوى ثبوت الخيار لذلك.
ومنها ثبوت المال في ذمة المحيل للمحتال اجماعا، فلو لم يكن المحيل
مشغول الذمة للمحتال لم تصح الحوالة ولم تتحقق.
نعم لو أحال على شخص والحال هذه فإن كان ذلك الشخص المحال عليه غير
مشغول الذمة، فإن هذه الحوالة تصير وكالة في القرض منه. فهي وكالة، وإن كانت
بهذا اللفظ: فإنها جايزة بكل لفظ دل على ذلك، وإن كان مشغول الذمة فهي وكالة
أيضا، لكن في الاستيفاء.
وبالجملة فإن ما لم يكن ثابتا في الذمة لا تجزي الحوالة فيه، وإن وجد سببه
كمال الجعالة قبل العمل، فإنه لا يصح إحالة الجاعل به للمجعول له، لعدم ثبوته،
أما لو أحال به المجعول له على الجاعل لمن له عليه دين ثابت، فإنه يجوز، بناء
على القول بصحة الحوالة على البرئ.
ومنها أن يكون المال المحال معلوما عند المحيل، فلو أحاله بمال مجهول
عنده كما لو أحاله بماله من الدين لم يصح للغرر، ولأن الحوالة إما أن تكون
اعتياضا أو استيفاء وعلى الأول فلا يصح على المجهول، كما أنه لا يصح بيعه، وعلى
الثاني فإنه إنما يمكن استيفاء المعلوم.
قال في التذكرة: ويحتمل هنا (1) الصحة، ويكون على المحال عليه للمحتال
ما يقوم به البينة، كما قلنا في الضمان، ولا فرق في اشتراط كونه معلوما بين أن

(1) أي على تقدير كونه استيفاء. منه رحمه الله.
53

يكون مثليا كالطعام، أو قيميا كالعبد والثوب خلافا للشيخ: (1) وجماعة حيث منعوا
من جواز الحوالة بالقيمي، لكونه مجهولا.
ورد بأنه معلوم بالوصف المصحح للبيع، والواجب فيه القيمة وهي مضبوطة
أيضا تبعا لضبطه، فلا مانع مع شمول عموم الأدلة.
ومنها سبق اشتغال ذمة المحال عليه عند بعض، وهو من قال بعدم جواز
الحوالة على البرئ، وأما على ما قدمناه من القول بالجواز فإنه لا وجه لهذا الشرط.
ومنها أنه يشترط تساوي المالين جنسا ووصفا تفصيا من التسلط على المحال
عليه، إذ لا يحب أن يرفع الأمثل ما عليه، وتردد المحقق في الشرايع في هذا الشرط.
قال في التذكرة: من مشاهير الفقهاء وجوب تساوي الدينين، أعني
الدين الذي للمحتال على المحيل، والدين الذي للمحيل على المحال عليه جنسا
ووصفا وقدرا، فلو كان له دنانير على شخص فأحاله عليه بدراهم لم يصح، لئلا يلزم
التسلط على المحال عليه بما لا يستحق، وأما قدرا (2) فلا يجوز التفاوت بمعنى

(1) قال الشيخ في المبسوط: إنما تصح الحوالة في الأموال التي هي ذوات الأمثال،
ونحوه كلام ابن حمزة، وقال ابن الجنيد: الحوالة جائزة بساير ما يصح السلم فيه من الأمتعة
مع من تجوز ذلك معه ولم يذكر الشيخ المفيد ولا السلار ولا ابن إدريس ذلك، قال في
المختلف: والمعتمد عدم الاشتراط كما قال ابن الجنيد: أصالة صحة العقد عدم اشتراط
كونه مثليا، احتج المانعون بأنه مجهول، والجواب المنع من الجهالة، بل ربما يوصف به
السلم، قال الشيخ في الخلاف: نمنع كونه مجهولا، لأنه لا بد أن يكون معلوما يعني الحيوان
بوصفه وسمنه وجنسه، فإن لم يكن كذلك لم يصح الحوالة، انتهى، منه رحمه الله.
(2) أقول: المراد بقوله وأما قدرا إلى آخره أنه لو كان للمحيل في ذمة المحال عليه
عشرة، وللمحتال في ذمة المحيل خمسة، فلا يحيل تلك الخمسة على تلك العشرة، بمعنى
أنه يأخذ تلك العشرة عوض هذه الخمسة، وكذا بالعكس علله به في التذكرة قال: إن
هذا العقد للارفاق ولا يصال كل حق إلى مستحقه ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حط شئ،
والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس، انتهى. نعم على تقدير التفاوت
بين الدينين يجوز الحوالة بالمساوي كأن يحيل إليه في الصورة الأولى بخمسة من تلك العشرة،
قال في التذكرة: وللشافعية وجه في الإحالة بالقليل على الكثير أنها جائزة، وكان المحيل
يتبرع بالزيادة. منه رحمه الله.
54

الحوالة بالزايد على الناقص وكذا العكس ومع التفاوت يجوز بالمساوي، وأما
الأجل فيجوز الحال بالحال، والمؤجل بمثله وبالحال والأبعد بالأنقص لا العكس،
لأنه تأجيل حال. نعم لو شرط في الحوالة في الحالين عدم القبض إلا بعد أشهر مثلا
يجوز، لدليل وجوب العمل بالشرط. انتهى.
كذا نقل عنه المحقق الأردبيلي (قدس سره) في شرح الإرشاد، والظاهر أنه
نقل بالمعنى لملخص ما ذكره في الكتاب المذكور، كما لا يخفى على من راجع
كتاب التذكرة.
أقول: وتفصيل الكلام في المقام هو أن الشيخ (رحمة الله عليه) وجماعة ذهبوا
إلى اشتراط تساوي المالين أي المال المحال به، والمال المحال عليه جنسا ووصفا،
لأن حقيقة الحوالة تحويل ما في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فإذا كان الدين
الذي على المحيل دراهم مثلا، والدين الذي على المحال عليه دنانير، فكيف
يصير حق المحتال على المحال عليه دراهم، ولم يقع عقد يوجب النقل من الدنانير
التي في ذمته إلى الدراهم.
والجواب عن ذلك أنه متى قيل باشتراط رضى المحال عليه كما هو المشهور
أو لم نقل ثمة به، ولكن نقوله في هذا المقام حيث أنها معاوضة تتوقف على رضاه
كما أشار إليه العلامة في المختلف، حيث أنه ممن منع اشتراط رضاه، ولكن أوجبه
في هذا المقام، حيث أنها معاوضة.
وكذا إذا قلنا بجواز الحوالة على البرئ - كما هو الأشهر الأظهر مما عرفت
فيما تقدم - فإنه لا وجه لما ذكروه من المنع بالكلية، ومتى جاز الحوالة على البرئ
الذي لا حق عليه بالكلية، فلأن يجوز على من عليه حق مخالف أولى، وغاية ما يلزم
هو مخالفة الحق المحال به لما هو عليه، وهذا لا يصلح للمنع، لأن الحوالة إن كانت
استيفاء، فالاستيفاء يجوز بالجنس وغير الجنس مع التراضي على ذلك، وإن كانت
اعتياضا فكذلك، لجواز المعاوضة على المختلفين وهذه المعاوضة هنا ليست من قبيل
المعاوضة في البيع، حتى يعتبر فيها التقابض ونحوه مما اعتبر في البيع، بل هي
معاوضة مبنية على الارفاق والمسامحة.
55

وبالجملة فإنه متى حصل التراضي من الجانبين كما هو المفروض فلا مانع
والتسلط الذي التجأوا إليه في المنع إنما يتم مع عدم التراضي والمفروض وجوده، نعم
لو قلنا بعدم جواز الحوالة على البرئ اتجه ما ذكروه. والله العالم.
السادسة - الظاهر أنه لا خلاف بينهم في جواز ترامي الحوالات ودورها، لحصول
شرايط الصحة، وعدم المانع فكما تصح الأولى تصح الثانية والثالثة، وهكذا لعين
ما ثبت به صحة الأولى، فلو أحال المديون زيدا على عمرو ثم أحال عمرو زيدا على
خالد، ثم أحال خالد زيدا على بكر صح، وهذا في صورة تعدد المحيل والمحال
عليه، فإن كلا منهم ما عدا الأول محيل ومحال عليه، مع اتحاد المحتال، فإن
المحتال في جميع هذه الفروض واحد، وهو زيد، ويجوز أن يرجع الأخير منهم
على المديون الأول، ويحيل عليه، أما بأن تكون ذمته مشغولة بدين لمن أحال
عليه، أو بناء على جواز الحوالة على البرئ فيصح دورها، ومثله (1) باقي
الحوالات السابقة.
السابعة - لو أحال عليه فقبل الحوالة وأدى ثم رجع على المحيل بما أداه
مدعيا براءة ذمته من مال المحيل، وادعى المحيل اشتغال ذمته، وأنه إنما أحال
عليه من حيث كونه مشغول الذمة بماله، فإن قلنا بجواز الحوالة على البرئ
كما هو أظهر القولين، وأشهر هما، فإن القول هنا قول المحال عليه بيمينه، لأنه
منكر لاشتغال الذمة، وإن اعترف بصحة الحوالة، فإن صحتها لا تستلزم شغل الذمة
لما عرفت من جوازها على البرئ، فيرجع بما أداه على المحيل بعد اليمين،
وإن قلنا بأن الحوالة مشروطة بشغل ذمة المحال عليه فوجهان:
أحدهما - أنه لا يقبل قوله في نفي شغل الذمة، لأن الحوالة تقتضي شغلها، حيث أن
الحوالة لا تصح إلا مع شغل الذمة كما هو المفروض، وهو موافق على الحوالة.
وبالجملة فالمنكر وإن كان معه أصالة عدم شغل الذمة، إلا أن ذلك يقتضي

(1) المراد مثل ذلك في الحوالة على البرئ أو مشغول الذمة فإنك قد عرفت صحة
الحوالة على البرئ فيما تقدم، فهو جائز في كل موضع تصح الحوالة فيه بدون ذلك.
منه رحمه لله.
56

بطلان الحوالة على هذا التقدير، ومدعي الدين يدعي صحتها، ومدعي الصحة عندهم
مقدم، وعلى هذا فلا تسمع دعوى المحال عليه، ولا يرجع على المحيل بشئ،
وثانيهما - أ ن يقال: إن هنا أصلين تعارضا، أصالة عدم شغل الذمة مع المحال عليه
وأصالة صحة العقد مع المحيل فتساقطا، وبقي مع المحال عليه أنه أدى عن المحيل
بإذنه، فيرجع عليه حينئذ على التقديرين (1).
واستحسنه في المسالك ثم اعترضه بأن الإذن في الأداء إنما وقع في ضمن
الحوالة، وإذا لم يحكم بصحتها لا يبقى الإذن مجردا، لأنه تابع فيستحيل بقاؤه
بدون متبوعه.
ثم أجاب بأن الإذن وإن كان واقعا في ضمن الحوالة إلا أنه أمر يتفقان على
وقوعه، وإنما يختلفان في أمر آخر، فإذا لم يثبت لا ينتفي ما وقع الاتفاق منهما
عليه، انتهى.
ومنه يظهر أن الأقرب إلى الاعتبار هو كون القول قول المحال عليه مطلقا
وهو اختيار المحقق الأردبيلي (قد س سره) أيضا في شرح الإرشاد، والله العالم.
الثامنة - قالوا: إذا أحال المشتري البايع بالثمن ثم رد المبيع بعيب سابق
فهل تبطل الحوالة؟ لأنها تبع للبيع، فيه تردد، فإن لم يكن البايع قبض المال
فهو باق في ذمة المحال عليه للمشتري، وإن كان البايع قبضه فقد برئ المحال
عليه، ويستعيده المشتري من البا يع.
أما لو أحال البايع أجنبيا بالثمن على المشتري، ثم فسخ المشتري بالعيب
أو بأمر حادث لم تبطل الحوالة، لأنها تعلقت بغير المتبايعين، ولو ثبت بطلان البيع
بطلت الحوالة في الموضعين.
أقول: تفصيل اجمال هذا الكلام وبيان ما اشتمل عليه من الأحكام يقع في
مواضع: الأول - فيما إذا أحال المشتري البايع بالثمن على شخص آخر، ثم رد
المبيع بعيب سابق وفسخ العقد، فهل تبطل الحوالة أم لا؟ قد تردد في ذلك المحقق

(1) أي على تقدير صحة الحوالة أو اشتراط شغل الذمة في صحة الحوالة
وعدم جواز الحوالة على البرئ. منه رحمه الله.
57

في الشرايع، والعلامة في الإرشاد.
ومنشأ التردد من جهة ما ذهب إليه الشيخ: من بطلان الحوالة في الصورة
المذكورة، معللا ذلك بأن الحوالة تابعة للبيع، فإذا بطل البيع بطلت، لاستحالة
وجود التابع من جهة ما هو تابع بدون متبوعه، ومن أن الحوالة ناقلة للمال إلى
ذمة المحال عليه، فقد انتقل ما في ذمة المشتري من المال الذي هو ثمن المبيع
للمحتال إلى ذمة المحال عليه، فلا يبطله الفسخ المتأخر، لأن الفسخ إنما يبطل
العقد من حينه لا من أصله.
وربما بنى التردد أيضا وحصول الوجهين المذكورين على أن الحوالة هل
هي استيفاء ما على المحيل؟ - نظرا إلى عدم اشتراط القبض فيها ولو كان الحقان
من الأثمان، بمعنى أن المحتال أستوفي دينه الذي على المحيل بمجرد الحوالة
من غير أن يقبض منه شيئا، ولو كانت اعتياضا كان ذلك بيع دين بمثله.
ولتحقق براءة الآخر وهو المحيل بمجرد الحوالة، وعلى هذا تبطل الحوالة،
لأنها نوع ارفاق (1) وإذا بطل الأصل بطل مهية الارفاق، كما لو اشترى شيئا بدراهم
مكسرة وتطوع بأداء صحاح عوضها ثم فسخ، فإنه يرجع عليه بالصحاح، ولا يقال:
إنه يطالب بمثل المكسرة ليبقى التطوع بحاله، لأن التطوع إنما بني على البيع،
والبيع قد انفسخ وبطل، فيبطل ما تفرع عليه، أو أن الحوالة اعتياض لا استيفاء نظرا
إلى أنه لم يقبض نفس حقه، بل أخذ بدله عوضا عنه، وهو معنى الاعتياض، وعلى
هذا لا تبطل كما لو اعتاض البايع عن الثمن ثوبا ثم فسخ، فإنه يرجع بالثمن لا بالثوب.
أقول: وهذا الوجه الأخير الذي بنى عليه التردد نقله العلامة في التذكرة
عن الشافعية: بالاحتمالين المترتبين عليه، وظاهره وكذا ظاهر جملة من الأصحاب،
التوقف هنا، لاقتصارهم على نقل الأوجه المذكورة في المسألة، والخلاف المنقول
عن الشيخ من غير أن يرجحوا شيئا وهو في محله.

(1) وجه كونها نوع ارفاق أنه يستحق الثمن في ذمته فالواجب دفع عين الثمن،
وقبول الحوالة ارفاق بالمحيل ومسامحة له، فإذا كان بناء الحوالة على الآفاق والمسامحة
للمحيل، فحين بطل البيع بالفسخ تبعه ما يترتب عليه من الارفاق فيبطل حسب ما ذكر في
المثال المذكور في الأصل. منه رحمه الله.
58

وينبغي أن يعلم أنه لا فرق فيما ذكر من الحكم المذكور بالوجه المتقدمة،
بين كون الرد بالعيب بعد قبض المبيع أو قبله، ولا بين أن يتفق الرد بعد قبض
المحتال مال الحالة أو قبله، ولا بين الفسخ بخيار العيب أو غيره من أنواع الخيار،
والإقالة والفسخ بالتحالف ونحو ذلك مما لا يبطل البيع من أصله.
ولكن المتأخرين من الأصحاب مثلوا بالعيب تبعا لمن فرض المسألة، وكذا
لا فرق بين العيب السابق على البيع أو اللاحق على وجه يجوز الفسخ، كالعيب قبل
القبض وقبل انقضاء الثلاثة في الحيوان، لاشتراك الجميع في العلة الموجبة للحكم
المذكور في الصورة المفروضة في كلام من فرضها، وأصل هذه الفروض والفروع
في هذه المسألة وأمثالها كله من كلام العامة، كما لا يخفى على من لاحظ التذكرة،
وأصحابنا كالشيخ: وأتباعه جروا عليها.
الثاني - أنه متى قلنا ببطلان الحوالة كما هو أحد الوجهين المتقدمين بأي
سبب من السببين المتقدمين أيضا، فإن كان المحتال وهو البايع قد قبض المال من
المحال عليه فقد برئت ذمة المحال عليه، ويستعيده المشتري من البايع إن كان
موجودا بعينه، ولو تلف لزمه بدله وإن تلف بغير تفريط، لأنه مضمون عليه حيث
أنه قبضه عوضا عن الثمن، وليس للمحتال رده على المحال عليه، فإن رده عليه
فللمشتري مطالبته، وإن كان لم يقبض فليس له قبضه، لبطلان الحوالة، فيبقى في
ذمة المحال عليه لصاحبه، وهو المشتري كما كان.
فلو خالف المحتال وقبضه بعد بطلان الحوالة لم يقع عنه لبطلان حقه. وهل
يقع للمشتري قالوا: فيه وجهان (1)؟ ومتى قلنا بصحة الحوالة كما هو الوجه الآخر،
فإن كان البايع قد قبض برأ المحال عليه، ورجع المشتري على البايع، ولا يتعين
حقه فيما قبضه، وإن لم يكن قد قبض فله القبض، وللمشتري الرجوع عليه، قبل

(1) منشأ هما من أن الحوالة متضمنة للإذن في القبض، فإن قلنا أن الإذن يبطل ببطلان
الحوالة، لأنه متى كان من لوازمها فإنه يتبعها وجودا وعدما، فإذا بطلت بطل، لاستحالة تخلف
اللازم عن ملزومه، وإن قلنا بأن الإذن الضمني لا يبطل ببطلان ما كان في ضمنه كما هو أحد
القولين فيه، كما ذكروه في الشركة والوكالة وتحقيق ذلك في باب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
منه رحمه الله.
59

القبض لأن الحوالة كالمقبوض، ومن ثم يسقط حق حبس المبيع لو أحال المشتري
البايع بالثمن.
قيل: ويحتمل عدم جواز رجوعه إلى أن يقبض، لعدم وجود حقيقة القبض،
وإن وجد ما هو بمعناه في بعض الأحكام.
أقول: من المحتمل قريبا أن ترتب الرجوع على القبض أو ما في معناه لا يظهر
له وجه وجيه، لأن الحوالة بناء على ما هو المفروض من القول بصحتها أمر منفك
عن البيع غير مترتب عليه صحة وبطلانا، فيعمل في الحوالة بما هو مقتضاها من قبض
المحتال من المحال عليه متى أراد، رجع عليه المشتري أو لم يرجع، وفي البيع
ما يقتضيه من رجوع المشتري بالثمن بعد الفسخ على البايع، قبض مال الحوالة أم
لم يقبض. والله العالم.
الثالث - لو أحال البايع أجنبيا بالثمن على المشتري ثم فسخ المشتري بالعيب
أو بأمر حادث لم تبطل الحوالة لما ذكر من التعليل، وهو تعلق الحوالة هنا بغير
المتبايعين، بخلاف المسألة المتقدمة، وهي حوالة المشتري البايع بالثمن، فإن
الحوالة متعلقة بالمتبايعين، وهذا هو وجه الفرق بين المسألتين.
وبيان الفرق أن الحق في تلك المسألة كان مختصا بالمتبايعين بسبب البيع،
فإذا بطل السبب بطل ما يترتب عليه، بخلاف حوالة الأجنبي، فإنه لا تعلق له بالبيع،
ولا بصحته ولا ببطلانه، وإن حكمنا ببطلان البيع بعد الفسخ، حيث أن الثمن صار مملوكا
لذلك الأجنبي المحتال قبل فسخ العقد، ونقل عن الشيخ: هنا الاجماع على عدم
بطلان الحوالة، قيل: ويحتمل ضعيفا البطلان هنا أيضا، لأن استحقاق المحتال
فرع استحقاق المحيل، فإذا بطل حق المحيل بطل تابعه، ووجه ضعفه أنه تابعه حين
الحوالة لا بعد ذلك، لإفادتها الملك حين وقعت بغير معارض.
أقول: وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون المحتال قد قبض أم لا، لأن الناقل
للملك الحوالة، لا القبض، وحينئذ فإن المحتال يرجع على المشتري بما أحيل
له به من الثمن لو لم يقبضه، والمشتري بعد الفسخ يرجع به على البايع.
الرابع - لو ثبت بطلان البيع بطلت الحوالة في كل من الموضعين المذكورين،
60

أعني حوالة المشتري البايع بالثمن كما مر في المسألة الأولى، وحوالة البايع
الأجنبي بالثمن على المشتري.
وتوضيحه أن صحة الحوالة فرع استحقاق البايع الثمن، وثبوته له على كل
من التقديرين المذكورين، ومع تبين بطلان البيع من أصله يظهر عدم استحقاق
البايع الثمن في ذمة المشتري في نفس الأمر.
والتحقيق أن الحوالة وقعت باطلة من أصلها، إلا أنه إنما انكشف البطلان
بظهور بطلان البيع، وعدم استحقاق الثمن، فيكون بطلان البيع كاشفا عن بطلانها،
وحينئذ فإن كان البايع بالنسبة إلى المسألة الأولى أو المحتال بالنسبة إلى الثانية لم
يقبض، فليس له القبض بظهور البطلان كما عرفت، وإن كان قد قبض، فإن للمشتري
أن يرجع عليه بذلك، وللمشتري أيضا الرجوع في المسألة الثانية (1) على البايع
بما قبضه محتاله، لأنه قد وفي ذمته للمحتال، وهو الأجنبي، فقبضه منسوب
إليه، وليس للمشتري الرجوع في المسألة الأولى، وهي ما إذا أحال المشتري
البايع بالثمن على شخص آخر على ذلك الشخص الآخر المحال عليه لصدور القبض
بإذنه، وإنما يرجع على البايع. والله العالم.
المقصد الثالث في الكفالة:
المفهوم من جملة من الأخبار كراهة الكفالة والتأكيد في المنع منها،
فروى في الكافي عن حفص بن البختري (2) في الصحيح " قال: أبطأت عن الحج،
فقال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما أبطأ بك عن الحج، فقلت: جعلت فداك تكفلت
برجل فخفر بي فقال: مالك والكفالات، أما علمت أنها أهلكت القرون الأولى،
ثم قال: إن قوما أذنبوا ذنوبا كثيرة فأشفقوا منها وخافوا خوفا شديدا، فجاء

(1) وهي ما أحال البايع أجنبيا على المشتري بالثمن، ووجه رجوعه على البايع
أن البايع إنما أحال بالثمن على المشتري للأجنبي، لأنه مشغول الذمة للأجنبي، فيكون المشتري
قد أدى عنه ما في ذمته بإذنه، فيرجع به عليه حينئذ، فعلى هذا يتخير بين الرجوع على البايع
وعلى محتاله. منه رحمه الله.
(2) الكافي ج 5 ص 103 ح 1 باب الكفالة والحوالة.
61

آخرون فقالوا: ذنوبكم علينا فأنزل الله عز وجل عليهم العذاب، ثم قال تبارك وتعالى: خافوني واجترأتم علي "
والخفر نقض العهد.
وروى الشيخ في التهذيب عن أبي الحسن الخزاز " قال: سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول لأبي العباس الفضل بن عبد الملك: ما منعك عن الحج؟ قال: كفالة تكفلت
بها قال: مالك والكفالات أما علمت أن الكفالة هي التي أهلكت القرون الأولى ".
وروى الصدوق في الفقيه مرس (2) لا وقال الصادق (عليه السلام): الكفالة
خسارة غرامة ندامة ".
وبإسناده عن إسماعيل بن جابر (3) " عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال:
لا تتعرضوا للحقوق، فإذا لزمتكم فاصبروا إلها ".
وروى الشيخ بإسناده عن داود الرقي (4) قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام)
مكتو ب في التورية كفالة ندامة غرامة ".
والبحث في هذا المقصد يقع في مواضع: الأول الكفالة هي التعهد
بالنفس بمعنى التزام احضار المكفول متى طلبه المكفول له، فهي متعلقة بثلاثة، الكفيل
وهو هنا بمعنى الفاعل وإن كانت هذه الصيغة تصلح للمفعول أيضا، إلا أنهم إنما أرادوا به
هنا الكافل، والمكفول له، والمكفول، ولا ريب في اعتبار رضى الأولين، ولا خلاف
فيه أيضا لأن الكفالة من جملة العقود اللازمة المتوقفة على الإيجاب والقبول
ونحوهما.
قال في التذكرة: ولا بد فيه من صيغة دالة على الإيجاب والقبول، فيقول
الكفيل: كفلت لك بدن فلان، أو أنا كفيل باحضاره، أو كفيل به أو بنفسه، أو ببدنه.
أو بوجهه أو برأسه، لأن ذلك يعبر به عن الجملة وحينئذ فلا بد من وقوعها بين
اثنين، وهما الكفيل والمكفول له، ولا بد من رضاهما.

(1) التهذيب ج 6 ص 209 ح 1
(2) الفقيه ج 3 ص 55 ح 6
(3) الفقيه ج 3 ص 103 ح 67
(4) التهذيب ج 6 ص 210 ح 9 والروايات في الوسائل ج 13 ص 154 الباب 7
62

أما الكفيل فلأنه ملتزم للحق، وهو غير صحيح إلا برضاه، وأما المكفول له
فلأنه صاحب الحق، فلا يجوز إلزامه شيئا إلا برضاه، وبهما يتم العقد.
وأما المكفول فالمشهور أنه لا يعتبر رضاه، لوجوب الحضور عليه متى طلبه
صاحب الحق وإن لم يكن ثمة كفالة، والكفيل إنما هو بمنزلة الوكيل حيث يأمره
المكفول له باحضاره، فغاية الكفالة هي حضور المكفول حيث يطلب.
وظاهر العلامة في التذكرة الاجماع على ذلك، حيث قال: تصح الكفالة
وإن كرهها المكفول عند علمائنا، مع أنه نقل غير واحد من أصحابنا عن الشيخ
في أحد قوليه (1) أنه يشترط رضاه، وقواه هو أيضا في التحرير، وبه قال ابن إدريس
أيضا، ونقل عنهم الاحتجاج على ذلك بأنه إذا لم يأذن فيها أو يرضى بها لم يلزمه
الحضور مع الكفيل، فلم يتمكن من احضاره، ولا تصح كفالته لأنها بغير المقدور
عليه، وهذا بخلاف الضمان، لامكان تأديته من مال غيره بغير إذنه، ولا يمكن أن
ينوب عنه في الحضور.
ورد ذلك بأن مدار هذا الاستدلال على عدم وجوب الحضور معه بغير رضاه،
وهو ممنوع، لأن المستحق متى طلبه وجب عليه الحضور وإن لم يكن مكفولا كما
قدمنا ذكره، وهو مما لا خلاف فيه، والغرض من الكفالة له راجع إلى التزام الكفيل
باحضاره متى طلبه المكفول له، ومتى ثبت وجوب الحضور عليه بعد الطلب وإن
لم يكن مكفولا، فإنه لا يجب في صورة الكفالة أيضا، لأن الكفيل إنما هو بمنزلة
الوكيل في طلب الاحضار، وبالجملة فضعف القول المذكور أظهر من أن يخفى
على الناظر. والله العالم.
الثاني - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن الكفالة تصح حالة
ومؤجلة، للأصل، ولأن الحضور حق شرعي فلا يمنعه الحلول، ومنع الشيخ في

(1) قال في المبسوط: إذا تكفل رجل ببدن رجل لرجل عليه مال أو يدعي عليه مالا...
يصح إلا أنها لا تصح إلا بإذن من يكفل عنه وتبعه ابن البراج، وابن حمزة وابن إدريس، قال في
المختلف: ولم يشترط باقي علما ثنا ذلك، وهو المعتمد، لنا الأصل ولأنه لا يشترط رضاه في
كفالة المال، فكذا البدن، انتهى. منه رحمه الله.
63

النهاية والشيخ المفيد الكفالة الحالة، قالا: لا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل معلوم،
وتبعهما ابن حمزة، وهو الظاهر من كلام السلار، ولابن البراج قولان، وسوغ في
المبسوط الحالة، وبه قال ابن إدريس وجملة المتأخرين لما تقدم.
ثم إنه متى اشترط الأجل وجب أن يكون معلوما كما في غير هذا الموضع
لما في الجهالة من الغرر، إذ ليس له وقت يستحق المطالبة فيه كغيره من الآجال
ولا خلاف في ذلك إلا لبعض العامة، حيث جوز أن يكون الأجل هنا مجهولا،
لاشتمال الكفالة على التبرع فيتسامح فيها كالعارية.
ورد بأن العارية غير لازمة فلا يقدح فيها الأجل المجهول، لجواز المطالبة
بالمستعار في الأجل وإن كان معلوما.
الثالث - للمكفول مطالبة الكفيل باحضار المكفول عاجلا إن كانت الكفالة
مطلقة أو معجلة، وبعد الأجل إن كانت مؤجلة، فإن أحضره وسلمه فقد برئ،
وإلا وجب حبسه حتى يحضره أو يؤدي ما عليه، كذا ذكره بعض الأصحاب.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا الحكم ما رواه ثقة الاسلام في الكافي
عن عمار (1) في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: أتى أمير المؤمنين
(عليه السلام) برجل تكفل بنفس رجل فحبسه وقال أطلب صاحبك ".
ورواه الشيخ في التهذيب عن عمار بن مروان (2) عن جعفر عن أبيه عن علي
عليهم السلام مثله.
وما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار (3) عن جعفر عن أبيه
(عليهما السلام) أن عليا (عليه السلام) أتى برجل كفل برجل بعينه فأخذ بالمكفول
فقال: احبسوه حتى يأتي بصاحبه ".
وما رواه في الفقيه عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته (4) " قال: قضى
أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل تكفل بنفس رجل أن يحبس، وقال له: أطلب

(1) الكافي ج 5 ص 105 ح 6
(2) التهذيب ج 6 ص 209 ح 4 و 3
(3) التهذيب ج 6 ص 209 ح 4 و 3
(4) فقيه ج 3 ص 54 ح 1 وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 156 الباب 9
64

صاحبك، وقضى (عليه السلام) أنه لا كفالة في حد ".
وفي كتاب الفقه الرضوي (1) على ما نقله عنه في كتاب بحار الأنوار روى إذا
كفل الرجل بالرجل حبس إلى أن يأتي بصاحبه.
أقول: وهذه الأخبار على تعددها لم يتضمن أزيد من حبسه حتى يحضر
المكفول، والأصحاب (رضوان الله عليهم) قد قيدوا التسليم بكونه تسليما تاما،
بمعنى أنه لو اشترط الوقت والمكان في العقد فلا بد من أن يكون التسليم في ذلك
الوقت وذلك المكان المشترطين، وإلا لم يكن تسليما تاما، نحوهما في بلد العقد
ولو مع الاطلاق، لانصراف الاطلاق إليه عندهم، وأن لا يكون للمكفول مانع من
تسليمه، بأن يكون في يد ظالم أو متغلب يمنعه منه، أو في حبسه، أو يكون
المكفول قويا والمكفول له ضعيفا لا يتمكن من وضع اليد عليه ونحو ذلك، فإذا
سلمه كذلك كان تسليما تاما موجبا لبرائته وخلو عهدته.
ولو لم يتسلمه المكفول له والحال هذه قيل: سلم إلى الحاكم إن أمكن،
وبرء أيضا، وإن لم يمكن أشهد عدلين باحضاره إلى المكفول له وامتناعه من
قبضه، وقيل بالاكتفاء بالاشهاد بدون التسليم إلى الحاكم وإن قدر عليه، لأن مع
وجود صاحب الحق لا يلزم دفعه إلى من ينوب عنه من حاكم وغيره.
وعندي أيضا في وجوب الاشهاد نظر، لعدم الدليل عليه في المقام: كما أنه
لا دليل على التسليم للحاكم أيضا، إلا أن يراد بذلك براءة الذمة عن المطالبة بالاحضار
مرة أخرى، وإلا فهو في حد ذاته من غير ملاحظة ذلك لا وجه له في كل من
الموضعين، هذا ما يتعلق بالكفيل إذا سلم.
أما لو امتنع التسليم فقد عرفت من الأخبار المتقدمة أن للحاكم حبسه حتى
يحضره، والأصحاب قد ذكروا هنا أن للحاكم حبسه حتى يحضره، وله عقوبته عليه
كما في كل ممتنع عن أداء الحق.
وفيه أن غاية ما دلت عليه الأخبار المتقدمة هو الحبس حتى يحضره، وهذا
كاف في عقوبته فلا معنى لعقوبته زيادة على ذلك، لعدم الإذن فيه شرعا ثم إنهم

(1) المستدرك ج 2 ص 498
65

ذكروا أنه إن سلمه بعد ذلك فلا كلام، وإن أبى وبذل ما عليه فقد صرح الشيخ:
وجمع منهم المحقق في الشرايع وغيره كما قدمنا الإشارة إليه ببرائة ذمته من الكفالة
لحصول الغرض من الكفالة.
ورد بأنه على تقدير تمامه إنما يصح فيما يمكن أخذه من الكفيل كالمال،
ولو لم يكن كذلك كالقصاص وزوجية امرأة والدعوى بعقوبة توجب حدا، فلا بد
من احضاره.
وذهب جمع من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة إلى أنه لا يتعين على
المكفول له قبول الحق، بل له إلزامه بالاحضار مطلقا، وهذا هو ظاهر الأخبار
التي قدمناها، كما أشرنا إليه ذيلها، وأصحاب هذا القول عللوا ما ذكروه بعدم
انحصار الأغراض في أداء الحق، وقد يكون له غرض لا يتعلق بالأداء، أو بالأداء من
الغريم لا من غيره، وخصوصا فيما له بدل، فإنه بدل اضطراري، لا عين الحق الذي
يتعلق الغرض غالبا بحصوله.
وأنت خبير بما في هذا التعليل العليل من تطرق المناقشة، فإن البناء على
هذه الأغراض إنما يصح فيما لو كانت حقوقا شرعية لا مجرد التشهي، والكفالة إنما
وقعت وترتبت على حق شرعي.
والأظهر في التعليل إنما هو الوقوف على ظاهر الأخبار المتقدمة، حيث أن
ظاهرها انحصار الحق في احضار المكفول، وأنه لا تبرئ الذمة إلا باحضاره، وقبول
ما بذله عنه من المال المطلوب عنه على تقدير كون متعلق الكفالة المال إنما هي
معاملة أخرى بمنزلة الصلح، يتوقف على رضى الطرفين.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو تراضيا على قبول المال كما ذكرنا فبذله الكفيل
وقبله المكفول له ورضي به عن حقه الذي تعلقت به الكفالة، فهل يرجع بما دفعه
على المكفول عنه؟ قالوا: إن كان قد كفل بإذن الغريم، أو أدى بإذنه وإن كان كفل
بغير إذنه فله الرجوع عليه، وإن انتفى الأمران، فإن أمكنه احضاره فلم يحضره
لم يرجع عليه، وكذا إن كفل بغير إذنه، وأدى بغير إذنه مع تمكنه من مراجعته،
لأن الكفالة لم تتناول المال اختيارا فيكون كالمتبرع، وإن تعذر عليه احضاره رجع
66

عليه مع إذنه في الكفالة، وفي رجوعه مع عدمه نظر، وظاهرهم أنه يرجع أيضا
كذا ذكره في المسالك.
وفيه أن ظاهر صدر كلامه أنه إذا كفل بإذن الغريم فله الرجوع مطلقا،
وظاهر كلامه بعد ذلك أنه لا يرجع مع الإذن في الكفالة إلا مع تعذر الاحضار،
فلو أمكن الاحضار لم يرجع، وهذا هو الأوفق بقواعدهم، لأن الإذن في الكفالة
إنما يقتضي تسليم المكفول دون المال، فمتى أمكن احضاره ودفع عنه المال والحال
هذه، فإنه لا معنى لرجوعه به عليه، لأنه كالمتبرع كما تقدم. نعم لو تعذر الاحضار
أمكن ذلك لظهور المانع. والله العالم.
الرابع - قال الشيخ في النهاية: ومن ضمن غيره إلى أجل وقال: إن لم آت
به كان على كذا وحضر الأجل لم يلزمه إلا احضار الرجل، فإن قال: على كذا
إلى كذا إن لم أحضر فلانا ثم لم يحضره وجب عليه ما ذكره من المال.
وقال ابن حمزة إن قدم ضمان المال على الكفالة، وعجز عن التسليم يلزمه
المال، وإن قدم الكفالة على ضمان المال لزمه احضاره دون المال.
وقال ابن البراج: إن قال إن لم أحضره في وقت كذا فعلي كذا، فقد قدم
ذكر الوقت وأخر ذكر المال لم يجب عليه إذا حضر الأجل إلا احضاره دون المال،
وإن كان قال: على كذا إن لم أحضره في وقت كذا فقدم ذكر المال وأخر ذكر الوقت،
وجب عليه إذا حضر الأجل ولم يحضره - المال الذي ذكره.
وقال ابن إدريس: الفرق أنه إن بدأ بضمان المال، فقال: على المال المعين
إلى كذا إن لم أحضره ثم لم يحضره وجب عليه ما ذكره من المال، وإن بدأ بضمان
النفس، فقال: إن لم أحضره عند حلول الأجل كان على كذا، وحضر الأجل لم يلزمه إلا
احضار الرجل دون ما ذكره من المال، لأنه بدأ بضمان النفس قبل المال وافترق الأمران.
وقال ابن الجنيد: إذا قال الكفيل لطالب الحق: مالك على فلان فهو علي
دونه إلى يوم كذا، وأنا كفيل لك بنفسه صح الضمان على الكفيل بالنفس، وبالمال
إن لم يؤد المطلوب إلى الطالب إلى ذلك الأجل وسواء قال له عند الضمان: إن لم
يأتك به أو لم يقل ذلك، فإن قدم الكفالة بالنفس، وقال أنا كفيل لك بنفس فلان
67

إلى يوم كذا، فإن جاء بمالك عليه وهو ألف درهم، وإلا فأنا ضامن للألف، صحت
الكفالة بالنفس، وبطل الضمان للمال، لأن ذلك كالقمار والمخاطرة، وهو كقول
القائل إن طلعت الشمس غدا فمالك على فلان غريمك وهو ألف درهم على، الذي
قد أجمع على أن الضمان لذلك باطل.
قال العلامة في المختلف: وعندي في هذه المسألة نظر، ثم قال: وقول ابن
الجنيد أنسب. (1)
أقول: والأصل في هذه المسألة ما رواه ثقة الاسلام في الكافي والشيخ في
التهذيب عن أبي العباس (2) في الصحيح " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل
كفل لرجل بنفس رجل فقال: إن جئت به وإلا فعليك خمسمائة درهم، قال: عليه
نفسه، ولا شئ عليه من الدراهم، فإن قال: على خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليك
قال: تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه " هكذا في رواية الكافي، وفي رواية الشيخ في
التهذيب هكذا " فقال: إن جئت به، وإلا فعلى خمسمائة درهم " الخبر.
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن أبي العباس (3) في الموثق عن أبي عبد الله
عليه السلام) " قال: سألته عن الرجل يتكفل بنفس الرجل إلى أجل، فإن لم يأت به
فعليه كذا وكذا يبدأ بالدراهم، فإن بدأ بالدراهم فهو لها ضامن أن لم يأت به إلى
الأجل الذي أجله ".
وقد أطال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الكلام في هذه المسألة بنقل ما وقع

(1) قال في المسالك بعد أن نقل عن العلامة في هذه المسألة قولا غريبا نقله عن ابنه
فخر المحققين: وقد صار للعلامة وحده في هذه المسألة أربعة أقوال، هذا أحدها، والثاني
قوله في القواعد بلزوم المال في الثانية مطلقا، والثالث في التحرير والتذكرة بلزوم المال
إن لم يحضره، والرابع في المختلف مذهب ابن الجنيد وهو قول يحتاج تقريره مع تطويل
فأعرضنا عنه هنا، انتهى. منه رحمه الله.
(2) الكافي ج 5 ص 104 ح 3 التهذيب ج 6 ص 210 ح 10
(3) الفقيه ج 3 ص 54 ح 4 والتهذيب ج 6 ص 209 ح 5 هما في الوسائل ج 13 ص 157 ح 1 و 2
68

فيها من الأقوال، والمناقشة في كل منها، ووجه الاشكال في الخبرين المذكورين،
وخروجهما عن مقتضى القواعد.
ونحن نذكر هنا ملخص ذلك ليتضح به الحال، ويظهر به ما في الخبرين
المذكورين من الاشكال، وذلك فإن ظاهر الخبرين الاشتمال على حكمين مختلفين،
ومسألتين متغايرتين باعتبار الفرق بين تقديم الجزاء على الشرط، وتأخير عنه،
مع أن ذلك لا مدخل له في اختلاف الحكم، لأن الشرط وإن تأخر فهو في حكم
المتقدم، إلا أن الجماعة جمدوا على النص، ومع ذلك فإن جملة منهم لم يقفوا
على قيوده، فإن الشيخ والمحقق في الشرايع (1) والعلامة في الإرشاد والقواعد
ذكروا لزوم المال في المسلة الثانية غير مقيد بقيد، مع أنه مقيد في الخبرين بقوله
في الأولى إن لم يدفعه إليه، وفي الثانية بقوله إن لم يأت به إلى الأجل إلى آخره،
وقد تفطن لذلك المحقق في النافع، فقال: كان ضامنا للمال إن لم يحضره إلى الأجل،
وكذلك العلامة في لتحرير والتذكرة.
ثم إن جملة منهم جمدوا على النص ولم يلتفتوا إلى تعليل في دفع ما اشتمل
عليه من المخالفة، لمقتضى القواعد كما هو طريقة الشيخ في النهاية، ومنهم من
التجاء إلى أن الحكم في المسئلتين اجماعي، ومع ذلك فإنه منصوص، فلا يمكن
العدول عنه بمجرد التباس الفرق بين الصيغتين، وعلى هذا بنى الشيخ ابن فهد في
المهذب، وتبعه المحقق الشيخ على في شرح القواعد.
وفيه نظر لعدم تحقق الاجماع المذكور (2) ومنهم من اكتفى بمجرد الدعوى

(1) قال في الشرايع: ولو قال: إن لم أحضره كان على كذا لم يلزمه إلا احضاره
دون المال، ولو قال: علي كذا إلى كذا إن لم أحضره وجب عليه ما شرط من المال. وقال
في الإرشاد: ولو قال: إن لم أحضره كان على كذا لزمه الاحضار خاصة، ولو قال: على
كذا إلى كذا إن لم أحضره وجب المال، انتهى. منه رحمه الله.
(2) وتوضيحه أن أحدا لم يدع الاجماع في المسألة، والموجود كلامهم في المسألة
جماعة يسيرة من الأصحاب والباقون لم يتعرضوا للكلام فيها بالكلية مع أن العلامة كما تقدم
نقل كلامه في المختلف وتنظر في ذلك، ثم قال إلى كلام ابن الجنيد المخالف لما ذكروه
وقد عرفت أيضا اختلاف قولي المحقق في الشرايع والنافع في ذلك، فدعوى الاجماع
والحال كما عرفت مجازفة محضة. منه رحمه الله.
69

كابن إدريس على ما تقدم في كلامه، وهو فرق بمجرد الدعوى لا يتحصل
له فائدة، ولهذا قال المحقق في نكت النهاية في رده: إن الشرط متقدم
على المشروط طبعا فلا عبرة بتأخره وضعا، ومنهم من علل ذلك بعلة ظنها وافية
بالمراد، خالية عن الإيراد، كالشيخ (رحمة الله عليه) حيث ذكر أن السر في لزوم
المال إذا قدمه براءة ذمة المضمون عنه، فيمتنع الكفالة، وإذا قدم الكفالة كان
الضمان المتعقب لها لكونه معلقا على شرط باطلا، ولمنافاة الضمان صحة الكفالة
وهذا السر الذي أظهره ناش من عبارة العلامة في القواعد والارشاد، والمحقق
في الشرايع (1) حيث أطلقوا لزوم المال في المسألة الثانية، وقد عرفت مما قدمنا
ذكره أنه في الرواية مشروط بعدم احضاره، فتكون الكفالة أيضا صحيحة، وإن
تأخرت عن ذكر المال.
هذا مع أنه مع تقديم المال قد جعل ضمانه مشروطا بعدم احضاره، فكيف يقال:
ببرائة ذمة المضمون عنه حتى تمتنع كفالته؟ وما هذا إلا رجوع إلى فرق ابن إدريس
الذي لم يجد نفعا، ومع تقديم الكفالة قد ذكر في الرواية أنه إن جاء به إلى الأجل
فليس عليه مال، ومفهوم الشرط أنه إن لم يجئ به لزمه المال، فدل بمفهومه على
خلاف ما ذكره الجماعة - وأبدوه من الفرق إلا أن لا يقولوا بمفهوم الشرط.
أقول: لا يخفى أن فهم هذا الحكم الذي ذكروه واختلفوا التفصي عن صحته
من الرواية الأولى إنما يتم على تقدير رواية الشيخ لها في التهذيب كما تقدم ذكره
وأما على رواية الكافي فإن الظاهر أن القائل بقوله " إن جئت به وإلا فعليك
خمسمأة درهم " إنما هو المكفول له خاطب بذلك الكفيل، كما هو ظاهر سياق
الرواية، وحينئذ فقوله (عليه السلام): " عليه نفسه ولا شئ عليه من الدراهم "
ظاهر، لأن مقتضى الكفالة احضار المكفول خاصة، وما اشترطه عليه المكفول له
لغو من القول، لا عبرة به، ولا أثر يترتب، وحينئذ فلا تكون هذه الرواية من

(1) وأنهم ذكروا أنه مع تقديم ذكر الكفالة في العبارة، فالواجب الاحضار، دون
المال، والرواية دلت بالمفهوم الشرطي على أنه إن لم يجيئ بالرجل إلى الأجل فعليه المال
فاطلاق لزوم الكفالة بمجرد تقديمها في العبارة لا وجه له لما دل عليه النص من التفصيل في
ذلك. منه رحمه الله.
70

المسألة في شئ.
بقي قوله في تتمة الرواية، " فإن قال " يحمل على قول الكفيل، بمعنى
أنه إن قال ذلك وألزم نفسه المبلغ المذكور لزمه إن لم يدفعه، وما ربما يقال:
- من أنه يخالف المشهور، من أن مقتضى الكفالة أداء المال إن لم يحضر المكفول -
مردود بما قدمنا ذكره، من أن غاية ما يفهم من أخبارها المتقدمة إنما هو احضار
المكفول خاصة، غاية الأمر أنهما إذا اصطلحا وتراضيا بدفع المال صح ذلك، وإلا
فالحق الذي أو جبته الكفالة إنما هو الاحضار خاصة.
نعم يبقى الاشكال بالنسبة إلى الخبر الثاني، قال في الوافي - ونعم ما قال،
بعد ذكر الخبرين المتقدمين على الترتيب الذي قدمناه ونقله الرواية الأولى بما في
الكافي - ما لفظه: بيان الفرق بين الصيغتين في الخبرين غير بين ولا مبين، وقد
تكلف في ابدائه جماعة من أصحابنا بما لا يسمن ولا يغني من جوع، صونا لهما
من الرد، وقد ذكره الشهيد الثاني في شرحه للشرايع، من أراد الوقوف عليه
وعلى ما يرد عليه فليرجع إليه ويخطر بالبال أن مناط الفرق ليس تقديم الشرط
على الجزاء وتأخيره عنه، كما فهموه، بل مناطه ابتداء الكفيل بضمان الدراهم من
قبل نفسه مرة، والزام المكفول له بذلك من دون قبوله أخرى كما هو ظاهر الحديث
الأول والحديث الثاني، وإن كان ظاهره خلاف ذلك إلا أنه يجوز حمله عليه، فإن
قول السائل " فإن لم يأت به فعليه كذا " (1) ليس صريحا في أنه قول الكفيل،
وعلى تقدير إبائه عن هذا الحمل يحمل على وهم الراوي، أو سوء تقريره، فإن صدر
الخبرين واحد، والسائل فيهما واحد، هذا على نسخة الكافي كما كتبناه.
وأما على نسخة التهذيب الذي نشأت فيها تكلفات الأصحاب فلا يتأتى هذا
التوجيه، فإن الحديث فيه هكذا " رجل تكفل لرجل بنفس رجل، فقال: إن جئت
به وإلا فعلي خمسمائة درهم " الحديث، والظاهر أنه من غلط النساخ والعلم عند الله. انتهى.
أقول: بل الظاهر أنه من سهو قلم الشيخ، فإنه لا يخفى على من نظر الكتاب

(1) الأظهر في العبارة أن نقول إلزام المكفول له الكفيل بذلك من دون قبوله، ولعله سقط من النسخة التي عندنا. منه رحمه الله.
71

المذكور بعين التأمل، فإنه قلما يخلو حديث من أحاديثه من التغيير أو التبديل
أو التحريف في السند أو المتن. والله العالم.
الخامس - قالوا: من أطلق غريما من يد صاحب الحق قهرا ضمن احضاره
أو أداء ما عليه، ولو كان قاتلا لزمه احضاره أو دفع الدية. والوجه في وجوب الاحضار
في كل من المسئلتين أنه باطلاقه الغريم قهرا غاصب، فعليه ضمان ما غصبه باحضاره،
لأن اليد المستولية يد الشرعية مستحقة وبه يتحقق الغصب، ويبتنى عليه الضمان بالاحضار.
وأما الوجه في أداء ما عليه في المسألة الأولى فإنهم عللوه بأنه باطلاقه له
غصبا فاللازم له إما ارجاعه وتسليمه، أو أداء ما عليه من الحق الذي بسببه ثبتت
اليد عليه.
والظاهر أنه يبني على ما تقدم في الكفيل الممتنع من الاحضار وتسليم المكفول،
فإن قلنا بالتخيير بين الاحضار ودفع ما عليه ثم ما ذكروه هنا، والظاهر أن القائل
به هنا بنى على ذلك في تلك المسألة.
وإن قلنا: بأن الحق الذي اقتضته الكفالة إنما هو الاحضار خاصة والرضى
بما عليه معاملة أخرى، تتوقف على التراضي لم يتجه ما ذكروه هنا من التخيير،
وبالنسبة إلى دفع الدية في المسألة الثانية هو الحيولة أيضا بينه وبين غريمه.
ولكن الظاهر تقييد ذلك بعدم التمكن من احضاره وإن كان ظاهر كلامهم
الاطلاق، ولم أقف في المقام على خبر إلا ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن حريز (1)
في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: سألته عن رجل قتل رجلا عمدا فرفع
إلى الوالي فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثب عليهم قوم فخلصوا القاتل
من أيدي الأولياء، فقال: أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل من أيدي الأولياء
حتى يأتوا بالقاتل، قيل فإن مات القاتل وهم في السجن، قال: فإن مات فعليهم
الدية يؤدونها جميعا إلى أولياء المقتول ".
وهذا الخبر كما ترى ظاهر الدلالة، في أن حكم المسألة الثانية إنما هو حبس
من أطلق للقاتل حتى يحضره، ولا تعرض فيه لما ذكروه من التخيير بين احضاره،

(1) الكافي ج 7 ص 286 ح 1 - التهذيب ج 10 ص 223 ح 8
الفقيه ج 4 ص 80 ح 15: الوسائل ج 19 ص 34: الباب 16
72

وبين دفع الدية والإمام (عليه السلام) إنما أوجب عليه الدية بعد موت القاتل وعدم
احضاره، فهو ظاهر في أنه مع حياة القاتل فليس الحكم إلا احضاره وتسليمه إلى
أولياء الدم، وهو موافق لما تقدم من أخبار الكفالة من حيث أن مقتضاها إنما هو
احضار المكفول، دون أداء ما عليه كما ادعاه جملة منهم.
ومنه يفهم أيضا حكم المسألة الأولى، وأن الحكم فيها إنما هو احضاره لا أداء
ما عليه، لأن مرجع المسئلتين إلى أمر واحد، وهو من أطلق من عليه حق من يد
غريمه قهرا، فإنه يضمنه، ويجب عليه احضاره وتسليمه لمن أخذه من يده، وأن
للحاكم أن يحبسه كما يحبس الكفيل حتى يحضره.
بقي الكلام في أنهم قالوا في المسألة الأولى: وحيث يؤخذ المال لا رجوع
له على الغريم إذا لم يأمره بدفعه، إذ لم يحصل من الاطلاق ما يقتضي الرجوع، وهو
جيد لو ثبت جواز أخذ المال، إلا أنه لا دليل عليه كما عرفت.
وقالوا في الثانية: لا فرق بين كون القتل عمدا وغيره، إذ القصاص لا يجب
إلا على المباشر، فإذا تعذر استيفاؤه وجبت الدية، كما لو هرب القاتل عمدا أو مات،
ثم إن استمر القاتل هاربا ذهب المال على المخلص، وإن تمكن الولي منه وجب
عليه رد الدية إلى الغارم وإن لم يقبض من القاتل، لأنها إنما وجبت لمكان الحيلولة
وقد زالت، وعدم القتل الآن مستند إلى اختيار المستحق (1).
أقول: وفي هذا أيضا ما في سابقه، فإن وجوب الدية على المخلص إنما ثبت
في صورة موت القاتل خاصة، كما عرفت من الخبر المتقدم، بمعنى أن المخلص له
لم يسلمه حتى مات، وإلا فمع حياته فالحكم إنما هو احضاره، فيحبس المخلص
له حتى يحضره.

(1) بمعنى أنه بعد الهرب أخذ الولي الدية من المخلص فإن استمر على هر به ذهب
ما دفعه المخلص، وإن تمكن منه الولي فلا ريب في رده الدية إذا اختار القصاص، وكذا يجب
عليه ردها لو لم يتخير القصاص، لأنه إنما أخذها من حيث الحيلولة، وقد سقطت بعد رؤيته
فيرجع بالدية على القاتل، ويجب ردها على المخلص، هذا حاصل كلامه، وفيه ما عرفت
في الأصل. منه رحمه الله.
73

فقوله " إنه مع تعذر استيفاء القصاص يجب الدية، كما لو هرب القاتل عمدا
أو مات "، مسلم بالنسبة إلى الموت خاصة، دون الهرب، فإنه لا دليل على أخذ الدية
في الصورة المذكورة، وبه يظهر ما في تفريعه على ذلك بقوله " ثم إن استمر القاتل
هاربا " إلى آخره.
وقالوا أيضا لو كان تخليص الغريم من يد كفيله وتعذر استيفاء الحق من قصاص
أو مال وأخذ المال أو الدية من الكفيل كان له الرجوع على الذي خلصه لعين
ما ذكر في تخليصه من يد المستحق.
وفيه أيضا ما عرفت من أن الواجب بمقتضى النصوص في هذه الصورة إنما هو
حبس المخلص حتى يحضر الغريم الذي خلصه ويدفعه إلى الكفيل، ثم إن الكفيل
يدفعه إلى المكفول له، وليس على الكفيل أن يغرم المال كما ادعوه، حتى أنه
يرجع به بعد ذلك على الذي خلصه.
نعم قد ورد ذلك كما عرفت في صورة موت الغريم، ويحتمل قريبا اجرائه
في كل موضع تعذر فيه تحصيل الحق من الغريم، لا مطلقا كما ادعوه، وقد تقدم
في الموضع الثالث أن الواجب على الكفيل بمقتضى الأخبار المذكورة ثمة إنما
هو الاحضار خاصة دون أداء ما على الغريم.
وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام كله مبني على وجوب الأداء على الكفيل
في الكفالة، والمخلص في صورة هذا الموضع، وقد عرفت ما فيه، وأنه مع عدم
الدليل عليه مدفوع بالأخبار الواردة ثمة وهنا أيضا. والله العالم.
السادس - الظاهر أنه لا خلاف بينهم في وجوب كون المكفول معينا، فلو
قال: كفلت أحد هذين لم يصح، وكذا لو قال: كفلت بزيد أو فلان، وكذا لو
قال: كفلت بزيد فإن لم آت به فبعمرو، لاشتراك الجميع في الجهالة، وابهام
المكفول فتبطل لأن الغرض من الكفالة هو وجوب احضار المكفول متى طلبه
المكفول له وإذا لم يعلم المكفول بعينه لم يستحق المطالبة باحضاره.
وفي الصورة الثالثة ما يوجب البطلان - زيادة على الجهالة - من تعليق كفالة
عمرو على شرط، وهو عدم الاتيان بزيد فتبطل من هذا الوجه أيضا، وكفالة زيد
74

ليست متعينة، لأن الكفيل جعل نفسه في فسحة باحضار عمرو إن اختار، فيرجع
إلى الابهام كالسابق، هكذا قرروه.
والتحقيق أن يقال: إن الكفالة من العقود اللازمة الموجبة لاشتغال الذمة
فيجب الوقوف فيها على ما ورد به الشرع، وقرره من المواضع التي تتحقق فيه، وهو
ما إذا كان المكفول متعينا معلوما، وأما ما عداه فلا يصح، لعدم الدليل عليه.
السابع: قال الشيخ في المبسوط: إذا تكفل مؤجلا صح، فإن أحضره قبل
الأجل وسأله تسلمه نظر، فإن كان لا ضرر عليه لزمه تسلمه، وإن كان عليه
ضرر لم يجب، وتبعه ابن البراج على ذلك.
والمشهور بين المتأخرين وبه صرح المحقق والعلامة وغيرهما هو عدم
الوجوب، لأنه غير التسليم الواجب، حيث أن وجوبه مشروط بحلول الأجل،
فحقه مخصوص بحلول الأجل، فلا يجب أن يقبض غير حقه ولا يعتديه.
ومثله ما لو شرط تسليمه في مكان أو قلنا باقتضاء الاطلاق الانصراف إلى
موضع العقد، فسلمه في غيره وإن انتفى الضرر أو كان أسهل، كذا قالوا، ولو سلمه
الكفيل إلا أن المكفول له لا يمكنه تسلمه وقبضه، لكونه ممنوعا بيد قاهر لم يبرأ
الكفيل لأن براءته مشروطة بالتسليم التام كما تقدم بيانه في الموضع الثالث،
فلا يعتبر بالتسليم الممنوع معه من استيفاء الحق بقاهر أو غيره.
ولو كان في حبس الحاكم الشرعي لم يمنع ذلك تسليمه، للتمكن من
استيفاء الحق، بخلاف ما إذا كان في حبس الجائر، والفرق بينهما واضح في
الأغلب، فإن الحاكم الشرعي لا يمنع من احضاره ومطالبته بالحق، بخلاف الجائر،
فإنه قد يمنع، فلا بد من التقييد بمنعه، وإلا فلو فرض أن المكفول له قادر على
تسلمه من حبس الجائر، لصحبة كانت بينه وبينه، أو قوة المكفول له أو نحو ذلك،
فإنه في قوة عدم الحبس بالكلية، والأصحاب إنما أطلقوا الحكم بناء على الغالب
من عدم تسلمه تاما لو كان في حبس الجائر.
ثم إنه لو كان في حبس الحاكم الشرعي فطلبه الكفيل من الحاكم أمر
الحاكم باحضاره، وحكم بينهما فإن انفصلت الحكومة بينهما رده إلى الحبس
75

بالحق الأول، ولو توجه عليه حق يوجب الحبس حبسه أيضا بالحقين معا، وتوقف
فكه على خلاصه من الحقين معا.
الثامن - المشهور في كلام جملة منهم أنه إذا تكفل بتسليمه في موضع معين
وجب عملا بالشرط ولا يبرء بالدفع في غيره.
وقال الشيخ في المبسوط: إذا تكفل على أن يسلمه إليه في موضع، فسلمه
في موضع آخر، فإن كان عليه مؤنة في حمله إلى موضع التسليم لم يلزم قبوله،
ولا يبرء الكفيل، وإن لم يكن عليه مؤنة ولا ضرر لزمه قبوله، كما ذكرنا في
الأجل سواء وتبعه ابن البراج في ذلك.
ورد الأصحاب بما ردوا به قوله في سابق هذا الموضع من أن حقه إنما هو في
ذلك الموضع المشترط، فلا يجب عليه القبول في غيره، لأنه ليس حقه، وأما إذا تكفل
بتسليمه مطلقا ولم يعين موضعا فظاهرهم أن الاطلاق ينصرف إلى بلد العقد، لأنه
المفهوم، وقد تقدم الكلام في ذلك في فصل السلم في كتاب البيع (1) ويشكل ما ذكروه
بما لو كان محل العقد مكانا لا رجوع لهما إليه كبرية أو بلد غربة، يقصدان مفارقته،
ونحو ذلك، إلا أن تدل القرائن على استثناء مثل ذلك، وخروجه عن الاطلاق.
ونقل في المختلف عن الشيخ في المبسوط: أنه إذا أطلق موضع التسليم
وجب التسليم في موضع الكفالة، ثم نقل عن ابن حمزة أنه يلزمه التسليم في دار
الحاكم أو موضع لا يقدر على الامتناع، ورده قال: لنا إنه اطلاق لموضع التسليم
فتعين موضع العقد كالسلم، ولعدم أولوية بعض الأمكنة.
التاسع - إذا كان المكفول غائبا، والكفالة حالة أو مؤجلة، وحل الأجل
وهو غائب، فإن كان الغائب ممن يعرف موضعه ولم ينقطع خبره انتظر بقدر ما يمكن
الذهاب إليه والعود به، وإن لم يعرف له خبر ولا موضع وصار مفقود الخبر لم يكلف
الكفيل باحضاره، لتعذره وعدم إمكانه، ولا شئ عليه، لأنه لم يقصر في الاحضار
ليؤخذ بالمال، كما ذكره جملة منهم ولم يضمن المال، فلا يتعلق به شئ.
العاشر - قال الشيخ في المبسوط: إذا تكفل رجلان ببدن رجل لرجل، فسلمه

(1) ج 20 ص 31.
76

أحدهما لم يبرء الآخر، لأنه لا دليل عليه، ولتغاير الحقين، وتبعه ابن حمزة وابن البراج.
والمشهور في كلام المتأخرين براءة الآخر، لأن المقصود تسليمه له وقد
حصل، بل لو سلم نفسه أو سلمه أجنبي برئ الكفيل من الكفالة لحصول الغرض
فكيف مع تسليم أحد الكفيلين - فإنه أولى.
وتظهر الفائدة لو هرب بعد التسليم الأول، فعلى المشهور لا حق للمكفول له،
وعلى قول الشيخ ومن تبعه له الرجوع على الكفيل الثاني، لبقاء حقه عليه، ثم إنه
على تقدير القول المشهور هل يشترط في تسليم أحد الكفيلين وحده قصد تسليمه
عنه وعن شريكه؟ أم يكفي الاطلاق؟ بل يكفي تسليمه عن نفسه احتمالان: ويأتي
مثلهما فيما لو سلم نفسه أو سلمه أجنبي، ويأتي مثله أيضا في وجوب قبول المكفول له
وقبضه عمن لم يسلم، إذ لم يجب عليه قبول الحق ممن ليس له عليه أو بدله - ومن
حصول الغرض وهو التسليم.
وظاهر اطلاق الأصحاب القائلين بهذا القول هو الاجتزاء به مطلقا في هذه
المسألة، وسيأتي الكلام في ذلك بالنسبة إلى غير هذه الصورة:
ولو انعكس الفرض بأن تكفل رجل لرجلين برجل، ثم سلمه إلى أحدهما
لم يبرء من الآخر عند الأصحاب، قالوا: والفرق بين هذه الصورة وسابقتها - بناء
على القول المشهور من براءة الجميع - هو أن عقد الكفالة في هذه الصورة وقع
مع اثنين، فهو بمنزلة عقدين، كما لو تكفل لكل واحد منهما على انفراده، وكما
لو ضمن دينين لشخصين، فأدى أحدهما، فإن لا يبرء من دين الآخر.
أقول: والأظهر في التنظير إنما هو كالمال المشترك بين اثنين في ذمة آخر، فإنه
لا يبرئ بالدفع إلى أحد الشريكين، إلا أن يكون وكيلا عن الآخر في القبض، فيكون
المتسلم هنا أصالة من نفسه، ووكالة عن الآخر. بخلاف الصورة السابقة، فإن الغرض من
كفالتهما احضاره، وقد حصل وإن كان بفعل أحدهما فتبطل الكفالة لحصول الغرض منها.
الحادي عشر - لو قال الكفيل: أبرأت المكفول، فأنكر المكفول له،
فإن كان للكفيل بينة تثبت دعواه فلا اشكال، وإن لم تكن بينة فاليمين
من طرف المكفول له فإما أن يحلف على بقاء حقه أو يرد اليمين على الكفيل،
77

فإن حلف برأ من دعوى الكفيل عليه، وتثبت الكفالة، ثم إن جاء الكفيل
بالمكفول فادعى البراءة أيضا لم تكف اليمين الأولى التي حلفها المكفول له للكفيل، بل
عليه له يمين أخرى، لأنها دعوى ثانية لا تعلق له بالدعوى الأولى، فإن الدعوى
الأولى في ثبوت الكفالة وعدمها، وإن لزمها براءة المكفول لو ثبتت، والدعوى الثانية
في ثبوت الحق وعدمه.
وإن رد المكفول له اليمين على الكفيل فحلف برأ من الكفالة، ولا يبرء
المكفول من المال، وإن كان اللازم من يمينه ذلك، إلا أن الدعويين مختلفان،
ولأن الانسان لا يبرء بيمين غيره.
نعم في صورة الدعوى بين المكفول والمكفول له لو حلف المكفول اليمين
المردودة عليه بأنه برئ الذمة من دعوى المكفول له برأ المكفول والكفيل،
لأنه متى ثبت بها براءة الذمة بطلت الكفالة، وإن كان قد حلف المكفول له للكفيل أولا
على عدم الابراء، لسقوط الحق بيمين المكفول وتصير في حكم ما لو أدى الحق
فتبرئ ذمته، وتبطل الكفالة كما ذكرناه.
الثاني عشر - قالوا: إذا مات المكفول برأ الكفيل، وكذا لوجاء المكفول
وسلم نفسه إلى المكفول له.
أقول: أما الحكم الأول فوجهه واضح، لأن متعلق الكفالة النفس وقد فاتت
بالموت، والاحضار المذكور في الكفالة إنما ينصرف إلى حال الحياة، لأنه الفرد
الشايع الذي يترتب عليه الأحكام فيحمل عليه الاطلاق.
قال: بعض محققي متأخري المتأخرين، وكأنه مجمع عليه بين الأصحاب
والغرض من ذكره إنما هو الرد على بعض العامة، حيث أوجبوا المال على الكفيل،
إلا أنه قال في المسالك: هذا كله إذا لم يكن الغرض الشهادة على صورته، وإلا وجب
احضاره ميتا مطلقا، حيث يمكن الشهادة عليه بأن لا تكون قد تغيرت بحيث لا تعرف،
ولا فرق في ذلك بين كونه قد دفن وعدمه، لأن ذلك مستثنى من تحريم نبشه. انتهى.
أقول: ما ذكره من الفرع المذكور قد نقله العلامة في التذكرة عن بعض
الشافعية، ورده، ولا بأس بنقل ملخص كلامه في هذه المسألة في الكتاب قال (قدس سره)
78

إذا مات المكفول به بطلت الكفالة ولم يلزم الكفيل شئ عند علمائنا، ثم نقل
ذلك عن جملة من علماء العامة، ثم نقل عن جملة منهم القول بوجوب المال على
الكفيل، معللين ذلك بأن الكفيل وثيقة على الحق، فإذا تعذر استيفاء الحق ممن
عليه أستوفي من الوثيقة كالرهن.
ثم رده بالفرق بين الموضعين المذكورين، ثم قال: وقال بعض الشافعية:
لا تبطل الكفالة، ولا ينقطع طلب الاحضار عن الكفيل، وهو أصح قولي الشافعية
عندهم، بل عليه احضاره ما لم يدفن وقلنا بتحريم النبش لآخذ المال إذا أراد المكفول له
إقامة الشهادة على صورته، كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت.
ثم رده بأنه ليس بجيد، قال: لأن الكفالة على الاحضار إنما يفهم منها احضاره
حال الحياة، وهو المتعارف بين الناس - والذي يخطر بالبال، فيحمل الاطلاق عليه.
ويمكن كما احتمله بعض المحققين حمل كلامه في المسالك على ما إذا
اشترط احضاره ميتا لأجل الاشهاد في عقد الكفالة.
وأما الحكم الثاني فالظاهر أنه لا اشكال في صحته، وبرائة الكفيل لو سلم نفسه
تسليما تاما، لحصول الغرض به بأي نحو كان، وقيده في التذكرة بما إذا سلم نفسه
من جهة الكفيل، فلو لم يسلم نفسه من جهته لم يبرء الكفيل، لأنه لم يسلمه،
ولا أحد من جهته، وأطلق في موضع آخر من الكتاب البراءة كما هو ظاهر عبائر
كثير من الأصحاب، وهو الأظهر.
قال في المسالك: وهو أجود، وبه جزم المحقق الأردبيلي (قدس سره)
ولو سلمه أجنبي عن الكفيل فلا خلاف ولا اشكال، ولو لم يكن عنه فالوجهان
المتقدمان. وجزم في التذكرة هنا بالتفضيل، بأنه إن كان عن الكفيل صح
وبرئت ذمة الكفيل، وإلا فلا، قال: لأنه لا يجب على المكفول له قبوله، إلا أن
يكون التسليم صادرا عن إذن الكفيل، محتجا بعدم وجوب قبض الحق إلا ممن
هو عليه. لكن لو قبل برء الكفيل.
قال في المسالك ونعم ما قال: وفي كل هذه الفروع نظر، واطلاق المصنف
وجماعة يقتضي عدم الفرق، ولعله أوجه.
79

وكلام التذكرة مختلف، وسياقه يقتضي التفريع عند الشافعية، وأنه
لا يرتضيه، إلا أن عبارته وقعت مختلفة.
الثالث عشر - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بترامي الكفالة، كما
تقدم مثله في الضمان والحوالة، لأنه لما كان ضابط جواز الكفالة ثبوت حق على
المكفول وإن لم يكن ما لا صح كفالة الكفيل من كفيل ثان، لأن الكفيل الأول عليه
حق المكفول له، وهو احضار المكفول الأول، وهكذا القول في كفالة كفيل الكفيل،
وهكذا في المرتبة الثالثة وما بعدها، وهو المراد بالترامي، إلا أنه يختلف حكم
الاحضار في هذه المراتب، فإنه متى أحضر الكفيل الأخير في هذه المراتب
المتعددة مكفوله برء من الكفالة خاصة، وبقي على مكفوله احضار من كفله،
وهكذا، ولو أحضر الكفيل الأول مكفوله برء الجميع. لأنهم فروع عليه، وهكذا
لو أحضر الكفيل الثاني الكفيل الأول برء هو ومن بعده من الكفلاء للفرعية عليه كما
عرفت، ونحو ذلك لو أبرأ المكفول له الأول غريمه، وهو المكفول الأول برء
جميع من تأخر عنه، لزوال الكفالة بسقوط الحق بالابراء، ولو أبرأ بعض أصحاب
هذه المراتب غيره من حق الكفالة، بمعنى أنه أسقط عنه حق الكفالة، برء كل
من كان بعده دون من كان قبله.
ومتى مات واحد منهم برء من كان فرعا عليه فبموت من عليه الحق يبرؤون
جميعا، وبموت الكفيل الأول يبرء من بعده، وبموت الثاني يبرء الثالث ومن بعده
دون من يكون قبله، وهكذا بعد موت الثالث يبرء من بعده، ولا يبرئ الأولان،
كل ذلك لما عرفت من الفرعية في المتأخر، فيسري إليه الابراء دون المتقدم.
وقد تقدم في الضمان والحوالة وقوع الترامي والدور فيهما، والترامي هنا
قد عرفت صحته، وأما الدور، فإنه لا يصح هنا، لأن حضور المكفول الأول يوجب
براءة من كفله، وإن تعدد، فلا معنى لمطالبته باحضار من كفله كذا أفاده شيخنا
الشهيد الثاني (عطر الله مرقده) في المسالك. والله العالم.
الرابع عشر - لا يخفى أنه حيث أن الغرض من الكفالة احضار ذات المكفول،
فالواجب في عقد الكفالة الاتيان بلفظ يدل على ذلك، ولا خلاف ولا اشكال فيما
80

لو قال: كفلت لك فلانا أو أنا كفيل به، أو باحضاره، وفي حكم لفظ ذاته، لفظ
نفسه وبدنه، لأن الجميع بمعنى واحد في العرف العام، وإن اختلفت تحقيقا في
الحقيقة.
إنما الكلام في مثل لفظ الرأس والوجه، بأن يقول: كفلت لك برأسه -
أو بوجهه، فظاهر جملة من الأصحاب كالعلامة والمحقق وغيرهما، بل الظاهر
أنه المشهور بينهم صحة الكفالة، لأن هذين اللفظين مما يعبر بهما عن الجملة.
والحق بهما العلامة في التذكرة الكبد والقلب، وكل عضو لا تبقى الحياة
بدونه، والجزء المشاع كالثلث والربع، قال: لأنه لا يمكن احضار المكفول إلا
باحضاره كله، وتنظر في ذلك بعض محققي المتأخرين، قال: أما الأول فإن
العضوين المذكورين وإن كانا قد يطلقان على الجملة، إلا أن اطلاقهما على
أنفسهما خاصة أيضا شايع متعارف، إن لم يكن أشهر، وحمل اللفظ المحتمل
للمعنيين على الوجه المصحح - مع الشك في حصول الشرط وأصالة البراءة من
لوازم العقد غير واضح.
نعم لو صرح بإرادة الجملة من الجزء اتجهت الصحة، كإرادة أحد معنيي
المشترك، كما أنه لو قصد الجزء بعينه لم يمكن الحكم بالجملة قطعا، بل
كالجزء الذي لا يمكن الحياة بدونه، وبالجملة فالكلام عند الاطلاق وعدم قرينة
تدل على أحدهما، فعند ذلك لا يصح تعليل الصحة بأنه قد يعبر بذلك عن الجملة.
وأما الثاني وهو الأجزاء التي لا يعيش بدونها وما في حكمها، فلأن احضاره
وإن كان غير ممكن بدونها، إلا أن ذلك لا يقتضي صحة العقد، لأن المطلوب
من الكفالة هو المجموع، أو ما يطلق عليه كما في السابق على تقدير ثبوته.
أما إذا تعلق ببعضه فلا دليل على صحته، وإن توقف احضار الجزء المكفول
على الباقي لأن الكلام ليس في مجرد احضاره، بل في احضاره على وجه الكفالة
الصحيحة، فوجوب احضار مالا يتعلق به الكفالة يترتب على صحة كفالة الجزء
الذي تعلقت به، وذلك الجزء ليس هو المطلوب شرعا بل في الجملة، فلا يتم
التعليل، ولا اثبات الأحكام الشرعية المتلقاة من الشرع بمثل هذه المناسبات،
81

ولو جاز اطلاق هذه الأجزاء على الجملة مجازا لم يكن ذلك كافيا، لكونه غير متعارف
مع أن المتعارف ما قد سمعت، وحينئذ فالقول بعدم الصحة أوضح.
وأما الجزء الذي تبقى الحياة بعد زواله، ولا يطلق عليه اسم الجملة كاليد
والرجل فعدم الصحة فيه أشد وضوحا، كما جزم به بعضهم، واستشكل فيه في
القواعد مما ذكر، ومن عدم إمكان احضاره على حالته بدون الجملة، فكان كالرأس
أو القلب، ولا يبعد القول بالصحة لمن يقول بها فيما سبق وإن كان الحكم فيه
أضعف. انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد وجيه،
أقول: لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة، أن هذه الفروع وما
وشحت به من التعليلات كلها من كلام العامة، وقد تبعهم فيه أصحابنا، واختلفوا
باختلافهم وعللوا بتعليلاتهم، وهكذا في جملة هذه الفروع الغريبة مما تقدم في
الكتب المتقدمة، وما يأتي كلها إنما جروا فيها على نهج أولئك، فإنه لا يخفى
على من طالع مصنفات قدمائنا (رضوان الله عليهم) أنهم لا يذكرون غير مجرد
الأخبار، وهذا التفريع وتكثير الفروع في الأحكام الشرعية مبدء كان من الشيخ
تبعا لكتب المخالفين في مبسوطه وخلافه، وتبعه من تأخر عن نسأل الله عز وجل
المسامحة لنا ولهم من زلات الأقدام، ومداحض الأفهام. والله العالم بحقايق الأحكام
ونوابه القائمون بمعالم الحلال والحرام.
82

كتاب الصلح
وهو عقد شرع لقطع التجاذب، والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع.
قال الله عز وجل (1) " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما
أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " وقال عز وجل (2) " وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فأصلحوا بينهما ".
وروى في الكافي عن حفص ابن البختري (3) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: الصلح جائز بين الناس ".
وروى في الفقيه مرسلا (4) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا "
وروى في البحار (5) نقلا عن كتاب الإمامة والتبصرة مسندا عن مسعدة بن
صدقة عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحديث.

(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) الكافي ج 5 ص 25) ح 5
(4) الفقيه ج 3 ص 21 ح 1
(5) البحار ج 103 ص 178 ح 2 والوسائل ج 13 ص 164 الباب 3 من كتاب الصلح.
83

وروى في الكافي عن هشام بن سالم (1) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: لأن أصلح بين اثنين أحب إلى من أن أتصدق بدينارين.
وعن المفضل (2) " قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا رأيت بين اثنين
من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي ".
وعن أبي حنيفة سابق الحاج (3) قال: مر بنا المفضل وأنا وختني نتشاجر في
ميراث، فوقف علينا ساعة ثم قال لنا: تعالوا إلى المنزل، فأتينا فأصلح بيننا بأربعمائة
درهم، فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه.
قال لنا: أما أنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله (عليه السلام) أمرني إذا تنازع
رجلان من أصحابنا في شئ أن أصلح بينهما وأفتدي بها من ماله، فهذا من مال
أبي عبد الله (عليه السلام)، إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في المقام، وسيأتي
شطر منها في بعض الأحكام.
وما ذكرنا هنا من الآيتين وبعض الأخبار وإن لم يكن صريحا في هذا العقد
المخصوص الذي هو محل البحث في هذا الكتاب، إلا أنه صالح لشموله وادخاله في ذلك.
إذا عرفت ذلك فالبحث في هذا الكتاب يقع في مطلبين:
الأول - في جملة من الأحكام، وفيه مسائل: الأولى - الظاهر أنه لا خلاف
بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أنه لا يشترط في صحة الصلح سبق نزاع، بل
لو وقع ابتداء على عين بعوض معلوم صح، وأفاد نقل كل من العوضين كما في
البيع، لا طلاق الأدلة الدالة على جوازه من غير تقييد بالخصومة، كالحديث النبوي
المتقدم، وصحيحة حفص بن البختري المتقدمة. (4)
وصحيحة محمد بن مسلم (5) عن الباقر (عليه السلام) أنه قال في رجلين
كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدري كل واحد كم له عند صاحبه
فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك، ولي ما عندي فقال: لا بأس بذلك إذا

(1) في الكافي ج 2 ص 209 باب الاصلاح بين الناس ح 432 أيضا في الوسائل ج 13 ص 162 ح 1 و 3 و 4
(2) في الكافي ج 2 ص 209 باب الاصلاح بين الناس ح 432 أيضا في الوسائل ج 13 ص 162 ح 1 و 3 و 4
(3) في الكافي ج 2 ص 209 باب الاصلاح بين الناس ح 432 أيضا في الوسائل ج 13 ص 162 ح 1 و 3 و 4
(4) ص 83
(5) التهذيب ج 6 ص 206 ح 1 والوسائل ج 13 ص 165 ح 1
84

تراضيا، وصحيحة منصور بن حازم (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجلين
الحديث كما في سابقه وزاد طابت به أنفسهما.
وصحيحة الحلبي (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) وغير واحد عن أبي عبد الله
(عليه السلام) " في الرجل يكون عليه الشئ فيصالح، فقال: إذا كان بطيبة نفس
من صاحبه فلا بأس ".
وصحيحة الحلبي (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يعطي أقفزة
من حنطة معلومة يطحنها بدراهم، فلما فرغ الطحان من طحنه نقد الدراهم،
وقفيزا منه وهو شئ اصطلحوا عليه فيما بينهم، قال: لا بأس به، وإن لم يكن ساعره
على ذلك " إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة في المراد.
هذا والأصل في العقود الصحة، للأمر بالوفاء، لا يقال: إنهم قد عرفوه كما
قدمنا ذكره بأنه عقد شرع لقطع التجاذب، وهو مستلزم لتقدم الخصومة، لأنا
نقول: أولا أن الظاهر أن هذا التعريف إنما وقع من العامة، وتبعهم أصحابنا فيه
ولهذا أن بعض العامة شرط فيه تقدم الخصومة، فلا تقوم به حجة في الخروج عن
ظواهر الأدلة المشار إليها، وثانيا أنه مع الاغماض عن ذلك، فإنه لا يلزم من كون
أصل مشروعيته لذلك أنه لا سكون إلا كذلك، ألا ترى أنه قد ورد في وجوب العدة
وأصل مشروعيتها التعليل باستبراء الرحم، مع وجوبها في جملة من المواضع
المقطوع فيها ببرائة الرحم، كمن طلق زوجته أو مات عنها بعد مفارقته لها سنين
عديدة، ونحوه ما ورد من تعليل استحباب غسل الجمعة بالتأذي من روايح الأنصار
إذا حضروا الجمعة، فتأذى الناس بريح آباطهم، فأمروا بالغسل لدفع تأذى الناس
بذلك، مع ما استفاض من استحباب الغسل وإن كانت رايحته كرايحة المسك، إلى
غير ذلك.
وبالجملة فإن الخلاف في هذا المقام إنما هو من العامة، نعم اختلف أصحابنا
في كونه عقدا برأسه أو فرعا على غيره، فالمشهور الأول وإن أفاد في ذلك فائدة غيره

(1) التهذيب ج 6 ص 206 ح 1 و 2
(2) التهذيب ج 6 ص 206 ح 1 و 2
(3) التهذيب ج 6 ص 207 ح 9
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 165 ح 1 و ص 166 ح 3 و ص 169 ح 1.
85

ومجرد إفادته فائدة غيره لا يستلزم فرعيته عليه.
وذهب الشيخ في المبسوط إلى أنه فرع على عقود خمسة، فجعله فرع البيع
إذا أفاد نقل الملك بعوض معلوم، وفرع الإجارة إذا وقع منفعة مقدرة بمدة معلومة
بعوض معلوم، وفرع الهبة إذا تضمن ملك العين بغير عوض، وفرع العارية إذا
تضمن إباحة منفعة بغير عوض، وفرع الابراء إذا تضمن اسقاط دين أو بعضه.
والأصحاب ردوه بأن إفادة عقد فائدة عقد آخر لا تقتضي كونه من أفراده،
مع دلالة الدليل على استقلاله بنفسه، كغيره من العقود.
ويظهر الفرق بين القولين: أنه على المشهور عقد لازم لدخوله في عموم
الأمر بالوفاء بالعقود، وعلى قول الشيخ يلحقه حكم ما ألحق به من العقود في
ذلك الفرد الذي ألحق به.
أقول: لا يخفى أن ما ذهب إليه الشيخ هنا قد تبع فيه الشافعي حسبما نقل
عنه، قال في التذكرة: الصلح عند علمائنا أجمع عقد قائم بنفسه، ليس فرعا على
غيره، بل أصل في نفسه، منفرد في حكمه، ولا يتبع غيره في الأحكام، لعدم الدليل
على تبعية الغير، والأصل في العقود الأصالة.
وقال الشافعي: إنه ليس بأصل منفرد بحكمه، وإنما هو فرع على غيره، وقسمه
على خمسة أضرب، ضرب فرع البيع، وهو أن يكون في يده عين أو في ذمته دين
فيدعيها انسان فيقر له بها ثم يصالحه على ما يتفقان عليه، وهو جائز فرع على
البيع، بل هو بيع عنده، يتعلق به أحكامه.
وضرب هو فرع الابراء والحطيطة، وهو أن يكون له في ذمته دين فيقر له
به ثم يصالحه على أن يسقط بعضه، ويدفع إليه بعضه وهو جائز وهو فرع الابراء.
وضرب هو فرع الإجارة، وهو أن يكون له عنده دين أو عين فصالحه عن
ذلك على خدمة عبد أو سكنى دار فيجوز ذلك ويكون فرع الإجارة.
وضرب هو فرع الهبة، وهو أن يدعي دارين أو عبدين وشبههما فيقر
له بهما ويصالحه من ذلك على إحديهما، ويكون هبة للأخرى.
وضرب هو فرع العارية، وهو أن يكون في يده دار فيقر له بها ويصالحه
86

على سكناها شهرا وهو جائز ويكون ذلك عارية. انتهى.
والعجب من دعوى العلامة هنا الاجماع من أصحابنا أجمع أنه عقد قائم
بنفسه، ليس فرعا على غيره، مع ما عرفت من تصريح الشيخ بما نقله عن الشافعي
من الفرعية من المواضع الخمسة، واشتهار النقل عنه في كتب الأصحاب، ومنهم
هو (قدس سره) في المختلف، حيث نسب فيه القول بالأصالة إلى المشهور،
ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه فرع لغيره.
وكيف كان فهذا القول بمحل من الضعف والقصور، فالاعتماد على القول
المشهور، لعدم الدليل على هذه الدعوى، فإن الأصل في جميع العقود من صلح
وغيره هو كون ذلك العقد أصلا برأسه، وجعله في حكم غيره أو فرعيته عليه فيلحقه
أحكام غيره يحتاج إلى دليل واضح.
ومن هنا أنكر المحقق الأردبيلي (رحمه الله) كون قول الشيخ في المبسوط
بذلك مذهبا له، وإنما هو نقل لقول العامة، واستند في ذلك إلى دعوى الاجماع
في التذكرة، وهو عجيب منه (قدس سره) وكأنه لم يلاحظ كتاب المبسوط في هذا
المقام، فإن عبارته صريحة في كونه مذهبه، حيث قال بعد ذكر الأدلة الدالة على
مشروعية الصلح من الآيات والروايات: ما صورته فإذا ثبت هذا فالصلح ليس بأصل
في نفسه، وإنما هو فرع لغيره، وهو على خمسة أضرب، أحدها فرع البيع، وثانيها
فرع الابراء، ثم ساق الكلام في هذه الخمسة إلى أن قال: إذا ورث رجلان من
مورثهما مالا فصالح أحدهما صاحبه على نصيبه من الميراث بشئ يدفعه إليه، فإن
هذا الصلح فرع البيع يعتبر فيه شرائط البيع، فما جاز في البيع جاز فيه، وما لم
يجز فيه لم يجز فيه، إلا أنه يصلح بلفظ الصلح، ومن شرط صحة البيع أن يكون معلوما،
ثم ذكر جملة من شروط البيع وأحكامه، ومنها خيار المجلس إلا أنه قال في آخر
الكلام، ويقوى في نفسي أن يكون هذا الصلح أصلا بنفسه، ولا يكون فرع البيع،
فلا يحتاج إلى شروط البيع، واعتبار خيار المجلس على ما بيناه فيما مضى، ثم ساق
الكلام في باقي الأقسام، وكلامه (قدس سره) ظاهر بل صريح في كون ذلك مذهبا
له، لا نقلا لمذهب العامة كما توهمه المحقق المذكور.
87

لكنه كما ترى قد صرح بالرجوع عن ذلك في صورة الفرعية على البيع،
وقال: بأن الأقوى عنده أنه أصل برأسه في هذه الصورة، مع اشتهار النقل عنه في
كتب الأصحاب بالفرعية في البيع وغيره، كما لا يخفى على من وقف على كلامهم،
وكأنهم لم يراجعوا الكتاب المذكور، واعتمدوا في ذلك على نقل بعضهم عن بعض،
وإلا فإن العبارة كما ترى صريحة في العدول عن مذهبه في هذه الصورة بخصوصها،
فينبغي المراجعة في أمثال هذه المقامات، وعدم الاعتماد على النقول، وإن كانت
من مثل هؤلاء الفحول، والمعصوم من عصمه الله تعالى فيما يفعل ويقول. والله العالم.
المسألة الثانية - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بصحة الصلح مع الاقرار
والانكار، إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا.
أقول: أما الحكم الأول فلا خلاف فيه عمدهم، قال في التذكرة: يصح الصلح
على الاقرار والانكار معا سواء كان المدعى به دينا أو عينا عند علمائنا أجمع، وبه
قال أبو حنيفة وأحمد انتهى.
وقال في المسالك - بعد قول المصنف يصح مع الاقرار والانكار - هذا عندنا
موضع وفاق.
ونبه بذلك على خلاف الشافعي حيث منعه مع الانكار، نظرا إلى أنه عاوض
على ما لم يثبت له، فلا تصح المعاوضة، كما لو باع مال غيره، ونحن نمنع بطلان
المعاوضة على ما لم يثبت بالصلح، فإنه عين المتنازع، والفرق بينه وبين البيع ظاهر،
فإن ذلك تصرف في مال الغير بغير إذنه، بخلافه هنا، ولأن معنى شرعيته عندنا
وعنده على قطع التنازع وهو شامل للحالين. انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن صحة الصلح مع الاقرار والاعتراف بالمدعى مما
لا اشكال فيها لمعلوميته عند صاحبه: ولا فرق بين أن يصالح عنه بأقل، أو أكثر أو
ما ساواه، للمعلومية في الجميع، وحصول التراضي من الطرفين.
إنما الاشكال في صورة الانكار بأن يدعي شخص على غيره دينا أو عينا فينكر المدعى
عليه، فتقع المصالحة بينهما إما بمال آخر، أو ببعض المدعى أو غير ذلك من منفعة
وغيرها، فإنه باعتبار الانكار، واختلاف الخصمين في ذلك نفيا واثباتا يحتمل أن
88

يكون المدعي محقا: والمدعى عليه مبطلا في انكاره، وأنه مشغول الذمة في الواقع،
فالصلح هنا وإن أفاد قطع النزاع بحسب الظاهر - وعدم صحة الدعوى بعد ذلك،
لصحته بحسب الظاهر - إلا أنه لا يفيد براءة ذمة المدعى عليه مما يزيد على مال
الصلح، فيما لو فرض أنه صالحه على أقل مما في ذمته في الواقع، أو بعض العين
أو المال الآخر، بل يبقى مشغول الذمة بالباقي وإنما تبرء ذمته بقدر ما دفعه خاصة.
وتدل على ذلك صحيحة عمر بن يزيد (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات، ثم صالح ورثته على شئ، فالذي
أخذته الورثة لهم، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة، وإن هو لم يصالحهم
على شئ حتى مات ولم يقض عنه فهو للميت يأخذه به ".
حتى أنه لو كانت الدعوى على عين في يده وصالح عنها بأقل من قيمتها فالعين
بأجمعها في يده مغصوبة، ولا يستثنى له منها مقدار ما دفع، لعدم صحة المعاوضة
في نفس الأمر ويحتمل أن يكون المدعي مبطلا والمدعى عليه محقا في
انكاره، وأنه برئ الذمة في الواقع، فإن الصلح وإن صح ظاهرا، لكنه لا يصح
بحسب الواقع، ولا يستبيح للمدعي ما دفع إليه من مال الصلح، لأنه أكل مال
بالباطل، والمدعى عليه إنما دفعه إليه افتداء من هذه الدعوى الكاذبة، أو
خوف الضرر على نفسه وماله لو لم يفعل، ومثل هذا لا يعد عن تراض يحصل
به الإباحة.
نعم لو كانت الدعوى مستندة إلى شبهة وقرينة تخرج بها عن الكذب المحض،
كما لو وجد المدعي بخط مورثه أن له على فلان مالا أو شهد له من لا يثبت الحق
بشهادته شرعا ولم يكن المدعي عالما بالحال، وإنما ادعى بناء على هذا الفرض،
وتوجهت له اليمين على المدعي، فصالحه على اسقاط اليمين بمال أو قطع المنازعة،
فالظاهر هنا صحة الصلح في نفس الأمر، واستحقاق ما يأخذه من مال الصلح،
وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أيضا.
وبالجملة فالحكم بالصحة في صورة الانكار مراد بها ما هو أعم من الصحة

(1) التهذيب ج 6 ص 208 ح 11 الوسائل ج 13 ص 166 ح 4
89

بحسب ظاهر الشرع دون نفس الأمر تارة كما عرفت، ومن الصحة ظاهرا وواقعا
فيما إذا حصل الصلح على مقدار ما في الذمة، كما في الصورة الأولى (1).
وأما الحكم الثاني وهو قولهم " إلا ما أحل حراما أو جرم حلالا " فهو
عين ما صرح به الحديث النبوي المتقدم، وفسر الأصحاب تحليل الحرام بالصلح
على استرقاق حر أو استباحة بضع لا سبب لإباحته إلا الصلح، أو يشربا أو أحدهما
الخمر ونحو ذلك.
وبالجملة ما يكون محرما في حد ذاته، ويراد تحليله وإباحته بالصلح،
وتحريم الحلال بأن لا يطأ أحدهما حليلته أو لا ينتفع بماله، أو نحو ذلك مما
هو حلال له في حد ذاته، وإنما يراد تحريمه بالصلح.
وعلى هذا فالاستثناء متصل، لأن الصلح على هذا باطل ظاهرا وواقعا،
وربما فسر بصلح المنكر على بعض المدعى أو منفعته أو بدله مع كون أحدهما
عالما ببطلان الدعوى: كما تقدم بيانه، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا، لما
عرفت من الحكم بصحة الصلح هنا ظاهرا، وإنما بطلانه بحسب الواقع ونفس
الأمر، والحكم بالصحة، والبطلان إنما يتوجه إلى الظاهر، فلا يصح أن يكون
الاستثناء متصلا، ويحتمل كونه متصلا بالنظر إلى الواقع، وهذا المثال يصلح لأمرين
معا فإنه محل للحرام بالنسبة إلى الكاذب (2) ومحرم للحلال بالنسبة إلى المحق.
والله العالم.
المسألة الثالثة - قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يصح
الصلح مع العلم بالمتنازع فيه وجهله، دينا كان أو عينا، وما ذكروه من الصلح
مع العلم فلا ريب في صحته، لارتفاع الجهالة، وحصول التراضي، وإن كان يبقى
الكلام في المبطل منهما باعتبار الاستحقاق واقعا وعدمه، فيجري فيه ما تقدم في
سابق هذا المسألة.

(1) وهي احتمال أن يكون المدعي محقا والمدعى عليه مبطلا في انكاره. منه رحمه الله
(2) فإن الكاذب أخذ ما لا يستحقه واقعا بهذا الصلح وصار حلالا له بحسب الظاهر
من هذا الصلح ما لا يستحقه واقعا من المال الذي يدعيه. منه رحمه الله.
90

وأما مع الجهل فيحتمل أن يكون مرادهم به كما ذكره جملة من
المتأخرين ما كان ناشئا عن عدم إمكان العلم، بحيث يتعذر عليهما استعلامه، لا مطلقا
للزوم الغرر المنهي عنه شرعا، ولوالدي العلامة (قدس سره وروحه ونور ضريحه)
في هذا المقام تفصيل حسن، يحسن ذكره وإن طال به زمان الكلام، فإنه من أهم
المهام، قال (عطر الله مرقده وأعلى في جوار أئمته صلوات الله عليهم مقعده) بعد
كلام في المقام: إذا عرفت هذا فنقول الصلح إما أن يقع على معلوم عند المتصالحين
أو مجهول عندهما، أو معلوم عند أحدهما ومجهول عند الآخر.
وعلى الثاني فإما أن يتعذر معرفته مطلقا، أو في الحال فقط مع إمكان معرفته
في وقت آخر. أو يمكن معرفته مطلقا.
وعلى الثالث فالعالم فيه إما أن يكون هو المستحق، أو من عليه الحق،
فإن كان الأول فإما أن يقع الصلح بأكثر من حقه أو لا، فإن كان الثاني فإما أن
يعلم الغريم المستحق بمقدار حقه أو لا، ومع عدم اعلامه فإما أن يصالحه بأقل من
حقه أو لا فهذه تسع صور:
الأولى - أن يكون لا مدعى معلوما عند كل من المتصالحين، والحكم فيه
بالصحة واضح، لارتفاع الجهالة والغرر فيه، ولا فرق بين كون المدعى عينا أو
دينا، وكون الصلح بمقدار مال المدعى من الحق أو أقل منه أو أكثر، مع حصول
الرضا الباطني من كل منهما لصحة المعاوضة ظاهرا وباطنا.
الثانية - أن يكون مجهولا عندهما وكان مما يتعذر معرفته والإحاطة به
منهما مطلقا عينا كان أو دينا كوارث يتعذر العلم بحصته، ودين غير معلوم الجنس
أو الكم، وقفيز من دقيق حنطة أو شعير ممتزج، وكصبرة من طعام أتلفها شخص على
آخر، ولم يعلما بقدرها، ففي هذه كلها يصح الصلح ظاهرا وفي نفس الأمر ويفيد
نقل الملك وابراء الذمة، وإن كان على المجهول كما صرح به الأصحاب
(رضوان الله عليهم).
بل ظاهر عبارة الشهيد الثاني في المسالك الاجماع على جوازه، وذلك
لأن ابراء الذمة أمر مطلوب، والحاجة إليه ماسة، ولا طريق إليه إلا هذا الصلح
91

ويدل على صحته أيضا عموم الآية كقوله تعالى (1) " والصلح خير " والأخبار كقوله
صلى الله عليه وآله (2) " والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم
حلالا ".
وقول الصادق (عليه السلام) في حسنة حفص بن البختري (3) " الصلح جائز
بين الناس ".
وخصوص صحيحة محمد بن مسلم (4) عن الباقر (عليه السلام)، وصفوان عن
منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنهما قالا في رجلين كان لكل واحد
منهما طعام صاحبه ولا يدري كل واحد كم له عند صاحبه، فقال كل واحد منهما
لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي، فقال: لا بأس بذلك إذا تراضيا ".
فإن الظاهر من الروايات عدم إمكان العلم والمعرفة بقدر ذلك الطعام من
كل منهما كما هو واضح.
الثالثة - أن يكون مجهولا عندهما ولكن لا يتعذر العلم به، بل يمكن
معرفته مطلقا، فهذا لا يصلح الصلح عليه قبل العلم به على الأظهر، لحصول الجهل
فيه والغرر للضرر بالزيادة والنقيصة مع إمكان التحرز عنه، بل لا بد
من العلم به أولا بالكيل في المكيل، والوزن في الموزون، والعد في المعدود
والذرع في المذروع، فلو صالحه على صبرة من طعام من غير كيل ولا وزن لم
يصح كما قد سبق، لأن الاستعلام فيه ممكن.
وكذا ظرف البر والأرز، ووعاء التمر ونحوه لا يصلح عليه إلا بعد معرفة
كيله أو وزنه مثلا، ومن هذا القبيل الصلح على نصيب شخص من عين أو ميراث
مع جهلهما به وامكان العلم بقدره وتعيينه بعد الملاحظة والمراجعة، وإن كان في
الحال، فإن الصلح والحال هذه غير صحيح لا ظاهرا ولا باطنا، ولا يفيد تمليكا

(1) سورة النساء الآية 128
(2) الفقيه ج 3 ص 21 ح 1
(3) الكافي ج 5 ص 259 ح 5
(4) التهذيب ج 6 ص 206 ح 1 الفقيه ج 3 ص 21 وذيل رواية منصور وطابت
به أنفسهما ح 2، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 164 ح 2 و 1 ص 165 ح 1
92

ولا ابراء، وعموم الآية والأخبار الدالة على جواز الصلح بين المسلمين مخصص
بما لا غرر فيه ولا جهالة، للنهي عن ذلك في الخبر كما عرفته.
الرابعة - أن يكون مجهولا عندهما، والعلم به ممكن في الجملة، لكنه
متعذر لعدم الميزان والمكيال في الحال، ومساس الحاجة إلى الانتقال، وقد استقرب
جمع من الأصحاب منهم الشهيد (قدس سره) في الدروس والشيخ المقداد في التنقيح
والشهيد الثاني في المسالك صحة الصلح، والحال هذه، ووجهه تعذر العلم به في
الحال مع اقتضاء الضرورة، ومساس الحاجة لوقوعه، والتضرر بتأخيره وانحصار
الطريق في نقله فيه مع تناول عموم الآية، والأخبار السالفة.
ومن هذا القبيل أيضا الصلح على نصيب شخص من ميراث أو عين يتعذر
العلم بقدره في الحال، مع إمكان الرجوع في وقت آخر إلى فرضي أو عالم به
مع مسيس الحاجة إلى نقل النصيب في الحال.
الخامسة - أن يكون مجهولا عند المستحق ومعلوما عند الآخر، وهو من
عليه الحق ولم يعلمه بقدره، وصالحه بأقل من حقه، وذلك كتركة موجودة
يعلمها الذي هو في يده ويجهلها الآخر، وكذا كل من له نصيب من ميراث أو
غيره لا يعلم به، ويعلم به خصمه إذا صالحه بأقل منه من غير اعلامه، سواء كان
من عليه الحق منكرا ظاهرا أو مقرا بمقدار ما صالح به أو أقل منه، فإن الصلح
حينئذ غير صحيح، والمعاوضة في نفس الأمر باطلة، والواجب عليه اعلام صاحب
الحق، فإن رضي بالصلح بالأقل، وإلا وجب ايصال حقه إليه بتمامه، فأما الصلح
قبل الاعلام فهو حرام، لا يثمر تمليكا - لو كان المدعى عينا - ولا ابراء من الباقي
لو كان دينا حتى لو صالح على العين بمال آخر فهي بأجمعها في يده مغصوبة،
ولا يستثنى له مقدار ما دفع، لعدم صحة المعاوضة في نفس الأمر.
والذي يدل على عدم صحة هذا الصلح وجوازه - مضافا إلى ما فيه من الغرر
والخدع المنهي عنه وكونه من قبيل الصلح الذي أحل حراما وحرم حلالا - ما
رواه علي بن أبي حمزة (1) " قال: قلت لأبي الحسن " عليه السلام): رجل يهود ى

(1) التهذيب ج 6 ص 206 ج 3 الوسائل ج 13 ص 166 ح 2
93

أو نصراني كانت له عندي أربعة آلاف درهم فمات، أيجوز لي أن أصالح ورثته
ولا أعلمهم كم كان؟ قال: لا يجوز حتى تخبرهم " ونحوها صحيحة عمر بن يزيد (1)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى
مات ثم صالح ورثته على شئ: فالذي أخذته الورثة لهم، وما بقي فهو للميت يستوفيه
منه في الآخرة الحديث " وموثقته (2) أيضا " وقال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل ضمن على رجل ضمانا ثم صالح عليه قال: ليس له إلا الذي صالح عليه "
نعم هذا الصلح مع فساده وعدم صحته في نفس الأمر، هو صحيح بحسب ظاهر الشرع،
كما صرح به جماعة من الأصحاب، منهم الشيخ علي بن عبد العالي في شرح القواعد،
والشهيد الثاني في شرح الشرايع، فيحكم به على كل واحد منهما، ولا يجوز
لهما الخروج عن مقتضاه ظاهرا، لعدم العلم بكون من عليه الحق مبطلا في صلحه
خادعا فيه، واحتمال كونه محقا فيكون حاله مشتبها، فلا يكون صلحه باطلا في
الظاهر - وإن كان على مجهول.
نعم لو انكشف أمره ظاهرا بعد الصلح، بحيث علم مقدار المدعى، أو زيادته
على ما صالح عليه، أو اعترف هو بذلك اتجه بطلان الصلح حينئذ ظاهرا أيضا،
ووجب عليه تسليم المدعي ظاهرا لظهور شغل ذمته، وبطلان المعاوضة ظاهرا
وباطنا، هذا إذا لم يكن من له الحق قد رضي باطنا بالصلح بالأقل، أما لو رضي به
باطنا كان الصلح صحيحا في نفس الأمر حينئذ كما قطع به العلامة (قدس سره)
في التذكرة، وحينئذ فلا يجوز له أخذ ما زاد عن مال الصلح، وإن علم الزيادة
لحصول الرضا منه باطنا بذلك الأقل عوضا عن حقه، وإن كثر فيكون العبرة في
إباحة الباقي بالرضا الباطن، لا بالصلح.
ويمكن أن يستدل عليه بصحيحة الحلبي (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" في الرجل يكون عليه الشئ فيصالح فقال: إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس "

(1) التهذيب ح 6 ص 208 ح 11 و ص 210 ح 7. وهما في الكافي ج 5 ص 259 ح 6 و 7 و 8
(2) التهذيب ح 6 ص 208 ح 11 و ص 210 ح 7. وهما في الكافي ج 5 ص 259 ح 6 و 7 و 8
(3) التهذيب ج 6 ص 206 ح 2.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 166 ح 4 و ص 153 ح 1 و ص 166 ح 3.
94

فهي دالة باطلاقها الشامل لذلك كما هو ظاهر.
السادسة - أن يكون مجهولا عند المستحق معلوما عند من عليه الحق، ولم
يعلم قدره لكن صالحه بمقدار حقه أو أكثر، وقد صرح جمع من الأصحاب منهم
الشهيد الثاني في شرح الشرايع بصحة الصلح حينئذ، وإن كان على مجهول، لانتفاء
الغرر والخدع فيه، مع أن العبرة بوصول حقه إليه لا بالصلح، وأما اشتراط الاعلام
في صحة الصلح كما في خبر على ابن أبي حمزة السالف فالظاهر أنه مخصوص بما
إذا أريد الصلح بالأقل، لأنه مظنة الغرر والخدع، فمع وقوع الاعلام بقدره ينتفي
الغرر والخدع رأسا أما مع المصالحة بتمام الحق أو أكثر منه فلا خدع فيه قطعا،
فلا يجب فيه الاعلام مع دخوله في عموم الأدلة الدالة على جواز الصلح بين المسلمين.
السابعة - أن يكون مجهولا عند المستحق معلوما عند من عليه الحق،
ولكن أعلمه بقدره ولا شك في جواز الصلح وصحته حينئذ، سواء صالحه بمقدار
حقه أو بأقل مع الرضا به لحصول العلم وارتفاع الجهالة و حصول الرضا، وعموم،
أدلة جواز الصلح. والله العالم.
الثامنة: أن يكون معلوما عند المستحق مجهولا عند الآخر فصالحه بأكثر
من حقه الذي له في الواقع، لقصد التخلص من دعواه لم يصح هذا الصلح في
نفس الأمر، ولم يستبح به ما زاد عن حقه الذي له في الواقع، لبطلان المعاوضة
في نفس الأمر، وإن كانت صحيحة بحسب ظاهر الشرع، كما سبق نظيره، فالظاهر
أن ذلك باطل مع عدم الرضا الباطني من الغريم، لكونه حينئذ من قبيل أكل المال
بالباطل، أما مع رضاه بالصلح كذلك باطنا فالظاهر صحة الصلح حينئذ، وإباحة
ذلك للزايد عن حقه لطيب نفسه به، والظاهر أن العبرة حينئذ في إباحة ذلك
الزايد بالرضا به، لا بالصلح كما سبق مثله.
التاسعة - الصورة بحالها ولكن صالحه بقدر حقه أو أنقص، ولا شك في صحة
الصلح فيها ظاهرا وباطنا. والله العالم. انتهى كلامه علت في الخلد أقدامه، ورفع
فيها مقامه.
أقول: ما ذكره (قدس سره) من هذه الصور التسع بالتقريبات التي ذيلها
95

بها ظاهر، إلا أن ما ذكره في الصورة الثالثة مما يمكن تطرق المناقشة إليه،
فإن مرجع استدلاله إلى تخصيص عمومي الآية والأخبار - الدالة على صحة الصلح في
مثل هذه الصورة - بالأخبار الدالة على النهي عما يشتمل على الغرر والجهالة في المعاوضة.
والتحقيق أن يقال: لا ريب أن هنا عمومين قد تعارضا، وهما عموم أخبار
الصلح الدال على دخول مثل هذه الصورة، وعموم أخبار النهي عن الغرر والجهالة
الشامل للصلح وغيره من المعاوضات، وليس تخصيص عموم أخبار الصلح - بعموم
أخبار النهي عن الغرر ليتم ما ذكره - بأولى من تخصيص عموم أخبار النهي عن
الغرر والجهالة كما أن ذلك حاصل في الصورة الثانية والرابعة، ولا بد
لترجيح أحدهما على الآخر من دليل، ويمكن ترجيح الثاني بظهور عموم أخبار
الصلح مع تكاثرها وتعددها على وجه يشمل الصورة المذكورة، بخلاف ما دل
على النهي عن الغرر والمجهول، فإنا لم نقف فيه على رواية صريحة، وإن تكرر
دورانه في كلامهم، وتداول على رؤوس أقلامهم.
وقد تقدم في كتاب البيع قوله جملة من الأصحاب بصحة بيع المجهول في جملة
من المواضع، ودلت جملة من الأخبار على الصحة أيضا في مواضع، وقد حققنا
البحث ثمة على وجه يظهر منه أنه ليس ذلك بقاعدة كلية، ولا ضابطة جلية كما
ادعاه جملة منهم، وبذلك يظهر لك أن الأظهر هنا هو ترجيح عموم أخبار الصلح
وابقائها على عمومها، والتخصيص فيما دل على النهي عن الغرر والمجهول، فإنه
إذا ثبت صحة العقد مع الجهل والغرر في البيع الذي هو أكثر شروطا وأضيق
مدخلا ثبت في الصلح بطريق أولى، لأنه موضوع على المسامحة والمساهلة،
ولأن العمدة فيه كما هو المفهوم من أخباره هو التراضي من الطرفين، إما ظاهرا
وباطنا. فيصح حينئذ كذلك أو ظاهرا خاصة فتختص الصحة بالظاهر، والتراضي
في موضع النزاع حاصل ظاهرا وباطنا.
ويؤيد ما قلناه ما هو ظاهر من كلام جملة من متقدمي المتأخرين كالمحقق
والعلامة وغيرهما من الحكم بصحة الصلح مع العلم والجهل مطلقا، كما قدمناه
96

في صدر المسألة.
قال في التذكرة: لا يشترط العلم بما يقع الصلح عنه لا قدرا ولا جنسا، بل
يصح سواء علما قدر ما تنازعا عليه وجنسه أو جهلاه، دينا كان أو عينا، وسواء كان
إرثا أو غيره عند علمائنا أجمع، ثم استدل بالأدلة العامة من آية ورواية على صحته
مع الجهل، ولم يفصل في أثناء كلامه بين ما يمكن استعلامه وما لا يمكن، وهو ظاهر
فيما قلناه. والأظهر منه ما صرح به المحقق الأردبيلي (قدس سره) في شرح الإرشاد
حيث قال في هذا المقام: ولا بد أن يكون معلوما ليندفع الغرر، ولكن الظاهر أنه
يكفي العلم به في الجملة. إما بوصفه أو بمشاهدته، ولا يحتاج إلى الكيل والوزن
ومعرفة أجزاء الكرباس والقماش والثياب، وذوق المذوقات وغير ذلك مما يعتبر
في البيع ونحوه، للأصل وعدم دليل واضح على ذلك، وعموم أدلة الصلح المتقدم،
ولأن الصلح شرع للسهولة والارفاق بالناس ليسهل ابراء ذمتهم، فلا يناسبه الضيق
ولأنه مبني على المسامحة والمساهلة، وإليه أشار بقوله ويكفي المشاهدة في الموزون
وإن خالف فيه البعض.
قال في الدروس: والأصح أنه يشترط العلم في الموضعين إذا أمكن، وقال
في موضع آخر: ولو تعذر العلم بما صولح عليه جاز، إلى قوله: ولو كان تعذر
العلم لعدم المكيال والميزان في الحال ومساس الحاجة إلى الانتقال، فالأقرب الجواز
وهو مختار شارح الشرايع أيضا، ولا نعرف له دليلا، وما تقدم ينفيه، ويؤيده التجويز
عند التعذر، فإن ذلك لا يجوز في البيع عندهم، فتأمل، انتهى. ثم أمر بالاحتياط
وهو كما ترى أظهر ظاهر فيما ادعيناه مؤيد لما قدمناه.
وبالجملة فالظاهر هو الصحة في الصورة المذكورة لما عرفت، والاحتياط
لا يخفى، والله العالم.
المسألة الرابعة - لا يخفى أن أركان الصلح أربعة، المتصالحان، والمصالح
عليه، وهو مال الصلح، والمصالح عنه، وهو المتنازع فيه لو كان ثمة نزاع.
أما المتصالحان فإنه لا خلاف كما نقله في التذكرة في أنه يشترط فيهما
97

الكمال، بأن يكون كل واحد منهما بالغا عاقلا جائز التصرف فيما وقع الصلح عليه.
وأما المصالح عليه فإنه يشترط فيه صحة التملك، فلو كان خمرا أو خنزيرا
أو استرقاق حر أو إباحة بضع محرم قبل ذلك لم يصح، لما تقدم في الحديث النبوي وكما
لا يقع هذه الأشياء مالا للصلح لا يقع مصالحا عنه، والجميع محرم بما تقدم من النص النبوي.
ومن شرائطه العلم بما يقع الصلح عنه عند بعض كالشهيدين في الدروس
والمسالك، وقد تقدم الكلام فيه.
ومن شروطه رضا المتصالحين، فلا يقع مع الاكراه اجماعا، كغيره من العقود
ولقوله عز وجل (1) " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن
تراض منكم " فما لم يكن عن التراضي فإنه أكل مال بالباطل، ومن صور الاكراه
ما لو كان له على غيره حق مالي فأنكره المديون، فصالحه المالك على بعضه،
توصلا إلى أخذ بعض حقه، فإنه وإن صح الصلح ظاهرا إلا أنه لا يصح واقعا، ولا
تحصل به براءة ذمة المديون من الحق الباقي في ذمته، سواء عرف المالك قدر
الحق أم لا، وسواء ابتدء المالك بطلب الصلح أم لا، وقد تقدم تحقيق ذلك في الصور
المتقدمة في سابق هذه المسألة.
ومتى استكملت شروطه صار لازما من الطرفين عملا بعموم أدلة الوفاء بالعقود
المقتضي لذلك إلا ما خرج بدليل من خارج، ويجئ على قول الشيخ الجواز في
بعض موارده، كما إذا كان فرع العارية التي هي جائزة، والهبة على بعض الوجوه
وقد عرفت ضعفه، نعم لو اتفقا على فسخه بمعنى الإقالة من ذلك العقد كما في البيع
وأوقعا صيغة التقايل انفسخ.
المسألة الخامسة - إذا وقع الصلح بين شريكين على أن يكون الربح والخسران
على أحدهما، للآخر رأس ماله صح، والأصل في هذا الحكم ما رواه في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في رجلين
اشتركا في مال فربحا فيه، وكان من المال دين وعليهما دين، فقال أحدهما لصاحبه:

(1) سورة النساء الآية 29
(2) الكافي ج 5 ص 258 ح 1 التهذيب ج 6 ص 207 ح 7 الفقيه ج 3 ص 144 ح 7 الوسائل ج 13 ص 165 ح 1.
98

أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى، فقال: لا بأس إذا اشترطا، فإذا كان
شرط يخالف كتاب الله عز وجل فهو رد إلى كتاب الله عز وجل، ورواه في الفقيه والتهذيب،
إلا أنه قال: " وكان من المال دين وعين "، ولم يقل وعليهما دين ورواه في التهذيب
بسند آخر عن الحلبي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله، إلا أنه قال: " وكان
المال دينا " ولم يذكر العين ولا عليهما دين، ورواه في التهذيب أيضا بسند
آخر عن داود الابزاري (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله، إلا أنه قال:
" وكان المال عينا ودينا "، قال في المسالك بعد قول المصنف (قدس الله روحهما)
نحو ما قدمنا من العبارة المذكورة ما هذا لفظه: هذا إذا كان عند انتهاء الشركة
وإرادة فسخها لتكون الزيادة مع من هي معه بمنزلة الهبة والخسران على من هو
عليه بمنزلة الابراء، أما قبله فلا لمنافاته وضع الشركة شرعا والمستند صحيحة
أبي الصباح، ثم ساق الرواية المذكورة إلى أن قال: وهذا الخبر مشعر بما
شرطناه من كون الشرط عند الانتهاء، لا كما أطلقه المصنف. انتهى.
أقول: وقد تقدمه في ذلك المحقق الشيخ على في شرح القواعد، فإنه قيد
اطلاق عبارة المصنف فقال بعد ذكرها هذا إذا انتهت الشركة وأريد فسخها، وللمناقشة
في ذلك مجال، فإنه لا يخفى أنه وإن كان هذا الشرط مما ينافي الشركة إلا أن هذا
شأن أكثر الشروط، فإن مقتضى عقد البيع اللزوم من الطرفين، فلا يجوز لأحدهما
فسخه بغير سبب موجب، مع أنه يصح لأحدهما اشتراط خيار الفسخ بلا خلاف،
ولا ريب أنه مناف لمقتضى العقد الذي هو اللزوم من الطرفين (3) ودعوى أن في

(1) التهذيب ج 7 ص 25 ح 24، الوسائل ج 12 ص 353 ح 4.
(2) التهذيب ج 7 ص 186 ح 9، الوسائل ج 13 ص 165 ح 1.
(3) قال في الدروس: لو اصطلح الشريكان عند إرادة الفسخ جاز أن يأخذ أحدهما
رأس ماله، والآخر الباقي ربح أو توى للرواية الصحيحة ولو جعل ذلك في ابتداء الشركة،
فالأقرب المنع، لمنافاته موضوعها والرواية لم تدل عليه. انتهى، أقول فيه ما عرفت في الأصل من
ثبوته بالأخبار الدالة على وجوب الوفاء بها وإن نافى موضوع الشركة فإنه بمنزلة الاستثناء فيه كما
عرفت من مثال خيار الفسخ في البيع المنافي لمقتضى البيع وهو اللزوم من الطرفين وقد تقدم
في كتاب البيع ما يشير إلى ما ذكرناه أيضا. منه رحمه الله.
99

الرواية اشعار بما شرطه من أن ذلك القول عند انتهاء الشركة، وإرادة فسخها - ممنوع
فإن غاية ما تدل عليه كون هذا الشرط وقع بعد الشركة والعمل بالمال المشترك،
حتى صار بعضه أو كله دينا، وهذا لا يلزم منه إرادة الفسخ، وأنه آخر الشركة، بل
يمكن أن يكون هذا الكلام وقع في الأثناء بأنهم لما اشتركوا على العمل بذلك المال
بمقتضى الشركة من كون الزيادة للجميع، والنقص على الجميع، اشترط بعضهم
هذا الشرط في الأثناء واستمر وأعلى الشركة بهذا الشرط، ولعل في قوله (عليه السلام)
" لا بأس إذا اشترطا " ما يشير إليه، بمعنى أنه لا بأس بالشركة على هذا الوجه،
فيستمران على العمل بالشركة على هذا الوجه الذي اشترط، وإلا فلو كان المراد
إنما هو ما ذكره من أن هذا القول عند انتهاء الشركة وإرادة فسخها، فإنه لا وجه
للتعبير بالشرط، بل كان ينبغي أن يقول لا بأس إذا تراضيا بذلك، فإن لفظ الشرط
إنما يناسب استمرار العقد، بأن يكون العقد باقيا بهذا الشرط، لا انقطاعه وتمامه
كما لا يخفى. وبذلك يظهر صحة اطلاق من أطلق في العبارات المذكورة
والله العالم.
المسألة السادسة - قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا الكتاب
أحكاما لا أعرف لذكرها فيه وجها، لعدم صدق العنوان فيها، وإنما ذكرتها تبعا
لهم في المقام.
منها أنه لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما، وادعى الآخر أحدهما
كان لمدعيهما معا درهم ونصف، وللآخر نصف درهم.
ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن عبد الله بن
المغيرة (1) عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجلين كان معهما
درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك فقال: أما الذي
قال: هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له وأنه لصاحبه ويقسم الآخر بينهما.
وما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن أبي حمزة (2) عمن ذكره

(1) الفقيه ج 3 ص 22 ح 8 التهذيب ج 6 ص 208 ح 12
(2) المصدر ص 292 ح 16 وهما في الوسائل ج 13 ص 169: الباب 9
100

عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله بأدنى تفاوت، والمراد بكون الدرهمين معهما
كما تضمنه الخبران هو كونهما تحت يديهما معا، ليتساويا في الدعوى، فلو كانا
في يد مدعي الدرهمين لقدم قوله فيهما بيمينه، ولو كانا في يد مدعي الدرهم لقدم قوله
فيه بيمينه وأما إذا كانا في يديهما معا فالحكم ما ذكره (عليه السلام).
والوجه في أحد الدرهمين واضح، لأن مدعي الدرهم قد اعترف لصاحبه بأنه
لا يستحق من الدرهم الثاني شيئا، وإنما يبقى النزاع بينهما في درهم، وكل منهما
يدعيه، وقد حكم عليه السلام بالقسمة بينهما أيضا، وحينئذ فلمدعي الدرهمين درهم
ونصف، أما الدرهم فلاعتراف صاحبه له به، وأما النصف من الدرهم الثاني فمن
حيث حكمه (عليه السلام) في الدعوى على هذه الكيفية بالقسمة أنصافا.
ويستفاد منه كون الحكم كذلك في كل عين ادعاها اثنان مع اثبات يديهما
عليهما ولا بينة، أو يكون لكل منهما بينة، إلا أنه لا رجحان لأحديهما على الأخرى
وظاهر الرواية المذكورة وكذا كلام جملة ممن ذكر المسألة هو أن الدرهم
يقسم بينهما أنصافا من غير يمين.
والمفهوم من كلام جملة من المتأخرين أنه لا بد من أن يحلف أولا كل
منهما للآخر على استحقاق النصف، ومن نكل من أحدهما قضى به للآخر، ولو
نكلا معا أو حلفا قسم بينهما نصفين، بل صرح بذلك في التذكرة فقال: لو كان
في يد شخصين درهمان فادعاهما أحدهما وادعى الآخر واحدا منهما أعطي
مدعيهما معا درهما وكان الآخر (1) بينهما نصفين، لأن مدعي أحدهما غير منازع
في الدرهم الآخر فيحكم به لمدعيهما، وقد تساويا في دعوى أحدهما يدا ودعوى
فيحكم به لهما.
هذا إذا لم يوجد بينة، والأقرب أنه لا بد من اليمين فيحلف كل واحد منهما
على استحقاق نصف الآخر الذي تصادم دعواهما فيه، فمن نكل منهما قضى به
للآخر، ولو نكلا معا أو حلفا معا قسم بينهما نصفين لما رواه عبد الله بن المغيرة،
ثم ساق الرواية كما قدمناه. انتهى.

(1) أي الدرهم الآخر الذي هو محل الدعوى. منه رحمه الله.
101

وظاهره حمل اطلاق الخبر على هذا التفصيل الذي ذكره حيث أنه مقتضى
القواعد عندهم، وقال في الدروس بعد فرض المسألة وأن في الرواية المشهورة
للثاني نصف درهم، والباقي للأول ما لفظه ويشكل إذا ادعى الثاني النصف مشاعا فإنه
يقوي القسمة نصفين، ويحلف الثاني للأول وكذا كل مشاع. انتهى.
قال بعض الأفاضل (1): وكأن نظره (2) على أن النصف في الحقيقة بيد الأول
والنصف بيد الثاني، فمدعي التمام خارج بالنسبة إلى الثاني، فيكون البينة على
الأول واليمين على الثاني، لكن العدول عن الرواية المعتبرة مشكل، وسيأتي
انشاء الله تعالى في لاحق هذه المسألة ما فيه مزيد ايضاح للمقام.
ومنها ما لو أودعه انسان دينارين وآخر دينارا وامتزج الجميع ثم تلف أحد
الدنانير الثلاثة، فإن الحكم هنا كما في سابق هذه المسألة، لما رواه في الفقيه
والتهذيب عن السكوني (3) عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) " في رجل
استودع رجلا دينارين واستودعه آخر دينارا فضاع دينار منها فقضى أن لصاحب
الدينارين دينارا يقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين ".
وجملة من المتأخرين قيدوا الحكم المذكور بما إذا كان امتزاج الدنانير
وكذا ضياع أحدهما بغير اختيار ولا تفريط من الأمين، وإلا لكان ضامنا، فيخرج

(1) هو الفاضل الخراساني في الكفاية. منه رحمه الله.
(2) قوله وكأن نظره إلى آخره، أقول: توضيحه هو أنه من حيث كون الدرهمين في
يديهما معا فكان الأمر يرجع في الحقيقة إلى أن درهما في يد الأول وهو مدعي الدرهمين،
ودرهما في يد الثاني وهو مدعي الدرهم، وحينئذ فمدعي الدرهمين خارج لكون ما يدعيه من
الدرهمين، ليس في يده، وإنما في يده واحد خاصة فيكون عليه البينة من حيث كونه
خارجا، واليمين على الثاني من حيث كونه منكرا لدعوى الدرهمين فيقدم قوله بيمينه،
فإذا حلف على نفي استحقاقه الدرهمين بقي الآخر بينهما أنصافا أيضا، قال: وهكذا في كل مشاع
كما ذكر الشهيد، ومنها لو كان في يديهما ثوب ادعاه أحدهما كاملا وادعى الآخر نصفه، فإنه يقدم
قول الآخر بيمينه ويقسم الثوب بينهما أنصافا، والوجه في قسمة الدرهم الباقي أنصافا بعد
التمثيل أنه قد سقط دعوى صاحب الدرهمين باليمين، والآخر إنما يدعي درهما خاصة، وهو
يتضمن الاقرار لصاحبه بدرهم، فيبقى الدرهم الآخر بينهما. منه رحمه الله.
(3) الفقيه ج 3 ص 23 ح 12، التهذيب ج 7 ص 181 ح 10، الوسائل ج 13 ص 171 ح 1.
102

عن محل المسألة، لأنها بعد تضمينه يقتسمان بغير كسر وهو حسن، قال في التذكرة
فإن كان بغير تفريط في الحفظ ولا في المزج بأن أذن له في المزج أو حصل المزج
بغير فعله ولا اختياره، فلا ضمان عليه، لا صالة البراءة، ولو فرط ضمن التالف.
وقال في الدروس بعد ذكر هذه المسألة على أثر سابقتها: وهنا الإشاعة
ممتنعة، ولو كان ذلك في أجزاء ممتزجة كان الباقي أثلاثا، ولم يذكر الأصحاب
في هاتين المسئلتين يمينا، وذكر وهما في باب الصلح فجاز أن يكون ذلك الصلح
قهريا، وجاز أن يكون اختيارا. فإن امتنعا فاليمين. انتهى.
أقول: أما قوله " ولم يذكر الأصحاب في هاتين المسئلتين يمينا " فإن فيه
أن ما قدمنا نقله عن التذكرة، في المسألة السابقة صريح في اختياره اليمين ثمة،
والظاهر أنه غفل عن الوقوف عليه في الكتاب المذكور، وهو ظاهر جملة ممن
تأخر عنه منهم الشهيد الثاني وغيره.
نعم لم أقف على من ذكر اليمين هنا وبذلك اعترف في المسالك أيضا.
وأما ما ذكره من أن الأصحاب ذكروهما في باب الصلح فجاز أن يكون الصلح
قهريا، ففيه ما قدمنا ذكره في صدر المسألة من أن ايرادهما في هذا الباب لا وجه
له بالكلية، لعدم انطباق العنوان عليهما، وعدم جريان الشروط فيهما، بل ظاهر
الروايات المذكورة هو كونه صلحا قهريا كما احتمله وأنه ليس من باب الصلح
الاختياري الذي هو موضوع هذا الباب.
وأما قوله " ولو كان ذلك في أجزاء ممتزجة كان الباقي أثلاثا " فتوضيحه أنه
لو كان بدل الدنانير المفروضة في هذه المسألة ما يمتزج أجزاؤه مع تساوي الأجزاء
بحيث لا يتميز كالحنطة أو الشعير أو الأرز أو نحوها، فأودعه أحد قفيزين من حنطة
مثلا واستودعه الآخر قفيزا منها أيضا، فامتزج الجميع وتلف قفيز منها بعد الامتزاج
فإنهم قالوا أنه يقسم المال التالف على نسبة المالين، وكذا الباقي فيكون لصاحب
القفيزين قفيز وثلث قفيز، ولصاحب القفيز ثلثا قفيز، والفرق ظاهر، لأن الذاهب
هنا عليهما معا من حيث الامتزاج، وتساوي الأجزاء بخلاف الدنانير، فإن الذاهب
مختص بأحدهما، أما صاحب الدينارين، أو صاحب الدينار.
103

بقي الاشكال هنا من وجه آخر، كما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني، قال
في المسالك بعد ذكر المسألة: هذا هو المشهور بين الأصحاب، ومستنده رواية
السكوني عن الصادق (عليه السلام) ويشكل الحكم - مع ضعف المستند - بأن
التالف لا يحتمل كونه بينهما بل هو من أحدهما خاصة، لامتناع الإشاعة هنا
والموافق للقواعد الشرعية القول هنا بالقرعة، ومال إليه في الدروس إلا أنه تحاشى
عن مخالفة الأصحاب، ومقتضى الرواية أنه يقسم كذلك وإن لم يتصادم دعواهما في
الدينار، وأنه لا يمين، وكذا لم يذكر الأصحاب هنا يمينا، بناء على كون الحكم
المذكور قهريا كما ذكروه في المسألة السابقة، وربما امتنعت اليمين هنا،
إذا لم يعلم كل منهما بعين حقه. انتهى. وهو جيد.
وبالجملة فالظاهر من روايات المسئلتين المذكورتين أن الحكم المذكور
فيهما قهري غير مشروط بشئ من القيود التي ذكروها من يمين وغيرها والله العالم.
ومنها أنه لو كان لواحد ثوب بعشرين درهما وللآخر ثوب بثلاثين درهما
ثم اشتبها فإن خير أحدهما صاحبه فقد أنصفه وإن تعاسرا بيع الثوبان وقسم الثمن
بينهما، وأعطى صاحب العشرين سهمين من الثمن، وصاحب الثلاثين ثلاثة أسهم.
والمستند في ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن إسحاق
بن عمار (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام)، " في الرجل يبضعه الرجل ثلاثين درهما
في ثوب وآخر عشرين درهما في ثوب، فبعث بالثوبين ولم يعرف هذا ثوبه ولا
هذا ثوبه قال: يباع الثوبان فيعطي صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، والآخر
خمسي الثمن قال: فقلت: فإن صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين. اختر أيهما
شئت، قال: قد أنصفه ".
وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا المقام فذهب الشيخ وجماعة
منهم المحقق وغيره إلى الوقوف على ما دلت عليه الرواية، وذهب ابن إدريس إلى
العمل بالقرعة، قال بعد ذكر المسألة: إن استعملت القرعة كان أولى للاجماع على
أن كل أمر ملتبس فيه القرعة، وهذا من ذاك، وإليه يميل كلام شيخنا الشهيد

(1) الفقيه ج 3 ص 23 ح 11، التهذيب ج 6 ص 208 ح 13، الوسائل ج 13 ص 170 ح 1.
104

الثاني في المسالك.
ورده العلامة في المختلف فقال بعد نقل ذلك عنه: وليس بجيد، إذ لا اشكال
مع ورود النقل أيضا، وهذا المجموع بضاعة لشخصين لكل واحد منهما قدر معين،
فيباع ويبسط الثمن على نسبة المالين كغيرهما من الأموال، وكما لو اشتراهما
بالشركة مع الإذن، فإن الشركة قد تحصل ابتداء، وقد تحصل بالمزج الموجب للاشتباه
كما هي هنا، وإذا كانا شريكين كان لكل منهما بقدر رأس المال الذي له كما لو
امتزج الطعامان.
ونقل في المسالك عن العلامة هنا القول بالتفصيل (1) فقال: إن أمكن بيعهما
منفردين وجب، ثم إن تساويا فلكل واحد منهما ثمن ثوب ولا اشكال، وإن اختلفا
فالأكثر لصاحبه، وكذا الأقل بناء على الغالب وإن أمكن خلافه، إلا أنه نادر
لا أثر له شرعا وإن لم يمكن صارا كالمال المشترك شركة اختيارية، كما لو امتزج
الطعامان فيقسم الثمن على رأس المال، وعليه تنزل الرواية.
واعترضه في المسالك بأن ما ذكره من البناء على الغالب ليس أولى من القرعة،
لأنها دليل شرعي على هذه الموارد، ومن الجائز اختلاف الأثمان، والقيم بالزيادة
والنقصان لاختلاف الناس في المساهلة والمماكسة.
أقول: فيه ما قدمنا نقله عن العلامة في رده لكلام ابن إدريس من أن موضوع
القرعة كل أمر مشكل، والحال أنه لا اشكال بعد ورود النص بالحكم المذكور،
وبه يظهر ضعف قوله " لأنها دليل شرعي على هذه الموارد "، وأن البناء على الغالب
في موارد الأحكام الشرعية، من القواعد الكلية المتفق عليها في كلامهم، والمتداولة
على رؤس أقلامهم.

(1) أقول: ما نقله عنه من التفصيل قد جعله في المختلف أحد الاحتمالين حيث أنه بعد
الرد على ابن إدريس مما نقلناه في الأصول قال: إذ نقول إن كان الثوبان متساويين فلكل واحد
منهما ثوب، إذ قد اشترى بمال كل منهما ثوبا بانفراده، وإن تفاوتا أعطى صاحب الثلاثين
الأجود منهما إذ الظاهر ذلك وإن جاز خلافه فهو نادر لا اعتبار في نظر الشرع له، فالقرعة لا وجه
لها البتة كما توهمه ابن إدريس. انتهى وهو تقرير لما نقله عنه في المسالك بنوع آخر وإن
رجع في المعنى إلى ما نقله. منه رحمه الله.
105

ثم إنه قال في المسالك: وعلى تقدير العمل بالرواية يقصر حكمها على
موردها، ولا يتعدى إلى الثياب المتعددة، ولا إلى غير هما من الأمتعة والأثمان،
مع احتماله لتساوي الطريق.
واستقرب في الدروس القرعة في غير مورد النص. وهو حسن، ولو قيل به
فيه كما اختاره ابن إدريس كان حسنا أيضا انتهى.
أقول: ذهاب ابن إدريس إلى القرعة هنا - بناء على أصله الغير الأصيل من
رد الأخبار بأنها أخبار آحاد لا يفيد علما ولا عملا جيد، أما على مذهبه (قدس سره)
فهو غير جيد، ولهذا أنه قال أولا في صدر كلامه بعد نقل قول الشيخ وقول العلامة
بالتفصيل، ما صورته: وأنكر ابن إدريس ذلك كله، وحكم بالقرعة، لأنها لكل
أمر ملتبس، وهو هنا حاصل، وهو أوجه من الجميع، لولا مخالفة المشهور، وظاهر
النص مع أنه قضية في واقعة يمكن قصره عليها، والرجوع إلى الأصول الشرعية
انتهى.
وهو ظاهر في التوقف من حيث النص، ولكنه هنا عدل عن ذلك، وهو غير
جيد لما عرفت، وبالجملة فالأظهر الوقوف على النص المذكور في مورده، والقول
بالقرعة فيما خرج عن مورد الخبر كما اختاره في الدروس واستحسنه في المسالك
وكيف كان فإن الصلح هنا بمقتضى العمل بالخبر قهري، كما في سابقيه.
والله العالم
المسألة السابعة - لو صالحه على عين بعين أو على منفعة بمنفعة أو على عين
بمنفعة أو بالعكس صح، والوجه فيه أن الصلح لما كان مفاده مفاد غيره من العقود المتقدمة،
وتلك العقود المشار إليها متعلق بعضها العين ومتعلق بعضها المنفعة لم يمتنع صحة الصلح
كذلك، بل لا يختص جوازه بما ذكر، فلو صولح على اسقاط خيار، أو على اسقاط
حق أولوية تحجير في سوق أو مسجد، صح أيضا بعين أو منفعة لعين ما ذكر.
وكيف كان فلو بأن أن أحد العوضين كان مستحقا بطل الصلح، إذا كان ذلك
العوض معينا في العقد ولو كان مطلقا رجع ببدله، قالوا: ولو ظهر فيه عيب فله الفسخ
وفي تخيره بينه وبين الأرش وجه.
106

قال في المسالك: ولو ظهر غبن لا يتسامح بمثله ففي ثبوت الخيار وجهان:
أجودهما ذلك دفعا للاضرار وإن لم يحكم بالفرعية وهو خيرة الدروس، وقد تقدم
في خيار الغبن من البيع أنه لا نص عليه بالخصوص فيمكن استفادته هنا كما استفيد
هناك من الأدلة العامة انتهى.
المسألة الثامنة - لو صالحه على دراهم بدنانير أو بدراهم فعلى المشهور من
أن الصلح عقد مستقل بنفسه يصح، وعلى قول الشيخ بالفرعية تصير الصحة مراعاة
لحصول شروط الصرف والربا.
قال في المبسوط: إذا ادعى دراهم أو دنانير في ذمته، فاعترف بها ثم صالحه
بدراهم ودنانير صح الصلح، وهو فرع الصرف، فما صح فيه صح في الصلح، وما بطل في
الصرف بطل فيه، ولا يجوز حتى يتقابضا، فإن كان المقر به دراهم، فصالحه على
دنانير معينة أو موصوفة فعينها وقبضها قبل التفرق جاز، ولو قبض البعض وفارقه بطل
الصرف فيما لم يقبض، ولو ادعى عليه دراهم فأقر بها ثم صالحه منها على بعضها لم يجز،
لأنه ربا، ولكن إن قبض بعضها وأبرأه من الباقي صح، وكان هذا الصلح فرع الابراء انتهى.
وعلى المشهور لا يتعلق به حكم الصرف من وجوب التقابض قبل التفرق،
وأما حكم الربا فإنه يبنى على الخلاف المتقدم في باب الربا من أنه هل يثبت في
كل معاوضة؟ أم يختص بالبيع؟ وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في بابه، فعلى
الأول ينبغي مراعاته هنا أيضا دون الثاني.
وممن جزم بالأول هنا بناء على ذلك الشهيد الثاني في المسالك، وممن
جزم بالثاني العلامة في المختلف، ومما يتفرع على الخلاف المذكور هنا
أيضا ما لو أتلف على رجل ثوبا قيمته درهم مثلا فصالحه عنه على درهمين، فإنه
إن قلنا إن الواجب ضمان القيمي بمثله كما هو أحد القولين ليكون الثابت في
الذمة ثوبا صح الصلح المذكور، لأن الصلح وقع عن الثوب، لا عن الدراهم
الذي هو قيمته، وإن قلنا إن القيمي يضمن بقيمته، فاللازم لذمة المتلف إنما
هو الدراهم، فعلى هذا إذا صالحه بدرهمين تفرع صحة الصلح هنا على الخلاف
المتقدم للزوم الربا، فيصح الصلح عند من قال بتخصيص التحريم بالبيع، ويبطل
107

عند من قال بالعموم في جميع المعاوضات، ولهذا اختار في المسالك هنا البطلان،
بناء على ما اختاره أيضا من وجوب ضمان القيمي بقيمته.
المسألة التاسعة - لو ادعى اثنان عينا في يد ثالث من دار أو ثوب أو نحوهما
بأنها لهما بالمناصفة، وصرحا معا بالسبب الموجب للملك من أنهما ورثا هما معا
أو وكلا من شراها لهما معا بالمناصفة، أو نحو ذلك فصدق المدعى عليه أحدهما فيما
يدعيه من أن النصف له، وكذب الآخر، ثم إنه صالح المدعى عليه ذلك الذي
صدقه على النصف الذي أقر له به بعوض، وحينئذ فإن كان هذا الصلح بإذن شريكه
سابقا على الصلح، أو لاحقا بناء على صحة الفضولي صح الصلح على تمام النصف الذي
وقع العقد عليه، ويكون العوض بينهما نصفين، كما أن الأصل كان كذلك، وإن
لم يكن الصلح بإذن شريكه صح الصلح في حقه المقر له. وهو الربع الذي هو
نصف ما وقع عليه الصلح، وبطل في ربع شريكه، ويكون شريكا مع المدعى
عليه بذلك الربع، والوجه في ذلك أنه لما اتفق المدعيان على كون سبب ملكهما
مقتضيا للشركة بالمناصفة كما فرضناه سابقا، فاقرار المدعى عليه لأحدهما يقتضي
اشتراكهما فيما أقر به، وإن لم يصدق هما على السبب الموجب للاشتراك، لأن
مقتضى السبب المذكور كالميراث ونحوه هو التشريك، ويمتنع استحقاق المقر له
بالنصف خاصة دون شريكه، كما أن الفائت يكون ذاهبا عليهما بمقتضى اقرارهما
بسبب الشركة، ومن أجل ذلك تفرع عليه ما قدمناه من التفصيل بصحة الصلح
على النصف مع إذن الشريك، والاشتراك في العوض وعدم الصحة إلا في الربع
مع عدم الإذن، وكون الشريك حينئذ شريكا للمدعى عليه بالربع.
هذا كله فيما إذا صرحا بالسبب الموجب للملك بالإشاعة والمناصفة، أما
لو لم يصرحا بما يقتضي الشركة سواء صرحا بما ينافيه أم لا كما لو ادعى أحدهما
ملك نصف المدعى فيه بالميراث، وادعى الآخر ملكه بالشراء، فإنهما لا يشتركان
فيما أقر به المدعى عليه، فإن ملك أحدهما لا يستلزم ملك الآخر، فلا يقتضي
108

الاقرار لأحدهما بما يدعيه مشاركة الآخر إياه (1).
قال في المسالك بعد ذكر الحكمين المذكورين: هذا تقرير ما ذكره المنصف
وجماعة في القسمين، وفيه بحث، لأن هذا لا يتم الأعلى القول بتنزيل البيع والصلح
على الإشاعة، كالاقرار، وهم لا يقولون به بل يحملون اطلاقه على ملك البايع
والمصالح، حتى لو باع ابتداء مالك النصف نصف العين مطلقا انصرف إلى نصيبه،
ووجهوه بأن اللفظ من حيث هو وإن تساوت نسبته إلى النصفين، إلا أنه من خارج
قد ترجح انصرافه إلى النصف المملوك للبايع، نظرا إلى أن اطلاق البيع إنما يحمل
على المتعارف في الاستعمال، وهو البيع الذي يترتب عليه انتقال الملك بفعل
المتعاقدين، ولا يجري، ذلك إلا في المملوك بخلاف الاقرار، فإنه اخبار عن ملك
الغير بشئ، فيستوي فيه ما هو ملكه وملك غيره، وحينئذ فاللازم هنا أن ينصرف
الصلح إلى نصيب المقر خاصة، فيصح في جميع الحصة بجميع العوض، وتبقى
المنازعة بين الآخر والمتشبث.
هذا إن وقع الصلح على النصف مطلقا أو على النصف الذي هو ملك المقر له.
أما لو وقع على النصف الذي أقر به المتشبث توجه قول الجماعة لأن الاقرار ينزل
على الإشاعة والصلح وقع على المقر به، فيكون تابعا له فيها، وعلى هذا ينبغي حمل
كلامهم، لئلا ينافي ما ذكروه من القاعدة التي ذكرناها.
وهذا توجيه حسن لم ينبهوا عليه، وإنما ذكر الشهيد (رحمة الله عليه) في
بعض تحقيقاته احتمال انصراف الصلح إلى حصة المقر له من غير مشاركة الآخر
مطلقا، وتبعه عليه الشيخ على (رحمة الله عليه) انتهى.
أقول: وينبغي أولا ايضاح ما ذكره، ثم بيان ما فيه فنقول: قوله إن هذا
لا يتم إلا على القول بتنزيل البيع والصلح على الإشاعة، إلى آخره بمعنى أنه لو باع

(1) قيل: ومثله ما لو ادعى كل منهما أنه اشترى النصف من غير تقييد بالمقيد نعم لو قالا
اشتريناها معا أو اتهبناها وقبضنا معا ونحو ذلك، فقد حرر في التذكرة أن الحكم فيه كالأول
لاعتراف المقر بأن السبب المقتضي لتملكه قد افتقر يتملك الآخر، ويحتمل العدم، لأن نقل
الملك لاثنين بهذا الوجه بمنزلة الصفقتين. منه رحمه الله.
109

شخص حصته من مال مشترك بينه وبين غيره كالنصف مثلا فإنه بمقتضى تقريرهم
لم ينصرف إلى ماله، بل إلى النصف المعلوم المشاع مطلقا بينه وبين شريكه،
فيكون المبيع ربع البايع وربع الشريك، وهم لا يقولون به في البيع، ولا في
الصلح، بل يخصونه ب‍ نصف البايع والمصالح، وإنما ينزل على الإشاعة الاقرار،
فلو أقر بالنصف للغير يكون اقرارا بربعه وربع الشريك، ووجه الفرق بين الأمرين
أن البايع إنما يبيع مال نفسه، ولا يصح بيع مال غيره إلا فضولا على القول به،
أو وكالة، وهما منتفيان هنا، فينصرف إلى ماله كما هو المتبادر والمتعارف،
بخلاف الاقرار فإنه كالشهادة بأنه للغير، وهو قد يكون في ماله، وقد يكون في
مال غيره، فهنا ينبغي أن يكون ما يصالح عليه هو نصف المقر به، وهو الربع بالنسبة
إلى المجموع، فيكون العوض كله له، لا أنه يكون أنصافا كما ذكروه، والنزاع
يبقى للشريك الآخر مع المدعى عليه.
هذا إذا كان الصلح على النصف مطلقا، أو على النصف الذي هو ملك المقر له،
وأما إذا صالح المقر له على النصف الذي أقر له به كان الصلح هنا منزلا
على الإشاعة، لأنه تابع للاقرار المنزل على ذلك كما عرفت، فيكون قول الجماعة
متجها على هذا الوجه، وعلى هذا ينبغي حمل كلامهم، هذا حاصل ما ذكره
(قدس سره).
وفيه أولا أن الظاهر أن قول الجماعة - بأن اطلاق البيع والصلح إنما ينصرف
إلى ملك البايع والمصالح دون الشايع - إنما هو في المال المشترك الخالي عن
النزاع، والقاعدة المذكورة إنما هي بالنسبة إلى ذلك، وما نحن فيه ليس كذلك
لوجود النزاع وعدم ثبوت نصف خالص للمصالح، بل الثابت له بحسب الشرع إنما
هو الربع كما عرفت، لأن الفرض أن ما اعترف به المدعى عليه، مشترك بينه وبين
شريكه بحسب نفس الأمر، وظاهر الشرع من حيث اقرارهما بموجب الشركة،
ولا نزاع في أن ما أقر به المدعى عليه مشترك بينه وبين شريكه، فهو إنما صالح
على ربعه وربع شريكه، إذ ليس نصف المصالح عليه إلا ذلك، وبه يظهر أن ما
نحن فيه ليس من جزئيات القاعدة المذكورة، ولا من أفرادها لتحصيل المنافاة
110

كما زعمه (قدس سره).
وثانيا - أنه مع الاغماض عن ذلك - فإن الظاهر من المقام والمتبادر
من سياق الكلام كما صرح به من ذكر المسألة من علمائنا الأعلام (1) أن الصلح
إنما وقع على النصف الذي أقر له به المدعى عليه، ولم يقصد المدعى عليه،
والذي أقر له إلا ذلك، لا أن الصلح وقع على نصفه الذي له في نفس الأمر والخروج
عن قاعدة البيع والصلح إنما يحصل على الثاني، دون الأول وبما ذكرناه يظهر أيضا
أن الاحتمال الذي ذكره الشهيد (رحمة الله عليه) وتبعه عليه الشيخ على
(رحمة الله تعالى عليه) ليس بجيد، والله العالم.
المسألة العاشرة - قالوا: لو ادعى عليه شيئا فأنكر فصالحه المدعى عليه
على سقي زرعه أو شجره بمائه، قيل: لا يجوز، لأن العوض وهو الماء مجهول،
وهذا القول منقول عن الشيخ (رحمة الله عليه) والمشهور الجواز مع ضبط السقي
بمدة معلومة، ومثله ما لو كان الماء معوضا.
وبالجملة فإنه يجوز السقي بالماء عوضا للصلح، بأن يكون مورده أمرا
آخر من عين أو منفعة، وكذا يجوز كونه موردا له، وعوضه أمر آخر من عين
أو منفعة، كل ذلك مع ضبطه بمدة معلومة.
والشيخ قد خالف في الجميع، محتجا بجهالة الماء، مع أنه جوز بيع ماء
العين والبئر وبيع جزء مشاع منه، وجوز جعله عوضا للصلح، كذا قالوا.

(1) ومن ذلك عبارة المحقق في الشرايع حيث قال: ولو ادعى اثنان دارا في يد
ثالث بسبب موجب للشركة كالميراث فصدق المدعى عليه أحدهما، وصالحه على ذلك النصف
بعوض، فإن كان بإذن صاحبه صح الصلح في النصف أجمع، وكان العوض بينهما وإن كان
بغير إذنه صح في حقه، وهو الربع. انتهى، ولا يخفى أن قوله فصالحه على ذلك النصف
مراد به النصف الذي أقر له به الذي صار بالاقرار مشتركا بينه وبين صاحبه، فالإشارة راجعة
إليه كما هو ظاهر، والشارح قد جرى في تقرير معنى العبارة على ذلك أيضا، فقال في أثناء
الكلام: فإذا صالح المقر له المثبت على النصف المقر له فإن كان الصلح بإذن صاحبه إلى
آخره وهو ظاهر في أن الصلح إنما وقع على ذلك النصف المقر به، وعلى هذا النهج كلام
غير هما من الأصحاب (رضوان الله عليهم). منه رحمه الله.
111

أقول: ويمكن أن يكون منعه من الصلح على السقي المذكور من حيث
عدم الضبط بالمدة، فإنهم إنما جو زوا ذلك مع الضبط بها، ويدل عليه اطلاق
كلامه، فإنه لا دلالة فيه على المنع مع الضبط، بالمدة ليتجه نسبة الخلاف
إليه في المقام.
وبالجملة فإنه يمكن تخصيصه المنع هنا بغير المضبوط، فيكون موافقا
لما ذكروه، والاعتراض عليه - بأنه صرح بجواز بيع ماء العين والبئر وجزء مشاع
منه وجوز جعله عوضا للصلح - يمكن دفعه بأن الماء في صورة محل البحث مجهول
لا يدخل في أحد الأقسام المذكورة، لأنه يستحق بالصلح جميع الماء، ولا بعضا
منه معينا، وإنما استحق سقيا لا يعرف قدره، ولا مدة انتهائه، ومن ثم شرطوا
في الجواز ضبط المدة، وهو لم يصرح بالمنع مع الضبط كما عرفت.
يبقى الكلام فيما لو تعلق الصلح بسقي شئ مضبوط دائما أو بالسقي بالماء
أجمع دائما وإن جهل السقي، ونفى البعد عن الصحة شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك والروضة، للتسامح بذلك في باب الصلح، وهو غير بعيد لما قدمناه
وذكره غير واحد من الأصحاب من أن مبنى الصلح على المساهلة والمسامحة.
قالوا: وكذا يصح الصلح على اجراء الماء على سطحه أو ساحته بعد العلم
بالموضع الذي يجري فيه الماء، بأن يعرف مجراه طولا وعرضا، ليرتفع الجهالة
عن المحل المصالح عليه، ولا يعتبر تعين العمق، لأن من ملك شيئا ملك قراره
إلى تخوم الأرض، ولا فرق في ذلك بين جعله عوضا بعد المنازعة وبين ايقاعه
ابتداء، وقد أطلق جملة منهم حكم الماء من غير أن يشترطوا مشاهدته ليرتفع
الغرر، وقيد آخرون بمشاهدته أو وصفه خروجا من الغرر، لاختلاف الحال
بقلته وكثرته، فقد يتعلق الغرض بأحدهما دون الآخر، ولو سقط السطح بعد الصلح
أو احتاجت الساقية إلى اصلاح فعلى مالكهما، لتوقف الحق عليه، وليس على
المصالح مساعدته.
المسألة الحادية عشر - الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو قال المدعى عليه:
صالحني عليه فإن ذلك لا يكون اقرارا بالملك، لأن الصلح يصح مع الانكار،
112

فطلبه هنا لا يستلزم الاقرار، إذ قد يكون ذلك لأجل رفع المنازعة والمخاصمة
وخالف فيه بعض العامة حيث زعم أن الصلح لا يصح إلا مع الاقرار: وفرع على ذلك أن
المدعى عليه لو قال قبل الاقرار صالحني على العين التي ادعيتها يكون ذلك منه اقرارا،
لأنه طلب منه التمليك، وهو يتضمن الاعتراف بالملك، فصار كما لو قال: ملكني
وفيه أنه متجه بناء على أصله المذكور من حيث تخصيص الصلح بالاقرار
وأما على ما هو المتفق عليه عندنا وعند جملة منهم من صحة وقوعه على الاقرار
والانكار، فطلبه لا يكون موجبا للاقرار.
نعم لو قال: بعني أو ملكني اقتضى ذلك الاقرار بعدم ملكه له، لأنه صريح
في طلب التمليك المنافي لكونه ملكا له، لاستحالة تحصيل الحاصل، وبالجملة فإنه
لا اشكال في اقراره بعدم الملك بقوله ذلك.
بقي الكلام في أنه هل يكون بذلك ملكا لمن طلب منه البيع أو التمليك أم
لا؟ الأقرب العدم، لأنه يحتمل أن يكون المطلوب منه وكيلا، وإذا قام احتمال
ذلك لم تتم الدلالة على كونه ملكا له.
وبالجملة فالمترتب على الاقرار المذكور هو كونه مالكا ليبيع، لا مالكا
للمبيع، لأنه أخص، والعام لا يدل على الخاص.
وقيل: نعم لو اقترن بلك كون المطلوب بيعه تحت يد المخاطب ترجح
جانب ملكه، لدلالة اليد على الملكية، والأصل عدم مالك آخر، قال في المسالك:
وقد تنبه لذلك العلامة في المختلف والشهيد في الدروس وهو قوي. انتهى.
أقول: لا يخفى أن ما تقدم من الكلام وبه صرحوا أيضا أن مبنى الشك في
كونه ملكا لمن طلب منه البيع وعدمه - إنما هو على اقراره من غير انضمام شئ
آخر له من خارج يدل على الملكية أو عدمها، وإلا فمع انضمام ما يدل على أحد
الأمرين لا اشكال في الحكم بما دل عليه.
وبه يظهر أن ما ذكروه من هذا الفرع لا أعرف له مزيد فائدة على أن ما
ذكروه من مجرد دلالة اليد على الملكية محل توقف، بل لا بد مع ذلك من ادعاء
الملكية، وإلا فإن المال في يد الوكيل أيضا لكنه معترف بالوكالة عن الغير،
113

هذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
الثانية عشر - وفيها حكمان - أحدهما أنه لو ضمن شخص عن شخص مالا
بإذنه ثم صالح الضامن المضمون له بأقل مما ضمنه لم يكن له الرجوع على المضمون
عنه إلا بما صالح به، والظاهر أنه لا خلاف فيه، وعليه تدل موثقة عمر بن يزيد (1)
" قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل ضمن ضمانا ثم صالح عليه قال:
ليس له إلا الذي صالح عليه " رواه الكليني والشيخ (رحمة الله عليهما).
وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب عبد الله بن بكير (2)
" قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل ضمن عن رجل ضمانا ثم صالح على
بعض ما صالح عليه قال: ليس عليه إلا الذي صالح عليه ".
والخبران وإن كانا مطلقين بالنسبة إلى إذن المضمون عنه وعدمه إلا أنه يجب
تقييدهما بالإذن، لما تقدم في كتاب الضمان أنه لا رجوع إلا مع الإذن، وبدونه
لا رجوع.
وكذا لو صالح الضامن المضمون له عن المال الذي ضمنه بعروض دفعها
إليه، فإن لا يرجع على المضمون عنه إلا بأقل الأمرين من قيمة العروض وما كان
في ذمة المضمون عنه، وقد تقدم ذكر هذه المسألة وتحقيق الكلام فيها في كتاب
الضمان فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.
الثاني - يجوز الصلح على تعجيل بعض الدين المؤجل بنقصان منه، ولا يجوز
تأجيل شئ منه بزيادة، ولا يجوز الصلح على تعجيل البعض أيضا بمد الأجل
في الباقي.
ويدل على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيد عديدة فيها الصحيح والحسن
عن الحلبي (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن الرجل يكون له دين
إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول: أنقدني كذا وكذا وأضع عنك بقيته، أو يقول:

(1) الكافي ج 5 ص 259 ح 7 التهذيب ج 6 ص 210 ح 7
(2) التهذيب ج 6 ص 210 ح 6 والوسائل ج 13 ص 153 ح 1 و 2
(3) الكافي ج 5 ص 259 ح 4، التهذيب ج 6 ص 207 ح 6، الوسائل ج 13 ص 168 ح 1
114

أنقدني بعضه وأمد لك في الأجل فيما بقي عليك قال: لا أرى به بأسا، أنه لم يزدد
على رأس ما له، قال الله عز وجل (1) فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون،
وفي قوله (عليه السلام) " إنه لم يزدد على رأس ماله " ثم أورد الآية إشارة إلى عدم
جواز التأجيل بالزيادة على الحق، وإن كان على سبيل الصلح، فإنه رباء كما يدل
عليه ايراد الآية، فيمكن الاستدلال بالخبر المذكور على تحريم الربا في الصلح
أيضا إلا أن الرباء لازم هنا مع النقصان أيضا، وكأنه حينئذ مستثنى بالخبر، ويعضده
أيضا حسنة أبان (2) عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، سألته عن الرجل
يكون له على الرجل الدين فيقول له قبل أن يحل الأجل عجل لي النصف من
حقي على أن أضع عنك النصف، أيحل ذلك لواحد منهما، قال. نعم ".
المطلب الثاني في تزاحم الحقوق والتنازع في الأملاك:
والكلام فيه يقع في مقامات: المقام الأول - قد صرح الأصحاب (رضوان الله
عليهم) بأنه يجوز اخراج الرواشن (3) والأجنحة إلى الطرق النافذة إذا كانت عالية
لا تضر بالمارة، وهما عبارة عن اخراج خشب من حائط المالك إلى الطريق بحيث
لا يصل إلى الجدار المقابل له ويبنى عليها، ولو وصل إلى الجدار سمي ساباطا وعلى هذا
فهما عبارة عن أمر واحد، وربما فرق بينهما بأن الأجنحة ينضم إليها مع ما ذكر
أن يوضع لها أعمدة من الطريق، وربما قيل ذلك في الرواشن.
والكلام هنا يقع في مواضع: الأول - المرجع في التضرر إلى العرف بالنظر

(1) سورة البقرة الآية 279
(2) الكافي ج 5 ص 258 ح 3، التهذيب ج 6 ص 206 ح 5، الوسائل ج 13 ص / 168 ح 2
(3) قال في مجمع البحرين: الرواشن جمع الروشن وهي أن يخرج أخشابا إلى
الدرب ويبن عليها ويجعل عليها قوائم من أسفل. انتهى، وفي اللغويين الروشن بأنه الكوة
كذا ذكره المحقق الشيخ على على ما في شرح القواعد. وفي القاموس: الروشن الكوة،
فليتأمل فلعل الغلط في أحد الموضعين، ولا يحضر في الآن من نسخ الكتابين ما يمكن تحقيق
الحال منه فإن تحريف الكوة بالكورة أو بالعكس قريب فليلاحظ منه رحمه الله.
115

إلى المارة في تلك الطريق وما يليق بها، فلو كانت من الطرق التي تمر فيها
الجيوش والجمال والفرسان وجب أن لا يضر بالعماريات والكنايس، واعتبر ارتفاع
ذلك بحيث يمر فيه الفارس لا يصدم رمحه مما لاعلى عنقه، واعتبر العلامة في التذكرة
أن يتمكن الفارس من الممر تحته ورمحه منتصب لا يبلغه، قال: لأنه قد تزاحم
الفرسان فيحتاج إلى أن تنصب الرماح، ومنعه في الدروس لندرته، وقواه في المسالك
لامكان اجتماعهم مع إمالته بحيث لا يبلغهم.
الثاني - المفهوم من كلامهم وتقييد الضرر بالمارة كما قدمنا ذكره أنه لو أضر
بغير هم من جار ونحوه بحيث استلزم الاشراف عليه لم يمنع منه، كما لا يمنع لو كان
وضع الجناح والروشن في ملكه فاستلزم الاشراف على جاره.
وخالف في ذلك العلامة في التذكرة فقال: بالمنع من ذلك فارقا بينه وبين
الوضع في ملكه، قال في الكتاب المذكور: إذا أخرج جناحا أو روشنا في الشارع
النافذ فقد بينا أنه ليس لأحد منعه مع عدم التضرر به، فلو تضرر جاره بالاشراف
عليه فالأقرب أن له المنع، لأنه قد حصل به الضرر، بخلاف ما لو كان الوضع في
ملكه فإنه لا يمنع وإن حصل معه الاشراف، لأن للانسان التصرف في ملكه كيف
شاء، ويمنع في الملك من الاشراف على الجار لا من التعلية المقتضية لامكانه، قال: ولست
أعرف في هذه المسألة بالخصوصية نصا من الخاصة ولا من العامة، وإنما صرت إلى
ما قلت عن اجتهاد، ولعل غيري يقف عليه أو يجتهد فيؤديه اجتهاده إلى خلاف
ذلك انتهى ملخصا.
واعترضه في المسالك فقال: وفيه نظر لأن المعتبر في الموضوع في الطريق
عدم الاضرار بأهل الطريق، لأنه موضوع للاستطراق فيمتنع ما ينافيه، أما اعتبار
عدم الاضرار بغير هم فلا دليل على المنع منه، بل قد تقدم أنه لا يمنع مما يضر
بغير من يعتاد سلوكه خاصة، فضلا عن غير المار، والجار خارج عن ذلك كله،
فلا وجه للمنع مما يقتضي اضراره، كما لو أحدث ببناء في مباح يقابله واستلزم
الاشراف عليه، وكلام العلامة وغيره حيث قيدوا الضرر بالمارة دليل عليه، وإنما
عمم هو الضرر في فرعه. انتهى.
116

أقول: ويقول العلامة (قدس سره) في هذه المسألة ولست أعرف في هذه
المسألة نصا وإنما صرت إلى ما قلت عن اجتهاد، تعلق المحدث الأمين الاسترآبادي
ونحوه من الأخباريين في التشنيع على المجتهدين، ويمكن الاعتذار عنه (قدس سره)
بأن مراده بالاجتهاد إنما هو الاستنباط من الأدلة العامة، فإنه إنما نفى وجود الخبر
الخاص بهذه المسألة، فلا ينافيه إمكان استنباط دليل لها من الأدلة العامة، وهو
هنا حديث (1) " لا ضرر ولا ضرار " لأنه إنما استند في المنع بضرر الجار بذلك.
نعم يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الضرر المنهي عنه إنما هو نفس الاشراف،
لا الروشن المقتضي له، كما لو فعله في ملكه أو أحدث بناء في مباح يقابله واستلزم
الاشراف كما تقدم في كلام شيخنا المتقدم ذكره.
الثالث - ما قدمنا ذكره من جواز اخراج الرواشن والأجنحة إلى الطرق
النافذة ما لم يضر بالمارة هو المشهور، سواء عارضه فيه مسلم أو لم يعارضه أحد،
وهو قول الشيخ في الخلاف.
وقال في المبسوط: بأنه لو عارض فيه مسلم وجب قلعه، وبه قال ابن البراج،
والأول اختيار ابن إدريس، مستندا إلى جريان العادة من غير أن ينكره أحد،
قال: وسقيفة بني ساعدة وبني النجار مشهورتان، ولم ينكرهما أحد من المسلمين،
ونفس الطريق غير مملوكة، وإنما يملك المسلمون منافعها دون رقبتها. انتهى.
وبه قال العلامة وغيره، وما ذهب إليه الشيخ في المبسوط هنا نقله في التذكرة
عنه، وعن أبي حنيفة، قال: وقال الشيخ (رحمه الله) وأبو حنيفة لا عبرة بالضرر وعدمه،
بل إن عارضه فيه رجل من المسلمين نزع ووجب قلعه وإن لم يكن مضرا به
ولا بغيره، وإلا ترك، لأنه بنى في حق غيره بغير إذنه، فكان له مطالبته بقلعه، كما لو
بنى دكة في المسلوك، أو وضع الجناح في ملك غيره، ثم رده بأن القياس
ممنوع، فإن الضرر يحصل ببناء الدكة، بخلاف الجناح والساباط والرواشن،
لأن الأعمى يعتبر بها، وكذا في الليل المظلم يعثر البصير بها، ويضيق الطريق
بها بخلاف الجناح، وملك الغير لا يجوز التصرف فيه إلا بإذنه، بخلاف الطريق فافترقا.

(1) الفقيه ج 2 ص 147 ح 18، الكافي ج 5 ص 292 ح 2، الوسائل ج 17 ص 341 ح 3
117

أقول: والعمدة في ذلك كله هو إباحة الهواء، وأنه غير مملوك هنا للمارة
ولا لغير هم فلا مانع من التصرف فيه إلا على وجه يتضرر به المارة، والمفروض
عدمه، فلو حصل الضرر به وجب إزالته ولا يختص الوجوب بالواضع، وإن كان
آكد، بل يجب على كل من له قدرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع - المفهوم من تقييدهم الطرق بالنافذة عدم الجواز في الطرق
المرفوعة، والوجه فيه ظاهر، لأنها ملك لأربابها، كساير الأملاك المشتركة
لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن أربابها فلا يجوز لأحد منهم احداث جناح أو باب شارع
إلا بإذن الباقين، سواء أضر بهم أم لم يضر، للمنع من التصرف في مال الغير إلا بإذنه
مطلقا، والمراد بالمرفوعة المسدودة التي لا ينتهي إلى طريق آخر ولا مباح، بل إلى
ملك الغير، والمراد بأربابها من له باب شارع إليها، ومما يترتب على ملكهم لها
جواز سدهم لها عن السكة، مع اتفاقهم على ذلك، وكما يحرم التصرف فيها بما
تقدم ذكره كذلك يحرم بغيره من أنواع التصرفات، فلا يجوز المرور فيها إلا بإذنهم
ولا الجلوس فيها، ولا إدخال الدواب فيها ونحو ذلك إلا مع الإذن، ويمكن الاكتفاء
في جواز المرور بشاهد الحال، وكذا الجلوس خفيفا، فلو اتفق في تلك الطرق
المرفوعة السلوك إلى مسجد أو رباط أو مطهرة أو نحوها من المشتركات بين العامة لم يكن
لأصحاب الطريق المنع من السلوك إليها، ولا احداث ساباط أو جناح يضر بالمارة
وإن رضي أهل السكة، لأنها صارت مشتركة بينهم وبين عامة الناس المترددين إلى تلك
المواضع، ونحوه لو جعل أحدهم داره أحد تلك المواضع، والوجه فيه ظاهر مما تقدم.
هذا والمفهوم من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف هو أن الطرق المرفوعة
ملك لأربابها، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه) هنا المناقشة في ذلك
مستندا إلى المنع من ذلك إلا أن يعلم بدليل شرعي، ولو بدعوى الملكية بشرط
أن لا يكون مستنده مجرد الاستطراق، فإن الذي علم من الاستطراق استحقاقهم
ذلك لا غير، ولما كان أكثر الطرق والاستطراق يحصل في غير الملك لا يعلم منه
الملكية التي هي منفية بالأصل، إذ لا فرق بين المسلوك والمرفوع في الحصول،
إلا أن المترددين في الأول أكثر، هذا غاية ما استند إليه (قدس سره).
118

وفيه نظر، إذ لا يخفى أن الظاهر أنه لا خلاف في أن التصرف أمارة الملك،
فلو تصرف أحد في شئ ومات وهو في تصرفه حكم به ميراثا لورثته، ولو ادعى مدع
في أن تصرفه عاد طولب بالبينة، ولا يخفى أيضا أن التصرف غير مضبوط بحد معلوم
وإنما هو في كل شئ بنسبته، يعني بالنظر إلى المنافع المترتبة على ذلك الشئ
فكل من تصرف في شئ بتحصيل المنافع المترتبة عليه ثبت له الملك، والمنافع
المترتبة على الطريق التي بها ثبت التصرف ليس إلا الاستطراق، لأنها موضوعة له
وإن أمكن وجود منافع آخر أيضا، إلا أن هذا هو المقصود منها والغالب عليها،
وأما ما ذكره من أن الاستطراق يحصل في غير الملك - فلا يدل على الملكية
كما في الاستطراق في الشوارع - ففيه أن ما ذكرنا من أن التصرف أمارة الملك
فإن التصرف في كل شئ إنما هو بنسبة حاله، مما يثبت به المدعى، إذ لا خلاف
في هاتين المقدمتين فيما أعلم، وعدم ثبوت ذلك في الشوارع إنما هو من حيث
عدم حصر السالك فيها، والملك لا بد أن يكون له مالك معين، والتصرف الموجب
للملك الذي يكون في كل شئ بنسبته لا بد أن يكون مستمرا كما في التصرفات في
ساير الأملاك.
وحينئذ فلو مر شخص في الجادة يوما ولم يعد إليها في باقي عمره لا يعد
مالكا، وإن كان قد تصرف مرة، وهكذا في ساير السالكين وإن تفاوتوا، بخلاف
ملاك السكة المرفوعة. فإنهم مستمرون على الاستطراق منها إلى بيوتهم كما في
جملة التصرفات في الأملاك مع كونهم معينين محصورين، وبذلك يظهر لك الفرق
بين الطريقين، وعدم قياس إحديهما على الأخرى في البين. والله العالم.
الخامس - قد عرفت أن الأظهر أنه ليس لأحد من المسلمين معارضته في
اخراج الجناح والروشن، ويدخل فيه الجار، فليس له المعارضة، ليكون الهواء
بينهما، بل أيهما سبق استحق ذلك.
نعم للآخر اخراج روشن فيما بقي من الهواء، وليس لصاحب الأول منعه
ما لم يضع على خشبته شيئا منه، ويجوز للآخر اخراج روشنه فوق الأول أو تحته
ما لم يضر به، ويعتبر أن يكون عاليا لا يضر بالمارة على الوجه المتقدم، ولو أظلم
119

الطريق بوضع الثاني أزيل خاصة، لأن الضرر إنما حصل به، وإن كان للأول أيضا
أثر في ذلك إلا أن الحد الموجب للضرر إنما حصل بالثاني.
السادس - قال في التذكرة: لو صالح واضع الروشن أو الجناح أو الساباط
أرباب الدرب، وأصحاب السكة على وضعه جاز على الأظهر عندنا، لكن الأولى
اشتراط زمان معين، لأنه حق مالي بتعين المالك فجاز الصلح عليه، وأخذ العوض
عنه كما في القرار، ومنع منه الشافعية، بناء منهم على أن الهواء تابع، فلا يفرد
بالمال صلحا كما لا يفرد به بيعا، ونمنع مانعية التبعية من الانفراد بالصلح، بخلاف
البيع لأنه يتناول الأعيان، والصلح هنا واقع عن الوضع مدة، وكذا الحكم في
صلح مالك الدار عن الجناح المشرع إليها من الجواز عندنا، والمنع عندهم. انتهى.
وظاهره أن الحكم اجماعي عندنا في كل من الموضعين، وإنما المخالف
فيه الشافعية خاصة، مع أن عبارة الشيخ في المبسوط ظاهرة في ما نقله عن الشافعية
حيث قال: إذا أخرج جناحا إلى زقاق غير نافذ لم يجز، لأن أربابه معينون،
فإن صالحوه على تركه بعوض يأخذونه منه لم يجز، لأن في ذلك افرادا للهواء
بالبيع، وذلك لا يصح. انتهى.
والأصحاب قد نقلوا ذلك عنه أيضا، والظاهر أنه غفل عن مراجعة ذلك،
والمحقق في الشرايع قد تردد في المسألة من أجل خلاف الشيخ أيضا.
وكيف كان فإن الظاهر أن كلام الشيخ هنا (رحمه الله) مبني على مما تقدم
نقله عنه من فرعية الصلح على البيع كما هو مذهب الشافعية، وقد تقدم نقله عن
الجميع وبيان ضعفه، والمفهوم من كلامهم كما هو ظاهر عبارة التذكرة المذكورة
استحقاق جميع ملاك الطريق المرفوعة لذلك، وهو مخالف لما صرحوا به كما
سيأتي إن شاء الله تعالى من اختصاص الداخل منهم بما بين البابين، واشتراك الجميع
إنما يحصل فيما خرج عن الأبواب كملا، فالمناسب للتفريع على ذلك أن يقال:
أن الروشن المحدث إن كان خارجا عن جميع الأبواب فالحق للجميع، والصلح
على اخراج الروشن مع الجميع، وإن كان داخلا عن بعضها لم يتوقف على إذن
الخارج، وقيل: يتوقف على رضى الجميع كالأول، وقواه في الدروس، وسيأتي
120

الكلام في ذلك انشاء الله تعالى.
السابع - قالوا: لو سقط الروشن فسبق جاره إلى وضع روشن في ذلك الهواء
لم يكن للأول منعه، لأن الأول لم يملك الموضع بوضع الروشن فيه، وإنما
اكتسب بوضعه الأولوية، كالقعود في المسجد.
بل قال في التذكرة: لو هدمه جار قهرا وتعديا ثم وضع الجار روشنا أو
جناحا في محاذاته ومده إلى مكان روشن الأول جاز، وصار أحق به، لأن الأول
كان يستحق ذلك بسبقه إليه، فإذا أزال وسبقه الثاني إلى مكانه كان أولى، كرجل
جلس في مكان مباح كمسجد أو درب نافذ ثم قام عنه أو أقيم، فإنه يزول حقه
من الجلوس، ويكون لغيره الجلوس في مكانه. وليس للأول ازعاجه، وإن أزعج
الأول فكذا هنا، ثم نقل المنع عن بعض الشافعية.
وملخص كلامهم أنه إنما يزول حقه بالاعراض عن إعادته لا بالهدم والانهدام
كالجالس في المكان للأولوية، وبذلك صرح غيره أيضا، وظاهره أن غاية ما يلزم
الثاني بكسر روشن الأول الإثم والضمان خاصة، وإلا فإن أولويته تزول بذلك.
ولا يخفى ما فيه من الاشكال، لعدم النص في ذلك مع ظهور كون الثاني
غاصبا وإن لم يكن غصب ملك بل غصب أولوية، فاطلاق أدلة الغصب وعمومها
يشمل مثل ذلك.
وقد تنبه لما ذكرناه المحقق الأردبيلي (قدس سره)، حيث أنه بعد نقل
كلام التذكرة وما ذكره من كلام بعض الشافعية، قال: والذي يتخيل أولوية
قول بعض الشافعية، إذ لا شك في حصول الأولوية، والأصل بقاؤها، ومعلوم زوالها
بالاعراض لا غير، والظاهر أنه ليس بأقل من التحجير قهرا يمكن عدم زوال
أولوية الحجر، وبالجملة الحكم ليس بمنصوص ولا مجمعا عليه على الظاهر،
فليس ببعيد قول بعض الشافعية، ولا شك أنه أحوط. انتهى.
وأشار بقوله: ليس أقل من التحجير إلى آخره - وإن كانت العبارة لا يخلو من
غموض ولعله لغلط في الكتاب المنتسخ منه - إلى ما صرحوا به ثمة من أنه بالتحجير
الذي هو شروع في الاحياء لا يصلح لغيره التخطي إليه وإن لم يفد مكلا، بل
121

إنما يفيد أولوية، وهو نظير ما نحن فيه، فيكون مؤيدا لما ذكرناه.
ويؤيده أيضا ما تقدم في أحكام المساجد من كتاب الصلاة بالنسبة إلى السابق
إلى موضع منها من تصريح شيخنا الشهيد الثاني بأنه لو أزعجه مزعج فلا شبهة
في أئمة، وهل يصير أولى بعد ذلك يحتمله، لسقوط حق الأول بالمفارقة، وعدمه
للنهي، فلا يترتب عليه حق، ويتفرع على ذلك صحة صلاة الثاني وعدمها، مع
أنه (قدس سره) ممن وافق العلامة فيما نقلناه عنه في كتاب المسالك، والحكم
في المسألتين من باب واحد. والله العالم.
المقام الثاني - في الطرق وهي على قسمين، نافذة ويقال شارعة، ومرفوعة
والكلام في هذا المقام يقع أيضا في مواضع، الأول - الظاهر أنه لا خلاف بين
الأصحاب في جواز فتح الأبواب المستحدثة في الطرق النافذة، لأن المسلمين فيها
شرع، فيجوز احداث الأبواب فيها لمجاوزها، سواء كان لتلك الدار باب آخر إليها
أم إلى غيرها من الطرق النافذة؟ أو المرفوعة.
أما الطرق المرفوعة فلا يجوز إلا برضاء أهلها، ولا حد الشركاء فيها إلا بإذن
الباقين، وكذا لا خلاف في جواز وضع الميازيب في الطرق النافذة، واحتج عليه
في التذكرة بأن الناس بأسرهم اتفقوا على وضع الميازيب ونصبها على سطوحهم
قديما وحديثا من غير انكار أحد منهم، فكان اجماعا هذا إذا لم يتضرر بوضعها أحد،
فإن تضرر بوضعه وجب قلعه.
أقول: الأظهر الاستدلال على ذلك بأصالة الإباحة، إذ لا شئ هنا مما ربما
يتوهم المنع منه إلا الاستطراق الذي هو حق للمسلمين، والمفروض أنه لا يضربه،
فيكون كوضعه مشرفا على الأماكن المباحة.
الثاني - يجوز فتح الروازن والشبابيك في الطرق النافذة بلا اشكال، وكذا
في الطرق المرفوعة وأن استلزم ذلك الاشراف على جاره، لما تقدم من أن المحرم
هو الاشراف والتطلع، لا التصرف في الملك، ليستفيد بذلك الإضائة في بيته.
نعم للجار وضع شئ في ملكه يمنع الاشراف عليه وإن استلزم سد الضوء،
122

ولا فرق بين أن يكون لصاحب الحائط الذي فتح فيه الروزنة أو الشباك باب في
تلك الدرب أم لا، لأن له رفع جميع الحائط، وأن يضع عوضه شباكا فبعضه أولى.
نعم يمنع من فتح الباب لو لم يكن له باب قديم، وإن لم يستطرق فيه دفعا
للشبهة، أعني شبهة استحقاقه التطرق، والمرور من تلك الطريق، وبهذا يفرق بين
فتح الشباك والروزنة بل رفع جميع الحائط، وبين فتح الباب، فإن الشبهة المذكورة
لا تترتب على الثلاثة الأول، بل إنما تترتب على الرابع، فإنه بعد تطاول الزمان
واشتباه الحال يمكن الاستناد إليه في استحقاق المرور والتطرق من تلك الطريق،
بخلاف رفع الجدار فضلا عن الشباك والروزنة، فإنه لا يقتضي استحقاق المرور به
بوجه، هذا كله إذا لم يأذن أرباب تلك الطريق، فلو أذنوا سقط.
البحث الثالث - لو كان في السكة المرفوعة أبواب بعضها أدخل من الآخر
فهل يشترك جميعهم في جميع السكة فيكون الاستحقاق في جميعها لجميعهم،
أم شركة كل واحد يختص بما بين رأس السكة وباب داره؟ لأن محل تردده هو ذلك
المكان خاصة، المشهور بين الأصحاب الثاني، والوجه فيه أن المقتضي لاستحقاق
كل واحد هو الاستطراق ونهايته بابه، فلا يشارك في الداخل، فحكمه بالنسبة
إلى هذا الداخل الزايد على بابه حكم الأجنبي من غير أهل السكة.
وقيل: بالأول، فيشترك الجميع في الجميع حتى في الفضلة الداخلة عن
الأبواب وهو صدر السكة إن كان ذلك، وعلل باحتياجهم إلى ذلك عند ازدحام الأحمال،
ووضع الأثقال عند الادخال والاخراج.
وقوى في الدروس هذا القول، ونقل القولين في التذكرة عن الشافعية،
وقال: إن أظهر الوجهين لهم الثاني، والمسألة غير منصوصة عندنا، إلا أن الأوفق
بالقواعد الشرعية هو القول المشهور؟ ولو فضل في صدر الزقاق فضلة عن الاستطراق
فظاهر الأصحاب أن أرباب الأبواب فيها سواء ولا أولوية لواحد على غيره لاستوائهم
في الارتفاق بها. بخلاف ما بين البابين أو الأبواب، فإن أدخلية الباب تقتضي
الاستطراق إليه، وهو مختص بالمستطرق، فيتحقق الترجيح، فالأدخل ينفرد بما
123

بين البابين، وهكذا لو كانت أكثر من بابين، ويشترك الجميع في الطريقين أعني
صدر السكة الخالي عن الاستطراق، لما تقدم، وآخرها الزائد على الأبواب،
لاشتراك الجميع في استطراقه،
قال في التذكرة: فعلى المشهور عندنا أن الأدخل عنده ينفرد بما بين البابين، و
يتشاركان في الطريقين، ولكل منهما الخروج ببابه مع سد الأول وعدمه، فإن سده فله العود
إليه مع الثاني، وليس لأحدهما الدخول ببابه ويحتمله، لأنه قد كان له ذلك في
ابتداء الوضع ويستصحب، وله رفع جميع الجدار فالباب أولى انتهى.
أقول: الظاهر أن هذا الاحتمال مبني على القول الآخر الذي تقدم تقويته
عن الدروس، وإلا فإنه يشكل بناء على المشهور من حيث اختصاص تملكه بما
يستطرقه، وهو إلى الباب الموجود يومئذ، فادخاله للباب إلى داخل السكة مع
أنه ملك غيره من أصحاب الأبواب الداخلة مشكل.
وأورد المحقق الأردبيلي (رحمه الله) هنا عليهم اشكالا قد أشرنا إليه في
الموضع السادس من المسألة السابقة، قال (رحمه الله) ثم هيهنا اشكال وهو أنهم قد
حكموا بكون المرفوعة ملكا لكل من فيها، فالهواء والأرض كله ملك مشترك بين
أربابها، وأيضا قالوا: لا يجوز لأحد التصرف باحداث الرواشن والأجنحة والساباط
وفتح الأبواب المستحدثة حتى لغير الاستطراق أيضا، وكذا وضع الميزاب،
سواء حصل الضرر أم لا إلا بإذن الأرباب، فمعه يجوز مطلقا، فهو مؤيد للاشتراك
ثم حكموا هنا بالاختصاص بما بين البابين لذي الباب الأدخل والأول، إلى أن قال:
فكأنهم جوزوا ما حرموه.
وقد تقدمه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، فإنه أيضا أشار إلى ذلك،
ويتفرع على ذلك ما أشرنا إليه آنفا من توقف وضع الجناح أو الروشن على إذن
الجميع، بناء على حكمهم بعموم الملك للجميع، والتفصيل بما تقدم بناء على كلامهم
هنا من اختصاص الداخل بما بين البابين.
الرابع - قال العلامة في التذكرة: يصير الموضع شارعا بأمور أن يجعل
124

الانسان ملكه شارعا وسبيلا مسبلا ويسلك فيه شخص آخر، أو يجئ جماعة
أرض قرية أو بلدة ويتركوا مسلكا نافذا بين الدرب والمساكن، ويفتحوا إليه
الأبواب، أو يصير موضع من الموات جادة يسلك الناس فيها، فلا يجوز تغييره،
وكل موات يجوز استطراقه، لكن لا يمنع أحد من احيائه بحصول الممر عليه،
فليس هو حكم الشوارع. انتهى.
وقال في الدروس: يجوز عمل سرداب في الطريق النافذ، إذا أحكم أزجه
ولم يحصر الطريق من وجهها، ولو كان في المرفوع لم يجز وإن أحكم إلا بإذنهم،
ومثله الساقية من الماء إذا لم يكن لها رسم قديم، ومنع الفاضل من عمل الساقية
وإن أحكم الأزج عليها في النافذ، أما لو بناها بغير أزج فإنه يمنع منها اجماعا،
ويجوز لكل أحد إزالتها انتهى.
المقام الثالث في الجدران:
والبحث فيها يقع في موارد: الأول - الجدار بين الملكين إما أن يكون
لواحد من صاحبي الملكين، أو يكون مشتركا بينهما، فإن كان مختصا بأحدهما
كان له التصرف فيه كيف شاء، بهدم وبناء ونحو ذلك، وليس للآخر وضع جذع
ولا خشبته عليه إلا بإذن صاحبه، وهذا كله مما لا خلاف فيه ولا اشكال، وإن
كان مشتركا لم يجز لأحدهما التصرف فيه إلا بإذن الآخر، كوضع وتد وفتح كوة
ونحو ذلك، حتى أنه عد في التذكرة من ذلك أخذ تراب ليترب به الكتاب،
فإنه لا يجوز إلا بإذن شريكه ثم استثنى من ذلك ما لا يقع المضايقة به كالاستناد
إليه، واسناد المتاع إليه إذا لم يتضرر الجدار بذلك، وهذا الحكم عام في جدار
الغير مطلقا، لأنه بمنزلة الاستظلال بجدار الغير، والاستضائة بسراجه، ولو منع
المالك أو الشريك من الاستناد فهل يحرم أم لا؟ جزم في التذكرة بذلك وتبعه في
المسالك واستقرب في الدروس العدم لانتفاء الضرر قال في المسالك: وموضع
الخلاف ما إذا كان المجلس للمستند وإلا لم يجز اجماعا.
125

الثاني: قالوا، إذا التمس الجار وضع جذوعه على حائط جاره لم يجب على
جاره إجابته. نعم يستحب، واستدل في المسالك على الاستحباب بما روي عنه
(صلى الله عليه وآله) من قوله " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يمنعن جاره
من وضع خشبة على جداره ".
أقول: لم أقف على هذا الخبر في كتب أخبارنا، والظاهر أنه من طريق
العامة حيث إنه نقل في المسالك أن بعضهم أجاز وضع الخشب بدون الإذن مستندا
إلى هذا الخبر.
وكيف كان فإن عموم أخبار قضاء الحوائج للمؤمنين والتوصية بالجار ونحو
ذلك مما يدل على الاستحباب في مثل ذلك، فلا بأس به.
ثم إنه لو أذن له في الوضع فله الرجوع في الإذن ما لم يضعه اتفاقا، أما
لو وضعه فقيل: إنه ليس له الرجوع لاقتضاء الإذن في ذلك الدوام والتأبيد كالإذن
في دفن الميت في الأرض، وللاضرار الحاصل بالنقض حيث يفضي إلى خراب ملك
المأذون، ذهب إليه الشيخ في المبسوط وجماعة، والمشهور بين المتأخرين،
ومنهم المحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم أن له الرجوع لأنه عارية، والأصل
جواز تصرف المالك في ملكه بأي نحو كان، قالوا: والحاقه بالدفن قياس مع
الفارق، لتحريم نبشه، لا من حيث تخريب البناء والاضرار يندفع بضمان الأرش.
أقول: وهذا الواجب جيد، إلا أن بعضهم احتمل جواز النقض مجانا من
غير أرش، بناء على أن الإذن إنما أفاد العارية، ولازمها الرجوع متى أراد مع
أصالة براءة ذمة المالك من ثبوت مال لغيره عليه على تخليص ملكه منه، بل
أصالة البراءة مطلقا.
والقائلون بالأول استندوا إلى أنه بناء محترم صدر بالإذن، فلا يجوز قلعه
إلا بعد ضمان نقصه، ولأن فيه جمعا بين الحقين، ولأنه سبب الاتلاف لإذنه،
والمباشر ضعيف، لأنه بالأمر الشرعي.
ثم إنه على تقدير وجوب الأرش فهل هو عوض بما نقصت آلات الواضع بالهدم؟
126

أو هو عبارة عن تفاوت ما بين العامر والخراب؟ وجهان: اختار أولهما في المسالك،
وزاد المحقق الأردبيلي (رحمه الله) وجها ثالثا قال، ويحتمل ثالثا وهو جميع ما
أخرجه المالك في الجدار بعد وضع قيمة الآلات الموجودة منه، فتدخل فيه أجرة
الأكار وغيرها وهو الأظهر انتهى.
ولو اتفقا على بقائه بالأجرة زال الاشكال.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر المحقق المذكور في شرحه على الإرشاد
الميل إلى مذهب الشيخ في المبسوط في هذه المسألة (1) قال (قدس سره): وظاهر
المصنف بل الأكثر جواز اخراج الخشب المعار، وإن كان مستلزما للخراب على
المأذون، فيعطى الأرش، ويحتمل عدم الجواز، وهو مذهب الشيخ، لأن العارية
في مثل هذا للتأبيد، فكأنه قال: أعرني بحيث يكون دائما عندي ما دام الجدار،
ولا يكون لك الرجوع بوجه، والتزم ذلك فصار لازما لأن المسلمين عند شروطهم،
ولأن الأصل في العقود اللزوم، وخرجت العارية في غير محل النزاع بالاجماع
ونحوه، وبقي الباقي ولأنه مستلزم للضرر، " ولا ضرر ولا ضرار في الاسلام "، ولا ينجبر
بالأرش، إذ قد يكون بحيث لو لم يعر الخشبة لسهل عليه تحصيل غير الخشب يبقى
دائما، وقد تخيل بقاؤه دائما، وحينئذ يخرب ملكه، وقد لا يوجد من يبني أو يكون
الخرج زائدا بكثير على الأول ولا يعارضه أن المنع أيضا ضرر على مالك الخشب،
لأنه فعله بنفسه من غير اجبار، مع أن العادة قاضية بأن مثل هذه العارية إنما تكون
للدوام، فإن أحدا لا يرتكب مثل هذه العارية مع تجويز رجوع مالكه إذا كان

(1) قال (قدس سره): الثالث على تقدير ثبوت الأرش فهل هو عوض ما نقصت آلات
الواضع بالهدم أو تفاوت ما بين العامر والخراب، وجهان: مبناهما على أن البناء إذا كان محترما
فهو بهيئته حق لبانيه فيكون جبره بتفاوت ما بين كونه عامرا وخرابا، لأن ذلك هو نقص المالية،
ومن أن نقص هذه المالية مستند إلى ملك صاحب الجدار فلا يضمن، إنما تضمن في نقصان
الغير الذي كان سبب اتلافه وفواته وهو أقوى لأن جميعه مال للواضع غايته كونه موضوعا على
ملك الغير وذلك الملك إنما أثر جواز النقص لا المشاركة في المالية. انتهى. منه رحمه الله.
127

مستلزما للخراب، كما في العارية للدفن، ولا ينفع الفرق بأن النبش حرام
وأنه قياس، لما تقدم، ولأن الغرض التمثيل والتأييد، على أنه قد يقال به،
لظهور العلة المشتركة، ويدفع الفرق بأنه على تقدير جواز الرجوع لا يكون
النبش حينئذ حراما، بل يكون هذه من الصور المستثنيات الكثيرة.
ثم إن الظاهر على تقدير الجواز ما كان ينبغي وجوب الأرش، لأنه إنما
هو بسبب كونه عارية، وهي جائزة دائما، والمالك قد أضر نفسه بقبول العارية
الجايزة، فكأنه جوز على نفسه الرجوع و التخريب لما بنى، فكأنه المخرب
والمهدم، فلا يتوجه أنه سبب، ومالك الخشب مباشر، على أنه إذا كان جائزا فله أن
يجبر مالك الجدار بحكم الحاكم بدفع ماله إليه، فيكون هو المباشر فتأمل، انتهى
أقول: والمسألة لخلوها عن النص محل توقف واشكال، والاعتماد على هذه
التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مجازفة ظاهرة، سيما مع تدافعها كما عرفت.
نعم يمكن تأييد مذهب الشيخ بما دل على وجوب الوفاء بالوعد من الآية
والرواية، فإن هذه المسألة و إن كانت من قبيل العارية التي حكمها جواز
الرجوع فيها، إلا أن قرائن الحال تشهد بأن المطلوب منها هنا الدوام، فإن
المعير إنما أعار جداره على هذا الوجه، فلا يجوز له الرجوع بعد ذلك، لما دل
على وجوب الوفاء بالوعد، و يؤيده حديث الوفاء بالشروط، والله العالم.
تذنيبان:
الأول - قال في التذكرة: إن رفع صاحب الجذوع جذوعه لم يكن له
إعادتها إلا بإذن جديد، لأن الإذن الأول زال بزواله وكذا لو أذن في وضع
روشن على حائطه أو جناح أو ساباط، و هو أحد قولي الشافعي.
والثاني أن له الوضع عملا باستصحاب الإذن الأول وكذا لو سقطت الجذوع
أو الروشن والساباط أو الجناح بنفسه، ولو سقط الجدار فبناه صاحبه بتلك الآلة
فكذلك، لأن الإذن لا يتناول الإمرة، وللشافعية وجهان، ولو بناه بغير تلك الآلة
128

لم يعد الوضع إلا بإذن جديد عندنا وعند الشافعية قولا واحدا، انتهى.
أقول: ما ذكره من الاتفاق على التوقف على الإذن الجديد إذا كان البناء
بغير تلك الآلة مشعر بالخلاف فيما إذا بناه بتلك الآلة، إلا أن ظاهره أن الخلاف
إنما هو من الشافعية، حيث قال: وللشافعية وجهان، مع أن الشيخ قد صرح بذلك
في المبسوط أيضا، ونقله عنه الأصحاب.
ومنهم العلامة في المختلف قال: إذا أذن له في وضع الجذوع على جداره
ثم استهدم الجدار للمعير نقضه، فإذا أعاده قال الشيخ في المبسوط: إن أعاده
بتلك الآلة لم يكن له منعه من رد الخشب والسقف عليه، وإن أعاده بغير تلك
الآلة كان له منعه، وقيل: ليس له منعه، والأول أقوى (1)، ثم قال في المختلف:
والوجه الأخير لنا أنها عارية، وللمالك الرجوع فيها خصوصا إذا لم يتضمن
ضرر المستعير، ولا ضرر هنا، لأن إزالة الجذوع كان سائغا، مع أن الشيخ قال
أولا: لو انهدم الحائط أو أهدمه المستعير لم يكن له الإعادة إلا بإذن مستأنف،
وأي فارق بين الموضعين سوى مباشرة الهدم في الثاني دون الأول، وتلك لا توجب
دوام الإعارة بل نقول أبلغ من ذلك، وهو أن المالك لو هدم الحائط من غير حاجة
لم يكن للمستعير الإعادة وإن وجب عليه الأرش إن قلنا به، انتهى.
أقول: ومن أجل اضطراب كلام الشيخ واختلافه هنا كما سمعت من كلام
المختلف لم يذكر كثير منهم خلاف الشيخ المذكور، كما يشير إليه عبارة
التذكرة، وكأنهم أخذوا بقوله الموافق لما عليه الأصحاب من المنع من الرجوع
مطلقا، وأطر حوا هذا التفصيل الذي ذكره، والقولان للشافعية، والشيخ جمع

(1) أقول ومما فرعه الشيخ على هذا التفصيل ما لو حلف أن لا يستند إلى هذا الحائط
ثم هدم وبنى بتلك الآلة، فإنه يحنث، قال في المبسوط وقال العلامة في المختلف:
ويقوى في نفسي أنه لا يحنث لأن الحائط الثاني ليس هو الأول، لأن الحائط عبارة عن
آلة وتأليف مخصوص ولا خلاف في أن تأليفه بطل انتهى، منه رحمه الله.
129

بين الحكمين المختلفين.
إذا عرفت ذلك فهنا شئ لم أعثر على من تنبه له ولا نبه عليه وهو أن ما
ذكره الشيخ من التفصيل المتقدم نقله محل الخلاف منه إنما هو الشق الأول، وهو
ما إذا أعاد الجدار بتلك الآلة فالشيخ حكم بأنه ليس له منعه من الإعادة، والأصحاب
حكموا بالمنع، وظاهر العبارة المذكورة أن الخلاف إنما هو في الثاني، والعبارة
بهذه الكيفية قد ذكرها في المبسوط، كما في نقل المختلف، والمعنى لا يصح
إلا باسقاط لفظ ليس، مع أنها موجودة في الكتابين، وقول العلامة في المختلف
والوجه الأخير ثم علله بما ذكره إنما يتم بحذف ليس، لأنه هو الوجه الأخير الذي
في مقابلة التفصيل الأول، والمراد أن له منعه مطلقا فليتأمل. والله العالم.
الثاني: لو وقع الصلح بينهما على وضع الخشب أو الجذوع على الجدار
بشئ صح، لعموم أدلة الصلح إلا أنه يشترط عندهم معرفة الخشب أو الجذوع الموضوعة
طولا ووزنا، لاختلاف ضرر الجدار باختلاف ذلك، وتكفي المشاهدة عن اعتبارها بما
ذكر، ولكن لا بد من تعيين المدة وضبطها، هذا إذا كان الصلح قبل البناء
ووضع الخشب.
وأما لو كان بعده فإنه لا يفتقر إلا إلى تعيين المدة خاصة، لأن الباقي صار
معلوما، قالوا: ولو كان الجدار غير مملوك بل موقوفا كجدار المسجد لم يجز
التصرف بوضع شئ عليه إلا بإذن الحاكم الشرعي، وليس له الإذن إلا بعوض،
وفي الجواز مع العوض بشرط عدم الضرر نظرا إلى المصلحة بحصول العوض و
عدمه نظرا إلى أنه تصرف في الوقف بغير ما وضع له، ولأنه يثمر شبهة الاستحقاق
بتطاول الأزمان - وجهان: أجودها الأخير، وهو خيره الشهيدين في الدروس
والمسالك.
الثالث - لو تداعيا جدارا فإما أن يكون لأحدهما عليه يد في الجملة، أم
لا يد بالكلية، فعلى الثاني إن حلف عليه أحدهما مع نكول صاحبه قضى به للحالف،
130

وإن حلفا هما معا أو نكلا قضى به لهما أنصافا، و على الأول فإما أن يكون تلك اليد
التي في الجملة مثل كونه في أرض أحدهما فإنه يحكم له به، أو يكون متصلا ببنائه
اتصالا يبعد به كونه محدثا، كتداخل اللبن والأحجار، ومثلهما ما لو كان لأحدهما
عليه قبة أو غرفة أو نحو ذلك فإنه بجميع ذلك يصير صاحب يد، فالقول قوله بيمينه
مع فقد البينة، وكذا لو كان لأحدهما عليه جذع أو جذوع، لأن حكم الجذع
والجذوع حكم ما تقدم من المرجحات، فيكون القول قوله مع يمينه،
ونقل عن الشيخ هنا أنه لا يقضى له بذلك، قال في المبسوط: إذا تنازعا
جدارا بين ملكيهما غير متصل ببناء أحدهما، ولأحدهما عليه جذع أو جذوع
له يحكم له.
وقال ابن إدريس: يحكم لصاحب الجذوع، قال في المختلف: وهو مذهب
والدي (رحمه الله) وهو المعتمد، لنا أنه متصرف فيه، وله عليه يد دون الآخر،
فيحكم مع عدم البينة له بعد اليمين، كغيره من الأموال، ثم قال: احتج الشيخ
بقوله (صلى الله عليه وآله (1) " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " ولم
يفرق وأيضا فإن هذا الحائط قبل طرح الجذوع كان بينهما نصفين بلا خلاف، فمن
قال بطرح الجذوع بغير الحكم عليه والدلالة، بل يقال لصاحب الجذع، أقم البينة
على أنك وضعت هذه الجذوع بحق، فإن أقامها، وإلا كان على حاله قبل وضعها فيه،
وأيضا فإن وضع الجذوع قد يكون عارية لأن في الناس من يوجب إعارة ذلك، وهو
مالك، فإنه قال يجبر على ذلك لقوله (عليه السلام) " لا يمنعن أحدكم جاره أن
يوضع خشبته على جداره ".
والجواب عن الأول أنا نقول: بموجب الحديث، فإن اليمين هنا على
المدعى عليه وهو صاحب الجذوع، لأنه متصرف وذويد، فالقول قوله مع اليمين،
وعلى الآخر البينة، لأنه مدع وخارج.

(1) الفقيه ج 3 ص 20 ح 1 والوسائل ج 18 ص 170 و 171
131

وعن الثاني أن التنصيف ثابت مع عدم التصرف لتساوي نسبتهما إليه، كما لو
تداعيا عينا في يدهما أو يد ثالث لا يعترف لأحدهما، فإنهما متساويان في الدعوى
لعدم اليد، أو لثبوتها لهما أما في صورة النزاع فإن يد أحدهما ثابتة عليه، فكان
قوله مقدما، والأصل وضع الجذوع بحق، فلا يطالب صاحبها بإقامة البينة على
ذلك، إلا أن يثبت الآخر دعواه، والأصل عدم العارية، والتخريج على المذهب
الفاسد فاسد، انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد،
ولو تفرقت هذه المرجحات بأن كان لأحدهما بعض، وللآخر بعض، بأن
كان البناء متصلا ببناء كل منهما، أو اختص أحدهما بالجذوع والآخر بالقبة أو
الغرفة، أو نحو ذلك حكم باليد لهما، فيرجع الكلام إلى ما تقدم من اختصاص
الحالف مع نكول الآخر، أو القسمة بينهما مع حلفهما أو نكولهما.
قالوا: ولا يرجع دعوى أحدهما بالخوارج التي في الحيطان، وهو كل
ما خرج عن وجه الحائط من نقش ووتد ورف ونحو ذلك، لامكان احداثه من جهته
من غير شعور صاحب الجدار به، ونحوها أيضا الدواخل في الجدار كالطاقات غير
النافذة، والروازن النافذة لما ذكر، وفيه على اطلاقه تأمل.
الرابع - الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه لو انهدم الجدار المشترك وأراد أحد
الشريكين عمارته دون الآخر، فإنه لا يجبر الممتنع على المشاركة في عمارته،
وعللوه بأن الانسان لا يجب عليه عمارة ماله.
وإنما يبقى الكلام في موضعين: أحدهما - أنه لو أراد أحد الشريكين عمارته
فهل يتوقف على إذن شريكه الممتنع؟ أم يجوز البناء وإن نهاه؟ قولان: وعلل
الأول بأنه مال مشترك، فيمتنع التصرف فيه بدون إذن الشريك، كما في جميع
المشتركات، وعلل الثاني بأنه نفع واحسان في حق الشريك حيث يعمر له حائطه
ولا يغرمه في نفقته، ولا ضرر عليه بوجه، ونقل هذا القول عن الشيخ، وفي المسالك
قوى الأول.
وفي الحكم بقوته على اطلاقه اشكال، لأنه ربما يتضرر الشريك بترك عمارته
132

فيلزم من عدم الإذن له الاضرار به، وحديث (1) " نفي الضرر والاضرار " يدفعه،
وربما قيل بالتفضيل بين إعادته بالآلة المشتركة، فلا يشترط رضاه، وبين إعادته
بآلة من عنده فيشترط، لأنه على الأول يبقى شريكا كما كان، بخلاف الثاني.
ثم إنه قال في المسالك: وحيث يتوقف البناء على إذن الشريك ويمتنع رفع
أمره إلى الحاكم ليجبره على المساعدة أو الإذن، فإن امتنع أذن له الحاكم انتهى.
أقول: مقتضى ما قدمنا نقله عنه من تقويته القول الأول هو عدم جواز البناء
لو لم يأذن، وفيه ما عرفت آنفا، ومقتضى كلامه هنا هو أنه يجبر على الإذن، أو
يأذن الحاكم نيابة عنه، وهو على اطلاقه أيضا لا يخلو عن اشكال، لأنهم صرحوا
بأنه لا يجب عليه عمارة ماله، وظاهر كلامهم أنه أعم من أن يكون مشتركا أو
مختصا به، وسواء كان بنفقة ينفقها عليه أم لا، فكيف يجبر على ذلك هنا، والأظهر
عندي إنما هو التفصيل بما قدمنا ذكره من أنه مع إرادة الشريك التعمير وامتناع
شريكه من ذلك، فإن كان في امتناعه ضرر على شريكه فإنه يجوز للشريك التعمير
من غير اعتبار إذنه، فيسقط الإذن هنا أيضا وقوفا على حديث " نفي الضرر
والاضرار " وإلا فلا، وقوفا على ما ذكروه من عدم وجوب تعمير الانسان ماله،
ولا مدخل هنا للحاكم بوجه.
وثانيهما أنهم قالوا: على القول باعتبار إذنه لو خالف وعمره بغير الإذن،
فهل للشريك نقضه؟ احتمال من حيث تصرفه في ملك غيره، وتغيير هيئته ووضعه
الذي كان عليه، فصارت الكيفية الثانية كأنها مغصوبة، فله إزالتها.
وفصل في المسالك فقال: الأقوى العدم، إن كان بناه بالآلة المشتركة، لأن
هدمه أيضا تصرف في مال الغير، وهو الشريك الذي بنى، فلا يصح كالأول، وإنما
تظهر الفائدة في الإثم، والجواز إن كان بناه بغير آلته، لأنه عدوان محض،
وتصرف في أرض الغير، فيجوز تغييره. انتهى.
أقول: يمكن تطرق المناقشة إلى ما ذكره (قدس سره) بأن البناء كما أنه

(1) الكافي ج 5 ص 292 ح 2 الفقيه ج 3 ص 147 ح 18 الوسائل ج 17 ص 319 ح 1
133

مشتمل على الآلة فهي أحد أجزائه فهي أيضا مشتملة على الكيفية المخصوصة وهي
أحد أجزائه، وكما يحصل العدوان والغصب بالبناء بغير آلته القديمة كما اعترف
به، يحصل أيضا بتغيير الهيئة والكيفية السابقة، وبه يظهر أن قوله فيما لو بناه
بالآلة المشتركة - أن هدمه أيضا تصرف في مال الغير وهو الشريك الذي بنى -
غير تام، لأن هذا التصرف بناء على ما ذكرناه تصرف عاد غير جائز، فيجوز
إزالته، وبما ذكرناه يظهر قوة الاحتمال الأول وضعف ما ذكره من التفصيل.
ثم إن الموافق لما قدمناه من التفصيل بالضرر وعدمه أن يقال: إنه على
القول باعتبار الإذن لو خالف وعمره بغير إذنه، فإن كان في نقضه ضرر على الشريك
الذي بناه فليس للآخر نقضه، عملا بالخبر المتقدم ذكره، وإلا فله نقضه، للعلة
المذكورة في وجه الاحتمال من حيث التصرف في ملك الغير، وتغيير هيئته،
ثم إنه على تقدير تحريم الهدم لو هدمه الشريك لزمه الأرش، كما لو هدمه ابتداء.
والله العالم.
الخامس - قالوا: لو اختلفا في خص قضى به لمن إليه معاقد القمط، والخص
بالضم البيت الذي يعمل من القصب، والقمط بالكسر حبل يشد به الخص، وبالضم
جمع قماط، وهي شداد الخص من ليف، وخوص، ويستفاد من الفقيه أن الخص
هو الحائط من الغصب بين الدارين، وهو الأوفق بالأخبار الواردة في المسألة،
وكذا يفرض المسألة في كلامهم.
والذي وقفت عليه من الأخبار ما رواه ثقة الاسلام والشيخ عن منصور
بن حازم (1) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن خص بين
دارين فزعم أن عليا (عليه السلام) قضى به لصاحب الدار الذي من قبله وجه القماط
ورواه في الكافي بسند آخر في الصحيح أو الحسن عن منصور بن حازم (2) مثله،
إلا أنه قال: عن حظيرة عوض خص، ورواه الصدوق بإسناده عن منصور بن حازم
مثله إلا أن فيه " فذكر " عوض " فزعم "، وروى في الفقيه بإسناده عن عمرو بن شمر

(1) الكافي ج 5 ص 296 ح 9 التهذيب ج 7 ص 146 ح 34
(2) الكافي ج 5 ص 295 ح 3 التهذيب ج 3 ص 56 ح 1
134

عن جابر (1) " عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عن علي (عليهم السلام) أنه
قضى في رجلين اختصما إليه في خص فقال إن الخص للذي إليه القمط ".
والأصحاب لم ينقلوا في هذه المسألة إلا الرواية الأخيرة، ولهذا قال في
المسالك بعد نقله الرواية المذكورة: والطريق ضعيف، إلا أن الأصحاب تلقوها
بالقبول، وردها بعضهم ومنهم المصنف في النافع، وقال إنها قضية في واقعة، فلا تتعدى،
وحينئذ فحكم الخص حكم الجدار بين الملكين انتهى.
وقال المحقق الأردبيلي (قدس سره) بعد نقل ذلك عن المسالك وكأنه أوفق
بالأصول والقوانين، إلا أنه يفهم من شرح الشرايع والتذكرة الاجماع عليه، ثم
ذكر رواية منصور بن حازم المتقدمة، وقال: إنها مروية بطريق صحيح، وبطريق
آخر حسن، إلى أن قال: فالمشهور لا بأس به، ولا اعتبار بما تقدم، وإن احتمل
كونها قضية في واقعة عرفها عليه السلام، فلا تتعدى، انتهى ملخصا.
وصدر كلامه (رحمه الله) يميل إلى ما ذكره في النافع من طرح الرواية،
وجعل الخص المتنازع فيه كالجدار المتقدم ذكره، وحكم التنازع فيه، ثم ذكر
رواية منصور المروية بطريق صحيح، وآخر حسن، ووافق المشهور في العمل
بالرواية، ونفى الاعتبار بما ذكره أولا، إلا أنه احتمل الوقوف على مورد الخبرين
من غير أن يتعدى الحكم إلى غير الخص، والظاهر أن السبب في ذلك هو أن ظاهر
الروايات المذكورة الاعتماد في ذلك على القراين، فهي تدل على اعتبار القراين
في اثبات الأحكام الشرعية، مع أن الأمر بحسب الشرع ليس كذلك، وحيث
كانت الرواية بذلك متعددة مع صحة بعضها، وجب الوقوف فيها على موردها.
والله العالم.
السادس - قد تقدم الكلام في أنه لو انهدم الجدار المشترك لم يجبر شريكه
على المشاركة في عمارته، قالوا: وكذا لا يجبر صاحب السفل ولا العلو علي بناء
الجدار الذي يحمل العلو، والوجه فيه أنه لا يجب على الانسان عمارة ملكه، لأجل

(1) الفقيه ج 3 ص 157 ح 2، الوسائل ج 13 ص 173 ح 2
135

الغير، إلا أن الشهيد في الدروس قيده بأن لا يكون لازما بعقد، بمعنى أن لا يكون
حمل جدار العلو أو السقف لازما على صاحب جدار السفلي بعقد لازم فلو كان واجبا
عليه، فإنه يجبر وهو جيد، ولو أراد صاحب الجدار الأعلى بناء الأسفل تبرعا
فهل لصاحب الجدار الأسفل منعه أم لا؟ الكلام فيه كما تقدم في المورد
الرابع، وأطلق العلامة في التحرير أنه ليس له منعه، هذا كله إذا انهدم الحائط
بنفسه، أو هدماه معا.
أما لو هدمه أحدهما بدون إذن الآخر أو بإذنه لكن بشرط أن يعمره، فقد اختلف
الأصحاب في ذلك، فقيل: بأنه يجب عليه إعادته، ونقل عن الشيخ (رحمه الله) وبه
صرح المحقق في الشرايع، والعلامة في الإرشاد، ونقله في المسالك عن التذكرة،
إلا أن الذي وقفت عليه في التذكرة خلاف ما نقله، كما ستسمعه - انشاء الله تعالى -
من العبارة المشار إليها.
وقيل: بأن الواجب إنما هو الأرش، صرح به العلامة في القواعد والتذكرة،
قال في التذكرة: لو هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير إذن صاحبه،
فإن كان استهدامه في موضع وجوب الهدم لم يكن عليه شئ، فإن كان مما لا يجب
هدمه، أو هدمه وهو معمور لا يخشى عليه السقوط فقد اختلف قول علمائنا، قال
بعضهم، يجبر الهادم على عمارته إلى ما كان عليه أولا، والأقوى لزوم الأرش على
الهادم، لأن الجدار ليس بمثلي. انتهى.
ومنه يظهر لك غلط ما في نقله في المسالك عن التذكرة من القول بوجوب
الإعادة، وقيل. بالتفصيل في ذلك كما ذكره في الدروس، قال: ولو هدمه فعليه
إعادته أن أمكنت المماثلة، كما في جدران بعض البساتين والمزارع، وإلا فالأرش،
والشيخ أطلق الإعادة، والفاضل أطلق الأرش انتهى.
وقال في المسالك بعد نقل ذلك عنه. وفيه مناسبة إلا أنه خارج عن القواعد
الشرعية الانتفاء المثلية في الفائت، فإنه محض صفة، إذ الأعيان باقية، والمماثلة في
الصفة بعيدة، والقول بالأرش مطلقا أوضح.
وظاهر المحقق الأردبيلي الميل هنا إلى ما ذكره في الدروس، فإنه بعد أن
136

ذكر الاعتراض على القول بالإعادة، بأن ضمان المثل إنما يكون في المثلي،
والجدار قيمي لا مثلي، وذكر أن القائل بذلك استند إلى ما في التذكرة قال:
ولا يخفى أن الإعادة غير بعيد فميا أمكن المماثلة في الجملة، وإن كان الجدار قيميا
باصطلاحهم.
إلا أن العرف قد يقضي بالمماثلة في بعض الجدران، وعدم دقة فيها
إذا كان المطلوب الحائل والمانع، ولا يريدون في أمثال ذلك غير تلك المماثلة
في الجملة، فليس ببعيد الاكتفاء في أمثاله بهذا المقدار، فإن العقل يجد أن
لا تكليف في أمثاله إلا بالمثل، وهو المضمون، ويؤيده أن الأرش بعيد، فإنه لا يسوى
بعد الهدم إلا بشئ قليل جدا، والجدار الصحيح تكون له قيمة كثيرة، بل المناسب
على القول بالأرش أن يراد به ما يحتاج في تعميره بمثل ذلك التعمير، وفيه أيضا
تأمل إذ قد يتفاوت العمل والأجرة كثيرا فتأمل إلى أن قال - بعد ذكر قوله في
المسالك في الاعتراض على كلام الدروس أنه خارج عن القواعد الشرعية والخروج
عن القواعد لوجه إذا لم تكن مأخوذة من النص الصريح لا بأس به. انتهى.
أقول: والمسألة كنظايرها محل اشكال، لعدم المستند الواضح لشئ من هذه
الأقوال، وتدافع التعليل في كل منها والاحتمال، وإن كان كلام الدروس لا يخلو
من قرب في هذا المجال. والله العالم.
السابع - المشهور أنه إذا كان البيت لرجل وعليه غرفة لآخر فتداعيا جدران البيت
فإنه يحكم به لصاحب البيت بيمينه، ولو تداعيا في جدران الغرفة، فالقول قول
صاحبها بيمينه، والوجه في ذلك أن جدران البيت جزؤه، وجدران المعرفة جزؤها،
فيجب أن يحكم بهما لصاحب الجملة.
ونقل عن ابن الجنيد أن جدران البيت بينهما معا، لأن حاجتهما إليه واحدة
بخلاف جدران الغرفة، إذ لا تعلق لصاحب البيت بها، قال في المختلف: قال
في المبسوط: لو تنازع صاحب البيت والغرفة في حيطان البيت قضى به
لصاحب البيت.
137

وقال ابن الجنيد: لو كان على رأس الدرج روشن ليستطرقه صاحب العلو وهو
على منزل صاحب السفل كان الروشن لصاحب العلو، واجذاع السقف وبواريه
وجميع آلة السقف لصاحب العلو، والحيطان الحاملة له بينهما مع موضعها من
الأرض، وكأنه نظر إلى أن لكل من صاحب العلو والسفل يدا عليه، وتصرفا فيه،
ولا بأس بهذا القول انتهى، وظاهره الميل إلى ما ذكره ابن الجنيد.
وقال في المسالك أيضا: أنه قول جيد، لكن الأول أجود، ولو كان التنازع
في سقف البيت الذي هو أرض الغرفة فقد اختلف فيه كلامهم، قال في المبسوط:
فإن لم يكن لأحدهما بينة حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا كان
بينهما نصفين، والأحوط أن يقرع بينهما فمن خرج منهما حلف وحكم له به، وقال
في المختلف يقرع بينهما، فمن خرج اسمه حلف لصاحبه، وحكم له به، وإن قلنا
أنه يقسم بينهما نصفين كان جائزا، واستدل باجماع الفرقة على أن كل مجهول يستعمل
فيه القرعة، وهذا من الأمر المشتبه.
وقال ابن إدريس: يحكم لصاحب الغرفة بالسقف، وقد تلخص من ذلك أن
في المسألة أقوالا ثلاثة، القول باستوائهما فيه، وهو قول الشيخ في المبسوط،
وقواه في الدروس: ووجهه اشتراكهما في الانتفاع به، لأنه سقف لصاحب البيت،
وأرض لصاحب الغرفة.
والقول بالقرعة، وهو للشيخ أيضا كما عرفت، واستحسنه المحقق في الشرايع،
ووجهه ما تقدم في كلام الشيخ، وربما أورد عليه بمنع الاشتباه هنا، لأن رجحان
أحد الطرفين في نظر الفقيه يزيل الاشتباه بالنسبة إلى الحكم، وعندي فيه نظر،
إذ المفروض أنه لا نص في المسألة، والمرجح في نظر الفقيه بمجرد هذه التخريجات
لا يخرج الحكم عن الاشتباه، إن جوزنا للفقيه الترجيح بمثل ذلك، وإلا فهو محل
المنع أيضا، فإن الحكم في المسائل الشرعية موقوف على النصوص من الكتاب
والسنة: فلا تثبت بمجرد هذه التقريبات العقلية سيما مع تصادمها كما عرفت في
أكثر مسائل هذا الباب.
138

والقول الثالث الحكم به لصاحب الغرفة، وهو مذهب ابن إدريس، وهو
الظاهر من عبارة ابن الجنيد المتقدمة، واختاره العلامة في جملة من كتبه،
وإليه يميل كلامه في المسالك، واستدل عليه في المختلف قال: لنا أن الغرفة
إنما يتحقق بالسقف، إذ هو أرضها، والبيت قد يكون بغير سقف، وقد اتفقا على
أن هنا غرفة لصاحبها، وبدون السقف لا غرفة، ولأن تصرفه فيها دون
صاحب السفلي.
أقول: ومرجعه إلى أن السقف وإن أمكن الانتفاع به لهما إلا أنه بالنسبة
إلى صاحب الغرفة أغلب، وفي حقه أضر فيكون الترجيح باعتبار أغلبية الحاجة
وأضريتها، ويرد عليه حينئذ أن ذلك يجري في جدران البيت الذي قد تقدم
اختياره فيها القول بالاشتراك، من حيث أن كلا منهما صاحب يد، مع أن البيت
لا يوجد إلا بالجدران، لأنها أجزاؤه، ولا وجود للكل بدون الجزء، بخلاف
الغرفة، فإنها يمكن أن تبنى على الأعمدة والأساطين، ولا يتوقف على الجدران
فيرجع الأمر هنا إلى أنهما وإن اشتركا في الانتفاع بها إلا أن صاحب البيت أضره
بعين ما قاله في السقف: فإن قيل: إن ما فرضتموه نادر، قلنا: وجود البيت بدون
السقف كذلك أيضا، وبذلك يظهر لك ما في بناء الأحكام الشرعية على أمثال هذه
التقريبات العقلية من المجازفة الظاهرة.
قال في المسالك: موضع الخلاف السقف الذي يمكن احداثه بعد بناء
البيت، أما ما لا يمكن كالأزج الذي لا يعقل احداثه بعد بناء الجدار الأسفل،
لاحتياجه إلى اخراج بعض الأجزاء عن سمت وجه الجدار قبل انتهائه، ليكون
حاملا للعقد فيحصل به الترصيف بين السقف والجدران، وهو دخول آلات البناء
من كل منهما في الآخر، فإن ذلك دليل على أنه لصاحب السفل، فيقدم قوله فيه
بيمينه. انتهى. وهو كذلك والله العالم.
139

المقام الرابع في مسائل متفرقة من هذا الباب
الأولى - المشهور أنه إذا خرجت أغصان الشجرة إلى ملك الجار وجب
على مالك الشجرة عطف تلك الأغصان إن أمكن، وإلا قطعها، لأنه يجب عليه تفريغ
أرض الغير وهواه من ماله كيف ما أمكن، وإن امتنع المالك من ذلك فلمالك
الأرض والهواء تولي ذلك، مقدما للعطف على القطع إن أمكن، ولا يتوقف
مالك الأرض مع امتناع مالك الشجرة على إذن الحاكم، لأن سبيل هذا الحكم
سبيل بهيمة دخلت في ملكه، فإن له اخراجها من غير توقف على إذن الحاكم،
قالوا: وهكذا الحكم في العروق.
وربما قيل: بجواز إزالة مالك الأرض لها من دون مراجعة مالك الشجرة
لأن إزالة العدوان عليه أمر ثابت له، وتوقفه على إذن الغير ضرر، ويؤيده ما تقدم
من جواز اخراج البهيمة الداخلة في ملكه من غير مراجعة مالكها، والمفهوم
من كلام العلامة في التذكرة أنه لا يجب على مالك الشجرة إزالة الأغصان
المذكورة، وإن جاز لمالك الأرض، مستندا إلى أنه ليس من فعله، فلا يجبر
على إزالته، وهو خلاف ما تقدم من القول المشهور: ومرجع القولين إلى أنه
هل يجب على الانسان تفريغ أرض الغير من ماله إذا لم يكن ذلك بفعله أو لا
يجب عليه ولا يخاطب به؟ وإنما يكون الحكم متعلقا بصاحب الأرض، فإن شاء
تفريغ أرضه من مال الغير فله ذلك، وجهان: ولا يحضرني الآن دليل على ترجيح
أحد الوجهين.
ولو قطع الأغصان المذكورة مالك الأرض مع إمكان عطفها ضمن بلا اشكال
لكن هل يضمن جميع ما قطعه أم تفاوت ما بينه وبين المعطوف اشكال، من التعدي
بالقطع فيضمنه، ومن أن العطف حق له، وما يفوت به في حكم التالف شرعا،
فلا يضمن إلا التفاوت، ولعل الثاني أقرب.
وفي حكم أغصان الشجرة التراب المنتقل من ملكه إلى ملك غيره، والحائط
المايل في هواء الغير فيجب المبادرة إلى تخليص الأرض والهواء منهما، ولو
140

ملكه التراب وقبله سلم من نقله، وإن امتنع من قبوله وجب نقله، وإن شق لما
تقدم، هكذا قالوا، وفيه ما عرفت من التردد.
ولو صالحه على ابقاء الأغصان المذكورة في الهواء فالمشهور الصحة، ومنع
منه الشيخ، بناء على أصله المتقدم ذكره من تفريع الصلح على البيع، وأن الهواء تابع لا يصح افراده بالبيع، وقد تقدم نظير هذه المسألة في الموضع السادس من
المقام الأول.
بقي الكلام هنا في أن الشيخ قد علل ذلك بعلة أخرى، فقال: لو صالحه
على ابقاء الغصن البارز إلى ملك الغير في الهواء لم يصح إن كان رطبا، لأنه يزيد
في كل حال، ولا يعرف قدره، وكذا إن كان يابسا لأنه يتبع الهواء من غير قرار
وذلك لا يجوز. انتهى، ومرجع المنع إذا كان رطبا من حيث المجهولية في
المصالح عليه، فلا بد من معلوميته.
قال في المسالك بعد قول المصنف ولو صالحه على طرحه على الحائط جاز
مع تقدير الزيادة أو انتهائها ما لفظه: والمراد بقوله مع تقدير الزيادة أو انتهائها
أن الأغصان إن كانت قد انتهت في الزيادة، بحسب ظن أهل الخبرة صح الصلح على
ايقاعها مطلقا، وإن كانت أخذت في الزيادة فلا بد من تقدير الزيادة ليكون الصلح
مضبوطا، ولا بد مع ذلك من تقدير مدة الإقامة، فلا يصح المؤبد على ما ذكره
الجماعة. انتهى.
وحينئذ فالخلاف بينه وبين الأصحاب إنما هو في صورة عدم الزيادة بأن
يكون يابسا أو قد تناهت زيادته بحيث لا يزيد على ذلك بحسب نظر أهل الخبرة.
الثانية - قالوا: إذا كان الانسان بيوت الخان السفلي: ولآخر بيوته العليا
وتداعيا الدرجة، فإنه يقضي بها لصاحب البيوت العليا مع يمينه، لاختصاصه
بالتصرف فيها بالسلوك إلى بيوته العليا وإن كانت موضوعة في الأرض التي هي
لصاحب البيوت السفلى، لأن مجرد ذلك لا يوجب اليد، وكما يحكم بها لصاحب
العليا، فكذا محلها، هذا مع اختلافهما أيضا في الخزانة التي تحت الدرج.
أما لو اتفقا على أن الخزانة لصاحب البيوت السفلى، وإنما النزاع في الدرج
141

خاصة، فإنهم قالوا: إن الدرج حينئذ كالسقف المتوسط بين الأعلى والأسفل، فيجري
فيه الخلاف السابق، فعلى تقدير القول ثمة بأن السقف لصاحب الغرفة، فإنه
يحكم هنا بالدرجة للأعلى مطلقا، سواء اختلفا في الخزانة أم اتفقا على أنها
للأسفل، وإنما يتجه الفرق على تقدير القول بالاشتراك، فإنه مع الاتفاق على
الخزانة يجعل الدرج هنا مشتركا بينهما كالسقف ثمة، أما مع الاختلاف فيها
فالحكم في الدرج ما تقدم من كونها للأعلى مع يمينه.
ولو تداعيا في الخزانة التي تحت الدرج خاصة كانا في دعويها على السواء،
والوجه فيه أن لكل منهما شاهدا بالملك، أما صاحب الأعلى فلأنك قد عرفت
أن له الدرجة: فيكون مكانها كذلك، وإن كان مكانها الهواء: لأن الهواء كالقرار
وأما صاحب الأسفل فلأنها متصلة بملكه، بل هي من جملة البيوت السفلى، وحينئذ
فيقضى بها لهما بعد التحالف أو النكول كما تقدم.
أقول: ويمكن ترجيح دعوى صاحب الأسفل بأن يقال: أنه قد ثبت أن
الهواء تابع للقرار، ولهذا منع الشيخ كما تقدم من بيعه والصلح عليه منفردا عن
القرار، فالأصل فيه حينئذ أن يكون تابعا للقرار، ومجرد وضع الدرجة فيه
لا يستلزم الملك، وتبعيته للدرجة في ذلك، لأنه أعم من ذلك.
ولو تداعيا الصحن قالوا: إن ما يسلك فيه إلى العلو يكون بينهما،
وما خرج عن ذلك فهو لصاحب الأسفل: والوجه فيه أن صاحب العلو لما افتقر
سلوكه إليه إلى التصرف في قدر الممر كان له اليد عليه بذلك، دون باقي
الصحن، فلا بد له عليه، ولما كان صاحب الأسفل يشاركه في الانتفاع بذلك القدر
مغدا ومجيئا كان له يد عليه أيضا، فاقتقضى ذلك الشركة فيه، دون ما زاد، لاختصاص
صاحب الأسفل به، وعلى هذا لو كان المرقى إلى العلو خارجا عن الدهليز لم
يكن لصاحب العلو مشاركة في العرصة ولا في الدهليز بالكلية، إذ لا يدله على
شئ منهما ولو كان المرقى في وسط الصحن فمن أول الدهليز إلى المرقى بينهما
لتصرفهما فيه، وما وراء ذلك فهو لصاحب الأسفل.
الثالثة - لو تنازع راكب الدابة وقابض لجامها، فقيل: إنه يقضى بها
142

للراكب، لقوة يده وشدة تصرفه بالنسبة إلى القابض، وهو قول الشيخ في المبسوط
فإنه قال: إنه يحكم بها لأقواهما يدا وأكد هما تصرفا، وهو الراكب، وبه
قال المحقق في الشرايع والعلامة في المختلف.
وقيل: هما سواء في الدعوى وهو قول الشيخ في الخلاف: قال: إذا تنازعا
في دابة وأحدهما راكب، والآخر أخذ بلجامها ولم يكن مع أحدهما بينة، جعلت
بينهما نصفين، لعدم دليل على وجوب تقديم أحدهما على الآخر. انتهى وبه قال
ابن إدريس.
وقال في المسالك: ووجه التسوية اشتراكهما في اليد، وقوتها لا مدخل
له في الترجيح، ولهذا لم يؤثر في ثوب بيد أحدهما أكثره كما سيأتي. نعم
مع الراكب زيادة التصرف، إلا أنه لم يثبت شرعا كونه مرجحا، وتعريف
المدعي والمنكر منطبق عليهما، بتفسيراته، وحينئذ فالقول بالتساوي أقوى
بعد أن يحلف كل منهما لصاحبه إذا لم يكن بينة. انتهى.
أقول: فيه أن ما ذكره هنا جار في التنازع في السقف الذي بين الغرفة
والدار السفلى، مع أنه قد اختار هناك القول باختصاص صاحب الغرفة به لقوة
يده، فإنه قال بعد نقل تعليل العلامة الذي قدمنا نقله ثمة: ما لفظه ولأن تصرفه
فيه أغلب من تصرف صاحب السفلى، والفرق بين المسئلتين غير ظاهر.
وقال في المسالك أيضا تفريعا على ما اختاره: ولا عبرة عندنا بكون
الراكب غير معتاد قنية الدواب، والمتشبث معتادا لذلك: وما ذكر حكم
الدابة، أما اللجام فلمن في يده، والسرج لراكبه.
أقول: مقتضى ترجيحهم بالقرائن في أمثال هذه المقامات كما تقدم في غير
موضع أنه لا مانع من الترجيح هنا أيضا بما منعه من كون الراكب غير معتاد
لقنية الدواب، وقابض اللجام معتادا لذلك.
ويؤيده ما ذكره المحقق الأردبيلي هنا حيث قال: ويمكن اعتبار القرائن
مثل كون الدابة بحيث يعلم عادة كونها للراكب، دون القابض: فيحكم له
143

أو بالعكس.
وأما ما ذكره بالنسبة إلى اللجام والسرج فإنه رده المحقق المتقدم ذكره
بالبعد، قال: أنه يبعد أن يكون اللجام لشخص، والدابة لآخر، وكذا الجل
والرحل فالحكم غير واضح، انتهى.
أقول: ويؤيده ما تقدم في غير مقام من أن الأحكام إنما تبنى على الأفراد
المتكررة الغالبة، دون الفروض النادرة.
وكيف كان فإن الحكم في هذه المقامات بمجرد هذه التعليلات من غير
وجود نص واضح لا يخلو من مجازفة. والله العالم.
الرابعة - قيل: لو تنازعا ثوبا في يديهما لكن في يد أحدهما أكثره،
فهما سواء فيه لاشتراكهما في مسمى اليد، ولا ترجيح لقوتها: والفرق بين هذه
المسألة وسابقتها عند هذا القائل هو أن التصرف الذي كان مع الراكب
بالركوب زايدا على اليد، منتف هنا فاختلف الحكم لذلك.
وأما على ما ذكره في المسالك في ما قدمنا نقله عنه من أنه يثبت شرعا
كونه مرجحا يصير حكم المسئلتين من باب واحد، فيحكم بالتساوي فيهما بعد
حلف كل منهما لصاحبه، قال في المسالك: نعم لو كان أحدهما لابسا للثوب
والآخر ممسكا له فهي كمسألة الراكب والقابض، لزيادة تصرف اللابس على اليد،
وربما قيل هنا: بتقديم اللابس، لأن الظاهر أنه لم يتمكن من لبسه، إلا وهو غالب
مستقل باليد انتهى.
أقول: الظاهر أن هذا القول هنا يجري مجرى القول بتقديم الراكب في
مسألة تنازع الراكب والقابض، لأنهما مشتركان في زيادة التصرف بالركوب
واللبس على مطلق اليد في كل من الموضعين، ومقتضى ما ذكره في المسالك في
تلك المسألة من عدم ثبوت الترجيح بذلك، ينبغي أن يجري في هذا الموضع
بمقتضى حكمه بالمساواة بين المسئلتين، إلا أنه أغمض النظر هنا عن ذلك، وربما
144

أشعر كلامه هنا واعراضه عن المناقشة بأن الحكم في الراكب والقابض هو
ترجيح الراكب، مع أنه خلاف ما قدمه، وسيأتي انشاء الله تعالى ما يوضح
ذلك أيضا.
الخامسة - لو تداعيا جملا كان بيديهما بأن كانا قابضين لزمامه، ونحو ذلك مما
يكون به كل واحد منهما ذا يد، ولأحدهما عليه حمل، قالوا: إن القول قول صاحب
الحمل، لأن وضع الحمل يستدعي كمال الاستيلاء، فيرجح به صاحبه، ولو كان
لأحدهما حمل، ولا يد للآخر فإنه لا شبهة في الترجيح لصاحب الحمل، ولو كان
أحدهما قابضا لزمام الحمل، وللآخر عليه حمل، كان كمسألة الراكب والقابض،
بل الحمل أقوى دليلا على مال الاستيلاء من الركوب. فإن الركوب أسهل تعلقا
من الحمل، ولو ينقلوا في هذا الحكم خلافا، وظاهره في المسالك القول بذلك
على جميع هذه الوجوه، خصوصا أنه قال بعد ذكره نحو ما ذكرناه، وفي الدروس
جعل حكم الراكب ولا بس الثوب وذي الحمل سواء في الحكم، وهو كذلك انتهى
ونحوه في الروضة.
وفيه كما ترى مخالفة ظاهرة لما قدمه في مسألة الراكب والقابض، حيث
اختار التساوي ثمة، وطعن في زيادة التصرف بالركوب بأنه لم يثبت شرعا كونه
مرجحا، وفي هذا الموضع وافق الدروس في حكمه بترجيح الراكب واللابس
وذي الحمل، وتقديم قول كل منهم بيمينه، فإنه قد صرح في الدروس واللمعة بذلك،
والمسألتان في صفحة واحدة ليس بينهما إلا أسطر يسيرة، ومثل ذلك وقع له في
الروضة أيضا، وهو عجيب من مثله (قدس سره).
السادسة - قالوا: لو تداعيا غرفة على بيت أحدهما، وبابها إلى غرفة الآخر
كان القول قول صاحب البيت، لأنها موضوعة في ملكه، فإن هواء بيته ملكه، لأنه
تابع للقرار، ومجرد فتح الباب إلى الغير لا يثبت به اليد، ولا الملك، فيقدم صاحب
البيت بيمينه، هذا إذا لم يكن من إليه الباب متصرفا في تلك الغرفة بالسكنى
ونحوه، والأقدم قوله، لأن يده عليها بالفعل، فإن التصرف مقتض لذلك، ويد صاحب
145

الهواء إنما كانت بالتبعية ليده على القرار، واليد الفعلية أقوى من التابعة، ويحتمل
التساوي لثبوت اليد من الجانبين وعدم تأثير قوة اليد كما تقدم.
أقول: والحكم الأول لا اشكال فيه وأما الثاني فإنه لا يخلو من الاشكال، وإن
كان ما ذكروه أقرب. والله العالم.
146

كتاب الشركة
وهي بكسر الشين واسكان الراء وبفتح الشين وكسر الراء: والبحث في هذا
الكتاب يقع في فصول.
الأول - في حقيقة الشركة وما يتبعها، وفيه مسائل: الأولى - قد عرف
المحقق في الشرايع الشركة بأنها اجتماع حقوق الملاك في الشئ الواحد على
سبيل الشياع، ونحوه العلامة في التذكرة.
وقال في التذكرة أيضا: وسببها قد يكون إرثا أو عقدا أو مزجا أو حيازة بأن
يقتلعا شجرة أو يغرفا ماء دفعة، وظاهر الشهيد الثاني في المسالك اعترافهم فيما
ذكروه من هذا التعريف، حيث قال: إن الشركة تطلق على معينين، أحدهما -
ما ذكره المصنف، وهذا المعنى هو المتبادر من الشركة لغة وعرفا، إلا أنه لا مدخل
له في الحكم الشرعي المترتب على الشركة من كونها من جملة العقود المفتقرة
إلى الإيجاب والقبول، والحكم عليها بالصحة والبطلان، فإن هذا الاجتماع يحصل
بعقد وغيره بل بغيره أكثر، وثانيهما عقد ثمرته جواز تصرف الملاك للشئ
الواحد على سبيل الشياع فيه، وهذا هو المعنى الذي به تندرج الشركة في جملة
العقود، ويلحقها الصحة والبطلان.
وإليه يشير المصنف فيما بعد بقوله قيل: يبطل الشركة، أعني الشرط
والتصرف، وقيل: يصح، ولقد كان على المصنف أن يقدم تعريفها على ما ذكره،
147

لأنها المقصود بالذات هنا، أو ينبه عليهما معا على وجه يزيل الالتباس عن حقيقتها
وأحكامها، ولكنه اقتصر على تعريفها بالمعنى الأول إلى آخر كلامه.
أقول: لا يخفى على من تأمل الأخبار الجارية في هذا المضمار أنه لا يفهم منها
معنى للشركة غير ما ذكره الفاضلان المتقدمان ونحوهما، كالشهيد في اللمعة
وغيره، وهو المتبادر لغة وعرفا من لفظ الشركة، وهذا المعنى الثاني الذي ذكره
لا يكاد يشم له رائحة منها بالمرة.
ومن الأخبار الواردة في الباب صحيحة هشام بن سالم (1) عن أبي عبد الله
(عليه السلام)، " قال: سألته عن الرجل يشاركه في السلعة، قال: إن ربح فله،
وإن وضع فعليه ".
وموثقة محمد بن مسلم (2) " عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن
الرجل يشتري الدابة وليس عنده نقدها فأتى رجلا من أصحابه فقال يا فلان
أنقد عني ثمن هذه الدابة والربح بيني وبينك فنقد عنه فنفقت الدابة، قال: ثمنها
عليهما لأنه لو كان ربح فيها لكان بينهما، وبمضمون هذه الرواية أخبار عديدة (3).
وصحيحة ابن رئاب (4) " قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لا ينبغي للرجل
المسلم أن يشارك الذمي ولا يبضعه بضاعة ولا يودعه وديعة ولا يصافيه المودة ".
ورواية الحسين بن المختار (5) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل
يكون له الشريك فيظهر عليه أنه قد أختان منه شيئا، أله أن يأخذ منه مثل الذي
أخذ من غير أن يبين له؟ فقال: شوه، لهما إنما اشتركا بأمانة الله وإني لأحب له إن

(1) التهذيب ج 7 ص 185 ح 3.
(2) التهذيب ج 7 ص 43 ح 72 والوسائل ج 13 ص 174 ح 1 و 2
(3) الظاهر من رواية محمد بن مسلم وأمثالهم أن منشأ الشركة هنا وسببها هو الصلح
على أن ينقد عنه ثمن المبيع ويشركه فيه بالمناصفة. منه رحمه الله.
(4) التهذيب ج 7 ص 185 ح 1 الكافي ج 5 ص 286 ح 1 الوسائل ج 13
ص 176 ح 1
(5) التهذيب ج 7 ص 192 ح 35 الوسائل ج 13 ص 178 ح 1
148

رأى منه شيئا من ذلك أن يستر عليه وما أحب له أن يأخذ منه شيئا بغير علمه " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار الآتية في محالها إن شاء الله تعالى.
فهل تجد للشركة فيها معنى غير المعنى الأول، وهو اجتماع حقوق الملاك
في الشئ الواحد على سبيل الإشاعة، وأي قرينة فضلا عن الدلالة على العقد
المذكور. نعم قد يكون سببها العقد كما تقدم بأن يشتري اثنان مالا أنصافا أو أثلاثا
أو يشتري نصف حيوان بنصف حيوان آخر، وقد يكون سببها الإرث، ونحوه مما
تقدم، وعرفها بعضهم شرعا بأنها عقد جائز من الطرفين، إلى آخر ما تقدم في
كلام الشهيد الثاني، وأنت خبير بما ذكرنا بأنه لا عقد بالكلية ولا عاقد، وإنما
الشركة هي اجتماع الأموال على الوجه المذكور، فلا معنى لوصفه بالجواز.
نعم، البقاء على حكمه أمر جايز بمعنى أنه لا يجب عليه الصبر على الشركة،
بل يجوز رفعها، وأخذ حصته، ثم بعد اجتماع هذه الأموال واشتراكها وامتزاجها
لا يصح لأحد الشركاء التصرف فيها إلا بإذن باقي الشركاء، وإذا أذن كل منهم لصاحبه
صح التصرف في مال نفسه ومال غيره، وهذه ثمرة العقد عندهم.
قال في التذكرة: الثاني الصيغة، وقد بينا أن الأصل عصمة الأموال
على أربابها وحفظها لهم، فلا يصح التصرف فيها إلا بإذنهم، وإنما يعلم
الرضا والإذن باللفظ الدال عليه، فاشترط اللفظ الدال على الإذن في التصرف
والتجارة، فإذا أذن كل واحد منهما لصاحبه صريحا فلا خلاف في صحته.

(1) الظاهر أن النهي في هذه الرواية عن أخذ عوض ما خانه محمول على الكراهة
ويشير إليه قوله وما أحب والأمر بالستر عليه وبذلك صرح ابن إدريس في كتابه حيث
قال: ومتى عشر أحد الشريكين على صاحبه بخيانة فلا يدخل هو في مثلها اقتصاصا منه،
وذلك على طريق الكراية دون الحظر لأنه إذا تحقق أخذ ماله وعلم ذلك يقينا فله أخذ
عوضه، وإنما النهي على طريق الكراهة والأولى والأفضل انتهى. وقال ابن الجنيد إذا
وقف أحد الشريكين على أن شريكه قد خانه لم يجز له أن يخونه، وهو صريح في التحريم
والظاهر هو الأول وبه صرح العلامة في المختلف أيضا. والله العالم. منه رحمه الله.
149

انتهى.
وظاهره بل صريحه كما ترى أن مجرد الإذن كاف في جواز التصرف والتجارة
ونحو ذلك، وإن عبر عنه بلفظ الصيغة الموهم للعقد.
ومثل هذا الكلام كلام الشهيد في اللمعة أيضا حيث قال: كتاب الشركة
وسببها قد يكون إرثا أو عقدا أو مزجا بحيث لا يتميز، إلى أن قال: وليس لأحد
الشركاء التصرف إلا بإذن الجميع، لقبح التصرف في مال الغير ويقتصر على
التصرف المأذون، فإن تعدى ضمن، قال الشارح بعد ذكر هذه العبارة الثانية:
واعلم أن الشركة كما تطلق على اجتماع حقوق الملاك في المال الواحد
على أحد الوجوه السابقة، كذلك تطلق على العقد المثمر جواز تصرف الملاك
في المال المشترك، وبهذا المعنى اندرجت الشركة في قسم العقود، وقبلت
الحكم بالصحة والفساد، لا بالمعنى الأول، والمصنف أشار إلى المعنى الأول
بما افتتح به من الأقسام، وإلى الثاني بالإذن المبحوث عنه هنا. انتهى.
أقول: مرجع كلامه السابق وكلامه هنا إلى أن ارتكاب هذا التكلف
إنما هو لأجل إدخال الشركة في قسم العقود، حيث نظموها في هذا السلك،
وفيه أن هذا إنما يتم لو ثبت ذلك شرعا أو لغة أو عرفا، وشئ من هذه الأمور
غير حاصل. أما عدم ثبوت الأخيرين، فقد اعترف به فيما مضى من كلامه.
وأما الأول فلما عرفت من الأخبار، إذ لا يستفاد من لفظ الشركة فيها
أزيد من هذا المعنى اللغوي والعرفي، نعم يتوقف التصرف بعد حصول الشركة
بالمعنى الذي ذكرناه على الإذن، وما يقع منهما عليه التراضي في التجارة
ونحوها من التصرفات وتبعية الربح لرأس المال ونحو ذلك، وبذلك يتم
المقصود وإن لم يدخل في باب العقود، وهذا هو المفهوم من كلام الفضلاء
المذكورين.
وأما قوله إن الشهيد في اللمعة أشار إلى العقد الذي ادعاه بقوله:
" وليس لأحد الشركاء التصرف إلا بإذن الجميع " بمعنى أن المراد بالإذن
150

العقد، وحاصله أن لا يجوز التصرف إلا بالعقد، ففيه أن الإذن ليس منحصرا
في اللفظ، فضلا عن العقد المشتمل على قيود كثيرة، وأحكام عديدة، بل يحصل
بالإشارة والكتابة والفعل.
وبالجملة فالمراد أن المدار على العلم بالرضا بأي نحو كان، وعليه يترتب
الأحكام التي جعلها منوطة بالعقد، والظاهر أن هذا هو مراد أولئك الفضلاء حيث
عرفوها بالتعريف الأول الراجع إلى أن الشركة الحقيقية هي الاجتماع، وعقبوه
بذكر الإذن إشارة إلى أن الأحكام يترتب على الإذن في التصرف في المال المشترك
وأنه بذلك يصير عقدا جايزا، فاطلاق العقد عليه تجوز، وهو باب واسع في الكلام
وإلا فإنه لا عقد ولا عاقد كما أوضحناه في المقام، والله أعلم.
المسألة الثانية - قال في التذكرة: أركان الشركة ثلاثة، الأول - المتعاقدان
ويشترط في كل منهما البلوغ، والرشد، والعقد، والاختيار، والقصد، وجواز
التصرف، والضابط أهلية التوكيل والتوكل، لأن كل واحد من الشريكين
متصرف في جميع المال، أما فيما يخصه فبحق الملك، وأما في مال غيره فبحق
الإذن (1) من ذلك الغير، فهو وكيل عن صاحبه، وموكل لصاحبه في التصرف
في ماله، فلا يصح وكالة الصبي، لعدم اعتبار عبارته في نظر الشرع، ولا المجنون
ولا السفيه، ولا المكره، ولا الساهي والغافل والنائم، ولا المفلس
المحجور عليه، لأنه ممنوع من جهة الشرع من التصرف في أمواله، ولا يفرق
بين من يأذن من له الولاية عليهم في ذلك أولا إلا المفلس. فإنه إذا أذن له الحاكم
في التوكيل أو التوكل جاز، وكذا السفيه، إلى أن قال: الثاني الصيغة إلى
آخر العبارة المتقدم نقله عنها آنفا.
ثم قال بعدها: ولو قال كل واحد منهما: اشتركنا واقتصرا عليه مع قصدهما

(1) قوله فبحق الإذن من ذلك الغير فيه تأييد لما قدمناه من أنه ليس المدار إلا على
الإذن وإن سموه عقدا مجازا كما عبر به في صدر الكلام بقوله الأول المتعاقدان وكذلك قوله
الثاني الصيغة ومرجع جميع ذلك إلى الإذن بأي نحو كان. منه رحمه الله.
151

الشركة بذلك، فالأقرب الاكتفاء به في تسلطهما على التصرف به من الجانبين، لفهم
المقصود عرفا وهو أظهر وجهي الشافعية، وبه قال أبو حنيفة، والثاني - أنه لا يكفي
لقصور اللفظ عن الإذن، واحتمال قصد الأخبار عن حصول الشركة في المال، من
غير الاختيار بأن يمتزج المالان بغير رضاهما.
إلى أن قال: الثالث: المال، يشترط في المال المعقود عليه الشركة أن يكون
متساوي الجنس، بحيث لو مزج ارتفع الامتياز بينهما، وحصل الاشتباه بينهما
سواء كان المال من الأثمان أو العروض، كما لو مزج ذهب بذهب مثله، أو حنطة بمثلها،
أو دخن بمثله، إلى غير ذلك مما يرتفع فيه المايز بينهما، ولا خلاف في أنه يجوز
جعل رأس المال الدراهم والدنانير، لأنهما أثمان الأموال والمباعات، ولم يزل
الناس يشتركون فيها في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى وقتنا هذا من
غير نكير أحد في صقع من الأصقاع أو عصر من الأعصار فكان اجماعا.
وأما العروض عندنا يجوز الشركة فيها مع الشرط المذكور، سواء كانت
من ذوات الأمثال، أو من ذوات القيم، إلى أن قال: مسألة: لا تصح الشركة إلا بمزج
المالين، وعدم الامتياز بينهما عند علمائنا فالخلطة شرط في صحة الشركة، ومتى
لم يختلطا لم يصح، وبه قال الشافعي، ثم نقل عن أبي حنيفة أنه ليس من شرط
الشركة خلط المالين، بل متى أخرجا المالين وإن لم يمزجاه وقالا قد اشتركنا
انعقدت الشركة، لأن الشركة إنما هي عقد على التصرف، فلا يكون من شرطها
الخلط كالوكالة. انتهى المقصود من نقله كلامه.
أقول، أماما ذكره في المتعاقدين من الشروط فجيد، إلا أن قوله " لأن
كل واحد من الشريكين متصرف " إلى آخره، فيه أن ذلك غير معتبر في الشركة،
بل يكفي جواز التصرف من أحدهما بعد إذن الآخر، وكذا قوله " في السفيه بجواز التصرف مع إذن الحاكم كالمفلس " فإن فيه اشكالا، فإنه ليس له أهلية
التصرف والمعرفة بالمعاملات وكيفية حفظ مال نفسه، فكيف يسلطه الحاكم
على تصرفه في مال نفسه وغيره.
152

وأما قوله في الركن الثاني " وإنما يعلم الرضا و الإذن باللفظ الدال عليه "، فقد
عرفت ما فيه من أن الإذن لا ينحصر في اللفظ، فضلا عن العقد المخصوص، ثم لا يخفى أن
الشركة بهذا المعنى الذي ذكره واعتبر فيه هذه الأركان الثلاثة وهي التي يبحث عنها
في هذا الكتاب إنما هي الشركة المسببة عن المزج، دون غيرها مما كان سببه الميراث
أو الحيازة أو العقد مع أن هذه الأفراد سيما الثالث منها مما دلت الأخبار عن جريان
بعض أحكام الشركة فيه، مثل كون الربح بينهما، أو النقص عليهما ونحو ذلك.
ثم إنه لا يخفى أيضا أن الظاهر من كلامهم أن المراد بالشركة - ما امتزج
من المالين واشتبه فيه التميز بين الحقوق بحسب الظاهر، لا ما كان كذلك بحسب
الواقع ونفس الأمر، بمعنى أن يصير كل جزء جزء من ذلك المال المشترك كذلك
في نفس الأمر: فإن الغالب من أسبابها المزج، وقد صرح في التذكرة فيما قدمنا
نقله عنه بأن ذلك أعم من أن يكون في الأثمان، أو العروض التي من ذوات
الأمثال مثل الحنطة والدخن.
نعم قد يتحقق الاشتراك النفس الأمري في الميراث. وشراء شئ بالاشتراك
ونحو ذلك، ومن هنا يظهر من المحقق الأردبيلي المناقشة في اشتراط اتحاد
الجنس، حيث قال: فإن الشركة بالمعنى المتقدم (1) تجري في غير المتجانسين
أيضا، حيث ارتفع المايز، وحينئذ فما ذكره في التذكرة في الركن الثالث
في بيان المال الذي تجري فيه الشركة حيث اشترط تساوي الجنس في المال
المشترك أثمانا وعروضا - محل تأمل، فإنه متى ثبت أن الشركة تحصل بمجرد
المزج الموجب لعدم تميز الحقوق، وإن لم يكن كذلك في نفس الأمر، صح أيضا
حصول الشركة في غير المتجانسين أيضا عند ارتفاع المائز، وحصول الاشتباه،
وأيده أيضا بأن المدار في حصول الشركة على الاشتباه وهو حاصل في الموضعين
فإنه قد يحصل التفاوت قيمة ووصفا في المتجانسين أيضا (2) وهو واضح.

(1) ومراده بالمعنى المتقدم هو الشركة ظاهرا دون نفي الأمر. منه رحمه الله
(2) قوله قد يحصل التفاوت في المتجانسين إلى آخره جواب عن سؤال مقدر وهو
أن عدم حصول الشركة فيما لو كانا مختلفين غير متجانسين لحصول التفاوت قيمة ووصفا مع
الاختلاف. منه رحمه الله.
153

وأيضا لا شك في تحقق الإذن في التصرف على وجه الشركة بالشراء بالعين
المماثل غيره، فتحصل فائدة الشركة بل يحصل ذلك مع الامتياز أيضا، إلا أنه
يكون الشركة باعتبار القيمة فلا مانع منها حينئذ.
أقول: إن كان مراده بما ذكره في غير المتجانسين من حصول الاشتباه وعدم
المائز الذي جعله مناطا للشركة، باعتبار عسر التميز بينهما ولو مجازا، فما
ذكره محتمل، وإلا فإنه مع اختلاف الجنسين لا اشتباه، بل التميز حاصل،
فإنه متى خلط حنطة بشعير، فإن الامتياز حاصل، والاشتباه مرتفع إلا أنه يعسر تخليص
أحدهما من الآخر فدعوى حصول الاشتباه وعدم المايز لا يتم إلا إذا كان باعتبار ما ذكرناه من
التجوز عن عسر تخليص أحدهما من الآخر، وإن كان الجميع مشتركا في الاشتراك
الظاهري، دون النفس الأمري، فإن كلا من المشترك في الجنس كحنطة بحنطة.
أو المختلف كحنطة بشعير، الاشتراك فيه إنما هو بحسب الظاهر، لا نفس الأمر.
وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو من اجمال، وظاهره الميل إلى ما قدمنا
نقله عن أبي حنيفة من عدم اعتبار الامتزاج، وأنه تصح الشركة مع الامتياز،
وأنت خبير بأنا لم نظفر لهم بدليل على ما ذكروه من شرط التجانس، ولا شرط
الامتزاج، بل ظاهر الأخبار العموم، كما أنك قد عرفت أيضا أنه لا دليل على
العقد الذي ادعوه، وأن الشركة شرعا عبارة عن ذلك العقد، والمفهوم من ظواهر
الأخبار أنه إذ اشتركا في مال واتجرا به ترتبت عليه أحكام الشركة، سواء كانت
ثمة عقد أو لم يكن، اتفق المال جنسا أو اختلف، مزج بعضه ببعض أم لم يمزج.
ومنها رواية حسين بن المختار المتقدمة، وحسنة الحلبي (1) عن أبي عبد الله
(عليه السلام) في رجلين اشتركا في مال فربحا ربحا وكان من المال دين، الحديث
وقد تقدم في كتاب الدين.
وبالجملة فإن أبحاثهم وتفريعاتهم في هذه المواضع الخالية من النصوص
قد جروا فيها على أبحاث مخالفيهم في ذكرها، والبحث عنها، ورجحوا منها ما

(1) الفقيه ج 3 ص 144 ح 7، الوسائل ج 13 ص 165 ح 1
154

رجحوه بأفكارهم، وردوا ما ردوه بذلك، حيث أن كتب متقدمي الأصحاب خالية
من هذه الأبحاث، وهذه الفروع مقصورة على الأخبار كما لا يخفى على من جاس
خلال الديار، وأول من سلك هذه الطريقة الشيخ (رحمة الله عليه) وتبعه من تأخر
عنه. والله العالم.
تذنيب: قال في التذكرة: يكره مشاركة المسلم لأهل الذمة من اليهود
والنصارى والمجوس وغير أهل الذمة من سائر أصناف الكفار عند علمائنا.
أقول: ويدل عليه صحيحة ابن رئاب (1) المتقدمة في المسألة الأولى.
وما رواه الكافي عن السكوني (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) إن أمير -
المؤمنين (صلوات الله عليه) كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي، إلا أن
تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها المسلم، ومورد الروايتين الذمي، (3) ولعل
دخول ساير الكفار في الحكم المذكور من باب الأولوية، لأنه إذا ثبت ذلك في
أهل الذمة فغيرهم من ساير أصناف الكفار بالطريق الأولى.
المسألة الثالثة - الشركة قد تكون في عين، وهو ظاهر، وقد تكون في
منفعة كالإجارة والحبس والسكنى، وقد تكون في حق كالاشتراك في الخيار،
والشفعة بالنسبة إلى الورثة، والقصاص والرهن والحد وقد تقدم أن سببها قد يكون
إرثا وهو يجري في الأقسام الثلاثة السابقة، بأن يرثا مالا، أو يرثا منفعة دار
استأجرها مورثهم، أو منفعة عبد موصى بخدمته، أو يرثا حق شفعة أو خيار أو رهن،
وقد يكون سببها عقدا، وهو يجري أيضا في الأقسام الثلاثة المذكورة، فجريانه
في العين بأن يشتريا دارا وفي المنفعة بأن يستأجراها، وفي الحق بأن يشتريا

(1) الكافي ج 5 ص 286 ح 1 باب مشاركة الذمي والتهذيب ج 7 ص 185 ح 1
(2) الكافي ج 5 ص 286 ح 2، وهما في الوسائل ج 13 ص 176 ح 1 و 2
(3) ومنها روايات عديدة تقدمت في كتاب الدين وهي بهذا المضمون في رجلين
بينهما مال منه دين ومنه عين فاقتسما العين والدين فتوى الذي كان لأحدهما من الدين
أو بعضه وخرج الذي للآخر يرد على صاحبه قال: نعم ما يذهب ماله. منه رحمه الله.
155

بخيار، وقد يكون حيازة، وهو إنما يتصور في العين خاصة.
وسببية الحيازة إما بأن يشتركا في نصب حبالة الصيد المشترك، ورمي السهم
المثبت له فيشتركان في ملكه، أو بأن يقتلعا شجرة أو يقترفا ماء دفعة، فإنه يتحقق
الشركة بذلك في الجملة، إلا أنه يكون لكل منهما من ذلك المحاز بنسبة عمله،
ويختلف ذلك بالقوة والضعف، ولو اشتبه مقدار كل واحد فطريق التخلص الصلح،
وما كان من الحيازة على غير الوجوه المذكورة فإنه يختص كل بما حازه
على الأظهر.
هذا مع تميزه، لأنه في معنى شركة الأبدان، وهي
جائزة على الأشهر الأظهر، أما مع امتزاجه فإنه يكون مشتركا، لكن لا من حيث
سببية الحيازة، بل من حيث المزج الذي هو أحد الأسباب كما عرفت، كما لو امتزج
المالان وهو خارج عن محل الفرض.
وقد يكون مزجا وهو إنما يتصور في العين خاصة، وينبغي أن يعلم أن سببية المزج
في الشركة أعم من أن يكون المزج اختيارا أو وقع ذلك اتفاقا، بأن وقع أحد
المالين على الآخر وامتزجا على الوجه المعتبر في الشركة، فإنه يثبت بذلك
الشركة، وضابط الامتزاج الذي يثبت به الشركة عدم التميز، فلهذا اعتبر فيه
الاتفاق في الجنس والصفة عندهم، فلو لم يكونا من جنس واحد وتحقق الامتياز
وإن عسر التخلص كما في مزج الحنطة بالشعير فإنه لا شركة هنا، ومثله الدخن
بالسمسم، وكذا لو لم يكونا على صفة واحدة كحبة الحنطة الحمراء بغيرها، فإنه
لا شركة أيضا.
ويأتي على ما تقدم نقله عن المحقق الأردبيلي حصول الشركة وصحتها في
في الموضعين المذكورين إلا أنت قد عرفت ما فيه ولا فرق فيما ذكرنا من حصول
الشركة بالامتزاج على الوجه المذكور بين الأثمان والعروض المثلية، كالحنطة
وغيرها من الحبوب، وهو اجماعي عندنا، ولم ينقل الخلاف هنا إلا عن بعض العامة
156

حيث خص ذلك بالأثمان كالمضاربة
بقي الكلام في العروض الغير المثلية كالثوب والخشب والعبد ونحو ذلك،
فهل يتحقق فيه الشركة بالمزج أم لا؟ وإنما يتحقق بالإرث والعقد، وبالأول
منهما صرح في التذكرة، حيث قال: تذنيب، إذ اشتركا فيما لا مثل له كالثياب
وحصل المزج الرافع للامتياز تحققت الشركة وكان المال بينهما، فإن علمت
قيمة كل واحد منهما كان الرجوع إلى نسبة تلك القيمة، وإلا تساويا عملا بأصالة
التساوي انتهى.
والثاني ظاهر المحقق في الشرايع، حيث قال: أما ما لا مثل له كالثوب
والخشب والعبد فلا يتحقق فيه المزج، بل قد تحصل بالإرث أو أحد العقود
الناقلة.
وظاهره في المسالك الميل إلى ما ذكره العلامة في التذكرة، حيث اعترض
المصنف هنا، فقال: في عدم تحققه بالمزج مطلقا منع بين، بل قد يتحقق كالثياب
المتعددة المتقاربة في الأوصاف، والخشب كذلك، فيتحقق الشركة فيه والضابط
عدم الامتياز، ولا خصوصية للمثلي والقيمي في ذلك. انتهى.
ثم إنه على تقدير القول الأول من ثبوت الشركة هنا فإن علم قيمة ما لكل
واحد منهما كان الاشتراك بنسبة القيمة، فإن لم تعلم فهل يحكم بالتساوي؟ لأنه الأصل
أم يرجع إلى الصلح، قولان: أولهما صريح عبارة التذكرة المتقدمة، وثانيهما
اختياره في المسالك، وهو أيضا ظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد حيث
قال بعد الكلام في معنى عبارة التذكرة المذكورة: ما لفظه، إلا أن في الحكم -
مع عدم العلم بالقيمة - بالتساوي - للأصل محل التأمل، بل ينبغي هنا الصلح

(1) هذا الخلاف من بعض العامة إنما هو بالنسبة إلى الشركة شرعا لا بالنسبة إلى
المعنى المشهور المفهوم منها لغة وعرفا فإنه لا خلاف بين الخاصة والعامة في تحققها بمجرد
الامتزاج كيف اتفق مع التماثل. منه رحمه الله.
157

والتراضي، فإن مساواة الأعراض بحسب القيمة مع تخالف الجنس نادر، والأصل
لا يقتضي ذلك. نعم مع التشاح وعدم الرضا بالصلح، لا وجه للخلاص سوى ما ذكره،
فيقسمان جميع المال قسمة متساوية مع عدم العلم بالتفاوت أصلا، ومعه ومع
الاشتباه يمكن القرعة انتهى.
وأنت خبير بما في قوله: " فإن مساواة الأعراض بحسب القيمة مع تخالف
الجنس نادر " من الغفلة، فإن الجنس هنا غير مختلف، إذ محل البحث في القيمي
كالثياب والخشب ونحوها، بمعنى أن المشترك بينهما ثياب متفقة في الأوصاف،
أو خشب كذلك، أو نحو ذلك.
وعلى تقدير القول الثاني من عدم ثبوتها بالمزج في الصورة المفروضة،
فلو أراد الشركة باع كل منهما حصته مما في يده بحصته مما في يد الآخر،
ومثله ما لو أرادا الشركة في المثلي مع اختلاف الجنس أو الوصف.
ومثل هذه الحيلة في حصول الشركة ما لو وهب أحدهما صاحبه حصة من
ماله ووهب الآخر كذلك أو باعه حصته بثمن معين ثم اشترى به حصة من الآخر، والمراد
من الشركة في جميع هذه الصور الشركة المشهورة لا الشركة الخاصة التي هي
عبارة عن الإذن في التصرف. والله العالم.
المسألة الرابعة - قال في التذكرة: الشركة على أربعة أنواع، شركة
العنان وشركة الأبدان، وشركة المفاوضة، وشركة الوجوه، فأما شركة العنان
فهي أن يخرج كل مالا ويمزجاه، ويشترطا العمل فيه بأبدانهما، إلى أن قال: وأما
شركة الأبدان بأن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبون بأيديهم، كالصناع
يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم، فما رزق الله فهو بينهم على التساوي، أو التفاوت.
وأما شركة المفاوضة فهو أن يشتركا ليكون بينهما ما يكتسبان، ويربحان
ويلتزمان من غرم وما يحصل لهما من غنم، فيلزم كل واحد منهما ما يلزم
الآخر من أرش جناية، وضمان غصب، وقيمة متلف، وغرامة لضمان أو كفالة،
ويقاسمه فيما يحصل له من ميراث، أو يجده من ركاز أو لقطة، أو يكسبه
158

شركة المفاوضة أن يكون مالهما من كل شئ يملكانه بينهما.
وأما شركة الوجوه فقد فسرت بمعان، أشهرها أن يشترك اثنان وجيهان
عند الناس لا مال لهما، ليبتاعا في الذمة إلى أجل على أن ما يبتاعه كل واحد
منهما يكون بينهما، فيبيعاه ويؤديا الأثمان، فما فضل فهو بينهما، وقيل: أن يبتاع
وجيه في الذمة ويفوض بيعه إلى خامل، ويشترطان أن يكون الربح بينهما،
وقيل إن يشترك وجيه لا مال له، وخامل ذو مال ليكون العمل من الوجيه
والمال من الخامل، ويكون المال في يده لا يسلمه إلى الوجيه، والربح بينهما،
وقيل: أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح، ليكون بعض الربح له، ولا يصح
شئ من أنواع الشركة سوى شركة العنان انتهى كلامه (قدس سره).
والكلام هنا يقع في مواضع: الأول - أن ما ذكره من أنه لا يصح شئ
من هذه الأنواع سوى شركة العنان هو المشهور بين الأصحاب، وقال ابن الجنيد:
لو اشترك رجلان بغير رأس مال على أن يشتريا ويبيعا بوجههما جاز ذلك، ولو
اشترك رجلان وكان من عند أحدهما بذر وبقر، وعلى الآخر العمل والخراج،
كانت الشركة جائزة بينهما، ولو اشترك رجلان على أن يعملا عملا لكل واحد
منهما فيه عمل منفرد (1) أو أن يكون يديهما جميعا في العمل، وتقسم الأجرة
بينهما لم أجز ذلك، لأن الأجرة عوض عن عمل، فإذا لم يتميز مقدار عمل كل
واحد منهما لم آمن أن يلحق أحدهما غبن أو أن يأخذ ما لا يستحقه، فإن تتاركا الفضل
وتحالا، أو يضمن أحدهما بالعمل ثم قسمه على الآخر من غير شركة جاز انتهى.
وهو ظاهر في جواز شركة الوجوه، وشركة الأبدان على التفصيل المذكور:

(1) قال في المسالك: لا خلاف عندنا في بطلان شركة الأعمال إلا من ابن الجنيد
حيث أجازها مع تشاركهما الفضل أو عمل أحدهما وقسمته على الآخر من غير شركة، مع
أنه راجع إلى بطلانهما لأن تداركهما الفضل بعد مزج الأجرتين وتحالهما أمر خارج
عن صحة هذه الشركة وكذا لو تبرع أحدهما عن الآخر بمشاركته في أعماله انتهى. وهو
جيد. منه رحمه الله.
159

وأن شركة الوجوه عبارة عن المعنى المشهور المذكور في كلام العلامة.
قال العلامة في المختلف - في مقام الرد عليه: لنا اجماع الفرقة، وخلاف
ابن الجنيد غير معتد به، لانقراضه، وحصول الاتفاق بعده، ولأن الأصل عدم الشركة،
وبقاء حق كل واحد عليه، ولأنه ضرر عظيم، ولأن الشركة عقد شرعي يتوقف
على الإذن فيه. انتهى.
والمفهوم من كلامه وكذا غيره من الأصحاب هو بطلان الشركة في جميع
الأنواع المتقدمة ما عدا شركة العنان، وظاهر المحقق الأردبيلي المناقشة هنا
في بعض المواضع حيث قال: بعد نقل قول العلامة في التذكرة: وأما شركة
الأبدان فعندنا باطلة، سواء اتفق عملهما أو اختلف، بأن يكون كل واحد منهما
خياطا، ويشتركا في فعل الخياطة، أو يكون أحدهما خياطا والآخر نجارا، أو
يعمل كل واحد منهما في صنعة، ويكون الحاصل بينهما، وسواء كانت
الصنعة البدنية في مال مملوك، أو في تحصيل مال مباح، كالاصطياد والاحتشاش
والاحتطاب.
فقال المحقق المشار إليه ولا يظهر دليل على عدم الجواز، سوى الاجماع، فإن
كان فهو، وإلا فلا مانع، فإنه يرجع إلى الوكالة في بعض الأمور (1) وتمليك
مال في البعض الآخر، وبذل نفس وعمل في مقابله عوض، ولا مانع منه في العقل
والشرع، ولهذا جوز بعض أقسامها بعض العامة، ثم نقل عنه أيضا أن شركة
المفاوضة عندنا باطلة، وليس لها أصل، وبه قال الشافعي، ومالك، ثم نقل عنه
أيضا في شركة الوجوه أنها عندنا باطلة، وبه قال الشافعي ومالك، ثم قال: والبحث
فيهما مثل ما تقدم فتأمل. انتهى.

(1) الظاهر أن الرجوع إلى الوكالة في مثل الشركة في الاحتطاب ونحوه فإن
كلا منهما جعل الآخر وكيلا عنه في ذلك وتمليك المال في ما لو تبرع أحدهما في ماله وأعطى
شريكه حصة من الربح فإنه يرجع إلى تمليك مال وأما الثالث فلا أعرف له وجها
منه رحمه الله.
160

وكلامه لا يخلو من غموض وخفاء، وإن سلم صحة ما ذكره، إلا أن
دخوله تحت لفظ الشركة بأي المعنيين محل اشكال.
وأما ما ذكره ابن الجنيد من أنه لو اشترك رجلان وكان من عند أحدهما
بذر وبقر، وعلى الآخر العمل والخراج، كانت الشركة جائزة بينهما، فهو خلاف
ما يفهم من كلام الأصحاب، بل الظاهر أنه لا شركة هنا، وإنما الحاصل لصاحب البذر،
وللعامل الأجرة.
قال في التذكرة: لو كان أحد البذر، وللآخر الدواب، ولثالث الأرض،
واشتركوا مع رابع ليعمل، ويكون الحاصل بينهم فالشركة باطلة، والنماء
لصاحب البذر، وعليه أجرة المثل لصاحب الأرض، عن أرضه: ولصاحب الدواب
عن عملها، ولصاحب العمل عن عمله، فإن أصاب الزرع آفة ولم يحصل شئ من
الغلة لم يسقط حقهم من أجرة المثل. انتهى.
وهذا هو الموافق لمقتضى الأصول الشرعية، وأنت خبير بأن أخبارنا
خالية من ذكر هذه الأنواع، والظاهر أنها من اصطلاحات العامة، ولهذا اختلفوا
في كل منها صحة وبطلانا، واطلاقا وتقييدا، كما لا يخفى على من راجع كتاب
التذكرة، وأصحابنا قد اقتفوا أثرهم في ذكرها، والبحث عنها واتفقوا
عدا ابن الجنيد على بطلان ما عدا شركة الأموال. والله العالم.
الثاني - قد عرفت أن أحد الأنواع المتقدمة شركة العنان بكسر العين
ككتاب، وهو سير اللجام الذي تمسك به الدابة، وهي المتفق على جوازها،
وهي عبارة عن الشركة في الأموال.
بقي الكلام في وجه هذه التسمية فقيل: من عنان الدابة، أما لاستواء
الشريكين في ولاية الفسخ والتصرف واستحقاق الربح على قدر رأس المال،
كاستواء طرفي العنان، أو تساوي الفارسين إذا سويا بين فرسيهما، وتساويا في السير
يكونان سواء، وأما لأن لكل واحد منهما أن يمنع الآخر من التصرف كما يشتهي
ويريد، كما يمنع العنان الدابة، وأما لأن الأخذ بعنان الدابة حبس إحدى يديه
161

على العنان، ويده الأخرى مطلقة يستعملها كيف شاء، كذلك الشريك يمنع
بالشركة نفسه عن التصرف في المشترك كما يشتهي، وهو مطلق اليد والتصرف
في ساير أمواله.
وقيل: من " عن " إذا ظهر أما لأنه ظهر لكل واحد منهما مال صاحبه،
أو لأنها أظهر أنواع الشركة، ولهذا أجمع على صحتها، وقيل: من " العانة "
وهي المعارضة، لأن كل واحد منهما عارض بما أخرجه الآخر.
الثالث - ما ذكره في آخر العبارة المتقدمة من قوله " ولا يصح شئ من
أنواع الشركة سوى شركة العنان " محتمل لكون المراد بالشركة بالمعنى
المشهور المتبادر، هو اجتماع حقوق الملاك كما تقدم، وهو الذي يقتضيه
السياق في عد هذه الأنواع، ويحتمل المعنى الخاص، لأنه الغرض الذاتي منها،
ويؤيده تعريفه لها بما ذكره من أنها عبارة عن أن يخرج كل مالا، ويمزجاه،
ويشترطا العمل فيه بأبدانهما.
قال في المسالك: ولا بد لها بهذا المعنى مع اشتراكهما في المالين من
صيغة تدل على الإذن في التصرف، لأنهما ممنوعان منه، كسائر الأموال المشتركة
وهي كل لفظ يدل على الإذن فيه على وجه التجارة، سواء كان قبل الامتزاج أو
بعده، وسواء وقع من كل منهما للآخر، أم اختص بأحدهما، وبهذا المعنى لحقت
بقسم العقود على تكلف أيضا، وتترتب عليها الأحكام التي يذكرها المصنف بعد
هذا انتهى.
أقول: قد عرفت آنفا ما في هذا الكلام، وأنه لا دليل على اعتبار هذا العقد
لكن يتجه الإيراد على الأصحاب بأنهم لما ذكروا للشركة معنى آخر، وهو
الذي تترتب عليه الأحكام الآتية كان الواجب عليهم أن يعرفوا الشركة في هذا
المقام بغير التعريف المشهور كما ذكره شيخنا المذكور: لأن غرضهم بيان الشركة
التي هي مثل العقود تترتب عليها الأحكام من جواز التصرف واستحقاق الربح
ونحو ذلك، وأنه عقد جائز، وله أركان ثلاثة، ومع ذلك لم يعرفوها بشئ زيادة
162

على التعريف المشهور، مع أن الأحكام لا تترتب على ذلك التعريف المشهور بمجرده
ولعلهم بنوا كلامهم كما قدمنا ذكره على أن المقصود واضح، وأن الشركة الحقيقية
هو اجتماع المال كما تقدم، وأما الأحكام فتناط بالإذن في التصرف في المال
المشترك، والإذن كما تقدم يحصل بأي نحو كان، وتجوزوا في اطلاق العقد على
هذا الإذن في أثناء الكلام في المقام. والله العالم.
المسألة الخامسة - لا اشكال ولا خلاف في أنه مع تساوي المالين يتساوى
الشريكان في الربح والنقصان، وكذا لو زاد رأس مال أحدهما كان له من الربح
بنسبة الزيادة، وعليه من الخسران بالنسبة أيضا، وإنما الاشكال والخلاف فيما
إذا اشترط أحدهما زيادة الربح مع تساوي المالين، أو التساوي في الربح والخسران
مع تفاوت المالين.
وقد اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال ثلاثة: الأول - ما ذهب إليه الشيخ
وابن إدريس والمحقق وجمع منهم من بطلان الشركة، لانتفاء ما يدل على الصحة
فيكون أكل مال بالباطل، لأن الزيادة ليس في مقابلها عوض، لأن الفرض أنها
ليست في مقابلة عمل، ولا وقع اشتراطها في عقد معاوضة، لتضم إلى أحد العوضين
ولا اقتضى تملكها عقد هبة، والأسباب المثمرة للملك معدودة، وليس هذا أحدها
فيكون اشتراطها اشتراطا لتملك شخص مال غيره بغير سبب ناقل للملك، كما لو
دفع إليه دابة يحمل عليها، والحاصل لهما، فيبطل العقد المتضمن له إذا لم يقع
التراضي بالشركة والإذن بالتصرف إلا على ذلك التقدير، وقد تبين فساده، ولا
يندرج في الأمر بالايفاء بالعقود، ولا في " المؤمنون عند شروطهم ".
الثاني - ما ذهب إليه المرتضى وإليه ذهب العلامة ووالده وولده من القول
بالصحة، وادعى عليه المرتضى الاجماع، واحتجوا بالأدلة العامة مثل قوله تعالى
" أوفوا بالعقود " (1) و " إلا أن تكون تجارة عن تراض " (2) وقد وقع على

(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة النساء الآية 28
163

ما اشترطاه، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " المؤمنون عند شروطهم " (1)
والاجماع المنقول بخبر الواحد كما يقبل نقل غيره من الأدلة به، وأصالة الإباحة وبناء الشركة على الارتفاق بكل منهما ومن جملته موضع النزاع.
الثالث - ما ذهب إليه أبو الصلاح من صحة الشركة دون الشرط، وجعل
شرط الزيادة إباحة لها يجوز الرجوع فيها ما دامت العين باقية، قال على ما نقله
عنه في المختلف: إذا تكاملت الشروط انعقدت الشركة، ووجب لكل واحد من
الشريكين من الربح بمقدار ماله، ومن الوضيعة بحسبه، فإن اصطلحوا في الربح
على أكثر من ذلك، حل تناول الزيادة بالإباحة، دون عقد الشركة، ويجوز
لمبيحها الرجوع فيها ما دامت العين قائمة، فإن اشترط في عقد الشركة، تفاضل
في الوضيعة صحت الشركة، وبطل الشرط، وكانت الوضيعة بحسب الأموال، إلا
أن يتبرع أحد الشريكين على الآخر، فإن كان أحد الشريكين عاملا فجعل له
الآخر فضلا في الربح بإزاء عمله لم يمض الشرط، وكان للعامل أجرة عمله من
الربح، وبحسب ماله انتهى.
أقول: الظاهر أن محل الخلاف هنا ما لو شرط الزيادة مع عدم زيادة عمل
له يقابل تلك الزيادة، أما لو كان له عمل زائد يقابلها، فالظاهر أنه لا خلاف في
جواز العقد: وصحة الشرط قال في التذكرة: لو اختص أحدهما بمزيد عمل وشرط
مزيد ربح له صح عندنا وإلى ذلك أيضا يشير قولهم في حجة دليل القول الأول، لأن الفرض
أنها ليست في مقابلة عمل وبالجملة فالظاهر أنه لا اشكال في ذلك، وعلى هذا
ينبغي أن يقيد بذلك اطلاق القولين الأولين.
وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني: فقد عرفت جواب بعضه من احتجاج
أصحاب القول الأول، وبقي دعوى الاجماع، وهو تشبث بما هو أو هن من بيت
العنكبوت، وأنه لا وهن البيوت.

(1) التهذيب ج 7 ص 371 ح 1503، الإستبصار ج 3 ح 835، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4
164

وأما الاستناد إلى الآية " إلا أن تكون تجارة عن تراض " ففيه أن الشركة
ليست تجارة، فلا تناولها الآية. نعم لو كانت الزيادة في مقابلة زيادة في العمل
كان ذلك معاوضة وتجارة عن تراض، إلا أنك قد عرفت أن هذا ليس من محل البحث
في شئ، ويمكن أن يقال: بصحة الشرط، لكن لا من حيث الشركة، بل من
حيث أنه وعد، وقد دلت الآية والرواية على وجوب الوفاء بالوعد كما
تقدم في الأبحاث السابقة، لأن صاحب الزيادة قد وعد باعطائها ورضي بذلك، ورد
كلام أبي الصلاح بأنه مبني على أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد، والأقوى خلافه،
وفيه ما عرفت فيما تقدم في الأبحاث السابقة، وفي مقدمات كتاب الطهارة.
وكيف كان فالمسألة كغيرها مما تقدم من أمثالها لا يخلو من الاشكال، لعدم
النص الواضح في هذا المجال، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في
ذلك، حيث اقتصر على نقل الأقوال المذكورة ونقل حججها ولم يرجح شيئا منها،
وهو في محله هذا في ما لو عملا معا أما لو كان العامل أحدهما مع شرط الزيادة للعامل
فالظاهر أنه لا اشكال في صحته، ويكون العقد حينئذ قراضا، وشركة، فيشتركان
في الربح من حيث كون رأس المال شركة، ويختص العامل بالزيادة المشروطة
في مقابلة عمله كما يختص عامل المضاربة بالحصة المعينة له من الربح في مقابلة عمله،
ويأتي مثل ذلك فيما قدمناه من أنهما لو عملا معا ولكن كان في عمل أحدهما زيادة،
وشرطت الزيادة له في مقابلة زيادة عمله.
إما مع تساويها في المالين وزيادة عمله، أو مع نقصان ماله مع تساويهما في
العمل، أو زيادته بطريق أولى، لاشتراك الجميع في كون الزيادة في الربح في
مقابلة عمل، فكان العقد عقد معاوضة من الجانبين، بالنظر إلى أن العمل متقوم بالمال.
ولكن الشيخ ومن تبعه أطلقوا المنع، والمرتضى ومن تبعه أطلقوا الجواز،
والتفصيل بما ذكرناه كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني وغيره أجود، وينبغي
تقييد الاطلاقين المذكورين بذلك، لما قدمناه سابقا من تصريح العلامة في
التذكرة بذلك، بل ظاهره دعوى الاجماع في ذلك، حيث قال: عندنا، مع كونه
من القائلين بقول المرتضى، وما ذكر في حجة القول الأول: مع أن الدعوى
165

مطلقة، فذكر ذلك في دليلها، دليل على أنه ليس المراد بتلك الدعوى على
اطلاقها، والله العالم.
المسألة السادسة - متى حصلت الشركة بالمعنى المشهور فإنه لا يجوز
لكل من الشريكين التصرف إلا بإذن الآخر، لما ثبت عقلا ونقلا من عدم جواز
التصرف في مال الغير إلا بإذنه، فإن أذن أحدهما للآخر اختص المأذون بالتصرف
ولا يجوز للإذن التصرف إلا بإذن المأذون: والإذن توكيل في التصرف، فلا
يجوز له أن يتعدى ما أذن له من العموم والخصوص، والاطلاق والتقييد، فإن
أطلق في التصرف تصرف كذلك، وإن خصص اختص بما خصصه، ويراعى فيه
المصلحة، فإن أطلق له في التجارة تصرف كيف شاء من أنواع التجارة، من
البيع والشراء مرابحة، ومساومة، وتولية، ومواضعة،
حيث تقضيها المصلحة
وقبض الثمن واقباض المثمن، ونحو ذلك مما تقدم في كتاب البيع.
وهل يتناول الاطلاق السفر حيث شاء؟ احتمالان: من حيث دخوله تحت
الاطلاق، ومن حيث كونه مظنة الخطر، ولا يجوز له اقراض شئ من المال إلا
مع المصلحة، ولا المضاربة عليه لأنه ليس من توابع التجارة.
وقد صرح في التذكرة في غير موضع بأن إذن الشريك توكيل، فيجب حينئذ أن
يراعى فيه ما يجب مراعاته في الوكالة فلا بد أن يقتصر على ما أذن له فيه، كما يجب
على الوكيل أن يقتصر على ما وكل عليه، فلو تعدى في بعض المواضع عن محل
الإذن أثم وضمن، وحيث كانت الشركة من العقود الجائزة دون اللازمة بالاجماع
فلكل من الشركاء الرجوع في الإذن والمطالبة بالقسمة.
أما الأول فإن مبناها على الإذن في التصرف، وهو في معنى الوكالة، فتكون
جائزة، وأما الثاني فلأنه لا يجب على الانسان مخالطة غيره في ماله ومقتضى
الأصل أن يتصرف كل منهما في ماله كيف شاء.
قال في التذكرة: الشركة عقد جائز من الطرفين، وليست من العقود
اللازمة اجماعا فإذا اشتركا بمزج المالين، فأذن كل واحد منهما لصاحبه في
166

التصرف (1) فلكل واحد من الشريكين فسخها لأن الشركة في الحقيقة توكيل
وتوكل، فلو قال أحدهما للآخر: عزلتك عن التصرف، أو لا تتصرف في نصيبي
انعزل المخاطب عن التصرف في نصيب العازل، ويبقى التصرف في نصيبه، ولا ينعزل
العازل عن التصرف في نصيب المعزول إلا بقول متجدد منه، ولو فسخاها معا
فإن الاشتراك باق وإن لم يكن لأحدهما التصرف في نصيب الآخر، ولو قال أحدهما:
فسخت الشركة ارتفع العقد، وانفسخ من تلك الحال، وانعزلا عن التصرف،
لارتفاع العقد. انتهى.
قيل: وفي قوله " ولو قال أحدهما إلى آخره " تأمل، لأن أحدهما تكلم
فقط بقوله " فسخت الشركة " وهو يؤل إلى عدم إذنه للآخر في التصرف، وعزله
وابطال وكالته، لما قد مر مرارا أن هذا العقد والإذن توكيل، وغاية ما يكون
عزلا لنفسه أيضا فإذا بدا له يجوز التصرف إذا قلنا إن الوكيل لا ينعزل بمجرد
عزله، ولا يحتاج إلى إذن جديد، إلا أن يعلم الآخر الموكل بل يرضى بعزله
ويعزله فتأمل. انتهى.
وملخص كلامه المناقشة في ارتفاع العقد بالكلية، فإن هذا القول إنما وقع
من أحدهما، والذي يدل عليه عزله الآخر عن التصرف، وابطال وكالته، وغاية
ما يمكن التزامه أنه عزل لنفسه أيضا، إلا أنه بمجرد ذلك لا يلزم بطلان العقد
وارتفاعه، بناء على أن الوكيل لا ينعزل بمجرد عزل نفسه، بل يجوز له الرجوع
بغير توكيل آخر، فكذا هنا يجوز له الرجوع بدون إذن آخر، فلا يتم حينئذ
الحكم بارتفاع العقد.
وكما ينفسخ الشركة بالفسخ تنفسخ أيضا بالجنون والموت، لبطلان الوكالة بهما،
وهي في معناها كما عرفت، بل هي وكالة في التحقيق، ونحو هما أيضا الاغماء والحجر

(1) إشارة إلى الشركة بمعنى المشهور وقوله فأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف
إشارة إلى المعنى الخاص المصطلح عليه بين الأصحاب المعبر عنه بالعقد وهو دائما إنما يعبر
عنه بالإذن وهو مؤيد لما قدمناه من التحقيق من أنه ليس هنا عقد كما يدعونه وليس إلا الإذن
وإن سموه عقدا تجوزا. منه رحمه الله.
167

لسفه أو فلس.
قال في التذكرة: وكذا ينفسخ بموت أحدهما وجنونه، اغمائه الحجر
عليه للسفه، كالوكالة، ثم في صورة الموت إن لم يكن على الميت دين، ولا هناك
وصية تخير الوارث بين القسمة مع الشريك وفسخها، وبين تقرير الشركة إن كان
بالغا رشيدا، وإن كان صغيرا أو مجنونا فعلى الولي ما فيه الحظ من فسخ الشركة
أو ابقائه، ولا بد في تقرير الشركة من عقد مستأنف، وإن كان على الميت دين لم
يكن للوارث التقرير على الشركة إلا أن يقضي الدين من غير مال الشركة، ولو
كان هناك وصية، فإن كانت لمعين فهو كأحد الورثة، يتخير بين التقرير والفسخ
إن تعلقت الوصية بذلك المال، وإن كانت لغير معين كالفقراء لم يجز تقرير الشركة
إلا بعد خروج الوصية، فإذا خرجت الوصية بقي المال كما لو لم تكن وصية، يتخير
الوارث بين التقرير والفسخ. انتهى.
المسألة السابعة - لو شرط التأجيل في الشركة بمعنى ترتب أثرها عليها من
التصرف للتجارة ونحوها إلى أجل مخصوص لم يلزم الشرط المذكور، بل لكل
منهما فسخها قبل الأجل، لأنها عقد جائز، فلا يؤثر شرط التأجيل فيه.
نعم يترتب على الشرط المذكور عدم جواز تصرفهما بعد الأجل إلا بإذن
جديد، لعدم تناول الإذن السابق له، فهذا الشرط وإن لم يؤثر في وجوب المضي
على الشركة إلا أنه يؤثر فيما ما ذكرناه، فله أثر في الجملة.
ونقل في المختلف عن الشيخين أنهما قالا: الشركة بالتأجيل باطلة، قال:
والظاهر أن مرادهما ليس البطلان من رأس، بل عدم اللزوم، ولهذا قال المفيد
عقيب ذلك: ولكل واحد من الشريكين فراق صاحبه أي وقت شاء، ثم نقل عن أبي الصلاح أنه قال: ولا تأثير للتأجيل في عقد الشركة، ولكل شريك مفارقة
شريكه أي وقت شاء وإن كانت مؤجلة.
ثم قال: والعبارتان رديتان، والتحقيق أن للتأجيل أثرا وهو منع كل
168

منهما من التصرف بعده إلا بإذن مستأنف، وإن لم يكن له مدخل في الامتناع من
الشركة، إذ لكل منهما الفسخ قبل الأجل. انتهى.
المسألة الثامنة - ينبغي أن يعلم أن الشريك أمين لا يضمن تلف ما في يده
إلا بالتعدي أو التفريط، لأنه وكيل كما عرفت فيما سبق، ويقبل قوله مع يمينه
في دعوى التلف، سواء ادعى سببا ظاهرا كالغرق، أو خفيا كالسرق. قال في التذكرة:
كل واحد من الشريكين أمين يده يد أمانة على ما تحت يده، كالمستودع والوكيل،
يقبل قوله في الخسران والتلف مع اليمين، كالمستودع إذا ادعى التلف، سواء
أسند التلف إلى سبب ظاهر أو خفي، فلا يضمن إلا مع التفريط، ويقبل قوله في عدم
ما يوجب الضمان من التعدي، وكذلك في عدم الخيانة، ويقبل قوله في عدم
الشراء بمال الشركة إذا ادعى الشراء بما يخصه، وكذا إذا ادعى الشراء بالمشترك.
الفصل الثاني في القسمة:
وهي تمييز حق أحد الشركاء عن حق الآخر، والبحث فيها يقع في مسائل:
الأولى - الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا في أنها برأسه أمر موجب لتمليك الشريك
حصة الشريك الآخر بحصته، فإذا حصلت بشرائطها حصل بها الملك، وليست بيعا
ولا صلحا ولا غيرهما، لعدم وجود خواص الغير فيها كصيغة البيع ايجابا وقبولا،
أو غيره من العقود، ويدخلها الاجبار في غير أفراد البيع التي يدخلها الاجبار،
ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر مع تساويهما، والبيع ليس كذلك، بل يجوز
فيه الزيادة والنقصان بينهما، واختلاف اللوازم تدل على اختلاف الملزومات.
خلافا لبعض العامة حيث جعلها بيعا مع أنه لا خلاف عندهم في أنه إذا طلب
أحد الشركاء القسمة، يجب على الآخر إجابته، وعدم منعه إذا لم يحصل له ضرر
بالقسمة، سواء كان في تركها ضرر أم لا، وسواء كان أحدهما مضطرا إلى القسمة
أم لا، لأنه يجب ايصال حق الغير إليه، ولا يجوز منعه عنه، وهو هنا بالقسمة،
169

ولا تصح إلا بإذن الشركاء إلا ما سيأتي التنبيه عليه.
الثانية - لا خلاف في أنه مع الضرر على الكل وعدم ضرورة لا تجوز القسمة،
لأنه تضييع مال، وهو سفه واسراف منهي عنه، وأما ما لا ضرر في قسمته فإنه يجبر
الممتنع مع التماس الشريك القسمة، وهو مما لا خلاف فيه أيضا.
وإنما الخلاف في معنى الضرر المانع في الصورتين، فقيل: بأنه عبارة عن
نقصان العين أو القيمة نقصانا لا يتسامح به عادة، لأن فوات المالية مناط الضرر في
الأموال. ولقوله (صلى الله عليه وآله) " لا ضرر ولا ضرار " (1) وهو عام، وقيل:
بأنها عبارة عن عدم الانتفاع بالنصيب منفردا لتضمنه الضرر والحرج، وإضاعة المال
المنهي عنه مثل كسر الجوهرة الكبيرة التي لها ثمن كثير، وبعد الكسر لا تسوى
شيئا أو تسوى شيئا قليلا.
وقيل: بأنها عبارة عن عدم الانتفاع به منفردا، فيما كان ينتفع به مع الشركة،
مثل أن يكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضع ضيق
لا ينتفع به في السكنى مثل الأول، وإن أمكن الانتفاع به في غير ذلك.
قال في المسالك بعد نقل ذلك كما ذكرناه والأقوى اعتبار الأول، وإليه
أيضا مال المحقق الأردبيلي، قال: واعتبار الثاني بعيد، والثالث أبعد،
وأشار بهما إلى ما ذكرناه هنا ثانيا وثالثا، ثم إنه على تقدير اعتبار المعنى
الأول متى انتفى مثل هذا الضرر عن الشريك، وطلب الآخر القسمة مع
انتفاءه عنه أيضا، فإنه يجب الإجابة إلى القسمة، ويجبر الممتنع، وهو ظاهر لما
تقدم من أنه يجب ايصال حقه إليه متى طلبه، ولا يجوز منعه، إذا لفرض أنه لا مانع
من ذلك، وأما عدم وجوبها مع ضرر الشريك فهو أيضا ظاهر، لخبر (2) " لا ضرر
ولا ضرار " إلا مع تضرر الطالب للقسمة بالشركة، فيتعارض الضرران، فينبغي أن

(1) قال في القاموس: وأعضاد الحوض وغيره ما يشد حواليه من البناء، ولم أقف
في كلام أهل اللغة على معنى يناسب ما ذكروه بعد فإن دخول القسمة فيما كان هكذا لا يخلو
من تعسف وظاهر كلامهم أن العضائد عبارة عن أماكن ضيقة تتضرر بالقسمة والله العالم
منه رحمه الله.
170

يرجح الأقل ضررا، ومع التساوي يشكل الأمر، فيحتمل الرجوع إلى القرعة.
وأما لو تضرر الطالب للقسمة بالقسمة دون الممتنع، فالظاهر أنه لا يجب
إجابته، لأن ارتكاب ذلك سفه وتضييع لما له، إلا أن يترتب على ذلك غرض صحيح.
قال في الدروس، ولو تضرر أحد الشريكين دون الآخر بالقسمة أجبر غير
المتضرر بطلب الأجر دون العكس، وفي المبسوط لا يجبر أحدهما لتضرر الطالب،
وهو أحسن، إن فسر التضرر بعدم الانتفاع، وإن فسر بنقص القيمة فالأول أحسن،
وبذلك يظهر أن في المسألة أقو إلا ثلاثة.
ثالثها التفصيل الذي استحسنه شيخنا المذكور وهو جيد، ولو اتفقا على
القسمة مع تضمنها الضرر كالجوهر ولا سيف والعضايد الضيقة (2) فقد صرح المحقق
في هذا الكتاب بأنه لا يجوز قسمتها، والمفهوم من كلام غيره أن القسمة المشتملة
على ضرر لا يجبر الممتنع عليها لكنها تصح بالتراضي والاتفاق عليها، مع أنه في كتاب
القضاء من الشرايع فسر الضرر بنقص القيمة، فحكمه هنا بعدم الجواز مع تفسير الضرر
بما ذكره مشكل، فإن مجرد نقص القيمة لا يبلغ حد المنع.
نعم لو فسر الضرر بعدم الانتفاع أمكن من حيث استلزامها تضييع المال بغير
عوض، فإنه إذا لم ينتفع بالأجزاء فلا فائدة في القسمة، بل هو محض اتلاف وهو
منهي عنه.
ثم إنه في كل موضع يتوقف القسمة على الجبر، فالظاهر أن المجبر هو
الحاكم الشرعي أو أمينه، والظاهر أن مع تعذرهما فعدول المؤمنين كما هو في
ساير الحسبيات التي يتعذر ارجاعها إلى الحاكم: والأحوط العدلان، وفي

(1) قال في القاموس: وأعضاد الحوض وغيره ما يشد حواليه من البناء، ولم أقف
في كلام أهل اللغة على معنى يناسب ما ذكروه بعد فإن دخول القسمة فيما كان هكذا لا يخلو
ممن تعسف وظاهر كلامهم أن العضائد عبارة عن أماكن ضيقة تتضرر بالقسمة والله العالم
منه رحمه الله.
171

وفي الاكتفاء بالواحد احتمال قوي.
الثالثة - لا يخفى أن متساوي الأجزاء وهو المثلي الذي يصدق على قليله
وكثيره اسم الكل، وأجزاؤه متساوية في ذلك، ولا تفاوت بينها غالبا كالحبوب
والأدهان تقسم قسمة اجبار على جميع الأقوال الثلاثة المتقدمة، إذ لا ضرر بالقسمة
فيتحقق فيها قسمة الاجبار مطلقا، فإن تراضيا بالقسمة وإلا أجبر الممتنع، كذا
صرحوا به من غير خلاف يعرف.
قال في المسالك: ومثله الثياب المتعددة المتحدة في الجنس التي يمكن
تعديلها بالقيمة، وكذا الحيوان والعبد على الأقوى، وظاهر المحقق الأردبيلي
المناقشة هنا قال بعد ذكر ذلك، وفيه تأمل، إذ قد يكون المقسوم يسيرا بحيث
لو قسم لم يبق لكل قسم أو لبعضه قيمة أصلا، أو ينقص نقصانا فاحشا بخلاف ما لو
بيع جميعا يجعل لكل واحد من الشركاء من القيمة ما ينتفع به، وهو غير بعيد.
أقول: بل الظاهر بعده: لأن الأحكام الشرعية إنما تبنى على الأفراد الكثيرة
المتعارفة بين الناس دون الفروض الشاذة النادرة التي لا تكاد توجد إلا فرضا، وأما
غير متساوي الأجزاء وهو القيمي كالثياب والحيوان والعبيد، فإنه لا بدفيه من
تقويم وتعديل، فإن حصل التساوي على وجه يقتضيه النظر من غير رد فإنه يقسم
كذلك، ولكنه في هذه الصورة يجري فيه الاجبار كما أشار إليه شيخنا في المسالك
في العبارة المتقدمة - بقوله " على الأقوى ".
وإن لم يحصل التساوي فلا بد أن يضم إليه بعض الدراهم أو العروض مما يقابل
به السهم الآخر، فيقسم قسمة تراض، والقسمة في هذه الصورة يعبر عنها بقسمة
الرد لا يدخلها الاجبار، فلا يجبر الممتنع، بل إنما تصح مع التراضي، لأنها
مشتملة على معاوضة وبمنزلة البيع جزء من المال بذلك المضاف إلى المال الأول،
فلا بد من الرضا حينئذ.
الرابعة - متى حصلت القسمة والتميز بين السهام سواء كانت القسمة اجبارية،
172

أو قسمة رد بحيث عدلت السهام على ما يقتضيه القسمة، فلا بد للتعيين بحيث يصير
كل سهم ملكا لمالك من أولئك الشركاء من القرعة، وبها يصير ملكا له، لا يجوز
التصرف فيه إلا بإذنه كساير أملاكه.
والظاهر كما صرح به المحقق الأردبيلي - أنه بعد خروج القرعة لا يحتاج
إلى رضاء الشريك مرة أخرى، زيادة على الرضاء بأصل القسمة إن كانت قسمة رد،
لأن القرعة قد أخرجت للتعيين، وقد تعين بها مال كل واحد منهما، وقيل إنه إن كانت
القسمة اجبارية، فإنه لا يحتاج إلى الرضا بعد القرعة، وإن كانت قسمة رد،
فإن كان القاسم منصوبا من الإمام فكذلك أيضا، (1) وإن كانت القسمة والقرعة إنما
حصلت من المتقاسمين توقفت على تراضيهما بعدها، لاشتمالها على المعاوضة،
فلا بد من لفظ يدل عليها، وأقله ما يدل على الرضا، ونقل ذلك عن الشيخ على
في شرح القواعد، وبه صرح في المسالك أيضا، وهو ظاهر العلامة أيضا، بل
الظاهر أنه المشهور.
ورده المحقق المتقدم ذكره، بأن الرضى الأول كاف، والقرعة والتعديل
بأنفسهما قد يكفيان، على أن منصوب الإمام ليس بوكيل للشريك حتى يقبل له،
فإنه منصوب للقسمة والقرعة فقط، على أن القسمة مطلقا معاوضة كما صرح به
الشهيد الثاني في شرح الشرايع، ثم قال: كأن هذا القائل نظر إلى ما ذكرناه من
أصل بقاء الملك على ملك مالكه، وبقائه على الاشتراك، وعدم خروج شئ عن
ملك أحدهم، والدخول في ملك آخر حتى يتحقق الدليل، ومع الرضا بعدها
أو القرعة من قاسم الإمام ناقل بالاجماع، والباقي غير ظاهر كونه ناقلا حتى
يتحقق، ويمكن أن يقال: القرعة مع الرضى الأول ناقل فتأمل.
واعلم أن الظاهر أن القرعة والرضا ثانيا إنما هو محتاج إليه للتملك، بحيث لا يجوز
لأحد العدول عنه، وإلا الظاهر أنه يكفي الرضا بأخذ كل واحد قسما بعد التعديل

(1) قال في الشرايع في كتاب القضاء والمنصوب من قبل الإمام بمعنى قسمته بنفس
القرعة ولا يشترط رضاهما بعدها وفي غيره يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة وفي
هذا اشكال من حيث إن القرعة وسيلة إلى تعيين الحق وقد قارنها الرضا. انتهى منه رحمه الله.
173

بالرضا، فإنه إذا رضي أن يأخذ عوض ماله من حصة الآخر من ماله، الظاهر أن
له ذلك، وهو مسلط، على ماله، فله أن يفعل ما يريد إلا الممنوع، ولا منع هنا،
لأن الظاهر أنه تجارة عن تراض أيضا، وأكل مال الغير بطيب نفس منه.
والظاهر أنه وإن لم يكن مملكا فلا كلام في جواز التصرف فيه تصرف الملاك،
مثل ما قيل في العطايا والهدايا والتحف، ويحتمل أن يكون تصرفا بعقد باطل،
فيكون حراما وهو بعيد جدا، وعمل المسلمين على غير ذلك، بل على الملك
فتأمل انتهى كلامه، وهو جيد وجيه.
وأنت خبير بأن أحدا من الأصحاب لم ينقل في هذا المقام خبرا ولا دليلا
على شئ من هذه الأحكام، بل غاية ما يستدلون به أمور اعتبارية، مع أن هنا
جملة من الأخبار يمكن الاستناد إليها في بعض هذه الأحكام.
والذي وقفت عليه مما يتعلق بما نحن فيه رواية غياث (1) " عن جعفر عن
أبيه عن آبائه عن علي (ع) في رجلين بينهما ممال منه بأيديهما، ومنه غائب عنهما
فاقتسما الذي بأيديهما، وأحال كل واحد منهما بنصيبه، فقبض أحدهما ولم
يقبض الآخر فقال: ما قبض أحدهما فهو بينهما، وما ذهب فهو بينهما ".
وبهذا المضمون رواية أبي حمزة الثمالي (2) عن أبي جعفر عليه السلام
ورواية محمد بن مسلم (3) عن " أحدهما عليهما السلام " وصحيحة معاوية بن عمار (4)
وصحيحة عبد الله بن سنان (5) ورواية سليمان بن خالد (6) والمتبادر من
هذه الروايات أن الاقتسام إنما وقع من الشركاء بمجرد تميز سهام كل واحد

(1) التهذيب ج 6 ص 212 ح 5 الفقيه ج 3 ص 55 ح 1 الوسائل ج 13
ص 159.
(2) الوسائل ج 13 باب عدم قسمة الدين المشترك قبل قبضه ص 179 و ص 180 ح 1 و 2.
(3) الوسائل ج 13 باب عدم قسمة الدين المشترك قبل قبضه ص 179 و ص 180 ح 1 و 2.
(4) الوسائل ج 13 باب عدم قسمة الدين المشترك قبل قبضه ص 179 و ص 180 ح 1 و 2.
(5) الوسائل ج 13 باب عدم قسمة الدين المشترك قبل قبضه ص 179 و ص 180 ح 1 و 2.
(6) التهذيب ج 6 ص 207 ح 8، الوسائل ج 13 ص 116 ح 1
174

من ذلك المال المشترك الموجود بأيديهم، مثليا كان ذلك المال أو قيميا بعد
تعديله كما تقدم، من غير توقف على قاسم من جهة الإمام ولا قرعة في البين
بأن رضي كل منهم بعد تساوي السهام بنقل حصته، مما في يد شريكه بحصة شريكه
مما في يده، وكذلك قسمة ما في الذمم مما لم يكن في أيديهما، إلا أنه (ع)
أبطل قسمة الغائب.
وبالجملة فإني لم أقف في الأخبار على ما ذكروه من القرعة، والقاسم
من جهة الإمام، بل ظاهرها كما ترى هو الصحة مع تراضيهما بما يقتسمانه،
وهو مؤيد لما تقدم نقله عن شيخنا الشهيد الثاني من أن القسمة مطلقا معاوضة،
وما ذكره المحقق المذكور من قوله، وإلا الظاهر أنه يكفي الرضا بأخذ كل
واحد قسما بعد التعديل، إلى آخره فإن هذا هو ظاهر هذه الأخبار، فإن قيل:
إن غاية ما يدل عليه هذه الأخبار أنهما اقتسما فيمكن حمله على القسمة التي
ذكرها الأصحاب، كما تقدم من حضور القاسم من جهة الإمام والقرعة، وحكم
المثلي والقيمي - قلنا: هذا فرع ثبوت هذه المذكورات في الأخبار، وإلا
فالمتبادر إنما هو ما قلناه من تمييز الحصص والسهام بعضها عن بعض من أولئك
الشركاء، لا من شخص آخر، وهو ظاهر الأخبار، حيث نسب الاقتسام إلى
الشريكين، والأصحاب قد ذكروا القسمة في هذا الكتاب، وفي كتاب القضاء،
وذكروا لها أحكاما عديدة لم نقف لها على أثر في الأخبار في كل من الموضعين
المذكورين، والقرعة قد وردت بها الأخبار في جملة من الموارد، ولم يذكر
فيها هذا الموضع الذي ذكروه هنا، وغاية ما يدل عليه عمومات بعض أخبارها
التوقف عليها في موضع النزاع، مثل قول الصادق (عليه السلام) فيما رواه الصدوق (1):
وما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله تعالى إلا خرج سهم المحق، وأما مع التراضي
فلا أثر في الأخبار لاعتبارها والتوقف عليها، وكأنه بسبب التراضي يكون من

(1) الفقيه ج 3 ص 52 ح 3، الوسائل ج 18 ص 188 ح 6
175

قبيل الصلح في هذه المعاوضة، كما ورد في صحيحة محمد بن مسلم (1) عن أحدهما (عليهما السلام) أنه قال: في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه، ولا يدري
كل واحد منهما كم له عند صاحبه فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك
ولي ما عندي، فقال: لا بأس بذلك إذا تراضيا، وطابت أنفسهما ".
نعم لو لم يحصل التراضي بعد تعديل القسمة أمكن القول بالقرعة، لهذا
الخبر ونحوه، وبالجملة فإن القسمة وما ذكر فيها من الأحكام غير موجود في
كلام متقدمي علمائنا الأعلام، ولا أخبار أهل الذكر، عليهم السلام.
والذي يغلب على الظن القاصر أن الشيخ ومن تبعه من الأصحاب قد تبعوا في هذه
المقامات العامة حيث أطالوا البحث عن ذلك في كتبهم بهذه الفروع التي ذكرها
الأصحاب اختلافا واتفاقا، ولا يخفى على الخائض في الفن والناظر في كتب المتقدمين
المقصورة على الأخبار، وأنه لم يقع التفريع في الأحكام، وكثرة الفروع في
المسألة الواحدة، سيما في هذا الباب إلا من الشيخ وتبعه من تأخر عنه، وكلها
من كتب العامة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك أيضا والله العالم.
الخامسة - قد صرح الأصحاب بأنه لا يصح قسمة الوقف بأن يأخذ كل واحد
من الشركاء فيه بعضا ويتصرف فيه على حدة وتفصيل هذا الاجمال أن يقال: إنه
متى كان الواقف واحدا أو متعددا والموقوف عليه متعددا كأن يقف زيد داره على
ذريته من الموجودين وما تناسل منهم وقفا مؤبدا مشتملا على شرائط الصحة
واللزوم، أو يكون نصف الدار لزيد، ونصفها لعمرو، فيقف كل منهما حصته على
تلك الذرية مثلا، فإنه في هذه الصورة لا يجوز للموقوف عليهم قسمة الوقف،
لأنه أولا على خلاف وضع الواقف والموقوف على ما وقفت عليه، كما ورد

(1) التهذيب ج 6 ص 206 ح 1، الكافي ج 5 ص / ذ * ح 2، الوسائل ج 13 ص 165 ح 1.
176

به النص. (1)
وثانيا أن الوقف ليس ملكا لأولئك الموجودين الآن، لمشاركة البطون
الآخر لهم في ذلك.
وثالثا إن الحق يتغير بزيادة البطون ونقصانها، فربما استحق بعض بطون
المتقاسمين أكثر مما ظهر بالقسمة، لمورثهم وبالعكس، وأما لو تعدد الواقف
والموقوف عليه بأن كانت الدار مشتركة بين زيد وعمرو أنصافا، فوقف زيد نصفه
على ذريته ووقف عمرو نصفه على ذريته، فإنه يجوز للموقوف عليهم من الطرفين
قسمة هذا الوقف، بأن يميزوا أحد الوقفين عن الآخر، ومتى كان جزء من المال
وقفا، وجزء منه ملكا، كبيت مثلا نصفه وقف، ونصفه ملك، فإنه يجوز قسمته،
وتميز الملك من الوقف، ويكون ناظر الوقف بمنزلة الشريك يتولى المقاسمة
مع المالك.
قال في المسالك: هذا إذا لم تشتمل على رد، أو اشتملت وكان الرد من
الموقوف عليه، لأنه زيادة في الوقف، فلو انعكس لم يصح، لأنه كبيع جزء من
الوقف، ثم على تقدير الرد من الموقوف عليه، هل يصير جميع حصته وقفا؟
أم يكون ما قابل الرد من الحصة ملكا له، لأنه معاوض عليها، احتمالان،
والثاني أوجه.

(1) أقول: وتوضيحه أنه إذا وقف على ذريته على السوية ما تناسلوا بطنا بعد
بطن فاتفق أن البطن الأول كان اثنين فإنهم يقتسمون الحاصل أنصافا، ولو كان البطن الثاني
ثلاثة، فإنهم يقتسمونه أثلاثا وهكذا، فلو أن أصحاب البطن الأول اقتسموا الوقف أنصافا
ثم اتفق أن ورثة أحدهما كان اثنين وورثة الآخر واحدا فإن هذين الاثنين يستحقان ثلثا
الوقف بالنظر إلى وقف الواقف، وإن كان مورثهم إنما يستحق النصف وذلك الواحد
بالنظر إلى ما ذكرنا إنما يستحق الثلث وإن كان مورثه يستحق النصف وعلى هذه الصورة
فقس. منه رحمه الله.
177

نعم لو كان في مقابلة الرد وصف محض كالجودة كان الجميع وقفا، لعدم قبوله
الانفصال، ولا فرق في جواز قسمة الوقف من الطلق بين كون الجميع لواحد،
أو مختلف. انتهى.
السادسة - قد صرح غير واحد منهم بأنه يستحب للإمام (عليه السلام) نصب
قاسم ويشترط عدالته ومعرفته بالحساب، وقيل: بل ينبغي ذلك للحاكم مطلقا،
وقال في الدروس: يستحب للقاضي نصب قاسم كامل مؤمن عاقل عارف بالحساب
ولو كان عبدا، ولا يراعى فيمن تراض به الخصمان ذلك. انتهى، وعلله بعضهم
باحتياج الناس إليه، إذ قد يحصل الرضا في التعديل بقول بعضهم بعضا ولا يعرفون
ذلك خصوصا في قسمة الرد ودليل اشتراط عدالته الوثوق بقوله، وأما معرفته
للحساب، فلا بد منها بمقدار ما يحتاج إليه في القسمة، وأنه لا يكفي الواحد في
قسمة الرد إلا مع الرضا، لأنه يحتاج فيها إلى التعديل في القسمة حتى يتساوى
الأقسام، بأن يقوم تلك العروض المراد قسمتها، وهل المراد بقسمة الرد هي ما
اشتملت على رد من أحد الطرفين دراهم أو عروضا في مقابلة الزيادة من الطرف
الآخر أو ما هو أعم من ذلك ومن التعديل والتسوية بين الأقسام! وإن لم
يحتج إلى رد.
وبالجملة المراد بقسمة الرد التعديل، لا الرد الحقيقي، قولان. والأول
منقول عن الدروس، وبالثاني صرح المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه).
أقول: ويؤيد الأول قولهم أنه يقسم ما اشتمل على الرد قسمة تراض،
وكيف كان فالاحتياج إلى العدلين، وعدم الاكتفاء بالواحد لأن القسمة يتوقف
على التقويم، فلا بد من مقومين عدلين، ليكونا حجة شرعية، ولأنه لا يحصل الوثوق
بحيث يلزم إلا بقولهما، هذا إذا لم يتراضيا بينهما بالقسمة بأنفسهما أو بشخص
يتفقان عليه، عدل أو غير عدل، لأن الرضا سيد الأحكام كما قيل.
قالوا: وأجرة القسام من بيت المال، لأنه موضوع لمصالح العامة، ولو لم
178

يكن فيه شئ أو لم يكن ثمة بيت مال فمن مال الشركاء، لأنه لمصالحهم فهو كالكيال
والوزان لهما، وينبغي أن يكون ذلك بالحصص بينهم، بأن يقسم أجرة المثل على
الحصص، فيعطى كل بنسبة ماله.
أقول: لا يخفى أنه لا وجود لهذه الأحكام في الأخبار كما أشرنا إليه آنفا،
وإن كان بعضها يمكن استنباطه، وعمومات الأخبار في غير هذا المقام يأتي إن شاء الله
في كتاب القضاء، وفق الله تعالى للوصول إليه.
الفصل الثالث في لواحق هذا الباب:
وفيه أيضا مسائل: الأولى - المشهور بين الأصحاب أنه إذا باع الشريكان
المتاع صفقة بثمن معلوم ثم أستوفي أحدهما من المشتري شيئا من الثمن، فإنه
يشاركه فيه الآخر، واحترزوا بقولهم صفقة عما إذا باع كل منهما نصيبه بعقد على
حدة، فإنهما لا يشتركان فيما يقتضيه أحدهما اجماعا.
والأصحاب فرضوا هذا الحكم في بيع الشريكين المتاع صفقة، لمناسبة
باب الشركة، وإلا فهو يجري أيضا فيما لو كان سبب الشركة ميراثا ونحوه، ولم
ينقل الخلاف في هذه المسألة إلا عن ابن إدريس، فإنه منع من الشركة فيما
يقتضيه أحدهما لنفسه من ذلك المال المشترك، وحكم به لقابضه.
قال: وإذا كان بينهما شئ فباعاه بثمن معلوم، كان لكل منها أن يطالب المشتري
بحقه، فإذا أخذ حقه شاركه فيه صاحبه على ما قدمناه، لأن المال الذي في ذمة
المشتري غير متميز، فكل جزء يحصل من جهته، فهو شركة بعد بينهما على ما
ذكره شيخنا في نهايته، " والذي يقتضيه أصول مذهبنا أن كل واحد من الشريكين
يستحق على المدين قدرا مخصوصا وحقا غير حق شريكه، وله هبة الغريم، وابراءه
منه، فمتى أبرأه أحدهما من حقه برأ منه فقط، وبقي حق الآخر الذي لم يبرءه
منه فقط بلا خلاف، فإذا استوفاه وتقاضاه منه لم يشاركه شريكه الذي وهب، أو
179

أبرأ أو صالح منه على شئ بلا خلاف.
فإن كان شريكه بعد في المال الذي في ذمة الغريم، لكان في هذه الصور كلها يشارك
من لم يهب ولم يبرء فيما، يستوفيه منه ويقبضه، ثم إن عين المال الذي كان شركة
بينهما ذهبت ولم يستحقا في ذمة الغريم الذي هو المدين عينا لهما معينة، بل
دينا في ذمته لكل واحد منهما مطالبة نصيبه، وابراء ذمته وهبته، وإذا أخذه
وتقاضاه فما أخذ عينا من أعيان الشركة حتى يقاسمه شريكه فيها " ولم يذهب إلى
ذلك سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته، ومن قلده وتابعه، بل شيخنا المفيد محمد بن
محمد بن النعمان لم يذكر ذلك في كتاب له ولا تصنيف، وكذلك السيد المرتضى،
ولا تعرضا للمسألة، ولا وصفها أحد من أصحابنا المتقدمين في تصنيف له جملة،
ولا ذكرها أحد من القميين، وإنما ذكر ذلك شيخنا في نهايته من طريق أخبار
الآحاد أورد ثلاثة أخبار أحدها مرسل، وعند من يعمل بأخبار الآحاد لا يلتفت إليه،
ولو سلم الخبران الآخران تسليم جدل، لكان لهما وجه صحيح يستمر على أصول
المذهب والاعتبار، وهو أن المال الذي هو الدين كان على رجلين، فأخذ أحد الشريكين
وتقاضا جميع ما على أحد الرجلين فالواجب عليه هنا أن يقاسم شريكه على نصف
ما أخذه منه، لأنه أخذ ما يستحقه عليه وما يستحقه شريكه أيضا عليه، لأن
جميع ما على أحد المدينين لا يستحقه أحد الشريكين بانفراده، دون شريكه الآخر،
فهذا وجه صحيح، فيحمل الخبران على ذلك إذا أحسنا الظن براويهما، فليتأمل
ذلك، وينظر بعين الفكر الصافي ففيه غموض. انتهى.
وملخص استدلاله يرجع إلى دليلين، أحدهما أن لكل واحد من الشريكين
أن يبرء الغريم من حقه، ويهبه له ويصالح على شئ منه دون الآخر، ومتى
أبرأه برأ من حقه، وإن بقي حق الآخر، وكذا إذا وهب أو صالح، فكما لا يشارك
من وهب أو صالح لشريك الآخر إذا استوفى حقه، فكذلك لا يشاركه هو لو
استوفى حقه.
وثانيهما أن متعلق الشركة بينهما كان هو العين وقد ذهبت، ولم يبق عوضها
180

إلا دين في ذمته، فإذا أخذ أحدهما حقه منه لم يكن قد أخذ عينا من أعيان الشركة،
بل من أمر كلي في ذمته لا يتعين إلا بقبض المالك أو وكيله، وهنا ليس كذلك،
لأنه إنما قبض لنفسه.
أقول: فيه أولا أن ما ذكره من الدليل الأول ظاهر البطلان، إذ لا ملازمة
بين الأمرين، بل الفرق بين الحالين ظاهر، فإنه في صورة الابراء أو الهبة أو الصلح
قد برئت ذمة الغريم من مال الشريك الذي أبرأه، أو وهبه أو صالحه، ولم يبق في
ذمته إلا حصة الشريك الآخر، فكيف يشاركه فيما استوفاه، وهو لم يستحق شيئا
بالكلية بل صار كالأجنبي، بخلاف ما لو لم يقع شئ من هذه الثلاثة، وبقي المال
المشترك في ذمة الغريم، كما هو محل البحث، فإذا دفع شيئا والحال هذه فإنما
دفع عما في ذمته من المال المشترك، والمدفوع إنما هو من المال المشترك، فلا
يختص به القابض.
وثانيا أن ما ذكره في الدليل الثاني فهو وجه عقلي لا يسمع في مقابلة
النصوص الصريحة الصحيحة، فإنها اجتهاد بحث في مقابلة النصوص، وهو على
قاعدته المنهدمة وطريقته المنخرمة من عدم العمل بأخبار الآحاد جيد
أما عند من لا يقول بقوله، بل يعمل بها فلا وجه لهذا التعليل في مقابلتها، وأما ما يفهم
من المسالك من الميل إلى ما ذهب إليه ابن إدريس، تمسكا بما ذكره في الدليل
الثاني حيث أيده وشيده بوجوه أطال بذكرها، وطعن في أخبار المسألة حيث قال:
إنها قاصرة عن الاستدلال بها لارسال بعضها، وضعف الآخر وعدم صراحة المطلوب
في بعضها،
ففيه أن الكلام معه في هذا المقام يرجع إلى الاستدلال بالأخبار المذكورة،
وبيان صحتها وصراحتها في المدعى، فالواجب ذكرها هنا وبيان ما يدل عليه،
وإن كنا قد قدمناها في كتاب الدين من المجلد المتقدم.
فنقول من الأخبار المذكورة، ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن
181

سليمان بن خالد (1) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين كان لهما
مال منه بأيديهما ومنه متفرق عنهما، فاقتسما بالسوية ما كان في أيديهما وما كان
غائبا عنهما، فهلك نصيب أحدهما مما كان عنه غائبا، واستوفى الآخر أيرد على
صاحبه؟ قال: نعم ما يذهب ماله ".
وما رواه الشيخ في الموثق عن عبد الله بن سنان (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" قال: سألته عن رجلين بينهما مال، منه دين ومنه عين فاقتسما العين والدين،
فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه، وخرج الذي للآخر أيرد على صاحبه؟
قال: نعم ما يذهب بماله ".
وعن أبي حمزة (3) " قال: سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجلين بينهما
مال، منه بأيديهما، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما، وأحال كل واحد
منهما بنصيبه من الغائب، فاقتضى أحدهما ولم يقتض الآخر قال: ما اقتضى أحدهما
فهو بينهما، ما يذهب بماله؟ ".
ومثل ذلك رواية غياث (4) عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام)،
وموثقة محمد بن مسلم (5) عن أحدهما، وموثقة معاوية بن عمار (6) عن أبي
عبد الله عليه السلام، ولا يخفى على المتأمل المنصف أنه لا مجال للطعن في هذه الأخبار، وبعد ضم بعضها إلى بعض، فإنهم في كثير من الأحكام يعتمدون على خبر
واحد ضعيف باصطلاحهم مع جبره بالشهرة فكيف بهذه الأخبار على تعددها
وشهرة القبول بها، إذ لا مخالف في ذلك سوى ابن إدريس، ووجود الصحيح

(1) الفقيه ج 3 ص 23 ح 9، التهذيب ج 6 ص 207 ح 8، الوسائل ج 13 ص 116 ب 1.
(2) التهذيب ج 7 ص 186 ح 7. و ص 185 ح 4.
(3) التهذيب ج 7 ص 186 ح 7. و ص 185 ح 4.
(4) الفقيه ج 3 ص 55 ح 1، التهذيب ج 6 ص 212 ح 5.
(5) التهذيب ج 7 ص 186 ح 5 و 6، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 179 و 180
(6) التهذيب ج 7 ص 186 ح 5 و 6، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 179 و 180
182

باصطلاحهم فيها وبه يظهر أن المناقشة فيها من حيث السند واهية لا يلتفت إليها
هذا من تسليم العمل بهذا الاصطلاح المحدث، وإلا فالأمر أهون من ذلك، كما تقدم
تحقيقه في جلد كتاب الطهارة من الكتاب.
وأما من حيث الدلالة فهي دالة بعمومها على جريان الحكم المذكور في
الدين مطلقا، اتحد المديون أو تعدد، وتخصيصها كما ادعاه ابن إدريس فيما قدمنا
نقله عنه بما إذا كان الدين على رجلين إلى آخر ما ذكره يحتاج إلى مخصص من
الأخبار فليس، وبه يظهر ما في المناقشة في الدلالة بأنها غير صريحة في المطلوب،
كما ذكره شيخنا المتقدم ذكره، ولو تم ما ذكره لبطل الاستدلال بالعمومات،
وهو خلاف ما عليه جميع العلماء الأعلام، وأرباب النقض والابرام، وغاية ما تعلق
به في دليله الثاني أن متعلق الشركة إنما هو العين وقد فاتت فإذا أخذ أحد حقه
لم يكن قد أخذ عينا من الأعيان المشتركة، بل من أمر كلي إلى آخر ما ذكره.
وفيه أنه ما المانع من جعل الثمن مشتركا كالعين، إذا اقتضته الأدلة الشرعية،
بحيث يترتب عليه ما يترتب عليها، وأي وجه قبح في ذلك، فكل جزء يحصل
من ذلك، فهو بينهما كما أن الأمر في العين كذلك.
وبالجملة فإن الخروج عن ظواهر الأخبار بمجرد هذا الاعتبار مقابلة للنص
بالاجتهاد، وفيه خروج عن جادة السداد. وأما قوله إن هذه المسألة لم يتعرض
لها أحد من المتقدمين، ففيه أولا أن عدم التعرض لها والغفلة عنها لا يوجب عدم
القول بها، مع قيام الدليل عليها، وكم قد غفل المتقدمون عن جملة من الأحكام،
ونبه عليه المتأخرون، بل المتأخرون ونبه عليها متأخرو المتأخرين.
وثانيا أن جل المتقدمين لم يصنفوا في فروع الأحكام ويبسطوا القول فيها،
والتفريع والبحث عنها، وإنما كانوا يذكرون الأخبار المتعلقة بالأحكام، وهذه
الطريقة كما أشرنا إليه آنفا، إنما كان مبدؤها من الشيخ، على أن الصدوق قد نقل
في الفقيه صحيحة سليمان بن خالد المذكورة، وهو يؤذن بقوله بمضمونها، بناء
183

على قاعدته المذكورة في كتابه، والأصحاب إنما ينسبون إليه الأقوال باعتبار
ذلك، فهو حينئذ من جملة القائلين بالقول المشهور.
وابن الجنيد قد صرح أيضا بذلك، وهو من المتقدمين على الشيخ فإنه قال:
لو اقتسم الشريكان وكان بعض المال في أيديهما وبعضه غائبا عنهما فاقتسما الذي
بأيديهما، واختار كل واحد منهما بنصيبه من الغائب فقبض أحدهما، ولم يقبض
الآخر فما قبض من المال بينهما. انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن في المقام اشكالا وذلك أن مقتضى كلام الأصحاب
في هذه المسألة أن الدين لا يقبل القسمة، وأن كل ما خرج منه فهو مشترك سواء
كان في ذمة واحدة أو ذمم متعددة، وقبضة الحكم بالاشتراك براءة الغريم من
حصة الشريك الآخر الذي لم يقبض من ذلك المدفوع لاستحالة بقاء الدين في الذمة
مع صحة قبض عوضه، وأنه لو تلف في يد القابض يكون التالف بينهما كلا أو
بعضا، لأن الحق الكلي المشترك الذي كان في الذمة تعين بالقبض في المأخوذ،
فهو لهما فلا يجوز لأحدهما التصرف فيه، إلا بإذن الآخر.
وهذا هو ظاهر الأخبار المتقدمة، والأصحاب لا يقولون بذلك في الموضعين
المذكورين، فإنهم صرحوا بالنسبة إلى الأول بأنه مخير في الرجوع على الشريك
أو الغريم، وبالنسبة إلى الثاني أن التالف يكون من القابض خاصة لا يرجع على
الشريك بشئ منه.
قال في التذكرة: لا يصح قسمة ما في الذمم إلى أن قال: فلو تقاسما ثم توى
بعض المال رجع من توى ماله على من لم يتو، وقال في موضع آخر: لو كان
لرجلين دين بسبب واحد، إما عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره فقبض أحدهما
منه شيئا فللآخر مشاركته فيه، وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل، لما تقدم
في المسألة السابقة في رواية معاوية بن عمار، ولأن تمليك القابض ما قبضه يقتضي
قسمة الدين في الذمة من غير رضاء الشريك، وهو باطل، فوجب أن يكون المأخوذ
184

لهما، والباقي بينهما، ولغير القابض الرجوع على القابض بنصفه، سواء كان باقيا
في يده أو أخرجه عنها، وله أن يرجع على الغريم، لأن الحق ثابت في ذمته لهما
على وجه سواء، فليس له تسليم حق أحدهما إلى الآخر، فإن أخذ من الغريم
لم يرجع على الشريك بشئ، لأن حقه ثابت في أحد المحلين، فإذا اختار أحدهما
سقط حقه من الآخر، وليس للقابض منعه من الغريم، بأن يقول: إنما أعطيك
نصف ما قبضت، بل الخيرة له من أيهما شاء قبض، وإن هلك المقبوض في يد القابض
تعين حقه فيه، ولم يضمنه الشريك، لأنه قدر حقه فيما تعدى بالقبض، وإنما كان
لشريكه مشاركته، لثبوته في الأصل مشتركا، ولو أبرأ أحد الشريكين الغريم من
حقه برأ، لأنه بمنزلة قبضه، وليس للشريك الرجوع عليه بشئ، لأنه لم يقبض
شيئا من حق الشريك انتهى.
وهو ظاهر فيما قدمنا نقله عنهم مع ورود ما ذكرناه عليه.
ويزيده بيانا أنه لا يخلو الأمر في هذا المقبوض، أما أن يتعين كونه من
الدين المشترك الذي في الذمة، وحينئذ فيترتب عليه ما يترتب على المشترك، من أنه
لو تلف كان من الجميع، وعدم الرجوع على الغريم بحصته من ذلك لأن الحق المشترك قد
تعين، وانحصر في المأخوذ، وأنه لا يجوز للشريك التصرف فيه إلا بإذن الآخر.
وأما أن لا يتعين كونه منه، فإنه يكون باقيا على ملك الغريم، ولا يتعين
حق القابض فيه، فضلا عن الشريك الآخر وهم لا يقولون بذلك، أو يتعين كون الكل
حقه، كما يدل عليه قولهم أنه لو تلف في يده تعين حقه فيه، ولم يضمنه الشريك،
فلا وجه لرجوع الشريك عليه، وكونه شريكا له فيه، ولا معنى لقولهم: " أن الدين
غير قابل للقسمة ".
وبالجملة: فإن كلامه هنا لا يخلو من تدافع وتناقض، وتوضيحه زيادة على ما عرفت
أن قوله: " يقتضي قسمة الدين في الذمة من غير رضى الشريك وهو باطل " يعطي أنه مع
الرضاء صحيح، وهم لا يقولون بذلك، وقوله: " فوجب أن يكون المأخوذ لهما،
185

والباقي بينهما " صريح في الشركة، وكذا قوله: " رجع من توى ماله على من لم
يتو " وحينئذ فيجب أن يترتب عليه ما ذكرناه من عدم الرجوع على الغريم وكان
التالف منهما، وقوله: " فليس له تسليم حق أحدهما إلى الآخر " ظاهر في عدم
تعين حق للشريك الآخر في ذلك المقبوض، وكذا قوله: " تعدى بالقبض " مع أنه
لا خلاف في التشريك.
ويمكن الجواب عن الاشكال المذكور وما يترتب عليه من هذه الأمور، بأن
يقال: إن الحكم بأن ما خرج فهو مشترك بينهما - يجري فيه ما يجري في
المشتركات - ليس على اطلاقه، اللازم منه تعين حق الشريك في ذلك المقبوض
من حيث الشركة.
وكذا قولهم: " إن الدين المشترك لا يقبل القسمة " ليس على اطلاقه، بل
المراد أنه إذا طالب أحد الشريكين بحقه فلا شبهة في استحقاقه ذلك، ومن ثم
أجمعوا على أن له المطالبة منفردا، فإذا دفع له المديون شيئا من المال المشترك
على أن يكون حقه وحصته، فللشريك الآخر إجازة ذلك والرضاء به، فيكون
شريكا له فيه، وأن لا يرضى به ولا يجيزه، فيكون حقه باقيا في ذمة المديون، ومن
هنا قالوا: بالتخيير بين الرجوع على الشريك، أو الرجوع على المديون، وأنه مع
التلف يكون على القابض خاصة، دون الشريك، يعني من حيث عدم الإجازة والرضاء
بذلك، وأن حقه رجع إلى ذمة المديون، وأما قولهم: " أن الدين المشترك لا يقبل
القسمة، " فالمراد أنه لا يقبل القسمة مع استلزامها فوات حق أحد الشريكين، وإلا
فالقسمة فيه جائزة مفيدة للملك في الجملة، إلا أن لزومها متوقف على حصول حصة
كل من الشريكين بيده أو يد وكيله، فلو تراضيا بالقسمة صحت بشرط وصول كل
حق إلى مستحقه أو بمعنى أن ما حصل فلهما وما توى فعليهما.
ألا ترى أن الأخبار المتقدمة كلها متفقة في أنه بعد القسمة إن توى مال
أحدهما وخرج مال الآخر رجع من لم يقبض على من قبض وأن رجوع من لم يقبض
186

على من قبض، إنما هو من حيث ذلك، ولا دلالة فيها على المنع من القسمة، مع
وصول كل حق إلى مستحقه، بل ظاهرها أنه مع ذلك فالقسمة صحيحة، فإن قوله
(عليه السلام) من جملتها " ما يذهب بماله " ظاهر، في أنه لو لم يذهب شئ
من المال، كانت صحيحة، وحينئذ فلو فرضنا وقوع القسمة بغير رضاها، بأن أخذ
أحد الشريكين حصة من الغريم، على أنها حصته فقط، فليس للشريك الآخر
مزاحمته والأخذ منه لأن حقه في ذمة الغريم، وقد أعطاه حقه، فيكون المال له
إلا أن لزوم ذلك وصيرورته بحيث لا يزاحمه الشريك الآخر موقوف على وصول
حق الشريك إليه وعدم تلفه، وهذا الوجه أنسب بالنظر إلى الأخبار كما عرفت، والأول
أنسب بالنسبة إلى كلام الأصحاب والله العالم.
المسألة الثانية - قال في المختلف: إذا شارك نفسان في سقاء، على أن يكون من
أحدهما جمل، ومن الآخر راوية، واستقى فيها على أن ما يرتفع يكون بينهم لم
يصح هذه الشركة، لأن من شرطها اختلاط الأموال، وهذا لم يختلط، ولا يمكن
أن يكون إجارة، لأن الأجرة فيها غير معلومة، فالحاصل للسقاء، ويرجع الآخران
عليه بأجرة المثل في مالهما من جمل وراوية.
قاله ابن إدريس والشيخ أيضا، قال ذلك في المبسوط، قال فيه: وقيل:
يقتسمون بينهم أثلاثا، ويكون لكل واحد منهما ثلثها، ويكون لكل واحد منهم
على صاحبه أجرة ماله على كل واحد منهما ثلثها، ويسقط الثلث، لأن ثلث النفع
حصل له، قال الشيخ: والوجهان قريبان، ويكون الأول على وجه الصلح، والثاني
من الحكم، وما قربه الشيخ قريب انتهى.
أقول: لا ريب في بطلان الشركة المذكورة لأنها مركبة من شركة الأبدان
وشركة الأموال مع عدم المزج، وكل منها باطل كما تقدم، ومقتضى القواعد
في مثل هذا هو ما ذكر أولا من أن الحاصل للسقاء ويرجع عليه الآخران بأجرة المثل.
187

وأما الثاني فلا وجه له، إلا، أن يرجع إلى أجرة المثل، فقول الشيخ
أن الأول على وجه الصلح، والثاني من الحكم لا أعرف له وجها وجيها،
وتوضيح الثاني من الوجهين المذكورين أنه يقسم الحاصل بينهم أثلاثا، فإن كانت
أجرة مثلهم متساوية فلا بحث، وإن كانت متفاضلة رجع كل واحد منهم بثلث أجرة
مثله على الآخرين، مضافا إلى الثلث الذي حصل له، فلو فرض أن الحاصل كان ستة
دراهم، فإنهم يقتسمونها أثلاثا لكل واحد درهمان، وكان أجرة المثل للسقاء
ثلاثة دراهم، ولصاحب الرواية درهمان، ولصاحب الدابة درهم، فإنه يرجع السقاء
بثلث أجرته، وهو درهم على صاحب الدابة، وبثلثهما وهو درهم على صاحب
الراوية فيحصل عنده أربعة دراهم، ويرجع صاحب الراوية على كل من السقاء وصاحب
الدابة بثلثي درهم، فصار معه درهمان وثلث درهم، ويرجع صاحب الدابة على
كل من الآخرين بثلث درهم فصار معه درهم، وحينئذ فيصير لكل واحد أجرة
مثله، وهي ثلاثة للسقاء واثنان لصاحب الراوية، وواحد لصاحب الدابة.
قال في المسالك بعد ذكر الوجه الأول. وهذا يتم مع كون الماء ملكا للسقاء
أو مباحا ونوى الملك لنفسه أو لم ينو شيئا، أما لو نواه لهم جميعا كان كالوكيل،
والأقوى أنهم يشتركون فيه، حينئذ ويكون أجرته وأجرة الراوية والدابة
عليهم أثلاثا فيسقط عن كل واحد ثلث الأجرة المنوية إليه، ويرجع على كل
واحد بثلث انتهى.
وأنت خبير بأن ظاهر عبارة الشيخ المتقدمة هو كون محل الوجهين أمرا
واحدا، وعليه جمد العلامة في نقله له، وظاهر كلامه هنا أن كلا من الوجهين
مبني على أمر غير ما بنى عليه الآخر، على أنه سيأتي في المسألة الآتية ما يدل
188

على أن المراد مجرد هذه النية التي فرع عليها هذا الوجه لا يؤثر في الاشتراك،
كما هو صريح عبارة المحقق الآتية في تلك المسألة، وكذا صريح عبارة الشيخ
الآتية، وظاهره الجمود على عبارة المحقق الآتية، وإنما نازع في الوكيل خاصة،
ودعواه هنا أنه كالوكيل يجري في عبارة المحقق الآتية، مع أنه لم يقل بذلك.
والله العالم.
الثالثة: لو هاش صيدا واحتطب أوحش بنية أنه له ولغيره لم تؤثر تلك
النية، وكان بأجمعه له خاصة، صرح به المحقق في الشرايع، وبنحو ذلك صرح
الشيخ في المبسوط، فقال: إذا أذن الرجل أن يصطاد له صيدا فاصطاد الصيد بنية
أن يكون للأمر دونه، فلمن يكون هذا الصيد؟ قيل فيه: إن ذلك بمنزلة الماء
المباح إذ استسقاه السقاء بنية أن يكون بينهم، وأن الثمن يكون له دون شريكه،
فههنا يكون الصيد للصياد دون الأمر، لأنه تفرد بالحيازة، وقيل: أنه يكون للأمر
لأنه اصطاده بنيته، فاعتبرت النية والأول أصح انتهى.
ومقتضى القول الثاني فيما نقله هنا أن يكون كذلك في المسألة التي نقلناها
عن المحقق، مع أنه لم ينقل ثمة خلافا، وبناء ما حكموا به على أن المملك هو
الحيازة، والنية لا أثر لها هنا وهو مشكل، وقد نقل في المختلف عن الشيخ في
باب احياء الموات من الكتاب المذكور أنه إذا نزل قوم موضعا من الموات
فحفروا فيه بئرا ليشربوا منها، ويسقوا بها غنمهم ومواشيهم منها مدة مقامهم،
ولم يقصدوا التملك بالاحياء، فإنهم لا يملكونها لأن المحيى إنما يملك بالاحياء
إذا قصد تملكه به، فإنه اعتبر هنا النية والقصد إلى الملك، وإلا لم يملك، وهو
ظاهر في عدم الاكتفاء بمجرد الاحياء والحيازة، وقال في باب الشركة من
المبسوط أيضا: يجوز أن يستأجره ليحتطب له أو يحش له مدة معلومة.
أقول: وهذا الكلام أيضا ظاهر في أنه لا بد في صحة الحيازة، من
189

نية التملك وإلا لما صح الاستيجار لأن المستأجر يملكه بمجرد الحيازة فلا يتصور
ملك المستأجر له، وأما إذا قلنا بتوقفه على النية، فإنه يصح الاستيجار، وكذا
يصح التوكيل في ذلك، لأن الملك يكون تابعا للنية، فإذا نوى ملك غيره مع
كونه نائبا عنه صح.
قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال عن الشيخ: وعندي في ذلك تردد.
وقال في المسالك - بعد نقل عبارة الشرايع المتقدمة الدالة على جزمه
بعدم تأثير النية وأن الجميع لمن حازه خاصة: ما صورته هذا الجزم إنما يعم لو لم
يكن وكيلا للغير في ذلك، وإلا أتى الاشكال الذي ذكروه من توقف ملك المباح
على النية، فإنا لو قلنا بتوقفه وكان وكيلا ثبت الملك لهما، ولو قلنا بعدم توقفه
ففي ثبوت الملك للمحيز نظر، من حصول علة الملك وهي الحيازة، فيثبت
المعلول، ومن وجود المانع للملك وهو نية عدمه، بل اثباته للغير انتهى.
وأنت خبير بأن مقتضى ما قدمنا نقله عنه في سابق هذه المسألة من أن السقاء
لو نوى كون الماء المباح لهم جميعا كان كالوكيل، ينافي ما جمد عليه من جزم
المصنف هنا بأنه بأجمعه للمحيز خاصة، وأن النية لم تؤثر شيئا حيث أنه لم
يناقش ألا فيما لو كان وكيلا بالفعل.
وبالجملة فإن كلامه في هذين المقامين لا يخلو من نوع مدافعة، وكيف
كان فإن الكلام في هذا المقام مبني على الكلام في حيازة المباح، وأنه هل يكفي
مجرد الحيازة، أو يحتاج إلى النية، أو تكفي الحيازة مع عدم نية عدم الملك فلو
نوى عدمه أثرت ولم يتم الملك؟ أقوال ثلاثة.
وظاهر جملة من المحققين كالمحقق في الشرايع والعلامة في جملة من
كتبه ومنها ما تقدم في عبارة المختلف ونقل عن الشيخ أيضا التوقف في ذلك،
وهو في محله، لعدم الدليل الواضح على شئ من هذه الأقوال. ولا يخفى أن هذه
190

المسألة لا تعلق لها بكتاب الشركة إلا من حيث هذين الفرعين المذكورين،
وإلا فمحلها إنما هو كتاب احياء الموات وسنحقق البحث فيها بعد الوصول إليه
انشاء الله تعالى. والله العالم.
الرابعة: قال المحقق: لو باع أحد الشريكين سلعة بينهما وهو وكيل في
القبض، وادعى المشتري تسليم الثمن إلى البايع، وصدقه الشريك برأ المشتري
من حقه، وقبلت شهادته على القابض في النصف الآخر، وهو حصة البايع لارتفاع
التهمة عنه في ذلك القدر، ولو ادعى تسليمه إلى الشريك فصدقه البايع، لم يبرء
المشتري من شئ من الثمن، لأن حصة البايع لم تسلم إليه ولا إلى وكيله،
والشريك منكر، فالقول قوله مع يمينه، وقيل: يقبل شهادة البايع، والمنع
في المسئلتين أشبه. انتهى.
أقول: تحقيق الكلام في هذا المقام يقع في موضعين: أحدهما - ما لو كانت
الدعوى بين البايع من الشريكين والمشتري، وهي تنجر بالآخرة أيضا إلى
الدعوى بين الشريكين كما سيظهر لك انشاء الله تعالى، فههنا صورتان: الأولى -
وقوع الدعوى بين البايع من الشريكين والمشتري، والمفروض فيها أن البايع
من الشريكين وكيل من جهة الشريك الآخر في قبض الثمن، كما أنه وكيل
في البيع، ففي هذه الحالة ادعى المشتري أنه دفع الثمن إلى البايع، وصدقه
الشريك الآخر، وأنكر البايع ذلك، فإن أقام المشتري البينة برئت ذمته من الحقين،
أما من حق البايع فبالبينة وأما من حق الشريك الآخر فبها وبتصديقه للبايع في دعواه.
ولو كان عدلا قبلت شهادته على شريكه، لأن الشهادة على الشريك مقبولة،
لا مانع منها، لعدم التهمة، لكنها إنما تقبل في حصة الشريك البايع لا في الجميع
المتضمن لحصة نفسه، لتطرق التهمة فيها (1) كما يشير إليه قوله: " وقبلت شهادته

(1) ووجهه على ما ذكروه أنه لو ثبت ذلك بشهادته لطالب الشهود عليه بحقه، وذلك
جر نفع ظاهر، فلا تقبل حينئذ للتهمة. منه، رحمه الله.
191

على القابض في النصف الآخر " وهو حصة البايع، لارتفاع التهمة عنه في ذلك القدر.
وإن لم يقم المشتري بينة بأداء الثمن كان القول قول البايع بيمينه، لأنه
منكر حينئذ فإن حلف استحق أخذ نصيبه خاصة، لاعتراف شريكه ببرائة
ذمة المشتري، حيث أنه وافقه على دفع الثمن، وأنه صار برئ الذمة، وأن
شريكه قد قبض ذلك أصالة لنفسه، ووكالة عنه، والوكالة قد بطلت بفعل متعلق
الوكالة وهو القبض، فليس له مشاركة الشريك فيما قبضه باليمين وإن كان المال
في الأصل مشتركا، لاعترافه بأن ما قبضه شريكه ظلم، وأن حقه إنما هو في ذمة
شريكه البايع بالقبض الأول، وإن نكل البايع عن اليمين ردت على المشتري،
فإن حلف أنه أقبض الثمن جميعه انقطعت عنه المطالبة، وإن نكل (1) ألزم بنصيب
البايع خاصة.
قالوا: وحيث يثبت الأداء إلى البايع بالبينة، فللشريك المطالبة بحصته،
دون ما إذا ثبت ذلك بشاهد ويمين أو باليمين المردودة على المشتري، أو بنكول
البايع على القول بالقضاء به، لأن ذلك أنما يؤثر في حق المتخاصمين، لا في حق
غيرهما.
أقول: والظاهر أن السبب في ذلك من حيث اليمين، لأنها لا يثبت مالا
لغير الحالف كالبينة، وعليه يتفرع النكول كما لا يخفى.
الصورة الثانية: الدعوى بين الشريكين، وقد عرفت أن الشريك البايع
وكيل من جهة شريكه المدعي هنا في قبض الثمن، وهو قد صدق المشتري في

(1) قال في المسالك: فإن نكل يعني المشتري ألزم نصيب البايع إن لم نقض
بالنكول، لأصالة بقاء الثمن في ذمته، حيث لم يثبت الأداء بحصة البايع. انتهى.
أقول: والظاهر أن رد اليمين على المشتري بعد نكول البايع مبني على ما هو المشهور
بين المتأخرين وإلا فإنه على القول الآخر، وهو أنه متى نكل المنكر عن اليمين يقضي عليه بمجرد نكوله لا يتجه الرد على المشتري. منه رحمه الله.
192

قبض شريكه له، وحينئذ فالشريك هنا يدعي على شريكه البايع حصته من
الثمن، شريكه يدعي بقاءها في ذمة المشتري لإنكاره القبض منه وعلى هذا فإن
أقام الشريك بينة بأن شريكه البايع قد قبض الثمن من المشتري كما يدعيه
رجع عليه بحقه منه، وإلا فالقول قول شريكه، لأنه منكر القبض، فيقبل قوله
مع يمينه، فإن حلف انقطعت الدعوى، وإن نكل أورد اليمين حلف الشريك
المقر، وأخذ منه حصته، ولا يرجع البايع بذلك على المشتري، لاعترافه
بظلم شريكه له في فعله، وأنه لا يستحق في ذمته شيئا، وإنما حقه باق في ذمة
المشتري، ولأن ذمة المشتري بريئة من حصته، لاعترافه بدفع ذلك إلى البايع،
فلا يمكن أن يقال إن رجوعه عليه لكونه قد أدى عنه دينا في ذمته، فيرجع
به عليه.
هذا كله فيما إذا تقدمت الخصومة الأولى على الثانية كما رتبناه.
أما إذا تقدمت الثانية فإن الحكم كما ذكر أيضا، إلا أن الشريك المقر
لا تقبل شهادته على البايع، لسبق خصومته فيتطرق إليه التهمة.
وثانيهما: ما لو كانت الدعوى بين المشتري والشريك الإذن بأن ادعى
المشتري أنه بعد الشراء من الشريك البايع سلم الثمن إلى شريكه الآخر،
وصدقه الشريك البايع على ذلك، والشريك المدعى عليه منكر، فالقول قوله
بيمينه، كما هي القاعدة المتفق عليها.
وتفصيل الكلام هنا أن يقال إن البايع هنا إما أن يكون قد أذن للشريك
المدعى عليه في قبض حصته من الثمن أولا وعلى التقديرين فإما أن قد أذن
أيضا لشريكه البايع في القبض أم لا، وحينئذ فإن كان الشريك المدعى عليه
مأذونا في القبض برئ المشتري من حصة البايع، لاعترافه بقبض وكيله حيث
193

أنه صدق المشتري في دعواه الدفع لشريكه، والحال أنه مأذون منه وإن لم يكن
مأذونا في القبض لم يبرئ المشتري من حصة البايع، لأنه لم يدفع حصته إليه،
ولا إلى وكيله، أما عدم الدفع إليه فظاهر، لأن المشتري إنما يدعي الدفع
على شريكه، وأما عدم الدفع إلى وكيله فلأن المدعى عليه غير وكيل، ولا مأذون
كما هو المفروض، وكذا لا تبرئ ذمته من حصة الشريك المدعى عليه،
لإنكاره القبض. وحينئذ فيقدم قول الشريك المدعى عليه بيمينه مع عدم البينة.
ثم إن طالب البايع المشتري بحصته، فلشريكه مشاركته في ذلك كما
في كل مال مشترك لأنه منكر للقبض، والمال الذي في ذمة المشتري مشترك بينهما،
وله أن لا يشاركه، بل يرجع على المشتري بحصته ويطالبها، وعلى تقدير
مشاركته للبايع في حصته التي قبضها من المشتري، إنما يبقى للبايع ربع الثمن
وليس للبايع مطالبة المشتري بعوض ما أخذه شريكه، لأنه يعترف بظلم الشريك
له في المشاركة، وأخذه نصف ما قبضه.
ثم إنه متى شارك فيما قبضه (1) رجع ببقية حصته على المشتري، لأن حقه
منحصر فيهما، وأما قوله في آخر العبارة " وقيل: تقبل شهادة البايع والمنع
في المسألتين أشبه "، وأشار بالمسألتين إلى هذه المسألة وسابقتها باعتبار
اشتمالها على شهادة الشريك للمشتري على البايع ففيه تفصيل.
أما في المسألة السابقة فقد تقدم بيانه، وأما في هذه فإنه لا يخلو إما أن يكون
الشريك المدعى عليه القبض مأذونا من جهة شريكه البايع في القبض أم لا، فعلى

(1) أقول: مشاركته له فيما بناء على ظاهر كلام الأصحاب في مسألة المال
المشترك كما تقدم، وأما على ما يظهر من الأخبار كما تقدمت الإشارة إليه من أن رجوع
الشريك على شريكه مقاسمة له مخصوصة بما إذا توى بقية المال، وإلا فالقسمة صحيحة،
وحصة الغير القابض يرجع بها على من عليه المال في ذمته لا على شريكه، إلا أن يتعذر
حصولها فيرجع على الشريك حينئذ ولا يرجع هنا على الشريك. منه رحمه الله.
194

الأول لا تقبل لحصول التهمة، لأنه بالنسبة إلى حصته يشهد لنفسه على الذلم يبع
لأن المفروض أن القابض مأذون من جهته في القبض، ووكيل عنه، فهو في
الحقيقة ليشهد لنفسه على شريكه.
وحينئذ يلزم تبعيض الشهادة، والشهادة إذا ردت في بعض المشهود به هل
تسمع في الباقي أم لا؟ وجهان: عندهم.
وأما على الثاني فإنها تقبل لعدم التهمة، حيث إن الشريك ليس وكيلا
للبايع في القبض، وإنما حق البايع باق على المشتري كما تقدم، فليست الشهادة
متبعضة كالأولى، هذا ما يفهم من تقرير الأصحاب في المسألة.
وأما كلام المحقق هنا واختياره المنع من قبول شهادة البايع، مع أن المفروض
في كلامه إنما هو الثاني من هذا الترديد، فقيل: إن الوجه فيه أن البايع
وهو الشاهد، وإن لم يكن شريكا للقابض فيما قبضه، لعدم الإذن له، إلا أن
الشهادة تجر نفعا، من حيث أنه إذا حصل الثبوت بهذه الشهادة بانضمام شاهد
آخر أو يمين مثلا، وقبض هذا الشاهد نصيبه من المشتري مسلم له، ولا يشاركه
فيه شريكه، بناء على استحقاق المشاركة إذا لم يثبت القبض، هذا ملخص
كلامهم في هذا المقام.
ولا يخفى على من راجع كتاب التذكرة أن أصل هذه المسألة وطرحها
في محل البحث إنما هو من العامة، كسائر المسائل المذكورة، ولهم فيها أقوال
منتشرة، واختلافات متكثرة، وقد جرى فيها أصحابنا على بعض ما جروا عليه.
واختاروا فيها ما جنحوا إليه، وجملة من شقوقها موافقة للأصول الشرعية،
وجملة منها مداركها غامضة خفية، والله العالم.
الخامسة: قال الشيخ في الخلاف: إذا كان لرجلين عبدان لكل واحد منهما
195

عبد بانفراده، فباعاهما من رجل واحد بثمن واحد لا يصح البيع، لأنه بمنزلة
عقدين، لأنه لعاقدين، وثمن كل واحد منهما مجهول، لأن ثمنهما يتقسط على
قدر قيمتهما، وذلك مجهول والثمن إذا كان مجهولا بطل العقد، بخلاف ما لو كانا
لواحد، لأنه عقد واحد، وإنما بطل الأول من حيث كانا عقدين.
وقال في المبسوط: إذا كانا مختلفي القيمة بطل، وإن تساويا صح انتهى.
وظاهر كلام جملة من المتأخرين الصحة مطلقا.
قال في المختلف بعد نقل ذلك عن الشيخ: والقولان ضعيفان عندي،
والحق صحة البيع فيهما، سواء كان متفاوتي القيمة أو متساوي القيمة، لأن الثمن
في مقابلة المجموع، والتقسيط الحكمي لا يقتضي التقسيط لفظا، والجهالة إنما
تتطرق بالاعتبار الثاني، دون الأول، ولهذا لو كان عبدا واحدا ولأحدهما فيه
حصة والباقي للآخر ولم يعلم حصة كل واحد منهما فباعاه صفقة واحدة صح
البيع، وإن اختلف عوض كل واحد من الحصتين، باعتبار اختلافهما وكونهما
في حكم العقدين لا يقتضي كونهما عقدين، ولهذا لو فسخ في أحدهما لم يكن له
إلا رد الآخر، وذلك يدل على اتحاد الصفقة. انتهى.
وبهذا الكلام بأدنى تفاوت عبر في المسالك، وربما أشعر ظاهر كلام
المحقق في الشرايع بالتوقف، حيث اقتصر على نقل القولين في المسألة مع حجة
القول بالبطلان، ولم يتعرض لأزيد من ذلك، والظاهر هو القول بالصحة لما
عرفت، وقد مر نظير ذلك في كتاب البيع في مسألة بيع ما يملك وما لا يملك.
أما لو كان العبدان لهما معا أو كانا لواحد فلا اشكال ولا خلاف في الجواز،
لزوال ما توهم منه المنع في تلك المسألة وهو تقسيط الثمن عليهما، بل يقسمانه
على نسبة الحصص، وكذا لو كانا لواحد مع أن ذلك التقسيط لو أثر لأمكن
196

تطرقه هنا لو عرض لأحد هما ما يبطل البيع كما لو خرج مستحقا للغير، أو ظهر
كونه حرا، فإن البيع في نفس الأمر إنما وقع على المملوك، ولا يعلم قسطه من
الثمن، ووجه الصحة في الجميع أن ثمن المبيع وقت العقد معلوم، والتوزيع
لاحق، فلا يقدح في الصحة.
السادسة: قد تقدم أن شركة الأبدان باطلة، وحينئذ فلو اشتركا كذلك
فإن تميز أجرة كل واحد عن صاحبه اختص كل واحد بحصته، ولو تميز بعضها
اختص أيضا به، وهو مما لا خلاف فيه ولا اشكال، وإنما الاشكال مع اشتباه الحال
فقيل: أنه يقسم الحاصل على قدر أجرة مثل عملهم، نظرا إلى أن الغالب العمل
بأجرة المثل، وأن الأجرة تابعة للعمل.
ومثله قسمة ثمن ما باعاه مشتركا بينهما على ثمن مثل ما لكل منهما،
وعلى هذا لو تميز بعض حق كل منهما أو أحدهما ضم إلى الباقي في اعتبار
النسبة، وإن اختص به مالكه، وهذا القول اختيار المحقق في الشرايع.
وقيل: بتساويهما في الحاصل من غير نظر إلى العمل، لأصالة عدم زيادة
أحدهما على الآخر، ولأن الأصل مع الاشتراك التساوي، ولصدق العمل على
كل واحد منهما، والأصل عدم زيادة أحد العملين على الآخر، والحاصل تابع
للعمل، ونقل هذا عن العلامة في أحد وجهيه، ورد بمنع كون الأصل في المال
والعمل التساوي، بل الأصل هنا يرجع إليه، لأن زيادة مال شخص أو عمله
على آخر ونقصانه ومساواته ليس أصلا لا بحسب العادة، ولا في نفس الأمر.
وبالجملة فضعف هذا الوجه أظهر من أن يحتاج إلى مزيد تطويل.
وقيل: بالرجوع إلى الصلح، لأنه طريق إلى تيقن البراءة كما في كل
مال مشتبه، ونقل أيضا عن العلامة في الوجه الآخر.
197

قال في المسالك: ولا شبهة في أنه أولى مع اتفاقهما عليه، وإلا فما اختاره
المصنف أعدل من التسوية.
أقول: ولا يخفى أن المسألة غير منصوصة، والاحتياط فيها واجب، وهو
يحصل بالقول الثالث، وأما الأول فإنه وإن كان أقل بعدا من الثاني إلا أنه
لا يخلو أيضا من شئ فإن مجرد كون الغالب العمل بأجرة المثل لا يصلح لأن يكون سببا مملكا شرعيا لما زاد بحسب الواقع، فإنه يجوز أن يكون أجرة
عمل أحدهما بالنظر إلى أجرة المثل درهمين، وأجرة الأخرى بالنظر إلى ذلك
ثلاثة دراهم، فلو اقتسما كذلك وكان الأمر بحسب الواقع الذي قبضه كل منهما
هو بالعكس، لأحد الأسباب المقتضية لذلك من تراض، ومسامحة أو مناقشة،
فإنه لا يكون مبيحا للزيادة التي في أحد الطرفين، ولا حاسما لمادة الاشكال واقعا
في البين بل الواجب عليهما لتحصيل براءة الذمة بيقين هو الرضاء بالصلح
ليخرجوا بذلك من غضب رب العالمين. والله العالم.
198

كتاب المضاربة:
قال في التذكرة: وهي عقد شرعي لتجارة الانسان بمال غيره بحصة من
الربح. انتهى.
وهذه التسمية لغة أهل العراق، وأما أهل الحجاز فيسمون هذه المعاملة
قراضا، قيل: ووجه المناسبة بالنسبة إلى التسمية الأولى أنها من الضرب في
الأرض، قال الله تعالى: " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " (1)
لأن العامل يضرب فيها للسعي على التجارة وابتغاء طلب الربح بطلب صاحب
المال، فكان الضرب مسببا عنها طردا لباب المفاعلة في طرفي الفاعل، أو من
ضرب كل منهما في الربح بسهم، أو لما فيه من الضرب بالمال وتقليبه.
وأما وجه المناسبة في التسمية الثانية، فهو إما من القرض، وهو القطع
كما يقال: قرض الفأر الثوب أي: قطعه، ومنه المقراض، لأنه يقطع به، فكان
صاحب المال اقتطع من ماله قطعة، وسلمها إلى العامل، واقتطع له قطعة من
الربح، أو من المقارضة، وهي المساواة والموازنة، يقال: تقارض الشاعران
إذا وازن كل منهما الآخر بشعره.

(1) سورة المزمل الآية 19
199

وحكى عن أبي الدرداء أنه قال: قارض الناس ما قارضوك، فإن تركتهم
لم يتركوك يريد ساوهم فيما يقولون، وهذا المعنى تحقق هنا، لأن المال من
جهة رب المال، ومن جهة العامل العمل، فقد تساويا في قيام العقد بهما، فمن
هذا المال ومن هذا العمل، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح،
وتساويهما في أصل استحقاقه، وإن اختلفا في كميته، ويقال منه للمالك مقارض
بكسر الراء، وللعامل مقارض بالفتح، ومن اللفظة الأولى يقال للعامل: مضارب
بكسر الراء، لاه الذي يضرب في الأرض بالمال ويقلبه، ولم يشتق أهل اللغة
لرب المال من المضاربة اسما، بخلاف القراض، كذا في التذكرة، ونحوه
في المسالك.
وقال في المسالك: واعلم أن من دفع إلى غيره مالا ليتجر به فلا يخلو
إما أن يشترطا كون الربح بينهما، أو لأحدهما أو لا يشترطا شيئا، فإن اشترطاه
بينهما فهو قراض، وإن اشترطاه للعامل فهو قرض، وإن اشترطاه للمالك
فهو بضاعة، وإن لم يشترطا شيئا فكذلك، إلا أن للعامل أجرة المثل، ونحوه
قال في التذكرة.
واعترضهما المحقق الأردبيلي هنا في موضعين: أحدهما - في البضاعة،
حيث حكما بأن للعامل أجرة المثل، قال بعد نقل عبارة التذكرة قوله:
" وعليه أجرة المثل للعامل " محل التأمل، لأن الأصل عدم لزوم الأجرة،
وما ذكر من أنه إذا استعمل شخص بعمل له أجرة عادة لمثل هذا الشخص،
يستحق به أجرة المثل إن ثبت ذلك، وكان ما نحن فيه من ذلك القبيل يكون
له أجرة المثل، وإلا فهو متبرع لما مر. انتهى.
وحاصله يرجع إلى قيام احتمال التبرع، فالحكم بالأجرة مع الاطلاق يحتاج
إلى دليل، وليس فليس، وهو جيد.
200

وثانيهما - قولهما في صورة ما إذا اشترطا الربح للعامل أنه قرض، فإن
ظاهره المنع من الحكم بكونه قرضا بمجرد هذا الشرط، قال (رحمة الله عليه):
وكذا قوله: " كان المال قرضا ودينا " فإن القرض يحتاج إلى صيغة خاصة، وله
أحكام خاصة، والمفروض عدم وجودها من المالك، فكيف يحكم بوجوده،
وترتب أحكامه عليه، ولأن خروج المال عن ملك مالكه ودخوله في ملك آخر
يحتاج إلى ناقل، وما وجد إلا نحو قوله: " اتجر فيه فيكون الربح لك " وغير
معلوم كون هذا المقدار مملكا، باعتبار أن كون الربح له فرع كون المال له،
فكأنه قال: المال لك بالعوض، فربحه لك، لأن الاكتفاء في خروج مال عن ملكه
ودخوله في ملك آخر بمثله من غير دلالة شرع به مشكل، على أنه قد يكون
العامل أو القائل جاهلا لا يعلم أنه لا يمكن كون المال باقيا على ملكه، وكون
الربح للعامل، إذ يكون مقصوده اعطاء الربح للعامل، بعد إن كان له، وبالجملة
إن وجد دليل مفيد لنقل الملك مع العوض يكون قرضا، وإلا فلا. انتهى.
وهو جيد أيضا، إلا أنه يمكن الجواب هنا بأنه ليس المراد ثبوت القرض
وحصوله بمجرد هذا الاشتراك بل مع حصول القرض أولا بصيغته الدالة عليه، وإلا لورد
ما قاله أيضا بالنسبة إلى القراض الذي هو محل البحث، فإنه لا بد فيه من صيغة خاصة
عندهم، مع أن ظاهر هذا الكلام الاكتفاء بمجرد هذا الاشتراط، وهم لا يقولون به.
وبالجملة فالمراد إنما هو أن اشتراط الربح لهما معا إنما يكون في
القراض، واشتراطه للعامل خاصة إنما يكون في القرض، وللمالك خاصة إنما
يكون في البضاعة، وهذا لا يدل على حصول القراض بمجرد هذا الاشتراط كما
يوهمه ظاهر الكلام المتقدم، ولا على حصول القرض كذلك (1).

(1) قال في المسالك: وعقد القراض مركب من عقود كثيرة لأن العامل مع صحة
التعدد وعدم ظهور ربح ودعى أمين، ومع ظهوره شريك ومع التعدي غصب وفي تصرفه
وكيل ومع فساد العقد أجير. انتهى. أقول: الظاهر أن المراد أنه يترتب على هذا العقد
من اللوازم باعتبار وجود بعض الأمور وعدم بعض ما يترتب على تلك العقود، لأن تلك
العقود حاصلة في ضمن العقد كما يشعر به ظاهر الكلام. منه رحمه الله.
201

على أنه يمكن الاستدلال هنا بما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن
قيس (1) في الصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: قال أمير المؤمنين (ع):
من اتجر مالا واشترط نصف الربح فليس عليه ضمان، وقال: من ضمن تاجرا
فليس له إلا رأس ماله، وليس له من الربح شئ ".
ومثله موثقة محمد بن قيس (2) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى علي (عليه السلام) في تاجر اتجر بمال واشترط نصف الربح فليس على المضارب ضمان
وقال أيضا: " من ضمن مضاربة فليس له إلا رأس المال، وليس له من الربح شئ ".
والتقريب فيهما أنه بمجرد تضمين المالك للمضارب يصير المال قرضا،
ويخرج عن المضاربة، وإن لم يتقدم هناك عقد القرض أولا، وهو في معنى
اشتراط الربح للعامل، فإن الأمرين من لوازم القرض.
قال في الوافي بعد نقل الخبرين المذكورين: أريد بالحديثين أن في
المضاربة لا ضمان على العامل، فإن اشترط عليه الضمان يصير قرضا انتهى. ومرجعه
إلى أنه باشتراطه الضمان كأنه قصد أن المال يكون قرضا حينئذ، كما أنه باشتراط
الربح للعامل خاصة كأنه قصد ذلك، وبه يندفع الإيراد الثاني، وأما الأول
فهو لازم.
والكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد أربعة:
الأول: في العقد وما يلحق به، وفيه مسائل: الأولى - قال العلامة في

(1) الكافي ج 5 ص 240 ح 3، التهذيب ج 7 ص 188 ح 16، الوسائل
ج 13 ص 185 ح 2 و 4.
(2) الكافي ج 5 ص 240 ح 3، التهذيب ج 7 ص 188 ح 16، الوسائل
ج 13 ص 185 ح 2 و 4.
202

التذكرة: لا بد في هذه المعاملة من لفظ دال على الرضا من المتعاقدين،
إذ الرضاء من لأمور الباطنية التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى، وهذه المعاملة
كغيرها من المعاملات يشترط فيها الرضا للآية، واللفظ الدال على الإيجاب أن يقول
رب المال: ضاربتك أو قارضتك أو عاملتك على أن يكون الربح بيننا نصفين،
أو أثلاثا، أو غير ذلك من الوجوه، بشرط تعيين الأكثر لمن هو منهما، والأقل
كذلك، والقبول أن يقول العامل قبلت أو رضيت أو غيرهما من الألفاظ الدالة
على الرضاء بالايجاب، وكذا الإيجاب لا يختص لفظا فلو قال: خذه واتجر به على
أن ما سهل الله في ذلك من ربح وفائدة يكون بيننا على السوية، أو متفاوتا جاز،
ولا بد من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود، وهل يعتبر اللفظ؟
الأقرب العدم، فلو قال: خذ هذه الدراهم واتجر بها على أن الربح بيننا على
كذا، فأخذها واتجر بها فالأقرب الاكتفاء به في صحة العقد، كالوكالة ويكون
قراضا.
ثم نقل عن جملة من العامة أنه لا بد من القبول، بخلاف الوكالة، فإن
القراض عقد معاوضة، فلا يشبه الوكالة التي هي إذن، ثم قال: والوجه الأول.
أقول: قد عرفت في غير موضع مما تقدم سهولة الأمر في العقد، وأنه ليس
إلا ما دل على التراضي بتلك المعاملة، وظاهر كلامه هنا وكذا كلام غيره
الاكتفاء بما دل على الرضا، وإن كان فعلا في جانب القبول.
قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة: وفي اشتراط وقوع قبوله لفظا أو
جوازه بالفعل، قولان: لا يخلو ثانيهما من قوة، وبذلك يظهر لك ما في قوله: " فلا بد
من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود " من التأمل، فإنه متى صح
القبول بالفعل دون القول فلا معنى لاشتراط التواصل الذي هو عبارة عندهم
203

عن تعقيب الإيجاب بالقبول، وعدم الفصل بينهما، فإن هذا إنما يتجه فيما لو كان
القبول لفظا، إلا أن يراد أنه لا بد من التواصل وإن كان القبول فعلا، بأن يكون
الأخذ بعد الإيجاب بلا فصل، وهو بعيد.
وبالجملة فإنه لا دليل على اعتبار هذه المقارنة، بل ربما دلت ظواهر جملة
من الأخبار المشتملة على العقود على خلاف ذلك، والأصل إناطة صحة العقد
بالرضا، والألفاظ الدالة عليه من الطرفين، فإن ذلك غاية ما تدل عليه الآية
والروايات، وما عداه من المقارنة المذكورة خال من الدليل، ولا خلاف بينهم
في أن القراض من العقود الجائزة من الطرفين، ويؤيده أنه وكالة في
الابتداء، ثم قد يصير شركة بعد العمل، وكل من الوكالة والشركة من العقود
الجائزة، ولا فرق في ذلك بين انضاض المال بمعنى صيرورته دراهم بعد أن كان
عروضا، أو كان عروضا لم ينض، فلكل منهما فسخه وإن كان عروضا، وليس
لصاحب المال أن يكلف المضارب بانضاض العروض بأن يصيرها دراهم كالأول وليس
للمضارب أيضا أن يقول للمالك اصبر حتى ينض المال.
الثانية: في جملة من الشروط الواقعة في العقد، قال في التذكرة: يجب
التنجيز في العقد، فلا يجوز تعليقه على شرط أو صفة مثل إذا دخلت الدار أو
إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك، وكذا لا يجوز تعليق البيع ونحوه لأن الأصل
عصمة مال الغير. انتهى.
أقول: لا يخفى ما في دليله من تطرق النظر إليه، فإن عموم الأدلة الدالة على
جواز هذا العقد من آية ورواية شامل لما ذكره، فإنه تجارة عن تراض، وعقد
المضاربة التي قدمنا نقله عنه في صد ر الكتاب شامل له.
وبالجملة فإنه لا دليل يعتمد عليه في ما ذكره من البطلان بهذا الشرط،
والأصل عدمه ولو قال ضاربتك سنة بمعنى أنه جعل أجلا للمضاربة لم تلزم
204

المضاربة في هذه المدة، بل لكل منهما فسخها قبل الأجل، والشرط والعقد
صحيحان، أما الشرط ففائدته المنع من التصرف بعد السنة، لأن جواز التصرف
تابع للإذن عن المالك، ولا إذن بعد المدة المذكورة، وأما العقد فإنه لا مانع من
صحته إلا ما ربما يتوهم من هذا الشرط، وهو غير مناف لمقتضى العقد، إذ غايته
أن التصرف ليس مطلقا بل محدود بوقت معين، وهو صحيح لما عرفت، وكذا
لو قال له: إن مرت بك سنة فلا تشتر وبع، أو قال: فلا تبع واشتر، فإن العقد
صحيح، وكذا الشرط لعين ما عرفت، من أن أمر البيع والشراء منوط بنظر
المالك وأمره، فله المنع منهما بعد السنة، أو من أحدهما بطريق أولى،
وهذا بخلاف ما لو شرط اللزوم، بأن قال: على أني لا أملك منعك، فإن هذا
الشرط مناف لمقتضى العقد، إذ مقتضاه كما عرفت الجواز، فيكون الشرط
المذكور باطلا، وبه يبطل العقد على المشهور من أن العقد المشتمل، على شرط
فاسد باطل، وشرط الأجل مرجعه إلى تقييد التصرف بوقت خاص، وهو غير
مناف لمقتضى العقد كما عرفت.
ولو شرط عليه أن لا يشتري إلا من زيد، ولا يبيع إلا على عمرو أو لا يشتري
إلا المتاع الفلاني، أو لا يسافر إلا إلى البلد الفلانية، أو لا يسافر بالكلية صح
ووجب عليه العمل بالشرط فإن خالف ضمن، لكن لو ربح كان الربح بينهما.
ويدل على ذلك جملة من الأخبار منها ما رواه ثقة الاسلام والشيخ عن
محمد بن مسلم (1) في الصحيح عن أحدهما (عليهما السلام) قال: " سألته عن
الرجل يعطى المال مضاربة، ينهى أن يخرج به فخرج قال: يضمن المال،
والربح بينهما ".
وروى الحلبي (2) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:

(1) الكافي ج 5 ص 240 ح 2، التهذيب ج 7 ص 189 ح 836
(2) المصدر ح 1، الوسائل ج 13 ص 181 ح 1 و 2
205

في الرجل يعطي الرجل المال فيقول له: أئت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها، واشتر
منها قال: فإن جاوزها وهلك المال فهو ضامن، وإن اشترى متاعا فوضع فيه فهو
عليه وإن ربح فهو بينهما ".
وما رواه من الكافي عن بأي الصباح الكناني (1) في الحسن " عن أبي
عبد الله (عليه السلام) في الرجل يعمل المال مضاربة قال: له الربح وليس عليه من الوضيعة شئ، إلا أن يخالف عن شئ مما أمره صاحب المال ".
وما رواه الشيخ في التهذيب عن أبي بصير (2) " عن أبي عبد الله (عليه السلام)
في الرجل يعطي الرجل مالا مضاربة ونهاه أن يخرج به إلى أرض أخرى،
فعصاه فقال: هو له ضامن، والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه " وعن الحلبي (3)
في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال المال الذي يعمل به مضاربة
له من الربح وليس عليه من الوضيعة شئ، إلا أن يخالف أمر صاحب المال ".
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن أبي الصباح (4) " قال سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن المضاربة يعطى الرجل المال يخرج به إلى الأرض، ونهي أن
يخرج به إلى أرض غيرها، فعصى فخرج به إلى أرض أخرى فعطب المال، فقال:
هو ضامن، وإن سلم فربح فالربح بينهما ". وما رواه الشيخ عن جميل (5) " عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل دفع
إلى رجل مالا يشتري به ضربا من المتاع مضاربة، فذهب فاشترى به غير الذي
أمره به، قال: هو ضامن، والربح بينهما على ما شرط ".
وهذه الرواية في طريقها معاوية بن حكيم، وهو وإن قال النجاشي:

(1) الكافي ج 5 ص 241 ح 7.
(2) التهذيب ج 7 ص 187 ح 13 و 14.
(3) التهذيب ج 7 ص 187 ح 13 و 14.
(4) التهذيب ج 7 ص 189 ح 23 و 193 ح 39، الفقيه ج 3 ص 143 ح 1 وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 181 و 182.
(5) التهذيب ج 7 ص 189 ح 23 و 193 ح 39، الفقيه ج 3 ص 143 ح 1 وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 181 و 182.
206

أنه ثقة جليل، إلا أن الكشي قال: إنه فطحي، وهو عدل عالم، وبذلك يظهر
لك ما في قول المحقق الأردبيلي إن هذه الرواية أصح الروايات التي في هذا
الباب.
وما رواه الشيخ عن الشحام (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المضاربة
إذا أعطى الرجل المال ونهى أن يخرج المال إلى أرض أخرى، فعصاه فخرج
به، فقال: هو ضامن والربح بينهما ".
وهذه الأخبار على كثرتها وتعددها فقد اشتركت في الدلالة على أن
الربح بينهما مع المخالفة، وضمان العامل لو عطب المال أو حصلت فيه نقيصة،
وهو لا يوافق قواعدهم.
ولهذا قال في المسالك: ولولا النص لكان مقتضى لزوم الشرط فساد ما وقع
مخالفا أو موقوفا على الإجازة، انتهى.
وتوضيحه ما عرفت من أن القراض في معنى الوكالة، بل هو وكالة، وحينئذ
فإن لم يكن وكيلا في شراء عين فكيف يصح الشراء، ويترتب عليه حل الربح
بينهما، وكذا فيما لو نهى عن السفر إلى جهة أو البيع أو الشراء على شخص
بعينه، مع أنه في الوكالة لا تصح ذلك، فإنه متى وكل على أمر مخصوص
وتجاوزه إلى أمر آخر غير ما وكل عليه فإنه يكون بيعه وشرائه باطلا، وكيف
يستحق ربح عمل لم يكن مأذونا فيه، ولا مقارضا عليه، بل يكون آثما ضامنا
مع أن الأخبار كما عرفت قد اتفقت على حل الربح، وأنه بينهما.
وهو مؤيد لما قدمناه في غير مقام من أن الواجب هو الوقوف على مقتضى
الأخبار، وإن خالفت مقتضى قواعدهم، ومن الجايز تخصيص قواعدهم بهذه

(1) التهذيب ج 7 ص 191 ح 32، الوسائل ج 13 ص 183 ح 11.
207

الأخبار، فيكون ما دلت عليه مستثنى من مقتضى تلك القواعد، كما قدمنا
مثله مرارا.
وأما ما ارتكبه المحقق الأردبيلي هنا من الاحتمالات البعيدة، والتمحلات
غير السديدة، فلا يخفى ما فيه على من تأمله، وتدبر ما في باطنه وخافيه.
ولو اشترط أن يشتري أصلا يشتركان في نمائه كالشجر والغنم ونحوهما،
قيل: يفسد العقد، لأن مقتضى عقد المضاربة التصرف في رأس المال بالبيع
والشراء، وتحصيل الربح بالتجارة، ومن هنا استحق العامل حصته من الربح في
مقابلة هذا العمل، وما ذكر هنا ليس كذلك، لأن فوائده تحصل من غير تصرف
بل من عين المال، وتردد بعضهم في الصورة المذكورة نظرا - إلى ما ذكر مما
يدل على البطلان - وإلى أن حصول هذه الأشياء إنما وقع بسبب سعي العامل،
إذ لولا شرائه لم يحصل النماء، وذلك من جملة الاسترباح بالتجارة، فيكون
صحيحا.
وضعف الثاني بأن الحاصل بالتجارة هو زيادة القيمة لما وقع عليه العقد
لا نماؤه الحاصل مع بقاء عين المال، وبأن المضاربة تقتضي معاوضتين، أحدهما
بالشراء، والأخرى بالبيع، وأقل ما يتحققان بمرة، وبها يظهر الربح.
والتحقيق أن الفرع المذكور لما كان غير منصوص، فالحكم فيه بأحد
الوجهين مشكل، والبناء على هذه العلل الاعتبارية مجازفة في الأحكام الشرعية
المطلوب فيها العلم واليقين بالاستناد إلى السنة النبوية، أو الكتاب المبين،
ولا سيما مع تعارضها وتدافعها كما عرفت.
ثم إنه على تقدير القول بفساد المضاربة، الظاهر أنه لا مانع من صحة
الشراء المذكور، لدخوله تحت اطلاق الإذن للعامل بالبيع والشراء فيكون
208

النماء الحاصل بأجمعه للمالك، وعليه أجرة المثل للعامل، ويحتمل البطلان
بالنظر إلى أنه مأذون في البيع والشراء الذي يقع في المضاربة بأن يترتب عليه
الربح لا مطلقا، بحيث يشمل ما وقع هنا هذا.
وينبغي أن يعلم أن الممتنع على القول به إنما هو مع انحصار الربح في النماء
المذكور، كما يقتضيه هذه المعاملة، وإلا فلا مانع من كون النماء بينهما مع
عدم انحصار الربح فيه على بعض الوجوه، بأن يشتري شيئا له غلة، فظهرت
غلته قبل أن يبيعه، فإن الغلة تكون من جملة الربح الذي يحصل بعد البيع
ويكون الجميع بينهما على ما شرطاه والله العالم.
الثالثة: متى صحت المضاربة فللعامل تولي ما يتولاه المالك من عرض
القماش ونشره وطيه واحرازه، وبيعه وقبض ثمنه، والاستيجار على نقله إن
احتيج إليه، ودفع الأجرة في ما جرت العادة بدفعها فيه، كالدلال والحمال،
وأجرة الكيل والوزن، ونحو ذلك، والوجه فيه أنه لما كانت المضاربة معاملة
على المال لتحصيل الربح كان اطلاق العقد مقتضيا لفعل ما يتولاه المالك لو باشر
ذلك بنفسه من هذه الأشياء، وكلما لم تجر العادة بالاستيجار عليه لو استأجر
عليه، فالأجرة من ماله لا يحلق المالك منها شئ، حملا للاطلاق على المتعارف
وما جرت العادة بالاستيجار عليه لو عمله بنفسه فهو متبرع، لا يستحق عليه أجرة.
ولو قصد بالعمل الأجرة بأن يأخذ الأجرة كما يأخذ غيره ففي استحقاقه
لها احتمال قوي، خصوصا على القول بأن للوكيل في البيع أن يبيع على نفسه،
وفي الشراء أن يشتري لنفسه، فيكون له أن يستأجر نفسه أيضا، ولكن اطلاق
الأصحاب يقتضي العدم، وهو الأحوط وأما لو أذن له المالك في ذلك زال الاشكال.
والله العالم.
209

الرابعة: المشهور بين الأصحاب أن جميع ما ينفقه في السفر للتجارة من
رأس المال سواء كانت النفقة زيادة على نفقة الحضر أو ناقصة أو مساوية، وكل ما
يحتاج إليه للأكل والشرب لنفسه ودوابه وخدامه حتى القرب والجواليق
ونحوهما، إلا أنها بعد انتهاء السفر والاستغناء عنها يكون كل ذلك من أصل
المال، سواء حصل له ربح أم لا.
وقيل: إنه لا يخرج من أصل المال، إلا ما زاد على نفقة الحضر، للاجماع
على أن نفقة الحضر على نفسه، فما ساواه في السفر يحتسب أيضا عليه، والزائد
على ذلك من مال القراض، وأيد ذلك بعضهم بأنه إنما حصل بالسفر الزيادة
لا غير، أما غيرها فسواء كان مسافرا أم حاضرا لا بد منها، فلا يكون من مال القراض.
وقيل: إن نفقة السفر كلها على العامل كنفقة الحضر، وعلل بأن الربح
مال المالك، والأصل أن لا يتصرف فيه إلا بما دل عليه الإذن، ولم يدل إلا على
الحصة التي عينها للعامل، وهو لم يدخل في العمل إلا على هذا الوجه، فلا يستحق
سواه.
ويدل على القول الأول ما رواه الكليني في الصحيح " عن علي بن جعفر (1)
عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال: في المضارب ما أنفق في سفره فهو من
جميع المال، فإذا قدم بلده فما أنفق من نصيبه ".
وعن السكوني (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: قال أمير المؤمنين
(عليه السلام): في المضاربة " الحديث ورواه في الفقيه (3) مرسلا " فقال: قال
أمير المؤمنين (عليه السلام): مثله " وبه يظهر قوة القول المشهور، وأنه المؤيد
المنصور، فلا يلتفت إلى هذه التخريجات الضعيفة، والتعليلات السخيفة كما عرفت
في غير مقام.

(1) الكافي ج 5 ص 241 ح 5
(2) الكافي ج 5 ص 241 ح 5
(3) الفقيه ج 3 ص 144 الحديث 5 وهذاه الروايات في الوسائل ج 13 ص 187 باب 6
210

تنبيهات:
الأول: المراد بالسفر هنا هو السفر العرفي لا الشرعي، وهو ما يجب فيه
القصر، فلو كان السفر قصيرا أو أقام في الطريق وأتم الصلاة فنفقة تلك المدة من
أصل المال، إلا أنه يجب الاقتصار في ذلك على ما يحتاج إليه التجارة، فلو أقام
زيادة على ما يحتاج إليه كان الزايد عليه.
الثاني: قد عرفت أن المراد بالنفقة ما يحتاج إليه من مأكول وملبوس
ومشروب له، ولمن في صحبته ممن يتوقف عليه سفره وآلات السفر وأجرة
المسكن، ونحو ذلك، يراعى فيها ما يليق بحاله شرفا وضعة ووسطا على
وجه الاقتصاد، فلو أسرف حسب عليه، وإن قتر على نفسه لم يحتسب له، لأن
الذي له ما أنفق على الوجه المتقدم، وبعد العود من السفر، فما بقي من أعيان
النفقة، ولو من الزاد يجب رده إلى مال التجارة أو تركه وديعة عنده إلى أن
يسافر إن كان ممن يتكرر سفره، ولم يكن بيعه أعود على التجارة من تركه.
الثالث: لو شرط المالك على العامل عدم النفقة لم يجز له الانفاق من المال
اتفاقا، ولو أذن له في الانفاق بعد ذلك فهو تبرع محض، وقد عرفت أنه مع الاطلاق
فالأشهر الأظهر ثبوتها، فلو شرطها والحال هذه كان ذلك تأكيدا ومخرجا من الخلاف
المتقدم، وإن كان ضعيفا كما عرفت، وعلى هذا فهل يشترط تعيينها حينئذ حذرا
من الجهالة في الشرط الذي هو جزء من العقد، فتسري الجهالة إلى العقد ويؤيده
اشتراط نفقة الأجير حيث لا يثبت على المستأجر، فإنه لا بد من تعيينها كما
ذكروه أم لا؟ نظرا إلى أن الأشهر الأظهر كما عرفت ثبوتها بمجرد العقد مع عدم
اعتبار وجوب ضبطها فلا يجب ضبطها بالشرط إذ لا يزيد الثبوت بالاشتراط على
الثبوت بالأصل اشكال، ولعل الثاني أقوى ورجح في المسالك الأول.
211

الرابع: قد عرفت أنه لا يشترط بالنفقة وجود ربح بل ينفق من أصل المال،
وإن قصر المال ولم يكن ربح لكن لو حصل الربح فإنه تخرج النفقة منه مقدمة
على حق العامل.
الخامس: ما ذكرنا من وجوب النفقة مخصوص بالسفر المأذون فيه، فلو
سافر إلى غيره إما بتجاوز السفر المأذون فيه إلى مكان غير مأذون فيه أو إلى جهة غير
جهة السفر المأذون فيه فلا نفقة له، وإن كانت المضاربة صحيحة والربح بينهما
كما عرفت آنفا.
السادس: لو تعدد أرباب المال الذي في يده بأن كان بعضه له مثلا، وبعضه
لزيد، وبعضه لثالث، وهكذا.. قسطت النفقة على حسب المال، فلو كان نصف المال
للعامل، ونصفه للمالك كانت النفقة أنصافا، وهكذا.. هذا هو الأظهر الأشهر.
وقيل: بأن التقسيط بنسبة العملين أي ما يعمله لكل واحد من أصحاب
المال، ورد بأن استحقاق النفقة في مال المضاربة منوط بالمال، ولا ينظر إلى
العمل، قالوا: ولا فرق في التقسيط بين أن يكون قد شرطها على كل واحد
منهما أو أطلق، بل له نفقة واحدة عليهما على التقديرين، لأن ذلك منزل على
اختصاص المشروط عليه بالعمل.
هذا مع جهل كل واحد منهما بالآخر، أما لو علم صاحب القراض الأول
بالثاني، وشرط على ماله كمال النفقة جاز، واختصت به، ولا شئ على الثاني.
السابع: لو اتفق موته أو مرضه في السفر كان ما ينفق في ذلك من ماله،
إذ لا تعلق لذلك بالتجارة، واستثنى بعضهم ما لو كان معلوما أنه لو كان في بلده
لم يمرض، أو أن مؤنة مرضه يكون في الحضر، وفي بلده أرخص منها في تلك
البلد، قال فيمكن حينئذ احتساب الزيادة من مال المضاربة.
212

الثامن: لو سافر بالمال للمضاربة فاتفق عزله في السفر، وانتزع المال
منه كانت نفقة الرجوع عليه، لأنه إنما استحق النفقة في السفر للمضاربة، وقد
ارتفعت بالفسخ وعزله عنها.
وما توهمه بعض العامة من حصول الضرر عليه مردود، بأن دخوله في عقد
يجوز فسخه كل وقت قدوم منه على ذلك، وهذا القائل أثبت له نفقة الرجوع
لما ذكره وفيه ما عرفت. والله العالم.
الخامسة: قد صرح جملة من الأصحاب بأن مقتضى اطلاق الإذن في
المضاربة هو البيع نقدا بثمن المثل من نقد البلد، فلو خالف لم يمض إلا مع
إجازة المالك، وكذا مقتضى الاطلاق هو أن يشتري بعين المال، فلو اشترى
في الذمة لم يصح إلا مع الإجازة.
وتفصيل الكلام في هذه الجملة أن يقال إنه لما كان عقد المضاربة محمولا
على ما هو المتعارف في التجارة والموجب لتحصيل الربح وجب قصر تصرف العامل
على ما يوجب حصول الغاية المذكورة.
قال في التذكرة: لما كان الغرض الأقصى من القراض تحصيل الربح،
والفائدة وجب أن يكون تصرف العامل مقصورا على ما يحصل هذه الغاية الذاتية
وأن يمنع من التصرف المؤدي إلى ما يضادها فينفذ تصرفه بما فيه الغبطة
والفائدة، كتصرف الوكيل للموكل لأنها في الحقيقة نوع وكالة، وإن كان له أن
يتصرف في نوع مما ليس للوكيل التصرف به تحصيلا للفائدة، فإن له أن يبيع
بالعروض، كما له أن يبيع بالنقد بخلاف الوكيل، فإن تصرفه في البيع إنما
هو بالنقد خاصة، لأن المقصود من القراض الاسترباح، والبيع بالعروض قد
يكون وصلة إليه وطريقا فيه، وأيضا له أن يشتري العيب إذا رأى فيه ربحا بخلاف
213

الوكيل. انتهى.
وحينئذ فليس له البيع إلا نقدا لما في النسية من التغرير بمال المالك
وجعله في معرض التلف، كما في الوكالة، مع أنه يمكن أن يكون في بعض
الأحوال حصول الربح في جانب النسبة مع المصلحة وأمن التلف، إلا أنهم منعوا
من ذلك مطلقا، وكأنهم بنوا على أن الأغلب في مثل ذلك التلف، والتعرض له
محل خطر وتغرير، وكذا ليس له البيع إلا بثمن المثل، وهو ظاهر، لأن
البيع بدونه تضييع على المالك، مع أنه يمكن حصول الزايد، وأما البيع بنقد
البلد فلأن الاطلاق في الوكالة إنما ينصرف إليه، والقراض في معناه، فلذا أطلقوا
الحكم هنا.
وفيه أن القراض قد يفارق الوكالة في بعض الموارد، لأن القرض المطلوب
به تحصيل الربح قد يتفق في غير نقد البلد كالعروض، وإليه يميل كلام الشهيد
الثاني في المسالك، فيجوز البيع بغير نقد البلد مع ظهور الغبطة، وحصول
المصلحة لأنها هي المدار في القراض وهو الظاهر من كلام التذكرة المذكور،
وتردد في القواعد.
وبالجملة فإنه لما كان المدار في القراض إنما هو تحصيل الربح والفايدة
فينبغي أن يترتب الجواز عليه، سواء كان في البيع بالعروض التي هي غير نقد
البلد، أو في البيع بالنسية التي ليست نقدا، بل يمكن أيضا في البيع بأقل من
ثمن المثل إذا اقتضته المصلحة، وترتبت عليه الغبطة، بأن يبيع بأقل من ثمن
المثل، ويشتري مالا فيه ربح كثير، فاطلاق الجماعة المذكورة أن اطلاق الإذن
في المضاربة يقتضي الأمور المذكورة محل تأمل كما ظهر لك، والحمل على
الوكالة غير مطرد كما عرفت من كلامه في التذكرة.
والعجب أنهم اعترفوا بذلك في شراء المعيب، فجوزوا للعامل شراء
214

المعيب إذا رأى الغبطة في شراءه بحصول الربح فيه، حيث أنه المدار في القراض
مع أن ذلك لا يجوز للوكيل، وحينئذ فالواجب بمقتضى ذلك هو دوران الحكم
جوازا ومنعا مدار الغرض المذكور وجودا وعدما، هذا كله اطلاق الإذن.
أما لو أذن له في شئ من هذه الأمور خصوصا أو عموما كتصرف حيث
شئت، وبع بما أردت، واعمل بحسب رأيك ونظرك، فالظاهر حينئذ هو الجواز
في جميع ما ذكرناه (1).
أما قوله في المسالك أنه يجوز له البيع بالعروض قطعا وأما النقد وثمن
المثل فلا يخالفهما إلا بالتصريح، فإني لا أعرف له وجها وجيها مع دخوله في
الاطلاق المذكور، سيما مع ظهور الغبطة، كما شرحناه آنفا.
وكيف كان فإنه يستثنى من ثمن المثل نقصان ما يتسامح الناس به عادة
فلا يدخل تحت المنع.
ثم إنه لو خالف العامل ما دل عليه اللفظ بخصوصه أو اطلاقه، فهل يقع
العقد باطلا أم صحيحا موقوفا على إجازة المالك، المشهور الثاني، بناء على
ما هو المشهور بينهم من صحة البيع الفضولي، وأن لزومه موقوف على إجازة
المالك، وحينئذ فإن أجاز نفذ البيع ولزم فعلى تقدير كون البيع نسية فإن
حصل الثمن فلا اشكال وإلا ضمن العامل الثمن للمالك لثبوته بالبيع الصحيح

(1) أقول: ويؤيد ما ذكرناه، ما صرح به العلامة في المختلف حيث قال: قال الشيخ
في المبسوط: إذا دفع إليه مالا قراضا وقال له اتجر به أو قال: اصنع ما ترى أو تصرف
كيف شئت فإنه يقتضي أن يشتري تثمن مثله، نقدا بنقد البلد، والوجه عندي أن له البيع
كيف شاء سواء كان بثمن المثل أم لا، وبنقد البلد أو لا، جعل المشية
إليه. نعم إنه منوط بالمصلحة انتهى، وهو ظاهر فيما قلناه وقد وفقني الله سبحانه للوقوف
عليه بعد ذكرنا ما ذكرناه في الأصل فنقلنا كلامه في الحاشية وهو من نوادر الخاطر، منه
رحمه الله.
215

لا القيمة، وإن لم يجز المالك ذلك وجب استرداد المبيع مع إمكانه فلو تعذر
ضمن قيمة المبيع إن كان قيميا أو مثله إن كان مثليا، لا الثمن المؤجل وإن كان
أزيد من القيمة، ولا التفاوت في صورة النقيصة، لأنه مع عدم إجازة المالك البيع
يكون البيع باطلا، فيضمن للمالك عين ماله الذي تعدى فيه وسلمه من غير إذن
شرعي، هكذا قالوا (رضي الله عنهم).
وفيه ما حققناه سابقا في كتاب البيع في مسألة البيع الفضولي (1) من
الاشكالات التي أوردناها عليهم في هذا المقام، هذا كله مع القول بصحة
العقد الفضولي.
وأما على ما اخترناه من القول ببطلانه كما قدمنا تحقيقه ثمة فالأمر واضح،
وأما اقتضاء الاطلاق الاشتراء بعين المال فلأن المضاربة إنما وقعت على ذلك المال
والوكالة التي اقتضتها المضاربة إنما تعلقت بذلك المال، والربح الذي اشترطه
العامل إنما تعلق بذلك المال.
وأيضا فإنه ربما يتطرق التلف إلى رأس المال، فتبقى عهدة الثمن متعلقة
بالمالك، وقد لا يمكنه الخروج منها، وعلى هذا فلو اشترى في الذمة من غير
إذن المالك وقف على إجازة المالك بناء على ما تقدم من الحكم بصحة البيع الفضولي
ولو اشترى في الذمة ولم يعين العقد لا للمالك ولا لنفسه وقع الشراء له ظاهرا
وباطنا، وإن عينه لنفسه تعين له أيضا وإن عينه للمالك فإنه مع الإذن لازم،
وبدونه فهو كما عرفت أو لا يكون موقوفا على إجازة المالك، بناء على صحة البيع
الفضولي، وأن عين المالك بنية وقع للعامل ظاهرا وتمام تحقيق الكلام في
المقام يأتي انشاء الله في كتاب الوكالة والله العالم.
216

السادسة: لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في أنه مع موت كل منهما
تبطل المضاربة، لأن بالموت يخرج المال عن ملك المالك ويصير للورثة،
فلا يجوز التصرف بالإذن الذي كان من المورث، بل لا بد من إذن الوارث، هذا
مع موت المالك.
وأما مع موت العامل فلأن المأذون له في المضاربة كان هو العامل
لا وارثه فلا يجوز لوارثه التصرف إلا بإذن جديد، وهو المراد من بطلان المضاربة
هنا، ولأنها أيضا من العقود الجائزة فتبطل بما تبطل به من موت كل منهما
أو جنونه أو اغمائه أو الحجر عليه للسفه.
ثم إن كان الميت هو المالك، فإن كان المال ناضا لا ربح فيه أخذه الوارث،
وإن كان فيه ربح اقتسمه العامل مع الورثة، وتقدم حصة العامل على الغرماء،
لو كان على الميت ديون مستوعبة لملكه لحصته من الربح، بظهوره، فكان
شريكا للمالك، ولأن حقه متعلق بعين المال لا بذمة المالك، وإن كان المال
عروضا فللعامل بيعه رجاء الربح، وإلا فلا، وللوارث إلزامه بالانضاض،
وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك أن شاء الله تعالى في مسألة الفسخ.
وإن كان الميت هو العامل، فإن كان المال ناضا ولا ربح أخذه المالك، وإن كان
فيه ربح دفع إلى الورثة حصة مورثهم منه، ولو كان عروضا واحتيج إلى البيع والتنضيض
فإن أذن المالك للوارث في ذلك جاز، وإلا عين له الحاكم أمينا يبيعه، فإن
ظهر فيه ربح أوصل حصة الوارث إليه، وإلا سلم الجميع إلى المالك والله العالم.
المقصد الثاني في مال القراض:
والبحث يقع فيه في مواضع: الأول لا خلاف بين الأصحاب في أنه يشترط
في مال القراض أن يكون عينا لا دينا وأن يكون دراهم أو دنانير، ونقل في
217

التذكرة الاجماع على ذلك.
أقول: ويدل على كونه عينا لا دينا ما رواه المشايخ الثلاثة عن السكوني (1)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في رجل له
على رجل مال فتقاضاه ولا يكون عنده ما يقضيه، فيقول: هو عندك مضاربة، قال:
لا يصلح حتى يقبضه منه " وهو صريح في المطلوب ولا يضر ضعف السند خصوصا
مع تلقي الأصحاب له بالقبول واجماعهم على ذلك.
ومثله ما لو أذن للعامل في قبضه من الغريم، فإنه لا يخرج بذلك عن كون
المضاربة قد وقعت بالدين، إلا أن يجدد العقد بعد القبض.
وأما اشتراط كونه دراهم أو دنانير فقد اعترف جملة من الأصحاب بأنهم
لم يقفوا له على دليل غير الاجماع المدعى في المقام، والظاهر أنه كذلك،
حيث إنا لم نقف بعد الفحص والتتبع على دليل من النصوص على ذلك، وتردد
المحقق في الشرايع في الجواز بالنقرة، وهي بضم النون القطعة المذابة من الذهب
والفضة.
قال في المسالك: ومنشأ التردد فيها من عدم كونها دراهم ودنانير الذي
هو موضع الوفاق، ومن مساواتها لهما في المعنى، حيث أنها من النقدين، وإنما
فاتها النقش ونحوه، وانضباط قيمتها بها وأصالة الجواز، ثم قال: وهذا كله
يندفع لما ذكرناه من اتفاقهم على اشتراط أحديهما، ومع ذلك لا نعلم قائلا
بجوازه بها، وإنما ذكرها المصنف مترددا في حكها، ولم ينقل غيره فيها
خلافا، وإذا كانت المضاربة حكما شرعيا فلا بد من الوقوف على ما ثبت الإذن فيه
شرعا، وربما أطلقت النقرة على الدراهم المضروبة من غير سكة، فإن صح هذا
الاسم كان التردد من حيث أنها قد صارت دراهم ودنانير: وإنما تخلفت السكة
وهي وصف في النقدين، وربما لا يقدح خصوصا إذا تعومل بهما على ذلك الوجه

(1) الكافي ج 5 ص 240 ح 4، التهذيب ج 7 ص 192 ح 34 الفقيه ج 3
ص 144 ح 4 الوسائل ص 187 باب 5.
218

ومما تقدم من وجوه المنع، انتهى وهو جيد.
أقول: لا يخفى أن من لا يلتفت إلى دعوى مثل هذه الاجماعات، لعدم
ثبوت كونها دليلا شرعيا فإنه لا مانع عنده من الحكم بالجواز في غير النقدين
نظرا إلى عموم الأدلة الدالة على جوازه، وتخصيصها يحتاج إلى دليل شرعي،
وليس فليس.
قالوا تفريعا على ما تقدم: فلا يصح المضاربة بالفلوس، ولا بالدراهم
المغشوشة، سواء كان الغش أقل أو أكثر، ولا بالعروض (1) وأنت خبير بما فيه
بعدما عرفت، حيث أنه لا مستند لهم هنا أيضا سوى دعوى الاجماع.
ولكن ينبغي تقييد المنع من الدراهم المغشوشة بما لو كان التعامل بها
ساقطا، وإلا فلو جرت في المعاملة فإنه لا مانع من المضاربة بها.
قال في المسالك: هذا إذا لم يكن متعاملا بالمغشوش، فلو كان معلوم
الصرف بين الناس جازت به المعاملة، وصح جعله مالا للقراض، سواء كان الغش
أقل أو أكثر، انتهى.
الثاني: قالوا: لو دفع آلة الصيد كالشبكة بحصة من الصيد كان الصيد للصائد
وعليه أجرة الآلة، وذلك لأن هذه المعاملة ليست بمضاربة إذ المضاربة كما هو
المجمع عليه عندهم إنما يكون بالدراهم والدنانير، ولأن مقتضى المضاربة
التصرف في عين المال المدفوع، واتلافه بالبيع أو الشراء، وهنا ليس كذلك،
لا بالنسبة إلى الأول ولا الثاني. وليس أيضا بشركة، لأنها هنا مركبة من شركة

(1) العروض بضم العين جمع عرض بفتحها وسكون الراء وفتحها أيضا هو المتاع
وكل شئ غير النقدين كما ذكره في القاموس، وحكى الجوهري عن أبي عبيد أن العروض
هي التي لا يدخلها كيل ولا وزن، ولا تكون حيوانا ولا عقارا، وظاهر، اطلاقات الفقهاء
في هذه الأبواب على المعنى الأول فإنهم يقابلون بها النقدين كما لا يخفى على المتتبع
منه رحمه الله.
219

الأبدان وغيرها، وقد تقدم بطلانها مع تميز مال صاحب الشبكة، وعدم حصول
الشركة فيه، ليست أيضا بإجارة، وهو ظاهر.
ثم إن الحكم هنا بكون الصيد للصائد خاصة يبنى على عدم تصور التوكيل
في تملك المباح، كما هو أحد القولين، وإلا فإنه يصير الصيد مشتركا بينهما
حسبما يراه الصائد، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الثالثة من الفصل الثالث
في اللواحق من الكتاب المتقدم (1) واحتمال أنه إنما قصد الصيد لنفسه، ولم ينو
مشاركة الآخر بعيد، فإن الظاهر أن دخوله إنما كان على جهة الشركة.
قال في المسالك: وحيث يكون الصيد لهما فعلى كل منهما من أجرة مثل
الصائد والشبكة بحسب ما أصابه من الملك.
أقول: قد مر توضيح ذلك في المسألة الثانية من الفصل المتقدم ذكره
من الكتاب المتقدم (2)، ومرجعه إلى أن لكل منهما أجرة المثل فيرجع كل
منهما على الآخر بما يخصه من ذلك.
الثالث: لا اشكال ولا خلاف فيما إذا كان مال القراض معلوم المقدار معينا
وإن كان مشاعا، لأن المشاع معين في نفسه مع كونه جامعا لباقي الشرائط،
ولا فرق بين أن يكون العقد مع الشريك أو غيره، ولو كان مشاهدا مع كونه
مجهولا قيل: لا يصح للجهالة، وقيل: بالصحة لزوال معظم الضرر بالمشاهدة،
بل حكى في المختلف عن المشهور القول بجواز المضاربة بالجزاف وإن لم
يكن مشاهدا محتجا بالأصل، وقوله (صلى الله عليه وآله) " المؤمنون
عند شروطهم " (3).

(1) ص 189
(2) ص 187
(3) التهذيب ج 7 ص 371 ح 1503، الإستبصار ج 3 ح 835، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4
220

أقول: قال الشيخ في الخلاف: لا يصح القراض إذا كان رأس المال جزافا (1)
لأن القراض عقد شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وليس في الشرع ما يدل على
صحة هذا القراض، فوجب بطلانه، والظاهر أنه هو المشهور.
وقال في المبسوط: يبطل، وقال قوم يصح، ويكون القول قول العامل
في قدره، فإن أقاما بينتين كان الحكم لبينة المالك، لأنها بينة الخارج،
قال: وهذا هو الأقوى عندي.
قال في المختلف: وما قواه الشيخ هو الأجود، لنا الأصل الصحة، وقوله
(صلى الله عليه وآله) " المؤمنون عند شروطهم " وقد وجد شرط سائغ
فيحكم به، انتهى.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ترجيح الأول من حيث الجهالة،
وظاهر المحقق الأردبيلي الميل إلى الثاني، لعموم الأدلة، وعدم الدليل الواضح
على المنع، والمسألة محل توقف لعدم الدليل الواضح على الجواز، والتعلق
باطلاق الأدلة مردود بما عرفت في غير مقام مما تقدم، من أن الاطلاق يجب
حمله على الأفراد المتعارفة المتكررة الشايعة، وذلك أنما هو مع التعين،
ومعلومية المقدار، وعدم تطرق الجهالة بوجه من الوجوه.
وكيف كان فإنه لا اشكال في كون القول قول العامل بيمينه لو اختلفا
في قدره، صحت المضاربة أم بطلت، لأنه منكر، ومقتضى القاعدة تقديم قوله
بيمينه، ومع وجود البينتين وتعارضهما فإن الحكم لبينة المالك، لأنه المدعي

(1) قال في التذكرة: لا يصح القراض على الجزاف وإن كان مشاهدا له مثل قبضة
من ذهب أو فضة مجهولة القدر أو كيس من الدراهم مجهول القدر سواء شاهده العامل
والمالك أو لا، وبه قال الشافعي، لعدم إمكان الرجوع إليه عند المناضلة فلا بد من الرجوع
إلى رأس المال عندها، وأن جهالة رأس المال يستلزم جهالة الربح، وقال أبو حنيفة:
يجوز أن يكون رأس المال مجهولا ويكون القول قول العامل بيمينه إلا أن يكون لرب المال
بينة فبينة رب المال أولى انتهى، منه رحمه الله.
221

ومقتضى القاعدة تقديم قوله ببينته، وكذا لا ينعقد القراض بناء على ما قدمنا لو
أحضر مالين معدودين، فقال: قارضتك بأيهما شئت، لانتفاء التعيين الذي هو
شرط في صحة العقد، كما عرفت، ولا فرق بين أن يكون المالان متساويين
جنسا وقدرا أو مختلفين، خلافا لبعض العامة، حيث جوزه مع التساوي، وظاهر
المحقق المتقدم ذكره الميل إلى الجواز هنا أيضا استنادا إلى عموم الأدلة،
وفيه ما عرفت.
الرابع: لو أخذ مالا للمضاربة مع عجزه عنه بمعنى أنه يعجز عن تقليبه
في التجارة والبيع والشراء به لكثرته، قالوا: لا يخلو إما أن يكون المالك عالما
بعجزه، أو جاهلا بذلك، فإن كان الثاني فإنه يضمن، لأنه مع علمه بنفسه وأنه
يعجز عن ذلك يكون واضعا يده على المال على غير الوجه المأذون له فيه، فإنه
إنما دفع إليه ليعمل به في التجارة.
لكن هل يكون ضامنا للجميع أو القدر الزائد على مقدوره قولان: اختار
أو لهما في المسالك، ووجه الأول من عدم التميز والنهي عن أخذه على هذا الوجه
ووجه الثاني من أن التقصير إنما حصل بسبب الزائد، فيختص به، وربما قيل:
إنه إن أخذ الجميع دفعة، فالحكم الأول، وإن أخذ المقدور ثم أخذ الزائد ولم
يمزجه به ضمن الزائد خاصة، وأورد عليه بأنه بعد وضع يده على الجميع عاجز
عن المجموع من حيث هو مجموع، ولا ترجيح الآن لأحد أجزائه، إذ لو ترك
الأول وأخذ الزيادة لم يعجز.
أقول: لا يخفى ما في هذه التعليلات العليلة من عدم الصلوح لابتناء الأحكام الشرعية عليها، والحكم غير منصوص، وبه يظهر ما في الاستناد في عموم
الضمان إلى النهي، وأي نهي هنا مع عدم نص في المسألة وكأنه أشار بهذا
النهي إلى ما ذكر من قوله يكون واضعا يده على المال غير الوجه المأذون فيه.
وفيه أنه يمكن تخصيصها بالزائد لأنه هو الذي حصل فيه العجز، فيكون
222

هو الغير المأذون فيه، وأما ما كان يمكن العمل به فإنه يكون مأذونا فيه.
وبالجملة فالحكم لا يخلو من شوب الاشكال لما عرفت لعدم الدليل الواضح.
قالوا: ولو كان المالك عالما بعجزه لم يضمن، إما لقدومه على الخطر،
أو أن علمه بذلك يقضي الإذن له في التوكيل.
أقول: وفيه بالنسبة إلى التعليل الأول ما في سابقه من الاشكال، إذ من
الممكن أن يكون عالما بعجزه، لكن يجوز حصول القدرة له بعد ذلك بوجود
من يساعده، أو بتجدد بعض الأسباب الموجبة للقدرة، ومع عدم إمكان ذلك فإنا لا
نسلم أنه بمجرد علمه بعدم القدرة مع أنه إنما دفعه إليه لأجل المعاملة به،
وتحصيل الربح والنفع ينتفي عنه الضمان، إذ لا أقل أن يكون في يده كالأمانة،
ومجرد دفعه له على هذا الوجه لا يستلزم جواز فواته على مالكه، لأن المدفوع
إليه عاقل مكلف أمين ليس بمجنون ولا سفيه، حتى يكون المالك قد فرط بدفعه
إليه، ولكن قد تقدم لهم مثل هذا الكلام في مسألة بيع الفضولي، وقد أوضحنا
ما فيه (1).
قالوا: وحيث يثبت الضمان لا يبطل العقد، إذ لا منافاة بين الضمان وصحة
العقد.
أقول: ويدل عليه ما تقدم في تلك الأخبار وعليه اتفاق الأصحاب من أنه
مع المخالفة لما شرطه المالك فإنه يضمن، والربح بينهما.
الخامس: لو كان له مال مغصوب في يد شخص وذلك المال موجود
معين معلوم القدر، فإنه يجوز عندهم أن يقارض عليه الغاصب مع استكمال باقي

(1) وأما بالنسبة إلى التعليل الثاني فعدم الضمان عليه إنما هو من حيث أنه مأذون
في دفعه إلى الغير ليعمل به، فلو حصل من ذلك الغير تفريط يوجب ذهاب المال مثلا فإن
الأول لا يضمن من حيث الإذن في الدفع، وإنما الكلام في الثاني فيراعى فيه حكم عامل المضاربة
منه رحمه الله.
223

الشروط، والظاهر أن الحكم اتفاقي عند الأصحاب، إذ لم أقف على نقل خلاف
في المسألة والظاهر أنه لا اشكال في ذلك المضاربة، وكذا لا اشكال ولا خلاف في
أنه متى وقعت المضاربة واشترى العامل وهو الغاصب بذلك المال المغصوب عروضا
ودفعه عن قيمتها، فإنه تبرئ ذمته من الضمان الثابت عليه بالغصب، لأنه قضى
دين المالك بإذنه.
إنما الخلاف في أنه هل تبرئ ذمته بمجرد عقد المضاربة أم لا؟ الظاهر أن
المشهور الثاني، وبالأول صرح العلامة وولده في الشرح، قال شيخنا الشهيد الثاني
في المسالك: ووجه بقاء الضمان أنه كان حاصلا قبل ولم يحصل ما يزيله، لأن
عقد القراض لا يلزمه عدم الضمان، فإنه قد يجامعه بأن يتعدى فلا ينافيه، ولقوله
(صلى الله عليه وآله وسلم) " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " وحتى لانتهاء
الغاية، فيبقى الضمان إلى الأداء إما إلى المالك، أو من أذن له، والدفع إلى
البايع مأذون فيه، فيكون من جملة الغاية. ثم نقل عن العلامة أنه استقرب
زوال الضمان هنا، وتبعه ولده في الشرح، مستندا إلى أن القراض أمانة، فصحة
عقده يوجب كون المال أمانة، لأن معنى الصحة ترتب الأثر، ولانتفاء علة
الضمان لزوال الغصب، ولأنه أذن في بقائه في يده.
ثم اعترض عليه بأن معنى كون القراض أمانة من حيث أنه قراض، وذلك
لا ينافي الضمان من حيثية أخرى، كما لو كان غصبا لعدم المنافاة، فإن الضمان
قد يجامعه كما إذا تعدى العامل، إلى أن قال: أما اقتضاء العقد الإذن في القبض
فضعفه ظاهر، لأن مجرد العقد لا يقتضي ذلك، وإنما يحصل الإذن بأمر آخر
ولو حصل سلمنا زوال الضمان انتهى.

(1) المستدرك ج 2 ص 504.
224

أقول: قال العلامة في التذكرة (1) وهل يزول عن الغاصب ضمان الغصب بعقد
المضاربة عليه أو بدفعه إلى بايع السلعة للقراض؟ أبو حنيفة ومالك على الأول،
لأنه ماسك له بإذن صاحبه، والشافعي على الثاني لعدم التنافي بين القراض وضمان
الغصب كما لو تعدى فيه، والوجه عندي الأول، لأن ضمان الغصب يتبع الغصب
والغصب قد زال بعقد القراض، فيزول تابعه انتهى.
والظاهر أن الحق في المسألة هو ما ذكره العلامة، وبيانه أنه لا ريب أن ترتب
الضمان على الغصب - ووجوب الضمان على الغاصب - إنما هو من حيث كون المقبوض
كذلك بغير رضا المالك ولا إجازته، وحينئذ فلو فرض أن المالك رضي بالغصب
وأجاز قبض الغاصب، لا يتعقبه ضمان ولا إثم، وبذلك يعلم أن الضمان وعدمه دائر
مدار الرضا بالقبض وعدمه، ولا أظن أن شيخنا المذكور ولا غيره يخالف في شئ
مما ذكرناه.
وحينئذ فإذا حصلت المضاربة بذلك المال المغصوب قد حصل الرضا بالقبض،
فيزول موجب الضمان كما عرفت.
وأما قول شيخنا المذكور أنه لا مانع من اجتماع صحة القراض مع الضمان،
وهو صحيح، إلا أن ذكر ذلك هنا نوع مغالطة، فإنا لا نمنع ذلك، ولكنا نقول
أن ثبوت الضمان متوقف على وجود سبب يقتضيه، وفي ما ذكره السبب موجود،
وهو المخالفة، وأما فيما نحن فيه فلا سبب له إلا استصحاب الضمان وقت الغصب،
والاستصحاب هنا غير تام، لعروض حالة أخرى غير الحالة التي كان عليها وقت
الغصب، وشرط العمل بالاستصحاب على تقدير تسليم حجيته أن لا يعرض ما يخالف
العلة الأولى ويرفعها، والأمر هنا على خلاف ذلك، لما عرفت من عدم الرضا

(1) أقول: صورة كلام التذكرة إذا ثبت هذا فإذا اشترى شيئا للقراض وسلم المال
المغضوب إلى البايع صح وبرء من الضمان حيث سلمه بإذن صاحبه، فإن المضاربة تضمنت
تسليم المال إلى البايع في التجارة وهل يزول عن الغاصب إلى آخر ما هو مذكور في الأصل
منه رحمه الله.
225

أولا وحصول الرضا ثانيا وقد عرفت أن ثبوت الغصب وعدمه دائر مدار الرضا
وعدمه.
وأما قوله: إن مجرد العقد لا يقتضي ذلك، وإنما يحصل الإذن بأمر آخر
فلا يخفى ما فيه، أما أولا فلأنه قد تقدم في صدر الكتاب تعريف المضاربة بأنها
عقد شرعي لتجارة الانسان بمال غيره بحصة من الربح.
ومن الظاهر أن ثبوت شرعية هذا العقد على الوجه المذكور لا تجامع
الغصب، بل لا يكون إلا مع الإذن والرضا، فكيف لا يكون مجرد العقد متعينا
للرضا بالقبض، وأيضا فإنه قال في المسالك في شرح قول المصنف وهو جائز من
الطرفين إذ لا خلاف في كون القراض من العقود الجائزة من الطرفين، ولأنه
وكالة في الابتداء، ثم قد يصير شركة وهما جائزان إلى آخره، وحينئذ كيف
يتم كون هذا العقد وكالة في الابتداء مع البقاء على الغصب كما يدعيه، بل اللازم
من الحكم بكونه وكالة هو حصول الإذن والرضا بالقبض، وإلا فإنه لا يتم الحكم
بكونه وكالة وهو ظاهر.
وأما ثانيا فإنا لم نقف في كلام أحد منهم على اشتراط الإذن زيادة على
العقد المذكور كما لا يخفى على من تتبع كلامهم، بل ظاهر كلامهم أن مجرد
العقد مستلزم للإذن في التصرف، وترتب سائر الأحكام.
وبالجملة فإن كلامه (رحمة الله عليه) هنا لا أعرف له وجها وجيها،
وأما ثالثا فإنه لا يخفى أنه لما كان ثمرة هذا العقد، والغرض منه إنما هو التصرف
في المال والعمل به، فكيف يتم وقوع هذا العقد من المالك مع عدم الرضا،
والإذن ما هذه إلا سفسطة ظاهرة، وقد تقدم نظير هذه المسألة في كتاب الرهن
أيضا، والعجب من العلامة أنه في هذه المسألة صرح بما نقلناه عنه من زوال
الغصب بمجرد عقد المضاربة، وفي الرهن اشترط الإذن في القبض زائدا على عقد
الرهن، كما قدمنا نقله عنه ثمة، والمسألتان من باب واحد كما لا يخفى.
226

والله العالم
السادس: وهو يشتمل على فروع في المقام الأول قالوا:: لو قال: بع
هذه السلعة فإذا نض ثمنها فهو قراض كان باطلا، لأن شرط صحة القراض أن
يكون مال القراض عينا معينة مملوكة للمالك، وما هنا ليس كذلك، فإن ثمن
السلعة حال العقد مجهول، ولأنه أمر كلي بعد البيع في ذمة المالك، وهو
أيضا غير مملوك للمالك حال العقد، وأيضا فإن العقد معلق على شرط، وقد
تقدم أنه لا يصح عندهم.
الثاني - لو مات رب المال والمال عروض في يد العامل، وأقره الوارث
على العقد الأول، فإنهم صرحوا بأنه لا يصح، لأن العقد الأول بطل بالموت،
كما تقدم من أنه من العقود الجائزة التي تبطل بالموت، فلا يصح إلا بتجديد
العقد من المالك الثاني، والتجديد أيضا غير جائز، لأنه لا بد في مال المضاربة
أن يكون من النقدين، والموجود الآن عروض، فلا يصح المضاربة بها.
ولو مات رب المال والمال في يد العامل كان نقدا صح تجديد الوارث
عقد القراض معه بلا اشكال، وهل يصح بلفظ التقرير؟ قيل: لا، لأنه يؤذن
باستصحاب الأول وامضائه، فإنه إنما يقول له: قد تركتك على ما أنت عليه،
أو أقررتك على ما كنت عليه، والحال أن ما هو عليه قد بطل كما عرفت.
قال في المسالك: والأقوى الصحة إن استفاد من اللفظ معنى الإذن، لأن
عقد القراض لا ينحصر في لفظ كغيره من العقود الجائزة، والتقرير قد يدل
عليه، انتهى.
وهو جيد، وفي كلامه هنا كما ترى رد لما زعمه سابقا من أن عقد القراض
لا يقتضي الإذن، بل إنما يحصل الإذن بأمر آخر فإنه جعل مناط الصحة هنا في
الاكتفاء بالتقرير عن تجديد العقد كونه يفيد ما يفيده العقد من الإذن، وهو
ظاهر في بطلان كلامه الأول.
227

الثالث - لو اختلف العامل والمالك في قدر رأس المال فمقتضى القاعدة
أن القول قول العامل بيمينه، لأنه ينكر قبض الزيادة، والمالك يدعي اقباضها
ولا فرق في ذلك بين كون المال باقيا، أو تالفا بتفريط العامل، بل الحكم في
الثاني بطريق أولى، فإن العامل حينئذ غارم، فالقول قوله في القدر.
قال في المسالك: هذا كله إذا لم يكن ظهر ربح، وإلا ففي قبول قوله
اشكال من جريان التعليل المذكور، وهو الظاهر من اطلاق المصنف، ومن
اقتضاء انكاره لزيادة رأس المال توفير الربح، فيزيد حصته منه، فيكون ذلك في قوة
اختلافهما في قدر حصته منه مع أن القول قول المالك فيه بيمينه، ولأنه
مع بقاء المال الأصل يقتضي كون جميعه للمالك، إلى أن يدل دليل على
استحقاقه الزائد، ومع تلفه بتفريط فالمضمون قدر مال المالك، وإذا كان الأصل
استحقاق المالك لجميعه قبل التلف إلا ما أقر به للعامل، فالضمان تابع للاستحقاق
وهذا هو الأقوى، وربما قيل: إن القول قول المالك إلا مع التلف بتفريط
مطلقا، وهو ضعيف جدا انتهى.
ثم إنه كتب في الحاشية في بيان صاحب هذا القول: قال القائل به الإمام
فخر الدين في شرح القواعد.
المقصد الثالث في الربح:
فيه مسائل - الأولى: المشهور بين الأصحاب أن المضارب يستحق من
الربح ما وقع عليه الشرط من النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك، وهو اختيار
الشيخ في الخلاف والمبسوط والاستبصار، وقال في النهاية إن له أجرة المثل،
والربح بتمامه للمالك، قال: وقد روي أنه يكون للمضارب من الربح بمقدار ما
وقع الشرط عليه من نصف أو ربع، أو أقل أو أكثر، ونقل هذا القول أيضا
عن الشيخ المفيد، وسلار وابن البراج.
228

ومرجع هذا الخلاف إلى أن عقد المضاربة هل هو عقد شرعي صحيح أو
باطل؟ والقول المشهور مبني على الأول، والثاني على الثاني.
والأول هو المستفاد من الأخبار المتظافرة من طرق الخاصة والعامة، وبه
قال كافة العلماء من الطرفين إلا ما ذكرناه، وقد تقدمت جملة من الأخبار الدالة
على ذلك في المسألة الأولى من المقصد الأول، ومنها صحيحة محمد بن قيس (1)
وموثقته المتقدمتان في صدر هذا الكتاب، ومنها أيضا زيادة على ذلك موثقة
إسحاق بن عمار (2) عن أبي الحسن (عليه السلام) " قال: سألته عن مال المضاربة؟
قال: الربح بينهما، والوضيعة على المال ".
وحسنة الكاهلي (3) عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) " في رجل دفع
إلى رجل مالا مضاربة فجعل له شيئا من الربح مسمى.. فابتاع المضارب متاعا
فوضع فيه؟ قال: على المضارب من الوضيعة بقدر ما جعل له من الربح (4) ".
احتج القائلون بالقول الثاني بأن النماء تابع للأصل بالأصالة، فيكون
الربح للمالك، ولأن هذه المعاملة معاملة فاسدة الجهالة العوض فتبطل، فيكون
الربح لصاحب المال، وعليه أجرة المثل للعامل.
والجواب أن جميع ما ذكروا إن كان هو مقتضى قواعدهم كما صرحوا به في
غير موضع، إلا أنه بعد استفاضة النصوص وتكاثرها كما عرفت بصحة هذه المعاملة، وفيها
الصحيحة وغيرها مع عدم مخالف ولا مناقض فيها، فإنه يجب القول بصحة العقد،

(1) الكافي ج 5 ص 240 ح 3، التهذيب ج 7 ص 188 ح 16، الوسائل ج 13
ص 185 ح 2 و 4.
(2) المصدر ح 15، الوسائل ج 13 ص 186 ح 5.
(3) التهذيب ج 7 ص 188 ح 17، الوسائل ج 13 ص 186 ح 6.
(4) أقول: هذا الخبر بحسب ظاهره لا يخلو من الاشكال ونقل عن الشيخ أنه حمله
على ما إذا كان المال بينهما شركة، وإنما أطلق عليها المضاربة مجازا والأقرب كما ذكره
بعض مشايخنا المحققين من متأخر المتأخرين هو أن يكون المراد أنه حصل ربح ثم بعد ذلك
وضيعة فإنه ينقص من ربح كل منهما بنسبة نصيبه من الربح، منه رحمه الله.
229

وعدم الضرر بجهالة العوض كما قيل مثله في المزارعة والمساقاة، ومنع تبعية
النماء للأصل.
أقول: وهذا الموضع أيضا مؤيد لما قدمنا ذكره في غير موضع من عدم
وجوب الالتزام بقواعدهم، والوقوف عليها في مقابلة النصوص، فإن ما ذكروه
هنا من القواعد المذكورة قد بنوا عليه الأحكام في جملة من المواضع، واحتجوا به
في غير مقام، إلا أنه لما وردت النصوص هنا كما ترى على خلافها، وجب الخروج
عنها بذلك، وحينئذ فالواجب هو الوقوف على النصوص حيثما وجدت.
الثانية: الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه يشترط في الربح الشياع، بمعنى
أن يكون كل جزء جزء منه مشتركا، لأنه مقتضى المضاربة كما تنادي به
الأخبار المتقدمة من حكمها، بأن الربح بينهما، يعني كل جزء جزء منه،
وما لم يكن مشتركا فإنه خارج عن مقتضاها، فهذا الشرط داخل في مفهوم
المضاربة.
ويتفرع عليه صور، منها - أن يجعل لأحدهما شيئا معينا كعشرة دراهم
مثلا، فإنه باطل اتفاقا، وكذا لو ضم إلى ذلك أن الباقي بينهما، ولأنه ربما لا يربح
إلا ذلك القدر، فيلزم أن يختص به من شرط له، ويبقى الآخر بغير شئ مع أن
الروايات المتقدمة قد اتفقت على أن الربح بينهما.
وبالجملة فإن عقد المضاربة يقتضي الاشتراك بينهما في كل ما يحصل من
الربح بمقتضى الأخبار المذكورة، وهيهنا الربح ليس بينهما، سواء ضم إلى
ذلك أن الباقي بينهما أم لا، بل الذي بينهما إنما هو بعضه على تقدير الزيادة،
وجميعه على تقدير عدم الزيادة إنما هو لمن شرط له، فيبطل العقد البتة على
كل من الصورتين
ومنها أن يقول: خذه قراضا والربح لي، ووجه الفساد فيه أيضا ظاهر، لأن
مقتضى القراض كما عرفت من النصوص واتفاق كلمة الأصحاب الاشتراك في
230

الربح، وقوله: والربح لي ينافي ذلك، وحينئذ فلا يصح أن يكون قراضا البتة،
وهل يكون في هذه الصورة بضاعة؟ بمعنى أن العامل لا يستحق على عمله أجرة
كما هو المقرر في البضاعة، أم يكون قراضا باطلا؟ للاخلال بشرط القراض
مع التصريح بكونه قراضا - وجهان: والمشهور الثاني لما ذكر، وعلى تقديره
حينئذ قراضا يكون الربح للمالك خاصة، لأنه نماء ماله، وعليه أجرة المثل
للعامل، هذا مقتضى قواعدهم، وبه صرحوا هنا.
قيل: ووجه الأول النظر إلى المعنى، فإنه دال على البضاعة، وإن كان
بلفظ القراض ولأن البضاعة توكيل في التجارة تبرعا، وهو لا يختص بلفظ، وما
ذكر دال عليها، ولأنه لا يحكم بإلغاء اللفظ ما أمكن حمله على الصحة، وذكر
القراض وإن كان منافيا بحسب الظاهر، إلا أنه يمكن أن يكون مأخوذا من معنى
السماوات التي هي أن يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل، من غير
التفات إلى أمر آخر، وهو أخذ ما اشتق منه المعنى الشرعي.
ولو قيل: إن ذلك بحسب اللغة، والحقيقة الشرعية تأباه، أمكن أن يتجوز
فيه، فإن الحقايق اللغوية تصير مجازاة شرعية، وهو أولى من الفساد انتهى.
أقول: لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد، والتحمل الغير السديد، ولو
انفتح هذا الباب في مفاهيم الألفاظ، لانفتح الباب في الجدال، واتسعت دائرة
القيل والقال.
وكيف كان فالمسألة لخلوها من الدليل الواضع لا يخلو من الاشكال،
كغيرها مما جرى في هذا المجال.
بقي الكلام في أن ظاهر الأصحاب أنه - مع الحكم بكونه قراضا فاسدا -
يكون الربح للمالك، وللعامل أجرة المثل كما عرفت.
وقال العلامة في المختلف بعد أن نقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط أنه
لو قال: خذه قراضا على أن الربح كله لي،. كان قراضا فاسدا ولا يكون بضاعة -
231

ما لفظه: والوجه عند ى أنه لا أجرة للعامل، لأنه دخل على ذلك فكان متبرعا
بالعمل، فلا أجرة له حينئذ، وظاهره أنه وإن كان قراضا فاسدا فإنه لا أجرة له
لدخوله مع عدم تعيين أجرة، فكان عمله تبرعا، وقواه في المسالك، إلا أنه احتمل
بناء كلام العلامة على البضاعة أيضا، ولا يخلو من قوة، أما بالنسبة إلى البضاعة
فظاهر، وأما بالنسبة إلى القراض، فلما عرفت من فساده، ودخول العامل فيه
على هذا الوجه.
هذا إذا لم ينضم إلى الكلام المذكور ما يفهم منه إرادة أحد الأمرين
المذكورين من القراض، أو البضاعة من القرائن الحالية أو المقالية، وإلا كان
العمل على ذلك، وما يقتضيه من صحة أو بطلان.
ومنها أن يقول: خذه قراضا والربح كله لك، وقد عرفت آنفا وجه الفساد
فيه، وأنه لا يصح قراضا، وهل يكون ذلك قرضا بالتقريب المتقدم في البضاعة
بالنظر إلى تلك العبارة، أو قراضا فاسدا كما تقدم أيضا، فعلى الأول يكون
الربح كله للعامل، والمال مضمون عليه، كما هو شأن القرض ولا شئ للمالك
وعلى الثاني فالربح كله للمالك، وعليه أجرة المثل للعامل.
هذا إذا لم يتحقق قصد شئ من الأمرين، بأن لم يقصد شيئا بالكلية،
أو لم يعلم ما قصده، وإلا كان قرضا في الأول، وقراضا فاسدا في الثاني.
نعم لو قال في الصورة الثانية: خذه فاتجر به والربح لي، فإنه يكون
بضاعة بغير اشكال، وكذا لو قال في الصورة الثالثة: خذه واتجر به والربح لك
فإنه قرض بغير اشكال، والوجه في ذلك أنه لم يذكر في هاتين الصيغتين ما ينافي
البضاعة في الأولى، والقرض في الثانية، بخلاف ما تقدم، حيث قال: خذه قراضا
وأضاف إليه والربح لي، أو لك فصرح بأن الأخذ قراضا وهو حقيقة شرعية في
العقد المخصوص الذي يترتب عليه الشركة في الربح، مع أنه قد ضم إليه ما ينافي
ذلك من قوله " والربح لي أو لك " ولو قال: خذه على النصف فالظاهر الصحة
232

لأن المتبادر من ذلك أن الربح بينهما نصفين، وهو متضمن لتعيين حصه العامل
وكذا لو قال: على أن الربح بيننا، فإنه يقتضي التوزيع بينهما أنصافا، قيل:
إن الوجه في ذلك استوائهما في السبب المقتضي للاستحقاق، والأصل عدم التفاضل
كما لو أقر لهما بمال، وكما لو قال المقر: الشئ الفلاني بيني وبين زيد.
ونقل عن بعض الشافعية الحكم ببطلان العقد، لأن البينية تصدق مع التفاوت
فحيث لم يبينها يتحمل استحقاق الربح، ورد بمعن صدقها على غير المتساوي
مع الاطلاق.
نعم لو انضم إليه قرينة صح حمله على غيره بواسطتها، وعلل بعضهم الحكم
بالمناصفة في هذه العبارة، بأن قوله: الربح بيننا ظاهر في أن جميع ما يربح
يكون بيننا وهو يرجع إلى أن كل جزء جزء مما يصدق عليه الربح فإنه بينهما
وهو يقتضي المناصفة بلا اشكال، وبه يظهر ضعف ما تعلق به ذلك القائل بالبطلان
من أن البينية تصدق مع التفاوت، فإن دعوى صدقها ممنوع لما عرفت.
أقول: في دعوى ثبوت الحكم بالمناصفة من هذه العبارة اشكال، وذلك
لأن هذه العبارة قد تكررت في الأخبار المتقدمة من قولهم (عليهم السلام):
" والربح بينهما " ولو اقتضت المناصفة كما يدعونه لكان الحكم في المضاربة هو
أن يكون للعامل النصف مطلقا، مع أنهم لا يقولون بذلك، وإنما فهموا منها
مجرد الاشتراك، كما هو قول هذا البعض من الشافعية هنا، وبه يظهر قوة القول
بالبطلان، كما ذهب إليه هذا القائل.
ولو قيل: إن بعض روايات المسألة قد اشتمل على أنه بينهما على ما شرط
فيقيد به اطلاق تلك الأخبار، قلنا: هذا مما يؤيد ما ذكرناه، باشعاره بأنه لولا
التقييد لكان مدلول العبارة هو الاشتراك مطلقا كيف اتفق فكيف يحكم هنا
باقتضائها المناصفة.
قيل: ولو قال: على أن لك النصف صح، ولو قال: إن لي النصف واقتصر
233

بطل، وعلل وجه الفرق بين الصيغتين بصحة الأولى، وبطلان الثانية، بأن الربح
لما كان تابعا للمال والأصل كونه للمالك لم يفتقر إلى تعيين حصته، فإن عينها
كان ذلك تأكيدا، وأما تعيين حصة العامل فلا بد منه، لعدم استحقاقها بدونه،
فإذا قال: النصف لك، كان تعيينا لحصة العامل، وبقي الباقي على حكم الأصل
وأما إذا قال: النصف لي لم يقتض ذلك كون النصف الآخر لغيره، بل هو باق
على حكم الأصل أيضا، فيبطل العقد.
وربما قيل: بأنه يحتمل الصحة أيضا، وحمل النصف الآخر على حصة العامل
نظرا إلى عدم الفرق بين الصيغتين عرفا وعملا بمفهوم التخصيص، إذ لو كان النصف
الآخر له أيضا لم يكن لهذا التخصيص وجه، ورد بعدم استقرار العرف على ذلك
وضعف دلالة المفهوم.
أقول: والحكم لا يخلو من شوب الاشكال، وإن كان للحكم بالبطلان نوع
قرب لما ذكر، والله العالم.
الثالثة: قالوا: لو شرط أحدهما لغلامه حصة من الربح، صح، عمل
الغلام أم لم يعمل، أما لو شرط لأجنبي فإنه لا يصح إلا أن يكون عاملا.
وقيل: يصح وإن لم يكن عاملا، أقول: وتفصيل هذه الجملة يقع
في مواضع ثلاثة: أحدها - أنه متى شرط أحدهما لغلامه حصة، فإنه يصح،
والحكم فيه مبني على عدم ملك العبد كما هو المشهور، فإنه يرجع حينئذ إلى
سيده، فهو في معنى ما لو شرط أحدهما حصة زائدة على حصته، ولا نزاع في الصحة.
أما لو قلنا بملك العبد كان الحكم فيه كأجنبي الآتي حكمه، وثانيها -
لو شرط لأجنبي فإنه لا يصح إلا أن يكون عاملا. والوجه فيه أنه حيث أن الأصل
في الربح أن يكون بين المالك والعامل خاصة، أما المالك ففي مقابلة ماله،
وأما العامل ففي مقابلة عمله، فلا يصح إدخال الأجنبي في ذلك، ولا جعل شئ
من الربح له.
234

نعم إذا كان عاملا كان بمنزلة العامل المتعدد، فلا يكون أجنبيا، ومن
هنا ربما ينقدح اشكال في المقام، وهو أنه متى شرط العمل كان من قبيل العامل
المتعدد كما ذكرتم، مع أن المفروض كونه أجنبيا، وحينئذ فلا معنى لكونه
أجنبيا عاملا، لأن الأجنبي من لا مدخل له في العمل.
والجواب أن العامل في هذا الباب حيثما يطلق إنما يراد به المفوض إليه
أمر التجارة كما تقدم، وأنه وكيل عن المالك، والمراد بالعامل هنا بالنسبة
إلى هذا الأجنبي ليس كذلك، بل المراد به من له دخل في العمل في الجملة،
كأن شرط عليه حمل المتاع إلى السوق، ومن السوق إلى البيت مثلا، ونحو
ذلك من الأعمال الجزئية المخصوصة، ولهذا أنهم اشترطوا هنا ضبط العمل بما
يرفع الجهالة، وأن يكون من أعمال التجارة، لئلا يخرج عن مقتضاها.
وثالثها أنه قيل: بصحة الشرط للأجنبي وإن لم يكن عاملا ولا مدخل له
في العمل بالكلية، وكأنه لعموم (1) " المؤمنون عند شروطهم " و " أوفوا
بالعقود " (2) وعموم أدلة وجوب الوفاء بالوعد، وقد تقدم نظيره في مواضع عديدة.
وقيل: إن هذا المشروط إن كان مع العمل فهو للعامل كما تقدم، وإن
لم يجامعه عمل فهو للمالك، رجوعا إلى أصله، لئلا يخالف مقتضى العقد، ولقدوم
العامل على أنه له ما عين له خاصة.
أقول: قد تقدم في غير مقام ما في هذا التعليل أعني قوله لئلا يخالف
مقتضى العقد، فإنه جار في جميع الشروط، فإن الشرط في الحقيقة بمنزلة
الاستثناء مما دل عليه العقد، والأدلة على وجوب الوفاء بالشروط هي دليل
الاستثناء المذكور، وقد تقدم تحقيق ذلك.
الرابعة: قالوا: لو قال: لاثنين لكما نصف الربح صح، وكانا فيه سواء

(1) التهذيب ج 7 ص 371 ح 1503، الإستبصار ج 3 ح 835، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4
(2) سورة المائدة الآية 1.
235

ولو فضل أحدهما صح أيضا وإن كان عملهما سواء، وعلل الحكم الأول وهو تساويهما
مع الاطلاق باقتضاء الاشتراك وأن الأصل عدم التفضيل، ولأنه المتبادر منه
عرفا كما سبق في قوله بيننا.
أقول: لا يخفى ما فيه، فإن اقتضاء الاشتراك التساوي ممنوع، بل هو
أعم، وهو أول المسألة أيضا، ودعوى أنه المتبادر منه عرفا كذلك، وقد تقدم
ما في الاستناد إلى قوله " بيننا " من أن ظاهره إنما هو الاشتراك مطلقا كما
هو ظاهر الأخبار، لا التنصيف كما ادعوه، وعلل الثاني وهو تفصيل أحدهما
مع استوائهما في العمل بأن غايته اشتراط حصة قليلة لصاحب العمل الكثير،
وهو مما لا منافاة فيه لأن الأمر في الحصة راجع إلى ما يشترطانه، ويتفقان
عليه قل أو كثر، ولأن العقد الواحد مع اثنين في قوة عقدين فيصح، كما لو
قارض أحدهما في نصف المال بنصف الربح، والآخر في النصف الآخر بربع
الربح، فإنه جائز اتفاقا مع تساويهما في العمل، والخلاف هنا إنما هو من بعض
العامة، حيث اشترط التسوية بينهما في الربح مع التساوي في العمل، قياسا
على اقتضاء شركة الأبدان ذلك، والأصل والفرع عندنا باطلان.
الخامسة: لو اختلفا في نصيب العامل فإن مقتضى القواعد الشرعية أن القول
قول المالك بيمينه، لأنه منكر لما يدعيه العامل من الزيادة، ولأن الاختلاف
في فعل المالك الذي هو تعيين الحصة وهو أبصر به، ولأن الأصل تبعية
الربح لرأس المال، فلا يخرج عنه إلا ما أقر المالك بخروجه، والمعتمد من
هذه الوجوه هو الوجه الأول، فإنه المعتضد بالنصوص الصحيحة الصريحة،
وما عداه من المؤيدات الواضحة.
وقيل: إن هذا مع عدم ظهور الربح، أما معه فالحكم هو التحالف،
لأن كلا منهما مدع، ومدعى عليه، فإن المالك يدعي استحقاق العمل الصادر
بالحصة الدنيا، والعامل ينكر ذلك، فيجئ القول بالتحالف، لأن ضابطه كما
236

سلف في البيع أن ينكر كل واحد منهما ما يدعيه الآخر، بحيث لا يجتمعان
على أمر ويختلفان فيما زاد عليه، ورد بأنه ضعيف، لأن نفس العمل لا يتناوله
الدعوى، لأنه بعد انقضائه لا معنى لدعوى المالك استحقاقه، وكذا قبله، لأن
العقد الجائز، لا يستحق به العمل، وإنما المستحق المال الذي أصله للمالك،
وحقيقة النزاع فيه فيجئ فيه ما تقدم من الأصول وهو جيد.
السادسة: الظاهر أنه لا اشكال فيما لو دفع المالك مال القراض في مرض
الموت على الوجه المعتبر من تعيين الحصة من الربح للعامل ونحوه، لوجود
المقتضي وهو دخوله تحت الأدلة الدالة على مشروعية القراض وصحته، وعدم
المانع، إذ ليس إلا ما ربما يتوهم من التفويت على الوارث بالنسبة إلى الحصة
المعينة للعامل من الربح، وادخال النقص عليه بذلك، فيتعلق به الخلاف بين
كونه من الأصل أو الثلث، والحال أنه ليس كذلك إذ لا تفويت على الوارث في
الصورة المذكورة.
ومحل الخلاف في تلك المسألة إنما هو ما يتبرع به المريض من المال
الموجود حال التبرع وهنا ليس كذلك، لأن الربح غير موجود يومئذ، بل
هو متوقع الحصول، وقد لا يحصل فلا يتصف بكونه مالا للمريض، ليترتب عليه
الخلاف المذكور، ثم إنه بعد حصوله فهو متجدد بسعي العامل بعد العقد، فليس
للوارث فيه اعتراض، ولا نزاع بوجه من الوجوه، وهو ظاهر، ولا فرق في
تلك الحصة المعينة للعامل بين كونها قدر أجرة المثل أو أكثر أو أقل حسبما مر
في غير هذه الصورة من صور القراض.
وبالجملة فإن مقتضى الأدلة كما عرفت صحة المعاملة المذكورة حتى
يقوم دليل على البطلان، وليس فليس، والله العالم.
السابعة: يملك العامل من الربح بظهوره من غير توقف على انضاض العروض
ولا قسمة المال بينهما، قال في المسالك: هذا هو المشهور بين الأصحاب بل لا يكاد
237

يتحقق فيه مخالف، ولا نقل في كتب الخلاف عن أحد من أصحابنا ما يخالفه
ووجهه مع ذلك اطلاق النصوص بأن العامل يملك ما شرط له من الربح وهو
متحقق قبل الانضاض، وقبل القسمة، ولأن سبب الاستحقاق هو الشرط الواقع
في العقد، فيجب أن يثبت مقتضاه متى وجد، لأن الربح بعد ظهوره مملوك،
فلا بدله من مالك، ورب المال لا يملكه اتفاقا، ولا يثبت أحكام الملك في حقه، فيلزم
أن يكون للعامل، إذ لا مالك غير هما اتفاقا.
أقول: ومن أظهر الأدلة على ذلك ما رواه الشيخ والصدوق عن محمد بن
قيس (1) في الصحيح " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل دفع إلى رجل
ألف درهم مضاربة فاشترى أباه، وهو لا يعلم، قال: يقوم فإن زاد درهما واحدا
أعتق، واستسعى في مال الرجل "، والتقريب فيها أنه لو لم يكن مالكا لحصته
بمجرد الظهور لم ينعتق عليه أبوه في الصورة المفروضة في الخبر، مع أنه قد
حكم بأنه بعد تقويم العبد فإن حصل في الثمن زيادة على رأس المال ولو درهم،
فإنه ينعتق الأب على ابنه بنصيبه من ذلك الدرهم، فالمقتضي للانعتاق إنما هو
دخوله في ملكه بتلك الحصة فيسري العتق في الباقي كما هو القاعدة في العتق.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد نقل فخر المحققين عن والده العلامة.
أن في هذه المسألة أقوال أربعة:
أحدها - أنه يملك بمجرد الظهور كما عرفت.
وثانيها - أنه يملك بالانضاض لأنه قبل الانضاض غير موجود خارجا بل
مقدر موهوم، والمملوك لا بد أن يكون محقق الوجود، فيكون الظهور موجبا
لاستحقاق الملك بعد التحقيق، ولهذا يورث عنه ويضمن حصة من أتلفها سوى
المالك والأجنبي.
وثالثها - أنه يملك بالقسمة، لأنه لو ملك قبلها لكان النقصان الحادث بعد

(1) الفقيه ج 3 ص 144 ح 3، التهذيب ج 7 ص 190 ح 27، الوسائل ج 13
ص 188 ح 1.
238

ذلك شايعا في المال كسائر الأموال المشتركة، والتالي باطل، لانحصاره في
الربح، ولأنه لو ملك لاختص بربحه، ولأن القراض معاملة جائزة والعمل فيها
غير مضبوط، فلا يستحق العوض فيها إلا بتمامه، كمال الجعالة.
ورابعها - أن القسمة كاشفة عن مالك العامل، لأن القسمة ليست من الأسباب
المملكة، والمقتضي للملك إنما هو العمل، وهي دالة على تمام العمل الموجب للملك
قال في المسالك بعد نقل هذه الأقوال: وفي التذكرة لم يذكر في المسألة عن
سائر الفقهاء من العامة والخاصة سوى القولين الأولين، وجعل الثاني للشافعي
في أحد قوليه، ولا حمد في أحد ى الروايتين، ووافقا في الباقي على الأول، ولا ندري
لمن ثبتت هذه الأقوال، وهي مع ذلك ضعيفة المأخذ فإنا لا نسلم أن الربح قبل
الانضاض غير موجود، لأن المال غير منحصر في النقد، فإذا ارتفعت قيمة العرض
فرأس المال منه ما قابل قيمة رأس المال والزائد ربح وهو محقق الوجود، ولو سلم
أنه غير محقق الوجود لا يقدح في كونه مملوكا فإن الدين مملوك وهو غير
موجود في الخارج بل هو في الذمة أمر كلي هذا ما على الثاني.
وعلى الثالث أنه لا ملازمة بين الملك وضمان الحادث على الشياع ويجوز أن يكون مالكا ويكون ما يملكه وقاية رأس المال فيكون الملك متزلزلا فاستقراره
مشروط بالسلامة، وكذا لا منافاة بين ملك الحصة وعدم ملك ربحها بسبب تزلزل
الملك ولأنه لو اختص بربح نصيبه لاستحق من الربح أكثر مما شرط له ولا يثبت
بالشرط ما يخالف مقتضاه ولأن القسمة ليست من العمل في شئ فلا معنى لجعلها
تمام السبب في الملك فلا وجه لالحاقها بالجعالة وقد نبه عليه ولو سلم أنه غير محقق
الوجود في الوجه الرابع ومن ضعف ما سبق يستفاد ضعف الرابع لأنه مترتب عليها
انتهى كلامه زيد مقامه وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبية.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أنه وإن كان العامل يملك حصته بمجرد ظهور الربح
إلا أنه يكون ملكا متزلزلا مراعا بانضاض جميع المال أو قدر رأس المال مع
239

الفسخ أو القسمة حيث إن الربح وقاية لرأس المال فيجبر به ما وقع في التجارة
من تلف وخسران، سواء كان الربح والخسران في مرة واحدة أو مرتين، وفي صفقة
أو صفقتين، وفي سفر أو سفرين، لأن معنى الربح هو الزائد على رأس المال مدة
العقد، فلو لم يفضل منه شئ بعد أن حصل وجبرت بالتجارة فلا ربح، وهو موضع
وفاق كما ذكره في المسالك، وسيأتي الكلام - إن شاء الله تعالى - في بعض ما
يدخل في هذا المقام من الأحكام، والله العالم.
المقصد الرابع في اللواحق:
وفيه مسائل: الأولى - لا خلاف بين الأصحاب في أن العامل أمين فيقبل
قوله في التلف بغير تفريط بيمينه، سواء كان التلف ظاهرا كالحرق أو خفيا كالسرق،
وسواء أمكن إقامة البينة عليه أم لم يمكن، وكذا يقبل قوله في الخسارة
ولا يضمن إلا مع التفريط، وقد تقدم الكلام في الاختلاف في قدر رأس المال،
وأن الأظهر قبول قول العامل بيمينه في الموضع السادس من المقصد الثاني (1)
وكذا الاختلاف في حصة العامل وإن الأظهر فيها أن القول قول المالك بيمينه
في المسألة الخامسة من المقصد الثالث (2).
وبقي الكلام هنا في الاختلاف في الرد، فهل يقبل قول العامل في رد المال
إلى المالك أم لا؟ قولان: أو لهما للشيخ في المبسوط قال: إذا ادعى العامل رد
المال إلى المالك فهل يقبل قوله؟ فيه قولان: أحدهما وهو الصحيح أنه يقبل قوله.
أقول: وقد علل ذلك بأنه أمين كالمستودع، ولما في عدم تقديم قوله من
الضرر لجواز أن يكون صادقا فتكليفه بالرد ثانيا تكليف ما لا يطاق، والمشهور بين
الأصحاب الثاني، لأصالة العدم، ولأن المالك منكر فيكون القول قوله بيمينه،
كما هو القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى، كما أن العامل في ذلك مدع فعليه

(1) ص 228
(2) ص 236
240

البينة بمقتضى القاعدة المذكورة وثبوت قول العامل في دعوى التلف لدليل خارج لا يقتضي ثبوت قوله مطلقا.
وأما ما علل به من أنه أمين كالمستودع وكل أمين يجب قبول قوله، ففيه
منع كلية الكبرى، والفرق بين العامل هنا وبين المستودع ظاهر، فإن العالم
هنا قبض لنفع نفسه والمستودع قبض لنفع المالك، وهو محسن محض، فلا يناسب
اثبات السبيل عليه بعدم قبول قوله، لما فيه من الضرر.
وأما ما علل به هنا من الضرر لو لم يقدم قوله، فإنه مدفوع بأن الحكم
بذلك لما ثبت شرعا كما عرفت من أنه مقتضى القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى،
فلا يلتفت إلى هذا الاستبعاد، وهذا الضرر، فإنه لو تم ذلك لجرى في كل مدعى
عليه، وهو خلاف الاجماع نصا وفتوى.
قال في المسالك بعد ذكر نحو مما ذكرناه: لكن يبقى في المسألة بحث،
وهو أنه إذا لم يقبل قوله في الرد لزم تخليده في الحبس لو أصر على انكاره،
خصوصا مع إمكان صدقه، وهم قد تحرجوا من ذلك في الغاصب حيث يدعي
التلف، فكيف بثبوته في الأمين، إلا أن يحمل على مؤاخذته ومطالبته به، وإن
أدت إلى الحبس للاستظهار به، إلى أن يحصل اليأس من ظهور العين، ثم يؤخذ
معه البدل للحيلولة، إلا أن مثل هذا يأتي في دعوى التلف، خصوصا من الغاصب،
وليس في كلامهم تنقيح لهذا المحل، فينبغي النظر فيه انتهى.
أقول: ما ذكره من أنه إذا لم يقبل قوله - في الرد يلزم تخليده في الحبس
إلى آخره - لا أعرف له وجها وجيها بحسب نظري القاصر، وفكري الفاتر،
وأي موجب للحبس هنا، وذلك فإن المسألة هنا أحد أفراد مسألة المدعي
والمنكر، ولا ريب أن الحكم الشرعي فيها هو البينة على المدعي، وإلا فاليمين
على المنكر، فإن أقام المدعي البينة على الرد انقطعت الدعوى وإلا حلف المالك
ووجب على مدعي الرد دفع الحق إليه. والنظر إلى كونه أمينا غير ملتفت إليه
241

هنا، لما عرفت آنفا، وكذا احتمال صدقه، فإنه جار في كل دعوى، وكونه
كذلك بحسب الواقع لا يوجب الخروج عن مقتضى الحكم الشرعي ظاهرا، فإن
الشارع حكم بثبوت الحق مع قيام البينة مطلقا، أعم من أن تطابق الواقع أم لا
وحكم بسقوطه مع حلف المنكر مطلقا، والحق المدعى هنا هو الرد، فبالبينة
يثبت، فينبغي المطالبة، وباليمين يسقط، وتتوجه المطالبة بالمال، وإن احتمل
بحسب الواقع براءة ذمته لصحة دعواه.
وبالجملة فهذا الحبس الذي ذكره في المقام لا أعرف له وجها ولا ذكره
غيره من الأعلام، ومقتضى الحكم الشرعي في المسألة إنما هو ما ذكرناه، هذا
بالنسبة إلى كلام الأصحاب في المسألة.
وأما بالنسبة إلى الأخبار فالذي وقفت عليه مما يتضمن الحبس، الروايات
المتقدمة في كتاب الدين (1)، وموردها كلها أن الإمام (عليه السلام) يحبس في
الدين إذ التوى الغريم حتى تبين له حاله من ملائة أو افلاس، فإذا تبين افلاسه
خلا عنه، وفي رواية يدفعه إلى غرمائه، وإن تبين ملائته استوفى الحق منه،
وما نحن فيه لا تعلق له بما دلت عليه هذه الأخبار.
نعم روى الشيخ في الصحيح عن زرارة (2) عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال: كان علي (عليه السلام) لا يحبس في السجن إلا ثلاثة: الغاصب، ومن أكل
مال اليتيم ظلما، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها، وإن وجد له شيئا باعه غائبا
كان أو شاهدا ".
وهذا الخبر على ظاهره غير معمول عليه بين الأصحاب فيما أعلم، ولذا
حمله الشيخ على الحبس على سبيل العقوبة أو الحبس الطويل، قال (قدس سره):
هذا الخبر يحتمل وجهين: أحدهما - أنه ما كان يحبس على وجه العقوبة، إلا
الثلاثة الذين ذكرهم، والثاني - أنه ما كان يحبس طويلا إلا الثلاثة الذين

(1) ج 20 ص 299 ح 43، الوسائل ج 18 ص 181 ح 2
242

استثناهم، لأن الحبس في الدين إنما يكون مقدار ما يتبين حاله، انتهى،
وهو جيد.
وبالجملة فإن مقتضى النظر فيما نحن فيه هو ادراجه في قاعدة الدعوى
الواقعة بين كل مدع ومنكر، والعمل فيه بما تقتضيه القاعدة المذكورة شرعا
والله العالم.
الثانية: إذا اشترى العامل من ينعتق بالشراء على المالك، فهنا مقامان:
الأول - أن يكون ذلك بإذن المالك وعلم العامل أنه أبو المالك مثلا ولا ريب
في صحة الشراء لوجود شرائطها، ولا ريب أيضا في انعتاقه على ابنه، كما لو
اشتراه الابن بنفسه، أو وكيل له غير العامل.
وحينئذ فإن بقي من مال المضاربة شئ بعد الثمن كان الباقي مضاربة،
وإلا بطلت المضاربة في الثمن، والوجه في ذلك عندهم هو أن مبنى المضاربة
على طلب الربح وتحصيل الانتفاع بتقليب المال في الشراء والبيع، وحينئذ فكل
تصرف ينافي ذلك يكون باطلا، ومن جملته شراء من ينعتق على المالك،
لأنه موجب للخسارة، فضلا عن الاشتمال على الغرض الذاتي من القراض،
فتبطل المضاربة في ثمنه، لأنه بمنزلة التالف، فإن بقي هناك مال بعد الثمن
استمرت المضاربة فيه، وإلا بطلت كما لو تلف جميع مال المضاربة.
وهل للعامل هنا أجرة المثل أم لا شئ له؟ قولان: الثاني منهما للشيخ
في المبسوط، وبالأول صرح العلامة في المختلف، والشهيد الثاني في المسالك (1)
وهذا في ما لو لم يكن في العبد المشتري ربح وأما لو حصل فيه ربح فهل يكون
العامل شريكا في العبد بما استحقه من حصته من الربح أو أنه لا يترتب على هذا

(1) هذا الخلاف إنما يتجه على تقدير القول المشهور بأن حصة العامل يتملك بالظهور كما هو المؤيد المنصور وأما على القول بأنها تملك بالانضاض أو القسمة فلا ريب في
عدم استحقاق الربح حينئذ لانتفائهما، منه رحمه الله.
243

الربح أثر، وإنما للعامل أجرة المثل؟ قولان: الأول منهما للشيخ في المبسوط
وبالثاني صرح العلامة في المختلف.
قال في المبسوط: إذا اشترى من ينعتق على رب المال بإذنه، وكان فيه
ربح انعتق، وضمن للعامل حصته من الربح، وإن لم يكن ربح انصرف العامل
ولا شئ له.
قال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك: والوجه، الأجرة على التقديرين،
لبطلان القراض بالشراء المأذون فيه، والوجه في القول الأول من هذين القولين
هو ثبوت حصة العامل في العبد، لتحقق الملك بالظهور كما هو الصحيح المشهور
وإن وجب ضمانها على المالك، من حيث سريان العتق في العبد كما أشار إليه
الشيخ في عبارته بقوله: وضمن للعامل حصته من الربح، ولا يقدح في استحقاقه
الحصة المذكورة، عتقه القهري لصدوره بإذن المالك.
والوجه في القول الثاني وهو اختيار العلامة كما عرفت، ومثله الشهيد
الثاني في المسالك (1) أيضا والظاهر أن المشهور ما أشار إليه العلامة فيما تقدم
من كلامه بقوله، لبطلان القراض وتوضيحه ما قدمنا ذكره من أن هذا الشراء
خارج عن مقتضى المضاربة، فإن متعلق الإذن فيها اشتمل على تقليب المال
بالأخذ والعطاء مرة بعد أخرى لتحصيل الربح، وهذا إنما تضمن الخسارة لتعقب
العتق له، وحينئذ فإذا بطلت المضاربة فيه لم يترتب على ذلك الربح أثر، وإنما
للعامل أجرة المثل عوض عمله خاصة.
فإن قيل: إنه إذا كان هذا الشراء ليس من مقتضيات عقد القراض، فإنه
كما لا يستحق شيئا من الربح فكذا لا يستحق أجرة، لأنه خلاف مقتضى العقد،

(1) قالوا: فكأنه استرد طائفة من المال بعد ظهور الربح وأتلفها حينئذ فيسري على
العامل مع يسار المالك إن قلنا بالسراية في مثله من العتق القهري أو مع اختيار الشريك
السبب، ويقوم له نصيبه مع يساره وإلا استسعى العبد فيه، منه رحمه الله.
244

فالجواب أن استحقاق الأجرة ليس باعتبار هذا الأمر بخصوصه بل بالنظر إليه
وإلى غيره من المقدمات، كالسفر للتجارة، ونحو ذلك من الحركات والسكنات
التي إنما أتى بها لذلك، ومع تسليم الانحصار في ما ذكر، فإنه إن كان من الأمور
التي تثبت في مثلها أجرة المثل يثبت الأجرة، وإلا فكيف كان فالمسألة لا تخلو من
شوب الاشكال، لعدم النص الواضح الذي ينقطع به مادة القيل والقال.
الثاني: أن يكون الشراء بغير إذن المالك، وحينئذ فإن وقع الشراء بعين
المال، فالظاهر أن المشهور بطلانه، بناء على ما تقدم من منافاته للغرض الذاتي
المطلوب من عقد القراض، بل اشتماله على الاتلاف المحض.
ورد ذلك بأن غايته التصرف في مال الغير بغير إذنه، ومقتضى ذلك هو كونه
فضوليا فإن قلنا بصحة الفضولي فهو صحيح هنا، وإن وقف في اللزوم على إجازة
المالك، هذا مع علمه بالنسب، وعلمه بالحكم، وأنه ينعتق عليه قهرا.
وأما مع جهله فإنه يحتمل كونه أيضا كذلك، لأن الإذن في هذا الباب
إنما ينصرف إلى ما يمكن بيعه وتقليبه في التجارة للاسترباح، ولا يتناول غير
ذلك، فلا يكون ما سواه مأذونا فيه: غاية ما في الباب أنه قد التبس الأمر على
العامل هنا ظاهرا من حيث الجهل، وهو لا يقتضي الإذن، وإنما يقتضي عدم الإثم.
وبالجملة فالذي يترتب على الجهل إنما هو عدم الإثم والمؤاخذة، لا الصحة
ويحتمل صحة البيع ويحكم بعتقه على المالك قهرا، ولا ضمان على العامل،
لأن مقتضى عقد القراض شراء ما يترتب عليه الربح بحسب الظاهر، لا بحسب
نفس الأمر، وهذا من حيث الجهل كذلك، وظهور كونه في نفس الأمر ليس
كذلك لا يمنع من الصحة التي وقع عليها عقد الشراء، ويترتب عليها العتق
لاستحالة توجه الخطاب إلى الغافل وإلا لزم التكليف بما لا يطاق.
وبالجملة فإن الأحكام الشرعية إنما تترتب على الظاهر لا على نفس الأمر
والخطابات والتكليفات إنما تناط بما هو الظاهر في نظر المكلف من حل وتحريم
245

وطهارة ونجاسة ونحوها، لا ما كان كذلك في الواقع، ولعل هذا الاحتمال أقرب
من الأول.
وأن وقع الشراء في الذمة لم تقع المضاربة، لما تقدم في المسألة الخامسة
من المقصد الأول (1) من أن مقتضى اطلاق الإذن هو الشراء بعين المال، وعلى
هذا فلو اشترى في الذمة فلا يخلو إما أن لا يعين العقد لا للمالك ولا لنفسه، وحينئذ
يكون الشراء له ظاهرا وباطنا، وإن عينه لنفسه تعين له كذلك، وإن عينه للمالك
لفظا فهو فضولي على القول بصحة الفضولي، وإن عينه له نية وقع للعامل بحسب
الظاهر، وبطل باطنا، فلا ينعتق، ويجب التخلص منه على وجه شرعي، إذ ليس
مملكا له في الواقع ونفس الأمر للنية المذكورة الصارفة عنه والله العالم.
الثالثة: إذا كان مال القراض لامرأة فاشترى العامل زوجها فلا يخلو إما
أن يكون الشراء بإذنها، وحينئذ يكون الشراء صحيحا، وينفسخ نكاحها لما قرر
في محله من امتناع اجتماع الملك والنكاح.
أو لا يكون الشراء بإذنها، وفيه قولان: فقيل: بالصحة، إلا أنه ذكر في
المسالك أن القائل به غير معلوم، وإنما ذكره المصنف بلفظ قيل: ولم يعلم
قائله.
أقول: وهذا القول قد نقله العلامة أيضا في القواعد في المسألة، وعلل
وجه الصحة هنا بأنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه، ولا يتلف به رأس المال،
فيجوز حينئذ كما لو اشترى ما ليس بزوج.
وقيل: ببطلان الشراء المذكور لحصول الضرر على المالك به، ويكون
ذلك دليلا على عدم الرضا، وتقييدا لما أطلقت من الإذن بدليل منفصل عقلي.
أقول: وهذان القولان حكاهما المحقق في الشرايع، واختار منهما القول
بالبطلان، معللا له بأن عليها في ذلك ضررا، وبينه في المسالك بما قدمنا ذكره،

(1) ص 213
246

والعلامة في الإرشاد اقتصر مع عدم الإذن على القول بالبطلان جازما به من غير
نقل قول آخر غيره.
وفي القواعد قال: قيل: يبطل الشراء لتضررها به، وقيل: يصح موقوفا،
وقيل: مطلقا، وأنت خبير بأن ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وكذا
ظاهر الأردبيلي في شرح الإرشاد أن مقتضى التعليل الذي ذكر في وجه البطلان
هو الرجوع إلى العقد الفضولي، لما عرفت من تعليل ذلك بحصول الضرر على
المالك وموجب ذلك أنه لو رضي المالك زال المانع، فيكون التعبير بالعقد
الفضولي أنسب من الحكم بالبطلان مطلقا، وظاهر العلامة في القواعد أن المشابهة
بالعقد الفضولي والحمل عليه إنما هو في جانب القول بالصحة، حيث عبر عنه
بأنه يصح موقوفا، يعني على الإجازة، وفيه إشارة إلى أن المراد بالقول بالبطلان
إنما هو مطلقا، لا باعتبار عدم الإجازة كما فهمه في المسالك، ثم إنه ذكر القول
بالصحة مطلقا.
وبالجملة فإنه قد تلخص أن أقوالهم في المسألة ثلاثة، صحة القول بالشراء
مطلقا، وبطلانه مطلقا، والقول بكونه كالعقد الفضولي، ونسب في المسالك نقل
الأقوال الثلاثة إلى العلامة، وهو كذلك كما سمعته من كلامه في القواعد، إلا أنه
اقتصر على مجرد نقلها، ولم يرجح شيئا منها، وفي الإرشاد ظاهره الجزم بالبطلان
مطلقا.
والظاهر أن المراد بالضرر الذي جعلوه حجة للابطال هو انفساخ النكاح،
مع صحة الشراء، وإلا فإن العبد بعد الحكم بصحة الشراء يكون من جملة
أموال القراض، يترتب عليه ما يترتب عليها من جواز البيع، وتحصيل الربح.
وفي ثبوت الضرر بذلك على اطلاقه اشكال، فإن ثبت دليل على أن هذا ضرر
يوجب بطلان الشراء ترتب عليه ما قالوه، وإلا فالظاهر أن الشراء صحيح وإن
فسد النكاح، وجرى العبد في مال المضاربة كغيره من أموالها.
247

ثم إنه على تقدير كون ذلك ضررا يوجب البطلان، فالظاهر أنه يرجع إلى
العقد الفضولي، لا كما هو ظاهر القائل بذلك من البطلان مطلقا، نظرا إلى تلك
القرينة المدعاة آنفا، وحينئذ فإن قلنا ببطلان العقد الفضولي كما هو الأظهر وإن
كان خلاف الأشهر، فالأمر واضح، وإن قلنا بصحته مع وقوفه في اللزوم على
إجازة المالك، رجع الأمر إلى الإجازة، فإن أجازته المرأة كان حكمه ما تقدم
في صورة ما إذا كان الشراء بإذنها، وإلا وقع باطلا.
إذا تقرر ذلك فاعلم أنه على تقدير القول بالبطلان مطلقا أو مع عدم الإجازة
فالحكم واضح، وأما على تقدير القول بالصحة، فإن كان مستند الصحة إنما هو
إذن المرأة في الشراء، أو إجازتها ذلك، بناء على كون العقد فضوليا لم يضمن
العامل ما فاتها من المهر والنفقة، لأن فواته مستند إلى إذنها ورضاها.
وأما على القول بالصحة مطلقا وإن لم يستند إلى إذنها أو رضاها كما هو أحد
الأقوال الثلاثة المتقدمة، فإن العامل يضمن المهر مع علمه بالزوجية، وهو الذي
صرح به في القواعد، وغيره في غيره، وربما قيل، بضمانه في هذه الصورة ما فات
مطلقا من مهر ونفقة، وهو في المهر كما ذكرنا ظاهر، فإنه جاء التفويت من
قبله لعلمه بالزوجية، وأن ملكها له موجب لبطلان النكاح وذهاب المهر، ومع
هذا شراه.
أما في النفقة فمشكل كما ذكره في المسالك، قال: لأنها غير مقدرة
بالنسبة إلى الزمان، ولا موثوق باجتماع شرائطها، بل ليست حاصلة لأن من جملتها
التمكين في الزمان المستقبل، وهو غير واقع الآن، إلى أن قال: والظاهر اختصاصه
بالمهر على هذا القول، وهو الذي ذكره جماعة، انتهى وهو جيد،
والله العالم.
المسألة الرابعة: لو اشترى العامل أباه أو من ينعتق عليه، فإن ظهر فيه
ربح حال الشراء، فالأشهر الأظهر أنه ينعتق نصيب العامل من العبد بقدر ماله من
248

الربح فيه، ويستسعي العبد في الباقي، وهو حصة المالك سواء كان العامل مؤسرا
أو معسرا.
وعلى هذا يدل صحيحة محمد بن قيس (1) " قال: قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة، فاشترى أباه وهو لا
يعلم؟ قال: يقوم فإن زاد درهما واحدا أعتق واستسعى في مال الرجل " والحكم
المذكور مبني على تملكه الربح بمجرد الظهور، كما هو مدلول الصحيحة
المذكورة، وهو الأشهر الأظهر.
وأما على القول بأن الملك إنما يحصل بالقسمة أو الانضاض فإن البيع
صحيح، إلا أنه لا ينعتق لعدم الملك حينئذ، واطلاق الحكم بالاستسعاء شامل لما لو
كان العامل مؤسرا أو معسرا، فإن عدم الاستفصال دليل على العموم في المقال،
حيث حكم (عليه السلام) بالاستسعاء، ولم يفصل فيه بين كون العامل مؤسرا أو
معسرا وهو ظاهر.
وقيل: بأنه مع اليسار يقوم على العامل، لاختياره السبب، وهو موجب
للسراية، لأن اختيار السبب اختيار المسبب، وحملت الرواية على اعسار
العامل جمعا بين الأدلة، أو على تجدد الربح بعد الشراء.
وفيه أن الرواية المذكورة دلت على أنه اشترى أباه وهو لا يعلم أي لا يعلم
بكونه أباه، فكيف يتم اختياره للسبب، وهو لا يعلم حال الشراء.
نعم يحتمل صحة ما ذكروه على تقدير العلم، إلا أنه خارج عن مورد
الخبر، فلا يحتاج إلى الجمع بما ذكروه، وقيل: ببطلان البيع لأنه مناف
لمقصود القراض، إذ الغرض هو السعي للتجارة التي تقبل التقليب للاسترباح
وهذا الشراء بتعقب العتق له ينافي ذلك، فيكون مخالفا للتجارة، فيكون باطلا

(1) الكافي ج 5 ص 241 ح 8 وفيه عن محمد بن ميسر، الفقيه ج 3 ص 144 ح 3
الوسائل ج 13 ص 188 ح، 1
249

لعدم الإذن فيه، أو موقوفا على الإجازة.
وفيه أنه اجتهاد في مقابلة النص الصحيح، فإنه دل على الصحة، لكن
مورده كما عرفت جهله بكونه ممن ينعتق عليه، والعجب أنه لم يتنبه أحد من
الأصحاب لهذا القيد في الخبر، بل جعلوا الحكم فيه مطلقا كما سمعت من
كلامهم، وكأنهم بنوا على أنه إذا كان كذلك مع الجهل، فمع العلم بطريق
أولى.
وفيه أنه يمكن مع العلم أنه لا يجوز له الشراء، لما فيه من المخالفة
للغرض المقصود من القراض، كما علل به القول بالبطلان في المسألة كما سيأتي
ذكره، ويؤيده ما تقدم في المقام الثاني من المسألة الثانية (1)، فيما إذا اشترى
من ينعتق على المالك بغير إذنه.
أما مع الجهل فيصح ويترتب عليه ما ذكر في الخبر، وعلى هذا ينبغي
اجراء الخلاف المذكور في غير مورد الخبر، وهو العلم بكونه أباه، فإنه لخلوه
من النص حينئذ قابل لهذه الاحتمالات والأقوال المتعددة، والحكم في هذه
الصورة محل اشكال لما عرفت من خروجها عن مورد النص، مع عدم دليل واضح
على شئ مما ذكروه، سيما مع تدافع هذه التعليلات التي عللوا بها كلا من
هذه الوجوه المذكورة، هذا كله إذا كان ظهور الربح حال الشراء.
أما لو كان بعد ذلك كتجدده بارتفاع السوق، ونحوه فاشكال، لعدم النص
الدال على حكم يكون المعول عليه في هذا المجال، إلا أنه يمكن أن يقال:
إنه بعد ظهور الربح بناء على التملك بمجرد الظهور كما هو الظاهر المشهور
فإنه يجري فيه الحكم المذكور في الخبر المتقدم، من أنه ينعتق نصيب العامل
منه، ويستسعى في الباقي، لأن الظاهر من الخبر ترتب الحكم على ظهور الربح
أعم من أن يكون وقت الشراء أو بعد ذلك، فإنه هو السبب في العتق، لكن

(1) ص 245
250

ينبغي التقييد بصورة الجهل كما أشرنا إليه آنفا إذ مع العلم لا يبعد القول بالبطلان
كما عرفت أيضا، والله العالم.
الخامسة: قد صرح جملة من الأصحاب بأنه لما كان القراض من العقود
الجائزة، فلكل من المالك والعامل فسخه بقوله فسخت القراض، أو أبطلته أو
رفعته أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى أو بقول المالك للعامل لا تتصرف بعد
هذا، أو يقول رفعت يدك، وكذا يحصل ببيع المالك المال لا بقصد إعانة العامل
وحينئذ فإن كان هناك ربح يقسم بعد اخراج رأس المال، وإن لم يكن ثمة ربح
فللعامل أجرة المثل إلى ذلك الوقت الذي حصل فيه الفسخ.
ولو كان في المال عروض فهل للعامل أن يبيعها بغير إذن المالك؟ قولان:
ولو طلب منه المالك الانضاض هل يجب عليه أم لا؟ قولان: أيضا، وإن كان
سلفا كان عليه جبايته.
قال في التذكرة: قد بينا أن القراض من العقود الجائزة من الطرفين
كالوكالة والشركة، بل هو عينهما، فإنه وكالة في الابتداء، ثم يصير شركة في
الأثناء، فلكل واحد من المالك والعامل فسخه، والخروج منه متى شاء، ولا
يحتاج فيه إلى حضور الآخر ورضاه، لأن العامل يشتري ويبيع لرب المال بإذنه
فكان له فسخه كالوكالة، إلى أن قال: إذا ثبت هذا فإن فسخا العقد أو أحدهما
فإن كان قبل العمل عاد المالك في رأس المال، ولم يكن للعامل أن يشتري بعده
وإن كان قد عمل فإن كان المال ناضا ولا ربح فيه أخذه المالك أيضا، وكان
للعامل أجرة عمله إلى ذلك الوقت، وإن كان فيه ربح أخذ رأس ماله وحصته
من الربح، وأخذ العامل حصته منه، وإن لم يكن المال ناضا فإن كان دينا
بأن باع نسية بإذن المالك، فإن كان في المال ربح كان على العامل جبايته،
وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وإن لم يكن هناك ربح، قال الشيخ (رحمة الله عليه)
يجب على العامل جبايته، وبه قال الشافعي إلى آخر كلامه.
251

أقول: والكلام هنا يقع في مواضع: الأول - قولهم أنه متى فسخ المالك
وكان المال ناضا ولا ربح فيه فللعامل أجرة المثل، قيل ووجهه من حيث أن
عمله محترم بإذن المالك، وليس على وجه التبرع بل في مقابلة الحصة، وحيث
أنه فاتت بفسخ المالك قبل ظهور الربح فإنه يستحق أجرة عمله إلى حين الفسخ.
وفيه نظر، لأنه لم يدخل إلا على تقدير الحصة من الربح على تقدير
وجودها، ومن الجائز أن لا يحصل ربح بالكلية، أو يحصل مع فواته بجبر نقص
رأس المال، فلا يحصل له شئ بالكلية، والحصة فيما نحن فيه غير موجودة،
واثبات أجرة المثل يتوقف على الدليل، فإن قيل: أنه إنما جعل له الحصة على
تقدير استمراره إلى أن يحصل، وهو يقتضي عدم عزله قبل حصولها، فإن خالف
فقد فوتها عليه، فيجب عليه أجرته، قلنا: لا يخفى أن مقتضى عقد القراض حيث
كان من العقود الجائزة هو جواز فسخه في كل وقت منهما، أو من أحدهما،
فدخول العامل في هذا العقد مع علمه بما يقتضيه ويترتب عليه رضا منه بذلك
فقول هذا القائل: أن العقد يقتضي عدم عزله قبل حصول الحصة، ليس في محله
على أنك قد عرفت أنه يجوز أن يستمر العقد، ولا يحصل ربح بالكلية، أو
يحصل ولكن يفوت بجبر نقصان رأس المال.
وبالجملة فإن اثبات هذه الأجرة المذكورة يحتاج إلى دليل واضح،
وليس فليس، والتعليل المذكور عليل بما عرفت.
وهذا لبحث يأتي أيضا فيما لو لم يكن المال ناضا لا ربح فيه، فإن الكلام
المذكور جار فيه أيضا، هذا كله فيما إذا كان الفسخ من المالك.
أما لو كان الفسخ في هذه الحال من العامل، فإنه لا شئ له كما هو ظاهر
بعضهم، والوجه فيه ظاهر، لقدومه على ذلك، وعدم صبره إلى أن يحصل الربح
وأجرة المثل إنما أو جبوها على المالك في الصورة الأولى حيث أنه كان سببا في
تفويت الأجرة، وحينئذ فلا شئ له.
252

وفي التذكرة أطلق الحكم بثبوت الأجرة لو فسخا العقد أو أحدهما، وكان
ناضا لا ربح، والظاهر بعده.
الثاني - ما ذكروه فيما إذا كان الفسخ قبل الانضاض، وكلامهم هنا مجمل
يحتاج إلى توضيح وتنقيح، فإنه لا يخلو في هذه الصورة إما أن يكون في المال
ربح، أو لا، فعلى الأول متى قلنا بأن الربح يملك بمجرد الظهور كما هو
الصحيح المشهور، والمؤيد المنصور، فإن اتفقا على أن العامل يأخذ حصته من
تلك العروض فلا بحث، وكذا إن اتفقا على الانضاض، وأخذ العامل حصته بعد
الانضاض.
أما لو طلب المالك من العامل الانضاض من غير إرادته ذلك، فظاهر هم
وجوب ذلك على العامل، قالوا: لأن استحقاقه الربح وإن ثبت بالظهور إلا أن
استقراره مشروط بالانضاض، لاحتمال ما يقتضي سقوطه.
وعندي فيه اشكال، لأن ذلك أنما يتم قبل الفسخ، حيث أنه مقتضى عقد
القراض، وأما بعده وصيرورة العامل كالأجنبي الشريك في ذلك المال، فالزامه
بما قالوه يتوقف على دليل واضح، سيما مع إمكان أخذ الحصة من العروض،
فإن غايته أنه يكون شريكا في تلك العروض، والشريك لا يجب عليه الانضاض
بطلب شريكه.
وهكذا باقي الكلام فيما لو طلب العامل الانضاض، فهل يجب على المالك
إجابته أم لا؟ قولان: والظاهر العدم لما عرفت أيضا.
وبالجملة فإن اثبات الوجوب على أحدهما بعد فسخ المعاملة يحتاج إلى
دليل واضح، والتمسك في دفعه بالأصل أقوى مستمسك.
وعلى الثاني فإن للمالك أن يأخذه إن شاء، وهل عليه أجرة المثل للعامل
هنا أم لا؟ قولان: والكلام هنا كما تقدم فيما إذا كان المال ناضا ولا ربح،
كما أشرنا إليه آنفا.
253

وهل للعامل أن يبيعه إن أراد بغير رضا المالك أم لا؟ قولان: أظهر هما
الثاني، لأن هذه العروض ملك للمالك، ولا تعلق للعامل فيها بوجه إذ المفروض
عدم الربح والتصرف فيها بغير إذن المالك محرم بلا ريب.
وأما ما تعلق به القائل بالجواز من تعلق حق العامل به، واحتمال وجود
زبون يزيد في الثمن، فيحصل الربح مردود. بأن تعلق حق العامل به إنما يتم
مع وجود شئ من الربح، إذ لا حق له في رأس المال، والمفروض هنا عدم
وجود ربح بالكلية، واحتمال وجود زبون أضعف.
نعم لو كان الزبون موجودا بالفعل اتجه ما ذكره، وكان من قبيل ما لو
ظهر فيه ربح كما قدمنا ذكره.
وهل للممالك في هذه الصورة إلزام العامل بالانضاض أم لا؟ قولان: أيضا،
واستدل على الأول بقوله صلى الله عليه وآله (1) " على اليد ما أخذت حتى
تؤدي " وقد أخذه نقدا فيجب رده إليه، ولحدوث التغيير في المال بفعله، فيجب رده.
ولا يخفى ما فيه، فإن الأخذ والتصرف بالشراء إنما حصل بإذن المالك،
والتغيير إنما نشأ عن إذنه، فلا يستعقب ضررا على العامل، والأصل عدم
الوجوب، والخبر المذكور لا عموم فيه على وجه يشمل محل البحث، ومع
تسليمه فإن الأداء أعم من أن يكون بالمثل أو العوض.
وبالجملة فالأصل العدم، وهو أقوى دليل في المقام، فلا يخرج عنه إلا بنص
واضح، وكذلك أيضا الأصل بعد ارتفاع العقد، البراءة من عمل لا عوض عليه.
الثالث - ما ذكروه فيما إذا كان المال سلفا وتفصيل القول في ذلك أنه
لا ريب كما عرفت فيما تقدم أن العامل ليس له البيع بالدين إلا مع الإذن، لأنه
خلاف مقتضى عقد المضاربة، وكذا ليس له الشراء نسية إلا مع ذلك لما ذكر،
فلو فعل بغير إذن كان الثمن مضمونا عليه، ولا اشكال في ذلك.

(1) المستدرك ج 2 ص 504.
254

وإنما الكلام فيما إذا أذن له المالك، وقد أطلق جمع منهم المحقق في
الشرايع وجوب جبايته بعد الفسخ على العامل، وظاهر عبارة التذكرة المتقدمة
تقييد ذلك بما إذا كان في ذلك المال ربح، وعن الشيخ القول بالاطلاق كما
هو ظاهر الجماعة المذكورين، وبه صرح في القواعد أيضا فقال إذا فسخ والمال
دين وجب على العامل تقاضيه، وإن لم يظهر ربح.
وبالجملة فظاهر هم الاتفاق على وجوب الانضاض في الجملة، وإنما الخلاف
في تخصيص ذلك بصورة وجود الربح كما هو ظاهر التذكرة أو مطلقا، كما هو
ظاهر الأكثر، وعللوا ذلك باقتضاء المضاربة رد رأس المال عن صفته، والزبون
لا يجري مجرى المال، ولأن الدين ملك ناقص، والذي أخذه كان ملكا تاما فليؤد
كما أخذ لظاهر " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " (1).
وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم الصلوح، لابتناء الأحكام الشرعية
عليها، كما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم، فإن الوجوب والتحريم ونحوهما
أحكام شرعية يتوقف على الدليل الواضح، والأدلة عندنا منحصرة في الكتاب
والسنة، وعندهم بضم الاجماع، ولا اجماع مدعى في المسألة، على أن ما ذكروه
من التعليل المذكور معارض بأن الإدانة إنما حصلت بإذن المالك كما هو المفروض.
وقولهم إن المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته مسلم مع الاستمرار
على العقد، وأما مع فسخه سيما إن كان الفاسخ هو المالك، فهو ممنوع والأصل
عدم الوجوب، وبرائة الذمة منه، وهو أقوى دليل حتى يقوم الدليل الواضح على
خلافه.
وأما قوله في المسالك في رد ذلك: أنه يضعف بأن إذن المالك فيه إنما
كان على طريق الاستيفاء لا مطلقا، بدلالة القرائن، ولاقتضاء الخبر ذلك.
ففيه أن ذلك أنما يتم مع الاستمرار على العقد المذكور لامع فسخه، سيما
إذا كان الفاسخ له هو المالك.
255

وبالجملة فإن مقتضى عقد القراض والإذن فيه هو جميع ما ذكره، وأما
بعد فسخه فدعوى كون ذلك الإذن يقتضي ما ذكروه مع الحكم ببطلان العقد بالفسخ
محل المنع، لاختلاف الحالين، وتغاير الحكمين من جميع الجهات، ومن جملتها
هذا الموضع، والمانع مستظهر وأما دعواه اقتضاء الخبر ذلك فهو أضعف، لما
عرفت، ولو تم الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكروه للزم منه أيضا جريان ذلك
في الوكيل، إذا اشترى بإذن موكله عروضا ثم عزله الموكل عن الوكالة، فإنه
يجب عليه بيع تلك العروض، وتنقيد الثمن، والرد على المالك كما قبضه منه
ولا قائل بذلك فيما أعلم، وهم قد صرحوا كما تقدم بأن عقد القراض يتضمن
الوكالة، بل هو وكالة في الأول كما تقدم في كلام العلامة وغيره مع أنه لم يصرح
أحد منهم في الوكالة بذلك بل الظاهر أنه متى عزله الموكل امتنع تصرفه سواء
كان المال نقدا أو عروضا.
فرع:
لو مات صاحب المال انفسخ العقد لأن موت أحدهما من جملة أسباب
الفسخ، فلو كان ذلك والمال عروض فالظاهر أنه لا اشكال في جواز بيع العامل
له مع الاتفاق على ذلك بينه وبين الوارث.
وأما مع عدم الاتفاق على ذلك فظاهر الأصحاب أن الكلام هنا حسب ما تقدم
من الخلاف في صورة الفسخ مع حياة المالك، من أنه هل لكل واحد منها مطالبة
الآخر بالانضاض أم لا؟ وظاهر جملة منهم أن للعامل هنا البيع بالإذن السابق إلا
أن يمنعه الوارث، وقيل: إنه ليس للعامل البيع، وإن لم يمنعه الوارث،
لأن المال الآن حق لغير من أذن فيه أو لا، فلا يجوز التصرف فيه إلا بإذنه
لبطلان العقد، وهو جيد.
وفي التذكرة نسب الأول إلى المشهور بين الشافعية والثاني إلى وجه
256

آخر لهم أيضا، ونفى عنه البأس، ووجهه ظاهر كما عرفت، والله العالم.
السادسة: قد تقرر أن مقتضى المضاربة هو عمل العامل بنفسه، فلا يجوز
أن يضارب غيره إلا بإذن المالك لما فيه من التغرير بمال المالك، والتصرف
فيه بغير إذنه، وهو محرم، فإن أذن له المالك صح وكان وكيلا من قبل
المالك في ذلك، فإن كان بعد عمل العامل الأول وقد ظهر فيه ربح فله حصته
من الربح، بناء على الأشهر الأظهر من أنه يملك الربح بمجرد الظهور.
وأما على القول بتوقفه على الانضاض أو القسمة فلا، ولكن له أجرة
المثل بمقتضى كلام الأصحاب وبه صرح في التذكرة هنا أيضا، وأيما كان فإنه
ليس للعامل الأول على هذا التقدير أن يشترط لنفسه شيئا من الربح، إذ ليس
له مال ولا عمل هنا، والربح تابع لهما، ولا فرق في هذه الصورة بين جعل
الحصة للعامل الثاني بقدر حصة الأول التي وقع عليها الاتفاق بين المالك
والعامل الأول، أو أقل، وعلى تقدير كونها أقل فإن هذه الزيادة لا يستحقها
العامل الأول، إذ ليس هذا عملا من أعمال التجارة التي يستحق به حصته،
بل هي للمالك، ولو كان أذن المالك للعامل الأول في المضاربة، لا بهذا المعنى
المذكور، بل بمعنى إدخال من أراد معه، وجعلهما اثنين مثلا، وحاصله
جعل الثاني شريكا له في العمل والحصة، فلا مانع من ذلك، بل يكون صحيحا
لزوال المانع المذكور آنفا، وهو عدم العمل، هذا كله مع الإذن له في
المضاربة.
أما لو لم يأذن له فإنه لا يصح القراض الثاني، لما عرفت آنفا من أنه
تصرف بغير إذن المالك، وتغرير به.
وحينئذ فلو عمل به العامل الثاني والحال هذه وظهر فيه ربح فلا خلاف
في أن نصفه للمالك، وإنما الخلاف في النصف الآخر، وفيه أقوال ثلاثة:
أحدها - أنه للعامل الأول، واختاره في الشرايع والعلامة في الإرشاد وعلل
257

بوقوع العقد الصحيح بينه وبين المالك، على أن يكون ذلك له، فيستحقه
لاشتراطه له، وعقده مع الثاني باطل لما عرفت.
قالوا: وعلى هذا فللعامل الثاني على الأول أجرة مثل عمله، لأنه غره.
وفيه أنه إنما يتم مع جهل العامل الثاني أما مع علمه بكون العامل
الذي ضاربه غير مالك، ولا مأذون من المالك، فإنه لا يستحق شيئا، لأنه تصرف
في مال الغير بغير إذنه مع علمه بأنه ممنوع منه، وفي هذا القول أيضا زيادة
على ما عرفت أنه لا يخلو إما أن يكون العامل الثاني قد شرى بعين المال،
أو في الذمة، وعلى الأول فإن العقد يكون فضوليا، لأنه غير مأذون من المالك
فينبغي بمقتضى صحة العقد الفضولي عندهم أن يكون موقوفا على الإجازة،
فإن أجازه المالك فالواجب أن يكون الربح كله له، لأن العامل الأول لم
يعمل شيئا، والثاني غير مأذون.
وعلى الثاني فإن نوى وصرح بالمالك فكذلك أيضا، وإلا وقع لمن نواه
ولنفسه إن أطلق، وبه يظهر أن ما أطلق في هذا القول من كون الحصة للعامل
الأول ليس في محله.
وثانيها - أن النصف الآخر للمالك، وهو ظاهر العلامة في التذكرة
قال بعد ذكر المسألة: فإن حصل ربح فالأقرب أنه للمالك، ثم لا يخلو إما
أن يكون العامل الثاني عالما بالحال أو لا، فإن كان عالما لم يكن له شئ،
وإن لم يكن عالما رجع على الأول بأجرة المثل، انتهى.
وكلامه ظاهر في منع العامل الثاني من الربح وعدم استحقاقه شيئا منه،
وأما الأول فلم يتعرض له، وينبغي أن يعلم أن الوجه في عدم استحقاقه، هو
أنه لم يعمل شيئا يوجب استحقاقه بشئ من الربح، وعلل منع الثاني أيضا، بأن
عقده فاسد، فلا يترتب عليه أثر، والحق هو التفصيل بما تقدم في القول الأول
من أن الشراء وقع بعين المال أو في الذمة حسب ما عرفت، وبه يظهر أنه
258

لا يتم القول بأن عقده فاسد.
وثالثها - إن النصف بين العاملين بالسوية، اتباعا للشرط، خرج منه
النصف الذي أخذه المالك، فكأنه تالف، وانحصر الربح في الثاني، قالوا: وعلى
هذا فيرجع العامل الثاني على الأول بنصف أجرته، لأنه دخل على نصف
الربح بتمامه، ولم يسلم إليه إلا نصفه.
قيل: ويحتمل هنا عدم الرجوع، لأن الشرط محمول على اشتراكهما
فيما يحصل، ولم يحصل إلا النصف.
وكيف كان فينبغي أن يعلم أن هذا كله مع الجهل ليتم التوجيه المذكور
وإلا فمع العلم فالعمل على ما تقدم من التفصيل بكون الشراء بالعين، أو في
الذمة، فلا يتم ما ذكر هنا.
أقول: وهذه الأقوال الثلاثة نقلها المحقق في الشرايع في المسألة،
واختار الأول منها، وقال في المسالك: وهذه الأقوال ليست لأصحابنا، ولا
نقلها عنهم أحد ممن نقل الخلاف، وإنما هي وجوه للشافعية، موجهة ذكرها
المصنف والعلامة في كتبه.
وفيه أنك قد عرفت اختيار المحقق القول الأول من هذه الأقوال الثلاثة،
وهو أيضا اختيار العلامة في الإرشاد والثاني منها اختيار العلامة في التذكرة،
ومثله في القواعد.
وأما الثالث فلم أقف على قائل به، وبه يظهر أن قوله في المسالك إن
هذه الأقوال ليست لأصحابنا، وإنما هي وجوه للشافعية ليس في محله، فإن ذكر
الشافعية لها وجوها في المسألة لا ينافي اختيار أصحابنا لما يترجح عندهم منها، بل
أنت إذا تأملت بعين التحقيق عرفت أن جميع الفروع الغير المنصوصة في أخبارنا
في جل أبواب الفقه إنما هي للعامة، وأصحابنا قد جروا على ما جروا عليه فيما
يختارونه منها، كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع، ومنها هذه المسألة.
259

والقول الثالث في هذه الأقوال قد نقله العلامة في التذكرة بعد اختياره
القول الثاني عن المزني من الشافعية، وقال: إنه قول الشافعي في القديم، ثم إنه قال في المسالك بعد البحث وذكر الأقوال فيها: والتحقيق في هذه المسألة
المترتب على أصولنا أن المالك إن أجاز العقد فالربح بينه وبين الثاني على
الشرط، وإن لم يجزه بطل، ثم الشراء إن كان بالعين وقف على إجازة المالك،
فإن أجازه فالملك له خاصة، ولا شئ لهما في الربح، أما الأول فلعدم العمل،
وأما الثاني فلعدم الإذن له، وعدم وقوع العقد معه، والثاني أجرة مثل عمله على
الأول مع جهله، لا مع علمه، وإن كان الشراء في الذمة ونوى صاحب المال
فكذلك، وإن نوى ممن عامله وقع الشراء له، لأنه وكيله وإن لم ينو شيئا
أو نوى نفسه فالعقد له، وضمان المال عليه التعدية بمخالفة مقتضى المضاربة،
وحيث لا يقع العقد للعامل الثاني فله الأجرة على الأول مع جهله إن لم يتعد
مقتضى المضاربة عمدا، انتهى.
وهو جيد إلا أنه في جل المواضع مبتن على القول بصحة العقد الفضولي
وتوقفه على الإجازة، وأما على القول ببطلانه كما هو الظاهر عندي وعند جملة
من المحققين كما تقدم في محله فالأمر واضح في جملة هذه المواضع
والله العالم.
السابعة: لو أنكر العامل مال القراض فأثبته المالك بالبينة، فادعى
العامل بعد ذلك التلف، فقد صرح الأصحاب بأن هذه الدعوى الأخيرة غير مقبولة،
وكذا الحكم فيما لو ادعى عليه وديعة أو غيرها من الأمانات فأنكرها، ثم بعد
الاثبات ادعى التلف قالوا: والوجه فيه أن دعواه التلف مكذبة لإنكاره الأول
وموجبة للاقرار به، وانكاره الأول نوع تعد في المال، والواجب عليه في جميع
هذه المواضع البدل أو القيمة.
أما لو كان جوابه لا يستحق عندي شيئا وما أشبهه لم يضمن، إذ ليس في
260

ذلك تكذيب للبينة، ولا للدعوى الثانية فإن المال إذا تلف بغير تفريط لا يستحق
عليه بسببه شيئا، وحينئذ فيقبل قوله في التلف من غير تفريط بيمينه، وثبوت
القراض بالبينة لا ينافي جواز تلفه بعد ذلك بغير تفريط، وقد تقدم أن العامل
أمين يقبل قوله بيمنيه، وهو ظاهر.
ولو ادعى الغلط في الربح أو قدره بأن قال أولا ربحت، أو ربحت كذا، ثم
ادعى الغلط في ذلك، وأنه ما ربح شيئا أو ربح شيئا أقل مما ذكره أولا، فإنه
يؤخذ باقراره الأول، ولا يسمع دعوى الغلط كما هو شأن جميع الأقارير.
نعم لو قال: خسرت بعد ذلك أو تلف، فإنه يقبل قوله بيمينه كما تقدم.
ولو ذكر لما ادعاه من الغلط وجها يمكن استناده إليه وابتناءه عليه فلا
يبعد قبول قوله، كما مر مثله، بأن ظن هنا أن متاعه يشترى بكذا وكذا زيادة
على القيمة التي ابتاع بها، فظهر كذب ظنه، ونحو ذلك فليس فيه إلا ارتكاب
التجوز في أخباره بالبناء على الظن، ومثله في باب المجاز غير عزيز والله العالم.
الثامنة: الظاهر أنه لا خلاف في أنه ليس لأحد من العامل والمالك
استحقاق شئ من الربح استحقاقا تاما حتى يستوفي المالك جميع رأس
ماله، فلو كان في المال خسران وربح جبرت الوضيعة من الربح، سواء كان
الخسران والربح في مرة واحدة، أو الخسران في صفقة، والربح في أخرى
أو الربح في سفر، والخسران في سفر آخر لأن معنى الربح هو الفاضل عن رأس
المال، وإذا لم يفضل شئ فلا ربح.
قال في التذكرة بعد ذكر الحكم المذكور: ولا نعلم في هذا خلافا،
إذا تقرر ما ذكرناه فاعلم: أنهم قد صرحوا بأنه ليس لأحدهما قسمة الربح قبل
فسخ العقد قسمة اجبار، بل يتوقف على رضاهما معا، فلا يجبر أحدهما لو امتنع.
أما العامل فإنه لا يجبر لو طلب المالك القسمة، لأنه لا يأمن أن يخسر
المال بعد ذلك، ويكون قد خرج ما أخذه من الربح، وفات من يده، فيحتاج
261

إلى غرم ما حصل له بالقسمة، وفي ذلك ضرر عليه، فلا يلزم الإجابة إلى ما
فيه ضرر عليه.
وأما المالك فإنه لا يجبر أيضا على القسمة لو طلبها العامل، لأن الربح
وقاية لرأس ماله، فله أن يقول: لا أدفع إليك شيئا من الربح حتى يسلم لي رأس
مالي، ثم إنه لو تراضيا بالقسمة قبل الفسخ، فقد عرفت أنه لم يحصل استقرار
الملك للربح، وعلى هذا فلو حصل الخسران بعد ذلك صبر المالك إلى أن ينجبر
هذا النقص بتجارة أخرى، وإلا فإنه يجب على العامل جبره بما أخذ من الربح،
لأنه لم يملك ما أخذه ملكا مستقرا، بل مراعى بعدم الحاجة إليه لجبر الخسران،
وحينئذ فإذا اتفق الخسران بعد قسمتهما الربح رد العامل أقل الأمرين مما وصل
إليه من الربح، ومما يصيبه من الخسران، لأن الأقل إن كان هو الخسران،
فلا يلزمه سوى جبر المال، والفاضل له، وإن كان هو الربح، فلا يلزمه الجبر إلا به،
وكذا يحتسب المالك برجوع أقل الأمرين إليه.
وتوضيح ذلك بأن نفرض أن أصل المال مئة درهم، والربح عشرون درهما،
والشرط أن يكون الربح بينهما نصفين، وبموجبه يكون النقصان كذلك،
فاقتسما الربح وصار حصة العامل عشرة دراهم ثم إنه اتفق نقصان المال من التجارة
عشرين درهما، فعلى العامل عشرة دراهم، وهي تمام حصته، لأن له نصف الربح
فعليه نصف النقصان، وباقي النقصان على حصة المالك، ولو كان الخسران ثلاثين
درهما والربح كما تقدم، فإن حصته من النقصان بموجب ما عرفت خمسة عشر
درهما، وحصته من الربح إنما هي عشرة، فيأخذ هنا بالأقل الذي هو حصته من
الربح، فإنه لا يلزم بأزيد مما يأخذه، ولا يكلف بالجبر من غير الربح، ولو كان
الخسران عشرة دراهم فإن حصته من الخسران خمسة دراهم بموجب ما عرفت،
وهي أقل من حصته من الربح التي هي عشرة كما عرفت فيؤخذ بالأول الذي هو الأقل
والخمسة الأخرى على المالك، وعلى هذا يكون الزائد له، لأن الأمر هنا بالحصة،
262

والرصد والذي يتعلق بالعامل من ذلك هو النصف، والنصف الآخر بالمالك، ومنه
يعلم ما يتعلق بالمالك.
التاسعة: الظاهر أنه لا خلاف في أن التالف من مال التجارة كلا أو بعضا
بعد دورانه في التجارة يجبر بالربح، والمراد بدورانه في التجارة التصرف فيه
بالبيع والشراء، لا مجرد السفر به، قبل وقوع شئ من ذلك، ويمكن أن يستدل
على هذا الحكم أعني جبر الفائت كلا أو بعضا بالربح بالأخبار الكثيرة المتقدمة،
الدالة على أنه مع المخالفة يضمن المال، والربح بينهما.
ومنها صحيحة محمد بن مسلم (1) " عن أحدهما (عليهما السلام) " قال:
سألته عن الرجل يعطى المال مضاربة وينهى أن يخرج به، فيخرج قال: يضمن
المال والربح بينهما ".
والتقريب فيها ما تقدم من أن الربح هو الفاضل عن رأس المال فيما لم
يفضل عن رأس المال شئ فلا ربح، وقد ادعى عليه في التذكرة الاجماع، كما
تقدمت الإشارة إليه، وحينئذ فلا بد من جبر التالف ليحصل بقاء المال، فما زاد
على ذلك يتصف بكونه ربحا يتعلق به القسمة بينهما، وظاهر الأصحاب أنه لا فرق
في الفوائت التي يترتب عليها الخسران بين أن يكون بآفة سماوية أو بغصب غاصب
أو سرقة أو نحو ذلك.
ووجه الاطلاق في ذلك ما عرفت من أن الربح وقاية لرأس المال فما دام
المال لا يكون موجودا بكماله، فلا ربح، وربما قيل: باختصاص الحكم بما
لا يتعلق فيه الضمان بذمة المتلف، لأنه حينئذ بمنزلة الموجود فلا حاجة إلى
جبره، ولأنه نقصان لا يتعلق بتصرف العامل وتجارته بخلاف النقصان الحاصل
بانخفاض السوق ونحوه: والمشهور عدم الفرق.
قال في التذكرة: لو حصل في المال نقص بانخفاض السوق، فهو خسران

(1) الكافي ج 5 ص 240 ح الوسائل ج 13 ص 181 ح 1.
263

مجبور بالربح، وكذا إن نقص المال بمرض حادث أو بعيب متجدد، وأما إن
حصل نقص في العين بأن يتلف بعضها فإن حصل بعد التصرف في المال بالبيع
والشراء فالأقرب أنه كذلك، وأكثر الشافعية على أن الاحتراق وغيره من
الآفات المساوية خسران مجبور بالربح أيضا.
وأما التلف بالسرقة والغصب ففيه لهم وجهان، وفرقوا بينهما بأن في الغصب
والسرقة يحصل الضمان على الغاصب والسارق، وهو يجبر النقص فلا حاجة إلى
جبره بمال القراض، وأكثر هم لم يفرقوا بينهما، وساووا بين التلف بالآفة السماوية
وغيرها، فجعلوا الوجهين في النوعين: أحدهما المنع، لأنه نقصان لا تعلق له
بتصرف العامل وتجارته، بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق، وليس هو
بناشئ من نفس المال الذي اشتراه العامل، بخلاف المرض والعيب فلا يجب
على العامل جبره.
وكيف كان فالأصح عندهم أنه مجبور بالربح انتهى كلامه.
وبه يظهر لك أن ما ذكره الأصحاب في المقام مأخوذ من كلام الشافعية
هنا، كما أشرنا إليه فيما تقدم، وهذا كله فيما إذا حصل التلف في المال بعد
دورانه في التجارة.
أما لو كان قبل ذلك فلا يخلو إما أن يكون التالف الجميع أو البعض، وعلى
الثاني فالأقرب عندهم جبره بالربح، كما لو دفع له مئة فتلف منها قبل الاستعمال
خمسون، فإنه يجبر التالف بالربح، لأنه تعين للقراض بالعقد والدفع إلى العامل
وقبض العامل له، وحينئذ يكون رأس المال مئة كذا صرح به في التذكرة.
وعلى الأول فالذي صرح به في التذكرة، هو أنه إن كان التلف بآفة سماوية
أو من جهة المالك انفسخ العقد، لزوال المال الذي تعلق به العقد، فإن اشترى
بعد ذلك للمضاربة كان لازما له، والثمن عليه، سواء علم بتلف المال قبل نقد
الثمن أو جهل ذلك، إلا أن يجيز المالك لا شراء، فإن أجاز احتمل أن يكون
264

قراضا - كما لو لم يتلف المال - وعدمه كما لو لم يأخذ شيئا من المال، أما لو
أتلفه أجنبي قبل دورانه في التجارة، وقبل تصرف العامل فيه، فإن العامل
يأخذه بماله، ويكون القراض باقيا فيه، لأن القراض كما يتناول عين المال فكذا
يتناول بدله كأثمان السلعة التي يبيعها العامل، والمأخوذ من الأجنبي عوضا بدل.
وقال في المسالك: إنه أي تلف المال كلا قبل الدوران موجب لبطلان
العقد، فلا يمكن جبره، إلا أن يحمل على ما لو أذن له في الشراء في الذمة
فاشترى، ثم تلف المال ونقد عنه الثمن، فإن القراض يستمر ويمكن جبره
حينئذ بالربح المتجدد، كلامهما متفق على البطلان في الصورة المذكورة إلا
مع التأويل بما ذكره كل منهما، وإن تغاير التأويلان.
وقال في الشرايع: إذا تلف مال القراض أو بعضه بعد دورانه في التجارة
احتسب التالف من الربح، وكذا لو تلف قبل ذلك، وفي هذا تردد.
قال في المسالك: وجه التردد فيما لو كان تلفه قبل الدوران من أن وضع
المضاربة على أن الربح وقاية لرأس المال، فلا يستحق العامل ربحا إلا بعد
أن يبقى رأس المال بكماله، لدخوله على ذلك، وعدم دورانه لا دخل له في
الحكم بخلافه، ومن أن التلف قبل الشروع في التجارة يخرج التالف عن كونه
مال قراض والأقوى عدم الفرق، لأن المقتضي لكونه مال قراض هو العقد، لا
دورانه في التجارة، فمتى تصور بقاء العقد وثبوت الربح جبر ما تلف مطلقا انتهى.
أقول: قد عرفت أن مقتضى تلف المال قبل الدوران هو بطلان المضاربة
كما اعترف به فيما قد منا نقله عنه، وكذا في ما قدمناه من كلام التذكرة،
ومقتضى ذلك أنه لا ربح هنا بالكلية ليحصل به الجبران، ولم يبق إلا الحمل
على ما ذكره من التأويل، وهو بعده عن ظاهر عبارة المصنف غاية البعد،
مدخول بأن الظاهر أنما هو عدم الجبران.
قوله: إن وضع المضاربة على أن الربح وقاية لرأس المال إلى آخره مسلم
265

إلا أنه فرع وجود رأس المال فإن رأس المال إنما يصدق كما هو المتبادر على
المبلغ الذي دفعه المالك، وهو قد تلف كما هو المفروض، والربح الذي يجب الجبر به
إنما هو ما حصل من ذلك المال بعد المعاملة به، وهذا الربح الذي حصل بالشراء
في الذمة لم يترتب على ذلك المال المقروض، لأنه قد ذهب قبل دورانه،
ويؤيده أن الأصل بقاء ملك العامل لهذا الربح وخروجه عنه إلى أن يجبر به
الفائت يحتاج إلى الدليل.
نعم قام الاجماع. وظاهر ما تقدم من الأخبار على الجبر بعد الدوران،
فيبقى ما عداه على حكم الأصل، وبذلك يظهر أن قوله وعدم دورانه لا دخل له
في الحكم بخلافه ليس في محله.
وبالجملة فإنا لا نمنع بقاء العقد في صورة التأويل الذي فرضه - وبنى
عليه الكلام، لعدم فسخه وارتفاعه مع الإذن في الشراء في الذمة، وظهور
ربح هناك - وإنما نمنع من جبر التالف بهذا الربح، إذ المتبادر من الأخبار
وكلام الأصحاب أن الربح الذي يجبر التالف إنما هو ربح ذلك المال الذي
وقعت المعاملة به، ورأس المال الذي يخرج أولا إنما هو المستعمل في التجارة
وكونه مال التجارة، إنما يصدق حقيقة بعد الدوران لا قبله، بمعنى جبر التالف
بالربح أي الذي عرض له التلف بعد حصول الربح فيه، لا ما لم يكن كذلك.
وكيف كان فالمانع مستظهر، والله العالم.
العاشرة: يجوز تعدد كل من العامل والمالك فيضارب المالك اثنين،
وبالعكس، فإذا تعدد العامل بأن قارض الواحد اثنين، اشترط تعين الحصة لهما
ولا يجب عندهم تفصيلها، بل يجوز أن يجعل النصف لهما، فيحكم بالنصف لهما
بالسوية، لاقتضاء الاطلاق ذلك، وأصالة عدم التفصيل،
وفيه نظر قد تقدم ذكره في المسألة الرابعة من المقصد الثالث في
266

الربح ولو شرط التفاوت بينهما بأن جعل لأحدهما ثلث الربح، وللآخر ربعه
فأبهم ولم يعين بطل، ولو عين الثلث لواحد بعينه، والربع للآخر صح، لأن
عقد الواحد مع اثنين في حكم عقدين قد قارض في أحدهما بثلث الربح، وفي
الآخر بالربع، وقد تقدم ايضاح ذلك في المسألة المذكورة، وإذا اتحد العامل
وتعدد المالك فلو بينا نصيب العامل من الربح بأن جعلا له نصف الربح، ولهما
الباقي يكون بينهما على ما يشترطانه من التفاضل والتساوي، سواء كان على
نسبة المالين أم لا، وبه أفتى في التذكرة ونقل عن الشافعي المنع من التفاضل
مع تساوي المالين، والتساوي مع تفاضلهما، لأن الربح يكون تابعا للمال،
فإذا شرطا له النصف كان النصف الآخر بينهما بالسوية، فشرط التفاوت فيه يكون
شرطا لاستحقاق ربح بغير عمل ولا مال.
ولو شرط أحدهما للعامل النصف من حصته من الربح، وشرط الآخر
له الثلث على أن يكون الباقي بينهما نصفين صح على القول الأول، وبطل على
قول الشافعي، قال: إنه لا يجوز، لأن أحدهما يستحق مما بقي بعد شرطه النصف
والآخر يستحق الثلثين، ولا يجوز أن يشترط التساوي، فيكون قد شرط أحدهما
على الآخر من ربح ماله بغير عمل عمله، ولا مال يملكه.
أجاب القائلون بالقول الأول بأن الفاضل الذي أخذه الشريك من حصة
العامل، لا من حصة شريكه، وتوضيحه أن الأصل لما اقتضى التساوي في الربح
للشريكين مع التساوي في المال كان شرط التفاوت المذكور منصرفا إلى حصة
العامل، بمعنى أن شارط الزيادة يكون قد جعل للعامل أقل مما جعل له أخذ
النقيصة، وهو جائز، ومنه علم حجة القول الأول.
أقول: ومن تعارض هذين الوجهين في المسألة تردد المحقق في المسألة
المذكورة وهو في محله، لعدم النص الواضح في المقام، وإن كان القول الأول
لا يخلو من قوة.
267

هذا فيما لو اشترطا التفاضل في القسمة مع اطلاق النصف الذي عيناه للعامل
بمعنى أنه لم يعين نصيب كل منهما من ذلك النصف الذي جعلاه له، أما لو عيناه
بأن قالا لك نصف الربح على أن يكون بالمناصفة بيننا، فيرجع إلى أنه قد جعل
له كل واحد منهما ربع الربح، فإنه بهذا التعيين يخرج المسألة عما قلناه هنا
من الخلاف، ويرجع الكلام في ذلك إلى ما تقدم في كتاب الشركة من اشتراط
التفاوت في الربح مع تساوي المالين، وبالعكس وقد تقدم البحث في ذلك في
المسألة الخامسة (1) من الفصل الأول من الكتاب والله العالم.
الحادية عشر - اختلف الأصحاب في ما لو اشترى العامل شيئا للقراض فتلف
الثمن قبل دفعه البايع، قال الشيخ في الخلاف: إذا دفع إليه ألفا للقراض فاشترى
به عبدا للقراض، فهلك الألف قبل أن يدفعه في ثمنه، اختلف الناس فيه على
ثلاثة مذاهب قال أبو حنيفة ومحمد: يكون المبيع لرب المال، وعليه أن يدفع
إليه ألفا غير الأول، ليقضي به دينه، ويكون الأول والثاني قراضا وهما معا رأس
المال، وقال مالك: رب المال بالخيار بأن يعطيه ألفا غير الأول ليقضي به الدين
ويكون الألف الثاني رأس المال دون الأول، أو لا يدفع إليه شيئا، فيكون المبيع
للعامل، والثمن عليه، ونقل البزنطي عن الشافعي أن المبيع للعامل، والثمن عليه،
ولا شئ على رب المال، وهو اختيار أبي العباس، قال الشيخ: وهو الذي يقوى في نفسي
لأنه لا يخلو إما أن يكون الألف تلف قبل الشراء، أو بعده، فإن كان تلف قبل
الشراء وقع الشراء للعامل، لأنه اشتراه بعد زوال القراض، وإن كان التلف بعد
الشراء فالبيع وقع لرب المال، وعليه أن يدفع الثمن من ماله الذي سلمه إليه، فإذا
هلك المال فحول الملك إلى العامل، وكان الثمن عليه، لأن رب المال إنما فسح
للعامل في التصرف في ألف إما أن يشتري به بعينه، أو في الذمة، وينقد عنه،
ولم يدخل على أن يكون له في القراض أكثر منه.

(1) ص 163
268

وقال في المبسوط: إذا دفع ألفا قراضا فاشترى به عبدا للقراض فهلك
الألف قبل أن يدفعه، قال قوم: إن المبيع للعامل والثمن عليه ولا شئ على رب المال
وقال قوم: المبيع لرب المال، وعليه أن يدفع إليه ألفا غير الأول، فيقضي به دينه،
ويكون الألف الأول والثاني قراضا وهما معا رأس المال وهو الأقوى، وبه قال
ابن البراج، ثم نقل مذهب مالك الذي قدمنا نقله عنه في الخلاف، ثم قال: وإذا
سرق المال قبل أن يدفعه في ثمن المبيع قال قوم: يكون للعامل والثمن عليه،
ولا شئ على رب المال، وفي الناس من قال: إذا تلف المال قبل الشراء،
فالمبيع للمشتري، لأنه اشتراه بعد زوال عقد القراض، وإن كان بعد الشراء كان
الشراء للقراض ووقع الملك لرب المال، لأنه اشتراه والقراض بحاله، لأن الإذن
قائم، وإذا كان الشراء له كان الثمن عليه، وإذا دفع إليه ألفا آخر ليدفعه في
الثمن، نظرت فإن سلم فلا كلام، وإن هلك فعليه غيره كذلك أبدا، فعلى هذا
إذا هلك الألف الأول، ودفع إليه ألفا آخر فدفعه في الثمن، فإن الألفين يكون
رأس المال، وهو الصحيح، لأن الألف تلف بعد أن قبضه العامل، فلم يكن من
أصل المال، كما لو كان في التجارة، انتهى.
وقال الشيخ المفيد: إذا ابتاع المضارب متاعا لصاحب المال، وأراد نقد
الثمن، فوجد المال قد هلك، فنقد من عنده في المتاع كان المتاع له دون صاحب
المال، وكان الربح له والخسران عليه، ولم يكن لصاحب المال فيه نصيب على حال.
وقال ابن إدريس: إن كان المضارب اشترى العبد بثمن في الذمة لا بعين المال
فالعبد للمضارب دون رب المال، ويجب على العامل الذي هو المضارب أن يدفع
من ماله ألفا ثمن العبد، والبيع لا ينفسخ، لأن الأثمان إذا كانت في الذمة لا ينفسخ
البيع بهلاكها، لأنها غير معينة، وإن اشترى بعين مال المضاربة انفسخ البيع،
وكان العبد ملكا لبايعه، على ما كان دون العامل، ودون رب مال المضاربة لأن
269

هلاك الثمن المعين يوجب الفسخ، قال: وهذا الذي اخترناه مذهب شيخنا في
مواضع كثيرة من كتب مسائل الخلاف والمبسوط، انتهى.
أقول: والمسألة المذكورة وإن كانت خالية من النصوص على العموم
والخصوص، إلا أن مقتضى قواعدهم في هذا الباب هو التفصيل، بأن يقال: إن كان
تلف المال بعد الشراء بتفريط من العامل إما بعدم الحفظ أو بالتأخير عن الدفع
فإنه يكون ضامنا، ويكون القراض باقيا ويجب عليه الدفع إلى البايع، وإن لم
يكن بتفريط، فلا يخلو إما أن يكون الشراء بالعين أو في الذمة، فإن كان الشراء
بالعين بطل البيع، ووجب دفع المبيع إلى بايعه كما ذكره ابن إدريس، وإن كان
في الذمة فإن كان مأذونا من المالك وفع الشراء للقراض، ووجب على المالك
دفع الثمن عوض التالف، ويكون الجميع رأس المال فيجبر بالربح عندهم،
كما تقدم.
وإن لم يكن مأذونا من المالك بطل الشراء إن أضاف ذلك إلى المالك
والقراض، وترد المبيع على بايعه، إلا أن يجيز المالك ذلك بناء على صحة
العقد الفضولي، فإن أجاز المالك وجب عليه دفع الثمن ثانيا وثالثا وهكذا،
ويكون الجميع رأس المال كما تقدم، وإن لم يضف ذلك إلى المالك ولا القراض،
بل أضافه إلى نفسه أو أطلق وقع الشراء للعامل، وعليه دفع الثمن، وعليه يحمل
اطلاق كلام ابن إدريس هذا مقتضى قواعدهم في الباب والله العالم بحقيقة الحق
والصواب.
الثانية عشر - إذا دفع إليه مالا قراضا وشرط عليه أن يأخذ له بضاعة،
فهل يصح القراض والشرط، أو لا يصح شئ منهما، أو يصح القراض ويبطل الشرط؟
أقوال: أولها - للعلامة في المختلف والمحقق في الشرايع، وثانيهما - أحد
قولي الشيخ وبه جزم ابن البراج، وثالثهما - للشيخ أيضا.
270

قال في المبسوط: إذا دفع إليه ألفا قراضا بالنصف على أن يأخذ منه ألفا
بضاعة بطل الشرط، لأن العامل في القراض لا يعمل عملا بغير جعل، ولا قسط
من الربح، وإذا بطل الشرط بطل القراض، لأن قسط العامل يكون مجهولا،
لأن المالك إنما يحصل له النصف حتى اشترط العامل له عملا بغير جعل، فيذهب
من نصيب العامل قدر ما زيد فيه لأجل البضاعة، وهو مجهول.
ثم قال: وإن قلنا أن القراض صحيح، والشرط جائز - لكنه لا يلزم الوفاء
به، لأن البضاعة لا يلزم القيام بها - كان قويا، وجزم ابن البراج بالأول.
وقال في المختلف بعد نقل ذلك: والحق صحة الشرط والعقد، وأي منافاة
بين أن يعمل العامل عملا في مال بعوض، وفي غيره بغير عوض، لنا وجود المقتضي
وهو العقد، وقوله (عليه السلام) (1): " المؤمنون عند شروطهم " والمانع منتف
لما بيناه، فيثبت القراض والشرط، ويجب عليه القيام به، لقوله (عليه السلام)
" المؤمنون عند شروطهم "، وقال في المسالك: وهو الأقوى.
أقول، وملخص حجة القول ببطلان الجميع أن وضع القراض على أن
يكون للعامل في مقابلة عمله جزء من الربح، وهذا العمل ليس في مقابله شئ
فيفسد الشرط، ويتبعه العقد، لأن قسط العامل يكون مجهولا، لاقتضاء الشرط
قسطا من الربح، وقد بطل، فيبطل ما يقابله فيتجهل الحصر في النصف.
ورد بمنع منافاة هذا الشرط لمقتضى العقد، فإن مقتضاه أن يكون عمله
في مال القراض بجزء من الربح، أما غيره فلا، فإذا تناوله دليل مجوز لزم
القول بجوازه.
وأنت خبير بأن المسألة غير خالية من الاشكال على كل من هذه الأقوال،
وتوضيح ذلك أن البضاعة لا يجب القيام بها، لأن مبناها على الجواز، والقراض

(1) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4
271

أيضا من العقود الجائزة كما عرفت لا يلزم الوفاء به، فلا يلزم الوفاء بما شرط
في عقده، لأن الشرط كالجزء من العقد تابع له، فلا يزيد عليه، والحال أن
المالك لم يعين للعامل هذه الحصة إلا من حيث هذا الشرط، فإن وفي به فلا
بحث، وإلا أشكل الأمر.
ومقتضى القواعد كما عرفت أنه لا يلزم للعامل الوفاء به، فمتى أخل به
تسلط المالك على الفسخ، ولو كان ذلك له بدون الشرط إلا أن هذا سبب زائد،
فلو فسخ والحال هذه فإن كان قبل ظهور ربح، فمقتضى قواعدهم أن للعامل عليه
الأجرة كما تقدم، وإن كان بعد ظهوره فهل يكون جميع الربح للمالك نظرا
إلى أنه لم يبذله للعامل إلا بالشرط، وقد فات، أو للعامل حصته المعينة، نظرا
إلى ملكه لها بالظهور قبل الفسخ، والأصل بمعنى الاستصحاب يقتضي بقائه،
ويؤيده أن المالك قد قدم على ذلك حيث اقتصر على شرط ذلك في عقد لا يلزم
الوفاء فيه بالشرط اشكال، وقيل: هنا بالأول، وفيه ما عرفت، والله العالم.
الثالثة عشر - لا خلاف ولا اشكال في أنه لو اشترى جارية للقراض لم
يجز له وطئها، لأنها ملك لرب المال، ظهر فيها ربح أم لا، غاية الأمر بظهور
الربح أن تكون مشتركة بين المالك والعامل، والجارية المشتركة لا يجوز
لأحد الشريكين وطئها بدون إذن الآخر، فإن وطأها والحال كذلك فقد تقدم
الكلام في تحقيق القول في ذلك بالنسبة إلى الحد والمهر والولد في كتاب البيع
في المسألة الرابعة عشر من المقصد الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان (1).
وقد صرح العلامة في التذكرة هنا بأن المهر المأخوذ منه هنا يجعل في
مال القراض، قال: لأنه ربما وقع خسران فيحتاج إلى الجبر.
وقال في التذكرة أيضا: أنه لا يجوز للمالك أن يطأها أيضا سواء كان هناك
ربح أم لا، لأن حق العامل قد تعلق بها، والوطئ ينقصها إن كانت بكرا، أو
(1) ج 19 ص 474.
272

يؤدي إلى خروجها من المضاربة، لأنه ربما يؤدي إلى احبالها، إلى أن قال:
ولو لم يكن فيها ربح لم يكن للمالك أيضا، لأن انتفاء الربح في المتقومات غير
معلوم، وإنما يتيقن الحال بالتنضيض للمال، أما لو تيقن عدم الربح فالأقرب أنه
يجوز له الوطئ، انتهى.
أقول: وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله أولا لا يجوز للمالك أن يطأها
سواء كان هنا ربح أم لا، على الربح الذي من أصل المال، لا من الجارية جمعا
بين كلاميه، وإنما الخلاف والاشكال فيما إذا أذن له في شراء الجارية ووطأها،
فالمشهور أنه كالأول، لأن الإذن قبل الشراء لا أثر لها في التحليل، سواء قلنا
أن التحليل تمليك أو عقد، فإنه على تقدير كل منهما لا يحصل شئ منهما قبل
الشراء، فلا يدخل تحت الحصر في قوله تعالى " إلا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم " (1) إلا أنه قد روى الشيخ في التهذيب عن الحسن بن محمد بن
سماعة عن محمد بن زياد عن عبد الله بن يحيى الكاهلي (2) عن أبي الحسن
(عليه السلام) " قال: قلت: رجل سألني أن أسألك أن رجلا أعطاه مالا مضاربة
يشتري له ما يرى من شئ، فقال: اشتر جارية تكون معك، والجارية إنما
هي لصاحب المال إن كان فيها وضيعة فعليه، وإن كان فيها ربح فله، للمضارب
أن يطأها؟ قال: نعم ".
وبهذا الرواية أفتى الشيخ في النهاية، وظاهر المحدث الكاشاني في
الوافي الميل إلى ذلك، حيث قال: وإنما أجاز له وطأها لأن قوله تكون معك
تحليل لها إياه، انتهى.
والأصحاب قد ردوها بما عرفت، قال في المسالك: والقول بالجواز للشيخ
في النهاية استنادا إلى رواية ضعيفة السند، مضطربة المفهوم، قاصرة الدلالة.

(1) سورة المؤمنون الآية 6.
(2) التهذيب ج 7 ص 191 ح 31، الوسائل ج 13 190 باب 11.
273

أقول: أما ضعف السند فهو غير وارد على الشيخ وأمثاله من المتقدمين
الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم، بل الأخبار كلها صحيح باصطلاحهم، إلا
ما نصوا عليه، وقد تقدم تحقيق ذلك في المجلد الأول من الكتاب (1).
وأما قصور الدلالة فهو مردود بأنه لا أصرح في الجواز من قوله (عليه السلام)
" نعم " بعد قول السائل " أله أن يطأها " وأما اضطراب المفهوم فهو غير مفهوم
ولا معلوم، وأما ما استندوا إليه من أن الإذن قبل الشراء لا أثر له في التحليل فهو أول
المسألة ومحل البحث، وأي مانع منع منه " قولهم: سواء قلنا أن التحليل تمليك
أو عقد " مدخول بعدم الانحصار في القسمين المذكورين، فإن التحليل قسم ثالث،
ليس بتمليك ولا عقد، وقد دلت الأخبار على جواز النكاح به، وإن كان ظاهر كلامهم
ارجاعه إلى أحد القسمين المتقدمين، إلا أن ظاهر الأخبار كونه قسما برأسه.
وبالجملة فإن رد الخبر من غير معارض مشكل، والركون إلى هذه
التعليلات العليلة ورد - الخبر بها مجازفة ظاهرة، هذا كله فيما إذا كان الإذن
قبل الشراء.
أما لو كان بعد الشراء فإن الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في جواز الوطئ
إلا أن يكون الشراء للقراض ويكون قد ظهر فيها ربح، فإنه تصير المسألة
هنا راجعة إلى مسألة تحليل أحد الشريكين لصاحبه، وفيها خلاف واشكال سيأتي
التنبيه عليه في محله إن شاء الله، ومنشؤه من حيث لزوم حل النكاح بسببين
مختلفين، إلا أن هذا خارج عن مورد الخبر المذكور، فإن ظاهره أن الجارية
للمالك خاصة، وليست من القراض في شئ.
وكيف كان فالمسألة لما عرفت محل توقف واشكال، والاحتياط فيما ذكره
الأصحاب والله العالم.
الرابعة عشر - إذا مات وفي يده أموال مضاربة فإن علم مال أحدهم بعينه

(1) ج 1 ص 25.
274

حكم له به، وإن جهل كانوا فيه سواء، فإن جهل كونه مضاربة حكم به للورثة
ويدل على الأولين ما رواه الشيخ في التهذيب عن السكوني (1) عن جعفر
عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام) أنه كان يقول: من يموت وعنده مال
مضاربة قال: إن سماه بعينه قبل موته فقال: هذا لفلان فهو له، وإن مات ولم
يذكر فهو أسوة الغرماء " ورواه الصدوق مرسلا، ويدل على الثالث أصالة العدم،
والحكم باليد، ثم إنه على تقدير الثاني فالمراد باستوائهم في المال كما ذكره
الأصحاب هو أن يقسم بينهم على نسبة أموالهم لا بمعنى أن يقسم بالسوية كما
في اقتسام غيرهم من الشركاء.
هذا إذا كانت أموالهم مجتمعة في يده على حده، وأما إن كان المال ممتزجا
مع جملة ماله مع العلم بكونه موجودا فالغرماء بالنسبة إلى جميع التركة
كالشريك إن وسعت التركة أموالهم أخذوها، وإن قصرت تحاصوا وعلى تقدير
الثالث فالمراد به أن العامل كان في يده مضاربة في الجملة، ولكن لم يعلم
بقاؤها ولا تلفها ومن أجل ذلك حصل الجهل بكون المال الذي في يده مضاربة،
إذ كما يحتمل أن يكون من مال المضاربة، يحتمل أن يكون من ماله، فيحكم
بكونه ميراثا، عملا بظاهر اليد، ولكن يبقى الاشكال في أنه هل يحكم بضمانه
لمال المضاربة من حيث أصالة بقائها إلى أن يعلم التلف بغير تفريط ولعموم
" على اليد ما أخذت حتى تؤدي " (2) أم لا؟ لأصالة براءة الذمة، وكون مال
المضاربة أمانة غير مضمونة، وأصالة بقائه لا يقتضي ثبوته في ذمته مع كونه أمانة
اشكال، ولعل الثاني أقوى والله العالم.

(1) التهذيب ج 7 ص 192 ح 37 الفقيه ج 3 ص 144 ح 6 الوسائل ج 13
ص 191 باب 13.
(2) المستدرك ج 2 ص 504 كتاب الوديعة.
275

كتاب المزارعة والمساقاة
والكلام في هذا الكتاب يقع في مطلبين: الأول - في المزارعة، وهي
مفاعلة من الزرع، ومقتضى الصيغة الوقوع منهما معا كما هو قضية باب المفاعلة
ولعله هنا باعتبار أن أحدهما زارع، والآخر آمر به، فكأنه لذلك فاعل من حيث
السببية، كما قيل: مثله في باب المضاربة، وهنا فوائد يحسن التنبيه عليها قبل
الشروع في المقصود.
الأولى - وقد ذكر جملة من الأصحاب أن المزارعة قد يعبر عنها بالمخابرة
إما من الخبير، وهو الأكار، أو من الخبارة وهي الأرض الرخوة، أو مأخوذ من
معاملة النبي (صلى الله عليه وآله) أهل خيبر حيث جعلها في أيديهم على
النصف من حاصلها، فقيل: خابرهم أي عاملهم في خيبر.
قال الصدوق في كتاب معاني الأخبار (1) بعد أن روى مرفوعا عن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه نهى عن المخابرة وهي المزارعة بالنصف والثلث
والربع وأقل من ذلك وأكثر وهو الخبر وكان أبو عبيد يقول: لهذا سمي الأكار

(1) معاني الأخبار ص 278 ط طهران 1379.
277

الخبير، لأنه يخبر الأرض والمخابرة المؤاكرة، والخبرة بالفعل والخبير الرجل،
ولهذا سم الأكار لأنه يواكر الأرض أي يشقها، انتهى.
قال بعض أصحابنا: وما روي أنه (عليه السلام) نهى عن المخابرة، كان
ذلك حين تنازعوا فنهاهم عنها.
أقول: الظاهر أنه أشار إلى هذا الخبر فإني لم أقف في أخبارنا على ما يدل
على النهي عنها، بل الأخبار كما سيأتيك انشاء الله تعالى ظاهرة في مشروعيتها
وصحتها، ولم ينقل الخلاف في ذلك عن أحد من أصحابنا، ولا من العامة إلا
عن أبي حنيفة والشافعي في بعض المواضع، وأيضا فإن الظاهر أن هذا الخبر
الذي نقله الصدوق هنا إنما هو من طريق العامة، حيث أنه رواه عن محمد بن هارون
عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد (1) رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه نهى الخبر والله العالم.
الثانية - قد عرفوا المزارعة بأنها معاملة على الأرض بحصة من حاصلها،
والصيغة فيها زارعتك أو ازرع هذه الأرض أو سلمتها إليك ونحو ذلك مما يفيد
هذا المعنى مدة كذا بحصة معلومة من حاصلها، والظاهر أنه لا خلاف بينهم
في كونها من العقود اللازمة التي لا تنفسخ إلا بالتقايل فلا بد فيها من الإيجاب
والقبول الدالين على الرضا بالتسليم وفي المسالك " أنه لا بد من كونهما بالعربية
والماضوية، فلا تصح بلفظ الأمر وأن الأقوى اعتبار القبول اللفظي كغيره من
العقود اللازمة، وفي الجميع نظر قد تقدم في كتاب البيع، وتقدم من هذا القائل
ثمة ما يوهن ما ذكره في هذا المقام وأمثاله، ويدل على وقوعها، وكذا وقوع
المساقاة بلفظ الأمر الذي منع منه هنا جملة من الأخبار.
ومنها ما رواه في الكافي عن يعقوب بن شعيب (2) في الصحيح عن أبي عبد الله

(1) معاني الأخبار ص 278 ط طهران سنة 1379، الوسائل ج 12 ص 266 ح 13.
(2) الكافي ج 5 ص 268 ح 2، الوسائل ج 13 ص 203 ح 2.
278

(عليه السلام) في حديث " قال: سألته عن رجل يعطي الرجل أرضه وفيها رمان
أو نخل أو فاكهة يقول: اسق هذا من الماء، واعمره ولك نصف ما خرج قال.
لا بأس ".
وبذلك يظهر لك ما في قوله في المسالك، وأما قوله ازرع هذه الأرض
بصيغة الأمر فإن مثل ذلك لا يجيزونه في نظائره من العقود، ولكن المصنف
(رحمة الله عليه) إجازة هنا استنادا إلى روايتي أبي الربيع الشامي والنضر بن
سويد عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهما قاصرتان عن الدلالة، فالاقتصار على
لفظ الماضي أقوى.
أقول: أما رواية أبي الربيع (1) التي أشار إليها وهي ما رواه الشيخ عنه
عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنه سئل عن رجل يزرع أرض رجل آخر فيشترط
عليه ثلثا للبذر وثلثا للبقر فقال: لا ينبغي أن يسمى بذرا ولا بقرا، ولكن يقول
لصاحب الأرض ازرع في أرضك ولك منها كذا وكذا نصف أو ثلث أو ما كان من
شرط " ولا يسمى بذرا ولا بقرا الحديث.
وأما رواية النضر فالظاهر أن نسبتها إلى النظر سهو من قلمه (رحمة الله عليه)
وإنما هي رواية عبد الله بن سنان (2) وإن كان الراوي عنه النضر كما هو في التهذيب
فإنا لم نقف على روايتي النضر بما قاله، فإن سندها في التهذيب الحسين بن سعيد
عن النضر بن سويد عن عبد الله بن سنان، أنه قال: في الرجل يزارع أرض
غيره فيقول: ثلث للبقر، وثلث للبذر، وثلث للأرض قال: لا يسمى شيئا من
الحب والبقر، ولكن يقول: ازرع ولي فيها كذا وكذا إن شئت نصفا، وإن
شئت ثلثا ".

(1) التهذيب ج 7 ص 194 ح 3 و ص 197 ح 18، الوسائل ج 13
ص 201 ح 10 و ص 200 ح 5.
(2) التهذيب ج 7 ص 194 ح 3 و ص 197 ح 18، الوسائل ج 13
ص 201 ح 10 و ص 200 ح 5.
279

وأشار بقصورها عن الدلالة إلى احتمال كون أزرع بلفظ المستقبل، بل
هو الظاهر من الرواية الأولى.
وفيه أولا أنه وإن كان بلفظ المستقبل إلا أن فيه ردا عليه فيما ادعاه من
الانحصار في لفظ الماضي، وثانيا ما عرفت من الصحيحة المتقدمة الصريحة في وقوع
المساقاة والمزارعة بلفظ الأمر، ثم إنه قال: أيضا وفي عبارة المصنف تجوز، لأنه
قال: وعبارتها كذا ولم يذكر القبول، مع أنه أحد ركني العبارة عنها، فلا بد من
ذكره، ولعله أشار بما ذكر إلى الاكتفاء بالقبول الفعلي كما اختاره العلامة في
القواعد، فتنحصر العبارة في الإيجاب، والأقوى اعتبار القبول اللفظي كغيره
من العقود اللازمة.
أقول: فيه إن المفهوم من الأخبار كصحيحة يعقوب بن شعيب المتقدمة،
وجملة من الأخبار التي قدمناها في كتاب البيع أن المدار في القبول على حصول
الرضا بما دل عليه الإيجاب، وإن لم يكن بلفظ، وكذا في جانب الإيجاب إلا أن
الأظهر اشتراط اللفظ في جانب الإيجاب، وإن كان بعض متأخري المحدثين،
قد اكتفى أيضا بمجرد الرضا، وما ذكره في الصحيحة المذكورة هو صورة عقد
المساقاة، وهو خال من ذكر لفظ القبول، كما ادعاه.
وكذلك جملة من العقود التي وردت بها الأخبار كما لا يخفى على من راجع
الروايات التي قدمناها في كتاب البيع، وبه يظهر ضعف ما ادعاه من أن الأقوى
اعتبار القبول اللفظي، فإنه - مع كونه لا دليل عليه - مردود بظهور الدليل
على خلافه كما عرفت.
الثالثة - المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أنه لا بد من
كون الأرض ملكا لأحدهما عينا أو منفعة، لأنه المستفاد من حقيقة المزارعة
وصيغتها، فلا تشرع المزارعة في الأرض الخراجية إلا باستعمال حيلة من الحيل
الشرعية.
280

ثم ذكر جملة من الحيل في ذلك، ومنها جعل البذر منهما قال (رحمة
الله عليه) فلو اتفق اثنان على المعاملة في مثل ذلك في الأرض الخراجية فطريق
الصحة الاشتراك في البذر، بحيث يمتزج على الوجه المقرر في باب الشركة،
ويجعلان باقي الأعمال بينهما على نسبة المال، ولو اتفقا على زيادة عمل من
أحدهما نوى به التبرع، فلا رجوع له بالزائد، ولو أرادا جعل الحاصل
مختلفا مع التساوي في البذر أو بالعكس، بني على ما تقرر في الشركة من جواز
ذلك، وقد عرفت أن المختار جواز الزيادة في القدر للعامل، أو من له زيادة
في العمل، فليلحظ ذلك أو غيره من الحيل الشرعية على توسيع هذه المعاملة،
لأنها متداولة في كثير من البلاد التي أرضها غير مملوكة، فيحتاج فيها إلى
وجه مجوز ويمكن فرضه بأمور، ثم عد جملة من الحيل في ذلك.
وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من حقيقة المزارعة وصيغتها وتعريفها هو
أولوية أحدهما بمنفعة تلك الأرض، أعم من أن يكون بالملك الطلق لرقبة الأرض،
ومنفعتها بالإجارة، أو الأولوية الحاصلة في الأرض الخراجية أو المباحة
بالتحجير أو الاحياء، وإن لم نقل بحصول الملك به.
وبالجملة فما يدل على كون المنفعة له بأي نحو كان، ويدل على ذلك
الأخبار الواردة في مزارعة أرض الخراج من غير اشتراط شئ مما ذكره.
ومنها صحيحة يعقوب ابن شعيب (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال:
سألته عن الرجل يكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها إلى رجل على أن
يعمرها، ويصلحها ويؤدي خراجها وما كان من فضل فهو بينهما، قال: لا بأس ".
وصحيحة الحلبي (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث " أنه سئل
عن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث؟ قال: لا بأس به " الحديث.

(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 2، التهذيب ج 7 ص 198 ح 22 و ص 201
ح 34، الوسائل ج 13 ص 203 ح 2 و ص 200 ح 8.
(2) تقدم آنفا
281

على أنه قد صرح هو وغيره بل الظاهر أنه لا خلاف فيه، إلا من بعض
متأخري المتأخرين كما تقدم ذكره بأنه يجوز بيع الأرض الخراجية تبعا
للآثار، ومتى جاز البيع جازت المزارعة بطريق أولى، وبذلك يظهر أن اطلاقه
المنع من المزارعة في الأرض الخراجية بناء على أنها ملك للمسلمين قاطبة،
وإن هذا الزارع لا يملكها، ومن شرط المزارعة الملك لأحدهما كما ذكره
غير جيد.
فإن قيل: - إنه بعد حصول الآثار فيها كما يجوز بيعها يجوز المزارعة
أيضا، والمدعى أنما هو قبل حصول الآثار فيها - قلنا: هذه الآثار التي يترتب
عليها جواز البيع إنما حصلت بعد الفتح، وثبوت كونها خراجية، فالمجوز
لهذه الآثار مجوز للمزارعة عليها، وهو ظاهر.
الرابعة - قد عرفت أن عقد المزارعة عندهم من العقود اللازمة التي لا تبطل
إلا بالتقائل، أما كونه من العقود اللازمة فلأنه مقتضى الأصل، إذا الأصل لزوم
العقد إلا ما خرج بدليل، وللخبر المشهور " المؤمنون عند شروطهم " (1)
وآية " أوفوا بالعقود " (2) ونحو ذلك من الأدلة العامة.
وأما كونه لا يبطل إلا بالتقايل، فالمراد به بالنظر إلى اختيار المتعاقدين
يعني ليس كالعقود الجائزة التي لكل من المتعاقدين فسخها، وإلا فإنه يبطل
أيضا بغير التقايل كانقطاع الماء عن الأرض، وفساد منفعة الأرض، فالحصر في
التقايل ليس حصرا حقيقيا، وإنما هو بالإضافة إلى المتعاقدين.
والظاهر أن المستند في بطلانه بالتقائل هو الاجماع، ولا يبطل بالبيع ولا
بموت أحد المتعاقدين: لعدم المنافات بين البيع أو الموت وبين بقاء المزارعة
كما سيأتي مثله في الإجارة على الأظهر، وإن كان فيه ثمة قول بالبطلان بالموت.

(1) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
(2) سورة المائدة الآية 1.
282

أما هنا فالظاهر أنه لا خلاف في عدم البطلان بالموت، عملا بلزومه وأصالة
بقائه ودوامه، وليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المختلف في حجيته،
لأن مرجع هذا الاستصحاب إلى عموم الدليل حتى يقوم وجود الرافع كما في
البيع ونحوه، ثم إنه إن كان الميت العامل قام مقامه ورثته، في العمل، إلا رفع
الأمر إلى الحاكم فيستأجر الحاكم من يقوم بالعمل من مال الميت أو من حصته
من الغلة، وإن كان الميت المالك بقي العامل على عمله، وعليه القيام بتمام العمل،
وربما استثنى من الأول ما لو شرط عليه المالك العمل بنفسه، فإنها تبطل بموته،
كما قيل مثله في الإجارة، وهو متجه لو كان الموت قبل ظهور الحاصل، أما
بعد ظهوره فيشكل ذلك، فإنه قد ملك الحصة، وإن وجب عليه بقية العمل،
والحكم بخروجها عن ملكه بالموت - بعد دخولها كما عرفت - الظاهر بعده.
الخامسة - قال الشيخ في النهاية: لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع أو أقل
أو أكثر، ويكره أن يزارع بالحنطة والشعير والتمر والزبيب، وليس ذلك بمحظور،
فإن زارع بشئ من ذلك فليجعله من غير ما يخرج من تلك الأرض مما يزرعه
في المستقبل، بل يجعل ذلك في ذمة الزارع.
قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه: قوله ويكره أن يزارع بالحنطة والشعير:
إن قصد بذلك المزارعة فهو ممنوع وإن قصد الإجارة فهو حق، ثم نقل عن الشيخ
المفيد أنه قال: المزارعة بالربع والثلث والنصف جايزة، كما يجوز بالذهب
والفضة، ثم اعترضه فقال: وهذه العبارة أشكل من الأولى، لأنه إن قصد بالمزارعة
الإجارة لم تصح بالحصة، وإن قصد المزارعة لم تصح بالذهب والفضة، والظاهر
أن قصده بالأول المزارعة، وبالثاني الإجارة انتهى.
أقول: والوجه في ذلك ظاهر مما تقدم في تعريف المزارعة من أنها
بحصة من الحاصل من ثلث أو نصف أو نحوهما، فلا يجوز بالدراهم والدنانير، ولا غيرهما
من العروض الخارجة عن الحاصل، والإجارة إنما تكون بالدراهم والدنانير
283

والعروض المعينة، لا بالحصة من الحاصل من ربع أو ثلث أو نحو ذلك، وهاتان
العبارتان مضطربتان في ذلك كما عرفت، إلا أنه قد وقع مثل ذلك في بعض الأخبار
أيضا كما في رواية أبي بصير (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: لا تستأجر
الأرض بالتمر ولا بالحنطة ولا بالشعير ولا بالأربعاء ولا بالنطاف، قلت: وما الأربعاء
قال الشرب والنطاف فضل الماء ولكن تقبلها بالذهب والفضة، والنصف والثلث
والربع ".
فإن هذه القبالة إن حملت على المزارعة لم تجز بالذهب ولا بالفضة، وإن
حملت على الإجارة لم تجز بالنصف والثلث والربع، واحتمال ما ذكره العلامة
(رحمة الله عليه) في عبارة الشيخ المفيد بعيد في العبارة المذكورة، وفي الخبر
المذكور، ولا يحضرني الآن وجه في المخرج عن ذلك، إلا أنه يمكن أن يقال:
إن القبالة أعم من المزارعة والإجارة، فيطلق على كل منهما، وحينئذ فيكون
المعنى في الخبر ولكن تقبلها بالذهب والفضة يعني استأجرها، وبالنصف والثلث
والربع يعني زارع عليها، هذا أقصى ما يمكن أن يقال والله العالم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن البحث في هذا المطلب يقع في مقامين: أحدهما
في الشروط وهي ثلاثة:
الأول - أن يكون النماء مشاعا بينهما تساويا فيه أو تفاضلا، والظاهر أن
دليله الاجماع، وهو ظاهر الأخبار أيضا مثل قوله (عليه السلام) في حسنة
الحلبي (2) " لا تقبل الأرض بحنطة مسماة، ولكن بالنصف والثلث والربع والخمس
لا بأس به " وقال: لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس، وقوله (عليه السلام)
في صحيحة الحلبي (3) أيضا أو حسنته " لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس "،

(1) التهذيب ج 7 ص 195 ح 8، الكافي ج 5 ص 265 ح 2، الوسائل
ج 13 ص 210 ح 6.
(2) التهذيب ج 7 ص 197 ح 17، الوسائل ج 13 ص 199 ح 3.
(3) التهذيب ج 7 ص 194 ح 6، الوسائل ج 13 ص 200 ح 7.
284

وقوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة، ولكن " تقول ازرع
فيها كذا وكذا إن شئت نصفا وإن شئت ثلثا " ونحوها رواية أبي الربيع المتقدمة
أيضا إلى غير ذلك من الأخبار.
وبالجملة فالذي دلت عليه الأخبار في المقام هو الإشاعة في الحصة فتقف
الصحة في ما عداه على الدليل، وليس فليس وعلى هذا فلو شرطه أحدهما لم
يصح، وكذا لو اختص أحدهما بنوع من الزرع دون صاحبه، كما لو شرط أحدهما
ما حصل أولا فهو له، ويسمى ذلك الهرف، والآخر ما يحصل أخيرا ويسمى
الأفل.
قال في المسالك (الهرف): ساكن الوسط، المتقدم من الزرع والثمر
يقال: أهرفت النخلة: أي عجلت أتاءها قاله الجوهري (1): والأقل بالتسكين
أيضا خلاف الهرف، وهو المتأخر عنه انتهى.
أقول: قد تتبعت ما حضرني من كتب اللغة كالقاموس والمصباح المنير فلم
أظفر في شئ منهما بهذا المعنى لهذين اللفظين، واحتمل التحريف في اللفظين
المذكورين بأن يكونا على غير ما كتبناه ممكن، إلا أنا تتبعنا أيضا جملة من
الألفاظ التي ربما وقع التحريف عنها فلم أظفر بذلك.
وكيف كان فالنقل المذكور لا شك فيه، وإنما الشك في تعيين المادة في
كل من اللفظين وضبطها، فليراجع ذلك، ووجه البطلان في الاشتراط المذكور
في الصورتين المذكورتين هو ما عرفت من خروج ذلك عن وضع المزارعة الذي
دلت عليه الأخبار، ومثلها أيضا ما لو شرط أحدهما ما يزرع على الجداول،
والآخر ما زرع على غيرها، لمنافات جميع ذلك الإشاعة التي دلت عليه الأخبار
وقام عليها الاجماع.

(1) الصحاح ج 4 ص 1442 وفي أقرب الموارد هرفت النخلة: تهريفا عجلت
اتاءها أي: ثمرتها وأهرفت النخلة: عجلت اتاءها مثل هرفت.
285

نعم وقع الخلاف هنا في موضعين، أحدهما لو شرط أحدهما قدرا من
الحاصل والزائد عليه يكون مشتركا بينهما، فالظاهر - وبه صرح جملة من
الأصحاب أيضا - أنه لا يصح، لجواز أن لا يزيد شئ، ولأن ظاهر الأخبار
المتقدمة هو الاشتراك في جميع ما يحصل من النماء إلا ما خرج بالشرط، ولا
فرق بين ذلك من كون القدر المشروط هو البذر وغيره، ولا بين كون الغالب
على تلك الأرض أن يخرج منها ما يزيد على الشروط عادة أم لا، لاشتراك الجميع
في الخروج عن قاعدة المزارعة، مضافا إلى حصول الجهل في العوض الموجب
لكون العقد على خلاف الأصل فيبطل حينئذ، ونقل عن الشيخ في النهاية
وجماعة جواز استثناء البذر من جملة الحاصل، وفي المختلف جواز استثناء
شئ من الحاصل مطلقا، والأشهر الأظهر الأول.
وثانيهما - لو شرط أحدهما شيئا يضمنه كعمل يعمله مضافا إلى الحصة،
فقيل: أيضا بالصحة، وهو المشهور لعموم ما دل على وجوب الوفاء بالشروط،
مع عدم منافاته لمقتضى العقد، لخروجه عن النماء الذي اقتضى العقد، لإشاعته
كما عرفت، وقيل: بالبطلان وهذا القول نقله المحقق في الشرايع، إلا أنه في
المسالك قال: لا نعلم القائل به، واستدل في الكفاية للقول المشهور زيادة على
ما ذكر من العمومات برواية محمد بن سهل عن أبيه عن أبي الحسن موسى
(عليه السلام).
والظاهر أنه أراد بها ما رواه المشايخ الثلاثة عن الراوي (1) المذكور
" قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن رجل يزرع له الحراث الزعفران،
ويضمن له أن يعطيه في كل جريب أرض يمسح عليه وزن كذا وكذا درهما،
فربما نقص وغرم، وربما زاد واستفضل قال: لا بأس به إذا تراضيا " أقول:

(1) الكافي ج 5 ص 266 ح 9، التهذيب ج 7 ص 196 ح 15، الوسائل ج 13
ص 206 ح 1.
286

وما ذكره وإن احتمل باعتبار أحد الاحتمالين في الرواية إلا أنه غير متعين.
وتوضيح ذلك أن قوله (عليه السلام) " وزن كذا " الظاهر أنه مفعول
" يعطيه " ويكون المعنى أنه يعطيه من الزعفران وزن كذا وكذا درهما،
ويحتمل أن يكون، " وكذا " الثانية معطوفا على الوزن، لا على كذا، ويكون
المعنى ويعطيه وزن كذا من الزعفران، ويعطيه كذا درهما، فيكون الدراهم
ضميمة إلى الزعفران، وعلى هذا المعنى الثاني مبنى الاستدلال بالخبر المذكور.
وأنت خبير بأن الظاهر أنما هو المعنى الأول فإنه هو المتبادر من هذه
العبارة حيثما تذكر.
قال في المسالك: وعلى القول بالجواز يكون قراره مشروطا بالسلامة
كاستثناء أرطال معلومة من الثمرة في البيع، ولو تلف البعض سقط منه بحسابه
لأنه كالشريك، وإن كانت حصته معينة، مع احتمال أن لا يسقط منه شئ بتلف
البعض متى بقي قدر نصيبه، عملا باطلاق الشرط، انتهى.
الحاق:
قد اختلف الأصحاب في إجارة الأرض للزراعة بالحنطة والشعير، إذا
كان الزرع حنطة أو شعيرا، وأن يؤاجرها بأكثر مما استأجرها، وحق هذه
المسألة إنما هو كتاب الإجارة، إلا أن الأصحاب حيث ذكروها في هذا المقام
جرينا على حذوهم.
وكيف كان فمحل الخلاف والبحث هنا في مواضع ثلاثة:
الأول - هل يجوز أن يستأجر الأرض بالحنطة، ويزرعها حنطة أم لا؟
المشهور الأول على كراهة، وقال ابن البراج: لا يجوز على كيل معين من جنس
ما زرع الأرض، مثل أن يستأجر بحنطة ويزرع فيها حنطة، احتج الأصحاب
بالأصل، وعموم الأدلة الواردة في الإجارة بنقد كان أو عرض وافق ما زرع فيها
أم لم يوافق.
287

احتج ابن البراج بصحيحة الحلبي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال:
لا تستأجر الأرض بالحنطة، ثم تزرعها حنطة.
أجاب الأصحاب عنها بالحمل على ما إذا اشترط ذلك من حاصل تلك الأرض
أما لو أطلق أو اشترط من غيره فلا بأس، واستندوا في ذلك إلى رواية الفضيل
بن يسار (2) " قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن إجارة الأرض بالطعام قال:
إن كان من طعامها فلا خير فيه " وفي رواية أبي بردة (3) " قال: سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن إجارة الأرض المحدودة بالدراهم المعلومة؟ قال: لا بأس، قال:
وسألته عن إجارتها بالطعام؟ فقال: إن كان من طعامها، فلا خير فيه " وظاهر
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك المناقشة في ذلك، والميل إلى ما ذكره ابن البراج
هنا، قال بعد ايراد صحيحة الحلبي حجة لابن البراج، والنهي حقيقة في التحريم،
وأجيب بحمله على اشتراطه مما يخرج منها، لدلالة رواية الفضيل عليه، وبحمل
النهي على الكراهة، وفيه نظر لأن النهي مطلق، ولا منافاة بينه وبين تحريم
شرطه من طعامها، حتى يجمع بينهما بحمله عليه، والتحقيق أن المطلق والمقيد
متى كانا منفيين لا يلزم الجمع بينهما، بل يحمل المطلق في اطلاقه، بخلاف
المثبتين، وبملاحظته يتخرج فساد كثير مما قرروه في هذا الباب، وقد مضى مثله
في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، مع ورود نص آخر بتحريم بيع المكيل
والموزون كذلك، حيث جمع الأكثر بينهما بحمل المطلق على المقيد، وليس
بشئ إلى أن قال: وقول ابن البراج بالمنع لا يخلو من قوة، نظرا إلى الرواية
الصحيحة، إلا أن المشهور خلاف قوله، انتهى.
أقول: لا ريب أن مفهوم روايتي الفضيل وأبي بردة أنه إذا كان إجارة الأرض

(1) الكافي ج 5 ص 265 ح 3، التهذيب ج 7 ص 195 ح 9، الوسائل ج 13
ص 209 ح 3.
(2) التهذيب ج 7 ص 195 ح 10، الكافي ج 5 ص 265 ح 6.
(3) التهذيب ج 7 ص 209 ح 63 وهما في الوسائل ج 13 ص 210 ح 5 و 9
288

بغير طعامها، ففيه خير، يعني جائز وصحيح، وهو ظاهر في جواز إجارة الأرض
بالحنطة، وإن زرعت حنطة إذا لم يشترطه منها، وهذا المفهوم مفهوم شرط، وهو
حجة عند المحققين، و عليه دلت الأخبار أيضا كما حققناه في مقدمات الكتاب
من مجلد كتاب الطهارة (1) ومخالفته لظاهر ما دلت عليه صحيحة الحلبي واضحة،
وحينئذ فلا بد من الجمع، وليس إلا ما ذكره الأصحاب أولا أو حمل النهي على
الكراهة، والثاني منهما قد عرفت ما فيه في غير موضع مما تقدم، فلم يبق إلا الأول.
ويعضد الروايتين المذكورتين حسنة الوشا (2) " قال: سألت الرضا
(عليه السلام) عن الرجل اشترى من رجل أرضا جربانا معلومة بمئة كر على
أن يعطيه من الأرض، قال: حرام، فقلت له: فما تقول جعلني الله فداك أن
اشترى منه الأرض بكيل معلوم وحنطة من غيرها؟ قال: لا بأس "، على أنه
يمكن حمل حسنة الحلبي التي استند إليها ابن البراج على المزارعة، حسب
ما دلت حسنة المتقدمة في صدر الكلام في الشرط المتقدم، ويكون حاصل المعنى
فيهما معا واحد، وهو أنه لا يزارع بالحنطة المسماة بينهما، وإنما يزارع بالحصة
الشايعة من النصف أو الثلث أو نحوهما، وإن عبر في هذه بلفظ الإجارة كما
عبر في الأولى بلفظ القبالة وباب التجوز أوسع من ذلك.
ومما يعضد ما ذكرناه من حمل الإجارة على المزارعة وأن المراد بها
ذلك تجوزا ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي المغرا (3) " قال: سأل يعقوب
الأحمر أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال: أصلحك الله أنه كان لي أخ
فهلك فترك في حجري يتيما ولي أخ يلي ضيعة لنا وهو يبيع العصير ممن يصنعه
خمرا، ويؤاجر الأرض بالطعام: وأما ما يصيبني فقد تنزهت، فكيف أصنع

(1) ج 1 ص 55.
(2) التهذيب ج 7 ص 195 ح 11، الكافي ج 5 ص 265 ح 8.
(3) التهذيب ج 7 ص 196 ح 12، الوسائل ج 13 ص 210 ح 7، ص 23 ح 2
289

بنصيب اليتيم فقال: أما إجارة الأرض بالطعام فلا تأخذ نصيب اليتيم منه إلا أن
يؤاجرها بالربع والثلث والنصف، وأما بيع العصير مما يجعله خمرا فليس به
بأس خذ نصيب اليتيم منه ".
فإن الإجارة في الخبر لا يصح حملها على المعنى المعهود من هذا اللفظ
فإنها لا تصح بالحصة من الحاصل، وإنما تصح بأجرة معلومة، وبهذا عرفوا
المزارعة كما تقدم بأنها معاملة على الأرض بحصة من الحاصل، قالوا: والمعاملة
تشمل الإجارة والمساقات ولكن خرجت الإجارة بقيد الحصة من الحاصل، لأنها
إنما تصح بأجره معلومة، وخرجت المساقاة بالأرض، فإنها معاملة على الأصول
بحصة من حاصلها، وحينئذ فلا اشكال في حمل حسنة الحلبي على المزارعة،
كما ذكرنا بقرينة الروايتين المذكورتين كما عرفت.
بقي في المقام ما رواه الصدوق (رحمة الله عليه) في العلل عن إسماعيل بن
مرار (1) " عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما سئلا ما العلة التي من
أجلها لا يجوز أن تواجر الأرض بالطعام، وتؤاجرها بالذهب والفضة؟ قال: العلة
في ذلك أن الذي يخرج منها حنطة وشعير، ولا يجوز إجارة حنطة بحنطة، ولا
شعير بشعير ".
وهذا الخبر وإن كان ظاهره مما يؤيد ما ذكره ابن البراج لا طلاقه إلا أنه يجب
تقييده بما عرفت من خبري الفضيل وأبي بردة، لدلالتهما كما تقدم على الجواز،
بما إذا لم يكن من الأرض.
ويؤيد ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير (2) عن أبي عبد الله
(عليه السلام) " قال: لا تو آجر الأرض بالحنطة ولا بالشعير ولا بالتمر ولا بالأربعاء

(1) العلل ص 518 باب 291، الوسائل ج 13 ص 211 ح 11.
(2) الكافي ج 5 ص 264 ح 1، التهذيب ج 7 ص 195 ح 7، الوسائل ج 13
ص 210 ح 6.
290

ولا بالنطاف ولكن بالذهب والفضة، لأن الذهب والفضة مضمون، وهذا ليس
بمضمون ".
والتقريب فيهما أن عدم المضمونية في الحنطة والشعير هنا إنما يتجه
فيما إذا كان مال الإجارة من حاصل تلك الأرض، فإنه يجوز أن لا يخرج منها
شئ، بخلاف الذهب والفضة الثابتين في الذمة بمجرد العقد، والحنطة والشعير
الخارجان عن الحاصل في حكم الذهب والفضة في صحة المضمونية أيضا، فلا وجه
لادخالهما فيما لا يكون مضمونا والله العالم، وبالجملة فالأقرب هو القول المشهور،
لما عرفت والله العالم.
الثاني - هل يجوز أن يستأجر الأرض بحنطة منها أم لا؟ ظاهر المشهور
التحريم، استنادا إلى روايتي الفضيل وأبي بردة المتقدمتين، بل لا أعلم قائلا بخلافه
صريحا.
وقال في الشرايع: ويكره إجارة أرض للزراعة بالحنطة والشعير مما
يخرج منها والمنع أشبه، ووجه القول بالجواز وإن كان على كراهة عدم صراحة
الروايتين في التحريم، لأن غاية ما يدلان عليه، أنه لا خير فيه، وهو إنما يشعر
بالكراهة، وعلل القول بالمنع أيضا بأن خروج ذلك القدر منها غير معلوم، فربما
لا يخرج منها شئ أو يخرج بغير ذلك الوصف، ومن ثم لم يجز السلم في حنطة
من قراح معين لذلك. وأجيب بأنه على اطلاقه ممنوع، إذ ربما كانت الأرض واسعة
لا تحبس بذلك القدر عادة فلا يتم اطلاق المنع.
أقول: الظاهر هو القول المشهور، أما على القول بالتحريم في المسألة المتقدمة
كما نقل عن ابن البراج فظاهر، وأما على القول بالجواز ثمة فلظاهر الخبرين
المذكورين المؤيد بحسنة الوشا المتقدمة الصريحة في التحريم إذا كان من حاصلها
وموردها، وإن كان البيع وما نحن فيه إنما هو الإجارة، إلا أن الظاهر أن الوجه
الجامع الذي أوجب البطلان في الكل من حيث عدم صحة المعاوضة بما كان من الحاصل في بيع كان أو
291

إجازة لخروج ذلك عن الشروط المعتبرة في ثمن المبيع ومال الإجارة من معلومية حصوله وكميته عددا أو
كيلا أو وزنا وقد عرفت أن ما كان من الأرض غير مضمون، ولا ثابت في الذمة ولا هو معلوم الحصول كما
عرفت وحينئذ فلا يجوز الإجارة به ولا البيع.
الثالث: لا خلاف بين الأصحاب في جواز إجارة أرض وغيرها من الأعيان
المستأجرة بأقل مما استأجرها به وبالمساوي وإن لم يحدث فيها شيئا، وكذا بأكثر مما
استأجرها به إذا كان قد أحدث فيها عملا.
وإنما الخلاف فيما لو استأجرها بالأكثر ولم يحدث فيها شيئا، فقيل:
بالتحريم، وقيل: بالجواز على كراهة، وبالأول قال الشيخان، وهو ظاهر
المرتضى واختيار سلار وابن الجنيد، وبه قال الصدوق في المقنع وأبو الصلاح وابن
البراج في المهذب، وهو ظاهر العلامة في الإرشاد، والظاهر أنه المشهور بين المتقدمين،
وبالثاني قال: ابن إدريس والعلامة في المختلف والمحقق، ونقله العلامة في
المختلف عن والده وإليه ذهب سلار في موضع آخر وابن البراج في الكامل،
والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار في المسألة
المذكورة، ولا بأس بنقلها أولا ثم الكلام فيها بما وفق الله عز وجل لفهمه منها.
فمنها ما رواه المشايخ الثلاثة (رحمهم الله) عن أبي الربيع الشامي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: سألته عن الرجل يتقبل الأرض من الدهاقين
فيؤاجرها بأكثر مما يتقبلها، ويقوم فيها بحظ السلطان؟ قال: لا بأس به، إن
الأرض ليست مثل الأجير، ولا مثل البيت إن فضل الأجير والبيت حرام ".
ومنها ما رواه في التهذيب والكافي في الصحيح أو الحسن عن أبي المغرا (2)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في الرجل يستأجر الأرض ثم يؤاجرها بأكثر

(1) الكافي ج 5 ص 271 ح 1، التهذيب ج 7 ص 203 ح 40، الفقيه ج 3
ص 157 ح 11، الوسائل ج 13 ص 259 ح 2 و 3.
(2) التهذيب ج 7 ص 203 ح 41 و ص 202 ح 39، الكافي ج 5 ص 272
ح 3 و 5، الوسائل ج 13 ص 260 ح 4 و 5.
292

مما استأجرها، قال: لا بأس إن هذا ليس كالحانوت، ولا كالأجير، فإن فضل
الحانوت والأجير حرام ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن إبراهيم بن ميمون (1) " إن إبراهيم بن
المثنى سأل أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يسمع عن الأرض يستأجرها الرجل ثم
يؤاجرها بأكثر من ذلك، قال: ليس به بأس إن الأرض ليست بمنزلة البيت
والأجير، إن فضل البيت حرام وإن فضل الأجير حرام ".
وهذه الروايات الثلاثة هي حجة المتأخرين على القول بالجواز، إلا أن
ذلك أنما هو في الأرض خاصة، لأنها صريحة في التحريم بالنسبة إلى الأجير،
والبيت، والحانوت، والمدعى أعم من ذلك كما عرفت في فرض المسألة، فلا
تكون وافية بتمام المطلوب.
وينبغي أن يعلم أن تحريم الفضل بالنسبة إلى هذه الثلاثة ليس على الاطلاق
بل مخصوص بما إذا لم يعمل في ذلك عملا قبل أن يؤجره، لما رواه في الكافي
والتهذيب عن الحلبي (2) في الصحيح أو الحسن " عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: لو أن رجلا استأجر دارا بعشرة دراهم، فسكن " ثلثيها " وآجر ثلثها بعشرة
لم تكن به بأس، ولا يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به إلا أن يحدث فيها شيئا ".
ورواه في الفقيه عن أبي الربيع (3) " قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام)
لو أن رجلا " الحديث.
وعن الحلبي (4) أيضا في الصحيح أو الحسن " عن أبي عبد الله (عليه السلام)

(1) التهذيب ج 7 ص 203 ح 41 و ص 202 ح 39، الكافي ج 5 ص 272
ح 3 و 5، الوسائل ج 13 ص 260 ح 4 و 5.
(2) الكافي ج 5 ص 272 ح 4، التهذيب ج 7 ص 209 ح 1 ولكن بدل
" ثلثيها وثلثها " " بيتا منها "، الوسائل ج 13 ص 263 ح 3.
(3) الفقيه ج 3 ص 157 ذيل حديث 11، الوسائل ج 13 ص 259 ح 2.
(4) الكافي ج 5 ص 273 ح 8، الوسائل ج 13 ص 263 ح 4.
293

في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها قال: لا يصلح ذلك
إلا أن يحدث فيها شيئا ".
أقول: وعلى هذا فيكون الفرق في الروايات الثلاثة المتقدمة بين الأرض
والثلاثة المعدودة فيها هو أنه يجوز إجارة الأرض بالأكثر، أحدث فيها شيئا
أم لم يحدث، وفي الثلاثة المذكورة لا تجوز إلا مع احداث شئ فيها.
وبه يظهر ما في الجمع بين هذه الأخبار وبين ما سيأتي مما يدل على
التحريم مع احداث شئ فيها، بتقييد اطلاق هذه الأخبار بتلك من الاشكال
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض.
الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى، ثم آجر ها وشرط لمن يزرعها أن
يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل، أيصلح
له ذلك؟ قال: نعم إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك، فله ذلك
قال: وسألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام
معلوم، فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا بشئ معلوم، فيكون له فضل
فيما استأجره من السلطان، ولا ينفق شيئا أو يؤاجر تلك الأرض قطعا قطعا على
أن يعطيهم البذر والنفقة، فيكون له في ذلك فضل على إجارته، وله تربة
الأرض أو ليست له؟ فقال: إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت
فيها فلا بأس بما ذكرت ".
ورواه في الفقيه مرسلا (2) " قال سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل
استأجر أرضا من أرض الخراج الحديث.

(1) الكافي ج 5 ص 272 ح 2، التهذيب ج 7 ص 203 ح 42، الوسائل ج 13
ص 263 ح 3 و 4.
(2) الفقيه ج 3 ص 157 ح 12، الوسائل ج 13 ص 261 ح 3 و 4.
294

وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (1) " قال: قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): أتقبل الأرض بالثلث أو الربع فأقبلها بالنصف؟ قال: لا بأس،
قلت: فأتقبلها بألف درهم فأقبلها بألفين؟ قال: لا يجوز، قلت: كيف جاز
الأول ولم يجز الثاني، قال: لأن هذا مضمون وذاك غير مضمون ".
قال الفاضل المحدث الأمين الاسترآبادي قوله " لأن هذا مضمون " إلى
آخره أقول: يعني في الصورة الأولى لم يضمن شيئا، بل قال: إن حصل
شئ يكون ثلثه أو نصفه لك، وفي الثانية ضمن شيئا معينا، فعليه أن يعطيه
ولو لم يحصل شئ، انتهى.
وهو جيد فإن الغرض بيان علة الفرق واقعا وإن لم يعلم سبب عليتها،
ولا يخفى على هذا أن ذكر الدراهم إنما خرج مخرج التمثيل، ويكون الغرض
الفرق بين المزارعة والإجارة فإن المزارعة لا تصح إلا بالحصة الشايعة من نصف أو
ثلث أو نحوهما، بخلاف الإجارة، فإنها لا تصح كذلك، بل لا بد من كون مال
الإجارة دنانير أو دراهم، أو عروضا مضمونة أو منقودة.
وقال الفاضل المشهور بخليفة سلطان في حواشيه على الفقيه: المراد أن
ما أحدث شيئا زايدا مما دفعت من الذهب والفضة فهو مضمون وأنت ضامن له
يجب دفعه إلى صاحبه، فهو نقل للحكم، لا بيان للحكمة، ولا يخفى بعده،
وهذه الأخبار ونحوها - مما سيأتي إن شاء الله تعالى - ظاهرة في عدم الجواز
مطلقا إلا مع القيود المذكورة فيها.
ولهذا أن الشيخ في الإستبصار بعد أن نقل الأخبار الثلاثة الأول قال:
قال محمد بن الحسن: هذه الأخبار مطلق في جواز إجارة الأرض بأكثر مما
استأجرها، وينبغي أن يقيدها بأحد أشياء، إما أن نقول يجوز له إجارتها إذا كان

(1) الكافي ج 5 ص 272 ح 6، التهذيب ج 7 ص 204 ح 43، الوسائل ج 13
ص 260 ح 1.
295

استأجرها بدراهم ودنانير معلومة أن يواجرها بالنصف أو الثلث أو الربع، وإن
علم بأن ذلك أكثر يدل على ذلك ما رواه محمد بن يحيى، ثم ساق رواية
الهاشمي المتقدمة إلى آخر السؤال الأول خاصة، وهو قوله فله ذلك، ثم قال:
والثاني أنه يجوز مثلا إذا استأجرها بالثلث والربع أن يؤجرها بالنصف، لأن
الفضل إنما يحرم إذا كان استأجرها بدراهم، وآجرها بأكثر منها، وأما على
هذا الوجه فلا بأس، يدل على ذلك ما رواه أحمد بن محمد، ثم ساق رواية
الحلبي المتقدمة التي بعد رواية الهاشمي، ثم أردفها بما رواه عن إسحاق بن
عمار (1) في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: إذا تقبلت أرضا بذهب
أو فضة فلا تقبلها بأكثر مما تقبلتها به، وإن تقبلتها بالنصف أو الثلث فلك أن
تقبلها بأكثر مما تقبلتها به، لأن الذهب والفضة مضمونان " ومنها أنه إنما جاز
ذلك إذا أحدث فيها حدثا، وأما قبل ذلك فلا ينبغي ذلك وهو الأحوط، يدل
على ذلك ما رواه محمد بن يحيى، ثم ساق تتمة رواية الهاشمي من قوله:
" وسألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة " إلى آخرها
ثم قال: ومنها أنه يجوز له أن يؤاجرها بعضا منها بأكثر من مال إجارة الأرض
ويتصرف هو في الباقي من ذلك بجزء من ذلك وإن قل.
يدل على ذلك ما رواه في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) عن أحدهما
(عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل يستكري الأرض بمائة دينار فيكري نصفها
بخمسة وتسعين دينارا ويعمر هو بقيتها قال: لا بأس " انتهى.
ونقل في التذكرة عن الشيخ أنه قال: لا يجوز أن يؤجر المسكن ولا الخان
ولا الأجير بأكثر مما استأجره، إلا أن يؤجره بغير جنس الأجرة، أو يحدث ما
يقابل التفاوت، وكذا لو سكن بعض الملك لم يجز أن يؤجر الباقي بزيادة عن

(1) الكافي ج 5 ص 273 ح 7، الوسائل ج 13 ص 262 ح 6.
(2) التهذيب ج 7 ص 205 ح 48، الوسائل ج 13 ص 262 ح 1.
296

الأجرة والجنس واحد، ويجوز بأكثرها لرواية الحلبي (1) عن الصادق
(عليه السلام) " استأجر دارا بعشرة دراهم " الحديث كما قدمناه، والظاهر أنه
من أجل هذا النقل خص بعض مشايخنا المتأخرين خلاف الشيخ بهذه الثلاثة،
والذي يظهر من العلامة في المختلف أنه أعم، حيث قال: قال الشيخان: إذا استأجر
شيئا لم يجز أن يؤجره بأكثر مما استأجره به إلا أن يحدث فيه حدثا من
مصلحة ونفع إذا اتفق الجنس إلى آخره.
وكيف كان فالذي يظهر من تتبع الأخبار هو العموم، وإنما الاشكال في
كون ذلك على جهة التحريم أو الكراهة، أما العموم فقد عرفت من الروايات
الثلاث المتقدمة أولا الدلالة على البيت والأجير والحانوت، ومنها الدار كما تقدم
في صحيحة الحلبي أو حسنته، ومنها الأرض كما تقدم في رواية الهاشمي ورواية
الحلبي التي بعدها وموثقة إسحاق بن عمار المذكورة في كلام الشيخ.
ومنها الرجا لما رواه المشايخ الثلاثة عن أبي بصير (2) " قال: قال:
أبو عبد الله (عليه السلام): إني لأكره أن أستأجر رحا وحدها ثم أؤاجرها بأكثر
مما استأجرتها به، إلا أن يحدث فيها حدثا أو يغرم فيها غرامة ".
ومنها السفينة مع بعض ما تقدم لما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق
بن عمار (3) عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أن أباه كان يقول: لا بأس بأن
يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به
إذا أصلح فيها شيئا ".
ومنها العمل لما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (4) في الصحيح عن

(1) الكافي ج 5 ص 272 ح 4، الوسائل ج 13 ص 263 ح 3.
(2) التهذيب ج 7 ص 204 ح 46، الفقيه ج 3 ص 149 ح 4 وفيه عن سليمان
بن خالد، الكافي ج 5 ص 273 ح 9، الوسائل ج 13 ص 263 ح 5.
(3) التهذيب ج 7 ص 223 ح 61، الوسائل ج 13 ص 263 ح 2.
(4) الكافي ج 5 ص 273 ح 1، الوسائل ج 13 ص 165 ح 1.
297

أحدهما (عليهما السلام) أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه إلى
آخر فيربح فيه، قال: لا، إلا أن يكون قد عمل فيه شيئا ".
وما رواه في التهذيب (1) عن أبي حمزة في الصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام)
الحديث المتقدم إلى قوله. لا "، ولم يذكر الاستثناء.
وما رواه المشايخ الثلاثة عن حكم الخياط (2) " قال: قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): إني أتقبل الثوب بدرهم وأسلمه " بأقل " من ذلك لا أزيد على أن
أشقه قال: لا بأس بذلك، ثم قال: لا بأس فيما تقبلته من عمل استفضلت فيه ".
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن مجمع (3) " قال: قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): أتقبل الثياب أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين فقال: أليس تعمل
فيها؟ قلت: أقطعها وأشتري لها الخيوط قال: لا بأس ".
وما رواه في الكتابين المذكورين عن علي الصايغ (4) " قال: قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): أتقبل العمل ثم أقبله من الغلمان يعملون معي بالثلثين؟ فقال
لا يصلح ذلك إلا أن تعالج معهم فيه، قلت: فإني أذيبه لهم " " قال: فقال: ذلك
عمل فلا بأس ".
وما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم (5) عن أحدهما (عليهما السلام)
" قال: سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل؟
قال: لا بأس قد عمل فيه ".
هذه جملة ما وقفت عليه من أخبار المسألة، وهذه الأخبار كلها متفقة

(1) التهذيب ج 7 ص 210 ح 5، الوسائل ج 13 ص 165 ح 4.
(2) الكافي ج 5 ص 274 ح 2، التهذيب ج 7 ص 210 ح 7، الوسائل ج 13
ص 265 ح 2.
(3) التهذيب ج 7 ص 211 ح 8 و 9، الفقيه ج 3 ص 159 ح 10 و 9
وفيه " ادينه "، الوسائل ج 13 ص 266 ح 7 و 6
(4) التهذيب ج 7 ص 211 ح 8 و 9، الفقيه ج 3 ص 159 ح 10 و 9
وفيه " ادينه "، الوسائل ج 13 ص 266 ح 7 و 6
(5) التهذيب ج 7 ص 210 ح 6، 8 الوسائل ج 13 ص 266 ح 5.
298

الدلالة واضحة المقالة على النهي عن الإجارة بأكثر مما يستأجره في كل شئ
إلا أن يعمل فيه شيئا، وإذا ضممت بعضها إلى بعض ظهر لك العموم في الحكم
فإن ذكر هذه الأشياء المخصوصة في الأخبار إنما هو من قبيل التمثيل. بمعنى
أن كل فرد فرد من هذه الأفراد المذكورة، سئل عن حكمه في الإجارة بأكثر
مما استؤجر عليه أجيب فيه بذلك، والعموم كما يحصل بالأداة الموضوعة له،
كذا بتتبع الأفراد والجزئيات على نحو القواعد النحوية المبتنية على تتبع
أقوال العرب، وظاهرها الاكتفاء بعمل ما، وإن قل، فلا يشترط فيه المقاومة لما
بأخذه زايدا، ونظيره ما تقدم في الضمايم.
وأما وجه الاشكال فمن حيث دلالة الأخبار الثلاثة المتقدمة في صدر البحث
على الجواز في الأرض، وما ذكره المتأخرون في الجمع بينها وبين هذه الأخبار
من حمل هذه الأخبار على الكراهة، قد عرفت ما فيه مما قدمناه في غير مقام
من البحث معهم في هذه القاعدة التي بنوا عليها في جميع أبواب الفقه من الجمع
بين الأخبار بحمل الأمر على الاستحباب، والنهي على الكراهة.
على أن بعض هذه الأخبار المذكورة قد اشتمل على ما هو صريح في
التحريم، مثل قوله (عليه السلام) في رواية الحلبي فيمن تقبل الأرض بألف
وقبلها بألفين " لا يجوز "، وقوله (عليه السلام) في الروايات الثلاثة المتقدمة
في صدر البحث وفيها " إن فضل الأجير والبيت والحانوت حرام ":
وبذلك يظهر ضعف ما استند إليه بعض محققي متأخري المتأخرين في
تأييد الكراهة بقوله (عليه السلام) في رواية أبي بصير الواردة في الرحى " أنه
لا كره إن استأجرها " فإن فيه أن استعمال الكراهة في الأخبار بمعنى التحريم
أكثر كثير، واستعمالها في هذا المعنى العرفي أنما هو اصطلاح متأخر.
وبالجملة فإن المتأمل في ما ذكرناه سيما مع تصريح الأخبار بالتحريم
لا يخفى عليه ضعف الحمل المذكور.
299

وأما الجمع بتقييد اطلاق الأخبار الثلاثة - بما دلت عليه هذه الأخبار
من عمل شئ قبل الإجارة كما ذهب إليه الشيخ وجمع من الأصحاب فمعنى نفي
البأس عن إجارة الأرض بأكثر مما استأجرها التقييد بما إذا عمل فيها شيئا.
ففيه ما أشرنا إليه آنفا من أن التحريم في البيت والأجير والحانوت إنما
هو مع عدم احداث عمل، وأما مع احداث العمل فالفضل ليس بحرام، بل هو
جائز، وأي فرق على هذا بين الأرض وهذه الثلاثة، حتى أنه يقول: في تلك الأخبار إن الأرض ليست كالأجير والبيت، والعجب من أصحابنا حيث لم يتنبه منهم
أحد لذلك، والاجماع قائم منهم على أنه مع احداث عمل فإنه يجوز.
وبالجملة فإنه متى قيد التحريم في الثلاثة المذكورة بعدم احداث شئ كما
أوضحناه سابقا، وقيد الجواز في الأرض بما إذا أحدث فيها شيئا كما ذكروه
رجع الجميع إلى أمر واحد، ولم يبق فرق مع أن ظاهر الأخبار المذكورة
أنها ليست سواء، وهذا إنما يتجه على تقدير جواز إجارة الأرض مع الفضل وإن
لم يحدث فيها شيئا، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه، وإن لم يتنبه أحد
من الأصحاب إليه.
وأما باقي محامل الشيخ التي تكلفها في كتاب الإستبصار كما قدمنا نقله
عنه فإنها لا تخلو من اشكال، وإن لم أقف على من تنبه له من علمائنا الأبدال.
أما الأول وهو أن يستأجرها بدراهم ودنانير ويجوز له مواجرتها بالنصف
والثلث والربع وإن علم أن ذلك أكثر، فهو وإن دل عليه الخبر الذي ذكره
إلا أنه لا يخلو من الاشكال، لدلالته على جواز الإجارة بالحصة من نصف أو ثلث
ونحو هما، وهو مما لا قائل به، وقد تقدم في القائدة الخامسة من الفوايد المتقدمة
التنبيه على ذلك، على أن الخبر المذكور قد دل مع ذلك على التقييد بما إذا حفر
لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم، وبذلك ترجع الرواية إلى غيرها من الروايات
الدالة على التقييد بعمل شئ، وترجع إلى ما ذكرناه من التأويل المتقدم،
300

وبه يظهر أن هذا الحمل ليس بشئ، لرجوعه من حيث التقييد إلى الحمل الآخر.
وأما الحمل الثاني وهو أن يستأجرها بالثلث والربع ويؤجرها بالنصف،
فهو أيضا وإن دل عليه الخبران المذكوران، إلا أن ما ذكرنا من الاشكال المتقدم
جار فيهما، فإن الإجارة لا تصح بالحصة كما عرفت، وإن حمل الخبران على
المزارعة فإنها هي التي يصح فيها ذلك، خرجا عن موضع البحث، فلا يصح الاستدلال
بهما كما لا يخفى.
وأما الحمل الثالث - فقد عرفت الكلام فيه، وأما الحمل الرابع ففيه أنه
لا يظهر بهذا فرق بين الأرض وبين تلك الثلاثة المعدودة في تلك الأخبار، فإن
كلا منهما متى عمل به كذلك صح، أرضا كان أو بيتا أو غيرهما، وأنت قد عرفت
دلالة الأخبار الثلاثة على أنه ليست الأرض مثل تلك الثلاثة في حد الزايد،
وجواز المؤاجرة به، بمعنى أنه يحل في الأرض دون تلك الثلاثة.
وما ذكره في هذا الحمل مشترك في الجميع، فأي معنى في الجمع به بين
تلك الأخبار، وبما أوضحناه من بطلان هذه المحامل من كل من الطرفين تبقى
المسألة في قالب الاشكال، فإن الروايات الثلاثة المتقدمة ظاهرة في جواز
الزيادة في مؤاجرة الأرض وإن لم يحدث شيئا، وما عداها من الأخبار الكثيرة
ظاهر في المنع، وبعضها كما عرفت صريح في التحريم، ولا يحضرني الآن مذهب
العامة في هذه المسألة فلعل أخبار أحد الطرفين إنما خرج مخرج التقية والله العالم.
الثاني من الشروط الثلاثة المتقدم ذكرها تعيين المدة، وهو المشهور في
كلام الأصحاب، وفيه وجه بالعدم، قال المحقق في الشرايع: ولو اقتصر على
تعيين المزروع من غير ذكر المدة فوجهان: أحدهما يصح، لأن لكل زرع
أمدا فيبنى على العادة كالقراض، والآخر يبطل كالإجارة وهو أشبه.
قال في المسالك: الأقوى اشتراط تعيين المدة على الوجه السابق، لأن
مقتضى العقد اللازم ضبط أجله، والفرق بينهما وبين القراض واضح، لأنه عقد
301

جائز لا فائدة في ضبط أجل له لو شرط، لجواز الرجوع قبله، بخلاف المزارعة
فكان الحاقها بالإجارة أشبه.
أقول: لم أظفر في الأخبار بما يدل صريحا على اشتراط المدة في هذه
المعاملة، وإليه يشير هنا الاستناد في الاشتراط إلى الالحاق بالإجارة، وفي العدم
إلى الالحاق بالقراض، ولو كان هنا دليل من الأخبار لم يحتج إلى الالحاق بالإجارة،
ومجرد كونه عقدا لازما كما ذكره في المسالك مع تسليمه لا يستلزم المدة،
لما علم من أن الغرض المترتب عليه حصول الحصة المشترطة، فيناط حينئذ
بالأمد المتعارف لذلك الزرع، وحصول الحصة المشترطة، وأي مانع من ذلك
فاشتراط ما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل واضح.
وربما استدل على اعتبار الأجل فيها بما رواه في الكافي عن يعقوب بن
شعيب (1) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث " قال: وسألته
عن الرجل يعطي الرجل الأرض فيقول: أعمرها وهي لك ثلاث سنين أو خمس
سنين أو ما شاء الله قال لا بأس ".
ورواه الصدوق والشيخ نحوه وعن الحلبي (2) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: لا بأس بقبالة الأرض من أهلها عشرين سنة، وأقل من
ذلك أو أكثر، فيعمرها ويؤدي ما خرج عليها، ولا يدخل العلوج في شئ من
القبالة، فإنه لا يحل ".
وبهذا الاسناد (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن القبالة أن يأتي

(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 2، الفقيه ج 3 ص 154 ح 1، التهذيب ج 7
ص 198 ح 22، الوسائل ج 13 ص 203 ح 1.
(2) التهذيب ج 7 ص 199 ح 25، الكافي ج 5 ص 269 ح 3، الوسائل ج 12
ص 219 ح 3.
(3) التهذيب ج 7 ص 197 ح 25، الكافي ج 5 ص 268 ح 3، الوسائل ج 13
ص 204 ح 2.
302

الأرض الخربة فتقبلها من أهلها عشرين سنة أو أقل من ذلك، أو أكثر فيعمرها
ويؤدي ما خرج عليها فلا بأس به ".
وما رواه الشيخ عن الحلبي (1) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" أنه قال: في القبالة أن يأتي الرجل الأرض الخربة فيتقبلها من أهلها عشرين
سنة، فإن كانت عامرة فيها علوج فلا يحل له قبالتها، إلا أن يتقبل أرضها فيستأجرها
من أهلها ولا يدخل العلوج في شئ من القبالة فإنه لا يحل ".
وعن أبي الربيع الشامي (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: سألته
عن أرض يريد رجل أن يتقبلها فأي وجوه القبالة أحل؟ قال: يتقبل الأرض من
أربابها بشئ معلوم إلى سنين مسماة فيعمر ويؤدي الخراج، قال: فإن كان فيها
علوج فلا يدخل العلوج في قبالة الأرض، فإن ذلك لا يحل ".
وأنت خبير بما فيه، فإن غاية ما يدل عليه ما عدا الخبر الأخير هو أن
مالك الأرض يعطي أرضه شخصا آخر ليعمرها، ويأكل حاصلها ويؤدي خراجها
كما هو صريح الخبر الأول، وإن عبر عن ذلك في غيره بلفظ القبالة، ولهذا قال
المحدث الأمين الاسترآبادي في حاشية له على صحيحة الحلبي الثانية: وقوله
فيها " إن القبالة أن يأتي الأرض " إلى آخره كأنه إشارة إلى قبالة متعارفة في
بلد الراوي أو بلده وليس المقصود حصر القبالة في ذلك انتهى.
وقال شيخنا المجلسي في حواشيه على صحيحة الحلبي الأولى: كأنه
استأجره لأعمال معلومة، من تنقية القنوات وكرى الأنهار، والعمل في الأرض
وغيرها، وجعل وجه الإجارة منفعة الأرض أو أجرة مثلها، ولما كان بعقد القبالة
لا تضر الجهالة، ويمكن حمله على الجعالة.
وقال والده في حاشية له على صحيحة يعقوب بن شعيب: يمكن حمله
على الجعالة في العمل بحاصل الملك، فلا تضر الجهالة أو على أن يؤجره الأرض

(1) التهذيب ج 7 ص 201 ح 33 و 34، الوسائل ج 13 ص 213 ح 2 و ص 214 ح 5
(2) التهذيب ج 7 ص 201 ح 33 و 34، الوسائل ج 13 ص 213 ح 2 و ص 214 ح 5
303

بشئ ثم يستأجره للعمل بذلك الشئ والأول أظهر انتهى.
وأنت خبير بأنه حيث كان ظاهر الأخبار المذكورة ما قدمناه من اعطاء
الأرض تلك المدة ليعمرها، ويأكل حاصلها وهذا بحسب ظاهره غير منطبق على
شئ من المعاملات الموجبة لحل أكل حاصل الأرض المذكورة، فتارة حملوه على
الجعالة من حيث عدم صحة حمله على الإجارة، لجهالة الأجرة وعدم معلوميتها،
ومنهم من جعلها معاملة متعارفة كانت في ذلك الزمان ونحو ذلك من هذه
التكلفات التي ذكروها، وكيف كان فهي من الدلالة على ما ادعاه هذا القائل
بمعزل.
وأما الأخير من الأخبار المذكورة فإنه ظاهر في الإجارة فلا اشكال فيه،
وبالجملة فإني لا أعرف لهم دليلا في هذه المسألة على اشتراط الأجل في المزارعة،
ولا موجبا لفسادها بدونه، إلا مجرد ظاهر اتفاقهم على الحكم المذكور، وما علل
به في المسالك قد عرفت ما فيه، على أن في دعوى كونها عقدا على الوجه الذي
تقدم نقله عنه في صدر الكتاب مناقشة ظاهرة قد تقدمت الإشارة إليها.
وغاية ما يفهم من الأخبار وقوع التراضي من الطرفين على المزارعة
بالنصف أو الثلث أو نحو هما على حسب ما يتفقان عليه من البذر والعوامل والخراج
عليهما معا، أو على أحدهما، أو بالتفريق، والأرض من أيهما كان.
فمن الأخبار في هذا المقام رواية إبراهيم الكرخي (1) " قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): أشارك العلج، فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر،
ويكون على العلج القيام والسقي والعمل في الزرع حتى يصير حنطة وشعيرا
ويكون القسمة فيأخذ السلطان حقه، ويبقى ما بقي على أن للعلج منه الثلث،
ولي الباقي، قال: لا بأس بذلك، قلت: فلي عليه أن يرد على مما أخرجت الأرض البذر
ويقسم الباقي قال: إنما شاركته على أن البذر من عندك، وعليه السقي والقيام.

(1) الكافي ج 5 ص 267 ح 1، الوسائل ج 13 ص 202 ح 1.
304

وعن يعقوب بن شعيب (1) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال:
سألته عن الرجل يكون له الأرض " الخبر.
وقد تقدم في الفايدة الثالثة من الفوايد المذكورة في صدر الكتاب وعن
يعقوب بن شعيب (2) في خبر قال: وسألته عن المزارعة؟ قال: النفقة منك
والأرض لصاحبها، فما أخرج الله تعالى منها قسم على الشرط، وكذلك أعطى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل خيبر حين أتوه، فأعطاهم إياها على أن
يعمروها، ولهم النصف.
وعن سماعة (3) في الموثق " قال سألته عن مزارعة المسلم المشرك فيكون
من عند المسلم البذر والبقر، وتكون الأرض والماء والخراج والعمل على العلج؟
قال: لا بأس " إلى غير ذلك من الأخبار التي من هذا القبيل، وليست المزارعة
فيها إلا عبارة عن تراضيهما على هذه الوجوه بأي نحو اتفق، ولا عقد كما يدعونه
ولا صيغة خاصة بالكلية، وليس في شئ منها على كثرتها إشارة إلى أجل ولا
مدة، بل المناط فيها ادراك الحاصل كما يشير إليه قوله في رواية الكرخي (4)
" حتى يصير حنطة وشعيرا " بقي الكلام في أنه لو ذكرت المدة في العقد مع
كونها كما عرفت لا دليل عليها، فهل يترتب عليها أثر أم تكون لغوا من القول؟
ووجوده كعدمه، الظاهر الثاني والله العالم.
وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور:
الأول - هل يعتبر في المدة المذكورة امتدادها إلى ادراك الزراعة علما
أو ظنا غالبا، فلو اقتصر على ما دون ذلك بطل العقد أم لا؟ ظاهر اطلاق جملة
من عبارات الأصحاب الثاني، ومنهم المحقق في الشرايع، والعلامة في الإرشاد
وصريح جملة منهم الأول، واستشكل في القواعد.

(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 2 و 4 الوسائل ج 13 ص 203 ح 2 و ص 204 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 268 ح 2 و 4 الوسائل ج 13 ص 203 ح 2 و ص 204 ح 1.
(3) الكافي ج 5 ص 268 ح 2 و 4 الوسائل ج 13 ص 203 ح 2 و ص 204 ح 1.
(4) التهذيب ج 7 ص 198 ح 21، الوسائل ج 13 ص 202 ح 1.
305

قال في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المشار إليها: مقتضى اطلاق العبارة
عدم الفرق مع ضبط المدة بين كونها وافية بادراك الزرع فيها وقاصرة ومحتملة
وهو أحد الوجهين في المسألة، والأقوى اعتبار مدة يدرك فيها الزرع علما
أو ظنا غالبا، فلو اقتصر على ما دون ذلك بطل العقد، لأن الغرض في المزارعة
هو الحصة من النماء، فإذا لم يتحقق في المدة غالبا بقي العقد بلا عوض، وأنه
خلاف وضع المزارعة، والاعتذار بامكان التراضي بعد ذلك على بقائه لا ينفع لأن
التراضي غير لازم، فلا يعلق عليه شرط لازم، انتهى.
أقول: وقد عرفت أنه لا دليل على اشتراط المدة في المزارعة، وإنما الظاهر
من الأخبار التي قدمناها ونحوها هو إناطة ذلك بادراك الحاصل، بمعنى أن
يتراضيا على المعاملة المذكورة بالشروط المقررة بينهما، والعمل فيها حتى يدرك
الحاصل ويقتسماه، فإن الغرض من المزارعة إنما هو تحصيل الحاصل منها لكل
من المالك والمزارع، فيأخذ المزارع حصته ويأخذ المالك حصته الباقي،
وحينئذ فلو فرضنا قيام دليل على اشتراط الأجل فيها، فإنه لا معنى لجعله أقل من
وقت ادراك الحاصل، فالقول به أو الاستشكال من أجله لا أعرف له وجها بالكلية.
الثاني - أنهم قالوا: بناء على ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط المدة في
العقد المذكور لو مضت المدة والزرع باق بأن ذكر مدة يظن الادراك فيها فلم
يحصل، فهل لمالك الأرض إزالته أوليس له ذلك، أو له الإزالة مع ضمان الأرش
أقوال ثلاثة، قالوا: وجه الأول انقضاء المدة التي يستحق عليه فيها التبقية،
والأصل تسلط المالك على ملكه كيف شاء، ولأن الزارع بعد المدة لا حق له،
فيكون ابقائه بدون إذن المالك ظلما.
ووجه الثاني أنه قد حصل في الأرض بحق فلم يكن للمالك قلعه: ولأن
للزرع أمدا معينا غير دائم الثبات، فإذا اتفق الخلل لا يسقط حق الزارع كما لو
استأجر مدة للزرع فانقضت قبل ادراكه.
306

ووجه الثالث الجمع بين الحقين، وأورد عليه بأنه يشكل فيما لو كان
التأخير بتقصير الزارع.
وبالأول صرح المحقق في الشرايع، واختاره في المسالك، قال: وما
اختاره المصنف أقوى، لزوال حق الزارع بانقضاء المدة، فلا أرش له ولا استحقاق
وهو جيد لو ثبت دليل على اعتبار المدة.
ويا لله والعجب أنه إذا كان الغرض من المزارعة إنما هو الحاصل من الزرع
والانتفاع به، فلو فرضنا أن مالك الأرض هو صاحب القسط الأعظم من الحاصل
وصاحب الحصة إنما هو العلج مثلا وانقضت المدة قبل الادراك كما فرضوه فكيف
يقدم المالك على ضرر نفسه بقلع الزرع، ويتصور النزاع بينه وبين العلج في
ذلك، ويترتب عليه هذا الخلاف، وأين هذا من ذلك الغرض الباعث على المزارعة
وخسران ما صرفوه من بذر وعوامل وعمل ونحو ذلك، وهل يتصور في عقل
عاقل القدوم على مثل ذلك والحال كما عرفت.
وكيف كان فإن البناء على هذه التعليلات التي ذكروها لكل من هذه الأقوال
بمحل من الاشكال، لما عرفت في غير مقام مما تقدم، والمسألة غير خالية من
الاشكال والالتباس، خصوصا لما عرفت من عدم البناء فيها على أساس.
نعم لو جعل هذا الخلاف بعد ادراك الغلة لكان أقرب إلى الصواب وعلى
تقديره فالأظهر هو القول الأول من الأقوال المتقدمة، قيل: وعلى تقدير القول
الأول فينبغي أولا تكليف المزارع بالإزالة، وإلا فرفع الأمر إلى الحاكم ثم بعد
تعذره مباشرة المالك بنفسه.
واختار في القواعد أن للمالك الإزالة مع الأرش، أو التبقية بأجرة
للمالك، وحينئذ يصير هذا قولا رابعا في المسألة وأورد عليه بأنه يلزم منه ايجاب
عوض في ذمة المزارع بدون رضاه، وذلك غير معقول.
ثم إنه على تقدير جواز القلع بأرش أولا به، فالمقلوع مشترك بينهما بناء
307

على أن الزارع يملك الحصة. وإن لم ينعقد الحب، خلافا لابن زهرة.
ثم إنه على تقدير ثبوت الأرش بقلعه قال في المسالك: طريق تحصيله أن
يقوم الزرع قائما بالأجرة إلى أوان حصاده ومقلوعا، ثم إنه على تقدير القول
الأول لو اتفقا معا على التبقية، جاز بعوض كان أم لا، إلا أنه متى كان بعوض
افتقر في لزومه إلى تعيين مدة زائدة.
وعلى تقدير القول الثاني وهو القول بوجوب ابقائه فهل تجب الأجرة أم لا؟
قولان: أولهما للعلامة في التذكرة، وثانيهما له أيضا في القواعد، قالوا: وعلى
تقدير اتفاقهما على البقاء بأجرة تكون إجارة الأرض حقيقة، لانقضاء مدة المزارعة،
فلا بد من ضبط المدة كالإجارة، فإن جاز الاطلاق في المزارعة فلو لم يضبطاها
أو اتفقا على الابقاء بالأجرة، وأطلقا وجب أجرة المثل.
الثالث - قالوا: إذا عقد المزارعة إلى مدة معينة فشرط في متن العقد تأخير
الزرع إلى أن يدرك أو إلى مدة أخرى أن بقي الزرع بعد المدة المشترطة غير
مدرك بطل العقد، لأنه يعود إلى الجهالة في المدة، لأن المدة في الحقيقة
تصير هي المجموع مما وقع عليه الشرط، ومما عين أولا في متن العقد، والذي
عين في متن العقد، وإن كان مدة مضبوطة إلا أن المذكورة في الشرط مجهولة
وشرطها في متن العقد من جملة العوض، فإذا تضمن جهالة بطل العقد، كما لو
كان جميع المدة مجهولا.
ويحتمل على هذا القول صحة الشرط المذكور، وإن تضمن الجهالة، لأن المدة
المذكورة في العقد مضبوطة، وما تضمنه الشرط إنما هو من قبيل التابع، ذكر
احتياطا، لاحتمال الحاجة، وجهالة التابع غير مضر، كما تقدم نظيره في الضمائم
إلا أن المشهور بينهم هناك هو البطلان متى كان المقصود بالبيع الجميع، وإنما يصح
عندهم فيما إذا كان المقصود المعلوم، وجعل المجهول تابعا وقد بينا ضعفه ثمة
ومن هنا رجح في المسالك القول الأول بناء على ما اختاره هناك من القول المشهور.
308

الرابع - من فروع اعتبار المدة في هذا العقد ما لو ترك العامل المزارعة
حتى انقضت المدة، فإنه تلزمه أجرة المثل، كما لو استأجرها مدة معلومة، فإنه
تلزمه الأجرة، لأن منفعتها قد صارت مستحقة له، حيث لا يتمكن المالك من
استيفائها، وقد فوتها عليه فتلزمه الأجرة لذلك.
والأكثر على أنه لا فرق في لزوم أجرة المثل للمزارع بين تركه العمل
والانتقاع بالأرض اختيارا أو غيره، وقيل: بالفرق بين الأمرين، لعدم التقصير
على تقدير الثاني، ومقتضى العقد لزوم الحصة خاصة، ولم يحصل منه تقصير في
عدم حصولها يوجب الانتقال إلى مالا يقتضيه العقد، وهو أجرة المثل الذي ذكروه.
أقول: يأتي على ما ذكرناه: من عدم دليل على اعتبار التأجيل في هذه
المعاملة وعدم اعتبار المدة فيها وإن ذكرها في حكم العدم هو عدم لزوم شئ
للعامل، لأصالة براءة الذمة، والفرق بينهما وبين الإجارة ظاهر، لأنه بالإجارة
ينتقل المنفعة إلى المستأجر، وترتفع يد المالك عن الأرض بالكلية تلك المدة،
فتلزمه الأجرة بلا اشكال بالتقريب المتقدم.
وعلى ذلك دلت جملة من الأخبار الآتية - إن شاء الله تعالى - في كتاب
الإجارة بخلاف ما نحن فيه، فإن للمالك متى لم يزرع فيها العامل فسخ العقد
ودفعها إلى غيره، ومنفعة الأرض لم تنتقل له بالعقد، وإنما هي مشتركة مع العمل
فيها، وللعامل الحصة المقررة، فإذا أخل بالعمل فيها كما لو شرط عليه فللمالك
فسخه، بل الظاهر انفساخ العقد بنفسه والله العالم.
الثالث - من الشروط الثلاثة المشار إليها آنفا أن يكون الأرض مما يمكن
الانتفاع بها في الزرع، بأن تكون من أرض الزراعة، وأن يكون لها ماء معتاد
تسقى به من نهر أو بئر أو عين أو نحوها، ومن ذلك الأرض في بلد تسقيها الغيوث
والأمطار عادة، وكثير منهم حصر والماء في الأفراد السابقة. وذكروا الغيوث
في مسألة على حدة، والحق أن الجميع من باب واحد، لأن المراد أن يكون
309

الماء ماء يعتاد سقيها به، أعم من أن يكون من الله تعالى أو من جهة العمال
فيها، بحفر السواقي والأنهار، والضابط إمكان الانتفاع بها في الزراعة، فلو لم
يكن كذلك بطلت المزارعة.
والكلام هنا يقع في مواضع: الأول - قال العلامة في القواعد بعد ذكر
الشرط المذكور: ولو زارعها أو آجرها له ولا ماء لها تخير العامل مع الجهالة
لا مع العلم، لكن في الأجرة يثبت المسمى، وهو ظاهر في صحة المزارعة مع
علمه بعدم الماء، وأما مع الجهل فيتخير بين الرضا بالعقد وفسخه، ومرجعه إلى
اللزوم مع العلم وعدم اللزوم مع الجهل، دون البطلان في شئ من الموضعين، ففي
صورة العلم لا خيار له حيث أقدم على ذلك، بخلاف صورة الجهل، فيكون له
الخيار، ويأتي بناء على ما قدمناه من البطلان في الموضعين لفوات الشرط الذي
هو إمكان الانتفاع، وهو الأقوى بالنظر إلى قواعدهم.
وربما حمل كلام العلامة هنا على أنه متى أمكن الانتفاع بتلك الأرض في
غير المزارعة التي تحتاج إلى الماء، فإنه يجوز أن يزرع ما لا يحتاج إلى الماء
فعدم الماء لا يستلزم عدم إمكان الانتفاع، مع القول باشتراط إمكان الانتفاع بغير
الزرع إذا تعذر، ولا يخفى تعسفه، فإن الظاهر من الأخبار وكلام الأصحاب من
غير خلاف يعرف أن المزارعة المبحوث عنه في هذا المقام إنما هي عبارة عن
زرع ما يتوقف على الماء من حنطة وشعير وأرز ونحوها من الحبوب، على أنا لا
نعرف هنا زرعا يقوم بغير الماء بالكلية.
وربما حمل كلامه أيضا على أن المراد لا ماء لها غالبا، لا أنه لا ماء لها أصلا
ويؤيده تصريحه بذلك في التذكرة حيث نقل عنه فيها التردد فيما لو كان لها ماء
نادرا هل يصح المزارعة عليها أم لا، ومنشأ التردد من عدم التمكن من
ايقاع ما وقع عليه العقد بالنظر إلى الغالب، ومن إمكان الزرع ولو نادرا،
وهو وإن كان أقل تعسفا من الأول، إلا أن الظاهر ضعف المبنى عليه، وإن تردد
310

فيه في التذكرة، لما عرفت في غير مقام مما تقدم أن الأحكام المودعة في الأخبار
إنما تحمل على الأفراد الشايعة الغالبة المتكثرة، دون الشاذة النادرة.
وما ذكره العلامة في القواعد من هذا الحكم المتقدم نقله عنه قد سبقه إليه
المحقق في الشرايع أيضا مع أنهما معا قد ذكرا قبل هذا الكلام الشرط المشار
إليه، وقد عرفت أن قضية الشرط المذكور بطلان المزارعة مع عدمه.
وبالجملة فإن كلامهما هنا مع ما عرفت لا يخلو من الاشكال.
الثاني - حيث قد عرفت أن إمكان الانتفاع شرط في صحة المزارعة، وأنها
بدونه تكون باطلة، فلو وجد الشرط المذكور ثم تجدد انقطاع الماء فمقتضى
القواعد بطلان العقد، لفوات الشرط في المدة الباقية، فإن الظاهر شرطيته ابتداء
واستدامة ليترتب عليه الغرض المطلوب من المزارعة، إلا أن ظاهر المحقق
العلامة الصحة، وأن للزارع الخيار، حيث أطلقا القول بعدم البطلان، وإنما
حكما بتسلطه على الفسخ.
قيل: وكأنهما نظرا إلى صحة العقد ابتداء، فتستصحب والضرر اللاحق للمزارع
بانقطاع الماء ينجبر بتسلطه على الفسخ، والظاهر ضعفه، لعدم حجية الاستصحاب
على هذا الوجه كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب في صدر جلد كتاب
الطهارة (1).
الثالث - ينبغي أن يعلم أن ما تقدم من البحث والخلاف مخصوص بالمزارعة،
وكذا الإجارة بشرط الزراعة، لاشتراكهما في المعنى، أما لو استأجرها مطلقا
ولم يشترط الزراعة فإنهم قد صرحوا هنا بصحة الإجارة، لامكان الانتفاع بها بغير
الزراعة، فليس له الفسخ حينئذ، والظاهر أن هذا الحكم مخصوص بالجاهل بكون
الأرض لا ماء لها، وإلا فإنه متى علم أنه لا ماء لها، واستأجرها مع علمه بذلك
فإنه لا معنى لتخييره، بل إما أن يكون العقد باطلا، أو صحيحا، والوجه حينئذ

(1) ج 1 ص 52.
311

في صحة الإجارة مع الجهل، وعدم جواز الفسخ متى علم أنه استأجرها مطلقا
لا بشرط الزراعة، ووجوه الانتفاعات لا تختص بالزراعة بخصوصها، لأنها نوع من
أنواع الانتفاعات، فإنه يمكن الانتفاع بها في وضع المتاع، وكونها مراحا
ومسرحا وغير ذلك، كذا ذكروه.
ويشكل بأنه متى كانت الأرض إنما أعدت للزراعة، وأن الغالب عليها
إنما هو الاستعمال والانتفاع بها في الزرع لا في غيره، وقد عرفت في غير موضع
مما تقدم أن الاطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد الغالبة المتكررة، فالحكم
بالصحة واللزوم والحال هذه مشكل، فيحتمل تسلطه على الفسخ حملا على المعتاد
والغالب.
الرابع - قد عرفت من مذهبي المحقق والعلامة أن للمزارع والمستأجر
الفسخ في المسألتين المتقد متين، قالوا: فلو فسخ فعليه في المزارعة أجرة ما
سلف، وعليه المسمى في الإجارة، والوجه فيه أن كلا من المزارع والمستأجر
فسخ العقد باختياره، فبطل العقد بفعله، ولم تحصل الحصة المعينة في المزارعة،
والأرض لا بد لها من أجرة، فعليه في المزارعة أجرة ما مضى من الزمان قبل
الفسخ، والمسمى بالنسبة إلى الإجارة، ويشكل بأن الفسخ إنما وقع بسبب انقطاع
الماء الذي هو شرط لوجود الحصة، وصحة الإجارة.
وبالجملة فإن اثبات ما ذكروه يحتاج إلى دليل، وإلا فالأصل عدمه، هذا
إن فسخ، وإن لم يفسخ فإن حصل شئ فهو لهما، وإلا لم يكن لأحدهما على الآخر
شئ، وهو ظاهر والله العالم.
المقام الثاني في الأحكام
وفيه مسائل: المسألة الأولى - قالوا: لا يخلو الحال في المزارعة من
أمرين: أحدهما - أن يطلق المزارعة على المشهور فله أن يزرع ما شاء، والظاهر أن
312

المراد بالاطلاق هنا ما قابل التعيين، سواء كان ما يدل على العموم وضعا من
الألفاظ الموضوعة له، أو ما يدل على الفرد المنتشر وضعا، وعلى التقديرين فإنه
ظاهر في جواز أن تزرع ما شاء سواء أضر بالأرض أم لا.
أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن تجويز فرد منتشر تجويز لكل
واحد بدلا من الآخر، ولهذا أن الأمر بالكلي أمر بواحد أي واحد كان من
أفراد الماهية، بمعنى براءة الذمة والاتيان بالمأمور به بأي فرد فعل، وإلا لزم
الاجمال والتكليف بالمحال.
واستشكل بعض محققي متأخري المتأخرين في صحة هذا العقد، قال:
لاشتماله على الغرر، كما يمنع بعتك هذا بما تريد، أو بأي شئ تعطي، ثم قال:
وقد يفرق بالنص والاجماع، وبأنه لا شك في جواز زراعة ما هو الأضر للمالك،
فله أن يعطيه غيره أن يفعل ذلك له بأجرة وغيرها انتهى.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قوى وجوب التعيين لتفاوت ضرر الأرض،
باختلاف جني المزروعات فيلزم بتركه الغرر، وهو الذي أشار إليه المحقق
المذكور في صدر كلامه.
لكنه قد أورد عليه أيضا بأنه منظور فيه بدخول المالك وقدومه على أضر
الأنواع من حيث دخوله في الاطلاق المستلزم لذلك، فلا غرر حينئذ، وكيف
كان فالأقرب القول المشهور.
ثم إن ما ذكروه من العبارة التي صدرنا بها الكلام لا يخلو من حزازة،
فإن الظاهر أن ضمير يزرع في قوله فله أن يزرع، ما شاء راجع إلى العامل الزارع
وهو إنما يتم لو كان البذر من عنده، أما لو كان من عند المالك فالتخيير يرجع
إليه، لا إلى الزارع.
وثانيهما أن تعين العين المراد زرعها تعينا نوعيا كالحنطة، أو شخصيا
كهذه الحنطة، أو صنفيا كالحنطة الفلانية، سواء كان ما عدل إليه أضر مما عين
313

في العقد، أو أقل ضررا، أو مساويا، فإن قضية التعيين والاشتراط هو عدم جواز
التعدي لما عين مطلقا، ولو خالف فمقتضى كلام جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني
في المسالك والمحقق الأردبيلي هو أن للمالك أجرة المثل.
قال المحقق المذكور: لا شك في أنه يلزمه أجرة المثل على تقدير التعدي،
وينفسخ العقد، إلا أن تكون مدة الانتفاع باقية، لأنه قد ضيع منفعة الأرض
بغير إذنه، فيلزمه عوضها، وهو أجرة المثل كما في غير هما انتهى.
ومقتضى كلام المحقق والعلامة التخيير بمعنى أنه يتخير مالك الأرض في
فسخ العقد وأخذ أجرة المثل وعدمه، فيأخذ المسمى والأرش أيضا إن نقصت
الأرض وحصل لها ضرر بذلك.
قال العلامة في القواعد ويتعين بالتعيين، فإن زرع الأضر فللمالك الخيار
بين المسمى مع الأرش، وبين أجرة المثل، ولو زرع الأخف تخير المالك بين
الحصة مجانا، وأجرة المثل.
وقال المحقق في الشرايع: فإن عين الزرع لم يجز التعدي، ولو زرع
الأضر والحال هذه كان لما كلها أجرة المثل إن شاء، والنماء مع الأرش، ولو
كان أقل ضررا جاز انتهى.
وفيه نظر من وجهين الأول أن مقتضى التعيين والعمل بالشرط عدم جواز
العدول عنه، وأنه ينفسخ العقد بالتعدي كما تقدم في كلام المحقق الأردبيلي،
فكيف يتم ما ذكره في الشرايع من أنه لو كان أقل ضررا جاز، وما ربما يقال
في الجواب - والاعتذار عن المنافات في كلامه - بأن الرضا بزرع الأضر على
الأرض يقتضي الرضا بالأقل ضررا بطريق أولى - مردود بأن غرض المالك ربما
كان الانتفاع بالزرع، لا مصلحة الأرض، فإنه المقصود الذاتي، ومصلحة
الأرض إنما هي تابعة ولا شك أن الأغراض تختلف في أنواع المزروع، فربما كان
غرضه في الأشد ضررا من حيث يزيد نفعه، أو الحاجة إليه، وإن تضررت الأرض به.
314

ثم إنه على تقدير ما ذكره من الجواز يلزم من ذلك أخذ المالك الحصة
من ذلك المزروع مجانا، وهو باطل، لأنه غير داخل في العقد، فكيف يستحق
فيه المالك شيئا، وعين البذر مال العامل وملكه، ولا دليل على انتقال شئ منه
عن ملكه إلا بالمزارعة عليه ودخوله في عقد المزارعة، والمفروض أنه ليس
كذلك.
وبه يظهر أيضا ما في عبارة القواعد هنا من التخيير بين أخذ الحصة مجانا
وبين أجرة المثل، فإنه لا وجه لآخذ الحصة مجانا كما عرفت، بل الحق إنما هو
أجرة المثل وانفساخ العقد.
الثاني - أن ما ذكراه من التخيير في صورة زرع الأضر بين المسمى مع
الأرش، وبين أجرة المثل، منظور فيه بأن الحصة المسماة إنما وقعت في عقد
المزارعة بالنسبة إلى ذلك المعين في العقد، والذي زرعه العامل لم يتناوله
العقد، ولا الإذن، فكيف يستحق منه المالك حصته، فإذا زارعه على حنطة بأن
يكون للمالك نصف حاصلها، وبذر العامل شعيرا فبأي وجه يستحق المالك حصته
من ذلك الشعير، وهو غير داخل في العقد، ومقتضى ملك العامل له أن يكون نماؤه
وما يخرج منه لمالكه خاصة، وبه يظهر أن الأقوى إنما هو أجرة المثل في
الموضعين المذكورين، هذا بالنسبة إلى المزارعة.
أما في الإجارة فإنه لو استأجر منه الأرض لزراعة نوع معين، مثلا فإن
زرع الأضر فالكلام عندهم كما تقدم في المزارعة، وإن زرع الأخف ضررا فإنهم
صرحوا هنا بالفرق بين العقدين في ذلك، وأنه يصح في الأول، دون الثاني.
قال في المسالك في تعليل ذلك: فإن عدول المستأجر إلى زرع ما هو أخف
ضررا منه متجه، لأن الغرض من الإجارة للمالك تحصيل الأجرة، وهي حاصلة
على التقديرين، وتبقى معه زيادة تخفيف الضرر عن أرضه، وأولى منه لو ترك
315

الزرع طول المدة، فإنه لا اعتراض للمالك عليه، حيث لا يتوجه ضرر على الأرض،
لحصول مطلوبه، وهو الأجرة، بخلاف المزارعة، فإن مطلوبه الحصة من
الزرع، فلا يدل على الرضا بغيره، ولا يتناوله بوجه، انتهى.
وأما المساوي فاحتمالان.
الثانية: قيل: لو استأجر للزراعة أرضا لا ينكشف عنها الماء لم يجز،
لعدم الانتفاع، ولو رضي بذلك المستأجر جاز، ولو قيل: بالمنع لجهالة الأرض
كان حسنا، وإن كان قليلا يمكن معه بعض الزرع جاز، ولو كان الماء ينكشف
عنها تدريجا لم يصح لجهالة وقت الانتفاع.
أقول: وتفصيل هذا الاجمال - بما يتضح به المراد من هذا المقال - هو
أن يقال: إذا كانت الأرض مغمورة بالماء بالكلية في جميع الأوقات، فإنه لا ريب
في بطلان إجارتها، لعدم إمكان الانتفاع بها فيما استوجرت له، وهو ظاهر،
وأما لو كان الماء ينكشف عنها وقت الانتفاع عادة، فإن كانت مغمورة به حال
العقد، فإنهم صرحوا بالصحة إذا كان قد رأى الأرض أولا قبل استيلاء الماء عليها،
وأن الماء المجلل لها صافيا لا يمنع من رؤيتها، هذا إذا كان الاستيجار للزراعة.
أما لو كان الاستيجار مطلقا أو لغير الزراعة مما يمكن استيفاؤه منها، فإن
الإجارة صحيحة، وينتفع بها فيما شاء، ولو باصطياد السمك إن كان، ومع تعذر
الانتفاع بها بوجه من الوجوه، فالظاهر هو البطلان، لأن شرط الصحة إمكان
الانتفاع، ولو رضي المستأجر بالإجارة مع فرض الانغمار بالماء جاز، وهو مما
لا اشكال فيه، إلا أنه لا بد من تقدم رؤية الأرض قبل الانغمار بالماء، أو إمكان
الرؤية حال وجود الماء لصفائه، كما تقدم ذكره.
وبه يظهر أن تعليل المنع من الصحة في هذه الصورة بجهالة الأرض لا يصح
على اطلاقه.
316

نعم لو فرض الجهل بها على كل حال اتجه المنع، وبالجملة فإنه إذا رضي
المستأجر بذلك مع العلم بالأرض بأحد الوجوه جاز، وأما مع الجهل مطلقا
وعدم العلم بوجه فلا، ولو كان الماء قليلا يمكن معه بعض الزروع جاز، لامكان
الانتفاع في الجملة، سواء أمكن الزرع في جميع الأرض على النقصان، أو أمكن
في بعض دون بعض، مع الحاق ما لا يمكن فيه من الأرض بالجميع.
وكيف كان فلا بد من علم المستأجر بذلك وإلا تسلط على الفسخ للعيب،
وأما لو كان الماء ينكشف عن الأرض تدريجا فإن الإجارة لا تصح، لجهالة وقت
الانتفاع، والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين رضاء المستأجر بذلك وعدمه، لأن رضاه
بعقد غير صحيح لا يوجب صحته، لما عرفت من أن العقد باطل من حيث جهالة
وقت الزرع.
وفي القواعد قيد المنع بعدم رضا المستأجر، فلو رضي بذلك صح، ورد
بأن هذا إنما يتم في العيب، فإنه يتخير بالرضاء والخيار، لا في الجهالة التي
هو موجبة لبطلان العقد، ولو قيل: - بالحاق هذا الفرد بما ذكر نظرا إلى إمكان
الانتفاع في الجملة - قلنا: لا ريب أن ما يوجبه انقطاع الماء تدريجا نقصان
المنفعة، واللازم من ذلك تخير المستأجر مع الجهل، لا الحكم بعدم الصحة،
مع أنه قد حكم بعدم الصحة مع عدم الرضا.
وبالجملة فما نقلناه أولا أوفق بالقواعد المقررة بينهم.
قال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك: وهذا الأحكام آتية في المزارعة على
الأرض المذكورة، فكان ذكرها في بابها أولى من استطراد الحكم الأجنبي، أو
التعميم، وربما قيل: في هاتين المسألتين أن المنع مخصوص بالإجارة، أما
المزارعة عليها فجائزة، والفرق ابتناء الإجارة على المعلومية، لانضباط الأجرة،
فلا بد من انضباط المنفعة في مقابلتها، بخلاف المزارعة، فإن النفقة التي هي
الحصة كما كانت مجهولة، تسومح في مقابلتها من العوض بما لا يتسامح في غيرها،
ولا بأس به، انتهى.
317

الثالثة - قالوا: إذا اشترط في استيجار الأرض الغرس فيها والزرع معا فلا
بد من تعيين مقدار كل واحد منهما.
أقول: والوجه في لزوم الشرط المذكور عموم الأدلة الدالة على وجوب
الوفاء به، والوجه في وجوب التعيين في الزرع والغرس هو اشتراط العلم، وعدم
الجهل الموجب للغرر لما علم من تفاوت ضرريهما، فإن الغرس أضر على الأرض
وأفراد المغروسات، وكذا أفراد المزروعات متفاوتة في الضرر شدة وضعفا،
وحينئذ فلا بد من تعيين أفرادها، وكذا لو استأجر لغرسين أو
لزرعين، فإن الحنطة أضر من الشعير، والمغروسات تختلف باعتبار سريان العروق
في الأرض، ونحو ذلك فلا بد من التعيين لما عرفت، قيل: واشتراطه في الإجارة
ظاهر، كما إذا آجره الأرض للزراع والغرس.
وأما في المزارعة فبأن يكون شرط في المزارعة غرس أشجار له،
كما نقل عن المحقق الثاني، وربما قيل: بأنه كما يجب التعيين في المتفاوتين
في الضرر، يحتمل أيضا في غير المتفاوتين، خصوصا في المزارعة لما تقدم، من
أن الغرض المطلوب منها الحصة، ومعلوم تفاوتها بتفاوت أفراد المزروعات.
قال في المسالك: ويمكن حمل الاطلاق على جعل كل واحد منهما في
نصف الأرض، لأن المتبادر من لفظ الشريك التسوية كما في نظائره، ولأن
مقتضى الإجارة لهما أن يكون المنفعة المطلوبة من كل واحد منهما نصف فضل
الجميع بحسب التنصيف لئلا يلزم الترجيح من غير مرجح، وهذا هو الأقوى
وحينئذ فلا يجب التعيين، انتهى.
وما ادعاه من أن المتبادر من لفظ الشريك التسوية، وأن اشتهر ذلك في كلام
غيره أيضا، إلا أنه قد تقدم ضعفه، بل هو أعم مما ذكروه، وقوله أيضا فلا يجب
التعيين، بناء على الفرض الذي ذكره محل اشكال، مع تفاوت أفراد المغروسات
والمزروعات، فإنه مع فرض نصف تلك الأرض للغرس، والنصف الآخر للزرع
318

متى كانت أفراد كل منهما متفاوتة في الضرر، جرى في هذا النصف ما جرى في
أصل الأرض المفروضة في الكلام السابق مما اقتضى وجوب التعيين، ثم إنه قال:
هذا كله إذا استأجرها مطلقا، أما لو استأجرها لينتفع بها بما شاء منها - صح
وتخير، لأن ذلك تعميم في الأفراد، وقدوم على الرضا بالأضر، ويبقى الكلام
في تعيين النوع الواحد من الزرع والغرس واطلاقه ما تقدم، انتهى.
الرابعة - اختلف الأصحاب فيما إذا استأجر أرضا مدة معينة ليغرس فيها
ما يبقى بعد المدة غالبا، فقيل: إنه يجب على المالك ابقاؤه، يعني بالأجرة، أو
إزالته مع الأرش.
وقيل: إنه له إزالته كما لو غرس بعد المدة، وبالأول صرح المحقق في
الشرايع والعلامة في الإرشاد، ونقل عن فخر المحققين، وبالثاني صرح شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك.
وعلل الأول من القولين المذكورين بأن المستأجر غير معتد بالزرع، لأنه
مالك للمنفعة تلك المدة، فله الزرع، وذلك يوجب على المالك ابقائه، لمفهوم
قوله (1) (عليه السلام) " ليس لعرق ظالم حق " قال فخر المحققين: أجمع الأصوليون
على دلالة المفهوم من هذا الحديث، وإن اختلفوا في دلالة مفهوم الوصف في
غيره، لكن لما لم يكن له في الأرض حق بعد المدة، لانقضاء الإجارة، جمع بين
الحقين بابقائه، بالأجرة أو قلعه بالأرش.
وعلل القول الثاني بأن المستأجر دخل على أن لا حق بعد المدة، لأن منفعة
المدة هي المبذولة في مقابلة العوض، فلا يستحق بالإجارة شيئا آخر، فللمؤجر
قلعه مجانا كما لو غرس المستأجر بعد المدة.
قال في المسالك: هذا هو الأقوى، ثم قال في الجواب عما تقدم: وعدم
تعدي المستأجر بزعمه في المدة لا يوجب له حقا بعدها مع اسناد التقصير إليه،
والمفهوم ضعيف، والاجماع على العمل هنا لم يثبت، وعلى تقدير صحته نمنع

(1) التهذيب ج 7 ص 206 ح 55، الوسائل ج 17 ص 311 باب 3 ح 1.
319

من كونه بعد المدة غير ظالم، لأنه واضع عرقه في أرض لا حق له فيها، والزام
المالك بأخذ الأجرة على الابقاء، أو تكليفه بالأرش على خلاف الأصل، فلا يصار
إليه بمثل ذلك انتهى.
وقال المحقق الأردبيلي بعد نقل القول الأول عن المحقق، والثاني عن
الشهيد الثاني " وهو غير بعيد " يعني القول الثاني ثم نقل كلام فخر المحققين
ودعواه الاجماع على العمل بمفهوم الوصف في الخبر المذكور ما لفظه، وكان هذا
الحديث ثابت عند الكل، وهو موجود في التهذيب بسند غير صحيح في باب المزارعة
فهو دليل على الأول، لعل منشأ اعتبار المفهوم هنا هو ما ثبت بالعقل والنقل
" أن لعرق المحق وغير ظالم حق " وهو كاف، ولا يحتاج إلى هذا المفهوم، وأن
ذلك ظاهر ولا شك أن العامل غير ظالم، فلعرقه حق، إما بأن يخلى بالأجرة أو
يقلع بالأرش، وهو جمع بين المصلحتين أيضا فإن لكل منهما دخلا في الابقاء،
ونقضه بمنع الاجماع غير جيد، وكذا منع كونه بحث بأنه بعد المدة ظالم، كما
فعله في شرح الشرايع، لأنه ثبت بحق، وإن كان المنع الثاني أولا، ووجه الثاني
لا يخلو من قوة لما تقدم، إلا أن الأول أحوط وبالنصف أقرب فتأمل انتهى.
أقول: الخبر المشار إليه في كلامهم هنا هو ما رواه الشيخ في التهذيب
عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي (1) " قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: من أخذ أرضا بغير حقها أو بنى فيها قال: يرفع بناؤه، ويسلم التربة إلى
صاحبها ليس لعرق ظالم حق ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أخذ
أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر.
وأنت خبير بأن مورد الخبر وسياقه من أوله إلى آخره إنما هو من اغتصب
أرضا فتصرف فيها ببناء أو غرس مع كونها مملوكة لغيره، فإنه لا يملكها بذلك،
بل هي ملك لمن سبق إليها أولا، وأنه يجب عليه أن يدفع بناءه ويزيل غرسه.،

(1) التهذيب ج 7 ص 206 ح 55، الوسائل ج 17 ص 311 باب 3 ح 1.
320

للتعليل المذكور فيهما.
ومفهوم هذا التعليل بناء على ما ذكرنا أنه لو لم يكن مملوكة ولا مستحقة
لأحد قبله، فإنه يملكها ويستحقها، لكون عرقه عرق غير ظالم، ومرجعه إلى كون
تصرفه شرعيا، وبه يظهر الاشكال في انطباق الاستدلال بمفهوم الخبر على المدعى
في هذا المقام، لأن التصرف هنا وإن كان شرعيا بالنظر إلى مدة الإجارة، فيدخل
تحت مفهوم الخبر إلا أنه بعد انقضاء المدة وزوال الموجب لصحة التصرف،
لا يمكن دخوله تحت المفهوم المذكور، ومحل البحث والنزاع إنما هو هنا،
لا فيما تقدم من التصرف في المدة.
فقول المحقق المتقدم ذكره أنه ثبت بالعقل والنقل أن لعرق المحق وغير
ظالم حق، والعامل غير ظالم، فلعرقه حق، إن أراد بالنسبة إلى مدة الإجارة
فمسلم، ولكن لا يجدي نفعا وإن أراد بعد انقضائها فهو عين البحث ومحل النزاع،
فلا يخرج كلامه عن المصادرة، فإن شمول المفهوم المذكور له غير متجه،
إذ لا ريب أنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، ولهذا اضطروا إلى القول بالأجرة فرارا
مما ذكرناه، فكيف يدخل تحت المفهوم المذكور، وأنه محق وغير ظالم،
فيكون لعرقه حق.
ولو قيل: ببطلان هذا العقد من أصله لم يكن بعيدا من الصواب: لعدم
الدليل عليه بالخصوص، وخروجه عن مقتضى قواعد الإجارة، فلا يتناوله عموم
أدلتها، فإن من قواعد الإجارة قصر جواز التصرف على مدة الإجارة، وهذا العقد
على هذا الوجه المذكور خارج عن ذلك، فلا يدخل تحت عموم أدلتها.
واللازم منه على تقدير الحكم بصحته أحد المحذورين، إما تضرر المستأجر
بقلع الغرس مجانا كما هو مقتضى القول الثاني، أو جواز التصرف في مال الغير بغير
إذنه كما هو مقتضى القول الأول وهو أشد اشكالا.
والالتجاء في المخرج عن ذلك - إلى ما ذكروه من وجوب تبقيته بالأجرة
321

أو جواز قلعه بالأرش جمعا بين الحقين - إنما يصح إذا دل دليل شرعي من كتاب
أو سنة أو اجماع، بناء على قواعدهم، ولا شئ من هذه الثلاثة في المقام،
فاللازم منه اثبات حكم بلا دليل، وهو مما منعت منه الآيات المتكاثرة، والروايات
المتظافرة، ولو صح الرجوع في ذلك إلى العقل لأمكن ما ذكروه، لاندفاع
الضرر من الجانبين والجمع بذلك بين الحقين، ولكن قد علم من الآيات القرآنية
والسنة النبوية أنه لا يجوز بناء الأحكام الشرعية إلا على ما ظهر منهما من الأدلة
الواضحة الجلية، والله العالم.
الحاق
أقول: ما ورد في الخبر المتقدم من " أنه ليس لعرق ظالم حق " (1) قد
ورد مثله من طريق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) وهو محتمل لتنوين عرق،
فيكون ظالم صفة له، وإضافة عرق فيكون ظالم مضافا إليه.
قال في النهاية الأثيرية (2) وفي حديث احياء الموات " ليس لعرق ظالم
حق " هو أن يجيئ الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله، فيغرس فيها غرسا
غصبا ليستوجب به الأرض والرواية لعرق بالتنوين وهو على حذف مضاف: أي
لذي عرق ظالم، فجعل عرق نفسه ظالما والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من
صفة صاحب العرق، وإن روي عرق ظالم بالإضافة فيكون الظالم صاحب العرق،
والحق للعرق، وهو أحد عروق الشجرة انتهى.
الخامسة - قد صرحوا بأنه تصح المزارعة إذا كان من أحدهما الأرض
حسب، ومن الآخر البذر، والعمل والعوامل، وكذا لو كان من أحدهما
الأرض والبذر ومن الآخر العمل، أو كان من أحدهما الأرض والعمل، ومن
الآخر البذر خاصة.

(1) التهذيب ج 7 ص 206 ح 55، الوسائل ج 17 ص 311 باب 3 ح 1.
(2) النهاية ج 3 ص 219 ط القاهرة سنة 1385.
322

وبالجملة فإن هنا أمورا أربعة، الأرض، والبذر، والعمل، والعوامل،
والضابط أن الصور الممكنة في اشتراك هذه الأربعة بينهما كلا أو بعضا جائزة،
لا طلاق الإذن في المزارعة من غير تقييد بكون بعض ذلك بخصوصه من أحدهما.
أقول: ومن الأخبار التي تتعلق بذلك ما رواه المشايخ الثلاثة عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي (1) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أشارك العلج
" المشرك " فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر، ويكون على العلج القيام
والسقي والعمل في الزرع حتى يصير حنطة وشعيرا وتكون القسمة، فيأخذ السلطان
حقه ويبقى ما بقي على أن للعلج منه الثلث، ولي الباقي قال: لا بأس بذلك الحديث.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن يعقوب بن شعيب (2) في الصحيح عن أبي
عبد الله (عليه السلام) " قال: سألته عن الرجل يكون له الأرض من أرض الخراج
فيدفعها إلى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدي خراجها وما كان من فضل
وهو بينهما، قال: لا بأس - إلى أن قال -: وسألته عن المزارعة فقال: النفقة منك
والأرض لصاحبها، فما أخرج الله من شئ قسم على الشطر، وكذلك أعطى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيبر حين أتوه، فأعطا هم إياها على أن يعمروها
ولهم النصف مما أخرجت ".
وما رواه في الكافي عن سماعة (3) في الموثق قال: سألته (عليه السلام) عن
مزارعة المسلم المشرك فيكون من عند المسلم البذر والبقر، وتكون الأرض
والماء والخراج والعمل على العلج؟ قال: لا بأس " ونحوها موثقة (4) أخرى له

(1) الكافي ج 5 ص 267 ح 1، التهذيب ج 7 ص 198 ح 21، الفقيه ج 3
ص 156 ح 9، لفظ المشرك ليس في الكافي والتهذيب.
(2) الكافي ج 5 ص 268 ح 2، التهذيب ج 7 ص 198 ح 22، الوسائل
ج 13 ص 202 باب 10 ح 1 و 2.
(3) الكافي ج 5 ص 268 ح 4، الوسائل ج 13 ص 204 باب 12 ح 1.
(4) التهذيب ج 7 ص 194 ح 4، الوسائل ج 13 ص 204 باب 12 ح 2.
323

أيضا، والظاهر من هذه الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض هوما قدمناه من الضابط
المتقدم، وهو مما لا خلاف فيه ولا اشكال، فيما إذا كان عقد المزارعة بين اثنين خاصة
فإنه لا خلاف في الصحة.
وإنما الخلاف فيما إذا زاد عليهما، قال في القواعد بعد ذكر نحو مما
ذكرناه في مزارعة الاثنين، وفي صحة البذر من ثالث نظر، وكذا إذا كان البذر
من ثالث، والعوامل من رابع.
وقال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك أيضا: هذا إذا كانا اثنين خاصة،
فلو جعلا معهما ثالثا وشرطا عليه بعض الأربعة، أو رابعا كذلك ففي الصحة وجهان:
من عموم الأمر بالوفاء بالعقود، والكون مع الشرط، ومن توقف المعاملة سيما
التي هي على خلاف الأصل على التوقيف من الشارع، ولم يثبت عنه مثل ذلك،
والأصل في المزارعة قصة خيبر، ومزارعة النبي (صلى الله عليه وآله) اليهود عليها
على أن يزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها، وله (عليه السلام) شطره الآخر،
وليس فيها أن المعاملة مع أكثر من واحد، وكذلك باقي النصوص التي وردت
من طرقنا، ولأن العقد يتم باثنين موجب وهو صاحب الأرض، وقابل، فدخول
ما زاد يخرج العقد عن وضعه، ويحتاج اثباته إلى دليل، والأجود عدم الصحة
انتهى.
أقول: لا يخفى ما في كلامه (رحمة الله عليه) من تطرق البحث إليه،
والايراد عليه، أما أولا فإن ما استند إليه في منع أكثر من اثنين - من توقف
هذه المعاملة على التوقيف من الشارع بمعنى دليل خاص - فهو خلاف ما يستندون
إليه في أكثر الأحكام من التمسك بعموم الأدلة واطلاقاتها، كما لا يخفى على
من له أنس بالاطلاع على أقوالهم، وخاص في بحور استدلالهم.
وأما ثانيا فإن ما ادعاه من أن معاملة النبي (صلى الله عليه وآله) مع أهل
خيبر لا تدل على أن المعاملة مع أكثر من واحد من أعجب العجاب عند ذوي
324

الألباب، لاستفاضة الأخبار بأنه بعد فتح خيبر أقر الأرض في أيدي الذين فيها وقاطعهم
بالنصف يعني جميع من كان فيها من اليهود لا شخصا بعينه منهم، أو اثنين أو ثلاثة
مثلا، ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب (1) المذكورة هيهنا، وقوله فيها " أعطاهم
إياها على أن يعمروها ولهم النصف مما أخرجت " وفي حديث الكناني (2) قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لما فتح خيبر
تركها في أيديهم على النصف، فلما بلغت الثمرة بعث عبد الله بن رواحة إليهم، فخرص
عليهم فجاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إنه قد زاد علينا فأرسل إلى عبد الله
وقال: ما يقول هؤلاء؟ قال: قد خرصت عليهم بشئ، فإن شاؤوا يأخذون بما خرصنا
وإن شاؤوا أخذنا، فقال رجل من اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض ".
وفي معناه غيره من الأخبار الكثيرة، فهل ترى هنا بعد ذكر هم بطريق
الجمع في هذه الموارد مجالا للحمل على واحد منهم، بل الظاهر لكل ناظر إنما
هو دفع الأرض إليهم كملا بعد فتحها وأخذها عنوة، على أن يزرعوها بالمناصفة،
وهذا هو الذي عليه العمل الآن في جميع الأصقاع والبقاع وذكر الاثنين في
أكثر الأخبار إنما خرج مخرج التمثيل، لا الحصر.
وأما ثالثا فإن كون العقد يتم باثنين موجب وقابل لا ينافي التعدد في
جانب كل منهما كما في سائر العقود من بيع وغيره، بأن يوجب عنه وعن غيره،
ويقبل كذلك فإن قيل: إنه قد ثبت ذلك بدليل من خارج - قلنا: وهذا قد ثبت بعموم
أدلة المزارعة، ولا سيما قضية خيبر كما عرفت، على أنك قد عرفت في كتاب
البيع أن ما ذكروه من العقد المشتمل على الإيجاب والقبول بالنحو الذي تقدم
ذكره عنهم لا دليل عليه، وإنما الذي دلت عليه الأخبار هو مجرد التراضي

(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 2، التهذيب ج 7 ص 193 ح 2، مع اختلاف
يسير، الوسائل ج 13 ص 203 ح 2.
(2) الكافي ج 5 ص 267 ح 2، الوسائل ج 13 ص 199 ح 1.
325

بالألفاظ الجارية بينهم، وكلامه إنما يتم على الأول كما هو المشهور بينهم، مع
أنك قد عرفت أنه لا دليل عليه.
قال المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه) في هذا المقام: ونعم ما قال
وأيضا لا خصوصية بالاثنين فيجوز بين الثلاثة وما زاد لما تقدم، وليست المعاملة
مطلقا، ولا هذه موقوفة على النص الخاص شرعا، بل يكفي العموم، ولهذا ليس
في شئ من المعاملات بخصوصه دليل شرعي، كيف ولو احتاج إلى ذلك لا شكل
الأمر، فإنه معلوم عدم ورود نص في كل صنف صنف من كل معاملة، مع
العلم بالمغايرة بمثل هذه، أي كون المعاملين أكثر من الاثنين، وهو الظاهر
ولهذا يجوزون النكاح من الزوج فقط، بأن يكون موجبا وقابلا معا مع عدم نص
بخصوصه فيه مع وجوب الاحتياط في الفروج، وكذا يجوزون في الطلاق كون
المطلق زوجته بالوكالة، مع عدم دليل بخصوصه، ومنع البعض الوكالة في
الطلاق مع الحضور، ومنع البعض وكالة النساء خصوصا المطلقة وغيرها مع عدم
نص، بل ورد نص بعدم جواز الاتحاد في النكاح، وليس لهم دليل إلا عموم العقود
وصدق النكاح مع عدم ثبوت المنع.
وبالجملة أمثاله كثيرة جدا ولا يشترطون فيه النقل بخصوصه، وأنه لو شرط
لبطل أكثر ما ذكروه، فقول الشارح في شرح الشرايع بعدم الصحة - إذا زاد
على الاثنين محتجا بأن القابل والموجب اثنان فيتم بهما، ولا يتعدى إلى الغير،
وأن دليل المزارعة خبر حكاية خيبر، وليس فيه غير الاثنين، وكذا غيره من
الأخبار عندنا لما تقدم - غير ظاهر، على أنه ما يظهر من حكاية خيبر وغيرها
كونهما اثنين فقط، بل هو أعم، بل الظاهر أن أهل خيبر كانوا كثيرين، فوقع
بينه (عليه السلام) وبينهم.
وبالجملة ما ذكره نجده بعيدا جدا وهو أعرف انتهى.
السادسة - قال المحقق (رحمة الله عليه) في الشرايع ولو كان بلفظ الإجارة
326

لم تصح لجهالة العوض، أما لو آجرها بمال مضمون أو معين من غيرها جاز.
أقول: ما ذكره من قوله " ولو كان بلفظ الإجارة لم تصح لجهالة العوض،
محتمل لمعنيين أحدهما - ما ذكره في المسالك قال (قدس سره): لا اشكال في
عدم وقوعها بلفظ الإجارة لاختلاف أحكامهما، فإن الإجارة يقتضي عوضا معلوما
والمزارعة تكفي فيها الحصة المجهولة، انتهى.
وحاصله أنه يقصد بالعقد المزارعة، ولكن يأتي بلفظ الإجارة، وثانيهما -
أن يقصد الإجارة لا المزارعة، لكن جعل الأجرة الحصة، فإنه لا يصح هذه
الإجارة، لوجوب العلم بالعوض في الإجارة، والعوض هنا إنما هو الحصة، وهي
مجهولة، والظاهر أن هذا هو الأقرب في العبارة بقرينة قوله " أما لو آجرها "
إلى آخره، فإنه ظاهر في أن المقصود إنما هو الإجارة في كل من الموضعين،
لكنه في الأول جعل العوض الحصة، وهي مجهولة فتبطل الإجارة لزوال شرطها
وهو معلومية العوض، وفي الثاني تصح، وأيضا فإنه على تقدير أن يكون العقد
مقصودا به المزارعة، لكن أتى فيه بلفظ الإجارة كما ذكره ليس فيه أزيد من
ارتكاب التجوز في التعبير عن المزارعة بلفظ الإجارة، وهو جائز مع القصد إليه
والقرائن الدالة عليه، واطلاق لفظ الإجارة وإرادة المزارعة منه في الأخبار غير
عزيز، ومنه ما في صحيحة أبي المعزا (1) المتقدمة من قوله (عليه السلام):
" أما إجارة الأرض بالطعام " فلا تأخذ نصيب اليتيم منه، إلا أن تؤاجرها بالربع
والثلث والنصف كما تقدم تحقيق ذلك في الحاق المذكور بعد الشرط الأول من
المقام الأول من هذا المطلب.
السابعة - في جملة من أحكام التنازع - منها - أن يتنازعا في المدة لما
عرفت آنفا من أن المدة من جملة شروط هذه المعاملة، وقد عرفت ما فيه، قالوا:
فلو تنازعا فيها فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه، ولا ريب أن هذا مقتضى

(1) التهذيب ج 7 ص 196 ح 12، الوسائل ج 13 ص 210 ح 7.
327

القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى، لأن الأصل عدم الزيادة.
وقيده بعض محققي متأخري المتأخرين بأن لا يكذبه العرف، ولعله أراد
بأن يدعي ينقصان المدة عن وقت يدرك فيها الزرع يقينا، حيث أن المعلوم عادة
وعرفا أن القصد من المزارعة وبذل المال فيها هو الحاصل فلا بد أن يكون المدة
تبلغ ذلك ولو ظنا، فإذا ادعى ما يوجب نقصانها عن ذلك يقينا فإنه يكذبه العرف
ولا بأس به، لما عرفت في غير موضع مما تقدم من بناء الاطلاق على المعروف
المتكرر عادة.
ومنها ما لو اختلفا في قدر الحصة، فإنهم صرحوا بأن القول قول صاحب
البذر، وعلل بأن الحصة نماء ملكه، والأصل بقائه على مالكه حتى يتحقق الانتقال
شرعا، فكان الحاصل فيد صاحب البذر حيث ثبت أنه له، والمنازع خارج يدعيه
فعليه البينة، وحينئذ فالقول قول صاحب البذر بيمينه، حيث عدمت البينة كما
في المدة، ولو أقام كل واحد منهما بينة بني على الخلاف في تقديم بينة
الداخل أو الخارج، والمشهور الثاني.
وعلى هذا فالقول قول مالك الأرض في تقليل المدة، والبينة بينة العامل
في دعوى الزيادة، وكذا القول قول صاحب البذر في قدر الحصة، والبينة
بينة الآخر، وهو من لا بذر له في ذلك.
وقيل: هنا بالقرعة، لأنها لكل أمر مشكل، وفيه أنه لا اشكال هنا،
فإن من كان القول قوله فالبينة بينة صاحبه، كما هو مقتضى النصوص المتفق عليها.
ومنها ما لو اختلفا فقال الزارع: إنها في يدي عارية، فأنكر المالك
وادعى الحصة أو الأجرة، ولا بينة فالمشهور أن القول قول صاحب الأرض في
نفي العارية بيمينه، لأنه منكر، فيقدم قوله في ذلك، والقول قول الزارع
بيمينه في نفي الإجارة أو المزارعة، لأنه منكر لهما، وحينئذ فيحلف كل واحد
منهما على نفي ما يدعيه الآخر، وحيث انتفت الدعويان والحال أن الزارع قد
تصرف في أرض غيره وانتفع بها، فاللازم له أجرة المثل لذلك الزرع إلى أوان
328

نزعه، إلا أنهم قيدوا أجرة المثل هنا بما إذا لم تزد على ما يدعيه المالك من الأجرة
والحصة، وإلا وجب له ما يدعيه خاصة، لاعترافه بأنه لا يستحق سواه، ومرجعه
إلى أقل الأمرين من أجرة المثل والمسمى في العقد.
وقيل: هنا بالقرعة وهو مجهول القائل، ونسبه في التذكرة إلى بعض علمائنا
وفي المختلف حكاه بلفظ قيل، والشراح أبهموه.
وكيف كان فهو ضعيف كما ذكره غير واحد من أصحابنا، لأن القرعة إنما
هي مع اشكال الحكم، وأما مع بيان وجهه ومعرفة طريقه فلا اشكال، وطريقه
هو ما ذكروه مما قدمنا نقله عنهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن عندي في هذا المقام اشكالا من وجهين: الأول -
ما ذكروه من وجوب أقل الأمرين من أجرة المثل وما يدعيه المالك من الحصة
أو الأجرة، لما ذكروه من التعليل، فإن فيه أولا أن أجرة المثل التي أوجبوها
هنا الراجعة إلى أقل الأمرين كما عرفت إنما صاروا إليها بعد الحكم ببطلان
الدعويين الأوليين من كل من الطرفين بالتحالف، وبطلان ما يترتب عليهما،
وحينئذ فالحكم بأجرة المثل هنا لا تعلق له باعتراف المالك، لأنه لا يستحق أزيد
من ذلك، أو يستحق مثلا، وإنما فرض المسألة - بعد بطلان الدعويين الأوليين -
فرض ما لو لم يكن شئ من هذين الدعويين، وحينئذ فالواجب إنما هو أجرة
المثل زادت أم نقصت أم ساوت.
وثانيا ما أورده في المسالك حيث قال: واعلم أنه إذا كان الواجب للمالك
بعد يمينه أقل الأمرين مما يدعيه وأجرة المثل، وكان الأقل هو ما يدعيه، فلا
وجه ليمين الزارع، لأنه لو اعترف له بما يدعيه لم يكن له أزيد منه، وكذا
لو حلف أورد اليمين، وما هذا شأنه لا فائدة فيه. نعم لو كان ما يدعيه أزيد من
أجرة المثل اتجهت فائدة يمين الزارع، لأنها تنفي الزائد مما يدعيه المالك عن
الأجرة، ولو ردها أو اعترف للزم الزايد انتهى.
329

ولا يخفى ظهور ورود ما أورده عليهم، وأما على ما ذكرناه فلا اشكال
بحمد الله المتعال.
الثاني: إنهم قد صرحوا في هذا الكتاب بهذه المسألة أعني مسألة اختلاف
الزارع والمالك في العارية والمزارعة والإجارة، ونقلوا فيها القولين المتقدمين،
ولم يذكروا لهما ثالثا، وفي كتاب العارية ذكروا المسألة وهي اختلاف المالك
والمستعير بأن المالك ادعى الإجارة والمستعير العارية، وذكروا فيها قولين: أحدهما
أن القول قول المستعير بيمينه، لأن المالك يدعي الأجرة، والأصل عدمها.
والثاني أن القول قول المالك في عدم العارية، فإذا حلف سقط دعوى
المستعير، وثبت عليه أجرة المثل، ولم ينقلوا القول بالقرعة هناك، وظاهر
الأكثر منهم ترجيح القول الثاني، وظاهر العلامة في القواعد التوقف، حيث
ذكر القولين المذكورين بطريق الاحتمال في المسألة، ولم يرجح شيئا منهما.
وأنت خبير بأن المسألة واحدة في الكتابين، والقولان المذكوران في
كتاب العارية يجريان فيما هو مذكور في هذا الكتاب، واستدل للقول الأول
كما ذكره جملة منهم بأنهما قد اتفقا على أن تلف المنافع وقع على ملك
المستعير، وأن تصرفه فيها كان مباحا، وإنما يختلفان في أن ذلك بأجرة أم لا
والأصل عدم الأجرة، فإذا حلف الراكب على نفي الأجرة ثبت ذلك له.
وعلل القول الثاني بأن المنافع أموال كالأعيان فهي بالأصالة لمالك العين،
وادعاء المستعير ملكيتها بغير عوض على خلاف الأصل، وأصالة براءة الذمة إنما
تصح من خصوص ما ادعاه المالك، لا من مطلق الحق، بعد استيفاء منفعة ملك
غيره وحينئذ فيحلف على نفي العارية، ويثبت له أجرة المثل بالتقريب المتقدم،
وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه)، في شرح الإرشاد تقوية القول الأول
من هذين القولين، حيث قال بعد ذكر التحالف من الطرفين كما صرحوا به
في المسألة المذكورة في هذا الكتاب: على نحو ما قدمناه، وأن للمالك بعد
330

ذلك أجرة المثل، أو أقل الأمرين منها ومن المسمى: ما لفظه، ويمكن أن يقال:
لا يجوز له يعني المالك أخذ شئ، لأنه ادعى الحصة، وقد سقطت باليمين، فإن
الحق وعوضه لا يمكن الأخذ في الدنيا بعد الحلف، كما هو المقرر عندهم،
ولأنه لا يدعي عليه إلا الحصة، وقد ثبت شرعا نفيها، ولا يدعي غيرها، ويأخذه
هو، فكيف يكلف الشارع العامل بشئ آخر، بل قائل بعدمه، فلا يحتاج إلى
التحالف، بأن يحلف المالك بنفي العارية، إذ ليس للعامل غرض في تلك
الدعوى، بل غرضه نفي الحصة، وقد نفاها بيمينه.
وبالجملة لا شك أن المدعي هنا هو المالك للحصة فقط، والعامل منكر،
وإذا حلف سقطت، وليس للمالك دعوى أخرى، فإن كانت مسموعة عمل
بمقتضاها، وليس للعامل غرض يتعلق بدعوى العارية، بل غرضه نفي دعوى
الحصة وقد حصل، فلا تحالف فتأمل، وسيجئ مثله في دعوى الإجارة
والعارية، انتهى.
أقول: لقائل أن يقول: أن الغرض من دعوى العارية هو أنه لما ثبت من
الشارع تحريم التصرف في مال الغير إلا بوجه شرعي، وإلا لكان ذلك موجبا
للموأخذة دينا ودنيا، أما في الدين فباستحقاق العقاب، وأما في الدنيا
فباستحقاق العوض، احتاج العامل إلى التعلق بشئ يدفع عنه الأمرين، فتعلق
بدعوى العارية لذلك، ومجرد كون دعوى العامل متضمنا لدفع الحصة وأن
غرضه من هذه الدعوى ذلك لا يخرجه عن كونه مدعيا يترتب عليه ما يترتب
على المدعي، حتى أنه يحصر المدعي في المالك، وأن العامل منكر خاصة،
وحيث أن المالك ادعى الإجارة وطلب الأجرة المسماة في العقد بزعمه، وحصل
التحالف من الطرفين على نفي الدعويين بطل ما تقدم من الدعويين، وما يترتب
عليهما من الحكمين، ورجعنا إلى أن الأصل حرمة مال المسلم وعصمته عن
تصرف غيره إلا بوجه شرعي، وحيث أن العامل قد تصرف بغير وجه شرعي
331

أو جبنا عليه أجرة المثل لذلك، سواء زادت عما يدعيه سابقا أو نقصت كما قدمنا
ذكره، وإن كان على خلاف ما صرحوا به كما عرفت.
وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص الواضح محل اشكال، وللنظر فيها
مجال كما عرفت من اختلاف هذه الأقوال.
هذا كله فيما إذا وقع النزاع والاختلاف بعد تصرف العامل، واستيفاء
المنفعة كلا أو بعضا، أما لو كان قبل ذلك فإنه متى تحالفا انتفت العارية
والمزارعة والإجارة، وحرم على العامل التصرف بلا خلاف ولا اشكال، وحيث
قد ثبت بناء على ما هو المشهور أن اللازم بعد التحالف إنما هو أجرة المثل،
وحينئذ فيكون الاختيار في الزرع ببقائه إلى أو أن الحصاد أو قصله قبل ذلك
للزارع، لما علم من أن أصل الزارعة وقع بوجه شرعي وإذن من المالك باتفاق
الخصمين، وإنما الخلاف في الأجرة وجودا وعدما، فهو زرع بحث، فلا يجوز
للمالك قلعه بغير إذن مالكه، مع أن ابقائه إنما هو بأجرة لا مجانا، والأجرة
ثابتة من وقت الزرع إلى وقت إزالته، سواء كان وقت الحصاد أو قبله، كذا
ذكروه، وعندي فيه اشكال، لأنه وإن كان أصل الزرع بالإذن أعم من أن يكون
عارية أو إجارة مثلا، إلا أنه بعد التحالف قد بطل كل من دعوى العارية ودعوى
الإجارة، فكيف ترتب عليهما حكم جواز البقاء، والحال أنه بعد التحالف قد
زال الأمر الأول، وهو الإذن المتفق عليه بل اللازم بمقتضى ذلك جواز قلع الزرع
وإزالته، وأجرة المثل إنما هي لما مضى من المدة، إلا أن يتفقا على بقائه بأجرة
وهو خارج عن محل البحث، وحينئذ فينبغي أن يجوز للمالك إزالته إن لم يرض
ببقائه بالأجرة.
وبالجملة فإن الحالين باعتبار التحالف وبطلان الدعويين قد اختلفا،
والإذن إنما ثبت سابقا باعتبار عدم خلو الحال من صحة إحدى الدعويين، ولما
ثبت بالتحالف بطلانهما معا تغير الحكم والله العالم.
332

ومنها ما لو اختلفا فقال العامل: أنها إعارة، وقال المالك: إنها غصب،
ولم يدع عقدا محللا كما تقدم، فالقول هنا قول المالك بيمينه، لا صالة عدم
الإعارة، وبقاء منافع أرضه على ملكه، وعدم خروجها عنه بعارية ولا غيرها،
ومتى حلف على نفي دعوى العارية وثبت كون وضع الزرع فيها بغير وجه شرعي
تخير المالك بين قلعه وبين مطالبته بأجرة المثل، لما مضى من المدة، وأرش
الأرض إن نقصت، وطم الحفر ونحو ذلك مما يلزم الغاصب كما يأتي انشاء الله
تعالى - في كتاب الغصب، وإن اتفقا على بقائه بأجرة جاز.
ونقل في المسالك عن التذكرة أنه يحلف العامل على نفي الغصب، ولم
يذكر يمين المالك، ورتب باقي الأحكام، ثم قال: والحق ما ذكر هنا من أن
الحالف المالك على نفي العارية لا غير، انتهى.
الثامنة - قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز للعامل أن
يشارك غيره في العمل بالحصة المعلومة، وأن يزارع غيره من غير توقف على
إذن المالك، إذا لم يكن شرط عليه العمل بنفسه، لما سيأتي في الإجارة إن شاء الله.
ولكن لا يسلم الأرض إلا بإذن المالك، وإلا كان ضامنا، كما يأتي في
الإجارة أيضا، والأصل في ذلك عندهم أنه لما كانت المزارعة من العقود اللازمة
الموجبة لنقل منفعة الأرض إلى العامل بالحصة المخصوصة، كان للعامل نقلها إلى
غيره، والمشاركة فيها لعموم " الناس مسلطون على أموالهم (1) " فلا يتوقف
ذلك على إذن المالك، إذ لا حق له في المنفعة.
نعم تسليم الأرض يتوقف على إذنه كما عرفت، واشترط بعضهم في جواز
مزارعة غيره كون البذر من العامل، ليكون تمليك الحصة منوطا به، وبه يفرق
بينه وبين عامل المساقاة، حيث لا يصح له أن تساقي غيره كما سيأتي إن شاء الله
تحقيقه في المطلب الثاني، ولأن البذر إن كان من صاحب الأرض، فالأصل أن

(1) البحار ج 2 ص 272 ح 7.
333

لا يتسلط عليه إلا مالكه، أو من أذن له وهو الزارع.
قال في المسالك: وهو حسن في مزارعة غيره، أما المشاركة فلا لأن
المراد بها أن يبيع بعض حصته في الزرع مشاعا بعوض معلوم، وهذا لا مانع منه
لملكه لها فيتسلط على بيعها كيف شاء، بخلاف ابتداء المزارعة، إذ لا حق له
حينئذ إلا العمل، وبه يتسحق الحصة مع احتمال الجواز مطلقا، لأن لزوم عقدها
اقتضى تسلطه على العمل بنفسه وغيره، وملكه للمنفعة، والتصرف في البذر
بالزرع، وإن لم يكن بنفسه، حيث لا يشترط عليه الاختصاص، فيجوز نقله إلى
الغير، كما يجوز الاستنابة.
ويضعف بأن البذر حينئذ ليس ملكا له، وإنما هو مأذون في التصرف فيه
بالزرع، وبه يملك الحصة.
وقد يقال: إن هذا كاف في جواز مزارعة الغير، لأنها عبارة عن نقل حقه
في ذلك إليه، وتسليطه على العمل، فيجوز كما يجوز له التوكيل فيه والاستنابة
وغيرها من الوجوه.
هذا كله إذا لم يشترط المالك العمل عليه بنفسه، وإلا لم يجز المشاركة
ولا المزارعة بحيث يصير العمل أو بعضه متعلقا بغيره.
ولا يرد أن ذلك يقتضي منع المالك من التصرف في ماله، فيكون منافيا
للشرع، " لأن الناس مسلطون على أموالهم " لأن ذلك حيث لا يعارضه حق غيره،
وإلا لم تتم الكلية، ضرورة تخلفه في كثير كالراهن والمفلس، انتهى.
وظاهر المحقق الأردبيلي المناقشة هنا في موضعين: أحدهما - في الشرط
المنقول عن بعضهم في جواز مزارعة غيره من أنه لا بد من كون البذر من العامل
فلو كان من المالك لم تصح.
وثانيهما في ما ذكره في المسالك في بيان معنى المشاركة من أن المراد
بها أن يبيع بعض حصته في الزرع إلى آخره قال: واشترط بعض في هذا كون
334

البذر من العامل، وبه يفرق بين المزارعة والمساقاة، حيث لا تجوز المساقاة من
المساقي، وتجوز المزارعة من العامل، وعموم الأدلة - " وتسلط الناس على
أموالهم "، وتملك المنفعة والحصة مع العمل، وعدم ظهور مانع - يفيد الجواز
ولو كان في المساقاة ما يمنع من اجماع ونحوه فهو، وإلا فينبغي القول به فيها أيضا
ثم إنه قيل: في شرح الشرايع: المراد بالمشاركة هو بيع العامل بعض حصته
المعلوم من الحصة التي له من الأرض بعوض معين، وهو إنما يكون ببلوغ الزرع أو أن
البيع، ويكون الثمن غير العمل على الظاهر، وظاهر العبارات أعم من ذلك،
بل غير ذلك، فإنا نفهم أن المراد أن يشارك غيره بأن يعمل معه العمل المشترط
بعوض وغيره، وكون العوض جزء من حصته، فكأنه يرجع إلى المزارعة في
البعض، أو إجارة شخص لعمل بعوض، أو استعماله بغير عوض فتأمل، انتهى.
أقول: وهو يرجع في التحقيق إلى ما ذكره أخيرا في المسالك بقوله،
وقد يقال: " إن هذا كاف " إلى آخره، ولا بأس به والذي وصل إلى من الأخبار
المتعلقة بهذا المقام ما رواه المشايخ الثلاثة (رحمة الله عليهم) عن سماعة (1) في
الموثق " قال: سألته عن المزارعة قلت: الرجل يبذر في الأرض مائة جريب
أو أقل أو أكثر طعاما أو غيره فيأتيه رجل فيقول: خذ مني نصف ثمن هذا البذر
الذي زرعته في الأرض، ونصف نفقتك على وأشركني فيه، قال: لا بأس "
وزاد في غير الفقيه " قلت: وإن كان الذي يبذر فيه لم يشتره بثمن، وإنما هو
شئ كان عنده، قال: فليقومه قيمة كما يباع يومئذ فليأخذ نصف الثمن ونصف
النفقة ويشاركه " وما اشتملت عليه الرواية المذكورة أحد أنواع المشاركة
وأفرادها، وظاهرها أن البذر والعوامل والعمل كله من الزارع، وأنه أعطاه
نصف جميع ذلك، فصار شريكه، يعمل فيما بقي معه، ويأخذ نصف ما شرط له
من الحصة، وهو ظاهر والله العالم.

(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 4، التهذيب ج 7 ص 198 ح 23 " وفيه من الطعام "
بدل طعاما، الفقيه ج 3 ص 149 ح 8، الوسائل ج 13 ص 205 ح 1.
335

التاسعة - الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أن خراج الأرض ومؤنتها على
المالك إلا مع شرطها أو بعضها على المزارع، أما الخراج فلأنه موضوع على
الأرض، كالأجرة لها بل هو أجرة، حتى أنه روي أنه لو زاد السلطان في الخراج
وأخذ من الزارع فالزيادة على المالك، يجب عليه دفعها إليهم، لأنها إنما
زيدت على أرضه.
روى ذلك الشيخ في التهذيب عن سعيد الكندي (1) " قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): إني آجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم قال: اعطهم
فضل ما بينهما، قلت: أنا لا أظلمهم ولم أزد عليهم، قال: إنهم إنما زادوا على
أرضك ".
وأما المؤنة فذكرها المحقق والعلامة في بعض كتبه اجمالا، ولم يتنبهوا
على ما هو المراد منها، مع أنهم أطلقوا أن العمل على الزارع أو من شرط عليه.
قال في المسالك: والظاهر أن المراد بمؤنة الأرض هنا ما يتوقف عليه
الزرع، ولا يتعلق بنفس عمله وتنميته، كاصلاح النهر والحائط ونصب الأبواب إذا
احتاج إليها، وإقامة الدولاب، وما لا يتكرر في كل سنة كما فصلوه في المساقاة،
والمراد بالعمل الذي على الزارع ما فيه صلاح الزرع وبقاؤه مما يتكرر كل
سنة، كالحرث والسقي وآلاتهما، وتنقية النهر من الحمأة، وحفظ الزرع
وحصاده ونحو ذلك، انتهى.
هذا مع عدم اشتراطها على الزارع، أما لو اشترطها المالك على الزارع
كلا أو بعضا تعلقت بالزارع، إلا أن ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
معلومية القدر المشروط وضبطه كلا أو بعضا، حيث قال: فإن شرط عليه لزم
إذا كان القدر معلوما، وكذا لو شرط بعضه معينا أو مشاعا مع ضبطه، ولو شرط
عليه الخراج فزاد السلطان فيه زيادة فهي على صاحب الأرض، لأن الشرط لم
يتناولها، ولم يكن معلومة، فلا يمكن اشتراطها، انتهى.

(1) التهذيب ج 7 ص 208 ح 61، الوسائل ج 13 ص 211 ح 10.
336

أقول: المفهوم مما حضرني من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة خلاف ما
ذكره (رحمه الله) وهو ما رواه في الكافي والتهذيب عن داود بن سرحان (1) في
الصحيح " عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يكون له الأرض عليها خراج
معلوم، وربما زاد وربما نقص فيدفعها إلى رجل أن يكفيه خراجها ويعطيه
مأتي درهم في السنة، قال: لا بأس " ورواه الصدوق في الفقيه عن يعقوب بن
شعيب (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.
وما رواه في الكافي عن يعقوب بن شعيب (3) في الصحيح عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الأرض من أرض الخراج
فيدفعها إلى الرجل على أن يعمرها ويصلحها، ويؤدي خراجها، وما كان من فضل
فهو بينهما، قال: لا بأس ".
وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في عدم ضرر جهالة الشرط المذكور هنا،
سيما الخبرين الأولين، بل ورد ما هو أظهر اشكالا من ذلك مما يدل على جواز
قبالة الأرض وإجارتها بما عليها من الخراج قل أو كثر.
كما رواه في الكافي عن إبراهيم بن ميمون (4) " قال: سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن قرية لأناس من أهل الذمة لا أدري أصلها لهم أم لا غير أنها في
أيديهم، وعليهم خراج، فاعتدى عليهم السلطان، فطلبوا إلى فأعطوني أرضهم
وقريتهم أن أكفيهم السلطان بما قل أو كثر ففضل لي بعد ذلك فضل، بعد ما قبض
السلطان ما قبض قال: لا بأس بذلك لك ما كان من فضل ".

(1) الكافي ج 5 ص 265 ح 5، التهذيب ج 7 ص 196 ح 14، الوسائل
ج 13 ص 211 ح 1.
(2) الفقيه ج 3 ص 154 ح 1، الوسائل ج 13 ص 211 ح 1.
(3) الكافي ج 5 ص 268 ح 2، الوسائل ج 13 ص 203 ح 2.
(4) الكافي ج 5 ص 270 ح 5، الوسائل ج 13 ص 212 ح 2.
337

وما رواه الشيخ في الصحيح عن داود بن سرحان (1) قال: سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن القوم يدفعون أرضهم إلى رجل فيقولون له كلها وأد خراجها،
قال: لا بأس به، إذا شاؤوا أن يأخذوها أخذوها ".
وما رواه في الفقيه عن أبي الربيع (2) " قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)
في رجل يأتي أهل قرية وقد اعتدى عليهم السلطان وضعفوا عن القيام بخراجها،
والقرية في أيديهم ولا يدري هي لهم أم لغير هم فيها شئ، فيدفعونها إليه على
أن يؤدي خراجها فيأخذها منهم ويؤدي خراجها، ويفضل بعد ذلك شئ كثير،
فقال: لا بأس بذلك إذا كان الشرط عليهم يذلك ".
وهي ظاهرة في جهالة مال الإجارة، إذ ليس لهذه الأخبار محمل على غير
الإجارة، وهذه الأخبار مما يؤيد القول بالاكتفاء بمعلوميتها في الجملة، خلافا
لظاهر المشهور من اشتراط معلوميتها تفصيلا بالكيل لو كانت مكيلة، والوزن
كذلك ونحو ذلك، وسيأتي تحقيق المسألة - إن شاء الله تعالى - في محلها والله
العالم.
العاشرة - قد صرحوا بأنه في كل موضع يحكم فيه ببطلان المزارعة،
فإنه يجب لصاحب الأرض أجرة المثل، وهو مبني على ما إذا كان البذر من
الزارع، لأن الحاصل حينئذ يكون له، حيث أنه نماء بذره، ويجب لصاحب
الأرض عليه أجرة مثله، لتصرفه فيها وأخذه منفعتها من غير أن يكون ذلك
تبرعا ولا بتعيين أجرة، فيلزم العوض وهو أجرة المثل.
وأما لو كان البذر لصاحب الأرض فإن النماء يكون له لما عرفت، وعليه
للعامل أجرة المثل بالنسبة إلى العمل، والعوامل والآلات.
ولو كان البذر منهما معا أنصافا مثلا، فالحاصل بينهما كذلك، ولكل منهما

(1) التهذيب ج 7 ص 209 ح 64 لكن عن أبي بردة بن رجا، الوسائل ج 13 ص 212
ح 3.
(2) الفقيه ج 3 ص 158 ح 3، الوسائل ج 13 ص 212 ح 4.
338

على الآخر أجرة ما يخصه على نسبة ما للآخر من الحصة، فلو كان البذر بينهما
أنصافا كما فرضناه رجع المالك بنصف أجرة أرضه على العمل، ورجع العامل
على المالك بنصف أجرة عمله وعوامله وآلاته.
وعلى هذا القياس لو كان البذر من ثالث بناء على جواز المزارعة مع
الزيادة على اثنين، فإن الحاصل له، وعليه أجرة المثل بالنسبة إلى الأرض
لصاحبها، وأجرة المثل لعاملها بالنسبة إلى عمله وعوامله وآلاته والله العالم.
الحادية عشر - قد صرحوا بأنه يجوز لصاحب الأرض أن يخرص على
الزارع، والزارع بالخيار في القبول والرد فإن قبل كان استقراره مشروطا
بالسلامة، فلو تلف الزرع بآفة سماوية أو أرضيته لم يكن عليه شئ.
أقول: أما جواز الخرص وتخيير الزارع بين القبول وعدمه فيدل عليه
جملة من الأخبار، مضافا إلى ظاهر اتفاق الأصحاب، ومنها أخبار خيبر، وقد
تقدم في المسألة الخامسة خبر الكناني، الدال على خرص عبد الله بن رواحة
عليهم، وتخييرهم.
ومثلها صحيحة يعقوب بن شعيب (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها
فلما بلغت الثمرة أمر عبد الله فخرص عليهم النخل، فلما فرغ منه خيرهم فقال:
قد خرصنا هذا النخل بكذا صاعا فإن شئتم فخذوه وردوا علينا نصف ذلك، وإن
شئتم أخذناه وأعطيناكم نصف ذلك، فقال اليهود بهذا قامت السماوات والأرض.
وأما أن ذلك يكون لازما له بعد القبول، وبموجب ذلك يكون الزيادة له
والنقص عليه فيدل عليه ما رواه في الكافي والفقيه (2) عن محمد بن عيسى عن بعض
أصحابه، " قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن لنا أكرة فنزارعهم
فيجيئون ويقولون لنا: قد حزرنا هذا الزرع بكذا وكذا فأعطوناه، ونحن
نضمن لكم أن نعطيكم حصتكم على هذا الحزر فقال: وقد بلغ؟ قلت: نعم قال:

(1) التهذيب ج 7 ص 193 ح 2، الوسائل ج 13 ص 20 ح 5
(2) الكافي ج 5 ص 287 ح 1، الوسائل ج 13 ص 19 ح 4.
339

لا بأس بهذا، قلت: فإنه يجئ بعد ذلك فيقول لنا: إن الحزر لم يجئ كما
حزرت وقد نقص، قال: فإذا زاد يرد عليكم؟ قلت: لا قال: فلكم أن تأخذوه
بتمام الحزر كما أنه إذا زاد كان له كذلك إذا نقص كان عليه.
وما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن مسلم (1) عن أبي جعفر وأبي
عبد الله (عليهما السلام) " قال: سألته عن الرجل يمضي ما خرص عليه في النخل؟
قال: نعم، قلت: أرأيت إن كان أفضل مما خرص عليه الخارص أيجزيه ذلك؟
قال: نعم ".
وقد صرح الأصحاب بأن محل الخرص بعد بلوغ الغلة، وهو عبارة عن
انعقاد الحب، وإليه يشير قوله في صحيحة يعقوب المذكورة " فلما بلغت الثمرة "
وقوله في مرسلة محمد بن عيسى قال " وقد بلغ قلت: نعم قال: لا بأس ".
وأما أن استقراره مشروط با لسلامة بمعنى أنه لو تلفت الغلة بآفة من جهة
الله تعالى فلا شئ عليه، ولو تلف البعض فبالنسبة، فالأخبار خالية منه، مع
ظهور منافاة ذلك الحكم باللزوم بعد القبول كما عرفت، إلا أن ظاهر الأصحاب
عدا ابن إدريس الاتفاق على الحكمين المذكورين.
قال في المسالك - بعد أن ذكر أن المشهور أن لزوم العوض فيه مشروط
بالسلامة - ما لفظه والحكم بذلك هو المشهور بين الأصحاب، ومستنده غير واضح
وحكمه لا يخلو من اشكال إن لم يكن انعقد عليه الاجماع، وأنى لهم به، وإنما
هو شئ ذكره الشيخ في بعض كتبه، وتبعه عليه الباقون معترفين بعدم النص
ظاهرا على هذا اللوازم، انتهى.
وهو كما ترى ظاهر في توقفه في الحكم بذلك، وظاهر المحقق الأردبيلي (قده)
الميل إلى ذلك بتكلف بالوجوه المصححة له حيث قال: ووجه توقفه على السلامة
من الآفات المساوية والأرضية أنه بمنزلة معاملة مشترطة بقبض العوض، ووصوله

(1) التهذيب ج 7 ص 205 ح 51. الوسائل ج 13 ص 206 ح 3.
340

إلى يد صاحبه، فلو لم يسلم لم يحصل ذلك كالمبيع إذا تلف قبل القبض، إلى أن قال:
فالحكم غير خال من وجه مع شهرته، بل كاد أن يكون اجماعا، إذ المخالف غير
ظاهر مع التتبع، غير ما نقل عن ابن إدريس رحمه الله، من منع هذه المعاملة.
وهو غير جيد للنصوص المتقدمة وعموم أدلة العقود والشروط نعم قد يحصل
التردد في بعض اللوازم، مثل توقفه على السلامة، مع كونه لازما، على ذلك غير
بعيد لما قدمناه مع عدم الخلاف من القائلين به فتأمل، انتهى.
وبالجملة فإن الحكم المذكور محل الاشكال لما عرفت من ظهور الأخبار
في لزوم هذه المعاملة وصحتها، وقضية ذلك أن ذهابه بالآفة من مال المتقبل
خاصة، مع ظهور اتفاقهم على خلافه كما عرفت.
وقال في المسالك بعد ذكر تخير الزارع في القبول وعدمه: ما لفظه وعلى
تقدير قبوله يتوقف نقله إليه على عقد - كغيره من الأموال - بلفظ الصلح أو
التقبيل على ما ذكره الأصحاب.
أقول: لا يخفى أن غاية ما يفهم من الأخبار المتقدمة التي هي المستند في
هذه الأحكام هو حصول التراضي بينهما كيف اتفق، كما هو القدر المحقق من
الأخبار في سائر العقود التي اشترطوا فيها ما اشترطوه من القيود الكثيرة، نعم
يمكن القول بكون ذلك من قبيل الصلح، فإنه كما تقدم تحقيقه، لا شرط فيه
زيادة على ما يدل على التراضي بينهما بالألفاظ الجارية في المحاورة في ذلك
المقام.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد قال الشيخ في النهاية: ومن زارع أرضا على
ثلث أو ربع وبلغت الغلة جاز لصاحب الأرض أن يخرص عليه الغلة، ثمرة كانت
أو غيرها، فإن رضي المزارع بما خرص أخذها وكان عليه حصة صاحب الأرض،
سواء نقص الخرص أو زاد، وكان له الباقي، فإن هلكت الغلة بعد الخرص بآفة
سماوية لم يكن عليه للمزارع شئ انتهى، وعلى هذه المقالة وما تضمنته من
341

جميع الأحكام جرى الأصحاب ممن تأخر عنه.
وقال ابن إدريس: الذي ينبغي تحصيله أنه لا يخلو أن يكون قد باعه حصته
من الغلة والثمرة بمقدار ما في ذمته من الغلة والثمرة، أو باعه الحصة بغلة من هذه
الأرض، فعلى الوجهين معا البيع باطل، لأنه داخل في المزابنة والمحاقلة، وكلاهما
باطلان وإن كان ذلك صلحا لا بيعا فإن ذلك بغلة وثمرة في ذمة الأكار الذي هو
الزارع فإنه لازم له، سواء هلكت الغلات بالآفة السماوية أو الأرضية، وإن كان
ذلك الصلح بغلة من تلك الأرض، فهو صلح باطل لدخوله في باب الغرر، لأنه
غير مضمون فإن كان ذلك فالغلة بينهما سواء، زاد الخرص أو نقص، تلفت منهما
أو سلمت لهما، فليلحظ ذلك، فهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا، وتشهد به الأدلة
فلا يرجع عنها بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا، انتهى كلامه.
أقول: لا يخفى أن هذه الأصول التي يستند في غير مقام إليها والأدلة التي
نبذه بالاعتماد عليها إن كانت من الأخبار المعلومة من الأئمة الأطهار (عليهم السلام)
فهي لا تخرج عما رده هنا من هذه الأخبار، لأن الجميع مشترك في نسبته إليهم، وثبوته
عنهم (عليهم السلام) فإن سماها أخبار آحاد، لم ينقل عنهم في حكم من الأحكام
الفقهية أخبار بطريق التواتر، ليكون مقابلة لهذه الأخبار، بل ليس إلا هذه الأخبار المروية في الكتب الأربعة المشهورة ونحوها، وإن سماها بما ذكره،
وإن كانت من القرآن فمن المعلوم بطلانه، لأن القرآن لم يتضمن أمثال هذه
الجزئيات والخصوصيات، وإن كان الاجماع فهو غير حقيق بالاستماع، ولا جدير
بالاتباع، وليس فيه إلا تضييع المداد، وتكثير السواد كما لا يخفى على أدنى ذي
مسكة من العباد، فضلا عن ذي الفهم النقاد.
ومن الأخبار الزائدة على ما قدمناه صحيحة الحلبي (1) عن أبي عبد الله

(1) الكافي ج 5 ص 266 ح 1، التهذيب ح 7 ص 193 ح 1، الوسائل ج 13
342

(عليه السلام) أن أباه حدثه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطى خيبر
بالنصف أرضها ونخلها فلما أدركت الثمرة بعث عبد الله بن رواحه وقوم عليهم
قيمة فقال لهم: إما أن تأخذونه وتعطوني نصف الثمن، وإما أن أعطيكم نصف
الثمن وآخذه، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض ".
على أن لقائل أن يقول أنه لا دليل على انحصار النقل في هذه العقود
المشهور بينهم من البيع والصلح ونحوهما، لوجود جملة من المواضع قد دلت
الأخبار على حصول النقل فيها مع خروجها عن هذه المواضع، كالأخبار الدالة
على جواز قبالة الأرض بما عليها من الخراج، وقد تقدمت في المسألة التاسعة
والأخبار الدالة على جواز قبالة الأرض لمن يعمرها ويؤدي خراجها ويأكل
حاصلها، وقدمت في الشرط الثاني من شروط المزارعة، فلتكن هذه الأخبار
هنا من قبل ذلك، وإن أمكن ادراج الجميع في الصلح، إذ لا دليل على تخصيصه
بما اصطلحوا عليه وخصصوا به من الشروط.
وبالجملة فإنه حيث تكاثرت الأخبار بصحة هذه المعاملة واستحقاق ذلك
بعد التخيير والقبول ووجوب دفع الحصة المشترطة على المتقبل، فإنه لا يلتفت
إلى كلامه، وإنما يبقى الاشكال فيما ذكروه من اشتراط السلامة كما عرفت
والله العالم.
الثانية عشر - نقل في المختلف عن ابن الجنيد أنه قال: لو استحقت الأرض
كان للمالك أن يطالب الزارع بقلع الزرع، إلا أن يكون في ذلك ضرر على أهل
الزكاة وغيرهم، بتلف حقوقهم منه، فإن ضمنه رب الأرض لهم وقلع الزرع كان
مخيرا بين أن يأخذ الجزء منه على تلك الحال، وبين أن يضمن الذي غر الزارع
قيمة نصف الزرع ثابتا وسلم الزرع كله إليه.
ثم اعترضه فقال: والوجه أن للمالك قلع الزرع مطلقا وإن تضرر أرباب
الزكاة، ويأخذ أرباب الزكاة نصيبهم من العين، إذا تعلقت بها الزكاة، وله الرجوع
343

في الزرع بالأجرة ويرجع الزارع على الغار، انتهى وهو جيد.
الثالثة عشر - روى ثقة الاسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن عبد الله
بن سنان (1) في الصحيح، أنه قال: في الرجل يزارع فيزرع أرض غيره، فيقول
ثلث للبقر، وثلث للأرض، وثلث للبذر، قال: لا يسم شيئا من الحب والبقر،
ولكن يقول: ازرع فيها كذا وكذا إن شئت نصفا وإن شئت ثلثا ".
وعن سليمان بن خالد (2) في الصحيح " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الرجل يزرع أرض آخر فيشترط للبذر ثلثا وللبقر ثلثا؟ قال: لا ينبغي أن
يسمى بذرا ولا بقرا فإنما يحرم الكلام ".
وروى الشيخ في التهذيب عن أبي الربيع الشامي (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
مثل الخبر الثاني: وزاد قبل قوله " وإنما يحرم الكلام " " ولكن يقول لصاحب
الأرض: ازرع في أرضك ولك منها كذا وكذا نصف أو ثلث أو ما كان من شرط
ولا يسمى بذرا ولا بقرا ".
وروى في الفقيه عن أبي الربيع (4) " عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل
يزرع أرض رجل على أن يشترط للبقر الثلث، ولصاحب الأرض الثلث، فقال:
لا ينبغي أن يسمى بقرا ولا بذرا، ولكن يقول لصاحب الأرض: ازرع في أرضك ولك كذا وكذا مما أخرج الله تعالى ".
وروى في الكافي في الصحيح عن الحلبي (5) " قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام)
عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثا وللبقر ثلثا؟ قال: لا ينبغي أن يسمي
شيئا فإنما يحرم الكلام ".
التهذيب

(1) الكافي ج 5 ص 267 ح 4، التهذيب ج 7 ص 197 ح 18، الوسائل
ج 13 ص 200 ح 5.
(2) الكافي ج 5 ص 267 ح 5، الوسائل ج 13 ص 200 ح 6
(3) التهذيب ح 7 ص 194 ح 3، ص 201 ح 10
(4) الفقيه ح 3 ص 158 ح 2، الوسائل ج 13 ص 201 ح 10
(5) الكافي ج 5 ص 267 ح 6، الوسائل ج 13 ص 199 ح 4.
344

أقول: وهذه الأخبار قد اشتركت في الدلالة على تحريم اشتراط شئ
للبقر والبذر كما عرفت، ولم أقف على قائل بذلك إلا في كلام ابن الجنيد
وابن البراج.
قال ابن الجنيد: ولا بأس باشتراك العمال بأموالهم وأبدانهم في مزارعة
الأرض وإجارتها، إذا كان على كل واحد قسط من المؤنة والعمل، وله جزء من
الغلة، ولا يقول أحدهم: ثلث للبذر، وثلث للبقر، وثلث للعمل، لأن صاحب
البذر يرجع إليه بذره، وثلث الغلة من الجنس، وهذا ربا، فإن جعلت البذر
دينا جاز ذلك، وقال ابن البراج: لا يجوز أن يجعل للبذر ثلثا وللبقر ثلثا.
والعلامة في المختلف بعد أن نقل عنهما ذلك واستدل لهما برواية أبي
الربيع المروية في التهذيب قال: والوجه الكراهة، ولا ربا هنا، إذ الربا إنما
يثبت في البيع خاصة.
أقول: أنت خبير بأن الدليل غير منحصر في رواية أبي الربيع المذكور،
لما عرفت من الروايات الصحيحة الصريحة في التحريم غيرها، وعدم ظهور الوجه
لنا في التحريم لا يدل على نفيه فلعل هنا علة لا يدركها فهمنا، على أن ما ذكره
من اختصاص الربا بالبيع خاصة قد تقدم ما فيه، وأنه ثابت في غيره أيضا.
قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين في حواشيه على
التهذيب: وقوله للبذر ثلثا وللبقر ثلثا يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون اللام
للتمليك، فالنهي لكونهما غير قابلين للملك، وثانيهما أن يكون المعنى ثلث
بإزاء البذر، وثلث بإزاء البقر، فالنهي لشائبة الربا في البذر، وقال العلامة
في المختلف: بالكراهة، وابن البراج وابن الجنيد ذهبا إلى الحرمة، ولا يخلو
من قوة، انتهى.
تتميم نفعه عميم في استحباب المزارعة والغرس، وما يقال ويفعل وقت
الحرث والزرع ونحو ذلك قد استفاضت الأخبار باستحباب الزرع، فروى
345

المشايخ الثلاثة عن سيابة (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل
فقال له: جعلت فداك أسمع قوما يقولون: إن الزراعة مكروهة، فقال: ازرعوا
واغرسوا فلا والله ما عمل الناس عملا أحل ولا أطيب منه، والله ليزر عن الزرع
وليغرسن النخل بعد خروج الدجال ".
وروى في الكافي والفقيه عن محمد بن عطية (2) قال: سمعت أبا عبد الله
(عليه السلام) يقول: إن الله تعالى اختار لأنبيائه الحرث والزرع كيلا يكرهوا
شيئا من قطر السماء " وزاد في الفقيه (3) " وسئل عن قول الله تعالى " وعلى الله
فليتوكل المتوكلون " قال: الزارعون.
وروى في الكافي عن سهل (4) رفعه " قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
إن الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء ".
وعن مسمع (5) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: لما هبط آدم (عليه السلام)
إلى الأرض احتاج إلى الطعام والشراب فشكى ذلك إلى جبرئيل (عليه السلام)
فقال له جبرئيل: يا آدم كن حراثا قال: فعلمني دعاء قال: قل: اللهم اكفني
مؤنة الدنيا وكل هول دون الجنة، وألبسني العافية حتى تهنئني المعيشة ".
وروى في الكافي مرسلا (6) " قال: روي أن أبا عبد الله (عليه السلام)
قال: الكيمياء الأكبر الزراعة ".
وعن يزيد بن هارون الواسطي (7) قال: سألت جعفر بن محمد (عليهما السلام)

(1) الكافي ج 5 ص 260 ح 3، التهذيب ج 7 ص 236 ح 53، الفقيه ج 3
ص 158 ح 5، الوسائل ج 13 ص 193 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 260 ح 1، الوسائل ج 13 ص 193 ح 3.
(3) الفقيه ج 3 ص 160 ح 13، الوسائل ج 13 ص 193 ح 4.
(4) الكافي ج 5 ص 260 ح 2، الوسائل ج 13 ص 193 ح 2.
(5) الكافي ج 5 ص 260 ح 4، الوسائل ج 13 ص 194 ح 5.
(6) الكافي ج 5 ص 261 ذيل ح 6، الوسائل ج 13 ص 194 ح 8.
(7) التهذيب ج 6 ص 384 ح 259، الوسائل ج 12 ص 25 ح 3.
346

عن الفلاحين فقال هم الزارعون كنوز الله في أرضه، وما في الأعمال شئ أحب
إلى الله من الزراعة، وما بعث الله نبيا إلا زراعا إلا إدريس فإنه كان خياطا.
وعن يزيد بن هارون (1) " قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه الله عز وجل، وهو يوم القيامة
أحسن الناس مقاما وأقربهم منزلة يدعون المباركين.
وروى في الكافي عن السكوني (2) " عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل
النبي (صلى الله عليه وآله) أي المال خير؟ قال: الزرع زرعه صاحبه، وأصلحه
وأدى حقه يوم حصاده، قال: فأي المال بعد الزرع خير؟ قال: رجل في غنم له
قد تبع بها مواضع القطر يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، قال: فأي المال بعد الغنم
خير؟ قال: البقر تغدو بخير وتروح بخير، قال: فأي المال بعد البقر خير؟
قال: الراسيات في الوحل والمطعمات في المحل. نعم الشئ النخل من باعه
فإنما ثمنه بمنزلة رماد على رأس شاهق اشتدت به الريح في يوم عاصف إلا أن
يخلف مكانها، قيل: يا رسول الله فأي المال بعد النخل خير؟ قال: فسكت قال:
فقام إليه رجل فقال له: يا رسول الله فأين الإبل؟ قال: فيها الشقاء والجفاء والعناء
وبعد الدار، تغدو مدبرة وتروح مدبرة، لا يأتي خيرها إلا من جانبها الأشأم،
أما أنها لا تعدم الأشقياء الفجرة ".
ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا (3) قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله
الحديث، ثم قال: معنى قوله لا يأتي خيرها إلا من جانبها الأشأم هو أنها لا تحلب
ولا تركب إلا من الجانب الأيسر.
وفي معاني الأخبار (4) يقال لليد الشمال: الشوم، منها قال الله تعالى

(1) الكافي ج 5 ص 260 و 261 ح 7 و 6 الوسائل ج 13 ص 194 ح 7 الوسائل ج 8 ص 329 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 260 و 261 ح 7 و 6 الوسائل ج 13 ص 194 ح 7 الوسائل ج 8 ص 329 ح 1.
(3) الفقيه ج 2 ص 190 ح 6.
(4) معاني الأخبار ص 322 ط طهران 1379.
347

" وأصحاب المشأمة " يريد أصحاب الشمال.
وقال في الوافي: ومعنى قوله " لا تعدم الأشقياء الفجرة " أن الإبل لا تزال
تجد أشقياء يتخذونها، انتهى.
ونحوه نقل عن بعض المشايخ أيضا حيث قال: أريد أنه من جملة مفاسد
الإبل أنه يكون معها غالبا الأشقياء الفجرة، وهم الجمالون الذين هم شرار
الناس، انتهى.
أقول: قد روى الصدوق في كتابي الخصال ومعاني الأخبار (2) عن الصادق
(عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الغنم إذا أقبلت أقبلت
وإذا أدبرت أقبلت، والبقر إذا أقبلت أقبلت، وإذا أدبرت، والإبل أعنان
الشياطين إذا أقبلت أدبرت وإذا أدبرت أدبرت ولا يجئ خيرها إلا من جانبها
الأشأم، قيل يا رسول الله: فمن يتخذها بعد ذا قال: فأين الأشقياء الفجرة ".
وحينئذ فالظاهر حمل اجمال الخبر الأول على هذا الخبر، ويكون حاصل
المعنى في الخبر الأول أن هذا الكلام مني لا يصير سببا للناس في ترك اتخاذها،
فإنه يتخذها الأشقياء الفجرة.
وروى في الكافي عن شعيب العقرقوفي (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" قال: إذا بذرت فقل اللهم قد بذرنا وأنت الزارع واجعله حيا متراكما ".
وعن بكير في الحسن (4) " قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا أردت
أن تزرع زرعا فخذ قبضة من البذر واستقبل القبلة، وقل: " أفر أيتم ما تحرثون،
أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " (5) ثلاث مرات ثم تقول بل الله الزارع ثلاث

(1) سورة الواقعة الآية 9.
(2) معاني الأخبار ص 321، الوسائل ج 8 ص 393 ح 4 ط طهران 1379
(3) الكافي ج 5 ص 263 ح 2، الوسائل ج 13 ص 197 ح 2.
(4) الكافي ج 5 ص 262 ح 1، الوسائل ج 13 ص 197 ح 3
(5) سورة الواقعة الآية 62 و 63
348

مرات ثم قل: اللهم اجعله حبا مباركا وارزقنا فيه السلامة، ثم انثر القبضة التي
في يدك في القراح ".
وعن علي بن محمد (1) رفعه " قال: قال علي (عليه السلام) إذا غرست
غرضا أو نبتا فاقرأ على كل عود أو حبة سبحان الباعث الوارث، فإنه لا يكاد يخطأ
انشاء الله تعالى ".
وعن محمد بن يحيى رفعه (2) عن أحدهما (عليهما السلام) " قال: تقول
إذا غرست أو زرعت ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء
تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ".
وروى الصدوق في كتاب العلل بسنده فيه عن عيسى بن جعفر العلوي (3) عن
آبائه أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: مر أخي عيسى بمدينة فإذا في ثمارها
الدود. فسألوا إليه ما بهم، فقال: دواء هذا معكم وليس تعلمون، أنتم قوم
إذا غرستم الأشجار صببتم التراب، وليس هكذا يجب، بل ينبغي أن تصبوا الماء
في أصول الشجر ثم تصبوا التراب لكيلا يقع فيه الدود، فاستأنفوا كما وصف
فذهب عنهم ذلك ".
وروى في الكافي عن ابن عرفه (4) " قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
من أراد أن يلقح النخيل إذا كان لا يجود حملها ولا يتبعل النخل فليأخذ حيتانا
صغارا يابسة فيدقها بين الدقتين ثم يذر في كل طلعة منها قليلا ويصر الباقي
في صرة نظيفة ثم يجعله في قلب النخلة ينفع بإذن الله تعالى ".
وعن صالح بن عقبة (5) " قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) قد رأيت
حائطك فغرست فيه شيئا بعد قال: قلت: قد أردت أن آخذ من حيطانك وديا

(1) الكافي ج 5 ص 263 ح 5 و 6، الوسائل ج 13 ص 197 ح 4 و 5
(2) الكافي ج 5 ص 263 ح 5 و 6، الوسائل ج 13 ص 197 ح 4 و 5
(3) علل الشرايع ص 574 ح 1 باب 376، الوسائل ج 13 ص 192 ح 1.
(4) الكافي ج 5 ص 263 ح 3 و 4، الوسائل ج 13 ص 197 ح 1 و ص 198 ح 2 من باب 6.
(5) الكافي ج 5 ص 263 ح 3 و 4، الوسائل ج 13 ص 197 ح 1 و ص 198 ح 2 من باب 6.
349

قال: أفلا أخبرك بما هو خير لك منه، وأسرع، قلت: بلى قال: إذا أينعت
البسرة وهمت أن ترطب فاغرسها، فإنها تؤدي إليك مثل الذي غرستها سواء
ففعلت ذلك فنبتت مثله سواء ".
350

المطلب الثاني في المساقاة
وهي معاملة على أصول ثابتة بحصة من ثمرها، فالمعاملة بمنزلة الجنس،
لتناولها لجميع عقود المعاوضات، وقولنا على الأصول بمنزلة الفصل، يخرج به
المزارعة، وقولنا ثابتة لاخراج ما لا ثبوت لأصله، وعرقه في الأرض مثل
الخضروات، والورد الذي لم يغرس، والمغروس قبل ثبوت عروقه واستقرارها،
ونقل في المختلف عن الشيخ أنه يجوز المساقاة على البقل جرة بعد جرة للأصل،
ثم رده فقال: والأقرب المنع، لأنها معاملة على مجهول، فتصح في موضع
الاجماع، انتهى.
وقولنا: بحصة من ثمرها يخرج به الإجارة، فإنها وإن صحت على الأصول
الثابتة لكن لا بحصة من الثمرة، بل بأجرة معينة معلومة أو مضمونة، وهل
المراد بالثمرة هنا المعنى المتبادر، أو ما يدخل فيه النماء للشجرة، فتصح
المساقاة على ما يقصد ورده، وورقه، كشجرة الحنا والتوت اشكال، ولعل الأرجح
الأول، حملا للفظ على المعنى المعهود المتبادر من اللفظ، فلا تصح المساقاة إلا
على أصول لها ثمرة متعارفة، ويؤيده عدم وجود نص في المساقاة على ما كان
كذلك، والأصل العدم، وأما دليل صحة هذه المعاملة فلاجماع والنصوص.
351

ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها
قال: سألته عن الرجل يعطي الرجل أرضه وفيها الرمان والنخل والفاكهة
ويقول اسق هذا من الماء واعمره ولك نصف مما خرج، قال: لا بأس ".
وصحيحة الحلبي (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أن أباه حدثه أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطى خيبر بالنصف أرضها ونخلها " الحديث.
والمراد أنه، أعطى أرضها بالمزارعة ونخلها بالمساقاة، ونحوه غيره من
أخبار خيبر، إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في فصلين.
الفصل الأول في الأركان:
وهي خمسة، العقد، والمحل الذي تقع المساقاة عليه، والمدة،
والعمل، والفائدة، وحينئذ فالبحث يقع في مقامات خمسة:
الأول - العقد، وحيث كانت المساقاة عندهم من العقود اللازمة، صرحوا
فيها بما يشترط في غيرها من العقود اللازمة، كالبيع وأمثاله، فأو جبوا فيها
الإيجاب والقبول، بأن يقول: ساقيتك وعاملتك أو سلمت إليك، وعقدت معك عقد
المساقاة، وقبلتك عملها، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الانشاء بلفظ الماضي.
قالوا: واللفظ الصريح من ذلك لفظ ساقيتك، وزاد في التذكرة على ما
تقدم من الألفاظ أتعهد نخلي بكذا وكذا، وأعمل فيه كذا وكذا.
قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه: ويشكل بما مر في نظيره من عدم
صراحة الأمر في الانشاء، ولا وجه لا خراج هذا العقد اللازم من نظائره، وقد
نوقش في الاكتفاء به في المزارعة بلفظ الأمر مع الاستناد فيها إلى النص، وهو

(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 2، التهذيب ج 7 ص 198 ح 22، الوسائل ج 13
ص 202 ح 2
(2) الكافي ج 5 ص 266 ح 1، التهذيب ج 7 ص 193 ح 1، الوسائل ج 13
ص 199 ح 2.
352

منتف هنا، وجريان المعاطاة هنا بعيد، لاشتمال هذا العقد على الغرر وجهالة
العوض، بخلاف البيع والإجارة، فينبغي الاقتصار فيه على موضع اليقين، انتهى.
وأنت خبير بما فيه مما أسلفنا بيانه في غير مقام مما تقدم، ولا سيما في كتاب
البيع (1) وبالجملة فالمستفاد من الأخبار على وجه لا يعتريه شائبة الانكار، هو
الاكتفاء بالألفاظ الدالة على التراضي بذلك على أي نحو اتفق.
ومنها صحيحة يعقوب بن شعيب المتقدمة، فإن ما اشتملت عليه من قول
المالك " اسق هذا من الماء واعمره ولك نصف ما خرج " هو عقد المساقاة الذي
أو جبوا ترتب أحكام المساقاة عليه، وهو ظاهر أيضا في أنه يكفي في القبول
الرضا الفعلي، دون القولي كما تقدم نظيره في المزارعة، والمفهوم أيضا من
أخبار خيبر ودفع النبي (صلى الله عليه وآله) أرضها ونخلها لهم بالنصف، هو
مجرد التراضي على ذلك بقول أو فعل بأي نحو كان ذلك.
على أن ما ادعوه من لفظ المساقاة في هذه المعاملة - وتسميتها بهذا الاسم
فضلا عن كونه أصرح ألفاظها - لم يرد في خبر من الأخبار بالكلية، وإنما هو شئ
اصطلحوا عليه، وتبعوا العامة في التسمية بهذا الاسم، ولفظ المزارعة وإن وجد
في الأخبار إلا أن هذا اللفظ لم نقف عليه في خبر منها بالكلية، والذي وجد
ناه من أخبارها هو ما قدمناه وربما أطلق عليها في بعض الأخبار لفظ القبالة.
وبالجملة فإن ما ذكروه في المقام كما ذكروه في غيره نفخ في غير ضرام
لعدم ثبوته في شئ من أخبار هم (عليهم السلام) التي هي المعتمد، وعليها المعول
في النقض والابرام.
تنبيهات:
الأول - الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه يكون عقد المساقاة من العقود
اللازمة، واستندوا في ذلك إلى الأدلة العامة، مثل قوله تعالى " أوفوا بالعقود " (2)

(1) ج 18 ص 348
(2) سورة المائدة الآية 1.
353

" والمسلمون عند شروطهم (1) " فلا يجوز لأحدهما فسخه إلا مع التراضي
والتقايل من الطرفين.
نعم ربما يعرض له البطلان بأسباب آخر من خارج، مثل عدم حصول
شرط، والبطلان لعدم الانتفاع، مثل انقطاع الماء ونحوه مما تقدم في المزارعة.
الثاني - لا خلاف في صحة المساقاة قبل ظهور الثمرة بالكلية، لظهور
تأثير العمل في استحقاق الحصة، مضافا إلى عموم الأدلة المشار إليها آنفا، وكذا
لا خلاف في عدم الصحة بعدم الظهور على وجه لا يفيد العمل فيها زيادة.
وإنما الخلاف فيها لو كان بعد الظهور، وقد بقي عمل يحصل به الزيادة
والنماء في الثمرة، فقيل: بالصحة وهو اختيار المحقق بعد التردد في المسألة
واستجوده في المسالك، وبه صرح العلامة في التذكرة، قال (رحمه الله) في
الكتاب المذكور: لا تصح المساقاة على ثمرة قد وجدت وبدأ صلاحها، واستغنت
عن السقي، ولم يبق لعمل العامل فيها مستزاد اجماعا، لأنها والحال هذه قد
ملكها رب البستان، ولم يحصل بالمساقاة زيادة الثمار، والغرض بها تحصيل الثمار.
أو جودة أنياعها، وإذا لم يحصل الغرض، خلا العقد من الفائدة، فيكون باطلا،
وأما إذا كانت الثمار قد ظهرت ولم يبد وصلاحها، فإن بقي للعامل ما فيه مستزاد
الثمرة كالتأبير والسقي واصلاح الثمرة جازت المساقاة، تحصيلا لتلك الفائدة،
انتهى.
وأيد القول بالصحة في المسالك أيضا، قال ولأن العقد حينئذ أبعد عن الغرر
للوثوق بالثمرة فيكون أولى مما لو كانت معدومة انتهى وإليه يميل كلام المحقق
الأردبيلي أيضا، والظاهر أنه المشهور وقيل: بعدم الجواز نظرا إلى أن الثمرة
إذا ظهرت فقد حصل المقصود فصار بمنزلة القراض بعد ظهور الربح، ولأن المقصود
من المساقاة ظهور الثمرة بعمله، قال: في المسالك بعد نقل ذلك: وفيها منع

(1) الفقيه ج 3 ص 127 ح 5، الوسائل ج 12 ص 353 ح 1.
354

ظاهر، والمسألة لا تخلو من نوع توقف، لعدم النص وإن كان القول الأول لا يخلو
من قوة ورجحان، والله العالم.
الثالث - المشهور بين الأصحاب أنه لا تبطل المساقاة بموت المساقي ولا بموت
العامل، ولا بموتهما معا.
وقال الشيخ في المبسوط: إذا مات أحدهما أو ماتا انفسخت المساقاة،
كالإجارة عندنا، ومن خالف في الإجارة خالف هنا.
والظاهر هو القول المشهور، لأن ذلك هو مقتضى لزوم العقد حتى يقوم دليل
على البطلان، إلا أن يكون المالك قد شرط على العامل العمل بنفسه، فإنها تبطل
بموت العامل قبل ظهور الثمرة، بلا اشكال.
وأما بعد ظهورها فاشكال ينشأ من حصول ملكه، لما ظهر منها بالعمل
السابق، فلا يزول بموته، ومن أن الظاهر من اطلاق المساقاة هو أن الملك
مشروط باكمال العمل ولم يحصل، فيكون الملك قبل ذلك بمنزلة المتزلزل،
وأطلق جمع من الأصحاب البطلان إذا شرط عليه العمل بنفسه.
وفيه ما عرفت، ولعله بناء منهم على ما أشرنا إليه من أن ملك الحصة إنما
يستقر باتمام العمل، والأنسب بما تقدم - من جواز المساقاة بعد ظهور الثمرة
مع بقاء عمل يحصل به الزيادة فيها كما هو ظاهر المشهور - هو الأول من وجهي
الاشكال هنا، لاشتراكهما في التبعض، وعدم الاكمال.
ثم إنه إن كان الميت المالك استمر العامل على عمله، وقاسم الوارث، لما
عرفت من عدم بطلانها بموت أحد منهما، وإن كان الميت هو العامل، رجع
الأمر إلى التفصيل المتقدم من أنه مع شرط العمل عليه بنفسه، هل موته قبل ظهور
الثمرة، أو بعدها، وقد عرفت الكلام في ذلك.
وإنما بقي الكلام فيما لم يشترط عليه العمل بنفسه، بل هو في ذمته، فإنه
يقوم وارثه مقامه في العمل، إلا أنه صرح في المسالك بأنه ليس للمالك منعه
355

في هذه الحال، ولا اجباره لو امتنع من العمل، قال: لأن الوارث لا يلزمه حق
لزم المورث إلا ما أمكنه دفعه من ماله، والعمل ليس بمال المورث، فلا يجب
على الوارث، كما لا يؤدي الحقوق من مال نفسه، ثم إن خلف العامل تركة
تخير الوارث بين العمل، وبين الاستيجار عليه من التركة، فإن امتنع منهما
استأجر الحاكم عليه من التركة، فإن لم يتفق ذلك تخير المالك بين الفسخ
والانفاق من ماله، بنية الرجوع كما سيأتي تحقيقه فيما لو هرب العامل، انتهى.
المقام الثاني - في المحل الذي يرد عليه عقد المساقاة وهو كل أصل ثابت
له ثمرة ينتفع بها من بقائه، والمراد بالأصل الثابت كالنخل، والشجر الذي له
ساق، فلا تصح المساقاة على نحو البطيخ والباذنجان والقطن وقصب السكر والبقول
قال في التذكرة: لا يثبت المساقاة عليها اجماعا، لأن أصول هذه لابقاء لها غالبا
واضمحلالها معلوم عادة، ولا عبرة بالنادر إذا ثبت في بعضها.
بقي الكلام هنا في موضعين: أحدهما - ما لا ثمرة له، إنما له ورق ينتفع به،
أو ورد، أو نحو ذلك كالحناء وشجر الورد والتوت ونحوها وقد تردد المحقق في
صحة المساقاة على ذلك، ولم يرجح شيئا ووجه الشارح في المسالك التردد
المذكور بأن منشؤه من أن هذه المعاملة باشتمالها على ضرب من الغرر،
بجهالة العوض على خلاف الأصل، فيقتصر بها على محل الوفاق، وهو شجر الثمر،
ومن أن الورق المقصود كالثمرة في المعنى فيكون مقصود المساقاة حاصلا به،
قال: وفي بعض الأخبار ما يقتضي دخوله، ثم قال: والقول بالجواز لا يخلو من
قوة، ومثله ما يقصد زهره كالورد، انتهى، والعلامة في القواعد بعد أن استشكل
في الحكم المذكور مال إلى الجواز.
أقول: ما ذكره في المسالك من أن في بعض الأخبار ما يقتضي دخوله
لم أقف عليه، فإن ثبت ذلك فلا معدل عنه، وإلا فالحكم مشكل، و ترجيح العدم
كما قدمنا ذكره في صدر البحث أقرب، ولم أقف في الأخبار على ما يتضمن
356

جواز هذا العقد، الأعلى الخبرين المتقدمين، ونحوهما أخبار خيبر، ومورد
الجميع الشجر والنخل.
وبمثل ما ذكرنا صرح المحقق الأردبيلي أيضا، فقال بعد أن نقل عن المسالك
ذلك: ما رأيت شيئا خاصا إلا ما يدل على عموم الفواكه في الجملة، ولعله يريد
العمومات كما أشرنا إليه، لكنها موجودة في الكتاب أيضا، انتهى.
ثم إنه لا يخفى أن التوت المذكور مع الحناء في كلامهم و أنه محل الاشكال
والتردد، مراد به الذكر منه، وهو الذي لا يقصد ثمرته، أما الأنثى المقصود
منه الثمرة فإنه لا اشكال ولا خلاف في جواز المساقاة عليه.
قال في التذكرة: أما التوت الأنثى فإنه يجوز المساقاة عليه عندنا، لأنه
مثمر، وأما التوت الذكر وما أشبهه مما يقصد ورقه كالحناء وشبهه ففي جواز
المساقاة عليه خلاف، والأقرب جوازها، لأن الورق في معنى الثمرة، ولكونه
مما يتكرر في كل عام، ويمكن أخذه، والمساقاة عليه بجزء منه، فيثبت له مثل
حكم غيره، وكذا شجر الخلاف لأغصانها التي تقصد كل سنة أو سنتين، والأقرب
الجواز في التوت بنوعيه، وكلما يقصد ورقه أو ورده كالنيلوفر والياسمين والآس
وأشباه ذلك، وكذا في فحول النخل، لأن لها طلع يصلح كشا للتلقيح،
فأشبهه الثمرة.
قال المحقق الأردبيلي بعد نقل ذلك عنه: ولا يبعد قرب ما قربه، لعموم
" أوفوا " (1) و " المسلمون عند شروطهم " (2) و " لأن الناس مسلطون على
أموالهم " (3) فلهم ما يفعلون إلا ما منع، ثم أطال بنحو ذلك من التقريبات إلى
أن قال: ولولا نقل الاجماع المذكور - في شرح الشرايع في عدمها في غير

(1) سورة المائدة الآية 1.
(2) الكافي ج 5 ص 169 ح 1، الفقيه ج 3 ص 127 ح 5، الوسائل ج 12
ص 353 ح 1.
(3) البحار ج 2 ص 272 ح 7.
357

المغروس ونحوه - لكان القول بالجواز فيه متجها لما تقدم، انتهى.
وبالجملة فالمسألة لما عرفت غير خالية من شوب الاشكال، قال في المسالك:
والتوت بالتائين المثناتين من فوق وفي لغة نادرة بالثاء المثلثة أخيرا وردها
الجوهري.
أقول: قال في القاموس في باب الثاء المثلثة التوث الفرصاد لغة في
المثنات، حكاه ابن فارس.
الثاني: أنهم قالوا لو ساقاه على ودي أو شجر غير ثابت لم يصح، اقتصارا
على موضع الوفاق، أما لو ساقاه على ودي مغروس إلى مدة يحمل مثله فيها غالبا
صح ولو لم يحمل فيها، وإن قصرت المدة المشترطة عن ذلك غالبا أو كان الاحتمال
على السواء لم يصح.
أقول: الودي بفتح الواو وكر الدال المهملة وتشديد الياء كغني: فسيل
النخل، قبل أن يغرس، كذا ذكره في المسالك، والذي في القاموس وكذا
في المصباح المنير للفيومي أنه صغار الفسيل، وقال في كتاب مجمع البحرين:
والودي بالياء المشددة: هو صغار النخل قبل أن يحمل، الواحدة ودية، ومنه
لو ساقاه على ودي غير مغروس ففاسد، انتهى.
والفسيل على ما ذكره في كتاب المصباح هو ما ينبت مع النخل ويقطع
منها، قال: الفسيل صغار النخل، وهي الودي والجمع فسلان، مثل رغيف
ورغفان، الواحدة فسيلة، وهي التي تقطع من الأم أو تقلع من الأرض، فتغرس،
وهو ظاهر في أن اطلاق الفسيلة عليها إنما هو بعد القلع أو القطع، وبه يظهر
أن اطلاقه في المجمع تفسير الودي بصغار النخل قبل أن يحمل لا يخلو من تسامح.
ثم إن ما أشار إليه من الحديث الدال على فساد المساقاة على الودي لم
نقف عليه في أخبارنا، ولا نقله غيره في ما أعلم من الأصحاب، إذا عرفت هذا
فاعلم أنه لو ساقاه على ودي أو شجر غير ثابت لم يصح بلا خلاف نصا وفتوى.
358

أما لو كان مغروسا ثابتا فإنه قد اشتمل على شرط الصحة من جهة المحل،
ولكن بقي الاشكال وتطرق الاختلال من جهة المدة التي توجد فيها الثمرة، فإن
ساقاه إلى مدة معينة لا يثمر، مثل هذا الودي فيها علما أو ظنا متاخما له بالنظر
إلى العرف والعادة، أو يكون الاحتمالان متساويين في وجود الثمر تلك المدة
وعدمه، فإنها تكون باطلة لجهالة المدة، وعدم الجزم بحصول الثمرة.
ولو فرض تخلف الظن بأن حصلت الثمرة في المدة، فلا يبعد صحة العقد
لحصول الاحتمال وقت العقد، مع مطابقته الواقع فيأخذ العامل الحصة وحينئذ ينبغي
تقييد ما ذكروه بعدم الحصول فإنه كما عرفت لو حصلت لا يبعد الحكم بالصحة،
وعلى تقدير البطلان فإن كان العامل عالما بذلك فليس له أجرة المثل، لأنه
متبرع كمن زارع على أن لا يكون له شئ أو استأجر على أن لا يكون له أجرة.
وإن كان جاهلا فله أجرة المثل، خصوصا مع علم صاحب الأرض، فإن
ذلك مقتضى قاعدتهم المصرح بها في كلامهم من أنه متى بطل العقد فللعامل
أجرة المثل، لأن الحاصل لصاحب الأرض خاصة لبطلان العقد، فلا بد للعامل في
مقابلة عمله من عوض، وهو المراد بأجرة المثل وإن ساقاه إلى مدة يحمل مثله
غالبا صح وإن لم يحصل الحمل على خلاف العادة. لأن مناط الصحة تجويز
ظهور الثمرة، وظنه بحسب العادة فإذا حصل المقتضي صح، وإن تخلف الغرض
منها كما لو ساقاه على شجر كثير فاتفق أنه لم يحمل تلك المدة، وظاهر هم أنه
ليس له أجرة المثل هنا على جميع العمل، لقدومه على ذلك، وأنه يجب عليه
اتمام العمل وإن علم الانقطاع قبله، فإن عدم الثمرة غير قادح في صحة المساقاة
إذا كان حصولها مظنونا عادة وقت العقد، إذ هو المناط في الصحة كما عرفت
ونظيره ما لو تلفت الثمرة كلها أو أكلها الجراد أو غصبها غاصب، فإنه في جميع
ذلك يجب على العامل اتمام العمل، ولا أجرة له وإن تضرر كما يجب على عامل
المضاربة انضاض المال وإن ظهر الخسران، بل هنا أقوى، للزوم العقد ووجوب العمل.
359

واستشكل الحكم المذكور في التذكرة، واحتمل انفساخ العقد لو تلف
الثمار بأسرها، وأيده المحقق الأردبيلي بعد نقل ملخص كلامه المذكور.
وفيه اشكال كما نقل عن التذكرة، والظاهر العدم، فإن الظاهر أنه
كالمعاوضة، فمع عدم العوض لا ينبغي التكليف، فإنه مثل تلف المبيع قبل القبض
ولو سلم في القراض ما ذكر لدليل، فلا يقاس وإلا يجئ المنع فيه أيضا مع إمكان
الفرق فتأمل، انتهى.
وبالجملة فالمسألة لعدم الدليل الواضح فيها لا يخلو من شوب الاشكال،
كما في أمثالها من هذا المجال، والله العالم.
المقام الثالث في المدة - المشهور بين الأصحاب اشتراط مدة معينة وأجل
مضبوط في عقد المساقاة بما لا يحتمل الزيادة والنقصان، كقدوم الحاج وادراك
الغلة وإن كانت الغلة المعامل عليها وقوفا فيما خالف الأصل، واحتمل الغرر
والجهالة على موضع اليقين، وقال ابن الجنيد: ولا بأس بمساقاة النخل وما شاكله
سنة وأكثر من ذلك إذا حصرت المدة ولم تحصر كذا نقل عنه في المختلف.
ونقل عنه في المسالك أنه اكتفى بتقديرها بالثمرة المساقى عليها نظرا إلى
أنه بالنسبة إلى ثبوته عادة، كالمفهوم، ولأن المقصود منها هو العمل إلى كمالها
ولأن العقد مبني على الغرر والجهالة، فلا يقدحان فيه، ثم قال: والأجود الأول
وإن كان كلامه لا يخلو من وجه.
أقول: لا يخفى أن العبارة المنقولة عنه أعم مما نقله عنه في المسالك، إلا
أن يحمل اطلاق عبارته على ذلك.
ومن ثم إنه احتج له في المختلف بعد نقل عبارته المذكورة فقال: احتج
بأن ضبط الثمار يكفي عن الأجل، إذ القصد ذلك.
وما رواه يعقوب بن شعيب (1) في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) " قال:

(1) الكافي ج 5 ص 268 ح 2، التهذيب ج 7 ص 198 ح 22، الوسائل ج 13
ص 202 ح 2
360

سألته عن الرجل يعطي الرجل أرضه فيها الرمان والنخل والفاكهة، فيقول:
اسق هذا من الماء واعمره ولك نصف ما خرج قال: لا بأس ".
ثم أجاب عن ذلك قال: والجواب المنع، وعن الحديث أن نفي البأس
لا يستلزم اللزوم، انتهى.
وقال في المسالك: واعلم أن الاتفاق على اشتراط تقديرها في الجملة كما
قررناه، وأما تركها رأسا فيبطل العقد قولا واحدا، ولأن عقد المساقاة لازم
كما تقدم، ولا معنى لوجوب الوفاء به دائما، ولا إلى مدة غير معلومة، ولا بسنة
واحدة، لاستحالة الترجيح بلا مرجح.
أقول: إن ثبت كون عقد المساقاة من العقود اللازمة كما ادعوه، فما ذكره
جيد لا حيود عنه إلا أني لا أعرف لهم دليلا على هذه الدعوى زيادة على ما يظهر من
اتفاقهم على ذلك.
وربما كان الظاهر من عبارة ابن الجنيد المنقولة عن المختلف إنما هو الجواز
كما قال به جملة من العامة، ثم إنه مع تسليم ذلك فإنه لا يخفى أن المقصود من
المساقاة هو أخذ العامل الحصة من الحاصل، بعد القيام بالعمل.
وحينئذ فلو اتفقا على المساقاة على ثمرة عام واحد فالظاهر أنه لا يحتاج
في التحديد إلى أزيد من التحديد بالثمرة المساقى عليها كما تقدم نقله عن ابن
الجنيد، وعليه يحمل صحيحة يعقوب بن شعيب المذكورة، فكأنه قيل: فيها
اسق هذا النخل والرمان والفاكهة إلى أن تأخذ حصتك من الثمرة وهو النصف.
فإنك قد عرفت مما أسلفناه أن ما اشتملت عليه من هذا اللفظ هو صورة عقد
المساقاة، إذ ليس في الخبر ما يدل على زيادة على ذلك، وهو بحسب ظاهره غير
مشتمل على المدة التي أو جبوها في العقد، فاللازم أما كونه جائزا كما قدمنا
ذكره، فلا ينافيه الاخلال بالمدة، لجواز الفسخ متى شاء أحدهما، أو أنه لازم
كما صرحوا به، فلا بد من اعتبار ما ذكرناه، وتقدير ما قدرناه ليتم ما ذكروه.
361

وأما قول العلامة في المختلف في الجواب عن الرواية بعد استدلاله
بها لابن الجنيد أن نفي البأس لا يستلزم اللزوم فليس بموجه، لأنه إن سلم كون
هذا عقدا كما هو ظاهر الرواية، فلا بد له من الحكم بلزومه، ونفي البأس إنما
أريد به ذلك: بمعنى أنه عقد صحيح، وإن منع كونه عقدا فلا معنى لنفي البأس
عنه، حيث أنه لغو من القول، لا معنى له ولا ثمرة يترتب عليه.
ثم إنه لو لم يقع التحديد على الوجه المشهور ولا الوجه المنقول في
المسالك عن ابن الجنيد فظاهر كلامه الاتفاق على بطلان العقد، إلا أن ظاهر عبارة
ابن الجنيد المتقدم نقلها عن المختلف هو الصحة في الصورة المذكورة، والظاهر
بعده، إلا أن يحمل كلامه على حكمه بجواز عقد المساقاة دون لزومه، كما
تقدمت الإشارة إليه.
ولو اتفقا على المساقاة على أزيد من ذلك العام فإنه لا خلاف ولا اشكال في
وجوب تعيين المدة بسنتين أو ثلاث أو أزيد أو أقل على حسب ما يتفقان عليه ووجهه
ما تقدم في عبارته في المسالك، والله العالم.
المقام الرابع في العمل - إعلم أن الظاهر من كلامهم في هذا المقام أن
بعض الأعمال مع الاطلاق يختص بالعامل وبعضها يختص بالمالك، وجعلوا لكل منهما
قاعدة فالذي يختص بالعامل هو كل عمل يتكرر كل سنة مما يحصل به نفس
الثمرة وجودتها وزيادتها، ومنها اصلاح الأرض بالحرث والحفر حيث يحتاج إليه
وما يتوقف عليه من الآلات وتنقية الأجاجين، جمع الإجاجة بالكسر والتشديد
والمراد بها هنا الحفر التي يقف فيها الماء في أصول الشجر التي تحتاج إلى السقي.
وكذا تنقية الأنهار، وإزالة الحشيش المضر وتهذيب جرائد النخل بقطع
ما يحتاج إلى قطعه منه كالأجزاء النابتة من كرم العنب والأغصان اليابسة المضرة
من الأشجار، بل ولو كانت رطبة مع حصول الضرر بها، كما في شجر الكرم مما
يجري به العادة.
362

ومنها السقي ومقدماته المتكررة، كالدلو والرشا واصلاح طريق الماء،
وتنقيتها من الحمأة ونحوها، واستقاء الماء وأداة الدولاب إذا كان السقي من بئر
ونحوه وتلقيح الأنثى من الذكر، على الوجه المعتاد والمعتبر، وتعديل الثمرة
أي اصلاحها بإزالة ما يضرها من الأغصان والورق، ليصل إليها الهواء أو الشمس
أو لتيسر قطعها عند إرادة ذلك، ووضع الحشيش ونحوه فوق العناقيد صونا لها عن
الشمس المضرة بها، ورفعها من الأرض حيث تضربها ونحو ذلك ومنها اللقاط
بفتح اللام وكسرها وهو لقاط الثمرة أي أخذها في أوانها عن محلها بحسب العادة
وحسب نوعها ووقتها فما يؤخذ عنبا، أو رطبا ففي وقتهما، وما يؤخذ للزبيب
يجب قطعه عند حلاوته في الوقت الصالح له، وما يعمل دبسا فكذلك في الوقت
الصالح، ويحتمل أن يراد باللقاط إرادة ما سقط من الشجر على الأرض، بمعنى
التقاطه، إلا أن الأشهر في كلامهم هو الأول، ومنها أيضا اصلاح موضع التشميس
وهو الموضع الذي يجعل فيه الثمرة للشمس لأجل يبسها إن كانت العادة فيها
ذلك، كما في بعض البلدان خصوصا البحرين، ونقل الثمرة إلى ذلك الموضع،
وحفظها إلى وقت القسمة، وهل نقلها إلى منزل المالك إن لم يتول المالك ذلك
على العامل؟ يحتمل، - لأنه من تمام العمل، ولعموم " على اليد ما أخذت حتى
تؤدي (1) " - وعدمه، لأنه ليس من أعمال الثمرة، والأظهر الرجوع في ذلك
إلى عرف البلد و عادة أهلها في ذلك.
قالوا: والضابط أنه يجب العمل إلى وقت القسمة، هذا كله مع الاطلاق،
أما لو شرط بعضها على المالك فلا اشكال في لزومه إذا لم يكن منافيا لمقتضى العقد،
عملا بما دل على وجوب الوفاء بالشروط.
قالوا: لو أخل العامل بشئ مما يجب عليه فإن كان وجوبه بطريق الشرط
تخير المالك بين فسخ العقد والزامه، بمثل أجرة العمل، فإن فسخ قبل عمل شئ

(1) المستدرك ج 2 ص 504.
363

فلا شئ له، وإن كان بعده فله الأجرة، سواء كان قبل ظهور الثمرة أم بعده،
قضية للشرط، وكان وجوبه من حيث الاطلاق، فالظاهر أنه يكون كذلك قبل
ظهور الثمرة، أما بعده ففيه نظر، ولا يبعد الجواز، ولو حصل على الأصل نقص
بسبب التقصير لزمه الأرش، والظاهر أن الثمرة كذلك، انتهى هذا بالنسبة إلى العامل.
وأما المالك فالضابط في ما يجب عليه عندهم هو ما لا يتكرر في كل سنة،
وإن عرض له في بعض الأحوال التكرر مما يتعلق نفعه بالأصول بالذات وإن
حصل النفع منه للثمرة عرضا فإنه على المالك دون العامل.
ومن ذلك حفر الآبار والأنهار التي منها وبها تسقى الأصول، وبناء الحائط،
قال في المسالك: ولا فرق في بناء الحائط بين جميعه وببعضه، وفي حكمه وضع
الشوك ونحوه على رأسه، قاله في التذكرة، ويشكل لو كان مما يتكرر كل سنة
عادة طردا لضابطين، انتهى.
أقول: لا يخفى أن بناء هذه الأفراد المعدودة في كل من الموضعين وجعلها
ضابطين إنما هو على العرف والعادة، وإلا فإنه ليس هنا تحديد شرعي في كل من
الموضعين، فينبغي أن يكون مناط الحكم في كل من الموضعين هو ذلك.
ومنها عمل ما يستقى به من دولاب وأدواته ونحو ذلك من آلات السقي مما
لا يتكرر غالبا، دون ما يتكرر غالبا كالدلو والرشاء، فإنه قد تقدم أن ذلك على
العامل، خلافا لابن إدريس (رحمه الله) حيث أوجب الجميع على العامل،
والمشهور وبه صرح الشيخ أن الكش على المالك، والعامل إنما عليه التلقيح،
واستندوا في ذلك إلى أن الكش ليس بعمل، وإنما هو من الأعيان والعامل إنما
عليه العمل، وأن الأصل البراءة من وجوبه على العالم.
ونقل عن ابن إدريس أنه على العامل، واستحسنه في الشرايع، ونقل عن
ابن إدريس التعليل بأنه مما يتم به نماء الثمرة وصلاحها الواجبين على العامل.
قال في المسالك: والأولى الرجوع إلى العادة ومع عدم اطرادها في شئ
فالأولى التعيين، انتهى.
364

قال في التذكرة: إن شراء الزبل وأجرة نقله على رب المال، لأنه ليس
من العمل، فجرى مجرى ما يلقح به، وتفريق ذلك على الأرض على العامل،
كالتلقيح، انتهى.
وبالجملة فالظاهر أن الكش مثل الخيوط بالنسبة إلى الخياط، والمداد
والقرطاس للكاتب في كون الجميع على المالك، وإنما على العامل العمل بذلك،
إلا أن تجري العادة بخلاف ذلك لما أشرنا إليه آنفا من بناء الضابطتين المتقدمتين
على العرف والعادة.
بقي الكلام هنا في مواضع: الأول - قد تقدمت الإشارة إلى أن جميع ما
ذكر سابقا مما يجب على المالك والعامل إنما هو من حيث اقتضاء الاطلاق
ذلك، فلو وقع الشرط منهما على خلاف ذلك بأن شرط ما على المالك من تلك
الأعمال على العامل، فالمشهور الصحة بعد أن يكون ذلك معلوما بينهما على
وجه لا يحتمل الضرر، وكذا لو شرط بعضه بطريق أولى.
قال الشيخ في المبسوط: وعلى المالك ما فيه حفظ الأصل، وهو سد
الحيطان، وانشاء الأنهار، فإن شرط على العامل ذلك أو بعضه قال قوم: تبطل
المساقاة، لأنه شرط ليس من مصلحة العقد، وينا في مقتضاه، والذي يقوى في
نفسي أنه لا يمنع من صحة هذا الشرط مانع، انتهى.
وقال ابن الجنيد: ليس لصاحب الأرض أن يشترط على المساقى احداث
أصل جديد من حفر بئر وغرس يأتي به لا يكون للمساقي في ثمرته حق، ولو
جعل له على ذلك عوضا في قسطه، لأن ذلك بيع للثمرة قبل خروجها فإن جعله
بعد ما يحل بيع الثمرة جاز.
قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين: والوجه ما قواه الشيخ،
لقوله (عليه السلام) (1) " المؤمنون عند شروطهم " سواء جعل له زيادة قسط أم لا
وليس ذلك بيعا، انتهى وهو جيد.

(1) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4
365

ولو شرط ما يجب على العامل على المالك، فإن كان المشروط جميع
العمل، فالظاهر أنه لا خلاف في بطلان المساقاة، لأن الحصة إنما يستحقها العامل
في مقابلة العمل فإذا لم يعمل شيئا لم يستحق شيئا، وأيضا فإنها تصير كالبيع بغير
ثمن، والإجارة بغير مال في مقابلتها، وبالجملة فإنها من عقود المعاوضات
يترتب صحتها على وصول العوض لكل من الطرفين.
نعم لو كان المشروط بعض العمل وأبقى لنفسه منه شيئا، وكان مما يحصل
به الزيادة في الثمرة، فإنه لا مانع منه، ولعموم أدلة لزوم الشرط، وتكون الحصة
حينئذ في مقابلة ذلك.
وظاهر الشيخ في المبسوط الخلاف هنا، حيث قال: إذا ساقاه بالنصف على
أن يعمل رب المال معه، فالمساقات باطلة، لأن موضوع المساقاة أن من رب
المال المال، ومن العامل العمل، كالقراض، فإذا شرط على رب المال العمل
بطل كالقراض.
ورده العلامة في المختلف بأنه قد سوغ أن يشترط العامل على المالك أن
يعمل معه غلامه، وأن يكون على المالك بعض العمل، وقواه لأنه لا مانع منه،
وهذا نفس ذاك، انتهى وهو جيد.
ونقل أيضا أنه قال في المبسوط: إذا ساقاه على أن أجرة الأجراء الذين
يعملون ويستعان بهم من الثمرة، فالعقد فاسد، لأن المساقاة موضوعة على أن
من رب المال المال، ومن العامل العمل، فإذا شرط أن يكون أجرة الأجراء
من الثمرة كان على رب المال المال، والعمل معا، وهذا لا يجوز، ثم رده بأن
الأقوى الجواز إذا بقي للعامل عمل لما بيناه، انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر اطلاق كلام العلامة هو ترتب الصحة على
بقاء شئ من العمل - اللازم للعامل - أعم من أن يكون مما يترتب عليه الزيادة
في الثمرة أو لا بأن يكون كمجرد الحفظ لها، والذي صرح به في المسالك هوما
366

قدمناه من أنه لا بد من أن يكون مما يحصل به الزيادة في الثمرة، ولا يكفي
ما فيه مجرد الحفظ، قال: ولو بقي للعامل ما لا يحصل به مستزاد الثمرة كالحفظ
لم تصح، أيضا، لمنافاة وضع المساقاة، كما لو ساقاه وقد بقي من العمل ذلك.
نعم لو جعلا ذلك بلفظ الإجارة مع ضبط المدة صح، انتهى.
وظاهر ابن فهد في المهذب الاكتفاء بمجرد العمل، كالحفظ والتشميس
والكيس في الظروف ونحو ذلك، وظاهره جواز المساقاة بمجرد بقاء هذه
الأعمال، والأظهر الأول، فإنه هو المستفاد من الأدلة، وغيره لا دليل عليه
والله العالم.
الثاني: قالوا: لو شرط العامل أن يعمل غلام المالك معه جاز، أما لو
شرط أن يعمل الغلام لخاص مال العامل ففيه تردد، والأشبه الجواز.
أقول: هنا مقامان: أحدهما - أن يشترط العامل على المالك عمل
غلامه معه في مال المساقاة، وظاهر الأصحاب هو الجواز من غير ظهور مخالف،
وإنما المخالف فيه بعض العامة، مستندا إلى أن يد العبد كيد مالكه، وعمله
كعمله، فكما لا يصح اشتراط عمل المالك فكذلك غلامه المملوك له، ولأنه
مخالف لوضع المساقاة، وهو أن يكون من المالك المال، ومن العامل العمل.
وأجيب عن ذلك أولا بأن عمل غلام المالك مال له، فهو ضم مال إلى مال،
كما أنه يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل عليها، والفرق بين
الغلام وسيده ظاهر، فإن عمل العبد يجوز أن يكون تابعا لعمل العامل، ولا
يجوز أن يكون عمل المالك تابعا له، لأنه هو الأصل ويجوز في التابع ما لا
يجوز في المنفرد.
وثانيا منع حكم الأصل لما عرفت آنفا من جواز أن يشترط العامل على
المالك أكثر العمل، فإذا جاز ذلك بالنسبة إلى المالك فمملوكه أولى بالجواز.
وثانيهما - أن يكون الشرط في عمل الغلام العمل في ملك العامل خاصة،
367

بأن يكون الأرض للعامل بخصوصه لا في مال المساقاة، كما هو المفروض أولا،
وظاهر المحقق والعلامة وقوع الخلاف هنا من أصحابنا، لتردد المحقق في
الشرايع في ذلك، وإن رجح الجواز، وكذا العلامة، إلا أن شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك نبه هنا على أن الخلاف في هذا المقام إنما هو من الشافعي،
وظاهره أنه لا خلاف بين أصحابنا في الجواز، حيث قال: والمعروف أن المانع
من ذلك الشافعي، لكن المصنف (رحمه الله) والعلامة ذكرا المسألة على وجه
يشعر بالخلاف عندنا، وقد تكرر هذا منهما في مواضع كثيرة.
أقول: وفيه تأييد لما قدمناه من أن أصل هذه التفريعات كلها أو جلها
إنما هي من العامة، حيث أنه ليس لقدماء أصحابنا أثر في ذلك، ثم إن الشيخ
تبعهم في ذلك، واقتفى أثره من تأخر عنه، ووجه الجواز عند أصحابنا أنه وجه
سائغ لا مانع من اشتراطه، ولأنه إذا جاز أن يعمل في المشترك بينه وبين مولاه
كما في الفرض الأول، فلأن يجوز في المختص بطريق أولى.
ووجه المنع أنه شرط عملا في مقابلة عمله، فصار في قوة اشتراط جميع
العمل على المالك، وأجابوا عنه بأن فساده ظاهر.
أقول: ويمكن أن يقال: بناء على تعليلاتهم في أمثال هذا المجال بأنه
لا يصح ذلك لو فرض أن عمل الغلام أكثر أو مساو لعمل العامل في مال المساقاة
لأنه يلزم كون الحصة التي يأخذها العامل بغير عوض، لأن عمل العامل قد وقع
في مقابلة عمل الغلام في أرضه، فلم يبق له عمل يستحق به الحصة، ويصير عقد
المساقاة بلا عوض من جانب العامل، فيلزم بطلانه، وربما أمكن الجواب بأنه
لا مانع من جعل عمل الغلام وإن كثر في مقابلة بعض عمل العامل وإن قل،
وتصير الحصة في مقابلة البعض الباقي، ويؤيده الأدلة العامة من وجوب الايفاء
بالعقود والشروط.
وكيف كان فالركون في أمثال هذه الفروع إلى هذه التعليلات لا يخفى
ما فيه كما أسلفنا التنبيه عليه في غير مقام مما تقدم، والله العالم.
368

الثالث - المشهور بينهم أنه لو شرط العامل على المالك أجرة الأجراء
بأن يستأجر للعمل أجراء لإعانته، ويدفع الأجرة من الثمرة على وجه يبقى له
من العمل ما يحصل به الزيادة في الثمرة، كما تقدم فلا بأس، وقد تقدم في الموضع
الأول نقل خلاف الشيخ في هذه المسألة، وقد عرفت ضعفه.
ولو شرط العامل على المالك بأن يستأجر على جميع العمل بحيث لا يبقى
له إلا استعمال الأجراء والقيام عليهم، والسمسرة، قال في المسالك: في صحة
هذا الشرط وجهان: أحدهما الجواز، لأن ذلك عمل تدعو الحاجة إليه، فإن
المالك قد لا يهتدي إلى الدهقنة واستعمال الأجراء، ولا يجد من يباشر الأعمال
ويأتمنه فتدعوه الحاجة أن يساقى من العرق ذلك لينوب عنه في الاستعمال.
وثانيهما المنع للشك في أن مثل ذلك يسمى عملا من أعمال المساقاة
الذي هو شرط في صحتها، فإن المتبادر من أعمالها خلاف ذلك، والعقود إنما
تكون بتوقيف الشارع، خصوصا في هذا العقد الذي هو على خلاف الأصل،
انتهى.
أقول: لا يخفى ضعف الوجه الأول من الوجهين المذكورين، فالعمل
على الثاني. والله العالم.
المقام الخامس في الفائدة - والكلام في المقام يقع في موارد:
الأول - الظاهر أنه لا خلاف في أنه يشترط أن يكون للعامل جزء مشاع من
الحاصل ليكون مساقاة كما مر في تعريفها، فهنا شيئان: أحدهما - الحصة،
والثاني - كونها شايعة في مجموع الحاصل، فلو لم تكن شايعة بل كانت معينة
كان ذلك إجارة، وإن وقع العقد بلفظ المساقاة لصحة ارتكاب التجوز في هذا
الاطلاق ولو لم تكن حصة بالكلية كان العقد باطلا وكذا يبطل لو شرط أحدهما
الانفراد بالفائدة وفساد هذا الشرط متفرع على اشتراط التشريك، بمعنى أنه
لما كان من شرط المساقاة أن تكون الفائدة شايعة في الحاصل فلو شرطها أحدهما
369

وانفرد بها وميزها عن الحاصل في نخيل مفردة أو أشجار معينة، خرج ذلك
عن وضع المساقاة، وما بنيت عليه، فيبطل العقد حينئذ، لكن يختلف الحكم
في ذلك بين العامل والمالك، فإنه إن كان شرط الفائدة على الوجه المذكور
وقع للعامل بطل العقد كما عرفت، ومتى بطل لزم أن يكون الثمرة كلها
للمالك، وللعامل أجرة المثل حينئذ، كما يأتي بيانه - إن شاء الله - من أن
كل موضع حكم بالبطلان فللعامل أجرة المثل، والوجه فيه أن العامل إنما
دخل في العمل للحصة المعينة له، وحيث لم تسلم له هنا لظهور بطلان العقد،
وجب الرجوع إلى أجرة المثل.
وإن كان الشرط المذكور للمالك فالأقوى عندهم أنه لا أجرة له لدخوله في
العمل على وجه التبرع، والمتبرع لا أجرة له ولا حصة، كما تقدم نظيره في القراض.
وربما احتمل ضعيفا استحقاق الأجرة لأن المساقاة يقتضي العوض في الجملة،
قلا يسقط بالرضا بدونه، وكذا يبطل لو شرط لنفسه شيئا معينا، وما زاد بينهما،
وكذا لو قدر لنفسه أرطالا أو ثمرة، نخلات معينة.
أقول: وهذا كله مما يتفرع على اشتراط الشيوع في الحصة، والاشتراك
المتفق عليه نصا وفتوى في عقد المساقاة، فإن جميع هذه الصور خارجة عن
ذلك، ويؤكد البطلان زيادة على ما عرفت أنه إذا اتفق عدم حصول شئ من
الحاصل إلا ذلك المقدار المعين فلا يكون للآخر شئ بالكلية.
الثاني - قالوا: يجوز أن يفرد كل نوع بحصة مخالفة للحصة من النوع
الآخر إذا كان العامل عالما بمقدار كل نوع، لأن الغرض ثبوت حصة معلومة كيف
كان ولو لم يعلم مقدار أحد الأنواع لم يصح، لجهالة الحصة، فإن المشروط فيه
أقل الجزئين، قد يكون أكثر الجزئين، فيحصل الغرر، وكذا صرح به في
المسالك.
أقول: ظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه الله) المناقشة في هذا المقام،
370

حيث قال بعد ذكر عبارة المصنف في هذا المقام: إذا كان في البستان الذي ساقاه
عليه أنواع مختلفة من الثمرة واشترط الثلث من أحدهما، والنصف من الآخر
مثلا صح المساقاة، بشرط علم العامل بمقدار كل نوع من تلك الأنواع، ومفهوم
الكلام يدل على عدم الصحة لو لم يعلم وجهه للجهالة، وكذا مفهومه الصحة لو لم
يكن الصحة مختلفة، بل إذا ساقاه على ذلك البستان بالنصف مثلا صح مطلقا، سواء
علم مقدار الأنواع أم لا، وهو مشكل فإن الجهالة واقعة، فلو كانت مانعة من الصحة
لمنعت هنا أيضا، وكونه مفهوما من الكلام غير واضح، فلا يبعد عدم الصحة بناء
على اعتبار العلم وعدم الجهالة، فتأمل، انتهى وهو جيد.
وكيف كان فالمسألة لخلوها عن النص لا يخلو الحكم فيها من الاشكال،
كغيرها من الفروع التي أكثروا فيها المقال والأقوال، فإن غاية ما يستفاد من
نصوص المساقاة هو الحصة من حاصل ما اشتمل عليه البستان، نوعا واحدا كان
أو أنواعا عديدة، علم كل منها على تقدير التعدد أم لم يعلم.
وأما صحة المساقاة مع تعدد الحصة بتعدد الأنواع سواء كانت الأنواع
معلومة أو مجهولة فلا دليل عليه، ورجوعه بنوع من الاعتبار في بعض الموارد
إلى الأول لا يكفي في الحكم بالصحة، إذ لعل ثمة مانعا لم نهتد إليه، سيما مع عدم
الدليل عليه.
وملخص ذلك الرجوع في صحة العقود وبطلانها إلى التوقيف، والله العالم.
الثالث - قالوا: لو شرط مع الحصة من النماء حصة من الأصل الثابت
احتمل الصحة، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود، والمؤمنون عند شروطهم (1)
وأن ذلك يجري مجرى اشتراط شئ غيره من ذهب أو فضة، وهو جائز،
وإن ذكروا البطلان نظرا إلى أن مقتضى المساقاة جعل الحصة من الفائدة
وأن الحصة من الأصول تدخل في ملكه بالشرط المذكور، فلا يكون

(1) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4
371

العمل المبذول في مقابلة الحصة واقعا في ملك المالك، ولا واجبا بالعقد،
إذ لا يعقل أن يشترط عليه العمل في ملك نفسه.
وإلى هذا الوجه مال في المسالك فقال: والقول بالمنع أوجه، وتردد
المحقق في الشرائع بعد أن حكم بعدم الصحة، واستشكل في القواعد مع جزمه
بالمنع في الإرشاد.
أقول: والظاهر هو المنع لما ذكر، وزيادة ما قدمناه في سابق هذا
المورد.
الرابع - قالوا: يجوز أن يشترط رب الأرض على العامل شيئا من ذهب
أو فضة، ويجب الوفاء به، إلا أن ذلك مكروه، وعللوا الحكم الأول بعموم ما دل
على الوفاء بالعقود والشروط وأنه مع ذلك غير مناف لمقتضى العقد، لأن الثمرة
مشتركة بينهما، وهذا شرط زايد، وأما الحكم الثاني فلم أقف لهم فيه على
مستند سوى ظهور اتفاقهم عليه.
قال في المسالك: وأما كراهته فهو المشهور بين الأصحاب لا نعلم خلافا في
ذلك، ثم نقل عن العامة أنهم أطبقوا على منع هذا الشرط، وأبطلوا به المساقاة،
هذا مع سلامة الثمرة وعدم تلفها، فلو تلفت أجمع أو لم تخرج ذلك العام بالكلية،
فإن ظاهر هم الحكم بسقوط الشرط المذكور، إذ لولا الحكم بسقوطه لكان اللازم
أكل مال بالباطل، فإن العامل قد عمل ولم يحصل له عوض في مقابلة عمله،
فكيف يحكم عليه بوجوب الوفاء بالشرط المذكور، فإنه ضرر منفي بالآية
والرواية (1)، وايجاب استحقاقه بالشرط إنما وقع بناء على سلامة الحاصل وأخذه
الحصة، على أن ما حكموا به من الصحة في أصل المسألة غير خال من الاشكال
سيما في صورة زيادة ما شرط من الذهب أو الفضة على مقدار الصحة، أو المساواة
لاستلزام ذلك لذهاب عمله بغير عوض، وهو خارج عن أفعال العقلاء ومعاملاتهم

(1) الوسائل ج 17 ص 341 ح 3.
372

بل ربما أدى ذلك إلى الحكم بعدم الرشد، ولعله إلى هذا نظر العامة فحرموا ذلك،
وأبطلوا به العقد كما تقدم ذكره.
نعم لو كان هناك غرض صحيح يمكن ترتب هذا العمل عليه يتم ما ذكر،
وبالجملة فإن عندي في أصل الحكم المذكور أعني صحة هذا الشرط اشكالا لعدم
النص الواضح عليه، وإن احتمل ذلك بناء على ما ذكروه من العمومات، إلا أنه
لخروجه عما هو المعلوم من طريقة أرباب العقول ومعاملاتهم المحتمل للسفاهة
محل اشكال، أما لو كان هذا الشرط من العامل على المالك مضافا إلى الحصة المعينة،
فالظاهر أنه لا اشكال فيه، وبه صرح الأصحاب أيضا.
والظاهر أنه لا كراهة فيه أيضا، وبطريق الأولى في ارتفاع الاشكال لو ذهبت
الثمرة أو لم تخرج، فإنه بعد العمل والتعب وذهاب حصته المقررة له لا وجه
لسقوط هذا الشرط في حقه، بل الأولى والأظهر في المعقول والمنقول هو دفعه إليه
جبرا لما فاته من ذهاب حصته، وعوضا عن خدمته.
وربما قيل: بمساواته للأول وهو خيال ضعيف وتوهم سخيف لما عرفت من
الفرق بين الحالين، والبون بين الصورتين، ثم إنه بالنسبة إلى الصورة الأولى لو كان
التالف البعض خاصة، فالمختار عندهم عدم سقوط شئ من الشروط، لا صالة
العدم، ولأن المعتبر حصول عوض العمل، ولا اعتبار بكثرته وقلته، ومن ثم
لا يسقط من شروط العمل شئ، بتلف بعض الثمرة أو أكثرها.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قال: يكره أن يشترط أحدهما لنفسه
شيئا من ذهب أو فضة، وإن شرط ذلك وجب الوفاء به مع السلامة، وفيه على
اطلاقه بحث يعلم مما قدمناه، ثم الظاهر أن ما ذكروه من الذهب والفضة إنما
خرج مخرج التمثيل في المقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام والله العالم.
الخامس - قال المحقق في الشرايع: ولو ساقاه بالنصف إن سقي بالنواضح
وبالثلث إن سقي بالسيح بطلت المساقاة، لأن الحصة لم تتعين وفيه تردد.
373

قال في المسالك: وجه البطلان واضح، لأن العمل مجهول، والنصيب
مجهول، فهو مثل بعتك بدينار مؤجلا وبنصفه حالا، ويحتمل صحة ذلك لتعيين
الحصة على التقديرين، كما تصح الإجارة إذا قال: إن خطته روميا فلك كذا،
وإن خطته فارسيا فلك كذا، ومن ذلك يظهر منشاء التردد، والأقوى البطلان،
ومسألة الإجارة إن ثبتت فهي خارجة بدليل خارج، انتهى.
أقول: ما فرضه المحقق (رحمه الله) هنا في المسألة أظهر مما فرضه العلامة
في الإرشاد، حيث قال: " ولو شرط فيما سقت السماء النصف، وفيما سقي بالناضح
الثلث، أو شرط مع الحصة جزء من الأصل بطل " انتهى.
فإن وجه البطلان على هذا الفرض غير ظاهر، إلا من حيث الجهل بكل
من النوعين، كما تقدم في المورد الثاني، فمع العلم بكل منهما في الجملة يصح.
وبالجملة فإن هذا الفرض من أفراد تلك المسألة فلا يكون الحكم كليا،
كما هو ظاهر الأصحاب، وبه يظهر أن ما فرضه في الشرايع ونحوه فرض المسألة
في القواعد أيضا أظهر.
بقي الكلام في التردد المذكور في الفرض الأول، فإنه لا يبعد أن يقال
بالصحة، قوله - إن العمل مجهول، والنصيب مجهول - قلنا: إن أريد الجهل
من كل وجه فهو ممنوع، لأنه على كل من التقديرين معلوم، والاختيار إليه
في قبول أي العملين أراد، وإن أريد في الجملة أمكن أن يقال: إنه غير مانع،
لأن بناء هذه المعاملة إنما وقع أيضا مع المجهولية في الحصة كما صرحوا به،
فالجهل في الجملة غير ضائر، وقد تقدم نظيره في مسألة البيع بثمن مال معجلا
بأزيد منه مؤجلا وإن كان المشهور بينهم البطلان ثمة، إلا أن الرواية الصحيحة
دلت على الصحة، وإن كان فيها اشكال من وجه آخر كما تقدم تحقيقه في المسألة
المذكورة.
وبالجملة فالمسألة لخلوها من النص الواضح غير خالية من التردد، والاشكال
374

وإن كان الأقرب هو الصحة، لما ذكرناه، ويؤيده أيضا ما ذكره من صحة الإجارة
في أمثال الخياطة، والله العالم.
الفصل الثاني في الأحكام:
وفيه مسائل: الأولى - المشهور في كلامهم أن كل موضع يحكم بفساد
المساقاة فيه فللعامل أجر المثل، وللمالك جميع الثمرة، أما الثاني فلأنها نماء
ملكه، ولم يحصل ما يوجب نقلها أو نقل شئ منها، لظهور فساد العقد الموجب
لانتقال الحصة إلى العامل، وأما الأول فلأنه لم يتبرع بعمله، وإنما دخل فيه
بناء على الحصة المشترطة له، والحصة لم تسلم له لفساد العقد، فلا بد لعمله من عوض
وأجرة، فوجب الرجوع إلى أجرة المثل، إلا أنه ينبغي تقييده بأمرين: أحدهما
- أن يكون جاهلا بالفساد، إذ لو كان عالما به ومع هذا أقدم على العمل
كان متبرعا بعمله، والمتبرع لا شئ له شرعا، وثانيهما أن لا يكون الفساد
باشتراط المالك جميع الثمرة له، لأنه مع فرض ذلك قد دخل على أن لا شئ
له من الثمرة، وإن كان جاهلا يكون ذلك مفسدا للعقد.
وبالجملة فإنه على الفرضين المذكورين قد أقدم على العمل عالما بأنه
لا يستحق أجرة ولا حصة، ثم إن ما ذكرناه من وجوب أجرة المثل في صورة
الجهل بالفساد وعدم الفساد باشتراط المالك الثمرة لنفسه، هو الظاهر من كلام
جل الأصحاب كما أشرنا إليه آنفا.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني أن الواجب أقل الأمرين من الحصة المشترطة
وأجرة المثل، قال بعد الكلام في المسألة: ينبغي على ما قررناه أن يثبت للعامل
أقل الأمرين من الحصة المشترطة، وأجرة المثل، لأن الأقل إن كان هو الأجرة
فظاهر، لأن فساد العقد أسقط الحصة، فيرجع إلى الأجرة، وإن كان الأقل هو
الحصة فالعامل أقدم على أن لا يكون له سواها في مقابلة عمله، حتى لو كانت في
مقابلة عشر العمل، لكان مسقطا للزائد، فيكون متبرعا بالزائد على هذا التقدير،
375

كما يتبرع على تقدير اشتراط جميع الثمرة للمالك، وعلى تقدير علمه بالفساد.
ثم قال: ويمكن أن يجاب بالفرق بين الموضعين فإنه على هذا التقدير لم
يقدم على التبرع بعمله أصلا، بل كما يحتمل أن يكون الحصة قاصرة عن مقابلة
العمل، يحتمل مساواتها له وزيادتها عليه أضعافا مضاعفة، فهو قادم على عمل
محتمل للزيادة والنقصان، فليس متبرعا به مطلقا وإن احتمل قصوره في بعض
الأحوال، بخلاف العالم وشرط جميع الحصة للمالك، فإنه قادم في ابتداء الأمر
على التبرع المحض على كل تقدير.
وهذا الفرق لا بأس به، وإن كان ما اقتضاه البحث متوجها أيضا، وأكثر
الأصحاب أطلقوا وجوب أجرة المثل مع الفساد، وفيه تردد، انتهى.
أقول: لقائل أن يقول في تأييد القول المشهور وبيان أنه صحيح عار عن
القصور: أن الحصة إنما وجبت وتعينت بحيث لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان من
حيث اشتراطها في العقد، ولما بطل العقد بطل التعلق بها والرجوع إليها، وإن كان
المالك قد رضي بها في العقد على تقدير صحته، وصار الحكم مبنيا على قاعدة
أخرى من كونه عملا موجبا للأجرة، وأن الداخل فيه إنما دخل بذلك، ولكن
لم تسلم له لظهور استحقاقها أو فسادها فلا بد لعمله من أجرة، ورضي العامل
بتلك الحصة على تقدير صحة العقد لا مدخل له هنا، لأن تلك المعاملة قد بطلت،
ورجعنا إلى مسألة أخرى كما ذكرناه، وهذا حق أوجبه له الشارع، بناء على
الغرض المذكور، ورضاه بأقل منه لو كان في تلك المال لا يوجب الحكم عليه به
هنا، إلا أن يتجدد منه رضا آخر بذلك.
وقد تقدم نظير ذلك في المزارعة في مسألة ما لو اختلفا في المزارعة أو
العارية، بأن ادعى المالك المزارعة وادعى العامل العارية، والله العالم.
الثانية - قالوا: إذا استأجر المالك أجيرا للعمل بجزء من الثمرة، فإن
كان قبل ظهورها بطلت الإجارة من غير خلاف، لما قرر عندهم من أن عوض
376

الإجارة يجب أن يكون موجودا معلوما كعوض المبيع، والحال أنه هنا ليس
كذلك كما هو المفروض، وجواز ذلك في المساقاة، حيث أنهم قد اتفقوا على
جواز العوض فيها مع الجهالة، وعدم الوجود خرج بالنص والاجماع، مؤيدا
بمساس الحاجة إلى ذلك، وإن كان بعد ظهورها، فإن كان بعد بدو صلاحها جاز
بلا اشكال ولا خلاف، وإن كان قبل بدو الصلاح فإنهم بنوا الحكم هنا فيها على
جواز نقلها بالبيع في هذه الحال، وقد تقدم الكلام في ذلك في الفصل الثامن
في بيع الثمار من كتاب البيع (1) وذكر الخلاف في جواز البيع مطلقا أو عدم
الجواز إلا بأحد أمور ثلاثة ضم ضميمة إليها، أو شرط القطع، أو عامين فصاعدا،
ومن ثم إن المحقق هنا اختار القول بالجواز بعد ظهورها، وقبل بدو صلاحها،
بشرط القطع، حيث إن مذهبه في البيع ذلك، إلا أن الواجب عليه كان أن
يذكر الضميمة، مضافة إلى القطع، والتخيير بينهما كما هو مذهبه ثمة.
ولهذا اعترضه في المسالك بذلك ثم اعتذر عنه بما هو مذكور هناك،
والعلامة في القواعد صرح بالجواز مطلقا، فقال: ولو استأجره على العمل بحصة
منها أو بجميعها بعد ظهورها، والعلم بقدر العمل جاز، وإلا فلا.
وأنت خبير بما في الحكم المذكور من الاشكال لعدم الدليل الواضح
في هذا المجال، والحمل على البيع كما ذكروه محض قياس لا يوافق أصول
الشريعة، سيما مع ما قدمنا من الاشكال، في اشتراط القطع في مسألة البيع.
بقي هنا اشكال آخر أيضا في هذه الصورة على تقدير كون الأجرة جزء
من الحاصل، فإنه متى قيل بصحة الإجارة هنا بشرط القطع، والحال أن الثمرة
مشتركة بين العامل والمالك، فإن الشركة تمنع من التسلط على القطع، فيتعذر
التسليم لتوقف جواز القطع على إذن الشريك، ومن ثم قيل: في هذه الصورة
بعدم الصحة، وقيل: بالصحة وهو اختيار المحقق في الشرايع نظرا إلى إمكان

(1) ج 19 ص 325.
377

القطع والتسليم بالإذن، كما في كل مشترك ولو فرض امتناع الشريك من الإذن
يمكن إذن الحاكم الشرعي، وإلى هذا القول مال الشارح أيضا فحكم بأنه
الأصح، أما لو كان الأجرة مجموع الحاصل فإنه لا اشكال لاندفاع المحذور
المذكور، وكذا لو اكتفى بالضميمة عن اشتراط القطع كما أشرنا إليه، فإنه
يندفع ذلك أيضا، إلا أنك قد عرفت ما فيه من الاشكال.
وكيف كان فإنه يشترط تعيين العمل المستأجر عليه كما هو مقتضى قاعدة
الإجارة، وإليه يشير قوله في القواعد " والعلم بقدر العمل "، والله العالم.
الثالثة - قال الشيخ في المبسوط: إذا قال: ساقيتك على هذا الحائط
بالنصف على أن أساقيك على هذا الآخر بالثلث بطلت، لأنهما بيعان في بيعة،
فإنه ما رضي أن يعطيه من هذا النصف إلا أن يرضى منه بالثلث من الآخر،
وهكذا في البيع إذا قال: بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني عبدك بخمس
مئة، فالكل باطل، لأن قوله: على أن تبيعني عبدك بخمس مئة، إنما هو وعد
من صاحب العبد بذلك، وهو بالخيار بين الوفاء به وبين الترك، فإذا لم يف به
سقط، وهذا ما رضي أن يبيعه بألف إلا أن يشتري منه العبد بخمس مئة، فقد
نقصه من الثمن لأجله، فإذا بطل ذلك ردنا إلى الثمن ما نقضاه لأجله، وذلك
المردود مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم كان الكل مجهولا، فلهذا بطل
ويفارق هذا إذا قال: ساقيتك على هذين الحائطين بالنصف من هذا، والثلث من
هذا، حيث يصح، لأنه صفقة واحدة وعقد واحد، وليس كذلك هيهنا، لأنهما
صفقتان في صفقة، ألا ترى أنه لو قال: بعتك داري هذا بألف على أن تبيعني
عبدك بمئة بطل الكل، ولو قال: بعتك داري هذه وعبدي هذا معا بألف، الدار
بستمأة والعبد بأربعمأة صح، وكان الفصل بينهما ما مضى، انتهى.
ورده جملة ممن تأخر عنه كالمحقق والعلامة وغيرهما ممن تأخر عنهما
بما سيأتي ذكره.
378

وابن الجنيد عكس الحكم الذي ذكره الشيخ فجوز ما منعه الشيخ، ومنع
ما جوزه، حيث قال: ولا اختار ايقاع المساقاة صفقة واحدة على قطع متفرقة،
بعضها أشق عملا من بعض، إلا أن يعقد ذلك على واحدة، ويشترط في العقد على
العقد الأخرى.
قال في المختلف بعد نقل كلامي الشيخ وابن الجنيد: والوجه عندي جواز
جميع هذه العقود في البيع والمساقاة، وقد مضى البيع وبينا صحته، والشيخ أيضا
جوزه في موضع من المبسوط، وهو الحق ولا جهالة هنا.
وقال في المسالك بعد ذكر ملخص كلام الشيخ وكلام ابن الجنيد: والأقوى
صحة الجميع، ونمنع الجهالة التي ادعاها الشيخ، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود،
وما يتضمنه من الشرط كالجزء منه، ووجوب الوفاء بالشرط، ولو فرض عدم
الوفاء لا يقتضي ذلك رد الناقص من الثمن كما ادعاه، بل يسلط المشروط له على
الفسخ، كما في الاخلال بغيره من الشروط.
وأما ابن الجنيد (رحمه الله) فلم يذكر على ما ادعاه دليلا، ومقتضى الأصل
جواز الأمرين، معا، انتهى وهو جيد.
وبالجملة فإن مقتضى الأصول والقواعد الشرعية صحة العقد المذكور،
مع ما شرط فيه كغيره من العقود المشروطة بشروط سايغة فيصح العقد ويجب
الوفاء بالشرط بمعنى أنه يلزم ذلك لوقوعه في عقد لازم، فلو لم يف بالشرط
تسلط الآخر على الفسخ على أحد القولين، أو مع عدم إمكان جبره على القيام بالعقد
وما اشتمل عليه من الشرط كما هو القول الأول فيأثم على هذا القول بالاخلال بذلك
كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع، وأولى منه بالجواز ما منعه ابن الجنيد والله العالم.
الرابعة - لو كانت الأصول لمالكين فساقيا واحدا إما بايقاع العقد منهما معا
أو من أحدهما أصالة ووكالة، فلا يخلو إما أن يكون الحصة المشترطة للعامل منهما
سواء كالنصف أو الثلث كان يقول أحدهما: ساقيتك على هذه الأصول أصالة ووكالة
379

بنصف حاصلها ولا اشكال في الصحة، سواء علم العامل بقدر حصة كل منهما أم لم
يعلم، لأن حصته معلومة من الجميع، والجميع معلوم له أيضا، فلا يضره الجهل
بحصة كل منهما أو تكون متفاوتة، بأن شرط له أحدهما النصف، والآخر الثلث فقال:
ساقيتك من نفسي وعن شريكي على هذه الأصول على أن لك من حصتي النصف ومن
حصة شريكي الثلث، فلا بد في صحة العقد من علم العامل بحصة كل واحد، لئلا
يتجهل حصته لأنه بمنزلة عقدين فلو ساقاه والحال هذه بطلت المساقاة، ورجعت
الثمرة إلى المالكين، وكان للعامل أجرة المثل كما تقدم ذكره.
قال في المسالك بعد البحث في المقام: ولا فرق على تقدير العلم بحق كل
واحد بين الاثنين والزايد عليهما، فلو كان بستانا واحدا بين ثلاثة بالسوية
فساقوا عليه واحدا يعلم بقدر النصيب على أن له من نصيب واحد النصف، ومن
نصيب الثاني الربع، ومن نصيب الثالث الثمن، صح، وتصح مسألتهم من أربعة
وعشرين مخرج السهام في عدد الشركاء لكل واحد منهم ثمانية، فللعامل من
حصة الأول أربع، ومن الثاني اثنان، ومن الثالث واحد، والباقي لهم على التفاوت
المقرر، ولو كانت البستان لستة ملاك بالسوية وساقوا عليه على أن له من نصيب
واحد النصف، ومن نصيب الثاني الربع، ومن الثالث الثمن، ومن الرابع الثلثين
ومن الخامس الثلث، ومن السادس السدس، صح وتصح مسألتهم من مائة وأربعة و
أربعين لكل واحد منهم أربعة وعشرون فيأخذ العامل ممن شرط له النصف اثنتي
عشر، ومن الثاني ستة، ومن الثالث ثلاثة، ومن الرابع ستة عشر، ومن الخامس
ثمانية، ومن السادس أربعة، فيجتمع له تسعة وأربعون، وللملاك خمس وسبعون
يتفاوتون فيها على ما تقرر، وطريق بلوغها ذلك أن مخارج الثلاثة الأولى
متداخلة يكفي فيها على ما تقرر، وطريق بلوغها ذلك أن مخارج الثلاثة الأولى
متداخلة يكفي فيها مخرج الثمن ومخارج الثلاثة الأخيرة متداخلة يكفي فيها
مخرج السدس، فتبقى ستة وثمانون، وبينهما موافقة بالنصف تضرب نصف أحدهما
في الآخر ثم تضرب المرتفع، وهو أربعة وعشرون في عدد الشركاء، وقس على
380

هذا ما شئت من فروض المسألة ذكرنا منها هذا القدر للتدرب، انتهى.
الخامسة - إذا هرب العامل بعد العمل، وقبل اتمامه قالوا: إنه لا يصح للمالك
الفسخ بمجرد ذلك، لأن المساقاة من العقود اللازمة لا تنفسخ بمجرد هرب العامل
ولا يتسلط المالك على فسخها فيستصحب اللزوم حتى يثبت الفسخ كما لو امتنع
عن العمل مع حضوره، بل للمالك أن يطلبه ويجبره على العمل فإن أبى مع
حضوره أو تعذر طلبه مع هربه فإن حصل من يقوم بالعمل تبرعا ولو كان المالك
بنفسه، وإلا رفع الأمر إلى الحاكم فيطلبه ويجبره، فإن تعذر أخذ من ماله
واستأجر عنه، لاتمام العمل، لأنه مستحق عليه، فإن لم يكن له مال يستأجر
بالدين عليه إلى وقت الحاصل أو يستأجر من بيت المال قرضا عليه، ولو تعذر
جميع ذلك إما لعدم الحاكم، أو لعدم من يعمل له أو لعدم بسط يده، أو لعدم
إمكان اثبات الحق عنده، تخير المالك بين فسخ المساقاة دفعا للضرر، وبين ابقائها.
أقول: حيث كان الحكم المذكور غير منصوص لا بالعموم ولا الخصوص
فللمناقشة فيما ذكروه مجال، وللقائل فيه مقال، فإنه يمكن أن يتطرق إليه
الاحتمال بأن يقال: لو كان العقد يقتضي كون العمل من العامل خاصة أو أنه لا يوجب
العمل المشترط من غيره، فينبغي جواز الفسخ للمالك، للزوم الحرج والضرر لو
لم يجز له ذلك، وإن وجد باذل متبرع أو حاكم يعين من يقوم بالعمل فهو ظاهر
بل يمكن القول بجواز الفسخ له مع الاطلاق أيضا، خصوصا مع عدم الباذل، وما
ذكروه من التكلفات بالرجوع إلى الحاكم وما أو جبوه على الحاكم كله منفي بالأصل
ويؤيده أن حقه ثابت في ذمة العامل، فله أن لا يقبل من غيره، ولا يجب عليه تحصيله
من غيره وإن أمكنه، ولأن الحصة إنما جعلت له بشرط العمل فإذا امتنع عنه سقط حقه
كما قالوا في البيع من أن لأحد المتبايعين الامتناع من حق الآخر على تقدير
امتناع ذلك الآخر، وكذا الإجارة.
ويعضده أيضا أن شرط العمل هنا ليس بأقل من الشروط المذكورة في
381

العقود، وهم قد صرحوا بأن فائدة الشرط على تقدير عدم الاتيان به ممن شرط
عليه تسلط الآخر على الفسخ.
وبالجملة فإن ما ذكروه من الحكم الذي قدمنا نقله عنهم لا يخلو من شوب
الاشكال لما عرفت، ثم إنهم قالوا في صورة تخير المالك بين الفسخ وابقاء العقد مع
تعذر العمل - على الوجه المتقدم تفصيله في كلامهم -: أنه إن فسخ المالك صارت
الثمرة له، وعليه أجرة المثل لذلك العمل الذي عمله العامل قبل هربه، لأنه
عمل محترم صدر بإذن المالك في مقابلة عوض، وقد فات العوض بالفسخ، فيجب
قيمته وهو المراد من أجرة المثل.
لكن إنما يفسخ إذا كان ذلك قبل ظهور الثمرة، أو بعده إذا لم يمكن بيعها
أو بعضها للانفاق على العمل إن لم يف به، وإلا باعها أو بعضها إن أمكن الاجتزاء
به، وإلا فسخ لزوال الضرر، ولو لم يوجد راغب في البعض مع الاكتفاء به في
العمل باع الجميع، وحفظ الباقي للعامل، وإن لم يفسخ - واختار البقاء على العقد
والحال على ما عرفت فقد اختلف كلامهم هنا، فقيل: إن له أن يستأجر على
بقية العمل، ويشهد على ذلك، ويرجع به على العامل، ولو لم يشهد لم يرجع
سواء أمكنه الاشهاد أم لم يمكن، لأن الاشهاد شرط في جواز الرجوع، كإذن
الحاكم فينتفي بدونه.
وظاهر المحقق الأردبيلي أنه يرجع أيضا في صورة تعذر الاشهاد دفعا
للضرر، وللزوم العقد، وحمل الاطلاق في كلام من قال بهذا القول على التقييد
بالامكان، والمحقق في الشرايع قد جزم هنا بأنه لو لم يشهد لم يرجع، وتردد
في الرجوع مع الاشهاد، فقال: ولو لم يفسخ وتعذر الوصول إلى الحاكم كان له
أن يشهد أنه استأجر عنه، ويرجع عليه على تردد، ولو لم يشهد لم يرجع.
قال في المسالك: في توجيه التردد: من لزوم الضرر بدون ذلك، وهو
منفي بالآية والرواية، ومن أصالة عدم التسلط على مال الغير، وثبوت شئ في ذمته
بغير أمره أو من يقوم مقامه.
382

أقول: يمكن الجواب بأن الضرر إنما نشأ من اختياره عدم الفسخ، وإلا
فإنه يمكنه اسقاطه بالفسخ، لتسلطه على ذلك.
وقيل: إنه يرجع مع تعذر الاشهاد لا مع إمكانه، كما في إذن الحاكم
دفعا للحرج والضرر، وهذا القول لا أعرف له وجها ظاهرا وقيل: إنه يرجع مع
الانفاق بنية الرجوع مطلقا أشهد له أم لم يشهد، وإليه مال في المسالك، قال:
وهو الأقوى إذ لا مدخل لشهادة الشاهدين في التسلط على مال الغير واثبات شئ
في ذمته، ولا ولاية لهما على العامل، وإنما فائدتهما التمكن من اثبات الحق،
وهو أمر آخر والمقتضي لعدم الرجوع هو نية التبرع أو عدم نية الرجوع،
ولا صالة عدم الاشتراط، فعلى هذا يثبت حقه في ذمته في ما بينه وبين الله تعالى،
ويحتمل قويا قبول قوله بيمينه، لأن الأصل أن الانسان لا يتبرع بعمل يحصل به
غرامة عن الغير، انتهى.
وهو جيد بالنسبة إلى تعليلات باقي الأقوال المذكورة هنا، لكن قد
عرفت ما في المسألة من الاشكال لعدم الدليل الواضح القاطع لمادة القيل والقال،
مع ما قدمنا ذكره من الاحتمال، ثم إنه على أي من هذه الأقوال متى تحقق
الرجوع على العامل فإنه إن أمكن الأخذ منه، وإلا أخذ من الحصة التي له،
فإن زادت على ذلك رد عليه، وإن نقصت كان الباقي دينا عليه يتبع به،
والله العالم.
السادسة: قيل: إذا ادعى المالك أن العامل خان أو سرق أو أتلف أو فرط
فتلف وأنكر فالقول قوله مع يمينه، وبتقدير ثبوت الخيانة هل يرفع يده
أو يستأجر من يكون معه من أصل الثمرة، الوجه أن يده لا ترفع عن حصته من
الربح، وللمالك رفع يده عما عداه، ولو ضم المالك إليه أمينا كانت أجرته على
المالك خاصة.
أقول: الكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة: أحدها - أن ما ذكره من أن القول
383

قول العامل بيمينه هو مقتضى القواعد الشرعية، لأنه في الحقيقة بالنسبة إلى حصة
المالك أمين، كعامل القراض، والأصل عدم ما ادعاه المالك، فيكون القول قول
المنكر بيمينه.
قال العلامة في التذكرة إنما تسمع دعوى المالك في ذلك كله إذا حرر
الدعوى وبين قدر ما خان فحينئذ يقبل قول العامل بيمينه إن لم يكن بينة،
واعترضه في المسالك بأن هذا الكلام منه بناء على أن الدعوى المجهولة لا تسمع،
مع أن مذهبه في باب القضاء سماع الدعوى المجهولة.
ثم قال: فلو قلنا بسماعها كما هو الأقوى كفى في توجه الدعوى مجرد
دعوى أحد هذه الأمور من غير احتياج إلى بيان القدر، وهذه قاعدة ببابها أليق
فلا وجه لتخصيص البحث فيها بهذه الدعوى، انتهى.
وثانيها ما ذكره من الوجه الجامع بين عدم رفع يده بالكلية، وبين تصرفه
في الجميع، كالحال الأولى فإنه جيد، ومرجعه إلى تصرفه في حصته خاصة،
ولكن لما كانت الحصة شايعة ومشتركة والتصرف فيها مستلزم للتصرف في مال
المالك، فإنه يضم إليها المالك أمينا من جهته، وكان الوجه في رفع يده بالكلية،
هو ما ذكرنا من أن اثبات يده على حصة يستدعي اثباتها على حصة المالك من
حيث الاشتراك، وعدم التمييز، واثبات يده على حصة المالك غير جائز، بل
الواجب رفع يده عنها، ولا يتم ذلك إلا برفع يده عن حصته، وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب، فيجب عليه رفع يده عن حصته من باب مقدمة الواجب.
ورد مع - ظهور مخالفته للقواعد الشرعية و " أن الناس مسلطون على
أموالهم " (1) - بأن اللازم منه ترجيح أحد الحقين بلا مرجح، وأنه يمكن دفع
ذلك بضم المالك للعامل أمينا من جهته.
وثالثها ما ذكره من أن أجرة النايب على المالك خاصة، والوجه فيه ظاهر،
384

لأنه قائم مقامه في حفظ ماله، وعمله لمصلحته.
وخالف فيه بعض العامة فجعلها على العامل، لأن مؤنة الحفظ عليه، وفيه
أن العامل إنما يجب عليه العمل، وهو بإذن له، وخيانته لا ترفع ذلك، ولا يجوز
أن يجعل الأجرة من الأصل، لأن في ذلك حق للعامل، فلا يصح بدون إذنه،
والله العالم.
السابعة - لا خلاف في أنه لو ظهرت الأصول المساقى عليها مستحقة للغير،
بطلت المساقاة كما صرحوا به، إلا أنه يجب تقييده بناء على قولهم بصحة العقد
الفضولي بعدم إجازة المالك، لأن الغاصب عندهم - داخل في الفضولي كما قدمنا
نقله عنهم في كتاب البيع (1)، بل صرح به في المسالك هنا أيضا (فقال: إن
المساقى الغاصب - لا يقصر عن كونه فضوليا، فينبغي تقييده بما إذا لم يجز المالك
المساقاة، ثم اعترض على نفسه، فقال: لا يقال: إن مثل ذلك لا يتصور فيه إجازة
المساقاة مع وقوع العمل له بغير عوض، فكيف ترضى بدفع العوض، وهو الحصة
مع ثبوتها له مجانا، ثم أجاب بأن هذا الاستبعاد إنما يتم لو كان الظهور بعد تمام
العمل، والمسألة مفروضة في ما هو أعم، فيمكن أن يبقى من العمل ما يؤثر
المستحق منه دفع الحصة في مقابلة الباقي، لأن الأغراض لا تنضبط، انتهى
وهو جيد لو قلنا بصحة الفضولي.
ثم إنه مع الحكم ببطلان المساقاة فإن الثمرة تكون لمستحق الأصل،
لأنها نماء ملكه، ولم يحصل الانتقال منه لا في الكل ولا في البعض، وللعامل
الأجرة على من ساقاه، لأنه استعمله بعوض لم يسلم له، فيجب عليه دفع
أجرة المثل، كما تقدم ذكره من أن كل موضع تبطل المساقاة فالواجب أجرة
المثل، ويجئ على القول الآخر أقل الأمرين كما تقدم أيضا.
هذا كله مع جهل العامل كما هو مقتضى عنوان المسألة وسياق الكلام،

(1) ج 18 ص 318.
385

وإلا فلو كان عالما بالغصب لم يرجع على المساقى بشئ، ولو هلكت الثمرة كملا
أو سرقت فلا شئ للعامل والفرق بين هلاكها وسرقها وبين استحقاق الغير لها الموجب
لأجرة المثل أن ظهور استحقاقها موجب لبطلان العقد وبطلان العقد موجب لأجرة
المثل كما عرفت، وأما في صورة هلاكها وسرقها فإن العقد صحيح، والعامل
شريك المالك بالحصة المقررة له، فإذا تلف ذلك كان على الجميع.
ولو كان ظهور استحقاق الأصول بعد ظهور الثمرة فههنا صورتان: الأولى -
أن يكون الثمرة باقية، ولا اشكال في وجوب ردها على المالك كما تقدم،
الثانية: أن يتلف الثمرة بعد اقتسامها بين المساقى والعامل، فقيل: بأنه يرجع
المالك على كل منهما بما قبضه وأتلفه، وهو المنقول عن الشيخ في المبسوط،
وقيل: بأن له مع ذلك الرجوع بالجميع على الغاصب، فيتخير بين الأمرين،
وهو اختيار المحقق في الشرايع، وقيل: له مع ذلك الرجوع على العامل بالجميع،
فيتخير بين الأمور الثلاثة، وهو اختياره في المسالك، وهذا هو الموافق لقواعدهم
في الغصب، من أن كل من وقع يده على المغصوب وتصرف فيه فللمالك
الرجوع عليه.
قال في الشرايع: ولو اقتسما الثمرة، وتلف كان للمالك الرجوع على الغاصب
بدرك الجميع، ويرجع الغاصب على العامل بما حصل له، وللعامل على الغاصب
أجرة عمله، أو يرجع على كل واحد منهما بما حصل له، وقيل: له الرجوع على
العامل بالجميع إن شاء، لأن يده عارية والأول أشبه، إلا أن يكون العامل عالما به.
وقال في المختلف: إذا ظهر النخل مستحقا بعد أن اقتسما الثمرة وأتلفاها
رجع المالك على العامل بنصف الثمرة، لا جميعها، قاله الشيخ في المبسوط، لأنه
ما قبض الثمرة كلها، وإنما كان مراعيا لها حافظا نائبا عن الغاصب، فعلى هذا لو تلفت
كلها بغير تفريط فلا ضمان عليه، والأقرب أن عليه الضمان في الموضعين للجميع
ويرجع على الغاصب، لأنه غار، انتهى وهو ظاهر في اختياره جواز الرجوع على
386

العامل بالجميع كما اختاره في المسالك.
إذا عرفت ذلك فحجة القول الأول اشتغال ذمة كل منهما بمال المالك،
فيرجع على كل منهما بما أتلفه، وعدم رجوعه بالجميع على العامل لما علله به
في المختلف، وأما حجة القول الثاني فبالنسبة إلى الرجوع عليهما ما عرفت، وأما
الرجوع على الغاصب بالجميع، فلأنه الأصل في تلف الجميع من حيث تصرفه
بالأخذ منه، واعطاء العامل منه، وأما عدم رجوعه بالجميع على العامل فلما عرفت
من التعليل المذكور في المختلف.
وحجة القول الثالث ما تقدمت الإشارة إليه، وسيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -
في كتاب الغصب وملخصه تخير المالك في الرجوع على كل منهما بالجميع و
بالبغض، لأن كلا منهما ضامن لجميع الثمرة، بوضع يده عليها، وقوله في تعليل
نفي ضمان الجميع عن العامل أنه إنما كان راعيا حافظا نائبا عن الغاصب لا يمنع
كون يده على الثمرة، وإن كان بطريق النيابة، والسبب الموجب للضمان هو ذلك.
وعلى هذا فإن رجع المالك على الغاصب بالجميع رجع الغاصب على العامل
بالحصة التي قبضها وأتلفها، لعدم استحقاقه لها بعد ظهور فساد العقد، ورجع العامل
على الغاصب بأجرة المثل مع جهله، وإن رجع بالجميع على العامل رجع
العامل على الغاصب بما استهلكه من الثمرة، وبأجرة مثله مع جهله، ومع علمه
لا يرجع بالأجرة، وإنما يرجع بحصة الغاصب خاصة، ولو رجع على كل منهما
بما قبضه، فليس لأحدهما الرجوع على الآخر بشئ من الثمرة، نعم يرجع العامل
على الغاصب بأجرة المثل مع الجهل كما عرفت.
بقي هنا صورتان آخران أيضا: وهو أن يتلف الجميع في يد العامل، أو
يتلف الجميع في يد الغاصب، قالوا في الأولى: إنه لا ريب في رجوعه على العامل
بحصة، وكذا يرجع عليه بحصة الغاصب، لأنه وإن كان يده عليها يد أمانة
بالنظر إلى ظاهر الأمر أولا حيث أنه أمين من جهة المساقى، إلا أنه بعد ظهور
387

الغصب فإنه يرجع على الغاصب بما أخذه من المالك، لأنه غره، فيرجع عليه،
لغروره له، وفي الثانية يترتب على كون يد الغاصب يد أمانة أو يد ضمان؟ فيترتب
على كل منهما مقتضاه كما سيأتي - انشاء الله - تحقيقه في كتاب الغصب.
الثامنة - الخراج في الأرض الخراجية، وهي المفتوحة عنوة على المالك
لأنه بمنزلة الأجرة، بل هو أجرة الأرض مع خلوها عن الشجر، وقد يوضع على
الشجر المغروس فيها بواسطة الأرض، لأن حق المسلمين إنما هو في الأرض لا في
الشجر، حيث إنه مال المالك الذي غرسه، إلا أن يكون فيها وقت الفتح، فإنه
للمسلمين أيضا، وبالجملة فإن الأرض والأشجار لما كانت ملكا للمالك فجميع
ما عليها وما يحتاجان إليه يلحق بالمالك، ومنه الخراج، إلا أن يشترط على
العامل، أو يشترط كونه بينهما معا، وحينئذ فلا بد من علمهما بقدره، ليصح
اشتراطه في العقد اللازم، ولا يتجهل لجهل العوض، ولو زاد السلطان بعد ذلك
فهو على المالك، ولا يدخل في الشرط كما تقدم نظيره في المزارعة.
التاسعة - قالوا: ليس للعامل أن يساقي غيره، أما إذا شرط في متن العقد
العمل على العامل بنفسه فظاهر، لوجوب الوفاء بالشرط، وبطلان المشروط
بالاخلال بالشرط، وأما مع الاطلاق بأن يكون العمل في الذمة فإنهم عللوا المنع
بأن المساقاة إنما تصح على أصل مملوك للمساقي والعامل لا يملك الأصول وإنما يملك
الحصة من الثمرة بعد ظهورها، كما تقدم في تعريفها، وظهر من أحكامها.
وتوضيحه أن في المساقاة تسليطا على أصول الغير، وعملها والناس يختلفون
في ذلك اختلافا زايدا، فليس لمن رضي المالك بعمله وأمانته أن يولي من لم
يرضه المالك لذلك، وهذا بخلاف المزارعة كما تقدم ذكره في المطلب الأول
من أنها لما كانت من العقود اللازمة الموجبة لنقل المنفعة إلى العامل بالحصة المعينة
كان للعامل نقلها إلى غيره، لعموم " الناس مسلطون على أموالهم " (1) ولا يتوقف ذلك

(1) البحار ج 2 ص 272.
388

على إذن المالك، إذ لا حق له في المنفعة.
نعم تسليم الأرض يتوقف على إذنه إلا أن هذا إنما يتم فيما إذا كان البذر
من العامل، أما لو كان من صاحب الأرض فالأصل أن لا يتسلط عليه إلا مالكه،
أو من أذن له وهو الزارع.
وظاهر المحقق الأردبيلي جواز مساقات الغير هنا، لعموم الأدلة، وعدم
المانع إذا فهم الإذن من المالك، فإنه لا فرق بينها وبين المزارعة.
ويظهر من المسالك الجواز فيما لو ظهرت الثمرة، وبقي بسببها عمل
يحصل بسببه الزيادة فيها، فإن المساقاة حينئذ جائزة، والعامل يصير شريكا،
إلى آخر كلامه.
وكيف كان فالمسألة عندي محل توقف واشكال، لخلوها من النص القاطع
لمادة القيل والقال، وقد تقدم في مسألة جواز مزارعة الزارع لغيره ما هو
من هذا القبيل والله الهادي إلى سواء السبيل.
العاشرة - لا خلاف بينهم في أن الفائدة تملك بالظهور، وأسنده في التذكرة
إلى علمائنا، مؤذنا بدعوى الاجماع عليه، وفي المسالك لا نعلم فيه خلافا،
والخلاف فيه من بعض العامة، حيث جعل ملك العامل موقوفا على القسمة.
والوجه في القول المشهور - زيادة على الاجماع المذكور - أن العقد قد
اقتضى كون الثمرة بينهما، لاشتراط ذلك فيه، وصحة العقد والشرط تقتضي ثبوت
مقتضاهما، كغيره من الشروط الصحيحة، فمتى تحققت وظهرت دخلت في ملكها،
ويتفرع على ذلك وجوب الزكاة على من بلغ نصيبه منها نصاب الزكاة، لتحقق
شرط وجوب الزكاة، وهو ملك الثمرة قبل تحقق الوجوب ونموها في ملكه.
ونقل الخلاف هنا عن السيد بن زهرة، فإنه أوجب الزكاة على من كان منه
البذر، مستندا إلى أن الحصة كالأجرة، قال - على ما نقله عنه في المختلف -:
لا زكاة على العامل، لأنه أخذ حصته أجرة.
389

أقول: وبذلك قال أيضا في المزارعة، حيث قال: كل من كان البذر
منه وجبت الزكاة عليه دون الآخر، لأن ما يأخذه كالأجرة.
وقال ابن إدريس في كتاب المزارعة من كتاب السرائر: فأما الزكاة فإن
بلغ نصيب كل واحد منهم ما يجب فيه الزكاة وجب عليه، لأنه شريك مالك،
سواء كان البذر منه أو لم يكن، وليس ما يأخذه المزارع الذي منه العمل دون
البذر أجرة، ولا كالأجرة.
وقال بعض أصحابنا المتأخرين في تصنيف له: كل من كان البذر منه
وجب عليه الزكاة، ولا تجب الزكاة على من لا يكون البذر منه، قال: لأن ما يأخذه
كالأجرة، والقائل بهذا القول العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي، شاهدته
ورأيته وكاتبته وكاتبني، وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ، فاعتذره بأعذار
غير واضحة، وأبان بها أنه ثقل الرد عليه، ولعمري إن الحق ثقيل كله، ومن
جملة معاذيره ومعارضاته لي في جوابه أن المزارع مثل الغاصب للحب، إذا
زرعه، فإن الزكاة تجب على رب الحب، دون الغاصب، وهذا من أقبح المعارضات
وأعجب الشبهات، وإنما كانت مشورتي عليه أن يطالع تصنيفه وينظر في المسألة
ويغيرها قبل موته، لئلا يستدرك عليه مستدرك بعد موته، فيكون هو المستدرك
على نفسه، فعلت ذلك في علم الله شفقة وسترة عليه ونصيحة له، لأن هذا خلاف
مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وشيخنا (رحمة الله عليه) قد حقق المسألة في
مواضع عدة (عديدة) من كتبه، وقال: الثمرة والزرع نماء على ملكهما، فيجب على
كل واحد منهما الزكاة إذا بلغ نصيبه مقدار ما يجب فيه ذلك، وإنما السيد أبو المكارم
نظر إلى ما ذكره شيخنا من مذهب أبي حنيفة في مبسوطه، فظن أنه مذهبنا،
فنقله في كتابه على غير بصيرة ولا تحقيق، وعرفته أن ذلك مذهب أبي حنيفة
ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطه، لما شرح أحكام المزارعة، ثم عقب بمذهبنا
390

وأومأت إلى المواضع التي حققها شيخنا في كتاب القراض وغيره فما رجع وما
غيرها في كتبه، ومات (رحمه الله) وهو على ما قاله نسئل الله له بالغفران وحشره
مع آبائه في الجنان، انتهى. كلامه.
وقال العلامة في المختلف بعد نقل ملخص هذا الكلام عن ابن إدريس:
وقول ابن إدريس وإن كان جيدا مستفادا من الشيخ أبي جعفر إلا أن قول ابن
زهرة ليس بذلك البعد من الصواب.
أقول: الظاهر أن الحامل لشيخنا العلامة (رحمة الله عليه) لنفي البعد عن
هذا القول إنما هو التحامل على ابن إدريس، وإلا فهو في البعد من الصواب أظهر
من أن يخفى على سائر ذوي الألباب.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك - بعد نقل القول المذكور ونعم ما قال -:
وضعفه ظاهر، لأن الحصة قد ملكت هنا بعقد المعاوضة، في وقت يصلح لتعلق
الزكاة بها، لا بطريق الأجرة، ثم لو سلم كونها كالأجرة فمطلق الأجرة لا تمنع
من وجوب الزكاة، بل إذا تعلق الملك بها بعد الوجوب، إذ لو استأجره بزرع
قبل بدو صلاحه، أو آجره المالك الأرض بالزرع كذلك، لوجبت الزكاة على
مالك الأجرة، كما لو اشترى الزرع كذلك.
نعم لو كان يذهب إلى أن الحصة لا يملكها من لا بذر له بالظهور، بل بعد
بدو صلاحها ونحوه أمكن ترتب الحكم عليه، لكنه خلاف اجماع الأصحاب،
ومع ذلك لا يتم تعليله بالأجرة، بل بتأخر ملكه عن الوجوب، ثم نقل كلام ابن
إدريس، وأنه كاتبه إلى حلب، ونبهه على فساد قوله ولم يقبل، وأنه مات على
ما قاله، ثم نقل كلام العلامة في المختلف، وأن هذا القول ليس بذلك البعد من
الصواب، ثم قال: وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن الحامل له على ذلك كثرة
تشنيع ابن إدريس عليه، انتهى.
391

تذنيب:
أجمع أصحابنا على بطلان المغارسة، وبه قال أكثر العامة أيضا وهي عبارة
عن أن يدفع أحد أرضا إلى غيره ليغرسها على أن يكون الغرس بينهما معا،
ومستند الأصحاب في البطلان هو عدم ورود نص بجوازها، لأن المعاوضات
موقوفة على إذن الشارع، وحيث لم يرد فيها كغيرها من العقود المشهورة إذن،
لا جرم وجب الحكم ببطلانها.
وتنظر فيه المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه) وتبعه الفاضل الخراساني
في الكفاية، بأنه يمكن استفادة ذلك من بعض العمومات، فإنه لولا الاجماع المدعى
لأمكن القول بصحة ذلك، قالوا: ولا فرق بين أن يكون المغروس من مالك
الأرض، أو من العامل، ولا بين أن يشترط العامل جزء من الأرض مع حصة من
الغرس، وعدمه، وحيث ثبت بطلان المعاملة المذكورة، فالغرس لصاحبه،
إلا أنه إن كان صاحبه هو صاحب الأرض، فعليه للعامل أجرة مثل عمله، لأنه
لم يعمل مجانا بل بحصة لم تسلم له، وإن كان صاحبه هو العامل، فعليه لصاحب
الأرض أجرة المثل، عوضا عن مدة شغله لها، ولصاحب الأرض قلعه، لبطلان
المعاملة، وأنه غير مستحق للبقاء فيها، لكن بالأرش حيث إنه صدر عن إذنه،
فليس بعرق ظالم، وظاهر كلامهم أنه لا فرق في ذلك بين العالم بالبطلان،
والجاهل به.
وأنت خبير بأنه لا يبعد الفرق بين الحالين وتخصيص الحكم المذكور بحال
الجهل، وأما مع العلم فإنه لا أجرة للعامل فيما إذا كان الغرس لصاحب الأرض، ولا
لصاحب الأرض فيما إذا كان الغرس للعامل، ولا أرش لصاحب الغرس مع علمه، لأن
الأول مع علمه ببطلان العقد وأنه لا يستحق الحصة في مقابلة عمله يكون متبرعا
بالعمل حينئذ، ومقتضى تعليل وجوب الأجرة بأنه إنما عمل لأجل الحصة ولم
392

تسلم له فوجب له الأجرة لا يجري إلا في صورة الجهل، كما هو ظاهر.
والثاني قد أذن للعامل في التصرف في أرضه بالحصة مع علمه بعدم
استحقاقها، فيكون في معنى الإذن بغير عوض، فكيف يستحق عليه أجرة والحال
هذه.
والثالث فمن حيث ظلمه بالغرس مع علمه بعدم استحقاقه، وفي هذا نظر،
فإنه إنما غرس بالإذن كما هو المفروض أولا فعرقه ليس بظالم، فيكون مستحقا
للأرش.
بقي الكلام في المعنى المراد من الأرش هنا، قال في المسالك: والمراد
بالأرش هنا تفاوت ما بين قيمته في حالتيه، على الوضع الذي هو عليه، وهو
كونه حال غرسه باقيا بأجرة، أو مستحقا للقلع بالأرش، وكونه مقلوعا لأن
ذلك هو المعقول من أرش النقصان، لا تفاوت ما بين قيمته قائما مطلقا، أو مقلوعا،
إذ لا حق له في القيام كذلك ليقوم بتلك الحالة، ولا تفاوت ما بين كونه قائما
بأجرة ومقلوعا لما ذكرنا، فإن استحقاقه للقلع بالأرش من جملة أوصافه،
ولا تفاوت ما بين كونه قائما مستحقا للقلع، ومقلوعا لتخلف بعض أوصافه أيضا
كما بيناه، ولا بين كونه قائما مستحقا للقلع بالأرش ومقلوعا لتخلف وصف
القيام بأجرة.
وهذه الوجوه المنفية ذهب إلى كل منها بعض، واختار الثاني منها الشيخ
على (رحمة الله عليه) والأخير فخر الدين فيما ينسب إليه، والآخران ذكرهما
من لا يعتد بقوله، ثم قال: ويجب على العامل مع ذلك أرش الأرض لو نقصت به،
وطم الحفر، خصوصا لو قلعه بغير أمر المالك، وقلع العروق المتخلفة عن المقلوع.
تنبيهان:
الأول: قال في المسالك: لو كان الغرس من مالك الأرض لكن الغارس ركب
فيه نوعا آخر كما في شجر التوت ونحوه، فالمركب للغارس إن كان أصله
393

ملكه، وكذا نماؤه مدة بقائه، وعليه مع أجرة الأرش أجرة أصول الغرس
أيضا، وللمالك إزالة المركب مع الأرش كما مر، انتهى.
الثاني: قالوا: لو بذل صاحب الأرض للغارس قيمة الغرس ليكون الغرس
له، بأن يبيعه إياه لم يجب عليه القبول، وكذا لو دفع الغارس أجرة الأرض
ليبقى غرسه فيها لم يجب عليه القبول، والوجه في الموضعين واضح، لأنها معاوضة
وصحتها موقوفة على التراضي من الطرفين، والله العالم.
394

كتاب الوديعة
وتحقيق الكلام في هذا الكتاب يقتضي بسطه في بحوث ثلاثة:
البحث الأول - الوديعة ثابتة بالكتاب والسنة والاجماع، قال الله تعالى
" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها (1) "، وقال تعالى " فليؤدي الذي
اؤتمن أمانته وليتق الله ربه " (2).
وأما السنة فالأخبار بذلك مستفيضة تكاد تبلغ حد التواتر المعنوي، فروى
في الكافي والتهذيب عن الحسين الشيباني (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" قال: قلت له: إن رجلا من مواليك يستحل مال بني أمية ودمائهم وأنه وقع
لهم عنده وديعة، فقال: أدوا الأمانات إلى أهلها وإن كانوا مجوسيا، فإن ذلك
لا يكون حتى يقوم قائمنا (عليه السلام) فيحل ويحرم.
أقول: الظاهر أنه لا منافاة بين استحلال أموالهم ودمائهم وبين وجوب
أداء الأمانة لهم لما سيظهر لك من تكاثر الأخبار بوجوب أدائها، وإن كان من
يحل ماله، كما يشير إليه التمثيل بالمجوس.

(1) سورة النساء الآية 58.
(2) سورة البقرة الآية 282.
(3) الكافي ج 5 ص 132 ح 2، التهذيب ج 6 ص 351 ح 114 الوسائل
ج 13 ص 222 ح 5
395

ويحتمل حمل الخبر على عمومه من تحريم أموالهم ودمائهم، ويكون
حينئذ خارجا مخرج التقية كما يشير إليه آخر الخبر، ويمكن حمل آخر الخبر
بناء على المعنى الأول على أنه يجب أداء الأمانة لهم في ذلك الوقت، وأنه يتغير
هذا الحكم بعد ظهوره (عليه السلام) ولا يخلو عن شئ.
وروى في الكافي عن محمد بن مسلم (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) أدوا الأمانات ولو إلى قاتل ولد الأنبياء
(عليهم السلام) " وروى في الكافي والتهذيب عن عمر بن أبي (2) حفص " قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة، إلى من
أئتمنكم فلو أن قاتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ائتمنني على أمانة لا ديتها إليه.
وعن عمار بن مروان (3) " قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في وصية له:
اعلم أن ضارب علي (عليه السلام) بالسيف وقاتله لو ائتمنني على سيف واستنصحني
أو استشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة ".
وعن محمد بن القاسم بن الفضيل (4) " قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)
عن رجل استودع رجلا من مواليك مالا له قيمة، والرجل الذي عليه المال
رجل من العرب يقدر على أن لا يعطيه شيئا، ولا يقدر له على شئ والرجل
الذي استودعه رجل خبيث خارجي فلم أدع شيئا، فقال لي: قل له: رده عليه،
فإنه ائتمنه عليه بأمانة الله عز وجل ".
وروى في الكافي عن عبد الرحمان بن سيابة (5) قال: لما أن هلك أبي
سيابة جاء رجل من إخوانه إلى فضرب الباب على فخرجت إليه فعزاني وقال
لي: هل ترك أبوك شيئا، فقلت له: لا فدفع إلى كيسا فيه ألف درهم وقال:

(1) الكافي ج 5 ص 133 ح 3
الوسائل ج 13 ص 223 ح 6.
(2) الكافي ج 5 ص 133 ح 4 و 5 و 8، التهذيب ج 6 ص 351
ح 115 و 116 و 117، الوسائل ج 13 ص 221 ح 2 و ص 223 ح 8 و 9.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(5) الكافي ج 5 ص 134 ح 9. الوسائل ج 13 ص 219 ح 6
396

أحسن حفظها وكل فضلها، فدخلت إلى أمي وأنا فرح فأخبرتها فلما كان بالعشي
أتيت صديقا كان لأبي فاشترى لي بضايع سابري وجلست في حانوت فرزق
الله فيها خيرا كثيرا، فحضر الحج فوقع في قلبي فجئت إلى أمي وقلت لها: قد وقع
في قلبي أن أخرج إلى مكة؟ فقالت لي: فرد دراهم فلان عليه، فهيئتها وجئت
بها إليه فدفعتها إليه فكأني وهبتها إليه، فقال، لعلك استقللتها فأزيدك، قلت:
لا ولكن وقع في قلبي الحج فأحببت أن يكون شيئك عندك، ثم خرجت فقضيت
نسكي ثم رجعت إلى المدينة، فدخلت مع الناس على أبي عبد الله (عليه السلام)
وكان يأذن إذنا عاما فجلست في مواخير الناس، وكنت حدثا فأخذ الناس
يسئلونه ويجيبهم فلما خف الناس عنه أشار إلى فدنوت إليه فقال لي: ألك حاجة؟
فقلت له: جعلت فداك أنا عبد الرحمن بن السيابة فقال لي: ما فعل أبوك قلت:
هلك، فتوجع وترحم، قال: ثم قال لي: فترك شيئا؟ قلت: لا قال: فمن أين
حججت؟ قال: فابتدأت فحدثته بقصة الرجل، قال: فما تركني أفرغ منها حتى
قال لي: فما فعلت في الألف قال: قلت: رددتها على صاحبها، قال لي: قد أحسنت
وقال لي: ألا أوصيك؟ قلت: بلى جعلت فداك، فقال: عليك بصدق الحديث وأداء
الأمانة، تشرك الناس في أموالهم هكذا، وجمع بين أصابعه قال: فحفظت ذلك عنه
فزكيت ثلاثمأة ألف درهم " إلى غير ذلك من الأخبار الجارية في هذا المضمار.
وأما الاجماع فقد نقله جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة قال:
وقد أجمع المسلمون كافة على جوازها، وتواترت الأخبار بذلك.
أقول: ويؤكد ذلك دلالة العقل والنقل على قضاء حاجة المؤمن وادخال
السرور عليه مع عدم المانع، كما لو لم يثق من نفسه بالحفظ لبعض الأسباب
المتوقف عليها ذلك، قال في التذكرة - بهد أن صرح بالاستحباب كما ذكرنا -:
ولو لم يكن هناك غيره فالأقوى أنه يجب عليه القبول، لأنه من المصالح العامة.
وبالجملة فإن القبول واجب على الكفاية، ثم استثنى ما إذا تضمن بالقبول
397

ضررا في نفسه أو ماله أو على أحد من إخوانه المؤمنين ولا بأس به، وقال في
التذكرة أيضا: الوديعة مشتقة من ودع يدع: إذا استقر وسكن، أو من قولهم
يدع كذا أي يتركه، والوديعة متروكة مستقرة عند المستودع، وقيل: إنها
مشتقة من الدعة، وهي الخفض والراحة، يقال: ودع الرجل: فهو وديع ووادع،
لأنها في دعة عند المودع، لا تتبدل ولا تتبذل ولا تستعمل، والوديعة يطلق في العرف
على المال الموضوع عند الغير ليحفظه، والجمع الودايع، واستودعته الوديعة
أي استحفظته إياها، وعن الكسائي أو دعته كذا: إذا دفعت إليه الوديعة فقبلها،
وأودعته كذا: إذا دفع إليك الوديعة فقبلتها، وهو من الأضداد والمشهور في
الاستعمال المعنى الأول، انتهى.
أقول: قال في كتاب المصباح المنير: والوديعة: هو فعيلة بمعنى مفعولة،
وأودعت زيدا مالا، دفعته إليه ليكون عنده وديعة، وجمعها ودايع، واشتقاقها
من الدعة وهي الراحة، أو أخذته منه وديعة، فيكون الفعل من الأضداد، لكن الفعل
في الدفع أشهر، واستودعته مالا، دفعته له وديعة يحفظه، وقد ودع زيد بضم
الدال وفتحها وداعة بالفتح، والاسم الدعة وهي الراحة، وحفض العيش والهاء
عوض من الواو، انتهى.
وقد عرفها بعض الفقهاء بأنها الاستنابة في الحفظ، وعرفها في التذكرة
بأنها عقد يفيد الاستنابة في الحفظ، وهو أظهر قال: وهي جايزة من الطرفين
بالاجماع، ولكل منها فسخه، ولا بد فيها من ايجاب وقبول، فالايجاب كل لفظ
دل على الاستنابة بأي عبارة كان، ولا ينحصر في لغة دون أخرى، ولا في عبارة
دون أخرى، ولا يفتقر إلى التصريح، بل يكفي التلويح والإشارة، والقبول قد
يكون بالقول، وهو كل لفظ يدل على الرضا بالنيابة في الحفظ، بأي عبارة
كان، وقد يكون بالفعل، وهل الوديعة عقد برأسه؟ أو إذن مجرد، الأقرب
الأول، انتهى.
398

وبنحو ذلك صرح جملة ممن تأخر عنه منهم شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك، حيث قال: مقتضى كونه عقدا تركيبه من الإيجاب والقبول بالقولين،
ومقتضى جوازه عدم انحصاره في عبارة، بل يكفي كل لفظ دل عليه، ولا يعتبر
فيه التصريح، بل يكفي التلويح والإشارة المفهمة لمعناه اختيارا، ثم قال بعد
قول المصنف (رحمة الله عليه): ويكفي الفعل الدال على القبول، أطلق المصنف
وجماعة أنه يكفي القبول الفعلي مع اعترافهم بكونه عقدا نظرا إلى أن الغاية
منه إنما هو الرضا بالاستنابة، وربما كان الفعل فيه أقوى من القبول، باعتبار
التزامه ودخوله في ضمانه لو قصر، بخلاف القبول القولي، فإنه وإن لزمه ذلك
شرعا إلا أنه ليس صريحا في الالتزام من حيث أنه عقد جائز، فإذا فسخه ولم
يكن قبضه لم يظهر أثره واليد توجب الحفظ إلى أن يرده إلى مالكه، لعموم
" على اليد ما أخذت حتى تؤدي " (1) وهذا حسن، إلا أن فيه بعض الخروج
عن حقيقة العقد، ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى أنها إذن مجرد، لا عقد، وفرع
عليه عدم اعتبار القبول القولي، وآخرون إلى أن الإيجاب إن كان بلفظ
أو دعتك وشبهه مما هو على صيغ العقود وجب القبول لفظا، وإن قال احفظه ونحوه
لم يفتقر إلى القبول اللفظي، كالوكالة، وهو كلام موجه.
أقول: لا يخفى أن ما طولوا به الكلام في هذا المقام من أنه لا بد من عقد
يشتمل على الإيجاب والقبول والخلاف في القبول بكونه قوليا أو فعليا، وكذا
الخلاف بكونه عقدا أو إذنا كله تطويل بغير طائل، إذ لا يظهر له عند التأمل
والتحقيق ثمرة ولا حاصل، والأمر في ذلك معروف بين جملة الناس من عالم
وجاهل، فإنه لا خلاف ولا اشكال في أن من قصد غيره بمال ليودعه عنده، وجرى
بينهما من الكلام ما يدل على الرضا بذلك، من الطرفين بحيث لا يتوهم كونه
هدية ولا عطية ولا بيعا. ولا نحو ذلك ترتب عليه أحكام الودية شرعا، سواء

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
399

سمي ذلك عقدا أو إذنا أو غير ذلك، ولا فرق أيضا في ذلك بين أن يكون الدال
على المراد من ذلك لفظا أو فعلا إذا اقترن بما يدل على المراد.
وبالجملة فالظاهر أنه يكفي ما يدل على الاستنابة وقبولها مطلقا، وأنها مجرد
الإذن في النيابة، وأنه ما لم يقبض أو يقبل بما يفيد القبول لم يدخل في الضمان
وإلا فإنه يلزم الضمان، وليس في النصوص زيادة على ما ذكرنا عين ولا أثر
وكيف كان فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع: الأول - إذا طرح
الوديعة عنده فههنا صور:
الأولى - أن يطرحها عنده ولا يحصل منه ما يدل على الاستنابة في الحفظ،
ولم يحصل من الآخر ما يدل على القبول، ولا اشكال في عدم ثبوت الوديعة، ولا في
عدم وجوب الحفظ.
الثانية - الصورة بحالها ولكن حصل القبول القولي من الآخر، وحكمها
كسابقها، فإنه بمجرد الطرح ما لم يضم إلى ذلك كونه وديعة، لا يستلزم وجوب
الحفظ، ولا الضمان.
الثالثة - الصورة الأولى بحالها، ولكن قبضه الآخر ولا ريب أنه لا يصير
وديعة، ولكن يجب حفظه، ويضمنه لخبر " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " (1).
الرابعة - أن يطرحه ويضم إلى ذلك ما يدل على قصد الايداع، ويحصل
القبول من الآخر قولا أو فعلا، ولا ريب في ثبوت كونه وديعة، فيجب الحفظ،
ويضمن مع التفريط.
الخامسة - الصورة بحالها ولكن لم يحصل من الآخر ما يدل على القبول
لا قولا ولا فعلا، ولا ريب في أنها لا تصير وديعة، ولا يجب عليه حفظها حتى لو ذهب
وتركها لم يضمن، إلا أنهم صرحوا بأنه لو كان ذهابه بعد أن غاب المالك فإنه
يأثم لوجوب الحفظ عليه من باب المعاونة على البر، وإعانة المحتاج، فيكون

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
400

من باب الواجبات الكفائية، وفيه ما فيه.
ثم إنه بالنسبة إلى الصورة الرابعة المشتملة على تحقق الوديعة لو ذهب
المستودع بعد طرح الوديعة والمالك حاضر، فإنه جزم في التذكرة بأن ذلك
رد الوديعة، ولو كان المالك غائبا ضمن.
قال في المسالك: ويشكل تحقق الرد بمجرد الذهاب عنها، مع حضور
المالك، لأصالة بقاء العقد، وكون الذهاب أعم منه ما لم ينضم إليه قرائن تدل
عليه، وهو جيد من حيث التعليل الثاني.
أما الأول أعني الاستناد إلى أصالة العقد فهو ضعيف، لما أشرنا إليه آنفا
من أنه لا عقد هنا.
وأما الثاني فإنه جيد، لأنه لما ثبت كونه وديعة كما هو المفروض فالأصل
البقاء على حكمها حتى يثبت ما يوجب فسخها، وذهاب المستودع لا يدل عليه،
لأنه أعم من ذلك، والعام لا يدل على الخاص،
إذا عرفت فاعلم أن ظاهر الفاضل الخراساني في الكفاية المناقشة في
الصورة الثانية والثالثة مدعيا حصول الوديعة بمجرد الطرح، فإن ظاهر وضع
المال عنده أن غرض المالك الاستنابة في الحفظ وإن لم يقل لفظا يدل عليه،
والظاهر أنه لا يعتبر في ايجاب الوديعة لفظ، بل يكفي ما يدل على الرضا مطلقا،
فلا حاجة إلى انضمام أمر آخر يدل على الاستنابة في حفظه.
أقول: لا ريب أن مجرد الطرح أعم مما ذكره، والعام لا دلالة له على
الخاص نعم إن انضم إلى ذلك قرينة حالية أو مقالية تفهم قصد الوديعة فالأمر كذلك
ونحن لا نوجب لفظا مخصوصا ولا فعلا مخصوصا، ولكن لا بد من شئ يفهم منه
قصد الوديعة، ومجرد الطرح لا يفيده كما عرفت.
الثاني - لو أكره على قبض الوديعة لم تصر وديعة، ولا يجب عليه حفظها
ولا ضمانها، مع احتمال حفظها، كل ذلك لمكان الاكراه.
401

واستثنى شيخنا الشهيد الثاني (رحمة الله عليه) في الروضة أن يكون المكره
مضطرا إلى الايداع، قال: فيجب عليه إعانته عليه كالسابق، وأشار به إلى ما
قدمنا ذكره في الصورة الخامسة.
نعم لو وضع يده عليها بعد زوال الاكراه مختارا، فإنه يجب عليه حفظها،
باليد الجديد ة، لخبر " على اليد ما أخذت " (1) لا من حيث الاكراه، وهل تصير
بذلك وديعة أم أمانة شرعية؟ قال في المسالك: يحتمل الأول، لأن المالك كان
قد أذن له، واستنابه في الحفظ، غايته أنه لم يتحقق معه الوديعة، لعدم القبول
الاختياري، وقد حصل الآن، والمقاربة بين الإيجاب والقبول غير لازمة، ومن
إلغاء الشارع ما وقع سابقا فلا يترتب عليه أثر، ويشكل بأن إلغائه بالنظر إلى
القابض لا بالنظر إلى المالك.
ثم قال: ويمكن الفرق بين وضع اليد اختيارا بنية الاستيداع، وعدمه،
ويضمن على الثاني، دون الأول، اعطاء لكل واحد حكمه الأصلي، انتهى.
أقول: والمسألة لخلوها من النص لا تخلو من الاشكال، وإن كان ما ذكره
أخيرا من التفصيل لا يخلو من وجه، والله العالم.
الثالث - قال بعض المحققين: إذا استودع وجب عليه الحفظ، ولا يلزمه
دركها لو تلفت من غير تفريط، أو أخذت منه قهرا نعم لو تمكن من الدفع وجب
ولو لم يفعل ضمن، ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع، كالجرح وأخذ المال،
ولو أنكرها فطولب باليمين ظلما جاز الحلف صوريا ما يخرج به عن الكذب،
انتهى.
أقول: وتفصيل هذا الاجمال وبيان ما اشتمل عليه هذا المقال يقع في
موارد: أحدها أن ما ذكره من وجوب الحفظ عليه متى استودع أي قبل الوديعة
مما لا ريب فيه، ويدل عليه الأخبار المتقدمة الدالة على وجوب أداء الأمانة،

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
402

فإنه لولا وجوب حفظها لم يجب أداؤها، وذلك أنه متى رخص له في اهمالها
وعدم حفظها كيف يترتب عليه وجوب الأداء.
ويدل عليه أيضا ما يأتي - إن شاء الله - من الأخبار الدالة على وجوب الضمان
مع مخالفة أمر المالك في الحفظ أو الرد، ووجوب الحفظ عليه ما دام مستودعا
لا مطلقا، لأن الوديعة من العقود الجائزة التي لهما فسخها متى أرادا، والواجب
حينئذ هو ردها أو حفظها، فيصدق وجوب الحفظ في الجملة من حيث أنه أحد
فردي الواجب المخير.
واعلم أنه قد قسموا القبول الذي يتفرع عليه حكم الحفظ إلى أقسام، -
فمنه ما يكون واجبا كما إذا كان المودع مضطرا إلى الاستيداع، فإنه يجب على
كل قادر على ذلك واثق من نفسه بالحفظ قبول ذلك منه كفاية، ولوا نحصر في
واحد كان واجبا عليه عينا، ووجوب الحفظ على هذا واضح كفاية أو عينا، وقد
يكون مستحبا كما في الصورة المذكورة، إلا أن المودع غير مضطر لما فيه من
المعاونة على البر، وقضاء حوائج المؤمنين.
وقد يكون محرما كما إذا كان عاجزا عن الحفظ، أو غير واثق من نفسه
بالأمانة لما فيه من تعريض مال الغير إلى الذهاب، والتعرض للتفريط المحرم،
ومثله ما لو تضمن القبول ضررا على المستودع في نفسه أو ماله أو بعض المؤمنين،
وبهذا التقسيم يظهر وجوب الحفظ وعدمه، وأما كيفية الحفظ فسيأتي الكلام
فيه إن شاء الله تعالى.
وثانيها - ما ذكره من أنه لا درك عليه مع عدم التفريط، فالظاهر أنه
اجماعي نصا وفتوى، فمن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة عن
الحلبي في الصحيح أو الحسن (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: صاحب

(1) الكافي ج 5 ص 238 ح 1، التهذيب ج 7 ص 179 ح 3،
الفقيه ج 3 ص 193 ح 1، الوسائل ج 13 ص 227 ح 2.
403

الوديعة والبضاعة مؤتمنان ". وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة (1) في الصحيح أو الحسن " قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن وديعة الذهب والفضة فقال: كل ما كان من
وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم ".
والمراد بقوله لم يكن مضمونة أي لم يشترط المستودع فيها الضمان لمن
أودعه إياها، فإنه لا يلزمه، غرمها.
وعن إسحاق بن عمار (2) في الموثق " قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)
عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت فقال الرجل: كانت عندي وديعة،
وقال الآخر أنها كانت عليك قرضا، فقال: المال لازم له إلا أن يقيم البينة أنها
كانت وديعة ".
وما رواه المشايخ الثلاثة (رحمة الله عليهم) بأسانيدهم وفيها الصحيح وغيره
عن محمد بن مسلم (3) " عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألت عن الرجل
يستبضع المال فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم بعد
أن يكون الرجل أمينا ".
وما رواه (4) في التهذيب والفقيه في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي
عبد الله (عليه السلام) في رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق؟ قال:
هو مؤتمن " إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، وقد تقدمت جملة منها في الكتب
المتقدمة.
وثالثها - ما ذكره من عدم الضمان عليه لو أخذت منه قهرا، والظاهر

(1) الكافي ج 5 ص 239 ح 7 و 8، التهذيب ج 7 ص 179 ح 2 و 1.
(2) الكافي ج 5 ص 239 ح 7 و 8، التهذيب ج 7 ص 179 ح 2 و 1.
(3) الكافي ج 5 ص 238 ح 4، التهذيب ج 7 ص 184 ح 15، الفقيه ج 4092
(4) التهذيب ج 7 ص 184 ح 14، الفقيه ج 3 ص 194 ح 2.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 228 ح 4 و ص 232 ب 7 و ص 237 ح 8 و ص 227 ح 2.
404

أنه لا اشكال فيه، سواء كان قد تولى الظالم أخذها من يده أو من مكانها التي كانت
فيه، أو قهره على الاتيان بها فدفعها إليه، لانتفاء التفريط في كل من الحالين
وحينئذ فيرجع المالك على الظالم بالعين أو العوض: ونقل في المختلف عن أبي الصلاح أنه يضمن إذا سلمها بيده وإن خاف التلف، ولا ريب في ضعفه.
وهل للمالك الرجوع على المؤتمن في الصورة الثانية، من حيث أنه
باشر تسليم مال الغير إلى غير مالكه، بمعنى أنه يتخير في الرجوع على أيهما
شاء؟ استقرب العلامة في التذكرة ذلك على ما نقله عنه في المسالك، قال:
وعلى هذا فمعنى عدم ضمانه أنه لا يستقر عليه، بل يرجع بما غرم على الظالم،
واحتمله في المسالك أيضا إلا أنه قال: والأقوى عدم جواز مطالبته، لعدم تفريطه
ولأن الاكراه صير فعله منسوبا إلى المكره، ولأنه محسن فلا سبيل عليه، والتسليم
بإذن الشارع، فلا يستعقب الضمان، انتهى.
أقول: وهذا الاحتمال الذي استقربه في التذكرة يرجع إلى ما قدمنا نقله عن أبي الصلاح، وما ذكره في المسالك في رده جيد، يمكن تأييده بما تقدم في
كتاب المزارعة عن حديث سعيد الكندي (1) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
إني أجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم، قال: اعطهم فضل ما بينهما، قلت:
أنا لم أظلمهم ولم ازدد عليهم، قال: إنهم إنما زادوا على أرضك ".
فإنه ظاهر في أنه وإن كان الظالم إنما ظلم أولئك وأخذ من مالهم لكن
لما كان منشأه الأرض المذكورة حكم (عليه السلام) بذلك على المالك، ومثله
ما لو طلب الظالم مالا في ذمته لزيد بقصد الظلم لزيد، فإن مقتضى الخبر أنه
لا يرجع زيد بما أخذه الظالم على من كان المال في ذمته، فبطريق الأولى لا يرجع
فيما نحن فيه من حيث قبضه عين الأمانة.
وبالجملة فالظاهر عندي ضعف ما نقل عن العلامة من قرب القول المذكور

(1) التهذيب ج 7 ص 208 ح 61، الوسائل ج 13 ص 211 ح 10.
405

نعم لو كان الأمين هو الساعي بها إلى الظالم، ولم يقدر بعد ذلك على دفعه، فإنه
لا يبعد ضمانه من حيث تفريط في الحفظ بالسعاية إليه، وبذلك صرحوا جازمين
بالحكم المذكور، بخلاف ما لو كان السعاية من غيره، أو علم بها الظالم من غير
سعاية أحد.
قالوا: ومثله ما لو أخبر اللص بها فسرقها وهو ظاهر فيما لو أخبره
بمكانها، أما لو أخبره بها في الجملة فإن ظاهر العلامة في التذكرة: أنه لا يضمن.
قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه: ويشكل مع كونه سببا في السرقة
لأنه تفريط نعم لو لم يقصدها اللص فاتفقت مصادفته لها توجه ذلك، وهذا بخلاف
الظالم، فإنه بعمله يضمن مطلقا، والفرق أن الظالم إذا علم بها أخذها قهرا
والسارق لا يمكنه أخذها إلا إذا علم موضعها، انتهى.
أقول: وما ذكره في الفرق يرجع إلى ما قدمناه من أنه لا يضمن في صورة
اخبار السارق إلا مع اخباره لمكانها فلا وجه لما ذكره من الاستشكال ودعوى الضمان
بكونه سببا في السرقة وأنه تفريط، فإن ذلك لا يتم إلا مع الاعلام بالمكان كما
لا يخفى، وبما ذكرناه في المقام يعلم ما في كلام بعض مشايخنا الأعلام من متأخري
المتأخرين الكرام في بعض أجوبة مسائله من الغفلة في المقام، حيث سأله السائل
بما صورته إذا سأل الجائر هل عندك وديعة لفلان أم لا؟ فقال: نعم فأنفذ إلى داره
وأخذها، فهل يضمن الودعي أم لا؟ فإن اعتذر بأن خاف الكذب فهل يعذر أم لا؟
فأجاب بما صورته أقول: هنا مسألتان: أما الأولى فلا يضمن الودعي بمجرد اخباره
- إذا لم ينقلها إليه وإن كان السبب في اتلافه اخباره بها - لكنه فعل محرما
لا عانته على المعصية، لأن الدال على الشر كفاعله، وأما الثانية فالكذب هنا غير
حرام بل واجب، لحفظ مال المسلمين من التلف، وقد ورد في الحديث أن الله
يبغض الصدق في الافساد كما يحب الكذب في الاصلاح، انتهى.
فإن فيه كما عرفت من كلامهم أنه متى كان هو الساعي بها إلى الظالم والسبب
406

في أخذها فإنه يكون ضامنا، ولا ريب أنه في اخباره الظالم بذلك بعد سؤاله
له يكون قد سعى بها إليه.
ويؤكده أيضا ما ذكروه وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى من أنه لو يتمكن من
الدفع وجب، ولو لم يفعل ضمن، فإنه إذا كان يضمن بعدم الدفع عنها لكونه مستلزما
للتفريط في حفظها، فلأن يضمن مع اخباره بها بطريق أولى، إلا أني لم أقف
في الحكم المذكور على نص بالخصوص يوجب الضمان في الصورة المذكورة،
وإن كان ظاهر كلامهم الاتفاق على ذلك، ولعل المستند فيه صدق التفريط بذلك
والنصوص قد دلت على الضمان معه، وظاهر كلامه تخصيص الضمان بصورة نقلها
إليه ودفعها بيده دون السعي بها.
وبالجملة فالظاهر أن كلامه هنا ناش عن الغفلة عن مراجعة كلام الأصحاب
واعطاء التأمل حقه في الباب، والله العالم.
ورابعها - ما ذكره من أنه لو تمكن من الدفع وجب، أي تمكن من دفع
الظالم عن الوديعة، ولا اشكال في وجوبه، لوجوب الحفظ عليه كما تقدم، فيجب
كلما توقف عليه، فلو أهمل مع قدرته على ذلك ضمن بالتقريب المتقدم، سواء
كان الدفع بالاختفاء والتواري عن الظالم، أو التوسل إلى ذلك بالوسائل، ولو
توقف ذلك على دفع المال منها أو من غيرها بحيث لا يندفع بدونه عادة، قال في
المسالك: الأقرب جوازه، ويرجع به على المالك إن لم يمكن استيذانه قبل
الدفع، أو استيذان وليه، وعدم نية التبرع ولو ترك الدفع عنها ببعضها مع إمكانه
ضمن، ما يزيد عما يدفعه به لا الجميع لأن مقدار المدفوع ذاهب على التقديرين
انتهى.
وأشار بقوله: ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع كالجرح وأخذ المال
إلى أنه لو كان الضرر قليلا وجب تحمله في دفع الظالم إلا أن فيه أن ذلك مما
يختلف باختلاف أقدار الناس ومراتبهم، فرب رجل لمزيد شرفه ورفعة قدره
407

يكون الكلمة اليسيرة من الأذى ضررا كثيرا في حقه، ورب رجل لا يكون
الضرر في حقه لمهانته وضعته ضررا كثيرا، إلا أن يقيد بذلك فيكون المعتبر
ما كان ضررا كثيرا بالنسبة إلى المؤتمن لا مطلقا، والأظهر حمل الضرر على
ما كان كذلك في حد ذاته عرفا لا بالنسبة إلى المؤتمن، فلا يجوز له وإن كان
شريفا على المرتبة دفع الوديعة بمجرد كلمة تؤذيه وإن كانت ضررا كثيرا
بالنسبة إليه كما تقدم، ويؤيده أنه الأوفق بالاحتياط لبرائة الذمة.
وخامسها - ما ذكره من أنه لو أنكرها وطولب باليمين إلى آخره، فإنه
جيد إذ لا ريب في أن حفظ الأمانة واجب عليه وهو موقوف هنا على هذه اليمين
الكاذبة، والأخبار قد دلت على جوازها في أمثال هذا المقام فإذا أبيحت في
أمثال ذلك كانت هنا واجبة، لتوقف الواجب، وهو الحفظ عليها من باب مقدمة
الواجب، إلا أنهم ذكروا أنه يوري في يمينه للتحرز عن الكذب إن أمكن
وعرفها، وإلا حلف من غير تورية، وعلله في المسالك قال: لأنه وإن كان قبيحا
إلا أن ذهاب حق الآدمي أشد قبحا من حق الله تعالى في اليمين الكاذبة فيجب
ارتكاب أخف الضررين.
وفيه نظر لأنا نمنع ما ذكره من قبح اليمين في هذه الحال، بعد إذن
الشارع بها، وهو قد اعترف أيضا بذلك بعد هذا الكلام، فقال: لأن اليمين
الكاذبة عند الضرورة مأذون فيها شرعا كمطلق الكذب النافع، وحينئذ فأي
وجه للقبح بعد الإذن الشرعي فيها.
وكيف يكون قبيحا مع كونه واجبا كما صرح به هو وغيره في المقام،
وإلا لزم اجتماع القبح والحسن والضرر والنفع في شئ واحد، فيلزم الذم والمدح
والثواب والعقاب في شئ واحد، وهو محال. وكون الكذب قبيحا في حد ذاته
لا يستلزم كونه هنا قبيحا بعد ما عرفت.
ومن الأخبار التي تدل على ما ذكرنا هنا من أرجحية اليمين الكاذبة
408

ومشروعيتها ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن عن أبي الصباح الكناني (1)
" قال: والله لقد قال لي جعفر بن محمد (صلوات الله عليه): إلى أن قال: ثم
قال: ما صنعتم من شئ أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة "،
وروى في الفقيه مرسلا (2) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): التقية في كل
ضرورة وصاحبها أعلم بها حين نزل به ".
وروى في الفقيه والتهذيب عن السكوني (3) " عن جعفر عن أبيه عن آبائه
عن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): احلف
بالله كاذبا ونج أخاك من القتل ".
وروى في الفقيه بسنده إلى ابن بكير عن زرارة (4) " قال: قلت لأبي جعفر
(عليه السلام) نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نخلف لهم ويخلون سبيلنا
ولا يرضون منا إلا بذلك: قال فاحلف لهم فهو أحلى من التمر والزبد ".
وروى فيه أيضا بسنده عن الحلبي (5) " قال: سألته عن الرجل يحلف
لصاحب العشور يحرز بذلك ماله؟ قال: نعم ".
وما رواه في الكافي عن محمد بن مسعود الطائي (6) " قال: قلت لأبي الحسن
(عليه السلام): إن أمي تصدقت علي بدار لها أو قال: بنصيب لها في دار، فقالت
لي: استوثق لنفسك فكتبت أني اشتريت وأنها قد باعتني وأقبضت الثمن فلما
ماتت قال الورثة: احلف أنك اشتريت ونقدت الثمن، فإن حلفت لهم أخذته،

(1) الكافي ج 7 ص 442 ح 15، التهذيب ج 8 ح 1052، الوسائل ج 16
ص 162 ح 2.
(2) الفقيه ج 3 ص 230 ح 15 الوسائل ج 16 ص 163 ح 7.
(3) الفقيه ج 3 ص 230 ح 15 الوسائل ج 16 ص 163 ح 7.
(3) الفقيه ج 3 ص 235 ح 41، التهذيب ج 8 ص 300 ح 103، الوسائل
ج 16 ص 162 ح 4.
(4) الفقيه ج 3 ص 230 و ص 231 ح 14 و 21، الوسائل ج 16 ص 163 ح 6 و 8.
(5) الفقيه ج 3 ص 230 و ص 231 ح 14 و 21، الوسائل ج 16 ص 163 ح 6 و 8.
(6) الكافي ج 7 ص 32 ح 17. الوسائل ج 13 ص 301 ح 5
409

وإن لم أحلف لهم لم يعطوني شيئا، قال: فقال: فاحلف وخذ ما جعلت لك "،
ونحو هذا الخبر ما رواه في التهذيب الفقيه عن محمد بن أبي الصباح (1)
عن أبي الحسن.
وأما ما يدل على جواز التورية في اليمين فهو ما رواه في الكافي عن
صفوان (2) في الصحيح أو الحسن " قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن
الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه؟ قال: اليمين على الضمير ".
رواه في الفقيه عن إسماعيل بن سعد الأشعري (3) عن أبي الحسن الرضا
مثله، ثم قال: يعني على ضمير المظلوم، كأنه بنى على ما يظهر من الخبر الآتي
إلا أن الظاهر عندي أنه أريد بذلك جواز التورية، وإن كان في غير مقام الظلم.
وما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (4) " قال: سمعت أبا عبد الله
(عليه السلام) وسئل عما يجوز وعما لا يجوز في النية على الاضمار في اليمين،
فقال: قد يجوز في موضع، ولا يجوز في موضع آخر، فأما ما يجوز فإذا كان
مظلوما فما حلف عليه ونوى اليمين فعلى نيته، وأما إذا كان ظالما فاليمين على
نية المظلوم ".
والظاهر أن المراد منه أن التورية إنما تصح في حال كونه مظلوما،
وأراد الحلف للنجاة من الظالم كما هو محل البحث في المقام، وأما لو كان
ظالما وأراد الحلف لا ثبات ما يدعيه ظلما فإن التورية لا ينفع هنا، ولا تدفع
عنه ضرر اليمين دنيا وآخرة، بل تصير يمينا كاذبة بالنظر إلى نية المظلوم.
وكيف كان فإنه متى ترك الحلف عند توقف حفظ المال عليه فأخذه
الظالم فإنه يضمنه لما عرفت من حصول التفريط بذلك، وبه صرح الأصحاب
أيضا والله العالم.

(1) التهذيب ج 9 ص 138 ح 27، الفقيه ج 4 ص 183 ح 24، الوسائل
ج 16 ص 211 ح 1.
(2) الكافي ج 7 ص 444 ح 3 و 2، الفقيه ج 3 ص 233 ح 30، الوسائل ج 16 ص 179 ح 2 و 1 و 1 من باب 20.
(3) الكافي ج 7 ص 444 ح 3 و 2، الفقيه ج 3 ص 233 ح 30، الوسائل ج 16 ص 179 ح 2 و 1 و 1 من باب 20.
(4) الكافي ج 7 ص 444 ح 3 و 2، الفقيه ج 3 ص 233 ح 30، الوسائل ج 16 ص 179 ح 2 و 1 و 1 من باب 20.
410

الرابع - الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أن الوديعة كما تبطل بالفسخ تبطل
بالموت والجنون والاغماء من أحد الطرفين، أما على القول بكونها إذنا فواضح، وأما
على القول بكونها عقدا كما هو المشهور فلأنه لا خلاف بينهم في كونه من
العقود الجائزة ومن شأن العقود الجائزة البطلان بذلك كالوكالة ونحوها، لخروج
كل منهما عن أهلية التكليف بحصول أحد هذه الأسباب الثلاثة، ولأن المال
انتقل إلى الغير بالموت فلا يصح التصرف فيه إلا بإذن المالك، وهو الوارث
وفي الجنون ونحوه قد خرج عن أهلية التكليف، وصلاحية الإذن، والتصرف
فهو في معنى الميت، ومتى ثبت البطلان كانت أمانة شرعية يجب ردها إلى
المالك فورا، فإن اتفق أحد هذه الأسباب للمودع وجب على المستودع المبادرة
إلى ردها إلى المالك في صورة الفسخ، وإلى الوارث في صورة الموت وإلى الولي
والحاكم في صورة الجنون والاغماء، وإن اتفق ذلك للمستودع وجب ردها إلى المالك في
صورة الفسخ وإلى الولي والحاكم في صورة الجنون والاغماء وعلى الوارث في صورة الموت
قالوا: ومعنى كونها أمانة شرعية بعد ذلك لحصولها في يده بغير إذن المالك، لكنها غير
مضمونة عليه الإذن الشارع في وضع اليد عليها إلى أن يردها على وجهه، ومن حكم الأمانة
الشرعية وجوب المبادرة بردها على الفور إلى المالك، أو من يقوم مقامه، فإن أخر عن ذلك
مع قدرته ضمن، ولو تعذر الوصول إلى المالك أو وكيله أو وليه الخاص سلمها إلى الحاكم
لأنه ولي الغائب، بقي الكلام هنا في أنه متى مات المودع وطلب الوارث الوديعة من
المستودع مع شك المستودع في كونه وارثا أو في انحصار الإرث فيه وأراد
البحث عن ذلك، وتحقيق الحال، والحال أنه ليس ثمة حاكم يرجع إليه، فهل
يكون ضامنا؟ والحال هذه، قال في المسالك: الأقوى عدم الضمان، خصوصا مع
الشك في كون الموجود وارثا، لأصالة عدمه.
وأما مع العلم بكونه وارثا فالأصل أيضا عدم استحقاقه، لجميع المال
والقدر المعلوم إنما هو كونه مستحقا في الجملة، وهو لا يقتضي انحصار الحق
411

فيه، وأصالة عدم وارث آخر معارضة بهذا الأصل، فيبقى الحكم في القابض،
وجوب البحث عن المستحق، كنظائره من الحقوق، انتهى.
أقول: لا اشكال في قوة ما رجحه (رحمة الله عليه) وقواه في صورة الشك
في كونه وارثا، وإنما يبقى الاشكال في صورة العلم بكونه وارثا مع عدم العلم
بالانحصار فيه، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه) هنا خلاف ما ذكره،
حيث قال - في شرح الإرشاد بعد أن ذكر أنه متى كان الميت أو الخارج عن
صلاحية الايداع هو المالك، فيمكن وجوب الرد إلى الوارث ما لفظه: -
الظاهر وجوبه أو جوازه وإن لم يعلم الانحصار فيه، ولا يجوز مع الشك في أنه
وارث، ودليل الأول الأصل عدم وارث آخر مع العلم باستحقاق الموجود، ولا
يعارض بأصل عدم استحقاق الكل، لأن الاستحقاق واضح، ووجود آخر مانع،
وظاهر كلام البعض عدم الوجوب، بل عدم الجواز مع عدم العلم بالحصر، وهو
محل التأمل، انتهى.
والظاهر أنه أشار بالبعض إلى ما قدمنا نقله عن المسالك، وبالجملة
فالمسألة محل توقف واشكال، لعدم الدليل الواضح القاطع لمادة القيل والقال،
ويمكن ترجيح ما ذكره المحقق المشار إليه بأنه متى علم كونه وارثا ولم يعلم
وارث سواه إلا بمجرد احتمال وجوده، فإن ظاهر آيات الإرث وأخباره يقتضي
الحكم بإرثه لجميع التركة، فقول شيخنا - المتقدم ذكره - الأصل عدم استحقاقه
لجميع المال ممنوع، فإن مقتضى الأدلة الاستحقاق، للجميع لمعلومية كونه
وارثا، وإنما يعارضه احتمال وجود آخر، والظاهر أنه لا دليل شرعا على تأثير
هذا الاحتمال في دفع ما علم بظاهر الأدلة المذكورة، فإنه إذا قام الدليل على
أن الولد يرث أباه مثلا، ومات الأب وله ولد معلوم، واحتمل أن يكون له ابن
آخر، فإن مقتضى الأدلة وجوب دفع التركة إلى الولد المذكور المعلوم كونه
وارثا، واحتمال وجود غيره لا يؤثر شرعا في دفعه عن الجميع، والله العالم.
412

ثم إنهم قالوا: إن من جملة أحكام الأمانة الشرعية - مع ما تقدم من
وجوب المبادرة إلى ردها وإن لم يطالب المالك - أنه لا يقبل قول من هي في يده
في ردها إلى المالك مع يمينه، بخلاف الوديعة، والفرق أن المالك لم يستأمنه
عليها، فلا يقبل قوله في حقه مع أصالة عدمه، بخلاف الوديعة، مع ما انضم
إليه من الاحسان الموجب لمنع السبيل.
ولها صور كثيرة: أحدها - ما ذكر من الوديعة التي يعرض لها البطلان،
وكذا غيرها من الأمانات كالمضاربة، والشركة، والعارية.
ومنها ما لو أطارت الريح ثوبا ونحوه إلى داره.
ومنها ما لو انتزع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.
ومنها ما لو أخذ الوديعة من صبي أو مجنون عند خوف تلفها.
ومنها ما يصير بأيدي الصبيان من الأموال التي يكتسبونها بالقمار كالجوز
والبيض، وعلم بها الولي، فإنه يجب عليه رده إلى مالكه، أو وليه.
ومنها ما لو استعار صندوقا ونحوه أو اشتراه أو غيره من الأمتعة فوجد فيه
شيئا فإنه يكون أمانة شرعية، وإن كان المستعار مضمونا.
ومنها اللقطة في يد الملتقط مع ظهور المالك، وضابطه ما كان وضع اليد
عليه من غير إذن المالك مع الإذن فيه شرعا والله العالم.
الخامس - يجب حفظ الوديعة بما يناسب حالها، والوجه فيه أنه حيث
علم من الشارع وجوب الحفظ، ولم يعلم منه كيفية معينة لذلك، وجب الرجوع
في ذلك إلى العادة والعرف الذي عليه الناس، كالدنانير والدراهم، فإن محل
حفظها الصندوق المقفل، والثياب منها ما يكون محل حفظه الصندوق أيضا،
ومنها ما يكون البيت، والدابة في الإصطبل، والشاة في المراح ونحو ذلك،
ولو جعل أحد هذه الأشياء في مكان أوثق في الحفظ كالشاة والدابة في الدار المغلقة،
فالظاهر أنه مزيد احسان لا يتعقبه الضمان، وربما قيل: بالضمان من حيث مخالفة
413

المعهود والمعتاد، والظاهر ضعفه، والظاهر أنه لا فرق بين علم المودع بأن
المستودع متمكن من تحصيل الحرز وعدمه، فلو أودعه مالا مع علمه أنه لا صندوق
عنده أو دابة مع علمه أنه لا اصطبل عنده أو نحو ذلك، فإنه لا يكون ذلك عذرا
بل يجب الحفظ عليه في المكان المعتاد له متى قبل الوديعة.
قال في المسالك. واعلم أنه ليس مطلق الصندوق كافيا في الحفظ، بل
لا بد معه من كونه محرزا عن غيره، أما بأن لا يشار كه في البيت الذي فيه الصندوق
يد أخرى مع كون البيت محرزا بالقفل ونحوه، وكون الصندوق محرزا بالقفل
كذلك، وكونه كبيرا لا ينقل عادة، بحيث يمكن سرقته كذلك مقفلا، وهكذا
القول في الإصطبل والمراح وغيرها انتهى.
ولا يخلو من اشكال سيما مع علم المودع ورضاه بما هو دون هذا القدر من
الضبط، والظاهر أنه لا يعتبر في وجوب ضبط الوديعة وحفظها أزيد مما يعتبر من
ضبط المالك لماله وحفظه له، وزيادة حرسه على حفظه، وهو لا يبلغ إلى هذا
المقدار، سيما ما ذكره من أن لا يشار كه في ذلك البيت الذي فيه الصندوق يد
فإن الانسان لا يخلو من العيال والأزواج والأولاد والخدم الذين يترددون في
البيت دخولا وخروجا، والانسان لا يمكنه الاحتباس في البيت لأجل المحافظة،
بل يحتاج إلى التردد في حوائجه من الأسواق وغيرها، وبما صرح به في المسالك
من الكلام في هذا المقام صرح به العلامة في التذكرة أيضا: فقال: لو كانت له
خزانة مشتركة بينه وبين ابنه، فدفع الوديعة إلى ابنه ليضعها في الخزانة المشتركة
فالأقرب الضمان، إلا إذا علم المالك بالحال، ثم قال: لا يجوز أن يضع الوديعة
في مكان مشترك بينه وبين غيره، كد كان أو دار مشتركة إلى آخره وهو مشكل
كما عرفت، وقد تنبه لما ذكرناه من الاشكال أيضا المحقق الأردبيلي
(رحمة الله عليه) في شرح الإرشاد.
السادس - لو أودعه دابة، والمراد بها مطلق الحيوان المحترم حتى العبد
414

فإما أن يأمره بالانفاق عليه أو ينهاه عن الانفاق، أو يطلق فههنا صور ثلاث:
الأولى - أن يأمره وحينئذ فيجب عليه كما صرحوا به، ويرجع بذلك
على المالك، ولو أخل به كان مفرطا ضامنا، ويحصل التفريط والضمان، ولو بمرة
واحدة، وفي كل موضع يحصل به التفريط يكون ضامنا، ويخرج عن كونه
أمينا بمقتضى القاعدة المقررة عندهم، من أنه لو خالف وتعدى، فإنه يخرج عن
كونه ودعيا أمينا، ولا يرجع إلى ذلك إلا بإذن جديد من المالك، ولو امتنع
المستودع من الانفاق في هذه الصورة، فقد صرح في التذكرة بأنه متى مضت
مدة تموت مثل الدابة في مثل تلك المدة نظر، فإن ماتت ضمنها، وإن لم تمت
دخلت في ضمانه، وإن نقصت ضمن النقصان، قال: وتختلف المدة باختلاف الحيوان
قوة وضعفا.
الثانية - أن ينهاه عن الانفاق فإن ترك الانفاق امتثالا لأمره، قالوا: كان
عاصيا لله تعالى لما فيه من تضيع المال المنهي عنه، لأنها من الأموال المحترمة
التي لا يجوز اتلافها بغير وجه شرعي، ومرجعه إلى أن الانفاق (حق الله تعالى)
كما هو حق للمالك، فلا يسقط حق الله تعالى باسقاط المالك حقه، وهل يضمن
في هذه الحال استشكل ذلك في التذكرة، ثم قرب العدم، قال: وهو قول الشافعية
كما قال: اقتل دابتي فقتلها أو أمره برمي قماشه في البحر فرماه، أو أمره
بقتل عبده فقتله، فإنه يأثم ولا ضمان عليه، فكذا هنا انتهى.
والواجب في هذه الصورة رفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بذلك ويجبره
عليه، لما عرفت من عدم جواز اتلاف المال بغير وجه شرعي، وترك الانفاق موجب
لذلك، قالوا: وللحاكم أن يستدين عليه أو يبيع بعض الوديعة للنفقة، أو بعض
أمواله لذلك، وأن ينصب أمينا من قبله، فإن تعذر جميع ذلك أنفق المستودع
وأشهد ويرجع بما أنفقه مع قصد الرجوع، ولو تعذر الاشهاد فظاهر هم الاقتصار
على نية الرجوع، فينفق بنية الرجوع كما تقدم في أمثاله.
415

الثالثة: أن يطلق وقد صرح في المسالك بأنه يجب التوصل إلى إذنه أو
إذن وكيله، فإن تعذر رفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بذلك إلى آخر ما تقدم
في سابق هذه الصورة، وقال العلامة في التذكرة: وإن أطلق الايداع ولم يأمره
بالعلف والسقي ولم ينهه عنهما يجب على المستودع العلف والسقي، لأنه التزم
بحفظها، ولأنه ممنوع من اتلافها جوعا، فإذا التزم حفظها تضمن ذلك علفها
وسقيها، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه العلف والسقي، لأنه
استحفظه إياها ولم يأمره بعلفها، وقد بينا الأمر الضمني، انتهى.
وظاهر هذا الكلام أنه يجب على المستودع القيام بذلك كما في الصورة
الأولى، ولا فرق بينهما إلا باعتبار كون الأمر في الأولى صريحا وفي هذه الصورة
ضمنيا، وإلا فهو مأمور في الصورتين، وهو ظاهر في خلاف ما قدمنا نقله عن
المسالك في هذه الصورة.
وأصرح منه في ذلك كلام المحقق الأردبيلي حيث قال: ثم إن الظاهر
أن حكم الاطلاق هو حكم الأمر بالعلف والسقي، لوجوبهما عليه، فكأنه قال:
وديعة عندك واعلفها واسقها، فالأمر الضمني فيها هنا موجود، وحكمه حكم
الصريح، أشار إليه في التذكرة، انتهى، إلا أنه قال في التذكرة أيضا بعد
هذه المسألة بلا فصل: مسألة لا خلاف في أنه لا يجب على المستودع الانفاق
على الدابة والآدمي من ماله، لأصالة البراءة والتضرر المنفي شرعا، لكن إن
دفع المالك إليه النفقة فذاك، وإن لم يدفع إليه فإن كان المالك قد أمره بعلفها
وسقيها رجع به عليه، لأنه أمره بالانفاق على ماله فيما عاد نفعه عليه، فكان
كما لو ضمن عنه ما لا يأمره وأداه عنه، وإن أطلق الايداع ولم يأمره بالعلف
والسقي ولا نهاه فإن كان المالك حاضرا أو وكيله، طالبه بالانفاق عليه، أو
أذن له بالمالك في الانفاق، فينفق ويرجع به إن لم يتطوع بذلك، وإن لم يكن
المالك حاضرا ولا وكيله رفع الأمر إلى الحاكم، إلى آخر ما قدمنا ذكره
416

في الصورة الثانية، بما يرجع إليه في المعنى.
وأنت خبير بما في هذا الكلام من المدافعة لما قدمنا نقله عنه أولا، فإن
مقتضى الأول هو حصول الأمر بالانفاق، وإن كان أمرا ضمنيا، فيجب الانفاق
حينئذ على المستودع بعد قبوله الوديعة، وهو صريح كلام المحقق الأردبيلي
كما عرفت مسندا له إلى التذكرة، كما قدمنا نقله عنه، فأين هذا من كلامه
الثاني.
ثم إنه قال في التذكرة - أيضا في هذه المسألة الأخيرة: - ولو ترك
المستودع الانفاق مع اطلاق الاستيداع ولم يرفع إلى الحاكم ولم ينفق عليها
حتى تلفت ضمن أن كانت تلفت من ترك ذلك، لأنه تعدى بتركه، وإن تلفت في
زمان لا يتلف في مثله لعدم العلف، لم يضمن، لأنها لم تتلف بذلك.
قالوا: وفي حكم النفقة ما يحتاج إليه المريض من دواء، وفي حكم
الحيوان الشجر الذي يحتاج إلى السقي ونحوه من الخدمة، وحيث ينفق مع
عدم الاشهاد إما لتعذره، أو لعدم اشتراطه، فلو اختلفا في قدره فالقول قول
المستودع مع يمينه، ولو اختلفا في مدة الايداع، فالقول قول المودع عملا
بالأصل في الموضعين.
تنبيهان:
الأول - اطلاق كثير من عباير الأصحاب يدل على جواز أن يتولى المستودع
علف الدابة وسقيها بنفسه، أو غلامه أمينا كان ذلك الغلام أم غير أمين غائبا كان
المستودع أو حاضرا، والوجه في ذلك الجرئ على ما هو مقتضى العادة من تولي
الغلام والخادم لذلك، إلا أنه قال في المسالك - بعد نقل ذلك: - وليس كل
ذلك جائزا هنا بل إنما يجوز تولي الغلام لذلك مع حضور المستودع عنده،
ليطلع على قيامه بما يجب، أو مع كونه أمينا، وإلا لم يجز، ونحو ذلك صرح
في التذكرة، والوجه في ذلك أما في جواز الاستنابة مع الحضور فظاهر.
417

وأما مع كونه أمينا فلقضاء العادة بالاستنابة في ذلك، ولولا ذلك لما جاز
لما يتضمنه من ايداع الودعي، وهو غير جائز عندهم مع الامكان كما سيأتي ذكره
انشاء الله تعالى، وربما قيل: بأن ذلك فيمن يمكن مباشرته لهذا الأمر ونحوه،
أما من لا يكون كذلك فإنه يجوز له الاستنابة كيف كان.
ورده في المسالك بالضعف، ولا يخلو من اشكال، فإن الظاهر أن الودعي
مع علمه بأن المستودع يترفع عن هذا الأمر، ولا يباشره بنفسه، وإنما يباشره
خدمه مثلا ومع ذلك أودعه، فإنه إنما أو دعه لقبوله لذلك، ورضاه بما هو عادة
الرجل المذكور وطريقته الجارية في أمواله ودوابه.
والظاهر أن المراد بالأمين هنا هو من تسكن النفس إلى فعله، وأنه
لا يخالف ما يؤمر به، لا العدل، وإلا أشكل غاية الاشكال وصار الأمر عضالا بذلك
وأي عضال.
الثاني - قد صرح جملة منهم المحقق والعلامة: بأنه لا يجوز اخراج
الدابة من المنزل إلا مع الضرورة، كعدم إمكان السقي أو العلف في المنزل،
ولا ضمان عليه، والوجه في الأول أن النقل تصرف فيها، وهو غير جائز مع
إمكان تركه، والثاني في أن الحفظ يتوقف على ذلك، فإنه من ضروريات الحيوان،
ولا فرق في المنع من اخراجها لذلك بين كون الطريق أمنا أو مخوفا، لما
عرفت من أن النقل تصرف وهو غير جائز مع إمكان تركه، ولا بين كون العادة
مطردة بالاخراج وعدمه لما ذكر، ولا بين كون المتولي لذلك المستودع بنفسه
أو غلامه، مع صحبته له وعدمها، لا تحاد العلة في الجميع.
وقرب في التذكرة عدم الضمان لو أخرجها مع أمن الطريق، وإن أمكن
سقيها في موضعها، مستندا إلى اطراد العادة بذلك، قال في الكتاب المذكور:
إذا احتاج المستودع إلى اخراج الدابة لعلفها أو سقيها جاز له ذلك، لأن الحفظ
يتوقف عليه ولا ضمان، ولا فرق بين أن يكون الطريق أمنا أو مخوفا إذا خاف
418

التلف بترك السقي، واضطر إلى اخراجها من غير ضرورة العلف والسقي، فإن
كان الطريق آمنا لا خوف فيه وأمكنه سقيها في موضعها فالأقرب عدم الضمان،
لاطراد العادة بذلك وهو أظهر قولي الشافعي.
السابع - لا خلاف في أنه متى عين له موضعا لحفظ الوديعة، فإنه لا يجوز
له نقلها إلى ما هو دونه، أما لو نقلها إلى ما هو أحرز فقد ذهب جمع من
الأصحاب إلى الجواز، محتجين بالاجماع ودلالة مفهوم الموافقة عليه، وظاهر
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في ذلك، نظرا إلى مقتضى التعيين،
ومنه دلالة مفهوم الموافقة هنا، قال: فإن الأغراض تختلف في مواضع الحفظ
اختلافا كثيرا من غير التفات إلى كون بعضها أحفظ من بعض، والاجماع على
جوازه ممنوع، بل ظاهر جماعة من الأصحاب منع التخطي مطلقا، انتهى.
ونقل في المسالك عن الشهيد في حواشيه على كتاب القواعد القول بعدم
الجواز هنا أيضا، واختاره المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه) أيضا في شرح
الإرشاد، ونقله عن ابن إدريس والمحقق الشيخ على.
ولو نقلها إلى المساوي فقولان: الجواز نظرا إلى أن التعيين أفاد الإذن
في حفظها فيما كان في تلك المرتبة، كما في تعيين نوع الزرع والمراكب في
الإجارة، فإنهم جوزوا التخطي إلى المساوي، لتوافق المتساويين في الضرر
والنفع المأذون فيه.
وقيل: بالمنع وهو اختياره في المسالك، قال: لعدم الدليل على جواز
تخطي ما عينه، والحاق مساويه به قياس.
أقول: والمسألة لخلوها من النصوص في الموضعين محل توقف، وإن كان
ما اختاره في المسالك في الموضعين المذكورين لا يخلو من قوة، سيما مع
أوفقيته بالاحتياط المطلوب، بل الواجب في أمثال هذه الفروع الخالية من
النصوص، وعلى هذا فلو نقلها إلى الأحرز أو المساوي ضمن، وعلى القول بالجواز
419

لا ضمان عليه، إلا أنه نقل عن العلامة هنا أيضا القول بالضمان، فإنه قال: بجواز
النقل إليهما والضمان مع تلفها فيهما، وهو مشكل، فإن قضية الجواز تنفي
الضمان كما لا يخفى.
نعم لم علم الخوف عليها في المكان المعين أو ظن ظنا قويا فالظاهر أنه
لا اشكال في جواز النقل، وينبغي أن يتحرى في ذلك الأحرز، ثم المساوي مع
الامكان، ثم الأدون، لسقوط حكم المعين في الحال المذكورة.
والظاهر أنه لا ضمان عليه في الصورة المذكورة، حيث أنه مأذون فيه،
وهو محسن في ذلك، فلا سبيل عليه، ولو نهاه المالك عن النقل عن ذلك المكان
المعين، فقد صرحوا بأنه يضمن بالنقل كيف كان ولو إلى الأحرز اجماعا، إلا
أن يخاف تلفها فيه، فإنه يجوز النقل وإن نهاه المالك والحال كذلك، وقال
له: لا تنقلها وإن تلفت، وعللوا ذلك بأن الحفظ عليه واجب، ولا يتم إلا بالنقل،
وللنهي عن إضاعة المال، فلا يسقط هذا الحكم بنهي المالك وإن صرح بقوله
وإن تلفت، وعندي فيه نظر، لأن مرجع ما ذكروه إلى وجوب الحفظ على
الغير، مع قصد المالك إضاعة ماله واعراضه عنه، ولا أعرف عليه دليلا، والأصل
براءة الذمة من هذا التكليف، قولهم للنهي عن إضاعة المال مسلم بالنسبة إلى
مالكه خاصة، وكذا وجوب الحفظ، فإنه بالنسبة إلى المالك ونحوه، ووجوب
الحفظ على المستودع إنما يعلم مع عدم قصد المالك إضاعته واتلافه، وأما إذا
قصد ذلك فأي دليل يدل على وجوب حفظ الغير عليه، مع أنه ليس بطفل ولا
مجنون يجب حفظ ماله على غيره.
وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه هنا وجها وجيها، ثم إنهم قالوا: لو ترك
نقلها والحال كما ذكرنا أثم ولا ضمان، لا سقاط المالك ذلك عنه، وقد عرفت
ما في الإثم من الاشكال أيضا.
ولو توقف النقل على أجرة قال في التذكرة: إنه لا يرجع بها على المالك،
420

فإنه متبرع، واستحسنه في المسالك إلا أنه احتمل أيضا الرجوع مع نيته، قال:
لإذن الشارع له في ذلك فيقدم على إذن المالك، ولأن فيه جمعا بين الحقين مع
مراعاة حق الله تعالى في امتثال أمره بحفظ المال، انتهى.
أقول: لا يخفى ما في هذا الاحتمال، بناء على ما قدمنا ذكره من النظر.
الثامن - الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في عدم صحة وديعة الطفل والمجنون
ولا ايداعهما، بمعنى أنه لا يترتب على ذلك أحكام الوديعة، أما الحكم الأول -
فلأنه لا شبهة في عدم أهليتهما للإذن، واللازم منه كون يد المستودع على المال
يدا عادية بغير حق، فيضمن البتة سواء كان المال لهما أو لغيرهما وإن ادعيا الإذن
في ايداعه.
بقي هنا شئ وهو أن ظاهر جملة من الأصحاب اطلاق الضمان هنا كما
ذكرناه، والأقرب كما قواه في المسالك أيضا أنه لو كان قبضه للوديعة بعنوان
استنقاذها من يديهما، وخوف هلاكها عندهما بنية الحسبة في الحفظ، فإنه لا
ضمان عليه، لأنه محسن، وما على المحسنين من سبيل.
لكن يجب مراجعة الولي أو الحاكم الشرعي إن أمكن، وإلا كان في يده
وترتب عليه أحكام الوديعة، إلا أنه لا يبرء بالرد إليهما، لا في هذه الصورة ولا في
الصورة المتقدمة، للحجر عليهما المانع من ذلك، ولا يبرء إلا بالرد إلى الولي
أو الحاكم أو هما بعد زوال المانع.
وأما الحكم الثاني فلأنه لو استودعهما لم يضمنا بالاهمال، فإن المودع لهما
مع علمه بعدم تكليفهما قد أهمل ماله، وأتلفه، ولأن الضمان بالاهمال إنما
يثبت حيث يجب الحفظ، والوجوب غير متعلق بهما، لأنه من خطاب الشرع
المختص بالمكلف، فإذا لم يجب الحفظ عليهما لم يترتب على الاهمال ضمان،
وهو ظاهر.
نعم لو كان التلف بغير الاهمال بأن تصرفا في الأمانة وتعديا فيها فتلفت
421

فهل يضمنان مطلقا أم لا مطلقا أم للمميز خاصة وجوه ثلاثة.
والمختار عند جملة من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
هو الضمان مطلقا، قال: لأن الاتلاف لمال الغير سبب في ضمانه إذا وقع بغير إذنه،
والأسباب من باب خطاب الوضع يشترك فيها الصغير والكبير، ومثله القول في
ما يتلقانه من مال الغير، ويأكلانه منه، فإنهما يضمنان.
ثم نقل الوجه الثاني وهو عدم الضمان مطلقا لعدم التكليف، وتسليط
مالكها لهما عليها فكان سببا قويا، والمباشر ضعيف، قاله في المسالك بعد نقل ذلك
ثم قال: وجوابه يظهر مما سبق، ثم نقل الوجه الثالث وهو الفرق بين المميز
وغيره، فيضمن المميز خاصة، لعدم قصد غيره إلى الاتلاف، فكان كالدابة ثم
تنظر فيه بأن المقتضي للضمان وهو الاتلاف موجود، والمانع غير صالح للمانعية.
أما القصد فإنه لا مدخل له في الضمان وعدمه، كما يعلم من نظائره،
وأما تسليط المالك فإنه إنما وقع على الحفظ لا على الاتلاف، غاية ما في الباب
أنه عرض ماله له بسبب عدم صلاحيتهما للحفظ، وهو غير كاف في سقوط الضمان
عنهما لو باشراه، بخلاف ما إذا تركا الحفظ.
أقول: والمسألة محل توقف لعدم الدليل الواضح والركون إلى هذه
التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية سيما مع تقابلها وتدافعها لا يخلو من الاشكال
كما نبهت عليه في غير مقام مما تقدم، ثم إنه على تقدير وجوب الضمان عليهما
فإنه صرح بأن المخاطب بالدفع هو الولي إن كان لهما مال، وإلا كان دينا عليهما
قضائه بعد التكليف، ولا يسقط بعدم المال وقت الاتلاف، لأن تعلق الحق بالذمة
لا يتوقف عليه، نعم ايجاب التخلص من الحق عليهما يتوقف على التكليف.
أقول: وفيه من الاشكال ما في سابقه وقد تقدم في كتاب الحجر في المسألة
الثالثة: من المطلب الثاني من الكتاب المذكور من التحقيق (1) ما فيه دلالة

(1) ج 20 ص 269.
422

على عدم وجوب الضمان الذي ادعاه هنا، وقد تقدم في الموضع المذكور أنه من
باع للسفيه مالا ودفعه إليه مع علمه بذلك، فتلف، فإن تلفه من مال صاحبه،
لأنه سلطه عليه مع علمه بأنه محجور عليه، وإن فرض فك الحجر عنه بعد ذلك
وتقدم أيضا النقل عن العلامة في التذكرة أن حكم المجنون والصبي حكم السفيه
في ذلك، فإنهما إذا أتلفا الوديعة والعارية فالأقرب أنه لا ضمان عليهما، وهكذا
الحكم فيما أتلفاه من مال الغير مطلقا.
وبالجملة فمن أراد تحقيق المسألة ليظهر له صحة ما ذكرناه هنا فليرجع
إلى الموضع المذكور، والله العالم.
التاسع - لو ظهر للمستودع أمارات الموت بأن حصل له مرض من الأمراض
القاتلة أو حبس للقتل ونحو ذلك.
فأقوال ثلاثة: أحدها - وجوب الرد على المالك أو وكيله، أو الحاكم
عند تعذرهما أو ايداعها الثقة عند تعذره، فإن تعذر ذلك أشهد عليها اختاره العلامة
في التذكرة، إلا أنه رجع عنه بعد ذلك إلى الايصاء بها.
وثانيها - الاشهاد على ذلك اختاره جمع منهم المحقق في الشرايع
والعلامة في الإرشاد.
وثالثها - الوصية بها وقد عرفت أنه مذهب العلامة في التذكرة، والوجه
في ذلك أن حفظ الوديعة لما كان واجبا على المستودع وجب كلما يتوقف عليه
الحفظ من أحد هذه الأمور الثلاثة، إلا أني لم أقف على نص في المقام يتضمن
وجوب شئ مما أو جبوه، والاحتياط في المسألة مطلوب بل واجب، لخلوها عن
النص وهو أحد مواضع وجوب الاحتياط عندنا، حيث أن المسألة صارت بذلك
من الشبهات، حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك. والاحتياط هنا في
العمل بالقول الأول، ثم إنه على تقدير القول بالاشهاد، فالظاهر أن المراد به
اشهاد عدلين، بحيث يحصل الاثبات بها لو أنكر الورثة، أو كانوا جميعا أو بعضهم
423

صغارا، وربما قيل: بالاكتفاء بواحد، وإليه يشير كلام العلامة في جملة من
كتبه، حيث جعل الواجب هو الايصاء بها، وهو متحقق بدون الاشهاد كذا ذكره
في المسالك.
والتحقيق أن القول بالايصاء غير القول بالاشهاد، كما قدمنا ذكره، وكيف
كان فلو أخل بالاشهاد والوصية ضمن، وكذا لو أخل بالرد على الوجه المتقدم،
ولكن لا يستقر الضمان إلا بالموت، ولو فرض موته فجأة فلا ضمان، وإن لزم التلف
إذ لا يعد مقصرا والحال هذه، وإلا لوجب الاشهاد على كل ودعي، لامكان ذلك في
حقه، ولا قائل به، ولا دليل على ما قالوا.
ويعتبر في الوصي على القول بوجوب الوصية العدالة، والظاهر أن المراد
به الأمين الثقة الذي تسكن النفس إلى ايصاله لها إلى المالك، ولا فرق بين الأجنبي
والوارث في التعيين للوصاية، والمراد بالوصية إليه بذلك أن يعلمه بها ويأمره
بردها بعد الموت، لا أن يسلمها إليه، لأنه ايداع لا يصح ابتداء كما سيأتي ذكره
انشاء الله.
قال في التذكرة: توهم بعض الناس أن المراد من الوصية بها تسليمها إلى
الوصي ليدفعها إلى المالك، وهو الايداع بعينه، وليس كذلك، بل المراد الأمر
بالرد من غير أن يخرجها من يده، فإنه والحال هذه مخير بين أن يودع للحاجة،
وبين أن يقتصر على الاعلام الأمر بالرد لأن وقت الموت غير معلوم، ويده مستمرة
على الوديعة ما دام حيا، انتهى.
ولو لم يوص ولم يشهد وأنكر الورثة فالقول قولهم، كما لو أنكرها
المورث، لأن الأصل عدمها، وكذا كل من يدعى عليه، ولا يمين على الورثة،
إلا أن يدعى عليهم العلم بالوديعة، لأن دعوى العين إنما يتعلق بالمورث، كما
لو ادعى عليه بدين، إلا أنه إذا ادعى عليهم العلم بذلك لزمهم الحلف على نفي العلم
لا على البت، لأن ذلك ضابط الحلف على نفي فعل الغير.
424

قال في المسالك: ومثله ما لو أقر الورثة بالوديعة، ولكن لم توجد في
التركة فادعى المستودع أنه قصر في الاشهاد، وقال الورثة: لعلها تلفت قبل أن
ينسب إلى التقصير فالقول قولهم، عملا بظاهر براءة الذمة، ولا يمين أيضا إلا مع
دعواه عليهم التقصير، انتهى.
وعندي في هذا الكلام اشكال، لأن مرجعه - كما يفهم من تتمة عبارته
في المقام - إلى أن المالك يدعي بقاءها، وتقصير الودعي في الاشهاد، والورثة مقرون
بها، ولكن يدعون عدم وجودها في التركة، وأنه لعلها تلفت قبل أن ينسب
المالك إلى التقصير، وظاهر هذا الكلام أن كلام المالك يتضمن دعويين أحديهما -
أنها كانت باقية في التركة، وظاهر هذه الدعوى يرجع إلى الورثة بأنها عندهم،
وأن انكارهم لكونها في التركة بعد الاقرار بها غير مسموع، وثانيهما تقصير المورث
بعدم الاشهاد ليتحقق الضمان، وسقوط اليمين عن الورثة إنما يتجه على الدعوى
الثانية، دون الأولى، اللهم إلا أن يحمل على أن المالك موافق على عدم وجودها
في التركة، وإنما يدعي بقاءها إلى وقت عروض المرض الذي هو السبب الموجب
للوصية، أو الاشهاد، فيلزم الضمان بالتفريط في ذلك، والورثة ينكرون الوجود
إلى ذلك الوقت، وحينئذ فلا يتعلق الدعوى بالورثة على الوجه المذكور أولا،
والله العالم.
العاشر - لا خلاف في وجوب رد الوديعة إلى المالك متى طلبها، وهي
باقية في أول أوقات الامكان مسلما كان أو كافرا، للآية وهي قوله تعالى (1) " إن
الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " والروايات المتقدمة في صدر الكتاب (2)
فإن جملة منها قد صرحت بوجوب الرد ولو إلى غير مسلم فلو أخل والحال كذلك
كان ضامنا، ونقل عن أبي الصلاح أنه إذا كان المودع حربيا وجب على المودع
أن يحمل ما أودعه إلى سلطان الاسلام، وهو ضعيف مردود بالأخبار المشار إليها

(1) سورة النساء الآية 58.
(2) ص 395.
425

من أن كونه حلال المال مقيد بغير الأمانة، فيجب استثناؤها للأخبار الصريحة
المذكورة.
وبالجملة فالحكم مما لا يخالف فيه سواه وظاهر هم القول بالفورية كما
أشرنا إليه، لأنه حق مضيق للآدمي، قالوا: والمراد بالامكان ما يعم الشرعي
والعقلي والعادي، فلو كان في صلاة واجبة أتمها، أو بينه وبينه مانع من مطر ونحوه
صبر حتى يزول، أو في قضاء حاجة ضرورية فإلى أن ينقضي، وهل يعد أكل الطعام
والحمام، وصلاة النافلة وانقطاع المطر الغير المانع عذرا؟ وجهان: واستقرب
في التذكرة العدم مع حكمه في باب الوكالة بأنها أعذار في رد العين إذا طلبها
الموكل، وينبغي أن يكون هنا أولى، وحيث كان وجوب الرد فوريا فإنه يأتي
بناء على ذلك، وعلى أن الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده الخاص بطلان
الصلاة الواجبة مع سعة الوقت له حصل الطلب قبل الدخول فيها، وكذا بطلان
النافلة مطلقا، وكذا بطلان جميع العبادات المنافية لذلك، إلا أن الظاهر عندي
كما تقدم تحقيقه في كتب العبادات عدم ثبوت ما ادعوه، من أن الأمر بالشئ
يستلزم النهي عن ضده الخاص، بل قام الدليل على خلاف ذلك، ولما فيه من
لزوم الحرج والضيق المنفي بالآية والرواية.
قالوا: والمراد بوجوب الرد لا بمعنى مباشرته للرد وتحمل مؤنته، كما ربما
يظهر من بعض العبارات، بل بمعنى رفع اليد عنها والتخلية بين المالك وبينها،
فلو كانت في صندوق مقفل فتحه، وإن كانت في البيت المغلق فكذلك، وهكذا.
ولو أخر الدفع لأجل الاشهاد عليه فهل يكون ذلك عذرا مرتفعا به
الضمان؟ أقوال: الأول نعم، ليدفع عن نفسه النزاع واليمين لو أنكر المالك.
والثاني لا، لأن قوله في الرد مقبول، فلا حاجة إلى البينة، ولأن الوديعة
مبنية على الاخفاء غالبا.
الثالث التفصيل بأنه إن كان المالك وقت الدفع قد أشهد عليه بالايداع
426

فله الاشهاد ليدفع عن نفسه التهمة، وإلا لم يكن له ذلك، وهذا القول من حيث
الاعتبار أقوى الثلاثة، إلا أن ما ادعوه من الفورية عندي محل توقف، إذ لا
أعرف عليه دليلا واضحا أزيد من الأمر بالرد متى طلبها المالك، والأمر من
حيث هو لا يقتضي الفورية، فايجابها يحتاج إلى دليل واضح، زيادة على الأمر
بالرد، كما لا يخفى، وكونه حقا لآدمي لا يقتضي تضييقه بهذا النحو الذي ذكروه.
نعم لو فهم منه التضييق فالأمر كما ذكروه، ولو كان المودع غاصبا فإنه
لا يجوز ردها عليه، ولا على وارثه لو طلبها، بل يجب إعادتها على مالكها
إن عرف، ولو لم يعرف فأقوال: أحدها ما ذهب إليه الشيخ في النهاية، قال:
إنه يعرفها حولا كما يعرف اللقطة، فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها عنه،
وتبعه ابن البراج وهو المنقول عن ابن الجنيد أيضا، وبه صرح العلامة في
التذكرة والارشاد، وفي المسالك: أنه هو المشهور بين الأصحاب.
وثانيها - ما ذهب، إليه الشيخ المفيد قال: إن لم يعرف أربابها أخرج منها
الخمس إلى فقراء آل محمد (صلى الله عليه وآله) وأتباعهم، وأبناء سبيلهم وصرف
منها الباقي إلى فقراء المؤمنين.
وقال سلار: وإن لم يعرف أربابها جعل خمسها لفقراء أهل البيت
(عليهم السلام) والباقي لفقراء المؤمنين وهو يرجع إلى قول الشيخ المفيد.
ثالثها - ما ذهب إليه أبو الصلاح قال: إذا لم يعرف صاحبها ولا من ينوب
منابه حملها إلى الإمام العادل، فإن تعذر ذلك في المسلمين فعلى المودع حفظ
الوديعة إلى حين التمكن من ايصالها إلى مستحق ذلك، والوصية بها إلى من يقوم
مقامه، ولا يجوز ردها على المودع مع الاختيار.
وقال ابن إدريس: إن لم يتعين له حملها إلى الإمام العادل، وإن لم يتمكن
لزمه الحفظ بنفسه في حياته، وبمن يثق به في ذلك بعد وفاته إلى حين التمكن
من المستحق، قال في المختلف: وهو الأقوى، لنا أنه أحوط.
427

وقال في المسالك بعد نقل ذلك عن ابن إدريس وقواه في المختلف: وهو
حسن.
أقول: وهو يرجع إلى قول أبي الصلاح المتقدم، والذي وقفت عليه من
الأخبار هنا ما رواه الشيخ عن حفص بن غياث (1) " قال: سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا
واللص مسلم هل يرده عليه؟ قال: لا يرده، فإن أمكنه أن يرده على صاحبه
فعل، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة، يعرفها حولا فإن أصاب صاحبها ردها عليه
وإلا تصدق بها، فإن جاء بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر
فله، وإن اختار الغرم غرم له، وكان الأجر له " وهذه الرواية ظاهر في ما ذهب
إليه الشيخ، وليس غيرها في المسألة، ولم أقف على دليل يدل على شئ من القولين
الأخيرين.
قال في المختلف - بعد نقل الرواية -: والجواب الطعن في السند، ولا نسلم
مساواته للقطة، ثم قال: على أن قول الشيخ لا يخلو من قوة، وفيه أن الطعن
بالسند لا يقوم حجة على الشيخ وأمثاله الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم، ومنع
المساواة للقطة بعد تصريح الخبر بذلك ممنوع، وهو إنما تمسك في قوة ما
اختاره بالاحتياط، والاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي، ورد الخبر بلا معارض
غير معقول ولا منقول.
وقال في المسالك - بعد الإشارة إلى الخبر المذكور -: والطريق ضعيف،
لكنه مجبور بالشهرة، وبه يعلم قوة ما ذهب إليه الشيخ وأتباعه.
وفي المسالك - بعد أن استحسن مذهب ابن إدريس كما قدمنا نقله عنه -
قال: وإن كان القول بجواز التصرف بها بعد اليأس والتعريف متوجها أيضا كما في
كل مال ييأس من معرفة صاحبه، لأن فيه جمعا بين مصلحتي الدنيا والآخرة بالنسبة

(1) التهذيب ج 7 ص 180 ح 7، الوسائل ج 17 ص 368.
428

إلى مالكها، فإنه لو ظهر غرم له إن لم يرض بالصدقة، فلا ضرر عليه، ثم قال -
بعد نقل مذهب الشيخ المفيد -: والأجود التخيير بين الصدقة بها وابقائها أمانة،
وليس له التملك بعد التعريف هنا، وإن جاز في اللقطة، وربما احتمل جوازه
بناء على الرواية، فإنه جعلها فيه كاللقطة، وهو ضعيف، ويمكن أن يريد بها
منزلته منزلة اللقطة في وجوب التعريف مطلقا، ولم يذكر من عمل بالرواية
جواز التملك، انتهى.
ولا يخفى ما فيه من المدافعة للكلام الأول لدلالته على التملك، وجواز
التصرف مع الضمان، وبيان الوجه في قوة ذلك، ودلالة هذا الكلام على عدم جواز
التملك هنا وإن جاز في اللقطة، والمراد بجواز التملك حيث كان إنما هو مع
الضمان، واحتمال العدول عما ذكر أولا، ولا سيما مع بيان الوجه في القول الأول
والتصريح بالعلة وعدم التعرض لذلك في الثاني بعيد، ومقتضى هذا الكلام الأخير
حدوث قول رابع في المسألة كما لا يخفى، وظاهره أن ذلك هو الحكم هنا وإن
لم يعرفها بالكلية.
وقال في المسالك أيضا: وإنما يجب منع الغاصب منها مع إمكانه، فلو لم
يقدر على ذلك سلمها إليه، وفي الضمان حينئذ نظر، والذي يقتضيه قواعد الغصب
أن للمالك الرجوع على أيهما شاء، وإن كان قرار الضمان على الغاصب انتهى.
ولو مزج الغاصب الأمانة بماله وأودع الجميع فقد أطلق جمع منهم المحقق
في الشرايع أنه إن أمكن الودعي تمييز المالين ميز هما ورد عليه ماله، ومنعه الآخر
وإن لم يمكنه وجب رد الجميع على الغاصب، وعلل الوجوب هنا بأن منعه منهما
يقتضي منعه من ماله، لأن الفرض عدم إمكان التمييز، ومنعه من ماله غير جائز.
واستشكله في المسالك بأن في الرد تسليطا للغاصب على مال غيره بغير حق،
وهو غير جائز، ثم قوى الرد إلى الحاكم ليقسمه إن أمكن إلى آخر كلامه.
أقول: وهذا الفرع أيضا كغيره من الفروع المشكلة لعدم الدليل الواضح
429

في صورة ما إذا أودع الجميع مع تعذر التمييز أو تعسره، فهل يرد عليه الجميع
لو طلبه أم لا، أم يرجع فيه إلى الحاكم، ولعل الأقرب إلى القواعد الشرعية
رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي، فيلزم الغاصب بالاقرار بالقدر المغصوب،
ويلزمه المقاسمة إن أمكن ولو بالصلح نيابة عن المالك، والله العالم.
البحث الثاني في موجبات الضمان:
وهو دائر بين أمرين التفريط والتعدي فهنا مقامان: الأول: التفريط -
ويرجع إلى ترك ما يجب عليه من الحفظ ونحوه، وهو أمر عدمي بخلاف التعدي
فإنه عبارة لا يجوز فعله كلبس الثوب وركوب الدابة ونحو ذلك، وهو أمر
وجودي والتفريط كان يطرحها في غير حرز أو يترك نشر الثوب الذي يتوقف حفظه
على النشر أو يودعها غيره من غير ضرورة، ولا إذن، أو يسافر بها كذلك مع خوف
الطريق وأمنه، وطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها وترك سقي الدابة أو علفها
مدة لا تصبر عليه في العادة فتموت ونحو ذلك.
والكلام هنا يقع في مواضع: الأول - ما ذكر من أن من جملة أسباب
الضمان أن يطرحها في غير حرز.
قالوا: ويجب تقييده بما إذا طرحها وذهب عنها، أما لو بقي مراعيا لها
بنظره لم يعد تفريطا لأن العين حرز، إلا أن يكون المكان غير صالح لو ضعها فيه
بحسب حالها، وهو نوع آخر من التفريط.
أقول: ما ذكر من التقييد المذكور لما كان شاذا نادرا صح الاطلاق، لأن الاطلاق
إنما ينصرف إلى الأفراد المتكررة المتعارفة الشايعة كما تقدمت الإشارة إليه في غير
موضع، وكذا عد من أسباب الضمان تأخير الاحراز مع المكنة، وقيده بعض
المحققين بالتأخير الزائد على المتعارف، قال: وأما إذا كان تأخيرا قليلا وفي
الجملة على الوجه المتعارف فليس بموجب للضمان وهو جيد.
430

الثاني - ما ذكر من أنه يضمن بترك نشر الثوب الذي يتوقف على النشر،
والوجه في ذلك أنه يجب عليه الحفظ ومن جملة ما يتوقف عليه نشر الثوب الذي
يحتاج إلى النشر وتعريضه للهواء في كل وقت يفتقر إليه عادة، قالوا: حتى لبسه
لو لم يندفع ضرره إلا به.
وبالجملة فكل ما يتوقف عليه الحفظ كما يجب عند الاطلاق سقي الدابة
وعلفها، ونحو ذلك مما يتوقف عليه بقاؤها، وحفظها، إلا أن ينهاه المالك عن ذلك
فإنه لا يلزمه الضمان، وإن جاز له الحفظ كما تقدم مثل ذلك، في نفقة الدابة، ولم
أقف في المقام على خبر، ولكن ظاهر هم الاتفاق على ذلك، ومقتضى قواعدهم
يقتضيه، إلا أنه قد تقدم في كتاب الرهن من الأخبار ما هو ظاهر، بل صريح في
المنافاة فإن جملة منها يدل على أنه لو كان الرهن ثيابا وتركه المرتهن ولم
يتعهده ولم ينشره حتى هلك وتأكل فإنه من مال الراهن، مع أنه لا خلاف في
أن الرهن في يد المرتهن أمانة، يضمنها مع التفريط، وبمضمون هذه الأخبار
المذكورة أفتى الصدوق في المقنع أيضا، فقال: إن رهن عنده متاعا فلم ينشر
المتاع ولم يخرجه ولم يتعهده وفسد فإن ذلك لا ينقص من ماله شيئا، انتهى.
وهو كما ترى صريح في أنه لا ضمان عليه حسب ما دلت عليه الأخبار المشار إليها،
ومنها صحيحة الفضل بن عبد الملك (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" سألته عن رجل رهن عنده آخر عبدين فهلك أحدهما أيكون حقه في الآخر قال:
نعم، قلت أو دارا فاحترقت أيكون حقه في التربة؟ قال: نعم، أو دابتين فهلكت
أحديهما أيكون حقه في الأخرى؟ قال: نعم، أو متاعا فهلك من طول ما تركه
أو طعاما ففسد، أو غلاما فأصابه جدري فعمى أو ثيابا فتركها مطوية لم يتعاهدها
ولم ينشرها حتى هلكت؟ قال: هذا يجوز أخذه يكون حقه عليه " ونحوها غيرها
وهي كما ترى صريحة في خلاف ما ذكروه من وجوب التعاهد والضمان مع

(1) التهذيب ج 7 ص 175 ح 30، الوسائل ج 13 ص 128 ح 1.
431

عدمه، لو تضرر بذلك، ولا معارض لها في البين إلا ما يظهر من ظاهر اتفاقهم، مع
أنك قد عرفت خلاف الصدوق في ذلك، ولم أقف على من تنبه لذلك منهم،
(رحمهم الله) والعلامة في كتاب الرهن من المختلف نقل عبارة الصدوق المذكورة
ثم قال: والأقرب إن على المرتهن الضمان، لأن ترك نشر الثوب المفتقر إلى
نشره يكون تفريطا والمفرط ضامن، انتهى.
وهو مؤذن بغفلته عن الأخبار المذكورة، وعدم اطلاعه عليها، وإلا كان
الواجب ذكرها، لأنها مستندة في هذه المسألة، والجواب عنها، وبالجملة فالمسألة
عندي لما عرفت محل توقف واشكال، والله العالم.
الثالث - ما ذكر من أنه يضمن مع ايداعها الغير من غير ضرورة ولا إذن،
وهو مما لا خلاف فيه عندهم، قال في التذكرة: إذا أودع المستودع الوديعة غيره فإن
كان بإذن المالك فلا ضمان عليه اجماعا، لانتفاء العدوان، وإن لم يكن بإذن المالك
فلا يخلو إما أن يودع من غير ضرورة، أو بعذر، فإن أودع بغير عذر ضمن اجماعا
لأن المالك لم يرض بيد غيره وأمانته، ولا فرق في ذلك الغير بين عبده أو، زوجته
أو ولده أو أجنبي عند علمائنا أجمع، انتهى.
ومقتضى كلامهم أنه يسقط الضمان بأحد شيئين: أحدهما الإذن، فإنه
يجوز الايداع على النحو المأذون به ولا ضمان، وثانيهما العذر كخوف سرقة أو
نهب أو حرق أو أراد سفرا إلا أن ظاهر هم هنا هو أن الواجب أولا ردها إلى المالك
أو وكيله إن أمكن، وإلا فإلى الحاكم، لأنه قائم مقام المالك شرعا مع تعذره
ولا يسمى هذا ايداعا، ومع عدم إمكان الحاكم فإنه يودعها الثقة، وهذا هو الخارج
بالقيد المذكور، فلو دفعها إلى الحاكم مع إمكان الدفع إلى المالك أو وكيله
ضمن كما أنه لو دفعها إلى الثقة مع إمكان الدفع إلى الحاكم ضمن، ولا فرق في المنع
من ايداع الغير بدون أحد الوجهين المذكورين، بين أن يكون الغير مستقلا بها
أو شريكا في الحفظ بحيث تغيب عن نظره.
432

قال في المسالك: وهو موضع وفاق، ولأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، قال:
وفي حكم مشاركته في الوديعة وضعها في محل مشترك في التصرف، بحيث لا
يلاحظه في سائر الأوقات نعم لو كان عند مفارقته لضروراته يستحفظ من يثق به
ويلاحظ الحرز في عوداته، رجح في التذكرة اغتفاره لقضاء العادة به ولأنه ايداع
عند الحاجة، ثم قال: ولو فرض الحفظ إلى الغير لا لضرورة أو أشركه أو لم يحرز عنه
ضمن، انتهى.
ولو أودعها من غير إذن ولا ضرورة ضمن، وكان لصاحبها أن يرجع على من
يشاء منها لو تلفت، فإن رجع على المستودع الأول فلا رجوع له على الثاني، وإن
رجع على المستودع الثاني كان للمستودع الثاني أن يرجع على المستودع الأول،
لأنه دخل معه على أن لا يضمن كذا ذكره في التذكرة.
والوجه فيه أن الحكم هنا كما في الغاصب، وقد ذكروا ثمة أنه مع رجوع
المالك على أيهما شاء، فإن الجاهل منهم بالغصب يرجع على من غره، فسلطه على
مال الغير، ولم يعلمه بالحال، وأما العالم فلا رجوع له فههنا أيضا كذلك فمتى
رجع المالك على المستودع الأول، فإنه لا رجوع للمستودع الأول على الثاني،
لعلمه بعدم جواز ما فعله، فقد سلطه على اتلافه، بخلاف رجوع المالك على
المستودع الثاني لأنه مغرور، فلا ضمان عليه، بل يرجع على الأول.
الرابع - ما ذكر من أنه يضمن مع السفر بها على الوجه المذكور،
والظاهر أنه مما لا خلاف فيه، قال في التذكرة: لو عزم المستودع على السفر كان
له ذلك، ولم يلزمه المقام لحفظ الوديعة، لأنه متبرع بامساكها، ويلزمه ردها
إلى صاحبها أو وكيله، وإلا فالحاكم، ويجب عليه قبولها، لأنه موضوع للمصالح
فإن لم يجد دفعها إلى أمين، ولا يكلف تأخير السفر، لأن النبي (صلى الله عليه وآله)
كانت عنده ودايع، فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن، وأمر عليا (عليه السلام)
433

أن يردها، فإن ترك هذا الترتيب فدفعها إلى الحاكم أو الأمين مع إمكان الدفع
إلى المالك أو وكيله ضمن، ولا يجوز أن يسافر بها، فإن سافر بها مع القدرة
على الرد على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو الأمين ضمن عند علمائنا أجمع،
سواء كان السفر مخوفا أو غير مخوف، انتهى.
قيل: والمراد بتعذر الوصول إلى المالك أو وكيله أو الحاكم المشقة
الكثيرة الراجعة إلى التعسر، لأن ذلك معنى هذا اللفظ عرفا ولغة، لما في التزامه
بتحمل ما يزيد على ذلك من الحرج والضرر المنفيين، وهو جيد.
بقي الكلام في ما لو اضطر إلى السفر بالوديعة بأن يضطر إلى السفر، وليس
في البلد حاكم ولا أمين ولم يجد المالك ولا وكيله أو اتفق في البلد ما يوجب
الخروج من حريق أو غارة أو نهب، ولم يجد أحدا من هؤلاء المذكورين. فإن
ظاهرهم جواز السفر بها، ولا ضمان وادعى عليه في التذكرة الاجماع، قال: لأن
حفظها حينئذ في السفر بها والحفظ واجب، وإذ لم يتم إلا بالسفر بها كان السفر
بها واجبا، ولا نعلم فيه خلافا أما لو عزم السفر من غير ضرورة في وقت السلامة وأمن
البلد وعجزه عن واحد هؤلاء المذكورين وسافر بها فالأقرب الضمان لأنه التزم
الحفظ في الحضر، فيلؤخر السفر أو يلزم خطر الضمان، انتهى.
وظاهر آخر كلامه جواز السفر من غير ضرورة مع العجز عن أحد هؤلاء
واستصحاب الأمانة مع التزام الضمان، ومنعه في المسالك في الصورة المذكورة
فقال بعد نقل ذلك عنه: والأجود المنع، وهو الأقرب إلى جادة الاحتياط
المطلوب في أمثال هذه المقامات الخالية من النصوص.
وكيف كان فالضمان مما لا اشكال فيه، فإن ظاهر اطلاق الايداع والحفظ
إنما ينصرف إلى الحضر، ولأن السفر لا يخلو من خطر في الجملة، ويؤيده أنه
الأوفق بالاحتياط.
434

تنبيهات:
أحدها - قال في التذكرة: لو عزم المستودع على السفر فدفن الوديعة ثم
سافر ضمنها إن كان دفن في غير حرز، فإن دفنها في منزله في حرز ولم يعلم
بها أحدا ضمنها أيضا، لأنه غرر بها، ولأنه ربما هلك في سفره فلا يصل صاحبها
إليها، لأنه ربما خرب المكان أو غرق فلا يعلم أحد مكانها، فإن أعلم بها غيره
وكان غير أمين ضمن، لأنه قد زادها تضييعا، وإن كان أمينا ولم يكن ساكنا في
الموضع ضمنها، لأنها لم يودعها عنده، وإن كان ساكنا في الموضع فإن كان مع
عدم صاحبها والحاكم جاز، لأن الموضع وما فيه في يد الأمين، والاعلام
كالايداع، انتهى.
وثانيها - هل المراد بالسفر هنا هو السفر الشرعي أعني قصد المسافة أو
ما هو أعم منه ومن العرفي كالتردد فيما دون ذلك، قال في شرح القواعد: لم
أقف على تحديد، والمتبادر منه شرعا قصد المسافة، فعلى هذا لا يجب الرد إلا
بالخروج إلى مسافة، وهو مشكل لأنه متى خرج المستودع من بلد الوديعة على
وجه لا يعد في يده عرفا يجب أن يقال أنه ضامن، لأنه أخرج الوديعة من يده،
فقصر في حفظها فيضمن، وينبغي الجزم بأن تردده في البلد وما حوله في المواضع
التي لا يعد الخروج إليها في العادة خروجا عن البلد وانقطاعا عنه كالبساتين
ونحوها لا يجب معها رد الوديعة، ومن تعذر الحاكم والثقة كذا ذكره المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد، وهل الجميع من كلام الشرح أو ممزوجا بكلامه
احتمالان، حيث أنه لا يحضرني الآن الشرح المشار إليه.
وقال في المسالك: وأما السفر فالأولى حمله على العرفي أيضا لا الشرعي،
فعلى هذا لا يجوز استصحابها في تردداته في حوائجه إلى حدود البلد، وما قاربه
من القرى التي لا يعد الانتقال إليها سفرا مع أمن الطريق، ولا يجوز ايداعها في
مثل ذلك مع إمكان استصحابها، كما لا يجب ردها على المالك، انتهى.
435

وقال المحقق الأردبيلي - بعد ذكر ما قدمنا ذكره نقلا عنه من كلام
شرح القواعد وكلام في البين ونعم ما قال: فإنه الحق الحقيق بالامتثال -: واعلم
أنه ليس في الآيات والأخبار ما يمنع السفر بالوديعة، ولا عدم السفر للودعي إلا
بأن يسلمها إلى المالك أو إلى الحاكم أو يودعه عند ثقة، حتى يجب علينا تحقيق
السفر، بل هو كلام الفقهاء، بل فقهاء العامة.
ثم قاله الأصحاب أيضا، والذي علم أنه يجب حفظها على ما يقتضيه العرف
والعادة في ذلك الشئ ومن مثل ذلك الشخص كما أشرنا إليه، فيجوز له فعل
كل شئ ما لم يكن تركا للحفظ عرفا، ولا يجب الكون عندها بعد وضعها في
الحرز، انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.
والمفهوم من كلام العلامة في التذكرة - بالنظر إلى سياق البحث - أن
المراد بالسفر الشرعي، فإنه الذي يدور عليه كلامه وتمثيلاته، وإن لم يصرح
بشئ من الفردين المذكورين.
وثالثها - ما تقدم عن عبارة التذكرة من وجوب القبول على الحاكم لو عزم
على السفر، ولم يتمكن من الدفع إلى المالك أو وكيله، قد صرح به في القواعد
أيضا، فقال: والأقرب وجوب القبض على الحاكم، وكذا المدين والغاصب إذا
حملا الدين والغصب إليه، وعلل الشارح وجه القرب قال: لأنه منصوب للمصالح
ولو لم يجب القبض فاتت المصلحة المطلوبة من نصبه، وهو الأصح، ويحتمل
ضعيفا العدم، تمسكا بأصالة البراءة، وهو يرجع إلى ما ذكره في التذكرة.
وفيه أنه لا دليل على ما ذكروه، من أن الغرض من نصبه هو ذلك، بل
غاية ما يفهم من الأخبار أنه منصوب للحكم والقضاء والفتوى خاصة، وهي الأخبار
الدالة على نيابته عن الإمام (عليه السلام) وكما لم يقم دليل على وجوب ذلك
على الإمام (عليه السلام) الذي هو المنوب عنه في الأحكام،. ذلك لم يقم بالنسبة
إليه، بل غاية أخبار النيابة إنما هو ما ذكرناه، على أنه إذا كان الغرض من
436

الدفع إليه إنما هو الحفظ للمالك، فهو غير منحصر فهي، بل يحصل ذلك بالثقة.
وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه من الوجوب هنا دليلا واضحا.
ورابعها - أنه ينبغي أن يعلم أن جواز السفر لضرورته أو ضرورتها مشروط
بأمن الطريق، فلو كان مخوفا علما أو ظنا بظهور بعض الأمارات فظاهر هم أنه
لا يجوز السفر بها والحال كذلك، فلو سافر ضمن، لأنه تعزير بها، قالوا: حتى
لو فرض الخوف أيضا في الحضر، وتعارض الخطران رجح الإقامة، لأن السفر في
حد ذاته خطر، فإذا انضم إليه أمارة الخوف زاد خطره على الخطر، والله العالم.
الخامس - ما ذكر من أنه يضمن بطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها
والمراد طرحها كذلك مدة يمكن حصول التعفن فيها، فلو لم يكن كذلك بأن
طرحها مدة لا يحصل ذلك بل يقطع بعدم التضرر فلا ضمان، فإنه لا يعد تفريطا
يوجبه، ومثله وضع الكتب التي يخاف عليها من النداوة المفسدة بها، ونحو ذلك
والمرجع في الجميع في ذلك إلى اشتراط كون الموضع صالحا للوديعة بحسب
حالها وما يناسبها مكانا وزمانا، إلا أنك قد عرفت في الموضع الثاني ما ينجر به
المناقشة إلى هذا الحكم في هذا الموضع أيضا، والله العالم.
السادس - ما ذكر من الضمان مع ترك سقي الدابة أو علفها مدة لا تصبر
عليه فتموت، فإنه لا خلاف فيه إلا أن تخصيص الضمان بذلك محل اشكال كما
سيظهر لك إن شاء الله.
وكيف كان فإنها لو ماتت بغيره، فإنه لا يضمن، وكذا لو ماتت في زمان
لا تتلف في مثله لم يضمن أيضا، لأنها لم تتلف بذلك، صرح به في التذكرة،
وقد تقدم نقله عنه آنفا، وكذا لا يضمن لو كان بها جوع وعطش سابق لا يعلم بهما
فماتت بهما، بحيث لولا التقصير لما ماتت، أما لو كان عالما بهما فإنه يضمن،
ولو لم تمت بذلك بل نقصت ضمن النقصان.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن عبارات الأصحاب في هذا المقام لا يخلو من اختلاف
437

واضطراب، فإن المفهوم من بعضها أن مجرد الترك ولو مرة واحدة تفريط موجب
للضمان، وكذا مجرد المخالفة لما أمر به المالك وإن لم يترتب عليه الفوات،
ومتى تحقق الضمان زال حكم الوديعة كما تقدم ذكره ما لم يحصل ايداع جديد،
والمفهوم من بعضها تخصيص الضمان بترك العلف والسقي مدة لا تصبر عليه فماتت،
كما عرفت من العبارة المتقدمة، وهو مؤذن بتخصيص الضمان بصورة الموت،
ونحوها الصور الملحقة بها، وكذا مجرد التقصير في الحفظ لا يوجب ضمانا إلا
مع التلف، ولهذا قال في المسالك - ونعم ما قال بعد ذكر عبارة المصنف بنحو
ما قدمنا ذكره ما صورته -: واعلم أن الواجب علفها وسقيها بحسب المعتاد
لا مثالها، فالنقصان عنه يعد تفريطا سواء صبرت عليه أم لا، ومتى عد تفريطا
صار ضامنا لها، وإن ماتت بغيره، هذا الذي يقتضيه قواعد الوديعة.
وحينئذ فتعليق المصنف الحكم على موتها بسبب ترك ذلك مدة لا تصبر
عليه عادة إن أريد به هذا المعنى، فلا اشكال من هذه الحيثية، لكن يشكل
اختصاص حكم الضمان بموتها به، مع كونها قد صارت مضمونة بالتفريط، ومن
شأن المضمون به أن لا تفترق الحال بين تلفه ونقصه بذلك السبب وغيره، وسيأتي
له نظائر كثيرة في كلام المصنف وغيره.
وإن أراد به معنى آخر أخص مما ذكرناه كما هو الظاهر أشكل الحكم
بما سبق، ومن توقف الضمان على ترك هذه المدة مع أن الواجب القيام بالمعتاد
منه، وبتركه يتحقق التفريط، وفي عبارة العلامة ما هو أبلغ مما هنا، قال في
التذكرة: لو امتنع المستودع من ذلك، وعنى به العلف والسقي حتى مضت مدة
يموت مثل الدابة في مثل تلك المدة، نظران ماتت ضمنها، وإن لم تمت دخلت
في ضمانه، وإن نقصت ضمن النقصان، وإن ماتت قبل مضي تلك المدة لم يضمنها،
هذه عبارته، وقد علق الضمان فيها كما ترى على ترك ذلك مدة تموت فيها عادة،
لا تأخيره زيادة عن العادة، ولا زيادة على ما تصبر عليه عادة، انتهى.
438

وبالجملة فالمسألة لا تخلو من الاشكال، لعدم الدليل الواضح في هذا المجال
ولم أقف في المقام إلا على ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن محمد بن الحسن (1)
في الصحيح " قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) رجل دفع إلى رجل وديعة
فوضعها في منزل جاره، فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها عن
ملكه، فوقع (عليه السلام) هو ضامن لها إن شاء الله ".
ورواه في الفقيه (2) هكذا " رجل دفع إلى رجل وديعة وأمره أن يضعها
في منزله أو لم يأمره فوضعها في منزل جاره " إلى آخر ما تقدم ومورد الخبر
وقوع التلف بالمخالفة، وهو مما لا اشكال فيه، إنما الاشكال في الضمان بمجرد
المخالفة وإن لم يترتب عليه التلف، كما هو ظاهر شيخنا المتقدم ذكره وغيره.
المقام الثاني في التعدي: وقد عرفت أنه عبارة عن فعل ما لا يجوز فعله،
قالوا: مثل أن يلبس الثوب أو يركب الدابة أو يخرجها من حرزها لينتفع بها،
وكذا لو طلبت منه فامتنع من ردها من الامكان، فإنه يضمن أيضا، ونحوه
لو جهدها ثم قامت عليه البينة، أو اعترف بها ويضمن بالخلط بماله على وجه
لا يتميز، ويضمن أيضا بفتح الكيس المختوم، وكذا لو أودعه كيسين فمزجهما
ويضمن لو حمل الدابة أثقل مما أذن له فيه، أو أشق ولو أودعه المالك في حرز
مقفل ففتح القفل وأخذ بعضها ضمن الجميع، ولو لم يكن في حرز أو كان الحرز
من الودعي وأخذ بعضها ضمن ما أخذ خاصة.
والكلام في تحقيق هذه المواضع يقتضي بسطه في موارد: الأول - ما ذكر
من الضمان بلبس الثوب وركوب الدابة ويجب تقييده بما إذا لم يتوقف الحفظ
عليهما، وإلا كان واجبا فضلا عن أن يكون جائزا كما لو كان الثوب من الصوف
يتوقف حفظه من الدود على لبسه، بحيث أنه لا يندفع ذلك بمجرد النشر في

(1) الكافي ج 5 ص 239 ح 9.
(2) الفقيه ج 3 ص 194 ح 880، الوسائل ج 13 ص 229 ح 1.
439

الهواء وكذا الدابة لو توقف نقلها إلى الحرز أو سقيها على ركوبها، وفي حكم
الثوب الكتب المودعة، فلو توقف حفظها على المطالعة فيها، أو النسخ منها لم
يكن ذلك تعديا.
قال في التذكرة: ولو استودع ثياب صوف وجب على المستودع نشرها
وتعريضها للريح، لئلا يفسدها الدود، ولو لم يندفع الفساد إلا بأن يلبس ويفتق
به رائحة الآدمي وجب على المستودع لبسها، وإن لم يفعل ففسدت بترك اللبس
أو تعريض الثوب للريح كان ضامنا، سواء أمره المالك أو سكت عنه.
أقول قد عرفت في الموضع الثاني من المقام الأول (1) ما في هذا الكلام
من الاشكال والداء العضال لدلالة الأخبار على عدم الضمان في صورة عدم
التعريض للهواء وعدم وجوب ذلك وإن هلك بطول المكث، كما هو ظاهر
الصحيحة المتقدمة، ونحوها غيرها مما تقدم في كتاب الرهن (2) وكما يضمن
في الصورة المذكورة، كذا يضمن عندهم لو أخرج الثوب من محله ليلبسه والدابة
ليركبها، فإنه يضمن أيضا، وإن لم يلبس ولم يركب كذا ذكره في التذكرة،
قال: لأن الاخراج على هذا القصد خيانة، فوضع يده على مال الغير خيانة وعدوانا
من غير أمانة فيكون ضامنا انتهى.
ولو نوى ذلك ولم يخرج شيئا منهما عن محله ولم يستعمله، وكذا لو نوى
أخذ الدراهم من الكيس ولم يأخذ، قال في التذكرة في الضمان اشكال، ينشأ
من أنه لم يحدث في الوديعة فعلا ولا قولا، فلا يضمن، ومن أنه قصد الخيانة فصار
خائنا ولا أمانة للخائن فيكون خائنا ضامنا، ثم إنه صرح أيضا بأنه لو أخذ الوديعة
من المالك بقصد الخيانة، فالأقوى الضمان، لأنه لم يقبضها على سبيل الأمانة،
فيده يد خيانة لا يد أمانة، فلا يكون أمينا بل خائنا ضامنا.

(1) ص 430.
(2) ج 20 ص 234.
440

وفيه أن الظاهر أن صدق الخائن عليه شرعا وعرفا لا يحصل إلا بفعل ما
يوجب الخيانة، لا بمجرد النية، وإلا لصدق على من نوى الزنا ولم يزن أنه زان،
ونحو ذلك، ولا ريب في بطلانه.
الثاني - ما ذكر من الضمان لو طلبها المالك أو من يقوم مقامه فامتنع من
ردها مع الامكان.
أقول: أما وجوب الرد مع الطلب فلا ريب فيه للآية والرواية قال الله
تعالى (1) " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " والأخبار بذلك قد
تقدمت في صدر الكتاب (2) والأمر بالرد فوري عندهم، وأما وجوب الضمان
في الصورة المذكورة فالظاهر أن دليله الاجماع على أن التقصير موجب للضمان،
ولم أقف على نص في ذلك، وقد تقدم في الموضع العاشر من البحث الأول (3)
تحقيق معنى الرد وتفصيل الكلام في هذا المقام.
فروع:
الأول - قال في التذكرة: لو أمره المالك بدفع الوديعة إلى الوكيل
فطلبها الوكيل لم يكن له الامتناع، ولا التأخير مع المكنة، فإن فعل أحدهما
كان ضامنا، وحكمه حكم ما لو طلب المالك فلم يرد عليه، إلا أنهما يفترقان في
أن المستودع له التأخير إلى أن يشهد المدفوع إليه على القبض لأن المدفوع إليه
وهو الوكيل لو أنكر الدفع صدق بيمينه، وذلك يستلزم ضرر المستودع
بالغرم انتهى.
أقول: مرجع الفرق بينهما إلى أنه في صورة انكار الوكيل الدفع يحتاج
المستودع إلى البينة، ومع عدمها يمين المنكر، لأن هذا الفرد أحد أفراد الكلية

(1) سورة النساء الآية 58.
(2) ص 395.
(3) ص 426.
441

القائلة (1) " بأن البينة على المدعي، واليمين على المنكر " وأما في صورة انكار
المالك لو ادعى الودعي الدفع إليه فإنه وإن كان أيضا أحدهما مدعيا والآخر
منكرا إلا أنه من حيث كونه أمينا ومحسنا وقابضا لمصلحة المالك فالقول قوله
بيمينه، ولا يكلف البينة كما هي قاعدة الأمين في أي موضع كان، فهي مستثناة
من القاعدة المذكورة بالنصوص الكثيرة هذا هو المشهور.
وقيل: إن عليه البينة في دعوى الرد على المالك أيضا، عملا بالقاعدة
المذكورة، والأظهر ضعفه عملا بالأخبار الدالة على حكم الأمانة، وأنه يقبل
قول الأمين بيمينه، والوديعة من جملتها كما تقدم ذكره.
الثاني: لو قال المالك له: رد الوديعة على فلان وكيلي، فلم يطلب
الوكيل الرد، قال في التذكرة: إن لم يتمكن المستودع من الرد فلا ضمان عليه
قطعا، لعدم تقصيره، وإن تمكن من الرد احتمل الضمان، لأنه لما أمره بالدفع
إلى وكيله فكأنه عزله، فيصير ما في يده كالأمانات الشرعية.
الثالث - قال في التذكرة أيضا: لو أمره المالك بالدفع إلى وكيله أو أمره
بالايداع لما دفع إليه ابتداء، فالأقرب أنه لا يجب على المدفوع إليه الاشهاد
على الايداع، بخلاف قضاء الدين، لأن الوديعة أمانة.
وقول المستودع مقبول في الرد والتلف، فلا معنى للاشهاد، ولأن الودايع
حقها الاخفاء بخلاف قضاء الدين، وهو أظهر وجهي الشافعية.
أقول: فيه أنه قد صرح في الفرع الأول بأن للودعي التأخير عن الدفع
إلى الوكيل إلى أن يشهد له على القبض، لما يلزم بعدم الاشهاد من الضرر عليه
لو أنكر الوكيل القبض، وقد بينا الوجه فيه، وهنا نفى الوجوب عنه، وهذا
لا يجامع الحكم الأول، لأن مقتضى ما ذكره أولا أنه لا يجب على الودعي الدفع
إلا مع الاشهاد له بالقبض، ومقتضى هذا الكلام أنه لا يجب على الوكيل الاشهاد،

(1) الفقيه ج 3 ص 20 ح 1، الوسائل ج 18 ص 171 ح 5.
442

واللازم من ذلك أنه لا يجب على الودعي الدفع في صورة أمر المالك بالدفع،
كما هو المفروض في كل من الموضعين، ولا ريب في بطلانه، وقوله في الكلام
الأخير لأن قول المستودع مقبول في الرد إنما هو مسلم بالنسبة إلى دعواه الرد
على المالك لما عرفت، بناء على القول المشهور.
وبالجملة فإن الظاهر عندي هو التدافع فيما ذكره في هذين الكلامين
الثالث - ما ذكر من الضمان لو جحدها ثم قامت عليه البينة أو اعترف بها
وعلل بأنه إنما كان الجحود موجبا للضمان، لأنه خيانة، حيث إنه بإنكاره يزعم
أن يده عليها ليست نيابة عن المالك، فلا يكون أمينه، فيصير يده عليها يد ضمان
لا يد وديعة وأمانة.
قالوا: ويعتبر في تحقيق الضمان بالجحود أمور: الأول - أن يكون بعد
طلب المالك لها، فلو جحدها ابتداء أو عند سؤال غيره لم يضمن، لأن الوديعة مبنية
على الاخفاء فانكاره بغير طلب يوجب الرد أقرب إلى الحفظ، ولو لم يطلبها المالك
لكن سأله عنها فقال: لي عندك وديعة فجحد فلهم في الضمان قولان: أحدهما ما
اختاره في التذكرة، وهو العدم، لأنه لم يمسكها لنفسه ولم يقر يده عليها بغير
رضى المالك، حيث لم يطلبها، ومجرد السؤال لا يبطل الوديعة، ولا يرفع الأمانة.
وثانيها - ما اختاره الشيخ علي (رحمه الله) واستوجهه في المسالك من ثبوت
الضمان، قال المحقق المذكور: لأن جحوده يقتضي كون يده ليست عن المالك
لأن نفي الملزوم يقتضي نفي لازمه من حيث هو لازمه، فلا يكون أمينا عنه فيضمن.
الثاني - أن لا يظهر بجحوده عذرا بنسيان أو غلط أو نحوهما فإنه لا يضمن
إن صدقه المالك على العذر وإلا ففي الضمان وجهان: واستقرب في التذكرة
الضمان، ووجهه يعلم مما سبق.
وفي المسالك أن عدم الضمان لا يخلو من وجه.
الثالث - أن لا يكون الجحود لمصلحة الوديعة بأن يقصد به دفع ظالم أو
443

متغلب على المالك أو نحو ذلك، لأنه محسن في ذلك، وما على المحسنين من سبيل.
الرابع - ما ذكر من الضمان بالخلط بماله على وجه لا يتميز، قال في
التذكرة: إذا مزج المستودع الوديعة بماله مزجا لا يتميز أحدهما عن صاحبه
كدراهم مزجها بمثلها أو دنانير بمثلها، بحيث لا يتميز بين الوديعة وبين مال المستودع
أو مزج الحنطة بمثلها، صار ضامنا، سواء كان المخلوط بها دونها أو مثلها، أو
أزيد منها، انتهى.
ومرجع ذلك إلى اشتراك الجميع في التعدي الناشئ عن التصرف في الوديعة
تصرفا غير مشروع، وتعيبها بالمزج المفضي إلى الشركة الموجب إلى المعاوضة
على بعض ماله بغير رضاه عند القسمة، ولا ريب أن الشركة عيب، وربما يفهم من
قوله بماله أنه لو كان الخلط بمال المالك لم يضمن، وليس كذلك بل يضمن
أيضا كما صرح به في التذكرة في تتمة كلامه، حيث قال: ولو مزجها بمال
مالكها بأن كان له عنده كيسان وديعة، يمزج أحدها بالآخر بحيث لا يتميز ضمن
أيضا، لأنه تصرف غير مشروع في الوديعة، وربما ميز بينهما لغرض دعى إليه
والخلط خيانة، انتهى.
وسيأتي الكلام في ذلك أيضا إن شاء الله تعالى، وكما يضمن في الصورتين
المذكورتين، فكذا فيما لو خلطه بمال مغصوب، بل هو أشد الجميع أو بمال
يكون عنده أمانة بغير الوديعة، لصدق التصرف المنهي عنه في الجميع.
وفي التقييد بعدم التمييز بين المالين إشارة إلى أنه لو تميز المالان فلا ضمان
وهو كذلك عندهم إن لم يستلزم المزج أمرا آخر موجبا للضمان، كما لو كان
المال في كيس مختوم، فإنه وإن لم يضمن بالمزج من حيث التميز إلا أنه يضمن
من حيث فكه الختم الذي على الكيس كما سيأتي ذكره انشاء الله تعالى.
الخامس - ما ذكر من الضمان بفتح الكيس المختوم، قال في التذكرة:
لو أودعه عشر دراهم مثلا في كيس، فإن كان مشدودا أو مختوما فكسر الختم وحل
444

الشداد أو فعل واحدا منهما ضمن، لأنه هتك الحرز على ما تقدم، وظاهرهم أنه
لا فرق في الضمان بكسر الختم وحل الشداد وبين أن يأخذ من الكيس شيئا وعدمه
ولا في الختم بين أن يكون مشتملا على علامة للمالك وعدمه، لاشتراك الجميع
في العلة الموجبة للضمان، وهي هتك الحرز والتصرف المنهي عنه، ومثله الصندوق
المقفل لو فتح قفله، هذا كله إذا كان الختم والشد من المالك، فلو كان ذلك من
الودعي فلا ضمان، إذ لا هتك ولا تصرف فيما فعله المالك، إلا أن يكون ذلك بأمر
المالك، فإنه عندهم في حكم فعل المالك ذلك.
بقي الكلام في أنه ربما كان القصد من الختم أو الشد إنما هو الحفظ والمنع
من الانتشار دون الاخفاء، وعدم الاطلاع على ذلك، والفارق بين الأمرين القرائن
فإنه لا يبعد عدم الضمان في الصورة الأولى، وبه جزم في المسالك وحيث يضمن
للمظروف بفتح الظرف على الوجه المتقدم، فهل يضمن الظرف أيضا أم لا؟ وجهان
بل قولان: أو لهما - اختاره في المسالك قال: للتصرف فيه المنهي عنه، وثانيهما -
استقربه في التذكرة، لأنه لم يقصد الخيانة في الظرف وضعفه في المسالك بأن
قصد الخيانة لا دخل له في الضمان، بل التصرف، قال: وقد استشكل في حكم
ما لو عد الدراهم غير المختوم أو وزنها أو ذرع الثوب، مع أن مقتضى تعليله
عدم الضمان، ولو خرق الكيس المختوم فإن كان الخرق تحت الختم، فهو كفض (1)
الختم ويزيد ضمان الظرف أيضا وإن كان فوق الختم فليس إلا ضمان الظرف.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه الله) المناقشة في
هذا الحكم، فإنه قال: بعد أن نقل عن التذكرة الضمان بمجرد فض الختم،
وخرق الكيس على الوجه المذكور.
والظاهر عدم الضمان في الموضعين لما فيه من عدم التصرف بخيانة، وكأنه
يخص التصرف هنا بغير الدراهم التي في الكيس، حيث أنه لم يدخل يده فيها،

(1) الفض بمعنى الكسر فضه أي كسره.
445

وأن التصرف الموجب لضمانها إنما هو وضع اليد فيها والأخذ منها، وإلا فإنما
ذلك تصرف في الكيس خاصا، والمسألة كغيرها بمحل من الاشكال، فإن كلامه
لا يخلو من قرب، وإن كان ظاهر هم الاتفاق على أنه يضمن بمجرد فض الختم،
والله العالم.
السادس - ما ذكره من الضمان لو أودعه كيسين فمزجها، ظاهر هذا الكلام
يعطي وجوب الضمان بمجرد المزج ولو أمكن التميز بينهما، ولعله مبني على
استلزامه ذلك التصرف في المالين بغير إذن المالك، إلا أنه قد تقدم في المورد
الرابع عدم الضمان مح إمكان التمييز، ويمكن أن يكون المراد بالمزج هنا هو
ما كان على وجه لا يتميز أحدهما من الآخر ولعل هو الظاهر من لفظ المزج،
وحينئذ فباخراجه ما في أحد الكيسين وصبه على الآخر يضمن ذلك المخرج
خاصة، لتصرفه فيه، ولا يضمن ما في الكيس المصبوب عليه مع تميزه، لأنه لم
يتصرف فيه إن لم يكن مختوما، وفك ختمه، فإنه يضمن من حيث فك الختم،
وربما نقل عن بعض الأصحاب الضمان مطلقا، وإن لم يكن مختوما هذا كله إذا
كان الكيسان للمودع، كما هو المفروض أولا، أما لو كان أحدهما للمستودع
فإنه لا ضمان مع بقاء التمييز كما تقدم، لأن له نقل الوديعة من محل إلى آخر،
وله تفريغ ملكه، ولا يتعين عليه الحفظ فيما وضع فيه.
السابع - ما ذكر من الضمان لو حمل الدابة أثقل أو أشق مما أذن له فيه،
ولا ريب في الضمان مع المخالفة واستعمالها في الأشق والأثقل، لأنه تعد محض
وتفريط موجب لذلك.
قال في المسالك - بعد قول المصنف وكذا لو أمره بإجارتها لحمل أخف
فآجرها لأثقل، ولا سهل فآجرها لأشق كالقطن والحديد - ما لفظه: لا اشكال هنا
في الضمان مع استعمال المستأجر لها في الأثقل، وهل يتحقق بمجرد العقد؟
يحتمل ذلك، لتسليطه على الانتفاع والعدوان، فيخرج عن كونه أمينا، كما
446

يضمن بجحوده، بل مجرد نيته على قول مع عدم فعل ما يوجب الضمان وعدمه
كما لو نوى الخيانة أو التفريط، أو قال: أنه يفعل ذلك ولم يفعل، ولم أقف
في ذلك على شئ يعتد به، انتهى.
أقول لا ريب أن عقد الإجارة على هذا الوجه باطل، لأن المالك إنما أذن
له في الإجارة بحمل الأخف وهو قد آجرها لحمل الأثقل والأشق وهو خلاف ما
أذن له فيه، فيكون باطلا، ولا يبعد تحقق الضمان بذلك من حيث التصرف
بهذا العقد الموجب لتسليط المستأجر على خلاف ما أمر به المالك.
على أن التمثيل لعدم الضمان بما لو نوى الخيانة أو التفريط مع عدم الفعل
محل اشكال أيضا، فإن العلامة في التذكرة قد صرح هنا بالضمان كما تقدم نقله
عنه في المورد الأول، وإن كان فيه ما فيه كما أشرنا إليه ثمة.
وبالجملة فالظاهر أن الأقرب بمقتضى قواعدهم هو القول بالضمان في
الصورة المذكورة، ثم إنه على تقدير المخالفة ووجوب الضمان فهل يضمن الجميع
أو بالنسبة؟ ظاهره في المسالك الأول، مع احتمال الثاني.
وجزم المحقق الأردبيلي بالأول من غير احتمال، قال: لأنه تعد، فلو
تلف يأخذ منه تمام القيمة، لا أن يقسط على المأذون وغيره، ووجه الاحتمال
الذي ذكره في المسالك هو في صورة حمل الأثقل، أن القدر المأذون فيه غير
مضمون، وإنما تعدى بالزايد فيقسط التالف عليهما.
أقول: ما ذكره جيد بالنسبة إلى الأثقل، كما لو أذن له في حمل وزن
مخصوص أو كيل مخصوص لا ثقل فيه، فزاد على ذلك الوزن أو الكيل ما حصل
به الثقل، فإنه لا يبعد ما ذكره من التقسيط، أما لو كان ما استأجر عليه أضر
وأشق على الدابة فمجموع الحمل مغاير لما أذن به المالك، فيتوجه النهي إلى
المجموع، بخلاف الأول، فإنه إنما يتوجه إلى ما حصل به الثقل من الزيادة،
وهذا التفصيل بحسب الظاهر لا بأس به على مقتضى قواعدهم.
وقال في المسالك - بالنسبة إلى تمثيل المصنف بالقطن والحديد - والمراد
447

من الأشق في المثالين: أن الحديد أشق عند سكون الهوى، والقطن أشق عند
الهواء، ومن ثم جمع بين المثالين.
الثامن - ما ذكر من الضمان لو جعلها المالك في حرز مقفل، ففتح القفل
وأخذ بعضها، إلى آخر ما تقدم.
أقول قد تقدم أنه إذا دفع إليه كيسا مختوما ففضه فإنه يضمن الجميع
بفض الختم، وإن لم يأخذ منه شيئا، فكذا هنا يضمن هنا بفك القفل. وإن لم
يأخذ شيئا، ففيما إذا أخذ بعضها بطريق أولى.
أما لو لم يكن في حرز أو كانت ولكن الحرز للودعي، فإنه يضمن ما أخذه
خاصة، لأنه لم يحصل منه تعد إلا فيما أخذه.
وأما لو كان الكيس للودعي وشده بأمر المالك فهو بمنزلة شد المالك
فيضمن بفتحه كما ذكروه.
قال في المسالك: ولا فرق في ضمان المأخوذ بين أن يصرفه في حاجته
وعدمه عندنا، لأن الاخراج على هذا القصد خيانة، وعلى هذا فلو نوى التصرف
في الوديعة عند أخذها بحيث أخذها على هذا القصد كانت مضمونة عليه مطلقا،
لأنه لم يقبضها على وجه الأمانة، بل على سبيل الخيانة.
وفي تأثير النية في استدامة الأخذ كما يؤثر ابتداء وجهان: من ثبوت
اليد في الموضعين - مقترنا بالنية الموجبة للضمان - ومن أنه لم يحدث فعلا
مع قصد الخيانة، والشك في تأثير مجرد القصد في الضمان، وتردد في التذكرة.
ويتحقق ذلك في صور: منها - أن ينوي الأخذ ولم يأخذ: والاستعمال
ولم يستعمل، وأن لا يرد الوديعة بعد طلب المالك، ولم يتلفظ بالجحود وغير
ذلك، وقد جزم المصنف (رحمه الله) في ما سبق بأنه لو نوى الانتفاع لا يضمن
بمجرد النية، انتهى.
أقول: فيه أن ما ذكروه من الضمان بمجرد النية في المواضع المذكورة
448

مبني على وجوب نية قصد الإئتمان في قبض الوديعة، وإلا كان خائنا يترتب
على قبضه الضمان، وهو مشكل لعدم الدليل عليه، وصدق الخائن عليه بمجرد
هذه النية ممنوع، إذ الظاهر أن الاتصاف بالخيانة لغة وشرعا وعرفا إنما يتحقق
بالتعدي والتصرف، لا بمجرد النية، وإلا لصدق على الانسان كونه زانيا بمجرد
نية الزنا، وسارقا بمجرد نية السرقة، وهكذا ولا يقوله أحد، ولهذا إن الله
تعالى لا يأخذ بمجرد النية والقصد، وإنما يؤاخذ بالفعل والتصرف في جميع أفراد
المعاصي من خيانة وغيرها.
وبالجملة فإني لا أعرف لكلامهم هنا وجها وجيها، بل الظاهر خلافه كما
عرفت وما نقله عن التذكرة من التردد قد تقدم ذكره في المورد الأول، وقد
أشرنا في رده إلى ما ذكرناه هنا على أن ما ذكروه أيضا من الضمان للجميع
بمجرد فتح القفل وفض الختم لا يخلو من المناقشة، لعدم الدليل على ذلك،
والأصل براءة الذمة، والتصرف هنا حقيقة أنما وقع في القفل والختم، وإلى ما
ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد أيضا.
قال في التذكرة: وإن كان الصندوق مقفلا والكيس مختوما، ففتح القفل
وفض الختم ولم يأخذ ما فيه فالأقوى الضمان لما فيه من الثياب والدراهم، وهو
أصح وجهي الشافعية، لأنه هتك الحرز، والثاني للشافعية أنه لا يضمن ما في
الصندوق والكيس، بل يضمن الختم الذي تصرف فيه، وبه قال أبو حنيفة، انتهى.
قال المحقق الأردبيلي - بعد نقل هذا الكلام بحذافيره -: هذا أولى لما
مر غير مرة من الأصل وعدم تصرف وتقصير في الحفظ وغير ثابت كون هتك الحرز
موجبا للضمان، ولا بد له من دليل فتأمل، انتهى وهو جيد.
تذنيب:
قد تقدم في صدر هذا الكلام أنه لو أخذ البعض ضمن ما أخذ خاصة في
صورة ما إذا كان الحرز من المستودع أو لم يكن في حرز، بقي الكلام في أنه
449

لو أعاد ما أخذه إلى موضعه أو أعاد بدله، فأما على الأول فإن ظاهر هم بقاء
الضمان، وأنه لا يزول بإعادته لأن يده عليه صارت يد خيانة، لا يخرج عنها إلا بما
تقدم من ايداع المالك له مرة ثانية، كما في كل تفريط وتعد، وسيأتي تحقيقه
إن شاء الله.
ولا فرق في ذلك بين أن يمزجه بغير المضمون مزجا لا يتميز عنه، أم لا، لأن
الجميع مال المالك، غايته أنه قد صار بعضه مضمونا وبعضه غير مضمون، وأن
هذا الاختلاط كان حاصلا قبل الأخذ.
قال في التذكرة - بعد فرض المسألة في ايداع كيس فيه عشر دراهم - وإن لم
يكن الكيس مشدودا ولا مختوما فأخرج منه درهم لنفسه ضمنه خاصة، لأنه
لم يتعد في غيره، فإن رده لم يزل عنه الضمان، فإن لم يختلط بالباقي لم يضمن
الباقي، لأنه لم يتصرف فيه، وكذا إن اختلط وكان متميزا لم يلتبس بغيره وإن
امتزج بالباقي مزجا يرتفع معه الامتياز فالوجه أنه كذلك لا يضمن الباقي، بل
الدرهم خاصة، لأن هذا المزج كان حاصلا قبل الأخذ وهو أصح قولي الشافعية والثاني
عليه ضمان الباقي لخلطه المضمون بغير المضمون، فعلى ما اخترناه لو تلفت العشرة
لم يلزمه إلا درهم واحد ولو تلف منها خمسة لم يلزمه إلا نصف درهم، انتهى.
وأما على الثاني فإنه لا يبرئ أيضا بإعادة البدل، فإنه إذا كان الضمان باقيا
بإعادة ما أخذه ففي بدله بطريق أولى، لأنه لم يتعين ملكا للمالك، إذ لا يحصل
الملك إلا بقبضه أو قبض وكيله والمستودع ليس وكيلا في تعيين العوض، وإنما
هو وكيل في الحفظ، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون المردود متميزا عن الباقي
بحيث لم يخلط به، أو كان فيه علامة من سكة أ غيرها توجب الامتياز فإنه
لا يضمن سواء ذلك، ولا يضمن الباقي، أو لا يكون متميزا بل مزجه بتلك الدراهم
مزجا لا يتميز منها، فإن ظاهر هم وجوب ضمان الجميع، لما تقدم من أن مزج
الوديعة بماله من موجبات الضمان للجميع والله العالم.
450

البحث الثالث في اللواحق:
وفيه مسائل: الأولى - حيث أن الوديعة من العقود الجايزة بناء على أنه
عقد، فإنه يجوز فسخها أي وقت شاء المستودع، وبطريق الأولى لو كانت إذنا
خاصة، إلا أنه لا يجوز تسليمها إلا إلى المالك أو وكيله، ومع تعذر هما فإلى
الحاكم الشرعي، ومع تعذره فيدفعها إلى ثقة، ولا ضمان مع عمله بهذا الترتيب
فلو خالف ودفع إلى الحاكم مع إمكان الدفع إلى المالك أو وكيله أو دفع إلى
الثقة مع إمكان الدفع إلى الحاكم ضمن عند الأصحاب من غير خلاف يعرف.
بقي الكلام في أن الظاهر أن جواز الرد في أي وقت شاء إنما يتم بالنسبة
إلى الرد على المالك أو وكيله، أما الرد على الحاكم أو الثقة فإنما يجوز مع
العذر المانع من الإئتمان، كخوف تلف الأمانة في يده بحرق أو سرق أو
اضطراره إلى السفر ونحو ذلك من الأسباب المانعة من بقاءها أمانة في يده، وإن
لم يكن له عذر لم يجز الدفع إلى الحاكم ولا الثقة مع عدمه لأنه وإن جاز له فسخ عقد
الوديعة متى شاء، لأنه عقد جائز إلا أنه بقبول الوديعة قد التزم حفظها إلى أن
يردها على مالكها، فلا يبرئ إلا بالدفع إلى المالك، ولا عذر هنا يجوز له
الخروج به عن ذلك من ضرورة تعرض له أو للوديعة كما تقدم.
وربما نقل عن بعضهم أنه أجاز دفعها إلى الحاكم عند تعذر المالك مطلقا،
لأنه بمنزلة وكيله، قال في المسالك: وليس بذلك البعيد.
وقال في المسالك أيضا: ثم إنه على تقدير جواز دفعها إلى الحاكم هل يجب
عليه القبول؟ كما إذا كان له عذر ولم يجد المالك ولا وكيله وجهان: من أنه نائب
عن الغائب حينئذ، وأنه منصوب للمصالح ولو لم يجب عليه القبض فاتت المصلحة
المطلوبة من نصبه، ومن أصالة البراءة، والأقوى الأول والوجهان آتيان في
ما لو حمل إليه المديون الدين مع غيبة المدين، والغاصب المغصوب أو بدله مع
تلفه، وغير ذلك من الأمانات التي يليها الحاكم، انتهى.
451

أقول: وقد تقدمه العلامة في ذلك، والمحقق الشيخ على كما تقدم ذكره،
وقد بينا ما فيه في التنبيه الثالث (1) من التنبيهات الملحقة بالموضوع الرابع من
المقام الأول من سابق هذا البحث.
الثانية - الظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه متى صارت
يد المستودع يد ضمان بالتعدي أو التفريط على الأنحاء المتقدمة، فإنه لا يخرج
عن ذلك، ولا يعود إلى حكم الوديعة برد الوديعة إلى ما ما كانت عليه، لأنه صار
بمنزلة الغاصب بتعديه، فيستصحب الحكم بالضمان إلى أن يحصل من المالك
ما يوجب زواله، والعود إلى الحال الأولى.
قال في التذكرة: إذا صارت الوديعة مضمونة على المستودع إما بنقل
الوديعة واخراجها من الحرز أو باستعمالها كركوب الدابة ولبس الثوب أو
بغيرها من أسباب الضمان، ثم إنه ترك الخيانة ورد الوديعة إلى مكانها وخلع
الثوب لم يبرء بذلك عند علمائنا أجمع، ولم يزل عنه الضمان ولم تعد أمانة،
وبه قال الشافعي، لأنه ضمن الوديعة بعدوان، فوجب أن يبطل الاستيمان كما
لو جحد الوديعة، ثم أقر بها، وقال أبو حنيفة: يزول عنه الضمان، لأنه إذا ردها
فهو ما سك لها بأمر صاحبها، فلم يكن ضمانها.
أقول: لم أقف لهم (رضوان الله تعالى عليهم) على دليل في المقام، سوى ما يظهر
من كلامهم من الأخذ بالاستصحاب، مضافا إلى دعوى الاجماع كما سمعت من كلام
العلامة، وقد عرفت ما في الاستصحاب في مقدمات الكتاب المذكور في صدر كتاب
الطهارة (2) وما في أمثال هذه الاجماعات من المناقشة التي تقدمت في غير باب
والقول بما ذكروه على اطلاقه مشكل، لما عرفت من عدم الدليل، وإن أمكن القول
بذلك في بعض الموارد بنوع من التقريب الموجب لما ذكروه، كلبس الثوب
وركوب الدابة.

(1) ص 435.
(2) ج 1 ص 52.
452

ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن جامع
البزنطي (1) " قال سألته عن رجل كانت عنده وديعة لرجل فاحتاج إليها هل يصلح
له أن يأخذ منها وهو مجمع على أن يردها بغير إذن صاحبها؟ قال: إذا كان عنده وفاء
فلا بأس أن يأخذ ويرده " ورواه الحميري في قرب الإسناد عن علي بن جعفر (2)
عن أخيه (عليه السلام) " قال: سألته " الخبر وبمضمون ذلك أخبار أخر قد تقدمت
في المسألة السابعة من المقدمة الرابعة من كتاب التجارة (3) والتقريب فيها أنها
ظاهرة في أنه لا يخرج بهذا التصرف عن كونه أمينا لكون تصرفه جائزا.
وقال ابن إدريس - بعد ايراد خبر البزنطي المذكور - قال محمد بن
إدريس لا يلتفت إلى هذا الحديث، لأنه ورد في نوادر الأخبار، والدليل بخلافه
وهو الاجماع منعقد على تحريم التصرف في الوديعة بغير إذن ملاكها فلا يرجع
عما يقتضيه العلم إلى ما يقتضيه الظن، انتهى، وهو جيد على أصله الغير الأصل.
وكيف لا؟ والأخبار بما قلناه متظافرة كما أشرنا إليه من ذكرها في
الموضع المشار إليه، والحكم ليس منحصرا في هذا الخبر، وقد تقدم الكلام
أيضا في المناقشة في بعض الموارد المذكورة.
ثم إنه على تقدير ما ذكروه من لزوم الضمان والخروج عن الوديعة فإنهم
ذكروا أنه لا يعود إلى الحكم الأول إلا بأن يرده على المالك، ثم يجدد له المالك
وهذا الفرد مما لا خلاف ولا اشكال فيه عندهم، لأنه وديعة مستأنف يترتب عليها
أحكام الوديعة التي من جملتها كون الودعي أمينا.
قال في التذكرة: لو رد الوديعة - بعد أن تعلق ضمانها به إما بالاخراج
من الحرز أو بالتصرف أو بغيرهما من الأسباب - إلى المالك ثم إن المالك أودعه

(1) الوسائل ج 13 ص 233 ح 2 الباب 8 من أبواب أحكام الوديعة الرقم 2.
(2) قرب الإسناد ص 119
(3) ج 18 ص 325.
453

إياها ثانيا فإنه يعود أمينا اجماعا، وبرء من الضمان، انتهى.
وأما لو لم يردها ولكن جدد له المالك الايداع بأن أذن له في الحفظ فقال:
أذنت لك في حفظها أو قال: أودعتكها أو استأمنتك عليها فظاهر الأكثر أنه كالأول.
وعلل بأن الضمان إنما كان بحق المالك، وقد رضي بسقوطه باحداثه ما
يقتضي الأمانة، وهو اختياره في التذكرة، حيث قال: لو لم يسلمها إلى المالك
لكن أحدث المالك له استيمانا فقال: أذنت لك في حفظها أو أودعتكها أو
استأمنتك أو برأتك من الضمان فالأقرب سقوط الضمان عنه، وعوده أمينا لأن
التضمين حق المالك، وقد رضي بسقوطه، وهو أصح قولي الشافعي.
والثاني أنه لا يزول الضمان ولا يعود أمينا لظاهر قوله (عليه السلام) (1)
" على اليد ما أخذت حتى تؤدي " انتهى، وظاهره في المسالك التوقف في هذا
المقام، قال: ويمكن بناء ذلك على أن الغاصب إذا استودع هل يزول الضمان
عنه أم لا؟ فإن المستودع هنا قد صار بتعديه بمنزلته، والمسألة موضع اشكال -
إذ لا منافاة بين الوديعة والضمان كما في الفرض المذكور، فلا يزول الضمان
السابق بتجدد ما لا ينافيه، مع عموم قوله (صلى الله عليه وآله) على اليد ما أخذت
حتى تؤدي " (2) - ومن أنه قد أقام يده مقام يده، وجعله وكيلا في حفظها،
وذلك يقتضي رفع الضمان، وقد سلف البحث في نظائرها في مواضع، كالرهن
والقراض والأقوى هنا زوال الضمان، لأن المستودع نائب عن المالك في الحفظ،
فكانت يده كيده، وقبضه لمصلحته، فكان المال في يده بمنزلة ما كان في يد
المالك، بخلاف الرهن، انتهى.
ومرجع الوجه الثاني إلى ثبوت المنافاة بين الوديعة والضمان الذي معه
أولا وهو الأظهر ولهذا رجع به في آخر كلامه عن الاستشكال الذي ذكره أولا.
وظاهر عبارة التذكرة المتقدمة أن الابراء من الضمان في حكم الألفاظ

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
(2) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
454

المذكورة في تجدد الوديعة، لما علله به من أن التضمين حق للمالك، وقد
رضي بسقوطه، وربما أشكل بأن معنى الضمان أن العين لو تلفت وجب عليه
بدلها، والحال أنها الآن لم تتلف، فتكون البراءة من الضمان ابراء مما لم يجب.
ورد بأن الضمان المسبب عن التعدي معناه جعل ذمة الودعي متعلقة بالمال
على وجه يلزمه بدل المال على تقدير تلفه، ولزوم البدل ثمرة الضمان وفائدته،
لا نفسه، والساقط بالابراء هو الأول لا الثاني.
ويدل على أن المراد من الضمان هو المعنى الأول أنهم يحكمون عليه
بمجرد العدوان، فيقولون صار ضامنا، ولو فعل كذا ضمن ونحو ذلك، مع أن
لزوم البدل لم يحصل بذلك، وإنما حصل قبول ذمته له، وهذا معنى زواله
بالبراءة، بل هو متعلق البراءة.
الثالثة - إذا أنكر الوديعة أو أقر بها ولكن ادعى التلف أو ادعى الرد ولا
بينة فههنا مقامات ثلاثة.
الأول - الانكار، والظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في قبول قوله فيه، لأنه
منكر، والأصل عدمها من غير معارض.
الثاني: دعوى التلف، والمشهور قبول قوله فيه بيمينه وإن كان مدعيا
ومخالفا للأصل، لأنه أمين فيقبل قوله على من ائتمنه، بل ظاهر التذكرة دعوى
الاجماع على ذلك، قال: إذا طلب المالك من المستودع الرد فأدعي التلف،
فالقول قوله مع اليمين عند علمائنا، سواء ادعى التلف بسبب ظاهر، أو خفى.
لأنه أمين في كل حال، فكان القول قوله في كل حال هو أمين فيها، انتهى.
وظاهر الأصحاب أنه لا فرق في الحكم المذكور بين دعواه التلف بسبب
ظاهر كالحرق والغرق، أو خفي كالسرق، لاشتراكهما في المعنى وقد عرفت من
ظاهر العلامة دعوى الاجماع على ذلك.
وظاهر الشيخ في المبسوط الفرق بين ذلك، فقال: بقبول قوله في الثاني،
455

دون الأول، حيث قال بعد كلام في المقام -: وجملته أن كل موضع يدعي
الحرق والنهب والغرق فإنه لا يقبل قوله إلا بالبينة، وكل موضع يدعي السرقة
والغصب أو يقول: تلف في يده، فإن القول قوله مع يمينه بلا بينة، والفرق أن
الحرق والغرق لا يخفى، ويمكن إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة، انتهى.
وظاهر العلامة في التذكرة القبول مع الاطلاق، وعدم تعيين السبب
الموجب للتلف، كما يشير إليه كلام الشيخ المذكور أيضا، حيث خص عدم
القبول بدعوى السبب الظاهر، وعد دعوى التلف مطلقا فيما يقبل قوله.
ثم إن ظاهر الأكثر قبول قوله مع اليمين لا بدونها، وقد سمعت من عبارة
التذكرة دعوى الاجماع عليه، مع أن الصدوق في المقنع قال: يقبل دعوى
التلف والضياع بلا يمين.
قال: " وسئل الصادق (عليه السلام) عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل
قوله؟ قال: نعم ولا يمين عليه " (1) قال: وروي في حديث آخر (2) أنه قال:
" لم يخنك الأمين ولكنك ائتمنت الخائن " وقال في كتاب من لا يحضره الفقيه (3)
مضى مشايخنا (رضي الله عنهم) على أن قول المودع مقبول، فإنه مؤتمن ولا يمين عليه
وقال الشيخ في النهاية ولا يمين على المودع، بل قوله مقبول، فإن ادعى
المستودع أن المودع قد فرط أو ضيع كان عليه البينة، فإن لم يكن معه بينة
كان على المودع اليمين.
وقال ابن الجنيد وإذا قال: قد ضاعت أو تلفت فالقول قوله، فإن اتهم
أحلف، وكذا قال: أبو الصلاح.
أقول: كلامهما يرجع إلى ما ذكره في النهاية، والمشهور بين المتأخرين
اليمين مطلقا، قال في المختلف: والأشهر التسوية بين الحكمين في وجوب

(1) الفقيه ج 3 ص 195 ح 7 ص 194، الوسائل ج 13 ص 228 ح 7 و 8.
(2) الفقيه ج 3 ص 195 ح 7 ص 194، الوسائل ج 13 ص 228 ح 7 و 8.
(3) الفقيه ج 3 ص 195 ح 7 ص 194، الوسائل ج 13 ص 228 ح 7 و 8.
456

اليمين، لأن قول المودع أنها سرقت أو ضاعت دعوى، فلا بد فيها من اليمين ولم
يوجب البينة، لأنه أمين، انتهى.
وحينئذ فالأقوال في المسألة أربعة، ولم أقف على حديث ظاهر في اليمين
في هذا المقام، وغاية ما استدل به العلامة في المختلف لذلك حسنة الحلبي (1)
عن الصادق (عليه السلام) " قال صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان " وأنت خبير
بما فيه، بل ربما كان بالدلالة على خلاف ما ادعاه أنسب، فإن مقتضى كونه أمينا
أن يقبل قوله من غير يمين، كما هو ظاهر جملة من الأخبار، منها الخبر المتقدم
نقله عن المقنع، مع فرض كون الودعي غير ثقة، وهو أبلغ في الدلالة.
ومنها ما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" قال: ليس لك أن تتهم من ائتمنته، ولا تأمن الخائن وقد جربته ".
وما رواه في قرب الإسناد عن مسعدة بن صدقة (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" قال: ليس لك أن تأتمن من خانك لا تتهم من ائتمنت ".
وعن مسعدة بن زياد (4) " عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) قال: ليس لك أن تتهم من ائتمنته، ولا تأمن الخائن وقد جربته ".
والتقريب في هذه الأخبار أن منشأ اليمين إنما هو الاتهام له، وعدم تصديقه،
وقد نهوا عن اتهامه، فلا وجه لليمين حينئذ بل يجب تصديقه وقبول قوله من غير
يمين ففي هذه الأخبار رد أيضا على الشيخ ومن قال بقوله من أن له احلافه مع
تهمته فإن هذه الأخبار نهت عن اتهامه ويؤيد هذه الأخبار أيضا الأخبار الدالة
على أنه لم يخنك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن، فإنها ظاهرة في أنه لا يجوز
له أن يخونه، وينسبه إلى الخيانة بعد اعتقاد كونه أمينا، وايداعه لذلك.

(1) الفقيه 3 ص 193 ح 1، الوسائل ج 13 ص 227 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 298 ح 1، الوسائل ج 13 ص 229 ح 9.
(3) الوسائل ج 13 ص 229 ح 9 و 10 الباب 4 من أبواب أحكام الوديعة الرقم 9 و 10 قرب الإسناد ص 35.
(4) الوسائل ج 13 ص 229 ح 9 و 10 الباب 4 من أبواب أحكام الوديعة الرقم 9 و 10 قرب الإسناد ص 35.
457

ومنها ما رواه في الفقيه مرسلا (1) " قال: وروي أن رجلا قال للصادق (عليه السلام) إني ائتمنت رجلا على مال أودعته عنده فخانني وأنكر مالي، فقال:
لم يخنك الأمين ولكن ائتمنت أنت الخائن " ورواه الشيخ أيضا (2) مرسلا.
وهو ظاهر فيما قلناه، وبه يظهر لك قوة قول الصدوق في المسألة، ويمكن
حمل كلام الشيخ وابن الجنيد وأبي الصلاح على ائتمان من يتهمه، بمعنى أنه
لا يعتقد أمانته وقت الايداع، بل يجوز الخيانة عليه كما يدل عليه بعض الأخبار
الواردة في تضمين القصار ونحوه.
أقول: ويؤيد ما قلناه هنا ما سيأتي انشاء الله من الأخبار في كتاب العارية،
وما ذكرناه غير خاص بالوديعة، بل كل موضع ثبت كونه أمانة من عارية،
أو مضاربة، أو وكالة أو نحوها، كما سيأتي تحقيقه - انشاء الله تعالى - في كتاب
العارية.
الثالث - ما لو ادعى الرد على المالك، وفيه اشكال من حيث أن الأصل عدم
الرد وعدم البينة على المدعي، ومن حيث أنه أمين ومحسن وقابض لمصلحة
المالك، والمشهور قبول قوله بيمينه.
قال في التذكرة، فإن ادعى ردها على من ائتمنه وهو المالك قدم قوله
باليمين، على اشكال ينشأ - من أنه أمين يقبل قوله مع اليمين كالمتلف ومن كونه
مدعيا فافتقر إلى البينة، وظاهره التوقف في الحكم، وبقائه على الاستشكال
لعدم الترجيح بشئ من الدليلين على الآخر.
وكذلك شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث جرى على ما جرى عليه
في التذكرة، ونحوه الشهيد في شرح نكت الإرشاد حيث اقتصر على مجرد نقل
وجهي الاشكال المذكور وهو في محله.
ولو ادعى الرد إلى وكيل المالك فظاهر هم أنه كدعوى الرد على المالك،

(1) الفقيه ج 3 ص 195 ح 7، التهذيب ج 7 ص 181 ح 9 الوسائل ج 13 ص 228 ح 6.
(2) الفقيه ج 3 ص 195 ح 7، التهذيب ج 7 ص 181 ح 9 الوسائل ج 13 ص 228 ح 6.
458

لأن يده كيده، ولو ادعى الرد على الوارث فعليه البينة، لخروج هذا الفرد عما
نحن فيه، لأن الوارث لم يأتمنه، فلا يكلف تصديقه، والأصل عدم الرد.
الرابعة - قد عرفت الحكم فيما لو ادعى الودعي رد الوديعة على المالك
أو وكيله أو وارثه بقي الكلام هنا في ما لو ادعى الرد على غير من ذكر لكن
بإذن المالك، ولا يخلو الحال هنا، إما أن يوافق المالك على دعوى الإذن،
أو ينكر ذلك، فهنا مقامان: الأول - أن يوافق المالك على دعوى الإذن،
إليه ينكر ذلك، والدافع لم يشهد عليه، وقد اختلف كلامهم في هذا المقام،
ومثله ما لو أمره بقضاء دينه فقضاه عنه، ولم يشهد على الدفع، مع انكار المدفوع
إليه، والأقوال هنا ثلاثة: فقيل: يضمن الدافع في الموضعين، وقيل: لا يضمن فيهما
وقيل: بالتفصيل، فيضمن في القرض، ولا يضمن في الوديعة.
قال في المختلف: إذا أمره بالايداع فلم يشهد عليه قوى الشيخ عدم الضمان،
ولو أمره بقضاء الدين قال: يضمن بترك الاشهاد وإن صدقه عليه، فإنه فرط
حيث دفع دفعا غير مبرئ، ولو قيل بالتسوية في الموضعين في عدم الضمان كان
وجها، لأنه امتثل ما أمره به، وجهود القابض لا يوجب الضمان على الدافع،
والبراءة في نفس الأمر قد وقعت، انتهى.
مع أنه في التذكرة قوى مذهب الشيخ، ومنع ما اختاره هنا، فقال: لو
أمره بالايداع لما دفعه إليه ابتداء فالأقرب أنه لا يجب على المدفوع إليه الاشهاد
على الايداع، بخلاف قضاء الدين، لأن الوديعة أمانة، وقول المستودع مقبول
في الرد والتلف، فلا معنى للاشهاد، ولأن الوديعة حقها الاخفاء بخلاف قضاء
الدين وهو أظهر وجهي الشافعية.
والثاني أنه يلزمه الاشهاد كقضاء الدين، وقد بينا الفرق، انتهى.
ثم قال - في المسألة التي هي محل البحث -: ولو اعترف المالك بالإذن
والدفع معا لكنه قال: إنك لم تشهد عليه، والمدفوع إليه، ينكر، كان مبنيا
459

على الخلاف السابق، في وجوب الاشهاد على الايداع، فإن أوجبناه ضمن، وإلا
فلا، ومن هذا الكلام علم القول الثاني، والثالث، وحجة كل منهما.
وأما القول الأول فنقله في المسالك قولا في المسألة، ولم يسنده، وعلله
بأنه يضمن فيهما، لأن اطلاق الإذن يقتضي دفعا ثابتا يمكن الرجوع إليه عند
الحاجة، فإذا ترك الاشهاد فقد قصر، خصوصا الدين، فإن الغرض منه براءة
الذمة، ولا يظهر إلا بالاشهاد، لأن العزيم إذا أنكر فالقول قوله.
والمحقق في الشرايع اختار في كتاب الوديعة عدم وجوب الاشهاد على
أداء الوديعة، وفي كتاب الوكالة قال التفصيل على تردد، وظاهره في المسالك
اختيار القول بالتفصيل، حيث أنه استحسنه من بين الأقوال المذكورة، والمسألة
عندي محل توقف واشكال، لعدم الدليل من النصوص، وتدافع هذه التعليلات،
مع ما عرفت في غير موضع من أنها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية والله العالم.
الثاني - أن ينكر المالك الإذن وحينئذ فالقول قوله بيمينه، إذا لم يكن
بينة، لأنه منكر، ويكون الحكم فيه كدعوى الرد على الوارث، لأن المدفوع
إليه لم يأتمنه ليقبل قوله عليه، وليس بوكيل لتكون يده كيد الموكل.
وبالجملة فالظاهر أن المسألة المذكورة من جزئيات مسألة المدعي
والمنكر يوجب البينة على المدعي، واليمين على المنكر.
واحتمل بعض المحققين كون القول قول المستودع بيمينه، نظرا إلى ما
تقدم من أنه أمين، والظاهر ضعفه، لأن القدر المقطوع به من الأخبار وكلام
الأصحاب اختصاص ذلك بغير ما ذكرناه من دعوى التلف بأي أنواعه، أو الرد
على المالك أو وكيله.
بقي الكلام في أنه متى حلف المالك فلا يخلو إما أن يكون من ادعى
عليه القبض مقرا بذلك، أو منكرا، وعلى تقدير الأول إما أن يكون موجودة
أو تلفت، فههنا صور ثلاثة: أحدها - أن يقر بالقبض والعين موجودة، ولا
460

اشكال في وجوب ردها إلى المالك، قال في التذكرة: فإن غاب المدفوع إليه في هذه
الصورة كان للمالك أن يغرم المستودع، فإذا قدم الغائب أخذها المستودع وردها
على المالك، واسترد البدل الذي دفعه، وهو ظاهر في التخيير بين الرجوع على
الودعي والصبر إلى قدوم الغائب، إلا أنه مع الرجوع على الودعي فالحكم ما ذكره.
الثانية - الصورة المذكورة مع تلف العين، والحكم عندهم أنه يتخير
المالك في الرجوع على من شاء منهما، وليس للغارم منهما أن يرجع على
صاحبه، لزعمه أن المالك ظالم له في أخذ البدل منه، فلا يرجع به على غير
من ظلمه.
الثالثة - أن ينكر القبض الذي ادعاه المستودع، وحينئذ فالقول قوله
بيمينه مع عدم البينة، فيختص الغرم بالمستودع.
الخامسة - اختلف الأصحاب فيما لو أنكر الوديعة فأقام المالك البينة عليها
فصدقها بعد الانكار إلا أنه ادعى التلف قبل إنكاره، فقيل: لا يسمع دعواه التلف،
لأنه بإنكاره السابق مكذب لدعواه الأخيرة فلا تسمع لتناقض كلاميه، ولا يتوجه
بها يمين عليه ولا على المدعى عليه، ولو أقام بينة أيضا فإنها لا تسمع بينته، لأنه
مكذب لها ونقل هذا القول في المختلف عن الشيخ، وأيده بعضهم بأنه بإنكاره
الوديعة يصير خائنا، فخرج عن الأمانة وصار ضامنا.
وقيل: أنه إذا قال المودع: ما أودعتني شيئا ثم اعترف بالوديعة وادعى
هلاكها لم يضمن إذا حلف، لأن انكاره يجوز أن يكون عن سهو ونسيان لها، ونقله
في المختلف عن ابن الجنيد، وهو ظاهر في قبول قوله مع عدم البينة.
وذهب العلامة في المختلف إلى ما قدمنا نقله عن الشيخ من أنه لا تسمع
دعواه وإن أقام بينة، لأنه مكذب لدعواه الهلاك بإنكاره الوديعة، إلا أنه قال:
لو طلب احلاف الغريم فله ذلك، وفيه كما ترى دلالة على نوع من سماع دعواه،
فإن ظاهر مذهب الشيخ أنه يجب عليه الضمان مطلقا.
461

وقيل: أنه تسمع دعواه، وتقبل بينته، لجواز استناد جحوده إلى النسيان
فيعذر وهو اختيار المحقق في الشرايع، والعلامة في التذكرة، على ما نقله عنه
في المسالك، وهذا القول يرجع إلى ما قدمنا نقله عن ابن الجنيد.
وفي القواعد اختار القول الأول وقد تبين من ذلك أن في المسألة أقوالا
ثلاثة، وكلها للعلامة في كتبه المذكورة، وفي المسألة أيضا قول رابع نقله في
المسالك عن الشهيد (رحمه الله) واستحسنه، وهو أنه إن أظهر لإنكاره تأويلا
كقوله ليس لك عندي وديعة يلزمني ردها أو ضمانها أو نحو ذلك، قبلت دعواه،
وسمعت بينته، وإن لم يظهر له تأويلا لم يقبل.
أقول: ويؤيد هذا القول ما يظهر من المسالك من أن محل الخلاف في
المسألة ما إذا كان الجحود بإنكار أصل الايداع، أما لو كانت صورته لا يلزمني شئ
إليك أو نحو ذلك من الألفاظ المذكورة في هذا القول فقامت البينة بها، فادعى
التلف أو الرد سمعت دعواه ببينته، لعدم التناقض بين كلاميه.
قال في القواعد: وإن أقيمت عليه البينة فادعى الرد أو التلف من قبل،
فإن كان صيغة جحوده انكار أصل الوديعة لم يقبل قوله بغير بينة ولا معها على الأقوى
لتناقض كلاميه، وإن كان صيغة الجحود لا يلزمه شئ قبل قوله في الرد والتلف
مع البينة بدونها في الأخير، وفي الأول على رأي.
أقول: قوله على الأقوى إشارة إلى ما قدمنا نقله عنه من اختياره القول
الأول، وقوله وفي الأول على رأي، يعني الرد، إشارة إلى الاشكال المتقدم ذكره
فيما لو ادعى الرد.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن عندي في عده في المسالك ما نقله عن الشهيد من التفصيل
قولا رابعا نظرا، بل الظاهر أنه يرجع إلى القول الأول. وذلك فإن الظاهر من كلامه
كما قدمنا الإشارة إليه أن محل الخلاف إنما هو فيما إذا كان الجحود بإنكار أصل
الايداع حيث قال بعد نقل الأقوال الأربعة: هذا كله إذا كان الجحود بإنكار
462

أصل الايداع، أما لو كان صورته ما يلزمني شئ أو لا يلزمني تسليم شئ إليك
أو ما لك عندي وديعة أوليس لك عندي شئ فقامت البينة بها فادعى التلف أو الرد
سمعت دعواه وبينته، لعدم التناقض بين كلاميه، انتهى.
ومرجع هذا الكلام إلى ما ذكرناه من أن محل الخلاف والأقوال الأربعة التي
قدمنا هل قبل هذا الكلام إنما هو في صورة الجحود بإنكار أصل الايداع، والقول
الذي نقله رابعا ظاهر في أنه مع الجحود بهذه الكيفية، حيث لا يقبل قوله التأويل
لا يقبل قوله، وأما إذا كان جحوده لا بهذه الكيفية بل بهذه الألفاظ التي يقبل
التأويل فإنه وإن كان يقبل، إلا أنه خارج عن محل البحث، والخلاف في المسألة
كما ذكره في كلامه الأخير وبالجملة فبالتأمل في كلامه يظهر صحة ما قلناه.
قال في المسالك: وحيث قلنا بقبول بينته إن شهدت بتلفها قبل الجحود
برأ من الضمان وإن شهدت بتلفها بعده ضمن لخيانته بالجحود، ومنع المالك
منها وهو جيد، والله العالم.
السادسة - المشهور بين الأصحاب على ما نقله في المسالك أنه إذا اعترف
بالوديعة ثم مات وجهلت عينها فإنها تخرج من أصل تركته، ولو كان له غرماء
وضاقت التركة حاصهم المستودع، وعلل بأن اعترافه بالوديعة في حياته أوجب
ثبوت يده عليها، والتزامه بها إلى أن يردها إلى مالكها، فإذا لم تعلم كان ضامنا
لها، لعموم (1) " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " ولأنه بترك تعيينها مفرط فيها،
فيضمن، ولأن الأصل بقاءها في يده إلى الموت وبعده يكون في جملة التركة،
فإذا تعذر الوصول إلى عينها، وجب البدل فيكون بمنزلة الدين، فيحاص الغرماء
وتردد في هذه المسألة المحقق في الشرايع، واستشكل فيها العلامة في القواعد
والارشاد، ومنشأ التردد والاستشكال مما ذكر، ومن أن اعترافه بها في حياته إنما
يقتضي وجوب الحفظ، وإلا فذمته بريئة من ضمانها فإذا مات ولم تعلم، احتمل

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
463

تلفها قبل الموت بغير تفريط، أو ردها إلى المالك، والأصل براءة ذمته من
الضمان، وكون التلف على خلاف الأصل معارض بهذا الأصل، وليسا متنافيين
حتى يقال: أنهما تعارضا فتساقطا، إذ لا يلزم من بقاءها وعدم تلفها تعلقها بالذمة
ليلزم الضمان كما ادعوه.
قال - شيخنا الشهيد (رحمه الله) في شرح نكت الإرشاد بعد قول المصنف
(ولو مات ولم يوجد أخذت من التركة على الشكال) -: ما لفظه منشأه النظر إلى
أصالة براءة الذمة من الضمان، فينزل على تلفها بغير تفريط، إذ الأصل عدمه،
والالتفات إلى قوله (1) (صلى الله عليه وآله) " على اليد ما أخذت "، ولا صالة
عدم التلف بها، انتهى.
وأنت خبير بأنه بالنظر إلى الجحود على أمثال هذه التعليلات هو عدم
الضمان، لأن الوديعة من حيث هي لا تعلق لها بالذمة إلا من حيث أسباب التعدي
أو التفريط المتقدمة، والمفروض أنه لا شئ منها، وغاية ما يجب على الودعي
الحفظ لها خاصة، ومجرد عدم وجودها بينها بعد الموت لا يستلزم تفريطا ولا تعديا
ليحصل به الضمان، فأصالة عدم الضمان ظاهرة، وإن فرض احتمال بقاءها واحتمال
الرد إلى المالك، والتلف بغير تفريط قائم في العين، وحديث (2) " على اليد
ما أخذت " يمكن تخصيصه بالأمانات، بمعنى خروج الأمانات من عمومه، وليس
هنا ما يوجب الخروج عن كونها أمانة من تفريط أو تعد يوجب الضمان والتعلق
بالذمة، حتى يقال: إن عليها ما أخذت.
وبه يظهر وجه ما استظهرناه، ومن ثم قال في المسالك - بعد الكلام في المسألة
- والأقوى أنه إن علم بقاء عينها إلى ما بعد الموت ولم تتميز قدم مالكها على
الغرماء، وكان بمنزلة الشريك، وإن علم تلفها بتفريط فهو أسوة الغرماء وإلا
فلا ضمان أصلا، لا صالة براءة الذمة، وأصالة بقائها إلى الآن لو سلمت لا تقتضي

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
(2) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
464

تعلقها بالذمة، انتهى وهو جيد.
ثم إن ما ذكرناه من عدم الضمان هنا هو ظاهر اختيار العلامة في التذكرة
حيث قال: قد بينا الخلاف فيما إذا كان عنده وديعة، ولم توجد في تركته، وأن
الذي يقتضيه النظر عدم الضمان، والذي عليه فتوى أكثر العلماء منا ومن الشافعية
أن عليه الضمان، ثم نقل عن الشافعي أنها إذا لم توجد بعينها خاص المالك الغرماء،
ونقل اختلاف أصحابه في هذه المسألة.
وكيف كان فالمسألة المذكورة لخلوها عن النص الواضح غير خالية من
الاشكال، وإن كان ما ذكرناه لا يخلو من قرب بالنظر إلى هذه التعليلات
والله العالم.
السابعة - لو كان في يده وديعة فادعاها اثنان، بأن ادعى كل واحد أنها له
بخصوصه، فإما أن يقربها الودعي لأحدهما، أو يقر لهما، أو يكذبهما، أو يقول:
لا أدري لأيكما هي مع قطعه بانحصارها فيهما، أو يقول لا أدري لمن هي لكما
أو لغير كما، فهنا صور: الأولى أن يقربها لواحد منهما خاصة وقد صرح الأصحاب
بأنها يحكم بها لمن أقر له بها، ويجب دفعها إليه، ويجب على الودعي أن يحلف
للآخر. فإن حلف سقطت دعوى الآخر عنه، وبقي النزاع بين المدعيين، ولمن
لم يقر له الودعي احلاف صاحبه الذي أقر له الودعي، ودفع إليه الوديعة، فإن
حلف استقر الملك له. وإن نكل الودعي عن اليمين للآخر أحلف ذلك للآخر
على استحقاقها إن لم نقل بأنه يقضي عليه بالنكول، وعلى كل من الوجهين فإنه
يغرم الودعي حينئذ لذلك الآخر المثل أو القيمة لحيلولته بينه وبين الوديعة
باقراره للأول، أما في صورة القضاء بالنكول فظاهر، وأما في صورة حلف الآخر
فلأن اليمين المردودة عندهم بمنزلة اقرار المنكر، فإنه لو أقر بها ثانيا للآخر
بعد أن أقر بها أولا للأول، لزمه الغرم مثلا أو قيمة، وكذا ما هو بمنزلة الاقرار.
وربما قيل: بأن اليمين المردودة كالبينة من المدعي، وحينئذ فكما
465

يحتمل - أن يكون الحكم فيها ما تقدم في تنزيل اليمين بمنزلة الاقرار من تغريم
الودعي مع بقاء العين في يد الأول - يحتمل أن تنزع العين من يد الأول، لأن
مقتضى العمل بالبينة كون العين لمن شهدت له.
ورد بأنها إنما تكون كالبينة بالنسبة إلى المتداعيين خاصة، لا في حق غير
هما وهذه العين قد صارت حقا للأول، والنزاع هنا إنما هو بين الودعي وبين الآخر
وكونها كالبينة في حق المدعى عليه، يقتضي غرمه له للحيلولة بينه وبينها باقراره
للأول، قالوا: واليمين منهما هنا على البت، لأنها ترجع إلى الاستحقاق ونفيه.
الثانية - أن يقر لهما معا على سبيل الاشتراك، وفيه تكذيب لدعوى كل
الاستقلال بالاستحقاق، فقد كذب كل واحد منهما في دعواه الجميع وصدقه في
البعض، وحينئذ فيقسم بينهما، ويبقى النزاع بينهما في النصف، فإن حلفا معا
أو نكلا قسم بينهما أيضا، وإن حلف أحدهما خاصة قضى له به، ولا خصومة
للناكل مع الودعي.
وبالجملة بأنه يكون بمنزلة مال في يد شخصين يدعيانه هذا بالنسبة إليهما
وأما بالنسبة إلى الودعي فإن حكم التصديق والتكذيب في النصف كما في الجميع
بالنسبة إليه، وحينئذ فلكل منهما عليه يمين، فإن حلف سقطت دعوى كل واحد
منهما عنه وإن نكل فكما تقدم من الحكم بالنكول، أو ارجاع اليمين وما
يترتب على ذلك.
الثالثة - أن يكذبهما معا قالوا فإنه ينتفي دعواهما، لأن اليد له، ولكل
منهما احلافه على البت، فإن نكل عن اليمين ردت عليهما بناء على عدم القضاء
بالنكول، وصارا في الدعوى سواء، لأن يدهما خارجة، فإن حلفا أو نكلا
قسمت بينهما أنصافا، وإن حلف أحدهما اختص بها.
الرابعة - أن يقول هي لأحد كما، ولا أدري من هو على التعيين فإن وافقاه
على عدم علمه بالتعيين، فلا خصومة لهما معه، وإن كذباه في دعواه عدم العلم
466

وادعى كل واحد منهما عليه أنه يعلم أنه المالك، فالقول قوله مع يمينه، إلا أن
الحلف هنا على عدم العلم، وهل يكفي يمين واحد أو لا بد من يمينين؟ المشهور
الأول، وهو قول الشيخ في الخلاف وظاهر ابن الجنيد، اختاره في المختلف،
وجعله الأقوى في المسالك، والقول الثاني للشيخ في المبسوط.
ووجه الأول أن المدعى شئ واحد وهو علمه بكون المال لمعين، بخلاف
سابق هذه الصورة، فإنه يبقى استحقاق كل واحد منهما فيحلف له.
ووجه الثاني أن كلا منهما مدع، فيدخل في عموم الخبر المشهور، والقول
الأول نقله في التذكرة عن الشافعي، والثاني عن أبي حنيفة، وحينئذ فإذا حلف
سقطت الدعوى عنه، وبقيت المنازعة بينهما، وإن نكل عن اليمين وحلفا على
علمه بناء على عدم القضاء بالنكول أغرم القيمة، وتجعل مع اليمين في أيديهما.
بقي الكلام في أنه متى حلف لهما، وبقيت المنازعة بينهما فقيل: بأنه
يقرع بينهما، فمن خرج اسمه وحلف سلمت إليه، وقيل: يقف حتى يصطلحا.
قال الشيخ في الخلاف: لو كان عنده وديعة فادعاها اثنان، فقال المودع:
هي لأحدهما ولا أعلم صاحبها بعينه، وادعى كل منهما علمه بذلك أحلف يمينا
واحدة، فإذا حلف وأخرجت الوديعة من عنده، وبذل كل من المتداعيين اليمين
أنها له استخرج واحد منهما بالقرعة، فمن خرج اسمه وحلف سلمت إليه، أو
يقسم بينهما نصفين.
وقال ابن الجنيد: توقف حتى يصطلحا أو يقوم بينة بها لأحدهما، ونقله
الشيخ عن الشافعي، وتردد في المبسوط، فتارة حكم بالايقاف حتى يصطلحا،
وتارة قوى القرعة، وادعى في الخلاف الاجماع على أن لكل أمر مشكل فيه
القرعة.
أقول: والأقرب بمقتضى قواعدهم هنا هو ما اختاره شيخنا الشهيد الثاني
في المسالك، حيث قال - بعد نقل القولين المذكورين -: والأقوى أنهما يحلفان
467

ويقسم بينهما لتكافؤ الدعويين، وتساويهما في الحجة، وهو يقتضي القسمة كذلك
ولا يكون الأمر مشكلا، والايقاف حتى يصطلحا ضرر، والاصطلاح غير لازم، انتهى.
الخامسة - أن يقول لا أدري لمن هي لكما أو لغير كما والذي صرح به
في التذكرة هنا أنه إذا ادعيا عليه العلم كان القول قوله مع اليمين، فإذا حلف
على نفي العلم تركت في يده إلى أن يقوم بينة، وليس لأحدهما تحليف الآخر
لأنه لم يثبت لواحد منهما يد، ولا استحقاق بخلاف الصورة الأولى، انتهى.
ولم يتعرض لبيان الحكم فيما لو نكل عن اليمين، وقال في المسالك:
ولو نكل عن اليمين ففي تسليمها إليهما مع حلفهما على الاستحقاق وغرامته لهما
القيمة لو حلفا على علمه احتمالا، لانحصار الحق فيهما ظاهرا ولا منازع لهما
الآن، ويحتمل العدم لعدم حصر ذي اليد الحق فيهما، ولم أقف في هذا القسم
على شئ يعتد به، انتهى.
تنبيه:
ظاهر كلام المحقق في الشرايع أنه في صورة قوله لا أدري الشامل للصورة
الرابعة والخامسة أنها تقر في يده، حتى يثبت لها مالك، وهو في ثاني الصورتين
المذكورتين مما لا يظهر فيه خلاف.
ويؤيده أن يده يد أمانة، ولم يتعين لها مالك يجب الدفع إليه، والحق في
هذه الصورة غير منحصر فيهما، ليتوهم سقوط أمانته بمطالبتهما.
وأما أولى الصورتين المذكورتين فقيل: إن الحكم كما ذكر من كونها
أمانة ولم يتعين المالك، وقيل: بأنها تنزع من يده، لانحصار الحق فيهما ومطالبتهما
إياه، والقولان للشيخ (رحمه الله)، ففي المبسوط قوى بقاءها في يده، وظاهره
في الخلاف كما تقدم في عبارته أنها تنزع من يده، واستوجه في المختلف رد
الأمر إلى الحاكم، واستحسنه في المسالك، والله العالم.
468

الثامنة - لو اختلفا في القيمة بعد ثبوت التفريط فهل القول قول المالك
بيمينه، أو القول قول الغارم؟ قولان: وبالأول قال الشيخان على ما نقله
في المختلف، ونقل عنهما أنهما احتجا ببطلان الأمانة بالخيانة، فلا يكون قوله
مسموعا.
ونقل في المختلف عن أبي الصلاح أنه قال: وروي أن اليمين في القيامة
على المودع فتكون هذه الرواية دليلا للشيخين فيما ذهبا إليه هنا.
ورد الأول بأنه على تقدير قبول قول الودعي فإنا لم نقبله من حيث كونه
أمينا ليلزم ما ذكروه، وإنما قبلنا قوله من حيث كونه منكرا للزيادة التي يدعيها
المالك، فالقول قوله بيمينه لذلك، كما أن البينة هنا على المالك، لكونه
مدعيا، وأما الخبر المذكور فلم يثبت على وجه تقوم به الحجة.
وبالقول الثاني صرح المحقق، والعلامة، وابن حمزة، وابن إدريس، وهو
المشهور، ولا ريب أنه الأوفق بالقواعد الشرعية، قال في المسالك: وهذا الحكم
لا يختص الأمين، بل الحق تعديه إلى كل من شاركه في هذا المعنى، وإن كان
غاصبا، انتهى وهو جيد نظرا إلى الاندراج تحت القاعدة المنصوصة، والله العالم.
التاسعة - لا ريب أنه إذا مات المودع سلمت الوديعة إلى ورثته، فإن كانوا
جماعة بلغاء سلمت الوديعة إلى الجميع أو وكيلهم أو وليهم أو وصيهم لو كانوا
أطفالا، أو الحاكم مع غيبة الوارث، أو عدم وجود ولي خاص للأطفال، قالوا:
وتجب المبادرة بالتسليم، لأنها بموت المودع تصير أمانة شرعية، وقد تقدم أن
الحكم فيها وجوب المبادرة بالرد إلى المالك فورا.
والمشهور أنه لا فرق في وجوب المبادرة بالرد بين علم الورثة بذلك
وعدمه، ونقل في التذكرة عن بعض الشافعية أن مع علمهم لا يجب الدفع إلا
بالطلب، ونفى عنه البأس.
وقال في المسالك - بعد نقل ذلك عنه -: وهو وجيه، إلا أنه لم يتحقق
469

به قائل منا، وإن كان القول به ممكنا، لعدم تحقق الاجماع.
أقول: لا أعرف لما رجحاه في هذا المقام وجها بعد الاتفاق على كونها
أمانة شرعية، لحصولها في يده بغير إذن المالك، ومن شأن الأمانة الشرعية وجوب
ردها فورا، وخروج هذا الفرد يحتاج إلى دليل يوجب التخصيص، إلا أن يخرجوا
عن أصل القاعدة المذكورة في الأمانة الشرعية، والله العالم.
العاشرة - لو كان في يده سلعة فادعى أنها رهن وادعى صاحبها أنها وديعة
فهل القول قول من هي في يده، أو قول المالك؟ قولان، وقد تقدم تحقيق
المسألة مستوفى منقحا في كتاب الرهن.
الحادية عشر - المشهور بين الأصحاب أنه إذا اتجر الودعي بالوديعة بغير
إذن المالك كان ضامنا، والربح بأجمعه للمالك، ذهب إليه الشيخان وسلار
وأبو الصلاح وابن البراج وغيرهم.
وكذا قال ابن الجنيد إلا أن الجماعة أطلقوا وابن الجنيد، قال: ولو
تعدى فيها بالتجارة كان الربح لصاحب المال، إلا أن يكون صاحبها خيره على
أن ضمنه إياها، ولو خيره على ذلك ولم يتجر فيها، ولا انتفع بها ولا تعدى لم
يلزمه ضمانه إياها.
قال في المختلف - بعد نقل ذلك عنه -: ولا بأس بهذا القول، لأن التضمين
وإن لم يكن لازما، إلا أنه يفيد الإذن في التصرف، وحينئذ يكون الربح
للودعي، لأنه في الحقيقة استدانة.
ثم نقل رواية مسمع، وهي ما رواه في التهذيب والفقيه عن مسمع (1)
" قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه
فحلف لي عليه ثم إنه جائني بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه،
فقال: هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع

(1) التهذيب ج 7 ص 180 ح 6، الفقيه ج 3 ص 194 ح 5، الوسائل
ج 13 ص 235 ح 1.
470

مالك، واجعلني في حل فأخذت المال منه، وأبيت أن آخذ الربح منه، وأوقفته
المال الذي كنت استودعته وأتيت حتى استطلع رأيك فما ترى؟ قال: فقال: خذ
نصف الربح واعطه النصف وحلله إن هذا رجل تائب والله يحب التوابين ".
ثم قال - بعد نقل الخبر - والظاهر أن ذلك على وجه الاستحباب، والشيخ
(رحمه الله) أفتى بما تضمنته الرواية في الدين.
أقول: لا يخفى ما في كلامهم على اطلاقه هنا من الاشكال، لأن هذا المتجر
في هذه الصورة غاصب بلا اشكال، ولا ريب في ضمانه، إلا أن الشراء متى وقع في
الذمة فإنه يكون صحيحا شرعا بلا اشكال، وإن كان دفع الثمن من الوديعة محرما
لأنه تصرف في مال الغير بغير إذن منه، والربح يكون للمشتري، لصحة الشراء
المذكور، ولا أعرف للحكم بكونه للمالك وجها والحال كما ذكرنا.
وأما لو وقع الشراء بالعين، فإنه يكون باطلا لا يترتب عليه استحقاق ربح
لا للمالك، ولا للبايع، لأن حل الربح فرع صحة العقد، بل الواجب هو رد كل
ملك على مالكه من مبيع وثمن وربح، هذا مقتضى القواعد الرعية، والضوابط المرعية
في البيع والرواية أيضا لا تخلو من الاشكال، إلا أن تحمل على كون الشراء
وقع في الذمة، والربح حينئذ للمتجر دون المالك، إلا أنه لأجل رضى المالك
وطلب التحليل منه بذل له هذا المبلغ، ليرضيه بذلك فيحلله مما فعل فكأنه
بمنزلة الصلح بينهما، والإمام (عليه السلام) أمره بقبول ذلك، ورد النصف عليه
في مقابلة توبته، وقد تقدم الكلام في هذا المقام في المسألة التاسعة من المقصد
الثاني من كتاب الدين (1) والله العالم.
الثانية عشر - لو اختلف المالك ومن عنده الوديعة في أنه وديعة أو دين،
فادعى الذي عنده المال أنه وديعة، وادعى المالك أنه دين، قال الشيخ في النهاية
أن القول قول صاحب المال، وعلى الذي عنده المال البينة على أنه وديعة، فإن

(1) ج 20 ص 183.
471

لم يكن له بينة وجب عليه رد المال، فإن هلك كان ضامنا وإن طالب صاحب المال
باليمين أنه لم يودعه ذلك المال كان له.
وقال ابن الجنيد وإذا أقر الرجل لرجل بمال وادعى فيه عليه ما يزيل به
حقا وجب لصاحب المال من أنه كان وديعة فهلك، أو مضاربة فخسر لم يصدق إلا
ببينة، وكان القول قول صاحب المال مع يمينه انتهى، وهو يرجع إلى قول الشيخ
المذكور.
وفصل ابن إدريس هنا فقال: الوجه عندي أن يكون المدعى عليه قد وافق
المدعى على صيرورة المال إليه، وكونه في يده ثم بعد ذلك ادعى أنه وديعة لك
عندي فلا يقبل قوله، ويكون القول قول من ادعى أنه دين، لأنه قد أقر بأن
الشئ في يده أولا وادعى كونه وديعة، والرسول (صلى الله عليه وآله) (1) " قال:
على اليد ما أخذت حتى تؤدي " وهذا قد اعترف بالأخذ والقبض وادعى الوديعة،
وهي تسقط الحق الذي أقر به لصاحب المال، فلا يقبل قو له في ذلك، فأما لو لم
يقر بقبض المال أولا، بل ما صدق المدعي على دعواه بأن له عنده ما لا دينا،
بل قال: لك عندي وديعة، كذا وكذا فيكون حينئذ القول قوله مع يمينه،
لأنه ما صدق على دعواه، ولا أقر أولا بصيرورة المال إليه، بل قال: لك عندي
وديعة فليس الاقرار بالوديعة اقرارا بالتزام الشئ في الذمة، ثم أمر بأن يلحظ
ذلك وزعم أن فيه غموضا، انتهى.
وبموجب تفصيله يوافق الشيخ في الشق الأول خاصة، والعلامة في المختلف
وافق الشيخ وابن الجنيد، ورد تفصيل ابن إدريس بأنه ضعيف جدا، قال: إذا
البحث وقع في مال في يد المقر ادعى أنه وديعة، وادعى صاحبه أنه دين، لنا أنه
اعترف بثبوت يده على مال الغير، وهو يقتضي ظاهرا الضمان، فيكون القول قول
من يدعي الدين، قضاء بالظاهر، انتهى.

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.
472

أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الكليني
والشيخ والصدوق في الموثق عن إسحاق بن عمار (1) " قال: سألت أبا الحسن
(عليه السلام) عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت فقال الرجل: كانت
عندي وديعة، وقال الآخر: إنما كانت عليك قرضا؟ قال: المال لازم له إلا أن
يقيم البينة أنها كانت وديعة " وما رواه الكليني والشيخ في الموثق عن إسحاق بن
عمار (2) أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في رجل قال الرجل: عليك ألف
درهم فقال الرجل: لا ولكنها وديعة، فقال (عليه السلام): القول قول صاحب
المال مع يمينه " ولا يخفى ما في هذين الخبرين من الظهور في ما ذهب إليه الشيخ،
والرد لما فصله ابن إدريس، واستشكل بعض الأفاضل في هذه الأخبار بأن الأمانة
والقرض متعارضان، ثم رجح الحمل على ما إذا كان صاحب المال ثقة، والذي
يدعي الوديعة متهما.
وفيه أن الأمانة التي عارض بها دعوى القرض بناء على ما ورد " من أن
صاحب الوديعة مؤتمن " إنما يتم البناء عليها مع الاتفاق على كون ذلك وديعة،
وأما مع الاختلاف كما في الصورة المفروضة فلم تثبت الوديعة، حتى يفرع عليه
كونها أمانة، وأن قول الأمين مقبول، وبالجملة فدعوى القرض لا معارض له
إلا دعوى الوديعة، وهذه الدعوى غير مسموعة بظاهر هذه الأخبار إلا بالبينة،
وكان الوجه فيه أنه باعترافه بقبضه المال يلزم منه اشتغال ذمته به حتى يؤديه
إلى صاحبه، نظرا إلى الحديث النبوي المتقدم ذكره، ودعواه الوديعة لدفع
الضمان عنه يحتاج إلى البينة، وحينئذ فالحكم بما دلت عليه الأخبار المذكورة.
نعم يجب تقييد الأولى من أن المال لازم لمن ادعى الوديعة مطلقا بما دلت
عليه الثانية من اليمين على صاحب المال وأن القول قوله بيمينه، والله العالم.

(1) الكافي ج 5 ص 239 ح 8، التهذيب ج 7 ص 179 ح 1، الفقيه ج 3
ص 194 ح 6، الوسائل ج 13 ص 232 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 238 ح 3، التهذيب ج 7 ص 176 ح 34، الوسائل
ج 13 ص 138 ح 1.
473

كتاب العارية
والكلام في هذا الكتاب يقع في فصول:
الفصل الأول - في جملة من الفوائد ينبغي تقديمها في المقام: الأولى -
قال في التذكرة: العارية بتشديد الياء عقد شرع لا باحة الانتفاع بعين من الأعيان
على وجه التبرع، وشددت الياء كأنها منسوبة إلى العار، لأن طلبها عار، قاله
صاحب الصحاح.
وقال غيره: منسوبة إلى العارة: وهي مصدر يقال: أعار ويعير إعارة وعارة
كما يقال: أجاب يجيب إجابة وجابة، وأطاق يطيق إطاقة وطاقة.
وقيل إنها مأخوذة من عار يعير إذا جاء وذهب، ومنه قيل للبطال عيار
لتردده في بطالته، فسميت عارية لترددها من يد إلى يد.
475

وقيل: إنها مأخوذة من التعاور والاعتوار، وهو أن يتداول القوم الشئ
بينهم، وقال الخطائي في غريبه: إن اللغة الغالبة العارية وقد تخفف، انتهى.
أقول: وما نقله عن الصحاح قد صرح به ابن الأثير في نهايته أيضا، فقال:
والعارية مشددة الياء كأنها منسوبة إلى العار، لأن طلبها عار وعيب، وتجمع
على العواري مشددا انتهى، إلا أن المفهوم من كلام أحمد بن محمد الفيومي في
كتاب المصباح المنير تغليط ما ذكره في الصحاح والنهاية من الاشتقاق من المعنى
الذي ذكراه، لأن العارية المبحوث عنها من الواو والعار بمعنى العيب من الياء.
ويؤيده كلام القاموس أيضا، حيث أنه ذكر العارية في مادة عور، والعار
بمعنى العيب في مادة عير، ثم إنه نقل في المصباح أيضا معنى زايدا على ما قدمنا
ذكره، وهو الاشتقاق من عار الفرس إذا ذهب عن صاحبه، لخروجها من يد
صاحبها، وغلطه أيضا بأنه من الياء وفي القاموس أيضا عده من الياء، وفي القاموس
أيضا. عد عار بمعنى جاء وذهب، والعيار المأخوذ من ذلك في مادة عير، دون
عور التي قد عرفت أن العارية مأخوذة منها.
وحينئذ فقد بطل هذا المعنى، فلم يبق إلا الاشتقاق من التعاور بمعنى
التداول، أو من العارة التي هي مصدر أعار يعير إعارة، وهذا هو الذي جمد عليه
صاحب المصباح، والعجب من شيخنا العلامة ونحوه شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك حيث نقل كلام التذكرة، وجمد عليه حيث لم يتنبها لذلك، مع
اختلاف أهل اللغة كما عرفت.
الثانية: لا يخفى أن العارية مما ثبتت بالكتاب والسنة والاجماع، أما
الأول: فقوله تعالى (1) " تعاونوا على البر والتقوى " ولا ريب أن العارية من جملة
البر، وقال تعالى (2) " ويمنعون الماعون " قال في كتاب مجمع البحرين:

(1) سورة المائدة الآية 2.
(2) سورة الماعون الآية 7.
476

الماعون اسم جامع لمنافع البيت، كالقدر والدلو والملح والماء والسراج
والخمرة ونحو ذلك مما جرت العادة بعاريته.
وروى في كتاب من لا يحضره الفقيه مرسلا (1) " قال: نهى النبي (صلى الله
عليه وآله) أن يمنع أحد الماعون جاره " وقال: من منع الماعون جاره،
منعه الله خيره يوم القيامة، ووكله إلى نفسه، ومن وكله إلى نفسه فما أسوء حاله ".
وروى في الكافي عن أبي بصير (2) " قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) ومعنا
بعض أصحاب الأموال فذكروا الزكاة وساق الخبر إلى أن قال: وقوله عز وجل
" ويمنعون الماعون " قال: هو القرض يقرضه، والمعروف يصنعه، ومتاع البيت
يعيره، ومنه الزكاة فقلت له: إن لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه
وأفسدوه، فعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: لا ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا
كانوا كذلك " وفي خبر آخر عن سماعة (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: والماعون
أيضا وهو القرض يقرضه، والمتاع يعيره، والمعروف يصنعه، الحديث.
وأما الثاني فالأخبار الكثيرة، منها ما ذكر، وما رواه في التهذيب في
الصحيح عن أبي بصير (4) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: سمعت يقول: بعث رسول الله
(صلى الله عليه وآله) إلى صفوان ابن أمية فاستعار منه سبعين درعا باطراقها
قال: فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): بل عارية مضمونة ".
وقال في الفقيه (5): استعار النبي (صلى الله عليه وآله) من صفوان بن
أمية الجمحي سبعين درعا حطمية، وذلك قبل اسلامه فقال: أغصب أم عارية يا

(1) الفقيه ج 4 ص 8، الوسائل ج 6 ص 31 ح 12.
(2) الكافي ج 3 ص 499 ح 9، الوسائل ج 6 ص 28 ح 3.
(3) الكافي ج 3 ص 498 ح 8، الوسائل ج 6 ص 31 ح 11.
(4) الكافي ج 5 ص 240 ح 10، التهذيب ج 7 ص 183 ح 6، الوسائل ج 13
ص 236 ح 4.
(5) الفقيه ج 3 ص 193 ح 4، الوسائل ج 13 ص 238 ح 1.
477

أبا القاسم؟ فقال (صلى الله عليه وآله): بل عارية مؤداة فجرت السنة في العارية
إذا اشترط فيها أن تكون مؤداة ".
أقول: قوله في الخبر الأول بأطراقها اختلفت النسخ في هذه اللفظة بكونها
بالفاء أو بالقاف، وعلى تقدير الثاني الظاهر أن يكون المراد بها البيضة الحديد،
قال في القاموس: الطراق ككتاب الحديد الذي يعرض ثم يدار فيجعل بيضة،
وعلى تقدير الأول فلعل المراد بها المغفر وما يلبس على الساعدين وغيرهما،
فإنها تجعل في أطراف الدرع.
وقال بعض المحدثين: يحتمل أن يكون بالقاف ونسب النسخ التي بالفاء
إلى التصحيف وهو جيد، وأما الحطمية في الخبر الثاني بالمهملتين منسوبة إلى
الحطمة بن المحرب الذي كان يعمل الدرع، كذا ذكره بعض المحدثين.
وفي كتاب مجمع البحرين وفي الحديث زوج رسول الله (صلى الله عليه
وآله) فاطمة على درع حطمية تسوى ثلاثين درهما، قيل سميت بذلك لأنها تحطم
السيوف أي تكسرها، وقيل: هي العريضة الثقيلة، وهي منسوبة إلى بطن من
عبد قيس يقال: حطمة بن الحارث كانوا يعملون الدروع، انتهى.
وأما الثالث: فإنه قال في التذكرة: لا خلاف بين علماء الأمصار في جميع
الأعصار في جوازها والترغيب فيها ولأنه لما جازت هبة الأعيان جازت هبة
المنافع ولذلك صحت الوصية بالمنافع والأعيان جميعا، انتهى.
والمفهوم من الآية والأخبار تأكد استحبابها أما الآية فلأن الله تعالى قد
قرن تاركها بالساهي في صلاته، فنسبهما معا إلى الويل، وهي كلمة يقال عند
الهلكة، وقيل: ويل واد في جهنم، وليس المراد بالسهو هنا هو النسيان كما
ربما يتوهم، بل المراد المضيع لصلاته التارك لها عن أول وقتها كما وردت به
الأخبار في تفسير الآية المذكورة.
أما الأخبار فما تقدم في مرسلة الفقيه حتى أن بعض العامة ذهب إلى
478

وجوبها، لما رووه من مزيد التأكيد والترغيب فيها، والجميع عندنا محمول
على مزيد التأكيد في استحبابها، فإنهم (عليهم السلام) كثيرا ما يؤكدون على المستحبات
بما يكاد يلحقها بالواجبات، ويؤكدون في النهي عن المكروهات بما يكاد
يدخلها في المحرمات.
الثالثة: مقتضى ما عرف به العارية في التذكرة كما تقدم نقله عنه من أنها
عقد شرع لإباحة الانتفاع، هو أنه لا بد من الإيجاب والقبول اللفظيين، كما في
سائر العقود، ولهذا إن المحقق في الشرايع لما عرفها بأنها عقد ثمرته التبرع،
قال في المسالك: العقد اسم للإيجاب والقبول، وتعليق الثمرة عليه يقتضي أن
للقبول مدخلا فيها مع أن التبرع بالمنفعة يتحقق بالايجاب خاصة، لأن المتبرع
إنما هو باذل العين، لا المنتفع بها.
ثم قال: ويمكن الجواب بأن القبول لما كان شرطا في صحة العارية لم
يتحقق الثمرة بدونه وإن بذلها المعير، فإنه لو تبرع المعير بالعين وأوقع
الإيجاب فرده الآخر لم تحصل الثمرة، وإن حصل التبرع بالمنفعة فالمترتب
على العقد هو التبرع على وجه يثمر ذلك، ولا يتم بدون القبول، انتهى.
وهو كما ترى نص صريح في ايجاب الإيجاب والقبول، وأنه لا بد من عقد
يشتمل عليها، وأصرح منه ما صرح به أيضا أخيرا حيث قال: واعلم أن جعلها
عقدا يقتضي اعتبار الإيجاب والقبول اللفظيين، لأن ذلك هو المفهوم من العقد،
وإن لم ينحصر في لفظ كما هو شأن العقود الجائزة، وقد يتجوز في القبول فيطلق
على ما يكفي فيه القبول الفعلي، كما ذكروه في الوديعة والوكالة ونحوهما،
لكن يبقى الإيجاب لا يتحقق العقد بدون التلفظ به، وهذا هو الظاهر من عبارات
كثير من الأصحاب انتهى، هذا وقد صرح العلامة في التذكرة في الركن الرابع
بما هو ظاهر بل هو صريح في خلاف ما ذكره في المسالك، وما يفهم من ظاهر عبارته
المشار إليها آنفا، حيث صرح بأنه لا يشترط فيه اللفظ في الإيجاب والقبول،
479

بل يكفي ما يقوم مقام ذلك من الأمور الدالة على الظن بالرضا، قال: لأنه عقد
ضعيف، لأنه يثمر إباحة الانتفاع، وهي تحصل بغير عقد كما لو حسن ظنه بصديقه
كفى في الانتفاع به عن العقد، وكما في الضعيف بخلاف العقود اللازمة، فإنها
موقوفة على ألفاظ خاصة اعتبرها الشرع.
ثم قال في مسألة أخرى: والأقرب عندي أنه لا يفتقر العارية إلى لفظ،
بل يكفي قرينة الإذن بالانتفاع من غير لفظ دال على الإعارة واستعارة، لا من
طرف المعير ولا من طرف المستعير، كما لو رآه عاريا فدفع إليه قميصا فلبسه تثبت
العارية، وكذا لو فرش لضيفه فراشا أو بساطا أو مصلى أو حصيرا أو ألقى إليه
وسادة، فجلس عليها أو مخدة فاتكأ عليها كان ذلك إعارة، بخلاف ما لو دخل
فجلس على الفرش المبسوطة، ولأنه لم يقصد بها انتفاع شخص بعينه، وهو قول
بعض الشافعية قضاء بالظاهر، وقد قال (عليه السلام): " نحن نقضي بالظاهر " (1)، ثم نقل
عن بعض الشافعية الافتقار إلى اللفظ، وقال: والأقرب ما تقدم، وقد جرت
العادة بالانتفاع بظرف الهدية المبعوث إليه واستعماله، كأكل الطعام من القصعة
المبعوث فيها، فإنه يكون عارية، لأنه منتفع بملك الغير بإذنه، وإن لم يوجد
لفظ يدل عليها بل بشاهد الحال، انتهى.
وهو جيد وجيه إلا أن فيه عدولا عن مقتضى ما قدمنا نقله عنه أولا، وهو
الذي يقتضيه كلام غيره أيضا.
وبالجملة فالظاهر هو ترتب ذلك على الرضا كيف اتفق من المعير والمستعير
ولا دليل على ما زاد على ذلك.
الرابعة: إنهم قالوا - بناء على كونه عقدا كما تقدم نقله عنهم -: إنه
من العقود الجائزة التي لكل من المتعاقدين فسخه متى شاء.

(1) الفقيه ج 3 ص 9 ح 11 ما نقله في الفقيه في هذا الباب ليس بهذه العبارة فراجع، الوسائل
ج 18 باب 22 من أبواب كيفية الحكم، وأحكام الدعوى من كتاب القضاء حديث 1 وما نقله
في الوسائل أيضا ليس بهذه العبارة، فراجع.
480

قال في المسالك: وهو موضع وفاق، إلا أنهم استثنوا من ذلك مواضع
بعضها اتفاقي، وبعضها خلافي أحدها الإعارة للرهن بعد وقوع الرهن عليه،
فإنه لا رجوع للمعير، وتوضيح ذلك - حيث أنه لم يسبق لهذه المسألة تحقيق
في كتاب الرهن - أنه لو استعار مال غيره ورهنه بإذن المالك، فالظاهر أنه لا
اشكال في صحة الرهن، بل نقل عليه في المسالك اجماع العلماء، قال: وسموه
استعارة الرهن وجعلوها مضمونة على الراهن، وإن تلفت بغير تفريط.
وبالجملة فإنه يترتب عليه أحكام الرهن، فيلزم العارية، وتباع عند الحلول
ويؤخذ الدين من ثمنها كما في غيرها من أفراد الرهن، وليس للمعير الرجوع
فيها بحيث يتسلط على فسخ عقد الرهانة نعم له مطالبة الراهن بالفك عند الحلول.
بقي الكلام فيما يجب لمالكه في صورة بيع المرتهن الرهن، وأخذ ماله من
قيمته بأن يكون وكيلا أو بإذن الحاكم أو البايع الحاكم، فقيل: إنه يرجع
المالك بأكثر الأمرين من القيمة وما يبيع به، وهو المشهور في كلام الأصحاب.
قال في التذكرة: فإذا بيع في الدين رجع المالك بأكثر الأمرين من القيمة
ومن الثمن الذي بيعت به، لأن القيمة إن كانت أكثر فهو المستحق للمالك،
لأنها عوض عنه، وإن كان الثمن أكثر فهو عوض العين، انتهى.
وفيه أنه موهم لجواز بيعه بأقل من القيمة، وهو ممتنع، إذ لا يجوز البيع
بأقل من ثمن المثل فصاعدا كما هو الحكم في كل وكيل، وهذا أحدهم والتحقيق
أنه إن باعه بثمن المثل فلا اشكال في أن للمالك ذلك، وإن باعه بأكثر من ذلك
فلا ريب أيضا في أنه للمالك، لأنه ثمن ملكه، إذ العين باقية على ملكه إلى وقت
البيع، ولا يتصور البيع بدون ثمن المثل كما عرفت.
هذا كله إذا كان مع إذن المالك كما تقدمت الإشارة إليه، أما لو لم يكن
بإذنه فإن للمالك انتزاعه بغير خلاف، ويدل عليه أيضا ما رواه في الفقيه عن أبان
عن حريز (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في رجل استعار ثوبا ثم عمد إليه فرهنه،

(1) الفقيه ج 3 ص 193 ح 3، الكافي ج 5 ص 239 ح 6 الوسائل ج 13 ص 241
ح 1، التهذيب ح 7 ص 184 ح 12.
481

فجاء أهل المتاع إلى متاعهم؟ فقال: يأخذون متاعهم " ورواه الكليني عن أبان
بن عثمان عمن حدثه (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.
وثانيها: لو أعار أرضا لدفن ميت مسلم ومن بحكمه، فإنهم صرحوا بأنه
لا يجوز الرجوع فيها بعد الدفن، لتحريم النبش وتهتك حرمته إلى أن تفنى عظامه.
ونقل في التذكرة أنه موضع وفاق قال: أما لو رجع قبل الحفر أو بعده قبل وضع
الميت فإنه يصح رجوعه، ويحرم دفنه فيه ولو رجع بعد وضع الميت في القبر،
وقبل أن يواريه بالتراب، فالأقرب أن له الرجوع أيضا، ومؤنة الحفر إذا رجع
بعد الحفر، وقبل الدفن لازمة لولي الميت، ولا يلزم لولي الميت الطم، لأن
الحفر مأذون فيه، انتهى.
واستشكل في المسالك والروضة في لزوم مؤنة الحفر لولي الميت فيما
لو لم يمكنه الدفن إلا كذلك، قال: إذ لا تقصير منه حينئذ، فينبغي كونه من مال
الميت، ومراده أنه لو تعذر على الولي الدفن إلا في أرض بهذه الصورة فإنه لا تقصير
منه في الدفن فيها، حتى أنه يغرم مؤنة الحفر لو أمكنه الدفن في أرض غيرها
فإنه يمكن مؤاخذته بقدومه على هذه الأرض التي لصاحبها الرجوع فيها قبل الدفن
فلا يكون أجرة الحفر فيها على الميت، ويكون أجرة حفر الأرض الأخرى عليه
أيضا، بل يكون أجرة هذا الحفر عليه خاصة لتقصيره، وأنت خبير بأن هذا الحكم
هنا مبني على تحريم النبش، وقد تقدم في كتاب الطهارة في بحث غسل الميت (2)
أنه لم يقم لنا دليل واضح على التحريم إلا ما يدعونه من الاجماع.
وثالثها: ما لو أعاره جدارا ليضع عليه أطراف خشبته، والأطراف الأخر حائط
المستعير.
قال الشيخ: لم يكن له بعد الوضع الإزالة وإن ضمن الأرش، لأنه يؤدي
إلى قلع جذوعه من ملكه مجيرا وهو غير جايز، وتبعه ابن إدريس.

(1) الكافي ج 5 ص 239 ح 6، الوسائل ج 13 ص 241 ح 1.
(2) ج 4 ص 143.
482

وذهب العلامة في المختلف إلى الجواز قال: لأنه عارية فللمالك الرجوع
فيها وإن أدى إلى تخريب مال الغير، لانجباره بالأرش، وإليه ذهب في المسالك
أيضا، وتردد المحقق في الشرايع في ذلك.
ورابعها: لو أعاره لوحا يرقع به السفينة ثم لج في البحر، فإنه لا يجوز
للمعير هنا الرجوع ما دامت في البحر، لما فيه من الضرر بالغرق الموجب لذهاب
المال، أو تلف النفس، قالوا: وهكذا في ما إذا حصل بالرجوع ضرر بالمستعير
لا يمكن استدراكه، ولو لم يدخل السفينة في البحر أو خرجت جاز الرجوع
قطعا، ولو كانت في البحر لكن يمكن اخراجها إلى الشاطئ وجب إذا لم يحصل
به ضرر على صاحبها، قيل: ويحتمل الجواز، ولو كانت في البحر وثبتت له
القيمة مع تعذر المثل لما فيه من الجمع بين الحقين، أو يقال: بجواز الرجوع
وإن لم يجب تعجيل التسليم، وتظهر الفائدة في وجوب المبادرة بالرد بعد زوال
المانع، وهو الضرر من غير مطالبة جديدة.
وخامسها: أن يعيره أرضا للزرع فيزرع فيها، قال الشيخ: ليس له المطالبة
بقلعه قبل ادراكه، وإن دفع الأرش لأن له وقتا ينتهي إليه، وتبعه ابن إدريس.
وقال في المختلف بعد نقل ذلك عنهما: ولو قيل له ذلك كان وجها، لأنها
عارية، فلا تجب والظاهر أن مراده الجواز مع الأرش، وإلا فهو مشكل، وبذلك
صرح في المسالك فجوز ذلك مع الأرش.
وسادسها: أن يعيره أرضا ليبني فيها أو يغرس مدة معلومة، قال ابن
الجنيد: لو أعاره براحا ليبني فيه أو يغرس مدة معلومة، لم يكن لصاحب الأرض أن
يخرجه من بناءه أو غرسه كرها قبل انقضاء المدة، فإن فعل ذلك كان كالغاصب
وعليه أعلى قيمة بناءه وغرسه قائما ومنفردا، ولو كانت الإعارة غير موقتة كان
لصاحب الأرض اخراجه، إذا أعطاه قيمة بناءه وغرسه، ثم يخرجه وهو بحاله.
وقال في المبسوط: إذا أذن له في الغرس ولم يعين مدة فغرس كان للمالك
483

مطالبته بالقلع، إذا دفع الأرش أن يغرم له ما ينقص فتقوم قائمة ومقلوعة،
ويغرم ما بين القيمتين، وإن قال المعير: أنا أغرم لك قيمتها أجبر المستعير على
قلعها، لأنه لا ضرر عليه فيه، ولو قال المستعير: أنا أضمن قيمة الأرض لم يكن
له ذلك.
قال في المختلف - بعد نقل كلام الشيخ المذكور -: والوجه عندي أنه
لا يجبر المستعير على أخذ قيمة غرسه، بل له المطالبة بعينه والأرش، وقال
بعد نقل كلام ابن الجنيد: أما الحكم الثاني فقد وافق الشيخ فيه، فيما تقدم
وبينا ما عندنا فيه.
وأما الحكم الأول فالوجه أن للمالك المطالبة بالقلع من دفع الأرش،
كما قلنا في المطلق، ولا يجب الشراء ولو طلبه الغارس، ونمنع مساواته للغاصب
واختار ذلك في المسالك أيضا.
الخامسة: قال في التذكرة: لا تخلو العين التي تعلقت بها العارية أما
أن يكون جهة الانتفاع فيها واحدة أو أكثر فإن كانت واحدة كالدراهم والدنانير
التي لا ينتفع بها إلا بالتزين والبساط الذي لا ينتفع بها إلا في فرشه، والدار التي
لا ينتفع بها إلا بالسكنى، فمثل هذا لا يجب التعرض للمنفعة، ولا ذكر وجه
الانتفاع، لعدم الاحتياج إليه إذ المقتضي للتعيين في اللفظ حصر أسباب الانتفاع
وهو في نفسه محصور فلا حاجة إلى مائز لفظي.
وإن تعددت الجهات التي يحصل بها الانتفاع كالأرض التي تصلح للزراعة
والغرس والبناء، والدابة التي تصلح للحمل والركوب فلا يخلو إما أن يعمم أو يخصه
بوجه واحد أو أزيد، أو يطلق فإن عمم جاز له الانتفاع بسائر وجوه الانتفاعات
المباحة المتعلقة بتلك العين، كما لو أعاره الأرض لينتفع بها في الزرع والغرس
والبناء وغير ذلك بلا خلاف، وإن خصص الوجه كان يعيره الأرض للزرع أو البناء
أو الغرس اختص التحليل بما خصصه المعير، وبما ساواه وقصر عنه في الضرر ما لم
484

ينص على التخصيص، ويمنع من التخطي إلى غيره، فلا يجوز له التجاوز قطعا.
أقول: في جواز التعدي مع التخصيص وإن لم يمنع من التخطي إلى غيره
إلى ما ساواه أو قصر عنه اشكال، للخروج عن موضع الإذن والرخصة، فإن الظاهر
أن التخصيص في قوة المنع عن غيره، ولا خلاف بينهم في عدم جواز الغير مع
المنع عن غير ما خصصه.
ثم قال: وإن أطلق فالأقوى أن حكمه حكم التعميم، لأن اطلاق الإذن
في الانتفاع يشعر بعموم الرضا بجميع وجوهه، إذ لا وجه من الوجوه أولى بالضرر
من الآخر. ثم قال: إذا أذن له في الزرع فإما أن يطلق أو يعمم أو يخصص،
ولا بحث في الأخيرين.
وأما الأول فإنه يصح عندنا ويستبيح المستعير جميع الزرع، اختلف ضررها
أو اتفق وهو أصح وجهي الشافعية عملا باطلاق اللفظ.
وقال بعضهم: تصح العارية ولا يزرع إلا أقل الأنواع ضررا لا صالة عصمة
مال الغير، ولا بأس به.
أقول: ظاهره الرجوع عما أفتى به أولا في هذه المسألة من العمل بالاطلاق
وإن اختلف الضرر، وهو وارد عليه أيضا فيما ذكره من اختيار العمل بالاطلاق
في المسألة الأولى، مع أنه قوى أن حكمه حكم التعميم، ثم قال: ولو قال:
أعرتكها لزرع الحنطة ولم ينه عن غيرها كان له زرع ما هو أقل ضررا من الحنطة
عملا بشاهد الحال كالشعير والباقلا، وكذا زرع ما يساوي ضرره ضرر الحنطة،
وليس له زرع ما ضرره أكثر.
أقول: قد تقدم ما فيه من الاشكال، ثم قال: ينقسم العارية باعتبار الزمان
إلى ثلاثة كما انقسمت باعتبار النفع إليها، لأن المعير قد يطلق العارية من غير
تقييد بزمان، وقد يوقت بمدة، وقد يعمم الزمان كقوله أعرتك هذه الأرض
ولا يقرن لفظه بوقت أو زمان، أو أعرتك هذه الأرض سنة أو شهر أو أعرتك هذه
485

الأرض دائما، وإنما جاز الاطلاق فيها بخلاف الإجارة، لأن العارية جائزة وله
الرجوع فيها متى شاء، فتقديرها لا يفيد شيئا.
أقول: الظاهر أن الغرض من التقييد بالمدة دواما أو تعيينا إنما هو صحة
التصرف في هذه المدة المضروبة، بمعنى أنه لا يكون عاصيا في تصرفه، وكذا مع
الاطلاق، لا أنه يقيد العارية بذلك، إذ لا اشكال من حيث كونها عقدا جايزا، أن
له الرجوع متى أراد إلا فيما تقدم من المواضع المستثناة، ومتى رجع فإنه ليس
للمستعير التصرف، فإن تصرف ضمن.
الفصل الثاني في المعير والمستعير:
وفيه مسائل: الأولى: لا اشكال في أنه يشترط في المعير أن يكون مالكا
مكلفا جائز التصرف، والمراد بالمالك ما هو أعم من ملك العين أو المنفعة، كما
صرح به في التذكرة، فلا تصح إعارة الغاصب للنهي عن التصرف بدون إذن المالك
والإعارة تصرف، ولا فرق بين غاصب العين أو المنفعة، ولا يجوز للمستعير التصرف
والحال هذه مع العلم بالغصب وإن تصرف كان ضامنا للعين والمنفعة بلا خلاف،
والمراد بملك المنفعة كما لو استأجر عينا، فإنه يملك منفعتها فله أن يعيرها
إلا أن يشترط عليه المؤجر مباشرة الانتفاع بنفسه، فيحرم عليه حينئذ الإعارة،
وكذا الموصى له بخدمة العبد وسكنى الدار، فإنه يجوز له إعارتهما.
ولا يصح إعارة الصبي والمجنون، إلا أن في الشرايع صرح بأنه لو أذن الولي
للصبي جازت إعارته مع المصلحة، مع أنه قد تقدم في كتاب البيع أن عقد الصبي
لا عبرة به، وإن أجاز له الولي، وفرق بينهما في المسالك بأنه إنما جاز له هنا
دون البيع، لأن العارية لما كانت جائزة ولا تختص بلفظ بل كل ما دل على رضاء
المعير، - وهو هنا الولي - كان إذنه للصبي بمنزلة الإيجاب، فالعبرة حينئذ بإذنه،
لا بعبارة الصبي.
ولا يخفى ما فيه سيما على ما تقدم تحقيقه في البيع من عدم قيام دليل على
486

ما ادعوه من الاختصاص بلفظ مخصوص في عقد البيع ونحوه، وأن المناط إنما
هو ما دل على الرضاء.
وبالجملة فإن مظهر الجواز وعدمه هو صحة تصرف المستعير والمشتري،
سواء كان العقد لازما أو جائزا، فإن جوزنا له ذلك بعقد الصبي المأذون له من
الولي، فلا فرق في ذلك بين اللازم والجائز، وإلا فلا، إذ لا مدخل لذلك في الجواز
وعدمه، كما يخفى، والمراد بالمعار هنا ما كان ملكا للصبي.
والظاهر من كلامهم أن تولية إعارة مال غيره يبنى على ما تقدم في إعارة مال
نفسه، من إذن الولي وعدمه، وربما قيل باطلاق المنع هنا، كما هو ظاهر
اختيار المسالك.
وكما أنه لا يجوز للصبي والمجنون الإعارة استقلالا لعدم جواز تصرفهما،
كذلك المحجور عليه لسفه أو فلس، لاشتراك الجميع في المنع من التصرف،
والله سبحانه العالم.
الثانية: قد صرحوا بأن للمستعير الانتفاع بالعين المعارة بما جرت به
العادة في الانتفاع بها نوعا وقدرا وصفة، وهذا يرجع إلى ما تقدم في الفايدة
الخامسة من اتحاد جهة الانتفاع، وعدم تعددها كالبساط الذي جرت العادة بفرشه،
واللحاف الذي اقتضت العادة جعله غطاء ونحو ذلك، وظاهر هم أنه لو خالف
فالتحف بالبساط وفرش اللحاف فإنه لا يجوز له ذلك، لمخالفة العادة التي هي
المتبادرة من العارية هنا.
أما لو كانت وجوه الانتفاعات متعددة فإنه يبنى على ما تقدم من التفصيل،
ولو نقص من العين شئ بالاستعمال أو تلفت م غير تفريط لم يضمن إلا أن يشترط
الضمان في العارية، لأن اطلاق الإذن أو تعميمه يقتضي الانتفاع بالعين من غير
تقييد بالكثير والقليل، فما يحصل من النقص والتلف إنما استند إلى إذن المعير،
وربما قيل: بضمان المتلف، لأن الظاهر عدم تناول الإذن للاستعمال المتلف،
487

وإن كان داخلا في الاطلاق، ولا يخلو عن قوة.
نعم لو لم يكن الاستعمال متلفا عادة، وإنما حصل التلف اتفاقا، فما ذكروه
جيد والله سبحانه العالم.
الثالثة: قال في التذكرة: لا يحل للمحرم استعارة الصيد من المحرم، ولا
من المحل، لأنه يحرم عليه إمساكه، فلو استعاره وجب عليه إرساله، وضمن
للمالك قيمته، ولو تلف في يده ضمنه أيضا بالقيمة لصاحبه المحل، وبالجزاء لله
تعالى، بل يضمنه بمجرد الامساك عليه وإن لم يشترط صاحبه الضمان عليه، فلو
دفعه إلى صاحبه برئ منه، وضمن لله تعالى.
أقول: لا ريب فيما ذكره من عدم جواز الاستعارة في الصورة المفروضة لما
ذكر من تحريم الامساك عليه.
بقي الكلام هنا في مواضع: أحدها: أنهم قالوا: إذا استعاره بعقد العارية
فهل يقع العقد فاسدا أم صحيحا؟ وجه الأول النهي عنه ووجه الثاني أن النهي إنما
يكون مبطلا في العبادات، دون المعاملات، فالبطلان يحتاج إلى دليل من خارج،
وكلامهم في هذا المقام حيث عبروا بأنه " لا يحل " كما هنا أو " لا يجوز " كما عبر به
غيره، لا يدل على شئ من الأمرين صريحا لأن عدم الحل، وعدم الجواز أعم
من الفساد، إلا أنك قد عرفت آنفا أنه لا دليل على هذا العقد الذي ذكروه، فلا
أثر لهذا الخلاف.
وثانيها: قوله: فلو استعاره وجب عليه إرساله، فإنه على اطلاقه مشكل،
بل ينبغي تخصيص ذلك بما إذا كان استعاره من محرم، أما لو استعاره من محل
فإنه يجب رده على المالك، ويلزم عليه الفداء لله سبحانه خاصة، وبرء من حق
المالك، وبذلك صرح في آخر العبارة المذكورة.
والظاهر أن مراده هو أن الواجب شرعا هو الارسال، وإن قبضه من محل،
وحينئذ يضمن قيمته للمحل، فلو خالف الواجب ورده إلى المالك برئت ذمته من
488

القيمة للمالك، وبقي حق الله سبحانه، ويشكل حينئذ بأنه متى كان الصيد مملوكا
كما هو المفروض من قبضه من المحل، فقد تعارض حق الله سبحانه بوجوب
الارسال، وحق المالك، ومن القواعد المقررة عندهم مع التعارض تقديم حق الآدمي
على حق الله تعالى، فالواجب حينئذ بناء على ما قلنا هو رده على المالك، وضمان
حق الله سبحانه، وأما لو كان المقبوض منه محرما فإنه غير مالك فيتعين الارسال مع
عدم الضمان لمن قبضه منه.
وثالثها: ما ذكره من أنه يضمن بالتلف لصاحبه المحل قيمته، وإن ذكره
غيره أيضا، حيث إنهم عدوا ذلك من العواري المضمونة، وإن لم يشترط فيها
الضمان، إلا أن فيه اشكالا، لعدم الوقوف على دليل عليه في المقام، ولم يصرحوا
له هنا بدليل، ومجرد تحريم الاستعارة لا يدل على الضمان، سواء قيل: بفساد
العقد الذي ادعوه هنا، أم بحصته، أما على تقدير الحكم بصحته فلما ذكرناه من
عدم الدليل، والأصل في العارية أن يكون غير مضمونة إلا ما استثنى، وليس هذا
منه، لما عرفت.
وأما على تقدير الحكم بفساده فلما تقرر من القاعدة المشهورة " أن كل عقد
يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا فلا ".
ولو قيل: بأنه يمكن الاستدلال على الضمان باطلاق النصوص الدالة على
أن المحرم إذا أتلف صيدا مملوكا فعليه القيمة لمالكه، وما نحن فيه كذلك،
قلنا: هذا معارض بالنصوص الصحيحة الدالة على أن العارية غير مضمونة، إلا ما
استثنى، وليس هذا منه، وليس تخصيص الثاني بالأول أولى من العكس، وترجيح
أحدهما على الآخر يحتاج إلى دليل، هذا كله إذا كان المستعير محرما كما
عرفت، فلو كان الصيد في يد محرم فاستعاره المحل فظاهر كلامهم الجواز.
قال في التذكرة: ولو كان الصيد في يد محرم فاستعاره المحل، فإن قلنا
المحرم يزول ملكه عن الصيد، فلا قيمة له على المحل، لأنه أعاره ما ليس ملكا له،
489

وعلى المحرم الجزاء لو تلف في يد المحل، لتعديه بالإعارة فإنه كان يجب عليه
الارسال ".
وإن قلنا لا يزول صحت الإعارة، وعلى المحل قيمته لو تلف الصيد عنده،
انتهى.
أقول: لا اشكال في الحكم الثاني، ولا كلام فيه، وإنما الكلام في الأول فإنه
إن حكم بصحة الإعارة وجوازها كما هو ظاهر العبارة، وهو صريحه في القواعد
والارشاد، وبه صرح في الشرايع أيضا، فإن الاشكال يتطرق إليه من وجوه:
أحدها أنهم صرحوا بأن من شروط صحة الإعارة كون المعار ملكا للمعير، وهو
هنا منتف لما اعترفوا به من زوال ملكية المحرم عن الصيد، فكيف تصح الإعارة
ويحكم بجوازها.
وثانيها: أن تسليمه للمحل إعانة على الصيد، واثبات سلطنة عليه للغير،
وهو محرم على المحرم، فلا يناسب اثبات الجواز، ويمكن خدش هذا الوجه
بأنه لا منافاة بين تحريمه على المحرم، والجواز للمحل، فيحرم الإعارة على المعير
من حيث الاحرام، ويجوز للمستعير من حيث كونه محلا، ونظائره في الأحكام
غير عزيز.
وثالثها: أن تسليمه إذا كان محرما على المحرم حرم قبوله من المحل،
لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان المنهي عنه في صريح القرآن، ولما ذكرنا
قوى في المسالك الحكم بتحريم الإعارة في الصورة المذكورة، وهو جيد لما عرفت.
ويحتمل ضعيفا عدم الحكم بصحة الإعارة في الصورة المذكورة، وإليه يشير
قوله في الثانية صحت الإعارة، فإن ظاهره أنه في صورة الحكم بعدم الملك لا تصح
وحينئذ فلا اشكال، إلا أنه خلاف ما صرح به في كتبه، وصرح به غيره، والله
سبحانه العالم.
الرابعة: لو استعار مغصوبا فلا يخلو إما أن يكون جاهلا بالغصب، أو
490

عالما به، فعلى الأول: فهل يتخير المالك في الرجوع بالأجرة وأرش النقص،
والقيمة مع التلف على الغاصب، أو المستعير أو أنه إنما يرجع على الغاصب
خاصة؟ المشهور الأول، والوجه فيه ما تقرر في كلامهم من أن كل من ترتب
يده على المغصوب، فإن يده يد ضمان عالما كان أو جاهلا، فيد المستعير هنا يد ضمان،
وقيل: بالثاني، وبه صرح في الشرايع والقواعد، ووجه بأن المستعير مغرور
يضعف مباشرته، والسبب الغار أقوى.
وأنت خبير بما في الوجهين المذكورين، وقد روى في الفقيه (1) " قال:
قال علي (عليه السلام): إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت فالمستعير ضامن ".
ورواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي
إبراهيم (عليه السلام) مثله وظاهر اطلاقه اختصاص الضمان بالمستعير عالما كان أو جاهلا.
ثم إنه على تقدير القول المشهور من تخيير المالك لو رجع على المستعير مع
جهله كما هو المفروض، رجع المستعير على الغاصب بما أغرمه المالك لدخوله،
على أن يكون العين والمنفعة غير مضمونة، هذا كله في العارية الغير المضمونة.
أما لو كانت مضمونة كالذهب والفضة، فإنه لا يرجع المستعير على الغاصب
بالقيمة لو تلفت العارية في يده، لأن ضمانه إنما هو من حيث العارية، لا من
حيث التعدي.
نعم يرجع بأجرة المنفعة إذا أخذها منه المالك، وكذلك يرجع بعوض
النقصان قبل التلف، لأن الجميع غير مضمون عليه، وإنما دخل على ذلك، ولو
رجع المالك على الغاصب لم يرجع الغاصب على المستعير إن لم تكن مضمونة،
وإلا رجع عليه بما كان يضمنه، هذا في صورة الجهل.

(1) الفقيه ج 3 ص 192 وما أورده في الفقيه ليس منسوبا إلى علي (عليه السلام)
بل الظاهر أنه ذيل رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) الذي هو ح 1.
(2) التهذيب ج 7 ص 183 ح 10، الوسائل ج 13 ص 240 ح 1.
491

وأما لو كان عالما بالغصب فإنه يكون ضامنا، ولا رجوع له على الغاصب،
وللغاصب الرجوع عليه إذا أغرمها المالك.
وبالجملة فالمستعير هنا غاصب كالذي أعاره، ومن حكم ترتب الأيدي
على المغصوب تخير المالك في الرجوع على أيهما شاء، يستقر الضمان على من
تلفت العين في يده، والله سبحانه العالم.
الفصل الثالث في العين المعارة.
وفيه أيضا مسائل: الأولى: الضابط في المستعار عند الأصحاب هو أن يكون
مما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه، وهو يتضمن شيئين بقاء العين مع الانتفاع،
وجواز ذلك الانتفاع، فكلما يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه، يصح إعارته،
كالعقارات والدواب، والثياب، والأقمشة، والأمتعة، والصفر والحلي، وكلب
الصيد والماشية، والفحل، وجميع أصناف الحيوانات المنتفع بها كالآدمي والبهائم
ونحو ذلك.
وفي الصحيح عن محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر (عليه السلام) " قال: قضى أمير
المؤمنين (عليه السلام) في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة فقضى: أن
لا يغرمها المعار " الحديث.
وفي رواية وهب (2) عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) " أن عليا (عليه السلام) قال: من استعار
عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن، ومن استعار حرا صغيرا فعيب فهو ضامن ".
وحمل الضمان هنا على الاستعار من غير المالك أو التفريط والتعدي أو
اشتراط الضمان. لما علم من عدم ضمان العارية إلا مع الوجوه المذكورة.
فأما ما لا يتم الانتفاع به إلا باتلاف عينه كالا طعمة والأشربة، فإنه لا يجوز

(1) التهذيب ج 7 ص 182 ج 3.
(2) التهذيب ج 7 ص 185 ح 17، الوسائل ج 13 ص 237 ح 9 و ص 238
ح 11.
492

إعارتها، لأن المنفعة المطلوبة منها إنما تحصل باتلافها وذهاب عينها والإباحة
لم تقع على الاتلاف.
وكذا ما لا يجوز الانتفاع به، فإنه لا تصح إعارته كأواني الذهب والفضة
للا كل والشرب فيها، ولو استعار كلب الصيد للهو والطرب حرم، ولو استعاره
للصيد المشروع جاز، والجواري يجوز استعارتها للخدمة ولا يجوز للاستمتاع،
لأن العارية ليس من الأسباب المبيحة للبضع، والمحللات محصورة في أشياء
ليس هذا منها.
وهكذا كل ما له منفعة محللة ومحرمة، فإنه يجوز الإعارة للأولى دون
الثانية، ولو استعاره للمحرمة قالوا: لم يجز الانتفاع به في المحللة، والوجه فيه
بطلان الإعارة من أصلها.
والظاهر أن التخصيص بالمنافع غالبي، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من إعارة
الغنم وهي المنحة والمنافع المأخوذة منها إنما هي أعيان كالصوف والشعر واللبن.
الثانية: قد تقدم في كلام العلامة في التذكرة وبه صرح في غيرها من كتبه
ما يدل على جواز التخطي مع الإذن في شئ مخصوص إلى ما هو أدون منه ضررا
أو مساو له، وظاهره أنه لا خلاف فيه، وقد قدمنا ما في ذلك، وبما ذكرناه أيضا
صرح المحقق فقال: ويقتصر المستعير على القدر المأذون فيه، وقيل: يجوز أن
يستبيح ما هو أدون في الضرر، كما يستعير أرضا للغرس فيزرع، والأول أشبه
واختاره في المسالك أيضا، قال: وما اختاره المصنف أوجه، وقوفا مع الإذن،
لأن الأصل عدم جواز التصرف في مال الغير بغير إذنه، خرج منه ما يأذن فيبقى الباقي
وكون الأدون أولى بالإذن منه -، فيدخل من باب مفهوم الموافقة - ممنوع،
لجواز تعليق غرض المالك بالنوع الخاص، فالأولوية ممنوعة نعم لو علم انتفاء
الغرض في التخصيص توجه جواز التخطي إلى الأقل، انتهى وهو جيد.
بقي الكلام في أنه لو عدل إلى الأضر مع النهي أو الاطلاق كما هو محل
493

الاتفاق أو عدل إلى المساوي والأدون مع النهي، أو الاطلاق بناء على ما اخترناه،
فهل يلزمه الأجرة بمجموع الزرع أو يسقط منها مقدار أجرة المأذون فيه وتثبت
الزيادة خاصة اشكال، ينشأ من أن قد تصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإن هذا
التصرف الذي فعله غير مأذون فيه، وبموجب ذلك يلزم ثبوت الأجرة كملا،
ومن أنه قد أباه المنفعة المخصوصة بذلك الفرد الذي أذن فيه، فلا عوض لها،
فإذا تخطي إلى غيرها كان مقدار منفعة ما أبيح له حلالا، لا عوض فيها، وإنما
العوض للزائد، وعلى هذا لا يحصل في المساوي والأقل ضررا إلا الإثم خاصة.
والظاهر أن الأول أقوى، لأن ما أذن فيه المالك لم يستوفه، وما استوفاه
غير مأذون فيه بالكلية، فتصرفه حينئذ عدوان محض، وكون المالك أحل له
التصرف في ذلك الفرد لا يستلزم اجزاء قدر ما فيه من المنفعة في هذا الفرد الذي
تصرف فيه من غير إذن، فيجعل الضمان في ما زاد عن ذلك، لأن تلك المنفعة
مخصوصة بذلك الفرد المجاز، لا تعلق لها بهذا الفرد الآخر.
نعم لو كان المأذون فيه داخلا في ضمن الفرد المنهي عنه كما لو أذن له
في تحميل الدابة قدرا معينا، فزاد عليه، أو أذن له في ركوبها بنفسه فأردف
غيره معه، أمكن اسقاط قدر المأذون فيه، فلا أجرة عليه من حيث كونه مأذونا،
وإنما الأجرة في مقابلة ما زاده، ومثل ذلك ما لو أذن له في زرع حنطة فزرع حنطة
وغيرها.
ونقل عن العلامة أنه فرق بين النهي عن التخطي، وبين الاطلاق، فأوجب
الأجرة كملا مع النهي، وأسقط التفاوت مع الاطلاق، بمعنى أنه لو أمره بزرع
الحنطة مثلا ونهى عن غيرها، فإنه بالمخالفة يضمن الأجرة كملا، ولو لم ينهه بل
أمره بها من غير نهي عن غيرها، فإنه مع المخالفة إلى غير الحنطة مما وأضر
يعتبر قدر منفعة الحنطة فيسقط من الأجرة ويؤخذ الأجرة على ما زاد.
وهو مبني على مذهبه الذي قدمنا نقله عنه من جواز المساوي والأقل ضررا
494

وإنما المحرم ما كان أضر.
وأورد عليه في التفصيل بأن الفرق غير واضح لأن التخطي غير مأذون
فيه في كل من الفردين المذكورين، غاية الأمر أنه في صورة النهي جاء المنع
من حيث النهي الذي نص عليه المالك، وفي صورة الاطلاق وعدم النهي جاء
المنع من حيث عدم الإذن، إذ قد علم من الشرع المنع من التصرف في مال الغير
بغير إذن المالك، وهذا لا يوجب اختلاف الحكم والله سبحانه العالم.
الثالثة: المشهور في كلام الأصحاب على وجه لا يظهر فيه خلاف أنه يجوز
إعارة الشاة للحلب وهي المسماة عندهم بالمنحة بالكسر قال في المسالك: " وجواز
إعارة الشاة لذلك ثابت بالنص على خلاف الأصل، لأن اللبن المقصود من الإعارة عين
لا منفعة، وعدوا الحكم إلى غير الشاة مما يعد للحلب من الأنعام وغيرها.
وفي التذكرة: " يجوز إعارة الغنم للانتفاع بلبنها وصوفها، وفي تعدي
الحكم عن موضع الوفاق إن كان هو إعارة غير الغنم نظر للبن لعدم الدليل مع وجود
المانع، وهو أن الإعارة مختصة في الأصل بالأعيان، ليستوفى منها المنافع،
والنص من طرقنا غير واضح، ومن طرق العامة لا يدل على غير الشاة " انتهى.
أقول: لا يخفى ما في كلامه من التدافع بين صدره وعجزه، فإن صدره ظاهر
في وجود نص من طرقنا بهذا الحكم، فإنه حكم بثبوته بالنص على خلاف الأصل
ومقتضاه كون ذلك النص من طرقنا كما لا يخفى، ومقتضى كلامه أخيرا وقوله
" والنص من طرقنا غير واضح، ومن طرق العامة لا يدل على غير الشاة " كون
مستند هذا الحكم إنما هو النص الذي من طرق العامة، وأنه لا نص من طرقنا،
وهذا هو الحق الواضح، فإنه لا مستند لهذا الحكم في أخبارنا على الوجه الذي
ذكروه.
نعم هنا أخبار قد استند إليها في التذكرة حيث ذهب في الكتاب المذكور
إلى جواز إعارتها للانتفاع باللبن والصوف، قال يجوز إعارة الغنم للانتفاع
495

بلبنها وصوفها وهي المنحة، وذلك لاقتضاء الحكمة إباحته، لأن الحاجة تدعو
إلى ذلك، والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان كما في استيجار الظئر.
وقد روى العامة عن النبي (1) (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " المنحة
مردودة " والمنحة هي الشاة.
ومن طرق الخاصة ما رواه الحلبي (2) في الحسن عن مولانا الصادق (عليه السلام):
" في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة
من كل شاة كذا وكذا في كل شهر، قال: لا بأس بالدراهم ولست أحب أن يكون بالسمن ".
وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان (3) " أنه سأل الصادق (عليه السلام) عن رجل دفعه
إلى رجل غنمه للسمن ودراهم معلومة لكل شاة كذا وكذا في كل شهر، قال:
لا بأس بالدراهم فأما السمن فلا أحب ذلك، إلا أن يكون حوالب فلا بأس "،
وإذا جاز ذلك مع العوض فبدونه أولى، انتهى.
أقول: قد قدمنا الكلام على هذه الأخبار، وبيان ما اشتملت عليه من
الحكم المذكور في المسألة الرابعة من الفصل الحادي عشر من كتاب التجارة (4).
وظاهر العلامة هنا حملها على العارية، مع أنه في المختلف بعد أن رد على
ابن إدريس في انكاره هذه المعاملة، ومنعها حيث أنها ليست بيعا ولا إجارة،
قال: والتحقيق أن هذا ليس ببيع، وإنما هو نوع معاوضة ومراضاة غير لازمة،
بل سائغة ولا منع في ذلك، انتهى.
على أن بعض الأخبار المشار إليها قد اشتمل على البقر أيضا كما قدمنا ثمة
وهو لا يقول به، والظاهر منها أيضا بعد ضم بعضها إلى بعض أن المنافع التي
يستوفيها الراعي فيها إنما هو في مقابلة رعيها وحفظها وحراستها.

(1) النهاية: لابن الأثير ج 4 ص 364.
(2) التهذيب ح 7 ص 127 ح 25 و 27، الكافي ج 5 ص 223 ح 1 و ص 224 ح 4، الوسائل ج 12 ص 260 ح 1 و 4.
(3) التهذيب ح 7 ص 127 ح 25 و 27، الكافي ج 5 ص 223 ح 1 و ص 224 ح 4، الوسائل ج 12 ص 260 ح 1 و 4.
(4) ج 20 ص 60.
496

ومما هو ظاهر في ذلك رواية إبراهيم بن ميمون (1) أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)
قال: نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها، وله أصوافها وألبانها ويعطينا الراعي
لكل شاة درهما؟ فقال: ليس بذلك بأس " الحديث.
وبالجملة فإن حملها على العارية كما ذكره بعيد غاية البعد، ويؤيد ذلك
اتفاق الأخبار المذكورة على الاشتمال على أخذ العوض، مع أن العارية لا عوض
فيها، ويزيده تأييدا أيضا أن المستفاد من أخبار العارية أن المستعير إنما له الانتفاع
بالعين فيما يترتب عليها من وجوه الانتفاعات إن كان الإذن عاما، وأما استيفاء
الأعيان منها كاللبن والسمن ونحو ذلك فلم يقم عليه دليل، وهذه المسألة إنما
أخذها الأصحاب من العامة، وهذه التسمية بالمنحة إنما هي في حديثهم المروي
من طريقهم، وإلا فأحاديثنا خالية عن ذلك بالكلية.
وبالجملة فإنه لا مستند لهذا الحكم ظاهرا إلا ما يتراءى من دعوى الاتفاق
إن تم، وإلا فالحجة غير واضحة، وأما تعليل العلامة لذلك بقوله فيما قدمنا من
كلامه باقتضاء الحكمة إباحته فعليل، والله سبحانه العالم.
الرابعة: قد تقدم أن العارية من العقود الجائزة، وللمالك الرجوع فيها،
سواء كانت مطلقة أو مقيدة بمدة إلا في بعض المواضع التي تقدم استثنائها وتقدم
نقل خلاف ابن الجنيد في الأرض البراح يعيرها للبناء والغرس إذا قيد الإعارة
بمدة، في أنه ليس له الرجوع حتى تنقضي المدة، فحكم بلزومها من طرف المعير
حتى تنقضي المدة، والمشهور خلافه.
بقي الكلام في أنه لو أذن له في البناء أو الغرس أو الزرع ثم طلب إزالته
بعد ذلك، فظاهر الأصحاب أن له ذلك من حيث جواز الرجوع متى شاء، ولكن
عليه الأرش من حيث الإذن، وخالف الشيخ في الزرع، فقال: ليس له المطالبة

(1) الكافي ج 5 ص 224 ح 2، التهذيب ج 7 ص 127 ح 24، الوسائل ج 12
ص 260 ح 2.
497

قبل ادراكه وإن دفع الأرش، لأن له وقتا ينتهي إليه، واقتفاه ابن إدريس
في ذلك.
والأقرب بناء على قواعدهم في الباب من حيث إن الإعارة من العقود
الجائزة هو جواز الرجوع مطلقا، إلا ما قام الدليل على خروجه، ولا دليل هنا
وحديث (1) " الضرر والضرار " لازم من الطرفين، فلا يمكن الترجيح به، فيجب
الرجوع إلى الأصل من تسلط الناس على أموالهم، مع أنه يمكن الجمع بين
الحقين، واندفاع الضرر من الجانبين ببذل الأرش من المعير.
والمراد بالأرش على ما قالوا: تفاوت ما بين كونه منزوعا من الأرض وثابتا
فيها، قال في التذكرة: ولكنه مخير بين أن يقلعه ويضمن الأرش، وهو قدر
التفاوت بين قيمته مثبتا ومقلوعا إلى آخر كلامه، وهل المراد بكونه ثابتا في
تلك الأرض في صور ة تقويمه كذلك هو ثبوته مجانا أو بأجرة.
قال في المسالك: كلام الشيخ في المبسوط صريح في الأول، وهو الظاهر
من كلام المصنف والجماعة، مع احتمال اعتبار الثاني، وإلى هذا الاحتمال مال
(رحمه الله)، ونقله عن التذكرة في غير هذا الموضع كما يأتي في كلامه.
وعلل الأول بأن وضعه في الأرض لما كان صادرا عن إذن المالك تبرعا اقتضى
ذلك بقاؤه تبرعا كذلك، وإنما صير إلى جواز القلع بالأرش جمعا بين الحقين،
فيقوم ثابتا بغير أجرة مراعاة لحق المستعير، ويقلع مراعاة لحق المعير.
وعلل الثاني بأن جواز الرجوع في العارية لا معنى له إلا أن تكون منفعة
الأرض ملكا لصاحبها، لا حق لغيره فيها، وحينئذ فلا يستحق الابقاء فيها إلا
برضاه بالأجرة، وحق المستعير يجبر بالأرش، كما أن حق المعير يجبر بالقلع،
وبأخذ الأجرة لو اتفقا على ابقائه بها، قال: وهذا هو الأقوى، واختاره في
التذكرة في غير محله استطرادا.

(1) الكافي ج 5 ص 292 ح 2، الوسائل ج 17 ص 341 ح 3 و 4.
498

أقول: ومن هذا التعليل يظهر وجه ضعف التعليل الأول، لأن مبنى التعليل
الأول على أن إذن المالك في وضع هذه الأشياء في أرضه اقتضى بقاؤها فيها تبرعا، وقد
رده في التعليل الثاني بأن جواز الرجوع في العارية لا يتوجه إلا بأن يكون منفعة
الأرض لصاحبها لا حق لغيره فيها، إذ لو كان لغيره حق فيها لم يتوجه جواز الرجوع
فيها، وإذا لم يكن لغيره حق فيها فكيف يتجه ما ذكره في ذلك التعليل من بقائه
تبرعا بسبب الإذن في الوضع، وحينئذ فلا بد في تقويمه باقيا من اعتبار الأجرة،
إذ البقاء إنما يتوجه بها.
وبالجملة: فإن الإذن في الوضع إنما اقتضى صحة التصرف، وأن لا يكون
غصبا ولا موجبا للمؤاخذة والإثم، وبرجوع المالك في ذلك بعد ذلك لا يستحق
البقاء فيها إلا بالأجرة إن تراضيا بها وحينئذ فإذا أريد التقويم بعد الرجوع لأخذ
الأرش إنما تقوم باقية بالأجرة حيث إنه لا يستحق البقاء بعد الرجوع بدونها،
وتقوم مقلوعة، فيؤخذ بالتفاوت بين القيمتين هذا مقتضى كلامه، وهو جيد بالنظر
إلى هذه الاعتبارات، والبناء على هذه التعليلات، وينبغي أن يعلم أن ثبوت الأرش
إنما يكون في صورة اختلاف حالتي القلع والبقاء، وحيث ينتفى الاختلاف كما في
صورة ادراك الزرع وبلوغه، فإنه متى رجع المالك في تلك الحال فإنه لا أرش.
ولو بذل المعير قيمة البناء أو الغرس أو الزرع لم يجب على المستعير إجابته،
بل له قلعه وإزالته مع أخذ الأرش من المعير، وكذا لو بذل المستعير قيمة الأرش
أو الأجرة لم يجب على المعير إجابته، لأن كلا منهما مسلط على ملكه، لا يجوز
التصرف فيه إلا برضاه.
وخالف الشيخ في الأول فأوجب على المستعير الإجابة إذا بذل المعير قيمة
الأشياء المذكورة معللا ذلك بعدم الضرر على المعير، وقد تقدم نقل كلامه في
الفائدة الرابعة من الفصل الأول (1) وضعفه ظاهر، فإن مجرد انتفاء الضرر على

(1) ص 481
499

المالك غير كاف في جواز تملك ماله بغير رضاه.
والمشهور: أن للمستعير بيع أبنيته وغرسه ولو على غير المالك، حيث أن
الجميع ملك له يتصرف فيه كيف شاء.
وقيل لا يجوز له بيعه على غير المعير لعدم استقرار ملكه برجوع المعير،
وفيه أن عدم استقرار ملكه غير مانع من البيع، كما يباع المشرف على التلف،
ومستحق القتل قصاصا وحينئذ فإن كان المشتري جاهلا تخير بعد العلم بين الفسخ
وعدمه، وإن كان عالما كان حكمه حكم المستعير فيما يترتب على ذلك، ولو
اتفقا جميعا على بيع ملكيهما بثمن واحد صح، ووزع الثمن عليهما، فيقسط
على أرض مشغولة به على وجه الإجارة، مستحق القلع بالأرش أو الابقاء بالأجرة
أو التملك بالقيمة مع التراضي، وعلى ما فيها مستحق القلع على أحد الوجوه
فلكل قسط ما يملكه، هذا.
وقد صرح جملة منهم بأنه ليس للمالك المطالبة بالإزالة إلا بعد دفعه
الأرش أولا، وإلا فلا يجب إجابته إلى ما طلب، وعلل باحتمال تعذر الرجوع
إليه با فلاس أو غيبة أو نحوهما فيضيع حق المستعير، ويلزم الضرر عليه بخلاف
ما إذا دفع أولا.
ولو قيل: بأنه مع الدفع أولا يمكن أيضا أن يهرب المستعير أيضا، ويتعذر
مباشرته للقلع، فيرجع الضرر على المعير أيضا.
قلنا: هذا الضرر يمكن دفعه، بجواز مباشرة الغير لذلك بإذن الحاكم
الشرعي مع إمكانه، أولا معه مع تعذره، فلا ضرر حينئذ والله سبحانه العالم.
الخامسة: قال في التذكرة: يجوز للمعير دخول الأرض والانتفاع بها
والاستظلال بالبناء والشجر، لأنه جالس على ملكه، وليس له الانتفاع بشئ من
الشجر بثمر ولا غصن ولا ورق ولا غير ذلك، ولا بضرب وتد في الحائط، ولا التسقيف
عليه وليس للمستعير دخول الأرض للتفرج إلا بإذن المعير، لأنه تصرف غير مأذون
500

فيه، نعم يجوز له الدخول لسقي الشجر ومرمة الجدار وحراسة لملكه عن التلف
والضياع، انتهى.
وعلى هذا المنوال عباراته في سائر كتبه وعبائر غيره في هذا المجال،
والوجه فيه أنه إذا أعاره أرضا للغرس فيها فإنه يجوز لكل منهما دخولها.
أما المعير فإنه المالك لعينها، فله الدخول في كل وقت شاء وله الاستظلال
بالشجر وإن لم يكن ملكه، لأنه جالس في ملكه كما لو جلس في أرض مباحة
واتفق له التظليل بشجر غيره، وإنما يمنع من التصرف في الغرس خاصة.
وأما المستعير فلأنه يملك الغرس الذي فيها، فله الدخول لأجل اصلاحه،
والقيام به بسقي ونحوه مما يتوقف عليه حفظه وحراسته وليس له الدخول لغرض
آخر غير ما يتعلق بالغرس من التفرج ونحوه، حيث أن الاستعارة وقعت مخصوصة
بالغرس دون غيره.
وظاهر هم أنه لا يجوز له الجلوس والاستطلال حيث أنهم خصوا ذلك بالمعير،
ووجهه ظاهر كما عرفت، ولم يذكروا ذلك في المستعير، إلا أن الشهيد في
اللمعة صرح بجواز ذلك لهما.
وعلله الشارح بالنسبة إلى المستعير بقضاء العادة بذلك، ومقتضى منعهم
المستعير هنا من الدخول للتفرج، أنه لا يجوز للغير دخول أرض غيره لذلك
بطريق الأولى إلا بإذن المالك، وينبغي أن يستثنى من ذلك ما إذا كان المالك
صديقا يعلم منه أو يظن الرضاء بذلك، والله سبحانه العالم.
السادسة: لا خلاف بين الأصحاب في أنه لا يجوز للمستعير إعارة العين بدون
إذن المالك، والوجه فيه ظاهر لما تقدم أن من شروط الإعارة أن يكون المعير
مالكا للمنفعة، والمستعير ليس كذلك، ولهذا لا يجوز له أن يؤجر وإن كان له
استيفاءها من حيث الإذن المترتب على الإعارة.
ويؤيده أن الأصل عصمة مال الغير عن التصرف فيه إلا بإذن مالكه، والإعارة
501

إنما اقتضت تصرف المستعير خاصة، فيبقى غيره داخلا تحت المنع، وأيضا فإن
الإعارة إنما تفيد إباحة الانتفاع، والمستبيح لا يملك نقل الإباحة إلى غيره،
كالضيف الذي أبيح له الطعام، فإنه ليس له أن يبيحه إلى غيره.
نعم يجوز للمستعير استيفاء المنفعة بنفسه أو وكيله، وهذا لا يعد إعارة، لأن
النفع المستوفي عائد إلى المستعير لا إلى الوكيل، ولم ينقل الخلاف هنا إلا عن بعض العامة.
قال في التذكرة: وقال أبو حنيفة: يجوز للمستعير أن يعيره وهو الوجه
الآخر للشافعية، لأنه يجوز إجارة المستأجر للعين، فكذا يجوز للمستعير أن
يعير لأنه، تمليك على حسب ما ملك.
والفرق أن المستأجر يملك بعقد الإجارة الانتفاع على كل وجه، فلهذا
ملك أن يملكها، وأما في العارية فإنه ملك المنفعة على وجه ما أذن له، فلا
يستوفيه غيره فافترقا، انتهى.
والأظهر في التعبير عن بيان الفرق أن مقتضى الإجارة تمليك المنفعة،
ورفع يد المالك عنها ومقتضى العارية أباحتها خاصة، مع تسلط المالك عليها
بالرجوع وإن كان كلامه يرجع إلى ذلك، وبذلك يظهر أن ما ذكره أبو حنيفة
ومن تبعه قياس مع الفارق.
بقي الكلام في أنه لو خالف المستعير فأعار غيره فالظاهر أنه لا خلاف في
أن للمالك الرجوع في العارية الثانية بأجرة المثل، وبدل العين لو تلفت على من
شاء منهما، لكن لو رجع على المعير لم يرجع على المستعير إذا كان جاهلا
بالحال، فإنه مغرور، وقد سلطه عليه بغير عوض، إلا أن يكون العارية مضمونة
فيرجع عليه من هذه الحيثية ببدل العين خاصة لو تلفت كما هو حكم العواري
المضمونة، ولو كان عالما استقر الضمان عليه كالغاصب.
وقال في التذكرة: وإن رجع على المعير بأجرة المثل كان له الرجوع
على المستعير العالم، وفي الجاهل اشكال، وكذا العين، ونحوه في القواعد،
502

والظاهر أن وجه الاشكال - كما ذكره بعض شراح القواعد - ينشأ مما تقدم مما
يدل على عدم الرجوع ومن أنه قد استوفى المنافع، فيرجع عليه.
وأنت خبير بأن الموافق لقواعد هم إنما هو عدم الرجوع لما عرفت من الوجه
المتقدم، ومجرد استيفاء المنافع مع تسليطه عليها مجانا لا يوجب الرجوع عليه
ولو رجع على المستعير قال في المسالك: رجع على المعير بما لا يرجع عليه به،
لو رجع عليه، لغروره.
وهو ظاهر في رجوعه عليه بأجرة المثل وبدل العين مع فقدها، وهي التي
لا يرجع بها المعير على المستعير مع الجهل، فإنه يرجع بها المستعير هنا على
المعير، لأنه قد غره بإعارته له وهو جاهل، وتصرف فيه بناء على أن ذلك مجانا،
فلما رجع عليه المالك وأغرمه استحق الرجوع على من أعاره وغره.
وقال في التذكرة: فإن رجع على المستعير لم يرجع المستعير على المعير
وإن كان جاهلا على اشكال.
وأنت خبير بأن الموافق لقواعدهم إنما هو ما ذكره في المسالك، فإن
هذه المسألة من جزئيات مسألة من استعار من الغاصب، والمعير هنا بإعارته بدون
إذن المالك غاصب، فيترتب على إعارته ما يترتب على إعارة الغاصب.
وما ذكره في المسالك هو مقتضى ما فصلوه في إعارة الغاصب كما تقدم
ذكره في المسألة الرابعة من الفصل الثاني (1).
السابعة: لو أذن له في غرس شجرة فانقلعت، فهل يجوز له أن يغرس غيرها
استصحابا للإذن الأول؟ قيل: نعم لما ذكر، فإن الإذن قائم ما لم يرجع المعير
وقيل: بعدم الجواز لأن الإذن إنما وقع في ذلك الأول لا في غيره، فقوله
إن الإذن قائم مطلقا ممنوع، ومثله الزرع والبناء ووضع الجذع، إلا أنه قال
في التذكرة: لو انقلع الفصيل المأذون له في زرعه في غير وقته المعتاد، أو سقط
الجذع كذلك، وقصر الزمان جدا فالأولى أن يعيده بغير تجديد الإذن، انتهى.

(1) ص 488
503

الفصل الرابع فيما يلحق ذلك من الأحكام في المقام.
وفيه أيضا مسائل: الأولى: لا خلاف بين الأصحاب في أن العارية أمانة
في يد المستعير، لا تستعقب الضمان إلا في مواضع مخصوصة يأتي التنبيه عليها
انشاء الله تعالى، فلو تلفت في يد المستعير بغير تفريط ولا عدوان فلا ضمان عليه،
سواء كان التلف بآفة سماوية أو أرضية.
وبذلك تكاثرت الأخبار فروى في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن
عن الحلبي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: إذا هلكت العارية عند المستعير لم
يضمنها إلا أن يكون قد اشترط عليه " وزاد في الكافي قال: وفي حديث آخر
إذا كان مسلما عدلا فليس عليه ضمان ".
وعن عبد الله بن سنان (2) في الصحيح " قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشترط فيها ضمانا إلا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمان ".
وعن زرارة (3) في الصحيح " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) العارية مضمونة؟
قال: فقال: جميع ما استعرته فتوى، فلا يلزمك تواه، إلا الذهب والفضة، فإنهما
يلزمان إلا أن يشترط عليه أنه متى توى لم يلزمك تواه، وكذلك جميع ما استعرت
فاشترط عليك يلزمك، والذهب والفضة لازم لك وإن لم يشترط عليك ".
وروى المشايخ الثلاثة بأسانيد هم وفيها الصحيح عن محمد بن مسلم (4)
عن أبي جعفر (عليه السلام) " قال: سألته عن العارية يستعيرها الانسان فتهلك أو تسرق
قال: فقال: إذا كان أمينا فلا عزم عليه ".

(1) الكافي ج 5 ص 238 ح 1، التهذيب ج 7 ص 183 ح 8، الوسائل ج 13
ص 236 ح 1 و 2.
(2) الكافي ج 5 ص 238 ح 2 و 3، الوسائل ج 13 ص 239 ح 1 و 2 التهذيب ج 7 ص 183 ح 7 و 9.
(3) الكافي ج 5 ص 238 ح 2 و 3، الوسائل ج 13 ص 239 ح 1 و 2 التهذيب ج 7 ص 183 ح 7 و 9.
(4) الكافي ج 5 ص 238 ح 4، الفقيه ج 3 ص 192 ح 2 التهذيب ج 7
ص 182 ح 2، الوسائل ج 13 ص 237 ح 7
504

وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العارية؟ فقال: لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت
إذ كان مأمونا ".
وروى الشيخ عن الحلبي (2) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: صاحب
الوديعة والبضاعة مؤتمنان، وقال: ليس على المستعير عارية ضمان، وصاحب
العارية والوديعة مؤتمن ".
وعن عبد الملك بن عمرو (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: ليس على صاحب
العارية ضمان إلا أن يشترط صاحبها إلا الدراهم، فإنها مضمونة اشترط صاحبها
أو لم يشترط ".
وعن إسحاق بن عمار (4) في الموثق عن أبي عبد الله وأبي إبراهيم (عليهما السلام)
" قالا: العارية ليس على مستعيرها ضمان، إلا ما كان من ذهب أو فضة فإنهما
مضمونان اشترط أو لم يشترط ".
ورواه في الفقيه بإسناده عن إسحاق بن عمار أيضا وعن محمد بن قيس (5) في
الصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام) " قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أعار جارية
فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة فقضى (عليه السلام) أن لا يغرمها المعار، ولا يغرم الرجل
إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة ".
وعن مسعدة بن زياد (6) عن جعفر بن محمد (عليه السلام) " قال: سمعته يقول
لا عزم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا ".
وأما ما رواه الشيخ عن وهب (7) عن جعفر عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يقول:

(1) التهذيب ج 7 ص 182 ح 4 و 1 الوسائل ج 13 ص 236 ح 3 و ص 237 ح 6.
(2) التهذيب ج 7 ص 182 ح 4 و 1 الوسائل ج 13 ص 236 ح 3 و ص 237 ح 6.
(3) التهذيب ج 7 ص 184 ح 11 و ص 183 ح 10، الوسائل ج 13 ص 240 ح 3 و 4، الفقيه ج 3 ص 192 ح 1.
(4) التهذيب ج 7 ص 184 ح 11 و ص 183 ح 10، الوسائل ج 13 ص 240 ح 3 و 4، الفقيه ج 3 ص 192 ح 1.
(5) الوسائل ج 13 237 ح 9.
(6) التهذيب ج 7 ص 184 ح 16 و ص 185 ح 17، الوسائل ج 13 ص 237 ح 10 و ص 238 ح 11.
(7) التهذيب ج 7 ص 184 ح 16 و ص 185 ح 17، الوسائل ج 13 ص 237 ح 10 و ص 238 ح 11.
505

من استعار عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن " فلا يخفى ما في حال راويه من
الضعف، فلا يبلغ قوة في معارضة ما ذكرناه من الأخبار، وحملها الشيخ على من
استعار بغير إذن المالك، وجوز حمله على من فرط، وعلى من شرط عليه الضمان.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن تحقيق الكلام في المقام يقع في موارد، الأول:
المفهوم من كلام الأصحاب أن العارية تضمن في مواضع، فهي عندهم مستثناة من
القاعدة المتقدمة، الأول اشتراط الضمان، وهو متفق عليه نصا وفتوى، وقد تقدم
في صحيح الحلبي أو حسنته الدلالة على ذلك، ومثله صحيح عبد الله بن سنان،
وصحيح زرارة.
الثاني: الذهب والفضة وعليه تدل جملة من الأخبار المذكورة، وسيأتي
في الموضع الثاني تحقيق الكلام في ذلك.
الثالث: التعدي والتفريط، وعليه قوله في صحيح محمد بن قيس المتقدم،
ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة، وأيضا فإن معنى
عدم ضمان الأمانة في كل موضع ذكروه ليس إلا من حيث التلف مع عدم التعدي
والتفريط، فاستثنائه في الحقيقة مستغنى عنه.
الرابع: العارية من غير المالك، ويدل عليه موثقة إسحاق بن عمار (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي إبراهيم (عليه السلام) قال إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها،
فهلكت فالمستعير ضامن ".
وهذا الموضع في الحقيقة كسابقة، لأن هذه كما تقدم تحقيقه ليست بعارية،
وإن عبر بذلك، فإن إعارة الثاني لها غصب، فهذه الصورة في الحقيقة ترجع
إلى صورة التعدي والتفريط، لتعدى المعير الثاني في إعارته بغير إذن المالك،
الخامس: ما تقدم من عارية الصيد للمحرم، وقد تقدم ما فيه من الاشكال
بالنسبة إلى حق المالك في المسألة الثالثة، من الفصل الثاني وأما بالنسبة إلى حق

(1) التهذيب ج 7 ص 183 ح 10، الوسائل ج 13 ص 240 ذيل حديث 1.
506

الله تعالى فلا اشكال فيه.
السادس: مما نقل عن ابن الجنيد من حكمه بضمان الحيوان قال على ما نقله
عنه في المختلف، وليس يضمن المعار تلف ما تلف منها إذا كان السلعة متاعا إلا أن
يتعدى، وما كان منها عينا أو ورقا أو حيوانا ضمن المعار تلف ذلك، إلا أن
يشترط المالك سقوط الضمان عنه.
ونقل في المختلف عنه الاستدلال بقوله (1) " على اليد ما أخذت حتى تؤدي "
وبرواية وهب (2) ولا يخفى ما في دليله المذكور من الوهن والقصور مع تظافر
الأخبار كما عرفت بالعدم، مضافا إلى الأصل ومما ذكرنا علم أن الاستثناء في
التحقيق إنما يتجه في المواضع الثلاثة الأول، بل في الموضعين الأولين خاصة، لما
عرفت في الثالث من عدم الحاجة إلى استثنائه، وأن ذلك ظاهر من حكمهم بعدم
ضمان الأمانة.
وقسم في المسالك العارية بالنسبة إلى الضمان وعدمه مع الشرط وعدمه إلى
أقسام أربعة: أحدها: ما يضمن، وإن اشترط عدم الضمان، وعد من ذلك صورة
التعدي والتفريط، والصورتين التاليتين لها، ثم قال: ويحتمل قويا سقوطه في
الأول، لأنه في قوة إذن المالك له في الاتلاف مجانا، فلا يستعقب الضمان.
وأما الأخيرتان فالأمر فيهما واضح، لأن اسقاط غير المالك الضمان لمال
المعير لا عبرة به، وكذلك اسقاط الضمان عن المحرم، لأنه ثابت عليه من عند الله
سبحانه، باعتبار كونه صيدا لا باعتبار كونه مملوكا.
أقول: ما احتمله في الصورة الأولى من هذه الثلاث وقواه جيد، بل الظاهر
أنه متعين.
وأما الأخيرتان فقد عرفت أنهما ليستأمن باب العارية التي هي موضوع

(1) المستدرك ج 2 ص 504.
(2) التهذيب ج 7 ص 185 ح 17 الوسائل ج 13 ص 238 ح 11.
507

الكتاب، ومحل البحث فيه، وإن تجوزوا فيهما باطلاق هذا اللفظ فاطلاقهما
وادخالهما في التقسيم لا يخلو من اشكال.
وثانيها: ما لا يكون مضمونا وإن اشترط الضمان، وهو استعارة المحل
للصيد من المحرم، قال: وقد تقدم تسمية المصنف له استعارة.
أقول: هذا أيضا مبني على القول بصحة الإعارة في الصورة المذكورة، كما
هو ظاهر جمع ممن قدمنا ذكره، والتحقيق هو البطلان كما تقدم بيان وجهه
فلا ثمرة لعده هنا، بناء على ما هو التحقيق في المسألة.
وثالثها: ما يكون مضمونا إلا أن يشترط عدم الضمان وهو استعارة الذهب
والفضة أقول: ويضاف إليهما الحيوان بناء على مذهب ابن الجنيد، وإن كان
قد عرفت ضعفه.
ورابعها: ما لا يكون مضمونا إلا أن يشترط الضمان، وهو باقي أقسامها.
أقول: وبما ذكرنا خلال كلامه ظهر أنه لا شئ من العارية يكون مضمونا
إلا أن يفرط ويتعدى فيه، أو يشترط فيه الضمان، إلا الذهب والفضة، فإنهما
مضمونان اشترط أو لم يشترط، وهذا هو مقتضى الأخبار التي قد مناها، والله
سبحانه العالم.
المورد الثاني لا خلاف ولا اشكال بين الأصحاب في ضمان عارية الدراهم
والدنانير من غير شرط، لما تقدم من الأخبار المشتملة جملة منها على الذهب والفضة
وبعض على الدنانير والدراهم.
وإنما الخلاف والاشكال في غيرهما من الذهب والفضة، كالحلي المصوغ
والسبائك ونحوهما، ومنشأ الخلاف من حيث اشتمال بعض الأخبار على الذهب
والفضة بقول مطلق، واشتمال بعض على خصوص الدراهم والدنانير، فمن ذهب
إلى العموم نظر إلى الأخبار الدالة على استثنائهما من عموم عدم الضمان في
العارية، وأن تخصيص الدراهم والدنانير بالذكر في بعض آخر، إنما هو من
508

حيث كونهما أحد أفراد الذهب والفضة، ولا منافاة بينهما، ومن ذهب إلى التخصيص
بالدراهم والدنانير نظر إلى أن ما دل على الذهب والفضة مطلق، وما دل على
الدراهم والدنانير مقيد، ومقتضى القاعدة العمل بالمقيد، وتقييد المطلق به.
وأيده بعضهم بأن منفعة الدراهم والدنانير منحصرة في الاتلاف، فكانت
مضمونة بالإعارة، وأما غير هما من المصوغ فإن له منفعة مع بقاء عينه، وهي
التجمل ونحوه، ومن أجل ذلك توقف في المسألة جملة من الأصحاب منهم العلامة
في التذكرة، وهو في محله لما عرفت من تعارض احتمال الجمع بين روايات
المسألة، إلا أنه يمكن أن يقال أن نصوص هذه المسألة على أقسام ثلاثة:
منها ما هو مطلق في عدم الضمان من غير تقييد، كحسنة الحلبي (1) و
صحيحة محمد بن مسلم (2) وصحيحة عبد الله بن سنان (3) وصحيحة الحلبي (4)
ورواية مسعدة بن صدقة (5) فإن الجميع مشترك الدلالة في عدم الضمان في العارية
من غير فرق بين كونها ذهبا أو فضة أو غيرهما.
ومنها ما دل على استثناء الذهب والفضة من هذا الحكم، وأنه يضمن إلا مع
اشتراط العدم، وهو صحيح زرارة (6) وموثق إسحاق بن عمار (7).
ومنها ما دل على استثناء الدراهم والدنانير وهو خبر عبد الملك بن عمرو (8)،
حيث ورد باستثناء الأول، وصحيح عبد الله بن سنان (9) حيث ورد باستثناء
الثاني، والاستثناء في جميع هذه الأخبار إنما وقع من العموم الذي دلت عليه
أخبار القسم الأول.
وحينئذ فيجب اخراج الدراهم والدنانير واستثناء هما على كل حال من
ذلك العموم، لتصريح بعض الأخبار بهما بخصوصها ودخولهما في الذهب والفضة
اللذين اشتمل عليهما البعض الآخر، بقي العموم فيما عداهما مع معارضته بمطلق

(1) الوسائل ج 13 ص 236 ح 1 و 3 و ص 237 ح 7 و 6 و 10 والراوي هو مسعدة بن زياد كما تقدم.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(6) الوسائل ج 13 ص 239 ح 2 و ص 240 ح 4 و 3 ص 239 ح 1.
(7) الوسائل ج 13 ص 239 ح 2 و ص 240 ح 4 و 3 ص 239 ح 1.
(8) الوسائل ج 13 ص 239 ح 2 و ص 240 ح 4 و 3 ص 239 ح 1.
(9) الوسائل ج 13 ص 239 ح 2 و ص 240 ح 4 و 3 ص 239 ح 1.
509

الذهب والفضة، ومقتضى القاعدة تخصيص العموم بهما، فيجب استثناءهما من
العموم المذكور، والقول بالضمان فيهما اشترط أو لم يشترط إلا مع اشتراط
العدم.
وأما ما ذكره القائل بالتخصيص من أن الذهب والفضة مطلق، والدراهم والدنانير
مقيد، فيجب تقييد هما بذلك، ففيه أنه لا تعارض بين أخبار الذهب والفضة، وبين
أخبار الدراهم والدنانير ليجب ارتكاب الجمع بينهما بتقييد المطلق منهما بالمقيد،
وإنما كل من هذين الفردين قد وقع مستثنى من العموم الأول، ومخصصا له، فأخرجنا
الدراهم والدنانير من ذلك العموم، لاتفاق الأخبار على استثناء هما كما عرفت
وبقي الكلام فيما عدا أخبار الدراهم والدنانير وقد عرفت وجه الجمع فيه.
وبالجملة فإن العموم الذي دلت عليه أخبار القسم الأول قد خصص بمخصصين،
أحدهما أعم من الآخر، فيجب أن يخص ذلك العام بكل منهما، أو يقيد مطلقه
بكل منهما، ولا منافاة بين ذينك المخصصين، على أن أحدهما يخصص الآخر أو
يقيده: وهو بحمد الله سبحانه ظاهر.
وأما التعليل بأن الدراهم والدنانير تنحصر منفعتهما في الاتلاف، فكانت
مضمونة بخلاف غيرهما: ففيه أولا أن هذه العلة لا أثر لها في النصوص، فهي
مستنبطة، وثانيا الانتقاض بالنقاد والسبائك ونحوهما مما لا يترتب عليه أثر
بالتجمل والتزين الذي ذكروه في المصوغ، على أن ظاهر كلام المبسوط والخلاف
أن للدراهم والدنانير منفعة غير الاتلاف كما سيأتي انشاء الله في كتاب الإجارة.
وأما ما تكلفه صاحب الكفاية في هذا المقام، وزعم به عدم ثبوت الضمان
في الذهب والفضة، فلا يخفى ما فيه، وحاصل كلامه أنه قد وقع التعارض بين
المستثنى منه في خبر الدراهم والدنانير، وحاصله أنه لا ضمان في غير الدراهم
والدنانير، فهو يدل على عدم الضمان في الذهب والفضة، وبين المستثنى في خبر
الذهب والفضة، وحاصله أنه لا ضمان في غير الذهب والفضة، فهو يدل على الضمان
510

فيهما، والنسبة بين الموضعين العموم من وجه إلى آخر كلامه.
وفيه أنه إن سمي هذا تعارضا يحتاج إلى الجمع فإنه وارد عليه في
الدراهم والدنانير، فإنه لم يقع استثناء هما في محل واحد بل دل صحيح عبد الله
بن سنان على استثناء الدنانير خاصة. وحاصله أنه لا ضمان في العارية إلا أن
يكون دنانير، وبموجبه أنه لا ضمان في الدراهم، ودل خبر عبد الملك بن عمرو
على استثناء الدراهم خاصة، وحاصله أنه لا ضمان في العارية إلا أن يكون دراهم
وهو ظاهر في عدم الضمان في الدنانير، فيجري فيه ما أورده ثمة، والتعارض بين
المستثنى منه في كل من الخبرين ظاهر، ولا نراه تكلفا للجمع بينهما هنا، مع
ظهور التعارض كما عرفت، بل عمل بالخبرين، وخصص بهما عموم الأخبار الدالة
على أنه لا ضمان في العارية، وما نحن فيه من أخبار الذهب والفضة مع أخبار
الدراهم والدنانير كذلك، حيثما شرحناه.
وبما أوضحناه يظهر قوة القول باستثناء الذهب والفضة، ووجوب ضمانهما،
والله سبحانه العالم.
المورد الثالث: ظاهر جملة من الأخبار المتقدمة أنه يقبل قول المستعير لو
ادعى التلف بغير يمين، وفتوى الأصحاب على خلاف ذلك، حيث إنهم صرحوا
بأنه إنما يقبل قوله بيمينه، ونقل في التهذيب عن ابن بابويه (1) أنه قال: مضى
مشايخنا و (رحمة الله عليهم) على أن قول المودع مقبول، وأنه مؤتمن ولا يمين عليه.
وقد روى (2) أن رجلا قال للصادق (عليه السلام): بأني ائتمنت رجلا على مال
أودعته عنده، فخانني وأنكر مالي فقال: لم يخنك الأمين، وإنما ائتمنت الخائن
انتهى.
وظاهر هذا الكلام يدل على أنه في كل موضع يحكم بكون المال أمانة
فلا يمين على من هو بيده لو ادعى تلفه أو أنكره، ويدخل فيه العارية والوديعة

(1) التهذيب ج 7 ص 181 في ذيل ح 8 و ح 9، الوسائل ج 13 ص 228 ح 6.
(2) التهذيب ج 7 ص 181 في ذيل ح 8 و ح 9، الوسائل ج 13 ص 228 ح 6.
511

والقراض ونحوها مما حكم بكون المال فيه أمانة، مع أن صريح كلام الأصحاب
في هذه الأبواب كما صرحوا به في غير كتاب - هو أنه لا يقبل قول أحد من
هؤلاء إلا مع اليمين، ولم أقف في الأخبار الواردة في هذه الأبواب على ما يدل
على ما ادعوه، بل ظاهرها إنما هو قبول قولهم بغبر يمين.
وقد تقدم في كتاب الوديعة جملة من الأخبار الدالة على ما قلناه، ومثلها الأخبار
الواردة هنا في العارية، فإن ظاهرها أنه متى كان المستودع أو المستعير مأمونا
فلا ضمان عليه، بمعنى أنه يقبل قوله بمجرد دعواه التلف، أو الانكار، فإن
قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة: " إذا كان أمينا فلا غرم عليه "،
ظاهر فيما ذكرناه.
لا يقال أن العارية إنما تضمن باشتراط لضمان، وبدونه لا ضمان، فلا غرم فيها
لأنا نقول: نعم إذا علم المالك بالتلف ووافق عليه فلا ضمان هنا إلا مع الشرط
وأما مع عدم ذلك بل ادعائه بقاء العين أو التفريط فيها فالذي صرحوا به أنه
لا يقبل قوله إلا باليمين، وهذا محل البحث في المسألة، فإن ظاهر هذا الخبر
كما ترى أنه متى كان المستعير أمينا فلا عزم عليه وهو ظاهر في قبول قوله من
غير يمين.
قال شيخنا المجلسي (قدس سره) في حواشيه على هذا الخبر: يمكن أن
يكون المراد بالأمين من لم يفرط في حفظها أو المعنى أنه لما كان أمينا فلا غرم
عليه، وبالجملة لولا الاجماع لكان القول بالتفصيل قويا، انتهى.
أقول: لا يخفى أن ارتكاب التأويل في الخبر فرع المعارض، وليس إلا
الاجماع الذي أشار إليه، وهو لا تصلح للمعارضة لما ذكره هو وغيره من المحققين
في هذه الاجماعات، مع أنك قد عرفت خلاف الصدوق (رحمه الله) في المسألة،
مع جماعة من مشايخه الذين نقل عنهم ذلك.
ومثله الشيخ في النهاية كما قدمنا نقله عنه في كتاب الوديعة وغيرهم ممن
512

تقدم ذكره، فالاجماع غير ثابت لو سلم حجيته.
على أن ما ذكره من التأويل بحمل الأمين على من لم يفرط في حفظها
بعيد جدا، لعدم جريانه في ما إذا ادعى المالك عليه التفريط مع عدم العلم بعدم
التفريط، إلا من قبل المستعير، ولأنه تخصيص لمعنى الأمين، والعدل، من غير مخصص،
بل استعمالهما في غير معناهما المتبادر لغة وشرعا، بل المستفاد من الخبر إنما
هو المعنى الثاني الذي ذكره، ونحو الخبر المذكور قوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله
بن سنان المتقدمة " لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا "،
والمرسلة (1) التي نقلها في الكافي عقيب حسنة الحلبي، وكتب شيخنا المتقدم ذكره
في حاشيته، على هذه المرسلة أيضا ما صورته، ربما يحمل الخبر على أنه إذا كان
مسلما عدلا ينبغي أن لا يكلفه المعير اليمين، فيلزمه بنكوله الضمان. أو يحمل
العدل على من لم يقصر ولم يفرط، وهما بعيدا ن، والمسألة في غاية الاشكال،
انتهى.
أقول: ما استبعده من الاحتمالين في محله، فإن ظاهر الخبر المذكور
هو قبول قول المستعير متى كان كذلك من غير يمين، لأنه مع التكليف باليمين
والنكول عنها يلزمه الضمان كما هو مقتضى القواعد، مع أن الحديث مصرح بنفي
الضمان مطلقا، وتفسير نفي الضمان بمعنى أن الأولى للمعير أن لا يكلفه باليمين
تعسف صرف، وكذا حمل العدل على المعنى الذي اعترف ببعده.
وأما قوله أن المسألة في غاية الاشكال، ففيه ما عرفت مما شرحناه بحمد الله
تعالى الملك المستعان من أنه لا اشكال بعد دلالة الأخبار على ما ذكرناه من أخبار
هذا الباب وغيره كما تقدم، وسيأتي انشاء الله تعالى.
وعدم وجود خبر يدل على ما ادعوه وليس إلا مجرد الشهرة التي سموها
اجماعا لما عرفت من وجود المخالف، ومن ذلك أيضا قوله (عليه السلام) في رواية مسعدة

(1) الكافي ج 5 ص 238 في ذيل ح 1.
513

بن زياد المتقدمة لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان
المستعير مأمونا.
وسيأتي انشاء الله تعالى في كتاب الإجارة جملة من الأخبار الدالة على صحة
ما ادعيناه زيادة على ما ذكرناه هنا وما تقدم في كتاب الوديعة.
المسألة الثانية: قالوا: إذا رد العارية إلى المالك أو وكيله برأ، وإذا ردها
إلى الحرز لم يبرء، ولو استغار الدابة إلى مسافة فجاوز بها ضمن، ولو أعادها
إلى الأولى لم يبرء.
أقول: قد اشتمل هذا الكلام على ثلاثة من الأحكام، أما الأول منها وهو براءة
المستعير من العارية متى ردها على المالك أو وكيله، فظاهر لا ريب فيه.
وأما الثاني وهو عدم البراءة بالرد إلى الحرز كالدابة إلى الإصطبل مثلا،
فالوجه فيه الخبر الدال (1) " على أن على اليد ما أخذت حتى تؤدي " فإن المراد
من الأداء في الخبر هو الدفع إلى المالك أو وكيله، لا مجرد ردها في داره أو
إصطبله، بل مقتضى القاعدة أن تكون مضمونة عليه بعد ذلك، وإن لم تكن مضمونة
أولا لتفريطه في وضعها في موضع لم يأذن له المالك فيه، إذ لو تلفت بعد وضعها
في الموضع المذكور وقبل أن يسلمها المالك لزمه ضمانها، لما قلناه، وهذا لا
خلاف فيه عندنا.
وإنما نقل فيه الخلاف عن أبي حنيفة قال: في التذكرة إذا رد المستعير العارية
إلى مالكها أو وكيله برأ من ضمانها، وإن ردها إلى ملك مالكها بأن حمل
الدابة إلى اصطبل المالك فأرسلها فيه، أوردها إلى الدار لم يزل عنه الضمان،
وبه قال الشافعي، بل عندنا أن لم تكن العارية مضمونة فإنها تصير بهذا الرد مضمونة
لأنه لم يدفعها إلى مالكها، بل فرط بوضعها في موضع لم يأذن له المالك بالرد
إليه، كما لو ترك الوديعة في دار صاحبها، فتلفت قبل أن يتسلمها المالك،

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12
514

لأنه لم يردها إلى صاحبها، ولا من ينوب منابه، فلم يحصل الرد، كما لو
ردها إلى أجنبي.
وقال أبو حنيفة، إذا ردها إلى ملك المالك صارت كأنها مقبوضة
لأن رد العواري في العادة إلى أملاك أصحابها، فيكون مأذونا فيه من طريق العادة
وهو غلط، لأنه يبطل بالسارق إذا رد المسروق إلى الحرز ولا تعرف العادة التي
ذكرها فيبطل ما قاله، انتهى وهو جيد.
وأما الثالث وهو ما لو استعار الدابة إلى مسافة مخصوصة فتجاوزها، فإن
الوجه في الضمان هنا أنه قد تعدى في العارية من وقت المجاوزة، فكان ضامنا
لها إلى أن يردها إلى المالك هذا بالنسبة إلى ضمان العين لو تلفت فأما ضمان
المنفعة وهو أجرة الدابة فعندهم أنه يثبت في المسافة المتجاوز بها عن موضع
الإذن ذهابا وإيابا إلى أن يرجع إلى الموضع المأذون فيه، لأنه في هذه المدة
غاصب. ولا تبطل الإعارة بذلك، فيكون تصرفه فيها بعد رجوعه إلى المكان المأذون
فيه إلى أن يردها على المالك، جايزا لدخوله في الإعارة، فإنه مأذون فيه، وإنما
حصل التعدي الموجب للأجرة في تلك المدة المتوسطة، وإن كان أصل العين
مضمونة بذلك التعدي إلى أن ترد على المالك.
ونقل في التذكرة عن بعض الشافعية أنه يضمن الأجرة أيضا كالعين إلى أن
يردها على المالك، محتجا بأن ذلك الإذن قد انقطع بالمجاوزة، ثم رده بأنه ممنوع.
أقول: حيث إنه سابقا قبل هذا الكلام قال: وهل يلزمه الأجرة من ذلك
الموضع الذي وقع فيه العدوان إلى أن يرجع إلى البلد الذي استعار منه الأقرب
العدم لأنه مأذون فيه من جهة المالك، وهو أحد وجهي الشافعية.
والثاني اللزوم ثم نقل القول الذي ذكرناه ورده هنا بالمنع من انقطاع
الإذن بالمجاوزة.
وأنت خبير بأن المعير إنما أذن في تلك المسافة المعينة ذهابا وإيابا
515

وهو بتجاوزه عن المسافة إلى ما زاد عليها قد حكموا عليه بضمان العين من حيث
التعدي والتفريط، إلى أن ترد سالمة على المالك، وظاهر ذلك هو زوال العارية
بهذا التعدي، حيث إن المفروض أنها غير مضمونة وإنما حصل الضمان بهذا التعدي
الموجب للخروج عن كونها عارية، وحينئذ فكما أثر هذا التعدي في زوال العارية
بالنسبة إلى ضمان العين، فلم لا يكون كذلك بالنسبة إلى ضمان المنفعة، لأن
مقتضى العارية العدم، فلا وجه لحكمهم هنا بضمان المنفعة في خصوص موضع التعدي
إذ التعدي أن كان موجبا للخروج عن العارية، فينبغي أن يكون بالنسبة إلى
ضمان العين، وضمان المنفعة، وإلا فلا وجه للفرق بأن يكون ضمان العين مستمرا
إلى الرجوع إلى المالك.
وضمان المنفعة ينقطع بالرجوع إلى محل التجاوز عن موضع الإذن،
سيما أنهم صرحوا كما قدمنا ذكره بأنه في صورة ضمان المنفعة بأنه لا تبطل
الإعارة، وإن كان عاصيا في تلك المدة المتوسطة، فلم لا يقال بذلك أيضا في
صورة ضمان العين بأن الإعارة باقية، ومقتضيها عدم ضمان العين إلا في المدة التي
تجاوز عنها حتى يرجع إليها، لا أنه يستمر الضمان إلى الرد على المالك.
وكما أن الرجوع من محل التجاوز إلى بلد الإعارة مأذون فيه، كما ذكروه
بالنسبة إلى ضمان الأجرة، فلا أجرة عليه في ذلك كذلك، من حيث إنه مأذون فيه، لا
ضمان للعين أيضا، والغصب إن أثر الضمان إلى الرجوع إلى المالك ففي الحالين، وإلا فلا.
وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه واضح في ما ذكروه من الفرق، والمسألة
خالية من النص، وتعليلا تهم كما ترى، هذا كله إذا كانت العارية غير مضمونة.
أما لو كانت مضمونة كان شرط الضمان في العارية أو قلنا بضمان العواري،
فإن الدابة المذكورة تكون مضمونة إلى نهاية موضع الإذن ضمان عارية، ولا
أجرة عليه، لأنه مأذون له في التصرف فيها، فإذا تجاوز موضع الإذن ضمنها
ضمان الغصب، ووجب عليه أجرة منافعها إلى أن يعود إلى المكان المأذون فيه،
516

ومنه إلى الرجوع إلى المالك وردها عليه يضمن ضمان العارية هذا مقتضى
تقريرهم في المقام، والله سبحانه العالم.
الثالثة: إذا حمل السيل حبا لرجل أو نوى أو جوزة أو نحو ذلك فثبت
في أرض غيره بغير علمه قال في المبسوط: من الناس من يقول لا يجبر على قلعه،
لأنه غير متعد فيه فهو كالمستعير، ومنهم من قال: يجبر على قلعه من غير أرش،
لأنه لم يأذن له في ذلك وهذا أقرب إلى الصواب.
وقال ابن البراج: لا يجوز لصاحب الأرض مطالبته بقلعه، لأنه لم يتعد في
ذلك، قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين: والوجه ما قاله الشيخ،
لأن الأرض لمالكها فله الانتفاع بها على أي وجه، وتفريغها من مال الغير الحاصل
فيها بغير إذن، ولأن الناس مسلطون على أموالهم وعدم الإثم والتعدي لا يقتضي
منع المالك عن التسلط على ملكه، انتهى.
وبنحو ذلك صرح في التذكرة: فقال: إن لصاحب الأرض قلعه، وإن
امتنع صاحب الزرع أجبر عليه، وبذلك صرح في الشرايع، والظاهر أنه هو
المشهور بين المتأخرين وهو الأوفق بالأصول والقواعد الشرعية، وما ذهب إليه
ابن البراج ضعيف لا يعول عليه.
بقي الكلام هنا في مواضع الأول: لو أعرض المالك عنه وإن كان كثيرا
فإنه يتخير صاحب الأرض بين قلعه وبين تملكه، ويكون من قبيل السنبل والثمار
التي يعرض عنها ملاكها إلا أن للمالك الرجوع فيها ما دامت العين باقية.
وظاهر التذكرة هنا أنه لا يجبر المالك على نقله، ولا على أجرة الأرض ولا
غير ذلك لأنه حصل بغير تفريط ولا عدوان، فكان الخيار لصاحب الأرض المشغول
به، إن شاء أخذه لنفسه وإن شاء قلعه.
الثاني: لو لم يعرض عند المالك وبقي حتى ظهر له ثمر فإن ثمره ونمائه
لمالكه، وعليه أجرة الأرض للمدة التي كان باقيا فيها، إن طالبه صاحب الأرض
517

بقلعه، لأنه في هذه الحال غاصب، وإن لم يطالبه فلا أجرة على الأقرب، لأنه
لم يقصر في القلع حيث لم يطلب منه، ولا حصل في الأرض بفعله ليكون متعديا.
الثالث: إذا قلعه المالك وجب عليه تسوية الأرض وطم الحفر لأنها حدثت بفعله
لتخليص ماله من ملك صاحب الأرض ولصاحب الأرض اجباره لو امتنع من ذلك.
الرابع: لو امتنع المالك من القلع جاز لصاحب الأرض اجباره، وإلا نزعه
منها، كما لو سرت أغصان شجرة جاره إلى ملكه وداره.
الخامس: قال في المسالك: لو اشتبه المالك في قوم منحصرين وجب عليهم
أجمع التخلص بالصلح أو التمليك ونحوه، ويجب على مالك الأرض أيضا مراجعتهم
في ما يراجع فيه المالك المعين ولو لم ينحصر المالك كان بمنزلة اللقطة يجوز تملكه
إن كان دون الدرهم حين التملك، ولو تركه من غير نية التملك حتى بلغ وجب
تعريفه كاللقطة، ويحتمل كونه كمال مجهول المالك، في جواز التصدق به عنه
من غير تعريف، انتهى.
السادس: قالوا: لو حمل السيل أرضا بشجرها فثبتت في ملك الغير فتلك
الأرض وما فيها لمالكها ويجبر على إزالتها كما تقدم.
الرابعة: لا اشكال في الضمان مع اشتراطه كما تقدم في الأخبار فإن اختص
الضمان بالتلف ضمن العين خاصة، وإن اختص بالنقصان ضمنه خاصة، وإن كانا
معا ضمنهما معا.
وإنما الكلام والاشكال في ما لو أطلق، فعلى هذا لو أطلق ولم يعين شيئا
من الأفراد الثلاثة المتقدمة ونقصت العين المستعارة بالاستعمال حتى تلفت فهل يضمن
القيمة يوم التلف خاصة؟ لأن النقصان غير مضمون من حيث إنه حصل بفعل
مأذون فيه فلا يكون مضمونا ولأنه لو لم يتلف فردها على المالك في تلك الحال لم
يجب عليه شئ، فإذا تلفت وجب قيمتها في تلك الحال وهو اختيار المحقق،
ونقل عن المبسوط والتذكرة.
518

أو أنه يضمن النقص أيضا نظرا إلى اشتراط الضمان فيكون ذلك النقص
مضمونا وهو المنقول عن ابن الجنيد وأبي الصلاح واستشكل في القواعد في المسألة.
قال في المسالك: ويمكن الفرق بين تلف الأجزاء الموجب للنقص بالاستعمال،
وبين تلفها بغيره فيضمن على الثاني دون الأول، لأن تلفها بأمر مأذون فيه
فلا يستعقب ضمانا ويمكن تأييد القول الثاني بمنع أصل التوجيه المذكور في
القول الأول.
قوله: إنه حصل النقصان بفعل مأذون فيه فلا يكون مضمونا يمكن خدشه
بأن الإذن في أصل الاستعمال لا ينافي الضمان، والحال إنه مشروط إذ ليس من
لوازم أصل الاستعمال النقص، فيجوز أن يكون الاستعمال مأذونا والنقص مضمونا
وكذا استناده إلى أنه لو لم تتلف وردها في تلك الحال لا يجب عليه شئ، فإنه
ممنوع أيضا إذ هو من موضع البحث، فإنا لا نسلم ذلك مع الشرط، وإنما يتم
بدونه، فإن للمانع أن يمنع من كون النقص غير مضمون في المضمونة، سواء
تلفت أو ردها قبل التلف، والوجه فيه أن مقتضى تضمين العين تضمين أجزاءها،
لأنها مركبة منها، ثم إنه على تقدير هذا القول فإنه يضمن أعلى القيم من حين
القبض إلى يوم التلف، إن كان الاختلاف والتفاوت في القيم بسبب الأجزاء كالثوب
ينسحق باللبس، وأما لو كان الاختلاف من حيث القيمة السوقية لم يضمن الزائد
بسببه لأن ذلك ليس من مدلول الضمان سيما مع عدم ايجاب ذلك على الغاصب
هذا كله مع اشتراط الضمان.
أما لو استعملها حتى تلفت من غير شرط الضمان في العارية فإن ظاهر
الأكثر عدم الضمان مطلقا، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الثانية من
الفصل الثاني، والله سبحانه العالم.
الخامسة: اختلف الأصحاب في ما لو ادعى المستعير الإعارة، وادعى المالك
الإجارة، وقد مضت لذلك مدة في يد المستعير، فذهب في الخلاف إلى أن القول
519

قول المستعير، قال في الكتاب المذكور: إذا اختلف صاحب الدابة والراكب،
فقال الراكب: أعرتنيها، وقال صاحبها: أكريتكها بكذا، كان القول قول
الراكب بيمينه، وعلى صاحبها البينة، وكذا إذا اختلف الزارع وصاحب
الأرض فادعى الزارع العارية. وادعى صاحب الأرض الكري، فالقول قول الزارع
قيل في توجيهه: إنهما متفقان على أن تلف المنافع وقع في ملك المستعير، لأن
مقتضى كلام المالك أنه ملكها بالإجارة، ومقتضى كلام المستعير أنه ملكها بالاستيفاء
المستند إلى الإعارة، فيده شرعية على كل من القولين، والمالك يدعي عليه العوض
عما استوفاه عن ملكه، وهو ينكر استحقاقه، والأصل براءة ذمته منه،
فيكون القول قوله بيمينه، عملا بالقاعدة المنصوصة.
وذهب ابن إدريس وتبعه المحقق إلى أن القول قول المالك في عدم العارية
وإن لم يقبل قوله في الإجارة، قال ابن إدريس: لا يقبل قول المالك في قدر
ما ادعاه من الأجرة، ولا قول الراكب في العارية، فالواجب أجرة المثل عوضا
عن منافع الدابة، وكذا البحث في الأرض إذا اختلف المالك والزارع.
وقيل في توجيه هذا القول: إنه لا شك في أن المنافع أموال كالأعيان،
فهي بالأصالة لمالك العين، فادعاء الراكب ملكيتها بغير عوض على خلاف الأصل
وأصالة براءة ذمته كما تمسك به القائل الأول إنما يتم بالنسبة إلى خصوص ما
ادعاه المالك من قدر الأجرة، لا من مطلق الحق بعد العلم باستيفاء المنفعة التي
هي من جملة أموال المالك وحقوقه، والأصل يقتضي عدم خروجها عن ملكه إلا
بعوض، ومن أجل ذلك يكون القول قول المالك في عدم العارية لأن الراكب
يدعي العارية والمالك ينكرها، فيكون القول قوله بيمينه، ولا يقبل قول
المالك في ما يدعيه من الإجارة، لأنه مدع أيضا يحتاج إلى البينة، وحينئذ فإذا
حلف المالك على نفي العارية كما هي وظيفته الشرعية لم تثبت الإجارة، لما
عرفت من أن ثبوتها يتوقف على البينة، ولكن تثبت أجرة المثل، لأن الراكب
520

قد تصرف في ملكه بغير تبرع منه، لأن دعوى التبرع قد سقطت باليمين،
فالواجب حينئذ أجرة المثل.
واعترض بعض أفاضل متأخري المتأخرين وهو الخراساني في الكفاية على
هذا الكلام بمنع الأصل المدعي هنا أعني قوله والأصل يقتضي عدم خروج المنافع
عن ملك المالك إلا بعوض، قال: إذ لا حجة عليه عقلا ونصا.
أقول: مرجع هذا الأصل إلى الاستصحاب، فإنه أحد المعاني التي يطلق
عليها، ولا شك أن العين من حيث هي ملك للمالك، فكذا منافعها، فبعد
خروجها عن يد المالك على هذا الذي وقع فيه الاختلاف، لو تمسك المانع
باستصحاب بقاء المنافع على ما ثبت لها أولا من ملكية المالك حتى يقوم الدليل
على خلافه فهو صحيح، والظاهر أنه ليس من الاستصحاب الذي هو محل الخلاف
بين الأصحاب، بل الاستصحاب المتفق عليه، وهو استصحاب الاطلاق أو العموم
حتى يقوم دليل التقييد أو التخصيص.
وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه ما ذكره، نعم استشكل هذا القول في
المسالك بما لو كان ما يدعيه من الأجرة أقل من أجرة المثل، لاعترافه بنفي
الزائد، قال: فينبغي أن يثبت له بيمينه أقل الأمرين مما يدعيه وأجرة المثل،
لأن الأقل إن كان ما يدعيه فهو معترف بعدم استحقاقه سواه، وإن كان الأقل
أجرة المثل فلم يثبت بيمينه سواها، إذ لم تثبت الإجارة، وإنما لزم تصرف
الراكب في ماله بغير إذن المالك على وجه التبرع.
أقول: من أجل ما ذكره من هذا الاشكال صار في المسألة قولا ثالثا فذهب
في القواعد إلى هذا القول، وهو أنه بعد حلف المالك فالثابت له أقل الأمرين
من أجرة المثل ومن المسمى، إلا أنه قد أورد عليه أيضا أن المالك على تقدير
كون المسمى أكثر من أجرة المثل، فالمالك يدعي الزائد من الأجرة عن أجرة
المثل، والراكب ينفيه، فلا بد من وجه شرعي يقتضي نفيه، وليس إلا بيمين
الراكب على نفي الإجارة.
521

وتوضيحه أن حلف المالك على نفي الإعارة، لم يدل على نفي الإجارة ولا
اثباتها، فيبقي دعوى الإجارة على حالها، ولما لم يثبتها المالك بالبينة رجعنا إلي
الأصل المتقدم من أصالة بقاء ملكه للعين وللمنافع، فلا بد من الحكم على
الراكب بعوض في مقابلتها، حيث تصرف فيها من غير أن يتبرع بها المالك،
ووجب الحكم له بأقل الأمرين لما تقدم، لكن يبقي النزاع في الزائد على تقدير
كون المسمى في الإجارة زائدا على أجرة المثل، فإن المالك يدعيه، وراكب
الدابة ينفيه، ولا يندفع ذلك إلا بيمين الراكب على نفي الإجارة: أو نكوله
فيحلف المالك على الإجارة، ويأخذ الزائد.
ومن هنا انقدح في المسألة قول رابع، فذهب في المختلف وجماعة منهم
الشهيدان، الأول منهما في بعض تحقيقاته، على ما نقل عنه، والثاني في المسالك
إلى أنهما يتحالفان، فإن كلا منهما مدع، ومدعى عليه، لما عرفت من التوضيح
المتقدم.
أقول: وبهذا ترجع المسألة هنا إلى ما نقلناه عنهم في كتاب المزارعة،
حيث أنهم لم يذكروا ثمة خلافا في المسألة على نحو ما ذكروه هنا، وإنما نقلوا
فيها قولين، أحدهما وهو المشهور التحالف، بأن يحلف صاحب الأرض على نفي
العارية، ويحلف الزارع على نفي الإجارة، فيتساقط الدعويان، ويرجع إلى
أجرة المثل، أو أقل الأمرين، والقول الثاني القرعة كما تقدم ذكره ثمة،
وهنا قد أكثروا الخلاف كما عرفت، والمسألة واحدة في الكتابين كما هو ظاهر
نصب العين.
وكيف كان فإن لقائل أن يقول أيضا: إن المالك هنا يدعي بالإجارة حقا
معينا، ولا يدعي شيئا آخر سواه، فإذا حلف الراكب على عدم الإجارة، سقط
بيمنه هذا الحق الذي يدعيه المالك، لأن اليمين من المنكر مسقطة الحق، وقد
اعترف بأنه لا حق له سواه، فإذا سقط باليمين، فبأي شئ يثبت أقل الأمرين،
522

واثبات حق المالك من غير الوجه الذي يدعيه، بناء على ما ذكروه من تصرف
الراكب بغير إذنه، فيقضي له بأجرة المثل، أو أقل الأمرين مشكل، لأنه باليمينين
الواقعتين منهما معا صار هذا التصرف محتملا لكونه تصرفا صحيحا شرعيا بلا
أجرة، وكونه تصرفا شرعيا بالأجرة، والأجرة إنما تثبت على تقدير الثاني،
وهو غير معلوم، لاحتمال كونه شرعيا مجانا كما يدعيه المستعير، ومن المعلوم
كذب أحدي اليمينين في هذا المقام، وأصالة عدم اشتغال الذمة مؤيد، والحكم
له بشئ لا يدعيه - ولا يطلبه، وإنما يطلب غيره مما قد انتفى باليمين - غير متجه.
وبالجملة فإن الرجوع إلى التعليلات العقلية لا ينتهي إلى ساحل، والمسألة
لما كانت عارية من النصوص كثر فيها الكلام، وتقابل النقض فيها والابرام.
وفي المسألة أيضا قول خامس بالقرعة، ذهب إليه الشيخ في كتاب المزارعة
من الخلاف، قال: لأن القرعة لكل أمر مشكل، ورده جملة من المتأخرين
بالضعف، قالوا: لأنه لا اشتباه مع القاعدة المتفق عليها من حكم المدعي والمنكر.
أقول: لا يخفى ما فيه بعد ما عرفت مما وقع لهم من الخلاف في المقام،
وتصادم هذه التعليلات منهم في النقض والابرام، فكيف لا يحصل الاشتباه، والحال
كما عرفت، هذا كله فيما إذا مضت لذلك المتنازع فيه مدة في يد المتصرف قد
استوفي فيه منافعه.
أما لو لم يمض لذلك مدة، ولم يحصل الانتفاع بشئ من المنافع المترتبة
عليه، فالقول في ذلك قول المتصرف، لأن المالك هنا لا يدعي التصرف في شئ
من المنافع، وإنما يدعي عليه الإجارة، وتحقق الأجرة في ذمته، واشتغالها بها
والمتصرف ينكر ذلك، فالقول قوله بيمنيه، فإذا حلف على نفي الإجارة سقط
دعوى الأجرة، واسترد المالك العين، وإن نكل حلف المالك اليمين المردودة،
واستحق الأجرة، والله سبحانه العالم.
523

الحاق في المقام:
وهو يشتمل على جملة من الأحكام، أحدها - أنه إذا استعار شيئا للانتفاع
به في شئ مخصوص، فانتفع بها في غيره فظاهر الأصحاب الحكم عليه بالضمان
لتعديه في العين بالتصرف فيها على غير الوجه المأذون له فيه وتلزمه الأجرة لمثل
ذلك العمل وهو ظاهر.
وثانيها - أنه إذا جحد العارية فالقول قوله بيمينه، لأن الأصل العدم، فإن
أثبتت المالك عليه صحة الدعوى المذكورة زال استيمانه، ولزمه الضمان، والظاهر
أن الكلام هنا كالكلام في الوديعة لو جحدها، وأثبتها المالك عليه، وقد تقدم
تفصيل البحث في ذلك في كتاب الوديعة.
وثالثها - ما إذا ادعى التلف، فإن القول قوله بيمينه عندهم، وقد عرفت
ما فيه في المسألة الأولى من مسائل هذا الفصل في كتاب الوديعة (1).
ورابعها - ما إذا ادعى الرد على المالك، فإن القول قول المالك بيمينه،
لأنه منكر، والأصل عدمه، وقد تقدم في كتاب الوديعة أن المشهور فيما إذا ادعى
الودعي الرد على المالك أن القول قول الودعي بيمينه، مع أن الأصل عدم الرد، وعموم
البينة على المدعي، إلا أنهم فرقوا بينه وبين العارية، بأن الودعي إنما قبض لمصلحة
المالك فهو محسن محض، و " ما على المحسنين من سبيل (2)، " وأنت خبير بما
فيه، حيث إن هذه العلة غير منصوصة، مع مخالفة ما ذكروه في الوديعة للقواعد
الشرعية، ولهذا توقف جملة من الأصحاب في حكم الوديعة كما تقدم ذكره ثمة،
واستشكلوا القول المشهور وهو في محله لما عرفت.
قال في المسالك: واعلم أن هذه العلة تجري في كثير من أبواب تنازع
المستأمنين، إلا أنها تقتضي قبول قول الوكيل في الرد لو كان بغير جعل،

(1) ص 455
(2) سورة التوبة الآية 91.
524

وهو مشكل لمخالفة الأصل وكون هذه العلة ليست منصوصة وإنما هي مناسبة،
انتهى وهو جيد.
والتحقيق أن يقال: إن مقتضى الأخبار المتقدمة في كتاب الوديعة هو قبول
قول الأمين، وعدم اتهامه فيما يقوله، وإن خالف الأصل، وحينئذ يكون هذه الأخبار مخصصة لهذه القاعدة، أعني قاعدة البينة على المدعي، واليمين على المنكر
والحكم متعلق بالأمين ودعيا كان أو مستعيرا، أو وكيلا أو نحوهم، ودعوى الفرق
- بين الودعي وغيره ممن قبض لمصلحته، كالمستعير والوكيل بجعل والمرتهن - فيه
أولا ما ذكر من عدم الدليل على هذا التعليل، وثانيا إن قبضه على أحد هذه الوجوه
لا ينافي الإئتمان الذي رتب عليه قبول قوله لأن الإئتمان إنما هو عبارة عن الوثوق
به في عدم الخيانة، والمخالفة لأمر المالك، وادخال الضرر عليه، فكل من دفع إليه
المالك بهذا الوجه ودعيا كان أو مستعيرا أو وكيلا بجعل أو بغير جعل فإنه يقبل
قوله، بمقتضى تلك الأخبار، ويؤيده أخبار " ما خانك الأمين، ولكن ائتمنت
الخائن " كما تقدم في كتاب الوديعة.
وخامسها - ما إذا فرط في العارية ثم تلفت، فإنه إن كانت من ذوات الأمثال
ضمن المثل بغير اشكال، وإن كانت من ذوات القيم فقد اختلف الأصحاب - في ذلك -
فقيل: إن الواجب عليه قيمتها يوم التلف، وهو مختار الشرايع والمسالك
وعلل بأن الواجب على المستعير مع بقاء العين ردها دون القيمة، وإنما ينتقل إلى
القيمة مع التلف، وحينئذ فالمعتبر القيمة وقت التلف.
وقيل: أن الواجب أعلى القيم من وقت التفريط إلى وقت التلف، وعلل بأن
العين لما كانت مضمونة، فكل واحدة من القيم المتعددة في وقت كونها مضمونة،
إذ معنى ضمان العين كانت لو تلفت ضمن قيمتها، وهو حاصل في جميع الوقت، فيضمن
أعلى القيم لدخول الباقي فيها.
وقيل: المعتبر قيمتها وقت الضمان، قال في المسالك. وموضع الخلاف ما
525

لو كان الاختلاف بسبب السوق، أما لو كان بسبب نقص في العين فلا اشكال في ضمانه،
لأن ضمان العين يقتضي ضمان أجزائها، انتهى.
أقول: وقد تقدم الكلام في ذلك، وهذا القول الأخير نقله في الكفاية
قولا ثالثا في المسألة، ولعله أشار به إلى ما نقله في المختلف عن ابن حمزة،
حيث قال ابن حمزة: إن هلك مضمونا لزم قيمته يوم القبض، وإن هلك غير
مضمون بالتفريط لزم قيمته يوم التلف، بأن يكون المراد بقيمته وقت الضمان،
كما ذكره يعني يوم القبض الذي ثبت فيه الضمان واستقر، إلا أن الظاهر أن ما
ذكره في المختلف مسألة أخرى على حيالها غير ما نحن فيه، فإن فرض المسألة
التي ذكرناها في كلام الأصحاب إنما هو بالنسبة إلى العارية الغير المضمونة لو فرط
فيها ثم تلفت في يده.
وظاهر كلام المختلف مسألة أخرى وهو أنه إذا هلكت العارية عند المستعير
فقد قال ابن حمزة: بأنها إن كانت العارية مضمونة باشتراط الضمان فيها ونحوه
فاللازم قيمتها يوم القبض، وإن لم يكن مضمونة وهلكت بالتفريط لزمته قيمته
يوم التلف، وهذا يرجع إلى القول الأول الذي قدمناه، فإن هذا الفرد الثاني من
الترديد يرجع إلى ما تقدم.
وفي المختلف بعد أن نقل عن ابن حمزة قال: والمعتمد أن نقول: إن كان من
ذوات الأمثال ضمنه بالمثل، وإن كان من ذوات القيم ضمنه بقيمته يوم التلف إن كان
مضمونا، وبأعلى القيم من حين التفريط إلى حين التلف إن هلك بالتفريط، إن
قلنا أن الغاصب يضمن بأعلى القيم، وإلا فالقيمة يوم التلف، وظاهره في اختياره
أعلى القيم - فيما لو لم تكن مضمونة، وإنما هلكت بالتفريط - موافقة القول
الثاني المتقدم.
وقد تلخص مما ذكرناه أن العارية إذا تلفت عند المستعير وكانت قيمية فإن
كانت مضمونة ففيها قولان:، أحدهما مذهب ابن حمزة، وهو قيمته يوم القبض،
526

وثانيهما مذهب العلامة وهو قيمته يوم التلف وإن لم تكن مضمونة، وهلكت
بالتفريط، فالأقوال الثلاثة المتقدمة: وابن حمزة قد وافق الأول، والعلامة وافق
الثاني، وهذا الخلاف هنا متفرع على الخلاف في ضمان المغصوب، حيث إنه هنا
بالتفريط لحقه حكم الغاصب، وإليه يشير كلام العلامة المذكور والله سبحانه
العالم.
وسادسها - ما لو اختلفا في القيمة بعد التفريط على تقدير تلفه، وكذا
لو كان مضمونا بأمر آخر ثم تلف، فقيل: إن القول قول المالك مع يمينه، وبه قال الشيخان، وسلار وابن حمزة، وابن البراج.
وقال أبو الصلاح: وإن اختلفا في مبلغها أو قيمتها أخذ ما أقر به المستعير
ووقف ما زاد عليه على بينة أو يمين المعير، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه فإن
قصد يمين المعير برد المستعير صار قوله مخالفا لما تقدم، وإلا فلا.
وقيل: القول قول المستعير لأنه منكر، فيدخل في عموم الخبر، وبه قال
ابن إدريس ومن تأخر عنه، قال ابن إدريس: الذي تقتضيه أصول الأدلة والمذهب
أن القول قول المدعي عليه، واليمين على المنكر، وهو المستعير مع يمينه.
قال في المختلف: وهو الوجه عندي، لنا أنه منكر، فالقول قوله مع اليمين،
لقوله (عليه السلام) " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " ثم نقل عن الأولين
الاحتجاج على ما ذهبوا إليه ببطلان الأمانة بالخيانة، فلم يكن قوله مقبولا في
القيمة.
ثم رده بأنه لا يلزم من بطلان الأمانة خروجه عن حكم المنكر، وهو جيد،
وحاصله أن قبول قوله بيمينه إنما هو من حيث كونه منكرا وهذا حكم المنكر
شرعا لا من حيث كونه أمينا حتى يتجه منعه بالخيانة والله سبحانه العالم.
وسابعها - ما لو اختلفا في التفريط فالمشهور أن القول قول المستعير بيمينه

(1) الوسائل ج 18 ص 170 ح 1 باختلاف ما والمستدرك ج 3 ص 199.
527

مع عدم البينة، وهو قول الشيخ وابن البراج، وابن حمزة وأبي الصلاح، وابن
إدريس، وعليه المتأخرون.
وظاهر كلام المفيد وسلار على ما نقل عنهما في المختلف أن القول قول
صاحب العارية بيمينه، ولا ريب في ضعفه، لأن المستعير منكر، فالقول قوله
بيمينه، وعلى المدعي البينة، وهو ظاهر، وثامنها: ما لو اختلفا فقال المالك:
غصبتنيها، وقال المتصرف لا أعرتنيها، فالمشهور أن القول قول المالك مع يمينه،
وهو مذهب ابن إدريس، والعلامة في جملة من كتبه، والشيخ في كتاب المزارعة
من المبسوط، وقال في الخلاف وكتاب العارية من المبسوط: إن القول قول
الآخر، قال: إذا اختلفا فقال المالك: غصبتنيها وقال الراكب: أعرتنيها قدم
قول الراكب، لأصالة براءة الذمة، والمالك يدعي الضمان للدابة ولزوم الأجرة
إن كان ركبها، والوجه في القول الأول على ما ذكره في التذكرة ما تقدم من
أصالة تبعية المنافع للأعيان في التملك، فالقول قول من يدعيها مع اليمين وعدم
البينة، لأن المتصرف يدعي انتقال المنفعة إليه بالإعارة وبرائة ذمته من التصرف
في مال الغير، فعليه البينة وعلى هذا فبعد حلف المالك يستحق لما مضي من المدة،
فيرجع الدابة مع الأجرة هذا إذا مضت مدة لمثلها أجرة، ولو لم تمض مدة والعين
باقية، فإن هذه الدعوى لا ثمرة لها، بل يرد المتصرف العين إلى مالكها، ولو تلفت
العين في تلك المدة التي مضت، فالكلام في الأجرة يبني على الخلاف المتقدم،
وأما القيمة، فإن كانت العارية التي يدعيها المتصرف مضمونة، فهو يعترف في
القيمة فيلزمه أداءها.
قال في التذكرة: ويحكم فيها بقول المتصرف، لأصالة براءة ذمته من
الزائد عن القيمة وقت التلف إن أوجبنا على الغاصب أعلى القيم " وإن كانت
العارية غير مضمونة، قال في التذكرة: فإن القول قول المالك في عدم الإعارة "
وقول المتصرف في عدم الغصب، لئلا يضمن ضمان الغصب، ثم يثبت على المتصرف
528

بعد حلف الراكب على نفي الإعارة قيمتها وقت التلف انتهى، والله سبحانه العالم.
وتاسعها - ما لو ادعي الراكب الإجارة، والمالك العارية المضمونة بعد تلف
العين، وقبل مضي مدة لها أجرة، قال في المبسوط: القول قول الراكب مع يمينه،
لأن صاحبها يدعي ضمانا في العارية، فعليه البينة والأصل براءة الراكب.
وقال في المختلف: الأقرب أن القول قول المالك، لأن الأصل تضمين مال
الغير، لقوله (عليه السلام) (1) " على اليد ما أخذت " وأنت خبير بما في هذه الفروع من
الاشكال لخلوها من النص الذي هو العمدة في الاستدلال، وعدم صحة بناء الأحكام
على هذه التعليلات التي يتداولونها في هذا المجال، سيما مع تصادمها وتضادها
كما عرفت، والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12
529

كتاب الإجارة
والبحث فيه في مطالب أربعة الأول: في الإجارة والعقد، وما يترتب عليه
والكلام في ذلك يقع في مواضع: الأول الإجارة ثابتة بالنص كتابا وسنة،
واجماع علماء الخاصة والعامة، قال الله عز وجل (1) " فإن أرضعن لكم فآتوهن
أجورهن " وقال (2) " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " وقال تعالى (3) " قالت
إحديهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " " قال إني أريد
أن أنكحك أحدي ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج " الآية.
وأما السنة فمستفيضة كما ستأتيك بذلك الأخبار.
ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (4) عن محمد بن سنان عن أبي الحسن (عليه السلام)
" قال: سألته عن الإجارة فقال: صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته، وقد آجر
موسى بن عمران (عليه السلام) نفسه، واشترط فقال: إن شئت ثمانيا وإن شئت عشرا
فأنزل الله فيه " أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك (5) " وروي

(1) سورة الطلاق الآية 6.
(2) سورة الكهف الآية 77.
(3) سورة القصص الآية 26.
(4) الكافي ج 5 ص 90 ح 2، الفقيه ج 3 ص 106، ح 90 التهذيب ج 6
ص 353 ح 124، الوسائل ج 12 ص 176 ح 2.
(5) سورة القصص الآية 28.
530

الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول (1) عن الصادق (عليه السلام) " أنه سأل عن معايش
العباد وساق الخبر إلى أن قال: وتفصيل الإجارات فإجارة الانسان نفسه إلى
أجرة إلى آخره، وقد تقدم الخبر بتمامه في المقدم - الثالثة فيما يكتسب به من
المقدمات المذكورة في صدر كتاب التجارة (2) والمفهوم من جملة من الأخبار
كراهة إجارة الانسان نفسه لأنه يحظر على نفسه الرزق، فروى في الكافي عن
المفضل بن عمر (3) قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من آجر نفسه فقد حظر
على نفسه الرزق " قال في الكافي (4) وفي رواية أخرى وكيف لا يحظره وما أصاب فيه
فهو لربه الذي آجره وروى في الفقيه عن عبد الله بن محمد الجعفي (5) " عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من آجر نفسه فقد حظر عليها الرزق وكيف لا يحظره "
الحديث كما تقدم.
وروى المشايخ الثلاثة عن عمار الساباطي (6) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
في الرجل يتجر فإن هو آجر نفسه أعطى ما يصيب في تجارته، فقال: لا يؤاجر
نفسه، ولكن يسترزق الله عز وجل ويتجر، فإنه إذا آجر نفسه حظر على نفسه
الرزق " وفي الفقيه " أعطى أكثر مما يصيب من تجارته ".
والشيخ جمع بين هذه الأخبار، وخبر إجارة موسى (عليه السلام) نفسه بحمل المنع على
الكراهة، واستبعده في الوافي بالنسبة إلى النبيين المذكورين (صلوات الله على نبينا
وآله وعليهما) قال: والأولى أن يحمل المنع على ما إذا استغرقت أوقات المؤجر كلها
بحيث لم يبق لنفسه منها شئ كما دلت عليه الرواية الأخيرة من الحديث الأول.

(1) تحف العقول ص 248 ط نجف، الوسائل ج 12 ص 56 في أواسط ح 1 و ج 13
ص 242 ح 1.
(2) ج 18 ص 70.
(3) الكافي ج 5 ص 90 ح 1، الوسائل ج 13 ص 243 ح 1 و 2.
(4) الكافي ج 5 ص 90 ح 1، الوسائل ج 13 ص 243 ح 1 و 2.
(5) الفقيه ج 3 ص 107 ح 92، الوسائل ج 12 ص 176 ح 4.
(6) الفقيه ج 3 ص 107 ح 91، الكافي ج 5 ص 90 ح 3، التهذيب ج 6
ص 353 ح 123، الوسائل ج 12 ص 176 ح 3.
531

وأما إذا كانت بتعيين العمل دون الوقت كله فلا كراهة فيها كيف؟ وكان
مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) يواجر نفسه للعمل ليهودي وغيره في معرض طلب
الرزق، كما ورد في عدة أخبار، إنتهى وهو جيد.
الثاني: قد عرف بعض الأصحاب الإجارة بأنها عقد ثمرته تمليك المنفعة
بعوض معلوم، وعرفها آخر بأنها عبارة عن تمليك المنفعة الخاصة بعوض معلوم،
ومرجعه إلى أنها عبارة عن نفس العقد الذي ثمرته ذلك أو عبارة من التمليك الذي
هو الثمرة، والبحث في ذلك لا ثمرة له بعد ظهور المراد، بقي الكلام في أن المشهور
بين الأصحاب هو أنه لما كانت من العقود اللازمة وجب انحصار ألفاظها في الألفاظ
المنقولة شرعا المعهودة لغة، مثل آجر تك في الإيجاب، وأكريتك وفي معناه
استكريت وتكاريت، ومنه أخذ المكاري، لأنه يكري دابته، أو نفسه، وكذا
يشترط فيه ما يشترط في غيره من العقود اللازمة من العربية حتى في الاعراب والبناء
ووقوع القبول على الفور، ونحو ذلك مما تقدم في كتاب البيع.
وقد تقدم ثمة ما في ذلك من البحث وأنه لا دليل شرعا على أزيد من الألفاظ
الدالة على الرضا من الجانبين بتلك المعاملة كيف اتفق في هذا الموضع وغيره،
وبذلك صرح جملة من محققي متأخري المتأخرين.
وأما لزوم العقد فلا اشكال فيه للأدلة العامة في الوفاء بالعقود والشروط
وخصوص ما رواه في الكافي عن علي بن يقطين (1) في الصحيح " قال: سألته يعني
أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يكتري السفينة سنة أو أقل أو أكثر قال: الكري لازم
إلى الوقت الذي اكتراه إليه والخيار في أخذ الكري إلى ربها إن شاء أخذ وإن شاء
ترك " وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن سهل " قال: سألت

(1) الكافي ج 5 ص 292 ح 1، التهذيب ج 7 ص 209 ح 2، الوسائل ج 13
ص 249 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 292 ح 2، التهذيب ج 7 ص 210 ح 3، الوسائل المصدر
532

أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن الرجل يتكارى من الرجل البيت والسفينة سنة أو أقل
أو أكثر قال: كراه لازم إلى الوقت الذي تكاراه إليه " الحديث كما تقدم
وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (1) " قال: سألت
أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يتكارى عن الرجل البيت والسفينة " مثل الحديثين
المتقدمين، ثم إنهم بناء على ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط ألفاظ مخصوصة
جوزوا ذلك أيضا بلفظ ملكتك إذا أضيف إلى المنفعة، وذلك لأن التمليك يفيد
نقل ما تعلق به، فلو قال: ملكتك هذه الدار أفاد نقل عينها.
مع أن المقصود من الإجارة هو تمليك المنفعة مع بقاء العين علي ملك
صاحبها، وحينئذ فإذا أريد بهذا اللفظ الإجارة تعين إضافته إلى المنفعة، قالوا:
وكذا تصح الإجارة بلفظ أعرتك حيث إن الإجارة مخصوصة بالمنفعة، فتصح
لو قال: أعرتك هذه الدار سنة بكذا وكذا.
وبالجملة فإنه لما كانت الإعارة لا تقتضي ملك العين، وإنما تفيد التسلط على
المنفعة كان اطلاقها بمنزلة تمليك المنفعة، فتصح إقامتها مقام لفظ الإجارة بغير إضافته
إلى المنافع، ويشكل بأن الإعارة وإن تعلقت بالمنافع لا بالعين إلا أنها إنما تفيد
الإباحة، والمطلوب في الإجارة تمليك المنفعة، والعوض لا مدخل له في ماهيتها
بخلاف التمليك، فإنه يجامع العوض، وارتكاب التجوز في مثل ذلك خروج عما
قرروه من قواعدهم في العقود اللازمة، كذا أورده في المسالك.
واختلفوا فيما لو قال: بعتك هذه الدار وقصد الإجارة، أو قال: بعتك
سكناها سنة بكذا، فالمشهور بل ظاهر التذكرة دعوى الاجماع عليه حيث نسبه
إلى علمائنا هو البطلان، وعلل ذلك باختصاص البيع ينقل الأعيان والمنافع تابعة
لها فلا يثمر الملك لو تجوز به في نقل المنافع مفردة وإن نوى الإجارة.
وفي التحرير جعل المنع أقرب وهو يؤذن بالخلاف، وتردد في الشرايع

(1) التهذيب ج 7 ص 209 ح 2، الوسائل ج 13 ص 249 ح 1.
533

ومنشأ التردد مما تقدم، ومن أنه بالتصريح بإرادة نقل المنفعة مع أن البيع يفيد
نقلها أيضا مع الأعيان وإن كان بالتبع ناسب أن يقوم مقام الإجارة إذا قصدها.
وظاهر المحقق الأردبيلي هنا بناء على القول بالاكتفاء بكل ما دل على المراد
من الألفاظ والتراضي به، كما قدمنا ذكره، حيث إنه ممن اختار ذلك القول
بالجواز في العارية، وفي البيع على الوجه المذكور، حيث قال في العارية - بعد
الإشارة إلى ما قدمنا نقله عن المسالك من الاشكال - ما لفظه: ولا يبعد اخراجها
عن ظاهرها بما يخرجها عنه صريحا مثل أن يقول: أعرتك هذه الدار سنة بكذا،
غايته أن يكون مجازا بقرينة ظاهرة بل صريحة، بحيث لا يحتمل غير المجاز ولا مانع
منه لغة ولا عرفا ولا شرعا كما في لفظة ملكتك.
نعم لو ثبت كون صيغة الإجارة متلقاة من الشرع وليس هذه منها لصح عدم
الانعقاد بها، ولا يكفي مجرد كونه عقدا لازما، ودعوى أن التجوز بمثل هذا
يخرجه عن كونه لازما كما قاله في شرح الشرايع، وقال: بالنسبة إلى البيع،
وقد مر ما يفهم البحث منه في عدم انعقادها بنحو البيع، مثل بعتك هذه الدار
أو منفعتها سنة بكذا، وأنه فهم الاجماع من التذكرة، فإن كان اجماعا فلا كلام
وإلا فالظاهر أن لا مانع من الانعقاد إذا علم القصد، فإن الظاهر أنه يكفي مع
صلاحية اللفظ في الجملة، وإن كان موضوعا متعارفا في الأصل لنقل الأعيان،
وهو وجه التردد في الشرايع، انتهى.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار الواردة في هذا المقام زيادة على ما
قدمناه في كتاب البيع مما يدل على سعة الدائرة في العقود وأنها ليست على ما ذكروه
من الشروط والقيود ما رواه في الكافي عن زرارة (1) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
الرجل يأتي الرجل فيقول: اكتب لي بدراهم فيقول له: آخذ منك وأكتب لك
بين يديك قال: فقال: لا بأس " الحديث.

(1) الكافي ج 5 ص 288 ح 3، التهذيب ج 7 ص 213 ح 16، الوسائل
ج 13 ص 251 ح 1.
534

وما رواه في الفقيه عن محمد بن الحسن الصفار (1) في الصحيح " أنه كتب
إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) يقول: رجل يبدرق القوافل من غير أمر السلطان
في موضع مخيف ويشارطونه على شئ مسمى، أله أن يأخذ منهم أم لا؟ فوقع (عليه السلام)
إذا واجر نفسه بشئ معروف أخذ حقه انشاء الله ".
وما رواه عن محمد بن عيسى اليقطيني (2) " أنه كتب إلى أبي محمد الحسن
بن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) في رجل دفع ابنه إلى رجل وسلمه منه سنة بأجرة
معلومة ليخيط له، ثم جاء رجل آخر فقال له. سلم ابنك مني سنة بزيادة، هل
له الخيار في ذلك؟ وهل يجوز له أن ينفسخ ما وافق عليه الأول أم لا؟ فكتب (عليه السلام)
يجب عليه الوفاء للأول ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف.
وفي هذا الخبر دلالة على لزوم الإجارة كما تقدم ذكره، وظاهر هذه الأخبار
كما ترى وقوع الإجارة فيما تضمنته من غير عقد، ولا ايجاب ولا قبول غير مجرد
التراضي الواقع بينهما بهذه الألفاظ.
وما رواه في الفقيه عن أبان عن إسماعيل (3) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
استأجر من رجل أرضا فقال آجرنيها بكذا وكذا إن زرعتها أو لم أزرعها أعطيك
ذلك فلم يزرع الرجل قال: له أن يأخذه بماله، إن شاء ترك وإن شاء لم يترك ".
وما رواه في الكافي عن أبان عن إسماعيل بن الفضل (4) مثله، وما رواه في
الكافي عن أبي حمزة (5) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يكتري الدابة
فيقول اكتريتها منك إلى مكان كذا وكذا، فإن جاوزته فلك كذا وكذا زيادة
ويسمى ذلك؟ قال: لا بأس به كله ".

(1) الفقيه ج 3 ص 106 ح 88 و 89، الوسائل ج 13 ص 254 باب 14 وباب 15.
(2) الفقيه ج 3 ص 106 ح 88 و 89، الوسائل ج 13 ص 254 باب 14 وباب 15.
(3) الفقيه ج 3 ص 155 ح 5 ص 265 ح 7، الوسائل ج 13 ص 258 ح 1.
(4) الفقيه ج 3 ص 155 ح 5 ص 265 ح 7، الوسائل ج 13 ص 258 ح 1.
(5) الكافي ج 5 ص 289 ح 2، الوسائل ج 13 ص 249 ح 1.
535

وهذان الخبران وإن اشتملا على العقد إلا أنه في عكس القاعدة المقررة
عندهم حيث إن الإيجاب فيهما إنما وقع ممن وظيفته القبول، والقبول ممن وظيفته
الإيجاب مع عدم ذكر لفظة تدل على القبول، وإنما ظاهرهما كون القبول وقع
بمجرد الرضا من غير لفظة، وهو أبلغ في الرد لما قالوه، ومن ذلك يعلم ما ذكرناه
من اتساع الدائرة في العقود، والله سبحانه العالم.
الثالث: قد عرفت مما قدمناه من الأخبار أن الإجارة من العقود اللازمة
وعليه اتفاق كلمة الأصحاب، وحينئذ فلا تبطل إلا بالتقايل أو أحد الأسباب الموجبة
للفسخ، مثل أن يتعذر الانتفاع بالعين المستأجرة لغصبها، أو انهدامها، أو مرض
الأجير كما تقدم في مكاتبة اليقطيني ونحو ذلك مما سيأتي انشاء الله تعالى.
ولا تبطل بالبيع إذ لا منافاة بينهما لأن الإجارة إنما تتعلق بالمنافع والبيع
إنما يتعلق بالأعيان والمنافع وإن كانت تابعة للأعيان، إلا أن المشتري متى كان عالما
بالإجارة فإنه يتعين عليه الصبر إلى انقضاء مدة الإجارة، لأنه قدم على شراء مال
مسلوب المنفعة هذه المدة وإن كان جاهلا تخير بين فسخ البيع وامضائه مسلوب المنفعة
إلى تمام المدة المعينة.
والأقرب أنه لا فرق في صحة العقد بين كون المشتري هو المستأجر أو غيره
فيجتمع عليه لو كان هو المشتري الثمن من جهة البيع، والأجرة من جهة الإجارة
وربما قيل ببطلان الإجارة وانفساخها في الصورة المذكورة، لأن تملك العين يستلزم
ملك المنافع، لأنها نماء الملك، وفيه أن ذلك مسلم فيما لو لم يسبق سبب آخر لتملكها
وهيهنا قد تقدم عقد الإجارة الموجب لملك المنفعة، والبيع إنما ورد على ملك
مسلوب المنفعة في تلك المدة بعين ما ذكرناه في صورة ما، إذا كان المشتري شخصا
آخر غير المستأجر.
وكيف كان فإن العقدين صحيحان لا منافاة بينهما، ولو ثبتت المنافاة بين
لبيع والإجارة لكان الباطل هو البيع، دون الإجارة.
والذي وقفت عليه من الأخبار الدالة علي صحة البيع هنا ما رواه في الفقيه
536

عن أبي همام (1) " أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) في رجل استأجر
ضيعة من رجل
فباع المؤاجر تلك الضيعة بحضرة المستأجر ولم ينكر المستأجر البيع وكان حاضرا
له شاهدا عليه فمات المشتري وله ورثة هل يرجع ذلك الشئ في ميراث الميت؟
أو يثبت في يد المستأجر إلى أن تنقضي إجارته؟ فكتب (عليه السلام) يثبت في يد المستأجر
إلى أن تنقضي إجارته ".
ورواه في الكافي عن أحمد بن إسحاق الرازي قال: كتب رجل إلى أبي الحسن
الثالث (عليه السلام): " رجل أستأجر " الحديث بأدنى تفاوت لا يخل بالمقصود.
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحسين بن نعيم الصحاف (2) عن
أبي الحسن موسى (عليه السلام) " قال: سألته عن رجل جعل دارا سكني لرجل أيام
حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده؟ قال: هي له ولعقبه من بعده كما شرط؟
قلت: فإن احتاج إلى بيعها يبيعها؟ قال: نعم، قلت: فينقض بيعه الدار السكنى؟
قال: لا ينقض البيع السكني، كذلك سمعت أبي يقول: قال أبو جعفر (عليه السلام):
لا ينقض البيع الإجارة ولا السكني، ولكن يبيعه على أن الذي يشتريه لا يملك
ما اشترى حتى ينقضي السكني - علي ما شرط - والإجارة، قلت: فإن رد علي
المستأجر ماله وجميع ما لزمه من المنفعة والعمارة فيما استأجره، قال: على
طيبة النفس ورضا المستأجر بذلك لا بأس ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن يونس (3) " قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام)
أسأله عن رجل تقبل من رجل أرضا أو غير ذلك سنين مسماة ثم إن المقبل أراد

(1) الفقيه ج 3 ص 160 ح 12، الكافي ج 5 ص 271 ح 3، الوسائل ج 13
ص 266 ح 1.
(2) التهذيب ج 9 ص 141 ح 40، الإستبصار ج 4 ص 104، الفقيه ج 4 ص 185
ح 1، الكافي ج 7 ص 38، الوسائل ج 13 ص 267 ح 3.
(3) الكافي ج 5 ص 270 ح 1، التهذيب ج 7 ص 208 ح 60، الوسائل ج 13
ص 267 ح 4.
537

بيع أرضه التي قبلها قبل انقضاء السنين المسماة هل للمتقبل أن يمنعه من البيع
قبل انقضاء أجله الذي تقبلها منه إليه وما يلزم المتقبل له؟ قال: فكتب: له أن
يبيع إذا اشترط على المشتري أن للمتقبل من السنين ماله ".
أقول قد اشتركت هذه الأخبار في الدلالة على صحة إجارة، وأن البيع
لا يبطلها، وأما ما اشتمل عليه الخبر الثالث من أنه يبيع بشرط أن يشترط على
المشتري منافع الأرض للمستأجر، فهو محتمل للحمل علي وجوب الأخبار أو
استحبابه، بناء علي الخلاف في وجوب الأخبار بالعيب في المبيع وقت البيع،
وعدمه، فإن قلنا بالوجوب كان الشرط هنا محمولا على الوجوب، وإلا فهو
محمول علي الاستحباب، وكيف كان فالبيع صحيح.
والخبر الثاني قد دل على أن حك السكنى كالإجارة في صحة الجميع،
وعدم المنافاة بين الأمرين، والأصحاب قد اتفقوا علي ذلك في الإجارة،
واختلفوا في السكني، والمشهور أنه لا تبطل السكني والعمري والرقبي بالبيع،
ويجب الوفاء بذلك إلى انقضاء الأجل أو العمر، ثم يرجع للمشتري واضطرب
كلام العلامة في ذلك ففي الإرشاد قطع بجواز البيع، وفي التحرير استقرب
العدم، لجهالة وقت انتفاع المشتري، وفي القواعد والمختلف والتذكرة استشكل
الحكم.
وأنت خبير بما فيه بعد ورود الخبر الصحيح المذكور، وتأيده باتفاقهم
علي ذلك في الإجارة، والجميع من باب واحد، قالوا: ولو فسخ المستأجر بعد
البيع بحدوث عيب ونحوه رجعت المنفعة إلى البايع لا إلى المشتري، ووجهه
ظاهر، لأن المشتري إنما اشترى مالا مسلوب المنفعة في تلك المدة ولا يتسلط
عليها إلا بعد انقضاء تلك المدة، وإنما هي للمستأجر مع بقاء الإجارة أو ترجع
للمالك بعد فسخها.
قالوا: ولا تبطل الإجارة بالعذر مهما كان الانتفاع الذي تضمنه عقد الإجارة
538

من اطلاق أو تعيين ممكنا، ومرجعه إلى إمكان حصول الانتفاع الذي تضمنه
العقد في الجملة، كان تخرب الدار مع بقاء الانتفاع بها في الجملة، لكن متى
كان الأمر كذلك فإنه وإن لم تبطل الإجارة إلا أن يتخير المستأجر دفعا للضرر
عليه بين الفسخ والامساك بتمام الأجرة.
قال في المسالك: ولا عبرة بامكان الانتفاع بغير العين كما لو استأجر الأرض
للزراعة ففرقت وأمكن الانتفاع بها بغيرها، فإن ذلك كتلف العين، وعدم منع
العذر - الانتفاع أعم من بقاء جميع المنفعة المشروطة وبعضها وعدم البطلان -
حاصل على التقديرين، لكن مع حصول الانتفاع ناقصا يتخير المستأجرين الفسخ
والامساك بتمام الأجرة، انتهى.
واختلفوا في بطلانها بالموت علي أقوال ثلاثة فقيل: بأنها تبطل بموت
كل من المؤجر والمستأجر ونسبه في الشرايع إلي المشهور وقيل: بأنها لا تبطل
بموت أحد منهما، وهو المشهور بين المتأخرين بل قال في المسالك أن عليه
المتأخرين أجمع.
وقيل: أنها تبطل بموت المستأجر ولا تبطل بموت المؤجر، وهذا القول
مع القول الأول للشيخ، ونقل في المختلف عن ابن البراج أنه قال: إن عمل
أكثر أصحابنا علي أن موت المستأجر هو الذي يفسخها، لا موت المؤجر، وفيه
إشارة إلى شهرة هذا القول أيضا في ذلك الوقت.
قال في الخلاف: الموت تبطل الإجارة سواء كان موت المؤجر أو المستأجر،
وفي أصحابنا من قال موت المستأجر يبطلها، وموت المؤجر لا يبطلها، وقال في
المبسوط: الموت يفسخ الإجارة سواء كان الميت المؤجر أو المستأجر عند أصحابنا
والأظهر أن موت المستأجر يبطلها، وموت المؤجر لا يبطلها، ونقل القول الأول
عن المفيد والمرتضى وابن البراج وابن حمزة وغيرهم.
احتج القائلون بالأول على ما نقله في المختلف بأن استيفاء المنفعة يتعذر
539

بالموت، لأنه استحق بالعقد استيفائها على ملك المؤجر، فإذا مات زال ملكه
عن العين، وانتقلت إلى الورثة فالمنافع تحدث على ملك الوارث، فلا يستحق
المستأجر استيفائها، لأنه ما عقد علي ملك الوارث، وإذا مات المستأجر لم يكن
ايجاب الأجرة في تركته.
ثم أجاب عن ذلك بأن المستأجر قد ملك المنافع، وملكت عليه الأجرة
كاملة وقت العقد، قال: وينتقض ما ذكره بما لو زوج أمته ثم مات.
أقول: الأظهر في النقض عليهم هو ما صرحوا به في البيع بعد الإجارة من
أن المنتقل إلي المشتري بالبيع كذلك، إنما هو العين مسلوبة المنافع في تلك المدة
وأن المنفعة بالإجارة قد خرجت عن ملك صاحب العين، وبه يظهر أنه لا معنى
لقولهم أن المنافع بعد موت المؤجر تحدث على ملك الوارث، فإنها وإن حدثت
في ملك الوارث إلا أنها قد صارت مملوكة قبل الانتقال إلى الوارث، فالوارث
هنا كالمشتري إنما انتقلت إليه العين خالية عن المنافع تلك المدة، وهكذا القول
في موت المستأجر فإن الأجرة قد صارت دينا في ذمته بعقد الإجارة مستحقة عليها
للمؤجر، فلا تبرء إلا بأدائها حيا كان أو ميتا.
واستدل القائلون بالقول الثاني بأن الإجارة من العقود اللازمة، ومن
شأنها أن لا تبطل بالموت، ولعموم (1) " الأمر بالوفاء بالعقود "، وللاستصحاب
واحتج في المختلف للقول المذكور حيث إنه المختار عنده قال: لنا إنه حق مالي
ومنفعة مقصودة يصح المعاوضة عليها وانتقالها بالميراث وشبهه، فلا يبطل بموت
صاحبها كغيرها من الحقوق، ولأن العقد وقع صحيحا ويستصحب حكمه، ولأن
العقد ناقل فيملك المستأجر المنافع به، والمؤجر مال الإجارة، فينتقل حق كل
واحد منهما إلى ورثته انتهى، وهو جيد.
ومرجع هذا الاستصحاب الذي ذكروه هنا إلى استصحاب عموم الدليل

(1) سورة المائدة الآية 1.
540

أو اطلاقه وهو مما لا شك في صحة الاستدلال به، لا الاستصحاب المتنازع فيه بأن
عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والشروط - يقتضي البقاء على حكمها
حتى يحصل المخرج عن ذلك والرافع له، وليس فليس - بل خصوص ما قدمناه
من الأخبار الدالة على لزوم الإجارة إلى الوقت المحدود.
مثل قوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن يقطين المتقدمة في الموضع الأول
" الكري لازم إلى الوقت الذي اكتراه إليه " ونحوها رواية محمد بن سهل
المتقدمة أيضا، فإن للقائل بالصحة أن يستصحب اللزوم حتى يقوم دليل على البطلان
وليس ألا ما ذكروه من تلك التعليلات العلية مما قدمنا بيانه.
ويزيد ذلك تأييدا وإن كان أخص من المدعى ما رواه في التهذيب عن
إبراهيم الهمداني (1) قال: " كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) وسألته عن امرأة آجرت
ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الإجارة في كل سنة عند انقضائها لا يقدم لها شئ
من الإجارة ما لم ينقض الوقت فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب على
ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت أم تكون الإجارة منتقضة لموت المرأة فكتب (عليه السلام)
إن كان لها وقت مسمى لم تبلغه فماتت فلورثتها تلك الإجارة وإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئا
منه فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك
الوقت انشاء الله تعالى.
وبهذا المضمون أيضا رواية أحمد بن إسحاق الأبهري (2) عن أبي الحسن (عليه السلام)
وحاصل الجواب بقرينة ما اشتمل عليه السؤال من الشرط المذكور فيه أن حكم
الورثة في الإجارة المذكورة حكم المرأة من أن لورثتها تلك الإجارة إلى الوقت
المسمى فيها، إلا أنهم إنما يعطون الأجرة بقدر ما مضى من تلك المدة عملا
بالشرط المذكور على المرأة.

(1) التهذيب ج 7 ص 207 ح 58، الكافي ج 5 ص 270 ح 2، الوسائل
ج 13 ص 268 ح 1.
(2) التهذيب ج 7 ص 208 ح 59، الوسائل ج 13 ص 269 ح 5.
541

وبالجملة فالظاهر عندي هو القول المذكور كما عرفت مضافا إلى ما
عرفت في أدلة خلافه من القصور، وقد استثنى الأصحاب من هذا الحكم بناء
على القول المذكور مواضع منها أن يشترط المؤجر على المستأجر استيفاء
المنفعة بنفسه، فإنها تبطل بموته، وهو الظاهر عملا بالشرط المذكور.
ومنها أن يكون المؤجر موقوفا عليه فيؤجر الوقف ثم يموت قبل انقضاء
المدة، فإنها تبطل بموته عندهم، فهو بمنزلة انقضاء المدة، لأنه إنما يملك
المنفعة إلى حين موته، إلا أن يكون ناظرا على الوقف، فيؤجره لمصلحة العين أو
لمصلحة البطون، فإنها لا تبطل حينئذ بموت الناظر، والصحة هنا ليست من حيث
كونه موقوفا عليه، بل من حيث كونه ناظرا.
ومنها الموصى إليه بالمنفعة مدة حياته لو آجرها مدة، وما في أثناء المدة،
فإنها تبطل بموته للعلة المذكورة في سابقه، وهو انتهاء استحقاقه، حيث أن
ملكه مقصور على مدة حياته، والله سبحانه العالم.
الرابع: من الكليات المتفق عليها بينهم أن كلما صح إعارته صح إجارته،
وقيدها بعضهم بما صح إعارته بحسب الأصل لا مطلقا، فإن المنحة وهي الشاة المعارة
للانتفاع بلبنها مما يصح إعارتها مع أنه لا يصح إجارتها، إلا أن هذا الحكم إنما
ثبت فيها على خلاف الأصل والقاعدة في العارية، كما تقدم ذكره، فإن مقتضى
قاعدة العارية أن المستفاد ما صح الانتفاع به مع بقاء عينه، والمنحة ليست كذلك،
فحكمها مخالف لقاعدة العارية فلا بد من القيد في الكلية المذكورة.
وبعضهم حمل الكلية المذكورة على ما هو الغالب، فلا يحتاج إلى القيد
المذكور، وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد - بعد قول المصنف ويصح
إجارة كل ما يصح إعارته - ما صورته: أي كل ما يصح إعارته من الأعيان للانتفاع
بالمنفعة التي لا تكون عينا يصح إجارته أيضا، لأن الإجارة تمليك المنفعة
بعوض، والعارية بدون العوض، ولا فرق بينهما فكل ما يصح فيه أحدهما يصح
542

فيه الآخر، ووجه قيد التي لا تكون عينا ظاهر، فإنه قد نقل الاجماع في التذكرة
وغيرها على عدم صحة الإعارة عندنا إذا كانت المنفعة المنتقلة مثل لبن شاة، وثمر
بستان ونحوهما، ولهذا ترك القيد فلا يرد عليه أنه يجوز إعارة الشاة ونحوها،
ولا يجوز إجارتها، ولا يحتاج إلى الجواب بأن المراد غالبا كما قاله المحقق الثاني
فتأمل، انتهى.
أقول: لا أعرف لما ذكره في هذا المقام من الكلام وجها واضحا لما تقدم في العارية
من الاتفاق على إعارة الشاة للبن وهي المنحة، وإن كان الدليل عليها لا يخلو من
القصور، وما نقله عن التذكرة وغيرها من الاجماع على عدم صحة الإعارة عندنا
إذا كانت المنفعة المنتقلة عينا مثل لبن شاة أو ثمرة بستان - لم أقف عليه في التذكرة
وإنما الذي فيها ما قدمنا نقله في كتاب العارية حيث قال يجوز إعارة الغنم للانتفاع
بلبنها وصوفها، وهي المنحة لاقتضاء الحكمة إباحته، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك
والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان إلى آخر ما قدمنا نقله عنه ثمة، وحينئذ فإذا
ثبت صحة عارية الغنم خاصة كما هو أحد القولين أو مع غيرها مما ألحق بها كما
هو القول الآخر للبن خاصة أو غيره من المنافع أيضا على الخلاف، فكيف لا يجب
التقييد في الكلية المتقدمة بأحد القيدين المتقدمين.
وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه لصحة كلامه هنا، ولعله أراد وجها لم يهتد
إليه فهمي القاصر، وإلا فإنه على ظاهره في غاية الغرابة من مثله والله سبحانه العالم.
الخامس: الظاهر أنه لا خلاف في أن العين المستأجرة كالدابة ونحوها أمانة
في يد المستأجر في ضمن المدة المستأجرة لا يضمنها إلا بالتفريط أو التعدي، والوجه
فيه أنها مقبوضة بإذن المالك، فلا يتعقبها ضمان الأعلى أحد الوجهين المذكورين.
وإنما الخلاف فيما بعد المدة إذا لم يطالب المالك بردها أو طالب ولكن
وقع التلف في أثناء الرد بحيث لم يؤخر الدفع بعد الطلب، والمشهور بين المتأخرين
العدم، لأنه لا يجب على المستأجر رد العين على المؤجر، ولا مؤنة ذلك،
543

وإنما يجب عليه التخلية بين المالك وبينها كالوديعة، لأصالة براءة ذمته من
وجوب الرد، لأنها أمانة قبل انقضاء المدة، فيستصحب ولا يجب ردها إلا بعد
المطالبة، والواجب بعدها تمكينه منها، كغيرها من الأمانات.
وخالف في ذلك جماعة منهم الشيخ وابن الجنيد، قال في المبسوط: إذا
استأجر دابة واستوفى حقه أو لم يستوف وأمسك البهيمة بعد مضي المدة فهل يصير
ضامنا لها؟ وهل يجب عليه مؤنتها ومؤنة الرد بعد الاستيفاء أم لا؟ فإنه يجب
عليه الرد بعد مضي المدة، ومؤنة الرد إذا أمسكها وقد أمكنه الرد على حسب
العادة صار ضامنا، وإنما قلنا ذلك لأن ما بعد المدة غير مأذون له في امساكها
ومن أمسك شيئا بغير إذن صاحبه وأمكنه الرد فلم يرد ضمن، وفي الناس من
قال: لا يصير ضامنا، ولا يجب عليه الرد ولا مؤنة الرد وأكثر ما يلزمه أن يرفع
يده عن البهيمة، إذا أراد صاحبها أن يسترجعها، لأنها أمانة في يده، فلم يجب
ردها مثل الوديعة.
وقال ابن إدريس: الذي يقوى في نفسي أنه لا يصير ضامنا ولا يجب عليه
الرد إلا بعد مطالبة صاحبها بالرد، لأن هذه أمانة فلا يجب ردها إلا بعد المطالبة،
مثل الوديعة، لأن الأصل براءة الذمة، فمن شغلها بشئ يحتاج إلى دليل، وما
ذكره شيخنا في نصرة مذهبه فبعيد، ويعارض بالرهن إذا قضى الراهن الدين، ولم
يطالب برد الرهن، وهلك فلا خلاف أن المرتهن لا يكون ضامنا له، وإن كان
قال: للمرتهن أمسك هذا الرهن إلى أن أسلم إليك حقك، فقد أذن له في إمساكه
هذه المدة، ولم يأذن فيما بعدها مطلقا، بل بقي على أمانته، على ما كان أولا،
وكذلك في مسئلتنا، انتهى.
وعلى هذا القول جرى أكثر من تأخر عنه منهم الفاضلان في غير المختلف
وأما فيه فإنه بعد نقل كلام الشيخ وكلام ابن إدريس قال: وفي ذلك عندي تردد.
أقول: والأظهر هو القول المشهور تمسكا بأصالة براءة الذمة حتى يقوم على
544

خلافها دليل، مؤيدا ذلك بالنظائر المذكورة في كلامهم.
بقي الكلام فيما لو اشترط عليه الضمان من غير تعد ولا تفريط، وظاهرهم
هنا هو القول ببطلان الشرط المذكور، وتردد المحقق ثم استظهر المنع، ومنشأ
التردد من عموم ما دل على وجوب الوفاء بالشروط، ومن مخالفة هذا الشرط لمقتضى
العقد، وذلك فإنه قد ثبت شرعا أن المستأجر أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط
فلا يصح هذا الشرط.
وعندي فيه نظر، قد تقدم ذكره في غير موضع، فإن أكثر الشروط
الواردة على العقود إنما هي بمنزلة الاستثناء مما دل عليه أصل العقد، بمعنى
أنه لولا ذكرها لكان مقتضى العقد دخولها كما أن مقتضى البيع اللزوم، مع أنه
يدخله شرط الفسخ بلا خلاف ولا إشكال.
وإلى ما ذكرناه من صحة الشرط المذكور مال في الكفاية، وعلله بما
يقرب مما ذكرناه، قال: ويمكن أن يقال: أدلة صحة العقود والشروط يقتضي
صحة هذا العقد والشرط، وكونه مخالفا لما ثبت شرعا ممنوع، لأن الثابت عدم
الضمان عند عدم الشرط، لا مطلقا.
وقد روى موسى بن بكر (1) عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن رجل
استأجر سفينة من ملاح فحملها طعاما واشترط عليه إن نقص الطعام فعليه، قال:
جائز، قلت: له أنه ربما زاد الطعام؟ قال: فقال يدعي الملاح أنه زاد فيه
شيئا؟ قلت: لا، قال: هو لصاحب الطعام الزيادة، وعليه النقصان إذا كان قد شرط
عليه ذلك "، انتهى وهو جيد.
ثم إنه علي تقدير بطلان الشرط، هل يبطل العقد ببطلانه، أم الشرط،
خاصة؟ قولان: قد تقدم ذكرهما في غير موضع، والمشهور الأول، وقد تقدم

(1) الكافي ج 5 ص 244 ح 4، التهذيب ج 7 ص 217 ح 31، الوسائل ج 13
ص 270 باب 27.
545

تحقيق القول في ذلك مقدمات كتاب الطهارة (1) ثم إنه علي تقدير القول الثاني
فالثابت عدم الضمان، وهو الظاهر، وعلى تقدير الأول فالظاهر أنه كذلك أيضا
لأصالة العدم، ولما تقرر في كلامهم " من أن كل ما لا يضمن بصحيحه، لا يضمن
بفاسده "، ويأتي علي ما قدمناه من صحة العقد والشرط المذكورين الضمان،
وهو ظاهر.
قالوا: ويجوز إجارة المشترك بينه وبين غيره، لعموم الأدلة ولعدم ثبوت
مانعية الشركة، لامكان تسليمه واستيفاء المنفعة بموافقة الشريك، ولو امتنع
رفع الأمر إلى الحاكم، ويكون كما لو تنازع الشريكان، والحكم اتفاقي عندهم،
كما نقله في المسالك، ولم ينقل الخلاف فيه إلا عن بعض العامة، حيث منع
الإجارة لغير الشريك والله سبحانه العالم.
السادس: المشهور بين الأصحاب بل لا يظهر فيه مخالف صحة خيار الشرط
في الإجارة، لعموم أدلة الإجارة، وعموم أدلة صحة الشروط إلا ما استثنى،
وليس هذا منه، وعدم ظهور مانع، ولا فرق بين شرطه لهما معا، أو لأحدهما،
أو لأجنبي كما تقدم في البيع، ولا فرق بين أن تكون الإجارة لعين معينة كهذه
العين، أو يكون موردها الذمة كان يستأجره لعمل مطلق غير مقيد بشخص
كبناء حائط.
وقد اتفقوا أيضا على أنه لا يد خلها خيار المجلس، لأنه مختص عندنا بالبيع،
فلا يثبت فيها مع الاطلاق، أما لو شرط فالمشهور عدم صحته، لأنه شرط مجهول،
لأن المجلس يختلف بالزيادة والنقصان، وعدم قدحه في البيع من حيث أنه ثابت
فيه بالنص.
وعن المبسوط صحة الشرط المذكور (2) " لعموم المؤمنون عند شروطهم "
ورد بما عرفت من أنه شط مجهول، فيجهل، به العقد، وثبوته في البيع مستثني
بما ذكرناه، والله سبحانه العالم.

(1) ج 1 ص 164.
(2) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
546

المطلب الثاني في الشروط
وهي ستة: الأول: كمال المتعاقدين فلا ينعقد بالصبي والمجنون، وفي
الصبي المميز بإذن الولي وجهان، بل قولان: قد تقدم تحقيق، الكلام في المقام
في البيع (1) بما لا مزيد عليه.
الثاني: معلومية الأجرة لا خلاف ولا اشكال في اشتراط كون الأجرة
معلومة في الجملة، لكن هل يكفي في المكيل والموزون الاكتفاء بمعلوميتها
بالمشاهدة، لانتفاء معظم الغرر بذلك، وأصالة الصحة أم لا بد من الكيل والوزن
في كل منهما؟ قولان: المشهور الثاني، ونقل الأول عن جماعة منهم الشيخ
والمرتضى، واستحسنه في الشرايع، واستشكل في الإرشاد في ذلك.
قال في المبسوط: مال الإجارة يصح أن يكون معلوما بالمشاهدة، وإن لم
ويعلم قدره، لأصالة الصحة، ولأن الغرر منفي لحصول العلم بالمشاهدة.
ومنع ابن إدريس من ذلك، وأجيب عنه بأن الإجارة معاملة لازمة مبنية
على المغالبة والمماكسة، فلا بد فيها من نفي الغرر عن العوضين، وقد ثبت من
الشارع اعتبار الكيل والوزن في المكيل والموزون في البيع، وعدم الاكتفاء
بالمشاهدة، فكذا في الإجارة، لاتحاد طريق المسألتين، ولنهي النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) عن الغرر مطلقا، وهو شامل لموضع النزاع ومثله المعدود،
وكذا أجاب به في المسالك، ونحوه كلام العلامة في المختلف.
وظاهر المحقق الأردبيلي هنا الميل إلى القول الأول، حيث قال بعد نقل
الخلاف في المسألة: والأصل وعموم أدلة الإجارة وعدم دليل صالح للاشتراط دليل
الأول، إذ ليس إلا الغرر المنفي في البيع على ما نقل عنه (صلى الله عليه وآله)
فلو صح كان دليلا في البيع فقط، إلا أن يعلم أن السبب هو الغرر فقط من حيث

(1) ج 18 ص 368.
(2) الدعائم ج 2 ص 19، الوسائل ج 12 ص 330 ح 3.
547

هو، وأنه الموجب للفساد، وأنه موجود فيما نحن فيه فكان دليلا للثاني أيضا
ولكن أنى باثبات ذلك كله، فإن المراد بالغرر المنفي غير واضح، وكذا عليته
فقط، ووجوده فيما نحن فيه، إذ نعلم انتفاعه في مشاهدة غير المكيل والموزون
بالاتفاق، والظاهر أنه يكفي العلم بالمشاهدة في المكيل والموزون، وفي المعدود
والمزروع بالطريق الأولى، ويؤيده بطلان القياس، وكون الإجارة غير بيع عندنا.
وقال في الشرح قلت: الحديث ورد في البيع، والإجارة محمولة عليه عند
بعض العامة، لأنها بيع، وأما عندنا فلا يأتي إلا من طريق اتحاد المسألتين إلى
آخره، وقد عرفت عدم إمكان اثبات الاتحاد بحيث لا يكون قياسا باطلا، انتهى
كلامه وهو جيد.
أقول: وقد تقدم في كتاب البيع الكلام في هذه المسألة (1) والنقل عن جملة
من الأصحاب جواز البيع مع المشاهدة في الصورة المذكورة، وأنه هو الظاهر من
أكثر الأخبار، وإذا ثبت ذلك في البيع بطل ما اعتمدوه من حمل الإجارة عليه،
وما استندوا إليه من الخبر عنه (صلى الله عليه وآله) في النهي عن بيع الغرر
لم يثبت من طرقنا، وإن كثر تناقله في كلامهم وعلى تقدير ثبوته فحمل الإجارة
على البيع في ذلك لا يخرج عن القياس، كما ذكره المحقق المذكور.
وما ذكره في المسالك من نهي النبي (صلى الله عليه وآله) من الغرر
مطلقا، وهو شامل لموضع النزاع مردود، بعدم ثبوت ما ادعاه، والمنقول
من كلام غيره إنما هو دعوى ورود الخبر في البيع لا مطلقا، مع عدم ثبوته من
طرقنا كما عرفت، وبذلك يظهر لك قوة القول الأول وإن كان الأحوط هو
المشهور والله سبحانه العالم.
الثالث: أن تكون المنفعة مملوكة، إما تبعا لملك العين بأن يكون مالكا

(1) ج 18 ص 481.
(2) الوسائل ج 12 ص 330 ح 3.
548

للأصل، فتبعه المنفعة وهو ظاهر، أو منفردة بأن يكون قد استأجره وملك
منفعته بالاستيجار من غير أن يشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه، أو عدم الإجارة
لغيره، فلو شرط عليه أحد الأمرين لم يجز عملا بالشرط، والظاهر أن المراد
بالملكية هنا صحة التصرف والسلطنة على المنفعة بوجه شرعي، لتدخل فيه
ما إذا كان وقفا بناء على القول بعدم ملك الموقوف عليه.
أقول: وقد تقدم الكلام في أن للمستأجر أن يؤجر غيره في المسألة
الرابعة من مسائل المطلب الثالث (1) وكذا في كتاب المزارعة، فإنه هو
الموضع الذي بسطنا فيه الأخبار، ونقحنا المسألة فيه كما هو حقها، واختلفوا
فيما لو آجر غير المالك شيئا مما يصح للمالك ايجاره فضولا، هل يقع باطلا أو
يقف على الإجازة؟ قولان.
قال في المسالك: ولا خصوصية لهما بالإجارة، بل الخلاف وارد في جميع
عقود الفضولي، ولكن قد يختص الإجارة عن البيع بقوة جانب البطلان، من حيث
أنه قضية عروة البارقي (2) مع النبي (صلى الله عليه وآله) في شراء الشاة
دلت على جواز بيع الفضولي وشرائه، وقد يقال: باختصاص الجواز بمورد النص،
والأقوى توقفه على الإجازة مطلقا، انتهى.
أقول: قد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسألة في البيع بما لا مزيد عليه (3)
ومن العجب العجاب أنهم يردون الأخبار المروية في أصولهم المشهورة المعول
عليها بين متقدميهم بلا خلاف، من جهة ضعف السند بهذا الاصطلاح الجديد،
ويتلقون هذا الخبر العامي بالقبول، ويفرعون عليه ما لا يخفى من الفروع،
وأعجب من ذلك أن مورد خبرهم إنما هو البيع، وهم يعدون ذلك إلى جميع
المعاوضات كما سمعت من كلامه هنا، ونحوه غيره، فأسأل الله عز وجل المسامحة

(1) ص 563.
(2) المستدرك ج 2 ص 462. ب 18 ح 1.
(3) ج 18 ص 376.
549

لنا ولهم فيما زالت فيه الأقدام.
الرابع: أن يكون المنفعة معلومة بين المتعاقدين، ليزول الغرر، إما
بتقدير العمل كخياطة هذا الثوب، وركوب الدابة إلى الموضع الفلاني، أو
بتقدير المدة كخياطة شهر، وركوب شهر، وسكنى الدار سنة ونحو ذلك.
ولو قدره بالمدة والعمل معا، قيل: يبطل وقيل: يصح، وتفصيل هذه
الجملة يقع في مقامين: الأول: ينبغي أن يعلم أن التخيير هنا بين التقدير بكل من
هذين الأمرين ليس كليا، وإنما المراد أن كل منفعة يمكن تقديرها بهما معا
فإنه يتخير بين تقديرها بأحدهما، وذلك كاستيجار الآدمي والدابة، فإنه يمكن
ضبطه بالعمل والمدة كالمثالين المتقدمين من خياطة هذا الثوب، وركوب الدابة
إلى الموضع الفلاني، ويمكن ضبطه بالزمان كخياطة شهر وركوب شهر، فبأيهما
ضبطها كان صحيحا، وما لا يمكن ضبطه وتقديره إلا بالزمان كالعقارات مثل
سكنى الدار والارضاع، فإنه لا بد من تقديره بالزمان وضبطه به، والضابط هو
العلم بالمنفعة على أحد الوجهين المذكورين.
وعن التحرير أنه جعل الضابط بالنسبة إلى ما يجوز بهما معا ما كان له
عمل بالعمل كالحيوان، وما يختص بالزمان ما ليس له عمل كالدار والأرض،
وأورد عليه بأنه ينتقض الأول باستيجار الآدمي للارضاع، فإنه عمل ولا ينضبط
إلا بالزمان.
الثاني: فيما لو قدر بهما معا بأن جمع بين تعيين العمل وضبط المدة بحيث
يتطابق بتمام العمل والمدة، ولا يزيد أحدهما على الآخر مثل أن يخيط هذا
الثوب في هذا اليوم، فإنه قيل: بالبطلان، لأنه غرور، ولأن استيفاء العمل في
تلك المدة قد لا يتفق، وإن اتفق فهو نادر، فكأنه استأجره على ما لا يقدر عليه عادة،
فإنه يمكن انتهاء العمل قبل انتهاء الزمان، وبالعكس فإن أمر بالعمل على تقدير.
الأول إلى أن ينتهي المدة لزم الزيادة على ما وقع عليه العقد بالنسبة إلى شرط
550

العمل انتهائه، كما هو المفروض، وإن لم يأمر بالعمل لزم ترك العمل في المدة
المشروطة بالنظر إلى التحديد بالزمان، وعلى تقدير الثاني وهو العكس إن أمر
بالاكمال مع انتهاء الزمان كما هو المفروض لزم العمل في غير المدة المشروطة،
وإن لم يأمر كان تاركا للعمل الذي وقع عليه العقد.
وقيل: بالصحة ونقله في المسالك عن المختلف، ولم أقف عليه في كتاب
الإجارة بعد التتبع له وكونه في غير الكتاب المذكور بعيد، قال: واختار في
المختلف الصحة محتجا بأن الغرض إنما يتعلق في ذلك غالبا بفراغ العمل، ولا ثمرة
مهمة في تطبيقه على الزمان، والفراغ أمر ممكن لا غرر فيه، فعلى هذا إن فرغ
قبل آخر الزمان ملك الأجرة، لحصول الغرض، فإن خرجت المدة قبله فللمستأجر
فسخه، فإن فسخ قبل عمل شئ فلا شئ، أو بعد شئ فأجره مثل ما عمل، وإن
اختار الامضاء لزم الاكمال خارج المدة، وليس له الفسخ.
ثم قال في المسالك: والحق أن ما ذكره إنما يتم لو لم يقصد المطابقة، وهو
خلاف موضع النزاع، فلو قصداها بطل، كما قالوه، ومع ذلك يشكل لزوم
أجرة المثل مع زيادتها على المسمى، فإن الأجير ربما يجعل التواني في العمل
وسيلة إلى الزايد، فينبغي أن يكون له أقل الأمرين من المسمى إن كان أتم العمل
وما يخصه منه على تقدير التقسيط إن لم يتم، ومن أجرة مثل ذلك العمل،
والأقوى البطلان إلا مع إرادة الظرفية المطلقة، وامكان الوقوع فيها انتهى.
وفي الشرايع قد تردد في المسألة، وهو في محله، لخلو المسألة عن
النصوص، وتصادم ما ذكر هنا من التعليلين بالخصوص، وإن كان كلام العلامة
لا يخلو من قرب، حلا للمطابقة على المبالغة، فإن الظاهر أن الغرض الكلي
من الإجارة إنما هو تحصيل المنفعة، فيكون دائرا مدار الفراغ من العمل،
والزمان لا دخل له في ذلك إلا من حيث الظرفية، فبوقوعه فيه قبل تمامه تثبت
استحقاق الأجرة، وقبل تمامه يتسلط المستأجر على الفسخ كما ذكره، هذه
551

ثمرة اشتراطه في المقام، وإرادة المطابقة حقيقة - لو فرض قصد هما كذلك، مع
كونه لا يترتب عليه أثر ولا ثمرة مهمة - نادر، والأحكام إنما تبنى على الأفراد
الغالبة المتكررة، وكيف كان فالمسألة في محل من الاشكال والله سبحانه العالم.
الخامس: أن تكون المنفعة مباحة، والكلام هنا في موضعين: الأول:
الظاهر أنه لا خلاف في تحريم إجارة البيت ليحرز فيه الخمر، والدكان ليبيع فيه
الآلة المحرمة، والأجير ليعمل له مسكرا، بمعنى أن الإجارة وقعت لهذه الغايات
أعم من أن يكون قد وقع شرطها في متن العقد أو حصل الاتفاق عليها.
ويدل عليه رواية جابر (1) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته
فيباع فيه الخمر، قال: حرام أجرته ".
إنما الخلاف هنا في موضعين أحدهما أنه هل تكون الإجارة باطلة، وكذلك
البيع، أو أنه يصح ذلك وإن أثم، فالمشهور الأول وقيل: بالثاني، ولعل وجهه
أن النهي إنما يفيد البطلان في العبادات، لا في المعاملات، وفيه أن مقتضى ما
قدمنا تحقيقه في هذه المسألة من التفصيل بأنه إن كان النهي راجعا إلى شئ من
العوضين بمعنى عدم صلاحيته للعوضية، فإن النهي يدل على البطلان، وإن كان
راجعا إلى أمر خارج كالبيع وقت النداء يوم الجمعة، فإن غاية النهي الإثم خاصة
من غير أن يبطل العقد، وما نحن فيه إنما هو من قبيل الأول بمعنى عدم صلاحية
المبيع للانتفاع والانتقال، كما في بيع الغرر ونحوه، وبه يظهر قوة قول المشهور.
وثانيهما أنه لم يقع الإجارة لهذه الغايات ولكن يعلم أن المستأجر والمشتري
يعمل ذلك، وذهب جمع منهم الشهيد في المسالك وتبعه المحقق الأردبيلي إلى أن
حكمه كالأزل في التحريم والبطلان، ولأنه معاونة على الإثم، للنهي عنه في الآية
الشريفة (2)، والخبر المتقدم وذهب جمع إلى الجواز، ويدل عليه جملة من الأخبار

(1) الكافي ج 5 ص 227 ح 8، التهذيب ج 7 ص 134 ح 64 وفيه عن صابر
الوسائل ج 12 ص 125 ح 1.
(2) سورة المائدة الآية 2.
552

التي قدمت في المقدمة الثالثة من مقدمات كتاب التجارة (1) وقد استوفينا تحقيق
الكلام فيه ثمة فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.
الثاني: اختلف الأصحاب في جواز إجارة الحائط المزوق للتنزه فجوزه
ابن إدريس، ومنعه الشيخ، وتردد في الشرايع، قال في الخلاف والمبسوط:
لا يجوز إجارة حائط مزوق أو محكم للنظر إليه والتفرج فيه والتعلم منه، لأنه
عبث، والنفع منه قبيح، وإذا لم يجز النفع فإجارته قبيحة.
وقال ابن إدريس: يجوز ذلك إذا كان فيه غرض وهو التعلم من البناء
المحكم، كما يجوز إجارة كتاب فيه خط جيد للتعلم منه، لأن فيه غرضا صحيحا
ولأنه لا مانع منه.
قال في المختلف - بعد نقل القولين وقول الشيخ -: جيد لأنها منفعة ليس
للمالك منع المنتفع بها، فلا يصح إجارتها كالاستظلال بالحائط، وفرق بين
المزوق، والكتاب، لأن في الكتاب يتصرف المستأجر بالتسليم والتقليب بخلاف
صورة النزاع، ولو فرض عدمها لم تقع الإجارة، كالحائط.
أقول: لا يخفى أن الظاهر من كلام الشيخ أن العلة في المنع إنما هي من
حيث عدم إباحة هذه المنفعة، كما هو عنوان أصل هذه المسألة فكأنه جعل التنزه
هنا من قبيل اللهو، كما يشير إليه قوله " ولأنه عبث، والنفع منه قبيح، وإذا لم
يجز النفع فإجارته قبيحة "، لا أن العلة في عدم جواز الإجارة ما ادعاه العلامة،
وعلل به قول الشيخ من أنه يمكن استيفاء هذه المنفعة بدون إذن المالك،
كالاستظلال بحائط الغير، وليس للمالك المنع من ذلك، فلا تصح إجارته، لأنه
غير مملوك للمالك.
وأنت خبير بأنه أين هذا من عبارة الشيخ المتقدمة، والعجب من المسالك حيث
تبع العلامة في ذلك فقال بعد نقل قول ابن إدريس بالجواز: ومنعه الشيخ وجماعة،
لأن ذلك يمكن استيفائه بدون إذن المالك، كما يجوز الاستظلال بحايطه بدونه انتهى.

(1) ج 18 ص 67.
553

وبالجملة فإن الظاهر من كلامي الشيخ وابن إدريس يرجع إلى الاختلاف
في كون المنفعة هنا مباحة أ غير مباحة، وابن إدريس يدعي الأول، والشيخ
الثاني، نعم هذا الاختلاف إنما يتفرع على ما إذا كان التزويق داخل البيت، كما
هو الغالب لا في جدرانه الخارجة في الطرق التي تراها جميع الناس، فينبغي تقييد محل النزاع بذلك، بناء على الغالب المتعارف، وتقييد اطلاق كلامهم بذلك،
وكيف كان فالظاهر بناء على ما قلناه ترجيح كلام ابن إدريس فإن ما ذكره
غرض صحيح لأرباب تلك الصناعة، والله سبحانه العالم.
السادس: أن يكون مقدورا على تسليمها، والكلام هنا يقع في مواضع:
الأول: لا ريب أن من شرط صحة الإجارة عندهم قدرة المؤجر على تسليم العين
المستأجرة إلى المستأجر، ولا ريب أيضا في اشتراط كون العين المستأجرة مقدورة
الانتفاع في الجملة، ليمكن الانتفاع المطلوب إذ استيجار الغير المقدورة التي
لا يمكن الانتفاع بالمطلوب منها سفه محض وغرر، ودل عليه العقل والنقل،
فلو استأجر الأخرس للتعليم أو الأعمى لحفظ متاع بالبصر بطل، لما ذكرنا.
والظاهر كما تقدم ذكره في كتاب البيع عدم اشتراط كون تسليم المنفعة مقدورا
للمؤجر، بل يكفي إمكان التسلم، فلو كان المستأجر قادرا على استيفاء المنفعة
بأخذ العين من الغاصب بنفسه. أو معاون أو قادرا على تحصيل الآبق، فالظاهر
جواز الاستيجار، ونحوه أيضا استيجار الغاصب للمغصوب الذي في يده، لحصول
التسلم، والظاهر أنه يخرج عن الضمان والغاصبية بمجرد العقد، وأن الأظهر في
الجميع صحة الإجارة، لعموم الأدلة والأصل عدم ثبوت مانع، ثم إنه فيما عدا
صورة الغصب إن بذل الجهد في تسليمه ولم يمكن التسليم بطل الإجارة، لأن لزوم
الأجرة موقوف على إمكان التسليم والتسلم، إلا أن قصر المستأجر مع القدرة،
فيلزم العقد.
بقي الكلام في إجارة الآبق مع الضميمة، وقد تردد في ذلك جملة من
554

الأصحاب، منهم الشرايع والتحرير والتذكرة، وأطلق المنع في الإرشاد وقيده
في القواعد بعدم الضميمة ومفهومه جوازها مع الضميمة، وهو اختيار الشهيد
قيل: وجه التردد في ذلك من حيث عدم القدرة على تسليم المنفعة، ومن جواز
بيعه من الضميمة للنص الدال على ذلك، فكذا إجارته بطريق أولى، لاحتمالها
من الغرر ما لا يتحمله البيع، ومن ذلك يعلم وجه المنع، كما اختاره في المسالك
والروضة ووجه الجواز كما اختاره الشهيد، قال في اللمعة: فلا يصح إجارة الآبق
وإن ضم إليه أمكن الجواز، قال الشارح: كما يجوز البيع لا بالقياس بل
لدخولها في الحكم بطريق أولى، لاحتمالها من الغرر ما لا يتحمله، وبهذا
الامكان أفتى المصنف في بعض فوايده، ووجه المنع فقد النص المجوز هنا،
فيقتصر هنا على مورده، وهو البيع ومنع الأولوية، انتهى.
أقول: والظاهر هو ما اختاره شيخنا المذكور من المنع لما ذكره، فإنه
وجيه، ومع تسليم الأولوية فإنه لا يخرج عن القياس المنهي عنه في الأخبار، كما
قدمنا تحقيقه في مقدمات الكتاب في كتابا لطهارة (1).
ثم إنه على تقدير الجواز مع الضميمة فإنهم قد صرحوا بأنه يشترط كونها
متمولة يمكن افرادها بالمعاوضة، قالوا: وفي اعتبار أفرادها بجنس ما يضم إليه
ففي البيع تفرد بالبيع، وفي الإجارة تفرد بالإجارة، أو يكفي كل واحد منهما في
كل واحد منهما، وجهان: من حصول المعنى، ومن أن الظاهر ضميمة كل شئ
إلى جنسه، وقوى الشهيد الثاني.
الثاني: لو منعه المؤجر ولم يسلمه العين المستأجرة سقطت الأجرة، وليس
للمؤجر المطالبة بها، والحال ذلك، والظاهر على هذا بطلان العقد وانفساخه
بنفسه، ويكون كتلف العين، والمبيع قبل التسليم، وهو مختار التذكرة إلا أنه
قيده بمنع المؤجر المستأجر من العين قبل أن يستوفي المنافع، وقرب ثبوت الخيار

(1) ج 1 ص 60.
555

لو استوفاها وقيل: إنه لا ينفسخ إلا بالفسخ، فيتخير بين الفسخ لتعذر حصول العين
المستأجرة، فإذا فسخ سقط المسمى إن لم يكن دفعه، وإلا استرجعه وبين الالتزام
بالعقد، ومطالبة المؤجر بعوض المنفعة، وهو أجرة مثلها، لأن المنفعة مملوكة
له، وقد منعه المؤجر منها وهي مضمونة بالأعيان، وحينئذ فيرجع بالتفاوت، وهو
زيادة أجرة المثل عن المسمى إن كان، لأن المؤجر يستحق المسمى في العقد،
والمستأجر أجرة المثل، ويرجع عليه بالزيادة عما يستحقه إن كان هناك زيادة،
وهذا القول اختيار الشرايع، والمسالك، والقواعد.
الثالث: لو منع المستأجر ظالم غير المؤجر عن الانتفاع بالعين المستأجرة،
فلا يخلو إما أن يكون قبل قبضها من المؤجر أو بعده، فههنا مقامان: الأول
أن يمنعه قبل القبض، والظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أن المستأجر
يتخير بين الفسخ فيرجع كل ملك إلى مالكه، ويرجع المستأجر بالأجرة على
المؤجر إن كان قد دفعها له، وإلا فلا، ويرجع المالك على الغاصب بأجرة المثل
كلا أو بعضا من حيث الغصب، ومنع تحصيل المنفعة من العين، وبين التزام العقد
والرضاء به فيرجع على الغاصب بالعين المنتفع بها، وبأجرة المثل في مدة المنع،
لأنه المباشر للاتلاف ظلما وعدوانا.
قيل: ولا يسقط هذا التخيير بعود العين إلى المستأجر في أثناء المدة، بل له
الفسخ في الجميع، وأخذ المسمى لفوات المجموع من حيث هو مجموع، ولأصالة
بقاء الخيار السابق، وله الامضاء واستيفاء باقي المنفعة، ومطالبة الغاصب بأجرة
مثل ما فات في يده من المنافع، وليس له الفسخ في الماضي خاصة، والرجوع
بقسطه من المسمى على المؤجر، واستيفاء الباقي من المنفعة، لاقتضائه تبعيض
الصفقة على المؤجر، وهو خلاف مقتضى العقد، بل إما أن يفسخ في الجميع، أو
يمضيه، مع احتماله، لأن فوات المنفعة في هذه الحال يقتضي الرجوع إلى
المسمى وقد حصل في البعض خاصة، فاستحق الفسخ فيه، انتهى.
556

أقول: هذا الاحتمال لا يخلو عن قرب، لأن مبني المنع في الكلام الأول
على لزوم تبعيض الصفقة على المؤجر، وهو غير جائز عندهم في جميع العقود، وفيه
ما تقدمت إليه الإشارة في غير موضع مما تقدم أنه وإن اشتهر ذلك بينهم - حتى
صار قاعدة كلية بنوا عليها في جملة من الأحكام - إلا أنا لم نقف على دليل من
الأخبار، لا في باب البيع ولا غيره ولعل ذلك من جملة ما اتفقوا فيه العامة، وإن
اتفقوا عليه وكم من مثله في قواعدهم الأصولية، كما لا يخفى على المتتبع.
الثاني أن يمنعه بعد القبض، والظاهر أنه لا خلاف في صحة العقد، وعدم
فسخه، لأن وجه التخيير في الأول، وجواز الفسخ إنما كان من حيث أن العين قبل
القبض مضمونة على المؤجر، فللمستأجر الفسخ عند تعذرها، والعلة هنا منتفية،
لأنه قد قبضها ولزمت الإجارة باجتماع شروطها، وإنما عرض بعد ذلك حيلولة
الغاصب له بمنعه عن التصرف، وعلى هذا فيرجع المستأجر على الغاصب بأجرة مثل
المنفعة الفائتة في يده لا غير، ويرجع المؤجر على المستأجر بالمسمى لو لم يقبضه سابقا
والعين مضمونة في يد الغاصب لصاحبها، قالوا: ولو كان الغاصب هو المؤجر فلا فرق.
الرابع: قالوا: إذا انهدم المسكن كان للمستأجر فسخ الإجارة إلا أن يعيده
صاحبه، ويمكنه منه، وتردد في الشرائع في ذلك.
أقول: ظاهر هذا الكلام أن العقد لا ينفسخ بنفسه، ولو أدى الانهدام إلي
عدم الانتفاع بالمسكن بالكلية، وبه صرح المحقق الأردبيلي أيضا فقال بعد ذكر
عبارة المصنف المشتملة على مثل هذا الاجمال أيضا ما لفظه: أي لو انهدم المسكن
المستأجر بحيث لا يمكن الانتفاع به أو انقض ونص نقصانا لو كان قبل العقد
لم يرغب في الإجارة عرفا بالأجرة المقررة لم ينفسخ، بل للمستأجر فسخ العقد،
والرجوع إلى المالك بعد الفسخ بمقدار حصة الباقي من أجرة المدة، إلا أن يعيد
المالك المسكن إلى أصله إلى آخره، وصريح كلام شيخنا في المسالك تقييد هذا
الاطلاق بما لو لم يؤد الانهدام إلى فوات الانتفاع بالكلية، أو أنه يمكن زوال المانع
557

وإلا انفسخ العقد بنفسه، قال بعد ذكر المصنف الحكم كما نقلناه عنهم: ومقتضى
جواز الفسخ أن العقد لا ينفسخ بنفسه، فلا بد من تقييده بامكان إزالة المانع، أو
بقاء أصل الانتفاع فلو انتفيا معا انفسخت الإجارة، لتعذر المستأجر عليه انتهى.
إلا أن يحمل اطلاق كلام المحقق المتقدم ذكره على إمكان إزالة المانع فلا
تنافي حينئذ، وله البقاء على العقد وعدم الفسخ لو لم ينفسخ العقد بنفسه، وتلزمه
الأجرة ووجه الفسخ - على تقدير خروج السكنى عن الانتفاع المراد منه عرفا
ظاهر، إلا أن يكون سبب ذلك من المستأجر، وحصول الضرر من جهته، لأن الأجرة
إنما بذلت واستحقت في مقابلة الانتفاع، فإذا فات في الزمان المقرر فلا أجرة إلا أن
يكون ذلك من المستأجر كما عرفت، والمراد بإعادته المستثناة من الخيار يعني الإعادة
بسرعة على وجه لا يفوت به شئ من المنافع، ووجه التردد هنا على تقدير إعادته
سريعا من زوال المانع بإعادته سريعا مع عدم ذهاب شئ من المنافع، ومن
ثبوت الخيار بالانهدام، فيستصحب حيث لم يدل دليل على سقوطه بالإعادة،
وهو ظاهر اختياره في المسالك، أقول: لم أقف في هذا المقام على نص والله
سبحانه العالم.
المطلب الثالث في الأحكام
وفيه مسائل: الأولى: قد صرحوا بأن الأجير الخاص وهو الذي يستأجر
مدة معينة للعمل بنفسه أو يستأجر عملا معينا مع تعيين أول زمانه، بحيث لا يتوانى
في فعله، حتى يفرغ منه لا يجوز له العمل لغير من استأجره إلا بإذنه، والأجير
المشترك وهو الذي يستأجر لعمل مجرد عن المباشرة - مع تعيين المدة -، أو
عن المدة مع تعيين المباشرة، - أو مجردا عنهما يجوز له ذلك.
أقول: والأولى في التعبير عن الأول بالمقيد، عوض الخاص، وعن الثاني
بالمطلق عوض المشترك، كما لا يخفى.
558

وكيف كان فتفصيل هذا الآجال يقع في مقامين: الأول: في الأجير الخاص
وقد عرفت تفسيره، والوجه في عدم جواز عمله - لغير من استأجره إلا بالإذن -
أنه متى وقعت الإجارة على أحد الوجهين المذكورين، فإن منفعته المطلوبة قد صارت
ملكا للمستأجر، فلا يجوز له صرف عمله الذي استأجر عليه، ولا صرف زمانه
المستأجر فيه في عمل ينافي ما استؤجر عليه، وأما لو لم يناف ما استؤجر عليه
كالتعليم والتعلم والعقد ونحو ذلك حال الاشتغال بالخياطة المستأجر عليها مثلا:
فالأقرب الجواز، كما اختاره بعض محققي متأخري المتأخرين.
قال في المسالك: وهل يجوز عمله في الوقت المعين عملا لا ينافي حق المستأجر
كايقاع عقد ونحوه في حال اشتغاله، أو تردده في الطريق بحيث لا ينافيه وجهان:
من شهادة الحال بالإذن في مثل ذلك، والنهي عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه.
أقول: لا يخفى أنه وإن كان لا خلاف ولا اشكال في النهي عن التصرف في
ملك الغير إلا بإذنه، إلا أن اجراء ذلك فيما نحن فيه ممنوع، لأن مقتضى الإجارة
اشتغال الذمة بأداء العمل المستأجر عليه، والحال أنه لا خلاف ولا اشكال في براءة
الذمة بأدائه على هذا الوجه، حيث أن المفروض عدم المنافاة، وإذا ثبت براءة
الذمة من العمل المذكور، فلا يضر هذا التصرف بوجه من الوجوه، واللازم
مما ذكروه - لو تم - المنع من كلامه مع الغير مطلقا، وكذا نظره لغيره،
وبطلانه أو ضح من أن يخفى والظاهر أن له في الصورة المذكورة العمل فيما لم
تجر العادة بوجوب العمل فيه للمستأجر كالليل، لكن يشترط أن لا يؤدي إلى
ضعف العمل نهارا، وكما أنه لا يجوز له العمل بما ينافي العمل للمستأجر عليه،
كذلك لا يجوز للغير استعماله في المنافي.
والذي حضرني من الأخبار في المقام ما رواه في الكافي في الموثق عن إسحاق
بن عمار (1) " قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يستأجر الرجل بأجرة معلومة

(1) الكافي ج 5 ص 287 ح 1، التهذيب ج 7 ص 213 ح 17، الوسائل ج 13
ص 250 ح 1.
559

فيبعثه في ضيعة فيعطيه رجل آخر دراهم ويقول: اشتر بها كذا وكذا وما ربحت
بيني وبينك، فقال إذا أذن له الذي استأجره فليس به بأس ".
وهي دالة بالمفهوم على ثبوت البأس مع عدم الإذن، والظاهر أن المراد
به التحريم، ويحمل الخبر على الأجير الخاص كما هو ظاهر الكلام، وبه استدل
في المفاتيح على الحكم المذكور.
الثاني: في الأجير المشترك وقد عرفت تعرفه ورجوعه إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الاستيجار على عمل مجرد عن المباشرة مع تعيين المدة، كأن يستأجره
على تحصيل الخياطة بنفسه أو غيره يوما.
الثاني: أن يستأجره على عمل مجرد عن المدة مع تعيين المباشرة، كأن
يستأجره ليخيط له ثوبا بنفسه، من غير أن يقيده بمدة.
والثالث: أن يكون مجردا عنهما كان يستأجره على تحصيل خياطة ثوب
بنفسه أو غيره من غير تقييد بزمان، وهذا يجوز له العمل لغير من استأجره،
لأن مقتضى الاستيجار هنا بجميع أقسامه الثلاثة أنه يجب عليه أن يعمل ذلك
العمل بنفسه أو غيره أي زمان أراد، ولم يملك المستأجر عمله ومنفعته على وجه
لا يجوز له العمل لغيره، كما في الأول، بل له عليه ذلك العمل مطلقا، إلا أن
يكون ثمة قرينة تدل على كونه في زمان خاص كالحج، فإنه يصير من قبيل
الأجير الخاص، أو قلنا بوجوب العمل بعد الفراغ من العقد، كما نقل عن شيخنا
الشهيد، فإنه نقل عنه في بعض تحقيقاته أن الاطلاق في كل الإجارات يقتضي
التعجيل والمبادرة إلى الفعل، وعلى هذا يقع التنافي بينه وبين عمل آخر في
صورة اعتبار المباشرة، وفرع عليه منع صحة إجارة الثانية في الصورة المذكورة.
والظاهر ضعف القول المذكور، ولعدم وضوح الدليل عليه لا من الأخبار
ولا من الاعتبار قال في المسالك: ونعم ما قال: واعلم أن الشهيد حكم في بعض
تحقيقاته بأن الاطلاق في كل الإجارات يقتضي التعجيل، وأنه تجب المبادرة إلى
560

ذلك الفعل، فإن كان مجردا عن المدة خاصة فبنفسه، وإلا تخير بينه وبين غيره،
فيقع التنافي بينه وبين عمل آخر في صورة المباشرة، وفرع عليه منع صحة
الإجارة الثانية في صورة التجرد عن المدة مع المباشرة، كما منع في الأجير الخاص،
وما تقدم في الإجارة للحج مؤيد لذلك، فإنهم حكموا بعدم صحة الإجارة الثانية
مع اتحاد زمان الايقاع نصا أو حكما كما لو أطلق فيهما أو عين في أحدهما
بالسنة الأولى، وأطلق في الأخرى، ولا ريب أن ما ذكره أحوط، وإن كان
وجهه غير ظاهر، لعدم دليل يدل على الفورية، وعموم الأمر بالايفاء بالعقود
ونحوه لا يدل بمطلقه على الفور عندهم، وعند غيرهم من المحققين، سلمنا لكن
الأمر بالشئ إنما يقتضي النهي عن ضده العام، وهو الأمر الكلي لا الأفراد الخاصة،
سلمنا لكن النهي في غير العبادات لا يدل على الفساد عندهم، والاسناد إلى ما ذكر
من الحج ليس بحجة بمجرده، ويتفرع على ذلك وجوب مبادرة أجير الصلاة إلى
القضاء بحسب الامكان وعدم جواز إجارة نفسه ثانيا قبل الاتمام، وأما تخصيص
الوجوب بصلوات مخصوصة وأيام معينة فهو من الهذيانات البادرة والتحكمات
الفاسدة، انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى والله سبحانه العالم.
الثانية: لا خلاف ولا اشكال في أنه تملك الأجرة بنفس العقد، لاقتضاء
صحة المعاوضة نقل الملك في كل من العوضين من أحدهما إلى الآخر، كما في
البيع وسائر عقود المعاوضات اللازمة، والإجارة منها، لكن لا يجب تسليم الأجرة
إلا بتسليم العين المستأجرة إن كانت الإجارة على عين، أو تمام العمل إن كانت
الإجارة على عمل، ولا يجوز تأخيرها مع الطلب، والحال كذلك، ومما يدل عليه
بالنسبة إلى تمام العمل ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن هشام بن الحكم (1)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في الجمال والأجير قال: لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته ".
وعن شعيب (2) قال تكارينا لأبي عبد الله (عليه السلام) قوما يعملون في بستان له،

(1) الكافي ج 5 ص 289 ح 2 و 3، التهذيب ج 7 ص 211 ح 11 و 12 الوسائل ح 13 ص 246 ح 1 و 2.
(2) الكافي ج 5 ص 289 ح 2 و 3، التهذيب ج 7 ص 211 ح 11 و 12 الوسائل ح 13 ص 246 ح 1 و 2.
561

وكان أجلهم إلى العصر فلما فرغوا قال لمعتب: أعطهم أجورهم قبل أن يجف
عرقهم ".
والظاهر أن ذكر جفاف العرق كناية عن السرعة في الاعطاء وبالجملة فإن
الأجرة تتعلق بذمة المستأجر بمجرد العقد، ولكن لا يجب التسليم إلا بعد أحد
الأمرين المذكورين، وأما قولهم يجب تسليم الإجارة مع الاطلاق، فالظاهر
أن المراد به أول وقت وجوب الدفع، الذي هو عبارة عن تسليم العين، أو الفراغ
من العمل.
قال في المسالك - بعد قول المصنف ويجب تعجيل ها مع الاطلاق ومع شرط
التعجيل ما صورته -: المراد بتعجيلها مع الاطلاق في أول أوقات وجوب دفعها،
وهو تمام العمل، وتسليم العين المؤجرة، لأن بتسليم أحد العوضين تسلط على
المطالبة بالأجرة بمقتضى المعاوضة الموجبة للملك، ثم إنه على تقدير ما ذكرنا
من أنه لا يجب التسليم إلا بعد أحد الأمرين المذكورين، قالوا: لو كان المستأجر
وصيا لم يجزله التسليم قبل ذلك إلا مع الإذن صريحا أو بشاهد الحال، ولو فرض
توقف العمل على الأجرة كالحج مثلا وامتنع المستأجر من التسليم والظاهر كما
استظهره في المسالك أيضا جواز الفسخ، ولو شرط التعجيل في الأجرة لم يزد على
ما اقتضاه الاطلاق كما عرفت من أنه يجب التعجيل مع الاطلاق.
نعم يفيد ذلك تأكيدا ويتفرع عليه تسلط المؤجر على الفسخ لو شرط ذلك
في مدة مضبوطة، فأخل به، ونحوه لو شرط القبض قبل العمل، أو تسليم العين
المؤجرة، فإنه يصح عملا لعموم أدلة لزوم الشروط في العقود اللازمة، ويتسلط
على الفسخ مع الاطلاق به كما في غيره، وقد تقدم الكلام في ذلك في كتاب البيع،
وتقدم القول بعدم تسلطه على الفسخ، بل الواجب رفع الأمر إلى الحاكم، وجبره
على القيام بالشرط، فليرجع في تحقيق ذلك من أحب الوقوف على الخلاف في
المسألة إلى ما قدمناه ثمة (1).

(1) ج 19 ص 34.
562

ولو شرط التأجيل في الأجرة صح أيضا بشرط ضبط المدة وكذا لو شرطها
نجوما بأن يدفع العين أو يعمل العمل ولا يطالب بالأجرة إلى الأجل المعين، أو
يقسطها فيجعل لكل أجل قسطا معلوما منها، فإنه لا مانع من ذلك عملا بعموم
الأدلة، وعدم ظهور المانع، وكذا لا فرق بين الإجارة الواردة على عين معينة،
أو الإجارة المطلقة الواردة على ما في الذمة، ولا خلاف عندنا في شئ من هذه الأحكام، والله سبحانه العالم.
الثالثة: قالوا: لو وجد بالأجرة عيبا سابقا على وقت القبض، فإن كان
الأجرة مطلقة وهي المضمونة تخير بين الفسخ وأخذ العوض وإن كانت معينة تخير
بين الفسخ والأرش، وعلل الأول بأن المطلق يتعين بتعيين المالك، وقبض المستحق
كالزكاة فحينئذ له الفسخ، لكون المعينة معيبة، وله الابدال بالصحيح الذي هو
مقتضى العقد، وهو المشار إليه بالعوض.
والتحقيق ما ذكره جملة من محققي المتأخرين أن مقتضى الاطلاق الحمل
على الصحيح، وهو أمر كلي لا ينحصر في المدفوع، ودعوى تعينه بما ذكر ممنوع،
وقضية ذلك حينئذ أنه لا فسخ هنا، وإنما له العوض، نعم لو تعذر العوض توجه
الفسخ، وتخير بينه وبين الرضا بالمعيب مع الأرش عوض ما فات بالعيب لتعين
المدفوع إليه، من حيث تعذر عوضه، كما هو الحكم في الثاني وهو ما إذا كانت
معينة، فإنه يتخير كما قدمنا نقله عنهم بين الفسخ والرضا به مع الأرش، من حيث
أن تعينه مانع من البدل، كما تقدم في كتاب البيع، ودليله ظاهر مما تقدم في
بيع المعيب (1) إلا أن لقائل أن يقول: باختصاص هذا الحكم بالبيع، كما هو
مورد الدليل.
وظاهر هم أنه لا دليل هنا على ما ذكروه إلا الحمل على البيع، وفيه ما لا
يخفى، فمن الجائز هنا انحصار الحكم في الفسخ خاصة، وإلى هذا يميل كلام

(1) ج 19 ص 79.
563

المحقق الأردبيلي حيث قال - بعد قول المصنف وإذا كانت معينة له الفسخ أو
الأرش -: كان دليله ظاهر مما تقدم في بيع المعيب، أو يمكن اختصاص البيع
بالحكم لدليله، ويكون هنا الفسخ فقط، بل ويمكن الانفساخ أيضا، لعدم وقوع
الرضاء به، انتهى وهو جيد والله سبحانه العالم.
الرابعة: الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو استأجر دارا أو دابة أو غيرهما من
الأعيان فإن له أن يؤجرها على غيره إذا لم يشترط عليه المالك استيفاء المنفعة
بنفسه، ونقل الاجماع في التذكرة عليه، وقيده جملة من الأصحاب منهم العلامة
والمحقق الشيخ علي وغيرهم، بأنه لا يسلم العين إلى المستأجر الثاني إلا بإذن المالك،
وإلا لكان ضامنا لها، واعترضه المحقق الأردبيلي فقال: ما عرفت دليله، والظاهر
عدم الاشتراط، وعدم الضمان بدونه، للأصل وللإذن بالاستيجار.
وقد سبقه إلى ذلك شيخنا الشهيد على ما نقل عنه في المسالك، فإنه قوى
الجواز من غير ضمان، قال: لأن القبض من ضروريات الإجارة للعين، وقد حكم
بجوازها والإذن في الشئ إذن في لوازمه، ورد بمنع كون القبض من لوازمها
لامكان استيفاء المنفعة بدونه، أقول: الأظهر في الاستدلال على ذلك هو الاستناد
إلى الأخبار الدالة على جواز الإجارة ممن استأجر وقد تقدمت في كتاب المزارعة،
فإن اطلاقها ظاهر في عدم هذا الاشتراط، وتقييدها بما ذكروه يحتاج إلى دليل
واضح، وليس فليس.
ويدل على ذلك خصوص ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر (1)
عن أخيه " قال: سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال:
إن كان اشترط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها، وإن لم يسم فليس عليه شئ ".
وإلى هذا القول مال أيضا في المسالك استنادا إلي الصحيحة المذكورة، وحينئذ
فله أن يؤجرها بأقل مما استأجر أو ما ساواه بلا خلاف.

(1) الكافي ج 5 ص 291 ح 7، التهذيب ج 7 ص 215 ح 24، الوسائل ج 13
ص 258 ح 6.
564

وإنما الخلاف في جواز الإجارة بالأكثر فالمشهور ذلك، قال بعض محققي
متأخري المتأخرين والأصل القاعدة وأدلة جوازها تقتضي جوازها بأكثر من
الأجرة ولو كان بجنسها أيضا وإن لم يحدث حدثا من عمارة وشبهها، انتهى.
ونقل جملة من المتأخرين الخلاف هنا عن الشيخ في المسكن والأجير والخان
قال في التذكرة: قال الشيخ: لا يجوز أن يؤجر المسكن ولا الخان ولا الأجير بأكثر
مما استأجره إلا أن يؤجر بغير جنس الأجرة أو يحدث ما يقابل التفاوت، وكذا لو
سكن بعض المالك لم يجز أن يؤجر الباقي وعلى هذا النهج كلام المحقق وغيره، والمفهوم
من كلام المختلف أن موضع الخلاف أعم من هذه المذكورات، قال في الكتاب المذكور:
قال الشيخان: إذا استأجر شيئا لم يجز أن يؤجره بأكثر مما استأجره به إلا أن
يحدث فيه حدثا من مصلحة ونفع إذا اتفق الجنس، وبه قال المرتضى ظاهرا، انتهى.
وقد تقدم تحقيق الكلام في المقام بما لا يحوم حوله نقض ولا ابرام في كتاب
المزارعة، (1) وإن كان محله إنما هو هذا الكتاب، إلا أنه جرى القلم به ثمة
استطرادا فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.
الخامسة: المشهور بين الأصحاب أنه لو استأجره ليحمل عليه متاعا إلى
موضع معين بأجرة في وقت معين فإن قصر عنه نقص من أجرته شيئا جاز، ولو
شرط سقوط الأجرة إن لم يوصله فيه لم يجز وكان له أجرة المثل، قال الشيخ في
النهاية: من اكترى من غيره دابة على أن يحمل له متاعا إلى موضع بعينه في مدة
من الزمان، فإن لم يفعل ذلك نقص من أجرته كان ذلك جائزا ما لم يحط بجميع
الأجرة، وإن أحاط الشرط بجميع الأجرة كان الشرط باطلا، ولزمه أجرة المثل
ونحوه كلام ابن الجنيد، وكلام ابن البراج وغيرهما إلا أن ظاهر كلام ابن الجنيد
أنه متى أحاط الشرط بالأجرة كملا وجب القضاء بالصلح فلا تسقط الأجرة كلها
ولا بأخذها جميعا، وظاهر العلامة في المختلف - ونقل عن ابنه فخر المحققين أيضا

(1) ج 21 ص
565

بطلان العقد، لبطلان الشرط، فتجب أجرة المثل سواء أوصله في المعين أم غيره،
وسواء أحاط بالأجرة أم لا، ولا يخفى ما فيه، فإنه اجتهاد في مقابلة النص، كما
سيظهر لك انشاء الله تعالى.
وقال ابن إدريس: والأولى عندي أن العقد صحيح، والشرط باطل، لأن
الله تعالى قال (1) " أوفوا بالعقود " وهذا عقد فيحتاج في فسخه إلى دليل،
والشرط إذا انضم إلي عقد شرعي صح العقد، وبطل الشرط، إذا كان غير شرعي
وأيضا لا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة متواترة ولا اجماع منعقد، ولم يورد
أحد من أصحابنا هذه المسألة إلا شيخنا في النهاية، لا أنها تضمنت التواتر وغيره.
أقول: ما ذكره ابن إدريس جيد على أصله الغير الأصيل، والذي يدل
على ما ذكره الشيخ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (2)
قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إني كنت عند قاض من قضاة المدينة فأتاه رجلان
فقال أحدهما: إني اكتريت من هذا دابة ليبلغني عليها من كذا وكذا إلى كذا
وكذا فلم يبلغني الموضع فقال القاضي لصاحب الدابة: بلغته إلى الموضع؟ قال:
لا قد أعيت دابتي فلم تبلغ فقال له القاضي: فليس لك كراء إذا لم تبلغه إلى الموضع
الذي اكترى دابتك إليه، قال (عليه السلام) فدعوتهما إلي فقلت للذي اكترى ليس لك
يا عبد الله أن تذهب بكراء دابة الرجل كله، وقلت للآخر: يا عبد الله ليس لك أن
تأخذ كراء دابتك كله ولكن انظر قدر ما بقي من الموضع وقدر ما ركبته فاصطلحا
عليه ففعلا ".
هذا صورة الخبر في الفقيه، وفيه برواية الكتابين الأخيرين حذف ونقصان
واخلال بالمعنى المذكور في هذا المنقول.

(1) سورة المائدة الآية 1.
(2) الفقيه ج 3 ص 20 ح 72 و 32، الكافي ج 5 ص 290 ح 4، التهذيب ج 7
ص 214 ح 23، الوسائل ج 13 ص 253 ح 1.
566

وما رواه المشايخ المذكورون أيضا في الموثق عن محمد الحلبي (1) " قال
كنت قاعدا عند قاض من القضاة، وعنده أبو جعفر (عليه السلام) جالس، فأتاه رجلان فقال
أحدهما: إني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعا إلى بعض المعادن فاشترطت
عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا، لأنها سوق أتخوف أن يفوتني، فإن
احتسبت عن ذلك حططت من الكري عن كل يوم احتبسه كذا وكذا، وأنه حبسني
عن ذلك الوقت كذا وكذا يوما فقال القاضي: هذا شرط فاسد وفه كراه، فلما
قام الرجل أقبل إلي أبو جعفر (عليه السلام) فقال: شرطه هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه ".
وأنت خبير بأن الرواية الأولى من هاتين الروايتين وإن استدل بها الأصحاب
للشيخ كما ذكرناه، إلا أن الظاهر أنه لا دلالة فيها عند التأمل، إذ غاية ما تدل
عليه أنه إذا شرط عليه أن يوافي به إلى موضع معين في يوم معين صح ذلك، فلو لم
يفعل وجب الصلح باسقاط بعض الأجرة بنسبة ما تركه من الموضع ولم يبلغه فيه،
ولا دلالة فيها على أجرة المثل أيضا نعم الرواية لا ثانية ظاهرة الدلالة على المطلوب.
وأما ما يظهر من المسالك - وقبله الشيخ المحقق الشيخ علي من الحكم ببطلان
الإجارة هنا، قال في المسالك بعد ذكر المصنف الحكم المذكور كما قدمنا ذكره
عن الأصحاب: هذا قول الأكثر، ومستنده روايتان صحيحة وموثقة عن محمد بن
مسلم والحلبي عن الباقر (عليه السلام) ويشكل بعدم تعيين الأجرة لاختلافهما على التقديرين
كما لو باعه بثمنين على تقديرين، ومن ثم ذهب جماعة إلى البطلان ويمكن حمل
الأخبار على الجعالة إلى آخر كلامه - ففيه أن عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود
ووجوب الوفاء بالشروط كتابا وسنة مما تقضي بالصحة فبهذا العقد، وما ادعاه من
البطلان بهذه الجهالة لا دليل عليه، بل الدليل واضح في خلافه كالخبر المذكور،
ومثله صحيحة أبي حمزة (1) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يكتري

(1) الكافي ج 5 ص 290 ح 5، التهذيب ج 7 ص 214 ح 22، الفقيه ج 3
ص 22 ح 3273، الوسائل ج 13 ص 253 ح 2.
(1) الكافي ج 5 ص 289 ح 2، التهذيب ج 7 ص 214 ح 20، الوسائل ج 13
ص 249 ح 1.
567

الدابة فيقول: اكتريتها منك إلى مكان كذا وكذا فإن جاوزته فلك كذا وكذا
زيادة وسمى ذلك قال: لا بأس به كله " وهي مع صحتها صريحة في عدم اشتراط
ما ادعاه من العلم، وعدم الضرر بمثل هذه الجهالة، وتمسكه في البطلان بما لو باعه
بثمنين على تقديرين مردود، بأنه وإن قيل: بالبطلان في ذلك إلا أن مقتضى الأخبار
الصحة كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع، وهو مؤيد لما ذكرناه هنا وبه يظهر أن ما ذكراه
من التنزيل على الجعالة لا موجب له، ولا ضرورة تدعو إليه، على أنه لا معنى لقوله (عليه السلام)
في الرواية " ما لم يحط بجميع كراه " إذ الظاهر كما ذكره بعض المحققين هو صحة
هذا الشرط في الجعالة، ولو كانت جعالة لم يتجه هذا الاستثناء، ويؤيد ما ذكرناه
أيضا ما صرح به جملة منهم من الصحة في قولهم إن خطته روميا فلك كذا، وإن
خطته فارسيا فلك كذا وقولهم إن عملت هذا العمل اليوم فلك درهمان، وإن
عملته في غد فلك درهم، كما سيأتي تحقيق ذلك انشاء الله تعالى.
وبالجملة فإن كلا من الفعلين المردد بينهما في هذه المواضع المعدودة،
معلوم، وأجرته معلومة، والواقع لا يخلو منهما، فلا مانع من الصحة، والمعلومية
على هذا الوجه كافية، بمقتضى ما ذكرناه من الأخبار في البيع، والإجارة، ودعوى
الزيادة على ذلك بحيث يحكم بالبطلان مع عدمها يتوقف على الدليل، وليس
فليس والله سبحانه العالم.
السادسة: اختلف الأصحاب فيما لو قال: آجرتك كل شهر بكذا فقيل:
بالبطلان مطلقا لجهالة العوضين المقتضية للغرر إذ لا يلزم من مقابلة جزء معلوم
من المدة بجزء معلوم من العوض كون مجموع العوضين معلومين، فإن العوض هنا
المجموع، وهو مجهول وإنما عليه أجرة المثل فيما سكن، لعدم صحة الإجارة
وإلى هذا القول ذهب ابن إدريس والمختلف والمسالك وغيرهم، وقيل: إن الإجارة
تصح في شهر وتبطل في الباقي وله أجرة المثل إن سكن وهو المنقول عن الشيخين
في المقنعة والنهاية، وبه صرح في اللمعة والشرايع وغيرهم، والوجه فيه أن الشهر
568

معلوم وكذا أجرته فلا مانع من الصحة فيه، نعم يبطل الزايد لعدم انحصاره في
وجه معين، وأن الأجرة تابعة له، ورجح المحقق الأردبيلي الصحة مطلقا في
المسألة، حيث قال بعد ذكر القولين المذكورين، وهيهنا احتمال ثالث، وهو
الصحة في كل ما جلس، واشتراط العلم بحيث يمنع من هذا غير معلوم، ولا ضرر
ولا غرر، إذ كلما جلس شهرا يعطي ذلك، ونصفه في نصفه، وعلى هذا انتهى
وهو جيد، ووجهه معلوم مما قدمناه في سابق هذه المسألة من الأخبار المذكورة،
والعلل المأثورة.
أقول: ويظهر من كلام ابن الجنيد هنا القول بذلك، حيث قال على
ما نقله في المختلف: وقال ابن الجنيد: ولا بأس أن يستأجر الدار كل شهر بكذا
وكل يوم بكذا، ولا يذكر نهاية الأجل، ولو ذكرها عشرين سنة أو أقل أو
أكثر جاز ذلك، انتهى، وهو ظاهر كما ترى في القول بالصحة، ولم أقف على
من نقله عنه في كتب الاستدلال كالمسالك وغيره ولا أشار إليه، وإنما المشهور في
كتبهم نقل القولين المذكورين.
وكيف كان فإنك قد عرفت في مواضع مما قدمناه في المباحث السابقة أن
الحق الحقيق بالاتباع وإن كان قليل الاتباع هو الوقوف في موارد الأحكام على
النصوص، وعدم الالتفات إلى ما اشتهر بينهم من القواعد التي زعموها أصولا حتى
ردوا لأجلها الأخبار، وارتكبوا فيها التأويلات البعيدة وإلى القول بالصحة هنا
أيضا يميل صاحب الكفاية، وقد عرفت قوته.
وقد اختلفوا أيضا في ما لو قال: إن عملته اليوم فلك درهمان، وإن عملته
في غد فلك درهم، فقيل: بالصحة وهو اختيار الشرايع واللمعة تبعا للخلاف،
حيث قال في الكتاب المذكور: إذا استأجره لخياطة ثوب، وقال: إن خطت
اليوم فلك درهم، وإن خطت في الغد فلك نصف درهم، صح العقد فيهما، لأن
569

الأصل جواز ذلك، والمنع يحتاج إلى دليل، وقوله (عليه السلام) (1) " المؤمنون عند
شروطهم " وفي أخبارهم ما يجري مثل هذه المسألة بعينها منصوصة (2) وهي أن
يستأجر منه دابة على أن يوافي به يوما بعينه على أجرة معينة، فإن لم يواف
به ذلك اليوم كان أجرتها أقل من ذلك، وأن هذا جائز "، وهذا مثلها بعينها
سواء، وقال في المبسوط: صح العقد فيهما، فإن خاطه في اليوم الأول كان له
الدرهم، وإن خاطه في الغد كان له أجرة المثل، وهو ما بين الدرهم والنصف،
ولا ينقص من النصف الذي سمى ولا يبلغ الدرهم، قال في المختلف: وهذا
القول الذي اختاره في المبسوط قول أبي حنيفة.
وقال ابن إدريس: يبطل العقد وتبعه عليه أكثر المتأخرين كالمحقق الثاني
والشهيد الثاني في المسالك، والعلامة في المختلف، وغيرهم اعترض في المختلف
على كلام الشيخ في الخلاف، فقال: وقول الشيخ بالأصل ممنوع، إذ يترك لقيام
معارض، وفرق بين صورة النزاع وصورة النقل، لأن صورة النقل أوجب عليه
أن يوافي به في يوم بعينه، وشرط إن لم يفعل أن ينقص من أجرته شيئا، وصورة
النزاع لم توجب شيئا معينا فتطرقت الجهالة إليه، بخلاف الأول انتهى.
وفيه أن الأصل الذي تمسك به الشيخ أصل رزين، وهو العمومات الدالة
على صحة العقود والشروط كتابا وسنة، وما عاضه به ليس إلا مجرد دعواهم
الجهالة في الصورة المذكورة، ونحوها مما تقدم، والدليل على الابطال بنحو هذه
الجهالة غير ثابت، بل المعلوم من الأدلة كما عرفت إنما هو خلافه، وما ادعاه
من الفرق أيضا بين صورة النزاع والنقل ضعيف أيضا، لأن المنازع في تلك المسألة
إنما تمسك بما تمسك به هنا من الجهالة، ورد الرواية بذلك كما عرفت، ومرجع
الرواية إلى أنه إن أدخله في ذلك الوقت المعين فله كذا، وإن تخلف عنه فله

(1) التهذيب ج 7 ص 371 ح 1503.
(2) الكافي ج 5 ص 290 ح 5، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4، ج 13
253 ح 1.
570

أنقص، وهذا عين ما نحن فيه.
نعم ما ذكره في المبسوط ضعيف بما أورده عليه في المختلف، حيث قال:
تفصيل الشيخ في المبسوط ضعيف، لأن العقد إن صح فله المسمى، وإن بطل فله
أجرة المثل، ويكون وجوده كعدمه، كسائر العقود الباطلة، انتهى.
ولو قال: إن خطته فارسيا فلك درهم، وإن خطته روميا فلك درهمان،
وفسر الرومي بدرزين، والفارسي بدرز واحد، فالخلاف المتقدم، إلا أن ابن
إدريس قال هنا بعد الحكم بالبطلان: وإن قلنا هذه جعالة كان قويا، فإذا فعل
الفعل المجعول عليه استحق الجعل، واعترضه في المختلف بأنه ليس بجيد، لتطرق
الجهالة إلى الجعل، فيجب أجرة المثل وأجاب في المسالك بأن مبنى الجعالة على
الجهالة في العمل والفعل كمن رد عبدي فله نصفه، ومن رد عبدي فله كذا،
ومحله غير معلوم، وكذا من رد عبدي من موضع كذا، فله كذا أو من موضع
كذا فله كذا مع الجهالة فيهما انتهى، والكل نفخ في غير ضرام، لما عرفت من
التحقيق في المقام والله سبحانه العالم.
السابعة: قد تقدم أنه لا خلاف ولا اشكال في أن الأجير يملك الأجرة بنفس
العقد، ولكن لا يجب التسليم إلا بتسليم العين المستأجرة إن كانت الإجارة على
عين، أو تمام العمل إن كانت على عمل، وإنما الكلام هنا في أنه هل يتوقف
استحقاق المطالبة بالأجرة بعد العمل على تسليم العين المعمول فيها كثوب يخيطه،
وشئ يصلحه، ونحو ذلك؟ وفيه أقوال ثلاثة، فقيل: بعدم التوقف وهو اختيار
الشرايع والارشاد وغيرهما، وقيل: بالتوقف على التسليم، وهو مختار المسالك
وقبله المحقق الثاني في شرح القواعد، وقيل: بالفرق بين ما إذا كان العمل في
ملك الأجير، فيتوقف على التسليم أو ملك المستأجر، فلا يتوقف لأنه بيده تبعا
للملك، وهذا القول نقله في الشرايع وعلل القول الأول بأن العمل إنما هو في ملك
المستأجر أو ما يجري مجراه، بمعنى أنه وإن وقع في ملك الأجير إلا أنه لما
571

كانت يد الأجير كيد المستأجر لأنه مأذون عنه، ووكيل عنه أو وديعة عنده فكأنه
عمل وهو في يد المستأجر، فيكون ذلك كافيا عن التسليم، ولهذا لو عمل وهو
في يد وكيله أو ودعيه فالظاهر أنه لا يحتاج إلى التسليم.
والأظهر عندي الاستناد إلى عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود، والشروط
وخصوص ما تقدم من الأخبار الدالة على أنه لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته.
وبالجملة فإن العمل هو الذي استحق به الأجير الأجرة عقلا ونقلا،
والمعاوضة إنما وقعت عليه خاصة، والعين في يد الأجير أمانة لا يضمنها إلا مع
التعدي والتفريط، فلا اعتبار بتسليمها وعدمه، سواء كان العمل في ملك
أحدهما أو لا، ولا يسقط بعدم تسليمها مع عدم ضمانها شئ من الأجرة المستحقة
بالعمل، والروايات شاهدة بذلك.
وعلل الثاني كما ذكره في المسالك حيث اختاره بأن المعاوضة، لا يجب
على أحد المعاوضين التسليم إلا مع تسليم الآخر، قال: فالأجود توقف المطالبة
بها على تسليم العين، وإن كان العمل في ملك المستأجر، وعلى هذا النهج كلام
المحقق المتقدم ذكره.
وفيه أولا أن ما ذكره من هذه القاعدة في المعاوضة وإن اشتهر في كلامهم،
إلا أنه لا دليل عليه، بل الظاهر إنما هو خلافه، كما تقدم تحقيقه في المطلب
الثالث في التسليم من الفصل الرابع في أحكام العقود من كتاب التجارة.
وثانيا ما عرفت من دليل القول الأول.
وأما القول الثالث فوجهه ظاهر مما ذكر، ولكنه مردود بما ذكرناه في
دليل القول الأول، قال في المسالك: وما نقله من الفرق قول ثالث بأنه إن كان
في ملك المستأجر لم يتوقف على تسليمه، لأنه بيده تبعا للملك، ولأنه غير مسلم
للأجير حقيقة، وإنما استعان به في شغله كما يستعين بالوكيل، وإن كان في
ملك الأجير توقف، وهو وسط أوجه، من اطلاق المصنف والأوسط الذي اخترناه
أوجه، انتهى.
572

وفيه ما عرفت وإلى ما رجحناه من القول الأول يميل كلام المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد، حيث قال بعد قول المصنف ويستحق الأجير الأجرة
بالعمل وإن كان في ملكه ما لفظه: دليل مختاره ومختار الشرايع وغيره هو
استحقاق الأجير طلب أجرته بعد اتمام العمل، وإن لم يكن سلم العين إلى
المستأجر وكان العمل في ملك المستأجر بل في بيت الأجير، ولا يتوقف على تسليم
العين، نعم يجب عليه تسليم العين عند الطلب مع عدم المانع الشرعي فلو منع كان
غاصبا ضامنا والظاهر أنه لا يستحق المستأجر المنع منه حتى يتسلم فلو منع كان
غاصبا ظالما، وهو خلاف ما مضى من أنه يملك الأجرة بمجرد العقد، إذ قد قام
الدليل العقلي والنقلي على عدم جواز منع المالك عن ملكه، واستحقاقه الطلب،
وقد خرج قبل العمل بالاجماع ونحوه، وبقي الباقي ويؤيده وجوب أجرة
العقارات قبل الاستيفاء، وعموم وخصوص أدلة لزوم الوفاء بالعقود والشروط.
والأخبار مثل حسنة هشام بن الحكم (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في الجمال
والأجير قال: لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته " وقد مرت واختار البعض مثل
المحقق الثاني والشهيد الثاني عدم استحقاقه إلا تسليم العين وإن كانت في
ملك المستأجر، إلا أن يكون في يد المستأجر لأنه لا يلزم العوض ولم يستحق طلبه
في المعاوضات إلا بالتسليم، وتسليم المنفعة إنما هو بتسليم العين كما هو في البيع.
وفيه تأمل يعلم مما تقدم، ولا نسلم الكلية، ولا نعرف له دليلا خصوصا
إذا كان العوض منفعة بعد ثبوت الملك، وفي البيع أيضا إن كان دليل فهو متبع
لذلك، وإلا نمنع هناك أيضا، كما فيما نحن فيه، على أنه قد يقال: أنه لما
كانت بيد الأجير فهي بمنزلة كونه بيد المستأجر لأنه وكيل ومأذون في وضع
اليد أو وديعة، فكأنه فعل العمل والعين في يد المستأجر انتهى، كلامه وهو كلام
شاف وإنما نقلناه بطوله لتقف على جودة محصوله، والله سبحانه العالم.

(1) الكافي ج 5 ص 289 ح 2، التهذيب ج 7 ص 211 ح 11، الوسائل
ج 13 ص 246 ح 1.
573

الثامنة: قد صرحوا بأن كل موضع يبطل فيه عقد الإجارة يجب فيه أجرة
المثل، مع استيفاء المنفعة أو بعضها، سواء زادت عن المسمى أو نقصت، وعلل ذلك
بأن مقتضى البطلان رجوع كل عوض إلى مالكه، كما إذا بطل البيع يرجع البايع
إلى مبيعه، والمشتري إلى ثمنه، ولا يملك أحد منهما مال الآخر ولا منافعه إلا
أنه في الإجارة لما كان أحد العوضين المنفعة ومع استيفائها من العين المستأجرة
يمتنع ردها وجب الرجوع إلى عوضها، وهو أجرة المثل، كما إذا تلفت إحدى
العينين في المعاوضة الباطلة، وإلا للزم الظلم على المؤجر بأخذ منفعة ماله بغير
عوض، لأنه لم يعطها مجانا وإنما أعطاها بأجرة، لكنها من حيث بطلان العقد
لم تسلم له، فلا بد من العوض، والمرجع فيه إلى العرف المعبر عنه بأجرة المثل،
سواء زادت عن المسمى أم نقصت، أم ساوت.
وهذا ظاهر مع الجهل ببطلان العقد، أما مع العلم بالبطلان وأن الأجير
لا يستحق بذلك أجرة، ولا يجب على المستأجر دفعها، فإن عمل الأجير والحال
هذه يرجع إلى التبرع بعمله، فلا يستحق شيئا بالكلية، كمن خاط ثوبا لشخص
بغير إذنه بالأجرة، فإنه لا حق له شرعا، ولو دفع المالك له شيئا، والحال هذه
فإنه يكون من قبيل سائر العطايا التي يستحق صاحبها الرجوع فيها مع بقاء
العين، وعدم الرجوع مع الاتلاف، لأنه سلطه عليه باختياره كما صرحوا به في
أمثاله.
والظاهر أن الأجير العالم كالغاصب في تصرفه، فيترتب عليه الضمان، بل
قيل: إن المفهوم من كلامهم الضمان مع الجهل أيضا، وهو مشكل من حيث
الجهل، واعتقاد صحة العقد، وأنه إنما قبض بعقد صحيح، ظاهرا - في اعتقاده
وظهور فساده لا يكون موجبا لذلك، فإنه غير مكلف بما في الواقع ونفس الأمر،
من صحة أو بطلان أو تحليل أو تحريم أو طهارة أو نجاسة أو نحو ذلك.
(ونقل في المسالك عن الشهيد: أنه استثنى عن أصل الحكم المذكور ما لو
574

كان الفساد باشتراط عدم الأجرة في العقد أو متضمنا له ما لو لم يذكره أجرة
فإنه حينئذ يقوى عدم وجوب الأجرة لدخول العامل على ذلك قال: وهو حسن،
أقول: لقائل أن يقول بالنسبة إلى الصورة الأولى وهو اشتراط عدم الأجرة كأن
يقول آجرتك نفسي لا عمل لك كذا وكذا بغير أجرة، إن مرجع هذا الكلام
إلى التبرع بالعمل، فلا أثر لقبول المستأجر ولا إذنه الذي هو شرط في صحة العقد،
وأيضا فإن هذا الشرط مناف لمقتضى معنى آجرتك كما تقدم في تعريف الإجارة
من أنها عقد ثمرته تمليك المنفعة الخاصة بعوض، أو عبارة عن نفس الثمرة،
فالأظهر أنه ليس بعقد فاسد، بل إذن في العمل بغير أجرة، وإلا فلا معنى لهذا اللفظ
بل لا يمكن أن يتلفظ به عالم، عاقل إلا أن يقصد التجوز بلفظ آجرتك، واخراجه
عن معناه، وهذا بحمد الله تعالى ظاهر.
وأما بالنسبة إلى الصورة الثانية وهي ترك ذكر الأجرة، فإنه يمكن أن
يقال: إن ترك ذكرها لا يدل على الرضا بعدمها، بل هو أعم إذ قد يكون لنسيان أو
جهل أو اعتقاد أنه معلوم مقرر أو أنه ينصرف إلى العادة والعرف، ويؤيده أن
الأصل عدم التبرع، ولهذا حكموا مع عدم صحة العقد بأجرة المثل، بناء على ذلك
حتى يعلم المخرج عنه بدليل.
وبالجملة فإن الترك أعم والعام لا دلالة على الخاص، وفي المسالك بعد أن
نقل عن الشهيد ما قدمنا ذكره قال: وربما استشكل الحكم فيما لو كانت الإجارة
متعلقة بمنفعة عين كدار مثلا، فاستوفاها المستأجر بنفسه، فإن اشتراط عدم
العوض إنما كان في العقد الفاسد الذي لا أثر لما تضمنه من التراضي فحقه وجوب
أجرة المثل، كما لو باعه على أن لا ثمن عليه.
ثم أجاب بأنه مع اشتراط عدم الأجرة في الصورة المذكورة يكون ذلك
من قبيل العارية دون عقد الإجارة، قال: فإن الإعارة لا يختص بلفظ مخصوص،
بل ولا يتوقف على لفظ مطلقا، ولا شك أن اشتراط عدم الأجرة صريح في الإذن
575

في الانتفاع بغير عوض، فلا يترتب عليه ثبوت عوض أجرة.
أقول: وهذا ايراد آخر على القول المذكور من غير الجهة التي قدمنا ذكرها،
ثم إنه قال: أما لو كان مورد الإجارة منفعة الأجير فعمل بنفسه مع فسادها،
توجه عدم استحقاقه بشئ ظاهر، لأنه متبرع بالعمل، وهو المباشر لا تلاف المنفعة،
ثم إنه أورد على ذلك ما لو كان عمله بأمر المستأجر فإنه يستحق أجرة المثل من حيث
الأمر، كما في كل أمر يعمل، نعم لو كان عمله بغير سؤال المستأجر وأمره فإنه
لا يستحق شيئا بالكلية، لتحقق التبرع حينئذ.
أقول: الظاهر أن هذا الإيراد وما اشتمل عليه من التفصيل بين أمر المستأجر
وعدمه إنما يتم في الصورة الثانية، وهو عدم ذكر الأجرة في العقد نفيا ولا اثباتا،
وإلا ففي صورة اشتراط عدم الأجرة فإنه وإن أمره المستأجر وأذن له إلا أنه لا أثر
له مع اشتراطه على نفسه عدم الأجرة الراجع إلى كونه متبرعا بالعمل كما عرفت.
ثم إنه قال في المسالك بعد ذلك: فإن قلت: أي فائدة في تسميته عقدا
فاسدا مع ثبوت هذه الأحكام وإقامته مقام العارية، قلت: فساده بالنسبة إلى الإجارة
بمعنى عدم ترتب أحكامها اللازمة لصحيح عقدها، كوجوب العمل على الأجير
ونحوه، لا مطلق الأثر، انتهى.
التاسعة: قد صرح الأصحاب بأنه يكره استعمال الأجير قبل أن يقاطعه،
والظاهر أنه لا خلاف فيه، ويدل عليه من الأخبار ما رواه في الكافي والتهذيب عن
مسعدة بن صدقة في الموثق (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: من كان يؤمن بالله تعالى
واليوم الآخر فلا يستعملن أجيرا حتى يعلمه ما أجره " الحديث.
وعن سليمان بن جعفر الجعفري في الصحيح (2) " قال: كنت مع الرضا (عليه السلام)
في بعض الحاجة وأردت أن أنصرف إلى منزلي، فقال لي: انطلق معي فبت عندي

(1) الكافي ج 5 ص 289 ح 4 و ص 288 ح 1، التهذيب ج 7 ص 211
ح 11 و ص 212 ح 12، الوسائل ج 13 ص 245 ح 1 و 2.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
576

الليلة، فانطلقت معه فدخل إلى داره مع المعتب فنظر إلى غلمانه يعملون بالطين
أوارى الدواب غير ذلك، إذا معهم أسود ليس منهم، فقال: ما هذا الرجل
معكم؟ قالوا: يعاوننا ونعطيه شيئا قال: قاطعتموه على أجرته؟ فقالوا: لا،
هو يرضى منا بما نعطيه، فأقبل عليهم يضربهم بالسوط، وغضب لذلك غضبا
شديدا فقلت: جعلت فداك لم تدخل على نفسك، فقال: إني نهيتهم عن مثل هذا
غير مرة أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه على أجرته: واعلم أنه ما من أحد
يعمل لك شيئا من غير مقاطعة ثم زدته لذلك الشئ ثلاثة أضعاف على أجرته إلا
ظن أنك نقصت أجرته فإذا قاطعته ثم أعطيته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبة
عرف ذلك لك ورأي أنك قد زدته ".
وأنت خبير بأن ظاهر هذين الخبرين إنما هو التحريم، إلا أنهم (عليهم السلام)
كثيرا ما يؤكدون في النهي عن المكروهات بما يوهم الحاقها بالمحرمات، وفي
المستحبات بما يكاد يدخلها في حيز الواجبات، وعلى هذا فربما يستفاد من
الخبر الثاني جواز الضرب على فعل المكروه، ويحتمل أن يقال: إن ذلك وإن
كان مكروها إلا أنه من حيث مخالفة أمر المولى حيث أنه (عليه السلام) نهاهم عن ذلك
مرارا كان ما فعلوه محرما، فيجوز التأديب عليه بلا إشكال.
بقي الكلام في أنه في الشرايع عد من جملة ما يكره هنا تضمينه، إلا مع
التهمة، حيث قال: ويكره أن يستعمل الأجير قبل أن يقاطعه على الأجرة، وأن
يضمن إلا مع التهمة، والأول من هذين الفردين قد عرفت الكلام فيه.
وأما الثاني فهو لا يخلو من الاجمال الموجب لتعدد الاحتمال، ولهذا قال في
المسالك: فيه تفسيرات: الأول: أن يشهد شاهدان على تفريطه، فإنه يكره
تضمينه للعين إذا لم يكن متهما.
الثاني: لو لم يقم عليه بينة، وتوجه عليه اليمين يكره تحليفه ليضمنه
كذلك.
577

الثالث. لو نكل عن اليمين المذكورة وقضيناه بالنكول حينئذ كره تضمينه
كذلك.
الرابع: على تقدير ضمانه وإن لم يفرط كما إذا كان صايغا على ما سيأتي
يكره تضمينه حينئذ مع عدم تهمته بالتقصير.
الخامس: أنه يكره له أن يشترط عليه الضمان بدون التفريط على القول
بجواز الشرط.
السادس: لو أقام المستأجر شاهدا عليه بالتفريط كره أن يحلف معه ليضمنه
مع عدم التهمة.
السابع: لو لم يقض بالنكول يكره له أن يحلف ليضمنه كذلك.
والأربعة الأول سديدة، والخامس: مبني على صحة الشرط، وقد بينا فساده
وفساد العقد به، والأخيران فيهما أن المستأجر لا يمكنه الحلف إلا مع العلم
بالسبب الذي يوجب الضمان، ومع فرضه لا يكره تضمينه، لاختصاص الكراهة
بعدم تهمته فكيف مع تبين ضمانه، انتهى.
أقول: لا يخفى أن الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل كالوجوب
والتحريم والاستحباب، ومتى ثبت للانسان حق شرعي بالبينة أو اليمين أو
النكول أو نحو ذلك لا وجه لكونه يكره له أخذه من غير دليل، يدل على ذلك
وبه يظهر ما في أكثر هذه المواضع المعدودة.
والأظهر عندي هو حمل ذلك على الصايغ والقصار ونحوهما ممن يعطى
الأجرة ليصلح فيفسد أو يتلف، فإن الروايات قد اختلف في تضمينهم مع دعوى
التلف، وعدم التفريط في الافساد فأكثر الأخبار على تضمينهم مع التفريط.
وجملة من الأخبار قد فصلت بين كونه مأمونا فلا ضمان عليه، ومتهما
فضمنه، وبعض الأخبار يدل على عدم التضمين مطلقا، وطريق الجمع بين الجميع
كراهة التضمين إلا مع التهمة، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك انشاء الله تعالى،
578

وبسط الأخبار والأقوال في المطلب الثالث في الأحكام.
وأما قوله: إن الخامس مبني على صحة الشرط، وقد بينا فساده، ففيه إنا
قد بينا صحته بما هو ظاهر للناظر، كما تقدم في الموضع الخامس من المطلب
الأول، إلا أن فيه ما عرفت من أن مجرد صحته وجوازه لا يستلزم الكراهة،
بل الأصل صحته وجوازه من غير كراهة كغيره من الأمور الجائزة المباحة حتى
يقوم دليل على الكراهة، والله سبحانه العالم.
العاشرة: قد صرحوا بأن المنفعة تملك بنفس العقد، كما تملك الأجرة،
ووجهه ظاهر مما تقدم في المسألة الثانية من مسائل هذا المطلب، من اقتضاء صحة
المعاوضة ولزومها نقل الملك في كل من العوضين من أحدهما إلى الآخر كالبيع،
وساير عقود المعاوضات اللازمة والإجارة من جملتها، فالمنفعة هنا منتقل إلى
المستأجر بنفس العقد، وإن كان إنما يستوفيها تدريجا وشيئا فشيئا وهو غير
مناف للملك، إذ لا يشترط في التمليك وجود المملوك، وملك المستأجر لها هنا
على حسب ملك المؤجر لها، فإنه لا إشكال في أنه مالك لمنفعة نفسه، وليس ذلك
إلا باعتبار صحة تصرفه فيها كتصرفه في العين بالنقل إلى غيره، فكذا المستأجر
باعتبار صحة استيفائها ونقلها إلى غيره، ونحو ذلك من لوازم الحقوق المالية.
وبالجملة فإن ملك المستأجر لها على حسب ملك المؤجر لها، ولم يخالف
في ذلك إلا بعض العامة، حيث زعم أن المستأجر لا يملك المنفعة بالعقد، لأنها
معدومة، بل يملكها على التدريج شيئا فشيئا بعد وجودها، وحدوثها على ملك
المؤجر، وجعل ملك الأجرة تابعا لملك المنفعة، فلا يملكها المؤجر إلا تدريجا
كذلك، وضعفه أظهر من أن يخفى، وكما يملك المؤجر الأجرة بمجرد العقد
كذلك يملك المستأجر المنفعة بمجرده، ولا فرق بينهما إلا بأن تسليم الأجرة
موقوف على دفع العين المستأجرة إن وقع الاستيجار على منفعة تلك العين، أو
إتمام العمل إن وقع على العمل كما تقدم، والمنفعة يجب تسليمها مع الطلب
579

بتسليم العين التي يراد الانتفاع بها إن كان كذلك، أو عمل الأجير إن كان
الاستيجار على عمله.
قيل: ويمكن جواز منع كل واحد منها عما في يد صاحبه الذي انتقل إليه
حتى يتسلم حقه، كما قيل في البيع والشراء، وهذا في غير العمل، كالعين
المستأجرة للانتفاع من دار ودابة ونحوهما، أما العمل كالخياطة فإنه يجب عليه
العمل، ولا يجب تسليم الأجرة إليه إلا بعد كماله، والفرق بينهما أن العمل
مقدور للعامل، فيعمل ثم يأخذ حقه، بخلاف المنفعة فإنها إنما تستوفي باستعمال
المستأجر مع مضي الزمان، وليس على المؤجر إلا تسليم العين وقد فعل، فيترتب
عليه وجوب دفع الأجرة، وحينئذ فيمكن ما ذكره، إلا أنك قد عرفت ما فيه
في كتاب البيع، وقد تقدمت الإشارة إليه أيضا في المسألة السابقة من مسائل
هذا المطلب.
الحادية عشر: قيل: يشترط اتصال مدة الإجارة بالعقد، فلو أطلق أو عين
شهرا متأخرا عن العقد بطل العقد، وهو منقول عن المبسوط والخلاف، وعن أبي
الصلاح متابعة الشيخ في الفرد الثاني، ونقل عن الشيخ الاحتجاج على ما ذكره
في كل من الفردين بأن عقد الإجارة حكم شرعي، ولا يثبت إلا بدلالة شرعية،
وليس على ثبوت الإجارة في الموضعين المذكورين دليل، فوجب أن لا يكون
صحيحا.
واحتج أبو الصلاح - على الموضع الذي تبع فيه الشيخ - بأن صحة الإجارة
تتوقف على التسليم.
وأجيب عن حجة الشيخ بأن الدليل موجود، وهو الأدلة العامة كتابا وسنة
على وجوب الوفاء بالعقود، والأصل، وعن حجة أبي الصلاح بالمنع من توقف
الصحة في مطلق الإجارة على التسليم، بل هو عين المتنازع، ومحل البحث سيما
مع ما عرفت من أصالة الصحة، وعموم الأدلة الدالة على الصحة حتى يقوم دليل
580

على خلاف ذلك.
وأورد على هذا القول في المسالك أيضا بأن شرط الاتصال يقتضي عدمه،
لأن كل واحد من الأزمنة التي تشتمل عليها مدة الإجارة معقود عليه، وليس
متصلا منها بالعقد، سوى الجزء الأول ومتى كان اتصال باقي الأجزاء غير شرط،
فكذا اتصال الجميع، انتهى.
وظني ضعفه، فإن الزمان المشترط في العقود المحدد عندهم بتعيين زمان
الابتداء والانتهاء أمر واحد لا تعدد فيه، واتصاله وانقطاعه إنما هو بالنظر إلى
طرفيه لا إلى أجزائه المركب منها، وإلا لم يتم وصفه بالاتصال أو الانقطاع كما
لا يخفى، وبالجملة فإني لا يظهر لي وجه صحة ما أورده، والمشهور هو الجواز مع
عدم الاتصال، وهو الأظهر لما عرفت.
أما مع الاطلاق فيبتني على ما سيأتي في القول الثاني وقيل: إن الاطلاق
يقتضي الاتصال، فلو لم يعين مبدأ اقتضى العقد كون ابتدائها متصلا بالعقد، فيكون
أولها من آخر العقد، لأنه مقتضى العرف، حتى ادعى بعضهم بأنه صار وضعا
عرفيا، فكأنه قال آجرتك شهرا يكون أوله حين الفراغ من العقد، وهو جيد
إن ثبت ما ادعوه من دلالة العرف على ما ذكروه، وإلا بطل للجهالة، وظاهر
جملة من الأصحاب كالمختلف والمسالك ذلك، وهو يؤذن بالشك في دلالة العرف
على ما ادعوه، قال في المسالك: والأقوى الجواز مع الاطلاق، إن دل العرف
على اقتضائه الاتصال، ونحوه في المختلف.
وأما القول بأن الاطلاق يقتضي الاتصال مطلقا كما يظهر من عبارتي الشرايع
والارشاد، ففيه أنه أعم من ذلك، والعام لا يدل على الخاص، إلا أن يكون هناك
قرينة على إرادته فلا نزاع.
وبالجملة فالقول بذلك على اطلاقه ضعيف، وأضعف منه دعوى الجواز مع
الاطلاق مطلقا، كما يظهر من ابن إدريس، وابن البراج، قال في المختلف:
581

قال الشيخ: إذا استأجر الدار شهرا ولم يقل من هذا الوقت وأطلق بطلت، وقال
ابن البراج وابن إدريس: بجوازه، والتحقيق أن نقول إن كان العرف في الاطلاق
يقتضي الاتصال، فالحق ما قاله ابن البراج، وإن كان لا يقتضيه فالحق ما قاله
الشيخ، لحصول الجهالة على التقدير الثاني دون الأول، انتهى وهو جيد.
واحتمل المحقق الأردبيلي في صورة الاطلاق مع عدم اقتضاء العرف الاتصال
الصحة أيضا وقال: يحتمل الصحة والاختيار إلى العامل ما لم يؤد إلى التأخير
المخل عرفا مثل أن يستأجر العمل من دون تعيين، والأصل وعموم الأدلة دليله،
ثم قال: وكذا لا يبعد البطلان مع الاطلاق، ومع اقتضائه الاتصال أو القيد إذا
كان المنفعة بعد العقد مستحقة للغير، لأنه كإجارة المستأجرة، ويحتمل في الاطلاق
كون الابتداء بعد خروج تلك المدة خصوصا مع جهل المؤجر، فينصرف كون
أولها إلى المدة التي تجوز إجارته، عملا بمقتضى عموم أدلة صحة الإجارة، وأصل
عدم اشتراط كون أولها من حين العقد، وخرج ما لم تكن تلك المدة مستحقة،
باقتضاء العرف مع الامكان، وبقي الباقي فتأمل انتهى.
أقول: هذا ملخص كلامهم في هذه المسألة وأنت خبير بأني لم أقف على نص
في هذا المقام، لا في أصل المسألة، ولا في شئ من فروعها، إلا أن الظاهر من جملة
من الروايات الواردة في نكاح المتعة، هو أن الاطلاق يقتضي الاتصال.
ففي رواية أبان بن تغلب (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) كيف أقول إذا خلوت
بها، قال تقول: أتزوجك متعة على كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله
وسلم) لا وارثة، ولا موروثة كذا وكذا يوما، وإن شئت كذا وكذا سنة بكذا
وكذا درهما، وتسمي من الأجر ما تراضيتما عليه، قليلا كان أو كثيرا فإذا قالت:
نعم فهي امرأتك، وأنت أولى الناس بها " الحديث.
وفي رواية هشام بن سالم (2) قال: قلت: كيف نتزوج المتعة قال: تقول:

(1) الكافي ج 5 ص 455 ح 3 و 5، التهذيب ج 7 ص 265 ح 70 الوسائل ج 14 ص 466 ح 1 و 3.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
582

يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا يوما بكذا وكذا درهما فإذا مضت تلك الأيام كان
طلاقها في شرطها ".
وفي معناها رواية أخرى له أيضا ونحوها روايات آخر أيضا والتقريب فيها
أنها على تعددها قد اشتركت في اطلاق العقد، وعدم ذكر الاتصال مع حكمهم (عليهم السلام)
بصحة العقد، وترتب الأحكام عليه، فلولا أن الاطلاق يقتضي الاتصال لما حكموا (عليهم السلام)
بالصحة في ذلك، سيما رواية أبان وقوله فيها فإذا قالت: نعم فهي امرأتك فإنها
صريحة في أنه بعد تمام العقد تترتب المنفعة، وحل النكاح، ومن المعلوم أن دائرة
النكاح أضيق من الإجارة، لما تكاثر في الأخبار من الحث على الاحتياط في الفروج
لما يترتب عليه من النسل إلى يوم القيامة، وهم قد اعترفوا بأن دائرة الإجارة
أوسع من البيع، فكيف النكاح، والمتعة في التحقيق من قبيل المستأجرة كما يشير
إليه جملة من أحكامها، وبه يظهر قوة ما قدمنا نقله عن الفاضلين، ويمكن حمل
كلام ابن البراج وابن إدريس عليه بأنهما إنما جوزا العقد مع الاطلاق لذلك،
وإن لم يصرحا كما صرح المحقق، وما ادعوه من الجهالة على تقدير الاطلاق ليس
في محله، وكذا ما قيل: من أنه عام والعام لا يدل على الخاص، فإن الجميع لا
تعويل عليه، بعد ما عرفت من دلالة النصوص على ما ذكرنا، ومما يؤيد القول
المشهور من الصحة لو عين شهرا متأخرا عن العقد ما ورد مثله في المتعة أيضا في
رواية بكار بن كردم (1) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يلقى المرأة
فيقول لها: زوجيني نفسك شهرا ولا يسمي الشهر بعينه، ثم يمضي فيلقاها بعد
سنين، قال، فقال له شهر إن كان سماه، وإن لم يكن سماه فلا سبيل له عليها،
وهي صريحة في المراد، والله سبحانه العالم.
الثانية عشر: إذا أسلم المؤجر العين المستأجرة للانتفاع بها ومضت مدة
يمكن الانتفاع فيها، واستيفاء المنفعة ولم ينتفع المستأجر بها لزمت الأجرة،

(1) الكافي ج 5 ص 466 ح 4، التهذيب ج 7 ص 267 ح 75.
583

للزوم العقد، وتسليم المؤجر، وإنما التقصير في ترك الانتفاع من المستأجر، ويؤيد
ذلك ما رواه في الفقيه والكافي عن إسماعيل بن الفضل (1) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل استأجر من رجل أرضا فقال آجرتها كذا وكذا على أن أزرعها فإن
لم أزرعها أعطيك ذلك، فلم يزرع الرجل فقال: له أن يأخذه بماله، إن شاء
ترك، وإن شاء لم يترك ".
قالوا: ولا فرق في ثبوت الأجرة عليه بالتسليم، ومضى المدة المذكورة بين
كون الإجارة صحيحة أو فاسدة، بناء على القاعدة المشهورة عندهم من أن كل
عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، ولكن مع الفساد يلزم أجرة المثل عما فات
من المنافع في يده.
قالوا: وفي حكم التسليم ما لو بذل العين فلم يأخذها المستأجر حتى مضت
المدة التي يمكن الاستيفاء فيها، فإنها تستقر الأجرة، إلا أنه لا بد من تقييده
بالصحيحة، والوجه فيه من حيث عدم القبض وظهور بطلان الإجارة، واستقرار
الأجرة في الصحيح أو المثل إنما يثبت من حيث صحة العقد الموجب لذلك، وهو
هنا غير حاصل قالوا وإذا استأجره لقلع ضرسه فمضت المدة التي يمكن ايقاع ذلك
فيها، فلم يقلعه المستأجر استقرت الأجرة، أما لو زال الألم عقيب العقد سقطت
الأجرة، والوجه في الأول ظاهر، لأن الأجير سلم نفسه للعمل، وامتنع المستأجر
من غير عذر، فإن الأجرة تستقر بالعقد والتمكين، والوجه في الثاني بطلان
الإجارة بالبرء وزوال الألم، لأن متعلق الإجارة الموجب للصحة هو تحصيل المنفعة
واللازم هنا إنما هو الضرر بادخال الألم المنهي عنه شرعا وعرفا، فلا يصح الاستيجار
هنا كما لا يصح الاستيجار على قطع يده من غير سبب موجب لذلك، نعم لو كان
ثمة سبب كما إذا كانت مستأكل يخاف من سريان الضرر إلى الصحيح منها، فإنه
يجوز والله سبحانه العالم.

(1) الكافي ج 5 ص 265 ح 7، الفقيه ج 3 ص 155 ح 5 مع اختلاف يسير
الوسائل ج 14 ص 490 ح 1 و ج 13 ص 258 ح 1.
584

الثالثة عشر: لو استأجر شيئا فعرض له التلف فإما أن يكون للجميع أو
البعض قبل القبض أو بعده أو لم يعرض له التلف، لكن عرض له نقصان في المنفعة
أو عرض له ما يوجب زوال المنفعة كلها.
فههنا صور: الأولى: أن تتلف العين المستأجرة لاستيفاء المنافع منها قبل
القبض، ولا اشكال في بطلان الإجارة، لأن استيفاء المنفعة أحد العوضين، فإذا
فات قبل قبضه بطل كما في البيع، فاستيفاء المنفعة هنا كالقبض في البيع، كما أن
استيفاء البعض كقبض بعض المبيع.
الثانية: إن تتلف العين بعد القبض وقبل استيفاء شئ عن المنافع، والحكم
كما تقدم من بطلان الإجارة، لفوات أحد العوضين.
الثالثة: إن يكن التلف بعد القبض واستيفاء بعض المنفعة والحكم فيها
أنه يصح فيما قبضه، ويبطل فيما بقي ومثله ما لو تجدد فسخ الإجارة والحال
كذلك، ويرجع من الأجرة ما قابل المتخلف، ويقسط المسمى على جميع المدة،
قال في المسالك: وحيث يبطل البعض يقسط المسمى على جميع المدة،
ويثبت للماضي ما قابله منها، ثم إن كانت متساوية الأجزاء فظاهر، وإلا فطريق
التقسيط أن يقوم أجرة مثل جميع المدة ثم تقوم الأجزاء السابقة على التلف وينسب
إلى المجموع فيؤخذ من المسمى بتلك النسبة.
الرابعة: أن يتلف بعض العين خاصة فالحكم في التالف كما تقدم ويتخير
عندهم في الباقي بين الفسخ لتبعيض الصفقة وبين إمساك الحصة بقسطها من الأجرة.
الخامسة: لو لم يتلف شئ منها ولكن نقصت المنفعة بحدوث عيب كان
ينقص ماء الأرض وماء الرحى أو عرجت الدابة أو مرض الأجير أو نحو ذلك،
والحكم أنه يثبت الفسخ للمستأجر كما هو المشهور.
قال ابن البراج: إذا استأجر رحى وآلتها وقل الماء إلى أن أضر ذلك
بالطحن، وهو يطحن على ذلك نظرت في الضرر، فإن كان ضررا فاحشا كان له
585

ترك الإجارة، وإن كان غير فاحش، كانت الإجارة لازمة له، قال في المختلف:
بعد نقل ذلك عنه، والأجود أن له الفسخ، سواء كان الضرر فاحشا أو غير فاحش،
لأنه يتضرر، وقد قال (عليه السلام) (1) " لا ضرر ولا ضرار " ثم إنه قال: فإن استأجر رحى
بآلتها فانكسر أحد الحجرين أو الدوارة كان له فسخ الإجارة، فإن عمل صاحب
الرحى ما انكسر من ذلك وفسد قبل الفسخ لم يكن له بعد ذلك الفسخ، ولكن
يرفع عنه من الأجير بحساب ذلك، فإن اختلفا في مبلغ العطلة كان القول قول
المستأجر إلا أن ينكر المؤجر ذلك، والأجود أن له الفسخ بتبعض الصفقة، انتهى.
السادسة: ما لو عرض له ما يوجب زوال المنفعة كما لو استأجر أرضا
للزراعة إلا أنه قد استولى عليها الماء بحيث لا ينحسر عنها مدة يمكن فيها
الزراعة، والظاهر أنه لا اشكال في بطلان الإجارة، لأن من شروط الإجارة أن يكون للعين نفع يترتب عليها، فكأنه استأجر ما لا نفع فيه، فهو تضييع للمال
ولو كانت مما ينقطع عنها الماء أحيانا، فإن علم مقدار ما ينقطع عنها الماء،
وتصلح للزراعة، فالظاهر أنه لا اشكال في الصحة، وإلا فلا للجهالة الموجبة للغرر،
والله سبحانه العالم.
الرابعة عشر: قالوا: يشترط تعيين المحمول بالمشاهدة أو الكيل أو الوزن
والمراكب والمحمل وقدر الزاد، وليس له البدل مع الفناء إلا بالشرط، ومشاهدة
الدابة المركوبة أو وصفها وتعين وقت المسير ليلا أو نهارا.
أقول: تفصيل البحث في هذه الجملة هو أن يقال، لا ريب في معرفة هذه
المذكورات وتعيينها لترتفع بذلك الجهالة الموجبة للغرر الموجب للبطلان في
العقود، فأما بالنسبة إلى المحمول على الدابة، فلا بد في اعتباره بأحد الثلاثة
المذكورة في كل ما يناسبه، إلا أن بعض محققي المتأخرين صرح بأنه لا يكفي

(1) الكافي ج 5 ص 292 ح 2، التهذيب ج 7 ص 164 ح 4، الفقيه ج 3
ص 45 ح 2، الوسائل ج 17 ص 341 ح 3،
586

ذلك على الاطلاق كما هو ظاهر كلامهم، فأوجب في المشاهد امتحانه باليد تخمينا
لوزنه إن كان في ظرف، لما في الأعيان من الاختلاف في الثقل والخفة مع التفاوت
في الحجم، وأوجب في المعتبر بأحد الأمرين الآخرين أنه لا بد من ذكر جنسه،
للاختلاف الفاحش باختلاف الأجناس، وإن اشتركت في كونها مكيلة أو موزونة
قال: فإن القطن معتبر من جهة انتفاخه ودخول الريح فيه فيزداد ثقله في الهواء
والحديد يجتمع على موضع من الحيوان، فربما عقره، وتحميل بعض الأجناس
أصعب من بعض، والحفظ في بعضها كالزجاج أصعب، وملخص الكلام في ذلك هو
أنه لما كان الضابط التوصل في معرفة المجهول إلى ما يرفع الجهالة، فلا بد من ذكر
الجنس مع التقدير بأحد الأمرين المذكورين، ليرتفع الجهالة بحذافيرها
وهو حسن.
وأما بالنسبة إلى المراكب والمحمل فللاختلاف بالثقل والخفة فلا بد في
الراكب من الاعتبار بالمشاهدة أو الوزن مع عدمها، قالوا: وفي الاكتفاء فيه
بالوصف من فخامة وضخامة وطول وقصر ونحو ذلك وجهان أجودهما ذلك مع
إفادته للوصف التام الرافع للجهالة، ولا بد في المحمل بكسر الميم الثانية كمجلس،
واحد المحامل، وهو شقان يوضعان على البعير، يجلس فيهما المتعادلان، من
الاعتبار بالمشاهدة، أو الوزن مع ذكر الطول والعرض، لاختلافها في السهولة
والصعوبة، إلا أن يكون متعارفا معلوما لا جهالة فيه فيصرف إليه الاطلاق،
وكذا الحكم أيضا في الآلات التي يصحبها المسافر، كالقربة والسفر، والإداوة
ونحو ذلك، فإنه لا يكفي مجرد ذكرها، بل لا بد من معرفة قدرها جنسها
إلا مع جريان العادة بالحمل من غير مضايقة في ذلك.
وأما بالنسبة إلى الزاد فلما عرفت أيضا فلا بد من تعيين قدره، لترتفع الجهالة
وأما أنه ليس له بدله بعد الفناء إلا مع الشرط، فإن المتبادر من الزاد هو ما
يستغني به المسافر في طريقه ويكفيه وهو قد اشترطه، والمراد بفنائه يعني بالأكل
587

المعتاد، وحينئذ لو فني والحال هذه فإنه ليس له ابداله، لأن مرجع تقصيره إلى
فعله بنفسه، أما لو كان فناه بنحو آخر كضيافة غير معتادة أو أكل غير معتاد أو
سرقة أو سقط منه في الطريق فإنهم صرحوا بأن له ابداله، تنزيلا للاطلاق على
المعتاد المتعارف، ويكون حكم البدل حكم المبدل في ذلك، هذا كله مع عدم
شرط الابدال، وإلا فلا اشكال في الابدال عملا بالشرط المذكور.
وأما بالنسبة إلى مشاهدة الدابة أو وصفها مع عدم المشاهدة فلما في عدم
ذلك من الجهالة لما علم من اختلاف الدواب في القوة والضعف والحزونة والسهولة
وزاد بعضهم أيضا اشتراط الذكورة والأنوثة إذا كانت للركوب، فإن الأنثى أسهل
والذكر أقوى، قال: ويحتمل العدم، لأن التفاوت بينهما يسير فلم يكن معتبرا
في نظر الشارع، هذا فيما لو كانت الإجارة معينة.
أما لو كانت في الذمة بمعنى أنه استأجر للحمل على دابة إلى الموضع الفلاني
فإنه لا يحتاج إلى وصف، ولا مشاهدة، بل الواجب عليه حمله، وايصاله إلى الموضع
المذكور كيف اتفق على وجه لا يتضرر به، فيضمن مع الضرر.
وأما بالنسبة إلى تعيين وقت السير، فلاختلاف الناس في ذلك الوقت الموجب
للجهالة، فإن كانت هناك عادة يبنى عليها في سلوك تلك الطريق وجب الرجوع إليها
واكتفى بها لانصراف الاطلاق إليها، وإلا وجب تعيين الوقت لما ذكرناه.
نعم يشكل التعيين إذا اختلف السير ولم يمكن التعيين إليهما كطريق الحج
فإن مقتضى تحقيق بيان السير عدم صحة الاستيجار فيها، إلا أن يستقر العادة بسير
مخصوص في تلك السنة، بحسب ما يناسبها عادة، من السير، ولهذا أنه منع في
التذكرة من الاستيجار في الطريق التي ليس لها منازل مضبوطة، إذا كانت مخوفة
لا يمكن ضبطها باختيارها، والله سبحانه العالم.
الخامسة عشر: قد صرح جملة من الأصحاب بأن كلما يتوقف عليه توفية
المنفعة فهو على المؤجر كالقتب والزمام والحزام والسرج أو البردعة في الدابة،
588

ورفع المحمل، وشد الأحمال وحطها، والقائد والسايق إن شرطه مصاحبته، والمداد
في الكتابة والخيوط في الخياطة ونحو ذلك، وعلل بتوقف المنفعة الواجبة عليه بالعقد على ذلك
فيجب من باب المقدمة، وقيل: إن الواجب على المؤجر إنما هو العمل، لأن ذلك
هو المقصود من إجارة العين، أما الأعيان فلا تدخل في مفهوم الإجارة على وجه
يجب أداءها لا جلها إلا في مواضع نادرة، ثبتت على خلاف الأصل، كالرضاع،
والاستحمام، والخيوط للخياطة، والصبغ للصباغة، والكش للتلقيح وحينئذ
فالأقوى الرجوع إلى العرف، فإن انتفى أو اضطرب فعلى المستأجر لما عرفت.
أقول: الظاهر هو التفصيل في المقام بأن يقال: إن بعض هذه الأشياء على
المؤجر بلا اشكال ولا خلاف فيما أعلم، مثل عمارة الحيطان والسقوف والأبواب
ونحو ذلك، في إجارة المساكن، ومجرى المياه ونحو ذلك في إجارة الأرضين،
والرحل والقتب ونحو ذلك مما تقدم في إجارة الدابة، وضابطه كلما جرت العادة
للتوطئة به للركوب وبعضها على المستأجر بغير خلاف يعرف، ولا اشكال يوصف
كالحبل لاستقاء الماء، والدلو والبكرة، وبعض قد وقع الخلاف فيه كالخيوط
للخياطة، والمداد للكتابة، والصبغ للصباغة، والكش للتلقيح، وقد جزم في الشرايع
بأنها على المؤجر، ومثله في اللمعة بالتقريب المتقدم، حيث قالا كلما يتوقف
عليه توفية المنفعة فعلى المؤجر، ومثل له في النهاية من ما قدمنا ذكره في صدر
المسألة، ومثل له في الشرايع بالخيوط في الخياطة والمداد في الكتابة، وظاهر
المسالك والروضة الرجوع في ذلك إلى العرف، فإن انتفى أو اضطرب فعلى المستأجر
بالتقريب المتقدم، وجزم في الشرايع بدخول المفتاح في إجارة الدار معللا له
بأن الانتفاع يتم به، وهذا منه، بناء على ما قدمنا نقله عنه من الكلية.
وفيه أن التعليل بتمامية الانتفاع لا يتم كليا لأنه قد صرح سابقا على هذا
الكلام في الشرط الرابع بأنه يلزم مؤجر الدابة كلما يحتاج إليه في إمكان الركوب
من الرحل والقتب وآلته والحزام والزمام، قال: وفي رفع المحمل وشده تردد،
589

أظهره اللزوم، وحينئذ فكيف يتم ما ذكره هنا كليا.
ويؤيده ما صرحوا به من أن المنقول لا يدخل في إجارة الثابت إلا مع العادة
أو التبعية، ولهذا قال في المسالك بناء على ما قدمنا نقله عنه: عن عدم العمل
بالكلية المذكورة، والأولى التعليل بأنه تابع للغلق المثبت، بل هو كالجزء منه،
وهذا بخلاف مفتاح القفل، فلا يجب تسليمه ولا القفل لانتفاء التبعية، انتهى.
ثم إنه قد صرح في المسالك بأنه يعتبر القائد والسائق مع العادة لهما،
أو لأحدهما، وكذا يجب إعانته على الركوب والنزول، إما برفعه إن كان يمكنه
ذلك وهو من أهله، أو ببرك الجمل إن كان عاجزا أو قادرا، ولكن لا تقتضي له
العادة بذلك، كالمرأة والشيخ الكبير والمريض، ولو كان المستأجر قويا يتمكن
من فعل ذلك بنفسه لم يجب إعانته، كل ذلك مع اشتراط المستأجر على الأجير
المصاحبة أو قضاء العادة بها، أو كانت الإجارة للركوب في الذمة.
أما لو كانت مخصوصة بدابة معينة ليذهب بها حيث شاء ولم يقض العادة
بذلك، فجميع الأفعال على الراكب، انتهى ولا بأس به والله سبحانه العالم.
السادسة عشر: لو أجر الدابة لدوران الدولاب افتقر إلى مشاهدته، أو
وصفه بما يرفع الجهالة، وكذا يشترط معرفة البئر بالمشاهدة أو الوصف إن
أمكن، وكذا لا بد من تقدير العمل بالزمان كيوم ونحوه، إلا أن يستأجر على
أن يملأ بركة معينة معلومة بالمشاهدة أو المساحة.
قالوا: ولا يكفي المشاهدة في سقي البستان عن تعيين الزمان، لحصول
الاختلاف بقرب عهده بالماء، وعدمه، وبرودة الهواء وحرارته، ولو آجر الدابة
لحرث جريب معلوم، فإن كانت الإجارة لحرث مدة كفى تعيين المدة وتقديرها،
ولا يعتبر معرفة الأرض، ولكن لا بد من تعيين الدابة المستعملة في الحرث
إما بالمشاهدة أو الوصف الرافع للجهالة، وإلا فلا بد من مشاهدة الأرض أو
وصفها.
590

وعن التذكرة: الاعتبار بالمشاهدة، ولم يكتف بالوصف محتجا بأنها
تختلف فبعضها صلب، فيصعب حرثه على البقر ومستعملها وبعضها رخو يسهل،
وبعضها فيه حجارة يتعلق بها السكة، ومثل هذا الاختلاف إنما يعرف بالمشاهدة،
دون الوصف، وأنت خبير بما فيه، فإن ما ذكره من هذه الأشياء إنما تعرف
بالوصف لا المشاهدة، لأن المشاهدة إنما تقع على ظاهر الأرض، وهذه الأشياء
إنما هي في باطنها والوصف آية عليها، لأن المالك قد يطلع من باطنها على ما
لا يظهر بالمشاهدة لظاهرها، فيصفها بذلك.
وبالجملة فإن ما ذكره من الاطلاع على هذه الأشياء لا يظهر بالمشاهدة،
وإنما يظهر بالعمل والحرث في الأرض، وهو فرع صحة الإجارة، ويمكن التوصل
إلى ذلك باختبارها بالحفر في مواضع من الأرض على وجه يرفع الغرر.
السابعة عشر: إذا استأجر دابة للسير عليها فهنا أحكام، منها: أنه لو أسرع
في السير عليها زيادة على عادة أمثالها بحسب نوعها ووصفها في تلك الطريق،
أو ضربها زيادة على العادة، أو كبحها باللجام من غير ضرورة، ضمن، لأن ذلك
تعد باعتبار حمل الاطلاق على المعتاد، وظاهر التذكرة على ما نقل عنها المنع
من الضرب مطلقا، حيث حكم بالضمان بالضرب مطلقا محتجا بأن الإذن مشروط
بالسلامة، وفيه أن مقتضى الإجارة الوقوف على العادة، وعدم حصول التعدي
إلا بتعديها، والضرب المعتاد لا يستلزم ضمانا.
والمراد بكبح الدابة باللجام جذبها به، لتقف عن السير، قال في الصحاح:
كبحت الدابة إذا جذبتها إليك باللجام، لكي تقف، ولا تجري.
ومنها أنه لو مات الدابة انفسخ العقد، إن وقع على دابة معينة، بخلاف
ما لو كان المستأجر عليه في الذمة، بمعنى كون الإجارة مطلقة كالاستيجار على
الركوب، فإنه يجب عليه ركابه على دابة غيرها إلى تمام المقصد، ولا تتعين
المطلقة بالتعيين والتسليم بحيث يكون الركوب منحصرا فيها، ولهذا يجوز
591

للمالك تبديلها.
والظاهر أن تعذر استيفاء المنفعة المشروطة على الوجه المتعارف لمرض
أو ضعف أو نحو ذلك في معنى الموت أيضا، فينفسخ الإجارة في صورة التعيين،
ويحتمل الابدال خصوصا مع التراضي، والظاهر أيضا أنه لا خصوصية للدابة في
الصورة المذكورة، بل يجري الحكم في الراكب والحمل المعين، فينفسخ العقد
بتلفهما، ومنه تلف الصبي المرتضع في صورة الاستيجار لارضاعه.
ومنها أن ظاهر كلام جملة من الأصحاب أنه لا بد من تعيين الراكب إذا
كان الاستيجار للركوب بمشاهدته أو وصفه، وعلل باختلاف الأغراض في
الراكب.
قال في التذكرة بعد أن اشترط المعرفة بالمشاهدة ونقل عن بعض الشافعية
الاكتفاء بالأوصاف الرافعة للجهالة ما صورته: والأصل في ذلك أن نقول: إذا
أمكن الوصف التام القائم مقام المشاهدة كفى ذكره عنها، وإلا فلا، ثم إنه
يجوز للمستأجر أن يركب غيره إذا كان الاستيجار للركوب من غير تخصيص
أحد بكونه هو الراكب، إلا أنهم صرحوا بأنه يشترط في الغير الذي له أن
يركبه أن يكون مساويا أو أخف، ولو كان أثقل لم يجز إلا بالإذن، وإلا كان
ضامنا فيأثم ويضمن، وكذا في صورة التخصيص بأحد، لو خالف أثم وضمن.
أقول: الحكم بما ذكروه في صورة التخصيص ظاهر للمخالفة، وأما في
صورة الاطلاق فاشتراط ما ذكروه مشكل، لصحيحة علي بن جعفر (1) عن
أخيه أبي الحسن (عليه السلام) " قال: سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت
ما عليه؟ قال: إن كان اشترط أن لا يركبها غيره، فهو ضامن لها، وإن لم
يسم فليس عليه شئ " فإنه كما ترى ظاهرة في أنه مع الاطلاق يجوز له اركاب
غيره مساويا أو أخف أو أثقل، فإن ترك الاستفصال دليل العموم في المقام، كما

(1) الكافي ج 5 ص 291 ح 7، التهذيب ج 7 ص 215 ح 24، الوسائل
ج 13 ص 255 ح 1.
592

هو متفق عليه بينهم، وهي أيضا ظاهرة في عدم ما ذكروه من اشتراط المشاهدة
أو الوصف في الراكب كما قدمنا نقله عنهم بالتقريب المذكور، والظاهر
جريان هذه الأحكام المذكورة في استيجار البيت للسكنى من اطلاق وتقييد،
وما يتفرع عليهما بتقريب ما تقدم.
ومنها أن الظاهر من كلام جملة من الأصحاب أنه يجب على المستأجر سقي
الدابة وعلفها فلو أهمل ضمن، بمعنى أن ذلك لازم له من ماله بدون الشرط
من غير أن يرجع به على المالك.
وظاهر جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الثاني في شرح
القواعد وجوب ذلك على المالك إلا مع الشرط، لأن الأصل عدم الوجوب على
غيره، ثم إن كان حاضرا معه وإلا استأذنه في الانفاق ورجع عليه أو الحاكم
مع تعذره، حسب ما تقدم في الرهن والوديعة.
و ظاهر هم الاتفاق مع عدم حضور المالك على وجوب قيام المستأجر بذلك،
لوجوب حفظ الدابة من حيث كونها نفسا محترمة، ووجوب حفظ مال الغير
إذا كان تحت يده، وإنما الخلاف في الرجوع على المالك بالتفصيل المتقدم
وعدمه، والمسألة لا يخلو من اشكال، لعدم دليل واضح من النصوص في هذه
المجال، وإن كان القول الثاني لا يخلو من رجحان لتأيده بالأصل، ويمكن أن
يستفاد ذلك من صحيحة أبي ولاد الآتية في المقام انشاء الله تعالى لقوله (1) (عليه السلام)
لما قال السائل إني قد علفته بدراهم فلي عليه علفه، فقال: (عليه السلام) لا إنك غاصب "
ومفهومه أنه لو لم يكن غاصبا فإن له طلبه من المالك في الصورة المفروضة،
لأنه أنما نفى استحقاقه للمطالبة من حيث الغصب، إلا أنه لا يخلو من خدش
أيضا أقول: والظاهر أن الكلام في نفقة الأجير كذلك، وسيأتي الكلام في ذلك
انشاء الله تعالى.

(1) الكافي ج 5 ص 290 ح 6، الوسائل ج 13 ص 255 ح 1.
593

ومنها ما إذا استأجر دابة واستوفي حقه منها وأمسكها بعد مضي المدة
فهل الواجب عليه ردها وأنه مع امساكها وعدم ردها يكون ضامنا لها و لنفقتها،
أو أنه لا يجب عليه الرد وإنما يجب عليه رفع اليد عنها إذا أراد صاحبها
استرجاعها؟ قولان: وقد مضى تحقيق الكلام في ذلك في الموضع الخامس من
المطلب الأول من هذا الكتاب.
ومنها أنه إذا استأجر دابة إلى موضع معين فتجاوز إلى ما زاد عليه فعليه
أجرة المثل في الزيادة، وضمان العين إن تلفت، والأرش إن نقصت، لأنه غاصب
وليس له الرجوع بما أنفق عليها مدة الغصب، ولو اختلفا في القيمة فالقول
قول المالك مع يمينه، أو بينته، والأصل في هذه الأحكام ما رواه في الكافي في
الصحيح عن أبي ولاد (1) " قال: اكتريت بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا
بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت
أن صاحبي توجه إلى النيل فتوجهت نحو النيل، فلما أتيت النيل خبرت أنه
قد توجه إلى بغداد، فأتبعته فلما ظفرت به وفرغت مما بيني وبينه رجعت إلى
الكوفة، وكان ذهابي ومجيئ خمسة عشر يوما فأخبرت صاحب البغل بعذري
وأردت أن أتحلل منه ما صنعت، وأرضيه فبذلت له خمسة عشر درهما فأبى أن
يقبل فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصة وأخبره الرجل، فقال لي: وما
صنعت بالبغل؟ قلت: قد دفعته إليه سليما، قال: نعم بعد خمسة عشرة يوما،
قال: فما تريد من الرجل قال: أريد كري بغلي فقد حبسها خمسة عشر يوما،
فقال: لا أرى لك حقا لأنه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه إلى النيل،
وإلى بغداد، فضمن قيمة البغل، وسقط الكري، فلما رد الرجل البغل سليما
وقبضته لم يلزمه الكري، قال: فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع،
فرحمته بما أفتى به أبو حنيفة وأعطيته شيئا وتحللت منه، وحججت في تلك

(1) الكافي ج 5 ص 290 ح 6، التهذيب ج 7 ص 215 ح 25، الوسائل ج 13
ص 255 ح 1.
594

السنة فأخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة فقال: لي في مثل هذا القضاء
وشبهه تحب السماء مائها، وتمنع الأرض بركتها، قال: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
فما ترى أنت قال: أرى أن له عليك مثل كري البغل ذاهبا من الكوفة إلى
النيل، ومثل كري البغل راكبا من النيل إلى بغداد، ومثل كري البغل من
بغداد إلى الكوفة، توفيه إياه، قال: فقلت جعلت فداك: قد علفته بدراهم،
فلي عليه علفه؟ قال: لا، لأنك غاصب، فقلت: أرأيت لو عتب البغل أو نفق أليس
كان يلزمني، قال: نعم قيمة البغل يوم خالفته، قلت: فإن أصاب البغل كسر
أو دبر أو غمز فقال: عليك قيمة ما بين الصحيح والمعيب يوم ترده عليه، قلت:
فمن يعرف ذلك قال: أنت وهو، إما أن يحلف هو على القيمة فتلزمك، وإن رد
اليمين عليك فحلفت على القيمة فيلزمك ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود
يشهدون أن قيمة البغل حين كرى كذا وكذا فيلزمك، قلت: إني كنت أعطيته
دراهم ورضي بها وحللني فقال: إنما رضي بها وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة
بالجور والظلم، ولكن ارجع إليه وأخبره بما أفتيك به، فإن جعلك في حل
بعد معرفته، فلا شئ عليك بعد ذلك، قال: أبو ولاد فلما انصرفت من وجهي
ذلك لقيت المكاري وأخبرته بما أفتاني به أبو عبد الله (عليه السلام) وقلت له: قل ما
شئت أعطيكه فقال: قد حببت إلي جعفر بن محمد (عليه السلام) ووقع في قلبي له
التفضيل. وأنت في حل وإن أحببت أن أرد عليك الذي أخذته منك فعلت ".
أقول: ما دل عليه الخبر من أن القول في القيمة مع التلف قول المالك
بيمينه، خارج عن مقتضى القواعد الشرعية، لأنه مدع، ووظيفته البينة، ومع
عدمها فالقول قول المستأجر بيمينه، لأنه منكر، ومن ثم اختلف الأصحاب هنا
في ذلك، فذهب في النهاية إلى العمل بالخبر، وجعل مقصورا على مورده،
وهو الدابة، وذهب ابن إدريس إلى أن القول قول المستأجر لأنه منكر، ولم
يفرق بين الدابة وغيرها، وتبعه المتأخرون كالفاضلين ونحوهما غيرهما،
595

وأطرحوا الخبر من البين، والمسألة لا تخلو من الاشكال، وإن كان ما ذهب إليه
الشيخ لا يخلو عن قوة لصحة الخبر، وصراحته، فيخصص به عموم القاعدة
المذكورة، كما خصصوها في مواضع عديدة.
وما تضمنه الخبر من أنه مع التلف يضمن قيمة البغل يوم خالفه يؤيد
القول المشهور في المسألة، وهي ما إذا تعدى في العين المستأجرة فإنه يضمن
قيمتها وقت العدوان، تنزى له منزلة الغاصب، فإنه يضمن، قيمة المغصوب
يوم الغصب.
وقيل، إنه يضمن أعلى القيم من حين العدوان إلى حين التلف.
وقيل: قيمتها يوم التلف، وما أفتى به أبو حنيفة في هذه المسألة مبني على
مذهبه من أنه يملكها بالضمان، فيذهب الضمان بالأجر، وخالفه الشافعي ووافق
الإمامية، وإنما حكم (عليه السلام) في الخبر بأجرة المثل من الكوفة، لأنه لم يقطع
من الطريق المستأجر عليها شيئا، لأنه عدل عنها من قنطرة الكوفة إلى النيل،
فلا يستحق من المسمى شيئا، ولو كان قد قطع منها شيئا أخذ من الأجرة بالنسبة.
وفي الخبر أيضا دلالة على بطلان الصلح مع عدم تمكنه من أخذ حقة،
لأن حقه هنا ثابت شرعا ولكن فتوى أبي حنيفة قد حال بينه وبين أخذه، وهو
مما لا خلاف فيه ولا اشكال ما تقدم في كتاب الصلح، والله سبحانه العالم.
الثامنة عشر: الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب بل وغيرهم في جواز
إجارة الآدمي وإن كان على كراهة بالنسبة إلى إجارته نفسه، وقد تقدمت الأخبار
الدالة على ذلك في صدر هذا الكتاب، ولا فرق بين الحر والمملوك، ولا بين
الذكر والأنثى، وأنه متى كانت فالظاهر أنه يحرم على المستأجر منها
جميع ما يحرم عليه قبل الإجارة، إلا أن العلامة في القواعد والمحقق الثاني
في شرحه قد صرحا باستثناء النظر إلى المملوكة بإذن المولى، واستشكل فيه
بعض محققي متأخري المتأخرين، لعموم الدليل، فإنه ليس بعقد ولا تملك، إلا أن يجعل الإذن تحليلا وهو جيد.
596

وبالجملة فإن عقد الإجارة إنما حلل الخدمة والعمل وأباحهما، وأما غيرهما
مما هو محرم قبل الإجارة فإنه يبقى على تحريمه واختلفوا في نفقة الأجير المستأجر
للسعي في حوائج المستأجر فقيل: بأنها على الأجير وهو اختيار العلامة في التذكرة
والقواعد وشيخنا في المسالك، وهو ظاهر المحقق الأردبيلي أيضا، وهو مذهب
ابن إدريس، وعلل بأن العقد إنما وقع على العمل بأجرة معينة ولم يقتضي العقد
سواها، فإدخال غيرها في مقتضى العقد المذكور يحتاج إلى دليل، ولا دليل.
نعم لو كان ثمة عادة مستمرة أو قرينة صريحة أو شرط ذلك على المستأجر
فلا اشكال في ذلك، وقيل: بأنها على المستأجر إلا أن يشترطها على الأجير، وبه
صرح في الشرايع والارشاد وجماعة من الأصحاب أو لهم النهاية وعلل باستحقاق
المستأجر جميع منافعه المانع من النفقة، لأنه متى كان زمانه مستوعبا بالعمل
للمستأجر لم يبق له زمان يحصل فيه ما يحتاج إليه من النفقة، ورد بأن استحقاق
منافعه لا يمنع من وجوب النفقة في ماله الذي من جملته الأجرة.
واستدل أيضا على ذلك بما رواه الكليني والشيخ عن سليمان بن سالم (1)
" قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل استأجر رجلا بنفقة ودراهم مسماة على أن
يبعثه إلى أرض، ما أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر
والشهرين فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق
عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه الذي يدعوه، فمن مال من تلك المكافاة؟ أمن
مال الأجير أم من مال المستأجر؟ فقال: إن كان في مصلحة المستأجر فهو من
ماله، وإلا فهو على الأجير، وعن رجل استأجر رجلا بنفقة مسماة، ولم يفسر
شيئا على أن يبعثه إلى أرض أخرى فما كان من مؤنة الأجير من غسل الثياب
أو الحمام فعلى من؟ قال على المستأجر ".
ورد بعض محققي متأخري المتأخرين بضعف السند، بالراوي المذكور، فإنه

(1) الكافي ج 5 ص 287 ح 2، التهذيب ج 7 ص 212 ح 15، الوسائل
ج 13 ص 250 ح 1.
597

مهمل في كتاب الرجال، وعدم الصراحة في المدعى، قال: بل ربما حملت على
الشرط، قال في المسالك بعد ذكر القول بالوجوب على المستأجر والأقوى أنه
كغيره لا يجب نفقته إلا مع الشرط ويمكن حمل الرواية مع سلامتها عليه.
أقول: ولعل وجهه أن الاستيجار بالنفقة في قوة شرطها على المستأجر
وكيف كان فالرواية الذكورة لما فيه من الاجمال والتدافع فما اشتملت عليه
من المقال لا يخلو الاعتماد عليها من الاشكال.
وبيان ذلك أن مقتضى قوله في السؤال الأول، وكذا في الثاني استأجره
بنفقته أن ما ينفقه في تلك المدة إنما هو من ذلك المبلغ الذي وقع الاستيجار به
وجعله المستأجر نفقة له، فلا يستحق الرجوع به لأنه في معنى المشروط على
المستأجر، فيكون من مال المستأجر، ومقتضى قوله في السؤال الأول إن كان في
مصلحة المستأجر فهو من ماله، هو أن النفقة على المستأجر بمعنى أنه يرجع بها
الأجير على المستأجر، لأن حاصل معنى الكلام المذكور أن الأجير بعد أن
أضافه ذلك الرجل الذي من أصحابه أراد أن يكافيه، فنظر إلى ما ينفقه على
نفسه في تلك المدة لو لم يضفه، فدفعه إلى ذلك الرجل مكافاة له، والإمام (عليه السلام)
حكم بأنه إن كان جلوسه في الضيافة لمصلحة المستأجر فما دفعه مكافاة على المستأجر
يرجع به عليه، وإلا فهو على الأجير، بمعنى أنه لا يرجع به، وهو وإن كان
ظاهرا فيما ادعاه المستدل بالرواية، إلا أنه ينافيه ما تقدم في صدر الخبر من
أنه استأجره بنفقة ودراهم، فإن الظاهر أن المعنى فيه أنه استأجره بشئ ينفقه
على نفسه، ودراهم في مقابلة السعي في عمله، وتحصيل غرضه، ومقتضاه أنه
لا يرجع بما أنفقه سواء أكله أو أعطاه مكافاة أو غيرها، على أن تلك المكافاة
إنما كانت تبرعا من الأجير فهو من ماله، وهذه منافاة أخرى، وظاهر الخبر
أيضا اشتمل على ما لا يقوله الأصحاب من الاجمال في النفقة المستأجر بها، فإنهم
يوجبون التعيين لرفع الجهالة، ودفع الغرر.
598

قال في التذكرة والقواعد لا يجوز الاستيجار بنفقته وطعامه ما لم يعين.
وقال في التذكرة: ولا يجوز أرطال من الخبز لعدم جواز السلم عندنا
فيه، فلا تجوز بالإجارة، وقال في موضع آخر: إذا استأجر في موضع أجيرا بطعامه
وكسوته فإن قدرا ذلك وعلماه صح العقد وإن لم يقدراه بطل العقد إلى أن قال
ولا فرق بين أن يستأجره بالنفقة والكسوة وبين أن يجعلهما جزء من الأجرة
وإذا استأجره بهما صح اجماعا ووصفهما كما يوصف في السلم وإن لم يشترط
طعاما ولا كسوة فنفقته وكسوته على نفسه، انتهى.
وبالجملة فالموافق لقواعدهم هو وجوب التعيين لدفع الجهالة والغرر
اللذين يوجبون الاحتراز عنهما في العقود.
بقي الكلام في السؤال الثاني " فإن حملت النفقة " وإن كان خلاف ظاهر
الخبر على ما يدخل فيه أجرة غسل الثياب والحمام ونحو ذلك مما يحتاج إليه
الانسان غالبا، فينبغي حمل قوله على المستأجر على معنى أنها من النفقة التي
استؤجر بها، وإلا فلا معنى لكونها على المستأجر يرجع بها الأجير عليه، مع
كونه استأجره بها، وإن حملت على أن المراد بها ما عدا ذلك من المأكل
والملبس ونحوهما، وهو الظاهر من سياق الخبر، فظاهر كون تلك الأشياء على
المستأجر هو أن الأجير يرجع بها على المستأجر، لعدم دخولها فيما استؤجر به
وهو النفقة.
وفيه دلالة على أنه لو لم يستأجره بالنفقة بل بأجرة في الجملة ولم يشترط
النفقة عليه، فإنه يرجع بالنفقة كما ادعاه المستدل بالخبر، لأنه إذا كان له
الرجوع بمثل أجرة غسل الثياب والحمام فله الرجوع بما يحتاج إليه في الأكل
واللبس بطريق أولى لأنها أضر البتة، وهنا إنما امتنع الرجوع بها من حيث أنه
استؤجر بها فمع عدم الاستيجار بها وعدم شرطها على المؤجر يرجع بها على
المستأجر، وحينئذ يمكن أن يجعل ذلك لموضع الاستدلال بالخبر المذكور،
والله سبحانه العالم.
599

التاسعة عشر: صرح بعض الأصحاب بأنه لو استأجره لعمل من الأعمال
كالكتابة والخياطة ونحو هما من الأعمال التي يختلف فيهما العمال بالجودة
والحسن وعدمهما والسرعة والبطؤ ونحو هما، فإنه لا يصح جعل الإجارة مطلقة
بأن يكون في الذمة، وبمعنى تحصيل العمل بمن شاء لما يعلم من الاختلاف الكثير
بين العمال فيما ذكرناه، فيتجهل العمل ويحصل الغرر، بل يجب تعيين العامل
سواء كان هو المؤجر أو غيره، إذا أمكن حصول النفقة منه، للانضباط بذلك
وارتفاع الغرر، وكذا يجب تعيين الصنايع إذا استأجره مدة، بمعنى أن يعمل له
هذا العمل في مدة محدودة بلا زيادة ولا نقيصة، لأنه مع الاطلاق وتفاوت العمال
في السرعة والبطؤ واختلافهم في ذلك كثيرا يحصل الغرر أيضا، وبتعيين العامل
ومعرفة ما هو عليه من السرع والبطؤ في عمله يزول ذلك.
ولو استأجره على علم معين كنسخ هذا الكتاب المعين وخياطة هذا الثوب
المخصوص، فإنه من حيث كون المانع ما ذكرنا أولا هو اختلاف الصناع في
السرعة والبطؤ الموجب للزيادة في العمل والنقيصة، فإن الظاهر أنه تصح الإجارة
في هذه الصورة المفروضة، لأن هذا الاختلاف غير قادح هنا، فإن الغرض حصول
هذا العمل المعين، أما من حيث كون المانع هو تفاوتهم في الصنعة وبالجودة،
والردائة، فإنه لا يصح هنا بل لا بد من تعيين الصانع ليرتفع هذا الغرر.
قال في المسالك بعد ذكر المصنف أصل المسألة: وهذه المسألة قل من تعرض
لها غير المصنف، نعم ذكرها الشافعي في كتبهم.
أقول: قد عرفت آنفا أن أكثر هذه التعريفات في الكتب المتقدمة والآتية
وإن وقعت من الشيخ والمرتضى والعلامة وغيرهم، إلا أنها كلها مأخوذة من كتب
العامة أخذوا منها ما استحسنوه، وكتب متقدمي أصحابنا إنما اشتملت على مجرد
نقل الأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار، والله سبحانه العالم.
600

العشرون: قالوا إذا استأجره على حفر بئر فلا بد من تعيين الأرض وقدر
نزول البئر وسعتها وهل المراد بالتعيين المشاهدة أو ما هو أعم، فيشمل الوصف
الرافع للجهالة، احتمالان: وقد ذكروا في استيجار الأرض للحرث نحو
ذلك، وبعضهم ذكر هنا المشاهدة بخصوصها مع ذكره التعيين بقول مطلق في
الأرض، وبعضهم عكس.
وكيف كان فإنه لا يخفى أن المشاهدة إنما تأتي على ظاهر الأرض دون
الباطن وارتفاع الجهالة باعتبار معرفة صلابة ظاهر الأرض ورخاوتها لا يغني
عما يتجدد بعد الحفر من الزيادة على ذلك، والنقيصة مما لا يمكن معرفته،
إلا بالعمل.
وبه يظهر أن الوصف أضبط من المشاهدة إذا أمكن اطلاع المستأجر على
الباطن بكثرة الممارسة، قالوا: ولو انهارت أو بعضها لم يلزم الأجير إزالة ذلك،
بل ذلك على المالك، لأن الأجير قد أتى بما استؤجر عليه، وامتثل ما تضمنه
العقد، ولا يكلف بما زاد عليه ولو حفر بعض البئر ثم تعذر حفر الباقي لصلابة
الأرض أو مرض الأجير أو نحو ذلك، فالمشهور أن له من الأجرة المسماة في العقد
بنسبة ما عمل إلى المجموع، فيستحق من الأجرة المسماة بتلك النسبة، وطريق
معرفة ذلك أن يقوم جميع العمل المستأجر عليه، ويقوم ما عمله منفردا،
وينسب إلى المجموع فينسب أجرة مثل ما عمل إلى أجرة مثل المجموع، ويستحق
الأجير من المسمى بتلك النسبة.
إلا أنه روى في الكافي والتهذيب عن أبي شعيب المحاملي عن الرفاعي (1)
" قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قبل رجلا يحفر له بئرا عشر قامات بعشرة
دراهم، فحفر له قامة ثم عجز، قال: يقسم عشرة على خمسة خمسين جزء فما
أصاب واحدا فهو للقامة الأولى، والاثنين للثانية، و الثلاثة للثالثة، وعلى هذا

(1) الكافي ج 7 ص 433 ح 22، التهذيب ج 6 ص 287 ح 1، الوسائل ج 13
ص 284 ح 2.
601

الحساب إلى العشرة، ورواه في الكافي بطريق آخر عن أبي شعيب عن الرفاعي (1)
" قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قبل رجلا يحفر بئرا عشر قامات بعشرة
دراهم فحفر قامة، ثم عجز فقال: جزء من خمسة وخمسين جزء من العشرة
دراهم ".
والظاهر أن مبنى هذه الرواية على تزايد الصعوبة في الأرض، فكل قامة
نزلت أصعب عما فوقها فلهذا جعل (عليه السلام) لكل واحدة زيادة على ما فوقها بجزء،
فأمر بقسمة العشرة دراهم على خمسة وخمسين جزء، فللقامة الأولى جزء،
وللثانية جزءان، وللثالثة ثلاثة، وللرابعة أربعة، وللخامسة خمسة، وللسادسة
ستة، وللسابعة سبعة، وللثامنة ثمانية، وللتاسعة تسعة، وللعاشرة عشرة،
وإذا ضممت هذه الأجزاء الموزع عليها بعضها إلى بعض وجدتها خمسة وخمسين،
بلا زيادة ولا نقصان.
والظاهر أن الأصحاب إنما أعرضوا عن هذه الرواية من حيث ابتنائها
على هذا الأمر الخاص مع أنها حكم في واقعة معينة، فلا يتعدى، ولهذا إن
الشيخ في النهاية اقتصر على نقل الرواية ولم يذكرها بطريق الفتوى، كما هي
قاعدته في الكتاب المذكور، فلا يتعين كون ذلك قولا في المسألة كما يفهم من
عبارة الشرايع، حيث قال: وفي المسألة قول آخر مستند إلى رواية مهجورة.
وفي المبسوط قد وافق الأصحاب فيما أفتوا به هنا، فقال: فإن لم يمكن
حفره، انفسخ العقد فيما بقي ولا ينفسخ فيما حفر على الصحيح من الأقوال،
ويقسط المسمى على أجرة المثل، لأن الحفر يختلف، فحفر ما أقرب من الأرض
أسهل، لأنه يخرج التراب من قرب، وحفر ما هو أبعد أصعب، فإن كان أجرة
المثل على ما بقي عشرة وفيما حفر خمسة أخذ ثلث المسمى، وقد روى أصحابنا
في مثل هذا مقدار ما ذكرناه في النهاية.

(1) الكافي ج 7 ص 422 ح 3، الوسائل ج 13 ص 284 ح 1.
602

وقال ابن إدريس: الأولى ما ذكره الشيخ في المبسوط وهو المعتمد،
وتحمل الرواية عليما إذا كانت الإجارة في ذلك الوقت فتقسط كذلك، والله
سبحانه العالم.
الحادية والعشرون: في الاستيجار للارضاع والكلام فيها يقع في مواضع:
الأول: الظاهر أنه لا خلاف في جواز استيجار المرأة للرضاع مدة معينة بإذن
الزوج، وإنما الخلاف فيما لو كان بغير إذنه، فقيل: بالجواز، والظاهر أنه
هو المشهور وذهب في المبسوط والخلاف إلى العدم، قال: لأنه لا دليل على صحتها
ولأن المرأة معقود على منافعها لزوجها بعقد النكاح، فلا يجوز لها أن تعقد لغيره
فيخل ذلك بحقوق زوجها، وتبعه ابن إدريس وجماعة.
والظاهر أن القول الأول أقوى، لأنها عاقلة مالكة لمنافعها من رضاع
وغيره، وعموم أدلة الوفاء بالعقود كتابا وسنة شامل لها، نعم متى نافى ذلك
شيئا من حقوق الزوج الواجبة عليها امتنع ذلك بلا اشكال، للمنافاة وسبق
حقه، وبه يظهر ما في تعليله الثاني من قوله لأن المرأة معقود على منافعها،
فإنه على اطلاقه ممنوع، إذ الزوج لا يملك سوى منافع الاستمتاع، كذا ما في
تعليله الأول من عدم الدليل، فإن الدليل كما سمعت ظاهر في المدعى، وتخصيصه
يحتاج إلى دليل، وغاية ما ثبت من الدليل الدال على التخصيص ما إذا أوجب
ذلك الاخلال بحقوق الزوج الواجبة عليها.
ثم إنه لو وقعت الإجارة على الوجه المذكور، ومنع ذلك شيئا من حقوقه،
فهل يحكم ببطلان العقد أن الزوج يتسلط على الفسخ؟ قولان: وبالأول صرح
العلامة في القواعد، والثاني اختياره في المسالك، وهو الأوفق بقواعد الأصحاب،
ولو سبق الاستيجار للرضاع على النكاح، فلا اعتراض للزوج، لاستحقاق منفعة
الرضاع، وملكها قبل عقده بها، وله الاستمتاع بما فضل عن ذلك، فلو تضرر
الصبي بترك الرضاع باستمتاع الزوج كان للولي منع الزوج لما عرفت من تقدم
حقه، أما مع عدم التضرر فلا.
603

وهكذا الكلام فيما لو استأجر السيد أمته للارضاع، ثم زوجها قالوا:
وكل موضع يمنع فيه الزوج من الاستمتاع لأجل الرضاع، فإنه تسقط النفقة
عنه في تلك المدة، لعدم التمكين التام.
الثاني: هل يشترط ذكر الموضع الذي يقع فيه الارضاع؟ قيل: نعم،
وتردد فيه في الشرايع، وعللوا الاشتراط بأن مواضع الارضاع تختلف بالسهولة
والصعوبة، والنفع، فإن بيت المرضعة أسهل عليها، وبيت الولي أوثق له،
وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم صلاحيتها لتأسيس الأحكام الشرعية
كما عرفت فيما تقدم، ووجه التردد من حيث ما ذكروا من أن الأصل عدم
الاشتراط، قال في المسالك: والأقوى الاشتراط، ولا يخفى ما فيه، والتمسك
بالأصل أقوى مستمسك حتى يقوم دليل على الخروج عنه، والخروج عنه بهذه
التعليلات مجازفة ظاهرة، سيما مع ما عهد من ارتضاع النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) واطلاق الأخبار الواردة باستيجار الظئير.
الثالث: قد صرح الأصحاب بأنه لا بد في صحة عقد الإجارة على الارضاع
من مشاهدة الصبي المرتضع، قيل: ويكفي الوصف أيضا وزاد آخرون اشتراط
مشاهدة المرضعة.
والظاهر أن الجميع تقييد للنصوص من غير دليل، وكأنهم بنوا في ذلك
بالنسبة إلى الصبي على اختلاف كثرة ما يشرب وقلته بالنسبة إلى صغره وكبره،
وبالنسبة إلى المرضعة إلى اختلاف النساء في الصفات المأمور بها، والمنهي عنها في الأخبار
من الوضائة، والحسن، والرعونة، والحماقة، والقبح، ونحو ذلك، مما قيل
بتأثيره في الولد، وهو وإن كان كذلك، إلا أن اطلاق أخبار الاسترضاع يدفعه.
الرابع: منع في المبسوط من جواز أن يستأجر الرجل زوجته لارضاع
ولده وجوز ذلك بعد البينونة لأنها أخذت عوضا منه في مقابلة الاستمتاع،
وعوضا آخر في مقابلة التمكين من الاستمتاع، وسوغه المرتضى وابن إدريس
604

قال في المختلف: وهو المعتمد، لنا الأصل الجواز، وقوله تعالى (1) " وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن " الآية وهو عام والعوض المأخوذ ليس في مقابلة
التمكين، بل في مقابلة الارضاع، وسواء منع شيئا من حقوقه أم لا، لأنه رضي
بذلك، وقد تقدم جوازه مع الرضا، انتهى.
أقول: ويؤيده أن الرضاع غير واجب على الأم، كما صرحوا به ودل عليه
النصوص أيضا، والزوج لا يملك منها، سوى منافع الاستمتاع، فتكون فيما
سوى ذلك كالأجنبية فارضاعها له مع عدم التبرع به موجب للأجرة، كالأجنبية،
ويدل عليه قوله عز وجل (2) " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وما رواه في
الكافي والفقيه (3) " قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) " عن الرضاع؟ قال: لا تجبر
الحرة على رضاع الولد وتجبر أم الولد " وتحقيق الكلام في ذلك يأتي في محله
اللايق به انشاء الله تعالى.
الخامس: قال في المبسوط: لو استأجر ظئرا للارضاع لم يلزمها غيره،
وإن شرط في العقد الحضانة مع الرضاع لزمها الأمران، فترضع المولود وتراعي
أحواله في تربيته وخدمته، وغسل ثيابه وخرقه وغيرها من أحواله.
وقال ابن الجنيد، وإذا شورطت على الرضاع فقط لم يكن عليها غير ذلك
إلا أن يكون قد اشترط دفع الصبي إليها أي إلى منزلها، فيكون عليها تخريجه
وغسل ثيابه وما لا بد للصبي منه، إلا أن تشترط هي لذلك أجرة على وليه.
قال في المختلف بعد نقل ذلك: وتفصيل ابن الجنيد جيد، إذ الظاهر
والعرف يقضي أن الصبي إذا كان في منزلها اضطر إلى الحضانة، وكانت لازمة لها
انتهى.

(1) سورة البقرة الآية 233.
(2) سورة الطلاق الآية 6
(3) الفقيه ج 3 ص 308 ح 24، التهذيب ج 6 ص 40 ح 4، الوسائل ج 15
ص 175 ح 1.
605

السادس: لا اشكال في بطلان الإجارة بموت الصبي المرتضع لفوات ما تعلق
العقد باستيفاء المنفعة له، وأما موت المرضعة فيبنى على الاستيجار لها من التعيين
والاطلاق فإن كان الاستيجار بعينها وخصوصها فلا اشكال في البطلان، وعليه
يحمل اطلاق من أطلق البطلان بموتها، والحكم في موتها والحال كذلك كالدابة
المستأجرة للركوب، وإن كان الاستيجار في الذمة بمعنى أن عليها تحصيل هذا
العمل بنفسها أو غيرها، فالظاهر بقاء الإجارة كما في نظائر هذا القسم من
الإجارات المتعلقة بالذمة، وحينئذ فيؤخذ ما يقوم به من تركتها لأنها صارت
مشغولة الذمة بذلك، كساير الديون المتعلقة بالذمة، فإنها بعد فوات الذمة ينتقل
إلى المال، ويتعلق به كما صرحوا به فيؤخذ أجرة المثل لما بقي من المدة من
أصل مالها، ويدفع إلى ولي الطفل.
واحتمل بعض الأصحاب وجوب استيجار وليها على الارضاع من مالها،
قال: لأن الواجب في ذمتها هو الارضاع ولم يتعذر، وإلا لانفسخت الإجارة،
وأما موت الأب فيبنى على الخلاف المتقدم في بطلان الإجارة بموت المستأجر
وعدمه، وقد تقدم أن الأظهر العدم.
والعجب من ابن إدريس حيث أنه ممن اختار القول بعدم بطلان الإجارة
بموت المستأجر، وحكم هما ببطلان الإجارة بموت أب المرتضع محتجا بالاجماع
على أن موت المستأجر يبطلها، والمسألة في الموضعين واحدة، وإنما هذه من
جزئيات تلك المسألة فما ذكره تحكم محض، وتناقض صرف، نعم ذكر بعض
محققي الأصحاب أنه لو كان الولد معسرا واستأجر الأب عليه بمال في ذمته أو
في ذمة الأب ولم يخلف الأب تركة، توجه جواز فسخها، لا أنها تبطل بذلك
وهو جيد.
السابع: قال الشيخ: إذا استأجر الظئر للارضاع بالنفقة والكسوة صح مع
علم المقدار بالنفقة والكسوة، وكذا قال ابن إدريس، وقال في المختلف بعد
606

نقل ذلك: وهو جيد، لأن الجهالة في أحد العوضين مبطلة، وكذا لو استأجر
أجيرا بطعامه، ثم نقل عن ابن الجنيد أنه قال لا بأس باستيجار الانسان بطعامه
وكسوته، كالظئر والغلام وإن لم يسم قدر اللبن من الظئر، ولا قدر الطعام
للأجير، ثم قال العلامة: أما قدر اللبن فجيد، لأن ذلك مجهول لا يمكن ضبطه
وأما طعام الأجير فممنوع، انتهى.
أقول: ويمكن الاستدلال لابن الجنيد برواية سليمان بن سالم (1) المتقدمة
في المسألة الثامنة عشرة لدلالتها على جواز الاستيجار بالنفقة من غير تعيين كما
تضمنه السؤال الأول والثاني منها، ويكون حكم النفقة مستثنى من قاعدتهم
المذكورة إن ثبتت، سيما مع ما عرفت مما قدمناه في غير موضع من انخرام
هذه القواعد المشهورة بينهم بالأخبار، وإن كانوا تارة يردون الأخبار في مقابلتها،
وتارة يرتكبون تخصيصها بها، والله سبحانه العالم.
الثامن: قد عرفت من تعريف الإجارة كما قدمنا ذكره في صدر الكتاب -
أنها عقد ثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم، أو تمليك المنفعة بعوض - أن
الإجارة واستحقاق الأجرة إنما تقع على المنافع، لا الأعيان، وحينئذ فيكون
إجارة المرأة للارضاع خارجة عن قاعدة الإجارة ومستثناة بالنص، آية ورواية،
لقوله عز وجل (2) " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " والنصوص الواردة
بذلك، وهي كثيرة تأتي انشاء الله تعالى في محلها اللايق بها من كتاب النكاح، فإن متعلق الإجارة والذي استحقت المرأة به الأجرة هنا هو اللبن، وهو عين تالفة
بالارضاع، فيكون المعاوضة عليه خارجة عن قانون الإجارة، قالوا: ومثل ذلك
الاستيجار للصبغ، واستيجار البئر للاستسقاء منها، فإن المستوفي في الجميع إنما
هو من الأعيان، وبعضهم تكلف للتفصي عن ذلك بالنسبة إلى الارضاع أن المنفعة

(1) الكافي ج 5 ص 287 ح 2، الوسائل ج 13 ص 250 ح 1.
(2) سورة الطلاق الآية 6.
607

التي تعلقت بها الإجارة هي حملها للولد ووضعه في حجرها ووضع الثدي في فمه
ونحو ذلك، لا نفس اللبن.
ولا يخفى ما فيه من البعد والتكلف السخيف، فإنه لا يخفى أن الغرض الذاتي
والمطلب الأصلي من الاستيجار إنما هو اللبن، وهذه الأشياء إنما هي تابعة، أو
مقدمات لذلك، فالأظهر أن يقال: إن هذه المواضع المذكورة مستثناة بالنصوص
من قانون الإجارة، وكم مثل ذلك في الأحكام، هذا إن ثبت كون ما ادعوه قانونا
كليا وقاعدة مطردة، مع أنا لم نقف له على دليل أزيد من ورود النصوص في
أفراد الإجارات بذلك، وهو لا يستلزم الحصر فيما ورد، إلا مع عدم وجود نص
بخلافه، فإنه يمكن ادعاء ذلك قاعدة كلية، على نحو القواعد النحوية المبنية
على تتبع كلام العرب، وهذه القاعدة إن ثبتت هنا، فهي من هذا القبيل، وإلا فإني
لم أقف على خبر يدل على أن القاعدة في الإجارة ما ادعوه، والله سبحانه العالم.
الثانية والعشرون: اختلف الأصحاب في جواز إجارة الدراهم والدنانير،
فقال في المختلف والقواعد والمبسوط: بالجواز، قال للانتفاع بها مع بقاء عينها،
مثل أن ينثرها ويسترجعها أو يضعها بين يديه فيتجمل بها وغير ذلك، وقال ابن
إدريس: يصح لأنه لا مانع منه، ثم قال: والذي يقوى في نفسي بعد هذا جميعه
أنه لا يجوز، إجارتها، لأنه في العرف المعهود لا منفعة لها إلا باذهاب أعيانها،
ولأنه لا يصح وقفها، فلو صح إجارتها صح وقفها، نعم تصح إجارة المصاغ منهما،
وقال في موضع آخر: لا خلاف في أنه لا يجوز وقفها، لأن الوقف لا يصح إلا في
الأعيان التي يصح الانتفاع بها مع بقاء عينها، فإذا جاز إجارتها جاز وقفها، وهو
لا يجوز، ولأن من غصب مائة دينار وبقيت في يده سنة لم يلزمه الحاكم بأجرة،
واعترضه في المختلف بالمنع عن الملازمة بين الوقف والإجارة، فإن الوقف يصح
إجارته، ولا يصح وقفه، نعم كلما يصح إعارته يصح إجارته، والمنع من عدم
إلزام الغاصب بالأجرة، ثم قال والتحقيق أن نقول إن كان لها منفعة مقصودة
608

حكمية صحت إجارتها، وإلا فلا، انتهى.
وفيه أن ظاهر منعه من عدم إلزام الغاصب بالأجرة هو أن لها منفعة فيجب
عليه الأجرة في مقابلة المنفعة التي فوتها على المالك، مع أن ظاهر كلامه التوقف،
حيث رتب الجواز على وجود المنفعة وعدمه، ولم يحكم بشئ من الأمرين
وقد صرح بالاستشكال في بعض كتبه، وجزم بالجواز في بعض، وظاهر الشرايع
أيضا التردد في ذلك، حيث عبر بما عبر به في المختلف، وشيخنا في المسالك حيث
اختار جواز إجارتها، وعد لها منافع تترتب على ذلك، كما ستقف عليه انشاء الله
تعالى وحمل تردده على الشك في الاعتداد بتلك المنافع وعدمه، قال (رحمة الله
عليه): لما كان شرط العين المؤجرة إمكان الانتفاع با مع بقاء عينها، وكان
الغرض الذاتي من هذين النقدين لا يتم إلا بذهابهما وربما فرض لهما منافع مع
بقاء عينهما، بأن يتزين بهما، ويتجمل ويدفع عن نفسه ظاهر الفقر والفاقة،
فإن دفع ذلك غرض مطلوب شرعا، حتى كان الأئمة (عليهم السلام) يقترضون أموالا
ويظهرونها للناس، أو يدفعونها إلى عمال الصدقة مظهرين أنها زكاة أموالهم،
ليظهر بذلك غناهم، ومن جملة الأغراض المقصودة بها أيضا نثرها في الأعراس
ثم تجمع، والضرب على سكتها ونحو ذلك فكان القول بجواز إجارتها قويا،
وربما أشعر كلام المصنف بالتردد في أن هذه المنافع، هل يعتد بها وتقوم بالمال
على وجه تجوز الإجارة أم لا، لتعليقه الجواز على شرط تحقق المنفعة مع أنها
مشهورة، وما ذاك إلا للشك في الاكتفاء فيه بها، انتهى.
أقول: ويدل على ما ذكره من إظهار التجمل بذلك، والقرض لذلك
وفعلهم (عليهم السلام) ذلك جملة من الاجبار، ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الأعلى مولا
آل سام (1) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يروون أن لك مالا كثيرا،
فقال: ما يسؤني، ذلك، إن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر ذات يوم على ناس شتى من

(1) الكافي ج 6 ص 439 ح 8، الوسائل ج 3 ص 343 ح 3.
609

قريش، وعليه قميص مخرق، فقالوا: أصبح علي (عليه السلام) لا مال له فسمعها
أمير المؤمنين (عليه السلام) فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع تمره، ولا يبعث إلى انسان
شيئا وأن يوفره ثم قال له: بعه الأول فالأول واجعلها دراهم، ثم اجعلها حيث
تجعل التمر فاكبسه معه حيث لا يرى، وقال للذي يقوم عليه: إذا دعوت بالتمر
فاصعد وانظر المال فاضربه برجلك كأنك لا تعمد الدراهم حتى تنثرها ثم بعث
إلى رجل منهم يدعوهم ثم دعى بالتمر فلما صعد ينزل بالتمر ضرب برجله
فانتثرت الدراهم، فقالوا: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: هذا مال من لا مال له،
ثم أمر بذلك المال فقال: انظروا أهل كل بيت كنت أبعث إليهم فانظروا ماله،
وابعثوا إليه، " فروى في حديث آخر (1) مثله وفيه أن القائل كان طلحة والزبير،
وروى في الكتاب المذكور أيضا عن أبي بصير (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن
أناسا بالمدينة قالوا: ليس للحسن (عليه السلام) مال، فبعث الحسن (عليه السلام) إلى رجل بالمدينة
فاستقرض منه ألف درهم فأرسل بها إلى المصدق، فقال: هذه صدقة مالنا: فقالوا
ما بعث الحسن بهذه من تلقاء نفسه إلا وله مال.
وروى فيه عن عبد الأعلى (3) مولى آل سام " قال: إن علي بن الحسين (عليه السلام)
اشتدت حاله حتى تحدث بذلك أهل المدينة، فبلغه ذلك فتعين ألف درهم ثم
بعث بها إلى صاحب المدينة، وقال، هذه صدقة مالي ".
وبذلك يظهر قوة ما قواه، لأنه متى كان أظهر الغنى بين الناس مستحبا
كما دلت عليه هذه الأخبار حتى أنهم (عليهم السلام) كانوا يقترضون لذلك فاستيجار
الدراهم والدنانير لذلك مستحب، والمنفعة ظاهرة، بل مندوب إليها، والظاهر
أن تردد من تردد ممن قدمنا ذكره، إنما هو لعدم حضور ما ذكر ببالهم،
لا لعلمهم بذلك، وإنما حصل لهم الشك في أنه هل يعتد بهذه المنافع أم لا؟

(1) الكافي ج 6 ص 440 ح 11 و 12، الوسائل ج 3 ص 343 ح 2 و ص 342 ح 1.
(2) الكافي ج 6 ص 440 ح 11 و 12، الوسائل ج 3 ص 343 ح 2 و ص 342 ح 1.
(3) الكافي ج 6 ص 440 ح 13، الوسائل ج 3 ص 343 ح 4.
610

ثم إنه على تقدير القول بجواز إجارتها، فهل يشترط تعيين جهة الانتفاع بها
أم لا؟ قولان: وبالأول قال في الخلاف والمبسوط، وبالثاني قال: ابن إدريس،
وهو ظاهر جملة ممن تأخر عنه.
قال في الخلاف والمبسوط: إذا استأجر دراهم أو دنانير وعين وجه الانتفاع
بها كان على ما شرط، وصحت الإجارة، وإن لم يعين بطلت الإجارة، وكان قرضا
لأن العادة في دنانير الغير ودراهمه أن لا ينتفع بها إلا على وجه القرض، وإذا
أطلق الانتفاع رجع الاطلاق على ما يقتضيه العرف.
وقال ابن إدريس: لو قلنا أنه تصح الإجارة سواء عين جهة الانتفاع أو لم
يعين كان قويا، ولا يكون قرضا لأنه استأجرها منه، ومن المعلوم أن العين المستأجرة
لا يجوز التصرف باذهاب عينها، بل في منافعها فيحمل الاطلاق على المعهود الشرعي.
ثم قال، والذي يقوى في نفسي بعد هذا كله بطلان إجارتها.
وأجاب في المختلف عن كلام ابن إدريس انتصارا للشيخ بأن الشيخ عول على
العرف وقد ثبت في العرف الشرعي انصراف الإجارة إلى الأعيان فيما الغالب فيه تناولها
دون المنافع، كاستيجار المرضعة، والشاة للحلب، وأجرة الحمام، وكذا هنا،
لما كانت المنفعة المقصودة الانتفاع بأعيانها كانت الإجارة قاضية، بجواز اتلافها وحينئذ
تصير قرضا بالاتلاف، وبعد هذا فالوجه على تقدير صحة الإجارة، عدم جواز
الاتلاف كغيرها من الأعيان.
أقول: لا يخفى ما في جواب العلامة من تطرق النظر إليه، وأن الحق إنما
هو ما ذكره ابن إدريس، وذلك لأن الإجارة نصا وفتوى إنما تنصرف إلى المنافع،
والدراهم والدنانير لها منافع كما عرفت، فلا يحتاج إلى تعيينها كغيرها من ساير
الأعيان المستأجرة، واطلاق الإجارة إنما ينصرف إلى المنافع التي هي المعهود
الشرعي، كما ذكره ابن إدريس، وأما صحة الإجارة في استيجار المرضعة ونحوها
فإنما جرى على خلاف قاعدة الإجارة، بنص خاص، فصار مستثنى من حيث
611

النص، لا أن ذلك عرف شرعي، وما نحن فيه لا نص فيه، فلا وجه لجعله في عدادها،
وجعله من جملة أفرادها، ودعواه كون ذلك عرفا شرعيا ليس في محله، إذ
المتبادر وهو اطراده في جميع الأفراد، وشيوعه في جميع المواد، وما نحن فيه
مما حكمت بصحة الإجارة مع استيفاء الأعيان منها، ليس كذلك بلى هو مقصور
على ما ورد النص به من فردين أو ثلاثة، ولهذا قدمنا في المنحة حيث لا نص عليها
من طريقنا وإنما هو من طريق العامة أن عدها فيما ذكروه ليس في محله.
وبالجملة فإنه لما كان مقتضى الإجارة نصا وفتوى إنما هو التسلط على المنفعة
خاصة، فجواز التسلط على العين يحتاج إلى دليل آخر، نعم قام الدليل عليه في
تلك المواضع المذكورة، فصارت مستثناة بذلك، وما لم يقم عليه دليل فلا يجوز
الخروج به عن قاعدة الإجارة، وهذا هو الذي اختاره في آخر كلامه، وبذلك
يظهر أن جوابه عن كلام ابن إدريس إنما هو مجرد تعصب عليه، كما هي عادته
غالبا في الكتاب المذكور، والله سبحانه العالم.
الثالثة والعشرون: لو وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيبا يوجب الرد،
وكان جاهلا به وقت العقد تخير بين الفسخ والرضا بالأجرة المسماة من غير أرش
على المشهور، ووجه التخيير أن العيب المذكور في العين موجب للنقص في المنفعة،
فيجوز له الفسخ دفعا للضرر عن نفسه، وللتدليس عليه، ولأن مقتضى العقد صحة
العوضين، فلا يلزم بدونها، فمن ثم جاز له الفسخ، وحينئذ وله الالتزام بالعيب
لأنه تصرف في ماله باختياره.
وفي المسالك أن له الفسخ وإن استوفى بعض المنفعة، قال ولا يرد أنه مع استيفاء
البعض يكون قد تصرف، وهو يسقط خيار العيب، لأن المراد بالتصرف حقيقة في
العوض الذي صار للمتصرف وهو هنا المنفعة، وما لم يستوفه منها لم يتصرف فيه
وإنما حصل التصرف في المستوفي، ولأن الصبر على العيب ضرر منفي، انتهى.
والظاهر أنه غير خال من شوب الاشكال، فإن الظاهر من كلامهم في كتاب
612

البيع أن التصرف إنما هو عبارة عن وضع اليد على المبيع، أو الثمن باستيفاء
بعض منافعه، أو استعلامها كركوب الدابة، ولمس الجارية وتقبيلها وحلب
الشاة ولبس الثوب ونحو ذلك، فاستيفاء بعض من منفعة المستأجر تصرف في أصل
المنفعة قياسا على ما ذكرناه، لا أنه يختص التصرف بما استوفاه كما ذكره، وإن كان
هو الفرد الحقيق، إلا أن مقتضى ما ذكرناه مما عدوه تصرفا أعم منه كما لا يخفى.
وأما ما ذكره من أن الصبر على العيب ضرر منفي، ففيه أن ما ذكروه
من الحكم المذكور غير منصوص، ويمكن أن يقال: بأن له الأرش حينئذ كما
في خيار العيب متى تصرف في المبيع، على أن هذا الإيراد يختص بالقول المشهور
وأما على القول الآخر الآتي من الأرش مع الرضا فلا ورود له كما لا يخفى.
ثم إن ظاهر كلام الأكثر هو ما ذكرناه آنفا من التخيير بعد ظهور العيب
بين الفسخ والرضا بالأجرة وذهب جماعة منهم المحقق الثاني والشهيد الثاني إلى
أن له مع الرضا الأرش فهو مخير عندهم بين الفسخ والرضا بالأرش.
قال في الروضة بعد قول المصنف وفي الأرش نظر ما لفظه: من وقوع
العقد على هذا المجموع وهو باق، فإما أن يفسخ أو يرضى بالجميع، ومن كون
الجزء الفائت أو الوصف مقصودا للمستأجر ولم يحصل وهو يستلزم نقص المنفعة
التي هو أحد العوضين، فيجبر بالأرش وهو حسن.
أقول: فيه ما عرفت من أن أصل المسألة غير منصوص، والظاهر أنهم ذكروا
هذا الحكم هنا قياسا على البيع من أنه متى ظهر عيب بالمبيع تخير المشتري بين الفسخ
وبين الالتزام مع الأرش، مع أن الأخبار ثمة لا تدل على ما ذكروه كما حققناه
في البيع، وإنما هو موردها مع ظهور العيب الخيار خاصة، وأما الأرش فإنما
هو مع التصرف، وأما تعليله هنا فعليل، فإن ما ذكره من ضرره هنا بنقص
المنفعة يجبر بالفسخ الذي هو أحد فردي التخيير، ولا ينحصر في الأرش.
نعم لو لم يكن له الفسخ فإن ما ذكره متجه، لكن الأمر ليس كذلك،
613

وكيف كان فإن ثبوت الأحكام الشرعية بمثل هذه التقريبات العقلية لا يخلو من
المجازفة في أحكامه عز وجل التي قد استفاضت النصوص بالنهي عن القول فيها
بغير علم منه عز وجل أو من نوابه (صلوات الله وسلامه عليهم).
ثم إنه قال في المسالك تفريعا على ما اختاره من وجوب الأرش: وطريق
معرفته أن ينظر إلى أجرة مثلها سليمة ومعيبة، وينظر إلى التفاوت بينهما، ويرجع
من المسمى بتلك النسبة، ولا يخفى أنه متى اختار الفسخ فإن لم يمض من المدة
ماله أجرة فلا اشكال، وإن مضت مدة كذلك، فعليه من المسمى بنسبة ذلك من
المدة.
هذا كله فيما إذا كانت الإجارة واردة على عين، أما لو كانت في الذمة ودفع
له عينا معيبة فالواجب ابدالها ولا فسخ هنا، إلا أن يتعذر البدل لعدم وجوده أو
لتغلب المؤجر وعدم إمكان جبره فيفسخ المستأجر، ويرجع إلى ماله، والله سبحانه
العالم.
الرابعة والعشرون: الظاهر أنه لا خلاف في تضمين الصناع من المكارين
والملاحين والقصارين وسائر الصناع لما جنته أيديهم، سواج كان نقصا في العين أو تلفا،
وإن كان حاذقا واحتاط واجتهد، وإنما الخلاف فيما لو تلفت بغير فعله. وغير
تفريطه وظاهر جماعة منهم الشيخ المفيد والمرتضى القول بالضمان، والمشهور وهو
قول الشيخ وأتباعه وابن إدريس ومن تأخر عنه العدم.
قال الشيخ المفيد: القصار والخياط والصباغ وأشباههم من الصناع ضامنون لما
جنته أيديهم على السلع، ويضمنون ما تسلموه من المتاع إلا أن يظهر هلاكه
ويشتهر بما لا يمكن دفاعه أو تقوم لهم بينة بذلك، والملاح والمكاري والجمال ضامنون
للأمتعة إلا أن تقوم لهم بينة بأن الذي هلك منه بغير تفريط منهم ولا تعد فيه،
وقال المرتضى: مما انفردت به الإمامية القول بأن الصناع كله كالقصارين والخياط
ومن أشبههما ضامنون للمتاع الذي يسلم إليهم، إلا أن يظهر هلاكه ويشتهر
614

بما لا يمكن دفعه، أو تقوم به بينة بذلك، وهم أيضا ضامنون لما جنته أيديهم على
المتاع بتعد وغير تعد، وسواء كان الصانع مشتركا أو غير مشترك، ثم فسر معناهما.
وقال في المختلف والمبسوط والنهاية: لا ضمان عليهم إلا فيما يهلك مما أفسدوه
أو يكون بشئ من جهتهم أو بتفريط منهم وما أشبه ذلك، فإن هلك من غير ذلك
لم يكن عليهم شئ من ذلك، وبه قال أبو الصلاح وسلار.
وقال ابن إدريس: اختلف أصحابنا في تضمين الصناع والمكارين والملاحين
فقال بعضهم: هم ضامنون لجميع الأمتعة وعليهم البينة، إلا أن يظهر هلاكه ويشتهر
بما لا يمكن دفاعه، مثل الحريق العام والغرق والنهب كذلك، فأما ما جنته
أيديهم على السلع فلا خلاف بين أصحابنا أنهم ضامنون له، وقال الفريق الآخر
من أصحابنا وهم الأكثرون المحصلون: أن الصناع لا يضمنون إلا ما جنته أيديهم
على الأمتعة أو فرطوا في حفاظه، وكذلك الملاحون والمكارون والرعاة وهو
الأظهر والعمل عليه، لأنهم أمناء سواء كان الصانع منفردا أو مشتركا.
قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال: والوجه اختيار الشيخ، لنا الأصل
براءة الذمة وعدم الضمان، فإن أيديهم ليست عادية، وهم أمناء فلا يتعلق بهم
ضمان، إلا مع تعد أو تفريط، كالمستودع وغيره.
أقول: وعلى هذا القول جرى المتأخرون، والواجب أولا نقل الأخبار المتعلقة
بهذا المقام ثم الكلام فيها بما رزق الله فهمه ببركتهم (عليهم السلام) فمنها ما رواه في الكافي
والتهذيب عن الحلبي (1) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال سألته
عن القصار يفسد قال: كل أجير يعطى الأجر على أن يصلح فيفسد فهو ضامن ".
وما روى في التهذيب عن أبي الصباح الكناني (2) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

(1) الكافي ج 5 ص 241 ح 1، التهذيب ج 7 ص 219 ح 37.
(2) التهذيب ج 7 ص 220 ح 45، وهما في الوسائل ج 13 ص 271 ح 1
و ص 274 ح 13.
615

عن القصار هل عليه ضمان؟ قال: نعم كل من يعطى الأجر ليصلح فيفسد فهو ضامن ".
وما رواه في الفقيه عن حماد عن الحلبي (1) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" في الرجل يعطى الثوب ليصبغه فيفسده، فقال: كل عامل أعطيته أجرا على
أن يصلح فأفسد فهو ضامن ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي الصباح (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سألته عن الثوب أدفعه إلى القصار فيخرقه؟ قال: أغرمه فإنك إنما دفعته إليه
ليصلحه، ولم تدفعه ليفسده ".
وعن إسماعيل بن الصباح (3) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القصار يسلم
إليه المتاع فخرقه أو غرقه أيغرمه؟ قال: نعم غرمه ما جنت يداه فإنك إنما
أعطيته ليصلح، لم تعط ليفسده ".
هكذا اسناد الخبر في نسخ التهذيب وربما وجد في بعضها عن إسماعيل عن
أبي الصباح وهو الظاهر، كما هو في سند سابق هذا الخبر، ويحتمل في إسماعيل أنه
ابن عبد الخالق، أو ابن الفضل الهاشمي.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (4) " عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن
أمير المؤمنين (عليه السلام) رفع إليه رجل استأجر رجلا ليصلح له بابه فضرب المسمار
فانصدع الباب فضمنه أمير المؤمنين (عليه السلام) ".
أقول: وهذه الأخبار كلها موافقة لما اتفق عليه الأصحاب من ضمان ما جنته
يد الصانع، وإن كان لا عن تعمد، وأن ذلك قاعدة كلية في كل من أعطي الأجر
ليصلح فأفسد فإنه ضامن.

(1) الفقيه ج 3 ص 161 ح 1 من باب 75.
(2) الكافي ج 5 ص 242 ح 7، التهذيب ج 7 ص 220 ح 42.
(3) التهذيب ج 7 ص 221 ح 50.
(4) الكافي ج 5 ص 243 ح 9، التهذيب ج 7 ص 219 ح 41، وهذه الروايات
في الوسائل ج 13 ص 275 ح 19 و ص 273 ح 8 و ص 274 ح 10.
616

ومنها ما رواه في الكافي عن الحلبي (1) في الصحيح أو الحسن " عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: قال في الغسال والصباغ: ما سرق منهما من شئ فلم يخرج
(منه) على أمر بين أنه قد سرق، وكل قليل له أو كثير " فهو ضامن "، فإن فعل
فليس عليه شئ " وإن لم يفعل " ولم يقم البينة وزعم أنه قد ذهب الذي ادعى
عليه فقد ضمنه إن لم يكن له على قوله بينة " ورواه في الفقيه مثله، وكذا الشيخ
في التهذيب، وزاد فيه وعن رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق قال:
هو مؤتمن ".
وما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال
في الغسال والصباغ: ما سرق منهم من شئ فهو ضامن " أقول: يعني إذا ادعى
السرقة كما هو ظاهر الخبر الأول.
وما رواه المشايخ الثلاثة عن أبي بصير (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته
عن قصار دفعت إليه ثوبا فزعم أنه سرق من بين متاعه، فقال: عليه أن يقيم البينة
أنه سرق من بين متاعه، وليس عليه شئ، وإن سرق متاعه كله فليس عليه شئ.
وعن السكوني (4) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن
القصار والصائغ والصباغ احتياطا على أمتعة الناس، وكان لا يضمن من الغرق والحرق
والشئ الغالب ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن مرار عن يونس (5) " قال:
سألت الرضا عليه (عليه السلام) عن القصار والصائغ أيضمنون؟ قال: لا يصلح الناس إلا أن

(1) الكافي ج 5 ص 242 ح 2 ليس في الكافي كلمة " فهو ضامن " وكذا كلمة
" وإن لم يفعل " التهذيب ج 7 ص 218 ح 34، الفقيه ج 3 ص 161 الباب 76 ح 2.
(2) الكافي ج 5 ص 242 ح 2.
(3) الكافي ج 5 ص 242 ح 4 و 5، التهذيب ج 7 ص 218 ح 5 3 و ص 219 ح 38.
(4) الكافي ج 5 ص 242 ح 4 و 5، التهذيب ج 7 ص 218 ح 5 3 و ص 219 ح 38.
(5) الكافي ج 5 ص 243 ح 10، التهذيب ج 7 ص 219 ح 40، وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 271 ح 2 و ص 271 ح 2 و ص 274 ح 5 و 6 و ص 273 ح 9.
617

يضمنوا، قال: وكان يونس يعمل به ويأخذ ".
والتهذيب عن مسمع (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال
أمير المؤمنين (عليه السلام): الأجير المشارك هو ضامن إلا من سبع أو غرق أو حرق أو لص مكابر ".
وما رواه في التهذيب عن زيد بن علي عن آبائه (عليه السلام) أنه أتى بحمال كان
عليه قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها فضمنها إياه، وكان يقول كل عامل
مشترك إذا أفسد فهو ضامن، فسألته ما المشترك؟ فقال الذي يعمل لي ولك ".
وكذا ما رواه في الكافي والفقيه عن الحلبي (3) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: سأل رجل جمال استكرى منه إبل وبعث معه بزيت إلى أرض فزعم أن
بعض زقاق الزيت انخرق فاهراق ما فيه، فقال إنه إن شاء أخذ الزيت، وقال:
إنه انخرق ولكنه لا يصدق إلا ببينة عادلة ".
وما رواه في التهذيب عن الشحام (4) قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل جمال
اكترى منه إبل و " بعثت " معه بزيت إلى نصيبين فزعم أن بعض " زقاق " الزيت
انخرق فاهراق فقال له: إن شاء أخذ الزيت وإن زعم أنه انخرق فلا يقبل إلا
ببينة عادلة ".
وما رواه في الفقيه عن حماد (5) عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
في جمال يحمل معه الزيت فيقول قد ذهب أو أهرق أو قطع عليه الطريق، فإن
جاء ببينة عادلة أنه قطع عليه أو ذهب فليس عليه شئ، وإلا ضمن ".

(1) الكافي ج 5 ص 244 ح 7، التهذيب ج 7 ص 216 ح 27.
(2) التهذيب ج 7 ص 222 ح 58.
(3) الكافي ج 5 ص 243 ح 1، التهذيب ج 7 ص 217 ح 32.
(4) التهذيب ج 7 ص 129 ح 35، الفقيه ج 3 ص 162 ح 4 مع
اختلاف يسير.
(5) الفقيه ج 3 ص 161 ح 1 ب 76، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 277 ح 4 و ص 279 ح 13 ص 277
ح 4 و ص 279 ح 13 و ص 276 ح 1 و ص 280 ح 16
618

ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في
رجل حمل مع رجل في سفينة طعاما فنقص قال هو ضامن، قلت: إنه ربما
زاد قال: تعلم أنه زاد فله شيئا؟ قلت: لا قال: هو لك.
أقول: وهذه الأخبار كما ترى واضحة الدلالة، ساطعة المقالة، فيما ذهب
إليه المفيد والمرتضى.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (2) " قال
قال أبو عبد الله (عليه السلام) كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن القصار والصايغ احتياطا على أموال
الناس، وكان أبي (عليه السلام) يتطول عليه إذا كان مأمونا " وروى في الفقيه مرسلا قال:
وقال (عليه السلام): كان أبي يضمن القصار والصواغ ما أفسد، وكان علي بن الحسين (عليه السلام)
يتفضل عليهم ". (3)
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير (4) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
في الجمال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال إن كان مأمونا فليس عليه شئ
وإن كان غير مأمون فهو ضامن ".
وما رواه في التهذيب والفقيه عن أبي بصير (5) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" قال: لا يضمن الصايغ ولا القصار ولا الحايك إلا أن يكونوا متهمين، (فيجيئون)
بالبينة، ويستحلف لعله يستخرج منه شيئا "، وفي رجل استأجر حمالا فكسر
الذي يحمل أو يهريقه فقال على نحو من العامل: إن كان مأمونا فليس عليه شئ

(1) الكافي ج 5 ص 243 ح 3، التهذيب ج 7 ص 217 ح 30، الفقيه ج 3 ص 161 ح 1
(2) الكافي ج 5 ص 242 ح 3، التهذيب ج 7 ص 220 ح 44، الفقيه ج 3 ص 162 ح 8
(3) الفقيه ج 3 ص 161 ح 3.
(4) الكافي ج 5 ص 244 ح 6، التهذيب ج 7 ص 216 ح 26، الفقيه ج 3
ص 163 ح 12.
(5) التهذيب ج 7 ص 218 ح 33 وفيه " فيخوف " بدل " فيجيئون "، الفقيه ج 3
ص 163 ح 9. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 277 ح 2 و ص 272 ح 4 و ص 278
ح 7 و ص 274 ح 11.
619

وإن كان غير مأمون فهو ضامن.
وما رواه في التهذيب (1) عن بكر بن حبيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال:
لا يضمن القصار إلا ما جنت يداه، وإن اتهمته أحلفته ".
أقول: يعني بالنسبة إلى دعوى التلف كما هو سياق الأخبار الآتية، ومنها
بالاسناد المتقدم (2) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أعطيت جبة إلى القصار
فذهبت بزعمه، قال: إن اتهمته فاستحلفه وإن لم تتهمه فليس عليه شئ ".
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن الصفار (3) " قال كتبت إلى الفقيه (عليه السلام)
في رجل دفع ثوبا إلى القصار ليقصره، فدفعه إلى قصار غيره ليقصره، فضاع
الثوب هل يجب على القصار أن يرده إذا دفعه إلى غيره، وإن كان القصار مأمونا؟
فوقع (عليه السلام): هو ضامن له، إلا أن يكون ثقة مأمونا ".
وما رواه في التهذيب عن حذيفة بن منصور (4) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع فتطيب نفسه أن يغرمه لأهله، أيأخذونه؟
قال: فقال لي: أمين هو؟ قلت: نعم، قال: فلا يأخذون منه شيئا "، وعن
حذيفة بن منصور (5) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أن معاذ بن كثير وقيسا
أمراني أن أسألك عن جمال حمل لهم متاعا بأجر، وأنه ضاع منه حمل قيمته
ست مائة درهم وهو طيب النفس لغرمه لأنه ضياعته، قال: يتهمونه؟ قلت: لا
قال: لا يغرمونه ".
وما رواه في التهذيب عن معاوية بن عمار (6) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" قال: سألته عن الصباغ والقصار؟ قال: ليس يضمنان ".

(1) التهذيب ج 7 ص 221 ح 49 و 48
(2) التهذيب ج 7 ص 221 ح 49 و 48
(3) التهذيب ج 7 ص 222 ح 56 و 57،
(4) التهذيب ج 7 ص 222 ح 56 و 57،
(5) التهذيب ج 7 ص 129 ح 36 ص 220 ح 46، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 275 ح 16 و 17 و 18 و ص 279 ح 12 و ص 274 ح 14
(6) التهذيب ج 7 ص 129 ح 36 ص 220 ح 46، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 275 ح 16 و 17 و 18 و ص 279 ح 12 و ص 274 ح 14
620

وما رواه في التهذيب والفقيه عن جعفر بن عثمان (1) " قال: حمل أبي
متاعا إلى الشام مع جمال فذكر أن حملا منه ضاع. فذكرت ذلك لأبي
عبد الله (عليه السلام) فقال: أتتهمه؟ قلت: لا قال: لا تضمنه ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن خالد بن الحجاج (2) " قال: سألت
أبا عبد الله (عليه السلام عن الملاح أحمل معه الطعام ثم أقبضه منه فينقص، قال إن كان
مأمونا فلا تضمنه ".
أقول: هذا ما حضرني من أخبار المسألة، وليس فيها ما يدل على القول
المشهور إلا ظاهر الرواية الأخيرة، والشيخ قد حملها على ما إذا كانا مأمونين،
وهو جيد.
وأما ما يدل على قول المفيد والسيد فجملة من الأخبار التي عرفت، وأنت
إذا رددت هذه الأخبار التي تلوناها عليك بعضها إلى بعض وحملت مطلقها إلى
مقيدها، ظهر لك أن الحكم بالنسبة إلى دعوى التلف أنه إن كان أمينا غير متهم
فلا ضمان عليه، وإلا فهو ضامن، إلا أن يقيم البينة، أو يكون لأمر ظاهرا في
دعواه.
وبه يظهر أن اطلاق كل من القولين المتقدمين ليس في محله، والعلامة في
المختلف حيث اختار قول المشهور كما قدمنا نقله عنه حمل ما نقله من الأخبار
الدالة على قول المفيد والمرتضى على التفريط والتعدي، جمعا بين الأدلة، أو على
تأخير المتاع عن الوقت المشترط، وإن كان نوع تفريط، لما رواه الكاهلي (3) في
الحسن عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن القصار يدفع إليه الثوب واشترط عليه
أن يعطيه في وقت، قال: إذا خالف وضاع الثوب بعد الوقت فهو ضامن ".
وأنت خبير بما فيه من التعسف المستغني عنه، فإنه لا اشعار في شئ

(1) التهذيب ج 7 ص 217 ح 28 و 29.
(2) التهذيب ج 7 ص 217 ح 28 و 29.
(3) التهذيب ج 7 ص 219 ح 39.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 278 ح 6 و ص 273 ح 3 و ص 273 ح 7.
621

من تلك إلا أخبار بما ادعاه من التعدي والتفريط، بل هي ظاهرة الدلالة في المدعى
وما ادعاه من الحمل على تأخير المتاع أبعد، إذ لا اشعار في شئ منها بذلك،
بل هي ظاهرة في أن الضمان إنما هو من حيث التلف، وإن كان لا عن تعد ولا تفريط
والوجه في الجمع إنما هو ما قلناه، لتكاثر الأخبار به كما عرفت.
واستند في المسالك حيث اختار القول المشهور إلى أصالة البراءة ولأنهم
أمناء فلا يضمنون بدون التفريط، قال: وفي كثير من الأخبار دلالة عليه،
وفيه أن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل، وقد عرفته مما ذكرناه من الأخبار
الساطعة في ذلك على وجه لا تقبل الانكار إلا من حيث قصور التتبع لها، كما
لا يخفى على من جاس خلال الديار، وأما ما ذكره من أنهم أمناء فلا يضمنون
إلا مع التفريط، فهو وإن كان كذلك في جملة من المواضع، إلا أنه من الجائز
خروج هذا الحكم من تلك المواضع، لأن الإجارة على هذا الوجه نوع معاوضة،
فيجب ايصال كل عوض إلى مستحقه أو بدله، إلا أن يعلم بأحد الوجهين
المتقدمين تلفه بغير تفريط ولا تعد، ولهذا إن أخبار هذه المسألة على كثرتها
وتعددها كما عرفت خالية عن ذلك، فإنها على تعددها واستفاضتها وصحتها وضم
بعضها إلى بعض صريحة في الضمان إلا مع كون الأجير ثقة مأمونا غير متهم كما
عرفت، ولا اشعار في شئ منها، فضلا عن الظهور بكون الضمان مستندا إلى
التفريط أو التعدي، وإنما رتب فيها على مجرد التلف، ولكنهم لعدم التتبع التام
للأخبار يقعون فيما يقعون فيه، والحكم كما ذكرنا واضح بحمد الله سبحانه.
ثم إن الظاهر أن ما دل عليه صحيح الحلبي ومرسل الفقيه من التفضل
والتطوع بعدم الضمان، ينبغي حمله على ذينك الإمامين (عليهما السلام) بمعنى أنه إذا
وقع ذلك في مالهما لا يضمنون العامل جمعا بين الأخبار، لما عرفت من قول
أمير المؤمنين والرضا (عليهما السلام) " لا يصلح الناس إلا أن يضمنوا احتياطا على أموال
الناس، " بمعنى أن الحكم الشرعي تضمينهم، فإنهم متى عرفوا ذلك احتاطوا في
622

حفظ أموال الناس خوف الغرم، ولو حمل الخبران الأولان على أن المراد بهما
أنهما (عليهما السلام) يحكمان بالتفضل والتطوع بالنسبة إلى الناس، لحصلت المنافاة
والمعارضة بين الأخبار، على أن صحيح الحلبي صريح في أن تطوله (عليه السلام) بعدم
الضمان أنما هو في صورة ما إذا كان مأمونا، وحينئذ فيرجع إلى الأخبار الأخيرة
الدالة على قيد المأمونية، يحمل اطلاق تفضل علي بن الحسين (عليه السلام) على ذلك،
وبه يزول الاشكال وإن حمل على غيرهما من الناس، والله سبحانه العالم.
الخامسة والعشرون: في إجارة المملوك، والكلام فيها يقع في مواضع:
الأول: فيما إذا آجر المولى عبده أو آجر العبد نفسه بإذن مولاه فأفسد، فلا خلاف
ولا اشكال في لزوم ذلك للمولى، لمكان إذنه، لأن الإذن في الإجارة يقتضي الالتزام
بلوازمها التي من جملتها الضمان هنا، لكن الخلاف إنما هو في أنه هل يختص
الضمان بكسب العبد، لأن الصانع لما كان ضامنا لما يفسده في ماله، والعبد لا مال
له، تعلق الضمان بكسبه، وعلى هذا لو زادت الجناية على الكسب لم يلزم المولى
شئ أو يكون الضمان على المولى؟ مطلقا قولان: وبالثاني قال في النهاية
وأبو الصلاح.
قال في النهاية: من استأجر مملوك غيره من مولاه، فأفسد المملوك شيئا
أو أبق قبل أن يفرغ من عمله كان مولاه ضامنا لذلك، وقال ابن إدريس: يكون
ضامنا لبقية الأجرة دون أرش ما أفسده.
أقول: وكلام ابن إدريس لا يخلو من اجمال، فإنه يحتمل أن يراد به أن
أرش الجناية لا يضمنه السيد من ماله، ولا من كسب العبد، وحينئذ فيكون هذا
قولا ثالثا في المسألة، ولم أقف على من نقله عنه، ويحتمل أن يراد به أنه لا يضمنه
المولى من ماله، وإن ضمنه من كسب العبد، كما هو القول الآخر في المسألة،
إلا أنه لا يخلو من بعد، وكلام أبي الصلاح على نحو كلام الشيخ.
والذي يدل على ما ذهب إليه الشيخ ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة
623

وأبي بصير (1) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام)
في رجل كان له غلام استأجره منه صائغ أو غيره قال: إن كان ضيع شيئا أو
أبق فمواليه ضامنون " وظاهر المختلف حمل الرواية على أن الضمان المراد ضمان
الموالي من كسب العبد لا من أموالهم، ولا يخفى بعده، وفصل في المسالك وقال:
والأصح أن الافساد إن كان في المال الذي يعمل فيه من غير تفريط تعلق بكسبه،
كما ذكروه، وإن كان بتفريط تعلق بذمته يتبع به إذا أعتق، لأن الإذن في
العمل لا يقتضي الإذن في الافساد.
نعم لو كان بإذن المولى تعلق به، وعليه تحمل الرواية، وإن كان بجناية
على نفس أو طرف تعلق برقبة العبد، وللمولى فدائه بأقل الأمرين من القيمة
أو الأرش، سواء كان بإذن المولى أم لا، انتهى.
وفيه أولا أن ظاهر قوله " نعم لو كان بإذن المولى تعلق بالمولى، يعطي
أن حكمه بتعلقه بكسب العبد في صورة عدم التفريط والتعدي، والتعلق بذمته في
صورة التفريط مبني على أن الاستيجار بدون إذن المولى، وهو خلاف فرض أصل
المسألة وذلك فإن البحث هنا في المسألة إنما بنى على ما قدمنا ذكره من إجارة
المولى عبده أو إجارة العبد نفسه بإذن المولى، وثانيا أنه مع عدم الإذن فإنه
لا ريب في بطلان الإجارة، فلا يترتب عليها شئ مما ذكر من الضمان، لأن تصرف
المستأجر في العبد بدون إذن مولاه غصب محض، لا يستحق ضمانا، ويحتمل أن
المراد أنه لو أذن المولى للعبد في الافساد فيكون الضمير في كان راجعا إلى الافساد،
وهو وإن كان معنى صحيحا في حد ذاته، إلا أن حمل الرواية على ذلك في غاية
البعد.
وبالجملة فإن فهمي القاصر - عن ادراك معنى صحيح لهذا الكلام - خاسر،
وكيف كان فإنه لا يخفى ما في الحكم بتعلق حكم الضمان بذمته، وأنه يتبع به إذا

(1) الكافي ج 5 ص 302 ح 1، التهذيب ج 7 ص 213 ح 18، الوسائل ج 19
ص 183 ح 1.
624

أعتق من الاشكال، لما فيه من الضرر على المالك، فإنه قد يتعمد العبد الجناية
على ما المالك، ويفرط فيه فيسرق لعلمه بأنه لا يؤاخذ به إلا بعد العتق، مع
أنه قد لا يعتق بعد موت المالك، أو يكون فقيرا بعد العتق، وكيف يصح ارتكاب
هذا الضرر، مع عدم وجود دليل عليه، والرواية ظاهرة الدلالة باطلاقها على
ضمان المولى مطلقا، ويؤيدها أن المولى بوصفه عبده وإجارته لمثل هذه الأمور
التي لا يحسنها في قوة المدلس، فيجب عليه الضمان.
وبالجملة فالظاهر هو الوقوف على ظاهر النص المذكور، كما ذكره
الشيخ ومن تبعه، والخروج عنه بغير دليل شرعي سوى هذه التخريجات مشكل،
والله سبحانه العالم.
الثاني: لو آجر السيد عبده ثم أعتقه فلا خلاف في صحة الإجارة والعتق، أما
الإجارة فظاهر، لأن منافع العبد لمولاه حال ملكه، فيجوز له نقلها بالإجارة
كمنفعة نفسه، فإنه يؤجر نفسه غيره، وأما العتق فكذلك أيضا، فإنه مالك
لرقبته، والعتق مورده رقبة المملوك، والمنافع وإن كانت تابعة للرقبة إلا أنه
قد سبق ملكها، أو ملك بعضها بعقد الإجارة، غاية الأمر أن العتق إنما صادف
الرقبة دون منافع مدة الإجارة، فتزول السلطنة عن الرقبة، والمنافع التي لم
تدخل تحت الإجارة، وهو مما لا خلاف ولا اشكال فيه.
وإنما الخلاف في أنه هل يرجع المملوك على مولاه بأجرة المثل عن تلك
المدة التي آجره فيها أم لا؟ قال ابن إدريس ومثله الشيخ في المبسوط: إذا آجر
عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها صح، وهل يرجع على السيد بأجرة المثل لما يلزمه
من الخدمة بعد الحرية؟ قيل: فيه قولان: أحدهما يرجع بأجرة المثل في تلك
المدة، والآخر لا يلزمه، وهو الصحيح، لأنه لا دليل عليه، والأصل براءة الذمة،
وربما علل الرجوع بأن إزالة الرق يقتضي ملك العبد لمنفعته، فإذا سبق نقل المولى
لها فاتت العين، فيرجع العبد على المولى بعوضها، وهو أجرة المثل، وضعفه ظاهر
625

مما تقدم، فإن تصرف المولى بالإجارة في تلك المنافع لا ريب في صحته، وعدم
ترتب ضمان عليه في ذلك واستحقاق المستأجر لتلك المنافع مما لا ريب فيه أيضا،
والعتق إنما صادف إزالة الرق عن الرقبة مسلوبة المنافع تلك المدة، فقول القائل
المذكور أن الرق يقتضي ملك العبد لمنفعته إنما يتم، فيما إذا صادف العتق إزالة
الرق من الرقبة ومنافعها، لا فيما نحن فيه، ولهذا لو أعتقه وشرط عليه خدمته
مدة معينة صح ذلك، كما أن المنفعة هنا لا يقتضي العتق ملك العبد لها لمكان
الشرط، كذلك فيما نحن فيه للسبق، فإن المالك قد آجرها سابقا وهذه الصورة
أولى بعدم مطالبة العبد من صورة الشرط.
وبالجملة فإن ضعف القول المذكور أظهر من أن يخفى، ومن المحتمل
قريبا أن هذا القول إنما هو للعامة كما هو مؤمي عبارة المبسوط، فإنه لم ينسب
إلى أحد من أصحابنا صريحا، والظاهر أن الأصحاب إنما نقلوا الخلاف من هذه
العبارة، بقي الكلام هنا في شئ آخر أيضا وهو نفقة العبد في مدة الإجارة.
قال في المسالك بعد البحث في الحكم المتقدم: إذا تقرر ذلك فنفقة تلك
المدة إذا لم تكن مشروطة على المستأجر، هل يجب على مولاه، أو في كسبه،
أو في بيت المال إن كان؟ أوجه: من انتفائها من العبد، لاستغراق وقته في الخدمة،
وعن المستأجر لانتفاء الشرط، فلم يبق لها محل إلا السيد، ولأنه ملك عوض
المنفعة تلك المدة، ومن انتفاء المقتضي، للانفاق، وهو الملك، وقد زال ومن أن
النفقة مقدمة على حق كل أحد كما في المديون والمعسر، فيخرج من الكسب
مقدمة على حق المستأجر، والأقوى الأخير لزوال ملك السيد وعجزه عن نفسه،
ولبطلان الحصر وعدم استلزام تملك عوض منفعة تلك المدة النفقة، وإنما تقدم
النفقة على حق
الغير من مال المكتسب، وبيت المال معد للمصالح، وهو من جملتها،
ومع تعذره فهو من الواجبات الكفائية على ساير المكلفين، انتهى.
أقول: قد تقدم نقل الخلاف في نفقة الدابة إذا آجرها المالك هل هي على
626

المستأجر أو المالك؟ والانسان إذا آجر نفسه هل نفقته على نفسه، أو المستأجر،
ومحل الاشكال هنا أنما يتوجه على القول بكون النفقة على المالك في الأول،
وعلى المؤجر نفسه في الثاني، وأما على تقدير كونها على المستأجر أصالة كما هو
أحد القولين أو بالشرط على القول الثاني فلا اشكال، ولهذا إنه لما كان مذهب
شيخنا الشهيد الثاني هو أن النفقة على المالك، والمؤجر نفسه، جعل محل الاشكال
فيما لو لم يكن مشروطة على المستأجر، وقد استشكل في ذلك أيضا جمع من
الأصحاب منهم العلامة في الإرشاد، ووجه الاشكال كما ذكره هنا من أنه ملك
عوض المنفعة تلك المدة واستوفاه، فيلزمه النفقة، ومن أنه بالعتق خرج عن
ملكه، المقتضي لوجوب الانفاق، فيزول وجوب الاتفاق.
وبالجملة فالمسألة محل اشكال، لخلوها من النص، وإن كان ما ذكره
شيخنا الشهيد الثاني لا يخلو عن قرب، بناء على الأخذ بهذه التقريبات المتداولة
في كلامهم، لأنه نفاها عن المستأجر من حيث عدم الشرط، بناء على مذهبه في
المسألة كما أشرنا إليه، وعن السيد لتبعية وجوب النفقة للملك، وعدم ثبوت
الاستلزام المدعى، وعن العبد، لاستغراق وقته في الخدمة، وتقديمها من الكسب -
على حق المستأجر، قياسا على المديون، والمعسر - إنما يتم لو كان له مال مكتسب،
وقد عرفت أنه لانتقال منافعه إلى المستأجر واستغراق وقته في الخدمة لا مال له،
فلا وجه لايجابها في كسبه، إذ لا كسب له، فلم يبق إلا الرجوع إلى بيت المال إن
كان، أو المؤمنين وجوبا كفائيا، والله سبحانه العالم
الثالث: قال في المختلف: إذا استأجر العبد سنة، ثم مات بعد مضي نصفها،
قال الشيخ وتبعه ابن إدريس: يصح فيما مضى، ويبطل فيما بقي، وله المطالبة
بأجرة المثل، فإن تساويا أخذه، وإن كان أجرة الباقي أكثر استحق الزيادة،
مثل أن يكون أجرة الماضي مائة، والباقي مأتين، فإنه يستحق عليه مأتين،
وبالعكس، وهذا القول فيه نظر، بل الحق أن ينسب المسمى إلى أجرة المثل،
627

ويقسط ما قابل المتخلف، وكأن مراد الشيخ ذلك، انتهى.
السادسة والعشرون: قد صرح الأصحاب بأنه لا يضمن صاحب الحمام إلا ما
أودع وتعدى أو فرط فيه، وهو كذلك، أما أنه لا يضمن بغير الايداع فظاهر، لأن
الأصل براءة الذمة من وجوب حفظ مال الغير مع عدم الالتزام به حتى لو نزع
المغتسل ثيابه، وقال احفظها ولم يقبل لم يجب عليه الحفظ، وأما أنه مع الايداع
لا يضمن إلا بالتفريط أو التعدي، فلأنه أمين محض، وقد تقدم تحقيق القول فيه في
كتاب الوديعة، ويدل على ذلك أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة مرسلا (1) في بعض
عن الباقر عن أمير المؤمنين (عليهما السلام)، ومسندا في بعض عن غياث بن إبراهيم (2) " عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتى بصاحب حمام وضعت عنده الثياب
فضاعت فلم يضمنه، وقال: إنما هو أمين " قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري
المتأخرين لعل المعنى أنه يحفظهما بمحض الأمانة، وليس ممن يعمل فيها أو
يأخذ أجرة على حفظها، فهو محسن لا سبيل عليه، ويمكن أن يقال: خصوص
هذا الشخص كان أمينا غير متهم، فلذا لم يضمنه، والأول أظهر انتهى.
أقول: بل الظاهر أن الثاني أظهر إذ مجرد وضع الثياب عنده من غير أن
يظهر منه ما يدل على قبول إئتمانها لا يدل على كونه أمينا يترتب عليه ما يترتب
على ساير الأمناء من عدم الضمان إلا مع التفريط، وقد تقدم ذلك في كتاب الوديعة.
وما رواه في التهذيب عن السكوني (3) عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أن
عليا (عليه السلام) كان يقول لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب، لأنه إنما
أخذ الجعل على الحمام، ولم يأخذ على الثياب ".

(1) الفقيه ج 3 ص 163 ح 10.
(2) الكافي ج 5 ص 242 ح 8، التهذيب ج 7 ص 218 ح 36، الوسائل ج 13
ص 270 ح 1.
(3) الوسائل ج 13 ص 271 ح 3 الباب 28 من أبواب أحكام الإجارة
التهذيب ج 6 ص 314 ح 869، الرواية بهذا المتن بعينها هي رواية إسحاق بن عمار
ولم نقف على هذا المتن عن طريق السكوني.
628

وما رواه في قرب الإسناد عن أبي البختري (1) عن جعفر عن آبائه (عليهم السلام)
" عن علي (عليه السلام أنه كان لا يضمن صاحب الحمام، وقال: إنما يأخذ أجرا على
الدخول إلى الحكام ".
وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (2) عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أن
عليا (عليه السلام) كان يقول لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب ".
السابعة والعشرون: قال في الخلاف: إذا آجر الأب أو الوصي الصبي أو شيئا
من ماله صحت الإجارة اجماعا، فإن بلغ الصبي قبل انقضاء المدة كان له ما بقي
ولم يكن للصبي فسخه، لأن العقد على غير البالغ وعلى ماله وقع صحيحا بلا خلاف
فمن ادعى أن له الفسخ بعد البلوغ فعليه الدلالة، وتبعه ابن إدريس في ذلك.
وقال في المبسوط: إن له فسخها فيما بقي وقيل: إنه ليس له ذلك، وهو
الأقوى، قال في المختلف: والحق أن له الفسخ، لنا أن الولاية تابعة للصغر، وقد
زال فتزول الولاية، والعقد تابع لها، فيزول بزوالها، ولأنه لو عقد عليه مدة يعلم
بلوغه في بعضها بطلت في الزايد، فكذا في المجهول مع وقوعه، لأن العلم والجهل
لا مدخل لهما في ثبوت الولاية وعدمها، انتهى.
أقول: وينبغي أن يعلم أن هنا صورتين: أحديهما أن يأجره مدة يعلم بلوغه
ورشده قبل انقضائها، كأن يأجره وهو ابن عشر سنين، مدة سبع سنين، ولا خلاف
هنا فيما أعلم أن الإجارة لازمة فيما قبل البلوغ والرشد، وما بعد هما فإنه
يكون موقوفا على إجازة الصبي، لأن زمان الولاية عليه وعلى ماله ما قبل الأمرين
المذكورين، فلا اشكال في لزوم الإجارة في تلك المدة، وأما بعد حصول الأمرين
المذكورين فلا اشكال ولا خلاف في زوال الولاية عنه وحينئذ فلا اشكال في توقف

(1) قرب الإسناد ص 71، الوسائل ج 13 ص 271 ح 2 الباب 28 من أبواب
أحكام الإجارة.
(2) التهذيب ج 6 ص 314 ح 869.
629

صحة الإجارة والحال هذه على إجازته، لأن العقد في هذه المدة الزائدة يصير بمنزلة
الفضولي.
الثانية: أن يأجره في مدة لا يعلم ذلك، إلا أنه اتفق حصوله في أثناء المدة وهذه
الصورة هي محل الخلاف، فظاهر كلام الشيخ المذكور هو صحة الإجارة في جميع المدة
صحة لازمة لوقوع الإجارة من أهلها في محلها في وقت لا يعلم لها مناف، فتستصحب.
وظاهر العلامة هو الصحة كذلك إلى حين اجتماع الشرطين المذكورين، لانتفاء
المانع، وأما بعد حصولهما فإنه يكون الحكم كما في سابق هذه الصورة، لأن زمان
الولاية ما قبل الكمال، فيكون نفوذ التصرف مقصورا عليه، وفي الشرايع تردد في هذه
الصورة لما عرفت من تدافع التعليلين المذكورين، وفي المسالك قوى قول العلامة.
أقول: والمسألة بالنسبة إلى هذه الصورة كغيرها من المسائل الغير المنصوصة
محل اشكال، وأما بالنسبة إلى الصورة الأولى فإنه لا ريب في صحة الإجارة ولزومها
قبل حصول الشرطين المذكورين، وأما بعد هما فإن قلنا بصحة العقد الفضولي كما
هو المشهور، وأجاز الصبي فكذلك، وإن قلنا بالبطلان كما هو المختار فالحكم
ظاهر، وهكذا الكلام بالنسبة إلى مذهب العلامة ومن تبعه في الصورة الثانية.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن أكثر الأصحاب الذين تعرضوا لهذه المسألة ومنهم
الشيخ والفاضلان أنما ذكروا بالنسبة إلى زوال الولاية بالبلوغ خاصة، مع أنه
لا خلاف في ضم الرشد إليه، فلو بلغ ولم يكن رشيدا فالولاية باقية، ففي الصورة
الأولى لو آجره مدة يعلم بلوغه فيها ولا يعلم رشده، بل كان مجهولا فإن الحكم
فيها كما في الثانية، أما إذا كان معلوما كأن يكون متميزا قبل البلوغ، فإنه يكون
الحكم كما ذكروه، ومنه يعلم أن الصورة الثانية أعم من أن لا يعلم بلوغه ولا رشده
أو يعلم بلوغه ولا يعلم رشده، ثم اتفق حصولهما، ولو تلف الصبي بعد تسليم
المستأجر له وكذا غيره ممن تستأجره للعمل عنده لم يضمنه، ولا فرق هنا بين
الصغير والكبير، والحر والعبد، فإن كل من يسلم أجيرا ليعمل له فتلف لم يضمنه،
630

لأنه قبضه لاستيفاء منفعة مستحقة لا يمكن تحصيلها إلا باثبات اليد عليه فكان أمانة في
يده، قالوا: ولا فرق بين تلفه مدة الإجارة وبعدها.
أقول: أما تلفه مدة الإجارة فلا ريب فيه، وأما بعدها لو كان صبيا أو مملوكا
فهو مبني على ما هو المشهور، كما تقدم في الموضع الخامس من المطلب الأول من
هذا الكتاب (1) من أن العين المستأجرين من دابة أو صبي أو مملوك بعد تمام المدة
هل يجب على المستأجر ردها إلى المالك، فلو أخرها ضمن، ووجب عليه نفقتها
أو لا يجب عليه ذلك إلا بعد طلب المالك، وإلا فقبل ذلك أنما يجب عليه رفع اليد
عنها، والتخلية بين المالك وبينها، قولان: أشهر هما الثاني، والكلام هنا مبني
على هذا القول والله سبحانه العالم.
الثامنة والعشرون: المشهور في كلام المتقدمين أن من تقبل عملا لم يجز
أن يقبله غيره بنقيصة، إلا أن يحدث فيه حدثا يستبيح به الفضل، وقيل، بالكراهة
واختاره في المسالك، والظاهر أنه قول أكثر المتأخرين.
ومن الأخبار الدالة على المشهور ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن
مسلم " عن أحدهما (عليهما السلام) أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه
ويدفعه إلى آخر فيربح فيه؟ قال: لا ألا أن يكون قد عمل فيه شيئا ".
وما رواه التهذيب في الصحيح عن أبي حمزة (3) عن أبي جعفر (عليه السلام) " قال:
سألته عن الرجل يتقبل العمل فلا يعمل فيه ويدفعه إلى آخر يربح فيه؟ قال لا ":
وما رواه المشايخ الثلاثة عن الحكم الخياط (4) " قال: قلت لأبي عبد الله " (عليه السلام)
إني أتقبل الثوب بدرهم وأسلمه بأقل من ذلك لا أزيد على أن أشقه قال: لا بأس
بذلك، ثم قال: لا بأس فيما تقبلت من عمل ثم استفضلت فيه ".

(1) ص 542.
(2) الكافي ج 5 ص 273 ح 1.
(3) التهذيب ج 7 ص 210 ح 5، هما في الوسائل ج 13 ص 265 ح 1 و 4.
(4) الكافي ج 5 ص 274 ح 2، التهذيب ج 7 ص 210 ح 7، الوسائل
ج 13 ص 265 ح 2.
631

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن مجمع (1) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
أتقبل الثياب أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين فقال: أليس تعمل فيها قلت:
أقطعها واشتري لها الخيوط قال: لا بأس ".
وعن علي الصايغ (2) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أتقبل العمل ثم أقبله
من غلمان يعملون معي بالثلثين فقال: لا يصلح ذلك إلا أن تعالج معهم فيه
قلت: فإني أذيبه لهم، قال: فقال ذاك عمل فلا بأس ".
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم (3) عن أحدهما (عليهما السلام)
قال: سألته عن الرجل الخياط يتقبل بالعمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل
قال: لا بأس قد عمل فيه " هذا ما حضرني من أخبار المسألة، وكلها كما ترى
ظاهرة الدلالة في القول الأول، وهو الذي عليه المعول، ثم إنه ينبغي أن يعلم أن
جواز دفعه إلى غيره مشروط بما إذا كان العمل في الذمة بأن يحصل له هذا العمل
بنفسه أو غيره، أما لو كان الاستيجار على فعله بنفسه فإنه لا يجوز له الدفع إلى
غيره، ثم إنه على تقدير الأول هل يكون ضامنا بدفعه إلى الغير بدون إذن المالك
صرح ابن إدريس بذلك، والمشهور خلافه، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك
في المسألة الرابعة من مسائل هذا المطلب.
التاسعة والعشرون: اختلف الأصحاب في جواز الإجارة بأكثر مما استأجر
إذا لم يحدث فيه حدثا فقيل بالتحريم، وهو المشهور بين المتقدمين، وقيل
بالجواز على كراهة وهو المشهور بين المتأخرين، وتقدم تحقيق القول في ذلك في
صدر كتاب المزارعة (5).

(1) الفقيه ج 3 ص 159 ح 10، التهذيب ج 7 ص 211 ح 8.
(2) التهذيب ج 7 ص 210 ح 6 وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 266 ح 6 و 7 و 5.
(3) التهذيب ج 7 ص 210 ح 6 وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 266 ح 6 و 7 و 5.
(4) ص 563.
(5) ص 292.
632

الثلاثون: اختلف الأصحاب في جواز إجارة الأرض بالحنطة والشعير مما
يخرج منها، فقيل: بالتحريم، وقيل: بالكراهة، وقد تقدم أيضا تحقيق الكلام
في ذلك في الموضع المشار إليه.
الحادية والثلاثون: إذا دفع إلى غيره سلعة ليعمل له فيها عملا كالقصار
والغسال ونحو هما فقد صرح المحقق بأن له أجرة المثل بشرط أحد الأمرين، إما
كون العامل من عادته أن يأخذ الأجرة على مثل ذلك العمل، أو كون ذلك العمل
مما له أجرة في العرف والعادة المستمرة، وعن العلامة أنه اعتبر كون العمل له
أجرة عادة خاصة.
ويتخرج على ذلك صور أربع: الأولى: ما إذا حصل الشرطان المذكوران
في كلام المحقق، والأجرة ثابتة على كلا القولين.
الثانية: انتفاؤهما معا ولا أجرة على القولين، ولا فرق حينئذ بين كون
العمل متقوما بأجرة وعدمه، إذا لم يكن له في العادة أجرة، ولا أعد العامل
نفسه لها.
الثالثة: أن يكون العمل مما له أجرة بحسب العادة، ولكن ليس من عادة
العامل الاستيجار له، والأجرة ثابتة على القولين أيضا أن هذا أحد شرطي المحقق
وهو الذي اقتصر عليه العلامة.
الرابعة: عكس هذه الصورة بأن يكون من عادته الاستيجار له إلا أن العمل
ليس مما له أجرة بحسب العادة، والأجرة ثابتة على مذهب المحقق، دون العلامة،
ورجح مذهب المحقق في هذه المسألة بأن الأمر بالعمل يقتضي استيفاء منفعة
مملوكة، للمأمور، متقومة بالمال، فوجب ثبوتها على الآمر كالاستيجار معاطاة،
واللازم استيفاء عمل محترم بالأمر، فلا يحل بدون العوض إلا بإباحة مالكه،
ولم يتحقق وهو جيد.
633

المطلب الرابع في جملة من أحكام التنازع
منها التنازع في أصل الإجارة، والقول في ذلك قول المنكر منهما بيمينه،
سواء كان المالك أو الأجير، لأن الأصل العدم، والحكم اتفاقي نصا وفتوى، بقي
الكلام في أنه لا يخلو إما أن يكون هذا التنازع قبل التصرف واستيفاء المنافع
كلا أو بعضا، أو بعده، وعلى الأول لا اشكال في رجوع كل مال إلى صاحبه، وعلى
الثاني فلا يخلو إما أن يكون مدعي الإجارة المالك أو المتصرف، فإن كان المدعي
المالك، والحال أن المتصرف حلف على انكار الإجارة، انتفت الإجارة، وعلى
المتصرف أجرة المثل، عوض ما تصرف فيه، فإن كان أجرة المثل زائدة على ما
يدعيه المالك من المسمى في العقد بزعمه، فإنه لا يجوز له أخذ الزيادة، لاعترافه
بأن المسمى في العقد أقل من ذلك، فلا يستحق أزيد منه، وإن وجب على المتصرف
دفعها لو لم يدفعها سابقا، وحرمت المطالبة بها إن دفعها سابقا، وإن كان المسمى
بزعم المالك زايدا على أجرة المثل، فإن هذه الزيادة تنتفي بانتفاء الإجارة بعد
اليمين، فليس للمالك طلبها، ولا يجب على المنكر دفعها، وإن دفعها سابقا
استرجعها، وإن كان مدعى الإجارة هو المتصرف، والمالك ينكرها، وينكر الإذن
في التصرف مطلقا، فقد عرفت أن القول قوله بيمينه، وحينئذ إذا حلف انتفت
الإجارة، واستحق أجرة المثل لما تصرف فيه المستأجر بزعمه، فله المطالبة بها إن لم يكن قبض قدرها سابقا، وإن زادت عن المسمى بزعم المستأجر، لأن المسمى
قد بطل بانتفاء الإجارة، وصار الحكم هو أجرة المثل، وأما لو زاد المسمى فإنه
لا يجوز له أخذه لإنكاره الإجارة وبطلانها باليمين، وإن كان يجب على المستأجر
دفعه لاعترافه به، ولو قبض المسمى سابقا لم يكن للمستأجر المطالبة بالزايد
لاعترافه به، وإن كان المالك يعترف أيضا بأنه لا يستحقه، ويضمن المستأجر العين
في هذه الصورة، لثبوت كون التصرف غصبا، بخلاف الأولى التي يدعي المالك فيها
634

الإجارة، فإن العين باعترافه أمانة في يد المستأجر، نعم لو أنكر الإجارة واعترف
بالإذن في التصرف، فلا ضمان أيضا للخروج عن الغصب بالإذن، والله سبحانه العالم.
ومنها التنازع في قدر العين المستأجرة بأن ادعى المستأجر أنك آجرتني
الدار بأجمعها بمائة درهم، فقال المالك بل أجرتك بيتا خاصا منها بمئة درهم،
والمشهور أن القول قول المنكر لا صالة عدم وقوع الإجارة على الزايد عما يعترف
به المالك، وقيل بالتحالف هنا، لأن كلا منها مدع ومنكر فالمستأجر يدعي
استيجار الدار كملا، والمالك ينكر ذلك، والمالك يدعي إجارة البيت خاصة،
والمستأجر ينكر ذلك.
وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد الميل إلى هذا القول، قال
رحمة الله عليه: وأما المستأجر فالظاهر فيه التحالف، لأنه بإنكار أحدهما وحلفه
لم ينقطع الدعوى والنزاع، إذ قد ينقلب الحالف ويدعي الاستيجار في العين
الأخرى، فلا بد من سماع دعواه، ورده على وجه شرعي وليس إلا بأن يكون
القول قول منكره مع اليمين، وكذا هو الظاهر في دعوى قطعه قباء وقميصا،
ولعل المصنف لم يذكر التحالف بناء على عدم دعوى الآخر، وأما مع دعواه
فالظاهر التحالف فتأمل، انتهى
وحاصله أن ما ذكروه هنا من أن القول قول منكر الزيادة بيمينه لا يحسم
مادة النزاع، لأنه متى حلف المالك الذي هو منكر لإجارة الدار كملا انتفت الإجارة
المدعاة، لكن لو رجع على المستأجر وادعى عليه إجارة البيت بتلك الأجرة التي
اتفقا عليها، والمستأجر ينكر ذلك، لأنه إنما يدعي الدار كملا لا بيتا منها خاصة،
فلا بد من المخرج من هذه الدعوى، وليس إلا بحلف المستأجر لإنكاره تلك الدعوى،
فيكون القول قوله بيمينه، وهو كلام وجيه.
وفي المسالك بعد أن نقل هذا القول اجمالا قال، والأقوى ما اختاره المصنف
لاتفاقهما على وقوع الإجارة على البيت، وعلى استحقاق الأجرة المعينة، وإن كان
635

توزيعها يختلف بحسب الدعوى، إنما الاختلاف في الزائد فيقدم قول منكره، وضابط
التحالف أن لا يتفقا على شئ كما لو قال: آجرتك الشئ الفلاني، فقال: بل
الفلاني، أو آجرتك البيت فقال: بل الحمام، ومثله ما تقدم في البيع إذا اختلفا
في قدر المبيع، وفي تعينه، فالقول بالتحالف هنا دون البيع غير جيد، انتهى.
وفيه ما عرفت أنفا من أن هذا أنما يتم لو لم يرجع المالك، ويدعي على
المستأجر ما ذكره من إجارة ذلك البيت المخصوص وإلا فإنه بعد دعواه هذه لا مخرج
منها إلا أن يحلف المستأجر، فمادة الاشكال ودفع القيل والقال لا يتم إلا بالتحالف،
على أن ما ذكره من اتفاقهما على وقوع الإجارة على البيت، وعلى استحقاق الأجرة
المعينة مما لا يسمن ولا يغني من جوع، وإن كان الأمر كما ذكره بالنسبة إلى
ظاهر الدعويين، إلا أنه متى حلف المالك على نفي إجارة الدار وانتفت الإجارة،
والمستأجر لا يدعي البيت، بل ينكره فأي ثمرة لهذا الاتفاق، بل لا وجود له،
وهكذا الكلام في الأجرة، وما ذكره من الاستناد إلى ما تقدم في البيع وأنه كيف
يقال بالتحالف هنا دون البيع، ففيه أن القول بالتحالف ثمة أيضا موجود، وإن
كان خلاف ما يختاره كما هنا (قدس سره) وقد قدمنا نقله في جملة من صور الاختلاف
بين المتبايعين في المطلب الرابع في اختلاف المتبايعين من الفصل الرابع في أحكام
العقود (1).
وأما ما ذكره من القاعدة في التحالف فإني لم أقف عليها إلا في كلامه في هذا
الموضع، وفي كتاب البيع، ولا يحضرني الآن شئ من الأخبار الواردة بالتحالف،
ولعل هؤلاء القائلين بالتحالف لا يثبتون هذه القاعدة، على أنه بناء على ما ذكرناه
من وجه التحالف في الصورة المذكورة، فإنها ترجع إلى هذه القاعدة أيضا لأنهما
لم يتفقا على شئ، وإن أوهم تصوير المسألة ذلك في بادئ الرأي، لأنه متى كان
المالك يدعي إجارة البيت خاصة، والمستأجر ينكره، والمستأجر يدعي إجارة

(1) ج 19 ص 190.
636

الدار كملا، والمالك ينكره، فهو من قبيل الأمثلة التي ذكرها، ولا مخرج من
هاتين الدعويين إلا بالتحالف، كما لا يخفى، والله سبحانه العالم.
ومنها ما لو اختلفا في رد العين المستأجرة فإنه لا اشكال في أن القول هنا قول
المالك بيمينه، لأنه منكر، والأصل عدم الرد، والمستأجر قبض لمصلحة نفسه،
فلا يقبل قوله في الرد مع مخالفة الأصل، وبهذا فرقوا بينه وبين الودعي حيث
أن المشهور في الودعي أن القول قوله في الرد، وعللوه بأنه قبضه لمصلحة المالك
فهو محسن محض، " وما على المحسنين من سبيل " والتحقيق في الفرق بين الودعي
والأجير إنما هو ما قدمناه في كتاب العارية من أن قبول قول الودعي إنما هو من
حيث كونه أمينا، وقد دلت الأخبار التي قدمناها في كتاب الوديعة على أن الأمين
ودعيا كان أو غيره من الأمناء يقبل قوله فيما يدعيه بغير اليمين، وإن كان المشهور
بينهم ضم اليمين.
وأما الأجير فأنهم وإن ادعوا أنه أمين فهو غير مسلم، كما تقدمت الإشارة
إليه في المسألة الرابعة والعشرين، لأنه عامل بأجرة، فهو من قبيل المعاوضات،
وبالجملة فإنه غير داخل في اطلاق تلك الأخبار، وحينئذ فيرجع في حكمه إلى
القاعدة المتفق عليها، وهي أن البينة على المدعي، واليمين على المنكر، بخلاف
الودعي وغيره ممن يكون أمينا، فإنه يعمل فيه بمقتضى تلك الأخبار، وبها
تخصص أخبار تلك القاعدة المتفق عليها، إلا أنهم لعدم وقوفهم على الأخبار التي
قدمناها في الوديعة، إنما عللوا قبول قول الودعي بما ذكروه هنا، من أنه محسن،
" وليس على المحسنين من سبيل " بخلاف من قبض لنفع نفسه، وهو تعليل عقلي
اصطلحوا عليه، ولا دليل عليه في الأخبار.
ومنها ما لو اختلفا في قدر الأجرة فقال الشيخ في المزارعة من الخلاف:
الذي يليق مذهبنا أن تستعمل فيه القرعة فمن أخرج اسمه حلف، وحكم له
به، لا جماع الفرقة على " أن كل مشتبه يرد إلى القرعة " وقال في المبسوط: إذا
637

اختلفا في قدر المنفعة بأن يقول: أكريتها شهرا، أو يقول: إلى الكوفة،
فيقول: بل إلى شهرين أو إلى بغداد، وفي الأجرة قال قوم: يتحالفان، وقال
قوم: إن كان قبل مضي المدة تحالفا، وإن كان بعدها في يد المكتري لم يتحالفا
وكان القول قول المكتري، كما في البيع القول قول المشتري إذا كانت السلعة
تالفة، وهذا هو الذي يقتضيه مذهبنا، وإن قلنا يرجعان إلى القرعة، فمن خرج
اسمه حلف وحكم له به كان قويا، وقال ابن الجنيد: إذا اتفقا في المدة والمكان
واختلفا في الأجرة فكل منهما يدعي ما يجوز بمثله في ى الإجارة في العرف، كان
الأجير مدعيا فضل أجرة في مال المستأجر، وعليه البينة، وكذلك أن اختلفا
في الجنس، فيقول الأجير قفيز حنطة، ويقول المستأجر خمسة دراهم، هذا
إذا انقضت المدة أو ركبت الدابة، وإن كان قبل العمل أو الركوب، ولم تقم
بينة ولم يسأل أحدهما يمين الآخر تحالفا وانفسخت الإجارة.
وقال ابن البراج: إن لم تكن بينة تحالفا، فإن نكل أحدهما عن اليمين
كان القول قول الآخر مع يمينه، فإن حلفا جميعا أو نكلا معا عن اليمين انفسخ
العقد في المستقبل، وكان القول قول مالك الدار مع يمينه في الماضي، فإن لم
يحلف كال له أجرة مثلها عما سكنه المستأجر.
وقال ابن إدريس: القول قول المستأجر وعلى المالك البينة، وقال في
المختلف بعد نقل هذه الأقوال، ثم قول ابن إدريس أخيرا: وهو الوجه، لنا أنه
منكر، ولو أقام كل منهما بينة قدمت بينة المدعي، لأن القول قول المنكر
وللتحالف وجه، لأن كل واحد منهما مدع باعتبار، وكذا القرعة، وقد تقدما
في البيع.
أقول: والمشهور بين المتأخرين هو ما ذكره ابن إدريس، وهو الأنسب بمقتضى
قواعدهم، لأنهما قد اتفقا على العقد، وعلى انتقال العين المستأجرة والمدة،
وثبوت الأجرة التي يدعيها المستأجر، وإنما الخلاف فيما زاد عنها، فأحدهما
638

يدعيه، والآخر ينكره، والأصل عدمه، فالقول قول المنكر بيمينه، إلا أن
المسألة لما كانت خالية من النص فللاشكال فيها مجال.
وبالجملة فإن المسألة هنا جارية عندهم على ما تقدم في البيع من الاختلاف
في قدر الثمن، وقد تقدم نقل الأقوال فيها كما هنا، إلا أن ثمة نص، لكنه مخالف
لمقتضى قواعدهم، فأخذ به بعض، وأطرحه آخر، وقد تقدم تحقيق الكلام
فيه ثمة.
وأنت خبير بأن قول جملة هؤلاء الفضلاء بالتحالف في المسألة فتوى أو
احتمالا مما يوهن الضابطة التي ادعاه الشهيد الثاني في التحالف، وأنها ليست
ضابطة كلية، للاتفاق على وقوع العقد والمدة والعين المستأجرة مع أن هؤلاء
قالوا: بالتحالف فيها، والضابطة المذكورة تضمنت أن لا يتفقا على شئ، فلو
كان الأمر كذلك لما خرج عنها جملة هؤلاء الفضلاء من العلامة ومن قبله، فإن
العلامة هنا وإن رجح ما ذهب إليه ابن إدريس إلا أن ظاهره احتمال التحالف،
والقرعة كما هو أحد الأقوال المذكورة.
ومنها ما لو اختلفا في التلف فظاهر جملة من المتأخرين وهو قول الخلاف
وجملة من أتباعه: أنه لا ضمان على المستأجر، بل القول قوله بيمينه، لأنه أمين
وقيل: بالضمان، وأن القول قول المالك، إلا أن يقيم المستأجر على ما ادعاه
البينة، أو يكون المدعى مشهورا ظاهرا: وقد تقدم الكلام في هذه المسألة،
ونقل الأقوال والأخبار المتعلقة بها كملا، والكلام فيها بما رزق الله سبحانه
فهمه منها في المسألة الرابعة والعشرين.
وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المتضمنة
لاختيار القول الثاني ما صورته: وقيل: القول قولهم مع اليمين، لأنهم أمناء
وهو أشهر الروايتين، وكذا لو ادعى المالك التفريط فأنكروا القول بضمانهم
639

مع عدم البينة هو المشهور، بل ادعى عليه الاجماع، والروايات مختلفة،
والأقوى أن القول قولهم مطلقا، لأنهم أمناء، وللأخبار الدالة عليه، ويمكن
الجمع بينها وبين ما دل على الضمان بحمل تلك على ما لو فرطوا أو أخروا
المتاع عن الوقت المشترط، كما دل عليه بعضها، انتهى.
أقول: لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه بعد الإحاطة بما قدمنا تحقيقه
في المسألة المذكورة، وذلك فإن روايات المسألة بعد حمل مجملها على مفصلها
ومطلقها على مقيدها، لا تخرج عن ثلاثة أقسام، فقسم منها تضمن أن كل ما
جنته يد الصانع والعامل سواء كان عن تفريط أم لا فهو ضامن، وأن ذلك
قاعدة كلية في كل من أعطى الأجر ليصلح، فأفسد.
وقسم منها تضمن أن مع دعوى التلف فإنه يضمن، إلا أن يقيم البينة
أو يكون التلف ظاهرا مشهورا كالغرق والحرق والغارة، ونحو ذلك.
وقسم منها تضمن أنه مع دعوى التلف فإن كان ثقة مأمونا غير متهم،
فلا ضمان عليه، وإلا فهو ضامن، وكل من الأقسام الثلاثة اشتمل على روايات
عديدة، وليس فيها ما يدل على ما ادعاه وغيره ممن قال بهذا القول، سوى رواية
واحدة وهي صحيحة معاوية بن عمار (1)، وقضية الجمع بين الأخبار تقييدها بما
دلت عليه أخبار المسألة، كما ذكره الشيخ، وبذلك يظهر لك ما في قوله أن القول
قولهم بيمينهم وهو أشهر الروايتين، فإنه ليس في أخبار المسألة على كثرتها وتعددها
سوى رواية معاوية بن عمار المذكورة، فمن أين هذه الشهرة، فإن أراد الروايات
الواردة في غير هذه المسألة كالواردة في الوديعة ونحوها مما يدل على أن الأمين
لا يضمن، وأن القول قوله، فهو مسلم ولكن روايات هذه المسألة خاصة، وكلها
على كثرتها متفقة على الضمان إلا مع البينة، أو ظهور الأمر، أو كونه ثقة مأمونا،
وتلك الروايات مطلقة، ومقتضى القاعدة تقديم العمل بهذه الروايات وتخصيص تلك

(1) الوسائل ج 13 ص 274 ح 14.
640

وكذا يظهر لك ما في قوله أن الروايات مختلفة فيما لو ادعى المالك التفريط فأنكروا،
فإن فيه أن روايات المسألة منحصرة في الأقسام الثلاثة التي ذكرناها، وليس في
شئ منها ما يتضمن هذا الفرد الذي ذكره، وحينئذ فإن أراد بما ذكره روايات
القسم الأول، وهو ما دل على وجوب الضمان على كل من أعطى الأجر ليصلح
فأفسد، فقد تقدم أنها متفقة على هذا الحكم، وأنهم (عليهم السلام) جعلوه قاعدة كلية،
ولا مخالف لها في شئ من الأخبار، وإن أراد أخبار القسم الثاني فهو قد أشار
إليه في صدر كلامه، وذكر أن كون القول قولهم هو أشهر الروايتين.
وبالجملة فإن روايات القسم الثاني الدالة على أنه يضمن مع دعوى التلف
دالة على الضمان، أعم من أن يكون بتفريط أو لا بتفريط، وأنه يجب الضمان إلا
مع قيام أحد الأمور الثلاثة المتقدمة، ثم إنه على تقدير القول بما اختاره من أن
القول قول المستأجر بيمينه، لأنه أمين، فالكلام في اليمين هنا كما تقدم في الوديعة
والعارية، من عدم وجود دليل على اليمين، بل ظاهر الأخبار وبه قال جملة من
الأصحاب كما تقدم في الوديعة، أنه لا يمين، وإنما يقبل قوله من غير يمين، بل
القول بذلك هنا أضعف لعدم وجود دليل دال على قبول قول المستأجر بالكلية،
فضلا عن أن يضم إليه اليمين، بل الأخبار كلها بعد ضم بعضها إلى بعض متفقة على
وجوب الضمان عليه، إلا مع قيام أحد الأمور الثلاثة المتقدمة، وما ادعاه هو
وغيره من أنه أمين فيترتب عليه قبول قوله في التلف ممنوع، إذ لا دليل عليه بل
الدليل كما عرفت واضح في خلافه، لاتفاق الأخبار على تضمينه في التلف إلا مع
قيام البينة، أو شهرة الأمر به، أو كونه مأمونا من دعوى الكذب، على أنه لو كان
أمينا لقبلوا قوله في الرد، مع أنهم منعوا من قبوله كما عرفت، والله سبحانه العالم.
ومنها ما لو دفع إلى الخياط ثوبا فقطعه قباء مدعيا إذن المالك، فقال
المالك إنما أمرتك بقطعه قميصا، وقد اختلف كلام الشيخ في ذلك، فقال في
كتاب الوكالة من الخلاف: القول قول الخياط، وفي كتاب الإجارة منه: القول
641

قول صاحب الثوب، وبه قال ابن إدريس، وقال في المبسوط: القول قول الخياط،
وقال قوم: القول قول رب الثوب، وهو الصحيح، واحتج بأن الثوب له، والخياط
مدع للإذن في قطع القباء فعليه البينة، وإذا فقدها فعلى المالك اليمين، ولا نهما
لو اختلفا في أصل القطع كان القول قول رب الثوب، فكذا في صفة القطع.
وقال في الخلاف: وكنا قلنا في ما تقدم هذه المسألة أن القول " قول
الخياط، لأنه غارم، وأن رب الثوب يدعي عليه قطعا لم يأمره به، فيلزمه بذلك
ضمان الثوب، فكان عليه بذلك البينة، فإذا فقدها وجب على الخياط اليمين.
وقال في المختلف بعد ذكر هذا الكلام من أوله إلى آخره: وهذا أيضا
قوي، وهذا يدل على تردده، والحق ما ذكره في الخلاف أولا وقواه في المبسوط،
انتهى.
أقول: وكلامه مؤذن بنوع تردد في ذلك، فإنه قوى ما ذكره من تعليل
الشيخ للقول بأن القول قول الخياط بيمينه، ثم قال: والحق ما ذكره في الخلاف
إلى آخره، وهو يعطي اختياره القول بتقديم قول صاحب الثوب، إلا أن عبارته
لا يخلو من ردائة، فإن اختياره لما ذكره في الخلاف أولا إن أراد بهذه الأولية
باعتبار ما قدم نقله عنه والذي قدمه إنما هو أن القول قول الخياط، وإن أراد
الأولية باعتبار ذكره المسألة في الخلاف فهو يتوقف على مراجعته، وأن المقدم
فيه هو كتاب الإجارة على كتاب الوكالة.
وكيف كان فإنك قد عرفت العلة في كل من القولين، وأن العلة في تقديم
قول المالك أن الخياط يدعي عليه الإذن في هذا القطع المخصوص، والأصل عدمه،
وأنه كما يقدم قول المالك لو تنازعا في أصل الإذن وعدمه فكذا في صفته، لأن
مرجعه إلى إذن مخصوص.
والعلة في تقديم قول الخياط أن المالك يدعي عليه الأرش، فيكون غارما،
والأصل عدمه فيقدم قوله في نفي ذلك من نفسه، وإن لم يثبت له الأجرة.
642

والمسألة كما ترى عارية عن النصوص، والتعليلان متدافعان، ولو قيل:
بالتحالف جمعا بين هذين التعليلين لا مكن، فإن الخياط من حيث دعوى المالك
الأرش عليه، والأصل عدمه، يقدم قوله في ذلك بيمينه، ومن حيث دعواه الإذن
على المالك وأنه يستحق الأجرة بناء على ذلك، والمالك منكر، فيقدم قول المالك
في هذه الدعوى، لا صالة عدمها كما تقدم، فيتحالفان لقطع هاتين الدعويين، وألا يراد
بأن ذلك مخالف لمقتضى قاعدة التحالف المتقدمة مردود، بما تقدم، من عدم ثبوت
القاعدة المذكورة، وتصريح جمع من الأصحاب بالخروج عنه في كتاب البيع وفي
هذا الكتاب.
ثم إنه على تقدير القول بتقديم قول المالك بيمينه واستحقاقه الأرش فهل
هو عبارة عن تفاوت ما بين قيمته مقطوعا قميصا وقباء فعلى هذا لو صلح لهما فلا
أرش، أو عبارة عن تفاوت ما بين قيمته صحيحا ومقطوعا، لأن القطع على هذا
الوجه الذي يدعيه الخياط عدوان، احتمالان: ذكرهما في المسالك، والله
سبحانه العالم.
643

وإلى هنا تم الجزء الحادي والعشرون حسب تجزئتنا بحمد الله ومنه، وقد
بذلنا الجهد غايته في تصحيحه ومقابلته للنسخة بقلم المصنف (طاب ثراه)
ويتلوه الجزء الثاني والعشرون في كتاب الوكالة إن شاء الله
ونرجوا من الله التوفيق على طبع بقية الأجزاء
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله
على محمد وآله الطاهرين.
644