الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ٢٢
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: محرم الحرام ١٤٠٥ - مهر ١٣٦٣ ش
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
الجزء الثاني والعشرون
مؤسسة النشر الاسلامي التابعة
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

الكتاب: الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة (ج 22)
المؤلف: العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني (قدس سره)
الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب‍: قم المشرفة
المطبوع: خمسة الألف نسخة
التاريخ: محرم الحرم 1405 الموافق لشهر مهر 1363
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
كتاب الوكالة
قال في التذكرة: الوكالة عقد شرع للاستنابة في التصرف، وهي جائزة
بالكتاب، والسنة، والاجماع، أما الكتاب " فقوله سبحانه (1) إنما الصدقات
للفقراء والمساكين والعاملين عليها " فجوز العمل، وذلك بحكم النيابة عن
الشخص، وقوله تعالى (2) " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر
أيها أزكى طعاما " فليأتكم برزق منه وليتلطف " وهذه وكالة، وقوله تعالى (3)
" اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا "، فهذه وكالة وأما السنة
فما رواه العامة ثم نقل جملة من أخبارهم، ومنها حديث عروة البارقي (4) في شراء
الشاة، وحديث وكالته (صلى الله عليه وآله) عمرو بن أمية الضيمري (5) في قبول
نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان، ووكل أبا رافع (6) في قبول نكاح ميمونة، ثم
نقل حديثا من طرق الخاصة، وأحال على الأحاديث الآتية في الكتاب، إلى أن
قال: وقد اجتمعت الأمة في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوكالة، ولأن اشتداد

(1) سورة التوبة الآية 60.
(2) سورة الكهف الآية 19.
(3) سورة يوسف الآية 93.
(4) المستدرك ج 2 ص 462 الباب 18 ح 1 و ص 510 الباب 20 ح 3.
(5) المستدرك ج 2 ص 462 الباب 18 ح 1 و ص 510 الباب 20 ح 3.
(6) المستدرك ج 2 ص 462 الباب 18 ح 1 و ص 510 الباب 20 ح 3.
3

الحاجة إلى الوكالة ظاهرة، إذ لا يمكن لكل أحد مباشرة ما يحتاج إليه من الأفعال
فدعت الضرورة إلى الاستنابة، انتهى كلامه.
والكلام في هذا الكتاب يقع في مطالب سبعة:
المطلب الأول في العقد وما يلحق به:
وتحقيق الكلام في ذلك يقع في مسائل: الأولى: قال في التذكرة عقيب
الكلام المتقدم: الوكالة عقد يتعلق به حكم كل واحد من المتعاقدين، فافتقر إلى
الإيجاب والقبول، كالبيع والأصل فيه عصمة مال المسلم، ومنع غيره من التصرف
فيه إلا بإذنه، فلا بد من جهة الموكل من لفظ دال على الرضا بتصرف الغير له، وهو
كل لفظ يدل على الإذن، مثل أن يقول وكلتك في كذا وفوضت إليك، واستنبتك
فيه، وما أشبهه، ولو قال: وكلتني في كذا فقال: نعم، وأشار بما يدل على التصديق
كفى في الإيجاب، ولو قال: بع واعتق ونحوهما حصل الإذن، وهذا لا يكاد يسمى
ايجابا " بل هو أمر وإذن، وإنما الإيجاب قوله وكلتك واستنبتك وفوضت إليك وما
أشبهه وقوله أذنت لك في فعله ليس صريحا " في الإيجاب، بل إذن في الفعل،
إلى أن قال: ولا بد من القبول لفظا "، وهو كل ما يدل على الرضا بالفعل أو قولا "،
ويجوز القبول بقوله قبلت، وما أشبهه من الألفاظ الدالة عليه، وكل فعل يدل
على القبول، نحو أن يأمره بالبيع فيبيع أو بالشراء فيشتري، لأن الذين وكلهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينقل عنهم سوى امتثال أمره، ولأنه أذن في
التصرف، فجاز القبول فيه بالفعل، كأكل الطعام انتهى.
أقول: قد تقدم في غير موضع ما يدل على سعة الدائرة في العقود وأن المعتبر
فيها هو كل ما يدل على الرضا من الطرفين بذلك المعقود عليه، بقي الكلام في
قوله " إن قوله بع واعتق لا يسمى ايجابا "، وإنما هو أمر وإذن، وكذا في قوله
أذنت لك في فعله، ليس صريحا " في الإيجاب.
4

ففيه أنه قد صرح أولا " بأن الإيجاب عبارة عن كل لفظ يدل على الرضا
بتصرف الغير له، وهو كل لفظ يدل على الإذن، وقال: أخيرا " في تعليل صحة
القبول الفعلي، ولأنه إذن في التصرف، فجاز القبول بالفعل، وتقدم في كلامه
السابق عد الآية، وهي قوله عز وجل (1) " اذهبوا بقميصي " وقوله تعالى (2)
" فابعثوا أحدكم بورقكم " عن باب الوكالة، وقال أيضا " بعد هذا الكلام الذي
نقلناه وقد وكل النبي (صلى الله عليه وآله) عروة البارقي (3) في شراء شاة
بلفظ الشراء، يعني اشتر، وهو مثل لفظ بع الذي منع منه هنا، وقال: قال الله
تعالى مخبرا " عن أهل الكهف، ثم ذكر الآية ثم قال: دل على الإذن فجرى مجرى
قوله وكلتك، ومقتضى ذلك كون المثالين المذكورين، وقوله أذنت لك كذلك.
وبالجملة فإن المستفاد من كلامهم هو سعة الدائرة، في هذا العقد زيادة على
غيره من العقود من حيث أنه من العقود الجائزة، فلا يختص بألفاظ مخصوصة،
بل يكفي كل ما دل على على الرضا بالاستنابة.
قال في المسالك: لما كان عقد الوكالة من العقود الجائزة صح بكل لفظ يدل
على الاستنابة وإن لم يكن على نهج الألفاظ المعتبرة في العقود، وينبه عليه قول
النبي (صلى الله عليه وآله) لعروة البارقي " اشتر لنا شاة " وقوله تعالى حكاية
عن أهل الكهف (4) " فليأتكم برزق منه " ومنه بع، واشتر، واعتق، وأذنت لك
في كذا، ونعم، عقيب الاستفهام التقريري، كوكلتني في كذا، بأنها نائبة مناب
وكلتك، وكذا الإشارة الدالة على المراد الواقعة جوابا، فإنها وإن لم تفد جوابا "
صريحا " ولم يحصل النطق به، إلا أنه بمنزلته في الدلالة، فيكفي فيه التوسع
في مثل هذا العقد، انتهى وهو جيد.

(1) سورة يوسف الآية 93.
(2) سورة الكهف الآية 19.
(3) المستدرك ج 2 ص 462 الباب 18 ح 1.
(4) سورة الكهف الآية 19.
5

ثم إن ظاهر كلامهم هنا لاتفاق على الاكتفاء بالقبول الفعلي، وإن
اختلفوا فيه في غيره من العقود سيما العقود اللازمة كما تقدم ذكره في جملة من
العقود، وذلك بأن يوكله في البيع أو الشراء، فيبيع أو يشتري من غير لفظ يدل
على القبول، قالوا: والوجه في ذلك أن المقصود عن الوكالة الاستنابة، والإذن في
التصرف، وهو إباحة ورفع حجر، فأشبه إباحة الطعام، ووضعه بين يدي الأكل،
فإنه لا يفتقر إلى القبول اللفظي
بقي الكلام في أن ظاهر ما قدمنا نقله عنه من قوله " وكل فعل يدل
على القبول " إلى آخره يدل على أن القبول الفعلي هو فعل ما تعلقت به الوكالة، وهو
الذي صرح به غيره من الأصحاب أيضا " إلا أنه قال بعد هذا الكلام والقبول يطلق
على معنيين: أحدهما الرضا والرغبة فيما فوض إليه، ونقيضه الرد، والثاني اللفظ
الدال عليه على النحو المعبر في البيع، وسائر المعاملات، ويعتبر في الوكالة القبول
بالمعنى الأول، حتى لو رد وقال: لا أقبل أو لا أفعل، بطلت الوكالة ولو ندم وأراد
أن يفعل أو يرجع، بل لا بد من استيناف إذن جديد مع علم الموكل، لأن
الوكالة جائزة من الطرفين، يرتفع في الالتزام بالفسخ انتهى.
وظاهر هذا الكلام أنه لا يكفي مجرد الفعل لما تعلقت به الوكالة، بل لا بد
من اقترانه بالرضا والرغبة ووقوعه قبل أن يرد، ومقتضى الكلام الأول هو صحة
الوكالة متى فعل ما وكل به لأن بذلك يحصل القبول، وينضم إلى الإيجاب المتقدم
وإن رد أولا، وقال: لا أقبل، والفسخ إنما يكون بعد تمام العقد بالقبول، وما لم
يفعل أو يقبل باللفظ فلا معنى للفسخ، لعدم حصول العقد.
ويؤيد ما ذكرناه عموم أدلة الوكالة مثل قوله عليه السلام (1) " الوكالة ثابتة حتى
يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول " على أن انعزاله بعزله نفسه بعد تمام

(1) التهذيب ج 6 ص 213 ح 1، الفقيه ج 3 ص 47 3381، الوسائل
ج 13 ص 285 ح 1.
6

العقد مع عدم عزل الموكول له محل منع، كما سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله
تعالى في محله.
ثم إن ظاهر ذكروه من الاكتفاء في الإيجاب بما يدل على الوكالة،
ولو بالإشارة هو الاكتفاء بالكتابة أيضا "، قال في المسالك: وما ذكره المصنف
والجماعة من الاكتفاء في الإيجاب بالإشارة اختيارا " يقتضي الاكتفاء بالكتابة
أيضا "، لاشتراكهما في الدلالة مع أمن التزوير انتهى.
أقول: والذي وقفت عليه من أخبارهم عليهم السلام في المقام ما رواه الصدوق عن
داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل
قال لآخر اخطب لي فلانة، فما فعلت من شئ مما قاولت من صداق أو ضمنت
من شئ أو شرطت فذلك لي رضا وهو لازم لي ولم يشهد على ذلك، فذهب فخطب له،
وبذل الصداق. الحديث وما رواه عن حماد عن الحلبي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في
رجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوموا عليه قيمة فيقولون بع فما ازددت فلك
إلى أنه قال في امرأة ولت أمرها رجلا " فقالت: زوجني فلانا " الحديث، وفيه أنه بعد أن
قاول الزوج على المهر زوجها من نفسه فأبطل عليه السلام التزويج، وموثقة سماعة (3)
عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يحمل المتاع لأهل السوق، وقد قوموا عليه قيمة
فيقولون: بع فما ازددت فلك، فقال لا بأس بذلك.
وفي صحيحة زرارة (4) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل يعطي المتاع
فيقول ما ازددت علي كذا فهو لك فقال: لا بأس ".
وفي صحيحة محمد بن مسلم (5) عن أبي عبد الله عليه السلام " إنه قال في رجل

(1) الفقيه ج 3 ص 49 ح 4 و ص 50 ح 6، التهذيب ج 6 ص 216
ح 7، الوسائل ج 13 ص 288 ح 1 و ص 290 ح 1.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) الفقيه ج 3 ص 145 ح 29، الكافي ج 5 ص 195 ح 3، التهذيب ج 7
ص 54 ح 33.
(4) التهذب ج 7 ص 54 ح 32 و 31. وهذه الروايات في الوسائل ج 12 ص 381 ح 3 و 2 و 1.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 4.
7

قال لرجل: بع ثوبا " بعشرة دراهم فما فضل فهو لك، قال: ليس به بأس ".
والعقود في هذه الأخبار كلها كما ترى من قبيل ما تقدم منه قوله بع واعتق
واشتر، ونحو ذلك مما يدل على الإذن والاستنابة، وليس في شئ منها ما يتضمن
القبول لفظا " وإنما تضمنت المبادرة إلى امتثال ما أمر به، لكنه في الحديث الثاني
حيث خالف مقتضى الأمر وزوجها من نفسه أبطل عليه السلام التزويج.
ونحو ذلك في صحيحة هشام (1) عن أبي عبد الله عليه السلام: إذا قال لك الرجل
اشتر لي فلا تعطه من عندك، الحديث.
وقوله في موثقة إسحاق بن عمار (2) عنه عليه السلام " قال: سألته عن الرجل
يبعث إلي الرجل فيقول: ابتع لي ثوبا فيطلب له في السوق الحديث.
وفي الثانية منهما دلالة على ثبوت الوكالة من الغائب بالمكاتبة أو الارسال
على لسان شخص آخر كما تقدم ذكره.
وفي رواية هشام بن سالم (3) عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل وكل آخر على
وكالة في إمضاء أمر من الأمور وأشهد له بذلك شاهدين فقام الوكيل فخرج
لامضاء الأمر "، الحديث.
وهو ظاهر في الاكتفاء بالقبول الفعلي واطلاق هذه الأخبار ظاهر
فيما هو المشهور من حصول القبول الفعلي بالاتيان بما تعلقت به الوكالة، خلافا "
لما تقدم نقله عن التذكرة من اشتراط الرضا والرغبة.
وفي رواية العلا بن سيابة (4) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة وكلت
رجلا " أن يزوجها من رجل، فقبل الوكالة وأشهدت له بذلك، فذهب الوكيل
فزوجها " الحديث.

(1) التهذيب ج 7 ص 6 ح 19، الوسائل ج 12 ص 288 ح 1.
(2) الوسائل ج 12 ص 289 ح 2.
(3) التهذيب ج 6 ص 213 ح 2 و ص 214 ح 5، الوسائل ج 13 ص 286 ح 1 و 2.
(4) التهذيب ج 6 ص 213 ح 2 و ص 214 ح 5، الوسائل ج 13 ص 286 ح 1 و 2.
8

وهذا الخبر مما يدل على القبول لكنه أعم من أن يكون بلفظ قبلت ونحوه،
أو بمجرد إظهار الرضا، وفي صحيحة أبي ولاد الحناط (1) " قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام
عن رجل أمر رجلا " أن يزوجه امرأة بالمدينة، وسماها له، والذي أمره بالعراق
فخرج المأمور فزوجها إياه " الحديث.
ورواية الحذاء (2) (عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل أمر رجلا أن يزوجه
امرأة من البصرة من بني تميم، فزوجه امرأة من أهل الكوفة من بني تميم، قال:
خالف أمره) الحديث.
وفي هذين الخبرين دلالة على ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من قوله:
" زوجني أو اخطب لي " والقبول فيهما إنما وقع بالاتيان بما أمر به، لكنه في
الثاني أبطل الوكالة من حيث المخالفة.
وفي رواية محمد بن عيسى (3) " أنه بعث إليه أبو الحسن الرضا عليه السلام بثلاثمائة
دينار إلى رحم امرأة كانت له، وأمره أن يطلقها عنه ويمتعها بهذا المال " وفيها
دلالة على ما قدمنا ذكره من ثبوت الوكالة عن الغائب بالكتابة أو الارسال على
لسان شخص، إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع، ولا يخفى على من
تتبع الروايات الخاصة والعامة أن ما اشتملت عليه من عقود الوكالة ليس فيها
أزيد من الأوامر بما يريده الموكل مما يدل على الإذن له في التصرف، وليس
فيها لفظ " وكلتك " ولا نحوه من تلك الألفاظ، وكذا في جانب القبول ليس فيها
أزيد من الرضا بذلك، والمبادرة إلى فعل ما وكل فيه، وكأنهم إنما أخذوا هذا
اللفظ واشتقوه من لفظ الوكالة فعبروا به، وعبروا بالقبول من حيث الدلالة على
الرضا الذي هو الأصل في صحة العقد، فسرى الوهم إلى ترجيح الفرع على الأصل.

(1) الفقيه ج 3 ص 271 ح 75.
(2) التهذيب ج 7 ص 483 ح 152، الفقيه ج 3 ص 264 ح 44.
(3) التهذيب ج 8 ص 40 ح 40، وهذه الروايات في الوسائل ج 14 ص 230
ح 1 و ص 228 ح 1 و ج 10 ص 410 في تعليقة ح 6.
9

أقول: ويستفاد من موثقة إسحاق بن عمار، وصحيحة أبي ولاد عدم فورية
القبول في عقد الوكالة، والظاهر أنه اتفاقي عندهم، كما يفهم من التذكرة حيث
أسنده إلى أصحابنا، وجوز تراضيه إلى سنة، ومما ذكر يعلم ضعف مناقشة
المسالك للمصنف حيث إن المصنف استدل على جواز تأخير القبول، بأن الغائب
له أن يوكل، والقبول متأخر، وأورد عليه أن جواز توكيل الغائب فرع جواز
التراخي في القبول، إذ لو قلنا بفوريته لم يصح.
وفيه أن المصنف إنما استدل بتوكيل الغائب بناء على النص الدال على ذلك
كما ذكرناه، ومتى ثبت ذلك بالنص في الغائب ثبت في غيره بتنقيح المناط،
إذ لا خصوصية للغائب بذلك، مع تأيد ذلك باطلاق جملة من أخبار الوكالة أيضا "
والله سبحانه العالم.
الثانية لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط التنجيز في الوكالة، فلو علقها
على شرط يمكن وقوعه وعدم وقوعه، مثل " إن قدم زيد " أو على صفة وهي ما لو كان
وجودة في المستقبل محققا " كطلوع الشمس، ومجيئ رأس الشهر بطلت.
قال في التذكرة: لا يصح عقد الوكالة معلقا " بشرط، أو وصف، فإن علقت
عليهما بطلت، مثل أن يقول: " إن قدم زيد " أو " إن جاء رأس الشهر وكلتك " عند
علمائنا، وهو أظهر وجهي الشافعية، انتهى.
والظاهر أن مرجع ذلك إلى أنه لا يجوز توقيف حصول الوكالة على شئ
من هذين الأمرين، سواء كان مقرونا " بأداة الشرط مقدما " أو مؤخرا "، مثل " إن
كان كذا فأنت وكيل " أو " أنت وكيل إن كان كذا " أو غير مقرون بها مثل
" وكلتك بشرط مجئ زيد " هذا.
والظاهر أنه لا خلاف أيضا " في أنه لو تنجز الوكالة وشرط تأخير التصرف كأن
يقول " وكلتك في كذا، ولا تتصرف إلا بعد شهر "، فإنه يجوز ونقل الاجماع عليه
في التذكرة أيضا "، وكذا الظاهر أنه لا نزاع عندهم في جواز التوقيت، مثل أن
10

يقول: وكلتك شهرا "، وأنه لا يكون بعد تمامه وكيلا "، وأنت خبير بأنه لا فرق
عند التأمل بعين التحقيق بين التعليق على الصفة، وهو قولنا: وكلتك إن جاء رأس
الشهر، أو إن طلعت الشمس، وبين التنجيز الذي ذكروه مع شرط التأخير كأن
يقول وكلتك، ولا تتصرف إلا بعد شهر، فإنا لا نعرف لهذا التنجيز هنا معنى،
ولا ثمرة مع هذا الشرط، والمسألة من أصلها عارية من النص.
وحينئذ فالظاهر أن الفارق إنما هو الاجماع المدعى في التذكرة في كل من
الموضعين، وأما ما ذكره في المسالك حيث قال بعد ذكر المسألة الثانية: وهي ما لو
نجز الوكالة، وشرط تأخير التصرف جاز والوجه أن منعه من التصرف في الوقت
المعين شرط زائد على أصل الوكالة المنجزة، وهي قابلة للشروط السايغة، وهذا
وإن كان في معنى التعليق إلا أن العقود لما كانت متلقاة من الشارع نيطت بهذه
الضوابط، وبطلت فيما خرج عنها، وإن أفاد فائدتها، انتهى.
ففيه أنه أي نص دل هنا على ذكروه من بطلان العقد بالتعليق على
الشرط، أو الصفة المذكورين في كلامهم وأي نص دل على اشتراط التنجيز الذي
ذكروه.
وبالجملة فإنه لا مستند لكل من المسألتين، ولا للفرق بينهما إلا الاجماع
المدعى، وإلى ما ذكرنا يميل كلام المحقق الأردبيلي قال: ثم اعلم أن الأصل
وعموم أدلة التوكيل وكونه جائزا "، ومبناه على المساهلة، دون الضيق، وما
تقدم في عبارة التذكرة من أنه أذن وأمر وأنه مثل الإذن في أكل الطعام ولا شك
في جواز تعليقه مثل إن جئت فأنت مأذون في الأكل ونحوه مع عدم مانع ظاهر.
يدل على جواز التعليق، ويؤيده جواز التعليق في العقود الجائزة مثل القراض،
بل هو وكالة بجعل، والعارية وغيرها، انتهى.
وبالجملة فمقتضى اطلاق روايات الوكالة وعمومها هو الصحة مطلقا " وتخصيصها
يتوقف على الدليل، وليس إلا الاجماع، فمن ثبت عنده حجية الاجماع وأنه
11

دليل شرعي فله أن يخصص به عموم تلك الأخبار، وإلا فالعمل على ما دلت عليه
تلك العمومات، بقي الكلام في أنه متى حكمنا ببطلان العقد بتعلقه على الشرط،
فهل يجوز له التصرف بعد حصول الشرط، أم لا؟ قرب في التذكرة الجواز،
وجعله في القواعد احتمالا ".
قال في التذكرة: قد بينا بطلان الوكالة المعلقة، فلو تصرف الوكيل بعد
حصول الشرط فالأقرب صحة التصرف، لأن الإذن حاصل لم يزل بفساد العقد،
وصار كما لو شرط في الوكالة عوضا مجهولا "، فقال: بع كذا على أن لك العشر من
ثمنه، فإنه يفسد الوكالة، ولكن إن باع يصح الشرط، ثم اعترض على نفسه بعدم
ظهور فائدة للفساد، فقال: إن قيل لا فائدة حينئذ للفساد على تقدير صحة التصرف
التي هي ثمرة صحة عقد الوكالة، فإذا وجدت مع القول بالفساد فلا ثمرة في القول
بالبطلان، بل لا معنى للبطلان حينئذ، إذ البطلان في المعاملات عدم ترتب الأثر، وقد
قيل: هنا بالترتيب مع الفساد، ثم أجاب بأنه تحصل الفائدة في سقوط الجعل المسمى في
عقد الوكالة إن كان، والرجوع إلى أجره المثل كما في المضاربة الفاسدة فإنه تبطل
الحصة المسماة، ويرجع إلى أجرة خ المثل كما في المضاربة الفاسدة، في النكاح يفسد
الصداق، ويوجب مه المثل، وإن لم يؤثر في النكاح، انتهى ملخصا ".
واعترضه في المسالك بأن الوكالة ليست أمرا " زايدا " على الإذن، والجعل
المشروط ليس جزء " منها، وإنما هو شرط زائد عليها لصحتها بدونه، بخلاف المضاربة
فإن اشتراط الحصة شرط في صحتها، ولأنه لو تم ذلك لزم الحكم بصحة التصرف مع
فسادها بوجه آخر، كقول الوكيل نفسه مع علم الموكل به وسكوته، فإن الإذن
حاصل منه، فلا يرتفع بفسخ الوكيل، ولأن العقد حينئذ فاسد قطعا "، ولا معنى
للفاسد إلا ما لا يترتب عليه أثره، ولأن الإذن المطلق إنما وجد في ضمن الوجه
المخصوص، إذ لا وجود للكلي إلا في ضمن جزئياته، ولم يوجد منها إلا هذا الجزئي
فإذا ارتفع ارتفع الكلي، ثم قال: وللتوقف في هذا الحكم مجال، انتهى.
12

أقول: ويزيده تأييدا " أن مقتضى كلام العلامة المذكور أن ثمرة ما ذكره
إنما تظهر في صورة ما إذا كان العقد مشتملا " على جعل وإلا فمع عدم اشتماله
على ذلك فإنه لا يظهر للحكم بالبطلان فائدة، ولا أثر يترتب عليه، وحينئذ لا
يكون ما ذكره كليا "، ويتم ما أورده على نفسه، وعلى هذا يجب القول بصحة
العقد حينئذ، وليس ذلك إلا من حيث بطلان اشتراط التنجيز الذي جعلوه شرطا "
في صحة الوكالة، ولأنه إذا حكم بفساد الوكالة من حيث كون عدم التعليق شرطا "
في صحتها، فمع التعليق المذكور يجب الحكم بالبطلان، لفوات شرط الصحة،
فكيف يصح التصرف حينئذ الذي هو ثمرة الصحة، ويحكم باستحقاق الأجرة،
وكيف تظهر الفائدة فيما ذكره، مع أنه يرجع إلى القول بعدم اشتراط التنجيز،
وعدم البطلان مع التعليق، بل تصح فيها إذا لم يكن جعل، بل معه أيضا "، وإنما
يبطل الجعل خاصة، على أن ما ادعاه من الصحة استنادا " إلى الإذن وأنه لم يزل
بفساد العقد، قد عرفت ما فيه من كلام المسالك، وتوضيحه أن الإذن إنما علم
على تقدير الشرط الذي اشتملت عليه عبارة العقد، والحال أنه قد حكم ببطلانها،
وليس هنا ما يدل على الإذن غيرها، ولزوم الأجرة على هذا أيضا " ممنوع، كما
تقدمت الإشارة إليه، لأنه إنما تلزم لو فعل ما وكل فيه على ما أمر، والحال أن
ذلك الأمر قد بطل.
وبالجملة فإن الحكم بالصحة لا يتجه ويتم إلا بناء " على عدم اشتراط
التنجيز، وهو ليس ببعيد، كما عرفت من أنه لا دليل على هذا الشرط غير الاجماع
المدعى، مع ما عرفت من المجازفة في أمثال هذه الاجماعات، والله العالم.
الثالثة: اختلف الأصحاب في ما لو وكله في شراء عبد هل يفتقر إلى وصفه
لينتفي الغرر أم لا؟ وبالأول قال في المبسوط وجماعة منهم الشرايع، قال في المبسوط:
إذا وكله في شراء عبد وجب وصفه، ولو أطلق لم يصح لما فيه من الغرر، ونحو
عبارة الشرايع، وقيل: بالعدم، وهو اختيار المسالك والمختلف وغيرهما، وحجة
13

الأولين ما عرفت من الغرر، لأن المطلق متوغل في الابهام، وصادق على
أصناف مختلفة، فلا بد من وصفه ببعض الأوصاف المزيلة للجهالة، ولو في الجملة
ككونه تركيا " أو زنجيا " ولا يجب استقصاء الأوصاف الرافعة للجهالة بالكلية.
وأجاب الآخرون بأن الغرر يندفع بمراعاة الوكيل المصلحة في شرائه،
فإن الاطلاق المحمول شرعا " على الاستنابة في شراء عبد يكون شرائه مشتملا "
على مصلحة للموكل، ويتخير الوكيل حيث توجد المصلحة في متعدد كذا ذكره
في المسالك، وفي المختلف أجاب بأن الاطلاق ينصرف إلى شرا؟ الصحيح بثمن المثل.
وظني أن شيئا من هذين الجوابين لا يفي بالمطلوب، أما الأول: فلأن
مراعاة مصلحة الموكل فرع العلم بغرضه ومطلوبه من شراء ذلك العبد،
والمفروض أعم من ذلك، وأما الثاني فإن دفع الغرر لا ينحصر في ما ذكره،
وقد ذكروا في كتاب البيع ولا سيما في السلم من توقف صحة البيع على الوصف
الرافع للغرر ما هو ظاهر في تأييد ما قلناه.
وبالجملة فالاحتياط يقتضي الوقوف على ما ذهب إليه الشيخ ومن تبعه،
والله سبحانه العالم.
الرابعة: الظاهر أنه لا خلاف في أن الوكالة من العقود الجائزة من الطرفين
فيجوز لكل منها العزل والفسخ قال في التذكرة: العقود أربعة أضرب: الأول:
عقد لازم من الطرفين لا ينفسخ بفسخ أحد المتعاقدين، وهو البيع، والإجارة،
والصلح، والخلع، والنكاح.
الثاني: عقد جائز من الطرفين وهو الوكالة، والشركة، والمضاربة،
والجعالة، فلكل منهما فسخ العقد في هذه.
الثالث: عقد لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر كالرهن، فإنه لازم
من طرف الراهن، جائز من طرف المرتهن، والكتابة عند الشيخ جائزة من
طرف العبد، لأن له أن يعجز نفسه، ولازمه من جهة المولى.
14

الرابع: المختلف فيه، وهي السبق والرماية إن قلنا أنها إجارة، كان
لازما، وإن قلنا أنهما جعالة، كان جائزا، ولا نعلم خلافا " من أحد من العلماء في
أن الوكالة عقد جائز من الطرفين، لأنه عقد على تصرف مستقبل، ليس من
شرطه تقدير عمل، ولا زمان، فكان جائزا كالجعالة، فإن فسخها الوكيل
انفسخت، وبطل تصرفه، وإن فسخها الموكل فكذلك، إلى أن قال: ولا خلاف
في أن العزل يبطل الوكالة، انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مقامين: الأول: في عزل الوكيل
نفسه، وقد عرفت أنه لا خلاف فيه، قالوا: ولا فرق في بطلان الوكالة بعزله نفسه،
بين اعلام الموكل وعدمه، بخلاف عزل الموكل له لما سيأتي إن شاء الله تعالى
في المقام الثاني، ومقتضى ذلك أنه لا ينفذ تصرفه بعد عزله نفسه، وقبل علم
المالك، لأن مناط صحة التصرف هو العقد، والمفروض أنه صار باطلا " بعزله
نفسه، إلا أنه قد صرح جملة منهم بأنه يحتمل توقف انعزاله على علم الموكل،
وحينئذ فيجوز له التصرف قبل بلوغه، عملا " بالإذن العام الذي تضمنه الوكالة،
بل يحتمل ذلك مع بلوغه أيضا "، لأصالة بقاء الإذن، ومجرد علمه بالرد لا يدل
على بطلانه من قبل الإذن، قالوا: ولو اكتفينا في قبول الوكيل بفعلية مقتضاها
كيف كان، قوي هذا الاحتمال جدا " لأنها حينئذ تصير مجرد إذن وإباحة،
ويجوز مع ذلك اطلاق العقد عليها، بحيث أن قبولها بالقول يصح، ويترتب
عليه أثر في الجملة، وبهذا الاحتمال قطع في القواعد مع جهل الموكل بالرد.
أقول: قد عرفت مما قدمناه من الأخبار أنه ليس فيها ما يدل على ما
ذكروه من القبول اللفظي الذي أدخلوا به الوكالة في باب العقود، وإنما دلت
تصريحا " في بعض وتلويحا " في آخر على القبول بالاتيان بالفعل المأمور به، وإن
أدخلوها بذلك في باب الإذن والإباحة دون باب العقود، كما أنه لا دلالة في
شئ منها على ما اعتبروه من صيغ الإيجاب التي ذكروها، وعدوا بها الوكالة
15

من باب العقود كلفظ وكلتك ونحوه، وإنما اشتملت على مجرد الإذن والأمر
الذي هو عندهم أيضا " من باب الإباحة.
وبذلك يظهر لك أن الأظهر والأقوى بالنظر إلى مراجعة الأخبار والعمل
بما دلت عليه هو أنه بعزله نفسه علم المالك أو لم يعلم لا تبطل الوكالة، لبقاء
الإذن المفهوم من تلك الأوامر التي اشتملت عليها الأخبار ما لم يعزله المالك،
ويصرح بعزله.
وبالجملة فإني لم أقف على دليل من النصوص يدل على البطلان بعزله
نفسه، غير ما يدعونه من الاجماع، ومقتضى النصوص المذكورة وعموم أدلة
الوكالة هو البقاء على مقتضاها، حتى يثبت المخرج من ذلك، والمانع منه،
وليس الأعزل الموكل ونحوه مما سيأتي، وأما عزله نفسه وكونه مبطلا لها فلم
أقف فيه على نص، ومجرد كونها من العقود الجائزة لا يوجب ما ذكروه من
بطلانها بعزله نفسه، وأنه فسخ لها، بل غاية ما يوجبه أنه لا يلزمه شرعا " ولا
يجب القيام بذلك، كما هو مقتضى العقود اللازمة، بل إن شاء فعل وإن شاء لم
يفعل، وعدم مشية الفعل في وقت عزله نفسه ورده لها، لا يوجب منعه من
الرجوع متى أراد، إلا أن يعزله الموكل.
قال في المسالك في بيان تطبيق ما قدمنا نقله عنهم من الاحتمال الدال
على جواز التصرف على ما ذكروه في أصل المسألة، من بطلان الوكالة وعدم جواز
التصرف ما لفظه: ويمكن الجميع بين كونها عقدا " جائزا " تبطل بالرد، وعدم
بطلان التصرف بالرد، بأن يحكم ببطلان الوكالة الخاصة وما يترتب عليها من
الجعل لو كان، وبقاء الإذن العام.
أقول: لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد، بل التحمل الغير السديد، أما
أولا فبما أشرنا إليه آنفا " من أنه لا منافاة بين كونها عقدا " جائزا " وبين كونها
صحيحة مع الرد، وعزله نفسه، لأن جوازها ليس إلا بمعنى عدم وجوب القيام
16

بها، وعدم ترتب المؤاخذة على تركها، وهذا لا ينافي جواز الرجوع إليها بعد
تركها والاعراض عنها.
وثانيا " أن ما ذكره من الحكم ببطلان الوكالة الخاصة وبقاء الإذن العام
مردود بما قدمنا نقله عنه في المسألة الثانية في مقام الرد على كلام التذكرة،
من قوله إن الوكالة ليست أمرا " زايدا " على الإذن، وهذا هو الذي عضدته الأخبار
المتقدمة، فإنه ليس فيها أزيد من الأوامر الدالة على طلب تلك الأشياء المذكورة
من قوله اشتر، وبع، واخطب، وطلق، ونحو ذلك الراجع جميعه إلى الإذن في
مباشرة هذه الأمور، وهذه صيغ الوكالة التي اضطرب فيها كلامهم، وقبولها إنما
هو عبارة عن امتثال تلك الأوامر والمسارعة إلى الاتيان بها، وليس في شئ منها
لفظ وكلت وقبلت ولا نحوهما، ولكنهم لعدم مراجعة الأخبار في هذه الأبواب
والجري على أبحاث العامة تلبس عليهم كثير من الأحكام.
وبالجملة فإن كلامهم في هاتين المسألتين لا يخلو من تناقض واضطراب،
ولا سيما شيخنا العلامة، فإنه أطلق القول بالبطلان في المسألتين في التحرير والارشاد،
وهو ظاهر الشرايع أيضا "، وجزم في القواعد بصحة التصرف هنا، وجعله احتمالا "
في مسألة بطلان الوكالة بالتعليق على الشرط، وعكس في التذكرة كما قدمنا نقله
عنه في تلك المسألة، فاستقرب بقاء الإذن الضمني وجعل بقائه هنا احتمالا " فصار
في المسألة ثلاثة أقوال.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسألة الأولى التوقف، كما مر في عبارته
وربما ظهر منه هنا الترجيح لما ذهب إليه في القواعد، حيث قال هنا ويمكن
بناء هذا الحكم عليما تقدم من أن بطلان الوكالة هل يقتضي بطلان الإذن العام
أو لا؟ وقد مر تحقيقه لاشتراكهما في بطلان الوكالة هناك، لعدم التنجيز،
وهنا لعدم القبول، إلا أن الحكم هنا لا يخلو عن رجحان على ذلك، من حيث
أن الإذن صحيح جامع للشرايط، بخلاف السابق فإنه معلق، وفي صحته ما قد
17

عرفت، ومن ثم جزم في القواعد ببقاء صحته هنا وجعل الصحة هناك احتمالا " انتهى.
أقول: وأنت إذا تأملت فيما حققناه في المسألتين بعين التحقيق، وأطرحت
ما ادعوه من هذه الاجماعات ورجعت إلى الأخبار التي هي السبيل الواضح إلى الأحكام الشرعية والطريق، ظهر لك المخرج من هذا الاشكال، والنجاة من هذا المضيق،
والله سبحانه العالم.
المقام الثاني في عزل الموكل له: وقد اختلفت الأصحاب في انعزال الوكيل
بعزل الموكل له، فذهب جمع منهم الشيخ في النهاية وأبو الصلاح، وابن البراج،
وابن حمزة، وابن إدريس إلى أنه لا ينعزل إلا باعلامه بالعزل مشافهة، أو أخبار
ثقة، ومع عدم إمكان الاعلام فيكفي الاشهاد على ذلك، فالانعزال دائر بين الاعلام
والاشهاد مع عدم إمكانه، وبدون ذلك لا ينعزل والمشهور بين المتأخرين وهو قول
الخلاف أنه لا ينعزل إلا بالاعلام، وقيل: إنه ينعزل بمجرد العزل، وإن لم
يعلمه ولم يشهد على ذلك، وهو قول القواعد.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة ما رواه في الفقيه والتهذيب عن
العلا بن سيابة (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة وكلت رجلا بأن يزوجها
من رجل، فقبل الوكالة وأشهدت له بذلك، فذهب الوكيل فزوجها، ثم إنها
أنكرت ذلك الوكيل، وزعمت أنها عزلته عن الوكالة، فأقامت شاهدين أنها
عزلته، فقال: ما يقول من قبلكم في ذلك؟ قلت: يقولون: ينظر في ذلك،
فإن كانت عزلته قبل أن يزوج فالوكالة باطلة، والتزويج باطل، وإن عزلته وقد
زوجها فالتزويج ثابت على ما زوج الوكيل وعلى ما اتفق معها من الوكالة إذا لم
يتعد شيئا " مما أمرت به واشترطت عليه في الوكالة، قال: ثم قال: يعزلون
الوكيل عن وكالتها ولا تعلمه بالعزل، فقلت: نعم: يزعمون أنها: لو وكلت

(1) الفقيه ج 3 ص 48 ح 3، التهذيب ج 6 ص 214 ح 5، الوسائل ج 13
ص 286 ح 2.
18

رجلا وأشهدت في الملأ وقالت في الملأ اشهدوا أني قد عزلته بطلت وكالته،
بلا أن تعلم العزل، وينقضون جميع ما فعل الوكيل في النكاح خاصة. وفي غيره
لا يبطلون الوكالة، إلا أن يعلم الوكيل بالعزل، ويقولون: المال منه عوض لصاحبه
والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد، فقال عليه السلام سبحان الله ما أجور هذا
الحكم وأفسده، إن النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه، وهو فرج ومنه يكون
الولد، إن عليا " عليه السلام أتته امرأة مستعدية على أخيها، فقالت: يا أمير المؤمنين وكلت
أخي هذا بأن يزوجني رجلا " فأشهدت له ثم عزلته من ساعته تلك فذهب وزوجني
ولي بينة أني قد عزلته قبل أن يزوجني، فأقامت البينة، وقال الأخ:
يا أمير المؤمنين عليه السلام إنها وكلتني ولم يعلمني أنها عزلتني عن الوكالة حتى
زوجتها كما أمرتني به، فقال لها ما تقولين:؟ فقالت: قد أعلمته يا أمير المؤمنين
فقال: لها: ألك بينة بذلك؟ فقالت: هؤلاء شهود يشهدون بأني قد عزلته فقال
أمير المؤمنين عليه السلام لهم ما تقولون؟ قالوا: نشهد أنها قد قالت اشهدوا أني قد عزلت
أخي فلانا " عن الوكالة بتزويجي فلانا " وأني مالكة لأمري من قبل أن يزوجني
فلانا " فقال: أشهدتكم على ذلك بعلم منه ومحض، قالوا: لا، قال فتشهدون
أنها أعلمته العزل كما أعلمته الوكالة؟ قالوا: لا، قال: أرى الوكالة ثابتة، والنكاح
واقعا أين الزوج فجاء فقال خذ بيدها بارك الله لك فيها، فقالت: يا أمير المؤمنين
أحلفه أني لم أعلمه العزل وأنه لم يعلم بعزلي إياه قبل النكاح قال: وتحلف؟ قال:
نعم يا أمير المؤمنين فحلف وأثبت وكالته وأجاز النكاح.
وما رواه في الفقيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم (1) وطريقه إلى ابن أبي عمير صحيح، عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل وكل آخر على وكالة في أمر من
الأمور وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لامضاء الأمر فقال: اشهدوا
أني قد عزلت فلانا " عن الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكل

(1) الفقيه ج 3 ص 49 ح 5، الوسائل ج 13 ص 286 ح 1.
19

عليه قبل العزل عن الوكالة فإن الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل، كره الموكل أم
رضي، قلت: فإن الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم بالعزل أو يبلغه أنه قد عزل عن الوكالة
فالأمر على ما أمضاه؟ قال: نعم قلت: فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر، ثم ذهب حتى
أمضاه لم يكن ذلك بشئ؟ قال: نعم، إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس
فأمره ماض أبدا " والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه، أو يشافه
بالعزل عن الوكالة " ورواه الشيخ في التهذيب بسند فيه العبيدي (1).
وما رواه في الفقيه عن ابن مسكان عن أبي هلال الرازي (2) قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: رجل وكل رجلا " بطلاق امرأته إذا حاضت، وطهرت، وخرج الرجل
فبدا له فأشهد أنه قد أبطل ما كان أمره به، وأنه بدا له في ذلك، قال: فليعلم
أهله وليعلم الوكيل.
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن جابر بن يزيد ومعاوية بن وهب (3) عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا "
حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول، فيها " وطريقه في الفقيه إلى
معاوية بن وهب صحيح، فتكون الرواية فيه صحيحة.
وأنت خبير بما في هذه الأخبار من الدلالة الصريحة على القول المشهور بين
المتأخرين، وقد اشتملت رواية العلا بن سيابة على ما يؤذن ببطلان ما ذهب إليه
في القواعد، لقوله عليه السلام في الرد على العامة يعزلون الوكيل عن الوكالة ولا تعلمه
العزل إلى آخره، وكذا بطلان قول النهاية ومن تبعه من الاكتفاء بمجرد الاشهاد
مع عدم إمكان الاعلام، كما يفهم من حكم أمير المؤمنين عليه السلام في قضية المرأة
المذكورة ونحوها صحيحة هشام بن سالم (4).

(1) التهذيب ج 6 ص 213 ح 2.
(2) الفقيه ج 3 ص 48 ح 2 و ص 47 ح 1، التهذيب ج 6 ص 214 ح 4 و ص 213 ح 1، الوسائل ج 13 ص 288 باب 3 و ص 285 باب 1.
(3) الفقيه ج 3 ص 48 ح 2 و ص 47 ح 1، التهذيب ج 6 ص 214 ح 4 و ص 213 ح 1، الوسائل ج 13 ص 288 باب 3 و ص 285 باب 1.
(4) الفقيه ج 3 ص 49 ح 5، التهذيب ج 6 ص 213 ح 2، الوسائل ج 13 ص 286 ح 1.
20

بقي هنا شئ وهو ظاهر عبارة الخلاف وجود الرواية بالانعزال بمجرد
العزل، كما ذهب إليه في القواعد، حيث قال: إذا عزل الموكل وكيله من الوكالة
في غيبة من الوكيل، لأصحابنا فيه روايتان أحديهما أنه ينعزل في الحال،
وإن لم يعلم الوكيل وكل تصرف يتصرف فيه الوكيل بعد ذلك يكون باطلا،
وهو أحد قولي الشافعي، والثانية أنه لا ينعزل حتى يعلم الوكيل ذلك، وكل ما
يتصرف فيه يكون واقعا موقعه إلى آخره.
وأنت خبير بأن هذه الرواية لم تصل إلينا ولم ينقلها أحد غيره وبذلك اعترف
في المختلف أيضا حيث قال: ولم نظفر بالرواية الأخرى التي نقلها في الخلاف،
ثم إنه قال في المختلف: والظاهر عدم عزل الوكيل إلا أن يعلم العزل لهذه
الروايات، ولأنه لو انعزل قبل علمه كان فيه ضرر، لأنه قد يتصرف تصرفات تقع
باطلة، وربما باع الجارية فيطؤها المشتري، والطعام فيأكله أو غير ذلك فيتصرف
فيه المشتري ويجب ضمانه بتصرف المشتري والوكيل.
ثم قال: والقول الآخر ليس بردئ، لأن الوكالة من العقود الجائزة،
فللموكل الفسخ وإن لم يعلمه الوكيل، وإلا كانت لازمة حينئذ هذا خلف، ولأن
العزل رفع عقد، لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يفتقر إلى علمه كالطلاق، والعتق،
وقول النهاية لا بأس به لأنه توسط بين الأقوال، انتهى.
ونسج على منواليه المحقق الأردبيلي بالنسبة إلى تعليل هذين القولين، سيما
قول القواعد، وأطال المناقشة والطعن في أسانيد الأخبار حتى أنه في آخر البحث
قال: والمسألة من المشكلات، لما علمت مما تقدم.
وأنت خبير بأن كل ذلك اجتهاده في مقابلة النصوص، وجرأة تامة على أهل
الخصوص، سيما في الروايات المذكورة ما هو صحيح السند باصطلاحهم مع
صراحة الدلالة بما لا يحوم حوله الشك، والاشكال، ولكنهم جرت عادتهم
بالركون إلى هذه التعليلات العقلية، وترجيحها على الأدلة النقلية، ويتفرع
21

على الخلاف المذكور صحة تصرف الوكيل بعد العزل، وقبل الاعلام بناء على
القول المختار، وعلى القولين الأخيرين من الانعزال بمجرد العزل أو بمجرد الاشهاد
يبطل جميع ما فعليه بعد الأمرين المذكورين، وهو الظاهر، والله سبحانه العالم.
الخامسة: قد صرح الأصحاب بأن الوكالة تبطل بأمور: منها ما تقدم من
عزل الوكيل نفسه على ما قالوه، وعزل الموكل كما عرفت، ومنها التعليق
بالشرط أو الصفة، وقد عرفت الكلام فيه، إلا أن في عد هذا الفرد نوع تسامح.
ومنها موت كل من الوكيل أو الموكل، أما موت الوكيل فظاهر،
وأما موت الموكل فلأن ما وكل فيه ينتقل إلى غيره، فلا يجوز التصرف فيه إلا
بإذن من أنتقل إليه، ولأن العقد كان جائزا منوطا " بإذنه، ورضاء هما غير
متحققين بعد الموت.
وبالجملة فإنه لا خلاف ولا اشكال في البطلان في الصورة المذكورة وقد
صرحوا بأنه لو مات الموكل فإن تصرف الوكيل بعد الموت باطل، وإن لم يعلم
الموت، لأن ذلك هو الأصل وإنما خرجت مسألة العزل بالنص.
وعندي فيه توقف، لعدم ايرادهم نصا " على ما ادعوه من البطلان، سيما مع
ما عرفت من خروج النصوص بعدم انعزال الوكيل قبل بلوغ العزل له الجاري
ذلك على خلاف قواعدهم، حتى اضطربوا في التفصي عنها، فمنهم من قال بها،
وألغى تلك القواعد، ومنهم من ألغاها وقدم تلك القواعد، فمن المحتمل قريبا "
أن يكون الحكم هنا كذلك أيضا "، وما ادعوه من الأصل هنا لا أعرف له أصلا ".
وكأنهم أرادوا بالأصل أصل العدم.
وفيه أن الأصل بمعنى الاستصحاب لثبوت الوكالة حتى يقوم الدليل على
الابطال في الصورة المذكورة قائم ومرجع هذا الاستصحاب إلى عموم الدليل،
حتى يثبت الرافع له، ويعضده الأمر بالوفاء بالعقود، وبالجملة فالحكم لعدم
النص لا يخلو عن اشكال.
22

نعم يمكن أن يستدل لما ذكروه بما رواه في الكافي عن ابن بكير في
الموثق عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل أرسل يخطب عليه امرأة
وهو غائب، فانكحوا الغائب وفرضوا الصداق، ثم جاء خبره بعد أنه توفي بعد ما
سيق الصداق، فقال: إن كان أملك بعد ما توفي فليس لها صداق، ولا ميراث،
وإن كان أملك قبل أن يتوفى فلها نصف الصداق، وهي وارثة، وعليها العدة ".
فإنها ظاهرة في أنه وكل في حال الغيبة من يخطب له ويعقد عنه ويسوق
المهر ثم مات، وقد حكم عليه السلام بصحة العقد متى وقع قبل وما لموت، وبطلانه متى كان بعده،
وحينئذ فيتم ما ذكروه من الحكم المذكور، وإن لم يتنبه أحد منهم لهذا الخبر
الذي ذكرناه، بل إنما بنوا الحكم على قواعدهم المتداولة بينهم ثم إنهم نبهوا
على أنه وإن بطلت الوكالة في الصورة المذكورة، لكن ما بيده يكون أمانة لأن
الأمانة لا تبطل بالموت كما تبطل الوكالة إلا أنه يجب المسارعة وردها على الوارث
فإن أخر لا لعذر ضمن، كما تقدم في الوديعة، ولو تلف بغير تفريط فلا ضمان.
ومنها الجنون والاغماء من كل منهما والظاهر أن المستند فيه هو الاجماع
كما في المسالك، فقال: هذا موضع وفاق، ولأنه من أحكام العقود الجائزة،
وكان مبناه على الخروج عن أهلية التصرف وقد صرحوا أيضا " بأنه لا فرق بين أن
يكون مطبقا " أو أدوارا " ولا في الاغماء بين طوله وقصره، ولا فرق بين أن يعلم
الموكل بعروض المبطل وعدمه.
ثم إنهم صرحوا أيضا " بأنه يجئ في هذه المسألة ما تقدم في مسئلتي بطلان
الوكالة بالرد وبالتعليق، من جواز التصرف وعدمه، فإنه بعد زوال الجنون أو
الاغماء الذين بهما بطلت الوكالة، هل يجوز لهما التصرف بالإذن العام فكل من
قال بالجواز ثمة، فإن الحال فيه هنا كذلك.
وقد عرفت مما حققناه في تلك المسألتين، أن الحق هو جواز التصرف بل

(1) الكافي ج 5 ص 415 ح 1، الوسائل ج 14 ص 230 ح 2.
23

عدم بطلان الوكالة بشئ من ذينك الأمرين وإن ادعوا الاجماع عليه فكذلك هنا
لأنا لم نقف لهم على دليل يدل على ابطالهما بما ذكروه، سوى ما ادعي من الاجماع
وحينئذ فيجوز التصرف فيما وكل فيه، لا يحتاج إلى تجديد عقد من الموكل
بعد زوال ذلك عنه لو كان هو المصاب بأحد الأمرين، بل يكفي استصحاب حكم
العقد السابق، أما عندنا فلعدم ثبوت الابطال بذلك كما عرفت، وأما عندهم
فلاستصحاب الإذن العام، لأنه وإن بطل عقد الوكالة إلا أن الإذن باق.
ويؤيد جواز التصرف هنا وإن امتنع بوجود أحد هذين الأمرين جملة من
النظاير، كما صرحوا به من دخول الصيد الغائب في ملك المحرم، بعد زوال
الاحرام، وأن من وكل محلا فصار محرما لم يحتج إلى تجديد الوكالة بعد
تحلله عن الاحرام، ونحو ذلك مما يقف عليه المتبع، وفي جميع ذلك تأييد لما
ذكرناه من عدم بطلان الوكالة هنا.
ومنها الحجر على الموكل فيما يمنع الحجر من التصرف فيه، فإنه إذا منع
ذلك الموكل منع وكيله بطريق أولى، ولأن الحجر موجب لزوال أهلية
التصرف المالي، قالوا: وفي حكم الحجر طرو الرق على الموكل بأن كان كافرا "
فاسترق، ولو كان هو الوكيل صار بمنزلة توكيل عبد الغير، وسيأتي الكلام فيه
انشاء الله تعالى، ويأتي الكلام في التصرف بعد زوال الحجر كما تقدم.
ولا تبطل بالنوم وإن طال لبقاء أهلية التصرف، ومن ثم إنه لا تثبت الولاية
عليه، وقيد في اللمعة النوم المتطاول بأن لا يؤدي إلى الاغماء، وفيه كما أشار
إليه الشارح خروج عن موضع فرض المسألة، لأن الابطال إنما هو بالاغماء،
لا بالنوم.
ومنها تلف ما تعلقت به الوكالة كتلف العبد الموكل ببيعه وموت المرأة
الموكل بتزويجها أو طلاقها، وتلف الدينار الموكل بأن يشري به شيئا، قالوا:
وفي حكم التلف انتقاله عن ملكه كما لو أعتق العبد الموكل في بيعه، أو باع
24

العبد الموكل في عتقه.
ومنها ما لو فعل الموكل ما تعلقت به الوكالة كأن يوكله في بيع عبد ثم
يبيعه هو، وثبوت البطلان ظاهر، إذ لا شك في ثبوت ذلك له قبل الوكالة، والوكالة
غير مانعة منه، ولا منافية له، سيما مع ثبوت كونها جائزة، ومعلوم أنه بعد فعله
لم يبق ما وكل فيه، فلا تبقى الوكالة، لعدم بقاء محلها فهو بمنزلة تلف ما وكل
فيه، كما في سابق هذا المواضع.
وبالجملة فالأمر في ذلك أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بيان، وفي حكمه
فعل الموكل ما ينافي الوكالة، قال في المسالك وفي كون وطئ الزوجة الموكل
في طلاقها والسرية الموكل في بيعها منافيا " وجهان: من دلالة الوطئ على الرغبة
ظاهرا " ولهذا دل فعله على الرجوع في المطلقة رجعية فرفعه للوكالة أولى،
ومن ثبوت الوكالة ومنافاة الوطئ لها غير معلوم، وثبوت الفرق بين الطلاق
والوكالة، فإن الطلاق يقتضي قطع علاقة النكاح فينا فيه الوطئ، بخلاف التوكيل
فإنه لا ينافيه انتفاع الموكل بالملك الذي من جملته الوطئ بوجه نعم فعل مقتضى
الوكالة ينافيه، والأولوية ممنوعة، وهذا أقوى وأولى بعدم البطلان فعل
المقدمات.
وفي القواعد فرق بين الزوجة والسرية فقطع في الزوجة بالبطلان، وفي
السرية بخلافه، وفي التذكرة توقف في حكم الوطئ والمقدمات معا " انتهى، ونحوه
كلام المحقق الثاني في شرح القواعد.
والتحقيق أن يقال: إن الوطي والمقدمات التي هي عبارة عن التقبيل والمباشرة
دون الفرج ونحو ذلك الدال بظاهره على الرغبة إن وقع مقرونا " بالندامة على
التوكيل وقصد العزل، فإنه لا اشكال في كونه عزلا "، وأنه تبطل الوكالة بذلك،
وإن وقع مقرونا " بعدم ذلك، فالظاهر بقاء الوكالة وعدم العزل، وإن وقع مشتبها "
فإنه ينبغي استفسار ذلك من الموكل، ويقبل قوله في ذلك، وإن لم يمكن مراجعته
25

واستعلام الحال منه فإن الأقرب عدم العزل وبقاء الوكالة، لأن ما فعله من هذه
الأشياء أعم من قصد الامساك والعزل عن الوكالة والرغبة فيها، ومن عدم ذلك،
فالأصل ثبوت الوكالة وبقائها حتى يعلم الرافع لها.
ويشير إليه ما تقدم في الأخبار المتقدمة من قوله عليه السلام في بعضها " الوكالة
ثابتة أبدا " حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها " وفي آخر " الوكالة
ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه، أو يشافه العزل " الدال جميع ذلك على
أنه بعد ثبوت الوكالة، فإنه يجب البقاء عليها إلا مع العلم بالرافع لها،
ولهذا لو كان المبلغ للعزل غير ثقة لا يترتب على خبره العلم لم يوجب العزل،
فكذا هنا بمجرد وقوع هذه الأشياء على وجه لا يعلم به إرادة العزل لا توجب عزلا،
ويمكن ارجاع كلام الفاضلين المذكورين إلى ما حققناه هنا، فإن ظاهر اعتراضهما
على الوجه الأول بأن منافاة الوطئ لها غير معلوم أنه لو كانت المنافاة معلومة
لكان ذلك عزلا "، وحينئذ فإذا كان مقرونا " بالمنافي من قصد الامساك وقصد العزل عن
الوكالة فلا ريب في كونه عزلا عندهما، وأما ما نقله عن التذكرة من أنه توقف
في حكم الوطئ والمقدمات فالذي يظهر لي أن التوقف إنما هو في المقدمات.
وأما حكم الوطئ فالظاهر أنه الأقرب عنده، وإن عبر عنه بلفظ الاحتمال
حيث قال في عد عبارات العزل والفسخ فإذا وكله في طلاق زوجته ثم وطئها احتمل
بطلان الوكالة، لدلالة وطئه لها على رغبته واختياره امساكها، وكذا لو وطئها
بعد طلاقها رجعيا، كان ذلك ارتجاعا " لها، فإذا اقتضى الوطئ رجعتها بعد طلاقها،
فلأن يقتضي استبقاؤها على زوجيتها ومنع طلاقها أولى، وإن باشرها دون الفرج
أو قبلها لا أو فعل ما يحرم على غير الزوج فهل يفسخ الوكالة في الطلاق؟ اشكال، ينشأ
من حصول الرجعة به، وعدمه انتهى.
والتقريب فيما ذكرناه أنه ذكر الدليل على بطلان الوكالة بالوطئ ولم
يتعرض لرده، بل جمد عليه بل جعله أولى من الرجعة، فكيف ينسب له التوقف
26

مع الحكم بذلك عنده فلي الرجعة، وعدم التوقف فيها وهو قد حكم بالأولوية
من الرجعة.
نعم التوقف في المقدمات ظاهر حيث صرح بالاشكال في ذلك، وجعل الاشكال
في الابطال بها تابعا " للاشكال بحصول الرجعة بذلك، والله سبحانه العالم.
السادسة: قالوا: اطلاق الوكالة يقتضي الابتياع بثمن المثل بنقد البلد حالا "،
وأن يبتاع الصحيح دون المعيب، ولو خالف وقف على الإجازة.
أقول: الظاهر أن الوجه في اقتضاء الاطلاق هذه الأمور هو أن المتبادر من
الاطلاق ذلك بحسب العرف والعادة، لأن المرجع في مثل ذلك إليه كما صرحوا
به في غير موضع، وادعى في التذكرة الاجماع هنا على ذلك، إلا أنه في التذكرة
قيد اطلاق الوكالة في البيع بثمن المثل، بما إذا لم يكن هناك باذل بأزيد، وإلا
فلا يجوز، بل لا يصح البيع حينئذ، فإنه تجب رعاية المصلحة على الوكيل وصحة
فعله موقوفة عليها، قال في الكتاب المذكور: كما لا يجوز للوكيل أن ينقص
عن ثمن المثل، لا يجوز أن يقتصر عليه، وهناك طالب بالزيادة، بل يجب بيعه
على باذل الزيادة، لأنه منصوب لمصلحة الموكل، وليس من مصلحته بيعه بالأقل
مع وجود الأكثر، انتهى، وصرح أيضا " بأنه لو باع بخيار ثم وجد باذلا " يزيد في
الثمن في زمن الخيار وجب عليه الفسخ، تحصيلا " لمصلحة المالك في ذلك والتزام
البيع مناف لها فلا يملكه.
وزاد المحقق الأردبيلي أيضا " أنه يمكن ذلك فيما لو عين الموكل الثمن أيضا "،
قال: فإن تعيينه إنما هو لظن عدم الزيادة عليه، وهو المفهوم عرفا " إذ المتعارف
والغالب أن شخصا " لم يبع بأنقص مع وجود الزايد، والأمور محمولة على الغالب
والعرف، مع أن ذلك أيضا " منوط بالمصلحة، ولا مصلحة في البيع بالناقص مع
وجود الزايد، انتهى وهو غير بعيد، واستثنى بعضهم أيضا " من ثمن المثل النقصان
اليسير الذي يتسامح الناس فيه، ولا يناقشون فيه كدرهم أو درهمين في ألف درهم.
27

ولا بأس به نظرا " إلى ما قدمنا ذكره من دوران هذه الأحكام مدار العرف والعادة.
وأما نقد البلد فإن كان واحدا " في تلك البلد، لا تعدد فيه فمعلوم انصراف
الاطلاق إليه في الوكالة، ومع التعدد فإنه ينصرف إلى الغالب، فإن استوت
تحرى ما هو الأنفع للموكل، وإلا تخير.
وأما كونه حالا " فإنه هو الغالب في العادة، فيجب حمل الاطلاق عليه.
وأما اقتضاء الاطلاق الصحيح دون المعيب: فادعى عليه في التذكرة الاجماع،
قال: لأن الاطلاق في الشراء يقتضي سلامة المبيع، حتى أن للمشتري الرد
لو خرج معيبا "، ثم نقل عن أبي حنيفة جواز شراء المعيب، وأنه كالمضارب ثم
رده بالفرق بين المضارب والوكيل، وأن المضارب إنما يشتري للربح، وقد يكون
في المعيب، بخلاف الوكيل فإنه قد يكون للغنية والانتفاع، والعيب قد يمنع بعض
المقصود، وإنما يقتضي ويدخر السليم، إلى آخر كلامه رحمة الله عليه.
ثم إنه لو خالف الوكيل وشرى المعيب، فإن كان عالما " كان فضوليا على القول
بصحة الفضولي، وباطلا " على القول الآخر، وهو المختار كما تقدم في البيع، ومثله
يأتي فيما لو اشترى بزيادة على ثمن المثل عالما "، فإنه للمخالفة يكون موقوفا " أو
باطلا "، وكذا الحكم عندهم فيما لو اشتراه جاهلا " بالعيب.
وإن كان باطنا " قالوا: يقع عن الموكل، لأنه إنما يلزمه الشراء الصحيح
بحسب الظاهر، ولا يخاطب بالسلامة، في الباطن، لأنه يعجز عنه، ولا يمكنه
الوصول إليه إذ هو عيب لا يجوز التكليف به، فيقع البيع للموكل، كما لو شرى
بنفسه جاهلا " بالعيب.
بقي الكلام في خيار العيب بعد العلم به، والرد به أو الامساك، والظاهر
أنه للموكل دون الوكيل وبه صرح في التذكرة، وظاهره الاجماع عليه، قال:
وحيث قلنا يقع عن الموكل وكان الوكيل جاهلا " بالعيب فللموكل الرد إذا
اطلع عليه، لأنه المالك، وهل يملك الوكيل الرد بالعيب، أما عندنا فلا، لأنه
28

إنما وكله في الشراء، وهو مغاير للرد، فلا يملكه، انتهى.
ومنه يظهر أنه لو كانت الوكالة مطلقة أو كان وكيلا " في الشراء والرد،
فإن للوكيل الرد، وهو ظاهر إلا أنه سيأتي في كلامهم أيضا " ما يؤذن بأن للوكيل
الرد بالعيب.
ثم إن ظاهرهم فيما لو اشترى جاهلا " بالغبن، بأن شرى بما يزيد على ثمن
المثل جاهلا "، فإنه لا يقع للموكل، كما في العيب، بل يكون حكمه حكم العالم،
كما تقدم، قالوا: والفرق بين الجهل بالعيب، والجهل بالغبن أن العيب قد يخفى
فهو في شرائه معذور، والوكالة شاملة له، لأن التكليف بالصحيح إنما هو بالنظر
إلى الظاهر، لا الباطن كما عرفت آنفا.
وبالجملة فهو لا يزيد على شرائه لنفسه، بخلاف الجهل بالغبن فإن الغبن
لا يخفى، ونقص القيمة أمر ظاهر، مستند إلى تقصيره في تحرير القيمة، فلا يكون
داخلا تحت الوكالة.
وفيه أن ما ذكروه لا يطرد كليا لأنه وإن تم ذلك في بعض الأفراد إلا أن
الأمر في بعضها على خلاف ذلك، فإن من العيب ما يكون ظاهرا " لا خفاء فيه كالعور
والعرج، ومن الغبن ما هو خفي بل أخفى على كثير من أهل الخبرة، كما في كثير
من العيوب، كما في الجواهر ونحوها، وعلى هذا فينبغي أن يجعل الضابط فيهما
واحدا " بأن يقال إن كلا " من العيب والغبن إن كان مما يخفى غالبا "، فإنه يقع الشراء
من الموكل مع الجهل بهما، وإلا وقف على الإجازة، كما ذكروه، وبطل على
المختار، والله سبحانه العالم.
السابعة: الظاهر أنه لا خلاف في أن اطلاق الوكالة بالبيع يقتضي بيع
الوكيل على ولده الكبير وزوجته، كما في غيرهما، ولم ينقل فيه الخلاف إلا عن
بعض العامة، محتجا بمظنة التهمة، وأما على الولد الصغير فعن الشيخ القول
بالمنع: للزوم اتحاد الموجب والقابل، ولأنه تجب عليه رعاية المصلحة من
29

الجانبين والمماكسة مهما أمكن، وذلك غير ممكن هنا.
أقول: ويلزم ذلك كل من قال بعدم جواز شراء الوكيل بنفسه، قال في
التذكرة: إذا منعنا من شراء الوكيل لنفسه لم يجز أيضا " أن يشتري لولده
الصغير، ولا لمن يلي عليه الوصية، لأنه يكون بيعا " من نفسه، وبه قال الشافعي،
وعندي فيه نظر، أقربه الجواز في ذلك كله، انتهى.
أقول: ويؤيد الصحة أيضا " عموم أدلة البيع وأدلة الوكالة، والمنع من بطلان
الاتحاد، وقد جوز الشيخ ذلك في الأب والجد بالنسبة إلى الصغير، وهو ظاهر في
عدم مانعية الاتحاد، وفي عدم اشتراط المماكسة.
وأما البيع على نفسه أو الشراء لنفسه، فقد تقدم الكلام فيه في الموضع
الخامس من المسألة الخامسة من المقام الأول في البيع (1) ويأتي الكلام في ذلك
انشاء الله تعالى في المطلب السادس، والله سبحانه العالم.
الثامنة: قال في الشرايع: اطلاق الوكالة في البيع يتقضى تسليم المبيع،
لأنه من واجباته، وعلله الشارح في المسالك بأنه إنما كان من واجباته، لأن
البيع يقتضي إزالة ملك البايع عن المبيع، ودخوله في ملك المشتري، فيجب على
مدخل الملك التسليم، لأنه من حوقه،
وقال في الإرشاد: ووكيل البيع لا يملك تسليم المبيع قبل توفية الثمن،
ووجهه الشارح الأردبيلي بأن تسليم المبيع ليس بداخل في مفهوم البيع، ولا
يشترط في ذلك، فلا يكون وكيله مالكا " له، إذ ما وكله إلا في البيع، وأما إذا
دفع الثمن إلى الموكل أو وكيله الجائز له قبضه، أو أبرأه من الثمن فلا يجوز
منعه، لأنه صار ملكا " خالصا " للمشتري، بحيث لا يجوز للموكل منعه، فيجب
عليه التسليم كالوكيل، وإن لم يكن وكيلا " في التسليم صريحا، انتهى.
وظاهر عبارة القواعد مثل الشرايع، والظاهر أنه يجب تقييد هما بما ذكره
30

هنا من دفع الثمن أولا "، بناء على قاعدتهم من عدم الوجوب إلا بالتقابض،
وكذا تقييد عبارة المسالك المذكورة، فإنه وإن دخل في ملك المشتري بمجرد
عقد البيع كما ذكره، إلا أن ملكه له لا يستلزم وجوب تسليمه له قبل قبض
الثمن منه، حيثما صرحوا به فيما لو باع ما نفسه، كما تقدم في البيع، ولهذا
إنه في المسالك استدرك ذلك، فقال في تتمة العبارة المتقدمة: لكن لا يسلمه حتى
يقبض الثمن هو، أو من يكون له قبضه.
قال في التذكرة: إذا وكله في البيع يمكنه تسليم المبيع إلى المشتري إن
كان في يده، وهو قول أكثر الشافعية، لأن البيع يقتضي إزالة الملك، فيجب
التسليم، ولأن تسليم المبيع إلى المشتري من تمامه وحقوقه، وهذا عين ما علله
في المسالك، ثم قال في المسألة التي بعدها: إذا وكله في البيع لم يملك قبض
الثمن على ما تقدم، ويملك تسليم العين إلى المشتري، لكن لا يسلم قبل أن يقبض
الموكل أو من نصبه الثمن، فإن سلمه قبل قبضه كان ضامنا "، وقد قيد في هذه
المسألة ما أطلقه في المسألة التي قبلها.
وبالجملة فإن رعاية قواعدهم في المسألة توجب ذلك، ولهذا إنه في
المسالك استدرك بالتقييد بذلك، هذا بالنسبة إلى تسليم المبيع.
وأما قبضه الثمن فقد صرحوا بأن اطلاق الوكالة في البيع لا يقتضي قبض
الثمن، لأنه قد لا يؤمن على القبض والوكالة إنما وقعت في البيع، وقبض الثمن
أمر زايد على ذلك، إلا أن يكون هناك قرينة تدل عليه، فيكون الاعتماد
في ذلك عليها، كما لو أمره بالبيع في سوق بعيدة أو بلد آخر بحيث أنه يضيع
الثمن بترك قبضه، ولا يمكن للموكل قبضه، ففي مثل ذلك يجوز، بل يجب
قبضه حتى أنه لو تركه ولم يقبضه كأنه ضامنا، لأن الظاهر من حال الموكل
أنه إنما أمره بالبيع للانتفاع بالثمن، ولا يرضى بتضييعه، ولهذا يعد من فعل
ذلك مفرطا " هذا في الوكيل في البيع.
31

وأما الوكيل في الشراء فإنهم قد صرحوا بأن اطلاق الوكالة في الشراء
يقتضي الإذن في تسليم الثمن، ولا يقتضي الإذن في تسلم المبيع، قال في التذكرة:
الوكيل بالشراء إذا اشترى ما وكل فيه ملك تسليم ثمنه، لأنه من تتمته
وحقوقه، فهو كتسليم المبيع في الحكم، والحكم في قبض المبيع كالحكم في
قبض الثمن في البيع، الوجه عندنا أنه لا يملكه، كما قلناه في البيع لا يملك
الوكيل فيه قبض الثمن، انتهى، وعلى هذا النهج كلام الشرايع والارشاد وغيرهما.
أقول: وينبغي تقييد اطلاقهم هنا عدم ملكه تسلم المبيع، لعدم دخوله
تحت اطلاق الوكالة بما قيد به عدم قبض الثمن في صورة الوكالة في البيع،
من أنه لو دلت القرائن على فوات المبيع وذهابه لو لم يتسلمه لكان الواجب
عليه قبضه، فضلا " عن أن يكون جايزا " لعين ما ذكروه ثمة، كما لو وكله في
شراء عين من مكان بعيد يتعذر على الموكل قبضها، بحيث لو لم يقبضها ذهبت
وفاتت، فإنه يجب عليه قبضها، وأنه يضمن بترك ذلك لعين ما تقدم،
وينبغي أيضا تقييد اطلاقهم ملك تسليم الثمن هنا بما تقدم في الوكالة في
البيع من تقييد ملكه لتسليم المبيع، بما إذا قبض الموكل أو من يقوم مقامه الثمن
لعين ما تقدم من الدليل في تلك الصورة، ولعله إلى ذلك يشير قوله في التذكرة:
فهو كتسليم المبيع فإن قياسه على تسليم المبيع وجعله مثله وعلى نهجه مع أنه
كما عرفت قد صرح ثمة بأنه لا يسلم المبيع الموكل أو من نصبه الثمن،
بمقتضى ما قلناه هنا من أنه لا يسلم الثمن إلا بعد قبض المبيع، فمعنى قولهم أنه
مأذون في دفع الثمن يعين بعد تسليم المبيع.
وبالجملة فالظاهر عدم الفرق بين الوكيل البايع والوكيل المشتري، في أنه
ليس لهما دفع ما بيدها واقباضه إلا بعد وصول عوضه إلى الموكل أو من نصبه
لقبضه، حيثما تقدم في كلامهم في البيع في غير موضع من اشتراط التقابض ونحوه
والله سبحانه العالم.
32

التاسعة: قد صرح جمع من الأصحاب منهم الفاضلان في الشرايع والارشاد
بأن الوكيل الرد بالعيب مع حضور الموكل وغيبته، وعلله في الشرايع قال:
لأنه من مصلحة العقد.
أقول: قد تقدم في عبارة التذكرة في المسألة السادسة ما يؤذن بدعوى
الاجماع على أن الوكيل لا يملك الرد بالعيب، لأنه إنما وكله في الشراء وهو
مغاير للرد فلا يملكه، وعلل في المسالك كلام المصنف هنا بأن الموكل قد أقامه
مقام نفسه في هذا العقد، والرد بالعيب من لوازمه لأن التوكيل لما لم ينزل
إلا على شراء الصحيح، فإذا ظهر العيب كان لها الرد وشراء الصحيح، ثم اعترضه
فقال: ويشكل الأول بأنه إنما أقامه مقام نفسه في العقد، لا في اللوازم، إذ من
جملتها القبض، والإقالة وغيرهما، وليس له مباشرتهما اجماعا، والثاني بأن مقتضاه
وقوف العقد على الإجازة كما مر لا ثبوت الرد، إلى أن قال: والأجود عدم جواز
الرد مطلقا، وفاقا " للتذكرة، لأن الوكالة في الشراء إنما اقتضت إدخال المبيع
في ملكه، والرد يقابله ويضاده، فلا يدخل فيها، انتهى وهو جيد.
وكيف كان فإنه متى رضي به الموكل أو منعه عن الرد فإنه ليس له الرد،
أما على ما اخترناه فإنك قد عرفت أن الوكيل ليس له الرد، وإنما الخيار للموكل
بين الرد والامساك.
وأما على ما ذكروه هنا من أن للوكيل الرد فلأنه بمنعه عن الرد قد انعزل عن
الوكالة في ذلك، كما ذكره في المسالك بناء على ذلك، حيث قال بعد قول المصنف
ولو منعه الموكل لم تكن له مخالفته ما لفظه: لا شبهة في بطلان رده بالنهي
المذكور، لأنه ابطال للوكالة فيما تضمنه، وعزل له فيه، وإذا جاز عزله عن
الوكالة فمن بعض مقتضياتها أولى وفي حكمه إظهار الرضا بالعيب، فإنه في معنى
النهي عن الرد وأراد بذلك الفرق بين الوكيل، وعامل المضاربة، حيث إنه قد
سلف أن ليس للمالك منعه من الرد بالعيب، وإن رضي به مع كون العامل في
معنى الوكيل، والفارق انحصار الحق هنا في الموكل واشتراكهما في العامل.
33

المطلب الثاني فيما تصح النيابة فيه وما لا تصح:
قال في التذكرة: البحث الرابع فيما فيه التوكيل والنظر في شرائطه،
وهي ثلاثة: الأول: أن يكون مملوكا " للموكل، الثاني: أن يكون قابلا "
للنيابة، الثالث: أن يكون ما به التوكيل معلوما " ولو اجمالا "، انتهى.
والكلام في هذا المطلب يقع في موارد: الأول: قال في التذكرة: يشترط
فيما يتعلق الوكالة به أن يكون مملوكا " للموكل، فلو وكل غيره بطلاق زوجة
سينكحها أو بشراء عبد سيملكه، أو اعتاق رقبة يشتريه، أو قضاء دين يستدينه، أو
تزويج امرأة إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها، وما أشبه ذلك، لم يصح، لأن الموكل
لا يتمكن من فعل ذلك بنفسه، فلا تنتظم فيه إقامة غيره، وهو أصح وجهي الشافعية.
الثاني: إنه صحيح، ويكتفي بحصول الملك عند التصرف، وأنه المقصود
من التوكيل، وقال بعض الشافعية: الخلاف عائد إلى أن الاعتبار بحال التوكيل
أم حال التصرف، انتهى.
أقول: ينبغي أن يعلم أن المراد بكون متعلق الوكالة مملوكا " للموكل
بمعنى كونه مما يمكن الموكل التصرف فيه، ومباشرته بنفسه عقلا " وشرعا "،
ومثل هذه الأمور المعدودة لما لم يمكنه مباشرتها بشئ من الوجهين المذكورين
انتفت الوكالة فيها، وأولى منها الأمور المستحيلة عقلا " أو شرعا "، فلا يجوز
التوكيل في الغصب والسرقة والقتل ونحوه، وأحكامها إنما تلزم المباشر لها،
وهل يعتبر الامكان المذكور من حين التوكيل إلى حين التصرف، ظاهر جمع منهم
ذلك على ما نقله في الكفاية، وهو ظاهر عبارة التذكرة المتقدمة.
وقال المحقق الثاني في شرح القواعد على ما نقله بعض الأفاضل فمن شرط
صحة الوكالة أن يكون التصرف مملوكا " للموكل في وقت صدور عقد التوكيل
والظاهر أن ذلك متفق عليه عندنا، وللشافعية خلاف في ذلك.
34

أقول: ومنه يعلم أن الاكتفاء بحصول الملك وقت التصرف مختص بالعامة
كما تقدم نقله عن بعض الشافعية، وقد تلخص من ذلك أنه متى كان شرط الوكالة
ذلك امتنع التوكيل في هذه الأفراد المعدودة، إلا أنه قد أورد المحقق الأردبيلي
هنا عليهم اشكالا "، وهو أنهم قد حكموا بجواز التوكيل للطلاق في طهر المواقعة
وفي حال الحيض، وأنهم يجوزون التوكيل في تزويج امرأة وطلاقها قبل التزويج
وكذا في شراء عبد وعتقه من غير نزاع، ثم نقل عن التذكرة التصريح بذلك،
ثم قال: وأيضا " يجوزون الطلقات الثلاث مع رجعتين بينهما، ومعلوم جواز عقد
القراض، وهو مستلزم للبيوع المتعددة الواردة على المال مرة بعد أخرى، وليس
بموجود حال العقد.
وبالجملة لا شك في جواز التوكيل في أمر لا يكون بالفعل للموكل فعله
بل بعد فعل آخر كما مثلناه، وجميع ذلك مع قولهم بهذا الشرط مشكل، إلى أن
قال: فهذا الشرط غير متحقق اعتباره لي، سواء قلنا وقت التوكيل فقط، أو يستمر
إلى وقت الفعل انتهى.
أقول: من المحتمل قريبا " حصول الفرق بين ما قدمنا ذكره عن التذكرة من
الأمثلة التي يمتنع التوكيل فيها لعدم الشرط المذكور، وبين ما ذكره من
الأمثلة بأن يقال: بالفرق بين ما وقع فيه التوكيل مستقلا كالأمثلة التي منعوا
عن الصحة فيها، وبين ما وقع التوكيل فيه تبعا " لما يجوز التوكيل فيه اتفاقا "
كالأمثلة التي أوردها، فيبطل في الأول، ويصح في الثاني، ويشير إلى ذلك،
جمعه في التذكرة بين الكلام الذي اعترض به عليه، وبين ما قدمنا نقله عنه في صدر
المسألة في موضع واحد، فإنه قال: على أثر ما قدمناه في صدر المسألة ما صورته:
ولو وكله في شراء عبد وعتقه أو في تزويج امرأة وطلاقها، أو في استدانة دين
وقضاءه صح ذلك كله، لأن ذلك مملوك للموكل، انتهى.
وحينئذ فلو لم يكن الفرق حاصلا بما ذكرنا بل كان الجميع من باب
35

واحد كما ذكره، لحصل التدافع بين كلاميه، فكيف يصرح في محل واحد في
بعض الأمثلة بأنه لا يصح التوكيل، لأنه لا يملك التصرف، ويقول في نظيره أنه
يصح، لأن ذلك مملوك للموكل.
وبالجملة فإن الفرق بين وقوع الشئ أصالة وتبعا غير عزيز في الأحكام،
وقد تقدم في الضمائم إلى ما لا يصح بيعه منفردا " ما هو ظاهر في ذلك، ومنه أيضا "
عدم جواز الوقف على من لم يوجد أصالة، وصحة الوقف عليه تبعا " فلو وقف
على من سيولد له بطل اتفاقا "، وعلى من ولد ومن سيولد صح اتفاقا.
نعم يبقى الكلام في الدليل الدال على هذا الشرط، ولا أعلم لهم دليلا " زيادة
على ما يفهم من الاتفاق الذي ادعاه المحقق الشيخ علي، وفيه ما عرفت في غير
مقام مما تقدم فالمسألة غير خالية، من الاشكال، كما في غيرها من مسائلهم الجارية
على هذا المنوال.
الثاني: قد عرفت أن من الشروط قبول الفعل الموكل فيه للنيابة، والأصحاب
قد جعلوا لذلك ضابطا "، فقالوا ": إن كلما تعلق قصد الشارع بايقاعه من المكلف
مباشرة فإنه لا يقبل التوكيل، ولا تصح فيه النيابة، فكلما جعل ذريعة إلى غرض
لا يختص بالمباشرة تصح النيابة فيه.
قال في التذكرة، الضابط فيما تصح فيه النيابة وما لا يصح أن نقول: كلما
يتعلق غرض الشارع بايفائه من المكلف مباشرة لم تصح فيه الوكالة، وأما ما لا
يتعلق عرض الشارع بحصوله من مكلف معين، بل غرضه حصوله مطلقا، فإنه
تصح فيه الوكالة وذلك لأن التوكيل تفويض وإنابة، فلا يصح فيما لا تدخله
النيابة، انتهى.
وعدوا من الأول الطهارة، وإن جازت النيابة في غسل الأعضاء عند الضرورة،
إلا أن ذلك ليس وكالة، والصلاة الواجبة ما دام حيا "، وكذا الصوم والاعتكاف
والحج الواجب مع القدرة، والأيمان والنذور والغصب والقسم بين الزوجات لأنه
36

يتضمن استمتاعا "، والظهار واللعان وقضاء العدة والجناية، والالتقاط والاحتطاب
والاحتشاش، وإقامة الشهادة إلا على وجه الشهادة على الشهادة.
وعدوا من الثاني البيع، وقبض الثمن، والرهن والصلح، والحوالة
والضمان والشركة والعارية، واختلفوا في جملة الأفراد كما سيأتي التنبيه
عليها انشاء الله تعالى.
أقول: لا يخفى أن الظاهر أن بناء هذا الضابط إنما هو على التقريب في
جملة من هذه المعدودات، وإلا فإنه لا نص على هذا الضابط، ولا دليل عليه من
الأخبار.
أما العبادات فالتقريب فيها أنه لما كان المقصود منها الانقياد والخضوع
والخشوع لله سبحانه، وتهذيب النفس الأمارة وتذليلها كان مستلزما " للمباشرة،
وفعل المكلف بنفسه ليترتب عليه الأغراض المذكورة، ولا ينافي ذلك الاستنابة
في غسل أعضاء الطهارة مع العجز في الطهارة المائية، أو الترابية فإنه لا يسمى وكالة،
ولذلك تجوز الاستنابة فيه، لمن لا يصح توكيله كالمجنون والصغير والنية في ذلك من
المكلف إذ لا عجز فيها إلا مع زوال التكلف بالكلية، وأما تطهير الثوب والبدن
من النجاسة فليس في حد ذاته من العبادات، ليمتنع التوكيل فيه، وإن ألحق
بها من حيث استحباب النية، ولهذا يحكم فيه بالطهارة بحصول الغسل كيف اتفق
وإن كان لا من قصد ولا نية بالكلية.
نعم قد استثنى من العبادات هنا مواضع: منها الصلاة الواجبة كركعتي
الطواف حيث تجوز الاستنابة في الحج الواجب مع العذر، ومنها الحج في الصورة
المذكورة، ومنها الحج المندوب وركعتا الطواف فيه، والطواف المندوب حيث
يناب فيه وصلاة الزيارة، وأما غيرها من النوافل والصوم المندوب ففي جواز
التوكيل فيه اشكال، واطلاق جمع من الأصحاب المنع من الاستنابة في العبادات
يشملهما، وإن قيد الاطلاق في غيرهما لقيام الدليل عليه، ويبقى ما عداه على
37

المنع، ومنها عتق العبد عن كفارة وجبت عليه، ومنها أداء الزكاة الواجبة
والخمس فإنه يجوز التوكيل فيها بغير اشكال وكذا الزكوات المستحبة.
وأما الالتقاط والاحتطاب والاحتشاش فالكلام فيها مبني على ما تقدم
تحقيقه في الشركة في المسألة الثانية من الفصل الثالث اللواحق من الكتاب
المذكور، ومن ذلك يعلم أن هذه الأشياء مما قد اختلف فيه كلامهم.
وهنا مواضع قد وقع الخلاف في جواز التوكيل فيها، منها الاقرار بأن
يقول وكلتك لتقر عني لفلان بكذا وكذا، فذهب الشيخ إلى جواز التوكيل
فيه، هو أحد قولي الشافعية، لأنه قول يلزم به الحق فأشبه الشراء وساير
التصرفات، وتردد في التذكرة، ومن ذهب إلى المنع علله بأن الاقرار اخبار بحق
عليه، ولا يلزم الغير إلا على وجه الشهادة، ولا يليق التوكيل بالانشاءات.
ومنها أيضا " التوكيل في اثبات الحدود التي هي حق الله سبحانه، وأما ما يتعلق
بالآدميين فقد جوزوا الوكالة فيه، ووجه المنع من التوكيل فيها أنه مبنية على
التخفيف، ولقوله (صلى الله عليه وآله) (1) " ادرأوا الحدود بالشبهات "
والتوكيل يؤدي إلى اثباتها، والقول بذلك مذهب الفضلين، في غير التذكرة،
وأما في التذكرة فإنه قال: ويجوز التوكيل في اثبات حدود الله سبحانه، وبه
قال بعض العامة، ثم نقل خبرا " من أخبار العامة يدل على أنه (صلى الله عليه وآله
وسلم) وكل في اثبات الحد واستيفائه، ثم قال: ولأن الحاكم إذا استناب
نائبا " في عمل فإنه يدخل في تلك النيابة الحدود واثباتها فإذا دخلت في التوكيل
بالعموم فبالتخصيص أولى، ثم نقل عن الشافعي المنع من التوكيل في اثباتها،
محتجا " بما تقدم ثم رده بأن للوكيل أن يدرء بالشبهة، وإلى هذا القول قال في
المسالك محتجا " بما ذكره العلامة هنا، وأجاب عن دليل المانع بما أجاب به
هنا أيضا ".

(1) الفقيه ج 4 ص 53 ح 12، الوسائل ج 18 ص 336 ح 4.
38

ومنها الجهاد قال في المبسوط: وأما الجهاد فلا تصح النيابة فيه على حال،
لأن كل من حضر الصف توجه فرض القتال إليه، وكيلا " كان أو موكلا "، وقد
روى أنه تدخله النيابة، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه: والمعتمد دخول
النيابة فيه، ولذا يصح الاستيجار عليه، وهذا اختيار ابن البراج، انتهى.
أقول: ما نقله الشيخ من وجود الرواية بالنيابة لا تحضرني الآن، فإن
ثبت فلا معدل عن القول بها، وبه يزول الاشكال، ويضعف ما ذهب إليه، وما
استدل به العلامة قوي أيضا " إن ثبت صحة الاستيجار عليه، كما ادعاه.
ومنها وكالة الرجل لزوجته في طلاق نفسهما منه، قال في المبسوط:
وأما المرأة فإنها تتوكل لزوجها في طلاق نفسها عند الفقهاء وفيه خلاف بين
أصحابنا، والأظهر أنه لا يصح، وتبعه ابن إدريس قال في المختلف: والوجه عندي
الجواز، لنا أنه فعل تدخله النيابة صدر من أهله في محله، فكان واقعا "، عملا "
بالأصل، ولا يخفى أن ما استدل به، لا يخرج عن المصادرة، وأنه عين المدعى،
وأما التمسك بأصالة الصحة فهو أيضا " لا يخلو من الاشكال.
ومنها توكيل الكافر في تزويج المسلمة، منع عنه في المبسوط، وجوزه
ابن إدريس، واختار في المختلف ما ذهب إليه الشيخ، واستدل عليه بأنه نوع
سلطنة، وثبوت ولاية وسبيل على المسلم، فلا يصح لقوله تعالى (1) " ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ".
أقول: لا يخفى ما في هذا الاستدلال من الوهن، ثم قال: احتج بالأصل
والجواب المنع من التمسك به مع قيام منافيه.
ومنها من وكل غيره في طلاق زوجته وهو حاضر، فذهب الشيخ وجماعة
منهم ابن البراج وأبو الصلاح إلى عدم جواز ذلك، وذهب ابن إدريس ومن
تأخر عنه إلى الجواز، وسيأتي تحقيق المسألة في محلها إن شاء الله تعالى.

(1) سورة النساء الآية 141.
39

ومنها أن يتوكل المسلم للذمي على المسلم، وظاهر الخلاف المنع منه،
وكذا في النهاية، وهو ظاهر الشيخ المفيد أيضا "، ومنع أبو الصلاح من ذلك،
وصرح ابن إدريس والعلامة في المختلف بالجواز، قال في المختلف: لنا الأصل
الدال على الجواز السالم عن المعارضة باثبات السبيل للكافر على المسلم.
ومنها توكيل الحاضر في الخصومة من غير أن يلزمه الحضور رضي خصمه
بذلك أم لا، والمشهور الجواز، وذهب ابن الجنيد إلى أنه مع حضوره لا يجوز
إلا أن يرضى الخصم بمخاصمة وكيل خصمه.
ومنها أيضا " قبض الزكاة والخمس، فهل يجوز للفقير والسيد التوكيل
في قبض ذلك له ممن عليه ذلك، قولان: الجواز وهو قول المبسوط، والمختلف
والتذكرة، والمنع وهو قول ابن إدريس، وابن البراج، إما اخراجهما فلا
خلاف نصا " وفتوى في ذلك.
قال ابن إدريس: قال بعض أصحابنا يجوز من أهل السهمين التوكيل
في قبضها، وقال ابن البراج: لا يجوز، وهو الذي يقوى في نفسي، لأنه لا دلالة
عليه، فمن ادعى ذلك فقد أثبت حكما " شرعيا " يحتاج في اثباته إلى دليل شرعي
ولا دلالة، وأيضا " فالذمة مرتهنة بالزكاة، ولا خلاف بين الأمة إن دفعها إلى
مستحقها يبرء الذمة بيقين، وليس كذلك إذا سلمه إلى الوكيل، لأن الوكيل
ليس هو من الأصناف الثمانية بغير خلاف، لأن الزكاة والخمس لا يستحقهما
وحاد بعينه، ولا يملكهما إلا بعد قبضه لهما، فتعين له ملكهما، والوكيل
لا يستحق إلا ما تعين ملكه للموكل، واستحق المطالبة به، وكل واحد من
أهل الزكاة والخمس لا يستحق المطالبة بالمال، لأن الانسان مخير في وضعه
فيه، أو في غيره، فلا يجبر على تسليمه إليه، انتهى.
واستدل في المختلف على ما ذهب إليه من الجواز، فقال لنا: أنه عمل
مباح يقبل النيابة، فصحت الوكالة فيه، أما إباحته فلا شك فيه، وأما قبوله
40

النيابة فظاهر، ولهذا وضع الشارع نصيبا " للعامل، ولا خلاف أنه يجب دفع الزكاة
إلى الإمام والعامل، ويبرأ ذمة الدافع، وإن تلف لأنهما كالوكيلين لأهل
السهمين، وأي استبعاد في أن يقول الفقير: وكلتك في قبض ما يدفعه المالك
إلي عن زكاته، ولا يستلزم ذلك استحقان المطالبة، بل إذا اختار المالك الدفع
إلى ذلك الفقير جاز الدفع إلى وكيله، انتهى.
أقول: والمسألة لا يخلو عن شوب الاشكال، وإن كان قول ابن إدريس هو
الأقرب إلى جادة الاعتدال، أما ما ذكره العلامة من أنه عمل مباح يقبل النيابة،
فإنه مصادرة ظاهرة، لأن هذا هو عين المدعى، إذ الخصم ينكر ذلك.
وما ذكره من الدفع إلى الإمام بيده أو يد عامله، ففيه أنه ليس كون الإمام
هنا وكيلا " عن المستحقين بأولى من كونه وكيلا " عن المالك، ويكون نائبا " منابه
في تفريقه على المستحقين، ولهذا إن بعض الأصحاب صرح بكونه وكيلا " عن
المالك.
وكيف كان فهو مستثنى بالنصوص الدالة على ذلك، حتى قيل: بوجوب
الدفع إليه، وإن كان المشهور الاستحباب ونائبه عليه السلام في معناه.
وإنما يبقى الكلام فيما عداه، ومما يتفرع على ذلك أنه لو تلف المال في يد
الوكيل بتفريط أو غير تفريط فمقتضى كلام القائل بالجواز براءة ذمة المالك
وهو مشكل، لأنه مأخوذ عليه بظواهر النصوص في براءة ذمة الدافع إلى المستحق،
والمتبادر منه كما هو الشايع المتعارف هو الدفع إليه بيده، والحال أنه لم يدفع
إليه بيده، وكون الدفع إلى وكيله دفعا " إليه، يتوقف على قيام الدليل على صحة
الوكالة في هذه المسألة.
ومما يتفرع على ذلك أيضا " أنه لو تصرف الوكيل في المال المدفوع إليه صح
ذلك ومضى، لأن المستحق الذي وكله لا يستحق المطالبة به، لأنه لا يصير ملكا له
إلا بعد قبضه، فلا يستحق المطالبة به، والدافع قد برئت ذمته كما هو المفروض
41

على هذا القول، وهذا عين السفسطة، ودعوى كون قبض الوكيل في حكم قبض
الموكل، يتوقف على صحة التوكيل بالدليل في الصورة المذكورة، ويمكن أن
يستدل لما ذكره العلامة بعموم أدلة الوكالة، وليس هنا ما يصلح للمنع إلا عدم
تعيين الدفع إلى ذلك الموكل، وجواز العدول عنه إلى غيره، وهذا لا يصلح
للمانعية، إذ يكفي بناء على تسلميه أن يكون ذلك حقا " له في الجملة، وهو هنا
كذلك، ويمكن أن يؤيد ذلك بما صرحوا به من جواز الدفع إلى أطفال المؤمنين،
وأنه يدفع إلى وليهم إن كان، أو عدل يقوم بانفاقه عليهم، وبالجملة فإن المسألة
لعدم الدليل الواضح باقية في قالب الاشكال، والله سبحانه العالم.
الثالث: قد عرفت أن من جملة الشروط العلم بما فيه التوكيل، ولو اجمالا "
قال في التذكرة: لا يشترط في متعلق الوكالة وهو ما وكل فيه أن يكون معلوما "
من كل وجه، فإن الوكالة إنما جوزت لعموم الحاجة، وذلك يقتضي المسامحة
فيها، ولكن يجب أن يكون مبينا " من بعض الوجوه، حتى لا يعلم الغرر،
ولا فرق في ذلك بين الوكالة العامة والخاصة، فأما الوكالة العامة بأن يقول
وكلتك في كل قليل وكثير، فإن لم يصنف إلى نفسه فالأقوى البطلان، لأنه
لفظ مبهم بالغاية، ولو ذكر الإضافة إلى نفسه وقال: وكلتك في كل أمر هو لي
أو في كل أموري أو في كل ما يتعلق بي، أو في جميع حقوقي، أو في كل قليل
وكثير من أموري، أو فوضت إليك جميع الأشياء التي تتعلق بي، أو أنت وكيل
مطلقا " تصرف في مالي كيف شئت، أو فصل الأمور المتعلقة به التي تجري فيها
النيابة، وفصلها فقال: وكلتك ببيع أملاكي وتطليق زوجاتي واعتاق عبيدي
أو لم يفصل على ما تقدم أو قال: وكلتك في كل أمر هو لي مما يناب فيه، ولم
يفصل أجناس التصرفات أو قال: أقمتك مقام نفسي في كل شئ فالوجه عندي
الصحة في الجميع، وبه قال ابن أبي ليلى، وقال الشيخ: لا تصح الوكالة العامة،
وهو قول العامة، إلا ابن أبي ليلى لما فيه من الغرر العظيم، والخطر الكثير، لأنه
42

يلزمه فيه هبة ماله، وتطليق نسائه، واعتاق رقيقه، وأن يزوجه نساء كثيرة،
وتلزمه المهور الكثيرة، والأثمان العظيمة فيلزم الغرر العظيم.
والجواب أنا نضبط جواز تصرف الوكيل بالمصلحة، وكلما لا مصلحة فيه
لم ينفذ تصرف الوكيل، كما لو وكله في بيع شئ وأطلق، فإنه لا يبيع إلا نقدا "
بثمن المثل من نقد البلد، فكذا في الوكالة العامة، انتهى.
أقول: ما نقل عن الشيخ هنا هو مذهبه في الخلاف، وأما في النهاية فإنه
قد وافق الأصحاب، والقول بالصحة منقول أيضا " عن الشيخ المفيد وسلار، وابن
البراج، وابن إدريس، وهو المشهور بين المتأخرين، إلا أن ظاهر الشرايع الميل
إلى ما ذكره في الخلاف، حيث قال: ولو وكل على كل قليل وكثير لا يصح لما
يتطرق من الضرر، وقيل: يجوز، ويندفع الخبال باعتبار المصلحة، وهو بعيد
عن موضع الفرض، نعم لو وكل على ما يملك صح، لأنه يناط بالمصلحة.
قال في المسالك: والجواز مذهب الأكثر، لاندفاع الغرر والضرر بمراعاة
المصلحة في فعل الوكيل مطلقا "، والمصنف رد هذا القيد بأنه بعيد عن موضع
الفرض، فإن الفرض كونه وكيلا " في كل شئ فيدخل فيه عتق عبيده، وتطليق
نسائه، وهبة أملاكه، ونحو ذلك مما يوجب الضرر، والتقييد خروج عن الكلية،
وجوابه أن القيد معتبر وإن لم يصرح بهذا العموم، حتى لو خصص بفرد
واحد تقيد بالمصلحة، فكيف بمثل هذا العام المنتشر، وفرق المصنف بين هذا
العام وبين ما خصصه بوجه، كقوله وكلتك على ما أملك ونحوه، لاندفاع.
معظم الغرر، نظرا " إلى أن رعاية المصلحة في الأمور المنتشرة أمر خفي جدا "،
فإذا خصص متعلقها سهلت، وهو غير واضح، لأن رعاية المصلحة تضبط الأمرين،
وانتشار الأمور لا يمنع من ذلك، فإن مرجع المصلحة إلى نظر الوكيل، فما
علم فيه المصلحة يفعله، وما اشتبه عليه يمتنع فعله، ولأنه لو فصل ذلك العام
المنتشر فقال: وكلتك في عتق عبيدي، وتطليق زوجاتي وبيع أملاكي صح،
43

لأن كل واحد منضبط برعاية المصلحة على اعترفوا به، وذلك مشترك بين
الأمرين، فالأقوى الجواز مطلقا "، انتهى.
أقول: لا يخفى أن العموم المستفاد من هذه الأمثلة التي ذكرها في التذكرة
مما ينافي اعتبار المصلحة، كما أن تقييد هذا العموم مناف أيضا "، فإن ظاهر هذا
العموم أن للوكيل اخراجه من جميع ما يملكه من أموال عينية وحقوق شرعية
واثبات ما عليه ربما لا يمكنه الخروج عن عهدته، وجميع ذلك خلاف المصلحة عرفا "
وعادة كما أنه لو فصل كان كذلك، فكلام المحقق لا يخلو عن قرب، إلا أن يقال:
إنه قد رضي بذلك، فهو في حكم ما لو فعل ذلك بنفسه، " والناس مسلطون على
أموالهم " فيصح بناء على ذلك، ولا ثمرة هنا للتقييد بالمصلحة، لأنه من الظاهر المعلوم
عدم المصلحة، لو فعل ذلك تفصيلا "، مع قولهم بالجواز فكذا في صورة الاجمال
الذي هو بمعناه.
وبالجملة فالأمر دائر بين احتمال عدم الصحة من لزوم الضرر، وبين احتمال
الصحة بناء على رضاه بذلك، لمعلومية ذلك عنده، كما أنه لو فعله بنفسه كان
كذلك، وأم التقييد بالمصلحة وعدمها فلا مدخل له هنا.
نعم لقائل أن يقول: إن ما ادعيتموه من أن للانسان أن يفعل بنفسه وماله
ما شاء ممنوع، فإنه متى تجاوز في التصرف إلى حد يوجب الاسراف وادخال الضرر
على نفسه، كان ممنوعا " بالآيات والروايات الدالة على تحريم الاسراف، ووجوب
دفع الضرر عن النفس والمال (1)، وحينئذ فيرجع الأمر إلى اعتبار المصلحة في
تصرفه بنفسه أو وكيله، وعلى هذا فيمكن القول ببطلان الوكالة في صورة العموم
على وجه المذكور، لادخاله الضرر على نفسه، لأن مقتضى هذا العموم الضرر كما
عرفت، كما أنه لو فصل هذا العموم كان ضررا " بينا "، فتبطل الوكالة في الموضعين،
ويمكن أن يقال: بالصحة نظرا " إلى أنه وإن كان مقتضى العموم ذلك، إلا أن
تقييد تصرف الوكيل بالمصلحة يزيل ذلك.

(1) الكافي ج 4 ص 52 عدة روايات باب فضل القصد، الوسائل ج 15 ص 261 ب 27.
44

ومما يمكن أن يستدل به على جواز تصرف الانسان في ماله كيف شاء
وإن أوجب الضرر صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (1) " قال: كنا عند أبي
عبد الله عليه السلام جماعة إذ دخل عليه رجل من موالي أبي جعفر عليه السلام فسلم عليه ثم
جلس وبكى، ثم قال له: جعلت فداك إني كنت أعطيت الله تعالى عهدا " إن عافاني
الله من شئ كنت أخافه على نفسي أن أتصدق بجميع ما أملك وإن الله تعالى
عافاني منه، وقد حولت عيالي من منزلي إلى قبة من خراب الأنصار وقد حملت كل ما
أملك، فأنا بايع داري وجميع ما أملك فأتصدق به؟ فقال: أبو عبد الله عليه السلام انطلق
وقوم منزلك وجميع متاعك وما تملك بقيمة عادلة وأعرف ذلك ثم أعمد إلى صحيفة
بيضاء فكتب فيها جملة ما قومت ثم انظر إلى أوثق الناس في نفسك فادفع إليه
الصحيفة وأوصيه ومره إن حدث بك حدث الموت أن يبيع منزلك وجميع ما تملك
فيتصدق به عنك، ثم ارجع إلى منزلك وقم في مالك على ما كنت فيه فكل أنت
وعيالك مثل ما كنت تأكل ثم انظر بكل شئ تصدق به فيما تستقبل من صدقة
أو صلة قرابة أو في وجوه البر فاكتب ذلك كله وأحصه، فإذا كان رأس السنة
فانطلق إلى الرجل الذي أوصيت إليه فمره أن يخرج إليك الصحيفة، ثم اكتب
فيها جملة ما تصدقت وأخرجت من صلة قرابة أو بر في تلك السنة، ثم افعل ذلك
في كل سنة، حتى تفي لله بجميع ما نذرت فيه ويبقى لك منزلك إن شاء الله تعالى
قال: فقال الرجل: فرجت عني يا بن رسول الله جعلني الله فداك "
وفيه أنه قد استفاضت الأخبار المعصومية وعضدتها الآيات القرآنية بتحريم
الاسراف. كقول أبي عبد الله عليه السلام في رواية حماد اللحام (2) المروية في الكافي
وتفسير العياشي لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن
ولا وفق أليس الله تبارك وتعالى يقول " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " وأحسنوا

(1) الكافي ج 7 ص 458 ح 23، الوسائل ج 16 ص 236 ح 1.
(2) الكافي ج 4 ص 53 ح 7، الوسائل ج 15 ص 258 ح 7.
45

إن الله يحب المحسنين " يعني المقتصدين.
وفي رواية هشام ابن المثنى (1) عن أبي عبد الله عليه السلام الواردة في تفسير قوله
تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين "، فقال: كان
فلان بن فلان الأنصاري سماه وكان له حرث، فكان إذا أخذ يتصدق به يبقى هو
وعياله بغير شئ، فجعل الله تعالى ذلك سرفا ".
وفي صحيحة الوليد بن صبيح (2) " قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فجاءه سائل
فأعطاه ثم جاء آخر فأعطاه، ثم جاء آخر فقال يسع الله تعالى عليك ثم قال:
لو أن رجلا كان له مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألف درهم ثم شاء أن لا يبقى منها
إلا وضعها في حق لفعل فيبقى لا مال له، فيكون من الثلاثة الذين يرد دعاؤهم قلت
من هم؟ قال: أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في غير وجهه، ثم قال: يا رب
ارزقني فيقال له: " ألم أرزقك ".
ومن ذلك خبر الصوفية (3) المروي في الكافي إلي غير ذلك من الأخبار
الصريحة في تحريم ذلك ومن المقرر أن صحة نذر شئ فرع مشروعيته، فلو لم
يكن مشروعا " لم ينعقد نذره، ومنه يعلم أن الرواية المذكورة واردة على خلاف
القواعد الشرعية، بل ربما يقال: أن دلالة هذه الرواية على ما يدعيه من بطلان
النذر أقرب، لأنه لو كان النذر صحيحا " لأمره عليه السلام بالتصديق بأمواله حسبما نذره
لأنه هو الواجب بالنذر، ولما جاز نقلها إلى الذمة بالقيمة ثم التصدق بها تدريجا "
على وجه يندفع به الضرر الموجب لبطلان النذر لو لم يكن كذلك، ولهذا إن
الأصحاب قصروا العمل بالرواية على موردها لمخالفتها لمقتضى القواعد الشرعية
كما عرفت والله سبحانه العالم.

(1) الكافي ج 4 ص 55 ح 5، الوسائل ج 6 ص 323 ح 3.
(2) الفقيه ج 2 ص 29 ح 20 الكافي ج 4 ص 16 ح 1 وفيه لم أجعل لك
سبيلا إلى طلب الرزق.
(3) الكافي ج 5 ص 65 ح 1.
وهما في الوسائل ج 6 ص 322 ح 1 و ص 302 ح 8.
46

المطلب الثالث في الموكل:
وفيه مسائل: الأولى: يشترط فيه التكليف بالبلوغ والعقل وعدم الحجر
عليه بالنسبة إلى ما حجر عليه التصرف فيه، وجملة من الأصحاب إنما عبروا هنا
بأنه يشترط أن يملك مباشرة ذلك التصرف بملك أو ولاية.
قال في التذكرة: يشترط في الموكل أن يملك مباشرة ذلك التصرف،
ويتمكن من المباشرة لما وكل فيه، أما بحق الملك لنفسه، وبحق الولاية عن
غيره، فلا يصح للصبي ولا المجنون ولا النائم، ولا المغمى عليه ولا الساهي ولا الغافل
أن يوكلوا، سواء كان الصبي مميزا "، أم لا، وسواء كانت الوكالة في المعروف
أم لا، وعلى الرواية المقتضية لجواز تصرف المميز أو من بلغ خمسة أشبار في المعروف
ووصيته في المعروف ينبغي القول بجواز توكيله، وكذا كل من يعتوره الجنون
حال جنونه، ولو وكل حال إفاقته صحت الوكالة، لكن لو طرء الجنون بطلت
الوكالة، انتهى.
أقول: لا ريب أنه وردت الروايات الكثيرة (1) الظاهرة في جواز تصرف
الصبي المميز بالعتق والوصية والصدقة بالمعروف من غير معارض، وبها قال جملة
من الأصحاب، وبذلك تثبت له جواز التوكيل، وإن كان خلاف المشهور بينهم
لاعراض أكثرهم من العمل بتلك الروايات، ولهذا أحال ذلك هنا على تقدير ثبوت
الرواية، ومن ثم أيضا " قال في المسالك بعد ذكر عبارة المصنف المرادفة لهذه العبارة
والأقوى المنع.
وأما ما ذكره من بطلان وكالة المجنون لو وكل حال الإفاقة، وطرء
الجنون، ومثله لو طرء الاغماء والحجر عما وكل فيه، فالظاهر أن دليله أنه
لا يصح التصرف من نفسه، لو كان كذلك فمن وكيله بطريق أولى، وقد مر أن من

(1) الوسائل ج 13 ص 321 الباب 15 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات.
47

شرائط صحة التوكيل تملكه فعل ما وكل فيه، ولا شك أنه ليس بما لك له في
تلك الأحوال.
وفيه أنه إن أريد بطلان الوكالة بطرق هذه الأمور واستمرارها بحيث
لا تحصل له الإفاقة من الجنون ولا من الاغماء ولا دفع الحجر فهو جيد، وإن أريد
البطلان ولو مع زوال تكل الأمور كما هو الظاهر من كلامهم، فإنه يمكن تطرق
المناقشة إليه، بأنه من الجائز أن اشتراط تملك الموكل لما وكل فيه إنما هو باعتبار
الابتداء، بمعنى أنه لا يجوز له التوكيل إلا فيما يملك التصرف فيه، كما تقدم
ذكره، لا باعتبار الاستدامة، فلو حصلت الوكالة في حال كونه مالكا " للتصرف
بحيث يصح وقوع ذلك الفعل منه، فالوكالة صحيحة اتفاقا، وبطلانها بمجرد
عروض أحد هذه الأشياء يحتاج إلى دليل، ولا دليل على شرطية هذا الشرط في
الاستدامة، ولانتقاض ذلك بالنائم مع الاتفاق على عدم البطلان بالنوم، ولعل
دليلهم إنما هو الاجماع، إلا أنه لم يدعه أحد منهم فيما أعلم.
وبالجملة فإن أصالة صحة الوكالة ثابتة، والبطلان يحتاج إلى دليل، والدليل
الذي أوردوه قاصر، كما عرفت.
والظاهر أن المراد بمن له حق الولاية هو الأب والجد والوصي والحاكم
الشرعي، أما الأب والجد فظاهر، وأما الوصي إذا كان وصيا " على الأطفال فإن
له ولاية، كولاية الأبوين، وكذلك الوصي في اخراج الحقوق إليه ذلك، فإن
معنى وصيته إليه بذلك جعله كنفسه.
قال في التذكرة: للوصي أن يوكل، إن لم يفوض إليه الموصي، ذلك
بالنصوصية، لأنه يتصرف بالولاية كالأب والجد، لكن لو منعه الموصي من
التوكيل وجب أن يتولى بنفسه، وليس له أن يوكل حينئذ لقوله تعالى (1)
" فمن بدله بعد ما سمعه " الآية ويجوز للحاكم أن يوكل عن السفهاء والمجانين

(1) سورة البقرة الآية 181.
48

والصبيان من يتولى الحكومة عنهم، ويستوفي حقوقهم، ويبيع عنهم، ويشتري
لهم، ولا نعلم فيه خلافا، انتهى.
وأما العبد على القول بملكه فإنه ليس له التوكيل على الأشهر الأظهر إلا
بإذن الموصي، لأنه وإن ملك إلا أنه محجور عليه، كما تقدم تحقيقه في كتاب
البيع وفي كتاب الحجر.
نعم استثنى من ذلك الطلاق، فإنه بيد من أخذ بالساق، فله التوكيل فيه
ولو أحلنا ملكه كما هو أحد القولين، فوقوع التوكيل منه إنما يكون في حق مولاه،
فيتوقف على الإذن، لأنه لا يجوز له التصرف مباشرة بدون الإذن، ولا يملك
التصرف.
وقد عرفت أن التوكيل في أمر فرع صحة تملك التصرف فيه، ومثله ساير
أفراد المحجور عليهم، فإنه يجوز لهم التوكيل، فيما لا يتعلق به الحجر، قال في
التذكرة: وللمحجور عليه بالفلس أو السفه أو الرق أن يوكلوا فيما لهم الاستقلال
حيث شاؤوا من التصرفات، فيصح من العبد أن يوكل فيما يملكه من دون إذن
سيده، كالطلاق والخلع، وطلب القصاص، والمفلس له التوكيل في الطلاق والخلع
وطلب القصاص، والمعاملة بغير عين المال، والتصرف في نفسه، فإنه يملك ذلك،
وأما ماله فلا يملك التصرف فيه، وأما ما لا يستقل أحدهم بالتصرف فيه فيجوز فيه
مع إذن الولي والمولى، انتهى.
وما يشعر به كلامه من جواز توكيل السفيه مع إذن المولى قد تأمل فيه
بعض المحققين، قال: فإنه بمنزلة المجنون والصبي، وقد منع منهما وما اعتبر
بايقاعه بحضور الولي أيضا " وبرضاه لعدم الاعتداد بعبارته.
أقول: قد مر في كتاب الحجر نقل الخلاف فيما لو أذن الولي للسفيه في
البيع فقيل: بالمنع وهو مذهب المبسوط وابن البراج، وقيل: بالصحة، ونقله
العلامة في المختلف عن بعض علمائنا واختار، فينبغي أن يكون الكلام هنا كذلك،
49

إلا أن الأقرب هو الصحة في الموضعين، والفرق بينه وبين الصبي، والجنون ظاهر،
فإن عبارتيهما مسلوبة الصحة، لعدم التكليف الذي هو مناط ذلك بخلاف السفيه.
فإن الحجر عليه إنما هو من حيث خوف الافساد والتبذير، وعدم الاصلاح في
تصرفاته، وهذا مأمون بالإذن له فلا مانع حينئذ من الصحة، ولو وكله انسان
في شراء نفسه من مولاه فالمشهور الصحة، قالوا: والمراد وكالته بإذن مولاه
لتوقف تصرفاته على الإذن منه، إلا ما استثنى والظاهر أنه يكفي في الإذن المذكور
ايجاب السيد للبيع مخاطبا " بها العبد، وإن كان ظاهر كلام جملة منهم الإذن
الخاص في ذلك، وربما قيل: بالمنع لاشتراط مغايرة المشتري للمبيع، والمشتري
والمبيع هنا واحد، وهو العبد، ورد بأن الغاية الاعتبارية كافية، وربما قيل.
بلزوم كون السيد موجبا " قابلا ".
وفيه أيضا " ما تقدم، قال في المبسوط: إذا وكل رجل عبدا " في شراء نفسه
من سيده قيل: فيه وجهان: أحدهما يصح، كما لو وكله في شراء عبد آخر بإذن
سيده، والثاني لا يصح، لأن يد العبد كيد السيد وايجابه وقبوله بإذنه بمنزلة
ايجاب سيده وقبوله، فإذا كان كذلك وأوجب له سيده وقبله كان السيد هو
الموجب القابل للبيع، وذلك لا يصح، فكذلك ههنا، ثم قال: والأول أقوى.
وقال ابن البراج: الأقوى عندي أنه لا يصح إلا أن يأذن له سيده في ذلك،
فإن لم يأذن له فيه لم يصح، قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين:
والحق ما قواه الشيخ، لأن بيع مولاه رضا " منه بالتوكيل، انتهى.
أقول: ومن كلامه يفهم أن من أطلق من الأصحاب كالشيخ والمحقق
والعلامة فإن مرادهم الاكتفاء بالايجاب، وما يدل عليه من الرضا بذلك عن
الإذن الصريح، وظاهر كلام ابن البراج تقدم الإذن أولا قبل العقد، وهو ظاهر
شراح كلام المحقق والعلامة، والحق ما ذكره في المختلف، والله سبحانه العالم.
الثانية: قالوا: ليس للموكل أن يوكل إلا بإذن من الموكل، لأن الوكيل
50

لا يملك مباشرة ما وكال فيه بنفسه قبل الوكالة، ومن شرط صحة التوكيل تملك
الموكل للتصرف بنفسه ولا ولاية له، فلا بد من الإذن حينئذ، إلا أن يدل اللفظ
باطلاقه أو عمومه على ذلك، كقوله اصنع ما شئت، ونحوه من الأمثلة المتقدمة
في كلامه في التذكرة، وإن لم يحصل ذلك صريحا " ولا ضمنا، لكن دلت القرائن
على ترفع الوكيل عن مثل ذلك الفعل لشرفه وعلو منزلته، وعدم لياقة مباشرة
ذلك الفعل به أو عجزه عنه فكذلك أيضا "، لكن يجب علم الموكل بذلك.
تنبيهات:
الأول: قال في التذكرة: التوكيل على ثلاثة أقسام: الأول: أن يوكل
الموكل وكيله في التوكيل، فيجوز أن يوكل اجماعا "، والثاني: أن ينهاه عن
التوكيل، فليس له أن يوكل، الثالث: أطلق الوكالة، وأقسامه ثلاثة: أحدها
أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله كالأعمال الدنية في حق اشراف
الناس المرتفعين عن مثلها في العادة، كما لو وكله في البيع والشراء والوكيل
أمين لا يتبدل بالتصرف في الأسواق، أو يعجز عن عمله لكونه لا يحسنه، فله
التوكيل فيه، لأن تفويض مثل هذا التصرف إلى مثل هذا الشخص لا يقصد منه
إلا الاستنابة، وهو قول علمائنا أجمع وأكثر الشافعية.
الثاني: أن يكون العمل مما لا يرتفع الوكيل عن مثله إلا أنه عمل كثير
منتشر لا يقدر الوكيل على فعل جميعه، فيباشره بنفسه، ولا يمكنه الاتيان بالكل،
فعندنا يجوز له التوكيل، ولا نعلم فيه مخالفا، وله أن يوكل فيما يزيد على
قدر الامكان قطعا "، وفي قدر الامكان اشكال أقربه ذلك، لأن الوكالة اقتضت جواز
التوكيل فيه، فجازت في جميعه كما لو أذن له في التوكيل فيه بلفظ، وللشافعية
ثلاث طرق، ثم ساق الكلام إلى أن قال: الثالث ما عدا هذين القسمين، وهو
ما أمكنه فعله بنفسه، ولا يرتفع عنه، وقد قلنا أنه لا يجوز له أن يوكل فيه إلا
بإذن الموكل إلى أن قال: إذا وكله بتصرف وقال: افعل ما شئت لم يقتض ذلك
51

الإذن في التوكيل، لأن التوكيل يقتضي تصرفا " يتولاه بنفسه، وقوله اصنع ما
شئت لا يقتضي التوكيل، بل يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه،
وهو أصح قولي الشافعية، والثاني أن له التوكيل وبه قال أحمد، واختاره
الشيخ في الخلاف، لأنه أطلق الإذن بلفظ يقتضي العموم في جميع ما شاء فيدخل
في عمومه التوكيل وهو ممنوع، انتهى.
أقول: والنصوص هنا غير موجودة، إلا أن ما ذكره جيد بناء على الجرئ
على مقتضى تعليلاتهم في أمثال هذه المقامات، إلا فيما ذكره من قوله وفي قدر
الامكان اشكال أقربه ذلك، فإن الظاهر أن ما قربه بعيد، قوله " لأن الوكالة
اقتضت جواز التوكيل فيه " إلى آخره ممنوع، بل إنما اقتضت جواز التوكيل
فيما يعجز عنه من حيث العجز، لاعترافه أخيرا " بأن التوكيل يقتضي تصرفا "
يتولاه بنفسه، وهو هنا بالنسبة إلى محل الاشكال عنده ممكن، لأن المفروض
أنه ممكن لا يتعلق به عجز، فلا يجوز التوكيل فيه، بل يجب عليه مباشرته
بنفسه، كما هو مقتضى الوكالة باعترافه.
وإلى ما أشرنا أشار في المسالك أيضا ". فقال بعد ذكر جواز التوكيل
فيما يرتفع عنه التوكل أولا " ثم الجواز فيما يعجز عنه ما لفظه: ويقتصر في
التوكيل في الأخير على ما يعجز عنه، لأن توكيله خلاف الأصل، فيقتصر فيه على
موضع الحاجة، وهو جيد، وكذا قوله: إن قوله افعل ما شئت لا يقتضي الإذن
في التوكيل، فإن الظاهر هنا إنما هو ما نقله عن الشيخ من الجواز حسبما
قدمنا نقله عنهم.
ومن جملة من صرح بذلك شيخنا في المسالك فقال: فإن أذن له في
التوكيل صريحا " فلا اشكال، وكذا لو دل اللفظ باطلاقه أو عمومه على ذلك،
كاصنع ما شئت أو مفوضا " ونحوه، وبما أوردناه عليه في هذين الموضعين اعترف
في القواعد، فقال: ولا يصح توكيل الصبي إلى أن قال: ولا الوكيل إلا بإذن
52

موكله صريحا " أو فحوى، مثل اصنع ما شئت، والأقرب أن ارتفاع الوكيل عن
المباشرة واتساعه وكثرته بحيث يعجز عن المباشرة إذن في التوكيل معنى فحينئذ
الأقرب أنه يوكل فيما زاد على ما يتمكن منه لا الجميع انتهى.
وبيان ذلك هنا أن اطلاق التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه، بنفسه، كما صرح
به، فلا بد لزيادة هذا القيد ونحوه من فائدة تترتب عليه، وإلا لكان لغوا " من القول
ولا ريب أن جملة ما يشاء توكيل الغير إذا شاء، ولو حمل هذا اللفظ على ما
دل عليه أصل الوكالة من غير أن يكون له فائدة تترتب عليه لكان اللازم ما قلناه،
ولا شك أنه هو المتبادر من اللفظ، إلا أن يكون ثمة قرائن حالية توجب الخروج
عن ذلك.
ثم إن ما ذكره من جواز التوكيل في صورة الترفع والعجز ينبغي تقييده
بما أشرنا إليه آنفا من علم الموكل بذلك، لأنه لو لم يعلم الموكل بشئ من
هذين العذرين المانعين من القيام بما وكل فيه لم يجز لذلك الوكيل توكيل
غيره، لانتفاء القرينة من جانب الموكل التي هي مناط الإذن، لأن معرفة الموكل
بكونه يرتفع أو يعجز في قوة الإذن له بالتوكيل، كما عرفت من عبارة القواعد
المذكورة، وأنه إنما وكله، والحال كذلك إلا مع رضاه وإذنه بالتوكيل، بخلاف
ما لو لم يعلم بذلك، وهو ظاهر.
الثاني: قال في التذكرة، إذا أذن له أن يوكل فأقسامه ثلاثة: الأول:
أن يقول له: وكل عن نفسك، ففعل كان الثاني وكيلا للوكيل، ينعزل بعزل
الأول إياه، لأنه نائبه وهو قول الشافعي، ثم ذكر الخلاف في ذلك من العامة وأقوالهم
إلى أن قال: والثاني: لو قال: وكل عني فوكل عن الموكل، فالثاني وكيل للموكل
وليس لأحدهما عزل الآخر، ولا ينعزل أحدهما بموت الآخر، ولا جنونه وإنما
ينعزل أحدهما بعزل الموكل، فأيهما عزله انعزل.
الثالث: لو قال: وكلتك بكذا وأذنت لك في توكيل من شئت، أو في أن
توكل وكيلا ولم يقل عني ولا عن نفسك، بل أطلق فللشافعية وجهان: أحدهما
53

أنه كالصورة الأولى، وهي أن يكون وكيلا عن الوكيل، لأن المقصود من الإذن
في التوكيل تسهيل الأمر على الوكيل، وأصحهما عندهم أنه كالصورة الثانية
يكون وكيلا للموكل، فإن التوكيل تصرف يتولاه بإذن الموكل، فيقع عنه
إذا جوزنا للوكيل أن يوكل في صورة سكوت الموكل عنه، فينبغي أن يوكله
عن موكله، ولو وكل عن نفسه، فللشافعية وجهان، انتهى.
أقول: ظاهر كلامه هو التوقف في القسم الثالث حيث لم يذكر فتواه في
ذلك، وإنما اقتصر على نقل الوجهين من كلام الشافعية، وذكر تعليلاتهم، ويحتمل
أن يكون عدم ردها لما ادعوه من الأصحية ولا رد دليلها مؤذنا باختياره ذلك،
ورجحه بعض محققي متأخري المتأخرين، قال: لأن صاحب المال إذا أذن
بتوكيل من يوكل في بيع ماله أنه يوكله عن نفسه، ولأنه ثبت بذلك توكيله
وبإذنه في فعل الثاني ذلك الموكل فيه فعزله ومنعه من ذلك يحتاج إلى دليل،
والأصل عدمه والاستصحاب يفيده، انتهى.
أقول: والمراد من قوله يوكل في صورة سكوت الموكل يعني مع فهم
الجواز من القرائن كما تقدم لا مطلقا "، فإنه لا قائل به.
الثالث: قال في التذكرة أيضا ": كل وكيل جاز له التوكيل فليس له
أن يوكل إلا أمينا " لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين فيفيد جواز
التوكيد فيما فيه الخطر والضرر كما أن الإذن في البيع يقتضي الإذن بثمن المثل،
إلا أن يعين له الموكل فيجوز سواء كان أمينا " أو لا، اقتصارا " على ما نص عليه
المالك ولأن المالك قطع نظره بتعيينه، ولو وكل أمينا " فصار خائنا " فعليه
عزله، لأن تركه يتصرف في المال مع خيانته تضييع وتفريط على المالك،
وللشافعية وجهان: في أن يحل له عزله، انتهى.
أقول: الظاهر من كلامهم من غير خلاف يعرف هو عدم اشتراط العدالة في
الوكيل، وغاية ما ذكروه في شروطه هو البلوغ والعقل، والإسلام إن كان
54

الغريم مسلما "، بل صرح في الشرايع بجواز كونه فاسقا " أو كافرا " أو مرتدا "،
والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين الوكيل عن المالك، والوكيل عن وكيله لأن
الحكم في الوكيل لا يزيد على الحكم في المالك فكل من جاز المالك توكيله،
جاز لوكيله كذلك، لأنه قائم مقام المالك وفي حكمه، إلا أن يقوم دليل على
الفرق بينهما، ولا أعرف لذلك دليلا " والأصل العدم في الموضعين، وما ذكره
هنا من التعليل بقوله لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين إنما يتم
لو قلنا: باشتراط الوثاقة والأمانة فيمن يوكله الموكل.
وقد عرفت أنه غير شرط ولم يصرح به أحد منهم بل إنما صرحوا بخلافه،
وكيف يتم ما ذكره من أنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين بمعنى أنه
ليس يرضى بذلك ولا يجيزه، والحال أنه يوكل الفاسق المقطوع بكونه غير أمين
كما عرفت، فلو كان نظر الموكل مقصورا " على الأمين، وأن ذلك من شروط
الوكالة لامتنع توكيله الفاسق، وكيف يراعى هذا النظر في وكيل وكيله،
ولا يراعى في وكيله هو.
وبالجملة فإنه إذا صحت وكالته للفاسق والكافر المعلوم عدم أمانتهم
والجائز وقوع الخطر والضرر بوكالتهم، فلم لا يجوز فيمن يوكله الوكيل
والخطر والضرر في الموضعين متدارك بفسح الموكل الوكالة، وقياسه ذلك على
الإذن في البيع المقتضي لثمن المثل قياس مع الفارق، فإن البيع لما كان الغالب فيه
هو البيع بثمن المثل حمل عليه الاطلاق، لما عرفت في غير موضع مما تقدم أن
الاطلاق إنما يحمل على الأفراد الغالبة الشائعة، بخلاف التوكيل، لما عرفت
من أن للموكل توكيل الفاسق والكفار والمرتد ونحوهم ممن لا أمانة لهم،
فاطلاق توكيل الوكيل لغيره إنما ينصرف إلى ذلك، لا إلى خلافه وعكسه من
اشتراط الأمانة فيه، وبما صرح به هنا صرح في القواعد أيضا "، فقال: وكل
موضع للوكيل أن يوكل فيه فليس له أن يوكل إلا أمينا " إلا أن يعين الموكل
55

غيره، على أن ما ذكره من العليل بقوله لا نظر للموكل في توكيل من ليس
بأمين لا يخرج عن المصادرة، لأن هذا عين المدعى كما هو الظاهر.
وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه صحة لما ذكره، ولعله لسوء فهمي القاصر
وضعف بصيرتي الحاسر، وبذلك يظهر أن ما أطال به المحقق الأردبيلي هنا الكلام
بعد نقل العبارة المذكورة من أن المراد بالأمانة العدالة بالمعنى المشهور بين
الأصحاب أو مجرد اطمينان النفس به في عدم الخيانة لا أعرف له وجها " لأن هذا
البحث فرع صحة هذا الشرط، وقد عرفت ما فيه وأن لا وجه له، ولا دليل عليه
إلا أن يقال بذلك في الوكيل: ولا قائل بذلك بل القول إنما هو بخلافه كما
عرفت، والله سبحانه العالم.
الثالثة: لا يجوز للموكل أن يوكل فيما لا يجوز له مباشرته كما تقدم
في صدر هذا المطلب ومن فروع ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يوكل ذميا " في
شراء خمر أو خنزير، لأنه لا يجوز شراءه، وإن جاز ذلك للذمي، ومنها أنه
لا يجوز للمحرم أن يوكل في عقد النكاح ولا ابتياع الصيد، ولا يجوز له أيضا "
أن يتوكل فيما ليس للمحرم فعليه كابتياع الصيد وامساكه وعقد النكاح، هذا
الحكم قد ذكره الأصحاب في أحكام الموكل فعبروا بالعبارة الأولى ونحوها،
وفي أحكام الوكيل فعبروا بالعبارة الثانية ونحوها، والوجه في ذلك ظاهر،
فإنه كما يشترط في الموكل أن لا يوكل إلا فيما يجوز له مباشرته، كذلك
يشترط في الوكيل أن لا يكون وكيلا " إلا فيما يكون قادرا " على الاتيان به
بنفسه، وحينئذ فكما لا يجوز للمحرم أن يوكل في العقد فكذلك لا يجوز له
أن يتوكل فيه، وقد تقدم الكلام في ذلك في الحج، إذا عرفت ذلك فاعلم أنه
لا اشكال في تحريم ايقاع العقد فيهما في حال الاحرام، وكذا التوكيل فيه.
وإنما الكلام فيما لو وقع التوكيل في حال الاحرام لايقاع العقد بعد
الاحلال، فإن ظاهر اطلاقهم هنا هو البطلان، مع أن الذي صرح به جملة منهم
56

في كتاب الحج هو الجواز، تمسكا " بالأصل السالم عن المعارضة.
وكذا الكلام في أنه هل يخص التحريم بما إذا كان العقد للموكل، أو
أعم من ذلك؟ اشكال، وإن كان المتبادر من كلامهم الأول.
قال في المسالك: وهل التحريم مشروط بكون العقد للموكل كما هو
ظاهر الكلام والنص: أو هو أعم من ذلك حتى يحرم على الأب والجد،
وشبههما التوكيل حال الاحرام في ايقاع عقد المولى عليه، وكذا الوكيل
الذي يسوغ له التوكيل كل محتمل، وطريق الاحتياط واضح، انتهى والله
سبحانه العالم.
الرابعة: قالوا: يستحب أن يكون الوكيل تام البصيرة فيما وكل فيه
عارفا " باللغة التي يحاور بها، وعن ابن البراج أن ذلك واجب وكذا عن ظاهر
أبي الصلاح، ثم ردوا ذلك بأنه ضعيف، قالوا: ويكره لذوي المروات بأن
يتولوا المنازعة بأنفسهم، والمراد بأهل المروات يعني أهل الشرف والخطر
والمناصب الجليلة الذين لا يليق بهم الامتهان.
ونقل الأصحاب في كتب الفروع أنه روي (1) " أن عليا " عليه السلام وكل عقيلا "
في خصومة، وقال، إن للخصومة قحما " إن الشيطان ليحضرها وأني لأكره أن
أحضرها " وفي الصحاح القحمة بالضم المهلكة، والمراد بأن للخصومة قحما "، أي أنه
تقحم بصاحبها إلى ما لا يريده.
أقول: لم أقف على هذا الخبر فيما حضرني من كتب أخبارنا بل الموجود
فيها إنما هو ما يدل على خلافه " من تحاكم علي عليه السلام (2) مع من رأى درع
طلحة أخذت غلولا " عنده، فقال عليه السلام درع طلحة أخذت غلولا " يوم البصرة، فأنكر
من هي بيده، فدعاه المنكر إلى المحاكمة إلى شريح القاضي فحاكمه إليه " والقضية

(1) المستدرك ج 2 ص 511، النهاية لابن الأثير ج 4 ص 19، لسان العرب
ج 12 ص 463 وفيه وكل عبد الله بن جعفر.
(2) التهذيب ج 6 ص 273 ح 152، الوسائل ج 18 ص 194 ح 6.
57

مشهورة مروية " وتحاكم النبي (صلى الله عليه وآله) (1) مع صاحب الناقة
إلى رجل من قريش، ثم إلى علي عليه السلام والرواية بها متعددة، وتحاكم علي بن
الحسين عليهما السلام (2) إلى قاضي المدينة مع زوجته الشيبانية لما طلقها وادعت عليه المهر "
وهذه كلها كما ترى ظاهرة في عدم الكراهة، إذ لا ريب في أنهم عليهم السلام سادات
أرباب الشرف، بل لا شرف فوق شرفهم.
نعم ما ذكروه باعتبار العرف الذي عليه الناس الآن مما لا شكل فيه،
ومن الطرائف المناسبة للمقام أنه ادعى رجل من عامة الناس علي رجل من أهل
الشرف في بلادنا البحرين، وكان من عادة ذلك الرجل الشريف لعلو مقامه أن
يجلس بجنب الحاكم، فلما ادعى عليه ذلك، قال له الحاكم: قم واجلس إلى
جنب خصمك ما دامت الخصومة، فإن هذا هو مقتضى الشرع، فإذا فرغت الخصومة
عد إلى مكانك، فقال الرجل: إني لا أبيع مقامي هذا بأضعاف ما يدعيه هذا المدعي
وأني أشهدكم أني قد سلمت إليه دعواه، إلا أقوم من مجلسي هذا، وهو غاية في
المحافظة على شرف النفس وعزتها، وعدم امتهانها ومذلتها والله سبحانه العالم.
المطلب الرابع في الوكيل:
وفيه أيضا " مسائل الأولى: كلما يشترط في الموكل من البلوغ والعقل،
ونحوهما، وضابطه ما تقدم من التمكن من التصرف يشترط في الوكيل أيضا "، قال في
الشرايع: الوكيل يعتبر فيه البلوغ وكمال العقل ولو كان فاسقا " أو كافرا " أو مرتدا "،
ولو ارتد المسلم لم تبطل وكالته، لأن الارتداد لا يمنع الوكالة ابتداء فكذا استدامة.
وقال في التذكرة: كما يشترط في الموكل التمكن من مباشرة التصرف
في الموكل فيه بنفسه، يشترط في الوكيل التمكن من مباشرته بنفسه، وذلك بأن
يكون صحيح العبارة فيه فلا يصح للصبي ولا للمجنون أن يكونا وكيلين في

(1) الفقيه ج 3 ص 60 ح 1، الوسائل ج 18 ص 200 ح 1.
(2) الكافي ج 7 ص 435 ح 5، الوسائل ج 16 ص 142 ح 1.
58

التصرفات، سواء كان مميزا " إلى آخر ما قدمنا نقله عنه في سابق هذا المطلب من
الأفراد المعدودة ثمة، وعلى هذا النهج كلام غيرهما.
وهو كما ترى ظاهر بل صريح فيما قدمنا ذكره من عدم اشتراط الوكيل
وعدم اشتراط كونه أمينا " كما ذكره العلامة فيما قدمنا نقله عنه في وكيل الوكيل
وكان ذكر المرتد في عبارة الشرايع بعد ذكر الكافر الشامل له، لدفع توهم
بطلان تصرفاته بعد الردة فإن البطلان مخصوص بما كان من أمواله، فإنه يمنع منها دون
مال الغير الذي وكل فيه، فإنه لا يدخل في ذلك ولا يمنع من تصرفه فيه بحسب الوكالة.
وما ذكره في التذكرة من الشرط المذكور، بمنزلة الضابط الكلي للوكيل،
ولكنه يحتاج أيضا " إلى قيد زايد على ما ذكره، كما نبه عليه المحقق في عبارة الشرايع
بقوله: وكلما له أن يليه بنفسه وتصح النيابة فيه صح أن يكون فيه وكيلا،
والأول احتراز عما لا يصح أن يليه بنفسه ولا يتمكن من مباشرته بنفسه، كتوكيل
المحرم في عقد النكاح ايجابا " وقبولا "، وتوكله في حفظ الصيد وشرائه، إذ ليس
للمحرم أن يلي ذلك بنفسه كما تقدم ذكره.
ومنه الصبي والمجنون كما ذكره في التذكرة فإنها لا يليان ذلك، ومنه
الكافر لا يجوز له تزويج المسلمة ففي جميع هذه المواضع التي لا يملك فيها التصرف
لنفسه لا يجوز له أن يكون وكيلا فيها، إلا أن ظاهر ابن إدريس الجواز في الأخير.
والثاني احتراز عما لا تصح النيابة فيه وإن صح أن يليه بنفسه، كالعبادات
ونحوها مما تقدم ذكره مما يليه الانسان بنفسه من صلاة وصوم ونحوهما، فإنه
لا تصح النيابة فيها، لكونها مطلوبة من المكلف مباشرة، ويدخل في هذا الضابط
المحجور عليه لسفه أو فلس من جهة، ويخرج من جهة، فمن جهة ما حجر عليه
التصرف فيه يخرج، ومن جهة ما خرج عن موضع الحجر مما له التصرف فيه
يدخل، لأنهما يليان لأنفسهما بعض الأفعال، فتصح وكالتهما فيها.
الثانية: يجوز، للمرأة أن تتولى طلاق غيرها بلا خلاف ولا اشكال، لأن
59

الطلاق مما يقبل النيابة، ولا فرق بين نيابة الذكر والأنثى، أما نيابتها في طلاق
نفسها فحمل خلاف، وقد تقدمت إشارة إليه في المورد الثاني من المطلب الثاني.
وكذا يجوز وكالتها في عقد النكاح عندنا، ولم ينقل فيه الخلاف إلا عن
الشافعي، حيث منع من توكيلها فيه ايجابا " وقبولا " كالمحرم، قال في التذكرة:
يجوز للمرأة أن يتوكل في عقد النكاح ايجابا " وقبولا " عندنا، إلى آخره وقال
فيها أيضا " بجواز توكيلها في رجعة نفسها، وتوكيل امرأة أخرى.
أقول: أما الحكم الأول مما ذكره فظاهر، وأما الثاني فلا يخلو من توقف
لأن أصالة صحة الطلاق ثابتة إلى أن يحصل الرافع لها بيقين، ولم يثبت من الشارع
زوالها بتوكيلها في الرجعة، والظاهر أن الكلام هنا كالكلام هنا كالكلام في توكيلها في طلاق
نفسها وسيأتي تحقيق الحال فيه في موضعه انشاء الله.
ويجوز وكالة العبد بإذن مولاه لأنه لا مانع من ذلك إلا كون منافعه مملوكة
للمولى، وحينئذ فإذا حصل الإذن زال المانع، وظاهر اطلاق كلام أكثر الأصحاب
هو توقف ذلك على الإذن، أعم من يكون ما وكل فيه مما يمنع شيئا من حقوق
المالك أولا، بأن يوكله في ايجاب عقد أو قبوله في حال خلوه عن أمر المولى له
بشئ أو في حال اشتغاله بأمره حيث لا منافاة بين القيام بالأمرين.
ويدل على ذلك ما تقدم من أن منافعه بأسرها مملوكة لسيده، فلا يجوز
التصرف في شئ منها قليلا " أو كثيرا " إلا بإذنه وذهب في التذكرة إلى جواز
توكيله بغير إذنه، إذا لم بمنع شيئا " من حقوقه، وإليه يميل كلام جملة ممن
تأخر عنه، كالمسالك والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، نظرا " إلى شهادة
الحال، وانتفاء الضرر.
وأما وكالته في شراء نفسه، فقد تقدم الكلام فيها، وفي حكمها وكالته
في عتق نفسه، بأن يوكله مولاه في عتق نفسه، ووجه المنع هنا من حيث أنه
يعتبر مغايرة المعتق اسم الفاعل، للمعتق اسم المفعول، والجواب الاكتفاء بالمغايرة
60

الاعتبارية، كما تقدم نظيره.
أقول: وينبغي أن يعد من هذا القبيل أيضا " ما لو وكله سيده في بيع نفسه
على الغير، فإن الكلام في هذا الموضع كالكلام في الموضعين المذكورين صحة وبطلانا
والله سبحانه العالم.
الثالثة: قال في التذكرة: مدار الوكالة بالنسبة إلى الاسلام والكفر على
ثمان مسائل، تبطل منها وكالة الذمي على المسلم، وهو صورتان، توكل الذمي
للمسلم أو للكافر على المسلم عند علمائنا أجمع لقوله تعالى (1) " ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا " ويكره أن يتوكل المسلم للذمي عند علمائنا أجمع.
أقول: أما ما ذكره من الصور الثمان هنا فإنه باعتبار أن الموكل إما
مسلم، أو كافر، وعلى التقديرين فالوكيل إما مسلم، أو كافر، وعلى التقادير
الأربعة فالموكل عليه إما مسلم، أو كافر، فهذه ثمان صور المسألة، وظاهره
دعوى الاجماع على البطلان في صورتين منها، وهو كون الكافر وكيلا " على المسلم،
سواء كان الموكل مسلما " أو كافرا " وفي الشرايع نسب هذا القول إلى الشهرة، فقال
بعد ذكره: على المشهور، وربما كان فيه ايذان بالطعن في دليله.
وأما الاستدلال بالآية المذكورة فهو وإن اشتهر بينهم في أمثال هذه
المواضع، إلا أنك قد عرفت ما فيه في ما تقدم في غير موضع، ممن ورود النص (2)
على الرضا عليه السلام بأن ذلك إنما هو من جهة الحجة والدليل، وقد تقدم تحقيق ذلك
بما لا مزيد عليه في المسألة السادسة من المقام الثاني في المتعاقدين من الفصل
الأول في البيع في كتاب التجارة (3).
وظاهره الجواز فيما عدا ذلك من غير كراهة، إلا في صورة واحدة من
الست الباقية، وهي أن يتوكل المسلم للذمي على المسلم، وادعى الاجماع على

(1) سورة النساء الآية 141.
(2) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 203 ح 5.
(3) ج 18 ص 425.
61

الكراهة، مع أنه في النهاية على ما نقل عنه، قال: بعدم الجواز، ونقله في
المختلف أيضا " عن الخلاف والنهاية وأبي الصلاح، وهو ظاهر الشيخ المفيد أيضا "،
وقد تقدم ذكر ذلك في المورد الثاني من المطلب الثاني، والظاهر أنه لذلك تردد
في الشرايع، وإن استوجه بعد ذلك الجواز على الكراهة.
ثم إنه لا يخفى أن أكثر الأصحاب إنما عبروا بالذمي ولا يظهر له وجه، مع
أنه متى ثبت ذلك في الذمي ثبت في غيره بطريق أولى، والله سبحانه العالم.
الرابعة: قد عرفت مما قدمنا نقله عن الشرايع في المسألة الأولى جواز أن
يكون الوكيل فاسقا " أو مرتدا "، وقال في المسالك في مسألة عدم اشتراط
عدالة الولي ولا الوكيل في عقد النكاح ما لفظه: وكذا الوكيل في عقد النكاح،
لا يشترط أن يكون عدلا " بل يصح توكيل فاسق فيه ايجابا " وقبولا "، لقبوله النيابة
وأصالة عدم اشتراط العدالة، إذ لا يتضمن ذلك استيمانا " على أمر خفي كالمال،
خلافا " لبعض الشافعية، حيث اشتراط العدالة فيهما.
وأما اشتراط عدالة الولي في ولاية المال ففيه خلاف بين أصحابنا، وفي
التذكرة قطع بأن الفاسق لا ولاية له، حتى لو كان عدلا " ففسق انتزع المال منه،
واستشكل في القواعد في باب الوصايا، انتهى.
أقول: ما نقله عن التذكرة لم أقف عليه في كتاب الوكالة بعد التتبع لأبحاث
الكتاب المذكور، والذي وقفت عليه إنما هو خلاف ما نقله، حيث قال في
الكتاب المذكور: لو فسق الوكيل لم ينعزل عن الوكالة اجماعا "، لأنه من أهل
التصرف إلا أن تكون الوكالة مما ينافي الفسق، كالايجاب في عقد النكاح عند
العامة، فإنه ينعزل عندهم، بمجرد فسقه، أو فسق موكله لخروجه عن أهلية
التصرف فيه عندهم، وعندنا لا ينعزل بالفسق، إذ لا يشترط العدالة في ولي النكاح،
وأما في القبول وإن فسق الموكل لم ينعزل وكيله بفسقه، لأنه لا ينافي في جواز
قبوله، وهل ينعزل الوكيل بفسق نفسه، فيه للعامة وجهان: ولو كان وكيلا "
62

فيما يشترط فيه الأمانة كوكيل ولي اليتيم وولي الوقف على المساكين، ونحوه
انعزل بفسقه، وفسق موكله لخروجهما بذلك عن أهلية التصرف، وإن كان وكيلا "
لوكيل من يتصرف في مال نفسه انعزل بفسقه، لأنه ليس للوكيل أن يوكل
فاسقا "، ولا ينعزل بفسق موكله، لأنه وكيل لرب المال، ولا ينافيه الفسق،
انتهى.
أقول: وأنت خبير بما فيه من الصراحة في صحة كون الوكيل فاسقا "،
وظاهره دعوى الاجماع عليه، لأن عدم انعزاله بالفسق إنما هو من حيث عدم
منافاة الفسق، لصحة الوكالة كما هو المذكور في آخر عبارته، وأن المدار في
الوكيل وصحة كونه وكيلا إنما هو على أهلية التصرف، كما قدمنا نقله عنه في
المسألة الأولى، وأن هذا هو الضابط في صحة الوكالة، وكأن الوجه فيه أن المالك
إذا رضي بذلك وسلم إليه ماله وأمره بالتصرف فيه على الوجه الذي أمره " والناس
مسلطون على أموالهم " ولا مانع من الصحة، ولهذا استثنى من ذلك وكيل ولي
اليتيم، ووكيل ولي الوقف الذين قد علم من الشارع أن ولاية موكليهما على
ذينك الأمرين إنما هو لأجل المحافظة على ذلك، ومراعاة المصلحة، فلا بد من
أن يكون عدلا " إذ لا وثوق بغيره، بخلاف مال الانسان نفسه، فإنه مخير في
دفعه إلى من شاء كيف شاء.
وأما عده من ذلك وكيل الوكيل، فقد تقدم الكلام فيه، وتطرق المناقشة
إليه، ويظهر من ابن إدريس في السرائر أيضا " دعوى الاجماع على عدم اعتبار عدالة
الوكيل كما سمعت من كلام العلامة هنا، حيث قال في مسألة وكالة الكافر في
التزويج: والذي يقوى في نفسي أنه لا يمنع من وكالة الكافر مانع في التزويج
المذكور، لأنا لا نعتبر العدالة في الوكيل، بغير خلاف، لأنه لا مانع منه من
كتاب ولا اجماع ولا سنة متواترة، انتهى.
ويؤيد ذلك أيضا " ما تقدم في المسألة الثالثة في بيان مدار الوكالة، وما
63

ذكروه بالنسبة إلى المرتد من أنه لا تبطل وكالة المسلم بردته، لأن الردة غير
مانعة من صحة الوكالة ابتداء، فكذا الاستدامة، كما صرح به في التذكرة وغيره
من غير نقل خلاف إلا من بعض العامة، وبما ذكرنا يظهر ما في دعوى شيخنا
المتقدم ذكره أن المسألة في وكالة المال خلافية، وأن بعضهم ذهب إلى اشتراط
العدالة فيها، ومما يؤيد ما قلناه أيضا " ظاهر قوله سبحانه (1) " ومنهم من أن
تأمنه بقنطار يؤده إليك " وبالجملة فإنه يجب القطع بعدم اشتراط العدالة في
الوكيل في كلامهم، والأصل العدم حتى يقوم الدليل على خلافه، والله سبحانه العالم.
الخامسة: قال في التذكرة: يجب على الوكيل اعتماد ما عين الموكل
وقرره معه، ولا يجوز له المخالفة في شئ ما رسمه له، فيصح تصرف الوكيل
فيما وافق الموكل ويبطل فيما يخالفه مع صحة الوكالة، والموافقة والمخالفة
قد يعرفان بالنظر إلى اللفظ تارة، بالقرائن التي تنضم إليه أخرى، وأن القرينة
قد تقوى فينزل عليها اطلاق اللفظ.
أقول: هذا من جملة الضوابط في الوكالة أيضا "، ومرجعه إلى أنه لا يجوز
له المخالفة عمار رسمه الموكل، إلا أن تدل القرائن على إرادته، ورضي الموكل
به أو تشهد العادة بذلك، ولكن لا بد من اطرادها بما دلت عليه، فإنه يكون
حينئذ في حكم المعين، والمرسوم من جهة الموكل.
ويتفرع على ذلك فروع: منها ما لو أذن له في البيع نسية فباع نقدا " أو عين له
ثمنا " فباع بأزيد منه، فإنه داخل في المأذون فيه بطريق أولى، لأنه قد زاد
خيرا "، العرف والعادة يشهدان بذلك، إلا أنه يجب تقييده بما إذا لم يعلم له غرض
في التعيين بذلك وإلا لم يجز التعدي عما رسمه، وإن لم يصرح بالنهي، لأن
الأغراض تختلف في ذلك والمصالح لا تنضبط، ولو صرح له بالمنع فأولى بعدم
الجواز.

(1) سورة آل عمران الآية 75.
64

قال في التذكرة لو أمره بالبيع بمئة، ومنهاه عن البيع بالأزيد لم يكن له
البيع بالأزيد قطعا "، لاحتمال تعلق غرضه بذلك، فلا يجوز له التخطي، ومنها
ما لو أمره بالبيع في سوق معين، بثمن معين، فباع في غيرها بذلك الثمن، أو أطلق
ولكن باع بثمن المثل الذي ينصرف إليه الاطلاق صح أيضا ": بناء على أن الغرض
تحصيل الثمن إلا أنه يجب تقييده بما قدمنا ذكره، من عدم العلم بالغرض من
ذلك التعيين، فلو عليم الغرض منه كما لو كان الراغبون بذلك السوق أكثر، أو
النقد فيها أجود، أو المتعاملون فيها أسمح، أو نحو ذلك لم يجز له التخطي،
وعن التذكرة، أنه اشتراط هنا العلم بعدم الغرض، وعليه فلا يصح في صورة
الجهل، ولا يجوز التخطي.
وكيف كان فإنه مع صحة البيع في غير ما عين، فالظاهر من كلام بعضهم أنه
لا يجوز النقل له إلى غير ذلك المكان الذي عدل إليه، والظاهر أنه لخروجه عن
الإذن يكون ضامنا بالنقل إليه، ويكون ضامنا " للثمن بعد البيع أيضا " لعين ما ذكر،
وإنما تظهر الفائدة في الحكم بصحة البيع خاصة.
وقال في التذكرة بعد ذكر مسألة البيع في السوق وعدم تعرضه فيها
للضمان وعدمه: ولو قال بعه في بلد كذا احتمل أن يكون كقوله بعه في السوق
الفلاني، حتى لو باعه في بلد آخر جاء فيه التفصيل، أن كان له غرض صحيح في
التخصيص لم يجز التعدي، وإلا جاز لكن يضمن هنا الوكيل بالنقل إلى غير
البلد للعين، وكذا الثمن يكون مضمونا " في يده، بل أطلق التوكيل في بلد يبيعه
في ذلك البلد فلو نقله صار ضامنا "، انتهى.
وعندي في كل من هذين الكلامين اشكال، أما الأول وهو الضمان مع النقل
إلى تلك البلد الأخرى، فلأنه لا يجامع ما ذكروه من أنه يصح البيع، لأن الغرض
تحصيل الثمن إلا أن يعلم غرضه في التعيين، فإن مقتضى هذا الكلام جواز المخالفة
والنقل، وأن هذا الغرض مع عدم المانع المذكور قرينة على جواز المخالفة في
65

تعيين السوق، فكأنه بالنظر إلى هذا الغرض وعدم المانع قال له بع بهذا الثمن
إن شئت، فإذا حكم بجواز المخالفة كيف يتعقبه الضمان
وبالجملة فإن المانع من جواز النقل إنما هو العلم بالغرض من التعيين،
وأما مع عدمه فيجوز كما هو ظاهر عبارة التذكرة المذكورة، وعليه فلا يتم
القول بالضمان، لأنه مأذون في ذلك بمفهوم الكلام المتقدم.
وأما الثاني وهو ما ذكره في التذكرة فإن ظاهره كما عرفت أنه مع عدم
العلم بالغرض الصحيح في التخصيص يجوز التعدي، ثم إنه فرق بين الإذن بالبيع
في السوق وفي البلد، فأوجب الضمان في الثاني دون الأول، ولا أعرف له وجها "
ظاهرا "، وبيان ذلك أنه ذكر مسألة البيع في السوق أولا، ولم يتعرض للضمان
بالمخالفة، ثم ذكر مسألة البيع في البلد كما نقلناه عنه، وقال: لكن يضمن هنا،
وهو ظهر فيما قلناه من تخصيصه الضمان بهذه الصورة، دون تلك، وفيه ما ذكرناه.
وبالجملة فإنه إن فهم الإذن في المخالفة من الكلام الذكور في كل من
هذين الموضعين فإنه تجوز المخافة، ولا يتعقب ذلك ضمان، وإن لم يفهم لم
يجز النقل، وتعقبه الضمان، لأنه تصرف في مال الغير بغير إذن، وفي صحة البيع
أيضا " اشكال.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر كلام كثير منهم الفرق بين السوق وغيرها
مما يعينه، الموكل وتخصيص جواز المخالفة بالسوق خاصة، إلا مع العلم بالغرض
مع التعيين، وأما غيرها فلا وهو مشكل لعدم ظهور الفرق.
قال في التذكرة: يجب على الوكيل تتبع تخصيصات الموكل، ولا يجوز
له العدول عنها، ولا التجاوز إلا في صورة السوق على ما يأتي، بل يجب النظر
إلى تقييدات الموكل في الوكالة، يشترط على الوكيل رعاية المفهوم منها بحسب
العرف إلى آخره، ويشير إلى ما ذكرناه أيضا " ما صرح به المحقق الأردبيلي
(رحمة الله عليه)، ثم إن الأصحاب ذكورا هنا جملة من الفروع في مطولات كتبهم
ومرجعها إلى ما عرفت ففي الضابط المتقدم، والله سبحانه العالم.
66

السادسة: قد صرحوا: بأن كل موضع يبطل الشراء للموكل إما للمخالفة
كما أشير إليه في سابق هذه المسألة، أو لانكار الموكل التوكيل، فإن كان سمى
الموكل في العقد لم يقع العقد عن الموكل لعدم الوكالة، أو للمخالفة، ولا عن
الوكيل، لأن المذكور في العقد غيره، كما هو المفروض، وإن لم يكن سماه
وقع عن الوكيل بحسب الظاهر، وأما في نفس الأمر فإن كان قصده ونواه لنفسه
فهو له، وإن نواه للموكل لم يقع له أيضا " لما تقدم، والمخرج عن ذلك إما
بالمصالحة، أو بأن يقول الموكل إن كان لي فقد بعته من الوكيل.
أقول: وإن أردت زيادة توضيح لهذا المقام فاعلم أن ذلك يقع في موضعين
أحدهما أن يكون بطلان الشراء مستندا " إلى المخالفة لأمر الموكل، ولا ريب أنه مع
تسمية الموكل في العقد، واحلال أنه قد خالفه فيما وكله فيه فإنه لا يقع عنه وإن سماه
بل يكون فضوليا " يتوقف صحته على الإجازة بناء على المشهور في عقد الفضولي، ولا يقع
عن الوكيل أيضا " لأن المسمى في العقد غيره، وأما مع عدم ذكر الموكل في
العقد فإنه يقع بحسب الظاهر عن الوكيل، حيث أن الخطاب معه، وعلى هذا
فللبايع أن يأخذ منه الثمن، ويلحقه جميع الأحكام المترتبة على البيع بناء على
ذلك الظاهر، فإن الأحكام إنما تبنى عليه دون نفس الأمر، ولكن يجب تقييد
الحكم بكون الشراء للوكيل كما ذكرنا بأن لا يكون قد شرى بعين مال
الموكل، وإلا فإنه يقع فضوليا " عن الموكل، موقوفا " على إجازته، فإن لم يجز
بطل، لأنه يصير كظهور استحقاق أحد العوضين المعينين، في العقد، وإن جازه صح.
وكذا يجب الحكم بالبطلان في هذه الصورة إذا عليم البايع أن الثمن ملك
الموكل، أو قامت به البينة، ويجب على البايع رد الثمن حينئذ، وإن لم يعلم
البايع بذلك، ولا بينة ثبت البيع ظاهرا " كما تقدم، ووجب على الوكيل دفع
عوض ذلك الثمن للموكل، وإنما كان الواجب هو العوض، لتعذر استرجاعه عين
الثمن، فإن البيع صحيح بحسب الظاهر كما ذكرناه، واعترافه بالتفريط بسبب
67

المخالفة، وللموكل احلاف البايع لو ادعى عليه العلم بأن الثمن له وإلا فلا.
وثانيهما أن يكون بطلان الشراء لانكار الموكل التوكيل، ولا يخلو إما
أن يكون الاشتراء بعين مال الموكل بناء على دعواه الوكالة، أو في الذمة، وعلى
الأول يكون الشراء فضوليا "، سواء ذكر الموكل لفظا " أو قصده نية أو لا فيهما
فإن أجازه الموكل صح على المشهور في عقد الفضولي، وإن لم يجزه والحال أنه
ذكره لفظا " أو كان للموكل بينة بأن العين له أو كان البايع عالما " بذلك، فلا
يخلو إما أن يكون الوكيل صادقا " في دعوى الوكالة، فإنه يكون العقد صحيحا "
بحسب الوقع، فاسدا " بحسب الظاهر، وإن كان الوكيل كاذبا بحسب الواقع بطل
الشراء بالعين في الواقع والظاهر.
وعلى الثاني وهو الشراء في الذمة فإن ذكر الموكل لفظا أو نية وقع
الشراء له باطنا إن كان صادقا " في دعوى الوكالة، وبطل بحسب الظاهر من حيث
انكار الموكل الوكالة، وإن لم يذكره بالكلية لا لفظا ولا نية فالشراء للوكيل
ظاهرا " وباطنا " وإن كان الوكيل مبطلا في دعوى الوكالة وذكر الموكل بطل
البيع مطلقا، إذ لا يصح عن الموكل وإن سماه، لأنه مبطل في دعوى الوكالة،
ولا عن نفسه لأن المسمى في العقد غيره، وإن لم يذكره وقع الشراء للوكيل.
قالوا: وطريق التخلص في مواضع الاشتباه باحتمال كونه لأيهما أن يقول
الموكل: إن كان لي فقد بعته من الوكيل: ولا يضر التعليق هنا على الشرط
في صحة هذا البيع، لأن الشرط المبطل إنما هو منا أوجب توقف العقد على أمر
يمكن حصوله، وعدم حصوله، والأمر المعلق عليه هنا واقع، بعلم المكلف حاله
فلا يضر جعله شرطا ".
وكذا القول في كل شرط علم وجوده كقول البايع إن كان اليوم الجمعة
فقد بعتك كذا مع علهم بكون ذلك اليوم الجمعة، ولو امتنع الموكل عن البيع
جاز للموكل أن يستوفي عوض ما أداه إلى البايع عن موكله من المبيع، ويرد
68

عليه ما يفضل إن كان في المبيع زيادة على ما استوفاه، ويرجع إليه بما يزيد له
إن نقص المبيع مما استوفاه والرجوع عليه هنا بطريق المقاصة بمعنى أنه إن
ظفر بمال الموكل وأمكنه وضع يده عليه، وكما يحصل التخلص بما ذكر
يحصل أيضا " بالمصالحة، ويحصل أيضا " بابراء الذمة من الثمن أو يقول، وهبتك
إياه هذا ملخص ما ذكروه في المقام، والله سبحانه العالم.
السابعة: قالوا: لو وكل اثنين وشرط الاجتماع أو أطلق لم يكن
لأحدهما الانفراد، ولا القسمة، ولو مات أحدهما بطلت، وليس للحاكم أن
يضم إليه ولو شرط الانفراد جاز.
أقول: لا ريب في أنه إذا صرح بالانفراد فإن كل واحد منهما وكيل على
حده، وإذا صرح بالاجتماع لم يكن لأحدهما الانفراد، والمراد باجتماعهما
صدور الأمر الموكل فيه عن رأيهما واتفاقهما على ذلك، فإن كان عقدا " فينبغي
أن يأذن أحدهم للآخر في ايقاع العقد أو يتفقا على ثالث، فيوقع الصيغة، إذ
الظاهر جواز الإذن هنا في مثله كما رجحه بعض المحققين، وقيده آخرون
باقتضاء الوكالة جواز التوكيل، وإلا فلا، بالجملة فإن قصد الموكل أن يكون
العاقد واحدا " لا ايقاع كل منهما الصيغة.
وظاهره في المسالك أيضا " جواز ايقاع كل منهما الصيغة، واستشكله بعض
المحققين بأنه يلزم أن يكون العقد الصحيح غير مؤثر للمطلوب المترتب عليه،
بل يكون موقوفا " على عقد آخر غير معهود في الشرع، وفي صدق تعريف العقد
الصحيح عليه تأمل وتكلف، انتهى.
وأما مع الاطلاق فإن وجدت قرينة تدل على الأفراد أو الاجتماع
وجب العمل بمقتضاها، وإلا فإن ظاهر الأصحاب هو الحكم بالاجتماع، وعلى هذا
فشرط الاجتماع على الخصوص إنما يفيد مجرد التأكيد، لأن مقتضى الاطلاق
هو الاجتماع كما عرفت، والوجه في اقتضاء الاطلاق الاجتماع أن قوله وكلتكما
69

موجها " الخطاب إليهما معا " يقتضي كونهما وكيلين، والأصل في كل منهما على حدة
عدم الوكالة. وعدم جواز التصرف إلا بإذن الموكل، والإذن إنما حصل لهما معا "
والمعية يقتضي الاجتماع، ولو مات أحدهما بطلت الوكالة من أصلها، كما إذا
ماتا معا "، لأن توكيلهما على جهة الاجتماع يؤذن بعدم رضاه برأي أحدهما،
وتصرفه منفردا " وليس للحاكم ضم آخر إليه، وتنفيذ الوكالة إن كان الموكل
غائبا، بخلاف الوصاية، فإنه متى مات أحد الوصيين المجتمعين فإن للحاكم نصب
آخر يشاركه في تنفيذ الوصايا، والفرق بين الموضعين أنه لا ولاية للحاكم هنا
على الموكل بخلاف الوصي فإن النظر في حق الميت واليتيم إليه، فإذا مات
أحد الوصيين صار وجود الآخر كعدمه، فإن الموصي لم يرض برأيه منفردا " وحيث
كان الحاكم له النظر في أمور الميت واليتيم كان عليه أن ينصب شريكا " للوصي
في تنفيذ الوصايا.
ومما ذكرنا يعلم بطريق أولى أنه لو غاب أحد الوكيلين المشروط اجتماعهما
فليس للحاكم نصب آخر عوضه، وبذلك صرح في التذكرة أيضا "، وعلله بأن
الموكل رشيد جائز التصرف، ليس للحاكم عليه ولاية، وأنت خبير، بأن هذا
التعليل إنما يجري في حضور الموكل، لا في غيبته، واحتمال جواز ضم الحاكم
في صورة الموت والغيبة قائم، سيما في مقام تطرق الضرر على الموكل ببطلان
الوكالة، وبقاء أموره وما وكل فيه في معرض التلف، وتطرق الضرر، والله سبحانه
العالم.
الثامنة: قالوا: لو وكل زوجته أو عبده ثم طلق الزوجة وأعتق العبد لم
تبطل الوكالة، أما لو أذن لعبده في التصرف في ماله ثم أعتقه بطل الإذن، لأنه
ليس على حد الوكالة، بل هو إذن تابع للملك.
أقول: الوجه في الحكم الأول هو عدم مدخليته للزوجية والمملوكية في
صحة الوكالة، فلا منافاة بين الطلاق أو العتق وبينها، فيستصحب حكمها في الحالين
70

المذكورين، ويأتي مثل ذلك في العبد لو باعه بعد أن وكله، وقلنا بصحة وكالته
فيما إذا لم يمنع شيئا " من حقوق المولى كما هو أحد القولين المتقدمين في المسألة
الثانية من مسائل هذا المطلب، فتستصحب صحة الوكالة قبل البيع إلى دخوله في
ملك المشتري في هذه الصورة.
نعم لو منع ذلك شيئا " من حقوق المولى أو قلنا بالتوقف على الإذن مطلقا
كما هو المشهور اشتراط في صحتها إذن المشتري ورضاه بذلك.
وأما الوجه في الحكم الثاني فقد عرفته من قوله لأن الإذن ليس على حد
الوكالة، بل هو إذن تابع للملك، والظاهر أن مرجع ذلك إلى أفرق بين الإذن
والوكالة، والعبد هنا إنما تصرف بالإذن من حيث وجوب الخدمة عليه لسيده،
فهو مأذون من حيث أنه خادم فمنشأ التصرف إنما هو ذلك، لا الوكالة فإن الوكالة
أمر مستقل.
وبالجملة فإن النظر هنا يرجع إلى قصد الموكل لا إلى مجرد وقوع اللفظ
بالإذن، فإن كان قصده فيه الوكالة المستقلة كغيره من الوكلاء الأحرار كان ذلك
وكالة، إنما هو من حيث وجوب الخدمة عليه كساير الخدمات التي يؤمر بها،
فليس ذلك وكالة، بل إذن ويترتب على كل منهما ما يلحقه من الأحكام ومن
جملة ما يترتب على الإذن هنا هو بطلانه بعد البيع والعتق، لأنه تابع للملك،
وقد زال بكل من السببين المذكورين، قال في المسالك بعد قول المصنف في الإذن
بنحو ما ذكرنا من أنه ليس على حد الوكالة ما لفظه: قد عرفت في أول الوكالة
أن صيغتها لا تنحصر في لفظ، بل تصح بكل ما دل على الإذن في الصرف، وحينئذ
فيشكل الفرق بين توكيل العبد، والإذن له في التصرف حيث لا تبطل الوكالة بعتقه،
ويبطل الإذن إلا أن يستفاد ذلك من القرائن الخارجة الدالة على أن مراده من
الإذن إنما هو؟ ما دام في رقه، ومراده من الوكالة كونه مأذونا " مطلقا، وحينئذ
فلا فرق بين كون الإذن بصيغة الوكالة وغيرها، مع احتمال الفرق، فيزول
71

مع الإذن المجرد، لا مع التوكيل بلفظها، حملا لكل معنى على لفظه: ويضعف
بما مر، فإن الوكالة ليست أمرا " مغايرا " للإذن، بل تتأدى بكل ما دل عليها،
ولا فرق بين الصيغتين، انتهى.
أقول: لا ريب في صحة ما ذكره من أن الوكالة ليست إلا مجرد الإذن للوكيل
فيما وكل عليه على النحو المتقدم، ويترتب أحكام الوكالة على ذلك، كما تقدم
تحقيقه، إلا أن الكلام هنا بالنسبة إلى أوامر السيد لعبده، فإنها لما كانت إنما تقع
غالبا " على جهة الاستخدام المطلوب منه، فالإذن المفهوم من هذه الأوامر ليس
على حد الإذن المفهوم من تلك الأوامر الواردة في الأخبار، مثل قول شخص
لآخر بع لي هذا أو اشتر لي كذا ونحو ذلك، فإن المفهوم من الأخبار أن ذلك الإذن
هنا وكالة شرعية، يترتب عليه ما يترتب على الوكالة من الأحكام بخلاف
أوامر السيد على عبده، من حيث أن الغالب أن تلك الأوامر إنما تقع على جهة
الاستخدام، لأنها وكالة شرعية في كل مقام، الفرق بين الأمرين أظهر من أن
يخفى على ذوي الأفهام، فحمل بعض أوامر السيد لعبده على الوكالة يحتاج
إلى قرينة ظاهرة، في قصد الوكالة ليترتب عليها ما يترتب على الوكالة، وإلا فهي
أعم من ذلك كما لا يخفى، والله سبحانه العالم
التاسعة: قالوا لو قال: وكلتك على قبض حقي من فلإن لم تكن له مطالبة
الورثة بعد موته وقبل قبضه الحق، ولو قال له: وكلتك على قبض حقي الذي
على فلان كان له ذلك، والفرق بين الصيغتين أن الجار والمجرور في الصورة الأولى
وهو قوله من فلان متعلق بلفظ قبض، ففيه تعيين للمقبوض منه، وهو المديون
ولا يتعدى إلى الوارث، فإنه غير المديون.
نعم يتعدى إلى وكيل المديون، فيجوز القبض، لأن يده كيده وهو نائب عنه
والفرق بينه وبين الوارث، إن الملك لم ينتقل إلى الوارث بحق النيابة عن المورث وإنما
انتقل إليه بالملك أصالة بخلاف الوكيل، فإن يده عليه إنما هي بطريق النيابة.
72

وأما في الصورة الثانية فإن جملة الصلة والموصول فيها وقعت صفة للحق،
وليس فيه تعيين للمقبوض منه بوجه، بل الإذن معلق بقبض الحق الذي في ذمة زيد
مثلا، فالوكيل يتبع الحق حيثما كان، وأينما كان، قال في التذكرة: لو وكله
في قبض دينه من فلان فمات نظر في لفظ الموكل، فإن قال: اقبض حقي من
فلان بطلت الوكالة، ولم يكن له القبض من وارثه، لأنه لم يؤمر بذلك، وإنما
وكله في قبض مبدئه من المديون، وقد مات وإن قال: اقبض حقي الذي على فلان
أو الذي في قبل فلان فله مطالبة وارثه، والقبض منه، لأن قبضه من الوارث
قبض للحق الذي على مورثه، فإذا قبض من الوارث لم يكن قبضا من فلان،
لا يقال: لو قال اقبض حقي من زيد فوكل زيد أنسانا " في الدفع إليه كان له القبض منه
فكذا ينبغي أن يقبض من الوارث لأن الوارث نائب الموروث، كما أن الوكيل
نائب الموكل، لأنا نقول: الوكيل إذا دفع عنه بإذنه جرى مجرى تسليمه،
لأنه أقامه مقام نفسه، وليس كذلك هنا، فإن الحق انتقل إلى الورثة، فاستحقت
المطالبة عليهم لا بطريق النيابة عن الوارث، ولهذا لو حلف أن لا يفعل شيئا حيث
يفعل وكيله، ولا يحنث بفعل وارثه، انتهى.
فإن قيل: وصف الحق بكونه من فلان يشعر بحصر القبض فيه، لأن الصفة
إذا زالت بموته لم يكن الحق المتعلق بالوارث موصوفا " بكونه في ذمة فلان،
ولا يكون هو الموكل فيه.
فالجواب أن الوصف إنما يفيد الاحتراز به عن دين آخر له في ذمة شخص
آخر، ولا اشعار فيه بتخصيص القبض، ومع فرض أنه لا يكون له دين آخر على
غيره فالصفة هنا لمجرد التوضيح، فيكون كما لو قال بع عبدي النائم، أو الآكل
أو ما شاكلهما من الأوصاف، فإن له بيعه وإن انتبه أو ترك الأكل، كذا حققه في
المسالك، والله سبحانه العالم.
73

المطلب الخامس فيما تثبت به الوكالة:
وفيه مسائل: الأولى: قالوا لا يحكم بالوكالة بدعوى الوكيل ولا موافقة
الغريم ما لم يقسم بذلك بينه وهي شاهدان، ولا تثبت بشهادة النساء ولا بشاهد
وامرأتين، ولا بشاهد ويمين.
أقول: وتثبت أيضا " باقرار الموكل على نفسه، ويظهر من التذكرة أن
المستند في عدم ثبوتها بشهادة النساء وشهادة رجل وامرأتين أو شاهد ويمين
هو الاجماع، قال: وتثبت الوكالة باقرار الموكل على نفسه أنه وكله، وبشهادة
عدلين ذكرين، ولا تثبت بشهادة رجل وامرأتين، ولا بشهادة رجل ويمين عند
علمائنا أجمع.
وظاهر كلام المحقق هنا حيث نسب الحكم بذلك إلى قول مشهور التوقف،
فإن مرمي هذه العبارة ذلك، وقال في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المشعرة بما
ذكرنا هذا هو المذهب، ولا نعلم فيه مخالفا، ولأن متعلق الشاهد واليمين والشاهد
والمرأتين الحقوق المالية، والغرض من الوكالة الولاية على التصرف، والمال قد
يترتب عليها، ولكنه غير مقصود بالذات هيهنا ويشكل الحكم فيما لو اشتملت
الدعوى على الجهتين، كما لو ادعى شخص على آخر وكالة بجعل، وأقام شاهدا "
وامرأتين أو شاهدا " وحلف معه، والظاهر أنه يثبت المال، لا الوكالة، ولا يقدح
في ذلك تبعض الشهادة، ومثله ما لو أقام ذلك بالسرقة، فإنه يثبت المال لا القطع،
ولأن المقصود بالذات هنا هو المال لا الولاية نعم لو كان ذلك قبل العمل اتجه عدم
الثبوت، لأن انكار الوكالة أبطلها، والمال لم يثبت بعد، ويمكن أن يكون نسبة
المصنف القول إلى الشهرة حينئذ المشعر بتوقفه فيه، لأجل ذلك، فيكون التوقف
في عموم الحكم لا في أصله، انتهى.
ويمكن تطرق النظر والاشكال إلى بعض مواضع هذا المقال، منها ما استظهره.
74

من ثبوت المال دون الوكالة فيما لو ادعى الوكيل الجعالة عليها وأقام شاهدا "
وحلف معه، أو ضم إليه امرأتين، فإن فيه أنه لا ريب أن الجعالة فرع على الوكالة،
تابعة لها كما هو المدعى فكيف يثبت الفرع، مع عدم ثبوت الأصل، والتابع مع
عدم وجود المتبوع، بل هذا مما تنكره بديهة العقول.
ومنها قوله في السرقة أنه يثبت بذلك المال لا القطع، يعني لو أقام شاهدا " وامرأتين
أو شاهدا " مع اليمين على أن زيدا " سرق يثبت المال المسروق، ولم يثبت القطع على
السارق، مع أن هذين أعني ثبوت المال والقطع معلولا علية واحدة، وهي السرقة
فإن ثبتت ثبتتا، وإلا فلا فكيف يثبت بالبينة المذكورة أحدهما دون الآخر.
وبذلك يظهر بقاء الاشكال الذي ذكره لما عرفت من ضعف ما استظهره فإنه
لا ينطبق على القواعد والأصول بل هو مما تنكره بديهة العقول.
ومنها جملة عبارة المصنف المشعرة بتوقفه على هذه الصورة الخاصة، وهي انكار
الموكل الوكالة قبل عمل الوكيل، فإنه بعيد غاية البعد، أما أولا " فلأنها صورة
نادرة، لا يحسن أن يحمل عليها الاطلاق، وأما ثانيا " فإنه متى كان الانكار في
الصورة المذكورة من مبطلات الوكالة، فلا معنى لفرض المسألة بإقامة الشهادة
واليمين معه، أو ضم المرأتين، فإن إقامة بينة على أمر قد حصل بطلانه، بل لا يحسن
فرضه، والتمثل به بالكلية كما لا يخفى على ذوي الذوق السليم.
وكيف كان فإنه لا مندوحة عن الحمل على ذلك وإن بعد، لاتفاق الأصحاب
المعتضد بالأخبار الدالة على اختصاص الثبوت بهذين الأمرين بالمال، والوكالة
ليست مالا "، وإنما هي ولاية كما عرفت.
بقي الكلام هنا في شيئين أحدهما ما قدمنا نقله عنهم من قولهم أنه لا يحكم
بالوكالة بدعوى الوكيل ولا بموافقة الغريم ما لم يقم بينة، يبتغي تخصيصه بحصول
المنازع في الوكالة، بأن ينكره الموكل وإلا فإن الظاهر أنه لو ادعاها ولا منازع له
فإنه يصح تصرفه، والشراء منه، لأن هذا أحد أفراد القاعدة الكلية، وهي من ادعى
75

ولا منازع له فإنه يسمع دعواه، وعلى هذا عمل كافة الناس في ارسالهم الوكلاء
بأموالهم إلى البلدان البعيدة التي يتعذر فيها إقامة البينة على الوكالة، ويبيعون
ويشتري الناس منهم من غير نكير ولا توقف. وكان الأئمة عليهما السلام يفعلون كذلك
يرسلون الوكلاء للتجارة لهم في مصر ونحوها فلو لم يقبل دعوى الوكيل الوكالة في ذلك
لزم الحرج الشديد، والضيق، ويؤيده قبول المرأة في الخروج من العدة،
وموت الزوج (1) وأنها حللت نفسها بتزويج محلل، ثم طلاقه لها وخبر
الكيس (2)، الذي بين أولئك الجالسين فقال أحدهم لمن هذا الكيس الدراهم
أو الدنانير؟ فقال: أحدهم هو لي فقال عليه السلام هو له وبالجملة فالظاهر أن الحكم
المذكور لا اشكال فيه، ولا شبهة تعتريه، وقد أشبعنا الكلام في تحقيق هذه القاعدة
في كتاب الزكاة في مسألة ما لو ادعى الفقير الفقر هل يسمع دعواه أم لا؟ ثم إن ظاهر
كلامهم أنه في صورة التوقف بالاثبات على الشاهدين، لا بد من ضم حكم الحاكم
بذلك في باب الوكالة وغيرها، إلا ما استثنى من رؤية الهلال، فإنه يكفي فيه
مجرد السماع عن الشاهدين، كما هو ظاهر جملة من أخبار تلك المسألة، وقد
تقدم تحقيقه في كتاب الصيام.
قال في التذكرة: ولو قال يعني الوكيل الذي شهد عدلان على وكالته ما
أعلم صدق الشاهدين لم تثبت وكالته، لقدحه في شهادتهما على اشكال، أقربه ذلك،
إن طعن في الشهود، وإلا فلا، لأن الاعتبار بالسماع عند الحاكم، وجهله بالعدالة
مع علم الحاكم بها بنفسه أو بالتزكية لا يضر في ثبوت حقه، انتهى.
وربما أشعر هذا الكلام بأنه مع معرفته عدالتهما، فإنه لا يحتاج إلى ضم
حكم الحاكم، وكيف كان فهذا الفرض المذكور إنما يكون في غير صورة النزاع
بإنكار الموكل الوكالة وادعاء الوكيل لها، وقد عرفت أنه لا تتوقف الوكالة

(1) الكافي ج 5 ص 462 بابا أنها مصدقة على نفسها ح 1 و 2، الوسائل ج 14
ص 456 ح 1.
(2) التهذيب ج 6 ص 292 ح 17، الوسائل ج 18 ص 200 ح 1.
76

هنا على البينة بل يقبل مجرد دعوى الوكيل لها من غير راد لدعواه، ولا منازع.
وثانيهما أن الظاهر من كلامهم عدم ثبوتها بالاستفاضة حيث خصوا الثبوت
بالاقرار والعدلين، ويحتمل أن يكون الحصر إضافيا بالنسبة إلى رجل وامرأتين
أو رجل ويمين، ونحوهما من شهادة النساء، وشهادة رجل وحده فلا ينحصر في
الأمرين المذكورين ويؤيده أنهم جمعوا بين العدلين، والاستفاضة في مواضع.
والظاهر عدم الفرق بين هذه المواضع، إلا أن الظاهر الوقوف على ما ثبت
بالدليل، فإن الأحكام الشرعية صحة وبطلانا " وجوازا " وتحريما " يدور مدار الأدلة
الشرعية، وقد ثبت هنا ثبوته بالاقرار، للأدلة الدالة على (1) " أن اقرار العقلاء
على أنفسهم جايز " والعدلين للروايات الدالة على الثبوت بهما في جميع أبواب
الدعاوي فغيرهما يتوقف على الدليل.
وما ربما يتوهم من كون الاستفاضة ربما كانت أقوى من الشاهدين مدفوع
بأن العمل بالشاهدين ليس من حيث إفادة الظن، وحصول الظن بها، كما
قيل فإذا حصل ما هو أقوى منه ثبت به بطريق الأولوية بل إنما ذلك من حيث
كونه تعبدا " محضا " فإنه كثيرا " ما يحصل الظن الأقوى منهما بغيرهما من الأسباب،
ومع ذلك فلا يجوز الحكم به، ولهذا إن بعض الأصحاب جعل شهادة الشاهدين
إنما هي من قبيل الأسباب الموجبة للحكم على الحاكم الشرعي لا من حيث إفادة
الظن، والله سبحانه العالم.
الثانية: المشهور في عبارات الأصحاب وكذا غيرهم أن شاهدي الوكالة إذا
اختلفا في تاريخ ما شهدا به لم تثبت الوكالة، وكذا لو اختلفا في اللغة عربية
وفارسية، وكذا في العبارة بأن يقول: أحدهما بلفظ وكلتك، ويقول الآخر:
بلفظ استنبتك، بل لا بد اتفاقهما في كل من هذه الأمور المذكورة، أما لو كانت

(1) التهذيب ج 8 ص 235 ح 79 و 80، الكافي ج 7 ص 219 باب ما يجب على من أقر
على نفسه بحد ومن لا يجب عليه الحد، الوسائل ج 16 ص 133 ح 2 الباب 3 من أبواب الاقرار.
77

الشهادة على الاقرار بها فإنها لا يضر ذلك.
قال في التذكرة: من شرط قبول الشهادة اتفاق الشاهدين على الفعل
الواحد، فلو شهد أحدهما أنه وكله يوم الجمعة، وشهد الآخر أنه وكله يوم
السبت لم تثبت البينة، لأن التوكيل يوم الجمعة غير التوكيل يوم السبت، فلم
تكلم شهادتهما على فعل واحد، ولو شهد أحدهما أنه أقر بتوكيله يوم الجمعة
وشهد أنه أقر يوم السبت، ثبتت الشهادة، لأن الاقرارين اخبار عن عقد واحد،
ويشق جمع الشهود على اقرار واحد ليقر عندهم في حالة واحدة، فجوز له الاقرار
عند كل واحد وحده رخصة للمقر، وكذا لو شهد أحدهما أنه أقر عنده بالوكالة
بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر بها بالعجمية ثبتت الوكالة، ولو شهد أحدهما أنه
وكله بالعربية، وشهد الآخر أنه وكله بالعجمية لم تثبت، لأن الانشاء هنا متعدد
ولم يشهد بأحدهما شاهدان، وكذا لو شهد أحدهما أنه قال: وكلتك، وشهد
الآخر أنه قال: أذنت لك في التصرف، أو قال: جعلتك وكيلا " أو شهد أنه قال
جعلتك جريا " أي وكيلا " لم يتم الشهادة، لاختلاف اللفظ، ولو شهد أحدهما أنه
وكله، وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف، ثبتت الشهادة لأنهما لم يحكيا لفظ
الموكل، وإنما عبرا عنه بلفظهما واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه، انتهى
وعلى هذا النهج كلامه في سائر كتبه وغيره.
إلا أن ظاهر كلام الشرايع هو صحة الشهادة في صورة الاختلاف في الوكالة
كما في الاقرار وظاهره عدم الفرق بين الوكالة والاقرار في صحة الشهادة حيث
قال: ولو شهد أحدهما بالوكالة في تاريخ، والآخر في تاريخ آخر، وقبلت شهادتهما
نظرا " إلى العبارة في الاشهاد، إذ جمع الشهود لذلك في الموضع الواحد قد يعسر،
وكذا لو شهد أحدهما أنه وكله بالعجمية والآخر بالعربية، لأن ذلك يكون
إشارة إلى المعنى الواحد، ولو اختلفا في لفظ العقد بأن يشهد أحدهما أن الموكل
قال: وكلتك، ويشهد الآخر أنه قال: استنبتك لم تقبل، لأنها شهادة على عقدين
78

إذ صيغة كل واحد منهما مخالفة للأخرى، وفيه تردد، إذ مرجعه إلى أنهما
شهدا في وقتين، أما لو عدلا من حكاية لفظ الموكل واقتصرا على ايراد المعنى جاز،
وإن اختلفت عبارتهما، انتهى.
أقول: الظاهر أن القول الأول هو الأنسب بالقواعد والأصول، والأقرب
عند التأمل في هذه النقول، لما تقدم في كلام التذكرة، وتوضيحه أن الصيغة
الواقعة في أحد اليومين غير الواقعة في اليوم الآخر، وكل واحدة من الصيغتين
المذكورتين لم يقم عليها شاهدان بل شاهد واحد، وقول المحقق هنا في تعليل
ما ادعاه من الصحة، نظرا " إلى العادة في الاشهاد إلى آخره لا معنى له، إلا أن يحمل
الاشهاد في اليوم الثاني على الاقرار، لا على التوكيل، وهو خارج عن محل
البحث والمدعى، لأن الصيغة متى حصلت في اليوم الأول فقد تم العقد بها، وما تأخر
إنما يكون اقرارا " بها، والمدعى إنما هو الشهادة على الوكالة وأنها هل
تثبت مع اختلاف التاريخ أم لا؟ لا الاقرار، فيكون كلامه خروجا " عن محل
البحث إن حمل على إرادة الاقرار، وإلا فهو لا معنى له بالكلية لما عرفت، والفرق
بين الشهادة على التوكيل والشهادة على الاقرار، في أنه تصح الشهادة في الثاني مع
الاختلاف في التاريخ ونحوه مما تقدم، دون الأول، أن الوكالة انشاء لا خارج له
يقصد مطابقته، والاقرار له خارج نفس أمري يقصد بالأخبار مطابقته، ولا يلزم
من تعدد الخبر تعدد الخارج، فإن الانسان يفعل فعلا، ويخبر بذلك الفعل مرارا
متعددة في أوقات متعددة بألفاظ مختلفة أو متحدة، والأمر الخارج لا دخل له في
ذلك ولا يتعلق به تعدد، ولا اختلاف بتعدد الأخبار واختلافه. بخلاف الوكالة
التي هي انشاء لا واقع له يقصد مطابقته، فإن تعدد زمانه ومكانه واختلاف صيغته
توجب اختلافه، ومع هذا الاختلاف فإنه لم يقم البينة الشرعية، وهي العدلان على
فرد من هذه الأفراد المختلفة، بل إنما قام بها شاهد واحد، كما هو المفروض،
ومن أجل ذلك يثبت الاقرار مع الاختلاف دون الوكالة.
79

وأما قول المحقق الأردبيلي انتصارا " لما ذكره المحقق هنا حيث قال بعد
كلام في المقام: أيضا " لم نجد لهم دليلا على عدم اعتبار اتحاد الشاهد للقبول على
كل عقد من العقل والنقل، بل نجده مجرد الدعوى، فلم لا يجوز الاكتفاء
بشاهد واحد في كل عقد إذا كان مما يقبل التعدد، ولا يضره فإنه من الجايز أن
يقول عند شاهد عدل يوم الجمعة وكلتك، وفي يوم السبت عند آخر (وكيل كردم
شما را)، لغرض من الأغراض مثل الاشهاد كما في الاقرار إلى آخره، ففيه أنه
لا ريب أنه بالتوكيل في يوم الجمعة قد حصلت الوكالة الشرعية المترتب عليها
أحكامها المقررة، وهذا التوكيل الثاني في يوم السبت إن قصد به التوكيل،
والانشاء كما هو المفهوم من كلامه فهو لا يخرجه عن اللغو في القول، لما عرفت
من ثبوت التوكيل وحصوله، وترتب أحكام التوكيل عليه بلا خلاف، وإن أريد
الاقرار والاعتراف تم ما ذكره ولكنه خلاف ما أراده، وبذلك يظهر لك ما في
قوله، فلم لا يجوز الاكتفاء بشاهد واحد في كل عقد إذا كان مما يقبل التعدد،
فإني لا أعرف لقبول عقد الوكالة هنا التعدد دون غيره من العقود وجها " فإنه إن
ثبت الوكالة بما يترتب عليها بالعقد الأول، فلا معنى لهذا التعدد، وإلا فلا تورد،
بل الثاني في الحقيقة إنما يرجع إلى الاقرار والاعتراف كما هو ظاهر لمن تأمل
بعين الانصاف.
أقول: ومما يمكن أن يؤيد به القول المشهور ما هو المفهوم من جملة من
قضايا أمير المؤمنين عليه السلام في تفريق الشهود متى حصلت الريبة في شهادتهم من الأخذ
بالمشخصات الزمانية والمكانية والقولية ونحو ذلك، وأنه متى اختلفت الشهود في ذلك
أبطل شهادتهم ونقل عليه السلام مثله عن داود ودانيال عليها السلام والأخبار المشار إليها
مشهورة (1)، والله سبحانه العالم.
الثالثة: لو ادعى الوكالة عن غائب في قبض ماله، وكان لذلك الغائب
مال عند أحد فإن كان ثمة بينة على الوكالة وجب تسليم ذلك إليه، وإن لم تكن

(1) الوسائل ج 18 ص 202 ح 1.
80

بينة فلا يخلو ما أن ينكر الغريم الوكالة، أو يصدقه، وعلى الثاني فإما أن يكون الحق
عينا " أو دينا " فهنا صور أربع، الأولى: أن يقيم الوكيل البينة على دعوى الوكالة
وقد عرفت أنه لا اشكال في وجوب الدفع إليه، في هذه الصورة دينا " كان أو عينا ".
الثانية: أن ينكر الغريم الوكالة ولا بينة فإنه لا يكلف بالدفع إليه لعدم البينة
وعدم تصديقه، وقيل: لا يمين أيضا " على الغريم، ومن عنده المال هنا، لأن اليمين
عندهم إنما يتوجه على من لو صدق يلزم بمقتضى تصديقه، كذا قيل، وفيه نظر
سيأتي انشاء الله ذكره، فلو دفع بناء على الظاهر مع كونه غير مكلف بالدفع ثم
حضر الموكل وأنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف على نفي الوكالة رجع
على الدافع ويرجع الدافع على مدعي الوكالة، لأنه إنما دفع إليه بناء على الظاهر،
فإذا تبين خلافه وقد غرم للمالك رجع بذلك عليه بلا اشكال.
الثالثة: أن يصدق الغريم مدعي الوكالة، والحق الموكل فيه عين في يده،
والحكم أنه لا يؤمر بالتسليم إليه لجواز كذبهما معا "، وهذا الاقرار إنما تعلق بحق
المالك فلا يسمع، لأن له أن يكذبهما معا "، لكن لو دفع والحال هذه جاز بناء
على علمه بصحة الوكالة وتصديقه له فيها ولأنه لا منازع غيرهما الآن ويبقى الموكل
على حجته، فإذا حضر وصدق الوكيل برئت ذمة الدافع، وإن كذبه فالقول قوله
مع يمينه، فإن كانت العين موجودة أخذها، وله مطالبة من شاء منهما بالرد، لترتب
أيديهما عليها وإن تعذر ردها لتلف أو غيره، تخير في الرجوع على من شاء منهما، لما
عرفت من ترتب الأيدي عليها، فإن رجع على الوكيل لم يرجع على الغريم مطلقا
لاعترافه ببرائته بدفعها إليه، وإن رجع على الغريم لم يرجع على الوكيل إن تلفت
في يديه بغير تفريط لأنه عنده أمين حيث صدق في دعوى الوكالة، وإلا رجع عليه
ومنه يظهر أنه لا رجوع للغارم منهما على الآخر لو تلفت بغير تفريط منهما، لما
عرفت، ولأنه مظلوم بزعمه، والمظلوم لا يرجع إلا على ظالمه.
الرابعة: الصورة بحالها ويكون الحق دينا "، وهل الحكم هنا كما تقدم في
81

تقدم في سابق هذه الصورة أو أنه يجب الدفع إليه؟ وجهان: للأول منهما أن تسليمه
إنما يكون عن الموكل، ولا يثبت اقرار ولا يثبت اقرار الغريم عليه استحقاق غيره لقبض حقه،
ولأن التسليم لا يؤمر به إلا إذا كان مبرءا " للذمة، ومن ثم يجوز لمن عليه الحق
الامتناع من تسليمه لمالكه حتى يشهد عليه وليس هنا كذلك، لأن الغائب يبقى
على حجته، وله مطالبة الغريم بالحق لو أنكر الوكالة، وللثاني أن هذا التصديق
إنما اقتضى وجوب التسليم من مال المقر نفسه، لا من مال الموكل، وانكار الغائب
لا يؤثر في ذلك، فلا مانع من نفوذه، ولعموم اقرار العقلاء على أنفسهم جائز.
أقول: ومن أجل ذلك تردد في الشرايع، وفي التذكرة ذكر الوجه الثاني
احتمالا "، ولم يتعرض لذكر الوجه الأول، فقال: وإن كان دينا " احتمل وجوب
الدفع إليه، لاعترافه بأنه مستحق للمطالبة، والفرق بين الدين والعين ظاهر،
فإن المدفوع في الدين ليس عين مال الموكل، وأما العين فإنه عين مال الغير،
ولم يثبت عند الحاكم أنه وكيل، فلم يكن له أمره بالدفع، انتهى.
وظاهر المسالك هنا اختيار الوجه الثاني حيث أجاب عن أدلة الوجه الأول
بعد ذكر ما نقلناه من أدلة الوجه الثاني المتضمنة للجواب أيضا " عن بعض تلك
الأدلة، فقال: وتوقف وجوب التسليم على كونه مبرءا " مطلقا " ممنوع، والبراءة
هنا بزعمه حاصلة، والاحتجاج بجواز الامتناع للاشهاد إنما يقتضيه على المدفوع
إليه، وهو ممكن بالنسبة إلى مدعي الوكالة، فوجوب الدفع هنا أوجه، انتهى.
ثم إنه لو حضر المالك وأنكر الوكالة فالقول قوله بيمينه، ويطالب الغريم
وإن كان ما دفعه الغريم إلى الوكيل موجودا " بعينه، لأن ذلك ليس مال المالك
كما تقدمت الإشارة إليه، وإنما هو من مال الدافع، لأن الدين لا يتعين إلا بتعيين
مستحقة، أو من يقوم مقامه والحال أن هذا القابض ليس أحدهما
نعم للغريم الرجوع على الوكيل بما دفعه مع بقاء العين أو تلفها بتفريط
لا بدونه، لأنه من حيث تصديقه له على الوكالة فهو أمين عنده، والأمين لا يضمن
82

بدون تفريط، ويأتي بناء على الوجه الثاني من وجهي هذه الصورة أن الغريم لو لم
يصدق المدعي كما تقدم في الصورة الثانية، وكان الحق دينا " أنه لو ادعي عليه
الوكيل العلم بالوكالة، فله عليه اليمين بعدم العلم، لأنه لو أقر لزمه التسليم.
وهي قاعدة كلية عندهم.
قال المحقق: وكل موضع يلزم الغريم التسليم لو أقر يلزمه اليمين إذا
أنكر، فالطلاق عدم اليمين كما تقدم عن جملة منهم ثمة ليس في محله، بل إنما
يتم في العين حيث أنه لا يلزم بدفعها بمجرد التصديق كما تقدم، والله سبحانه
العالم.
المطلب السادس في - اللواحق:
وفيه مسائل: الأولى: المشهور في كلام الأصحاب بل ادعي عليه الاجماع
أن الوكيل أمين لا يضمن إلا مع التعدي أو التفريط، وقال في شرح القواعد:
أنه يلوح من كلامهم أنه لا خلاف في ذلك بين علماء الاسلام.
أقول: إن أريد بكونه أمينا " هو قبول قوله بيمينه في كل ما يدعيه من
تلف المبيع والثمن بعد قبضه، ورده على الموكل كلا مثلا "، وقبول قوله في فعل ما وكل
فيه ونحو ذلك فكلامهم لا يساعد عليه، وإن أريد أن ذلك في بعض هذه الأفراد
فالأولى التخصيص بتلك الأفراد المرادة، إلا أن تعليلاتهم في المقام يقتضي العموم
كما ستقف عليه، وها نحن نسوق لك جملة من عبائرهم في المقام.
قال في المسالك بعد قول المصنف لو اختلفا في التلف فالقول قول الوكيل
لأنه أمين، ولأنه يتعذر إقامة البينة بالتلف غالبا " فاقتنع بقوله دفعا " لالتزام ما
تعذره غالب، ما لفظه: المراد تلف المال الذي بيده على وجه الأمانة لتدخل فيه
العين الموكل في بيعها قبله، وثمنها حيث يجوز له قبضه بعده، والعين الموكل
في شرائها كذلك، ووجه القبول مع مخالفته للأصل بعد الاجماع ما ذكره
83

المصنف، ولا فرق بين أن يدعي تلفها بسبب ظاهر كالحرق والغرق، أو خفي كالسرق
عندنا، وفي حكمه الأب والجد والحاكم وأمينه والوصي، وقد تقدم الخلاف
في قبول قول بعض الأمناء، انتهى.
وقال في التذكرة: الوكيل أمين، ويده يد أمانة لا يضمن ما يتلف في يده
إلا بتعد أو تفريط، فإن تلف ما قبضه من الديون والأثمان أو الأعيان من الموكل
أو غرمائه فلا ضمان عليه، سواء كان وكيلا " بجعل، فإن تعدى فيه
كما لو ركب الدابة أو لبس الثوب أو فرط في حفظه ضمن اجماعا "، وكذا باقي
الأمانات كالوديعة وشبهها، وبالجملة الأيدي على ثلاثة أقسام: يد أمانة كالوكيل
والمستودع والشريك، وعامل المضاربة، والوصي والحاكم وأمين الحاكم،
والمرتهن والمستعير على وجه يأتي، ويد ضامنة كالغاصب والمستعير على وجه،
والمساوم والمشتري شراء فاسدا "، والسارق، ويد مختلف فيها، وهي يد الأجير
المشترك كالقصار والصائغ والحايك والصناع وما أشبه ذلك، وفيها للشافعية
قولان، وعندنا أنها يد أمانة، إذا عرفت هذا فكل يد أمانة لا ضمان على صاحبها
إلا بتعد أو تفريط، لأنه لو كلف الضمان لامتنع الناس من الدخول في الأمانات
مع الحاجة إليها، فيلحقهم الضرر، فاقتضت الحكمة زوال الضامن عنهم، انتهى.
وقال في موضع آخر: إذا ادعى الوكيل تلف المال الذي في يده للموكل
أو تلف الثمن الذي قبضه بثمن متاعه، وأنكر المالك قدم قول الوكيل مع يمينه،
وعدم البينة، لأنه أمينه، فكان كالمودع، ولأنه قد يتعذر إقامة البينة عليه،
فلا يكلف ذلك، لا فرق بين أن يدعي التلف بسبب ظاهر، إلى آخر كلامه.
وقال في موضع آخر: إذا اختلفا في الرد فادعاه الوكيل وأنكره الموكل،
فإن كان وكيلا " بغير جعل احتمل تقديم قول الوكيل، لأنه قبض المال لنفع
مالكه، فكان القول قوله مع اليمين كالودعي، ويحتمل العدم، لأصالة عدم الرد،
والحكم في الأصل ممنوع، وإن كان وكيلا " بجعل، فالوجه أنه لا يقبل قوله،
84

لأنه قبض المال لنفع نفسه، فلم قوله في الرد كالمستعير، وهو أحد قولي
العامة.
والثاني أن القول قول الوكيل، لأنه وكيل، فكان القول قوله كالوكيل
بغير جعل، لاشتراكهما في الأمانة، وسواء اختلفا في رد العين أو رد ثمنها،
وجملة الأمناء على ضربين: أحدهما من قبض المال لنفع مالكه لا غير، كالمودع
والوكيل بغير جعل، فيقبل قولهم في الرد عند بعض الفقهاء من علمائنا وغيرهم
لأنه لو لم يقبل قولهم لامتنع الناس عن قبول الأمانات، ولحق الناس الضرر
والثاني - من ينتفع بقبض الأمانة كالوكيل بجعل، والمضارب، والأجير المشترك
والمستأجر، والمرتهن، فالوجه أنه لا يقبل، وهذا الكلام مؤذن بأن الوكيل
ليس أمينا " مطلقا "، وإلا لقبل قوله في الرد وسيأتي مزيد تحقيق لهذا الحكم
انشاء الله تعالى في مسائل النزاع.
وقال في مواضع آخر إذا ادعى الوكيل الرد إلى الموكل، فالأقوى أنه يفتقر
إلى البينة، ثم نقل عن الشافعي تقسيم الأمناء إلى ثلاثة أقسام: قسم يقبل قوله في
الرد بيمينه، وهم المودعون، والوكلاء بغير جعل، ومنهم من لا يقبل إلا ببينة
وهم المرتهن المستأجر، ومنهم من اختلف فيه على وجهين، وهم الوكلاء بجعل
والشريك، والمضارب، الأجير المشترك إلى آخره.
وهذا الكلام يؤذن بأنه لا فرق بين الوكيل بجعل وغيره في عدم قبول قوله
إلا بالبينة، مع أن ظاهره في الكلام الأول التردد فيما إذا لم يكن الوكالة
بجعل، وقال في موضع آخر: إذا وكله في بيع أو هبة أو صلح أو طلاق أو عتق
أو ابراء أو غير ذلك، ثم اختلف الوكيل والموكل فادعى الوكيل أنه تصرف
كما أذن له، وأنكر الموكل وقال: لم يتصرف بعد، فإن جرى هذا النزاع بعد
عزل الوكيل لم يقبل قوله إلا ببينة، لأن الأصل العدم، وبقاء الحال كما كان
وإن جرى قبل العزل فالأقرب أنه كذلك، وأن القول قول الموكل، لأن الأصل
85

العدم إلى آخره، وسيأتي الكلام في هذه المسألة أيضا "، وتصريح غيره بخلاف
ما صرح به، ومرجعه إلى الخلاف في قبول قول الوكيل، عدمه وبذلك يظهر لك أن
ما ادعى من الاجماع المتقدم ذكره غير تام إلا في صورة دعوى التلف، حيث أن
ظاهرهم الاتفاق على قبول قول الوكيل فيه.
وأما دعوى الرد ودعوى التصرف فهو محل خلاف واشكال عندهم، مع أن
التعليل الذي ذكروه في قبول التلف زايدا " على الاجماع، وهو لزوم امتناع
الناس عن قبول الأمانات مع الجاء الحاجة، إلى ذلك، جار في هذين الأمرين.
وبالجملة فإن المسألة لعدم النصر في هذه الأفراد المعدودة بل في أصل
مسألة الوكالة لا يخلو من الاشكال، والاجماع المدعي لو سلم حجيته، غير تام،
والتعليلات المذكورة في كلامهم لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية كما تقدم ذكره
في غير مقام، والأصالة متعارضة في بعض هذه المواضع، فإن أصالة العدم في دعوى
الوكيل التصرف فيقدم قول الموكل، معارضة بأصالة براءة الذمة، وعدم الغرم
وحمل أفعال المسلمين على الصحة مهما أمكن، كما يشير إليه كثير من الأخبار
إلا أنه يمكن أن يقال: لا يخفى أن مقتضى الأخبار التي تقدمت في كتاب الوديعة
دالة على النهي عن اتهام من ائتمنه، المشعر ذلك بقبول قوله في جميع ما يدعيه،
كون الوكيل كذلك وأن كان بجعل، لأن الجعل إنما هو في مقابلة السعي
والعمل، وهو غير مناف للائتمان، ولا ريب أن الائتمان في الوكالة أشد وأبلغ منه
في الموادعة، لأنه في الوكالة مؤتمن على الحفظ والتصرف بجميع أنواع التصرفات
المأذون فيها، بخلاف الودعي فإنه مأمون على الحفظ خاصة، ولا ريب أيضا " أن
الائتمان الذي رتبت عليه هذه الأحكام في الوديعة ليس إلا عبارة عن الوثوق
بالمدفوع إليه في عدم الخيانة، والمخالفة لأمر المالك، ولهذا وردت الأخبار (1)

(1) الكافي ج 5 ص 299 ح 4، الوسائل ج 13 ص 228 ح 8 المنقول مضمون
الأحاديث.
86

" ما خانك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن "، بمعنى أنه متى حصلت الخيانة من
المدفوع إليه فالتقصير إنما هو منك، حيث لم تثبت في الفحص عن حال المدفوع
إليه، وكونه أمينا " وإلا فمتى ثبت عندك أمانته والوثوق به، فإنه لا يحصل منه
خيانة، والائتمان بهذا المعنى مشترك بين جميع الأمناء ودعيا " كان أو وكيلا " أو
مستعيرا " أو مرتهنا ".
وبه يظهر الفرق الذي ذكروه بين هذه الأفراد باعتبار مصلحة تعود
على الأمين ولا يقبل قوله، وعدمها فيقبل ليس بموجه، نعم قد استثنى بعض
المواضع في مسألة الإعارة من هذه القاعدة، فيقتصر فيه على مورد النص، وهذا
هو الظاهر عندي من الأخبار المشار إليها، وإن كان كلامهم على ما عرفت من
الاختلاف والاضطراب في جميع هذه الأبواب، والله سبحانه العالم.
الثانية: يجب على الوكيل تسليم ما في يده إلى الموكل مع المطالبة وعدم
العذر، بل يجب على كل من في يده مال لغيره، أو في ذمته ذلك، فلو امتنع
والحال كذلك ضمن، إلا أن له الامتناع حتى يشهد صاحب الحق له بالقبض.
وتفصيل هذا الاجمال يقع في مواضع الأول: لا ريب في وجوب الدفع
مع الطلب وامكان الدفع، وأنه لو امتنع والحال هذه ضمن، قالوا: وليس المراد
به القدرة العقلية، بحيث يذهل فيها فعل ما يمكنه فعله من المبادرة، وإن كان
على خلاف العادة، بل يرجع ذلك إلى العرف شرعا "، ثم إلى العرف العام، ويعذر
بما عد عذرا " فيهما، وإن كان مقدورا " كاكمال الصلاة عند الطلب في أثنائها،
وإن كانت نقلا "، والتشاغل بها عند ضيق الوقت وإن كان الطلب قبل الشروع
فيها عذر شرعي، والفراغ من الحمام وأكل الطعام ونحو ذلك من الأعذار
العرفية، كذا صرح به في التذكرة، مع أنه في باب الوديعة من الكتاب المذكور
حكم بأنه لا يعذر في ردها مع الطلب إلا بتعذر الوصول إلى الوديعة، واكمال
الصلاة الفرض دون النفل، وغيره من الأعذار العرفية فضيق الأمر في الوديعة،
87

ووسعه في الوكالة، والحال أن العكس كان هو الأنسب، لأن الأمر في الوديعة أسهل
حيث أنها مبنية على الاحسان المحض والأنسب بالسهولة، والوكالة قد يتعلق بها
أغراض للوكيل، كالجعل فيها ونحوه، فلا أقل من المساواة.
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد: الظاهر أنه لا خلاف في وجوب تسليم
مال الغير إلى مالكه مع طلبه، والقدرة على التسليم مطلقا "، وجوبا " فوريا " وكيلا
كان أو غريما "، أو مستعيرا " أو ودعيا " وكذا في خروج الأمين من الأمانة فيصير
ضامنا " بالتأخير كالغاصب، وإنما الخلاف في بطلان ما ينافي الدفع من العبادات
والقوانين الأصولية تقتضي البطلان على تقدير بقاء الوجوب، لوجوب الفورية
في الدفع، وعدم استثناء وقت العبادة، وعدم كون العبادات مضيقة، وهو ظاهر
بل نجد الاتفاق في ذلك بعد التأمل، حيث نجد أن القائل بالعدم يقول به،
وكذا الحكم في كل الفوريات كالزكاة والخمس والمال الوصي به للفقراء بل
ما دفع للصرف في مصرف إلا أنه لا يشترط هنا المطالبة إذا كان المصرف عاما "
مثل الزكاة والخمس، فإنه لا يتوقف على الطلب، إذ ليس له مطالب معين، صرح
به في الدروس، انتهى.
أقول: ما ذكروه من الاختلاف في الحكم ببطلان ما ينافي الدفع من
العبادات مبني على العمل بالقاعدة الأصولية المشهورة، وهي أن الأمر بالشئ هل
يقتضي النهي عن ضده الخاص أم لا؟ وحيث إنه كان من القائلين باقتضاء الأمر
ذلك، بل المبالغين في تشييد هذا القول، بالبطلان في جميع هذه المواضع
المعدودة.
وفيه أولا ما قدمنا تحقيقه في كتاب الطهارة (1) من أن الأظهر عدم العمل
بهذه القاعدة، وما يترتب عليها من الفائدة، ولا بأس بذكره هنا وإن استلزم
التكرار لدفع ثقل المراجعة على النظار، سيما مع عدم حضور ذلك الكتاب المشار
إليه بيد من أراد الوقوف عليه.

(1) ج 1 ص 59.
88

فأقول: التحقيق عندي وإن أباه ألف بالقواعد الأصولية أنا متى رجعنا
في الأحكام الشرعية إلى الأدلة العقلية التي لا تقف على حد ولا ساحل، ولو طويت
لها المراحل، ولهذا كثرت في هذه المسألة الأبحاث، وصنفت فيها الرسائل، أو
تصادمت فيها من الطرفين الدلائل واضطربت فيها أفهام الأفاضل اشكال الأمر، أي
اشكال وصار الداء عضالا " وأي عضال، والحق أن الأحكام الشرعية توقيفية من الشارع
لا مسرح للعقول فيها، ولو كان لهذه المسألة أصل مع عموم البلوى بها لخرج
عنهم عليهم السلام ما يدل عليها أو يشير إليها، وحيث لم يخرج عنهم عليهم السلام فيها شئ سقط
التكليف بها، إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد إقامة الحجة والبرهان،
وهذا يرجع في التحقيق إلى ما قدمنا ذكره في غير موضع من كتب العبادات،
وبه صرح الأمين الاسترآبادي من الاستدلال بالبراءة الأصلية، والعمل بها فيما
يعم به البلوى من الأحكام، هذا مع أن القول بذلك موجب للحرج والضيق المنفيين
بالآية والرواية، والاجماع، فإن لا يخفى أنه لا يكاد أحد من المكلفين فارغ الذمة
من واجب من الواجبات البدنية أو المالية، واللازم على هذا القول الذي ذكروه
بطلان عباداتهم وصلواتهم في غير ضيق الوقت، وبطلان نوافلهم ومستحباتهم،
وعدم الترخص في أسفارهم ولزوم الإثم والمؤاخذة في جملة أفعالهم من أكل وشرب
ونوم ونكاح، ومغدا " ومجيئ، ونحو ذلك ولأن الغرض أنهم منهيون عن هذه
الأضداد الخاصة، والنهي حقيقة في التحريم، فأي حرج وضيق أعظم من ذلك.
ومن أظهر ما يدل على عدم التكليف بهذه التي لم يرد فيها حكم
بنفي ولا اثبات، قول مولانا الصادق عليه السلام في رواية إسحاق بن عمار (1) أن
عليا عليه السلام كان يقول: أبهموا ما أبهم الله ".
وما رواه الشيخ المفيد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام " قال: قال

(1) البحار ج 2 ص 272 ح 5 الباب 33 من أبواب كتاب العلم.
(2) المستدرك ج 3 ص 217 ح 4 الباب 3، البحار ج 2 ص 263 ح 11
الباب 33 من أبواب كتاب العلم.
89

رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الله تعالى حد لكم حدودا " فلا تعتدوها،
وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وسن لكم سننا " فاتبعوها، وحرم عليكم حرمات
فلا تنهكوها، وعفى لكم عن أشياء رحمة من غير نسيان فلا تتكلفوها " وما رواه
الفقيه (1) في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام قال فيها: إن الله تعالى حد حدودا " فلا
تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا " فلا
تتكلفونها، رحمة من الله تعالى فاقبلوها " ولا ريب أن هذه المسألة داخلة فيما
سكت الله تعالى عنه فتكلف البحث فيها كما ذكره أصحابنا تبعا " للعامة العمياء
في كتبهم الأصولية، رد على ما دلت عليه هذه الأخبار، وكم لهم مثل ذلك،
كما لا يخفى على من جاس خلال الديار.
ومما يؤكد ذلك ما تكاثرت به الأخبار عنهم عليهم السلام (2) من النهي عن القول
بما لم يسمع منهم، ولا يرد عنهم، والكف والتثبت حتى يسأل ".
ومنه حديث صاحب البريد (3) المروي في الكافي قول الصادق عليه السلام فيه
" أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشئ ما لم تسمعوه منا ".
وفي معناه أخبار عديدة، وبذلك يظهر لك ما في قوله إن القوانين الأصولية
يقتضي البطلان، فإن فيه كما عرفت أن القوانين الشرعية الثابتة عن أهل
العصمة عليهم السلام تقتضي الصحة، وهي الأولى والأحق بالاتباع، وإن كانت قليلة الاتباع
من حيث عدم التأمل فيها، والرجوع في ذلك إليها، والظاهر أن من وقف على
ما شرحناه لا يخالف في صحة ما اخترناه.
وثانيا " أنه من المعلوم الذي لا يداخله الشك والريب أن أصل هذا العلم الذي
هو علم الأصول إنما هو من العامة وقد كانت العامة زمن الأئمة عليهم السلام كالشافعي وأبي
حنيفة وأحمد بن حنبل وأضرابهم عاكفين على هذا العلم، وصنفوا فيه الكتب

(1) الفقيه ج 4 ص 53 ح 15، الوسائل ج 18 ص 129 ح 61.
(2) الكافي ج 1 ص 42 ح 50، الوسائل ج 18 ص 112 ح 3.
(3) أصول الكافي ج 2 ص 402 في ضمن ح 1، الوسائل ج 18 ص 47 ح 25.
90

ويستدلون به على مطالبهم، ويستنبطون به أحكامهم ولم يكن لهذا العلم رواج
في الأحكام بين أصحاب الأئمة عليهم السلام من الشيعة، لاستغنائهم بالسؤال من أئمتهم في
جملة أحكامهم ولو كان هذا العلم كما يدعيه من سماه بعلم الأصول أصل أصيل في
الأحكام الشرعية كيف غفل الأئمة عليهم السلام عن تعليمه للشيعة في زمانهم، ونشره لهم
حيث أنه لم يبق نقير ولا قطمير من الأحكام والسنن والآداب وجميع ما يمر بالإنسان
ويعرض له إلا خرجت به الأخبار، وتكاثرت به من أكله وشربه ونومه، ويقظته،
وتزويجه ونكاحه، وسفره ولبس الثياب وضرب الخلا ونحو ذلك، فكيف ينبهون
على هذه الأمور ويتركون أهم الأشياء وأشدها حاجة، وهي الأصول التي يبنى
عليها الأحكام الشرعية، وتستنبط منها، ما هذا إلا عجب عجاب عند ذوي الألباب
وذيل الكلام واسع في الباب، يوجب التعويل به لخروج موضوع الكتاب،
والله سبحانه العالم.
وثالثا: أنه ما ذكره من الفورية في الزكاة والخمس والمال الموصى به
للفقراء ونحوم ذلك لا أعرف عليه دليلا، إذ ليس إلا مجرد الأمر بالاخراج والأمر
لا يستلزم الفور، كما هو المشهور بين محققيهم، على أنه قد دلت الأخبار على
تأخير الزكاة الشهر والشهرين، وفي بعض الأخبار (1) قيد ذلك بعزلها واثباتها،
وقد ورد جواز حمل الخمس إلى الإمام (2) من البلدان البعيدة مع وجود
المستحق، وكل ذلك ينافي الفورية.
الثاني: أن ما ذكر من أن له الامتناع حتى يشهد له صاحب الحق بالقبض
أحد القولين في المسألة، وقيل: بالتفصيل بأنه إن كان مما يقبل قول الدافع فيه،
ولا يتوجه عليه ضرر، بترك الاشهاد كالوديعة، وشبهها، فليس له الامتناع،
وإلا فله الامتناع إلى الاشهاد، كالدين والغصب ونحوهما وربما قيل بتفصيل آخر
أيضا " بالنسبة إلى هذا القسم الأخير، بأنه إن كان هناك بينة بالحق فله الامتناع

(1) الكافي ج 3 ص 522 ح 3، الوسائل ج 6 ص 213 ح 2.
(2) الوسائل ج 6 ص 375 الباب 3 من أبواب الأنفال.
91

حتى يشهد، وإلا فلا، مثلا " المديون إن كان عليه بينة بالدين، فلا يدفعه إلى
صاحبه حتى يشهد له على القبض، وإن لم يكن عليه بينة بذلك، فإنه وإن لم
يقبل قوله بالدفع لو أقر بالدين، إلا أنه يمكنه التخلص بوجه آخر، وهو أن
ينكر أصل الحق بأن يقول: لا يستحق عندي شيئا "، فيقبل قوله بيمينه كالأول
لأنه منكر.
أقول: والذي وجدته في فتاوى من حضرني كلامه هو القول الأول، وهذه
التفاصيل لم أقف على قائل بها منا وإن نقلت مجملة في كتب أصحابنا نعم نسبها في
التذكرة إلى الشافعية، واحتج من ذهب من أصحابنا إلى القول الأول بأن تكلف
اليمين ضرر عظيم وإن كان صادقا " وأذن الشارع فيها، ويترتب الثواب عليها خصوصا "
في بعض الناس من ذوي المراتب فإن ضرر الغرامة عليهم أسهل من ضرر اليمين.
أقول: ويعضد ما ذكره من تحمل ذوي المراتب ضرر الغرم تفاديا " من
اليمين حديث علي بن الحسين عليه السلام (1) مع زوجته الشيبانية الخارجية لما طلقها
وادعت عليه مهرها عند قاضي المدينة فأنكر عليه السلام فألزمه القاضي اليمين فأمر ابنه
الباقر عليه السلام بدفعه إياها اجلالا " لله سبحانه أن يحلف به، وإن كان صادقا ".
قال المحقق الأردبيلي بعد الكلام في توقف التسليم على الاشهاد كما ذكره
الأصحاب: واعلم أن في فتح هذا اشكالا "، إذ قد يتعذر وجود عدلين مقبولين
خصوصا " في زماننا هذا، وفي أكثر البلدان فإن أهلها يمتنعون عن الصلاة جماعة
بل صارت معدومة بالكلية، لعدم العدل مع سهولة الأمر في ذلك، وأن يرتكبوا
الطلاق مع صعوبة الأمر فيه بالنص والاجماع، وكذا في بعضها عن الطلاق أيضا "
حتى قال الشهيد الثاني والسيد المعاصر تلميذه أنه لو قيل: بعدم جواز التقصير
للعاصي بسفره، لم يجز لأحد التقصي إلا نادرا " لتركهم الواجبات العينية، وعدم
إمكان تحصيلها في السفر، فهو معصية وإن كان فيه بحوث قد مضت، منها أنه

(1) الكافي ج 7 ص 435 ح 5، الوسائل ج 16 ص 142 ح 1.
92

مبني على أن الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده الخاص، وهو لا يقول به، فلا يبعد
عدم الجواز مع التعذر أو التعسر المستلزم لمنع صاحب المال عن ماله الذي يدل
العقل والنقل على قبحه، خصوصا " إذا استلزم فوت المصالح مع أنا ما نعرف دليلا
واضحا " على جواز ذلك المنع إلا ما أشير وهو احتمال لزوم اليمين، وهو لا يعارض
العقل والنقل، على أنه قد لا يلزم، بل قد تعلم من صاحب المال انتفاء ذلك وأنه
لا محذور فيه، وعلى تقديره ليس بأشد من منع المال عن مالكه مع أنه لا يعانده
في تكليفه أيضا " بذلك، لعدم حضور الحاكم في ذلك البلد، والشهود إنما تنفع
مع الحاكم على ما قالوه، وأنه قد يسد أبواب المعاملة مثل الديون، والعارية،
والإجارة، وغيرها فالمنع عن مثله لاحتمال بعيد اعتمادا " على أمر غير متحقق،
إذ قد لا يكون الحاكم أو يموت الشهود، أو يخرج عن شرط القبول بعيد،
خصوصا " ممن يقبل قوله، ولهذا خص البعض بما عليه البينة.
وبالجملة الحكم الكلي مشكل جدا "، إلا أن يكون عليه نص أو اجماع
والله يعلم، انتهى وهو جيد الدليل عليه، والأصل العدم، ويخرج ما ذكره
مؤيدا لذلك.
وأما الاجماع فلم ينقل في المقام، بل ظاهر عبارة التذكرة إنما هو العدم،
حيث جعل القول بالاشهاد مطلقا هو الأقرب، ايذانا " باحتمال غيره وبالجملة فإن
التمسك بالأصل أصل رزين حتى يقوم الدليل على خلافه، وليس إلا هذه التعليلات
العليلة كما عرفت في غير موضع.
الثالث: قد عرفت أنه إذا امتنع من الرد بعد المطالبة من غير عذر كان
ضامنا "، لكن لو ادعى تلف المال قبل الامتناع أو ادعى الرد قبل المطالبة فهل
تسمع دعواه وبينته بذلك؟ أم لا، وتفصيل ذلك أن الامتناع من الرد إن كان
مجرد تقصير ومطل، فالظاهر أن هذا لا يمنع من قبول قوله وسماع بينته بدعوى
التلف قبل الامتناع، أو الرد قبل المطالبة، إذ لا منافاة بينهما، وهو إن كان
93

بضمن بالامتناع، إلا أن هذه الدعوى متقدمة على وقت الامتناع والرجوع إلى
الضمان، وحصول أحد الأمرين المذكورين قبل الامتناع بهذا المعنى ممكن،
وحينئذ يقبل الدعوى بذلك، وتسمع البينة، وإن كان الامتناع بالجحود فلا
يخلو إما أن يرجع إلى نفي الحق عن نفسه، بأن يقول: لا حق لك عندي أو لا
يلزمني دفع شئ إليك، أو يرجع إلى انكار قبضه وتسلمه منه بالكلية، بأن
يقول: ما قبضت منك شيئا " وعلى الأول منهما، فالحكم كما تقدم، بل أوضح،
لأنه متى ادعى التلف قبل الامتناع أو الرد قبل المطالبة، فامتناعه بهذا المعنى
لا يكذب تلك الدعوى، بل يؤكدها فإنه متى تلف منه أورده صدق أنه لا حق لك
عندي ولا يلزمني دفع شئ إليك، وأما على الثاني فهو محل الخلاف في المسألة،
فقيل بعدم قبول دعواه، وإن أقام البينة وهو مذهب العلامة، في أكثر كتبه،
قال في التذكرة لو أنكر الوكيل قبض المال، ثم ثبت ذلك ببينة أو اعتراف،
فادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله لثبوت خيانته، لجحوده، فإن أقام بينة بما
ادعاه من الرد والتلف، لم يقبل بينته، وللعامة وجهان: أحدهما لا يقبل كما
قلناه، لأنه كذبهما لجحوده فإن قوله ما قبضت يتضمن أنه لم يرد شيئا "، والثاني
يقبل لأنه يدعي الرد والتلف قبل وجود خيانته، وإن كان صورة جحوده ذلك
لا تستحق على شيئا " أو ما لك عندي شئ سمع قوله مع يمينه، لأن جوابه لا يكذب
ذلك، لأنه إذا كان قد تلف أورده فليس له عنده شئ، فلا تنافي بين القولين،
إلا أن يدعي أنه رد أو تلف بعد قوله ما لك عندي شئ، فلا يسمع قوله، لثبوت
كذبه وخيانته، انتهى.
وقيل بقبول قوله وسماع بينته، وهو اختيار الشرايع قال في المسالك:
ووجه ما اختاره المصنف من القبول جواز استناد انكاره إلى سهو ونسيان، وعموم (1)
" البينة على المدعي واليمين على من أنكر " ويقوى ذلك أن أظهر لإنكاره هذا التأويل
ونحوه، انتهى.

(1) المستدرك ج 3 ص 199 ح 5 الباب 3.
94

وظاهر المحقق الأردبيلي التردد هنا حيث قال: ولكن لو أظهر لجحوده
وانكاره القبض أولا " وجها " مثل أن قال: كنت نسيت أو خفت أن لا تسمع دعوى
التلف، فيلزمني المال فأنكرت هل يسمع ذلك أم لا؟ فيه تردد، من حيث امكانه،
والحمل على الصحة، وأنه أمين، ومن حيث أن فتح هذا الباب يصير سببا " لبطلان
كثير من الحقوق، فتأمل، ولعل الأول أقرب.
هذا كله فيما لو كانت الدعوى بالتلف أو الرد قبل الجحود، أما لو كانت
بعده بأن قال: إني قبضت بعد ذلك الزمان الذي جحدت فيه، ورددته إليك أو
تلف، فإنه وإن لم يصدق ولم يقبل قوله بمجرده، لظهور خيانته لكنت يقبل دعواه،
وتسمع بينته، لامكان ذلك وعدم المنافاة، وغايته أن يكون بجحوده متعديا
ضامنا، وذلك لا ينافي قبول دعواه وسماع بينته فإذا أقام البينة على الرد الذي
ادعاه ثبت الحكم، وسقطت المطالبة.
وأما دعوى تلف العين فإنه وإن برئت ذمته من رد العين بالبينة أو اليمين
إلا أنه يلزمه المثل أو القيمة من حيث الضمان المترتب على الخيانة، وبالفرق بين
صورتي القبلية والبعدية هنا صرح العلامة في الإرشاد وفي غيره أطلق عدم سماع
دعواه والله سبحانه العالم.
الثالثة: قال في التذكرة: لو دفع إلى وكيله عينا " وأمره بايداعها عند
زيد فأودعها، وأنكر زيد فالقول قوله مع اليمين، فإذا حلف برئ، وأما الوكيل.
فإن كان قد سلمها بحضرة الموكل لم يضمن، وإن كان بغيبته ففي الضمان اشكال
وللشافعية وجهان: أحدهما أنه يضمن كما في الدين، لأن الوديعة لا تثبت إلا بالبينة
والثاني لا يضمن، لأن الودعي إذا ثبت عليه بالبينة الايداع، كان القول قوله
في التلف والرد فلم تفد البينة شيئا، بخلاف الدين، لأن القضاء لا يثبت إلا بها، انتهى.
أقول: المشهور في كلامهم هو الفرق بين الوكالة في قضاء الدين، والوكالة
في الايداع، بأنه في الأول لو لم يشهد الوكيل على القضاء ضمن، وفي الثاني
95

لا يضمن، وعلى هذا فيجب الاشهاد في الأول دون الثاني، ووجه الأول أن براءة
الذمة ظاهرا " وباطنا " الذي هو مطلوب الموكل إنما يتحقق بالاشهاد، وكذا
الأمر الموكل فيه إنما يتحقق بالاشهاد، فإنه متى أنكر صاحب الدين القبض من
الوكيل ولا بينة، فكأنه لم يأت الوكيل بما وكل فيه، ولم يأت بما أمر به الموكل
فيكون ضامنا " بخلاف الايداع، فإنه لا يلزمه الاشهاد، ولا يضمن لو تركه، لأن
الودعي أمين، وقوله مقبول، أشهد عليه أو لم يشهد، فلا يظهر للاشهاد فائدة.
إلا أنه يمكن أن يقال: إن الأصل العدم في الموضعين، ومطلق الأمر في
كل من الموضعين لا يدل على الاشهاد، ويؤيده أن الوكالة مطلقة لا تقييد فيها
بالاشهاد، ويؤيده أن الوكالة قد حصل الامتثال بإنفاذ ما وكل فيه فيجوز من
دون الاشهاد، إلا أن يقوم دليل من خارج على الاشهاد، كالوكالة في الطلاق
مثلا، الظاهر أنه لا اجماع في القضاء ولهذا إن ظاهر المحقق في الشرايع التردد
في ذلك، ويؤيده ما تقدم في كلام المحقق ذكره، ويؤيده أيضا " أن فيه سد باب
قبول الوكالة لما يتطرق إليه من الضرر إلا أن يكون جاهلا فيعذر.
وبالجملة فالمسألة كغيرها لا يخلو من اشكال لعدم النصوص القاطعة لمادة
القيل والقال في أمثال هذا المجال، والله سبحانه العالم.
الرابعة: قالوا: لو تعدى الوكيل في مال الموكل ضمنه، كلبس الثوب،
وركوب الدابة الموكل ببيعهما، ولكن لا تبطل وكالته بذلك، ولو باع ما تعدى
فيه وسلمه إلى المشتري برئ من ضمانه.
أقول: أما الحكم الأول فالظاهر أنه لا خلاف فيه إلا من بعض العامة كما
ذكره في المسالك، وفيه أن العلامة في المختلف قد نقل ذلك عن ابن الجنيد أيضا "
حيث قال: تعدي الوكيل فيما وكل فيه بما يلزمه الغرم والضمان مبطل للوكالة.
وكيف كان فهو ضعيف، والوجه في بقاء الوكالة وعدم بطلانها وإن ضمن
بالتعدي أن الوكالة تضمنت شيئين، الأمانة، والإذن في التصرف، فإذا تعدى زالت
96

الأمانة، وبقي الإذن بحاله، ونظيره الرهن، فإنه متضمن لشيئين الأمانة والتوثيق
فإذا بطل الأول بالتعدي لا يلزم منه بطلان الثاني، وهذا بخلاف الوديعة، حيث
أنها أمانة محضة، فبالتعدي تزول وتبقى مضمونة.
وأما الحكم الثاني فالوجه فيه أنك قد عرفت بقاء الوكالة وعدم زوالها
بالتعدي، وحينئذ فإذا باع تلك العين وسلمها إلى المشتري زال الضمان عنه اجماعا "
كما نقله في التذكرة، لاستقرار ملك المشتري عليه، وزوال ملك الموكل عنه،
لأنه تسليم مأذون فيه، فيجري مجرى قبض المالك.
بقي الكلام هنا في مواضع: الأول: هل يخرج من الضمان بمجرد البيع
قبل التسليم أم لا؟ وجهان: يلتفتان إلى أنه قد خرج عن ملك المالك، ودخل في
ملك المشتري وضمانه، فلا ضمان على الوكيل حينئذ، وإلى أنه ربما بطل العقد بتلفه
قبل قبض المشتري، فيكون التلف عليه ملك الموكل، قال في المسالك وهذا أقوى.
وفي التذكرة بعد أن قرب هذا الوجه أولا " وذكر أنه أصح وجهي الشافعية
ذكر الوجه الأول وعلته، وقال بعد: ونحن فيه من المترددين.
الثاني إذا باع ما فرط فيه وقبض الثمن في صورة الجواز كان الثمن أمانة
في يده، غيره مضمون عليه، وإن كان أصله مضمونا "، لأنه لم يتعد فيه وقد قبضه
بإذن الموكل، فيخرج عن العهدة.
الثالث: لو تعدى في هذا الثمن بعد قبضه أو دفع إليه نقدا " يشتري به شيئا "
فتعدى فيه صار ضامنا " له، فإذا اشترى به وسلمه إلى البايع زال الضمان بالتقريب
المتقدم وهل يزول بمجرد الشراء؟ الوجهان المتقدمان.
الرابع: قد عرفت أنه إذا تعدى في العين ثم باعه وسلمها إلى المشتري
برئ من الضمان اجماعا " لمن لو ردها المشتري عليه، بعيب قال في التذكرة: عاد
الضمان، وقال في المسالك: وفي عود الضمان وجهان: أجودهما العدم، لانتقال
الملك إلى المشتري بالعقد، وبطلان البيع من حينه لا من أصله، انتهى.
97

أقول: مقتضى ما ذكره من الانتقال إلى المشتري بالعقد أن الانتفاعات بالمبيع والنماء
مدة الخيار للمشتري، وإن فسخ العقد ورد المبيع بالعيب بعد ذلك، إلا أنه قد
تقدم في كتاب المبيع أن الأخبار في ذلك مختلفة، وأخبار خيار الحيوان متفقة
على أن تلفه في زمن الخيار من مال البايع وهو مؤذن بعدم الانتقال للمشتري،
ولهذا نقل عن بعض الأصحاب أن منفعة المبيع في زمن الخيار والنماء إنما هو
للبايع، وحينئذ فلا استبعاد في أن الفسخ هنا يبطل البيع من أصله والله سبحانه العالم.
الخامسة: المشهور بين الأصحاب أنه إذا أذن الموكل للوكيل في بيع ماله
من نفسه أو الشراء له من نفسه جاز ونقل عن الشيخ ومن تبعه المنع للتهمة، ولأنه يصير
موجبا " قابلا "، ورد بمنع التهمة من الإذن، ومراعاة المصلحة المعتبرة في كل
وكيل، وجواز تولي الواحد من الطرفين عندنا كذا في المسالك.
وعندي فيه نظر، فإن ظاهر كلام الشيخ وخلافه في هذه المسألة إنما هو
في صورة الاطلاق، لا في صورة التصريح بالإذن، وبذلك صرح في التذكرة،
فقال: إذا وكله في بيع شئ فإن جوز له أن يشتريه هو، جاز أن يبيعه على
نفسه، ويقبل عن نفسه، وإن منعه من ذلك لم يجز أن يشتريه لنفسه اجماعا " وإن
أطلق منع الشيخ من ذلك، لأنه قال: جميع من يبيع مال غيره وهم ستة أنفس،
الأب والجد ووصيهما، والحكام وأمينه والوكيل، لا يصح لأحد منهم أن يبيع
المال الذي في يده من نفسه إلا لاثنين، الأب والجد، ولا يصح لغيرهما إلى آخره
وهو ظاهر كما ترى في أن خلاف الشيخ إنما هو في صورة الاطلاق، لا الإذن كما
ذكره.
ومنه يعلم أنه لا خلاف مع الإذن، وإنما الخلاف مع الاطلاق، ثم إن
ظاهرهم أنه لا فرق في الوكالة في بيع أو عقد نكاح أو غيرهما في أنه يصح
مع الإذن، مع أنه قد روى عمار (1) في الموثق " قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن

(1) التهذيب ج 7 ص 378 ح 5، الوسائل ج 14 ص 217 ح 4.
98

المرأة تكون في أهل بيت وتكره أن يعلم بها أهل بيتها أيحل لها أن توكل
رجلا " يريد أن يتزوجها؟ تقول له: قد وكلتك فاشهد على تزويجي؟ قال:
لا، قلت: جعلت فداك وإن كانت أيما "؟ قال: وإن كانت أيما "، قلت: وإن وكلت
غيره يزوجها، قال: نعم "، وأنت خبير بأن هذه الرواية صريحة في المنع مع
الإذن والظاهر أنه ليس إلا من حيث تولي طرفي العقد، ولكن موردها النكاح
خاصة، فيمكن أن يقال: بذلك في غيره أيضا " نظرا " إلى أن الأصل عصمة مال
المسلم وعصمة الفروج، حتى يقوم الدليل على صحة العقد، ومجرد الإذن كما
ادعوه لا يوجب الصحة، إذ يمكن أن يكون المانع هو تولي طرفي العقد، وإن جاز
ذلك في الأب والجد مع الاغماض عن المناقشة فيه أيضا ".
وجملة أدلتهم التي استندوا إليها في جواز تولي الواحد طرفي العقد لا يخلو
عن خدش، كما نبهنا عليه في ما تقدم من كتاب البيع في المسألة الخامسة من
المقام الثاني من الفصل الأول في البيع (1) فليراجع إليه من أحب الوقوف عليه،
إلا أن المفهوم من بعض الأخبار الواردة في هذا المقام كما ستظهر لك إن شاء الله هو
أن المنع إنما هو من حيث خوف التهمة والخيانة، وهو مشعر، بأنه مع الإذن
الموجب لارتفاع ذلك فإنه يصح، وحينئذ فينبغي الفرق في ذلك بين البيع والنكاح
ويخص المنع بالنكاح، للخبر المذكور، هذا كله مع الإذن.
أما مع الاطلاق فالمشهور بين أكثر الأصحاب من المتقدمين والمتأخرين
هو المنع، وهو مذهب العلامة في غير التذكرة والمختلف، وذهب في الكتابين
المذكورين إلى الجواز على كراهية، ونقل عن أبي الصلاح وهو مذهب الدروس،
والأظهر هو القول المشهور، ويدل عليه أن الأصل عدم جواز التصرف في مال الغير
عقلا " ونقلا " إلا مع الإذن، والمفروض عدمه، فإن الاطلاق لا يدل عليه.
والظاهر أن من قال بالجواز إنما قال ذلك من حيث دعوى فهم الإذن من

(1) ج 18 ص 417.
99

الاطلاق، وحينئذ فمطرح النزاع في أنه هل يفهم الإذن من الاطلاق أم لا؟ وإلا
فالظاهر أنه لا نزاع مع عدم فهمه، وحينئذ فالذي يدل على عدم فهمه زيادة على
الأصل المتقدم عدم ظهور الدلالة، لأن المتبادر من قوله بع هذا الشئ هو البيع
على الغير عرفا " وعادة، يدل على ذلك جملة من الأخبار، وقد تقدمت في المقدمة
الثانية في آداب التجارة في مسألة ما لو قال انسان للتاجر: اشتر لي متاعا (1) "
ومنها موثقة إسحاق بن عمار (2) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يبعث
إلى الرجل يقول: ابتع لي ثوبا " فيطلب له في السوق، فيكون عنده مثل ما يجد
له في السوق فيعطيه، من عنده، قال: لا يقربن هذا، ولا يدنس نفسه، إن الله
عز وجل يقول (3) " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن
يحملنها وحملها الانسان إنه كان ظلوما " جهولا " وإن كان عنده خير مما يجد في
السوق فلا يعطيه من عنده ".
ورواية علي بن أبي حمزة (4) " قال: سمعت عمر الزيات يسأل أبا عبد الله عليه السلام
قال: جعلت فداك إني رجل.
أبيع الزيت يأتيني من الشام فآخذ لنفسي مما أبيع؟ قال: ما أحب لك
ذلك، قال: إني لست أنقص لنفسي شيئا " مما أبيع، قال بعه من غيرك، ولا تأخذ
منه شيئا " أرأيت لو أن الرجل قال لك: لا أنقصك رطلا " من دينار، كيف كنت
تصنع لا تقربه.
فظاهر هذا الخبر أن بيع الرجل من نفسه أو شرائه لنفسه لا يدخل تحت
الاطلاق الذي اقتضته الوكالة، وإلا فإن مقتضى اطلاق الوكالة صحة البيع والشراء
بما يراه الوكيل وفعله، فلا معنى لقوله عليه السلام بالنسبة إليه لو أن الرجل قال لك:

(1) ج 18 ص 32.
(2) التهذيب ج 7 ص 352 ح 120، الوسائل ج 12 ص 289 ح 2.
(3) سورة الأحزاب الآية 72.
(4) التهذيب ج 7 ص 128 ح 29، الوسائل ج 12 ص 290 ح 2.
100

لا أنقصك رطلا " من دينار لو كان داخلا " تحت الاطلاق، ونحوها الموثقة المتقدمة، فإنه
لا معنى لكونه يدنس نفسه، ويخوفه في الأمانة مع كونه داخلا " تحت اطلاق الوكالة.
وفي رواية ميسر (1) قال: قلت له يجئني الرجل فيقول لي اشتر لي فيكون
ما عندي خيرا من متاع السوق قال: إذا أمنت أن لا يتهمك فاعطه من عندك،
وإن خفت أن يتهمك فاشتر له من السوق ".
وفي هذا الخبر دلالة على أن المنع من ذلك في هذه الأخبار إنما هو من
حيث خوف التهمة، وفيه اشعار بالجواز بل دلالة ظاهرة على ذلك مع الأمن
من التهمة، وحينئذ فمع الإذن صريحا " كما تقدم، فالجواز بطريق الأولى كما
تقدمت الإشارة إليه، إلى غير ذلك من الأخبار المتقدمة في الموضع المتقدم ذكره.
ومنه يعلم أنه ليس المنع فيما دل على المنع من حيث تولي طرفي الإيجاب
والقبول، وقد تقدم مزيد توضيح لذلك في المسألة الخامسة من المقام الثاني من
فصل البيع (2) على أنه إن أريد بطرفي الإيجاب والقبول، هو قول البايع بعتك
مثلا "، وقول المشتري قبلت كما هو ظاهر هذه العبارة، وهو مرادهم فهذا ليس
عليه دليل ولا أثر في الأخبار وإن اشتهر بينهم، وإنما الموجود فيها الإيجاب بلفظ
الأمر كقوله أشتر لي أو بع هذا، ونحو ذلك، القبول إنما هو فعل ما أمر به، وهو
القبول الفعلي بمعنى أنه أمره بالبيع فباع أو الشراء فيشتري ونحو ذلك وحينئذ فبيعه
على نفسه إنما هو عبارة عن أن يأخذ ذلك الشئ المأمور ببيعه لنفسه، ويدفع
ثمنه من ماله، كما هو المستفاد من هذه الأخبار المذكورة هنا ونحوها، وقد
عرفت أن هذا النهي إنما هو من حيث خوف التهمة، وحينئذ فمع تسليم صدق
تولي الطرفين على هذه الصورة فإنه لا مانع من هذه الجهة، وإنما، المنع من الجهة
المذكورة، وإن اختص ذلك بالصورة المذكورة الأولى كما هو ظاهر كلامهم.

(1) الفقيه ج 3 ص 121 ح 17، الوسائل ج 12 ص 289 ح 4.
(2) ج 18 ص 417.
101

وقد عرفت أنه لا وجود له في الأخبار بالكلية.
واستدل في المختلف على ما ذهب إليه من الجواز بأدلة ذكرناها في مسألة
ما لو قال: انسان للتاجر اشتر لي من المقدمة الثانية في آداب (1) التجارة وبينا
بطلانها فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه، وقد تلخص مما ذكرناه أنه مع
الإذن فالظاهر الصحة في البيع أو الشراء، ومع الاطلاق فالظاهر المنع إلا مع أمن
التهمة، وأما تعليل المنع بتولي طرفي العقد فلا دليل عليه إلا في النكاح، كما عرفت
من الرواية المتقدمة، وباقي ما يتعلق بالمسألة المذكورة من الفروع والتحقيق
يرجع فيه إلى الموضعين المتقدمين المشار إليهما، والله سبحانه العالم.
المطلب السابع في التنازع:
وفيه أيضا " مسائل: الأولى: في الاختلاف في الوكالة ولواحقها وفيه صور:
منها الاختلاف في أصل الوكالة، فيحلف المنكر إلها إن لم يكن بينة، لأن
القول قوله بيمينه، حيث أن الأصل العدم، وهذا فيما إذا ادعى العامل الوكالة،
وأنكرها المالك، ظاهر.
أما انكار الوكيل فإنه بحسب الظاهر لا معنى له، حيث أن الموكل لا حق
له يدعيه ليتحقق انكاره، إلا أنه يمكن فرض ذلك فيما لو كان التوكيل في شئ
مشروطا " في عقد لازم، وشرط ايقاعه في وقت معين، كيوم الجمعة مثلا "، ثم حصل
الاختلاف في الوكالة بعد انقضاء ذلك الوقت، فادعى الموكل الوكالة ليتم له العقد،
وأنكرها الوكيل ليتزلزل العقد، ويتسلط على الفسخ، وكما أن القول قول
الموكل لو أنكر الوكالة كذلك، لو اتفقا على أصل الوكالة، واختلفا في بعض
الكيفيات أو المقادير، كما إذا قال الوكيل: وكلتني في بيعه كله أو بيعه نسيئة
أو شرائه بعشرين، وقال الموكل: بل ببيع بعضه أو بيعه نقدا " أو شرائه بعشرة
فالقول قول الموكل، لأن الأصل عدم الإذن فيما يدعيه الوكيل، ولأن

(1) ج 18 ص 32.
102

الإذن صادر عن الموكل، وهو أعرف بحال الإذن ومقاصده الصادرة منه،
ولأنه كما كان القول قوله في أصل العقد، كذلك في صفته، والظاهر أنه
لا خلاف فيه.
ومنها الاختلاف في التلف، وظاهر كلامهم الاتفاق على أن القول قول
الوكيل بيمينه، لأنه أمين، ويتعذر عليه إقامة البينة بالتلف غالبا "، وقد تقدم
نقل جملة من عبائرهم في المسألة الأولى من سابق هذا المطلب، بل ظاهر عبارة
المسالك دعوى الاجماع على ذلك، إلا أن فيه ما عرفت في الموضع المشار إليه من
أن الاجماع المدعى إن كان على حكم التلف خاصة، فإن أحدا " لم يدعه، وإن
كان ظاهر كلامهم الاتفاق على ذلك، وإن كان على كونه أمينا " وترتب أحكام
الأمين عليه، فكلامهم واختلافهم في بعض الأحكام المتفرعة على ذلك ينافي دعوى
الاجماع المذكور.
وكيف كان فالقول قول الوكيل بيمنه في دعوى التلف بالنسبة إلى العين
الموكل في بيعها، وثمنها لو كان وكيلا " في قبضه، أعم من أن يكون التلف
بسبب ظاهر أو خفي.
ومنها الاختلاف في الرد والمشهور أنه إن كان وكيلا " بجعل فعليه
البينة، ولا يقبل قوله، وإلا فالقول قوله بيمينه كالودعي، والوجه في هذا
التفصيل أنه مع عدم الجعل أمين، وقد قبض المال لمجرد مصلحة المالك، فكان
محسنا " محضا "، وكل ما يدل على قبول قول الودعي من قولهم إن عدم قبول
قوله يؤدي إلى الاعراض عن قبول النيابة في ذلك، وهو ضرر عظيم يدل
عليه هنا.
وأما مع الجعل، فإنه قبض المال لمصلحة نفسه، فجرى مجرى المرتهن
والمستعير، فلم يقبل قوله، وللخبر المتفق عليه (1) " البينة على المدعي واليمين

(1) المستدرك ج 3 ص 199 ح 5 الباب 3.
103

على المنكر " خرج منه الأول من حيث أنه أمين وبقي ما عداه.
وقيل: إن القول قول الموكل، بيمينه مطلقا "، سواء كان الوكيل بجعل
أو بدونه ووجهه أن الأصل عدم الرد، والخبر المتفق عليه، وأجيب عن الوجوه
المتقدمة فيما إذا لم تكن بجعل أن كونه أمينا " لا يستلزم القبول، كمن قبضه
لمصلحة نفسه مع كونه أمينا "، والضرر يندفع بالاشهاد، والتقصير في تركه إنما
هو منه، وكونه محسنا " لا ينافي عدم قبول قوله في الرد، وكونه من جملة السبيل
المنفي عنه، يندفع بأن اليمين عليه سبيل أيضا " وليس بمندفع.
أقول: وهذه الوجوه المستدل بها وأجوبتها لا يخلو من المناقشات التي
ليس في التعرض لها مزيد فائدة بعد ما عرفت في غير موضع مما تقدم من أنها
لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية، وإنما المدار فيها على النصوص المعصومية،
والمستفاد منها كما تقدم تحقيقه في ذيل المسألة الأولى (1) من مسائل سابق هذا
المطلب هو أن الأمين وكيلا " كان أو غيره بجعل كان أو بغير جعل، يقبل قوله
فيما ادعاه من تلف أورد أو غيرهما، وأن هذه الأخبار الدالة على ذلك أخص من
الأخبار الدالة على ما ذكروه من تلك القاعدة وهي " أن البينة على المدعي واليمين
على المنكر " التي استندوا إليها هنا في تقديم قول الموكل، ومقتضى القواعد
الشرعية تقديم العمل بهذه الأخبار، لأنها أخص، ويخصص ما استندوا إليه من
تلك القاعدة بها.
وبذلك يظهر لك بطلان الوجه العقلي الذي استندوا إليه في الفرق بين
الودعي والوكيل بغير جعل، وبين غيرهما ممن له مصلحة في تلك المعاملة، وأن
الأول محسن محض فلا يضمن، بخلاف الثاني، فإنه مجرد تخريج لا دليل عليه،
كما اعترف بذلك في المسالك في كلام قدمنا نقله عنه في كتاب العارية قال
فيه: وهذه العلة ليست منصوصة وإنما هي مناسبة، وهو جيد.

(1) ص 83.
104

وبالجملة فالعمل على الأخبار وهي كما حققناه دالة على ما ذكرنا،
ولكنهم لغفلتهم عن ملاحظة الأخبار، وعدم الاطلاع عليها انجرت بهم المناقشة
إلى الوديعة أيضا "، حيث أن ظاهرهم أن المستند فيها إنما هو الاجماع.
قال في المسالك في هذا المقام بعد البحث في المسألة: والحق أن قبول قول
الودعي إن كان خراجا " بالاجماع الفارق فهو الفارق، وإلا فلا فرق، وفي الاجماع
بعد وقد تقدم الكلام فيه، انتهى.
وهو ظاهر فيما قلناه، حيث إنهم نظروا إلى أخبار (1) " البينة على المدعي
واليمين على المنكر، " خاصة، ولم يطلعوا على تلك الأخبار التي خصصنا بها هذه
القاعدة، وهي كما عرفت ظاهرة في المدعى، والله سبحانه العالم.
ومنها ما ذا ادعى الوكيل التصرف فيما وكل فيه، مثل قوله: بعت ما
وكلتني في بيعه أو قبضت ما وكلتني في قبضه، وأنكر الموكل ذلك، فقيل:
القول قول الوكيل، وبه جزم العلامة في الإرشاد من غير خلاف، وقربه في القواعد
وجزم في التذكرة بتقديم قول الموكل إن كان النزاع بعد عزل الوكيل،
واستقرب كون الحكم كذلك أيضا " قبل عزله، قد قدمنا عبارته بذلك في المسألة
الأولى (2) من مسائل سابق هذا المطلب، وتوقف في التحرير، وقال في الشرايع
إن القول قول الوكيل، لأنه أقر بماله أن يفعله، ولو قيل: القول قول الموكل
أمكن، لكن الأول أشبه.
قال في المسالك: وجه الأشبهية أنه أمين، وقادر على الانشاء، والتصرف
إليه، ومرجع الاختلاف إلى فعله، وهو أعلم به ووجه تقديم قول الموكل ظاهر
لأصالة عدم الفعل.
أقول: والأقرب عندي الرجوع إلى ما قدمناه من التحقيق في المقام،

(1) التهذيب ج 6 ص 229 ح 4، الفقيه ج 3 ص 20 ح 1، المستدرك ج 3
ص 199 ح 5 الباب 3.
105

ومقتضاه أن القول قول الوكيل، لأنه أمين، وقضيته ذلك قبول قوله في التصرف
وغيره والله وسبحانه العالم.
ومنها ما لو اختلفا في قدر الثمن المشترى به، فقال في المبسوط: إن القول
قول الوكيل، لأنه أمين، فيقبل قوله كما يقبل في التسليم والتلف، وقال الفاضلان
إن القول قول الموكل، لأنه غارم ومنكر، ولأصالة عدم الزيادة، واحتمل
الشهيد في شرح نكت الإرشاد أن القول قول الموكل إن كان الشراء في الذمة
وقول الوكيل إن كان الشراء بالعين ونقله عن القواعد.
وقال في المسالك بعد فرض المسألة في كلام المصنف بما إذا كان وكله
في ابتياع عبد فاشتراه بمائة، فقال الموكل اشتريته بثمانين، وذكر القولين
في المسألة ما صورته: التقدير أن المبيع يساوي بمائة كما ذكره في التحرير،
وإلا لم يكن الشراء صحيحا " لما تقدم من حمل اطلاق الإذن على الشراء بثمن
المثل، ووجه تقديم قول الوكيل، أن الاختلاف في فعله وهو أخبر، وأن الظاهر أن الشئ إنما يشترى بقيمته، وهو قوي، ووجه تقديم قول الموكل أصالة براءة
الذمة من الزائد، ولأن في ذلك اثبات حق للبايع على الموكل، فلا تسمع، ولا فرق
في ذلك بين كون الشراء بالعين أو في الذمة، لثبوت الغرم على التقديرين، انتهى.
أقول: ومقتضى ما ذكرناه من التحقيق المتقدم العمل لقول الشيخ
والله سبحانه العالم.
ومنها ما لو ادعى الوكيل أنه قبض الثمن وتلف في يده، فأنكر الموكل
القبض، فإن كان الدعوى بعد تسليم المبيع للمشتري فالقول قول الوكيل بيمينه
مع عدم البينة، لأنه أمين، والأصل عدم الغرامة، ولأنه لو لم يقبل يلزم سد باب
التوكيل، ولأن دعوى الموكل يتضمن خيانته مع كونه أمينا، وقد عرفت من
الأخبار المتقدمة النهي عن تهمته، ووجه تضمن دعوى الموكل عدم القبض الخيانة
هو أن الدعوى بعد تسليم المبيع للمشتري كما هو المفروض، فيلزم على دعواه
106

أن يكون قد سلم المبيع قبل أن يتسلم الثمن، مع أنه لا يجوز تسليم المبيع إلا بعد
قبض الثمن كما تقرر بينهم وإن كان الدعوى قبل تسليم المبيع، بل هو باق في
يد الوكيل قالوا: القول قول الموكل، لأن الأصل عدم الأخذ، ولا يلزم بالخيانة
ولا يلزم سد الباب، كذا قيل وفيه تأمل.
تذنيب:
قد صرحوا بأن القول قول الوصي في الانفاق، دون تسليم المال إلى الموصى
له، وكذا القول في الأب والجد والحاكم مع اليتيم، إذا أنكر القبض بعد بلوغه
ورشده، قال في المسالك: وظاهرهم هنا عدم الخلاف في تقديم قول الموصى له أو
اليتيم في عدم القبض، وهو يؤيد تقديم قول الموكل فيه، للاشتراك في العلة،
بل ربما كان الاحسان هنا أقوى.
أما الانفاق فخرج من ذلك، مع أن الأصل عدم ما يدعيه المنفق لعسر إقامة
البينة عليه في كل وقت يحتاج إليه، فيلزم العسر والحرج المنفيين، بخلاف
تسليم المال، انتهى.
أقول: لما كان المستند عندهم في عدم تضمين الأمين من وكيل وغيره،
وقبول قوله إنما هو آية (1) " ما على المحسنين من سبيل " وأن الودعي والوكيل
بغير جعل فعلا احسانا " محضا "، فلا يلحقهما الضمان، بل يقبل قولهما استدل بعدم
الخلاف في تقديم قول الموصى له أو اليتيم على تقديم قول الموكل في انكار
الدفع إليه، وإن لم يكن الوكالة بجعل، لأنه مع الجعل كما عرفت، فالقول
قول الموكل عندهم، بل ربما كانت العلة الموجبة لقبول قوله وهو الاحسان أقوى
في جانب الوكالة، لأنه يتصرف له ويبيع ويشتري ويسعى بغير جعل، ولا ريب
أن الاحسان في هذه الحال أزيد منه في حفظ الوصي، والولي الشرعي مال الموصي

(1) سورة التوبة الآية 91.
107

إليه، واليتيم، والدفع إليهما.
وأنت خبير بأنك إذا رجعت إلى الأخبار التي قدمناها في الوديعة دليلا " على
ما ذكرناه من كون الأمين مقبول القول فيما يدعيه، بل لا يمين عليه وإن كان
خلاف المشهور بينهم، وجدت أن موردها أنما هو من دفع ماله إلى غيره بعنوان
الوديعة، أو الوكالة، أو نحوهما، لا من كان عنده مال لغيره بعنوان الوصاية
أو الولاية الشرعية، لأن موردها النهي عن اتهام من أتمنه، بمعنى تصديقه فيما
يدعيه، ونحوها أخبار (1) " ما خانك الأمين، ولكن ائتمنت الخاين " بالتقريب
الذي تقدم ذيلها.
وبالجملة فإن الخطاب بقبول قول الأمين إنما توجه للذي دفع إليه المال
بمعنى أنك ائتمنته، ووثقت بديانته وأمانته، فلا تتهمه بعد ذلك، بل صدقه فيما
يدعيه ويقوله، وما ذكر هنا من الوصي والأب والجد والحاكم وإن كانوا أمناء، إلا
أنهم لا يدخلون في عنوان تلك الأخبار، بحيث يلحقهم الحكم المتفرع على الأمين
فيها من سماع قوله، فاستدلاله غير تام، وهو نظر إلى صدق الأمين في الموضعين
واعتمد على التعليل العقلي الذي اعتمدوه، ولم يطلع على الأخبار المذكورة،
فالواجب حينئذ في هذه المسألة هو الرجوع إلى القاعدة الكلية الدالة (2) على
" أن البينة على المدعي واليمين على المنكر " وهي تقتضي تقديم قول الموصى له واليتيم
لأنهما منكران، وأما الوكيل ونحوه فقد عرفت أن مستنده تلك الأخبار الخاصة
التي خصصنا بها تلك القاعدة، فافترق الأمران، والله سبحانه العالم.
تذنيب آخر:
قالوا: لو اشترى انسان سلعة وادعي أنه وكيل في ذلك الشراء الآخر،

(1) التهذيب ج 7 ص 232 ح 33، الكافي ج 5 ص 299 ح 4، الوسائل
ج 13 ص 234 ح 4.
(2) التهذيب ج 6 ص 229 ح 4، الفقيه ج 3 ص 20 ح 1، المستدرك ج 3
ص 199 ح 5 الباب 3.
108

فأنكر ذلك الآخر، فإن القول قوله بيمينه، فإذا حلف اندفع عنه الشراء
وحكم به للمشتري، وحكم عليه بالثمن، سواء اشترى بعين أم في الذمة، ولكن
يجب تقييده بعدم اعتراف البايع بكونه وكيلا " أو كون العين التي اشترى بها
ملكا للمنكر، أو قيام البينة بذلك، وإلا يبطل البيع، كما لو ظهر استحقاق أحد
العوضين المعينين، والله سبحانه العالم.
الثانية: اختلف الأصحاب فيما لو وكله على أن يزوجه امرأة، فعقد له
على امرأة ثم أنكر الموكل الوكالة بذلك، فقيل: القول قول الموكل بيمينه،
لأنه منكر، ويلزم الوكيل مهرها، وهو مذهب الشيخ في النهاية، قال:
ويجوز للمرأة أن تتزوج بعد ذلك، غير أنه لا يحل للموكل فيما بينه وبين الله
تعالى إلا أن يطلقها، لأن العقد قد ثبت عليه، وبه قال ابن البراج.
وقال في المبسوط: إن الذي على الوكيل إنما هو نصف المهر، قال في
المسالك: وهو المشهور بين الأصحاب، وبه قال ابن إدريس، ثم قوي بعد ذلك
مذهب النهاية.
وقيل: ببطلان العقد نقله في المختلف عن بعض علمائنا، قال بعض علمائنا:
إذا أنكر الموكل الوكالة كان القول قوله مع اليمين، فإذا حلف بطل العقد
ظاهرا "، ولا مهر، ثم الوكيل إن كان صادقا " وجب على الموكل طلاقها ونصف
المهر، قال في المختلف: وفيه قوة.
احتج الشيخ على القول الأول بأن المهر قد ثبت بالعقد، ولا ينتصف إلا
بالطلاق، ولم يحصل فيجب الجميع، استدل على ما ذهب إليه في المبسوط برواية
عمر بن حنظلة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل قال لآخر: اخطب لي فلانة،
فما فعلت من شئ مما قاولت من صداق أو ضمنت من شئ أو شرطت فذلك
رضا لي، وهو لازم لي ولم يشهد على ذلك، فذهب فخطب له، وبذل عنه الصداق

(1) التهذيب ج 6 ص 213 ح 3، الفقيه ج 3 ص 49 ح 4، الوسائل
ج 13 ص 288 ح 1.
109

وغير ذلك مما طالبوه وسألوه، فلما رجع إليه أنكر ذلك، قال يغرم لها نصف
الصداق عنه، وذلك أنه هو الذي ضيع حقها، فلما أن لم يشهد لها عليه بذلك
الذي قال له، حل لها أن تتزوج ولا يحل للأول فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن
يطلقها فإن الله تعالى (1) يقول " فامساك بمعروف أو تسريح باحسان " فإن لم
يفعل فإنه مأثوم فيما بينه وبين الله تعالى، وكان الحكم الظاهر حكم الاسلام
قد أباح الله لها أن تتزوج " رواه في التهذيب والفقيه.
وظاهر الشرايع والمختلف كما سلف تقوية القول بالبطلان، وهو ظاهره في
المسالك أيضا "، وحيث قال بعد نقل الخبر المذكور: وفي سند الحديث ضعف، ولو
صح لم يمكن العدول عنه، والقول الثالث الذي اختاره المصنف قوي، ووجه
واضح، فإنه إذا أنكر الوكالة وحلف على نفيها انتفى النكاح ظاهرا "، ومن ثم يباح
لها أن تتزوج؟، وقد صرح به في الرواية، فينتفي المرة أيضا "، لأن ثبوته يتوقف
على لزوم العقد، ولأنه على تقدير ثبوته إنما يلزم الزوج، لأنها عوض البضع،
والوكيل ليس بزوج، نعم لو ضمن الوكيل المهر كله أو بعضه لزمه حسب ما
ضمن، ويمكن حمل الرواية عليه، وأما وجوب الطلاق على الزوج مع كذبه
في نفس الأمر ووجوب نصف المهر فواضح، انتهى.
ومرجع ردهم الخبر إلى ما اشتمل عليه من ايجاب نصف المهر على الوكيل،
مع أنه ليس هو الزوج مع بطلان العقد بعد حلف الموكل، فلا يترتب عليه مهر،
ولهذا جوز لها أن تتزوج، بناء على ذلك، ولا شك في قوته بالنظر إلى العقل، إلا أنه من الجائز كون إلزام الوكيل بنصف المهر إنما هو عقوبة له حيث ضيع حقها
بعدم الاشهاد، والأحكام الشرعية لا مسرح للعقول في الاطلاع عليها، وأسبابها،
ويؤيد هذه الرواية صحيحة أبي عبيدة الحذاء (2) المروية في الفقيه والتهذيب " عن

(1) سورة البقرة الآية 229.
(2) التهذيب ج 7 ص 483 ح 152، الفقيه ج 3 ص 264 ح 44،
الوسائل ج 14 ص 228 ح 1.
110

أبي عبد الله عليه السلام في رجل أمر رجلا " أن يزوجه امرأة من أهل بصرة من بني تميم،
فزوجه امرأة من أهل الكوفة من بني تتميم، قال: خالف أمره، وعلى المأمور
نصف الصداق لأهل المرأة، ولا عدة عليها، ولا ميراث بينهما، قال فقال له بعض
من حضر: فإن أمره أن يزوجه امرأة ولم يسم أرضا " ولا قبيلة، ثم جحد الأمر
أن يكون قد أمره بذلك بعد ما زوجه؟ قال: فقال: إن كان للمأمور بينة أنه
كان أمره أن يزوجه، كان الصداق على الآمر لأهل المرأة، وإن لم يكن له بينة
فإن الصداق على المأمور لأهل المرأة، ولا ميراث بينهما، ولا عدة، ولها نصف
الصداق إن كان فرض لها صداقا " "، وزاد في الفقيه " فإن لم يكن سمى لها صداقا "
فلا شئ لها "، والرواية كما ترى صحيحة صريحة فيما دلت عليه الرواية الأولى،
ويؤكده السؤل الأول من هذه الرواية أيضا "، والمفهوم من جملة هذه الروايات أن
المرأة بالعقد عليها استحقت المهر على الزوج، لكن لما أنكر الزوج الوكالة ولا بينة،
وحلف انتفى النكاح، ولكن جعل حقها من المهر على الوكيل، حيث ضيع حقها
بعدم الاشهاد على الوكالة، وإذا كان وجوب ذلك على الوكيل إنما هو لما ذكرناه،
فلا ينافيه بطلان العقد، ألا ترى إن العقد في السؤال الأول من الصحيحة المذكورة
باطل، حيث إنه ليس هو المأمور به، مع أنه عليه السلام حكم على الوكيل بنصف المهر
عقوبة له.
وبالجملة فإن الحكم المذكور بعد دلالة هذين الخبرين لا مجال للمنازعة
فيه، سيما بعد اعترافه في المسالك بأنه لو صح لم يمكن العدول عنه، وهذه
الرواية الثانية التي ذكرناها صحيحة السند، لأن الشيخين المذكورين روياها
عن الحسن بن محجوب عن مالك بن عطية عن أبي عبيدة الحذاء، والثلاثة
المذكورون ثقات، والطريق إلى ا لحسن بن محبوب صحيح في الكتابين، فلا مجال
للتوقف فيها.
قال في المسالك: واعلم أن المرأة إنما يجوز لها التزويج مع حلفه إذا لم
111

تصدق الوكيل عليها، وإلا لم يجز لها التزويج قبل الطلاق، لأنها باعترافها
زوجة، بخلاف ما إذا لم تكن عالمة بالحال، فلو امتنع من الطلاق لم يجبر عليه،
لانتفاء النكاح ظاهرا "، وحينئذ ففي تسلطها على الفسخ دفعا " للضرر، أو تسلط
الحاكم على الطلاق، لأن له ولاية الاجبار على الممتنع أو بقائها كذلك حتى
يطلق، أو يموت أوجه، انتهى والله سبحانه العالم.
الثالثة: لو ادعى الوكيل الإذن في البيع بثمن معين فأنكر المالك الإذن
في ذلك القدر، فالمشهور وهو قول الشيخ في المبسوط أن القول قول الموكل
بيمينه، لأنه كما أن القول قوه في أصل الوكالة فكذا في صفتها، لأنها فعله،
وهو أعرف بحاله ومقاصده الصادرة عنه، ولأن الأصل عدم صدور التوكيل على
الوجه الذي يدعيه الوكيل، وحينئذ فإذا حلف الموكل بطل البيع، ووجب
أن يستعاد العين إن كانت باقية، ومثلها أو قيمتها إن تلفت.
وقيل: إنه يلزم الدلال اتمام ما حلف عليه المالك، صرح به الشيخ في
النهاية، ورد بأنه ضعيف لا مستند له، وحمله في المختلف على تعذر استعادة
العين عن المشتري والقيمة، وتكون القيمة مساوية لما ادعاه المالك، ولا يخلو
عن بعد، وحيث علم بطلان البيع بحلف الموكل على عدم ما ادعاه الوكيل،
فلا يخلو إما أن تكون العين باقية أو تالفة، وعلى كل منهما فإما أن يصدق
المشتري الوكيل في الوكالة وصحة البيع أم لا، وعلى فرض التلف فإما أن
يرجع الموكل على المشتري أو على الوكيل، فهذه خمس صور:
الأولى: أن تكون العين باقية، ولم يصدق المشتري الوكيل، فإن
الموكل يسترجع العين من كل من كانت في يده، ويرجعه المشتري على الوكيل
بالثمن الذي دفعه إليه إن دفع إليه ذلك.
الثانية: الصورة بحالها ولكن صدق المشتري الوكيل، والحكم بالنسبة إلى
استرجاع العين كما تقدم، وأما بالنسبة إلى رجوع المشتري على الوكيل بالثمن، فإنه
112

بتصديقه للوكيل وحكمه بصحة البيع، وأن الموكل ظالم بابطاله، فإنه إنما يرجع
على الوكيل بأقل الأمرين من الثمن الذي دفعه وقيمة المبيع، لأن الثمن إن كان
هو الأقل فليس في يد الوكيل من مال الموكل الذي هو ظالم للمشتري في أخذ العين
بزعمه، سواه فيأخذه قصاصا "، لأن هذا الثمن بزعم الوكيل والمشتري إنما هو مال
الموكل كما عرفت، وإن كان الثمن المدفوع أكثر من القيمة فالمشتري ليس له
أكثر من القيمة، لأن حقه شرعا " بزعمه إنما هي العين، إلا أنه بأخذ الموكل لها
وحيلولته بينه وبينها، يرجع إلى قيمتها، فليس له شرعا " إلا القيمة خاصة، وعلى
هذا فالزائد من الثمن في يد الوكيل مجهول المالك، لأن الوكيل ليس له شئ
من ذلك، والمشتري ليس له إلا قيمة ماله، والموكل لا يدعيه.
الثالثة: تلف العين مع التصديق، ولا خلاف في أن للموكل الرجوع
بالقيمة مع التصديق على أيهما شاء، أما المشتري فلتكلف المال في يده، وأما الوكيل
فلعدوانه ظاهرا " فيدهما يد ضمان إلا أنه متى رجع الموكل على المشتري
بالقيمة مع تصديقه لم يرجع المشتري على الوكيل، لتصديقه له في صحة البيع
وزعمه أن المال ظالم في رجوعه عليه فلا يرجع على غير ظالمه، هذا مع عدم
قبض الوكيل الثمن من المشتري.
وأما لو قبضه منه، والحال أنه لا يستحقه، والموكل لا يدعيه، فإنه يرجع
به المشتري عليه، لكن إذا كان المدفوع بقدر القيمة أو أقل، فالرجوع به
ظاهر، وإلا رجع بمقدار ما غرمه للمالك من قيمة العين، فلو كان المدفوع
أزيد كان الزائد في يد الوكيل مجهول المالك، لأن المشتري لتصديقه وصحة
البيع عنده فحقه شرعا " إنما هو البيع الذي تلف عنده، لكن لما أغرمه الموكل
القيمة فالذي له إنما هو ما غرمه يرجع به على ما دفعه إلى الوكيل، فإذا كان
الثمن الذي دفعه أولا " زائدا " على القيمة، وعلى ما أغرمه الموكل فتلك الزيادة
لا يستحقها بوجه، والوكيل لا يستحقها، والمالك لا يطلبها، لإنكاره البيع. فتصير
113

مجهولة المالك، إلا أنه يحتمل وجوب دفعها إلى المالك، لأنه بمقتضى زعمهما
صحة البيع تكون مال المالك، فيجب عليهما بمقتضى ما يزعمانه أن يدفعاها له،
ويأتي هذا الاحتمال في زيادة الثمن في الصورة الثانية أيضا ".
الرابعة: الصورة بحالها مع عدم التصديق، قالوا: يرجع على الوكيل
بما غرمه أجمع لغروره، ولو كان الثمن الذي دفعه إلى الوكيل أزيد مما غرمه
رجع به عليه لفساد البيع ظاهرا " عنده.
الخامسة: رجوع الموكل على الوكيل مع التلف، فإنه في هذه الصورة
يرجع الوكيل على المشتري بالأقل من ثمنه، وما اغترمه لأنه إن كان الثمن
هو الأقل فهو يزعم أن الموكل لا يستحق سواه، وأنه ظالم يأخذ الزائد من
القيمة فلا يرجع به على المشتري، وإن كانت القيمة التي اغترمها الأقل فإنه لم
يغرم سواها، لكن يبقى الزائد مجهول المالك ظاهرا "، مثلا " ثمنه الذي باع به
ثمانون درهما، والذي اغترمه للمالك مائة درهم، فإنه إنما يرجع بالثمانين،
خاصة للعلة المذكورة أو أن الثمن مائة درهم، والذي اغترمه ثمانون درهما "،
فإنه إنما يرجع بما اغترمه.
بقي الكلام في هذه العشرين الزائدة، فإنها مجهولة المالك، لأن الموكل
لا يستحقها بزعمه، وموافقة الظاهر له، والوكيل قد خرج عن الوكالة بإنكار
الموكل، فليس له قبضه، وينتزعه الحاكم الشرعي، ويتوصل إلى تحصيل مالكه،
هذا خلاصة كلامهم في المقام.
ولو قيل: بالتصدق بهذا الزائد المجهول في جميع هذه الصور عن صاحبه،
كما في المال المجهول الصاحب، كان وجها " لدخوله تحت عموم أخبار تلك
المسألة، والله سبحانه العالم.
المسألة الرابعة: قيل: إذا اشترى الوكيل لموكله كان البايع بالخيار،
إن شاء طالب الوكيل، وإن شاء طالب الموكل، وعلل بأن الحق على الموكل،
114

والعقد على الوكيل، فيتخير في مطالبة أيهما شاء والظاهر ضعفه، وقيل: باختصاص
المطالبة بالموكل مع العلم بالوكالة، والاختصاص بالوكيل مع الجهل بذلك
وعلل أما مع الجهل، فلأن العقد وقع معه، والثمن لازم له ظاهرا " فله مطالبته
وأما مع العلم بكونه وكيلا " فلأنه يكون نائبا " عن غيره، فلا حق له عنده، بل عند
الموكل، وإلى هذا القول مال في الشرايع.
وأورد عليه بأن الحكم بمطالبة الموكل مع العلم، والوكيل مع الجهل
لا يتم على اطلاقه، لأن الثمن لو كان معينا " لم يكن له مطالبة غير من هو في يده،
وقيل: إذا اشترى الوكيل بثمن معين، فإن كان في يده طالبة البايع به وإلا طالب
الموكل، لأن الملك يقع له، وإن اشترى في الذمة، فإن كان الموكل قد سلم
إليه، ما يصرفه إلى الثمن، طالبه البايع أيضا "، وإن لم يسلم فإن أنكر البايع
كونه وكيلا أو قال لا أدري هل هو وكيل أم لا، ولا بينة طالبه وإن اعترف
بوكالته، فالمطالب بالثمن الموكل لا غير، لوقوع الملك له، والوكيل سفير بينهما
ومعين للموكل، فلا يغرم شيئا "، والقول المذكور للتذكرة، قال وهو أحد
وجوه الشافعية،
والثاني: أن البايع مع تصديق الوكالة يطالب الوكيل لا غير، لأن أحكام
العقد يتعلق به، والالتزام وجد منه.
والثالث: أنه يطالب من شاء منهما نظرا " إلى الظاهر والمعتمد الأول انتهى.
أقول: وما اعتمده هو أقرب الأقوال، إلا أنه لا يخلو من الخدش في بعض هذه
الترديدات، والظاهر هو ما فصله في المسالك قال: والأولى أن يقال في المسألة
إن الحق إما أن يكون معينا " أو مطلقا "، وعلى التقديرين فإما أن يسلم إلى الوكيل
أم لا، وعلى التقادير فإما أن يكون البايع عالما " بوكالته أو غير عالم، وحكمها
أنه متى كان الثمن معينا " فالمطالب به من هو في يده، سواء في ذلك الوكيل أو
الموكل وإن كان في الذمة ودفعه الموكل إلى الوكيل تخير البايع في مطالبة
115

أيهما شاء مع علمه بالوكالة، أما الوكيل فلأن الثمن في يده، وأما الموكل فإن
الشراء له، وما دفع لا ينحصر في الثمن بعد، وإن لم يكن دفعه إلى الوكيل،
فله مطالبة الوكيل مع جهله بكونه وكيلا، وعدم البينة عليها، والموكل مع
علمه، انتهى.
ومنه يعلم أن ما أطلقه في التذكرة من أنه متى كان في الذمة وقد سلمه
الموكل إلى الوكيل، فإنه يطالب الوكيل ليس كذلك، بل الأظهر كما ذكره
في المسالك هو التخيير مع العلم بالوكالة.
الخامسة: قالوا: إذا طالب الوكيل بحق موكله فأجابه من عليه الحق
بأنك لا تستحق المطالبة لم يلتفت إلى هذا الجواب، لأنه مكذب للبينة القائمة
على الوكالة، فإن مقتضى البينة ثبوت الوكالة، وقضية ثبوت الوكالة استحقاق
المطالبة، وأورد عليه بأن نفي استحقاق المطالبة لا يستلزم تكذيب البينة، لأنه
يجوز ثبوت الوكالة ثم عزله عنها، أو الابراء من الحق المدعى، أو الأداء إلى الموكل
أو وكيل آخر، وفي جميع هذه الوجوه لا يستحق المطالبة وإن ثبت كونه وكيلا،
ولهذا نقل عن القواعد أنه استشكل الحكم المذكور، وأجيب عن هذا الاشكال
بأن في الاستحقاق لما كان مشتركا " بين ما يسمع وما لا يسمع إلا بعد التحرير
لأنه لا تعد دعوى شرعية إلا بعد تحريرها، ولو أجاب من عليه الحق بأن قال
عزلك الموكل، أو أن الموكل أبرأه من الحق لم يسمع، إلا أن يدعي العلم على
الوكيل، فله عليه اليمين بعدم العلم.
السادسة: لا خلاف بين المسلمين في قبول شهادة الوكيل على موكله،
لحصول الشرائط وانتفاء الموانع، وكذا لا خلاف في قبولها له فيما لا ولاية له عليه
مطلقا "، وأما فيما له ولاية ووكالة فيه، فتقبل عند الأصحاب فيه أيضا " إذا كانت
الشهادة بعد العزل، ما لم يكن أقام الشهادة حين الوكالة، فإنه بإقامتها حين الوكالة
ترد للتهمة، وكذا ترد فيما لو لم يكن عزله بعد شروعه في المنازعة والمخاصمة.
116

قال في التذكرة: تقبل شهادة الوكيل مع الشرائط على موكله مطلقا "،
وتقبل لموكله في غير ما هو وكيل فيه، كما لو وكله في بيع دار فشهد له بعد،
ولو شهد فيما هو وكيل فيه، فإن كان ذلك قبل العزل لم تقبل، لأنه متهم حيث
يجر إلى نفسه نفعا، وهو ثبوت ولاية التصرف لنفسه، وإن كان بعد العزل، فإن
كان قد خاصم الغريم فيه حال وكالته لم تقبل منه أيضا "، لأنه متهم أيضا "،
حيث يريد تمشية قوله، واظهار الصدق فيما ادعاه أولا وإن لم يخاصم سمعت
شهادته عندنا، انتهى.
أقول: لا يخفى ما في هذه التعليلات من الاشكال في ابتناء الأحكام الشرعية
عليها، بعد ثبوت العدالة في الشاهد، ثم إنه أي نفع هنا في ثبوت ولاية التصرف له،
بل ربما كان الضرر أظهر باشتغاله بذلك عن القيام بأموره، ونظم معاشه ومعاده
ونحو ذلك.
وإلى ما ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي حيث قال: وأما وجه العدم
على أحدهما فهو التهمة، ووجه عدم القبول حين الوكالة فيما وكل فيه جر النفع
وفيهما تأمل، إذ قد لا يكون جر نفع، ولا نسلم كون مطلق الولاية والوكالة نفعا "،
بل قد يكون مضرا "، وكذا التهمة وكون مثلها مانعا " من قبول الشاهد
المقبول يحتاج إلى الدليل على قيام شهادة العدل المتصف بالشرائط
سوى هذا المتنازع، فتأمل انتهى وهو جيد.
السابعة: قالوا: لو وكله في قبض دين من غريم له، فأقر الوكيل بالقبض،
وصدقه الغريم، وأنكر الموكل فالقول قول الموكل، وتردد فيه في الشرايع.
وقال في التذكرة إذا وكل وكيلا " باستيفاء دين له على انسان، فقال:
قد استوفيته فأنكر الموكل نظر، فإن قال: قد استوفيته وهو عندي فخذه فعليه
أخذه، ولا معنى لهذا الاختلاف، وإن قال: استوفيته وتلف في يدي فالقول قوله
مع يمينه على نفي العلم باستيفاء الوكيل، لأصالة بقاء الحق، فلا يقبل قول
117

الوكيل والمديون إلا ببينة، لأن قولهما على خلاف الأصل، انتهى.
أما لو أمره ببيع سلعة وتسلمها وقبض ثمنها فتلف الثمن من غير تفريط
فأقر الوكيل بالقبض وصدقه المشتري وأنكر الموكل فالقول قول الوكيل.
قالوا: والفرق بين الصورتين أن الدعوى في الصورة الثانية على الوكيل من
حيث سلم المبيع ولم يقبض الثمن، بناء على زعم الموكل، وهو موجب للضمان
لأنه نوع خيانة كما تقدم ذكره في آخر المسألة الأولى من هذا المطلب، وفي الصورة
الأولى الدعوى على الغريم، أو الأصل بقاء ماله عليه، وتنظر في الفرق المذكور في
الشرايع.
أقول: والظاهر من النصوص الدالة على قبول قول الأمين هو تقديم قول
الوكيل في الصورتين المذكورتين، لاشتراكهما في كون محل النزاع هو تصرف
الوكيل، وقد عرفت فيما تقدم أن قوله مقبول في ذلك، والظاهر أنه من أجل ذلك
تردد المحقق في الصورة الأولى حيث حكموا فيها بتقديم قول الموكل وتنظر في
الفرق المذكور في الثانية، وبالجملة فالظاهر هو تقديم قول الوكيل في الموضعين.
قال في التذكرة: لو وكله في البيع وقبض الثمن أو البيع مطلقا، وقلنا أن
الوكيل يملك بالوكالة في البيع، قبض الثمن واتفقا على البيع، واختلفا في قبض
الثمن، فقال الوكيل قبضته وتلف في يدي، وأنكر الموكل، أو قال الوكيل:
قبضته ودفعته إليك، وأنكر الموكل القبض، فالأقوى عدم قبول قول الوكيل في
ذلك، وللشافعية في ذلك طريقان: أحدهما أنه على الخلاف المذكور في البيع
وساير التصرفات وأظهرهما عندهم أن هذا الاختلاف إن كان قبل تسليم المبيع
فالقول قول الموكل، لما في المسألة السابقة، وإن كان بعد تسلمه فوجهان:
أحدهما أن الجواب كذلك، لأن الأصل بقاء حقه، وأصحهما أن القول قول
الوكيل، لأن الموكل ينسبه إلى الخيانة بالتسليم قبل قبض الثمن، ويلزمه الضمان
والوكيل ينكره فأشبه ما إذا قال الموكل، طالبتك برد المال الذي دفعته إليك،
118

أو بثمن المبيع الذي قبضته، فامتنعت مقصرا " إلى أن تلف، وقال الوكيل لم تطالبني
بذلك، ولم أكن مقصرا "، فإن القول قوله، انتهى.
أقول: قوله فالأقوى عدم قبول قول الوكيل في ذلك في نسختين عندي من
نسخ الكتاب، وهو خلاف ما صرح به الأصحاب من أن القول هنا قول الوكيل،
كما عرفت من كلامهم في الفرق بين الصورتين المتقدمتين، ولم أقف أيضا " على من
نقل الخلاف عن التذكرة في ذلك، فليتأمل في ذلك، والأصحاب إنما حكموا
بتقديم قول الوكيل هنا بناء على كون الدعوى بعد تسليم العين إلى المشتري،
بالتقريب الذي نقله هنا عن أصح قولي الشافعية.
وأما لو كانت الدعوى قبل تسليم العين بل هي باقية في يد الوكيل فإن
القول عندهم قول الموكل لما ذكره، وما تقدم في المسألة الأولى، وإن كان
الحكم في ذلك عندي هنا لا يخلو عن اشكال بالنظر إلى ظواهر الأخبار الدالة على
قبول قول الأمين مطلقا والوكيل أمين كما عرفت، فلا معنى لترجيح قول الموكل
بأصالة عدم القبض ونحو ذلك، لأن مقتضى العمل بالأخبار المذكورة تخصيص هذا
الأصل والخروج عنه، فإن الأصل العدم في كل ما يدعيه الأمين، فلا معنى للعمل
بها في موضع واطراحها في آخر بل الواجب العمل بها في الجميع، إلا أن العذر
لهم أنهم إنما استندوا في قبول قوله إلى الاجماع، والدليل العقلي الذي تقدم نقله
عنهم، ولم يذكروا الأخبار أو لم يطلعوا عليها بالكلية، والاجماع لا يقوم حجة
في موضع النزاع والخلاف.
بقي الكلام هنا في مواضع الأول: قال في التذكرة على أثر الكلام
المتقدم: وهذا التفصيل فيما إذا أذن في المبيع مطلقا أو حالا " فإن أذن في التسليم
قبل قبض الثمن، أو أذن في البيع بثمن مؤجل، وفي القبض بعد الأجل، فههنا
لا يكون خائنا " بالتسليم قبل القبض، والاختلاف كالاختلاف قبل التسليم، انتهى.
أقول: مراده أن تقديم قول الوكيل إنما هو في موضع يستلزم نسبته إلى
119

الخيانة، والحال أنه أمين، فيقدم قوله، والموضع الذي يستلزم ذلك هو كل
موضع يتوقف التسليم فيه على القبض، أما لو لم يكن ذلك بأن يأذن له في
التسليم قبل قبض الثمن، أو أذن له في البيع بثمن مؤجل، والقبض بعد الأجل،
فإن مرجع الاختلاف بينهما في هذه الحال إلى صورة الاختلاف قبل تسليم المبيع،
بمعنى أن القول قول الموكل، وفيه ما تقدمت الإشارة إليه من أن مرجع ذلك
إلى دعوى الوكيل التصرف بقبض الثمن والتلف، وقد عرفت أن قوله مقدم فيها،
إلا أنه يمكن أن يقال أيضا: إن دعوى التلف الذي يقبل قوله فيه إنما هو بعد
القبض، والحال أنه منتف هنا كما هو المفروض، وبالجملة فالحكم هنا لا يخلو
عن شوب الاشكال.
الثاني: إذا قلنا أن القول قول الوكيل في قبض الثمن من المشتري، فحلف
الوكيل على قوله، فهل يحكم ببراءة ذمة المشتري أم لا؟ وجهان: قوى أولهما
في التذكرة واستظهره في المسالك، وعلل بأن الحق واحد، فإذا قبل قول الوكيل
في قبضه، فكيف يتوجه ايجابه على المشتري.
وثانيهما أنه لا يبرئ ذمة المشتري لأصالة عدم الأداء، وإنما قبلنا من
الوكيل في حقه لائتمانه إياه، بمعنى أن قبول قول الوكيل في قبضه إنما هو من
حيث كونه أمينا " يقبل قوله، وهذا المعنى مفقود في المشتري، إذ لا يقبل قوله في
ذلك لو كان النزاع معه ابتداء، واستحسن هذا الوجه في التذكرة أيضا "،
والوجهان المذكوران للشافعية كما نقله في التذكرة، والتعليلات المذكورة لهم.
الثالث إذا حلف الوكيل وقلنا ببراءة المشتري بذلك ثم وجد المشتري
بالمبيع عيبا "، فإن رده على الموكل وغرمه الثمن لم يكن له الرجوع على الوكيل،
لاعترافه بأن الوكيل لم يأخذ شيئا "، وإن رده على الوكيل وغرمه لم يرجع على
الموكل، والقول قول الموكل بيمينه في أنه لم يأخذ منه شيئا "، ولا يلزم من
تصديقنا الوكيل في الدفع عن نفسه بيمينه أن نثبت بها حقا " على غيره ولو خرج
120

المبيع مستحقا رجع المشتري بالثمن على الوكيل، لأنه دفعه إليه، ولا رجوع له
على الموكل لما مر، كذا ذكره في التذكرة، والظاهر أنه أشار بقوله لما مر إلى ما
قدمه من أن القول قول الموكل بيمينه في أنه لم يأخذ من الوكيل شيئا ".
وكيف كان فظاهر كلامه هنا هو الفرق بين صورة ظهور العيب، وصورة
خروج كونه مستحقا، وأنه في الصورة الثانية إنما يرجع على الوكيل خاصة،
ولا رجوع له على الموكل، وأما في الصورة الأولى فإن له الرجوع على كل منهما
كما ذكره في رجوع كل منهما على الآخر ما عرفت.
والمفهوم من كلام الأصحاب هو الخلاف في هذه الصورة أعني الأولى، فعن
الشيخ وبه صرح جمع منهم، بل الظاهر أنه الأشهر هو أنه يرجع المشتري على
الوكيل خاصة، دون الوكيل، وعلل بأنه لم يثبت وصول الثمن إلى الموكل،
واختار في الشرايع الرجوع على الموكل، قال بعد نقلب القول الأول: ولو قيل برد
المبيع على الموكل كان أشبه، وهو مؤذن بأنه لا قائل بذلك قبله واختار ذلك في
المسالك أيضا "، قال: والأقوى ما اختاره المصنف، لأن الملك له، والوكيل
نائب عنه، والبايع في الحقيقة هو الموكل، ووصول الثمن إليه، وعدمه لا مدخل
له في هذا الحكم أصلا، بل لا يجوز رده على الوكيل، لأنه ينعزل بالبيع إن لم
يكن وكيلا " في قبض المبيع على تقدير رده بالعيب، وكيف كان فقول الشيخ
ضعيف، وكذا تعليله، انتهى والله سبحانه العالم بحقايق أحكامه ونوابه القائمون
بمعالم حلاله وحرامه، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
121

كتاب الوقوف والصدقات
وما يتبعها من الحبس والسكنى والهبات
وتفصيل البحث في هذه المذكورات يقع في مقاصد أربعة:
المقصد الأول في الوقف:
وهو ثابت بالنص والاجماع، وستأتي النصوص بذلك في محلها، وقد ورد
الترغيب فيه وفي جملة من الأخبار وإن عبر فيها بلفظ الصدقة، فإن هذا الاطلاق
كان شايعا " في الصدر الأول كما دلت عليه جملة من الأخبار.
123

ومن الأخبار المشار إليها ما رواه في الكافي والتهذيب عن هشام بن سالم (1)
" عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال
صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها، فهي يعمل
بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له ".
وما رواه في الكافي الصحيح أو الحسن عن الحلبي (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال، صدقة أجراها في
حياته، فهي تجري بعد موته، وصدقة مبتولة لا تورث، أو سنة هدى فهي يعمل
بها بعده، أو ولد صالح يدعو له ".
وعن معاوية بن عمار (3) في الصحيح " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يلحق
الرجل بعد موته؟ قال: سنة يسنها يعمل بها بعد موته، فيكون له مثل أجر من
عمل بها من غير أن ينتقض من أجورهم شئ والصدقة الجارية تجري من بعده
والولد الطيب يدعو لوالديه بعد موتهما، ويحج ويتصدق ويعتق عنهما، ويصلي
ويصوم عنهما، فقلت: أشركهما في حجي؟ قال: نعم ".
وعن أبي كهمس (4) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ستة تلحق المؤمن بعد وفاته
ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وقليب يحفره، وصدقة يجريها،
وسنة يؤخذ بها من بعده ".
وعن إسحاق بن عمار (5) عن أبي عبد الله عليه السلام يتبع الرجل بعد موته ثلاث
خصال، صدقة أجراها في حياته، فهي تجري له بعد وفاته، وسنة هدى سنها،
فهي يعمل بها بعد موته، وولد صالح يدعو له ".

(1) الكافي ج 7 ص 56 ح 1، التهذيب ج 9 ص 232 ح 2، الوسائل ج 13
ص 292 ح 1.
(2) الكافي ج 7 ص 56 و ص 57 ح 2 و 4، الوسائل ج 13 ص 292 ح 2 و ص 293 ح 4.
(3) الكافي ج 7 ص 56 و ص 57 ح 2 و 4، الوسائل ج 13 ص 292 ح 2 و ص 293 ح 4.
(4) الكافي ج 7 ص 57 و ص 56 ح 5 و 3، الوسائل ج 13 ص 293 ح 5 و 3.
(5) الكافي ج 7 ص 57 و ص 56 ح 5 و 3، الوسائل ج 13 ص 293 ح 5 و 3.
124

قال في المسالك: قال العلماء الصدقة الجارية الوقف، وهو تعريف ببعض
الخواص، وكيف كان فاللفظ الصريح في عقده وقفت، لأنه الموضوع له لغة وشرعا "
وقد صرح جملة من الأصحاب بأن أوقفت بالهمزة لغة شاذة فيه، قال في المسالك
والظاهر أن الصيغة بها صحيحة، وإن كانت غير فصيحة، وأما غير هذا اللفظ من
الألفاظ مثل حبست، وسبلت فقيل: أنه يصير وقفا " من غير توقف على القرينة،
للحديث النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتقدم. وقيل لا يكون إلا مع القرينة.
وأما أبدت وحرمت وتصدقت فلا يحمل على ذلك إلا مع القرينة، كقيد
التأبيد، ونفي البيع، والهبة والإرث ونحوها
، والوجه في ذلك أن الوقف لما كان من العقود الناقلة للملك على وجه
اللزوم افتقر إلى اللفظ الصريح الدال على ذلك، وهذه الألفاظ لما كانت مشتركة
بين هذا المعنى وغيره، ولم تكن صريحة فيه امتنع الحكم بدلالتها على ذلك،
فإنه يصح اطلاقها على التمليك المحض واخراج الزكاة والصدقات المطلقة، والهبات
ونحوها، فلا بد في الحكم بالوقف فيها من ضم قرينة تدل على إرادة ذلك، كقوله
صدقة موقوفة، أو دائمة أو مؤبدة وأن لا تباع، ولا توهب، ونحو ذلك.
وقد ظهر مما ذكرناه أن الألفاظ المعبر بها في عقد الوقف منها ما هو صريح
فيه، لا يتوقف على قرينة اجماعا " وهو لفظ وقفت.
ومنها ما هو متوقف على القرينة اجماعا " كحرمت وتصدقت وأبدت.
ومنها ما هو مختلف فيه كحبست وسبلت، فذهب جمع منهم العلامة في
التذكرة والقواعد إلى أنهما صريحان، كوقفت، ومثلهما أحبست بزيادة الهمزة
بغير اشكال، نظرا " إلى الاستعمال العرفي، لهما فيه مجردين، كما ورد في الخبر
النبوي (صلى الله عليه وآله) المتقدم فإنه أطلق عليه تحبيس الأصل، ورد
بأن مجرد الاستعمال أعم من المطلوب، والظاهر وجود القرينة في هذا الاستعمال
ومعها لا اشكال فيه.
125

والمراد بالصدقة الجارية في هذه الأخبار هي الوقف كما أشار إليه الشهيد
في الدروس، وقال ابن فهد في موجزه: قال العلماء: المراد بالصدقة الجارية الوقف
فإن قيل: المعدود في الحديث الثاني أربع خصال، مع أنه صرح في صدر الخبر
بأنها ثلاث خصال، قلنا: المعدود فيه إنما هو ثلاث، ولكنه قسم الصدقة التي هي
إحدى الثلاث إلى قسمين، صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وهي
الوقف كما ذكرناه، وصدقة مبتولة لا تورث، ولعله مثل بناء المساجد والرباطات
وحفر الآبار، وبناء القناطر، ونحو ذلك، ولعل المراد بكونها مبتولة كونها
مرادا " بها وجه الله عز وجل والتقرب إليه.
وذكر الشيخ في المبسوط أن أوقاف الجاهلية كانت أربعة، السائبة والبحيرة
والوصيلة والحام، ثم بين معانيها إلى أن قال: وجاء الشرع بإبطالها، قال الله
تعالى (1) " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا
يفترون على الله الكذب " الآية.
والبحث في هذا المقصد يقع في مطالب: الأول في العقد وما يلحق به،
والكلام فيه يقع في موضعين: الأول قالوا: الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة
قيل: وهذا التعريف تبعا " للحديث النبوي (2) " عنه (صلى الله عليه وآله)
قال: حبس الأصل وسبل الثمرة " والمراد بتحبيس الأصل المنع من التصرف فيه،
كالتصرف في الأملاك بالبيع والهبة، الصدقة ونحوها، بحيث يكون ناقلا للملك،
وتسبيل الثمرة إباحتها للموقوف عليه، بحيث يتصرف فيها كتصرفه في أملاكه.
وجملة من الأصحاب عبروا باطلاق المنفعة عوض لفظ التسبيل، وهو أظهر
في مقابلة التحبيس، وعرفه في الدروس بأنه الصدقة الجارية، قال: وثمرته تحبيس
الأصل واطلاق المنفعة، قيل هذا التعريف تبعا " لما ورد في الأخبار المتقدمة.

(1) سورة المائدة الآية 103.
(2) المستدرك ج 2 ص 511 الباب 2 ح 1.
126

وذهب جمع ومنهم المحقق والعلامة في غير الكتابين المذكورين إلى افتقارهما
إلى القرينة، لاشتراكهما في الاستعمال بينه وبين غيره، والمشترك لا يدل على
شئ من الخصوصيات من حيث هو، ولأصالة بقاء الملك إلى أن يحصل الناقل
الشرعي، وهو غير معلوم.
وأما أقول المتقدمين من الأصحاب في المقام فمنها قول الشيخ في الخلاف،
قال: إذا تلفظ بالوقف فقال: وقفت أو حبست أو تصدقت، أو سبلت وقبض الموقوف
عليه أو من يتولى عنه لزم الوقف.
وهذا الكلام كما ترى يعطي صحة الوقف بأي هذه الألفاظ من غير توقف
على قرينة، مع أنه قد ادعي الاجماع على الاختصاص بلفظ الوقف، والاجماع على
العدم مع عدم القرينة في لفظ تصدقت وحرمت، كما قدمنا ذكره، وقال في
الخلاف أيضا ": ألفاظ الوقف التي يحكم بصريحها قوله، وقفت وحبست وسبلت
وما عداها يعلم بدليل، وباقراره أنه أراد به الوقف، وذلك كقوله تصدقت وحرمت
وأبدت وبذلك قال ابن زهرة، وقطب الدين الكيد ري.
وقال في المبسوط: الذي يقوي في نفسي أن صريح الوقف قوله واحد،
وهو وقفت لا غير، وبه يحكم بالوقف فأما غيره من الألفاظ فلا يحكم به إلا
بدليل، وهو قول ابن إدريس قال: لأن الاجماع منعقد على أن ذلك الصريح في
الوقف، وليس كذلك ما عداه.
قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال: والوجه ما قاله الشيخ في المبسوط،
لنا أصالة بقاء الملك على صاحبه، وعدم خروجه عنه إلا بوجه شرعي ولا عرف
شرعي هنا سوى صريح الوقف، لاشتراك البواقي بينه وبين غيره، والموضوع
للقدر المشترك لا دلالة له على شئ من الخصوصيات بشئ من الدلالات نعم إذا
انضم القرائن صار كالصريح في صحة الوقف به.
بقي الكلام هنا في أمور: الأول: لو نوى الوقف فيما يفتقر إلى القرينة
127

وقع الوقف باطنا "، ودين بنيته، ولو اعترف بذلك أخذ باعترافه، كما أنه لو لم
ينو بالصريح الوقف لم يكن وقفا " باطنا "، وإن حكم به بظاهر اللفظ، لأن المدار
في الصحة واقعا " إنما هو على القصود والنيات.
والفرق بين الصريح وغيره مع اشتراكهما في اعتبار القصد والنية أن الصريح
يحمل عليه ظاهرا " قصد أو لم يقصد، بخلاف غيره، فإنه لا يحكم عليه إلا مع
القرينة، أو الاعتراف بقصد الوقف ونيته، وهو معنى كونه يدان بنيته.
الثاني: نقل عن العلامة في التذكرة الفرق بين إضافة لفظ الصدقة إلى جهة
عامة كقوله تصدقت بهذا على المساكين، وإضافته إلى جهة خاصة، كقوله لمعين
تصدقت به عليك أو عليكم فجعل الأول ملحقا " بالصريح، فيكون وقفا " بخلاف
الثاني، فإنه يرجع فيه إلى نيته كما أطلقه غيره، ورد بأن الفرق غير واضح.
الثالث: ظاهر عبارات أكثر الأصحاب وهو صريح العلامة في التذكرة
والقواعد أن كل واحد من الألفاظ الثلاثة التي هي غير صريحة في الوقف اجماعا "
يقع الوقف بكل منها مع نيته، أو انضمام غيره إليه، وقال الشهيد في الدروس:
إن ظاهر الأصحاب يدل على أن تصدقت وحرمت صيغة واحدة، فلا تغني الثانية
عن الأول، وتغني الأولى مع القرينة، قال في المسالك: وما ادعاه من الظاهرية
غير ظاهر.
الرابع: لا يخفى على من له أنس بالأخبار ومن جاس خلال تلك الديار
أن الوقف في الصدر الأول أعني زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وزمن
الأئمة عليهم السلام إنما يعبر عنه بالصدقة، لكن هذا التعبير محفوف بقرائن عديدة،
وألفاظ كثيرة تدل على إرادة الوقف، ومن ذلك الأخبار المتقدمة في صدر المقصد
المعبر في بعضها بصدقة جارية، وفي آخر لا تورث، والمراد بالجارية المستمرة
بعده، وهو كناية عن التأبيد.
128

ومن ذلك خبر صدقة علي عليه السلام (1) بداره التي في بني زريق، قال: هذا ما تصدق
به علي بن أبي طالب عليه السلام وهو حي سوي تصدق بداره التي في بني زريق صدقة لا تباع
ولا توهب حتى يرثها الله تعالى الذي يرث السماوات والأرض، وأسكن هذه الصدقة
خالاته ما عشن وعاش عقبهن، فإن انقرضوا فهي لذوي الحاجة من المسلمين ".
وأخبار صدقه فاطمة عليها السلام (2) وأنها جعلتها لبني هاشم، وبني عبد المطلب.
وصدقة أمير المؤمنين (3) عليه السلام لما جائته البشير بالعين التي خرجت في ينبع
فقال: عليه السلام بشر، الوارث هي صدقة بتة بتلا " في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله،
لا تباع ولا توهب، ولا تورث " وصدقة الكاظم عليه السلام بأرض له، " وفيها تصدق
موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح صدقة حبسا " بتلا " بتا " لا مشوبة فيها ولا رد
أبدا " ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر
أن يبيعها أو شيئا " منها، ولا يهبها ولا ينحلها " الحديث.
إلى غير ذلك من الأخبار، وبذلك عليم اشتراك هذا اللفظ بين الوقف وبين
الصدقة بالمعنى الآتي في المقصد الثاني.
وأما اللفظان الآخران فالاشتراك فيهما من حيث مفهوم اللفظ، فإنه أعم
من الوقف وغيره ولم أقف في شئ من الأخبار لغير هذين اللفظين أعني لفظي
الوقف والصدقة على أثر، فالأحوط أن يجعل العقد أحدهما خاصة، وإن صح بغيرهما
من الكنايات المحفوفة بالقرائن بناء على المشهور، إلا أنه لا يبعد الانحصار في
هذين اللفظين وقوفا " على ما خالف الأصل على مورد النص بمعنى أن الأصل بقاء
الملك لمالكه والذي ورد من الصيغة المخرجة منحصر في هذين اللفظين وليس

(1) التهذيب ج 9 ص 131 ح 7، الفقيه ج 4 ص 183 ح 23، الوسائل
ج 13 ص 304 ح 4.
(2) الكافي ج 7 ص 48 و ص 54 ح 4 و 9، التهذيب ج 9 ص 148 ح 56، الوسائل ج 13 ص 294 ح 8 و ص 303 ح 2.
(3) الكافي ج 7 ص 48 و ص 54 ح 4 و 9، التهذيب ج 9 ص 148 ح 56، الوسائل ج 13 ص 294 ح 8 و ص 303 ح 2.
(4) الكافي ج 7 ص 53 ح 8، الوسائل ج 13 ص 314 ح 5.
129

الحكم هنا كسائر العقود المبنية على مجرد الرضا، فكل لفظ دل عليه كفى في
المراد وحصل به النقل، ولهذا إن روايات سائر العقود غاية ما تدل عليه، هو الانعقاد
بمجرد الألفاظ الجارية في مقام المحاورة بين المتعاوضين دالة على الرضا،
وفيما نحن فيه إنما دلت على هذين اللفظين خاصة، إلا أنه ربما انقدح الاشكال
هنا من وجه آخر، وهو أنهم قد صرحوا باستعمال لفظ الوقف في مجرد الحبس
الذي هو معناه لغة، ويرجع إلى ما يأتي من السكنى والعمرى والرقبى، وعليه
دلت الأخبار أيضا كما سيأتي انشاء ا لله، وبه ينقدح الاشكال فيما ادعوه من أن
لفظ الوقف صريح في هذا المعنى المدعى الذي هو مشروط بالتأييد، وكيف يكون
صريحا " فيه مع استعماله نصا " وفتوى فيما قلناه.
وكيف كان فالأحوط هو ضم القرائن الدالة على الوقف المدعى، سواء وقع
التعبير بلفظ الوقف أو الصدقة، والاقتصار على هذين اللفظين من حيث ورود
النصوص بهما والله العالم.
الموضع الثاني: اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط القبول في
الوقف بعد الاتفاق على الإيجاب فظاهر الأكثر حيث ذكروا الإيجاب ولم يتعرضوا
لذكر القبول هو عدم اشتراطه مطلقا، وهو أحد الأقوال في المسألة، وعلل
بأن الأصل عدم الاشتراط، ويؤيده أنه ليس في النصوص ما يدل عليه، ولأن الوقف
كالإباحة، خصوصا " إذا قلنا أن الملك فيه ينتقل إلى الله عز وجل، ولأنه فك ملك
فيكفي فيه الإيجاب كالعتق، واستحقاق الموقوف عليه النفقة كاستحقاق العتق منافع
نفسه.
وقيل: باعتباره مطلقا، ونقل عن التذكرة، لاطباقهم على أنه عقد،
فيعتبر فيه الإيجاب والقبول كسائر العقود، ولأن إدخاله في ملك الغير بغير رضاه
بعيد، ولأصالة بقاء الملك على مالكه بدونه.
وقيل: بالتفصيل وهو اعتباره إن كان على جهة خاصة، كشخص معين،
130

أو جماعة معينين، لما تقدم في سابق هذا القول، ولا مكان القبول، وإن كان على
جهة عامة كالفقراء والمساجد ونحوهما لم يعتبر، لأنه حينئذ فك ملك، ولأن
الملك فيه ينتقل إلى الله عز وجل، بخلاف الأول، فإنه ينتقل فيه إلى الموقوف
عليه.
أقول: وإلى هذا القول ذهب الشهيد في الدروس، ويظهر من المحقق في
الشرايع والشارح في المسالك الميل إليه، وأنت خبير بأن الذي يظهر لي من تتبع
الأخبار هو القول الأول لخلوها من ذكر ذلك في الوقوف الخاصة والعامة.
وقد تقدم صورة وقف أمير المؤمنين عليه السلام داره التي في بني زريق على خالاته،
والخبر مروي في الفقيه في الصحيح عن ربعي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام، " قال:
تصدق أمير المؤمنين عليه السلام بدار له في المدينة في بني زريق فكتب بسم الله الرحمن
الرحيم هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب عليه السلام الحديث " كما تقدم.
والتقريب فيه أنه لو كان القبول شرطا " لنقله عليه السلام في حكاية الصدقة
المذكورة، لأنه ليس الغرض من حكاية ذلك إلا بيان الأحكام في المقام، وظاهره
لزوم الوقف وصحته بهذا اللفظ الذي كتبه عليه السلام في ذلك، واثبات شئ يزيد على
ذلك يتوقف على الدليل وأصالة العدم أقوى مستمسك، في المقام.
ونحو هذا الخبر ما رواه الشيخ في التهذيب عن عجلان أبي صالح (2) " قال.
أملى علي أبو عبد الله عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به فلان بن فلان
وهو حي سوي بداره التي في بني فلا بحدودها صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث
حتى يرثها وارث السماوات والأرض وأنه قد أسكن صدقته هذه فلانا " وعقبه
فإذا انقرضوا فهي على ذي الحاجة من المسلمين ".
ومن الظاهر أن ما ذكره عليه السلام إنما هو تعليم للناقل كيفية الوقف المترتبة

(1) الفقيه ج 4 ص 183 ح 23، الوسائل ج 13 ص 104 ح 4.
(2) التهذيب ج 9 ص 131 ح 5، الوسائل ج 13 ص 303 ح 3.
131

عليه أحكامه، ولو كان القبول من شروط الصحة فيه كما ادعوه لذكره عليه السلام.
ومن ذلك أيضا " حديث صدقة الكاظم عليه السلام (1) بأرض له على أولاده المروي
في الكافي، وفيه هذا ما تصدق به موسى بن جعفر عليه السلام بأرض بمكان كذا وكذا
وحد الأرض كذا وكذا كلها ونخلها وأرضها وبياضها ومائها وأرجائها وحقوقها
وشربها من الماء إلى أن قال: تصدق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه
الرجال والنساء، ثم ذكر قسمة الغلة بعد عمارة الأرض وما يحتاج إليه عليهم
للذكر مثل حظ الأنثيين، وذكر شروطا " في البنات إلى أن قال: صدقة حبسا "
بتلا " بتا " لا مشوبة فيها، ولا رد أبدا " ابتغاء وجه الله تعالى سبحانه والدار الآخرة،
لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها ولا شيئا منها، ولا يهبها ولا ينحلها
ولا يغير شيئا " منها مما وصفته حتى يرث الله الأرض ومن عليها ": ثم ذكر الناظر في
الوقت من أولاده على ترتيب ذكره عليه السلام ولم يتعرض فيها لذكر القبول، فلو أنه
شرط في الصحة كما ادعوه لا خبر بأنهم قد قبلوا ذلك، وهذا الكتاب حجة على
منكر الوقف من أولاده، ولو كان القبول شرطا " في الوقف والحال أنه لم يذكره
في الكتاب لكان للمنازع أن يبطل الوقف لهذه الدعوى فلا يكون كتابه عليه السلام حجة
في ذلك، وهذا خلف وهذه جملة من أخبار الوقوف الخاصة.
ومن الأخبار في الوقوف العامة خبر وقف أمير المؤمنين عليه السلام العين التي في
ينبع، والخبر مروي في التهذيب عن أيوب بن عطية الحذاء (2) " قال: سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: قسم نبي الله الفئ فأصاب عليا " عليه السلام أرض فاحتفر فيها
عينا " فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير فسماها ينبع فجاء البشير يبشره
فقال: عليه السلام بشر الوارث هي صدقة " الحديث كما تقدم ومعلومية عدم الاشتراط
فيه أظهر.

(1) الكافي ج 7 ص 53 ح 8، الوسائل ج 13 ص 314 ح 5.
(2) التهذيب ج 9 ص 148 ح 56، الوسائل ج 13 ص 303 ح 2.
132

وبالجملة فإنه لا أثر لهذا الشرط في الأخبار، ولا دليل بالكلية غير هذه
الوجوه الاعتبارية، وأصالة العدم أقوى دليل، والله الهادي إلى سواء السبيل، قال
في المسالك بعد الكلام في ذلك: وحيث يعتبر القبول مطلقا أو على بعض الوجوه
يعتبر فيه ما يعتبر في غيره من العقود اللازمة من اللفظ العربي المطابق للإيجاب
المتعقب له بغير فصل يعتد به، إلى غير ذلك من الشروط، ويتولاه في المصالح
العامة على القول باعتباره الناظر عليها كالحاكم ومنصوبه كما يتولى غيره من
المصالح، وعلى القولين لا يعتبر قبول البطن الثاني ولا رضاه، لتمامية الوقف قبله
فلا ينقطع، ولأن قبوله لا يتصل بالايجاب، فلو اعتبر لم يقع له كغيره، من العقود
اللازمة، انتهى.
وأنت خبير بما في أكثر هذا الكلام، وأن جملة عليه ممن تأخر عنه
من الأعلام، فإنه نفخ في غير ضرام كما تقدمت الإشارة إليه في غير مقام، مضافا "
إلى ما عرفت من أنه لا دليل هنا على هذا القبول، وما ذكره من الاشتراطات
المذكورة في العقود اللازمة كله محض دعاو لا دليل عليها إلا مجرد أمور اعتبارية
عللوها بها، مع ردها بالأخبار الظاهرة في خلافها.
ثم إن قوله وعلى القولين لا يعتبر قبول البطن الثاني، ولا رضاه لتمامية الوقف
قبله لا يخلو من المناقشة، فإن هذا إنما يتم لو قام الدليل على اشتراط الرضا في
البطن الأول، فيقال، فحينئذ إن شرط صحة الوقف قد حصل، وانعقد الوقف،
والحكم ببطلانه بعد ذلك يحتاج إلى دليل، ولم يثبت أن عدم رضا البطن الثاني
موجب للبطلان. أما على ما قلناه من أنه لا دليل على القبول، ولا على اعتبار
الرضا في البطن الأول بل ظاهر الأدلة إنما هو الأعم كما سمعت من أوقاف
الأئمة عليهم السلام فإنه ليس فيها إشارة، فضلا عن صريح الدلالة باعتبار رضا الموقوف
عليه ولا قبوله، فإنه يكون ذلك في البطن الثاني بطريق أولى، واللازم لهم
باعتبار اشتراطهم ذلك في البطن الأول بهذه التعليلات الاعتبارية، هو كونه
133

كذلك في البطن الثاني، إذ العلة مشتركة، والتعليل بتمامية الوقف قبله معلوم
فإنه يمكن أن يقال: إن تمامية الوقف مراعاة برضا البطن الثاني والثالث وهكذا
فإن حصل استمر الوقف، ولا بطل، والتعليل بأن قبوله لا يتصل بالايجاب أظهر
بطلانا، فإنه إنما يتم لو قام دليل على ما يدعونه من هذا الشرط، وقد عرفت
أنه لا دليل عليه إن لم تكن الأدلة واضحة في خلافه، بل هي كذلك كما لا يخفى
على من راجع أخبار العقود والله العالم.
المطلب الثاني في شرائط الوقف:
قالوا: وهي أربعة: الدوام والتنجيز والاقباض واخراجه عن نفسه، فهنا
مسائل: الأولى: الظاهر من كلام الأكثر هو اشتراط الدوام في الوقف، وقد
تقدم في أخبار وقوف الأئمة عليهم السلام ما يدل عليه، وظاهره في المسالك المناقشة
في ذلك حيث ذكر أنه متنازع مشكوك فيه، واقتفاه صاحب المفاتيح في ذلك
فقال: إن اشتراط التأبيد لا دليل عليه، بل الأصل والعمومات تنفيه.
أقول: لا يخفى أن العقود الشرعية الموجبة لنقل الأملاك يجب الوقوف فيها
على ما رسمه صاحب الشريعة من الكيفية والشروط فعلا " أو أمرا " بذلك، والأوقاف
التي صدرت منهم عليهم السلام كما قدمنا لك جملة منها، قد اشتملت على التأبيد، لقولهم
حتى يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض، وهو كناية عن دوامها إلى يوم
القيامة، والخروج عنها بغير معارض سفسطة، وبه يظهر ما في تمسكه بالأصل
والعموم، فإنه ناش عن الغفلة عن ملاحظة الأخبار المذكورة كما لا يخفى، وحينئذ
فلو قرنه بمدة معينة كسنة مثلا أو وقف على من ينقرض غالبا " فإنه يبطل الوقف
بغير خلاف.
وإنما الخلاف هنا في مواضع ثلاثة: الأول فيما لو قرنه بمدة معنية، فإنه
هل يصح أن يكون حبسا " فلا يبطل بالكلية أم لا؟ قولان: وبالثاني منهما صرح
المحقق في الشرايع، لأن شرط الوقف الدوام، فيبطل، لعدم حصول الشرط،
134

وبالأول صرح الشهيد في الدروس، واختاره في المسالك، قال: لوجود المقتضي وهو
الصيغة الصالحة للحبس، لاشتراك الوقف والحبس في المعنى، فيمكن إقامة كل منهما
مقام الآخر، فإذا قرن الوقف بعدم التأييد كان قرينة لإرادة الحبس، كما لو قرن الحبس
بالتأييد فإنه يكون وقفا " كما مر، وهذا هو الأقوى، لكن إنما يتم مع الحبس،
فلو قصد الوقف الحقيقي وجب القطع بالبطلان لفقد الشرط، انتهى.
أقول: من الظاهر أنه يمكن ارجاع القول الأول إلى ما ذكره من هذا
التفصيل، فإن تعليل القول المذكور بما تقدم من قوله إن الدوام شرط فيبطل
الوقف بعدم الشرط، يشير إلى ذلك حيث أن غاية ما يعطيه هو بطلان الوقف
لا بطلان الحبس، وإلا لاحتاج في بطلان الحبس إلى أمر زائد على ما ذكر مع
أنه غير مذكور في كلامه القول بالصحة، وكونه حبسا " صرح ابن إدريس أيضا "
فقال والوقف لا يصح إلا أن يكون مؤبدا " على ما قدمناه، فلا يصح أن يكون موقتا ".
فإن جعله كذلك لم يصح إلا أن يجعله سكنى أو عمري أو رقبى على ما سنبينه
عند المصير إليه.
والأظهر في الاستدلال على الصحة في الصورة هو ما رواه المشايخ الثلاثة
(عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن علي بن مهزيار (1) " قال: قلت: روى بعض
مواليك عن آبائك عليهم السلام أن كل وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة
وكل وقف إلى غير وقت معلوم جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة، وأنت
أعلم بقول آبائك عليهم السلام فكتب عليه السلام: هو عندي كذا ".
والظاهر أن معنى الخبر المذكور هو أن الوقف إذا كان مقيدا " بوقت معلوم
كما هو البحث فهو صحيح واجب على الورثة إنفاذه في تلك المدة، ويكون
حبسا "، وإن لم يذكر له وقت، أو كان وقتا " مجهولا كأن يقول: إلى وقت ما،
فإنه يكون باطلا.

(1) التهذيب ج 9 ص 132 ح 8، الفقيه ج 4 ص 176 ح 3، الكافي ج 7
ص 36 ح 31، الوسائل ج 13 ص 307 ح 1.
135

والشيخ (رحمة الله عليه) في الكتابين حمل الوقت هنا على الموقوف عليه
دون المدة.
استنادا " إلى صحيحة الصفار (1) قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله عن
الوقف الذي يصح كيف هو؟ فقد روى أن الوقف إذا كان غير موقت فهو باطل مردود
على الورثة، وإذا كان موقتا " فهو صحيح ممضى، قال قوم: إن الموقت هو الذي
يذكر فيه أنه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها: وقال آخرون: هذا موقت إذا ذكر أنه لفلان وعقبه
ما بقوا، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها، والذي هو غير موقت أن يقول: هذا وقف، ولم يذكر أحدا " فما الذي
يصح من ذلك، وما الذي يبطل؟ فوقع عليه السلام الوقف بحسب ما يوقفها أهلها.
أقول: لا يخفى أن المتبادر من لفظ الوقت إنما هو الزمان ومجرد تفسير
هؤلاء المذكورين بالموقوف عليه مجازا " لا يقتضي تقييد ذلك الخبر بذلك، بل يحمل
كل منهما على ما دل عليه كما هو المقرر في كلام الأصحاب ومع تسليم التقييد،
فإنه يكفي في الاستدلال على ما نحن فيه بهذا الخبر اطلاق قوله عليه السلام " الوقوف
بحسب ما يوقفها أهلها " ويدل على أنه إذا وقفه مقيدا " بمدة معينة كان صحيحا " في
تلك المدة، ويخرج من هذا الاطلاق ما قام الدليل على بطلانه كما لو وقف بغير
مدة، ولا ذكر الموقوف عليه، ونحوه من الوقوف التي قام الدليل على بطلانها،
وفي هذين الخبرين دلالة على ما قدمنا ذكره من صحة اطلاق الوقف على التحبيس
وبه يظهر أن ما قدمنا نقله عنهم من أن لفظ وقف صريح في الوقف الوقف المؤبد ليس
في محله.
الثاني: لو وقف على من ينقرض غالبا " ولم يذكر المصرف بعده، كأن وقف
على أولاده واقتصر على بطن أو بطون، فهل فهل يصح وقفا " أو حبسا " أو يبطل؟ أقوال

(1) التهذيب ج 9 ص 132 ح 9، الفقيه ج 4 ص 176 ح 1، الوسائل ج 13
ص 307 ح 2.
136

ثلاثة: وبالأول قال الشيخان، وابن الجنيد، وسلار، وابن البراج، وابن إدريس
على ما نقله في المختلف، والظاهر أنه المشهور.
وبالثاني قال العلامة في القواعد والارشاد، وبه قال ابن حمزة، فإنه قال
على ما نقله في المختلف: فإن علق على وجه يصح انقراضه كان عمري، أو رقبى
أو سكنى أو حبسا " بلفظ الوقف.
والثالث غير معلوم قائله، وقال الشيخ في المبسوط في المبسوط والخلاف: إذا وقف على
على من يصح انقراضه في العادة مثل أن يقف على ولده وولده ولده وسكت، فمن
أصحابنا من قال: لا يصح الوقف، ومنهم من قال يصح.
أقول: وإلى القول بالصحة قال العلامة في المختلف، واحتج عليه قال:
لنا أنه نوع تمليك وصدقة، فيتبع اختيار المالك في التخصيص وغيره، كغير صورة
النزاع، وللأصل، ولأن تمليك الأخير ليس شرطا " في تمليك الأول، وإلا لزم
تقدم المعلول علي العلة.
وما رواه أبو بصير (1) " قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ألا أحدثك بوصية
فاطمة عليها السلام؟ قلت: بلى فأخرج حقا " أو سفطا " فأخرج منه كتابا " فقرأه " بسم الله
الرحمن الرحيم هذا ما أو صمت به فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)
أوصت بحوائطها السبعة العواف والدلال والبرقة والميثب والحسني والصافية وما
لأم إبراهيم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فإن قضى علي فإلى الحسن فإن مضى فإلى
الحسين فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي شهد الله على ذلك، والمقداد بن
الأسود والزبير بن العوام، وكتب علي بن أبي طالب عليه السلام.
ثم قال (قدس سره): ويمكن أن يعترض على الحديث بأنها عليها السلام علمت عدم
انقباض أولادها من النص على الأئمة عليهم السلام وأن الدنيا تقبض مع انقراضهم، ومن

(1) التهذيب ج 9 ص 144 ح 50، الفقيه ج 4 ص 180 ح 13، الوسائل
ج 13 ص 311 ح 1.
137

قوله (1) (صلى الله عليه وآله) حبلان متصلان لن يفترقا حتى يردا علي الحوض
كتاب الله وعترتي أهل بيتي، " قال (قدس سره): احتج المانعون بأن الوقف
مقتضاه التأييد، فإذا كان منقطعا " صار وقفا " على مجهول، فلم يصح كما لو وقف
علي مجهول في الابتداء.
والجواب المنع من الصغرى، والفرق بينه وبين مجهول الابتداء ظاهر،
فإن المصرف غير معلوم هناك، وأما هنا فالمصرف معلوم، انتهى.
وأنت خبير بما فيه مما يكشف عن ضعف باطنه وخافيه فإن لقائل أن يقول إن ما ذكره من أنه نوع تمليك مردود بأنه لم يعقل في التمليك كونه موقتا "
بمدة وكذا الصدقة وما ذكره من الأصل بمعنى أصالة الصحة متوقف على اجتماع
شرائط الصحة، وهو عين المتنازع، لأن الخصم يجعل من تلك الشرائط التأييد،
فالاستدلال بذلك لا يخرج عن المصادرة، وهكذا ما ذكره غيره من الاستناد إلى
الأمر بالوفاء بالعقود، فإنه موقوف على تحقق العقد، ومع عدم جمعه الشرائط
لا يصير عقدا " يمكن الاستدلال به، فهو لا يخرج عن محل النزاع.
وأما قوله ولأن تملك الأخير ليس شرطا " ففيه أنا لا ندعي كونه شرطا " وإنما
الشرط بيان المصرف الأخير ليتحقق معنى الوقف، وهو هنا غير حاصل، فلا يتم
صحة الوقف.
وأما الخبر الذي أورده ففيه أولا " أنه لم يصرح فيه بالوقف، وإنما هو وصيته
والظاهر أن المراد إنما هو الوصية بالولاية على الوقف، لما دل عليه غيره من أن
صدقتها كانت لبني هاشم، وبين المطلب، وسيأتي الخبر المذكور انشاء الله تعالى،
فهو خارج عن محل البحث.
وثانيا " أنه مع تسليم إرادة الوقف من هذا اللفظ فالجواب عنه ما ذكره من
علمها عليها السلام ببقاء الموقوف عليه إلى الدنيا، فلا يكون أيضا " من محل البحث.

(1) الوسائل ج 18 ص 19 ح 9 الباب 5 من أبواب صفات القاضي.
138

وبالجملة فإن القول بكونه وقفا " والحال هذه إنما يتم بمنع اشتراط التأييد
في الوقف، وهم لا يقولون به، فإن جملة من نقلنا خلافه في هذه المسألة وقوله بكونه
وقفا " قد صرح باشتراط الدوام في الوقف، وهو مناقضة ظاهرة، وممن صرح بذلك
ابن إدريس في سرائره، والشيخ في النهاية والمبسوط، والعلامة في القواعد والارشاد،
والمحقق وغيرهم.
نعم ظاهر المفيد في المقنعة حيث لم يصرح بهذا الشرط هو عدم شرطيته
وحينئذ فالمناقضة غير لازمة له، وأما غيره فالأمر فيه كما ترى.
وبالجملة فإن مقتضى القول بشرطيته هو ما قلناه من عدم القول بصحته
وقفا " هنا، سيما مع دلالة ظاهر النصوص على شرطيته كما عرفت، وحينئذ
فيجب انتفاء القول بالوقف، والظاهر حينئذ من القولين الباقيين هو القول بالتحبيس
وعلى تقدير النزاع في شرطية التأييد كما يظهر من المسالك، أنه لا يظهر
الفرق هنا بين كونه وقفا " وحبسا " إلا بالقصد، والجواب هو الرجوع في ذلك إليه،
إلا أن فائدة الفرق بين الأمرين على هذا الوجه نادرة، والأقرب عندي هو القول
بالتحبيس لما عرفت من ثبوت شرطية الدوام في الوقف، فلا يمكن الحكم بكونه
وقفا "، وليس القول بالتحبيس إلا لزوم استعمال لفظ الوقف في الحبس مجازا "، وقد
عرفت أنه شايع في الأخبار.
وتدل على الصحة وكونه حبسا " هنا صحيحة الصفار المتقدمة، والتقريب
فيها أن السائل سأله أنه قد روي أنه إن كان موقتا " فهو صحيح ممضى، ولكن اختلف
الأصحاب في هذا الفرد الصحيح هل هو المؤبد أو منقطع الآخر؟ فأجاب عليه السلام بأن
الوقف على حسب ما يذكره الواقف، بمعنى أنه إن ذكره الوقف مؤبدا فهو وقف
مؤبد، وإن ذكره منقطع الآخر فهو وقف ما دام الموقوف عليه موجودا ".
الثالث: قد عرفت الخلاف في الوقف المنقطع الآخر وأن الأشهر هو الصحة،
إما وقفا " كما هو أحد الأقوال، أو حبسا "، ثم إنه لو لم ينقرض الموقوف عليه بل
139

استمر كما لو وقف على أولاده، ثم أولاد أولاده، وهكذا واستمر الانتساب،
فالظاهر أنه لا خلاف في صحة الوقف.
أما لو انقرضوا فقد اختلف الأصحاب فيمن يرجع إليه، فقيل: برجوعه
إلى ورثة الواقف، وقيل: ورثة الموقوف عليهم، وقيل: إنه يصرف في وجوه
البر، وبالأول قال الشيخ وسلار وابن البراج، واختاره العلامة في المختلف بل
في أكثر كتبه، والمحقق في الشرايع، وأسنده في المسالك إلى الأكثر ورجحه.
وبالثاني قال الشيخ المفيد وابن إدريس وقواه العلامة في التحرير.
وبالثالث قال ابن زهرة، قال: وقد روي أنه يرجع إلى ورثة الواقف،
والأول أحوط، ونفى عنه البأس العلامة في المختلف، وظاهر الشهيد في الدروس
التوقف في الحكم المذكور، حيث اقتصر على نقل الأقوال في المسألة، ولم
يرجح منها شيئا "، وهذا الخلاف هنا متفرع على القول بكونه وقفا " كما هو
المشهور بينهم، وإلا فإنه على تقدير كونه حبسا " لا اشكال في أنه إنما يرجع إلى
الواقف أو ورثته، كما هو قضية التحبيس المختص بمن حبس عليه، وأظهر منه
في ذلك القول بالبطلان، واستدل للقول الأول بأنه بالوقف لم يخرج عن ملك
المالك بالكلية، وإنما تناول أشخاصا " فلا يتعدى إلى غيرهم، ولظاهر قول
العسكري عليه السلام (1) الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها انشاء الله تعالى
والواقف إنما وقفه هنا على من ذكره، فلا يتعدى إلى غيرهم، ويبقى أصل الملك
لمالكه.
واستدل للقول الثاني بانتقال الملك إلى الموقوف عليه قبل الانقراض،
فيستصحب، ولأن عوده إلى الواقف بعد خروجه يفتقر إلى سبب ولم يوجد،
ولأنه نوع صدقة، فلا يرجع إليه.

(1) التهذيب ج 9 ص 129 ح 2، الفقيه ج 4 ص 176 ح 1، الكافي ج 7
ص 37 ح 34، الوسائل ج 13 ص 307 ح 2.
140

وللثالث بما ذكره العلامة في المختلف، ونفى عنه البأس حيث قال: ولا
بأس بقول ابن زهرة، لانتقال الوقف من الواقف، وزوال ملكه عنه، والعجب
أن هذه الحجة التي احتج بها لابن زهرة ترجع إلى ما استدل به على القول
الثاني، وهو في المختلف قد أجاب عن ذلك بالمنع من كون الوقف مطلقا " ناقلا "
بل المؤبد، قال: ونمنع من كون الموقوف عليه مالكا إلا مع التأبيد وما أجاب
به عن ذلك الدليل لازم له في رد دليله المذكور.
وبذلك يظهر لك ما في القولين الآخرين من القصور، وأن الظاهر هو
القول المشهور، إلا أن كلامهم هنا غير خال من الاجمال، بل تطرق الاشكال،
لما عرفت من أنه هذا الخلاف متفرع على القول بصحة الوقف كما هو المشهور
والذي هو أحد الأقوال الثلاثة في المسألة المتقدمة في الموضع الثاني، وإلا فعلى
القول بكونه حبسا " فإنه يرجع إلى الواقف أو ورثته بغير خلاف ولا اشكال، وعلى
القول بالبطلان فالأمر أظهر مع أنك قد عرفت فيما تقدم أن هذا القول وإن كان
هو المشهور إلا أن ذكرهم التأبيد في شروط الوقف كما صرح به من وقفت
على كلامه منهم عدا المفيد في المقنعة لا يجامع القول بصحة الوقف في الصورة
المذكورة، لأن الوقف هنا منقطع غير مؤبد والوقف الصحيح إنما هو المؤبد.
نعم بناء على ما اخترناه في المسألة الأولى من كونه حبسا " يتجه القول
برجوع ذلك إلى ورثة الواقف، ويصير الخلاف في هذه المسألة ساقطا " لا معنى
له، وهذا غاية ما تدل عليه الصحيحة المنقولة عن العسكري عليه السلام (1) من " أن
الوقوف على حسب ما يقفها أهلها " والمراد فيها بالوقف ما هو أعم من الوقف
المبحوث عنه والتحبيس، فهو إن مؤبدا " وقف، وإن كان مقطعا " تحبيس، وأما
قول ابن زهرة وقد روي أنه يرجع إلى ورثة الواقف، وكذا قول الشيخ في المبسوط
في هذه المسألة، وقال قوم: يرجع إليه إن كان حيا " وإلى ورثته إن كان ميتا

(1) التهذيب ج 9 ص 129 ح 2، الوسائل ج 13 ص 307 ح 2.
141

وبه تشهد روايات أصابنا، فإن أريد به كما هو ظاهر كلامه أن هنا أخبارا " دالة
على موضع البحث، وأنه مع كون الوقف منقطعا " قد صرحت الأخبار بالرجوع
إلى الواقف أو ورثته بعد انقراض الموقوف عليه فإنه لم يصل إلينا في الأخبار ما يدل
على ذلك، وإلا لزال اشكال في هذا المجال، وإن أريد هذه الصحيحة المذكورة
وقريب منها الصحيحة الأخرى المتقدمة معها، فإن غاية ما تدلان هو أن الوقف يتبع
فيه ما رسمه الواقف، والوقف فيهما أعم من التحبيس والوقف بالمعنى المبحوث عنه
وغاية ما تدلان عليه الاقتصار في الوقف على الجماعة الموقوف عليهم، واللازم من
ذلك هو الرجوع بعد انقراض الموقوف عليه إلى الواقف أو ورثته، وهذا هو معنى
التحبيس وإن سمي وقفا "، هذا ما أدى إليه الفكر الكليل والذهن العليل من
الكلام في المقام، حسب ما رزق الله تعالى فهمه من أخبارهم عليهم السلام.
ثم إنه بناء على القول المشهور من الرجوع إلى ورثة الواقف بعد انقراض
الموقوف عليه، فهل المراد وارثه حين الانقراض، أو وارثه بعد موته مسترسلا
إلى أن يصادف الانقراض؟ وجهان، قالوا: وتظهر الفائدة فيما لو مات الواقف عن
ولدين، ثم مات أحدهما عن ولد قبل الانقراض: فعلى الأول يرجع إلى ولد الباقي
خاصة، وعلى الثاني يشترك هو وابن أخيه لتلقيه من أبيه، كما لو كان معينا ".
المسألة الثانية: المشهور في كلام المتأخرين أن من جملة شروط الوقف التنجيز
وهذا الشرط لم أقف عليه في جملة من كتب المتقدمين، منها كتاب النهاية للشيخ
والمبسوط، وكتاب السرائر لابن إدريس، وكذا المقنعة للشيخ المفيد، فإنه لم
يتعرض أحد منهم لذكره في الكتب المذكورة، مع أنه لا نص عليه فيما أعلم.
وبذلك اعترف في المسالك أيضا " فقال، وليس عليه دليل بخصوصه وأرادوا
بالتنجيز ما تقدم في كتاب الوكالة، من أن لا يكون معلقا " بوصف لا بد من وقوعه
كطلوع الشمس، ومجيئ رأس الشهر، وهو باصطلاحهم تعليق على الصفة، وأن
لا يكون معلقا " على ما يحتمل الوقوع وعدمه، كمجئ زيد مثلا "، ويسمى
142

بالمعلق على شرط، واقعا " والواقف عالم به كقوله وقفت إن كان
اليوم الجمعة مع علمه بذلك، فإنه يصح عندهم، وقد تقدم البحث معهم في ذلك
في الكتاب المشار إليه، وحيث قد عرفت أن الحكم المذكور غير منصوص نفيا "
ولا اثباتا ".
فلو وقع الوقف على هذه الكيفية، فيمكن القول بعدم الصحة استنادا " إلى
أن العقود الناقلة متلقاة من الشارع، ولم يثبت كون هذا منها، والأصل بقاء
الملك لمالكه، ولا يقال: إنه يمكن القول بالصحة نظرا إلى قوله عليه السلام " الوقوف
على حسب ما يوقفها أهلها " لأنا نقول: المتبادر من الخبر المذكور إنما هو باعتبار
العموم والخصوص، والتشريك والانفراد، والتساوي والتفضيل في الموقوف عليه
والتأبيد والتحبيس ونحو ذلك لا باعتبار ما ذكر هنا.
المسألة الثالثة: لا خلاف في اشتراط القبض في صحة الوقف وتمامه بحيث
أنه بعده لا رجوع في الوقف، وأما قبله فله الرجوع ولو مات قبله رجع ميراثا "،
بمعنى أن الانتقال عن المالك مشروط بالعقد والقبض فيكون العقد جزء السبب
الناقل، وتمامه القبض، وعلى هذا فالعقد في نفسه صحيح، إلا أنه غير ناقل
إلا بالقبض، ولهذا جاز فسخه قبل القبض، وبطل بالموت قبله.
ومن ذلك يعلم أن النماء المتخلل بين العقد والقبض للمواقف، وربما عبر
بعضهم بأنه شرط في اللزوم، والظاهر أن مراده ما ذكر لا ما يتبادر من ظاهر
هذه العبارة، وقد صرح في المسالك بذلك.
وبالجملة فالظاهر أن أصل الحكم لا اشكال فيه ولا خلاف نصا " وفتوى،
والذي وقفت عليه من النصوص المتعلقة بهذا الحكم ما رواه المشايخ الثلاثة في
الصحيح عن صفوان بن يحيى " (1) عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن الرجل

(1) الكافي ج 7 ص 37 ح 36، التهذيب ج 9 ص 134 ح 13، الوسائل ج 13
ص 298 ح 4.
143

يوقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا، فقال: إن كان أوقفها لولده
ولغيرهم ثم جعل لها قيما " لم يكن له أن يرجع وإن كانوا صغارا " وقد شرط
ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها، وإن كانوا كبارا "
لم يسلمها إليهم ولم يخاصموا حتى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها، لأنهم
لا يحوزونها وقد بلغوا ".
وما رواه الصدوق في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بسنده إلى محمد
بن جعفر الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله من محمد بن عثمان (1)
العمري (رضي الله عنه) عن صاحب الزمان (صلوات الله عليه)، ورواه الطبرسي
في الإحتجاج (2) عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي عن محمد بن عثمان عن
صاحب الزمان عليه السلام قال: وأما ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يحل لنا ثم
يحتاج إليه صاحبه فكل ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار، وكل ما سلم فلا خيار
فيه لصاحبه احتاج أو لم يحتج افتقر إليه أو استغنى عنه، إلى أن قال: وأما ما سألت
من أمر الرجل الذي يجعل لنا حيتنا ضيعة يسلمها لمن يقوم فيها ويعمرها،
ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها، ويجعل ما بقي من الدخل لنا حيتنا فإن
ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما " عليها، إنما لا يجوز ذلك لغيره ".
واستدل الأصحاب (رضوان الله عليهم) هنا بجملة من الأخبار التي بلفظ
الصدقة بناء على ما فهموه منها من حمل الصدقة فيها على الوقف، وسيأتي نقلها
انشاء الله تعالى في محلها.
ومنها ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (3) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال
في رجل تصدق على ولد له أدركوا: قال: إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث

(1) الوسائل ج 13 ص 300 ح 8 الباب 4 من أبواب أحكام الوقوف، كمال
الدين ص 520 ح 49.
(2) الإحتجاج ج 2 ص 298 ط النجف.
(3) التهذيب ج 9 ص 137 ح 24، الوسائل ج 13 ص 299 ح 5.
144

فإن تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز، لأن الوالد هو الذي يلي أمره
وقال: لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله.
وبهذه الرواية استدل الأصحاب (رضوان الله عليهم) على أن موت الواقف
قبل الاقباض مبطل للوقف، وموجب لرجوعه ميراثا " حيث أنهم فهموا من الصدقة
هنا الوقف.
واعترضهم في المسالك فقال: وقد فهم الأصحاب من الحديث أن المراد
بالصدقة الوقف، واستدلوا به على ما ذكرناه، مع احتمال أن يريد بالصدقة
معناه الخاص، فلا يكون دليلا "، ويؤيده قوله في آخر الحديث، " وقال: لا يرجع
في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله تعالى " فإن الحكم من خواص الصدقة
الخاصة، لا الوقف.
أقول: قوله فإن الحكم من خواص الصدقة إلى آخره محل بحث سيأتي
ذكره إن شاء الله تعالى، وقال في المسالك: والظاهر أن موت الموقوف عليه، قبل
القبض كموت الواقف، لأن ذلك هو شأن العقد الجائز فضلا عن الذي لم يتم ملكه
ولكنهم اقتصروا على المروي، ويحتمل هنا قيام البطن الثاني مقامه في القبض
ويفرق بينهما بأن يموت الواقف ينتقل ماله إلى وارثه وذلك يقتضي البطلان
كما لو نقله في حياته، بخلاف موت الموقوف عليه، فإن المال بحاله ولم ينتقل
إلى غيره، لعدم تمامية الملك، وفي التحرير توقف في صحته إذا قبض البطن الثاني
ولم يذكره في غيره ولا غيره، انتهى.
وفيه أن المفهوم من الأخبار المتقدمة والمتبادر من اطلاق القبض إنما هو
بالنسبة إلى البطن الأول، وهو الموقوف عليه أولا "، فإن قوله في صحيحة صفوان
المذكورة " وإن كإن لم يسلمها إليهم فله أن يرجع " وقوله في الرواية الثانية
" وكلما لم يسلم فصاحبه بالخيار " ظاهر في أن القبض الموجب للزوم إنما هو
بالنسبة إلى الموقوف عليه أولا "، وإلا فإنه متى لم يقبض فالواقف بالخيار، إن شاء
145

سلمه ولزم الوقف، وإن شاء لم يسلمه فيبطل الوقوف، على أنه لو صح ما احتمله
بالنسبة إلى البطن الثاني لجرى أيضا " فيما بعده.
وبالجملة فإن الانتقال إلى البطن الثاني فرع صحة الوقف ولزومه بالنسبة
إلى البطن الأول، وإلا لصح الوقف لو وقف أولا " على من لا يصح الوقف عليه ثم
على غيره ممن يصح، وهم لا يقولون به، ثم إنه يجب أن يعلم أن القبض المعتبر
هنا هو القبض المتقدم تحقيقه في كتاب البيع.
وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور: الأول: الظاهر
أنه لا خلاف ولا اشكال في أن قبض الولي لمن هو ولي عليه كقبضه وإن كان
الواقف الولي، كما لو وقف على أولاده الأصاغر، فإن قبضه قبل الوقف كاف في
قبضه لهم بعده، وعليه تدل صحيحة صفوان المتقدمة، وكذا رواية عبيد بن
زرارة، ومثلهما روايات أخر أيضا " ولا يجب تجديد النية والقصد في كونه قبضا "
عن المولى عليه، لعدم الدليل عليه، واطلاق النصوص يقتضي العدم، واحتمل
بعضهم اعتبار قصده قبضا " عن المولى عليه بعد العقد، لأن القصد هو الفارق بين
القبض السابق الذي كان على جهة الملك، واللاحق الذي للموقوف عليه.
واطلاق النصوص المذكورة يرده، إلا أن ظاهر صحيحة صفوان ربما أشعر
به، لقوله " وإن كانوا صغارا " وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم "
فإن الظاهر أن المراد قصد ولايتها لهم إلى أن يبلغوا، فلا بد حينئذ من تجديد
النية، على أن التحقيق أن التجديد أمر أبدي لا ينفك عنه الواقف كذلك بحسب
الطبيعة والجبلة، لأن من كان له ملك وأزال ذلك الملك عن نفسه بنقله إلى
غيره ممن له الولاية عليه، دانه لا بد من تغير قصده، ونيته في وضع اليد عليه
من أنه بالملك في الأول، وبالولاية في الثاني، فاختلاف القصد بين الحال الأولى
والثانية أمر جبلي طبيعي كما لا يخفى، والظاهر كما استظهره جملة من الأصحاب
أن ما كان في يد الولي بطريق الوديعة أو العارية، ووقفه صاحبه على المولى عليه
146

فإن قبضه بإحدى الطريقتين المذكورتين كاف، كما لو كان هو الواقف.
الثاني: الظاهر أنه لا فرق في الاكتفاء بقبض الولي بين كون الولي أبا " أوجدا "
أو وصيهما أو حاكما " شرعيا "، وإن كان مورد الأخبار المتقدمة الأب، فإنها إنما
خرجت مخرج التمثيل، لا الاختصاص، إذا العلة مشتركة بين الجميع، وتردد
بعض الأصحاب في الحاق الوصي بالمذكورين، نظرا " إلى ضعف يده وولايته
بالنسبة إلى غيره.
قال في المسالك ونعم ما قال في رد هذا المقال: ولا وجه للتردد، فإن أصل
الولاية كاف في ذلك، والمعتبر هو تحقق كونه تحت يدي الواقف، مضافا " إلى
ولايته على الموقوف عليه، فتكون يده كيده، ولا يظهر لضعف اليد وقوتها أثر في
ذلك، انتهى وهو جيد.
الثالث: الظاهر أن المشهور هو كون القبض بإذن الواقف، فلو وقع بدونه لغي
وتوقف فيه صاحب الكفاية، قال: وحجته غير واضحة، وعلله في الروضة
بامتناع التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والحال أنه لم ينتقل إلى الموقوف عليه
بدونه.
وفيه أنه وإن لم ينتقل إليه قبل القبض إلا أنه ينتقل إليه بالقبض بلا خلاف
ولا اشكال فلو قبضه الموقوف عليه وإن لم يكن بإذن الواقف صدق حصول القبض
الذي هو الناقل، واشتراط الإذن يحتاج إلى دليل.
ويمكن الاستدلال على ما ذكروه بقوله عليه السلام في صحيحة صفوان " وإن كانوا
كبارا " لم يسلمها إليهم فله أن يرجع " وكذا قوله عليه السلام في التوقيع " فكل ما لم
يسلم فصاحبه بالخيار وكلما سلم فلا خيار فيه "، فإن ظاهره أن القبض إنما يتحقق
بتسليم الواقف، ودفعه بالفعل أو الإذن، إلا أن رواية عبيد بن زرارة قد وقع
التعبير فيها هنا بلفظ القبض المنسوب إلى الموقوف عليه، فقال: إذا لم يقبضوا
حتى يموت فهو ميراث، ومفهومه أنه لو قبضوا أعم من أن يكون بإذن أو غيره
147

كان صحيحا " لازما "، ومثلها في هذه العبارة قوله عليه السلام في صحيحة محمد بن مسلم
إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث ونحوها، روايات آخر إلا أنها وردت بلفظ
الصدقة، لكن الأصحاب استدلوا بها على أحكام الوقف، بناء " على فهمهم منها أن
المراد بالصدقة منها الوقف كما تقدمت الإشارة إليه.
ويمكن تقييد اطلاق هذه الروايات بالخبرين الأولين بمعنى تخصيص
القبض المذكور فيها بما إذا اقترن بالاقباض من الواقف، فلا بد من تسليم
الواقف، ودفعه ليحصل القبض المعتبر شرعا "، وكيف كان فالاحتياط يقتضي
الوقوف على القول المشهور.
الرابع: هل يكتفي بالقبض السابق وإن كان على غير وجه شرعي كالمقبوض
بالغصب، والشراء الفاسد اشكال، ينشأ من أن المتبادر من القبض في أخبار
المسألة هو القبض الشرعي، وهذا القبض منهي عنه، فلا يؤثر في الصحة، ولهذا
لو قبضه الموقوف عليه بغير إذن بطل كما تقدم، ومن حصول القبض في الجملة،
وأن النهي عنه غير موجب للبطلان، لأن ذلك في العبادات، وإنما غايته الإثم
مع أنه لقائل أن يقول: إن النهي عن هذا القبض وإن وقع باعتبار أول الأمر
من حيث الغصب ونحوه، إلا أنه بعد وقف الواقف ذلك المغصوب على من هو في
يده واردة تمليكه إياه، يعلم اختلاف الحالين، فإنه قرينة ظاهرة في الرضا بقبضه
ويصير اختلاف حالي القبض هنا كما في صورة قبض الولي لأولاده الصغار ما وقفه
عليهم، فإن القبض أمر واحد مستصحب في كلتي المسألتين وإن كان في الأول ملكا "
للواقف، وبعد الوقف يصير ملكا " للموقوف عليهم بالنسبة إلى تلك المسألة، وغصبا "
منهيا " عنه قبل الوقف، وشرعيا بعد الوقف، لإفادته الرضا به بالنسبة إلى هذه
المسألة، وقد تقدم نظير ذلك في الرهن.
واضطرب كلام العلامة (رحمة الله عليه) في التذكرة في هذه المسألة، ففي
كتاب الرهن كما قدمنا نقله عنه ثمة قطع باشتراط الإذن، ومضي زمان يمكن
148

تجدد القبض فيه، ولم يكتف بقبض الغاصب ونحوه، وفي هذا الكتاب قطع
بالاكتفاء بقبض الغاصب كما اخترناه، وظاهر كلام المحقق في الشرايع يؤذن
بالاكتفاء بقبض الغاصب، قال في المسالك: ولعله أجود.
أقول: وجه قوته يعلم مما ذكرناه وإن لم يتنبه له أحد من أصحابنا،
(رضوان الله عليهم)، قال في المسالك: وحيث لا يعتبر تجديد القبض ز، لا يعتبر مضي
زمان يمكن فيه احداثه، وإن اعتبر اعتبر، لأن الإذن فيه يستدعي تحصيله،
ومن ضروراته مضي زمان يمكن فيه، بخلاف ما لا يعتبر فيه التجديد، وقد تقدم
مزيد تحقيق له في الرهن.
أقول: قد أشرنا في الكتاب المذكور إلى أن ما ذكره من التحقيق غير
جدير بالنظر إليه، ولا حقيق.
الخامس: قد صرح جملة من الأصحاب (رحمهم الله) بأنه لا يشترط في
القبض الفورية بعد العقد، بالأصل وعدم الدليل على ذلك.
أقول: ويشير إلى عدم ذلك قوله عليه السلام في رواية عبيد بن زرارة، وصحيحة
محمد بن مسلم " إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث " فإنه ظاهر فيما قلناه،
حيث علق البطلان بعدم القبض حتى يموت، المؤذن بعدم البطلان متى تحقق
القبض وإن تراخى عن العقد إلا أن يموت، أو يفسخ العقد.
الساس: ينبغي أن يعلم أن القبض المعبر شرعا في الوقف إنما هو بالنسبة
إلى البطن الأول بغير خلاف يعرف، فيسقط اعتبار ذلك في بقية البطون، لأنهم
يتلقون الملك عن البطن الأول، وقد تحقق أولا "، ولزم بالقبض أولا "، وهذا هو
مقتضى الأخبار المتقدمة، فإن غاية ما يدل عليه هو القبض ممن وقف عليه أولا "
دون غيره ممن تأخر من البطون، والأصل العدم حتى يقوم دليل على خلافه.
السابع: لو كان الوقف على الفقهاء فلا بد من نصب قيم للقبض،
لما عرفت من أن القبض معتبر شرعا " في صحة الوقف، والموقوف على هؤلاء.
149

المذكورين في الحقيقة إنما هو وقف على الجهة، كما سيأتي بيانه انشاء الله تعالى
قريبا "، لا وقف على الأشخاص، فلا يكفي قبض بعضهم، لأنه ليس هو الموقوف عليه،
وإنما الوقف على جهة من جهات مصلحته، فلا بد من نصب قيم للقبض من الواقف أو
الحاكم، أو قبض الحاكم بنفسه، إلا أن ظاهر خبر صدقة أمير المؤمنين عليه السلام بالعين
التي في ينبع كما تقدم ليس فيه أزيد من قوله ذلك اللفظ المحكي في الخبر، وبه
ثبت الوقف وتم، إلا أنه يمكن أن يقال: إن قبضه عليه السلام لذلك لما كان بطريق
الولاية لتلك الجهة، وهو الحاكم الشرعي كان ذلك كافيا ".
نعم لو كان الواقف ليس حاكما " شرعيا " فإن الواجب نصب القيم من جهته،
أو جهة الحاكم أو الحاكم بنفسه كما ذكرناه، وقد تقدم في صحيحة صفوان
قوله عليه السلام إن كان أوقفها لولده أو لغيرهم ثم جعل لها قيما " لم يكن له أن يرجع،
والظاهر أن المراد أنه أوقفها على أولاده البالغين مع غيرهم من الجهات العامة،
وجعل قيما " للوقف، فإنه لا يجوز له الرجوع لحصول القبض من القيم، فيكون
الخبر دليلا " في المسألة، وحمل الأولاد على البالغين، لأن حكم الصغار مذكور
بعدهم في الرواية، وأن الأب يقبض عنهم بالولاية، ولو كان على مصلحة محضة،
كالمساجد والقناطر ونحوها، فإن القبض في ذلك إلى الناظر المعين لتلك المصلحة من
الواقف أو الحاكم، والحكم عندي في هذا المقام لا يخلو من شوب التردد والاشكال
لعدم معلومية اشتراط القبض من الأدلة كما لو كان الوقف على موجود مخصوص،
ولا يشترط القبول هنا، ولا في السابق لما تقدم من أن القبول إنما هو من الموقوف
عليه في هذين الموضعين إنما هو الجهة، ولا يعقل اعتبار قبولها على أنك قد
عرفت ما في ذلك من البحث والمناقشة.
الثامن: أطلق بعضهم تحقق القبض في وقف المسجد والمقبرة بصلاة واحد فيه
ودفن واحد فيها، وقيده آخر بوقوع ذلك بأذن الواقف، ليتحقق الاقباض الذي هو
شرط صحة القبض، وقيده ثالث بأن يوقع الصلاة والدفن بنية القبض أيضا " فلو
150

أوقعا ذلك لا بنيته كما لو وقع قبل العلم بالوقف أو بعده قبل الإذن في الصلاة
أو بعده، لا بقصد القبض، إما لذهوله عنه أو لغير ذلك لم يلزم، ومثله الدفن
قالوا: هذا إذا لم يقبضه الحاكم الشرعي أو منصوبه وإلا فالأقوى الاكتفاء به
إذا وقع بإذن الواقف لأنه نائب المسلمين.
أقول: لم أقف في هذا المقام على نص يتضمن شيئا " من هذه الأحكام، وهو
مبني على ما تقرر عندهم من عدم ثبوت المسجدية إلا بالوقف، وقد تقدم منا
تحقيق في ذلك في كتاب الصلاة في التتمة الملحقة بالمقدمة السادسة في المكان (1)
واستوفينا الكلام معهم رضوان الله عليهم في ذلك فليرجع إليه من أحب الوقوف
عليه.
التاسع: المفهوم من كلام أكثر الأصحاب وهو صريح جملة منهم أنه بعد
القبض ليس للواقف فيه رجوع بوجه وقال الشيخ المفيد. رحمة الله عليه) في
المقنعة: الوقوف في الأصل صدقات، لا يجوز الرجوع فيها إلا أن يحدث
الموقوف عليه ما يمنع الشرع من معونتهم، والقربة إلى الله بصلتهم، أو يكون
تغير الشرط في الوقف إلى غيره أرد عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله.
قال ابن إدريس بعد نقل ذلك عنه: والذي يقتضيه مذهبنا أنه بعد وقفه
وتقضيه لا يجوز الرجوع فيه ولا تغييره عن وجوهه وسبيله ولا بيعه، سواء
كان بيعه أرد عليهم أم لا، إلى أن قال: فمن ادعى غير ذلك فقد ادعى حكما
شرعيا " يحتاج في اثباته إلى دليل شرعي، انتهى.
وأجاب العلامة في المختلف عن ذلك: بما يؤذن بالجميع بين الكلامين،
من حمل كلام الشيخ المفيد على أن الواقف له قد شرط شرطا يمتنع بدونه
اجراء الوقف على حاله، قال: فههنا يخرج الوقف عن اللزوم، وأن يكون
الواقف قد قصد معونة الموقوف عليهم لصلاحهم ودينهم، فيخرج أربابه عن هذا

(1) ج 7 ص 301.
151

الوصف إلى حد الكفر، فلقائل أنم يقول يخرج أربابه عن الاستحقاق، لأن
الوقف صدقة، ومن شرط الصدقة التقرب إلى الله تعالى، فمن لا يصح التقرب
بالمعاونة عليه يبطل الوقف عليه، انتهى.
والذي يقرب عندي أن كلام الشيخ المشار إليه (قدس الله روحه) مبني على
مسألة أخرى، وهو أنه هل يشترط في صحة الوقف القربة إلى الله تعالى به، فلو خلا منها
لم يكن وقفا صحيحا " أم لا؟ فعلى الأول لو تجدد من الموقوف عليه بعد الوقف ما ينافي
التقرب إلى الله تعالى بصلته كاتصافه بالكفر بطل الوقف، كما أنه يبطل ابتداء
لو كان كافرا " فإنه لا يجوز الوقف عليه، إلا أن يكون الكافر أحد الأبوين على ما
سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في تلك المسألة، وقد صرح بما قلناه ابن إدريس
في تلك المسألة، فقال: لا يجوز الوقف على الكفرة إلا أن يكون الكافر أحد الأبوين
لأن من صحة الوقف وشرطه نية القربة فيه، انتهى.
والشيخ المفيد (قدس سره) قد صرح في كتابه المذكور باشتراط القربة
في صحة الوقف، كما يشير إليه كلامه هنا، فقال في موضع آخر: ولا بد في
ذكر الوقف من شرط الصدقة به، والقربة إلى الله تعالى بذلك، وحينئذ
فاعتراض ابن إدريس عليه ليس في محله، لأنه من القائلين بهذا القول كما
سمعت من عبارته المذكورة، ومثلها ما صرح به في موضع آخر أيضا " حيث
قال: وجملة القول أنه يفتقر صحة الوقف إلى شروط، إلى أن قال: ومنها أن
يكون متلفظا " بصريحه، قاصدا إليه، والتقرب به إلى الله، والمراد بقوله
متلفظا بصريحه، يعني الاتيان بالعبارة الصريحة في عقد الوقف، وحينئذ فإذا
كان مذهبه أن التقرب شرط في صحة الوقف فيبطل بدونه، لفوات الشرط
المذكور، فإنه لا فرق بين البطلان بفواته في الابتداء، وفي الأثناء، فإن شرطيته
ثابتة ابتداء واستمرارا "، فكلام الشيخ المذكور بناء على ما ذكرناه لا يعتريه
نقص ولا قصور بقي الكلام في تحقيق هذه المسألة وهو أنه هل يشترط في صحة
152

الوقف القربة أم لا؟ قد عرفت من كلام الشيخ المفيد وابن إدريس القول بذلك،
ونحوهما الشيخ في النهاية، حيث قال: والوقف والصدقة شئ واحد، ولا يصح
شئ منهما إلا بعد ما يتقرب به إلى الله تعالى، وإن لم يقصد بذلك وجه الله لم
يصح الوقف.
وأما في المبسوط فلم يتعرض لذلك بنفي ولا اثبات، وظاهر كلام شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك العدم، كما يشير إليه كلامه المتقدم في هذه المسألة
وقال في المفاتيح وفي اشتراط نية القربة قولان، والأصح العدم، لعدم دليل عليه
بل العمومات تنفيه، نعم حصول الثواب يتوقف عليه.
أقول: ويدل على ما ذكره المتقدمون من الاشتراط ما رواه في الكافي
و التهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال: بعث إلي أبو الحسن
موسى عليه السلام بوصية أمير المؤمنين عليه السلام وهي: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى
به وقضى به في ماله عبد الله علي ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة، ويصرفني به
عن النار، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه أن ما كان لي من مال
ينبع من مال يعرف لي فيها وما حولها صدقة، وما كان لي بوادي القرى صدقة، وما
كان لي بديمة وأهلها صدقة، وما كان لي بأذنية وأهلها صدقة، في سبيل الله، إلى
أن قال: هذه صدقة واجبة بتلة حيا " أنا أو ميتا " ينفق في كل نفقة يبتغي بها وجه الله
في سبيل الله، وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطب إلى أن قال: ولا يباع منه
شئ ولا يوهب ولا يورث " الحديث وما نقلناه ملخص الخبر فإنه طويل، وهو كما
ترى وقف مشتمل على التقرب.
ومثله ما روى من وقف الكاظم عليه السلام (2) وقد تقدم ذكرها في الموضع الثاني

(1) الكافي ج 7 ص 49 ح 7، التهذيب ج 9 ص 146 ح 55، الوسائل ج 13
ص 312 ح 4.
(2) الكافي ج 7 ص 53 ح 8، التهذيب ج 9 ص 149 ح 57، الوسائل
ج 13 ص 314 ح 5.
153

من المطلب الأول، وفيها تصدق موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح، صدقة
حبسا " بتلا بتا لا مشوبة فيها ولا ردا " أبدا " ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة " إلى
آخر ما تقدم.
إلا أن الخبرين المذكورين ليسا في الاشتراط، فيجوز أن يكون ذكر
ذلك لترتب الثواب الأخروي على ذلك الوقف، إذ بدون التقرب لا يترتب عليه
ثواب وإن صح ولزم كما صرحوا به.
ويمكن أن يكون مستند الشيخ المفيد ومن تبعه في ذلك أنما هو الأخبار
الدالة علي أن الصدقة لا تصح ولا تلزم إلا بالقربة، بحمل الصدقة على الوقف، مثل
قول أبي عبد الله عليه السلام في موثقة حماد وهشام وابن أذينة وابن بكير (1) " لا صدقة
ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله تعالى " وموثقة عبيد بن زرارة (2) قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يتصدق بصدقة أله أن يرجع في صدقته، فقال: إن
الصدقة محدثة، إنما كان النحل والهبة ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته
حيز أو لم يحز، ولا ينبغي لمن أعطى شيئا " لله أن يرجع فيه ".
ورواية زرارة (3) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال. إنما الصدقة محدثة، إنما
كان الناس علي عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينحلون ويهبون، ولا ينبغي
لمن أعطى الله شيئا " أن يرجع فيه، قال. وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه
نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز " الحديث.
والتقريب فيها أن المفهوم من كلام الشيخ المفيد أن الوقوف لا تخرج عن الصدقات
بل هما أمر واحد في قصد التقرب إلى الله عز وجل، وهو صريح كلام الشيخ في النهاية
لقوله والوقف والصدقة شئ واحد، لا يصح شئ منهما إلا بعد التقرب، وإليه يشير

(1) الكافي ج 7 ص 30 ح 2 التهذيب ج 9 ص 159 ح 67، الوسائل ج 13
ص 320 ح 3.
(2) التهذيب ج 9 ص 153 ح 2، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1.
(3) الكافي ج 7 ص 30 ح 3، التهذيب ح 9 ص 152 ح 1، الوسائل ج 13
ص 334 ح 1.
154

قوله في المقنعة إن الوقوف في الأصل صدقات، بمعنى أنه إنما يطلق في الأصل والصدر
السابق على الوقف لفظ الصدقة، وهو حق كما سمعته من الأخبار المتقدمة، سيما
أخبار وقوف الأئمة عليهم السلام وإليه يشير قوله عليه السلام في هذين الخبرين " إنما الصدقة
محدثة، يعني اطلاق هذا اللفظ على ما يعطى بقصد التقرب محدث، وإنما الذي كان
يستعمل في زمنه (صلى الله عليه وآله) النحلة والهبة أعم من أن يكون مقترنة
بالتقرب لله سبحانه، فتدخل فيه الصدقة بالمعنى المتأخر أو لم يكن كذلك، وهذا
المعنى الذي استعمل فيه لفظ الصدقة إنما هو الوقف، والمستعمل من لفظ الصدقة
في الصدر الأول إنما هو الزكاة كما دلت عليه الآية، وحينئذ فإذا كان الأصل في
اطلاق الصدقة إنما هو المعنى المترتب علي لفظ الوقف، فلا بد من اشتراط التقرب
فيه لاشتراط الصدقة بالقربة، وإن جرى ذلك أيضا " في الصدقة بالمعنى المتأخر
فيجب اشتراط القربة في الصدقة بكل من المعنيين بالتقريب المذكور.
ومجمله أن اطلاق لفظ الصدقة على الوقف كما عرفت في الأخبار إنما هو
من حيث أن الوقوف إنما تكون لله سبحانه، وما كان لله سبحانه فلا رجعة من
هذه الجهة لأنه قد استحق الأجر، وكتب له الثواب، فلا يجمع بين العوض
والمعوض، وبهذا التقريب يتم المدعى من شرطية التقرب في الوقف، كما هو
قول أولئك الفضلاء المتقدمين، ولم يحضرني الآن من كتب المتقدمين غير من
قدمت ذكره.
المسألة الرابعة: قد عرفت أن من شرائط الوقف اخراجه عن نفسه، ولا
خلاف في بطلانه لو وقف على نفسه، سواء اقتصر على ذلك أو جعله بعد نفسه
لغيره، إنما الخلاف فيما إذا جعله لغيره بعد ذكر نفسه وهو الوقف المنقطع الأول
فقيل: بالصحة فيه، وهو قول الشيخ في المبسوط والخلاف، ولا فرق في ذلك بين
أن يقفه أولا " على نفسه أو على غيره ممن لا يجوز الوقف عليه، ومرجعه إلى
منقطع الأول، والمشهور في كلام الأصحاب بطلان الوقف من أصله.
155

وقال الشيخ في الخلاف: إذا وقف على من لا يصح الوقف عليه مثل العبد،
أو حمل لم يوجد، أو رجل مجهول وما أشبه ذلك، ثم ذلك على أولاده
الموجودين في الحال، وبعدهم في الفقراء والمساكين بطل الوقف فيما بدأ بذكره
لأنه لا يصح الوقف عليهم، وصح في حيز الباقين، لأنه يصح الوقف عليهم، واستدل
بأنه ذكر نوعين، أحدهما لا يصح الوقف عليه، والآخر يصح، فإذا بطل في حيز
من لا يصح الوقف عليه، صح في حيز من يصح الوقف عليه، لأنه لا دليل على
ابطاله ولا مانع منه.
وقال في المبسوط: إذا كان الوقف منقطع الابتداء، ومتصل الانتهاء، بأن
يقف أولا " على من لا يصح الوقف عليه، ثم على من يصح، كمن يقف على نفسه أو
عبده أو المجهول أو المعدون أو الميت، ثم على الفقراء والمساكين، الذي يقتضيه
مذهبنا أنه لا يصح الوقف، لأنه لا دليل عليه، وفي الناس من قال: يصح تفريق
الصفقة، وإذا قال: لا يصح تفريق الصفقة بطل الوقف في الجميع، وبقي الوقف
على ملك الواقف لم يزل عنه، ومن قال: يصح تفريق الصفقة أبطله في حق
من لا يصح الوقف عليه، وصححه في حق الباقين، وهذا قوي يجوز أن يعتمد
عليه، لأنا نقول بتفريق الصفقة، انتهى.
واستدل العلامة في المختلف والشهيد الثاني في المسالك على البطلان كما
هو المشهور بما ملخصه أن اللازم من القول بالصحة أحد أمور ثلاثة: إما صحة
الوقف مع انتفاء الموقوف عليه، أو وقوع الوقف المشروط، أو عدم جريان
الوقف على حسب ما شرطه الواقف، واللوازم كلها باطلة، وليرجع في توجيه
الملازمة إلى ما ذكروه ثمة.
والأظهر في الاستدلال على ذلك هو ما رواه في الكافي عن علي بن
سليمان (1) " قال: كتبت إليه يعني أبا الحسن عليه السلام: جعلت فداك ليس لي ولد

(1) الكافي ج 8 ص 37 ح 33، التهذيب ج 9 ص 129 ح 1، الوسائل
ج 13 ص 296 ح 1، الفقيه ح 4 ص 177 ح 623.
156

ولي ضياع ورثتها من أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان، فإن لم يكن لي
ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك؟ لي أن أوقف بعضها على فقراء إخواني
والمستضعفين أو أبيعها وأتصدق بثمنها في حياتي عليهم؟ فإني أتخوف أن لا ينفذ
الوقف بعد موتي، فإن أوقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيام حياتي أم لا؟
فكتب عليه السلام: فهمت كتابك في أمر ضياعك، وليس لك أن تأكل منها، ولا من
الصدقة، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ " الحديث.
وهو ظاهر في أنه لو وقف على نفسه بطل الوقف، والتقريب فيه أن مقتضى
الوقف على نفسه جواز الأكل منه، مع أنه ليس له ذلك بالخبر المذكور، فلا
ثمرة لهذا الوقف لو قيل به، ومنه يعلم أن عدم جواز الأكل مستلزم لبطلان
الوقف على نفسه، والمراد من عدم النقود إنما هو البطلان
ومما يدل على اخراجه نفسه مما يقفه على غيره ما رواه الشيخ في الصحيح
عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير، وقال: إن احتجت
إلى شئ من مالي أو من غلة فأنا أحق به، أله ذلك وقد جعله لله؟ وكيف يكون
حاله إذا هلك الرجل؟ أيرجع ميراثا " أو يمضي صدقة؟ قال: يرجع ميراثا " على
أهله ".
وما رواه عنه (2) في الصحيح أيضا " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أوقف
أرضا " ثم قال: إن احتجت إليها فأنا أحق بها ثم مات الرجل فإنها ترجع إلى الميراث ".
وهذه الروايات، وإن لم تدل على خصوص البطلان في وقفه على نفسه كما
هو المدعى، إلا أنك قد عرفت من التقريب المتقدم ما يدل على ذلك، ومع
الاغماض عن ذلك، فإنها ظاهرة بل صريحة بل صريحة في أنه يجب اخراج نفسه مما أوقفه

(1) التهذيب ج 9 ص 146 ح 54، الوسائل ج 13 ص 297 ح 3.
(2) التهذيب ج 9 ص 150 ح 59.
157

على غيره من جميع الجهات، أعم من أن يقف على نفسه أو يشترط الرجوع إليه
كلا أو بعضا أو نحو ذلك مما يخرج عن الوقف على غيره، ونحوها أيضا رواية
طلحة بن زيد (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه أن رجلا تصدق بدار له، وهو
ساكن فيها، فقال: الحين أخرج منها ".
والأظهر عندي في الاستدلال على بطلان الوقف المنقطع الأول هو أن يقال:
لا ريب أن الأصل عصمة المال من الانتقال إلا بدليل شرعي، ولم نعلم من الشرع
صحة الوقف بهذه الكيفية، فإن الأخبار الواردة في الوقف عنهم عليه السلام فعلا أو أمرا
أو تقريرا إنما اشتملت على الوقف أولا على من يصح الوقف عليه، ثم على من
عقبه به، فلو صدره بمن لا يصح الوقف عليه من نفسه، أو يغره من الأفراد المشار
إليها آنفا " فالحكم بالصحة يتوقف على دليل، وليس فليس، وتخرج الروايات
المذكورة شاهدة على ذلك، وإن كان موردها أخص، والمفهوم من عبارة المبسوط
أن القائل بالصحة إنما هو من المخالفين، لأن مرمى لفظ الناس ذلك، ويعضده
ما ذكره من التعليل العليل، فإنه الأربط بمذاهب العامة، وإن استحسنه هنا
وتبعهم فيه، كما أن قوله الذي يقتضيه مذهبنا، فيه إشارة إلى الاتفاق عليه عندنا
وتعليله المذكور جيد، كما ذكرنا.
تنبيهات:
الأول إعلم أنهم قد صرحوا بأنه على تقدير القول بالصحة كما هو
مذهب الشيخ في الكتابين المذكورين فهل ثبتت هذه الصحة لغيره من حين الوقف؟
أم بعد موت الواقف؟ وجهان: ثم نقلوا عن الشيخ اختيار الأول، وهو أن الوقف
ينتقل لذلك الغير من حين الوقف كما هو ظاهر كلامه المتقدم.
ثم إنهم اعترضوه بأنه خلاف مقصود الواقف، وقد قال العسكري عليه السلام (2).

(1) التهذيب ج 9 ص 138 ح 29، الوسائل ج 13 ص 297 ح 4.
(2) التهذيب ج 9 ص 129 ح 2، الوسائل ج 13 ص 295 ح 1.
158

" إن الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها " وأهلها لم يقصدوا ذلك الغير ابتداء "
فكيف تصرف إليه.
وهذا الاعتراض عندي لا يخلو من خدش، لأنه لا خلاف في بطلان الوقف
على نفسه في هذه الصورة، ولا خلاف في أن الخبر على اطلاقه غير معول عليه، وإلا
لدخل تحته جملة الوقوف الباطلة التي لا خلاف في بطلانها، فلا بد من تخصيصه بما
كان صحيحا " شرعا "، والشيخ يدعي أن الوقف على ذلك الغير مع تقدم الوقف على نفسه
صحيح، وإن بطل وقفه على نفسه، لأن وقفه على نفسه قد خرج من اطلاق الخبر
المذكور، فيكون شاملا " لما ادعاه بناء " على دعواه، فالزامهم له بأن مقتضى ما ذكره
خلاف ما دل عليه الخبر، مردود بأنه وإن دل باطلاقه على ذلك، إلا أنه يجب
تخصيصه، واخراج هذه الصورة ونحوها من اطلاقه، كما عرفت
وبالجملة فإن الظاهران اعتراضهم عليه غير موجه ولا ظاهر، ومن ثم
أعرضنا عن نقل دليلهم المتقدم ذكره إلى ما تقدمناه من الدليل الواضح السبيل.
ثم إنهم ذكروا بعد رد قول الشيخ بما قدمنا نقله عنهم بأن الأقوى تفريعا
على الصحة انصرافه إليه بعد موت الموقوف عليه، قالوا: وبهذا يسمى منقطع الأول
أقول: لا أعرف لقوة ما ذكروها وجها "، إلا أن يكون باعتبار صدق هذه
التسمية على هذا التقدير، دون الأول، وهو لا يجدي نفعا "، على أن هذه التسمية
إنما هي في كلامهم، ومجرد اصطلاح منهم، بل الأقوى إنما هو الأول بالتقريب
الذي ذكرناه، واندفاع ما أوردوه على الشيخ (رحمه الله).
الثاني: قالوا: لو وقف على نفسه وغيره بأن وقع العطف بالواو ففي صحة
الوقف على الغير بأن يكون في النصف، ويبطل في النصف الآخر، أو في الكل بأن
يكون الكل وقفا " عليه، أو يبطل في حقه كما في قرينه أوجه: وظاهره في
المسالك ترجيح الأول والميل إليه، قال: ولو عطف الغير في الأول على نفسه بالواو،
فليس بمنقطع الأول، لبقاء الموقوف عليه ابتداء وهو الغير، فإن الموقوف عليه
159

ليس هو المجموع منه ومن الغير، من حيث هو مجموع، بل كل واحد منهما،
والأقوى حينئذ صحة الوقف على الغير في نصفه، وبطلان النصف في حقه، لعدم
المانع من نفوذ الوقف في النصف، مع وجود المقتضي للصحة وهو الصيغة مع ما
يعتبر معها.
ويحتمل ضعيفا " أن يكون الكل للغير، خصوصا " لو جعلناه للغير في السابق
كما مر، نظرا " إلى أن الموقوف بالنسبة إليهما هو المجموع من حيث هو مجموع،
فالحكم بالتنصيف إنما نشأ من امتناع كون المجموع وقفا " على كل منهما كمنقطع
الأول، فإذا امتنع الوقف على أحدهما خاصة، انصرف وقف المجموع إلى الآخر.
ويضعف بأنه إنما وقف عليهما بحيث يكون لكل منهما حصة، فإذا بطل
في أحدهما لم ينصرف الموقوف كله إلى الآخر، لأن ذلك خلاف مدلول الصيغة،
وخلاف مراد الواقف، والعقد تابع للقصد، انتهى، وكأن من احتمل البطلان
كما قدمنا نقله نظر إلى أنه منقطع الأول ولو في الجملة.
أقول: المسألة كغيرها لخلوها من النص لا تخلو من الاشكال، وإن كان
ما اختاره في المسالك قوي الاحتمال.
الثالث: قد صرحوا بأنه لو وقف على غيره وشرط قضاء ديونه أو إدار
مؤنته بطل الوقف، وهو كذلك لما تقدم من الأخبار في المسألة، فإنها وإن لم
تتضمن ما ذكروه هنا بخصوصه، وإلا أن ظاهرها نقل الملك والمنافع عن نفسه،
وإذا شرط الواقف قضاء ديونه أو إدار مؤنته أو نحو ذلك فقد شرط ما ينافي
مقتضاه، فيبطل الشرط والوقف، والأولى أن يجعل هذا الكلام توجيها " للنص،
والعلة الحقيقية إنما هي النص، وهذا الكلام مما يصلح توجيها " له وبيانا " للحكمة
في ذلك، ومقتضى الأخبار المذكورة بطلان الوقف بهذا الشرط، كما هو المشهور،
وقد تقدم الخلاف في ذلك، والقول في المسألة بأن الباطل إنما هو الشرط خاصة
مع صحة أصل العقد، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسألة في مواضع
160

أولها مقدمات الكتاب أعني المقدمات الواقعة في أول جلد كتاب الطهارة (1) وبينا
ثمة أن الأولى في ذلك هو الوقوف على الأخبار فيما ترد به من الأحكام، وأن ذلك
لا تتخذ قاعدة كلية في بطلان الشرط خاصة، أو أصل العقد، كما يفهم من كلام
الأصحاب، بل يجب الوقوف فيه على موارد النصوص، حيث أن بعضها تضمن بطلان
الشرط خاصة، مع صحة أصل العقد في بعض الأحكام، وبعضها تضمن بطلان أصل
العقد في بعض آخر، كما في هذا الموضع وغيره، ثم إنه لا فرق في البطلان بما
يشترط بين أن لا يكون قليلا " أو كثيرا "، لوجود المقتضي في الجميع، قال في
المسالك: ومن جوز الوقف على نفسه جوز اشتراط هذه الأشياء مطلقا ".
أقول: ظاهر هذا الكلام وجود قول في المسألة بجواز الوقف على نفسه،
مع أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على العدم وهو نفسه ممن صرح بذلك أيضا "، فقال في
شرح قول المصنف ومن وقف على نفسه لم يصح، لا خلاف بين أصحابنا في بطلان وقف
الانسان على نفسه إلى آخره، والظاهر أن منع الاشتراط المذكور إنما هو بالنسبة
إلى نفسه، وإلا فلو اشترط لغيره من أقاربه أو غيرهم صح الوقف والشرط، ويدل
على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن جعفر بن حيان (2) وهو مجهول أو
واقفي " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوقف غلة له على قرابته من أبيه، وقرابته
من أمه، وأوصى لرجل ولعقبه عن تلك الغلة ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم
في كل سنة ويقسم الباقي على قرابته من أبيه، وقرابته من أمه؟ قال: جائز للذي
أوصى له بذلك، قلت: أرأيت إن لم يخرج من غلة الأرض التي وقفها إلا خمسمائة
درهم، فقال: أليس في وصيته أن يعطى الذي أوصى له من الغلة ثلاثمائة درهم
ويقسم الباقي على قرابته من أمه وقرابته من أبيه، قلت: نعم، قال: ليس لقرابته
أن يأخذوا من الغلة شيئا حتى يوفي الموصى له بثلاثمائة درهم، ثم لهم ما بقي من

(1) ج 1 ص 164.
(2) الكافي ج 7 ص 35 ح 29، التهذيب ج 9 ص 133 ح 12، الوسائل
ج 13 ص 306 ح 8.
161

بعد ذلك، قلت: أرأيت إن مات الذي أوصى له؟ قال: إن مات كانت الثلاثمائة
درهم لورثته يتوارثونها ما بقي أحد منهم فإذا انقطع ورثته، ولم يبق منهم كانت
الثلاثمائة درهم لقرابة الميت، ترد إلى ما يخرج من الوقف، ثم يقسم بينهم
يتوارثون ذلك ما بقوا وبقيت الغلة، قلت: فللورثة من قرابة الميت بأن يبيعوا
الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلة؟ قال: نعم إذا رضوا كلهم
وكان البيع خيرا " لهم باعوا ".
وفي هذا الخبر دلالة علي تفسير العقب بالورثة، والأكثر على أن المراد به
إنما هو الولد، وولد الولد، وقيل بتفسيره بالورثة، وهذا الخبر صريح فيه كما
ترى، وأما ما ذكره آخر الخبر من جواز بيع الوقف، فقد تقدم الكلام فيه
مستوفى في فصل البيع من كتاب التجارة (1).
وما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد (2) والظاهر أنه البزنطي في الصحيح
" عن أبي الحسن الثاني عليه السلام قال: سألته عن الحيطان السبعة التي كانت ميراث
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة عليها السلام فقال: لا إنما كانت وقفا "، وكان
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه، والتابعة
تلزمه فيها فلما قبض جاء العباس يخاصم فاطمة عليها السلام فيها فشهد علي عليه السلام وغيره
أنها وقف على فاطمة عليها السلام وهي الدلال، والعواف، والحسنى، والصافية، وما لأم
إبراهيم والميثب، والبرقة ".
ورواه الصدوق والشيخ مرسلا (3) وفيه بدل والتابعة تلزمه فيها ومن يمر
به، وظاهر الخبر المذكور أنه (صلى الله عليه وآله) وقف هذه الحوائط في
حياته على فاطمة عليها السلام، وشرط الانفاق منها على أضيافه، وما ينوبه وهو المشار إليه

(1) ج 18 ص 444.
(2) الكافي ج 7 ص 47 ح 1.
(3) التهذيب ج 9 ص 145 ح 51، الفقيه ج 4 ص 180 ح 14، الوسائل
ج 13 ص 311 ح 3.
162

بالتابعة أي ما يتبع الانسان مما يهمه ويعينه.
الرابع: المشهور بين الأصحاب أنه لو وقف على الفقراء فصار فقيرا " أو على
الفقهاء فصار فقيها " فإنه يصح له الأخذ منه، ومشاركة المذكورين، وخالف في
ذلك ابن إدريس، فمنع من ذلك لخروجه عنه، فلا يعود إليه.
وفصل العلامة في المختلف تفصيلا " حسنا "، فقال: والوجه عندي أن الوقف
إن انتقل إلى الله تعالى كالمساجد، فإنه للواقف الانتفاع به، كغيره من الصلاة
فيه، وغيرها من منافع المسجد، وإن انتقل إلى الخلق لم يدخل، سواء كان
مندرجا " فيهم وقت الوقف، كما لو وقف على المسلمين أو على الفقهاء وهو منهم، أو لم
يكن، كما لو لم يكن فقيها " وقت الوقف ثم صار منهم، لنا أنه مع الانتقال إلى
الله تعالى يكون كغيره، لتساوي النسبة مع جميع الخلق، فلا معنى لاخراجه
عنه مع ثبوت المقتضي وهو الإباحة السالمة عن معارضة وقفه على نفسه، ومع
الانتقال إلى من يندرج فيهم، أو دخل لمكان دخوله تحت اللفظ العام، فيكون
قد وقف على نفسه وغيره، فيبطل في حق نفسه، فإن العام يتساوى نسبة أفراده
إليه، انتهى.
أقول: ومما يؤيد أن الوقف في هذه الصورة إنما ينتقل إلى الله عز وجل
دون الموقوف عليه، أن الوقف على هذه الكيفية ليس وقفا " على الأشخاص المتصفين
بهذا الوصف، فليس وقفا " على نفسه، ولا على جماعة هو منهم، وإنما هو وقف على
جهة مخصوصة، وهي جهة الفقر والمسكنة مثلا "، وقصد نفع الموصوف بهذه الصفة
لا أشخاص بعينهم، ولهذا أنه لا يشترط قبولهم ولا قبول بعضهم وإن كان ممكنا " لأنه
لم ينتقل إليهم، ولا يجب صرف النماء على جميعهم، بل يجوز أن يخص بعضهم
ولو واحد منهم، ولو كان وقفا " عليهم لوجب ايصاله إلى كل فرد فرد منهم، مثل
ما لو وقف على أولاده ونحوهم.
وإلى هذا التفصيل مال في المسالك أيضا " احتج القائلون بالعموم بأنه وقف
163

صحيح فيتناول كل من يدخل تحت اللفظ عملا " باطلاقه، وهو كغيره والفرق
ظاهر بين الوقف عليه بالتنصيص، والاندراج تحت العموم، ومع الفرق لا يتم
القياس، وأجيب بالمنع من كونه كغيره فإن الفرق واضح، إذ يصح الوقف على
غيره دونه، ولا فرق بين التنصيص والاندراج في الإرادة من اللفظ، والمطلق ممنوع
منه، ويتساوى جزئياته في المنع.
وأنت خبير بأن المسألة لعدم النص لا تخلو من شوب الاشكال وإن كان ما
ذكره العلامة (أجزل الله تعالى اكرامه) لا يخلو من قرب.
ونقل عن الشهيد في بعض فتاويه أنه يشارك ما لم يقصد منع نفسه أو إدخالها
واستحسنه في المسالك، قال: فإنه إذا قصد إدخال نفسه فقد وقف على نفسه، ولم
يقصد الجهة، وإن قصد منع نفسه فقد خصص العام بالنية، وهو جائز فيجب اتباع
شرطه السابق وإنما يبقى الكلام عند الاطلاق، انتهى وهو جيد.
الخامس: اختلف الأصحاب فيما لو شرط الواقف في عقد الوقف عوده إليه
عند الحاجة، والخلاف هنا وقع في موضعين: أحدهما في صحة هذا الشرط
وبطلانه، والمشهور الأول، بل ادعى المرتضى (رضي الله عنه) الاجماع عليه، قال:
ومما انفردت به الإمامية القول بأن من وقف وقفا " جاز أن يشترط أنه إن احتاج
إليه في حال حياته كان له بيعه، والانتفاع بثمنه، وبه قال الشيخ المفيد والشيخ
في النهاية، وابن البراج، وسلار، والمحقق في الشرايع، والعلامة والشهيد الثاني
في المسالك وغيرهم.
وقيل: بالثاني وهو مذهب ابن إدريس، مدعيا " عليه الاجماع، والشيخ في
المبسوط، وابن حمزة، وابن الجنيد، والمحقق في النافع، احتج الأولون على
ما ذكره في المسالك، وقبله العلامة في المختلف بالاجماع المنقول في كلام المرتضى
وعموم " أوفوا بالعقود " (1) " والمؤمنون عند شروطهم " (2) وقول العسكري عليه السلام

(1) سورة المائدة الآية 1.
(2) التهذيب ج 7 ص 371 ح 66، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
164

" الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها " (1).
وخصوص رواية إسماعيل بن الفضل (2) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير؟ وقال: إن
احتجت إلى شئ من مالي أو من غلة فأنا أحق به أله ذلك وقد جعله لله؟ وكيف
يكون حاله إذا هلك الرجل أيرجع ميراثا " أم يمضي صدقته؟ قال: يرجع ميراثا "
على أهله ".
هكذا نقله في المسالك، قال: والمراد بالصدقة في الرواية الوقف لقرينة
الباقي، ولأن الوقف تمليك المنافع، فجاز شرط الخيار فيه كالإجارة، انتهى.
وعندي أن هذا الاستدلال لا يخلو من تطرق الاشكال، أما الاجماع فمعلوم
مما سبق في غير مقام، ولا سيما مع مقابلته هنا بالاجماع الذي ادعاه ابن إدريس،
واجماعات المرتضى (رضي الله عنه) فيما انفرد به من الأقوال كثيرة، وبه يظهر ضعف
الاستناد إليه في جميع الأحكام كما تقدم تحقيقه، وأما عموم " أوفوا بالعقود "
" والمؤمنون عند شروطهم " ففيه أنه لا ريب أن العقد كما يطلق على الصحيح،
يطلق على الفاسد، وكذلك الشرط، فيقال: عقد صحيح، وعقد فاسد، وشرط
صحيح وشرط فاسد، ولا جائز أن يأمر الشارع بالوفاء بالعقد الفاسد، ولا بالشرط
الفاسد، فالأمر بالوفاء بالعقد والشرط إنما يتوجه إلى العقد الصحيح، والشرط
الصحيح، ودعوى كون ذلك صحيحا " هنا محل النزاع كما ذكرنا، فلا يتم
الاستدلال.
وبذلك يظهر أن الاستدلال بهذين الدليلين لا يخرج عن المصادرة، وأما
حديث العسكري عليه السلام فقد قدمنا سابقا " أنه لا يجوز الاستدلال به على اطلاقه،
لتناوله للوقوف الباطلة اتفاقا كالوقف على نفسه، أو على عبد أو حمل أو نحو ذلك

(1) التهذيب ج 9 ص 129 ح 2، الوسائل ج 13 ص 295 ح 2.
(2) التهذيب ج 9 ص 146 ح 54، الوسائل ج 13 ص 297 ح 3.
165

مما اتفقوا على بطلانه، فلا بد من تخصيصه بالوقف الصحيح المستكمل لشرائط
الصحة، ودعوى كونه هنا كذلك محل البحث والنزاع، فيرجع ذلك إلى
المصادرة أيضا ".
وأما حديث إسماعيل بن الفضل فلا أعرف له دلالة على ما ادعوه إن لم يكن
بالدلالة على البطلان أشبه، وذلك فإن كلام السائل قد تضمن السؤال عن شيئين:
أحدهما أن هذا الشرط هل يصح أم لا؟ وإليه أشار قوله في الخبر المذكور " أله
ذلك وقد جعله لله " والثاني أنه ما حكمه بعد موت الرجل، والحال هذه أيرجع
ميراثا أم يبقى وقفا "، والجواب في الخبر إنما وقع عن الثاني خاصة، ولا ريب أن
رجوعه ميراثا " كما أجاب به عليه السلام كما أنه يصح مع صحة الوقف، كما ادعوه،
كذلك يكون صحيحا مع البطلان، كما يقوله الخصم، بل هو أولى بالبطلان،
بل هو الظاهر، فإن الأظهر أن الإمام عليه السلام جعل هذا الجواب جوابا " عن السؤالين
معا "، وإلا فسكوته عن جواب السؤال الأول من غير وجه يدعوه إليه مشكل،
وحينئذ فحكمه عليه السلام برجوعه ميراثا " متضمن للجواب صريحا " عن السؤال الثاني،
وضمنا " عن الأول، بمعنى أن رجوعه ميراثا " كناية عن كونه لم يخرج عن ملكه
في حال حياته، ويؤيده قوله وقد جعله لله.
وقد تقدم في جملة من الأخبار أن ما جعله لله لا رجعة فيه، وحاصله أنه
ليس له الرجوع بما ذكره لكونه قد جعله لله سبحانه، بل هو باطل في حال
حياته وموته، ورجوعه ميراثا " إنما هو لذلك، لأن الحكم بصحته في حال الحياة
باطل، بما ستعرفه في حجة القول الثاني.
ونحو هذه الرواية صحيحة إسماعيل الثانية (1) المتقدمة عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: من أوقف أرضا " ثم قال: إن احتجت إليها فأنا أحق بها، ثم مات الرجل فإنها
ترجع ميراثا " " فإن الظاهر أن رجوعها كاشف عن بطلان الوقف في حياته، وأن

(1) التهذيب ج 9 ص 150 ح 59.
166

رجوعها ميراثا " إنما هو لذلك، وأما ما ذكره والعلامة (رحمة الله عليه) قبله من
قوله ولأن الوقف تمليك للمانع إلى آخره، فهو في البطلان أظهر من أن يحتاج
إلى مزيد بيان، مضافا " إلى أن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة
مجازفة محضة.
استدل القائلون بالقول الثاني على ما نقله في المسالك، بأن هذا الشرط
خلاف مقتضى الوقف، لأن الوقف إذا تم لم يعد إلى المالك على حال، فيكون
فاسدا " ويفسد به العقد.
والعجب أنه في المسالك مع تصديه للانتصار للقول المشهور، والجواب
عما أورد على أدلته ظاهرة القصور لم يتعرض للجواب عن استدلال الخصم
المذكور، وكيف يمكنه الجواب عنه، وهو قد اعترف بذلك في مسألة ما لو
وقف على غيره، وشرط قضاء ديونه أو إدار مؤنته، حيث قال: ثمة وإذا شرط
الواقف قضاء ديونه أو إدار مؤنته أو نحو ذلك، فقد شرط ما ينافي مقتضاه،
فبطل الشرط والوقف، انتهى.
ولا ريب أن مقتضى الوقف الذي ذكره هو عدم العود إلى الواقف بوجه،
وحينئذ فكما أنه يبطله شرط قضاء الديون وإدار المؤنة، كذلك يبطله اشتراط
الرجوع إليه لحاجته وفقره.
وبالجملة فإن الظاهر من الأخبار المتقدمة هو البطلان باشتراط الرجوع
بأحد الوجوه المذكورة في مواضع هذه المسألة، لبطلان هذه الشروط من الأكل
من الوقف، أو شرط قضاء ديونه، أو الرجوع عند الحاجة، لاشتراك الجميع في
العلة المقتضية للمنع، وهو الخروج عن مقتضى الوقف.
قال في المختلف: احتج المانعون بأنه شرط ينافي عقد الوقف، فيبطل
لتضمنه شرطا " فاسدا " والجواب المنع من منافاة الشرط العقد، وإنما يكون
منافيا " لو لم يكن الوقف قابلا " لمثل هذا الشرط، انتهى.
167

وفيه ما عرفت من ثبوت المنافاة، قوله وإنما يكون منافيا " لو لم يكن الوقف
قابلا " لمثل هذا الشرط محض مصادرة، فإن الخصم يدعي أنه غير قابل، وبما حققناه
في المقام يظهر لك أن جميع أجوبتهم عن حجج القول الثاني لا يخرج عن المصادرة،
وأن الأظهر هو بطلان العقد لبطلان الشرط المذكور، كسابقه من الشروط
المتقدمة.
وثانيهما أنه على تقدير القول بصحة العقد كما هو المشهور، فإنه إن
حصلت الحاجة ورجع في الوقف، فإنه يجوز الرجوع، ويبطل الوقف بلا خلاف
بينهم، وإنما الخلاف فيما إذا لم يرجع حتى مات، فهل يبطل الوقف بالموت؟
لصيرورته قبله بالشرط المذكور حبسا "، فيرجع بعد الموت إلى ورثة الواقف، أم
يستمر الوقف على حاله؟ قولان: نقل عن الشيخ وجماعة منهم المحقق والعلامة
الأول، عملا " بالرواية المتقدمة وهي صحيحة إسماعيل بن الفضل الأولى، بناء منهم
على دعوى دلالتها على صحة الوقف وعدم بطلانه بمجرد هذا الشرط، ولكن
هذا الشرط حيث كان منافيا " للدوام الذي هو من شروط الوقوف كان من قبيل الحبس
فيبطل بالموت، وقد عرفت ما فيه، وأنه لا دلالة في الرواية على ما ادعوه.
وقيل: بالثاني وبه صرح المرتضى: (رضي الله عنه) واختاره في المختلف،
قال المرتضى (رضي الله عنه) معترضا " على نفسه في تتمة كلامه الأول بأن هذا شرط
يناقض كونه وقفا " وحبسا " بخلاف غيره من الشروط، وأجاب بأنه غير مناقض، لأنه
متى لم يختر الرجوع فهو ماض على سبيله، ومتى مات قبل العود نفذ أيضا " نفوذا "
تاما " وهذا الحكم ما كان مستفادا " قبل الوقف، فكيف يكون ذلك نقضا " لحكمه
وقد بينا أن الحكم باق، انتهى وهو ظاهر في استمرار صحة الوقف بعد الموت،
قال في المختلف: وهو الوجه عندي وتحمل الرواية على ما إذا رجع.
والتحقيق بالنظر إلى ما قدمناه حيث أنه لا دليل على الصحة هو بطلان الوقف
وأن عوده ميراثا " إنما هو من هذه الحيثية، فلا أثر لهذا الخلاف، لبطلان الأساس
168

المبني عليه، وهو ثبوت الصحة.
وأما جواب المرتضى (رضي الله عنه) عن الاعتراض الذي أورده على نفسه
بأنه متى لم يختر الرجوع فهو ماض على سبيله إلى آخر ما ذكره، ففيه أن
المناقضة لا تترتب على اختياره الرجوع، ووقوع الرجوع بالفعل بل المناقضة حاصلة
بمجرد هذا الشرط، وذكره في العقد، حيث إن مقتضى العقد هو عدم الرجوع في
الموقوف عليه بعد الوقف ومقتضى الوقف هو الجواز فالمناقضة حاصلة، وبها يجب
الحكم ببطلان الشرط، وببطلانه يبطل العقد، وهذا هو دليلهم على بطلان العقد
فيما لو شرط قضاء ديونه، أو إدار مؤنته، كما عرفت من عبارة المسالك المتقدمة
وبه يظهر لك ما في جوابه (قدس سره) من الضعف، وإن جمد عليه العلامة في المختلف
حيث أنه موافق لما اختاره والله العالم.
المسألة الخامسة: في جملة من الشروط زيادة على ما تقدم: منها ما لو شرط
إدخال من يريد مع الموقوف عليهم، وقد صرحوا بالجواز سواء كان الوقف
على أولاده أو غيرهم، وعللوا ذلك بأن هذا الشرط لا ينافي مقتضى الوقف، فإن
بنائه على إدخال من سيوجد، ومن سيولد من الموجودين وقت الوقف، واشتراط
إدخال من يريد إدخاله في معناه بل أضعف، لأنه قد يريد، فيكون في معنى اشتراط
دخوله، وقد لا يريد فيقي الوقف على أصله، فإذا جاز الأول اتفاقا " جاز الآخر
كذلك أو بطريق أولى.
قالوا: وما يقال من أن إدخال من يريد يقتضي نقصان حصة الموقوف عليهم
فيكون ابطالا للوقف في ذلك البعض غير قادح، لأن ذلك وارد في شرط إدخال
المولود ونحوه، ولأن العقد لما تضمن الشرط لم يكن للموقوف عليه حق إلا مطابقا له،
فلا يتغير، ولأن الوقف لازم في حق الموقوف عليه في الجملة، وإنما المختلف
الحصة، وذلك غير قادح، كما لو وقف على بطون فزادت تارة، ونقصت أخرى.
أقول: ويمكن الاستدلال على أصل المسألة بالأخبار الآتية في المقام الدالة
169

على جواز الادخال من غير شرط، كصحيحة علي بن يقطين (1) " قال: سألت
أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله، ثم يبدو له بعد
ذلك أن يدخل معه غيره من ولده قال: لا بأس بذلك " ونحوها غيرها مما سيأتي
إن شاء الله تعالى في المسألة.
والتقريب فيها أنه إذا جاز الادخال من غير شرط كما هو مدلول الأخبار
المذكورة فمع الشرط بطريق أولى.
وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال، لعدم النص الواضح في
هذا المجال، وما ذكروه من التعليل لا يصلح لتأسيس حكم شرعي كما عرفت في
غير موضع، وما ذكرنا من الأخبار غير خال من الاشكال كما سيأتي إن شاء الله تعالى
بيانه والله العالم.
ومنها ما لو شرط اخراج من يريد، وقد صرحوا هنا ببطلان الوقف،
قال في المسالك: وهو عندنا موضع وفاق، ثم علله زيادة على ذلك بأن وضع
الوقف على اللزوم، وإذا شرط اخراج من يريد من الموقوف عليهم كان منافيا "
لمقتضى الوقف، إذ هو بمنزلة الخيار، وهو باطل، انتهى.
وهو جيد إلا أن فيه ردا " عليه فيما اختاره من صحة الوقف مع اشتراط
عوده إليه، عند الحاجة، فإنه لا يخفى أن اللزوم الذي هو وضع الوقف عليه كما
يعتبر من جهة الموقوف عليه، بحيث لا يجوز اخراج بعضهم، كذلك يعتبر من
حيث حبس الوقف عليهم، فلا يجوز للواقف الرجوع إليه بوجه، خصوصا " مع
اقترانه بالقربة، كما قدمنا بيانه من اشتراط الوقف بذلك، وقد تكاثرت الأخبار
بأن ما كان لله تعالى فلا رجعة فيه.
ومنها ما لو شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى من سيوجد، والمشهور هنا
البطلان، بل ادعى عليه الشيخ الاجماع، وذهب العلامة في التذكرة إلى صحة

(1) التهذيب ج 9 ص 137 ح 22، الوسائل ج 13 ص 300 ح 1.
170

الشرط المذكور، مدعيا " عليه الاجماع، وفي القواعد استشكل الحكم بالبطلان،
ومنشأ الاستشكال المذكور كما ذكره في المسالك من بناء الوقوف على اللزوم،
فإذا شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى غيره فقد شرط خلاف مقتضاه، فيبطل
الشرط والعقد، ومن عموم (1) " المؤمنون عند شروطهم " وقول العسكري عليه السلام (2)
المتقدم ذكره " من أن الوقف على حسب ما يوقفها أهلها " وأنه يجوز الوقف
على أولاده سنة، ثم على المساكين.
أقول: قد عرفت ضعف الوجه الثاني من الاستدلال بالخبرين المذكورين
وأما جواز الوقف على أولاده سنة ثم على المساكين، فصحته متوقفة على قيام دليل
عليه، ومع تسليم صحته، فوجه الفرق ظاهر، لأن مقتضى ما نحن فيه هو أنه
بالوقف عليهم يلزم بقاؤه ما وجدوا كما هو مقتضى الوقف، وشرط النقل مناف
له، وأما الوقف على أولاده سنة فليس كذلك، لأنه إنما وقف عليهم مدة معينة،
فلا ينافيه التعقيب بالوقف على المساكين.
وبما ذكرنا يظهر لك ما في دعواه في التذكرة الاجماع على الصحة، مع
استشكاله في القواعد، وأما ما قيل في تعليل الصحة زيادة على ما ذكر من أنه
يصح الوقف باعتبار صفة للموقوف عليه كالفقر، فإذا زالت انتقل عنه إلى غيره
إن شرط، وهو في معنى النقل بالشرط، ونقل عن الدروس أنه استقر به.
ففيه أولا " ما عرفت في غير موضع من أن بناء الأحكام الشرعية على مثل
هذه الاعتبارات الوهمية والتخريجات العقلية، مع استفاضة الآيات والأخبار
بالمنع من القول بغير علم ودليل واضح من كتاب أو سنة مجازفة محضة في
الأحكام الشرعية، نسئل الله سبحانه المسامحة لنا ولهم من زلل الأقدام، وهفوات
الأقلام.

(1) التهذيب ج 7 ص 371 ح 66، الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
(2) الكافي ج 7 ص 37 ح 34، الوسائل ج 13 ص 295 ح 2.
171

وثانيا " أنه مع الاغماض عن ذلك فوجه الفرق بين الموضعين ظاهر مما
قدمناه في التنبيه الرابع من المسألة السابقة (1)، وملخصه أن الوقف على الفقراء
إنما هو وقف على الجهة كالوقف على المساجد، والوقف هنا ينتقل إلى الله تعالى،
ويشترك فيه كل من اتصف بذلك العنوان حتى الواقف نفسه، فلا يحصل هنا نقل
عن الموقوف عليه، لأنه ليس ثمة موقوفا " عليه، وإنما يصير مراعا " ببقاء الصفة
المذكورة من الفقر ونحوه، فإذا زالت كان في حكم موت الموقوف عليه،
بخلاف ما نحن فيه، فإنه بالوقف عليه يصير ملكا له، ونقله عنه بالاختيار مناف
لتمليكه له بالوقف، وبذلك يظهر لك أن الحق هو بطلان الوقف بهذا الشرط
والله العالم.
ومنها ما لو وقف على أولاده الأصاغر، فإنه يجوز أن يشرك معهم غيرهم
بالشرط في العقد، والظاهر أنه لا خلاف فيه وإنما الخلاف في أنه هل يجوز مع
عدم الشرط أم لا؟ المشهور الثاني، وقال الشيخ في النهاية بالأول، قال: إذا
وقف على ولده الموجودين وكنوا صغارا " ثم رزق بعد ذلك أولاد جاز أن يدخلهم
معهم فيه، ولا يجوز أن ينقله عنهم بالكلية إليهم، ووافقه ابن البراج، إلا أنه
قيده بعدم قصره على السابقين، قال: الوقف يجب أن يجري على ما يقفه الواقف،
ويشترط فيه، وإذا وقف على ولد موجود وهو صغير، ثم ولد له بعده غيره، وأراد
أن يدخله في الوقف مع الأول كان جائزا "، إلا أن يكون قد خص الولد
الموجود بذلك، وقصره عليه، وشرط أنه له دون غيره ممن عسى أن يرزقه من
الأولاد، فإنه لا يجوز له أن يدخل غيره في ذلك.
والاختلاف في هذه المسألة ناش من اختلاف الأخبار فيها، فمما تدل
على القول المشهور صحيحة علي بن يقطين (2) " عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته

(1) ص 163
(2) التهذيب ج 9 ص 137 ح 22، الوسائل ج 13 ص 300 ح 1.
172

عن الرجل يتصدق ببعض ماله على بعض ولده ويبينه لهم، أله أن يدخل معهم من
ولده غيرهم بعد أن أبانهم بصدقته؟ قال: ليس له ذلك إلا أن يشترط أنه من
ولده فهو مثل من تصدق عليه فذلك له ".
ويؤيدها رواية جميل (1) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام الرجل يتصدق على
ولده بصدقة وهم صغار، أله أن يرجع فيها قال: لا، الصدقة لله " والتقريب فيها
أن إدخال الغير نوع من الرجوع فيها، وفيه ما فيه.
ومما تدل على القول الآخر صحيحة علي بن يقطين الأخرى (2) قال:
سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله، ثم
يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده، قال: لا بأس بذلك ".
ورواية محمد بن سهل عن أبيه (3) " قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن
الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه
غيره من ولده؟ لا بأس به ".
وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (4) " عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل
يجعل لولده شيئا وهم صغار ثم يبدو له أن يجعل معهم غيرهم من ولده؟ قال:
لا بأس ".
وما رواه في كتاب قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن (5) عن علي بن جعفر
" عن أخيره موسى عليه السلام قال: سألته عن رجل تصدق على ولده بصدقة ثم بدا له أن
يدخل غيره فيه مع ولده أيصلح ذلك؟ قال: نعم، يصنع الوالد بما ولده ما أحب ".
وأنت خبير بأن ايراد الأصحاب هذه الأخبار في هذا المقام دليل على فهمهم

(1) التهذيب ج 9 ص 137 ح 25، الوسائل ج 13 ص 298 ح 2.
(2) التهذيب ج 9 ص 137 ح 22.
(3) التهذيب ج 9 ص 136 ح 21 و ص 135 ح 19.
(4) التهذيب ج 9 ص 136 ح 21 و ص 135 ح 19.
(5) قرب الإسناد ص 119، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 301
ح 1 و 2 و 3 و ص 302 ح 5.
173

الوقف من اطلاق الصدقة، ويؤيده ما قدمناه من الأخبار الظاهرة في أن الصدقة
في الصدر الأول إنما هي بمعنى الوقف، واستعمالها في هذا المعنى المشهور بين
الفقهاء إنما هو محدث، وهي بهذا المعنى إنما تدخل في النحل والهبة، كما في
زمنه (صلى الله عليه وآله).
بقي الكلام في الجمع بين هذه الأخبار، وهو لا يخلو من الاشكال، إلا أنه
يمكن أن يقال: إن رواية جميل فالظاهر أنه لا دلالة فيها على ما نحن فيه، ولا
تعلق لها به، إذ المتبادر من الرجوع في الصدقة إنما اخراجها عما فعله، وجعلها
ملكا "، كما كان أولا، فلا يكون من محل البحث في شئ، وكذا صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج، فإنها غير صريحة بل وظاهرة في محل البحث، لأن
جعله لولده أعم من أن يكون بطريق لازم، أم لا كالوصية به، أو الصدقة مع
عدم القربة، فيمكن حمله على أحد الوجهين المذكورين، ولا يكون من محل
البحث في شئ.
وأما صحيحة علي بن يقطين الأولى، فهي معارضة بصحيحة الثانية، وجمع
بينهما في المسالك بأمرين أحدهما حمل الصحيحة الأولى على ما إذا قصر الوقف
على الأولين، كما ذكره القاضي ابن البراج فيما قدمنا من نقل عبارته، ويشعر به
قوله بعد أن بأنهم، فتحمل الثانية على ما لو لم يشترط ذلك كما يدل عليه اطلاقه،
وثانيهما حمل النفي في الأولى على الكراهة، ثم قال: وكلاهما متجه، إلا أن
الأول من التأويلين أوجه.
أقول: الذي يخطر ببالي العليل ويختلج بفكري الكليل إن ما ذكره من
التأويل الأول الذي استوجهه وجعل عليه المعول لا يخلو من خدش، وذلك فإنه
متى حمل الخبر على ما ذكره من قصر الوقف على الأولين، مع أنه عليه السلام قال: في
الجواب ليس له ذلك إلا أن يشترط أن من ولد له فهو مثل من تصدق عليه،
فاللازم من ذلك هو عدم التعرض لحكم الاطلاق في الرواية، مع أنه محل البحث.
174

وموضع الخلاف المحتاج إلى الدليل، لأن حاصل معنى الخبر على ما ذكره أنه متى
قصر الوقف على الأولين فليس له أن يدخل معهم غيرهم إلا أن يشترط الادخال،
يعني بأن لا يقصره عليهم ويشترط، فيكون الاستثناء منقطعا "، فالمعلوم منه إنما
هو حكم ما لو قصره عليهم، فإنه لا يجوز الادخال، وحكم ما لو اشتراط فإنه يجوز
الادخال، والحكمان مما لا خلاف فيها ولا اشكال، وأما لو لم يقصر الحكم عليهم
ولا اشتراط الادخال فحكمه غير معلوم من الخبر، وهو محل البحث كما عرفت،
ومحتاج إلى الاستدلال.
وما ذكره (قدس سره) معنى قريب في الخبر، إلا أنه يخرج به عن محل
البحث كما عرفت، وتبقى صحيحته الأخرى خالية من المعارض، فإن ظاهرها
الاطلاق، بمعنى أنه تصدق ولم يقصر ولم يشترط وقد أجاب عليه السلام بأنه لا بأس
بالادخال، الحال هذه ونحوها الروايات الأخر، وعلى هذا يبقى القول المشهور
عاريا " عن الدليل، لأن دليله كما عرفت منحصر في الروايتين المذكورتين، وهما
صحيحة علي بن يقطين الأولى، ورواية جميل، وقد عرفت ما فيهما.
ومنه يظهر قوة قول الشيخ في النهاية، لدلالة الروايات الباقية عليه، إلا أنه يبقي الاشكال في هذا القول، ورواياته، فإن مقتضى الوقف اللزوم، حيث أنه
من العقود اللازمة متى تمت شرائطه، وقضية اللزوم تمنع جواز الادخال، ولهذا
حمل الشيخ وغيره خبر محمد بن سهل عن أبيه على عدم القبض، وهذا الحمل
يجري أيضا " في صحيحة علي بن يقطين الثانية، ورواية قرب الإسناد، وأما رواية
عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة في عداد هذه الأخبار فقد عرفت ما فيها،
وعلى هذا فيمكن حمل صحيحة علي بن يقطين الأولى على ما إذا أقبضهم ولعل
المراد بالإبانة في الخبر المذكور ذلك، بمعنى أنه متى أبانهم بالوقف وأقبضهم
إياه فليس له الادخال إلا مع الشرط في أصل العقد، وعلى هذا تجتمع الأخبار
المذكورة.
175

وبالجملة فالمسألة غير خالية من الاشكال، وإن كان القول المشهور هو
الأوفق بالقواعد الشرعية، من حيث اقتضائها لزوم الوقف بالعقد، وأما الاستدلال
على ذلك بشئ من هذه الأخبار ففيه ما عرفت من تعدد الاحتمال في الصحيحة
التي هي أظهر ما استدل به على القول المذكور، وأما غيرها فقد عرفت ما فيه،
وغاية ما استدل به العلامة في المختلف لذلك قول العسكري عليه السلام المتقدم، وقد
تقدم ما فيه، ورواية جميل المتقدمة، وقد عرفت ما فيها، والله العالم.
المطلب الثالث في شرائط الموقوف:
يشترط فيه أن يكون عينا " مملوكة، يصح الانتفاع بها مع بقائها، ويصح
اقباضها، والكلام هنا في مواضع:
الأول: أن يكون عينا "، والمراد بالعين ما لم يكن دينا " ولا منفعة ولا
مبهما "، لأن العين تطلق في مقابلة كل من هذه الثلاثة، فأما الوجه في عدم
صحة وقف الدين، فلأن الوقف كما تقدم عبارة عن تحبيس الأصل وتسبيل
المنفعة وذلك يقتض أمرا موجودا في الخارج يحكم عليه بذلك والدين في
الذمة أمر كلي لا وجود له في الخارج، فيكون وقفه قبل التعيين من قبيل وقف
المعدوم، ومن ثم منعوا من جواز هبة الدين لغير من هو عليه لذلك، كذا قالوا
والأظهر في تعليل ذلك أنما هو ما تقدمت الإشارة إليه سابقا " من أن الوقف
يقتضي نقل الوقف إلى الموقوف عليه، فيجب الوقوف فيه على ما علم من الشارع
كونه ناقلا، وما علم كونه قابلا " للانتقال بذلك، ولم يعلم من الأخبار تعلق
الوقف بالديون ونقلها به والأصل العدم إلى أن يثبت الدليل على ذلك، وإنما
علم منه العين خاصة، وأما الوجه في عدم جواز وقف المنفعة فعلل بأن وقفها
مناف للغاية المطلوبة من الموقوف، وهي الانتفاع بها مع بقاء عينها، والانتفاع
بالمنفعة يستلزم استهلاكها شيئا فشيئا، ولجواز التصرف في العين، لأنها لم يتعلق
176

بها الوقف، فتتبعها المنفعة فيفوت الغرض من الوقف، والأظهر عندي في الاستدلال
هو ما تقدم ذكره،
وأما الوجه في عدم الجواز في وقت المبهم سواء استند إلى معين كفرس
من هذه الأفراس، أم إلى غير معين كفرس بقول مطلق فلان مرجع ذلك إلى
أمر كلي غير موجود في الخارج كما تقدم في الدين، وإنما يتعين بالتعيين،
والأظهر هنا أيضا هو الرجوع إلى الدليل المتقدم، وإنما صرنا إلى مخالفة
الأصحاب في هذه الأبواب فيما هنا وما سلف في غير باب، لما عرفت من أن الأحكام الشرعية لا تبني على مثل هذه التعليلات العقلية، وإنما تبنى على الأدلة الشرعية
وأصالة العدم قاعدة كليه واضحة جلية، لا نزاع فيها ولا شبهة تعتريها، إذ لا
تكليف إلا بعد البيان، ولا مؤاخذة إلا بعد إقامة البرهان كما هو مسلم بين جملة
العلماء الأعيان، فالعلة في الجميع إنما هو ما ذكرناه، ويخرج ما ذكروه من
التعليلات شاهدا ووجها لما ذكرناه.
الثاني: أن تكون مملوكة وهو إما بمعنى صحة تملكها بالنظر إلى
الواقف فما لا يصح تملكه لا يصح وقفه، فلا يصح وقف الحر ولو رضي بذلك،
ولا يصح وقف الخمر والخنزير من المسلم على مسلم أو كافر، ويصح من الكافر
على مثله كما صرحوا به، ويصح وقف الكلب المملوك، قال في المسالك:
والمراد بالمملوك أحد الكلاب السبعة.
أقول: لا أعرف من الكلاب المذكورة سوى كلب الصيد، وكلب الماشية
وكلب الزرع، وكلب الحائط، وكلب الدار، هذا هو المصرح به في كلامهم،
وقد تقدم في المقدمة الثالثة من المقدمات المذكورة في صدر كتاب التجارة (1)
تحقيق ما يملك وما لا يملك منها، وبينا هنا أن المستفاد من الأخبار هو بيع
كلب الصيد خاصة، ولهم فيما عداه اختلاف وأقوال قد قدمنا نقلها ثمة.

(1) ج 18 ص 79.
177

وبما ذكرنا يظهر أنه لا يجوز وقف شئ من الكلاب إلا كلب الصيد لأنها
غير مملوكة، والذي ثبت تملكه منها إنما هو هذا الفرد خاصة، ومجرد أن لها
منفعة لا يكفي في صحة وقفها مع كونها غير مملوكة، ولو صح تملكها لصح بيعها
فكما امتنع البيع لعدم دخولها في الملك امتنع الوقف لذلك، وقد عرفت أن
المعلوم من الأخبار هو بيع الصيد بخصوصه.
وأما بمعنى كونه ملكا للواقف بالفعل فلو لم يكن كذلك لم يصح وقفه،
وعلى هذا لا يصح الوقف فضولا وإن أجاز المالك كما هو أحد القولين في المسألة
وقيل: يصح بإجازة المالك، وتوقف في التذكرة والدروس.
وكلماتهم في هذا المقام عليلة لا تصلح لتأسيس الأحكام، وقد عرفت في
كتاب البيع (1) بطلان التصرف الفضولي بيعا كان أو وقفا أو غيرهما، لأنه تصرف
في مال الغير بغير إذنه وهو قبيح عقلا ونقلا، وقد مرت الروايات المصرحة بذلك.
وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة: إن أريد بالمملوكية صلاحيتها بالنظر
إلى الواقف، فهو شرط الصحة، وإن أريد به المالك الفعلي فهو شرط اللزوم،
والأولى أن يراد به الأعم، انتهى ملخصا.
أقول: هذا التفصيل مبني على مذهبه، وقوله بصحة العقد الفضولي، وأما على ما
اخترناه من القول ببطلانه فالأمر واحد، وهو أنه شرط في الصحة في كلا الاحتمالين
وما ذكره من أن الأولى أن يكون المراد به الأعم جيد، إذ كما لا يصح بالنسبة
إلى ما لا يصح تملكه، كذا لا يصح بالنسبة إلى ما لا يملكه بالفعل.
الثالث: أن يصح الانتفاع بها مع بقائها، ولا ريب أنه يجب أن يكون
لذلك العين نفع محلل مع بقائها فلو وقف ما لا نفع فيه بالكلية، أو كان الانتقاع
به محرما، أو كان الانتفاع موجبا لذهاب عينه كالخبز والفاكهة والطعام بطل،
ولا يشترط في الانتفاع كونه في الحال: فيصح وقف العبد الصغير والدابة الصغيرة،

(1) ج 18 ص 377.
178

ولا يشترط كون العين مما تبقى مؤبدا فيصح وقف العبد والثوب وأثاث البيت
والقفار، وضابطه ما عرفت من أنه ما يصح الانتفاع به منفعة محللة مع بقائه،
والتأبيد المشترط في الوقف إنما هو بمعنى دوامه بدوام وجود العين الموقوفة.
الرابع: أنه لا بد من اقباضها لما تقدم من أن شرط صحة الوقف القبض،
فلو لم يحصل القبض بطل، فلا يجوز وقف الآبق، ونحوه البعير الشارد، قيل:
ويشكل بأن القبض المعتبر في صحة الوقف ليس بفوري، وحينئذ فلا مانع من
وقوع الصيغة صحيحة، وصحة الوقف مراعاة بقبضه بعد ذلك وإن طال الزمان،
فإن تعذر بطل، وهذا بخلاف البيع، فإنه معارضة من الجانبين، وشرطه إمكان
تسليم العوضين في الحال بالنص، فلا يتعدى إلى غيره، للأصل، ولو قدر الموقوف
عليه على تحصيله فالأولى الصحة، لزوال المانع ولا عبرة بالضميمة هنا، لأن شرط
الوقف القبض، ولا يكفي قبض بعض الموقوف، وهو هنا الضميمة عن الباقي، وعلى
هذا فبين حكم البيع والوقف بالنسبة إلى الآبق عموم وخصوص من وجه، انتهى
وهو جيد.
الخامس: هل يجوز وقف الدنانير والدراهم أم لا؟ قولان: مبنيان على
وجود المنفعة لهما مع بقاء عينهما وعدمه، ونقل في المبسوط الاجماع على المنع
من وقفهما إلا من شذ، وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك في كتاب العارية (1)
وأوضحنا فيه بالأخبار الواردة عنهم عليهم السلام حصول المنافع منهما مع بقاء عينهما،
فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه والله العالم.
الحاق:
الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في صحة وقف المشاع كغيره مما كان
متميزا، والقبض موصوف على إذن الواقف والشريك، وتدل على ذلك جملة من

(1) ج 21 ص 507.
179

الأخبار وإن كانت بلفظ الصدقة، لما عرفت آنفا من التعبير بهذا اللفظ عن الوقف
وأن أكثر استعماله قديما إنما هو في هذا المعنى.
ومنها صحيحة الحلبي (1) (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن دار لم تقسم
فتصدق بعض أهل الدار بنصيبه من الدار؟ قال: يجوز، قلت: أرأيت إن كان هبة؟
قال: يجوز).
ورواية أبي بصير (2) (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن صدقة ما لم تقسم ولم
تقبض؟ فقال: جائزة إنما أراد الناس النحل فأخطأوا).
قوله صدقة ما لم تقسم ولم تقبض) يعني ما كان مشتركا قبل القسمة، أو
اشتراه مثلا ولم يقبضه، أو لم يقبضه بعد القسمة، وأما قوله (وإنما أراد الناس إلى
آخره) فهو لا يخلو من خفاء وغموض، واحتمل فيه بعض الأصحاب احتمالات
بعيدة، إلا أنه من المحتمل قريبا بمعونة ما قدمناه في الأمر التاسع من المسألة
الثالثة أن المراد إنما أراد الناس من لفظ الصدقة في مثل صدقة الدار النحلة والهبة
أخطأوا في ذلك بل المراد به الوقف، كما يشير إليه قوله عليه السلام فيما قدمنا أن
الصدقة محدثة، إنما كانت النحلة والهبة وتسمية بعض أفرادها، هو ما كان مقرونا
بالقربة صدقة، محدث من العامة، وإنما الصدقة معنى الوقف.
ومنه يعلم أن التقسيم الذي ذكره أصحابنا هنا من الوقف والصدقة والهبة،
إنما هو من العامة تبعهم فيه الأصحاب، وإلا فليس إلا الوقف المعبر عنه بالصدقة
في أخبار هذا الباب والنحلة والهبة، وهذه الصدقة التي جعلوها قسيما هنا إنما هي
من جملة أفراد النحل والهبات.
وما ذكرناه وإن لم يوافق كلامهم (رضوان الله عليهم) إلا أنه ظاهر الأخبار
المذكورة، وعسى يأتي له مزيد تحقيق انشاء الله تعالى في باب الهبة والنحلة.

(1) الكافي ج 7 ص 34 ح 24 و ص 31 ح 6، التهذيب ج 9 ص 133
ح 11 و ص 135 ح 18، الوسائل ج 13 ص 309 ح 1 و 2.
180

ومنها رواية زرارة (1) عن أبي جعفر عليه السلام قال: في الرجل يتصدق بالصدقة
المشتركة قال: جائز) ورواية الفضل بن عبد الملك (2) (عن أبي عبد الله عليه السلام في
رجل تصدق بنصيب له في دار على رجل قال: جائز وإن لم يعلم ما هو، والله العالم.
المطلب الرابع في شرائط الواقف:
والمشهور أنه يعتب رفيه البلوغ والعقل، وجواز التصرف، والكلام هنا يقع
في موضعين: أحدهما في وقف من بلغ عشرا، وفيه قولان: استدل على الصحة
برواية زرارة (3) عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا أتي على الغلام عشر سنين فإنه يجوز
له في ماله ما أعتق، وتصدق وأوصى على حد معروف وحق فهو جائز).
والظاهر أن معنى آخر للحدث أن كل ما صنع على وجه المعروف، فهو جائز
والرواية وإن كان موردها الصدقة، إلا أن الشيخ وجماعة عدوه إلى الوقف
نظرا إلى أنه بعض أفراد الصدقة بالمعنى الأعم.
أقول: ظاهر الخبر كما عرفت أن كل ما صنع على وجه المعروف فهو جائز،
وحينئذ فيدخل فيه الوقف كما عرفت، ويؤيد الرواية المذكورة موثقة جميل بن
دراج (4) عن أحدهما عليه السلام قال يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته،
ووصيته وإن لم يحتلم.
وموثقة الحلبي ومحمد بن مسلم (5) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن
صدقة الغلام ما لم يحتلم قال: نعم إذا وضعها في موضع الصدقة).

(1) الكافي ج 7 ص 34 ح 26، التهذيب ج 9 ص 137 ح 23، الوسائل
ج 13 ص 309 ح 4.
(2) التهذيب ج 9 ص 152 ح 68، الوسائل ج 13 ص 309 ح 3.
(3) الكافي ج 7 ص 28 ح 1، الفقيه ج 4 ص 145 ح 2، الوسائل ج 13
ص 321 ح 1.
(4) التهذيب ج 9 ص 182 ح 8، الوسائل 13 ص 321 ح 2
(5) التهذيب ج 9 ص 182 ح 9، الوسائل ج 13 ص 321 ح 3.
181

قال المحقق في الشرايع وفي وقف من بلغ عشرا تردد، والمروي جواز
صدقته، والأولى المنع، لتوقف رفع الحجر على البلوغ والرشد، وقال في المسالك
بعد ايراد رواية زرارة وقريب منها رواية سماعة: ومثل هذه الأخبار الشاذة
المخالفة لأصول المذهب، بل واجماع المسلمين لا تصلح لتأسيس هذا الحكم.
أقول: يمكن أن يقال: إن ما دل على الحجر قبل البلوغ والرشد وهو المشار
إليه في كلامه في المسالك بأصول المذهب مخصص بهذه الأخبار التي ذكرناها،
ونحوها غيرها مما ورد في الوصية، كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله (1) (قال:
قال أبو عبد الله عليه السلام: (وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيته) وفي معناها روايات
عديدة في الوصية، ونسبة جميع هذه الروايات إلى الشذوذ بعيدا جدا.
نعم لو كانت المخالفة منحصرة فيما نقله من الروايات لأمكن ما ذكره، إلا
أنك قد عرفت كثرة الأخبار بما يوجب الخروج عن تلك الأصول المذكورة
فيجب التخصيص، ولو أنه ناقش بعدم صراحة الرواية في الوقف كما هو المدعى كان
كلامه أقرب إلى القبول، إلا أنك قد عرفت أن اطلاق الصدقة على الوقف شايع،
ذايع في الأخبار، بل هو الأصل في الاطلاق، وإنما الاطلاق على ما ذكروه مستحدث
وبما ذكرنا تظهر قوة ما ذهب إليه الشيخ وأتباعه في هذه المسألة، والله العالم.
وثانيهما أنه صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز للواقف
أن يجعل النظر لنفسه في الوقف ولغيره أيضا، ولو لم يعين كان النظر إلى الواقف،
أو الموقوف عليه إن قلنا بانتقال الملك إليه، وإلا فإلى الحاكم الشرعي، والذي
تدل على الأول الأخبار الدالة على وجوب الوفاء بالشروط إلا ما حلل حراما
أو حرم حلالا (2) (وعلى الثاني مضافا إلى عموم ما دل على وجوب الوفاء

(1) التهذيب ج 9 ص 181 ح 1، الوسائل ج 13 ص 429 ح 3.
(2) الكافي ج 5 ص 169 ح 1 و ص 404 ح 9، التهذيب ج 7 ص 22 ح 10
و ص 467 ح 80، الوسائل ج 12 ص 353 ح 5.
182

بالشروط خصوص التوقيع الخارج من الناحية المقدسة (1) كما تقدم، (وفيه
وأما ما سألت من أمر الرجل الذي يجعل لنا حيتنا ضيعة يسلمها من قد يقوم بها
ويعمرها ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها ويجعل ما يبقى من الدخل لنا حيتنا
فإن ذلك لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها إنما لا يجوز ذلك لغيره) الحديث.
ويدل على ذلك خبر صدقة فاطمة عليها السلام بحوائطها حيث جعلت النظر فيه
لعلي عليه السلام ثم الحسن ثم الحسين عليهما السلام ثم الأكبر من ولدها روى في الكافي والفقيه
والتهذيب عن أبي بصير (2) وهو ليث المرادي بقرينة عاصم بن حميد عنه، فيكون
الخبر صحيحا.
قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ألا أقرئك وصية فاطمة عليها السلام؟ قال: قلت: بلى،
قال: فأخرج حقا أو سفطا فأخرج منه كتابا فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وآله أوصت بحوائطها
السبعة: العواف، والدلال، والبرقة، والميثب، والحسني، والصافية، وما لأم
إبراهيم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فإن مضى علي فإلى الحسن فإن مضى الحسن فإلى
الحسين فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي شهد الله على ذلك، والمقداد بن
الأسود، والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب عليه السلام.
وقد تقدم ما يدل أن هذه الحوائط كانت وقفا (3)، وكان رسول الله
(صلى الله عليه وآله) يأخذ منها ما ينفق على أضيافه، وأن العباس خاصم
فاطمة عليها السلام فيها بعد موته، فشهد علي عليه السلام وغيره أنها كانت وقفا على فاطمة.
ومنها حديث وقف علي عليه السلام أمواله التي له في ينبع (4) وقد تقدم شطر منه

(1) الوسائل ج 13 ص 300 ح 8.
(2) الكافي ج 7 ص 48 ح 5 و ص 449 ح 6، التهذيب ج 9 ص 144 ح 50
الفقيه ج 4 ص 180 ح 13، الوسائل ج 13 ص 311 ح 1.
(3) الكافي ج 7 ص 47 ح 1 و ص 48 ح 7 التهذيب ج 9 ص 145 ح 51 و ص 146 ح 55، وهما في الوسائل ج 13 ص 311 ح 2 و ص 312 ح 4
(4) الكافي ج 7 ص 47 ح 1 و ص 48 ح 7 التهذيب ج 9 ص 145 ح 51 و ص 146 ح 55، وهما في الوسائل ج 13 ص 311 ح 2 و ص 312 ح 4
183

(وفيه أنه يقوم على ذلك الحسن عليه السلام يأكل منه بالمعروف، ثم ذكر بعده الحسين عليه السلام
ثم من بعده إلى من يختاره الحسين عليه السلام ويثق به الحديث ملخصا).
ومنها صدقة الكاظم (1) عليه السلام بأرضه، وقد جعل الولاية فيها إلى الرضا عليه السلام
وابنه إبراهيم ثم علي من بعدهم على الترتيب المذكور في الخبر، هذا كله
مع الشرط لنفسه أو لغيره.
وأما لو لم يعين فإنه يبني القول في ذلك هنا على أنه هل ينتقل الوقف عن
الواقف بالوقف أم لا؟ وعلى الأول فهل ينتقل إلى الموقوف عليه مطلقا، أو لله
سبحانه مطلقا، أو للموقوف عليه إن كان على جهة عامة؟ وعلى الأول والثالث
فالنظر لكل منهما، وعلى الثاني والرابع فالنظر للحاكم، حيث لا يوجد الخاص
ويصير الواقف في ذلك كالأجنبي، وسيأتي الكلام في تحقيق المسألة المذكورة
إن شاء الله تعالى.
بقي في المسألة أمور يجب التنبيه عليها، الأول متى قلنا إن النظر للواقف
ابتداء أو مع شرطه، فهل تشترط عدالته أم لا؟ ظاهر الأصحاب الثاني، وبه قطع
في التذكرة مع احتمال اشتراطها، لخروجه بالوقف عن الملك، ومساواته
لغيره، فلا بد من اعتبار العدالة في التولية، كما تعتبر في غيره.
وعلل العدم بأنه إنما نقل ملكه عن نفسه على هذا الوجه، فيتبع شرطه
والمسألة محل توقف لعدم النص، أما بالنسبة إلى غيره ممن شرطه في العقد أم لم
يشترطه فلا بد من العدالة فيه، لا أعرف خلافا فيه، ويدل عليه ما في خبر صدقة
أمير المؤمنين (2) عليه السلام بماله الذي في ينبع حيث قال في آخره بعد ذكر الحسن
والحسين عليهما السلام كما قدمنا الإشارة إليه، قال فإن حدث بحسن وحسين حدث فإن

(1) الكافي ج 7 ص 53 ح 8، التهذيب ج 9 ص 149 ح 57، الوسائل
ج 13 ص 314 ح 5
(2) الكافي ج 7 ص 49 ح 7، التهذيب ج 9 ص 146 ح 55، الوسائل
ج 13 ص 312 ح 4
184

الآخر منهما ينظر في بني علي، فإن وجد فيهم من يرضى بهديه واسلامه وأمانته،
فإنه يجعله إليه إن شاء، وإن لم ير فيهم بعض الذي يريد فإنه يجعله إلى رجل
من آل أبي طالب يرضى به، فإن وجد آل أبي طالب قد ذهب كبرائهم، وذووا
آرائهم فإنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم) الحديث.
قالوا: فإن لم يكن عدلا أو خرج عنها خرج عن النظر، وكان الحكم كما لو
أطلق، ولو عادت العدالة عاد إلى النظر إن كان مشروطا من الواقف، وإلا فلا،
قالوا: ويشترط فيه مضافا إلى ذلك الاهتداء إلى كيفية التصرف كما يعتبر ذلك
في الوصي.
الثاني قد عرفت أنه متى صرح بالنظر للغير صح إلا أنه لا يجب على
ذلك الغير القبول، ولو قبل لم يجب عليه الاستمرار، لأنه في معنى التوكيل،
كذا صرح به في الدروس.
أقول: كما يحتمل أنه في معنى الوكالة فيترتب عليه ما ذكره، كذلك يحتمل
أنه في معنى الوصية فيجب عليه الأعلام بعدم القبول، وإلا لزمه القيام بذلك
ويمكن ترجيح الأول بأن الأصل عدم الوجوب وإذا كان الأصل عدم وجوب القبول
عليه ابتداء استصحب الحكم في عدم الاستدامة، فلا يجب عليه الاستمرار استصحابا
للأصل المذكور، فإذا رد صار كما لا ناظر له ابتداء فيتولاه الحاكم أو الموقوف
عليه إن قلنا بالانتقال إليه، وكيف كان فالحكم لا يخلو من شوب التردد.
الثالث الناظر من قبل الواقف على قسمين أحدهما أن يكون مشروطا في
العقد، وإذا كان كذلك فإنه لا يجوز للواقف عزله، عملا بوجوب الوفاء بالشروط
إلا أن يظهر ما يوجب عزله.
وثانيهما ما لم يكن كذلك، بأن نصبه بعد العقد بالنظر المتناول فإنه
يجوز عزله متى شاء، لأنه حينئذ في حكم الوكيل الذي يجوز عزله بعد الوكالة
متى أراد.
185

الرابع لو شرط للناظر شيئا من الريع صح وكان ذلك أجرة عمله ليس
له أزيد منه وإن كان أقل من الأجرة وإن أطلق فله مثل أجرة عمله.
أقول: إن أريد بالاطلاق هو عدم ذكر شئ معين، مع ذكر ما يوجب
أن له أجرة، فما ذكروه جيد، وإن أريد وقوع العقد خاليا من التعرض لذلك
نفيا ولا اثباتا فما ذكروه مشكل، لأن الوقف قد انتقل بالعقد إلى من عينه الواقف
من الموقوف عليه، واخراج شئ منه يحتاج إلى دليل، وليس في العقد ما يدل
على ذلك كما هو المفروض، والنصوص الدالة على جواز جعل الواقف ناظرا
للوقف خالية من ذلك، والظاهر أن الناظر إنما رضي بذلك مجانا فلا يستحق أجرة.
الخامس قد صرحوا بأن وظيفة الناظر في الوقف العمارة له أولا، وتحصيل
الريع وقسمته على المستحق، وحفظ الأصل والغلة، ونحو ذلك من مصالحه.
أقول: وقد صرح بذلك في التوقيع المتقدم ذكره وهو المفهوم من اطلاق
باقي الأخبار، ومقتضاه أنه لا يجوز التصرف في شئ من الأعمال المذكورة، ولا في
الغلة إلا بإذنه، ولو كان التصرف من الموقوف عليه وهو مقتضى اطلاق كلام
الأصحاب أيضا.
قال في المسالك: وفيه اشكال، من وجهين: أحدهما ما لو كان الموقوف
عليه متحدا، إما ابتداء أو لاتفاق ذلك في بعض الطبقات، فإنه مختص بالغلة،
فتوقف تصرفه على إذن الناظر بعيد، لعدم الفائدة خصوصا مع تحقق صرفها إليه
بأن تكون فاضلة عن العمارة وغيرها مما يقدم على القسمة يقينا، نعم لو أشكل
الحال توقف على إذنه قطعا، لاحتمال أن يحتاج إليها أو إلى بعضها في الأمور
المتقدمة على اختصاص الموقوف عليه.
أقول: يمكن الجواب عن ذلك بأنه لا عموم في الأمرين المتقدمين على
وجه يشمل ما ذكره من هذه الصورة، فإن الظاهر من نصب الناظر إنما هو فيما
يحتاج إلى النظر والعمل، مثل التعمير ودفع الخراج، وقسمة الحاصل بين أربابه
186

ونحو ذلك، لا مطلقا بحيث يشمل مطلق التصرف، وإلا لأدى ذلك إلى أنه لا يجوز
لأحد من الموقوف عليه بعد القسمة وتميز حصته، التصرف فيها إلا بإذنه، مع أنه
ليس كذلك اتفاقا.
وبالجملة فإن حكم الغلة فيما فرضه، حكمها فيما لو قسمها الناظر وميزه
فكما أنها اختصت بصاحبها في صورة القسمة، كذلك في صورة الاتحاد، ثم
قال (قدس سره): وثانيهما الأوقاف العامة على المسلمين، ونحوهم التي يريد
الواقف انتفاع كل من الموقوف عليه بالثمرة إذا مر بها، كأشجار الثمار، فإن
مقتضى القاعدة أيضا عدم جواز تصرف أحد منهم في شئ منه، إلا بإذن الحاكم،
ولا يخلو من اشكال وتفويت لكثير من أغراض الواقف، بل ربما دلت القرينة هنا
على عدم إرادة الواقف النظر على هذا الوجه، بل يريد تفويض الانتفاع إلى كل
واحد من أفراد تلك الجهة العامة، فكأنه في قوة جعل النظر إليه، لكن هذا
كله لا يدفع الاشكال، لما تقدم من أنه بعد الوقف حيث لا يشترط النظر لأحد يصير
كالأجنبي، وينتقل الحكم إلى الحاكم، فلا عبرة بقصده خلاف ذلك حيث لا يوافق
القواعد الشرعية، وجعل مثل هذا الاطلاق نظرا لكل واحد في حيز المنع.
وبالجملة فهذه القواعد الشرعية المتفق عليها لا تدفع. بمثل هذا الخيال،
وينبغي أن يقال: إن المتصرف على هذا الوجه يأثم خاصة، ويملك حيث لا يجب
صرف الثمرة في الأمور المتقدمة على صرفها إلى الموقوف عليه، وكذا القول في
تصرف الموقوف عليه المتحد.
أما المتعدد فلا، لأن قسمتها وتميز حق كل واحد من الشركاء يتوقف
على الناظر، وحينئذ فيكون كالتصرف في المال المشترك بغير إذن الشريك،
فيستقر في ذمته حصة الشريك من ذلك، ولم أقف في هذه الأحكام للأصحاب على
شئ، فينبغي تحرير النظر فيه، انتهى.
أقول: ويمكن الجواب أيضا بما قدمنا في سابقه، فإنه متى كان الأمر
187

كما ذكره من الغرض من وقفه على المسلمين انتفاع كل من الموقوف عليه
بالثمرة إذا مر بها، فإنا لا نسلم دخوله تحت القاعدة المذكورة، لأن ذلك في قوة
قوله من شاء أن يأكل من هذه الثمرة، فهو مأذون، ومع تسليم التوقف على
إذن الحاكم، فالواجب على الحاكم أيضا أن يأذن إذنا عاما على حسب إرادة
الواقف ومطلوبه، فلا يتوقف كل فرد فرد من أفراد تلك الجهة الموقوف عليها
إلى إذن خاص، كما ظنه (قدس سره).
ويؤيد ما قلناه قوله (بل ربما دلت القرينة على عدم إرادة الواقف النظر
على هذا الوجه إلى آخره،) وجوابه عن ذلك بأنه لا عبرة بقصد الواقف ذلك بعد
رجوع الأمر إلى الحاكم، حيث إنه يصير مع عدم الاشتراط كالأجنبي فلا عبرة
بقصده خلاف ما يقتضيه نظر الحاكم، مردود، بأنا نجعل هذا القصد من الواقف
قرينة على عدم دخول هذا الفرد في الاطلاق، بمعنى استثنائه من ذلك، فلا يرجع
إليه في هذه الصورة، على أن ما ذكره من أنه بعد الوقف حيث لا يشترط النظر
لأحد كالأجنبي، وينتقل الحكم إلى الحاكم، فلا عبرة بقصده خلاف ذلك، محل
منع وكيف لا، والعقود تابعة للقصود، ومقتضى القواعد الشرعية هو الوقوف على
ما علم منه من القصد صريحا أو بقرينة أو نحو ذلك وكونه أجنبيا بعد العقد
لا يوجب الخروج عما عينه وقصده، وإنما المراد منه ليس له بعد العقد احداث
شئ على خلاف ما دل عليه العقد، والنظر الذي انتقل إلى الحاكم الشرعي إنما
هو على حسب ما دل عليه القعد، ولا يجوز له الخروج عن مقتضاه، وهو قد
قرض في صورة الاشكال أنه وبما دلت القرينة هنا على عدم إرادة الواقف النظر
على هذا الوجه، بل يريد تفويض الانتفاع إلى كل واحد من أفراد تلك الجهة
العامة إلى آخره.
وحينئذ فإنه متى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه في قوة التقييد للوقف بما
ذكر، والتصريح به، فكيف تجوز مخالفته والخروج عنه، ويكون الخروج
عنه موافقا للقواعد الشرعية، بل الوقوف عليه هو مقتضى القواعد الشرعية،
188

والخروج عنه على خلافها، فتأمله بعين البصيرة، وتناوله بيد غير قصيرة ليظهر
لك ما في الزوايا من الخبايا، وكم ترك الأول للآخر كما هو المثل السائر،
وبذلك يظهر أنه لا إثم على الأخذ في الصورتين المذكورتين كما ظنه (قدس سره)،
والله العالم.
المطلب الخامس في شرائط الموقوف عليه:
ويشترط فيه أن يكون موجودا وله أهلية التملك، أو تابعا لموجود
كذلك، وأمكن وجوده عادة، وكان قابلا للوقف.
فهنا مسائل: الأولى: الظاهر أنه لا خلاف بين بطلان الوقف على المعدوم
ابتداء، ولم أقف على نص في المقام، إلا أنه يمكن أن يقال: مضافا إلى ظاهر
الاتفاق أن الوقف نقل للمنفعة البتة أو العين على أحد الأقوال إلى الموقوف عليه،
والمعدوم لا يصلح لذلك.
قالوا: وفي معناه الحمل أيضا، لأنه وإن كان موجودا إلا أنه غير صالح
للتملك ما دام حملا، فإن قيل: إنه تصح الوصية له، وهو نوع تمليك فالجواب
الفرق بين الأمرين، فإن الوقف تمليك في الحال، فلا بد من قابلية الموقوف
عليه للتملك، والوصية تمليك في المستقبل، فالتملك فيها مراعا بوضعه حيا،
فلو مات قبل خروجه حيا بطلت، ولم يرثها وارثه، بخلاف ما لو خرج حيا ولو
لحظة ثم مات، فإنها يكون ميراثا.
نعم لو ذكر المعدوم تبعا للموجود كما لو وقف على أولاده الموجودين، ومن
سيوجد منهم صح بلا خلاف يعرف، وكذا لو وقف على أولاده ومن سيتجدد منهم،
وهكذا، أما لو كان التابع ممن لا يمكن وجوده، كالميت أو لا يقبل الملك كالعبد
بطل فيما يخصه، ولو ذكر المعدوم أولا ثم الموجود كان منقطع الأول، وكذا نفسه
أو الميت أو العبد ثم بعده الموجود، وقد تقدم الكلام، في ذلك في المسألة الرابعة
189

من المطلب الثاني في شرائط الوقف (1) ونقل ما فيها من الخلاف محررا
محققا، فلا حاجة إلى إعادته، ثم إنه ينبغي أن يعلم أن عدم صحة الوقف على العبد
إنما هو بناء على القول بأنه لا يملك، أو لا يملك إلا فاضل الضريبة مما لا يدخله
الوقف، أما على القول بكونه يملك، وإن كان محجورا عليه في التصرف، فإنه
لا مانع من الوقف عليه، وبه صرح الأصحاب (رضي الله عنهم) أيضا قيل: ولا
ينصرف الوقف إلى مولاه، لأنه غير مقصود في العقد، والعقود بالقصود.
أقول: الظاهر أن هذا الكلام خرج في معرض الرد على بعض العامة، حيث
جوز الوقف على العبد، وجعله مصروفا إلى مولاه، ولا ريب في ضعفه، لما عرفت
من أن العقود تابعة للقصود، ومولاه لم يقصد بالوقف عليه، فمن أين ينصرف إليه.
تنبيه:
قد عرفت أن من جملة الشروط في الموقوف عليه أن يكون له أهلية التملك،
ويشكل ذلك بالوقف على المساجد والقناطر ونحوهما، فإنه مما لا خلاف فيه،
مع أن شيئا منها غير قابل للتملك كما لا يخفى، والجواب ما صرح به الأصحاب
من أن الوقف المذكور في التحقيق إنما هو وقف على المسلمين، باعتبار بعض
مصالحهم، ولا ريب أنهم قابلون للتملك، وغايته أنه وقف عليهم باعتبار مصلحة
خاصة من مصالحهم، فكأنه وقف عليهم بشرط صرفه في مصرف خاص، ومصلحة
خاصة، ولا منافاة فيه.
وربما ظهر من الصدوق المنع من الوقف على المساجد، لما روى في كتابه
مرسلا (2) (قال: وسئل عليه السلام عن الوقوف على المساجد، فقال لا يجوز، فإن
المجوس أوقفوا على بيوت النار)، وروى فيه وفي التهذيب عن أبي الصحارى (3)

(1) ص 155.
(2) الفقيه ج 1 ص 154 ح 42.
(3) التهذيب ج 9 ص 150 ح 58، الفقيه ج 4 ص 185 ح 2.
وهما في الوسائل ج 3 ص 552 ح 1 و 2.
190

(عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: رجل اشترى دارا فبقيت عرصة بناها بيت
غله أيوقفه على المسجد؟ فقال: إن المجوس أوقفوا على بيت النار).
والمستفاد من الخبرين تعليل المنع بالتشبه بالمجوس، ولم يتعرض لنقل
الخبرين المذكورين أحد من الأصحاب في هذا المقام، فضلا عن الجواب عنها،
ويمكن حملهما على الكراهة، بناء على أن المفهوم من الأخبار خفة المؤنة في
المساجد، لا كما هو المتعارف في هذه الأزمان من التكلفات الزائدة فيها، كما
لا يخفى، والله العالم.
المسألة الثانية: قد اختلف الأصحاب (رضي الله عنهم) في الوقف على الكافر
وقد اضطرب كلامهم في هذا لا مقام، فقيل: بالجواز مطلقا، والمنقول عن الشيخين
(عطر الله مرقديهما) أنهما منعا من وقف المسلم على الكافر، إلا أن يكون من الأقارب
سواء كان الأبوين أو غيرهما من ذوي الأرحام، وبه قال أبو الصلاح وابن حمزة،
وعن سلار وابن البراج الحكم بالبطلان مطلقا وإن كان من الأبوين.
واضطرب كلام ابن إدريس فقال: يصح وقف المسلم على والديه الكافرين
دون غيرهما من الأهل والقرابات وغيرهم، لقوله تعالى (1) (وصاحبهما في الدنيا
معروفا) وأما غيرهما فلا يجوز وإن كان قريبا، لأن شرط الوقف القربة،
ولا يصح التقرب إلى الله تعالى بالوقف على الكافر، ونسب كلام الشيخ في النهاية من
صحة الوقف على الأقارب، إلى أنه خبر واحد أورده بلفظه ايرادا لا اعتقادا، كما
أورد غيره، إلى أن قال: والأولى عندي أن جميع ذوي أرحامه من الكفار يجرون
مجرى أبويه الكافرين في جواز الوقف عليهم، لحثه (صلى الله عليه وآله)
بصلة الأرحام (2) قال: وبهذا أفتى، ثم أمر بلحظه وتأمله، ثم نقل بعد ذلك
بكلام طويل عن الشيخ في الخلاف أنه يجوز الوقف على أهل الذمة إذا كانوا

(1) سورة لقمان الآية 15.
(2) الكافي ج 4 ص 10 ح 3، الوسائل ج 6 ص 286 ح 2.
191

أرقائه، ثم قال: وقد قلنا ما عندنا في هذه المسألة أنه لا يجوز الوقف على الكفرة
إلا أن يكون الكافر أحد الأبوين، لأن من صحة الوقف وشرطه نية القربة، انتهى.
واضطرابه ظاهر وحينئذ ففي المسألة أقوال أربعة: الأول الجواز
مطلقا "، واستدل عليه بالعمومات، مثل " الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها (1)
(ولكل كبد حراء أجر (2)، وقوله تعالى " لا ينهاكم الله الذين لم يقاتلوكم
في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم بالمودة (3) ".
الثاني المنع، واستدل عليه بقوله عز وجل " لا تجد قوما " يؤمنون بالله
واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم (4) " الآية.
الثالث تخصيص الجواز بالأرحام، ومستنده الجمع بين ما ذكر وبين
الأخبار الدالة على وجوب صلة الأرحام (5).
والرابع التخصيص بالأبوين، ووجه ما ذكر مضافا " إلى قوله تعالى
" ووصينا الانسان بوالديه احسانا (6) " وقوله " وصاحبهما في الدنيا معروفا (7) ".
فيجب الجمع بين الأدلة مما دل على المنع، ومما دلت عليه هذه الأدلة بالتخصيص
بالأبوين.
والمفهوم من كلام المتأخرين كالمحقق وغيره تقسيم الكافر إلى حربي وذمي،

(1) الفقيه ج 4 ص 176 ح 1، التهذيب ج 9 ص 129 ح 2، الوسائل
ج 13 ص 307 ح 2.
(2) الكافي ج 4 ص 57 ح 2 و ص 58 ح 6 وفيه " أفضل الصدقة ابراد كبد حرى "
الوسائل ج 6 ص 330 ح 2 و 5 و ص 284 ح 2.
(3) سورة الممتحنة الآية 8.
(4) سورة المجادل الآية 22.
(5) الكافي ج 4 ص 10 باب الصدقة على القرابة، الوسائل ج 6 ص 286
الباب 20.
(6) سورة الأحقاف الآية 15.
(7) سورة لقمان الآية 15.
192

والقول في الأول بالمنع مطلقا "، والخلاف في الثاني بهذه الأقوال الأربعة، فمحل
هذه الأقوال عندهم إنما هو الذمي.
ويشير إلى ما ذكرنا أن المحقق في الشرايع قال: ولا يقف المسلم على
الحربي وإن كان رحما "، ويقف على الذمي وإن كان أجنبيا "، وشيخنا الشهيد
الثاني في الشرح نقل الأقوال الأربعة في الذمي، ثم قال: واعلم أنه لم يرد في
عبارات المتقدمين إلا الوقف على الكافر غير المبسوط، فإنه صرح بالذمي، ولعل
مرادهم ذلك يعني لعل مراد الأصحاب بالكافر الذي أطلقوه وجعلوه محل البحث
والخلاف في المسألة هو الذمي، دون الحربي.
واختار في المسالك المنع في الحربي مطلقا " كما هو مذهب المصنف.
وظاهره أيضا " الميل إلى قوله في الذمي، حيث قال بعد نقل الأقوال الأربعة
المتقدمة: وكيف كان فالقول بالمنع مطلقا ضعيف، وقول المصنف لا يخلو من وجه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أني لم أقف في النصوص على ما يدل على حكم الوقف
على الكافر ذميا كان أو غيره، ونسبة ابن إدريس في رده على الشيخ في النهاية ما
ذكره في النهاية إلى أنه خبر واحد أورده الشيخ ايرادا " لا اعتقدا "، ربما أشعر بوجود
خبر بذلك، إلا أنه لم يصل إلينا كما عرفت.
نعم يبقى الكلام فيما ذكر من العمومات التي ذيلت بها الأقوال المتقدمة
وهي أيضا " غير خالية من الاشكال، سيما الآيات المذكورة، فإن الآية التي استدل
بها على الجواز مطلقا، ظاهرة في ذلك حتى قال أمين الاسلام الطبرسي في
تفسيرها من كتابه مجمع البيان على ما نقله عنه بعض الأعيان بعد كلام في البين:
والذي عليه الاجماع أن بر الرجل من يشاء من أهل الحرب قرابة كان أو غير
قرابة ليس بمحرم، وإنما الخلاف في اعطائهم مال الزكاة والفطرة والكفارات،
فلم يجوزه أصحابنا، وفيه خلاف بين الفقهاء، وهو كما ترى صريح في دعوى
الاجماع على جواز برهم، والوقف من جملة ذلك، فالآية كما ترى دليل ظاهر
193

على القول المذكور.
وأما الاستدلال بحديث الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها " فقد عرفت آنفا "
ما فيه، والحديث الذي بعده، وإن لم يكن ظاهرا " في الدلالة، إلا أنه صالح
للتأييد.
وأما الآية التي استدل بها على المنع مطلقا " فهي ظاهرة الدلالة أيضا " على
القول المذكور، وفي معناها قوله عز وجل (1) " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق " الآية
وهما صريحتان في النهي عن مودة الكافر، ولا ريب أن الوقف عليه إنما ينشئ من
المحبة والمودة، وهو مؤكد لها، والحال أنه منهي عن المودة التي نشأ منها
الوقف، وتأكد بها، فيكون منهيا " عنه أيضا بالطريق الأولى.
نعم لا يخفى أن الآية الأولى وإن دلت على الجواز مطلقا إلا أنه يدفعها
بالنسبة إلى الحربي أولا " للقول باشتراط القربة في الوقف، وقد عرفت أنه مذهب
جملة من الأصحاب (رحمهم الله) فإنه مقتضى الأدلة، والتقرب إلى الله تعالى بصلته
مع نهيه سبحانه عن مودته لا يجتمعان.
وثانيا " حل أمواله للمسلمين، فإن مال الحربي فيئ للمسلمين يصح أخذه
وبيعه، وهو ينافي صحة الوقف عليه، والمعارضة كما ترى حاصلة بين الآية
المستدل بها على الجواز، وبين ما ذكرناه، ولم يظهر لي وجه يجمع به بينهما،
وبذلك يزيد الاشكال.
ومن ثم إنه في المسالك رجح القول بالمنع في الحربي، والجواز في الذمي،
لكن الواجب عليه كان أن يجيب عن الآية الدالة على الجواز مطلقا، مع أنه
لم يتعرض لذلك، إلا أنه خص آية الجواز بالذمي كما أشرنا إليه آنفا "، من أنه
جعل الأقوال الأربعة في الذمي خاصة، والآية كما ترى أعم، بل صريح أمين الاسلام

(1) سورة الممتحنة الآية 1.
194

الطبرسي كما عرفت هو كونها في الحربي، وربما قيل: بأن النهي عن الموادة في
تلك الآية إنما هو من حيث المحادة، فلا ينافيه الوقوع على غير تلك الحيثية،
وهو محتمل، وبه يقوى الاعتماد على الآية الأخرى مع ما عرفت من المعارض لها
وبالجملة فالمسألة عندي لما عرفت محل اشكال واعضال، والله العالم بحقيقة الحال.
الحاق:
قد عرفت الكلام في وقف المسلمين على الكفار، بقي الكلام في وقف الكافر
على مثله مطلقا، أو وقف الحربي على الذمي على الذمي خاصة، فظاهر
الأصحاب الصحة، وكذا الوقف على البيع والكنايس، وعلل الصحة باعتقادهم
شرعيته، مضافا " إلى اقرارهم على دينهم.
والثاني: إنما يتم بالنسبة إلى الذمي، والمسألة محل توقف لعدم الظفر فيها
بنص، ويشكل أيضا " باشتراط القربة في الوقف على القول به، حيث أن ذلك
معصية في الحقيقة والواقع، فلا يعقل التقرب وأحال ذلك، إلا أن يحمل قصد
القربة على قصدها في الجملة، وإن لم يحصل حقيقة، أو يخصص قصدها ممن يعتقد
حصولها، والأول بعيد غاية البعد، فإن لغو محض، والثاني أيضا " لا يخلو من بعد،
وإن استظهره في المسالك، ولهذا إن الأصحاب منعوا من تولي الكافر الأفعال
المشروطة بالقربة، مثل غسل الأموات ونحوه، وأبطلوا ذلك من حيث عدم
تأتي ذلك من الكافر.
المسألة الثالثة: قد صرح الأصحاب (رضي الله عنهم) ببطلان الوقف على
البيع والكنايس، وكذا لو وقف في معونة الزناة وقطاع الطريق، وشاربي الخمر
وأمثالهم، وكذا على الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل من غير خلاف يعرف.
أما الأول فالوجه فيه على ما قالوه وإن قلنا بجواز الوقف على أهل الذمة
كما أحد الأقوال المتقدمة، هو الفرق بين الأمرين، فإن الوقف على أهل الذمة
195

أنفسهم لا يستلزم معصية، حيث أن نفعهم من حيث الحاجة، وأنهم عباد الله، ومن
جملة بني آدم، وممن يجوز أن يتولد منهم المسلمون، ولا معصية فيه، وما ربما
يترتب عليه من الإعانة على شرب الخمر، وسائر المحرمات التي يستحلونها فهي
غير مقصودة للواقف ولو فرض قصدها حكمنا ببطلان الوقف، وكذا لو وقف
عليهم لكونهم كفارا " بل على فسقة المسلمين، كما سيأتي الكلام فيه انشاء الله تعالى.
وبالجملة فالمدار في البطلان والصحة على الغاية المترتبة على الوقف، ولما
كانت الغاية المترتبة عليه بالنظر إلى ما قلنا صحيحة سائغة، صح الوقف، وهذا
بخلاف الوقف على البيع والكنائس، حيث أنه وإن كان وقفا " على جهة خاصة من
مصالح أهل الذمة، إلا أنه معصية محضة، لما يتضمن من الإعانة لهم على الاجتماع
لتلك العبادات المحرمة، ورسوخهم في الكفر، فالغرض والغاية من الوقف هنا
ليس على حسب باقي الغايات المترتبة على الوقف عليهم أنفسهم، فلذا صح الوقف
هناك، وبطل هنا.
وأما الثاني فالوجه فيهن ظاهر، لأنه متى كان الغرض المترتب على الوقف
والغاية المقصودة منه إنما هو معونة هؤلاء من هذه الحيثيات المذكورة التي
لا ريب في تحريمها، وأنها معينة، فلا ريب أن الوقف معصية، فإن الإعانة على
المعصية معصية.
وأما لو وقف على من هو متصف بذلك من المسلمين، لكنه لا من هذه الحيثية
فلا اشكال في صحته، سواء أطلق أم قصد جهة محللة.
وأما الثالث فعلله الأصحاب بأن الكتابين المذكورين محرفان عما كانا
عليه أولا، ومع ذلك فهما منسوخان، ولهذا حكموا بعدم جواز حفظهما، كما
تقدم في مقدمات كتاب التجارة من عدم جواز حفظ كتب الظلال.
نعم جوزوا الحفظ للنقض والحجة بها، وقد نقل الأصحاب في هذا المقام
196

حديثا " من طرق العامة وهو أنه قد روي عن النبي (1) (صلى الله عليه وآله)
" أنه قد خرج إلى المسجد فرأى في يد عمر صحيفة، وفيما شئ من التورية،
فغضب (صلى الله عليه وآله) لما رأى الصحيفة في يده، وقال: أفي شك أنت
يا بن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية حتى لو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلا
اتباعي " قال: في المسالك بعد نقل الخبر المذكور، وهذا يدل على أن النظر إليها
معصية، وإلا لما غصب منه (صلى الله عليه وآله) لذلك
أقول: وقد نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة مثل هذا الخبر عن
عمر أيضا بوجه المنع، وقد ذكرناه في كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي
الحديد وبينا ما فيه من نفاق ذلك الطاغي العنيد.
قال في المسالك: بعد.
قال في المسالك: وينبغي جواز الوقف عليها على الوجه الذي يجوز امساكها
لأجله وهو النقض والحجة، لأن الحجة طاعة، إلا أن الغرض لما كان نادرا " أطلقوا
المنع عليها، انتهى.
أقول: ومقتضى ما ذكروه هنا جاز الوقف على كتب الشريعة، والظاهر
أنه لا اشكال فيه، وهل يدخل في ذلك كتب أهل الخلاف أم لا؟ وجهان مبنيان
على أنه هل تدخل تلك الكتب تحت كتب أهل الخلاف أم لا؟ وجهان مبنيان
على أنه هل تدخل تلك الكتب تحت كتب أهل الضلال أم لا وقد تقدم الكلام في
ذلك في الموضع المشار إليه آنفا، فعلى الأول كما هو الأظهر لا يجوز، وعلى الثاني
كما اختاره بعض محققي متأخري المتأخرين يجوز، والله العالم.
المسألة الرابعة: إذا وصف الموقوف عليه بصفة أو نسبة، دخل فيه كل
من تناوله الاطلاق عرفا مع اتفاق العرف أو الاصطلاح على ذلك، وإلا فالمتعارف
عند الواقف، اعتبارا بشاهد الحال، ولو كان ثمة قرائن وجب العمل بمقتضاها.
وفي هذا الباب صور: منها ما لو وقف على الفقراء، فإن كان الواقف
مسلما " انصرف إلى فقراء المسلمين، وإن كان كافرا " وقلنا بصحة وقف الكافر انصرف

(1) المسالك ج 1 ص 349.
197

إلى فقراء نحلته، والوجه فيه، أن صفة الفقر وإن شملت لغة لكل من المسلم
والكافر، ومقتضاه العموم للجميع في كل من الصورتين المذكورتين، إلا أن العرف
وشاهد الحال يدل على أراد المسلمين في الأولى، وأهل نحلة الواقف في الثانية،
والعرف عندهم مقدم على اللغة، وهذا يتم مع تحقق دلالة العرف وشهادة الحال
عليه، وإلا فاللغة مقدمة، وإلا أنه لما كان تحقق الدلالة العرفية هنا وشهادة الحال
بذلك ظاهرا " جزموا بالحكم المذكور من غير تردد.
بقي أنه لو وقف على الفقراء فهل يجب تتبع من خرج عن بلد الوقف أو
يكفي الدفع إلى فقراء البلد؟ صرح جملة من الأصحاب بالثاني، وعلل بأن الوقف
على غير منحصر إنما هو وقف على الجهة، لا على أشخاصها، ومصرف الجهة من
اتصف بوصفها من فقر أو فقه لو كان الوقف على الفقهاء، فلا يجب الدفع إلى جميع
الأشخاص الداخلين في الوصف، ويدل عليه ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن علي
بن محمد بن سليمان النوفلي (1) " قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السلام أسأله عن
أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير متفرقون في البلاد
فأجاب عليه السلام ذكرت الأرض التي أوفقها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي
لمن حضر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبع من كان غائبا ".
وظاهر الخبر الاختصاص بمن حضر البلد لظاهر اللام، المؤذن بالملك أو
الاختصاص، والأصحاب صرحوا بأنه لو تتبع جاز، لأن المنفي إنما هو وجوب
التتبع، والظاهر من الخبر خلافه، وإن أمكن احتماله.
وظاهر الخبر وجوب استيعاب من في البلد، وبه صرح بعضهم، وقيل:
يجري الاقتصار على ثلاثة مراعاة للجمع، مع ما علم من أن الجهة لا يقتضي
الأشخاص، وقيل: يكفي اثنين، بناء على أنه أقل الجمع.
قال في المسالك: ويحتمل جواز الاقتصار على واحد، نظرا إلى أن الأشخاص

(1) الكافي ج 7 ص 38 ح 37، الوسائل ج 13 ص 308 ح 1.
198

مصرف الوقف، لا مستحقوه إذ لو حمل على الاستحقاق وعمل بظاهر اللفظ
لوجب الاستيعاب، لأنه جمع معرف مفيد للعموم، فيجب التتبع ما أمكن، انتهى.
وفيه أن الظاهر من الخبر المذكور هو وجوب استيعاب من في البلد، فلا
ينبغي الالتفات إلى هذه الأقوال، ولا إلى ما عللت به.
ومنها ما لو وقف على المسلمين، والظاهر صدقه على من أقر بالشهادتين
مع عدم انكاره ما علم من الدين ضرورة، فيدخل فيه جملة الشكاك والمستضعفين
ويخرج منه من حكم بكفره من أفراد المسلمين، كالخوارج، والنواصب، والمجسمة
والغلاة، ولفظ المسلمين وإن شمل هؤلاء المذكورين عرفا " إلا أنه شرعا " لا يشملهم
والعرف الشرعي مقدم على العرف العام اتفاقا ".
وبذلك يظهر ما في قوله في المسالك بعد أن ذكر المعنى الأول وهو حمل
المسلمين على من أقر بالشهادتين ولم ينكر شيئا " من ضروريات الدين فيخرج
عنه هؤلاء المذكورون ما لفظه: مع احتمال العموم نظرا " إلى المفهوم عرفا ".
فإن فيه أنه وإن صدق ذلك عرفا " إلا أن المفهوم من هذا اللفظ بالنظر إلى
الأخبار إنما هو الأول، ولهذا أنهم صرحوا في تسميتهم مسلمين إنما هو بمعنى
منتحلي الاسلام، وإذا ثبت أن عرفهم عليه السلام إنما هو المعين الأول وجب تقديمه
وبطل ما ذكره من الاحتمال.
وفي دخول المخالفين وعدمه قولان مبنيان على الحكم باسلامهم كما هو
المشهور بين المتأخرين، أو كفرهم كما هو مذهب جملة من محققي متقدمي
الأصحاب، وهو المختار، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في جملة من زبرنا،
ولا سيما كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب، وقد تقدم في الجلد الثاني
من كتاب الطهارة نبذ من القول في ذلك (1) " قال في المسالك: ولا فرق بين
كون الواقف من المسلمين محقا " وغيره، عملا " بالمفهوم، وقيل: إن كان الواقف

(1) ج 5 ص 181.
199

محقا " يختص الوقف بقبيله بشهادة الحال، كما لو وقف على الفقراء، ورد بأن
تخصيص عام لا يقتضي تخصيص آخر، وشهادة الحال ممنوعة، والفرق بين المسلمين
والفقراء قائم، فإن إرادة الوقف على جميع الفقراء على اختلاف آرائهم وتباين
مقالاتهم ومعتقداتهم بعيد، بخلاف إرادة فرق المسلمين من اطلاقهم، فإنه أمر
راجح شرعي مطلوب عرفا "، والأقوى المشهور.
نعم لو كان الواقف من أحد الفرق المحكوم بكفرها لم يخرج قبيلته من
وقفه ولا غيره ممن يحكم بكفره أيضا " حيث لا يشهد حاله باخراجه ويحتمل
اختصاص عدم الحرمان بقبيلة خاصة اقتصارا " في التخصيص على محل اليقين، وهو
حسن إلا مع شهادة الحال بخلافه، انتهى.
أقول: ما نقله من القول الذي نقضه هو قول ابن إدريس حيث قال: وإذا
وقف المسلم المحق شيئا " على المسلمين كان ذلك للمحقين من المسلمين، واستدل
بأن فحوى الخطاب وشاهد الحال يدل عليه، كما لو وقف الكافر وقفا على الفقراء
كان ماضيا " في فقراء أهل نحلته خاصة، بشهادة دلالة الحال عليه، قال: وما أورده
الشيخ خبر واحد أورد، إيرادا " لا اعتقادا "، لأنا وإياه نراعي في صحة الوقف
التقرب به إلى الله، وببعض هؤلاء لا يتقرب الانسان المحق بوقفه عليه، انتهى.
وأنت خبير بأن كلام ابن إدريس جيد بناء " على مذهبه، وبيان ذلك أن
الخارج عن هذا العنوان أعني المسلم المحق منحصر في أفراد ثلاثة: أحدها من
أنكر شيئا " من ضروريات الدين كالأفراد المتقدم ذكرها، وهم موافقون على
خروجها عن هذا العنوان بل عن عنوان المسلمين، لأنهم كفار عندهم بلا اشكال.
وثانيها أفراد المخالفين من العامة، ومن يتبعهم من فرق الزيدية وغيرهم
وهؤلاء وإن كانوا عندهم من المسلمين، إلا أنهم عند ابن إدريس وجملة من
محققي المتقدمين من الكفار باليقين، وهو الحق كما تقدمت الإشارة إليه، ومحل
اعتراضهم هنا نشأ من هذا الفرد، مع أن مذهبه فيه ما عرفت من القول بالكفر
200

فخروجهم بناء " على ذلك ظاهر.
وثالثها أفراد المستضعفين من الشكاك وغيرهم، وهؤلاء على ما يفهم من
الأخبار الكثيرة تجري عليهم أحكام الاسلام في الدنيا وأما في الآخرة فهم من
المرجئين لأمر الله، وإن دل بعض الأخبار على أن عاقبة أمرهم الجنة أيضا " كما
أوضحناه في كتابنا المتقدم ذكره وهؤلاء لا ريب في دخولهم لوجوب اجراء أحكام
الاسلام عليهم، وهذا منها.
ويعضد ما ذهب إليه ابن إدريس هنا أيضا " ما ألزم به الشيخ حيث أن مذهبه
في النهاية كما قدمنا نقله عنه القول باشتراط القربة في الوقف، كما هو مذهب
ابن إدريس، وبموجب ذلك أنه لا يصح التقرب إلى الله بالوقف على أحد من
المخالفين، الذين قد عرفت أنهم محل البحث، سيما على القول بالكفر الذي هو
مذهب هذا القائل، وبذلك يتبين لك قوة ما ذهب إليه.
وأما بحثه معه في المسالك بما قدمنا نقله عنه من المناقشة في الوقف على
هؤلاء، كوقف الكافر الذي ينصرف إلى فقراء نحلته، فهي مناقشة لفظية، لا يوجب
بطلان ما ذهب إليه، لأنه إنما قصد بذلك التنظير والتمثيل لدفع الاستبعاد، وإلا فدليله
المعتمد إنما هو ما ذكرناه، وهو كما ترى واضح الظهور، لا تعتريه شائبة القصور
والله العالم.
ومنها الوقف على المؤمنين، وقد اختلف الأصحاب في ذلك، فقال الشيخ
في النهاية: إذا وقف على المؤمنين كان ذلك لمجتنبي الكبائر من أهل المعرفة
بالإمامة دون غيرهم، ولا يكون للفساق منهم معهم شئ على حال، وكذا قال
الشيخ المفيد وابن البراج وابن حمزة، وقال ابن ا دريس: لا يختص ذلك بالعدل
بل هو عام لجميع المؤمنين، العدل منهم والفاسق وعلى هذا القول جرى المتأخرون.
أقول: والتحقيق في ذلك أن الكلام هنا يتوقف على بيان معنى الايمان،
والمشهور بين الأصحاب أنه عبارة عن الاقرار باللسان، والتصديق بالجنان يعني
201

الاقرار بالشهادتين، وجميع ما جاء به النبي (صلى ا لله عليه وآله وسلم) مقرونا "
بالتصديق والاذعان، وقيل: إنه كذلك مع انضمام العمل بالأركان إلى ذلك،
والمراد بالعمل الذي يكون جزء من الايمان هو الاتيان بكبائر الطاعات، واجتناب
كبائر المعاصي، هو مذهب الصدوق والشيخ المفيد (رحمة الله عليهما) وجملة من
المتقدمين، وهو المستفاد من الأخبار المتكاثرة، ولا فرق في أخذ العمل جزء من
الايمان بين أن يكون من الاثني عشرية، وغيرهم وإن كان الايمان عندنا
لا يثبت لغير الاثني عشرية.
فما ذكره في المسالك من أن الايمان الخاص قسمان: أحدهم المأخوذ
فيه العمل الصالح، والثاني اعتقاد إمامة الاثني عشر إماما " عليهم السلام مما يؤذن بعدم
اعتبار أخذ الأعمال جزء بالنسبة إلى المعتقد بهذا الاعتقاد، فليس في محله.
وبالجملة فإن المستفاد من الأخبار على وجه لا يعتريه الشبهة للمتتبع،
ولا يقبل الانكار هو أن الايمان عبارة عن المركب من هذه الثلاثة، وهي الاقرار
باللسان والاعتقاد بالجنان، والعمل بالأركان، وبهذا المضمون جملة من الأخبار
أوردها الصدوق في عيون الأخبار (1).
وعلى هذا فههنا ثلاثة أقسام: مؤمن، وهو من كان كذلك، وكافر وهو
من لم يتصف بشئ من هذه الثلاثة، وهؤلاء أهل الوعدين، الجنة والنار،
فالأولون يساقون من قبورهم إلى الجنة، والآخرون إلى النار، لا حساب عليهم
ولا كتاب، والقسم الثالث المسلم، وهو من خرج من الكفر، لعدم انكاره،
ولم يدخل في الايمان لعدم أعماله، وهؤلاء أكثر الناس، وهم أصحاب الحساب
وأهل المحشر، ولتحقيق هذا المقام محل آخر.
وبالجملة فإن ما ذهب إليه المتقدمون في هذه المسألة مبني على مختارهم

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 177 ط النجف الأشرف سنة 1390
الكافي ج 2 ص 25 باب إن الايمان يشرك الاسلام والإسلام لا يشرك الايمان.
202

في معنى الايمان، وما ذكره المتأخرون مبني أيضا " على ما اختاروه، فالنزاع هنا
لفظي، ومحل البحث في تحقيق معنى الايمان، والحق عندي فيه هو مذهب
المتقدمين، لأنه المستفاد من الأخبار المستفيضة، وإن حملها متأخروا الأصحاب
على الفرد الأكمل منه، إلا أن الحمل فرع وجود المعارض، ثم الظاهر أنه على
تقدير تفسير الايمان بالمعنى المشهور، فمظهر الفرق بينه وبين التفسير بالمعنى
الثاني وهو إضافة العمل إلى ما ذكر إنما هو في اتصاف الفساق بالايمان وعدمه،
فيتصفون به على القول المشهور، لا على القول الآخر، ولكن مع عدم اتصافهم به
لا يكونون كفارا " بل مسلمين، لأنها المنزلة الوسطى بين الكفر والايمان،
وكيف كان فإن محل الجميع الإمامية الاثني عشرية.
وما يظهر من المسالك من أن الايمان بمعنى اعتقاد إمامة الاثني عشر
(صلوات الله عليهم) أخص من الايمان بالمعنى المشهور، إن أريد به الخصوص
والعموم بحسب المفهوم فهو كذلك، وإن أريد مصداقا " بمعنى أنه يصدق الايمان
بالمعنى المشهور على ما هو أعم من الاعتقاد بإمامة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)
كما هو ظاهر كلامه فهو باطل، لأنا نمنع صدق الايمان بأي معنى فسر على غير
القائلين بإمامة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)، لما علم من الأخبار على وجه لا يقبل
الانكار من شرف المؤمن وحرمته، ووجوب قضاء حقوقه ونحو ذلك من الأخبار
المروية في الكافي في كتاب الايمان والكفر (1)، وتفصيل حقوق المؤمن مضافا " إلى
ما دل على أنه الموجب لدخول الجنة، وهذا كله لا يصح اجراؤه على غير الاثني
عشرية، فإنهم المرادون بذلك على الخصوص.
نعم يجب التفصيل فيهم بالفسق والعدالة، بناء على القول الآخر في معنى
الايمان، وحينئذ فلو وقف على المؤمنين وأطلق فإن كان الواقف من الإمامية وهم
الاثني عشرية فلا ريب في أن الراد بهم الإمامية، لكن يبقى الكلام في الاختصاص

(1) الكافي ج 2 ص 192 باب قضاء حاجة المؤمن.
203

بالعدول، وشمول الفساق المبني على القول المشهور في الايمان، من عدم أخذ
الأعمال في معناه فيشمل، أو أخذها فيختص، وإن كان الواقف من غيرهم،
فالظاهر أن الحكم كالأول، وهو المفهوم من كلام الأصحاب أيضا "، قال في المسالك
بعد أن اعترف بأنه في هذه الصورة ظاهر المصنف والأكثر كونه كالصورة الأولى
ما لفظه: وهو؟ مشكل، لأن ذلك غير معروف عنده، ولا قصده متوجه إليه، فيكف
يحمل عليه، وليس الحكم فيه كالمسلمين في أن لفظه عام فينصرف إلى ما دل
عليه اللفظ وإن خالف معتقد الواقف كما تقدم، لأن الايمان لغة هو مطلق
التصديق، وليس بمراد هنا، واصطلاحا " يختلف بحسب المصطلحين، والمعنى الذي
اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى العام، فلو قيل بحمله عليه إذا كان الواقف غير
إمامي كان حسنا "، أو يقال: إن كان من الوعيدية يحمل على معتقده، أو من
الإمامية فعلى معتقده، أو من غيره فعلى معتقده عملا " بشاهد الحال في دلالة العرف
الخاص، والقرائن الحالية، انتهى.
ووجه الدخل في كلامه أن ما ادعاه من الاختلاف في معنى الايمان بحسب
اختلاف المصطلحين، وإنما اعتبره أكثر المسلمين هو المعين العام، بمعنى أنه عبارة
عن مجرد الاقرار باللسان والاعتقاد بالجنان مردود، بأن الكلام في ذلك ينبغي
الرجوع فيه إلى المعنى الشرعي الذي دلت عليه الأخبار، فإنه هو الأولى بالرجوع
إليه والاعتبار، وعليه تبنى الأحكام في الإيراد والاصدار، ولا عبرة بعد ذلك
باصطلاح المصطلحين، ولا باختلافهم في اصطلاحهم ولا اتفاقهم، والذي دلت عليه
الأخبار كما تقدمت الإشارة إليه أن الايمان لا يصدق على غير الإمامية، وإلا لزم
دخول غيرهم الجنة، ولا قائل به.
ثم إنه قال في المسالك: إذا تقرر ذلك فهل يشترط مع الاعتقاد المذكور
في المعين المشهور اجتناب الكبائر؟ قال الشيخ: نعم، فلا يجوز للفساق من
الإمامية أخذ شئ منه، وتبعه جماعة، ولعل مبناه على أن العمل جزء من الايمان
204

كما هو مأثور عن السلف، وورد في كثير من الأخبار أنه مركب من ثلاثة أشياء:
اعتقاد بالجنان، واقرار باللسان، وعمل بالأركان، فيكون العمل ثلث الايمان،
والمشهور وهو الأصح عدم اعتباره، وإليه ذهب الشهيد في البيان أيضا " لما تحقق
في الكلام من أن الايمان هو التصديق بالقلب، والاقرار باللسان على الوجه
السابق، وأن العمل ليس بجزء منه، ولا شرط، انتهى.
وفيه أنه لا يخفى على من راجع الأخبار التي هي العمدة في الإيراد و الاصدار
أنها دائرة بين قسمين، فقسم منها اشتمل على أن الايمان عبارة عن التصديق
والاقرار، وهذه الأخبار وردت في مقام الفرق بين الايمان والإسلام، وأن الايمان
أخص مطلقا ".
وقسم منها ورد بأنه عبارة عما ذكر مع اشتماله على العمل، وصرحت بأنه
اقرار باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل الأركان، ولهذه الأخبار مؤيدات
من الأخبار أيضا، مثل الأخبار الدالة على تقسيم الناس إلى ثلاث فرق، الراجعة
إلى ست فرق، مثل حديث الطيار المروي في الكافي (1) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:
الناس على ست فرق، يؤولون (2) كلهم إلى ثلاث فرق: الايمان والكفر والضلال:
وهم أهل الوعدين الذين وعدهم الله تعالى الجنة والنار، المؤمنون والكافرون،
والمستضعفون والمرجون لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، والمعترفون
بذنوبهم خلطوا عملا " صالحا " وآخر سيئا، وأهل الأعراف "، ومرجع ذلك إلى
اثبات منزلة بين الكفر والايمان، وهو مبني على أخذ الأفعال في الأعمال، وهؤلاء
بمقتضى النصوص من المسلمين، لا بالمعنى المشهور الذي يدخل فيه المنافقون،
بل أخص منه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا منافاة بين هذه الأخبار، إذ غاية الأخبار الأول

(1) الكافي ج 2 ص 381 ح 2.
(2) أي: يرجعون.
205

أنها مطلقة والثانية مقيدة، وطريق الجمع حمل الاطلاق في تلك الأخبار على
ما دلت عليه هذه من أخذ الأعمال، وإلا فإن اطراحها من غير موجب لا معنى له
سيما مع ما عرفت من تأيدها بغيرها.
وبذلك يظهر لك أن ما اختاروه في علم الكلام من أن الايمان عبارة عما
ذكروه، لا أعرف له وجها " وجيها "، بل المفهوم من الأخبار بعد ضم بعضها إلى
بعض هو ما ذكرناه، من أنه مركب من الثلاثة المذكورة، ثم إن في كلامه إشارة
ظاهرة إلى أن مذهب السلف أعني متقدمي الأصحاب هو القول بما اخترناه،
والترجيح لما رجحناه، والعجب أنه مع اعترافه بذلك وأنه قد ورد في كثير من
الأخبار كيف خالفه، وخرج عنه من غير حجة واضحة، سوى ما أحاله على علم
الكلام.
وفيه أن ما تحقق في علم الكلام إن كان مستفادا من الأخبار فقد عرفت
أنه ليس كذلك لما ذكرناه، وإن كان من غيرها فلا عبرة به، ولا عمل عليه،
والله العالم.
ومنها الوقف على الشيعة قال الشيخان: لو وقفه على ح الشيعة ولم يميز كان
ذلك ماضيا " في الإمامية، والجارودية من الزيدية، دون التبرية، وبه قال سلار
وابن البراج وابن حمزة، وقال المحقق في الشرايع والمراد بهم الإمامية والجارودية
دون غيرهم من فرق الزيدية.
قال في المسالك: اسم الشيعة يطلق على من قدم عليا عليه السلام في الإمامة على
غيره بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ولا شبهة في كون الإمامية، منهم، وكذا
الجارودية، وكذا الإسماعيلية، حيث لا يكونون ملاحدة، وأما باقي الشيعة
كالكيسانية والواقفية والفطحية فداخلة لكن لانقراضهم استغنى عن ذكرهم.
أقول ويؤيد ما ذكره من اطلاق الشيعة على هذه الفرق ما رواه الكشي في
206

كتاب الرجال بسند عن عن عمر بن يزيد (1) " قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام
فحدثني مليا " في فضائل الشيعة، ثم قال: إن من الشيعة بعدنا من هو شر من
النصاب، قلت جعلت فداك أليس ينتحلون حبكم ويتولونكم ويبرأون من
عدوكم؟ قال: نعم، قلت: جعلت فداك بين لنا لنعرفهم، فلسنا منهم؟ قال: كلا
يا عمر لست منهم، إنما هو قوم يفتنون بزيد، ويفتنون بموسى "، إلا أن المستفاد
من الأخبار الكثيرة المستفيضة بل المتواترة معنى، من طرق الخاصة والعامة في
فضائل الشيعة هو التخصيص بالإمامية بحيث يقطع بعدم دخول غيرهم في هذا
الاطلاق ويؤيده ما صرح به في النهاية الأثيرية (2) حيث قال بعد ذكر بعض
معاني لفظ الشيعة ما لفظه: وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا " وأهل
بيته، حتى صار لهم اسما " خاصا " فإذا قيل: فلان من الشيعة، عرف أنه منهم،
وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم، انتهى.
ويؤيده أنه وإن كان لفظ الشيعة مما يطلق على هؤلاء في تلك الأعصار
السابعة، إلا أنه في الأعصار المتأخرة لا يتبادر من لفظ الشيعة إلا الإمامية، حتى
اشتهر المقابلة له بأهل السنة، فيقال: شيعي، وسني.
وبالجملة فإن المتبادر عنه في هذه الأزمان إنما هو ما ذكرناه، ومنه يعلم
أن ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) من الخلاف والكلام في هذه المسألة على
اطلاقه غير متجه، فإن المشهور بينهم أنه لو وقف على الشيعة انصرف إلى من ذكر
مما قدمنا نقله عن المسالك.
وفصل ابن إدريس، فقال: إن كان الواقف من إحدى فرق الشيعة كالجارودية
والكيسانية والناووسية والفطحية والوقفية والاثني عشرية حمل كلامه العام على
شاهد حاله، وقوى قوله، وخصص به، وصرف في أهل نحلته دون من عداهم
من سائر المنطوق به، عملا " بشاهد الحال، انتهى.

(1) رجال الكشي ص 454 الرقم 869.
(2) النهاية الأثيرية ج 2 ص 520.
207

وبمقتضى ما قلناه ينبغي أن يخص هذا الخلاف بما لو وقع قي تلك
الأعصار، أما في مثل أوقاتنا هذه ونحوها مما تقدمها وتأخر عنها، فإنه لا ينبغي
الريب في انصرافه إلى الإمامية لو كان الواقف منهم، وإنما يبقى الشك فيما لو كان
الواقف من أحد تلك الفرق الموجودة الآن، فإنه لا يبعد القول فيه بما ذهب إليه
ابن إدريس عملا " بشاهد الحال، وهكذا لو كان في الصدر السابق من أي واقف
كان، ونقل عن التذكرة أنه نفى البأس عن قول ابن إدريس، وقال في المسالك:
وهو حسن مع قيام القرينة على إرادته لفريقه، ومع اشتباه الحال فالحكم العموم
لعموم اللفظ كالمسلمين، انتهى.
وإنما خص الأصحاب الجارودية من فرق الزيدية بالذكر، لأنهم هم
القائلون بإمامة علي عليه السلام بعده (صلى الله عليه وآله) وأما غيرهم من
الصالحية والسليمانية والتبرية فإنهم، يقولون بإمامة الشيخين، وإن اختلفوا في
غيرهما، والجارودية نسبة إلى أبي الجارود زياد بن المنذر، والله العالم.
ومنها الوقف على الإمامية، والظاهر أنه لا خلاف في أن المراد بهم الاثني
عشرية القائلون بإمامة الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)، وفي الدروس صرح
باشتراط اعتقاد عصمتهم، بناء على أنه لازم المذهب.
قال في المسالك: وفي اشتراطه نظر وإن كان أولى، قال: ويلزمه اشتراط
اعتقاد أفضليتهم على غيرهم، وغيره من معتقدات الشيعة المجمع عليها عندهم،
والفتاوى خالية عنه، والظاهر يشهد بخلافه، انتهى.
أقول: لا يظهر لي وجه في هذا الخلاف ولا أثر يترتب عليه، فإنه لا ريب
أن القول بإمامة الإمام عليه السلام مستلزم للقول بما يستتبع ذلك من عصمته وأفضليته
ونحوهما، إذ المراد من الإمامية هو من قال بإمامتهم واعتقدها مع جميع ما يتبعها،
فتصريح الدروس باشتراط اعتقاد عصمتهم دون غيرها لا وجه له، لأن هذا
حاصل من غير اشتراط، والتخصيص بالعصمة دون غيرها لا يظهر له، وجه، ونزاعه
208

له في المسالك جيد إلا أن قوله " وإن كان أولى " لا أعرف له وجها " وجيها ".
وبالجملة فالحق أن هذه الأشياء كلها لازمة للقول بالإمامة، فاشتراطها
لا يزيد على أصل حصولها، وتخصيص بعضها دون بعض ترجيح من غير مرجح،
مع ما عرفت من أنه لا معنى لهذا الاشتراط بالكلية.
ويظهر من الدروس أيضا " أن الخلاف في اشتراط اجتناب الكبائر آت هنا
ورده في المسالك بأنه ليس كذلك، قال: والفرق يظهر من دليل القائل باشتراطه،
فإن مفهوم الإمامية لا مدخل له في العمل مطلقا "، بخلاف المؤمنين، انتهى
وهو جيد.
ومنها الوقف على الزيدية فمن وقف عليهم كان ذلك للقائلين بإمامة زيد بن
علي بن الحسين عليهما السلام فإنهم يجعلون الإمامة بعده لكل من خرج بالسيف من ولد
فاطمة عليها السلام من ذوي الرأي والعلم والصلاح، ولا فرق بين أن يكون الواقف
منهم، أو من غيرهم هذا هو المشهور، وبه قال الشيخان والأكثر.
وقال ابن إدريس: هذا الاطلاق غير جيد، بل إذا كان الواقف زيديا "،
وإن كان الواقف إماميا " لم يصح الوقف، وبناء على أن وقف المحق على غيره باطل
قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه: وهو باطل.
أقول: وقد تقدم الكلام في ذلك في هذه المسألة في صورة ما لو وقف على
المسلمين، وقد بينا ثمة قوة ما ذهب إليه ابن إدريس، ومرجعه إلى أنه يحكم
بكفر هؤلاء، وهم يقولون باسلامهم، وهو يشترط القربة في الوقف، وهي هنا
متعذرة، وهم لا يشترطونها، فيكون قول ابن إدريس جيدا " على أصوله، وهو
الحق في كل من الحكمين كما سلف بيانه، والله العالم.
ومنها الوقف على الجيران وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
الجوار، فقيل أنه يرجع إلى العرف، وهو اختيار العلامة في المختلف، قال:
والمعتمد العرف، لأن ألفاظ الشرع يحمل عليه في غير الحقيقة الشرعية، ونحوه في
209

المسالك، قال: ووجه واضح حيث لا يكون للفظه حقيقة شرعية
وقيل: لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا " وبه قال الشيخان وأبو الصلاح
وسلار وابن البراج وابن إدريس وابن زهرة وابن حمزة والقطب الكيدري، قال
في الشرايع: وهو حسن، وبه قال الشهيد، وإليه ما العلامة في التحرير.
قال في المسالك: ولم نقف لهم على مستند خصوصا " لمثل ابن إدريس الذي
لا يعول في مثل ذلك على الأخبار الصحيحة ونحوها، والعرف لا يدل عليه، فكيف
فيما لا مستند له، ولعله عول على ما تخيله من الاجماع عليه، كما اتفق له ذلك
مرارا ".
وقيل: إلى أربعين دارا " من كل جانب، قال في الشرايع وهو مطرح،
وفي المسالك: لم أعلم قائله، وجماعة من باحثي مسائل الخلاف كالإمام فخر الدين
في الشرح والمقداد في التنقيح والشيخ علي، أسندوا دليله إلى رواية العامة عن
عايشة (1) " عن النبي (صلى الله عليه وآله) سئل عن حد الجوار؟ فقال:
أربعين دارا ".
أقول: والعجب كل العجب منهم (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة حيث
اختلفوا فيها كما عرفت، وقالوا ما قالوا، مع أنه قد روى ثقة الاسلام في الكافي
هنا روايات تدل على القول الثالث الذي حكم المحقق في الشرايع باطراحه،
وجملة منهم كما عرفت إنما استندوا فيه إلى الرواية العامة، مع أن الكتاب
المذكور في أيديهم، عاكفون على درسه وشرحه ومطالعته، فمن الأخبار المشار
إليها ما رواه في الحسن عن معاوية بن عمار عن عمرو بن عكرمة (2) وهو مجهول
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل أربعين دارا "
جيران من بين يديهن، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله.

(1) الجامع الصغير ج 1 ص 147.
(2) الكافي ج 2 ص 669 ح 1، الوسائل ج 8 ص 491 ح 2 الباب 90.
210

وعن جميل بن دراج (1) في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليه السلام " قال: حد الجوار
أربعون دارا " من كل جانب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ".
وعن عمرو بن عكرمة (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: إن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أتاه رجل من الأنصار فقال: إني اشتريت دارا " في
بني فلان وأن أقرب جيراني مني جوارا " من لا أرجو خيره، ولا آمن شره قال:
فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا " وسلمان وأبا ذر ونسيت آخر وأظنه
قال: والمقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره
بوائقه فنادوا بها ثلاثا "، ثم أومي بيده إلى كل أربعين دارا " بين يديه ومن خلفه وعن
يمينه وعن شماله ".
وهذه الأخبار كما ترى واضحة الدلالة في القول المذكور، وبه يظهر أنه
هو المختار المنصور، وأن ما عداه بمحل من القصور، ولم أعثر على من تنبه لهذه
الروايات وذكرها في هذا المقام منهم سوى شيخنا الشهيد الثاني في المسالك،
والعجب قوله بعد ذكرها ولولا شذوذ القول به بين أصحابنا لكان القول به حسنا "
لكثرة رواياته من الطرفين، وكثيرا " ما يثبت الأصحاب قولا " بدون هذا المستند،
والعامة عاملون برواياتهم في ذلك، انتهى.
فإن فيه أن الواجب على الفقيه والمأمور به من الله سبحانه ورسوله وأوصيائه
هو القول بالدليل الوارد عنهم عليهم السلام والنهي عن القول بغير دليل، فضلا " عن
مخالفة الدليل الوارد، ومن الظاهر أن هذا الاختلاف في هذه المسألة إنما نشأ من
حيث عدم الوقوف على هذه الأخبار، وإلا فمع الوقوف عليها والعدول عنها إلى
ما لا دليل عليه بالكلية أمر لا تجوز نسبتهم إليه، لأنه موجب لحملهم على مخالفة
الله سبحانه ورسوله تعمدا " من دليل، وأي طعن أعظم منه، على أنه قد صرح هو

(1) الكافي ج 2 ص 669 ح 2، الوسائل ج 8 ص 491 ح 1 الباب 90.
(2) الكافي ج 2 ص 666 ذيل الحديث 1، الوسائل ج 8 ص 487 ح 1.
211

نفسه بنحو ما قلناه من وجوب عمل الفقيه بما قام له الدليل عليه، وإن ادعى الاجماع
على خلافه في مسألة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية، حيث قال ما صورته: والأقوى
ما اختاره المصنف، ولا يقدح دعواه الاجماع في فتوى العلامة، لأن الحق أن الاجماع
عند أصحابنا إنما يكون حجة مع تحقق دخول المعصوم في جملة قولهم، فإن حجيته
إنما هي باعتبار قوله عندهم، ودخول قوله في قولهم في مثل هذه المسألة النظرية غير
معلوم، وقد نبه المصنف في أوائل المعتبر على ذلك، ثم نقل عبارته إلى أن قال: وهذا
الانصاف عين الحق، فإن إدخال قول شخص غائب لا يعرف قوله في قول جماعة
معروفين بمجرد اتفاقهم على ذلك القول بدون العلم بموافقته لهم، تحكم بارد،
وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل
التي ادعوا فيها الاجماع إذا قام عنده الدليل على ما يقتضي خلافهم، وقد اتفق ذلك
لهم كثيرا "، لكن زلة المتقدم متسامحة عند الناس دون المتأخر، انتهى
وهو جيد نفيس.
ومنه يعلم أيضا " أن ما يقول به هو وغيره من هذه الاجماعات المتناقلة في
كلامهم والجارية على رؤس أقلامهم مما لا اعتماد عليها ولا التفات إليها، كما
حققه أيضا في رسالته التي في وجوب صلاة الجمعة، وحققناه بما لا مزيد عليه في
باب صلاة الجمعة من كتاب الصلاة (1).
بقي في المقام فوائد ينبغي التنبيه عليها: الأولى أنه على تقدير القول المختار
من اعتبار الجوار بعدد الدور من الجوانب الأربعة، فالظاهر أنه لا فرق في ذلك
بين الدار الصغيرة والكبيرة، ولا بين قرب المسافة بين الدور وبعدها، عملا " بالاطلاق
وحصول مسمى العدد، ويحتمل اعتبار قرب المسافة نظرا " إلى العادة والعرف في
البلدان، وأن دورها في الغالب متصلة بعضها ببعض، أو يكون بينها مسافة يسيرة
ولعله الأقرب، وهل يصدق هذا الحكم في سكان البادية؟ ظاهره في المسالك ذلك

(1) ج 9 ص 361 إلى ص 376.
212

حيث قال: ولو كان في أهل البادية اعتبر من ينزل حوله، ويسمى جاره عرفا " أو
مساحة أو عددا " بالنسبة إلى البيوت المخصوصة، انتهى.
وفيه اشكال بناء " على القول المختار، وأما على القولين الآخرين فيمكن ذلك
وإن كان لا يخلو من بعد، ووجه الاشكال أن مورد النصوص تفسير الجوار بالدور
والعدد المخصوص منها، ومن المحتمل قريبا " أن استمرار السكنى مما له مدخل
في ذلك، بخلاف البادية التي يتنقل ويتحول من مكان إلى آخر.
الثانية الظاهر أنه لا فرق في صدق الجوار بين أن يكون الدار ملكا "
للساكن أو إجارة أو عارية، وفي التحرير توقف في استحقاق المستأجر والمستعير
وربما قيل: باحتمال التخصيص بالمملوكة، وعلى هذا فإن كان مستعارا " أو
مستأجرا " لم يستحق أحد منهما من الوقف شيئا.
أما المالك فلعدم حصول الجوار بالنسبة إليه، وأما الساكن فلعدم كونه
مالكا "، وعلى ما استظهرناه فهل يكون الغاصب كذلك؟ اشكال من صدق الجوار
عرفا ومن أنه عدوان فلا يترتب عليه أثر، وتنظر في المسالك، قال: لعدم
المنافاة ورجع في التحرير العدم
الثالثة لو باع الدار التي يسكنها زال حقه من الجوار، وانتقل إلى المشتري
إن سكنها، ولو عاد إليها عاد إليه الحق، وكذا المستأجر بعد انقضاء المدة يعود إلى
كل منهما الحق متى حصل السكنى.
الرابعة لو غاب عن الدار بسفر مع إرادة الرجوع فأطلق بعضهم أنه
لا يخرج بذلك عن الاستحقاق، والأقرب التفصيل بأنه إن كانت الغيبة بعد السكنى
وله فيها أهل وعيال، وأسباب، وإنما سافر لأمر من الأمور التي جرت العادة
بالسفر لها، فلا ريب في صحة ما ذكروه من أنه لا يخرج عن الاستحقاق، سواء
كان الوقف متقدما " على سفره أم وقع في حال غيبته، وإن كانت غيبته عن الدار
وليس له فيها أهل ولا أسباب بالكلية، فما ذكروه محل اشكال، لعدم صدق
213

السكنى على هذه الحال على حال الغيبة، والفرق بين الصورتين أنه باعتبار أنه في
الدار من الأهل والعيال والأسباب في الصورة الأولى في حكم الساكن، بل هو
ساكن، وإن كان غائبا " بنية الرجوع، بخلاف الثانية.
الخامسة قالوا: لو كان له داران يتردد إليهما في السكنى فهو جار لأهلهما
فيستحق بسببهما معا " لصدق الاسم مع وجود القدر المعتبر عند معتبره، ولو كان
يسكنهما على التناوب أو بحسب الفصول استحق زمن السكنى.
أقول: وفي تخصيص الاستحقاق بمن السكنى في الصورة الأخيرة تأييد
لما قدمنا ذكره في الغائب عن داره، وليس له فيها عيال ولا مال ولا أسباب وإن
كان بنية الرجوع، فإنه لا يستحق زمن الغيبة شيئا ".
السادسة إن قلنا ببناء الجوار على العرف كما هو أحد الأقوال المتقدمة،
وجب قسمة الموقوف على رؤس الجيران مطلقا "، وكذا إن قلنا بالأذرع، ويستوي
فيه الصغير والكبير والذكر والاثني، وإن قلنا بالبناء على عدد الدور، والظاهر
قسمته على عددها صغيرة كانت أو كبيرة ثم يقسم رصد كل دار على عدد أهلها،
وقيل: بأنه يقسم من أول الأمر على عدد أهل الدور، والله العالم.
ومنها ما لو وقف على قومه، قال الشيخان: يكون على جماعة أهل لغته
من الذكور دون الإناث، وتبعهما ابن البراج وابن حمزة، وقال أبو الصلاح:
يعمل بالمعلوم من قصده، فإن لم يعرف ما قصده عمل بعرف قومه في ذلك
الاطلاق، وقال سلار: يكون لجماعة أهل لغته ولم يخص الذكور بالذكر.
وقال ابن إدريس: الذي يقتضيه أصول المذهب وتشهد بصحته الأدلة الظاهرة
أنه يكون مصروفا " إلى الرجال من قبيلته ممن ينطلق العرف بأنهم أهله وعشيرته،
دون من سواهم، هذا الذي يشهد به اللغة وعرف العادة وفحوى الخطاب،
قال الشاعر: " قومي هم قتلوا أميم أخي " " فإذا رميت يصيبني سهمي " قال:
وإنما قلنا إنه يختص بالذكر لقوله تعالى " لا يسخر قوم من قوم ولا نساء
214

من نساء " (1) وقول زهير: " فما أدري وسوف أخال أدري أقوم أهل حصن أم نساء "
قال: وأما الرواية التي وردت بأن ذلك على جميع أهل لغته فهي خبر واحد،
لا يوجب علما " ولا عملا " من غير دليل يعضدها من اجماع أو كتاب أو سنة أو دليل
أصل، فإذا عدم جميع ذلك وورد خطاب مطلق حمل على العرف، والعرف ما
اخترناه.
وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك عنه، والجواب المنع من ذلك،
فإن الشيخين أعرف باللغة، ومقاصد العرب، والمرجع في ذلك إليهم، انتهى.
أقول: الظاهر أن الأقرب من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه ابن إدريس
(رحمة الله عليه) لشهادة ما استند إليه من البيت بذلك، فإنه ظاهر فيما ادعاه من
أن المراد بقومه هم الأهل والعشيرة، وجواب العلامة له بما ذكره مجرد تحامل
عليه، كما هو عادته غالبا "، وأما ما يشير إليه كلام ابن إدريس من ورود رواية
بتفسير القول بما ذكره الشيخان وأتباعهما فلم تصل إلينا، ولا نقلها غيره ولو ثبتت
لما كان عنها معدل، وكلام ابن إدريس هنا في المنع من العمل بها على قاعدته
غير مسموع ولا موجه، ومن المحتمل قريبا " أن ابن إدريس ظن أن الشيخين إنما
ذكرا ذلك لرواية وصلت إليهما، فطعن فيها بما ذكره، ومثل ذلك كثير في
كلامه مع الشيخ من نسبة كلام الشيخ إلى أخبار الآحاد، مع أنه ليس ثمة خبر.
ومنها ما لو وقف على عشيرته، فقال الشيخان: إنه على الخاص من قومه
الذين هم أقرب إليه في نسبه، وبه قال سلار وابن البراج وابن إدريس، وقال:
أبو الصلاح، بعمل المعلوم من قصده، فإن لم يعرف عمل بعرف قومه في ذلك
الاطلاق، قال: وروى أنه إذا وقف على عشيرته كان على الخاص من قومه الذين هم
أقرب الناس إليه في نسبه، مع أنه قال عقيب ذلك: إذا وقف على قومه كان
ذلك على جميع أهل لغته من الذكور دون الإناث.

(1) سورة الحجرات الآية 11.
215

أقول: ما ذكره هنا من الرواية أيضا " فإنا لم نقف عليها ولم تصل إلينا،
و من المحتمل قريبا " أن هذه الرواية وكذا المذكورة في سابق هذا الموضع إنما
هي من روايات العامة، فإن أصحابنا كثيرا " ما يستسلفون رواياتهم في أمثال هذه
المقامات سيما مع عدم ورود نص من طرقهم، والله العالم.
المسألة الخامسة: إذا قال: وقفت على أولادي ثم على الفقراء، فإن أضاف
إلى ذلك ما يدل على الاختصاص بأولاد الصلب كقوله أولادي لصلبي ونحوه أو ما
يدل على العموم لكل من تناسل منه، بأن يقول: على أولادي والحال أنه لا ولد
له لصلبه، أو يقول: إلا ولد البنات، أو إلا ولد فلان، أو قال: يفضل البطن الأعلى
على التالي أو نحو ذلك، فإنه لا خلاف ولا اشكال في التخصيص في الأول، والعموم
في الثاني، إنما الخلاف فيما لو أطلق، فالمشهور بين المتأخرين هو الاختصاص
بأولاد الصلب، وهو قول الشيخ في المبسوط وابن الجنيد، لأنهم الأولاد، إذ هم
المتولدون من نطفته، اطلاقه على الأولاد مجاز، والمشهور بين المتقدمين
العموم لكل من تناسل منه ذكورا " وأناثا " حقيقة، وهو قول الشيخ المفيد وابن
البراج وأبو الصلاح وابن إدريس وغيرهم.
وقال الشيخ المفيد في المقنعة: وإذا وقف الانسان ملكا " على ولده ولم يخص
بعضا " من بعض بالذكر والتعيين كان لولده الذكور والإناث وولد ولدهم، وقال
ابن إدريس في السرائر: وإذا وقف على أولاده فحسب، ولم يقل لصلبه دخل فيهم
أولاد أولاده، ولد البنين والبنات، بدليل اجماع أصحابنا، ولأن اسم الولد يقع عليه
لغة وشرعا "، وقد أجمع المسلمون على أن عيسى عليه السلام ولد آدم، وهو ولد ابنته،
وقال النبي (1) صلى الله عليه وآله وسلم في الحسن والحسين عليهما السلام " ابناي هذان
إمامان قاما أو قعدا " ولا خلاف بين المسلمين في أن الانسان لا يحل له نكاح بنت

(1) البحار ج 43 ص 278.
216

بنته، مع قوله تعالى (1) حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " وبنت البنت بنت بغير
خلاف، فأما استشهاد المخالف على خلاف ما ذكرناه بقول الشاعر:
بنونا بنوا أبنائنا، وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فإنه مخالف لقول الرسول (صلى الله عليه وآله) وقول الأمة والمعقول فوجب رده
ولا يقضي بهذا البيت من الشعر على القرآن والاجماع، إلى آخر كلامه زيد في اكرامه.
والعجب من أصحابنا المتأخرين حيث خصوا الخلاف في كون المتولد من
البنت ابنا " حقيقة أم لا؟ بالمرتضى (رضي الله عنه) وكلام هؤلاء المذكورين مما
نقل هنا وما لم ينقل صريح في أنه ابن حقيقة، ونحو ذلك كلام الشيخ في الخلاف
في هذا الكتاب، فإنه قال: إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده دخل أولاد البنات
فيه، ويشتركون فيه مع أولاد البنين الذكر والأنثى فيه سواء، ثم نقل أقوال
العامة واختلافهم إلى أن قال: دليلنا اجماع المسلمين على أن عيسى بن مريم من
ولد آدم، وهو ولد ابنته، لأنه ولد من غير أب، وأيضا " دعاء رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) الحسن ابنا " وهو ابن بنته (2)، فقال: لا تزرموا على ابني أو لا تقطعوا
عليه بوله، وكان قد بال في حجره فهموا بأخذه، فقال: ذلك " فأما استشهادهم
بقول الشاعر بنونا ثم ذكر البيت ثم قال فإنه مخالف لقول النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) واجماع الأمة والمعقول، فوجب رده، على أنه إنما أراد بذلك الشاعر
الانتساب، لأن أولاد البنت لا ينسبون إلى أمهم وإنما ينسبون إلى أبيهم، وكلامنا
في غير الانتساب، انتهى وهو الحق الحقيق بالاتباع، وقد حققنا المسألة بما لا مزيد
عليه، ولا سبق سابق ولا لحق لاحق من علمائنا إليه في كتاب الخمس (3)،
والله العالم.

(1) سورة النساء الآية 23.
(2) معاني الأخبار ص 211 ط إيران سنة 1379.
(3) ج 12 ص 390 إلى 416.
217

المسألة السادسة: المشهور أنه لو وقف على مصلحة فبطل رسمها، فإنه يصرف
في وجوه البر ذكره الشيخ، وتبعه الجماعة من غير نقل خلاف، ويظهر من المحقق
في النافع التوقف في ذلك، حيث أنه نسب الحكم بذلك إلى قول، مؤذنا " بالتردد
فيه، علل القول المشهور بأن الملك خرج عن ملك الواقف بالوقف الصحيح
أولا "، فلا يعود إليه، والقربة الخاصة قد تعذرت، فإنه يصرف إلى غيرها من
القرب، لاشتراك الجميع في أصل القربة، ولأنه أقرب شئ إلى المراد الواقف،
ولا أولوية لما أشبه تلك المصلحة التي بطل رسمها، لاستواء القرب في عدم تناول
عقد الوقف لها، وعدم قصد الواقف لها بخصوصها، ومجرد المشابهة لا دخل له في
تعلقه بها، فيبطل القيد، ويبقى أصل الوقف من حيث القربة.
واعترضه في المسالك قال: وفيه نظر، فإنه لا يلزم من قصد القربة الخاصة
وإرادتها قصد القربة المطلقة، فإن خصوصيات العبادات مقصودة، ولا تلزم إرادة
بعضها من إرادة بعض، انتهى.
وعلل ما ذهب إليه المحقق في النافع بأنه حيث لا دليل على القول المذكور
فالأصل بقاء الملك، خرج عنه ما نص الواقف عليه، فمع تعذره يرجع الوقف
إليه مع وجوده، ومع فقده إلى ورثته، كذا ذكره ابن فهد في شرحه على الكتاب.
أقول: لا يخفى أن المسألة المذكورة وإن كانت غير منصوصة على الخصوص،
إلا أن لها نظائر في الشرع عديدة قد ورد الحكم فيها بما ذكره الأصحاب، ويرجع
الجميع إلى أنه مع تعذر ما عينه المالك من وصية أو نذر أو نحو ذلك، مما يجب
إنفاذه شرعا "، فإنه مع تعذر المصرف المخصوص يصرف في وجوه البر، ولا يرجع
إلى الورثة، وإن خالف فيه بعض الأصحاب كما هنا، فأوجب رده إلى الورثة
مع تعذر المصرف، إلا أنه محجوج بالأخبار الدالة على ما ذكرناه، فمن ذلك
ما لو أوصى بأبواب عديدة من الوصايا فنسي بابا " أو أبوابا "، فإنه يصرف في وجوه
218

البر كما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن الريان (1) " أنه كتب إلى أبي الحسن
محمد بن علي عليهما السلام يسأله عن انسان أوصى بوصية، فلم يحفظ الوصي إلا بابا "
واحدا منها كيف يصنع في الباقي؟ فوقع عليه السلام الأبواب الباقية يجعلها في البر ".
وذهب ابن إدريس هنا والشيخ في المسائل الحائريات إلى أنه يرجع ميراثا "
حيث أن الوصية بطلت، لامتناع القيام بها، والنص كما ترى بخلافه، ومن ذلك
ما رووه (عطر الله تعالى مراقدهم) عن علي بن يزيد صاحب السابري (2) عن أبي
عبد الله عليه السلام في حديث طويل يتضمن أنه أوصى رجل بتركته إلى علي المذكور،
وأمره أن يحج بها عنه، " قال: فنظرت فإذا هو شئ يشير لا يكفي للحج، فسألت
الفقهاء من أهل الكوفة فقالوا: تصدق بها عنه، فتصدق به ثم لقي بعد ذلك
أبا عبد الله عليه السلام فسأله وأخبره بما فعل، فقال: إن كان لا يبلغ أن يحج به من مكة
فليس عليك ضمان وإن كان يبلغ ما يحج به فأنت ضامن " والتقريب فيه أنه قرره
على الصدقة إذا لم يبلغ الحج به من مكة، ولم يحكم بكونه ميراثا ".
وفي جملة وافرة من الأخبار (3) ما يدل على أن ما أوصى به بالكعبة أو
كان هديا " لها أو نذرا " فإنه يباع إن كان جارية ونحوها، وإن كان دراهم فإنه يصرف
في المنقطعين من زوارها، معللين عليهم السلام ذلك بأن الكعبة لا تأكل ولا تشرب،
فيصرف ذلك إلى المحتاجين من زوارها، وهو مؤيد لذلك.
وقد تقدمت الأخبار المشار إليها في آخر جلد كتاب الحج (4) وهذه الأخبار

(1) الكافي ج 7 ص 58 ح 7، التهذيب ج 9 ص 214 ح 21، الفقيه ج 4
ص 162 الباب 110.
(2) الكافي ج 7 ص 21 ح 1 بعنوان علي بن فرقد، التهذيب ج 9 ص 228
ح 46 بعنوان علي بن مزيد.
وهما في الوسائل ج 13 ص 453 ح 1 و ص 473 ح 1.
(3) الكافي ح 4 ص 242 ح 2 و 3، التهذيب ج 5 ص 440 ح 175،
الوسائل ج 9 ص 352 الباب 22.
(4) ج 17 ص 360.
219

وإن كان موردها الوصية كما في بعض، والهدي كما في آخر، والنذر كما في ثالث
ولم يتضمن شئ منها حكم الوقف إلا أنها مما يتبادر منها إلى الفهم السليم والذهن
القويم كون الوقف كذلك، فإن الجميع مشترك في الخروج عن المالك بما وقع
من وقف أو وصية أو نذر أو نحوها، فعوده إليه عند تعذر المصرف المخصوص يتوقف
على الدليل، ولا دليل، بقي الأمر في أنه متى لم يرجع إليه فلا بد من مصرف،
وهذه الأخبار قد عينت مصرف ما اشتملت عليه بأنه أبواب البر، وإن كان مخصوصا "
في بعضها بنوع خاص، كما في أخبار الكعبة، فلا بد أن يكون مصرف الوقف
كذلك للاشتراك في العلة، وإلا بقي بغير مصرف وهو باطل اجماعا ".
وما ذكره في المسالك في الاعتراض على دليل القول المشهور من أنه لا يلزم
من قصده القربة الخاصة وإرادتها قصد القربة المطلقة إلى آخره، وارد في هذه
الأفراد التي ذكرناها، مع أن الأخبار قد صرحت بخلافه، وحينئذ فلا اعتماد
عليه، إذ لو كان صحيحا " في حد ذاته لكان عليا " في جميع هذه الموارد، مع أن الأخبار
كما دريت على خلافه.
وأما ما ذكره في المسالك على أثر الكلام المتقدم حيث قال: والتحقيق أن
المصلحة المذكورة الموقوف عليها لا يخلو من أن يكون مما ينقرض غالبا " أو يدوم
غالبا " أو يشتبه الحال، والأول كما لو وقف على شجر مخصوص كالتين والعنب.
وهذه الوقف يكون كمنقطع الآخر إذ هو بعض أفراده، فيرجع بعد انقضائه إلى
الواقف، أو ورثته على الخلاف، حيث لا يجعله بعده لمصلحة أخرى تقتضي التأبيد.
والثاني كالوقف على مصلحة عين من ماء مخصوص ونحوه مما تقضي العادة
بدوامه، فيتفق عوزه أو على قنطرة على نهر يتفق انقطاعها، وانتقاله عن ذلك
المكان حيث لا تكون العادة قاضية بذلك، والمتجه فيه ما ذكره الأصحاب لخروج
الملك عن الواقف بالوقف، فعوده يحتاج إلى دليل، وهو منتف، وصرفه في وجوه
البر أنسب بمراعاة غرضه الأصلي إن لم يجز صرفه فيما هو أعم منه.
220

والثالث كالوقف على مسجد في قرية صغيرة أو على مدرسة كذلك بحيث
يحتمل انقطاع مصلحته كما يحتمل دوامها، وفي حملها على أي الجهتين نظر،
من أصالة البقاء فيكون كالمؤبد، والشك في حصول شرط انتقال الملك عن مالكه
مطلقا " الذي هو التأبيد، فيحصل الشك في المشروط، فلا نحكم إلا بالمتيقن منه،
وهو خروجه عن ملكه مدة تلك المصلحة، ويبقى الباقي على أصلية البقاء على ملك
مالكه، انتهى.
ففيه أنه لا يخفى على المتأمل في هذا الباب أن أصل هذا الحكم لا نص عليه،
ولا دليل في الوقف على المصالح، بل هو بمقتضى قواعدهم باطل غير صحيح، لما
تقدم أن من جملة شروط الموقوف عليه عندهم أن يكون موجودا " له أهلية التملك
والحكم بصحة الوقف على هذه الكيفية إنما استندوا فيه إلى أن الوقف هنا في
الحقيقة وقف على المسلمين، وإن كان باعتبار مصلحة خاصة، وحينئذ فإذا كان
الموقوف عليه إنما هو المسلمون، فإنه لا يلزم من بطلان تلك المصلحة بطلان
الوقف، بل يجري في غيرها من مصالحهم بأي نحو كانت تلك المصلحة الموقوف
عليها أولا " من الأنحاء التي ذكرها.
بقي الكلام في أنه هل يتعين الأقرب فالأقرب إلى تلك المصلحة أم لا؟ وجهان
أحوطهما الأول، هذا وعندي في أصل الحكم أعني الوقف على المصالح اشكال،
حيث لم أقف على خبر دال على شئ من أفراد هذا النوع، فضلا " عن أن يدل
عليه بأمر كلي، وغاية ما يتعلقون به ويدور في كلامهم الوقف على المساجد،
وقد عرفت أن ظاهر الصدوق المنع منه، للخبرين المتقدمين، وظاهر الخبرين
المذكورين ذلك أيضا "، وبذلك يظهر أن تعميم الكلام في المصلحة المذكورة إلى
شمول مثل شجر العنب والتين وعين الماء كما تقدم في كلام شيخنا المشار إليه
مشكل، والله العالم.
بقي فيما يتعلق بهذا المطلب أمور يجب التنبيه عليها، أحدها: لو وقف على
221

بني تميم أو بني هاشم، فالمشهور الصحة، ويصرف إلى من يوجد منهم، وقال ابن
حمزة: لا يصح الوقف على بني فلان، وهم غير محصورين، وما ذهب إليه ابن حمزة
هو قول الشافعي، معللا " بالجهل في المصرف، حيث إنه متعذر استيعابهم وحصرهم
وفي التذكرة أسند القول بالصحة إلى علمائنا، مؤذنا " بدعوى الاجماع عليه، ورد
ما ذكره ابن حمزة والشافعي بالأخبار والاجماع الدالين على صحة الوقف على
الفقراء والمساكين والمؤمنين مع انتشارهم وعدم حصرهم.
أقول: ويدل عليه ما رواه في الكافي عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي (1)
" قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين
من ولد فلان ابن فلان، وهم كثير متفرقون في البلاد، فأجاب: ذكرت الأرض
التي وقفها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف
وليس لك أن تتبع من كان غائبا " ".
ورواه الشيخ مثله، (2) إلا أنه قال: من ولد فلان بن فلان الرجل يجمع
القبيلة، وهم كثير متفرقون في البلاد وفي ولد الواقف حاجة شديدة فسألوني
أن أخصهم بهذا دون سائر ولد الرجل الذي يجمع القبيلة، فأجاب عليه السلام كما تقدم.
وثانيها المشهور بينهم جواز الوقف على الذمي، لأن الوقف تمليك فهو
كإباحة المنفعة وقيل: لا يصح، لأنه تشترط فيه نية القربة.
أقول: مرجع هذا الخلاف إلى ما تقدم في الوقف على الكافر، فإن
اشترط التقرب في الوقف بطل هذا الوقف، وإلا فلا، وقد مر تحقيق الكلام
في هذا المقام.
وثالثها المشهور أنه لو وقف ولم يذكر المصرف بطل الوقف، لأن الوقف
تمليك فلا بد من ذكر المالك، كالبيع والهبة ونحوهما، فلو قال: بعت داري

(1) الكافي ج 7 ص 38 ح 37.
(2) التهذيب ج 9 ص 133 ح 10، الوسائل ج 13 ص 308 ح 1.
222

بكذا أو وهبتها ولم يذكر المشتري ولا الموهوب بطل اجماعا ".
أقول: ويؤيده ما تقدم ذكره من أن الوقف من العقود الناقلة للملك، فلا بد
فيه من دليل يدل على ما يحصل به النقل، والعقد بهذه الكيفية لم يقم دليل على كونه
ناقلا "، وبالجملة بقاء الملك حتى يقوم دليل شرعي على نقله أقوى دليل في المقام.
ونقل عن ابن الجنيد الصحة، قال: ولو قال: صدقة لله ولم يذكر من
تصدق بها عليه جاز ذلك، وكان ذلك في أهل الصدقات الذين سماهم الله لأن
الغرض من الوقف الصدقة والقربة، وهو متحقق، وأورد عليه بأن الغرض من الوقف
ليس مطلق القربة بل القربة المخصوصة، أقول: والأظهر في رده هو ما قدمناه ذكره.
ورابعها المشهور أنه إذا وقف على أولاده أو إخوته أو ذوي قرابته ولم
يفضل بعضا " على بعض، فإن مقتضى الاطلاق الاشتراك والتساوي بين الذكور
والإناث، والأقرب والأبعد، والوجه في ذلك هو أن كل من تناوله أحد هذه
الألفاظ ونحوها دخل في الحكم المذكور، والاشتراك يقتضي التسوية، وبعض
هذه الألفاظ وإن كان مخصوصا " بالذكور كالأخوة مثلا " إلا أنه لا خلاف في دخول
الإناث تبعا "، كما في سائر الأحكام الشرعية التي مورد الأخبار فيها الذكور،
إلا مع قيام دليل على التخصيص، ونقل عن ابن الجنيد هنا أنه مع الاطلاق يكون
للذكر مثل خط الأنثيين، حملا " على الميراث، وكذا لو قال: لورثتي وفيه أنه
قياس مع الفارق.
المطلب السادس في اللواحق:
وفيه مسائل: الأولى اختلف الأصحاب (رحمهم الله) في أن الوقف هل
ينتقل عن ملك الواقف أم لا؟ وعلى الأول فهل ينتقل إلى الموقوف عليه أم إلى
الله تعالى؟ أم يفصل في ذلك بين ما كان الوقف لمصلحة أو جهة عامة؟ فإنه ينتقل
إلى الله عز وجل، وما كان الموقوف عليه ممن يصح تملكه، فإنه ينتقل إليه،
فالكلام هنا يقع في مقامين: الأول أنه هل ينتقل الموقوف بالوقف عن ملك
الواقف أم لا؟ المشهور الأول، ونقل عن ظاهر أبي الصلاح وأسنده في المسالك
223

أيضا " إلى اختيار جمع من العامة أنه يبقى على ملك الواقف، احتج الأولون بأن
الواقف يزيل التصرف في العين و المنفعة، فيزيل الملك كالعتق، ولأنه لو كان باقيا "
على ملكه لرجعت إليه قيمته.
احتج الآخرون بقوله (صلى الله عليه وآله) (1) " حبس الأصل
وسبل الثمرة " وسيأتي أن التحبيس على الآدمي لا يخرج عن الملك، ولجواز
إدخال من يريد مع صغر الأولاد، ولو أنتقل لم يجز ذلك ودليل الصغرى
قد تقدم، والكبرى ظاهرة، وأجيب عن الأول بأن المراد بتحبيس الأصل أن
يكون محبوسا " على ملك الموقوف عليه، وما في معناه لا يباع ولا يوهب ولا يورث،
والملك إنما زال على هذا الحد من الشرائط ومطلق الحبس لا يدل على عدم
الخروج، فإن منه ما يخرج عن الملك، مع أن هذا الحبس ليس هو ذلك، لأنه
قسيمه، فلا يكون قسما " منه، بل هذا حبس أقوى.
وعن الثاني بأن إدخال من يريد من أولاده إن سلم، فبدليل من خارج.
أقول: لا يخفى على من لاحظ الأخبار المتقدمة سيما أخبار صدقاتهم (2) عليهم السلام
ووقوفهم أنه لا يرتاب في دلالتها على خروج الوقف عن ملك الواقف، وصيرورته
كالأجنبي خصوصا " ما دل على نصب القيم بذلك الوقف، وأن مورد الصدقة فيها
التي هي عبارة عن الوقف كما عرفت هو العين بأن قصد المتصدق بها ابتغاء وجه الله
سبحانه، بمعنى أنه أخرج هذه العين عن ملكه إلى ملك أولئك الموقوف عليهم
ابتغاء وجه الله، ويؤكده قوله (3) عليه السلام في بعضها صدقة بتلا " بتا " أي منقطعة عن
صاحبها الأول، ومبانة عنه، فإن البتل لغة القطع، والبت أيضا " بمعناه، وفي
حديث صدقة الكاظم (4) عليه السلام وفي حديث صدقة أمير المؤمنين عليه السلام بأمواله هذه

(1) المستدرك ج 2 ص 511 الباب 2 ح 1.
(2) الكافي ج 7 ص 47 باب صدقات النبي صلى الله عليه وآله وفاطمة والأئمة (عليهم السلام)
ووصاياهم.
(3) الكافي ج 7 ص 45 ذيل ح 8 و ص 49 ح 7، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 311 الباب 10.
(4) الكافي ج 7 ص 45 ذيل ح 8 و ص 49 ح 7، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 311 الباب 10.
224

صدقة واجبة بتلة حيا " أنا أو ميتا " ينفق في كل نفقة يبتغي بها وجه الله إلى آخره،
وبتلة منقطة عن صاحبها.
وفي صحيح محمد بن مسلم والحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قالا سألناه عن
صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصدقة فاطمة عليها السلام قال: صدقتها
لبني هاشم وبني المطلب " واللام للملك، ونحوه رواية أبي مريم، وبالجملة
فالظاهر أنه لا خلاف في ضعف القول المذكور، والله العالم.
الثاني أنه على تقدير الانتقال هل ينتقل إلى الموقوف عليه أم إلى الله
سبحانه، أم التفصيل؟ أقوال: أشهرها الأول قال الشيخ في المبسوط: إذا وقف
وقبض زال ملكه عنه على الصحيح، وملكه الموقوف عليه، واختاره ابن إدريس
وغيره، ونقل ابن إدريس عن بعضهم أنه ينتقل إلى الله، وحكاه الشيخ في المبسوط
عن قوم، والقول بالتفصيل اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.
استدل للقول الأول، بأنه مال ثبوت أحكام المال فيه ولهذا يضمن بالقيمة،
فكان ملكا " كأم الولد، وبهذا النحو وإن كان مجملا " استدل المحقق في الشرايع،
وأوضحه في المسالك بأنه مال مملوك لوجود فائدة الملك فيه، وهي ضمانه بالمثل
والقيمة، وليس الضمان للواقف ولا لغيره، فيكون للموقوف عليه.
وأورد عليه بأنه ينتقض ذلك ببواري المسجد والأمة، فإنها تضمن بالقيمة،
وملكها لله تعالى لا للناس.
واحتج القائل بالقول الثاني بأن الوقف إزالة ملك عن العين والمنفعة على
وجه القربة، فانتقل الملك إلى الله تعالى كالعتق، ولأنه ممنوع من بيعها فلو ملكها
لكان له سبيل إلى اخراجها عنه، لأن " الناس مسلطون على أموالهم " (2) وأجاب
في المختلف بظهور الفرق بين العتق والوقف، قال: لأن العتق اخراج عن المالية

(1) الكافي ج 7 ص 48 ح 2، الوسائل ج 13 ص 294 ح 8.
(2) البحار ج 2 ص 272 ح 7.
225

بالكلية، وإزالة التسلط عن العبد بالنسبة إلى كل أحد والمنع من البيع،
لا يقتضي الخروج عن الملك، كأم الولد.
وأما القول بالتفصيل فاستدل عليه في المسالك قال: بعد أن اختار القول
بالانتقال عن الواقف لكن هذا إنما يتم في الموقوف عليه المعين المنحصر، أما
لو كان على جهة عامة أو مسجد أو نحوه فالأقوى أن الملك فيه لله تعالى لتساوي
نسبة كل واحد من المستحقين إليه، واستحالة ملك كل واحد، أو واحد معين،
أو غير معين للاجماع، واستحالة الترجيح، ولا المجموع من حيث هو مجموع،
لاختصاص الحاضر به، انتهى.
أقول: لا يخفى على من راجع الأخبار وقطع النظر عن كلامهم فإن المستفاد
منها أنه متى كان الموقوف عليه موجودا " منحصرا " فإنه ينتقل الملك إليه، ولهذا
دلت على اشتراط قبضه، أو قبض وليه، ليتم بذلك الملك، ويمتنع الرجوع فيه
كما تقدمت الأخبار به ومتى كان الموقوف عليه جهة عامة كالفقراء أو مصلحة
كالمساجد فإن غاية ما يفهم منها هو أنه بالوقف يخرج من ملك الواقف، وأما أنه يصير
إلى الله سبحانه أو غيره فلا دلالة في شئ من الأخبار عليه، وإنما يدل على أنه
بعد الوقف وخروجه عن ملك الواقف يجب ابقاء العين، ولا يجوز التصرف فيها
ببيع ولا هبة ولا ميراث ولا نحو ذلك من الأمور الموجبة لاخراجها عما صارت إليه
وصرف حاصلها في تلك الجهة، أو المصلحة المعينة.
وأما أنه يشترط القبض فيها كما هو المشهور من أن القبض شرط في صحة
الوقف مطلقا "، فيجب القبض هنا من القيم الذي ينصبه الواقف، أو الحاكم
الشرعي أو غير ذلك، فلا دليل عليه في الأخبار، ومورد القبض فيها إنما هو فيما
إذا كان الموقوف عليه موجودا " معينا " محصورا "، على أن المراد من كونه في هذه
الصورة ملكا لله كما صرح به في المسالك إنما هو الكناية عن عدم انتقاله إلى أحد
من الآدميين.
226

قال: والمراد بكون الملك لله انفكاك الموقوف عن ملك الآدميين
واختصاصهم، لا كونه مباحا " كغيره مما يملكه الله تعالى، انتهى وهو يرجع إلى
ما ذكرناه.
وفي حديث وقف أمير المؤمنين عليه السلام أمواله (1) على جهة الطاعات والقربات
وصلة الرحم بعد أن جعل الولي القيم بذلك الحسن ثم الحسين عليهما السلام ثم من يختاره
الحسين عليه السلام ما صورته " وأن يشترط على الذي يجعله إليه أن يجعل المال على
أصوله، وينفق الثمرة حيث يأمره به من سبيل الله، وذوي الرحم من بني هاشم
وبني المطلب القريب والبعيد لا يباع منه شئ، ولا يوهب، ولا يورث " الحديث،
وليس فيه كما ترى أزيد من أنه بعد الوقف يجب ابقاء أصوله على ما هي، ولا
يتصرف فيها بشئ من هذه التصرفات ونحوها، ويصرف، الحاصل في الوجه الذي
عينه، ولا دلالة فيه على الانتقال لأحد، وهو ظاهر في الرد على القول المشهور من
أنه ينتقل في هذه الصورة إلى الموقوف عليه، وليس في الخبر أيضا " على طوله
ما يشعر بأنه أقبضه أحدا "، بل ظاهره أنه مدة حياته عليه السلام كان في يده يصرفه في
الوجوه المذكورة، وبعد موته فوض الأمر فيه إلى الحسن ثم إلى الحسين عليهما السلام
ثم من ذكره في الخبر، ولو كان القبض في هذه الصورة شرطا " في صحة الوقف
لوقعت الإشارة إليه في الخبر، واحتمال أنه قبضه بالولاية العامة وإن أمكن، إلا
أن الظاهر بعده، إذ هو فرع وجود الدليل على اشتراط القبض في هذه الصورة
ونحوها، وقد عرفت أنه لا دليل على ذلك فيها سوى الصورة المتقدمة.
فروع:
الأول: قال في المختلف: إن قلنا بأن الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه ثبت
بشاهد ويمين، لأن المقصود منه المال، وإن قلنا إنه ينتقل إلى الله تعالى لم يثبت

(1) الكافي ج 7 ص 49 ح 7، الوسائل ج 13 ص 312 ح 4.
227

بالشاهد و اليمين، كالعبد لو ادعى العتق ويحتمل عندي ثبوته بالشاهد، واليمين،
وإن لم ينتقل إليه، لأنه يحلف لتحصيل، غلته ومنفعته، فلما كان المقصود من الوقف
المنفعة، وهي ما يثبت بالشاهد واليمين، بخلاف حرية العبد، لأن المقصود منها
تكميل الأحكام، انتهى.
أقول: ما ذكره جيد فيما إذا كان الموقوف عليه معينا محصورا "، أما لو كان
الموقوف عليه الجهة أو المصلحة كما مقتضى القول بالتفصيل الذي شرحناه،
فاشكال لما عرفت من أن علة الوقف هنا لا مالك لها معينا "، ليقيم الشاهد، ويحلف
معه، سيما إذا كان الوقف لمسجد ونحوه، والقيم لا تعلق له بذلك إلا من حيث صرف
الغلة وحفظ الأصول ونحو ذلك، ولأنه غير مالك للغلة، إذ هو غير داخل في
الموقوف عليه، والله العالم.
الثاني: قالوا: لو أعتق العبد الموقوف عليه لم يصح، لتعلق حق البطون به
قيل: في توجيهه لما كان الحكم بانتقال الملك إلى الموقوف عليه ربما أوهم
جواز تصرفه في العين بالعتق وغيره، والأمر ليس كذلك، نبهوا على منعه أيضا "،
وعللوا بأنه وإن كان مالكا " إلا أن الحق غير منحصر فيه، بل مشتركا " بينه وبين
ما بعده من البطون، وإن لم تكن موجودة بالفعل، فتصرفه فيه بالعتق يبطل حقهم.
أقول: لا يخفى أن الأخبار قد تكاثرت بأن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث
بعد أنه عقد صيغة الوقف، والانتقال عن الواقف يجب ابقاؤه على حاله، لا يتصرف
فيه بما يوجب النقل بأي وجه كان، وهذه الألفاظ إنما خرجت مخرج التمثيل،
و المراد إنما هو ما ذكرناه كما يشير إليه قول أمير المؤمنين عليه السلام فيما تقدم قريبا " وأن
يجعل المال على أصوله، وينفق الثمرة حيث أمره، إلى أن قال: لا يباع منه شئ
ولا يوهب، ولا يورث وفي آخر لا تباع ولا تورث، ولا توهب، فمن باعها أو وهبها
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وفي ثالث لا تباع ولا توهب حتى يرثها وارث السماوات والأرض.
228

وفي رابع حتى يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض " والمراد بجعل المال
على أصوله يعني جعله على الوجه الذي عينه الواقف من كونه لا يتصرف فيه بشئ
من الوجوه الناقلة، إلى أن يرثه وارث السماوات والأرض، ولا ريب أن العتق
تصرف ناقل، ومخرج عما عينه الواقف، سواء كان الوقف بعد الموقوف عليه
راجعا " إلى البطون أو أحد الجهات العامة والمصالح، وبه يظهر ما في العبارة المتقدمة
من الحزازة،
الثالث: لو كان العبد مشتركا " بين اثنين بالمناصفة، فوقف أحدهما
نصفه، ثم أعتق الآخر نصفه فهل يسري عليه ويعتق أجمع، أم لا؟ قالوا: يبنى على
أن الملك في الوقف هل بقي للواقف، أم انتقل إلى الله تعالى، أم إلى الموقوف
عليه؟ فعلى الأولين لا سراية لأنه على تقدير عدم انتقاله عن الواقف في معنى اعتاقه،
وهو ممتنع أيضا " لما يستلزم من ابطال حق الموقوف عليه، وعلى تقدير انتقاله إلى
الله تعالى يكون في معنى التحرير الذي لا يقبل التحرير ثانيا ".
وأما على تقدير انتقاله إلى الموقوف عليه فإن الأكثر على عدم السراية
أيضا، قيل: بل كاد أن يكون اجماعا "، وعلل بأن العتق لا ينفذ في الحصة الموقوفة
مباشرة، كما تقدم، فبالأولى أن لا ينفذ فيها سراية.
وقيل: بالسراية والفرق بين المباشرة والسراية بما هو مذكور في كلامهم،
ولهم في المقام كلام لا فائدة في التعرض لذكره، فإنه لا يخفى على من لاحظ
أخبارهم عليهم السلام في المقام، أن جميع ما أطالوا به من الكلام والنقص والابرام كله نفخ
في غير ضرام لأنها قد صرحت كما تقدم ذكره بأنه بعد عقد الوقف الجامع لشرائط
الصحة يجب ابقاء العين الموقوفة، بمعنى أنه لا يتصرف فيها بنقل، وإنما المتصرف
في حاصلها بصرفه على من وقف عليه من بطون أو جهة أو مصلحة، وأنه يجب ابقاء
العين على الوجه المذكور إلى أن يرثها الله تعالى وارث السماوات والأرض، وهو
229

كناية إلى التأبيد إلى يوم القيمة، وهو معنى الخبر النبوي (1) " حبس الأصل
وسبل الثمرة " ولا معنى لحبسه إلا عدم التصرف فيه بوجه ناقل عما هو عليه بعد
الوقف، ونحوه قول أمير المؤمنين عليه السلام المتقدم، ويجعل المال على أصوله وينفق
الثمرة " وبذلك يظهر لك أن هذا الخلاف والتفريع على ما ذكروه من تلك الأقوال
التي قد عرفت خروج أكثرها عن جادة الاعتدال كله تطويل بغير طائل والله العالم.
الرابع: قالوا: مما يتفرع على الخلاف المتقدم نفقة العبد الموقوف، فإن
جعلناه للموقوف عليه، كما هو أحدا الأقوال، ففي نفقته وجهان: بل قولان:
أحدهما للشيخ في المبسوط، وهو أنها في كسبه، لأن نفقته من شروط بقائه، كعمارة
العقار وهي مقدمة على حق الموقوف عليه، ولأن الغرض بالوقف انتفاع الموقوف
عليه، وهو موقوف على بقاء عينه، وإنما يبقى بالنفقة فيصر كأن قد شرطها من
كسبه.
والثاني والظاهر أنه الأقرب وقواه في المسالك وهو اختيار العلامة في المختلف
وغيره أيضا، وجوب النفقة على الموقوف عليه، لأنه ملكه، والنفقة تابعة للملك.
أقول: ويؤيده أن منافعه مستحقة للموقوف عليه بالوقف، وربما أوجب
سعيه في كسب النفقة وتحصيلها تفويت المنافع المذكورة، فلا ثمرة للوقف حينئذ
وما تقدم من الاستدلال على كونها في كسبه بأن النفقة من شروط بقائه مسلم،
ولكن لا يستلزم ذلك أن يكون من كسبه، بل الواجب على الموقوف عليه ذلك
للغرض المذكور.
وإن قلنا بكونه لله عز وجل فإنهم بنوه على أن نفقة مستحق المنافع كالأجير
الخاص والموصى بخدمته على مستحقها، أم لا؟ فإن جعلناها عليه، فهي هنا على
الموقوف عليه أيضا "، وإلا ففي كسبه، فإن تعذر ففي بيت المال، وإن قلنا بكونه
للواقف فاشكال.

(1) المستدرك ج 2 ص 511 الباب 2 ح 1.
230

قال في المسالك: وعلى القول بكون المالك هو الواقف، فالنفقة على
الموقوف عليه على الأول، وعلى الواقف على الثاني، انتهى.
وهو غير ظاهر المراد، ولعل ذلك لغلط في العبارة المذكورة وبالجملة حيث كانت
المسألة خالية من النص فللتوقف فيها مجال، إلا أنه يمكن الكلام في ذلك جريا على
قواعدهم بأن يقال: إنك قد عرفت آنفا " أن الأظهر هو انتقال الوقف إلى الموقوف عليه
إن كان معينا، وإن كان جهة أو مصلحة فهو غير مملوك لأحد، وهو الذي عبروا
عنه بأنه ملك لله سبحانه، وعلى الأول فإن مقتضى القول بالملك وجوب النفقة على
المالك كما هو أحد القولين المتقدمين، وأشهرهما وأظهرهما.
وعلى الثاني فإن الظاهر أن النفقة تكون في كسبه مقدمة على حق الموقوف
عليه، فإن قصر كسبه ففي بيت المال إن كان، وإلا وجبت كفاية على المكلفين كغيره
من المضطرين، وأما البناء على أن نفقته على مستحق المنافع كما تقدم، فالظاهر
بعده، لأن مستحق المنافع قد لا يكون له مال، من أجل ذلك كان أحد الأقوال فيه أن
نفقته على نفسه، وليست على المستأجر كما تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الإجارة
على أن البناء على نقل ذلك لا يخرج عن القياس الخارج عن أصول الشريعة.
ولو مات العبد فمؤنة تجهيزه كنفقته حال حياته، ولو كان الوقف عقارا "
فإنهم صرحوا بأن نفقته حيث شرط الواقف، فإن انتفى الشرط ففي غلته مقدمة
على الحق الموقوف عليه، فإن قصرت لم يجب الاكمال.
أقول: ويدل على الاخراج من الغلة مقدما " على حق الموقوف عليه
قول الكاظم عليه السلام (1) في حديث وقف أرضه المتقدم ذكره، " يقسم وإليها ما أخرج الله
من غلتها بعد الذي يكفيها من عمارتها، ومرافقها بين ولد موسى إلى آخره " ولو
عدمت الغلة لخراب الوقف واضمحلاله لم تجب عمارته، بخلاف الحيوان لوجوب
صيانة روحه.

(1) الكافي ج 7 ص 53 ح 8، الوسائل ج 13 ص 314 ح 5.
231

ولو صار العبد الموقوف مقعدا " أو عمى أو جذم انعتق، وبطل الوقف وسقطت
عنه الخدمة، وقضية ذلك سقوط النفقة عن مولاه، لأن وجوب النفقة عليه من
حيث أنه مملوك له، والآن قد صار حرا، وعلى هذا فنفقته مع عدم وجود باذل من
الواجبات الكفائية على المسلمين كغيره من المضطرين، والموقوف عليه من
الجملة، فالوجوب شامل له، وإن تغاير الوجه والله العالم.
المسألة الثانية: لو جنى العبد الموقوف على غيره عمدا " أو خطأ أو جني عليه
فهنا مقامات ثلاثة: الأول أن يجني عمدا " ولا خلاف في أنه يلزمه القصاص
وإن استلزم ابطال الوقف عمدا "، بما دل على وجوب القصاص من الجاني.
قال في المسالك: وهو موضع وفاق، ثم إنه إن كانت الجناية دون النفس
قالوا: يبقى الباقي وقفا " لوجود المقتضي، فإن الوقف لا يبطل بتلف بعض الموقوف
وهو ظاهر لا اشكال فيه ولا خلاف، وإن كانت الجناية النفس، فإن اختار الولي
القصاص كان ذلك له، ولا اشكال أيضا "، وإن اختار الولي الاسترقاق الذي هو أحد
فردي الحقين المخير فيهما الولي إذا كان الجاني عمدا " عبدا "، فهل له ذلك أم لا؟
قولان: فقيل: بالأول، لأن المجني عليه له ابطال الوقف وإخراجه عن ملك
الموقوف عليه بالقتل قطعا " والعفو عنه أمر مطلوب شرعا "، وراجح قطعا، وفي
استرقاقه جمع بين حق المجني عليه، وفضيلة العفو، فيكون أولى من القتل، وإلى
هذا القول مال في المسالك فقال: إنه الأقوى.
وقيل: بالثاني وبه جزم المحقق في الشرايع والعلامة في الإرشاد والتحرير وفي
القواعد بعد أن أفتى بذلك قال: على اشكال، وعلل القول المذكور بأن الوقف يقتضي
التأبيد ما دامت العين باقية، وهو ينافي استرقاقه، لاستلزام بطلان الوقف مع بقاء عينه
وخروجه عن الوقف في بعض الموارد لدليل خارج، لا يقتضي التعدي بحيث لا دليل.
أقول: ومن تعارض هذين التعليلين استشكل في القواعد، إلا أن شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك حيث اختار القول الأول أجاب عن هذا التعليل، بأن
232

التأبيد الواجب في الواقف إنما هو من حيث لا يطرء عليه ما ينافيه، وهو موجود
هنا فيما هو أقوى من الاسترقاق، انتهى.
وبالجملة فالمسألة لخلوها من النص محل اشكال، لما عرفت من عدم الركون
إلى أمثال هذه التعليلات، في تأسيس الأحكام الشرعية، فكيف مع تعارضها، إلا أنه يمكن أن يؤيد ما ذكره شيخنا المتقدم باطلاق الأخبار الواردة في المسألة.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبان بن تغلب (1) عمن رواه عن أبي
عبد الله عليه السلام " قال: إذا قتل العبد الحر دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه،
وإن شاؤوا حبسوه، وإن شاؤوا استرقوه يكون عبدا " لهم " وبهذا المضمون أخبار آخر
هي المستند في أصل المسألة، والتقريب فيها هو أن العبد المذكور في هذه الأخبار
شامل للموقوف والمطلق، فإنه بالوقفية لم يخرج عن العبودية، وقد دلت على أن
الحكم في العبد القاتل عمدا " التخيير بين القتل والاسترقاق.
نعم ظاهر كلامهم يدعون الخروج عما دلت عليه هذه الأخبار بالنسبة إلى
جواز اختيار الاسترقاق بالمعارضة، بأن الوقف يقتضي التأبيد ما دامت العين
موجودة، فلا يجوز الاسترقاق وإلا للزم بطلان الوقف مع بقاء عينه، وغاية ما يلزم
من هذه المعارضة، أنه قد تعارض هنا عموم الأخبار الدالة على جواز استرقاق
العبد القاتل عمدا " أعم من أن يكون وقفا " أو طلقا "، وعموم الأخبار الدالة على
أن الوقف يقتضي التأبيد ما دام الموقوف موجودا " أعم من أن يكون عبدا " قاتلا " أو
غيره، وتخصيص أحد العمومين بالآخر يحتاج إلى دليل فمن أين يرجع ما أدعوه
من تخصيص أحد العموم الأول بالثاني دون العكس، بل يمكن ترجيح العكس، باتفاقهم
على الخروج عن العموم الثاني باختيار جواز القتل لهذه الأخبار، وهي كما دلت
على ذلك دلت على جواز اختيار الاسترقاق، فالواجب تخصيص العموم الثاني
بالأول، والله العالم.

(1) الكافي ج 7 ص 304 ح 6، التهذيب ج 10 ص 194 ح 63، الوسائل
ج 19 ص 73 ح 2.
233

الثاني أن تكون الجناية خطأ وقد اختلف كلامهم في هذا المقام فقال
الشيخ وجماعة: بأنها تتعلق بمال الموقوف عليه، لتعذر استيفائها من رقبته، إذ لا
يتعلق الأرش إلا برقبة من يباع، والبيع هنا ممتنع من حيث الوقف، وحق الموقوف
عليه، فالواجب عليه أن يفديه بالأرش.
قال في المبسوط: إذا حنى العبد الموقوف جناية توجب المال لم يتعلق إلا
برقبة من يباع فيه، فأما رقبة من لا يباع فالأرش لا يتعلق بها، إذا ثبت هذا
فمن قال: أن المالك ينتقل إليه، فهو في ماله، ومن قال: ينتقل إلى الله قيل:
من مال الواقف، لأنه الذي منع الرقبة من تعلق الأرش بها، وقيل: يكون في
بيت المال كالحر، انتهى.
وذهب المحقق في الشرايع إلى أنه يتعلق بكسبه، قال: لأن المولى لا يعقل
عبدا "، ولا يجوز اهدار الجناية، ولا طريق إلى عتقه، فيتوقع، وبهذا القول
صرح العلامة في التحرير والمختلف.
قال في المسالك: وهو الأقوى، وهو اختيار الشهيد في الدروس، معللا " بما
ذكره المحقق بأن كسبه أقرب الأشياء إلى رقبته، فإذا تعذر تعلقه برقبته تعلق
بما هو أقرب إليه، احتمل في المختلف تعلقها برقبته، فيباع فيها كما يقتل في
العمد، والبيع أدون من القتل، وهذا كله مبني على انتقال الملك إلى الموقوف
عليه.
أما على القول بانتقاله إلى الله، أو القول ببقائه على ملك الواقف كما تقدم
نقله عن أبي الصلاح وبعض العامة، فإنهم قالوا: يحتمل تعلق أرش الجناية
بالوقف، لأنه بوقفه منع من تعلق الأرش برقبته، ويحتمل أن تكون في بيت
المال كالحر المعسر.
أقول: قد عرفت من كلام الشيخ المتقدم أنه حكى هذين الاحتمالين قولين
في المسألة، وزاد بعضهم على هذا التقدير احتمال التعلق بكسبه أيضا "، والظاهر
234

أن احتمال تعلقها ببيت المال أو الكسب إنما هو بناء على القول بالانتقال إلى الله،
وإلا فعلى القول بالبقاء على ملك الواقف، فالمناسب هو كون ذلك على الواقف،
للتعليل المتقدم، ثم إنه على تقدير القول بتعلقها بكسبه فلو لم يكن كسوبا " قال
في المسالك: اتجه تعلق الجناية برقبته، وجواز بيعه كما يقتل في العمد، والبيع
أدون من القتل.
أقول: قد تقدم في كلام العلامة احتمال التعلق بالرقبة، وجواز البيع
مطلقا "، ومن هنا أورد الشهيد (رحمة الله عليه) في شرح الإرشاد، وعلى عبارة
الشيخ المتقدم الدالة على تعذر استيفاء الجناية من رقبته، لعدم صحة بيعه، بأن
هذا إنما يتم لو لم يكن على منحصر، وكان المنحصر موسرا "، وقد تلخص من ذلك
احتمال التعلق بالرقبة مطلقا " ومع العجز عن الكسب، ومع كون الموقوف عليه
منحصرا " معسرا "، هذا حاصل كلامهم في المقام، والمسألة محل توقف واشكال،
والله العالم.
الثالث لو جنى عليه فإن كانت جناية توجب القصاص كأن يقتله عبد مثله،
فظاهر كلامهم تفريع ذلك على الخلاف المتقدم، فإن قلنا بأن الملك ينتقل إلى
الموقوف عليه، فإنه يصير القصاص إليه كما لو كان المقتول عبده، ولو قلنا بانتقاله
إلى الله تعالى مطلقا " أو على التفصيل المتقدم، فإنه يكون ذلك إلى الحاكم الشرعي،
لأنه ولي هذه المصالح المتعلقة به سبحانه، ولو قلنا ببقائه على ملك الواقف كان
حق القصاص إليه، وقد عرفت فيما تقدم أن الأصح هو التفصيل، بأنه إن كان
الموقوف عليه منحصرا "، فإنه للموقف عليه، وإن كان على جهة عامة أو مصلحة عامة
فإنه لله سبحانه، وعلى هذا يترتب القصاص هنا، فيقال: بكونه للموقوف عليه على
الأول والحاكم على الثاني، وأما إذا أوجب القتل الدية كأن يقتل خطأ أو أخذت
صلحا " أو يكون القاتل حرا "، أو فيه شئ من الحرية، أو أوجبت الجناية أرشا "
كقطع يده مثلا "، ملخصه أن تكون الجناية موجبة للمال، فهل يكون ذلك
235

للموجودين من الموقوف عليهم وقت الجناية، أو أنه يشتري به عبد أو بعض عبد
يكون وقفا "؟ قولان.
قال في المبسوط: لو جني على العبد الموقوف عليه، ووجبت قيمته، قال
قوم: يشتري بها عبد آخر يقوم مقامه، سواء قيل: انتقل ملكه إلى الله، أو إليه،
لأن حق البطون الأخر تعلق برقبة العبد، فإذا مات أقيم غيرها بقيمتها مقامها،
وفيهم من قال: انتقل القيمة إليه، وهو الأقوى، لأنا قد بينا أن ملكه له،
والوقف لم يتناول القيمة، والأول قول من قال: ينتقل إلى الله، انتهى.
وظاهره أنه على تقدير القول بانتقال الملك إلى الموقوف عليه كما هو مذهبه
فإنه يصير المال إليه، وعلى تقدير القول بأنه ينتقل إلى الله، فإنه يشتري به عبد
آخر يقوم مقامه، ويكون وقفا ".
وقال العلامة في المختلف: والمعتمد إقامة غيره مقامه، لعدم اختصاص
البطن الأول بملكه، ولهذا يملك البطن الثاني عن الواقف عن البطن الأول،
والوقف إن لم يتناول القمية لكنها بدل عن العين، انتهى.
وهو صريح في اختيار القول الثاني، كما أن كلام الشيخ صريح في اختيار
الأول، وهو اختيار المحقق في الشرايع أيضا "، والعلامة في التحرير، وجعل
الثاني احتمالا "، وظاهر الشهيد في الدروس، وشرح الإرشاد التوقف في المسألة،
حيث اقتصر على نقل القولين، ولم يرجح شيئا " منهما في البيت، وهو في محله.
وتوضيح أدلة القولين زيادة على ما تقدم، أما القول الأول فلأن الدية
عوض رقبته، والرقبة ليست ملكا تاما " للموجودين، بل للبطون اللاحقة منها حق
وإن لم يكن بالفعل، لكنه بالقوة منه، لحصول السبب والمعدات للملك،
ولم يتخلف منها سوى وجودهم، وحينئذ فلا سبيل إلى ابطال حقهم، فيجب أن
يشتري به عبدا "، وبعض عبد يكون وقفا "، ابقاء للوقف بحسب الامكان، وصيانة
له عن الابطال، وتوصلا " إلى غرض الواقف، ولأن الوقف تابع لبقاء المالية، ولهذا
236

يجب الشراء بقيمته حيث يجوز بيعه يكون وقفا ".
وأما الثاني فوجهه أن الوقف ابتداء متعلق بالعين، لأن موضوعه العين
الشخصية لا غير وقد بطلت باتلافه، فامتنع أن يكون لمن سيوجد من البطون فيه
حق، لأنهم حال الحياة غير مستحقين، ووقت صيرورتهم مستحقين قد خرج التالف
عن كونه وقفا "، هكذا قرره في المسالك.
ثم إنه أورد على الدليل الثاني حيث أنه اختار القول الأول ما لفظه:
ويضعف بأن القيمة بدل عن العين، فيملكها على حد ما يملكها، ويتعلق بها حق
من يتعلق حقه بها والوقف وإن لم يتناول القيمة مطابقة، لكنه يتناولها اقتضاء،
من حيث أنها قائمة مقام العين، ولأن الوقف أقوى من حق الرهن، وهو يتعلق
بالقيمة، والوقف أقوى، وحينئذ فالأقوى الأول.
أقول: لو صح بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العقلية، لاتجه
قوة ما قواه (قدس سره) سيما أنه الأوفق بالاحتياط المطلوب في أمثال هذه
المقامات الخالية من النصوص، إلا أنك قد عزفت ما فيه في غير مقام مما تقدم.
بقي في المقام فوائد يحسن التنبيه عليها:
الأولى: ظاهر الأكثر أن محل الخلاف ما قدمنا ذكره من الجناية
الموجبة للمال دية أو غيرها، والظاهر من كلام المحقق في الشرايع أن محل
الخلاف الدية خاصة، وأما ما كان أرشا " فإنه للموجودين من غير خلاف، ومقتضى
الدليل المتقدم يؤيد ما ذكره الأكثر.
الثانية: أنه على تقدير شراء عبد أو بعض عبد يكون وقفا "، فمن الذي
يتولى ذلك؟ قال شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد: والأجود تفويضه إلى الناظر
الخاص، فإن تعذر فالناظر العام، وإن تعذر فالموقوف عليه، قضية للشرط في
النطر عموم حكم الحاكم على البطون، وأولوية الموقوف عليه، وفي المسالك
237

أنه يبنى على الخلاف المتقدم، فإن حكمنا بالملك للموقوف عليه، فإن حق الشراء
راجع إليه، لأنه المالك لذلك، والبطون اللاحقة تابعة لهم ويحتمل الحاكم نظرا "
إلى حق البطون اللاحقة، وأن للحاكم حق الولاية عليهم دون البطون المتقدمة
وإن حكمنا بكونه لله سبحانه فللحاكم لا غير، وإن حكمنا للواقف
فالوجهان الأولان.
أقول: ولو تعذر الحاكم فالظاهر قيام عدول المؤمنين بذلك، كما في غير
هذا الموضع من الأمور الحسبية، وقيل: بتقديم الموقوف عليه، والأظهر الأول.
الثالثة: أنه هل يصير وقفا " بمجرد الشراء أم يفتقر إلى الصيغة؟ قال في
المسالك: كل محتمل، وإن كان الأول أقوى، لأنه بالشراء يصير بدلا عن العين
كالرهن وعلى الثاني يباشره من يباشر الشراء أقول: وبالأول صرح شيخنا الشهيد
(رحمة الله عليه) في الإرشاد.
الرابعة: قال في المسالك: لو لم تف القيمة بعبد كامل اشترى شقص بها
امتثالا " للأمر بحسب الامكان، ولو فضل منه فضل عن قيمة عبد اشترى معه
ولو شقص آخر.
أقول: قوله امتثالا " للأمر بحسب الامكان لا أعرف له معنى في هذا المكان،
إذ لا نص كما عرفت، إلا أن يكون المراد بناء على ما يدعونه قصد الواقف.
الخامسة: قال شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد: والأقرب أن البدل يجب
كونه من جنس الموقوف، لأنه أقرب إلى الوقف، وكلام المصنف هنا يشمل
الجنس وغيره، وحينئذ تجب المساواة في الذكورة والأنوثة، وإن أمكن المساواة
في باقي الصفات أو معظمها فهو أولى، ولو قيل: في القيمي بضمانه بالمثل
وأمكن له مثل، كان هو الوقف، واستغنى عن الشراء، وإن قيل: بالقيمة وأتى
بعبد بالصفات أمكن وجوب قبوله، لأن غاية القيمة صرفها في مثلة، انتهى.
السادسة: هل للموقوف عليهم العفو عن القصاص أو عن الأرش أو الدية؟
238

قال في المسالك: يبنى على أن البطون الحقة هل تشاركهم فيه أم لا؟ فعلى
الأول ليس لهم العفو، وعلى الثاني لهم، لانحصار الحق فيهم.
السابعة: قال: في المسالك: على تقدير المشاركة لو عفى الأول فللثاني أن
يستوفي، لوجود سبب الاستحقاق من حين الجناية وإن لم يثبت بالفعل، مع احتمال
العدم لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو، وعلى تقدير جواز استيفاء الثاني
هل له القصاص كالأول إن كانت الجناية توجبه أم يختص بالدية؟ وجهان: من مساواته
للأولى في الاستحقاق، ومن تغليب جانب العفو بحصوله من الأول، والأقوى الأول.
أقول: لا يخفى أن قضية المشاركة وإن كان أخذ حق أحد الشريكين موقوفا "
على وجوده هو أن حكم الثاني كالأول في كل من الأمرين المذكورين، قوله
في الاحتمال المذكور " لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو " مدفوع بأن
الساقط إنما هو حق أولئك العافين، لا حق هؤلاء المتأخرين ونحوه قوله في الثاني
لتغليب جانب العفو بحصوله من الأول، فإن الحاصل من الأول إنما هو بالنسبة
إليه، لا إلى شريكه، وهو ظاهر والله العالم.
المسألة الثالثة: المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه إذا وقف في
سبيل الله انصرف إلى كل ما يكون وصلة إلى الثواب، لأن السبيل بمعنى الطريق
فيكون المراد كلما يكون طريقا " إلى حصول الثواب منه سبحانه، ويكون وسيلة
إلى رضوانه، وكذا لو قال: في سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير، فإن مرجع
الثلاثة إلى أمر واحد، وهو سبيل الله بالمعنى المتقدم.
وخالف الشيخ في أحد قوليه في الموضعين، فقال. في الأول إن سبيل الله الغزاة،
المقطوعة، دون العسكر المقاتل على باب السلطان، والحج والعمرة يقسم أثلاثا "
فخص السبيل بهذه الثلاثة، وعن ابن حمزة أن سبيل الله، المجاهدون.
وقال في الثاني: بقسمته أثلاثا فثلث للغزاة والحج والعمرة، وهو سبيل الله،
وثلث إلى الفقراء والمساكين، ويبدأ بأقاربه، وهو سبيل الثواب، وثلث إلى خمسة
239

أصناف من الذين ذكرهم الله في آية الصدقة، وهم الفقراء، والمساكين، وابن
السبيل، والغارمون، والرقاب ولا يخلو من تحكم، فإنا لم نقف له على دليل على
هذا التفصيل،
أقول: وقد تقدم في كتاب الزكاة (1) في معنى سبيل الله فمما تدل على
القول المشهور رواية علي بن إبراهيم (2) في تفسيره عن العالم عليه السلام: وفي
سبيل الله قوم يخرجون إلى الجهاد، وليس عندهم ما يتقوون به، أو قوم مؤمنون
ليس عندهم ما يحجون به، أو في جمع سبيل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من
مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد، وأشرنا ثمة أيضا " إلى أن الظاهر من
بعض الروايات أن تفسير السبيل بالجهاد، إنما كان تقية، حيث أن مذهب العامة
ذلك، والله العالم
المسألة الرابعة: إذا وقف على مواليه، فإن انحصرت الموالي في الأعلى أو
الأسفل فلا اشكال، والمراد بالأعلى هم المعتقون له، بأن باشروا العتق أو انتهى إليهم
ولاية العتق، والأسفل هم من أعتقهم بعد عتقه كذلك، فإن اجتمعوا فإن كانت ثمة
قرينة تدل على إرادة أحد الصنفين أو كليهما فلا اشكال أيضا "، وإن انتفت القرائن
وجب الرجوع إليه في تفسير ذلك وما أراد به، فإن تعذر الرجوع إليه أو أخبر بأنه
لم يقصد شيئا " بخصوصه، وإنما بنى على مدلول اللفظ، فهل يبطل الوقف أو يصح
ويصرف إليهما أو إلى أحدهما أو يفرق بين المفرد والجمع؟ أقوال.
فنقل عن الشيخ في المبسوط والخلاف القول بالصحة، قال في الخلاف:
إذا وقف على مولاه، وله موليان مولى من فوق، ومولى من أسفل، ولم يبين
انصرف إليهما، لأن الاسم يتناولهما، فيجب صرفه إليهما، كما لو أطلق الوقف
على الأخوة انصرف إليهم وإن كانوا متفرقين، وليس ذلك بمجهول، كما أن الوقف

(1) ج 12 ص 199.
(2) تفسير القمي ج 1 ص 298، الوسائل ج 6 ص 145 ح 7.
240

على الأخوة ليس بمجهول، وبذلك قال ابن إدريس أيضا "، معللا " بتناول الاسم،
إلا أن الشيخ فرضه في المفرد، وابن إدريس فرضه في الجمع ونحوه المحقق في
الشرايع، فإنه تبع الشيخ في الحكم بالصحة، إلا أنه فرضه في الجمع.
وقال ابن حمزة: إذا وقف على مولاه اختص بمولى نفسه، دون مولى أبيه
وبمولاه الذي أعتقه، دون مولى نعمته، إلا إذا لم يكن له مولى عتق، وكان له
مولا نعمة، وإن قال: على موالي دخل فيه مولى العتاقة، ومولى النعمة.
وقال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال: والوجه أن نقول: إن عرف بقرينة
حالية أو مقالية قصده فيهما حمل لفظه عليه، وعملا " بالقرينة، وإن انتفت القرائن
فإن كان اللفظ مفردا " ليس بجمع بطل الوقف، وإن كان جمعا " وقلنا بجواز إرادة معنى
المشترك من لفظ الجمع حمل عليهما، وإن قلنا إن حكمه حكم الواحد بطل، لنا
أنا قد بينا في أصول الفقه أنه لا تجوز إرادة معنى المشترك منه بلفظ واحد ولا شك
أن لفظة مولى من الألفاظ المشتركة بين المعالي المتضادة، وهي المعتق والمعتق، وقول
الشيخ أن الاسم يتناولهما، قلنا: إن أراد ذلك على سبيل الجمع، فهو ممنوع
لأن الواضع لم يضعه لكلا المعنيين، فيكون استعماله فيهما استعمالا " للفظ في غير
موضوعه والقياس على الإخوة ضعيف، لأن الإخوة موضوع لمعنى واحد، يتناول
المتقرب بالأبوين وأحدهما على سبيل التواطؤ، بخلاف المولى، وقول
ابن إدريس يشعر بمتابعته للشيخ، وقول ابن حمزة في الجمع جيد، أما في الفرد
فحمله على المعتق ضعيف، وكونه أقوى من المولى من أسفل لأنه يرث لا يخرج
اللفظ عن كونه مشتركا، ولا يوجب ترجيحا " في التناول، انتهى.
وظاهر شيخنا الشهيد (رحمة الله عليه) في شرح الإرشاد الميل إلى ما ذكره
العلامة هنا من الفرق بين المفرد والجمع، والبطلان في الأول دون الثاني، قال بعد
الكلام في المسألة: واعلم أن الصحة وتناول الجميع يقوى إذا كان اللفظ بصيغة
الجمع، كالمسألة المفروضة، فإن بعض من منع استعمال المشترك المفرد في كلا معنييه
241

أجازه في الجمع، ولأنه يكون جمعا " مضافا " وهو للعموم، كما قرر في الأصول،
وإن كان اللفظ مفردا " كما لو وقف على مولاه، يقوى البطلان، ونصر شيخنا المرتضى
عميد الدين الصحة في المجموع، وهو ظاهر المصنف في المختلف لأنه لفظ مستغرق
لجميع ما يصلح له، انتهى.
أقول: قد تقدم في مواضع من كتب العبادات الإشارة إلى أن ما اشتهر
بينهم في الأصول من عدم جواز استعمال المشترك في معينه مما يظهر من الأخبار
خلافه، وبذلك اعترف في الذكرى أيضا "، ومنه تظهر قوة ما ذهب إليه الشيخ،
وكيف كان فالمسألة لما عرفت محل اشكال، والله العالم.
المسألة الخامسة: في الوقف على الأولاد، وله صور: أحدها الوقف على
أولاد الأولاد، والظاهر أنه لا خلاف في أنه إذا وقف على أولاد أولاده فإنه يشترك
أولاد البنين والبنات ذكورهم وإناثهم من غير تفصيل.
أما الحكم الأول، فلأن اطلاق الولد شامل للذكور والإناث بلا اشكال
لقوله سبحانه (1) " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ونحوها
فيصدق على أولادهم مطلقا أنه أولاد أولاد، وإن اختلف في صدق الأولاد على
أولاد الأولاد، كما سيأتي ذكره أن شاء الله تعالى.
وأما الحكم الثاني فلاقتضاء الاطلاق ذلك، واقتضاء الاشتراك التسوية حتى
يقوم الدليل على خلافها، وكما يدخل الذكور والإناث في لفظ الولد تدخل
الخناثي أيضا "، أما لو كان بلفظ البنين خاصة أو البنات خاصة، وأولادهم، فالظاهر
عدم صدق ذلك عليهم، وأما لو جمعها بأن قال: على البنين والبنات وأولادهم
فهل يدخلون في ذلك أم لا؟ قولان للعلامة في القواعد والتحرير منشأ الثاني
منهما أنهم ليسوا بذكور ولا إناث، والأول أنهم لا يخرجون عن الصنفين في نفس
الأمر، ولهذا يستخرج أحدهما بالعلامات، ومع فقدها ترث نصف النصيبين.

(1) سورة النساء الآية 11.
242

ورد بأنه لا كلام مع وجود العلامة، ولا دلالة لنصف النصيبين على حصره
فيهما، بل يمكن دلالته على عدمه، وجاز أن تكون طبقة ثالثة متوسطة النصيب
كما أنها متوسطة الحقيقة.
الثانية ما لو قال: على من أنتسب إلي، قال في الشرايع لم يدخل أولاد
البنات، وقال بعد ذكر العبارة هذا هو المشهور، وقد تقدم خلاف المرتضى في ذلك،
فإنه حكم بدخولهم في الأولاد حقيقة، وهو يقتضي انتسابهم، بطريق أولى.
أقول: ونحن قد استوفينا الكلام بما لا يحوم حوله نقض ولا ابرام في هذا
المقام، وأوضحنا ضعف هذه الأوهام في كتاب الخمس (1) ولكن ربما تعذر على
الناظر هنا الرجوع إلى ذلك، فلا علاج إن ارتكبنا مرارة التكرار في بيان ضعف
هذا الكلام، دفعا " لثقل المراجعة على النظار:
فنقول: أما ما ذكره من أن أولاد البنات لا يدخلون في النسبة إلى أب
الأم، فقد علله العلامة في المختلف في كتاب الخمس في مقام الرد على المرتضى
(رضي الله عنه) فقال: لنا أنه إنما يصدق الانتساب حقيقة إذا كان من جهة الأب
عرفا "، فلا يقال: تميمي إلا إذا انتسب إليهم بالأب، ولا حارثي إلا إذا انتسب إلى
حارث بالأب، ويؤيده قول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وما رواه حماد بن عيسى (2) " قال: رواه لي بعض أصحابنا عن العبد الصالح
أبي الحسن الأول عليه السلام ومن كانت أمه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش، فإن
الصدقة تحل له، وليس له من الخمس شئ لأن الله الله تعالى (3) " يقول أدعوهم
لآبائهم " ولأنه أحوط، انتهى.

(1) ج 12 ص 390 إلى ص 416.
(2) أصول الكافي ج 1 ص 539 ح 4، الوسائل ج 6 ص 358 ح 8.
(3) سورة الأحزاب الآية 6.
243

وفيه نظر من وجوه، أحدها ما ادعاه من أنه لا يصدق الانتساب حقيقة
إلا إذا كان من جهة الأب، فإن الأخبار عموما " وخصوصا " متظافرة بخلافه، فمن
الأول ما رواه في الكافي في كتاب الروضة والثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره
عن أبي الجارود (1) " قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا الجارود ما يقولون لكم في
الحسن والحسين عليهما السلام قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: فأي شئ احتججتم عليهم؟ قلت: احتججنا عليهم بقول الله
تعالى في عيسى ابن مريم (2) ومن ذريته داود وسليمان " ثم ساق الآية قال:
فأي شئ قالوا لكم؟ قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الولد، ولا يكون
من الصلب، قال: فأي شئ احتججتم عليهم قلت: بقول الله تعالى لرسوله " قل
تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم " (3) قال: فأي شئ قالوا؟ قلت:
قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء، رجل، ويقول آخر أبناؤنا قال: فقال
أبو جعفر عليه السلام: يا أبا الجارود لأعطينكها من كتاب الله عز وجل أنهما من صلب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يردها إلا الكافر قلت: فأين ذلك جعلت
فداك؟ قال: من حيث قال الله عز وجل " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم
وأخواتكم " الآية إلى أن انتهى إلى قوله " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم "
فسلهم يا أبا الجارود هل كان يحل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) نكاح
حليلتهما؟ فإن قالوا: نعم كذبوا وفجروا، وإن قالوا: لا فهما ابناه لصلبه " الحديث.
أقول: لا يخفى أن تأويل المخالفين للآيتين الأولتين مرجعه إلى التجوز،
كما يدعيه أصحابنا هنا مع ما في الخبر من التشنيع الفضيع على من قال من
أصحابنا بالقول المشهور، تبعا للعامة العميا في هذا الباب، نعوذ بالله من طغيان

(1) الكافي ج 8 ص 263 ح 501، تفسير القمي ج 1 ص 209، الوسائل ج 14 ص 316 ح 12
(2) سورة الأنعام الآية 84 و 85.
(3) سورة آل عمران الآية 61.
(4) سورة النساء الآية 23.
244

الأقلام، وزيغ الأفهام، ولكن العذر لهم (رضوان الله عليهم) بقصور التتبع للأخبار،
وبمضمون هذا الخبر أخبار عديدة، قد تقدمت في الكتاب المشار إليه آنفا ".
ومن الثاني ما رواه في الكافي في باب ما نص الله ورسوله على الأئمة عليهم السلام
واحدا " فواحد بسند صحيح عن عبد الرحيم بن روح القصير (1) " عن أبي جعفر عليه السلام
في قول الله عز وجل " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " (2) ثم ساق الحديث الأول
على اختصاص الإمامة بهم إلى أنه قال: فقلت: هل لولد الحسن فيها نصيب،
فقال لا والله يا عبد الرحيم ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا ".
وما رواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار عن حمزة ومحمد ابني حمران (3)
" عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال عليه السلام فيه بعد ذكر حمران لعقيدته في الإمامة
ما صورته: يا حمران مد المطمر بينك وبين العالم، قلت: يا سيدي وما المطمر؟
قال: أنتم تسمونه خيط البناء فمن خالفك على هذا الأمر فهو زنديق، قلت:
وإن كان علويا " فاطميا " فقال أبو عبد الله عليه السلام: وإن كان محمديا " علويا " فاطميا " "
وهما كما ترى صريحان في صحة النسبة إليه (صلى الله عليه وآله)،
مع أن ذلك أنما من جهة الأم، وأن كل من كان من ذريته في أبناء ابنته، فهو
محمدي، وبه يظهر أن ما ادعاه (قدس سره) من أنه لا تصح النسبة، ولا يقال:
تميمي ولا حارثي إلا لمن انتسب بالأب كلام شعري، لا تعويل عليه، والظاهر
أنه مأخوذ من كلام العامة العمياء المنكرين لكون ابن البنت ابنا حقيقيا،
للتوصل بذلك إلى الطعن علي الأئمة عليهم السلام كما هو المفهوم من جملة من الأخبار
التي ابتنا عليها في الكتاب المتقدم ذكره.
ومن ذلك أيضا " ما رواه في الكافي في حديث طويل في باب ما يفصل به بين

(1) الكافي ج 1 ص 288 ح 2.
(2) سورة الأحزاب الآية 6.
(3) معاني الأخبار ص 212 ط تهران سنة 1379.
245

دعوى المحق والمبطل في الإمامة (1) " عن أبي جعفر عليه السلام قال: في آخره الله بيننا
وبين من هتك سترنا وجحدنا حقنا وأفشى سرنا ونسبنا إلى غير جدنا " الحديث.
وما رواه العياشي في تفسيره والبرقي في محاسنه (2) عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء،
ثم تلا ومن ذريته.. الآية.
وثانيها أن الاستناد إلى هذا البيت، في مقابلة الآيات المتظافرة والروايات
المتكاثرة الدالة على كون ولد البنت ولدا " حقيقيا "، مما لا يلتفت إليه، ولا يعول
عليه، كما صرح بذلك الشيخ في الخلاف في كلامه المتقدم في المسألة الخامسة
من سابق هذا المطلب، وقد فسر معنى البيت المراد منه بأن الشاعر أراد الانتساب
بمعنى أن أولاد البنات لا ينسون إلى أمهم، وإنما ينسبون إلى أبيهم.
وثالثها ما ذكره من مرسلة حماد، فإن فيه أولا " أنه بمقتضى اصطلاحهم،
فإن الخبر ضعيف، لا تقوم به حجة كما ذكروه في أمثاله.
وثانيا " أنه معارض بالآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة الدالة على خلافه
عموما " وخصوصا "، ومن الثاني ما رواه الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) في كتاب
الاختصاص (3) في حديث طويل عن الكاظم عليه السلام مع الرشيد، وفيه قال الرشيد، وفيه قال الرشيد له عليه السلام
لم لا تنهون شيعتكم عن قولهم لكم يا ابن رسول الله، وأنتم ولد علي، وفاطمة إنما
هي وعاء، والولد ينسب إلى الأب لا إلى الأم، فقال عليه السلام بعد أن طلب منه الأمان
وآمنه: أعوذ بالله السميع العليم، ثم أورد عليه السلام آية عيسى (4) عليه السلام، ثم أورد آية
المباهلة (5) وما رواه في كتاب الاحتجاج عن الكاظم عليه السلام في حديث طويل لما

(1) أصول الكافي ج 1 ص 356 ح 16.
(2) المحاسن ج 1 ص 156 ط تهران ح 88، تفسير العياشي ج 1 ص 367 ح 52.
(3) الاختصاص ص 54 ط إيران سنة 1379.
(4) سورة الأنعام الآية 84 و 85.
(5) سورة آل عمران الآية 61.
(6) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 83 في ضمن الحديث 9، الإحتجاج ج 2 ص 163.
246

أدخل على الرشيد وموضع الحاجة منه أنه قال له الرشيد: لم جوزتم للعامة
والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون يا ابن
رسول الله وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة، إنما هي وعاء، والنبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) جدكم من قبل أمكم فقال: يا أمير المؤمنين لو أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله ولم
لا أجيبه بل أفتخر على العرب وقريش بذلك، فقال: لكنه لا يخطب إلي، ولا
أزوجه، فقال: ولم فقلت لأنه ولدني ولم يلدك، فقال: أحسنت يا موسى "،
ونحوهما غيرهما والتقريب في هذين الخبرين ونحوهما أن الرشيد لما أنكر عليه
نسبتهم عليهم السلام إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة الأم وإنما ينسب المرء إلى
أبيه، كما ذكره عليه السلام في مرسلة حماد المذكورة واحتج بقوله (1) " أدعوهم
لآبائهم " احتج عليه بالآيات المذكورة، وما ذكره الرشيد في هذه الأخبار في
انكاره عليه هو عين ما ذكره عليه السلام في مرسلة حماد التي استند إليها الخصم، مع
أنه عليه السلام في هذه الأخبار قد رد ذلك بالآيات المذكورة الدالة على البنوة حقيقة،
ولو كانت البنوة في هذه المواضع إنما هي على جهة المجاز كما يدعيه العامة ومن
قال بقولهم من أصحابنا، (سامحهم الله بغفرانه) فكيف يحتاج إلى الاستدلال بهذه
الآيات، بل كيف يعترض الرشيد وغيره عليهم بهذه التسمية، وباب المجاز واسع،
وهو لا يوجب فخرا " ولا يخد ذكرا " فلولا أن المخالفين من الرشيد وغيره عالمون
بأن دعواهم البنوة إنما هو على الحقيقة لما اعترضوا عليهم بذلك، ولما احتاجوا عليهم السلام
إلى الاستدلال بهذه الآيات ونحوها، لما عرفت، وهذه الآيات لا تصلح للاستدلال إلا
بناء على دعوى البنوة الحقيقية، وهذا بحمد الله ظاهر تمام الظهور لمن اطلع على
الأخبار والآيات الظاهرة، كالنور على الطور، ولم يعتر بصر بصيرته قصور ولا فتور.
وأما ما ذكره في المسالك ومثله غيره من نسبة هذا الخلاف إلى المرتضى

(1) سورة الأحزاب الآية 5.
247

(رضي الله عنه) خاصة فهو عجب وأي عجب، فإن فإن القول مذهب جملة من متقدمي
الأصحاب، بل ربما كان هو المشهور بينهم كما تقدمت الإشارة، إليه في المسألة
الخامسة من مسائل المطلب المتقدم، وقد ذكرنا في كتاب الخمس (1) من ذهب
إلى ذلك من علمائنا المتقدمين والمتأخرين، بما ربما يزيد على عدد من صرح
بالخلاف، المشهور بين المتأخرين، والله العالم.
الثالثة ما لو وقف على أولاده، المشهور بينهم أنه يختص بالأولاد لصلبه،
دون أولاد الأولاد، إلا أن يكون هناك قرينة تدل على دخولهم، كقوله الأعلى
فالأعلى، أو بطنا " بعد بطن، أو يقف على أولاد فلان، وهو يعلم أن لا ولد له لصلبه،
ونحو ذلك، وقيل: يشترك الجميع إلا مع القرينة، وهو الأظهر، احتج القائلون
بالقول الأول بأن المتبادر من الولد هو ما كان لصلب، ولا يفهم منه ولد الولد
إلا بالقرينة.
قالوا: ولهذا يصح سلبه عنه، فيقال، ليس ولدي، بل ولد ولدي،
أقول: فيه أن المفهوم من الآيات الكثيرة في باب الميراث، والنكاح، والأخبار
المستفيضة هو أن الولد حقيقة أعم من أن يكون من صلب بلا فاصلة أو بفاصلة
سواء كان الفاصلة ذكرا " أم أنثى، وقد اعترف بدلالة الآيات على ذلك في المسالك
في باب الميراث في مسألة أن أولاد الأولاد هل يقومون مقام آبائهم في الميراث؟
فلكل نصيب من يتقرب به، أو يقتسمون اقتسام أولاد الصلب، حيث ذكر أن
القول الثاني مذهب المرتضى، وجماعة من الأصحاب، ثم استدل لهم بآيات تحريم
حلائل الأبناء، وتحريم بنات الابن والابنة، والحجب بهم للأبوين، والزوجين.
ثم قال: وهذه توجيهات حسنة، إلا أن الدليل قد قام أيضا " على أن أولاد
البنات ليسوا أولادا " حقيقة لثبوت ذلك في اللغة وصحة السلب الذي هو علامة
المجاز، وفيه أنه مع تسليم دلالة اللغة على ما ذكره فعرف الشرع مقدم على عرف

(1) ج 12 ص 391.
248

اللغة، وهو قد اعترف بدلالة الآيات على ذلك، ومثلها الأخبار كما ستعرفه
إن شاء الله تعالى وحينئذ يلتفت إلى ما دل عليه كلام أهل اللغة لو كان كما يدعونه
وأما الاستناد إلى ما ذكروه من صحة السلب في قول القائل هذا ليس ولدي، بل
ولد ولدي، وهو عمدة أدلتهم فهو على اطلاقه ممنوع، فإنا لا نسلم سلب الولدية
حقيقة، فإن حاصل المعنى بقرينة الاضراب أن مراد القائل المذكور إنما هو أنه
ليس بولدي بلا واسطة، بل ولدي بالواسطة، فالمنفي حينئذ إنما هو كونه ولده
بلا واسطة، والولد الحقيقي عندنا أعم منها، ولو قال ذلك القائل: ليس ولدي من
غير الاضراب منعنا صحة السلب.
وأما الأخبار الواردة في المقام فمنها رواية أبي الجارود المتقدمة: وهي
صريحة في كون ولد البنت ولدا " للصلب، كما عرفت، ونحوها الروايات الأخر.
ومنها ما رواه في الكافي في أبواب الزيارات بسنده عن بعض أصحابنا (1)
قال حضرت أبا الحسن الأول عليه السلام وهارون الخليفة وعيسى بن جعفر وجعفر بن
يحيى بالمدينة قد جاؤوا إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال هارون
لأبي الحسن عليه السلام تقدم، فأبى فتقدم هارون فسلم وقام ناحية، وقال عيسى بن جعفر:
لأبي الحسن عليه السلام تقدم فأبى: فتقدم هارون فسلم ووقف مع هارون ثم ساق الخبر
إلى أن قال: وتقدم أبو الحسن عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبة أسأل الله الذي اصطفاك
واجتباك وهداك وهدى بك أن يصلي عليك، فقال هارون لعيسى: سمعت ما قال؟
قال: نعم، فقال هارون: أشهد أنه أبوه حقا ").
أقول: لو كان لفظ الأب هنا إنما هو مجاز كما يدعيه أصحابنا تبعا " للعامة
العمياء فأي فخر فيه، حتى أنه عليه السلام يعبر به، ثم انظر إلى شهادة هارون بأنه أبوه
حقا "، وأي محل للحمل على المجاز في ذلك، لولا عدم التدبر في الأخبار، والوقوف
عليها.

(1) فروع الكافي ج 4 ص 553 ح 8، الوسائل ج 10 ص 268 ح 4.
249

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) بطرق عديدة، ومتون
متقاربة عن عايذ الأحمسي (1) قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: السلام
عليك يا بن رسول الله فقال: وعليك السلام أي والله أنا لولده، وما نحن
بذوي قرابته.
أقول: أنظر إلى صراحة كلامه عليه السلام في أنهم ولد حقيقة (صلى الله عليه
وآله وسلم) لا أنهم من ذوي قرابته وأن اطلاق الولد عليهم إنما هو مجاز
كما يدعيه من لم يعض على التطلع في الأخبار بضرس قاطع، وأكد ذلك بقسمه
بالله سبحانه إلى غير ذلك من الأخبار التي ذكرناها في كتاب الخمس (2) ومجمل
القول فيها أنها قد دلت على دعواهم عليه السلام النبوة له (صلى الله عليه وآله)
وافتخارهم بذلك، وأن شيعتهم كانوا عاكفين على تسميتهم بذلك، وأن المخالفين
أنكروا ذلك عليهم، وهم عليه السلام قد استدلوا بالآيات القرآنية كما عرفت، فلولا أن
المراد البنوة الحقيقية، لما كإن لما ذكر من هذه الأمور وجه بالكلية، لأن المجاز
لا يوجب الافتخار، ولا يتوقف على الاستدلال، ولا يكون محلا " للمخاصمة والجدال
بل هذه الأشياء إنما تترتب على المعنى الحقيقي، كما لا يخفى على الناقد البصير،
ولا ينبئك مثل خبير.
ولكن أصحابنا (سامحهم الله برضوانه) لما لم تصل هذه الأخبار إلى نظرهم،
ولم يطلعوا عليها بالكلية جروا على ما جرت عليه العامة العمياء في المباحث
الأصولية، إلا أن الآيات حجة ظاهرة عليهم، وهي مكشوفة لديهم فخروجهم
عنها إلى التمسك بهذه التخريجات الضعيفة من قول أعرابي بوال على عقبيه،
وما ذكروه من صحة السلب ونحو ذلك كله رمي في الظلام، كما لا يخفى على
ذوي الأفهام.

(1) فروع الكافي ج 3 ص 487 ح 3، الوسائل ج 3 ص 50 ح 10.
(2) ج 12 س 391.
250

ولذلك ملل إلى هذا القول زيادة على من ذكرنا من المتقدمين جملة من
من متأخري علمائنا الأعلام، والله العالم.
الرابعة ما لو قال: على أولادي وأولاد أولادي، فإنه على المشهور بين
المتأخرين يختص بالبطنين المذكورين من البطون المتجددة، لأنهم أولاد عندنا
حقيقة كما عرفت، والله العالم.
الخامسة لو قال: على أولادي فإن انقرضوا وانقرض أولاد أولادي فعلى
الفقراء، فإنه لا شك في صحة الوقف على أولاده، لكن بعد انقراضهم فهل يرجع
الوقف إلى أولاد الأولاد؟ ثم بعد انقراضهم إلى الفقراء؟ أو يرجع إلى الفقراء بعد
انقراض أولاده، ولا يرجع إلى أولاد الأولاد، قولان: قال في المبسوط: إذا قال: وقفت
على أولادي فإذا انقرضوا أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء، فإنه صرح بالوقف
على أولاده أولا "، وعلى الفقراء والمساكين، فعلى هذا إذا انقرض أولاده وبقي أولاد
أولاده صرف انتفاعه إلى أقرب الناس إليه، إلى أن ينقرضوا، فإذا انقرضوا صرف
إلى الفقراء، ومنهم من يقول: يكون وقفا " على أولاد أولاده بعد انقراض أولاده،
لأنه شرط انقراضهم، وذلك بظاهره يقتضي أنه وقف عليهم، كما لو صرح به،
فعلى هذا يصرف إليهم بعد الأولاد، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء، وهذا أقوى.
قال العلامة في المختلف بعد نقل كلام الشيخ المذكور: والوجه عندي
الأول، لأن الوقف بصريحه دل على صيرورته إلى أولاده، ثم بعدهم وبعد أولاد
أولاده يصرف إلى الفقراء ولا دلالة صريحة على صيرورته بعد أولاده إلى أولاد
أولاده، وأما الدلالة الالتزامية فهي منفية هنا أيضا "، لامكان اقتران كلا النقيضين
بهذا اللفظ، ويكون اللفظ معه صادقا "، فصدقه أعم من اقترانه بالصيرورة إلى أولاد
أولاده، ومن اقترانه بعدم ذلك، ولا دلالة للعام على الخاص، قوله شرط انقراضهم
يقتضي مشاركتهم، فأي وجه لترتبهم على أولاد، فهلا شاركوهم، فإنه لم يوجد
ما يدل على الترتيب فكأنه قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي، فإذا انقرضوا
251

جميعا " فعلى الفقراء، انتهى.
والظاهر أن هذا القول هو المشهور بين المتأخرين وقوته بالنظر إلى تعليلاتهم
ظاهرة، فإن أولاد الأولاد لم يتعرض للوقف عليهم بالكلية، فكيف يدخلون
في الوقف، ومجرد اشتراط انقراضهم في الوقف على الفقراء لا يستلزم كونه وقفا "
عليهم، لانتفاء وجه التلازم، ولأنه لو دل ذلك على الوقف عليهم أوجب التشريك
بينهم وبين الأولاد، لانتفاء ما يدل على الترتيب كما ذكره العلامة مع أنه لا يقول به.
هذا كله بناء على ما هو المشهور بين المتأخرين من عدم دخول أولاد الأولاد
في اطلاق الأولاد، وأما على القول بدخولهم كما هو المختار، وبه صرح الشيخ
المفيد وابن إدريس وغيرهم ممن تقدم ذكره، فإنه لا شك في صحة الوقف
المذكور، وأنه إنما ينتقل إلى الفقراء بعد انقراض أولاد الواقف من أولاد
الصلب ومن بعدهم من الأولاد، وإن تعددت الطبقات وتكاثرت.
بقي الكلام في أنه على تقدير عدم دخول أولاد الأولاد في الوقف وصحته
على الفقراء بعد انقراض الجميع فالنماء المتخلل في تلك المدة بعد موت الأولاد
وقبل انقراض أولاد الأولاد لمن هو؟ قد عرفت من عبارة الشيخ المتقدمة أنه
يصرف إلى أقرب الناس إليه إلى أن ينقرض أولاد الأولاد، فإذا انقرضوا صرف
إلى الفقراء.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمال تفريع ذلك على انتقال
الوقف وعدمه، قال: فإن قلنا ببقائه على ملك الواقف، فلا شبهة في كونه لورثته،
وإن قلنا بانتقاله إلى الله، فالمتجه صرفه في وجوه البر، وعلى القول بانتقاله إلى
الموقوف عليه، يكون لورثة البطن الأول.
أقول: قد تقدم في المطلب الثاني ذكر الخلاف في المنقطع الآخر، ومثله
يأتي في منقطع الوسط، من أنه هل يصح، ويكون وقفا " أو حبسا " أو يبطل من
أصله، وقد رجحنا أنه يصير حبسا " لاشتراط الوقف بالدوام، وعلى هذا فإنه يكون
252

النماء هنا لورثة الواقف، ولا يعود إلى الفقراء بالكلية.
وبهذا أيضا " صرح شيخنا المذكور في آخر البحث في هذه المسألة فقال:
نعم إذا قلنا حبسا " لبطلانه بانقطاع وسطه اتضح عوده إلى ورثة الواقف على وجه
الملك، ثم لا ينتقل عنهم إلى الفقراء، وهذا هو الأقوى، انتهى.
وهو جيد بناء على مذهبهم في المسألة، وإلا فقد عرفت أن الأظهر صحة
الوقف بغير اشكال كما قدمنا ذكره، والله العالم، أقول: وقد تقدم بعض صور
المسألة أيضا " في المباحث السابقة.
تتمة:
يجب اتباع الشروط المذكورة في عقد الوقف من الترتيب والتشريك،
والتفصيل، فلو وقف على أولاده وأولاد أولاده اقتضى ذلك تشريك البطن الأخير مع
البطن الأول، ويأتي على ما اخترناه من دخول أولاد الأولاد في اطلاق الأولاد
اشتراك جميع البطون من غير تفصيل كما هو مقتضى الاطلاق.
ولو قال: على أولادي ثم أولاد أولادي أو قال: الأعلى فالأعلى ترتبوا، ولا يستحق
البطن الثاني شيئا " ما بقي من الأول واحد، وكل من مات من البطن الأول فنصيبه
يرجع إلى الباقين، إلا أن يقول: فنصيبه لولده، فإنه يجب اتباع الشرط المذكور،
فلو مات أحدهم ممن ولد كان نصيبه لولده، ولو مات بعضهم عن غير ولد كان نصيبه
للباقين من البطن، دون الولد الذي أخذ نصيب أبيه، والمراد بأولادي هنا هم
الذين من الصلب، فلا يدخل فيه أولاد الأولاد لقرينة العطف.
لكن يبقى الكلام في أولاد الأولاد، فإن المشهور تخصيصهم بالبطن الثاني،
وعلى ما اخترناه فإنه يدخل فيه جميع البطون المتأخرة عن البطن الأول،
لدخولهم في اطلاق أولاد الأولاد كما عرفت، فالترتيب حينئذ إنما هو بين البطن
الأول، وهم أولاد الصلب، وبين من عداهم من الطبقات المتأخرة، وأما الطبقات
253

المتأخرة من أولاد الأولاد وما بعدهم من البطون، فإنه لا ترتيب بينهم.
ولو قال: بطنا " بعد بطن، فالمشهور أنه يفيد الترتيب بين البطون، وقال في
التذكرة: أنه لا يفيد، والأقرب الأول، ولو قال: على أولادي ثم أولاد أولادي
على أن من مات منهم عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأهل
الوقف، ثم لو مات أحدهم عن ابنين فإن نصيبه لابنيه ثم إن مات الثاني عن غير
ولد، فإن نصيبه لباقي طبقته مع الابنين المذكورين بالسوية، لأن الجميع أهل
الوقف فيشتركون فيه، ولو مات أحد الابنين المذكورين كان نصيبه لأخيه وعمه،
لأنهم أهل الوقف، والله العالم.
السادسة لو خرج المسجد الموقوف، أو خرجت القرية أو المحلة لم يخرج
المسجد عن الوقف، لما عرفت من أن الوقف مقتض للتأبيد، ولأن المسجد حقيقة
إنما هو العرصة التي هي الأرض، وهي باقية، ولأن الغرض المقصود منه وهو الصلاة
فيه باق، فإنه يصلي فيه من يمر به، وربما تعود القرية أو يحصل من يعمره.
وبالجملة فإن الخراب غير موجب للخروج عن الوقفية إذ لا منافاة، نعم
هذا إنما يتم في غير المساجد المبنية في الأرض المفتوحة عنوة، حيث يجوز وقفها
تبعا لآثار التصرف، وقد تقدم في مقدمات صدر كتاب التجارة (1) أنه متى زالت
الآثار سواء كانت آثار التملك أو الوقف فإن الأرض تعود إلى ما كانت عليه،
لزوال المقتضي للاختصاص، إلا أن تبقى فيه رسوم أصل الحيطان كما هو الغالب،
بحيث يصدق وجود الآثار في الجملة، فإنه يكفي في بقاء حكم المسجدية، بل
هذا هو المفهوم من النصوص، فإن ما صار الآن معمولا " من البناء وتشييد الجدران
ووضع السقف عليها أمر مخترع، والمفهوم من النصوص إنما هو مجرد التحجير
والعلامات الدالة على المسجدية، ونقل عن بعض العامة خروجه عن المسجدية
بالخراب قياسا " عن عود الكفين إلى الوارث عند اليأس من الميت بأن أخذه السيل

(1) ج 18 ص 438.
254

قياس منه بجامع استغناء المسجد عن المصلين كاستغناء الميت عن الكفن، ورده
الأصحاب بأنه قياس مع الفارق، فإن الكفن ملك للورثة، فإن التركة تنتقل إلى
الوارث بالموت وإن وجب صرفه في التكفين، فإذا زال الموجب عاد إلى ما كان
عليه، بخلاف المسجد، فإنه قد خرج بالوقف عن ملك الواقف، والمسجد حقيقة
إنما هي العرصة كما عرفت، وهي باقية، وأيضا " فإن القياس من الميت الذي
أوجب رجوع الكفن إلى الورثة غير مسلم هنا، لجواز عمارة القرية كما عرفت،
وصلاة المارة فيه، واليأس عن المسجدية غير حاصل، وما ذكر في الكفن عن العود
إلى الوارث إنما يتم فما لو كان الكفن من التركة، أما لو كان من الزكاة أو
الوقف أو من باذل فإنه يرجع إلى أصله، وما ذكر من الكلام هنا في المسجد
يجري في الدار الموقوفة فإنه بانهدام الدار لا يخرج العرصة عن الوقف،
ولا يجوز التصرف فيها ببيع ونحوه، والكلام في الفرق بين الأرض الخراجية
وغيرها كما تقدم في المسجد، والله العالم.
السابعة المشهور بين الأصحاب جواز بيع الوقف إذا وقع بين الموقوف
عليهم خلف، بحيث يخشى خرابه، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة وما فيها من
الكلام بما لا يحوم حوله للناظر نقض ولا ابرام في كتاب البيع (1) ولو انقلعت
نخلة من أرض الوقف قال الشيخ: يجوز بيعها، لتعذر الانتفاع إلا بالبيع، وقال
ابن إدريس: وتبعه أكثر المتأخرين أنه يمكن الانتفاع بهذه النخلة من غير بيعها
كالإجارة للتسقيف، أو جعلها جسرا " ونحو ذلك.
قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين: وهذه المنازعة تجري مجرى
النزاع اللفظي، لأن الشيخ فرض سلب منافعها على ما ذكره في دليله، وابن إدريس
فرض لها منافع غير الثمرة، قال في المسالك بعد أن ذكر أن كلام ابن إدريس
جيد، حيث يمكن الانتفاع، وإلا فكلام الشيخ جيد ما صورته: وأما ما ادعاه

(1) ج 18 ص 439.
255

العلامة من أنه لا نزاع بينهما إلا في اللفظ حيث أن الشيخ (رحمة الله عليه) فرض
سلب منافعها كما يقتضيه دليله، وابن إدريس فرض وجودها غير الثمرة، فلا
يخلو من حيف على ابن إدريس، لأن دليل الشيخ اقتضى ادعاءه، عدم المنافع
حينئذ، لا على تقدير عدم المنافع، ففيه قصور بين، وحينئذ فالتفصيل أجود، انتهى.
والظاهر أن ما ذهب إليه ابن إدريس هو المشهور بين المتأخرين، استنادا " إلى عدم
جواز بيع الوقف، أما على مذهب ابن إدريس فإنه يمنع منه مطلقا "، وأما على
المشهور فإنهم إنما يجوزونه في الصورة المتقدمة، وهذا ليس منها، والشيخ إنما
جوزه بدعوى عدم حصول النفع الذي هو الغرض من الوقف، فيجوز البيع حينئذ،
لبطلان الوقف، ومتى ثبت وجود النفع كما ادعاه ابن إدريس فلا يصح البيع،
بل يبقى وقفا " على حاله، وما ذكر من الكلام في المقام يجري أيضا " في حصيرا المسجد
إذا خلق، وجذعه إذا انكسر، وتعذر الانتفاع به فيه أو في غيره.
قال في المسالك: ومتى جاز البيع وجب أن يشتري بقيمته ما يكون وقفا "
على الأقوى، مراعيا " للأقرب إلى صفة الأول فالأقرب، ونقل في المختلف عن ابن
الجنيد أنه قال: والوقف رقيقا " أو ما يبلغ حاله إلى زوال ما سلبه من منفعته،
فلا بأس ببيعه، وابدال مكانه بثمنه إن أمكن ذلك، أو صرفه فيما كان يصرف فيه
منفعته، أورد ثمنه على منافع ما بقي من أصل ما حبس معه، إذا كان في ذلك
الصلاح، ثم قال: وهو الأقوى عندي.
أقول: قد تقدم في مسألة بيع الوقف المشار آنفا " من كتاب البيع (1)
ما يؤذن بالمناقشة في ذلك، فليراجع، والله العالم.
الثامنة قالوا: إذا آجر البطن الأول مدة، ثم انقرضوا في أثنائها، فإن
قلنا الموت يبطل الإجارة فلا كلام، وإن لم نقل فهل يبطل هنا فيه تردد، أظهره
البطلان، لأنا بينا أن هذه المدة ليست للموجودين، فيكون للبطن الثاني الخيار

(1) ج 18 ص 447.
256

بين الإجازة في الباقي، وبين الفسخ فيه، ويرجع المستأجر على تركة الأولين
بما قابل المختلف، انتهى.
أقول: الكلام هنا يقع في موضعين: الأول في بطلان الإجارة وعدمه بموت.
البطن الأول، بناء على عدم بطلان الإجارة بموت المؤجر، كما هو الأظهر،
وظاهر المشهور القول بالبطلان هنا، وجعلوه من جملة المستثنيات من قاعدة عدم
بطلان الإجارة بموت المؤجر، وعلل البطلان بما أشير إليه من قوله: إن هذه
المدة ليست للموجودين، وتوضيحه أن ملك المؤجر هنا لما آجره غير تام، لمشاركة
باقي البطون له في ذلك بأصل العقد، والمؤجر إنما يملك مدة حياته، وبعدها
ينتقل الملك إلى غيره، فبموته يتعين انتهاء حقه، فتكون إجارته بالنسبة إلى بقية
المدة تصرفا " في غير حقه، متوقفا " على إجازة البطن الذي بعده، ومن ذلك يظهر
أن صحة الإجارة في هذه المدة التي اشتمل عليها العقد مراعاة ببقاء المؤجر، فلو مات
في أثنائها تبين بطلان الإجارة في المدة الباقية، ومما ذكر يظهر وجه الفرق بين
إجارة البطن الأول من الموقوف عليهم بالنسبة إلى من بعده، وإجارة المالك بالنسبة
إلى الورثة، فإن إجارة المالك تصرف في ملكه المستقل به حال حياته، حتى لو
أراد اتلافه بالكلية لم يكن للوارث اعتراض في ذلك، والوراث إنما يتلقى الملك
بعد موته، بخلاف الوقف فإن البطن الأول غير مستقل بالملك كما عرفت، بل
البطون الأخيرة مشاركون له في الاستحقاق بأصل العقد، لا أنهم إنما يتلقونه بعد
موته كما في الورثة، ووجه التردد في المسألة مما ذكر، ومن أن المتصرف
حينئذ كالمالك، فكان تصرفه ماضيا ".
وأنت خبير بأنه بالنظر إلى هذه التعليلات، لا خفاء في قوة القول المشهور،
إلا أنك قد عرفت عدم صلوحها لتأسيس الأحكام الشرعية، وإنما العمل على
النصوص حيث لا نص هنا فالمسألة لا تخلو من الاشكال، وقد تقدم نظير هذه المسألة
في المسألة السابعة والعشرين فيما آجر الأب أو الوصي الصبي من مسائل المطلب
257

الثالث في الأحكام من كتاب الإجارة، وينبغي أن يستثنى من محل الاشكال ما لو
كان المؤجر للوقف ناظرا " سواء كان أجنبيا " أو من الموقوف عليه، فإنه في حكم
النائب عن الجميع، فلا تبطل الإجارة بموته.
الثاني ما ذكره من قوله ويرجع المستأجر على تركة الأولين، وهو محمول
على ما لو دفع الأجرة للبطن الأول، وإلا فلا رجوع، والمراد بمقابل المتخلف
الذي يرجع به على ما ذكره في المسالك، هو أن ينسب أجرة مثله إلى أجرة مثل
مجموع المدة، ويرجع من المسمى بمثل تلك النسبة، فلو كان قد آجره سنة بمائة
ومات بعد انقضاء نصفها وفرض أن أجرة مثل النصف المتخلف تساوي الستين، وأجرة
مثل النصف الماضي تساوي ثلاثين، رجع بثلثي المائة، وعلى هذا القياس، والله العالم.
التاسعة في جملة من أحكام الأمة الموقوفة، منها أنهم قد صرحوا بأنه لا يجوز
للموقوفة عليه وطئ الأمة الموقوفة لأنه لا يختص بملكها، فإن كان له شريك في
ذلك البطن، فإن عليه ما عدا نصيبه من العقر للشركاء، وكذا من قيمة الولد لو أولدها
وعليه الحد بنسبة ما عدا حصته وإن أحصر أهل تلك الطبقة فيه كان الولد حرا "،
ولا قيمة عليه ولا حد.
أقول: أما الأول فيعلم وجهه مما تقدم في كتاب البيع في مسألة وطئ الأمة
المشتركة بغير إذن الشركاء (1) ولكن قل من تنبه لذلك، ونبه عليه في هذا المقام.
وأما الثاني فإن الوجه في تحريم ذلك عليه، مع أن منافع الوقف له خاصة
وإن شاركته في الملك البطون المتأخرة، والوطئ من جملة المنافع، هو الفرق
بين الانتفاع بالوطئ وغيره من المنافع، من حيث إن الوطئ معرض للحمل
الموجب لصيرورتها أم ولد المانع من دوام الوقف على باقي البطون، لانعتاقها
بموته.
وأما الوجه في حرمة الولد إذا أولدها، فلان وطأه غير معدود من الزنا،

(1) ج 19 ص 474.
258

لأنه مالك في الجملة، ولا تجب عليه القمية، لمن بعده من البطون، لأنه مخصوص
بالاستحقاق الآن، إذ المفروض انحصار تلك الطبقة فيه، فلا شريك له، الآن، لا من
البطن الذي هو فيه، ولا من البطون المتأخرة، والولد بمنزلة كسبها وثمرة
البستان، فيملكه زمان ملكه، لأمه، إلا أن هذا مبني على أحد القولين
الآتيين في المسألة، والقول الآخر أنه يكون وقفا " كأمه، وأما عدم وجوب الحد
عليه، فلما عرفت من أنه غير زان وإن فعل حراما " كنظائره من وطئ الحليلة
محرما "، ويحتمل وجوب الحد إذا لم تكن له شبهة يدر أبها، بناء على القول
بعدم انتقال الملك إليه، إلا أنه قال في التذكرة: إنه لا حد أيضا " هنا، لأن شبهة
الملك فيه ثابتة، والمراد أن شبهة كونه مالكا فتحققه، وإن رجحنا عدم ملكه
لأنها مسألة اجتهادية، لا يرفع ترجيح أحد جانبيها أصل الشبهة عن الجانب الآخر
وهو كاف في درء الحد، وهو كما ذكره (قدس سره).
بقي الكلام هنا في موضعين أحدهما أنه هل تصير بالاستيلاد أم ولد، أم لا؟
قولان: وعلل الأول بتحقق العلوق منه في ملكه على القول بانتقال الملك إليه،
لأن مبنى الكلام على ذلك، وهذا هو السبب في صيروتها أم ولد بالنص والاجماع
وعلل الثاني بأن السبب إنما هو العلوق في الملك التام المختص بالمالك المعين،
والملك هنا غير مختص به، لأن باقي البطون حقهم متعلق بها الآن، وهو يرجع
إلى منع ما ادعى من سببيته السبب الأول، لأنها يقوم عليه كلها بالاستيلاد، ولا شئ
من أم الولد كذلك بالاستقراء، ولمنافاة الوقف الاستيلاد.
وأنت خبير بأن مرجع ما ذكره من التعليلين المذكورين إلى تعارض عموم
النهي من ابطال الوقف وتغييره، والحكم بدوامه ولزومه، وعموم ما دل على ثبوت
الاستيلاد، وترتب أحكامه، والقائل الأول اعتمد على العموم الثاني وخصص به
الأول، والقائل الآخر عكس، والحق هو تعارض العمومين، وتخصيص أحدهما
بالآخر يحتاج إلى مرجح، وليس فليس، فتبقى المسألة في قالب الاشكال،
مضافا " إلى عدم النص في أصل المسألة، فيتعاظم الاشكال.
259

وثانيهما أنه على تقدير صيرورتها أم ولد كما هو أحد القولين المتقدمين
فهل تؤخذ القيمة من تركته للبطون المتأخرة بعد موته، وانعتاقها بموته؟ قيل
فيه وجهان: أطال الكلام فيهما في المسالك، وحيث أن أصل المسألة كما عرفت
عارية عن النص، والركون في اثبات أحكامها وما يتفرع عليها إلى مجرد هذه
التعليلات المتداولة في كلامهم مشكل، أغمضنا النظر عن الكلام فيها.
ومنها أنه يجوز تزويجها، والمتولي لذلك هو الموقوف عليه إن قلنا بانتقال
الملك إليه، وإن قلنا بالانتقال إلى الله فالحاكم الشرعي، لأنه المتولي لنحو ذلك
ونقل عن الشيخ أنها تزوج نفسها، ورده من تأخر عنه بأنه ضعيف.
وإن قلنا ببقاء الوقف على ملك ذلك الواقف، كان التزويج إليه، ومهرها
للموجودين من الموقوف عليهم، أو الجهة الموقوف عليها، لأنه فائدة من فوائدها
وعوض من منفعتها المختصة بهم، فيكون عوضها كذلك.
ومنها أنه لو أتت بولد، وكان من مملوك أو زنا، فقيل: إنه يختص به البطن
الذي يولد معهم، لأنهم من جملة النماء، فأشبه الكسب، وثمرة البستان، وولد
الدابة، والظاهر أن هذا هو المشهور، وذهب الشيخ وابن الجنيد وجماعة إلى أنه يكون
وقفا " كأمه، لأن كل ولد ذات رحم حكمه حكم أمه كالمدبرة والمرهونة على قوله،
ورد بأن الكلية ممنوعة وإن كان الولد من حر بعقد صحيح فلا اشكال فيه، إلا مع
اشتراط الرقية في العقد، على خلاف فيه يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في محله
اللايق به، وإن كان من حر بوطئ شبهة قالوا: فهو حر، وعليه القيمة للموقوف
عليه، فلأنه فوت عليهم ولد أمة بغير استحقاق، وأرادوا بكون القيمة للموقوف
عليه أنها تكون لهم على جهة الملك، لا على جهة الوقف على أصح القولين.
ومنها أنه لا يجوز للواقف وطؤها على القول بالانتقال إلى الموقوف عليه، أو
الانتقال إلى الله سبحانه، لخروج الملك عنه، فيكون كالأجنبي يترتب على وطئه ما
يترتب على الأجنبي، وأما على القول ببقاء ملكه قالوا: فإنه لا حد عليه لشبهة الملك
260

وفي نفوذ الاستيلاد الخلاف في استيلاد الراهن، لتعلق حق الموقوف عليه وأولى
بالمنع هنا، والله العالم.
المقصد الثاني في الصدقة:.
قد عرفت مما قدمنا في سابق هذا المطلب أن الصدقة في الصدر الأول إنما
تطلق بمعنى الوقف، ولهذا إن الأصحاب (رضي الله عنهم) قد استندوا في كثير
من أحكام الوقف إلى الأخبار الواردة بلفظ الصدقة كما تقدم ذكره، وحينئذ
فالصدقة في الأخبار أعم من هذا المعنى المبحوث عنه من الوقف، وقد يوجد فيها
من القرائن ما يتعين به أحدهما، وقد لا يوجد فيبقى محتملا " لكل من الأمرين
كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى في البين.
وقد ذكر الأصحاب بأنه لا بد في الصدقة من العقد المشتمل على الإيجاب
والقبول، كما يعتبر في غيرها من العقود اللازمة.
أقول: إذا أريد بالقبول هو القبول القولي ففي فهمه من الأخبار اشكال،
لعدم ما يدل عليه فيها، وإن أريد الفعلي فهو المفهوم منها خاصة كما لا يخفى على
المتدبر، وستمر بك شطر منها إن شاء الله تعالى.
ومن شروطها القبض، لكن بإذن المالك عند الأصحاب، فلو قبضها بغير
إذنه لم ينتقل إليه، قالوا: لأن القبض المترتب عليه أثره، هو المأذون فيه شرعا "
والمنهي عنه غير منظور إليه، ونحوها غيرها من العقود المفتقرة إلى القبض،
كالوقف والهبة.
ومن شروطها أيضا " القربة، والظاهر أنه اجماعي، وعليه تدل جملة من
الأخبار الآتية إن شاء الله تعالى، حتى إذا حصل القبض بعد العقد المشتمل على
التقرب بها امتنع الرجوع فيها على الأشهر الأظهر، ونقل عن الشيخ أنه قال: إن
صدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام، ومن شروطها الإيجاب والقبول
261

ولا يلزم إلا بالقبض، وكل من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة عليه.
ورد بأن المقصود بالصدقة الأجر والثواب كما يدل عليه اشتراط القربة
فيها، وقد حصل فلا يجمع بين العوض والمعوض عنه، ولو سلم مساواتها للهبة،
فإنها يمتنع أيضا " الرجوع في الهبة مع التعويض فيها مطلقا " بقربة أو غيرها.
وبالجملة فإن قول الشيخ ضعيف، لدلالة الأخبار الآتية إن شاء الله تعالى
على امتناع الرجوع مع القربة، والواجب نقل ما وصل إلينا من الأخبار
المتعلقة بالمقام، والملاك فيها بما رزق الله تعالى فهمه منها ببركة أهل الذكر
(عليهم الصلاة والسلام).
فمنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن أو الصحيح في الأول، والموثق
في الثاني، عن حماد وهشام وابن أذينة وابن بكير وغيرهم (1) كلهم قالوا
" قال أبو عبد الله الله عليه السلام: لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله تعالى ".
وعن زرارة (2) في الصحيح " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الصدقة محدثة،
إنما كان الناس على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينحلون ويهبون
ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا " أن يرجع فيه، قال: وما لم يعط لله وفي الله فإنه
يرجع فيه، نحلة كانت أو هبة، حيزت أو لم تحز، ولا يرجع الرجل فيما يهب
لامرأته " الحديث، ويأتي تمامه إن شاء الله تعالى في مقصد الهبة.
قال المحدث الكاشاني في الوافي في ذيل هذا الخبر: الصدقة ما يعطى لله
سبحانه، والهبة والنحلة ما يعطى لأغراض أخر، وأكثر ما يطلق النحلة فيما
لا عوض له، بخلاف الهبة، فإنها عامة، وقد تكون لله تعالى، وكثيرا " ما تطلق
الصدقة على الوقف كما سيتبين فيما بعد ذلك، لأن الوقوف إنما تكون لله سبحانه
وأكثر ما نسب إلى نحو الدار والمضيفة على غير محصور، فالمراد بها الوقف

(1) الكافي ج 7 ص 30 ح 2 و 3، التهذيب ج 9 ص 151 ح 67 و ص 152 ح 624، الوسائل ج 13 ص 320 ح 3 و ص 334 ح 1 من باب 3.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
262

لله سبحانه، ولعل المراد بالحديث أن الناس كانوا على عهد رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) لا يتصدق بعضهم على بعض إذا أرادوا معروفا " فيما بينهم سوى
الزكاة وما يعطى لأهل المسكنة، بل كانوا يهبون وينحلون، إما لإرادة تحصيل
ملكة الجود أو إرادة سرور الموهوب له أو الإثابة منه أو غير ذلك، وإنما صدقة
بعضهم على بعض في غير الزكاة والرحم المسكين أمر محدث، يعني اطلاق هذه
اللفظة في موضع الهبة والحلة محدث، لا يدري ما يعني به من يتفوه بها، أيجعلها
لله أم لا؟ ثم إن الصدقة حيث لا تكون إلا لله عز وجل فلا يجوز الرجوع فيها، لأن
ما يعطى لله وفي الله فلا رجعة فيه، وذلك لأنه بمجرد الإبانة استحق الأجر وكتب له
وما لم يعط لله وفي الله جاز الرجعة فيه إلا في مواضع مستثناة كما يأتي، انتهى.
أقول: الظاهر أن المراد بقوله عليه السلام إنما الصدقة محدثة إنما هو بمعنى أن
اطلاق الصدقة على هذا المعنى المشهور الآن، المشروط بالشروط المتقدمة أمر محدث
لم يكن في زمنه (صلى الله عليه وآله) وإنما الذي في زمنه النحل والهبات
والصدقة يومئذ إنما تستعمل بمعنى الوقف، كما في صدقات علي عليه السلام وفاطمة والكاظم
(صلوات الله عليهما) المتقدم جميع ذلك، إلا أن المراد ما ذكره من أن اطلاق هذه
اللفظة في موضع الهبة والنحلة محدث ويشير إلى ما قلناه ما رواه في الكافي والتهذيب
عن عبيد بن زرارة (1) في الموثق " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يتصدق
بصدقة؟ أله أن يرجع في صدقته؟ فقال: إن الصدقة محدثة إنما كان النحل والهبة،
ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز، ولا ينبغي لمن أعطى شيئا لله
أن يرجع فيه " فإن الخبر كما ترى ظاهر في أن السؤال إنما هو عن الصدقة المعهودة،
وقد أجاب عليه السلام بأن الصدقة بهذا المعنى أمر محدث، وإنما المستعمل يومئذ النحل
والهبة، ثم أجاب بأن من من أعطى الله يعني قرن عطيته بالقربة صدقة كانت أو هبة

(1) الكافي ج 7 ص 30 ح 4، التهذيب ج 9 ص 153 ح 2، الوسائل
ج 13 ص 342 ح 1.
263

أو نحلة فإنه لا ينبغي الرجوع فيه، أي لا يجوز، فإن لفظ لا ينبغي، في هذه الأخبار بمعنى التحريم كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى وأما قوله عليه السلام " أنه يجوز
الرجوع لمن وهب أو نحل حيز أو لم يحز " فالمراد به مع عدم القربة كما ينبه عليه
قوله في الخبر الذي قبله " وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة
حيزت أو تحز " ونحو هذا الخبر، فيما ذكرنا ما تقدم في سابقه من قوله عليه السلام:
" ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا " أن يرجع فيه ".
وكيف كان فالخبر الأول صريح في اشتراط الصدقة بالقربة، إلا أنه أعم
من الصدقة بالمعنى المذكور، أو الوقف، والأخيران ظاهران في عدم جواز
الرجوع مع القربة.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم (1) في الصحيح " عن
أحدهما عليه السلام ورواه الشيخ بسند آخر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنه
سئل عن رجل كانت له جارية فأذته امرأته فيها فقال: هي عليك صدقة، فقال:
إن كان قال ذلك لله فليمضها، وإن لم يقل: فله أن يرجع إن شاء فيها " وهذا الخبر
ظاهر فيما ذكره الأصحاب مع أنه مع القربة فلا يجوز له الرجوع.
وفيه رد لما تقدم نقله عن الشيخ (رحمه الله) ولكن يجب تقييده بحصول
القبض الذي هو شرط لزوم الصدقة كما ستعرف إن شاء الله تعالى، والصدقة في هذا الخبر
ظاهرة في المعنى المعهود، ولا مجال لحملها على الوقف، وعن جميل في الحسن (2)
أو الصحيح " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجل يتصدق على ولده بصدقة وهم صغار
أله أن يرجع فيها؟ قال: لا الصدقة لله عز وجل " والتقريب فيه ما تقدم في سابقه إلا
أن لفظ الصدقة هنا محتمل للحمل على المعنى المعهود والحمل على الوقف، لكن
الأصحاب يخصونه بالأول حيث أن القربة عندهم غير مشترطة في الوقف على المشهور.

(1) الكافي ج 7 ص 32 ح 12، التهذيب ج 9 ص 151 ح 64.
(2) الكافي ج 7 ص 31 ح 5، التهذيب ج 9 ص 135 ح 15.
وهما في الوسائل ج 13 ص 319 ح 1 و ص 298 ح 2.
264

ومنها ما رواه الشيخان المتقدمان عن السكوني (1) عن أبي جعفر عليه السلام ورواه
الصدوق والشيخ أيضا " عن عبيد بن زرارة (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في رجل
تصدق على ولد له قد أدركوا فقال: إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث، فإن تصدق
على من لم يدرك من ولده فهو جائز، لأن والده هو الذي يلي أمرهم، وقال عليه السلام:
لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله عز وجل ".
أقول: وهذا الخبر أيضا " محتمل للحمل على المعنيين المتقدمين، ولهذا إن
الأصحاب قد استدلوا به على اشتراط القبض في الوقف، وأنه مع عدم القبض يبطل
ويرجع ميراثا "، واللازم من ذلك اشتراط القربة في الوقف كما صرح به في آخر
الخبر، مع أن المشهور بينهم عدمه، ومن ثم ناقشهم في الاستدلال به صاحب
المسالك، كما تقدم في مقصد الوقف، والظاهر هو الاشتراط في الموضعين، والمراد
من الجواز في قوله " فهو جائز " يعني واقع صحيح.
ومنها ما روياه عن الحكم بن أبي عقيلة (3) " قال: تصدق علي أبي بدار
وقبضتها ثم ولد له بعد ذلك أولاد فأراد أن يأخذها مني ويتصدق بها عليهم،
فسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك فأخبرته بالقصة فقال: لا تعطها إياه، قلت: فإنه
إذا " يخاصمني قال: فخاصمه ولا ترفع صوتك على صوته ".
وما رواه في الفقيه عن موسى بن بكر عن الحكم (4) " قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: إن والدي تصدق علي بدار ثم بدا له أن يرجع فيها، وأن قضاتنا
يقضون لي بها فقال: نعم ما قضت به قضاتكم ولبئس ما صنع والدك إنما الصدقة
لله عز وجل، فما جعل لله فلا رجعة فيه له، وإن أنت خاصمته فلا ترفع عليه

(1) الكافي ج 7 ص 31 عن محمد بن مسلم ح 7 و ص 299 ح 5 التهذيب ج 9 ص 145 ح 52، الفقيه ج 4 ص 182 ح 20. وهما في الوسائل ج 13 ص 297 ح 1 و ص 299 ح 5.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) الكافي ج 7 ص 33 ح 18، التهذيب ج 9 ص 136 ح 20.
(4) الفقيه ج 4 ص 183 ح 22.
وهما في الوسائل ج 18 ص 224 ح 1 و ج 13 ص 316 ح 1.
265

صوتك، وإن رفع صوته فأخفض أنت صوتك قلت له: فإنه قد توفي قال: فأطب بها ".
أقول: وهذان الخبران بضم أحدهما إلى الآخر صريحان في أنها بالقبض
والقربة لا يصح الرجوع فيها حسب ما صرح به الأصحاب، والخبر الأول وإن كان
مجملا " بالنسبة إلى القربة، إلا أن الثاني صريح في أن العلة في عدم صحة الرجوع
بعد القبض هو التقرب إلى الله سبحانه، وأن الصدقة لا تكون إلا مع القربة، وهي
ظاهرة في اشتراط القبض والقربة كما قدمنا ذكره، والظاهر أن الصدقة فيهما
بالمعنى المبحوث عنه.
بقي الكلام فيما اشترطه الأصحاب (رحمهم الله) في إذن المالك في صحة
القبض، فإن الروايات خالية منه، وما ذكروه من التعليل المتقدم ذكره مع
كونه لا يصلح لتأسيس حكم شرعي لا يخلو من مناقشة أيضا "، قوله " إن القبض
المترتب عليه أثره يعني لزوم العقد هو المأذون فيه شرعا " " مدخول بأنه بعد العقد
وقصد التقرب فيه لله سبحانه، فإنه يحصل به الانتقال إلى من تصدق به عليه،
فإذا قبضه فقد قبض حقا شرعيا " انتقل إليه بالعقد الشرعي، والإذن الشرعي حاصل
على هذا التقدير كما لا يخفى، لأنه لم يتعد في قبضه، ويؤيده قوله في الرواية
الأولى تصدق علي بدار وقبضتها، فإنه أعم من أن يكون المالك أقبضه أو قبض
بنفسه، وبالجملة فالأصل العدم حتى يقوم دليل على هذا الشرط.
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما مثل الذي يرجع في صدقته
كالذي يرجع في قيئه " وعن جراح المدائني (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
في الرجل يرتد في الصدقة قال: كالذي يرتد في قيئه " وعن عبد الله بن سنان (3)
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يتصدق بالصدقة ثم يعود في صدقته فقال:

(1) التهذيب ج 9 ص 155 ح 12.
(2) التهذيب ج 9 ص 155 ح 11 و ص 151 ح 65. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 316 ح 4 و 2 و ص 317 ح 5.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
266

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما مثل الذي يتصدق بالصدقة ثم يعود
فيها مثل الذي يقي ثم يعود في قيئه ".
أقول: وهذه الأخبار كما ترى صريحة في عدم جواز الرجوع في الصدقة
بعد حصول الشروط المتقدمة، وفيها مع ما تقدم من أخبار الدار رد على ما تقدم
نقله عن الشيخ من جواز الرجوع، وقد تقدمت جملة من الأخبار بلفظ الصدقة في
أحكام الوقف، واستدل به على تلك الأحكام، ومنها ما هو صريح في الوقف، ومنها
ما هو محتمل لذلك، ولكن الأصحاب فهموا منها الحمل على الوقف، والذي
يتلخص من النظر في الأخبار والجمع بينها وإن لم يذهب إليه أحد من علمائنا
الأبرار هو أن الصدقة أعم من المعنى المبحوث عنه هنا، ومن الوقف، وكل من
الأمرين مشترط بالقبض والقربة، وعدم جواز الرجوع بعد استكمال الشروط،
لكن متى قرنت بالدوام تمحضت المحمل على الوقف، أو كانت الصدقة على جهة
من الجهات أو مصلحة من المصالح المتقدمة، فإنها يختص بالوقف أيضا "، وما عدا
هما فهو قد تشتمل على ما تختص بالصدقة، بالمعنى المبحوث عنه، وقد يكون
محتملا " للأمرين كما عرفت، والله العالم.
تنبيهات:
الأول قال الشيخ في النهاية: ما تصدق به الانسان لوجه الله تعالى لا يجوز
أن يعود إليه بالبيع والهبة والشراء، فإن رجع إليه بالميراث كان جايزا " وبنحو
ذلك صرح الشيخ المفيد (عطر الله تعالى مرقده) ومنع ابن إدريس من تحريم
العود لعدم الدلالة عليه، فإن المتصدق عليه قد ملك العين فله بيعها على من شاء
من المتصدق وغيره، قال: وقد رجع في الخلاف فقال في كتاب الزكاة: يكره
للانسان أن يشتري ما أخرجه في الصدقة، ثم تعجب من كلام الشيخ في الموضعين،
وظاهر المشهور بين الأصحاب الجواز على كراهة، وعليه حمل في المختلف
كلام الشيخ، قال: لأنه يطلق لفظ لا يجوز على المكروه كثيرا ".
267

أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بما ذكر ما رواه في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن منصور بن حازم (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن
تصدقت بصدقة لم ترجع إليك ولم تشترها إلا أن تورث ".
وما رواه الشيخ عن منصور بن حازم (2) (قال: قال أبو عبد الله عليه السلام) إذا
تصدق الرجل بصدقة لم يحل له أن يشتريها ولا يستوهبها ولا يستردها إلا في
الميراث " وما رواه الشيخ عن علي بن إسماعيل عمن ذكره (3) " عن أبي عبد الله عليه السلام
في الرجل يخرج الصدقة يريد أن يعطيها السائل فلا يجده قال: فليعطها غيره
ولا يردها في ماله ".
وعن محمد بن مسلم (4) في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا تصدق الرجل
على ولده بصدقة فإنه يرثها، وإذا تصدق بها على وجه يجعله لله فإنه لا ينبغي له.
وعن طلحة (5) " عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: من تصدق بصدقة ثم
ردت عليه فلا يأكلها، فإنه لا شريك لله عز وجل في شئ فيما جعل له، إنما هو
بمنزلة العتاقة لا يصلح ردها بعدما يعتق ".
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن إسماعيل الجعفي (6) " قال: قال
أبو جعفر عليه السلام من تصدق بصدقة فردها عليه الميراث فهي له ".
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح في الثاني عن محمد بن مسلم (7)
" عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يتصدق بصدقة أيحل له أن يرثها؟ قال: نعم ".
وعن أبي الجارود (8) " قال: أبو جعفر عليه السلام لا يشتري الرجل ما تصدق به " الحديث.

(1) الكافي ج 7 ص 31 ح 8، التهذيب ج 9 ص 150 ح 61.
(2) الكافي ج 7 ص 31 ح 8، التهذيب ج 9 ص 150 ح 61.
(3) التهذيب ج 9 ص 157 ح 24.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 319 ح 5 و ص 318 ح 1 و ص 317 ح 6.
(4) التهذيب ج 9 ص 151 ح 63 و ص 152 ح 69.
(5) التهذيب ج 9 ص 151 ح 63 و ص 152 ح 69.
(6) التهذيب ج 9 ص 150 ح 60، الفقيه ج 4 ص 184 ح 26.
(7) الكافي ج 7 ص 32 ح 15، التهذيب ج 9 ص 151 ح 62.
(8) التهذيب ج 9 ص 134 ح 14، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 319
ح 5 و ص 318 ح 1 و 4 و 2 و ص 316 ح 3.
268

وأنت خبير بأن ما هو المشهور من الجواز في غير الميراث وإن كان على كراهية هو
الأوفق بمقتضى الأدلة العقلية، لأنه بانتقاله إلى ملك المتصدق عليه تصير كسائر أمواله
في بيعه أو هبته أو نحو ذلك على المتصدق أو غيره، لكن هذه الأخبار كما عرفت
قد اتفقت من غير معارض على المنع من ذلك.
ومنها ما هو صريح في التحريم مثل قوله لا يحل في الرواية الثانية معللا "
ذلك في رواية طلحة بأنه لا شريك لله فيما جعل له، بمعنى أنه بعد أن أخرجها
عن نفسه لله سبحان فتصرفه فيها بعد الانتقال إليه ببيع أو هبة أو نحوهما مستلزم
لذلك، وأن الصدقة بمنزلة العتق لله سبحانه، لا تصلح رده لمن أعتقه بوجه من
الوجوه، وينبغي تخصيصه بغير الرد بالميراث كما دلت عليه الأخبار الباقية،
وبالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الاشكال.
وظاهر كلام الشيخين إنما هو التحريم، والروايات كما ترى ظاهرة، فيه،
ولا معارض لها إلا ما عرفت من الدليل العقلي، والخروج عنها بمجرد ذلك مشكل
وكم مثل ذلك في الأخبار، ثم لا يخفى على من جاس خلال الديار.
بقي هنا اشكال آخر أيضا وهو أن أكثر هذه الأخبار قد صرحت باستثناء
الميراث من الكراهة والتحريم على القول به، وظاهر صحيحة محمد بن مسلم
تخصيص الإرث بما إذا لم يكن تلك الصدقة على وجه يجعله لله، فلو كانت الصدقة
لله سبحانه فإنه لا ينبغي له أن يتصرف فيها بالإرث أيضا "، وتقييد تلك الروايات
الكثيرة بهذه الرواية بأن تحمل تلك الروايات على أن الصدقة خالية من التقرب
كما احتمله في الوافي وجعله وجها " للجمع بين الأخبار في غاية البعد.
وكيف لا والصدقة بدون شرط القربة غير لازمة فله الرجوع فيها شرعا "
فضلا أن يشتريها ويتهبها، ورواية طلحة قد عللت عدم الجواز بالتقرب في الصدقة
بمعنى أن العلة في عدم جواز اتباعها اتهابها من حيث إن اخراجها لله سبحانه.
وبالجملة فبعده أظهر من أن يخفى على الناظر المتأمل في هذه الأخبار فهي
مرجوعة إلى قائليها (صلوات الله عليهم)، والله العالم.
269

الثاني: لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تحريم الصدقة أعني
الزكاة المفروضة على بني هاشم إلا في حال الاضطرار، وإنما الخلاف هنا في مقامين
أحدهما في الصدقة الواجبة غير الزكاة كالمنذورة والكفارة ونحوهما، فظاهر اطلاق
جملة من الأصحاب التحريم.
وقال في المسالك: لا خلاف في تحريم الصدقة الواجبة على بني هاشم في الجملة
عدا ما استثنى، ولكن اختلفوا في عمومها وتخصيصها بالزكاة، والأكثر أطلقوا
كالمصنف، وكذلك ورد تحريم الصدقة من غير تفصيل، فيعم، ولكن ظاهر جملة
من الأخبار أن الحكم مختص بالزكاة، فيكون ذلك تقييدا " لما أطلق منها، انتهى
وهو جيد.
ومن الروايات التي أشار إليها بأنها دالة على الاختصاص بالزكاة صحيحة زرارة
وأبي بصير ومحمد بن مسلم (1) " عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام قالا: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الصدقة أوساخ أيدي الناس، وأن الله
حرم علي منها ومن غيرها ما قد حرمه، فإن الصدقة لا تحل لبني عبد المطلب ".
الحديث فإن التعليل بالأوساخ ظاهر في الزكاة لأنها مطهرة للمال.
وأصرح منها في ذلك صحيحة إسماعيل بن الفضل الهاشمي (2) " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصدقة التي حرمت على بني هاشم ما هي؟ فقال: هي
الزكاة قلت: فتحل صدقة بعضهم على بعض، قال: نعم ".
ورواية زيد الشحام (3) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الصدقة التي
حرمت عليهم ما هي؟ فقال: الزكاة المفروضة ".
وأما ما أشار إليه من الروايات التي وردت بتحريم الصدقة من غير تفصيل

(1) الكافي ج 4 ص 58 ح 58، الوسائل ج 6 ص 186 ح 2.
(2) الكافي ج 4 ص 59 ح 5، الوسائل ج 6 ص 190 ح 5.
(3) الوسائل ج 6 ص 190 ح 4.
270

فمنها صحيحة جعفر بن إبراهيم الهاشمي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له:
أتحل الصدقة لبني هاشم؟ فقال: إنما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحل لنا،
فأما غير ذلك فليس به بأس، ولو كان كذلك ما استطاعوا أن يخرجوا إلى مكة
هذه المياه عامتها صدقة ".
ونحوها غيرها وطريق الجمع حمل اطلاق هذه الأخبار على ما دلت عليه
تلك الأخبار من التقييد بالزكاة صراحتها في ذلك، وبه يظهر ضعف قول من ذهب
إلى العموم، وإن نسب إلى الأكثر.
وثانيها في الصدقة المستحبة والمشهور بين الأصحاب (رحمهم الله الجواز)
ونسبه في المنتهى إلى علمائنا، وأكثر العامة، وخالف في التذكرة فذهب إلى
التحريم، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في كتاب الزكاة (2).
الثالث: قد صرح جملة من الأصحاب بأنه تجوز الصدقة على الذمي وإن كان
أجنبيا، لقوله (3) (صلى الله عليه وآله) " على كل كبد حراء أجر " ولقوله
تعالى (4) " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من
دياركم أن تبرهم ".
وهذا المشهور ونقل في الدروس عن الحسن بن أبي عقيل المنع من الصدقة
على غير المؤمن مطلقا، وظاهر بعض الأصحاب أن الخلاف في الصدقة على الذمي
كالخلاف في الوقف عليه، وقد تقدم الكلام في الوقف عليه، والخلاف في ذلك.
والذي وقفت عليه من الروايات المتعلقة بهذا المقام ما رواه في الكافي عن
سدير الصيرفي (5) في الموثق " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام أطعم سائلا لا أعرفه

(1) الكافي ج 4 ص 59 ح 3، الوسائل ص 189 الباب 31 ح 3.
(2) ج 12 ص 217.
(3) هامش الجامع الصغير ج 2 ص 66، المستدرك ج 2 ص 546، الكافي
ج 4 ص 58 وفيه أن الله يحب ابراد الكبد الحري ومن سقى كبدا حرى من بهيمة أو غيرها
أظله الله يوم لا ظل إلا ظله، الوسائل ج 6 ص 284 ح 1.
(4) سورة الممتحنة الآية 8.
(5) الكافي ج 4 ص 13 ح 1، الوسائل ج 6 ص 288 ح 3.
271

مسلما "؟ فقال: نعم أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق إن الله تعالى يقول:
" وقولوا للناس حسنا " " ولا تطعم من نصب لشئ من الحق، أو دعا إلى شئ من الباطل.
وهذه الرواية ظاهرة في جواز اعطاء المستضعفين الذين هم أحد أفراد المسلمين
وهم أكثر الناس في الصدر الأول، وقوله في الخبر لا أعرفه مسلما " أي مؤمنا، وقد
حققنا في جملة من زبرنا وكتبنا سيما كتاب الشهاب الثاقب، إن الناس في زمنهم عليهم السلام
كانوا على أصناف ثلاثة مؤمن وكافر ومسلم، والأول من عرف الإمامة ودان بها،
والثاني من جحدها وأنكرها، والثالث من جهلها ويعبر عنه في الأخبار بمن لا يعرف
ولا ينصب، كما يشير إليه هذا الخبر، ويؤيد ما قلناه ما رواه في الكافي عن المعلى
بن خنيس (1) " قال خرج أبو عبد الله عليه السلام في ليلة قد رشت، وهو يريد ظلة بني
ساعدة ما تبعته فإذا هو قد سقط منه شئ فقال: بسم الله، اللهم رد علينا قال فأتيته
وسلمت عليه، فقال: معلى قلت: نعم جعلت فداك فقال: التمس بيدك، فما وجدت
من شئ فادفعه إلي فإذا أنا بخبز منتشر كثير فجعلت أدفع إليه ما وجدت، إلى أن
قال فأتينا بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام فجعل يدس الرغيف والرغيفين حتى أتى على
آخرهم، ثم انصرف، فقلت جعلت فداك، يعرف هؤلاء الحق؟ فقال: لو عرفوا
لواسيناهم بالدقة والدقة هي الملح " الحديث، فإن هؤلاء المذكورين ممن أشرنا
إليهم بأنهم من المسلمين الذين لا يعرفون ولا ينصبون، وفي هذين الخبرين رد لما
تقدم نقله، عن ابن أبي عقيل من منع الصدقة على غير المؤمن.
ومنها ما رواه في الكافي (2) عن عمرو بن أبي نصر، " قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام إن أهل السواد سيقتحمون علينا وفيهم اليهود والنصارى والمجوس،
فنتصدق عليهم قال: نعم وهذا الخبر دال على ما هو المشهور بين الأصحاب عليه السلام مما
قدمنا ذكره، وفيه رد على ابن أبي عقيل أيضا.

(1) الوسائل ج 6 ص 284 ح 1. الكافي ج 4 ص 8 ح 3.
(2) الكافي ج 4 ص 14 ح 3.
272

وما رواه في الكافي عن عبد الله بن الفضل النوفلي (1) عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام
ورواه الصدوق مرسلا " عن أبي عبد الله عليه السلام " أنه سئل عن السائل يسأل ولا يدرى
ما هو، فقال: اعط من وقعت له الرحمة في قلبك، وقال: اعط دون الدرهم، قلت
أكثر ما يعطى؟ قال أربعة دوانيق، وفيه رد لما ذهب إليه ابن أبي عقيل أيضا ".
وما رواه في الكافي، عن منهال القصاب (2) " قال: قال أبو عبد الله عليه السلام
اعط الكبير والكبيرة والصغير والصغيرة ومن وقعت له في قلبك رحمة وإياك وكل
وقال بيده وهزها ".
والمستفاد من هذه الأخبار هو جواز الصدقة على غير المؤمن من ذمي وغيره، ولكن
يعطى كما يعطى المؤمن وإنما يعطى بقدر دفع الضرورة، وقوله في هذا الخبر: وإياك
وكل يعني وكل ما تعطيه غيره من المؤمنين، فهو في معنى الخبر الذي قبله، والله العالم.
الرابع: قد استفاضت الأخبار بالحث على التصدق وما فيه من عظيم الأجر
ودفع البلاء وجلب الرزق فروى في الكافي في الصحيح (3) " عن زرارة عن سالم
بن أبي حفصة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تعالى يقول ما من شئ إلا وقد وكلت
به من يقبضه غيري إلا الصدقة فإني أتلفتها بيدي تلفا " حتى أن الرجل يتصدق
بالتمرة أو بشق التمرة، قال: فأربيها له كما يربي الرجل فلوه وفصيله فيأتي يوم
القيامة وهو مثل أحد أو أعظم من أحد ".
وروى في الكافي والفقيه مسندا " في الأول عن إسحاق بن غالب (4) عمن حدثه
عن أبي جعفر عليه السلام ومرسلا " في الثاني عن أبي جعفر عليه السلام قال البر والصدقة ينفيان
الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبها سبعين ميتة السوء قال في الكافي وفي

(1) الكافي ج 4 ص 14 ح 2، الفقيه ج 2 ص 39 ح 16.
(2) الكافي ج ص 14 ح 2 باب الصدقة على أهل البوادي.
(3) الكافي ج 4 ص 47 ح 6.
(4) الكافي ج 4 ص 2 ح 2، الفقيه ج 2 ص 37 ح 2
وهذه الروايات في الوسائل ج 6 ص 289 ح 6 و ص 288 ح 4 و ص 283
ح 3 و ص 255 ح 4.
273

خبر آخر ويدفعان عن شيعتي ميتة السوء إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة
المذكورة في الكتب الأربعة وغيرها.
الخامس: الأفضل في الصدقة أن تكون سرا " وهل هو مخصوص بالمندوبة
أو يشمل الواجبة؟ المشهور الأول، واستثنى بعضهم من أفضلية الاسرار بها أن
لا يكون منهما بترك المواسات فإن إظهارها أفضل دفعا " لتهمة، والذي يدل على
أفضلية السر قوله سبحانه " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " (1).
وما رواه في الكافي عن القداح (2)، عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قالا:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): صدقة السر تطفي غضب الرب، وعن
عمار الساباطي (3) قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا عمار الصدقة والله في السر أفضل
من الصدقة في العلانية، وكذلك والله العبادة في السر أفضل منها في العلانية.
وظاهر الآية مع هذه الأخبار هو أفضلية السر مطلقا " وإليها استند من قال
بالعموم، إلا أنه روى في الكافي أيضا " عن ابن بكير في الموثق (4) عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " قال يعني الزكاة
المفروضة قال: قلت " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " قال: يعني
النافلة إنهم كانوا يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل، وعن إسحاق بن
عمار (5) في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله الله عز وجل " وإن تخفوها وتؤتوها
الفقراء فهو خير لكم " فقال هي سوى الزكاة فإن الزكاة علانية غير سر وعن أبي بصير (6)
في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام قال: وكل ما فرض الله عليك فاعلانه أفضل من اسراره،

(1) سورة البقرة الآية 271.
(2) الكافي ج 4 ص 7 ح 1.
(3) الكافي ج 4 ص 8 ح 2 من باب فضل صدقة السر.
وهما في الوسائل ج 6 ص 275 ح 2 و 3.
(4) الكافي ج 4 ص 60 ح 1 و ص 502 ح 17 و ص 499 ح 9.
وهذه الروايات في الوسائل ج 6 ص 215 ح 3 و 2 و ص 215 ح 1.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 4.
(6) تقدم آنفا تحت رقم 4.
274

وما كان تطوعا " فاسراره أفضل من اعلانه، ولو أن رجلا " حمل زكاة ماله على عاتقه
فقسمها علانية كان ذلك حسنا " جميلا ".
وما رواه العياشي في تفسيره (1) " عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئلته
عن قول الله: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، قال ليس تلك الزكاة
ولكنه الرجل يتصدق لنفسه الزكاة علانية ليس بسر ".
ومن هذه الأخبار يظهر تخصيص الآية وما في معناها من الأخبار بالصدقة
المندوبة، ويظهر ضعف القول بالعموم، وأما ما ذكروه من استحباب الاظهار في
المندوبة لدفع التهمة عن نفسه بترك المواساة، وكذا ما ذكره في المسالك من
استحباب الاظهار أيضا " لمتابعة الناس له في ذلك واقتدائهم به لما فيه من التحريص
على نفع الفقراء فلم أقف فيه على دليل، واطلاق هذه الأخبار يدفعه، وتخصيصها
بهذه التعليلات العقلية غير مقول، وعلل الاخفاء والاستتار في المندوبة بأنه أبعد
من تطرق الريا، ولا بأس به بأن يجعل وجها " لما دلت عليه النصوص، نعم ما ذكروه
من استحباب الاعلان في الصورتين المذكورتين جيد في الواجبة التي يستحب
الاعلان بها، ويكون ذلك وجها " للنصوص الدالة على الاعلان فيها، والله العالم.
المقصد الثالث في الحبس والسكنى والرقبى والعمرى:
إعلم أن انتقال المنفعة إلى الغير إما على وجه اللزوم أم لا، والثاني في العارية
والأول إما مع خروج العين عن الملك أم لا، والأول الوقف، والثاني إما بعوض
أم لا، والأول الإجارة، والثاني العمرى التي هي محل البحث هنا، ومنه يظهر
أن ثمرتها هو التسليط على المنفعة مجانا " مع بقاء الملك لمالكه.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الاختلاف في هذه الألفاظ اعتباري بحسب اختلاف
ما تضاف، والمرجع إلى أمر واحد، فإذا قرنت بالاسكان قيل سكنى، وإذا قرنت

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 151 ح 499، الوسائل ج 6 ص 216 ح 9.
275

بالعمر من المالك أو الساكن قيل عمري، وإذا قرنت بمدة معينة قيل رقبى، من
ارتقاب المدة وخروجها أو رقبة الملك، وقد يقترن باثنين منها كأن يقول أسكنتك
هذه الدار مدة عمرك، فيقال سكنى لاقترانها بالاسكان، وعمري لاقترانها بالعمر
ولو قال: أسكنتكها مدة كذا وكذا، قيل: سكنى ورقبى، ولو قال: أرقبتكها
تحققت الرقبي خاصة، وتنفرد السكنى فيما لو أسكنه إياها مطلقا وتنفرد العمرى
فيما لو كان للعمر في غير مسكن.
قالوا: وهي يعني السكنى عقد يشتمل على الإيجاب والقبول والقبض،
وفائدتها التسليط على استيفاء المنفعة مع بقاء الملك على مالكه.
أقول: وقد تقدم الكلام في العقد وما اشترطوه فيه في غير مقام، ويؤيده
ما سيظهر لك إن شاء الله تعالى من الأخبار الواردة في المقام.
قالوا: والعبارة عن العقد أن يقول: أسكنتك أو أعمرتك أو أرقبتك أو ما
جرى مجرى ذلك هذه الدار وهذه الأرض أو هذا المسكن عمرك أو عمري أو مدة
معينة، والواجب أولا " نقل الأخبار الواردة فيما يتعلق بهذا الباب ثم الرجوع
إلى كلام الأصحاب وعرضه عليها ليتميز القشر من اللباب بتوفيق الملك الوهاب،
وبركة أهل الذكر الأطياب.
الأول ما رواه المشايخ الثلاثة عن حمران (1) " قال: سألته عن السكنى
والعمرى فقال: إن الناس فيه عند شروطهم، إن كان شرطه حياته سكن حياته
وإن كان لعقبه فهو لعقبه كما شرط حتى يفنوا ثم يرد إلى صاحب الدار ".
الثاني ما رواه في في الكافي والتهذيب عن أبي الصباح الكناني (2) عن أبي
عبد الله عليه السلام " قال: سئل عن السكنى والعمرى فقال: إن كان جعل السكنى في

(1) الكافي ج 7 ص 33 ح 21، التهذيب ج 9 ص 139 ح 587، الفقيه ج 4
ص 186 ح 652، الوسائل ج 13 ص 325 ح 1.
(2) الكافي ج 7 ص 33 ح 22، التهذيب ج 9 ص 140 ح 588، الوسائل
ج 13 و ص 326 ح 1.
276

حياته فهو كما شرط، وإن كان جعلها له ولعقبه من بعده حتى يفنى عقبه فليس
لهم إن يبيعوا ولا يورثوا ثم ترجع الدار إلى صاحبها الأول ".
الثالث ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن أحمد بن عمر
الحلبي (1) عن أبيه في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته عن رجل أسكن
رجلا " داره حياته قال: يجوز له وليس له أن يخرجه، قلت: فله ولعقبه؟ قال:
يجوز، وسألته عن رجل أسكن رجلا " ولم يوقت له شيئا قال يخرجه صاحب الدار
إذا شاء ".
الرابع ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (2) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام " في الرجل يسكن الرجل داره ولعقبه من بعده، قال: يجوز
لهم وليس لهم أن يبيعوا ولا يورثوا، قلت: فرجل أسكن رجلا داره حياته؟ قال
يجوز ذلك، قلت: فرجل أسكن رجلا " داره ولم يوقت؟ قال: جائز ويخرجه
إذا شاء ".
الخامس ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن عن الحسين بن
نعيم (3) " عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: سألته عن رجل جعل داره سكنى
لرجل " أبان " حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده قال: هي له ولعقبه من بعده كما
شرط، قلت: فإن احتاج إلى بيعها يبيعها قال: نعم، قلت: فينقض بيعه الدار
السكنى؟ قال: لا ينقض البيع السكنى، كذلك سمعت أبي عليه السلام يقول: قال
أبو جعفر عليه السلام لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى، ولكن يبيعه على أن الذي

(1) الكافي ج 7 ص 34 ح 24، التهذيب ج 9 ص 140 ح 589، الفقيه
ج 4 ص 186 ح 651.
(2) الكافي ج 7 ص 34 ح 25، التهذيب ج 9 ص 140 ح 590.
(3) الكافي ج 7 ص 38 ح 38، التهذيب ج 9 ص 141 ح 593 وفيه " أيام "
الفقيه ج 4 ص 185 ح 649.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 327 ح 2 و ص 326 ح 2 و ص 325 ح 2.
277

يشتريه لا يملك ما اشترى حتى ينقضي السكنى على ما شرط والإجارة، قلت:
فإن رد على المستأجر ماله وجميع ما لزمه من النفقة والعمارة فيما استأجره؟ قال
على طيبة النفس ويرضى المستأجر بذلك لا بأس ".
السادس ما رووه أيضا عن خالد بن نافع البجلي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام
" قال: سألته عن رجل جعل لرجل سكنى دار له مدة حياته يعني صاحب الدار،
فلما مات صاحب الدار أراد ورثته أن يخرجوه ألهم ذلك؟ قال: فقال: أرى أن
تقوم الدار بقيمة عادلة وينظر إلى ثلث الميت، فإن كان في ثلثه ما يحيط بثمن الدار
فليس للورثة أن يخرجوه، وإن كان الثلث لا يحيط بثمن الدار فلهم أن يخرجوه
قيل له: أرأيت إن مات الرجل الذي جعل له السكنى بعد موت صاحب الدار
يكون السكنى لعقب الذي جعل له السكنى؟ قال: لا ".
السابع ما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (2) " عن أبي جعفر عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قضى في العمرى أنها جائزة لمن أعمرها،
فمن أعمر شيئا ما دام حيا فإنه لورثته إذا توفي ".
الثامن وما رواه في الكافي والتهذيب عن يعقوب بن شعيب في الصحيح (3) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكون له الخادم تخدمه فيقول: هي
لفلان تخدمه ما عاش، فإذا مات فهي حرة فتأبق الأمة قبل أن يموت الرجل بخمس
سنين أو ستة ثم يجدها ورثته، ألهم أن يستخدموها قدر ما أبقت؟ قال: إذا مات
الرجل فقد عتقت ".

(1) الكافي ج 7 ص 38 ح 39، التهذيب ج 9 ص 142 ح 594، الفقيه
ج 4 ص 186 ح 650، الوسائل ج 13 ص 331 ح 1.
(2) التهذيب ج 9 ص 143 ح 595.
(3) الكافي ج 7 ص 34 ح 23، التهذيب ج 9 ص 143 ح 596.
وهما في الوسائل ج 13 ص 332 ح 2 و ص 330 ح 2.
278

التاسع ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن مسلم (1) " قال: سألت
أبا جعفر عليه السلام عن رجل جعل لذات محرم جاريته حياتها قال: هي لها على النحو
الذي قد قال ".
العاشر ما رواه في التذهيب والفقيه عن علي بن معبد (2) " قال: كتب
إليه محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد سنة ثلاث وثلاثين ومائتين يسأله عن
مات وخلف امرأة وبنين وبنات وخلف لهم غلاما أوقفه عليهم عشر سنين ثم هو حر
بعد العشر سنين فهل يجوز لهؤلاء الورثة بيع هذا الغلام وهم مضطرون إذا كان
على ما وصفته لك جعلني الله فداك؟ فكتب عليه السلام لا يبيعوه إلى ميقات شرطه إلا أن
يكونوا مضطرين إلى ذلك فهو جايز لهم ".
الحادي عشر ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله تعالى أرواحهم) في الصحيح
في بعض أسانيدهم عن ابن أذينة (3) " قال: كنث شاهد ابن أبي ليلى فقضى في
رجل جعل لبعض قرابته غلة داره ولم يوقت وقتا " فمات الرجل فحضر ورثته ابن أبي ليلى وحضر قرابة الذي جعل له غلة الدار فقال ابن أبي ليلى: أرى أن أدعها
على ما تركها صاحبها فقال له محمد بن مسلم الثقفي: أما إن علي بن أبي طالب عليه السلام
قد قضى في هذا المسجد بخلاف ما قضيت، فقال: وما عملك؟ فقال: سمعت
أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام يقول: قضى علي بن أبي طالب عليه السلام برد الحبيس وانفاذ
المواريث، فقال: ابن أبي ليلى هذا عندك في كتاب؟ قال: نعم قال فأرسل إليه
وأتني به، فقال له محمد بن مسلم: على أن لا تنظر في الكتاب إلا في ذلك
الحديث قال: لك ذلك، فأراه الحديث عن أبي جعفر عليه السلام في الكتاب فرد
قضيته ".

(1) التهذيب ج 9 ص 143 ح 597.
(2) التهذيب ج 9 ص 138 ح 581، الفقيه ج 4 ص 181 ح 634.
(3) التهذيب ج 9 ص 140 ح 591، الكافي ج 7 ص 34 ح 27 الفقيه ج 4
ص 181 ح 635.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 330 و ح 1 و ص 327 ح 3 و ص 328 ح 1.
279

الثاني عشر ما رواه في الكافي والقيه عن عبد الرحمن الجعفي (1) قال
كنت أختلف إلى ابن أبي ليلى في مواريث لنا ليقسمها وكان فيه حبيس فكان يدافعني
فلما طال شكوته إلى أبي عبد الله عليه السلام فقال: أو ما عليم أن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) أمر برد الحبيس وانفاذ المواريث، قال: فأتيته ففعل كما كان يفعل
فقلت له: إني شكوتك إلى جعفر بن محمد عليه السلام فقال لي: كيت وكيت قال:
فحلفني ابن أبي ليلى أنه قد قال ذلك، فحلفت له فقضى لي بذلك ".
الثالث عشر ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الإسناد عن
السندي بن محمد عن أبي البختري (2) " عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام أن
السكنى بمنزلة العارية، إن أحب صاحبها أن يأخذها أخذها، وإن أحب أن
يدعها فعل أي ذلك شاء ".
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام إذا عرفت ذلك،
فالكلام هنا يقع في مواضع:
الأول: قد عرفت مما أشرنا إليه آنفا أن ظاهر الأصحاب أنه لا بد في
هذه المعاملة من عقد مشتمل على الإيجاب والقبول كغيره من العقود، قالوا:
والعبارة عن العقد أن يقول: أسكنتك وأعمرتك وأرقبتك أو ما جرى مجرى ذلك
هذه الدار وهذه الأرض أو هذا المسكن عمري أو عمرك، أو مدة معينة.
أقول المفهوم من ظاهر الأخبار المذكورة الاكتفاء بمجرد التراضي على
ذلك، والاتيان بمجرد ما يفهم منه المقصود، مثل قوله في الحديث الثامن " هي
لفلان تخدمه ما عاش "، وفي الحديث التاسع جعل لذات محرم جاريته فإنه ليس
هنا عقد زيادة على ذلك، ونحوهما ظاهر الحديث الثالث والرابع والخامس، فإن

(1) الكافي ج 7 ص 35 ح 28 عن عبد الرحمن الخثعمي، التهذيب ج 9
ص 141 ح 592، الفقيه ج 4 ص 182 ح 636، الوسائل ج 13 ص 329 ح 2.
(2) الوسائل ج 13 ص 328 ح 3، قرب الإسناد ص 69.
280

ظاهرها مجرد الإذن في السكنى وليس هنا عقد غير ذلك، لا قبول بالكلية بالمعنى
الذي أرادوه غير مجرد الرضى بذلك، وهذا هو المفهوم من الأخبار بالنسبة إلى
سائر العقود أيضا " كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع.
وبالجملة فإن دائرة الأمر في العقود أو سمع مما ضيقوه وسهولة الأمر في
ذلك أظهر مما شرطوه وإن كان الوقوف على ما ذكروه هو الأولى.
الثاني: لا خلاف في أنه لا يلزم شئ منها قبل القبض، واختلفوا في أنه
هل تلزم بالقبض المشهور ذلك، وقيل: بالعدم، لأصالة بقاء الملك لمالكه، فهي
كالعارية، وحينئذ تلزم إن قرنت بالقربة، وإلا فلا، لأنه في معنى الهبة المعوضة،
وهذان القولان الأخيران نقلهما الأصحاب في كتب الاستدلال بلفظ قيل: ولم
يصرحوا بالقائل، ولا ريب في ضعفهما لدلالة الأخبار المذكورة على اللزوم بعد
حصول القبض كالحديث الأول وقوله فيه " الناس عند شروطهم " إلى أن قال
" فهو لعقبه كما شرط حتى يفنوا ثم يرد إلى صاحب الدار " فإنه ظاهر، بل صريح
في وجوب الوفاء بما اشتراط وأنه ليس لصاحب الدار التصرف إلا بعد فنائهم،
الحديث الثاني والثالث، وفيه تصريح بأنه ليس لصاحب الدار أن يخرجه،
ومعنى الجواز في هذه الأخبار الصحيحة يعني أنه يصح له التصرف والخبر المذكور
صريح في اللزوم، ومثل ذلك الحديث الخامس حكم فيه بأن البيع لا ينقض
السكنى بمعنى أنها لازمة لا يوجب البيع نقضها، ويؤكده جعلها في قرن الإجارة
التي لا اشكال في لزومها، وبالجملة فإن القولين المذكورين ضعيفان لا يلتفت
إليهما ومما ذكرنا يعلم أن القبض شرط في لزومها وبذلك صرح الأصحاب
أيضا ".
الثالث: لو قال: لك سكنى هذه الدار ما بقيت وحييت، يعني الساكن
فإنه لا اشكال ولا خلاف ظاهرا " في أنه بعد موت الساكن ترجع الدار إلى من
أسكنه أو إلى ورثته إن مات، وعلى ذلك تدل جملة من الأخبار المتقدمة كالخبر
281

الأول والثاني، فإنهما ظاهران في وجوب العمل بالشرط، وأنه بعد انقضاء
الشرط إن كان بالنسبة إلى الساكن أو مع ورثته ترجع الدار إلى صاحبها الأول.
وقال المحقق في الشرايع: ولو قال لك سكنى هذه الدار ما بقيت أو حييت
جاز ويرجع إلى المسكن بعد الساكن على الأشبه، أما لو قال: فإذا مت رجعت
إلى، فإنها ترجع قطعا " انتهى.
ونسبة القول المذكور إلى الأشبه مؤذن بالخلاف في ذلك، والظاهر أن
منشأ ذلك ما ذكره الشيخ في المبسوط حيث نقل في أصل المسألة قولين بالصحة
والبطلان، ثم نقل عن القائلين بالصحة أنهم اختلفوا فذهب قوم منهم إلى أنها
للمعمر مدة بقائه، ولورثته من بعده، وقال آخرون منهم: أنه إذا مات رجعت
إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان مات، قال: وهذا هو الصحيح على مذهبنا.
وأنت خبير بأن الظاهر أن الخلاف الأول والثاني إنما هو للعامة لما علم من
عادة الشيخ في الكتاب المذكور ويشير إلى ذلك قوله أخيرا " وهذا هو الصحيح على
مذهبنا، فإنه ينقل أقوال العامة ويختار منها ما يوافق مذهبه، وأخبارنا المتقدمة
ظاهرة بل صريحة في بطلان هذه الأقوال المذكورة عدا ما ذكرنا من الانتقال
إلى المالك بعد انقضاء مدة الاسكان إن قرن بمدة، أو موت الساكن إن قرن
بحياته، ثم إن المفهوم من كلام الأصحاب وعليه تدل الأخبار المتقدمة أنه متى
قرن السكنى بعمر الساكن خاصة أو مع عقبه فإنه بعد موت الساكن أو الجميع
يرجع ذلك المسكن إلى المالك، ونقل عن الشيخ في المبسوط عدم الانتقال لو شرط
العقب بعده.
قال في الدروس: ولو قال: هي لك عمرك ولعقبك لم يملكها المعمر، بل
ترجع بعد موت العقب إلى المالك، وظاهر الشيخ عدم رجوعها لخبر جابر عن
النبي (صلى الله عليه وآله) انتهى.
أقول والخبر المذكور هو ما رواه جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله)
282

قال: أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه فإنما هي للذي يعطاها، لا ترجع إلى الذي
أعطاها، فإنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث " (1) وأنت خبير بأن هذا الخبر غير
موجود في كتب أخبارنا، والظاهر أنه عامي.
وكيف كان فالقول المذكور ضعيف مردود بالأخبار المتقدمة، كالخبر
الأول والثاني فإنهما صريحان في الرجوع إلى صاحب الدار بعد فناء العقب،
وقوله إنه ليس للعقب أن يبيعوا ولا يورثوا أظهر في عدم الملك.
وبالجملة فإن المفهوم من الأخبار المتقدمة تصريحا " في بعض وتلويحا " في
آخر أنه لا فرق في رجوع المعطي بأحد الوجوه المذكورة إلى المالك بين أن
يعلق على عمر أحدهما أو على عقب المعمر بعده، بأن يجعل المنفعة لهم بعده مدة
عمرهم، أو لبعض معين منهم، أو جعله له مدة ثم لعقبه مدة معينة مخصوصة،
فيكون حينئذ مركبا " من العمرى والرقبى، ثم بعد انقضاء المدة المعينة يرجع إلى
المالك، وإلى جميع ذلك يشير قوله في الخبر الأول " الناس فيه عند شروطهم ".
والله العالم.
الرابع: لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو قرن السكنى بعمر المالك ثم مات
الساكن قبل المالك فإنه ينتقل الحق إلى ورثته مدة حياة المالك، كغيره من
الحقوق والأملاك التي يرثها الوارث، إنما الخلاف فيما لو قرنت بعمر المعمر وهو
الساكن ثم أتى المالك قبله، فالمشهور أنه لا يجوز لورثة المالك إزعاج المعمر
واخراجه ما دام حيا "، لأن الأصل في العقد اللزوم، وهو قد استحق بالعقد المنفعة
مدة حياته، حيث أنها قرنت بعمره، وقد دخل الخبر الأول كما عرفت " الناس
عند شروطهم " ومقتضى الشرط هنا ما ذكرناه.
ويدل عليه أيضا " قوله في الخبر الثاني إن كان جعل السكنى في حياته فهو
كما شرط، فإن الضمير راجع إلى الساكن بقرنية قوله بعده " وإن كان جعلها له

(1) المستدرك ج 2 ص 515 ح 4.
283

ولعقبه " وهو أعم من أن يموت المالك أو يبقى.
وذهب ابن الجنيد إلى تفصيل في ذلك، فقال: إذا أراد ورثة المالك
اخراج الساكن بعد موت المالك نظر إلى قيمة الدار، فإن كانت تحيط بثلث الميت
لم يكن لهم اخراجه، وإن كان ينقص عنها كان ذلك لهم.
ويدل على ما ذهب إليه الخبر السادس حيث فصل فيه كما ذكره، قال الشيخ
في كتابي الأخبار بعد ايراد الخبر المذكور ما تضمن هذا الخبر من قوله " يعني
صاحب الدار، فإنه غلط من الراوي ووهم منه في التأويل، لأن الأحكام التي
ذكرها بعد ذلك إنما تصح إذا كان قد جعل السكنى حياة من جعل له السكنى
فحينئذ يقوم وينظر باعتبار وزيادته ونقصانه.
وأما إذا جعل السكنى حياة صاحب الدار فإنه يبطل السكنى بموته ولم يحتج
إلى تقويمه واعتبار الثلث وربما أوهم هذا الكلام منه موافقته لابن الجنيد مما
ذهب إليه، إلا الظاهر أنه إنما أراد به بيان بطلان هذا التأويل، بناء على ما
اشتملت عليه الرواية من هذا الحكم، وأنه لا يتمشى هذا الحكم المذكور فيهما
إلا على تقدير كون التعمير بمدة عمر الساكن، لا صاحب الدار، لأنه لا خلاف ولا
اشكال في البطلان بموت صاحب الدار إذا قرنت بعمره، وربما حمل صاحب الدار
في الخبر على الساكن فإنه صاحب في الجملة لملكه المنافع مدة حياته وإن بعد،
إلا أنه لا بأس به في مقام التأويل جمعا " بين الأدلة، ثم إن الأصحاب قد ردوا هذه
الرواية بضعف السند، واضطراب المتن.
قال في الدروس: وقال ابن الجنيد (رحمة الله عليه): يعتبر خروجها من
الثلث لرواية خالد بن نافع عن الصادق عليه السلام وفي متنها اضطراب، وقال في المسالك:
إن في سندها جهالا وضعفاء، ومتنها خللا يمنع من الاستناد إليها، فالمذهب
هو المشهور.
أقول: ولعل الخلل المشار إليه منشؤه أن التفصيل بالخروج من الثلث
284

وعدمه إنما هو فيما إذا كان ذلك في مرض الموت لا في حال الصحة، والمفروض في
الخبر لا دلالة فيه، ولا إشارة إلى أن ذلك كان في المرض، فيصير الخبر بذلك
مضطربا " ومختلا " لخروجه عن مقتضى القواعد الشرعية، والأصول المرعية.
ومن ذلك يظهر أن العمل على القول المشهور لتأييده بما قدمناه من الأخبار
وموافقته القواعد مقررة، وضعف هذا الخبر سندا " ومتنا " كما عرفت، والله العالم.
الخامس: الموجود في كلام الأصحاب وكذا في الأخبار في الاقتران بالعمر
هو عمر المالك، أو عمر الساكن وحده أو مع عقبه، وهل يتعدى الحكم إلى غيرهم،
فيقرن بعمر أجنبي اشكال، قال: في المسالك: يحتمل العدم، وهو الذي أفتى به
الشهيد في قواعده، للأصل وعموم الأمر بالوفاء بالعقود (1)، و " إن المؤمنين عند
شروطهم " (2)، وهذا من جملته، ولصدق اسم العمرى في الجملة، المدلول على
مشروعيتها في بعض الأخبار من غير تقييد بعمر أحدهما، وهذا لا بأس به، ويحتمل
عدم التعدي إلى غير ما نص عليه، لاشتمال هذا لعقد على جهالة من حيث عدم
العلم بغاية وقت المنفعة المستحقة، والأصل يقتضي المنع في غير محل الوفاق.
ويتفرع على الأول حكم ما لو مات أحدهما في حياة من علقت بعمره، فإن كان
الميت المالك فالحكم كما لو مات في حياة المعمر، وإن كان المعمر رجعت إلى المالك
ولو مات من علقت على عمره عادت إلى المالك أيضا " مطلقا " عملا " بالشرط، انتهى.
أقول: الظاهر أن الأقرب هو الثاني، لأن الحكم بانتقال الملك عن مالكه
عينا " كان أو منفعة يتوقف على ناقل شرعي، ولم يرد من الشارع ما يدل على هذه
الصورة، ليصح ترتب النقل عليها، والاحتجاج بالأصل مدفوع بأن الأصل العدم
حتى يقوم دليل على جواز ذلك، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود متوقف على مشروعية
العقد وثبوته عن الشارع، فالاستدلال به لا يخرج عن المصادرة " والمؤمنون عند
شروطهم " غاية ما يفيده الإباحة، والكلام في لزوم ذلك بحيث لا يجوز له الرجوع

(1) سورة المائدة الآية 1
(2) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.، التهذيب ج 7 ص 371 ح 66.
285

تلك المدة كما هو مقتضى هذه المعاملة.
نعم إذا وقع الشرط في عقد لازم لزم ما وقع فيه، ويؤيد ذلك أيضا " أنه
هو الأحوط في الدين، والأخذ به واجب في موضع عدم النص عند المحدثين،
" حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك فمن اجتنب الشبهات نجى من
الهلكات " والله العالم.
السادس: الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو أطلق السكنى ولم يعين مدة أو عين مدة
غير مضبوطة فله السكنى مدة تكون جائزة، لا لازمة بمعنى أنه له اخراجه متى
شاء، ويدل على ذلك الخبر الثالث والرابع، وعلى ذلك يحمل الخبر الثالث عشر
وإلا فإنه على اطلاقه مخالف للأخبار وفتوى الأصحاب، مضافا " إلى ضعف الرواية،
فلا بد من حمله على ما ذكرناه، وإلا فطرحه من البين، وهذه الصورة مستثناة
من صورة هذه المعاملة، حيث إن الحكم فيها اللزوم كما عرفت نصا " وفتوى، إلا في
هذه الصورة.
بقي الكلام هنا في موضعين: أحدهما في أنه قد صرح في التذكرة بأنه
مع الاطلاق يلزم الاسكان في مسمى العقد ولو يوما "، والضابط ما يسمى اسكانا
و بعده للمالك الرجوع متى شاء، وتبعه المحقق الشيخ علي (رحمة الله عليه) واحتج
بالرواية الرابعة ولعل ذلك بالنظر إلى قوله " وله أن يخرجه بعد قوله أسكن رجلا "
دارا " فإن الاخراج ظاهر في كونه قد سكن، وأن الاخراج بعد السكون فيها،
قيل: ويمكن الاحتجاج له بما يدل على لزوم غيره من العقود، كعموم " أوفوا
بالعقود " (1) فلا بد من الحكم هنا بلزومه وقتا " ما، عملا بالدليل، ثم يرجع إلى
الجواز.
أقول: أنت خبير بأن قضية الجواز التخيير بين الوفاء بالعقد و عدمه، لأنه
لا معنى لكونه جائزا غير لازم، إلا أنه إن شاء أسكن وإن شاء لم يسكن، ومتى

(1) سورة المائدة الآية 1.
286

أسكن فإن شاء أخرج وإن شاء لم يخرج، وأما الرواية فإن ما اشتملت عليه أحد
الفردين المذكورين ولا يلزم من ذكره الاختصاص به، وأما الآية فهي مخصوصة
بالعقود اللازمة، ولزوم الوفاء آنا " ما، وإن جاز الرجوع بعد ذلك كما ذكروه
خلاف ظاهر الآية، إذ ظاهرها وجوب الوفاء ما لم يعرض للعقد ما يوجب فسخه
أو بطلانه، وكان مبنى ما ذهبوا إليه على أنه لا بد من الاسكان في الجملة، ليصدق
السكنى وتندرج هذه الصورة تحت هذه القاعدة، وفيه أنها قد خرجت بعدم لزوم
الاسكان فيها، فهي ليست من أفرادها وإنما هذا حكم سأل عنه السائل في تلك الأخبار، فأجابوا عليهم السلام عنه بأنه بإذنه في ذلك لا بأس بالجلوس ولكنه لا يلزم
كما في غيره من صور هذه القاعدة، وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه هنا وجها "
وجيها " يعتمد عليه.
وثانيهما أنه لا يخفى أن مورد الخبرين المتقدمين السكنى خاصة لو أطلقها،
وأما العمرى والرقبى فلم يتعرضوا في الأخبار لحكمها لو أطلقنا أيضا، وقطع في
الدروس يبطلان العمرى مع الاطلاق، ولم يتعرض للرقبى، وفي التحرير قطع
بأنه مع اطلاق العمرى والرقبى يصح، ويكون للمالك اخراجه متى شاء كالسكنى.
قال في المسالك بعد نقل ذلك: وهو في الرقبى حسن، وفتوى الدروس في العمرى
أحسن، وهو مؤذن باختيار الصحة في الرقبى خاصة، مثل السكنى والبطلان في
العمرى، وظاهر كلامه قبيل هذا لكلام هو التوقف في العمرى، والحكم بالصحة
في الرقبى، حيث قال: ويمكن القول بفساد العمرى مع الاطلاق لاقتضائها الاقتران
بعمر، إما لأحدهما كما هو المشهور، أو مطلقا كما قررناه، فإذا لم يعنيه
بطلت للجهالة، كما لو عين مدة غير مضبوطة، حيث يعتبر تعينها، والصحة إقامة
لها مقام السكنى، لاشتراكهما في كثير من المعاني والأحكام، ومناسبتهما على
الوجه الذي قررناه سابقا، فيكون كاستعمال لفظ السلم في مطلق البيع وكذا
القول في الرقبى، وأولى بالصحة هنا لأن اطلاقها باعتبار رقبة الملك أو ارتقاب المدة
287

التي يرتضيها المالك ممكن هنا بطريق الحقيقة، فاستعمالها في السكنى يكون كاستعمال
أحد المترادفين مكان الآخر، وإن اختلفا من جهة أخرى، وهذا قوي، انتهى.
أقول: لا يخفى أنه وإن تكرر في كلام الأصحاب ذكر الرقبى في أفراد
هذه المعاملة، وتكلفوا الوجه في التسمية بذلك، كما تقدمت الإشارة إليه، إلا أنه
لا وجود لذلك في أخبار المسألة المتقدمة وليس غيرها في الباب، وحينئذ فيسقط
الكلام فيها بالكلية في هذا الموضع وغيره وإنما الموجود فيها السكنى والعمرى
والحبس خاصة.
وقد أشرنا فيما تقدم في غير موضع أن الأصحاب في جملة أكثر التفريعات
والأحكام الخارجة عن موارد الأخبار إنما جروا فيها على كلام العامة، ولا يبعد أن
هذا من ذاك.
وأما العمرى فالظهار أنها مثل السكنى في هذا الحكم فإنه لا فرق بين
الأمرين إلا بالتعبير بلفظ الاسكان في الأول، والعمرى في الثاني، وإلا فالمرجع إلى
أمر واحد، فإذا قال أسكنتك فهي سكنى، وإذا قال: أعمرتك فهي عمري كما
تقدمت الإشارة إليه، في صدر المبحث، والأخبار دلت على أنه مع اقتران الأول
من هذين اللفظين بالمدة المعينة، فإنه يلزم الوفاء تلك المدة، ولا يجوز الرجوع
ومع اقتران الثاني بعمر الساكن أو المالك كذلك، والاطلاق الذي أوجب الجواز
دون اللزوم في الأول إنما هو من حيث عدم ذكر المدة المشترطة، والاطلاق
في الثاني يرجع إلى ذلك، فإنه من يحث عدم ذكر عمر أحد من المالك أو الساكن
أو غيرهما على القول به، فالقول لا لصحة في الأول، والبطلان في الثاني، لا أعرف
له وجها " وجيها ".
قوله في المسالك في بيان احتمال الفساد: " إنه إذا لم يعين عمر أحدهما
أو مطلقا بطلت للجهالة " فيه أن ذلك وارد أيضا " في السكنى إذا أطلقها ولم يقيد
بمدة، مع أنه حكم بالصحة هو وغيره، وإن كإن لمالك الرجوع، فإن كانت الجهالة
288

من هذه الجهة موجبة لبطلان ففي الموضعين، وإلا فلا فيهما، اللهم إلا أن يكون
مبني كلامه على الفرق بين ما إذا لم يعين للسكنى مدة بالكلية، فإنه يصح، وبين
ما إذا عين مدة غير مضبوطة كقدوم الحاج، وادراك الغلة، فإنه يبطل، والعمرى
إنما هي من قبيل الثاني، لأنه ذكر العمر ولم يعنيه بعمر أحد، فهو كما لو
ذكر المدة ولم يشخصها بمدة معينة، يشير إليه قوله كما لو عين مدة غير مضبوطة
إلا أن فيه أن الظاهر من قوله عليه السلام في الخبرين المشار إليهما ولم يوقت ما هو
أعم من الأمرين المذكورين لأن المراد لم يوقت لذلك وقتا " معينا " وهو أعم من
أن لا يوقت بالكلية، أو وقت ولكنه غير معين، والمراد بالسكنى المطلقة التي
تكون صحيحة غير لازمة هو هذا المعنى، فإن الوقت الغير المعين يرجع إلى عدم
التوقيت بالكلية، إذ لا ثمرة ترتب عليه، والله العالم.
السابع: المشهور بين الأصحاب أنه لا تبطل السكنى والعمرى والرقبى
بالبيع، وعليه يدل الخبر الخامس، إلا أن مورده السكنى والعمرى، وقد عرفت
أن الرقبى لا وجود لها في الأخبار، ونقل في الدروس قولا ببطلان البيع، واضطرب
كلام العلامة هنا، ففي الإرشاد قطع بجواز البيع، وفي التحرير استقرب عدمه،
لجهالة وقت انتفاع المشتري، وفي القواعد والمختلف استشكل الحكم، وفي
التذكرة أفتى بالجواز للرواية، ثم استشكل بعد ذلك.
قال في المسالك: ومنشأ المنع أو الاشكال أن الغرض المقصود من البيع هو
المنفعة، ولهذا لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه، وزمان استحقاق المنفعة في العمرى
مجهول.
أقول: لا يخفى ما في هذا التعليل العليل من الوهن والقصور، فإن ما
ذكره لو تم لاقتضى عدم جواز بيع ما آجره المالك لأن منفعته ملك للمستأجر
ضمن مدة الإجارة، والبيع إنما وقعت على ما مسلوب المنفعة تلك المدة، مع أن
النصوص المتقدمة في كتاب الإجارة دالة على جواز البيع، وعدم ابطال الإجارة
289

والكلام في الموضعين واحد، كما صرحت به الرواية المذكورة هنا، وقوله فيها
" لا ينقض البيع الإجارة والسكنى " وقياسه ذلك على بيع ما لا منفعة فيه قياس مع
الفارق، فإن البيع فيما نحن فيه وكذا في الإجارة غير خال من المنفعة في الجملة
وإنما تخلف بعض منها، والجهالة المدعاة في العمرى مع تسليم الابطال بها
مستثناة بالنص.
وبالجملة فإن النص المذكور صحيح صريح فيما قلنا، ورده بهذه التعليلات
العليلة اجتهاد في مقابلة النصوص.
بقي الكلام هنا في مواضع: الأول قال في الدروس: لو باع المالك العين
كان فسخا للسكنى، لا الرقبى والعمرى، ويتخير المشتري في فسخ البيع وإجارته
مع جهله، وقيل: يبطل بيع المعلقة بالعمر للجهالة، والأول مروي عن الحسين
بن نعيم عن الكاظم عليه السلام، انتهى.
أقول المفهوم من كلام غيره من الأصحاب أنه لا فرق في الصحة بين السكنى
وأخويها المذكورين في صورة البيع، فحكمه هنا بانفساخ السكنى بالبيع
وتخصيص الصحة بأخويها غريب لا أعرف له موافقا " فيه، نعم لو كانت السكنى
جائزة وهي السكنى المطلقة فإنهم ذكروا أنها تبطل، لأن من شأن العقد الجائز
إذا طرأ عليه عقد لازم ينافيه فإنه يبطله، والرواية التي هي مستند هذا الحكم
ليست مخصوصة بالعمرى، كما يشعر به ظاهر كلامه، لأنه وإن كان صدر الرواية
قد تضمن السؤال عن رجل أسكن رجلا داره مدة حياته، وهذه الصورة عندهم
كما قدمنا ذكره صدر البحث مما يطلق عليها السكنى والعمرى، إلا أن الخبر
المنقول في آخر الرواية عن أبي جعفر عليه السلام وكذلك ما قبله، إنما صرح فيه
بالسكنى، وأنها مع الإجارة لا تنقض بالبيع.
وبالجملة فالخبر صريح في السكنى والعمرى معا "، لا أنه مختص بالعمرى،
كما هو ظاهر كلامه، ومثله الشهيد الثاني في المسالك أيضا "، وكأنهم بنوا على
290

ما تضمنه صدر الخبر وغفلوا عما تكرر فيه بعد ذلك من ذكر السكنى، سيما
الرواية عن أبي جعفر عليه السلام.
الثاني حيث قد عرفت أنه يجوز البيع في هذه الصورة، فإن كان المبيع
مسلوب المنفعة، فإن كان المشتري عالما " فلا خيار له، لأنه قدم على شراء عين
مسلوبة المنفعة، فيجب عليه أن يصبر حتى ينقضي المدة أو العمر المقرون بها
فتنتقل المنفعة بعد ذلك، وله في تلك المدة وبقاء العمر الانتفاع بالمبيع، بالبيع
والهبة والعتق، وغير ذلك مما لا يتعلق بتلك المنفعة المستحقة، وإن كان جاهلا "
تخير بين الصبر مجانا " إلى انقضاء المدة أو العمر، وبين الفسخ، لحصول العيب
بفوات المنفعة.
الثالث لو كان المشتري هو المعمر في صورة العمرى أو الساكن في صورة
السكنى، فإنك قد عرفت أن المنفعة قد انتقلت إليه في تلك المدة وزمان العمر،
وبعد الاشتراء قد انتقلت له العين أيضا " فصارت العين ومنافعها له، فيجوز له أن
يبيعها مع منافعها، لأن الجميع ملك له، وأما قبل الاشتراء فإنه لا يجوز له بيع
المنفعة التي انتقلت إليه، لأن البيع لا يقع على المنافع، وإنما مورده الأعيان كما
تقدم في كتاب البيع (1).
نعم الأقرب أنه يجوز له الصلح عليها، وعلى هذا لو اشترى العين غيره جاز
له أن يصالح المشتري على ما يستحقه من المنفعة بمال معلوم، فيصير المشتري مالكا "
للعين والمنفعة، كما لو كان المشتري هو المعمر أو الساكن، والله العالم.
الثامن: المشهور بين الأصحاب أنه إذا أطلق السكنى بمعنى أنه لم يعين
الساكن، بل قال: أسكنتك هذا الدار مدة كذا، أو عمرك أو نحو ذلك، فإنه
يسكن فيها بنفسه وأهله وأولاده، ولا يجوز له اسكان غيرهم إلا بإذن جديد زائد
على مجرد هذا العقد.

(1) ج 18 ص 429.
291

قال الشيخ في النهاية إذا أسكن انسان غيره لم يجز للساكن أن يسكن معه
غيره إلا ولده وأهله، ولا يجوز له سواهم، ولا يجوز للساكن أيضا " أن يؤاجره ولا
أن ينتقل عنه فيسكن غيره إلا بإذن صاحب المسكن، وعلى هذه المقالة جرى من
تأخر عنه إلا ابن إدريس، فإنه قال في السرائر بعد نقل كلام الشيخ المذكور:
والذي يقتضيه أصول المذهب أن له جميع ذلك، اخلافه وإجارته وانتقاله عنه
واسكان غيره معه سوى ولده وامرأته سواء أذن له في ذلك أم لم يأذن إذا كان
أول ما أسكنه قد أطلق السكنى لأن منفعة هذه الدار استحقها، وصارت مالا من
أمواله، وحقا " من حقوقه، فله استيفائها كيف شاء بنفسه وبغيره، وما أورده شيخنا
أبو جعفر (رحمة الله عليه) في نهايته فلا شك أنه خبر واحد قليلا ما يورده أصحابنا
في كتبهم، فشيخنا المفيد (رحمة الله عليه) لم يورده في مقنعته، ولا السيد المرتضى
(رضي الله عنه) ولا المحصلون من أصحابنا، انتهى.
احتج الأصحاب على ما ذكروه بأن الأصل عصمة مال الغير، وحفظه عن
تسلط غير المالك، خرج عنه المسكن بالإذن وأهله وأولاده قضية للعرف، فصار
كالمأذون فيه مطلقا؟ بقي الباقي على أصل المنع و أجابوا عما ذكره بالمنع عن
الاستحقاق المطلق، بل إنما يستحق على ما جعل له، و هو السكنى فلا يتناول
الإجارة وغيرها، لعدم الإذن فيه مطلقا "، وعرفا ".
وتنظر فيه في المسالك، ولم يذكر وجه النظر، ثم قال: وكيف كان فالعمل
على القول المشهور، وإن كان كلام ابن إدريس لا يخلو من قوة.
أقول: لا يخفى أنه ليس في ش ء من أخبار المسألة ما يدل على هذا الحكم
المذكور بوجه، فقول ابن إدريس أن ما أورده الشيخ في النهاية خبر واحد،
إنما هو من قبيل ما قدمنا ذكره في غير موضع من أنه لما كان أكثر ما يذكره
الشيخ في هذا الكتاب قد جرى فيه على ما أورد في الأخبار، ظن ابن إدريس أن
جميع ما في الكتاب من فتاوى الشيخ من ذلك القبيل، وإلا فهذه أخبار المسألة
292

كملا " كما قدمناه، وهي كما ترى خالية من التعرض لذلك، ولهذا إن الأصحاب
إنما استندوا في إدخال من ذكروه إلى العرف حيث إن ظاهر اللفظ إنما يدل على
اسكان ذلك الرجل وحده، ولكن حيث دل العرف على دخول من ذكروه
حكموا بوجوب دخولهم، ولهذا أيضا " أن العلامة في التذكرة ألحق من جرت
العادة أيضا " باسكانه، مثل عبده وجاريته ومرضعة ولده، لدلالة العرف على ذلك
وكذا الدابة والضيف إذا كان في الدار موضع يصلح لها، وكذا أحراز الغلة فيها
ونحو ذلك مما جرت العادة به، ولا بأس به.
وما ذكره شيخنا المتقدم ذكره من النظر في جواب الأصحاب عن حجة
ابن إدريس لا أعرف له وجها "، فإن غاية ما يدل عليه لفظ السكنى هو السكون في
تلك الدار لا مطلق الانتفاع، كما يدعيه ابن إدريس، ومطلق الانتفاع إنما يترتب
على الإجارة لا على السكنى الصريح في خصوص هذه المنفعة، إن أراد جميع منافعها
فمنعه ظاهر، وإن أراد هذه المنفعة الخاصة فهو مسلم، ولكن بالنسبة إليه خاصة،
لأن قوله أسكنتك في معين أذنت لك في السكون، والإذن إنما حصل له خاصة،
ولكن لما كان مقتضى العرف والعادة هو تبعية من جرت العادة بملازمته له
كالزوجة والأولاد ونحوهم ا دخلنا هم في الإذن من هذه الجهة، وأما غيرهم فلا
يدل العرف عليه، ولا يدخل تحت مفهوم اللفظ كما عرفت، فكيف يتم ما ذكره
ابن إدريس والحال كذلك.
وبالجملة فأصالة العدم حتى يقوم الدليل على خلافه أقوى مستمسك،
فالأظهر هو القول المشهور.
التاسع: قال الشيخ في النهاية: إذا جعل الانسان خدمة عبده أو أمته لغيره
مدة من الزمان ثم هو حر بعد ذلك، كان له ذلك أيضا " جائزا "، وكان على المملوك
الخدمة في تلك المدة، فإذا مضت المدة صار حرا "، فإن أبق العبد هذه المدة ثم
ظفر به من جعل له خدمته لم يكن له بعد انقضاء تلك المدة سبيل.
293

أقول: وما ذكره الشيخ هو مدلول الخبر الثامن، وقال ابن إدريس بعد نقل
كلام الشيخ: أورد شيخنا هذه الرواية وهي من أضعف أخبار الآحاد، لأنها
مخالفة لأصول المذهب، لأن التدبير عند أصحابنا بأجمعهم لا يكون إلا بعد موت
المولى الذي هو المعتق المباشر للعتق.
أقول: وقد غفل ابن إدريس هنا عن شئ آخر، وهو أن الإباق عند الأصحاب
وعليه دلت الأخبار مبطل للتدبير، والرواية المشار إليها قد اشتملت على الإباق
بعد التدبير، حيثما ذكره الشيخ هنا في عبارته، والتحقيق في المقام أن يقال لا ريب
أن ما ذكره ابن إدريس هو المتفق عليه بين الأصحاب، من أن الدبير إنما يعلق
بموت المولى، ولكن الشيخ وجماعة من أتباعه وجملة من المتأخرين كالمحقق
والعلامة وغيرهما صرحوا بالتدبير في هذه الصورة أيضا "، استنادا " إلى الخبر المشار
إليه، وهو صحيح صريح في ذلك، ولا مانع من العلم به، وإن رده ابن إدريس
بأنه من أخبار الآحاد بناء على قاعدته الخارجة عن جادة السداد.
وأما ما ذكرناه نصرة لابن إدريس من أن الإباق مبطل للتدبير فقد أجاب
عنه الشيخ بأن هذا الحكم مخصوص بالتدبير معلق على موت المولى، كما هو مورد
تلك الأخبار، لا مطلق وهو جيد، وألحق العلامة أيضا " التدبير بموت زوج
المملوكة.
ويدل عليه ما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن حكيم (1) " قال: سألت
أبا الحسن عليه السلام عن رجل زوج أمته من رجل حر ثم قال لها: إذا مات زوجك
فأنت حرة، فمات الزوج قال: فقال إذا مات الزوج فهي حرة، تعتد منه عدة الحرة
المتوفى عنها زوجها، ولا ميراث لها منه، لأنها صارت حرة بعد موت الزوج ".
وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك رد هذا القول، وضعفه بعدم وجود الدليل
وهو غفلة عن الاطلاع على الخبر المذكور، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد تحقيق

(1) التهذيب ج 7 ص 344 ح 38، الوسائل ج 16 ص 97 ح 2.
294

للمقام في كتاب التدبير، وفي هذا الخبر تأييد وتأكيد لسابقه في عدم اشتراط
التدبير بموت المولى خاصة، وربما قيل: بجواز التدبير بموت كل من علق عليه،
ولا أعرف له دليلا "، فالواجب الوقوف على موارد النصوص.
بقي الكلام في أن مخرج ذلك من الأصل أو الثلث، والظاهر أن الحكم في
ذلك ما صرح به في المختلف، قال: و؟ هل ينعتق العبد من الأصل أو من الثلث؟
الأقوى أنه ينعتق من الأصل، إن كان المالك حيا " حال وفاة من علقت الخدمة
بموته. ومن الثلث إن كان قد مات قبله، وقد نبهنا على ذلك في كتاب القواعد،
انتهى ووجه ظاهر.
العاشر: المعروف من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه إذا حبس
فرسه أو بعيره في سبيل الله أو غلامه في خدمة المسجد أو بيت الله الحرام أو بيت
العبادة، لزم ذلك ولم يجز تغييره ما دامت العين موجودة، وفي التذكرة أنه يعتبر
فيه القبض، وفي التحرير صرح بأنه يعتبر فيه القربة، وظاهر من حكم بلزومه
وعدم جواز تغييره ما دامت العين موجودة، هو عدم الخروج عن ملك المالك،
وفي الدروس صرح بخروجه عن ملكه بالعقد، بخلاف الحبس على الانسان،
كما سيأتي.
وصرح بعضهم بأنه يصح الحبس على جميع القرب، وأما إذا حبس على آدمي
فإن أطلق ولم يعين مدة بطل بموت الحابس، وعاد إلى ورثته، والأصحاب حملوا
ما تقدم من قضاء أمير المؤمنين عليه السلام برد الحبيس وانفاذ المواريث على هذا الفرد،
وهو صريح الخبر الحادي عشر، وعليه يحمل اطلاق الخبر الثاني عشر، وإن عين
مدة لزم في تلك المدة، وبعد انقضائها يرجع إلى الحابس أو ورثته، وعلى هذا فلا
دليل لهم على الحبس المقيد بمدة، ولا على الحبس في سبيل الله الأظهر الاتفاق على
ذلك، وإلا فإنه لا تعرض له في شئ من الأخبار المتقدمة، وليس في الباب غيرها.
ثم إنه مع الاطلاق هل يصح له الرجوع فيه، أكثر العبارات خال من
295

التعرض لذلك، وفي القواعد صرح بأن له الرجوع متى شاء، واستحسنه في
المسالك، وهو غير بعيد لو حبس عليه مدة عمر أحدهما، فإنه مثل الحبس مدة في
الرجوع إلى الحابس أو ورثته بعد انقضاء المدة والعمر، وبه جزم في التحرير،
والنصوص خالية عنه، إلا أنه الأوفق بالقواعد الشرعية.
قال في المسالك: واتفق الجميع على التعبير بالفرس والمملوكة في الوجوه
المذكورة، وزاد في الدروس البعير في سبيل الله، فكان عليهم أن يذكروا حكم
باقي ما يصح وقفه واعماره، والظاهر أن حكم الحبس كذلك مورده مورد الوقف،
فيصح، وحبس كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها بالشرائط السابقة على الانسان
مطلقا، وعلى القرب حيث يمكن الانتفاع فيها كمطلق الدابة، لنقل الماء إلى
المسجد والسقاية، ومعونة الحاج والزائر ين وطلاب العلم والمتعبدين، والكتب
على المتفقهين، والبيت على المساكين وغير ذلك، فالاقتصار على ما ذكره ليس
بجيد، وعموم الأدلة متناول للجميع، وخصوصها خال من جميع ما ذكروه، انتهى.
المقصد الرابع في الهبة:
والكلام في هذا المقصد يقع في مقامين: الأول: في معنى الهبة وعقدها،
والأخبار الواردة فيها وما نصته تلك الأخبار من الأحكام فنقول: إن الهبة يعبر
عنها بالنحلة والعطية، قيل: والعطية تطلق على مطلق الاعطاء المتبرع به، فيشمل
الوقف والصدقة والهبة والهدية والسكنى، ومن ثم أطلق بعض الفقهاء عليها اسم
العطايا، وعنونها بكتاب، فيكون أعم من الهبة والنحلة في معناها، والهبة أعم
من الصدقة لاشتراط الصدقة بالقربة، كما تقدم ذكره به ومن الهدية لاشتراط
الهدية بالنقل إلى المهدى إليه من المهدي اعظاما " وتوقيرا " له، ولهذا أنه لا يطلق
لفظ الهدية على العقارات، فيقال: أهدى له دارا "، ولا أرضا " ويقال: وهب له ذلك.
ومما يتفرع على ذلك أنه لو نذر الهبة برأي بالصدقة والهدية، ولو نذر بإحدى
296

الآخرين لم يبرأ بمطلق الهبة، ولو حلف أن لا يهب، فتصدق أو أهدى حنث دون العكس
ونقل عن الشيخ في المبسوط أن الهبة والهدية والصدقة بمعنى واحد، والظاهر بعده.
وظاهر المشهور أنه يشترط في الهبة بالمعين الأعم بعد أهلية التصرف من
جانب الواهب ما يشترط في سائر العقود من الإيجاب والقبول، ونحو ذلك مما
تقدم ذكره مرارا " إلا اعتبار كونه بلفظ الماضي قولا " واحدا "، فلا بد عندهم في
الهدية التي هي أحد أفراد الهبة كما عرفت من جميع ذلك.
قال الشيخ في المبسوط: ومن أراد الهدية ولزومها وانتقال الملك منه إلى
المهدى إليه الغائب فيوكل رسوله في عقد الهبة، فإذا مضى وأوجب له وقبل الهدية
المهدى إليه وأقبضه إياها لزم العقد، وملك المهدي إليه الهدية، نحوه قال في
الدروس، وجعل عدم اشتراطها بالايجاب والقبول احتمالا "، واختلف كلام العلامة
في ذلك، ففي القواعد قطع بأن الهدية كالهبة في اشتراطها بالايجاب والقبول،
وفي التحرير نقل قريبا " من كلام الشيخ، ثم قال: فلو قيل: بعدم اشتراط القبول
كان وجها " قضاء للعادة بقبول الهدايا من غير نطق، ويلوح من آخر كلامه في
التذكرة الفتوى بذلك.
قال في التذكرة ونعم ما قال، وإن أسنده إلى العامة، فإنه الحق الذي
لا يعتريه اشكال أنه لا حاجة في الهبة إلى الإيجاب والقبول اللفظيين، بل البعث
من جهة المهدي كالايجاب، والقبض من جهة المهدى إليه كالقبول، لأن الهدايا
كانت تحمل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قيصر وكسرى وساير
الملوك فيقبلها ولا لفظ هناك، واستمر الحال من عهده (صلى الله عليه وآله)
إلى هذا الوقت في سائر الأصقاع، ولهذا كانوا يبعثون على يد الصبيان الذين لا يعتد
بعبارتهم قال (رحمه الله): ومنهم من اعتبرهما كما في الهبة، واعتذروا عما تقدم
بأن ذلك كان إباحة لا تمليكا "، وأجيب بأنه لو كان كذلك ما تصرفوا فيه تصرف
الملاك، ومعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يتصرف فيه ويملكه
297

غيره، ويمكن الاكتفاء في هدايا الأطعمة بالارسال والأخذ جريا " على العادة بين
الناس، والتحقيق مساواة غير الأطعمة لها، فإن الهدية قد تكون غير طعام فإنه قد
اشتهر هدايا الثياب والدواب من الملوك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فإن مارية القبطية أم ولده كانت من الهدايا، انتهى، ومرجع هذا التحقيق إلى
ما قدمنا نقله وهو جيد، واستحسنه في المسالك.
أقول: ومصل مارية القبطية التي أهديت إليه (صلى الله عليه وآله)
الجارية التي أهداها المختار إلى زين العابدين عليه السلام فأولدها زيدا "، ومعها مبلغ
من الدنانير فقبله عليه السلام والحديث في حكاية اهدائها موجود ليس فيه شئ من هذه
الأمور التي اعتبروها، والشروط التي اشترطوها، ومن تتبع الأخبار والسير علم
صحة هذا الكلام، وأن خلافه نفخ في غير ضرام.
على أنك قد عرفت ما في اشتراط الإيجاب والقبول في سائر العقود هذا.
والمشهور في كلامهم أن الاهداء إنما يفيد مجرد الإباحة دون الملك،
وللدافع الرجوع ما دامت العين موجودة، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
الميل إلى حصول الملك بذلك، وإن جاز الرجوع، قال: بعد أن استحسن كلام
التذكرة كما ذكرناه ما لفظه: ومع ذلك يمكن أن يجعل ذلك كالمعاطاة تفيد
الملك المتزلزل، ويبيح التصرف والوطئ، ولكن يجوز الرجوع فيها قبله عملا "
بالقواعد المختلفة، وهي أصالة عدم اللزوم مع عدم تحقق عقد يجب الوفاء به،
وثبوت جواز التصرف فيها بل وقوعه، ووقوع ما ينافي الإباحة، وهو الوطئ
واعطاء الغير فقد وقع ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) في مارية أم ولده،
وقد كان يهدى إليه الشئ فيهديه لزوجاته وغيرهن، وأهدى إليه حلة فأهداها
لعلي عليه السلام من غير أن ينقل عنه قبول لفظي ولا من الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) ايجاب كذلك مقارن له، وهذا كله يدل على استفادة الملك في الجملة،
لا الإباحة، ولا ينافي جواز رجوع المهدي في العين ما دامت باقية، انتهى.
298

أقول وبالله التوفيق، لنيل كل مأمول: لا ريب أن ظواهر الأخبار
الواردة في هذا المقام إنما هو الملك الحقيقي لما ذكره من التصرف بجميع وجوه
التصرفات من وطئ وبيع وتصدق وهبة ونحوها، ولا شك أن التصرف كيف شاء
المتصرف من أقوى أمارات الملك، ودعوى أصالة عدم اللزوم في التحقيق لا يخرج
عن القول بالإباحة، بل يرجع إليه، لأنه متى لم يكن الاهداء لازما " يوجب
الملك كسائر المتملكات، بل يجوز الرجوع فيه فهذا هو عين ما منعه من الإباحة
ونفاه في المقام، وإن حصل الفرق بنوع من الاعتبار القشري الذي لا يصلح لترتب
حكم شرعي، وما المانع من كون الاهداء من الأسباب الناقلة للملك إذا اقتضته
الأخبار كما عرفت، ولا بد لنفيه من دليل.
وأما عدم تحقق عقد يجب الوفاء به، ففيه ما عرفت في غير موضع مما تقدم
من أن هذه العقود التي اشترطوها واشترطوا فيها ما اشترطوه مما لم يقم عليه
دليل، بل الدليل على خلافه واحض السبل، فإن المفهوم من الأخبار أن المدار
على التراضي من الطرفين، وأنه العمدة في البين، وقد عرفت أن بيع المعاطاة أيضا "
لا يشترط فيه أزيد من رضا الطرفين بما يتفقان عليه، فجعله من باب المعاطاة
كما احتمله يقتضي بناء على ما حققنا في بيع المعاطاة، من أنه شرعي لازم
أنه هنا كذلك، ودعوى أن مفاده الملك المتزلزل ممنوعة، حتى أذن بعد المحدثين
جوز في المعاطاة أن يزن لنفسه، ويضع الثمن في الدكان إذا كان ذلك معلوما " بأن
قيمة ذلك الجنس كذلك، من غير لفظ ولا كلام بين المتبايعين، وما نحن فيه
لا يقصر عن ذلك، فإنه متى أرسل المهدي الهدية بقصده واختياره، وقبضها المهدى
إليه فأي مانع من لزوم ذلك، كما لزم بيع المعاطاة على الوجه المذكور.
وكيف كان فكلامه جيد بناء على أصولهم وقواعدهم في العقود، وأما على
ما هو المفهوم من الأخبار كما تقدم في غير مقام فإن ما ذكرنا أجود.
وبالجملة فإن من الظاهر البين الظهور أن النبي (صلى الله عليه وآله)
299

والأئمة عليهم السلام لو لم يفهموا من الاهداء الملك الحقيقي لما تصرفوا هذه التصرفات
من وطئ واستيلاد ونحوهما وعلو شأنهم ورفعة مكانهم أجل من أن يتصرفوا في
ملك الغير مع عدم انتقاله لهم بناقل شرعي إلا بمجرد الإباحة، أو الملك المتزلزل
الراجع إليها، فإن الإباحة لا يجوز في الفروج كما ذكره.
على أنه متى ثبت الملك كما اختاره وإن ادعى أنه في الجملة فتجويز الرجوع
يحتاج إلى دليل وما استند إليه من أصالة عدم اللزوم مع عدم تحقق عقد وهو
معظم الشبهة عندهم، فقد عرفت ما فيه، ودعوى أنه متزلزل كبيع المعاطاة وهو
المشار إليه بقوله في الجملة، قد عرفت تزلزله، والله العالم.
والواجب أولا " نقل الأخبار التي وصلت إلينا في هذا الباب ثم الكلام فيها
بتوفيق الملك الوهاب، ونقل ما عثرنا عليه من كلام الأصحاب كما جرينا عليه في
سابق هذا المقصد والله الهادي إلى حقيقة الحق والصواب.
الأول ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي وجميل (1)
" عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها
وإلا فليس له ".
الثاني ما روياه في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن سنان (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا عوض صاحب الهبة فليس له أن يرجع ".
الثالث ما رواه في الكافي عن معاوية بن عمار (3) في الصحيح " قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له على الرجل الدراهم فيهبها له أله أن يرجع
فيها؟ قال: لا ".
الرابع ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة (4) " عن

(1) الكافي ج 7 ص 32 ح 11 و ص 33 ح 19، التهذيب ج 9 ص 153
ح 627 و ص 154 ح 632.
(2) الكافي ج 7 ص 32 ح 11 و ص 33 ح 19، التهذيب ج 9 ص 153
ح 627 و ص 154 ح 632.
(3) الكافي ج 7 ص 32 ح 13 و ص 30 ح 3، التهذيب ج 9 ص 154 ح 629 و ص 152 ح 624.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 341 الباب 8 و 9 ح 1 و ص 332 ح 1
و ص 334 الباب 3 ح 1.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 3.
300

أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الصدقة محدثة، إنما كان الناس على عده رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) ينحلون ويهبون ولا ينبغي لمن أعطى لله عز وجل شيئا أن يرجع
فيه، قال وما لم يعط لله وفي الله، فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز
ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، ولا المرأة فيما تهب لزوجها، حيز أو لم يحز
أليس الله تعالى يقول: " ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وقال: " فإن طبن لكم
عن شئ منه نفسا " فكلوه هنيئا " مريئا " وهذا يدخل في الصداق والهبة ".
ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة (1) " عن أبي جعفر عليه السلام قالك لا ينبغي
لمن أعطى الله شيئا " أن يرجع فيه " الحديث إلى قوله: هنيئا " مريئا " ولم يذكر قوله.
وهذا يدخل فيه الصداق والهبة.
الخامس ما روياه عن محمد بن مسلم (2) في الصحيح " عن أبي جعفر عليه السلام قال:
الهبة والنحلة يرجع فيها صاحبها إن شاء حيزت أو لم يحز إلا لذي رحم فإنه لا يرجع فيه ".
السادس ما رواه الشيخ في التهذيب عن القاسم بن سليمان (3) " قال
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يهب الجارية على أن يثاب فلا يثاب أله أن
يرجع فيها؟ قال: نعم أن كان شرط له عليه، قلت: أرأيت إن وهبها له ولم يثبه
أيطأها أم لا، قال: نعم إذا كإن لم يشترط عليه حين وهبها ".
السابع ما رواه أيضا " عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله وعبد الله بن سليمان (4) في
الصحيح " قالا: سألنا أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يهب الهبة أيرجع فيها إن شاء أم لا؟ فقال:
تجوز الهبة لذوي القرابة، والذي يثاب من هبته ويرجع في غير ذلك أن شاء ".
ورواه بسند آخر عن عبد الله بن سنان (5) مثله، إلا أنه قال والذي يثاب في هبته.

(1) المستدرك ج 2 ص 515 الباب 5 ح 2، العياشي ج 1 ص 117 ح 366.
(2) الكافي ج 7 ص 31 ح 7، التهذيب ج 9 ص 156 ح 643.
(3) التهذيب ج 9 ص 154 ح 633.
(4) التهذيب ج 9 ص 155 ح 636 و ص 158 ح 650 ولا فرق بين الروايتين
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 338 ح 2 و ص 341 ح 2 و ص 338
ح 1 و ص 342 ح 3.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 4.
301

الثامن ما رواه في الصحيح عن أبان عمن أخبره (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: النحل والهبة ما لم نقبض حتى يموت صاحبها؟ قال هي بمنزلة الميراث
وإن كان الصبي في حجره فهو جائز، قال وسألته هل لأحد أن يرجع فلي صدقته
وهبته؟ قال: إذا تصدق لله فلا، وأما النحل والهبة فيرجع فيها حازها أو لم يحزها
وإن كانت لذي قرابة " ورواه بطريق آخر في الموثق عن داود بن الحصين (2)
عن أبي عبد الله عليه السلام " قال الهبة والنحلة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها؟ قال:
هي ميراث فإن كانت لصبي في حجره فأشهد عليه فهو جائز ".
التاسع ما رواه عن المعلي بن خنيس (3) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
هل لأحد أن يرجع في صدقته أو هبته قال: أما ما تصدق به لله فلا "،
الحديث.
العاشر ما رواه عن معاوية بن عمار (4) في الصحيح " قال: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام رجل كانت عليه دراهم لإنسان فوهبها له ثم رجع فيها ثم وهبها
له ثم رجع فيها ثم وهبها له، ثم هلك قال: هي للذي وهب له ".
الحادي عشر ما رواه عن جميل بن دراج (5) في الموثق " عن أبي عبد الله عليه السلام
عن رجل وهب لابنه شيئا " هل يصلح أن يرجع فيه؟ قال: نعم إلا أن يكون
صغيرا ".
الثاني عشر ما رواه عن صفوان (6) في الصحيح " قال سألت الرضا عليه السلام
عن رجل كان له على رجل مال فوهبه لولده فذكر له الرجل المال الذي له عليه
فقال له: ليس عليك فيه شئ في الدنيا والآخرة يطيب ذلك له، وقد كان وهبه
لولد له؟ قال: نعم يكون وهبه له، ثم نزعه فجعله هبة لهذا ".

(1) التهذيب ج 9 ص 155 ح 637 و ص 157 ح 648. وهما في الوسائل ج 13 ص 334 الباب 4 ح 1 و ص 337 ح 2.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) التهذيب ج 9 ص 158 ح 651 و ص 155 ح 638.
(4) التهذيب ج 9 ص 158 ح 651 و ص 155 ح 638.
(5) التهذيب ج 9 ص 157 ح 646 و 649، وهذه الروايات في الوسائل
ج 13 ص 339 ح 4 و ص 333 ح 2 و ص 337 ح 1 و ص 333 الباب 2.
(6) تقدم آنفا تحت رقم 5.
302

الثالث عشر ما رواه في الكافي عن محمد بن عيسى العبيدي (1) " قال:
كتبت إلى علي بن محمد عليهما السلام رجلا جعل لك جعلني الله فداك شيئا من ماله
ثم احتاج إليه أيأخذه لنفسه أو يبعث به إليك؟ قال: هو بالخيار في ذلك ما لم
يخرجه عن يده، ولو وصل إلينا لرأينا أن نواسيه به وقد احتاج إليه ".
الرابع عشر ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبي بصير (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال الهبة لا تكون أبدا " هبة حتى يقبضها، والصدقة
جائزة عليه ".
الخامس عشر ما رواه عن إبراهيم بن عبد الحميد (3) " عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: أنت بالخيار في الهبة ما دامت في يدك فإذا خرجت إلى صاحبها فليس
لك أن ترجع فيها، وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من رجع
في هبته فهو كالراجع في قيئه ".
السادس عشر ما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (4) في الموثق " قال:
سألته عن رجل أعطى أمه عطية فماتت وكانت قد قبضت الذي أعطاها وثابت به،
قال: هو والورثة فيها سواء ".
السابع عشر ما رواه في التهذيب في الصحيح عن أبي بصير (5) " قال:
قال أبو عبد الله عليه السلام الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض قسمت أو لم تقسم، والنحل
لا يجوز حتى يقبض، وإنما أراد الناس ذلك فأخطأوا ".
ورواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار (6) في الصحيح إلى أبي بصير وهو

(1) الفقيه ج 4 ص 173 ح 606.
(2) التهذيب ج 9 ص 159 ح 654 و ص 158 ح 653.
(3) التهذيب ج 9 ص 159 ح 654 و ص 158 ح 653.
(4) التهذيب ج 9 ص 154 ح 631، الكافي ج 7 ص 32 ح 16.
(5) التهذيب ج 9 ص 156 ح 641.
(6) معاني الأخبار ص 392 ح 38 ط تهران سنة 1379.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 336 ح 8 و 7 و ص 343 ح 4.
و ص 317 ح 3 و ص 335 ح 4.
303

مشترك وإن كان الأظهر عده في الصحيح قال: بعد قوله أو لم تقسم وإنما أراد
الناس النحل فأخطأوا والنحل لا تجوز حتى تقبض ".
الثامن عشر ما رواه في الفقيه مرسلا (1) " قال: وفي رواية السكوني
أن عليا عليه السلام كان يرد النحلة في الوصية وما أقر عند موته بلا ثبت ولا بينة رده ".
التاسع عشر ما رواه في التهذيب عن أبي بصير (2) " قال: سألته عن الرجل
يشتري المبيع فيوهب له الشئ وكان الذي اشترى لؤلؤا " فوهبت له لؤلؤة فرأى
المشتري في لؤلؤه أن يرد أيرد ما وهب له؟ قال: الهبة ليس فيها رجعة وقد
قبضها؟ إنما سبيله على البيع، فإن رد المبتاع المبيع لم يرد معه الهبة ".
العشرون ما رواه عن سماعة (3) في الموثق قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن عطية الوالد لولده فقال: أما إذا كان صحيحا فهو ماله يصنع به ما شاء، وأما
في مرضه فلا يصلح ".
الحادي والعشرون ما رواه عن أبي بصير (4) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يخص بعض ولده بالعطية؟ قال: إن كان مؤسرا " فنعم، وإن كان
معسرا " فلا ".
الثاني والعشرون ما رواه عن سماعة (5) عن أبي عبد الله عليه السلام عن الرجل
يكون لامرأته عليه صداق أو بعضه فتبرئه منه في مرضها " قال: لا، ولكن إن
وهبت له جازما وهبت له من ثلثها ".
الثالث والعشرون ما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (6) في الموثق

(1) الفقيه ج 4 ص 184 ح 646.
(2) التهذيب ج 7 ص 231 ح 1008.
(3) التهذيب ج 9 ص 156 ح 642 و 644.
(4) التهذيب ج 9 ص 156 ح 642 و 644.
(5) التهذيب ج 9 ص 158 ح 652.
(6) الكافي ج 7 ص 346 ح 14، التهذيب ج 10 ص 288 ح 1117، الفقيه
ج 4 ص 110 ح 371، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 335 ح 4 و ص 380
ح 12 و ص 384 ح 11 و 12 و 16.
304

قال: سألته عن رجل ضرب ابنته وهي حبلى فأسقطت سقطا " ميتا " فاستعدى زوج
المرأة عليه، فقالت المرأة لزوجها: إن كان لهذا السقط دية ولي فيه ميراث، فإن
ميراثي منه لأبي، قال: يجوز لأبيها ما وهبت له " ورواه في الفقيه عن سماعة
مثله ورواه في التهذيب بسند آخر صحيح عن سليمان بن خالد (1) عن أبي
عبد الله عليه السلام مثله وقال يؤدي أبوها إلى زوجها ثلثي دية السقط ".
الرابع والعشرون في التهذيب عن عبد الله بن سنان (2) في الصحيح " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا
هبة ولا نذر في مالها إلا بإذن زوجها أو زكاة أو بر والديها أو صلة قرابتها ".
الخامس والعشرون ما رواه عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (3) قال:
سألت الرضا عليه السلام يأخذ من أم ولده شيئا وهبه لها من غير طيب نفسها من خدم
أو متاع أيجوز ذلك له؟ قال: نعم إذا كانت أم ولده.
السادس والعشرون ما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (4) في الموثق
" قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم أو أقل أو أكثر
فيقول: حللني من ضربي إياك ومن كل ما كان مني إليك وما أخفتك وأرهبتك
فيحلله ويجعله في حل رغبة فيما أعطاه، ثم إن المولى بعد، أصاب الدراهم التي
أعطاه في موضع قد وضعها فيه العبد، فأخذها المولى أحلال هي له؟ قال: فقال:
لا تحل له، لأنه أفتى بها نفسه من العبد مخافة العقوبة والقصاص يوم القيامة،
قال: فقلت له: فعلى العبد أن يزكيها، إذا حال عليها الحول؟ قال: لا، إلا أن
يعمل له بها ولا يعطى العبد من الزكاة شيئا ".

(1) التهذيب ج 10 ص 288 ح 1118.
(2) التهذيب ج 7 ص 462 ح 1851، الكافي ج 5 ص 514 ح 4.
(3) التهذيب ج 8 ص 206 ح 729.
(4) التهذيب ج 8 ص 225 ح 808.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 323 ح 1 و ج 16 ص 123 ح 2 و ج 13 ص 35 ح 3.
305

أقول: وقد تقدم في المقصد الثاني موثق عبيد بن زرارة (1) وفيه " ولمن
وهب أو محل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز، ولا ينبغي لمن أعطى لله عز وجل
أن يرجع فيه ".
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع: الأول لو أراد هبة
ما في الذمة فلا يخلو أما أن يكون الغير من عليه الحق، أو لمن عليه الحق، فهنا
مقامان: أحدهما في هبة غير من عليه الحق، وقد اختلف الأصحاب (رحمهم الله)
في صحة ذلك وبطلانه، والمشهور البطلان لما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه
من أن القبض شرط في صحة الهبة وما في الذمة يمكنه قبضه، قالوا: لأنه ماهية
كلية لا وجود لها في الخارج، والجزئيات التي في ضمنها ليس هي الماهية، بل
بعض أفرادها غيرها.
أقول: ويؤيده ما صرح به الشيخ في المبسوط حيث منع من وقف الدين،
قال: لأن من شروطه القبض، والدين لا يمكن تسليمه، ولا يمكن فيه القبض،
وذهب الشيخ وابن إدريس والعلامة في المختلف إلى الصحة، واحتج عليه في
المختلف بأنه يصح بيعه، والمعاوضة عليه، فتصح هبته لغير من هو عليه، واشتراط
الهبة بالقبض لا ينافيه، لتحققه بأن يقبضه المالك، ثم يقبضه الموهوب، أو يوكله
المالك في القبض عنه، ثم بقبض من نفسه.
أقول: ويدل على القول بالصحة ظاهر الخبر الثاني عشر، والتقريب فيه
التقرير على صحة الهبة لولده وإن جاز له نزعه منه، كما صرح به عليه السلام والنزع
منه مستلزم لحصول الانتقال إليه بالهبة.
بقي الكلام فيه من حيث جواز الرجوع فيما يهبه لولده، وهي مسألة
أخرى يأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى، وظاهر الخبر هو صحة الهبة وإن لم
يحصل قبض، ويمكن حمله على أن القبض شرط في اللزوم لا الصحة، والهبة

(1) الكافي ج 7 ص 30 ح 4، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1.
306

صحيحة وإن لم تكن لازمة، وسيجئ الكلام في ذلك أيضا " أن شاء الله تعالى.
وأما ما قيل: من أن الدين ماهية كلية لا وجود لها في الخارج إلى آخر
ما تقدم، فجوابه أنه لو تم ذلك لما صح بيعه والمعاوضة عليه، لأن البيع مشروط بالقدرة
على التسليم اجماعا " في غير الآبق، بل يشترط وجوده مطلقا " والماهية لا وجود لها
على ما ذكروه، وبه يظهر أن الماهية وإن كانت من حيث هي لا وجود لها إلا أنها
موجودة بوجود بعض أفرادها، وإلا لما صح البيع ونحوه كما عرفت، مع أنه
لا خلاف في الصحة.
وبالجملة فإن ما في الذمة إن كان موجودا متحققا يمكن قبضه وتسليمه،
فبيعه وهبته صحيحان، لحصول الشرط والقدرة على القبض، ونحن لا نحكم بصحة
الهبة إلا بعد القبض، كما لا نحكم بصحتها لو تعلقت بعين إلا بعد قبضها والقبض
لما كان ممكنا " بقبض بعض أفراد الماهية كما قدمنا ذكره صحت الهبة، وتوقفت
على حصول القبض على ذلك الوجه، ولا ريب في أنه الدين مملوك للواهب قبل
قبضه، وقبضه ممكن على الوجه المذكور فصحت هبته، وتوقفت على قبضه كما
توقفت لو كانت عينا "، وبه يظهر أنه لا يمتنع نقله إلى ملك المتهب حال كونه دينا "
كما ذكروه، لأنه مملوك له، وإلا لما صح بيعه أيضا ".
وثانيهما في هبة من عليه الحق، والظاهر أنه لا خلاف في صحة ذلك
في الجملة، إنما الخلاف في اشتراط ذلك بالقربة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
لكن الهبة هنا عند الأصحاب معنى الابراء من الدين، فلا يشترط فيها القبض
ولا يجري فيها الاشكال المتقدم ذكره، ويدل على ذلك الخبر الثالث والعاشر،
وما اشتمل عليه الخبر العاشر من الرجوع بعد الهبة، فإنما وقع في حكاية كلام
السائل، فلا ينافي ما دل عليه الخبر الآخر من أنه بعد الهبة ليس له الرجوع،
وبذلك استدل الأصحاب على كون الهبة هنا بمعنى الابراء، حيث أن الهبة بمجردها
لا يلزم إلا في مواضع مخصوصة يأتي ذكرها، وليس هذا منها، فامتناع الرجوع
307

إنما كان حيث إنه ابراء، والابراء لازم لا رجوع فيه اتفاقا "، وظاهر الأصحاب أنه
لا ينحصر في لفظ، بل كلما أدى هذا المعنى من لفظ الابراء أو العفو أو الهبة أو الاسقاط
أو نحو ذلك، فإنه تحصل به البراءة وفراغ الذمة وقد أطلق عليه لفظ العفو في قوله
عز وجل (1) " إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " وحيث إن الأصحاب قد
اختلفوا في أن الابراء هل يتوقف صحته على القبول أم لا؟ والهبة هنا في معنى
الابراء كما عرفت اختلفوا في اشتراط القبول فيها، فكل من أوجبه ثمة أوجبه هنا
ومن لا فلا، والمشهور بين الأصحاب العدم، ونقل في المختلف القول بالاشتراط
عن الشيخ في المبسوط وابن زهرة وابن إدريس، قال: قال الشيخ في المبسوط:
قال قوم من شرط صحته قبوله، وما لم يقبل فالحق ثابت بحاله، وهو الذي يقوي
في نفسي، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ذكر أن كلام الشييخ في
المبسوط هنا مختلف، ففي أول المسألة قواه، وفي آخره قوى القول الآخر قال:
فاطلاق جماعة نسبة القول باشتراطه إليه ليس بجيد.
احتج القائلون بعدم الاشتراط بالأصل، وبأنه اسقاط لا نقل شئ إلى الملك
فهو بمنزلة تحرير العبد.
أقول: ويدل عليه ظاهر قوله عز وجل " إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده
عقدة النكاح " حيث اكتفى في سقوط الحق بمجرد العفو، والقبول غير داخل في
مسماه قطعا "، واستدل أيضا " على ذلك بقوله عز وجل (2) " فنظرة إلى ميسرة وأن
تصدقوا خير لكم " حيث اعتبر مجرد الصدقة ولم يعتبر القول وقوله تعالى (3):
" ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا " فاسقط الدية بمجرد الصدقة ولم يعتبر
القبول، والمراد بالصدقة في الآيتين الابراء.

(1) سورة البقرة الآية 237.
(2) سورة البقرة الآية 280.
(3) سورة النساء الآية 92.
308

واعترض في المسالك على الاستدلال في الآيتين المذكورتين بأن الصدقة كما
تقدم من العقود المفتقرة إلى القبول اجماعا " فدلالتهما على اعتباره أولى من عدمه.
أقول: الظاهر من كلام المفسرين وهو ظاهر الآيتين المذكورتين إنما هو
الابراء، والعفو عما يستحقونه، احتج القائلون بالاشتراط باشتمال الابراء على
الهبة، فلا يجبر على تحملها، وقبولها كهبة العين، ولو لم يعتبر القبول فتحملها
جبرا ".
وأجيب عنه بالفرق بين هبة العين وهبة الدين، فإن الأول تمليك، والثاني
اسقاط، فاعتبر القبول في الأول دون الثاني، وتوضيحه أن الهبة لما كانت هنا
بمعنى الابراء كما عرفت، ومن الظاهر أن الابراء لا يتعلق بالأعيان، فإنه لو أبرأ
مالك الوديعة الودعي منها لم يملكها ولو قبل، وكذا لو أسقط حقه من عين
مملوكة لم تخرج بذلك عن ملكه، بخلاف الدين، فإنه لذلك، فإنه ليس
شيئا " موجودا "، فكان أشبه بالعتق.
وأما ما ذكروه من اشتمال الابراء على الهبة، ففيه أنه لا يخفى أن اسقاط
الانسان حق نفسه باختيار، من غير طلب من عليه الحق واستدعائه ذلك لا يظهر
فيه منة، بثقل تحملها على من عليه الحق، بخلاف هبة الأعيان المتوقفة على القبول
والقبض ونحو ذلك مما يشترط في صحة العقود مما هو ظاهر في الحرص على
التملك الموجب للمنة غالبا "، والله العالم.
الثاني: لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط القبض في الهبة في الجملة،
وإنما الخلاف في كونه شرطا " في الصحة أو اللزوم؟ فالمشهور بين المتأخرين الأول،
ونقله في المختلف عن أبي الصلاح ونقله ابن إدريس عن أكثر علمائنا، وذهب
الشيخان وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس والعلامة في المختلف إلى الثاني.
ويظهر الخلاف في مواضع، منها النماء المتخلل بين العقد والقبض، فإنه
يكون للواهب على الأول، وللمتهب على الثاني.
309

ومنها ما لو مات الواهب قبل الاقباض، فإنها تبطل على الأول، ويتخير
الوارث بين الاقباض وعدمه على الثاني.
ومنها فطرة المملوك الموهوب قبل الهلال ولم يقبضه إلا بعده، فإنها على
الواهب على الأول، وعلى الموهوب له على الثاني.
ومنها نفقة الحيوان في المدة المتخللة، وأنت خبير بأن الأخبار في هذا المقام
لا تخلو من اختلاف، فما يدل على القول الأول الخبر الثامن، حيث صرح فيه
بأنها بعد الموت وقبل القبض ترجع ميراثا "، وهو ظاهر في بطلانها قبل القبض،
ولو كانت صحيحة كما هو القول الآخر لكان الحكم تخير الوارث بين الاقباض فتلزم
وعدمه، والخبر الرابع عشر لدلالته على أن الهبة لا تكون هبة أبدا إلا بالقبض
ومفهومه أنها بدونه لا تكون هبة وهو أظهر ظاهر في البطلان بدون القبض.
واستدل القائلون بهذا القول زيادة على الخبرين المذكورين بأن الأصل
بقاء الملك على مالكه، وعدم تأثير العقد في مقتضاه، خرج منه ما بعد القبض
بالاجماع، فيبقى الباقي.
وأجاب عنه الآخرون بارتفاع الأصل بطرو السبب الواقف، وعموم الأمر (1)
" بالوفاء بالعقد " يمنع تأثيره بقبضه مطلقا "، وأجابوا عن الرواية الأولى بضعف
السند، وعن الثانية بأنه لا يجوز حملها على ظاهرها، وإلا لزم التناقض، بل
المراد أن الهبة لا تكون هبة لازمة أبدا " حتى يقبض، وهو أولى من اضمار الصحة،
فإن ما ليس بصحيح كالمعدوم، ومما يدل على القول الثاني الخبر السابع عشر،
وهو مع صحته ظاهر بل صريح في صحة الهبة قبيل القبض، لأن المراد بالجواز
في هذا الباب وما تقدمه اللزوم في أكثر الأخبار، ولكن وجه الجمع بين هذا
الخبر وغيره يقتضي الحمل على الصحة، واحتجوا على ذلك زيادة على الرواية بأنه
عقد يقتضي التمليك، فلا يشترط في صحته القبض، كغيره من العقود، ولعموم

(1) سورة المائدة الآية 1.
310

الأمر بالوفاء بها المقتضي له، ولأنه تبرع كالوصية، فلا يعتبر فيها أيضا ".
واعترضه في المسالك فقال: ويمكن أن يقال: إن العقود منها ما يقتضي
الملك، ومنها ما لا يقتضيه بدون القبض، وقد تقدم منه الوقف، فيكون أعم،
والمراد بالوفاء بها العمل بمقتضاها من لزوم وجواز وغيرهما، فلا يدل على
المطلوب، وكذلك مطلق التبرع أعم مما لا يعتبر فيه القبض، بالحاقة بالوصية
قياس، وأجاب عن الرواية بأن اطلاق الهبة على غير المقبوض أعم من الحقيقة،
وجاز أن يكون مجازا " تسمية للشئ باسم ما يؤل إليه على تقدير لحوقه، أو
اطلاقا " لاسم المجموع على بعض الأجزاء، فإن الإيجاب والقبول أعظم أجزاء
السبب التام في تحققها، ومطلق جوازها لا نزاع فيه، انتهى وهو مؤذن باختياره
القول الأول.
أقول: ما أجاب به عن تلك الوجوه غير بعيد، وإن أمكن المناقشة في
بعضه، وأما ما أجاب به عن الرواية فهو في غاية البعد، ولو قامت أمثال هذه
الاحتمالات لانسدت أبواب الاستدلالات، على أنه أولا " لا معنى للحكم بالجواز
عليها الذي هو بمعنى الصحة أو اللزوم كما عرفت، والحال أنها ليست بهبة
حقيقة، وإنما أطلق عليها مجازا "، وإلا للزم الحكم بالصحة في كل ما أعطى وإن لم يكن هبة بمجرد ارتكاب التجوز فيه، وهو لا يقول به.
وثانيا " إن اللازم من كلامه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وهم
لا يقولون به، لأن قوله عليه السلام الهبة جايزة قبضت أو لم تقبض، قد أطلق فيه الهبة
على كل من المقبوضة، وغير المقبوضة، وهي عنده ليست بهبة حقيقية، فقد
استعمل عليه السلام لفظ الهبة في كل من حقيقته ومجازه.
وثالثا " أن مقابلتها بالنحل وأنها لا يجوز حتى يقبض، بمعنى أنه يشترط في
صحتها أو لزومها القبض، أظهر ظاهر في أن المراد بالهبة في صدر الخبر هو ما يسمى
هبة حقيقة لا مجازا، وإلا فإن هذا الفرد المجازى الذي ادعاه حكمه حكم النحل
311

من أنه لا يجوز ولا يصح أو يلزم حتى يقبض، فأي معنى لهذه المقابلة بينهما.
وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكره وجها " وجيها، وعلله لسوء فهمي القاصر،
وكيف كان فالمسألة لا تخلو من الاشكال، لظهور التعارض بين هذه الأخبار وتصادم
التأويلات من الجانبين، وإن كان القول الثاني لا يخلو من قوة، وقد تقدمت الإشارة
إلى دلالة الخبر الثاني عشر في ذلك.
قال في الدروس بعد نقل القولين المتقدمين: والروايات متعارضة، ثم قال
ولعل الأصحاب أرادوا باللزوم الصحة، فإن في كلامهم اشعارا " ما به، فإن الشيخ قال
لا يحصل الملك إلا بالقبض، وليس كاشفا " من حصوله بالعقد، مع أنه قائل بأن الواهب
لو مات لم تبطل الهبة، فيرتفع الخلاف، انتهى.
واعترضه في المسالك قال: وفيه نظر، لمنع تعارض الروايات على ما قد
سمعت، فإن الجمع بينهما ممكن، وإرادة جميع الأصحاب من اللزوم الصحة غير
واضع فإن العلامة في المختلف نقل القولين واحتج لهما، ثم اختار الثاني فكيف
يحمل على الآخر، نعم كلام الشيخ الذي نقله متناقض، وليس حجة على النافين
فإن الخلاف متحقق.
أقول: ما ذكره من منع تعارض الروايات إن كان بالنظر إلى تأويله الخبر
الذي هو مستند القائلين بالقول الثاني فقد عرفت ما فيه، فإن تأويله في غاية
البعد كما أوضحناه، وإن كان غير ذلك فليس في كلامه ما يدل عليه.
والتحقيق أن التعارض ثابت، وأوضحناه في معاني الأخبار المذكورة، وأما
باقي ما ذكره فهو جيد، والعجب هنا من العلامة في التذكرة حيث قال: الهبة
والهدية والصدقة لا يملكها المتهب والمهدي إليه والمتصدق عليه بنفس الإيجاب
والقبول إذا كان عينا " إلا بالقبض، وبدونه لا يحصل الملك عند علمائنا أجمع، انتهى.
وهو صريح في دعوى الاجماع على أن القبض شرط في الصحة، وهو وإن
مؤذنا " بصحة ما ادعاه في الدروس، إلا أن الخلاف مشهور كما عرفت، والشيخان
312

ومن تبعهما ممن تقدم ذكر بعض منهم على القول بأنه شرط في اللزوم، وقد
فرع الشيخ على الخلاف المذكور فطرة العبد المشترى قبل الهلال مع عدم القبض
إلا بعده، فقال في المبسوط: من وهب لغيره عبدا " قبل أن يهل شوال فقبل الموهوب
له ولم يقبضه حتى هل شوال ثم قبضه؟، فالفطرة على الموهوب له، لأن الهبة
تنعقد بالايجاب والقبول، وليس من شرط انعقادها القبض، وفي أصحابنا من يقول
القبض شرط في صحة الهبة، فعلى هذا لا فطرة عليه، وتلزم الفطرة الواهب، انتهى
ملخصا "، فانظر إلى صراحته في الخلاف وصراحته في اختيار القول بحصول الملك
بمجرد العقد من غير توقف على القبض، وهو (قدس سره) في المختلف قد وافق
الشيخ في هذه المقالة، واحتج بما ذكره الشيخ، وبذلك يظهر لك عدم الوثوق
بهذه الاجماعات المتناقلة في كلامهم، والمتكاثرة الدوران على رؤوس أقلامهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المقام اشكالا " لم أقف على من تنبه له، وهو أن
مقتضى القول بكون القبض شرطا " في اللزوم لا في الصحة، هو أن الهبة بدونه
القبض تكون صحيحة غير لازمة، وبالقبض تكون لازمة، بمعنى أنه لا يجوز
الرجوع فيها، إذ المتبادر من اللزوم هو ذلك، مع أنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى
ذكره أن الأمر ليس كذلك حيث إنهم عدوا المواضع التي لا يجوز الرجوع فيها،
وحصروها في مواضع مخصوصة، وإن كان على خلاف في بعضها، وليس هذا منها،
وصرحوا بأنه لا خلاف في جواز الرجوع فيما عداها، وممن صرح بذلك المحدث
الكاشاني في المفاتيح، لما فهمه من كلامه، فقال بعد عده المواضع المشار إليها
ما لفظه: وفي غير ما ذكر يجوز له الرجوع مطلقا بلا خلاف، كما في الصحاح
المستفيضة، ثم نقل ما يخالفها، وحمله على الكارهة، والاشكال كما ترى ظاهر،
ولا مخرج من هذا الاشكال إلا بما ذكره في التذكرة، وأشار إليه في الدروس
مما يرجع إلى حمل اللزوم على الصحة، إلا أنك قد عرفت ما فيه، وبالجملة
فإن كلامهم في هذا المقام لا يخلو من تشويش واضطراب كما لا يخفى على ذوي
الأفهام والألباب، والله العالم.
313

تنبيهات:
الأول: لو مات المتهب بعد العقد وقبل القبض، فالظاهر أنه كموت الواهب
في التفريع على القولين المتقدمين، فإن قلنا إن القبض شرط في الصحة بطلت الهبة
في الموضعين، وصار الموهوب ميراثا " لورثة الواهب، وإن قلنا بالقول الأخير
تخير الواهب في الاقباض وعدمه في موت المتهب، وتخير وارثه في ذلك في موت
الواهب، صرح بذلك في التذكرة وأكثر الأصحاب لم يذكروا إلا موت الواهب.
واستدل في المسالك على البطلان بموت الواهب حيث إنه المفروض في
عبارة المصنف بمرسلة أبان، ورواية داود بن الحصين المتقدمين ثم طعن فيهما
بضعف السند، ومورد الخبرين كما ترى إنما هو موت الواهب، ثم نقل عن الشيخ
في المبسوط الخلاف في ذلك، حيث إنه قال لا تبطل الهبة، وتقوم الورثة مقامه
كالبيع في مدة الخيار، من حيث إن الهبة عقد يؤل إلى اللزوم، فلا ينفسخ بالموت،
وتبعه ابن البراج على ذلك، مع أن الشيخ قال في هبة ذي الرحم: إذا مات قبل
قبضها كان ميراثا "، وقال: إن الملك لا يحصل إلا بالقبض، وليس كاشفا " عن حصوله
بالعقد، ثم أورد عليه التناقض بين كلاميه.
أقول: كلام الشيخ الأول مبني على مذهبه الذي قدمنا نقله عنه من أن
القبض شرط في اللزوم لا في الصحة، إلا أنه ناقضه بكلامه الأخير، وهذا هو ما
قدمت الإشارة إليه في تمسك صاحب الدروس به في رفع الخلاف من البين.
ثم إنه قال في المسالك: ولا فرق مع موته قبل القبض بين إذنه فيه قبله
وعدمه، لبطلان الإذن بالموت، وفي معناه ما لو أرسل هدية إلى انسان فمات
المهدي أو المهدي إليه قبل وصلها، فليس للرسول دفعها حينئذ إلى المهدي
إليه، ولا إلى ورثته لبطلان الهدية بالموت قبل القبض كالهبة، انتهى.
314

الثاني: قالوا: لو أقر الواهب بالهبة والاقباض حكم عليه باقراره، وإن
كانت الهبة في يد الواهب، ولو أنكر بعد ذلك لم يقبل لعموم (1) " اقرار العقلاء
على أنفسهم جائز " وكونها في يده لا يستلزم عدم الاقباض بعد اعترافه، لامكان
رجوعها إليه بعد ذلك، إلا أن يعلم كذبه في اخباره الأول، كقطر الوقف الذي
يسمع القبض والرد ونحو ذلك.
الثالث: قد صرحوا بأنه لا بد من إذن الواهب في صحة القبض، فلو قبض
الموهوب الهبة بغير إذنه لم ينتقل إليه، وفي المسالك أنه لا خلاف فيه عندنا.
أقول: والوجه فيه واضح، وهو أن الاقباض غير واجب على الواهب،
لعدم الاستحقاق الشرعي حيث أن مجرد العقد غير موجب للنقل البتي فإنه من
العقود، ولزومه مراعى بالأسباب المخصوصة الآتي تفصيلها إن شاء الله تعالى
وحينئذ فلو قبضه بغير إذن فهو محرم بلا ريب، والظاهر كما هو المشهور أنه لا يعتبر
في القبض كون الإذن بنية الهبة، فلو أذن فيه مطلقا صح، خلافا لبعضهم حيث
اعتبر وقوعه للهبة أو الإذن فيه فإن ذلك هو المقصود، وحيث كان مطلق القبض
صالحا لها ولغيرها فلا بد من مايز وهو القصد، قال في المسالك بعد نقل ذلك:
" وهو حسن "، حيث يصرح بكون القبض لا لها، لعدم تحقق القبض المعتبر فيها،
أما لو أطلق فالاكتفاء به أجود، لصدق اسم القبض وصلاحيته للهبة ودلالة القرائن عليه
بخلاف ما لو صرح بالمصارف، انتهى وهو جيد.
الرابع: الأشهر الأظهر أنه لو وهبه في يد الموهوب، فإنه لا يحتاج إلى
إذن في القبض، ولا مضي زمان يمكن القبض، ولا فرق في ذلك بين كون ذلك
بيده بوجه شرعي كالعارية والوديعة أولا كالغصب.
أما الأول فلصدق القبض وحصوله في كل من الجانبين، فإنه مستصحب،
وايجاب العقد المقتضي لاقرار يده على العين رضا " منه، وإذن بالقبض.

(1) المستدرك ج 3 ص 48، الوسائل ج 16 ص 133 ح 2.
315

وأما الثاني فإنه حيث لا يفتقر إلى قبض ولا إذن جديد في القبض لا يفتقر إلى
مضي زمان يمكن فيه القبض، لأن الافتقار إلى الزمان تابع للقبض، حيث إنه من
ضرورياته ولوازمه، فيعتبر حيث يعتبر، وقد عرفت أنه لا يفتقر إلى قبض جديد
وإذا لم يعتبر المتبوع سقط اعتبار التابع، وبه يظهر أن ما صار إليه بعضهم من أنه
يفتقر إلى مضي زمان يمكن فيه القبض كما نقل عن الشيخ في المبسوط أو
إلى إذن جديد ومضي زمان فإنه لا وجه له، وأصالة العدم أقوى دليل في المقام.
الخامس: لو وهب الأب أو الجد لولده الصغير ما هو بيدهما لم يفتقر إلى
قبض جديد لأن قبض الولي قبض عنه، ولا يفتقر أيضا " إلى مضي زمان يمكن فيه
القبض لعين ما تقدم في سابق هذا الموضع، وقد تقدم في أخبار الصدقة على الولد
أن قبض الأب والجد عن الصغير كاف في صحة الصدقة، ففي رواية السكوني (1)
" وإن تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز، لأن والده هو الذي يلي أمره ".
وبالجملة فإن الحكم لا اشكال فيه ولا خلاف نصا " وفتوى فيما أعلم، فإن
القبض السابق على الهبة كاف عن القبض الطاري بعدها، وأيدوه بأن اليد المستدامة
أقوى من اليد المبتداة
بقي الكلام هنا في مواضع: أحدها إنا قد؟ أشرنا سابقا " إلى أن محل البحث
فيما لو وهب الأب أو الجد ما هو في يدهما، وأما لو لم يكن كذلك بأن يكون
ملكهما، ولكنه في يدهما، فقد صرح الأصحاب بأنه يفتقر إلى قبض جديد
كغيره، وفرضوا ذلك فيمن اشترى شيئا ولم يقبضه فإن الملك يتم بالعقد وإن لم
يقبضه، ويجوز نقله بالهبة ونحوها، وإن امتنع بيعه على بعض الوجوه كما تقدم
في كتاب البيع في مسألة بيع ما لم يقبض، ويمكن أيضا " فرض ذلك في مال
ورثة الأب أو الجد، وهو تحت يد الغير، ولم يتمكن من قبضه، وفيما غصب منه.

(1) الكافي ج 7 ص 31 ح 7، التهذيب ج 9 ص 135 ح 569 وفيهما عن
محمد بن مسلم، الفقيه ج 4 ص 182 ح 639 عن عبيد بن زرارة، الوسائل ج 13
ص 297 ح 1 و ص 299 ح 5.
316

وفيما آجره لغيره قبل الهبة.
أما الوديعة فإنهم صرحوا بأنه لا يخرج بها عن يد المالك، لأن يد المستودع
كيده، قالوا: وفي العارية وجهان: أجودهما ما خروجه بها عن يده، فيفتقر إلى
قبض جديد من الولي أو من يوكله فيه، ولو وكل المستعير كفى.
وثانيها أنه هل يعتبر قصد القبض عن الطفل بعد الهبة ليتمحض القبض لها،
الظاهر تفريع ذلك على ما تقدم في التنبيه الثالث، فعلى ما ذكره العلامة
(رحمة الله عليه) من أن مطلق القبض صالح للهبة وغيرها فلا بد من مايز،
وهو القصد للهبة يأتي أن هنا كذلك، لأن المال المقبوض بيد الولي، فلا ينصرف إلى
الطفل إلا بصارف وهو القصد، وعلى ما ذكره في المسالك وهو الأظهر كما تقدمت
الإشارة إليه من الاكتفاء بعدم قصد القبض لغيره يكفي هنا، وينصرف الاطلاق
إلى قبض الهبة وتلزم الهبة بذلك.
وثالثها إن المشهور في كلام الأصحاب اختصاص هذا الحكم بالولد الصغير،
وأما لو كان بالغا " رشيدا " ذكرا " وأنثى فإنه لا بد من قبضه، وعليه تدل الأخبار.
وقال ابن الجنيد في كتابه الأحمدي: وهبة الأب لولده الصغار وبناته الذين
لم يخرجوا عن حجابه، وإن كن بالغات تامة، وإن لم يخرجها عن يده، لأن
قبضه قبض لهم، انتهى.
والحاقه البنات في الحجاب بالأولاد الصغار، قياس محض، وقياسه على
النكاح ممنوع مع وجود الفارق، وبالجملة فهو قول نادر لا يعبأ به.
ورابعها أنه لو كان الواهب للصغير غير الأب والجد له، فإنه لا خلاف في
أنه لا بد من القبض عنه، ويتولى ذلك الأب أو الجد أو الوصي أو الحاكم أو من
يعينه، وإنما الخلاف في أنه للصغير ولي شرعي غير الأب، والجد كالوصي فهل
يتولى القبض له؟ أم يرجع الأمر إلى الحاكم؟ الذي صرح به الشيخ في المبسوط
وتبعه عليه جمع منهم المحقق في الشرايع الثاني، فإنهم ألحقوا الوصي هنا بغير
317

الولي من الأجانب، واحتج في المبسوط بأنه لا يصح أن يبيع من الصبي شيئا "
أو يشتري عنه، قال: وينصب الحاكم أمينا " يقبل منه هبته للصبي، فإذا قبلها
صحت الهبة، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه والوجه التسوية بينه وبين الأب
لأن له أن يقبل هبة غيره، فكذلك يقبل هبة نفسه، لعموم ولايته، فلا وجه
لاختصاصها بغيره، والجواب عما احتج به، المنع من حكم الأصل، فإن له أن
يبيع ويقبل الشراء وأيضا " الفرق فإن المعاوضة قد يحصل بها التغابن، أما الهبة
فإنها عطية محضة، فكانت المصلحة فيها ظاهرة، انتهى وهو جيد
السادس: لا خلاف ولا اشكال في جواز هبة المشاع كغيره، ويدل على
ذلك ما رواه في الكافي عن أحمد بن عمر الحلبي عن أبيه (1) " قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن دار لم تقسم فتصدق بعض أهل الدار بنصيبه من الدار؟ قال: يجوز
قلت: أرأيت إن كانت هبة؟ قال: يجوز ".
وقبضه كالقبض في البيع، فإن اكتفينا بمجرد التخلية مطلقا " كما هو أحد
القولين فلا اشكال، وإن اعتبرنا الفرق بين المنقول وغير المنقول فتختص التخلية
بغير المنقول، فلا بد في المنقول من النقل، ليتحقق قبض الحصة الموهوبة، فإن
كان الشريك هو الواهب، فاقباضه بتسليم الجميع للمتهب، ليتحقق القبض،
وإن كان الشريك غيره، توقف تسليم الكل على إذن الشريك، فإما أن يرضى
بذلك أو يوكل المتهب الشريك على القبض عنه، فإن تعاسرا رفع إلى الحاكم،
فينصب أمينا يقبض الجميع نصيب الهبة، والباقي أمانة حتى يتم العقد، هذا هو
المشهور، وبه قال في المبسوط، وتبعه الأكثر، وقال العلامة في المختلف في صورة
التعاسر: والوجه عندي جعل القبض هنا التخلية، لأنه مما يمكن نقله وتحويله،
فإنه لا فرق بين عدم الامكان المستند إلى عدم القدرة الحسية، أو عدم القدرة
الشرعية، وهو أولى من التحكم في مال الشريك، بغير اختياره.

(1) الكافي ج 7 ص 34 ح 24، الوسائل ج 13 ص 345 الباب 12.
318

واعترضه في المسالك بأن فيه منع عدم القدرة الشرعية، حيث يوجد
الحاكم المجبر أما مع عدمه فلا بأس به دفعا " للضرورة والعسر، انتهى،
وقد سبقه إلى ذلك شيخنا الشهيد في الدروس كما سيأتي ذكره إن شاء الله
تعالى، ونقل في المسالك عن شيخنا الشهيد في الدروس قولا آخر، قال: وبالغ
شيخنا في الدروس فاشترط إذن الشريك في القبض مطلقا "، حتى لو اكتفينا
بالتخلية، نظرا إلى أن المراد منها رفع يد المالك وتسليط القابض على العين،
وذلك لا يتحقق إلا بالتصرف في مال الشريك، فيعتبر إذنه ورفع المانع عن حصة
المالك خاصة مع الإشاعة لا يحصل به التسلط على الغير الذي هو المقصود من
القبض، وقبض جميع العين واحد لا يقبل التفرقة بالحكم، ومن ثم لو كانت العين
مقبوضة بيد متسلط لم تكف التخلية من المالك وتسليطه عليها، مع وجود المانع
من التسليم، وله وجه حسن، وإن كان الأشهر الأول.
أقول: لم أقف على هذا الكلام في الكتاب المذكور في باب الهبة واحتمال
كونه في غيره بعيد، والذي ذكره في باب الهبة موافق لما عليه الجماعة، قال:
وقبض المشاع يعتبر فيه إذن الشريك وإن كان غير منقول، فلو وكل المتهب
الشريك في القبض صح، وإن تعاسر نصب الحاكم أمينا " يقبض الجميع نصفه أمانة
للمتهب، وفي المبسوط غير المنقول تكفي فيه التخلية عن إذن الشريك، وفي
المختلف تكفي فيه التخلية في المنقول أيضا " وهو مفارقة لقاعدته في القبض،
واعتذاره بأن عدم القدرة شرعا " ملحقة بغير المنقول ممنوع، لأنا نتكلم على
تقدير التمكن من الحاكم، أما مع عدم التمكن منه فإنه حسن، انتهى.
وهو موافق لما في المبسوط إلا في غير المنقول فإن الشيخ في المبسوط اكتفى
فيه بالتخلية عن إذن الشريك، وهو اعتبر الإذن، ولم يكتف بالتخلية، وأما مع
التعاسر فهو موافق لما ذكره الشيخ.
وأما ما ذكره في المسالك من هذا الكلام بطوله فلا وجود له اللهم إلا أن
319

يكون هذا التعليل الطويل أعني قوله " نظرا " أن المراد منها " إلى آخر الكلام
من كلام صاحب المسالك، تعليلا له لما نقله عن الدروس، وأن الحكم مع عدم
الإذن هو ما ذكره مما نقلناه عنه فيزول الاشكال لكنه لا يخلو من بعد.
و كيف كان فالظاهر هو ما ذكره الشيخ وأكثر الجماعة، قال في المسالك:
وحيث يعتبر إذن الشريك فقبض المتهب بدونه وما في حكمه يقع لاغيا "، لا للنهي،
فإنه لا يقتضي الفساد في غير العبادة، بل لأن القبض لما كان من أركان العقد اعتبر
فيه كونه مرادا " للشارع، فإذا وقع منهيا " عنه لم يعتد به شرعا " فيختل ركن العقد
وقد عرفت أنه قبض واحد لا يقبل التفرقة في الحكم، بجعل القبض للموهوب
معتبرا " والنهي عن حق الغير الخارج عن حقيقة الموهوب، انتهى.
أقول: قد سلف هنا ومن هذا القائل تحقيق في أن قولهم النهي لا يقتضي الفساد
في غير العبادة ليس على اطلاقه، بل قد يقتضي الفساد في غير العبادة لما قدمناه من
التفصيل بأن النهي إن توجه إلى ذات الشئ وعدم صلاحه لترتب الحكم الشرعي
عليه كالنهي عن بيع العذرة لعدم صلاحيتها للنقل، والنهي عن نكاح المحارم ونحو
ذلك، فإنه يقتضي الفساد بلا اشكال، وإن توجه إلى أمر خارج كالبيع وقت النداء
يوم الجمعة لم يقتض الفساد، وإنما يقتضي الإثم خاصة، والظاهر أن ما نحن فيه
من القسم الأول، فإن النهي للمتهب عن قبض المشترك بغير إذن المالك للمتهب
إنما هو من حيث عدم صلاحيته وقابليته للانتقال، لا من حيث أمر خارج فلا حاجة
إلى ما تكلفه (قدس سره) مع أنه لا يخلو من المناقشة، فإنه لو تم لأمكن اجراؤه
في سائر المعاملات، وعدم إرادة الشارع غاية ما يقتضيه الإثم بالمخالفة، كما لا يخفى
والله العالم.
السابع: لو وهب اثنين شيئا " فقبلا وقبضا فلا اشكال في الصحة، لاستجماع
شرائطها ولو قبل أحدهما وقبض، وامتنع الآخر صحت الهبة بالنسبة إلى القابل،
وبطلت بالنسبة إلى الآخر، لحصول شرائط الصحة في الأول دون الثاني، وربما
320

يقال: إنه عقد واحد لا يتبعض، فإن قبلا وقبضا صح، وإلا فلا، لأنا نقول: وإن
كان بصورة عقد واحد إلا أنه بتعدد الموهوب في قوة عقدين، ونظيره ما لو اشتريا
دفعة واحدة، فإن لكل واحد منهما حكم نفسه في الخيار ونحوه كما تقدم في
في كتاب البيع، والله العالم.
الموضع الثالث: لا خلاف ولا اشكال في جواز تفضيل بعض الولد وإن كان
على كراهة عند الأصحاب، إلا ما نقل عن ظاهر ابن الجنيد من التحريم إلا مع
المزية.
قال في المسالك: أما جواز التفضل في الجملة فهو المشهور بين الأصحاب
وغيرهم، ويشهد له (1) " أن الناس مسلطون على أموالهم " ويظهر من ابن الجنيد
التحريم إلا مع المزية، والتعدية إلى باقي الأقارب مع التساوي في القرب،
والوجه الكراهة المؤكدة لقوله (صلى ا لله عليه وآله وسلم) (2) سووا بين
أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا " أحدا لفضلت البنات، وأن التفضيل يورث
العداوة والشحناء بين الأولاد كما هو الواقع شاهدا وغابرا ولدلالة ذلك على
رغبة الأب في المفضل المثير للحسد المفضي إلى قطيعة الرحم، وقد روي أن
النعمان بن بشير (3) أتى أبوه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إني نحلت
ابني هذا غلاما فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أكل ولدك نحلت مثل
هذا فقال لا: فقال: اردده، وفي رواية أخرى (4) " أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم " قال له: أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ فقال: نعم فارجعه، قال وفي
حديث آخر (5) عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال لمن أعطى بعض أولاده
شيئا " أكل ولدك أعطيته مثله قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم
فرجع في تلك العطية " وفي رواية أخرى، لا تشهدني على جور ".

(1) البحار ج 2 ص 272 ح 7 الطبع الحديث.
(2) المسند لأحمد بن حنبل ج 4 ص 375.
(3) البخاري كتاب الهبة الباب 12.
(4) البخاري كتاب الهبة الباب 12.
(5) البخاري كتاب الهبة الباب 12.
321

وهذه الروايات تصلح حجة لابن الجنيد والأصحاب حملوها على تقدير
سلامة السند على الكراهة جمعا " وقد روى أبو بصير في الصحيح (1) ثم نقل الخبر
الحادي والعشرين ثم قال: ولا قائل بمضمونه تفصيلا " غير أن تجويزه العطية مع
اليسار مطلقا " حجة المشهور، ومنعه عنه مع الاعسار مناسب للكراهة، والحق
الفصل حيث يكون عليه دن ونحوه، واطلاق النصوص السابقة يقتضي عدم الفرق
بين الصحة والمرض، وحالتي اليسر والعسر، إلا الحديث الأخير، فخص النهي بحالة
العسر، وفي رواية سماعة ثم ذكر الخبر العشرين، ثم قال: وعمل بمضمونها العلامة
في المختلف، وخص الكراهة بالمرض أو الاعسار، وفي بعض نسخه بهما معا "،
والظاهر أن دلالة الخبرين على الأول أوضح، والأقوى عموم الكراهة بجميع
الأحوال، وتأكدها مع المرض والاعسار اعمالا " بجميع الأدلة، لعدم المنافاة
انتهى.
وعلى هذا النهج كلام غيره من الأصحاب وأنت خبير بأن ما قدمه من
الأخبار عنه (صلى الله عليه وآله) الظاهر أنه من أخبار العامة ورواياتهم،
كما يشهد به سياقها، لعدم وجود شئ منها في كتب أخبارنا، وإنما الموجود
فيها ما يخالف هذه الأخبار، ويناقضها من جواز التفصيل، وهي متكاثرة بذلك.
فمنها ما رواه في الكافي والفقيه عن محمد بن قيس (2) في الحسن " قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض؟ قال: نعم ونسائه ".
وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن حريز عن محمد بن مسلم (3) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكون له الولد من غير أم أيفضل بعضهم
على بعض؟ فقال: لا بأس، قال: حريز وحدثني معاوية وأبو كهمس أنهما سمعا

(1) التهذيب ج 9 ص 156 ح 644، الوسائل ج 13 ص 384 ح 12.
(2) الكافي ج 7 ص 10 ح 6، الفقيه ج 4 ص 114 ح 495، الوسائل
ج 13 ص 343 ح 1.
(3) التهذيب ج 9 ص 199 ح 795، الوسائل ج 13 ص 344 ح 2 و 3
322

أبا عبد الله عليه السلام يقول: صنع ذلك علي عليه السلام بابنه الحسن وفعل ذلك الحسين بابنه
علي وفعل ذلك أبي بي، وفعلته أنا ".
وعن إسماعيل بن عبد الخالق (1) في الصحيح " قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: في الرجل يخص ولده ببعض ماله فقال: لا بأس بذلك ".
وما رواه في الكافي في الصحيح عن سعد بن سعد الأشعري (2) " قال:
سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرجل يكون بعض ولده أحب إليه من بعض
ويقدم بعض ولده على بعض؟ فقال: نعم قد فعل ذلك أبو عبد الله عليه السلام نحل محمدا "
وفعل ذلك أبو الحسن عليه السلام نحل أحمد شيئا فقمت أنا به حتى حزته له،
فقلت: جعلت فداك الرجل يكون بناته أحب إليه من بنيه؟ فقال: البنات والبنون
في ذلك سواء، إنما هو بقدر ما ينزلهم الله عز وجل منه
قوله عليه السلام " فقمت أنا به " أي توليته له، وكان أحمد كان صغيرا "، وقوله
" إنما هو بقدر ما ينزلهم الله " أي المحبة التي يقع في قلبه إنما هي من الله تعالى
فبقدر ما يجعل الله لهم في قلبه يجعل المحبة ذكورا " أم إناثا ".
وما رواه في الفقيه عن رفاعة (3) عن أبي الحسن عليه السلام " قال: سألته عن
الرجل يكون لهم بنون وأمهم ليست بواحدة أيفضل أحدهم على الآخر، قال:
لا بأس به، وقد كان يفضلني على عبد الله ".
أقول: وهذه الروايات مع كثرتها وصحتها قد اتفقت على جواز التفضل من
غير إشارة في شئ منها على الكراهة فضلا " عن التصريح، وقد فعلوه عليهم السلام بمن كان
ممن يستحق التفضيل ومن لا يستحقه، وبذلك يظهر لك أن جميع ما أطال به (قدس
سره) من تلك الأخبار العامية والتعليلات العقلية كله تطويل بغير طائل.

(1) التهذيب ج 9 ص 200 ح 796، الوسائل ج 13 ص 344 ح 4.
(2) الكافي ج 6 ص 51 ح 1، التهذيب ج 8 ص 114 ح 392، الوسائل
ج 15 ص 203 الباب 91 ح 1.
(3) الفقيه ج 3 ص 311 ح 17، الوسائل ج 15 ص 204 ح 2.
323

وليت شعري كيف غفلوا جميعا " عن هذه الأخبار وهي في الكتب الأربعة
التي يتداولونها حتى التجأوا إلى هذه الأخبار العامية، والعجب هنا من صاحب
المفاتيح حيث تبع صاحب المسالك فيما نقلناه عنه، وغفل أيضا " عن هذه الأخبار
كما لا يخفى على من راجعه.
نعم روى في الفقيه عن السكوني (1) " قال: وفي رواية السكوني قال:
نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان فقبل أحدهما
وترك الآخر فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فهلا واسيت بينهما " وربما
يتوهم متوهم تخصيص الأخبار المتقدمة بهذا، وهو باطل بل الأظهر حمله
على التقية، فإن رواية عامي مع أنه لم يسنده إلى الإمام عليه السلام وقد عرفت دلالة
روايات العامة على ما دل عليه.
وأما ما رواه العياشي في تفسيره عن مسعدة بن صدقة (2) " قال: قال
جعفر بن محمد عليه السلام قال والدي: والله إني لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي
وأكثر له المحبة، وأكثر له الشكر، وإن الحق لغيره من ولدي، ولكن محافظة
عليه منه ومن غيره لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف وإخوته وما أنزل الله سورة
يوسف إلا أمثالا لكيلا يحسد بعضنا بعضا " كما حسد بيوسف إخوته، وبغوا عليه
فجعلها رحمة على من تولانا، ودان بحبنا، وجحد أعدائنا، على من نصب لنا الحرب
والعداوة " فغاية ما يدل عليه أنه عليه السلام كان يظهر التفضيل لبعض ولده، فضايقه
لدفع شره عن الإمام القائم بعده، وهذا بما يدعيه أنسب، وإلى ما اخترناه
أقرب، ومرجعه إلى أن التفضيل قد يكون على جهة الاستحقاق، أو المضايقة،
فلا منافاة فيه لما ذكرناه.
بقي الكلام في الخبرين المتقدمين الدال أحدهما على التفصيل بيت الصحة
والمرض، وأنه يعطي في حال الصحة دون المرض، والخبر الدال على التفضيل بين اليسر

(1) الفقيه ج 3 ص 311 ح 18، الوسائل ج 15 ص 204 ح 3.
(2) المستدرك ج 2 ص 626 الباب 67 ح 3، العياشي ج 2 ص 166 ح 2.
324

والعسر: فيخص بعض ولده مع اليسر دون العسر، مع أن اطلاق الأخبار المتقدمة
يقتضي عدم الفرق، وأنت خبير بأنهما لا يبلغان قوة المعارضة لما قدمناه من الأخبار
الصحيحة الصريحة في الجواز مطلقا.
وأما وصفه في المسالك لرواية أبي بصير (1) بالصحة فهو خلاف المعهود منه
ومن غيره من أرباب هذا الاصطلاح حيث إن أبا بصير مشترك، ولا قرينة تدل
على الثقة منهما، والآخر الضرير إنما يعدون خبره في الضعيف، على أن الظاهر
أن رواية سماعة لا منافاة فيها، وذلك فإن ظاهرهما إنما هو السؤال من عطية
الوالد لولده، وإن كان واحدا " وليس فيها تعرض للتفضيل الذي هو البحث بوجه،
فأجاب عليه السلام بأنه في حال الصحة جائز، لأنه ماله يصنع فيه ما أراد، وأما في
حال المرض فلا، والمنع من ذلك في حال المرض مطلقا " لا قائل به، ولا يوافق
مقتضى القواعد الشرعية، فلا بد على أن يكون المنع باعتبار كونه من الأصل،
فالنهي إنما يتوجه إلى كونه من الأصل.
وحاصل معنى الخبر أنه في حال الصحة مخرج العطية من الأصل، وفي حال
المرض من الثلث، لا من الأصل، كما في حال الصحة وهذه مسألة أخرى لا تعلق
لها بما نحن فيه.
نعم خبر أبي بصير ظاهر في التفضيل لقوله " يخص بعض ولده "، والظاهر حمله
على ما ذكروه من كراهية التخصيص مع الاعسار، لأنه متى خصه وهو معسر
فقد حرم الباقين من الميراث، إذ لا شئ يرثونه.
أما مع يسره وحصول قسط لكل من الباقين من الميراث، فإنه لا يحصل
عليهم بتلك الهبة نقص زائد كما في صورة العسر الذي لا شئ بالكلية، وعلى هذا
فيخص الأخبار المتقدمة بهذا الخبر: بمعنى أن التفضيل جائز مطلقا من غير
كراهية، إلا في صورة اعسار الواهب الموجب لحرمان باقي الأولاد من الميراث،
وهو جمع حسن بين الأخبار والله العالم.

(1) التهذيب ج 9 ص 156 ح 644، الوسائل ج 13 ص 384 ح 12.
325

الموضع الرابع: المفهوم من كلام جملة من الأصحاب بل ربما ادعى
الاجماع عليه كما تقدم الإشارة إليه بأنه يجوز الرجوع بعد القبض إلا في
مواضع مخصوصة، قد وقع الاتفاق على بعضها والخلاف في بعض، كما سيأتي
تفصيله، إن شاء الله تعالى.
والأخبار في أصل المسألة لا تخلو من اختلاف فمما يدل على جواز الرجوع
الخبر الأول، وهو صحيح صريح في ذلك، ومفهوم الخبر الثاني، وهو صحيح
أيضا "، والمفهوم مفهوم شرط لا اشكال في حجيته عند محققي الأصوليين وعندنا،
للأخبار الكثيرة الدالة على حجيته، كما تقدمت في مقدمات الكتاب في الجلد
الأول من كتاب الطهارة (1) ويدل على ذلك أيضا " الخبر الخامس (2) وهو صحيح،
صريح في ذلك، والخبر السابع (3) وهو صحيح صريح في غير المواضع المستثناة
فيه، والخبر الثامن ومفهوم الخبر التاسع، ويدل على ذلك أيضا " قوله عليه السلام في
موثقة عبيد بن زرارة (4) " ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز "
وقوله عليه السلام في صحيحة زرارة (5) المتقدمة في مقصد الصدقة، " ولا ينبغي لمن أعطى
لله شيئا " أن يرجع فيه، وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة،
حيزت أو لم تحز، ولا يرجع الرجل فيما وهب لامرأته " الحديث ويدل على
العدم الخبر الثالث عشر، والخبر الخامس عشر، والخبر التاسع عشر.
ورواية جراح المدائني (6) " عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): من رجع في هبته فهو كالراجع في قيئه ".
وأنت خبير بأن هذه الروايات الأخيرة تقصر عن معارضة الأخبار الأولة

(1) ج 1 ص 58.
(2) ص 301.
(3) ص 301
(4) التهذيب ج 9 ص 153 ح 625 و ص 152 ح 624، الإستبصار ج 4 ص 109 ح 417، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1 و ص 339 ح 1 و ص 343 ح 3.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 4.
(6) تقدم آنفا تحت رقم 4.
326

سندا " وعددا " ودلالة، وحملها على الكراهة المؤكدة، كما ذكره جمع من
الأصحاب طريق الجمع بين الجميع، وأما الصور المستثناة من جواز الرجوع فنحن
نذكرها مفصلة واحدة واحدة، وما يتعلق بكل منهما من الأخبار، وكلام
الأصحاب على وجه يزول به غشاوة الشك إن شاء الله تعالى فيها والارتياب،
فنقول: الأولى فيما لو كانت الهبة لذي الرحم، وقد ادعى المحقق الاجماع على
أنه متى كانت الهبة من الابن للأبوين فلا يجوز الرجوع، وهو مؤذن بالخلاف
فيما عداه، حتى في هبة الأبوين للابن، مع أن العلامة في المختلف عكس ذلك،
فادعى الاجماع على لزوم هبة الأب لولده، ولم يذكر الأم، قال: إذا وهب الأب
ولده الصغير أو الكبير وأقبضه لم يكن للأب الرجوع في الهبة اجماعا " ولو كانت
لغير الولد من ذوي الأرحام للشيخ قولين إلى آخره، وهو مؤذن بالخلاف فيما
ادعى عليه المحقق الاجماع، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال: والظاهر
أن الاتفاق حاصل على الأمرين إلا من المرتضى في الإنتصار، فإنه جعلها جائزة
مطلقا " ما لم يعوض عنها، قال: وكأنهم لم يعتدوا بخلافه لشذوذه.
والعجب أنه ادعى اجماع الإمامية عليه مع ظهور الاجماع على خلافه، وعلى
ما ذكره شيخنا المذكور ينحصر الخلاف فيما عدا الصورتين المذكورتين،
والأشهر الأظهر اللزوم وعدم جواز الرجوع، وهو مذهب الشيخ في النهاية،
والشيخ المفيد وسلار وابن البراج، وقيل: بأن له الرجوع وهو قول الشيخ في
المبسوط والتهذيب والسيد المرتضى وابن الجنيد وابن إدريس.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام مما يدل على القول الأول الخبر
الخامس، وهو صحيح صريح في عدم جواز الرجوع في هبة ذي الرحم، وهو دال
على عدم جواز الرجوع في الصورتين الأوليين من حيث العموم، وعلى الثالثة
بالخصوص، والخبر السابع وهو أيضا " صحيح السند دال على عدم جواز الرجوع في
هبة ذي القربى، لأن المراد بالجواز هنا اللزوم كما تقدمت الإشارة إليه، وينادي
327

بذلك قوله ويرجع في غير ذلك أن شاء، وحاصل الخبر أنه لا يرجع في الهبة إذا
كانت لذي قرابة أو معوضا " عنها، ويرجع فيما عدا ذلك، والخبر السادس عشر
وهو موثق سماعة، إلا أنه مختص بهبة الولد لأمه، وقد حكم عليه السلام بأنه ميراث
بعد موتها، وليس للولد الرجوع فيه للزوم الهبة.
ومما يدل على قول الآخر الخبر الثامن حيث صرح فيه " بأن النحل والهبة
يرجع فيها حازها أو لم يحزها وإن كانت لذي قرابة " والخبر الحادي عشر إلا أنه
غير صريح، بل ولا ظاهر في ذلك، لأن ظاهر تجويزه الرجوع فيما يهب لابنه،
إلا أن يكون صغيرا " أن الرجوع إنما هو من حيث عدم القبض بأن يكون
الموهوب بالغا " ولم يقبض، ولهذا حكم بلزوم الهبة للصغير من حيث إن الأب
قابض له، والخبر الثاني عشر إلا أنه لا يخلو من الاجمال وتعدد الاحتمال، وأنه
يحتمل أن يكون الرجوع إنما هو من حيث كون الهبة غير لازمة، لأن من
شرطها القبض ولم يحصل، فهي وإن انتقلت إليه بالعقد، إلا أنه انتقال متزلزل
مراعي في لزومه بالقبض، وحينئذ فلم يبق مما يمكن أن يستدل به لهذا القول
إلا الخبر الثامن، وهو يضعف عن معارضة الأخبار الأولة سندا " وعددا " ودلالة،
ومن المحتمل قريبا " أن يكون قوله وإن كانت لذي قرابة قيدا " في قوله " أو لم
يحزها " بمعنى أنه إذا لم يحزها فله الرجوع وإن كانت لذي قرابة، وهو معنى
صحيح، وبه يسقط الاستدلال بالخبر المذكور على ما ذكروه، وبما أوضحناه لك
في المقام يظهر ضعف ما ذهب إليه في الكفاية من مواقفة المرتضى (رضي الله عنه) في
عدم لزوم الهبة على ذي الرحم، والآباء والأبناء.
الثانية فيما لو تلف بعد القبض سواء كان التلف من جهة الله سبحانه،
أو المتهب، أو غيرهما فإنه لا يرجع، ونقل عن التذكرة دعوى الاجماع على
ذلك، وكأنه لا يعتد بخلاف المرتضى ودعواه على جواز الرجوع إلا مع التعويض.
ومما يدل على اللزوم وعدم جواز الرجوع في الصورة المذكورة الخبر
328

الأول وهو صحيح صريح في المدعى، قال: في المسالك وفي حكم تلفها تلف بعضها وإن
قل، لدلالة الرواية عليه، فإن العين مع تلف جزء منها لا تعد قائمة، انتهى.
وفيه اشكال فإن الظاهر أن المراد فقيامها بعينها كما تضمنه الخبر إنما هو
بمعنى وجودها وعدم تلفها، فلا يؤثر تلف بعضها خصوصا مع قلته كأصبع العبد
لو قطعت، فإنه لا ينافي قيام العين ووجودها عرفا، وبالجملة فإن ما ذكره لا يخلو
عندي من شوب اشكال.
الثالثة - فيما لو عوض عنها وإن كان العوض قليلا إذا حصل التراضي،
واللزوم في هذه الصورة اجماعي حتى من المرتضى، ويدل على ذلك الخبر الثاني وهو
صحيح صريح في عدم جواز الرجوع إذا عوض، والخبر السابع حيث حكم عليه السلام
بجواز الهبة الذي هو كما عرفت آنفا عبارة عن لزومها في صورة ذي القرابة،
والذي يثاب أي يعوض.
قال في المسالك: ولا فرق العوض بين كونه من بعض الموهوب وغيره،
عملا بالاطلاق ولأنه بالقبض بعد العقد مملوك للمتهب، فيصح بذله عوضا عن
الجملة، انتهى.
أقول: يمكن أن يقال: إن المتبادر من المعاوضة هو كون أحد العوضين
غير الآخر، ولو تم ما ذكره للزم أنه لو دفعه المتهب بجميعه إلى الواهب بعد
القبض لصدق المعاوضة، مع أنه لا يسمى ذلك معاوضة، فإنما يسمى ردا "، ولا فرق
بين دفع البعض ودفع الكل، قوله " لأنه بالقبض بعد العقد مملوك للمتهب " مسلم،
لكنه ملك متزلزل لا يلزم إلا باعطاء العوض ونحوه، من الأمور الموجبة للزوم
وبالجملة فإنه باعطاء بعض الموهوب أو جميعه إنما يقال: رده أو رد بعضه
ولا يقال. أعطى عوضه بهذا هو الظاهر من العرف والاستعمال، وبه يظهر أن
ما ذكره لا يخلو من شوب الاشكال.
ثم إن الظاهر من اطلاق الخبرين المذكورين أنه لا فرق في لزوم الهبة
329

بالتعويض بين أن يكون قد شرط التعويض في العقد، أو وقع بعده بأن وقع العقد
مطلقا، إلا أنه بذل له العوض بعد ذلك وأعطاه إياه، لكنهم صرحوا بأنه لا يحصل
التعويض بمجرد البذل، بل لا بد من قبول الواهب له، وكون البذل عوضا " عن
الموهوب قالوا: لأنه بمنزلة هبة جديدة، ولا يجب عليه قبولها.
بقي الكلام هنا في أنه لو وهب وأطلق هل يقتضي التعويض أم لا؟ المشهور
الثاني، وقال الشيخ في الخلاف والمبسوط: الهبة على ثلاثة أقسام، هبة لمن فوقه،
وهبة لمن دونه، وهبة لمن هو مثله، وكلها يقتضي الثواب عندنا، ومقتضاه أنه بالهبة
يجب على المتهب بذل العوض، ويلزم وإن لم يطلبه الواهب، ولا قائل به سواه، إلا أن
أبا الصلاح وافقه في هبة الأدنى للأعلى، فقال: إنها يقتضي الثواب فيعوض عنها
بمثلها، ولا يجوز التصرف في الهبة ما لم يعوض عنها، لاقتضاء العرف ذلك.
و رد كل من القولين المذكورين بأن الأصل والعمومات يقتضي خلافه،
وربما حمل كلام الشيخ على جواز الرجوع في الهبة ما لم يثب، كما لو شرط فيها
فيكون المراد أن لزومها إنما يتحقق به، وإلى هذا يميل كلام العلامة في
المختلف في مقام الرد على ابن إدريس انتصارا للشيخ والحق بعده.
وبالجملة فإن الحكم مع الاطلاق كما هو المشهور هو أن الهبة جائزة من
جهة الواهب إلا أن يحصل التعويض بما يتفقان عليه، ومع الاختلاف يرجع إلى
مثل الموهوب أو قيمته، ولا خلاف في أنه لو شرط الثواب صح، أطلق أو عين،
وله الرجوع ما لم يدفع إليه ما شرط، ويدل عليه الخبر السادس (1) فإنه دال
على حكم المشروطة بالثواب مطلقا، أو معينا، وأن للواهب الرجوع إذا لم يف
المتهب بالشرط، وأنه ليس للمتهب مع الشرط التصرف في الجارية حتى يفي
بشرطه، وفيه دلالة على تخير المتهب بين الوفاء بالشرط، لتلزم الهبة، ويجوز له
التصرف، وبين رد الهبة كما هو أحد القولين، وهو منقول عن الشهيد في الدروس

(1) ص 301.
330

وجماعة، وقيل: بلزوم العقد من طرف المتهب، وأنه يجبر على الوفاء بالشرط
مطلقا " كان أو معينا "، هذا القول جار على ما قدمنا نقله عن الشيخ في الخلاف
والمبسوط، فلعل ما هنا تفريع عليه.
وكيف كان فالظاهر ضعفه، فإن المفهوم من الخبر المشار إليه خلافه، فإنه
لو كان العقد لازما من جهته لجاز له وطئ الجارية مع الشرط قبل الوفاء به، حيث
إنه قد ملكها بالهبة ملكا لازما، ويجب عليه الوفاء بالشرط كما هو المفروض،
ومفهوم الخبر بخلافه.
ثم إنه على تقدير الشرط إن كان ما شرطه معينا " فالحكم واضح، وإن كان
مطلقا فإن اتفقا على شئ قليلا أو كثيرا " فلا اشكال أيضا، وإلا وجب إثابة مقدار
الهبة مثلا " أو قيمة، ولا يجب الأزيد وإن طلبه الواهب، كما لا يجبر الواهب على
قبول الأقل إلا أنه يجب أن يعلم أن ذلك ليس على جهة اللزوم والحتم، بل
يتخير الواهب في كلتا الصورتين بين الرجوع وقبول العوض، لأن العقد من جهته
غير لازم قبل التعويض، ويتخير المتهب بين الرد والإثابة، إلا على قول الشيخ المتقدم
وأبي الصلاح في خصوص ما ذكره حيث حكما باللزوم من جهة المتهب، وأوجبا
عليه الإثابة، وإن اختلفا في العموم والخصوص، وقد عرفت ضعفه.
ثم إنه على تقدير الاشتراط لو تلفت العين في يد المتهب قبل التعويض أو
عابت سواء كان ذلك بفعله كلبس الثوب أم لا، فهل بضمن المتهب الأرض أو الأصل
أم لا ضمان؟ قولان: صرح في المختلف بالأول، ونقل عن ابن الجنيد من المتقدمين.
قال في المختلف: وإن شرط الثواب فإن أطلق كان اطلاقه منصرفا " إلى
العادة، وإن شرط معينا " فإن أثابه إياه لزمت الهبة، وإلا كان للمالك العود في
هبته، فإن كانت ناقصة فعليه الأرش، وإن كانت تالفة فعليه المثل أو القيمة، لأنه
ملكه بشرط العوض، ولم يسلم له فكان له الرجوع في عينه، انتهى.
وجزم في التذكرة ومثله ولده في الشرح بالثاني، واختاره المحقق
331

على تردد، واحتجوا عليه بأن ذلك النقص حدث في ملك المتهب، فلا يلزمه
ضمانه، ولأن المتهب لا يجب عليه دفع العوض كما مر، بل للواهب الرجوع في
العين والتفريط منه من حيث تركها في يد من سلطه على التصرف فيها مجانا.
احتج القائلون بالأول بما عرفت من كلامه في المختلف وهو إنما ملكه
بشرط العوض لا مجانا، فإنه إنما قبضها ليؤدي عوضها فلم يفعل، ومن ذلك
يظهر أن الواجب عليه أحد الأمرين ردها، أو دفع العوض، فإن تعذر الأول
وجب الثاني.
ومنه يعلم الجواب عن دليل المخالف، وقوله " إنه سلطه على التصرف فيه
مجانا " فإنه إنما سلطه بشرط العوض، وهذا هو معنى الضمان، وقولهم إنه لا يجب
عليه دفع العوض، إن أريد به عدم وجوبه عينا " لم يلزم منه نفي الوجوب عن
المبدل الذي هو المدعى، وحينئذ فإذا تعذر أحد الأمرين المخير بينهما تعين
الآخر، وإن أريد به عدم الوجوب بالكلية فهو ممنوع، وإلى هذا القول مال
في المسالك، وقوته بما ذكرنا ظاهرة.
ثم إنه على تقدير القول بالضمان مع التلف فهل الواجب مثل الموهوب
أو قيمته؟ أو أن الواجب إنما هو أقل الأمرين من ذلك ومن العوض، وجهان:
اختار ثانيهما في المسالك، قال: لما عرفت من أن المتهب مخير بين الأمرين،
والمحقق لزومه هو الأقل، لأنه إن كان العوض الأقل فقد رضي به الواهب في
مقابلة العين، وإن كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا يتعين عليه العوض، بل هو
مخير بينه وبين بذل العين، فلا يجب مع تلفها أكثر من قيمتها، انتهى وهو جيد.
الرابعة فيما لو كانت لأحد الزوجين، والمشهور بين الأصحاب كراهة
الرجوع فيما يهبه أحدهما للآخر من غير أن تكون الهبة لازمة يحرم الرجوع
فيما، وذهب جمع منهم إلى عدم جواز الرجوع كالصور المتقدمة، والأول قول
الشيخ في كتبه واتباعه، والثاني نقله الشيخ في الخلاف عن بعض الأصحاب، وبه
332

أفتى العلامة في التذكرة، ونقله في التحرير عن الشيخ، وهو مختار جملة من متأخري
المتأخرين، منهم المحدث الكاشاني في المفاتيح، والفاضل الخراساني في الكفاية
وهو ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، ونقله عن جماعة من الأصحاب
(رحمهم الله) وظاهر شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد الميل إليه من غير جزم، حيث
نفى عنه البعد، وهذا هو الأظهر عملا " بالخبر الرابع (1) وهو صحيح صريح في ذلك،
وبه يخص عموم الأخبار الدالة على جواز الرجوع بعد القبض مطلقا "، كما خص
بغيره من الأخبار المتقدمة في الصور السابقة، وعلى هذا فتكون الزوجية من
أسباب اللزوم المستثناة من تلك الأخبار، كغيرها مما قدمنا ذكره.
والظاهر أن من قال بالأول نظر إلى عموم الأخبار الدالة على جواز الرجوع
بعد القبض، فجوز الرجوع وجعل ذلك مكروها "، نظرا " إلى قوله (صلى الله عليه
وآله وسلم) في صحيحة الحلبي (2) الذي يرجع في هبته كالذي يرجع في قيئه
ونحوها غيرها، بحمله على الكراهة المؤكدة جمعا " بينه وبين تلك الأخبار الدالة
على جواز الرجوع كما تقدم ذكره، إلا أن فيه ما عرفت من ورود الخبر الصحيح
الصريح باللزوم، وربما طعن في الصحيحة المذكورة بقوله عليه السلام فيها " حيز أو لم
يحز " حيث إن ظاهر لزوم الهبة، وإن لم يقبض وهم لا يقولون به، فما يدل
عليه الخبر لا يقولون به، وما يقولون به لا يدل عليه، وأجاب عن ذلك في المسالك
بأنه لما قامت الأدلة على عدم لزومها قبل القبض، وجب أن تحمل هذه الأخبار
على قبض آخر جديد غير القبض الأول، جمعا " بين الأدلة.
أقول: ويمكن أن يقال بالخبر المذكور على ظاهره، ويخص هذا الحكم
بالزوجين، ولا مانع منه، إذا دل عليه الخبر، فكما أنه دل على استثناء الزوجين

(1) ص 301.
(2) التهذيب ج 9 ص 155 ح 635 ولا يخفى أن المتن المذكور هو مضمون
رواية إبراهيم بن عبد الحميد التهذيب ج 9 ص 158 ح 653 وإلا فالمذكور في رواية
الحلبي هو الصدقة بدل الهبة، الوسائل ج 13 ص 316 ح 4 و ص 343 ح 4.
333

من عموم تلك الأخبار الدالة على جواز الرجوع بعد القبض، كذلك على
استثنائهما من عموم الأخبار الدالة على جواز الرجوع قبل القبض، فيقال:
تلزم هبة أحد الزوجين للآخر بمجرد العقد، قبض أو لم يقبض، وإن كان الحكم
في غيرهما جواز الرجوع قبل القبض مطلقا "، وبعده إلا في الصورة المتقدمة التي
دلت النصوص على استثنائها، وأي مانع من ذلك، إذا اقتضاه الدليل، سيما مع
استدلاله عليه السلام بالآيات المذكورة، وهي مطلقة شاملة لما قبض أو لم يقبض.
وكيف كان فالظاهر أنه لا فرق في الزوجين بين الدائم والمنقطع ولا بين
المدخول بها وغيرها، ولا بين المطلقة رجعيا " وغيرها، باطلاق النص، أما الباينة
فإنها ليست زوجة، والله العالم.
الخامسة فيما لو ضم إليها قصد القربة " ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا " أن
يرجع فيه، وما لم يعط لله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز "
وفي موثق عبيد بن زرارة (1) " ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم
يحز ولا ينبغي لمن أعطى لله عز وجل أن يرجع فيه " وفي الخبر التاسع " هل لأحد
أن يرجع في صدقته أو هبته قال: أما ما تصدق به لله فلا " ويؤيدها جملة من الأخبار
المتقدمة في الصدقة، وأنه لا يجوز الرجوع فيما قصد به القربة، وعلل بعض
المحدثين بأنه بالقربة قد استحق الثواب، وصار عوضا " فيكون من قبيل الهبة
المعوضة التي قد تقدم أنه لا يجوز الرجوع فيها وهو جيد والله العالم.
السادسة التصرف، وقد اختلف الأصحاب (رحمهم الله) في أن تصرف
المتهب إذا لم يكن داخلا " في أحد الصور المتقدم ذكرها هل يوجب لزوم الهبة
ويمنع رجوع المالك فيها أم لا؟ على أقوال: أحدها عدم تأثير التصرف مطلقا " في
لزومها، سواء كان تصرفا " ناقلا " للملك مانعا " من الرد كالاستيلاد، أو مغيرا " للعين

(1) التهذيب ج 9 ص 153 ح 2، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1.
334

كطحن الحنطة ونحوها، بل للواهب فسخها كما لو كانت قبل التصرف، وهو
مذهب المحقق في كتابيه، وإليه ذهب سر وأبو الصلاح وهو ظاهر ابن الجنيد.
وثانيها أنها تلزم بالتصرف مطلقا "، وإليه ذهب الشيخان، وابن البراج
وابن إدريس، وأكثر المتأخرين كالعلامة والشهيد في اللمعة وغيرهما.
وثالثها التفصيل في ذلك، بأنه إن كان التصرف موجبا " لخروجها عن ملكه
أو مغيرا " لصورتها كقصارة الثوب وتجارة الخشب أو كان التصرف بالوطئ، فإنها
تكون لازمة، وإن كان التصرف بدون ذلك كركوب الدابة وسكنى الدار وحلب
اللبن ونحوها، فإنها غير لازمة، وهذا القول مذهب ابن حمزة والشهيد في الدروس
وجماعة من المتأخرين، وزاد ابن حمزة فقال: لا يقدح الرهن والكتابة، وهو
يشمل باطلاقه ما لو عاد إلى ملك الواهب أو لم يعد.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن مما يدل على القول الأول ظاهر الخبر الأول
وهو صحيح، والتقريب فيه أنه عليه السلام جوز الرجوع إذا كانت الهبة قائمة بعينها،
وإلا فليس له، وقيام العين الذي هو عبارة عن بقائها شامل لحالتي التصرف وعدمه،
وكذا ظاهر الخبر السابع (2) لقوله عليه السلام بعد ذكر ما يدل على عدم الرجوع
بالنسبة إلى ذي القرابة والذي يثاب، " ويرجع في غير ذلك أن شاء ".
وأجاب في المختلف عن هذين الخبرين حيث احتج بهما لأصحاب القول
الأول مقتصرا " عليهما بالحمل على ما إذا لم يوجد التصرف، وفيه أن الحمل على
خلاف الظاهر كتخصيص العام وتقييد المطلق يتوقف على وجود المعارض
ليجمع بينهما بذلك، وهو لم يذكر هنا ما يوجب المعارضة على هذا الوجه إلا
بعض الوجود الضعيفة، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، ثم إن مما يستدل به
لهذا القول الأخبار المتقدمة ذكرها في صدر هذا الموضع، فإنها متفقة على جواز

(1) ص 300
(2) ص 301.
335

الرجوع بعد القبض مطلقا " في بعض، ومع استثناء بعض الصور المتقدمة في بعض، ففي
بعضها استثناء ما يعطى لله من نحلة أو هبة أو صدقة، وبعضها استثناء ذي الرحم،
والتحقيق في هذا المقام أنك إذا نظرت إلى الروايات الدالة على جواز الرجوع بعد القبض
مطلقا "، أو ضممت إليها ما دل من الأخبار على عدم جواز الرجوع في الصور التي
قدمناها، ظهر لك أن الواجب تقييد اطلاق تلك الأخبار بهذه الأخبار الواردة في
هذه الصور، وبقاء ما عدا هذه الصور على الدخول تحت الاطلاق، فإن العام المخصص
والمطلق المقيد حجة فيما بقي بعد التخصيص والتقييد، ولا دليل في هذه الصورة
المدعاة هنا حتى يمكن أن يخصص تلك الأخبار به، كما خصصت بغيره من أخبار
الصور المتقدمة، وبه تظهر قوة القول المذكور.
حجة القول الثاني وجوه ملتقطة من تضاعيف عبارات أصحاب هذا القول
عموم قوله تعالى (1) " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة
عن تراض منكم " وليس الرجوع تجارة، ولا عن تراض، وهذا مما استدل به في
المختلف على ما أختاره من هذا القول.
الثاني عموم " أوفوا بالعقود " (2) خرج منه ما دل الدليل على جوازه،
فيبقى الباقي على أصله.
الثالث رواية إبراهيم بن عبد الحميد (3) عن الصادق عليه السلام " قال: أنت
بالخيار في الهبة ما دامت في يدك فإذا خرجت إلى صاحبها فليس لك أن ترجع
فيها " وقال: قال رسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " من رجع في هبته فهو
كالراجع في قيئه " خرج من ذلك ما أخرجه الدليل، وبقي الباقي على أصله،
وهذا الوجه مما استدل به في المختلف أيضا ".

(1) سورة النساء الآية 29.
(2) سورة المائدة الآية 1.
(3) التهذيب ح 9 ص 158 ح 653، الوسائل ج 13 ص 343 ح 4.
336

الرابع جواز الرجوع يقتضي تسلط الواهب على ملك المتهب، وهو خلاف
الأصل لقوله (صلى الله عليه وآله) (1) " الناس مسلطون على أموالهم "
فيقتصر فيه على موضع الدليل.
الخامس قال الشيخ وروى الأصحاب أن المتهب متى تصرف في الهبة فلا
رجوع فيها، وهو يدل على وجود روايات بذلك.
السادس أن المتهب قد ملك بالعقد والاقباض، فظهر أثر المتهب بالتصرف،
فقوى وجود السبب فكان تاما، وإلا لم يتحقق أثره، فلا يتحقق النقل إلا بسبب
طار، والرجوع ليس سببا " هنا، وإلا لكان سببا " في غيره، وهذا الوجه مما ذكره
في المختلف، وهو أول أدلته.
السابع أن جواز الرجوع يقتضي الضرر والاضرار بالمتهب على تقدير
بنائه وغرسه وطول مدته، وهما منفيان شرعا ".
الثامن أن الموهوب قد صار ملكا " للمتهب بعقد الهبة فلا يعود إلى ملك
الواهب إلا بعقد جديد أو ما هو في حكمه.
التاسع أنه اجماع، لأن المخالف معروف بالاسم والنسب فلا يقدح.
العاشر أخبار القئ، وهي متعددة، هذه جملة أدلتهم على القول الثاني،
وسنبين إن شاء الله تعالى ما فيها من القصور، لكن قبل الشروع في ذلك لا بد من
تمهيد كلام في المقام يكون كالوجه الجعلي لرد ما ذكره هؤلاء الأعلام، ثم
نعطف الكلام على بيان ما في هذه الوجوه السقام، فنقول قد عرفت مما ذكرناه
في صدر هذا الموضع أن المشهور في كلامهم من غير خلاف يعرف، بل ادعى عليه
الاجماع، أنه يجوز الرجوع بعد القبض إلا في المواضع مخصوصة، وقد دلت جملة
من الأخبار الصحاح الصراح على ذلك، وأما ما عارضها من الأخبار الدالة على
العدم فمع قصورها عن المعارضة لتلك الأخبار، فإنه لا قائل بها من الأصحاب،

(1) البحار ج 2 ص 272 الطبع الحديث ح 7.
337

وحملوها على الكراهة المغلظة جمعا " بين الأخبار وحينئذ فالواجب هو الوقوف على
هذه الأخبار المذكورة الصحيحة الصريحة المعتضدة بعمل الأصحاب واتفاقهم على
القول بها حتى يقوم دليل على ما يوجب الخروج عن اطلاقها وعمومها.
نعم قام الدليل بالنسبة إلى الصور التي قدمناها، فذيلناه بالأخبار الدالة على
ذلك فوجب استثنائها، وأما فيما نحن فيه فليس إلا هذه الوجوه التي لفقوها،
وهي أوهن من بيت العنكبوت، وأنها لأوهن البيوت.
أما الأول ففيه أن الرجوع ليس أكل مال بالباطل، لأنا إنما جوزنا
الرجوع بتلك الأخبار الصحيحة الصريحة في جواز الرجوع بعد القبض، فإنها
صحيحة صريحة في الرجوع.
نعم قام الدليل من خارج على عدم جواز الرجوع في بعض الموارد،
فخصصنا به تلك الأخبار، فبقيت فيما عداه على اطلاقها، بل أكل المال بالباطل
إنما يلزم القائل باللزوم، وعدم جواز الرجوع، فإنه متى دلت الأخبار على
جواز الرجوع ويرجع الواهب، ولم يدفع إليه بناء على دعوى لزوم الهبة
بالتصرف، فإن اللازم من ذلك أكل المتهب لها بالباطل، لمخالفته مقتضى
النصوص المذكورة الدالة على استحقاق الواهب لها بعد رجوعه منها.
وأما الثاني ففيه أن العقود منها الصحيح، ومنها الفاسد، ومنها الجائز ومنها
اللازم، وقد حققنا سابقا أنه لا يجوز العمل بالآية على ظاهرها لما عرفت، بل الواجب
حملها على العقود الأزمة، وما نحن فيه ليس بلازم، لدلالة النصوص الصحيحة
واتفاقهم على جواز الرجوع بعد القبض أعم من أن يكون قد تصرف أو لم يتصرف
ودعوى كون العقد لازما " هنا بالتصرف مصادرة، لأنه عين المتنازع.
وأما الثالث فمع قطع النظر عن ضعف السند الذي يوجب طرحه باصطلاحهم
فضلا " عن أن يصلح للمعارضة، فإنك قد عرفت أن هذا الخبر وما في معناه من
الأخبار الدالة على عدم الرجوع بعد القبض قد حملها الأصحاب على الكراهة،
338

تفاديا " من طرحها، حيث إنه لا قائل بها، فكيف يستدلون بها هنا، وهم إنما
يدعون اللزوم هنا من حيث التصرف، والرواية وما في معناها إنما دل على
اللزوم وعدم جواز الرجوع بمجرد القبض، وليس فيها تعرض للتصرف بوجه،
فما تدل عليه الرواية لا يقولون به، وما يقولون لا تدل عليه فكيف يتم الاستدلال
بها والحال كما ترى.
وأما الرابع ففيه أن جواز الرجوع مما اقتضته الصحاح المتقدم ذكرها
والمتهب إنما ملكه ملكا " متزلزلا مراعى بعدم الفسخ من الواهب، فإن مجرد
القبض لا يقتضي لزوم الهبة، كما عرفت، بل هي جائزة لا تلزم إلا بأحد الأسباب
الموجبة للزومها، وليس هذا منها، ودعوى أن التصرف من جملتها مصادرة، ومتى
فسخ الواهب ورجع فإنما رجع في ماله، وتسلط على ماله، لا مال المتهب، وحينئذ
فالاستدلال بالخبر عليهم، لا لهم.
وأما الخامس ففيه أن الاستدلال بمجرد هذا الملاك مجازفة محضة سيما
على مذاقهم واصطلاحهم، ومناقشتهم في الأخبار المروية في الأصول، فكيف
يعتمدون هنا على مجرد هذا الكلام، مع أن كتب الأخبار خالية من ذلك
وأصحاب هذا القول بعد الفحص والمناقشة في تحصيل دليل لهم من الأخبار لم
يعثروا، إلا على رواية إبراهيم بن عبد الحميد المذكورة، وأوردوا واستدلوا بها،
وقد عرفت ما فيها سندا " ودلالة.
وأما السادس وهو أقوى أدلته في المختلف، ولهذا قدمه وبالغ في الذب
عنه، ففيه ما ذكره في المسالك من أنه إن أراد بالملك بعد العقد والاقباض هو
الملك على جهة اللزوم، فهو عين النزاع ومحل البحث، وهل هو إلا مصادرة، وإن
أراد تحقق الملك المطلق أعم من اللازم والجائز وترتب أثر هذا المطلق فهو غير نافع
لأن العقد الجائز لا يرفع جوازه التصرف فيه على هذا الوجه، كما يظهر ذلك في
تصرف أحد المتبايعين مع وجود الخيار للآخر، وكما في التصرف غير المغير للعين
339

ولا الناقل للملك في الهبة عند بعض الأصحاب، وحينئذ فالظاهر من أثر الملك
إنما هو أثر الملك اللازم الحاصل وهو الحائز رفعه على ما يدعيه الخصم، ودلت عليه
الأخبار الصحيحة، وذلك لا يوجب قوة السبب ولا تماميته، ولا ينافي كونه سببا "،
ودعوى كون الرجوع ليس سببا " هنا عين المتنازع، فإن الخصم بجعله سببا " تاما "
في رفع ملك المتهب، واثبات ملك الواهب بواسطة جواز العقد الذي قد استفيد
من النصوص، انتهى، وهو جيد رشيق.
وأما السابع فضعفه أظهر من أن يخفى، إذا لا خلاف كما عرفت ولا اشكال في
كون العقد بعد القبض جائزا " متزلزلا، للواهب فسخه والرجوع فيما وهبه متى
أراد، كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المعتضدة بفتوى الأصحاب واتفاقهم،
وحينئذ فتصرف المتهب على هذا الوجه اقدام منه على الضرر، ورضا " به، لتصرفه
في ملك غير مستقر ولا لازم، فادخاله الضرر على نفسه لا يكون حجة على غيره،
ولا يدخل تحت خبر الضرار، كما هو ظاهر لذوي الأبصار والأفكار.
وأما الثامن فهو كسابقه في الضعف، لما تقدم في جواب الوجه السادس،
وهو أنه إن أراد بالملك هو الملك اللازم فهو أول المسألة ومحل البحث، وإن أراد
الأعم لم ينفعه، ولم يضر الخصم، وأما قوله فلا يعود إلى ملك الواهب إلا بعقد جديد
وما في حكمه، ففيه بعد الاغماض عن المناقشة فيه بأن ذلك إنما هو في الملك اللازم
الذي ليس لصاحبه الرجوع فيه، على أنا نقول إن الفسخ هنا في حكم العقد،
حيث أنه ناقل للملك من المتهب إلى الواهب، كما هو ظاهر.
وأما التاسع فهو أشد ضعفا " من هذه الوجوه المذكورة، وكيف يدعى
الاجماع في موضع هذا الخلاف المنتشر بين عظماء الطائفة، والمعركة العظمى
والمناقشات الزائدة كما عرفت، وستعرف، ونحن في شك واشكال من حجية
الاجماع في موضع لم يظهر فيه الخلاف، فكيف بهذا المواضع الذي قد عرفت اتساع
دائرة الخلاف فيه، وما هذه الدعوى عند ذوي الانصاف إلا من قبيل الهذيانات
340

والتخيلات الموجبة لارتكاب جادة الاعتساب.
وأما العاشر فإن فيه أن ما دل عليه ظاهر هذه الأخبار من تحريم الرجوع
في الهبة وأنه كالرجوع في القئ الذي لا خلاف في تحريمه لا قائل به على اطلاقه
مع دلالة الأخبار الصحاح الصراح المتقدم ذكرها على جواز الرجوع في الهبة
بعد القبض، ما لم يعرض لها ما يوجب لزومها في تلك الصور المتقدمة.
وحينئذ فالواجب إما حمل هذه الأخبار على الكراهة المؤكدة كما ذكره
الأصحاب، أو العمل بظاهرها وتخصيصها بالصورة التي تلزم فيها الهبة، ويحرم
الرجوع بها، وأما العمل بظاهرها فهو غير مستقيم كما هو ظاهر لذوي الفهم القويم.
حجة القول بالتفصيل: بأنه إن كان التصرف موجبا " لخروجها عن ملكه،
أو مغيرا " لصورة كقصارة الثوب وطحن الحنطة، ونجر الخشب وكذا الوطئ فهي
لازمة، وإن لم يكن كذلك كركوب الدابة ولبس الثوب وسكنى الدار فهي
جائزة يجوز الرجوع فيها الخبر الأول (1) الدال على أنه إذا كانت الهبة قائمة
بعينها فله أن يرجع فيها، وإلا فليس له الرجوع، والتقريب فيه أنه مع تغير
العين بطحن الحنطة وتقطيع الثوب ونجر الخشب ونحو ذلك، لا يصدق بقاء العين
لأن المتبادر منه بقاؤها على حالها وأوصافها التي قبضها المتهب عليها، لا أصل الذات
ومع خروجها عن ملكه لا يصدق بقاؤها عرفا "، لأن ذلك منزل منزلة التلف،
فضلا " عن أصل الخروج عن الوصف، وعلى هذا فتكون هذه الرواية مخصصة أو
مفيدة لتلك الأخبار الصحاح المقدم ذكرها، كما قيدوها بتلك الصور المتقدمة
واعترض على ذلك في المسالك بأن الخبر المذكور لا يخلو من الاشكال في السند
والدلالة، أما السند فلعدم كونها من الصحيح ممن يعتبر عدالة الراوي بالمعنى
المشهور، يشكل عليه العمل بها.
وأما الدلالة فتظهر في صورة نقلها عن المالك مع قيام عينها بحالها، فإن إقامة

(1) ص 300.
341

النقل مقام تغير العين أو زوالها لا يخلو من تحكم أو تكلف، بل قد يدعى قيام
العين ببقاء الذات مع تغير كثير من الأوصاف، فضلا " عن تغيير يسير، قال: وأيضا "
فأصحاب هذا القول ألحقوا الوطئ مطلقا " بالتغيير، مع صدق بقاء العين بحالها،
اللهم إلا أن يدعى في الوطئ عدم بقاء عينه عرفا " وليس بواضح، أو يخص بما لو
صارت أم ولد، فإنها يزل منزلة التالفة من حيث امتناع نقلها عن ملك الواطئ
وعلى كل حال فتقييد تلك الأخبار الكثيرة الصحيحة الواضحة الدلالة بمثل هذا
الخبر الواحد البعيد الدلالة في كثير من مدعيات تفصيله لا يخلو من اشكال، إلا أنه أقرب من القول المشهور باللزوم مطلقا، انتهى.
أقول وبالله التوفيق إلى سواء الطريق: إنه لا يخفى أن الطعن في الخبر
المذكور بالسند غير موضي ولا معتمد، ولو على تقدير هذا الاصطلاح المحدث،
فإن جملة منهم قد عدوه في الصحيح، حيث إن حسنه إنما هو بإبراهيم بن هاشم
الذي قد تلقوا أحاديثه بالقبول، وإن عدوه في الحسن، فالمناقشة في السند ضعيفة
واهية.
وأما في المتن فالتحقيق أن يقال: إن الخبر المذكور وإن لم ينهض بالدلالة
على ما ذكره القائل بالتفصيل في جميع ما أورده، وادعى اللزوم بسببه، إلا أنه
ظاهر في البعض، لأنه من جملة ما عده من التصرف الموجب للزوم تقطيع الثوب،
ونجر الخشب، وطحن الحنطة، ومن الظاهر أن التصرف بهذه الأنحاء ونحوها
لا يصدق معها قيام الهبة بعينها، لما عرفت آنفا "، ففي هذه الحال لا يبعد القول
باللزوم، والحاق ذلك بالتلف وأما بالنسبة إلى نقلها عن الملك، فالظاهر صدق
قيامها بعينها كما اختاره شيخنا المتقدم ذكره، فله حينئذ الرجوع فيها،
وظاهره في الدروس الحاقه بالتلف في اللزوم، ومثل ذلك الوطئ أيضا " إن أرادوا
به مطلق الوطئ، وإن خصوه بالاستيلاد فاشكال، لصدق بقاء العين الموجب للرجوع،
وحصول الاستيلاد المانع من النقل من ملك الواطئ.
342

وبالجملة فالذي يظهر لي من الخبر المذكور هو الحاق التصرف الموجب
لزوال الصورة على النحو المتقدم بالتلف، وأما ما عداه فلا، إلا في الاستيلاد،
فإنه محل توقف، وعلى تقدير القول باللزوم بالتصرف الناقل للملك، ففي تنزيل
موت المتهب وانتقال الهبة إلى الورثة منزلة التصرف الناقل قولان: أحدهما
العدم، فيجوز الرجوع، لأن هذا الانتقال لم يحصل بتصرفه ونقله، والتصرف
الذي هو الموجب للزوم عندهم غير حاصل، فيبقى كغيره على الجواز الموجب
لجواز الرجوع، لدخوله تحت الأدلة المجوزة للرجوع.
وقيل: إنه منزل منزلته، لأن انتقاله عنه بالموت بفعل الله تعالى أقوى من
نقله بفعل المتهب، وهو خيرة الشهيد في الدروس، وشرح الإرشاد، وقواه في الروضة.
وأنت خبير بأن مستند هذا القول أعني بالتفصيل إنما هو الخبر المتقدم كما
عرفت، وهو قد تضمن جواز الرجوع إذا كانت الهبة قائمة بعينها، وإلا فلا، وهو
أعم من أن يكون عدم قيامها بعينها الموجب لعدم الرجوع مستندا " إلى فعل الله
سبحانه، أو فعل المتهب.
لكن يبقى الاشكال في أنه هل يصدق عدم قيامها بعينها على صورة الانتقال،
أم لا؟ وقد عرفت مما قدمنا نقله عن المسالك منع ذلك، حيث نسبه إلى التحكم
وهو القول بغير دليل، أو التكلف، فيجوز الرجوع لصدق قيامها بعينها، وكلامه
في الروضة ظاهر في موافقته للشهيد، فما اختاره مؤذن بصدق ذلك، وأنه مع
الانتقال يصدق عدم قيامها بعينها، وهو خلاف ما ذكره في المسالك، كما لا يخفى
اللهم إلا أن يكون كلامه في الروضة مبنيا " على المماشاة والتنزيل، بناء على
القول بذلك، بمعنى أنا لو قلنا: بأن نقل المتهب الهبة إلى غيره موجب للزوم،
فهل يكون موت المتهب الموجب لنقل (الله سبحانه) لها كذلك أم لا؟ وحينئذ
فيندفع عنه الإيراد، والله العالم.
343

المقام الثاني في جملة من أحكامها زيادة على ما سبق:
وفيه مسائل: الأولى: إذا وهب وأقبض ثم باع الهبة من آخر فإن كانت
لازمة كما في الصورة المتقدمة، فإن المبيع غير متعقد ولا صحيح، لكونه تصرفا "
في ملك الغير بغير إذنه، إلا أن يكون من باب البيع الفضولي على القول به،
فيتوقف على إجازة المتهب إن قلنا بصحته، وإلا فلا، وإن كانت الهبة جائزة يجوز
الرجوع فيها، فهل يصح ويقوم مقام الرجوع فيها فيكون بيعا " ورجوعا " أم لا؟
بل لا بد من الرجوع أولا " ثم البيع، قولان. نقل ثانيهما عن الشيخ (رحمة الله عليه)
في المبسوط، وهو اختيار المحقق في الشرايع، وبالأول صرح العلامة في الإرشاد
والقواعد.
احتج القائل بالعدم بأن الهبة قد انتقلت إلى ملك المتهب بالعقد، وإن كان
انتقالا " متزلزلا " قابلا " للزوال بالفسخ، فبيعه قبل الفسخ وقع في ملك الغير، لأنه
باع ما لا يملكه.
احتج القائل بالصحة بأن الأصح صحة البيع، وهو متضمن للرجوع،
والمسألة خالية من النص، إلا أن الأقرب بالنسبة إلى تعليلاتهم هو القول بالصحة
وقول ذلك القائل أنه لا بد من الفسخ أولا " وإلا لكان بيعا " لما لا يملكه مردود، بأنه
لا ريب أن إرادة البيع وقصده قبل وقوع العقد ظاهر في إرادة الفسخ ويكون وقوع
العقد كاشفا " عن ذلك القصد، فهو بيع بالنظر إلى كشفه عن القصد والإرادة
المتقدمين على العقد، فيكون بيعا " متضمنا لفسخ، وأي مانع من ذلك، وإلى
هذا القول مال في المسالك، وهو من حيث الاعتبار قوي، وإن كان من حيث
عدم وجود النص في المسألة لا يخلو من توقف، ولو كانت الهبة فاسدة صح البيع
اجماعا "، كما ادعاه في القواعد، وهو مما لا اشكال فيه مع علمه بالفساد.
أما مع جهله وكون العقد عنده على الظاهر الصحة وإن كان في نفس
344

الأمر فاسدا " فاشكال، ووجه الصحة في الجميع على ما قالوا هو كونه عقدا " من
مالك جائز التصرف، فيكون صحيحا ".
ووجه العدم على تقدير جهله بالفساد أنه لم يقصد نقله عن ملكه لبنائه من
حيث جهله بالفساد على أنه ملك لغيره فيكن إنما باع ملك غيره، والعقود تابعة
للقصود، فلا يكون العقد معلوم الصحة، وأجيب عنه بأن ايقاع العقد باللفظ
الصريح كاف في الدلالة على القصد إليه شرعا "، كما في نظائره من العقود،
إذ لا يشترط في صحته العلم بكونه فاسدا " إلى ذلك اللفظ، حيث يكون شرعيا " بل
يحمل اطلاق لفظه حيث يتجرد عن قرائن عدم القصد على كونه قاصدا ".
أقول: والظاهر عندي أنه لا ضرورة إلى هذه التكلفات المذكورة، والتعليلات
المسطورة، بل الأقرب أن يجعل الكلام هنا على تقدير الجهل بفساد الهبة، وأنها
بحسب الظاهر صحيحة كالكلام في سائر هذه المسألة وهو صحة الهبة، ولا فرق بينهما
إلا بأن الهبة في الأولى صحيحة ظاهرا " وواقفا "، وفي الثانية صحيحة ظاهرا " لا واقعا "،
وحينئذ فإذا كان الكلام هنا كالكلام ثمة، وقد عرفت ثمة أن الأقرب هو الحكم
بصحة البيع، وكونه بيعا " صحيحا "، فأولى بالصحة هنا، حيث أنه لا اشكال في صحة
البيع مع العلم بالفساد ومع الجهل بالفساد، حتى حكمنا بصحة البيع بناء على
صحة الهبة ظاهرا "، وإن كانت فاسدة واقعا " تتأكد الصحة بظهور الفساد، لما
عرفت من أنه لا اشكال في الصحة مع العلم به فالبيع صحيح على التقديرين.
تتميم:
حيث إنهم قد صرحوا بصحة البيع فيما لو كانت الهبة فاسدة في الواقع،
ونفس الأمر، وإن كانت صحيحة في الظاهر على ما تقدم من الاشكال في بعض الصور،
لما ذكروه من التعليلات التي أشرنا إلى بعضها، صرحوا بأن من قبيل ذلك ما لو
باع مال مورثه، وهو يعتقد بقائه بمعنى بقائه بمعنى أنه يحكم بصحة البيع على تقدير ظهور
345

موت المورث حالة البيع، فإن البايع باع ما هو ملكه لحصول الشرط المعتبر في
اللزوم، وصدور البيع من مالك أمره، ووجه البطلان في الموضعين اتحاد المسألتين،
في أنه باع مال غيره بحسب الظاهر، فيصير باطلا، والقائل بالصحة هنا نظر إلى
وقوع البيع على ملكه واقعا "، حيث إنه وقت البيع قد انتقل إليه بالإرث، إن
كان بحسب الظاهر أنه مال غيره، لعدم علمه بالوفاة والانتقال إليه،
واعترض ذلك في المسالك بناء على ما اعترض به في تلك المسألة مما قدمنا
الإشارة إليه، فقال هنا أيضا ": ويشكل بما مر من عدم قصده إلى البيع اللازم، بل
إنما قصد بيع غيره، وأقدم على عقد الفضولي، فينبغي أن يعتبر رضاه به مع ظهور
الحال خصوصا " مع ادعاء عدم القصد إلى البيع على تقدير كونه ملكه، ولعل هذا
أقوى لدلالة القرائن عليه، فلا أقل من جعله احتمالا " مساويا " للقصد إلى البيع
مطلقا، فلا يبقى وثوق بالقصد المعبر في لزوم البيع، إلا أن يقال: إن المعتبر
هو القصد إلى بيع لازم وتوقفه على إجازة المالك أمر آخر، وإلى مثل هذا نظر
المصنف وجزم بصحة البيع، ومثله ما لو باع مال غيره فظهر شراء وكيله له، انتهى
أقول: لا يخفى أن من باع مال غيره بغير إذنه ومنه بيع هذا الوارث مال
مورثه بناء على حياته فإنه لا يخلو من أن يكون غاصبا " أو فضوليا، وعلى تقدير
القول بصحة بيع الفضولي، فإنه عندهم موقوف في لزومه على إجازة المالك، وإن
عدمها يبطل، والإجازة هنا غير ممكنة لظهور موته وقت البيع كما هو المفروض،
فيؤول الأمر إلى البطلان على كل من التقديرين، هذا مع تسليم صحة البيع
الفضولي وإلا فقد عرفت أن الحق فيه أنه باطل كما مضى تحقيقه في كتاب البيع
بما لا مزيد عليه (1) وحينئذ فيبنى الأمر في ذلك على أن التصرف الذي يكون
بحسب الواقع شرعيا " وإن لم يركن بحسب الظاهر كذلك، هل يترتب عليه ما يترتب
على الشرعي ظاهرا " وواقعا " أم لا؟ وبعبارة أخرى موافقة الواقع وإن لم يتعلق به

(1) ج 18 ص 376.
346

قصد ولا إرادة، بل ربما تعلق القصد والإرادة بغيره، هل يكون كافيا " في الصحة
أم لا؟ الظاهر من تتبع النصوص ذلك، سواء كان في العبادات أو المعاملات، ومنه
ما ذكره من مثال من باع مال غيره فظهر شراء كيله له، بمعنى أنه ظهر أن بيعه
قد صادف الصحة بحسب الواقع، وإن كان بحسب الظاهر غير صحيح، فإنه لا اشكال
في صحته، ولهذا الباب في العبادات التي لا ريب في أن الأمر فيها من المعاملات
أشكل وأصعب أمثلة كثيرة، وناقش بعض فضلاء متأخري المتأخرين في الاكتفاء
بموافقة الواقع اتفاقا " إذا لم يكن مقصودا "، وقد تقدم الكلام معه في كتاب الصلاة
في مسألة من صلى في غير الوقت جاهلا (1) ولو تم ما توهمه من أن الاتفاق الخارج
لا مدخل له في الأحكام الشرعية على الاطلاق كما زعمه، لما أجاز الصوم آخر يوم
من شعبان عن شهر رمضان متى ظهر كونه منه بعد ذلك، ويسقط القضاء عمق أفطر
يوما " من شهر رمضان لعدم الرؤية في البلاد المتقاربة أو مطلقا " على الخلاف في ذلك،
ويوجب الحد على من زنى بامرأة ثم ظهر كونها زوجته، ويصح شراء من اشترى
شيئا " من يد أحد المسلمين ثم ظهر كونه غصبا "، ويوجب القضاء والكفارة على
من أفطر يوما " من شهر رمضان في الظاهر ثم ظهر كونه من شوال، ويوجب القود
أو الدية على من قتل شخصا " عدوانا بحسب الظاهر، ثم ظهر كونه ممن له قتله
قودا "، ويوجب العوض علي من غصب مالا " وتصرف فيه ثم ظهر كونه له، إلى غير
ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع، واللازم أن يكون كلها باطلة اتفافا "،
وليس ذلك إلا من حيث الاكتفاء بمطابقة الواقع وإن لم يكن مقصودا "، وما نحن
فيه من قبيل ذلك، وبذلك يظهر لك أن ما أطال به الكلام شيخنا المتقدم ذكره
في المسالك بالنسبة إلى القصد في البيع وعدمه، كله تطويل بغير طائل، والحق
في المقام هو ما حققناه.
ثم ما ادعاه من الاجماع على صحة البيع لو كانت الهبة فاسدة كما

(1) ج 6 ص 287.
347

قدمنا نقله عنه قد اعترضه في المسالك، فقال: واعلم أن العلامة في القواعد ادعى
الاجماع على صحة البيع بتقدير ظهور فساد الهبة، وعطف عليه حكم ما لو باع
مال مورثه، والاجماع ممنوع، مع أنه في كتاب البيع من الكتاب المذكور نقل
الخلاف فيمن باع مال مورثه فبان موته، وإن استوجه الصحة، انتهى.
أقول: من الجائز الممكن حصول الاجماع في مسألة بيع ما ظهر فساد هبته
مع الخلاف في المسألة المعطوفة عليها، بأن يكون عطفه عليها بناء على ما يختاره
فيها، لا بمعنى أنها مجمع عليها مثل الأولى، والمسألة الأولى لم يظهر فيها منازع
سواه، (قدس سره) فيما أعلم، وهو لا ينافي دعوى الاجماع قبله، فإنه مع مناقشته بما
قدمنا ذكره عنه لم يذكر مخالفا " سواه، ولم يشر إلى خلاف في المسألة بالكلية
كما هي عادته غالبا ".
إذا عرفت ذلك فأعلم أنهم قد ألحقوا بالمسألة المتقدمة فرعا " آخر أيضا "،
وهو أنه لو أوصى برقبة معتقة وظهر فساد العتق، فإن الوصية تكون صحيحة،
لمصادفتها للملك بحسب الواقع من حيث فساد العتق، وإن كانت باطلة بالنظر إلى
الظاهر من حيث العتق الموجب للخروج عن الملك، فالوصية لم تصادف الملك
بحسب الظاهر، فتبطل، إلا أنه لما كان الدار إنما هو على مصادفة الواقع، والحال
أنه لا عتق في الواقع كانت صحيحة.
قال في المسالك بعد ذكر نحو ما ذكرناه من الحكم بالصحة وبيان الوجه
في ذلك: ويشكل بما مر، ويزيد هنا أنه على تقدير كونه معتقا " ظاهرا " ولم يتبين
له حال الوصية فساد العتق أنه لا يكون قاصدا " إلى الوصية الشرعية، بل بمنزلة
الهازل والعابث بالنظر إلى ظاهر حاله، فلا ينفعه ظهور ملكه بعد ذلك في نفس
الأمر، بخلاف من باع غيره فإنه قاصد إلى بيع صحيح شرعي، غايته أنه جائز من
قبل المالك، لكنه لازم من قبل المشتري فهو عقد شرعي مقصود إليه، وإن لم
يقصد إلى لزومه مطلقا، بخلاف الوصية بالعتق ظاهرا " فإنها بحسب الظاهر باطلة
348

ولا يتوجه قصده إلى وصية شرعية أصلا، لعدم علمه بها، فالقول هنا بتوقفها على
تجديد لفظ يدل على إمضائها متعين، وهو في الحقيقة في قوة وصية جديدة، إذ لا
تنحصر في لفظ مخصوص، بل كل لفظ يدل عليها كما سيأتي كاف وهذا منه، انتهى.
أقول: لا ريب أنه بالنظر إلى الظاهر فالأمر كما ذكره من أنه بحسب
الظاهر حيث لم يتبين له فساد العتق، ثم لو وصى والحال هذه، فإنه في معنى الهازل
أو العابث، ولكن بالنظر إلى الواقع حيث إن العتق فاسد في نفس الأمر وأنه مالك
فإنه لا مانع من الصحة، لما قدمنا ذكره من أن مطابقة الواقع وإن لم يتعلق به قصد
بل ربما تعلق القصد بغيره كما عرفت من الأمثلة المتقدمة كاف في الصحة.
وما ذكره في الفرق بين بيع المذكور في الصورة الأولى والوصية من أنه
في البيع قاصد إلى بيع صحيح إلى آخره، ففيه أن جميع ما وصفه به ونوه به، كله
مراعى بإجازة المالك، وأنه مع عدمها يكون العقد باطلا " بلا خلاف، والعقد المزبور
قد وقع بعد موت المالك واقعا " كما تقدم، فالإجازة فيه متعذرة، فتحتم أن يكون
باطلا "، نعم لما اتفق واقعا " كونه ملكا " للبايع صح العقد بالنظر إلى ذلك.
وبالجملة فإن هذا العقد بالنظر إلى ظاهر الأمر وتصرف الوارث في مال
مورثة بالبيع بناء على حياته قد ظهر كونه باطلا " بعدم لحوق الإجازة له، لكن
لما اتفق انتقال ذلك إلى الوارث واقعا " وصار ملكا " له وإن لم يعلم به فقد صادف
العقد ما يوجب صحته، وإن كان غير مقصود بل المقصود غيره كما عرفت في الصور
المتقدمة، وبعين هذا يقال في الوصية: فإنه لما أوصى بشئ لا يملكه ظاهرا "،
فإنها بحسب الظاهر باطلة لكن لما صادف في الواقع ما يوجب الصحة، هو ملكه
للعبد لبطلان العتق حكم بصحتها بالتقريب المتقدم في أمثلها.
وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور، ومناقشاته (قدس سره) في جميع هذه
المواضع لا تخلو من القصور، والله العالم.
349

المسألة الثانية: قد صرحوا بأنه إذا تراخى القبض عن العقد ثم أقبض حكم
بانتقال الملك من حين القبض لا من حين العقد، وليس كذلك الوصية، فإنه يحكم
بانتقالها بالموت مع القبول، وإن تأخر القبض.
أقول: قد تقدم ذكر الخلاف سابقا " في أن القبض هل هو شرط في اللزوم
أو الصحة، وأن المشهور بين المتأخرين هو الثاني، والظاهر أن هذا الكلام مبني
على هذا القول، فإن مقتضاه أن الملك لا يحصل إلا بعد القبض، لكون العقد قبل
القبض غير صحيح، فلا يوجب الملك وأما على مذهب من قال: إنه شرط في اللزوم
فإن العقد قبل القبض عنده صحيح ناقل للملك، إلا أنه لا يلزم إلا بالقبض، إلا أن
هذا القول كما تقدم ذكره، لا يخلو من الاشكال لما عرفت ثمة.
وبالجملة على تقدير القول بشرطيته في الصحة، إنما يحصل الانتقال إلى
ملك المتهب بالقبض، فيكون القبض ناقلا " للملك لا كاشفا " عن انتقاله بالعقد، كما
هو مقتضى القول باللزوم، وتظهر الفائدة في مواضع، منها النماء المتخلل بين
العقد والقبض، وأما الوصية فإنها تنتقل إلى الموصى إليه بالقبول، وموت الموصي
ولا يشترط فيها القبض كما سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى، وهذا هو
الموافق لقواعد العقود، إلا أن الهبة خرجت عندهم بدليل خاص كما تقدم.
هذا والمفهوم من كلام بعضهم هو جواز تراخي القبض عن العقد، والوجه
فيه أصالة عدم الفورية لعدم الدليل عليها، وفي القواعد استشكل في
صورة تراخيه.
قال في المسالك: والاشكال مبني على القول بأن القبض شرط لصحة الهبة،
لا للزومها، فيكون جزء من السبب المصحح لها كالقبول، واعتبرت فوريته كما
اعتبرت فورية القبول، وفيه أن الجزئية لا تقضي الفورية أيضا "، إذ لا امتناع في
تراخي بعض أجزاء السبب عن بعض، واعتبار الفورية في القبول جاء من دليل من
خارج عند من اعتبرها، نظرا " منه إلى أن جواب الإيجاب يعتبر فيه ما يعد معه
350

جوابا "، ومع ذلك ففيه ما فيه كما لا يخفى، انتهى.
المسألة الثالثة: لو أقر بالهبة وأنكر الاقباض كان القول قوله، لأنه منكر
والأصل عدم الاقباض، فإن ادعى عليه من أقر له بالهبة الاقباض، لزمته اليمين
في انكاره الاقباض، وإنما كانت اليمين لازمة له في هذه الصورة دون الأولى، بل
يقبل قوله هناك بغير يمين، لأن اليمين إنما تكون لانكار ما يدعيه المدعي، فإذا
لم يدع عليه الاقباض لا وجه للزوم اليمين عليه، وإن صدق أنه منكر قبل الدعوى
المذكورة، إذ ليس كل منكر يلزمه اليمين على الاطلاق، بل لا بد من انضمام
دعوى ما أنكره المنكر، وهو مما لا خلاف فيه، ولا شبهة يعتريه، ولو أقر بالهبة
والتمليك فقال: وهبته وملكته ولكن أنكر القبض فاشكال، ينشأ من بناء الكلام
هنا على ما تقدم من الخلاف في أن القبض هل شرط لصحة الهبة، فلا يحصل الملك
بدونه، أم شرط للزومها فيحصل بدونه، وإن كان ملكا متزلزلا " يجوز رفعه
بالفسخ، وبيان ذلك أن الهبة تحصل بمجرد الإيجاب والقبول. والقبض أمر خارج
عن ماهيتها، وإنما اعتبر في صحتها أو لزومها، فاقراره بالهبة وقوله وهبته لا يدل
على أزيد من وقوع وقوع الهبة بالايجاب والقبول، وأما القبض فلا دلالة له عليه
وقوله ثانيا " وملكته فإن قلنا بأن القبض شرط في الصحة فمقتضى هذا الاقرار
أنه أقبضه، لأن الملك على هذا القول لا يحصل إلا بالاقباض، فيحكم عليه بالاقباض
حيث يقول وملكته، فلا معنى لانكاره الاقباض حينئذ، هذا إن كان المقر ممن
يرى هذا القول اجتهادا " أو تقليدا "، أو إن كان ممن يرى أن القبض شرط في
اللزوم، وأن الملك يحصل بغير القبض، فيجوز أن يكون اقراره اخبارا " عن رأيه
ومعتقده، فلا يدل على الاقباض، وذيل الكلام في المقام واسع، من أراد الوقوف
عليه فليرجع إلى مطولات الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلا أنه لما كانت المسألة
خالية عن النصوص، فتطويل الكلام منها بنحو هذه التعليلات تطويل بغير طائل
والله العالم.
351

المسألة الرابعة قالوا: إذا رجع الواهب في الهبة حيث يجوز له الرجوع
فإن وجدها بحالها لم تتغير، فلا اشكال، وإن وجدها متغيرة معيبة لم يرجع بالأرش
لأنه حدث في عين مملوكة للمتهب وقد سلطه مالكها على اتلاقها مجانا " فلا يكون
مضمونة عليه، سواء كان العيب بفعله أم لا، وإن وجدها زائدة زيادة متصلة كالسمن
والتعلم فهي للواهب، لأنها تابعة للعين، بل داخلة في مسماها أو جزء لها لغة
وعرفا "، فالرجوع في العين يستتبعها،
وإن وجدها زائدة زيادة منفصلة حسا " وشرعا " كالولد الناتج واللبن المحلوب
والثمرة المقطوعة والكسب فهي للمتهب، لأنها نماء حدث في ملكه، فيختص به
وإن كانت الزيادة منفصلة حسا " كالحمل المتجدد بعد القبض، واللبن كذلك قبل
أن يحلب والثمرة قبل قطافها، فكذلك على المشهور، لعين ما تقدم.
قال ابن حمزة: له الرجوع في الأم والحمل المتجدد، بناء على أنه كالجزء
من الأم، ومثله الصوف والشعر المنجز، ولو لم يبلغ أن جزه، فإن الأشهر
تبعيته للعين، هذا كله إذا كانت الزيادة قد حدثت بعد ملك المتهب للعين، وذلك
بعد العقد والقبض، وأما لو حدثت قبله فهي كالموجودة قبل الهبة، فيرجع فيها كما
يرجع في العين.
أقول، قد تقدم الكلام في هذه المسألة.
352

كتاب السبق والرماية
السبق بسكون الباء مصدر سبق، وفي الصحاح مصدر سابق، قال في المسالك:
وكلاهما صحيح، إلا أن الثاني أوفق بالمطلوب هنا، لأن الواقع في معاملته
بين كون العمل بين اثنين فصاعدا " فباب المفاعلة به أولى، والسبق بالتحريك
ما يبذل للسابق عوض سبقه، ويقال له الخطر بالخاء المعجمة والطاء المهملة
المفتوحتين.
قال في كتاب المصباح المنير: " والسبق بفتحتين الخطر "، وهو ما يتراهن عليه
المتسابقان، وسبقته بالتشديد، أخذت منه السبق، وسبقته أعطيته إياه، قال الأزهري:
وهذا من الأضداد، انتهى.
قالوا: وفائدته بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال،
لكونه من أهم الفوائد الدينية في الجهاد للأعداء الذي هو معظم أركان الاسلام،
وبهذه الفائدة خرج عن اللهو واللعب المنهي عنهما، وعن المعاملة عليهما،
وأن أذكر أولا " ما وقفت عليه من الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام في هذا المقام ثم أشفعه
بما ذكره علمائنا الأعلام (رفع الله تعالى درجاتهم في دار المقام).
353

الأول ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أجرى الخيل التي أضمرت من الحفياء إلى مسجد بني
زريق وسبقها من ثلاث نخلات فأعطى السابق عذقا " وأعطى المصلي عذقا " وأعطى
الثالث عذفا " " قوله عليه السلام " التي أضمرت " اضمار الخيل بعلفها القوت بعد السمن يقال:
ضمر البعير ضمورا " من باب قعد: دق وقل لحمه، قيل والضمار بالكسر:
الموضع الذي تضمر فيه الخيل، ويكون وقيا للأيام التي تضمر فيها، وتضمر الخيل
أن يظاهر عليها بالعلف حتى يسمن، ثم لا تعلف إلا القوت لتخف، وذلك في مدة
أربعين يوما " وهذه المدة تسمى الضمار، والمواضع الذي تضمر فيه الخيل أيضا " يسمى
مضمار وقيل: هي أن تشد عليها سروجها وتجلل بالاجلة حتى تعرق تحتها،
فيذهب زهلها؟ ويشتد لحمها، والحفيا بالحاء المهملة ثم الفاء يمد ويقصر، موضع
بالمدينة على أميال، وبعضهم بقدم الياء على الفاء كذا في النهاية، وبنوا زريق
بتقديم الزاء حي من الأنصار، قوله " وسبقها من ثلاث نخلات " هو ما تقدم بفتحتين،
وهو الخطر الذي يقع الراهن عليه، والعذق بفتح العين المهملة وسكون الذال
المعجمة النخلة بحملها.
الثاني ما رواه في الكافي أيضا " عن غياث بن إبراهيم (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام
عن أبيه عن علي بن الحسين عليه السلام أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجرى
الخيل وجعل سبقها أواقي من فضة " والأواقي بتشديد الياء وتخفيفها جمع أوقية،
وهي أربعون درهما "، ويقال: أيضا " لسبعة مثاقيل.
الثالث ما رواه في الفقيه مرسلا (3) " قال: قد سابق رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أسامة بن زيد وأجرى الخيل " فروي أن ناقة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) سبقت، فقال عليه السلام: إنها بغت وقالت: فوقي رسول الله (صلى الله عليه

(1) الكافي ج 5 ص 48 ح 5، الوسائل ج 13 ص 350 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 49 ح 7، الوسائل ج 13 ص 350 ح 2.
(3) الفقيه ج 4 ص 42 ح 137، الوسائل ج 13 ص 347 ح 6.
354

وآله وسلم) وحق على الله أن لا يبغي شئ إلا أذله الله، ولو أن جبلا " بغى
على جبل لهد الله الباغي منهما ".
الرابع ما رواه في الكافي عن أبي بصير (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس
شئ تحضره الملائكة إلا الرهان وملاعبة الرجل بأهله ".
قيل المراد بالشئ الأمر المباح الذي فيه تفريح ولذة، والرهان المسابقة
على الخيل، ونحوها كما يدل عليه الخبر الآتي.
الخامس ما رواه في الفقيه مرسلا (2) قال: قال الصادق عليه السلام إن الملائكة
لتنفر عن الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل فإنه يحضره
الملائكة وقد سابق رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسامة بن زيد وأجرى
الخيل.
السادس ما رواه في التهذيب عن العلا بن سيابه (3) " قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة من لعب بالحمام؟ قال: لا بأس إذا لم يعرف بفسق، ثم
قال: وبهذا الاسناد قال: سمعته يقول: لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام،
ولا بأس بشهادة صاحب السباق المراهن عليه، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) قد أجرى الخيل وسابق، وكان يقول: إن الملائكة تحضر الرهان في الخف
والحافر والريش وما عدا ذلك قمار حرام ".
السابع ما رواه في الفقيه عن العلاء بن سيابه (4) " قال: سألت أبي عبد الله عليه السلام
عن شهادة من يلعب بالحمام؟ قال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق، قلت: فإن من
قبلنا يقولون قال عمر: هو شيطان، فقال سبحان الله أما علمت أن رسول الله

(1) الكافي ج 5 ص 49 ح 10.
(2) الفقيه ج 4 ص 42 ح 136.
وهما في الوسائل ج 13 ص 347 ح 6 و 1.
(3) التهذيب ج 6 ص 284 ح 785.
(4) الفقيه ج 3 ص 30 ح 23.
وهما في الوسائل ج 18 ص 305 ح 2 و 3.
355

(صلى الله عليه وآله) قال: إن الملائكة لتنفر عند الرهان، وتلعن صاحبه
ما خلا الحافر والخف، الريش والنصل فإنها تحضره، وقد سابق رسول الله أسامة
بن زيد وأجرى الخيل ".
الثامن ما رواه في التهذيب عن عبد الله بن عبد الرحمن (1) عن أبي الحسن عليه السلام
" قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اركبوا وارموا وإن ترموا أحب
إلي من أن تركبوا ثم قال: كل لهو المؤمن باطل، إلا ثلاثة: في تأديبه الفرس،
ورميه عن قوسه، وملاعبته امرأته، فإنهن حق، إلا أن الله تعالى ليدخل بالسهم
الواحد الثلاثة الجنة: عامل الخشبة، والمقوي به في سبيل الله، والرامي به في سبيل الله ".
التاسع ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (2) " عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم السلام
قال: الرمي سهم من سهام الاسلام ".
العاشر ما رواه فيه أيضا " عن حفص بن البختري (3) في الحسن " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كان يحضر الرمي والرهانة ".
الحادي عشر ما رواه فيه أيضا " بهذا الاسناد (4) " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه
قال: لا سبق إلا في الخف أو حافر أو نصل يعني النضال " والمراد بالنضال بالضاد
المعجمة المرماة، والسبق يحتمل أن يكون بالتسكين مصدرا " فيفيد الخبر المنع من
الرهان في غير الثلاثة المذكورة، ويحتمل أن يكون بالتحريك بمعنى الخطر فيفيد
الخبر المنع من الأخذ والاعطاء في غيرها، دون أصل المسابقة.
الثاني عشر ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (5) عن أبي عبد الله عليه السلام
" قال: أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناديا " يا سوء صباحاه،

(1) الكافي ج 5 ص 50 ح 13، التهذيب ج 6 ص 175 ح 348.
(2) الكافي ج 5 ص 49 ح 11 و ص 50 ح 15.
(3) الكافي ج 5 ص 49 ح 11 و ص 50 ح 15.
(4) الكافي ج 5 ص 50 ح 14 و 16. وهذه الروايات في الوسائل ج 14 ص 83 ح 2 و ج 13 ص 348 الباب 2 ح 2 و 4 و ص 348 ح 1 و ص 346 ح 2.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 4.
356

فسمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخيل فركب فرسه في طلب العدو
وكان أول أصحابه لحقه أبو قتادة على فرس له، وكان تحت رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) سرج دفتاه ليف، ليس فيه أشر ولا بطر، فطلب العدو فلم يلق
أحدا " وتتابعت الخيل، فقال: أبو قتادة يا رسول الله إن العدو قد انصرف، فإن رأيت
أن نستبق؟ فقال: نعم فاستبقوا فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) سابقا "،
ثم أقبل عليهم فقال: أنا ابن العواتك من قريش، إنه لهو الجواد البحر، يعني
فرسه " والمراد بالسرح هو المال السائم، قوله (صلى الله عليه وآله) " أنا ابن
العواتك " هو جمع عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب، وكان هذا الاسم لثلاث نسوة
من أمهاته (صلى الله عليه وآله) إحداهن عاتكة بنت هلال أم عبد مناف بن
قصي، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال أم هاشم بن عبد مناف، والثالثة عاتكة
بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم وهب أبي آمنة أم النبي (صلى الله عليه وآله)
فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة، قيل: وبنوا سليم كانوا
يفتخرون بهذه الولادة، وقيل العواتك في جدات النبي (صلى الله عليه وآله)
تسع ثلاث من بني سليم، وهن المذكورات، والبواقي من غيرهم.
الثالث عشر ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن الحسين بن علوان (1)
" عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سابق بين الخيل
وأعطى السوابق من عنده ".
الرابع عشر ما رواه في الكتاب المذكور عن أبي البختري (2) " عن جعفر
بن محمد عن أبيه عن علي الحسين عليهم السلام أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أجرى الخيل وجعل لها سبع أواقي من فضة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله)
أجرى الإبل مقبلة من تبوك فسبقت الغضباء و عليها أسامة، فجعل الناس يقولون:

(1) قرب الإسناد ص 42 و 63، الوسائل ج 13 ص 350 ح 3 و ص 351 ح 4.
(2) قرب الإسناد ص 42 و 63، الوسائل ج 13 ص 350 ح 3 و ص 351 ح 4.
357

سبق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: سبق أسامة " هذا ما حضرني من الأخبار.
والكلام فيما ذكره الأصحاب (رحمة الله عليهم) فهو يقع في موارد:
الأول: لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) وغيرهم في ثبوت المسابقة
والمرامات وشرعية الجعل عليها.
قال في التذكرة: جواز هذا العقد بالنص والاجماع، ولا خلاف بين الأمة
في جوازه، وإن اختلفوا في تفصيله، وفي المسالك: لا خلاف بين جميع المسلمين في
شرعية هذا العقد، وفائدته من أهم الفوائد الدينية، لما يحصل بها من غلبة
العدو في جهاد أعداء الله تعالى الذي هو أعظم أركان الاسلام.
وإنما الخلاف عندهم وعند غيرهم أيضا " في لزوم هذا العقد وجوازه، فذهب جماعة
منهم ابن إدريس بل الظاهر أنه أولهم والمحقق إلى الأول، وذهب الشيخ والعلامة في
المختلف وغيرهما إلى الثاني، وأنه من العقود الجائزة كالجعالة، لا اللازمة كالإجارة
احتج الأولون بقوله (1) " أوفوا بالعقود " و " المؤمنون عند شروطهم " (2).
أجاب في المختلف عن الآية حيث اقتصر على الاستدلال لهم بها، بأنا
نقول بالموجب فإن الوفاء بالعقد هو العمل بمقتضاه، فإن كان لازما " كان الوفاء به
العمل بمقتضاه على سبيل اللزوم، وإن كان جائزا " كان الوفاء به العمل بمقتضاه على
سبيل الجواز، قال: أيضا " ليس المراد مطلق العقود، وإلا لوجب الوفاء بالوديعة
والعارية وغيرهما من العقود الجائزة، وهو باطل بالاجماع، فلم يبق إلا العقود
اللازمة، والبحث وقع فيه، انتهى.
وأما حديث المشروط فيمكن الجواب عنه بما تقدم في الجواب عن الآية،
من أنه أعم من اللزوم وعدمه، بمعنى أنه مأمور بالوفاء بالشرط، أعم من أن

(1) سورة المائدة الآية 1.
(2) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
358

يكون أمرا " ايجابيا " أو استحبابيا.
نعم يكون لازما " إذا وقع في عقد لازم، وأورد على ما أجاب به في المختلف
بأن الأمر بالعقود عام في جانب المأمور والمأمور به، فيشمل بعمومه سائر العقود
ثم تخصيصه ببعضها، واخراج العقود الجائزة، يبقى العموم حجة في الباقي، كما
هو محقق في الأصول.
وأما قولة إن الوفاء بالعقد العمل بمقتضاه من لزوم وجواز فهو خلاف
الظاهر منه، فإن مقتضى الوفاء بالشئ التزامه والعمل بمقتضاه مطلقا، انتهى
وهو جيد.
وهكذا يقال: بالنسبة إلى حديث الشرط فإن الأمر بالوفاء بالشرط يقتضي
وجوب الوفاء، لأن الأصل في الأمر الوجوب، واشتراكه من الوجوب والاستحباب
لا يثمر نفعا "، فإن العمل على ما يقتضيه الأصل حتى يقوم دليل على خلافه قال في
المسالك ومنشأ هذا الخلاف أنها عقد يتضمن عوضا " على عمل، وهو مشترك بين
الإجارة والجعالة ثم إنها مشتملة على اشتراط العمل في العوض، وكونه معلوما "
وهو من خواص الإجارة وعلى جواز ابهام العامل في السبق، وعلى ما لا يعلم
حصوله من العامل، وعلى جواز بذل الأجنبي، وهو من خواص الجعالة فوقع
الاختلاف بسبب ذلك، فعلى القول بأنها جعالة يلحقها أحكامها من الاكتفاء
بالايجاب تكون جائزة، وعلى القول بالإجارة يفتقر معه إلى القبول وتكون لازمة،
ويمكن أن يجعل عقدا " برأسه، نظرا " إلى تخلف بعض خواصها عن كل من الأمرين
على حديه، كما عرفت، ويقال حينئذ بلزومها لعموم الآية، وهذا أجود،
اللهم إلا أن يناقش في أن الجعالة ليست عقدا " فلا يتناول الآية لها ولنظائرها،
ويرجع إلى أصالة عدم اللزوم حيث يقع الشك في كون المسابقة عقدا " أم لا؟ انتهى.
أقول: لا يخفى على من راجع الأخبار التي قدمناها وهي أخبار المسألة
التي وردت فيها وليس غيرها في الباب، أنه لا دلالة في شئ منها على وقوع عقد
359

ولا ايجاب ولا قبول بالكلية، وغاية ما دلت جملة منها على أن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أجرى الخيل وسابق وأعطى السابق كذا وكذا، والمفهوم منه
هو حل ما يؤخذ من المال على هذه المعاملة وأما كونه على جهة اللزوم والوجوب
فلا، إلا إن يقال: بوجوب الوفاء بالشرط، وأن اعطاء المال لا يلزم أن يكون
من المسبوق، فإن الظاهر أن اعطاءه (صلى الله عليه وآله) ذلك ليس من
حيث كونه مسبوقا، وإنما هو متبرع منه، لمن حصل له مزية السبق.
وظاهر الأخبار المذكورة بل صريحها أن هذه معاملة برأسها، وهي
من قبيل الرهان، إلا أنه غير محظور كسائر أفراد الرهان، كما ينادي به الخبر
الرابع والخامس والسادس والسابع والعاشر (1) حيث سمي هذه المعاملة فيها رهانا "
وأنه رهان حق جائز شرعا، يحل ما أخذ عليه قال في القاموس: والمراهنة
والرهان: المخاطرة والمسابقة على الخيل، انتهى وهو ظاهر في المراد.
وحينئذ فقد اتفقت الأخبار وكلام أهل اللغة على هذه التسمية، وتجعل
معاملة برأسها كما في أفراد الرهان إلا أنها حق، وما يؤخذ عليها حلال.
وما عداها باطل، وما يؤخذ عليه حرام.
وأما الكلام في لزوم ما يجعل خطرا " فالظاهر ذلك، لما عرفت من وجوب
الوفاء بالوعد والوفاء بالشروط، هذا ما يفهم من الأخبار المذكورة، وما أطالوا به
في هذا المقام من الاختلاف في كونها إجارة فيتفرع عليها ما يتفرع على الإجارة
أو جعالة فكذلك، كله تطويل بغير طائل، وتحصيل لغير حاصل، كما لا يخفى
على من لاحظ الأخبار المذكورة، وإنما كلامهم هنا جرى على مجرى بحث
العامة في المسألة، وهذه التفريعات والاختلافات كلها تبعا " لهم، كما عرفته في غير
مقام مما سبق، ومن رجع إلى الأخبار الواردة في المسألة عرف صحة ما قلناه،
ووضوح ما فصلناه، والله العالم.

(1) ص 355 و 356.
360

المورد الثاني: قد صرح الأصحاب (رضي الله عنهم) بأنه يقتصر في جواز
المسابقة على النصل والخف والحافر وقوفا " على مورد الشرع، وأنه يدخل تحت النصل
السهم والنشاب والحراب والسيف، وأن الخف يتناول الإبل والفيلة اعتبارا " باللفظ
وأنه لا تجوز المسابقة بالطيور ولا على القدم، ولا بالسفن ولا المصارعة.
أقول: وتحقيق الكلام فيما ذكروه يقع في مقامات: أحدها أن ظاهر
قولهم أنه يقتصر على هذه الثلاثة وقوفا " على مورد الشرع هو أن هذه المعاملة على
خلاف الأصل، بمعنى القواعد الشرعية، لاشتمالها على اللهو واللعب والقمار في
بعض الوجوه، وهذه الأشياء مما نهت منها الشريعة المحمدية، فالأصل أن لا يصح
منها إلا ما ورد الشرع بالإذن فيه، وهو كلام حق، إلا أنك قد عرفت أن ما
قدمناه من الأخبار قد اشتمل على زيادة الريش والمراد به الحمام، فيجوز المسابقة
بها أيضا "، وعليه يدل الخبر الخامس والسادس والسابع (1)، فهذه الأخبار الثلاثة
كلها دالة على جواز المسابقة بالحمام، والثلاثة التي خصوا الجواز بها لم ترد
إلا في الخبر الحادي عشر (2) خاصة، والعجب هنا من قول شيخنا الشهيد الثاني
في المسالك بعد قول المصنف أنه لا يجوز المسابقة بالطيور إلى آخر ما قدمنا ذكره،
وجه المنع من هذه الأمور الحصر بالمستفاد من الخبر السابق المقتضي لنفي مشروعية
ما عدا الثلاثة، والنهي عنه الشامل لهذه الأمور وغيرها انتهى.
وعلى هذا النهج كلام غيره وظاهرهم الاتفاق على الحصر في الثلاثة المذكورة،
وأن غيرها غير منصوص في الأخبار، وحملهم على عدم الوقوف على شئ من هذه الأخبار من الصدر السابق منهم كالشيخ الذي هو أول من صرح بهذا الحكم إلى
أن وصلت النوبة إلى هؤلاء المتأخرين لا يخلو من بعد، وأبعد منه أنهم يقفون
عليها ولا يقولون بها، ولا يتعرضون للجواب عنها بوجه من الوجوه.

(1) ص 355.
(2) ص 356.
361

وأما ما استدل به من الحصر في الخبر المذكور فيمكن الجمع بينه وبين هذه الأخبار الدالة على جواز المسابقة بها على الحمل على الفرد الضروري منه الذي
يعتد به من حيث يحتاج إليه الجهاد، ونحوه، أو يراد باعتبار الغالب، فإن الغالب
من أفراد المسابقة هو هذه الثلاثة، للعلة المذكورة، وإن جاز السبق في
غيرها والأخبار المذكورة لا يمكن حملها على التقية، ليتم ما ذكروه، فإن
ظاهر قوله في الحديث السابع قال عمر: هو الشيطان بعد قوله عليه السلام لا بأس باللعب
بالحمام الظاهر في إرادة المسابقة بها، يشعر بأن العامة تنكر جواز اللعب والمسابقة
بها ولهذا استدل عليه السلام على رد كلامهم بالخبر الذي نقله عن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) الصريح في جواز المسابقة بها، ولم أقف لأحد من أصحابنا حتى
من متأخري متأخريهم على الجواب عن هذه الأخبار التي ذكرناها، ولا على
قول أحد منهم بها.
وبالجملة فالظاهر هو القول بما دلت عليه الأخبار المذكورة ويؤيده ما
اشتملت عليه من عدم منافاة ذلك للعدالة وعدم كونه مستوجبا " للفسق، فإن المراد
باللعب بالحمام فيها إما المسابقة، كما هو ظاهر الخبر السابع، أو الأعم، وإذا ثبت
أن ذلك لا ينافي العدالة وجب الحكم بجوازه، وأنه لا يكون من قبيل اللعب
واللهو المنهي عنه المخل بالعدالة، والموجب للفسق اتفاقا "، وهذا بحمد الله سبحانه
ظاهر لا سترة عليه، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، ومما يدل على
ما قنا ما رواه زيد النرسي (1) في كتابه " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول
إياكم والرهان، إلا رهان الخف والحافر والريش فإنه يحضره الملائكة ".
وثانيها أن ما ذكر من أنه يدخل تحت النصل الأربعة المعدودة، ففيه
أن ظاهر الصحاح هو اتحاد السهام والنشاب، حيث قال: النشاب السهام،
وحينئذ فالعطف هنا يصير من قبيل عطف المرادف.

(1) المستدرك ج 2 ص 516 الباب 3 ح 1.
362

وظاهر كلام الشيخ أن هذه التسمية بهذين الاسمين مع كون المسمى واحدا "
إنما هو باعتبار اللغات، فيقال: للنصل نشابة عند العجم، وسهم عند العرب،
وحينئذ فيكون العقد دائما " هو بهذا الاعتبار، وزاد الشيخ المرازيق قال وهي الرد
بنيات والرماح والسيوف.
قال في المسالك: إعلم أن حصر النصل فيما ذكر هو المعروف لغة وعرفا "،
فلا يدخل فيه مطلق المحدد كالدبوس وعصي المدافق، إذا جعل في رأسها حديدة
ونحو ذلك عملا " بالأصل السابق، قال في الصحاح: النصل نصل السهم والسيف
والسكين والرمح، ويحتمل الجواز بالمحدد المذكور، إما بادعاء دخولها في
النصل أو لإفادتها فائدة النصل في الحرب، وقد كان بعض مشايخنا المعتمدين
يجعل وضع الحديدة في عصي المدافق حيلة على جواز الفعل، نظرا " إلى دخوله
بذلك في النصل، انتهى.
وثالثها أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) فيما ذكر من دخول
الإبل والفيلة تحت الخف، والفرس والبغل والحمار تحت الحافر، وإنما نقل
الخلاف عن بعض العامة في الفيل؟ قال: لأنه لم يحصل به الكر والفر فلا معنى
للمسابقة عليها، ورد بعموم الخبر، وكذا نقل الخلاف عن بعضهم في جواز المسابقة
على البغل والحمار، قال: لأنهما لا تقاتل عليهما غالبا "، ولا يصلحان للكر والفر،
ورد أيضا " بما رد به سابقه.
أقول: لا يخفى أنه بالنظر إلى ما قدمنا نقله عنهم، من أن فائدة هذا العقد
وتعلم السبق والرماية هو الممارسة لذلك، لأجل جهاد أعداء الدين، فإن قول
هذين القائلين من العامة هنا لا يخلو من قرب، فإن الجهاد لا يقع على هذه
المذكورات لا سابقا " ولا لاحقا "، ويؤيده أن الاطلاق في الأخبار إنما يحمل على
الأفراد الشايعة المتكثرة الوقوع، دون الشاذة النادرة الوقوع، فضلا " عن غير
الواقعة بالكلية، ولهذا إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يركب في الحرب بغلة رسول الله
363

(صلى الله عليه وآله) فعوتب على ذلك، فقال: إني لا أفر عن من أقبل، ولا
أتبع من أدبر، والبغلة يكفني، وهو ظاهر فيما قلناه من أنها لا تصلح للجهاد عليها،
ويؤكده أن الأخبار المتقدمة وهي أخبار المسألة كملا لا يشمل على غير الخيل.
والنوق من ذوات الحافر والخف، وليس فيها تعرض ولا إشارة لمثل الفيل والبغال
والحمير بالكلية.
وبالجملة فإنه لولا الاتفاق على الحكم المذكور لكان القول بما ذكره
هؤلاء قويا، فإن الأخبار إذا ضم مطلقها إلى مقيدها علم منه حمل الحافر على
الخيل خاصة، والخف على البعير خاصة، وهكذا القول في البغل أيضا "، فإن ما
ذكروه من تعدية الحكم إلى ما يصدق عليه النصل من تلك المعاني، مع كون
الوارد في الأخبار المتقدمة إنما هو السهام والنشاب التي ترمى عن القوس بعيد غاية
البعد، ويؤيد ما قلناه تفسيره في الخبر الحادي عشر الذي هو مستندهم في الحصر في
الثلاثة النصل بالنضال وهي المراماة بالسهام كما تقدم ذكره، وحينئذ فلو قيل
بالتخصيص بذلك لكان في غاية الجودة.
ورابعها ما ذكر من أنه لا يجوز المسابقة بغير ما تقدم من الطيور
إلى آخره.
أقول: أما الكلام في الطيور موضع وفاق عندنا، وفيه تأييد لما قدمنا ذكره
من عدم المسابقة على الفيلة والبغال والحمير، لأنها ليست مما يقع الحرب عليها،
كما قدمنا ذكره.
وأما السبق على القدم فقد روى العامة عن عايشة أنه (صلى الله عليه وآله)
سابقها بالقدم مرتين، سبق في أحديهما وسبق في الأخرى، ورواه ابن الجنيد في
كتابه الأحمدي واستدل به على جوازها بغير عوض، حيث لم يذكر العوض،
ورووا عنه (1) (صلى الله عليه وآله) أنه صارع ثلاث مرات في كل مرة على

(1) المستدرك ج 2 ص 517 الباب 4 ح 2 بتفاوت.
364

شاة، فصرح خصمه في الثلاث وأخذ ثلاث شياة، ولم يثبت شئ من ذلك في أخبارنا
ولم يقل به إلا ابن الجنيد من أصحابنا قالوا والخبر السابق المتفق عليه يدفعه،
وأشاروا به إلى الخبر الحادي عشر (1) وهو خبر الحصر في الثلاثة، ثم إنهم
اختلفوا في جواز هذه الأمور لو خلت من العوض، فقيل بجوازها لأصالة
الجواز، وأنها قد يراد بها غرض صحيح، وقيل: بالعدم لعموم النفي السابق
الشامل للعوض وعدمه.
والذي وقفت عليه في هذا المقام من الأخبار ما رواه الصدوق في الأمالي
عن ابن المتوكل عن السعد آبادي عن البرقي عن أبيه عن فضالة عن زيد الشحام (2)
" عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله) ذات
ليلة بيت فاطمة عليها السلام ومعه الحسن والحسين عليهما السلام فقال له النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قوما فاصطرعا فقاما ليصطرعا وقد خرجت فاطمة عليها السلام في بعض
حاجاتها فدخلت فسمعت النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: أبه يا
حسن شد على الحسين، فأصرعه، فقالت يا أبه واعجباه أتشجع الكبير على
الصغير؟ فقال: يا بنية أما ترضين أن أقول أنا يا حسن شد على الحسين، فأصرعه
وهذا حبيبي جبرائيل عليه السلام يقول: يا حسين شد على الحسن فأصرعه ".
وما رواه علي بن جعفر (3) في كتاب المسائل عن أخيه موسى عليه السلام قال:
سألته عن المحرم هل يصلح أن يصارع؟ قال: لا يصلح مخافة أن يصيبه جرح أو يقع
بعض شعره.
وما رواه في كتاب بشارة المصطفى لشيعة المرتضى للشيخ الفقيه محمد بن أبي القاسم علي الطبري بسنده فيه عن أبي رافع (4) قال: كنت ألاعب الحسن

(1) ص 356
(2) المستدرك ج 2 ص 517 الباب 4 ح 1.
(3) الكافي ج 4 ص 367 ح 10، الوسائل ج 9 ص 180 الباب 94 ح 2.
(4) المستدرك ج 2 ص 517 الباب 4 ح 3.
365

بن علي (صلوات الله عليهما) وهو صبي بالمداحي (1) فإذا أصابت مدحاتي مدحاته
قلت: أحملني فيقول: ويحك أتركب ظهرا " حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فأتركه فإذا أصاب مدحاته مداحتي، قلت له: لا أحملك كما لم تحملني
فقال: أما ترضى أن تحمل بدنا " حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأحمله ".
وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في الجواز فيما اختلفوا فيه، ولم أقف فيما
حضرني من كتب اللغة على المعنى المراد من المدحاة هنا، وبعض الأصحاب قد
فرع الكلام على لفظ السبق في الخبر الحادي عشر، فإن قرئ بفتح الباء وهو
المشهور في الرواية على ما نقله في المسالك فإنه يفيد عدم مشروعية العوض إلا
في الثلاثة المذكورة، ولا تعرض في الخبر حينئذ لما عدا صورة الخطر والعوض،
فيبقى على أصالة الجواز، وإن قرئ بالسكون على أن يكون مصدرا " فإنه يفيد
نفي المصدر مطلقا، فيدل على المنع عدا المستثنى مطلقا.
وأنت خبير، بأنه باعتبار تعارض الاحتمالين المذكورين لا يمكن الاستدلال
بالخبر على المنع، فتبقى أصالة الجواز خالية من المعارض، وتخرج الأخبار
المذكورة شاهدا " على ذلك، مضافا " إلى ما ذكر من الفوائد المترتبة عليها.
المورد الثالث: في أسماء خيل الحلبة وأسماء السهام وما يتبع ذلك ويلحق
به، والكلام هنا يقع في مواضع أيضا ":
الأول ينبغي أن يعلم أن الحلبة وزان سجدة هي الخيل تجمع للسباق
وقد جرت عادتهم بتسمية غيره من خيل الحلبة، وليس لما بعد العاشر منها اسم،
إلا أن الذي يجئ في آخر الخيل كلها يسمى الفسكل.
فأول العشرة، المجلى بالجيم وهو السابق أولا " قيل سمى بذلك لأنه جلى عن

(1) النهاية الأثيرية ج 2 ص 106 ومنه حديث أبي رافع " كنت ألاعب الحسن
والحسين (عليهما السلام) بالمداحي وهي أحجار أمثال القرصة، كانوا يحفرون حفيرة
ويدحون فيها بتلك الأحجار، فإن وقع الحجر فيها قد غلب صاحبها، وإن لم يقع غلب،
والدحو: رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره.
366

نفسه أي أظهره أو جلى همه حيث سبق، والمشهور أن السبق يحصل بالتقدم بعنق
دابته، وكتدها يفتح التاء المثناة من فوق وكسرها، وهي العالي بين أصل العنق
والظهر، ويعبر عنه بالكاهل، وقال في الروضة: والكتد بفتح الفوقانية أشهر من كسرها
مجمع الكتفين بين أصل العنق والظهر، نقل عن ابن الجنيد أنه يكتفي في التقدم
بالإذن لقوله (1) (صلى الله عليه وآله) " بعثت والساعة كفرسي رهان " كاد
أحدهما أن يسبق الآخر بأذنه، وأجيب مع تسليم ثبوت الخبر بالحمل على المبالغة،
وأن ذلك خرج مخرج ضرب المثل على حد قوله من بنى مسجدا " ولو كمفحص
قطاة بنى الله له بيتا " في الجنة (2)، مع امتناع مسجد كذلك.
ثم المصلي، وسمي بذلك لأنه يحاذي برأسه صلوى المسابق، والصلوان
عبارة عن العظمين النابتين عن يمين الذنب وشماله.
ثم الثالث، ووجه التسمية فيه ظاهر، ثم البارع لأنه برع المتأخر عنه،
أي فاقه، ثم المرتاح، وهو الخامس قيل: سمي به لأن الاتاح النشاط، فكأنه نشط
فلحق بالسوابق، ثم الخطى وهو السادس لأنه خطى عند صاحبه حتى لحق السوابق
أي صار ذا خطوة عنده إلى نصيب أو في مال الرهان، ثم العاطف وهو السابع، لأنه
عطف إلى السوابق أي مال إليها، وكر عليها ليلحقها، ثم المؤمل وهو الثامن لأنه
يؤمل اللحوق بالسوابق، ثم اللطيم وهو التاسع، وزان فعيل بمعنى مفعول،
لأنه يلطم إذا أراد الدخول إلى الحجرة الجامعة للسوابق، ثم السكيت مصغرا
مخففا "، ويجوز تشديده، وهو العاشر سمي به لسكوت صاحبه إذا قيل لمن هذا أو
لانقطاع العدد، وقيل: إن السكيت هو الفسكل وهو آخر فرس يجئ في الرهان.
قالوا: والمحلل وهو الذي يدخلا بين المتراهنين، ولا يبذل معها عوضا " بل

(1) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 331 وفيه مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان
وفي الجامع الصغير ج 1 ص 126 " بعثت أنا والساعة كهاتين " وما عثرنا على نص
الرواية المنقولة في المتن.
(2) الوسائل ج 2 ص 486 ح 2.
367

يجري فرسه بينهما أو على أحد الجانبين على وجه يتناوله العقد، وحكمه أنه إن
سبق أخذ العوض المبذول للسابق، وإن سبق لم يغرم شيئا "، وسمي محللا " لأن العقد
لا يحل بدونه عند ابن الجنيد والشافعي، أو يحل به اجماعا " بخلاف ما إذا خلى عنه،
فإن فيه خلافا "، وسيأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى.
قالوا: والغاية مدى السابق، ولا ريب أن غاية الشئ منتهاه، ومد السابق
وإن كان المتبادر منه مسافة السباق التي تجري فيها الخيل إلا أن المراد به لغة
وعرفا " إنما هو بمعنى الغاية كما ذكروه، فالمراد من مد السباق منتهاه وغايته،
لا مسافته، فإن في القاموس المدى كالفتى الغاية، وقال في كتاب المصباح المنير:
والمدى بفتحتين الغاية، وبلغ مدى البصر: أي منتهاه وغايته.
ثم اعلم أنه قد عنون أكثرهم هذا الكتاب بكتاب السبق والرماية، ومنهم
المحقق في الشرايع، وهو ظاهر في اختصاص السبق بالخيل والإبل، والرماية
بالسهام، مع أنه قال بعد ذلك والمناضلة المسابقة، والمراماة والمناضلة لغة إنما
هي الرمي، قال الجواهري: ناضله أي راماه، ويقال: ناضلت فلانا " فنضلته، إذا
غلبته، وانتضل القوم وتناضلوا أي رموا للسبق.
وقال في كتاب المصباح المنير: " ناضلته مناضلة و نضالا راميته، فنضلته نضلا "
من باب قتل غلبته في الرمي "، وهو ظاهر في تخصيص المناضلة بالرمي، ولهذا
قال في المسالك: وأما اطلاق المناضلة على ما يشمل المسابقة فليس بمعروف لغة
ولا عرفا "، ولعل المصنف ومن تبعه في ذلك تجوزوا في الاطلاق، وبعض الفقهاء
عنون الكتاب بالمسابقة والمناضلة، وهو الموافق لما نقلناه عن أهل اللغة، ويشير
إلى ذلك كلامه في التذكرة حيث قال: والسباق اسم يشمل المسابقة بالخيل حقيقة
وعلى المسابقة بالرمي مجازا، ولكل واحد منهما اسم خاص، فيختص الخيل بالرهان
ويختص الرمي بالنضال، وهو ظاهر في أن المناضلة حقيقة إنما هي بمعنى الرمي.
الثاني إعلم أن الفقهاء من الخاصة والعامة ذكروا في هذا الكتاب جملة
368

من الاصطلاحات في أسماء السهام، وما يتعلق بالرمي وهو مؤيد لما قدمناه من أن
المراد بالنصل في الخبر المتقدم إنما هو هذا الفرد، لا ما يطلق عليه لغة كما ذكروه.
قالوا: والرشق بفتح الراء الرمي، وهو مصدر رشقه يرشقه رشقا "، إذا رماه
بالسهام، وبالكسر عدد ما يرمى به من السهام، يقال: رمى رشقا بكسر الراء أي
رمى بسهامه التي يريد رميها كلها.
قال في المصباح المنير: رشقته بالسهم رشقا من باب قتل، وأرشقته بالألف
لغة رميته به، والرشق بالكسر الوجه من الرمي إذا رمى القوم بأجمعهم جميع السهام
وحينئذ يقال: رمى القوم رشقا "، قال ابن دريد: الرشق السهام نفسها التي ترمى
والجمع أرشاق مثل حمل وأحمال، انتهى.
ولو حصل الاتفاق على رمي خمسة خمسة فكل خمسة يقال لها رشق،
ونقل عن بعض أهل اللغة أنه خصه ما بين العشرين والثلاثين، ويقال رشق وجه
ويد بكسر الراء، ويراد به الرمي ولاء حتى يفرغ الرشق، قال في المسالك: بمعنى
أنه مشترك بين العدد الذي يتفقان عليه، وبين الوجه من الرمي لذلك العدد،
فكما يقال: رموا رشقا " أو عددا " اتفقوا عليه، كذلك يقال: رموا رشقا " إذا رموا
بأجمعهم في جهة واحدة.
قال الجواهري: الرشق الاسم، وهو الوجه من الرمي، فإذا رمى القوم
بأجمعهم في جهة واحدة قالوا: رمينا رشقا "، والمراد برشق اليد هذا المعنى أيضا،
وإضافته إلى اليد، كإضافته إلى الوجه، فيقال: رشق يد ورشق وجه إذا كانت جهة
الرمي واحدة، ويمكن مع ذلك إضافته إليهما كما يظهر من كلامهم.
الثالث قد ذكر الفقهاء للسهم عند الإصابة للغرض أوصافا " فنقل عن
التذكرة أنه ذكر فيها أحد عشر اسما ": وفي التحرير ستة عشر اسما "، ونقل في
المسالك عن كتاب فقه اللغة تسعة عشر اسما "، وذكر المحقق في الشرايع منها ستة،
لكن ذكر الخمسة الأول جازما " بالتسمية، وأما السادس فنسبه إلى القول بذلك
369

فقال: ويقال المزدلف، وفي المسالك أنه ذكر ستة أوصاف وأردفها بسابع، والمذكور
إنما هو خمسة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى واحدا " واحدا " وأردفها بسادس.
قال في المسالك: والغرض من ذلك اعتبار صفة في عقد الرماية، فلا يستحق
العوض المشروط أن يصيبه بما هو أبلغ منه.
أقول: ومما ذكره المحقق المشار إليه من الأسماء أحدها الحابي بالياء
أخيرا "، قال في كتاب المصباح: حبا الصبي يحبو حبوا " إذا أدرج على بطنه وحبا
الشئ دنا، ومنه حبا السهم إلى الغرض وهو الذي يزحف الأرض ثم يصيب الهدف
فهو حاب وسهام حواب، انتهى.
والمراد أنه يقع دون الهدف ثم يحبو إلى الغرض فيصيبه، وقوله زلج على
الأرض أي زلق قال في القاموس الزلج محركة الزلق ويسكن، وفي الصحاح
مكان زلج بسكون اللام وتحريكها أي زلق والزلج الزلق وسهم زالج أي يزلج
عن القوس.
وثانيها الخاصر بالخاء المعجمة ثم الصاد المهملة، وهو الذي يصيب أحد
جانبي الغرض، مأخوذ من الخاصرة، لأنها في أحد جانبي الانسان، فهو بإصابته
أحد جانبي الغرض كأنه أصابه في الخاصرة، ولم أقف فيما حضرني من كتب
اللغة على هذه التسمية، سيما القاموس المحيط بجميع المعاني، وإن كانت موجودة
في كتب الفقهاء، قيل ويسمى أيضا " جابرا "، وقيل: الجابر ما سقط من وراء الهدف،
وقيل: ما وقع في الهدف من أحد جانبي الغرض، فعلى هذا إن كانت الإصابة
مشروطة في الغرض فالجابر مخطئ، وإن كانت مشروطة في الهدف فهو مصيب.
أقول: ولم أقف أيضا " على هذا الاسم أي نحو كان من هذه المعاني في القاموس
ولا غيره مما حضرني من كتب اللغة.
وثالثها الخازق بالخاء والزاي المعجمتين، قالوا: وهو ما يخدش الغرض،
وظاهره أنه يثقب فيه، وبذلك صرح في القواعد فقال: الخازق ما خدشه، ثم
370

وقع بين يديه، وفي التحرير أنه ما خدشه ولم يثقبه، إلا أن كلام أهل اللغة على
خلاف ذلك فإنهم صرحوا بأنه الذي ينفذ في الغرض، قال في كتاب المصباح المنير
وخزق السهم القرطاس: نفذ منه فهو خازق، وجمعه خوازق، والمراد بالقرطاس هنا
الغرض، أعم من أن يكون قرطاسا " أو غيره، مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
وفي النهاية الأثيرية خزق السهم، وخسق: إذا أصاب الرمية ونفذ فيها،
وسهم خازق وخاسق.
وظاهر الصحاح و القاموس هو مجرد الإصابة، وهو أعم الأقوال الثلاثة، قال
في الصحاح في باب السين يسمى الغرض قرطاسا "، يقال: رمى مقرطس إذا أصابه،
وفي القاموس خزقه يخزقه طعنه، والخازق السنان، ومن السهام المقرطس،
وقال في الصحاح أيضا " الخازق من السهام المقرطس، والخاسق لغة في الخازق، وهو
موافق لما تقدم نقله من النهاية من ترادف هذين اللفظين، ونقل في المسالك عن
الثعالبي في كتاب سر العربية إذا أصاب الهدف فهو مقرطس، وخازق، وخاسق
وصايب وهذا أيضا " أعم من أن يخدشه أم لا، ويثبت فيه أم لا، وهو موافق لما تقدم
نقله عن الصحاح والقاموس.
ورابعها الخارق بالخاء المعجمة والراء المهملة، وهو الذي يخرج من
الغرض نافذا " وهذا المعنى موافق لما هو المفهوم من حاق هذا اللفظ عرفا " ولغة،
لأن الخرق الثقوب والشق، سواء نفذ فيه أو سقط منه، إلا أن هذا الاسم غير
موجود في جملة الأسماء المعدودة للسهام في غير هذا الكلام، كما اعترف به في
المسالك حيث قال بعد ذكر المصنف له وكلام في البين: لكنه ليس من أسمائه
لغة ولم يذكره أحد من أصحاب الكتب الأربعة اللغوية السابقة، ولا غيرهم ممن
وقفت على كلامه، وفي بعض نسخ الكتاب المارق بالميم بدل الخارق، وهو
الصواب الموفق لكلام أهل اللغة لقبا " وتعريفا " وفي التحرير جعل الخارق بمعنى
الخاسق، وقد تقدم وجعل الخازق بالزاي المعجمة مغايرا " له كما مر خلاف ما
371

ذكره أهل اللغة، ولو حمل في كلامه الخارق بالراء المهملة على الخازق بالزاء
المعجمة ليكون مرادفا " للخاسق كان موافقا " لكلام أهل اللغة، لكن ذكره بعد،
ذلك الخازق وتعريفه بأنه ما خدشه ولم يثقبه، يوجب تعيين كونه بالزاء المعجمة
لا الراء إذ لم يحصل فيما ذكره خرق، والذي يظهر أنه وقع في التحرير ضرب من
التصحيف والسهو عن تحرير كلام أهل اللغة، لأن جعله الخازق مرادفا " للخاسق
موافق لكلام أهل اللغة، لكن بشرط كونه بالزاء المعجمة، ثم لما ذكر الخازق بعد
ذلك كان حقه أن يكون بالمهملة فعرفه بما ينافي ذلك، ويوافق تعريف المصنف
في الخازق بالمعجمة، فوقع الاضطراب، وفي التذكرة جعل الخارق ما أثر فيه ولم
يثبت، والخاسق ما ثقبه وثبت فيه، كما ذكره المصنف هنا في الخازق بالمعجمة،
فجعلهما متغايرين، ولم يتحقق منه ضبط الراء ولا ذكر الأمرين، فالالتباس فيه
أشد لأنه إن جعل بالراء وافق كلام التحرير وخالف مفهومه لغة، وإن جعل
بالزاء وافق كلامه في القواعد، وكلام المصنف هنا، وخالف كلامه أهل اللغة،
انتهى كلامه (زيد مقامه).
وخامسها الخارم بالخاء المعجمة وهو الذي يخرم حاشية الغرض بأن
يصيب طرفه فلا يثقبه ولكن يخرمه.
قال في المسالك أيضا ": وهذا الاسم لم يذكره أيضا " أهل اللغة، وإن كان
مناسبا " له، وقد ذكروا للسهم أسماء أخر غير ما ذكر، فتركنا ذكرها تبعا "
لاختصاره، هذا ما ذكره المحقق في الشرايع.
ثم قال: ويقال المزدلف الذي يضرب الأرض، ثم يثبت إلى الغرض، ونسبته إلى
القول المجهول، وعدم نظمه في سلك الخمسة المتقدمة يؤذن بنوع توقف فيه،
وهذا هو السادس الذي أشرنا إليه آنفا، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا في
المسالك الذي قدمنا ذكره، من أن المصنف ذكر هنا ستة، وأردفها بسابع، بل
المذكور فيه إنما هو خمسة، مردفة بالسادس كما ذكرناه، وأصل الازدلاف
372

التقدم، وخصه هنا بما يقع على الأرض ثم يتقدم إلى الغرض، وعلى هذا يكون
مرادفا " للحابي، وبذلك صرح في القواعد أيضا "، فقال بعد تعريف الحابي: وهو
المزدلف، إلا أن المفهوم من كلام المحقق حيث ذكر الحابي أولا " جازما " به،
وذكر المزدلف أخيرا " ناسبا " له إلى قيل: هو المغايرة، ولعل ذلك بقوة الوقوع على
الأرض في المزدلف للتعبير عنه بالضرب المقتضي لقوة اعتماده، وضعفه في الحابي
حيث اقتصر على مجرد زلفه على الأرض، وبذلك يحصل التباين، وهو الظاهر من
التذكرة على ما نقل فيها حيث قال: فيها إن المزدلف أشد، والحابي أضعف.
الرابع قال: الغرض ما يقصد إصابته وهو الرقعة والهدف ما يجعل فيه
الغرض من تراب وغيره، وذلك فإنهم يرتبون ترابا " أو حايطا " ينصب فيه الغرض
فيسمون ذلك التراب أو الحائط هدفا " وما يصنعونه فيه من جلد أو قرطاس أو نحو
ذلك لأجل الرمي يسمونه غرضا "، وبعضهم كما عرفت آنفا " يسمى المنصوب في الهدف
قرطاسا "، سواء كان كاغذا " أو غيره، وهو ظاهر في مرادفة الغرض والقرطاس، وقد تقدم
نقل ذلك عن المصباح المنير والصحاح.
وقد يجعل في الغرض نقش كالهلال يقال له الدائرة، وفي وسطها شئ آخر
يقال له الخاتم، والغرض من بيان الغرض والهدف والدائرة هو أن كلا " من هذه
الأشياء المذكورة محل للإصابة، وربما كان شرط الإصابة وغرضها يتعلق بكل
واحد من هذه المذكورات، فإن الإصابة في الهدف أو في الدائرة أضيق، وفي
الخاتم أدق، وهذه المذكورات اصطلاح الرماة، وعليها جرى الفقهاء في هذا الكتاب
وأما المذكور في اللغة فإنه ظاهر في المرادفة بين الغرض والهدف، قال في كتاب
المصباح المنير: الغرض: الهدف الذي يرمى إليه، والجمع أغراض وقال في القاموس:
الغرض محركة الهدف يرمى فيه، وفي الصحاح: الغرض: الهدف الذي يرمى فيه،
ثم إنهم قالوا: المراماة قسمان مبادرة ومحاطة، والمراد من المبادرة أن يتفقا على
رمي عدد معين كعشرين سهما " مثلا "، فمن بدر إلى إصابة عدد معين منها كخمسة،
373

فهو ناضل، لمن لم يصيب أو أصاب ما دونه، والمراد من المحاطة بتشديد الطاء أن يقابل
إصاباتهما من العدد المشترطة ويطرح المشترك من الإصابات: فمن زاد فيها بعدد
معين كخمسة مثلا " فناضل للآخر فيستحق المال المشروط في العقد.
أقول: والظاهر أن هذا أيضا " من اصطلاح الرماة، وعليه جرى الفقهاء، فإنه
لا وجود له في كلام أهل اللغة، ولا في الأخبار التي قدمناها، ولو بالإشارة، وحيث
أن جميع ما ذكر في هذا الكتاب زيادة على ما قدمناه كله من هذا القبيل، فليس
في ذكره إلا مجرد التطويل، ورأينا الاعراض عن التعرض له، أوفق، بالوقف على
الدليل، والاشتغال بما هو أهم أولى وأتم، سيما مع ندور وقوع المسابقة والمراماة
في هذه الأوقات، بل عدمها لعدم ما يترتب عليها من الفائدة في جملة الأزمان والآنات
ونحن قد ذكرنا منها ما يتعلق بالأخبار التي قدمناها في المقام، وما عداه مما
لا نص عليه فهو عندنا في قالب الاعدام، والله الهادي لمن يشاء.
374

كتاب الوصايا
وهو جمع وصية واشتقاقها إما من وصى يصي أو أوصى أو وصى
بالتشديد يوصي.
قال في كتاب المصباح المنير: وصيت الشئ بالشئ أصيه من باب وعد وصلته،
ووصيت إلى فلان توصية وأوصيت إليه ايصاء وفي السبعة " فمن خاف من موص "
بالتخفيف والتثقيل والاسم الوصاية بالكسر والفتح لغة، انتهى.
واختار ابن إدريس المعنى الأول فقال الوصية مشتقة من وصى يصي، وهو
الوصل قال الشاعر: " ذو الرمة تصي الليل بالأيام حتى صلاتنا مقاسمة لسبق اتصافها
السفر " ثم قال: ويقال منه أوصى يوصي، ووصى يوصي توصيه، ونقل عن المحقق
الشيخ علي (رحمة الله عليه) اختيار الثاني، وعلى هذا فتسمية هذا التصرف وصية
لما فيه من وصله التصرف في حال الحياة به بعد الوفاة، هذا على المعنى الأول،
وعلى الأخيرين فالوصية بمعنى العهد، يعني أنه عهد إليه بتلك الأمور الموصى بها،
فإن الوصية لغة بمعنى العهد، والأصل فيها الكتاب كما دلت عليه جملة من آياته
والسنة، والاجماع من الأمة.
ولنقدم في صدر الكتاب كما هي عادتنا فيما تقدم من الكتب والأبواب جملة
375

من الأخبار الواردة في الوصية، وما اشتملت عليه من الحث عليها، المؤذن
بالوجوب أو الاستحباب المؤكد.
فروى المشايخ الثلاثة عن الكناني (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الوصية
حق على كل مسلم ".
وروى في التهذيب عن الشحام (2) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الوصية،
فقال: هي حق على كل مسلم ".
وروى في الفقيه والتهذيب عن محمد بن مسلم (3) في الصحيح " قال: قال
أبو جعفر عليه السلام الوصية حق، وقد أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فينبغي للمسلم أن يوصي ".
وروى في الكافي والتهذيب عن حماد بن عثمان (4) في الصحيح أو الحسن
" عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال له رجل: إني خرجت إلى مكة فصحبني رجل وكان
زميلي، فلما أن كان في بعض الطريق مرض وثقل ثقلا " شديدا " فكنت أقوم عليه
ثم أفاق حتى لم يكن عندي به بأس، فلما أن كان اليوم الذي مات فيه أفاق فمات
في ذلك اليوم، فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما من ميت تحضره الوفاة إلا رد الله تعالى
عليه من سمعه وبصره وعقله للوصية، أخذ الوصية أو ترك، وهي الراحة التي
يقال لها راحة الموت، فهي حق على مسلم ".
وروى في الكافي عن وليد بن صبيح (5) " قال: صحبني مولى لأبي عبد الله عليه السلام
يقال له " أعين "، فاشتكى أياما " ثم برأ ثم مات فأخذت متاعه، وما كان له فأتيت
به أبا عبد الله عليه السلام وأخبرته أنه اشتكى أياما " ثم برأ ثم مات، قال: تلك راحة

(1) الكافي ج 7 ص 3 ح 4، التهذيب ج 9 ص 172 ح 702، الفقيه ج 4
ص 134 ح 462.
(2) التهذيب ج 9 ص 172 ح 703.
(3) الفقيه ج 4 ص 134 ح 463، لم نعثر في التهذيب عن هذه الرواية.
(4) الكافي ج 7 ص 3 ح 5، التهذيب ج 9 ص 172 ح 704.
(5) الكافي ج 7 ص 3 ح 2.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 351 ح 2 و ص 352 ح 4 و ص 351 ح 1 و ص 355 ح 2.
376

الموت أما أنه ليس من أحد يموت حتى يرد الله تعالى من سمعه وبصره وعقله
للوصية أخذ أو ترك ".
وروى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن سليمان بن جعفر (1) قال في
الفقيه: " وليس الجعفري " " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصا " في مروته وعقله، قيل:
يا رسول الله وكيف يوصي الميت؟ قال: إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس إليه،
قال: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم،
اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك
وأن محمدا " عبدك ورسولك، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن البعث حق، والحساب
حق، والصراط حق، والقبر حق، والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن
الاسلام كما شرعت، وأن القول كما حدثت، وأن القرآن كما أنزلت، وأنك أنت
الله الحق المبين، جزى الله محمدا " عنا خير الجزاء، وحيا الله محمدا " وآل محمد
بالسلام، اللهم يا عدتي عند كربتي ويا صاحبي عند شدتي ويا وليي في نعمتي،
إلهي وإله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا " فإنك إن تكلني إلى نفسي طرفة
عين أقرب من الشر وأبعد من الخير، فآنس في القبر وحشتي، واجعل لي عهدا يوم
ألقاك منشورا "، ثم يوصي بحاجته وتصديق هذه الوصية في القرآن في السورة
التي تذكر فيها مريم في قوله عز وجل (2) " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند
الرحمن عهدا " " فهذا عهد الميت، والوصية حق على كل مسلم، وحق عليه أن
يحفظ هذه الوصية ويعلمها، وقال أمير المؤمنين عليه السلام علمنيها رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): علمنيها جبرئيل عليه السلام ".
ورواه السيد الزاهد العابد رضي الدين ابن طاوس في كتاب فلاح السائل

(1) الفقيه ج 4 ص 138 ح 482، الكافي ج 7 ص 2 ح 1، التهذيب
ج 9 ص 174 ح 711، الوسائل ج 13 ص 353 الباب 3 ح 1.
(2) سورة مريم الآية 87.
377

كما نقله عنه في البحار، وفيه بعد قوله " يوم ألقاك منشورا " فهذا عهد الميت يوم
يوصي بحاجته، والوصية حق على كل مسلم قال أبو عبد الله عليه السلام وتصديق هذه في
سورة مريم عليه السلام قول الله تبارك وتعالى " لا يملكون الشفاعة إلا من أتخذ عند الرحمن
عهدا " وهذا هو العهد، وقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي عليه السلام تعلمها أنت
وعلمها أهل بيتك وشيعتك قال: وقال (صلى الله عليه وآله) وعلمنيها جبرائيل.
وروى في الفقيه عن العباس بن عمار عن أبان عن أبي بصير (1) " عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: من لم يحسن عند الموت وصيته كان نقصا " في مروته وعقله،
وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي، وأوصى علي عليه السلام إلى
الحسن، وأوصى الحسن عليه السلام إلى الحسين، وأوصى الحسين عليه السلام إلى علي بن الحسين،
وأوصى علي بن الحسين عليه السلام إلى محمد بن علي الباقر عليه السلام ".
وروى في الفقيه والتهذيب عن أبي حمزة (2) " عن أحدهما عليهما السلام قال: إن
الله تعالى يقول: يا ابن آدم تطولت عليك بثلاثة: سترت عليك ما لو علم به أهلك
ما واروك، وأوسعت عليك ثم استقرضت منك فلم تقدم خيرا "، وجعلت لك نظرة
عند موتك في ثلثك فلم تقدم خيرا ".
وروى في الفقيه والتهذيب عن عبد الله بن المغيرة عن السكوني (3) " عن
جعفر بن محمد أبيه عن علي عليهم السلام قال: قال علي عليه السلام: ما أبالي أضررت
" بولدي " أو سرقتهم ذلك المال " كذا في الفقيه وفي التهذيب قال " أضررت بورثتي "
عوض ولدي.
وروى في التهذيب والفقيه عن السكوني (4) " عن جعفر بن محمد عن

(1) الفقيه ج 4 ص 134 ح 467.
(2) الفقيه ج 4 ص 133 ح 461 وفيه " بثلاث "، التهذيب ج 9 ص 175 ح 712.
(3) الفقيه ج 4 ص 135 ح 469 و ص 134 ح 466، التهذيب ج 9 ص 174 ح 710 و 708. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 357 ح 1 و ص 356 ح 4 و 1 و ص 355 ح 3.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 3.
378

أبي جعفر عليهما السلام قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرثه فقد ختم
عمله بمعصيته ".
وروى في المقنعة (1) مرسلا " قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
الوصية حق على كل مسلم قال: وقال عليه السلام ما ينبغي لامرء مسلم أن يبيت ليلة
إلا ووصيته تحت رأسه "، و " قال عليه السلام: من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية ".
وروى الشيخ في كتاب المصباح (2) " قال: وروي أنه لا ينبغي أن يبيت إلا
ووصيته تحت رأسه ".
وروى في الفقيه والتهذيب عن مسعدة بن صدقة (3) " عن جعفر بن محمد
عن أبيه عليهما السلام قال: قال علي عليه السلام الوصية تمام ما نقص من الزكاة ".
وروى في الكافي عن محمد بن يحيى (4) رفعه عنهم عليهما السلام " قال: من أوصى
بالثلث احتسب له من زكاته ".
وقال في كتاب الفقه الرضوي (5)، واعلم أن الوصية حق واجب على كل
مسلم، ويستحب أن يوصي الرجل لقرابته ممن لا يرث شيئا " من ماله قل أو كثر
وإن لم يفعل فقد ختم عمله بمعصيته.
أقول: وفي هذه الأخبار الشريفة فوائد يحسن التنبيه عليها، والتوجه إليها.
الأول لا ريب في وجوب الوصية على من كان مشغول الذمة بواجب من
دين أو حج أو زكاة أو خمس أو نحو ذلك من الحقوق الواجبة، ويمكن أن تحمل
الأخبار الدالة على أن الوصية حق على كل ملم، لاشعارها بالوجوب على ذلك،
فيجب تخصيصها بما ذكرناه من الأفراد، ويمكن حملها على تأكد الاستحباب

(1) الوسائل ج 13 ص 352 ح 6 و 5.
(2) الوسائل ج 13 ص 352 ح 6 و 5.
(3) التهذيب ج 9 ص 173 ح 706، الفقيه ج 4 ص 134 ح 464.
(4) الكافي ج 7 ص 58 ح 4.
وهما في الوسائل ج 13 ص 353 الباب 2 ح 1 و 3.
(5) المستدرك ج 2 ص 520 ح 5.
379

فتخص بغير ما ذكرناه من الأمور المستحبة.
الثاني المستفاد من الخبرين الأخيرين من أنه إن كان في ذمته زكاة واجبة
وأوصى بالثلث أو بعضه للفقراء أو في ساير أبواب البر فإنه يحسب له عما في ذمته
من الزكاة الواجبة من حيث لا يشعر، وهو من التفضل الإلهي، وله نظائر كثيرة.
مر التنبيه عليها من أن الفعل إذا صادف الواقع في حد ذاته وإن لم ينوه صاحبه
فإنه يجزي عنه.
الثالث ظاهر حديث السكوني المروي في الفقيه استحباب الوصية لذوي
القرابة ممن ليس له حظ في ميراثه استحبابا " مؤكدا "، وإنما حملناه على الاستحباب
وإن كان ظاهره الوجوب، لما رواه العياشي عن أبي بصير (1) في الصحيح عن
أحدهما عليهما السلام في قوله تعالى (2) " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك
خيرا " الوصية للوالدين والأقربين " قال: منسوخة، ونسختها آية الفرائض التي
هي المواريث، وبالاستحباب صرح في كتاب الفقه الرضوي، مع تصريحه في آخر
كلامه بأن ترك ذلك معصية، وهو محمول على المبالغة، وسيأتي إن شاء الله تعالى
مزيد تحقيق في المقام.
الرابع ما تضمنه حديث السكوني (3) من قوله عليه السلام " ما أبالي أضررت
بولدي أو سرقتهم " ومثله ما رواه الراوندي في نوادره (4) باسناده " عن موسى بن
جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: قال علي عليه السلام: ما أبالي أضررت بوارثي أو سرقت
ذلك المال فتصدقت به " وما رواه أيضا " في الكتاب المذكور (5) " قال: قال النبي
(صلى الله عليه وآله) من مات على وصية حسنة مات شهيدا " وقال: من لم
يحسن الوصية عند موته كان ذلك نقصانا " في عقله ومروته، والوصية حق على كل

(1) الوسائل ج 13 ص 376 ح 15، العياشي ج 1 ص 77 ح 167.
(2) سورة البقرة الآية 180.
(3) التهذيب ج 9 ص 174 ح 710، الوسائل ج 13 ص 356 ح 1.
(4) المستدرك ج 2 ص 519 الباب 4 والباب 5 ح 2.
(5) المستدرك ج 2 ص 519 الباب 4 والباب 5 ح 2.
380

مسلم، قال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة، فيحيف في وصيته
فيختم له بعمل أهل الجنة، ثم قرأ ومن يتعد حدود الله وقال: تلك حدود الله "
إن حمل على ظاهره من التحريم فالواجب تخصيصه بما زاد على الثلث، فإنه لا يجوز
له شرعا "، وهذا هو أوفق بظاهر الآيتين المذكورتين، وإن حمل على الكراهة
المؤكدة فإنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا " ما يبالغون في النهي عن المكروهات بما
يدخلها في حيز المحرمات، وفي المستحبات بما يكاد يلحقها بالواجبات، فيجب
حمله على من بر وارثا " على آخر، وأن الأفضل المساواة بينهم، وسيأتي تمام
الكلام في هذا المقام إن شاء الله تعالى.
الخامس ما تضمنته جملة من الأخبار المذكورة من أن من لم يحسن
وصيته عند الموت كان نقصا " في مروته وعقله.
الظاهر حمله على ما هو أعم من الوصية بالاقرار بالشهادتين، وجمع ما جاء
به النبي (صلى الله عليه وآله) كما دل عليه خبر سليمان بن جعفر المتقدم
والايصاء بما له عليه، مما كان يتعلق به حال حياته، ويذبه بنفسه من أطفال صغار
أو أمور يريد انفاذها بعد موته، فإن الوصية لغة العهد، يقال: أوصاه ووصاه
عهد إليه، فيعد إلى من يعمد عليه من أخوانه المؤمنين أن يتصرف في أمواله بعد
موته بما يقضى عنه ما وجب في ذمته مما قدمنا ذكره، وإن كان له أولاد صغار
قائما " مقامه في الولاية عليهم، ويستحب له كما عرفت أن يوصي لبعض أرحامه
وأقربائه وأن يشهد على ذلك جماعة من إخوانه كما تقدم في خبر سليمان المشار إليه
على ايمانه وعقائده، ويعهد إليهم أن يشهدوا له به يوم القيامة، ويشهدهم على
ما أوصى به من تلك الأمور الدنيوية مضافة إلى الأمور الأخروية.
وإلى بعض ما ذكرنا يشير ما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أجلت في عمرك يومين فاجعل أحدهما لأدبك لتستعين به

(1) الوسائل ج 13 ص 357 ح 3، روضة الكافي ص 131 ح 132.
381

على يوم موتك، قيل، وما تلك الاستعانة قال تحسن تدبير ما تخلف، وتحكمه ".
ولا ريب أن ترك هذه الأمور المشار إليها وعدم الوصية بها موجب لما
ذكروه عليهم السلام من نقصان المروة والعقل.
السادس قال ابن إدريس في كتاب السرائر بعد نقل الخبر المشتمل على
قوله " ما أبالي أضررت بورثتي أو سرفتهم ذلك المال " ما ملخصه: سرفهم بالسين غير
المعجمة والراء غير المعجمة المكسورة والفاء ومعناه أخطأتهم وأغفلتهم، لأن
السرف الاغفال والخطأ، وقد سرفت الشئ بالكسر إذا غفلته وجهلته، وحكى
الأصمعي عن بعض الأعراب أنه واعده أصحاب له في المسجد مكانا " فأخلفهم فقيل
له في ذلك فقال: مررت بكم فسرفتكم أي أخطأتكم وأغفلتكم إلى أن قال:
هكذا نص عليه جماعة أهل اللغة ذكره الجوهري في كتاب الصحاح، وأبو عبيدة
الهروي، وأما من قال في الحديث سرقتهم ذلك المال بالقاف فقد صحف، لأن
سرق لا يتعدى إلى مفعولين إلا بحرف الجر، يقال سرقت منهم مالا، وسرفت بالفاء
يتعدى إلى مفعولين بغير حرف الجر، فملخصه ذلك، انتهى.
أقول: فيه أن مرجع استدلاله لهم إلى أن سرف يتعدى إلى مفعولين
بنفسه، وسرق لا يتعدى إلى مفعولين إلا بحرف الجر، وهو في الحديث قد عدي إلى
مفعولين، فيجب حمله على سرف بالفاء، وإلا فمجرد ورود سرف بمعنى أخطائه
وجهله لا يدل على ما ادعاه فإنه مسلم، ولكن لا يلزم حمل الحديث عليه.
وأنت خبير بأن ما استند إليه مما ذكره مردود، بأن الظاهر من كلام أهل
اللغة أن سرف بالفاء إنما يتعدى إلى مفعول واحد أيضا، وهو ظاهر صدر كلامه،
وإن ادعى في آخره خلافه، فإن الحكاية التي نقلها عن الأصمعي إنما تضمنت تعديه
إلى مفعول واحد كما هو في اللفظ الذي جعل بمعناه من قولهم أخطأتكم وأغفلتكم
فإن الجميع إنما عدي فيه إلى مفعول واحد، وكذلك قوله وقد سرفت الشئ
بالكسر إذا أغفلته وجهلته، فإنه إنما حكاه متعديا " إلى مفعول واحد، كاللفظين
اللذين جعل بمعناهما.
382

قال في القاموس: سرفه كفرح أغفله وجهله، وهو ظاهر أيضا فيما قلناه،
على أن ما ادعاه من أن سرق بالقاف لا يتعدى إلى مفعولين بنفسه مردود بما ذكره
في كتاب المصباح المنير، حيث قال: وسرق منه مالا يتعدى إلى الأول بنفسه،
وبالحرف الجر على الزيادة، وظاهره كما ترى أنه يقال سرقته مالا، وسرقت منه
مالا، فيتعدى إلى المفعول الأول تارة بنفسه، وتارة بالحرف على الزيادة.
وبذلك يظهر لك ضعف ما تكلفه (قدس سره) على أنه لا يخفى ما في الحمل
على الفعل الذي ذهب إليه من الركاكة، وذلك فإن الغرض من هذا الكلام وسياقه
في المقام هو المبالغة في المنع والمزجر عن الحيف في الوصية، والاضرار بالولد
أو الوارث، والمناسب لذلك أنما هو لفظ سرق بالقاف، فإن محصل الكلام أن
الاضرار بهم في الوصية بمنزلة سرقة ذلك من أموالهم المترتب عليه الإثم شرعا "،
واشتغال الذمة بالمسروق حتى يرده إلى صاحبه، وحينئذ فلا يجوز، وأما أخطأتهم
وجهلتهم، فإن مناسبته فيه للمبالغة في الاضرار.
وبالجملة فإن كلامه (قدس سره) في نظري بمحل من القصور، كما لا يخفى
على من لاحظ ما ذكرناه في هذه السطور، والله العالم.
والكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد:
المقصد الأول في الوصية:
وفيه مسائل: الأولى: قالوا: الوصية تمليك عين أو منفعة، أو تسليط على
التصرف بعد الوفاة، والمراد بالتسليط المذكور هو أن يوصي إليه بإنفاذ وصاياه،
والقيام بأطفاله ومجانينه وهي الوصايا، وربما اقتصر بعضهم على تمليك العين أو المنفعة
ولم يذكر التسليط على التصرف، ومنشأ ذلك أن بعضهم أدرج الوصاية التي هي
عبارة عن التسليط المذكور في الوصية، فذكرها في تعريف الوصية، وبعضهم
جعلها قسما " آخر برأسها، وقسيما " للوصية، كالشهيد في الدروس، فإنه جعل لكل
383

من الوصية والوصاية كتابا " على حدة، وفي اللمعة قال بالأول، فعرفهما بما ذكرناه
والمفهوم من كلام أكثر الأصحاب أن الوصية عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول من
الموصى إليه، إن كان معينا "، وأما غيره كالفقراء مثلا فيقبل الحاكم الشرعي أو من
ينصبه، والظاهر في الثاني كما استظهره جمع من المتأخرين منهم شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك عدم التوقف على القبول، وقد تقدم مثله في الوقف، ثم إنه على
تقدير وجوب القبول في الأول فهل يكفي القبول الفعلي؟ الظاهر كما اختاره جمع
من الأصحاب من الاكتفاء بذلك، كالأخذ والتصرف فيه لنفسه، وقد تقدم مثله
في جملة من العقود المتقدمة.
وبذلك يظهر أن عده عقدا " كما ذكروه لا يخلو من النظر، إذ مقتضى ذلك
وجوب الإيجاب والقبول اللفظيين، كما صرحوا به في العقود، إلا أن يكون عقدا "
جائزا " كما هو الظاهر، ويؤيده ما سيأتي إن شاء الله تعالى من جواز رجوع
الموصي ما دام حيا "، والموصى له كذلك ما لم يقبل بعد الوفاة، وما ذكرنا من
اشتراط الإيجاب والقبول اللفظيين إنما هو في العقود اللازمة.
وكيف كان فظاهرهم أيضا " أنه لا تشترط مقارنة القبول للإيجاب. قال في
المسالك: وهو موضع وفاق، وهو مما يؤيد كونه جائزا " لا لازما "، والايجاب لا
ينحصر في لفظ، بل كل لفظ يدل على مقصوده، كقوله أوصيت لفلان بكذا،
أو أعطوا فلانا " بعد وفاتي كذا، أو لفلان بعد وفاتي كذا، وإنما جعل قيدا " بعد
وفاتي في المثالين الأخيرين دون الأول، لأن قوله في الأول أوصيت صريح في أن
العطية إنما هي بعد الوفاة، فلهذا لم يحتج إلى قيد، بخلاف أعطوا فلانا " أو لفلان
فإنه يكون في الأول مشتركا " بين الوصية وبين الأمر بالاعطاء في حياته، وفي الثاني
مشترك بينهما وبين الاقرار له بذلك، فلا بد من قيد يصرف الكلام إلى الوصية،
فزيد فيه قوله بعد وفاتي.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أني لم أقف في الأخبار على ما يدل على وجوب
384

القبول، وإن كان الوصية لمعين، بل ربما ظهر من اطلاقها العدم، وأنه لا يتوقف
على أزيد من الإيجاب بالألفاظ المذكورة، إلا أنه خلاف ما يفهم من عامة كلامهم.
ومن الأخبار في ذلك صحيحة زرارة (1) " عن أبي جعفر عليه السلام في رجل أوصى
بثلث ماله في أعمامه وأخواله، فقال: لأعمامه الثلثان ولأخواله الثلث ".
وروى في التهذيب عن عبد الحسن بن أبي عبد الله (2) " قال: سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن امرأة قالت لأمها: إن كنت بعدي فجاريتي لك، فقضى أن ذلك
جائز وإن كانت الابنة بعدها فهي جاريتها ".
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الآتي إن شاء الله تعالى جملة منها،
فإنها غير مشتملة إلا على الإيجاب خاصة، كما سيظهر إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: قال الشيخ في الخلاف: إذا أوصى له بشئ فإنه ينتقل إلى
ملك الموصى له، بوفاة الموصي، وقال في المبسوط: إذا أوصى لرجل بشئ فإن
ملكه لا يزول عن ذلك الشئ قبل وفاته بلا خلاف، وإذا أمات الموصي متى ينتقل
الملك إلى الموصى له؟ قيل: فيه قولان: أحدهما ينتقل بشرطين، وفاة الموصي
وقبول الموصى له، وإذا وجد الشرطان انتقل الملك عقيب القبول.
والقول الثاني أنه يراعى إن قبل الوصية تبين أنه انتقل إليه الملك بوفاته،
وإن لم يقبل تبين أن الملك انتقل إلى الورثة بوفاته.
وقيل: فيه قول ثالث وهو أن الملك ينتقل إلى الموصى له بوفاة الموصي
مثل الميراث، ويدخل في ملك الورثة بوفاته، فإن قبل ذلك استقر ملكه عليه،
وإن رد انتقل عنه إلى ورثته، قال: وهذا قول ضعيف، لا يفرع عليه، بل على
الأول ثم قال بعد ذلك: الأقوى أن يقال. إن الشئ الموصى به ينتقل إلى ملك

(1) الكافي ج 7 ص 45 ح 3، التهذيب ج 9 ص 214 ح 845.
(2) التهذيب ج 9 ص 200 ح 797.
وهما في الوسائل ج 13 ص 454 الباب 62 و ص 375 ح 11.
385

الموصى له بوفاة الموصي، وقد قيل: إنه بشرطين بالموت وقبول الموصى له، وقيل
أيضا أنه يراعى، فإن قبل علم أنه انتقل بالموت إليه، وإن رد علم أنه بالموت انتقل
إلى الورثة، قال: وعلى ما قلناه لو أهل شوال ثم ذكر بعض الفروع الآتية إن شاء
الله تعالى في المسألة، ونقل عن ابن الجنيد ما يدل على علل موافقته للشيخ
في الخلاف.
وقال ابن إدريس: الأقوى في نفسي أنه لا ينتقل بالموت، بل بانضمام القبول
من الموصى له لا بمجرد الموت، وقال في المختلف بعد نقل الأقوال المذكورة:
والمعتمد أن نقول الوصية إن كانت لغير معين، كالفقراء والمساكين، ومن لا يمكن
حصرهم كبني هاشم، أو على مصلحة كمسجد أو قنطرة أو حج أو مدرسة أو غير ذلك
لم يفتقر إلى قبول، ولزمت بمجرد الموت لتعذر اعتبار القبول من جميعهم، فسقط
اعتباره كالوقف عليهم، وإن كانت لمعين افتقرت إلى القبول، ولا يحصل الملك قبله،
لأن القبول معتبر فتحصيل الملك له قبل قبول لا وجه له مع اعتباره، ولأنه تمليك
عين لمعين، فلم يسبق الملك القبول كسائر العقود، ولأن الموصى له لو رد الوصية
بطلت، ولو كان قد ملك بمجرد الايصاء لم يزل الملك بالرد كما بعد القبول، ولأن
الملك في الماضي لا يجوز تعليقه بشرط مستقبل، لامتناع تقدم المشروط على
شرطه، انتهى.
وقال في المسالك: لا خلاف في توقف ملك الوصية على الإيجاب من الموصي لأنه
أحد أركان العقد الناقل للملك، أو تمام الركن، حيث لا يعتبر القبول على بعض
الوجوه، وفي توقفه على موته، لأن متعلقها هو الملك، وما في معناه بعد الموت
فقبله لا ملك، وإنما الخلاف في أن قبول الموصى له هل هو معتبر في انتقال الملك
إليه بالموت؟ بمعنى كونه شرطا " في الملك أو تمام السبب المعتبر بدونه أصلا،
ويعتبر في الجملة أعم مما ذكر أو لا يعتبر أصلا، بل ينتقل إليه الملك على وجه
القهر، كالإرث لا بمعنى استقراره له كذلك، بل بمعنى حصوله متزلزلا "، فيستقر
386

بالقبول، ويبطل استمراره بالرد، وينتقل عنه إلى ورثة الموصي، فهذه أقوال
ثلاثة، انتهى.
أقول: لا يخفى على من راجع كلامهم في المقام، وما وقع لهم من النقض
والابرام أن هذا البحث والاختلاف إنما هو بالنسبة إلى الوصية لمعين، من حيث
اشتراط القبول فيها عندهم، وأما فيما لم يشترط فيه القبول، فإنه لا خلاف في
الانتقال بمجرد الموت.
قال في المسالك: واعلم أن موضع الخلاف الوصية المفتقرة إلى القبول،
فلو كانت لجهة عامة كالفقراء والمساجد، انتقلت إلى الجهة المعينة بالوفاة بغير خلاف
حيث تكون الوصية نافذة، انتهى.
وأنت خبير بأن المسألة غير منصوصة، ولهذا صارت محل الاشكال ومطرحا " للقيل
والقال ومنشأ هذا الاشكال والبحث في هذا المجال من حيث اشتراط القبول في الوصية
لمعين، وأنه لا يصح الوصية بدونه، مع أنهم لم يوردوا له دليلا " شرعيا، ولا نصا " مرعيا،
وإنما عللوه بعلل اعتبارية، وقد تتبعت ما حضرني من النصوص فلم أقف فيها على ما يدل
على هذا الشرط، وأنه لا تصح الوصية إلا به، وربما ظهر من اطلاق كثير منها عدمه
ومن ذلك صحيحة زرارة ورواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدمتين.
وما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن محمد بن قيس (1) " عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: رجل أوصى لرجل بوصية من ماله ثلث أو ربع
فيقتل الرجل خطأ يعني الموصي، فقال: تجاز لهذه الوصية من (ماله) ومن ديته ".
وبهذا المضمون أخبار أخر، دالة على اخراج الوصية من الدية، كما يخرج
من الميراث.
وفي الصحيح عن محمد بن قيس (2) " عن أبي جعفر عليه السلام قال، قضى

(1) الفقيه ج 4 ص 168 ح 588، الكافي ج 7 ص 63 ح 21، التهذيب
ج 9 ص 207 ح 822 (من ميراثه ومن ديته).
(2) الكافي ج 7 ص 28 ح 1.
وهما في الوسائل ج 13 ص 372 ح 1 و ص 467 الباب 80.
387

أمير المؤمنين عليه السلام في مكاتب كان تحته امرأة حرة فأوصت له عند موتها بوصية،
فقال: أهل الميراث لا نجيز وصيتهما له، إنه مكاتب لم يعتق ولا يرث، فقضى بأنه يرث
بحساب ما أعتق منه، ويجوز له من الوصية بحساب ما أعتق منه، وقضى في مكاتب
أوصى له بوصية، وقد قضى نصف ما عليه فأجاز له نصف الوصية، وقضى في مكاتب
قضى ربع ما عليه فأوصى له بوصية فأجاز ربع الوصية ".
وبهذا المضمون أيضا " أخبار عديدة وظاهر هذه الأخبار كما ترى أنه ينتقل
الموصى به إلى الموصى له، وإن لم يحصل القبول، إذ لا إشارة في شئ منها إلى
اشتراط القبول من الموصى له كما ادعوه، واطلاقها كما ترى شامل لما لو كان ثمة
قبول أو لم يكن، وعدم الاستفصال دليل العموم في المقال، كما صرح به جملة
علمائنا الأبدال، ويؤيد ما ذكرنا ظاهر الآية، أعني قوله سبحانه (1) " من بعد
وصية يوصي بها أو دين " وجواب العلامة بحمل الآية على معنى وصية مقبولة
والوصية بدون القبول ليس كذلك، لا يخرج عن المصادرة، مضافا إلى أن ما
ذكره خلاف الظاهر، وارتكاب التقدير والتأويل، فرع وجود الدليل على القبول
وبهذا يظهر أن ما ادعوه أيضا " من كون الوصية من جملة العقود محل توقف واشكال
لعدم الدليل عليه، مع ظهور هذه النصوص ونحوها في عدم وجود القبول فيها،
ولو كان عقدا " لوجب القبول، ودل عليه دليل منها، والأمر كما ترى بخلافه.
فإن قيل: إنه لا تصريح في أكثرها بالموت أيضا "، بل ظاهرها حصول الانتقال
بمجرد الوصية، مع أنكم لا تقولون به، قلنا: قد قام الدليل على أن للموصي
الرجوع في الوصية ما دام حيا "، وهو مؤذن بعدم الانتقال عنه في حياته، فوجب
تخصيص اطلاق هذه الأخبار بذلك، وأما القبول فلم يقم عليه دليل، ليمكن
تخصيصها به أيضا، فيبقى الاطلاق بالنسبة إليه سالما " من المعارض، وحينئذ فإذا
لم يقم دليل على اعتباره فإنه يرجع الحكم فيه إلى حكم الوصية لغير معين.

(1) سورة النساء الآية 11.
388

نعم حيث إن ظاهرهم الاتفاق على أن للموصى له الرد، وعدم القبول
فينبغي أن تفرق بين الأمرين، بأن الانتقال في غير المعين انتقال، تام لازم، وفي
المعين انتقال متزلزل، فبالقبول يستقر ويستمر، وبعدم القبول تبطل، ويعود إلى
ورثة الموصي، على أن للمناقشة أيضا " طريق فيما ذكر، وهو إن الموصي له الرد،
فإنا لم نقف له على دليل، وما المانع من كون ذلك كالميراث، ليس له رده شرعا "،
فإن ظاهر الأخبار التي قدمناها ذلك، إلا أن الخروج عما ظاهرهم الاتفاق عليه
مشكل، وكيف كان فالمسألة غير خالية الاشكال، والاحتياط فيها مطلوب
على كل حال.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قد فرعوا على هذا الخلاف المتقدم فروعا "
عديدة:
أحدها كسب العبد وثمر الشجرة، وسائر زوائد الموصى به المتجدد بين
الموت والقبول، فإن قلنا أنه يحصل الانتقال بالموت خاصة، كما هو مذهب الشيخ
في الخلاف ومن تبعه، فهي للموصى له قبل الوصية أوردها، لأن العين قد انتقلت
إليه، ونماءها تابع لها، ولو ردها احتمل رد نماءها أيضا على الورثة تبعا " لها،
واحتمل العدم، لأن النماء ليس من الموصى به الذي يتخير بين رده وقبوله، وهو
قد ملكه بملك العين بعد الموت، فلا يزول ملكه عنه، ورد العين من حيث كونها
موصى بها، وهو لم يقبل الوصية لا يستلزم رد النماء، لأنه ليس من الموصى به،
كما ذكرنا، بل ملكه من جهة أخرى، وسبب آخر.
وإن قلنا إنه لا يحصل الانتقال إلا بالقبول، كما هن مذهب العلامة في
المختلف، فإن الزوائد والنماء في تلك المدة لا تكون للموصى له قبل الوصية بعد
ذلك أو ردها، لأنها تجددت قبل أن تدخل العين في ملكه، وقبوله بعد ذلك
لو قبل إنما يوجب انتقال العين، خاصة، وهي الموصى بها.
بقي الكلام فيما إذا لم ينتقل للموصى له، ففي مستحقها من الموصي من
389

حيث إنها من جملة التركة فيقضى منها ديونه، وينفذ منها وصاياه كالأصل أو
الورثة لحدوثها بعد زوال ملكه بالموت: وجهان أقربهما للاعتبار الثاني، وإن
قلنا بالمراعات والوقف، صارت هذه الزوائد أيضا " موقوفة، فإن قبل فهي له
وإلا فلا.
وثانيها فطرة العبد الموصى به إذا حل وقت وجوبها بين الموت والقبول،
فعلى القول الأول تكون على الموصى إليه، وملكها بالموت، على الثاني فليس على
الموصى له شئ، لعدم الانتقال إليه، وقبوله بعد ذلك لو قبل لا يستلزم الوجوب،
وقد فات وقته، وعلى الثالث أيضا " لا يلزم، وعلي هذين القولين، تسقط الفطرة هنا،
قالوا: وفي معنى الفطرة هنا المؤن المحتاج إليها بين القبول والموت.
وثالثها أنه إذا زوج أمته حرا " وأوصى له بها، فعلى تقدير القول الأول
وهو الانتقال بعد الموت فإنه ينفسخ النكاح من يوم الموت، لدخولها في ملكه في
ذلك الوقت، فيبطل العقد السابق، وعلى القولين الآخرين فإن رد الوصية استمر
النكاح، لعدم ما يوجب بطلانه، وإن قبلها انفسخ النكاح على كل من القولين،
لكن يكون الانفساخ من يوم القبول على القول الثاني، لأن دخولها في ملكه بعد
القبول ومن يوم الموت على الثالث، وهو المراعاة والتوقف، لانكشاف ذلك بالقبول
وتبينه به، إلى غير ذلك من الفروع المذكورة في كلامهم، من أحب الوقوف عليها
فليرجع إلى مطولات الأصحاب.
المسألة الثالثة: المشهور في كلام الأصحاب بناء على وجوب القبول في
الوصية كما هو المتفق عليه ظاهرا " في كلامهم، أنه لا فرق بين وقوع القبول قبل
وفاة الموصي أو بعدها، أما قبل وفاة الموصي فلأنه قبل ما نقل إليه من الملك على
الوجه الذي نقل إليه، وإن لم يكن في وقته، والايجاب هنا إنما أفاد التمليك
قبل وقت انتقال، إذ الانتقال إنما يحصل بالموت، والقبول هنا وقعت طبق هذا
الإيجاب، وأما بعد وفاة الموصي فلا اشكال ولا خلاف في اعتبار القبول لمطابقته
390

للإيجاب الصادر من الموصي، لأنه أوقع تمليكا مقرونا بالوفاة وقد حصلت الوفاة،
فقبل الموصى له ذلك.
ونقل عن جمع من الأصحاب منهم العلامة (قدس سره) اختصاص اعتبار
القبول بهذه دون الأولى، محتجين على عدم اعتباره في الصورة الأولى، بأنه أوجب
له بعد موته، فقبل الموت ليس محلا " للقبول، فأشبه القبول قبل الوصية، وكذا
لو باعه ما يملكه بعد، وبعدم المطابقة بين الإيجاب والقبول.
ورد ذلك بما أشير إليه في بيان الوجه في الصورة المذكورة، وتوضيحه أن
القبول لا يلزم أن يحصل به الملك، وإنما يحصل به تمام سببه، وهولا يوجب وجود
مسببه، لجواز تخلفه لفقد شرطه، وهو هنا كذلك، لأن الموت شرط في انتقال
الملك والايجاب كما وقع قبل زمان الملك ناقلا " له في وقت متأخر، فكذلك
القبول، والمطابقة حاصلة، والفرق بينه وبين بيع ما يملكه واضح، فإن ذلك
ممتنع شرعا " ايجابا " وقبولا " وهنا لا مانع منه إلا بواسطة التخيل المذكور، وهو
غير مانع.
أقول: لا يخفى أنه لو كان اعتبار القبول مستندا إلى النصوص، لكان الواجب
النظر في ذلك النص، وما يستفاد منه، من عموم وخصوص، إلا أنه ليس في المقام
نص كما عرفت، ولا دليل، وليس إلا ظاهر كلامهم واتفاقهم على الحكم المذكور،
وحينئذ فليس هنا مسرح للنظر في تصحيح شئ من القولين المذكورين إلا بهذه
التعليلات الاعتبارية، وقد عرفت ما في الاعتماد عليها من الاشكال، فتبقى المسألة
في طامورة التردد والاحتمال، وإن كان ما علل به المشهور أقرب إلى الاعتبار.
المسألة الرابعة: قالوا: لورد الوصية في حال حياة الموصي جاز أن يقبل
بعد وفاته، إذ لا حكم لذلك الرد، وإن رد بعد الموت وقبل القبول بطلت، وكذا
لو رد بعد القبض وقبل القبول، ولو رد بعد الموت والقبول وقبل القبض قيل:
تبطل، وقيل: لا تبطل.
391

أقول: ينبغي أن يعلم أولا " أنه لا خلاف كما عرفت آنفا " في أن الملك في
الوصية متوقف على الإيجاب والقبول وموت الموصي، فبدون الثلاثة المذكورة
الوصية متوقف على الإيجاب والقبول وموت الموصي، فبدون الثلاثة المذكورة
لا يحصل الملك قطعا "، وإنما اختلفوا في أنه القبض مع ذلك هل هو شرط في تحقق
الملك أم ليس بشرط.
فقيل: بالأول كالهبة والوقف، لاشتراكهما في العلة المقتضية له، وهو
العطية المتبرع بها مع أولوية الحكم في الوصية، من حيث إن العطية في الهبة
وما في معناها منجزة، وفي الوصية مؤخرة، والملك في المنجز أقوى منه في المؤخر،
بقرنية نفوذ المنجز الواقع من الأصل على خلاف، بخلاف المؤخر.
وقيل: بالثاني لأصالة العدم، وعموم " الأمر بالوفاء بالعقود " الشامل لموضع
النزاع، وبطلان القياس، من حيث خروج الهبة ونظائرها بدليل خاص وقد تقدم،
وهولا يتناول الوصية، والأولوية المذكرة لا تفيد الحكم المتنازع وأصل الخلاف
واقع في المؤخر أيضا "، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
أقول: ويدل على ذلك ما رواه العباس بن عامر في الصحيح (1) " قال: سألته عن
رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن يقبضها، ولم يترك عقبا؟ قال أطلب له
وارثا " أو مولى فادفعها إليه، قلت: فإن لم أعلم له وليا، قال: اجهد على أن تقدر
له على ولي فإن لم تجده وعلم الله منك الجد فتصدق بها "، وهو صريح في المدعى
كما ترى، وهو أيضا " طاهر فيما قدمنا ذكره من صحة الوصية أعم من أن يكون
قبل أو لم يقبل، وبذلك تظهر لك قوة القول الثاني، وهو كون القبض ليس بشرط
في ملك الوصية.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن من فروع الملك وعدمه عندهم رد الموصى له
الوصية، فإن وقع الرد بعد تحقق الملك لم يؤثر رده في ابطال الملك، لأن
الملك لا يزول باعراض صاحبه عنه.

(1) الكافي ج 7 ص 13 ح 3، الوسائل ج 13 ص 409 ح 2.
392

نعم ربما أفاد الإباحة في بعض الموارد إلا أن إباحة التصرف لا تقضي زوال
الملك، وعلى هذا فإذا وقع الرد بعد الموت، والقبول والقبض لا يؤثر شيئا "، لأن
الملك هنا قد استقر، ثبت اجماعا " فلا حكم للرد اتفاقا "، وإن وقع الرد بعد الموت
والقبول وقبل القبض بني الكلام على الخلاف المتقدم، فإن قلنا إن القبض شرط
في الملك صح الرد قبله، وبطلت الوصية، وإلا فلا، كما لو وقع بعده، فإنه لا أثر
له في البطلان، وإن وقع الرد بعد الموت وقب القبول، قبض أو لم يقبض، بطلت
الوصية، لأن الملك لم يتحقق حينئذ، فكانت الوصية من قبيل العقد الجائز إذا
أبطله أحد المتعاقدين، أو اللازم إذا رده أحدهما بعد الإيجاب وقبل القبول.
أقول: صحة الحكم هنا مبنية على تسليم شرطية القبول كما هو مسلم بينهم،
وأما على ما يظهر من الأخبار كما عرفت وستعرف إن شاء الله تعالى، من أنه لا دليل
عليه، بل الدليل ظاهر في خلافه، فإنه يحكم بالصحة وإن وقع الرد قبل الوفاة،
سواء كان قبل القبول أم لا، فالرد هنا عندهم لا حكم له، فله أن يجدد القبول
بعد ذلك، لأن الرد في حكم العدم، حيث لم يصادف محلا " إذ التمليك لا يحصل
إلا بعد الوفاة، فرده هنا إنما هو في معنى رد ملك غيره، وهو غير معقول، فيقع
لاغيا "، لأنه وإن قبله فالشرط لملكه موت الموصي اجماعا "، والفرق بين الرد في هذه
الصورة وبين الرد بعد الموت وقبل القبول، في أن الأول لا حكم له، بل له أن يجدد
القبول، وفي الثاني تبطل الوصية كما تقدم، مع اشتراكهما في عدم حصول الملك
فيهما - أن الملك بعد الموت وقبل القبول وإن لم يحصل على وجه اللزوم الذي لا يؤثر
الرجوع في زواله، إلا أنه حاصل في الجملة، باعتبار أن القبول كما تقدم كاشف
عن الملك السابق، أو جزء السبب، فالملك حاصل في الجملة، إلا أنه بقي موقوفا "
على القبول لا غير، فالرد حينئذ واقع في محله، وملخصه أن التمليك من الموصي
قد حصل، وبقي موقوفا " على رضاه بذلك وقبوله، فإذا رده تبين عدم الرضا والقبول،
فتبطل الوصية كما لو أوجب البايع البيع فرده المشتري ولم يقبل، وهذا بخلاف
393

الرد الواقع حال الحياة فإن الملك لم يحصل بالكلية وإن قبل في تلك الحال.
هذا كله فيما لو تعلق الرد بالجميع، أما لورد بعضا " وقبل بعضا " فإنه يصح
فيما قبله، ويبقى الكلام في البعض الذي رده، فبنى على الفروض المتقدمة من
الرد في حال الحياة أو بعد الوفاة، قبل القبول أو بعده، مع القبض أو عدمه.
وبالجملة فإن الوصية لما كانت تبرعا " محضا " لم ترتبط أجزائها بعضها ببعض،
فكما يصح قبولها جميعا " يصح قبول بعضها، ويلزمه حكمه خاصة، ويلزم الآخر
أيضا " حكمه المتقدم، وهذا بخلاف البيع ونحوه من عقود المعاوضات، فإن البايع
لو باعه جملة فقبل المشتري بعضها، وقع قبوله لاغيا "، لأن الغرض فيه مقابلة أجزاء
العوض بأجزاء المعوض، والبعض الذي اختص بالقبول غير مقصود للبايع إلا مقيدا "
بالجملة، بخلاف التبرع المحض، فإن القصد إلى الجملة يتضمن القصد إلى كل
واحد من أجزائها منضمة ومنفردة، ومن ثم لو أوصى بما زاد على الثلث ولم يجز
الوارث بطل في الزائد، وصح في قدر الثلث وإن قبل الموصى له لعدم الارتباط
الذي بيناه، هكذا قيل.
وفيه نظر، فإن ما ادعى من أنه لو قبل المشتري بعض الجملة المباعة دون
بعض وقع لاغيا "، لا دليل عليه شرعا "، وما علل به من هذا الوجه الاعتباري لا يصلح
لتأسيس حكم شرعي، ولو تم ما ادعوه من الارتباط بين أجزاء المبيع فلا يصح في
بعض دون بعض، للزم البطلان فيما لو باع ماله ومال غيره صفقة، فيبطل البيع في
الجميع، مع أنه ليس كذلك، بل يصح البيع في ماله، ويختص البطلان بمال
الغير، ويوزع الثمن بالنسبة كما تقدم ذكره في محله.
وبه يظهر ما في قوله ومن ثم لو أوصى بما زاد على الثلث إلى آخره حيث
جعل مناط الصحة في الثلث خاصة، والبطلان فيما زاد هو عدم الارتباط، مع أن
مثله كما عرفت وارد في المبيع، وحينئذ فلا يتم ما ادعوه كليا.
وبالجملة فإن المدار في الأحكام الشرعية كيف كانت، إنما هو على النصوص
الشرعية، دون هذه التعليلات العقلية، والله العالم.
394

المسألة الخامسة: الأشهر أنه لو مات الموصى له قبل القبول سواء مات في
حياة الموصي أم بعد وفاته، فإن وارثه يقوم مقامه في قبول الوصية، وتكون
الوصية له كما كانت لمورثه، إلا أن يرجع الموصي في الوصية.
ويدل على هذا القول ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) في
الصحيح عن محمد بن قيس (1) " عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام
في رجل أوصي لآخر والموصى له غائب، فتوفي الذي أوصى له قبل الموصي، قال:
الوصية لوارث الذي أوصى له، قال ومن أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا، فتوفي
الموصي له قبل الموصي، فالوصية لوارث الذي أوصي له إلا أن يرجع في وصيته قبل
موته " ومورد هذه الرواية إنما هو موت الموصى له في حياة الموصي، فلا يمكن
الاستدلال بها على ما قدمنا من المدعى، وحينئذ فينبغي أن يجعل المدعى أنه لو مات
الموصى له في حياة الموصى قبل القبول، فهل تصح الوصية أم لا؟ فتكون الرواية
المذكورة مستندا " للقول بالصحة، إلا أن ظاهرهم أن محل الخلاف هو الأعم كما
حررناه، وربما كان المستند في تعميم الحكم ما لو مات بعد موت الموصى، هو
الأولوية، وفيه ما فيه.
وطعن في هذه الرواية في المسالك وقبله العلامة في المختلف، بأن محمد بن
قيس مشترك بين جماعة فيهم الضعيف والثقة، قال في المسالك بعد نقل الرواية وهذه
الرواية نص في الباب لو تم سندها، إذ لا يخفى أن محمد بن قيس الذي يروي عن
الباقر عليه السلام مشترك بين الثقة والضعيف وغيرهما، فكيف تجعل روايته مستند
الحكم، إلا أن يدعوا جبرها بالشهرة على ما هو المشهور بينهم في ذلك، وفيه
ما فيه.
أقول: الذي صرح به جملة من محققي متأخري المتأخرين منهم سبطه

(1) الكافي ج 7 ص 13 ح 1، التهذيب ج 9 ص 230 ح 903، الفقيه ج 4
ص 156 ح 541، الوسائل ج 13 ص 409 ح 1.
395

السيد السند في شرح النافع وغيره أن محمد بن قيس هنا هو الثقة البجلي، بقرينة
عاصم بن حميد الراوي عنه، كما صرح به الشيخ في الفهرست، وحيثما يوجد
هذا السند فإنهم ينظمونه في سلك الصحيح، وهذه المناقشة قد تكررت من شيخنا
المذكور في المسالك في غير موضع، وهو غفلة محضة.
وبالجملة فالخبر صحيح صريح في المدعى، ثم إن أصحاب هذا القول
عللوه أيضا " زيادة على الخبر المذكور بناء " على قواعدهم من التعليل بالعلل العقلية
بأن القبول كان حقا " للمورث فيثبت لوارثه بعد موته، كباقي الحقوق الموروثة
من الخيار والشفعة وغيرهما، واعترضه في المسالك قال: وأما الاستدلال بكون
القبول حقا " للمورث، ففيه منع كلية الكبرى المدعية، أن كل حق يورث إن
سلم أن القبول حق، فإن حق القبول لا يورث في سائر العقود اجماعا "، كما لو باع
أو وهب فمات المشتري أو الموهوب قبل القبول، فقبل الوارث، وإن كان على
الفور، فإنه لا يعتد به قطعا "، فكذا هنا، انتهى.
أقول قد عرفت مما قدمناه آنفا " أنه لا دليل على اعتبار هذا القبول الذي
يدعونه، ولا على كون الوصية عقدا " يتوقف على الإيجاب والقبول، كما هو المشهور
بينهم، بل ربما دل ظاهر الصحيحة المذكورة هنا مضافا " إلى ما سلف من الأخبار على
أنه بمجرد الوصية قد حصل الانتقال إلى الموصى له، وثبت له الحق، وإن كان متزلزلا "
مراعى بوفاة الموصي، إذ لا وجه للانتقال إلى الوارث قبلا موت الموصي، إلا بالتقريب
الذي ذكرناه، وحينئذ فالمورث إنما هو الوصية، لا القبول الذي ادعوه كما في
عنوان المسألة، فجعلوا محل الخلاف في أنه هل يورث القبول لو مات الموصى له قبل
القبول أم لا؟ وصحيحة محمد بن قيس المذكورة ظاهرة فيما قلناه، حيث قال عليه السلام
في الجواب " الوصية لوارث الذي أوصى له " أي أنه لما أوصى إلى ذلك الرجل فمات
الموصى له فهي لوارثه، إن لم يرجع الموصي فيها، فالموروث هو الوصية، لا القبول
إذ لا دليل، بل لا اشعار في شئ من الأخبار به بالكلية، والحمل على تقدير مضاف
396

في الكلام يعني قبول الوصية لوارث الذي أوصى له خلاف الظاهر، والأصل عدمه.
ونقل عن جماعة من الأصحاب منهم ابن الجنيد والعلامة في المختلف القول
ببطلان الوصية في الصورة المذكورة، مستندين إلى أن الوصية عقد يفتقر إلى
ايجاب وقبول من الموجب له، فيبطل بموته.
واستندوا مع ذلك إلى صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سئل عن رجل أوصى لرجل فمات الموصى له قبل الموصي؟ قال: ليس بشئ ".
وفي الموثق عن منصور بن حازم (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل
أوصى لرجل بوصية إن حدث به حدث فمات الموصى له قبل الموصي؟ قال:
ليس بشئ ".
أقول: أنت خبير بما في هذين الخبرين من الاجمال، وتعدد الاحتمال المانع
من الاعتماد عليهما في الاستدلال قال في المسالك: والحق أن هاتين الروايتين
لا صراحة فيهما في المطلوب لأنهما كما يحتملان أن الوصية لا شئ يعتد به،
بمعنى بطلانها، يحتمل إرادة أن الموت ليس بشئ ينقض الوصية، بل ربما كان
الثاني أنسب بأسلوب الكلام، وتذكير الضمير المستتر في الفعل، وبه يندفع التنافي
بين الروايات، فيكون أولى، انتهى.
والشيخ في التهذيبين حملهما على ما إذا رجع الموصي بعد موت الموصى له
عن وصيته، فأما مع اقراره على الوصية، فإنها تكون لورثته، قال: وقد فصل ذلك
في خبر محمد بن قيس السابق، لا يخفى ما فيه من البعد عن الانطباق على سياق
الكلام واحتمل في الوافي حملهما على ما إذا كان هناك قرينة تدل على إرادة
الموصى له بخصوصه، دون ورثته.
أقول: ويحتمل ولعله الأقرب حملهما على التقية كما ذكر في الوسائل،

(1) التهذيب ج 9 ص 231 ح 906 و 907، الوسائل ج 13 ص 410 ح 4 و 5.
(2) التهذيب ج 9 ص 231 ح 906 و 907، الوسائل ج 13 ص 410 ح 4 و 5.
397

قال: لأنه مذهب أكثر العامة، وكيف كان فإن الخبرين المذكورين لما عرفت
لا يبلغان قوة المعارضة للصحيحة السابقة، ولعلة لأجل ذلك جعلهما في المختلف
مؤيدين، بعد أن علل البطلان بأن الوصية عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، قال:
وقد بينا أن القبول المعتد به هو الذي يقع بعد الوفاة فصار الموت حينئذ فلا عبرة
به، انتهى.
وفيه ما عرفت، وقيل هنا: قول ثالث بالتفصيل كما نقله في المسالك عن
بعض الأصحاب، من أنه خص البطلان بما إذا مات الموصى له قبل الموصي عملا "
بمدلول هاتين الروايتين، قال: فلو مات بعده لم تبطل، للأصل وعدم المعارض.
أقول: لا يخفى أن هذه الروايات المذكورة إنما تعارضت وتصادمت في موت
الموصى له في حياة الموصي، فالصحيحة المتقدمة صريحة في الصحة والانتقال إلى
الوارث، والروايتان الأخريان على ما عرفت، من الاجمال والاحتمال، وإن ادعى
منهما الدلالة على البطلان.
وكيف كان فإن حكم موت الموصى له بعد موت الموصي غير معلوم من هذه الأخبار، وحينئذ فيمكن أن يقال: إن مع موت الموصى له في حياة الموصي فالحكم
الصحة، عملا " بالصحيحة المذكورة، وأما بعد وفاته فالوجه في الحكم بالصحة
أيضا " هو ما ذكره هذا القائل بالتفصيل من أن الأصل الصحة، ولا معارض هنا لها،
ويؤيده أيضا " ما قدمناه في صدر المسألة الرابعة (1) من صحيحة العباس بن عامر
الدالة على موت الموصى له قبل قبض الوصية فأمر عليه السلام الوصي أن يطلب له وارثا "
ليدفع إليه الوصية وظاهر سياقها أن موته بعد موت الموصي كما هو محل البحث.
ورواية محمد بن عمر الساباطي (2) " قال: سألت أبا جعفر عليه السلام يعني الثاني
عن رجل أوصى إلي وأمرني أن أعطي عما له في كل سنة شيئا "، فمات العم؟
فكتب عليه السلام أعط ورثته ".

(1) ص 392
(2) الكافي ج 7 ص 13 ح 2، الوسائل ج 13 ص 410 ح 3.
398

وهذه الرواية أيضا " ظاهرة في أن موت العم بعد موت الموصي، لأنه مع حياة
الموصي لم يتحقق الملك للموصي له ليأمر بالدفع إلى ورثته، ويؤكده أيضا " أن
المعطي والسائل إنما هو الوصي الموصى إليه بتنفيذ الوصايا، وهو لا يكون إلا بعد موت
الموصي كما هو ظاهر، وأما احتمال ارجاع الضمير في ورثته إلى الرجل الموصي
المسؤول عنه في صدر الخبر، فمن الاحتمالات السخيفة التي لا ينبغي النظر إليها.
وبالجملة فإن هذين الخبرين ظاهران في أن مع موت الموصى له بعد وفاة
الموصي: فإنه لا ريب في صحة الوصية، وأنها تدفع للموصى له، ولوارثه، لأنه استحقها
وملكها بالوصية وتحرر الملك، ولزم بموت الموصي، ومدلولهما غير ما دلت عليه
الأخبار المتقدمة، فلا تنافي بين الجميع ولا تعارض، لأن مدلول تلك كما عرفت
موت الموصى له في حياة الموصي، ومدلول هذه بعد موت الموصي، وبما ذكرناه
لك يظهر ضعف القول بالتفصيل المذكور، لأنه مبني على دلالة الروايتين المتقدمتين
على بطلان الوصية، وقد عرفت ما فيه، وأن الأصح هو الصحة للصحيحة المتقدمة
وعدم صراحة هاتين الروايتين المذكورتين في المنافاة، بل الظاهر من جميع هذه
الروايات التي أوردناها في المقام هو الصحة، سواء مات الموصى له في حال حياة
الموصي أو بعد موته بالتقريب الذي شرحناه.
وبه يظهر أيضا " ضعف القول بالبطلان كما ذهب إليه في المختلف، لدلالة
هذين الخبرين على الصحة في صورة موت الموصى له بعد موت الموصي، ودلالة
صحيحة محمد بن قيس على الصحة قبل موته، وهو قد حكم بالبطلان في الموضعين،
والله العالم.
المسألة السادسة: قال المحقق في الشرايع: فرع لو أوصى بجارية وحملها
لزوجها وهي حامل منه، فمات قبل القبول، كان القبول للوارث، وإذا قبل ملك الوارث
الولد، إن كان ممن يصح له تملكه، ولا ينعتق على الموصى له، لأنه لا يملك بعد
الوفاة، ولا يرث أباه، لأنه رق إلا أن يكون ممن ينعتق على الوارث إلى آخره.
399

قال في المسالك بعد ذلك: هذا فرع على المسألة السابقة المتضمنة لكون
القبول موروثا، فإذا فرض كون الموصى به جارية وحملها، والحال أن الحمل
ولد الموصى له بتزويج أو غيره، ففرض المصنف كون الموصى له زوجا " غير لازم.
ويفرض كون الحمل رقا " لمولى الجارية بالاشتراط على القول بصحته، وحينئذ فإذا
مات الموصى له قبل القبول وقلنا بانتقال حقه إلى وارثه، فقبل الوصية بهما، ملك
الجارية والولد، ولا ينعتق الولد لأن أباه لم يملكه، وإنما انتقل ملكه إلى الوارث
ابتداء " كما أشرنا إليه سابقا " نعم لو كان ممن ينعتق على الوارث كما لو كان الوارث
ابنا " والحمل أنثى، انعتق عليه، انتهى المقصود من كلامه.
أقول: قد عرفت مما قدمناه أن ما يدعونه من القبول في هذا المقام مما لم
يقم عليه دليل، ربما دلت ظواهر الأخبار على عدمه، وحينئذ فجميع ما يفرع
على ذلك لا يخلو من الاشكال، ومنه ما ذكروه هنا من أنه كما أن للموصى إليه
التخيير في القبول وعدمه، كذلك يثبت للوارث التخيير في قبول الوصية وعدمه
فلو مات الموصى إليه قبل القبول تخير الوارث بين القبول، فيملك ما أوصى به
وعدمه فلا يملكه، والمفهوم من الروايات التي قدمناها في سابق هذه المسألة هو أنه
متى مات الموصى إليه في حياة الموصي أو بعد موت الموصي، فإن الوصية تنتقل إلى
الوارث انتقالا " موجبا " للملك، غير متوقف على شئ إلا موت الموصي إن مات الموصى
إليه في حال حياته، فإن ما اشتملت عليه صحيحة العباس بن عامر من أمره عليه السلام
بطلب الوارث والدفع إليه، ثم أمره بالصدقة عنه بعد تعذر الوقوف عليه أظهر
ظاهر، وأصرح صريح في الانتقال إليه من غير توقف على شئ، وإلا لكان الأنسب
أنه حيث تعذر الوارث فإنه ترجع الوصية إلى ورثة الموصي، لتعذر القبول الذي
هو شرط عندهم بتعذر وجود الوارث، مع أنه عليه السلام مع تعذر الوارث أمر بالصدقة
عنه، أو عن الموصى له، أو عن وهو صريح في ملك الموصى له ووارثه من بعده،
بمجرد الوصية وموت الموصي، وكذلك حكمه عليه السلام في رواية محمد بن عمر
400

الساباطي بكونه لورثة العم، كان ينبغي تقييده إن قبلوا ذلك وإلا فلا، وكذلك
حكمه عليه السلام في صحيحة محمد بن قيس بأن الوصية لوارث الذي أوصى له من غير
استفصال بين قبوله وعدمه، ولو كان الأمر كما يدعونه لكان الواجب أن يقول إن
الوصية له إن قبل، وإلا فلا.
و بالجملة فإنه لا يخفى على المتأمل في سياق الأخبار المذكرة سيما صحيحة
العباس بن عامر أنه بموت الموصى إليه تنتقل الوصية إلى وارثه انتقالا " صحيحا "
شرعيا " موجبا " للملك، غاية الأمر أنه إن كان الموت في حياة الموصي فإن الملك
يكون مراعى بعدم رجوع الموصي في الوصية، كما دلت عليه صحيحة محمد بن
قيس، وإن كان بعد موت الموصي فقد استقر الملك بحصول شروطه المتقدمة، وأما
أنه للموصى له التخيير بين القبول والرد كما زعموه، فقد عرفت أيضا " ما فيه،
من أنه لا دليل عيه إلا ما ذكروه من الوجوه الاعتبارية التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية، وما المانع من أن يكون بعد استكمال شروطه من قبيل الميراث، إذا
اقتضته الأدلة، كما صرحوا به في الوصية لغير معين، من أنه ينتقل بمجرد
الوصية وموت الموصي.
وبالجملة فإنك بالتأمل في الأخبار التي ذكرناها لا أظنك يعتريك الشك في
صحة ما ذكرناه، لكن مخالفة المشهور مما يثقل في قلوب الجمهور، إذا عرفت ذلك
فاعلم أنه يأتي على ما حررناه، من أن الوصية قد انتقلت إلى الموصى له ووارثه إنما
تلقاها منه، وورثها عنه، أن الجارية وولدها هذا قد انتقلا إلى الزوج وبموجبه
ينعتق الولد عليه، لأنه لا يملك ولده.
قوله في المسالك فيما قدمنا من عبارته: " وحينئذ فإذا مات الموصى له
قبل القبول وقلنا بانتقال حقه إلى وارثه.. إلى آخرة ".
فيه أنك قد عرفت من الأخبار التي كررناها، أن مقتضاها أن من أوصى
بوصية إلى شخص فمات الموصى له قبل قبض الموصى به، فإنه تنتقل الوصية عنه
إلى وارثه، ويملك الوارث جميع ما ورثه الموصى له من غير تقييد بقبول لا في
401

جانب الموصى له، ولا في جانب وارثه، والوراث إنما تلقى الملك عن مورثه،
لا من حيث قبوله خاصة، ومقتضى ما ذكروه من أن الموصى له مات قبل القبول
أنه لم يحصل له الملك، والملاك إنما حصل لوارثه، من حيث قبوله، فيكون
الوارث قد ملك شيئا " لم يملكه مورثه، وهذا خلف ظاهر، فإن الوارث بالاتفاق
إنما تلقى الملك من مورثه، فكيف يملك هنا شيئا " لم يملكه مورثه، حتى أنهم
يفرعون عليه عدم انعتاقه الولد، لعدم دخوله في ملك الأب.
ثم إنه أي حق للموصى له لو مات قبل القبول ليرثه وارثه، فإنه إذا كان القبول
عندهم شرطا " في صحة الملك أو جزء السبب ولم يحصل، ففاته لا يحصل الملك،
وبموجبه تبطل الوصية، فليس هنا شئ يرثه الوارث بالكلية.
فإن قيل: إنه بالوصية يملكه ملكا " متزلزلا " لا يستقر إلا بالقبول، فلما
مات الموصى له قبل القبول ورث الوارث ذلك الملك المتزلزل عنه، وورث حق
القبول الذي كان للموصي له، فإذا قبل ذلك استقر الملك له.
قلنا: أما إرثه الملك المتزلزل فممكن، وأما إرثه حق القبول، فغير مسلم
وقد تقدم ذلك في كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، كما قلناه في سابق هذه
المسألة في الجواب عن ذلك الدليل العقلي المذكور ثمة.
وبالجملة فإن مقتضى الأخبار التي ذكرناها إنما هو انتقال الوصية إلى
الموصى له أولا "، وأنه يملكها، وإن اقترن الملك بين موت الموصى له في حياة
الموصي أو بعد موته كما تقدم، ثم بعد موته ينتقل إلى وارثه، وحينئذ فيجب
الحكم بانعتاق الولد في الصورة المفروضة، وهذا من جملة ما يتفرع على الخلاف
بين كلامهم، وبين ما يظهر من الأخبار الجارية في هذا المضمار.
المسألة السابعة: قد صرحوا بأن الوصية عقد جائز من طرف الموصي
ما دام حيا "، سواء كانت الوصية بمال أو ولاية، ويتحقق الرجوع بالتصريح،
وبفعل ما ينافي الوصية، فلو باع ما أوصى به أو أوصى ببيعه أو وهبه وأقبضه، أو
رهنه كان ذلك رجوعا "، وكذا لو تصرف فيه تصرفا أخرجه عن مسماه.
402

أما لو أوصى بخبز فدقه فتيتا " لم يكن ذلك رجوعا ".
أقول: ما ذكروه من أن الوصية عقد جائز من طرف الموصي ما دام حيا " مما
لا خلاف فيه نصا " وفتوى، أما الثاني فلأنه لا خلاف كما نقله في المسالك وغيره في
جواز رجوع الموصي في وصيته ما دام حيا "، ولو كانت لازمة لامتنع ذلك.
وأما الأول: فالأخبار كثيرة، منها ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى
مراقدهم) عن عبيد بن زرارة (1) " قال: قد سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول. للموصي
أن يرجع في وصيته إن كان في صحة أو مرض ".
وعن بريد بن معاوية (2) في الموثق " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لصاحب
الوصية أن يرجع فيها ويحرث في وصيته ما دام حيا ".
وعن عبد الله بن مسكان (3) في الصحيح " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قضى
أمير المؤمنين عليه السلام أن المدبر من الثلث وأن للرجل أن ينقص وصيته، فيزيد فيها
وينقص منها ما لم يمت).
وعن محمد مسلم (4) في الصحيح (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المدبر من
الثلث وقال: للرجل أن يرجع في ثلثه إن كان أوصى في صحة أو مرض ".
وعن يونس (5) عن بعض أصحابه " قال: قال علي بن الحسين عليه السلام للرجل
أن يغير وصيته فيعتق من كان أمر بملكه، ويملك من كان أمر بعتقه، ويعطي من
كان حرمه، ويحرم من كان أعطاه ما لم يمت ويرجع فيه ".
وما رواه في الفقيه عن محمد بن عيسى بن عبيد (6) " قال كتبت إلى

(1) الكافي ج 7 ص 12 ح 1 و 2، الفقيه ج 4 ص 147 ح 509 و 508
التهذيب ج 9 ص 189 ح 760 و ص 190 ح 761، الوسائل ج 13 ص 386 ح 3 و 4
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) الكافي ج 7 ص 12 ح 3، التهذيب ج 9 ص 190 ح 732.
(4) الكافي ج 7 ص 22 ح 3.
(5) الكافي ج 7 ص 13 ح 4.
(6) الفقيه ج 4 ص 173 ح 607.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 385 ح 1 و ص 389 ح 1 و ص 385
ح 2 و ص 387 ح 6.
403

علي بن محمد عليهما السلام رجل أوصى لك جعلني الله فداك بشئ معلوم من ماله وأوصي
لأقربائه من قبل أبيه وأمه، ثم إنه غير الوصية فحرم من أعطاه وأعطى من حرمه
أيجوز له ذلك؟ فكتب (صل؟ وات الله عليه) هو بالخيار في جميع ذلك إلى أن يأتيه
الموت ".
وما رواه المشايخ الثلاثة في الموثق عن إسحاق بن عمار (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضا " فقال لي: إن حدث بي
حدث فاعط فلانا عشرين دينارا " واعط أخي بقية الدنانير، فمات ولم أشهد
موته، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: أنه أمرني أن أقول لك: أنظر الدنانير
التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين،
ولم يعلم أخوه أن له عندي شيئا "، فقال: أرى أن تصدق منها بعشرة دنانير
كما قال ".
إلى غير ذلك من الأخبار، وكتب بعض مشايخنا المحدثين من متأخري
المتأخرين في حواشيه على هذا الخبر الأخير ما صورته: العمل بخبر العدل
الواحد في مثل ذلك لا يخلو من اشكال إلا أن يحمل على حصول العلم بالقرائن
المنضمة إلى أخباره، ويمكن أن يقال: إنما حكم عليه السلام بذلك في الواقعة المخصوصة
لعلمه بها، انتهى.
أقول: لا يخفى على من تتبع الأخبار حق التتبع، أن المستفاد منها إنما هو
قبول قول العدل الواحد في غير موضع من الأحكام، ومن ذلك هذا الخبر.
ومن ذلك أيضا " ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (2) " قال: سألته عن
رجل تزوج جارية أو تمتع بها، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال: إنها امرأتي،
وليست لي بينة، فقال: إن كان ثقة فلا يقربها، وإن كان غير ثقة لم يقبل منه ".

(1) الكافي ج 7 ص 64 ح 27، التهذيب ج 9 ص 237 ح 923، الفقيه
ج 4 ص 175 ح 614، الوسائل ج 13 ص 482 ح 1.
(2) التهذيب ج 7 ص 461 ح 53، الوسائل ج 14 ص 226 ح 2.
404

وظاهرة كما ترى، النهي عن نكاحها الذي هو حقيقة في التحريم، وليس ذلك إلا
من حيث إفادة قول الثقة العلم، كالشاهدين، والتأويل بالحمل على الكراهة
يحتاج إلى المعارض، وهو منتف، والمعاضد له موجود، ومن ذلك ما تقدم في كتاب
الوكالة من صحيح هشام بن سالم (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال فيه " أن
الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا "، والوكالة ثابتة حتى يبلغه
العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة "، والأصحاب قد صرحوا
بأنه لا ينعزل الوكيل إلا مع العلم بالعزل، والخبر ظاهر أن أخبار الثقة كالمشافهة
للعزل في إفادة العلم بالعزل، ومن ذلك حملة من الأخبار الدالة على جواز وطئ
الأمة المشتراة بغير استبراء إذا كان البايع عدلا قد أخبر بالاستبراء (2)،
ويؤيده الأخبار الدالة على الاعتماد على أذان الثقة في دخول الوقت (3) إلى غير
ذلك من المواضع التي تقف عليها المتتبع البصير، ولا ينبئك مثل خبير.
ثم إنهم ذكروا أن الرجوع في الوصية ونحوها من العقود الجائزة قد
يكون بالفعل وبالقول، إما صريحا " أو استلزاما " أو باعتبار اشعاره بإرادة الرجوع،
فهذه أقسام أربعة:
أحدها القول الصريح، كقوله رجعت في الوصية الفلانية، أو نقضتها
أو فسختها، أو لا تعطوها ما أوصيت به، أو يقول هو " يعني الموصى به " لفلان،
أو لوارثي، أو من جملة ميراثي.
وثانيها بيع العين التي أوصى بها، واللازم من البيع نقل العين إلى
المشتري، ويمتنع مع ذلك بقاء الوصية، وكذا عتق المملوك، وكتابته، فإن
مقتضاهما قطع السلطنة عن المملوك التي من جملته الوصية به، وكذا الهبة

(1) التهذيب ج 6 ص 213 ح 503.
(2) الكافي ج 5 ص 472 ح 4.
وهما في الوسائل ج 13 ص 286 ح 1 و ص 38 ح 2.
(3) الوسائل ج 4 ص 618 الباب 3.
405

المقرونة بالاقباض، أما لا معه فهي من القسم الآتي.
وثالثها فعل ما يدل على إرادة الرجوع وإن لم يكن صريحا "، يتحقق
بفعل مقدمات الأمور التي لو تحققت لناقضت الوصية، ومنه الهبة قبل القبض
كما عرفت، والعرض على البيع مريدا " له، فإنه قرينة دالة على إرادة الرجوع
عن الوصية، ولو دلت القرائن في شئ من هذه المواضع على عدم إرادة الرجوع
بذلك، بل كان الغرض أمرا " آخر، عول على تلك القرائن، لضعف هذا القسم،
حيث إن مناطه القرينة، ويشكل الحال لو اشتبه الفرض من الطرفين.
ورابعها الفعل المبطل للاسم الذي هو متعلق الوصية، كما لو أوصى له
بحنطة معينة فطحنها، أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه أو بقطن فعزله، أو بغزل
فنسجه، أو بدار فهدمها بحيث خرجت به عن اسمها، أو بزيت فخلطه بغير جنسه،
بحيث لم يتميز، ووجه البطلان في جميع ذلك أن متعلق الوصية في جميع ذلك
هو المسمى الخاص، وقد زال، مضافا " إلى اشعار هذه الأفعال بالرجوع، إلا أن تدل
هناك قرينة فعلى خلاف ذلك، كأن يفعل لمصلحة العين، وقصد بقاءها وحفظها،
كدفع الدود عن الحنطة، وخبز العجين خوفا من فساده وضياعه، وخلطه كذلك،
ونحو ذلك، فإن مرجع هذه الأمور إلى القرائن المقترنة بها نفيا " واثباتا " ولو
وقع الفعل من غير الموصي بغير إذنه، لم يقدح في صحة الوصية، لانتفاء المقتضي.
قالوا: ولو خلط الزيت بمماثله جنسا " فإن كان الغير أجود فظاهرهم القطع
بكونه رجوعا " لاشتمال حصته، على زيادة، ولم يحصل منه الرضا ببدلهما مع
عدم إمكان فصلها، وإن خلطه بمساوي أو أردى فالمفهوم من كلام بعضهم أنه
لا يكون رجوعا " لبقاء المال وعدم اشتماله على وصف مانع.
قال في المسالك: وهو ظاهر مع المساواة، ومع الأردأ يكون القدر الناقص
من الوصف بمنزلة اتلاف الموصي له، فيبقى الباقي على الأصل انتهى، وأطلق
جماعة من الأصحاب كون الخلط موجبا " للرجوع، قال في المسالك: وهو حسن مع
406

انضمام قرينة تدل عليه.
هذا كله فيما لو كان الموصى به معينا " كهذه الحنطة وهذا الزيت، ونحو
ذلك، أما لو كان مطلقا كأن يوصى له بأصواع من حنطة أو زيت أو نحو ذلك،
ثم يطحن ما عنده في بيته أو يمزج أو نحو ذلك فإن ذلك لا يكون رجوعا "، لعدم
اختصاص الموصى به بذلك، بل لو لم يوجد ذلك عنده لوجب شراؤه، فلا يضر
التغير فيما عنده، وأما أنه لو أوصى بخبز فدقه فتيتا " لم يكن ذلك رجوعا "، فعلل
بأن هذا الفعل لا يدل على الرجوع، إلا بالقرينة، مضافا " إلى أصالة بقائها على
حالها، وعلل أيضا " ببقاء اسم الخبز.
قال في المسالك: وفيه نظر، ولم يبين وجهه، نعم لو استفيد من القرائن
إرادة الرجوع به عمل بها، ونقل عن القواعد أنه استشكل الحكم في ذلك وألحق
بذلك جعل القطن محشوا في فراش وتجفيف الرطب تمرا " وتقديد اللحم.
قيل ووجه الاشكال ما تقدم، ومن دعوى أن ظاهر هذه الأفعال يؤذن
بالاستيثار بها، فالظاهر أن الأقرب في ذلك ما تقدم نقله عن المسالك من أن هذه
الأمور غير مفيدة للرجوع إلا مع القرينة، كل ذلك مع التعيين كما تقدم، وأما
مع الاطلاق فلا، بل يجب تحصيل غيره، ولو من غير التركة، هذا ملخص كلامهم
في المقام، والله العالم.
المقصد الثاني في الموصي:
والكلام يقع فيه في مقامات ثلاثة: الأول: اشترط جملة من الأصحاب في
الموصي الكمال بالبلوغ والعقل ورفع الحجر، ومقتضاه عدم صحة وصية غير
البالغ، وإن كان مميزا " مع أن كثيرا " من الأخبار دل على صحة المميز وإن لم
يبلغ، وهو أحد الأقوال في المسألة أيضا "، وأما العقل فيخرج به المجنون
والسكران، والغير الرشيد كالسفيه، مع أن لهم في السفيه اختلافا "، فنقل في
407

الدروس عن المفيد وسلار والحلبي عدم نفوذ وصيته إلا في البر والمعروف، وعن
ظاهر ابن حمزة عدم نفوذها مطلقا، وعن الفاضل أنه أنفذها مطلقا " تارة، ومنعها
مطلقا " أخرى، قال: وفي حكمه من جرح نفسه للموت، وأما رفع الحجر فيخرج
به العبد، لأنه وإن قيل بملكه فهو محجور عليه، كما تقدم تحقيقه في كتاب
البيع (1) قال في الدروس: ولو أعتق ففي نفوذها قولان للفاضل، قال: وأولى
بالنفوذ إذا علق الوصية حريته، هذا وأما ما وقع الخلاف فيه مما تقدمت
الإشارة إليه فتفصيل الكلام في ذلك أنه قد سوغ الشيخ في النهاية، ووصية الصبي في
المعروف إذا كان له عشر سنين إذا كان وضع الشئ مواضعه، ومردودة في غير
البر، ومتى كان سنه أقل من ذلك لم تجز وصيته، قال: وقد روي أنه إذا كان
ابن ثمان سنين جازت وصيته في الشئ اليسير في أبواب البر، والأول أحوط
وأظهر، وكذا يجوز صدقة الغلام إذا بلغ عشر سنين، وهبته وعتقه إذا كان
بالمعروف في وجه البر، وأما ما يكون خارجا عن ذلك فليس بممضي على حال،
وبذلك قال ابن البراج.
وقال الشيخ المفيد: إذا بلغ الصبي عشر سنين جازت وصيته في المعروف في
وجوه البر، وكذلك المحجور عليه لسفه إذا أوصى في بر أو معروف جاز وصيته،
ولم يكن لوليه الحجر عليه في ذلك، ولا تجوز وصية الصبي والمحجور عليه فيما
يخرج من وجوه البر والمعروف، وهبتهما باطلة، ووقفهما وصدقتهما كوصيتهما
جائزة إذا وقعا المعروف.
وقال سلار: السفيه لا تمضي وصيته إلا في وجوه البر والمعروف خاصة،
والصبي إن بلغ عشر سنين جازت وصيته أيضا " في البر والمعروف خاصة، ولا تمضي
هبته ولا وقفه، وكذلك السفيه.
وقال أبو الصلاح: لا تمضي وصية من لم يبلغ عشر سنين، والمحجور عليه

(1) ج 19 ص 397.
408

إلا ما تعلق بأبواب البر.
وقال ابن الجنيد: إذا أوصى الصبي وله ثمان سنين والجارية ولها سبع
سنين بما وصى به البالغ الرشيد جاز.
وقال ابن حمزة: إنما تصح وصية الحر البالغ كامل العقل أو في حكمه،
ونفاذ تصرفه في ماله، وحكم كمال العقل يكون للمراهق الذي لم يضع الأشياء
في غير مواضعها، فإن وصيته وصدقته وعتقه وهبته بالمعروف ماضية دون غيرها.
وقال محمد بن إدريس: الذي يقتضيه أصول مذهبنا أن وصية غير المكلف
البالغ غير صحيحة، سواء كانت في وجوه البر أو غير وجوه البر، وكذلك صدقته
وعتقه وهبته، لأن وجود كلام الصبي غير البالغ كعدمه، ولأنه بلا خلاف محجور
عليه، غير ماض فعله في التصرف في أمواله بغير خلاف بين الأمة، ولقوله تعالى (1)
" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم "
فأمرنا بالدفع للأموال إليهم بعد البلوغ، وهو في الرجال الاحتلام أو الانبات،
أو خمس عشر سنة، وفي النساء الاحتلام أيضا أو الانبات أو بلوغ تسع سنين، أو
الحمل أو الحيض مع إيناس الرشد وحده، أن يكون مصلحا " لماله، مصلحا " لدينه
ومن أجاز شيخنا وصيته وعقده وهبته ليس كذلك، لقوله عليه السلام (2) " رفع القلم عن
ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم "، ورفع القلم عنه يدل على أنه لا حكم لكلامه، وإنما
هذه أخبار آحاد أوردها في النهاية ايرادا ".
أقول: والواجب أولا " كما هي قاعدتنا في الكتاب نقل جملة الروايات الواردة
في هذا الباب والكلام في ذلك بتوفيق الملك الوهاب، فمن الأخبار ما رواه الصدوق في
الصحيح عن أبي عمير عن أبان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (3) " قال: قال أبو عبد الله عليه السلام
إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته " ورواه الكليني أيضا " بسند غير نقي.

(1) سورة النساء الآية 6.
(2) الوسائل ج 1 ص 32 الباب 4 ح 10.
(3) الفقيه ج 4 ص 145 ح 501، الكافي ج 7 ص 28 ح 1، الوسائل
ج 13 ص 429 ح 3.
409

وما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم عن زرارة (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال:
إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى
على حد معروف وحق فهو جائز ".
وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن منصور بن حازم (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن وصية الغلام هل تجوز؟ قال: إذا كان ابن عشر سنين
جازت وصيته ".
وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله في الموثق (3) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
إذا بلغ الصبي خمسة أشبار أكلت ذبيحته، وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيته ".
وعن أبي بصير وأبي أيوب (4) في الموثق " عن أبي عبد الله عليه السلام في الغلام ابن
عشر سنين يوصي؟ قال: إذا أصاب موضع الوصية جازت ".
وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن
مسلم (5) " قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الغلام إذا حضره الموت فأوصى
ولم يدرك جازت وصيته، لأولي الأرحام، ولم تجز للغرماء ".
وعن أبي بصير (6) في الصحيح والظاهر أنه المرادي " عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حق جازت وصيته، فإذا كان
ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيته ".
وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن محمد بن مسلم (7) عن

(1) الكافي ج 7 ص 28 ج 1، التهذيب ج 9 ص 181 ح 729، الفقيه
ج ص 145 ح 502.
(2) التهذيب ج 9 ص 182 ح 730، الوسائل ج 13 ص 429 ح 3 و 4
و ص 430 ج 7.
(3) التهذيب ج 9 ص 181 ح 726.
(4) التهذيب ج 9 ص 181 ح 727 و 728، الكافي ج 7 ص 28 ح 2.
(5) التهذيب ج 9 ص 181 ح 727 و 728، الكافي ج 7 ص 28 ح 2.
(6) التهذيب ج 9 ص 182 ح 732، الفقيه ج 4 ص 145 ح 503.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 429 ح 5 و 6 و ص 428 ح 1 و 2.
(7) التهذيب ج 9 ص 182 ج 733، الوسائل ج 15 ص 325 ح 5.
410

أحدهما عليهما السلام قال: يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل، ووصيته وصدقته وإن لم يحتلم ".
هذا ما حضرني من أخبار المسألة وهي ظاهرة الدلالة فيما ذكره المشايخ
المتقدم ذكرهم، وهو ظاهر الصدوق (قدس سره) أيضا " حيث نقله جملة منها في
كتابه من غير تعرض لردها، ولا الطعن فيها بوجه، وبه يظهر ضعف ما ذكره
ابن إدريس وما تعلق به من الأدلة الدالة على الحجر على الصبي حتى يبلغ، يمكن
تخصيصها بهذه الأخبار، فإنها مع تعددها وصحة أكثرها ورواية المشايخ الثلاثة لها
وقول الطائفة بها لا يمكن التجاسر على ردها واطراحها بالكلية، كما هو مقتضى
كلامه، ولكنه صحيح على أصله الغير الأصيل، وقاعدته المخالفة لما عليه كافة العلماء
جيلا " بعد جيل.
وظاهر العلامة في المختلف الميل إلى مذهب ابن إدريس هنا، وإن لم يصرح
باختياره، حيث قال بعد نقل ما قدمنا من الأقوال، ونقل جملة من روايات المسألة
ما لفظه: وهذه الروايات وإن كانت متظافرة، والأقوال مشهورة، لكن الأحوط
عدم إنفاذ وصيته مطلقا " حتى يبلغ، لعدم مناط التصرف في المال عنه، انتهى.
وإلى ذلك يميل أيضا " كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، بل ربما ظهر
منه اختياره حيث قال: وابن إدريس سد الباب واشترط في جواز الوصية البلوغ
كغيرها ونسبه الشهيد في الدروس إلى التفرد بذلك، ولا ريب أن قوله هو الأشبه
لأن هذه الروايات التي دلت على الحكم وإن كان بعضها صحيحا " إلا أنها مختلفة،
بحيث لا يمكن الجمع بينها، واثبات الحكم المخالف للأصل بها مشكل، انتهى.
أقول: لا يخفى على المتأمل في هذه الأخبار وهي أخبار المسألة كملا " أنه متى
ضم بعضها إلى بعض مطلقها إلى مقيدها، ومجملها إلى مفصلها، وعامها إلى خاصها،
فإنه ينتج منها جواز وصية ابن عشر سنين، إذا كان ذا تمييز: وكانت وصيته
موافقة لوصية العقلاء من وضع الأشياء مواضعها، وهو المشار إليه بالوصية بالمعروف
411

يعني بين العقلاء، وهذا أمر متفق عليه منها، باعتبار ما قلناه من ضم بعضها إلى
بعض، واختلافها في ما عدا ذلك لا يوجب ردها فيما اتفقت فيه.
وبذلك يظهر ما في قوله أنها مختلفة لا يمكن الجمع بينها، فإنه على اطلاقه
ممنوع، وممن قال بالقول المشهور وجزم به المحقق وشيخنا الشهيد.
وأما ما ذكره في المختلف من أن الأحوط عدم إنفاذ وصيته مطلقا، فإنه قد
اعترضه شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد بأن الاحتياط للوارث مع عدم الحجر
عليه انفاذها، اللهم إلا إن يريد بذلك أن الأحوط للموصى له أن لا يقبل وصية الصبي
وفيه بعد، مع إمكان كون الوصية في جهة عامة أو لطفل مولى عليه، فلا يتصور
الاحتياط هنا، وإن أراد به معنى آخر فلا بد من إفادته، وإقامة الدليل عليه.
وبالجملة فالاقدام على رد ما تظاهرت به الفتوى واشتهرت به الرواية
من طريق أهل البيت عليهم السلام مشكل، انتهى وهو جيد نفيس.
وأما ما تقدم نقله عن الدروس من الخلاف في السفيه بما ذكره، فلم أقف
له في الأخبار على أثر.
وأما ما تقدم نقله عن ابن الجنيد، فالظاهر أن مستنده فيه رواية الحسن
بن راشد (1) عن العسكري عليه السلام قال: إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائز أمره في
ماله وقد وجب عليه الفرائض والحدود، وإذا تم للجارية سبع سنين فكذلك، وظاهرها
هو حصول البلوغ لكل من الصبي والصبية ببلوغ الثمان والسبع، وهو مخالف
لاجماع المسلمين وأخبارهم، وابن الجنيد هنا اقتصر على الوصية، ولا وجه لتخصيصها
بالذكر، فإنه إن عمل بالرواية وجب عليه القول بجميع ما اشتملت عليه، وإن
خالف اجماع المسلمين وأخبارهم، وإلا فالواجب طرحها وارجاعها إلى قائلها،
والله العالم.

(1) التهذيب ج 9 ص 183 ح 736، الوسائل ج 13 ص 321 ح 4.
412

المقام الثاني: قد صرحوا بأنه لو جرح الوصي نفسه بما فيه هلاكها ثم
أوصى، فإنه لا تقبل وصيته، ولو أوصى قبل ذلك قبلت، وتدل على ذلك صحيحة
أبي ولاد المروية بطرق المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) قال: سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: من قتل نفسه متعمدا " فهو في نار جهنم خالدا " فيها، قيل له:
أرأيت إن كان أوصى بوصية ثم قتل نفسه متعمدا " من ساعته تنفذ وصيته؟ قال:
فقال: إن كان أوصى أن يحدث حدثا " في نفسه من جراحة أو فعل لعله يموت،
أجيزت وصيته في الثلث وإن كان أوصى بوصية بعدما أحدث في نفسه من جراحة
أو فعل لعله يموت لم تجز وصيته " وهي مع صحة سندها صريحة في المراد، وما ذكرناه
من بطلان الوصية إذا وقعت بعد الفعل المذكور، هو المشهور بين الأصحاب
(رضي الله عنهم) وبه صرح الشيخان وأبو الصلاح وابن البراج، ونقله ابن الجنيد
رواية عن الصادق عليه السلام وقال ابن إدريس: الذي يقتضيه أصولنا وتشهد بصحته
أدلتنا أن وصيته ماضية صحيحة إذا كان عقله ثابتا " عليه.
واحتج في المختلف على القول المشهور زيادة على الصحيحة المذكورة،
قال لنا: أنه سفيه فلا ينفذ تصرفه، ولأنه في حكم الأموات، فلا يتصرف في مال
غيره، ولأنه قاتل نفسه، فلا يتصرف في ماله، كالوارث لو قتله منع منه.
واعترضه في المسالك: فقال: والكل ضعيف، أما السفه فلأن الفرض انتفائه
وثبوت رشده، وإن اشترطنا انتفائه في غيره، ومن الجائز أن يفعل بنفسه ذلك
لعارض ثم يرجع إليه رشده لو فرض زوال حالته، وأما عدم استقرار حياته فيكون
في حكم الميت فليس بشرط، والأصل يقتضي نفوذ تصرف الحي العاقل الجامع
لباقي الشرائط مطلقا "، والنصوص الدالة على نفوذ على نفوذ المريض مطلقا " متناولة له،

(1) التهذيب ج 9 ص 207 ح 820 وفيه " قلت له "، الفقيه ج 4 ص 150
ح 522 وليس فيهما " لعله يموت "، الكافي ج 7 ص 45 ح 1، الوسائل ج 13
ص 441 الباب 52.
413

والقياس على عدم حل المذبوح حينئذ لأنه بمنزلة الميت فاسد، إن سلم الأصل وسيأتي
إن شاء الله تعالى ما فيه في بابه، ومن ثم وجبت الدية على قاتله في هذه الحالة،
وحكم اللحم حكم آخر، وأما حديث منع القاتل عن الميراث وجعل الوصية كالميراث
فواضح الفساد، فلم يبق إلا العمل بالنص الصحيح إن اقتضاه أصل المعنى، أورده
بأحد الوجوه المقتضية له، ككونه آحادا " أو مخالفا " للأصول كما اختاره ابن
إدريس (رحمة الله عليه) محتجا " على الصحة بأنه حي عاقل مكلف، وبالنهي عن
تبديل الوصية بعد سماعها بالقرآن الذي هو حجة المتناول بعمومه لمحل النزاع،
أو بمنع تخصيص القرآن بخبر الواحد. ولكلام ابن إدريس وجه وجيه، وإن
كان الوقوف مع المشهور والعمل بالنص الصحيح أقوى، انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول: ما ذكره في رد الوجوه العقلية التي استدل بها العلامة جيد، وإنما
الكلام في قوله نقل حجة ابن إدريس: ولكلام ابن إدريس وجه وجيه، وبنحو
ذلك أيضا صرح في المختلف بعد نقل حجة ابن إدريس المذكورة، فقال. وقول
ابن إدريس (رحمة الله عليه) لا بأس به.
وأنت خبير بأن مرجع ترجيحها لمذهب ابن إدريس في هذه المسألة وفي
سابقتها إلى أن مذهب ابن إدريس هو الأوفق بالأصول والآيات القرآنية، ولهذا
إن شيخنا المذكور في الروضة في المسألة السابقة قال: إن قول المشهور مستند
إلى روايات متضافرة، بعضها صحيح، إلا أنها مخالفة لأصول المذهب والاحتياط،
وفيه أنه لا يخفى على المتتبع للأحكام أن ما ذكروه هنا لا خصوصية له بهذا المقام،
ونظائره في الأحكام أكثر من أن يأتي عليه قلم الاحصاء، أو يدخله العد
والاستقصاء، وها أنا أذكر لك ما خطر بالبال العليل مما هو من هذا القبيل، فمن
ذلك مسألة الحبوة فقد دلت الآيات والروايات على أن ما خلفه الميت يكون ميراثا
لجميع الورثة، مع أنه قد عملوا بأخبار الحبوة، وخصصوا بها تلك الأدلة من
الآيات والروايات، ومن ذلك ميراث الزوجة فإنهم قد اتفقوا على حرمانها من
414

بعض التركة، وإن اختلفوا في ذلك زيادة ونقصانا، مع دلالة الآيات والروايات
على ميراثها من جميع ما يخلفه الميت، مع أنهم قد خصصوا تلك الأدلة بهذه
الروايات، ومن ذلك من عقد على امرأة، ومات في مرضه قبل الدخول بها، فإن
مقتضى الأصول من الآيات والروايات أنها ترثه، لأنها زوجة بلا خلاف، مع أن
صحيح زرارة (1) قد دل على المنع من ذلك، فقالوا بمضمونه وخصصوا به تلك
الأدلة، وهي رواية واحدة، وإن كانت صحيحة كما هو في الموضع الثاني من هذين
الموضعين.
ومن ذلك ما إذا طلق الرجل امرأة في مرضه الذي مات فيه، فإنها ترثه
إلى سنة، وإن خرجت من العدة أو كان الطلاق بائنا " ما لم يبرأ من مرضه، أو
تتزوج فإن مقتضى الأصول كتابا " وسنة، أنها بعد الخروج من العدة أو كون الطلاق
بائنا " تكون أجنبية لا سبب ولا نسب بينها وبينه، فكيف ترثه مع أن الرواية (2)
قد دلت على الإرث كما عرفت، وقالوا بمضمونها مع أنها أشد شئ في الخروج
عن قواعد المذهب.
ومن ذلك أخبار التخيير في المواضع الأربعة، فإن مقتضى الأصول من
الآيات والروايات وجوب التقصير على المسافر كائنا ما كان، مع أنهم قد خصصوا
بهذه الأخبار، ولهذا صارت أخبار هذه المسألة مثل أخبار الحبوة من خواص
مذهب الشيعة إلى غير ذلك من المواضع، وهؤلاء الأفاضل من جملة من قال بما
ذكرناه في هذه المسائل، ولم ينكر ذلك كما أنكره هنا، والجميع كما عرفت من
باب واحد.
وبذلك يظهر لك ضعف ما ذهب إليه ابن إدريس ومن تبعه، وموضع الخلاف
فيما إذا تعمد ذلك كما هو صريح الصحيحة المتقدمة، وكذا كلام الأصحاب،

(1) الكافي ج 6 ص 123 ح 12.
(2) الكافي ج 7 ص 134 ح 5.
وهما في الوسائل ج 17 ص 537 ح 3 و ص 533 ح 2.
415

فلو وقع ذلك عن خطأ أو سهو لم تمتنع وصيته اجماعا "، كما نقله في الروضة.
المقام الثالث: المشهور بين الأصحاب (رضي الله عنهم) أنه لا تصح الوصية
بالولاية على الأطفال إلا من الأب أن الجد للأب خاصة، وقال ابن الجنيد: الأب
الرشيد أولى بأمر ولده الأطفال من كل أحد، وكذا الأم الرشيدة بعده، وهو
ظاهر في أن لها الولاية كالأب إذا كانت رشيدة، ورده الأصحاب بالضعف والشذوذ.
قال في المسالك: لما كان الولاية على الغير من الأحكام المخالفة للأصل،
إذ الأصل عدم جواز تصرف الانسان في مال غيره بغير إذنه أو ما في معناه، وجب
الاقتصار في نصب الولي على الأطفال على محل النص أو الوفاق، وهو نصب الأب أو الجد
له، فلا يجوز للحاكم وإن كان وليا " عليهم، أن ينصب بعده عليهم وليا "، لأن ولايته
مقصورة عليه حيا "، فإذا مات ارتفع حكمه، وإن جاز له أن يوكل حيا " عليهم،
لأن له الولاية حينئذ، ويشمل اطلاق المنع من تولية غيرهما الوصي من أحدهما،
فليس له أن يوصي عليهم بالولاية مع عدم نصهما على ذلك على أصح القولين،
وسيأتي إن شاء الله تعالى، أما مع النص فتولية الوصي في معنى تولية أحدهما،
لصدوره عن إذنه كما جازت ولاية الوصي ابتداء عنهما.
ثم إنه بعد ذلك أشار إلى خلاف ابن الجنيد الذي قدمنا ذكره، حيث إن
المصنف أفرده بالذكر، فقال: ولا ولاية للأم، ولا يصح منها الوصية عليهم، فقال
الشارح: وإنما خص الأم بالذكر بعد دخولها في السابق لاثبات ابن الجنيد
(رحمة الله عليه) الولاية لها مع رشدها بعد الأب، وهو شاذ.
أقول: ومما فرعوا على الكلام المتقدم وهو أن الولاية على الصغار مخصوصة
بالأب والجد له وإن علا، دون غيرهما ما لو أوصت الأم أو أحد الأقارب لطفل بمال
ونصب قيما " يصرف المال على الطفل المذكور في مصالحه وما يحتاج إليه، فإن للأب أو
الجد انتزاعه عن ذلك القيم، بمعنى أن الوصية بالمال صحيحة، ولكن نصب القيم
باطل، لأن ولاية الأب والجد شرعية، فلا يعارضها وصية ذلك الوصي.
416

قال في الدروس: ولا ولاية للأم على الأطفال، فلو نصبت عليهم وليا " لغي،
ولو أوصت لهم بمال، ونصبت عليه قيما لهم صح في المال خاصة، ثم نقل قول
ابن الجنيد، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يزيد المقام تحقيقا ".
المقصد الثالث في الموصى به:
وفيه مسائل: الأولى: الموصى به قد يكون جنسا "، وقد يكون منفعة موجودا "
بالفعل، كالولد والثمرة الموجودة في الحال، أو مظنون الوجود كالحمل، أو
مشكوك فيه كالآبق، والطير في الهواء والسمك في الماء، أو موجودا " بالقوة كما
تحمله الأمة أو الدابة أو الشجرة، أو موجودا " على التدريج كسكنى الدار، فإن
الوصية بجميع ذلك نافذة عند الأصحاب، كما صرح به في الدروس.
وكيف كان فإنه يعتبر فيهما الملك بالنظر إلى الموصي والموصي له، فلا
تصح الوصية بالخمر أو الخنزير، ولا كلب الهراش ولا الحر، ولا الحشرات ولا
الفضلات، لعدم المملوكية في الجميع بالنسبة إلى المسلم، وإن جاز اقرار الكافر
على وصيته بالخمر والخنزير لمثله، وكذا لا تصح الوصية بما لا ينتفع به كحبة
من حنطة ونحوها.
قيل: واحترز بكلب الهراش عن الكلاب الأربعة والجرو القابل للتعليم.
فتصح الوصية بها، لكونها مملوكة، لها قيمة ومنفعة كما ذكره جملة من الأصحاب
كالشهيدين وغيرهما.
أقول: قد تقدم في كتاب التجارة تحقيق الكلام في هذا المقام (1)، وقد
أوضحنا أنه لا يجوز البيع ولا التملك بشئ من أفراد الكلاب إلا كلب الصيد
خاصة، كما هو أحد الأقوال في المسألة، وأما ما عداه فلا دليل عليه من الأخبار،
إلا أنهم ألحقوا به هذه الكلاب الباقية لعلة المشاركة في الانتفاع، وفيه ما لا يخفى.

(1) ج 18 ص 79.
417

وأما السباع فالظاهر جواز الوصية بها، لحصول الانتفاع بجلودها وريشها،
والمراد بما لا ينتفع به يعني نفعا " معتدا " به في نظر العقلاء بحيث يكون متمولا "
فلا تصح الوصية بحبة من حنطة ونحوها، كما لا يصح بيعه ولا المعاوضة به، وفي
ذكر قيد الانتفاع بعد الملك الراجع إلى تقييد الملك بذلك إشارة إلى ما هو
الظاهر من كون نحو الحبة من الحنطة مملوكا " حتى لا يجوز غصبها من المالك،
وإن لم تجز المعاوضة عليها، لعدم التمول.
الثانية: المشهور أنه يتقدر الموصى به بقدر ثلث التركة فما دون، فلو
أوصى بما زاد بطل في الزائد إلا مع إجازة الوارث.
ونقل العلامة في المختلف ومن تأخر عنه عن الشيخ علي بن بابويه نفوذ
الوصية من الأصل مطلقا، قال في المختلف: وقال علي بن بابويه (رحمة الله عليه):
فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية، فإن أوصى بماله كله فهو أعلم وما فعله،
ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى، انتهى.
أقول: أما ما ذكروه (رضي الله عنهم) من التقدير بالثلث، فهو مدلول جملة
من الأخبار.
ومنها ما رواه في التهذيب عن علي بن عقبة (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام " قال:
سألته عن رجل حضره الموت فأعتق مملوكا " له ليس له غيره، فأبى الورثة أن
يجيزوا ذلك، كيف القضاء فيه؟ قال: ما يعتق منه إلا ثلثه، وسائر ذلك، الورثة
أحق بذلك، ولهم ما بقي ".
وعن محمد بن مسلم (2) " عن أبي جعفر عليه السلام في رجل أوصى بأكثر من
الثلث وأعتق مملوكه في مرضه فقال: إن كان أكثر من الثلث رد إلى الثلث
وجاز العتق ".

(1) التهذيب ج 9 ص 194 ح 781.
(2) التهذيب ج 9 ص 219 ح 859.
وهما في الوسائل ج 13 ص 365 ح 4 و ص 459 ح 4.
418

وعن السكوني (1) " عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال: إن رجلا أعتق
عبدا " له عند موته لم يكن له مال غيره، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) يقول: يستسعى في ثلثي قيمته للورثة ".
وعن الحسين بن محمد الرازي (2) قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام الرجل
يموت فيوصي بماله كله في أبواب البر، وبأكثر من الثلث هل يجوز ذلك له؟
وكيف يصنع الوصي؟ فكتب عليه السلام تجاز وصيته ما لم يتعد الثلث ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير (3) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
إن أعتق رجل عند موته خادما " له ثم أوصى بوصية أخرى ألغيت الوصية، وأعتق
الخادم من ثلثه، إلا أن يفضل من الثلث ما يبلغ الوصية ".
وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن حمران (4) " عن أبي
جعفر عليه السلام في رجل أوصى عند موته وقال أعتق فلانا " وفلانا " وفلانا " حتى ذكر
خمسة، فنظرت في ثلثه فلم يبلغ أثمان قيمة المماليك الخمسة التي أمر بعتقهم،
قال: ينظر إلى الذين سماهم ويبدأ بعتقهم فيقومون وينظر إلى ثلثه فيعتق منه
أولى شئ ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس وإن عجز الثلث كان ذلك في
الذي سمى أخيرا " لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك فلا يجوز له ذلك " وفي هذا
الخبر كما ترى تصريح بأنه لا يملك في الوصية زيادة عن الثلث فمن أجل ذلك
تبطل الوصية في الزائد.
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى عن العباس
بن معروف (5) " قال: كإن لمحمد بن الحسن بن أبي خالد غلام لم يكن به بأس

(1) التهذيب ج 8 ص 229 ح 828.
(2) التهذيب ج 9 ص 195 ح 784.
(3) التهذيب ج 9 ص 197 ح 786، الكافي ج 7 ص 17 ح 2.
(4) التهذيب ج 9 ص 197 ح 788، الكافي ج 7 ص 19 ح 15، الفقيه ج 4 ص 157 ح 545
(5) التهذيب ج 9 ص 198 ح 790.
وهذه الروايات في الوسائل ج 16 ص 76 ح 5 و ج 13 ص 365 ح 5
و ص 458 ح 3 و ص 457 ح 1 و ص 366 ح 7.
419

عارف يقال له ميمون، فحضره الموت فأوصى إلى أبي الفضل العباس بن معروف
بجميع ميراثه وتركته أن أجعله دراهم وأبعث بها إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام وترك
أهلا " حاملا " وإخوة قد دخلوا في الاسلام، وأما " مجوسية، قال: ففعلت ما أوصى
به وجمعت الدراهم، ودفعتها إلى محمد بن الحسن، وعزم رأيي أن أكتب إليه
بتفسير ما أوصى به إلي، وما ترك الميت من الورثة فأشار إلى محمد بن بشير
وغيره من أصحابنا أن لا أكتب بالتفسير ولا أحتاج إليه، فإنه يعرف ذلك من
غير تفسيري، فأبيت إلا أن أكتب إليه بذلك على حقه وصدقه، فكتبت وحصلت
الدراهم وأوصلتها إليه عليه السلام فأمره أن يعزل منها الثلث، يدفعها إليه، ويرد
الباقي على وصية يردها على ورثته ".
وما رواه في التهذيب عن العباس بن معروف (1) " قال: مات غلام محمد بن
الحسن وترك أختا " وأوصى بجميع ماله له عليه السلام قال: فبعنا متاعه فبلغ ألف درهم
وحمل إلى أبي جعفر عليه السلام " قال: وكتبت إليه وأعلمته أنه أوصى بجميع ماله له،
قال: فأخذ ثلث ما بعثت به إليه، ورد الباقي وأمرني أن أدفعه إلى وارثه ".
وعن العباس عن بعض أصحابنا (2) " قال: كتبت إليه: جعلت فداك أن امرأة
أوصت إلى امرأة ودفعت إليها خمسمائة درهم، ولها زوج وولد فأوصتها أن تدفع
سهما " منها إلى بعض بناتها، وتصرف الباقي إلى الإمام فكتب عليه السلام: تصرف الثلث
من ذلك إلي، والباقي، والباقي يقسم على سهام الله عز وجل بين الورثة "، إلى غير ذلك
من الأخبار.
وأما أنه مع إجازة الورثة تجوز الوصية بالزيادة على الثلث، فتدل عليه
أيضا جملة من الأخبار منها ما رواه الشيخ عن ابن رباط عن منصور بن حازم (3)
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى بوصية أكثر من الثلث وورثته

(1) التهذيب ج 9 ص 242 ح 937 و 938.
(2) التهذيب ج 9 ص 242 ح 937 و 938.
(3) التهذيب ج 9 ص 193 ح 776.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 366 ح 8 و 9 و ص 372 ح 2.
420

شهود، فأجازوا ذلك له، قال: جائز قال ابن رباط وهذا عندي على أنهم رضوا
بذلك في حياته وأقروا به ".
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) " عن أبي
عبد الله عليه السلام في رجل أوصى بوصية وورثته شهود، فأجازوا ذلك، فلما مات الرجل
نقضوا الوصية، هل لهم أن يردوا ما أقروا به؟ قال: ليس لهم ذلك، الوصية حائزة
عليهم إذا أقروا بها في حياته ".
وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مضاجعهم) في الصحيح عن منصور
بن حازم (2) عن أبي عبد الله عليه السلام مثله.
وما رواه المشايخ المذكورون عن أحمد بن عيسى (3) " قال: كتب أحمد
بن إسحاق إلى أبي الحسن عليه السلام أن درة بنت مقاتل توفيت وتركت ضيعة أشقاصا "
في موضع وأوصت لسيدها في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثلث، ونحن أوصيائها
وأحببنا أن ننهي ذلك إلى سيدنا، فإن أمر بإمضاء الوصية على وجهها أمضيناها
وإن أمر بغير ذلك انتهينا إلى أمره في جميع ما يأمر به إن شاء الله تعالى، فكتب عليه السلام
بخطه: ليس يجب لها من تركتها إلا الثلث فإن تفضلتم وكنتم الورثة كان جائزا "
لكم إن شاء الله ".
وما نقل عن الشيخ علي بن الحسين بن بابويه، فإن العلامة في المختلف قد
نقل عنه أنه احتج على ذلك برواية عمار الساباطي (4) " عن الصادق عليه السلام قال:
الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح، إن أوصى به كله فهو جائز له ".

(1) التهذيب ج 9 ص 193 ح 775 و 776، الفقيه ج 4 ص 147 ح 512
و ص 148 ح 513، الكافي ج 7 ص 12 ح 1
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) التهذيب ج 9 ص 192 ح 772. الفقيه ج 4 ص 137 ح 480، الكافي
ج 7 ص 10 ح 2.
(4) التهذيب ج 9 ص 186 ح 1.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 371 ح 1 و ص 364 ح 1 و ص 370 ح 19.
421

ثم قال في المختلف: والرواية ضعيفة، والمطلوب مستبعد، والأحاديث
الصحيحة معارضة لهذه الرواية، مع أن الشيخ تأولها على من لا وارث له، أو
على ما إذا أجاز الورثة، ومع ذلك فهي قاصرة عن إفادة المطلوب، فإنا نقول
بموجبها فإن المريض أحق بماله ما دام فيه الروح يفعل به ما يشاء في حياته وإذا
أوصى به كله جاز، فإن أجاز الورثة بعد ما أوصى به، وإلا فسخت الوصية في
الثلثين، وقد روى ابنه في المقنع (1) " أن الصادق عليه السلام سئل عن رجل أوصى
بماله في سبيل الله عز وجل، فقال: أطلقه إلى من أوصى له به، وإن كان يهوديا "
أو نصرانيا فإن الله عز وجل (2)، يقول: فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين
يبدلونه، إن الله سميع عليم " ثم قال عقيب هذه الرواية، ماله هو الثلث، لأنه
لا مال للميت أكثر من الثلث "، انتهى.
أقول: لا يخفى على من وقف على ما قدمناه في كتب العبادات في مواضع
عديدة من أن الشيخ علي بن بابويه (قدس سره) أكثر ما نذكره سيما من الفتوى
الغريبة إنما هو مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي، وإن كان على خلاف ما تكاثرت
به الأخبار، وهذا الموضع من جملة ذلك، فإن عبارته المذكورة عين عبارة الكتاب
حيث قال عليه السلام في الكتاب المذكور (3) " فإن أوصى رجل بربع ماله فهو أحب
إلي من أن أوصي بالثلث، فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية، فإن أوصى
بماله كله فهو أعلم بما فعله ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى به "، انتهى.
وأنت خبير بأن اعتماد هذا الشيخ الجليل على الفتوى بعبائر الكتاب مع
مخالفتها للأخبار الكثيرة كما هنا، وقد تقدم أمثاله أيضا في غير موضع أدل دليل
على اعتماده على الكتاب المذكور، وجزمه بأنه كلامه عليه السلام، ولكن متأخري

(1) المستدرك ج 2 ص 524 الباب 31 ح 3.
(2) سورة البقرة الآية 181.
(3) المستدرك ج 2 نقل صدره في ص 519 في باب 8 ح 2 وذيله في ص 520
في باب 9 ح 6.
422

أصحابنا (رضوان الله عليهم) حيث لم يصل الكتاب إليهم تكلفوا للاستدلال له
ببعض الأخبار، واعترضوا عليها كما هنا بعدم الدلالة أو بنحو ذلك، وهو غفلة
عما ذكرناه مما وقفنا الله إليه، ويسر لنا الوقوف عليه.
تنبيهات:
الأول: قالوا لو كانت الورثة جماعة فأجاز بعضهم نفذت الإجازة في نصيبه من
الزائد، قيل: والوجه فيه أن الوصية لما كانت وما تقبل التبعض، لكونها تبرعا محضا "
وكان الزائد عن الثلث منها موقوفا " على إجازة الوارث جاز له إجازة البعض كما تجوز
له إجازة الجميع، لأن ذلك حقه، فله التبرع بجملته وبعضه، وكما يجوز ذلك
لبعض الورثة دون بعض ويلزم كل واحد جملة، كذلك يجوز إجازة البعض منهم
جميعا، كالنصف والثلث، ويتقدر بالقدر المجاز، دون ما عداه.
قالوا: فلو فرض كون الوارث ابنا " وبنتا، وأوصى بنصف ماله فإن أجازا معا
فالمسألة من ستة، لأن لهما نصف التركة أثلاثا بينهما، وللموصى له نصفها، وإن
رد الوصية معا " فالمسألة من تسعة، لأن لهما ثلثي التركة أثلاثا بينهما، وهي ستة من
تسعة، ثلاثة، للموصى له، لأنها ثلث التركة، وإن أجاز أحدهما فالمسألة من ثمانية
عشر، فللموصى له من حيث الوصية وعدم الإجازة، الثلث ستة، ولهما ميراثا من
ذلك اثنى عشر أثلاثا بينهما، فمن أجاز منهما دفع من نصيبه ما وصل إليه من
السدس الزائد، فلو أجازه الابن خاصة، كان له ستة من الثمانية عشر لأنه قد سقط
منه اثنان بالإجازة، وقد كانت حصته ثمانية، فيدفع منها إلى الموصى إليه سهمان،
وتبقى له ستة، ولو أجازت البنت خاصة كان لها ثلاث من ثمانية عشر، لأن الذي
لها قبل الإجازة أربعة، فتدفع منها الواحد بالإجازة منهما للموصى إليه، ومنه يعلم
أنه لو أجازا معا فللموصى إليه زيادة على الستة التي تثبت بالوصية ثلاثة، سهمان
من الولد وسهم من البنت فيكون للموصى له تسعة، وهي نصف الفريضة، وللولد
ستة، وللبنت ثلاثة، وعلى هذا فقس.
423

الثاني: المشهور بين الأصحاب (رحمهم الله) أن إجازة الوارث لازمة له
سواء كانت في حال حياة الموصي أم بعد موته، ونقل عن الشيخ المفيد وسلار وابن
إدريس اختصاص اللزوم بما بعد الوفاة، فلو أجاز في حال الحياة جاز له الرجوع
عنها بعد الوفاة، ويدل على القول المشهور ما تقدم من صحيحة محمد بن مسلم (1).
وبطريق آخر منصور بن حازم، وهي صحيحة صريحة في أنهم لو أجازوا في حال
الحياة لزمهم ذلك، وليس لهم أن ينقضوا ذلك بعد الوفاة.
واستدل عليه في المختلف أيضا " بجملة من الأدلة الاعتبارية، وبعضها يصلح
وجها للنص المذكور، وبيان العلة فيه، وبعضها يصلح للتأكيد.
ونقل المختلف عن ابن إدريس بأنه احتج بأنه إجازة فيما لا يستحقونه بعد
فلا يلزمه ذلك بحال، ورد بأن المال الموصى به لا يخرج عن ملك الموصي أو
الورثة، لأنه إن برأ من مرضه فالمال له، وإن مات كان للورثة، فإن كان للموصي
فإنه قد أوصى، وإن كان للورثة فإنهم قد أجازوا، ولأن المنع من نفوذ الزائد عن
الثلث إنما هو لحق الورثة، فهو متحقق في حال الحياة، فإذا أجازوا فقد أسقطوا
حقهم.
وبالجملة فإنه مع قطع النظر عما ذكرناه من الجواب، لا وجه لهذا الإحتجاج
في مقابلة النص الصحيح الصريح، وهل هو إلا الاجتهاد المحض في مقابلة النصوص
وجرأة على أهل الخصوص.
قال في المسالك: ولا فرق على ذلك بين كون الوصية والإجازة حال صحة
الموصي ومرضه المتصل بالموت وغيره، لاشتراك الجميع في المقتضي، والفرق بين
إجازة الوارث حال الحياة ورده حيث لم يؤثر الثاني دون الأول، أن الوصية مستمرة
ببقاء الموصى عليها، فيكون استدامتها كابتدائها بعد الرد، فلا يؤثر، بخلاف الرد
بعد الموت، لانقطاعه حينئذ، وبخلاف الإجازة حال الحياة، لأنها حق للوارث

(1) ص 421.
424

وقد أسقطه فلا جهة لاستمراره، ودوام الوصية يؤكدها، انتهى.
أقول: قوله " والفرق بين إجازة الوارث إلى آخره " كأنه جواب سؤال مقدر
من جانب ابن إدريس، وما استدل به، وتقريره أنه في تلك الحال التي أوصى
الموصى وهي حال حياته كما أنه لا يصح فيها رد الورثة للوصية، فكذا لا تصح
فيها إجازتهم، فأجاب بالفرق المذكور بين الرد في تلك الحال والإجازة، فإن
الوصية مستمرة ببقاء الموصى عليها، والاستمرار يجري مجرى تعددها حالا " فحالا
فلو فرض الرد في أثناء هذه، فإن ما بعده في حكم تجدد عقد آخر من حيث
اقتضاء الاستمرار ذلك، فلا تأثير للرد حينئذ في تلك الحال، بخلاف الرد بعد
الموت، لانقطاع الاستمرار بالموت فيؤثر، وبخلاف الإجازة حال الحياة، لأن الإجازة
حق له، وقد أسقطه فلا وجه لاستمراره، وأنت خبير بأن الأصل في ذلك النص،
وهذه تصلح وجوها " له كما تقدم، والله العالم.
الثالث: المفهوم من كلام الأصحاب (رضي الله عنهم) من غير خلاف يعرف
أن إجازة الوارث للوصية بما زاد عن الثلث بعد الموت تنفيذ، لما أوصى به الموصي،
لا بابتداء عطية من الوراث، باعتبار انتقال الحق إليه بالموت، أما قبل الموت فلا
اشكال في ذلك، لأن الوارث لا يملك، فلا يمكن احتمال العطية منه، وإنما محل
الكلام بعد الموت، لما عرفت من انتقال الحق إلى الوارث بالموت، والأصحاب كما
ذكرنا، على أنه تنفيذ لا عطية، قال في المسالك وهو مذهب الأصحاب، لا يتحقق فيه
خلاف بينهم، وإنما يذكر الآخر وجها أو احتمالا، إنما هو قول العامة والمرجح
عندهم ما اخترناه أيضا، انتهى.
وعلل القول المشهور بأن الملك باق على المريض لم يخرج عنه بمرضه،
فيصح فيه لمصادفته الملك، وحق الوارث إنما يثبت في ثاني الحال فأشبه
بيع شقص الشفيع وإرث الخيار، حيث تترتب عليه إجازة المبيع، فإنه لا يكون
ابتداء بيع، بل تنفيذ لما فعل سابقا "، وأيضا فإن الوارث ليس بمالك، وثبوت حق
425

الإجازة له يقتضي الملك، لأن الحق أعم منه، فتصرف الموصي في حكمه،
وإجازة الوارث في معنى اسقاط حقه، ولأنه لو برأ من مرضه نفذت تصرفاته
المنجزة مع كونها كانت متوقفة على إجازة الوارث كالوصية، ولم يفتقر إلى الاستيناف
فدل على اعتبار ما وقع من الموصي لا على فساده، وبهذا ترجح كونها تنفيذا "،
ومما علل به الاحتمال الآخر، انتقال الحق إلى الوارث بالموت، وزوال ملك
الموصي، وأن تصرف الموصي في الزائد عن الثلث منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد،
لأن الزيادة حق الورثة فيلغوا تصرف الموصي فيها، وتكون العطية من الوارث.
وأجاب عن ذلك في المسالك بالمنع من كون التلفظ بالوصية منهيا عنه،
وكون النهي في ذلك يقتضي الفساد، ولو سلم فإنما يقتضيه لو لم يخسر الوارث
ونمنع من كون الزيادة حقا للورثة، بل هي ملك الموصي، غايته أن حقهم قد
تعلق بها، ومع الإجازة تسقط كإجازة المرتهن تصرف الراهن، إنتهى.
أقول: لا يخفى عليك ما في هذه التعليلات العلية من الطرفين، من عدم
الصلوح لتأسيس الأحكام الشرعية في البين، إلا أن ما علل به الاحتمال المذكور
وإن كان خلاف ما عليه الجمهور هو الأقرب إلى الأخبار، والأنسب بالاعتبار.
ومما يدل على ما ادعاه من زوال ملك الموصي عن الزائد، وأن تصرفه
منهي عنه، قوله عليه السلام في رواية حمران المتقدمة " لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما
لا يملك، فلا يجوز له ذلك " ومما يؤيد ذلك أيضا قوله عليه السلام في مكاتبة أحمد بن
إسحاق المتضمنة للإجازة بعد الموت " فإن تفضلتم وكنتم الورثة كان جائزا " لكم "
والمراد الإجازة لما زاد على الثلث، فإن فيه نوع إشارة إلى أن ذلك عطية منهم
للموصى له، وتفضل منهم عليه، ويحتمل أن يكون ذلك بالنسبة إلى الموصي بإجازة
وصيته، فيكون التفضل عليه.
وبالجملة فإن الأقرب إلى الاعتبار والأنسب بالأخبار، هو ما علل به الاحتمال
المذكور، وجميع ما أجيب به عنه وما علل به القول المشهور لا يخلو من القصور،
426

إلا أنه لا ثمرة مهمة في التشاغل برده وبيان ما فيه، وقد ذكروا أيضا " جملة من
الفروع المترتبة على القولين، أكثرها لا يخلو من مناقشة في المبنى، طويناها على
عزها، وأعرضنا عن ذكرها، ونشرها، من أرادها فليرجع إلى مطولاتهم
(رضوان الله عليهم).
الرابع: قد صرحوا بأن المعتبر من الثلث وقت الوفاة، لا وقت الوصية،
فلو كان موسرا حال الوصية ثم افتقر وقت الموت، أو بالعكس، كان الاعتبار بحال
الموت في كل من الصورتين، قالوا: ولا اشكال في ذلك فيما لو كان الموصى به
قدرا معينا كعين معينة، أو مائة درهم مثلا أو جزاءا من التركة مع كونه حال
الموت، أقل منه حال الوصية، وإنما الاشكال فيما لو أوصى بجزء من التركة
كالربع أو الخمس أو الثلث، وكان في وقت الوصية فقيرا ثم أيسر وقت الموت،
فصار ذلك الجزء الموصى به مالا كثيرا "، ربما دلت القرائن على عدم إرادته، حيث
لا تكون الزيادة متوقعة غالبا.
أقول: والظاهر عندي ضعف هذا الاشكال، وأنه بمحل من الاضمحلال،
فإن مقتضى اطلاق الوصية دخول هذا الفرد، وهذه الكثرة التي ربما يتوهم عدم
انصراف الاطلاق إليها معلومة للموصي وقت الوفاة والاعتبار كما عرفت، إنما
هو بوقت الوفاة، فعدم العدول عن الوصية السابقة على ذلك مع علمه ومعرفته بهذه
الكثرة، يقتضي العمل باطلاق الوصية، ودخول هذا الفرد فيها، والله العالم.
الخامس: الظاهر أنه لا خلاف في دخول الدية وأرش الجناية في الوصية
لو أوصى ثم قتله قاتل أو جرحه، فإن وصيته ماضية من ثلث التركة، وثلث
الدية، وأرش الجناية، وتدل على ذلك جملة من الأخبار،.
منها ما رواه في الكافي والفقيه عن محمد بن قيس (1) في الصحيح " عن

(1) الكافي ج 7 ص 63 ح 21، التهذيب ج 9 ص 207 ح 822، الفقيه
ج 4 ص 168 ح 588، الوسائل ج 13 ص 372 ح 1.
427

أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: رجل أوصى لرجل بوصية من ماله ثلث أو ربع، فقتل
الرجل خطأ يعني الموصي فقال: تجاز لهذا الوصية من ميراثه ومن ديته " وفي
الفقيه وفي خبر آخر " سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى بثلث ماله، ثم قتل
خطأ فقال: ثلث ديته داخل في وصيته ".
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (1) " عن أبي جعفر عليه السلام
قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أوصى لرجل بوصية مقطوعة غير مسماة
من ماله ثلثا " أو ربعا " أو أقل من ذلك أو أكثر، ثم قتل الموصي بعد ذلك فودى
فقضى في وصيته: أنها تنفذ من ماله ومن ديته كما أوصى ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام من أوصى بثلثه ثم قتل خطأ، فثلث ديته داخل في وصيته ".
وربما أشكل الحكم المتقدم بأن المعتبر من الثلث ما كان وقت الوفاة بما
ذكر هنا من دخول ثلث الدية في الوصية، مع أن استحقاق الدية إنما يثبت
بالموت، فهي متأخرة عن الموت، ويمكن الجواب عن ذلك بأن الحكم المذكور
أولا " إنما هو من كلام الأصحاب، ومرادهم إنما هو المنع من الاعتبار بحال
الوصية، بل العبرة بالموت، يعني حصول الثلث حال المت، والدية وإن كانت
لا تستقر إلا بعد الوفاة فهي في الحقيقة متأخرة عنها، إلا أنها مقارنة للموت،
فلا ينافي ما اعتبروه من وقت الوفاة، لصدق الاطلاق عرفا " على هذا الوقت أنه
وقت الموت، وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه النصوص المذكورة.
بقي الكلام في أن مورد هذه الروايات الدية في قتل الخطأ، فإنه هو
موجب للدية خاصة، مع تصريح الأخبار به، فدية الخطأ هي التي تدخل في

(1) التهذيب ج 9 ص 207 ح 823
(2) الكافي ج 8 ص 11 ح 7، التهذيب ج 9 ص 207 ح 821، الفقيه
ج 4 ص 169 ح 589.
وهما في الوسائل ج 13 ص 373 ح 3 و ص 372 ح 2.
428

الوصية، ويؤخذ منها الثلث، وأما الدية المأخوذة في العمد فهل تدخل في ذلك
أم لا؟ اشكال، سواء قلنا بأن العمد موجب لأحد الأمرين، القصاص أو الدية،
أو أن الدية إنما تثبت صلحا "، والصلح لا يتقيد بالدية، بل يصلح بزيادة منها
ونقصان، فيكون القول بذلك أبعد، وظاهر الأصحاب القول بدخولها، قال في
القواعد: ولو قتل خطأ أو استحق أرشا " خرجت الوصية من ثلث تركته وثلث
ديته وأرشه، وكذا العمد إذا تراضوا بالدية.
وقال في المسالك بعد قول المصنف " إن وصيته ماضية من ثلث تركته
وديته وأرش جراحته " ما صورته: ويظهر من قوله عليه السلام " وديته " أن الحكم
مخصوص بقتل الخطأ، لأنه هو الموجب للدية على الاطلاق، وأما العمد فإن قيل:
إنه يوجب أحد الأمرين القصاص أو الدية دخل في العبارة، لأن الدية أحد
الأمرين المترتبين على الوفاة المستندة إلى القتل، فكانت الدية مقارنة للوفاة،
كالخطأ وإن كان لها بدل، وأما على قول المشهور، من أن موجب العمد هو القصاص،
وإنما تثبت الدية صلحا "، والصلح لا يتقيد بالدية، بل يصلح بزيادة عنها ونقصان
ففي دخوله في العبارة تكلف، وقد يندفع بأنه حينئذ عوض القصاص الذي هو
موروث عن المجني عليه، وعوض الموروث موروث، وربما أشكل من وجه آخر
وهو أن الموروث إنما هو القصاص وليس بمال، فلا يتعلق به الحق المالي المترتب
على مال الميت، ويندفع بأنه بقبول المعاوضة بالصلح على مال في قوة الحق المالي
وزيادة، انتهى.
أقول: الواجب هو تحقيق الحكم الشرعي في ذلك، وأنه هل تدخل دية
العمد في هذا الحكم أم لا؟ سواء دخلت في عبارة المصنف أم لا، وتطويل هذا
الكلام في تكلف دخولها تحت عبارة المصنف لا يجدي نفعا "، إلا مع قيام دليل
على هذه القاعدة التي بنوا عليها، وهو أن المعتبر من الثلث ما كان مالا للميت حال
الوفاة، دون ما تقدم عليها وما تأخر عنها، مع أنهم لم يستندوا فيه إلى دليل،
429

والروايات الواردة في المسألة كما عرفت موردها إنما هو دية الخطأ لتصريحها
بذلك، ودية العمد سيما على القول المشهور من أنه لا ينتقل إلى الدية إلا بطريق
الصلح الذي هو عبارة عن التراضي بمال زاد، عن الدية أو نقص عنها مما هو خارج
عن مقتضى قاعدتهم المذكورة، إذ الظاهر أن هذا الصلح وما يترتب عليه متأخر
عن وقت الوفاة البتة، فلا يصدق عليه أنه مال الميت، وقت الوفاة، وقد صرح
في الدروس بعدم اعتبار ما يتجدد بعد الوفاة، وهذا الصلح وما يترتب عليه إنما
تجدد بعد الوفاة، وادخالها بهذه التكلفات التي ارتكبها وذكرها (قدس سره)
ظاهر الضعف، بل البطلان، سيما مع ما عرفت من أن اثبات الأحكام الشرعية بهذه
التخريجات الوهمية مما لا ينبغي النظر إليه، ولا العروج عليه، هذا بناء على
قاعدتهم، وأما بالنظر إلى الأخبار فقد عرفت اختصاص موردها بدية الخطأ،
ونحوها الأرش، إلا أنه قد ورد في جملة من الأخبار ما يدل على أنه يجب وفاء الدين
من الدية، وإن أخذت صلحا "، كما في رواية عبد الحميد ين سعيد (1) " قال: سألت
أبا الحسن الرضا عليه السلام عن رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا " وأخذ أهله الدية
من ماله، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال: نعم، قلت: وهو لم يترك شيئا "، قال:
إنما إذا أخذوا الدية، فعليهم أن يقضوا الدين ".
ورواية يحيى الأزرق (2) " عن أبي الحسن عليه السلام في رجل قتل وعليه دين
ولم يترك مالا " فيأخذ أهله الدية من قاتله، عليه مأن يقضوا دينه؟ قال: نعم،
قلت: وهو لم يترك شيئا "؟ قال: إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه ".
وفي رواية أبي بصير (3) " عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قلت: فإن

(1) التهذيب ج 6 ص 192 ح 416، الوسائل ج 13 ص 111 ح 1.
(2) التهذيب ج 9 ص 167 ح 584.
(3) الفقيه ج 4 ص 83 ح 264 عن علي بن أبي حمزة.
وهما في الوسائل ج 13 ص 111 ح 1 و ص 112 ح 2.
430

هو قتل عمدا " وصالح أولياؤه قاتله على الدية، فعلى من الدين؟ على أوليائه من
الدية أو على إمام المسلمين؟ فقال: بل يؤدوا دينه التي صالحوا عليها
أولياؤه، فإنه أحق بديته من غيره ".
والأولان دلالتهما على المدعى من حيث الاطلاق، والثالث صريح في ذلك،
ووجوب قضاء الدين منها إنما هو من حيث كونها من جملة أمواله وإن تأخر
استحقاقها عن موته، فكما يقضي منها ديونه، تنفذ منها وصاياه، ومن هنا صرح
الأصحاب بأن الدية في حكم مال الميت، سواء وجبت أصالة أو صلحا ".
قال في المسالك: إذا قتل الشخص عمدا " وعليه دين، فإن أخذ الورثة الدية
صرفت في ديون المقتول ووصاياه كغيرها من أمواله، لما تقدم غير مرة من أن الدية في
حكم مال الميت، سواء وجبت أصالة أو صلحا إلى آخر كلامه (زيد في اكرامه)
ذكر ذلك في كتاب الديات، وحينئذ يزول الاشكال بالنسبة إلى دخول دية العمد
في الحكم المذكور.
وإنما بقي الاشكال فيما اعتبروه من اعتبار الثلث بوقت الوفاة،
مع أنه في صورة الصلح على القصاص بأخذ المال إنما يكون متأخرا " عن
الوقت المذكور، إلا أن ما ذكروه من الحكم المذكور إنما هو من مجرد
اصطلاحهم واتفاقهم، وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه الأخبار، وافق
كلامهم أم لا، والله العالم.
المسألة الثالثة: قد صرح الأصحاب (رضي الله عنهم) بأنه لو أوصى بالمضاربة
بتركته أجمع أو بعضها على أن صف الربح للوارث، ونصفا " للعامل صح، وظاهر
هذا الكلام إنما صحة الوصية بالمضاربة على الوجه المذكور، أعم من أن يكون
الورثة كلهم من البالغين المكلفين، أو الأطفال أو المجانين، أو من القسمين معا ".
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي عن محمد
431

بن مسلم (1) في الموثق " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن رجل أوصى إلى رجل
بولده وبمال لهم، وأذن له عند الوصية أن يعمل بالمال وأن يكون بينه وبينهم،
فقال: لا بأس به من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي ".
ورواه الشيخان الآخران أيضا " عن خالد بن بكير الطويل (2) " قال:
دعاني أبي حين حضرته الوفاة فقال يا بني: اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به،
وخذ نصف الربح وأعطهم النصف، وليس عليك ضمان، فقدمتني أم ولد أبي إلى
ابن أبي ليلى، أن هذا يأكل أموال ولدي قال: فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي
فقال: ابن أبي ليلى إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه، ثم أشهد علي ابن أبي
ليلى إن أنا حركته فإنا له ضامن، فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقصصت عليه
قصتي، ثم قلت له: ما ترى؟ فقال: أما قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع رده، وأما
فيما بينك وبين الله عز وجل، فليس عليك ضمان ".
رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن إلى خالد بن بكير المذكور
وهو مجهول، وصريح الرواية الثانية، وظاهر الرواية الأولى كون المال المذكور
للأطفال، لأن ظاهر قوله في الأولى " أوصى إلى رجل بولده وبمالهم " أي جعله
قيما " عليهم ووليا " يقوم بتدبيرهم، وهو ظاهر في كونهم صغارا " كما لا يخفى، ولأن
الوصية بالبالغ غير صحيحة، واطلاق الوصية يحمل على الصحيحة، وبذلك يظهر
أن ما أطلقه الأصحاب لا يخلو من الاشكال، إلا أن يقال: أن يكون من قبيل
العقد الفضولي، فإن شاء الوارث البالغ أجازه، وكان عليه الوفاء بمقتضاه من
دفع الحصة إلى العامل، ومع ذلك فهو عقد جائز له فسخه متى شاء لما تقدم من
أن المضاربة من العقود الجائزة، دون اللازمة، وأما إن كإن لمولى عليه، فإنه

(1) الكافي ج 7 ص 62 ح 19، الفقيه ج 4 ص 169 ح 590.
(2) التهذيب ج 9 ص 236 ح 919، الفقيه ج 4 ص 169 ح 591، الكافي
ج 7 ص 61 ح 16.
وهما في الوسائل ج 13 ص 478 ح 1 و 2.
432

لا اشكال في صحة المضاربة، كما ينادي به قوله في موثقة محمد بن مسلم " لا بأس
به، من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي " ومرجعه إلى أن الأب ولي
جبري فتمضي تصرفاته إذا لم تخرج عن الوجه الشرعي، ويستمر الحكم بالصحة
إلى بلوغ عليه، فإذا كمل كان له فسخ المضاربة، لأنها عقد مبني على الجواز
وتحديد الموصي لها بمدة لا ترفع حكمها الثابت لها بأصل الشرع وإنما تظهر
الفائدة في التحديد بمدة، هو المنع من التصرف بعد تمام المدة، لا التزام بها في
تلك المدة مع كونها جائزة شرعا "، ولا يكون الفسخ بعد البلوغ تبديلا " للوصية
وتغييرا " لها، وهو منهي عنه، لأن التبديل إنما هو في العمل بخلاف مقتضاها،
وهنا ليس كذلك، لأنه لما أوصى بعقد جائز فقد عرض العامل للفسخ في كل
وقت ممكن، عملا " بمقتضاه، فالفسخ لا يكون تبديلا " للوصية.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما ذكرناه من الوصية بالمال كلا " أو بعضا " هو المشهور.
وقال ابن إدريس في كتابه: وقد روي أنه إذا أمر الموصي الوصي أن يتصرف
في تركته لورثته ويتجر لهم بها، ويأخذ نصف الربح، كان ذلك جائزا " وحلالا "
له نصف الربح، أورد ذلك شيخنا في نهايته، إلا أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث
ما كان يملكه الميت قبل موته، والربح تجدد بعد موته، فكيف تنفذ وصيته،
وقوله فيه وفي الرواية نظر، انتهى.
وظاهره تخصيص الوصية بالتصرف بالثلث فما دونه، دون ما زاد على ذلك
وأنت خبير بأنه على ما قلناه من اختصاص الروايتين بما إذا كان المال لمولى عليه
كالأولاد الصغار، فإنه ليس في العمل بالخبرين كثير مخالفة لمقتضى الأصول الذي
طعن به ابن إدريس ومن تبعه، فإن ولاية الأب على أطفاله والوصية بهم وبما
ينبغي في أموالهم مما لهم فيه المصلحة غير منكور ولا ممنوع شرعا "، وغاية ما ربما
يقال: حصول التعريض في مالهم للتلف وهو غير قادح، لأن الواجب على العامل
مراعاة الحفظ، وما فيه مصلحة العمل بالمال حسب الامكان.
433

ويؤيده ما ورد من جواز الاتجار به لليتيم من المولي رواية أبي الربيع (1)
" قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون في يده مال لأخ له يتم وهو وصيه
أيصلح له أن يعمل به؟ قال: نعم كما يعمل بمال غيره، والربح بينهما، قال:
قلت: فهل عليه ضمان؟ قال: لا إذا كان ناظرا " له ".
وبالجملة فإن المدار في العمل على الأخبار، ولا يلتفت إلى هذه الاستبعادات
في مقابلتها، ومع تسليم ما يدعونه من خروجها عن القواعد والأصول المقررة في باب
الوصية، فإنه يجب تخصيص تلك القواعد بها، كما تقدم نظيره في غير مقام، على
أنه لا يخفى أن مورد الأخبار الدالة على أنه ليس للموصي أن يوصي بأزيد من الثلث
وأنه يستحب أن يوصي بالأقل منه، إنما هو فيما إذا أوصى لنفسه أو غيره بشئ من
التركة، واختص به عن الورثة بحيث أن قد فات على الورثة ونقص من التركة،
كما علل به من أنه ليس له من ماله بعد الموت، إلا الثلث.
وما نحن فيه هنا ليس من هذا القبيل، فإنه لم يختص بشئ من التركة،
ولم يأخذ منها شيئا "، وإنما هذه الوصية بمصلحة ترجع إلى الورثة ليس له منها
قليل ولا كثير، وهذا المال الذي أوصى به سواء كان جميع التركة أو بعضها إنما
هو مال الورثة، لم يخرج عن ملكهم بالوصية كما في غيره من الوصايا التي قاسموا
عليها وقيدوها بالثلث، بل هو باق على ملكهم، وإنما تعلقت الوصية بالتصرف
فيه لأجل تحصيل مصلحة لهم، وهو الانتفاع بالربح.
وقد عرفت أنه متى كانوا أطفالا "، فهو الولي عليهم، والناظر في مصالحهم
حيا " وميتا "، وله بعد الموت الوصية بذلك، وإن كانوا بالغين فهذه الوصية لا تمضي
عليهم، فإن شاؤوا رضوا وإن شاؤوا أبوا وامتنعوا، وأي منافاة في ذلك للقواعد
المقررة عندهم.

(1) الوسائل ج 6 ص 58 ح 6.
434

المسألة الرابعة الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
أن الواجب المالي أعم من أن يكون مشوبا " بالبدن كالحج أم لا؟ كالزكاة
والكفارات والخمس ونذر المال، يجب خروجه من الأصل، أوصى به أو لم يوص،
لتعلقه بالمال حال الحياة.
أما الواجب البدني المحض كالصلاة والصوم فإنه إنما يخرج من الثلث إذا
أوصى به، فيكون حكمه عندهم حكم التبرعات الموقوف اخراجها على الوصية
بها من الثلث، وقيل بخروجه من الأصل كالواجب المالي من غير فرق، والأخبار
بوجوب اخراج الواجب المالي وإن كان مشوبا " بالبدن من الأصل متكاثرة، قد
تقدمت في كتاب الحج وكتاب الزكاة والخمس وكتاب الديون.
أما الواجب البدني فلم أقف فيه على نص بنفي ولا اثبات، لكن الظاهر أن
مبنى كلام الأصحاب في الفرق بين الأمرين، هو أن الواجب المالي وإن كان
مشوبا بالبدن في بعض الأفراد، لما كان متعلقا بالمال حال الحياة وجب اخراجه
بعد الموت من المال، وتخرج الأخبار المشار إليها شاهدا على ذلك.
وأما الواجب البدني فإنه لما كان متعلقه في حال الحياة إنما هو البدن، وبعد
الموت مع عدم الوصية به يتعلق الخطاب به بالولي، فمع عدم الولي وعدم الوصية
لا دليل على وجوب الاخراج، كما ادعاه ذلك القائل المتقدم، ولنا في هذا المقام
تحقيقات حسنة، قد تقدمت في كتاب الصلاة في المطلب الثاني في القضاء عن الأموات
في الباب الرابع في اللواحق من الكتاب المذكور (1) وكذا في كتاب الحج في
المسألة الثانية من المقصد الثاني في حج النذر (2) وقد تضمنت دفع شبهات الأقوال
المخالفة لما على الأصحاب مع تحقيق حسن في الباب.
واختلف الأصحاب في وجوب الوصية بالواجب البدني لو لم يكن وصي

(1) ج 11 ص 57.
(2) ج 14 ص 194.
435

يقضيه عنه، قال في المسالك: والأقوى وجوب الوصية به على المريض، كغيره
من الواجبات إن لم يكن له ولي يقضيه عنه، وربما قيل: بعدم وجوب الوصية به
لأن الواجب فعله بنفسه أو بوليه لانتفاء الدليل على ما سوى ذلك، وفيه أن علمه
بوجوبه واستحقاق العقاب على ترك الواجب اختيارا " مع قدرته على براءة الذمة
منه يوجب وجوب الوصية، ليخرج من العقاب بتركه، فإن دفع الضرر عن
النفس واجب.
نعم لو كان فوات الواجب لا بتفريط كالغفلة عن الصلاة مع عدم القدرة على
القضاء حال الوصية، احتمل عدم وجوب الوصية، إذ لا عقاب على ذلك التفويت،
ولا دليل على وجوب الوصية بالقضاء انتهى، وفي الكفاية قال: الأقرب العدم.
أقول: الظاهر قوة ما اختاره في المسالك، لظاهر الأخبار المتقدمة الدالة
على أن الوصية حق على كل مسلم، فإن ظاهر لفظ " على " الوجوب، كما ذكرناه
في الفائدة الأولى من الفوائد التي ذيلنا بها تلك الأخبار، ويزيد ذلك تأييدا " ما
ذكره شيخنا المشار إليه من التعليل، فإنه جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن
النبيه، وما قربه في الكفاية من العدم ضعيف.
إذا عرفت ذلك فاعلم إذا اجتمعت في الوصية حقوق واجبة مالية وبدنية،
وتبرعات، فإن الواجب المالي كما عرفت يخرج من الأصل، وما عداه يخرج
من الثلث مقدما " للواجب البدني على المتبرع به، مرتبا في الواجب البدني لو تعدد،
الأول فالأول، تم المتبرع به كذلك أن قام به الثلث، أو أجاز الوارث، وإلا سقط،
ومع إجازة الوارث الجميع، فالحكم كما ذكر، ومع إجازته البعض يكون
مخرجه عن الأصل، فيبدأ به كالواجب المالي لكن لو ضاق المال عنها أعني عن
الواجب وعن المجاز، قدم الواجب، لاشتغال الذمة به، ولو لم يكن فيها واجب
بل الجميع من الوصايا المتبرع بها قدم الأول فالأول حتى يتم الثلث، سواء رتب
بينهما بلفظ " ثم " أو " الفاء "، أو اقتصر على مجرد الترتيب الذكري، وإن عطف
436

بالواو فإنه في حكم ذلك، والوجه فيه أن الوصية الصادرة أولا " نافذة، لوقوعها
من أهلها، وهكذا ما بعدها إلى أن يستوفي الثلث، فتبطل في الزائد.
أما لو جمع بأن ذكر أشياء متعددة، ثم أوصى بالمجموع من غير أن يرتب
في الوصية، أو قال: أعطوا فلانا " وفلانا " وفلانا " مائة، أو قال: بعد الترتيب
لا تقدموا أحدا " على أحد، ثم نقص الثلث في هذه الصورة، فإنه يوزع النقص على
الجميع بالنسبة، كما في مسألة العول.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام رواية حمران (1)
المتقدمة في المسألة الأولى " عن أبي جعفر عليه السلام في رجل أوصى عند موته، وقال:
أعتق فلانا " وفلانا " حتى ذكر خمسة، فنظرت في ثلثه فلم يبلغ أثمان قيمة المماليك
الخمسة التي أمر بعتقهم، قال: ينظر إلى الذين سماهم ويبدأ بعتقهم فيقومون،
وينظر إلى ثلثه فيعتق منه أولى من سمي، ثم الثاني ثم الثالث، ثم الرابع ثم الخامس
فإن عجز الثلث كان ذلك في الذي سمى أخيرا، لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث
ما لا يملك، فلا يجوز له ذلك " ومورد الرواية وإن كان إنما هو الوصية بالعتق
دون الوصية بغيره، إلا أن ظاهر الأصحاب حيث استدلوا بها هنا عدم الفرق
بين الأمرين.
قال في المسالك: واعلم أنه لا فرق في هذا الحكم بين العتق وغيره من
التبرعات، خلافا " للشيخ وابن الجنيد حيث قدما العتق وإن تأخر، ولا بين أن
يقع الترتب متصلا " في وقت واحد عرفي، أو في زمانين متباعدين كغدوة وعشية،
خلافا " لابن حمزة حيث فرق بينهما، فحكم في الأول كما ذكره الجماعة، وجعل
الثاني رجوعا " عن الأول، إلا أن يسعهما الثلث، فينفذان معا " وهو شاذ ضعيف
المأخذ، انتهى.
أقول: يمكن أن يستدل لما ذكره الشيخ وابن الجنيد بتقديم العتق على

(1) الكافي ج 7 ص 19 ح 15، التهذيب ج 9 ص 197 ح 778، الوسائل
ج 13 ص 457 ح 1.
437

غيره من التبرعات، وإن وقع متأخرا " بما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم)
عن محمد بن مسلم (1) في الموثق " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل حضره
الموت فأعتق غلامه، وأوصى بوصية وكان أكثر من الثلث، قال: يمضي عتق
الغلام، ويكون النقصان فيما بقي " وأجيب عن ذلك بأنه محمول على تقديم العتق
كما هو ظاهر الترتيب الذكري في الخبر، فالتحقيق عندي في الجواب أن العتق
هنا من المنجزات، لأنه وقع حال الحياة، والمنجزات مقدمة على الوصايا.
نعم الخلاف فيها مشهور بأن مخرجها من الأصل أو الثلث، وظاهر هذا
الخبر لا يخلو من اشتباه في ذلك أيضا، والتحقيق هنا أن الأخبار في هذه المسألة
أعني مسألة المنجزات بالنسبة إلى العتق وأن مخرجه من الأصل أو الثلث لا يخلو
من اشتباه وتعارض، كما أشار إليه أيضا " المحدث الكاشاني في الوافي، وأما غير
العتق من المنجزات فالحكم فيه كما اخترناه من الخروج من الأصل من غير اشكال.
المسألة الخامسة: لو أوصى لزيد بثلث من التركة، ولعمرو بربع منها،
ولثالث بخمس منها صحت الوصية في الأول خاصة، لاستيعابها الثلث، النافذ
بدون الإجازة، ورعاية لما تقدم من الأول مع تجاوز الثلث، وبطلت فيما عداه،
وقيل: أن الوصية المتأخرة تقتضي الرجوع عما قبلها، قال: الشيخ في الخلاف
إذا أوصى لإنسان بثلث ماله، ثم أوصى بثلث ماله لغيره ولم تجز الورثة، فإن
الوصية الثانية رافعة للأولى وناسخة لها، واستدل باجماع الفرقة والأخبار.
وقال ابن إدريس: إذا أوصى بثلث ماله لشخص، ثم أوصى بثلث ماله لغير
ذلك الشخص، كان الثلث للأخير، وتكون الوصية الثانية ناسخة للأولى، لأن
الانسان لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا ثلث ماله، فإذا أوصى به لإنسان، ثم أوصى
به بعد ذلك لآخر، فقد نقل الثلث الذي يستحقه من الأموال إلى الثاني، لأنه
يعلم أنه لا يستحق سوى الثلث، فإذا أوصى به ثم وصى به، فقد رجع عن الأول،

(1) الكافي ج 7 ص 17 ح 5، التهذيب ج 9 ص 194 ح 780، الوسائل
ج 13 ص 458 ح 1.
438

فهذا يعني قول أصحابنا: أنه إذا أوصى بوصية، ثم أوصى بأخرى فإن أمكن
العمل بهما جميعا وجب العمل بهما، وإن لم يمكن كان العمل على الأخير.
فأما إذا أوصى بشئ آخر ولم يف الثلث، فإن مذهب أصحابنا أن يبدأ
بالأول فالأول ويكون النقصان إن لم يف الثلث داخلا على الأخير، لأنه لما
أوصى للأول ما قال أوصيت له بثلثي، وكذا الثاني والثالث، فظن أن ثلثه يبلغ
مقداره جميع ما ذكره، ويفي بما ذكر، لأنه يعلم أنه ليس بعد موته سوى الثلث
فإذا استوفاه دخل النقص على الأخير، فهذا فرق بين المسألتين، فلا يظن ظان
اتحادهما، ولا أن مذهب أصحابنا أن الثانية ناسخة للأولى في جميع المواضع،
ولا أن الواجب البدأة بالأول فالأول في الجميع، انتهى.
أقول: ما ذكره من الفردين المذكورين الذي يكون الحكم في أحدهما
الرجوع بالوصية الثانية عن الأولى، وحكم الآخر صحة الأول فالأول لا شك
فيه كما هو المفهوم من كلام غيره وإنما الكلام فيما فرضه أولا " من قوله إذا أوصى
بثلث ماله لشخص، ثم أوصى بثلث ماله لآخر، فإن ذلك رجوع عن الوصية الأولى
حسب ما ذكره الشيخ في الخلاف، فإنه خلاف ما صرحوا به، وما هو الظاهر من كلام
المتأخرين، فإن ظاهر كلامهم أن هذا لا يقتضي الرجوع، بل يكون من قبيل
ما يحكم فيه بصحة الوصية أولا " فأولا "، وإنما الذي يقتضي الرجوع إضافة الثلث
إلى نفسه مثلا، كأن يقول ثلثي أو الثلث الذي أستحقه، وأما مجرد ذكر ثلث
المال من غير أن يضيفه إلى نفسه، فلا.
قال المحقق في الشرايع: لو أوصى لشخص بثلث، ولآخر بربع، ولآخر
بسدس ولم يجز الورثة أعطى الأول وبطلت الوصية لمن عداه، قال الشارح: إنما
صحت الوصية للأول خاصة لاستيعابها الثلث النافذ بدون الإجازة، مع رعاية ما
تقدم من وجوب تقديم الأول فالأول مع تجاوز الثلث، ولا يتوهم هنا أن الوصية
المتأخرة تقتضي الرجوع عما قبلها، لأن الرجوع لا يثبت بمجرد الاحتمال، بل
439

لا بد له من لفظ يدل عليه، ومجرد الوصية بما زاد على الثلث ثانيا " وثالثا " أعم من
الرجوع عن الأولى وعدمه، فلا يدل عليه.
أقول: قوله " ولا يتوهم هنا.. إلى آخره " خرج مخرج الرد على ما
ذكره ابن إدريس، والشيخ في الخلاف فيما قدمنا نقله عنهما، ثم إنه قال المحقق
أيضا ": ولو أوصى بثلثه لواحد، وبثلثه لآخر، كان ذلك رجوعا " عن الأول إلى
الثاني، قال الشارح: الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها الموجب لاختلاف الحكم
أن الثلث المضاف إلى الموصي هو القدر النافذ، والنافذ فيه وصيته شرعا "، فإذا أوصى
به ثانيا " فقد رجع عن الوصية الأولى، لأن ليس له ثلثان مضافان إليه على هذا
الوجه، فيكون بمنزلة ما لو أوصى بعين لواحد ثم أوصى به لآخر، بخلاف قوله
لفلان ثلث من غير إضافة إلى نفسه، فإنه متعلق بجملة المال من غير أن ينسب إلى
ثلث النافذ فيه الوصية، فإذا أوصى بعده بربع لا يتبادر إلى الفهم منه أنه نقض ذلك
الثلث السابق، بل الربع الذي هو خارج عن الثلث المتعلق بأصل المال، وكذلك
السدس، فيكون وصايا متعددة لا تضاد بينها، فيبدأ بالأول منها فالأول حتى
يستوفي الثلث عند عدم الإجازة، انتهى.
وهو كما ترى صريح فيما قلناه، واضح فيما ادعيناه، وبالجملة فإن
مقتضى أنه إن كان الوصي به أشياء بعينه، متغايرة أو مطلقة ومعينة، فإنه يبدأ
فيها بالأول فالأول، ولا يكون الثاني رجوعا " عن الأول، سواء زاد الأول عن الثلث
أو نقص عنه، وتكون الفائدة أنه لو أجاز الوارث الجميع نفذت الوصايا كلها،
ومنه ما لو أوصى بثلث المال لشخص، ثم أوصى بالثلث أو الربع لآخر، بتقريب
ما تقدم نقله عن المسالك من قوله، بخلاف قوله لفلان ثلث، من غير إضافة إلى
نفسه إلى آخره. وإن اتحد العين كان الثاني رجوعا " عن الأول، لامتناع اتحاد
الملكين في عين واحدة، ومن هذا ما أضاف الثلث إلى نفسه، فيكون الثانية ناسخة
للأولى، قطعا " بتقريب ما تقدم نقله عن المسالك من قوله أن الثلث المضاف إلى
440

الموصي هو القدر النافذ فيه وصيته شرعا " إلى قوله فيكون بمنزلة ما لو أوصى بعين
لواحد، ثم أوصى به لآخر، وما ذكره ابن إدريس في تعليل ما ادعاه من نسخ
الأولى من أن الانسان لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا الثلث لا ينافي تجويز
الوصية بأزيد من الثلث، لامكان الإجازة ونفوذها بذلك والإجازة على الأقوى
عندهم ليس عطية ابتدائية وإنما هي تنفيذ الوصية، فيجوز أن يوصي معتمدا
على إجازة الورثة فيكون الوصية صحيحة، ولا يزول هذا الحكم عنها إلا بلفظ
يدل على الرجوع عما سبق وحكم بصحته، وهو في هذا المثال ونحوه منتف،
فيحكم بصحة الجميع، ويعمل في الزائد عن الثلث بمقتضى القاعدة المقررة من
البدأة بالأول فالأول، وهذا بخلاف قوله ثلثي بإضافته إلى نفسه ونحوه، فإن
الرجوع هنا معلوم بالقرينة القوية، لما تقدم في كلامه بقوله لأن الانسان
لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا ثلث ماله، وإذا أوصى به لإنسان إلى آخره.
وكيف كان فالمسألة لخلوها عن النص لا يخلو بعض شقوقها من الاشكال،
سيما في هذا الفرع، ولهذا قد اختلف كلامهم واضطربت أفهامهم في هذه المسألة.
قال في المسالك بعد البحث في المسألة بنحو ما ذكرناه، واختيار ما حررناه
من الفرق بين المسألتين المتقدمتين في كلام المحقق ما صورته: واعلم أن كلام
الأصحاب قد اختلف فيها اختلافا " كثيرا "، وكذلك الفتوى، حتى من الرجل
الواحد في الكتب المتعددة بل، في الكتاب الواحد، والعلامة في القواعد وافق
المصنف على ما ذكره في المسألتين، لكنه استشكل بعد ذلك في المسألة الثانية،
وفي التحرير نسب الحكم في الثانية كذلك إلى علمائنا، وجعل فيه نظرا "، ووجه
الاشكال والنظر مما ذكرناه، ومن أن كل واحدة منها وصية يجب تنفيذها بحسب
الامكان، ولا يجوز تبديلها مع عدم الزيادة، ومجرد إضافة الثلث إليه، لا يقتضي
الرجوع، لأن جميع ماله ما دام حيا " له، فتصح إضافته إليه، وإنما يخرج عن
ملكه بالموت، ونحن نقول بموجبه، إلا أنا ندعي وجود ا لقرينة في هذه الإضافة
441

على الرجوع، ومن ثم لما أبدلها بالإضافة إلى ماله فضلا " عن جعل الثلث مطلقا "
شككنا في إرادة الرجوع، فلم نحكم به، وقدمنا الأول.
والمختلف اعتمد على اعتبار القرينة وعدمها، كما حققناه، وجزم بعدم
وجودها في ثلث مالي، ولم يتعرض للثلث المضاف إلى الموصي، بل اعتمد على
القرينة، ومع الشك فيها على عدم الحكم بالرجوع، وهذا هو الحق في المسألة
والمحقق الشيخ علي (رحمة الله عليه) في شرحه اعتمد في المسألة على أصل
آخر غير ما ذكرناه، ورتب عليه الحكم، وهو أن الأصل في الوصية أن تكون
نافذة، فيجب حملها على ما يقتضي النفوذ بحسب الامكان، وإنما تكون الثانية
نافذة، فإذا كان متعلقها هو الثلث الذي يجوز للمريض الوصية به، فيجب حملها
عليه، كما يجب حمل اطلاق بيع الشريك النصف على استحقاقه، حملا للبيع
على معناه الحقيقي، وحينئذ فيتحقق التضاد في مثل ما لو قال: أوصيت بثلث لزيد،
وبثلث لعمرو، فيكون الثاني ناسخا للأول، فيقدم، وأولى منه ما لو قال بثلث
مالي، ثم فرع عليه أنه لو أوصى لزيد بثلث، ولعمرو بربع، ولخالد بسدس،
وانتفت القرائن أن تكون الوصية الأخيرة رافعة للأولى، مع اعترافه بأنه مخالف
لما صرح به جميع الأصحاب، والحامل له على ذلك ما فهمه من أن اطلاق الوصية
محمول على النافذة، وأنت قد عرفت مما حققناه سابقا أن الاطلاق في الوصية
وغيرها من العقود إنما يحمل على الصحيح، أما النافذ بحيث لا يترتب عليه فسخ
بوجه، فلا اعتبار به قطعا " ألا ترب أن الوصية بجميع المال توصف بالصحة،
ووقوف ما زاد على الثلث على الإجازة، ولا يقول أحد أنها ليست بصحيحة، ولذلك
لو باع بخيار حكم بصحة البيع، وإن لم يكن نافذا "، بمعنى أنه لا يستحق أحد
فسخه، ومثل به من بيع الشريك النصف، فإنه محمول على استحقاقه، لا يؤثر
هنا للفرق بينه وبين المتنازع فيه، لأن جميع التركة مستحقة للموصي حال حياته
اجماعا "، فقد أوصى بما يستحقه، ومن ثم حكموا بصحة وصيته بما زاد على الثلث،
442

وصحة هبته له، وإن توقف على إجازة الورثة، لأن ذلك لهم كالخيار للبايع
بالنسبة إلى ملك المشتري، بل أضعف، للخلاف في أن الملك هل ينتقل إليه في
زمن الخيار أم لا؟ والاتفاق على أن التركة مملوكة للموصي ما دام حيا، ومن
ثم لزمت الهبة لو برأ من مرضه، وكانت الإجازة تنفيذ الوصية، لا عطية متجددة،
على مختار أصحابنا، وقد ادعى الشيخ في المبسوط عليه الاجماع، وإنما الخلاف
في التنفيذ، والعطية للعامة، وأصحابنا يجعلون العطية احتمالا مرجوحا،
لا قولا.
وإذا تقرر أن الاطلاق محمول على الوصية الصحيحة فكل وصية من
المذكورات صحيحة، سواء كانت نافذة أم لا، لم تدل الوصية المتأخرة عن الوصية
بالثلث على أنها ناسخة للسابقة، ورجوع عنها، بل على إرادة الموصي اعطاء كل
واحد ما أوصى له به، وإن توقف ذلك على إجازة الورثة، فإن ذلك أمر آخر
غير الوصية المعتبرة شرعا "، وقد ظهر بذلك أنه لا تضاد بين قوله أوصيت لزيد
بثلث، ولعمرو بربع، بطريق أولى، وإنما يقع التضاد صريحا إذا قال بعد الوصية
لزيد بثلث، أوصيت لعمرو بالثلث الذي أوصيت به لزيد، أو بثلثي أو بالثلث
الذي جعله الله تعالى غير متوقف على إجازة، ونحو ذلك، وفي مثل قوله بثلثي
لزيد، ثم بثلثي لعمرو بالقرينة، لا بالتصريح كما حقنا، ثم نقل عن الشيخ
(رحمة الله) عليه أنه اتفق له في هذه المسألة غرائب، وشرح ذلك بما لا مزيد فائدة
في ذكره، وإنما نقلنا كلامه (قدس سره) بطوله لجودة محصوله في تحقيق المسألة،
زيادة على ما قدمناه، والاطلاع على ما وقع لهم من الاختلاف في المسألة، زيادة
على ما ذكرناه، إلا أن الخلاف الذي ذكرناه أولا " بالنسبة إلى المسألة الأولى من
المسألتين المفروضتين في كلام المحقق، والذي ذكره (قدس سره) بالنسبة إلى
الثانية منهما، والله العالم.
443

تذنيبان:
الأول لو اشتبه السابق في صورة الوصية بالثلث لاثنين، أحدهما بعد
الآخر فإنه يستخرج بالقرعة، كما حكم به الأصحاب، لأنها لكن أمر مشتبه، فإن
قلنا بأن الوصية للأول، وأنه يلاحظ في الصحة الأول فالأول، فإنه يحكم بها للسابق
وإن قلنا بأن ذلك عدول وفسخ، فإنه يحكم بها للثاني، وحينئذ فلا فرق في كتابه
الرقاع بين أن يجعل باسم السابق أو المتأخر، وصفتها أن تكتب في رقعة اسم
أحدهما وأنه السابق، وتكتب في رقعة اسم الآخر وأنه السابق، و يجمعان في موضع
ويخفيان، ثم يخرج إحداهما فمن خرج اسمه كان هو السابق، وترتب عليه
الحكم من استحقاق أو حرمان، ولك أن تكتب عوض السابق المتأخر في كل من
الرقعتين، والمرجع إلى أمر واحد.
الثاني: لو أوصى بشئ واحد لاثنين كان يقول أعطوا زيدا وعمروا مائة
درهم، أو الدار الفلانية، وكان ذلك أزيد من الثلث، فإن الشقص يدخل عليهما
بالنسبة، ولو جعل لكل واحد منهما شيئا " بأن يقول: أعطوا زيدا خمسين درهما،
وأعطوا عمروا خمسين درهما، أو أعطوا زيدا " نصف الدار، وعمروا نصفها،
وأنفق الزيادة على الثلث، فإنه يبدأ بالعطية الأولى، ويدخل النقص على الثانية.
المسألة السادسة: قال الشيخ في النهاية: إذا أوصى بعتق جميع مماليكه،
وله مماليك بخصوصه، ومماليك بينه وبين غيره، أعتق من كان في ملكه، وقوم من
كان في الشركة، وأعطي حقه إن كان ثلثه يحتمل، فإن لم يحتمل أعتق منه
بقدر ما يحتمله، وبه قال ابن البراج والعلامة في المختلف.
ويدل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) بأسانيدهم
وفيها الصحيح عن أحمد بن زياد (1) وهو واقفي " عن أبي الحسن عليه السلام " قال:

(1) الكافي ج 7 ص 20 ح 17، التهذيب ج 9 ص 222 ح 872، الوسائل
ج 13 ص 463 ح 2.
444

سألته عن الرجل تحضره الوفاة وله مماليك لخاصة نفسه، وله مماليك في شركة
رجل آخر، فيوصي في وصيته مماليكي أحرار، ما حال مماليكه الذين في الشركة
فقال: يقومون عليه إن كان ماله يحتمل ثم هم أحرار ".
وقال ابن إدريس: الذي يقوى عندي أنه لا يقوم من في الشركة، بل يعتق
منهم بقدر ما يملكه، ولا يعطي شريكه ثمن حصته، وإن احتمل ثلثه ذلك، لأنه
بعد موته لا يملك الثلث، إذا لم يوص به، لأن الموت يزول به ملكه إلا ما استثنى
من ثلثه، وهذا ما استثنى شيئا، وإلى هذا القول مال المتأخرين وهو قول الشيخ
في المبسوط أيضا "، حيث قال: إذا أوصى بعتق شقص له من عبد، ثم مات أعتق
عنه ذلك الشقص، ولم يقوم عليه نصيب شريكه، وإن كان غنيا، لأن ملكه زال
عن ماله بالموت إلا القدر الذي استثناه.
والعلامة في المختلف حيث اختار مذهب الشيخ في النهاية استدل عليه بأن
الموصي أوجد سبب السراية في العتق، فيوجد مسببه، أما المقدمة الأولى فلأن
العتق في الحقيقة مستند إليه، ولهذا كان ولائه له، وأما الثانية فظاهرة، ثم
أورد الرواية المذكورة.
واعترضه في المسالك فيما أورده من التعليل العقلي بأنه إن أراد مطلق
السبب أعم من التام لم يفده المطلوب، وإن أراد به التام منعناه هنا، لأن السبب
التام للسراية العتق مع اليسار، واليسار هنا منتف، لأنه لا يملك بعد الموت،
أو تقول أن سبب السراية إنما هو العتق لا الوصية به، والعتق إنما وقع بعد الوفاة،
فمسببه يجب أن يقع بعده كذلك مع اجتماع شرائطه الذي من جملته اليسار، وهو
منتف هنا بعد الوفاة، لما ذكرناه، ثم قال: فإن قيل: كما أن العتق سبب قريب
في السراية، كذلك الوصية سبب فيها، لأنها سبب العتق، وقد حصلت حالة
اليسار. لأنه المفروض والعتق سبب في السراية، قلنا: مجرد وجود السبب
لا يقتضي وجود المسبب، إلا إذا اجتمعت شرائطه، وإلا فيمكن تخلف المسبب عن
445

سببه، لفقد شرط، وهو هنا كذلك، لأن شرط العتق وفاة الموصي، لأنه جعله
وصية، والوصية إنما تقع بعد الوفاة، فإذا تخلف المسبب وهو العتق عن سببه إلى
ما بعد الوفاة، لزم معه تخلف مسببه، وهو السراية كذلك وتم المطلوب، حيث
لم يصادف المال، ثم رد الرواية بأنها لا تصلح لتأسيس الحكم بذاتها لضعف سندها
بأحمد بن زياد المذكور، فإنه واقفي غير ثقة، انتهى.
أقول: يمكن أن يقال إن محل البحث وموضوع المسألة من أوصى بعتق
مماليكه بمعنى أنهم يعتقون بعد موته، أو ينعتقون، وفهم هذا المعنى من لفظ
الرواية غير ظاهر، فإن ظاهرها أنه كتب في وصيته أو قال: بلسانه في ذلك
مماليكي أحرار، وظاهر هذه العبارة محتمل للانشاء، فيكون ذلك عتقا لهم في
ذلك الوقت، ومحتمل للأخبار عن عتق سابق، وعلى كل من الأمرين، فالعتق قد
وقع حال الحياة، فيترتب عليه ما ذكره في الرواية من السراية إن كان في ثلثه
ما بقي بذلك، وأما أن المراد بها الوصية بأن يعتق مماليكه بعد موته، فهو في
غاية البعد عن حاق لفظها، فإن قيل: إن ذلك مفهوم من قوله فيوصي في وصيته،
والوصية بالعتق يقتضي الانعتاق بعد الموت لا قبله، قلنا يمكن ارتكاب التجوز في
هذا اللفظ، بمعنى أنه يقول: ويذكر هذا القول في تلك الحال، وباب التجوز
في الكلام واسع، وارتكاب ما قلناه أولى وأقرب مما ذهب إليه القائلون بالقول
الأول من التقديم على الموصي، مع أنه لا مال له بعد الموت، كما أورده عليه،
وأولى منه ما ذهب إليه من رد الخبر واطراحه بالكلية، مع عدم وجود ما يضاده
من الأخبار، والعمل بالخبر مهما أمكن أولى من طرحه، وعلى ما ذكرناه فالخبر
لا يكون من محل الاستدلال في شئ، فيبقى القول خاليا من الدليل،
ويكون العمل على القول الثاني، بناء على القاعدة المذكورة، وهي أنه لا يقوم
عليه إلا مع وجود المال له، ولا مال في تلك الحال.
وبالجملة فإن الظاهر بهذا الفهم القاصر، والذهن الخاسر إن حمل الخبر
446

على ما ذكرناه ممكن بما عرفت من التقريب، فلا يلزم مخالفته للقواعد بناء
على القول الأول، ولا رده بناء على القول الثاني، والله العالم.
الحاق يشتمل على جملة من الفروع:
الأول: قالوا: لو أوصى بنصف ماله مثلا "، وأجاز الورثة، ثم قالوا: ظننا
أنه قليل، كما لو قالوا بعد إجازتهم الوصية بالنصف، ظننا أنه ألف درهم فظهر
ألف ألف دينار، فإنه يقبل قولهم في دعوى ظنه قلة المال مع يمينهم، ويقضى
عليهم بما ادعوا ظنه، فإذا حلفوا قضى عليهم بصحة الإجازة في خمسمائة درهم،
وعلل قبول قولهم باستناده إلى أصالة عدم العلم بالزائد، مضافا إلى أن المال مما
يخفى غالبا، وأن دعواهم يمكن أن تكون صادقة، ولا يمكن الاطلاع على صدق
ظنهم إلا من قبلهم، لأن الظن من الأمور النفسانية، فلو لم يكتف فيه باليمين
لزم الضرر، لتعذر إقامة البينة على دعواهم.
وتردد المحقق في ذلك، ومنشأه مما ذكرنا، ومن تناول لفظ الموصي للقليل
والكثير، وقدومه على ذلك مع كون المال مما يخفى كما ذكر، فالرجوع إلى
قولهم رجوع عن اللفظ المتيقن الدلالة على معنى يعم الجميع إلى دعوى ظن
يجوز كذبه.
قال في المسالك بعد ذكر ذلك: والأقوى القبول، وحينئذ فيدفع إلى
الموصى له نصف ما ظنوه، وثلث باقي التركة، انتهى.
أقول: لا ريب في قوة ما قواه بالنظر إلى هذه التعليلات المذكورة من
الطرفين، إلا أن الاعتماد عليها في تأسيس الأحكام الشرعية كما عرفت في غير
مقام مما تقدم، لا يخلو عن الاشكال، والمسألة عارية من النصوص على الخصوص
والصلح طريق الاحتياط، والله العالم.
الثاني: قالوا: لو أوصى بعبد أو بدار، فأجاز الورثة الوصية، ثم ادعوا أنهم
447

ظنوا أن ذلك الثلث أو أزيد بيسير، مع ظهور كون ذلك أزيد بكثير، لقلة المال
لم يسمع دعواهم في هذه الصورة، لأن الإجازة هنا قد تضمنت معلوما، بخلاف
ما تقدم في سابق هذا الموضع، وحاصل الفرق بين المسألتين أن الإجازة في هذه
الصورة وقعت على معلوم للورثة، وهي العين المخصوصة كيف كانت من التركة،
فكانت الإجازة ماضية عليهم، بخلاف الصورة الأولى حيث أن الوصية فيها بجزء
مشاع، وهو النصف من التركة مثلا، والعلم بمقداره قلة وكثرة موقوف على العلم
بالتركة كملا، والأصل عدمه، فتسمع فيه دعوى الجهالة، وأنت خبير بما في
هذا الفرق من تطرق احتمال المناقشة، ولهذا مال في الدروس إلى التسوية بين
المسألتين، والقبول في الحالتين، وجعله العلامة في التحرير وجها، وفي القواعد
احتمالا.
ووجه المناقشة التي أشرنا إليها، ما ذكره في المسالك من أن الإجازة وإن وقعت
على معلوم للورثة كما يدعونه، إلا أن كونه مقدار الثلث أو ما قاربه مما سامحوا
فيه إنما يعلم بعد العلم بمقدار التركة، والأصل عدم علمهم بمقدارها، وبنائهم
على الظن، فكما احتمل ظنهم قلة النصف في نفسه، يحتمل ظنهم قلة العين
بالإضافة إلى مجموع التركة، وإن لم يكن قليلا في نفسه، قال: ومخالفة الأصل
هنا بظنهم كثرة المال مع أن الأصل عدمه، لا يؤثر في رفع الظن عنه واعتقاد
كثرته، بل يمكن عدم ظهور خلاف ما اعتقدوه من الكثرة، ولكن ظهر عليه
دين قدم على الوصية، فقل المال الفاضل عنهما، وهذا موافق للأصل كالأول،
ثم قال: وأيضا فمن جملة المقتضي للقبول في الأول، إمكان صدقهم في الدعوى،
وتعذر إقامة البينة بما يعتقدونه، وهو متحقق هنا، لأن الأصل عدم العلم بمقدار
التركة، وذلك يقتضي جهالة قدر المعين من التركة كالمشاع، ولعل القبول
أوجه، انتهى.
والغرض من التطويل بنقل كلامهم مع ما عرفت من عدم الاعتماد عليه،
448

مع خلوه من الدليل الواضح، هو وقوف الناظر في الكتاب على ما في هذه المسائل
من كلام الأصحاب (رحمهم الله) فلعله يتشوق نفسه إلى الوقوف على كلامهم،
ونقضهم فيها وابرامهم، وقد أشرنا في غير موضع مما تقدم أن الغرض من الكتاب
هو أن لا يحتاج الناظر فيه إلى مراجعة شئ من كتب الأخبار، لإحاطتهم فيه
بجميع أخبار كل مسألة مسألة، وكذلك لا يحتاج إلى مراجعة كتب الأصحاب
للاطلاع على ما ذكروه في كل مسألة مسألة حسب الامكان، وإلا فاستقصاء كلامهم
في كل مسألة مسألة مما يتعذر غالبا "، فيكون كتابنا هذا مغنيا " عن مراجعة
غيره من كتب الأخبار، وكتب الفروع في الجملة إن شاء الله تعالى.
الثالث: الظاهر أنه لا اشكال في أنه لو أوصى له بثلث ماله مشاعا " فإن
الموصى له من كل شئ من التركة ثلثه حاضرا " كان أو غائبا " عينا " كان أو دينا "
فهو شريك للورثة في كل جزء جزء من التركة.
أما لو أوصى له بثلث التركة معينا " في عين مخصوصة، كدار مخصوصة،
أو عبد مخصوص، فإن الموصى له يملكه بالقبول، وموت الموصي ولا اعتراض،
للورثة من حيث اختصاصه بالعين عنهم، ولهم منها الثلثان، لأنه لا خلاف في أن
للموصي ثلث ماله، يتصرف فيه كيف شاء، وأنه لا يتوقف على إذن الورثة،
غاية الأمر أنه بعد أن خصه بهذه العين من حيث كونها ثلث التركة، وهو لا يملك
من هذه العين إلا ثلثها، جعل ما بأيديهم من ضعف الوصية من جملة التركة
كالقيمة الشرعية عما يستحقونه من ثلثي هذه العين، هذا إذا كان ضعف الموصى به
بأيديهم كما هو المفروض.
أما لو لم يكن بأيديهم بأن كان له مال غائب، أو بيد متغلب، فإن لم يكن
بأيديهم من التركة شئ أصلا، فللموصى له ثلث تلك العين خاصة، وكان انتقال
ثلثيها موقوفا على تمكين الوارث من ضعفها من التركة، وإن كان بيدهم شئ
لا يقوم بالنصف فله من العين ما يحتمله الثلث منها ومما بأيديهم من التركة،
449

والباقي يصير موقوفا لا نحكم به لأحد منهما حتى يتضح الحال، فيجعل أمانة بيد
الحاكم أو أمينه أو من يتفقان عليه إلى أن يتبين الأمر، لحصول الغائب وعدمه.
ثم إن هذا القدر المتخرج من الثلث المحصر في بعض هذه العين منجز هل
يتسلط الموصى له عليه أم لا؟ بل يمنع من التصرف فيه وإن كان ملكا له، وجهان:
اختار أولها في المسالك، قال لوجود المقتضي وهو ملكه له بالوصية المحكوم
بصحتها بالنسبة إلى الثلث على كل حال، لأن غاية ما هناك تلف الغائب بأجمعه
فيكون الحاضر هو مجموع التركة فيملك ثلثه بغير مانع، ثم ذكر وجه المنع
ورده بما هو مذكور ثمة.
الرابع: قالوا: لو أوصى بثلث عبده فتبين أنه ليس له من العبد إلا ثلثه،
وأن ثلثيه، مستحق للغير، فإن الوصية تصح في ذلك الثلث، ثم إن كان الموصي
لا يملك غير ذلك العبد لم تنفذ وصيته المذكورة، إلا في ثلث الثلث الذي يستحقه،
ووقف في ثلثيه على الإجازة، وإن ملك غيره اعتبر خروج ثلث العبد من ثلث
التركة.
ونقل عن بعض العامة، أنه حكم بنفوذ الوصية في المسألة المذكورة في ثلث
الثلث خاصة، والذي عليه الأصحاب كما عرفت أن الوصية إنما تنصرف إلى مستحقه
خاصة، وهو الثلث على التفصيل المتقدم، وما ذهب إليه ذلك القائل كأنه منزل
على الإشاعة، وجواز الوصية بمال الغير، بمعنى أنه لو أوصى بثلث شايع في العبد
وهو ملك الجميع من الموصي وباقي الشركاء، فلا تنفذ وصيته فيه، بل إنما تنفذ
في ثلثه، ويرجع إلى كون موصى به ثلث الثلث، ورده الأصحاب بأن الوصية
لا تصح إلا بما يملكه الموصي، فلو أوصى بمال الغير لغت، فلا تنزل على الإشاعة
المستلزمة للوصية بمال الغير.
الخامس: المشهور في كلام المتأخرين أنه لو أوصى بما يقع اسمه على
المحلل والمحرم انصرف اللفظ إلى المحلل، صونا " للمسلم عن المحرم كما إذا
450

أوصى بعود من عيدانه وله عود لهو، وعيدان قسي، وعيدان عصي، وعيدان
المسقف، والبنيان، وأيده بعضهم بوجوب تنفيذ الوصية بحسب الامكان لعموم " فمن
بدله بعدما سمعه " وهو لا يتم إلا بذلك.
وقال الشيخ في المبسوط: اطلاق قوله عود من عيداني ينصرف إلى العود
الذي يضرب به للهو، لأن ذلك يسمى بالاطلاق عودا " في العادة، ثم ينظر فإن كان
له منفعة غير الضرب صحت الوصية، وإن لم تكن له منفعة مباحة ولا يصلح إلا
للعب بطلت الوصية.
أقول: لا ريب أن لفظ العود هنا من الألفاظ المشتركة، ومن شأن اللفظ
المشترك أن لا يحمل على أحد معانيه إلا بالقرينة، وفي كون ما ذكروه من صون
المسلم عن المحرم قرينة على المحلل على اطلاقه محل اشكال، سيما مع شيوع
استعمال المسلمين للهو واللعب بالعود وغيره، فلو ثبت ذلك بحال الموصي وما هو
عليه من التورع عن المحرمات، أو عدم ذلك ولو في ساير الحالات لكان حسنا.
نعم لو لم يكن له عود لهو بالكلية، انصرف إلى المحلل بغير اشكال، وإن
كان للفظ أعم من المحرم، ولو لم يكن له إلا العود المحرم قيل تبطل الوصية،
لانصرافه إلى غير المشروع، حيث لم يكن له غيره، والحال أنه قد خصها بما هو
له، فلا ينتقل إلى تحصيل غيره.
وظاهر كلام الشيخ المتقدم أنه إن كان له منفعة مباحة غير الضرب صحت
الوصية، وإلا فلا، وقيل: تصح الوصية به، ولكن تزال عنه الصفة المحرمة،
بأن يحول منها إلى غيرها من الصفات المحللة إن أمكن، وإلا بطلت الوصية،
واطلاق العبارة يقتضي أن زوال الصفة المحرمة مع بقاء المنفعة لو تحقق بكسره
والانتفاع بخشبه في بعض المنافع المحللة، يكفي في الصحة على هذا القول.
واستشكل في المسالك في ذلك بأنه يخرج بالكسر عن كونه عودا " لأن
وصيته معتمدة على وصف العود فكسره خروج عن الاسم، ثم قال: لا يقال: إذا
451

انتقل إلى الموصى له فله أن يفعل به ما شاء، ومن جملته كسره، بل هو واجب
حيث يتوقف زوال الصفة المحرمة عليه، فلا يقدح ذلك في جواز الوصية، لأنا
نقول إن جواز تصرف فيه بالكسر وغيره موقوف على صحة الوصية، وصحتها
موقوف على كسره فيدور، ولو قيل: أنه يمكن كسره من غير الموصى له قبل
دفعه إليه ليندفع الدور، جاء فيه ما تقدم من زوال اسم العود الذي هو متعلق
الوصية، فلا يكون بعد كسره موصى به، فلا يحصل بدفعه إلى الموصى له
الامتثال، انتهى.
أقول: لا يخفى أن مبنى كلامه (قدس سره) على أنه بالكسر يخرج عن
كونه عودا، فلو دفع بعد الكسر إلى الموصى له لم يصدق الاتيان بالوصية والامتثال
لها، وفيه أن أحد أفراد العود عود الخشب، وهذا بعد الكسر وإن خرج عن عود
اللهو، إلا أنه لا يخرج عن عود الخشب، قال في كتاب المصباح، المنير: وعود اللهو
وعود الخشب، جمعه أعواد وعيدان ونحوه في القاموس، وحينئذ فيرجع الكلام
إلى ما ذكره ذلك القائل من صحة الوصية متى أزيلت عنه صفة المحرمة، وحول
إلى غيرها من الصفات المحللة، وأن هذا العود بكسره قد خرج عن عود اللهو،
وصار من قبيل عود الخشب، الذي منافعه المترتبة عليه محللة.
ثم إنه قال في المسالك على أثر الكلام المتقدم: والأقوى أنه إن أمكن
إزالة الصفة المحرمة مع بقاء اسمه، صحت الوصية، وإلا بطلت لحصره فيما عنده،
وهو ينافي تحصيل عود من خارج، ولم يوجد عنده ما يتناوله الاسم شرعا،
فيكون ذلك بمنزلة ما لو أوصى بالمحرم، انتهى.
أقول: قد عرفت بما أوضحناه بقاء اسم العود على الباقي بعد الكسر، فتصح
الوصية، ولا يحتاج إلى تحصيل عود من خارج بأي معنى كان، فإن الموجود عنده
بعد الكسر مما يتناوله اسم العود، فلا موجب لبطلان الوصية، والله العالم.
السادس: قال المحقق في الشرايع: وتصح الوصية بالكلاب المملوكة،
452

ككلب الصيد، والماشية، والحائط، والزرع، قال الشارح في قوله المملوكة:
تنبيه، على أنا لو لم نقل بملكها لم تصح الوصية بها لعدم كونها مالا منتفعا به ومن
ثم لم يصح بيعها عند القائل بعدم المالية، والأقوى جواز الوصية؟ بها وإن لم نقل
بملكها ولم نجوز بيعها، لثبوت الاختصاص بها وانتقالها يدا إلى يد بالإرث وغيره،
وهو أعم من الملك.
أقول: قد حققنا في كتاب البيع (1) أن المستفاد من الأخبار اختصاص
الملك وجواز البيع ونحوه بكلب الصيد خاصة، كما هو أحد الأقوال في المسألة،
وأن ما عداه لا دليل على جواز تملكه ولا بيعه، ولا غيرهما من الأحكام، ومنها
الوصية هنا، وأما ما ذكره الشارح هنا من جواز الوصية بالكلاب وإن لم نقل
بملكها ولم نجوز بيعها، فهو مشكل.
أما أولا فلما صرحوا به من أن من شروط صحة الوصية صحة الملك لكل
من الموصي والموصى له، كما تقدم في المسألة الأولى من مسائل هذا المقصد،
وقد اعترف بذلك الشارح المذكور، حيث قال بعد قول المصنف ويعتبر فيهما
الملك؟ فلا يصح بالخمر والخنزير والكلب الهراش ما صورته: المراد هنا صلاحية
الملك للموصي والموصى له، كما ترشد إليه إلا مثله، فإن المذكورات لا تقبل الملك
بالنسبة إلى المسلم، أو مطلقا بناء على اعتبار الواقع في نفس الأمر إلى أن قال:
واحترز بكلب الهراش عن الكلاب الأربعة والجر والقابل للتعليم، فتصح الوصية
بها، لكونها مملوكة لها قيمة ومنفعة، وهو كما ترى صريح فيما ذكرناه،
وعلى هذا المنوال كلمة غيره من الأصحاب في هذا المجال.
وأما ثانيا فلأن الوصية حكم شرعي يترتب عليها جملة من الأحكام كما في
جملة الوصايا المبحوث عنها في هذا المقام، فلا بد في اثباته من الدليل الشرعي كما
هو واضع؟ لذوي الأفهام، وغاية ما يدل عليه الدليل صحة الوصية بالمملوك، فغيره

(1) ج 18 ص 80.
453

يتوقف على الدليل، ومجرد هذه التعليلات العلية لا يجوز أن ترتب عليها
الأحكام الشرعية.
وأما ثالثا فإن ما ادعاه من انتقالها من يد إلى يد بالإرث وغيره مجرد دعوى،
لا يخرج عن المصادرة، فإن المانع للملك يمنع من حصول الإرث فيها، لكونه فرع
الملك بلا خلاف نصا " وفتوى وبالجملة فإن كلامه (قدس سره) هنا لا يخلو من تساهل
ثم إنه قال في المسالك: إذا تقرر ذلك فإذا أوصى بكلب تجوز الوصية به،
فإن وجد في التركة فذاك، وإلا فإن جوزنا شراءه اشترى من التركة ودفع
الموصى له، وإن لم نجوز شراءه احتمل بطلان الوصية حينئذ، لعدم إمكان انفاذها
على الوجه المشروع، ومراعاة تحصيله بغير البيع، إذ لا يلزم من عدم جواز بيعه
عدم إمكان تحصيله بغيره، فيجب تحصيله على الوارث تفصيا " من تبديل الوصية
مع إمكان انفاذها، فإن أمكن تحصيله وإلا بطلت ويشكل بأنه لا يلزم، من إمكان
تحصيله للوارث وجوبه عليه إذ لا يجب عليه إنفاذ وصية مورثه إلا من مال المورث
وهو منتف هنا، والأقوى البطلان مطقا، لكن لو تبرع به متبرع من وارث وغيره
صح، وإن لم يكن ذلك واجبا، انتهى.
تتميم:
في ذكر جملة من الوصايا المبهمة فمنها الوصية بالجزء من ماله، وقد اختلف
الأصحاب في ذلك باختلاف الأخبار فيما هنالك، فذهب جمع منهم الشيخ في
كتابي الأخبار والشيخ علي بن بابويه وابنه إلى أنه العشر، واختاره العلامة في
المختلف، وهو ظاهر المحقق في الشرايع حيث نسبه إلى أشهر الروايتين، وذهب
جمع منهم الشيخ المفيد والشيخ في النهاية وابن الجنيد وسلار وابن البراج إلى
أنه السبع، ونقله في المسالك عن أكثر المتأخرين.
والذي يدل من الأخبار على الأول ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن
454

أو الصحيح في الأول، والصحيح في الثاني عن عبد الرحمن بن سيابة (1) وهو
مجهول " قال: إن امرأة أوصت إلي وقالت ثلثي يقضي به ديني، وجزء منه لفلانة،
فسألت عن ذلك ابن أبي ليلى فقال ما أرى لها شيئا "، ما أدري ما الجزء فسألت عنه
أبا عبد الله عليه السلام بعد ذلك وخبرته كيف قالت المرأة وما قال ابن أبي ليلى فقال:
كذب ابن أبي ليلى، لها عشر الثلث، إن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام فقال (2):
" اجعل على كل جبل منهن جزء " وكانت الجبال يومئذ عشرة، والجزء هو العشر
من الشئ ".
والعلامة في المختلف روى هذه الرواية عن عبد الله بن سنان، وأنه هو
الوصي والسائل عن هذه المسألة، وعد الخبر في الصحيح، والذي في الكافي
والتهذيب عن عبد الله بن سنان إنما هو راو عن عبد الرحمن بن سيابة، وبه تكون
الرواية على اصطلاحهم ضعيفة، وكان لفظ عبد الرحمن بن سيابة سقط، من
نسخة الكتاب البذي عنده، أو أنه غفل عنه، إلا أن الشيخ في الإستبصار رواه كذلك
فالظاهر أنه نقل الخبر عن الإستبصار، ولم يراجع الكافي والتهذيب، ومما يؤيد
العمل على ما في التهذيب كما ذكره شيخنا في المسالك، من أن من المستبعد جدا
أن عبد الله بن سنان الفقيه الجليل الإمامي يسأل ابن أبي ليلى في ذلك، بل
الموجود في الأخبار أن ابن أبي ليلى كان يسأله، ويسأل أصحابه مثل محمد بن
مسلم وغيره عن كثير من المسائل، والشهيد في الدروس قد تبع العلامة في هذا
المقام وثوقا بكلامه في المختلف، واعتمادا " على ما في الإستبصار، ولم يراجع
الكتابين الآخرين.
ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة في الموثق أو الحسن الذي لا يقصر عن الصحيح

(1) الكافي ج 7 ص 39 ح 1، التهذيب ج 9 ص 208 ح 824، الإستبصار
ح 4 ص 131 ح 494، الوسائل ج 13 ص 442 ح 2.
(2) سورة البقرة الآية 260.
455

عن معاوية بن عمار (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى بجزء من
ماله، قال: جزء من عشرة، قال الله تعالى (2) " اجعل كل جبل منهن جزءا "
وكانت الجبال عشرة ".
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن أبان بن تغلب (3)
" قال: قال أبو جعفر عليه السلام الجزء واحد من عشرة، لأن الجبال كانت عشرة، والطير
أربعة ".
وما رواه في التهذيب عن أبي بصير (4) " عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل أوصى
بجزء من ماله: قال: جزء من عشرة، وقال: كانت الجبال عشرة ".
ورواه العياشي في تفسيره مثله (5)، وزاد: وكانت الطير الطاوس، والحمامة،
والديك والهدهد، فأمره أن يقطعهن.. إلى آخره.
وما رواه الصدوق (قدس سره) في كتاب معاني الأخبار عن أبان بن تغلب (6)
" عن أبي جعفر عليه السلام في الجرل يوصي بجزء من ماله؟ قال: الجزء واحد من عشرة،
لأن الله تعالى يقول " ثم اجعل على كل جبل منهن جزاءا " " وكانت الجبال عشرة،
والطير أربعة فجعل على كل جبل منهن جزاءا " " قال: وروى أن الجزء واحد
من سبعة، لقول الله عز وجل " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ".
ومنها ما رواه في الكتاب المذكور في الصحيح عن عبد الله بن سنان (7)
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة أوصت بثلثها يقضي به دين ابن أخيها وجزء

(1) الكافي ج 7 ص 40 ح 2، التهذيب ج 9 ص 208 ح 825، الفقيه
ج 4 ص 152 ح 528، الوسائل ج 13 ص 443 ح 3.
(2) سورة البقرة الآية 260.
(3) الكافي ج 7 ص 40 ح 3، التهذيب ج 9 ص 209 ح 826 و 827
(4) الكافي ج 7 ص 40 ح 3، التهذيب ج 9 ص 209 ح 826 و 827
(5) تفسير العياشي ج 1 ص 144 ح 475.
(6) معاني الأخبار ص 217 ح 1.
(7) معاني الأخبار ص 217 ح 2 ط إيران سنة 1379.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 442 ح 1 و 446 ح 11 و ص 443 ح 4
و ص 444 ح 6.
456

لفلان وفلانة فلم أعرف ذلك، فقدمنا إلى ابن أبي ليلى قال: فما قال لك؟ قلت:
قال: ليس لهما شئ فقال: كذب والله، لهما العشر من الثلث ".
وما رواه العياشي (1) في تفسيره عن عبد الصمد بن بشير في خبر يتضمن " أن
أبا جعفر المنصور جمع القضاة فقال لهم: رجل أوصى بجزء من ماله فكم الجزء؟ فلم
يعلموا واشتكوا إليه، فأبرد بريدا إلى صحاب المدينة أن يسأل جعفر بن محمد فسأله
فقال أبو عبد الله عليه السلام: هذا في كتاب الله بين، إن الله يقول لما قال إبراهيم رب أرني
كيف تحيي الموتى، (2) " ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا " فكانت الطير أربعة
والجبال عشرة، يخرج الرجال من كل عشرة أجزاء جزءا واحدا "، الحديث.
وما رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن عبد الله (3)
" قال: جائني أبو جعفر بن سليمان الخراساني، وقال: نزل بي رجل من أهل خراسان
من الحجاج، فتذاكرنا الحديث، فقال: مات لنا أخ بمرو وأوصى إلي بمائة ألف
درهم وأمرني أن أعطي أبا حنيفة منها جزءا "، ولم أعرف الجزء كم هو مما ترك،
فلما قدمت الكوفة أتيت أبا حنيفة فسألته عن الجزء، فقال لي الربع،، فأبى قلبي
ذلك فقلت: لا أفعل حتى أحج وأستقصي المسألة، فلما رأيت أهل الكوفة قد
اجتمعوا على الربع، قلت لأبي حنيفة إلى أن قال: وأنا أريد الحج فلما أتينا
مكة وكنا في الطواف فإذا نحن برجل شيخ قاعد قد فرغ من طوافه، وهو
يدعو ويسبح إذ التفت أبو حنيفة فلما رآه قال: إن أردت أن تسأل غاية الناس
فاسأل هذا، فلا أحد بعده، قلت: ومن هذا؟ قال: جعفر بن محمد، فلما قعدت
واستمكنت إذ استدار أبو حنيفة خلف ظهر جعفر بن محمد، فقعد قريبا مني فسلم
عليه وعظمه وجاء غير واحد مزدلفين مسلمين عليه، وقعدوا فلما رأيت ذلك من
تعظيمهم له اشتد ظهري، فغمزني أبو حنيفة أن تكلم، فقلت: جعلت فداك إني

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 143 ح 473 و ص 144 ح 476، الوسائل ج 13 ص 444 ح 8 و ص 445 ح 9 الباب 54.
(2) سورة البقرة الآية 260.
(3) تفسير العياشي ج 1 ص 143 ح 473 و ص 144 ح 476، الوسائل ج 13 ص 444 ح 8 و ص 445 ح 9 الباب 54.
457

رجل من خراسان وأن رجلا مات وأوصى إلي بمائة ألف درهم وأمرني أن أعطي
منها جزءا، وسمى لي الرجل، فكم الجزء جعلت فداك؟ فقال جعفر بن محمد
يا أبا حنيفة: قل فيها، فقال: الربع، فقال لابن أبي ليلى: قل فيها، فقال:
الربع، فقال جعفر عليه السلام: ومن أين قلتم الربع؟ قالوا: لقول الله تعالى (1) " فخذ
أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا "، فقال
أبو عبد الله عليه السلام وأنا أسمع هذا قد علمت الطير أربعة، فكم كانت الجبال، إنما
الأجزاء للجبال، ليس للطير، فقالوا: ظننا أنها أربعة فقال أبو عبد الله عليه السلام ولكن
الجبال عشرة "، وروي جزء من سبعة (2) لقول الله عز وجل (3) " لها سبعة أبواب
لكل باب منهم جزء مقسوم " انتهى.
هذا جملة ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على القول الأول.
وأما ما يدل على القول الثاني من الأخبار فمنه ما رواه الشيخ في الصحيح عن
البزنطي (4) " قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل أوصى بجزء من ماله فقال:
واحد من سبعة، إن الله تعالى يقول " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم "
قلت: رجل أصيب بسهم من ماله؟ فقال: السهم واحد من ثمانية، ثم قرأ
" إنما الصدقات للفقراء والمساكين " إلى آخر الآية.
وعن إسماعيل بن همام الكندي (5) " عن الرضا عليه السلام في الرجل يوصي بجزء
من ماله ولم يعينه، فاختلف الورثة بعده في ذلك فقضى عليهم باخراج السبع من
ماله وتلا قوله تعالى " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم "، وقد تقدم
في عبارة كتاب الفقه الرضوي وكذا في عبارة المقنع الإشارة إلى هذه الرواية.

(1) سورة البقرة الآية 260.
(2) الوسائل ج 13 ص 444 ح 6.
(3) سورة الحجر الآية 44.
(4) التهذيب ج 9 ص 209 ح 828 و 829، الوسائل ج 13 ص 447 ح 12 و 13.
(5) التهذيب ج 9 ص 209 ح 828 و 829، الوسائل ج 13 ص 447 ح 12 و 13.
458

وروى العياشي في تفسيره عن البزنطي (1) " عن الرضا عليه السلام قال: سأله رجل
عن الجزء وجزء الشئ، فقال: من سبعة، إن الله يقول: لها سبعة أبواب لكل باب
منهم جزء مقسوم، ورووا أيضا " عن إسماعيل بن همام الكوفي (2) " عن الرضا عليه السلام
في رجل أوصى بجزء من ماله؟ فقال: جزء من سبعة، إن الله يقول في كتابة:
لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ".
وفي الفقيه (3) روى البزنطي عن الحسين بن خالد " عن أبي الحسن عليه السلام
قال: سألته عن رجل أصيب بجزء من ماله قال: سبع ثلثه ".
هذا ما وقفت عليه من الروايات الدالة على القول الثاني والشيخ قد جمع
بين الأخبار بحمل الجزء على العشر، فيجب أن ينفذ في واحد من عشرة، وحمل
أخبار السبع على أنه يستحب للورثة إنفاذه في واحد من سبعة، لتتلائم الأخبار،
وهو إن كان لا يخلو من بعد الآن ظاهر أخبار السبعة هو أن الحكم الشرعي ذلك،
حيث فسروا عليهم السلام الجزء بأنه من سبعة، بقول إلا أنه في مقام الجمع
لا مندوحة عنه، ولا صرح للحمل على التقية في أحد الطرفين، لما عرفت من
حديث الخراساني المتقدم، إلا أن يقال: بأن التقية هنا إنما هو بايقاعهم عليهم السلام
الاختلاف وإن لم يكن ذلك قولا " للعامة، كما قدمناه في المقدمات الكتاب من جلد
كتاب الطهارة (4) ويمكن أن يؤيد القول الأول بفتوى الرضا عليه السلام في كتاب الفقه
بذلك، ونسبة الجزء من سبعة إلى الرواية.
وقال في المسالك بعد ذكر حمل الشيخ (رحمة الله عليه): ولا بأس بهذا
الحمل، حذرا " من اطراح الروايات المعتبرة، وقال في المسالك أيضا " بعد ذكر
بعض ما ذكرناه من روايات الطرفين: وهذا القول وأشار به إلى القول الثاني أصح

(1) تفسير العياشي ص ج ص 243 ح 20.
(2) تفسير العياشي ج 2 ص 244 ح 21.
(3) الفقيه ج 4 ص 152 ح 529.
وهما في الوسائل ج 13 ص 447 ح 13 و 14.
(4) ج 1 ص 4.
459

رواية الأول أكثر، فلذلك قال المصنف: أشهر هما العشر، وتلك أشهر، وهذه
أصح، وينبغي ترجيح الصحيح.
نعم من حكم بصحة رواية عبد الله بن سنان، وانضم إليها حسنة أبان،
والباقي من الموثق، توجه ترجيحه لمضمونها، وهو خيرة العلامة في المختلف محتجا
بكثرتها، وزيادتها على هذه، وموافقتها للأصل وبعدها عن الاضراب، إذ في
رواية السبع أنه سبع ثلث وهي الرواية الثالثة التي أشار إليها المصنف أخيرا،
ورواها الحسين بن خالد عن أبي الحسن (1) عليه السلام ثم ساق الرواية كما قدمناه،
ثم قال وهذه الرواية مع جهالة سندها بالحسين بن خالد، شاذة لا عامل بمضمونها،
والفرق بينها وبين رواية عبد الله بن سنان المتضمنة لعشر الثلث، أن الموصي
صرح فيها بكون الجزء من الثلث، وهنا جعله من ماله، ولا اشكال في حمل
الجزء على معناه من العشر أو السبع لأي شئ نسب إلى المال، فهو عشره أو سبعه
أو إلى الثلث أو النصف أو غيرهما، فهو العشر أو السبع من ذلك الجزء المنسوب إليه
فالرواية الأولى لا تخالف سوى رواية السبع، بخلاف هذه، فإنها مخالفة للجميع
انتهى.
أقول: أما ما رجح به القول الثاني من صحة روايته مشيرا بذلك إلى صحيحة
البزنطي المتقدمة، ففيه أن في روايات العشر أيضا " ما هو صحيح، وهي صحيحة عبد الله
بن سنان المتقدمة المروية في كتاب معاني الأخبار، ولكن العذر له ظاهر، حيث
أن نظرهم مقصور على روايات الكتب الأربعة.
وأما ما طعن به في روايات السبع من الاضطراب بدلالة رواية الحسين بن
خالد على أن الجزء سبع ثلثه، وأنه لا قائل بذلك، ففيه أولا " أن رد هذه الرواية
لهذه العلة التي ذكرها، لا يستلزم رد غيرها من تلك الأخبار الخالية من هذه
العلة وثانيا أنه يمكن الجواب عما ذكره بحمل ماله في الخبر على ما يجوز له

(1) الفقيه ج 4 ص 152 ح 529، الوسائل ج 13 ص 447 ح 14.
460

التصرف فيه بعد موته، وليس إلا الثلث، فإذا أضيف الجزء إليه وكان الجزء إليه وكان الجزء بمعنى
السبع كما هو المفروض في هذه الأخبار كان الحاصل سبع من ثلثه، ولا ينافي ذلك
الأخبار المتقدمة بأن المراد بالجزء من ماله يعني عشر ماله أو سبع ماله، لأن
المال في تلك محمول على ظاهره وهو ماله في حال الحياة وفي هذا الخبر محمول
على ماله بعد الموت فلا يكون مخالفا لشئ من الأخبار، كما ذكره (قدس سره)
والتأويل في مثله بما ذكرنا للجميع بين الأخبار غير عزيز.
وبالجملة فالمسألة غير خالية عن شوب الاشكال، وطريق الاحتياط فيها
بالصلح مطلوب على كل حال، والله العالم.
ومنها الوصية بالسهم، والمشهور أنه الثمن، وتدل عليه جملة من الأخبار
منها ما تقدم في صحيحة البزنطي، وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم)
عن السكوني (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن رجل يوصي بسهم من ماله
فقال: السهم واحد من ثمانية، يقول الله تبارك وتعالى " إنما الصدقات للفقراء
والمساكين والعالمين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله
وابن السبيل ".
وما رواه في الكافي (2) في الصحيح أو الحسن عن صفوان والبزنطي ورواه
في التهذيب (3) أيضا " عنهما " قالا: سألنا الرضا عليه السلام عن رجل أوصى " لك " بسهم
من ماله لا يدري السهم أي شئ هو؟ قال: أليس عند كم فيما بلغكم عن جعفر
ولا عن أبي جعفر عليهما السلام فيها شئ، قلنا له: جعلنا فداك ما سمعنا أصحابنا يذكرون
شيئا " من هذا عن آبائك، فقال: السهم واحد من ثمانية، فقلنا له: جعلنا الله
فداك كيف صار واحدا " من ثمانية؟ فقال: أما تقرأ كتاب الله عز وجل؟ قلت:

(1) الكافي ج 7 ص 41 ح 1، التهذيب ج 9 ص 210 ح 832، الفقيه
ج 4 ص 152 ح 526.
(2) الكافي ج 7 ص 41 ح 2، التهذيب ج 9 ص 210 ح 833. وهما في الوسائل ج 13 ص 449 ح 3 و ص 448 ح 2.
(3) الكافي ج 7 ص 41 ح 2، التهذيب ج 9 ص 210 ح 833. وهما في الوسائل ج 13 ص 449 ح 3 و ص 448 ح 2.
461

جعلت فداك أني لأقرؤه، ولكن لا أدري أي موضع هو؟ فقال: قول الله تعالى (1)
" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعالمين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب
والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل " ثم عقد بيده ثمانية قال: وكذلك قسمها
رسول الله. صلى الله عليه وآله) ثمانية أسهم، فالسهم واحد من ثمانية "، ورواه
الصدوق في معاني الأخبار في الصحيح عن صفوان (2).
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد (3) " قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل
أوصى بسهم من ماله، ولم يبينه فاختلف الورثة في معناه، فقضى بينهم باخراج
الثمن من ماله، تلا عليهم " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية، وهم ثمانية
أصناف، لكل صنف منهم سهم من الصدقات ".
والقول بالثمن مذهب الشيخ في النهاية، قال: وقد روى أنه سهم من عشرة،
والأول أكثر في الرواية، وهذا القول أيضا " قول الشيخ المفيد، وابن الجنيد،
والصدوق، وابن البراج وسلار، وابن إدريس، وهو المشهور بين المتأخرين.
وقال الشيخ في الخلاف والمبسوط: أنه السدس، وبه قال الشيخ علي بن بابويه
(رحمة الله عليه).
أقول: والرواية التي أشار إليها الشيخ في النهاية بأن السهم من عشرة هي
ما رواه في التهذيب عن طلحة بن زيد (4) " عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عليه السلام قال:
من أوصى بسهم من ماله، فهو سهم من عشرة " والشيخ حملها في التهذيب على
وهم الراوي بالاشتباه عليه بين الجزء والسهم.
قال الصدوق في الفقيه: (5) وقد روي أن السهم واحد من ستة، ثم جمع

(1) سورة التوبة الآية 60.
(2) معاني الأخبار ص 216 ح 2 ط إيران سنة 1379.
(3) الإرشاد ص 106.
(4) التهذيب ج 9 ص 211 ح 734.
(5) الفقيه ج 4 ص 152 ح 527.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 448 ح 2 و ص 450 ح 7 و ص 499
ح 4 و 5.
462

بينها وبين الرواية الثانية بحمل الستة على ما إذا أوصى بسهم من سهام المواريث،
والثمانية على ما إذا أوصى بسهم من سهام الزكاة قال: فتمضي الوصية على ما يظهر
من مراد الموصي.
أقول: والرواية بأن السهم واحد من ستة لم ينقلها أحد منهم بغير هذا
العنوان المحمل، والظاهر أن المراد بها ما ذكره الرضا عليه السلام في كتاب الفقه
الرضوي (1) حيث قال: " فإن أوصى بسهم من ماله فهو سهم من ستة أسهم،
وكذلك إذا أوصى بشئ من ماله غير معلوم فهو واحد من ستة ". ومنه يعلم أن
قول الشيخ علي بن بابويه بما نقل عنه من أنه السدس إنما أستند فيه إلى الكتاب
المذكور، والأصحاب هنا مع نقلهم هذا القول عنه لم يستدلوا له بشئ لعدم
وجود ذلك في كتب الأخبار المتداولة بينهم، ومنه يعلم كما قدمنا ذكره أن
اعتماده على هذا الكتاب، وفتواه بما فيه مع كونه على خلاف الروايات المتكاثرة،
كما سمعت، وخلاف قول غيره من الأصحاب (رحمهم الله) أدل دليل على ثبوت
كون الكتاب له عليه السلام وأن ذلك مقطوع به عنده، وفي الوسائل احتمل حمل
هذه الرواية على التقية، وهو غير بعيد.
وقال في المسالك: وذهب الشيخ في أحد قوليه إلى أنه السدس، لما روي
عن ابن مسعود (2) أن رجلا " أوصى لرجل بسهم من المال فأعطاه النبي. صلى الله
عليه وآله وسلم) السدس وقيل: أن السهم في كلام العرب السدس، انتهى.
أقول: والاستدلال بهذه الرواية العامية يحتمل أن يكون من الشيخ كما
هو الأقرب، ويحتمل أن يكون من صاحب المسالك، وأيا " ما كان ففي ذلك نوع
تأييد بحمل كلامه عليه السلام في كتاب الفقه على التقية في هذا الحكم، وكيف كان
فالعمل على المشهور، لتكاثر الأخبار، والله العالم.

(1) المستدرك ج 2 ص 527 الباب 48 ح 1.
(2) الخلاف ج 2 ص 310 مسألة 9 من كتاب الوصية، المغني لابن قدامة
ج 6 ص 446.
463

ومنها ما لو أوصى بشئ وظاهر كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه
السدس، ويدل عليه ما تقدم في عبارة كتاب الفقه الرضوي (1) وما رواه المشايخ
الثلاثة بأسانيدهم عن أبان بن تغلب (2) " عن علي بن الحسين عليهما السلام أنه سئل عن
رجل أوصى بشئ من ماله؟ فقال: الشئ في كتاب علي عليه السلام واحد من ستة ".
ورواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار (3) عن أبان بن تغلب عن " علي بن
الحسين عليه السلام، قال: قلت له: رجل أوصى بشئ من ماله؟ فقال لي: في كتاب
علي عليه السلام الشئ من ماله واحد من ستة ".
ومنها ما لو أوصى بكثير قال الخلاف: إذا قال أعطوا كثيرا " من مالي فإنه
يستحق ثمانين، على ما رواه أصحابنا في حد الكثير، وتبعه ابن حمزة ولم يفسر
الكثير، قال في المختلف: والظاهر أن مرادهما ثمانون درهما كالنذر.
وقال الصدوق: إذا أوصى رجل بمال كثير، ونذر أن يتصدق بمال كثير،
فالكثير ثمانون فما زاد، لقوله تعالى " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ". وكانت
ثمانين موطنا.
وقال الشيخ (رحمة الله عليه) في كتاب الاقرار من الخلاف لو قال له: عندي
مال كثير، فإنه يكون اقرارا بثمانين، على الرواية التي تضمنت أن الوصية
بالمال الكثير وصية بثمانين.
وقال ابن إدريس في قول الشيخ (رحمة الله عليه) تسامح وتجاوز، إنما
الرواية وردت فيمن نذر أن يتصدق بمال كثير، وما وردت في الوصية، ولا أوردها
أحد من أصحابنا في الوصايا، والذي يقتضيه أصول المذهب، وتحكم به الأدلة

(1) المستدرك ج 2 ص 527 الباب 48 ح 1.
(2) الكافي ج 7 ص 40 ح 2، التهذيب ج 9 ص 211 ح 835، الفقيه
ج 4 ص 151 ح 525.
(3) معاني الأخبار ص 217 ح 1، الوسائل ج 13 ص 450 الباب 56.
464

والاعتبار أن لا يتجاوز بالرواية، وما وردت فيه فحسب، ولا تعداها إلى غير النذر
في تفسير الكثير إلى المقر، وكذا في الوصية في تفسير الكثير، انتهى.
أقول: وإلى هذا القول مال كثير من المتأخرين، والرواية المشار إليها
بأنها وردت في النذر هي ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم (1) عن بعض
أصحابه ذكره " قال: لما سم المتوكل نذر أن عوفي أن يتصدق بمال كثير، فلما
عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير، فاختلفوا عليه، فقال: بعضهم مائة ألف،
وقال بعضهم: عشرة آلاف، وقالوا فيه أقاويل مختلفة، فاشتبه عليه الأمر،
فقال رجل من ندمائه يقال صفعان: ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه، فقال
له المتوكل: من تعني ويحك؟ فقال له: ابن الرضا، فقال له: وهو يحسن من
هذا شيئا؟ فقال: يا أمير المؤمنين: إن أخرجك عن هذا فلي عليك كذا وإلا
فاضربني مائة مقرعة، فقال المتوكل: قد رضيت، يا جعفر بن محمود صر إليه وسله
عن حد المال الكثير، فصار جعفر بن محمود إلى أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام
فسأله عن حد المال الكثير، فقال له: الكثير ثمانون، فقال له جعفر: يا سيدي أنه
يسألني عن العلة فيه، فقال له أبو الحسن عليه السلام: إن الله عز وجل يقول: (2) " لقد
نصركم الله في مواطن كثيرة " فعددنا تلك المواطن فكانت ثمانين موطنا ".
وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ذكر أن الذي سأله المتوكل هو
الجواد عليه السلام وهو غفلة عن مواجهة الرواية، والشيخ والصدوق وجمع ممن تبعهما
عدوا الحكم إلى الوصية، وأضاف الشيخ: الاقرار، كما عرفت نظرا إلى أن ذلك
حد شرعي للكثير، حيثما أطلق كالجزء والسهم، فلا يقتصر على موضع السؤال
إذ لو حمل في غير النذر على غيره لزم الاشتراك المخالف للأصل، والمتأخرين
كشيخنا الشهيد الثاني في المسالك طعونا في الرواية بالضعف والارسال، مضافا

(1) الكافي ج 7 ص 463 ح 21، الوسائل ج 16 ص 223 ح 1.
(2) سورة التوبة الآية 25.
465

إلى مخالفتها للأصل واللغة والعرف، قال واستشهاده بالمواطن الكثيرة المنصور فيها
لا يقتضي انحصار الكثير فيه، فقد ورد في القرآن فيها، فاكهة كثيرة، وذكرا
كثيرا ولم يحمل على ذلك، والحق الرجوع فيه إلى الوارث، وبذلك صرح
في المختلف أيضا فقال: والوجه عندي اختصاص هذا التقدير بالنذر، وللورثة
أن يعطوا مهما شاؤوا.
ومنها ما لو أوصى بوجوه من الوصايا فنسي الوصي بعضها فالمشهور بين
الأصحاب أنه يصف الأبواب المنسية في وجوه البر.
ويدل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن محمد بن ريان (1)
" قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام وفي الفقيه إلى علي بن محمد عليهما السلام أسأله عن
انسان أوصى بوصية فلم يحفظ الوصي إلا بابا " واحدا منها، كيف يصنع في الباقي؟
فوقع عليه السلام: والأبواب الباقية اجعلها في البر ".
وذهب ابن إدريس والشيخ في أجوبته الحائريات إلى بطلان الوصية، فإنه
يرجع إلى الورثة.
ونقل عن ابن إدريس الاحتجاج على ما ذهب إليه بأنها وصية بطلت، لامتناع
القيام بها، فترجع إلى الوارث، واحتج القائلون بالقول المشهور بأن المال خرج
عن الوارث بالوصية النافذة؟ أولا "؟ لأنه المفروض، فعوده إلى ملك الوارث يحتاج
إلى دليل، وجهالة مصرفه تصيره بمنزلة المال المجهول المستحق، فيصرف في وجوه
البر، ولأنه لو رجع إلى الوارث لزم تبديل الوصية للنهي عنه، بخلاف البر، لأنه
عمل بمقتضاها، غايته جهالة المصرف، فيصرف فيها يصرف فيه المال المجهول،
ولأن الموصي ربما أراد بوصيته القربة المخصوصة، فإذا فات الخصوص بالنسيان،
بقي العموم، فيكون أقرب إلى مراد الموصي كذا قرره شيخنا في المسالك، ثم

(1) الكافي ج 7 ص 58 ح 7، التهذيب ج 9 ص 214 ح 844، الفقيه ج 4
ص 162 ح 565، الوسائل ج 13 ص 453 الباب 61.
466

قال: وتشهد له رواية محمد بن ريان، ثم ساق الخبر كما قدمناه، وإنما جعله
شاهدا " دون أن يجعله دليلا لضعف سنده عنده، بهذا الاصطلاح المحدث، فالدليل
عنده إنما هو ما قرره من هذه الوجوه التي ذكروها، و لا يخفى ما فيه على الفطن
النبيه، والأظهر هو الاعتماد على الخبر.
إما بناء على الاصطلاح القديم أو الجبرة بالشهرة بين الأصحاب، إذ لا
مخالف في الحقيقة إلا ابن إدريس، والشيخ وإن قال بذلك في الحائريات، إلا
أنه في كتبه موافق للأصحاب، وتجعل هذه التعليلات التي ذكروها وجوها للنص،
وبيان الحكمة فيه.
ويعضد هذا النص جملة من النصوص أيضا في جزئيات الوصايا، ويستفاد
من ضم بعضها إلى بعض قاعدة كلية، وهي أنه متى تعذر صرف الوصية على الوجه
الموصى به لأي عذر كان، فإنها تصرف في وجوه البر، ولا ترجع إلى الورثة،
لتعذر المصرف.
فمن ذلك ما ورد في جملة من الأخبار (1) " من أن من أوصى للكعبة بمال أو
غلام أو جارية أو أهدى لها نحو ذلك، فإنه يصرف آمال، ويباع الغلام والجارية،
ويصرف ثمنها في المنقطعين من الحاج، معللا " بأن الكعبة لا تأكل، ولا تشرب،
وما أهدي لها فهو لزوارها ".
ومن ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى ضرايحهم) عن علي بن مزيد
صاحب السابري (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل يتضمن أنه أوصى رجل
بتركته إلي على المذكور وأمره أن يحج بها عنه، وكانت التركة لا تبلغ ذلك،
فسأل الفقهاء فأفتوه بالصدقة بها، فتصدق بها ثم لقي أبا عبد الله عليه السلام فسأله وأخبره

(1) التهذيب ج 9 ص 213 ح 842 و ص 214 ح 843، الوسائل ج 13
ص 453 الباب 60.
(2) الكافي ج 7 ص 21 ح 1، التهذيب ج 9 ص 228 ح 896، الفقيه
ج 4 ص 154 ح 534، الوسائل ج 13 ص 473 الباب 87.
467

بما فعل فقال: إن كان لا يبلغ أن يحج به من مكة فليس عليك ضمان، وإلا فأنت
ضامن، وقد قرره عليه السلام على الصدقة مع عدم بلوغ الحج به من مكة، ولم يحكم
ببطلان الوصية، والرجوع ميراثا "، وربما قيل: بالرجوع هنا ميراثا كما نقله بعض
مشايخنا، والنص المذكور يرده.
ومن ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (رضي الله عنهم) عن مثنى (1) " قال: سألته
عن رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن يقبضها ولم يترك عقبا، قال: اطلب لها
وارثا أو مولى فادفعها إليه، قلت: فإن لم أعلم له وارثا؟ قال: اجهد على أن تقدر
له على ولي، فإن لم تجده وعلم الله منك الجهد، فتصدق بها ".
والتقريب فيه ما تقدم من أنه مع تعذر التنفيذ فيما أوصى به يرجع إلى
الصدقة، والخبر المذكور محمول إما على موت الموصي بتلك الوصية، ثم موت
الموصى له قبل الدفع له، أو على بقاء الموصي مع عدم الرجوع في الوصية إلى
أن مات، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة، ومما يلائم ذلك أيضا ما ورد (2) فيمن
أوصى أن يعتق عنه نسمة بخمسمائة درهم، فاشتريت بأقل فإنها تعطى الباقي
وتعتق، إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.
ومنها ما لو أوصى بسيف معين وهو في جفن، فإن يدخل الجفن والحلية في
الوصية وكذا لو أوصى بصندوق فيه ثياب أو سفينة وفيها متاع أو جراب وفيه
متاع، فإن الوصية تكون شاملة للجميع، وهذا هو المشهور بين الأصحاب
متقدميهم ومتأخريهم، وقال الشيخ في النهاية بذلك أيضا " إلا أنه قيده يكون
الموصي عدلا مأمونا، فإن لم يكن عدلا وكان متهما لم تنفذ وصيته في أكثر من
ثلثه من الصندوق، والسفينة والجراب وما فيها.

(1) الكافي ج 7 ص 13 ح 3 و ص 19 ح 13، التهذيب ج 9 ص 231
ح 905 و ص 221 ح 18، الفقيه ج 4 ص 156 ح 542 و ص 159 ح 15،
الوسائل ج 13 ص 409 ح 2 و ص 495 الباب 77، وليس في هذه النسخ
" عن مثنى ".
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
468

والذي يدل على المشهور ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي جميلة (1) " قال:
كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن رجل أوصى لرجل بسيف، فقال: الورثة:
إنما لك الحديد وليس لك الحلية ليس لك غير الحديد فكتب إلى: السيف له
وحليته).
وما رواه المشايخ الثلاثة عن أبي جميلة (2) عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن
رجل أوصى لرجل بسيف وكان في جفن، وعليه حلية؟ فقال له الورثة إنما لك
النصل، وليس لك المال قال: فقال لا بل السيف بما فيه له، قال: فقلت: رجل
أوصى لرجل بصندوق وكان فيه مال، فقال الورثة إنما لك الصندوق وليس لك
المال، قال: فقال أبو الحسن عليه السلام: الصندوق بما فيه له ".
وما رواه في التهذيب عن علي بن عقبة (3) عن أبيه (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن رجل أوصى لرجل بصندوق وكان في الصندوق مال، فقال الورثة: أنما لك
الصندوق وليس لك ما فيه، فقال: الصندوق بما فيه له).
وعن عقبة بن خالد (4) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل قال:
هذه السفينة لفلان، ولم يسم ما فيها، طعام أيعطيها الرجل وما فيها؟ قال:
هي للذي أوصى له بها، أن يكون صاحبها متهما، وليس للورثة شئ ".
ورواه الصدوق إلا أنه قال " إلا أن يكون صاحبها استثنى مما فيها وليس
للورثة شئ ".
قال في كتاب الفقه الرضوي (5) وإذا أوصى رجل لرجل بصندوق أو سفينة

(1) الكافي ج 7 ص 44 ح 3 و 1، التهذيب ج 9 ص 211 ح 839 و 837، الفقيه ج 4 ص 161 ح 561.
(2) الكافي ج 7 ص 44 ح 3 و 1، التهذيب ج 9 ص 211 ح 839 و 837، الفقيه ج 4 ص 161 ح 561.
(3) التهذيب ج 9 ص 212 ح 840 و 838، الفقيه ج 4 ص 161 ح 562.
(4) التهذيب ج 9 ص 212 ح 840 و 838، الفقيه ج 4 ص 161 ح 562.
(5) المستدرك ج 2 ص 527 الباب 50 ح 1.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 451 ح 2 و 1 و ص 452 ح 1 و 2
و ص 452 ح 1 الباب 59.
469

وكان في الصندوق أو السفينة متاع أو غيره، فهو مع ما فيه مع ما فيه لمن أوصى له، إلا أن
يكون قد استثنى ما فيه ".
وهذه الروايات كما ترى ظاهرة الدلالة على القول المذكور إلا رواية
عقبة بن خالد الأخيرة بناء " على غير رواية الصدوق وسيأتي الكلام فيها
إن شاء الله تعالى.
وقال في المسالك: بعد الاستدلال للقول المشهور برواية أبي جميلة الثانية
ورواية عقبة بن خالد الأخيرة ما صورته: وهذه الروايات ضعيفة السند، إلا
أن العرف شاهد لدخول جفن السيف وحليته فيه، وهو محكم في أمثال ذلك،
فإنه لو قال: خذ سيفك أو سافر فلان بسيفه، لا يفهم منه إلا مجموع هذه الأشياء
حتى لو جرده عن غمده لعده العقلاء سفيها، والعرف كاف في اثبات ذلك وتبقى
الرواية شاهدة فالحكم بدخولها فيه قوي، وأما الباقي فلا يدل العرف على تناول
الظرف للمظروف غالبا، والرواية قاصرة عن اثبات المطلوب فالقول بعدم الدخول
أجود، نعم لو دل العرف أو القرينة على شئ في بعض الأفراد اتبع، كما أنه لو دل
على عدم دخول الجفن أو الحلية في بعض الموارد لم يدخل، وجملة الأمر ترجع
إلى عدم الدخول إلا مع العرف والقرينة، وبنحو ذلك صرح في المختلف.
أقول: لا يخفى ما فيه، فإن رد الأخبار بمجرد الاعتبار، جرأة على الأئمة
الأطهار، والأحكام الشرعية مبنية على التوقف لا مسرح للقول فيها كما تقدم في غير
موضع والأخبار المذكورة وإن ضعف سندها بهذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد
أقرب من الصلاح، كما أوضحناه في مقدمات كتاب الطهارة، إلا أنه لا راد لها من
الأصحاب، وضعفه منجبر بالشهرة بينهم، وقد جروا على ذلك في مواضع لا تحصى
من الأحكام كما لا يخفى على المتتبع.
نعم يمكن التوقف على نفيه في مقام التهمة، بناء على رواية الشيخين في الكافي
والتهذيب، وأما على رواية الصدوق فلا اشكال، وهكذا هو مختاره في الدروس.
470

وأما ما ذكره الشيخ مما قدمنا نقله فإنه استشكل فيه جملة ممن تأخر عنه،
منهم العلامة في المختلف وشيخنا في المسالك بأن فيه أولا " إن ما شرطه من عدالة
الموصي غير معتبر في الوصية مطلقا، وإنما يعتبرها بعض الأصحاب في الاقرار
على بعض الوجوه على ما فيه.
وثانيا أن نفوذها من الأصل على تقدير العدالة، ومن الثلث على تقدير
عدمها، فإنه أيضا ليس من جملة أحكام الوصية بل أحكام إقرار المريض على
بعض الوجوه، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره عند ذكر المسألتين.
وثالثا " تعميمه الحكم في هذه الأشياء من الصندوق والسفينة والجراب مع
أن الرواية التي هي منشأ حكمه إنما موردها السفينة، وهي رواية خالد بن عقبة
كما عرفت، بروايته في الكافي، والتعدية إلى غيرها مع المخالفة للأصل بعيد.
وقال المحدث الكاشاني في الوافي ذيل هذه الرواية، " يعني بالتهمة " أن
يظن به إرادته الاضرار بالورثة، وأن لا يبقى لهم شئ، وقوله وللورثة شئ
عطف على " هي للذي " ويحتمل أن يكون معناه ولم يبق لهم شئ من تتمة
الاستثناء وفي نسخ الفقيه " إلا أن يكون صاحبها استثنى مما فيها "، وعلى هذا
فلا يحتمل قوله " وليس للورثة شئ " إلا معناه الظاهر، وعلى معناه الظاهر
تحمل الوصية على الاقرار، لعدم صحتها مشدودا كان أم لا.
ونقل عن الشيخ المفيد أنه قيد الصندوق بكونه مقفلا "، والجراب بكونه
مشدودا، والنصوص كما عرفت مطلقة هذا، وظاهر الأخبار المتقدمة وبه صرح بعض
الأصحاب كون ذلك الموصى به معينا، فلو أن مطلقا كما لو قال أعطوه سيفا " أو سفينة
أو صندوقا "، فإنه لا يتناول إلا ما دل عليه اللفظ، وهذا في السفينة والصندوق ظاهر
حيث إن ما فيها لا يدخل في مدلول اللفظ، وأما في السيف فاشكال لما تقدم نقله
عن المسالك، من حيث دلالة العرف على تبعية الجفن والحلية ودخولهما في
اطلاق السيف، فيدخل حينئذ سواء كان معينا أو مطلقا ولا يخلو من قوة.
471

وفي المسالك هنا أن دخول الجفن قوي لأنه كالجزء عرفا، أما الحلية فلا
تدخل إلا مع التعيين، وهو خلاف ما صرح به أولا " مما قدمنا نقله عنه، بل الظاهر
أن العكس أقوى لأن الحلية أقرب إلى الجزئية من الجنس الذي هو متفرد على
حده، والله العالم.
ومنها ما لو أوصى في سبل الله وقد اختلف الأصحاب في ذلك فقال الشيخ
في النهاية والشيخ المفيد في المقنعة: إذا أوصى بثلث ماله في سبيل الله ولم يسم
أخرج في معونة المجاهدين لأهل الضلال والكافرين، وإن لم يحضره مجاهد في
سبيل الله وضع في أبواب البر من معونة الفقراء والمساكين، وأبناء السبيل، وصلة
آل الرسول، بل يصف أكثره في فقراء آل محمد عليهم السلام ومساكينهم وأبناء
سبيلهم، ويصرف ما بقي بعد ذلك في أبواب البر، وتبعهما في ذلك ابن البراج في
الكامل، وقال في المبسوط: إذا أوصى بصرف ثلث ماله في سبيل الله، فسبيل الله هم
الغزاة، وهم على ضربين أحدهما المرابطون المترصدون للقاتل، فهؤلاء لا تدفع
إليهم من الزكاة، لأنه يصرف إليهم أربعة أخماس الغنيمة، والضرب الثاني هم
أصحاب الصنايع الذين إذا نشطوا غزوا، ثم عادوا إلى حرفتهم، فهؤلاء لا تدفع
إليهم من الزكاة مع الغنى والفقر، وهكذا الوصية، وفي أصحابنا من قال: إن
سبيل الله يدخل فيه جميع مصالح المسلمين، من بناء القناطير وعمارة المساجد،
والشاهد، والعمرة، ونفقة الحاج، والزوار، وغير ذلك.
دليلنا على هذا أخبار الطائفة، وأيضا " فإن جميع ذلك طريق إلى الله،
وسبيل إليه، فالأولى حمل اللفظ على عمومه، وكذا الخلاف في آية الزكاة.
أقول: وظاهره اختيار القول الثاني، وقال ابن الجنيد إذا قال في السبيل،
أو سبيل الله جاز ذلك لأهل الثغور، وأقربهم إليه أولى، وجاز أن يجعل في
الحج لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) لأم معقل وقد سألته عن ابنها

(1) سنن البيهقي ج 6 ص 274.
472

وقد جعل بغيره في السبل " اركبي بعيرك، فإن الحج من سبيل الله "، وجاز أيضا " فيمن
كان مرابطا " لأعداء الله وحابسا " نفسه على جهادهم، والذب عن دين الله والمسلمين.
وقال علي بن بابويه: إن شاء جعله لإمام المسلمين، وإن شاء جعله في حج
أو فرقه على قوم مؤمنين، وبذلك قال ابنه في المقنع.
وقال ابن إدريس: يصرف ذلك في جميع مصالح المسلمين، مثل بناء القناطر
والمساجد، وتكفين الموتى، ومعونة الحاج والزوار، وما أشبه ذلك لاجماع
أصحابنا، ولأن ما ذكرناه طريق إلى الله تعالى، وإذا كان كذلك فالأولى حمل
لفظة " سبيل الله " على عمومها، والظاهر أنه إلى هذا القول مال جملة من تأخر عنه
والمستند فيه ما أشار إليه، وتوضيحه أن السبيل لغة الطريق، والمراد بسبيل الله
الطريق إليه، أي إلى رضوانه وثوابه، لاستحالة التحيز عليه جل شأنه، وهذا
المعنى شامل لجميع ما يتقرب به إلى الله تعالى، فيجب حمل اللفظ، عليه، حيث
لا مخصص من شرع أو عرف.
ونقل عن الشيخ ومن تبعه من الحمل على الغزاة، أنهم احتجوا بأن الشرع
يقتضي صرف السبيل إلى الغزاة، وحكم كلام الآدميين مع اطلاقه حكم ما اقتضاه
الشرع، قال في المختلف ومثله المسالك: والمقدمتان ممنوعتان.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام ما رواه المشايخ الثلاثة
(نور الله مراقدهم) عن الحسن بن راشد (1) قال: سألت العسكري عليه السلام وفي الفقيه
أبا الحسن العسكري عليه السلام بالمدينة عن رجل أوصى بمال في سبيل الله فقال:
سبيل الله شيعتنا ".
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن حجاج الخشاب (2) " عن

(1) الكافي ج 7 ص 15 ح 2، التهذيب ج 9 ص 204 ح 811، الفقيه
ج 4 ص 153 ح 530.
(2) الكافي ج 7 ص 15 ح 1، التهذيب ج 9 ص 203 ح 810.
وهما في الوسائل ج 13 ص 412 ح 1 و ص 413 ح 3.
473

أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن امرأة أوصت إلى بمال أن يجعل في سبيل الله
فقيل لها تحج به؟ فقالت: اجعله في سبيل الله، فقالوا لها: فنعطيه آل محمد
(صلى الله عليه وآله)؟ فقالت: اجعله في سبيل الله، فقال أبو عبد الله عليه السلام: اجعله
في سبيل الله كما أمرت، قلت: مرني كيف أجعله؟ قال: اجعله كما أمرتك
إن الله تبارك وتعالى يقول (1) " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين
يبدلونه إن الله سميع عليم " أرأيتك لو أمرتك أن تعطيه يهوديا كنت تعطيه
نصرانيا "؟ قال: فمكثت بعد ذلك ثلاث سنين ثم دخلت عليه فقلت له: مثل الذي
قلت له أول مرة فسكت هنيئة ثم قال: هاتها قلت: من أعطيها؟ قال: عيسى
شلقان ".
وما رواه المشايخ الثلاثة عن الحسين بن عمر (2) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
أن رجلا " أوصى إلي بشئ في السبيل فقال لي: اصرفه في الحج، قال: قلت له أوصى
لي في السبيل قال: اصرفه في الحج "، وفي التهذيب دون الآخرين " قلت له:
أوصى في السبيل؟ فقال: اصرفه في الحج فإني لا أعلم شيئا " من سبيل أفضل من
الحج " وجمع في الفقيه بين هذا الخبر والخبر الأول يصرفه إلى الشيعة لتحج به،
واستحسنه الشيخ في التهذيبين.
وأنت خبير بأن سبيل الله أما أن يخص بالجهاد كما هو أحد القولين في
المسألة، أو يفسر بما هو أعم فيدخل جميع القربات، المعنى الأول لا مجال لاعتباره
هنا، وعلى الثاني فلا تنافي بين الحديثين، ليحتاج إلى الجمع بين الخبرين.
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (3) " قال سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل الله فقال: اعطه لمن أوصى به وإن

(1) سورة البقرة الآية 181.
(2) الكافي ج 7 ص 15 ح 5 و ص 14 ح 1، التهذيب ج 9 ص 203
ج 809 و 808، الفقيه ج 4 ص 153 ح 530 و ص 148 ح 514، الوسائل ج 13
ص 412 ح 2 و ص 411 ح 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
474

كان يهوديا " أو نصرانيا "، إن الله تبارك وتعالى يقول " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما
إثمه على الذين يبدلونه " قال في الفقيه " ماله هو الثلث ".
وعن يونس بن يعقوب (1) " أن رجلا " كان بهمدان ذكر أن أباه مات وكان
لا يعرف هذا الأمر أوصى بوصية عند الموت، وأوصى بأن يعطى شئ في سبيل الله
فسئل عنه أبو عبد الله عليه السلام كيف يفعل به، فأخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الأمر،
فقال: لو أن رجلا " أوصى إلي أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعته فيها، إن الله
عز وجل يقول " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه " فانظروا
إلى من يخرج إلى هذا الوجه يعني بعض الثغور فابعثوا به إليه ".
وقال الرضا عليه السلام في كتاب الفقه الرضوي (2): وإن أوصى بماله في
سبيل الله ولم يسم السبيل فإن شاء جعله لإمام المسلمين، وإن شاء جعله في حج
أو فرقه على قوم مؤمنين " وهذه العبارة عين عبارة الشيخ علي بن بابويه في المقنع
كما تقدم، ومنه يعلم أن مستنده في ذلك أنما هو الكتاب المذكور كما تلوناه
عليك في غير موضع، ولا سيما في كتب العبادات.
أقول: مرجع الخلاف المذكور في هذه المسألة إلى أن سبيل الله متى أطلق
هل هو الجهاد أو جميع أبواب البر؟ فالشيخ ومن تبعه على الأول، وإن جوز مع
تعذر الصف في أنواع البر، والمشهور بين المتأخرين الثاني، ولا يخفى أن الأول
مذهب أكثر العامة.
قال في المنتهى في كتاب الزكاة. وإنما الخلاف في تفسيره، والشيخ في
النهاية والجمل أنه الجهاد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف،
وقال أحمد ومحمد بن الحسن: يجوز أن يصرف في معونة الحاج.
ومن ذلك يظهر أن ما دلت عليه رواية يونس بن يعقوب من أمره عليه السلام

(1) الكافي ج 7 ص 14 ح 4، الوسائل ج 13 ص 414 ح 4.
(2) المستدرك ج 2 ص 524 الباب 30 ح 3.
475

بدفع ذلك إلى من يخرج إلى بعض الثغور إنما هو من حيث إن الموصي كان من
العامة، القائلين باختصاص هذا اللفظ بالمجاهدين، فلا منافاة فيها لما تقدم.
وأما صحيحة محمد بن مسلم فظاهرها أن المراد بسبيل الله الذي أمر عليه السلام
بالاعطاء له هو الجهاد، وهو إما محمول على كون الموصي مخالفا "، أو أن الحكم
خرج مخرج التقية، والاستدلال بالآية مضافا " إلى قوله " اعطه لمن أوصى "
يؤيد الأول.
وأما رواية حجاج الخشاب فظاهرها أيضا " أن المرأة الموصية كانت مخالفة
وأنها أرادت بسبيل الله الجهاد، ولهذا كلما كرر عليها بعض وجوه القربات، يأمر
بالجعل في سبيل الله، وقد أمر عليه السلام بصرفه في ذلك محتجا " بالآية، وفيه إشارة
إلى أنها إنما قصدت الجهاد، فالمخالفة له تبديل منهي عنه، ثم قال له " أرأيتك
لو أمرتك أن تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا "، وفيه أيضا إشارة إلى معلومية
الموصى إليه من هذا اللفظ، وليس إلا الجهاد.
بقي الكلام في عدوله عليه السلام بعد هذه المدة إلى ما ذكره في آخر الخبر من
الدفع إلى ذلك الرجل، ويحتمل أن يكون من حيث عدم وجود المصرف في
ذلك الوقت أو إرادة أن جهادهم لم يكن مشروعا، عدل عنه إلى صرفه في
الشيعة، كما هو مذهبهم عليهم السلام في المسألة.
وأما باقي الأخبار فهي متلائمة متقاربة للدلالة على القول المشهور،
ويؤيدها ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره، في تفسير قوله
سبحانه في آية الزكاة " في سبيل الله " (1) " عن العالم عليه السلام قال و " في سبيل الله "
قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما تقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس
عندهم ما يحجون به، أو في جميع سبيل الخير " الحديث، وبذلك يظهر أن
الأقوى هو القول المشهور، والله العالم.

(1) الوسائل ج 6 ص 145 ح 7، تفسير القمي ج 1 ص 299.
476

ومنها ما لو أوصى باخراج بعض ولده من ميراثه، فإن المشهور أنه لا تنفذ
وصيته، وقيل، إنها تصح، لكن في الثلث خاصة، وهو ظاهر اختيار العلامة
في المختلف، قال في الكفاية: ولعله أقرب.
وقيل: بالصحة من الأصل فيمن أوصى أبوه باخراجه لوقوعه على أم ولد
له، فإنه يحمر من جميع التركة، وهو ظاهر الصدوق، والشيخ في كتابي الأخبار.
قال المحقق في الشرايع: ولو أوصى باخراج بعض ولده من تركته لم
يصح، وهل يلغو اللفظ فيه؟ تردد، بين البطلان واجرائه مجرى من أوصى بجميع
ماله لمن عدا الولد، فتمضي من الثلث، ويكون للمخرج نصيبه من الباقي بموجب
الفريضة، والوجه الأول، وفيه رواية بوجه آخر مهجورة، انتهى.
وعلل وجه الصحة واعتبار الثلث كما ذهب إليه في المختلف بأن
اخراجه من التركة يستلزم تخصيص باقي الورثة بها، فكان كما لو أوصى بها،
لمن عداهم فتمضي من الثلث بمعنى حرمان ذلك باخراجه من الثلث، ومشاركته
في الثلثين إن كان معه مساو، والاختصاص إن لم يكن.
ولشيخنا الشهيد الثاني في المسالك هنا مؤاخذة على هذا القول، الظاهر
أنها لا تخلو من تكلف، وهذا يدل على القول المشهور، وظاهر الكتاب والسنة
كقوله عز وجل (1) " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين،
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن سعد بن سعد (2) " قال: سألته يعني
أبا الحسن الرضا عليه السلام عن رجل كان له ابن يدعيه فنفاه وأخرجه من الميراث وأنا
وصيه، فيكف أصنع؟ فقال عليه السلام: لزمه الولد باقراره بالمشهد لا يدفعه الوصي عن
شئ قد علمه "، والمسألة بمحل من الاشكال لعدم النص المفصح عن تحقيق الحال.

(1) سورة النساء الآية 11.
(2) الكافي ج 7 ص 64 ح 26، التهذيب ج 9 ص 235 ح 917، الوسائل
ج 13 ص 476 ح 1.
477

بقي الكلام فيما ذهب إليه الصدوق والشيخ (طيب الله تعالى مرقديهما)
من القول المتقدم نقله عنهما، فإنه يدل عليه ما رواه في الكافي والفقيه عن وصي
علي بن السري (1) " قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إن علي بن السري توفي فأوصى إلي
قال: (رحمه الله) قلت: وإن ابن جعفر أوقع على أم ولد له فأمرني أن أخرجه
من الميراث، قال: فقال لي أخرجه من الميراث وإن كنت صادقا فيصيبه خبل،
قال: فرجعت فقدمني إلى أبي يوسف القاضي، فقال له، أصلحك الله أنا جعفر
بن علي بن السري وهذا وصي أبي فمره، فليدفع إلي ميراثي من أبي، فقال
أبو يوسف القاضي لي: فما تقول: فقلت له: نعم هذا جعفر بن علي بن السري
وأنا وصي علي بن السري، قال: فادفع إليه ماله، فقلت: أريد أن أكلمك،
قال فأدن إلي، فدنوت حيث لا يسمع أحد كلامي فقلت له: هذا وقع على أم ولد
لأبيه فأمرني أبوه، وأوصى إلي أن أخرجه من الميراث، ولا أورثه شيئا، فأتيت
موسى بن جعفر عليه السلام بالمدينة، فأخبرته وسألته فأمرني أن أخرجه من الميراث
ولا أورثه شيئا، فقال: الله إن أبا الحسن عليه السلام أمرك؟ قال: قلت: نعم،
فاستحلفني ثلاثا ثم قال لي: أنفذ ما أمرك به أبو الحسن عليه السلام فالقول قوله، قال
الوصي: فأصابه الخبل بعد ذلك، قال أبو محمد الحسن بن علي الوشا: فرأيته
بعد ذلك، وقد أصابه الخبل "، وهذه الرواية التي أشار إليها المحقق بأنها
مهجورة.
قال الصدوق في الفقيه: ومتى أوصى الرجل باخراج ابنه من الميراث،
ولم يحدث هذا الحديث لم يجز للوصي إنفاذ وصيته في ذلك، وتصديق ذلك ما رواه
ابن عيسى عن عبد العزيز المهتدي عن سعد بن سعد ثم ساق الرواية المتقدمة.
وظاهره تقييد اطلاق خبر سعد بخبر وصي علي بن السري ويأتي على هذا
تقييد الآيات المتقدمة بالخبر المذكور أيضا.

(1) الكافي ج 7 ص 61 ح 15، التهذيب ج 9 ص 235 ح 917، الفقيه
ج 4 ص 162 ح 567، الوسائل ج 13 ص 476 ح 2.
478

وقال الشيخ في كتابي الأخبار بعد نقل خبر وصي علي بن السري: هذا
الحكم مقصور على هذه القضية، لا يتعدى به إلى غيرها، وظاهرهما أنهما
عاملان بالخبر، في كل من فعل ذلك.
قال الشيخ: فهو ظاهر عبارته المذكورة، وأما ابن بابويه فلما صرح به
في أول كتابه من أنه لا يذكر فيه إلا ما يفتي به، ويعتمد عليه.
وأما الوجه في اطراح المتأخرين هذا الخبر وهجره، فمن حيث جهل
الراوي وهو وصي علي بن السري فإنه مجهول الاسم والعدالة، وفي طريقه أيضا "
المعلى، وهو مشترك بين الثقة والضعيف، والمتقدمون كالشيخ والصدوق وأمثالهما
لما لم يكن لهذا الاصلاح عندهم أثر عملوا بالرواية، لصحتها بوجودها في الأصول
المعتمدة وهو الحق الحقيق بالاتباع.
قال في المسالك: واعلم أنه لا فرق في الحكم بين الولد وغيره من الورثان
حكمنا بالبطلان أو بنفوذها من الثلث، وأن عملنا بالرواية، وجب قصرها على
موردها، وهو الوالد المحدث للحديث المذكور، وقوفا فيما خالف الأصل على
مورده، انتهى.
تنبيهات: الأول: قالوا: إذا أوصى بلفظ ممل لم يرد تفسره في الشرع رجع في
تفسيره إلى الوارث، كقوله أعطوه حظا من مالي أو قسطا أو نصيبا أو قليلا أو
يسيرا أو جليلا أو جزيلا ومرجعه إلى أن كلما يتمول صالح لأن يكون متعلق
الوصية، وهو في نحو القسط والنصيب والحظ والقليل واليسير واضح.
قال في كتاب المصباح المنير: القسط: النصيب، وقال: النصيب: الحصة،
وقال: الحصة: القسم، وهو ظاهر في أن مرجع هذه الألفاظ إلى معنى واحد،
وهو جزء معين من المال، قل أو كثر، وأما في الجزيل والجليل وما في معناهما
كالعظيم والنفيس، فهو وإن كان يقتضي عرفا " زيادة على التمول، إلا أنه مع
479

ذلك يحتمل إرادة الأقل، نظرا " إلى أن الجميع متصف بذلك في نظر الشارع،
ولا ينافيه مع ذلك وصفه بالقلة ونحوها، لاختلاف الحديثية بقلته من حيث المقدار
وجلالته من حيث الاعتبار.
وبالجملة فإن ظاهره الرجوع في ذلك إلى الوارث على التفصيل المذكور،
قالوا: ولو تعذر الرجوع إليه لسفه أو صغر أو امتناع، أعطى أقل ما يصدق عليه
الاسم، لأنه متيقن.
الثاني: إذا ادعى الموصى له أن الموصي أراد من بعض هذه الألفاظ المجملة
قدرا " مخصوصا " كأن ادعى أنه أراد بقوله أعطوه مالا " جليلا " يعني ألف درهم،
فأنكر الوارث، فالقول قوله، إلا أن يدعي الموصى له عليه العلم بذلك، فعلى
الوارث اليمين على نفي العلم، لا نفي إرادة الموصي، ذلك لأن إرادته لا تلزم
الوارث، إلا إذا علم بها، وإن كانت واقعة في نفس الأمر، فإذا ادعاها الموصى له
لا تلتفت إلى دعواه، إلا أن يدعي علم الوارث بها، فيحلف له على نفي العلم،
لا على البت، لأنه حلف على نفي فعل الغير، وهذه قاعدة مستمرة.
الثالث: المشهور بين الأصحاب أن الوصية بالخمس أفضل من الوصية
بالربع، وبالربع أفضل منها بالثلث، وقال ابن حمزة إن كانت الورثة أغنياء كانت
الوصية بالثلث أولى، وإن كانوا فقراء فبالخمس، وإن كانوا متوسطين فبالربع،
قال العلامة في المختلف بعد نقله عنه: ولا بأس بهذا القول.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه في الكافي عن
شعيب العقرقوفي في الصحيح (1) " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يموت، ماله
من ماله؟ فقال: له ثلث ماله وللمرأة أيضا " ورواه الصدوق عن حماد بن عيسى عن
شعيب عن أبي بصير (2) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يموت " الحديث.

(1) الكافي ج 7 ص 11 ح 3، التهذيب ج 9 ص 191 ح 770.
(2) الفقيه ج 4 ص 136 ح 473.
الوسائل ج 13 ص 362 ح 1.
480

وما رواه في التهذيب عن ابن سنان (1) والظاهر أنه عبد الله في الصحيح " قال:
للرجل عند موته ثلث ماله، وإن لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه ".
وعن علي بن يقطين في الصحيح (2) " قال سألت أبا الحسن عليه السلام ما للرجل
من ماله عند موته، قال: الثلث، والثلث كثير ".
وما رواه الصدوق عن محمد بن عمير عن معاوية بن عمار في الصحيح
" عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة، وكان رسول الله
(صلى الله عليه وآله) بمكة، وأنه حضره الموت، وكان رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) والمسلمون يصلون إلى بيت المقدس، فأوصى البراء بن معرور
إذا دفن أن يجعل وجهه تلقاء النبي (صلى الله عليه وآله) إلى القبلة،
وأوصى بثلث ماله، فجرت به السنة ".
وما رواه في الكافي عن أبي بصير (4) " عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل له
الولد يسعه أن يجعل ماله لقابلته؟ فقال: هو ماله يصنع به ما شاء إلى أن يأتيه
الموت، إلى أن قال: فإن أوصى به ليس له إلا الثلث ".
وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن
قيس (5) " عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لئن أوصي
بخمس مالي أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولئن أوصى بالربع أحب إلى من
أن أوصى بالثلث، ومن أوصى بالثلث فلم يترك فقد بالغ " وزاد في الكافي والتهذيب

(1) التهذيب ج 9 ص 242 ح 939 و 940.
(2) التهذيب ج 9 ص 242 ح 939 و 940.
(3) الفقيه ج 4 ص 137 ح 479 وليس فيه " إذا دفن "، التهذيب ج 9 ص 192
ح 771، الكافي ج 7 ص 10 ح 1.
(4) الكافي ج 7 ص 8 ح 8، التهذيب ج 9 ص 188 ح 755.
(5) الكافي ج 7 ص 11 ح 4، التهذيب ج 9 ص 192 ح 773، الفقيه
ج 4 ص 136 ح 476 بتفاوت يسير.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 363 ح 7 و 8 و ص 361 ح 1 و ص 363
ح 6 و ص 360 ح 1 و ص 358 ح 1.
481

" قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل توفي وأوصى بماله كله أو أكثره فقال: إن
الوصية ترد إلى المعروف غير المنكر فمن ظلم نفسه وأتى في وصيته المنكر
والحيف، فإنها ترد إلى المعروف، ويترك لأهل المعروف ميراثهم، وقال: من
أوصى بثلث ماله فلم يترك وقد بلغ المدى، ثم قال لئن أوصى بخمس مالي أحب
إلى من أن أوصي بالربع ".
وما رواه في الكافي والفقيه عن حماد بن عثمان (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: من أوصى بالثلث فقد أضر بالورثة، والوصية بالخمس والربع أفضل من
الوصية بالثلث، ومن أوصى بالثلث فلم يترك.
وعن السكوني (2) عن جعفر بن محمد أن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال
أمير المؤمنين عليه السلام: الوصية بالخمس، لأن الله تعالى رضي لنفسه بالخمس، وقال
الخمس اقتصاد، والربع جهد، والثلث حيف ".
وما رواه في التهذيب عن يونس بن يعقوب (3) " قال: إن أبا عبد الله عليه السلام
لما أوصى قال له بعض أهله: إنك قد أوصيت بأكثر من الثلث، قال: ما فعلت
ولكن قد بقي من ثلثي كذا وكذا وهو لمحمد بن إسماعيل ".
وما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (4)
" قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عما يقول الناس في الوصية بالثلث والربع عنه موته
أشئ صحيح معروف، أم كيف صنع أبوك؟ فقال: الثلث ذلك الأمر الذي صنع
أبي (رحمه الله).
أقول: لا ريب في دلالة جملة من هذه الأخبار على الرخصة في الثلث من

(1) الكافي ج 7 ص 11 ح 5، الفقيه ج 4 ص 136 ح 475.
(2) الفقيه ج 4 ص 136 ح 472.
(3) التهذيب ج 9 ص 194 ح 779.
(4) الكافي ج 7 ص 55 ح 11، الفقيه ج 4 ص 172 ح 602.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 360 ح 2 و ص 361 ح 3 و ص 363
ح 10 و ص 362 ح 3.
482

غير كراهة، ولا سيما أخبار فعل الأئمة عليهم السلام وذلك لا يبعد حمل ما دل على
الكراهة وأن الأفضل الخمس أو الربع على مراتب حال الورثة في الغنى والفقر،
كما تقدم نقله عن أبي حمزة، ولعل فعل الأئمة عليهم السلام ذلك، محمول على ذلك.
ونقل عن التذكرة التفصيل أيضا " في ذلك، فقال: لا يبعد عندي التقدير بأنه
متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لا تستحب الوصية، لأن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) علل المنع من الوصية بقوله (1) " إن ترك خيرا " الوصية للوالدين "
لأن ترك ذريتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة، ولأن اعطاء القريب المحتاج
خير من اعطاء الأجنبي، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم، كان تركه لهم كعطيتهم
فيكون ذلك أفضل من الوصية لغيرهم، وحينئذ يتلف الحال باختلاف الورثة،
وكثرتهم وقلتهم وغناهم وحاجتهم ولا يتقدر بقدر من المال، انتهى وهو جيد.
المقصد الرابع في أحكام الوصية:
وفيه مسائل: الأولى: من المقرر في كلامهم أنه لا يشترط في الموصى به
كونه موجودا " بالفعل وقت الوصية، بل لو أوصى بما تحمله الدابة أو الشجرة في
هذه السنة أو السنة المستقبلة، فإنه يصح، إلا أنه لو أشار إلى معين وأوصى بجملة
الموجود أو أوصى بالجمل الموجود لأمته أو بحملها مطلقا في مقام تدل القرينة
على إرادة الموجود وبالجملة فإن الوصية تعلقت بما هو موجود، فإنه يشترط
أن يكون موجودا حال الوصية، ولو بمقتضى الظاهر شرعا فلو كان الحمل لأمة
ولدته لأقل من ستة أشهر وهي أقل الحمل من حين الوصية، علم كونه موجودا "
البتة، ولو ولدته لأكثر من أقصى الحمل من حين الوصية تبين بطلانها، لتبين عدم
كونه موجودا حين الوصية، لأنه إذا كان المدة من حين الوصية قد انقضت
ومضت من حين الوطئ المتولد منه الحمل قبل الوصية.

(1) سورة البقرة الآية 180.
483

ولو ولدته فيما بين أقصى مدة الحمل وأقله، احتمل وجوده حال الوصية
وعدمه، قالوا: وينبغي أن ينظر حينئذ، فإن كانت الأمة فراشا بحيث يمكن
تجدده بعد الوصية لم يحكم بصحتها، لأن الأصل عدم تقدم حال الوصية، وإن لم يكن فراشا بأن فارقها الواطئ المباح وطؤه لها من حين الوصية حكم بوجوده،
عملا وأصالة عدم وطئ غيره فيحكم به للموصى له.
هذا مقتضى كلامهم كما صرح به في المسالك وغيره، وربما قيل: بأن
الظاهر الغالب إنما هو الولادة لتسعة أشهر تقريبا، فما تولد قبلها يظهر كونه
موجودا، وإن كان لها فراش، وأن الخلية يمكن وطئها محللا " بالشبهة، ومحرما
لو كانت كافرة، إذ ليس فيها محذور بعد الصيانة، بخلاف المسلمة، ودفعه في المسالك
بأن الحكم السابق مرتب على الأصل المقدم على الظاهر عند التعارض، إلا فيما شذ.
وبالجملة فالمسألة حينئذ من باب تعارض الأصل والظاهر، فلو رجح
مرجح الظاهر عليه في بعض مواردها كما يتفق في بعض نظائره لم يكن بعيدا "،
إن لم ينعقد الاجماع على خلافه، وكيف كان فلا خروج عما عليه الجماعة، انتهى.
أقول: أنت خبير بأن المسألة خالية من النصوص، والدليل الشرعي بالعموم
والخصوص، فالحكم في هذه الصورة الثالثة محل الاشكال، ثم إنه ينبغي أن يعلم
أن فرض المسألة المذكورة في ولد الأمة مبني على كون الحمل مملوكا، وهو
إما بكون الزوج مملوكا " قد شرط مولى الجارية على مولاه، رق الولد، أو
يكون الزوج مملوكا للموصي، وقد شرط على مولى الجارية رق الولد، أو
كون الزوج حرا على القول بجواز شرط رقية الولد.
ولو كان الحمل لغير الأمة من البهايم قال في المسالك: صح أيضا " واشترط
وجوده حال الوصية كحمل الأمة، إلا أن العلم به لا يتقيد بولادته قبل ستة أشهر،
ولا انتفاء وجوده حالتها يعلم بتجاوز العشرة، لاختلاف الحيوان في ذلك اختلافا
484

كثيرا "، والمرجع فيها إلى العادة الغالبة لعدم ضبط الشارع حملها، كالآدمي
ويختلف العادة باختلاف أجناسه، فإن للغنم مقدارا " معلوما " عادة، وللبقر مقدارا "
زايدا " عنه، وكذا الخيل وغيرها من الحيوان، فيرجع فيه إلى العادة، لأنها
المحكمة عند انتفاء الشرع، وحيث يقع الشك في الموجود حالة الوصية لا يحكم
بصحتها، ويشكل مع هذا حمل الآدمي على المتيقن، والحيوان على الغالب،
لاشتراكهما في المقتضي على التقديرين، انتهى.
تنبيه:
قد عرفت أنه لا يشترط في الموصى به كونه موجودا " حال الوصية، فتجوز
الوصية بالجدد مما تحمله المملوكة أو الشجرة، أعم من أن يكون مضبوطا بمدة
كالمتجدد في هذه السنة، أو خمس سنين أو مضبوطا " بعدد كأربعة، أو يكون مطلقا "،
وعاما " يتناول لجميع ما يتجدد من الأمة أو الشجرة مدة وجودهما، كقوله كل
حمل متجدد وكل ثمرة يتجدد دائما " ونحو ذلك، وكذا لا فرق في المضبوط بين
أن يتصل بالموت أو يتأخر عنه، كالسنة الفلانية ما يتجدد من السنين بعد الموت.
المسألة الثانية: إذا أوصى له بالمنافع كخدمة عبده، أو غلة بستانه، أو
سكنى داره، أو ثمرة شجرته، على التأبيد أو مده معينة قيل: قومت المنفعة،
فإن خرجت من الثلث، وإلا كان للموصى له ما يحتمله الثلث.
أقول: أما ما يدل على جواز الوصية بالمنافع مضافا " إلى الاتفاق على ذلك
فمنه رواية جعفر بن حيان (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوقف
غلة له على قرابة من أبيه وقرابة من أمه وأوصى لرجل ولعقبه من تلك الغلة
ليس بينه وبينه قرابة، بثلاثمائة درهم كل سنة، ويقسم الباقي على قرابته من
أبيه وقرابته من أمه، قال: جائز للذي أوصى له بذلك، قلت: أرأيت إن لم

(1) الكافي ج 7 ص 35 ح 29، الوسائل ج 13 ص 306 ح 8.
485

يخرج من غلة الأرض التي وقفها إلا خمسمائة درهم، فقال: أليس في وصيته أن
يعطى الذي أوصى له من الغلة ثلاثمائة درهم ويقسم الباقي على قرابته من أبيه
وقرابته من أمه وقلت: نعم قال: ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلة شيئا " حتى
يوفي الموصى له ثلاثمائة درهم، ثم لهم ما بقي بعد ذلك " الحديث.
وقال في كتاب الفقه الرضوي (1): " وإذا أوصى لرجل بسكنى دار فلازم
للورثة أن تمضي وصيته، وإذا مات الموصى له رجعت الدار ميراثا " لورثة الميت ".
وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن سعد بن الأحوص (2) " قال
سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل أوصى إلى رجل أن يعطي قرابته من ضيعته كذا
وكذا جريبا " من طعام، فمرت عليه سنون لم يكن في ضيعته فضل بل احتاج إلى
السلف والعينة أيجري على من أوصى له من السلف والعينة أم لا، فإن أصابهم
بعد ذلك يجري عليهم لما فاتهم من السنين الماضية أم لا؟ فقال: كأني لا أبالي إن
أعطاهم أو أخر، ثم يقضي " الحديث.
ولفظ " كأني " ليست في رواية الكافي، وأما ما ذكره من تقدم المنفعة إلى
آخر ما تقدم ذكره فالغرض منه بيان كيفية احتساب المنفعة، واخراجها من
الثلث، وهذا في المنفعة الموصى بها إذا لم تكن مؤبدا ظاهر، لا خلاف فيه، لأن
العين تبقى لها قيمة معتبرة بعد اخراج تلك المنفعة، فتقوم المنفعة على
الموصى له، والأصل بما بقي فيه من المنافع على الورثة، فإذا أوصى بمنفعة العبد
مثلا " خمس سنين، قوم العبد بجميع منافعه، وإذا قيل: قيمته مائة دينار، قوم
مرة أخرى مسلوب المنفعة تلك المدة، وإذا قيل: قمته خمسون، فالتفاوت
خمسون حينئذ، وهي التي تخرج من الثلث، وتجعل ثلثا " بالنسبة إلى ما في
يدي الورثة، فلا بد أن يكون بيد الورثة حينئذ مائة منها، رقبة العبد التي

(1) المستدرك ج 2 ص 515 الباب 3 من كتاب السكنى.
(2) الكافي ج 7 ص 64 ح 24 مع اختلاف يسير، التهذيب ج 9 ص 237 ح 922
الوسائل ج 13 ص 481 ح 1.
486

قيمتها خمسون في المثال المذكور، وإنما الخلاف في المنفعة المؤبدة، وقد
اختلفوا فيها على أقوال ثلاثة، والسبب في هذا الاختلاف مع عدم النص
خلو العين من المنافع عند بعض، فالوصية بمنافعها في قوة الوصية بها، وثبوتها
عند بعض كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى بيانه، وقد نقل هذه الأقوال الثلاثة
الشيخ في المبسوط ومن تأخر عنه، والظاهر أنها كلها للعامة.
أحدها أن تقوم العين بمنافعها ويخرج مجموع القيمة من الثلث، فإن
خرجت من الثلث لزمت الوصية في منفعتها، وإن لم تخرج من الثلث وضاق الثلث
عنها لزمت الوصية في القدر الذي يخرج منه، فيكون للموصى له من العبد بقدر
ما يخرج من الثلث، والباقي للورثة.
احتج من قال بهذا القول: بأن استحقاق المنفعة على التأبيد بمنزلة اتلاف
الرقبة، لأن الغرض من الأعيان إنما هو المنافع، فيجب أن تقوم الرقبة، ولأن
تقويم المنفعة متعذر لأنه غير معلومة، ولا محدودة لأن مدة العمر غير معلومة
فلا يمكن تقويمها إلا بتقويم العين، وبالجملة فإنها لسلب جميع منافعها قد
خرجت عن التقويم، فقد فات على الورثة جميع القيمة، فكانت العين هي الغاية.
وثانيها تقويم المنفعة من الثلث على الموصى له، والرقبة على الورثة،
وإن كانت مسلوبة المنافع، ومرجعه إلى أن المعتبر ما بين قيمتها بمنافعها أو
قيمتها مسلوبة المنافع، وعلى هذا تحسب قيمة الرقبة عن التركة.
احتج القائل بهذا القول بأن الرقبة تنتقل إلى الورثة كما تنتقل المنفعة
إلى الموصى له، فوجب أن يقوم على من انتقلت إليه، وبأن الوارث يقدر على
الانتفاع بها بالعتق لو كان مملوكا، وبيعها عن الموصى له أو مطلقا، وهبتها،
والوصية بها، فلا وجه لاحتسابها على الموصى له كما ادعاه القائل الأول، ويمكن
الانتفاع من البستان بما ينكسر من جذوعه وييبس، ومن الدار بآلاتها إذا
خربت وخرجت عن صلاحية السكنى، ولم يعمرها الموصى له بمنفعتها، فحينئذ
487

تقوم العين بما لها من المنافع مع صلاحيتها لما ذكرناه من المنافع المعدودة في
كل بنسبته، فإذا قيمتها على الأول مائة درهم، وعلى الثاني عشرة دراهم، علم
أن قيمة المنفعة الموصى بها تسعون، فيجب أن يكون مع الورثة ضعفها، ومن جملته
الرقبة بعشرة، قال في المسالك، وهذا هو الأصح.
وثالثها تقويم المنفعة على الموصى له فتحسب من الثلث، وأما الرقبة
فلا تقوم على الموصى له، ولا على الورثة، أما الموصى له فظاهر، لأنها ليست له
وأما الوارث فللحيلولة بينه وبينها، وسلب قيمتها بسلب منافعها فكأنها تالفة.
ومنه يعلم وجه الاحتياج على القول المذكور، ومرجعه إلى أن الرقبة لا قيمة
لها من حيث سلب منافعها، فتكون من قبيل الحشرات ونحوها مما لا قيمة فيه، وما
لا قيمة له لا معنى لاحتسابه على أحد، وفيه ما عرفت في توجيه القول الثاني.
تذنيب:
يشتمل على مسئلتين: الأولى: قالوا: إذ أوصى بخدمة عبد بعد مدة
معينة، فنفقته على الورثة، لأنها تابعة للملك. ولا اشكال في الحكم المذكور
لو كانت المنفعة الموصى بها معينة بوقت، ولا ريب ولا خلاف في بقاء العين على
ملك الورثة، والنفقة تابعة للملك.
وإنما الكلام فيما إذا كانت المنفعة الموصى بها مؤبدة، فمن الذي تلزمه
نفقة العبد، قيل: فيه وجوه.
أحدها وهو اختياره في المسالك أنه الوارث، لما ذكر من أنها تابعة
للملك، والوراث هو المالك للرقبة، وهذا القول يتفرع على القول الثاني من
الأقوال الثلاثة المتقدمة، ولهذا أنه في المسالك اختار هنا كونها على الوارث
الذي هو المالك، لاختياره في ذلك القول بتقويم العين على الورثة، وأنها تكون
ملكا لهم.
488

الثاني أنه الموصى له، لكونه مالكا " للمنفعة مؤبدا، وهذا الوجه مما
يتفرع على القول الأول من الأقوال المتقدمة، فينبغي أن يعلل وجوب النفقة
على الموصى له بما علل به تقويم العين عليه، وعلل هنا زيادة على ذلك بأنه لما
كان مالكا للمنفعة مؤبدا " كان كالزوج، ولأن نفعه له، فكان ضرره عليه، كالمالك
لها جميعا "، ولأن اثبات لمنفعة للموصى له، والنفقة على الوارث اضرار به
منفي، ورد هذا التعليل المذكور هنا بأن ملك المنفعة لا يستتبع النفقة شرعا "
كالمستأجر، والقياس على الزوج باطل مع وجود الفارق، فإن الزوجة غير
مملوكة، والنفقة في مقابلة التمكن من الاستمتاع، لا في مقابلة المنافع، وثبوت
الضرر بايجابها على الوارث ممنوع، لانتفائه مع اليسار، وانتفائها مع عدمه.
الثالث أنه من بيت المال.
أقول: وهذا مما يتفرع على القول الثالث، حيث إنه تضمن أن الرقبة
لا تقوم على الموصى له، ولا على الورثة بالتقريب المتقدم، ولهذا قالوا هنا إن
الوجه في هذا الاحتمال هو أن الوارث لا نفع له، والموصى له غير مالك، وبيت
المال معد للمصالح، وهذا منها.
وأورد على بأن النفقة من بيت المال مشروطة بعدم المالك المتمكن، وهو
هنا موجود، ومجرد كونه لا نفع له لا يدفع الملك، ولا يرفعه والنفقة تابعة
للملك كما عرفت.
ومنه تظهر قوة الوجه الأول وإن كان أصل المسألة لخلوها من النص
لا يخلو من الاشكال.
قال في المسالك: واعلم أنه لا فرق بين العبد و غيره من الحيوانات المملوكة.
وأما عمارة الدار الموصى بمنافعها وسقي البستان وعمارته من حرث وغيره
إذا أوصى بثماره، فإن تراضيا عليه أو تطوع أحدهما به فذلك، وليس للآخر
منعه، وإن تنازعا لم يجبر أحد منهما، بخلاف نفقة الحيوان، لحرمة الروح،
489

ويحتمل طرو الخلاف في العمارة، وسائر المؤن، بناء على وجوب ذلك على
لمالك حفظا " للمال، والفرق واضح.
نعم لو كانت المنفعة موقتة اتجه وجوبها على المالك، اجباره عليها حفظا "
لماله عن الضياع، لأن منفعته به مترقبة إن أوجبنا أصلاح المال.
الثانية: قالوا: وللموصى له التصرف في المنفعة، وللورثة التصرف في
الرقبة ببيع وعتق وغيره ولا يبطل حق الموصى له بذلك.
أقول: فيه إشارة إلى ما تقدم في القول الثاني من أن الوصية بجميع المنافع
لا تستلزم عدم نفع بالكلية، بل هنا منافع تابعة للملك مثل العتق والهبة والبيع
ونحوها باقية، والوصية بمنافع العبد من خدمته وغلة البستان وسكن الدار،
ونحو ذلك لا ينافي بقاء هذه المنافع للمالك، وأنه يتصرف في العين بذلك.
وبالجملة فإنه لما كانت القربة ملكه، فإنه يجوز له عتقها لو كان عبدا إذ
لا مانع منه بوجه، ولا يستلزم بطلان حق الموصى له من تلك المنافع، لأن حق
المالك هو الرقبة، ولا يملك اسقاط حق الموصى له من تلك المنافع، وليس للعتيق
الرجوع على الورثة بشئ في مقابلة تفويت منافعه عليه، لأن تفويت المنافع
ليس من قبل الورثة وإنما هو من قبل الموصي، وهو متقدم على العتق، وأما بيعه
فإن كانت المنفعة الموصي بها محدودة بوقت، فجوازه واضح، لعدم المانع كما يجوز
بيع العبد المؤجر، وإن كان المشتري إنما له التصرف بعد انقضاء مدة الإجارة.
وإن كانت الإجارة مؤبدة ففي جوازه عندهم مطلقا أو على الموصى له خاصة
أو المنع مطلقا أوجه.
قال في المسالك: أجودها الجواز، حيث تبقى له منفعة كالمملوك لامكان عتقه
وتحصيل الثواب به أعظم المنافع ولأنه يتوقع استحقاق الأرش بالجناية عليه،
أو الحصة منه وقد تقدم في بيع المعمر ما يحقق موضع النزاع ويرجح الجواز له
ولو لم تبق له منفعة كبعض البهائم، فالمنع أجود، لانتفاء المالية عنه بسلب
490

المنافع كالحشرات، نعم لو أوصى بنتاج الماشية مؤيدا صح بيعها، لبقاء بعض المنافع
والفوائد كالصوف واللبن والظهر، وإنما الكلام فيما استغرقت الوصية قيمته، انتهى.
أقول: قد قدمنا في مسألة بيع المعمر عنه (قدس سره) ما يؤذن بالتوقف،
حيث إن جملة من الأصحاب صرحوا بالمنع، ومنه من استشكل، وقد أوضحنا
قوة القول بالجواز بالنص الصريح في ذلك، ومنه تظهر قوة القول بالجواز هنا
أيضا، الله العالم.
المسألة الثالثة: قال الشيخ في المبسوط: إذا قال أعطوه قوسا من قسي،
وله قوس نشاب، وهو قوس العجم، وقوس نبل، وهو قوس العرب، ويكون له
قوس حسبان، وهو الذي يدفع النشاب في مجرى، هو الوتر مع المجرى، ويكون
له قوس جلاهق، وهو قوس البندق، ويكون له قوس الندف، فإن هذا الاطلاق
يحمل على قوس النشاب والنبل والحسبان، فإن كان له شئ منها، فالورثة
بالخيار يعطون أي قوس من هذه الثلاثة شاؤوا، وإن لم يكن له إلا الجلاهق
وقوس الندف فالورثة بالخيار، يعطونه أي القوسين شاؤوا، وتبعه ابن حمزة.
وقال ابن إدريس: الذي أرى أن الورثة بالخيار في اعطائهم أي قوس شاؤوا
من الخمسة، وتخصيص كلام الموصي العام يحتاج إلى دليل.
قال في المختلف بعد نقل ذلك عن الشييخ وابن إدريس: أقول: ولعل
الشيخ (رحمة الله عليه) نقل عرفا " لغويا " أو عاميا في أن القوس أنما يطلق حقيقة
على الثلاثة السابقة، إنتهى.
أقول ما ذكره الشيخ هو الذي عليه المتأخرون، قال المحقق في
الشرايع: ولو أوصى له بقوس انصرف إلى قوس النشاب والنبل والحسبان إلا
مع القرينة تدل على غيرها.
وقال شيخنا في المسالك بعد نقل قولي الشيخ وابن إدريس، ونعم ما قال:
491

وفي كل واحد من القولين نظر، لأن الذاهب إلى التخيير بين الثلاثة يتعرف
باطلاق اسم القوس على الخمسة، ولكن يدعي غلته في الثلاثة عرفا، وبذلك
يقتضي اتباع العرف في ذلك، وهو يتلف باختلاف الأوقات والأصقاع، ولا ريب أن
المتبادر في زماننا هو القوس العربية خاصة، وقوس الحسبان لا يكاد يعرفه أكثر
الناس، ولا ينصرف إليه فهم أحد من أهل العرف، فمساواته للأولين بعيد، ونظر
ابن إدريس إلى الاطلاق اللغوي جيد، ولكن العرف مقدم عليه.
والأقوى أنها إن وجدت قرينة تخصص أحدها حمل عليه، مثل أن يقول:
أعطوه قوسا يندف به، أو يعيش به وشبهه، فينصرف إلى قوس الندف، أو قوس
يغزو به، فيخرج قوس الندف والبندق إن لم يكن معتادا " في الغزو، وإن انتفت
القرائن اتبع عرف بلد الموصي، فإن تعدد تخير الوارث، ولو قال: أعطوه
ما يسمى قوسا " ففي تخيره بين الخمسة، أو بقاء الاشكال كالأول وجهان: أجودهما
الأول، انتهى.
أقول: ومما يؤيد الاشتراك بين المعاني الخمسة لغة ما ذكره في كتاب
المصباح المنير حيث قال: وتضاف القوس إلى ما يخصصها، فيقال: قول ندف،
وقوس جلاهق، وقوس نبل وهي العربية، وقوس النشاب وهي الفارسية، وقوس
الحسبان
بقي الكلام في أنه هل يدخل الوتر في اطلاقه، فلو قال أعطوه قوسا فهل
يصدق مع عدم الوتر أم لا؟ اشكال، قيل: بالدخول. فإنه لا يصدق إلا به، لأن
المقصود منه لا يتم إلا به، فهو كالفص بالنسبة إلى الخاتم، والغلاف بالنسبة إلى
السيف، بل أولى، لأنه بدونه بمنزلة العصا، وقيل: بالعدم نظرا إلى أن الظاهر
الصدق بدونه عرفا، وعلى هذا فالأجود الرجوع إلى العرف أو القرينة، وإلا
فلا يدخل.
492

تنبيهات:
الأول: كل لفظ وقع على أشياء وقوعا متساويا سواء كان بطريق
الاشتراك، أو التواطؤ، فإن للورثة الخيار في تعيين ما شاؤوا من الأفراد، وهي
قاعدة كلية في هذا المقام وغيره مما تقدم، لأن الموصى به لفظ يقع على أشياء
وقوعا متساويا، إما لكونه متواطئا، بأن تكون الوصية بلفظ له معنى، وذلك
المعنى يقع على أشياء متعددة كالعبد مثلا، أو لكون ذلك اللفظ مشتركا " بين معان
متعددة كالقوس، فإن للورثة الخيار في تعيين ما شاؤوا، أما في التواطؤ فلأن الوصية
به وصية بالماهية الكلية، وخصوصيات الأفراد غير مقصودة أولا، بل تبعا، فيتخير
الوارث في تعيين أي فرد شاء، لوجود متعلق الوصية في جميع الأفراد وأما
المشترك فلأن متعلق الوصية هو الاسم، وهو صادق عليا لمعاني المتعددة حقيقة،
فيتخير الوارث أيضا، وربما قيل في المشترك بالقرعة، هو بعيد.
الثاني: لو قال: أعطوه قوسي بالإضافة إلي نفسه، وليس له إلا قوس
واحدة، انصرفت الوصية إليها، لأن ما تقدم من التخيير بين الأفراد الثلاثة أو
الخمسة إنما هو مع اطلاقه اعطاء القوس من غير أن يضيفه إلى نفسه، فإنه مشترك
متعد، بخلاف ما لو قال: أعطوه قوسي بالإضافة، وليس له إلا أحدها، فإنه
تتصرف الوصية إليه من أي نوع كان لتقييده بالإضافة.
بقي الكلام فيما لو قال: أعطوه قوسي وله قسي متعددة، فإن علم اختصاصه
بواحد منها من أي نوع كان انصرفت الوصية إليه، كالمصحف والخاتم في الحبوة،
وإلا فاشكال، ويحتمل الروع إلى ما تقدم من التخيير.
الثالث: لو أوصى برأس من مماليكه، كان الخيار في التعيين إلى الورثة،
بأن يعطوا صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى صحيحا أو مريضا مسلما أو كافرا، لأن
اللفظ من الألفاظ المتواطئة بالنظر إلى ما تحت معناه من الأفراد المعدودة، فيتخير
493

الوارث في اعطاء أيها شاء، لوقوع الاسم على كل واحد منها، وإنما يتخير مع
وجود المتعدد في التركة، وإلا تعين الموجود، ولو لم يوجد له مملوك بطلت الوصية.
وهل الاعتبار بالوجود عند الوصية أو الموت؟ وجهان: استجود ثانيهما
في المسالك، قال: لأنه وقت الحكم بالانتقال وعدمه، كما أعتبر المال حينئذ،
ووجه الأول إضافة المماليك إليه المقتضية لوجود المضاف، انتهى.
ولو ماتت مماليكه بعد وفاته إلا واحدا " تعين للدفع في الوصية، فإن ماتوا
كملا " بطلت الوصية أما لو قتلوا لم تبطل، وكان للورثة أن يعينوا من شاؤوا،
ووجه البطلان مع موت الجميع فوات متعلق الوصية، بخلاف القتل، لبقاء المالية
بثبوت القيمة على القاتل، وهي بدل عن العين، فيكون للموصى له، فكل فرد
عينه الورثة يثبت له قيمته.
المسألة الرابعة: لا خلاف ولا اشكال في ثبوت الوصية بشهادة العدلين من
المسلمين، لأن ذلك مما يثبت به جميع الحقوق عدا ما استثنى مما يتوقف على
أربعة، بل دائرة حكم الوصية أوسع، ومن ثم تثبت بشهادة المرأة الواحدة على
بعض الوجوه، وشهادة عدول أهل الذمة كما دلت عليه الآية، واستفاضت به
الرواية، إلا أن ظاهر الآية اشتراط قبولها بالسفر، وتحليفها مع الريبة في
شهادتهما بعد الصلاة، قائلين ما دلت عليه الآية (1) " لا نشتري به ثمنا قليلا ولو
كان ذا قري ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين وأنه متى عثر على بطلان
شهادتهما فليس له نقضها حتى يأتي بشاهدين يقومان مقام الشاهدين الأولين (2)
" فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا " لمن الظالمين ".
والأصل فيما ذكرناه من هذه القيود ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن علي
بن إبراهيم (3) عن رجاله رفعه " قال: خرج تميم الداري وابن بيدي وابن

(1) سورة المائدة الآية 105 و 106.
(2) سورة المائدة الآية 105 و 106.
(3) الكافي ج 7 ص 5 ح 7، الوسائل ج 13 ص 394 الباب 21.
494

أبي مارية في سفر وكان تميم الدار مسلما "، وابن أبي مارية وابن بيدي نصرانيين
وكان مع تميم الداري خرج له فيه متاع، وآنية منقوشة بالذهب، وقلادة
أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع، فاعتل تميم الداري علة شديدة، فلما
حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بيدي وابن أبي مارية وأمرهما أن يوصلاه
إلى ورثته، فقدما المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة، وأوصلا سائر
ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية والقلادة، فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا
مرضا " طويلا " أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا، ما مرض إلا أياما " قلائل، قالوا:
فهل سرق منه شئ؟ في سفره هذا؟ قالا ": لا، قالوا: فهل اتجر تجارة خسر فيها؟
قالا: لا، قالوا: افتقدنا أفضل شئ، كان معه آنية منقوشة مكللة بالجواهر.
وقلادة، فقالا: ما دفع إلينا فقد أدينا إليكم، فقد موهما إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) فأوجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهما اليمين،
فحلفا فخلى عنهما ثم ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما فجاء أوليا؟ تميم إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بيدي
وابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما، فانتظر رسول الله (صلى الله عليه وآله)
من الله تعالى الحكم في ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى (1) " يا أيها الذين آمنوا
شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران
من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض " فأطلق الله تعالى شهادة أهل الكتاب على
الوصية فقط، إذا كان في سفر، ولم يجد المسلمين " فأصابتكم مصيبة الموت
تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان
ذا قرى، ولا نكتم شهادة الله إنا لمن الآثمين " فهذه الشهادة الأولى التي جعلها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن عثر على أنهما استحقا إثما " أي أنهما حلفا
على كذب فآخران يقومان مقامهما، يعني من أولياء المدعي من الذين استحق

(1) سورة المائدة الآية 105.
495

عليهما الأوليان، فيقسمان بالله، يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما،
وأنهما قد كذبا فيما حلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا " لمن
الظالمين فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أولياء تميم الداري أن يحلفوا
بالله على ما أمرهم به، فحلفوا فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) القلادة
والآنية من ابن بيدي وابن أبي مارية وردهما إلى أولياء تميم الداري:
ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ".
ورواه المرتضى (رضي الله عنه) في رسالة المحكم والمتشابه، نقلا " من تفسير النعماني (1) بإسناده عن علي عليه السلام نحوه إلا قال: تحسبونهما من بعد الصلاة يعني
صلاة العصر، ورواه علي بن إبراهيم (2) في كتاب التفسير، ونقل في المسالك عن
أكثر الأصحاب ومنهم المصنف أنهم لم يعتبروا في قبول شهادة الذميين السفر،
بل جعلوه في الآية والأخبار إنما خرج مخرج الغالب، وكذا لم يعتبروا الحلف،
وتقل عن العلامة أنه أوجب الحلف بعد العصر بصورة الآية، واستحسنه
في المسالك.
أقول: لا يخفى الخبر المذكور على اشتراط السفر لقوله عليه السلام " فأطلق الله
شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر، ولم يجد المسلمين " وهو
دال بمفهوم الشرط الذي هو حجة شرعية عندنا بالأخبار، وعند محققي الأصوليين
بالاعتبار على أنه لو لم يكن في سفر أو وجد أحدا " من المسلمين لم تقبل شهادتهما.
ومن الأخبار الظاهرة بل الصريحة في ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن
حمزة بن حمران (3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله تعالى (4)
" ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم "؟ قال: فقال: اللذان منكم مسلمان،

(1) الوسائل ج 13 ص 394 الباب 21.
(2) الوسائل ج 13 ص 394 الباب 21.
(3) التهذيب ج 9 ص 179 ح 718، الكافي ج 7 ص 399 ح 8، الوسائل
ج 13 ص 392 ح 7.
(4) سورة المائدة الآية 105.
496

واللذان من غيركم من أهل الكتاب، فقال: إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة،
فطلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيته، فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيته
رجلين ذميين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما ".
وعن هشام بن الحكم في الصحيح (1) وبسند آخر في الموثق عن أبي
عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل " أو آخران من غيركم " قال: إذا كان الرجل
في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم، جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية ".
وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله مراقدهم) عن يحيى بن محمد (2)
" قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى (3) " يا أيها الذين آمنوا شهادة
بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من
غيركم " قال: اللذان منكم مسلمان، واللذان من غيركم، من أهل الكتاب، فإن
لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية، وذلك إذا مات الرجل في أرض
غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب، يجلسان بعد العصر " فيقسمان
بالله تعالى لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن
الآثمين " قال: وذلك إذا ارتاب ولي الميت في شهادتهما فإن عثر على أنهما شهدا
بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتى يجئ بشاهدين فيقومان مقام
الشاهدين الأولين، (فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا
إذا لمن الظالمين " فإذا فعل ذلك نقض شهادة الآخرين يقول الله تعالى (4): ذلك
أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ".

(1) الكافي ج 7 ص 398 ح 6، التهذيب ج 9 ص 180 ح 725.
(2) الكافي ج 7 ص 4 ح 6، التهذيب ج 9 ص 178 ح 715، الفقيه ج 4
ص 142 ح 487.
وهما في الوسائل ج 13 ص 391 ح 4 و 6.
(3) سورة المائدة الآية 105 و 108.
(4) سورة المائدة الآية 105 و 108.
497

وما رواه في كتاب بصائر الدرجات لسعد بن عبد الله بسنده فيه عن المفضل
بن عمر (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام في كتابه إليه، قال: وأما ما ذكرت أنهم
يستحلون الشهادات بعضهم لبعض على غيرهم فإن ذلك لا يجوز ولا يحل، وليس
هو على ما تأولوا إلا لقوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر
أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم أن أنتم
ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " وذلك إذا كان مسافرا " فحضره الموت
أشهد بالله اثنين ذوي عدل من أهل دينه،، فإن لم يجد فآخران ممن يقرأ القرآن
من غير أهل ولايته، تحبسونهما من بعد الصلاة، " فيقسمان بالله إن ارتبتم
لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم وشهادة الله إنا إذا لمن الآثمين " فإن
عثر على أنهما استحقا إثما " فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم
الأوليان من أهل ولايته فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا
إنا إذا لمن الظالمين، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد
أيمان بعد أيمانهم، واتقوا الله واسمعوا.
وهذه الأخبار كلها كما ترى ظاهرة بل صريحة في اعتبار السفر، وأنه
لا تقبل في السفر إلا مع فقد المسلمين، وما ربما يوجد من الأخبار المطلقة يجب
حمله على هذه الأخبار الصريحة في الاشتراط.
وقال في المسالك بعد نقل القول الذي نقله عن الأكثر من عدم اشتراط
السفر: ويمكن استنادهم في عدم اشتراط السفر إلى موثقة هشام بن الحكم (2)
عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى " وآخران من غيركم " قال: إذا كان الرجل
في بلد ليس فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية، قال: فإنها
متناولة باطلاقها للسفر والحضر، وأنه حيث قد دلت الأخبار التي ذكرناها على

(1) الوسائل ج 13 ص 393 الباب 20 ح 8.
(2) الكافي ج 7 ص 398 ح 6، الوسائل ج 13 ص 391 ح 4.
498

الاشتراط كما عرفت، فوجه الجمع بين هذه الرواية وبين تلك الأخبار بحمل هذه
الرواية على ما إذا سافر المسلم إلا بلد ليس فيها مسلم، لأنه من سكانها وأهلها،
والقرينة فيما ذكرناه واضحة، لأن سكنى المسلم وحده في بلد الكفر اختيارا "
نادر، بل غير جائز شرعا إلا من ضرورة.
وتستفاد من هذه الأخبار عدة فوائد: الأولى ما ذكرناه وإن كان خلاف
ما صرح به الأكثرون اشتراط القبول بالسفر، فلا تقبل في الحضر، والوجه فيه
ما عرفت من وجود المسلمين في الحضر، حيث إن المسلم لا يسكن إلا في بلاد
الاسلام.
الثانية اشتراط الحلف وأن يكون بالكيفية التي دلت عليها الآية، كما
يدل عليه خبر يحيى بن محمد المذكور، ومثله مرفوع علي بن إبراهيم، وخبر
المفضل، وما تقدم نقله عن العلامة من أنه يحلف بعد العصر، قد دل عليه مرفوع
علي بن إبراهيم برواية النعماني عن علي عليه السلام كما تقدم، ورواية يحيى بن محمد
كما في بعض نسخ المشايخ المذكورين، وفي بعض آخر بلفظ الصلاة بقول مطلق،
وينبغي حمل الاطلاق على العصر لما عرفت.
الثالثة إن ظاهر أكثر الأخبار المذكورة هو قبول الشهادة على الوصية،
أعم من أن يكون بمال أو ولاية، إلا أن مورد الآية والقضية التي نزلت فيها
كما دل عليه مرفوع علي بن إبراهيم إنما هو المال، وهو الظاهر أيضا من كلامه
في المسالك، حيث قال بعد أن صرح بثبوت الوصية بشهادة عدلين مسلمين: ولا
فرق في قبولها بها بين كونها بمال أو ولاية، ومع عدم وجود عدول المسلمين تقبل
شهادة عدول أهل الذمة بالمال، للآية والرواية، ودعوى نسخها لم يثبت، وهو
ظاهر في أن الوصية تقبل بشهادة عدول المسلمين في المال والولاية، وأما عدول
أهل الذمة ففي المال خاصة، وعلى هذا فينبغي حمل اطلاق تلك الأخبار على
مورد القصة.
499

الرابعة لا خلاف بين الأصحاب (رحمهم الله) في اشتراط العدالة في الذميين
بالمعنى المعروف عندهم، وإليه يشير قوله عليه السلام في رواية حمزة بن حمران مرضيين
عند أصحابهما.
الخامسة ما دل عليه خبر يحيى بن محمد من أنه مع عدم وجود أهل
الكتاب فمن المجوس، لم أقف عليه في غيره من الأخبار، ولم يصرح به أحد من
أصحابنا فيما حضرني من كلامهم، والخبر متى دل على حكم ولا معارض له وجب
القول به، وإن لم يقل به قائل كما هو مقتضى التحقيق في المسألة.
السادسة قال: في المسالك ولو وجد مسلمان فاسقان، والذميان العدلان،
فالذميان العدلان أولى للآية، أما المسلمان المجهولان فيبنى على اعتبار ظهور
العدالة، كما هو المشهور أو الحكم بها مال لم يظهر خلافها، كما ذهب إليه جماعة
من الأصحاب، فعلى الثاني لا ريب في تقديم المستور من المسلمين لأنه عدل، وعلى
الأول ففي تقديمه على عدل أهل الذمة وجهان: واختار العلامة تقديم المسلمين
بل قدم الفاسقين إذا كان فسقهما بغير الكذب والخيانة، وفيه نظر، انتهى.
أقول: أما ما ذكره من الفرد الأول فعلا اشكال في أن الحكم فيه كما ذكروا،
أما المسلمان المجهولان فالكلام فيهما مبني على أن العدالة هل هي أمر زائد على
مجرد الاسلام، كما هو المشهور، والمؤيد المنصور، أو أنها عبارة عن مجرد
الاسلام كما هو اختياره في المسألة؟ فعلى الثاني لا اشكال أيضا لحصول العدالة
المشروطة في الآية، وعلى الأول فالأشهر الأظهر عدم الثبوت إلا بعد الفحص وظهور
العدالة، وما نقل عن العلامة ضعيف لا يلتفت إليه، لأن الآية والرواية مصرحان
باشتراط العدالة، ووجود المسلم بدونها في حكم العدم، والله العالم.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: لا ريب أنه كما تثبت الوصية بالشاهدين تثبت أيضا فيما إذا كانت
مالا بشاهد ويمين، أو شاهد وامرأتين، وهو موضع وفاق في المال، وصية كان
500

أو غيرها، وقد دل قوله تعالى (1) " فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء "
على الاكتفاء بالرجل والامرأتين والأخبار بذلك مستفيضة، يأتي إن شاء الله تعالى
في موضعها اللائق بها، وكذا تثبت فيما إذا كانت مالا بشهادة الواحدة ربع ما
شهدت به، وبشهادة اثنتين، النصف، وبثلاث ثلاثة أرباع، وبالأربع الجميع، روى
الشيخ في التهذيب في الصحيح عن ربعي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في شهادة امرأة
حضرت رجلا يوصي ليس معها رجل؟ فقال: يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها ".
وما رواه في الفقيه (3) في الصحيح عن حماد بن عيسى عن ربعي مثله
بأدنى تفاوت.
وعن محمد بن قيس (4) في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام " قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام
في وصية لم تشهدها إلا المرأة فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية ".
ورواه بسند آخر عن محمد بن قيس (5) أيضا مثله إلا أنه " زاد إذا كانت
مسلمة غير مريبة في دينها ".
وعن أبان (6) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه " قال في وصية لم تشهدها إلا امرأة
فأجاز شهادة المرأة في الربع من الوصية حساب شهادتها ".
وأما ما رواه الشيخ في التهذيب عن إبراهيم بن محمد الهمداني (7) " قال:
كتب أحمد بن هلال إلى أبي الحسن عليه السلام امرأة شهدت على وصية رجل لم
يشهدها غيرها، ووفي الورثة من يصدقها، وفيهم من يتهمها فكتب عليه السلام: لا،
إلا أن يكون رجل وامرأتان، وليس بواجب أن تنفذ شهادتها ".
وما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع (8) في الصحيح " قال: سألت الرضا عليه السلام

(1) سورة البقرة الآية 282.
(2) الكافي ج 7 ص 4 ح 4 و 5، التهذيب ج 9 ص 180 ح 719 و 723، الفقيه ج 4 ص 142 ح 486.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(6) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(7) التهذيب ج 6 ص 268 ح 719 و ص 280 ح 771. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 395 ح 1 و ص 396 ح 4 و 3 و 2 و ص 397 ح 8 و ج 18 ص 266 ح 40.
(8) تقدم آنفا تحت رقم 7.
501

عن امرأة ادعى بعض أهلها أنها أوصت عند موتها من ثلثها بعتق رقبة لها أيعتق
ذلك وليس على ذلك شاهد إلا النساء؟ قال: لا تجوز شهادة النساء في هذا "
فحملهما الشيخ في التهذيبين على عدم نفاذها في الجميع، وإن نفذت في الربع،
وجوز في الإستبصار الحمل على التقية أيضا.
أقول: وهو الظاهر، فإن الأول بعيد عن سياق لفظ الخبرين المذكورين،
وهل يتوقف بثبوت ما ذكر بشهادتهن على اليمين، المشهور العدم، لاطلاق النصوص
المذكور فإنها ظاهرة في ثبوت ذلك بمجرد الشهادة، ولا بعد فيه، وإن كان مخالفا "
لحكم غيره من الحقوق، فإنها متلفة بحسب الشهادة اختلافا كثيرا، ونقل عن
العلامة في التذكرة توقف الحكم في جميع الأقسام على اليمين، كما في شهادة الرجل
الواحد، ورد بأن اليمين مع شهادة الواحد توجب ثبوت الجميع، فلا يلزم مثله
في البعض، ولو فرض انضمام اليمين إلى الاثنتين والثلاث ثبت الجميع، لقيامهما
مقام الرجل، أما الواحدة فلا يثبت بها سوى الربع مطلقا، انضمت اليمين لها
أم لا، على أن في ثبوت الجميع بانضمام اليمين إلى الاثنتين أو الثلاث إشكالا أيضا،
لأن مقتضى النصوص إنما هو النصف في ا لأول، وثلاثة أرباع في الثاني، بمجرد
الشهادة، ووجود اليمين حيث لم يعتبرها الشارع هنا في حكم العدم، وقيام
الاثنتين مقام الرجل في بعض الموارد لا يستلزم قياس ما نحن فيه عليه، حتى أنه
يخرج عن مقتضى ظواهر النصوص بذلك.
وبالجملة فالظاهر هو الوقوف على ظاهر النصوص المذكورة ولو شهد رجل
واحد ففي ثبوت النصف بشهادته من غير يمين نظرا " إلى قيام شهادته مقام اثنتين،
أو الربع خاصة، لأنه متيقن من حيث إنه لا يقصر عن المرأة، أو سقوط شهادته
أصلا وقوفا فيما خالف الأصل على مورده أوجه، قال في المسالك: أوسعها
الأوسط.
أقول: بل أظهرها الأخير لما ذكر، واختياره الأوسط باعتبار أنه لا يقصر
502

عن المرأة لمجرد خيال، والأحكام الشرعية لا تبنى على تقريبات العقول، فكم من
حكم يقربه العقل تحكم النصوص بخلافه، وكم من حكم يبعده العقل تحكم
به النصوص.
وهل يشترط في قبول شهادة المرأة في الوصية تعذر الرجال؟ المشهور
العدم، عملا بعموم النصوص المتقدمة، ونقل عن إدريس وقبله ابن الجنيد الاشتراط،
وهو ضعيف.
الثاني: المشهور في كلام الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه كما نقله
في المسالك عدم قبول شهادة النساء منفردات في الولاية، وعلل بأنها ليست وصية
بمال، بل هي تسلط على تصرف فيه، وليست أيضا مما يخفى على الرجال غالبا،
وذلك هو ضابط محل قبول شهادتهن منفردات.
والمشهور أيضا بل الظاهر أنه لا خلاف في إلا ما يظهر من المحقق في
الشرايع حيث تردد في ذلك هو أنه لا تثبت الوصية بالولاية بالشاهد واليمين،
وذلك لأن ضابط الثبوت بالشاهد واليمين ما كان من حقوق الآدميين مالا أو المقصود
منه المال، وولاية الوصاية لا تدخل في ذلك.
ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه قوى قبول الوصية بالولاية بالمرأتين مع
الشاهد، ونقل عن ابن الجنيد أيضا وأورد عليه أن اللازم من ذلك قبولها بالشاهد
واليمين أيضا، لأن كل ما ثبت بشاهد وامرأتين، ثبت بشاهد ويمين، وقيل في
وجه تردد المحقق هنا: أن منشؤه مما ذكر، ومن أن الوصية بالولاية قد
يتضمن المال، كما إذا أراد أخذ الأجرة أو الأكل بالمعروف بشرطه ولما فيه
من الارفاق، والتيسير، فيكون مرادا " للآية والرواية.
قال في المسالك: ولا يخفى ما فيه، وقد قطع الأصحاب بالمنع من غير نقل
خلاف في المسألة ولا تردد، ووافقهم المصنف في المختصر، على القطع، وأبدل
هذا التردد بالتردد في ثبوت الوصية بالمال بشاهد ويمين، وكلاهما كالمستغني
503

عنه، للاتفاق على الحكم، والقاعدة المفيدة للحكم فيهما، انتهى وهو جيد.
الثالث: قالوا: لو أشهد انسان عبدين له على حمل أمته وأنه منه، ثم
مات وأعتق المملوكان ثم شهدا بذلك فإنه تقبل شهادتهما، وهل يسترقهما المولود
حينئذ؟ قيل: بالمنع، وقيل: بالجواز على كراهة.
أقول الأصل في هذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل مات وترك جارية ومملوكين، فورثه أخ له فأعتق
العبدين، وولدت الجارية غلاما " فشهدا بعد العتق أن مولاهما كان أشهدهما أنه
كان يقع على الجارية وأن الحمل منه، قال: تجوز شهادتهما، ويردان عبدين
كما كانا ".
وما رواه المشايخ الثلاثة عن داود بن فرقد في الموثق (2) " قال سئل أبو عبد الله عليه السلام
عن رجل كان في سفر ومعه جارية له وغلامان مملوكان فقال لهما: أنتما حران
لوجه الله، وأشهد أن ما في بطن جاريتي هذه مني فولدت غلاما، فلما قدموا
على الورثة أنكروا ذلك واسترقوهما، ثم إن الغلامين عتقا بعد ذلك، فشهدا
بعدما أعتقا أن مولاهما أشهدهما أن ما في بطن جارته منه،: قال تجوز شهادتهما
للغلام، ولا يسترقهما الغلام الذي شهدا له، لأنهما أثبتا نسبه ".
قيل: والاستدلال بالخبرين مبني إما على قبول شهادة المملوك مطلقا أو
على مولاه، لأنهما بشهادتهما للولد والحكم بها صارا رقا له، لتبين أن معتقهما لم
يكن وارثا، أو على أن المعتبر حريتهما حال الشهادة، وإن ظهر خلافها بعد
ذلك، أو على أن الشهادة للمولى لا عليه، فتقبل.
وأورد على الأخير بأن الحكم بكون الولد مولى موقوف على شهادتهما

(1) التهذيب ج 6 ص 250 ح 642.
(2) التهذيب ج 9 ص 222 ح 870، الكافي ج 7 ص 20 ح 16، الفقيه
ج 4 ص 157 ح 544.
وهما في الوسائل ج 13 ص 460 ح 1 و ص 461 ح 2.
504

على كونه مولى، ليكون الشهادة له دارا.
أقول: الوجه عندي هو الأول، فإن الروايات وإن اختلف في قبول شهادة
المملوك إلا أن ما دل على المنع محمول على التقية، والأظهر هو الجواز فلا
ضرورة إلا ارتكاب ما ذكر من التعليلات في الوجه الباقية.
ونقل عن الشيخ أنه خص الحكم بالوصية، فإن أمرها أخف من غيرها من
الحقوق، كما قبلت فيها شهادة أهل الكتاب، وفيه أنه لا ضرورة إلى التخصيص فإن
اطلاق الخبرين المذكورين مع صحة الأول بالاصطلاح المحدث " وعد الثاني في
الموثق إنما هو بواسطة الحسن بن فضال الذي لا يقصر حديثه عندهم عن الصحيح،
مضافا " إلى اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور مع عدم معارض ولا مخالف
أقوى دليل على العموم.
بقي الكلام في استرقاقهما للولد الذي شهدا له، وبذلك صرحت صحيحة
الحلبي، وبالعدم صرحت موثقة، حيث نهى عن استرقاقهما، وطريق الجمع حمل
النهي على الكراهة، كما يؤذن به التعليل المذكور، وملخصه أنه يكره له
استرقاقهما، لأنهما كانا سببا " في حريته بعد الرقية، فلا يكون سببا " في رقيتهما
بعد الحرية.
والمحقق في الشرايع قد فرض المسألة كما دلت عليه صحيحة الحلبي،
والعلامة في القواعد قد فرضها بما دلت عليه موثقة داود، وكيف كان فشهادتهما
بعتق المولى لهما في رواية داود شهادة لأنفسهما، فلا تسمع كما هو مقتضى القاعدة.
وأنت خبير بأن هذه المسألة لا مناسبة لذكرها في هذا المقام إلا من حيث
أن الشيخ قد خصها بالوصية، كما قدمنا نقله عنه، والظاهر أن الأصحاب إنما
ذكروها هنا تبعا " له في ذلك، أن خالفوه في العمل باطلاق الخبر من المذكورين
كما ذكرنا، والله العالم.
الرابع: قالوا: لا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه، ولا ما يجر فيه
505

نفعا " أو يستفيد به ولاية، قالوا: والضابط أنه متى كان لنفسه حظ في الشهادة لم
تقبل.
وعدوا من ذلك أمورا: منها أن يشهد بما هو وصي فيه بأن يجعله الموصي
وصيا على مال معين، فينازعه فيه منازع فيشهد به للموصي.
ومنها أن يجربه نفعا " بأن جعله وصيا " في تفرقة ثلثه، فشهد بمال للمورث،
فإنه يجربه نفعا " باعتبار زيادة الثلث.
ومنها أن يجعله وصيا " على ولده الصغير، فيشهد للولد بمال، فإنه يستفيد
بها ولاية على المال.
وأنت خبير بما في ذلك من تطرق المناقشة، لعدم ورود نص بشئ مما
ذكروه، وإلى ما ذكرناه يميل كلاما بن الجنيد حيث نقل عنه أنه قال: " شهادة
الوصي جائزة لليتيم في حجره وإن كان هو المخاصم للطفل، ولم يكن بينه وبين
الشهود عليه ما يرد شهادته عليه " ومال إليه المقداد في شرحه.
قال في المسالك بعد نقله ذلك: ولا بأس بهذا القول، لبعد هذه التهمة من
العدل، حيث إنه ليس بمالك، وربما لم تكن له أجرة على عمله في كثير من
الموارد إلا أن العمل بالمشهور متعين، انتهى.
أقول: إن كان تعين العمل بالمشهور من حيث الشهرة فهي ليست بدليل
شرعي، بل الاجماع لو ادعي كما اعترف به في غير موضع من شرحه هذا، وتقدم
نقله عنه، وسيأتي إن شاء الله في بعض مسائل هذا الكتاب، وإن كان لدليل آخر،
فليس في الباب ما يدل على ذلك، وإلا لذكره واستند إليه، وهذا مع أن الأحكام
منوطة بالنصوص، ومقيدة بها على العموم أو الخصوص، ولا نص في المقام سوى
هذه التعليلات العلية، وقد عرفت ما فيها، وبالجملة فكلامه (قدس سره) لا يخلو
من المجازفة.
ثم إن مما فرعوا على ذلك أيضا أنه لو كان وصيا في اخراج مال معين،
506

فشهد للميت بما يخرج به ذلك المال من ا لثلث لم تقبل، كما لو أوصى باخراج ألف
درهم والتركة ظاهرا ألفان، فشهد الوصي أن للميت على أحد ألفا مثلا، فإن
قبول هذه الشهادة يستلزم اخراج الألف المجعول وصيا فيها من الثلث، ونفوذ
الوصية، فلا تقبل وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه.
نعم ربما يقال: إنه قد وردت هنا أخبار فيمن ترد شهادتهم، وعد منها
المتهم، فمن ذلك رواية عبد الله بن سنان (1) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما يرد
من الشهود؟ قال: فقال: الظنين والمتهم ".
وفي رواية أبي بصير (2) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الذي يرد من
الشهود؟ قال: الظنين والمتهم والخصم ".
ومثلها غيرهما، والوصي في هذه الصور المفروضة يدخل في المتهم بالتقريب
الذي ذكروه.
وفيه أنه لا يخفى أن التهمة عرفا " إنما تتحقق بما يوجب جر النفع إلى نفسه،
لا إلى غيره، كما هو المفروض في هذه الفروض، ومجرد صرفه الوصايا عن الميت
والقيام بأطفاله ونحو ذلك لا يتحقق له به نفعه دنيوي، بل ربما أوجب الضرر الدنيوي
له بما يوجبه من اشتغاله بذلك، عن قضاء حوائجه، والسعي في مطالبه وأموره،
وكلما كثرت الوصايا واتسعت الدائرة فيها وفي أموال الأطفال كان الضرر
أعظم، والمنع له عن السعي في أموره أتم، ولهذا أن الشارع جوز له الأكل
بالمعروف من أموالهم في مقابلة القائم بأحوالهم.
قال في كتاب المصباح المنير: والتهمة بسكون الهاء وفتحها: الشك
والريبة، واتهمته ظننت به سوء، ولا يخفى أن هذا كله إنما يترتب على ما يحصل
به جر النفع إلى نفسه، وايثارها، وإلا فأي سوء وأي ريبة في قيامه بوصايا

(1) الكافي ج 7 ص 395 ح 1 و 2، التهذيب ج 6 ص 242 ح 601 و 598، الوسائل ج 18 ص 274 ح 1 و ص 275 ح 3.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
507

الغير، وصرفه لها في مصارفها ما لم يتعد فيها الحدود الشرعية، وهذا بحمد الله
سبحانه ظاهر لكل ناظر، ومن وراء جميع ذلك اتصافه بالعدالة المانعة من تطرق
ما ينافيها.
وبالجملة فإن الأقرب عندي هو ما نقل عن ابن الجنيد ومن تبعه، ولا اشكال
عندهم في القبول لو كان المشهود عليه خارجا " عما هو وصي فيه، كما لو جعله
وصيا على غلة أطفاله، فيشهد لهم بدين أو جعله وصيا على تفريق مال معين،
فيشهد للورثة بحق آخر لمورثهم، ونحو ذلك، والله العالم.
المسألة الخامسة: في الوصية بالعتق، ولذلك صور عديدة، منها من
أوصى بعتق عبيده وليس له سواهم، فإن رتبهم في الوصية أعتق الأول فالأول حتى
يتم الثلث، ولو بجزء عبد فيعمل فيه ما يأتي ذكره، وتبطل الوصية فيمن بقي وإلا
أعتق ثلثهم بالقرعة، بأن يجعلهم أثلاثا ولو بتعديلهم بالقيمة، ثم يقرع، بين تلك
السهام الثلاثة، ويعتق الثلث الذي أخرجته بالقرعة،
وروي (1) " أن النبي (صلى الله عليه وآله) فعل ذلك في ستة عبيد
أعتقهم مولاهم عند موته، ولم يكن له غيرهم، فجزاهم أثلاثا " ثم أقرع بينهم "،
نقل ذلك الأصحاب في كتب الفروع، والظاهر أن الرواية عامية، فإنها غير
موجودة في كتب أخبارنا، إلا أن الظاهر أن الحكم لا اشكال فيه، لأن القرعة لكل
أمر مشكل، وهذا من جملتها، ولو توقف التعديل على إدخال جزء من أحدهم،
فإن خرجت القرعة على الثلث الذي فيه ذلك الجزء أعتق من العبد بحسابه،
وسرى العتق في الباقي، وسعى في باقي قيمته، كما في كل مبعض.
قالوا: وإنما لم يحكم بعتق ثلث كل واحد مع أن كان كل واحد منهم بمنزلة
الموصى له، وقد قرروا أن الوصايا إذا وقعت دفعة قسط عليها الثلث بالنسبة للحديث
النبوي المتقدم ذكره، فإنه (صلى الله عليه وآله) إنما جزى العبيد أثلاثا، وأعتق

(1) سنن البيهقي ج 6 ص 272.
508

الثلث الذي خرجت فيه القرعة، ولم يحكم في ثلث كل واحد واحد، وأيضا
فإن العتق على هذا الوجه موجب للاضرار بالورثة، لانعتاق الجميع حينئذ،
فإنه متى انعتق ثلث كل واحد ووجوب السعي في قيمته صار حرا فيصير الجميع
أحرارا.
أقول: ومن هنا يعلم أن المسألة غير خالية من شوب الاشكال، لأن الخبر
غير ثابت كما عرفت والاضرار بالورثة غير مسموع إذا اقتضته القواعد الشرعية
إن ثبت ما ذكوره من تلك القاعدة المذكورة، والظاهر ثبوتها كما سيأتي إن شاء الله
تعالى في محله، هذا كله إذا لم يجز الورثة، وإلا فلا اشكال.
ومنها ما لو أوصى بعتق عدد مخصوص من عبيده، وفيه قولان: فقيل:
إنه يستخرج ذلك العدد بالقرعة، وقيل: إنه يتخير الوارث في ذلك المقدار،
فيعينه فيمن أراد، وجه الأول أن العتق للمعتق، ولا ترجيح فيه لبعضهم على
بعض، فوجب التوصل إليه بالقرعة.
ووجه الثاني أن متعلق الوصية متواطئ، فيتخير ا لوارث في تعيينه كغيره
ولأن المتبادر من اللفظ الاكتفاء بأي عدد كان من الجميع وهو اختيار المحقق
في الشرايع: والشارح في المسالك قال: وهذا أقوى، وإن كانت القرعة أعدل.
ومنها ما لو أعتق مملوكه عند الوفاة منجزا وليس له غيره، قيل: عتق
كله وقيل ينعتق ثلثه، ويسعى للورثة في باقي قيمته، ولو أعتق ثلثه سعى في
باقيه إن لم يكن للمعتق مال غيره، فاضل من مستثنيات الدين، وإلا سرى
العتق عليه في ثلث المال الفاضل.
أقول: أما المسألة الأولى فهي أحد جزئيات مسألة منجزات المريض،
والخلاف فيها بين كون ذلك من الأصل أو الثلث مشهور، وسيأتي تحقيق الحال
فيها إن شاء الله تعالى في المسائل الآتية.
وأما المسألة الثانية فالوجه في سعي العبد في باقي قيمته بالشرط المذكور،
509

أن ذلك قاعدة كلية في كل موضع يصير بعضه حرا، فإنه يجل عليه السعي في
فك رقبته من جميع ما يكتسبه فاضلا عن مؤنته، لا أنه يختص بنصيب الحر خاصة،
كما صرحوا به.
وأما الوجه في فك العتق له كان له مال فاضلا عما ذكرناه، فلأن سبب
السراية هو العتق الذي وقع المال، وقد وقع في حال المرض كما هو المفروض،
واعتبر من الثلث، فيكون مسببه وهو السراية كذلك، يكون من الثلث، هذا
خلاصة ما ذكروه في المقام.
ومنها ما لو أوصى بعتق رقبة مؤمنة وجب، فإن لم يجد أعتق من لا يعرف
بنصب، والمراد بالمؤمنة هو الايمان الخاص، وهو القول بإمامة الأئمة الاثني
عشر عليهم السلام وأنه مع تعذر ذلك يعتق من لا ينصب، والمراد بهم المستضعفون،
والجاهلون بأمر الإمامة، وهم أكثر الناس في زمان الأئمة عليهم السلام كما استفاضت
به الأخبار من تقسيم الناس يومئذ إلى الأصناف الثلاثة، مؤمن، وضال وهو من
لا يعرف ولا ينكر، وكافر، وهو من أنكر الولاية، وقد تقدم تحقيق ذلك في
مواضع، ولا سيما في كتاب الطهارة، وهذا القسم أعني أهل الضلال مما صرحت
الأخبار بأنهم من المسلمين، وليسوا بالمؤمنين، ولا الكافرين، وأنهم في الدنيا
يعاملون بمعاملة المسلمين، وتجري عليهم أحكام الاسلام، وفي الآخرة من المرجئين
لأمر الله، إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم، بل ربما دلت بعض الأخبار على دخولهم
الجنة بسعة الرحمة الإلهية، وأما المنكرون للإمامة وهم المشار إليهم في الأخبار
بالنصاب، فهم من الكافر الحقيقيين، خلافا للمشهور بين علمائنا المتأخرين،
ولتحقيق المقام محل آخر.
وكيف فمما يدل على الحكم المذكور ما رواه ثقة الاسلام في الكافي
عن علي بن أبي حمزة (1) " قال: سألت عبدا صالحا عن رجل هلك فأوصى بعتق

(1) الكافي ج 7 ص 18 ح 10 بزيادة كلمة مسلمة، الوسائل ج 13 ص 462 ح 2.
510

نسمة بثلاثين دينارا فلم يوجد له بالذي سمي؟ ما أرى لهم أن يزيدوا على
الذي سمي، قلت: فإن لم يجدوا؟ قال: يشترون من عرض الناس ما لم يكن
ناصبا ".
وما رواه الصدوق في الفقيه عن علي بن أبي حمزة (1) عنه عليه السلام أنه قال
" فليشتروا من عرض الناس ما لم يكن ناصبيا ".
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن إلى علي بن أبي حمزة (2)
" قال سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل أوصى بثلاثين دينارا يعتق بها رجل من أصحابنا فلم يوجد بذلك قال: يشترى من الناس فيعتق ".
وشيخنا في المسالك لم يورد دليلا " على القول المذكور إلا الرواية الأخيرة،
ثم اعترضها بضعف السند بعلي بن أبي حمزة، قال فالحكم بها مع مخالفة مقتضى
الوصية ضعيف، ثم قال: ومع ذلك فليس في الرواية تقييد بعدم النصب، لكن
اعتبره الجماعة نظرا إلى أن الناصبي كافر، وعتق الكافر غير صحيح، فالقيد من
خارج، إلى أن قال: والأقوى أنه لا يجزي غير المؤمنة مطلقا، فيتوقع المكنة،
انتهى.
أقول: أما الرد بضعف السند فليس بمسموع عندنا، ولا عند المتقدمين،
ولا معتمد مع أن أصحاب هذا الاصطلاح متى اتفق الأصحاب على العمل بالخبر
تلقوه بالقبول، والأمر كذلك إذ لا مخالف في الحكم فيما أعلم، على أنه قد تقدم
منه قريبا في مسألة عدم قبول شهادة الوصي مع التهمة، ما يدل على تمسكه بالشهرة
وإن كانت خالية من الدليل بالكلية، فإن بعد أن استحسن مذهب ابن الجنيد
عدل منه إلى المشهور من حيث الشهرة لا غير، كما تقدم ايضاحه.
وأما طعنه في الرواية بأنها خالية من التقييد بعدم النصب، ففيه أن الروايتين

(1) الفقيه ج 4 ص 159 ح 554.
(2) الكافي ج 7 ص 18 ح 9، التهذيب ج 9 ص 220 ح 863، الفقيه
ج 4 ص 159 ح 355، وهما في الوسائل ج 13 ص 462 ح 2 و 1.
511

الأخيرتين قد صرحتا بما ذكره الأصحاب من الشرط المذكور.
فإن قيل: إن الروايتين لا دلالة لهما على كون الرقبة الموصى بها مؤمنة
كما هو المدعى، ولعله لهذه الجهة لم يورد شيخنا المذكور هذين الخبرين.
قلنا: هذا غلط محض، فإن المسؤول عنه وإن كان مجملا، لكن الحمل
على المؤمنة معلوم من جوابه عليه السلام، وهو قرينة على أن المسؤول عن يومئذ إنما
هو الرقبة المؤمنة، وذلك فإن الأمر بالشراء بعد تعذر الأمر به بتلك القيمة
لمن كان من عرض الناس، إلا أن يكون ناصبيا، ظاهر في كون المأمور به رقبه
مؤمنة، والتفضيل فيه جار على ما قدمناه من تقسيم الناس إلى تلك الأقسام الثلاثة
في وقتهم عليهم السلام، وأن المراد بهذا الذي هو من عرض الناس هم الضلال الذين
لا يعرفون ولا ينكرون، فإنا قد أشرنا سابقا إلى أن المفهوم من الأخبار أن جل
الناس في وقتهم كانوا من هذا الصنف.
وبالجملة فإن الحكم بما هو مشهور صحيح، ولا يعتريه فتور ولا قصور
وما يدل على جواز عتق المستضعفين المشار إليهم في هذه الأخبار بعرض الناس
اختيارا لأنهم من المسلمين، فتجري عليهم أحكام الاسلام التي من جملتها العتق.
صحيحة الحلبي (1) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرقبة تعتق من
المستضعفين؟ قال: نعم " إلا أن الظاهر تقييده بما إذا لم تكن الرقبة مشروطا "
فيها أن تكون مؤمنة.
ومنها أنه لو أوصى بعتق رقبة بثمن معين فلم يجدها بذلك الثمن، بل
وجدها بأكثر منها لم يجب شراؤها، ولم تجب عليه الزيادة، ويدل عليه ما تقدم
في رواية علي بن أبي حمزة، حيث قال السائل " فلم توجد بالذي سمي، فقال عليه السلام:
ما أرى لهم أن يزيدوا على الذي سمي " وحينئذ فيجب عليه الصبر، وتوقع

(1) الكافي ج 6 ص 182، الوسائل ج 16 ص 23 ح 1.
512

وجودها بما على له، فإن يئس من ذلك ففي بطلان الوصية أو صرفه في البر أو
شراء شقص به، فإن تعذر فأحد الأمرين أوجه، استجود في المسالك شراء الشقص
قال: لأنه أقرب إلى مراد الموصي من عدمه، ولعموم " فأتوا منه ما استطعتم ".
أقول: لا يخفى أن الأظهر بناء على ما تقدم في نظائر هذه المسألة هو
الصرف في وجوه البر، إلا أن يجعل ما ذكره من شراء الشقص داخلا في وجوه
البر، وتكون هذه الوجوه التي ذكرها مؤيدة.
وكيف كان فالظاهر هو الصرف في وجوه البر كيف كان، ونقل عن التذكرة
الميل إلى القول بالبطلان، حيث نفى عنه البأس، وفيه ما عرفت في أصل المسألة
المتقدمة من صون هذا القول، لأن هذه الصورة أحد جزئيات تلك المسألة، ولو
وجدت بأقل اشتراها وأعتقها، ورفع ما بقي من الموصى به.
ويدل على الحكم المذكور ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم)
في الصحيح إلى سماعة، فيكون الموثق (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
رجل أوصى أن يعتق عنه نسمة بخمسمائة درهم من ثلثه، فاشترى الوصي نسمة
بأقل من خمسمائة درهم، وفضلت فضلة، فما ترى؟ قال: تدفع الفضلة إلى النسمة
من قبل أن تعتق، ثم تعتق عن الميت ".
قال في المسالك: والرواية مع ضعف سندها بسماعة دلت على اجزاء
الناقصة وإن أمكنت المطابقة، لأنه لم يستفصل فيها، هل كانت المطابقة ممكنة
أم لا؟ وترك الاستفصال من وجوه العموم، إلا أن الأصحاب نزلوها على تعذر
الشراء بالقدر، ولا بأس بذلك مع اليأس من العمل بمقتضى الوصية، لوجوب
تنفيذها بحسب الامكان، واعطاء النسمة الزايد صرف له في وجوه البر، وهو في
محله حينئذ، وتبقى الرواية شاهدا إن لم تكن حجة، لأن سماعة وإن كان واقفيا

(1) الكافي ج 7 ص 19 ح 13، التهذيب ج 9 ص 221 ح 868، الفقيه
ج 4 ص 159 ح 557، الوسائل ج 13 ص 465 الباب 77.
513

لكنه ثقة، فتبنى حجيتها على قبول الموثق، أو على جبر الضعف بالشهرة، وعلى
ما بيناه لا ضرورة إلى ذلك، لموافقة مضمونها للقواعد إذا قيدت باليأس من تحصيل
النسمة بالشرط، انتهى.
أقول: الظاهر والله سبحانه وأولياؤه أعلم أن الموصي أوصى بشراء
نسمة تكون مما يساوي هذا الثمن عرفا "، واتفق حصول بعض أفراد هذا النوع
بأقل من هذا الثمن، فلا الحكم فيه ما ذكر من صحة الشراء واعطاء الزائد
النسمة.
أما صحة الشراء فلأن المفروض أنه من النوع الذي أمر به، وإن اتفق
حصوله بأقل من الثمن المعين، لأن الموصي إنما قصد بتعيين الثمن بيان النوع
الذي يريده، بمعنى أنه يكون من الأنواع التي تكون قيمتها بحسب العرف
والعادة خمسمائة درهم، فالغرض إنما هو بيان النوع، والذي اشتراه الوصي
من هذا النوع، إلا أنه اتفق له بأقل من الثمن المحدود، وحينئذ فزيادة
الثمن ونقصانه غير ملحوظ، في الأمر بالشراء، وإنما الملحوظ تعيين النوع، وقد
حصل، فلا مخالفة في الرواية بوجه من الوجوه، ولا يحتاج إلى تنزيلها على
تعذر الشراء بالقدر، كما نقله عن الأصحاب، ولا إلى الحمل على اليأس من العمل
بمقتضى الوصية كما ذكره، لأن العمل بمقتضى الوصية قد حصل بشراء تلك
النسمة، حيث إنها من النوع الذي أراده الموصي، والثمن لا مدخل له في ذلك
حيث أنه إنما ذكر لبيان ذلك النوع ومعرفته، لأن أنه ملحوظ له أولا وبالذات
كما توهمه حتى أنه بالنقصان عنه قد خالف مقتض الوصية، وما ذكرناه
بحمد الله سبحانه صحيح، لا قصور ولا ريب يعتريه.
وأما صرف الزائد فهو يرجع إلى صرفه في وجوه البر، كما هو المقرر
في مثله.
514

بقي الكلام في أن الرواية دلت على إنه المعتق بعد اعطاء الزائد النسمة
والمفهوم من كلام الأصحاب عدم التقييد بذلك، وأنه لا فرق في دفع الزائد إلى
النسمة بين كونه قبل العتق أو بعده، والله العالم.
ومنها أنه لو أعتق رقبة بظن أنها مؤمنة، ثم بانت بخلاف ذلك، قالوا:
أجزأت عن الموصى له، وعلله في المسالك بأنه متعبد في ذلك بالظاهر، لا بما
في نفس الأمر، إذ لا يطلع على السرائر إلا الله، فقد امتثل الأمر، وهو
يقتضي الاجزاء، انتهى وهو جيد.
أقول: ويدل عليه أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم)
عن عمار بن مروان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال فيه " قلت: وأوصى
بنسمة مؤمنة عارفة فلما أعتقناه بأن لنا أنه لغير رشدة، فقال: فقد أجزأت عنه "
وزاد في الكافي الفقيه " إنما ذلك مثل رجل اشترى أضحية على أنها سمينة
فوجدها مهزولة، فقد أجزأت "، والمراد بقوله " لغير رشدة " يعني ولد الزنا
وفي الخبر إشارة واضحة إلى عدم ايمان ولد الزنا كما هو حق عندي في المسألة،
وقد تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الطهارة.
المقصد الخامس في الموصى له:
وفيه مسائل: الأولى: الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في أنه يشترط في الموصى إليه الوجود حال الوصية لميت بطلت، وكذا لو
أوصى لمن يظن وجوده، ثم تبين أنه قد مات حال الوصية، قالوا، والوجه في ذلك أن
الوصية لما كانت عبارة عن تمليك عين أو منفعة كما تقدم من تعريفها بذلك، فلا بد
من أن يكون الموصى له قابلا " للتمليك، ليتحقق مقتضاها، فلا تصح الوصية للميت
ولا لما تحمله المرأة، ولا لمن علم موته حين الوصية، للعلة المذكورة.

(1) الكافي ج 7 ص 62 ح 17، التهذيب ج 9 ص 236 ح 920، الفقيه
ج 4 ص 172 ح 603، الوسائل ج 13 ص 481 ح 2.
515

قال في المسالك: وأما الوصية لمن سيوجد، فقد أطلق الأصحاب وغيرهم
المنع منه، ولو بالتبعية للموجود، مع أنه قد تقدم جواز الوقف على المعدوم تبعا
للموجود، ودائرة الوقف أضيق من دائرة الوصية، كما يعلم من أحكامها،
ويمكن الفرق بينهما لافتراقهما في هذا الحكم بأن الغرض من الملك في الوقف
ملك العين على وجه الحبس، واطلاق الثمرة، والموقوف حقيقة هو العين، وملكها
حاصل للموقوف عليه الموجود، ثم ينتقل منه إلى المعدوم، وإن كان يتلقى الملك
من الموقوف، ففائدة الملك المقصودة منه متحققة فيهما، بخلاف الوصية فإنه لو
أوصى إلى موجود، ثم إلى معدوم بلك الموصى به أولا "، فإن مقتضى الوصية
تمليك الموصى له، فيكون الموصى به ملكا لذلك الموجود يتصرف فيه كيف
يشاء، ولو ببيعه واخراجه عن ملكه، وهذا مما ينافي الوصية للمعدوم بها،
لأن الوصية له يقتضي تمليكه أيضا "، والحال أن العين الموصى بها قد صارت ملكا
للأول، ويلزم أيضا أنه بالوصية إلى المعدوم من أول الأمر ينتقل العين الموصى بها
إليه، كما هو مقتضى الوصية، مع أنه معدوم في ذلك الوقت ولا يصلح للتملك.
نعم لو كانت الوصية بثمرة بستان لزيد، ولأولاده المتجددين من بعده وهذا
موضع شبهة في المقام، فإنه وإن لم يأت فيه ما تقدم من المحذور الأول، إلا أن الثاني آت
فيه، لأنه بالوصية إلى زيد ولأولاده ينتقل الموصى به إلى كل منهما، وكل منهما
يوصى له بطريق الاستقلال لأن الثمرة التي تملكها الأول بالوصية غير الثمرة
التي تملكها الآخر في زمانه، ومقتضى الوصية التمليك، فيلزم بمجرد الوصية
تملك المعدوم، مع أنه غير قابل للتملك، ولو بالتبعية، بخلاف الوقف، لأن الملك
متحقق للموجود في الأصل، ابتداء، ومنه ننتقل إلى المعدوم بعد وجوده، ويزيد
ذلك تأييدا أو تعليلا وتشييدا أن الوصية كما عرفت من المملكات موجبة لنقل
الملك من الموصي إلى الموصى له، فلا بد من الدليل الشرعي على صحة تملك
الوصية، ليترتب عليها الأثر المذكور، والذي عليم من الأدلة والأخبار الواردة في
516

باب الوصية هو تخصيص ذلك بالوصية إلى الموجود، والحكم بالصحة في المعدوم
يتوقف على الدليل، وليس فليس.
الثانية: الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) في صحة الوصية
للوارث والأجنبي وغير الوارث من الرقاب، والخلاف هنا إنما هو من الجمهور،
فإن أكثرهم على عدم جوازها للوارث، ورووا في ذلك عنه (1) (صلى الله عليه وآله
وسلم) أنه " قال: لا وصية لوارث " ويدل على ما ذكره الأصحاب الآية، وهي قوله
عز وجل (2) " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا " الوصية للوالدين
والأقربين " ومن الظاهر أن الوالدين يكونان وارثين البتة، فهي صريحة في
جواز الوصية للوارث، والأقارب قد يكونوا وارثين أيضا " فتدل الآية أيضا على
ذلك باطلاقها، فالمراد بقوله في الآية " كتب " ليس للوجوب، بل المراد التأكيد
والحث على ذلك.
وقد اضطرب كلام العامة في المقتضي عن الآية والجواب عنها، فقيل: بأنها
منسوخة بآية المواريث وقد رواه العياشي في تفسيره عن ابن مسكان عن أبي
جعفر عليه السلام في قوله تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا "
الوصية للوالدين والأقربين " قال: هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي
المواريث وجملة من أصحابنا حملوا هذه الرواية على التقية، لما عرفت من أن
المنع مذهب العامة.
ويحتمل قريبا حمل النسخ فيها على نسخ الوجوب، فإن ظاهر الآية الوجوب
وأنه قد نسخ بآية الموارث، فلا ينافي الجواز بل الاستحباب.
ومنهم من حمل الوالدين على الكافرين، وباقي الأقارب على غير الوارث

(1) الجامع الصغير ج 2 ص 204 الطبعة الرابعة دار الكتب العلمية.
(2) سورة البقرة الآية 180.
(3) تفسير العياشي ج 1 ص 77 ح 167، الوسائل ج 13 ص 376
الباب 15 ح 15.
517

منهم جميعا "، ومنهم من جعلها منسوخة فيما يتعلق بالوالدين خاصة.
قال في المسالك: ويبطل الأول بأن الشئ إنما ينسخ غيره إذا لم يمكن
الجمع بينهما، وهو هنا ممكن بحمل الإرث على ما زاد عن الثلث، كغيرها من
الوصايا، وبه يبطل الباقي، قال: والخبر على تقدير تسليمه يمكن حمله على نفي
وجوب الوصية الذي كان قبل نزول الفرائض، أو على نفي الوصية مطلقا، بمعنى
إمضائها، وإن زادت عن الثلث، كما يقتضيه اطلاق الآية، والمراد نفي الوصية
عما زاد عن الثلث.
ثم إن مما يدل على الوصية للوارث الأخبار المتكاثرة، ومنها ما رواه في
الكافي عن أبي بصير (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الوصية للوارث، فقال:
تجوز.
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي ولاد الحناط (2) " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الميت يوصي للوارث بشئ؟ قال: نعم، أو قال جائز له ".
وما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (3) في الصحيح " عن أبي جعفر عليه السلام
قال: الوصية للوارث لا بأس بها ".
وعن محمد بن مسلم (4) في الموثق " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الوصية
للوارث؟ قال: تجوز ".
وما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن مسلم (5) في الموثق عن أبي جعفر عليه السلام
" قال: سألته عن الوصية للوارث؟ فقال: تجوز، قال: ثم تلا هذه الآية " إن ترك
خيرا الوصية للوالدين والأقربين ".
وفي هذا الخبر ما يؤذن بحمل خبر العياشي على المعنى الثاني، وهو أن

(1) الكافي ج 7 ص 9 ح 1 و 2 و 3 و ص 10 ح 4 و 5، التهذيب ج 9 ص 199 ح 791 و 798، الفقيه ج 4 ص 144 ح 493. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 374 ح 3 و ص 373 ح 1 و ص 374 ح 4 و 5 و ص 373 ح 2.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 1.
518

المراد نسخ الوجوب، فإن الإمام عليه السلام قد استدل بها على جواز الوصية للوارث،
وما دان إلا باعتبار حمل قوله " كتب " على تأكيد الاستباب.
وأما ما رواه الشيخ عن القاسم بن سليمان (1) " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن رجل اعترف لوارث بدين في مرضه، فقال: لا تجوز وصية لوارث ولا اعتراف "
فقد أجاب عنه الشيخ في التهذيبين بالحمل على التقية، قال لموافقته مذاهب العامة
ومخالفته للقرآن، وحمله في الفقيه على أكثر من الثلث.
الثالثة: اختلف الأصحاب في جواز الوصية للذمي على أقوال: فقيل:
بالصحة مطلقا " رحما " كان أو غيره، وهو قول ابن إدريس ومن تبعه، ومنهم
المحقق والعلامة.
وقيل: بالعدم مطلقا وهو القاضي ابن البراج، وقيل: تصح إذا كان رحما "،
ولا تصح إن كان أجنبيا "، نقله الشيخ في ا لخلاف عن بعض أصحابنا.
ويدل على الأول قوله عز وجل (2) " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم
في الدين.. إلى قوله أن تبروهم " والوصية بر.
ومن الأخبار ما رواه المشايخ الثلاثة. قدس الله أرواحهم) عن محمد بن
مسلم (3) في الصحيح " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل الله
فقال: أعطه لمن أوصى به له، وإن كان يهوديا " أو نصرانيا " أن الله تبارك وتعالى
يقول (4): فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ".
وما رواه في الكافي والتهذيب بسند صحيح غير الأول عن محمد بن مسلم (5)

(1) التهذيب ج 9 ص 200 ح 799، الوسائل ج 13 ص 375 ح 12.
سورة الممتحنة الآية 8.
(3) التهذيب ج 9 ص 203 ح 808، الكافي ج 7 ص 14 ح 1، الفقيه
ج 4 ص 48 ح 514، الوسائل ج 13 ص 411 الباب 32.
(4) سورة البقرة الآية 181.
(5) الكافي ج 7 ص 14 ح 2، التهذيب ج 9 ص 201 ح 804، الوسائل
ج 13 ص 411 الباب 32 ذيل الرواية الأولى.
519

عن أحدهما عليها السلام مثله بأدنى تفاوت.
وما رواه المشايخ الثلاثة أيضا عن يونس بن يعقوب (1) " أن رجلا كان
بهمدان ذكر أن أباه مات، وكان لا يعرف هذا الأمر، فأوصى بوصية عند الموت
وأوصى أن يعطى شئ في سبيل الله فسئل عنه أبو عبد الله عليه السلام كيف يفعل به؟ فأخبرناه
أنه كان لا يعرف هذا الأمر، فقال: لو أن رجلا أوصى إلي أضع في يهودي أو
نصراني لوضعته فيهما، أن الله عز وجل يقول " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه
على الذين يبدلونه " فانظروا إلى من يخرج إلى هذا الوجه يعني " بعض الثغور "
فابعثوا به إليه ".
واستدل للثاني بأن الوصية تستلزم المودة، وهي محرمة بالنسبة إلى
الكافر، بقوله تعالى (2) " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من
حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم " وهي متناولة للأرحام وغيرهم.
ورده في المسالك فقال: ويضعف بمعارضته بقوله تعالى (3) " لا ينهاكم الله "
الآية والذمي مطلقا داخل فيها، وبما تقدم من الأخبار، وبقوله (3) (صلى الله عليه
وآله وسلم) (4) " على كل كبد حراء أجرا "، وينتقض بجواز هبته واطعامه
ويمنع كون مطلق الوصية له موادة، لأن الظاهر أن المراد منها موادة المحاد لله
من حيث هو محاد لله بقرينة ما ذكر من جواز صلته، وهو عين المتنازع، لأنا
لا نسلم أنه لو أوصى للكافر من حيث إنه كافر لا من حيث أنه عبد لله وذو روح
من أولاد آدم المكرمين لكانت الوصية باطلة ثم إنه اختار القول بالصحة مطلقا

(1) الكافي ج 7 ص 14 ح 2، التهذيب ج 9 ص 201 ح 804، الوسائل
ح 13 ص 414 ح 4.
(2) سورة المجادلة الآية 22.
(3) سورة الممتحنة الآية 8.
(4) الكافي ج 4 ص 57 ح 2 وفيه " أفضل الصدقة ابراد كبد حرى " وفي هامش
الجامع الصغير ج 2 ص 68 عن صحيح الترمذي لك بكل ذات كبد حراء أجر
الوسائل ج 6 ص 330 الباب 49.
520

للآية المتقدمة، والأخبار المذكورة معها.
أقول: لقائل أن يقول: إن الأخبار المذكورة لا دلالة فيها على أزيد من
وجوب تنفيذ الوصية كما أوصى به الموصي، وهو لا يستلزم جواز ذلك، بل من
الممكن أن يكون ما فعله محرما " يأثم عليه وإن وجب تنفيذه على الوصي، وإليه
تشير الأخبار المذكورة، فإن الظاهر من الأخبار أن معنى سبيل الله هو جميع
وجوه البر كما تقدم بيانه، وأن تفسيره بالجهاد إنما هو مذهب العامة، ولهذا أنه
عليه السلام في خبر يونس بن يعقوب أمر بصرفه في ذلك لكون الموصي مخالفا.
وبالجملة فإن النهي عن موادة الذمي وصلته التي من جملتها الوصية له
لا ينافي وجوب تنفيذها بالآية المذكورة، ألا ترى أن البيع بعد النداء يوم الجمعة
محرم يأثم فاعله مع أنه صحيح لو وقع، ومرجع ذلك إلى أن الآية قد دلت على
أنه يجب تنفيذ ما أوصى به حسبما أوصى به، سواء كان ما فعل من الوصية جائزا
أو محرما، وإثم تحريمه إنما يتعلق به، لا بالموصي، نعم تبقى المعارضة بين
الآيتين المذكورتين، والجمع بينهما مشكل، وقد مر في كتاب الوقف مزيد
كلامه في ذلك: وأما استناده فيما ذكره إلى الخبر النبوي المذكور، وإلى أنه
تجوز هبته واطعامه فهو ناش من الغفلة عن مراجعة النصوص الواردة في هذا
الباب، وذلك فإنه قد روى ثقة الاسلام في الكافي النهي عن اطعام الكافر، عن أبي يحيى (1) عن بعض أصحابنا " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أشبع مؤمنا "
وجبت له الجنة، ومن أشبع كافرا " كان حقا " على الله أن يملأ جوفه من الزقوم،
مؤمنا " كان أو كافرا ".
وروى الصدوق قدس سره في كتاب معاني الأخبار بسنده فيه عن النهيكي (2)
رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام " أنه قال من مثل مثالا أو اقتنى كلبا فقد خرج من
الاسلام فقلت له: هلك إذا كثير من الناس، فقال: إنما عنيت؟ بقولي " من مثل

(1) أصول الكافي ج 2 ص 200 ح 1، الوسائل ج 16 ص 523 ح 1.
(2) معاني الأخبار ص 181، الوسائل ج 16 ص 523 ح 2.
521

مثالا " من نصب دينا " غير دين الله ودعى الناس إليه، وبقولي " من اقتنى كلبا
مبغضا لأهل البيت اقتناه فأطعمه وسقاه من فعل ذلك فقد خرج عن الاسلام ".
وعن معلى بن الحسين (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث " قال: من أشبع
عدوا لنا فقد قتل وليا لنا ".
وفي وصيته (صلى ا لله عليه وآله وسلم) لأبي ذر المنقولة في كتاب مجالس
الشيخ (2): " يا أبا ذر لا يأكل طعامك إلا تقي.. إلى أن قال: أطعم طعامك
من يحب في الله، وكل طعام من يحبك في الله ".
وروى في التهذيب عن عمر بن يزيد (3) " قال سألته عن الصدقة على النصاب
وعلى الزيدية، فقال: لا تصدق عليهم بشئ ولا تسقهم من الماء إن استطعت،
وقال: الزيدية هم النصاب ".
وعن ابن أبي يعفور (4) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك ما تقول
في الزكاة؟ إلى أن قلت: فيعطى السؤال منها شيئا "؟ قال: فقال: لا والله إلا أن ترحمه
فإن رحمته فاعطه كسرة ثم أومى بيده فوضع إبهامه على أصول أصابعه ".
وفي رواية أبي بصير (5) " عن الصادق عليه السلام قال: أبو عبد الله عليه السلام أترون أنما
في المال الزكاة وحدها، ما فرض الله في المال من غير الزكاة أكثر، تعطى منه القرابة
والمعترض لك ممن يسألك فتعطيه ما لم تعرفه بالنصب، فإذا عرفته بالنصب فلا
تعطه إلا أن تخاف لسانه فتشتري دينك وعرضك منه ".
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدلالة على ذلك، وهي مؤيدة لما دلت

(1) معاني الأخبار ص 365.
(2) أمالي الشيخ الطوسي ج 2 ص 148 ط النجف الأشرف.
(3) التهذيب ج 4 ص 53 ح 141 و 142.
(4) التهذيب ج 4 ص 53 ح 141 و 142.
(5) الكافي ج ص 551 ح 2.
وهذه الروايات في الوسائل ج 16 ص 524 ح 3 و 4 و ج 6 ص 288 ح 2
و ص 153 ح 6 و ص 170 ح 1.
522

عليه الآية المذكورة أعني قوله تعالى (1) " لا تجد قوما " الآية ويعضده هذه الآية
أيضا قوله عز وجل (2) " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء
تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جائكم من الحق " إلى أن قال " ومن يفعله
منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم
أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ".
وأنت خبير بما فيها من التسجيل على النهي عن الموادة لهم على أبلغ وجه
وأكده، ولا ريب أن الوصية لهم نوع محبة كما لا يخفى، وبما ذكرناه من
الاعتضاد بهذه الآية والأخبار المذكورة يظهر ترجيح العمل بآية " لا تجد قوما "
على الآية الأخرى وهي (3) " لا ينهاكم الله " الآية.
ومن المحتمل قريبا تخصيص هذه الآية بمعنى لا ينافي ما دلت عليه تلك
الآيات والأخبار، كما ذكره الطبرسي في كتاب مجمع البيان، قال: أي ليس
ينهاكم الله عن مخالطة أهل العهد الذين عاهدوكم على ترك القتال، وبرهم
ومعاملتهم بالعدل، وهو قوله (4) " إن تبروهم وتقسطوا إليهم " أي وتعدلوا
فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد، نقل ذلك عن الزجاج، وإذا قام هذا
الاحتمال فلا دلالة في الآية على المخالفة، ثم نقل قولا بأنها منسوخة بآية (5)
" اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " عن ابن عباس والحسن وقتادة وعلى هذا
فلا اشكال أيضا " إلا أن ظاهر كلامه الأخير يؤذن بالمخالفة، وقد تقدم نقله في
كتاب الوقف.
والمراد بالناصب في هذه الأخبار هو المخالف الغير المستضعف، ولا الجاهل
بالإمامة لا ما يتوهمه متأخر وأصحابنا من المعلن بعداوة أهل البيت عليهم السلام كما

(1) سورة المجادلة الآية 22.
(2) سورة الممتحنة الآية 1.
(3) سورة الممتحنة الآية 8.
(4) سورة الممتحنة الآية 8.
(5) سورة التوبة الآية 5.
523

تقدم تحقيقه في غير مقام، ولا سيما في كتب العبادات.
وبذلك يظهر لك ما في قوله " إنا لا نسلم أنه لو أوصى للكافر من حيث إنه
كافر لكانت الوصية باطلة " فإن فيه ما عرفت من أنه لا منافاة بين إنفاذ الوصية
بعد وقوعها، وعدم جواز الوصية له، ومحل البحث إنما هو جواز الوصية، وقد
دلت الأخبار التي سردناها على عدم جواز صلة الكافر، والوصية من جملة ذلك،
فلا يجوز حينئذ، ولكن بعد وقوعها وإن أثم الموصي بذلك لا تجوز مخالفته
لمقتضى الأخبار المذكورة المعتضدة بالآية الدالة على النهي عن التبديل والمخالفة
لما أوصى به.
واستدل للقول الثالث بما ورد من الحث على صله الرحم مطلقا، فيتناول
الذمي، ورد بأن ذلك غير مناف لما دل على صلة غيره.
أقول: هذا الجواب إنما يتم لو دل الدليل على صلة غيره ممن هو محل
البحث، وأما على ما ذكرناه من عدم جواز ذلك كما عرفته، فالقول المذكور
وما علل به جيد لا بأس به، إلا أنه يمكن أن يقال: إنه قد تعارض هنا عمومان:
أحدهما ما دل على صلة الرحم متدينا " كان أو غيره، وثانيهما ما دل على المنع
من صلة الكافر مطلقا رحما كان أو غيره، كما عرفت من الأخبار التي ذكرناها،
وتخصيص أحد العمومين بالآخر يحتاج إلى دليل، ومن ذلك يظهر أن الأظهر
هو القول بالمنع مطلقا، ويؤيده أنه الأحوط من هذه الأقوال، والاحتياط أحد
المرجحات الشرعية في مقام التعارض بين الأدلة، هذا بالنسبة إلى الذمي،
وأما الحربي والمراد به ما هو أعم من الوثني أو الذمي الذي لا يقوم بشرائط
الذمة، والظاهر أن المشهور بينهم هو عدم صحة الوصية له، واستدل عليه بقوله
تعالى (1) " إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين " الآية، والحربي ناصب
نفسه لذلك.

(1) سورة الممتحنة الآية 9.
524

قال في المسالك: وفيه نظر ولأن الحربي قد لا يكون مقاتلا " بالفعل بل
ممتنعا من التزام شرائط الذمة فلا يدخل في الآية وقوله عليه السلام في الخبر
السابق اعطه لمن أوصى له وإن كان يهوديا أو نصرانيا واستشهاده بالآية
يتناول بعمومه الحربي لأن من عامة في المتنازع وكذلك اليهودي والنصراني
شامل للذمي وغيره، حيث للذمي وغيره، حيث لا يلتزم بشرائط الذمة، انتهى.
أقول: من المحتمل قريبا " بل الظاهر أنه هو المراد أن المراد بالقتال
في الدين إنما هو بعد طلبهم إلى الدخول في الدين أو القيام بالجزية إن كانوا
من أهل الكتاب بمعنى أنهم إذا طلبتموهم إلى ذلك قاتلوكم ولم يجيبوا
دعوتكم ونصبوا لكم القتال لا أن المراد أنهم يبتدؤوكم بالقتال وينصبون
لكم الحرب وإن لم تدعوهم إلى الاسلام إذ من الظاهر أن أهل مكة الذين هم
مورد الآية وغيرهم إنما قاتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد الدعوة
إلى الاسلام وطلبهم إلى الدخول فيه وإلا فلو كف عنهم لكفوا عنه ولم
يقاتلوه بالكلية
وأما الاستناد إلى ما ذكره من قوله عليه السلام في الخبر السابق اعطه لمن أوصى
له وإن كان يهوديا " فإن فيه ما قدمنا تحقيقه من أنه لا يلزم من وجوب التنفيذ
صحة الوصية بل يجب على الوصي إنفاذ ما أوصى به وإن كان أصل الوصية منهيا
عنه، جمعا بين الآيات والأخبار الدالة على النهي عن صلة الكافر وموادته،
الوصية من قبل ذلك، وبين الأخبار المشار إليها الدالة صريحا على وجوب
تنفيذ ما أوصى به، وليس فيما ذكرناه من هذا القول ما يطعن به عليه، إلا كونه
خلاف المشهور بينهم، وإلا فالقواعد الشرعية لا تنافيه بل تعضده، كما تقدمت
الإشارة إليه.
ثم أما استدل به على عدم صح الوصية للحربي وكذا الوقف عليه
أن مال الحربي فئ للمسلمين، فلا يجب دفعه إليه لأنه غير مالك، فلو جازت
525

الوصية له لكان إما أن يجب على الوصي دفعه إليه وهو باطل لما تقدم، أو لا يجب
وهو المطلوب، إذ لا معنى لبطلان الوصية إلا عدم وجوب تسليمها إلى الموصى له.
واعترضه في المسالك بأن فيه منع استلزام عدم وجوب دفع الوصية إليه
بطلانها، لأن معنى صحتها ثبوت الملك له إذا قبله فيصير حينئذ ملكا من أملاكه
يلزمه حكمه، ومن حكمه جواز أخذ المسلم له، فإذا حكمنا بصحة وصيته،
وقبضه الوصي ثم استولى عليه من جهة أنه مال الحربي، لم يكن منافيا لصحة
الوصية، وكذا لو منعه الوارث لذلك، وإن اعترفوا بصحة الوصية.
وتظهر الفائدة في جواز استيلاء الوصي على العين الموصى بها الحربي،
فيختص بها دون الورثة، وكذا لو استدل عليها بعض الورثة دون بعض، حيث
لم يكن في أيديهم ابتداء، ولو حكمنا بالبطلان لم يأت هذا، بل يكون الموصى
به من جملة التركة، لا يختص بأحد من الورثة.
أقول: يمكن أن يقال: أن مراد المستدل المذكور هو أنه لما أباح الشارع
ماله وجعله فيئا للمسلمين، دل ذلك على كونه غير أهل للملك، بمعنى أنه لا يدخل
شئ في ملكه، بأي نحو كان، وأن هذا المال الذي كان عنده إنما هو بمنزلة
الأشياء المباحة للناس، كل من سبق إليه وحازه ملكه دون غيره، وكونه في يده
قبل الاستيلاء عليه بالقهر والغلبة من المسلمين، لا يدل على الملك، وعلى هذا
فلا يجوز إدخال شئ في ملكه بوصية أو غيرها، حتى أنه بعد الدخول في ملكه
يصير فيئا للمسلمين، كما ذكره (قدس سره) بل تصبر؟ الوصية إليه باطلة،
ويكون الموصى به من جملة التركة كما ذكره أخيرا، وهو احتمال قريب وجيه
لا بد لنفيه من دليل.
الرابعة: قالوا: لا تصح الوصية لمملوك الأجنبي ولا لمدبره، ولا لأم ولده،
ولا لمكاتبه المشروطة، أو الذي لم يود من مكاتبته شيئا، وإن أجاز مولاه.
أقول: أما عدم جواز الوصية لمملوك الغير قنا كان أو مدبرا أو أم ولد،
526

فاستدلوا عليه بانتفاء أهلية الملك بالنسبة إلى هؤلاء، وهو شرط في صحة الوصية.
وفيه أن هذا إنما يتم على القول بأن المملوك لا يملك شيئا " مطلقا، كما هو
أحد الأقوال في المسألة، وأما على القول بأنه يملك وإن كان في التصرف محجورا
إلا بإذن المولى، فإنه لا مانع من صحة الوصية له، فيعتبر قبوله كغيره، وربما
استدل على عدم الصحة برواية عبد الرحمن بن الحجاج (1) عن أحدهما عليهما السلام
" قال: لا وصية لمملوك ".
وفيه أن الخبر كما يحتمل نفي الوصية من الغير له، كذلك يحتمل نفي أن
يوصي المملوك لغيره، لاحتمال أن يكون الإضافة هنا إلى الفاعل، أو المفعول.
وأما بالنسبة إلى مكاتب الغير إذا كان مشروطا أو مطلقا ولم يود شيئا
بالكلية، فالمشهور أن الحكم فيه كما في سابقه، لبقاء المملوكية.
وقيل: بصحة الوصية للمكاتب مطلقا، لانقطاع سلطنة المولى عنه، ولهذا
يصح بيعه واكتسابه، وقبول الوصية نوع من الاكتساب.
أقول: والذي وقفت عليه من الروايات المتعلقة بالمكاتب ما رواه المشايخ
الثلاثة (قدس الله أرواحهم) في الصحيح عن محمد بن قيس (2) عن أبي جعفر عليه السلام
في مكاتب كذا في كتابي الكافي والتهذيب وفي الفقيه " عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى
أمير المؤمنين عليه السلام في مكاتب كانت تحته امرأة حرة، فأوصت له عند موتها بوصية
فقال: أهل الميراث لا نجيز وصيتها له، إنه مكاتب لم يعتق ولا يرث، فقضى أنه
يرث بحساب ما أعتق منه، ويجوز له من الوصية بحساب ما أعتق منه، وقضى
في مكاتب أوصى له بوصية وقد قضى نصف ما عليه فأجاز له نصف الوصية وقضى في مكاتب
قضى ربع ما عليه فأوصى له بوصية فأجاز ربع الوصية، وقال في رجل حر أوصى
لمكاتبه، وقد قضت سدس ما كان عليها وأجاز بحساب ما أعتق منها ".

(1) التهذيب ج 9 ص 216 ح 852.
(2) الكافي ج 7 ص 28 ح 1، التهذيب ج 9 ص 223 ح 874، الفقيه
ج 4 ص 160 ح 558.
وهما في الوسائل ج 13 466 ح 2 و ص 468 الباب 80.
527

وشيخنا في المسالك بناء على ما حصل له من الوهم في محمد بن قيس في
أمثال هذا السند من كونه مشتركا، والحديث به ضعيف، رد هذه الرواية بذلك،
بعد أن أوردها دليلا للقول الأول، واختار القول الثاني وجعله الأقوى، وهو
ضعيف، فإن محمد بن قيس في هذا السند وأمثاله هو الثقة، كما قطع به جملة
من تأخر عنه، ومنهم سبطه السيد السند في شرح النافع، فتكون الرواية صحيحة
بحسب العمل بمقتضى هذا الاصطلاح، هذا مع تأيدها بجملة من الأخبار الدالة
على أن المكاتب إذا أوصى صحت وصيته بقدر ما أعتق منه خاصة، ومقتضى كلامه
المتقدم صحة وصيته مطلقا، ولانقطاع سلطنة المولى عنه إلى آخر ما ذكره، مع
أن الأخبار قد قصرت الصحة على قدر ما انعتق منه.
ومنها صحيحة محمد بن قيس (1) " عن أبي جعفر عليه السلام قال قضى أمير المؤمنين عليه السلام
في مكاتب قضى بعض ما كوتب عليه أن يجاز من وصيته بحساب ما أعتق عنه،
وقضى في مكاتب قضى نصف ما عليه فأوصى بوصية فأجاز نصف الوصية، وقضى في
مكاتب قضى ثلث ما عليه، وأوصى بوصية فأجاز ثلث الوصية ".
وصحيحة أبان (2) عمن حدثه " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: في مكاتب أوصى
بوصية، قد قضى الذي كوتب عليه الأشياء يسيرا فقال: تجوز بحساب ما أعتق منه ".
ورواية محمد بن قيس (3) " عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: قضى
أمير المؤمنين عليه السلام في وصية مكاتب قد قضى بعض ما كوتب عليه أن تجاز من وصيته
بحساب ما أعتق منه ". وبذلك يظهر لك مزيد ضعف القول المذكور.
تنبيهات:
الأول: قال في المختلف: المشهور أنه لا تصح الوصية لعبد الغير ولا لمكاتبه
المشروط وغير المؤدي، وقال الشيخ في المبسوط وتبعه ابن البراج: إذا أوصى

(1) التهذيب ج 9 ص 223 ح 876 و 875، الوسائل ج 13 ص 468 ح 1 و ص 469 الباب 81 ح 2 و ص 468 الباب 81 ح 1.
(2) التهذيب ج 9 ص 223 ح 876 و 875، الوسائل ج 13 ص 468 ح 1 و ص 469 الباب 81 ح 2 و ص 468 الباب 81 ح 1.
(3) هذه الرواية تكرار منه (قدس سره).
528

لعبد نفسه أو لعبد ورثته كان ذلك صحيحا، لأن الوصية للوارث عندنا تصح،
وكذا إن أوصى لمكاتبه أو لمكاتب ورثته كان الوصية صحيحة، ولو أوصى لعبد
الأجنبي لم تصح الوصية، لما ورد في الخبر في ذلك، وفي كلامه نظر، فإن
الوصية للعبد إن كانت وصية لمولاه صحت، وإن كان العبد لأجنبي، لأنه تصح
الوصية له وإن لم يكن يبق فرق بين الوارث والأجنبي، وبالجملة فهذا التفصيل
مشكل، انتهى.
الثاني: قال في المختلف: قال الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) إذا أوصى
لعبد له كاتبه جاز مما أوصى له بحساب ما أعتق عنه، ويرجع الباقي إلى مال
الورثة، وكذا قال سلار، وقال ابن البراج: يصح أن يوصي لمكاتبه، وهو
المشهور، فإن قصد المفيد برجوع الباقي إلى الورثة من غير أن يسقط من مال
الكتابة بقدره بل يكون لهم مجانا، لزم إبطال الوصية للمكاتب سواء كان الموصي
المالك أو غيره، وهو مخالف لظاهر فتوى الأصحاب، وإن قصد رجوعه إليهم
واسقاط ما يقابله من ماله الكتابة، فهو حسن، على أن ابطال الوصية للمكاتب
الغير المشروط لا يخلو عندي من نظر، انتهى.
أقول: ما نقله عن الشيخ المفيد (قدس الله روحه) هو القول الأول الذي دلت
عليه صحيحة محمد بن قيس المتقدمة، وهي الأولى من رواياته، وما نقله عن ابن
البراج هو القول الثاني، وظاهره أنه المشهور بينهم، وقد عرفت اختيار صاحب
المسالك له، وعرفت ما فيه.
وأما ما أورده على الشيخ المفيد من أن حكمه برجوع الباقي من الوصية
على الورثة مجانا يعني من غير احتساب ذلك من مال الكتابة الذي يستحقونه
يلزم منه ابطال الوصية.
ففيه أنه يجب أولا تحقيق البحث في المسألة كما قدمنا ذكره من أنه هل
الوصية للمكاتب مطلقا " صحيحة، أم لا؟ بل تكون مراعاة بأنه في المطلق إن لم
529

ينعتق منه شئ فهي غير صحيحة، وإن انعتق منه شئ فيصح بنسبة ما انعتق منه،
وأنت قد عرفت أنه لا دليل للقول بالصحة مطلقا، إلا ما ذكره في المسالك من ذلك
التعليل الاعتباري العليل، وأن القول الثاني هو مدلول الصحيحة المتقدمة كما
عرفت المعتضدة بما ذكرناه من الأخبار الأخر، وما ذكره من لزم ابطال الوصية
لا ضير فيه إذا اقتضته الأدلة الشرعية، على أن الابطال بالكلية إنما يتجه لو لم
ينعتق منه شئ بالكلية، وإلا فإنه يكون العتق بالنسبة.
وبالجملة فقول الشيخ المفيد هو الموافق الأخبار الأخر، وما ذكره
من أن كلام الشيخ المذكور مخالف لفتوى الأصحاب فلا ضير فيه إذا اعتضدته
الأدلة الشرعية، خلا ما ذكره الأصحاب كما عرفت في الباب.
الخامسة: اختلف الأصحاب (رحمهم الله) في صحة وصية الانسان لمملوكه
فقال الشيخ المفيد في المقنعة والشيخ في النهاية: إذا أوصى الانسان لعبده بثلث ماله
ينظر في قيمة العبد قيمة عادلة، وإن كانت قيمته أقل من الثلث أعتق وأعطي الباقي،
وإن كانت مثله أعتق وليس له شئ، ولا عليه شئ، وإن كانت القيمة أكثر من الثلث
بقدر السدس أو الربع أو الثلث أعتق بمقدار ذلك، واستسعى في الباقي لورثته، وإن
كانت قيمته على الضعف من ثلثه، كانت الوصية باطلة، وتبعهما ابن البراج في كتابي
الكامل والمهذب.
وقال الشيخ في الخلاف إذا أوصى لعبد نفسه صحت الوصية، وقوم العبد
وأعتق إذا كان ثمنه أقل من الثلث، وإن كان ثمنه أكثر من الثلث استسعى العبد
فيما يفضل للورثة، وأطلق، وكذا قال أبو الصلاح.
وقال سلار: إن كانت أقل من الثلث عتق وأعطي ما فضل، وإن كانت أكثر
بمقدار الربع والثلث من الثلث عتق بمقدار الثلث، واستسعى في الباقي.
وقال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه: إذا أوصى لمملوكه بثلث ماله،
قوم المملوك قيمة عادلة، فإن كانت أثر من الثلث استسعى في الفضل ثم أعتق
وإن كانت قيمته أقل من الثلث أعطي ما فضلت قيمته عليه، ثم أعتق.
530

وقال ابن الجنيد: لو أوصى للمملوك بثلث ماله، فقد روي (1) " عن
أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: فإن كانت الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة
استسعى العبد في ربع القيمة، وإن كان الثلث أكثر من قيمة العبد أعتق العبد،
ودفع إليه ما فضل من الثلث بعد القيمة ".
ويخرج الثلث من جميع التركة، ولو كانت الوصية للمملوك بمال مسمى
لم يكن لعاتقه يجوز اخراج ذلك من غير رقبته، ولو كانت جزء من التركة
كعشر أو نحوه كان العبد بما يملكه من ذلك الجزء من رقبته متحررا، أو باقية
كما قلنا، واختار ابن إدريس مذهب الشيخ في الخلاف.
قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال: والمعتمد أن نقول إن كانت الوصية
بجزء مشاع كثلث أو نصف أو ربع قوم العبد وأعتق عن الوصية، فإن فضل من
قيمته شئ استسعى في الفاضل للورثة، سواء كان الفاضل ضعف قيمته أو أقل أو
أزيد، وإن قضى عتق وأخذ الفاضل، فإن ساواه عتق، ولا شئ له ولا عليه، وإن
كانت الوصية بعين بطلت ولا شئ له، ولا يعتق منه شئ.
وقال المحقق في الشرايع: ويعتبر ما أوصى به المملوك بعد خروجه من
الثلث، فإن كان بقدر قيمته أعتق، وإن كان قيمته أقل أعطي الفاضل، وإن كانت
أكثر سعى للورثة فيما بقي ما لم يبلغ قيمته ضعف ما أوصى له به، فإن بلغت
ذلك بطلت الوصية، وقيل: تصح ويسعى في الباقي كيف كان وهو حسن، انتهى.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ
في التهذيب عن الحسن بن صالح الثوري (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل
أوصى لمملوك له بثلث ماله، قال: فقال: يقوم المملوك بقيمة عادلة، ثم ينظر ما
يبلغ ثلث الميت، فإن كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى
العبد في ربع القمية استسعى
العبد في ربع القيمة، وإن كان الثلث أكثر من قيمة العبد أعتق العبد ودفع إليه

(1) التهذيب ج 9 ص 216 ح 851، الوسائل ج 13 ص 467 ح 2.
(2) التهذيب ج 9 ص 216 ح 851، الوسائل ج 13 ص 467 ح 2.
531

ما فضل من الثلث بعد القيمة ".
وما رواه الرضا عليه السلام في كتاب الفقه الرضوي (1) حيث قال: " وإن أوصى
لمملوكه بثلث ماله قوم المملوك قيمة عادلة، فإن كانت قيمته أكثر من الثلث
استسعى في الفضلة ثم أعتق " وهذه عين عبارة الشيخ علي بن بابويه المتقدمة، إلا
أنه عليه السلام لم يذكر ما إذا كانت قيمته أقل، ولعل هذه الزيادة كانت في نسخة
الكتاب الذي عند الشيخ المزبور، ويحتمل أنها من كلامه (رحمة الله) تتميما
لمعنى الكلام.
وكيف كان فينبغي أن يعلم أن الكلام هنا في مقامين: الأول أن مقتضى
الروايتين وهو صريح العلامة في المختلف وابن الجنيد، وظاهر الشيخين فيما
تقدم نقله عنهما، وكذا الشيخ علي بن بابويه هو الفرق بين ما إذا كانت الوصية
بجزء مشاع كثلث أو نصف أو ربع، فإن الحكم فيه ما ذكر من التفصيل، وبينما
إذا كانت الوصية بعين، فإنه تبطل الوصية من رأس، لأن المملوك لا يملك، وعلى
تقدير ملكه فإنه لا يجوز التخطي إلى غير ما أوصى به، لأنه يكون تبديلا للوصية
فالتخطي إلى رقبته تبديل للوصية حينئذ، فلا يجرى فيه الحكم المذكور في
الخبرين.
وحكم الوصية بالمعين وإن غير مذكور في كلام المشايخ الثلاثة
المذكورين، إلا أن تخصيصهم هذا التفصيل بالوصية بالمشاع، ظاهر في أنه
لا يجري في المعين، وليس بعده إلا البطلان، وظاهر كلام الأكثر كالشيخ في
الخلاف وابن إدريس والمحقق فيما نقلناه عنه وغيرهم هو العموم، ولهم في تعليل
ذلك كلمات عليلة، والظاهر هو القول الأول عملا بالخبرين المذكورين.
وإنما يبقى الكلام في صحة الوصية له بالمعين وعدمها، وهو مبني على
صحة تملك العبد وعدمه، وإلا فالتخطي إلى الرقبة على تقدير الصحة مشكل

(1) فقه الرضا (عليه السلام) ص 40.
532

لما عرفت، ونحن إنما صرنا إلى التخطي إلى الرقبة فيما إذا كانت الوصية بجزء
مشترك، للخبرين المتقدمين، وبيان الوجه فيما دلا عليه، ما ذكره في المختلف
وهو أن الجزء المشاع يتناول نفسه. أو بعضها، لأنه من جملة الثلث الشايع، والوصية
له بنفسه صحيحة، والفاضل قد استحقه بالوصية، لأنه يعتبر جزء، فيملك
بالوصية فيصير كأنه قال أعتقوا عبدي من ثلثي، وأعطوه ما فضل منه، انتهى،
وهذا كله مفقود في صورة التعيين.
الثاني أن المفهوم من كلام الشيخين المتقدم أنه في صورة ما إذا كانت
قيمته أكثر من الثلث الموصى له بقدر ضعف ما أوصى به، كما لو كانت قيمته
مائتين الموصى له به يبلغ مائة. فإنه تبطل الوصية في هذه الصورة، وإنما تصح
فيما إذا كانت أقل من الضعف ولو يسيرا " فيعتق منه بقدر الوصية إن خرجت من
الثلث، وإلا فبقدر الثلث، ويستسعى للورثة في الباقي كما لو أوصى له بمائة
وخمسين، وقيمته مائتان، فإنه ينعتق منه بالوصية ثلاثة أرباعه، ويسعى للورثة
في ربع قيمته، وهو خمسون.
وظاهر كلام المحقق وهو اختياره في المسالك أيضا، أنه لا فرق بين الأمرين
بأن يكون قيمته بقدر ضعف ما أوصى له به أو أقل، فإنه ينعتق بحساب ما أوصى له
به مطلقا، ما لم يزيد عن الثلث، فإن زاد فبحساب الثلث، وهذا هو ظاهر كلام
الشيخ في الخلاف، وأبي الصلاح والشيخ علي بن بابويه وابن إدريس، ونقله
الشهيد في نكت الإرشاد عن المحقق في النكت، قال: واستدل عليه الشيخ
باجماع الفرقة.
قال في المسالك بعد ايراد رواية حسن بن صالح المتقدمة دليلا للشيخين
فيما ذهب إليه: ووجه دلالة الرواية من جهة مفهوم الشرط في قوله فيها
" فإن كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى العبد في ربع القيمة "
فإن مفهومه أنه لو لم يكن أقل بقدر الربع لا يستسعى، وإنما يتحقق عدم
533

الاستسعاء مع البطلان، ولا يخفى عليك ضعف هذا التنزيل، فإن مفهومهما
أن الثلث إن لم يكن أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة لا يستسعى في ربع
القيمة، لا أنه لا يستسعى مطلقا، وهذا مفهوم صحيح لا يفيد مطلوبهم، فلا ينافي
القول بأنه يستسعى بحسابه، فإن كان أقل بقدر الثلث يستسعى في الثلث أو
بقدر النصف، فيستسعى في النصف، وهكذا وأيضا " فلو كان المفهوم الذي زعموه
صحيحا لزم منه أنه متى لم يكن الثلث أقل من قيمته بقدر الربع لا يستسعى
بل تبطل الوصية، وهذا شامل لما لو كان القيمة قدر الضعف وأقل من ذلك
إلى أن يبلغ النقصان قدر الربع فمن أين خصصوا البطلان بما لو كانت قيمته قدر
الضعف؟ ما هذا إلا عجيب عجاب من مثل هذين الشيخين الجليلين، انتهى
وهو جيد وجيه.
السادسة: إذا كان على الانسان دين وأوصى بعتق مملوكه، وليس له سواه
أو أعتقه منجزا فقد اختلف كلام الأصحاب (رضي الله عنهم) في ذلك فقال الشيخ
المفيد (قدس سره) في كتاب المقنعة إذا كان على الانسان دين، ولم يخلف إلا
عبدا أو عبيدا فأعتقهم عند الموت، نظر في قيمة العبد أو العبيد وما عليه من الدين فإن
كان أكثر من قمية العبد بطل العتق، وبيع العبيد وتحاص الغرماء بثمنهم،
وكذا إن أستويت القيمة والدين، فإن كانت قيمة العبد أكثر من الدين السدس
أو الثلث ونحو ذلك بيع العبد، وبطل العتق، وإن كان قيمة العبد ضعف الدين،
كان للغرماء النصف منهم، وللورثة الثلث، وعتق منهم السدس، لأن لصاحبهم
الثلث من تركته يضع به ما يشاء، فوصيته نافذة في ثلث مماليكه، وهو السدس،
بهذا جاء الأثر من آل محمد عليهم السلام.
وقال الشيخ في النهاية: إذا أوصى لإنسان بعتق مملوك له، وكان عليه دين
فإن كان قيمة العبد ضعف الدين استسعى العبد في خمسة أسداس قيمته، ثلاثة أسهم
للديان، وسهمان للورثة، وسهم له، وإن كانت قيمته أقل من ذلك بطلت الوصية
وبذلك قال ابن البراج.
534

وقال ابن إدريس: الذي يقتضيه المذهب أنه لا وصية قبل قضاء الدين، بل
الدين مقدم على الوصية، والتدبير عندنا وصية، فلا تمضي الوصية إلا بعد قضاء
الدين، فإن عمل عامل بهذه الرواية يلزمه أن يستسعي العبد، سواء؟ كانت قيمته
ضعفي الدين أو أقل من ذلك، لأنه متى كانت قيمته أكثر من الدين بأي شئ كان
فإن الميت الموصي قد استحق في الذي فضل عن الدين مثله، فتمضي وصيته في
ذلك الثلث، ويعتق العبد، ويستسعى في دين الغرماء وما فضل عن ثلثه الباقي
للورثة، ولي في ذلك نظر، فإن أعتقه في الحال، وبت عتقه قبل موته، مضى العتق
وليس لأحد من الديان، ولا الورثة عليه سبيل، لأنه ليس بتدبير، وإنما هو
عطية منجزة في الحال، وعطاياه المنجزة صحيحة، على الصحيح من المذهب،
لا تحسب من الثلث بل من الأصل.
وقال العلامة في المختلف: والمعتمد أن تقول أن أحاط الدين بقيمة العبد
بطل العتق، سواء كان قد نجزه من مرض موته أو أوصى به، وإن قصر الدين عن
قيمته عتق ثلث الفاضل، واستسعى في الباقي.
وقال المحقق في الشرايع: ولو أوصى بعتق مملوكه وعليه دين، فإن كانت
قيمة العبد بقدر الدين مرتين أعتق المملوك، وسعى في خمسة أسداس قيمته،
وإن كانت قيمته أقل بطلت الوصية بعتقه، والوجه أن الدين يقدم على الوصية
فيبدأ به، ويعتق منه الثلث فيما فضل عن الدين، أما لو نجز عتقه عند موته كان
الأمر كما ذكر أولا، عملا برواية عبد الرحمن عن أبي عبد الله عليه السلام
أقول: والوجب أولا نقل ما وصل إلي من الأخبار في المسألة المذكورة،
ثم الكلام فيها بما وفق الله سبحانه لفهمه منها، فمن ذلك ما رواه في الكافي
والتهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) في الصحيح " قال: سألني أبو عبد الله عليه السلام

(1) الكافي ج 7 ص 26 ح 1، التهذيب ج 9 ص 217 ح 854، الوسائل
ج 13 ص 423 ح 5.
535

هل يختلف ابن أبي ليلى وابن شبرمة؟ فقلت: بلغني أنه مات مولى لعيسى بن موسى
وترك عليه دينا كثيرا وترك مماليك يحيط دينه بأثمانهم فأعتقهم عند الموت
فسألهما عيسى بن موسى عن ذلك، فقال ابن شبرمة: أرى أن يستسعيهم في
قيمتهم، فتدفعها إلى الغرماء، فإنه قد أعتقهم عند موته، وقال ابن أبي ليلى:
أرى أن أبيعهم وأدفع أثمانهم إلى الغرماء، فإنه ليس له أن يعتقهم عند موته،
وعليه دين يحيط بهم، وهذا أهل الحجاز اليوم يعتق الرجل عبده وعليه دين
كثير، فلا يجيزون عتقه إذا كان عليه دين كثير، فرفع ابن شبرمة يده إلى السماء
فقال: سبحان الله يا ابن أبي ليلى متى قلت هذا القول؟ والله ما قلته إلا طلب
خلافي، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فعن رأي أيهما صدر الرجل؟ قال: قلت: بلغني
أنه أخذ برأي ابن أبي ليلى، وكان له هوى في ذلك، فباعهم وقضى دينه، قال:
فمع أيهما من قبلكم، قلت له: مع ابن شبرمة، وقد رجع ابن أبي ليلى إلى
رأي ابن شبرمة بعد ذلك، أما والله إن الحق لفي الذي قال ابن أبي ليلى وإن
كان قد رجع عنه، قلت: هذا ينكسر عندهم في القياس فقال: هات قايسني
فقلت: أنا أقايسك؟ فقال: لتقولن بأشد ما يدخل فيه من القياس، فقلت له:
رجل ترك عبدا لم يترك مالا غيره، وقيمة العبد ستمائة درهم، ودينه خمسمائة
درهم فأعتقه عند الموت، كيف يصنع؟ قال: يباع العبد ويأخذ الغرماء خمسمائة
درهم، ويأخذ الورثة مائة درهم، فقلت: أليس قد بقي من قيمته العبد مائة درهم
عن دينه؟ فقال: بلى، فقلت: أليس للرجل ثلثه يصنع به ما شاء، قال: بلى،
قلت: أليس قد أوصى للعبد بالثلث من المائة حين أعتقه، فقال: إن العبد لا وصية
له، إنما ماله لمواليه، فقلت له: فإذا كان قيمة العبد ستمائة درهم، ودينه
أربعمائة، قال: كذلك يباع العبد، فيأخذ الغرماء أربعمائة درهم، ويأخذ الورثة
مائتين، فلا يكون للعبد شئ قلت له: فإن قيمة العبد ستمائة درهم ودينه
ثلاثمائة درهم فضحك وقال: من هاهنا أتى أصحابك فجعلوا الأشياء شيئا واحدا،
536

ولم يعملوا السنة، إذا استوى مال الغرماء ومال الورثة أو كان مال الورثة أكثر
من مال الغرماء لم يتهم الرجل على الوصية، وأجيزت وصيته على وجهها،
فالآن يوقف هذا، فيكون نصفه للغرماء ويكون ثلثه للورثة، ويكون له
السدس "
وما رواه في الكافي عن زرارة (1) في الحسن أو الصحيح عن أحدهما عليهما السلام
في رجل أعتق مملوكه عند موته، وعليه دين، قال: إن كان قيمته مثل الدين
الذي عليه ومثله، جاز عتقه، وإلا لم يجز ".
ورواه الشيخ في التهذيب في الصحيح أو الحسن عن زرارة الحديث مقطوعا،
ورواه في الفقيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام مثله.
وما رواه في التهذيب عن حفص بن البختري (2) في الصحيح " عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: إذا ملك المملوك سدسه استسعى وأجيز ".
قال في الوافي: لعل الحكم مختص بما إذا كان العتق عند الموت أو بعده
وكان على مولاه دين كما يظهر من سائر أخبار الباب وإلا يلزم تقييد أخبار
السراية الماضية كلها بذلك، وهو مشكل، انتهى.
وما رواه في التهذيب عن زرارة (3) في الصحيح " عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
إذا ترك الدين عليه ومثله أعتق المملوك واستسعى ".
وما رواه في الكافي عن الحسن بن الجهم (4) في الموثق " قال: سمعت
أبا الحسن عليه السلام يقول: في رجل أعتق مملوكا له وقد حضره الموت، وأشهد له
بذلك وقيمته ستمائة درهم، وعليه دين ثلاثمائة درهم ولم يترك شيئا " غيره، قال:

(1) الكافي ج 7 ص 27 ح 2، التهذيب ج 9 ص 218 ح 856، الفقيه
ج 4 ص 166 ح 580.
(2) التهذيب ج 9 ص 169 ح 689 و 688.
(3) التهذيب ج 9 ص 169 ح 689 و 688.
(4) الكافي ج 7 ص 27 ح 3، التهذيب ج 9 ص 218 ح 855.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 425 ح 6 و ص 422 ح 1 و ح 2
و ص 423 ح 4.
537

يعتق منه سدسه، لأنه إنما له منه ثلاثمائة درهم، ويقضي منه ثلاثمائة درهم فله
من الثلاثمائة درهم ثلثها وله السدس من الجميع و رواه الشيخ في التهذيب
مثله، " إلا أن الذي فيه " لأنه إنما له منه ثلاثمائة و له السدس من الجميع " وما
بينهما لم يذكره.
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن الحلبي (1) في الصحيح " عن أبي
عبد الله عليه السلام أنه قال: في الرجل يقول: إن مت فعبدي حر وعلى الرجل دين قال:
إن توفي وعليه دين قد أحاط بثمن العبد بيع العبد، وإن لم يكن أحاط بثمن
العبد استسعى العبد في قضاء دين مولاه، وهو حر إذا وفاه ".
والشيخ في التهذيبين قيده بما إذا كان الدين أنقص من ثمن العبد بمقدار
النصف جمعا بينه وبين الأخبار المذكورة قبله.
أقول: وتحقيق الكلام في المقام هنا يقع في موضعين: الأول: لا يخفى
أنه من القواعد المقررة بينهم كما تقدم ذكره أن الوصية المتبرع بها إنما تنفذ
من ثلث المال، وأن الدين يقدم أولا "، ثم تعتبر الوصية من ثلث ما بقي بعد الدين،
وأن المنجزات المتبرع بها في مرض الموت بحكم الوصية في خروجها من الثلث
عند الأكثر، ولا ريب أن العتق من جملة التبرعات.
وعلى هذا فإذا أوصى بعتق مملوكه تبرعا " أو أعتقه منجزا " بناء على أن
المنجزات من الثلث، وكان عليه دين، فإن كان الدين يحيط بالتركة بطل العتق
والوصية به، وهو مما لا خلاف فيه، ولا اشكال نصا " وفتوى، وإن فضل من التركة
فضل بعد الدين وإن قل، فمقتضى القواعد المذكورة صرف ثلث الفاضل في الوصايا
فيعتق من العبد بحساب ما يبقى من الثلث، ويسعى في باقي قيمته سواء كانت
قيمته بقدر الدين مرتين أو أقل، لأن العتق تبرع محض، فيخرج من الثلث
والمعتبر منه ثلث ما يبقى من المال بعد الدين على تقديره، كغيره من التبرعات.

(1) التهذيب ج 9 ص 218 ح 857، الفقيه ج 3 ص 70 ح 22، الوسائل
ج 13 ص 423 ح 3.
538

وبهذا قال جماعة من الأصحاب، بل أكثر المتأخرين كما ذكره في المسالك،
ومنهم العلامة في المختلف وابن إدريس على ما ذكره من التردد، والمحقق بالنسبة
إلى الوصية والقول الثاني وهو أنه إنما يصح العتق إذا كانت قيمته ضعفي الدين،
وسعى في خمسة أسداس قيمته، ثلاثة للديان وسهمان للورثة للشيخ المفيد
والشيخ في النهاية والقاضي استنادا " إلى ما قدمناه من الروايات الصحيحة الصريحة
في ذلك، والأصحاب لم يوردوا منها إلا صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، فمنهم
من وقف عليها، وخص الحكم بتنجيز العتق، كما هو مورد الرواية دون الوصية،
وقوفا " فيما خالف الأصل على مورده.
ومنهم من رده، وطرحها لمخالفتها للرواية الدالة على تلك القواعد،
قال: في المسالك بعد ذكر صحيحة عبد الرحمن: وروي عن زرارة في الحسن
مثله، إلا أن الرواية به مقطوعة، فلذا لم يذكرها المصنف هنا، واقتصر على
رواية عبد الرحمن لصحتها.
أقول: عذره في ذلك واضح، وهو أنه اقتصر على مراجعة التهذيب وهي في
بعض مواضعه كما ذكره حسبما قدمنا ذكره، وإلا فهي في الكافي بسنده إلى
الإمام عليه السلام ونحوها الروايات الأخر، وهي صريحة صحيحة، ولكنهم لم يقفوا
عليها، وبذلك يظهر لك أن الأظهر هو الوقوف عليها، والعمل بمقتضاها، وبها
تخصص أخبار تلك القواعد إن ثبتت.
نعم احتج القائلون بالقول الأول بصحيحة الحلبي المتقدمة، ولهذا إن
الشيخ تأولها بما قدمنا نقله عنه، جمعا " بين الأخبار وهو جيد.
أقول: ويمكن أن يقال: ولعله الأقرب العاري عن وصمة القيل والقال أن
ما ذكروه من الاشكال والمخالفة في هذه الروايات لمقتضى القواعد المقررة مبني
على أن المنجزات في حكم الوصية مخرجها الثلث، وإلا فلو قلنا بأن مخرجها
الأصل كما هو ظاهر كلام ابن إدريس المتقدم، وهو الحق الظاهر من الأخبار
539

كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في المسألة عند ذكرها، فلا اشكال بحمد الملك
المتعال، وعلى تقديره فالظاهر أنه لا يقيد بكون القيمة ضعف الدين أو غيره
وبالجملة فإنه يندفع بذلك ما ذكروه من الاشكال الذي أوردوه على هذه الروايات،
وإن بقي فيها اشكال من وجه آخر على هذا القول.
وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه والوقوف على مواردها حسب، هذا
بالنسبة إلى المنجزات.
وأما الوصية فلم يتعرضوا عليهم السلام لها في شئ من النصوص المذكورة، كما
سيظهر لك إن شاء الله تعالى وما حققناه يظهر لك صحة ما أشرنا إليه في غير موضع
مما تقدم أن الأظهر هو الوقوف في الأحكام على موارد الأخبار، ولا يلتفت إلى
ما يدعونه من القواعد في مقابلتها، فإن هذه القواعد غير معلومة، وإن دلت الأخبار
على بعض أفرادها ومع ثبوت كونها قواعد فالتخصيص فيها ممكن، لا منافاة فيه
الثاني: أن مورد الروايات المتقدمة هو العتق المنجز، وهو الذي صرح به
الشيخ المفيد ومن تبعه، والشيخ في النهاية ومن تبعه عدوا الحكم إلى الوصية
بالعتق.
قال في المسالك: ولعله نظر إلى تساويهما في الحكم وأولويته في غير
المنصوص، لأن بطلان العتق المنجز على تقدير القيمة عن ضعف الدين مع
قوة المنجز لكونه تصرفا من المالك في ماله، والخلاف في نفوذه من الأصل يقتضي
بطلانه في الأضعف، وهو الوصية بطريق أولى انتهى، ولا يخفى ما فيه.
وأورد أيضا " على الشيخ القائل بتعديها: بصحيحة عبد الرحمن إلى الوصية،
معارضتها فيها بصحيحة الحلبي المتقدمة، فإنها تدل باطلاقها على انعتاقه متى
زادت قيمته عن الدين، وهو الموافق لما تقرر من القواعد، فلا وجه لعمل الشيخ
بتلك الرواية مع عدم ورودها في مدعاه، واطراح هذه الرواية ومن الجائز
اختلاف حكم المنجز والموصى به في مثل ذلك كما اختلفا في كثير من الأحكام
540

على تقدير تسليم حكمها في المنجز، انتهى.
أقول: لا يخفى أن تلك الرواية وإن كانت غير ظاهرة في مدعى الشيخ كما
ذكره إلا أن صحيحة الحلبي المذكورة أيضا " لا تخلو من الطعن في متنها بما
لا يقولون به، فإنها دلت على أنه يستسعي العبد في دين مولاه، وأنه يكون حرا "
إذا وفاه، ولم يتعرض في الرواية لحق الورثة، مع أن لهم في قيمته مع زيادتها
عن الدين حقا، والروايات المتقدمة متفقة على أنه يستسعى في الدين وفي حق
الورثة.
وبذلك يظهر أن أن ما تدل عليه الرواية لا يقولون به، وما يقولون به
لا تدل عليه، ولو قيل: بأن الرواية وإن لم تدل عليه لكنه يضم إليها بدليل من
خارج، وتخصيص الأمر بوفاء الدين لا تنافيه.
قلنا، هذا إنما يتم لو كانت الرواية مطلقة، وأما مع النص فيها بأنه بأداء
الدين يكون حرا "، فهذا التقييد مناف لما دلت عليه، ومنه يعلم أن هذه الرواية
على ما هي عليه لا تصلح المعارضة الخبر المذكور، فكيف مع انضمام تلك الأخبار
الصحاح الصراح إليه، كما عرفت، فالأظهر حملها على ما قدمنا ذكره عن الشيخ
(رحمة الله عليه).
وقد تلخص ما ذكرناه أن الأقوال في العتق المنجز ثلاثة: الأول مذهب
الشيخ المفيد ومن تبعه، وهو توقف العتق على بلوغ قيمة العبد ضعف الدين وإلا
فهو باطل، وهذا مدلول الأخبار المتقدمة.
الثاني قول العلامة والمحقق ومن تبعهما، وهو أنه ينعتق من ثلث الباقي
كائنا، ما كان ولا يتقيد بضعف الدين، وفي هذا القول تقديم حق الديان من ثلث
الباقي، ويستسعى فيما يخص الديان، والوارث بالنسبة، مثلا لو كانت قيمته ثلاثمائة
درهم، وعلى المولى من الدين مائتا درهم، فإنه يكون للديان منه مائتان،
تبقى مائه له ثلثها، وهي ثلاثة وثلاثون وثلث، وثلثاها للورثة، وهذه الثلاثة
541

والثلاثون وثلث تسع الثلاثمائة، فعلى هذا ينعتق منه التسع، ويسعى في ستة
أتساع للديان، وفي تسعين للورثة، وحجة هذا القول كما عرفت صحيحة الحلبي،
وقد عرفت ضعفها عن المعارضة متنا وعددا.
الثالث قول ابن إدريس وهو تنفيذ العتق من الأصل وسقوط الدين،
وهذا القول وإن كان جيدا بالنظر إلى الأخبار الدالة على أنه منجزات المريض
من الأصل كما سنتلوها عليك إن شاء ا لله تعالى بعد ذكر المسألة، أعني مسألة
العتق منجزا " مع الدين، يجب الوقوف فيها على هذه الروايات، لأنها أخص من
تلك، والقاعدة تقتضي تقديم الخاص والعمل به، والله العالم.
السابعة: لا خلاف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) في صحة الوصية لأم الولد،
ولا خلاف أيضا في انعتاقها على ولدها من حصته بعد موت سيدها، ولم يوص لها
بشئ، وإنما الخلاف فيما إذا أوصى لها بشئ فهل يعتق مما أوصى لها به أو من
نصيب الولد أو من غيرهما؟ أقوال أربعة.
أحدها ما ذهب إليه الشيخ في النهاية من أنها تعتق من نصيب ولدها على
تقدير وفاء نصيب ولدها بقيمتها، ويعطى ما أوصى لها به، وهو مذهب المحقق في
نكت النهاية ونقل عن العلامة في المختلف، وعلل ذلك أن التركة تنتقل من حين
الموت إلى الوارث، لعدم صلاحية الميت للتملك، وعدم انتقالها للديان، والموصى
لهم اجماعا، وعدم بقائها بغير مالك، فتعين الوراث، وحينئذ فيستقر ملك ولدها
على جزء من أمه، لأنها من التركة، فتعبق عليه، وتستحق الوصية.
وثانيها أنها تعتق من الوصية، فإن فضل منها شئ عتق من نصيب ولدها،
وهو مذهب ابن إدريس، والمحقق في باب الاستيلاد من الشرايع، وفي هذا
الباب تردد بين القولين المذكورين، ووجه القول بكونها تعتق من الوصية، لا من
نصيب ابنها استنادا " إلى أن الإرث مؤخر عن الدين، والوصية بمقتضى الآية (1)

(1) سورة النساء الآية 11.
542

" من بعد وصية يوصى بها أو دين " فلا يحكم لابنها بشئ حتى أنه يحكم لها
بالوصية، فإن وقت الوصية بقيمتها أعتقت كملا، وإن قصرت أكملت من نصيب
ولدها، وأورد عليه بأن المراد بالآيات استقرار الملك بعد المذكورات، بمعنى
أنه لا يملك الوارث ملكا " مستقرا إلا بعد الوصية بالدين، وإلا فاللازم من ذلك
بقاء التركة من غير مالك، لما عرفت من أن الميت غير صالح للملك، والديان
والموصى إليه لا يملك، فلم يبق إلا الوارث، أو صيرورة التركة بغير مالك،
والثاني ممتنع، فتعين الأول.
وثالثها أنها تنعتق من ثلث الميت، وتأخذ الوصية، وهو مذهب الشيخ
أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه نقله شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد، واستدل
له بصحيحة أبي عبيدة الآتية عن أبي عبد الله عليه السلام.
ورابعها أنها تعتق من الوصية أو نصيب الولد، وتعطى بقية الوصية وهو،
مذهب ابن الجنيد. والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام ما رواه المشايخ الثلاثة (رحمهم الله)
في الصحيح عن أبي عبيدة (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل كانت له أم
ولد وله منها غلام فلما حضرته الوفاة أوصى لها بألفي درهم أو بأكثر للورثة أن
يسترقوها، قال: فقال: لا، بل تعتق من ثلث الميت، وتعطى ما أوصى لها به " وزاد
في الكافي والتهذيب وفي كتاب العباس " يعتق من نصيب ابنها، وتعطى من ثلثه
ما أوصى لها به ".
وشيخنا الشهيد في شرح الإرشاد روى عن الشيخ (رحمة الله عليه) في
التهذيب عن أحمد بن محمد عن علي بن محبوب عن جميل بن صالح عن أبي
عبيدة (2) " عن أبي الحسن عليه السلام في رجل أوصى لأم ولده بألفي درهم فقال: يعتق

(1) الكافي ج 7 ص 29 ح 4، التهذيب ج 9 ص 224 ح 880 عن جميل بن صالح
الفقيه ج 4 ص 160 ح 559، الوسائل ج 13 ص 470 ح 4
(2) لم نعثر عليه في التهذيب بهذا السند.
543

من ثلث الميت ويعطى ما أوصى لها به " وفي كتاب العباس إلى آخر ما تقدم، ولم
أقف على هذه الرواية في الوافي، ولا في الوسائل فيحتاج إلى مراجعة التهذيب
وظاهره أن هذا خبر آخر غير خبر أبي عبيدة المروني عن أبي عبد الله عليه السلام، فإنه
جعل هذا الخبر المروي عن أبي الحسن عليه السلام دليلا للقول الأول، والخبر المروي
عن أبي عبد الله عليه السلام دليلا للقول الثالث، والظاهر تغاير الخبرين، فإن المروي
عنه في أحدهما غير الأولى والمتن مختلف أيضا ". فيكونان خبرين، فينبغي
الملاحظة، لأني لم أقف على من نقله غيره، ومدلولهما أنها تعتق من الثلث،
وتعطى ما أوصى لها به.
ونحوهما أيضا " ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (1) " قال: نسخت من كتاب بخط أبي الحسن عليه السلام فلان مولاك توفي ابن
أخ له، وترك أم ولد له، ليس لها ولد، فأوصى لها بألف هل تجوز الوصية؟
وهل يقع عليها عتق وما حالها؟ رأيك فدتك نفسي في ذلك، فكتب عليه السلام يعتق
من الثلث، ولها الوصية " واستدل في المختلف لابن بابويه أيضا زيادة على صحيحة
أبي عبيدة الأولى ووجه الاشكال فيها هو أن العتق من الثلث هنا، لا يظهر له
وجه، ولهذا إن العلامة حمل الخبرين على ما إذا أوصى بعتقها، وحملها آخر
على ما لو كان نصيب ولدها بقدر الثلث، ولا يخفى ما فيه.
وبالجملة فهذان الخبران ظاهران فيما ذهب إليه الصدوق، وأن الاشكال
فيها بما عرفت ظاهر.
نعم ما نقل من كتاب العباس من رواية الخبر بهذه الكيفية ظاهر في الدلالة
على القول الأول، وظاهر شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد الميل إلى مذهب الشيخ
في النهاية، قال: والأقرب اختيار الشيخ، لبناء العتق على التغليب والسراية،
ولهذا لو لم يكن ثمة وصية ولا مال للميت سواها عتق منها بنصيب ولدها، وسعت

(1) الكافي ج 7 ص 29 ح 1، التهذيب ج 9 ص 224 ح 877، الفقيه
ج 4 ص 160 ح 560، الوسائل ج 13 ص 469 ح 1.
544

في الباقي لبقية الورثة.
وشيخنا في المسالك طعن في رواية كتاب العباس بأنها بمجرد وجودها في
الكتاب المذكور لا يتم الاستدلال، ولو صح السند، ثم قال: ورواية أبي عبيدة
مشكلة، على ظاهرها، لأنها إذا أعطيت الوصية لا وجه لعتقها من ثلثه، لأنها
حينئذ تعتق من نصيب ولدها كما ذكر في الحملين المتقدمين، وقال: كلامها بعيد،
إلا أن الحكم فيها باعطائها الوصية كاف في المطلوب إذ عتقها من نصيب ولدها
يستقاد من دليل خارج صحيح، ويبقى ما نقل عن كتاب أبي العباس شاهدا " على
المدعى، ولعل هذا أجود، انتهى.
والمسألة لا تخلو من شوب الاشكال لما عرفت، وإن كان ما استجوده شيخنا
المذكور لا تخلو من قرب، وملخصه أن أقصى ما يمكن العمل به من هذه الأخبار
هو أعطاها ما أوصى لها به، فتعطي في ذلك، وأما عتقها فيرجع فيه إلى الأخبار
الأخر الدالة على انعتاق أم الولد على ولدها من نصيبه بعد موت المولى، وكل
من الأمرين المذكورين حق مطابق للقواعد الشرعية.
وأما اعتبار الثلث فلا يظهر له هنا وجيه يترتب عليه العتق وهو ظاهر،
والله العالم ".
الثامنة: قد صرح الأصحاب بأن اطلاق الوصية يقتضي التسوية، فإذا
أوصى لأولاده أو لإخوانه وأخواته وأخواله وخالاته وأعمامه وعماته، فإن الجميع
أسوة في الوصية، ولا خلاف في ذلك إلا في صورة الوصية لأعمامه وأخواله.
وعلل الأول بأن نسبة الوصية إليهم على السواء، وليس في كلام الموصي
ما يدل على التفضل، وحينئذ فلا فرق بين الذكر منهم والأنثى، ولا الصغير ولا
الكبير، ولا الأعمام ولا الأخوال، لما ذكرنا واختلافهم في استحقاق الإرث أمر
خارج، بدليل من خارج، فلا يقاس عليه، ما يقتضي التسوية بمجرده، إلا أن
الخلاف هنا وقع فيما لو أوصى لأعمامه وأخواله، فإن الشيخ وجماعة ذهبوا إلى
545

أن للأعمام الثلثين، وللأخوال الثلث، استنادا " إلى ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم
وفيها الصحيح والحسن والموثق عن زرارة (1) " عن أبي جعفر عليه السلام في رجل أوصى
بثلث ماله في أعمامه وأخواله، فقال: لأعمامه الثلثان، ولأخواله الثلث ".
وإلى هذه الرواية أشار في الشرايع بأنها مهجورة، قال: ولو أوصى إلى
أعمامه وأخواله كانوا سواء على الأصح، وفيه رواية مهجورة، وحملت على ما
لو أوصى على كتاب الله، وعلى ذلك حملها غيره أيضا "، ولا يخفى ما فيه من البعد.
ويؤيد الخبر المذكور أيضا " ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم)
عن سهل (2) عن أبي محمد عليه السلام في حديث " قال: وكتبت إليه: رجل له ولد
ذكور وإناث فأقر لهم بضيعة أنها لولده، ولم يذكر أنها بينهم على سهام الله
عز وجل وفرائضه، الذكر والأنثى فيه سواء؟ فوقع عليه ينفذون فيها وصية
أبيهم على ما سمي، فإن لم يكن سمي شيئا " ردوها إلى كتاب الله عز وجل إن شاء الله
تعالى " والظاهر أنه إلى هذه الرواية أشار في المسالك بقوله، وفي رواية أخرى
ضعيفة، يقتضي قسمة الوصية بين الأولاد الذكور والإناث على كتاب الله، وهي
مع ضعفها لم يعمل بها أحد.
أقول: أشار بالضعف فيها إلى كون الراوي لها سهل بن زياد، وهو ضعيف.
وفيه أولا " أن ضعفها بهذا الاصطلاح المحدث لا يقتضي ضعفها عند المتقدمين
الذين لا أثر عندهم لهذا الاصطلاح، فلا ضير فيه، وإن أراد عدم العمل به من
المتقدمين، فإن مقتضى ما حرر الصدوق في صدر كتابه كونه عاملا " بها، حيث
نقلها ولم يتعرض للطعن فيها ولا ردها، وقد اشتهر بينهم نسبة المذاهب إليه في
الفقيه بذلك، وثالثا " أنه لا يخفى على المنصف أن الأحكام الشرعية توقيفية، لا مسرح
للعقول فيها على السماع والورود من صاحب الشرع، ورد الأخبار بعد ورودها

(1) الكافي ج 7 ص 45 ح 3 و 1، التهذيب ج 9 ص 214 ح 845 و 846 الوسائل ج 13 ص 454 لباب 62 و ص 355 ح 2.
(2) الكافي ج 7 ص 45 ح 3 و 1، التهذيب ج 9 ص 214 ح 845 و 846 الوسائل ج 13 ص 454 لباب 62 و ص 355 ح 2.
546

من غير معارض لها من الأخبار بل بمجرد هذه الاعتبارات العقلية والتعليلات
التخريجية لا يخلو من الجرأة على صاحب الشريعة.
نعم لو كان هنا نص يدل إلى ما ادعوه من أن الاطلاق يقتضي التسوية لتم
ما ذكروه، ووجب التأويل فيما عرضه، ولكن ليس الأمر كذلك.
وبالجملة، فإنه يجب العمل بما دلت عليه النصوص المذكورة، وفيما خرج
عن موضع النصوص اشكال، والأقرب أنه كذلك أيضا "، لأن الظاهر أن ذكر
الأعمام والأخوال في الصحيحة المتقدمة إنما خرج مخرج التمثيل، ويؤيده أن
ظاهر الثانية كون ذلك قاعدة كلية، وهو أنه إن سمي وعين التسوية أو التفصيل
اتبع، وإن أطلق رد إلى كتاب الله عز وجل، ولكن الألف بالمشهورات ولا سيما
إذا زخرفت بالاجماعات ربما أوجب طرح الروايات كما في هذا الموضع وغيره،
والله العالم.
التاسعة: لو أوصى لذوي قرابته أو لأهل بيته أو عشيرته أو قومه أو جيرانه،
فإنه يجب الرجوع فيه إلى معاني هذه الألفاظ، وما ينصرف إليه اطلاقها.
فنقول أما لفظة القرابة فقد اختلف كلام أصحابنا، بل الواحد منهم في
تحقيق معناه المراد منه لعدم النص الوارد منه في ذلك، والأكثر منهم على الرجوع
فيه إلى العرف.
قالوا: لأنه المحكم في مثل ذلك حيث لا نص، ومرجعه إلى المعروفين بنسبته
عادة، سواء في ذلك الوارث وغيره، وقيل: لمن يتقرب إليه إلى آخر أب أو أم له
في الاسلام.
فقال الشيخ في النهاية إذا أوصى لقرابته كان ذلك في جميع ذوي نسبته
الراجعين إلى آخر أب أو أم في الاسلام بالتسوية، وكذا قال الشيخ المفيد، إلا أنه
قال: ولا يرجع على من يتعلق بمن نأى عنهم في الجاهلية.
وقال في الخلاف إذا أوصى بثلثه لقرابته فمن أصحابنا من قال: يدخل فيه
547

كل من تقرب إليه إلى آخر أب وأم في الاسلام، واختلف الناس في القرابة.
فقال الشافعي: إذا أوصى بثلثه لقرابته ولأقربائه ولذي رحمه، فالحكم واحد،
فإنه ينصرف إلى المعروفين من أقاربه في العرف، فيدخل فيه كل من يعرف في
العادة أنه من قرابته، سواء كان وارثا " أو غير وارث، قال: وهذا قريب يقوى
في نفسي، وليس لأصحابنا فيها نص عن الأئمة عليهم السلام
وقال في المبسوط: قال قوم: إن هذه الوصية للمعروفين من أقاربه في العرف
فيدخل فيه كل من يعرف في العادة أنه من قرابته، سواء كان وارثا " أو غير وارث
وهو الذي يقوى في نفسي، وقال قوم: إنه يدخل فيه كل ذي رحم محرم، وأما
من ليس بمحرم له فإنه لا يدخل فيه، وإن كان له رحم مثل بني الأعمام أو
غيرهم، وقال قوم: إنها للوارث من الأقارب، وأما من ليس بوارث فإنه لا يدخل
فيه، والأول أقوى، لأن العرف يشهد به، وينبغي أن يصرف في جميعهم، وفي
أصحابنا من قال: إنه يصرف ذلك إلى آخر أب وأم له في الاسلام، ولم أجد به
نصا " ولا عليه دليلا " مستخرجا " ولا به شاهدا ".
وقال ابن الجنيد: ومن جعل وصية لقرابته وذوي رحمه غير مسمين كان
لمن تقرب إليه من جهة ولده أو والديه، ولا اختار أن يتجاوز بالتفرقة ولد الأب
الرابع، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يتجاوز ذلك في تفرقه سهم
ذوي القربى من الخمس.
وابن إدريس في هذه المسألة اختار ما ذهب إليه الشيخ في الخلاف والمبسوط
وكذا ابن البراج، وهو المشهور في كلام المتأخرين.
قال في المختلف: والمعتمد قول الشيخ في المبسوط والخلاف، حملا للفظ
على المعنى العرفي عند تجرده عن الوضع الشرعي، كما هو عادة الشرع في ذلك
والقول الذي اختاره في النهاية قد اعترف في المبسوط بأنه لم يجد عليه نصا "
ولا عليه دليلا " ولا به شاهدا "، وكفى به حجة على نفسه.
548

والمراد من هذا القول الارتقاء بالقرابة بالأدنى إلى ما قبله، وهكذا إلى
أبعد جد وجدة له في الاسلام، وفروعهما، ويحكم للجميع بالقرابة، ولا يرتقي
إلى آباء الشرك وإن عرفوا بقرابته، وربما استدل على التخصيص بالاسلام والانقطاع
بالكفر بقوله (صلى الله عليه وآله) (1) " قطع الاسلام أرحام الجاهلية "،
وقوله عز وجل لنوح في حق ابنه (2) " إنه ليس من أهلك " ولا دلالة في ذلك
على مطلوب الشيخ، لأن قطع الرحم للجاهلية لا يدل على قطع القرابة مطلقا "،
مع أصناف الكفار، وكذا قطع الأهلية في ابن نوح، والعرف واللغة يشهدان
بأن من بعد جدا " كالأجداد البعيدة لا يدخل في القرابة، وإن كان مسلما "، ومن
قرب جدا " دخل وإن كان كافرا " إلا أن تدل القرينة على إرادة المسلم.
ولم أقف في هذا المقام على شئ من الأخبار إلا على ما رواه الشيخ في
الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (3) " قال: نسخت من كتاب بخط أبي
الحسن عليه السلام رجل أصيب لقرابته بألف درهم وله قرابة من قبل أبيه وأمه ما حد
القرابة يعطى من كان بينه وبينه قرابة؟ أو لها حد ينتهى إليه رأيك فدتك نفسي؟
فكتب عليه السلام: إن لم يسم أعطاها قرابته "، وهذا لجواب وإن كان لا يخلو من نوع
اجمال، إلا أن الظاهر أن المعنى فيه أنه لم يسم شخصا " بعينه ولا صنفا " بعينه،
فإنه يعطى من شملته القرابة عرفا "، وفيه تأييد للمعنى المشهور حينئذ.
وأما ما ذهب إليه ابن الجنيد فقيل عليه إن ما ذكره من عدم تجاوز الرابع
غير لازم، وفعل النبي (صلى الله عليه وآله) بالخمس ذلك، لا يدل على نفي
القرابة مطلقا " عما عداه ذلك: فإن ذلك معنى آخر للقربى، فلا يلزم ذلك في
حق غيره، حيث يطلق.
وكيف كان فإنه يدخل فيه الذكر والأنثى، والقير والغني، والوارث

(1) مسالك الأفهام ج 1 ص 409 وما عثرنا على هذه الرواية بعد الفحص في مظانه.
(2) سورة هود الآية 46.
(3) التهذيب ج 9 ص 215 ح 748، الوسائل ج 13 ص 459 الباب 68.
549

وغيره، والقريب والبعيد، ولا فرق بين قوله أوصيت لأقاربي، أو قرابتي: أو لذوي
قرابتي أو لذوي رحمي، لأن مرجع الجميع إلى معنى واحد.
وأما أهل بيته فقد قال المحقق في الشرايع: لو قال لأهل بيته دخل فيه
الآباء والأولاد ولأجداد.
قال شيخنا في المسالك بعد ذكر ذلك: لا اشكال في دخول من ذكر،
لاتفاق أهل التفاسير على ذلك، إنما الكلام في دخول غيرهم، فإن الاقتصار على
ما ذكر يقتضي كون علي عليه السلام ليس من أهل البيت لخروجه عن الأصناف الثلاثة
مع أنه داخل اجماعا.
وقال العلامة: يدخل فيهم الآباء والأجداد والأعمام والأخوال وأولادهم
وأولاد الأولاد الذكر والأنثى، ثم قال: وبالجملة كل من يعرف بقرابته، وهذا
يقتضي كون أهل بيته بمنزلة قرابته، وحكي عن تغلب أنه قال: أهل البيت عند
العرب آباء الرجل وأولادهم، كالأجداد والأعمام وأولادهم، ويستوي فيه
الذكور والإناث، وما اختاره العلامة من مساواة أهل البيت للقرابة، هو الظاهر
في الاستعمال، يقال: الفلانيون أهل بيت في النسب، معروفون، وعليه جرى
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) " إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة "، والأقوى
الرجوع إلى عرف ببلد الموصي، ومع انتفائه يدخل كل قريب: وأما أهل بيت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنهم أخص من ذلك بالرواية الواردة عنه
(صلى الله عليه وآله وسلم) في حصرهم في أهل الكساء، انتهى كلامه، زيد مقامه
وعلت في الخلد أقدامه.
أقول: قال الفقيه محمد بن طلحة الشافعي في كتاب مطالب السؤال في
مناقب آل الرسول في بيان معاني الآل وأهل البيت والعترة ما صورته: وأما
اللفظة الثانية وهي أهل البيت فقد قيل: هم من ناسبه إلى جده الأدنى، وقيل:

(1) الوسائل ج 6 ص 187 الباب 29 ح 6.
550

من اجتمع معه في رحم، وقيل: من اتصل به بسبب أو نسب، وهذه كلها موجودة
فيهم عليهم السلام فإنهم يرجعون إلى جده عبد المطلب بنسبهم، ويجتمعون معه في رحم
ويتصلون به بسببهم ونسبهم، فهم أهل بيته حقيقة، ثم روى حديثا " من صحيح
مسلم (1) عن زيد بن أرقم، وفيه: فقال له حصين: من أهل بيته يا زيد؟ نسائه
أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرمت عليه الصدقة بعده.
أقول: والمعنى الثاني والثالث مما ذكره ابن طلحة قريب من معنى القرابة
المشهور، ويؤيده ما ذكره في كتاب المصباح المنير قال: وأهل الرجل يأهل ويأهل
أهولا " إذا تزوج، وتأهل كذلك، ويطلق الأهل على الزوجة، والأهل أهل البيت
والأصل فيه القرابة، وقد أطلق على الأتباع، انتهى، وهو ظاهر في أن الأصل
اطلاق أهل البيت على قرابة الرجل، وقد أطلق على أتباعه، وإن لم يكن من
قرابته، وبالجملة فما نقل عن العلامة لا يخلو من قرب.
وكيف كان فالظاهر أن معاني هذه الألفاظ أعني أهل البيت والآل والعترة
ونحوها بالنسبة إلى اطلاقها على أهل بيته (صلى الله عليه وآله) وعترته
أخص مما هو المشهور من معانيها عرفا " أو لغة، ولتحقيق ذلك مقام آخر، وأما
معاني باقي الألفاظ المتقدمة فقد تقدم تحقيق الكلام فيها في كتاب الوقف، وهذان
اللفظان حيث لم يتقدم لهما ذكر تعرضنا للكلام فيهما، والله العالم.
العاشرة: الظاهر أنه لا خلاف في أنه تصح الوصية للحمل الموجود حين
الوصية، وإن لم تحله الحياة، لكن يكون ذلك مراعى بوضعه حيا "، فتصح
بمجرد وجوده وإن كان استقرارها مشروطا " بوضعه حيا، فلو وضعته ميتا " بطلت
الوصية، وإن كان حال الوصية حيا " في بطن أمه، كما أنها تصح بوضعه حيا " وإن لم يكن حال الوصية حيا " ولم تلجه الروح، ومعنى استقرارها تحقق صحتها
من حين موت الموصي، ومع وضعه ميتا " يتبين البطلان من ذلك الوقت، وحينئذ

(1) مسند أحمد ج 4 ص 367.
551

فالنماء المتخلل بين الولادة وموت الموصي يتبع العين، ولم أقف في هذا المقام
على نص، غير أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على ما ذكرناه، فإنه لم ينقل هنا
خلاف في شئ من هذه الأحكام.
وإذا استقرت الوصية بولادته حيا " لا يقدح فيها موته بعد ذلك، بل ينتقل
إلى ورثته، وهو ظاهر، إلا أن ظاهر كلامهم اشتراط القبول من الوارث، بل
صرح في المسالك أيضا " باشتراط القبول في الحمل، فأوجب القبول على وليه، قال
في الكتاب المذكور بعد أن ذكر أن الوصية تنتقل إلى الوارث لو مات بعد ولادته
حيا " ما صورته: لكن يعتبر هنا قبول الوارث لامكانه في حقه، وإنما أسقطنا
اعتباره عن الحمل لتعذره كما سقط اعتباره في الوصية للجهات العامة، ووجه
سقوطه عن الوارث تلقيه الملك عن المولود المالك لها بدون القبول، ثم قال:
والمتجه اعتبار القبول في الوصية للحمل مطلقا، فيقبل وليه ابتداء، ووارثه هنا و
تظهر الفائدة فيما لو ردها قبل قبوله، فإن اعتبرناه بطلت، وإلا فلا أثر للرد انتهى
أقول: قد تقدم القول في تحقيق اشتراط القبول في الوصية لمعين وعدمه،
وبينا أنه لا دليل على ما ذكروه من الاشتراط، بل ظواهر جملة من النصوص
العدم، تقدم ذلك في المسألة الثانية من المقصد الأول في الوصية (1) وكذا في
المسألة الخامسة والسادسة من المقصد المذكور، وأشرنا أيضا " إلى أن ما ادعوه
وإن اشتهر بينهم من أن الوصية عقد تفتقر إلى الإيجاب والقبول مما لم يقم
عليه دليل، كما تقدم ذكره في المسألة الأولى من مسائل المقصد المشار إليه.
وبالجملة فإنه ليس في هذه المواضع ما يمكن الاعتماد عليه من الأدلة
الشرعية، سوى مجرد كلامهم وتعليلاتهم، ومن أراد تحقيق الحال يرجع إلى
المسائل المذكورة، ثم إن في حكمه أولا " بأن الحمل من قبيل الجهات العامة،
فلا تتوقف الوصية له على القبول، ثم رجوعه عن ذلك في الحمل فحكمه بأنه

(1) ص 387.
552

يقبل وليه، لقائل أن يقول: أنه كما أن للحمل ولي، فكذا الجهات العامة لها ولي
وهو الحاكم، فلم جوزت الوصية لها من غير اشتراط القبول؟ ولم لا توجب أن
يقبل لها الحاكم، لأنه وليها، والفرق بين مسئلتي الحمل والجهات العامة مع
وجود الولي لكل منهما غير ظاهر، كما لا يخفى، وبالجملة فإن البناء إذا كان
على غير أساس حصل فيه الانعكاس، وذكر فيه الالتباس.
بقي هنا شئ وهو أن القبول المشترط هنا هل يشترط فيه القبول اللفظي أو
يكفي فيه القبول الفعلي، والرضاء بذلك؟ صرح العلامة في المختلف في هذه المسألة
بالثاني، وهو جيد وقد تقدمت الإشارة إليه في المسائل المتقدم ذكرها أيضا "،
والله العالم.
الحادية عشر: المشهور أن الموصى له إذا مات قبل الموصي ولم يرجع
الموصي عن وصيته فإن الوصية تنتقل إلى ورثة الموصى له، قال شيخنا المفيد
(عطر الله مرقده) إذا أوصى الانسان لغيره بشئ من خاله فمات الوصي له قبل
الموصي بذلك كان ما أوصى به راجعا " إلى ورثته، فإن لم يكن له ورثة رجع إلى
مال الموصي، إلى أن قال: ولصاحب الوصية إذا مات الموصى له قبله أن يرجع
فيما أوصى له به، فإن لم يرجع فهو لخلف الموصى له، ورواه ابن بابويه في كتابه
وهو مذهب مشهور للأصحاب، انتهى.
وقال ابن الجنيد: ولو كانت الوصية لأقوام بعينهم مذكورين مشارا إليهم
كالذي يقول لولد فلان، وهؤلاء، فإن ولد فلان غيرهم لم يدخل في الوصية، ولو
مات أحدهم قبل موت الموصي بطل سهمه.
قال العلامة في المختلف بعد نقل كلام ابن الجنيد: ولا بأس بهذا القول
عندي، لأن الوصية عقد يفتقر إلى ايجاب وقبول، وقد بينا أن القبول المعتد به
هو الذي يقع بعد الوفاة، فصار الموت حينئذ لا عبرة به، انتهى.
553

وتدل على المشهور وهو المؤيد المنصور صحيحة محمد بن قيس (1)
وقد تقدمت في المسألة الخامسة من مسائل المقصد الأول، وتقدم أيضا " ذكر
ما استند إليه العلامة في القول بالبطلان هنا وهو صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم (2)
وموثقة منصور بن حازم، وقد حققنا الكلام في المقام ثمة بما لا مزيد عليه.
والفرق بين ما ذكرنا في المسألة السابعة وما ذكر هنا أن مطرح البحث في
المسألة السابعة هو أن الوارث هل يرث القبول لو مات الموصى له قبل الموصي
ولم يقبل أم لا؟ وليس فيها تعرض لملك الموصى به وعدمه، إلا أنا قد أوضحنا
بالأدلة الشرعية في أثناء البحث، أنه يملكه الموصى له، ويملكه وارثه بعده
والغرض من هذه المسألة هنا بيان أن الموصى به ينتقل بموت الموصى له إلى وارثه
إن لم يرجع الموصي عن الوصية أم لا، سواء كان مورثه قد قبل الوصية قبل
موت الموصي أم لا، فلو فرض أنه قبل الوصية في حياة الموصي ثم مات في حياته
واكتفينا بالقبول الواقع في حياة الموصي لم يفتقر وارثه إلى القبول، ولكن يبقى
الخلاف في بطلان الوصية وعدمه، وهو المقصود بالبحث هنا، وإن لم يكن قد
قبل، انتقل إلى الوارث حق القبول، ومعه يملك الموصى به على الخلاف، وهو
المقصود بالذكر هنا، وقد حققنا في المسائل المتقدمة المشار إليها ضعف جميع ما
بنوا عليه، وفرعوا عليه من القول بأن الوصية عقد يتوقف على الإيجاب والقبول
وأنه لا دليل على القبول بوجه، بل الروايات ظاهرة في خلافه، وأن الحكم في
هذه المسألة المذكورة هنا، هو أنه بموت الموصى له تنتقل الوصية إلى الوارث
ما لم يرجع الموصي، سواء كان الموت في حياة الموصي أم بعد موته، وأن ما
استند إليه العلامة، وقبله ابن الجنيد (رحمة الله عليه) من القول بالبطلان،
ليس في الأدلة ما يدل عليه صريحا "، والروايتان المذكورتان فيهما من الاجمال

(1) الكافي ج 7 ص 13 ح 1، التهذيب ج 9 ص 230 ح 903.
(2) التهذيب ج 9 ص 231 ح 906 و 907. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 409 ح 1 و ص 410 ح 4 و 5.
(3) التهذيب ج 9 ص 231 ح 906 و 907. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 409 ح 1 و ص 410 ح 4 و 5.
554

ما يمنع من الاستناد إليهما في الاستدلال، فلا تنهضان قوة في معارضة صحيحة
محمد بن قيس، ونحوها مما دل ما دلت عليه من الأخبار الصريحة في
المطلوب.
وبالجملة فإن قوة القول المشهور في الظهور كالنور على الطور لا يعتريها
قصور ولا فتور، كما لا يخفى على من نظر بعين التأمل والتدقيق فيما قدمناه في
المسائل المشار إليها من التحقيق الرشيق.
بقي الكلام فيما لو لم يخلف الموصى له أحدا فإن الظاهر من كلام الأصحاب
من غير خلاف يعرف أنه يرجع إلى ورثة الموصي، وبذلك صرح شيخنا المفيد
(رحمه الله) فيما تقدم من نقل عبارته، وقال المحق في الشرايع: ولو لم يخلف
الموصى له أحدا رجعت إلى ورثة الموصي.
قال في المسالك: هذا تتمة الحكم السابق: وحاصله أن الموصى له إذا مات
في حياة الموصي ولم يخلف وارثا " رجعت الوصية إلى ورثة الموصي، بمعنى
بطلانها حينئذ، وهذا الحكم شامل باطلاقه لما لو كان موت الموصى له قبل قبوله
وبعده والحكم في الأول واضح، لأنه بموته قبل القبول وعدم قيام أحد مقامه
في القبول تبطل الوصية، ويرجع إلى ورثة الموصي، ويحتمل على هذا أن ينتقل
حق القبول إلى وارثه العام، وهو الإمام، لأنه وارث في الجملة، فيرث حق
القبول كما يرثه وارثه الخاص، لقيامه مقامه في إرث جميع ما يورث عنه،
ويتولاه نائبه العام، وهو الحاكم الشرعي مع غيبته، إلا أن هذا الاحتمال لم
يذكروه مع توجهه، وأما الحكم الثاني وهو ما إذا كان موته بعد القبول حيث
اعتبرنا القبول المتقدم على الوفاة، فيشكل القول ببطلان الوصية حينئذ، لتمام
سبب الملك بالايجاب والقبول، وتوقفه على الشرط وهو الموت لا يوجب بطلانه،
ومن ثم انتقل إلى الوارث لو كان، فكما أنه لحصول الشرط يتم الملك للوارث
فينبغي أن يتم هنا أيضا.
555

ويمكن الجواب بأن الملك لما كان مشروطا " بالموت لا يحصل بدونه كما هو
ظاهر، وحينئذ فلا بد من مستحق صالح للتملك لينتقل إليه الملك، فإن مجرد
السبب وإن كان تاما " لم يوجب نقل الملك قبل حصول الشرط، وحينئذ فإن كان
للموصى له وارث انتقل حق الوصية إليه، وحكم بملكه، لأن له أهلية الملك
وإن لم يقبل بناء على القبول السابق، وإن لم يكن له وارث لم يجد الملك محلا
قابلا له لينتقل إليه، إذ ليس هناك إلا الموصى له، وقد فاتت أهليته للملك بموته
أو وارثه والغرض عدمه.
نعم يتمشى على الاحتمال السابق هنا بطريق الأولى، أن ينتقل إلى الإمام
لتمام سبب الملك وحصول الشرط للملك، والإمام وارث للموصى له كالخاص،
فينتقل الملك، وإن لم نقل بانتقال حق القبول إليه، لأن الحق هنا أقوى،
انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول: قد عرفت ما حققناه في المسائل المشار إليها آنفا " أنه لا دليل على
هذا القول الذي يكررون ذكره، ويفرعون عليه ما يذكرونه من الفروع، وأن
غاية ما يستفاد من الأخبار المتكثرة في باب الوصية هو أنه متى أوصى أحد لأحد
بشئ فإنه يصح، ويكون لزومه مراعى بموت الموصي قبل الرجوع فيه، فمتى
مات الموصي كذلك وجب على الوصي أو الورثة إنفاذ الوصية، هذا غاية ما يفهم
من الأخبار، وهم إنما رتبوا ذلك واستندوا فيما ذكروه إلى كون الوصية عقدا
يشترط فيه الإيجاب والقبول، مع أنهم لم يوردوا على ذلك دليلا " إلا مجرد ظاهر
اتفاقهم إن تم، وحينئذ فيأتي على ما ذكرناه أنه متى أوصى إلى أحد بشئ ومات
الموصى له في حياة الموصي، فإن كان له وارث فالأشهر الأظهر كما عرفت أنه
تنتقل الوصية إلى الوارث، ويكون لزومها مراعى بموت الموصي، فإن مات ولم
يرجع وجب انفاذها.
وأما إذا مات الموصى له وليس له وارث ومات الموصي والحال هذه من غير
أن يرجع في الوصية فظاهرهم كما عرفت أنه تبطل الوصية، لما ذكره هنا في
556

المسالك من التعليلات المذكورة، وزاد احتمال رجوع الوصية إلى الإمام عليه السلام
ومرجع ما ذكرناه إلى ما ذكره من الحكم الثاني.
وأما الاشكال الذي أورده عليه فقد عرفت الجواب عنه بما ذكره، وهو
الحق في المقام، والأصحاب قد ذكروا هنا في صورة البطلان أنه تنتقل الوصية
إلى ورثة الوصي، وحق الكلام أن يقال إلى الموصي، لأن المفروض أن الموصى له
مات في حياة الموصي، والحال أنه لا وارث له وقت موته، ومقتضى الحكم
ببطلان الوصية في تلك الحال، هو الانتقال إلى الموصي، لأن ذلك مفروض في حياته
وهو ظاهر هذا.
ولو كان موت الموصى له إنما وقع بعد موت الموصي، والحال أنه ليس له
وارث، فيحتمل ما ذكره ابن إدريس من البطلان في صورة ما لو تعذر صرف
الوصية في الوجه الموصى به، وقد عرفت ضعفه، ويحتمل أن تكون الوصية
للإمام عليه السلام لأنه الوارث لمن لا وارث له، والموصى له قد ملكها واستقر ملكه
عليها بالوصية وموت الموصي، ويحتمل وهو الأقرب الصدقة به عنه، لما تقدم في
المسائل السابقة من صحيحة العباس بن عامر (1) " قال: سألته عن رجل أوصى له
بوصية فمات قبل أن يقبضها، ولم يترك عقبا "، قال اطلب له وارثا " أو مولى فادفعها
إليه، قلت: فإن لم أعلم له وليا "، قال: اجهد على أن تقدر له على ولي فإن لم
تجده وعلم الله منك الجهد فتصدق بها ".
ومن هذه الرواية يعلم بعد ما احتمله في صورة البطلان من الصحة بحمل
الوارث على الإمام بقوله نعم يتمشى على الاحتمال السابق إلى آخره، فإن المتبادر
من اطلاق الوارث إنما هو الوارث الخاص، فما ذكره من احتمال الإمام في كلا
الموضعين بعيد جدا، ولهذا لم يذكره غيره من الأصحاب كما اعترف به، والوجه
فيه ما ذكرناه، والله العالم.

(1) التهذيب ج 9 ص 231 ح 905، الوسائل ج 13 ص 409 ح 2.
557

الثانية عشر: قالوا: لو أوصى للأقرب نزل على مراتب الإرث من حيث
المرتبة لا من حيث الاستحقاق، فإن الوصية يتساوى فيها الذر والأنثى، والمتقرب
بالأبوين، والمتقرب بالأم، وإن كانوا إخوة، والمراد من تنزيله على المراتب
مراعاة المرتبة الأولى من مراتب الإرث، وتقديمها على الثانية، وكذا الثانية على
الثالثة، وحينئذ فلا يعطى الأبعد في المرتبة مع وجود الأقرب ومقتضى ذلك تقديم
العم من الأب على ابن العم من الأبوين، وإن كان ابن العم مقدما في الإرث لدليل
خارج، مع احتمال تقديمه هنا أيضا "، نظرا إلى الأقربية بحسب الإرث، لكنه
يخرج بقيد المنع من اعطاء الأبعد مع وجود الأقرب، هذا ملخص ما ذكروه
في ذلك، والله العالم.
المقصد السادس في الوصاية:
بكسر الواو وفتحها وهي الولاية على اخراج حق أو استيفائه أو على طفل
ومجنون يملك الموصي الولاية عليه أصالة كالأب والجد له، أو بالعرض كالوصي
عن أحدهما المأذون له في الايصاء، ولو نهي لم يوص ومع الاطلاق خلاف يأتي
ذكره إن شاء الله تعالى.
والبحث في هذا المقصد يقع في مسائل: الأولى: يشترط في الوصي الكمال
بالبلوغ، والعقل فلا تصح إلى صبي بحيث يتصرف حال صباه مطلقا، ولو ضم إلى
كامل نفذ تصرف الكامل حتى يبلغ الصبي فيشتركان، وسيأتي ما فيه مزيد تحقيق
للمسألة إن شاء الله تعالى، ولا إلى مجنون، ولو طرأ الجنون على الوصي فقد
صرحوا بأنه تبطل وصيته، وهل تعود بعود العقل؟ جزم العلامة بالعدم، وتردد
في الدروس، ولو كان المجنون يعتوره أدوارا "، قال في الدروس: الأقرب الصحة،
وتحمل على أوقات الإفاقة، قال: والفرق بينه وبين ما إذا طرأ الجنون انصراف
الوصية في ابتدائها إلى أوقات الإفاقة، وانصرافها هناك إلى دوام عقله، الذي لم
558

يدم، وهل يشترط فيه العدالة؟ المشهور ذلك، وهو مذهب الشيخ في المبسوط،
والشيخ المفيد في المقنعة، وابن حمزة وابن البراج وسلار، وتبطل الوصية إلى
الفاسق، وقيل: بالعدم، وهو اختيار ابن إدريس بعد الاضطراب في كلامه، وإليه
ذهب المحقق في النافع، والعلامة في المختلف.
احتج الأولون بوجوه منها أن الوصية استيمان على مال الأطفال، ومن
يجري مجراهم من الفقراء والجهات التي لا يراعيها المالك، والفاسق ليس أهلا
للاستيمان على هذا الوجه، وإن كان أهلا " للوكالة، لوجوب التثبت عند خبره،
ومنها أن الوصية تتضمن الركون باعتبار فعل ما أوصى إليه به، من تفرقة
المال وانفاقه وصرفه في الوجوه الشرعية، والفاسق ظالم لا يجوز الركون إليه،
لقوله تعالى (1) " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ".
ومنها أن الوصية استنابة على مال الغير لا على مال الموصي، لانتقاله عنه
بعد موته، وولاية الوصي إنما تثبت بعد الموت فيشترط في النائب العدالة،
كوكيل الوكيل، بل أولى لأن تقصير وكيل الوكيل مجبور بنظر الوكيل
والموكل، وذلك من أكبر البواعث على تحرز وكيل الوكيل من تجاوز الحد،
بخلاف الوصي فإن ولايته بعد موت الموصي على الجهات التي أشرنا إليها، وهي
مما لا يشارفه فيها أحد غالبا ".
احتج العلامة في المختلف على ما تقدم نقله عنه من عدم اشتراط العدالة،
قال: لأنها نيابة فتتبع اختيار المنوب كالوكالة.
واستند ابن إدريس إلى الاجماع على جواز ايداع الفاسق، قال: وهي
أمانة فكذا الوصية، وأورد عليه بظهور الفرق بين الوكالة والوصية بما تقدم من
مراعاة الموكل حال الوكيل في كل وقت مختار، وبأنه في الوكالة تسلط على مال
نفسه، وفي الوصية على مال غيره، ولهذا اشترطت العدالة في وكيل الوكيل.

(1) سورة هود الآية 113.
559

أقول: والتحقيق أن يقال إن الناس بالنسبة إلى العدالة وعدمها على أقسام
ثلاثة: أحدها العادل، وهو من عرف بالقيام بالواجب واجتناب المحرمات،
وثانيها الفاسق، وهو من أخل بشئ من الواجبات أو ارتكب المحرمات،
وثالثها مجهول، وهو من لا يعرف بشئ من الأمرين، والدليلان الأولان -
من أدلة القول الأول غاية ما يدلان عليه نفي الفساق، دون المجهول الحال،
وحينئذ فيجوز وصاية المجهول الحال ولا تلزم العدالة.
وأما الدليل الثالث فإن أريد بالعدالة المشروطة في وكيل الوكيل ظهور
العدالة فيه بالمعنى المتقدم، فالاستدلال به مصادرة، لأنه عين المتنازع، وإن أريد
عدم ظهور الفسق سلمناه، ولكنه لا يفيد الاشتراط المدعي.
وبالجملة فإن المسألة عارية من النص والاحتياط فيه مطلوب، وظواهر
جملة من النصوص بالنسبة إلى من مات وله أموال، وورثة صغار، ولا وصي له، اشتراط
عدالة المتولي لذلك، وهو وإن كان خارجا عما نحن فيه، إلا أن فيه اشعارا بأن
المتولي لأمر الوصاية ينبغي أن يكون عدلا مؤتمنا، ولا فرق بين الأمرين، إلا
كون الأول منصوبا " من قبل الشرع، وهذا منصوب من قبل الموصي، وإلا فهو
بالنسبة إلى ما يتصرف فيه واحد، وحينئذ فكما تراعى العدالة فيه من حيث إن
الناصب له الشرع، كذا تراعى من حيث إن الناصب الموصي، فلا ينصب لذلك إلا
عدلا "، والفرق بينهما بأن الموصي له التسلط على ماله بدفعه إلى من يشاء، ويسلط
عليه من يختاره، لأن " الناس مسلطون على أموالهم " (1) بخلاف الحاكم الشرعي
المنوط تصرفه بالمصلحة دون ما فيه مفسدة ضعيف، فإن الموصي بعد الموت وانتقال
التركة وفيهم الصغير، وفيها الوصايا إلى الجهات العامة ونحو ذلك من التصرفات
التي تحتاج إلى الوثوق والائتمان، لا تعلق له بذلك، فتصرفه فيما ذكر إنما هو
تصرف في مال الغير، لا مال نفسه كما ذكره، ومما ذكرناه يعلم أنه لا ريب في

(1) البحار ج 2 ص 272 ح 7.
560

اشتراط عدم ظهور فسقه.
وأما اشتراط ظهور عدالته فقد عرفت أن الاحتياط حيث إن المسألة غير
منصوصة يقتضيه.
بقي هنا شئ وهو أنه على تقدير اشتراطها ابتداء هل يشترط استدامتها
بمعنى أنه لو نصب عدلا " ثم ظهر فسقه بطلت وصايته أم لا؟ المشهور الأول، وكذا
على القول بعدم اشتراطها لو أوصى إلى العدل، ثم ظهر فسقه بعد موت الموصي،
فإن المشهور بطلان وصايته، ووجوب عزله، والوجه في ذلك، أما على اشتراطها
ابتداء فظاهر، لفوات الشرط، وأما على عدم الاشتراط فلأن الظاهر أن الباعث له
على اختيار العدل مع جواز الوصية إلى غيره، كما هو مقتضى القول المذكور
إنما هو عدالته، والوثوق بأمانته، فإذا خرج عن حد العدالة فات الباعث، وخرج
عن الاستيمان، إذا الظاهر أنه لو كان حيا " لاستبدل به، كذا احتج به في المختلف،
وذهب ابن إدريس إلى صحة الوصية، وعدم بطلانها بذلك، قال بعد أن نقل عن الشيخ
في المبسوط أنه لو تغيرت حاله الوصي لفسق أخرجت الوصية من يده، لأن الفاسق
لا يكون أمينا " ما لفظه: هذا الكتاب معظمه فروع المخالفين، في كلام الشافعي
وتخريجاته، ولم يورد أصحابنا في ذلك شيئا "، لا رواية ولا تصنيفا "، والأصل صحة
الوصية إليه، والاعتماد عليه مع قوله تعالى (1) " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه
على الذين يبدلونه " وعزله عن الوصية واخراجه منها تبديل وتغيير بلا خلاف.
أقول: لا ريب أن الشيخ هنا إنما حكم بالبطلان، بناء على مذهبه في المسألة
من اشتراط العدالة ابتداء كما هو المشهور، وهو من القائلين بذلك، كما تقدم
نقله عنه في المبسوط، وحينئذ فرد ابن إدريس وحكمه بالصحة يعطي مخالفته في
هذه الصورة أيضا، وأما في صورة ما اختاره ابن إدريس من عدم اشتراط العدالة
ابتداء فهو بطريق أولى.

(1) سورة البقرة الآية 181.
561

والتحقيق أن يقال: إنا شرطنا العدالة كما هو المشهور، فإن الظاهر هو
البطلان لو ظهر الفسق، لأن اشتراطها ابتداء يقتضي الاستدامة، لما عرفت من
أن الغرض من شرط العدالة هو الوثوق والاطمئنان بعدم المخالفة في شئ من
الأمور الموصى بها، والاتيان بها على الوجه المأمور به، وذلك يقتضي الاستدامة
في جميع تصرفاته.
وخلاف ابن إدريس على هذا التقدير ضعيف، مع أنه قد صرح في كتاب
الوصايا على ما نقله عنه في المختلف بأنه لو مات الوصي أو فسق، أقام الحاكم
مقامه من يراه، وما استند إليه من النهي عن التبديل ليس على عمومه، بل يجب
تقييده بما إذا لم يخالف المشروع فلو خالف جاز تبديله، ومتى لم يشترط العدالة
ابتداء كما هو القول الآخر فإن القول بعدم البطلان كما ذهب إليه ابن إدريس
غير بعيد، وما ذكره العلامة (رحمة الله عليه) في تعليل البطلان من أن الظاهر
أن الباعث له على اختيار العدل إنما هو عدالته جيد، لو علم أن الباعث له على
جعله وصيا " هو عدالته، وإلا فمجرد احتمال ذلك لا يكفي في الحكم بالبطلان،
إذ من الجائز والقريب كون الباعث على نصبه أمرا " آخر، من صحبته أو قرابته،
أو نحو ذلك، وجاز أن يكون العدالة مزيدة في الباعث، لا سببا " تاما، فلا يقدح
فواتها، ومن ثم إن المحقق في الشرايع لم يجزم هنا بالبطلان، بل قال: أمكن
القول بالبطلان.
وبالجملة فإن ما ذهب إليه ابن إدريس من الصحة على القول المذكور
جيد، إلا مع تحقق العلم بأن الباعث على نصب العدل هو العدالة، والله العالم.
الثانية: قد صرحوا بأن من جملة الشروط أيضا " في الوصية الحرية، فلا
تصح وصاية المملوك، لاستلزامها التصرف في مال الغير، لأن الوصاية يستدعي
نظرا " في الموصى به وسعيا " في تنفيذه، وهو موجب للتصرف في ملك الغير، فلا
يصح إلا بإذن المولى،، فتصح لزوال المانع، ولا يخفى أن هذا إنما يتم فيما إذا
562

أوصى إلى مملوك غيره.
وأما مملوك نفسه من قن أو مدبر أو مكاتب أو أم ولد فنقل في الدروس
عن الشيخ عدم الصحة، وعن الشيخ المفيد وسلار أنهما جوزا الوصية إلى المدبر
والمكاتب مطلقا، وظاهر المختلف أن محل الخلاف أعم من مملوك نفسه، ولم
يحضرني الآن ما يمكن تحقيق الحال منه، إذا عرفت ذلك فاعلم أنه متى إذن له
المولى في قبول الوصاية لم يكن له الرجوع من الإذن المذكور بعد موت الموصي،
وإن كان في حياته فله الرجوع بشرط إعلام الموصي، والحكم هنا في المولى كما
في الموصي الحر، باعتبار التفصيل في الرجوع بين الموت والحياة بشرط الاعلام
وعدمه، فيصح الرجوع بشرط كون ذلك في الحياة، وبشرط الاعلام، ويبطل في
ما عدا ذلك كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى بعد ذكر المسألة، والمولى هنا في حكم
الوصي المذكور في ذلك، وإن كان فعل ما تعلقت به الوصية منوطا " بالمملوك.
ومن جملة الشرط عندهم أيضا " الاسلام إذا كان الموصي مسلما "، أو كافرا "
والوصية على أطفال المسلمين، فلا تصح الوصية إلى كافر وإن كان رحما "، لأنه
ليس من أهل الولاية على المسلمين، ولا من أهل الأمانة، إلا أن يوصي الكافر إلى
مثله إن لم يشترط العدالة في ا لوصي، وأما مع اشتراطها فهل يكفي عدالته في
دينه أم تبطل مطلقا "؟ وجهان: من أن الكفر أعظم من فسق المسلم، ومن أن
الغرض صيانة ما الطفل وأداء الأمانة، وهو يحصل بالعدل منهم، واضطراب كلام
شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) هنا، فرجح في المسالك الحكم بالصحة، وفي
الروضة المنع، قال في المسالك: ويحتمل قويا " الحكم بصحتها مطلقا مع عدالته
في دينه، لأن الغرض منها صيانة مال الطفل، وحفظ حاله وأداء الأمانة، وإذا
كان الكافر في دينه مجانبا " للمحرمات، قائما " بالأمانات حصل الغرض المطلوب
بخلاف فاسق المسلمين، وقال في الروضة: والأقوى المنع بالنظر إلى مذهبنا "،
ولو أزيد صحتها عندهم وعدمه فلا غرض لنا في ذلك، ولو ترافعوا إلينا فإن
563

رددناهم إلى مذهبهم، وإلا فاللازم الحكم ببطلانها، بناء على اشتراط العدالة،
إذ لا وثوق بعدالته في دينه، ولا ركون إلى أفعاله لمخالفتها لكثير من أحكام
الاسلام، انتهى.
وأطلق الأكثر كالمحقق في الشرايع والشهيد في اللمعة والدروس والعلامة
في جملة من كتبه وغيرهم جواز وصية الكافر إلى مثله، مع أن المشهور عندهم
اشتراط العدالة في الوصي، وهو مؤذن بالقول بالاكتفاء بعدالة الكافر في دينه،
وبه يظهر رجحان ما قواه في المسالك.
ومن جملتها البلوغ، وقد تقدم الكلام في أنه لا تجوز الوصية إلى الصبي إلا
أن يكون منضما " إلى بالغ، وأنه لا يتصرف الصغير قبل البلوغ، فإذا بلغ صار
شريكا، وللبالغ الاستقلال بالتصرف ما دام صغيرا "، قيل: وفائدة صحة الوصية إلى
الصغير منضما " مع عدم صحة تصرفه تأثير نصيبه في تلك الحال في جواز تصرفه
بعد البلوغ.
أقول: ويدل على هذه الأحكام أعني صحة وصاية الصغير إلى البالغ
وصحة تصرف البالغ وحده قبل بلوغ الصبي، وعم جواز تصرف الصبي قبل البلوغ
ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن علي بن يقطين (1) " قال: سألت
أبا الحسن عليه السلام عن رجل أوصى إلى امرأة وأشرك في الوصية معها صبيا "؟ فقال:
يجوز ذلك وتمضي المرأة الوصية ولا تنتظر بلوغ الصبي وإذا بلغ الصبي فليس له
أن لا يرضى إلا ما كان من تبديل تغيير فإن له أن يرده إلى ما أوصى به الميت ".
وما رواه المشايخ المذكورون في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (2)
" قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام: رجل أوصى إلى ولده وفيهم كبار قد أدركوا،
وفيهم صغار أيجوز للكبار ينفذوا وصيته ويقضوا دينه لمن صح على الميت

(1) الكافي ج 7 ص 46 ح 1 و 2، التهذيب ج 9 ص 184 ح 743
و ص 185 ح 744، الفقيه ج 4 ص 155 ح 1 و 2، الوسائل ج 13 ص 439 ح 2
و ص 438 ح 1.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
564

بشهود عدول قبل أن يدركوا الأوصياء الصغار؟ فوقع عليه السلام نعم على الأكابر من
الولدان أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك ".
وما ذكره الرضا عليه السلام في كتاب الفقه (1) حيث " قال عليه السلام: وإذا أوصى رجل
إلى امرأة وغلام غير مدرك، فجائز للمرأة أن تنفذ الوصية، ولا تنتظر بلوغ
الغلام، وليس للغلام إذا أرادت هي وأدرك الغلام أن يرجع في شئ مما أنفذته
المرأة إلا ما كان من تغيير أو تبديل ".
وروى الصدوق في الفقيه عن علي بن الحكم عن زياد بن أبي الحلال (2)
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هل أوصى إلى
الحسن والحسين مع أمير المؤمنين عليه السلام قال: نعم، قلت: وهما في ذلك السن قال:
نعم، ولا يكون لغيرهما في أقل من خمس سنين " وظاهر هذا الخبر المنع من
الوصية إلى الصبي قبل بلوغ خمس سنين، ولم أطلع على قائل به، والأخبار
الدالة على الجواز غير مطلقة، وظاهر الأصحاب الفتوى باطلاقها، ومقتضى الجمع بين
تقييد الجميع اطلاقها بها الخبر، ويحتمل أن يكون المراد بالوصية إلى الحسن
والحسين بالنسبة إلى ما يجري عليهما بعده من امتثال ما أمرهما به من الصبر،
والعمل بما وقع عليهما امتثالا لوصيته، (صلى الله عليه وآله).
بقي الكلام في أنه لو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل فالمشهور أن للبالغ
الانفراد بالوصية، ولا يداخله الحاكم، وعلل بأن شركة الصبي مشروطة ببلوغه
كاملا "، ولم يحصل، فيبقى الاستقلال الثابت له أولا " بالنص على حاله عملا "
بالاستصحاب، ومداخلة الحاكم مشروطة بعدم وجود الوصي المستقل، وهو
هنا موجود.
وقيل: باحتمال بطلان استقلاله بذلك، لأن الموصي إنما فوض إليه الاستقلال

(1) المستدرك ج 2 ص 526.
(2) الفقيه ج 4 ص 176 ح 619، الوسائل ج 13 ص 439 ح 3.
565

إلى حين بلوغ الصبي، فكأنه جعله مستقلا إلى مدة مخصوصة لا مطلقا.
أقول: والظاهر أنه من هنا نقل عن العلامة في التذكرة والشهيد في الدروس
التردد في هذا الحكم،، وفي المسالك رجح الأول، ثم قال: نعم لو بلغ رشيدا " ثم
مات بعده ولو بلحظة زال الاستقلال، لفقد شرطه.
الحاق:
ما ذكرنا من الصفات المشترطة في الوصي وهي الكمال والإسلام
والحرية وزاد بعضهم اهتداء الوصي إلى فعل ما أوصى فيه، وقد وقع الخلاف في
وقت اعتبارها على أقوال ثلاثة، نقلها الشيخ في المبسوط:
الأول أنها تعتبر حال الوصية، لأنها حالة القبول والاستيمان والركون
إليه، ومخاطبته بالعقد، وحالة الوفاة، لأنها حالة ثبوت التصرف له، وهذا القول
اختيار الشيخ وابن إدريس وظاهر اختيار المحقق.
الثاني اعتبار حالة الوفاة لأنها حالة ثبوت الولاية، ولا عبرة بالتقدم
لعدم نفوذ تصرفه حينئذ.
الثالث اعتبارها في جميع الحالات من حين الوصية إلى حين الوفاة، عملا "
بالاحتياط، وهذه الأقوال كلها مشتركة في اعتبار حال الوفاة، وقد نقلها الشهيد
في شرح الإرشاد، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد تحقيق في ذلك.
الثالثة: لو أوصى إلى اثنين فلا يخلو إما أن يشترط اجتماعهما، وحينئذ
فلا يجوز لأحدهما أن يتفرد عن صاحبه بشئ من التصرف، لأن الظاهر من شرط
الاجتماع أنه لم يرض برأي أحدهما منفردا "، وبالجملة فإن ولايتهما لم تثبت إلا
على هذا الوجه.
وإما أن يجوز لهما الانفراد، ولا ريب أن تصرف كل منهما منفردا " جائز
بمقتضى الوصية، لأن كل واحد منهما وصي مستقل، ويجوز لهما حينئذ اقتسام
566

المال، وتصرف كل منهما فيما يخصه، ولكن ليست هذه القمسة حقيقة بل لكل
منهما التصرف في نصيب الآخر، لأن كلا منهما وصي في المجموع ولهذا أنه
لا فرق في القسمة بين كونها متساوية أو متفاوتة، حيث لا تحصل بها ضرر.
وإما أن يطلق، وهذا هو محل الاشكال والبحث، فقيل وهو مذهب
الشيخ في الإستبصار والمبسوط وقبله الصدوق في الفقيه وغيرهما وعليه أكثر
المتأخرين كالمحقق والعلامة والشهيد وغيرهم: بأن الواجب الاجتماع، لأن
المفهوم من الاطلاق إرادة الاجتماع، لو حصل الاشتباه، للقائل أن يقول ثبوت
الولاية لهما مجتمعين معلوم ومتفق عليه، وثبوتها لكل واحد منفردا " مشكوك
فيه ومختلف فيه، فالواجب الأخذ باليقين المؤيد بالاتفاق عليه، ويرجع إلى
أصالة انتفائها عن كل واحد منفردا ".
وقيل وهو مذهب الشيخ في النهاية: بجواز الانفراد، وهذا الاختلاف
نشأ من اختلاف أفهامهم في روايات المسألة.
ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن يحيى (1) " قال: كتب
محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد عليه السلام: رجل مات وأوصى إلى رجلين أيجوز
لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة، والآخر بالنصف، فوقع عليه السلام: لا ينبغي لهما
أن يخالفا الميت، وأن يعملا على حسبت ما أمرهما إن شاء الله تعالى ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن بريد بن معاوية (2) " قال: إن رجلا " مات
وأوصى إلي وإلى آخر أو إلى رجلين فقال أحدهما لصاحبه: خذ نصف ما ترك،
وأعطني النصف مما ترك فأبى عليه الآخر، فسألوا أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك فقال:
ذلك له " وهاتان الروايتان هما الدائرتان في كلام الأصحاب وهما محل البحث
والاختلاف.

(1) الكافي ج 7 ص 46 ح 1 و ص 47 ح 2، التهذيب ج 9 ص 185
ح 745 و 746، الفقيه ج 4 ص 151 ح 523 و 524، الوسائل ج 13 ص 440
ح 1 و 3.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
567

وقال عليه السلام في كتاب الفقه الرضوي (1) وإذا أوصى رجل إلى رجلين فليس
لهما أن ينفرد كل منهما بنصف التركة، وعليهما إنفاذ الوصية على ما أوصى الميت،
وبهذه العبارة عبر الشيخ علي بن الحسين بن بابويه على ما نقله عنه في المختلف.
قال في الفقيه بعد نقل حديث الصفار، وهذا التوقيع بخطه عليه السلام وعليه
العمل، ثم قال بعد ايراد الخبر الثاني: لست أفتي بهذا الحديث بل أفتي بما عندي
بخط الحسن بن علي عليه السلام ولو صح الخبران جميعا " لكان الواجب الأخذ بقول الأخير
كما أمر به الصادق عليه السلام.
قال الشيخ في التهذيب ونعم ما قال: رادا " على الصدوق ظن أنهما تنافيان،
وليس الأمر على ما ظن، لأن قوله عليه السلام: ذلك له، يعني " في الحديث الأخير " أن
له أن يأتي عليه ولا يجيبه إلى ملتمسه.. فلا تنافي.
أقول: والصدوق (رحمة الله عليه) ظن رجوع الإشارة إلى صدر الخبر
المتضمن لطلب أحدهما القسمة وأن الإمام عليه السلام جوز ذلك له، وهو بعيد جدا "، بل
الحق هو رجوع الإشارة إلى الامتناع من القمسة، فيكون موافقا " للخبر الأول،
فإنه ظاهر في عدم جواز القسمة، وأن مقتضى الاطلاق بجعلهما وصفين هو الاجتماع.
والظاهر أن الشيخ في النهاية إنما قال: بجواز الانفراد، تعويلا على رواية
بريد المذكورة، بحمل الإشارة فيها على الرجوع إلى صدر الخبر، كما توهمه
الصدوق (رحمة الله عليه)، ولكنه في التهذيبين رده بما عرفت.
وبالجملة فالظاهر من الخبرين المذكورين هو ما ذكره الشيخ في كتابي
الأخبار وهو وجوب الاجتماع، وعدم جواز الانفراد، وأصرح منهما في ذلك
كلامه عليه السلام في كتاب الفقه الرضوي.
وأما ما ذكره في المسالك من عدم دلالة رواية الصفار على وجوب الاجتماع،
قال: لأن لفظ لا ينبغي ظاهر في الكراهة لا الحظر، ففيها دلالة على جواز الانفراد

(1) المستدرك ج 2 ص 526 الباب 43 ح 1.
568

على كراهة، وتبقى تلك مؤيدة لها كما فهمه الشيخ في فتوى النهاية، فإنه أجود
مما فهمه في التهذيب، مع أن المتأخرين كالعلامة في المختلف ومن بعده فهموا
من الرواية المنع من الانفراد، واستحسنوا حمل الرواية الأخرى على ما ذكره
الشيخ (رحمة الله عليه)، وربما رجح الحمل بأن الآباء أقرب من القسمة، فعود
اسم الإشارة إليه أولى، وفيه أن الإشارة بذلك إلى بعيد فحمله على القسمة أنسب
باللفظ، انتهى.
ففيه: أولا أن ما ذكره من أن لفظ لا ينبغي ظاهر في الكراهة إن أراد
باعتبار العرف الجاري بين الناس الآن فهو كذلك، ولكن لا حجة فيه، وإن أراد
باعتبار عرفهم عليهم السلام فهو ممنوع، فإن ورود لا ينبغي في التحريم وينبغي في
الوجوب أكثر كثير في الأخبار، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار، وقد
حققنا في غير موضع مما تقدم، سيما في كتاب العبادات، إن هذا اللفظ من
الألفاظ المتشابهة بحسب العرف الشرعي، والحمل على أحد معنييه يحتاج إلى
القرينة، والقرينة هنا واضحة في التحريم، وأن لا ينبغي لا يجوز، لأن مرجع
الكلام ومحصله إلى النهي عن مخالفة الميت، ولا ريب أن المخالفة محرمة، لأنها
متضمنة للتبديل المنهي عنه في الآية، وإذا ثبت أن المخالفة محرمة علم أن لفظ
" لا ينبغي في المقام " بمعنى لا يجوز، كما هو واضح، ويؤكده قوله ثانيا " ويعملا
على حسب ما أمرهما " وفي الجميع إشارة إلى أن القسمة والانفراد المسؤول عنه
في الخبر مخالفة للميت فيما أمر به، وأنهما متى فعلا ذلك لم يعملا على حسب
ما أمرهما، ومنه يعلم أن مقتضى الاطلاق هو الاجتماع كما ذكرنا سابقا ".
وثانيا " أن ما ذكره في ترجيح عود الإشارة إلى القسمة من أن الإشارة
في الخبر وقعت بلفظ ذلك، وهي أنسب بالحمل على البعيد، فتكون الإشارة
راجعة إلى القسمة مردود، بأن الذي في الرواية إنما هو الإشارة بذاك التي
هي للقريب، لا بذلك كما توهمه (قدس سره) فتكون الإشارة راجعة إلى الامتناع،
569

لأنه هو الأقرب، هذا مع الجري على مقتضى هذه المضايقات البعيدة، وإلا فباب
المجاز في الكلام أوسع من أن يتطرق إليه هذا الالزام، سيما مع ظهور الحكم
من الأخبار بما عرفت من التحقيق، وإلى بعض ما أوردناه عليه أولا " تنبه أخيرا "
فعدل إلى القول بالتحريم.
وأما ما ذكره في الوافي اعتراضا " على الشيخ في الإستبصار أنه لولا تفسير
الحديث بما فسره لكانا متنافيين، وليس الأمر على ما ظن، لأن حديث الصفار ليس
نصا " على المنع من الانفراد، لجواز أن يكون معناه أنه ليس عليهما إلا إنفاذ
وصاياه على ما أمرهما، وإن لا يخالفا فيها أمره تفردا أو اجتمعا، أو يكون معناه
أنه إن نص على الاجتماع وجب الاجتماع، وإن جوز الانفراد جاز الانفراد،
وبالجملة إنما الواجب عليهما أن لا يخالفا، انتهى.
فلا يخفى ما فيه، ولولا أنه اعترف بعد هذا الكلام بما أشرنا إليه، فقال
في تتمة الكلام المذكور: إلا أن ما ذكره صاحب الإستبصار هو الأحسن والأوفق
والأصوب، انتهى، لأوضحنا ما فيه، وقد تلخص مما ذكرناه وجوب الاجتماع في
صورة الاطلاق، كما هو الأشهر الأظهر، فشرط الاجتماع لو وقع حينئذ محمول
على التأكيد، والمراد بوجوب اجتماعهما في الصورتين اتفاقهما، وأن لا يصدر
شئ من الأمور الموصى بها إلا عن اتفاق منهما على كونه مصلحة، وإذا توقف
على عقد وقع من أحدهما بإذن الآخر، أو أذنا لثالث.
وتمام تحقيق البحث في المقام يتوقف على بيان أمور: الأول: إذا تشاح
الوصيان في صورة وجوب الاجتماع عليهما من الاطلاق، بناء على الأشهر الأظهر
أو في صورة اشتراط الموصي بمعنى أنهما تمانعا، وأبي كل واحد على صاحبه
ما يريده، فقد أطلق جمع منهم الشيخ في المبسوط عدم جواز تصرف أحدهما،
والوجه فيه ظاهر، لأن الموصي لم يرض برأي أحدهما منفردا " فيكون تصرفه
حينئذ تصرفا " بغير إذن، كتصرف الأجنبي.
570

واستثنى جماعة منهم المحقق ما تدعو الحاجة إليه، ولا يمكن تأخيره إلى
وقت الاتفاق، من نفقة اليتيم والرقيق والدواب، ومثله شراء كفن الميت، وزاد
بعضهم قضاء ديونه، وانفاذ وصية معينة، وقبول الهبة عن الصغير مع خوف فوات
النفع.
وفصل العلامة في القواعد، ففرق بين صورة الاطلاق في الوصية، وبين صورة
النهي عن الانفراد، فاحتمل ضمان المنفرد في الصورة الثانية، وجوز ما لا بد منه
في الصورة الأولى، وحمل كلام الأصحاب على ذلك.
وأورد عليه بأن من الأصحاب من صرح بعدم الفرق بين الحالين، فلا يمكن
حمل كلامه على ما ذكره من التفصيل، وبأن حالة الاطلاق إن حملت على إرادة
الاجتماع كما فهمه الأكثر فلا فرق بينهما وبين حالة النهي عن الانفراد إلا
باعتبار التأكيد في هذه دون تلك كما تقدمت الإشارة إليه، فلا وجه للفرق
بالكلية حينئذ، وقيل: ويضمن المنفرد مطلقا، وهو الأوفق بالعلة المتقدمة،
ونقل عن أبي الصلاح أنه مع التشاح يرد الناظر في المصالح الأمر إلى من كان أعلم
بالأمر وأقوى عليه، ويجعل الباقي تبعا " له، وفيه ما عرفت من أن الموصي لم يوص
برأي أحدهما منفردا، حيث أمر بالاجتماع إما بالتصريح به، أو لكونه مقتضى
الاطلاق كما عرفت، فكيف يخص به أحدهما، وإن كان أعلم أو أقوى وقد منعه
الموصي من ذلك.
ثم إنه قد صرح جملة من الأصحاب بأنه مع التشاح والتعاسر منهما يجبرهما
الحاكم على الاجتماع، فإن اتفق وإلا استبدل بهما، وهو على اطلاقه مع القول
باشتراط العدالة في الوصي كما عليه الأكثر لا يخلو من الاشكال، لأنه بالتشاح
والتعاسر منهما مع إمكان الاجتماع وإنما قصدا بذلك محض العناد من كل منهما
للآخر يثبت فسقهما الموجب لعزلهما عن الوصية، فيجب أن يستبدل الحاكم
بهما، لا أنه يجبرهما على الاجتماع، والحال كما عرفت.
571

ولقد أحسن ابن إدريس هنا حيث قال في مسألة التشاح: وإن ناقص نفسه
بما ذكره في المسألة قال: تشاحا في الوصية والاجتماع لم تنفذ بشئ
مما تصرفا فيه، إلى أن قال: وللناظر في أمور المسلمين الاستبدال بهما، لأنهما
حينئذ قد فسقا، لأنهما أخلا بما وجب عليهما القيام به، وقد بينا أن الفسق
يخرج الوصية من يده، انتهى مع أنه في مسألة اشتراط العدالة وعدمه، صرح
أولا " بالاشتراط، ثم عدل عنه في آخر كلامه، فقال: والذي ويقتضيه أصول مذهبنا
ويشهد به أصولنا ورواياتنا أن العدالة في الوصي ليست شرطا " في صحة الوصية،
للاجماع على صحة ايداع الفاسق وهي أمانة فكذا الوصية، انتهى، ثم عقب ذلك
بمسألة الوصيين، وقال فيها ما عرفت، والجميع في موضع واحد، وربما أمكن
فرض التشاح من غير استلزام الفسق فيما إذا اختلف رأيهما في وجه المصلحة
مثلا، فلا يمكنهما الاجتماع على رأي واحد، لأن كل واحد مكلف بما يقتضيه
رأيه من الحكم، وينبغي أن يستثنى هذا من محل البحث المذكور، فإنه
لا يمكن اجبار الحاكم هنا لهما على الاجتماع، وعلى هذا يخص محل البحث
بما يمكن فيه الاجتماع ويكون التشاح ناشيا " عن التشهي والميل الطبيعي كأن
يريد أحد الوصيين تفرقة صدقة المال الموصى به لذلك على أناس مخصوصين،
يريد الآخر غيرهم مع تساوي الجميع في الاستحقاق، أو أراد أحدهما شراء
نوع من المأكول والملبوس للطفل، وأراد الآخر غيره مع التساوي في المصلحة،
ونحو ذلك فإن هذا هو محل البحث.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه بالغ في المسألة، وصرح بأنهما
لا ينعزلان بالاختلاف، وأنا للذين أقامهما الحاكم نائبان عنهما وهو عجيب،
والله العالم.
الثاني: قالوا: لو مرض أحدهما أو عجز ضم إليه الحاكم من يقويه،
وهذه العبارة لا تخلو من الاجمال، وتعدد الاحتمال، فيحتمل أن يكون المراد
572

منها أن المضموم إليه هو المريض والعاجز بأن يكون الضمير في " إليه " و " يقويه "
راجعا " إلى المريض، والعاجز، بمعنى أن الحاكم يضم إليهما شخصا " يقويهما
ويعينهما على التصرف، ويساعدهما على ذلك، فإن المرض، والعجز لا يخرجهما
عن الوصاية، لجواز الوصية ابتداء إلى المريض والعاجز، فكما لا يقدح في
الابتداء، كذا لا يقدح في الاستدامة، وأيضا " على هذا فيعتبر اجتماع الثلاثة
في التصرف.
ويحتمل أن يكون المراد بأن المضموم إليه هو الوصي الآخر المدلول عليه
بأحدهما ضمنا "، وحينئذ يكون الضمير في " إليه " وفي " يقويه " راجعا " إلى
الوصي الآخر المشار إليه، وعلى هذا يراد بالعجز والمرض البالغين حد المنع
وعدم إمكان التصرف، وبهذا صرح في الدروس فإنه جعل الضميمة مع عجز
أحدهما كما لو جن أو فسق، ومن الظاهر أن جعل العاجز والمريض كالمجنون
والفاسق اللذين لا وصاية لهما يعطي بلوغ العجز والمرض إلى حد يمنع من
القيام بشئ من الوصايا، فيكون المضموم إليه هو الوصي الآخر البتة.
وبالجملة فإنه ينبغي أن يكون المدار في ذلك على مرتبتي العجز والمرض،
فإن بلغتا إلى حد العجز الكلي وهو الحد الذي يمنع من القيام بشئ من الوصايا،
فإنه يكون للضم إلى الوصي الآخر، وإلا فإن الضم إلى المريض والعاجز، لأن
العجز والمرض إنما منع عن القيام بالجميع من ثبوت أصل القدرة، فيكون
المضموم إليهما مساعدا " لهما في الأشياء التي تضعف عنها قوتهما، وعلى هذا فتكون
الأوصياء ثلاثة، كما تقدم.
الثالث: قالوا: لو مات أحد الوصيين أو فسق لم يضم الحاكم إلى الآخر.
وجاز له الانفراد، لأنه لا ولاية للحاكم مع وجود وصي، وتردد فيه بعضهم.
أقول: ينبغي أن يعلم أن ذكر الموت والفسق إنما خرج مخرج التمثيل،
والمعنى أنه لو تعذرت مشاركة أحد الوصيين للآخر على الاجتماع، لأحد الموانع
573

كموت أو فسق أو عجز كلي أو جنون أو غيبة بعيدة، فالمشهور هو أن الحكم في
ذلك ما ذكر من استقلال الآخر بالوصية، من غير أن يضم إليه الحاكم بدلا " من
الوصي الآخر، لأنه لا ولاية للحاكم مع وجود الوصي، وهو هنا موجود ونصب
الآخر معه لا يخرجه من كونه وصيا "، ولهذا يقال: نصب وصيين، وهكذا قيل.
وفيه أن الظاهر من نصب الوصيين الذي قد عرفت آنفا " أن مقتضاه الاجتماع،
وهو أن الموصي لم يرض برأي أحدهما منفردا " كما تقدم ذكره، فتصرفه وحده
مناف لمقتضى الاجتماع المفهوم من الاطلاق، ومنه يعلم أنه مناف لغرض الموصي.
وقولهم أنه لا ولاية للحاكم مع وجود الوصي مسلم لو كان الوصي منفردا "،
وأما في صورة الاشتراك فهو ممنوع، وصدق وجود الوصي حقيقة هنا ممنوع،
بل الموجود جزء وصي، واطلاق الوصي عليه مجاز، وبه يثبت المنع من انتفاء
ولاية الحاكم هنا، بل الولاية له ثابتة، لأن ولايته تتعلق بما لا يشرع إنفاذه
لغيره من أحكام الميت، وهو هنا كذلك
قال في المسالك: والأقوى وجوب الضم وليس للحاكم أن يفوض إليه
وحده، وإن كان عنده صالحا " للاستقلال، لأن الموصي لم يرض برأيه وحده وعند
وجود إرادة الموصي لا تعتبر إرادة الحاكم، لأن ذلك كمنعه من كونه وصيا "
بالانفراد، فلا يتخطاه الحاكم، انتهى وهو جيد.
الرابعة: لا خلاف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) في أن للوصي أن يرد
الوصاية ما دام الموصي حيا " بشرط أن يبلغه ذلك، فلو مات الموصي قبل الرد أو
بعده ولم يبلغه لزمه القيام بها، وبذلك تكاثر الأخبار.
ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (طيب الله تعالى مراقدهم) عن محمد بن مسلم (1)
في الصحيح " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أوصى رجل إلى رجل وهو غائب فليس له أن
يرد وصيته، فإن أوصى إليه، وهو بالبلد، فهو بالخيار إن شاء قبل، وإن شاء لم يقبل ".

(1) الكافي ج 7 ص 6 ح 1، التهذيب ج 9 ص 205 ح 814، الفقيه ج 4
ص 144 ح 496، الوسائل ج 13 ص 398 ح 1.
574

والمراد أنه مات الموصي في تلك الغيبة، قبل أن يعلمه الوصي بالقبول
أو عدمه، فإنه يجب عليه القيام بالوصاية، وإن لم يقبل ".
وما رواه في الكافي والفقيه عن فضيل بن يسار (1) في الصحيح " عن أبي
عبد الله عليه السلام في رجل يوصى إليه فقال: إذا بعث بها إليه من بلد فليس له ردها،
وإن كان في مصر يوجد فيه غيره فذلك إليه ".
والتقريب فيه ما تقدم في سابقه، بمعنى أنه لو مات الموصي بعد البعث وقبل
وصول الجواب إليه بالقبول وعدمه، وحاصله أنه إذا أوصى إليه والوصي غائب
عن البلد، ثم مات لزمه القيام بالوصية قبل أو لم يقبل، وإن أوصى إليه وهو
حاضر فإنه مخير بين القبول وعدمه، لأن المصر يوجد فيه غيره.
وعن منصور بن حازم (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أوصى الرجل إلى
أخيه، وهو عائب فليس له أن يرد عليه وصيته، لأنه لو كان شاهدا " فأبى أن
يقبلها طلب غيره ".
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الفضيل (3). وكذلك الشيخ
في التهذيب " عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يوصي إليه؟ قال: إذا بعث بها من بلد
إليه، فليس له ردها ".
وقال في كتاب الفقه الرضوي (4) " وإذا أوصى رجل إلى رجل وهو شاهد
فله أن يمتنع من قبول الوصية، وكان الموصى إليه غائبا، ومات الموصي من قبل
أن يلتقي مع الموصى إليه، فإن الوصية لازمة للموصى إليه ".

(1) الكافي ج 7 ص 6 ح 2، التهذيب ج 9 ص 205 ح 815، الفقيه ج 4
ص 144 ح 497.
(2) الكافي ج 7 ص 6 ح 3 و 4، التهذيب ج 9 ص 206 ح 816 و 817، الفقيه ج 4 ص 145 ح 500. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 398 ح 2 و 3 و ص 399 ح 5.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(4) المستدرك ج 2 ص 522 الباب 21 ح 2.
575

أقول: وهذا الخبر مبين لما أجمل في الأخبار المتقدمة كما ذيلناها به،
وتحقيق الكلام في المقام أنك قد عرفت فيما تقدم أن الوصية من العقود الجائزة
في حياة الموصي فلكل من الموصي والموصى له بمال ونحوه، والموصى إليه
بالولاية، فسخها في حياة الموصي اجماعا ".
وأما بعد موته فإن قبل كل من الموصى له والموصى إليه فليس له الرد
اتفاقا، وإن لم يقبل في حال الحياة جاز له الرد بعد وفاته، إلا أنه في الموصى إليه
مشروط بأن يبلغ الموصي ويعلمه الرد في حال حياته، فلو لم يعلمه ذلك في حال
الحياة لزمه القيام بذلك، ولم يكن لرده أثر يترتب عليه، هذا هو المشهور.
وعليه تدل الأخبار المذكورة، لأنها كما عرفت متفقة في أنه لو كان الموصى
إليه غائبا " ومات الموصي بعد الوصية فليس له الرد، سواء بلغه الخبر وردها،
ولكن لم يبلغ الرد الموصي أو لم يبلغه الخبر إلا بعد موت الموصي، فإنه ليس له
الرد، بل يجب عليه القبول، وحينئذ فالحكم في هذه الصورة كما في الصورة
الأولى أعني موت الموصي بعد قبول الوصي، فإنه ليس للوصي الرد بعد موته
اتفاقا ".
وذهب العلامة في التحرير والمختلف إلى أنه يجوز له الرجوع ما لم يقبل،
قال في المختلف: أطلق الأصحاب عدم جواز رد الوصية إذا لم يعلم الوصي بها
حتى يموت الموصي، أو يعلم ويرد، ولما يعلم الموصي بالرد، لروايات كثيرة ثم
نقل رواية منصور بن حازم، وصحيحة محمد بن مسلم قال: والوجه عندي
المصير إلى ذلك أن كان قد قبل الوصية أولا "، وإن لم يكن قبل ولا علم جاز له
الرجوع، للأصل، ولإزالة الضرر الواصل بالتحمل غير المستحق، وقد قال الله
تعالى (1) " ما جعل عليكم في الدين من حرج " وقال عليه السلام (2) " لا ضرر ولا ضرار
في الاسلام " وتحمل الأحاديث على حصول القبول، لأنه عقد ولا بد فيه من القبول،

(1) سورة الحج الآية 78.
(2) الكافي ج 5 ص 29 ح 2، الوسائل ج 17 ص 341 ح 3.
576

وقد نبه الشيخ في المبسوط وفي مسائل الخلاف، عليه، فقال: إذا قبل الوصية له
أن يردها ما دام الموصي حيا، فإن مات فليس له ردها، واستدل باجماع الفرقة،
وبأن الوصية قد لزمته بالقبول، انتهى.
وقال في الدروس بعد ذكر القول المشهور في المختلف: يجوز الرد إذا لم
يعلم بالوصية حتى مات، للحرج وا لضرر، ولم نعلم له موافقا " عليه، انتهى.
أقول: يظهر من شيخنا في المسالك الميل إلى ما ذكره العلامة هنا حيث
قال بعد ذكر القول المشهور: وأن الأصحاب استندوا فيه إلى الأخبار التي قدمنا
هنا، ثم نقل قول العلامة ودليله ما هذه صورته:، والحق أن هذه الأخبار ليست
صريحة في المدعى، لتضمنها أن الحاضر لا يلزمه القبول مطلقا، والغائب يلزمه
مطلقا، وهو غير محل النزاع، نعم في تعليل الرواية المتقدمة إيماء إلى الحكم،
إلا أن اثبات مثل هذا الحك المخالف للأصول الشرعية باثبات حق الوصاية على
الموصى إليه على وجه القهر، وتسليط الموصي على اثبات وصيته على من شاء،
بحيث يوصي ويطلب من الشهود كتمان الوصية إلى حين موته، ويدخل على الوصي
الحرج والضرر غالبا " بمجرد هذه العلة المستندة إلى سند غير واضح بعيد،
ولو حملت هذه الأخبار على سبق القبول، أو على شدة الاستحباب كان أولى،
ولو حصل للوصي ضرر ديني، أو دنيوي أو مشقة لا يتحمل مثلها عادة أو لزم من
تحملها عليه ما لا يليق بحاله من شتم ونحوه قي جواز الرجوع، انتهى.
أقول: قد عرفت مما ذيلنا به بعض الأخبار المتقدمة وبه صرح عليه السلام في
كتاب الفقه الرضوي أن حكمه عليه السلام في تلك الأخبار على الغائب بأنه يلزمه
القيام بالوصية متى أوصى إليه في حال الغيبة ومات الموصي أعم من أن يكون
الوصي قد قبل الوصية لما بلغه الخبر أو لم يقبل، فإنه لا أثر لعدم قبوله بعد موت
الموصي، أما على الأول فظاهر، وهو مما لا خلاف فيه، وأما على الثاني وهو محل
الخلاف، فلظاهر هذه الأخبار، فإنها دلت كما عرفت على أنه بالوصية إليه حال
577

غيبته وموت الموصي يجب على الوصي القيام بالوصية، رضي بالوصية أو امتنع،
فإن امتناعه لا أثر له بعد موت الموصي وهذا هو محل الخلاف.
وأما إذا كان حاضرا " للوصية مشافها " لها، فإنه لا يلزمه القبول، وله أن
يردها ولا ضير فيه، لأن الموصي حي.
وحينئذ فيكف يتم قوله " أن ما تضمنته الأخبار غير محل النزاع وأنها غير
صريحة في المدعى " وقد عرفت من كلام العلامة ومن كلامه وهو أيضا " أن محل
النزاع هو أن يثبت للموصي إلزام بالقيام بوصيته مع عدم قبوله، ولا علمه بذلك،
بل يكون قهرا " عليه، وهذا هو الذي دلت عليه الأخبار بالتقريب الذي ذكرناه،
ولهذا أن غيره من الأصحاب كالعلامة في المختلف وغيره ممن قال بالقول المشهور
متفقون على دلالة الأخبار على القول المذكور، وهو الذي فهموه منها، وغاية
ما يتمسك به العلامة معارضتها بالأدلة الدالة على نفي الضرر والحرج، فتأول
الأخبار المذكورة جمعا " بين الأدلة بالحمل على القبول، وهو الظاهر من كلامه
أيضا "، وهو زاد احتمال الحمل على شدة الاستحباب.
وأنت خبير بما في التأويلين المذكورين من البعد، وأما المعارضة بالأدلة
على نفي الضرر والحرج، فإنا نمنع حصول الضرر والحرج بمجرد الوصية إليه،
وإلا للزم عدم جواز قبول الوصاية مطلقا "، فإنه لا يجوز للانسان أن يلقي نفسه
في الضرر، لو كان مجرد الوصية إليه يستلزم ذلك، نعم لو فرض اتفاق ذلك في
بعض الموارد كما فرضه (قدس سره) في آخر كلامه، فإنه يجوز له الرجوع دفعا "
للضرر عن نفسه، وبه يحصل الجمع بين أخبار الضرر وأخبار المسألة، ولا يحتاج
إلى ما ذكروه من التأويلين البعيدين.
وأما ما ذكره من أن اثبات هذا الحكم مخالف للأصول الشرعية باثبات حق
الوصاية على الموصى إليه على وجه القهر إلى آخر كلامه، في ذلك.
ففيه أنه إذا ثبت ذلك بالأدلة الصحيحة كما عرفته من هذه الروايات مع
578

صحتها باصطلاحهم من غير معرض لها في البين، فإنه يجب تخصيص الأصول التي
ذكرها بهذه الأخبار، إذ ما من عام إلا وقد خص، ولم يبق حينئذ إلا مجرد
الاستبعاد العقلي الذي فرضه، وهو غير مسموع في مقابلة الأخبار، سيما مع
صحتها وتكاثرها، ووضوح دلالتها كما فصلناه، والله العالم.
الحاق:
قال الصدوق: إذا دعى الرجل ابنه إلى قبول وصيته فليس له أن يأبى وإذا
أوصى رجل إلى فليس له أن يأبى إن كان حيث لا يجد غيره، وإذا أوصى رجل
إلى رجل وهو غائب عنه، فليس له أن يمتنع من قبول وصيته.
أقول: أما الحكم الأول فيدل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى
مراقدهم) عن علي بن الريان (1) " قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام رجل دعاه
والده إلى قبول وصيته هل له أن يتمنع من قبول وصيته؟ فوقع عليه السلام: ليس له
أن يمتنع ".
وأما الثاني فالظاهر أن الدليل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة أيضا " في الصحيح
أو الحسن عن هشام بن سالم (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يوصي إلى الرجل
بوصية فأبى أن يقبلها؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام لا يخذله على هذه الحال ".
وظاهره (قدس سره) حمل الخبر على وجوب القبول، ولذا قيده بأن لا يجد
غيره، وفيه تأييد لما ذكرناه ردا " على شيخنا المتقدم ذكره، وينبغي تقييد كلامه
بما قيدت به الأخبار المتقدمة من موت الموصي بعد الوصية والعلامة في المختلف
حمل القبول في الأولين أولا على شدة الاستحباب، ثم قال: على أن امتناع الولد
نوع عقوق، ومن لا يوجد غيره يتعين عليه، لأنه فرض كفاية، وبالجملة فأصحابنا

(1) الكافي ج 7 ص 7 ح 6 و ص 6 ح 5، التهذيب ج 9 ص 206
ح 819 و 818، الفقيه ج 4 ص 145 ح 498 و 499، الوسائل ج 13 ص 400
الباب 24 و ص 399 ح 4.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
579

لم ينصوا على ذلك، ولا بأس بقوله، انتهى.
وفيه عدول إلى القول بوجوب القبول، وفي حكمه بكون القبول فرض
كفاية يتعين مع عدم وجود فرد آخر ما يوجب الإيراد عليه فيما تقدم نقله
عنه من عدم وجوب قيام الموصى إليه بالوصاية بعد موت الوصي، إذا أوصى إليه
وهو غائب وإن لم يعلم، ولم يقبل، لأن وجوب قبول الوصية كفاية إنما هو حال
حياة الموصي أما بعد موته فإنها يتعين فيمن أوصى إليه كما لو لم يكن غيره حال
الحياة، فإنه يصير القبول واجبا " عينيا ".
الحاق آخر:
قد عرفت أنه يشترط في جواز الرد في الحياة بلوغ الخبر الموصي، لكن
يبقى الكلام في أنه لو بلغه الخبر، ولم يمكنه إقامة وصي غيره، فهل يكفي في
جواز الرد مجرد بلوغ الخبر وإن لم يوجد وصي غيره، أو لا بد من تقييده بامكان
وجود وصي آخر عوض الأول؟ وظاهر اطلاق الفتاوى الأول، وظاهر النصوص
الثاني.
ومنها صحيحة هشام بن سالم أو حسنته المتقدمة، وقوله عليه السلام فيها " لا يخذله
على هذه الحال "، وقد عرفت حملها على عدم وجود غيره، كما صرح به الصدوق
وغيره.
ومنهم العلامة في المختلف كما تقدم، والشهيد في الدروس، ومقتضاها كما
عرفت أنه مع عدم وجود الغير لا يجوز له الرد، ويشير إلى ذلك قوله عليه السلام في
صحيحة الفضيل بن يسار المتقدم " وإن كان في مصر يوجد غيره فذاك إليه " وقوله
في صحيحة منصور بن حازم " لأنه لو كان شاهدا " فأبى أن يقبلها يطلب غيره " فإنهما
ظاهران في تعليق جواز الرد على وجود الغير، فلو لم يوجد الغير لقبول الوصية
لم يجز له الرد، والله العالم.
580

الخامسة: لا خلاف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) في أن الوصي أمين، لا
يضمن ما بيده من الأموال التي تعلقت بها الولاية إلا بتعد أو تفريط، وينبغي أن
يكون المدار في التعدي وعدمه على مخالفة شرط الوصية وعدمها، فلو ركب
الدابة أو لبس الثوب لا لغرض يعود إلى الطفل أو نفع يترتب عليه، كان ذلك تعديا
لأن مقتضى الوصية حفظهما أو بيعهما وصرفهما في الجهة المأمور بها، فتصرفه فيها
كذلك لأغراض نفسه تعد البتة.
أما لو تعلق بذلك غرض يعود إلى الطفل، كأن يركب الدابة للمضي في
حوائج الطفل من استيفاء دينه، أو جمع حواصله أو نحو ذلك، ولبس الثوب لدفع
الضرر عنه باللبس، كما في ثياب الصوف ونحوها في أوقات الحر ونحو ذلك، فإنه
لا يكون تعديا، بل ربما صار في بعض الأفراد واجبا " عليه إذا علم حصول الضرر
بدون ذلك.
وظاهر كلامهم أن غاية ما يوجبه التعدي والتفريط وجوب الضمان عليه مع
بقائه على الوصاية، ولا يوجب ذلك عزله، مع أنه قد صرحوا بأنه إن ظهر منه
خيانة وجب على الحاكم عزله، والظاهر أن التعدي والتفريط نوع خيانة أيضا
إلا أنهم لم يصرحوا بذلك، بل ربما ظهر من كلامهم في الحكم الأول عدم كون
ذلك خيانة، فينبغي التأمل في ذلك، ثم إن ما ذكروه من أنه متى ظهرت منه
خيانة وجب على الحكم عزله، ونصب غيره ظاهر فيما لو لم يشترط عدالة الوصي
فإن للحاكم أن يعزل الخائن مراعاة لحق الأطفال، ومصارف الصدقات، ونحوها
من تنفيذ الأمور الموصى بها.
وأما على تقدير اشتراط العدالة كما هو المشهور، فإنه ينعزل بنفس الفسق
وإن لم يعزله الحاكم، ولعل المراد بعزل الحاكم في كلامهم ما هو أعم من قوله
عزلتك كما هو الحكم بالنسبة إلى القول الأول أو منعه من التصرف، لأنه قد
انعزل بنفس الفسق كما هو القول ا لثاني، فالمراد بعزله يعني منعه من التصرف،
581

ولو عجز الوصي عن القيام به إليه، قالوا: ضم إليه الحاكم من يساعده.
وظاهر كلامهم أنه لا فرق في العجز بين أن يكون عن الاستقلال بالوصية
حال الوصية إليه، أو تجدده بعد الوصية قبل موت الموصي أو بعده، وبه صرح
في التذكرة على ما نقل عنه حيث قال: الظاهر من مذهب علمائنا جواز الوصية
إلى من يعجز عن التصرف، ولا يهتدى إليه لمشقة أو هرم أو غيرهما، ويجبر
نقصه بنظر الحاكم، انتهى.
وعلى هذا فكما لا تبطل الوصية بالعجز الطارئ كذا لا تبطل لو كان متصفا
به ابتداء، ولا يخلو من اشكال لأن الوصية إليه مع العلم لعدم إمكان قيامه بذلك
لا فائدة فيها، ولا يترتب عليها أثر، فكيف يحكم بصحتها، وضم الحاكم بعد ذلك
شخصا " آخر للقيام بها يكون من قبيل نصبه وصيا " لمن لم يوص بالكلية، فلا أثر
له في صحة الوصية الأولى.
وإلى ما ذكرنا يميل كلام شيخنا الشهيد في الدروس حيث إنه توقف في
صحة الوصية إلى العاجز ابتداء، فقال: ففي بطلانها من رأس، وصحتها ويضم
الحاكم إليه مقويا " نظر، ينشأ من وجوب العمل بقوله ما أمكن، ومن عدم
الفائدة المقصود بالوصية، انتهى.
أقول: لا ريب أن وجوب العمل بقوله إنما يتم مع ترتب الأثر المقصود
من الوصية عليه، وإلا فمتى لم يترتب عليه أثر كما هو المفروض، فإنه لا معنى
لهذا الوجوب بالكلية.
وأما ما ذكره في المسالك في الاستدلال على ما ذكره الشهيد من أنه يمكن
منع عدم الفائدة على هذا التقدير، لجواز أن يكون العاجز ذا رأي وتدبير
ولكنه عاجز عن الاستقلال، فيفوض إليه الموصي أمره لذلك، ويعتمد في اتمام
الفعل على نصب الحاكم له معينا "، فتحصل الفائدة المطلوبة من الوصية، ويسلم
من تبديلها المنهي عنه.
582

ففيه أولا " أن المفروض في كلامه كما سمعت من عبارة التذكرة " يعجز
عن التصرف ولا يهتدى إليه " هو العجز عن ذلك بجميع أنواعه في رأي كان أو
فعل، والعاجز عن الاستقلال مع كونه ذا رأي وتدبير في قوة العاجز عن البعض
مع القدرة على البعض، وهو خلاف محل البحث.
وثانيا " أن الاعتماد على نصب الحاكم أمر خارج عد الوصية، لأنه كما
عرفت في قوة نصب وصي لمن لا وصي له بالكلية، ومحل البحث إنما هو وصية
الوصي على هذا الوجه الذي لا يترتب على وصيته أثر بالكلية، لأن الوصية إلى
العاجز الذي يعلم عدم قيامه بشئ مما يوصى به إليه في قوة العدم، ومن
المقطوع به عقلا أن مثل هذا لا يصدر عن عاقل، وإنما هو فرض ذكروه.
وبالجملة فما ذكروه من الصحة لا أعرف له وجها " وجيها "، والمسألة باقية
في قالب الاشكال وللتوقف فيها مجال، والله العالم.
السادسة: قال الشيخ في النهاية: إذا كان للوصي على الميت مال لم يجز له
أن يأخذه من تحت يده، إلا ما تقوم له به البينة، وتبعه ابن البراج ونازعه
ابن إدريس في ذلك، فقال: هذا خبر واحد أورده (رحمة الله) إيرادا " لا اعتقادا "
والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنه يأخذ من ماله في يده، لأن من له على انسان
مال ولا بينة له عليه، ولا يقدر على استخلاصه ظاهرا "، فله أخذ حقه باطنا "، لأنه
يكون بأخذ ماله من غير زيادة عليه محسنا " لا مسيئا، وقد قال الله تعالى (1)
" ما على المحسنين من سبيل "، انتهى.
وبما ذكره ابن إدريس صرح الشهيد في الدروس واللمعة، وظاهر المحقق
في الشرايع الميل إلى ما ذكره الشيخ في النهاية حيث أفتى أولا " بتقييد الجواز
بغير إذن الحاكم بما إذا لم يكن له حجة، ثم قال: وقيل يجوز مطلقا، وأنت
خبير بأن ظاهر كلام الشيخ هو أنه لا يجوز له الأخذ إلا مع الاثبات بالبينة عند

(1) سورة التوبة الآية 91.
583

الحاكم، فلو تعذر الاثبات امتنع الأخذ.
وظاهر كلام المحقق ومثله ظاهر كلام العلامة في المختلف هو التوقف على
الاثبات لو كان ثمة بينة، إلا أنه في المختلف جعله الأولى ولو لم تكن له بينة
كان له الأخذ من غير توقف على الاثبات، وهو قول متوسط بين قولي الشيخ
حيث أطلق توقف الجواز على البينة، وقول ابن إدريس حيث جوز الأخذ مطلقا ".
والأصل في هذا الاختلاف ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن
بريد بن معاوية (1) في الموثق " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إن رجلا "
أوصى إلي فسألته أن يشرك معي ذا قرابة له ففعل، وذكر الذي أوصى إلي
أن له قبل الذي أشركه في الوصية خمسين ومائة درهم، وعنده رهن بها جام
من فضة، فلما هلك الرجل أنشأ الوصي يدعي أن له قبله أكرار حنطة، قال:
إن أقام البينة، وإلا فلا شئ له، قلت له أيحل له أن يأخذ مما في يده شيئا "؟
قال: لا يحل له، قلت أرأيت لو أن رجلا " عدا عليه فأخذ ماله، فقدر على أن
يأخذ من ماله ما أخذ، أكان ذلك له؟ قال: إن هذا ليس مثل هذا ".
وهذه الرواية هي مستند الشيخ فيما ذهب إليه في النهاية، وهي ظاهرة
بل صريحة فيما ذهب إليه من العموم، وابن إدريس قد اعتمد على الروايات
الكثيرة الدالة على جواز الأخذ مقاصة ممن له عليه الدين، ولم يتمكن من
اثباته وأخذه، كما صرح به، والإمام عليه السلام في هذه الرواية قد أشار إلى الفرق
بين المسألتين، لما عارضه الراوي بتلك المسألة، وحينئذ فالاستناد إلى تلك الأخبار في الحكم، كما ذكره ابن إدريس مع إشارته عليه السلام إلى أن هذه المسألة
ليست مثل ذلك مشكل.
ولعل المراد بخروج هذه المسألة عن تلك القاعدة التي تكاثرت بها الأخبار،

(1) الكافي ج 7 ص 57 ح 1، التهذيب ج 9 ص 232 ح 910، الفقيه ج 4
ص 174 ح 613، الوسائل ج 13 ص 479 ح 1.
584

أن هذا الوصي المدعي له شريك في التصرف والتنفيذ، وهو الوصي الآخر، فلا
يجوز له التصرف بدونه، وجواز التصرف للوصي الآخر يدفع إليه ما ادعاه
موقوف على الاثبات شرعا "، لأنه ليس له أن يمكنه بمجرد دعواه، كغيره ممن
يدعي على الميت، مالا "، بل يجب عليه طلب البينة منه واليمين، كما هو المقرر في
الدعوى على الميت، ولا يكفي هنا مجرد الثبوت في الواقع، كما في تلك المسألة،
لأن ذلك مخصوص بما إذا لم يطلع عليه أحد سواه، فإنه يجوز له الأخذ مقاصة،
وعلى هذا فالحكم المذكور مختص بمورد الرواية، وهو وجود وصيين، ودعوى
أحدهما ليمكن توجيه الفرق بين المسألتين.
وأما على ما ادعاه الشيخ من فرض المسألة في الوصي، وإن كان واحدا "
وادعى دينا " على الموصي، فإن الظاهر هنا ما ذهب إليه ابن إدريس، لأن هذا
الفرد أحد أفراد تلك القاعدة التي تكاثرت بها الأخبار، وقد تقدم تحقيق الكلام
فيها في صدر الفصل الأول في البيع من كتاب التجارة (1) وبذلك يظهر أيضا " ما في
فتوى المحقق، بتوقف جواز أخذ الوصي واستيفاء حقه على الاثبات إن وجدت
البينة، فإنه إن كان هذا مذهبه في تلك المسألة كما هو أحد القولين فيها فلا
اشكال، وإن كان مذهبه ثمة، كما هو المشهور من جواز الأخذ مقاصة وإن أمكن
الاثبات، فإنه لا معنى لهذا الاشتراط هنا، مع كون هذه المسألة أحد أفراد تلك
القاعدة.
وبالجملة الوقوف على مورد الرواية من وجود وصيين، أحدهما
يدعي المال كما ذكرناه، فإنه أخص من تلك المسألة، وأما لو كان الوصي متحدا "
فإنه من جملة أفراد تلك المسألة، يحكم فيها ما يحكم في تلك المسألة من جواز
الأخذ مقاصة، كما هو الأشهر الأظهر، وعلله في المسالك بأن الغرض كونه وصيا "
في اثبات الديون، فيقوم مقام الموصي في ذلك، والغرض من البينة والاثبات

(1) ج 18 ص 349.
585

عند الحاكم جواز كذب المدعي في دعواه، فنيطت بالبينة شرعا "، وعلمه بدينه
أقوى من البينة التي يجوز عليها الخطأ، ولأنه بقضاء الدين محسن (1) " وما
على المحسنين من سبيل " قال: وبهذا يظهر الفرق بين دين الموصي وغيره، حيث
لا يعلم به الوصي، وعلى تقدير علمه يمكن تجدد البراءة منه، فلا بد من اثباته،
حتى باليمين مع البينة بذلك، انتهى.
والأولى جعل ذلك وجها للنصوص الدالة على جواز الأخذ والمقاصة للوصي
الذي هو أحد أفراد تلك القاعدة، فإنها هي الأصل في اثبات الحكم المذكور.
تذنيب:
قد ظهر مما قررناه أنه متى كان الوصي متحدا " فإن الظاهر كما هو المشهور
أنه يجوز له استيفاء دينه عملا " بروايات تلك القاعدة المشهورة.
بقي الكلام فيما لو كان الدين لغيره، وهو عالم به، بمعنى أنه سمع اقرار
الموصي به قبل الموت بزمان لا يمكن فيه القضاء، ويكون المستحق من لا يمكن في
حقه الابراء، كالطفل مثلا والمسجد ونحوهما، فإن ظاهر الأصحاب أن للوصي
أداء الدين المذكور، أما لو كان أصحاب الدين كبارا " يمكن الابراء في حقهم،
فلا بد من احلافهم على بقائه، وإن علم به سابقا، إلا أنهم (رضي الله عنهم) صرحوا
بأنه لا يكفي احلاف الوصي إياهم، إلا إذا كان مستجمعا " لشرائط الحكم، بمعنى
كونه فقيها " جامع الشرائط، وصرحوا بأنه ليس للحاكم أن يأذن له في التحليف،
بناء على علمه بالدين، بل لا بد من ثبوته عند الحاكم، لأن الحكم لا يجوز
لغير أهله، نعم له بعد ثبوته عنده بالبينة توكيله في احلافهم.
أقول: وعلى هذا تخرج المسألة عن الاكتفاء بعلم الموصي في جواز أداء
الدين العالم به، وتبقى ثمرة ذلك في تولية تحليفهم.

(1) سورة التوبة الآية 91.
586

السابعة: لا خلاف في أن الموصي لو أذن لوصيه بالايصاء، فإنه يجوز له
اجماعا، وكذا لا خلاف فيما لو منعه، فإنه لا يجوز له، وإنما محل الخلاف السكوت
عن كل من الأمرين واطلاق الوصية، فالمشهور المنع، وأن النظر بعده للحاكم
الشرعي، وهو مذهب الشيخ المفيد وأبي الصلاح وابن إدريس والمحقق والعلامة
وغيرهم، وذهب جمع منهم الشيخ في النهاية وابن الجنيد والقاضي ابن البراج إلى
الجواز، والشيخ في النهاية بعد أن قال: بجواز الايصاء.
قال: وقال بعض أصحابنا: أن ليس له أن يوصي إلى غيره بما كان يتصرف
فيه، فإذا مات كان على الناظر في أمر المسلمين أن يقيم من ينظر في ذلك، فإن
لم يكن هناك إمام كان الفقهاء آل محمد عليهم السلام، وذوي الآراء منهم أن يتصرفوا في
ذلك إذا تمكنوا منه، وإن لم يتمكنوا فليس عليهم شئ، ولست أعرف بهذا
حديثا " مرويا ".
وقال في المختلف: إذا أوصى إلى غيره وأطلق الوصية، ولم يقل إذا مت
فوصيي فلان، ولا قال: فمن أوصيت إليه فهو وصيي، لأصحابنا فيه قولان: المروي
أن له أن يوصي إلى غيره، وقال بعض أصحابنا: ليس له أن يوصي فإذا مات أقام
الناظر في أمر المسلمين من ينظر في تلك الوصية.. دليلنا على القولين، روايات
أصحابنا (رضي الله عنهم) بجواز الايصاء.
أقول: أنظر إلى ما دل عليه الكلام الأول من أنه ليس يعرف بهذا حديثا "
وإلى ما دل على الكلام الآخر، من أن دليل القولين روايات أصحابنا.
وقال ابن الجنيد والقاضي ابن البراج: وقد روى ابن بابويه في كتابه في
الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (1) " أنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام
رجل كان وصي رجل فمات فأوصى إلى رجل آخر هل يلزم الوصي وصية الرجل
الذي كان هذا وصيه؟ فكتب عليه السلام: يلزمه بحقه، إن كان له قبله حق إن شاء الله

(1) الفقيه ج 4 168 ح 587، الوسائل ج 13 ص 460 الباب 70 ح 1.
587

تعالى " الظاهر أن المراد بالحق هنا حق الايمان.
أقول: أنت خبير بما في الرواية المذكورة من الاجمال، وتعدد الاحتمال،
والمستدل بها قد استدل بها بناء على ما ذكره من تفسير الحق بحق الايمان،
فكأنه عليه السلام قال: يلزمه القيام بوصيته إن كان مؤمنا " وفاء لحقه، بسبب الايمان،
فإنه يقتضي معونة المؤمن وقضاء حوائجه.
ولا يخفى ما فيه، والأقرب في معنى الخبر ما ذكره شيخنا في المسالك،
وإليه أشار العلامة في المختلف من حمل الحق في الخبر على حق الوصية إلى
الوصي الأول، بمعنى أن الوصية تلزم الوصي الثاني بحق الأول إن كان له، أي
للأول قبله، يعني قبل الوصي الأول حق، بأن يكون قد أوصى إليه، وأذن له
أن يوصي، فقد صار له قبله حق الوصية، فإذا أوصى بها لزمت الثاني، وهذا
الاحتمال إن لم يكن أرجح لا أقل أن يكون مساويا "، وبه يسقط الاستدلال
بالخبر في هذا المجال، على أن حق الايمان لا يختص بهذا الوصي الثاني، بل
يجب على كل مؤمن كفاية، والكلام في اختصاص هذا الوصي من حيث الوصاية،
لا من حيث جهة المعونة العامة.
وبالجملة فالأصل يقتضي المنع من التعدي إلى غير الوصي الأول، لأن
المتبادر من استنابته في التصرف مباشرته بنفسه، وبموته يسقط ذلك، وتفويض
التصرف إلى غيره يحتاج إلى دليل ظاهر، والرواية على ما عرفت من الاجمال،
وتعدد الاحتمال لا تصلح للاستدلال.
فإن قيل: إن ما ادعيتموه من أن المتبادر من استنابة الوصي في التصرف
مباشرته بنفسه، ينتقض عليكم بالتوكيل فيما هو وصي فيه، فإن للوصي أن
يوكل فيما جرت العادة بالتوكيل فيه، بل وغيره على ما اختاره في المسالك
أيضا، فلو اقتضى اطلاق الايصاء المباشرة، لما جاز التوكيل، وبعضهم اعتمد على
هذا دليلا للقائلين بهذا القول، فقال: ويدل عليه جواز الوكالة، فكما جازت
الوكالة جاز الايصاء.
588

والجواب عن ذلك أولا " بأنه يرجع إلى قياس الوصاية على الوكالة، ومع
قطع النظر عن كونه قياسا " مع الفارق، غير صحيح أصولنا معشر الإمامية
وثانيا " ما ذكره شيخنا في المسالك وإليه أشار الشهيد قبله في شرح الإرشاد
من الفرق بين الوكالة والوصاية، لأن الوكالة على جزئيات مخصوصة ملحوظة
بنظره حيا يمضي منها ما وافق غرضه، ويرد ما خالف، بخلاف الايصاء الذي لا يحصل
أثره إلا بعد الموت، وفوات نظره، وأيضا " فإن الوصي في حال حياته مالك للتصرف
على الوجه المأذون فيه، ووكيله بمنزلته، بخلاف تصرف الوصي بعد وفاته،
لزوال ولايته المقصورة بنفسه، وما في حكمه بموته.
وكيف كان فالظاهر بناء على المشهور أنه يرجع الأمر في تنفيذ وصاية
الموصي الأول إلى الحاكم، أو عدول المؤمنين مع عدمه، كما صرحوا به في غير
موضع، إلا أن الظاهر من عبارة الشيخ المتقدم نقلها عن كتاب النهاية الاختصاص
هنا بالإمام أو نائبه الفقيه الجامع الشرائط، ومثلها عبارة الشيخ المفيد أيضا،
ويمكن تقييدهما بما أشرنا إليه مما صرح به الأصحاب في أمثال هذا الموضع،
كما سيأتي في المسألة إن شاء الله تعالى، والله العالم.
الثامنة: لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو مات ولم يوص إلى أحد وكان
له تركة وأموال وأطفال، فإن النظر في تركته للحاكم الشرعي، وإنما الخلاف
في أنه لو لم يكن ثمة حاكم فهل لعدول المؤمنين تولي ذلك أم لا؟ الذي قد صرح
الشيخ وتبعه الأكثر الأول، وقال ابن إدريس بالثاني.
قال الشيخ في النهاية: إذا مات انسان من غير وصية كان على الناظر في
أمر المسلمين أن يقيم له ناظرا ينظر في مصلحة الورثة، ويبيع لهم ويشتري،
ويكون ذلك جايزا فإن لم يكن السلطان الذي يتولى ذلك أو يأمر به، جاز
لبعض المؤمنين أن ينظر في ذلك من قبل نفسه، ويستعمل فيه الأمانة ويؤديهما من
غير اضرار بالورثة، ويكون ما يفعله صحيحا ماضيا.
589

وقال ابن إدريس: والذي يقتضيه المذهب أنه إذا لم يكن سلطان يتولى
ذلك فالأمر فيه إلى فقهاء شيعه آل محمد عليهم السلام من ذوي الرأي والصلاح،
فإنهم عليهم السلام قد ولوهم هذه الأمور، ولا يجوز لمن ليس بفقيه أن يتولى ذلك بحال،
فإن تولاه فإنه لا يمضي شئ مما يفعله، لأنه ليس له ذلك بحال، فأما إن تولاه
الفقيه مما يفعله، صحيح جائز ماض، انتهى.
وتردد المحقق في الشرايع، والواجب أولا ذكر ما وصل إلينا من الأخبار
المتعلقة بالمقام، ثم الكلام فيها بما رزق الله فهمه منها بتوفيق الملك العلام وبركة
أهل الذكر عليهم السلام.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن
بزيع " قال: مات رجل من أصحابنا، ولم يوص فرفع أمره إلى قاضي الكوفة
فصير عبد الحميد القيم بماله، وكان الرجل خلف ورثة صغارا " ومتاعا " وجواري،
فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن إذا لم يكن
الميت صير إليه الوصية وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهن فروج قال: فذكرت
ذلك لأبي جعفر عليه السلام فقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصي إلى أحد ويخلف
جواري فيقيم القاضي رجلا " منا لبيعهن أو قال: يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه،
لأنهن فروج فما ترى في ذلك؟، قال: فقال: إذا كان القيم مثلك ومثل عبد الحميد
فلا بأس ".
وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن علي بن رئاب (2) في
الصحيح ففي بعض طرقه " قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن رجل بيني وبينه
قرابة، مات وترك أولادا " صغارا " وترك مماليك وغلمان وجواري ولم يوص فما ترى

(1) الكافي ج 5 ص 209 ح 2، التهذيب ج 9 ص 240 ح 932.
(2) الكافي ج 7 ص 67 ح 2، التهذيب ج 9 ص 239 ح 928، الفقيه
ج 4 ص 161 ح 564.
وهما في الوسائل ج 12 ص 270 ح 2 و ج 13 ص 474 ح 1.
590

فيمن يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد؟ وما ترى بيعهم؟ قال: فقال: إن
كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم وكان مأجورا " فيهم، قلت: فما ترى
فيمن يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد؟ قال: لا بأس بذلك، إذا باع عليهم
القيم لهم الناظر فيما يصلحهم وليس لهم أن يرجعوا فيما صنع القيم لهم والناظر
لهم فيما يصلحهم ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن سعد الأشعري (1) في الصحيح
" قال: سألت الرضا عليه السلام عن رجل مات بغير وصية وترك أولادا " ذكرانا " وغلمانا "
صغارا "، وترك جواري ومماليك هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال: نعم، وعن
الرجل يصحب الرجل في سفره فيحدث به حدث الموت، ولا يدرك الوصية كيف
يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار؟ أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى ولده
الأكابر أو إلى القاضي؟ وإن كان في بلده ليس فيها قاض كيف يصنع؟ وإن كان
دفع المال إلى ولده الأكبر ولم يعلم به فذهب ولم يقدر على رده كيف يصنع؟
قال: إذا أدرك الصغار وطلبوا فلم يجد بدا " من اخراجه، إلا أن يكون بأمر
السلطان، وعن الرجل يموت بغير وصية وله ورثة صغار وكبار أيحل شراء خدمه
ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك، فإن تولاه قاض قد تراضوا به، ولم
يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في
البيع فلا بأس به إذ رضي الورثة بالبيع، وقام عدل في ذلك "
وما رواه الشيخ الثلاثة عن سماعة (2) في الموثق " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك
وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث، قال إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك

(1) الكافي ج 7 ص 66 ح 2، التهذيب ج 9 ص 239 ح 927.
(2) الكافي ج 7 ص 67 ح 3، التهذيب ج 9 ص 240 ح 929، الفقيه
ج 4 ص 161 ح 563.
وهما في الوسائل ج 13 ص 475 ح 3 و ص 474 ح 2.
591

كله فلا بأس.
أقول: لا يخفى أن الظاهر من هذه الأخبار باعتبار ضم بعضها إلى بعض،
وحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها هو ما صرح به الأكثر، فإنه هو
الأقرب منها والأظهر.
أما صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع فإنه عليه السلام قد أجاب فيها (1) " إذا اتفق
أن القيم الذي نصبه القاضي مثلك ومثل عبد الحميد يعني في الوثاقة والعدالة فلا
بأس " ومن المعلوم أن نصب القاضي عندنا في حكم العدم، فمرجع الكلام إلى أنه
إن تولى ذلك ثقة فلا بأس، وهو أظهر ظاهر في المراد.
أما صحيحة علي بن رئاب فالولي فيها مجمل، يجب حمله على ما يدل عليه
غيرها من الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين كما عرفت وستعرف إن شاء الله تعالى.
وأما صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري فقد دل صدرها على جواز بيع
الجواري مع عدم وجود وصي كما هو المفروض في السؤال وهو وإن كان مطلقا،
لكن يجب تقييد اطلاقه بتولي العدل لذلك، كما نبه عليه في آخر السؤال الأخير،
بقوله فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع يعني الكبار منهم، وقام عدل في ذلك يعني
بالنسبة إلى الصغار، وأظهر من ذلك موثقة سماعة حيث شرط عليه السلام في صحة
الميراث المذكور قيام ثقة عن الأطفال يقاسم البالغ منهم.
وبالجملة فإن الروايات ظاهرة في جواز قيام العدل الثقة بذلك،
وأنه بهذه الأخبار مأذون في الدخول، سواء وجد الإمام أم لا، ولا يبعد القول
بجواز تولية ذلك أيضا " مع وجود الفقيه الجامع للشرائط، وإن كان ظاهر
الأصحاب خلاف ذلك، لأن القائلين بهذا القول قيدوا ذلك بتعذر الفقيه، لأنه
النائب العام كما تضمنته مقبولة عمر بن حنظلة (2) ونحوها إلا أنه يمكن أن
يقال: إنه بهذه الأخبار قد حصل الإذن للثقة العدل منهم عليه السلام بتولي ذلك مطلقا "،

(1) نقل بالمعنى.
(2) الكافي ج 7 ص 412 ح 5، الوسائل ج 18 ص 3 ح 4.
592

كما هو ظاهرها.
وأخبار النيابة موردها كما هو الظاهر من سياقها إنما هو الفتوى في
الأحكام، والقضاء بين الخصوم، وأما مثل الولاية على طفل أو مال غائب أو نحو
ذلك، فليس في الأخبار ما يدل على اختصاصه بالإمام أو القفيه الجامع للشرائط.
نعم ذلك وقعه في كلام الأصحاب، وبذلك يظهر لك ما في كلام ابن إدريس
من الضعف والقصور لبنائه على أن الثقة غير مأذون له في الدخول في هذه
الأمور.
قال في المسالك: ويستثنى من موضع الخلاف ما يضطر إليه الأطفال
والدواب من المؤنة، وصيانة المشرف على التلف، فإن ذلك ونحوه واجب على
الكفاية على جميع المسلمين، فضلا " عن العدول منهم، حتى لو فرض عدم ترك
مورثهم مالا فمؤنة الأطفال ونحوهم من العاجز عن التكسب واجب على المسلمين
من أموالهم كفاية، كإعانة كل محتاج، واطعام كل جائع يضطر إليه، فمن مال
المحتاج إليه أولى، انتهى.
ومرجع كلامه (قدس سره) إلى أن هذه الأشياء التي يضطر إليها يجب
اخراجها عن محل الخلاف، بمعنى أنها لا يتوقف على وجود الإمام أو النائب
أو الثقة، فلو لم يوجد أحد منهم امتنع النظر فيه، بل يجب ذلك على الكافة
وجوبا كفائيا إن لم يوجد أحد من هؤلاء، وهو جيد.
وقال في المسالك أيضا ". إعلم أن الأمور المفتقرة إلى الولاية إما أن يكون
أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا فإن كان الأول فالولاية فيهم لأبيه، ثم لجده
لأبيه، ثم لمن يليه من الأجداد على ترتيب الولاية، الأقرب منهم إلى الميت
فالأقرب، فإن عدم الجميع فوصي الأب، ثم وصي الجد، وهكذا فإن عدم الجميع
فللحاكم، والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي، ثم للحاكم، والمراد به السلطان
العادل أو نائبه الخاص أو العام مع تعذر الأولين، إلى أن قال: فإن فقد الجميع
593

فهل يجوز أن يتولى النظر حينئذ في تركة الميت من يوثق به من المؤمنين؟
قولان: ثم نقل القولين المتقدمين في المسألة، ونفى البأس عن القول المشهور،
والله العالم
التاسعة: لو أوصى بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب فللأصحاب في
ذلك أقوال ثلاثة: أحدها البطلان مطلقا، لما تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني
من أن ولاية الجد وإن علا على الولد مقدمة على ولاية وصي الأب، وحينئذ
فإذا نصب الأب وصيا " على ولده المولي عليه مع وجود أبيه أي جد الطفل لم يصح
مطلقا، لأن ولاية الجد ثابتة بأصل الشرع، فليس للأب نقلها عنه، ولا جعل
شريك له في ذلك.
وثانيها بطلان الولاية زمان ولاية الجد خاصة، بمعنى أنه لو أوصى الأب
إلى أجنبي فإن ولايته تبطل ما دام الجد موجودا "، وبعد موت الجد تعود الولاية
إلى الوصي، لأن ولاية الأب شاملة للأزمان كلها إلا زمان ولاية الجد، فيختص
البطلان بزمان وجوده.
ورد بأن الأب لا ولاية له بعد موته مع وجود الجد، فإذا انقطعت ولاية
الأب بموته لم يقع ولاية وصيه، فإذا مات الجد افتقر عود ولايته لتؤثر في
منصب الوصي إلى دليل، إذ الأصل عدم عودها، فلا تصح في حال حياة الجد،
ولا بعد موته.
ودعوى أن ولاية الأب ثابتة في جميع الأزمان المستقبلة التي من جملتها
ما بعد موت الجد غير معلوم، بل هو محل البحث والنزاع، كما لا يخفى،
وإنما المعلوم انقطاع ولايته بعد موته، مع وجو الجد بعده، لا ثبوتها بعد
موت الجد.
وثالثها صحة الولاية في الثلث خاصة، لأن له اخراجه عن الوارث أصلا،
فيكون له اثبات ولاية غيره عليه بطريق أولى، ورد بمنع الولاية بل الملازمة،
594

فإن إزالة الملك يقتضي ابطال حق الوارث منه أصلا، وهو الأمر الثابت له شرعا "
وأما بقاءه في ملك الوارث فإنه يقتضي شرعا " كون الولاية عليه لمالكه، أو وليه
الثابت ولايته عليه بالأصالة، فلا يكون للأب عليه ولاية، بالنسبة إليه أصلا، ومن
ذلك ظهر أن أجود الأقوال الأول، ونقل الأول والأخير عن الشيخ في المبسوط
نقله في المسالك.
العاشرة: اختلف الأصحاب وغيرهم في وقت اعتبار الشروط المعتبرة في
صحة الوصاية من الكمال والإسلام والحرية والعدالة ونحوها مما تقم، هل هو
عند الوصية؟ أو عند الموت؟ أو من حين الوصية مستمرا " إلى أن ينفذها بعد الموت؟
فقيل: بالأول، وهو مختار الأكثر، كما نقله في المسالك، والمراد باعتبار
وجودها حال الوصية بمعنى وجودها قبلها، ولو بآن ما قضية للشرطية، فإن الشرط
يعتبر تقدمه على المشروط.
قالوا: والوجه في هذا القول أن هذه المذكورات شرائط صحة الوصية،
فإذا لم تكن حال انشائها موجودة لم يكن العق صحيحا "، لأن عدم الشرط يوجب
عدم المشروط كما في شرائط سائر العقود، ولأنه في وقت الوصية ممنوع من
التفويض إلى من ليس بالصفات، والنهي في المعاملات إذا توجه إلى ركن العقد
دل على الفساد، ولأنه يجب في الوصي أن يكون بحيث لو مات الموصي كان نافذ
التصرف، مشتملا " على صفات الوصاية، وهو هنا منتف، لأن الموصي لو مات في
هذه الحال لم يكن الوصي أهلا " لها.
وقيل: بالثاني وأن المعتبر اجتماعها عند الوفاة، حتى لو أوصي إلى من
ليس بأهل، فاتفق كماله عند الوفاة واستكماله الشرائط صحت الوصية، لأن
المقصود منها التصرف بعد الموت، فيعتبر اجتماع الشروط حينئذ، لأنه محل
الولاية، ولا حاجة إلى وجودها قبل ذلك، لانتفاء الفائدة.
وقيل: بالثالث، وهو الاعتبار من حين الوصية إلى حين الوفاة، وإلى هذا
595

القول مال شيخنا الشهيد في الدروس، حيث قال (عطر الله مرقده) بعد ذكر
الشرائط: ثم هذه الشرائط معتبرة منذ الوصية، إلى حين الموت، فلو إختل أحدها
في حالة من ذلك بطلت. وقيل: يكفي حين الوصية، وقيل: حين الوفاة.
قالوا: والوجه في هذا القول، أما حين الوصية، فلما تقدم في توجيه القول
الأول، وأما الاستمرار إلى حين الوفاة، فلأن الوصاية من العقود الجائزة، فمتى
عرض اختلال أحد شرائطها بطلت كنظائرها، ولأن المعتبر في كل شرط حصوله
في جميع أوقات المشروط، فمتى أخل في أثناء الفعل وجب فوات المشروط إلا ما
استثنى في قليل من الموارد بدليل من خارج.
قال في المسالك: وربما يقال: أنه لا يستثنى منه شئ لأن ما خرج عن
ذلك يدعى أن الفعل المحكوم بصحته عند فوات الشرط ليس مشروطا " به مطلقا،
بل في بعض الأحوال دون بعض، وهذا أولى، انتهى.
وقيل: وهو الرابع أن المعتبر وجود الشرائط من حال الوصية إلى أن
ينتهي متعلقها بأن يبلغ الطفل ويخرج الوصايا ويقضي الديون وغير ذلك، لأن
اشتراط هذه الأمور يقتضي فوات مشروطها متى فات بعضها في كل وقت، فلو
فرض فوات بعضها بعد الوصية إلى قبل انتهاء الولاية، بطلت، قال في المسالك بعد
ذكر ذلك: وهذا هو الأقوى.
أقول: مبنى هذه الأقوال كلها على أن الوصية عقد، فيجب أن يراعى فيه
ما يراعى في سائر العقود ومن القواعد المقررة عنده أن العقد إذا كان مشروطا "
بشرط، فهو عدم عند عدم، شرطه، فهذا العقد إذا كان مشروطا " بكون الموصى إليه
معتبرا " بهذه الصفات، فلا بد من وجود هذه الصفات، وإلا لبطل.
بقي اللام والخلاف في وقت اعتبارها، هل هو حال الوصية خاصة، أو عند
الوفاة؟ من حين الوصية إلى حين الوفاة؟ أو إلى أن ينتهي متعلق الوصاية؟ وأنت
خبير بأن كون الوصية عقد مثل سائر العقود، فيشترط فيها ما يشترط فيها، وإن كان
596

هو المشهور في كلامهم، بل ظاهرهم الاتفاق عليه، إلا أنه لم يقم عليه دليل تركن
النفس إليه، بل ربما ظهر من الأخبار خلافه، فإنه قد جعلوا أيضا " من جملة الواجبات
فيه بناء على كونها عقدا " القبول، مع أنا لم نقف فيه على دليل، بل ربما دل الدليل
على خلافه، وقد تقدم الكلام في ذلك في جملة من مسائل المقصد الأول، وغاية
ما يستفاد من الأخبار أن الوصية بالنسبة إلى الموصى له لا يخرج عن العطية،
وبالنسبة إلى الوصاية لا يخرج عن الإذن والاستنابة، ولا عقد هنا بالكلية.
فمما يدل على ما قلناه في الوصاية ما تقدم في المسألة الثانية من خبر علي بن
يقطين (1) في " رجل أوصى إلى امرأة وأشرك في الوصية معها صبيا " فقال عليه السلام:
يجوز ذلك، وتمضي المرأة الوصية، ولا تنتظر بلوغ الصبي " الخبر فإنه لا يدل على
أزيد من أن الرجل أمر المرأة بأن تنفذ ما عينه لها فيه، واستنابها، وضم إليها
الصبي المذكور، وأي عقد هنا يفهم من هذا الكلام أو قبول لفظي كما اعتبروه
في المقام، ونحو ذلك صحيحة الصفار المذكورة (2) ثمة في " رجل أوصى إلى ولده
وفيهم كبار وصغار أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيته، ويقضوا دينه، قبل أن يدرك
الأوصياء الصغار؟ فوقع عليه السلام: نعم " الخبر: فإن المتبادر من هذا الكلام أن
الموصي استناب أولاده، وأمرهم وأذن لهم في تنفيذ هذه الوصايا بأن قال:
افعلوا كذا وكذا، فوجب عليهم بعد موته القيام بذلك، وأي دلالة لهذا الكلام
على عقد في المقام، وعلى هذا النهج جملة الأخبار، كما لا يخفى على من جاس
خلال الديار، فإن سموا مثل هذا الأمر والإذن والاستنابة عقدا " فلا مشاحة في
التسمية، ولكن ما ذكروه من ترتب أحكام العقود عليه ممنوع، وإلا لجرى ذلك
في كل من أمر شخصا " بأمر، وأذن له في فعل.
وبالجملة فإنك عرفت في المباحث السابقة أن ما يدعونه من العقد في كثير
من تلك المواضع لا يخلو من الاشكال أيضا ".

(1) الكافي ج 7 ص 46 ح 1 و 2، الوسائل ج 13 ص 439 ح 2 و ص 438 ح 1.
(2) الكافي ج 7 ص 46 ح 1 و 2، الوسائل ج 13 ص 439 ح 2 و ص 438 ح 1.
597

إذا عرفت ذلك وثبت أن غاية ما تدل عليه الأخبار هو الإذن والاستنابة في
تنفيذ هذه الأمور الموصى بها.
فنقول: ينبغي أن تكون تلك الشروط محلها وقت التنفيذ، واعتبارها في
ذلك الوقت، وهذا يرجع إلى القول الثاني من الأقوال المتقدمة، وما طعن به
في المسالك على هذا القول ورده به من قوله ويضعف بأن الوصاية لما كانت
عقدا " ولم يحصل شروطها حالة الإيجاب وقع العقد فاسدا "، فيه ما عرفت من أنه
لا دليل على هذا العقد الذي بنوا الكلام عليه في المقام وغيره، وكلامنا إنما هو
مبني على عدمه، فلا يرد علينا ما أورده، ولعل القائل بهذا القول من أصحابنا
أيضا " يمنع كون الوصية عقدا " فلا يرد عليه ما أورده، وهذه الأقوال مع التعليلات
التي ذيلت بها كلها للعامة، كما لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة، وغيره
من الكتب التي تصدوا فيها لنقل أقوالهم.
وفيها من البعد عن ساحة الأخبار ما لا يخفى على ذوي البصائر والأبصار،
ولأصحابنا في عدد الأقوال في المسألة اضطراب، فمنهم من أنها إلى أربعة حسبما
ذكرناه كشيخنا الشهيد الثاني في المسالك، ومنهم من جعلها ثلاثة كشيخنا
الشهيد في الدروس وشرح الإرشاد، ومنهم من رجعها إلى اثنين خاصة، كالمحقق
والشيخ ولكل وجه اعتباري يدفعه ما ذكره غيره، والله العالم.
المقصد السابع في اللواحق:
وفيه أيضا " مسائل: الأولى: اختلف الأصحاب (رضي الله عنهم) في منجزات
المريض، والمراد بها المعجلة حال الحياة إذا كانت تبرعا " كالمحابات في المعاوضات
من البيع بأقل من ثمن المثل، والشراء بأزيد منه، والهبة، والصدقة، والوقف،
والعتق، وبالجملة فما اشتمل على تفويت المال بغير عوض، كالهبة وما بعدها،
والمحاباة كالأولين، ونحوهما، هل يخرج من الأصل أو الثلث؟ مع الاتفاق على
598

أنه لو برأ، من مرضه لزم ذلك، وكان مخرجه من الأصل، وإنما الخلاف فيما
لو مات في مرضه ذلك، فذهب الشيخان فبي النهاية والمقنعة وابن البراج وابن
إدريس إلى أنه من الأصل، وهذا القول هو الظاهر عندي من الأخبار بعد النظر
فيها بعين التأمل والاعتبار، وإليه مال جملة أفاضل متأخري المتأخرين، كالمحدث
الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، والفاضل المولى محمد باقر الخراساني في
الكفاية، والمحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (قدس الله أرواحهم).
وذهب الشيخ في المبسوط، والصدوق وابن الجنيد إلى أن ذلك من الثلث
وهو المشهور بين المتأخرين ومنشأ الخلاف المذكور اختلاف الأخبار في ذلك
واختلاف الأنظار والأفهام في تلك المدارك، وها أنا أذكر أدلة كل من القولين
مذيلا " لها بما تنكشف به إن شاء الله تعالى غشاوة الاشكال، ويجتمع به على وجه
لا يعتريه الاختلال مستمدا منه سبحانه إفاضة الصواب، والعصمة من الوقوع في
شباك الاضطراب والارتياب.
فأقول: مما يدل على القول الأول وهو الذي عليه أقول، ظاهر قوله
عز وجل (1) " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ".
وقد روى الشيخ في الصحيح عن زرارة (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث
قال: فقال: " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا " وهذا يدخل فيه الصداق والهبة ".
والتقريب أنه دل باطلاقه على ما يشتمل الصحة والمرض، فتكون الآية دالة
بمعونة تفسيرها بالخبر المذكور على صحة الهبة في مرض الموت مطلقا " من غير
تقييد بالثلث.
ومنها ما رواته المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الموثق عن عمار

(1) سورة النساء الآية 4.
(2) الكافي ج 7 ص 30 ح 3، التهذيب ج 9 ص 152 ح 624، الوسائل
ج 13 ص 439 ح 1.
599

الساباطي (1) " أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول: صحاب المال أحق بماله ما دام فيه
شئ من الروح، يضعه حيث يشاء ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (2) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال: هو ماله يصنع به
ما يشاء، إلى أن يأتيه الموت ".
ورواه المشايخ الثلاثة عن أبي بصير (3) عن أبي عبد الله عليه السلام مثله.
وما قيل: من احتمال أن يكون المراد بإتيان الموت ما يشمل حضور
مقدماته، فيشمل مرض الموت، فهو من الاحتمالات الباردة، والتخريجات
الكاسدة كما يكشف عنه تتمته في بعض طرق صاحب الكافي فإنه رواه بطريق آخر
إلى أبي بصير (4) عنه عليه السلام وزاد فيه " أن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام
حيا " إن شاء وهبه، وإن شاء تصدق به، وإن شاء تركه، إلى أن يأتيه الموت،
فإن أوصى به فليس إلا الثلث، إلا أن الضل في أن لا يضع من يعوله، ولا يضر
بورثته ".
وما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن بإبراهيم بن هاشم (5) أو الصحيح
على القول بصحة حديثه، وهو المختار، وفاقا " لجمع من علمائنا الأبرار عن أبي شعيب المحاملي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الانسان أحق بماله ما دامت الروح
في بدنه ".

(1) الكافي ج 7 ص 7 ح 1 و ص 8 ح 5، التهذيب ج 9 ص 186
ح 748 و ص 178 ح 749، الفقيه ج 4 ص 149 ح 517.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) الكافي ج 7 ص 8 ح 8، التهذيب ج 9 ص 187 ح 750، الفقيه
ج 4 ص 149 ح 518.
(4) الكافي ج 7 ص 8 ح 10.
(5) الكافي ج 7 ص 8 ح 9، التهذيب ج 9 ص 187 ح 751.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 381 ح 4 و 1 و 2 و ص 383 ح 8.
600

وعن إبراهيم بن أبي بكر اسمال الأزدي (1) عمن أخبره " عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: الميت أولى بماله ما دام فيه الروح ".
وما رواه في الكافي والفقيه عن مرازم (2) عن بعض أصحابنا " عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يعطي الشئ من ماله في مرضه؟ فقال إذا أبان فيه
فهو جائز، وإن أوصى به فهو من الثلث ".
أقول: المراد بقوله " أبان فيه " أي ينزه وعزله وسلمه إلى من أعطاه إياه
ولم يعلق اعطائه على موته.
وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن عمار الساباطي (3)
في الموثق " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الميت أحق بماله ما دام فيه الروح يبين به
فإن تعدى فليس له إلا الثلث "، هكذا في الفقيه وبعض نسخ الكافي، وفي
التهذيب عوض (فإن تعدى) (فإن قال بعدي، وهو الأنسب، بقوله يبين به،
وفي بعض نسخ الكافي هكذا " قال: قلت له: الميت أحق بماله فيه الروح ويبين
به؟ قال: نعم، فإن أوصى به فليس له إلا الثلث " وهذا هو المناسب.
وما رواه المشايخ المذكورون أيضا عن عمار بن موسى (4) الموثق من بعض
طرقه " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح، إن أوصى
به كله فهو جائز له " وهذا الخبر حمله الشيخ بالنظر إلى ما تضمنه عجزه تارة
على وهم الراوي، وأخرى على فقد الوارث، وثالثة على ما إذا أجاز الورثة
وما رواه في التهذيب في الموثق عن عمار الساباطي (5) " عن أبي عبد الله عليه السلام

(1) الكافي ج 7 ص 7 ح 3، التهذيب ج 9 ص 187 ح 752.
(2) الكافي ج 7 ص 8 ح 6، الفقيه ج 4 ص 149 ح 519.
(3) الكافي ج 7 ص 8 ح 7 و ص 7 ح 2، التهذيب ج 9 ص 188 ح 756 و ص 187 ح 753، الفقيه ج 4 ص 137 ح 477 و ص 150 ح 520.
(4) الكافي ج 7 ص 8 ح 7 و ص 7 ح 2، التهذيب ج 9 ص 188 ح 756 و ص 187 ح 753، الفقيه ج 4 ص 137 ح 477 و ص 150 ح 520.
(5) التهذيب ج 9 ص 190 ح 864.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 381 ح 3 و ص 382 ح 6 و 7 و 5
و ص 383 ح 10.
601

في رجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه؟ قال: إذا أبانه جاز ".
هذا ما حضرني من أدلة القول المذكور، وهي كما ترى على ما قلناه ظاهرة
الدلالة تمام الظهور، لا يعتريها فتور ولا قصور.
وأما ما يدل على القول الآخر، فمنه رواية علي بن عقبة (1) " عن
الصادق عليه السلام في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا " له ليس له غيره، فأبى الورثة
أن يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه؟ قال: ما يعتق منه إلا ثلثه، وسائر ذلك، الورثة
أحق بذلك، ولهم ما بقي ".
وموثقة سماعة (2) " قال: سألته عن عطية الوالد لولده؟ فقال أما إذا كان
صحيحا فهو له يصنع به ما شاء فأما في مرض فلا يصلح ".
وصحيحة الحلبي (3) " قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المرأة تبرء زوجها
من صداقها في مرضها؟ قال: لا ".
وموثقة سماعة (4) " قال: سألته عن الرجل يكون لامرأته عليه الصداق
أو بعضه فتبرءه منه في مرضها؟ قال: لا ولكنها إن وهبت له جازما وهبت له من
ثلثها ".
ورواية أبي ولاد (5) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون لامرأته
عليه الدين فتبرءه منه في مرضها؟ قال: بل تهبه له فتجوز هبتها له، ويحسب ذلك
من ثلثها إن كانت تركت شيئا ".
وصحيحة علي بن يقطين (6) " قال: سألت أبا الحسن عليه السلام ما للرجل من
ماله عند موته؟ قال: الثلث كثير ".

(1) التهذيب ج 9 ص 194 ح 781 و ص 200 ح 800 و ص 201 ح 802 و 803 و ص 195 ح 783 و ص 242 ح 940. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 365 ح 4 و ص 384 ح 11 و 15 و 16 و ص 367 ح 11 و ص 363 ح 8.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(6) تقدم آنفا تحت رقم 1.
602

وصحيحة يعقوب بن شعيب (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يموت ماله من ماله؟ قال: له ثلث ماله، وللمرأة أيضا ".
ورواية عبد الله بن سنان (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: للرجل عند موته
ثلث ماله، وإن لم يوص فليس على الورثة امضاؤه ".
هذا ما حضرني من الأخبار التي استدلوا بها لهذا القول، وأنت خبير بأن
ترجيح أخبار القول الأول ظاهر من وجوه: أحدها اعتضادها بظاهر القرآن
بالتقريب الذي قدمنا ذكره، وهو أحد المرجحات الشرعية التي دلت عليها مقبولة
عمر بن حنظلة (3) وغيرها من عرض الأخبار عند الاختلاف على القرآن، والأخذ
بما وافقه وطرح ما خالفه.
وثانيها أن أخبارنا مخالفة للعامة، وأخبار الخصم موافقة لهم، كما نبه
عليه كثير من أصحابنا من أن أكثر العامة على القول بمضمون الأخبار الأخيرة،
ومن أخبارهم في هذه المسألة ما نقله شيخنا في المسالك عن صحاحهم (4) " من أن
رجلا " من الأنصار أعتق ستة أعبد في مرضه لا مال له غيرهم، فاستدعاهم النبي
(صلى الله عليه وآله)، وجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق
أربعة، قال (قدس سره): وعلى هذه الرواية اقتصر ابن الجنيد في كتابه الأحمدي،
وهذه القاعدة أيضا أحد القواعد المنصوصة عنهم (صلوات الله عليهم) في مقام الترجيح
بين الأخبار في مقام الاختلاف.
ولكن أصحابنا (رضوان الله عليهم) كما قدمنا ذكره في غير موضع ولا سيما
في كتب العبادات قد ألغوا العمل بهذه القواعد المنصوصة عن أئمتهم (صلوات الله

(1) التهذيب ج 9 ص 191 ح 770 و ص 242 ح 939.
(2) التهذيب ج 9 ص 191 ح 770 و ص 242 ح 939.
(3) الكافي ج 7 ص 412 ح 5.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 362 ح 2 و ص 363 ح 7 و ج 18
ص 3 ح 4.
(4) المسالك ج 1 ص 424، المستدرك ج 2 ص 521 الباب 16 ح 3.
603

عليهم) واتخذوا لهم قواعد لا دليل عليها، ولا مستند لها من الجمع بين الأخبار
بحمل الأمر على الاستحباب، والنهي على الكراهة، وجعلوا ذلك قاعدة كلية في
جميع أبواب الفقه، وإن عارضتها تلك القواعد المنصوصة كما لا يخفى على المتتبع
لكلامهم في الخائض في بحور نقضهم وابرامهم.
وثالثها أن ما استدللنا به من الأخبار صريح الدلالة على المطلوب والمراد،
عار عن وصمة الطعن والايراد، ولهذا إن متأخري أصحابنا القائلين بالمشهور بينهم
إنما يتيسر لهم الطعن في أسانيدها، بناء على هذا الاصطلاح المحدث وعلى هذا
فمن لا يرى العمل به كما هو الحق الحقيق بالاتباع حسبما جرى عليه متقدمو
علمائنا للصدور عنهم، والاتباع فلا مجال للطعن بذلك عنه، على أنك قد
عرفت أن فيها الصحيح والموثق، وهم قد عملوا بالموثقات في مواضع لا تحصى،
وغمضوا العين عن مخالفة اصطلاحهم.
وبالجملة فإنك قد عرفت أنه لا مسرح للطعن في دلالتها، بخلاف أخبارهم،
فإنها غير خالية عن الاجمال، المانع من الاستناد إليها في الاستدلال، كما سيأتيك
بيانه إن شاء الله تعالى في المقام.
ورابعها اعتضاد أخبارنا بالاجماع على صحة التصرف المدلول عليه بقوله
(صلى الله عليه وآله) (1) " الناس مسلطون على أموالهم " خرج منه ما خرج
من التصرف المعلق على الموت بدليل، وبقي الباقي لعدم الدليل الناص على
الخروج كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
وخامسها اتفاق القائلين من الطرفين على لزوم التصرف لو برأ عن مرضه،
وأنه ينفذ من الأصل، وهذا لا وجه له على القول الآخر، إلا باعتبار أن يكون
صحيحا " غير لازم، موقوفا " على الإجازة من الوارث إن مات، فيكون البرء كاشفا "
عن الصحة واللزوم وإجازة الوارث، وعدمها كاشفا " عن اللزوم وعدمه، حسبما

(1) البحار ج 2 ص 272 ح 7.
604

قالوه في بيع الفضولي.
وأنت خبير بأنه وإن اشتهر ذلك، في كلامهم، وبنوا عليه في نقضهم وابرامهم،
إلا أنا لم نظفر له بدليل في أمثال هذه المقامات، إلا على وجوه اعتبارية لا تصلح
أن تكون مستندا في الأحكام الشرعية، كما حققنا ذلك بما لا مزيد عليه فيما تقدم
في مسألة البيع الفضولي من كتاب البيع (1) حيث إن المشهور بينهم صحته لوجوه
اعتبارية، لفقوها وتخريجات وهمية صوروها، مع أن الأخبار تردها وتمنعها كما
أوضحنا ذلك في المواضع المشار إليه بأوضح بيان، لم يسبق إليه أحد من علمائنا
الأعيان، ويزيده تأكيدا أنه لا يخفى أن مقتضى الأدلة كتابا وسنة هو وجوب
الوفاء بالعقود، وترتب أثرها عليها من جواز التصرف بجميع أنواع التصرفات،
وابطال ذلك يحتاج إلى دليل قاطع، ليمكن الخروج به عن الدليل الأول، فما
خرج بدليل وجب الوقوف فيه على ما اقتضاه الدليل، وما لم يقم عليه دليل من
كتاب وسنة فهو باق على مقتضى الدليل الأول وحينئذ فلزوم التصرف بعد البرء
في موضع النزاع كما وقع عليه الاتفاق، إنما نشأ من لزوم الوصية أولا في حال
المرض، كما ندعيه، إلا أنه إنما وقعت الوصية صحيحة غير لازمة كما يدعونه،
حتى فرعوا عليه هذا القول
وسادسها - ما تقدمت الإشارة إليه من عدم صلوح هذه الروايات لمعارضة
ما ذكرناه من الأخبار، لما فيها من الاجمال، بل الاختلال في جملة منها، والاعتلال
الموجب لسقوطها عن درجة الاستدلال، وها نحن نشير إلى تلك الأحبار على
التفصيل.
فمنها رواية علي بن عقبة، وهي أوضح أدلة القائلين بذلك القول المشهور،
وأظهر الوجوه فيها عندي هو الحمل على التقية، لمطابقتها، كما عرفت للرواية
العامية، وتعارضها على الخصوص، بما رواه في الفقيه عن هارون بن مسلم عن

(1) ج 18 ص 376.
605

مسعدة بن صدقة (1) " عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام أن رجلا من الأنصار
توفي وله صبية، وله ستة من الرقيق، فأعتقهم عند موته، وليس له مال
غيرهم، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبر فقال: ما صنعتم بصاحبكم؟
قالوا: دفناه قال: لو علمت، ما دفناه مع أهل الاسلام، ترك ولده يتكففون الناس ".
وظاهر الخبر نفوذ الوصية حيث لم يحكم (صلى الله عليه وآله)
بتخصيص الصحة بالثلث، كما تضمنه خبر علي بن عقبة، وكذا الخبر العامي،
بل حكم بصحتها، حيث ذمه " بأنه ترك وله يتكففون الناس " أي يسألونهم
بأكفهم، فلولا الحكم بصحتها لما كان لهذا الكلام معنى، والخبر إما محمول
على الكراهة المؤكدة كما ظاهر من كلام الأصحاب، وإليه يشير قوله عليه السلام في
رواية سماعة المتقدمة برواية صاحب الكافي " إلا أن الفضل في أن لا يضيع من
يعوله، ولا يضر بورثته "، أو التحريم، ولا ينافيه نفوذ الوصية، كما صرح به
المحدث الكاشاني في الوافي.
وكيف كان فالخبر المذكور من الأخبار الدالة على ما ذكرنا، وإن لم
نذكره فيما سبق.
واحتمل في المسالك أيضا " حمل رواية علي بن عقبة على الوصية، قال:
لأن حضور الموت قرينة منعه من مباشرة العتق، ويجوز نسبة العتق إليه لكونه
سببه القوي بواسطة الوصية، قال: وهذا وإن كان بعيدا، إلا أنه مناسب، حيث
لم يبق للرواية عاضد، انتهى.
ولا يخفى ما فيه، وما ذكرناه من الحمل على التقية هو الأظهر، لكنهم
(رضي الله عنهم) حيث لم يلتفتوا إلى هذه القواعد في الجمع بين الأخبار، كما
قدمنا ذكره، اضطروا إلى مثل هذه التخريجات البعيدة.
ثم إنه على تقدير تسليمها فموردها خاص، والمدعى أعم من ذلك، ودعوى
606

الأولوية ممنوعة، بل هو قياس محض، وعدم القائل باختصاص الحكم به لا يسوغ
قياس غيره عليه.
ومنها موثقة سماعة الأولى وفي معناها رواية جراح المدايني، وأول ما فيهما
أنه لا قائل بهما على ظاهرهما، لأن ظاهرهما المنع من عطية الولد لولده في المرض
مطلقا، زاد على الثلث أم لا، بل بلغ الثلث أو لم يبلغ، والحمل على معناه أنه
لا يصلح من الأصل، بل يصلح من الثلث، وإن كان صحيحا " في حد ذاته، إلا أنه
بعيد من سياق الخبرين، إذ لا يعتبر في شئ من الخبرين للأصل والثلث، وإنما
السؤال عن العطية بقول مطلق، فأجاب عليه السلام " أنه في حال الصحة يفعل ما يشاء،
وفي حال المرض فليس له ذلك ".
والثاني أنهما أخص من المدعى، فلا ينهضان حجة على العموم.
الثالث احتمال حمل العطية في المرض على الوصية، ولعله الأقرب
للاعتبار، ليحصل به الجمع بين الأخبار، بمعنى أنه حينئذ أنه لا يوصي له بما زاد
على الثلث، وأما في الصحة فإن له أن يعطيه ماله جميعا "، ويبينه به، والشيخ في
التهذيبين حمل حديث سماعة المذكورة تارة على الكراهة، لأنه اضرار بسائر الورثة
وايحاش لهم، وأخرى على ما إذا لم يكن على جهة الوصية، بل يكون هبة من
غير إبانة وتسليم، واعترضه المحدث الكاشاني في الوافي، فقال: التأويل الأول
ينافيه ما مر من تحريم الاضرار، والثاني ينافيه قوله مع اشتراط الجواز بالصحة،
بينه في حديث جراح، بل سائر ما بعده من أخبار هذا الباب، فإن الابراء وهبة
ما في الذمة لا يفتقران إلى الإبانة، فالصواب أن تحمل هذه الأخبار على ظواهرها،
ويخص المنع من العطية في المرض بمورده أعني الوارث، وسره ما ذكره في
التهذيبين من الايحاش، فإن فعل حسبت من الثلث، كما تدل عليه الأخبار
الأخيرة، انتهى.
أقول: فيه أولا " أن ما ذكره الشيخ من تأويل رواية سماعة بحمل المنع
607

من عطية الولد في المرض على الكراهة جيد، لا بأس به.
قوله " أنه ينافيه ما مر من تحريم الاضرار " إشارة إلى ما قدمنا نقله عنه من
جملة حديث مسعدة بن صدقة الدال على قوله (صلى الله عليه وآله) ما دفناه
مع أهل الاسلام على تحريم العتق، ذلك مردود، بأن الظاهر أنما هو حمله
على تأكيد الكراهة، كما يشير إليه خبر سماعة الذي أشرنا إليه ثمة وقوله عليه السلام
فيه " إلا أن الفضل أن لا يضيع من يعوله، ولا يضر بورثته " فإن الخبر صريح في
كراهية الاضرار، دون التحريم الذي توهمه، وكم لهم عليهم السلام من المبالغة في
النهي عن المكروهات ما يلحقها بالمحرمات، والأمر بالمستحبات مما يدخلها في
حيز الواجبات كما لا يخفى على الفطن البصير، ولا ينبئك مثل خبير.
وثانيا أن تخصيصه هذه الأخبار بمعنى المنع من العطية في المرض بالوارث،
مردود بما قدمناه من تكاثر الأخبار واتفاق الأصحاب على جواز الوصية للوارث،
وعطيته في المرض، وأن المنع من ذلك أنما هو مذهب العامة، كما تقدم في المسألة
الثانية من المقصد الخامس، وتقدم أن ما دل على خلاف ذلك فهو محمول على
التقية.
وثالثا " أنه مع تسليم ما ذكره من تخصيص المنع من العطية في المرض
بالوارث، ففيه أن اثبات حكم كلي بورود في جزئي خاص سيما مع عدم
الصراحة كما عرفت لا يخلو من الاشكال.
ورابعا " أنه إذا كان متى فعل، صح وحسب من الثلث، فأي اختصاص بالمنع
بالوارث، إذ الاحتساب من الثلث مما لا نزاع فيه، لوارث كان أو أجنبي، فلا
يظهر لمنع الوارث هنا وجه.
وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو عندي من النظر الظاهر، للخبير
الماهر
608

ومنها صحيحة الحلبي (1) وما في معناها من موثقة سماعة الثانية (2)،
ورواية أبي ولاد (3) وأول ما فيها ما ذكره شيخنا في المسالك من أن مضمونها
لا يقول به أحد، لأن الابراء مما في الذمة صحيح بالاجماع، دون هبته، فالحكم
فيها بالعكس، فكيف يستند إلى مثل ذلك.
الثاني أنها أخص من المدعى فلا تنهض حجة على العموم.
الثالث معارضتها بظاهر الآية المفسرة في صحيحة زرارة (4) بالصداق،
وأنه متى طابت نفسها عنه بابراء أو هبة حل له في مرض كان أو صحة زاد على
الثلث أو نقص، كل ذلك لاطلاق الآية والخبر المذكور، فإن قيل: إن اطلاق
الآية والخبر المفسر لها يجب تخصيصه بهذه الأخبار، قلنا: هذه الأخبار حيث
كانت معلومة بما عرفت من المنع من جواز الابراء الذي لا خلاف ولا اشكال في
جوازه، يشكل الاعتماد عليها في التخصيص، سيما أن الآية والخبر المذكورين
قد اعتضدا بالأخبار الكثيرة المتقدمة في أدلة القول الأول، فالتخصيص لهما تخصيص
للجميع، وهذه الأخبار للعلة المذكورة مع خصوص موردها كما عرفت يضعف
عن تخصيص الجميع.
وأما ما تكلفه جمع من متأخري مشايخنا (رفع الله أقدارهم) في الجواب عن
الطعن الأول في هذه الروايات، بالحمل على أنه عليه السلام كان يعلم أن حق المرأة لم
ينتقل إلى ذمة الرجل، وإنما كان عينا " موجودة، فلأجل ذلك منع من الابراء
الذي لا يقع إلا على ما في الذمة، وأمر بالهبة، فلا يخفى ما فيه، على الفطن النبيه،
من التكلف والتعسف الذي يدركه كل ناظر ويعيه، على أن هذا الاحتمال إنما
ذكروه في رواية سماعة، وغاية إمكانه، قصره على قضية واحدة، مع أن رواية

(1) التهذيب ج 9 ص 201 ح 802 و 803 و ص 195 ح 783 و ص 152 ح 624. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 384 ح 15 و 16 و ص 367 ح 11 و ص 339 ح 1.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 1.
609

أبي ولاد قد تضمنت الدين، ووقع الجواب فيها بهذا التفضيل، فكيف يكون
المراد بذلك العين الخارجة في الذمة خاصة.
ومنها صحيحة علي بن يقطين ونحوها صحيحة يعقوب بن شعيب، ورواية
عبد الله بن سنان، والظاهر من الجميع هو الحمل على ما بعد الموت، أما صحيحة
يعقوب بن شعيب فهي كالصريحة في ذلك، حيث قال: الرجل يموت فماله من
ماله؟ أي بعد موته، فلا وجه حينئذ للاستدلال بها على المنجزات، كما هو محل
البحث، وقريب منها الروايتان الأخريان لقوله " عند موته ".
وبالجملة إن لم يكن ما ذكرنا هو الأظهر، فلا أقل لأن يكون مساويا
في الاحتمال، وبه يسقط الاستناد إليها في الاستدلال، ويؤيد ما ذكرناه من الحمل
على الوصية، تكرر هذا المعنى في الأخبار، ودلالتها على أن غاية ما للميت الوصية
به من ماله هو الثلث. وقد تقدمت، ولعل وجه الحكمة في منع الشارع له من
الزيادة على الثلث في الوصية التي يكون تنفيذها بعد الموت، وتجويز التصرف له
في حال مرضه في ماله مطلقا "، وأن يفعل ما يشاء ويعطيه ويبينه، لمن يشاء كما
صرحت به أخبار القول الأول، هو أن المال بعد الموت لما ينتقل إلى الورثة،
ويخرج عن ملكه وتصرفه، فإنه يسهل على النفس السخاء به، والجود به لمن
يشاء، فمن أجل ذلك اقتضت الحكمة الربانية منعه من الزيادة في الوصية على
الثلث، خوف الاضرار بالورثة، والتعدي عليهم، بل صرحت بكراهة الوصية
بالثلث، رعاية لهم هذا مع حفظه له، وشحه به وحرصه عليه، وهذه الحكمة
ليست حاصلة في الحي، وإن كان مريضا "، فإن البرء ممكن، والشح بالمال في
الجملة حاصل، فيكون كتصرف الصحيح في ماله، لا في مال غيره، وتوهم كون
حال المرض في معرض أن يكون للورثة بخلاف الصحيح مطلقا " ممنوع، فرب
مريض عاش، وصحيح عجل به الموت، كما هو المشاهد بالوجدان في غير زمان
ولا مكان.
610

وبالجملة فإن التصرف في الصورة الأولى لما كان بعد زمان الموت الذي ينتقل
فيه المال إلى الوارث صار كأنه تصرف في مال الوارث، فمنع منه، والتصرف في
الصورة الأخرى لما كان في الحياة، ولا تعلق له على الموت، كان كتصرف الصحيح
في ماله، يفعل به ما يشاء.
وبما شرحناه يظهر لك أن أكثر هذه الأخبار غير ظاهرة الدلالة، وما ربما
يظهر منه ذلك فسبيله الحمل على التقية التي هي الأصل في اختلاف الأخبار،
وأما روايات القول الأول الذي عليه المعول، فهي جميعا صريحة الدلالة، واضحة
المقالة، لا مجال للطعن في دلالتها بوجه من الوجوه، نعم بناء على هذا الاصطلاح
المحدث الذي قد عرفت أنه لا أصل له، ولا دليل عليه، بل الأدلة على بطلانه
لمن نظر بعين الانصاف ورجع إليه، اتجه لأصحاب هذا الاصطلاح الطعن فيها
بضعف السند، مع أنك قد عرفت أن فيها الصحيح، ومن أجل ما قلنا توقف شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك بعد البحث في المسألة في ترجيح أحد القولين، وتبعه
المحدث الكاشاني في المفاتيح، كما هي عادته فيه غالبا، فقال في المسألة المذكورة:
وفي منع المريض من التبرعات المنجزة التي لا تستلزم تفويت المال على الورثة
من غير عوض زيادة على الثلث من دون إذنهم أو إجازتهم قولان: وفي الأدلة من
الجانبين نظر، إذ ما صح سنده غير دال، وما هو دال غير صحيح السند ولا معتبر،
إلا موثق في طرف الجواز، مؤيد بالأصل، وهو أن صاحب المال أحق بماله
ما دام حيا "، ولكنه معارض بالأكثرية والأشهرية، انتهى.
وبالجملة فإن لا يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث، وإنما عمله على
الاصطلاح القديم، في الحكم بصحة جميع الأخبار، فإنه لا يرتاب ولا يشك في صحة
ما اخترناه.
611

تذنيب:
ممن اختار القول المشهور بين المتأخرين العلامة في المختلف، واحتج عليه
برواية علي بن قبة، ورواية أبي ولاد وصحيحة علي بن يقطين المتقدم جميعه
في المقام.
ورواية علي بن أبي حمزة عن أبي بصير (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن
أعتق رجل عند موته خادما " له، ثم أوصى بوصية أخرى ألغيت الوصية، وأعتقت
الجارية من ثلثه، إلا أن يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصية ".
واستدل أيضا " بصحيحة زرارة (2) " عن الصادق عليه السلام قال: إذا ترك الدين
عليه ومثله أعتق المملوك، واستسعى ".
ورواية حفص بن البختري (3) ورواية الحسن بن الجهم (4) الدالتين على
ما دلت عليه صحيحة زرارة المذكورة.
وهذه الروايات وأمثالها قد تقدمت في المسألة السادسة فيما إذا كان على
الانسان دين، فأعتق ملوكه الذي ليس له سواه منجزا، من المقصد الخامس
في الموصى له، ثم احتج ببعض الأدلة الاعتبارية كما هي قاعدتهم إلى أن قال:
احتج المخالف بأنه مالك تصرف في ملكه فكان سايغا ماضيا كالصحيح، والجواب
المنع من الملازمة، والقياس باطل في نفسه، والفرق ظاهر، انتهى.
أقول: أنظر إلى هذه المجازفة الظاهرة في عدم استدلاله للقول المذكور
بشئ من تلك الروايات المتعددة الصريحة مع كثرتها، كما عرفت، وإنما أورد
هذا التعليل الاعتباري ورده بما ذكره، وهو عجب مثله (قدس سره) فإن كان
ذلك عن عدم اطلاع على شئ من تلك الأخبار فهو عجيب من مثله، وإن كان

(1) الكافي ج 7 ص 17 ح 2، التهذيب ج 9 ص 197 ح 786.
(2) التهذيب ج 9 ص 169 ح 688 و 689 و 690. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 365 ح 6 و ص 422 ح 2 و 1 و ص 423 ح 4.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 2.
612

مع الاطلاع عليها فهو أعجب، ومن نظر في كلامه هذا ورأي الأخبار الدالة على
القول الذي اختاره، ولم ير في مقابلتها إلا هذا العليل العليل، فإنه لا يعتريه
الشك في تقليده، والحزم بما ذكره، وأما الروايات التي استدل بها فقد عرفت
الجواب عن جملة منها.
بقي الكلام فيما استدل به من صحيحة زرارة وروايتي الحفص والحسن بن
الجهم وأمثالها مما قدمنا ذكره في المسألة، فإنه لا ريب في دلالتها على ما ذكره،
إلا أنا قد قدمنا في تلك المسألة أن وجه الجمع بين هذه الأخبار وبين الأخبار
التي استندنا إليها هنا في الدلالة على ما اخترناه من خروج المنجزات من الأصل،
هو العمل بتلك الأخبار لأنها أخص فيخصص بها عموم هذه الأخبار واطلاقها،
لأن مورد تلك الأخبار العتق مع الدين المزاحم له، فيجب العمل فيها بما دلت
عليه تلك، ويجب الوقوف فيه على ما دلت عليه أخبار هذه المسألة.
وأما رواية أبي بصير التي استدل بها، فالجواب عنها ما عرفت في الجواب
عن رواية علي بن عقبة، ولنا بناء على اصطلاحهم رد هذه الرواية وأمثالها من
رواية علي بن عقبة وغيرهما مما ليس بصحيح باصطلاحهم بضعف الاستناد، إلزاما "
لهم باصطلاحهم، فلا تقوم لهم بها حجة علينا كما لا يخفى، والله العالم.
المسألة الثانية: اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اقرار المريض
إذا مات في مرضه على أقوال: أحدها أنه ينفذ من الأصل مطلقا "، من غير فرق
بين اقراره في حال مرضه، أو صحته، وهو مذهب سلار حيث قال: من كان عاقلا "
يملك أمره فيما يأتي ويذر، فاقراره في مرضه كاقراره في صحته ولم يفرق بين
الدين ولا العين، ولا بين الوارث ولا الأجنبي، ولا بين أن يكون المقر متهما في
اقراره أو غير متهم، وهو اختيار ابن إدريس.
وثانيها أنه من الأصل أيضا " لكن بشرط عدالة المقر، وانتفاء، التهمة،
لوارث كان الاقرار أو لأجنبي، ومن الثلث مع انتفاء أحد القيدين، وهو مذهب
613

الشيخين وابن البراج، والمحقق في الشرايع، والشهيد الثاني في المسالك، وسبطه
السيد السند في شرح النافع، والمحدث الشيخ بن الحسن الحر العاملي في الوسائل
وغيرهم، بل صرح في المسالك أنه مذهب المحقق في النافع.
حجة القول الأول كما ذكروه عموم (1) " اقرار العقلاء على أنفسهم جايز "
ولأنه باقراره يريد ابراء ذمته من حق عليه في حال الصحة، ولا يمكن التوصل
إليه إلا بالاقرار، فلو لم يقبل اقراره بقيت ذمته مشغولة، وبقي المقر له ممنوعا
من حقه، وكلاهما مفسدة، واقتضت الحكمة قبول قوله.
وأنت خبير بما فيه من إمكان المناقشة وتطرق البحث إليه، أما الحديث
المذكور فإنه يخص عمومه بالأخبار الآتية الدالة على أنه مع التهمة وعدم العدالة
لا ينفذ اقراره.
وأما التعليل الآخر ففيه، الاقرار كما يحتمل أن يكون لما ذكره من إرادة
ابراء ذمته، وأن ذمته مشغولة واقعا، كذلك يحتمل أن يكون قصده من الاقرار
مجرد حرمان الوارث ومنعه، وأن ذمته غير مشغولة، كما تشير إلى ذلك الأخبار
الآتية المصرحة باشتراط نفي التهمة، وكونه مرضيا "، والاستدلال المذكور مبني
على الاحتمال الأول، وهو غير متعين، سيما مع دلالة الأخبار المذكورة على
ما ذكرناه.
وبالجملة فترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ليمكن التفريع عليه والبناء
على ما يقتضيه يحتاج إلى دليل، وليس فليس.
وأما القول الثاني فيدل عليه أما بالنسبة إلى الوارث فصحيحة منصور بن
حازم (2) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه
دينا فقال: إن كان الميت مرضيا " فاعطه له، وموثقة أبي أيوب (3) " عن أبي

(1) الوسائل ج 16 ص 133 الباب 3 ح 2.
(2) الكافي ج 7 ص 41 ح 2.
(3) التهذيب ج 9 ص 160 ح 657.
وهما في الوسائل ج 13 ص 376 ح 1 و ص 378 ح 8.
614

عبد الله عليه السلام في رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا " فقال: إن كان الميت مرضيا "
فأعطه الذي أوصى له، وأما بالنسبة إلى الأجنبي، فصحيحة ابن مسكان عن العلا
بياع السابري (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة استودعت رجلا مالا
فلما حضرها الموت قالت له: إن المال الذي دفعته إليك لفلانة، وماتت المرأة،
فأتى أولياءها الرجل، فقالوا له: أنه كان لصاحبتنا مال، لا نراه إلا عندك، فأحلف
لنا ما قبلك شئ، أفيحلف لهم؟ فقال: إن كانت مأمونة عنده فيحلف لهم، وإن كانت
متهمة فلا يحلف، ويضع الأمر على ما كان، فإنما لها من مالها ثلثه ".
وأما القول الثالث فيدل عليه بالنسبة إلى الاقرار للأجنبي، وأنه من الثلث،
صحيحة ابن مسكان (2) عن العلا المتقدمة، وأما بالنسبة إلى الوارث، وأنه من
الثلث مطلقا "، فاستدل عليه بصحيحة إسماعيل بن جابر (3) " قال: سألت
أبا عبد الله عليه عليه السلام عن رجل أقر لوارث له وهو مريض بدين قال: قال يجوز عليه
إذا أقر به دون الثلث " وقوى جماعة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، وسبطه
السيد السند في شرح النافع، حمل الرواية المذكورة وما اشتملت عليه من اعتبار
على حالة التهمة جمعا " بينها، وبين صحيحة منصور المتقدمة.
وزاد في المسالك احتمال أن نفوذه كذلك بغير قيد، وهو لا ينافي توقف
غيره عليه، قال: مع أن ظاهرها غير مراد، لأنه اعتبر نقصان المقر به عن الثلث،
وليس ذلك شرطا اجماعا، انتهى.
أقول: بل الوجه هو الأول الذي يحصل به الجمع بينها وبين الصحيحة
المشار إليها، والرواية التي معها.
واحتمل بعض مشايخنا (عطر الله تعالى مراقدهم) يكون " دون " في

(1) الكافي ج 7 ص 42 ح 3 و 4، التهذيب ج 9 ص 160 ح 661 و 659، الفقيه ج 4 ص 170 ح 595 و 592، الوسائل ج 13 ص 377 ح 2 و 3.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
615

الرواية بمعنى " عند " وأن يكون المراد الثلث وما دون، ويكون الاكتفاء مبنيا "
على الغالب، لأن الغالب أما زيادته عن الثلث، أو نقصانه، وكونه بقدر الثلث
بغير زيادة ولا نقص نادر، انتهى.
أقول: والحمل الثاني غير بعيد فقد وقع التعبير بمثل هذه العبارة في إرادة
المعنى المذكور في جملة من موارد الأحكام، وعليه حمل قوله (1) عز وجل " فإن
كن نساء فوق اثنتين " أي اثنين فما فوق.
ثم أقول: قد روى ثقة الاسلام في الكافي والشيخ في التهذيب في الصحيح
عن أبي ولاد (2) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل مريض أقر عند الموت
لوارث بدين له عليه؟ قال: يجوز ذلك، قلت: فإن أوصى لوارث بشئ؟ قال:
جائز " وظاهر هذه الرواية إنما ينطبق على القول الأول، لكنها معارضة بصحيحة
منصور بن حازم (3) وموثقة أبي أيوب (4) المتقدمتين، وقضية الجمع بين الجميع
تقييد اطلاق هذه الرواية بتلك الروايتين.
وكيف كان فهي كما ترى ظاهرة في رد القول الثالث بالنسبة إلى الوارث،
سواء قيدت أم لم تقيد، لأنه قد حكم بكون الاقرار للوارث من الثلث مطلقا "،
وهذه الرواية بحسب ظاهرها قد دلت على كونه من الأصل مطلقا "، فهي ظاهرة
في رده من أصله، وبالنظر إلى تقييدها بتلك الروايتين يكون ردا " عليه في بعض
ما أطلقه، مضافا " إلى ذلك ما عرفت في الرواية التي استدل له بها، وبما حررناه
يظهر لك أن أظهر الأقوال الثلاثة المذكورة هو القول الثاني.
وفي المسألة أيضا أقوال أخر، منها الفرق بين المضي من الأصل والثلث
بمجرد التهمة، وانتفائها.

(1) سورة النساء الآية 11.
(2) الكافي ج 7 ص 42 ح 5 و ص 41 ح 2، التهذيب ج 9 ص 160 ح 660 و ص 159 ح 656 و ص 160 ح 657، الوسائل ج 13 ص 377 ح 4 و ص 376 ح 1 و ص 378 ح 8.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 2.
616

ومنها جعل مناط الفرق المذكور العدالة
ومنها تعميم الحكم للأجنبي بكونه من الأصل، وتقييد ذلك في الوارث
بعدم التهمة.
وقد ذكر جمع من الأصحاب (رضي الله عنهم) أن المراد بالتهمة هنا الظن
المستند إلى القرائن الحالية والمقالية الدالة على أن المقر لم يقصد باقراره الأخبار
عن حق متقدم، وإنما المراد تخصيص المقر له بما أقر به، وحرمان الوارث من
حقه أو بعضه، والتبرع به للغير، فلذلك جرى مجرى الوصية في الخروج من
الثلث خاصة.
والظاهر أن المراد من العدالة في كلامهم هو ما أشار إليه في صحيحة منصور،
وموثقة أبي أيوب بقوله مرضيا "، أي يعتمد على قوله، ولا يظن به التهمة وقصد
حرمان الورثة باقراره، وهو المراد أيضا " من قوله عليه السلام في رواية العلا بياع
السابري " إن كانت مأمونة ".
وبالجملة فإنه لما كان الميت ليس له من ماله بعد الموت إلا الثلث خاصة،
وما زاد فهو للوارث، منع من تصرفه فيه بالوصية ونحوها، وحينئذ فإذا اعترف
بالدين الذي مخرجه من حيث هو من الأصل لتعلقه بالذمة من حيث احتمال
اعترافه للصحة والبطلان، وجب التفصيل فيه بما دلت عليه هذه الأخبار، من
أنه إذا كان مرضيا " مأمونا "، له ديانة وورع يحجزه عن مخالفة الحدود الشرعية
والأوامر الإلهية، وجب العمل بظاهر اعترافه، وأخرج من الأصل، وإلا فإنما
يخرج من الثلث.
وبهذا فيظهر ما في كلام جملة من الأصحاب من أن الاقرار إنما يكون من
الثلث مع ظهور التهمة، ومع الشك والجهل بالحال يرجع فيه إلى أصالة عدمها،
فيجب الخروج من الأصل، فإنه خلاف ظاهر الأخبار المذكورة حيث إنها
صريحة في كون الاخراج من الأصل مشروطا " بكون المقر مرضيا مأمونا ومقتضاه
617

أنه مع الجهل وعدم العلم بوجود الشرط، أو العلم بعدم وجوده يكون الاخراج
من الثلث، لعدم وجود الشرط الموجب لانتفاء المشروط.
وهذا التحقيق إلى القول المتقدم بأن مناط الفرق المذكور
العدالة، كما هو منقول عن العلامة في التذكرة، وأنها هي الدافعة للتهمة، وهذا
هو ظاهر الأخبار المتقدمة.
ويظهر الفرق بين هذا القول والقول الثاني ما لو كان المقر على ظاهر العدالة،
وقامت القرائن الحالية أو المقالية على التهمة، فعلى الاكتفاء بظاهر العدالة،
يكون الاخراج من الأصل، ولا يلتفت إلى ما دلت عليه القرائن المذكورة، وعلى
تقدير المشهور من ضمن عدم التهمة إلى العدالة وجعلهما شرطين، يكون الاخراج
من الثلث، لانتفاء أحد الشرطين.
وأنت خبير بأن اعتبار انتفاء التهمة منفردا " أو منضما " إلى شرط العدالة
لا يعرف له مستند من الأخبار، إلا ما يفهم من شرط الأمانة وكونه مرضيا " الذي
هو عبارة عن العدالة عندهم بالتقريب الذي قدمناه.
اللهم إلا أن يقال: إن قيام القرائن بالتهمة الموجب لظنها ينافي العدالة
المذكورة، ولا يجامعها وهو غير بعيد، وإن صرح في المسالك بخلافه، وجوز
اجتماعهما، بناء على أن العدالة المبنية على الظاهر لا تزول بالظن، وفيه منع
ظاهر فإن العدالة إنما تبنى على الظن، واللازم من ذلك تقابل الظنين وترجيح
أحدهما على الآخر يحتاج إلى مرجح، والظاهر أنه لما ذكرناه ذهب صاحب
الكفاية إلى قول آخر في المسألة، فقال بعد أن فسر التهمة بما قدمنا نقله عن
جمع من الأصحاب ما هذا لفظه: والأقوى أن التهمة بالمعنى المذكور توجب
المضي من الثلث مطلقا "، وكون المقر ممن يوجب قوله الظن بصدقه، لكونه أمينا "
مصدقا " يوجب المضي من الأصل، وفي غير ذلك تأمل، انتهى.
ومحل التأمل في كلامه ما لو انتفى الوصفان كما في غير العدل، أو المجهول
618

العدالة الذي لم تظهر قرائن التهمة عليه، وقد عرفت آنفا " أن مقتضى ظواهر
الأخبار الدالة على اشتراط كونه مرضيا " في الخروج من الأصل، وأنه متى فقد
الشرط وجب انتفاء المشروط، فالحكم بأنه من الثلث في هذه الصورة بناء على ذلك
الظاهر أنه لا اشكال فيه، إلا أن ما ذكره من التأمل في أمثال هذه المواضع
لا يخلو من وجه.
هذا: وقد صرح جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة والشهيدان
بأنه لو برأ المريض فالظاهر نفوذ اقراره من الأصل، تمسكا (1) " بأن اقرار
العقلاء على أنفسهم جائز " السالم عما يصلح للمعارضة، فإن رواية العلا مفروضة
في الاقرار الواقع في مرض الموت، وغيرها لا عموم فيه بحيث يتناول من برأ بعد
المرض، وإليه مال السيد السند في شرح النافع، وهو جيد.
تذنيب:
بقي في المقام روايات تتعلق بالمسألة لا بأس بنقلها، وبيان ما اشتملت عليه،
ومنها صحيحة الحلبي (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: الرجل يقر لوارث
بدين؟ فقال: يجوز إذا كان مليا ".
وصحيحته (3) الأخرى " قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل أقر لوارث
بدين في مرضه أيجوز ذلك؟ قال: نعم إذا كان مليا "، وضمير السم كان يحتمل
رجوعه إلى الوارث الذي أقر له، والغرض من ذكر ملاءته كون ذلك قرينة على
صدق المقر في اقراره له، ويحتمل عوده إلى المقر، ويجعل ذلك كناية عن صدقه
وأمانته، وعلى هذين الاحتمالين يكون مخرجه من الأصل، ويحتمل رجوعه
إلى المقر أيضا لا باعتبار الأول بل باعتبار التخصيص بالثلث، بأن تبقى ملاءته

(1) الوسائل ج 16 ص 133 ح 2.
(2) الكافي ج 7 ص 41، التهذيب ج 9 ص 159 ح 655.
(3) التهذيب ج 6 ص 190 ح 405.
وهما في الوسائل ج 13 ص 378 ح 5 و 7.
619

بالثلثين، وحاصل الجواب أنه يجوز اقراره في الثلث خاصة، فيكون مخرجه
منه دون الأصل.
ويمكن تأييد هذا المعنى بموثقة سماعة (1) " قال: سألته عمن أقر للورثة
بدين عليه وهو مريض؟ قال: يجوز عليه ما أقر به إذا كان قليلا ".
بحمل القليل فما دونه، بمعنى أن مخرج هذا الذي أقر به من الثلث،
وعلى هذا تكون هذه الروايات مطابقة لمذهب المحقق في النافع إلا أن تحمل
على التهمة كما تقدم ذكره في صحيحة إسماعيل بن جابر (2) إلا أن الاستناد
إليها مع ما هي عليه من الاجمال الموجب لاتساع دائرة الاحتمال لا يخلو من
الاشكال، والحق أن هذه الأخبار لا يظهر لها معنى يعتمد عليه، ولا يفهم منها
حكم يرجع إليه.
ومنها صحيحة سعد بن سعد (3) " عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن رجل
مسافر حضره الموت، فدفع مالا " إلى رجل من التجار، فقال: إن هذا المال لفلان
بن فلان ليس لي فيه قليل ولا كثير، فادفعه إليه يصرفه حيث شاء، فمات ولم
يأمر فيه صاحبه الذي جعل له بأمر، ولا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك
كيف يصنع؟ قال: يصنعه حيث شاء ".
قال بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم): قوله " يضعه حيث شاء " أي هو
ماله يضعه حيث يشاء، إذ ظاهر اقراره أنه أقر له بالملك، ويكفي ذلك في جواز
تصرفه، فلا يلزمه بيان سبب الملك، ويحتمل أن يكون المراد أنه أوصى إليه
بصرف هذا المال في أي مصرف شاء فهو، مخير في الصرف فيه مطلقا " أو في وجوه
البر، انتهى.

(1) التهذيب ج 9 ص 160 ح 658.
(2) الكافي ج 7 ص 42 ح 4.
(3) الكافي ج 7 ص 63 ح 23 وفيه " عن سعد بن إسماعيل عن أبيه "، التهذيب
ج 9 ص 160 ح 662.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 379 ح 9 و ص 377 ح 3 و ص 378 ح 6.
620

أقول: لا يخفى أن سياق الرواية المذكورة ظاهر في أن اعتراف الرجل
بذلك المال لذلك الشيخ الذي سماه، ليس له أصل بالكلية، ولهذا إن الرجل
المسمى لم يقبض المال، ولم يأمر فيه بأمر، بل تعجب من ذلك، ولم يدر ما الذي
حمل ذلك الرجل على الاعتراف له، مع أنه لا يستحق في ذمته مالا " بالكلية،
وحينئذ فقرينة التهمة في هذا الاعتراف ظاهرة، فيجب بمقتضى ما تقدم أن يكون
مخرجه من الثلث خاصة، وظاهره أن المال باق في يد الأمين، وحينئذ فيجب أن
يحمل جوابه عليه السلام بأن ذلك له يضعه حيث يشاء " إما على عدم وجود وارث لذلك
الرجل المقر، فإن من لا وارث له، له أن يوصي به كملا " إلى من يشاء أو يعترف
به كما هو أصح القولين في المسألة، أو على أن ذلك المال يخرج من الثلث، أو
أن الغرض من الجواب بيان صحة الانتقال والتملك بمجرد هذا الاعتراف مع
قطع النظر عن هذه المسألة بالكلية.
وكيف كان فالخبر غير خال من شوب الاشكال، لما فيه من الاجمال.
ومنها رواية أبي بصير (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل
معه مال مضاربة فمات وعليه دين، وأوصى أن هذا الذي ترك لأهل المضاربة
أيجوز ذلك؟ قال: نعم إذا كان مصدقا ".
أقول: هذا الخبر مما ينتظم في سلك أخبار القول الثاني، والتعبير بقوله
" مصدقا " مثل قوله في تلك الأخبار " مرضيا ومأمونا ".
ومنها رواية السكوني (2) " عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام أنه كان يرد
النحلة في الوصية، وما أقر عند موته بلا ثبت ولا بينة رده ".
أقول: الظاهر أن المراد من قوله " يرد النحلة في الوصية " بمعنى يجعلها
داخلة في الوصية ومن قبيلها، فيكون الجار والمجرور متعلقا " بيرد، وأما احتمال

(1) التهذيب ج 9 ص 167 ح 679 و ص 161 ح 663، الوسائل ج 13 ص 380 ح 14 و 12.
(2) التهذيب ج 9 ص 167 ح 679 و ص 161 ح 663، الوسائل ج 13 ص 380 ح 14 و 12.
621

تعلقه بالنحلة فإنه يقتضي رد النحلة مطلقا "، وهو مخالف لظاهر الأخبار المتقدمة،
وغيرها، والمراد بقوله " وما أقر به عند موته " إلى آخر ما ذكره الشيخ في كتابي
الأخبار من الحمل على ما إذا كان غير مرضي بل متهما " على الورثة فيكون معنى
رده يعني من الأصل وأن أخرج من الثلث، وظاهر الخبر رده مطلقا "، إلا أنه لما
كان مخالفا لما تقدم من الأخبار، فالواجب حمله على ما ذكره الشيخ
(رحمة الله عليه).
ومنها رواية محمد بن عبد الجبار (1) " قال: كتبت إلى العسكري عليه السلام:
امرأة أوصت إلى رجل وأقرت له بدين ثمانية آلاف درهم، وكذلك ما كان لها
من متاع البيت من صوف وشعر وشبه وصفر ونحاس، وكل مالها أقرت به
للموصى إليه، وأشهدت على وصيتها وأوصت أنه يحج عنها من هذه التركة
حجتان، ويعطى مولاة لها أربعمائة درهم وماتت المرأة، وتركت زوجا ولم ندر
كيف الخروج من هذا، واشتبه علينا الأمر، وذر الكاتب أن المرأة استشارته
فسألته أن يكتب لها ما يصح لهذا الوصي فقال: لا تصح تركتك لهذا الوصي إلا
باقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة الشهود، وتأمريه بعد أن ينفذ ما توصيه
به، فكتب له بالوصية على هذا، وأقرت للوصي بهذا الدين، فرأيك أدام الله
عزك في مسألة الفقهاء قبلك عن هذا، وتعرفنا ذلك لنعمل به إن شاء الله؟
فكتب عليه السلام بخطه: إن كان الدين صحيحا " معروفا " مفهوما " فيخرج الدين من رأس
المال إن شاء الله وإن لم يكن الدين حقا " أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو
لم يكف ".
أقول: لما كان ظاهر سياق هذه الحكاية أن المرأة المشار إليها قاصدة بهذا
الاقرار حرمان الوارث لم يرتب الحكم فيها على عدالة المقر، وكونه مرضيا "،
لأن المعلوم من السياق خلافه بل رتبه على ثبوت الدين ومعلومية صحته، وهو

(1) التهذيب ج 9 ص 161 ح 664، الوسائل ج 13 ص 379 ح 10.
622

نظير ما تقدم في رواية السكوني من قوله عليه السلام " بلا ثبت ولا بينة رده " بناء على
ما ذيلنا به من ا لتأويل بأنه إذا كان متهما " احتيج إلى اخراجه من الأصل إلى البينة
الموجبة لثبوته، وإلا فمن الثلث.
وأما قوله في الخبر المذكور " فرأيك أدام الله عزك في مسألة الفقهاء قبلك "
فإنه لا يخلو من غموض، قال المحدث الكاشاني في الوافي: ما رأيك أو أعلمنا رأيك
في سؤالنا الفقهاء الذين يكونون عندك من شيعتك عن هذا، وفي تعرفنا ذلك
منهم، إذ ليس لنا إليك وصول، وكان غرضه الاستيذان في مطلق سؤالهم من
المسائل، انتهى.
أقول: الظاهر أنه لا يخلو من بعد، وقال: شيخنا المجلسي في حواشيه على
كتب الأخبار لعل المراد بالفقهاء الأئمة عليهم السلام أي نطلب رأيك أو نتبعه، أو إن
رأيت المصلحة في أن عرفنا ما أجاب به الأئمة المتقدمة عليك عند سؤالهم عن
هذه المسألة، فعلى الأخير يكون وتعرفنا معطوفا " على مسألة، تفسيرا " لها، ويحتمل
أن يكون المراد السؤال عن فقهاء أهل البلد، وتعريف الجواب بأن يقرأ قبلك
بكسر القاف وفتح الباء، وعلى التقديرين يكون هذا النوع من الكلام الغير
المعهود من أصحابهم للتقية، وعلى الثاني لنهاية التقية ويمكن أن يكون المراد
ما رأيك في مسألة سألنا الفقهاء قبل أن نسئلك فيها يعني فقهاء بلد السائل،
انتهى.
أقول: والذي يظهر لي من العبارة المذكورة أن المراد إنما هو عرفنا
رأيك في هذه المسألة التي سئل الفقهاء قبلك لنعمل بما تعرفنا دون ما قالوا
أولئك الفقهاء فيها، وحينئذ يكون المراد بالفقهاء فقهاء العامة.
ومنها رواية مسعدة بن صدقة (1) " عن جعفر بن محمد عن أبي عليهم السلام قال:
قال علي عليه السلام لا وصية لوارث ولا اقرار بدين " يعني إذا أقر المريض لأحد من

(1) التهذيب ج 9 ص 162 ح 665، الوسائل ج 13 ص 380 ح 13.
623

الورثة بدين فليس له ذلك، وحمله الشيخ في التهذيبين تارة على التقية، وأخرى
على المتهم، وما زاد على الثلث.
أقول: ما تضمنه من النهي عن الوصية للوارث فلا ريب في حمله على التقية،
لأن ذلك مذهب الجمهور، وأخبارنا المعتضدة باتفاق أصحابنا دالة على الجواز كما
تقدم تحقيقه في المسألة المذكورة من المقصد الأول، وأما المنع من الاقرار
بالدين فهو يتعين الحمل على أحد الحملين، والله العالم.
المسألة الثالثة: اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن من مات ولا
وارث له، هل له أن يوصي بجميع ماله إلى من شاء أم لا؟ فذهب الشيخ في
الخلاف وابن إدريس والعلامة في المختلف إلى الثاني، وذهب ابن الجنيد والصدوق
في المقنع وهو ظاهر الشيخ في كتابي الأخبار إلى الأول، وهو ظاهر المحدثين
المحسن الكاشاني في الوافي والحر العاملي في الوسائل، وهو المختار.
وقال في المختلف: قال الشيخ في الخلاف: من ليس له وارث قريب
أو بعيد، ولا مولى نعمة لا يصح أن يوصي بأكثر من الثلث، وذهب أبو حنيفة
وأصحابه وشريك، إلى أن له أن يوصي بجميع ماله، وروي ذلك في أحاديثنا،
ثم استدل بصحة الوصية بالثلث اجماعا ولا دليل على الزائد، وروى معاذ بن جبل (1)
" عن النبي (صلى ا لله عليه وآله وسلم) أنه قال: إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم
بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم " ولم يفرق بين أن يكون له وارث أم لا، وقال
ابن إدريس أيضا: لا يصح إلا في الثلث، وقال ابن الجنيد: روي عن
أمير المؤمنين عليه السلام (2) أنه قال: " ومن أوصى بالثلث فقد بلغ المدى " يعني بذلك
إذا كان له ورثة ومن تجاوز ذلك إلى الثلث لم يجز إلا أن تشاء الورثة، فأما من
لا وارث له فجائز أن يوصي بجميعه لمن شاء، وفيما شاء مما أبيح الوصية فيه،
624

وقال الصدوق في المقنع: إذا مات الرجل ولا وارث له ولا عصبة قال: يوصي بماله
حيث شاء في المسلمين والمساكين، والمعتمد الأول، لما تقم، واحتج الآخرون بما روى
السكوني (1) " عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أنه سئل عن الرجل يموت ولا وارث له
ولا عصبة، قال: يوصي بماله حيث شاء في المسلمين والمساكين وابن السبيل.
وقد روى الشيخ والصدوق معا " عن عمار بن موسى (2) " عن الصادق عليه السلام
قال: الرجل أحق بماله مدام فيه الروح إن أوصى به كله فهو جائز له " وتأولاه
بأنه إذا لم يكن وارث قريب أن بعيد، فيوصي به كله، واستدلا بما سبق من
حديث السكوني، والوجه ترك هذه الرواية لضعفها، انتهى كلامه في المختلف.
أقول: العجب من الشيخ (قدس سره) أنه استدل على ما ذهب إليه في الخلاف
من عدم صحة الوصية في الصورة المذكورة بأن الوصية بالثلث مجمع عليه،
وما زاد لا دليل عليه مع أنه بعد أن نقل عن أبي حنيفة أن له أن يوصي بجميع ماله
قال: وروي ذلك في أحاديثنا، وحينئذ فإذا اعترف برواية ذلك في أحاديثنا
كيف يتم له قوله " والوصية بما زاد على الثلث لا دليل عليه " والدليل موجود
باعترافه، إلا أن يبين وجه قدح فيه يوجب عدم العمل به، ومع ذلك يستند إلى
هذه الرواية العامية، ويطرد هذه الرواية التي اعترف بها.
وأعجب من ذلك قول العلامة بعد ذلك، والمعتمد الأول، بما تقدم، وأشار
بالأول إلى مذهب الشيخ في الخلاف، وأشار بما تقدم إلى استدلال الشيخ مع
ما عرفت فيه من القصور الظاهر لكل ناظر.
نعم يمكن أن يستدل لما ذهب إليه الشيخ في الخلاف ومن تبعه باطلاق
بعض الروايات الدالة (3) على أنه متى أوصى بما زاد على الثلث وجب رده إلى

(1) التهذيب ج 9 ص 188 ح 754.
(2) التهذيب ج 9 ص 187 ح 753، الفقيه ج 4 ص 150 ح 520.
(3) التهذيب ج 9 ص 192 ح 773.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 370 ح 1 و ص 382 ح 5
و ص 358 الباب 8 ح 1.
625

الثلث وبطلت الوصية بالزايد، باطلاقها دالة على وجوب الرد إلى الثلث، وجد
وارث ثمة أم لم يوجد، إلا أن فيه أن أكثر الأخبار قد تضمنت وجود الوارث
في البين، ففي جملة منها أنه تمضي الوصية في الثلث، وترد الباقي على الورثة،
وفي جملة إلا أن تجيز الورثة، وحينئذ فيحمل اطلاق تلك الأخبار على هذه.
ومما يعضد رواية السكوني موثقة عمار المتقدمة في كلام العلامة الدالة
على أنه إن أوصى بماله كله فهو جائز، بحملها على عدم الوارث، إذ لا جائز أن
يعمل بها على ظاهرها فيلزم طرحها، والعمل بالخبر مهما أمكن أولى من طرحه،
كما صرحوا به في غير موضع، والعلامة في المختلف إنما تمسك في ردها بضعف
السند، بناء على هذا الاصطلاح الغير الصحيح ولا المعتمد، ومن لا يعمل به
لا يصح عنده رد الخبري بغير معارض.
فإن قيل: أخبار كون (1) " الإمام وارث من لا وارث له " تعارض هذه
الرواية، قلنا: ما ذكرت من الأخبار مطلق أو عام، وهذه الرواية خاصة أو مقيدة
فالقاعدة تقتضي تقديم العمل بهذه الرواية وتخصيص تلك الأخبار أو تقيدها بها على
أنه مما يعضد هذه الرواية ما رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن
محمد بن عيسى (2) " قال: كتب إليه محمد بن إسحاق المتطيب: وبعد أطال الله
بقاك نعلمك يا سيدنا أنا في شبهة من هذه الوصية التي أوصى بها محمد بن يحيى
درياب، وذلك أن موالي سيدنا وعبيده الصالحين ذكروا أنه ليس للميت أن يوصي
إذا كان له ولد بأكثر من ثلث ماله، وقد أوصى محمد بن يحيى بأكثر من
النصف ما خلف من تركته، فإن رأى سيدنا ومولانا أطال الله بقاءه أن يفتح
غياب هذه الظلمة التي شكونا ويفسر ذلك لنا نعمل عليه إن شاء الله تعالى
فأجاب عليه السلام: إن كان أوصى بها من قبل أن يكون له ولد فجائز وصيته وذلك
أن ولده من بعده ".

(1) التهذيب ج 9 ص 386 الباب 44 و ص 197 ح 789، الوسائل ج 17 ص 547 الباب 3 و ج 13 ص 370 ح 2.
(2) التهذيب ج 9 ص 386 الباب 44 و ص 197 ح 789، الوسائل ج 17 ص 547 الباب 3 و ج 13 ص 370 ح 2.
626

وظاهر الخبر المذكور أنه لو أوصى بأكثر من الثلث ولو بالمال كله قبل
وجود الوارث، ثم تجدد له وارث، ولم يعدل الموصي عن الوصية إلى أن مات،
فإنه يجب العمل بتلك الوصية، يحرم الوارث من المال الموصى به، وهو حكم
غريب وفرع عجيب لم أقف على من نبه عليه، ولا تنبه إليه.
وربما يقال: إن أدلة الإرث كتابا " وسنة يقتضي وجوب رد ما زاد على الثلث
إلى الوارث، إلا أنه يمكن القدح فيه، بأن تلك الأدلة مطلقة، وهذا الخبر خاص
بصورة الوصية بالمال وتقدمها على وجود الوارث، والقاعدة تقتضي تقديم العمل
به، سيما مع صحة الخبر باصطلاحهم، وكيف كان فالخبر المذكور ظاهر فيما
دلت عليه رواية السكوني من صحة الوصية بالمال كله مع عدم وجود الوارث،
فالقول بذلك متعين. وفاقا لما قدمنا ذكره عن أصحابنا.
وقال في الدروس بعد ذكر استحباب اقلال الوصية: وأن الخمس أفضل من
الربع، والربع أفضل من الثلث: وقال علي بن بابويه: إذا أوصى بماله كله فهو
أعلم، ويلزم الوصي إنفاذه لرواية عمار (1) " إن أوصى به كله فهو جائز له،
وحملها الشيخ على من لا وارث له، فجوز الوصية بجميع المال لمن لا وارث له،
وهو فتوى الصدوق وابن الجنيد لرواية السكوني، ومنع الشيخ في الخلاف من
الزيادة على الثلث مطلقا "، وهو مختار ابن إدريس والفاضل، انتهى.
أقول: ظاهر كلام شيخنا المذكور هو التوقف في المسألة حيث اقتصر على
نقل الخلاف الذي فيها، ولم يرجح شيئا من القولين، ولا طعن في أحد الجانبين
وأما ما نقله عن الشيخ علي بن بابويه فقد تقدم الكلام فيه، وبينا أن مستنده في
ما ذكره من الحكم المذكور إنما هو كتاب الفقه الرضوي، فإن عبارته هنا عين
عبارة الكتاب كما أوضحناه في جملة من الأبواب، ولكنهم خفي عليهم ذلك استدلوا
له بهذه الرواية، والله العالم.

(1) التهذيب ج 9 ص 187 ح 753، الوسائل ج 13 ص 382 ح 5.
627

المسألة الرابعة: قال الشيخ في النهاية: إذا قال الموصي لوصيه اقض عني
ديني، وجب عليه أن يبدأ به قبل الميراث فإن تمكن من قضائه ولم يقض وهلك
المال كان ضامنا " له، وليس على الورثة لصاحب الدين سبيل، وإن كان قد عزل
من أصل المال ولم يتمكن من اعطائه أصحاب الديون وهلك من غير تفريط من
جهته كان لصاحب الدين مطالبة الورثة بالدين من الذي أخذوه، وتبعه ابن البراج،
وبهذه العبارة قال ابن إدريس، إلا أنه زاد في عبارة الشيخ، فقال: في كتابه: وإذا
قال الموصي لوصيه اقض عني ديني، وجب عليه أن يبدأ به قبل الميراث، فإن
تمكن من قضائه ولم يقضه وهلك المال كان ضامنا له، وليس على الورثة لصاحب
الدين سبيل إن كان قد صار إليهم من التركة حقهم، فإن كان قد عزله الوصي من
أصل المال، وقسم الباقي بينهم، ولم يتمكن من اعطائه أصحاب الديون وهلك
من غير تفريط من جهته، كان لصاحب الدين مطالبة الورثة، بالدين من الذي صار
إليهم وأخذوه واقتسموه، انتهى.
والعلامة في المختلف قد استدرك عليه الزيادة الأولى، واعترضه فيها،
فقال بعد نقل ذلك: والمعتمد أن نقول في الفرض الأول إذا كان قد بقي من المال
شئ وأخذه الورثة سواء كان حقهم، أو أزيد، أو أنقص، كان لصاحب الدين مطالبة
الورثة بأقل الأمرين من حقه وما صار إليهم، ثم يرجع الورثة على الوصي
بتفريطه لعدم انحصار حق صاحب المال فيما تلف، وإن حمل المال في قول
الشيخ وهلك المال بأن هلك جميعه قبل أن يصل إلى الوارث منه شئ استقام الحكم
وانتظم، والظاهر أن مراد الشيخ وابن البراج ذلك، ولكن ابن إدريس لقلة
تفطنه زاد ما أفسد به الكلام من حيث لا يشعر، انتهى.
أقول: وهذه المناقشات بعد ظهور المعنى بقرائن الحال والمقال من ابن
إدريس للشيخ، ومن العلامة لابن إدريس مما يستغني عنه، فإن من الظاهر أن
الورثة ما لم يصل إليهم شئ من التركة، لا يتعلق بهم حق من الديون بالكلية،
628

ومع وصول شئ لهم لا يتعلق بهم ولا يجب عليهم وفاء ما زاد عنه، ومع هلاك
التركة في يد الوصي بتفريطه يلزمه الضمان، ولا رجوع على الورثة بشئ،
لأنه لم يصل إليهم منها شئ، وهذه أحكام معلومة متفق عليها بينهم.
ثم إن الذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ في
الصحيح عن الحلبي (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: في رجل توفي فأوصى
إلى رجل وعلى الرجل المتوفى دين فعمد الذي أوصى إليه فعزل الذي للغرماء
فرفعه في بيته وقسم الذي بقي بين الورثة، فسرق الذي للغرماء من الليل ممن
يؤخذ؟ قال: هو ضامن حين عزله في بيته يؤدي من ماله ".
وعن أبان (2) عن رجل " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى إلى
رجل أن عليه دينا "؟ فقال: يقضي الرجل بما عليه من دينه، ويقسم ما بقي بين
الورثة، قلت: فسرق ما أوصى به من الدين، ممن يؤخذ الدين أمن الورثة أم
من الوصي؟ فقال: لا يؤخذ من الورثة، ولكن الوصي ضامن لها ".
قال في التهذيبين: إنما يكون الوصي ضامنا للمال إذا تمكن من ايصاله إلى
المستحق فلم يفعل، انتهى وهو جيد، فإن الضمان إنما يلزم مع التفريط،
والتفريط ليس إلا مع إمكان الدفع إلى صاحبه، والاخلال بذلك كما تكاثرت به
الأخبار في جملة من الأحكام.
والذي يكشف عن ذلك ما رواه في الكافي الصحيح أو الحسن عن
محمد بن مسلم (3) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل بعث زكاة ماله ليقسم
فضاعت، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال: إذا وجد لها موضعا " فلم يدفعها فهو
لها ضامن، إلى أن قال: وكذلك الوصي الذي يوصى إليه يكون ضامنا لما دفع

(1) التهذيب ج 9 ص 168 ح 685 و 684.
(2) التهذيب ج 9 ص 168 ح 685 و 684.
(3) الكافي ج 3 ص 553 ح 1.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 417 ح 2 و ص 418 ح 4 و ج 6
ص 198 ح 1.
629

إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه، فإن لم يجد فليس عليه ضمان ".
ثم إنه مع التفريط ولزوم الضمان للوصي لا يتعين رجوع الديان على الوصي،
بل يتخيرون بين الرجوع على الوصي أو على الورثة فيما قبضوه من حصصهم،
وترجع الورثة على الوصي، لأن ما عزله الوصي لا يتعين للدين بمجرد عزله ما لم
يصل إلى الديان، بل الدين يتعلق بالتركة كائنا " ما كانت، وكيف كان فالضمان
إنما هو على الوصي، والنقصان إنما هو عليه من ماله، لأن الورثة متى أخذ منهم
الديان الدين رجعوا به عليه، فلا يلحقهم ضمان ولا نقص، والله العالم.
المسألة الخامسة: إذا انتقل إلى المريض من ينعتق عليه كأبيه وابنه مثلا "
فلا يخلو إلا أن يكون بغير عوض أو بعوض، وعلى التقديرين فإما أن يكون
الملك اختيارا أو قهريا، وعلى تقدير الملك بعوض، فإما أن يكون العوض
موروثا أولا، فهذه صور ست:
الأولى أن يملكه بغير عوض ويكون الملك اختياريا "، كما لو أوصى له أحد
بأبيه أو أمه فقبل الوصية أو وهبه له بغير عوض، فقبل الهبة، فإن قلنا أن
منجزات المريض من الأصل كما هو أحد القولين في المسألة، كان انعتاقه من
الأصل، ولا اشكال فيه، وإن قلنا أن المنجزات من الثلث كما هو المشهور بين
المتأخرين فوجهان: بل قولان: أحدهما للمحقق في الشرايع مدعيا " عليه الاجماع
وهو أن عتقه من الأصل أيضا، قال: ولو أوصى له بأبيه فقبل الوصية، وهو
مريض، عتق عليه من أصل المال اجماعا "، لأنه إنما يعتبر من الثلث ما يخرجه عن
ملكه، وهنا لم يخرجه بل بالقبول ملكه، وانعتق عليه تبعا " لملكه، ومرجع
استدلاله إلى أمرين: أحدهما الاجماع، وثانيهما ما ذكره من أن المعتبر من الثلث
على القول به في المنجزات، إنما هو بالنسبة إلى ما يخرجه المريض عن ملكه بنفسه
اختيارا "، كما لو أعتق العبد أو وهب أو تصدق أو نحو ذلك، وهنا لم يخرج المريض
شيئا على هذا الوجه، وإنما له هو الله سبحانه حين ملكه بالقبول، وانعتق
630

عليه قهرا للملك. فلم يكن مفوتا شيئا باختياره، وإنما جاء الفوات من
قبل الله عز وجل ".
وثانيهما للعلامة في التحرير وهو أن عتقه من الثلث، كالعتق اختيارا "،
استنادا " إلى أن اختيار السبب وهو قبوله الوصية وقبوله الهبة في المثالين المتقدمين
اختيار للمسبب، وهو العتق المترتب على القبول، فمتى كان الأول معذورا " كان
الثاني كذلك، وهو يرجع إلى منع كون العتق قهريا " كما ادعاه ذلك القائل،
بل هو اختياري له، فإنه لو لم يقبل لما دخل في ملكه، ولما انعتق عليه، ولما
قبل باختياره ترتب عليه ذلك، فيكون من قبيل عتق العبد باختياره، وبالجملة
فإنه لا يلزم من كون الخروج قهريا " كونه من الأصل، وإنما يلزم ذلك لو لم يكن
مستندا " إلى اختيار المريض المتملك بالقبول، كما ذكرناه لكنه مستند إليه،
وبذلك يظهر الجواب عن أحد الدليلين المتقدمين.
وأما الثاني وهو الاجماع ففيه ما ذكره شيخنا في المسالك ولنذكره بطوله
لقوة وجودة محصوله، وإن كان قد قدمنا نبذة منه في غير موضع فيما تقدم، وهو
أيضا قد خالفه في غير موضع من كتابه هذا، لكنه الحق الحقيق بالاتباع، وإن
كان قليل الاتباع، قال قدس سره: ولا يقدح دعواه الاجماع في فتوى العلامة
بخلافه، لأن الحق أن اجماع أصحابنا إنما يكون حجة مع تحقق دخول المعصوم
في جملة قولهم، فإن حجيته إنما هو باعتبار قوله عندهم، ودخول قوله في قولهم
في مثل هذه المسألة النظرية غير معلوم، وقد نبه المصنف في أوائل المعتبر على
ذلك، فقال: إن حجية الاجماع لا يتحقق إلا مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم
في قول المجمعين، ونهى عن الاغترار بمن يتحكم، ويدعى خلاف ذلك، وهذا عند
الانصاف عين الحق، فإن إدخال قول شخص غائب لا يعرف قوله في قول جماعة معروفين
بمجرد اتفاقهم على ذلك القول بدون العلم بموافقته لهم تحكم بارد، وبها يظهر
جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا
631

فيها الاجماع، إذا قام عنده الدليل على ما يقتضي خلافهم، وقد اتفق لهم ذلك
كثيرا، لكن زلة القدم متسامحة عند الناس دون المتأخر، انتهى وهو جيد متين
كما لا يخفى على الحاذق المكين.
الثانية الصورة بحالها ولكن ملكه بغير اختيار كحصوله له بالإرث،
وينبغي القطع بكونه من الأصل هنا، وإن قلنا في سابق هذه الصورة بكونه
من الثلث، لعدم الاختيار في السبب ولا في المسبب، ونقل عن التذكرة أنه
جعل العتق أقرب، وربما قيل: بأنه متى قلنا في الصورة الأولى بكونه من الثلث،
فيحتمل كونه هنا كذلك، فيتحقق الملك للمريض فيكون معدودا " من جملة
أمواله، فانعتاقه يفوت عليهم المالية، وفيه أنه لم يتلف على الوارث شئ مما هو
محسوب مالا، لأنه بمجرد الإرث ينعتق عليه، وأيضا " فإن العتق قهري والملك
قهري، وقد عرفت في الصورة السابقة: أن وجه القول بكونه من الثلث إنما هو
لكون السبب اختياريا " وهنا ليس كذلك كما عرفت.
الثالثة أن يملكه بعوض موروث اختيارا "، بمعنى أن يملكه باختياره
بعوض لو بقي في مدة، لأنه ينقل بعد الموت لوارثه كالشركاء بثمن المثل، فمن
قال: إن المنجزات مخرجها من الأصل، فإنه يكون هنا من الأصل، وهو ظاهر،
ومن قال إنها من الثلث ففي انعتاقه قولان: أحدهما أنه من الثلث كما اختاره
العلامة في الإرشاد، وفي الأحكام المعنوية من القواعد، وعلل بأن تملكه له باختياره
سبب في عتقه فجرى مجرى المباشرة خصوصا " عند من يجعل فاعل السبب فاعل
المسبب كالجبائين، قال المسالك: وهذا هو الأصح.
وثانيهما نفوذه من الأصل، لأنه إنما يحجر عليه في التبرعات، والشراء
بثمن المثل ليس بتبرع، فلا يكون محجورا " عليه، والعتق حصل بغير اختياره،
فلا يعتبر فيه الثلث، وهذا القول اختيار العلامة في كيفية التنفيذ من كتاب
القواعد.
632

ورد بأن بذل الثمن في مقابلة ما قطع بفواته وزوال ماليته بالانعتاق
تضييع على الوارث كما لو اشترى ما يقطع بموته عاجلا ".
وشيخنا الشهيد في شرح الإرشاد اقتصر على نقل القولين المذكورين، ونقل
دليل كل منهما ولم يرجح شيئا " منهما ولا طعن في شئ من الدليلين المذكورين
وهو مؤذن بالتوقف في ذلك.
الرابعة أن يملكه بعوض موروث ملكا " قهريا " بغير اختياره، بأن يكون
مستندا " إلى حكم الشارع وأمره له به كما لو كان نذر في حال الصحة، أو في حال
المرض إن قلنا بكونه من الأصل، بأنه إن وجد قريبة يباع بعوض، وهو قادر
عليه اشتراه، فإن هذا من الأصل على القولين، ويحتمل ضعيفا " كونه من الثلث
بحصول السبب المقتضي للتصرف في المرض، ووجه ضعفه باسناد ذلك إلى ايجاب
الشارع فكان عليه بمنزلة الدين.
الخامسة أن يملكه بعوض غير موروث كما لو آجر نفسه للخدمة به، فإنه
عندهم يعتق من الأصل لعدم تفويته شيئا " على الوارث
السادسة أن يملكه كذلك بغير اختياره، بل بالزام الشارع كما لو نذر
تملكه بالإجارة كذلك، والحكم في هذه الصورة كسابقتها بطريق أولى،
والله العالم.
المسألة السادسة: الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في صحة الوصية بالإشارة
على المراد مع تعذر اللفظ، وكذا الكتابة مع التلفظ أيضا "، والقرينة الدالة على
الدالة قصد الوصية بها.
ويدل على الأول في الفقيه عن محمد بن أحمد عن السندي بن محمد
عن يونس بن يعقوب عن أبي مريم (1) ذكره عن أبيه " أن أمامة بنت أبي العاص

(1) التهذيب ج 9 ص ص 41 ح 935، الفقيه ج 4 ص 146 ح 506،
الوسائل ج 13 ص 437 ح 1 و ج 16 ص 59 ح 1.
633

وأمها زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت تحت علي بن أبي طالب عليه السلام
بعد فاطمة عليها السلام فخلف عليها بعد علي عليه السلام المغيرة بن النوفل فذكر أنها وجعت
وجعا " شديدا " حتى اعتقل لسانها، فجاءها الحسن والحسين عليهما السلام ابنا علي عليه السلام وهي
لا تستطيع الكلام: فجعلا يقولان لها والمغيرة كاره لذلك: أعتقت فلانا " وأهله؟
فجعلت تشير برأسها نعم، وكذا وكذا فجعلت تشير برأسها أي نعم لا تفصح بالكلام،
فأجازا ذلك لها ".
ورواه الشيخ بهذا السند مثله، ورواه بسند آخر في الصحيح عن الحلبي (1)
" عن أبي عبد الله عليه السلام أن أباه حدثه أن أمامة.. " الحديث.
وما رواه عبد الله بن جعفر الحميري (2) في كتاب قرب الإسناد عن عبد الله بن
الحسن عن علي جعفر عن أخيه " قال: سألته عن رجل اعتقل لسانه عند الموت
أو امرأة فجعل أهليهما يسأله أعتقت فلانا " وفلانا " فيومئ برأسه أو تؤمي برأسها،
في بعض نعم، وفي بعض لا، وفي الصدقة مثل ذلك، أيجوز ذلك؟ قال: نعم
هو جائز ".
وما رواه في الكافي بسنده عن محمد بن جمهور (3) عن بعض أصحابنا
" عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه السلام كانت أول امرأة
هاجرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة على قدميها إلى
أن قال: وقالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): إني أريد أن أعتق جاريتي هذه
فقال لها: إن فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار، فلما مرضت
أوصت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمرت أن يعتق خادمها واعتقل

(1) التهذيب ج 8 ص 258 ح 938.
(2) قرب الإسناد ص 119.
(3) أصول الكافي ج 1 ص 453 ح 2.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 437 الباب 49 ح 2 و 3.
634

لسانها، فجعلت تؤمي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إيماء، فقبل رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وصيتها " الحديث.
ويدل على الثاني ما رواه الصدوق عن بعد الصمد بن محمد عن حنان بن
سدير (1) عن أبيه " عن أبي جعفر عليه السلام قال: دخلت على محمد بن الحنفية، وقد
اعتقل لسانه فأمرته بالوصية فلم يجب: قال: فأمرت بالطست فجعل فيه الرمل
فوضع فقلت له: فخط بيدك قال: فخط وصيته بيده في الرمل ونسخت أنا في
صحيفة " وما رواه الشيخ عن محمد بن أحمد بن يحيى عن عبد الصمد بن محمد
مثله، إنما الخلاف والاشكال في الاكتفاء بالكتابة في الاختيار، فظاهر أكثر
الأصحاب عدم الاكتفاء بذلك.
قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة بعد قول المصنف إنه يكفي الإشارة
والكتابة مع تعذر اللفظ ما صورته: ولا تكفيان مع الاختيار وإن شوهد كاتبا "
أو علم خطه أو عمل الورثة ببعضها، خلافا " للشيخ في الأخير، أو قال: إنه بخطي،
وأنا عالم به، وهذه وصيتي فاشهدوا علي بها، ونحو ذلك بل لا بد من تلفظه أو قرائته
عليه واعترافه بعد ذلك، لأن الشهادة مشروطة بالعلم، وهو منفي هنا خلافا لابن
الجنيد حيث اكتفى به مع حفظ الشاهد له عنده، ثم قال: والأقوى بقراءة الشاهد
له مع نفسه مع اعتراف الوصي بمعرفة ما فيه وأنه موصي به وكذا القول في
المقر، انتهى.
أقول: أما ما نقله عن الشيخ فإنه إشارة إلى ما ذكره في النهاية حيث قال:
إذا وجدت وصية بخط الميت، ولم يكن أشهد عليها ولا أقر بها كان الورثة بالخيار
بين العمل بها وبين ردها وابطالها، فإن عملوا بشئ منها لزمهم العمل بجميعها،
واعترضه ابن إدريس في ذلك، فقال: وقد روي أنه إذا وجدت وصية بخط الميت

(1) الفقيه ج 4 ص 146 ح 505، التهذيب ج 9 ص 241 ح 934،
الوسائل ج 13 ص 436 ح 1.
635

ولم يكن أشهد عليها ولا أمر بها، فإن الورثة بالخيار بين العمل بها وبين ردها
وابطالها، فإن علموا بشئ منها لزمهم العمل بها جميعا "، على ما روى في بعض
الأخبار وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته، والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنهم إذا
أقروا بشئ منها وقالوا به، وقالوا: إن هذا حسب صحيح أوصى به دون ما عداه
مما في هذا المكتوب، فإنه لا يلزم العمل بجميع ما في المكتوب إلا بما أقروا به
دون ما عداه، وإنما هذه واحد أورده الشيخ ايرادا "، وقد بينا أن
أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشرعيات، انتهى.
أقول والذي وقفت عليه في الأخبار مما يتعلق بهذه المسألة هو ما رواه
الصدوق (قدس الله روحه) عن إبراهيم بن محمد الهمداني (1) " قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: رجل كتب كتابا بخطه ولم يقل لورثته هذه وصيتي ولم يقل
إني قد أوصيت، إلا أنه كتب كتابا فيه ما أراد أن يوصي به، هل يجب على ورثته
القيام بما في الكتاب بخطه ولم يأمرهم بذلك؟ فكتب عليه السلام: إن كان له ولد،
ينفذون كل شئ يجدون في كتاب أبيهم في وجه البر أو غيره " ورواها الشيخ في
التهذيب أيضا " إلا أنه قد سقط من قلمه ما بين كتاب الأول إلى كتاب الثاني،
والأقرب من سقط قلمه كما وقع له أمثال ذلك مما لا يحصى في متون الأخبار
وأسانيدها، وقد قدمنا التنبيه عليه في جملة من مواضع كتب العبادات.
وأنت خبير بأن الرواية المذكورة ظاهرة في وجوب تنفيذ ما يجدونه في
وصيته بخطه بخلاف ما ذكره الأصحاب من منع ذلك، وتخصيص الجواز بحال
الضرورة وعدم إمكان التلفظ.
وأما ما ذكره الشيخ في النهاية من أن الورثة بالخيار بين العمل بها إذا
كانت كذلك، وبين ردها وابطالها، وأنه مع اختيار العمل بشئ منها يلزمهم

(1) التهذيب ج 9 ص 242 ح 936 مع اختلاف يسير، الفقيه ج 4 ص 146
ح 507، الوسائل ج 13 ص 437 ح 2.
636

العمل بجميعها، فلم يصل إلينا فيه خبر، ولا ورد به أثر، فقول ابن إدريس " وقد
روى أنه إذا وجدت وصية " إلى آخر كلامه الظاهر أنه من قبيل ما قدمنا ذكره
في غير موضع، من أن الشيخ لما كانت عادته غالبا " الافتاء في كتاب النهاية بمتون
الأخبار، توهم ابن إدريس أن هذه الفتوى من الشيخ مستندة إلى خبر وصل إليه
بذلك، فنازعه فيه بناء على ذلك، واحتمال وصول خبر إلى الشيخ بذلك مع
عدم وصوله لنا وإن أمكن، إلا أنه بعيد، سيما بعد ما عرفت من النظائر التي
قدمنا ذكرها من افتاء الشيخ في الكتاب المذكور، واعتراض ابن إدريس عليه
بأنه خبر واحد، مع أنه لم يرد في تلك الفتوى خبر بالكلية، وكيف كان فحيث
قد عرفت أن هذه الفتوى من الشيخ لما لم يرد لها مستند من الأخبار فلا تعويل
عليها.
وإنما يبقى الكلام في خبر الهمداني المذكور، وما دل عليه من وجوب
العمل بالوصية المكتوبة بخطه، وإن لم تخبر ورثته بها بالكلية، فإن ظاهر الأصحاب
(رضوان الله عليهم) كما عرفت عدم العمل بهذه الوصية، والظاهر أنهم لم يقفوا
على الخبر المذكور، وإلا لأجابوا عنه، ورد الخبر من غير معارض شرعي ولا
دليل مرعي غير مسموع، وظاهر صاحب الفقيه العمل به، والقول بما دل عليه،
وسند الخبر المذكور في الفقيه صحي أو حسن، لأن طريقه إلى إبراهيم المذكور
حسن، أو صحيح بإبراهيم بن هاشم، وأما إبراهيم بن محمد الهمداني المذكور
فهو وإن لم يكن حديثه في الصحيح فلا أقل أن يكون في الحسن، لما ذكره
علماء الرجال فيه، من أنه كان وكيل الناحية، وكان حج أربعين سنة، وعن
الكشي توثيقه في ترجمة أحمد بن إسحاق، وروى توكيله وجلالة قدره في بعض
التوقيعات.
وبالجملة فإن الخبر المذكور حسن السند، واضع المتن، لا تطرق للطعن
فيه بوجه من الوجوه ولا معارض له كما عرفت إلا مجرد كلامهم، فالعمل به
متعين، والله العالم.
637

ختام به الاتمام:
يشمل على جملة من أخبار نوادر الأحكام.
روى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن علي بن يقطين (1) " قال:
سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل أوصى إلى امرأة، وأشرك في الوصية معها صبيا "؟
فقال: يجوز ذلك، وتمضي المرأة الوصية ولا تنتظر بلوغ الصبي فإذا بلغ الصبي
فليس له أن لا يرضى إلا ما كان من تبديل أو تغيير، فإن له أن يرده إلى ما أوصى به
الميت وهو صريح في جواز الوصية إلى المرأة.
وروى في التهذيب والفقيه عن السكوني (2) " عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: المرأة لا يوصى إليها، لأن الله تعالى
قال: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " وهذا الخبر حمله في التهذيبين على الكراهة
أو التقية، قال: لأنه مذهب كثير من العامة قال: وإنما قلنا بذلك لاجماع علماء
الطائفة على الفتوى بالخبر الأول، وأشار به إلى خبر علي بن يقطين المذكور،
وقال في الفقيه بعد أن عنون الباب بكراهة الوصية إلى المرأة تم أورد خبر
السكوني قال: وفي خبر آخر (3) " سئل أبو جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: (4)
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " قال: لا تؤتوها شارب الخمر ولا النساء، ثم قال:
وأي سفيه أسفه من شارب الخمر " ثم قال: في الفقيه وإنما يعني كراهة اختيار
المرأة للوصية، فمن أوصى إليها لزمها القيام بالوصية على ما تؤمر به ويوصى إليها
إن شاء الله تعالى، انتهى.

(1) الكافي ج 7 ص 46 ح 1، التهذيب ج 9 ص 184 ح 743، الفقيه
ج 4 ص 155 ح 538.
(2) التهذيب ج 9 ص 245 ح 953، الفقيه ج 4 ص 168 ح 585.
(3) الفقيه ج 4 ص 168 ح 586.
وهذه الروايات الوسائل ج 13 ص 439 ح 2 و ص 442 ح 1 و 2.
(4) سورة النساء الآية 4.
638

أقول: والأقرب الحمل على التقية التي هي أحد القواعد المنصوصة في
الجمع بين الأخبار، دون الكراهة، وإن كانت هي المعول عليها بينهم وبلغ في
الاشتهار غايته.
وروى ثقة الاسلام عن أبي بصير (1) في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
أعتق أبو جعفر عليه السلام من غلمانه عند موته شرارهم، وأمسك خيارهم، فقلت له: أبه
تعتق هؤلاء، وتمسك هؤلاء فقال: إنهم قد أصابوا مني ضربا " فيكون هذا بهذا "
ورواه الشيخ والصدوق مثله.
أقول: فيه دلالة على استحباب عتق من ضربه السيد، وإن كان هو
استحقاق.
وروى المشايخ الثلاثة عن عمر بن يزيد (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
مرض علي بن الحسين عليه السلام ثلاث مرضات، في كل مرض يوصي بوصية، فإذا
أفاق أمضى وصيته ".
أقول: يفهم من هذا الخبر استحباب إمضاء الوصية بعد البرء من ذلك
المرض الذي أوصى فيه.
وعن أحمد بن حمزة (3) " قال: قلت له: إن في بلدنا ربما أوصى بالمال
لآل محمد عليهم السلام، فيأتوني به فأكره أن أحمله إليك حتى أستأمرك، فقال:
لا تأتني به ولا ترض له ".
أقول الظاهر أنه محمول على التقية، لأن الظاهر أن المسؤول هو الكاظم عليه السلام
وكانت التقية في وقته شديدة، وأحمد بن حمزة في زمانه عليه السلام كان من الوكلاء.

(1) الكافي ج 7 ص 55 ح 13 و ص 56 ح 14 و ص 58 ح 3 التهذيب ج 9 ص 246 ح 956 و 955 و ص 233 ح 911، الفقيه ح 4 ص 171 ح 600 و ص 172 ح 601 و ص 174 ح 611، الوسائل ج 13 ص 472 الباب 84 والباب 85 و ص 480 ح 1.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
639

وعن حماد بن عثمان (1) في الصحيح أو الحسن " عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
أوصى رجل بثلاثين دينارا " لولد فاطمة عليها السلام قال: فأتى بها الرجل أبا عبد الله عليه السلام
فقال له أبو عبد الله عليه السلام ادفعها إلى فلان، شيخ من ولد فاطمة عليها السلام، وكان معيلا
مقلا، فقال له الرجل: إنما أوصى بها الرجل لولد فاطمة عليها السلام له أبو عبد الله عليه السلام:
إنها لا تقع من ولد فاطمة عليها السلام وهي تقع من هذا الرجل وله عيال ".
أقول: الظاهر أنه لما علم عليه السلام أن هذا الموصى به لا يسع ولد فاطمة عليها السلام
جميعا لكثرتهم، أو لا يمكن ايصاله إليهم لتفرقهم، وإنما يمكن اعطاؤه لبعض منهم
خص هذا الشيخ المعيل به، حيث إنها يقع منه وينتفع بها.
وروى في الكافي قال: وكتب إبراهيم بن محمد الهمداني (2) إليه عليه السلام
ميت وروى في التهذيب عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إليه ميت،
ورواه الشيخ بسند آخر عن أحمد بن هلال " قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام ميت
أوصى بأن يجري على رجل ما بقي من ثلثه، ولم يأمر بإنفاذ ثلثه هل للوصي أن
يوقف ثلث الميت بسبب الاجراء فكتب عليه السلام: ينفذ ثلثه ولا يوقف ".
أقول: الظاهر أن معنى الخبر المذكور أنه أوصى أن ينفق على رجل من
ثلثه ما بقي ذلك الرجل، فلو مات الرجل قبل نفاد الثلث يرجع الباقي إلى ورثة
الموصي ولم يأمر بإنفاذ الثلث، أي لم يوص إليه بالثلث كملا على وجه ينحصر
استحقاقه فيه وفي ورثته من بعده، فهل للوصي أن يقطع الاجراء عليه ويجعله
موقوفا؟ حيث إنه لم يوص له بالثلث كملا ولم يستحقه كملا بالوصية، فكتب عليه السلام:
ليس له أن يوقفه، بل يجب أن يجري عليه النفقة من الثلث ما دام الرجل موجودا
والثلث باقيا كما هو مقتضى الوصية.

(1) الكافي ج 7 ص 58 ح 2، التهذيب ج 9 ص 233 ح 912.
(2) الكافي ج 7 ص 36 ح 32، التهذيب ج 9 ص 144 ح 599 و ص 197
ح 787، الفقيه ج 4 ص 177 ح 525.
وهما في الوسائل ج 13 ص 480 ح 2 و ص 330 الباب 7.
640

وأما ما توهمه بعض متأخري المتأخرين (1) من مشايخنا (رضوان الله عليهم)
من احتمال حمل يوقف على أنه يجعل الثلث وقفا " ويجري عليه من حاصل
الوقف، فهو بعيد سحيق بل غريب من مثله (قدس سره).
وروى الشيخ في التهذيب عن صفوان بن يحيى (2) " عن أبي الحسن عليه السلام
قال: سألته عن الرجل يوقف ثلث الميت بسبب الاجراء؟ فكتب: ينفذ ثلثه
ولا يوقف ".
أقول: اجمال هذا محمول على التفصيل الذي تقدم في سابقه، وحاصل
السؤال أنه هل للوصي إذا أوصى الميت باجراء ثلثه وصرفه في مصرف مخصوص
أن يجعله موقوفا " ولا يجريه في ذلك المجرى، فمنع عليه السلام من ذلك وأوجب إنفاذه
فيما أوصى به الموصي.
وروى في الكافي عن الحسين بن إبراهيم بن محمد الهمداني (3)
قال: كتب محمد بن يحيى وروى في الفقيه عن الحسين بن إبراهيم " قال: كتبت
مع محمد بن يحيى هل للوصي أن يشتري شيئا " من مال الميت إذا بيع فيمن زاد
ويزيد؟ ويأخذ لنفسه؟ يجوز إذا اشترى صحيحا ".
أقول: المشهور بين الأصحاب هو الجواز في هذه الصورة، ونقل عن الشيخ
القول بالمنع استنادا " إلى أن الواحد لا يكون موجبا " وقابلا " في عقد واحد، لأن
الأصل في العقد أن يكون بين اثنين إلا ما أخرجه دليل وهو الأب والجد، ورد
بأن مرجعه إلى منع تولية طرفي العقد وهو ممنوع، إذا لم يقم عليه دليل مع
أصالة الجواز، ووجود النظير في الأب والجد كما اعترف به، ولا دليل على

(1) هو شيخنا محمد تقي والد محد باقر المجلسي (رحمه الله).
(2) التهذيب ج 9 ص 144 ح 600.
(3) الكافي ج 7 ص 59 ح 10، التهذيب ج 9 ص 233 ح 913. الفقيه
ج 4 ص 162 ح 566.
وهما في الوسائل ج 13 ص 331 ح 2 و ص 475 الباب 89.
641

اختصاصهما بذلك، وهذا الرواية كما ترى ظاهرة في الجواز، وجملة من الأصحاب
قد ذكروها، لكن لم يجعلوها دليلا " لضعف رجالها وجهالة المكتوب إليه، وإنما
جعلوها شاهدا " ومؤيدا "، قد تقدم الكلام في المسألة في غير موضع وبينا أنه لم
يقم دليل على المنع من تولية الواحد طرفي إلا في النكاح كما دلت عليه
موثقة عمار (1).
وروى المشايخ الثلاثة (تغمدهم الله تعالى رحمته) عن سعد بن إسماعيل
عن أبيه (2) " قال: سألت الرضا عليه السلام عن وصيي أيتام تدرك أيتامه فيعرض عليهم
أن يأخذوا الذي لهم فيأبون عليه، كيف يصنع؟ قال: يرده عليهم ويكرههم "
وهو دال على وجوب القبض عليهم، وكذا كل من له مال حال دفعه من غريمه
فإنه يجب عليه قبضه.
وروى في الكافي عن محمد بن عيسى (3) في الصحيح عمن رواه " عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: في رجل مات وأوصى إلى رجل وله ابن صغير فأدرك الغلام
وذهب إلى الوصي فقال: رد علي مالي لا تزوج فأبى عليه فذهب حتى زنى قال:
يلزم ثلثي إثم زنا هذا الرجل ذلك الوصي الذي منعه المال ولم يعطه، فكان
يتزوج ".
أقول: لعل التمثيل بالثلثين كناية عن بيان القسط الذي يلزم بسبب المنع،
وأنه المعظم من الإثم والأكثر منه.
وروى في الكافي والتهذيب عن جعفر بن عيسى (4) " قال: كتبت إلى أبي

(1) التهذيب ج 7 ص 378 ح 5.
(2) الكافي ج 7 ص 68 ح 1، التهذيب ج 9 ص 245 ح 951، الفقيه
ج 4 ص 165 ح 1.
(3) الكافي ج 7 ص 69 ح 9.
(4) الكافي ج 7 ص 59 ح 9، التهذيب ج 9 ص 233 ح 914.
وهذه الروايات في الوسائل ج 14 ص 217 ح 4 و ج 13 ص 436 الباب 47
و ص 435 ح 1 و ص 480 ح 1.
642

الحسن عليه السلام أسأله في رجل أوصى ببعض ثلثه من بعد موته من غلة ضيعة له إلى
وصيه، يضعه في مواضع سماها له معلومة في كل سنة، والباقي من الثلث يعمل
فيه ما شاء ورأي الوصي، فانفذ الوصي ما أوصى به إليه من المسمى المعلوم، وقال
في الباقي: قد صيرت لفلان كذا، ولفلان كذا في كل سنة، وفي الحج كذا، وفي
الصدقة كذا في كل سنة، ثم بدا له في ذلك فقال: قد شئت الأول ورأيت خلاف
مشيئتي الأولى ورأيي، أله أن يرجع فيها ويصير ما صيرهم لغيرهم وينقصهم، أو
يدخل معهم غيرهم، إن أراد ذلك، فكتب: ذلك له أن يفعل ما شاء إلا أن يكون
كتب على نفسه كتابا ".
أقول: لعل المراد من الاستثناء هو أن يكون قد كتب كتابا " على نفسه لمن
عين له شيئا " من تلك الوصايا، بحيث إنه يلزم عند القضاء لو رفع الأمر إليهم، وإن
كان يجوز له الرجوع بالنظر إلى الواقع وفيما بينه وبين الله تعالى.
ويحتمل على بعد أن يكون قد ملكهم ذلك بوجه شرعي على وجه لا يجوز له
الرجوع، وكتب لهم كتابا " بذلك، أو يكون كتابة الكتاب كناية عن التمليك.
وروى في التهذيب عن علي بن سالم (1) " قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام
فقلت: إن أبي أوصى بثلاث وصايا فأيهن آخذ؟ فقال: خذ بآخرهن، قال:
قلت: فإنها أقل، قال: فقال: وإن قل ".
أقول: الظاهر أن هذه الوصايا الثلاث على البدل، والرجوع عن المتقدم
منها إلى المتأخر، فلذا أمره بالأخذ بالوصية الأخيرة، لأنها ناسخة لما تقدمها،
وقد استفاضت الأخبار، بأن له العدل ما دام حيا بالتقديم والتأخير، والزيادة
والنقصان، ونحو ذلك.
ومنها ما رواه في الفقيه عن محمد بن عيسى بن عبيد (2) " قال: كتبت إلى

(1) التهذيب ج 9 ص 243 ح 942.
(2) الفقيه ج 4 ص 173 ح 8.
وهما في الوسائل ج 13 ص 387 ح 7 و 6.
643

علي بن محمد عليهما السلام رجل أوصى لك بشئ معلوم من ماله وأوصى لأقربائه من
قبيل أبيه وأمه، ثم إنه غير الوصية، فحرم من أعطى، وأعطى من حرم، أيجوز
ذلك؟ فكتب عليه السلام: هو بالخيار في جميع ذلك إلى أن يأتيه الموت ".
وروى في الكافي عن سعيد بن يسار (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل دفع
إلى رجل مالا وقال: إنما ادفعه إليك ليكون ذخرا لابنتي فلانة وفلانة، ثم بدا
للشيخ بعد ما دفع المال أن يأخذ منه خمسة وعشرين ومائة دينار فاشترى بها
جارية لابن ابنه، ثم إن الشيخ هلك فوقع بين الجاريتين وبين الغلام أو إحداهما
فقالتا له: ويحك والله إنك لتنكح جاريتك حراما "، إنما اشتراها أبونا لك من
مالنا الذي دفعه إلى فلان فاشترى لك منه هذه الجارية، فأنت تنكحها حراما
لا تحل لك، فأمسك الفتى عن الجارية فما ترى في ذلك؟ قال: أليس الرجل
الذي دفع المال أبا الجاريتين، وهو جد الغلام وهو اشترى له الجارية؟ قلت بلى
فقال: قل له فليأت جاريته إذا كان الجد هو الذي أعطاه وهو الذي أخذه " أقول:
الوجه في هذا الخبر ما تقدم في سابقه.
وروى في الكافي عن عمار بن مروان (2) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن
أبي حضره الموت فقيل له: أوص فقال: هذا ابني يعني عمر فما صنع فهو جائز،
فقال أبو عبد الله عليه السلام: فقد أوصى أبوك وأوجز قلت: فإنه أمر لك بكذا وكذا
فقال أجره، قلت؟ وأوصى بنسمة مؤمنة عارفة فلما أعتقناه بأن لنا أنه لغير رشدة،
فقال: قد أجزأت عنه، إنما مثل ذلك مثل رجل اشترى أضحية على أنها سمينة
فوجدها مهزولة فقد أجزأت عنه ".
أقول: فيه إشارة إلى كفر ابن الزنا هو أحد القولين، وقد تقدم تحقيق القول
فيه في كتاب الطهارة، وفيه دلالة على حصول الوصية بالحوالة إلى اختيار الوصي

(1) الكافي ج 7 ص 66 ح 31، التهذيب ج 9 ص 238 ح 926.
(2) الكافي ج 7 ص 62 ح 17 التهذيب ج 9 ص 236 ح 920.
وهما في الوسائل ج 13 ص 386 ح 5 و ص 481 ح 2.
644

وروى الشيخ في التهذيب عن عنبسة العابد (1) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
أوصني فقال: أعد جهازك وقدم زادك وكن وصي نفسك ولا تقل لغيرك يبعث إليك
بما يصلحك ".
وروى المشايخ الثلاثة عن السكوني (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال:
أول شئ يبدأ به من المال الكفن، ثم الدين ثم الوصية ثم الميراث ".
ورواه في التهذيب بسند آخر عن إسماعيل بن أبي زياد (3) " عن جعفر
عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أول ما يبدأ به من المال
الكفن " الحديث.
وروى المشايخ الثلاثة عن محمد بن قيس (4) في الصحيح " عن أبي جعفر عليه السلام
قال: قال أمير المؤمنين: إن الدين قبل الوصية على أثر الدين ثم الميراث
بعد الوصية، فإن أول القضاء كتاب الله ".
أقول: لا خلاف بين الأصحاب في تقديم الكفن على ما بعده كما دلت عليه
جملة من الأخبار، وإنما الاشكال في شموله للواجب والمستحب، أو التخصيص
بالأول، ولم أقف لأحد من الأصحاب على كلام في ذلك، والظاهر التخصيص
بالواجب أخذا بالمتيقن فيما خالف الأصل، وأما تقديم الدين على الوصية فهو
ظاهر لتعلق الدين بذمة الميت، ولهذا وجب خروجه من الأصل بخلاف الوصية
وأما تقديم الجميع على الميراث فلما تكاثر في الآيات من قوله عز وجل (5)

(1) الكافي ج 7 ص 65 ح 29، التهذيب ج 9 ص 237 ح 924.
(2) الكافي ج 7 ص 23 ح 3، التهذيب ج 9 ص 171 ح 698، الفقيه
ج 4 ص 143 ح 488.
(3) التهذيب ج 6 ص 188 ح 398.
(4) الكافي ج 7 ص 23 ح 1، التهذيب ج 9 ص 165 ح 675، الفقيه
ج 4 ص 143 ح 489.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 483 الباب 98 و ص 406 ح 1
و ص 98 ح 2 و ص 406 ح 2.
(5) سورة النساء الآية 12.
645

" من بعد وصية يوصي بها أو دين ".
وروى في الكافي والتهذيب عن سعد بن إسماعيل (1) عن أبيه " قال: سألت
الرضا عليه السلام عن رجل حضره الموت فأوصى إلى ابنه وأخوين شهد الابن، وصيته،
وغاب الأخوان، فلما كان بعد أيام أبيا أن يقبلا الوصية مخافة أن يتوثب عليهما
ابنه ولم يقدرا أن يعملا بما ينبغي، فضمن لهما ابن عم لهما وهو مطاع فيهم أن
يكفيهما ابنه، وقد خلا بهذا الشرط فلم يكفهما ابنه وقد اشترطا عليه ابنه،
وقالا: نحن نبرأ من الوصية ونحن في حل من ترك جميع الأشياء والخروج منه،
أيستقيم أن يخليا عما في أيديهما ويخرجا منه؟ قال: هو لازم، لك، فارفق على
أي الوجوه كان، فإنك مأجور لعل ذلك يحل بابنه ".
قال المحدث الكاشاني في الوافي: لما استفسر عليه السلام أن السائل هو أحد
الأخوين خاطبه باللزوم والرفق، ولعل المراد بالمشار إليه بذلك الموت لما ثبت
أن مثل هذه المناقشات المالية مما تعجل الأجل، أو المراد به أن رفق يعني لعله
بسبب رفقك به يصير رفيقا منقادا، انتهى وهو جيد، وفيه إشارة إلى ما تقدم مما
اخترناه في المسألة الرابعة من المقصد السادس في الوصاية من وجوب القيام بالوصية
على من جعل وصيه في حال غيبته، ومات الموصي وإن لم يقبل بعد بلوغ الخبر
له، وعلى ذلك دلت جملة من الأخبار المتقدمة ثمة، ولهذا أنه عليه السلام ألزم السائل
لما عرفت أنه أحد الوصيين بالقيام بالوصية حسب الامكان، وأمر بالرفق مع الابن
ولم يرخص له في الخروج والترك بالكلية، وفيه رد على من خالف في المسألة
ممن قدمنا ذكره ثمة.
وروى في التهذيب عن صفوان (2) " قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل
كان لرجل عليه مال فهلك، وله وصيان، فهل يجوز أن يدفع إلى أحد الوصيين

(1) الكافي ج 7 ص 60 ح 14، التهذيب ج 9 ص 234 ح 916.
(2) التهذيب ج 9 ص 243 ح 941.
وهما في الوسائل ج 13 ص 399 ح 6 و ص 440 ح 2.
646

دون صاحبه؟ قال: لا يستقيم إلا أن يكون السلطان قد قسم المال فموضع على
يد هذا النصف، وعلى يد هذا النصف، أو يجتمعان بأمر السلطان.
أقول: لا يخفى ما في هذه الخبر من الغموض، قال في الوافي لعل المراد
" إلا أن يكون السلطان أمر بوضع هذا المال عند أحد الوصيين بمقاسمته بينهما
أو يجتمع أحد الوصيين مع المدين بأمره "، انتهى.
ولا يخفى ما فيه من الضعف، وظاهر كلامه أن المراد بالمال الذي قسمه
السلطان هو مال المدين، والمتبادر من الخبر إنما هو مال التركة، وعلى كل
منهما فإنه لا يحصل الدفع إلى أحد الوصيين كما يقتضيه الاستثناء، وبالجملة فإنه
لا يظهر، لي منه معنى، يمكن الاعتماد عليه.
والشيخ في الإستبصار حمله على السلطان العادل دون الجائز، إلا للتقية،
وهو أمر خارج عن محل الاشكال، فإنه نظر أن مقتضى حكم المسألة كما تقدم هو
عدم جواز انفراد الوصيين متى شرط الاجتماع أو أطلق، فتجويز المقاسمة
والانفراد هنا إنما، إن حمل السلطان على السلطان العادل، وإن حمل على
الجائز وجب الحمل على التقية، لما عرفت من أن الحكم عدم جواز الانفراد
والمقاسمة، وهذا أمر آخر غير ما ذكرنا أولا ".
وروى المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن البزنطي (1) باسناد له " أنه
سئل عن رجل يموت ويترك عيالا " وعليه دين، أينفق عليهم من ماله؟ قال:
إن استيقن أن الذي عليه يحيط بجميع التركة فلا ينفق عليهم، وإن لم يستيقن
فلينفق عليهم من وسط المال ".
ورواه في الكافي والتهذيب بسند آخر عن عبد الرحمن بن الحجاج (2)
عن أبي الحسن عليه السلام مثله، إلا أنه قال " إن كان يستيقن أن الذي ترك يحيط

(1) الكافي ج 7 ص 43 ح 1 و 2، التهذيب ج 9 ص 164 ح 672 و ص 165 ح 673، الفقيه ج 4 ص 171 ح 599، الوسائل ج 13 ص 407 ح 1 و ص 408 ح 2.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
647

بجميع دينه فلا ينفق عليهم، وإن لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال "
قال في الكافي: وكأنه سهو من بعض الرواة.
وروي في الكافي والتهذيب عن علي أبي حمزة (1) " عن أبي الحسن عليه السلام
قال: قلت له: إن رجلا من مواليك مات وترك ولدا صغارا وترك شيئا وعليه
دين وليس يعلم به الغرماء، فإن قضاه بقي ولده ليس لهم شئ، فقال أنفقه
على ولده ".
والشيخ في التهذيبين طعن فيه بقطع الاسناد حيث إن المروي عن علي بن أبي حمزة بعض أصحابنا، وطعن فيه بمخالفة القرآن، واحتمل بعض مشايخنا
المحدثين حمله على أنه عليه السلام عالما بأنه لا حق لأرباب الديون في تلك الواقعة
أو أنهم كانوا نواصب، فأذن في التصرف في أموالهم، أو على أنهم كانوا بمعرض
الضياع والتلف، فيلزم الانفاق عليهم من أي مال تيسر.
أقول: وكيف كان فإن الخبر على ظاهره غير معمول عليه، لما تقدم من
أن الدين متقدم على الإرث، فلا بد في تصحيح ما دل عليه من التأويل بأحد
الوجوه المذكورة ونحوها، كأن يكون الأخذ قرضا من حيث الضرورة أو ضمان
الوصي ذلك، أو نحو ذلك.
وروى الشيخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (2)
" قال: أوصت إلي امرأة من أهلي بثلث مالها، وأمرت أن يعتق ويحج ويتصدق
فلم يبلغ ذلك، فسألت أبا حنيفة عنها فقال: يجعل أثلاثا، ثلثا في العتق،
وثلثا في الحج، وثلثا في الصدقة، فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت له إن
امرأة من أهلي ماتت وأوصت إلي بثلث مالها، وأمرت أن يعتق عنها ويتصدق
ويحج عنها، فنظرت فيه فلم يبلغ، فقال: ابدأ بالحج فإنه فريضة من فرائض الله

(1) الكافي ج 7 ص 43 ح 3 و ص 19 ح 14، التهذيب ج 9 ص 165 ح 674 و ص 221 ح 869، الوسائل ج 13 ص 408 ح 3 و ص 455 ح 1.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
648

تعالى، وتجعل ما بقي طائفة في العتق وطائفة في الصدقة، فأخبرت أبا حنيفة بقول أبي
عبد الله عليه السلام، فرجع عن قوله وقال: بقول أبي عبد الله عليه السلام وبهذا المضمون أخبار أخر.
أقول: حكمه عليه بتقديم الحج لكونه، إما لعلمه عليه بكونها لم تحج
حجة الاسلام، أو لفهم ذلك بقرينة المقام وإلا فالسؤال بحسب الظاهر مجمل،
وظاهره أنه لو كان الحج مستحبا كان الحكم في ذلك ما ذكره أبو حنيفة من
القسمة أثلاثا.
بقي في الحديث اشكال من وجه آخر، وهو أن السائل أخبر بأن الثلث
الموصى به لا يقوم بالحج والصدقة والعتق، بل متى صرف في واحد أو اثنين لزم
الاخلال بالباقي فكيف عليه السلام يأمره بالبدأة بالحج، ثم بعد ذلك يجعل ما بقي طائفة
في العتق وطائفة في الصدقة، فإنه ظاهر في أن الثلث يقوم بالجميع، اللهم إلا أن
يراد أنه إن بقي شئ يقوم بهذين الآخرين صرف فيهما، أو بواحد منهما صرف
فيه، وإلا فلا.
وبالجملة فإن النقص إنما يدخل فيما عدا الحج خاصة، ويحتمل أن يكون
المراد أن ما بقي يصرف فيهما فيشترى نسمة للعتق بما يناسب الباقي من القلة
والصدقة يكفي فيها المسمى.
وروى الشيخ في التهذيب عن محمد بن الحسن (1) أنه " قال لأبي جعفر عليه السلام:
جعلت فداك قد اضطرت إلى مسألتك فقال: هات فقلت: إن سعد بن سعد أوصى
حجوا عني مبهما ولم يسم شيئا ولا ندري كيف ذلك؟ فقال يحج عنه ما دام
له مال ".
أقول: المراد بالمال الثلث، فإنه هو الذي له بعد موته.
ويفسره ما رواه في التهذيب عن محمد بن الحسن بن أبي خالد (2) " قال:

(1) التهذيب ج 9 ص 226 ح 888 مع اختلاف يسير و ح 889، الوسائل ج 8 ص 120 ح 1 و 2.
(2) التهذيب ج 9 ص 226 ح 888 مع اختلاف يسير و ح 889، الوسائل ج 8 ص 120 ح 1 و 2.
649

سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل أوصى أن يحج عنه مبهما " فقال: يحج عنه ما بقي من
ثلثه شئ ".
وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن إبراهيم بن مهزيار (1) " قال: كتبت
إليه عليه السلام أن مولاك علي بن مهزيار أوصى أن يحج عنه من ضيعة صير ربعها إلى
حجة في كل سنة إلى عشرين دينارا "، وأنه قد انقطع طريق البصرة فتتضاعف
المؤنة على الناس وليس يكتفون بالعشرين دينارا "، وكذا أوصى عدة من مواليك
في حجهم فكتب: يجعل ثلاث حجج حجتين إن شاء الله، قال إبراهيم: وكتب إليه
علي بن محمد الحضيني: أن ابن عمي أوصى أن يحج عنه حجة بخمسة عشر
دينارا " في كل سنة فليس يكفي فما تأمرني في ذلك؟ فكتب عليه السلام: يجعل حجتين
حجة فإن الله عالم بذلك.
أقول: يعني أن الله عالم بالعذر المذكور، فإن الاخلال بما أوصى ليس على
سبيل الاختيار، وهو مؤيد لما اشتهر من حديث (إذا أمرتم بأمر فأتوا منه
ما استطعتم) وينبغي أن يحمل هذا الخبر وما تضمنه من السؤالين المذكورين على
كون الوصية بالحج من البلد كما ينبئ ظاهر السؤال الأول، وإلا فلو كانت
مطلقة فإن الظاهر أن حج عنه من أي مكان اتفق، ولو من الميقات.
كما يدل عليه ما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن ابن بكير (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن رجل أوصى بمال في الحج فكان لا يبلغ ما يحج به من
بلاده قال: فيعطى في الموضع الذي يبلغ أن يحج به منه ".
وعن ابن مسكان عن أبي سعيد (3) " عمن سأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
أوصى بعشرين درهما " في حجة قال: يحج بها عنه رجل من حيث يبلغه " ونحوهما
غيرهما من الأخبار.

(1) الكافي ج 4 ص 310 ح 1، التهذيب ج 9 ص 226 ح 890، الفقيه
ج 2 ص 272 ح 2.
(2) التهذيب ج 9 ص 227 ح 892 و ص 229 ح 897. وهذه الروايات في الوسائل ج 8 ص 119 ح 1 و ص 117 ح 2 و ص 118 ح 5.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
650

وروى في الكافي عن علي بن فرقد (1) صاحب السابري " قال: أوصى إلى
رجل بتركته وأمرني أن أحج بها عنه فنظرت في ذلك فإذا شئ يسير لا يكفي
للحج، فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة فقالوا: تصدق بها عنه، فلما حججت
لقيت عبد الله بن الحسن في الطواف، فسألته وقلت له: إن رجلا من مواليكم من
أهل الكوفة مات وأوصى بتركته إلي، وأمرني أن أحج بها عنه، فنظرت في ذلك
فلم يكف للحج فسألت من قبلنا من الفقهاء فقالوا: تصدق بها، فتصدقت بها،
فما تقول؟ فقال لي: هذا جعفر بن محمد في الحجر فأته واسأله، قال: فدخلت
في الحجر فإذا أبو عبد الله عليه السلام تحت الميزاب، مقبل بوجهه على البيت يدعو، ثم
التفت إلي فرآني فقال: ما حاجتك؟ قلت: جعلت فداك إني رجل من أهل الكوفة
من مواليكم قال: فدع ذا عنك، حاجتك؟ قلت: رجل مات وأوصى بتركته أن
أحج بها عنه، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج، فسألت من عندنا من الفقهاء
قالوا: تصدق بها، فقال: ما صنعت؟ قلت: تصدقت بها فقال: ضمنت إلا أن يكون
لا يبلغ أن يحج به من مكة، فإن كان لا يبلغ أن يحج به من مكة فليس عليك
ضمان، وإن كان يبلغ به من مكة فأنت ضامن.
أقول: يستفاد من هذا الخبر فوائد: منها ضمان الوصي مع التبديل والعمل
بخلاف الوصية إذا كانت الوصية على وجه المشروع، وهو مما لا اشكال فيه، ومنها أنه
مع تعذر العمل بالوصية وصرفها فيما أوصى به الموصي، يصرف الموصى به في
وجوه البر كما هو المشهور، ولا تبطل الوصية كما هو القول الآخر.
وقد تقدم الكلام في ذلك في التيمم الذي ذكر في الوصايا المبهمة من
المقصد الثالث في الموصى به في تقدم نقل مضمون هذه الرواية دليلا على ذلك،
ومنها ما تقدمت الإشارة إليه قريبا، من أنه متى أوصى بوجه للحج، ولم يقيد

(1) الكافي ج 7 ص 21 ح 1، التهذيب ج 9 ص 228 ح 896 وفيه علي بن مزيد
الفقيه ج 4 ص 154 ح 534، الوسائل ج 13 ص 473 الباب 87.
651

بالبلد ولا غيرهما، فإنه يجب الحج بما أوصى به من أقرب الأماكن التي يمكن
الحج ولو من مكة، كما تضمنه الخبر فإنها أحد المواقيت في الجملة.
بقي الكلام هنا في شئ آخر، وهو أن السائل قال: إنه أمرني أن أحج
بها، والظاهر أن لفظ أحج من الرباعي من أحج غيره، إذا أعطاه ما يحج به، لا من
الثلاثي المجرد بأن يكون الموصي هو الذي يحج بنفسه، وأن الميت أوصى إليه
بذلك، وصدر الخبر وإن كان محتملا لكل من الأمرين، إلا أن حكمه في الجواب
لما سأله السائل عن ذلك، بأنه إن بلغ المال لأن يحج به من مكة فأنت ضامن،
إنما يتجه على تقدير كونه مأمورا " بأن يستأجر من يحج عنه، بناء على كون
أحج من الرباعي، وإلا فلو كان الوصي هو المأمور بالحج بنفسه بناء على كون
اللفظ من الثلاثي المجرد، والرجل من أهل الكوفة، فكيف يوجب عليه الإمام عليه السلام
أن يتحمل مؤنة النفقة إلى مكة حتى إذا وصل مكة حج عنه بذلك الوجه
الموصى به، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
وروي الشيخ في التهذيب عن أبي حمزة الثمالي (1) قال: قال: إن رجلا
حضرته الوفاة فأوصى إلى ولده: غلامي يسار هو ابني فورثوه مثل ميراث أحدكم،
وغلامي يسار فاعتقوه، فهو حر، فذهبوا يسألونه أيما يعتق وأيما يرث، فاعتقل
لسانه، قال: فسألوا الناس فلم يكن عند أحد جواب، حتى أتوا أبا عبد الله عليه السلام
فعرضوا المسألة عليه قال: فقال: معكم أحد من نسائكم؟ قال: فقالوا: نعم معنا
أربع أخوات لنا، ونحن أربع إخوة، قال: فاسألوهن أي الغلامين كان يدخل عليهن
فيقول أبوهن لا تسترن منه، فإنما هو أخوكن، قالوا: نعم كان الصغير يدخل
فيقول أبونا: لا تسترن منه إنما هو أخوكن، فكنا نظن أنه يقول ذلك لأنه ولد
في حجورنا، وإنما ربيناه، قال: فيكم أهل البيت علامة؟ قالوا: نعم، قال:
انظروا أترونها بالصغير؟ قالوا: فرأوها به، قال: تريدون أعلمكم أمر الصغير؟

(1) التهذيب ج 9 ص 171 ح 700، الوسائل ج 13 ص 427 الباب 43.
652

قال: فجعل عشرة أسهم للولد، وعشرة أسهم للعبد، قال: ثم أسهم عشر مرات،
قال: فوقعت على الصغير سهام الولد، قال: فقال: أعتقوا هذا، وورثوا هذا ".
أقول: الظاهر أن الحكم الشرعي في المسألة المذكورة هو القرعة، كما
تضمنه آخر الخبر، وما ذكره أولا من الأمرين المذكورين مؤيدين لمزيد
الإيضاح، ولو حصلت العدالة في النساء الأربع المذكورين لكان الظاهر العمل بما
أخبرن به من اعتراف الأب به، ولم يحتج إلى القرعة، إلا أن يكون لمزيد
الإيضاح.
وروى في الفقيه عن يونس بن عبد الرحمن عن داود بن نعمان عن الفضيل (1)
مولى أبي عبد الله عليه السلام " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أشهد رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) على وصيته إلى علي عليه السلام أربعة من عظماء الملائكة جبرئيل وميكائيل
وإسرافيل وآخر لم أحفظ اسمه ".
أقول: الظاهر أن المراد بالوصية هنا أو عنه أمير المؤمنين عليه السلام في بيت أم سلمة
حين خلا به من الصبح إلى قرب الظهر من الأمور التي يحدث عليه،
ويتجدد بعد موته، وأمره باحتمالها والصبر عليها، ونحو ذلك كما يدل عليه خبر
أم سلمة وهو طويل ليس هذا موضع ذكره.
وروى الشيخ في التهذيب عن علي بن الحسن بن فضال عن محمد بن عبدوس (2)
" قال: أوصى رجل بتركته متاع وغير ذلك لأبي محمد عليه السلام فكتبت إليه: جعلت
فداك رجل أوصى إلي بجميع ما خلف لك، وخلف ابنتي أخت له، فرأيك في ذلك؟
فكتب إلي: بع ما خلف، وابعث به إلي، فبعث به إليه، فكتب إلي: قد وصل "،
" قال علي بن الحسن: ومات محمد بن عبد الله بن زرارة فأوصى إلى أخي أحمد
وخلف دارا وكان أوصى في جميع تركته أن تباع ويحتمل ثمنا إلى أبي الحسن عليه السلام

(1) الفقيه ج 4 ص 175 ح 616.
(2) التهذيب ج 9 ص 195 ح 785
وهما في الوسائل ج 13 ص 427 الباب 43 و ص 369 ح 16 و 17 و 18.
653

فباعها فاعترض فيها ابن أخت له، وابن عم له، فأصلحنا أمره بثلاثة دنانير، وكتب
إليه أحمد بن الحسن ودفع الشئ بحضرتي إلى أيوب بن نوح، وأخبره أنه جميع
ما خلف، وابن عم له وابن أخته عرض. فأصلحنا أمره بثلاثة دنانير فكتب: قد وصل
ذلك وترحم على الميت وقرأت الجواب "، " قال علي: ومات الحسين بن أحمد
الحلبي وخلف دراهم مائتين فأوصى لامرأته بشئ من صداقها وغير ذلك وأوصى
بالبقية لأبي الحسن عليه السلام فدفعها أحمد بن لحسن إلى أيوب بحضرتي، وكتب إليه
كتابا "، فورد الجواب بقبضها ودعا للميت ".
أقول: لا يخفى ما في ظاهر الخبر من الاشكال، والشيخ لذلك، قد حمله تارة
على تخصيصه بهم عليهم السلام، وآخر على كون حمل المال إليهم لا على جهة الوصية
بل على جعلها صلة لهم في حال حياة الموصي، وثالثة على أن يكون ذلك قبل
أن تكون لهم وارث ثم يوجد الوارث كما تقدم في حديث المتطيب، وأربعة على
كون الوارث مخالفا، ثم جوز في الوجه الأخير فقد الوارث، ولا يخفى ما في
الجميع عن البعد سوى الأخير فإنه أقرب قريب، وأما بالنسبة إلى وصية محمد
بن عبد الله بن زرارة المشتملة على اعتراض ابن الأخت وابن العم، فالاحتمالان
فيهما متساويان، ولعل الأقرب الأول منهما، وهو كونهما مخالفين.
وأما بالنسبة إلى وصية الحسين بن أحمد الحلبي فظاهره أنه ليس له وارث
إلا الزوجة، ومن المحتمل أنه أوصى لها بصداقها وميراثها المعبر عنه بغير، ذلك،
فلا اشكال بحمد الملك المتعال.
ولنقطع الكلام حامدين للملك العلام على نعمه الجسام التي لا تحصيها
الأقلام التي من جملتها التوفيق للفوز بسعادة الاختتام لهذا الجلد الشريف
والمؤلف المنيف وهو الجلد الثامن (1) من كتاب

(1) بحسب تجزئة المؤلف، والجلد الثاني والعشرون بحسب تجزئتنا، ويتلوه
إن شاء الله تعالى الجلد الثالث والعشرون في كتاب النكاح، وما يلحق به..
654

" الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة "
ويتلوه إن شاء الله تعالى الجلد التاسع في كتاب النكاح وما يلحق به
من الكتب المتعلقة به، مصلين بعد الحمد له سبحانه
على نبينا أشرف الأنبياء والمرسلين
وآله الطيبين الطاهرين.
655