الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ٢
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق وإشراف: محمد تقي الإيرواني
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
حققه وعلق عليه وأشرف على طبعه
محمد تقي الإيرواني
الجزء الثاني
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الثاني في الوضوء
والبحث في أسبابه وغايته وكيفيته وأحكامه يقع في مطالب أربعة:
المطلب الأول
في الأسباب، وحيث جرت عادة الفقهاء (رضوان الله عليهم) بالبحث عن أحكام
الخلوة إمام الوضوء، كان الأنسب تقديمها هنا لترتب غالب الأسباب عليها،
وليكون تقديمها ذكرا على نحو تقدمها خارجا وحينئذ فالكلام في هذا المطلب يقع
في فصلين:
الفصل الأول
في آداب الخلوة، ومنها - الواجب والمحرم والمستحب والمكروه، والبحث
فيها يقع موارد أربعة:
المورد الأول
في الآداب الواجبة، ومنها - ستر العورة على المتخلي حال جلوسه عن ناظر
محترم اجماعا فتوى ورواية. ووجوب ستر العورة وإن كان لا اختصاص له بالمتخلي
لكن لما كان انكشاف العورة من لوازم الخلاء ذكروا هذا الحكم فيه بخصوصه.
2

ومما يدل على وجوب سترها ما رواه في الفقيه (1) مرسلا عن الصادق (عليه
السلام) أنه (سئل عن قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا
فروجهم ذلك أزكى لهم...) (2) فقال: كل ما كان في كتاب الله من ذكر حفظ
الفرج فهو من الزنا إلا في هذا الموضع فإنه للحفظ من أن ينظر إليه)
وما رواه فيه في باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) (3)
قال: (إذا اغتسل أحدكم في فضاء من الأرض فليحاذر على عورته).
والأخبار في ذلك كثيرة مذكورة في باب دخول الحمام)
ولا ينافي ذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4)
قال: (سألته عن (عورة المؤمن على المؤمن حرام) فقال: نعم قلت: يعني سفليه؟
فقال: ليس حيث تذهب إنما هو إذاعة سره).
ورواية حذيفة بن منصور (5) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
شئ يقوله الناس: عورة المؤمن على المؤمن حرام? فقال: ليس حيث يذهبون،
إنما عنى عورة المؤمن أن يزل زلة أو يتكلم بشئ يعاب عليه فيحفظ عليه ليعيره به يوما ما)
ومثلهما رواية زيد الشحام (6).
(أما أولا) - فلوجود ما يدل على التحريم مما ذكرناه، وغاية ما يلزم
من ذلك اطلاق العورة على معنيين، قد ذكر في تلك الأخبار حكم أحدهما وفي هذه الأخبار حكم الثاني. واطلاق العورة على هذا المعنى في الأخبار غير عزيز.
و (أما ثانيا) فبأن يقال إن كلامهم (عليهم السلام) له باطن وظاهر

(1) في الصحيفة 63، وفي الوسائل في الباب - 1 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) سورة النور، الآية 31.
(3) في أول الجزء الرابع، وفي الوسائل في الباب - 1 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب آداب الحمام.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب آداب الحمام.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب آداب الحمام.
3

كما ورد في الأخبار، وقولهم: (عورة المؤمن على المؤمن حرام) جائز الحمل على كل
من المعنيين، وتخصيصه في هذه الأخبار بهذا المعنى - بقوله (عليه السلام): (ليس
حيث تذهب إنما هو... الخ) مما يدل بظاهره على الانحصار في هذا المعنى - محمول
على نفي الاختصاص بذلك المعنى المشهور، وتأكد التحريم في هذا المعنى والمبالغة فيه
حيث إنه في الواقع أضر على المؤمن، فتحريمه حينئذ أشد، فكأنه هو المراد من
اللفظ خاصة. ومثله في باب المبالغة غير عزيز في كلامهم (عليهم السلام) كقولهم:
(المسلم من سلم الناس من يده ولسانه) (1).
ويدل على ذلك موثقة حنان (2) قال: (دخلت أنا وأبي وجدي وعمي حماما
بالمدينة، فإذا رجل في بيت المسلخ، فقال لنا: ممن القوم؟ فقلنا: من أهل
العراق. فقال: وأي العراق؟ قلنا: كوفيون. فقال: مرحبا بكم يا أهل
الكوفة أنتم الشعار دون الدثار. ثم قال: ما يمنعكم من الأزر؟ فإن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) قال: عورة المؤمن على المؤمن حرام. إلى أن قال: فسألنا
عن الرجل، فإذا هو علي بن الحسين (عليهما السلام).
وبذلك يظهر لك ما في كلام بعض فضلاء متأخري المتأخرين، حيث دخل
عليه الاشكال بورود هذه الأخبار في هذا المجال، فقال: (ولو لم يكن مخافة خلاف

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 152 - من أبواب أحكام العشرة في حديث
عن الكليني بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) هكذا:
"... والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه... " ورواه بهذا النص السيوطي في الجامع
الصغير ج 2 ص 185 إلا أنه بتقديم اللسان على اليد، وكذا مسلم في صحيحه ج 1 ص 36
والبخاري في صحيحه ج 1 ص 7. نعم رواه النسائي في سننه ج 2 ص 267 هكذا:
" المسلم من سلم الناس من لسانه ويده ".
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب آداب الحمام.
4

الاجماع لأمكن القول بكراهة النظر دون التحريم، كما يشير إليه ما رواه في الفقيه (1)
عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إنما كره النظر إلى عورة المسلم، فأما النظر
إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار) فيسهل الجمع بين الروايات حينئذ
كما لا يخفى وجه) انتهى.
وفيه - زيادة على ما عرفت - أن استعمال الكراهة فيما ذهب إليه عرف طارئ
من الأصوليين لا يتحتم حمل أخبارهم (عليهم السلام) عليه، وأكثر اطلاق الكراهة
في كلامهم إنما هو على التحريم كما لا يخفى على المتتبع.
ومن هذه الرواية المنقولة عن الفقيه يظهر اختصاص تحريم النظر بعورة المسلم.
ومثلها حسنة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
قال: (النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار).
وبذلك جزم المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في كتاب البداية.
وشيخنا الشهيد في الذكرى صرح بالتحريم فيها كعورة المسلم، ثم قال: (وفيه
خبر بالجواز عن الصادق (عليه السلام))
ولعل الجواز في الخبرين المذكورين مقيد بعدم اللذة والفتنة كما يشير إليه التمثيل
بعورة الحمار.
والمراد بالعورة هي القبل والدبر والبيضتان، لمرسلة أبي يحيى الواسطي عن
أبي الحسن الماضي (عليه السلام) (3) أنه قال: (العورة عورتان: القبل والدبر. والدبر
مستور بالأليتين، فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة).

(1) في الصحيفة 63، وفي الوسائل في الباب - 6 - من أبواب آداب الحمام.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب آداب الحمام.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب آداب الحمام.
5

ونقل عن ابن البراج أنها من السرة إلى الركبة. وعن أبي الصلاح أنها
من السرة إلى نصف الساق.
ولم أقف لهما على دليل، بل ظاهر الأخبار يدفعهما، كالرواية المذكورة،
ورواية الميثمي عن محمد بن حكيم (1) قال: (لا أعلمه إلا قال: رأيت أبا عبد الله (عليه
السلام) أو من رآه متجردا وعلى عورته ثوب، فقال: إن الفخذ ليست من العورة)
إلى غير ذلك من الأخبار.
نعم ربما يدل على ما ذكره ابن البراج رواية بشير النبال (2) قال: (سألت
أبا جعفر (عليه السلام) عن الحمام. فقال: تريد الحمام؟ قلت: نعم. فأمر
باسخان الحمام، ثم دخل فاتزر بإزار وغطى ركبتيه وسرته، ثم أمر صاحب الحمام
فطلى ما كان خارجا من الإزار، ثم قال أخرج عني، ثم طلى وهو ما تحته بيده ثم قال:
هكذا فافعل).
وقضية الجمع بين الأخبار تقتضي حمل هذا الخبر على الاستحباب. إلا أنه قد
روى في الفقيه (3) مثل هذه الحكاية عنه (عليه السلام) وأنه كان يطلي عانته
وما يليها، ثم يلف إزاره على طرف إحليله ويدعو قيم الحمام فيطلي سائر بدنه.
والمراد بالناظر المحترم من يحرم نظره، فلا يجب الستر عن الزوجة والطفل والجارية
التي يباح وطؤها

(1) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب آداب الحمام. والمذكور في كتب
الحديث هكذا: قال الميثمي: لا أعلمه... الحديث. والضمير في " أعمله " و " قال "
راجع إلى محمد بن حكيم.
(2) المروية في الوسائل بنحو التقطيع في الباب - 5 و 27 و 31 - من أبواب
آداب الحمام.
(3) في الصحيفة 65.
6

و (منها) - الاستنجاء من البول بالماء خاصة اجماعا فتوى ورواية، فلا
يجزي المسح بحائط أو تراب أو يد أو غير ذلك ولو حال الاضطرار، بل غايته منع
التعدي للملاقي كما دلت عليه موثقة ابن بكير عن الصادق (عليه السلام) (1) (في الرجل
يبول ولا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط؟ فقال: كل شئ يابس ذكي).
ويدل على أصل الحكم قول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيحة زرارة (2):
(ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة من رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أما البول فإنه لا بد من غسله).
وقوله (عليه السلام) أيضا في رواية بريد بن معاوية (3): (ولا يجزي من
البول إلا الماء)
ويدل عليه أيضا الأخبار الدالة على وجوب غسل الذكر على من صلى قبل غسل
ذكره من غير استفصال.
ومنها - صحيحة عمرو بن أبي نصر (4) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): أبول وأتوضأ وأنسى استنجائي ثم أذكر بعد ما صليت؟ قال: اغسل
ذكرك وأعد صلاتك ولا تعد وضوءك).
وصحيحة ابن أذينة (5) قال: (ذكر أبو مريم الأنصاري: أن الحكم
ابن عتيبة (6) بال يوما ولم يغسل ذكره متعمدا، فذكرت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام)

(1) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 9 و 30 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
(6) قال في الوافي ج 4 ص 25: " بيان ابن عتيبة بالمثناة من فوق بعد المهملة ثم المثناة
من تحت ثم الموحدة. الخ " وفي بعض حواشي التهذيب ص 14 هكذا: " في نسخة التهذيب
والاستبصار عيينة باليائين أو لا قبل النون. وفي كتب الرجال بالتاء قبل الياء والباء بعدها.
7

فقال: بأس ما صنع، عليه أن يغسل ذكره ويعيد صلاته، ولا يعيد وضوءه)
وبمضمونها أخبار أخر سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وأما رواية سماعة (1) قال: (قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): أني
أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجئ مني البلل ما يفسد سراويلي؟ قال: ليس به بأس).
وموثقة حنان (2) قال: (سمعت رجلا سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال:
إني ربما بلت فلا أقدر على الماء ويشتد ذلك علي؟ فقال: إذا بلت وتمسحت فأمسح
ذكرك بريقك، فإن وجدت شيئا فقل هذا من ذاك).
فإنهما بحسب ظاهر هما منافيان لما قدمنا من الأخبار، لدلالة ظاهر الأولى
على الاكتفاء بالتمسح بالأحجار، بقرينة نفي البأس عما يفسد سراويله من البلل بعد
التمسح، والثانية على الاكتفاء بالتمسح بقرينة مسح الذكر.
والجواب عنهما - بعد الاغماض عن المناقشة في السند بعدم المقاومة لما تقدم
من الأخبار الصحاح - بالطعن في الدلالة.
(أما الأولى) فبما أجاب الشيخ (قدس سره) في الإستبصار (3) من أنه ليس
في الخبر أنه قال: يجوز له استباحة الصلاة بذلك ولن لم يغسله، وإنما قال: ليس
به بأس، يعني بذلك البلل الذي يخرج منه بعد الاستبراء، وذلك صحيح، لأنه
المذي، وهو طاهر.
وأجاب بعض محققي مشايخنا من متأخري المتأخرين - وتبعه والدي (قدس
سره) في بعض فوائده لكن نسبه إلى البعد - بأن وجد أن ما يفسد سراويله من البلل
لكثرته - مع عدم القطع بخروجه من مخرج البول الباقي على النجاسة - لا بأس به،
لأصالة الطهارة واحتمال كونه من غير المخرج وغير متصل به.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) في الصحيفة 56.
8

أقول: ويحتمل أن يكون مورد الخبر بالنسبة إلى من كان فاقد الماء وتيمم
بعد الاستبراء والتجفيف بالأحجار، فإنه لا بأس بالخارج بعد ذلك بمعنى أنه لا يكون
ناقضا للتيمم وإن كان نجسا باعتبار ملاقاة المحل النجس إلا أنه غير واجد للماء، وربما
يستأنس لذلك بالتمسح بالأحجار. وظني أن هذا الجواب أقرب مما ذكره شيخنا المتقدم.
و (أما الثانية) فالظاهر منها أن السائل شكى إليه أنه ربما بال وليس معه ماء،
ويشتد ذلك عليه بسبب عرق ذكره بعد ذلك أو بلل يخرج منه، فيلاقي مخرج البول
فينجس به ثوبه وبدنه، فعلمه (عليه السلام) حيلة شرعية يتخلص بها من ذلك،
وهو أن يمسح غير المخرج من الذكر أعني المواضع الطاهرة منه من بلل ريقه بعد
ما ينشف المخرج بشئ، حتى لو وجد بللا بعد ذلك لقدر في نفسه أنه يجوز أن يكون
من بلل ريقه الذي وضعه وليس من العرق ولا من المخرج. فلا يتيقن النجاسة من
ذلك البلل حينئذ. وبالجملة الحكمة في الأمر بمسح الذكر بالريق فعل أمر يجوز العقل
استناد ما يجده من البلل إليه، ليحصل عنده الاشتباه وعدم القطع بحصوله من المخرج
أو ملاقاته، ومع الاشتباه يبنى على أصالة الطهارة. فكل شئ طاهر حتى يعلم أنه
قذر (1). والناس في سعة ما لم يعلموا (2). وما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا

(1) هذا مضمون موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) ونصها - كما في التهذيب
ج 1 ص 81 والوسائل في الباب - 37 - من أبواب النجاسات - هكذا: " كل شئ
نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك " وسيتعرض لها
في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة الثانية من البحث الأول من أحكام النجاسات.
(2) لم نقف على الحديث بهذا النص بعد الفحص عنه في مظانه، والذي وجدناه
بهذا المضمون خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) المروي في الكافي في الباب - 48 -
من كتاب الأطعمة، وفي الوسائل في الباب - 50 - من أبواب النجاسات. وفي الباب - 38 -
من أبواب الذبائح وفي الباب - 23 - من كتاب اللقطة.
9

لم أعلم (1) وهذه حكمة ربانية لدفع الوساوس الشيطانية، ومثلها في الأخبار غير عزيز.
وأجاب في المدارك عن هذه الرواية بعد الطعن في السند - بالحمل على التقية،
أو على أن المراد نفي كون البلل الذي يظهر على المحل ناقضا.
وفيه أن الظاهر بعد الحمل على التقية، لأن المسح بالتراب مطهر عند العامة (2)
وأما الجواب الثاني فسيظهر ما فيه.
تنبيهات
(الأول) - تفرد المحدث الكاشاني (قدس سره) بمسألة ذهب إليها واستند
إلى هذين الخبرين في الدلالة عليها، وهي أن المتنجس بعد إزالة عين النجاسة عنه
بالتمسح لا تتعدى نجاسته إلى ما يلاقيه برطوبة. وقد أشبعنا الكلام معه في جملة

(1) هذا حديث حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهما السلام) كما
في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب النجاسات.
(2) عند الحنفية كصاحب بدائع الصنائع ج 1 ص 18 والبحر الرائق ج 1 ص 241
ومجمع الأنهر ج 1 ص 65 " يسن الاستنجاء عما يخرج من السبيلين من البول والغائط
والدم والمني والوذي والودي بالحجر والتراب والمدر والطين اليابس، ولا يسن فيه عدد "
وفي البحر الرائق " غسله بالماء أحب، ويجب بالماء إن جاوز النجس المخرج، ولا يسن
للريح الخارج " وقال الشافعي في الأم ج 1 ص 18: " من تخلى أو بال لم يجز إلا أن
يتمسح بثلاثة أحجار ثلاث مرات أو آجرات أو ما كان طاهرا نظيفا مما ينقى نقاء الحجارة إذا
كان مثل التراب والحشيش والخزف وغيرها " وقال الشيرازي في المهذب ج 1 ص 26:
" يجب الاستنجاء من البول والغائط بثلاثة أحجار، والماء أفضل والأفضل الجمع بينهما "
وعند الحنابلة كابن قدامة في المغني ج 1 ص 150 " يجب الاستنجاء عما يخرج من السبيلين
معتادا كالبول والغائط أو نادرا كالحصى والدود والشعر، ويخير بين الماء والأحجار،
والماء أبلغ في التنظيف، ويجزي الاقتصار على الحجر بغير خلاف بين أهل العلم ".
10

من فوائدنا، ولا سيما في رسالتنا قاطعة القال والقيل في نجاسة الماء القليل، فإنا قد
أحطنا فيها بأطراف الكلام بابرام النقض ونقض الابرام، ولنشر هنا إلى نبذة من
ذلك كافلة بتحقيق ما هنالك.
فنقول: قال الفاضل المذكور في كتاب الوافي - بعد نقل موثقة حنان
المذكورة (1) وذكر المعنى الذي حملنا عليه الخبر أولا - ما صورته: (ويحتمل الحديث
معنى آخر، وهو أن تكون شكايته من انتقاض وضوئه بالبلل الذي يجده بعد التمسح
لاحتمال كونه بولا كما يستفاد من أخبار الاستبراء. وذكر العجز عن الماء على هذا التقدير
يكون لتعذر إزالة البلل عن ثوبه وسائر بدنه حينئذ، فإنه قد تعدى من المخرج إليهما
وهذا كما ذكر العجز في حديث محمد السابق في الاستبراء (2). وعلى هذا لا يحتاج
إلى تكلف تخصيص التمسح بالريق بالمواضع الطاهرة، ولا إلى تكلف تعدي النجاسة
من المتنجس، بل يصير الحديث دليلا على عدم التعدي منه، فإن التمسح بالريق مما
يزيدها تعديا. وهذا المعنى أوفق بالأخبار الأخر. وهذان الأمران - أعني عدم
الحكم بالنجاسة إلا بعد التيقن وعدم تعدي النجاسة من المتنجس - بابان من رحمة الله
الواسعة فتحهما لعبادة رأفة بهم ونعمة لهم ولكن أكثرهم لا يشكرون. ثم نقل خبر
سماعة المتقدم (3)، وقال بعده: لا يخفى على من فك رقبته من ربقة التقليد أن هذه الأخبار وما يجري مجراها صريحة في عدم تعدي النجاسة من المتنجس إلى شئ قبل
تطهيره وإن كان رطبا إذا أزيل عنه عين النجاسة بالتمسح ونحوه، وإنما المنجس للشئ
عنه النجاسة لا غير. على أنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك. فإن عدم الدليل على وجوب

(1) في الصحيفة 8.
(2) وهو حسن محمد بن مسلم الآتي في الاستبراء والمروي في الوسائل في الباب
- 11 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) في الصحيفة 8.
11

الغسل دليل على عدم الوجوب، إذ لا تكليف إلا بعد البيان) ونحوه ذكر
في كتاب المفاتيح.
أقول: ما ذكره (قدس سره) في هذا المقام غير تام، لتوجه البحث
إليه من وجوه:
(أحدها) - أنه لا دلالة في خبر حنان (1) على هذا الوصف الذي بنى عليه
هذه المباني المتعسفة، وارتكب فيه هذه الاحتمالات المتكلفة.
و (ثانيها) - أنه لو كانت شكاية السائل إنما هي من حيث خوف انتقاض
وضوئه بالبلل الخارج من جهة احتمال كونه بولا، لكان جوابه بالأمر بالاستبراء
بعد البول، فإن حكمة الاستبراء هو البناء على طهارة ما يخرج بعده وعدم نقضه.
و (ثالثها) - أنه لو كان وجه الحكمة في الأمر بوضع الريق على مخرج البول
هو عدم انتقاض الطهارة - بمعنى أن ينسب ذلك البلل الذي يجده إلى الريق ليكون
غير ناقض، ولا ينسبه إلى الخروج من الذكر فيكون ناقضا - فأي فرق في ذلك بين
الحكم بتعدي النجاسة من المخرج بعد مسحها وعدم تعديها؟ فإن وجه الحكمة يحصل
على كلا التقديرين، فإنا لو قلنا بالتعدي ومسح المخرج بريقه لقصد هذه الحكمة
وكون الخارج غير ناقض أمكن وإن كان نجسا. وبالجملة فإنه لا منافاة بين حصول هذه
الحكمة وبين القول بتعدي النجاسة
(ورابعها) - إن ما ادعاه - من أوفقية هذا المعنى بالأخبار - غير ظاهر،
فإن من جملة تلك الأخبار رواية حكم بن حكيم الصيرفي (2) قال: (قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): أبول فلا أصيب الماء، وقد أصاب يدي شئ من البول فامسحه بالحائط

(1) المتقدم في الصحيفة 8.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب النجاسات
12

أو التراب، ثم تعرق يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي قال:
لا بأس به) وعجز صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) حيث
قال فيها: (وسألته عمن مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟
قال: لا) ولا دلالة فيهما على كون إصابة الثوب ومسح الوجه أو بعض الجسد بذلك
الموضع النجس، ولا على كون النجاسة شاملة لليد كملا، حتى تستلزم الإصابة ببعض
منها ذلك، بل هما أعم من ذلك. ونفي البأس فيهما إنما وقع لذلك، لأنه ما لم يعلم
وصول النجاسة إلى شئ ومباشرتها له برطوبة فلا يحكم بالنجاسة. وهذا بحمد الله ظاهر
لا سترة عليه.
والحمل على ما ذكرنا نظيره في الأخبار غير عزيز. فإن كثيرا من الأخبار
ما يوهم بظاهره ما أوهمه هذان الخبران مما هو مخالف لما عليه الفرقة الناجية (أنار الله
برهانها) ويحتاج في تطبيقه إلى نوع تأويل.
مثل صحيحة زرارة (2) قال: (سألته عن الرجل يجنب في ثوبه، أيتجفف
فيه من غسله؟ فقال: نعم لا بأس به إلا أن تكون النطفة فيه رطبة، فإن كانت
جافة فلا بأس).
قال الشيخ (قدس سره): (إن التجفيف المذكور في هذا الخبر محمول على عدم
إصابة محل المني) انتهى.
وربما أشكل ذلك بأنه لا وجه حينئذ لاستثنائه النطفة الرطبة دون الجافة،
لاشتراكهما في حصول البأس مع الإصابة لهما وانتفائه مع عدم إصابتهما. ويمكن أن يقال
أن الرطوبة مظنة التعدي في الجملة.

(1) المروي في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 27 - من أبواب النجاسات
13

وصحيحة أبي أسامة (1) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تصيبني
السماء وعلى ثوب فتبله وأنا جنب، فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني،
أفأصلي فيه؟ قال: نعم).
ويمكن تأويله بأن البلل جاز أن لا يعم الثوب بأسره وتكون إصابة الثوب ببعض
منه ليس فيه بلل، ويجوز أن يكون البلل قليلا بحيث لا تتعدى معه النجاسة وإن
كان شاملا للثوب بأسره، كذا أفاده والدي (قدس سره) في بعض فوائده. ومثل
ذلك في الأخبار كثير يقف عليه المتتبع. والغرض التنبيه على قبول ما استدل
به للتأويل كما في نظائره الواردة من هذا القبيل، فلا يحتج به إذا على خلاف النهج
الواضح السبيل الذي عليه عامة العلماء جيلا بعد جيل.
و (خامسها) - أن صدر صحيحة العيص (2) المتقدم نقل عجزها - حيث
قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح
ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه. قال: يغسل ذكره وفخذيه... الحديث) -
واضح الدلالة في ابطال هذه المقالة، فإن ظاهر جملة (وقد عرق ذكره.. الخ) أنها
معطوفة على ما تقدمها، وحينئذ فتدل الرواية على أن العرق إنما وقع بعد البول ومسح
الذكر، وقد أمر (عليه السلام) بغسل الذكر والفخذين لذلك العرق المتعدي من
مخرج البول بعد مسحه، وهو دليل على تعدي النجاسة بعد المسح.
وأما ما توهمه بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين - من أن الرواية
المذكورة بطرفيها مما يمكن أن يستدل به على ما ذهب إليه المحدث الكاشاني، بأن
يقال: الفرق بين الذكر والفخذ عنه عرقهما قبل التطهير الشرعي وبين الثوب عند

(1) المروية في الوسائل في الباب - 27 - من أبواب النجاسات
(2) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب أحكام الخلوة، وفي الباب
- 26 - من أبواب النجاسات
14

إصابته بعرق اليد الماسحة للذكر قبله - بالأمر بغسلهما دونه - لا وجه له ظاهرا سوى
الفرق بين ما يلاقي المتنجس وما يلاقي عين النجاسة، فإن غسلهما إنما هو لملاقاتهما
بالرطوبة للمحل النجس قبل زوال عين النجاسة بالمسح بالحجر، كما ترشد إليه واو الحال
وذلك يقتضي تعديها من المحل إلى ما يجاوره ويلاصقه من بقية أجزاء الذكر والفخذ،
بخلاف الثوب، فإن ملاقاته إنما وقعت بالمتنجس وهي اليد الماسحة بعد زوال عين
النجاسة من الماسح والممسوح - فهو ظاهر السقوط، فإن مفاد عطف مسح الذكر على البول
بالفاء التي مقتضاها الترتيب بغير مهلة هو كون المسح وقع عقيب البول بلا فصل،
ولا يعقل على هذه الحال حصول العرق للذكر والفخذ على وجه يتعدى من الذكر إليه
قبل المسح، حتى يتم ما ذكره من أن غسلهما إنما هو لملاقاتهما بالرطوبة للمحل النجس
قبل زوال عين النجاسة بالمسح بالحجر... الخ، وكذا لا يعقل أنه تركه بغير مسح
حتى يتردد في المغدى والمجئ على وجه يعرق ذكره وفخذاه وعين البول باقية ضمن تلك
المدة، حتى أنه بسبب العرق تتعدى نجاسة البول إلى فخذيه مثلا، بل من المعلوم أنه
بمجرد المغدى والمجئ تتعدى النجاسة مع وجود عينها من غير حصول عرق إلى سائر
بدنه وثيابه، بل الوجه الظاهر البين الظهور - إن تنزلنا عن دعوى القطع الذي ليس
بمستبعد ولا منكور - أن المراد من الخبر إنما هو السؤال عن أنه متى بال ولم يكن معه
ماء فمسح ما بقي على طرف ذكره من البول لئلا يتعدى إلى ثوبه أو بدنه فينجسه، ثم إنه
بعد ذلك حصل عرق في ذكره وفخذيه بحيث علم تعدي العرق من المحل المتنجس إلى الفخذ
وملاقات أحدهما للآخر برطوبة، فأجاب (عليه السلام) بوجوب غسل ذكره
وفخذيه لتعدى النجاسة على ما ذكرنا، وحينئذ فجملة (وقد عرق) معطوفة كما ذكرنا
لا حالية كما ذكره (قدس سره) وأما قوله: (بخلاف الثوب فإن ملاقاته إنما وقع
بالمتنجس) ففيه ما عرفت آنفا.
15

و (سادسها) - أن ما ذكره - من أن عدم الدليل دليل على العدم - مسلم لو لم
يكن ثمة دليل. والأدلة على ما ندعيه - بحمد الله - واضحة وأعلامها لائحة.
فمن ذلك - صحيح العيص المذكور (1) على ما أوضحناه من الوجه النير الظهور
ومن ذلك - استفاضة الأخبار بغسل الأواني والفرش والبسط ونحوها متى
تنجس شئ منها، فإن من المعلوم أن الأمر بغسلها ليس إلا لمنع تعدي نجاستها إلى
ما يلاقيها برطوبة مما يشترط فيه الطهارة. ولو كان مجرد زوال العين كافيا في جواز
استعمال تلك الأشياء لما كان للأمر بالغسل فائدة، بل ربما كان محض عبث، لأن
تلك الأشياء بنفسها لا تستعمل فيما يشترط فيه الطهارة كالصلاة فيها ونحوه حتى يقال
أن الأمر بغسلها لذلك، فلا يظهر وجه حسن هذا التكلف. هذا مع بناء الشريعة
على السهولة والتخفيف.
ومن ذلك - أخبار نجاسة الدهن والدبس المائعين ونحوهما بموت الفأرة ونحوها (2)
وربما خص بعضهم موضع خلافة في هذه المسألة بالأجسام الصلبة بعد إزالة عين
النجاسة عنها بالتمسح ونحوه، كما هو مورد الموثقة التي استند إليها وعول في المقام
عليها (3).
وربما أيد أيضا بقوله فيما قدمنا نقله عنه: (إذا أزيل عنه عين النجاسة بالتمسح
ونحوه. وفيه أن قوله في تتمة العبارة المذكورة -: (وإنما المنجس للشئ عين النجاسة
لا غير) - صريح في العموم.
ويدل أيضا عليه بأوضح دلالة ما صرح به في كتاب المفاتيح في مفاتيح النجاسات
حيث قال بعد ذكر النجاسات العشر في مفاتيح متعددة - ما صورته: (مفتاح -

(1) في الصحيفة 14
(2) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الماء المضاف.
(3) وهي موثقة حنان المتقدمة في الصحيفة 8.
16

كل شئ غير ما ذكر فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة، للأصل السالم من
المعارض، وللموثق: (كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر...) (1)) فإن تخصيصه الاستثناء
بما يلاقي شيئا من النجاسات خاصة يدل على أن ما لاقى المتنجس صلبا كان أو مائعا بعد
إزالة عين النجاسة فهو داخل في كلية الطهارة بلا اشكال. وإنما أطلنا الكلام وإن
كان خارجا عن المقام لسريان الشبهة في أذهان جملة من الأعلام.
(الثاني) - اختلف الأصحاب في أقل ما يجزئ من الماء في الاستنجاء
من البول، فنقل عن الشيخين - في المبسوط والنهاية والمقنعة - أن أقل ما يجزئ مثلا ما
على رأس الحشفة، ونقله في المختلف عن الصدوقين أيضا، وإليه ذهب المحقق في المعتبر
والشرائع، والعلامة في القواعد والتذكرة، بل صرح بعض مشايخنا بأنه قول
الأكثر. ونقل عن أبي الصلاح أن أقل ما يجزئ ما أزال العين عن رأس الفرج.
وقال ابن إدريس في السرائر أقل ما يجزئ من الماء لغسله ما يكون جاريا ويسمى
غسلا. والظاهر اتحاد كلامي أبي الصلاح وابن إدريس، كما فهمه العلامة في المختلف
ومال إليه فيه أيضا وفي المنتهى، ونقله عن ظاهر ابن البراج أيضا.
ويدل على القول الأول رواية نشيط بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
قال: (سألته كم يجزئ من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال: مثلا ما
على الحشفة من البلل).
والرواية مع ضعف السند معارضة بما رواه أيضا في هذا الباب عن بعض أصحابنا
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) (قال يجزئ من البول أن يغسله بمثله).
وما رواه في الكافي (4) مرسلا مضمرا أنه (يجزئ أن يغسل بمثله من الماء

(1) وهو موثق عمار المروي في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) ج 1 ص 7 وفي الوسائل في الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة. وفي الباب
- 1 - من أبواب النجاسات.
17

إذا كان على رأس الحشفة وغيره).
وما رواه ابن المغيرة في الحسن عن أبي الحسن (عليه السلام) (1) قال:
(قلت له: للاستنجاء حد؟ قال: لا حتى ينقي ما ثمة).
وباطلاق الأمر بغسله في جملة من الأخبار الحاصل امتثاله بما يحصل به النقاء
ولو بالمثل، والأصل عدم التقييد. والمقيد مع ضعف سنده معارض بما عرفت، بل
يمكن الطعن في دلالته بأن الاجزاء في المثلين لا يقتضي سلب الأجزاء عما دونه والمراد أجزاء
الفرد الأكمل. وبذلك يظهر قوة القول الثاني.
إلا أنه يمكن أن يقال: إن اطلاق الأخبار - بالغسل في بعض والصعب في آخر
والتحديد بالنقاء في ثالث - لا ينافي عند التأمل خبر المثلين، فإن الظاهر أن الغسل
لا يصدق إلا بما يقهر النجاسة ويغلب عليها، ولا يحصل ذلك بأقل من المثلين، ومثله
الصب بطريق أولى، وأظهر من ذلك النقاء المستلزم للغلبة البتة. نعم يبقى خبرا المثل
مناقضين لذلك، وهما لا يبلغان قوة المعارضة، سيما مع تأيد هذه الأخبار
بموافقة الاحتياط.
وأما ما أجاب به الشيخ (رحمه الله) في كتابيه عن خبر المثل - حيث اعتمد
على خبر المثلين، واقتفاه المحدث الحر العاملي (قدس سره) في كتاب الوسائل، من احتمال
رجوع ضمير (مثله) إلى البول الخارج كلا - ففيه أن ضميري (يغسله) و (بمثله)
لا مرجع لهما إلا لفظ البول المتقدم، وتعلق الغسل بالبول الخارج كلا لا معنى له،
بل المغسول إنما هو المتخلف على المخرج، وحينئذ فالوجه حمل البول في الرواية على المتخلف،
والمعنى أنه يجزئ من إزالة البول أو من غسل البول أن يغسله بمثله.
ولو قيل: إنه يمكن تصحيح ما ذهب إليه الشيخ بنوع من الاستخدام، بجعل

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 13 و 35 - من أبواب أحكام الخلوة.
وفي الباب - 25 - من أبواب النجاسات.
18

ضمير (يغسله) للبول المتخلف، وضمير (مثله) لمجموع الخارج.
ففيه (أولا) - أنه لا قرينة تدل عليه، ولا ضرورة توجب المصير إليه
. و (ثانيا) - إن القول بوجوب المثلين دون الأقل منه إنما نشأ من لفظ الاجزاء
في الرواية المستدل بها على ذلك الذي هو عبارة عن الاكتفاء بأقل المراتب، وحينئذ
يلزم - بناء على ما ذكره من التأويل في الرواية الثانية - أنه لا يكفي أقل من مثل البول
الخارج كملا، وهو بعيد جدا. والاعتذار بحمل الزائد على المثلين على الاستحباب
- مع منافاة لفظ الاجزاء له وكون الزيادة إلى ذلك المقدار ربما تبلغ حد الاسراف -
أبعد. على أن ذلك لا يكون حينئذ ضابطا ولا حكما منضبطا، لزيادة البول الخارج
تارة ونقصانه أخرى. فالظاهر حينئذ هو ما ذكرناه.
(الثالث) - هل المراد بالمثلين في الخبر مجرد الكناية عن الغسلة الواحدة،
لاشتراط الغلبة في المطهر وهي لا تحصل بالمثل كما قدمنا ذكره، أو المراد به بيان التعدد
ووجوب غسل مخرج البول مرتين، والتعبير بالمثلين هنا لبيان أقل ما يجزئ
فيه؟ قولان:
أظهرهما الأول، ويعضده (أولا) - أن الرواية لا ظهور لهما في كون المثلين
دفعة أو دفعتين.
و (ثانيا) - ما قدمنا (1) من حسنة ابن المغيرة، واطلاق الأخبار بالغسل
والصب المقتضي وذلك للغلبة والزيادة في الغسلة.
و (ثالثا) - أن جعل المثل غسلة - مع اعتبار أغلبية ماء الغسلة على النجاسة
واستيلائه عليها كما عرفت - مما لا يرتكبه محصل.
نعم يبقى هنا شئ وهو أنه قد استفاضت الأخبار بوجوب المرتين في إزالة نجاسة

(1) في الصحيفة 18.
19

البول عن الثوب والبدن مع أن ما نحن فيه داخل تحت المسألة، والأخبار هنا قد دلت
على الاكتفاء بالمرة كما حققناه، وحينئذ فإما أن يخصص عموم تلك الأخبار بأخبار
الاستنجاء، فيقال بوجوب المرتين في ما عدا الاستنجاء، أو يقيد اطلاق هذه الأخبار بتلك فتجب المرتان هنا، ولعل الترجيح للأول. ونمنع شمول أخبار المرتين.
لموضع النزاع بل ظهورها فيما عداه، ولأن تقييد المطلق مجاز والأصل عدمه.
(الرابع) - هل الواجب على تقدير التعدد الانفصال الحقيقي ليحصل التعدد
عرفا. أو يكفي الانفصال التقديري؟ قولان:
اختار أولهما شيخنا الشهيد في الذكرى، مع أنه اكتفى في تحقق المرتين في غير
الاستنجاء بالانفصال التقديري، واعتذر عنه المحقق الشيخ علي (رحمه الله) في شرح القواعد
فقال: (وما اعتبره في الذكرى - من اشتراط تخلل الفصل بين المثلين ليتحقق تعدد
الغسل - حق، لا لأن التعدد لا يتحقق إلا بذلك، بل لأن التعدد المطلوب بالمثلين
لا يوجد بدون ذلك، لأن ورود المثلين دفعة واحدة غسلة واحدة) انتهى.
وتوضيحه أن التعدد التقديري لا بد في العلم بتحققه من زيادة على الغسلتين، وهي غير
متحققة في المثلين إذا وقعا دفعة، بل إنما يعدان كذلك غسلا واحدا. وعلى كل حال
فالأحوط اعتبار الغسل مرتين بل ثلاث مرات، لما في صحيح زرارة المقطوع (1)
(كان يستنجي من البول ثلاث مرات) والأحوط مع ذلك أيضا الفصل الحقيقي
بين الغسلات
(الخامس) - صرح جمع - منهم: المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والشهيد
في الذكرى - أنه لو لم يجد الماء لغسل البول أو تعذر استعمال لجرح ونحوه وجب التمسح
بالحجر ونحوه، لأن الواجب إزالة العين والأثر، فلما تعذرت إزالتهما معا لم تسقط إزالة العين.

(1) المروي في الوسائل في الباب - 26 و 35 - ومن أبواب أحكام الخلوة.
20

ونقل عن بعض المتأخرين أنه فهم من هذا الكلام أنهم يرون وجوب تجفيف
مطلق النجاسة عند تعذر إزالتها، وأن ذلك بدل اضطراري للطهارة من النجاسات
كبدلية التيمم للطهارة من الأحداث، وصرح بالموافقة لهم عليه.
وفيه (أولا) - أن ما ذكروه من وجوب المسح بالحجر ونحوه هذا المقام
لا دليل عليه. وما استندوا إليه في الدلالة مجرد اعتبار لا دلالة عليه في الأخبار،
إذ غاية ما يستفاد منها وجوب التطهير بالغسل وصب الماء، فعند تعذر الماء يسقط
التكليف رأسا. وكون الغسل مثلا مشتملا على الأمرين المذكورين لا يستلزم التكليف
بأحدهما عند فقده. ولا ريب أن ما ذكروه طريق احتياط لمنع تعدي النجاسة
إلى الثوب والبدن.
(وثانيا) - أن هذا القائل إن أراد - بما فهمه من كلامهم من البدلية - ثبوت
التطهير بالحجر في حال الضرورة، كما يفهم من ظاهر كلامه وتمثيله ببدلية التيمم، فهو
مخالف لما عرفت آنفا من الاجماع - نصا وفتوى - على عدم التطهير في الاستنجاء
من البول إلا بالماء أعم من أن يكون حال ضرورة أو سعة، وعبائر هؤلاء الجماعة الذين
قلدهم فيما فهم من كلامهم ناطقة بذلك، وإن أراد مجرد تجفيف النجاسة حذرا
من التعدي، فقد عرفت أنه لا دليل عليه وإن كان الأولى فعله.
(السادس) - الظاهر أنه لا يجب الدلك، لما روي (أنه ليس بوسخ فيحتاج
أن يدلك)) (1) ولما في الأخبار من الأمر بالصب خاصة. وفي بعضها (2) بعد الأمر بالصب
(فإنما هو ماء) هذا إذا كان رطبا. فلو كان جافا متراكما فلا يبعد الوجوب. لعدم تيقن

(1) كما في مرسل الكافي ج 1 ص 7 وفي الوسائل في الباب - 26 - من أبواب أحكام
الخلوة وفي الباب - 1 - من أبواب النجاسات.
(2) وهو خبر البزنطي المروي في الوسائل عن السرائر في الباب - 26 - من أبواب
أحكام الخلوة، وفي الباب - 1 - من أبواب النجاسات.
21

الإزالة إلا به، مع احتمال العدم وقوفا على ظاهر اطلاق الأخبار، منضما إلى أصالة
البراءة والاحتياط يقتضي الأول البتة.
(السابع) - هل يجب على الأغلف في الاستنجاء من البول كشف البشرة
وتطهير محل النجاسة، أو يكتفي بغسل ما ظهر؟ قولان مبنيان على أن ما تحت الغلفة
هل هو من الظواهر أو البواطن؟
وبالأول جزم المحقق الشيخ علي (قدس سره) في شرح القواعد، ونقل الثاني
فيه عن المنتهى والذكرى، معللين له بالحاقه بالبواطن فيغسل ما ظهر، ثم قال:
(وللنظر فيه مجال).
أقول: والذي وقفت عليه في الكتابين المذكورين لا يطابق ما نقل (قدس سره)
عنهما، فإنه صرح في الذكرى بأنه يجب كشف البشرة على الأغلف إن أمكن، ولو
كان مرتتقا سقط. ومثله في المنتهى فيما إذا كشفهما وقت البول، أما لو لم يكشفها حال
البول فهل يجب كشفها لغسل المخرج؟ فإنه استقرب الوجوب هنا أيضا. ومثله في المعتبر
أيضا، فإنه تردد في هذه الصورة في الوجوب، ثم اختاره وجعله الأشبه، معللا له
بأنه يجري مجرى الظاهر. وجزم في التذكرة والتحرير بالحكم في هذه الصورة من غير
تردد. وبالجملة فإني لم أقف فيما حضرني من كتب الفقهاء علي خلاف في وجوب غسل
البشرة في الصورة المذكورة إلا على ما نقله المحقق الشيخ على. وقد عرفت. ما فيه.
نعم ظاهر المنتهى والمعتبر التردد في ذلك إلا أنهما اختارا الوجوب كما عرفت. ومن ذلك
يعلم أنه لا ينبغي الركون إلى مجرد النقل والاعتماد عليه بل ينبغي مراجعة المنقول عنه
حيث كان وعلى أي نحو كان.
(الثامن) - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيمن صلى ناسيا
للاستنجاء، فالمشهور وجوب الإعادة وقتا وخارجا. وعن ابن الجنيد تخصيص وجوب
22

الإعادة بالوقت واختيار الاستحباب خارجه. وعن الصدوق في الفقيه وجوب الإعادة
في البول دون الغائط فلا يعيد، وزاد في البول إعادة الوضوء أيضا. وعن ابن أبي
عقيل أن الأولى إعادة الوضوء ولم يقيد ببول ولا غائط. وروايات المسألة مختلفة جدا.
فمما يدل على المشهور صحيحة زرارة (1) قال: (توضأت يوما ولم أغسل
ذكري ثم صليت، فسألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك، فقال اغسل ذكرك
وأعد صلاتك) وإنما حملنا الرواية على ترك الغسل نسيانا لعبد التعمد من مثل زرارة
في الصلاة بغير استنجاء.
وصحيحة عمرو بن أبي نصر المتقدمة في أول المسألة (2).
وموثقة ابن بكير عن
وموثقة ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
(في الرجل يبول وينسى أن يغسل ذكره حتى يتوضأ ويصلي؟ قال: يغسل ذكره ويعيد
الصلاة ولا يعيد الوضوء) ومورد الجميع نسيان الاستنجاء من البول.
وموثقة سماعة (4) قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا دخلت الغائط
فقضيت الحاجة فلم تهرق الماء، ثم توضأت ونسيت أن تستنجي، فذكرت بعد
ما صليت، فعليك الإعادة، وإن كنت أهرقت الماء فنسيت أن تغسل ذكرك حتى صليت
فعليك إعادة الوضوء والصلاة وغسل ذكرك، لأن البول مثل البراز).
واطلاق هذه الأخبار يدل على الإعادة وقتا وخارجا.
وبأزائها ما يدل على عدم الإعادة، كرواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (5) (في الرجل يتوضأ وينسى أن يغسل ذكره وقد بال؟ فقال: يغسل ذكره
ولا يعيد الصلاة).
ورواية عمرو بن أبي نصر (6) قال: (قلت لأبي عبد الله: إني صليت

(1) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) في الصحيفة 7.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
23

فذكرت أني لم أغسل ذكري بعد ما صليت، أفأعيد؟ قال: لا) ومورد الروايتين
نسيان البول.
وموثقة عمار بن موسى (1) قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
لو أن رجلا نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة).
وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (2) قال: (سألته
عن رجل ذكر وهو في صلاته أنه لم يستنج من الخلاء. قال: ينصرف ويستنجي
من الخلاء ويعيد الصلاة، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك ولا إعادة عليه)
ومن هذه الأخبار تعلم أدلة القولين الآخرين:
وجمع الشيخ بين هذه الأخبار بما لا يخلو من البعد.
وظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) جعل هذه المسألة خارجة عن مسألة
من صلى في النجاسة ناسيا، حيث لم ينقل الخلاف هنا في وجوب الإعادة وقتا وخارجا،
إلا عن ظاهر ابن الجنيد حيث خصص الوجوب بالوقت، وعن الصدوق حيث نفى
الإعادة في الغائط. وأما هناك فأكثر المتقدمين على الإعادة مطلقا وعن الشيخ في بعض
أقواله العدم مطلقا، وفي كتاب الإستبصار - وتبعه عليه جل المتأخرين - الإعادة
في الوقت دون خارجه.
وصريح عبارة السيد السند في المدارك أن هذه المسألة من جزئيات تلك. فإن أراد
أنها كذلك عند الأصحاب، ففيه ما عرفت. وإن أراد أن مقتضى الدليل كونها
كذلك، فهو كذلك، إلا أن أخبار تلك المسألة أيضا على غاية من الاختلاف. وسيأتي
بسط الكلام عليها في محلها إن شاء الله تعالى.
نعم يبقى الكلام هنا في الجمع بين أخبار هذه المسألة، ولعل الترجيح لأخبار

(1) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة.
24

العدم، لتأيدها بالأصل، ويحمل ما يقابلها على الاستحباب جمعا.
واحتمل بعض المتأخرين حمل أخبار الإعادة على انتقاض الوضوء السابق
بخروج بلل مع عدم الاستبراء. وفيه أنه لا قرينة في شئ من تلك الأخبار تؤنس به.
إلا أنه ربما يجوز ابتناء ذلك على قرينة حالية وإن خفيت علينا الآن، وله نظائر
في الأخبار. ولو تم ما استندوا إليه - في الجمع بين أخبار الصلاة في النجاسة نسيانا
بالإعادة وقتا لا خارجا - لأمكن الحمل عليه هنا أيضا. إلا أنه - كما سيأتي تحقيقه إن شاء
الله تعالى - غير تام. والمسألة لا تخلو عن الاشكال، لتصادم أخبارها مع صحة الجميع
وصراحته. والجمع بما ذكرناه من الوجوه لا يخلو عن بعد. فالاحتياط فيها لازم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الصدوق (رحمه الله تعالى) ذهب إلى وجوب إعادة
الوضوء في نسيان الاستنجاء من البول خاصة كما قدمنا ذكره.
وعليه تدل موثقة سماعة المتقدمة (1) وصحيحة سليمان بن خالد عن أبي جعفر
(عليه السلام) (2) (في الرجل يتوضأ فينسى غسل ذكره؟ قال: يغسل ذكره
ثم يعيد الوضوء) ومثلها موثقة أبي بصير (3).
وبأزائها من الأخبار في ذلك صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى
(عليه السلام) (4) قال: (سألته عن الرجل يبول فلا يغسل ذكره حتى يتوضأ وضوء
الصلاة. فقال يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه).
وصحيحة عمرو بن أبي نصر المتقدمة (5) وصحيحة أخرى له أيضا (6) قال:

(1) في الصحيفة 23
(2) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء.
(5) في الصحيفة 7
25

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبول فينسى أن يغسل ذكره ويتوضأ
قال يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه).
وموثقة ابن بكير المتقدمة (1) وحسنة ابن أذينة المتقدمة في صدر المسألة (2)
وجمع الشيخ (رضي الله عنه) بينها بحمل إعادة الوضوء على ما إذا لم يتوضأ سابقا
وفيه أن لفظ الإعادة في بعضها ينافيه، مع ذكر الوضوء سابقا في بعض آخر. وجمع آخرون
بحمل الإعادة على الاستحباب. ولا بأس به. إلا أن الأقرب حمل ذلك على التقية،
إذ هي الأصل التام في اختلاف الأخبار كما تقدم بيانه (3).
وكيف كان فالأحوط إعادة الوضوء في الاستنجاء من البول كما هو مورد
تلك الأخبار.
و (منها) - الاستنجاء من الغائط. وتحقيق الكلام فيه يقع في مواضع:
(الأول) - الظاهر أنه لا خلاف في أنه مع التعدي يتعين فيه الماء ومع عدمه
يتخير بينه وبين الأحجار وشبهها.
لكن بيان معنى التعدي هنا لا يخلو من اجمال واشكال، حيث إن ما صرح
به الأصحاب - من أنه عبارة عن تجاوز الغائط المخرج وهو حواشي الدبر وإن لم يبلغ
الأليتين - لا دليل عليه في أخبار الاستنجاء بالأحجار الواردة من طرقنا بل هي مطلقة
نعم روي من طرق العامة عنه صلى الله عليه وآله (يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم
يتجاوز محل العادة) (4).

(1) في الصحيفة 23.
(2) في الصحيفة 7، وقد وصفها هناك بالصحة
(3) في المقدمة الأولى في الصحيفة 4 من الجزء الأول
(4) المروي من طرق العامة هو قوله (صلى الله عليه وآله): " يكفي أحدكم ثلاثة
أحجار " ولم نقف على تذييله بالجملة الشرطية المذكورة بعد التتبع في مظانه. والذي يؤيد
عدم ورود هذا الذيل من طرقهم هو ما ذكره ابن قدامة الحنبلي في المغني ج 1 ص 159
حيث قال: " ما عدا المخرج لا يجزئ فيه إلا الماء، وبه قال الشافعي وإسحاق
وابن المنذر، لأن الاستجمار في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في غسله، لتكرر
النجاسة فيه، فما لا تتكرر فيه النجاسة لا يجزئ فيه إلا الغسل كساقه وفخذه. وقوله
(صلى الله عليه وسلم): " يكفي أحدكم ثلاثة أحجار " أراد به ما لم يتجاوز محل العادة "
فإن ذكره بنحو التفسير لكلامه (صلى الله عليه وآله) يدل على عدم وروده وإلا لاستدل
به على مدعاه ولم يكن لتنزيل اطلاق الحديث عليه وجه بعد ورود المقيد المتصل، فالجملة
الشرطية المذكورة ليست جزء من الحديث وإنما هي من تفسير الفقهاء.
26

والظاهر أن مستند أصحابنا في ذلك إنما هو الاجماع كما صرح به جماعة منهم،
ومن ثم توقف فيه جملة من متأخري متأخريهم.
بل جزم البعض - كالسيد السند في المدارك - بأنه ينبغي أن يراد بالتعدي وصول
النجاسة إلى محل لا يعتاد وصولها إليه، ولا يصدق على إزالتها اسم الاستنجاء.
والظاهر أنه الأقرب (أما أولا) - فلعموم الأدلة وعدم المحصص.
و (أما ثانيا) - فلبناء الأحكام الشرعية على ما هو المتعارف المعتاد المتكرر
دون النادر القليل الوقوع، كما لا يخفى على من تتبع مظانها. ولا يخفى أن المتكرر
هو التجاوز مع عدم التفاحش.
و (أما ثالثا) - فلما صرحوا به في ماء الاستنجاء من الحكم بطهارته ما لم
يتفاحش الخارج على وجه يصدق على إزالته اسم الاستنجاء، وحينئذ فكما بنوا
الحكم هناك في طهارة الماء على ما يزال به المعتاد المتكرر الذي يصدق على إزالته اسم
الاستنجاء، فلو تفاحش وخرج عن ذلك المصداق لم يحكم بطهارة غسالته، فكذا
يجب البناء عليه هنا.
و (أما رابعا) - فلأنه المناسب لبناء شرعية الأحجار من رفع الحرج والضيق
في الشريعة. هذا. والاحتياط لا يخفى.
27

(الثاني) - أنه مع التعدي هل يجب غسل الجميع بالماء فلا يطهر بغيره،
أو الواجب غسل ما زاد على القدر والذي يجزئ فيه الأحجار، فلو غسله كفى استعمال
الأحجار في الباقي؟ لم أقف على صريح كلام لهم في ذلك إلا أن ظاهر عباراتهم الأول.
(الثالث) - الواجب في الغسل غسل ظاهر المخرج دون باطنه بلا خلاف.
وعليه تدل صحيحة إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليه السلام) (1) (قال
في الاستنجاء: يغسل ما ظهر منه على الشرج ولا يدخل فيه الأنملة). وموثقة عمار (2) (إنما عليه أن يغسل ما ظهر منها - يعني المقعدة - وليس عليه
أن يغسل باطنها).
(الرابع) - قد صرح جمع من الأصحاب بأنه يجب في الغسل هنا إزالة العين
والأثر. وغاية ما يستفاد من الأخبار الانتقاء كما في حسنة ابن المغيرة المتقدمة (3)
وهو عبارة عن إزالة العين إزالة تامة وإن بقيت الريح، لقوله في تتمة الرواية المذكورة:
(قلت: فإنه ينقى ما ثمة وتبقى الريح؟ قال: الريح لا ينظر إليها) واذهاب الغائط
كما في موثقة يونس بن يعقوب (4) (يغسل ذكره ويذهب الغائط...) والغسل كما في
ثالث. نعم يستحب المبالغة، فإنها مطهرة للحواشي ومذهبة للبواسير، كما في صحيحة
مسعدة بن زياد أو موثقته (5).
وأما ما ذكروا بعد العين من الأثر فلم نقف له في الأخبار على عين ولا أثر،
مع اضطراب كلامهم في تفسيره.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب أحكام الخلوة، وفي الباب
- 24 - من أبواب النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب أحكام الخلوة، وفي الباب
- 24 - من أبواب النجاسات
(3) في الصحيفة 18.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
28

فقيل بأنه ما يتخلف على المحل بعد مسح النجاسة وتنشيفها، وأنه غير الرطوبة
لأنها من العين.
واعترض عليه بأن هذا المعنى غير متحقق ولا واضح، وعلى تقدير تحققه
فوجوب إزالته إنما يتم مع عدم صدق النقاء والاذهاب والغسل، وإلا فلو صدق شئ
من ذلك قبله لزم الاكتفاء به حسبما دلت عليه تلك الأخبار.
وأجاب بعض محدثي متأخري المتأخرين عن أصل الاعتراض بأن المحل يكتسب
ملوسة من مجاورة الخارج، وهذه الملوسة تدرك بالملامسة عند صب الماء، فلعل مراده
هذه، فإنها غير الرطوبة المذكورة. وفيه من التمحل ما لا يخفى.
وقيل إنه اللون، لأنه عرض لا يقوم بنفسه، فلا بد له من محل جوهري
يقوم به، والانتقال على الأعراض محال، فوجوده حينئذ دليل على وجود العين.
وفيه (أولا) - النقض بالرائحة، فإنها تحصل بالمجاورة. ومما يؤيد عدم
الاستلزام أيضا حدوث الحرارة في الماء بالنار والشمس.
و (ثانيا) - تصريح الأصحاب والأخبار بالعفو عن اللون.
و (ثالثا) - منع وجوب الإزالة بعد حصول الانقاء والاذهاب والغسل كما
عرفت، إذ هو غاية ما يستفاد وجوبه من الأخبار.
(الخامس) - المشهور - بل ادعي عليه الاجماع - أنه يكفي في الاستنجاء مع
عدم التعدي كل جسم طاهر جاف قالع للنجاسة. ونقل عن سلار أنه لا يجزئ
في الاستجمار إلا ما كان أصله الأرض. وعن ابن الجنيد أنه قال: (إن لم تحضر
الأحجار تمسح بالكرسف أو ما قام مقامه. ثم قال: ولا اختار الاستطابة بالآجر
والخزف إلا ما ألبسه طين أو تراب يابس) وعن المرتضى أنه قال: (يجوز
الاستنجاء بالأحجار أو ما قام مقامها من المدر والخزف).
29

أقول: والموجود في النصوص من ذلك - الأحجار كما في جملة من الأخبار:
(منها) - صحيحة زرارة (1) (ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار...).
والكرسف وهو القطن، كما في صحيحة زرارة (2) قال: سمعت أبا جعفر
(عليه السلام) يقول: كان الحسين (عليه السلام) يتمسح من الغائط بالكرسف
ولا يغسل).
والمدر والخرق والخزف كما في صحيحة زرارة المضمرة (3) قال: (كان يستنجى
من الغائط بالمدر والخرق والخزف) وربما وجد في بعض نسخ التهذيب بعد المدر
(الخزف) بالزاي والفاء خاصة.
ويدل على التعميم - كما هو القول المشهور - حسنة ابن المغيرة (4) حيث سأله هل
للاستنجاء حد؟ فأجاب (عليه السلام): (لا حتى ينقى ما ثمة) وجه الدلالة أنه (عليه
السلام) نفى الحد وناط ذلك بالنقاء واشتراط الإزالة بشئ خاص نوع من التحديد
زائد على الانقاء المطلق المتحقق بأي مزيل كان إلا ما قام الدليل على استثنائه.
وموثقة يونس بن يعقوب المتقدمة (5) المتضمنة لاذهاب الغائط، فإن ظاهرها
الاكتفاء بزوال العين بأي مزيل إلا ما استثنى.
ويعضد ذلك الاجماع المدعى في المقام. وللمناقشة في الجميع مجال.
وظاهر شيخنا صاحب كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل التوقف في الحكم

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 26 و 35 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 13 و 35 - من أبواب أحكام الخلوة، وفي الباب
- 25 - من أبواب النجاسات.
(5) في الصحيفة 28.
30

المذكور، لعدم الدليل الواضح على العموم. وهو في محله، لأن الطهارة حكم شرعي يتوقف
على ما جعله الشارع مطهرا. واطلاق الروايتين المذكورتين يمكن تقييده بخصوص
الأفراد التي وردت بها النصوص. والاجماع لا يخفى ما فيه. وكيف كان فيه. وكيف كان فطريق
الاحتياط الاقتصار على ما وردت به الأخبار.
(السادس) - قد اشترطوا - بناء على القول بالتعميم - في آلة الاستنجاء شروطا:
منها - الطهارة، وهو المشهور بل ادعى في المنتهى عليه الاجماع، واستدل
عليه بقوله (عليه السلام) في مرسلة أحمد بن محمد بن عيسى (1): (جرت السنة
في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء) وبأنه إزالة نجاسة فلا يحصل بالنجاسة
كالغسل. ولاشتماله على نقض الغرض الحاصل من زيادة النجاسة بتعدد نوعها
أو شخصها المنافي للحكمة.
وأنت خبير بأن جميع ما ذكروه من التعليلات في المقام إنما ينطبق على ما إذا
تعدت نجاسة الحجر مثلا إلى المحل، والمدعى أعم من ذلك. وأما الخبر فهو
على اطلاقه غير معمول عليه عندهم، لجواز الاستنجاء بالأحجار المستعملة بعد تطهيرها،
كما لا خلاف فيه بينهم، فليحمل على الاستحباب في ذلك. كما هو محمول عليه بالنسبة
إلى الاتباع بالماء، ويبقى جواز الاستنجاء بالحجر النجس إذا لم تتعد نجاسته إلى المحل
داخلا تحت اطلاق الأخبار وسالما من المانع، وهم لا يقولون به.
ثم إنه بناء على ما ذهبوا إليه من المنع. لو استعمله فهل تبقى الرخصة، أو يتحتم
الماء أو يفرق بين ما نجاسته كنجاسة المحل وغيرها؟ أوجه بل وأقول، ولعل
الأوسط أوسط كما أنه أحوط.
ومنها - الجفاف، صرح به الأكثر، فلا يجزئ الرطب عندهم، إما أنه

المروية في الوسائل في الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة.
31

لا ينشف المحل كما ذكره العلامة في التذكرة، أو أن البلل الذي عليه ينجس بإصابة
النجاسة وتعود نجاستها على الحجر فتحصل عليه نجاسة أجنبية فيكون قد استعمل الحجر
النجس، أو أن الرطب لا يزيل النجاسة بل يزيد التلويث والانتشار كما ذكره (قدس
سره) في النهاية.
وفي الجميع نظر (أما الأول) فلأن تنشيف المحل من النجاسة سيما في المسحة
الثالثة لا ينافي رطوبته بالحجر حال الاستعمال، لجريان ذلك في الماء أيضا، فإنه يكون
مطهرا وقالعا للنجاسة مع رطوبة المحل به.
و (أما الثاني) فلأن نجاسة البلة التي تعود على الحجر إنما هي بنجاسة المحل،
وهي غير ضارة، وإلا لأدى إلى عدم التطهير بالماء أيضا، إلا أن يكون مما لا ينفعل
بالملاقاة، أو يقال بعدم انفعال قليله بها.
وبالجملة فالأخبار بالنسبة إلى هذين الشرطين مطلقة، والأدلة التي ذكروها
لا تنهض - كما عرفت - بالدلالة وإن كان الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذكروه.
ومنها - كونه قالعا للنجاسة، بمعنى أن لا يكون صقيلا يزلق عن النجاسة
كالزجاج ونحوه، ولا لزجا ولا رخوا كالفحم، لعدم قلع النجاسة. ولا ريب
في ذلك مع عدم قلع النجاسة، أما لو فرض قلعه النجاسة فالظاهر - كما صرح به
البعض - حصول التطهير به، لصدق الامتثال بناء على ثبوت الكلية التي ادعوها
خلافا لجمع: منهم - العلامة في النهاية.
(السابع) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في اجزاء الأحجار ونحوها
مع عدم التعدي، والأخبار به متظافرة، بل ربما يدعى ضروريته من الدين.
ففي صحيح زرارة (1) (ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت
السنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)...).

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
32

وفي صحيحة المضمر (1) (كان يستنجي من البول ثلاث مرات، ومن الغائط
بالمدر والخرق والخزف).
وفي صحيحة الثالثة (2) (كان الحسين بن علي (عليهما السلام) يتمسح
من الغائط بالكرسف ولا يغسل).
وفي صحيحة رابعة له أيضا (3) (جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن
يمسح العجان ولا يغسله...) إلى غير ذلك من الأخبار.
وحينئذ فما ورد مما يدل بظاهره على خلاف ذلك يجب ارتكاب التأويل فيه.
كموثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) (في الرجل ينسى أن يغسل
دبره بالماء حتى إلا أنه قد تمسح بثلاثة أحجار؟ قال: إن كان في وقت تلك
الصلاة فليعد الوضوء وليعد الصلاة، وإن كان قد مضى وقت تلك الصلاة التي صلى
فقد جازت صلاته، وليتوضأ لما يستقبل من الصلاة).
وحملها الشيخ على الاستحباب، ويمكن الحمل أيضا على حالة التعدي، ولعله
(عليه السلام) علم ذلك فأجاب بالإعادة، ومثله في الأخبار غير عزيز.
وكيف كان فهي قاصرة عما قدمنا من الأخبار، مع ما في روايات عمار
من التهافت، وفي تتمة هذه الرواية ما يؤيد ما قلنا من نقض الوضوء بمس باطن الدبر
وباطن الإحليل. والعجب من الصدوق (قدس سره) حيث أفتى بمضمون صدر
هذه الرواية في المقنع، كما أفتى بعجزها في الفقيه، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى،
مع مخالفتها في الموضعين للأخبار المستفيضة.

(1) المروي في الوسائل في الباب - 26 و 35 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة.
33

ورواية عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام)
قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا
إذا لم يكن الماء) وضمير بها يعود إلى أداة الاستنجاء المدلول عليها بقوله: (إذا
استنجى) ومفهومه عدم اجزاء الاستنجاء بالأحجار ونحوها مع وجود الماء.
والأظهر حملها على الاستحباب وأفضلية الماء، وعلى ذلك أيضا تحمل مرسلة
أحمد المرفوعة إلى أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: (جرت السنة في الاستنجاء
بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء).
واحتمل بعض الحمل على التعدي في الخبرين المذكورين.
(الثامن) - الظاهر أنه لا خلاف في وجوب الزيادة على الثلاثة مع عدم النقاء
بها كما نقله غير واحد، وإنما اختلفوا في وجوب التثليث مع حصول النقاء بالأقل،
فظاهر المشهور ذلك وقيل بالعدم، وهو المنقول عن المفيد (رحمه الله) واختاره
في المختلف.
ويدل على المشهور ما قدمنا (3) من صحاح زرارة: الأولى والثانية والرابعة:
أما الأولى والرابعة فلتضمنهما للتثليث صريحا، وأما الثانية فباعتبار صيغة الجمع في المدر
وما بعده الذي أقله ثلاثة. وقوله (عليه السلام) في رواية العجلي (4): (يجزئ
من الغائط المسح بالأحجار...) وفي مرسلة أحمد المتقدمة (5) (جرت السنة في الاستنجاء
بثلاثة أحجار أبكار...) وأصالة بقاء المحل على النجاسة حتى يعلم المزيل.
ويدل على الثاني ما تقدم من حسنة ابن المغيرة (6) المتضمنة للانقاء. وموثقة

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة
(3) في الصحيفة 32 و 33
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 و 30 - من أبواب أحكام الخلوة
(5) المروية في الوسائل في الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة
(6) المتقدمة في الصحيفة 18.
34

يونس بن يعقوب (1) المتضمنة لاذهاب الغائط. وبهما تزول أصالة البقاء المذكورة.
وعدم دلالة اجزاء عدد خاص أو ما يدل عليه على عدم اجزاء ما دونه. وحكاية الفعل
في صحيحة زرارة المضمرة (2) لا يقتضي الوجوب. والسنة في صحيحة زرارة الأولى
ومرسلة أحمد (3) أعم من الوجوب. والمسألة محل توقف وإن كان القول المشهور
لا يخلو من رجحان، لأن الطهارة - كما عرفت - حكم شرعي يتوقف على ثبوت
سببه، والمتكرر في الأخبار التثليث واطلاق روايتي ابن المغيرة (4) ويونس (5) يمكن
تقييده بتلك الأخبار، مع أن مورد رواية يونس الاستنجاء بالماء والأخرى لا تأبى
الحمل عليه أيضا. والاحتياط لا يخفى.
(التاسع) - اختلف الأصحاب - بناء على وجوب التثليث - في ذي الجهات
الثلاث، هل يجزئ عن الثلاثة أم لا؟ قولان.
اختار أولهما العلامة في جملة من كتبه، ونقله في المختلف عن ابن البراج، وهو
منقول أيضا عن الشيخ المفيد، واختاره الشهيد المحقق الشيخ علي.
وإلى الثاني ذهب المحقق وجماعة من المتأخرين: منهم - الشهيد الثاني. وكلام
الشيخ في هذا المقام لا يخلو من اجمال وابهام.
احتج العلامة في المختلف على الاجزاء، قال: (لنا أن المراد ثلاث مسحات
بحجر كما لو قيل اضربه عشرة أسواط، فإن المراد عشر ضربات بسوط. ولأن
المقصود إزالة النجاسة وقد حصل. ولأنها لو انفصلت لأجزأت فكذا مع الاتصال،
وأي عاقل يفرق بين الحجر متصلا بغيره ومنفصلا؟ ولأن الثلاثة لو استجمروا بهذا
الحجر لأجزأ كل واحد عن حجر واحد) انتهى.

(1) المتقدمة في الصحيفة 28
(2) المتقدمة في الصحيفة 33
(3) المتقدمين في الصحيفة 32 و 34
(4) المتقدمة في الصحيفة 18
(5) المتقدمة في الصحيفة 28
35

وزاد آخرون الاستدلال بقوله (صلى الله عليه وآله): (إذا جلس أحدكم
لحاجته فليمسح ثلاث مسحات) (1).
وأجيب عن الأول بأن إرادة المسحات من قولنا: (امسحه بثلاثة أحجار)
مجاز البتة، وهو موقوف على القرينة، والتشبيه بما ذكره مردود بالفرق بين قولنا:
(اضربه عشرة أسواط) و (اضربه بعشرة أسواط) فإن قرينة التجوز في الأول
بإرادة عشر ضربات ظاهرة بخلافها في الثاني، فالتشبيه غير موافق.
وعن الثاني بأنه مصادرة محضة، فإن المقصود إزالة النجاسة على الوجه المعتبر
شرعا، لأن كلا من النجاسة والطهارة حكم شرعي يجب الوقوف فيه على ما رسمه
الشارع وعينه مطهرا ومنجسا.
وعن الثالث بأنه قياس مع وجود الفارق وهو النص، فإنه دل على الجواز حال
الانفصال دونه حال الاتصال، والغالب - كما قيل - في أبواب العبادات رعاية
جانب التعبد.
وعن الرابع بأن الفرق - بين استجمار كل واحد بواحد وبين استجمار الواحد
بكل واحد - واضح، لحصول الامتثال في الأول دون الثاني. على أن في الاستجمار
بالحجر الواحد لواحد أو أكثر لزوم محذور ما تقدم من اشتراط الطهارة في أحجار
الاستجمار.
وعن الخامس بأن الخبر عامي ضعيف لا يقوم حجة. على أنه مطلق والخبر

(1) سيأتي منه (قده) أن هذا الخبر عامي، ولم نقف على هذا النص من طرق العامة
بعد الفحص في مظانه، والذي وقفنا عليه من طرقهم بهذا المضمون ما في مجمع الزوائد للهيثمي
ج 1 ص 211 وهو قوله صلى الله عليه وآله: " إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات " وقوله صلى الله عليه وآله:
" إذا تغوط أحدكم فليمسح بثلاثة أحجار، فإن ذلك كافية " وقوله صلى الله عليه وآله: " إذا دخل أحدكم
الخلاء فليمسح بثلاثة أحجار " وروى الأول والثالث في كنز العمال ج 5 ص 84 و 85.
36

والمتضمن للأحجار مقيد، والمقيد يحكم على المطلق.
واستند بعض فضلاء متأخري المتأخرين في الاستدلال لهذا القول أيضا بحسنة
ابن المغيرة وموثقة يونس (1).
ولا يخفى ما فيه، فإن الكلام في هذه المسألة مبني على وجوب التثليث كما
أشرنا إليه آنفا. والخبران المذكوران ظاهران في عدمه كما عرفت سابقا، فالقائل
به لا بد له من ارتكاب التأويل في ذينك الخبرين على وجه يؤولان به إلى أخبار التثليث
كما وجهناه سابقا، فلا يتم الاستدلال بهما هنا. هذا. والقول بعدم الاجزاء هنا
فرع ثبوت التثليث من تلك الأخبار، وقد عرفت ما فيه. إلا أن المشهور ثمة كان
لا يخلو من رجحان فهنا كذلك، وإلى ذلك مال جملة من متأخري المتأخرين.
ثم إنه هل ينسحب الحكم إلى غير الحجر؟ ظاهر المحقق في المعتبر ذلك
واستظهر في المدارك القطع بعدمه تمسكا بالعموم. ولعله الأقرب قصرا للاشتراط
- إن تم - على مورده.
(العاشر) - هل يجب امرار كل حجر على موضع النجاسة، أم يجزئ التوزيع،
بمعنى أن يمسح ببعض أدوات الاستنجاء بعض محل النجاسة وببعض آخر بعضا آخر
وهكذا مع حصول النقاء بذلك؟ قولان: اختار أولهما المحقق في الشرائع، وثانيهما
في المعتبر، وإليه مال السيد في المدارك، قائلا: (إذ لا دليل على وجوب استيعاب
المحل كله بجميع المسحات) انتهى.
وهذا مبني على قاعدة أصولية اشتهر البناء عليها في أمثال ذلك، وهو أنه إذا
تعلق الطلب بماهية كلية. كفى في الامتثال الاتيان بأي فرد منها، كما ذكروه في مواضع
من أبواب الفقه، منها - غسل الوجه واليدين في الوضوء وغيره. وهو - كما حققه

(1) المتقدمتين في الصحيفة 18 و 28.
37

بعض محدثي متأخري المتأخرين - محل نظر، قال: (فإن بعض الماهيات الكلية
تحته أفراد تصلح عنه العقلاء لأن يتعلق غرض الشارع ببعضها دون بعض، كحج
البيت وغسل الوجه في الوضوء ومسح المخرج بثلاثة أحجار، ويستهجن عندهم الاقدام
على فرد مشكوك فيه من أفرادها من غير سؤال وينسبون فاعله إلى السفه، وهذا نوع
من الاجمال منشأه نفس المعنى لا اللفظ) انتهى كلامه زيد مقامه. وهو وجيه.
المورد الثاني
في المحرمات
و (منها) - استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط على المشهور، ولكن
هل يحرم مطلقا أو في الصحراء خاصة وأما في الدور فالأفضل الاجتناب؟ قولان:
المشهور الأول، ونقل الثاني عن ظاهر سلار.
وأما مذهب الشيخ المفيد في هذه المسألة فقد اختلف كلام الأصحاب في نقله،
فحكى عنه في المعتبر التحريم في الصحارى والكراهة في البنيان، وحكى عنه - في المنتهى
والتذكرة والدروس - التحريم في الصحارى ولم يذكروا الكراهة. وقال في المختلف
بعد نقل عبارة المقنعة: (وهذا الكلام يعطي الكراهة في الصحارى والإباحة
في البنيان) انتهى. ولعل هذا الاختلاف نشأ من اختلاف الأفهام في فهم عبارة المقنعة
حيث قال: (ثم ليجلس ولا يستقبل القبلة بوجهه ولا يستدبرها، ولكن يجلس
على استقبال المشرق إن شاء أو المغرب، إلى أن قال بعد كلام خارج في البين: فإن
دخل الانسان دارا قد بني فيها مقعد للغائط على استقبال القبلة أو استدبارها لم يضره
الجلوس، وإنما يكره ذلك في الصحارى والمواضع التي يتمكن فيها من الانحراف
عن القبلة) انتهى. وحيث كان صدر عبارته محتملا للحمل على التحريم والكراهة -
ولفظ الكراهة أيضا في عجز عبارته محتمل لهما، فإنه كثيرا ما يعبر بالكراهية في مقام
38

التحريم كما هو شائع في الأخبار - وقع هذا الاختلاف في نقل مذهبه، مع أن في انطباق
النقول المذكورة مع ذلك نوع اشكال.
ونقل عن ابن الجنيد استحباب ترك الاستقبال في الصحراء ولم يذكر الاستدبار
ولا الحكم في البنيان.
وذهب جملة من متأخري المتأخرين: منهم - السيد في المدارك
إلى الكراهة مطلقا.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي
عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) (1) قال: (قال لي النبي (صلى الله عليه وآله):
إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولكن شرقوا أو غربوا).
ومرفوعة محمد في الكافي (2) قال: (سئل أبو الحسن (عليه السلام) ما حد
الغائط؟ قال: لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها).
ومرفوعة عبد الحميد بن أبي العلاء أو غيره رفعه (3) قال: (سئل الحسن
ابن علي (عليهما السلام) ما حد الغائط؟ قال: لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها
ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها).
وروى في الفقيه (4) مرسلا قال: (نهى النبي (صلى الله عليه وآله)
عن استقبال القبلة ببول أو غائط).
وروى في الكافي (5) عن علي مرفوعا قال: (خرج أبو حنيفة من عند
أبي عبد الله (عليه السلام) وأبو الحسن (عليه السلام) قائم وهو غلام، فقال له أبو حنيفة:

(1) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) ج 1 ص 6 وفي الوسائل في الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة
(3) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) ج 1 ص 180 وفي الوسائل في الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة
(5) ج 1 ص 6 وفي الوسائل في الباب - 2 و 15 - من أبواب أحكام الخلوة.
39

يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال اجتنب أفنية المساجد، وشطوط الأنهار،
ومساقط الثمار، ومنازل النزال، وتستقبل القبلة بغائط ولا بول، وارفع ثوبك
وضع حيث شئت...).
وروى محمد بن إسماعيل قال: (دخلت على الرضا (عليه السلام) وفي منزله
كنيف مستقبل القبلة...) (1).
وأنت خبير بأن ما عدا الرواية الأخيرة ظاهرة الدلالة على التحريم كما هو القول
الأول الذي عليه المعول.
وطعن جملة من متأخري المتأخرين في هذه الأخبار - بعد التمسك بأصالة
الجواز - بضعف السند، فحملوها على الاستحباب ذلك، وزاد بعض منهم الطعن أيضا
بضعف الدلالة، لاقتران ما ورد من النهي عن الاستقبال والاستدبار بجملة من النواهي
المراد بها الكراهة، وزاد آخر أيضا - بعد الاستدلال على عدم التحريم برواية محمد
ابن إسماعيل المذكورة - أنه مع قطع النظر عن ذلك فدلالة الأوامر الواردة في أخبارنا
على الوجوب والنواهي على التحريم ممنوع وإن قلنا أن الأمر والنهي حقيقة في الوجوب
والتحريم، لشيوع استعمال الأول في الاستحباب والثاني في الكراهة على وجه
لا يمكن دفعه.
ويرد على الأول أنه لا دليل على التمسك بهذا الأصل من كتاب ولا سنة، كما
بسطنا لك الكلام عليه في المطلب الأول من المقام الثالث من المقدمة الثالثة (2).
ويرد على الثاني أن ضعف السند ليس من القرائن الموجبة لصرف اللفظ
عن ظاهره.

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة
(2) في الصحيفة 41 من الجزء الأول
40

وعلى الثالث أن الاقتران بما هو محمول على الكراهة لو سلم كونه قرينة فإنما
يتم فيما لو انحصر الدليل فيما هو كذلك، وهنا قد ورد النهي عن ذلك من غير اقتران
بشئ في رواية الهاشمي (1) وكذا رواية الفقيه (2) ولا يخفى على المتتبع كثرة ورود
الأحكام الواجبة من هذا القبيل.
وعلى الرابع أن وجود الكنيف في المنزل كذلك لا يستلزم أن يكون فمه
(عليه السلام) لجواز كون البيت ليس له سابقا، ولا يستلزم أيضا جلوسه عليه،
ومع تجويز جلوسه فيمكن الانحراف.
وعلى الخامس أنه بمكان من الضعف الشديد، والمخافة لآيات الكتاب المجيد
كما أوضحناه في المقدمة السابعة (3) بأتم بيان، وشددنا منه الجوانب والأركان.
فوائد
(الأولى) - الظاهر - كما استظهره جملة من الأصحاب - تعلق حكم الاستقبال
والاستدبار بالبدن كملا كما هو المتعارف، دون مجرد العورة حتى لو حرفها زال المنع
خلافا للبعض.
(الثانية) - الظاهر - إلحاق حال الاستنجاء بذلك، لرواية عمار الساباطي
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: (قلت له: الرجل يريد أن يستنجي كيف
يقعد؟ قال: كما يقعد للغائط...)
(الثالثة) - أنه على تقدير القول بالتحريم فهل الأمر بالتشريق والتغريب
في رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي (5) على الوجوب أو الاستحباب؟ وجهان يلتفتان

(1) المتقدمة في الصحيفة 39
(2) المتقدمة في الصحيفة 39
(3) في الصحيفة 115 من الجزء الأول.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب أحكام الخلوة.
(5) المتقدمة في الصحيفة 39
41

إلى أن المراد بالقبلة هنا هي ما يجب التوجه عند العلم ولو في أثناء الصلاة إليها، أو ما لا تجب إعادتها بعد التوجه إليها بناء على ظن كونها قبلة.
وبالثاني صرح بعض المحققين، ويخدشه أن الحديث الذي اعتمده دليلا
على ذلك - وهو قوله (عليه السلام) (2): (ما بين المشرق والمغرب قبلة) - محمول
على الناسي، كما يفصح عنه صحيح معاوية بن عمار، وما ورد أيضا (2) أن (من بال حذاء
القبلة ثم ذكر فانحرف عنها اجلالا للقبلة... الحديث) فإن ظاهره يشعر بالاكتفاء
بانحراف ما يخرج به عن محاذاتها، وحينئذ فيمكن أن يقال: المراد بالتشريق
والتغريب الميل عن القبلة ذات اليمين أو ذات اليسار لا التوجه إلى جهة المشرق والمغرب
الاعتداليين.
(الرابعة) - أنه على تقدير القول بالتحريم، لو اشتبهت القبلة قيل: وجب
الاجتهاد في تحصيلها من باب المقدمة، فإن حصل شيئا من الأمارات بنى عليه وإلا انتفى
التحريم أو الكراهة. واستقرب السيد في المدارك احتمال انتفائها مطلقا، للشك في المقتضي
والظاهر أن وجه قربه أن مقتضى صحيحة ابن سنان (3) - الدالة على أن (كل شئ فيه
حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه) ونظائرها - ذلك.
و (منها) - الاستنجاء بالروث والعظم والمطعوم المحترم، ومنه - التربة الحسينية
على مشرفها أفضل التحية، والقرآن، وما كتب فيه شئ من علوم الدين، كالحديث
والفقه، وههنا مقامان:

(1) في صحيحي زرارة ومعاوية بن عمار المرويين في الوسائل في الباب - 1 -
من أبواب القبلة، وفي الأول إضافة " كله ".
(2) في رواية محمد بن إسماعيل المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب
أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة
وفي باب " حكم السمن والجبن وغيرهما إذا علم أنه خلطه حرام " من أبواب الأطعمة المحرمة.
42

(أحدهما) - تحريم الاستنجاء بهذه الأشياء، أما الثلاثة الأول منها فظاهر
العلامة في المنتهى دعوى الاجماع على حرمة الاستنجاء بها، لكنه في التذكرة احتمل
للكراهة في الأولين منها، وبذلك صرح المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي
في كتاب الوسائل، حيث قال: (باب كراهة الاستنجاء بالعظم والروث) (1)
وفي المعتبر صرح بالاجماع على التحريم فيهما.
ويدل على التحريم فيهما رواية ليث المرادي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
قال: (سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود. فقال: أما العظم
والروث فطعام الجن، وذلك مما اشترطوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فقال: لا يصلح بشئ من ذلك).
وقال في الفقيه (3): (لا يجوز الاستنجاء بالروث والعظم، لأن وفد الجان
جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله متعنا، فأعطاهم
الروث والعظم، فلذلك لا ينبغي أن يستنجى بهما)
وأما الثالث فالذي ورد منه في الأخبار الخبز، كما روي في عدة من كتب
الأخبار: منها - الكافي، وروي فيه (4) عن عمرو بن شمر قال: (سمعت
أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في حديث: أن قوما أفرعت عليهم النعمة وهم أهل
الثرثار (5) فعمدوا إلى مخ الحنطة فجعلوه خبزا هجأ، وجعلوا ينجون به صبيانهم

(1) وهو الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة
(3) ج 1 ص 20 وفي الوسائل في الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) ج 2 ص 165 وفي الوسائل في الباب - 40 - من أبواب أحكام الخلوة، وفي الباب
- 78 - من أبواب آداب المائدة.
(5) قال في بيان الوافي: " الثرثار اسم نهر، وهجأ من هجأ كمنع إذا سكن جوعه وذهب،
وينجون أي يستنجون، والأسف السخط، قال الله تعالى: " فلما آسفونا انتقمنا منهم "
والاضعاف هو جعل الشئ ضعيفا أو مضاعفا، ولعل الأول أظهر إلا أن الثاني أنسب
بكلام المرأة وقوله (عليه السلام): " لهم " دون " عليهم " وذلك لأنهم لما اعتمدوا
على النهر ضاعف الله لهم النهر، وحبس عنهم القطر والزرع ليعلموا أن النهر لا يغنيهم
عن الله تعالى وأن الاعتماد على الله " انتهى (منه رحمه الله).
43

حتى اجتمع من ذلك جبل عظيم، قال: فمر بهم رجل صالح وإذا امرأة وهي تفعل ذلك
بصبي لها، فقال: ويحكم اتقوا الله ولا تغيروا ما بكم من نعمة، فقالت له كأنك تخوفنا
بالجوع، أما ما دام ثرثارنا يجري فإنا لا نخاف الجوع. قال فأسف الله وأضعف لهم
الثرثار وحبس عنهم قطر السماء ونبت الأرض، فاحتاجوا إلى ذلك الجبل، وأنه
كان ليقسم بينهم بالميزان) ويدل على ذلك الأخبار المستفيضة باكرام الخبز والنهي
عن إهانته.
وأما ما عداه من المطعوم فاستدل عليه بأن طعام الجن منهي عنه، فطعام أهل
الصلاح بطريق أولى. ولا يخفى ما فيه.
وظاهر بعض محدثي متأخري المتأخرين تخصيص التحريم هنا بالخبز خاصة.
نعم يدل على ذلك ما رواه في كتاب دعائم الاسلام (1) قال: (نهوا (عليهم
السلام) عن الاستنجاء بالعظام والبعر وكل طعام...) إلا أن الكتاب المذكور لم يثبت
الاعتماد على مصنفه وإن كان قد ذكره شيخنا المجلسي (قدس سره) في كتاب البحار
ونقل عنه ما تضمنه من الأخبار، إلا أنه قال - بعد ذكر مصنفه وبيان بعض أحواله -
ما صورته: (وأخباره تصلح للتأييد والتأكيد) انتهى.
وأما المحترم كالتربة المشرفة فلا ريب في وجوب اكرامها وتحريم إهانتها من حيث
كونها تربته (عليه السلام) بل لا يبعد - كما ذكره بعض أصحابنا - الحكم بكفر المستعمل
لها من تلك الحيثية.

(1) ج 1 ص 128
44

ومما يؤيد هذا المقام - ويدخل في سلك هذا النظام وإن طال به زمام الكلام،
إلا أن فيه - زيادة على ما ذكرنا - نشر فضيلة من فضائله (عليه السلام) - ما رواه جملة
من مشايخنا عطر الله مراقدهم عن الشيخ (قدس سره) في كتاب الأمالي (1) بسنده فيه
عن أبي موسى بن عبد العزيز، قال: (لقيني يوحنا بن سراقيون النصراني المتطبب
في شارع أبي أحمد، فاستوقفني وقال لي: (بحق نبيك ودينك من هذا الذي يزور
قبره قوم منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ من هو من أصحاب نبيكم؟ قلت: ليس
هو من أصحابه، هو ابن بنته، فما دعاك إلى المسألة عنه؟ فقال: له عندي حديث
طريف. فقلت: حدثني به. فقال: وجه إلي سابور الكبير الخادم الرشيدي
في الليل فصرت إليه، فقال لي: تعال معي، فمضى وأنا معه حتى دخلنا على موسى
بن عيسى الهاشمي، فوجدناه زائل العقل منكبا على وسادة، وإذا بين يديه طشت
فيه حشو جوفه، وكان الرشيد استحضره من الكوفة، فأقبل سابور على خادم كان
من خاصة موسى، فقال له: ويحك ما خبره؟ فقال: أخبرك أنه كان من ساعة
جالسا وحوله ندماؤه وهو من أصح الناس جسما وأطيبهم نفسا، إذ جرى ذكر الحسين
ابن علي (عليهما السلام) قال يوحنا: هذا الذي سألتك عنه. فقال موسى: إن الرافضة
لتغلوا فيه حتى أنهم - فيما عرفت - يجعلون تربته دواء يتداوون به. فقال له رجل
من بني هاشم كان حاضرا: قد كانت بي علة غليظة فتعالجت لها بكل علاج فما نفعني
حتى وصف لي أن آخذ من هذه التربة، فأخذتها فنفعني الله بها وزال عني ما كنت
أجده. قال: فبقي عندك منها شئ؟ قال: نعم. فوجه فجاء بقطعة منها فناولها
موسى بن عيسى، فأخذها موسى فاستدخلها دبره استهزاء بمن يتداوى بها، واحتقارا
وتصغيرا لهذا الرجل الذي هذه تربته، يعني الحسين (عليه السلام) فما هو إلا أن
استدخلها دبره حتى صاح: النار النار، الطشت الطشت، فجئناه بالطشت فأخرج فيه

(1) في الصحيفة 202
45

ما ترى، فانصرف الندماء وصار المجلس مأتما، فأقبل علي سابور فقال: انظر
هل لك فيه حيلة؟ فدعوت بشمعة فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه
في الطشت، فنظرت إلى أمر عظيم، فقلت: لا أجد إلى هذا صنعا إلا أن يكون عيسى
الذي كان يحيى الموتى. فقال لي سابور: صدقت ولكن كن ههنا في الدار إلى أن
يتبين ما يكون من أمره، فبت عندهم وهو بتلك الحال ما رفع رأسه، فمات في وقت
السحر. قال محمد بن موسى: قال لي موسى بن سريع: كان يوحنا يزور قبر
الحسين (عليه السلام) وهو على دينه، ثم أسلم بعد هذا وحسن اسلامه).
وأما القرآن العزيز وما كتب عليه شئ من أسمائه تعالى، فلما مر من وجوب
صونهما عمن ليس بطاهر، فعن ملاقاة النجاسة بطريق أولى. ولظاهر قوله تعالى:
(في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة) (1) وقوله: (يتلو صحفا مطهرة..) (2).
وما كتب عليه شئ من علوم الدين فلدخوله في الشعائر المأمور بتعظيمها في قوله
تعالى: (ومن يعظم شعائر الله...) (3) وأن لا تحل، لقوله: (لا تحلوا شعائر
الله...) (4) وتردد فيه بعض محققي متأخري المتأخرين وجعل التحريم احتمالا قويا.
و (ثانيهما) - أنه مع الاستنجاء بما ثبت تحريم الاستنجاء به هل يطهر المحل
وإن أثم بالاستعمال، أو لا يطهر؟ قولان، وإلى الأول ذهب العلامة في المنتهى
والمختلف والتذكرة والقواعد، وإلى الثاني ذهب الشيخ وابن إدريس والمحقق.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض التفصيل في ذلك بين ما يوجب استعماله الحكم
بكفر فاعله، كاستعمال التربة الحسينية والمكتوب عليه شئ من أسماء الله تعالى،
أو العلم كالحديث والفقه عالما وعامدا، فلا يتصور الطهارة به حينئذ، وبين ما لا يوجب
إلا مجرد الإثم كالمطعوم والعظم والروث، أو لا يوجب شيئا كاستعمال التربة وما عليه

(1) سورة عبس الآية 14 و 15.
(2) سورة البينة الآية 3.
(3) سورة الحج الآية 32.
(4) سورة المائدة الآية 2.
46

شئ من أسماء الله تعالى جهلا، فيطهر وإن أثم في الأول.
احتج الشيخ (رحمه الله) بأن النهي يدل على الفساد. وزاد المحقق التمسك
باستصحاب المنع حتى يثبت رفعه بدليل شرعي.
ورد الأول بأنه - على تقدير تسليمه - مخصوص بالعبادات. والثاني بأن
الاستصحاب مرتفع بعموم ما دل على الاكتفاء بالانقاء.
والمسألة محل توقف، ينشأ من أن الطهارة حكم شرعي يتوقف على استعمال
ما جعله الشارع مطهرا، وهذه الأشياء مما قد نهى الشارع عن الطهارة بها، وظاهر
ذلك عدم وقوع التطهير بها. وحديث الانقاء (1) لا عموم فيه على وجه يشمل محل
النزاع، لاحتمال بل ظهور أن يكون معنى قول السائل: (هل للاستنجاء حد) أنه هل
يتقدر بعدد مخصوص أو كيفية مخصوص فقال (عليه السلام): (لا بل حده النقاء)
بمعنى أنه لا يتقدر بشئ من ذلك، وإنما الحد نقاء المحل من النجاسة بأي عدد اتفق
وعلى أي كيفية، وأما بيان المطهر فلا تعرض له فيه بوجه، فيرجع إلى ما ثبت كونه
مطهرا. ولقوله (عليه السلام) في رواية ليث المتقدمة (2): (لا يصلح بشئ من ذلك)
ومن احتمال بل ظهور كون النهي عن استعمال هذه الأشياء إنما هو من حيث الاحترام
لا من حيث عدم الصلاحية للتطهير. وحينئذ فلا ينافي حصول التطهير بها وإن
أثم بالاستعمال.
وتحقيقه أن النهي في غير العبادات إن توجه لشئ من حيث عدم صلاحية
المنهي عنه لترتب الحكم عليه، كالنهي عن بيع الخمر - مثلا - ونجس العين، والنهي
عن نكاح المحارم ونحو ذلك، كان موجبا للفساد والبطلان، وإن توجه من حيث
أمر خارج عن ترتب الحكم على المنهي عنه مفارق من زمان مخوص أو حال مخصوصة

(1) وهو حسن ابن المغيرة المتقدم في الصحيفة 18
(2) في الصحيفة 43
47

أو نحو ذلك، كالنهي عن البيع وقت النداء، فلا وجه للابطال بل غاية النهي التأثيم
خاصة. ومن الظاهران توجه النهي هنا إنما هو من جهة الاحترام الذي هو أمر خارج
وصفة مفارقة للاستنجاء بتلك الأشياء، كما يأتي مثله في الاستنجاء بل إزالة النجاسة
مطلقا بالماء المغصوب، فإنه لا ريب في طهارة المحل به وإن أثم من حيث التصرف،
وما ذاك إلا من حيث كون صفة الغصب أمرا خارجا، بخلاف الاستنجاء بالنجس
وإزالة النجاسة بالماء النجس، فإنه من حيث عدم صلاحية تلك الأشياء من حيث هي
للإزالة فلا يطهر المحل بها. وهذا الوجه لا يخلو من قوة لو كان الوارد في النص مجرد
النهي. لكن قوله في رواية ليث (1): (لا يصلح بشئ من ذلك) ظاهر في عدم
الاجزاء. والرواية وإن كانت ضعيفة السند إلا أنها مجبورة بعمل الأصحاب،
والأمران اصطلاحيان، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. وأما عندنا فالأمر أهون
من ذلك.
(فرع) لا ريب أن تحريم الاستنجاء بتلك الأشياء إنما هو من حيث
إهانتها بالايقاع في النجاسة، وحينئذ فيحرم تنجيسها مطلقا، ومثل ذلك القول في الخبز
لحديث أهل الثرثار، فيحرم تنجيسه أيضا بغير الاستنجاء. ولا يبعد انسحاب ذلك
في باقي المطعومات، لاستلزام ذلك كفر النعمة وعدم شكرها، ولفحوى أحاديث
استحباب أكل المتساقط من الخوان، وأخبار استحباب لعق الأصابع بعد الأكل.
لكن يبقى الكلام في مثل العظم والروث على القول بتحريم الاستنجاء بهما، هل
يحرم تنجيسهما أم لا؟ لم تقف في ذلك لأحد من أصحابنا في الكتب الاستدلالية
على كلام إلا لشيخنا البهائي (قدس سره) في أجوبة مسائل الشيخ صالح الجزائري،
حيث قال - بعد قول السائل: مسألة - الفقهاء (رضوان الله عليهم) قالوا: لا تستجمر
بالعظم والروث، فهل يحرم إصابتهما بغير استجمار أم لا؟ - ما صورته: (الجواب -

(1) المتقدمة في الصحيفة 43
48

والثقة بالله وحده - النهي عن الاستجمار بهما معلل بكونهما طعام الجن (1) وفي خبر آخر
عن النبي (صلى الله عليه آله) التعليل بأنهما لا يطهران (2) وقد يترائى من التعليل
الأول تحريم تنجيسهما ولو بغير الاستنجاء، لكن احتمال كون تحريم الاستنجاء بهما
لتحقيرهما التام - بامرارهما على المخرج مع التنجس لا لأحدهما فقط - يعطي جواز التنجيس
بغير الاستنجاء، سيما مع انضمام أصالة براءة الذمة من المؤاخذة عليه. وأيضا فلعل النهي
عن استعمالهما إنما هو لمجرد كون طعام الجن غير مطهر لا للاحترام كما يظن، وإلى هذا
يشير التعليل الثاني، وهو يعطي جوار التنجيس بغير الاستنجاء وأن النهي عن استعمالهما
لعدم إفادتهما التطهير، إلى أن قال: وقد يستفاد عدم كونهما مطهرين من رواية
ليث المرادي عن الصادق (عليه السلام) (3) الناطقة بعدم صلاحيتهما للاستنجاء
وكيف كان فالأظهر عدم التوقف في جواز تنجيسهما بغير الاستنجاء كما أن الأظهر
أن الاستنجاء بهما لا يفيد طهارة المحل كما هو مذهب السيد والشيخ والمحقق وإن
قال مشايخنا المتأخرون بطهارة المحل بهما. ولتحقيق الكلام محل آخر) انتهى كلامه
(قدس سره).
وأقول: ما نقاه (قدس سره) من الخبر عنه (صلى الله عليه وآله) بأنهما لا يطهران
لم أقف عليه بعد التتبع للأخبار. نعم نقله العلامة في التذكرة، ولا يبعد أن يكون
من طرق المخالفين (4) كما نبه عليه بعض متأخري المتأخرين.

(1) في رواية ليث المرادي ومرسلة الفقيه المتقدمين في الصحيفة 43.
(2) رواه الدارقطني عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله) كما في منتقى الأخبار لابن تيمية
على هامش نيل الأوطار ج 1 ص 85، ولم يرد هذا التعليل من طرقنا.
(3) المتقدمة في الصحيفة 43.
(4) رواه الدارقطني عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله) كما في منتقى الأخبار لابن تيمية
على هامش نيل الأوطار ج 1 ص 85، ولم يرد هذا التعليل من طرقنا.
49

المورد الثالث
في المستحبات
و (منها) - ستر البدن كملا في الغائط بأن يبعد المذهب أو يدخل بيتا أو يلج
حفيرة، تأسيا بالنبي (صلى الله عليه وآله) فإنه لم ير على غائط قط، وقال (عليه
السلام): (من أتى الغائط فليستتر) روى ذلك شيخنا الشهيد الثاني في شرح النفلية (1)
وروى البرقي في المحاسن (2) عن حماد بن عثمان أو ابن عيسى عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: (قال لقمان لابنه: إذا سافرت مع قوم، إلى أن قال: وإذا أردت
قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض).
و (منها) - ارتياد موضع مناسب للبول لمزيد الاحتياط في التوقي عنه بالجلوس
في مكان مرتفع أو ذي تراب كثير، فإنه من فقه الرجل، ففي رواية عبد الله
ابن مسكان عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه
وآله) أشد الناس توقيا للبول، حتى أنه كان إذا أراد البول عمد إلى مكان مرتفع
من الأرض أو مكان يكون فيه التراب الكثير كراهية أن ينتضح عليه) وفي رواية
السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله): من فقه الرجل أن يرتاد موضعا لبوله) ومثل ذلك في رواية الجعفري عن الرضا
(عليه السلام) (5).
و (منها) - التسمية والدعاء عند دخول المخرج والخروج منه بالمأثور، والدعاء
حال النظر إلى ما يخرج منه، وحال الغسل.

(1) ص 17 وفي الوسائل في الباب - 4 - من أبواب أحكام الخلوة. وقوله: " ذلك "
إشارة إلى الفعل والقول
(2) في الصحيفة 375 وفي الوسائل في الباب - 4 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب أحكام الخلوة
(4) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب أحكام الخلوة
(5) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب أحكام الخلوة
50

ويدل على ذلك رواية معاوية بن عمار (1) قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول: إذا دخلت المخرج فقل: بسم الله وبالله، اللهم إني أعوذ بك
من الخبيث المخبث الرجس النجس الشيطان الرجيم. فإذا خرجت فقل: بسم الله
والحمد لله الذي عافاني من الخبيث وأماط عني الأذى. وإذا توضأت فقل:
أشهد أن لا إله إلا الله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، والحمد
لله رب العالمين).
ورواية أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) (2) قال: (إذا دخلت الغائط
فقل: أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم. وإذا فرغت
فقل: الحمد لله الذي عافاني من البلاء وأماط عني الأذى).
وصحيحة القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليهم
السلام) (أنه كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي رزقني لذته وأبقى
قوته في جسدي وأخرج عني أذاه، يا لها نعمة: ثلاثا).
وما رواه في الفقيه مرسلا (4) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إذا أراد دخول المتوضأ قال: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث
الشيطان الرجيم، اللهم أمط عني الأذى وأعذني من الشيطان الرجيم. وإذا استوى
جالسا للوضوء قال: اللهم أذهب عني القذى والأذى واجعلني من المتطهرين. وإذا
تزحر قال: اللهم كما أطعمتنيه طيبا في عافية فأخرجه مني خبيثا في عافية. وكان
علي (عليه السلام) يقول: ما من عبد إلا وبه ملك موكل يلوي عنقه حتى ينظر

(1) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) ج 1 ص 16 وفي الوسائل في الباب - 5 - من أبواب أحكام الخلوة، ما عدا
قوله: وكان على (عليه السلام) يقول، إلى قوله: وجنبني الحرام، فإنه رواه في الباب
- 18 - من تلك الأبواب.
51

إلى حدثه، ثم يقول له الملك: يا ابن آدم هذا رزقك فانظر من أين أخذته وإلى ما صار
فينبغي للعبد عند ذلك أن يقول: اللهم ارزقني الحلال وجنبني الحرام، إلى أن قال:
وكان (عليه السلام) إذا دخل الخلاء يقول: الحمد لله الحافظ المؤدي. فإذا خرج
مسح بطنه وقال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه وأبقى في قوته، فيا لها من نعمة
لا يقدر القادرون قدرها).
وفي رواية عبد الرحمان بن كثير في حكاية وضوء أمير المؤمنين (عليه السلام) (1)
قال: (ثم استنجى فقال: اللهم حصن فرجي واعفه واستر عورتي وحرمني على النار).
و (منها) - التقنع، لما في مرسلة البرقي عن ابن أسباط أو رجل عنه عمن
رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) (أنه كان إذا دخل الكنيف يقنع رأسه
ويقول سرا في نفسه: بسم الله وبالله... الحديث) إلى آخر ما تقدم في رواية
معاوية بن عمار.
وروى في الفقيه مرسلا (3) قال: (وكان الصادق (عليه السلام) إذا دخل
الخلاء يقنع رأسه ويقول في نفسه: بسم الله وبالله ولا إله إلا الله، رب أخرج عني
الأذى سرحا بغير حساب، واجعلني لك من الشاكرين فيما تصرفه عني من الأذى
والغم الذي لو حبسته عني هلكت، لك الحمد، اعصمني من شر ما في هذه البقعة
وأخرجني منها سالما، وحل بيني وبين طاعة الشيطان الرجيم).
وفي كتاب مجالس الشيخ (4) وفي كتاب المكارم (5) في وصية النبي (صلى الله
عليه وآله) لأبي ذر (رضي الله عنه) قال: (يا أبا ذر استحي من الله، فإني - والذي

(1) المروية في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) ج 1 ص 17 وفي الوسائل في الباب - 5 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) في الصحيفة 338 وفي الوسائل في الباب - 3 - من أبواب أحكام الخلوة
(5) في الصحيفة 260.
52

نفسي بيده - لا ظل حين أذهب إلى الغائط متقنعا بثوبي استحياء من الملكين
الذين معي).
و (منها) - تغطية الرأس، ولم أقف فيه على خصوص خبر سوي أخبار
التقنع، ومن الظاهر مغايرته له. نعم قال الشيخ المفيد: (وليغط رأسه إن كان
مكشوفا ليأمن بذلك من عبث الشيطان ومن وصول الرائحة الخبيثة إلى دماغه، وهو
سنة من سنن النبي (صلى الله عليه وآله) وفيه إظهار الحياء من الله لكثرة نعمه على العبد
وقلة الشكر منه) وفيه دلالة على ورود النص به، وليس ببعيد أن المراد به التقنع،
لمناسبة التعليل الأخير له، دون مجرد التغطية. وقال الصدوق في الفقيه (1): (ينبغي
للرجل إذا دخل الخلاء أن يغطي رأسه اقرارا بأنه غير مبرئ نفسه من العيوب) انتهى
وفيه أيضا ما احتملناه في سابقه.
و (منها) - تقديم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج عكس
المسجد. ولم أقف فيه على نص لكن الصدوق ذكره في الفقيه، والظاهر أن مثله
من أرباب النصوص لا يذكر ذلك إلا عن نص بلغه فيه. وربما ظهر من بعض الأصحاب
اختصاص الحكم بالبنيان، نظرا إلى أن مسمى الدخول والخروج لا يصدق في غيره
لكن صرح العلامة بأن الأقرب عدم الاختصاص، فيقدم اليسرى إذا بلغ موضع
جلوسه في الصحراء وإذا فرغ قدم اليمنى. ووافقه الشهيد الثاني، فقال: (إن الأصح
عدم الاختصاص بالبنيان) قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما: (والتحقيق أن
الترجيح هنا موقوف على اعتبار المأخذ، فإن كان هو التوجيه الذي حكيناه فلا بأس
بعدم الاختصاص) انتهى. وهو كذلك.
و (منها) - مسح البطن بعد الخروج، كما تقدمت الدلالة عليه في كلام

(1) ج 1 ص 17.
53

الفقيه نقلا عن الأمير (صلوات الله عليه) (1).
و (منها) - التسمية عند التكشف للبول، لما رواه في الفقيه (2) مرسلا
عن الباقر (عليه السلام) وفي ثوب الأعمال (3) مسندا عن الصادق عن آبائه عن علي
(عليهم السلام) قال: (إذا انكشف أحدكم لبول أو لغير ذلك فليقل: بسم الله،
فإن الشيطان يغض بصره عنه حتى يفرغ ".
و (منها) - أن لا يقطع في الاستجمار بالأحجار وشبهها وإن نقى المحل إلا على
وتر، لقوله (صلى الله عليه وآله) في رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي المتقدمة: (إذا
استنجى أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء) (4). قال في المعتبر: (والرواية
من المشاهير) انتهى.
و (منها) - الاستبراء على المشهور، خلافا لظاهر الشيخ في الإستبصار،
مستندا إلى صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) (في الرجل
يبول؟ قال ينتره ثلاثا، ثم إن سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي) وحسنة محمد بن
مسلم (6) (قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): رجل بال ولم يكن معه ماء؟ قال:
يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه، فإن خرج بعد ذلك شئ
فليس من البول ولكنه من الحبائل).
وأجيب بمنع الدلالة على الوجوب، لعدم ظهور الجملة الخبرية فيه.

(1) في الصحيفة 52.
(2) ج 1 ص 18 وفي الوسائل في الباب - 5 - من أبواب أحكام الخلوة
(3) في الصحيفة 9
(4) رواه صاحب الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة
(5) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء
(6) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب أحكام الخلوة
54

وفيه نظر، فإن المستفاد من الآيات والأخبار التي قدمناها في المقدمة السابعة (1)
أنه لا خصوصية في ذلك بصيغة (افعل) بل كل ما دل على الطلب وإرادة الفعل - سواء
كان بالصيغة المشار إليها أم لا - فإنه للوجوب إلا مع قيام القرينة على خلافه.
وقال شيخنا البهائي (رحمه الله) في كتاب الحبل المتين بعد نقل صحيحة حفص:
(وقوله (عليه السلام) في الحديث التاسع: ينتره ثلاثا. مما استدل به الشيخ
في الإستبصار على وجوب الاستبراء. والذي يظهر من آخر الحديث أن غرضه
(عليه السلام) عدم انتقاض الوضوء بما يخرج من البلل بعد الاستبراء لا بيان كون
الاستبراء واجبا) انتهى. لكنه (رحمه الله) كتب - في حاشية الكتاب على قوله:
مما استدل به الشيخ - ما صورته: (وهو يتوقف على كون المضارع المطلوب به الفعل
كالأمر في الوجوب، والظاهر أنه كذلك) انتهى.
وظاهر المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم المناقشة في اسناد الوجوب إلى الشيخ
مستندا إلى استعمال الشيخ لفظ الوجوب - في غير موضع - فيما هو أعم من الواجب
والمندوب، ثم قال: (وكيف كان فالوجوب لا وجه له).
وأورد عليه أن هذا الاستعمال غير متعارف، ولعله كان في تلك المواضع مع
القرينة، ولا قرينة هنا.
ومما يدل بظاهره على عدم الوجوب صحيحة جميل عن الصادق (عليه السلام) (2)
قال: (إذا انقطعت درة فصب الماء).
قيل: وأقله إباحة تعقيب الصب للانقطاع بغير مهلة.
وفيه أن إفادة التعقيب بغير مهلة إنما هو للفاء العاطفة، وأما الفاء الجزائية
فالأكثر على عدم إفادتها ذلك، لصحة قولنا: إن يسلم زيد فهو يدخل الجنة.

(1) في الصحيفة 112 من الجزء الأول
(2) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب أحكام الخلوة
55

وحينئذ فلا دلالة في الرواية على التعقيب بغير مهلة.
ورواية داود الصرمي (1) قال: (رأيت أبا الحسن الثالث (عليه السلام)
يبول غير مرة ويتناول كوزا صغيرا ويصب عليه الماء من ساعته).
ويمكن أن يقال: إنه لا دلالة فيه على الفورية على وجه ينافي الاستبراء، إذ لا مدة
له ينافيها، بل الظاهر أن مراد الراوي هو الأخبار عنه (عليه السلام) بأنه كان يبادر
إلى الاستنجاء من البول من ساعته، ولا يتركه إلى وقت آخر كسائر الناس في تلك
الأوقات، فإنهم كانوا ينشفون المخرج بتراب ونحوه إلى وقت الصلاة، كما يستفاد
من الأسئلة المتكاثرة في الأخبار عن نسيان الاستنجاء، كما تقدم شطر منها. نعم
يظهر ذلك من رواية بن عبد الرحيم (2) قال: (بال أبو عبد الله (عليه السلام)
وأنا قائم على رأسه ومعي إداوة أو قال كوز، فلما انقطع شخب البول قال بيده هكذا
إلي فناولته الماء فتوضأ مكانه).
ثم إنه قد اختلفت عبارات القوم في بيان كيفيته، فقال الشيخ المفيد في المقنعة
(أنه يمسح بإصبعه الوسطى تحت أنثييه إلى أصل القضيب مرتين أو ثلاثا، ثم يضع
مسبحته تحت القضيب وإبهامه فوقه ويمرها عليه باعتماد قوي من أصله إلى رأس الحشفة
مرتين أو ثلاثا، ليخرج ما فيه من بقية البول).
وقال الشيخ في النهاية: (أنه يمسح بإصبعه من عند مخرج النجو إلى أصل
القضيب ثلاث مرات، ثم يمر إصبعه على القضيب وينتره ثلاث مرات).
وقال في المبسوط - على ما نقله عنه في المعتبر -: (أنه يمسح من عند المقعدة
إلى تحت الأنثيين ثلاثا، ويمسح القضيب وينتره ثلاثا).

(1) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة
(2) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب أحكام الخلوة
56

وعن السيد المرتضى (أنه ينتر الذكر من أصله إلى طرفه ثلاث مرات) وهو
المنقول عن ابن الجنيد.
وقال الصدوق في الفقيه (1): (ومن أراد الاستنجاء فليمسح بإصبعه من عند
المقعدة إلى الأنثيين ثلاث مرات، ثم ينتر ذكره ثلاث مرات) وهو المنقول عن أبيه
في الرسالة.
واقتصر المحقق في المعتبر على نقل قولي الشيخين والسيد، وقال: (إن كلام
الشيخ أبلغ في الاستظهار) وقال في الشرائع: (وكيفيته أن يمسح من المقعدة إلى أصل
القضيب ثلاثا، ومنه إلى رأس الحشفة ثلاثا، وينتره ثلاثا) ونسب السيد في المدارك
هذه الكيفية إلى كلام الشيخ في المبسوط. وفي فهمها منه تأمل.
وقال العلامة في المنتهى: (أنه يمسح بيده من عند المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا
ثم يمسح القضيب ثلاثا، ثم ينتره ثلاثا) ومثله في التذكرة إلا أنه زاد فيه التنحنح.
وقال الشهيد في الدروس (يمسح من المقعدة إلى أصل القضيب ثم إلى رأسه ثم
عصر الحشفة ثلاثا والتنحنح ثلاثا).
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك - زيادة على ما قدمنا نقله - رواية
عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) (في الرجل يبول ثم يستنجي ثم
يجد بعد ذلك بللا؟ قال: إذا بال فخرط ما بين المقعدة والأنثيين ثلاث مرات وغمز
ما بينهما ثم استنجى، فإن سال حتى يبلغ السوق فلا يبالي).
وأنت خبير بأن صحيحة حفص (3) إنما تنطبق على مذهب السيد وابن الجنيد

(1) ج 1 ص 21
(2) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) المتقدمة في الصحيفة 54
57

خاصة، وأما حسنة محمد بن مسلم (1) فليس في شئ من الأقوال ما ينطبق عليها، لأنها
قد تضمنت العصر من أصل الذكر إلى طرفه ثلاثا ثم النتر ولو مرة، وليس في هذه
الأقوال ما يطابق ذلك. وكذلك هذه الرواية الثالثة. ولعل من قال بالمسحات الست
مع نتر طرف الذكر استند إلى العمل بمضمون الأخبار الثلاثة جميعا، لكن تثليث
النتر - كما ذكروا - ليس في شئ منها.
وأما التنحنح الذي ذكره العلامة والشهيد فلم نقف أيضا فيه على خبر، بل ولا في كلام
القدماء على أثر. والعجب من اضطراب عبائرهم في ذلك مع خلو المأخذ مما هنالك.
قيل: وكيف كان فالزيادات التي ذكروها لا حرج فيها، لما فيها من مزيد
الاستظهار في اخراج ما ربما يبقى في المخرج وفيه اشكال، إذ استعمال ذلك باعتقاد
أنه سنة شرعية لا يخلو من تشريع. والاستناد إلى التساهل في أدلة السنن تساهل
خارج عن السنن.
تنبيهات
(الأول) - الظاهر من كلام أكثر الأصحاب اختصاص الاستبراء بالرجل
بل صرح بذلك جملة منهم، وقيل بثبوته للأنثى وأنها تستبرئ عرضا، واختاره
العلامة في المنتهى، وقال: (الرجل والمرأة سواء) ومورد الأخبار المتقدمة - كما
عرفت - إنما هو الرجل، فالقول بالتعدية مع عدم الدليل مشكل. ونقل عن ابن
الجنيد في مختصره أنه قال: (إذا بالت المرأة تنحنحت بعد بولها) انتهى.
(الثاني) - قد صرح غير واحد من المتأخرين ومتأخريهم بأنه لا يعرف خلافا
بين علمائنا في أن البلل المتجدد بعد الاستبراء لا حكم له. وأن الخارج مع عدم

(1) المتقدمة في الصحيفة 54.
58

الاستبراء بحكم البول في وجوب غسله ونقضه للطهارة، ونقل عن ابن إدريس دعوى
الاجماع على كل من الحكمين.
ويدل على ما ذكروه من الحكم الأول الأخبار الثلاثة المتقدمة (1).
وأما الحكم الثاني فاستدلوا عليه بمفهومات الأخبار المتقدمة، فإن تقييد عدم
المبالاة ونفي كونه من البول بل إنه من الحبائل بالاستبراء يدل على حصول المبالاة
وكونه من البول مع عدمه.
وقد يعارض باطلاق ما دل من الأخبار على عدم النقض بالخارج بعد
البول مطلقا:
كصحيحة عبد الله بن أبي يعفور (2) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل بال ثم توضأ وقام إلى الصلاة فوجد بللا. قال: لا يتوضأ، إنما ذلك
من الحبائل).
وصحيحة حريز (3) قال: (حدثني زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن سال من ذكرك شئ من مذي أو ودي فلا
تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء، إنما ذلك بمنزلة النخامة، وكل شئ
خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل).
والظاهر تقييد اطلاق هذين الخبرين بتلك الأخبار جمعا، ولتصريحهما بكون
الخارج من الوضوء مطلقا من الحبائل مع تقييد حسنة محمد بن مسلم (4) الحكم بكونه
من الحبائل بكونه بعد الاستبراء، والمقيد يحكم على المطلق. ولدلالة جملة من الأخبار

(1) وهي صحيحة حفص وحسنة محمد بن مسلم ورواية عبد الملك المتقدمات في
الصحيفة 54 و 57
(2) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء
(4) المتقدمة في الصحيفة 54.
59

الواردة في الجنب بالانزال إذا بال ولم يستبرئ على الأمر بالوضوء:
كقوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (1): (وإن كان بال ثم اغتسل
ثم وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء...)
وقوله (عليه السلام) في موثقة سماعة (2): (وإن كان بال قبل أن يغتسل
فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجي) ومثلهما رواية معاوية بن ميسرة (3) ومقتضى
الجمع حملها على عدم الاستبراء.
ويدل عليه أيضا قوله (عليه السلام) - في صحيحة ابن سنان (4) الآتية إن شاء
الله في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا المطلب -: (والودي فمنه الوضوء، لأنه
يخرج من دريرة البول) بحمله على الخروج قبل الاستبراء، كما هو ظاهر الخبر،
وللإجماع - نصا وفتوى - على عدم سببية الودي للوضوء كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ويظهر من بعض فضلاء متأخري المتأخرين الميل - لولا الاجماع المدعى في المقام -
إلى العمل باطلاق الخبرين المذكورين (5)، وحمل ما عارضهما من مفهوم روايات
الاستبراء على الاستحباب، استضعافا لدلالة المفهوم وعدم ظهورها في الوجوب،
وهكذا صحيحة ابن سنان أيضا حملها على الاستحباب. ولا يخفى وهنه.
والتحقيق أنه قد تعارض اطلاق صحيحتي عبد الله بن أبي يعفور وحريز (6)
بعدم الوضوء بذلك البلل أعم من أن يكون مع الاستبراء وعدمه، واطلاق صحيحة
ابن مسلم وروايتي سماعة ومعاوية بوجوب الوضوء بذلك البلل مطلقا أيضا.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء. وفي
الباب - 36 - من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء. وفي
الباب - 36 - من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 36 - من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء
(5) في الصحيفة 59
(6) في الصحيفة 59
60

ووجه الجمع تقييد الاطلاق الأول بحالة الاستبراء، كما هو مدلول منطوق أخبار
الاستبراء، وتقييد الاطلاق الثاني بحالة عدم الاستبراء، كما هو مفهوم تلك الأخبار،
وعلى ذلك تجتمع الأخبار.
وأما ابقاء الاطلاق الأول بحاله - وحمل الوضوء في الاطلاق الثاني على الاستحباب
وكذلك في المفهوم استضعافا لدلالته -
ففيه (أولا) - أن قوله في صحيحة محمد بن مسلم (1): (عليه الوضوء)
ظاهر في الوجوب، وكذا قوله في خبر معاوية بن ميسرة (2): (فليتوضأ).
و (ثانيا) - أن المفهوم هنا مفهوم شرط، وهو - مع ذهاب الأكثر
إلى حجيته - معضود بدلالة الأخبار عليه أيضا، كما تقدم في المقدمة الثالثة (3) فلا
ضعف في دلالة.
و (ثالثا) - أن ضعف الدليل ليس من قرائن الاستحباب كما تقدمت
الإشارة إليه.
وأما ما ورد في رواية يونس (4) - قال: (كتب إليه رجل: هل يجب الوضوء
مما خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب: نعم) - فيتعين حمله على التقية، لموافقته
لمذهب أكثر العامة (5) كما ذكره الشيخ في الإستبصار، ومخالفته لما عليه كافة علماء
الفرقة الناجية ولأخبارهم.

(1) المتقدمة في الصحيفة 60
(2) المتقدمة في الصحيفة 60
(3) في الصحيفة 57 من الجزء الأول
(4) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء والرواية في
كتب الحديث تنتهي إلى (محمد بن عيسى) ولم يذكر في سندها (يونس)
(5) لم نعثر على من حرر من العامة هذه المسألة أعني حكم الخارج بعد الاستبراء.
إلا أنهم عدوا الودي والمذي مما يستنجى منه. فلعل الشيخ أراد ذلك من الموافقة لمذهب
العامة، قال في بدائع الصنائع ج 1 ص 19: " الاستنجاء مسنون من كل نجس يخرج
من السبيلين له عين مرئية، كالغائط والبول والمني والودي والمذي والدم " وقال في
الوجيز ج 1 ص 9: " وفي النجاسات النادرة قول أنه يتعين الماء، وقيل: المذي
نادر " وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني ج 1 ص 171: " المذي ما يخرج بشهوة فروي أنه
يوجب الوضوء وغسل الذكر والأنثيين، وروى أنه لا يجب أكثر من الاستنجاء
والوضوء، والأمر بالنضح وغسل الذكر والأنثيين محمول على الاستحباب، والودي
ما يخرج بعد البول ليس فيه إلا الوضوء " وفيه أيضا " قال حنبل سألت أحمد، قلت:
أتوضأ واستبرئ واجد في نفسي أني قد أحدثت بعده؟ قال: إذا توضأت فاستبرئ
ثم خذ كفا من ماء فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه، فإنه يذهب إن شاء الله ".
61

هذا. واعلم أن الظاهر - كما عرفت من كلامهم - أنه كما لا خلاف في نقض هذا
البلل المشتبه للوضوء، كذلك لا خلاف في وجوب غسله، وهو يشعر بحكمهم
بنجاسته. ويشكل عليهم بمقتضى ما قرروه في المسألة الإناءين - كما تقدم ذكره (1) -
بأن أقصى ما يستفاد من الأدلة المذكورة النقض خاصة، مع اندراج هذا البلل في كلية:
(كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر (2) وما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم) (3)
مع عدم المخصص. وحصول النقض به لا يستلزم النجاسة. إلا أن المفهوم من الأخبار
- كما عرفت في مسألة الإناءين (4) - أن الشارع قد أعطى المشتبه بالنجس إذا كان
محصورا والمشتبه بالحرام كذلك حكمهما في وجوب الاجتناب وتحريم الاستعمال فيما يشترط
فيه الطهارة وتعدى حكمه إلى ما يلاقيه، كما تقدم تحقيق ذلك في مسألة الإناءين،
فالحكم هنا موافق لما حققناه ثمة، لكنه مناف لما ذكروه (رضوان الله عليهم) في تلك
المسألة، فإن المسألتين من باب واحد.
(الثالث) - ذكر العلامة في التذكرة والشهيد في الذكرى أنه يستحب الصبر
هنيئة قبل الاستبراء، ومستنده غير واضح. قيل: وربما كان ظاهر الأخبار

(1) في الصحيفة 502 من الجزء الأول.
(2) تقدم الكلام في هذا الحديث في التعليقة 1 ص 42 ج 1 وفي التعليقة 4 ص 149 ج 1
(3) المروية في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب النجاسات
(4) في الصحيفة 502 من الجزء الأول.
62

خلافه، كما في صحيحة جميل ورواية داود الصرمي المتقدمتين (1) وفي الدلالة ما عرفت
آنفا، وأظهر منهما رواية روح المتقدمة (2).
(الرابع) - روى شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار (3)
مضمون حسنة محمد بن مسلم (4) عن كتاب السرائر نقلا من كتاب حريز قال: (قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل بال... الحديث) بأدنى تفاوت لا يخل بالمقصود،
ثم قال (قدس سره) في الكتاب المذكور: (والخبر يحتمل وجوها:
(الأول) - أن يكون المراد بالطرف في الموضعين الذكر، وفي الحديث (نقي
الطرفين) (5) وفسر بالذكر واللسان، وقال الجوهري: (قال ابن الأعرابي قولهم:
(لا يدري أي طرفيه أطول، طرفاه: لسانه وذكره) (6) فيكون إشارة إلى عصرين:
العصر من المقعدة إلى الذكر ونتر أصل الذكر، لكن لا يدل على تثليث الأخير،
ولا يبعد أن يكون التثليث على الفضل والاستحباب (الثاني) - أن يكون المراد
بالطرف في الموضعين الجانب ويكون الضميران راجعين إلى الذكر، أي يعصر
من المقعدة إلى رأس الذكر، فيكون العصران داخلين فيه، والمراد بالأخير عصر
رأس الذكر، فيدل على العصرات الثلاث التي ذكرها الأصحاب (الثالث) -

(1) في الصحيفة 55 و 56.
(2) في الصحيفة 56
(3) ج 18 ص 49 من كتاب الطهارة.
(4) المتقدمة في في الصحيفة 54
(5) رواه صاحب الوسائل في الباب - 6 - من أبواب جهاد النفس من كتاب الجهاد
في حديث عن الكليني بسنده عن جابر بن عبد الله قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله " ألا أخبركم بخير رجالكم؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: إن خير رجالكم التقي
النقي السمح الكفين النقي الطرفين... الحديث "
(6) وفي مقاييس اللغة لابن فارس ج 3 ص 447 " لا يدري أي الطرفين أطول،
يراد به نسب الأم والأب. وقولهم: كريم الطرفين، يراد به هذا ".
63

أن يكون المراد بالأول عصر الذكر وبالثاني عصر رأس الذكر. ويضعف الأخيرين
أن النتر هو الجذب بقوة لا مطلق العصر، وهو لا يناسب عصر رأس الذكر، مع أنه لا يظهر من سائر الأخبار هذا العصر، قال في النهاية: (فيه إذا بال أحدكم
فلينتر ذكره ثلاث نترات (1). النتر جذب فيه قوة وجفوة) انتهى (2).
ثم اعلم أن الشيخ روى هذا الخبر نقلا من الكافي، وفيه (يعصر أصل ذكره
إلى ذكره) ويروى عن بعض مشايخنا (رحمهم الله) أنه قرأ (ذكره) بضم الذال وسكون
الكاف وفسره بطرف الذكر، لينطبق على الوجه الثاني من الوجوه المذكورة.
ويخدشه أن اللغويين قالوا (ذكرة السيف: حدته وصرامته) والظاهر منه أن المراد به
المعنى المصدري لا الناتئ من طرفيه.
وبقي هنا اشكال آخر وهو أنه ما الفائدة في التقييد بعدم وجدان الماء؟ والجواب
أنه مجرب أنه مع عدم الاستنجاء بالماء يتوهم خروج البلل ساعة بعد ساعة، بل يكون
خروج دريرة البول أكثر، كما ذكر العلامة في المنتهى أن الاستنجاء بالماء يقطع دريرة
البول، ففائدة الاستبراء هنا أنه إن خرج بعده شئ أو توهم خروجه لا يضره ذلك
أما من حيث النجاسة فلأنه غير واجد للماء، وأما من حيث الحدث فلأنه لا يحتاج
إلى تجديد التيمم ولا قطع الصلاة) انتهى كلامه علا في الفردوس مقامه.
و (منها) - تعجيل الاستنجاء ولو في المبرز خصوصا من البول، لصحيحة
جميل ورواية الصرمي ورواية روح، وقد تقدم جميع ذلك (3).

(1) رواه في كنز العمال ج 5 ص 83 وقال ابن قدامة في المغني ج 1 ص 155:
(وقد روى يزداد اليماني قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله): إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث
نترات).
(2) كلام صاحب النهاية.
(3) في الصحيفة 55 و 56
64

و (منها) - أن يكفئ على يده قبل إدخالها الإناء إن كان الاستنجاء متوقفا
على إدخالها، ويتبع ذلك بالتسمية والدعاء، لخبر عبد الرحمن بن كثير في حكاية
وضوء أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) (1) حيث قال فيه: (يا محمد ائتني بإناء من
ماء أتوضأ للصلاة، فأتاه محمد بالماء فأكفأ بيده اليسرى على يده اليمنى، ثم قال: بسم الله
والحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا. قال ثم استنجى فقال... الحديث)
وأن يكون ذلك مرة من حدث البول ومرتين من الغائط، لحسنة الحلبي
برواية الكافي وصحيحته برواية التهذيب عن الصادق (عليه السلام) (2) قال:
(سئل كم يفرغ الرجل على يده قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حدث البول
وثنتين من الغائط...) وستأتي تتمة الكلام فذلك أن شاء الله تعالى.
و (منها) - البدأة في الاستنجاء بالمقعدة قبل الإحليل، لموثقة عمار الساباطي
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: (سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي
بأيهما يبدأ: بالمقعدة أو بالإحليل؟ فقال: بالمقعدة ثم بالإحليل) وعلله بعضهم (4)
بأنه لئلا تنجس اليد بالغائط عند الاستبراء.
و (منها) - اختيار الماء حيث تجزئ الأحجار، ويدل عليه صحيحة جميل
ابن دراج أو حسنته عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5): (قال في قول الله عز وجل:
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (6). قال: كان الناس يستنجون بالكرسف

(1) المروي في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 27 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) هو العلامة (قدس سره) في المنتهى كما نقله الشيخ البهائي (عطر الله مرقده)
في مفتاح الفلاح (منه رحمه الله)
(5) المروية في الوسائل في الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة
(6) سورة البقرة الآية 223.
65

والأحجار، ثم أحدث الوضوء وهو خلق كريم، فأمر به رسول الله (صلى الله
عليه وآله) وصنعه، فأنزل الله تعالى في كتابه: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)
وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: (قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا معشر الأنصار إن الله قد أحسن عليكم الثناء
فماذا تصنعون؟ قالوا نستنجي بالماء).
وصحيحة مسعدة بن زياد عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) (2) (أن
النبي (صلى الله عليه وآله) قال لبعض نسائه: مري نساء المؤمنين أن يستنجين بالماء
ويبالغن، فإنه مطهرة للحواشي ومذهبة للبواسير).
والجمع بين المطهرين أكمل، لمرفوعة أحمد المتقدمة عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) قال: (جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء).
واطلاق الرواية يدل على استحباب الجمع فيما يتعين فيه الماء كما في صورة التعدي
وفيما تجزئ فيه الأحجار، وبذلك صرح في المعتبر، قال: (لأنه جمع بين مطهرين
بتقدير أن لا يتعدى، واكمال في الاستظهار بتقدير التعدي) وظاهر الشهيد
في الذكرى التخصيص بالتعدي.
وكيف كان فالظاهر تقديم الأحجار، للتصريح به في الرواية، ولما فيه
من تنزيه اليد عن مباشرة النجاسة.
وأورد السيد في المدارك على أصل الحكم اشكالا، قال (قدس سره):
(وأورد على هذا الحكم أن الإزالة واجبة إما بالماء أو بالأحجار وجوبا تخييريا،
فكيف يكون أحدهما أفضل من الآخر، بل قد صرحوا في مثل ذلك باستحباب

(1) المروية في الوسائل في الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة
66

ذلك الفرد الأفضل، ومنافاة المستحب للواجب واضحة. وأجيب عنه بأن الوجوب
التخييري لا ينافي الاستحباب العيني، لأن متعلق الوجوب في التخييري ليس أمرا
معينا بل الأمر الكلي، فتعلق الاستحباب بواحد منهما لا محذور فيه. وفيه نظر،
فإنه إن أريد بالاستحباب هنا المعنى العرفي - وهو الراجح الذي يجوز تركه لا إلى بدل -
لم يمكن تعلقه بشئ من أفراد الواجب التخييري، وإن أريد به كون أحد الفردين
الواجبين أكثر ثوابا من الآخر فلا امتناع فيه كما هو ظاهر) انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول: ما ذكره (قدس سره) من النظر يمكن الجواب عنه بالتزام الشق
الأول من الترديد، قوله: إنه هو الراجح الذي يجوز تركه لا إلى بدل، وما هنا
إنما يجوز تركه مع الاتيان بمبدله. قلنا: الاستحباب هنا إنما تعلق بالفرد الكامل
من أفراد ذلك الواجب المخير، وهو من حيث اتصافه بصفة الكمال يجوز تركه
لا إلى بدل، إذ لا يقوم مقامه في الكمال غيره من تلك الأفراد، واتصاف تلك
الأفراد الباقية بالبدلية عنه إنما هو من حيث أصل الوجوب، بمعنى أن كلا منها بدل
عنه في الوجوب لا في الاستحباب والكمال، غاية الأمر أن ذلك الفرد الكامل
متصف بالوجوب والاستحباب باعتبارين، فإنه باعتبار كونه أحد أفراد الواجب المخير
ولا يجوز تركه لا إلى بدل يكون متصفا بالوجوب، وباعتبار الخصوصية الكمالية التي
لا توجد إلا فيه فيجوز تركه لا إلى بدل يكون مستحبا.
ويمكن الجواب أيضا باختيار الشق الثاني وإن كان فيه خروج عن المعنى المصطلح إلا أنه لا محذور فيه، فقد صرح به جملة من أجلاء الأصحاب: منهم - جده (قدس سره)
في روض الجنان.
وأجاب بعض فضلاء متأخري المتأخرين بأن الوجوب هنا إنما هو صفة الطبيعة،
وكون خصوص فرد منها مستحبا لا خفاء في صحته، قال: (وما عرض له من الشبهة
- من أنه لا يجوز تركه لا إلى بدل فكيف يكون مستحبا؟ - فمندفع بأن التحقيق أن
67

الواجب ما يكون تركه سببا لاستحقاق العقاب لا تركه لا إلى بدل، لأن ما يكون له
بدل ليس بواجب في الحقيقة بل الواجب أحدهما، فزيادة هذا القيد في تعريف الواجب
إما بناء على ما هو المترآى في أول الوهلة، أو غفلة عما هو الحق، أو يكون المراد
منه ما هو المراد بقولهم بوجه ما في تعريف الواجب لتدخل الواجبات المشروطة.
وعلى هذا لا يكون الفرد واجبا بل الواجب هو الطبيعة، لأن ترك الفرد ليس سببا
لاستحقاق العقاب، بل السبب إنما هو ترك الطبيعة، فيمكن استحبابه).
ويشكل بأن الفرد متحد بالطبيعة خارجا فيكون واجبا بوجوبها فكيف يكون
مستحبا؟ بل التحقيق في الجواب هو ما قدمنا.
و (منها) - الاعتماد على اليسرى، ذكره جملة من الأصحاب (رضوان
الله عليهم) ولم أقف فيه على نص، وأسنده في الذكرى إلى رواية عن النبي (صلى
الله عليه وآله) (1). وقال العلامة في النهاية: (لأنه (عليه السلام) علم أصحابه
الاتكاء على اليسار) وهما أعلم بما قالا.
و (منها) - أعداد الأحجار، ولم أقف فيه على نص سوى ما نقل في الذكرى
أنه روي عنه (صلى الله عليه وآله) (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة
أحجار، فإنها تجزئ) (2) والظاهر أن الروايتين في هذا الموضع والذي قبله من طريق
الجمهور، فإني بعد التتبع لكتب الأخبار - ولا سيما البحار الجامع لما شذ عن الكتب

(1) في مجمع الزوائد للهيثمي ج 1 ص 206 عن الطبراني في الكبير عن رجل من بني
مدلج عن أبيه قال: " جاء سرافة بن مالك بن جعشم من عند النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: علمنا
رسول الله كذا وكذا. فقال رجل كالمستهزئ: أما علمكم كيف تخرؤون؟ فقال:
بلى والذي بعثه بالحق لقد أمرنا أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى "
(2) في سنن البيهقي ج 1 ص 103 عن عروة عن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
" إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار ليستطيب بهن فإنها تجزئ، عنه ".
68

الأربعة من الأخبار - لم أقف عليهما، وكان أصحابنا - لما اشتهر بينهم من التساهل
في أدلة السنن - يعتمدون على أمثال ذلك. وهو تساهل خارج عن السنن.
المورد الرابع
في المكروهات
و (منها) - التخلي في أحد هذه الأماكن: شطوط الأنهار، ومساقط
الثمار، والطرق النافذة، ومواضع اللعن، ومنازل النزال، وأفنية المساجد.
ففي صحيح عاصم بن حميد عن أبي عبد الله (عليه السلام) المروي في الكافي (1)
قال: (قال رجل لعلي بن الحسين (عليهما السلام): أين يتوضأ الغرباء؟ قال:
تتقى شطوط الأنهار، والطرق النافذة، وتحت الأشجار المثمرة، ومواضع اللعن.
فقيل له: وأين مواضع اللعن؟ قال: أبواب الدور).
وفي مرفوعة علي المتقدمة (3) - في مسألة الاستقبال والاستدبار بالتخلي - الأمر
باجتناب أفنية المساجد وشطوط الأنهار ومساقط الثمار ومنازل النزال.
وفي رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) (3): (قال نهى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يتغوط على شفير بئر ماء يستعذب منها، أو نهر
يستعذب، أو تحت شجرة فيها ثمرتها).
وفي رواية الكرخي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: (قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثة ملعون من فعلهن: المتغوط في ظل النزال،

(1) ج 1 ص 6 وفي الوسائل في الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) في الصحيفة 39
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة.
69

والمانع الماء المنتاب (1) والساد الطريق المسلوك).
وروى الصدوق في الخصال (2) بسند معتبر عن الصادق (عليه السلام) عن
أمير المؤمنين السلام) في جملة حديث: (لا تبل على المحجة ولا تتغوط عليها).
وظاهر الأصحاب سيما المتأخرين الحكم بالكراهية في الجميع، إلا أن الشيخ
المفيد في المقنعة عبر في هذه المواضع بعدم الجواز، وابن بابويه في الفقيه عبر بذلك في فئ
النزال وتحت الأشجار المثمرة، قال شيخنا صاحب كتاب رياض المسائل - بعد نقل
ذلك عنهما - ما لفظه: (والجزم بالجواز - مع ورود النهي والأمر واللعن في البعض
مع عدم المعارض سوى أصالة البراءة - مشكل) انتهى. وهو جيد إلا أنه كثيرا ما
قد تكرر منهم (صلوات الله عليهم) في المحافظة على الوظائف المسنونة من ضروب
التأكيدات في الأوامر والنواهي ما يكاد يلحقها بالواجبات والمحرمات، كما لا يخفى
على من تتبع الأخبار وجاس خلال تلك الديار. على أن اللعن هو البعد من رحمة الله
وهو كما يحصل بفعل المحرم يحصل بفعل المكروه ولو في الجملة.
وتقييد الطرق بالنافذة احتراز عن المرفوعة، فإنها ملك لا ربابها، فيحرم
التخلي فيها قطعا. وربما كان في ذلك اشعار بالكراهة.
وفي بعض عبائر الأصحاب - كالشهيد في الدروس - ذكر الأفنية من غير
تقييد بالمساجد، ولم نقف له على دليل وراء ما ذكرنا.
واحتمل بعض المتأخرين في معنى مواضع اللعن أنه هو كل موضع يلعن المتغوط
بالجلوس فيه، وحمل تفسيره (عليه السلام) على التمثيل ببعض الأفراد.
وفسر جماعة من المتأخرين الأشجار المثمرة في هذا المقام بما من شأنها ذلك وإن
لم تكن مثمرة بالفعل بل وإن لم تثمر في وقت ما، استنادا إلى صدق الاسم بناء على أنه

(1) يعني بالمنتاب المباح الذي يعتوره المارة على النوبة. بيان الوافي (منه رحمه الله).
(2) ص 170 وفي الوسائل في الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة.
70

لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق.
وفيه (أولا) - أن صدق هذا المشتق إنما يقتضي جواز اطلاق المثمرة على
ما أثمرت في وقت ما وإن لم تكن مثمرة في الحال، لا اطلاقها على ما من شأنها ذلك
لأنه لا خلاف في أن اطلاق المشتق على ما سيتصف بمبدأ الاشتقاق مجاز البتة.
و (ثانيا) - أن المسألة المذكورة وإن كان مما طال فيها الجدال وانتشرت فيها
الأقوال حتى في تحريم محل النزاع، كما فصلنا ذلك في المقدمة التاسعة -
إلا أن التحقيق أنه إن جعل موضع النزاع ما هو أعم من المشتق أو ما جرى
مجراه مع طرو الضد الوجودي وعدمه، فالحق هو القول بالاشتراط، كما هو قول
جملة من علماء الأصول، واختاره المحدث الأمين الاسترآبادي في تعليقاته على شرح
المدارك. حيث قال: الحق عندي أنه لا بد - في بقاء صدق المعنى الحقيقي اللغوي
للمشتق على ذات - من بقاء الحالة التي هي مناط حدوث صدقه، سواء كانت الحالة
المذكورة قيام مبدأ الاشتقاق أو ما يحذو حذوه، ودليلي على ذلك (أولا) - أنه من
الأمور البينة اشتراط ذلك في كثير من الصور، كالبارد والحار والهابط والصاعد
والمتحرك والأبيض والأحمر والمملوك والموجود. ومن القواعد الظاهرة أن قاعدة
الوضع اللغوي في كل صنف من أصناف المشتقات واحدة، ولولا البناء على القواعد
الظاهرية لبطلت قواعد كثيرة من فنون العربية. و (ثانيا) - مقتضى النظر الدقيق
ومذهب المحققين أن معنى المشتقات كالعالم أمر بسيط، ومقتضى ظاهر النظر ما اشتهر
بين اللغويين من أن معناه شئ قام به العلم، والوجدان حاكم بأنه ليس هنا بسيط
يصلح سوى لا بشرط مأخذ الاشتقاق، فلا بد في بقاء معناه من بقائه. ثم اعلم أنه
قد يصير بعض الألفاظ المشتقة حقيقة عرفية عامة أو خاصة أو مجازا مشهورا عند جماعة
أو عاما فيما يعم معناه اللغوي وما في حكمه عرفا أو شرعا، ومنه: المؤمن والكافر
وأشباههما. ومن الأمور العجيبة أنه طال التشاجر بينهم في هذه المسألة من غير فصل
71

يقطع دابر المنازعة. ثم إنه ذكر أن الذي يظهر لي من تتبع رواياتهم (صلوات الله
عليهم) أن المتبادر من الحائض والنفساء في كلامهم ذات حدث الحيض وذات حدث
النفاس لا ذات الدم، وهذا من باب إرادة ما يعم المعنى اللغوي وما في حكمه شرعا.
ثم استدل بجملة من الأخبار على ذلك.
وإن جعل محل النزاع ما هو أخص - كما صرح به المحقق التفتازاني واقتفاه جماعة
فيه - فما نحن فيه ليس من موضع النزاع في شئ، فإن المراد بالمشتق في القاعدة المذكورة
هو ما جرى على ما اشتق منه في إرادة الحدوث والتجدد لا ما خرج عنه بإرادة معنى
الدوام أو ذي كذا أو غير ذلك من المعاني، ألا ترى أن الصفة المشبهة بالفعل وافعل
التفضيل واسم الزمان والمكان حيث لم تجر عليه في ذلك لم تصدق إلا على من هو متصف
به حالة الاطلاق، وإلا لزم اطلاق حسن الوجه على قبيحة وبالعكس - باعتبار ما
كان - اطلاقا على جهة الحقيقة، وكذلك ما كان من صيغ اسم الفاعل مسلوكا به
مسلك الصفة المشبهة ونحوها في عدم إرادة الحدوث، سواء أريد منه الدوام والاستمرار
كالخالق والرازق من أسمائه، أو ذي كدا مجردا كالرضيع. والمؤمن والكافر والحائض
أو مع الكثرة كاللابن والتامر. والظاهر أن لفظ (المثمرة) بمعنى ذات الثمرة،
من أثمرت النخلة إذا صار فيها الثمر، كأتمرت إذا صار فيها التمر، وأطعمت أي صار
فيها ما يطعم. ويرشد إلى ما قلنا تعليق عدم الاشتراط على صفة الاشتقاق في قولهم:
المشتق لا يشترط في صدقه بقاء مأخذ الاشتقاق. والتعليق على الوصف يشعر بالعلية
والمعنى أن المشتق من حيث كونه مشتقا لا يشترط... الخ، وما نحن فيه لم يبق على
حيثية الاشتقاق بل سلك به مسلك الجوامد ولم يجر مجرى ما اشتق منه.
و (ثالثا) - استفاضة الأخبار عنهم (صلوات الله عليهم) بأن مورد النهي
في هذا المقام الشجرة المثمرة بالفعل.
72

ومن ذلك ما رواه في الفقيه (1) مرسلا وفي كتاب العلل (2) مسندا عن الباقر
(عليه السلام) قال: (إن لله عز وجل ملائكة وكلهم بنبات الأرض من الشجر
والنخل، فليس من شجرة ولا نخلة إلا ومعها من الله عز وجل ملك يحفظها وما كان
منها. ولولا أن معها من يمنعها لأكلتها السباع وهوام الأرض إذا كان فيها ثمرتها،
قال: وإنما نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يضرب أحد من المسلمين خلاء تحت
شجرة أو نخلة قد أثمرت لمكان الملائكة الموكلين بها. قال: ولذلك يكون الشجر
والنخل أنسا إذا كان فيه حمله، لأن الملائكة تحضره).
و (رابعا) - وهو الحق - عدم بناء الأحكام على مثل هذه القواعد المختلة النظام
المنحلة الزمام، كما تقدمت الإشارة إليه في المقدمة التاسعة (3).
و (منها) - استقبال جرم الشمس والقمر، لرواية الكاهلي عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (4) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يبولن أحدكم
وفرجه باد للقمر يستقبل به).
ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) (5) قال: (نهى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يستقبل الرجل الشمس والقمر بفرجه وهو يبول)
وما رواه في الفقيه في باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) (6)
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله) وفيه أنه (نهى أن يبول
الرجل وفرجه باد للشمس أو القمر).

(1) ج 1 ص 21، وفي الوسائل من قوله: إنما نهى... الخ في الباب - 15 -
من أبواب أحكام الخلوة.
(2) في الصحيفة 102
(3) في الصحيفة 124 من الجزء الأول.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة.
(6) في أول الجزء الرابع، وفي الوسائل في الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة
73

وظاهر هذه الأخبار التحريم لظاهر النهي فيها إلا أن المشهور بين الأصحاب
الحكم بالكراهة. وظاهر المفيد - حيث عبر في المقنعة بعدم الجواز - التحريم. ويمكن حمل النهي المذكور على الكراهة بقرينة خلو مرفوعة علي بن إبراهيم المتقدمة (1) في النهي
عن استقبال القبلة واستدبارها عن ذلك، مع قوله في آخرها: (وضع حيث شئت)
وكذلك مرفوعة عبد الحميد ومرفوعة محمد المتقدمتان ثمة (2) حيث تضمنتا السؤال عن حد
الغائط ولم يذكرا استقبال الجرمين فيه، فظاهر هما الخروج من الحد المذكور وأقله عدم التحريم
ثم إن ظاهر الأخبار المذكورة اختصاص الحكم المذكور بالبول دون الغائط،
. ظاهر الأكثر التعميم، وبه صرح الشهيد في الدروس والذكرى، والعلامة في القواعد والمفيد في المقنعة. واحتمل بعض محققي متأخري المتأخرين كون الاقتصار على البول
في الأخبار لكونه أعم من الغائط وجودا، لعدم انفكاكه عنه غالبا ووجوده بدون
الغائط كثيرا، أو للتنبيه بالأضعف على الأقوى. وفيهما ما لا يخفى.
وكذا ظاهر الأخبار اختصاص ذلك بالاستقبال دون الاستدبار، ولذلك
خصه بعض الفقهاء بذلك،
بل نقل عن العلامة في النهاية أنه صرح بعدم كراهية
الاستدبار، واستظهره في المدارك.
لكن روى الكليني (3) مرفوعا مضمرا: (لا تستقبل الشمس ولا القمر)
وابن بابويه في الفقيه (4) كذلك: (لا تستقبل الهلال ولا تستدبره) فيمكن
فهم حكم الغائط من الأولى، لأن الظاهر أنها متعلقة بحد الغائط، ويفهم
من الثانية عدم اختصاص الحكم بالقمر، كما هو المصرح به في كلامهم، لعدم تناوله
للهلال، إذ هو مخصوص بما قبل الاستدارة والقمر بما بعدها. واستند بعض

(1) في الصحيفة 39
(2) في الصحيفة 39
(3) ج 1 ص 6 وفي الوسائل في الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) ج 1 ص 18 وفي الوسائل في الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة.
74

فضلاء متأخري المتأخرين إلى استفادة حكم الاستدبار من هذه الرواية، وعضدها
بقوله سبحانه: (ومن يعظم شعائر الله...) (1) وفيه ما لا يخفى.
و (منها) - استقبال الريح واستدبارها، لقوله (عليه السلام) في مرفوعة
عبد الحميد المتقدمة (2) بعد السؤال عن حد الغائط: (ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها)
ومثلها مرفوعة محمد (3) أيضا. ومورد الخبرين وإن كان هو الغائط إلا أنه يمكن فهم حكم
البول منه بناء على أن المراد منه المعنى اللغوي بالتقريب الذي ذكروه في دلالة قوله تعالى:
(أو جاء أحد منكم من الغائط...) (4) وحينئذ بالتعميم ظاهر، بل الظاهر أن المفسدة
في استقبال الريح واستدبارها بالبول أشد، فيندرج من باب مفهوم الموافقة على القول به
والعجب من جماعة حيث خصوا الكراهة بالبول معللين له بخوف الرد، والرواية
- كما ترى - إنما وردت في الغائط خالية من التعليل. وخصوا الحكم بالاستقبال
أيضا نظرا إلى التعليل، مع تصريح الرواية بالاستدبار. والتقريب في الكراهة ما تقدم
في مرفوعة علي بن إبراهيم (5).
و (منها) - السواك، لما رواه الشيخ في التهذيب (6) مضمرا وفي الفقيه (7)
مرسلا عن الكاظم (عليه السلام) قال: (السواك في الخلاء يورث البخر).
و (منها) - طول الجلوس على الخلاء، لرواية محمد بن مسلم (8) قال: (سمعت
أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (قال لقمان لابنه: طول الجلوس على الخلاء يورث
الناسور، قال: فكتب هذا على باب الحش) والناسور بالنون والسين المهملة والراء
أخيرا: علة في حوالي المقعدة. وفي بعض النسخ بالباء الموحدة وجمعه بواسير، وهو معروف

(1) سورة الحج. الآية 34
(2) في الصحيفة 39
(3) في الصحيفة 39
(4) سورة النساء والمائدة، الآية 47 و 10.
(5) في الصحيفة 39
(6) ج 1 ص 10
(7) ج 1 ص 32، وفي الوسائل في الباب - 21 - من أبواب أحكام الخلوة
(8) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب أحكام الخلوة
75

و (منها) - استصحاب خاتم فيه اسم الله تعالى أو شئ من القرآن.
ويدل عليه رواية أبي أيوب (1) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
أدخل الخلاء وفي يدي خاتم فيه أسماء الله؟ قال: لا ولا تجامع فيه).
ورواية أبي القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: (قلت له: الرجل
يريد الخلاء وعليه خاتم فيه اسم الله تعالى؟ فقال: ما أحب ذلك. قال: فيكون
اسم محمد؟ قال: لا بأس).
وموثقة عمار الساباطي الآتية (3) حيث قال فيها: (ولا يستنجي وعليه خاتم فيه
اسم الله، ولا يجامع وهو عليه، ولا يدخل المخرج وهو عليه).
ورواية علي بن جعفر المروية في كتاب قرب الإسناد (4) عن أخيه موسى (عليه
السلام) قال: (سألته عن الرجل يجامع ويدخل الكنيف وعليه الخاتم فيه ذكر الله
أو شئ من القرآن، أيصلح ذلك؟ قال: لا).
وبعض الأصحاب عبر في هذا المقام بكراهة استصحاب ما عليه اسم الله، وهذه
الروايات كلها مختصة بالخاتم، ولم نقف على غيرها في المسألة.
وقال في الفقيه (5): (ولا يجوز للرجل أن يدخل الخلاء ومعه خاتم عليه اسم
الله أو مصحف فيه القرآن، فإن دخل وعليه خاتم عليه اسم الله فليحوله عن يده
اليسرى إذا أراد الاستنجاء) وظاهر كلامه مؤذن بالتحريم كما ترى.
و (منها) - استصحاب دراهم بيض غير مصرورة، لرواية غياث عن جعفر
عن أبيه (عليهما السلام) (6) أنه (كره أن يدخل الخلاء ومعه درهم أبيض إلا أن يكون
مصرورا). وقيده بعض الأصحاب بما يكون عليه اسم الله تعالى. وهو حسن.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) في الصحيفة 121 وفي الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
(5) ج 1 ص 20.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
76

و (منها) - الكلام - على المشهور - إلا ما استثنى مما سيأتي تفصيله. وقال
في الفقيه (1): (لا يجوز الكلام على الخلاء، لنهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك)
ويدل على النهي عن ذلك رواية صفوان عن الرضا (عليه السلام) (2) قال:
(نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يجيب الرجل آخر وهو على الغائط أو
يكلمه حتى يفرغ).
وروى الصدوق في الفقيه (3) مرسلا وفي العلل مسندا عن أبي بصير قال:
(قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): لا تتكلم على الخلاء، فإن من تكلم
على الخلاء لم تقض له حاجة).
واستثني من ذلك ذكر الله تعالى وتحميده وقراءة آية الكرسي وحكاية الأذان.
ويدل على الأول صحيحة أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) (4) قال:
(مكتوب في التوراة التي لم تغير أن موسى (عليه السلام) سأل ربه فقال: إلهي
أنه يأتي علي مجالس أعزك وأجلك أن أذكرك فيها. فقال: يا موسى إن ذكري
حسن على كل حال) وبمضمونها أخبار أخر أيضا.
وعلى الثاني ما رواه الحميري في كتاب قرب الإسناد (5) عن مسعدة بن صدقة
عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال: إذا عطس أحدكم وهو
على الخلاء فليحمد الله في نفسه).

(1) ج 1 ص 21
(2) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب أحكام الخلوة
(3) ج 1 ص 21 وفي العلل ص 104 وفي الوسائل في الباب - 6 - من أبواب
أحكام الخلوة
(4) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب أحكام الخلوة وفي الباب - 1 -
من أبواب الذكر
(5) في الصحيفة 36 وفي الوسائل في الباب - 7 - من أبواب أحكام الخلوة.
77

وعلى الثالث صحيحة عمر بن يزيد (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن التسبيح في المخرج وقراءة القرآن. فقال: لم يرخص في الكنيف أكثر
من آية الكرسي ويحمد الله أو آية الحمد لله رب العالمين) (2).
والظاهر حمل عدم الرخصة فيما زاد على ذلك على تأكد الكراهة، لصحيحة
الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " سألته أتقرأ النفساء - والحائض والجنب
والرجل يتغوط - القرآن؟ قال: يقرؤون ما شاءوا) ولأخبار الذكر المتقدمة.
وعلى الرابع صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (4) أنه قال:
(يا ابن مسلم لا تدعن ذكر الله على كل حال، ولو سمعت المنادي ينادي بالأذان وأنت
على الخلاء فاذكر الله عز وجل وقل كما يقول المؤذن) رواه الصدوق في الفقيه والعلل (5)
وروى في العلل (6) أيضا مثله عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام). وروى
فيه (7) أيضا عن سليمان عن مقبل عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) كذلك،
وذكر فيه أن ذلك مستحب، وأن العلة فيه أنه يزيد في الرزق.
وبذلك يظهر لك ما في كلام جملة من المتأخرين: منهم - شيخنا الشهيد الثاني
(رحمه الله) حيث لم يقفوا على النصوص المذكورة، إذ كان نظرهم غالبا مقصورا على
مراجعة التهذيب، وهو خال عن ذلك، فأنكروا وجود النص في المسألة، ونسبه
الشهيد الثاني في الروضة إلى المشهور إيذانا بذلك، واستشكل في الاستدلال عليه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب أحكام الخلوة
(2) سورة الفاتحة. الآية 1
(3) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب أحكام الخلوة
(4) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب أحكام الخلوة وفي الباب - 45 -
من أبواب الأذان
(5) رواه في الفقيه ج 1 ص 187 وفي العلل ص 104
(6) في الصحيفة 104 وفي الوسائل في الباب - 8 - من أبواب أحكام الخلوة.
(7) في الصحيفة 104 وفي الوسائل في الباب - 8 - من أبواب أحكام الخلوة.
78

بأحاديث الذكر، لعدم شمولها الحيعلات إلا أن تبدل بالحولقة، كما صرح به في الروض.
وظاهر الرواية المتقدمة (1) - وكذا رواية أبي بصير المشار إليها آنفا (2) حيث قال فيها: (فقل مثل ما يقول المؤذن، ولا تدع ذكر الله عز وجل في تلك الحال،
لأن ذكر الله حسن على كل حال) - كون مجموع فصول الأذان داخلا في الذكر
من الحيعلات وغيرها، ولعل دخولها تغليبا أو يحمل الذكر على ما يشملها.
وما اعتذر به عنه بعض فضلاء متأخري المتأخرين - من أن مراده من عدم
النص في عبارة الروض يعني بالنسبة إلى الحيعلات - فتكلف بعيد.
وزاد الأصحاب الكلام لحاجة ضرورية استنادا إلى رفع الحرج، ورد السلام،
والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) والحمد بعد العطاس. ووجه الجميع
ظاهر. وكأنهم لم يقفوا على خصوص ما ورد في الأخير مما قدمنا نقله فرجعوا فيه
إلى الأدلة المطلقة.
و (منها) - الاستنجاء باليمين، لنهي النبي (صلى الله عليه وآله) والوارد
في مرسلة يونس عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) وفي رواية السكوني (4) أيضا معللا
فيها بكونه من الجفاء، وكذا رواه الصدوق (5) مرسلا، ثم قال: (وقد روى أنه
لا بأس إذا كانت اليسار معتلة).
و (منها) - الاستنجاء باليسار وفيها خاتم عليه اسم الله، ويدل على ذلك
موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال: (لا يمس الجنب درهما ولا دينارا
عليه اسم الله، ولا يستنجي وعليه خاتم فيه اسم الله... الحديث).

(1) في الصحيفة 78
(2) في الصحيفة 78
(3) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب أحكام الخلوة
(4) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب أحكام الخلوة
(5) في الفقيه ج 1 ص 19 وفي الوسائل في الباب - 12 - من أبواب أحكام الخلوة.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
79

ورواية الحسين بن خالد عن أبي الحسن الثاني (عليه السلام) (1) قال: (قلت
له: إنا روينا في الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستنجي وخاتمه
في إصبعه، وكذلك كان يفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان نقش خاتم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) (محمد رسول الله). قال: صدقوا. قلت: ينبغي
لنا أن نفعل ذلك؟ فقال: إن أولئك كانوا يتختمون في اليد اليمنى وأنتم تتختمون
في اليد اليسرى).
ومثلها روايته الأخرى المروية في العيون والمجالس (2) وفي آخرها (فاتقوا الله
وانظروا لأنفسكم...).
ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: (قال أمير المؤمنين
(عليه السلام): من نقش على خاتمه اسم الله فليحوله عن اليد التي يستنجى بها
في المتوضأ).
وأما رواية وهب بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: (كان نقش
خاتم أبي (العزة لله جميعا) وكان في يساره يستنجي بها، وكان نقش خاتم أمير المؤمنين
عليه السلام (الملك لله) وكان في يده اليسرى يستنجى بها) - فالظاهر ردها،
لدلالة روايتي الحسين بن خالد (5) على نفي ذلك وأن تختمهم (عليهم السلام) إنما هو
في اليمين. مضافا إلى استفاضة الأخبار باستحباب التختم باليمين (6). وراوي الرواية
المذكورة عامي خبيث بل من أكذب البرية على جعفر بن محمد (عليهما السلام) كما

(1) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) رواها في العيون في الصحيفة 217 وفي المجالس في الصحيفة 273 وفي الوسائل
في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة
(3) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة.
(6) رواها صاحب الوسائل في الباب - 49 - من أبواب أحكام الملابس.
80

صرح به علماء الرجال (1). ومع التنزل عن ذلك فهي محمولة على التقية (2).

(1) في فهرست الشيخ الطوسي ص 173 ورجال النجاشي ص 303 ورجال الكشي
ص 199 والخلاصة ص 129 وغيرها من كتب الرجال " أن رواياته عن أبي
عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) كلها لا يوثق بها لأنه كذاب وأن أحاديثه
مع الرشيد كذب " وروى الكشي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه كذب
على الله تعالى وملائكته ورسله. وعن الفضل بن شاذان أنه من أكذب البرية.
وفي فهرست ابن النديم ص 146 كان ضعيفا في الحديث. وفي مقاتل الطالبين لأبي الفرج
ص 164 طبعة إيران " تحالف هو مع مصعب بن عبد الله الزبيري ورجل من بني مخزوم
وآخر من بني زهرة على السعاية عند الرشيد بيحيى بن عبد الله بن الحسن المثنى. فجلبه الرشيد
وحبسه عند مسرور في سرداب " وفي لسان العرب في مادة (لوط) " وفي حديث أبي البختري
ما أزعم أن عليا أفضل من أبي بكر وعمر ولكن أجد له من اللوط ما لا أجد لأحد بعد
النبي (صلى الله عليه وآله). يقال لاط حبه بقلبي أي لصق به " وفي ميزان الاعتدال للذهبي ج 3 ص 278
" وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى
بن قصي، أبو البختري روى عن هشام بن عروة وجعفر بن محمد وعنه المسيب بن واضح
والربيع بن ثعلب وجماعة. سكن بغداد وولي قضاء عسكر المهدي ثم قضاء المدينة ثم
ولى حريمها وصلاتها، وكان متهما في الحديث، قال يحيى بن معين: كان عدو أنه كذابا.
وقال أحمد: كان يضع الحديث. وقال البخاري سكتوا عنه " وفي تاريخ بغداد للخطيب
ج 13 ص 452 " أراد الرشيد أن يصعد منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قباء أسود ومنطقة،
وعظم عليه هذا، فحدثه أبو البختري عن جعفر بن محمد أن جبرئيل هبط على النبي (صلى الله عليه وآله)
بقباء اسود ومنطقة وخنجر، فكذبه ابن معين لما سمع بذلك. وكان الرشيد يطير الحمام
فروى له أبو البختري عن عائشة أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يطير الحمام، فزبره وطرده، وكان
النسائي يقول إنه متروك الحديث. وقال أحمد بن حنبل أنه كذاب وهو واضع الحديث:
لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح " وذكر ابن حجر في لسان الميزان ج 6 ص 231
كلمات العلماء في كذبه وأنه يروي المنكرات. أقول: روى في الفقيه ج 1 ص 163 حديث
هبوط جبرئيل مرسلا مع زيادة.
(2) في مقتل الحسين للعلامة المقرم ص 443 من الطبعة الثانية عن المدخل لابن الحاج
ج 1 ص 46 " أن السنة وردت كل مستقذر يتناول بالشمال، وكل طاهر يتناول باليمين،
ولأجل هذا المعنى كان المستحب التختم بالشمال، فإنه يأخذ الخاتم بيمينه ويجعله في شماله "
وفي الفتاوى الفقهية لابن حجر الهيثمي ج 1 ص 264 " كان مالك يكره التختم باليمين،
وبالغ الباجي بترجيح ما عليه مالك من التختم باليسار " وفي روح البيان للشيخ إسماعيل
البروسوي ج 4 ص 142 نقلا عن عقد الدرر " أن السنة في الأصل التختم باليمين، ولما
كان ذلك شعار أهل البدعة والظلمة صارت السنة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى
في زماننا ".
81

وأما المناقشة في عدم صراحة الخبر في كون الخاتم في اليسرى حالة الاستنجاء
- كما ذكره في رياض المسائل - فظني أنه بعيد. وأبعد منه حمل الرواية على الجواز
بعد ما عرفت.
والعجب هنا من المولى الأردبيلي (قدس سره) حيث قال - بعد أن استدل
على الجواز بهذه الرواية -: (ويمكن استفادة استحباب التختم باليسار، وعدم تحريم
التنجيس أيضا، إلا أن يكون ذلك ثابتا بالاجماع ونحوه، أو يحمل على عدم وصول
النجاسة إليه) انتهى. ولا أراك في ريبة من ضعف هذا الكلام بعد التأمل في المقام.
وألحق جملة من الأصحاب باسمه تعالى هنا أسماء الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)
والظاهر أن المستند في ذلك التعظيم. ولا بأس به. لكن رواية أبي القاسم المتقدمة (1)
في حكم استصحاب الخاتم الذي عليه اسم الله في الخلاء صرحت بنفي البأس في استصحاب
خاتم عليه اسم النبي (صلى الله عليه وآله) وحينئذ فما عداه بطريق أولى، فالقول بالالحاق
هنا دون هناك - مع الاشتراك في العلة المذكورة - مما لا وجه له، مع أن الصدوق
(رحمه الله) في المقنع صرح بنفي البأس عن عدم نزع الخاتم فيه اسم محمد (صلى الله عليه
وآله) حال الاستنجاء بعد أن نهى عن الاستنجاء وعليه خاتم عليه اسم الله حتى يحوله.
وقد ذكر الأصحاب أيضا أن الكراهة إنما هو عند عدم التلوث بالنجاسة،

(1) في الصحيفة 76
82

وإلا فيحرم بل يكفر فاعله لو فعله بقصد الإهانة. وهو جيد.
و (منها) - الاستنجاء باليسار وفيها خاتم فصه من حجر زمزم، ويدل عليه
رواية علي بن الحسين (1) - وهو ابن عبد ربه على الظاهر وقد صرح به في الكافي -
قال: (قلت له: ما تقول في الفص يتخذ من حجارة زمزم؟ قال: لا بأس به،
ولكن إذا أراد الاستنجاء نزعه) وربما وجد في بعض نسخ الكافي والتهذيب
(زمرد) مكان (زمزم) بل نسبه المحدث الكاشاني في الوافي إلى كثير من النسخ،
ثم قال: (وكأنه الصواب، إذ لا تعرف حجارة يؤتى بها من زمزم) انتهى. وقال
الشهيد في الذكرى بعد نقل هذه النسخة: (وسمعناه مذاكرة) وقال شيخنا المحقق
في كتاب رياض المسائل بعد نقل مضمون كلام الوافي: (والظاهر أن الصواب ما
عليه أكثر نسخ الكتاب وأن النسخة مما أخطأت به الكتاب، لا سيما وقد أورده
كذلك في كتبهم أعاظم السلف وأكابر الخلف. وعدم معروفية فصوص تؤخذ من حجر
زمزم لا يوجب الخروج عما عليه المعظم) انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.
و (منها) - التخلي على القبور وبينها، لصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر
(عليه السلام) (2) قال: (من تخلى على قبر أو بال قائما أو بال في ماء، إلى أن
قال: فأصابه شئ من الشيطان لم يدعه إلا أن يشاء الله. وأسرع ما يكون الشيطان
إلى الانسان وهو على بعض هذه الحالات...).
ورواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) (3) قال:
(ثلاثة يتخوف منها الجنون، وعد منها التغوط بين القبور).

(1) المروية في الوسائل في الباب - 36 - من أبواب أحكام الخلوة
(2) المروية في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب أحكام الخلوة.
83

ومثله رواه في الخصال (1) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام)
و (منها) - مس الذكر باليمين وقت البول، رواه الصدوق (قدس سره)
في الفقيه (2) مرسلا قال: (وقال أبو جعفر (عليه السلام): إذا بال الرجل فلا
يمس ذكره بيمينه)
و (منها) - البول قائما، لما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم (3) وغيرها أيضا،
وفي بعضها (4) أنه من الجفاء.
و (منها) البول مطمحا به، لرواية السكوني عن الصادق (عليه السلام) (5)
قال: (نهى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يطمح الرجل ببوله من السطح أو من
الشئ المرتفع في الهواء) ومثلها رواية مسمع عنه (عليه السلام) (6).
ولا ينافي ذلك ما تقدم في استحباب ارتياد مكان للبول كأن يكون على مكان
مرتفع من الأرض، إذ الارتفاع المعتبر هناك هو بقدر ما يؤمن معه من الترشح.
و (منها) - البول في الماء جاريا وراكدا، وإن كان الأول أخف كراهة.
وظاهر المفيد في المقنعة التحريم. ونقل عن ظاهر علي بن بابويه نفيها في الأول.
ومن الأخبار الواردة في ذلك صحيحه محمد بن مسلم المتقدمة (7) وصحيحة
الفضيل (8) (لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري، وكره أن يبول في الماء الراكد)

(1) في الصحيفة 60 في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب أحكام الخلوة.
(2) ج 1 ص 19 وفي الوسائل في الباب - 12 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) في الصحيفة 83
(4) وهو مرسل الفقيه ج 1 ص 19 وفي الوسائل في الباب - 33 - من أبواب
أحكام الخلوة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 33 - من أبواب أحكام الخلوة
(6) المروية في الوسائل في الباب - 33 - من أبواب أحكام الخلوة
(7) في الصحيفة 83
(8) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق.
84

وفي مرسلة الفقيه (1) (أن البول في الماء الراكد يورث النسيان) ومرسلة مسمع (2)
أنه (نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبول الرجل في الماء الجاري إلا من
ضرورة، وقال: إن للماء أهلا) ورواية أبي بصير ومحمد بن مسلم المروية في كتاب
الخصال (3) عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: (لا يبولن
الرجل من سطح في الهواء ولا يبولن في ماء جار، فإن فعل ذلك فأصابه شئ فلا
يلومن إلا نفسه، فإن للماء أهلا وللهواء أهلا) وفي رواية عنبسة بن مصعب (4) قال:
(لا بأس به إذا كان الماء جاريا) وكذا في موثقة ابن بكير (5) ولعل هاتين الروايتين
مع صحيحة الفضيل المتقدمة مستند علي بن بابويه فيما نقل عنه، إلا أن رواية مسمع
ورواية أبي بصير ومحمد بن مسلم قد صرحتا بالنهي. والجمع بما ذكرنا من كونه أخف كراهة
ومورد الروايات كلها البول خاصة وألحق الأصحاب به الغائط بالطريق الأولى
وفيه ما لا يخفى.
و (منها) - الأكل لفحوى مرسلة ابن بابويه في الفقيه (6) عن الباقر (عليه
السلام): (دخل أبو جعفر (عليه السلام) الخلاء فوجد لقمة خبز في القذر،
فأخذها وغسلها ودفعها إلى مملوك معه، فقال: تكون معك لآكلها إذا خرجت،
فلما خرج (عليه السلام) قال للمملوك: أين اللقمة؟ فقال: أكلتها يا بن رسول الله
فقال: إنها ما استقرت في جوف أحد إلا وجبت له الجنة، فأنت حر، فإني أكره أن
أستخدم رجلا من أهل الجنة) وروى القصة المذكورة في كتاب عيون أخبار الرضا (7)

(1) ج 1 ص 16 وفي الوسائل في الباب - 24 - من أبواب أحكام الخلوة
(2) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب أحكام الخلوة
(3) في الصحيفة 157 وفي الوسائل في الباب - 33 - من أبواب أحكام الخلوة
(4) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق
(5) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق
(6) ج 1 ص 18. وفي الوسائل في الباب - 39 - من أبواب أحكام الخلوة
(7) في الصحيفة 208 وفي الوسائل في الباب - 39 - من أبواب أحكام الخلوة
85

بأسانيد ثلاثة عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهم السلام)
ولا تنافي، لامكان اتفاق ذلك لكل منهما (عليهما السلام) والتقريب أن تأخيرهما
(عليهما السلام) أكل اللقمة إلى بعد الخروج - مع علمهما بأنها ما استقرت في جوف
أحد إلا وجبت له الجنة وعتقهما المملوك لذلك - اشعار بمرجوحية الأكل في الموضع
المذكور. وألحق الأصحاب الشرب. ولم أقف له على دليل.
و (منها) - مباشرة الحرة ذلك من زوجها، لموثقة يونس بن يعقوب (1)
قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المرأة تغسل فرج زوجها؟ فقال: ولم
من سقم؟ قلت: لا. قال: ما أحب للحرة أن تفعل، فأما الأمة فلا يضره).
الفصل الثاني
في الأسباب وهي البول والغائط والريح والنوم الغالب على الحاستين وبعض أقسام
الاستحاضة، وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطه في أبحاث.
(الأول) - لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في سبية الثلاثة
الأول مع الخروج من الموضع الطبيعي وإن لم يحصل الاعتياد، بل الخروج أول مرة
يكون موجبا للوضوء وإن تخلف أثره لفقد شرط كالصغر، وكذا لو اتفق المخرج من
غير الموضع المعتاد خلقة كما ادعى عليه في المنتهى الاجماع، وكذا لو انسد الطبيعي وانفتح
غيره كما ذكره في المنتهى مدعيا عليه الاجماع أيضا، وظاهرهم أن في الجميع لا يشترط
الاعتياد. أما لو لم ينسد الطبيعي وانفتح غيره فأقوال:
أحدها - المشهور وهو عدم النقض إلا مع الاعتياد.
وثانيها - ما نقل عن الشيخ في المبسوط والخلاف من النقض بما يخرج من تحت
المعدة دون ما فوقها.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 38 - من أبواب أحكام الخلوة.
86

وثالثها - النقض بخروج هذه الأشياء مطلقا من فوق المعدة أو تحتها مع الاعتياد
وعدمه، وإليه ذهب ابن إدريس.
ورابعها - عدم النقض مطلقا، وإلى هذا القول صار بعض فضلاء متأخري المتأخرين (1)
ويدل على أصل المسألة الأخبار المستفيضة، كصحيحة زرارة (2) قال: (قلت
لأبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): ما ينقض الوضوء؟ فقالا: ما يخرج من طرفيك
الأسفلين من الدبر والذكر: غائط أو بول أو مني أو ريح والنوم حتى بذهب العقل)
وصحيحة سالم أبي الفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: (ليس ينقض
الوضوء إلا ما خرج من طرفيك الأسفلين الذين أنعم الله عليك بهما.
وصحيحة زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) (4) قال: (لا ينقض الوضوء
إلا ما خرج من طرفيك أو النوم).
وصحيحته أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) قال: (لا يوجب الوضوء
إلا غائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها).
ورواية زكريا بن آدم (6) قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن الناسور أينقض
الوضوء؟ فقال: إنما ينقض الوضوء ثلاث: البول والغائط والريح) إلى غير ذلك من الأخبار
والظاهر أن الحصر في هذه الأخبار إضافي بالنظر إلى ما يخرج من الأسفلين غير
هذه الأشياء كالمذي وأشباهه، وإلى ما لا يخرج منهما كالرعاف والقئ ونحوهما مما ذهب
العامة إلى النقض به (7) ولعل ذلك في مقام الرد عليهم، وإلى ذلك تشير رواية زكريا

(1) هو الفاضل ملا محمد باقر الخراساني صاحب الذخيرة والكفاية (منه قدس سره)
(2) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 2 و 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(5) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من نواقض الوضوء.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء
(7) سيأتي الكلام فيما ذهب العامة إلى انتقاض الوضوء به مما ليس بناقض عند
الخاصة عند تعرض المصنف (قده) لذلك.
87

ابن آدم المتقدمة وموثقة أبي بصير المرادي في كتاب الخصال (1) عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: (سألته عن الحجامة والقئ وكل دم سائل. فقال: ليس فيه
وضوء إنما الوضوء مما خرج من طرفيك الذين أنعم الله بهما عليك) وأما حمل الحصر
على معنى أن الأصل في النقض ينحصر في الخارج من السبيلين - وأما غيره من النوم
ومزيل العقل فإنما هو لكونه مظنة لخروج شئ من تلك النواقض - فظني بعده، إذ
الظاهر - كما سيأتي إن شاء الله - حدثية النوم بنفسه لا لكونه كذلك.
حجة القول الأول - على ما ذكره الشهيد في الذكرى - أنه مع العادة يشمله عموم
الآية، وقول الصادق عليه السلام (2): (ليس ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك
الذين أنعم الله بهما عليك) لتحقق النعمة بها. وأما مع الندور، فللأصل والخبر،
إذ ليس من الطرفين.
والظاهر أن مراده بالآية قوله تعالى: (أو جاء أحدكم منكم من الغائط...) (3)
ومورد الآية وإن كان التيمم إلا أن ظاهرها يدل على وجوب التطهير بالماء مع وجوده
وأن الانتقال إلى التيمم إنما هو لعدمه.
وأورد عليه بالمنع من شمول الآية لهذا الفرد ظاهرا، بل هي إما ظاهرة في المتعارف
المعتاد لأكثر الناس وهو التغوط من الموضع المعتاد، أو مجملة بالنسبة إليه وإلى الأعم منه
ومن المعتاد لبعض، وعلى التقديرين لا يثبت المدعى. وأما شمول الرواية فغير ظاهر

(1) في الصحيفة 17 وفي الوسائل في الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء.
ورواها أيضا بطريق آخر عن التهذيب في الباب - 2 و 7 - من أبواب نواقض الوضوء
ولكن بابدال القئ بالرعاف.
(2) في صحيحة سالم أبي الفضل المتقدمة في الصحيفة 87 وقد وصف الطرفان
فيها بالأسفلين
(3) سورة النساء والمائدة الآية 43 و 60
88

لأن الأصل في الإضافة العهد وكذا الموصول، وحينئذ فالظاهر أن يكونا إشارة إلى
الطرفين المتعارفين المعهودين. وأيضا الظاهر أن الأنعام إنما يتحقق في الطرفين الطبيعيين
وأما غيرهما فليس من باب النعمة بل النقمة.
وحجة الثاني - على ما نقل عن الشيخ في المبسوط - عموم قوله: (أو جاء أحد
منكم من الغائط...) (1) وما يروى من الأخبار - أن الغائط ينقض الوضوء - يتناول
ذلك، ولا يلزم ما فوق المعدة، لأن ذلك لا يسمى غائطا.
وجوابه يعلم مما سبق. وأما قوله: (إن ما فوق المعدة لا يسمى غائطا) فأورد
عليه المحقق في المعتبر أنه ضعيف قال: (لأن الغائط اسم للمطمئن من الأرض نقل
إلى الفضلة المخصوصة، فعند هضم المعدة الطعام وانتزاع الأجزاء الغذائية منه يبقى الثقل،
فكيف خرج يتناوله الاسم ولا اعتبار بالمخرج في تسميته)
وأجاب عنه شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين بأن غرض الشيخ (رحمه الله)
أنه إنما يسمى غائطا بعد انحداره من المعدة إلى الأمعاء وخلعه الصورة النوعية الكيلوسية
التي كان عليها في المعدة، أما قبل الانحدار عن المعدة فليس بغائط إنما هو من قبيل القئ،
وليس مراده وقوع المخرج فيما سفل عن المعدة أو فيما علاها، إذ لا عبرة بتحتية نفس
المخرج وفوقيته، بل بخروج الخارج بعد انحداره عن المعدة وصيرورته تحتها أو قبل
ذلك، غايته أنه - رحمه الله - عبر عما يخرج قبل الانحدار عنها بما يخرج من فوقها وعما
يخرج بعده بما يخرج من تحتها، والأمر فيه سهل. ولا يخفى بعده من كلام الشيخ.
وأنت خبير بأنه على هذا التوجيه الذي ذكره (قدس سره) يرتفع الخلاف بين
الشيخ وبين ابن إدريس ويصير القولان قولا واحدا.
وحجة القول الثالث - على ما نقل عن قائله - عموم الآية والأخبار، ولعله
أشار بالأخبار إلى ما ورد منها مطلقا بنقض الثلاثة من غير تقييد بالمخرج الطبيعي،

(1) سورة النساء والمائدة. الآية 43 و 60
89

كصحيحة زرارة الأخيرة ورواية زكريا بن آدم (1).
وفي الآية ما تقدم. وأما الأخبار فمن الظاهر البين أن الحكم فيها ليس معلقا
على ذات الخارج حتى يكون الحكم دائرا مدارها، بل على صفة متعلقة بها وهي الخروج
فينصرف إلى المعهود الغالب، كما يقال بظهور (حرمت عليكم الميتة...) (2) في تحريم الأكل.
وحجة القول الرابع يعلم من القدح في أدلة الأقوال المتقدمة.
قال شيخنا صاحب رياض المسائل (رحمه الله تعالى) (3) - بعد نقل الأقوال
الثلاثة المتقدمة ونفي الوقوف على دليل يشهد للشيخ - ما لفظه: (أما قول ابن إدريس
فغير بعيد عن الصواب عن صدق هذه الأسماء على الخارج عرفا، لموافقة ظاهر الكتاب
(أو جاء أحد منكم من الغائط...) (4) ولا قائل بالفرق، وما ورد في بعض الأخبار
- من التقييد بالطرفين الأسفلين ونحو ذلك - غير صالح لتقييد اطلاق الكتاب،
لكونه خرج مخرج الغالب) انتهى.
أقول: وتحقيق المقام - بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر عليهم الصلاة
والسلام - أن الاستدلال بالآية هنا - بعد تسليم صحة الاستدلال بظواهر القرآن بغير
ورود نص في تفسيرها - لا يخلو من خفاء، إذ ما ذكر في توجيه الاستدلال بها نوع
تخريج وتخمين لا يمكن الاعتماد عليه في تأسيس حكم شرعي، وأما الروايات فهي دائرة
بين مطلق ناقضية الثلاثة في الجملة وبين حاصر للنقض فيما خرج من الأسفلين، فيحتمل
حينئذ حمل مطلقها على مقيدها، فلا دلالة فيها حينئذ على ما ذهبوا إليه من النقض.
إلا أنه يقدح فيه قوة احتمال حمل الحصر على الإضافي - كما قدمنا - ردا على العامة
ويحتمل - وهو الأظهر - حملها على ما تقدم من التعبير بالفرد الغالب، فإنه لا يخفى - على

(1) في الصحيفة 87.
(2) سورة المائدة، الآية 4.
(3) وهو الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد الخطى البحراني.
(4) سورة المائدة والنساء. الآية 43 و 6.
90

المتتبع لموارد الأخبار والمتصفح لمضامين الآثار - أن الأحكام المودعة فيها إنما هي
مقصورة على ما هو الشائع المتعارف لا على الفروض النادرة، ومع عدم أظهرية هذا
الاحتمال فلا أقل من الاجمال الموجب لعدم جواز الاعتماد عليها في الاستدلال وبقاء
المسألة في قالب الشك والاشكال، وحينئذ فالواجب التمسك بيقين الطهارة، لقوله
(عليه السلام) في صحيحة زرارة (1): (حتى يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه
على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر).
وما أجاب به بعض فضلاء متأخري المتأخرين - من عدم دلالة الحديث المذكور
على مثل هذه الصورة، قال: (الذي أفهم من الخبر المذكور عدم حصول الانتقاض
بالشك في وجوب ما ثبت كونه حدثا، ولا يدخل فيه الشك في حديثة ما يتيقن وجوده)
وقال في موضع آخر: (إن المقطوع به من الخبر هو ما ثبت كونه ناقضا لو شك في
وجوده وعدمه، فإنه لا يرفع يقين الطهارة قبله. وأما الشك في فردية بعض الأشياء لما
هو ناقض فلا دلالة في الخبر عليه) - فيه ما تقدم في المقدمة الحادية عشرة (2).
وبما ذكرنا يظهر لك توجه المناقشة في الفردين الآخرين المدعى عليهما الاجماع
أعني ما لو اتفق المخرج من غير الموضع المعتاد خلقة أو بعد انسداد المعتاد، فإنه مع إلغاء
الاجماع - كما هو الحق الحقيق بالاتباع - والرجوع إلى الأخبار مع كون المراد منها
ما ذكرنا من الحمل على الفرد الغالب المتعارف - يبقى حكم الفردين المذكورين مغفلا.
قال السيد السند (قدس سره) في المدارك - بعد قول المصنف: (ولو اتفق
المخرج في غير الموضع المعتاد نقض) - ما هذا لفظه: (هذا الحكم موضع وفاق،
وفي الأخبار باطلاقها ما يدل عليه، وفي حكمه ما لو انسد المعتاد وانفتح غيره) انتهى.
وفيه أنه قبل هذا الكلام - بعد أن نقل كلامي الشيخ وابن إدريس واستدلالهما

(1) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) في الصحيفة 145
91

بالآية - قال: وهما ضعيفان، لأن الاطلاق إنما ينصرف إلى المعتاد، ولما رواه الشيخ
في الصحيح عن زرارة، وساق الرواية الأولى مما أسلفناه من رواياته (1) ثم أردفها
برواية سالم أبي الفضل (2) وحينئذ فإذا كان اطلاق الآية إنما ينصرف إلى المعتاد فاطلاق
الروايات كذلك أن لم يكن أولى، لما ذكره من الروايات المصرحة بالفرد المعتاد. نعم
صرح المحدث الأمين الاسترآبادي (قدس سره) أنه يمكن اثبات ذلك من باب تنقيح
المناط، قال: (فإن أحد فرديه مقبول عندنا وهو ما يفيد اليقين، فإن مقتضاه هنا أن
الفضلة المعينة إذا اندفعت نقضت سواء دفعتها الطبيعة من الموضع الطبيعي أو من غيره)
وحينئذ فيتجه على هذا التقدير قولا الشيخ وابن إدريس، إلا أن ما ادعاه (قدس سره)
من الاستدلال بهذا الدليل وإفادته اليقين لا يخلو من اشكال. والاحتياط بالعمل بما
ذهب إليه ابن إدريس مما لا ينبغي تركه.
تنبيهات:
(الأول) - ما ذكر من البحث هنا هل يأتي في الدماء الثلاثة والمني؟ أما الأول
فلم نقف فيه على كلام لأحد من الأصحاب. وأما الثاني فقد صرحوا فيه بما يأتي ذكره
في موضعه إن شاء الله تعالى.
(الثاني) - هل يتمشى الخلاف في خبثية هدا الخارج كما في حدثيته أم لا؟
لم أقف لأحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم) على كلام في المقام سوى شيخنا
المحقق صاحب رياض المسائل (عطر الله مرقده) فإنه قرب فيه الحكم بالخبثية وإن لم
نقل بالحدثية، قال: (لعدم وجود ما يعارض عمومات الأخبار الكثيرة الدالة على
وجوب إزالة ما يسمى بولا وغائطا بالمطهرات من غير تقييد بالخروج من الطرفين) انتهى
(الثالث) - وقع في جملة من الأخبار الواردة بنقض الريح التقييد بسماع صوتها

(1) المتقدمة في الصحيفة 87
(2) المتقدمة في الصحيفة 87
92

أو وجدان ريحها (1) وعلل في بعضها (2) بأن إبليس يجلس بين أليتي الرجل فيشككه.
ومقتضاها عدم النقض بدون أحد الوصفين.
والظاهر حملها على موضع الشك دون ما إذا تيقن الخروج، فإنه ينتقض طهره
وإن لم يجد شيئا من ذلك.
ويدل عليه ما رواه علي بن جعفر عن أخيه في كتاب المسائل (3) قال: (سألته
عن رجل يكون في صلاته فيعلم أن ريحا قد خرجت ولا يجد ريحها ولا يسمع صوتها.
قال: يعيد الوضوء والصلاة، ولا يعتد بشئ مما صلى إذا علم ذلك يقينا) وما رواه
في كتاب فقه الرضا (4) قال (عليه السلام): (فإن شككت في ريح أنها خرجت منك
أو لم تخرج فلا تنقض من أجلها الوضوء إلا أن تسمع صوتها أو تجد ريحها، وإن استيقنت
أنها خرجت منك فأعد الوضوء سمعت وقعها أو لم تسمع وشممت ريحها أو لم تشم).
(الرابع) - الاعتياد الذي يتحقق به النقض على القول المشهور هل عبارة
عن التكرر مرتين فينقض في الثالثة. أو عن التكرر ثلاث مرات فينقض في الرابعة.
أو يرجع فيه إلى العرف؟ أقوال
اختار ثالثها المحقق الثاني في شرح القواعد، وبه جزم في المدارك. وبالأول
صرح الشهيد الثاني في الروض. وبالثاني صرح بعض أفاضل المتأخرين.
ونقل المحدث الأمين الاسترآبادي عن الفاضل الشيخ إبراهيم القطيفي في حاشية
الإرشاد أنه قال: (وهل ينضبط صدق اسم العادة عرفا في عدد؟ وجهان أقربهما ذلك

(1) رواها صاحب الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء
(2) وهو خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) المروي في الوسائل
في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) رواه في قرب الإسناد ص 92 وفي الوسائل في الباب - 1 - من أبواب قواطع الصلاة.
(4) في الصحيفة 1
93

وما هو الأقرب النقض بالرابعة مع عدم تطاول الفصل زمانا في الخروج، وفي النقض
بالثالثة احتمال قوي، لصدق العود بالثانية) ثم قال بعد نقله: (قلت: الظاهر أن تحقق
العادة ملزم للنقض فلا يتوقف النقض على زيادة) انتهى.
(الخامس) - المفهوم من كلام جملة من الأصحاب - منهم: العلامة في التحرير -
جريان ما تقدم من البحث في الريح من الموافقة للحدثين الآخرين في المواضع المجمع عليها
وشرط الاعتياد في محل الخلاف، ومن كلام آخرين - منهم: العلامة في التذكرة والمختلف -
تخصيص البحث بالحدثين الآخرين، حيث ذكروا الفروض المذكورة فيهما ولم يتعرضوا
للريح بالكلية، وجملة من الأصحاب قد صرحوا بنقضها بالخروج من قبل الرجل والمرأة
من غير تقييد بالاعتياد مع التقييد به في الحدثين الآخرين، وبعض خصه بقبل المرأة،
وعلله بأن له منفذا إلى الجوف فيمكن الخروج من المعدة إليه، ومن عمم في القبلين كأنه
لحظ اطلاق الأخبار بالانتقاض من الخروج من الطرفين الأسفلين. وبعض منع من النقض
بها من غير الدبر. والمنقول من خلاف الشيخ في المبسوط وابن إدريس في السرائر
إنما هو في الحدثين الآخرين، بل نقل بعض أفاضل متأخري المتأخرين عن ظاهر
ابن إدريس في السرائر عدم النقض بالريح الخارج من غير الدبر. وأنت خبير - بعد
الإحاطة بما قدمناه - بالحكم في ذلك.
(البحث الثاني) - المشهور بين الأصحاب وجوب الوضوء بالنوم الغالب
على حاستي السمع والبصر على أي حال كان: مضطجعا أو قاعدا، منفرجا أو متلاصقا
وربما ظهر من كلام علي بابويه في الرسالة وابنه في المقنع عدم النقض به مطلقا،
لحصرهما ما يجب إعادة الوضوء به وما ينقضه في البول والمني والغائط والريح. وهو بعيد
من المذهب إلا أن يحمل كلامهما على الناقض مما يخرج من الانسان، كما يشعر به قوله
في المقنع بعد حصر النقض في الأربعة المذكورة: (وما سوى ذلك - من القئ والقلس
والقبلة والحجامة والرعاف والمذي والودي - فليس فيه إعادة وضوء).
94

ويدل على الحكم المذكور الأخبار المستفيضة، كقول الصادقين (عليهم السلام)
في صحيحة زرارة (1) حيث سألهما عما ينقض الوضوء فقالا: (ما يخرج من طرفيك
الأسفلين: من الدبر والذكر: غائط أو بول أو مني أو ريح، والنوم حتى يذهب العقل).
وقوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الحميد بن عواض (2): (من نام وهو
راكع أو ساجد أو ماش على أي الحالات فعليه الوضوء).
وقول الرضا (عليه السلام) في صحيحة ابن المغيرة (3) حين سئل عن الرجل
ينام على دابته فقال: (إذا ذهب النوم بالعقل فليعد الوضوء).
وقول الصادق (عليه السلام) في حسنة إسحاق بن عبد الله الأشعري (4):
(لا ينقض الوضوء إلا حدث، والنوم حدث).
وقوله (عليه السلام) في رواية الكناني (5) حين سأل عن الرجل يخفق وهو
في الصلاة فقال: (إن كان لا يحفظ حدثا منه - إن كان - فعليه الوضوء وإعادة الصلاة
وإن كان يستيقن أنه لم يحدث فليس عليه وضوء ولا إعادة).
وقول أحدهما (عليه السلام) في صحيحة زرارة المضمرة (6) حين قال له:
(الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة
قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن. فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء
قلت: فإن حرك إلى جنبه شئ ولم يعلم به؟ قال: لا حتى يستيقن أنه قد نام، حتى
يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا
بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر) إلى غير ذلك من الأخبار.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(5) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(6) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء. وقد أسندها
إلى الباقر (عليه السلام) في الصحيفة 143 من الجزء الأول.
95

وأما ما يدل بظاهره على خلاف ذلك - كموثقة سماعة المضمرة في الفقيه (1)
حيث (سأله عن الرجل يخفق رأسه وهو في الصلاة قائما أو راكعا قال: ليس عليه وضوء)
وما رواه فيه أيضا (2) مرسلا قال: (سئل موسى بن جعفر (عليه السلام)
عن الرجل يرقد وهو قاعد، هل عليه وضوء؟ فقال: لا وضوء عليه ما دام قاعدا
ما لم ينفرج).
ورواية عمران بن حمران (3) أنه سمع عبدا صالحا (عليه السلام) يقول: (من نام
وهو جالس لم يتعمد النوم فلا وضوء عليه).
ورواية بكر بن أبي بكر الحضرمي (4) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
هل ينام الرجل وهو جالس؟ فقال: كان أبي (عليه السلام) يقول: إذا نام الرجل
وهو جالس مجتمع فليس عليه وضوء، وإذا نام مضطجعا فعليه الوضوء) -
فالجواب عنه (أولا) - بأن الأخبار السابقة أصح سندا، وأكثر عددا
وأصرح دلالة، وأشهر عملا، وأظهر لمذهب الجمهور مخالفة (5) وللقرآن العزيز موافقة،

(1) ج 1 ص 38 وفي الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(2) ج 1 ص 38 وفي الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء.
(5) قال ابن قدامة الحنبلي في المغني ج 1 ص 173: " والنوم على ثلاثة أقسام:
(الأول) - نوم المضطجع، ناقض قليله وكثيره (الثاني) - نوم القاعد، إن كان كثيرا نقض
رواية واحدة، وإن كان يسيرا لا ينقض، وبه قال حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب
الرأي، وقال الشافعي لا ينقض وإن كان كثيرا (الثالث) - نوم القائم والراكع والساجد
فعن أحمد روايتان: إحداهما ينقض، وبه قال الشافعي وثانيتهما لا ينقض إلا إذا أكثر.
وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم لا ينقض مطلقا. واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد
المستند والمحتبى، وأن الاتكاء الشديد ينقض، ولا حد للكثرة فإنها على ما جرت به العادة " وقال في بدائع الصنائع ج 1 ص 31: " لا خلاف بين الفقهاء أن النوم مضطجعا
في الصلاة وغيرها يكون ناقضا، فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله، وكذا إذا
نام على أحد وركيه، لأن مقعده يكون متجافيا عن الأرض فكان معنى النوم مضطجعا
لوجود سبب الحدث بواسطة استرخاء المفاصل وزوال مسكة اليقظة، وفي غير هاتين الحالتين
لا يكون النوم حدثا سواء غلبه النوم أو تعمده كان في الصلاة أو غيرها، وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله)
" إذا نامت العينان استطلق الوكاء " أشار إلى كون للنوم حدثا، حيث جعله علة لاستطلاق
الوكاء " ثم فرع على هذا المسألة النوم في الصلاة قائما أو راكعا أو ساجدا فإنه لا يكون فيه
استطلاق الوكاء. وكذا إذا كان خارج الصلاة فنام قائما أو راكعا أو جالسا على الأرض
غير مستند إلى شئ أو كان مستندا إلى جدار أو سارية أو رجل أو متكئا على يديه إذا
كانت أليته مستوثقة من الأرض فإنه لا وضوء عليه. انتهى. وقال ابن حزم في المحلى ج 1
ص 222: " النوم في ذاته حدث ينقض الوضوء، سواء قر أو كثر، قاعدا أو قائما في
صلاة أو غيرها أو راكعا أو ساجدا أو متكئا أو مضطجعا. أيقن من حواليه أنه لم يحدث
أو لم يوقنوا. وذهب الأوزاعي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء كيف كان. وقال مالك وأحمد ابن حنبل: من نام نوما يسيرا وهو قاعد أو راكب لم ينتقض وضوؤه، وما عدا هذه
الأحوال فالقليل والكثير من النوم ينقض الوضوء. وقال الشافعي: جميع النوم ينقض الوضوء
قليله وكثيره إلا من نام جالسا غير زائل عن مستوى الجلوس فلا ينتقض وضوؤه.
وقال أبو حنيفة: النوم لا ينقض الوضوء إلا أن يضطجع أو يتكئ على إحدى
أليتيه أو إحدى وركيه فقط، ولا ينقضه ساجدا أو قائما أو قاعدا أو راكعا. طال
ذلك أو قصر ".
96

لما رواه ابن بكير في الموثق (1) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله تعالى:
(إذا قمتم إلى الصلاة...) ما يعني بذلك إذا قمتم إلى الصلاة؟ قال: إذا قمتم من النوم
قلت: ينقض النوم الوضوء؟ فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت)
بل نقل العلامة في المنتهى والشيخ في التبيان اجماع المفسرين على ذلك، وحينئذ فيحمل
ما ظهر في المخالفة على التقية، ولعل في نسبته (عليه السلام) في الخبر الأخير ذلك إلى
أبيه نوع اشعار بذلك، أو على ما إذا أم يبلغ إلى ما يوجب ذهاب العقل كما حمله الشيخ

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء.
97

عليه في التهذيبين، وذلك هو ظاهر الرواية الأولى. فإن مجرد خفق الرأس سيما في حال
الاشتغال بالصلاة لا يعبر به عن النوم المزيل للعقل بل من السنة المتقدمة له، كما تشعر
به صحيحة زرارة المتقدمة (1) ويدل عليه ما في الصحاح، حيث قال: (خفق:
حرك رأسه وهو ناعس).
وأما نقل عن الصدوق في الفقيه - من عدم النقض بالنوم إلا حالة الانفراج،
بناء على ما رواه فيه من خبري سماعة وما أرسله عن الكاظم (عليه السلام) (2) -
ففيه أنه (قدس سره) قد صدر الباب بصحيحة زرارة المذكورة هنا (3) في صدر الروايات
الدالة على النقض بالنوم من حيث كونه مذهبا للعقل، لتعليق الحكم على الوصف المشعر
بالعلية، واحتمال عمله بالروايات الأخيرة مخصصة بصحيحة زرارة - كما فهمه عنه من نقل
عنه القول بذلك في الكتاب المذكور - ليس أولى من عمله بالصحيحة المذكورة، حيث
صدر بها الباب. وحمل ما عداها من رواية سماعة على ما هو الظاهر منها من النعاس
دون النوم كما ذكرنا، ومن المرسلة الثانية على التقية، ولا ينافيه ما ذكره في أول كتابه
من كونه إنما قصد ايراد ما يفتي به ويحكم بصحته، إذ من المحتمل قريبا أن مراده بما
يفتي به يعني يجزم بصحته ووروده عن المعصوم وإن كان له نوع تخريج وتأويل، فيصير
عطف الجملة الثانية في كلامه للتفسير. وحمل مجرد روايته لبعض الأخبار الظاهرة المخالفة
للمذهب كهذه الرواية ورواية الوضوء بماء الورد (4) ونحوهما على كون ذلك مذهبا له
- سيما مع ايراد المعارض كما هنا - بعيد جدا.
وكيف كان فالقول بذلك مردود وقائله أعلم به.
ومما يدل على النقض في خصوص هذا الموضع - زيادة على ما تقدم - صحيحة

(1) في الصحيفة 95
(2) المتقدمين في الصحيفة 96
(3) في الصحيفة 95
(4) وهي رواية محمد بن عيسى المتقدمة في الصحيفة 394 من الجزء الأول.
98

معمر بن خلاد (1) قال: (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل به علة لا يقدر
على الاضطجاع والوضوء يشتد عليه وهو قاعد مستند بالوسائد، فربما أغفى وهو قاعد
على تلك الحال. قال: يتوضأ. قلت له: إن الوضوء يشتد عليه لحال علته؟ فقال:
إذا خفي عليه الصوت فقد وجب الوضوء عليه...).
وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الخفقة والخفقتين. فقال: ما أدري ما الخفقة والخفقتان؟ إن الله تعالى يقول:
(بل الانسان على نفسه بصيرة) (3) إن عليا (عليه السلام) كأن يقول: من وجد
طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب عليه الوضوء).
فوائد:
(الأولى) - ظاهر الأخبار المتقدمة أن سببية النوم للوضوء إنما هي من حيث
كونه حدثا موجبا لذلك، وبه جزم بعض أفاضل متأخري، ونقل أن الظاهر أنه هو المشهور بين الأصحاب، لا باعتبار احتمال الحدث حالته كما ربما يفهمه بعض
عبائر الأصحاب، وهذا هو المعنى المراد من حسنة إسحاق بن عبد الله الأشعري
المتقدمة (4) إذ الظاهر أن غرضه (عليه السلام) بيان أن ناقضية النوم من حيث إنه
حدث لا من جهة أنه مظنة للحدث كما زعمته العامة (5) فيكون الغرض من الخبر الرد
عليهم في ذلك. وظني أن ما توهمه جملة من متأخري أصحابنا ومتأخريهم (رضوان
الله عليهم) في المعنى الخبر - من الاحتمال ولزوم الاشكال في ترتيب الاشكال التي

(1) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) سورة القيامة. الآية 15.
(4) في الصحيفة 95
(5) تقدم فيما نقلناه عن بدائع الصنائع في التعليقة د ص 96 ما يؤيد ذلك وإن كان قول
ابن حزم في المحلى فيما نقلناه عنه في التعليقة المذكورة: " النوم في ذاته حدث " ينافي ذلك.
99

يبتني عليها الاستدلال حتى أوسعوا في المخرج عن ذلك دائرة الاحتمال - ليس بذلك
المراد في المقام ولا المقصود لهم (عليهم السلام) إذ لا يخفى على المتتبع لجملة أخبارهم
والمتطلع في أحكامهم وآثارهم أن غرضهم من القاء الكلام إنما هو إفادة الأحكام الشرعية
وبيان المعارف الدينية دون التنبيه على الدقائق اللغوية وما لا نفع له في الدين والدنيا بالكلية
وأن أباه من توفرت رغبته في العلوم العقلية، وحينئذ فما ربما يشعر به ظاهر رواية الكناني
المتقدمة (1) - من ترتب الوضوء على عدم حفظ الحدث منه الموهم بأن نقض النوم إنما
هو لاحتمال الحدث حالته - مما يجب ارتكاب التأويل فيه جمعا، بأن يجعل عدم حفظ
الحدث منه - إن كان - دليلا على غلبة النوم على العقل كعدم سماع الصوت مثلا.
لكن روى الصدوق (قدس سره) في العلل والعيون (2) بسند معتبر عن
الفضل بن شاذان في العلل التي رواها عن الرضا (عليه السلام) قال: (فإن قال قائل: فلم
وجب الوضوء مما خرج من الطرفين خاصة ومن النوم دون سائر الأشياء؟ قيل: لأن
الطرفين هما طريق النجاسة، إلى أن قال: وأما النوم فإن النائم إذا غلب عليه النوم يفتح
كل شئ منه واسترخى، فكان أغلب الأشياء فيما يخرج منه الريح، فوجب عليه الوضوء
لهذه العلة... الحديث).
وهو - كما ترى - صريح في الدلالة على أن نقض النوم إنما هو لاحتمال خروج
الحدث، وهو مشكل، لأن قصارى ما يفيده احتمال خروج الناقض بالنوم، وهو
لا ينقض يقين الطهارة، لما ثبت بالأخبار المستفيضة من عدم نقض اليقين بالشك،
ولا سيما موثقة ابن بكير (3) الدالة على المنع من الوضوء حتى يستيقن الحدث.
ولا ريب أن الترجيح لهذه الأخبار لصحتها سندا، وصراحتها دلالة،

(1) في الصحيفة 95
(2) رواه في العلل في الصحيفة 96، وفي العيون في الصحيفة 290، وفي الوسائل
في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) الآتية في الصحيفة 101
100

واعتضادها بعمل الفرقة الناجية بها سلفا وخلفا في مواضع عديدة.
والظاهر في الخبر المذكور أن ذكر احتمال خروج الحدث ليس على جهة العلية
في النقض بل لبيان الحكمة في نقض النوم، كما في سائر العلل نقلها، فإن أكثر
العلل الواردة في الأخبار أما لتقريب الأفهام القاصرة بالنكت البينة الظاهرة، أو لبيان
الداعي إلى الفعل، أو لبيان وجه المصلحة، أو نحو ذلك، وحينئذ فلا يلزم استناد
النقض إلى احتمال الحدث ليترتب عليه الاشكال المذكور.
(الثانية) - قال في التذكرة: (لو شك في النوم لم تنتقض طهارته، وكذا لو
تخايل له شئ ولم يعلم أنه منام أو حديث النفس، ولو تحقق أنه رؤيا نقض) انتهى.
وقال في المدارك بعد نقله: (وهو كذلك) انتهى.
أقول: فينبغي أن يراد بالشك الذي لا يعارض به اليقين ما هو أعم منه ومن
الظن، لأنه المستفاد من الأخبار:
ومنها - صحيحة زرارة المتقدمة (1) آخر الروايات الأولى.
وموثقة عبد الله بن بكير (2) قال: (إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ،
وإياك أن تحدث وضوء أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت).
وصحيحة زرارة الطويلة (3) وفيها (قلت: فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك
فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لم ذلك

(1) في الصحيفة 95.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء، وفي الباب
- 44 - من أبواب الوضوء. والرواية - كما في كتب الحديث - يرويها عبد الله بن بكير
عن أبيه عن الصادق (عليه السلام).
(3) المروية في الوسائل بنحو التقطيع في الباب - 7 - و 37 و 41 و 42 و 44 -
من أبواب النجاسات.
101

قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين
بالشك أبدا... الحديث).
وحينئذ فما يظهر من كلام بعض من إلحاق الظن باليقين ليس بجيد.
ثم إن في قوله: (ولو تحقق أنه رؤيا نقض) نظرا نبه عليه بعض محققي متأخري
المتأخرين، قال: (إذ يمكن أن تتحقق الرؤيا مع عدم ابطال السمع والعقل إذا قوي
الخيال كما تشهد به التجربة، وحينئذ فالحكم بالنقض مشكل) انتهى. وهو جيد.
(الثالثة) - روى الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) (في الرجل هل ينقض وضوؤه إذا نام وهو جالس؟ قال: إن كان
يوم الجمعة وهو في المسجد فلا وضوء عليه، وذلك أنه في حال ضرورة).
وظاهر الخبر - كما ترى - لا يخلو من الاشكال، وحمله الشيخ (رحمه الله)
على عدم التمكن من الوضوء وإن عليه التيمم، قال: (لأن ما ينقض الوضوء لا يختص
بيوم الجمعة، والوجه فيه أنه يتيمم ويصلي فإذا انفض الجمع توضأ وأعاد الصلاة، لأنه
ربما لا يقدر على الخروج من الزحمة).
واعترضه المحقق الشيخ حسن صاحب المنتقى في الكتاب المذكور بأن فيما ذكره
(رحمه الله) بعدا قال: (ولعل الوجه في ذلك مراعاة التقية بترك الخروج للوضوء
في تلك الحال، أو عدم تحقق القدر الناقض من النوم مع رجحان احتماله بحيث لو كان
في غير الموضع المفروض لحسن الاحتياط بالإعادة، وحيث إنه في حال ضرورة فالاحتياط
ليس بمطلوب منه) انتهى.
واعترضه أخوه لأمه الفاضل السيد نور الدين في شرحه على المختصر، فقال
بعد نقل هذا الكلام: (ولا يخفى أن ما استبعده من حمل الشيخ ليس بأبعد من هذا
الحمل على كلا توجيهيه (أما الأول) فلأن تحقق التقية في مثله في غاية الندور، لأنه

(1) رواه في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء.
102

موقف على انحصار سبب الوضوء في ذلك عند من يتقى منه، ومتى يحصل هذا الحصر
مع تجويز خلافه من الحدث الذي قد لا يدركه غير صاحبه؟ ولا شك أن الدخول في
الصلاة بغير طهارة كيف كان لم يعهد جوازه في الشرع ولو مع الضرورة، كما يدل عليه ما رواه الصدوق (رحمه الله) عن مسعدة بن صدقة (1) أن قائلا قال لجعفر بن
محمد (عليهما السلام): (جعلت فداك أني أمر بقوم ناصبية وقد أقيمت لهم الصلاة وأنا
على غير وضوء، فإن لم أدخل معهم في الصلاة قالوا ما شاءوا أن يقولوا، أفأصلي معهم ثم
أتوضأ وأصلي إذا انصرفت؟ فقال جعفر (عليه السلام): سبحان الله أما يخاف من يصلي
على غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفا؟) على أنه لو تم ذلك فلا يلائم عدم وجوب
الإعادة مطلقا، للاتفاق على بطلان الصلاة مع فقد الطهارة، وربما كانت تلك الصلاة واجبة
كما هو الظاهر. و (أما الثاني) - فلأن حمله على عدم تيقن النقض لا يوافق تقييده
بالضرورة، لأنه على هذا التقدير لا شبهة في عدم وجوب الوضوء مطلقا، بل لا يسوغ
الاحتياط بفعله، للنهي عن نقض اليقين بالشك وأنه لا ينقض إلا بيقين آخر، كما دلت
عليه رواية زرارة المتقدمة (2) وموثقة بكير بن أعين (3) صريحة في ذلك، حيث قال
في آخرها: إياك أن تحدث وضوء أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت) انتهى
كلامه زيد مقامه.
وفيه (أولا) - أن ما ذكره - في التوجيه الأول من معنى التقية - الظاهر أنه
ليس بمراد ذلك القائل، بل الظاهر أن مراده إنما هو الخوف الناشئ من التهمة بترك
الصلاة لخروجه من المسجد في أثناء الصلاة، سيما مع استلزامه التخطي بين الصفوف

(1) ج 1 ص 251، وفي الوسائل في الباب - 2 - من أبواب الوضوء
(2) وقد تقدمت في الصحيفة 95
(3) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء، وفي الباب - 44 -
من أبواب الوضوء، وقد تقدمت في الصحيفة 101.
103

المحظور عندهم، ولعل في قوله: (في تلك الحال) إشارة إلى هذا المعنى الذي ذكرناه
لا التقية بالنقض بالنوم من حيث إنه ليس بناقض عندهم كما توهمه. نعم ينقدح عليه
ما ذكره من لزوم الدخول في الصلاة بغير وضوء مع ورود الخبر المذكور بالمنع منه وإن
كان تقية. إلا أن الخبر المشار إليه لا يخلو أيضا من الاشكال الموجب لضعف الاستدلال
و (ثانيا) - أن ما طعن به على التوجيه الثاني غير موجه. وذلك فإن الظاهر أن مراد ذلك القائل أن التقييد بالضرورة إنما هو للاحتياط بالوضوء وعدمه كما هو
صريح آخر كلامه، فقول المعترض: - (لأنه على هذا التقدير... الخ) - ليس في محله.
قوله: (بل لا يسوغ الاحتياط بفعله... الخ) - مردود (أولا) - بعموم أخبار
الاحتياط الشاملة لما نحن فيه.
و (ثانيا) - بأن ما استند إليه من الأخبار محمول على الوضوء بقصد الوجوب،
فإنه المستلزم لنقض اليقين لا مطلقا. وإلا لانتقض بالوضوء المجدد مع ثبوته اجماعا نصا وفتوى
(الرابعة) - المشهور - بل ادعى عليه غير واحد من متأخري أصحابنا الاجماع -
على عد مزيل العقل من اغماء وسكر وجنون ونحوها من جملة الأسباب الموجبة للوضوء،
والمذكور في كلام الشيخين في المقنعة والتهذيب - وهو الذي ادعى عليه في التهذيب
الاجماع - المرض المانع من الذكر، كالمرة التي ينغمر بها العقل والاغماء، والمراد
بالمانع من الذكر - كما استظهره بعض الفضلاء من كلامه - أن لا يكون الانسان معه
ضابطا لما يكون منه من حدث.
وأما ذكر الجنون والسكر - والاستدلال عليهما بصحيحة معمر بن خلاد (1) التي
استدل بها في التهذيب على ما ذكره - فهو من زيادات العلامة والشهيد (رحمهما الله تعالى)
قال في التهذيب بعد نقل الرواية المذكورة: قوله (عليه السلام): (إذا خفي عنه

(1) المتقدمة في الصحيفة 99
104

الصوت فقد وجب الوضوء عليه) يدل على ما ذكره من إعادة الوضوء من الاغماء والمرة
وكل ما يمنع من الذكر. انتهى.
وأورد عليه أن الاغماء لغة بمعنى النوم. فقوله (عليه السلام): (إذا خفي عنه
الصوت فقد وجب الوضوء عليه) في قوة قوله: (إذا خفى عنه الصوت في حال اغفائه
فقد وجب عليه الوضوء).
وأجيب بأن كلامه (عليه السلام) مطلق فلا يتقيد بالمقدمة الخاصة.
ورد بأن المحدث عنه هو ذلك الرجل الذي غفي وهو قاعد. فلا يكون مطلقا بل
مقيدا بالنوم. وحينئذ فلا دلالة للخبر على المدعى.
وتمحل بعض متأخري المتأخرين في لفظ الاغفاء، فاستظهر حمله في الرواية
على الاغماء مستندا إلى دلالة (ربما) على التكثير، قال: (بل هو الغالب فيها كما صرح
به في مغني اللبيب، بل ذكر الشيخ الرضي (رحمه الله) أن التكثير صار لها كالمعنى
الحقيقي والتقليل كالمعنى المجازي المحتاج إلى القرينة، والذي يكثر في حال المرض هو
الاغماء دون النوم) انتهى. ولا يخفى ما فيه.
وكيف كان فالخبر المذكور أخص من المدعى، لاختصاصه بما خفي فيه الصوت،
فلا يتناول مثل الجنون والسكر ونحوهما مع عدم خفاء الصوت.
وربما استدل أيضا بتعليق نقض النوم بذهاب العقل فيما تقدم من الأخبار،
كقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة عن الصادقين (عليهما السلام) (1): (والنوم
حتى يذهب العقل..) وفي صحيحة ابن المغبرة (2): (إذا ذهب النوم بالعقل...).
ورد بأن غاية ما تدل عليه تلك الأخبار هو نقض النوم عند ذهاب العقل وعدم
نقضه قبله، وبمجرد هذا الدوران لا تثبت العلية، لجواز أن لا يكون له دخل في العلية

(1) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) المروية الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء.
105

أصلا، أو تكون خصوصية النوم شرطا في النقض أيضا، فلا تثبت العلية له مجردا.
وصار بعض إلى الاستلال على ذلك بما دل على حكم النوم من باب التنبيه
والأولوية، قال: (فإنه إذا وجب الوضوء بالنوم الذي يجوز معه الحدث كما تدل عليه
إناطته بإزالة العقل وجب بالاغماء والسكر بطريق أولى) انتهى.
وفيه أنك قد عرفت مما سبق أن ظاهر الأخبار كون النوم من حيث هو ناقضا
لا من حيث احتمال طرو الحدث حالته، وإن ما دل على خلاف ذلك فإنه - عدم
الصراحة - معارض بما هو أقوى منه. والأولوية التي ادعاها إنما تثبت لو ثبت أن العلة
في نقض النوم ما ادعاه.
وظاهر المحدث الأمين الاسترآبادي (قدس سره) الاستدلال على ذلك بصحيحة
معمر بن خلاد (1) وتعدية الحكم إلى ما خفى فيه الصوت من سكر ونحوه - لا في الجنون
ولا في كل أفراد السكر - بطريق تنقيح المناط كما قدمنا الإشارة إليه.
وفيه ما عرفت من جواز مدخلية خصوص النوم في العلية، والغاؤها - ليثبت الحكم
كليا كما هو معنى تنقيح المناط - يحتاج إلى دليل. والعجب منه (رحمه الله) في ادعائه
فيما تقدم من كلامه قطعية أحد فردي تنقيح المناط وعده ما هنا وهناك من قبيل ذلك
من غير ايراد برهان واضح على ما ادعاه من القطعية، بل ولا الإشارة إلى ذلك
بالكلية، مع كونه لا يعتمد على الظن وإن كان مستفادا من الدليل، بل يمنع من سلوك
تلك السبيل وينسب من سلكه إلى الضلال والتضليل، كما أطال به في الفوائد المدنية
التشنيع والتسجيل.
والتحقيق في المقام أن يقال: إنك إذا رجعت إلى الروايات المتقدمة في المسألة
وضممت بعضها إلى بعض وجدتها متفقة على النقض بالنوم، لكن ربما حصل الاشكال

(1) المتقدمة في الصحيفة 99
106

فيما به يتحقق ذلك، ومن ثم كثر السؤال عنه في الأخبار، كما يدل عليه أخبار الخفقة
والخفقتين ونحوها، فجعلوا (عليهم السلام) له مناطا يعلم به وحده يرجع إليه، وهو
غلبته على العقل تارة وعدم السماع أخرى، وربما جمعوا بينهما، وحينئذ فهذه الأشياء
لا تصلح لعلية النقض مطلقا، لأن الشارع إنما جعلها مناطا لاستعلام الناقض، فتعدية
النقض إليها - والغاء خصوصية النوم من البين - أمر لا أثر له في الأخبار ولا عين.
وبعض فضلاء متأخري المتأخرين - حيث ضاق عليه المجال في المقام بما وقع
فيه من النقض والابرام - تشبث بذيل الاجماع. وأنت خبير بما فيه من المناقشة والنزاع
نعم روى في كتاب دعائم الاسلام (1) عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام):
(أن الوضوء لا يجب إلا من حدث، وأن المرء إذا توضأ صلى بوضوئه ذلك ما شاء من
الصلوات ما لم يحدث أو ينم أو يجامع أو يغم عليه أو يكون منه ما يجب منه إعادة الوضوء)
إلا أن الكتاب المذكور قد عرفت ما في الاعتماد عليه فيما سبق (2).
هذا ما يقتضيه النظر في أدلة المسألة، والاحتياط مما لا تهمل المحافظة عليه.
وأما ما بعض أقسام المستحاضة الذي هو أحد أسباب الوضوء فسيأتي تحقيقه في محله
(البحث الثالث) - الأشهر الأظهر أنه لا يوجب الوضوء غير ما قدمنا ذكره
وههنا أشياء قد اختلفت فيها الأخبار، وبذلك وقع الاختلاف فيها بين علمائنا الأبرار.
(فمنها) - المذي، والمشهور عدم ايجابه الوضوء، وذهب ابن الجنيد إلى أنه
متى كان من شهوة أوجب الوضوء، وربما أشعر كلام الشيخ في التهذيب بموافقته له فيما
إذا كان كثيرا خارجا عن المعتاد، لكن الظاهر أنه لا يثبت بمجرد ذلك كونه مذهبا له،
فإنه ذكره في مقام الاحتمال للجمع بين الأخبار، ومثله لو عد مذهبا له لم تنحصر مذاهبه.
والأخبار الدالة على القول المشهور متكاثرة:

(1) ج 1 ص 123
(2) ص 44
107

و (منها) - الأخبار الدالة على الحصر في الأسباب المتقدمة حسبما قدمنا (1)
. (منها) - حسنة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: (إن سال
من ذكرك شئ من مذي أو ودي وأنت في الصلاة، فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا
تنقض له الوضوء وإن بلغ عقبيك، فإنما ذلك بمنزلة النخامة... الحديث).
وعلى هذا المنوال صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (3) وحسنة بريد بن معاوية (4)
وحسنة محمد بن مسلم (5) وصحيحة زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم (6) وصحيحة
ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا (7) وفيها تصريح بكون المذي من الشهوة،
وموثقة إسحاق بن عمار (8) ورواية عمر بن حنظلة (9) ورواية عنبسة بن مصعب (10)
ومرسلة ابن رباط (11) وظاهرها تخصيص المذي بما يخرج من الشهوة.
ويدل على ما ذكره ابن الجنيد روايات: (منها) صحيحة محمد بن إسماعيل
ابن بزيع (12) قال: (سألت الرضا (عليه السلام) عن المذي فأمرني بالوضوء منه،
ثم أعدت عليه في سنة أخرى فأمرني بالوضوء منه. وقال: إن علي ابن أبي طالب (عليه
السلام) أمر المقداد بن الأسود أن يسأل النبي (صلى الله عليه وآله) واستحيى أن
يسأله، فقال: فيه الوضوء).
ويرد على الاستدلال بهذه الرواية (أولا) - أن موثقة إسحاق بن عمار المشار
إليها آنفا عن الصادق (عليه السلام) (تضمنت أن عليا (عليه السلام) كان رجلا مذاء

(1) في الصحيفة 87
(2) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(6) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(7) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء.
(8) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(9) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(10) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء، وفي الباب
- 4 و 7 - من أبواب الجنابة.
(11) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(12) المروية في الوسائل في لباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
108

واستحيى أن يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمكان فاطمة، فأمر المقداد أن
يسأله وهو جالس، فسأله فقال: ليس بشئ) والترجيح لهذه الرواية لاعتضادها
بالأخبار المستفيضة المتقدمة.
و (ثانيا) - أن الراوي المشار إليه بعينه روى في الصحيح عن أبي الحسن
(عليه السلام) (1) قال: (سألته عن المذي فأمرني بالوضوء منه، ثم أعدت عليه سنة
أخرى، فأمرني بالوضوء منه، وقال: إن عليا (عليه السلام) أمر المقداد أن يسأل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستحيى أن يسأله، فقال: فيه الوضوء. قلت:
فإن لم أتوضأ؟ قال لا بأس) ومن القواعد المقررة عندهم أنه إذا روي الخبر تارة مع
زيادة وأخرى بدونها عمل على تلك الزيادة ما لم تكن مغيرة، هذا الخبر مما يدل على أن الأمر بالوضوء فيما تضمنه من تلك الأخبار على الاستحباب.
ثم إن الظاهر أن هذه الرواية لا تصلح مستندا لما ذهب إليه ابن الجنيد لتخصيصه
الناقض من المذي بما يخرج بشهوة، وهذه الرواية مطلقة، وحملها على الخارج بشهوة
ليس أولى من الحمل على الاستحباب لما علمت.
. ومما يدل أيضا على ما ذهب إليه صحيحة علي بن يقطين (2) قال: (سألت
أبا الحسن (عليه السلام) عن المذي أينقض الوضوء؟ قال: إن كان من شهوة نقض).
ورواية أبي بصير (3) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المذي يخرج
من الرجل؟ قال: أحد لك فيه حدا؟ قال: قلت: نعم جعلت فداك. قال: إن خرج
منك على شهوة فتوضأ، وإن خرج منك على غير ذلك فليس عليك فيه وضوء)
ونحوهما رواية الكاهلي (4).
والاستدلال بهذه الروايات أيضا لا يخلو من الاشكال:

(1) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
109

(أما أولا) - فلأن ظاهر مرسلة ابن رباط المتقدمة (1) - حيث قال فيها:
(وأما المذي فإنه يخرج من الشهوة) - اختصاص المذي بالخارج عن شهوة، ويؤيده
ما ذكره في الفقيه (2) حيث قال: (والمذي ما يخرج قبل المني) وكلام أهل اللغة أيضا،
حيث خصوه بذلك أيضا، ولذلك عرفه شيخنا الشهيد الثاني بأنه ماء رقيق لزج يخرج
عقيب الشهوة، ونظم ذلك بعض متأخري علمائنا فقال:
المذي ماء رقيق أصفر لزج * خروجه بعد تفخيذ وتقبيل
وحينئذ فما اشتملت عليه هذه الأخبار - من وجود فرد له ليس عن شهوة - مشكل
و (ثانيا) - أنه قد روى يعقوب بن يقطين في الصحيح (3) قال: (سألت
أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يمذي وهو في الصلاة من شهوة أو من غير شهوة.
قال: المذي منه الوضوء) فإنها دالة على ثبوت الوضوء منه وإن لم يكن عن شهوة. وحمل
الشيخ (رحمه الله) - الخبر المذكور على التعجب والاستفهام الانكاري - لا يخلو من بعد.
وظاهر جماعة من متأخري متأخرينا (رضوان الله عليهم) حمل هذه الأخبار
كلا على الاستحباب جمعا، وأيدوه بصحيحة ابن بزيع الثانية (4) وهو وإن احتمل إلا أن الظاهر أن الأقرب الحمل على التقية:
(أما أولا) - فلأنها - كما ذكرنا سابقا - هي الأصل في اختلاف الأخبار،
والعامة كلهم إلا الشاذ منهم على النقض به (5).

(1) تقدمت الإشارة إليها في الصحيفة 108.
(2) ج 1 ص 39
(3) رواه صاحب الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء.
(4) المتقدمة في الصحيفة 109
(5) كما في بدائع الصنائع للكاسانى الحنفي ج 1 ص 25، والمغني لابن قدامة الحنبلي
ج 1 ص 170، والأم للشافعي ج 1 ص 14. وفي شرح النووي على صحيح مسلم على
هامش ارشاد الساري ج 2 ص 344 حكى عن أبي حنيفة والشافعي وأحمد والجماهير أنه يوجب
الوضوء. وفي كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني ج 1 ص 12 " والمذي ينقض الوضوء إلا عند مالك " وفي عمدة القارئ للعيني شرح البخاري ج 2
ص 36 " لا خلاف في وجوب الوضوء منه ولا خلاف على عدم وجوب الغسل " ثم نقل
عن القاضي عياض المالكي " أن المذي المتعارف وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما
يجري من اللذة أو لطول العزوبة لا خلاف بين المسلمين في ايجاب الوضوء منه وايجاب
غسله لنجاسته " وفي بداية المجتهد لابن رشد المالكي ج 1 ص 30 دعوى الاتفاق على ناقضيته
إذا كان خروجه على وجه الصحة لا المرض. ويظهر الاتفاق على ذلك من (الفقه على المذاهب
الأربعة) ج 1 ص 77 حيث ذكرت ناقضيته ولم يذكر خلاف المذاهب فيها.
110

(لا يقال): إنهم لا يخصون النقض بالخارج عن الشهوة كما هو ظاهر الأخبار.
(لأنا نقول): قد عرفت مما حققناه سابقا أنه لا يشترط في الحمل على التقية
وجود القائل بذلك، مع أن بعض هذه الأخبار المخالفة قد تضمنت النقض بكلا
الفردين كما عرفت، وبعضا به مطلقا.
و (أما ثانيا) - فلأنها أحد طرق الترجيح عند تعارض الأخبار دون الحمل
على الاستحباب والكراهة وإن اشتهر بين أصحابنا الجمع بين الأخبار بذلك والغاء تلك
وأما الرواية أعني صحيحة محمد بن إسماعيل فيمكن حملها على أن نفي البأس عن عدم
الوضوء بسببه مع عدم التقية، وهو لا ينافي الأمر به تقية، فتحمل أوامره (عليه السلام)
بالوضوء أولا مع النقل المذكور على التقية، ونفي البأس عن عدم الوضوء منه على عدمها.
ولعل قرائن الحال في وقت السؤال كانت دالة على ذلك وإن خفي علينا الآن العلم بذلك
ومثله في الأخبار غير عزيز.
وربما احتمل بعض فضلاء متأخري المتأخرين (رضوان الله عليهم) حمل مطلق
الأخبار الواردة في المسألة على مقيدها، فيجب الوضوء مما خرج بشهوة.
وفيه أن تقييد المطلق ارتكاب لما هو خلاف الظاهر فيه البتة، فلو أمكن التأويل
في المقيد ولم يكن في ارتكابه خلاف الظاهر أو كان أقل مرتبة من الخلاف الذي
في جانب المطلق، تعين التأويل في جانب المقيد ولم يرتكب حمل المطلق عليه. وما نحن فيه
111

من قيل الثاني، لأن المذي أن لم نقل بأنه مخصوص بما يخرج عقيب الشهوة كما
أسلفنا، وحينئذ فلا يكون من قبيل تعارض المطلق والمقيد، فلا أقل من أن يكون
الغالب منه هو ما يكون عقيب الشهوة. وحينئذ فحمل تلك الأخبار المستفيضة المتكاثرة
على ما هو الفرد النادر الغير المتعارف أشد خلافا للظاهر البتة من حمل تلك الروايات
المخالفة على التقية كما اخترناه، أو الاستحباب كما نقلناه.
و (أما ثالثا) - فلأن صحيحة ابن أبي عمير (1) دلت على نفي الوضوء في المذي
من الشهوة. وارسالها غير ضائر، لما تقرر عندهم من عد مراسيله في جملة المسانيد، فلا
ينافي إرسالها الصحة سيما مع كونه رواها عن غير واحد من أصحابنا مما يؤذن باستفاضة
الحكم بذلك. هذا ما اقتضاه النظر. والاحتياط في كل مقام من أعظم المهام.
و (منها) - التقبيل، ومس الفرجين ظاهرا أو باطنا من محلل أو محرم،
والقهقهة ولو في الصلاة، والحقنة والدم الخارج من السبيلين المشكوك في مصاحبة الناقض له
خلافا لابن الجنيد في الأول مقيدا بكونه عن شهوة وكونه لمحرم، وفي الثاني مقيدا له
بالباطن في فرجيه وبالباطن في فرج الغير بشرط الشهوة من المحلل والمحرم، وللصدوق
أيضا في الثاني بالنسبة إلى الانسان نفسه في باطن دبره وإحليله، ولابن الجنيد في الثالث
مقيدا له بكونه في الصلاة متعمدا لنظر أو سماع ما أضحكه، وفي الرابع والخامس، مع أنه سلم أن الدم الخارج من السبيلين إذا علم خلوه من النجاسة لا يعد ناقضا.
واحتج على الأول برواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
(إذا قبل الرجل المرأة من شهوة أو مس فرجها أعاد الوضوء).
وعلى الثاني بالرواية المذكورة، وبموثقة عمار (3) قال: (سئل أبو عبد الله (عليه
السلام) عن الرجل يتوضأ ثم يمس باطن دبره. قال: نقض وضوءه. وإن مس باطن

(1) تقدمت الإشارة إليها في الصحيفة 108
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء
112

إحليله فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان في الصلاة قطع الصلاة ويتوضأ ويعيد الصلاة،
وإن فتح إحليله أعاد الوضوء وأعاد الصلاة)
وبمضمون هذه الرواية عبر في الفقيه (1) فقال: (وإذا مس الرجل باطن دبره
أو باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان في الصلاة قطع الصلاة وتوضأ وأعاد
الصلاة، وإن فتح إحليله أعاد الوضوء والصلاة) انتهى.
وعلى الثالث برواية سماعة (2) قال: (سألته عما ينقض الوضوء. قال: الحدث
تسمع صوته أو تجد ريحه، والقرقرة في البطن إلا شئ تصبر عليه، والضحك
في الصلاة، والقئ).
وأما الرابع فلم نقف له على دليل، والعلامة في المختلف مع تكلفه نقل الأدلة
لما ينقله فيه من الأقوال نقله ولم يذكر له دليلا، ويمكن استناده فيه إلى اطلاق بعض
الأخبار الدالة على نقض ما يخرج من السبيلين.
وأما الخامس فنقل في المختلف عنه الاستدلال بأنه بعد خروج الدم المشكوك
في ممازجته للنجاسة شاك في الطهارة. فلا يجوز له الدخول في الصلاة، لأن المأمور به
الدخول بطهارة يقينية.
والجواب عن ذلك (أولا) - بالمعارضة بالأخبار (3) الدالة على حصر الأسباب
الموجبة فيما قدمناه مما أسلفنا ذكره وأوسعنا نشره.
و (ثانيا) - أما عن الأول فبالمعارضة بصحيحة الحلبي (4) قال: (سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن القبلة تنقض الوضوء؟ قال: لا بأس).

(1) ج 1 ص 39
(2) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) المتقدمة في الصحيفة 87
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء.
113

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال: (ليس في القبلة ولا في المباشرة ولا مس الفرج وضوء).
ومثلها صحيحة زرارة الأخرى (2) ورواية عبد الرحمان ابن أبي عبد الله (3).
وأما عن الثاني فبالمعارضة بصحيحة زرارة المذكورة وموثقة سماعة (4) قال:
(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك
وهو قائم يصلي، أيعيد وضوءه؟ فقال: لا بأس بذلك، إنما هو من جسده).
وصحيحة معاوية بن عمار (5) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
يعبث بذكره في الصلاة المكتوبة. قال: لا بأس).
ومثلها رواية عبد الرحمان ابن أبي عبد الله وصحيحة زرارة.
وأما عن الرابع فبعدم الدليل، وضعف الاستناد إلى ما احتملناه له ظاهرا.
وأما عن الخامس فيما ذكره العلامة في المختلف، وحاصله أن ذلك يرجع إلى
الشك في الحدث مع تيقن الطهارة.
والتحقيق حمل ما تمسكوا به من الأخبار على التقية، حيث إن كثيرا من العامة
بل الأكثر - كما يفهم من التذكرة - قائلون بمضمون ذلك (6) وأما الحمل على الاستحباب

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء والباب - 26 -
من قواطع الصلاة.
(6) أما التقبيل ففي المغني لابن القدامة الحنبلي ج 1 ص 192 " المشهور من مذهب
أحمد أن لمس النساء بشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة، وهذا قول علقمة
وأبي عبيدة والنخعي والحكم وحماد ومالك والثوري وإسحاق والشعبي، فإنهم قالوا: يجب
الوضوء على من قبل لشهوة ولا يجب على من قبل لرحمة. وممن أوجب الوضوء في القبلة ابن
مسعود وابن عمر والزهري وزيد بن أسلم ومكحول ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي
وسعيد بن عبد العزيز والشافعي " وفي المدونة لمالك ج 1 ص 13 ما يوافق ذلك.
وأما مس الفرجين ففي المحلى لابن حزم ج 1 ص 235 ذكر في مقام بيان نواقض
الوضوء: مس الرجل ذكر نفسه عمدا بأي شئ كان سوى مسه بالفخذ والساق والرجل
من نفسه، ومس المرأة فرجها عمدا كذلك، ومس الرجل ذكر غيره صغيرا كان أو كبيرا
حيا أو ميتا، بأي عضو مسه عمدا من جميع جسده، من ذي رحم محرمة أو من غيره،
ومس المرأة فرج غيرها عمدا كذلك، وأنه لا دخل للذة في شئ من ذلك، وفي ص 227
منه نسب الحكم بناقضية مس الفرج إلى سعد ابن أبي وقاص وابن عمر وعطاء وعروة
وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وأبان بن عثمان وابن جريح والأوزاعي والليث والشافعي
وداود وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وذكر أن الشافعي والأوزاعي خصا
الوضوء من المس بباطن الكف دون ظاهرها. وأن عطاء ابن أبي رباح لا يرى انتقاض
الوضوء بمس الفرج بالفخذ والساق ويحكم بانتفاضة بالمس بالذراع.
وأما القهقهة ففي البدائع للكاسانى الحنفي ج 1 ص 32 أنها ناقضة للوضوء إذا كانت
في الصلاة التي لها ركوع وسجود، فلا تكون حدثا خارج الصلاة ولا في صلاة الجنازة
وسجدة التلاوة، وأن التبسم ليس بحدث. وفي المغني ج 1 ص 177 نسب إلى أصحاب
الرأي أنه يجب الوضوء من القهقهة داخل الصلاة دون خارجها، وقال: " وروى ذلك عن
الحسن والنخعي والثوري ".
وأما الحقنة ففي كتاب الأم للشافعي ج 1 ص 14 " أن جميع ما خرج من ذكر أو دبر
أو حقنة ذكر أو دبر فخرج على وجهه أو يخلطه شئ غيره ففيه كله الوضوء، لأنه خارج
من سبيل الحدث " وفي المغني ج 1 ص 170 " إن كان المحتقن قد أدخل رأس الزراقة ثم
أخرجه نقض الوضوء، وكذلك لو أدخل فيه ميلا أو غيره ثم خرج نقض الوضوء، لأنه
خارج من السبيل فنقض كسائر الخارج. ولو احتقن في دبره فرجعت أجزاء خرجت
من الفرج نقض الوضوء ".
وأما الدم الخارج من السبيلين ففي المغني ج 1 ص 169 نسبة الحكم بانتفاض الوضوء
به إلى الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي. ويقتضي ذلك عموم عبارة الأم
المتقدمة في الحقنة. وفي شرح المنهاج لابن حجر ج 1 ص 58 الحكم بناقضية كل
خارج.
وفي بدائع الصنائع ج 1 ص 25 علل ناقضية البول والغائط والمذي والودي والمني ودم
الحيض والنفاس ودم الاستحاضة بأنها كلها أنجاس وقد انتقلت من الباطن إلى الظاهر فوجد
خروج النجس من الآدمي الحي فيكون حدثا.
114

فظني بعده وإن صرح به جملة من الأصحاب واعتمدوه جمعا بين الأخبار في جملة الأبواب
بل صرح بعضهم بترجيح الجمع به بين الأخبار وإن أطبق العامة على القول المخالف،
وهو اجتهاد بحت في مقابلة النصوص، وتخريج صرف، بل خروج عن الطريق المنصوص
115

و (منها) - القئ ولو عمدا، والرعاف، والحجامة، والشئ الخارج من غير
السبيلين أو منهما غير مختلط بناقض، وانشاد الشعر وإن كان باطلا أو فوق الأربعة
أبيات، وغيبة المسلم، والأخذ من الشعر أو الظفر ولو بحديد، ومصافحة الكافر، ومس
الكلب، وشرب ألبان الإبل والبقر وأكل لحومهما، والودي الخارج بعد البول،
وما ورد في بعضها محمول على التقية، لقول العامة بالنقض بذلك (1).

(1) أما القئ ففي بدائع الصنائع ج 1 ص 25 " القئ إن كان ملء الفم يكون حدثا
وإن كان أقل من ملء الفم لا يكون حدثا. وعند زفر يكون حدثا قل أو كثر " ثم ذكر أنه
لا فرق بين أقسام القئ، وأن الصحيح في تفسير ملء الفم أن يكون عاجزا عن إمساكه
ورده. وفي المغني ج 1 ص 186 " والقلس كالدم ينقض الوضوء منه ما فحش، وحكى عن أحمد الوضوء إذا ملأ الفم " والقلس كما في مقاييس اللغة لابن فارس والقئ. وفي
الصحاح ما يخرج من الحلف ملء الفم أو دونه وليس بقئ وإن عاد فهو قئ. وفي شرح
الزرقاني في مختصر أبي الضياء في الفقه المالكي ج 1 ص 91 نسبة ناقضية القئ والقلس
إلى أبي حنيفة.
وأما الرعاف فيقتضي ناقضيته التعليل المتقدم عن بدائع الصنائع في التعليقة 6 ص 114
في الدم الخارج من السبيلين، واطلاق كلام ابن قدامة في المغني ج 1 ص 184، حيث ذكر
ناقضية الخارج من البدن من غير السبيل إذا كان نجسا وإن ذلك مروي عن ابن عباس
وابن عمر وسعيد بن المسيب وعلقمة وعطاء وقتادة والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي،
ونسب إلى أبي حنيفة ناقضية الدم إذا سال. وفي ص 186 ذكر أن القيح والصديد كالدم.
وأما الحجامة فقد نسبت ناقضيتها في الحاجم والمحتجم إلى أبي حنيفة في شرح الزرقاني
على مختصر أبي الضياء ج 1 ص 91
وأما الشئ الخارج من غير السبيلين فيظهر الحال فيه بما ذكرناه في الرعاف
وأما ما يخرج منهما غير مختلط بناقض فيظهر الحال فيه بمراجعة ما ذكرناه في الحقنة
وفي الدم الخارج من السبيلين في التعليقة 6 ص 114
وأما انشاد الشعر ففي شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء ج 1 ص 91 نسبة
ناقضيته إلى قوم.
وأما الأخذ من الشعر والظفر فقد نسب في بدائع الصنائع ج 1 ص 33 الحكم بانتفاض
الوضوء بقلم الظفر وجز الشعر وقص الشارب إلى إبراهيم النخعي
وأما مصافحة الكافر ففي الميزان للشعراني ج 1 ص 102 نسبة ناقضية مس الكافر إلى
بعض العلماء
وأما شرب البان الإبل ففي المغني ج 1 ص 190 " وفي شرب لبن الإبل روايتان
إحداهما أنه ينقض الوضوء والأخرى لا ينقضه "
وأما أكل لحوم الإبل ففي المغني ج 1 ص 187 " وأكل لحم الإبل ينقض الوضوء
على كل حال نيا ومطبوخا عالما أو جاهلا، وبه قال جابر بن سمرة ومحمد بن إسحاق وإسحاق
وأبو خيثمة ويحيى بن يحيى وابن المنذر وهو أحد قولي الشافعي قال الخطابي: ذهب إلى هذا
عامة أصحاب الحديث " وفي شرح الزرقاني ج 1 ص 91 نسبة ذلك إلى أحمد.
وأما الودي فقد نص على ناقضيته في بدائع الصنائع ج 1 ص 25 وفي بداية المجتهد
لابن رشد المالكي ج 1 ص 30 وفي الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 77 مع عدم
ذكر خلاف المذاهب فيه، وفي الأم للشافعي ج 1 ص 14 وفي شرح المنهاج لابن حجر
ج 1 ص 58، إلا أنه في الأخيرين ذكر بنحو العموم.
116

تذنيب
الخارج من الإحليل خمسة: البول، والمني كظبي وصبي، والمذي على المثالين
المذكورين، وزيد فيه أيضا الكسر مع التخفيف، قيل: وأشهرها الأولى ثم الثانية،
وقد عرفت معناه، والوذي بالمعجمة على المثالين الأولين: ما يخرج بعد إنزال المني،
كما صرح به جملة من الأصحاب، ومنهم - صاحب كتاب مجمع البحرين فيه. قال:
(وذكر الوذي مفقود في كثير من كتب اللغة) والودي بالمهملة على المثالين المتقدمين
أيضا، وقيل إن ثانيهما أصح وأفصح: البلل اللزج الذي يخرج من الإحليل بعد البول.
117

فأما البول والمذي فقد عرفت حكمهما، وأما المني فسيأتي إن شاء الله تعالى
حكمه في بابه، وأما الاثنان الباقيان فطهارتهما وعدم انتقاض الوضوء بهما متفق عليه
فتوى، وهو الأشهر نصا.
ومن الأخبار المشتملة على تفصيل ذلك مرسلة ابن رباط المشار إليها آنفا عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: (يخرج من الإحليل المني والمذي والوذي والودي
فأما المني فهو الذي تسترخي له العظام ويفتر منه الجسد، وفيه الغسل، وأما المذي فإنه
يخرج من الشهوة ولا شئ فيه، وأما الودي فهو الذي يخرج بعد البول، وأما الوذي
فهو الذي يخرج من الأدواء، ولا شئ فيه) قوله (عليه السلام): (يخرج من الأدواء)
جمع داء وهو المرض، ولعل المعنى أنه يخرج بسبب الأمراض، ونقل بعض مشايخنا
عن بعض نسخ الإستبصار: (الأوداج) بدل (الأدواء) قال: (وكأنه أريد بها
العروق مطلقا وإن كان الودج في الأصل عرق العنق) انتهى.
وقال الصدوق في الفقيه (2): (وهي أربعة أشياء: المني والمذي والوذي والودي
إلى أن قال: والمذي ما يخرج قبل المني، والوذي ما يخرج بعد المني على أثره، والودي
ما يخرج على أثر البول... الخ).
وابهام حكم الودي في الخبر المذكور - وعدم التعرض لحكمه - غير ضائر بعد
اجماع الفرقة المحقة على طهارته وعدم نقضه، كما هو صريح كلام شيخنا الصدوق هنا
وغيره، ودلالة ما قدمنا (3) من الأخبار الحاصرة الدالة على عدم النقض بأمثاله، لكن
روى الشيخ في الصحيح عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: (ثلاث
يخرجن من الإحليل، وهن: المني ومنه الغسل والودي ومنه الوضوء لأنه يخرج
من دريرة البول، قال: والمذي ليس فيه وضوء، إنما ه وبمنزلة ما يخرج من الأنف)

(1) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء
(2) ج 1 ص 39
(3) في الصحيفة 87
(4) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء
118

وحمله الشيخ على ما إذا لم يكن قد استبرأ من البول، مستدلا بالتعليل بخروجه من
دريرة البول أي محل سيلانه، وذلك لأنه لا يخرج إلا ومعه شئ من البول. وهو جيد.
فذلكة
ما ذكرنا من الأحداث المتقدمة قد يعبر عنها بالأسباب تارة باعتبار استلزامها
لذاتها الطهارة وجوبا أو ندبا. فلا يرد حدث الصبي والمجنون والحائض، فإن حدثهم
بحسب ذاته مستلزم للطهارة وإنما تختلف لعارض، وهو فقد الشرط في الأولين ووجود
المانع في الثالث، وتخلف الحكم لفقد شرط أو وجود مانع لا يقدح في السببية، وقد
يعبر عنها بالموجبات باعتبار ايجابها الطهارة عند المخاطبة بواجب مشروط بالطهارة فيما
يجب لغيره على المشهور، وعند وجود السبب على القول بالوجوب النفسي، وقد يعبر
عنها بالنواقض باعتبار نقضها لما تعقبه من الطهارة. والمشهور أن السبب أعم مطلقا،
أما من الناقض فلاجتماعهما في حدث تعقب طهارة. وتخلف السبب فيما عدا ذلك. وأما
من الموجب فلاجتماعهما في حال اشتغال الذمة بمشروط بالطهارة، وانفراد السبب بحال
براءة الذمة من ذلك. والنسبة بين الناقض والموجب العموم من وجه، لصدق الناقض
بدون الموجب في حدث تعقب طهارة صحيحة مع خلو الذمة من مشروط بها، وصدق
الموجب بدون الناقض في الحدث الحاصل عقيب التكليف بصلاة واجبة من غير سبق طهارة
واعترض بعض المتأخرين على ذلك بأن الجنابة ناقضة للوضوء وليست سببا له،
وكذا وجود الماء بالنسبة إلى التيمم، فلا يكون بين الناقض والسبب عموم مطلق
بل من وجه.
وأجيب بأن الكلام إنما هو في أسباب الطهارات وموجباتها ونواقضها، كما هو
المصرح به في بعض عباراتهم، فالنقض بالجنابة غير جيد، لأنها سبب في الطهارة،
ويمكن التزام ذلك في وجود الماء أيضا، لأنه معرف لوجوبها.
119

ثم إنه يرد أيضا أن النقض بالأمرين غير مستقيم، فإن البحث إن كان في أسباب
الوضوء ونواقضه وموجباته فلا يرد الثاني، وإن كان في الأعم فلا يرد الأول.
واستظهر السيد السند في المدارك أن النسبة بين الثلاثة الترادف، قال: (فإن
وجه التسمية لا يجب اطراده) انتهى. وهو مبني على أن الظاهر من الأسباب ما من
شأنه أن يتسبب للوجوب، وكذلك الظاهر من الناقض ما من شأنه النقض، وكذلك
الموجب، وظاهر ما تقدم من كلامهم اعتبار ذلك في السبب خاصة دون الآخرين. وهو تحكم
المطلب الثاني
في الغاية، وهي قد تكون واجبة تارة فيجب الوضوء لها، وقد تكون مندوبة
أخرى فيكون الوضوء لها مندوبا، فالكلام يقع في هذا المطلب في مقصدين:
المقصد الأول
في الغاية الواجبة، وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) - لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب
الوضوء للصلاة الواجبة، بل ربما كان من ضروريات الدين.
واستدل عليه أيضا بقوله تعالى: (... إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...
الآية) (1) فإن صيغة الأمر للوجوب، وسياق الكلام دال على أنه للصلاة، لأنه إذا
قيل: (إذا لقيت العدو فخذ سلاحك) و (إذا أردت الأمير فالبس ثيابك) يفهم منه
عرفا لن أخذ السلاح ولبس الثياب لأجل لقاء العدو والأمير، فقد دل على المدعى بتمامه
ويرد عليه أن المروي في تفسير الآية أن المراد بالقيام فيها القيام من حدث
النوم، كما رواه الشيخ عن ابن بكير في الموثق (2) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)

(1) سورة المائدة. الآية 6.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء. الحدائق 15
120

قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة، ما يعني بذلك: إذا قمتم إلى الصلاة؟ قال: إذا قمتم
من النوم... الحديث) ونقل العلامة في المنتهى وقبله الشيخ في التبيان اجماع المفسرين
على ذلك، وحينئذ فلا يتم الاستدلال بها مطلقا، إلا أن يضم إلى ذلك عدم القول
بالفرق بين الأحداث، فيتم الاستدلال. وفيه ما فيه
ويدل عليه أيضا من الأخبار ما هو متفرق في جملة من موارد الأحكام:
ومنها - الأخبار الواردة في المستحاضة (1) (إذا جاز دمها الكرسف فعليها
الغسل لكل صلاتين والفجر، والوضوء لكل صلاة).
ومنها - الأخبار الواردة في المتيمم (2) (إذا وجد الماء بعد ما صلى في آخر
الوقت فليتوضأ لما يستقبل).
ومنها - الأخبار الدالة على إعادة الصلاة والوضوء بنسيان شئ من أجزاء الوضوء (3)
إلى غير ذلك من الأخبار التي لا حاجة إلى التطويل بنقلها بعد ثبوت الاتفاق
بل الضرورة.
ولا يرد النقض بصلاة الجنازة، إذ اسم الصلاة حقيقة إنما يقع على ذات الركوع
والسجود، ويدل عليه صريحا ما رواه الصدوق في كتاب العلل (4) عن الفضل بن شاذان

(1) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الاستحاضة ولا يخفى أنه لم يرد
في شئ من أخبار الاستحاضة الجمع بين الأغسال الثلاثة للظهرين والعشاءين والفجر وبين
الوضوء لكل صلاة في مورد واحد كما هو مفاد عبارته (قده) بل ظاهرها اغناء الأغسال
في مورد وجوبها عن الوضوء وأن وجوب الوضوء لكل صلاة في غير مورد وجوب
الأغسال كما سيأتي اختيار ذلك منه (قده) في محله.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب التيمم.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الوضوء.
(4) في الصحيفة 96 و 99 وفي الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الوضوء، وفي
الباب - 21 - من أبواب صلاة الجنازة.
121

عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: (إنما جوزنا الصلاة على الميت بغير وضوء لأنه ليس
فيها ركوع ولا سجود، وإنما يجب الوضوء في الصلاة التي فيها ركوع وسجود... الحديث)
(المسألة الثانية) - الظاهر أنه لا خلاف - كما ادعاه جمع من الأصحاب -
في وجوب الوضوء للطواف الواجب، وعليه تدل صحيحة محمد بن مسلم (1) قال:
(سألت حدهما (عليهما السلام) عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهور.
قال: يتوضأ ويعيد طوافه...).
(المسألة الثالثة) لو وجوب مس خط المصحف على المكلف - أما بسبب من قبله
كالنذر وشبهه أو لا من قبله كاصلاح فيه ونحوه على القول بوجوب ذلك، فهل يجب الوضوء
ذلك أم لا؟ قولان مبنيان على تحريم المس على المحدث وعدمه.
والمشهور الأول، ونقل القول بالكراهة عن الشيخ في المبسوط وابن البراج
وابن إدريس، وإليه مال جملة من متأخري المتأخرين.
والظاهر الأول، ويدل عليه قوله تعالى: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون
لا يمسه إلا المطهرون) (2) المفسر في رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه
السلام) (3) قال: (المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا، ولا تمس خطه ولا تعلقه
إن الله تعالى يقول: لا يمسه إلا المطهرون) وفي بعض نسخ الحديث (خيطه) مكان (خطه)
وروى مثله مرسلا في كتاب مجمع البيان (4) عن الباقر (عليه السلام) حيث قال - بعد ذكر
احتمال تفسير المطهرين بالملائكة أو المراد المطهرين من الشرك - ما لفظه: (وقيل المطهرون
من الأحداث والجنابات، وقالوا: لا يجوز للجنب والحائض والمحدث مس المصحف

(1) المروية في الوسائل في الباب - 38 - من أبواب الطواف.
(2) سورة الواقعة. الآية 76 و 77 و 78
(3) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب الوضوء.
(4) ج 9 ص 226، وفي الوسائل في الباب - 12 - من أبواب الوضوء
122

عن محمد بن علي الباقر (عليه السلام)) انتهى. وعلى هذا فيكون ضمير (يمسه)
راجعا إلى القرآن وإن بعد في السياق دون (الكتاب) وإن قرب، بل ظاهره في
المجمع كون ذلك مجمعا عليه، حيث قال: (وعندنا أن الضمير يعود إلى القرآن فلا يجوز
لغير الطاهر مس كتابة القرآن) ومثله نقل عن الشيخ في التبيان.
وحينئذ فلا يلتفت إلى تفسير صاحب الكشاف ولا غيره ممن حرم فيوض
الألطاف، المعتمدين في تفاسيرهم على مجرد الآراء، بل المعولين في جميع أحكامهم
على الأهواء، ولا إلى ما أطال به بعض متأخري الأعلام من الاحتمالات في المقام،
إظهارا لفضيلة ملكة النقض والابرام، فإن أصحاب البيت أدرى بما فيه، وأعرف
بباطنه وخافيه، والتميز بين كدره وصافيه، والكتاب عليهم أنزل، وإليهم يرجع
فيما فصل منه وأجمل، فمن مشكاة علومهم تقتبس أنواره. ومن خزائن فيوضاتهم
تدرك أسراره.
ومما يدل أيضا على الحكم المذكور موثقة أبي بصير (1) قال: (سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عمن قرأ القرآن وهو غير وضوء. قال: لا بأس، ولا يمس
الكتاب) ومرسلة حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: (كان
إسماعيل بن أبي عبد الله عنده، فقال يا بني اقرأ المصحف، فقال: إني لست على وضوء
فقال: لا تمس الكتابة ومس الورق واقرأه).
ويؤيد أيضا رواية علي بن جعفر بل صحيحته على الظاهر عن أخيه موسى
(عليه السلام) (3) أنه (سأله عن الرجل أيحل له أن يكتب القرآن في الألواح والصحيفة
وهو على غير وضوء؟ قال: لا).
وإنما جعلنا هذا الخبر مؤيدا دون أن يكون دليلا لاحتماله بحسب الظاهر لتحريم
الكتابة على المحدث، ولم أقف على قائل بمضمونه سوى المحدث الكاشاني، ومعارضته

(1) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب الوضوء.
123

بحسنة داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: (سألته عن التعويذ يعلق
على الحائض. قال: نعم لا بأس. قال وقال: تقرأه وتكتبه ولا تصيبه يدها) ومن
الظاهر أن التعويذ لا ينفك عن الآيات القرآنية بقرينة النهي عن إصابة اليد، فإن
الظاهر أنه إنما وقع لذلك، وحينئذ فيجب الجمع بينهما، إما بحمل رواية علي بن جعفر
على الكتابة على وجه يستلزم المس والثانية على ما ليس كذلك، أو بحملها على
الكراهة كما هو ظاهر الأكثر.
هذا. ولم أقف للقائلين بالجواز على دليل سوى التمسك بالأصل، والطعن في
الآية بعدم الدلالة، تشبثا بذيل الاحتمالات وردا بضعف السند لما ورد في تفسيرها من
الروايات، وكذلك جملة ما قدمناه من الأخبار لكونه ضعيفا بهذا الاصطلاح الذي
عليه المدار، مع أن من جملة القواعد المقررة والضوابط المتكررة جبر الضعيف بالشهرة.
وقد تقدم الكلام في المقدمة الثالثة (2) في ضعف الاعتماد على هذا الأصل فليراجع.
فروع:
(الأول) - الظاهر أنه لا خلاف هنا في جواز مس الهامش والورق الخالي
من الكتابة، لمرسلة حريز المتقدمة (3) وكذا حمله وتعليقه - كما نقله العلامة في المنتهى -
على كراهية، لما تقدم من النهي في رواية إبراهيم بن عبد الحميد (4).
(الثاني) - الظاهر اختصاص حرمة المس بالملاقاة بجزء من الجسد، فلا يتعدى
إلى الملاقاة بطرف الثوب ونحوه، وعلى تقدير الأول فهل يختص بالكف بناء على أنه
الذي يلمس به غالبا، أو يشمل سائر الجسد؟ قولان، أظهرهما الثاني، للصدق لغة

(1) المروية في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب الحيض.
(2) في الصحيفة 44 من الجزء الأول
(3) في الصحيفة 123
(4) في الصحيفة 122
124

وعرفا، وهل يختص بما تحله الحياة من البدن أم يشمل ما لا تحله كالشعر والظفر والسن؟
وجهان بل قولان، والظاهر أن منشأ الخلاف من صدق المس عرفا على المس بالظفر
ونحوه وعدمه. وربما جعل منشأ ذلك من جهة حلول الحياة وعدمه. وحيث إنه كما
لا تتعدى إليه نجاسة موت صاحبه كذلك لا يتعدى إليه حدثه. وفيه أنه إن صدق المس
بمس الظفر والشعر ونحوهما دخل في اطلاق الرواية لكونها أجزاء من الجسد البتة، وإلا فلا
(الثالث) - لو وضأ بعض أعضائه فقبل الاكمال هل يجوز المس بذلك العضو
الذي وضأ أم لا؟ الظاهر الثاني، وبه صرح في التحرير، لأن الحدث المشروط زواله
بالطهارة ليس مقسما على الأعضاء، وإنما هو أمر معنوي قائم بالشخص من حيث هو
لا يرتفع إلا باكمال الطهارة.
(الرابع) - هل يختص الحكم بالقرآن من حيث الهيئة الاجتماعية المتعلق بها
هذا الاسم، أم يتعدى إلى الآيات المكتوبة في الكتب وعلى الدراهم ونحو ذلك؟
وجهان أرجحهما الثاني، لما يفهم من حسنة داود بن فرقد (1) وتشعر به صحيحة علي
ابن جعفر (2) ولأن الظاهر أن الهيئة الاجتماعية لا مدخل لها في التحريم، ضرورة أن
المس إنما يقع على البعض ولا يقع على الكل دفعة، وانضمام غيرها إليها لا يخرجها
عن كونها قرآنا.
(الخامس) - الظاهر شمول التحريم لما نسخ حكمه دون تلاوته، لبقاء الحرمة
من جهة التلاوة، وصدق المصحف والقرآن والكتاب عليه، بخلاف ما نسخت تلاوته
وأن بقي حكمه، فإنه لا يحرم مسه، لعدم الصدق. ولا أعرف خلافا في ذلك.
(السادس) - الظاهر عدم ثبوت التحريم بالنسبة إلى الصبي ونحوه. لعدم
التكليف الموجب لتعلق الخطاب به، وهل يجب على الولي منعه؟ الظاهر العدم، لعدم
الدليل، ونقل عن المعتبر وجوبه على الولي، وهو ظاهر التحرير، ولا يخلو من قوة،

(1) المتقدمة في الصحيفة 124
(2) المتقدمة في الصحيفة 123
125

نظرا إلى عموم الأدلة الدالة على التحريم. وعدم توجه الخطاب فيها إلى الطفل لما ذكرناه
لا ينافيه التوجيه إلى وليه.
(السابع) - هل يدخل في الكتابة التشديد والمد والهمزة والأعراب؟
احتمالات: ثالثها دخول ما عدا الأخير، ومنشأ ذلك الشك في صدق مس الكتاب
بمسها وعدمه
ورجح بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين العدم مطلقا، قال:
(لاطلاق اسم الكتاب عليه قبل ضبطه بالثلاثة المتقدمة، كقوله تعالى: (... كتاب
أنزلناه مبارك..) (1) (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب...) (2) (حم
والكتاب المبين) (3) ونحوها، وحمله على المجاز باعتبار ما يؤول إليه خلاف الأصل،
ولأن التحريم المس خلاف الأصل، فيقتصر منه على موضع اليقين) وهو جيد.
(المسألة الرابعة) - تقييد وجوب الوضوء بالغايات المذكورة - بمعنى أنه
لا يكون واجبا لنفسه - هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل كاد أن يكون
اجماعا، بل ادعى الاجماع عليه جمع منهم.
ونقل السيد السند في المدارك عن الشهيد في الذكرى القول بالوجوب النفسي
في جميع الطهارات وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بظن الوفاة، أو تضيق وقت العبادة
المشروطة بها، واختاره (قدس سره) واستدل عليه:
قال: (واعلم أن المعروف من مذهب الأصحاب أن الوضوء إنما يجب بالأصل
عند اشتغال الذمة بمشروط به، فقبله لا يكون إلا مندوبا، تمسكا بمفهوم قوله تعالى:
(... إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا... الآية) (4) وليس المراد نفس القيام، وإلا لزم تأخير
الوضوء عن الصلاة. وهو باطل بالاجماع، بل المراد - والله أعلم - إذا أردتم القيام إلى الصلاة

(1) سورة ص. الآية 28
(2) سورة الكهف. الآية 1
(3) سورة الزخرف والدخان. الآية 2.
(4) سورة المائدة. الآية 6
126

اطلاقا لاسم المسبب على السبب، فإنه مجاز مستفيض، وقول أبي جعفر (عليه السلام)
في صحيحة زرارة (1): (إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة..) والمشروط
عدم عند الشرط ويتوجه على الأول أن أقصى ما تدل عليه الآية الشريفة ترتب
الأمر بالغسل والمسح على إرادة القيام إلى الصلاة، والإرادة تتحقق قبل دخول الوقت
وبعده، إذ لا يعتبر فيها المقارنة للقيام، وإلا لما كان الوضوء في أول الوقت واجبا
بالنسبة إلى من أراد الصلاة في آخره. وعلى الثاني أن المشروط وجوب الطهور والصلاة
معا، وانتفاء المجموع يتحقق بانتفاء أحد جزءيه، فلا يتعين انتفاؤهما معا. وحكى الشهيد
في الذكرى قولا بوجوب الطهارات أجمع بحصول أسبابها وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بظن
الوفاة، أو تضيق وقت العبادة المشروطة بها، ويشهد له اطلاق الآية وكثير من الأخبار
كصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) (أن عليا (عليه
السلام) كأن يقول: من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب عليه الوضوء)
وصحيحة زرارة (3) حيث قال فيها: (... فإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب
الوضوء..) وموثقة بكير بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) أنه قال: (إذا
استيقنت أنك أحدثت فتوضأ..) وصحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله (5) أنه (سأل
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ فقال (عليه السلام):

(1) المروي في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الوضوء. وفي الباب - 14 - من
أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء، والباب - 44 - من أبواب الوضوء
(5) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الجنابة
127

إذا فرغ فليغتسل) وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) أنه قال:
(إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة، فإن خرج فيها شئ من الدم فلا
تغتسل، وإن لم تر شيئا فلتغتسل) ويؤيده خلو الأخبار بأسرها من هذا التفصيل
مع عموم البلوى به وشدة الحاجة إليه، ولو قلنا بعدم اشتراط نية الوجه - كما هو الوجه -
زال الاشكال من أصله. وعندي أن هذا هو السر في خلو الأخبار من ذلك، فتأمل)
انتهى كلامه رفع مقامه.
ونسج على منواله - كما هو الغالب عليه في كثير من أقواله - الفاضل المتأخر ملأ
محمد باقر الخراساني في الذخيرة، بل شيد ما أسسه وذب عنه وحرسه.
وفيه نظر من وجوه: (الأول) - أن عبارة الذكرى وإن أوهمت ما نقله لكن
كلام شيخنا الشهيد في قواعده كالصريح في كون القول المذكور للعامة، حيث قال:
(قاعدة - لا ريب أن الطهارة والاستقبال والنية والستر معدودة من الواجبات في الصلاة
مع الاتفاق على جواز فعلها قبل الوقت، والاتفاق في الأصول على أن غير الواجب
لا يجزئ عن الواجب، فاتجه هنا سؤال وهو أن يقال: أحد الأمرين لازم، وهو إما
أن يقال بوجوب هذه الأمور على الاطلاق، ولم يقل به أحد، أو يقال باجزاء غير
الواجب عن الواجب، وهو باطل، لأن الفعل إنما يجزئ عن غير مع تساويهما
في المصلحة المطلقة، ومحال تساوي الواجب وغير الواجب في المصلحة. وجوابه إنا قد
بينا، ثم أطال في الجواب إلى أن قال: وهذا الاشكال اليسير هو الذي ألجأ بعض
العلماء إلى اعتقاد وجوب الوضوء وغيره من الطهارات لنفسه، غير أنه يجب وجوبا
موسعا قبل الوقت وفي الوقت وجوبا مضيقا عتد آخر الوقت، ذهب إليه القاضي أبو بكر
العنبري، وحكاه الرازي في التفسير عن جماعة. وصار بعض الأصحاب إلى وجوب
الغسل بهذه المثابة) انتهى وظهوره - في أن الخلاف في المسألة المذكورة إنما هو لبعض

(1) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الحيض
128

المخالفين، وخلاف بعض أصحابنا إنما هو في الغسل خاصة - مما لا يخفى على ذي مسكة
وأيضا من تأمل في عبارة الذكرى لا يذهب عليه أن المخالف من العامة، وفي التعليل
إيناس بذلك.
وبالجملة فالظاهر من عبارات الأصحاب (قدس سرهم) - قديما وحديثا، تصريحا
في مواضع وتلويحا في أخرى - أنه لا قائل بالوجوب النفسي على الاطلاق، وهذان
الفاضلان قد اغترا بظاهر عبارة الذكرى، فنقلا القول به في المسألة وشيداه بما ذكرناه.
(الثاني) - إن الآية المذكورة غير مدافعة في الدلالة على الجوب الغيري،
وذلك من وجهين:
(أحدهما) - أن المفهوم من الآية عرفا أن الوضوء لأجل الصلاة. كما يقال:
(إذا لقيت العدو فخذ سلاحك) أي لأجل العدو.
وأجاب الفاضل الخراساني بأنه لا منافاة بين الوجوب لأجل الصلاة وبين وجوبه
في نفسه. فيجوز أن يجتمع الوجوبان.
ويرد عليه (أولا) - أن المدار في الاستدلال على المعاني المتبادرة إلى الذهن
في بادئ النظر، والمنساقة إليه بمجرد الالتفات إلى ظاهر اللفظ، ومن ثم تراهم يصرحون
- سيما في الأصول في غير موضع - بأن التبادر أمارة الحقيقة، ولا شك أن المتبادر من
ظاهر الآية ومن المثال المذكور أن الوضوء وأخذ السلاح لأجل الصلاة والحرب،
ومقتضى تعليق الوجوب على غاية مخصوصة انتفاؤه بانتفائها فتثبت المنافاة بين الوجوب
والغيري والوجوب النفسي البتة.
و (ثانيا) - أنه متى ثبت الوجوب الذاتي لشئ ثبت له مع كل أمر مجامع له
بوجوب واحد، والتغاير فيه اعتبار محض لا يترتب عليه أثر بالكلية، إذ لا يعقل لهذا
الوجوب الغيري بعد ثبوت الوجوب النفسي معنى بالكلية كما لا يخفى على المتأمل،
وحينئذ فليس هنا وجوبان كما زعمه (قدس سره).
129

و (ثانيهما) - أن الآية تدل - بمفهوم الشرط الذي هو حجة صريحة،
أما عندهم فلما استدلوا به عليه في الأصول، وأما عندنا فلما دلت عليه الأخبار من
حجيته - على عدم وجوب الوضوء عند عدم إرادة القيام، فلا يكون واجبا لنفسه.
أجاب الفاضل المتقدم ذكره بأن فيه أن المسلم حجية مفهوم الشرط إذا لم يكن
للتعليق بالشرط فائدة أخرى سوى التخصيص، وههنا ليس كذلك، إذ يجوز أن تكون
الفائدة ههنا بيان أن الوضوء واجب لأجل الصلاة وإن كان واجبا في نفسه، فيكون
الغرض متعلقا بالوجوب العارض له حين إرادة الصلاة باعتبار التوصل به إليها وكونه
من مصالحها.
ويرد عليه ما تقدم، فإن مبنى كلامه على تجويز اجتماع الوجوبين، وقد عرفت
ما فيه، ومن المعلوم أن الواجب لنفسه لا يحسن بل لا يجوز تعليقه على غيره، إذ
قضية التعليق هو الوجوب الغيري، فإنا لا نعني به إلا ترتب وجوب شئ على آخر،
ولو كان واجبا في نفسه لم يحسن هذا الترتب البتة. وبالجملة أنه قد سلم الوجوب
الغيري، وهو يقتضي التعليق المذكور، وما يدعيه من الوجوب النفسي الثابت معه فنحن
نمنعه، والمانع مستظهر.
(الثالث) - أن ما أورده (قدس سره) على الآية - بقوله: (أن أقصى ما تدل
عليه الآية.. الخ) - فالجواب عنه من وجوه:
(أحدها) - أنه يكفينا - في الاستدلال على ما ادعينا من الوجوب الغيري
ونفي الوجوب النفسي - ما ذكرنا من التقرير المتقدم، ولزوم الوجوب بالإرادة ولو قبل
الوقت - مع كونه لا مدخل له في صحة ما اعتمدناه من الاستدلال - يكفينا في نفيه
الاجماع على عدمه من الطرفين، فالتقريب في الآية يتم بضم الاجماع.
و (ثانيها) - ما أفاده بعض الأعلام من أن التعبير عن الإرادة بالقيام يعطي
المقارنة كما فهمه بعض المفسرين، وإذ قام الدليل على عدم اعتبارها حمل على الأقرب
130

الممكن وهو ما في الوقت. انتهى. وهو جيد يساعده ما تكرر مثل ذلك في الآيات القرآنية
والأخبار المعصومية، ومنه - قوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله...) (1)
ولو لم يحمل على ذلك لزم الخلل في معنى ذلك الكلام المتعالى عنه كلام الملك العلام
وأهل الذكر (عليهم السلام).
و (ثالثها) - أنه قد روى ابن بكير في الموثق (2) بل الصحيح على قول قوي
لكونه ممن نقل فيه اجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنه، قال: (قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة ما يعني بذلك: إذا قمتم إلى الصلاة؟
قال: إذا قمتم من النوم...) ويؤيده أيضا نقل العلامة في المنتهى والشيخ في التبيان اجماع
المفسرين على ذلك، وحينئذ: فلا حاجة إلى ما ارتكب من تقدير الإرادة في الآية،
ومعنى الآية حينئذ: إذا قمتم من حدث النوم قاصدين إلى الصلاة فتوضؤوا. فقد وقع
الأمر بالوضوء معلقا على القصد للصلاة بالنسبة إلى من كان محدثا بحدث النوم، وهو نص
في الوجوب الغيري في هذا المورد، وهو كاف في صحة الاستدلال. وإن ضم إلى ذلك
عدم القول بالفصل بين حدث النوم وغيره من الأحداث تم الاستدلال بالآية بمعونة
المقدمة المذكورة على الوجوب الغيري في جميع الأحداث.
(الرابع) - ما ذكره من الإيراد على الخبر بقوله: (وعلى الثاني أن المشروط
وجوب الطهور والصلاة..):
فإن فيه (أولا) - أنه متى كان المشروط بالدخول وجوب مجموع الأمرين
من الطهور والصلاة من حيث المجموع كما هو ظاهر كلامه، يلزم أن لا يثبت الوجوب
بعد دخول الوقت لشئ من ماهية الطهور والصلاة من حيث الانفراد، وهو ظاهر البطلان
و (ثانيا) - أنه متى كان انتفاء هذا المجموع لأجل انتفاء الشرط يتحقق

(1) سورة النحل. الآية 98.
(2) رواه في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
131

بانتفاء أحد جزءيه الذي هو الصلاة كما هو مراده ومطرح نظره، يلزم أن المعلق إنما هو
أحد الجزءين خاصة وهو الذي انتفى بانتفاء الشرط، وحينئذ فلا معنى لتعليق الآخر،
كما لا معنى لقولنا: (إذا دخل الوقت وجب الحج والصلاة).
قال الفاضل المتقدم ذكره - بعد نقل ايراد السيد على الخبر كما ذكرنا - ما لفظه:
(ولعل غرضه أن المشروط وجوب المجموع على سبيل الاستغراق الافرادي، فكأنه قيل:
(إذا دخل الوقت وجب كل واحد من الأمرين) واللازم من ذلك - على تقدير حجية
مفهوم الشرط - رفع الإيجاب الكلي عند انتفاء الشرط، لا أن المشروط مجموع الأمرين
من حيث هو مجموع، إذ ذلك بعيد جدا) انتهى.
وأنت خبير بأن اعتذاره هذا قصاراه الاتيان على الوجه الأول مما ذكر دون الثاني
(الخامس) - أن ما استند إليه من الأخبار التي نقلها فالجواب عنها من وجوه:
(أحدها) - ما أجاب به شيخنا الشهيد في الذكرى من أن صحة اطلاق
الوجوب أو الأمر في الصورة المذكورة إنما نشأت من معلومية الاشتراط، حتى أنه غلب
في الاستعمال فصار حقيقة عرفية.
و (ثانيها) - النقض الاجمالي بورود الأخبار بغسل الثوب والبدن من النجاسات
وهي أكثر من أن يأتي المقام عليها، مع مساعدة الخصم فيها على الوجوب الغيري.
وثالثها - أنه لا نزاع في كون هذه الأسباب التي تضمنتها الأخبار موجبات
للوضوء كما عبر به عنها في محله، بمعنى أن الوضوء بسببها يكون واجبا، لكن النزاع في أن
هذا الوجوب الناشئ عنها هل هو نفسي ثابت للوضوء في نفسه أو غيري؟ فههنا
شيئان: ما به الوجوب وهي الأسباب من بول ونحوه، وما له الوجوب من صلاة ونحوها
من الغايات المترتبة على الوضوء، والأخبار التي أوردها المستدل إنما تدل على ما به
والوجوب، بمعنى أن هذه الأشياء يحصل بسببها وجوب الوضوء، وهذا ليس من محل
النزاع في شئ، وأما كون هذا الوجوب ثابتا للوضوء في نفسه أو لغيره فلا.
132

و (رابعها) - الجواب عنها تفصيلا: أما عن صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج (1)
فالمتبادر منها من لفظ (وجب) معنى لزم وثبت، وهو أعم من الوجوب بالمعنى المصطلح،
وكذلك صحيحة زرارة (2) وإلا لزم فيها تعلق التكليف بالنائم، لأن المتعارف في كلامهم
(عليهم السلام) اطلاق الفريضة على الواجب بالمعنى المصطلح، واطلاق الواجب على
المعنى العرفي أي اللازم الثابت، ولا شك في ثبوت الوضوء - مثلا - في الذمة بمجرد
الاتيان بالسبب، بمعنى جواز فعله بل استحبابه مع عدم وجود مانع من حين حصول
السبب، وجواز الدخول به في المشروط به. وأما موثقة بكير بن أعين (3) ففيها اجمال
لاحتمال ورودها على ما هو الغالب من إرادة الوضوء عند إرادة ما هو مشروط به.
وأما صحيحة عبد الرحمان ابن أبي عبد الله (4) فليس المراد بها الوجوب، وإلا لزم وجوب الفورية. وأما صحيحة محمد بن مسلم (5) ففيها تعليق الأمر بالاغتسال على الإرادة، فلا
دلالة فيها على الوجوب بالمعنى المصطلح.
ومما يرشد إلى ما ذكرناه ورود هذه الأخبار أما في مقام بيان الناقض، أو بيان
آداب الاغتسال، أو كراهة النوم على الجنابة، أو نحو ذلك، لا بيان وقت تعلق التكليف
و (خامسها) - المعارضة بالأخبار الكثيرة أيضا:
ومنها - صحيحة زرارة المذكورة في كلامه (قدس سره) (6) وما أورده عليها
فقد عرفت ما فيه. وأنت خبير بأنها أوضح دلالة وأخص مدلولا مما أورده من الأخبار
فيتعين تقييدها بها جمعا.
ومنها - ما رواه في الفقه (7) من العلل التي كتبها الرضا (عليه السلام) إلى
محمد بن سنان: (أن علة الوضوء التي من أجلها صار على العبد غسل الوجه والذراعين

(1) المتقدمة في الصحيفة 127
(2) المتقدمة في الصحيفة 127
(3) المتقدمة في الصحيفة 127
(4) المتقدمة في الصحيفة 127
(5) المتقدمة في الصحيفة 128
(6) المتقدمة في الصحيفة 127
(7) ج 1 ص 35، وفي الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
133

ومسح الرأس والقدمين، فلقيامه بين يدي الله... الحديث) وروايات الفقيه وإن
ضعف سندها لارسال أو غيره فهي متلقاة عندهم بالقبول كما صرح به جملة من الفحول.
ومنها - ما رواه في كتاب العيون (1) والعلل من علل الفضل بن شاذان
عن الرضا (عليه السلام) قال: (إنما أمر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام
بين يدي الجبار... الحديث) ولا يخفى ما فيهما من ظهور الدلالة على الوجوب الغيري
ومنها - ما رواه في الكافي (2) في باب أن الأرض للإمام (عليه السلام) عن
أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الإمام - يا أبا محمد - لا يبيت ليلة ولله
في عنقه حق يسأله عنه) مع ما رواه الصدوق في الفقيه (3) عن الصادق (عليه السلام):
(أنا أنام على ذلك - يعني حدث الجنابة - حتى أصبح، وذلك أني أريد أن أعود).
ومنها - صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) في الصائم يتوضأ
فيدخل الماء حلقه؟ قال: إن كان وضوؤه لصلاة فريضة فليس عليه قضاء، وإن كان
وضوؤه لصلاة نافلة فعليه القضاء).
ومنها ما رواه الكليني (5) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل
قال: (إن الله فرض على اليدين أن لا يبطش بهما إلى ما حرم الله وأن يبطش بهما إلى
ما أمر الله عز وجل، وفرض عليهما من الصدقة، وصلة الرحم، والجهاد في سبيل الله
والطهور للصلوات... الحديث).

(1) ص 252، وفي العلل ص 96. وفي الوسائل في الباب - 1 - من أبواب
الوضوء
(2) في الصحيفة 408 من الجزء الأول من الأصول.
(3) ج 1 ص 47 وفي الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب ما يمسك عنه الصائم
(5) في الصحيفة 33 من الجزء الثاني من الأصول، وفي الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الجنابة وفي الباب - 2 - من أبواب جهاد النفس.
134

ومنها - الأخبار الواردة في من عليها غسل الجنابة وفاجأها الحيض قبل أن تغتسل
من قوله (عليه السلام) في بعضها (1): (قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل)
وفي آخر (2) (قد أتاها ما هو أعظم من ذلك) وفي جملة منها (3) (تجعله غسلا واحدا بعد
طهرها) وفي بعض (4) (إن شاءت أن تغتسل فعلت، وإن لم تفعل فليس عليها شئ).
ولا يخفى أن جميع ذلك إنما يتمشى وينطبق على الوجوب الغيري دون الوجوب
النفسي إلا بتكلفات بعيدة وتمحلات غير سديدة.
هذا. وقد عرفت سابقا (5) دلالة الآية على ذلك أيضا، فتكون منطبقة على
هذه الأخبار، مرجحة لها لو ثبتت المعارضة في هذا المضمار.
المقصد الثاني
في الغاية المستحبة
(فمنها) - الصلاة المستحبة، وربما سبق إلى بعض الأوهام - كما نقله بعض
الأعلام هنا - وجوب الوضوء لصلاة النافلة، بناء على ترتب الإثم على فعل النافلة بدون
وضوء. وهو خطأ محض، فإن الإثم إنما يتوجه إلى الفعل المذكور لأن فعل النافلة
من غير وضوء تشريع محرم، فالإثم إنما ترتب على ذلك لا على الترك، وأحدهما
غير الآخر.

(1) وهي حسنة الكاهلي المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الجنابة،
وفي الباب - 22 - من أبواب الحيض.
(2) وهي رواية سعيد بن يسار المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الحيض
(3) وهي موثقات حجاج الخشاب وزرارة وأبي بصير وعبد الله بن سنان المروية
في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجنابة،
(4) وهي موثقة عمار المروية في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجنابة، وفي
الباب - 22 - من أبواب الحيض.
(5) في الصحيفة 129
135

وربما أطلق على هذا النوع من الندب اسم الواجب تجوزا، لمشابهة الواجب في
الشرطية وعموم صحة الفعل إلا به وإن كان في حد ذاته مندوبا، ويعبر عنه بالوجوب
الشرطي إشارة إلى علاقة التجوز، ولعله من ذلك سرى الوهم.
والأخبار الدالة على الوضوء لصلاة النافلة متفرقة في جملة من الصلوات لكن
ليس فيها تصريح بالاستحباب، ولعل المتمسك في ذلك البناء على أن شرط المستحب
مستحب كما أن شرط الواجب واجب، والاجماع كما نقله جملة من الأصحاب.
ويدل على الاشتراط في الجميع عموم قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة (1):
(لا صلاة إلا بطهور...) وقوله (عليه السلام) في حسنة الحلبي (2): (الصلاة ثلاثة
أثلاث: ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود).
و (منها) - الطواف المستحب، وهل الوضوء هنا شرط لصحة كصلاة النافلة
أو لوقوعه على الوجه الأكمل، فيصح بدونه؟ خلاف سيأتي الكلام عليه إن شاء الله
تعالى في موضعه.
و (منها) - دخول المساجد، لرواية مرازم بن حكيم المروية في كتاب
مجالس الصدوق (3) عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (عليكم باتيان المساجد
فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهرا طهره الله من ذنوبه، وكتب من زواره)
وروى الصدوق في الفقيه (4) مرسلا: (أن في التوراة مكتوبا أن بيوتي في الأرض

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة، وفي الباب - 1 و 4 -
من أبواب الوضوء، وفي الباب - 14 - من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الركوع. وفي الباب - 28 -
من أبواب السجود.
(3) في الصحيفة 216 وفي الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الوضوء.
(4) ج 1 ص 154 وفي الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الوضوء، وفي الباب
- 39 - من أحكام المساجد.
136

المساجد، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي. الحديث) ولاستحباب صلاة
التحية بعد دخولها الموقوفة على الطهارة.
ويتأكد مع إرادة الجلوس فيها، لمرسلة العلاء بن الفضيل عمن رواه عن أبي جعفر
(عليه السلام) (1) قال: (إذا دخلت المسجد وأنت تريد أن تجلس فلا تدخله إلا طاهرا...)
و (منها) - قراءة القرآن، لرواية محمد بن الفضيل المروية في كتاب قرب الإسناد (2) قال: (سألت أبا
الحسن (عليه السلام): أقرأ المصحف ثم يأخذني البول
فأقوم فأبول وأستنجي وأغسل يدي، وأعود إلى المصحف فاقرأ فيه؟ قال: لا حتى
تتوضأ للصلاة).
وفي كتاب الخصال (3) في حديث الأربعمائة " قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهور حتى يتطهر).
وبعض المتأخرين لما لم يقف على المستند في الحكم المذكور علله بالشهرة والتعظيم.
و (منها) - مسه وحمله، لموثقة إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة في أدلة تحريم
مس خط المصحف على المحدث (4).
و (منها) - النوم. لرواية محمد بن كردوس عن الصادق (عليه السلام) (5)
قال: (من تطهر ثم آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده...).
ورواه البرقي في كتاب المحاسن (6) عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام)،

(1) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الوضوء، وفي الباب - 39 -
من أحكام المساجد.
(2) في الصحيفة 175 وفي الوسائل في الباب - 13 - من أبواب قراءة القرآن.
(3) ج 2 ص 165 وفي الوسائل في الباب - 13 - من أبواب قراءة القرآن.
(4) في الصحيفة 122
(5) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الوضوء.
(6) في الصحفية 47، وفي الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الوضوء
137

وزاد آخره (فإن ذكر أنه ليس على وضوء فتيمم من دثاره كائنا ما كان لم يزل في
صلاة ما ذكر الله تعالى).
و (منها) - نوم الجنب، لصحيحة الحلبي (1) قال: (سئل أبو عبد الله
(عليه السلام) عن الرجل أينبغي له أن ينام وهو جنب؟ قال: يكره ذلك حتى يتوضأ).
و (منها) - صلاة الجنازة، لرواية عبد الحميد بن سعيد (2) قال: (قلت
لأبي الحسن (عليه السلام): الجنازة يخرج بها ولست على وضوء، فإن ذهبت أتوضأ
فاتتني الصلاة. أيجزيني أن أصلي عليها وأنا على غير وضوء؟ قال: تكون على
طهر أحب إلي).
و (منها) - السعي في حاجة، لصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (3) قال: (سمعته يقول: من طلب حاجة وهو على غير وضوء فلم تقض
فلا يلومن إلا نفسه).
وطعن بعض فضلاء متأخري المتأخرين في الدلالة، معللا بأن مفاده أن الحاجة
بدون الوضوء لا تقضى، فينبغي أن يطلب الحاجة فيما إذا توضأ بالوضوء الذي رخص
فيه من الشارع، لأنه عبادة موقوفة على الإذن، وليس فيه دلالة على الإذن والرخصة
للوضوء في وقت طلب الحاجة، كما تشهد به الفطرة السليمة. انتهى.
وفيه نظر، فإن الظاهر من العبارة كون ذلك كناية عن الحث على الوضوء
لأجل ذلك، كما ورد نظيره في استحباب التحنك والحث عليه بعد التعمم وعند
الخروج في السفر.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الوضوء، وفي الباب - 25 -
من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب صلاة الجنازة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الوضوء.
138

كقوله (عليه السلام) (1): (من تعمم ولم يتحنك فأصابه داء لا دواء له فلا
يلومن إلا نفسه).
وفي أخرى (2) (من اعتم ولم يدر العمامة تحت حنكه فأصابه ألم لا دواء له
فلا يلومن إلا نفسه).
وفي موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) (من خرج في سفر ولم يدر
العمامة تحت حنكه فأصابه ألم لا دواء له فلا يلومن إلا نفسه).
فإن المتبادر من ذك هو استحباب التحنك لأجل الأمرين المذكورين.
و (منها) - الجنب إذا أراد أن يغسل ميتا ولما يغتسل.
و (منها) - غاسل الميت أراد أن يأتي أهله قبل الغسل.
ويدل عليهما حسنة شهاب بن عبد ربه (4) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الجنب يغسل الميت، أو من غسل ميتا، أيأتي أهله ثم يغتسل؟ فقال: هما سواء لا بأس
بذلك، إذا كان جنبا غسل يديه وتوضأ وغسل الميت وهو جنب، وإن غسل ميتا ثم
أتى أهله توضأ ثم أتى أهله ويجزيه غسل واحد لهما).
و (منها) - المجامع إذا أراد الجماع مرة أخرى ولما يغتسل، وهذا الموضع غير
مذكور في كتب الأصحاب.
ويدل عليه رواية الوشاء، رواها الأربلي في كتاب كشف الغمة (5) من كتاب

(1) في حسنة ابن أبي عمير المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب لباس المصلي
(2) وهي رواية عيسى بن حمزة المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب
لباس المصلي.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب لباس المصلي.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجنابة، وفي الباب - 34 -
من أبواب غسل الميت.
(5) في الصحيفة 269، وفي الوسائل في الباب - 13 - من أبواب الوضوء.
139

دلائل الحميري عن الوشاء قال: (قال فلان بن محرز بلغنا أن أبا عبد الله (عليه السلام)
كان إذا أراد أن يعاود أهله الجماع توضأ وضوء الصلاة، فأحب أن تسأل أبا الحسن
الثاني (عليه السلام) عن ذلك. قال الوشاء: فدخلت عليه فابتدأني من غير أن أسأله
فقال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا جامع وأراد أن يعاود توضأ للصلاة وإذا
أراد أيضا توضأ للصلاة).
و (منها) - التأهب لصلاة الفريضة، لما رواه الشهيد في الذكرى (1) من قولهم
(عليهم السلام): (ما وقر الصلاة من أخر الطهارة حتى يدخل الوقت).
ويدل عليه أيضا ما ورد في الأخبار (2) من الأمر بصلاة الفريضة حين
يدخل الوقت.
و (منها) - جماع الحامل، لما في وصيته (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام)
قال: (يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلا وأنت على وضوء، فإنه إن قضى
بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد) رواه الصدوق في كتاب المجالس والعلل (3).
و (منها) ما لا يشترط فيه الطهارة من مناسك الحج، لما سيأتي في بابه
إن شاء الله تعالى.
و (منها) - الدخول من سفر، لما رواه الصدوق في المقنع (4) قال: (وروى
عن الصادق (عليه السلام) قال من قدم من سفر فدخل على أهله وهو على غير وضوء
ورأي ما يكره فلا يلومن إلا نفسه).

(1) في التنبيه الثالث من المواقيت، وفي الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الوضوء
(2) المروية على الاختلاف في الباب - 3 و 5 و 6 و 18 و 28 - من أبواب المواقيت
(3) رواه في المجالس ص 339 وفي العلل ص 175، وفي الوسائل في الباب - 13 -
من أبواب الوضوء، وفي الباب - 154 - من مقدمات النكاح وآدابه
(4) لم نعثر على هذه الرواية في المقنع بعد الفحص عنها في مظانها
140

و (منها) - لمن أراد أن يدخل الميت قبره، لرواية محمد بن مسلم والحلبي عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (1) في حديث قال: (توضأ إذا أدخلت الميت القبر).
و (منها) - الكون على الطهارة، لما رواه الديلمي في الإرشاد 2) عنه (صلى
الله عليه وآله) قال: (قال الله تعالى: من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني.. الحديث).
وما رواه الراوندي في نوادره عن الكاظم عن آبائه عن علي (عليهم السلام) (3)
(قال: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا بالوا توضؤوا أو تيمموا مخافة
أن تدركهم الساعة).
و (منها) - التجديد، لرواية أبي بصير ومحمد بن مسلم المروية في الخصال (4)
عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين علي (عليهم السلام) قال: (الوضوء بعد الطهور
عشر حسنات فتطهروا) ورواه في كتاب المحاسن (5) مثله.
ومرسلة سعدان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال:
(الطهر على الطهر عشر حسنات) والأخبار بذلك مستفيضة.
ويتأكد لصلاة المغرب والغداة، لرواية سماعة عن أبي الحسن موسى (عليه
السلام) (7) قال: (من توضأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضى من ذنوبه
في يومه إلا الكبائر، ومن توضأ للصبح كان وضوؤه ذلك كفارة لما مضى من ذنوبه
في ليلته إلا الكبائر).

(1) المروية في الوسائل في الباب - 31 - وفي الباب - 53 - من أبواب الدفن.
(2) ص ى 58 طبع النجف 1374 وفي الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الوضوء.
(3) رواه صاحب المستدرك في الباب - 11 - من أبواب الوضوء.
(4) ص 161 في الحديث الأربعمائة، وفي الوسائل في الباب - 1 - من أبواب
نواقض الوضوء، وفي الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(5) ص 47
(6) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(7) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
141

ولصلاة العشاء، لرواية قتادة عن الرضا (عليه السلام) (1) قال: (تجديد
الوضوء لصلاة العشاء يمحو لا والله وبلى والله).
و (منها) - إرادة وطئ جارية بعد وطئ أخرى ولما يغتسل، لمرسل ابن أبي نجران عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: (إذا أتى الرجل جاريته
ثم أراد أن يأتي أخرى توضأ).
و (منها) - ذكر الحائض على المشهور، ونقل في المختلف عن علي بن بابويه
القول بالوجوب، وهو ظاهر ابنه الصدوق في الفقيه، حيث نقل ذلك (3) عن أبيه
في رسالته إليه بما لفظه: (وقال أبي في رسالته إلي: اعلم إلى أن قال: يجب عليها عند
حضور كل صلاة أن تتوضأ وضوء الصلاة وتجلس مستقبلة القبلة) فإن نقله ذلك وجموده
عليه يدل على اختياره.
والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه
السلام) (4) وفيها (وعليها أن تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة ثم تقعد في
موضع طاهر فتذكر الله... الحديث).
وحسنة زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) وفيها (ينبغي للحائض أن
تتوضأ عند وقت كل صلاة... الحديث).

(1) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 154 - من مقدمات النكاح وآدابه. ولا يخفى أن
هذه المرسلة - كما في المتن وفي التهذيب ج 2 ص 242 وفي الوافي ج 12 ص 107 هي مرسلة
عبد الرحمان ابن أبي نجران التميمي، ولكن في الوسائل ذكر عثمان بن عيسى بدل ابن أبي نجران
(3) ج 1 ص 50.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الوضوء. وفي الباب - 40 -
من أبواب الحيض
(5) المروية في الوسائل في الباب - 40 - من أبواب الحيض
142

ورواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: (تتوضأ
المرأة الحائض إذا أرادت أن تأكل، وإذا كان وقت الصلاة توضأت واستقبلت
القبلة... الحديث).
وحسنة محمد بن مسلم (2) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحائض
تطهر يوم الجمعة وتذكر الله؟ قال: أما الطهر فلا، ولكنها تتوضأ في وقت الصلاة
ثم تستقبل القبلة... الحديث).
وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: (وكن نساء النبي
(صلى الله عليه وآله) لا يقضين الصلاة إذا حضن، ولكن يختشين حين يدخل وقت
الصلاة ويتوضأن... الحديث).
وفي كتاب الفقه الرضوي (4) قال (عليه السلام): (ويجب عليها عند حضور
كل صلاة أن تتوضأ وضوء الصلاة وتجلس... الحديث).
والظاهر أن عبارة الفقيه مأخوذة من الكتاب المذكور كما قدمنا الإشارة إليه
آنفا، لاتفاق لفظي العبارة والحديث.
وفي كتاب دعائم الاسلام (5) عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (إنا نأمر
نساءنا الحيض أن يتوضأن عند وقت كل صلاة، فيسبغن الوضوء ويحتشين بخرق، ثم
يستقبلن القبلة من غير أن يفرضن صلاة، إلى أن قال: فقيل لأبي جعفر (عليه السلام):
فإن المغيرة زعم أنك قلت يقضين الصلاة فقال: كذب المغيرة، ما صلت امرأة من
نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا من نسائنا وهي حائض، وإنما يؤمرن
بذكر الله - كما وصفنا - ترغيبا في الفضل واستحبابا له).
هذا ما وقفت عليه من أخبار المسألة. وظاهر لفظ (عليها) في الرواية الأولى

(1) المروية في الوسائل في الباب - 40 - من أبواب الحيض،
(2) المروية في الوسائل في الباب - 40 - من أبواب الحيض،
(3) المروية في الوسائل في الباب - 40 - من أبواب الحيض،
(4) في الصحيفة 21 (5) ج 1 ص 155
143

الوجوب، قيل وظاهر لفظ (ينبغي) في الثانية الاستحباب. وفيه تأمل، فإنه وإن
اشتهر كونه كذلك في عرف الناس وربما وجد في الأخبار بهذا المعنى أيضا - إلا أن
أكثر استعمال (ينبغي) و (لا ينبغي) في الأخبار بمعنى الوجوب والتحريم، وقد
حضرني من الأخبار ما يشتمل على خمسة عشر موضعا يتضمن ما ذكرناه. وأما الثالثة
فقيل: إن الأمر بالوضوء في صدرها قرينة على استحباب الوضوء للذكر المذكور بعده.
وفيه نظر، لعدم الملازمة بينهما المقتضية لذلك، واشتمال الرواية على الأوامر الوجوبية
والندبية غير عزيز في الأخبار. وأما الرابعة فلا ظهور لها في الاستحباب زيادة
على الوجوب، وكذلك الخامسة. وأما السادسة فهي ظاهرة في الوجوب. وأما السابعة
فظاهرة في الاستحباب.
وأنت خبير بأنه لو لم يرجح الوجوب منها على الاستحباب فلا يرجح العكس،
والمسألة محل توقف، والشهرة غير مرجحة إلا أن تكون في الصدر الأول. وهي غير
معلومة سيما مع مخالفة هذين العمدتين. وتوقف شيخنا صاحب رياض المسائل وحياض
الدلائل، ونفى بعد القول الثاني عن الصواب. وهو كذلك لما عرفت.
و (منها) - وضوء الميت مضافا إلى غسله على المشهور، وسيجئ تحقيقه
في محله إن شاء الله تعالى.
و (منها) - كتابة القرآن، لصحيحة علي بن جعفر المتقدمة (1) في مسألة
حكم مس القرآن للمحدث بناء على أحد احتماليها.
وزاد بعض الأصحاب استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل، لصحيحة
الحلبي (2) المتضمنة (أنه إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ).
وصحيحة عبد الرحمان (3) قال: (قلت أيأكل كل الجنب قبل أن يتوضأ؟ قال:
إنا لنكسل، ولكن يغسل يده، والوضوء أفضل).

(1) في الصحيفة 123
(2) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الجناية
(3) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الجناية
144

واستظهر بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين حمل الوضوء هنا على
غسل اليد، كما ورد في حسنة زرارة (1) (الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يده
وتمضمض وغسل وجهه...) ومثلها رواية السكوني (2) وهو أقرب، لأن اطلاق الوضوء
في الأخبار على ذلك منتشر، والمفصل يحكم على المجمل، ويؤيده أن الغسل هو المنسوب
إلى الأكل والشرب.
والمشهور أيضا عد زيارة المقابر، ولم أقف بعد الفحص على مستنده.
وعد جماع المحتلم أيضا، ولم أقف أيضا على دليله، وما استدلوا به عليه من قوله
(صلى الله عليه وآله) (3): (يكره أن يغشى الرجل المرأة وقد احتلم حتى يغتسل من
احتلامه... الخبر) فلا تعرض فيه للوضوء - كما ترى - بوجه.
وزاد بعضهم ما روى فيه الوضوء من الأسباب الزائدة مما قدمنا ذكره، كالمذي
والرعاف، والقئ، وقراءة الشعر الباطل زيادة على أربعة أبيات، ونحو ذلك. والأظهر
- كما قدمنا ذكره - حمل تلك الأخبار على التقية (4).
وزاد بعضهم أيضا استحباب الوضوء للحاكم إذا جلس للقضاء بين الناس. ولم
أقف على دليله.
وزاد بعض آخر استحباب الوضوء لمن غسل ميتا إذا أراد تكفينه قبل الغسل.
فإن أراد به الوضوء المجامع لغسل المس - كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني في الروضة -
فلا وجه لعده في هذا المقام، مع أنه لا نص على استحبابه هنا أيضا، وإن أراد أن
منشأ الاستحباب هو تلك الغاية المذكورة، ففيه أنه لا دليل عليه كما اعترف به غير واحد

(1) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الجناية
(2) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الجناية
(3) المروي في الوسائل في الباب - 70 - من أبواب مقدمات النكاح وآدابه.
(4) تقدم في التعليقة 5 ص 110 والتعليقة 6 ص 114 والتعليقة 1 ص 116
ما يتعلق بذلك
145

فائدتان:
(الأولى) - قد عرفت في جملة ما تقدم (1) استحباب الوضوء للتجديد،
ولا ريب - كما هو ظاهر المذهب في شرعيته وإن ترامى مع الفصل بصلاة ولو نافلة، لا طلاق
الآية (2) والرواية عموما وخصوصا. أما بدونه فهل يشرع مطلقا، أو لا مطلقا، أو مع
الفصل بمجدد له في الجملة وبدونه فلا؟ احتمالات:
واطلاق الأخبار - كقولهم (عليهم السلام) (3): (الوضوء على الوضوء نور على نور)
وقولهم (4) (من جدد وضوءه من غير حدث جدد الله توبته من غير استغفار) وقولهم (5):
(الطهر على الطهر عشر حسنات) - يدل على الأول، وبه قطع في التذكرة، وتوقف
في الذكرى في استحبابه لمن لم يصل بالأول، ورجح فيها عدم استحباب لصلاة واحدة
أكثر من مرة، وهو ظاهر الصدوق في الفقيه في مسألة تثنية الغسل في الوضوء كما سيأتي،
حيث حمل أخبار التثنية على التجديد.
واحتمل بعض المتأخرين تفصيلا بأنه يمكن أن يقال مع الفصل الكثير الذي
يحتمل طرو الحدث بعده وعدم تذكره، يتحقق التجديد عرفا، مع أن فيه نوعا من الاحتياط
ثم إن ظاهر الأصحاب اختصاص التجديد بطهارة الوضوء بمعنى الوضوء بعد
والوضوء، وأما الوضوء بعد الغسل، والغسل بعد الغسل ولو مع الفصل بصلاة،
فلم يتعرضوا له، وربما أيد المنع ورود الأخبار ببدعية الوضوء مع غسل الجنابة.
واستظهر شيخنا المجلسي (قدس سره) في كتاب البحار استحباب التجديد
في الصورة الأولى إذا صلى بينهما، لرواية أبي بصير ومحمد بن مسلم المتقدمة (6) نقلا عن

(1) في الصحيفة 141
(2) وهي قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا... الآية "
(3) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(6) في الصحيفة 141
146

كتاب الخصال الدالة على أن (الوضوء بعد الطهور عشر حسنات) قال: و (المتبادر
من أخبار كونه بدعة إذا وقع بلا فاصلة. ثم قال: ولعل الاحتياط في الترك) انتهى.
ونفى بعض البعد عن استحباب تجديد الغسل لمرسلة سعدان المتقدمة (1).
(الثانية) - قد انتشر الخلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في استباحة
الصلاة بالوضوء لأحد الغايات المذكورة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام
في المسألة في مبحث النية.
المطلب الثالث
في الكيفية، وهي تشتمل على المندوب والواجب، فبسط القول في هذا المطلب
يقتضي جعله في فصلين:
الفصل الأول
في المندوب، وهو أمور:
(منها) - وضع الإناء الذي يتوضأ منه على اليمين، ذكره الأصحاب (رضوان
الله عليهم) ولم نقف له على مستند في أخبارنا. وبذلك أيضا صرح جمع من أصحابنا
واستدل على ذلك ببعض الأمور الاعتبارية، والروايات العامية (2) وفيه ما لا يخفى
ولا سيما وقد ورد في بعض صحاح زرارة الواردة في حكاية الوضوء البياني (3) قال:
(فدعى بقعب فيه شئ من ماء ثم وضعه بين يديه...).
هذا إذا كان الإناء واسع الرأس، أما إذا كان ضيق الرأس يحتاج إلى الصب

(1) في الصحيفة 141
(2) في صحيح البخاري (باب التيمن في الوضوء) عن عائشة " كان النبي (صلى الله عليه وآله) يعجبه
التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ".
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
147

منه، فقد ذكر جمع من الأصحاب وضعه على اليسار ليصب منه في اليمين، ولا ريب
في كونه أيسر إلا أني لم أقف فيه على نص.
و (منها) - غسل اليدين - قبل إدخالهما الإناء إن لم يكن غسلهما سابقا حال
الاستنجاء أو غيره - مرة من حدث البول، ومرتين من الغائط، ومن النوم مرة،
وظاهر المعتبر الاجماع على ذلك:
ويدل على الأولين صحيحة الحلبي المتقدمة (1) وعلى الثالث موثقة عبد الكريم
بن عتبة الهاشمي (2) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) إلى أن قال: فإنه استيقظ
من نومه ولم يبل، أيدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال: لا لأنه لا يدري حيث
باتت يده فيغسلها) ومثلها رواية أخرى له أيضا (3).
ومما يدل على أن الأمر بذلك للاستحباب صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما
(عليهما السلام) (4) قال: (سألته عن الرجل يبول ولم يمس يده شئ، أيغمسها في الماء؟
قال: نعم وإن كان جنبا) والرواية وإن كانت مختصة بالبول إلا أنه لا قائل بالفرق.
ويدل على ذلك أيضا قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة الواردة في الوضوء
البياني (5) حين غمس كفه في الماء من غير غسل: (هذا إذا كانت الكف طاهرة)

(1) في الصحيفة 65
(2) المروية في الوسائل في الباب - 27 - من أبواب الوضوء
(3) أشار إليها صاحب الوسائل في الباب - 27 - من أبواب الوضوء بقوله بعد ذكر
روايته المتقدمة: " ورواه الكليني. الخ " وهي عن الشيخ، والمراد به في اصطلاح أهل
الحديث الكاظم (ع).
(4) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الأسئار، وفي الباب - 28 -
من أبواب الوضوء، وفي الباب - 45 - من أبواب الجنابة
(5) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
148

وهو عام، مضافا إلى أصالة عدم الوجوب (1).
ونقل بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين أن من الأصحاب من استحب
المرتين في البول، نظرا إلى ظاهر رواية حريز عن أبي جعفر (عليه السلام) (2) قال:
(يغسل الرجل يده من النوم مرة، ومن الغائط والبول مرتين، ومن الجنابة ثلاثا).
والظاهر رجحان ما هو المشهور، لصحة مستنده، ويؤيد برواية المشايخ الثلاثة له
وتفرد الشيخ بهذه الرواية، مع احتمال التأويل فيها باستحباب المرتين من مجموع البول
والغائط بناء على التداخل واندراج الأقل تحت الأكثر مع الاجتماع، كما صرح به
الأصحاب (رضوان الله عليهم) لا من كل على الانفراد. إلا أن الغائط استفيد استحباب
المرتين فيه من الاجماع ومن رواية الحلبي (3) فتبقى رواية المرة في البول بلا معارض.
وحد الأصحاب اليد المغسولة هنا من الزند.
هذا. والظاهر من كلام الأصحاب استحباب غسل اليدين معا، وفهم ذلك من
الأخبار لا يخلو من نوع خفاء، سيما وقد صرحت رواية عبد الرحمان بن كثير (4) الواردة
في حكاية وضوء الأمير (صلوات الله عليه) أنه أكفأ بيده اليسرى على يده اليمنى،
وهو ظاهر في أن المغسولة إنما هي اليمنى خاصة. وأيضا فإنها هي التي تحتاج إلى وضعها
في الإناء للاغتراف.
ثم إن الظاهر من كلام البعض تخصيص الاستحباب بما إذا كان الوضوء من الإناء

(1) أقول: كلام ابن بابويه في الفقيه يدل على أن من كان وضوؤه من حدث النوم
ونسي فأدخل يده في الماء قبل غسلها فعليه أن يصب ذلك الماء ولا يستعمله، وإن أدخلها في
الماء من حدث البول والغائط قبل أن يغسلها ناسيا فلا بأس. انتهى. وهو غريب
(منه رحمه الله).
(2) المروية في الوسائل في الباب - 27 - من أبواب الوضوء.
(3) ص 65
(4) المروية في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الوضوء.
149

الواسع الرأس دون الضيق الرأس والكثير والجاري، بناء على التعليل بالنجاسة الوهمية
في موثقة عبد الكريم المتقدمة (1) والظاهر - كما صرح به آخرون - التعميم، نظرا
إلى اطلاق رواية حريز (2) وأن الأمر بذلك محض تعبد لا للنجاسة، مع انحصار مورد
التوهم في حدث النوم خاصة.
والظاهر - كما استظهره شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في كتاب الحبل المتين -
عدم اختصاص الحكم المذكور بالرجل وإن اختص مورد الأخبار به، إذ الظاهر عدم
الخصوصية، بل المراد به مطلق الشخص فيدخل في الحكم النساء.
و (منها) - التسمية والدعاء عند وضع اليد في الماء، لما في صحيحة زرارة (3)
قال: (إذا وضعت يدك في الماء فقل: بسم الله وبالله، اللهم اجعلني من التوابين
واجعلني من المتطهرين..).
وعند الصب عليها، لما في رواية عبد الرحمان بن كثير المتقدمة (4) بما فيها من الدعاء.
وروى الصدوق في الخصال (5) بسند معتبر عن أبي بصير ومحمد بن مسلم
عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه
السلام): لا يتوضأ الرجل حتى يسمى، يقول قبل أن يمس الماء: بسم الله وبالله اللهم اجعلني
من التوابين واجعلني من المتطهرين. فإذا فرغ من طهوره قال: أشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فعندها يستحق المغفرة).
وربما يظهر - من ألفاظ الدعاء في الصحيحة المذكورة والرواية الثالثة - كون ذلك
في وضع اليد في الماء للاستنجاء، لتضمنه طلب الجعل من التوابين والجعل من المتطهرين
أو طلب التوبة والتطهير المومى إلى الآية النازلة في شأن المستنجي بالماء: (إن الله يحب

(1) ص 148
(2) ص 149
(3) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الوضوء،
(4) ص 65
(5) ج 2 ص 166 وفي الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الوضوء.
150

التوابين ويحب المتطهرين) (1) كما تقدم في الأخبار. وأما رواية عبد الرحمان فإنها
صريحة في كون ذلك للاستنجاء كما تقدم ذكره (2) وحينئذ يبقى الوضع أو الصب لغير
الاستنجاء خاليا من الدعاء. نعم يمكن أن يحمل ما رواه في الفقيه مرسلا (3): (أن
أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إذا توضأ قال: بسم الله وبالله وخير الأسماء لله
وأكبر الأسماء لله وقاهر لمن في السماوات وقاهر لمن في الأرض، الحمد لله الذي جعل
من الماء كل شئ حي وأحيى قلبي بالايمان، اللهم تب علي وطهرني واقض لي بالحسنى
وأرني كل الذي أحب، وافتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء) على أن ذلك عند
الصب أو الوضع في الوضوء بحمل قوله: (إذا توضأ) على إرادته والشروع فيه كما
هو مجاز شائع.
و (منها) - التسمية على الوضوء، ففي صحيحة ابن أبي عمير عن بعض
أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: (إذا سميت في الوضوء طهر جسدك
كله، وإذا لم تسم لم يطهر من جسدك إلا ما مر عليه الماء) ومثلها رواية أبي بصير (5).
وفي صحيحة العيص بن القاسم عنه (عليه السلام) (6) (من ذكر اسم الله
على وضوئه فكأنما اغتسل) إلى غير ذلك من الأخبار.
والظاهر من الأخبار صدق التسمية بالاتيان بها عند إرادة الاستنجاء كما تقدم
في حديث عبد الرحمان (7) وهكذا فيما بعد ذلك من مستحبات الوضوء.
وفي حسنة زرارة عن الباقر (عليه السلام) (8) في حكاية الوضوء البياني قال:

(1) سورة البقرة. الآية 222.
(2) في الصحيفة 65
(3) ج 1 ص 27. وفي الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الوضوء،
(4) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الوضوء
(5) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الوضوء
(6) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الوضوء
(7) في الصحيفة 65
(8) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
151

(ثم غرف ملأها ماء فوضعها على جبينه ثم قال: بسم الله وسدله... الحديث).
وبالجملة فالظاهر امتداد وقتها من حين الوضع أو الصب للاستنجاء إلى الشروع
في غسل الوجه.
وقد صرح الأصحاب بأنه لو تركها نسيانا جاز تداركها في أثناء الوضوء، ولو
كان عمدا احتمل ذلك أيضا، ولو تركها إلى آخر الوضوء فالظاهر صحة الوضوء، وهو
مجمع عليه فتوى والأشهر نصبا.
وروى الشيخ في التهذيب (1) في الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن رجلا توضأ وصلى. فقال له رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أعد صلاتك ووضوءك، ففعل فتوضأ وصلى، فقال له النبي
(صلى الله عليه وآله): أعد وضوءك وصلاتك، ففعل فتوضأ وصلى، فقال له النبي
صلى الله عليه وآله) أعد وضوءك وصلاتك، فأتى أمير المؤمنين (عليه السلام) وشكى
ذلك إليه، فقال: هل سميت حين توضأت؟ فقال: لا. قال: فسم على وضوئك
فسمى وصلى، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يأمره أن يعيد).
والظاهر - كما صرح به بعض فضلاء متأخري المتأخرين - كون ذلك على جهة
التأديب والارشاد، فإن لصاحب الشريعة - كما تقدمت الإشارة إليه - السياسة بمثل
ذلك وأعظم منه لئلا يتهاون الناس بالسنن.
ومن ظاهر الخبر المذكور استظهر بعض المتأخرين إعادة الوضوء والصلاة لمن
ترك التسمية على وضوئه، بل ربما يستفاد منه استحباب إعادة العبادة مطلقا بترك بعض
سننها، وفي الأخبار ما يعضده.
وحمل الشيخ (قدس سره) التسمية في الخبر على النية، قال: لأن الألفاظ

(1) ج 1 ص 102 وفي الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الوضوء
152

ليست بفريضة حتى يعاد من تركها الوضوء، والألم يطهر مواضع الوضوء بتركها، لأنه
لا يكون قد تطهر تاركها.
ورماه بالبعد جملة من تأخر عنه. وهو كذلك، فإن اطلاق التسمية اللفظية
على النية القلبية غير معروف، وعروض النسيان لأصل النية - التي هي عبارة عن مطلق
القصد إلى الفعل الذي لا يخلو عنه عاقل في فعل من أفعاله كما سيأتي ايضاحه - بعيدا جدا
نعم يحتمل - كما ذكره بعض محدثي متأخري المتأخرين - أن يراد بالنية اخطار أن هذا
العمل لله بالبال لئلا يصدر عنه على الغفلة، ولا يبعد أن يصدق عليه التسمية، لتضمنه
اسم الله سبحانه. لكن فيه أنه وإن أمكن احتماله في أول مرة لكن الظاهر في الدفعة
الثانية بعد أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بالإعادة عدم إمكانه، فإنه لم يقصد فيها
سوى امتثال أمره (صلى الله عليه وآله) حيث إن أمره أمر الله تعالى وطاعته طاعته.
واحتمل شيخنا صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل تأويل كلام الشيخ أن
مراده - بقوله: (إن التسمية المنسية هي النية الواجبة.. الخ) - إن التسمية لها
فردان: (أحدهما) - مجرد اللفظ الذي لا يكون وسيلة إلى تحصيل القصد إلى الامتثال
المسمى بالنية، ولا ارتباط له بها، كما هو الحاصل لمن له أدنى مسكة بعروة العقل.
و (ثانيها) - اللفظ الذي يكون وسيلة إلى تحصيله بحيث لا يمكنه احكام النية إلا به،
كما نجده عيانا في بعض من ابتلى بالوسوسة في النية، ولعل صدر الاسلام لما كان قريب
العهد بالجاهلية، بعيد الطبع عن قبول الأحكام الشرعية وتعقل الأمور الذهنية، خصوصا
الأعراب منهم، حلى لهم اللابس بحلية الملبوس، وجلى لهم مرآة المعقول بصورة المحسوس
فأمروا بالتسمية اللفظية الدالة على قصد كون الفعل المشروع فيه باسمه، ليحصل لهم
الانتقال منها إلى المعنى التي هي النية القلبية، لوجوب فهم المعنى من اللفظ لمن علم
بالوضع انتهى. وهو معنى لطيف إلا أن ملاحظة الشيخ له في غاية البعد.
153

و (منها) - الاغتراف باليمين لجميع الأعضاء المغسولة. وهو بالنسبة إلى ما عدا
غسلها نفسها متجه ومتفقة عليه الأخبار.
أما بالنسبة إليها نفسها فهل يغترف لها باليسرى ويغسلها بها، أو يغترف بها ثم
يديره في اليسرى ويغسل؟
المشهور الثاني وعليه تدل صحيحة محمد بن مسلم أو ضعيفته، بناء على تضمن
سندها رواية العبيدي عن يونس عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) في حكاية الوضوء
البياني، حيث قال فيها: (... ثم أخذ كفا آخر بيمينه فصبه على يساره ثم غسل به
ذراعه الأيمن...).
ومثلها موثقة الأخوين بعثمان بن عيسى (2) على رواية التهذيب. حيث قال فيها (... ثم غمس كفه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمنى...) وأما الكافي
ففيه (اليسرى) بدل (اليمنى) أخيرا.
وعلى الأول تدل صحاح الأخبار كصحيحة زرارة (3) حيث قال فيها: (... ثم أعاد
يده اليسرى في الإناء فأسدلها على يده اليمنى ثم مسح جوانبها...) ومثلها صحيحته
الأخرى (4) وحسنة بكير (5) وصحيحتاهما (6) ومنه يظهر قوة القول الأول.
وقضية الجمع جواز الأمرين دون أفضلية الاغتراف باليمين لغسلها، وبذلك
يظهر لك ما في كلام ثاني الشهيدين في الروض، حيث قال - بعد أن صرح باستحباب
الاغتراف باليمين مطلقا -: (وفي حديث عن الباقر (عليه السلام) أنه أخذ باليسرى
فغسل اليمنى. وهو لبيان الجواز) انتهى.
و (منها) - السواك، والظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله
عليهم) في استحبابه مطلقا وخصوصا للوضوء والصلاة، لاستفاضة الأخبار بذلك.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
154

ومما يدل على الأول موثقة إسحاق بن عمار (1) قال: (قال أبو عبد الله (عليه
السلام): من أخلاق الأنبياء السواك).
وروايته أيضا عنه (عليه السلام) (2) قال: (السواك من سنن المرسلين).
وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) قال: (قال النبي (صلى
الله عليه وآله): ما زال جبرئيل (عليه السلام) يوصيني بالسواك حتى خفت أن أحفى
أو أدرد) وأحفى بالحاء المهملة وأدرد بدالين مهملتين عبارة عن اذهاب الأسنان. إلى
غير ذلك من الأخبار.
ومما يدل على الثاني قوله (صلى الله عليه وآله) في صحيحة معاوية بن عمار
عن الصادق (عليه السلام) (4): (وعليك بالسواك عند كل وضوء).
وقول الصادق (عليه السلام) في رواية المعلي بن خنيس (5) حين سأله عن
الاستياك بعد الوضوء قال: (الاستياك قبل أن يتوضأ. قال: قلت: أرأيت إن نسي
حتى يتوضأ؟ قال: يستاك ثم يتمضمض ثلاث مرات).
وفي رواية السكوني (6) (التسوك بالابهام والمسبحة عند الوضوء سواك).
وفي رواية محمد بن مروان عن أبي جعفر (عليه السلام) (7) في وصية النبي
(صلى الله عليه وآله) لعلي صلوات الله عليه (عليك بالسواك لكل صلاة).
وعنه (صلى الله عليه وآله) في رواية القداح (8) (لولا أن أشق على أمتي
لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة) أي أمرا ايجابيا وإلا فقد أمر (صلى الله عليه وآله)
لكن استحبابا. إلى غير ذلك من الأخبار.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب السواك
(2) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب السواك
(3) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب السواك
(4) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب السواك
(5) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب السواك.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب السواك
(7) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب السواك.
(8) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب السواك.
155

وذهب البعض - من حيث ورود الأمر به مطلقا - إلى أنه ليس من مستحبات
الوضوء، ولأمر الحائض والنفساء به.
وفيه أن استحبابه مطلقا ولو لمثل الحائض والنفساء لا ينافي استحبابه للوضوء
والصلاة زيادة على ذلك، فيكون فيهما مؤكدا، فإن الأخبار الدالة على الأمر به في
خصوص الموضعين - سيما حديث خوف المشقة على الأمة، وقوله (عليه السلام) فيما
رواه في الفقيه (1) مرسلا: (السواك شطر الوضوء) - مما يدل على ما قلناه بأوضح دلالة
و (منها) - المضمضة والاستنشاق على المشهور فتوى والأظهر نصا، ونقل
في المختلف عن ابن أبي عقيل أنه قال: (إنهما ليسا عند آل الرسول (عليهم السلام)
بفرض ولا سنة).
والأخبار في ذلك مختلفة لي وجه يعسر جمعها.
ففي رواية عبد الرحمان بن كثير المروية بطرق المشايخ الثلاثة (2) (نور الله تعالى
مضاجعهم) مسنده في الكافي والتهذيب ومرسلة في الفقيه في حكاية وضوء الأمير (صلوات
الله عليه): (... ثم تمضمض فقال وذكر الدعاء، ثم استنشق فقال... الحديث).
وفي رواية عبد الله بن سنان (3) قال: (المضمضة والاستنشاق مما سن رسول الله
(صلى الله عليه وآله)).
وفي موثقة أبي بصير (4) حيث سأله عنهما فقال: (هما من الوضوء، فإن
نسيتهما فلا تعد).

(1) ج 1 ص 32، وفي الوسائل في الباب - 3 - من أبواب السواك
(2) رواها صاحب الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء، والباب - 24 -
من أبواب الجنابة
(4) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء
156

وفي حديث عهد الأمير (صلوات الله عليه) الذي كتبه إلى محمد بن أبي بكر لما ولاه مصر على ما رواه الشيخ أبو علي في مجالسه (1) (.. وانظر إلى الوضوء فإنه من تمام
الصلاة، تمضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاثا... الحديث، إلى أن قال: فإني رأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنع ذلك، واعلم أن الوضوء نصف الايمان).
ورواية عمر بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم
السلام) (2) قال: (جلست أتوضأ، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لي:
تمضمض واستنشق واستن... الحديث).
وفي رواية حكم بن حكيم (3) بعد السؤال عن المضمضة والاستنشاق من
الوضوء هما، قال: (لا).
وفي حسنة زرارة (4) قال: (المضمضة والاستنشاق ليسا من الوضوء).
ورواية أبي بصير (5) حيث سأله عنهما قال: (ليس هما من الوضوء، هما من الجوف)
ورواية الحضرمي (6) قال: (ليس عليك مضمضة ولا استنشاق، لأنهما
من الجوف).
وموثقة سماعة (7) حيث سأل عنهما فقال: (هما من السنة، فإن نسيتهما لم يكن
عليك إعادة).
ورواية زرارة (8) قال: (ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة، إنما
عليك أن تغسل ما ظهر).

(1) ص 19 وفي الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء.
(7) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء.
(8) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء.
157

ورواية علي بن جعفر في كتاب قرب الإسناد (1) حيث سأل أخاه (عليه السلام)
عن المضمضة والاستنشاق قال: (ليس بواجب وإن تركهما لم يعد لهما صلاة).
وفي كتاب الخصال (2) في حديث الأربعمائة قال: (والمضمضة والاستنشاق
سنة، وطهور للفم والأنف).
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك، وهي - كما ترى - على غاية من
التدافع والتنافي، والجمع بينها ممكن بأحد وجهين:
(الأول) - حمل ما دل على نفي كونهما من الوضوء على معنى أنهما ليسا
من واجباته وإن كانا من سننه، وبهذا جمع الشيخ (عطر الله مرقده) بين الأخبار،
وعليه أكثر أصحابنا (رضوان الله عليهم) ويؤيده نفي الوجوب في رواية قرب الإسناد
وظاهر لفظ (ليس عليك) المشعر بنفي الوجوب في رواية الحضرمي.
ويدل على كونهما من سننه رواية عبد الرحمان بن كثير وحديث العهد ورواية عمرو بن
خالد، وحينئذ فيحمل ما دل على كونهما سنة بقول مطلق على أنهما من سنن الوضوء ومستحباته.
ولا ينافي ذلك نفي كونهما فريضة أو سنة في رواية زرارة، إذ الظاهر أن المراد
بالفريضة فيها ما كان وجوبه بالكتاب، والسنة ما كان وجوبه بالسنة النبوية، فهي
نفي للوجوب بطريقيه، ويؤيده قوله بعد ذلك: (إنما عليك... الخ) الدال بمفهومه على أنه ليس عليه مضمضة ولا استنشاق المشعر - كما عرفت - بنفي الوجوب.
ولعل المبالغة في نفي وجوبهما على وجه يوهم الناظر نفيهما مطلقا هو الرد على
العامة، من حيث مواظبتهم عليهما بل قول جملة منهم بوجوبهما، كما نقله في المنتهى
عن أحمد وإسحاق وابن أبي ليلى، بعض منهم خص الوجوب بالاستنشاق، وبعض خص

(1) في الصحيفة 83 وفي الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء،
(2) ج 2 ص 157 وفي الوسائل في الباب - 29 - من أبواب الوضوء
158

وجوبهما بالطهارة الكبرى (1).
(الثاني) - حمل النفي في تلك الأخبار على نفي كونهما من الوضوء مطلقا،
يعني لا من واجباته ولا من مستحباته، وحمل ما عدا ذلك مما دل على كونهما سنة على ثبوت
استحبابهما في حد ذاتهما لا لأجل الوضوء.
وإلى هذا جنح شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل وبالغ
في نصرته، فقال بعد ذكر كلام في المقام: (والتحقيق أن نقول يجب الجزم بأنهما
ليسا من سنن الوضوء المنسوبة إليه المرتبطة به، بحيث علم من الرسول (صلى الله عليه وآله)
وأهل بيته (صلوات الله عليهم) قولا أو فعلا أو تقريرا للمواظبة عليهما غالبا عند إرادة
الوضوء، وتوظيفهما في ذلك الوقت من حيث الخصوص كما هو شأن السنة، ثم استند إلى
خلو الأخبار البيانية عنهما، ثم طعن في رواية عبد الرحمان بن كثير بضعف السند،
وفي موثقتي سماعة وأبي بصير الدالة أولاهما على أنهما من السنة، بأنه أعم من المدعى،

(1) في بدائع الصنائع ج 1 ص 21 " عند أحمد بن حنبل هما فرضان في الوضوء
والغسل جميعا " وكذا في تفسير ابن كثير ج 2 ص 23. وفي الميزان للشعراني ج 1 ص 106
" اتفق الأئمة الثلاثة على استحباب المضمضة والاستنشاق في الوضوء، وفي أشهر الروايتين
عن أحمد وجوبهما في الحدث الأكبر والأصغر " وفي المحلى ج 2 ص 48 ما ملخصه " المضمضة
ليست فرضا فتركها عمدا أو نسيانا لا يخل بالوضوء والصلاة. وأما الاستنشاق بنفسه ثم النثر
بأصابعه فلا بد منه لا يجزئ الوضوء ولا الصلاة دونهما لا عمدا ولا نسيانا. وفي ص 50
قال مالك والشافعي: ليس الاستنشاق والاستنثار فرضا لا في الوضوء ولا في الغسل من الجنابة.
وقال أبو حنيفة: هما فرض في غسل الجنابة لا الوضوء. وقال أحمد وداود: هما فرضان
في الوضوء لا في غسل الجنابة، وليست المضمضة فرضا لا في الوضوء ولا في غسل
الجنابة " وفي تفسير ابن كثير ج 2 ص 23 نسب إلى أبي حنيفة وجوب للمضمضة
والاستنشاق في الغسل دون الوضوء، وذكر أيضا أنه روى عنه وجوب الاستنشاق دون
المضمضة. وفي شرح النووي على صحيح مسلم بهامش ارشاد الساري ج 2 ص 314 نسب
إلى ابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه الموافقة لأحمد بن حنبل في الوجوب فيهما.
159

وأخراهما على أنهما من الوضوء، بالمعارضة بصحيحة زرارة (1) (أنهما ليسا من الوضوء)
مع قبولها للتأويل بكونهما من الوضوء اللغوي، لأنهما طهور للفم والأنف، ثم طعن
في رواية عمرو بن خالد بضعف السند لاشتماله على رجال من العامة، وأنها تنادي بالتقية
لاشتمالها على الأمر بغسل الرجلين وتخليل أصابعهما، ثم قال: فكيف يتجرأ على الفتيا
بكون شئ سنة موظفة في شئ مع عدم ورود ما يصلح لا ثبات ذلك، إلى أن قال:
وأما كونهما سنة في الجملة فالظاهر ذلك، لما ذكرنا من موثقة سماعة (2) ثم ذكر جملة
من الأخبار الدالة بظاهرها على الاستحباب مطلقا.
أقول: وفيه (أولا) - أن خلو أخبار الوضوء البياني عن ذلك لا يدل على
نفي الاستحباب في الوضوء، لاحتمال تخصيص البيان بما هو الواجب كما صرح به البعض
ولخلوها كملا عن الأدعية الموظفة في الوضوء وعن السواك، مع ثبوت استحبابهما اجماعا
نصا وفتوى، وخلو كثير منها عن التسمية.
و (ثانيا) - أن رواية عبد الرحمان وإن ضعف سندها بناء على هذا الاصطلاح
المحدث الذي لم يقم على اعتباره دليل، مع ما في جملة من أحكامه من القال والقيل،
كما شرحنا بعض ذلك في المقدمة الثانية (3) إلا أنها صحيحة بالدستور القديم والنهج
والقويم الذي عليه كافة علمائنا المتقدمين من المحدثين والمجتهدين، سيما الثلاثة المحمدين
الذين هم أساطين الدين ونخبة المعتمدين، وقد رووها كملا في مسانيدهم، مع تصريحهم
في أوائل كتبهم بأن جميع ما يروونه صحيح مقطوع على صحته، وقد اعتمد أصحاب
هذا الاصطلاح على كثير من مراسيل الفقيه بناء على ما صرح به في أول كتابه، كما
لا يخفى على من نظر في الكتب الاستدلالية، على أنهم قد قرروا في جملة اصطلاحاتهم جبر
الضعف بالشهرة، وشهرة الرواية المذكورة - بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) سلفا وخلفا

(1) المتقدمة في الصحيفة 157 وقد وصفها هناك بأنها حسنة
(2) المتقدمة في الصحيفة 157
(3) في الصحيفة 14 من الجزء الأول
160

والعمل بما اشتملت عليه - مما لا يتجشم انكاره، وقد رواها البرقي في المحاسن (1)
أيضا وهو مؤيد لما قلنا.
و (ثالثا) - أن ما ذكره - من أنه لم يعلم من الرسول (صلى الله عليه وآله)
ولا من أهل بيته (عليهم السلام) توظيفهما في الوضوء - معارض بأنه لم يعلم منهم
أيضا الاتيان بهما في غير حال الوضوء، فإن التجأ إلى اطلاق الأخبار بأنهما من السنة،
قلنا: العام لا دلالة له على الخاص. وإن قيل: الفرض نفي استحبابهما في الوضوء، قلنا:
الاستحباب قد ثبت بجملة من الأخبار المذكورة آنفا كرواية عبد الرحمان المذكورة (2) ورواية
العهد (3) ورواية عمرو بن خالد (4) واشتمال آخر الأخيرة على ما يشعر بالتقية لا يقتضي
بطلان الاستدلال بها على ما عدا موضع التقية، إذ سبيلها فيما لا معارض له سبيل العام
المخصوص في غير موضع التخصيص، سيما مع الاعتضاد بما ذكرنا من الأخبار، وهي
موثقة أبي بصير وظاهر موثقة سماعة، فإن قوله فيها: (هما من السنة) وإن كان أعم
من كونه في الوضوء أم لا إلا أن قوله: (فإن نسيتهما... الخ) يعين ما قلناه، إذ
لا ارتباط بين استحبابهما مطلقا وبين توهم الإعادة لهما.
وحينئذ فما عدا ما ذكرنا من الأخبار مما كان مطلقا فسبيله الحمل على المقيد رعاية
للقاعدة المقررة، وما كان متضمنا للنفي فوجهه الجمل على نفي الوجوب كما قدمنا. وعلى
ذلك تنتظم الأخبار ويزول عنها غبار الغيار.
وما نقله في المختلف عن ابن أبي عقيل هو بعينه مضمون رواية زرارة
المتقدمة (5) لأن من شأنه (قدس سره) في كتابه - بل جملة المتقدمين - التعبير
بمتون الأخبار، وحينئذ فيحمل كلامه على ما تحمل عليه الرواية، وبذلك يتبدل
الاختلاف بالائتلاف كما لا يخفى على من نظر بعين الانصاف.

(1) في الصحيفة 45
(2) والآتية في الصحيفة 167
(3) في الصحيفة 157
(4) في الصحيفة 157
(5) في الصحيفة 157
161

فائدة
قد صرح جمع من المتأخرين باستحباب المضمضة والاستنشاق بثلاثة أكف،
وأنه مع اعواز الماء يكفي الكف الواحد، وأنه يشترط تقديم المضمضة أولا، وجوز
العلامة في النهاية أن يتمضمض مرة ويستنشق مرة وهكذا ثلاثا، سواء كان الجميع
بغرفة أو غرفتين أو أزيد.
واعترضهم جمع من متأخريهم بعدم وجود المستند في شئ من هذه التفاصيل
سوى رواية عبد الرحمان بن كثير (1) فإنها دلت على تقديم المضمضة وعطف
الاستنشاق عليه ب‍ (ثم).
أقول: وقد دلت رواية العهد المتقدمة على التثليث أيضا، لكن أعم من أن
يكون بثلاثة أكف في كل منهما أو أقل وإن كان الظاهر الأول، فيحصل من كلتا
الروايتين استحباب تقديم المضمضة على الاستنشاق وتثليثهما.
و (منها) - الدعاء حالة المضمضة والاستنشاق بما ورد عن الأمير (صلوات الله
عليه) في رواية عبد الرحمان بن كثير (2) حيث قال: (... ثم تمضمض فقال: اللهم لقني
حجتي يوم ألقاك، وأطلق لساني بذكراك، ثم استنشق فقال: اللهم لا تحرم علي ريح الجنة
واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيبها...).
و (منها) - كون الوضوء بمد اجماعا نصا وفتوى، ومن الأخبار في ذلك
صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) قال: (كان رسول الله (صلى الله
عليه وآله) يتوضأ بمد من ماء ويغتسل بصاع) ومثله في صحيحة زرارة (4) وزاد فيها
(والمد رطل ونصف، والصاع ستة أرطال).

(1) الآتية في الصحيفة 167
(2) الآتية في الصحيفة 167
(3) المروية في الوسائل في الباب - 50 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 50 - من أبواب الوضوء
162

ورواية أبي بصير (1) قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوضوء.
فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع).
وما رواه في الفقيه (2) مرسلا قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
والوضوء مد والغسل صاع، وسيأتي أقوام من بعدي يستقلون ذلك، فأولئك على خلاف
سنتي، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس) إلى غير ذلك من الأخبار.
ومما يدل على أن ذلك على جهة الاستحباب دون الوجوب اجماع الفرقة الناجية
على ذلك أولا، واستفاضة الأخبار بأجزاء مثل الذهن ثانيا، كما سيأتي في موضعه
إن شاء الله تعالى.
وهل ماء الاستنجاء داخل في المذكور؟ ظاهر شيخنا الشهيد في الذكرى ذلك
حيث قال: (المد لا يكاد يبلغه الوضوء، فيمكن أن يدخل فيه ماء الاستنجاء،
كما تضمنته رواية ابن كثير عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (3)).
واستحسنه في المدارك، قال: (وربما كان في صحيحة أبي عبيدة الحذاء (4)
اشعار بذلك أيضا، فإنه قال: ((وضأت أبا جعفر (عليه السلام) بجمع وقد بال،
فناولته ماء فاستنجى، ثم صببت عليه كفا فغسل به وجهه... الحديث) ويؤيده دخول
ماء الاستنجاء في صاع الغسل على ما سيجئ بيانه) انتهى.
واعترض في كتاب الحبل المتين على كلام الذكرى، فقال: (وظني أن كلامه
هنا إنما يتمشى على القول بعدم استحباب الغسلة الثانية، وعدم كون المضمضة والاستنشاق
من أفعال الوضوء الكامل، وأما على القول بذلك - كما هو مختاره (قدس سره) -

(1) المروية في الوسائل في الباب - 50 - من أبواب الوضوء.
(2) ج 1 ص 23، وفي الوسائل في الباب - 50 - من أبواب الوضوء
(3) الآتية في الصحيفة 167
(4) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
163

فلا، فإن أعلى ما اعتبرناه لا يزيد على ربع المن التبريزي المتعارف في زماننا هذا
بشئ يعتد به، وهذا المقدار إنما يفي بأصل الوضوء المسبغ ولا يفضل منه شئ للاستنجاء
فإن ماء غسل اليدين كف أو كفان، وماء كل من المضمضة والاستنشاق والغسلات
الواجبة والمندوبة ثلاث أكف، فهذه ثلاث عشرة أو أربع عشرة كفا، وهذا إن
اكتفى في غسل كل عضو بكف واحدة، وإلا زادت على ذلك، فأين ما يفضل
للاستنجاء؟ وأيضا ففي كلامه (طاب ثراه) بحث آخر، وهو أنه إن أراد بماء الاستنجاء
الذي حسبه من ماء الوضوء ماء الاستنجاء من البول وحده، فهو شئ قليل حتى قدر
بمثلي ما على الحشفة، وهو لا يؤثر في الزيادة والنقصان أثرا محسوسا، وإن أراد ماء
الاستنجاء من الغائط أو منهما معا لم يتم استدلاله بالروايتين المذكورتين، إذ ليس في
شئ منهما دلالة على ذلك، بل في رواية الحذاء (1) ما يشعر بأن الاستنجاء كان من
البول وحده، فلا تغفل) انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.
وأما تحقيق قدر المد فسيأتي إن شاء الله تعالى منقحا في باب غسل الجنابة.
و (منها) - أن يبدأ الرجل في غسل ذراعيه في الوضوء بظاهرهما والمرأة
بباطنهما، لما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) (2)
قال: (فرض الله على النساء في الوضوء أن يبدأن بباطن أذرعهن وفي الرجال
بظاهر الذراع).
ومثله روى الصدوق في الخصال (3) بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه
السلام) قال: (المرأة تبدأ في الوضوء بباطن الذراع والرجل بظاهره. الحديث)
المشهور بين متأخري الأصحاب التفصيل في ذلك بين الغسلة الأولى والثانية،

(1) المتقدمة في الصحيفة 163
(2) رواها صاحب الوسائل في الباب - 40 - من أبواب الوضوء
(3) ج 2 ص 142
164

بأن يبدأ الرجل في الغسلة الأولى بظاهر ذراعيه وفي الثانية بباطنهما والمرأة بالعكس.
ولم أقف له على مستند.
و (منها) - فتح العينين عند الوضوء، رواه الصدوق (قدس سره) في الفقيه (1)
مرسلا وفي كتابي العلل وثواب الأعمال مسندا عن ابن عباس قال: (قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): افتحوا عيونكم عند الوضوء لعلها لا ترى نار جهنم).
وروى الراوندي في نوادره بإسناده عن الكاظم عن آبائه (عليهم السلام) (2)
قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اشربوا عيونكم للماء، لعلها لا ترى
نارا حامية) وفي كتاب دعائم الاسلام مثله.
وعده الشهيد في الدروس من مستحبات الوضوء ناقلا له عن الصدوق، ونقل
عن الشيخ في الخلاف دعوى الاجماع منا على عدم وجوبه واستحبابه.
والظاهر - كما استظهره جملة من مشايخنا (قدس الله تعالى أرواحهم) - أن
المراد باستحباب ذلك مجرد فتحهما استظهارا لغسل نواحيهما. دون غسلهما، لما فيه من
المشقة والمضرة، حتى أنه روي أن ابن عمر كان يفعله فعمى لذلك.
واحتمل بعض مشايخنا حمل الخبرين على التقية لما في سند الأول من جملة من
رجل العامة، حيث إن الصدوق في الكتابين المتقدمين رواه بسنده إلى السكوني عن
ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس، والثاني ضعيف السند أيضا قال: (والقول بالاستحباب

(1) ج 1 ص 31 وفي العلل ص 103 وفي ثواب الأعمال ص 10 وفي الوسائل في
الباب - 53 - من أبواب الوضوء.
(2) رواه صاحب البحار عن النوادر للراوندي وعن دعائم الاسلام ج 18 ص 80
من كتاب الطهارة، ورواه صاحب المستدرك عن دعائم الاسلام في الباب - 45 - من
أبواب الوضوء
165

منسوب للشافعي (1)) ولا يخلو من قرب.
و (منها) - صفق الوجه بالماء، نقله جماعة من متأخري أصحابنا (رضوان
الله عليهم) عن علي بن بابويه في رسالته.
وروى ابنه في الفقيه (2) مرسلا وفي كتاب العلل مسندا في الموثق عن عبد الله
ابن المغيرة عن رجل، ومثله في التهذيب عن الصادق (عليه السلام) قال: (إذا توضأ
الرجل فليصفق وجهه بالماء، فإنه إن كان ناعسا فزع واستيقظ، وإن كان البرد فزع
فلم يجد البرد) وهو يشعر بموافقته لأبيه (طاب ثراهما).
لكن روى الكليني (3) والشيخ عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تضربوا وجوهكم بالماء إذا توضأتم،
ولكن شنوا الماء شنا).
وروى الحميري في كتاب قرب الإسناد (4) بسند صحيح عن أبي جرير الرقاشي

(1) في تذكرة العلامة (قده) أنه أحد قولي الشافعي، وفي خلاف الشيخ الطوسي
(قده) ص 6 قال أصحاب الشافعي أنه مستحب، وفي المهذب لأبي إسحاق الشيرازي
الشافعي ج 1 ص 15 " ولا يغسل العينين. ومن أصحابنا من قال يستحب غسلهما لأن ابن
عمر كان يغسل عينه حتى عمى، والأول أصح لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله " ص " قولا
ولا فعلا فدل على أنه ليس بمسنون " وفي الأم للشافعي ج 1 ص 21 " وإنما أكدت
المضمضة والاستنشاق دون غسل العينين للسنة، وأن الفم يتغير وكذلك الأنف وأن الماء
يقطع من تغيرهما وليست كذلك العينان ".
(2) ج 1 ص 31 وفي العلل ص 103 وفي التهذيب ج 1 ص 102 وفي الوسائل
في الباب - 30 - من أبواب الوضوء
(3) رواه الكليني ج 1 ص 9 والشيخ ج 1 ص 12 وفي الوسائل في الباب - 30 -
من أبواب الوضوء.
(4) في الصحيفة 129 وفي الوسائل في الباب - 15 و 30 - من أبواب الوضوء،
166

قال: (قلت لأبي الحسن (عليه السلام): كيف أتوضأ للصلاة؟ قال: فقال: لا تعمق
في الوضوء، ولا تلطم وجهك بالماء لطما، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى
أسفله.. الحديث).
ويمكن الجمع بينهما بحمل الأول على الناعس والبردان كما هو مورد الخبر،
والأخيرين على ما عداهما، أو الأول على الجواز والأخيرين على الكراهة.
واحتمل بعض الأصحاب أنه يجوز أن لا يكون الصفق في الخبر الأول مرادا به
غسل الوجه الذي هو جزء من الوضوء، بل يكون فعلا آخر سابقا على الوضوء للغرض
المذكور في الرواية. وليس بذلك البعيد.
و (منها) - الدعاء على كل من أفعال الوضوء، وقد جمعته رواية عبد الرحمان
ابن كثير المشار إليها آنفا عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: (بينا أمير المؤمنين
(عليه السلام) ذات يوم جالس مع محمد بن الحنفية إذ قال: يا محمد ائتني بإناء من ماء
أتوضأ للصلاة، فأتاه محمد بالماء، فأكفأ بيده اليمنى على يده اليسرى، ثم قال: بسم الله
والحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا، قال: ثم استنجى فقال: اللهم حصن
فرجى واعفه واستر عورتي وحرمني على النار، قال: ثم تمضمض فقال: اللهم لقني
حجتي يوم ألقاك وأطلق لساني بذكراك، ثم استنشق فقال: اللهم لا تحرم علي ريح الجنة
واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيبها، قال: ثم غسل وجهه فقال: اللهم بيض وجهي
يوم تسود فيه الوجوه، ولا تسود وجهي يوم تبيض فيه الوجوه، ثم غسل يده اليمنى
فقال: اللهم أعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان بيساري وحاسبني حسابا يسيرا،
ثم غسل يده اليسرى فقال: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي،
وأعوذ بك من مقطعات النيران، ثم مسح رأسه فقال: اللهم غشني برحمتك وبركاتك،
ثم مسح رجليه فقال: اللهم ثبتني على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، واجعل سعيي فيما

(1) المروية في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الوضوء
167

يرضيك عني، ثم رفع رأسه فنظر إلى محمد فقال: يا محمد من توضأ مثل وضوئي وقال
مثل قولي خلق الله له من كل قطرة ملكا يقدسه ويسبحه ويكبره فيكتب الله له ثواب
ذلك إلى يوم القيامة).
أقول: لا يخفى أن كتب الأخبار قد اختلفت في جملة من مواضع هذا الخبر
(منها) - في تقديم المضمضة على الاستنشاق، فإن الموجود في الفقيه (1)
والتهذيب (2) كما هنا، والموجود في الكافي (3) - وهو الذي اعتمده صاحب الوافي -
تقديم الاستنشاق.
و (منها) - قوله: (فأكفأ بيده اليمنى على يده اليسرى) فإن الموجود
في الفقيه والكافي كما هنا، وفي التهذيب الموجود بأيدينا (فأكفأ بيده اليسرى على
يده اليمنى) وهو الذي نقله بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين عن التهذيب
أيضا، إلا أن شيخنا البهائي (عطر الله تعالى مرقده) في كتاب الأربعين نقل الحديث
كما هنا، وذكر أنه نقله من التهذيب من نسخة معتمدة بخط والده (طاب ثراه) وهي
التي قرأها عليه، ووالده قرأها على شيخنا الشهيد الثاني (قدس الله تعالى أرواحهم جميعا)
و (منها) - قوله في دعاء الاستنجاء: (وحرمني على النار) ففي الفقيه
والتهذيب كما هنا، وفي الكافي (وحرمهما) بضمير التثنية، وعلى ذلك يحتمل عوده
إلى الفرج والعورة، نظرا إلى اختلاف اللفظين. وإن قرئ (عورتي) بالتشديد
على صيغة التثنية فلا اشكال.
و (منها) - في دعاء المضمضة، ففي الفقيه والتهذيب كما ذكرنا، وفي الكافي
(اللهم انطق لساني بذكرك، واجعلني ممن ترضى عنه).
(ومنها) في دعاء الاستنشاق، ففي الفقيه والتهذيب كما هنا، وفي الكافي
(اللهم لا تحرم علي ريح الجنة واجعلني ممن يشم ريحها وطيبها وريحانها) وفي بعض كتب

(1) ج 1 ص 26
(2) ج 1 ص 15
(3) ج 1 ص 21.
168

الأخبار - كما نقله في كتاب الأربعين - (اللهم لا تحرمني طيبات الجنان واجعلني.. الخ)
في آخره (ريحانها) بدل (طيبها) إلى غير ذلك من المواضع المعدودة في كتاب
الأربعين والبحار.
ونحن قد اعتمدنا هنا في نقل الخبر المذكور على كلام شيخنا البهائي (رحمه الله)
في أربعينه، فنقلناه من الكتاب المذكور من نسخة معتمدة مقابلة على شيخنا العلامة أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني (طيب الله تعالى مضجعه).
تتمة
روى شيخنا المجلسي في كتاب البحار (1) من كتاب الفقه الرضوي قال: (قال
(عليه السلام): أيما مؤمن قرأ في وضوئه (إنا أنزلناه في ليلة القدر..) خرج من
ذنوبه كيوم ولدته أمة).
وروى شيخنا المشار إليه - في الكتاب المذكور أيضا (2) عن كتاب اختيار
السيد ابن الباقي وكتب البلد الأمين - أن (من قرأ بعد إسباغ الوضوء (إنا أنزلناه
في ليلة القدر.) وقال: الله إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك
وتمام مغفرتك، لم تمر بذنب قد أذنبه إلا محته).
وروى فيه (3) أيضا عن كتاب الاختيار قال: (قال الباقر (عليه السلام): من قرأ
على أثر وضوئه آية الكرسي مرة، أعطاه الله تعالى ثواب أربعين عاما، ورفع له أربعين
درجة، وزوجه الله أربعين حوراء. وقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي إذا
توضأت فقل: بسم الله إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك وتمام
مغفرتك، فهذا زكاة الوضوء).

(1) ج 18 ص 75 من كتاب الطهارة.
(2) ج 18 ص 78 من كتاب الطهارة.
(3) ج 18 ص 76. والرواية في البحار عن جامع الأخبار.
169

أقول: قال في الفقيه (1) (زكاة الوضوء أن يقول المتوضئ: اللهم إني أسألك
تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك والجنة، فهذا زكاة الوضوء).
ويحتمل أن يكون اطلاق الزكاة عليه إما باعتبار نمو التطهير فزيادته وكماله بسببه
أو باعتبار أنه سبب لقبول الوضوء كما أن الزكاة سبب لقبول الصلاة والصوم.
الفصل الثاني
في كيفية الوضوء الواجبة، وهي تعتمد أركانا خمسة:
الركن الأول - النية
ولا ريب أن النية - في جملة أفعال العقلاء العارية عن السهو والنسيان -
مما يجزم بتصورها بديهة الوجدان، لارتكازها في الأذهان، فهي في التحقيق غنية عن
البيان، فعدم التعرض لها أحرى بالدخول في حيز القبول، ومن ثم خلا عن التعرض
لها كلام متقدمي علمائنا الفحول، وطوي البحث عنها في أخبار آل الرسول، إلا أنه
لما انتشر الكلام فيها بين جملة من متأخري الأصحاب، وكان بعضه لا يخلو من اشكال
واضطراب، أحببنا الولوج معهم في هذا الباب، وتنقيح ما هو الحق عندنا والصواب
جريا على وتيرتهم (رضوان الله عليهم) فيما قعدوا فيه وقاموا، وأسامة لسرح اللحظ
حيث أساموا. وقد أحببنا أن نأتي على جملة ما يتعلق بالنية من الأحكام بل كل ما له
ارتباط بها في المقام ونحو ذلك مما يدخل في سلك هذا النظام على وجه لم يسبق إليه سابق
من علمائنا الأعلام وفضلائنا العظام، فنقول: البحث فيها يقع في مقامات:
(المقام الأول) - لا ريب في وجوب النية في الوضوء بل في جملة العبادات،
والوجه فيه أنه لما كان الفعل من حيث هو ممكن الوقوع على أنحاء شتى - ولا يعقل
انصرافه إلى شئ منها إلا بالقصد إلى ذلك الشئ بخصوصه، ولا يترتب عليه أثره

(1) ج 1 ص 32
170

إلا بذلك، مثلا - الدخول تحت الماء من حيث هو صالح لأن يقصد به التبرد أو التسخن
تارة، وإزالة الوسخ أخرى والغسل مثلا، واخراج شئ من الماء ونحو ذلك، فلا
ينصرف إلى واحد من هذه الأشياء أو أزيد إلا بنيته وقصده. ومثل ذلك لطمة اليتيم
تأديبا وظلما وهكذا جميع أفعال العقلاء من عبادات وغيرها لا يمكن تجردها وخلوها
من النية والقصد بالكلية، وإلى ذلك يشير ما صرح به بعض فضلائنا واستحسنه
آخرون، من أنه لو كلفنا الله العمل بلا نية لكان تكليفا بما لا يطلق - فالعبادة
لا تكون عبادة يترتب عليها أثرها ويمتاز بعض أصنافها عن بعض إلا بالقصود والنيات
ففي العبادة الواجبة تكون النية واجبة شرطا أو شرطا، لعدم تعينها - كما عرفت -
وتشخصها إلا بها، وفي المندوبة تكون من شروط صحتها جزء كانت أو خارجة،
كغيرها من الأفعال التي لا تصح إلا بها. وعدم الاتصاف بالوجوب فيها - ولا في
غيرها مما هو واجب في الفريضة وشرط في صحتها - إنما هو من حيث إنه لا يعقل
وجوب الشرط أو الجزء مع ندبية المشروط أو الكل، وربما عبروا عن مثل ذلك
بالوجوب الشرطي.
ويدل على أصل ما قلناه ما رواه في التهذيب (1) مرسلا عنه (صلى الله عليه وآله)
من قوله: (إنما الأعمال بالنيات) وقوله (صلى الله عليه وآله): (إنما لكل
امرئ ما نوى) وقول علي بن الحسين (عليهما السلام) في حسنة الثمالي: (لا عمل
إلا بنية) (2) فإن الظاهر أن المراد بالنية هنا المعنى اللغوي. لأصالة عدم النقل، بمعنى

(1) ج 1 ص 13، وفي الوسائل في الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات
(2) ومن الأخبار في ذلك صحيحة علي بن جعفر المروية في الفقيه والتهذيب عن
أخيه موسى (عليه السلام) قال: " سألته عن الأضحية يخطئ الذي يذبحها فيسمى غير صاحبها
أتجزئ عن صاحب الأضحية؟ فقال: نعم، إنما له ما نوى " والظاهر أن المراد منه إنما للذابح
ما نواه أولا دون سماه حال الذبح غلطا. ويحتمل أنما لصاحب الذبيحة ما نواه الذابح
سمى أو لم يسم. وصحيحة أخرى له أيضا عن أخيه (عليه السلام) " عن الرجل يحلف
وينسى ما قال؟: هو على ما نوى " (منه رحمه الله).
171

إنما الأعمال حاصلة بالقصود والنيات، وإنما لكل امرئ ما قصده، وأنه لا عمل
حاصل إلا متلبسا بقصد ونية. فالأول والثالث صريحا الدلالة في عدم حصول العمل
بالاختيار من النفس إلا بقصدها إلى اصداره، والثاني صريح في أن المرء لا يستحق
من جزاء عمله إلا جزاء ما قصده كما يدل عليه السبب فيه، وينادي به تتمته من قوله
(صلى الله عليه وآله): (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله،
ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1) ومن هنا
يعلم أن مدار الأعمال - وجودا وعدما واتحادا وتعددا وجزاءها ثوابا وعقابا - على
القصود والنيات.
وبما ذكرنا ثبت ما ادعيناه من ضرورية النية في جميع الأعمال، وعدم احتياجها
إلى تكلف واحتمل، ووجوبها في جميع العبادات المترتب صحتها عليها، فإن الأعمال
كالأشباح والقصود لها كالأرواح.
هذه جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) لما حكموا بوجوب النية في جميع
العبادات وفسروها بالمعنى الشرعي، أشكل عليهم الاستدلال على الوجوب:
فاستدل بعض - منهم: السيد السند في المدارك - على ذلك بما قدمنا من الأخبار،
واعترضه آخرون بمنع ذلك، قالوا: لأن الظاهر من الحصر في حديثي (إنما الأعمال
بالنيات) و (لا عمل إلا بنية) (2) انتفاء حقيقة العمل عند انتفاء النية، وهو باطل، فلما تعذر الحمل على الحقيقة فلا بد من المصير إلى أقرب المجازات. والتجوز بالحمل على
نفي الصحة - كما يدعيه المستدل - ليس أولى من الحمل على نفي الثواب. ولو قيل:

(1) رواه في الوافي ج 3 ص 71 وفي المستدرك ج 1 ص 8
(2) المرويين في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات.
172

أن الأول أقرب إلى الحقيقة، عورض بأن حملهما عليه يستلزم التخصيص في الأعمال،
فإنها أعم من العبادات التي هي محل الاستدلال، فيخرج كثير من الأعمال حينئذ
من الحكم.
وأما الحديث الثالث (1) فلا انطباق له على مدعاهم بالكلية، لما أوضحناه
سابقا مؤيدا بتتمته وعلته (2).
نعم ربما يستدل لهم بما رواه الشيخ (رحمه الله) في كتاب الأمالي (3) بسنده فيه
عن أبي الصلت عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: (لا قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة)
وما رواه في كتاب بصائر الدرجات (4) بسنده فيه عن علي (عليه السلام)
قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية،
ولا عمل ونية إلا بإصابة السنة).
فإن الظاهر من سياق الخبرين أن المراد بالعمل فيهما العبادة، وحينئذ فالنية
عبارة عن المعنى الشرعي المشترط في صحة العبادة.
(المقام الثاني) - قد عرف جملة من أصحابنا النية شرعا بأنها القصد المقارن
للفعل، قالوا: فلو تقدمت ولم تقارن سمي ذلك عزما لا نية. وأصل هذا التعريف
للمتكلمين، فإنهم - على ما نقل عنهم - عرفوها بأنها الإرادة من الفاعل للفعل بالمقارنة له
وللأصحاب (رضوان الله عليهم) في بيان المقارنة في نية الصلاة اختلاف فاحش:
قال العلامة (رحمه الله) في التذكرة: (الواجب اقتران النية بالتكبير، بأن

(1) وهو قوله (ع): " إنما لكل امرئ ما نوى " المتقدم في الصحيفة 171
(2) المتقدمة في الصحيفة 172
(3) في الصحيفة 215، وفي الوسائل عن غير الأمالي في الباب - 5 - من أبواب مقدمة العادات.
(4) في الصحيفة 3، وفي الوسائل في الباب - 5 - من أبواب المقدمة العبادات.
173

يأتي بكمال النية ثم يبتدئ بالتكبير بلا فصل، وهذا تصح صلاته اجماعا) قال:
(ولو ابتدأ بالنية بالقلب حال ابتداء التكبير باللسان ثم فرغ منهما دفعة واحدة،
فالوجه الصحة).
ونقل الشهيد (رحمه الله) عن بعض الأصحاب أنه أوجب ايقاع النية بأسرها
بين الألف والراء، قال: (وهو - مع العسر - مقتض لحصول أول التكبير بلا نية)
ونقل السيد السند في المدارك عن العلامة والشهيد أنهما أوجبا استحضار النية
إلى انتهاء التكبير، لأن الدخول في الصلاة إنما يتحقق بتمام التكبير.
ورده بلزوم العسر، وأن الأصل براءة الذمة عن هذا التكليف، وأن الدخول
في الصلاة يتحقق بالشروع في التكبير، لأنه جزء من الصلاة باجماعنا، فإذا قارنت
النية أوله فقد قارنت أول الصلاة، لأن جزء الجزء جزء، ولا ينافي ذلك توقف
التحريم على انتهائه. انتهى.
وفي البال أني وقفت منذ مدة على كلام للعلامة (رضي الله عنه) الظاهر أنه في
أجوبة مسائل السيد مهنا بن سنان المدني في المقارنة، قال (رحمه الله) حكاية عن نفسه:
(أني أتصور الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ثم أقصد إليها، فأقارن بها النية) والكتاب
لا يحضرني الآن لأحكي صورة عبارته ولكن في البال أن حاصله ذلك.
أقول: لا يخفى عليك - بعد تأمل معنى النية ومعرفة حقيقتها - أن جملة هذه
الأقوال بعيدة عن جادة الاعتدال، فإنها مبنية على أن النية عبارة عن هذا الحديث
النفسي والتصوير الفكري، وهو ما يترجمه قول المصلي - مثلا -: (أصلي فرض الظهر
أداء لوجوبه قربة إلى الله) والمقارنة بها بأن يحضر المكلف عند إرادة الدخول في الصلاة
ذلك بباله وينظر إليه بفكره وخياله، ثم يأتي - بعد الفراغ من تصويره بلا فصل -
بالتكبير كما هو المجمع على صحته عندهم، أو يبسط ذلك على التلفظ بالتكبير ويمده
بامتداده كما هو القول الآخر، أو يجعله بين الألف والراء كما هو القول الثالث. وكل
174

ذلك محض تكلف وشطط، وغفلة عن معنى النية أوقع في الغلط، فإنه لا يخفى على المتأمل
أنه ليست النية بالنسبة إلى الصلاة إلا كغيرها من سائر أفعال المكلف من قيامه
وقعوده وأكله وشربه وضربه ومغداه ومجيئه ونحو ذلك. ولا ريب أن كل عاقل غير
غافل ولا ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذه الأفعال إلا مع قصد ونية سابقة عليه ناشئة
من تصور ما يترتب عليه من الأغراض الباعثة والأسباب الحاملة له على ذلك الفعل،
بل هو أمر طبيعي وخلق جبلي لو أراد الانفكاك عنه لم يتيسر له إلا بتحويل النفس
عن تلك الدواعي الموجبة والأسباب الحاملة، ولهذا قال بعض من عقل هذا المعنى من
الأفاضل - كما قدمنا نقله عنه -: (ولو كلفنا العمل بغير نية لكان تكليفا بما لا يطلق)
ومع هذا لا نرى المكلف في حال إرادة فعل من هذه الأفعال يحصل له عسر في النية
ولا اشكال ولا وسوسة ولا فكر ولا ملاحظة مقارنة ولا غير ذلك مما اعتبروه في ذلك
المجال، مع أن فعله واقع بنية وقصد مقارن البتة، فإذا شرع في شئ من العبادات
اضطرب في أمرها وحار في فكرها، وربما اعتراه في تلك الحال الجنون مع كونه في
سائر أفعاله على غاية من الرزانة والسكون، وهل فرق بين العبادة وغيرها إلا بقصد
القربة والاخلاص فيها لذي الجلال؟ وهو غير محل البحث عندهم في ذلك المجال، مع أنه أيضا لا يوجب تشويشا في البال ولا اضطرابا في الخيال.
وإن أردت مزيد ايضاح لما قلناه فانظر إلى نفسك، إذا كنت جالسا في مجلسك
ودخل عليك رجل عزيز حقيق بالقيام له والتواضع، ففي حال دخوله قمت له اجلالا
واعظاما كما هو الجاري في رسم العادة، فهل يجب عليك أن تتصور في بالك (أقوم
تواضعا لفلان لاستحقاقه ذلك قربة إلى الله)؟ وإلا لكان قيامك له من غير هذا
التصور خاليا من النية، فلا يسمى تواضعا ولا يترتب عليه ثواب ولا مدح، أم يكفي
مجرد قيامك خاليا من هذا التصور، وأنه واقع بنية وقصد على جهة الاجلال والاعظام
175

الموجب للمدح والثواب، ومن المقطوع به أنك لو تكلفت تخيل ذلك بجنانك وذكرته
على لسانك لكنت سخرية لكل سامع ومضحكة في المجامع، وهذا شأن النية في
الصلاة أيضا، فإن المكلف إذا دخل عليه وقت الظهر مثلا وهو عالم بوجوب ذلك الفرض
سابقا وعالم بكيفيته وكميته. وكان الغرض الحامل له على الاتيان به الامتثال لأمر الله
سبحانه مثلا، ثم قام عن مكانه وسارع إلى الوضوء، ثم توجه إلى مسجده ووقف في
مصلاه مستقبلا، وأذن وأقام ثم كبر واستمر في صلاته. فإن صلاته صحيحة شرعية
مشتملة على النية والقربة.
وإن أردت مزيد ايضاح لمعنى النية فاعلم أن النية المعتبرة مطلقا إنما هي عبارة عن
انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها عاجلا أو آجلا، وهذا الانبعاث
والميل إذا لم يكن حاصلا لها قبل فلا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرد النطق باللسان أو تصوير
تلك المعاني بالجنان هيهات هيهات، بل ذلك من جملة الهذيان، مثلا - إذا غلب على قلب
المدرس أو المصلي حب الشهرة وحسن الصيت واستمالة القلوب إليه لكونه صاحب فضيلة
أو كونه ملازم العبادة وكان ذلك هو الحامل له على تدريسه أو عبادته، فإنه لا يتمكن من
التدريس أو الصلاة بنية القربة أصلا وإن قال بلسانه أو تصور بجنانه (أصلي أو أدرس قربة
إلى الله) وما دام لم يتحول عن تلك الأسباب الأولة وينتقل عن تلك الدواعي السابقة
إلى غيرها مما يقتضي الاخلاص له تعالى، فلا يتمكن من نية القربة بالكلية، وحينئذ
فإذا كانت النية إنما هي عبارة عن هذا القصد البسيط الذي لا تركيب فيه بوجه،
ولا يمكن مفارقته لصاحبه بعد تصور تلك الأسباب الحاملة على الفعل إلا بعد الدخول
في الفعل، فكيف يتم ما ذكروه من معاني المقارنة المقتضية للتركيب وحصول الابتداء
فيه والانتهاء، بامتداده بامتداد التكبير وانحصاره بين حاصرين من الهمزة والراء؟
إلى غير ذلك من التخريجات العرية عن الدليل، والتمحلات الخارجة عن نهج السبيل،
الموقعة للناس في تيه الحيرة والالتباس والوقوع في شباك الوسواس الخناس.
176

(المقام الثالث) - لما كانت النية - كما أشرنا آنفا - هي المعينة والمشخصة لخصوصية
الفعل - كما دلت عليه تلك الأخبار، وأن مدار الأعمال - وجودا وعدما واتحادا وتعددا
ومدار جزائها ثوابا وعقابا - على القصود كما بيناه آنفا، وأنها للأعمال كالأرواح
للأشباح لا قوام لها بدونها إلا قواما صوريا، وأن المرء لا يستحق من جزاء عمله إلا جزاء
ما قصد، فلا يستحق جزاء ما لم يتعلق به قصد ولا جزاء عمل قصد سواه - وجب
تصحيح القصود في الأعمال على وجه يترتب عليه الثواب والنجاة من العقاب، وهو
لا يحصل في العبادات إلا بقصد الفعل خالصا له سبحانه، لقوله عز شأنه: (وما أمروا
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين.) (1) وقوله: (واعبدوا الله مخلصين له الدين) (2)
وقوله: (قل الله أعبد مخلصا له ديني) (3) إلى غير ذلك من الآيات، ويتلوها نحوها
في ذلك من الروايات.
وهو يتحقق بأحد أمور: (منها) - قصد طاعة الله تعالى والتقرب إليه.
و (منها) - قصد رضاه تعالى. و (منها) - قصد تحصيل الثواب ودفع العقاب
أو أحدهما.
ولا خلاف - فيما أعلم - في صحة العبادة بهذه القصود إلا في الأخير، فإن ظاهر
المشهور بين الأصحاب - بل ادعى عليه الاجماع - بطلان العبادة به.
والذي اختاره جماعة من متأخري المتأخرين هو الصحة، وهو المؤيد
بالآيات والروايات:
كقوله سبحانه: (... يدعون ربهم خوفا وطمعا...) (4) وقوله تعالى:
(... ويدعوننا رغبا ورهبا...) (5).

(1) سورة البينة الآية 5
(2) لم نعثر عليه بعد التتبع في المرشد
(3) سورة الزمر الآية 14
(4) سورة السجدة الآية 17
(5) سورة الأنبياء الآية 91
177

وما روى في الحسن عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: (العباد ثلاثة: قوم
عبدوا الله عز وجل خوفا، فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب
الثواب، فتلك عبادة الأجراء وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له، فتلك عبادة الأحرار
وهي أفضل العبادة) فإن قضية أفعل التفضيل أن العبادة على الوجهين الأولين لا تخلو
من فضل أيضا وإن نقصت مرتبته.
وما روي عنهم (عليهم السلام) بطرق عديدة (2): (من بلغه شئ من الثواب
على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أو تيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه)
فإنه يعطي أن ذلك العمل الحامل على فعله قصد تحصيل الثواب صحيح مثاب عليه.
وما ورد عنهم (عليهم السلام) من العبادات والأعمال المأمور بها للحاجة
أو تحصيل الولد أو المال أو النكاح أو الشفاء أو الاستخارة أو نحو ذلك من المقاصد
الدنيوية. إلى غير ذلك من الوجوه التي يطول بنشرها الكلام.
وأما ما ذكروه من أن قصد الثواب والخلاص من العقاب ينافي الاخلاص له
سبحانه، لأن قاصد ذلك إنما قصد جلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر.
ففيه (أولا) أن الاخلاص بذلك المعنى الخاص لا يحصل إلا من خواص
الخواص، وهو درجة من قال: (ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك،
ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) (3) وطلب هذه المرتبة من غيرهم (عليهم السلام)
قريب من التكليف بالمحال بل هو محال بلا اشكال.
قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين: (ومدعى هذه المرتبة إنما يصدق

(1) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب مقدمة العبادات
(2) المروي في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب مقدمة العبادات.
(3) رواه صاحب الوافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الجزء الثالث في باب
نية العبادة ص 70.
178

في دعواه إذا علم من نفسه أنه لو أيقن أن الله يدخله بطاعته النار وبمعصيته الجنة يختار
الطاعة ويترك المعصية تقربا إليه تعالى، وأين عامة الخلق من هذه الدرجة القصوى
والمنزلة العليا؟) انتهى.
و (ثانيا) - أن العبادة الواقعة على ذلك النحو بأمره تعالى، لما عرفت من
الآيات والروايات، وطالبها طالب لرضاه وهارب من سخطه، فهو المقصود بها
عند التحقيق.
و (ثالثا) - أنه سبحانه قد ندب في غير موضع إلى التجارة عليه ووعد بالجزيل
من ثوابه لمن قصد بذلك إليه.
فقال جل شأنه. (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) (1)
(وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا) (2).
(.. لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) (3).
وفي جملة من الأخبار (4) إن الله تعالى قال: (إن من عبادي من يتصدق بشق
تمرة فأربيها له كما يربي أحدكم فلوه وفصيله، فيأتي يوم القيامة وهو مثل جبل أحد
وأعظم من أحد).
إلى غير ذلك من الآيات والروايات الدالة على وعده سبحانه بالثواب في مقابلة
تلك الأعمال ترغيبا لهم.
ومن سرح يريد النظر في الكتاب والسنة وجدهما مملوءين من الترغيب في مقام
الطاعات بالجنان المزخرفة بالحور الحسان والولدان، والترهيب في مقام المخالفة
والعصيان بأهوال الحساب وشدائد يوم المآب وعذاب النيران، وسر ذلك أنما
هو كونهما باعثين على الفعل وجوبا أو عدما، ومتى كان كذلك كان قصدهما صحيحا

(1) سورة البقرة الآية 246
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) سورة إبراهيم الآية 8
(4) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الصدقة
179

البتة، وفي بعض الأخبار (1) (أن العمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد
سوى الله عز وجل) وهو مؤيد لما قلناه وموضح لما ادعيناه.
(المقام الرابع) - لا ريب ولا اشكال في الابطال بقصد الرياء والسمعة في نية
العبادة، والوجه فيه أنه لا ريب في أن قصد ذلك لما كان منافيا للاخلاص الذي هو مدار
الصحة والبطلان في العبادة كما عرفت، وجب الحكم ببطلانها باشتمالها عليه.
وقد استفاضت الروايات بالنهي عن ذلك، كقول الصادق (عليه السلام)
لعباد البصري (2): (ويلك يا عباد إياك والرياء، فإنه من عمل لغير الله وكله الله
إلى من عمل له).
وقول الرضا (عليه السلام) لمحمد بن عرفة (3): (ويحك يا ابن عرفة اعملوا
لغير رياء ولا سمعة، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل..).
بل دلت الآيات على أن ذلك شركا، كقوله سبحانه: (.. ولا يشرك
بعبادة ربه أحدا) (4).
وفي بعض الأخبار في تفسير هذه الآية (ومن صلى مراءاة الناس فهو مشرك) (5)
وفي آخر أيضا (6) (الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما
يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه..).
ونقل جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) عن المرتضى (رضي الله عنه)
في الإنتصار أنه لو نوى الرياء بصلاته لم تجب إعادتها وإن سقط الثواب عليها. ولا يخفى
أن هذا الكلام يجري في جميع العبادات بل في غيرها بطريق أولى.

(1) المروي في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب مقدمة العبادات.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب العبادات.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب العبادات.
(4) سورة الكهف الآية 110
(5) المروي في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب العبادات.
(6) رواه صاحب الوسائل في الباب - 12 - من أبواب مقدمة العبادات.
180

ولعل مستنده في ذلك أن غاية ما يستفاد من الآية والأخبار الواردة في المقام
عدم القبول الموجب لعدم استحقاق الثواب، وهو غير مناف للصحة بمعنى عدم
وجوب الإعادة.
وربما أيد ذلك بكثير من ظواهر الكتاب والسنة كقوله تعالى: (.. إنما
يتقبل الله من المتقين) (1) (.. ولا تطلبوا صدقاتكم بالمن والأذى..) (2).
وكما ورد في الأخبار الصحيحة (3): (أن صلاة شارب الخمر إذا سكر لا تقبل
أربعين صباحا أو أربعين يوما أو ليلة) مع عدم القول بفساد شئ من ذلك ووجوب
إعادته من تلك الجهة.
وأنت خبير بأن الكلام هنا يرجع إلى بيان معنى الصحة في العبادات، هل هي
عبارة عن موافقة الأمر وحصول ما يستلزم الثواب، أو أنها عبارة عما يوجب سقوط
العقاب وإن لم يستلزم الثواب، وإنما يستلزمه القبول وهو أمر زائد على الاجزاء والصحة
ومرجع ذلك إلى كونها عبارة عما يسقط القضاء خاصة؟ المشهور الأول والمرتضى على الثاني
والظاهر هو المشهور من أن الصحة إنما هي عبارة عن موافقة الأمر وامتثاله،
وأن ذلك موجب للقبول وترتب الثواب:
(أما أولا) - فلأنه لا خلاف بين كافة العقلاء في أن السيد إذا أمر عبده
أمرا ايجابيا بفعل ووعده الأجر عليه، فأتى العبد بالفعل حسبما أمر به السيد، ثم إن
السيد رده عليه ولم يقبله منه ومنعه الأجر الذي وعده، مع أنه لم يخالف شيئا مما أمره به
فإن العقلاء لا يختلفون في لوم السيد ونسبته إلى خلاف العدل، سيما إذا كان السيد ممن
يصف نفسه بالعدل ويمتدح بالفضل والكرم.
و (أما ثانيا) - فلأن تفسير الصحة بأنها عبارة عما أسقط القضاء مستلزم للقول

(1) سورة المائدة الآية 27
(2) سورة البقرة الآية 264
(3) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الأشربة المحرمة.
181

بترتب القضاء على الأداء، وهو خلاف ما عليه محققوا الأصحاب، وخلاف ما يستفاد
من الأدلة من أن القضاء موقوف على أمر جديد ولا ترتب له على الأداء.
ولو قيل: إن الأخبار قد صرحت بأن الصلاة لا يقبل منها إلا ما أقبل عليه وربما
قبل نصفها وربما قبل ثلثها وهكذا، مع أنها صحيحة اجماعا، فالصحة حينئذ غير القبول.
قلنا: فيه - بعد ما عرفت - أن الأمر بالاقبال في العبادة إنما هو أمر استحبابي
وهو ما يوجب امتثاله مزيد الفضل والأجر، لا أمر ايجابي ليكون تركه موجبا لترك
الأجر بالكلية وعدم القبول بالمرة، وحينئذ فتحمل هذه الأخبار على القبول الكامل
كما لا يخفى.
على أن ثبوت الصحة فيما نحن فيه من عبادة الرياء على القول الآخر ممنوع:
(أما أولا) - فلأن سقوط ما وجب في الذمة بيقين فرع وجود المسقط يقينا
والمسقط هنا غير معلوم حينئذ، إذ لا تسقط العبادة بغير جنسها وإن تحلى بجنس صورتها
ولا تتأدى الطاعة بجعلها لباسا وقالبا لضرتها.
ويرشد إلى ذلك ما رواه أبو بصير عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: (سألته
عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا. قال: حسن النية بالطاعة).
ومع هذا فكيف يمكن أن يقال إن العبادة الواقعة على وجه الرياء صحيحة
بمعنى مسقطة للقضاء؟
و (أما ثانيا) - فلأنك قد عرفت - مما تقدم من الآيات والأخبار الدالة على
جعل مناط الصحة هو الاخلاص وأن الرياء شرك - ما هو صريح في البطلان ولزوم
العقاب بالمخالفة، فكيف يتم القول بالصحة الموجبة لسقوط العقاب؟
وأما ما ذكر من الظواهر فالظاهر أن المراد بعدم القبول فيها يعني القبول الكامل،
بمعنى عدم ترتب الثواب المضاعف الموعود به. على أنه قد ورد في تفسير الآية الأولى عن أهل

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 6 - من أبواب مقدمة العبادات
182

العصمة (عليهم السلام) أن المراد بالمتقين الشيعة.
(المقام الخامس) - صرح جملة من أصحابنا بوجوب اشتمال النية - سيما في الطهارة
والصلاة - على جملة من القيود، واختلفوا فيها كمية وكيفية، واستدلوا على ذلك
بوجوه عقيلة واعتبارات غير مرضية لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية، قد نقلها
جماعة من متأخري المتأخرين في كتبهم الاستدلالية وأجابوا عنا، ولا حاجة بنا إلى
الإطالة بنقلها ونقل أجوبتها، فإنا قد التزمنا في هذا الكتاب أن لا نطول البحث غالبا
إلا فيما أغفلوا تحقيقه ولم يلجوا مضيقة.
وقصارى ما يستفاد من الأدلة الشرعية مما يتعلق بأمر النية هو قصد القربة كما
تقدم تحقيقه، ولولاه لكان الأولى الاعراض عن البحث في ذلك من باب (اسكتوا
عما سكت الله عنه) (وأبهموا ما أبهم الله) (1).
نعم لو كان الفعل المقصود غير متعين في الواقع فلا بد في تعلق قصد المكلف به
إلى اصداره من قيد يشخصه لينصرف القصد إليه، لما عرفت سابقا من أنه لا تميز بين
أفراد الماهية عند القصد إلى ايجاد بعضها إلا بقصده، كما لو اشتغلت ذمة المكلف بفائت
الظهر مثلا، فبعد دخول وقت الظهر - بناء على القول بالمواسعة المحضة في القضاء -
لا يتعين ما يأتي به منها إلا بالقصد إليه بخصوصه، فلا بد في هذه الصورة من تعيين
الأداء أن قصده والقضاء كذلك.
وما عدا ذلك فلا يجب فيه التعيين، لتعينه واقعا وإن لم يتعين في نظر المكلف
أيضا، كما لو قصد ايقاع غسل الجمعة مع تعارض الأخبار عنده في الوجوب والاستحباب
وعدم طريق إلى العلم بذلك، فإنه لا يتعين عليه قصد أحدهما، للزوم التكليف بما
لا يطاق، بل ولو أمكنه العلم بذلك أيضا لعدم الدليل عليه وأصالة عدمه، بل متى علم

(1) تقدم في التعليقة 2 من الصحيفة 60، وفي الصحيفة 156 من الجزء الأول
ما يتعلق بذلك.
183

رجحان الفعل شرعا وقصد إلى ايقاعه لوجه الله سبحانه، كفى من غير تعرض فيه
لقصد وجوب أو استحباب.
(المقام السادس) - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) جواز تقديم
النية في الوضوء والغسل عند غسل اليدين المستحب، بل حكم العلامة في المنتهى
بالاستحباب، وجوزه ابن إدريس في الغسل دون الوضوء، فخص الجواز فيه بالمضمضة
والاستنشاق، ومنع صاحب البشرى من ذلك مطلقا، وأوجب التأخير إلى أول الأفعال
الواجبة، نظرا إلى عدم دخول ما تقدم في مسمى الوضوء أو الغسل حقيقة، وأيده
بعضهم بأنه كيف ينوي الوجوب ويقارن به ما ليس بواجب ويجعله داخلا فيه؟ ولهذا
لم يجوزوا تقديمها ومقارنتها لسائر المندوبات مثل السواك والتسمية اجماعا.
أقول: ويؤيده أيضا أنه لو ساغ ذلك لجاز مثله في الصلاة أيضا، فيقدم النية
في أول الإقامة رخصة مع أنهم لا يجوزونه، والفرق بين الموضعين غير ظاهر.
وبالجملة فحيث كانت المسألة خالية من النص فالواجب الوقوف فيها على ساحل
الاحتياط. وخبر - (إنما الأعمال بالنيات) و (لا عمل إلا بنية) (1) مع تسليم حمل
النية فيه على المعنى الشرعي، باعتبار احتمال الباء فيه للمصلحة فيمتنع التقديم، أو الملابسة
المطلقة فيجوز، أو السببية التي هي أعم من الناقصة والتامة فيحتملها - فيه - كما ترى -
من الاجمال والاحتمال ما يخرج به عن حيز الاستدلال.
وأنت خبير بأن الظاهر أن الأمر في هذه المسألة بناء على ما حققناه من معنى
والنية هين، فإن القصد إلى ايقاع الفعل لما كان مما لا يمكن الانفكاك عنه ولا الاصدار
بدونه، وأن المقارنة التي ادعوها لا دليل عليها، فمن المعلوم أن المكلف متى جلس
للوضوء عالما بكيفيته شرعا والغرض منه، فلا يكون البتة إلا عن قصد إلى ايقاع هذه
الكيفية متقربا بها، وحينئذ فلا معنى لتقديم النية وتأخيرها، أو أفراد كل من مستحباته

(1) المروي في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات.
184

وواجباته بنية على حياله. نعم ذلك إنما يتمشى على مذاق القوم من جعل النية عبارة عن
ذلك الحديث النفسي، ووجوب المقارنة به لأول الأفعال كما ذكروا. وقد عرفت ما فيه
(المقام السابع) - قد صرح غير واحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم)
بأن من جملة واجبات النية استدامتها حكما إلى الفراغ، ووجهه أنه أما كانت النية عبارة
عن القصد إلى ايقاع الفعل بعد تصوره وتصور غايته الباعث على الاتيان به، وأنه بعد
التلبس بالفعل على الوجه المذكور كثيرا ما تحصل الغفلة ويحصل السهو والنسيان الذي
هو كالطبيعة الثانية للانسان عن ذلك القصد والتصور المذكورين مع الاستمرار على الفعل
لكن يكون بحيث لو رجع إلى نفسه لاستشعر ما قصده وتصوره أولا، اقتضت الحكمة
الربانية والشرعية السمحة المحمدية الجري على مقتضى النية السابقة ما لم يعرض هناك
قصد آخر ناشئ عن غاية أخرى باعثة عليه مرتبا للفعل عليها، فإن الفعل حينئذ يخرج
بذلك عما هو عليه أو لا، لما عرفت من دوران المغايرة بين الأفعال مدار القصود والنيات
. ولك أن تقول - كما حققه بعض المحققين من متأخري المتأخرين - أنه لما
كانت النية عبارة عن قصد إلى الفعل بعد تصور الداعي له الحامل عليه، والضرورة
قاضية - كما نجده في سائر أفعالنا - بأنه قد يعرض لنا مع الاشتغال بالفعل الغفلة عن ذلك
القصد والداعي في أثناء الفعل، بحيث إنا لو رجعنا إلى وجداننا لرأينا النفس باقية على
ذلك القصد الأول، ومع ذلك لا يحكم على أنفسنا ولا يحكم علينا غيرنا بأن ما فعلناه
وقت الذهول والغفلة بغير قصد ونية، بل من المعلوم أنه أثر ذلك القصد والداعي
السابقين، الحكم في العبادة كذلك، إذ ليست العبادة إلا كغيرها من الأفعال
الاختيارية للمكلف، والنية ليست إلا عبارة عما ذكرنا.
ثم قال (قدس سره): (إنه كما يجوز صدور الفعل بالإرادة لغرض مع الذهول
في أثنائه عن تصور الفعل والغرض مفصلا، فكذلك يمكن صدوره بالإرادة لغرض
مع الذهول عنها مفصلا في ابتداء الفعل أيضا، إذا تصور الفعل والغرض في زمان سابق
185

عليه، وكان ذلك باعثا على صدور الفعل في هذا الزمان، والضرورة حاكمة أيضا بوقوع
هذا الفرض عند ملاحظة حال الأفعال، فحينئذ يجوز أن يصدر الوضوء لغرض الامتثال
والقربة باعتبار تصوره وتصور ذلك الغرض في الزمان السابق، فيلزم أن يكون ذلك
الوضوء صحيحا أيضا، لما عرفت من عدم لزوم شئ على المكلف زائدا على هذا
المعنى، فبطل القول بمقارنة النية لأول الأفعال " انتهى.
وهو جيد رشيق، وفيه تأكيد أكيد لما قدمناه في المقام الثاني من التحقيق.
وبالجملة فتجدد الذهول بعد قصد الفعل أولا وتصور داعيه الباعث عليه -
لا يخرج تلك الأفعال الواقعة حال الذهول عن كونها بذلك القصد السابق. نعم لو
كان أصل الدخول في الفعل بغير قصد بالكلية سهوا وغفلة فهذا هو الذي لا يعتد به
اتفاقا، لما عرفت غير مرة من أن الفعل من حيث هو لا ينصرف إلى مادة ولا يحمل
على فرد إلا بالقصد إليه
هذا، وأنت إذا حققت النظر في المقام وسرحت بريد الفكر فيما ذكره الأقوام
وجدت أن البحث في هذه المسألة ليس مما له مزيد فائدة سيما في الوضوء، وذلك لأن
مجرد النية الثانية لا يترتب عليها أثر في الابطال عندهم.
وحينئذ فلا يخلو إما أن يأتي بشئ من تلك الأفعال بالنية الثانية أول ا، وعلى
الثاني فإما أن يرجع إلى مقتضى النية السابقة قبل فوات الموالاة أو لا.
فعلى الأول يكون بطلان الفعل بما فعله بالنية الثانية، ويدخل في مسألة من أبطل
عمله بأحد المبطلات، ولا خصوصية له بهذه المسألة.
وعلى الثالث يبطل الوضوء لفوات بعض واجباته التي هي الموالاة، ويرجع ذلك
إلى مسألة الموالاة.
وعلى الثاني فإنه لا اشكال في الصحة عندهم، لعدم ثبوت كون مثل ذلك قادحا
فيها، مع أنها الأصل.
186

نعم لو اتفق ذلك في نية الصلاة بأن نوى الخروج أو فعل المنافي ولم يفعل،
فهل يبطل ذلك الصلاة أم لا؟ قولان:
المشهور الثاني استنادا إلى أصالة الصحة، فالابطال يتوقف على الدليل،
وليس فليس.
وقيل بالأول استنادا إلى أن الاستمرار على حكم النية السابقة واجب اجماعا،
ومع نية الخروج أو التردد أو نية فعل المنافي يرتفع الاستمرار.
وأورد عليه أن وجوب الاستدامة أمر خارج عن حقيقة الصلاة، فلا يكون
فواته مقتضيا لبطلانها، إذ المعتبر وقوع الصلاة بأسرها مع النية كيف حصلت، وقد
اعترف الأصحاب بعدم بطلان ما مضى من الوضوء بنية القطع إذا جدد النية قبل فوات
الموالاة. والحكم في المسألتين واحد. والفرق بينهما - بأن الصلاة عبادة واحدة لا يصح
تفريق النية على أجزائها بخلاف الوضوء - ضعيف، فإنه دعوى مجردة عن الدليل. والمتجه
تساويهما في الصحة مع تجديد النية لما بقي من الأفعال، لكن يعتبر في الصلاة عدم الاتيان
بشئ من أفعالها الواجبة قبل تجديد النية، لعدم الاعتداد به، واستلزام إعادته الزيادة
في الصلاة. هكذا حققه السيد السند (قدس سره) في المدارك.
وأنت خبير بأن المصلي متى كبر للاحرام ودخل في الصلاة فلا يخرج منها
إلا بالتسليم أو التشهد، فجميع حالاته - من قيامه وقعوده وركوعه وسجوده وتشهده
وما بينها حال الانتقال من أحدها إلى الآخر - كله من أجزاء الصلاة، فمع نية القطع
والخروج أو نية فعل المنافي يلزم - البتة - وقوع جزء من أجزاء الصلاة بغير نية، ويلزم
الخروج عن مقتضى النية السابقة. وتجديد النية الأولى - بعد مضي شطر من أجزاء
الصلاة خاليا منها بل على نية تنافيها - لا يوجب نفعا في المقام ولا دفعا لذلك الالزام.
ومن ذلك ظهر الفرق بين الصلاة والوضوء، وبه يظهر رجحان القول الأول.
إلا أن لقائل أن يقول: إن المفهوم من الأخبار جواز ايقاع بعض الأفعال
187

الخارجة عن حقيقة الصلاة فيها وإن استلزمت التقدم أو التأخر بما لا يسلتزم الاستدبار
كغسل دم الرعاف، وقتل الحية، وارضاع الصبي، ونحوها، مع القطع بكونها ليست
من أفعال الصلاة، مع أنها لا تبطل الصلاة بها، فبالأولى أن يكون مجرد ترك النية - وإن
استلزم أن يكون الحال الذي نوى فيه القطع خاليا عن النية السابقة - غير موجب للبطلان
وحينئذ يتوجه المنع إلى أن جميع حالاته من بعد التكبير إلى حين التسليم من أجزاء
الصلاة. إلا أن الحكم بعد لا يخلو من شوب الاشكال. وحيث كانت المسألة خالية
من النص فالواجب الوقوف فيها على ساحل الاحتياط.
(المقام الثامن) - اختلف الأصحاب في حكم نية الضمائم اللازمة في النية.
فقيل بالصحة مطلقا، والظاهر أنه المشهور.
وقيل بالبطلان مطلقا، هو ظاهر جماعة: منهم - أول الشهيدين في بيانه، وثانيهما
في روضته، والمولى الأردبيلي في شرح الإرشاد، وغيرهم.
وقيل بالتفصيل بين ما إذا كانت راجحة فتصح وإلا فتبطل، واختاره جماعة:
منهم - السيد السند في المدارك، وادعى أنه مع الرجحان لا خلاف في الصحة، وتبعه
على هذه الدعوى بعض ممن تأخر عنه.
وفيه أن جملة من عبارات من قدمنا نقل القول بالابطال عنهم ظاهرة في الحكم
بذلك من غير تفصيل بالرجحان وعدمه، ولا سيما كلام المولى الأردبيلي (رحمه الله)،
حيث قصر الحكم بالصحة على مجرد كون الفعل لله، وحكم بأن كل ما يضم إليه من لازم
وغيره فهو مناف لذلك.
وقيل بتخصيص الصحة بما إذا كان الضميمة راجحة ولاحظ المكلف
رجحانها، وهو الذي اختاره شيخنا أبو الحسن (قدس سره) في رسالة الصلاة، وجزم
به والدي (قدس سره).
وقيل بالتفصيل بأنه إن كان الباعث الأصلي هو القربة ثم طرأ قصد التبرد مثلا
188

عند الابتداء في الفعل لم يضر، وإن كان العكس أو كان الباعث مجموع الأمرين، لم
يجزئ، وهذا القول ذكره في الذكرى احتمالا، وإليه ذهب بعض متأخري المتأخرين.
والظاهر أن مراد مشترط رجحان الضميمة هو ملاحظة رجحانها أيضا وقصده،
نظر إلى أن التعليق على الوصف مشعر بالعلية، فإن مجرد رجحانها في الواقع من غير
ملاحظة المكلف له لا يخرج الضميمة عن كونها مرجوحة أو متساوية الطرفين، فإن
العبادة إنما تصير عبادة يترتب عليها أثرها بنيتها وقصدها، وحينئذ فيرجع القول الثالث
والرابع إلى واحد.
احتج من ذهب إلى الأول بعدم منافاة الضميمة لنية القربة، وأنه كنية الغازي
للقربة والغنيمة، وأنها لكونها لازمة فنيتها لا تزيد على أصل حصولها.
وفيه أن ما ادعوه من عدم المنافاة فهو أول البحث. والتمثيل بالغازي لا ينهض
حجة، لمنع ذلك فيه أيضا. وقوله -: " إن نيتها لا تزيد على أصل حصولها " - ممنوع، إذ
لا يلزم من حصولها ضرورة جواز نية حصولها، وهل الكلام إلا فيه؟ مع أنه منتقض
بالرياء وأن رؤية الناس أيضا لازم، فيجب أن يكون قصده غير مضر بالعبادة، والخصم
لا يقول به.
واحتج من ذهب إلى الثاني بمنافاة الضميمة للاخلاص له سبحانه.
وفيه أنه مع عدم رجحان الضميمة مسلم ومع الرجحان ممنوع، كما سيأتي بيانه.
احتج من ذهب إلى الثالث بما ورد في الأخبار من قصد الإمام باظهار تكبيرة
الاحرام الاعلام، وضم الصائم إلى نية الصوم قصد الحمية، ومخرج الزكاة علانية - بل
سائر أفعال الخير - اقتداء الناس به، ونحو ذلك.
ومن هذه الأدلة يعلم أن قصد المكلف هذه الضمائم إلى ما ضمت إليه إنما تعلق
بها لرجحانها، وإلا فلربما تطرق إليها احتمال الابطال في بعضها من حيث دخوله في الرياء،
كالاعلان بالزكاة ونحوه.
189

وهذا القول هو الأقوى عندي، لعدم الدليل على ما سواه كما عرفت،
واعتضاده بما عرفت من الأدلة (1) إلا أن الظاهر أنه لا اختصاص له بالضميمة اللازمة
بل يجري في الخارجة أيضا، فإن ما ذكر - من مثال مخرج الزكاة علانية لاقتداء الغير
به - إنما هو من قبيل الضميمة الخارجة دون اللازمة، إذ لا ملازمة بين اخراج الزكاة
واقتداء الغير. ومثل ذلك أيضا ما ورد من استحباب إطالة الإمام ذكر الركوع لانتظار
الداخل، وإطالته القيام في صلاة الخوف لانتظار اتمام الفرقة الأولى ودخول الثانية،
وجهر المصلي بصلاة الليل في منزله ليوقظ جاره للصلاة إن كان ممن يعتادها، ونحو ذلك.
(المقام التاسع) - قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو
نوى ببعض واجبات العبادة الندب عمدا أو جهلا بطلت، ولو نوى ببعض مندوباتها
الوجوب، فإن اتصف بالكثرة بطلت أيضا وإلا فلا، وهو مبني على أمور:
(أحدها) - وجوب قصد الوجه من وجوب أو ندب في أصل العبادة، وفيما
يأتي به من الأفعال الواجبة أو المندوبة.
و (ثانيها) - عدم تداخل الواجب والندب، فلا يجزئ أحدهما عن الثاني،
لتغاير الجهتين فيهما، وحينئذ فلو خالف بأن نوى بالواجب الندب عمدا أو جهلا بطلت
الصلاة، للاخلال بالواجب على ذلك الوجه اللازم منه عدم الاتيان بالمأمور به على وجهه،
فلم يطابق فعله ما في ذمته، لاختلاف الوجه، ويمتنع إعادته، للزوم زيادة أفعال
الصلاة عمدا، فلم يبق إلا البطلان. ولو نوى بالمندوب الوجوب فإن كان ذكرا بطلت
أيضا، للنهي المقتضي للفساد، ولأنه كلام في الصلاة ليس منها ولا مما استثنى منها، وإن

(1) أقول: ومن ذلك أيضا حديث حماد بن عيسى الدال على أن الصادق (عليه السلام) صلى
تلك الركعتين اللتين صلاهما تعليما لرعيته، ومثله الحديث الدال على العلة على استحباب التكبيرات
الافتتاحية وأن النبي (صلى الله عليه وآله) كبرها لأجل أن يتابعه الحسين (عليه السلام)
فيها حين أبطأ عن الكلام. وأمثال ذلك كثير يقف عليه المتتبع لموارد الأخبار (منه رحمه الله)
190

كان فعلا كالطمأنينة مثلا، اعتبر في الحكم بابطاله الكثرة التي تعتبر في الفعل الخارج
عن الصلاة. واستقرب الشهيد في البيان الصحة في هذا القسم مطلقا، لأن نية الوجوب
إنما أفادت تأكيد الندب.
و (ثالثها) - وجوب العلم بواجبات الصلاة ومندوباتها ليقصد الوجه في كل
منهما، وعدم معذورية الجاهل في ذلك، بل الواجب عليه العلم بذلك اجتهادا أو تقليدا
وبدونه يبطل ما يأتي به من العبادة، وأنه لا معذورية للجاهل إلا في الموضعين المشهورين
هكذا قرروا (رضوان الله عليهم).
وهو منظور فيه من وجوه: (أحدها) - ما أشرنا إليه آنفا - وبه صرح جملة من
متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) - من أنه لم يقم لنا دليل يوجب المصير
إلى ما ذكروه من وجوب قصد الوجه في العبادة واستحبابه، والأحكام الشرعية
توقيفية لا يجوز الحكم فيها إلا بما قام الدليل الشرعي عليه، وإلا كان من باب
" اسكتوا عما سكت الله عنه " و " أبهموا ما أبهمه الله " كما ورد عنهم (عليهم السلام) (1)
وما ذكروه في مقام الاستدلال على ذلك مجرد اعتبارات عقيلة ووجوه تخريجية
لا تصلح للاعتماد عليها في الأحكام الشرعية.
وبذلك يظهر أن ما ذكروه من البطلان بنية الواجب ندبا ممنوع. قوله: للاخلال
بالواجب - مردود بعدم قيام الدليل على وجوب ما أوجبه، وكذلك قوله: لعدم مطابقة
فعله ما في ذمته، لعدم قيام الدليل على المطابقة المزبورة على الوجه الذي ذكره.
و (ثانيها) أن ما ذكر - من كون أحدهما لا يجزئ عن الآخر - مردود
بوقوع ذلك في جملة من الوارد:

(1) تقدم في التعليقة
(2) من الصحيفة (60) وفي الصحيفة 156 من الجزء الأول
ما يتعلق بذلك.
191

منها - صلاة الاحتياط المقصودة بنية الوجوب، فإنها بعد ظهور الاستغناء عنها
تكون نافلة اتفاقا نصا وفتوى.
ومنها - ما لو صام يوما قضاء عن شهر رمضان ثم تبين أنه أتى به سابقا، فإن
الظاهر ترتب الثواب على ما أتى به.
ومنها - ما لو شرع في نافلة ثم سها في أثنائها فأتى ببعض الأفعال بقصد الوجوب
ظنا منه أنه في فريضة.
هذا في اجزاء الواجب عن الندب. وأما بالعكس:
فمنه - ما لو صام يوم الشك بنية الندب فظهر أنه من شهر رمضان.
ومنه - ما لو دخل في الفريضة فسها في أثنائها وأتى ببعض أفعالها على أنها نافلة
ومنه - ما لو توضأ للتجديد فظهر كونه محدثا.
ومنه - ما لو جلس للاستراحة فلما قام ظهر أنه نسي سجدة، فإنه يسجد ويقوم
إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.
فإن قيل: إن هذا كله خارج عن صورة العمد. قلنا: المدعى عندهم أعم
وبه يلزم المطلوب.
و (ثالثها) - أن ما ذكره من أنه يمتنع إعادته للزوم زيادة أفعال الصلاة -
مردود بأن ما أتى به إنما قصد به الندب، والعبادة - كما عرفت - تابعة للقصد، حينئذ
فليس ما أتى به من أفعال الصلاة على هذا التقدير، فيكون الواجب باقيا في ذمته، فإنه
لو قرأ الفاتحة - مثلا - بقصد الندب وأنها قرآن، وهو مستثنى عندهم في الصلاة اتفاقا،
أو أتى بأحد الأذكار الواجبة أيضا بقصد الندب، مع استثناء ذلك أيضا عندهم في الصلاة
اتفاقا، ثم أتى بالواجب في الموضعين بقصد الوجوب، فأي موجب للبطلان هنا؟
و (رابعها) - أن ما ذكره - من بطلان الصلاة بنية المندوب واجبا إذا كان
192

ذكرا ممنوع، لأن النهي على تقدير تسليمه لم يتعلق بعين الصلاة ولا بجزئها، فلا
يلزم البطلان.
قوله: " ولأنه كلام في الصلاة.. الخ " فيه أن المعلوم كونه مبطلا من الكلام
هو ما لم يكن ذكرا ولا دعاء، وما نحن فيه ليس كذلك.
ثم حكمه أيضا - بالابطال في الفعل مع الكثرة - فيه أنه متى كان الفعل ذكرا
ممنوع، إذ الظاهر من الدليل هو ما عداه.
و (خامسها) - أن ما ذكره من جوب العلم بواجبات الصلاة ومندوباتها
عن اجتهاد أو تقليد، وأنه لا يعذر الجاهل بذلك - فيه أنه ليس على اطلاقه.
والتحقيق - كما هو اختيار جمع من المحققين من متأخري المتأخرين - أن
نقول: إنه لا اشكال في وجوب التعلم على الجاهل، وأنه بالاخلال به يأثم، لكن لو
أوقع العبادة والحال كذلك، واتفق مطابقتها للواقع حسبما أمر به الشارع وإن لم يكن له
معرفة بواجباتها ولا مندوباتها، فلا نسلم بطلانها ووجوب قضائها كما ذهبوا إليه، إذ لم
يثبت من الشارع في التكليف بأمثال ذلك أمر وراء الاتيان بما أمر به، من الكيفية
المخصوصة وقصد التقرب به إليه، والفرض أن المكلف قد أوقعه كذلك، ولا ينافي
ذلك ما تردد من أفعالها بين الوجوب والاستحباب باعتبار الخلاف فيه، لأن قصد
القربة به لرجحانه شرعا آت عليه. نعم لو كان الفعل مما تردد بين الوجوب والتحريم
مثلا، فإن قصد القربة لا يأتي عليه، فلا بد من العلم حينئذ بأحد الأمرين اجتهادا
أو تقليدا، وإلا فيجب الوقوف حينئذ على صراط الاحتياط، والمفهوم من الأخبار -
كما أوضحناه في درة الجاهل بالأحكام الشرعية من كتاب الدرر النجفية - أن الاحتياط
في مثل ذلك بالترك.
وأما عدم معذورية الجاهل بالأحكام الشرعية مطلقا كما ذكروه. فقد عرفت
193

ما فيه في المقدمة الخامسة (1).
(المقام العاشر) - لو نوى بوضوئه صلاة نافلة، فالظاهر أنه لا خلاف في
الدخول به في الفريضة، وأما إذا قصد به غير الصلاة، فإن كان مما لا يستباح إلا به،
كمس خط المصحف على المشهور، والطواف المندوب على القول به، فالمشهور أنه كذلك
ونقل عن الشيخ في المبسوط المنع، وهو ظاهر ابن إدريس أيضا، وإن كان مما
يستباح بدونها، كسائر ما يستحب له الوضوء مما لا يجامعه حدث أكبر، فهل يصح
الوضوء مطلقا ويرتفع به الحدث ويجوز به في الفريضة، أو لا يرتفع به الحدث
مطلقا، أو يكون كالأول إلا فيما إذا نوى وضوء مطلقا، أو التفصيل بين نية
ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث كقراءة القرآن ونية ما يستحب له لا لأجل الحدث
كالتجديد، فيرتفع الحدث به ويجوز الدخول به في الفريضة على الأول دون
الثاني، أو التفصيل بين ما يستحب له الطهارة لأجل الحديث ويقصد به الكمال فيصح،
أو لا يستحب له الطهارة أو يستحب ولكن لا مع قصد الكمال فيبطل، أو الصحة
إن قصد ما الطهارة مكملة له على الوجه الأكمل، وكذا أن قصد به الكون على طهارة،
وعدم الصحة في غير هاتين الصورتين؟ أقوال: أظهرها - كما استظهره جماعة من متأخري
أصحابنا - الأول.
ولنا عليه وجوه: (الأول) - أن الأخبار الواردة مستندا لتلك الوضوءات
المعدودة كلها - إلا ما شد - بلفظ الطهر أو الطهور أو الطهارة، ومن الظاهر البين
اعتبار معنى الزوال والإزالة في لازم هذه المادة ومتعديها لغة وشرعا، فلا معنى لكون
الوضوء مطهرا أو طهورا أو نحوهما إلا كونه مزيلا للحدث الموجود قبله، وإلا فلا معنى
لهذه التسمية بالكلية. ومن ثم صرحوا بأن الطهارة لغة: النظافة، وشرعا حقيقة في رافع

(1) في الصحيفة 82 من الجزء الأول.
194

الحدث. وأما الوضوء المجامع للحدث الأكبر فقرينة التجوز فيه ظاهرة، كاطلاق
الصلاة على صلاة الجنازة.
(الثاني) - أن المفهوم من الأخبار الواردة في بيان علة الوضوء أن أصل
مشروعيته إنما هو للصلاة خاصة، وقضية ذلك أنه حيثما أمر به الشارع لا يكون إلا رافعا
- إلا ما خرج بدليل - تحقيقا للجري على أصل المشروعية، ويحقق ذلك ويوضحه أن
الغاية الكلية للوضوء من حيث هو إنما هي الرفع، وهذه الغايات إنما تترتب عليه،
إذ لا يخفى أن المتوضئ لأحد هذه الغايات لو لم يرتفع حدثه، للزم اجتماع الطهارة
والحدث في حالة واحدة، مع أنهما متقابلان، على أنه لو قصد في الوضوء لدخول المسجد
مثلا عدم رفع الحدث، لم نسلم صحته، ولا ترتب أثره الذي قصد عليه.
وما قيل - من أنه يجوز أن يكون الغرض من الوضوء وقوع تلك الغاية المترتبة
عليه عقيبه وإن لم يقع رافعا كما في الأغسال المندوبة عند الأكثر (1) -
فيه (أولا) - ما قد عرفت في الوجه الأول والثاني.
و (ثانيا) - أن الإيراد بالأغسال إنما يتم لو اقتضى الدليل كونها كذلك،
ومجرد ذهاب الأكثر إليه - مع كونه خاليا من الدليل بل الدليل قائم على خلافه -
لا يثمر نقضا كما لا يخفى.
(الثالث) - أنا لا نعرف من الوضوء شرعا إلا هذه الأفعال المعهودة، فمتى
أتى بها المكلف متقربا صح وضوؤه، ومتى صح وضوؤه جاز له الدخول به في الصلاة،
إذ الشرط فيها طهارة صحيحة وقد حصلت، ومدعى الزيادة عليه اثباتها. وهذا كله
- بحمد الله سبحانه - ظاهر لمن شرب من كأس الأخبار وجاس خلال تلك الديار.
وأما ما استجوده السيد السند في المدارك - من الاستدلال لعموم ما دل على أن

(1) فيه إشارة إلى الرد بذلك على صاحب المدارك حيث إنه القائل بذلك (منه
قدس سره).
195

الوضوء لا ينقض إلا بالحدث - فقد أورد عليه بأن عدم الانتقاض لا يقتضي ترتب
جميع ما يترتب على كل وضوء، بل يقتضي استصحاب ما ثبت ترتبه على ذلك الوضوء
وهو متجه.
(المقام الحادي عشر) - اختلف الأصحاب (قدس الله أرواحهم) في تداخل
الأغسال في النية على أقوال سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، إلا أنا قبل الشروع
في ذلك نقدم من مجمل التحقيق ما يكون طريقا إلى الخروج من ذلك المضيق
فنقول: الظاهر أن الحدث - الذي هو عبارة عن الحالة المسببة عن أحد الموجبات
الممتنع الدخول معها في الصلاة - أمر كلي إن تعددت أسبابه من البول والغائط ونحوهما
والجنابة والحيض ونحوهما، ولا يتعدد بتعددها، والمقصود من الطهارة بأنواعها رفع هذه
الحالة. وملاحظة خصوصية السبب كلا أو بعضا لا مدخل له في ذلك بصحة ولا ابطال
فذكره كتركه، وإن الطهارة - وضوء كانت أو غسلا لغاية من الغايات متى كانت
خالية من المبطل، صح ترتب ما عدا تلك الغاية من سائر الغايات المشاركة لها على تلك
الطهارة وإن لم تكن مقصودة حال الفعل، وهذا في الوضوء واضح كما أسلفنا بيانه في
سابق هذا المقام، وأما في الغسل فمبني على أصح القولين - وإن لم يكن بأشهرهما - من
رفع ما عدا غسل الجنابة من الأغسال واجبا كان أو مستحبا وعدم احتياجه إلى الوضوء
كما ذهب إليه علم الهدى من المقدمين، ونهج على منواله طائفة من متأخري المتأخرين،
وعليه دلت أخبار أهل الذكر (سلام الله عليهم) وأما على المشهور فيشكل الحكم،
لعدم الرفع، ولهذا يوجب المانعون نية الأسباب في تداخل الأغسال المستحبة، لعدم
اشتراكها في موجب الرفع، فلا تداخل بدونه، وأشكل على بعضهم اندراج غسل
الجنابة تحت ما عداه من الأغسال الواجبة، لعدم رفعه إلا مع الوضوء، لو نوى ما عدا
الجنابة خاصة، وأشكل على جملة منهم الحكم بالتداخل في الواجب والمستحب للتضاد
بين وجهي الوجوب والاستحباب
196

والمفهوم من أخبار التداخل - كما ستمر بك إن شاء الله تعالى - هو التداخل
مطلقا، واجباتها بعضها في بعض، ومستحباتها كذلك، وواجباتها ومستحباتها كل في
الآخر، أعم من أن يقصد شيئا من الأسباب الحاملة والغايات الباعثة أم لا، بل الظاهر
منها أنه بملاحظة بعض تلك الأسباب والغايات يستباح به ما عداه مما لم تلحظ غايته،
وأنه لا فرق في هذا المقام بين الوضوء والغسل.
وتفصيل هذه الجملة على وجه يحيط بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في المقام، والتنبيه على ما زلت به أقدام أقلام بعض الأعلام -
هو أن يقال: الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في عدم
الافتقار إلى نية الحديث المتطهر منه الوضوء، أعم من أن يكون متحدا أو متعددا،
إما على تقدير الاكتفاء بمجرد القربة فظاهر، وإما على تقدير وجوب نية الرفع فالواجب
هو قصد رفعه من حيث هو، لكن لو قصد رفع حديث بعينه مع تعدد الأسباب، فقد
قطع أكثر الأصحاب بارتفاع الجميع أيضا لأن الحدث أمر كلي، وإن تعددت أسبابه،
فمن أجل ذلك ثبت لها التداخل باشتراكها في ذلك الأمر الكلي، فبارتفاع أحدها يرتفع
الجميع، فمتى نوى أحدها وجب حصوله، وحصوله يسلتزم حصول الجميع لما عرفت
وبذلك يظهر الجواب عما يقال: إن الأحداث لا تتجزأ وليس ثمة إلا أمر
واحد كلي، فمع عدم نيته لا يرتفع، ونية خصوصية فرد منه لا تستلزم نيته.
ويمكن أيضا الجواب بالصحة وإن وقع الخطأ في النية، لصدق الامتثال بذلك
ووقوع القيد لغوا.
واعتراض آخر أيضا بمنع تداخل الأحداث عند تعدد أسبابها، فقال: لم لا يجوز
أن يحصل من كان منها حدث على حدة لا بد لنفيه من دليل؟
أقول: وكأنه لهذا احتمل العلامة في النهاية رفع ما نواه خاصة، بناء
197

على أنها أسباب متعددة، قال: " فإن توضأ ثانيا لرفع آخر صح، وهكذا إلى آخر
الأحداث " انتهى.
وفيه - مع ما تقدم - أن المفهوم من الأخبار الواردة في تداخل الأغسال هو
الاكتفاء بغسل واحد مع تعدد أسبابه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وهو دليل على عدم
تعدد الأحداث وإن تعددت الأسباب، وإلا وجب لكل منها غسل، والدليل
على خلافه. والفرق بين حدثي الوضوء والغسل في ذلك غير معقول، مع أنه لا قائل به.
وكيف كان فالخطب عندنا عدم ثبوت نية الرفع سهل. هذا في الوضوء.
وأما الغسل فقد اختلف فيه على أقوال: (أحدها) - التداخل مطلقا
و (ثانيها) - عدمه مطلقا. و (ثالثها) - التداخل مع انضمام الواجب لا بدونه
و (رابعها) - التداخل لا مع انضمامه، هكذا نقل عنهم بعض متأخري المتأخرين
من مشايخنا المحققين، إلا أن الظاهر من تتبع كلامهم في هذا المجال هو التفصيل في
هذه الأقوال كما سنوضحه - إن شاء الله تعالى - على وجه يرفع الاشكال.
فنقول: إنه مع اجتماع الأسباب المذكورة فلا يخلو إما أن يكون كلها واجبة أو كلها
مستحبة أو مجتمعة منهما، فههنا صور ثلاث: (الأولى) - أن تكون كلها واجبة، والأظهر
الأشهر الاكتفاء بغسل واحد، مطلقا، داخلها الجنابة أم لا، عين الأسباب كلا أو بعضا
أم لا، اقتصر على نية القربة كما هو الأظهر غير الأشهر أو زاد عليها الرفع والاستباحة
وذهب العلامة في جملة من كتبه إلى أنه مع انضمام الجنابة إلى غيرها، فإن نوى
الجنابة أجزأ عنها وعن غيرها، وإن نوى غيرها فظاهر كلامه في النهاية صحة الغسل
ورفعه للحدث الذي نواه خاصة دون حدث الجنابة، معللا بأن رفع الأدون لا يسلتزم
رفع الأعلى، هذا مع عدم اقترانه بالوضوء، ومعه احتمل الرفع وعدمه. وظاهر كلامه
في التذكرة الاستشكال في صحة الغسل من أصله، من جهة عدم ارتفاع ما عدا الجنابة
مع بقائها لعدم نيتها وعدم اندراجها تحت ما عداها، ومن أنها طهارة قرنت بها
198

الاستباحة فإن صحت قرن بها الوضوء، وحينئذ فالأقرب رفع حدث الجنابة بها.
ولا يخفى عليك ما في هذه التعليلات العليلة سيما في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة
(الصورة الثانية) - أن يكون بعضها واجبا وبعضها مستحبا، والأظهر أيضا
- كما استظهره جملة من أصحابنا (قدس الله أرواحهم) - هو الاكتفاء فيها بغسل واحد
مطلقا حسبما قدمنا من التفصيل في الاطلاق.
وذهب الشيخ في خلافه ومبسوطه - والظاهر أنه هو المشهور بينهم كما صرح به
بعض المتأخرين - إلى أنه أن نوى الجميع أو الجنابة أجزأ غسل واحد، إن نوى
غسل الجمعة مثلا لم يجزه، لا عن غسل الجنابة، لعدم نيته، ولا عن الجمعة، لأن المراد به
التنظيف وهو لا يحصل مع بقاء الحدث.
واعترضه المحقق في الثاني بأنه يشكل باشتراط نية السبب في الغسل المستحب،
وفي الثالث بأنه يجزئ عن الجمعة خاصة، إذ ليس المراد من المندوب رفع الحدث، فيصح
أن يجامعه الحدث كما يصح غسل الاحرام من الحائض.
وذهب العلامة في التذكرة إلى أنه مع نيتهما معا يبطل الغسل، ومع نية الجنابة
خاصة يصح بالنسبة إليها خاصة، وإن نوى الجمعة صح عنها خاصة مع بقاء حدث الجنابة،
ولو اغتسل ولم ينو شيئا بطل. وههنا اشكال سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.
(الصورة الثالثة) - أن تكون كلها مستحبة، والأظهر أيضا الصحة حسبما قدمنا
وذهب المحقق في المعتبر إلى الصحة إن نوى الجميع، وأما إذا نوى بعضها
اختص بما نواه، قال: " لأنا قد بينا أن نية السبب في المندوب مطلوبة، إذ لا يراد به
رفع الحدث، بخلاف الأغسال الواجبة، لأن المراد بها الطهارة فتكفي نيتها وإن لم
ينو السبب " انتهى. وهو صريح العلامة في التذكرة وظاهر الشهيد في الذكرى.
وفي المنتهى قرب الاكتفاء بغسل واحد ولم يفصل، وفي التحرير والقواعد
والارشاد حكم بعدم التداخل ولم يفصل، وهو ظاهر الدروس، حيث نسب القول
199

بالتداخل إلى قول مروي.
ونقل عن المحقق الشيخ علي في شرح القواعد أنه رجح عدم التداخل في هذه
الصورة ولو مع نية الأسباب، متمسكا بعدم الدليل على التداخل.
هذا. والذي يدل على ما اخترناه ويؤيد ما رجحناه روايات مستفيضة:
(منها) - حسنة زرارة (1) قال: " إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك
غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، وإذا اجتمعت لله
عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد، ثم قال: وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها
واحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها ".
وهذه الرواية وإن كانت مضمرة في الكافي إلا أن الاضمار الواقع في أخبارنا،
سيما إذا كان المضمر من أجلاء الرواة وأعيانهم - كما حققناه في موضع آخر، وصرح
به جملة من أصحابنا المتأخرين - غير مضر، مع أن هذه الرواية مسنده في التهذيب عن
أحدهما (عليهما السلام) وإن كان في طريقها علي بن السندي وهو مجهول، وقد رواها
ابن إدريس (رحمه الله) في مستطرفات السرائر، ونقل أنه مما انتزعه من كتاب
حريز، فرواها عنه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وكتاب حريز أصل معتمد
وكيف كان فالرواية صحيحة، وهي صريحة في المطلوب.
و (منها) - مرسلة جميل عن أبي جعفر (عليه السلام) (2) قال: " إذا اغتسل
الجنب بعد طلوع الفجر أجزأه ذلك الغسل من كان غسل يلزمه في ذلك اليوم ".
وفي جملة من الأخبار ما يدل على التداخل في خصوص بعض الأغسال:
كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3): قال:

(1) المروية في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجنابة. والرواية - كما في الكافي
ج 1 ص 14 وسائر كتب الحديث عن أحدهما (عليهما السلام) الحدائق 25
(3) المروية في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجنابة.
200

(سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال: غسل الجنابة
والحيض واحد.)
وفي رواية الخشاب (1) في مثل هذه الصورة (تجعله غسلا واحدا عند طهرها)
ومثلها رواية أبي بصير (2) وغيرها.
وفي صحيحة زرارة (3) فيمن مات وهو جنب " يغسل غسلا واحدا يجزئ
ذلك للجنابة ولغسل الميت، لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة " إلى غير ذلك
من الأخبار التي يطول بنقلها المقام.
وأنت خبير بأن ظواهرها تعطي أن حكم الغسل كالوضوء في رفع الأحداث
المتعددة واستباحة العبادات المتعددة، وهي باطلاقها دالة على الصحة مع نية الأسباب كلا
أو بعضا أو عدم نية شئ منها مع قصد القربة.
وكما تدل على تداخل الواجبات الصرفة والمجتمعة مع المندوبة صريحا كذلك
تدل على تداخل المستحبات الصرفة، إذ من الظاهر البين أن تعداده (عليه السلام)
لجملة تلك الأغسال في حسنة زرارة (4) إنما هو من قبيل التمثيل وبيان للاجتزاء بغسل واحد
لأسباب متعددة، وحينئذ فذكر الجنابة معها ليس إلا كذكر غيره من سائرها، ويؤيد
ذلك ويحققه قوله (عليه السلام): " وإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل
واحد " فإن المراد بالحقوق هي الثابتة في الشريعة ولو على وجه الاستحباب وأنه
بملاحظة بعض الغايات الحاصلة يجزئ عن جملة من الغايات الأخر السابقة على الفعل وإن
لم تلحظ حال الفعل.
بل ربما يقال وعن الغايات المتجددة بعد الفعل، كما رجحه بعض مشايخنا المحدثين
من متأخري المتأخرين حسبما قررنا في الوضوء.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب غسل الميت.
(4) ص 200
201

كما هو ظاهر مرسلة جميل المتقدمة (1) ومثلها رواية عثمان بن يزيد - واستظهر
بعض مشايخنا المتأخرين أنه تصحيف عمر بن يزيد بقرينة رواية ابن عذافر عنه، فتكون
الرواية صحيحة - عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " من اغتسل بعد طلوع الفجر
كفاه غسله إلى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل، ومن اغتسل ليلا كفاه غسله
إلى طلوع الفجر ".
فإن ظاهرهما الدلالة على الاجتزاء بالغسل الواقع أول النهار عن كل غسل
نهاري، وهو أعم من أن تكون غايته حاصلة قبل الفعل أو متجددة بعده. والظاهر أن
المراد بالوجوب واللزوم فيهما مجرد الثبوت، إذا يبعد الجزم بإرادة المعنى المصطلح عليه بين
المتفقهة من كلامهم (عليهم السلام) سيما مع وجود القرينة الدالة على ما قلنا من عده
(عليه السلام) في حسنة زرارة في جملة ما يجزئ الغسل عنه بعد الفجر جملة من الأغسال
المستحبة، بل هي الأكثر، إذ لم يعد في صدر الرواية من الواجبات سوى غسل الجنابة
مع أنك قد عرفت أن الظاهر أن ذلك أنما خرج مخرج التمثيل، على أن احتمال الواجبة
بناء على ما قلنا - غير ممكن، لأن الأغسال الواجبة كغسل الجنابة ونحوه مسببة عن
أحداث خاصة، ولا يعقل تقدم المسبب على سببه وحينئذ فتكون الروايتان المذكورتان
مخصوصتين بالأغسال المستحبة إذ تجددت غاياتها بعد الفعل، ولفظ " يجب " و " يلزم "
في الروايتين ظاهر في التجدد.
وأما ما ظنه بعض مشايخنا المتأخرين - من قوله (عليه السلام) " إذا اجتمعت
لله عليك حقوق... الحديث " حيث إنه دال بمفهوم شرطه على عدم اجزاء الغسل
الواحد قبل اجتماع الحقوق عنها، فيكون منافيا لظاهر الخبرين الأولين -
ففيه (أولا) - أن دلالة الخبرين الأولين على ما ذكرناه - بناء على ما حققناه -

(1) في الصحيفة 200
(2) رواها صاحب الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الاحرام من كتاب الحج.
202

بالمنطوق نظرا إلى العموم المستفاد منهما، ودلالة الخبر المشار إليه بالمفهوم، ولا شك
في رجحان الأول على الثاني.
و (ثانيا) - أنه لا ينحصر المعنى المراد من ترتب الأجزاء على اجتماع الحقوق
في انتفائه بانتفائها، بل يجوز أن يكون المراد - كما هو الظاهر - هو اجزاء غسل واحد
مع اجتماع الحقوق لا تعدد الغسل لكل واحد واحد من الحقوق، ردا على من زعم
التعدد. ومفهوم الشرط إنما يكون حجة ما لم يظهر للترتب معنى آخر غير انتفاء الجزاء
بانتفاء الشرط كما هو مسلم في الأصول.
وبما ذكرنا يظهر دلالة الخبرين - كما هو الظاهر من غيرهما من أخبار المسألة
أيضا - على عدم وجوب تعيين الوجه والسبب في الغسل، بل يكفي ايقاع غسل له
صلاحية الانصباب على الأغسال الواقعة في ذلك اليوم وإن لم يلحظ تقدم سببها أو تأخره
كالغسل الواقع بعد الفجر، فإنه لوقوعه بعده يصلح للانصباب على جميع الأغسال المتعلقة
بذلك اليوم، وكذلك الواقع بعد الغروب بالنسبة إلى الأغسال الليلية.
ومما يدل على عدم وجوب تعيين الوجه والسبب في الغسل كما قلنا - بل يكفي
غسل له صلاحية ما ذكرنا - ما رواه الصدوق في الفقيه (1) مرسلا وتلقاه الأصحاب
بالقبول: " أن من جامع في شهر رمضان ونسي الغسل حتى خرج شهر رمضان أن عليه
أن يغتسل ويقضي صلاته وصومه إلا أن يكون قد اغتسل للجمعة، فإنه يقضي صلاته
وصومه إلى ذلك اليوم ".
وبما ذكرنا يظهر أن تداخل هذه الأغسال كما دلت عليه الأخبار فرع اجتماعها
في أمر كلي مشترك بينها وهو الرفع، ومنه يظهر قوة القول بكون الغسل وإن كان
مندوبا فإنه يكون رافعا، ومن أخبار تلك المسألة يظهر قوة ما ذكرنا أيضا، إذ لو لم تكن
مشتركة فيما ذكرنا - مع وجوب كون الأفعال تابعة للقصود والغايات المترتبة عليها كما

(1) في باب ما يجب على من أفطر أو جامع في شهر رمضان متعمدا أو ناسيا.
203

حققناه سابقا، بل إنه لا تحقق لها إلا بها حسبما دلت عليه تلك الأخبار التي قدمناها
في المقام الأول - لم يظهر للتداخل وجه بالكلية، فإنه كما لا تداخل بين الوضوء والغسل
لتغاير الغرضين المترتبين على كل منهما، فلا تداخل بين الغسلين المختلفي الغايتين بل
يجب كل منهما غسل على حدة، ولهذا ذهب البعض - كما تقدم نقله - إلى عدم التداخل
مطلقا، نظرا إلى اختلاف الأسباب فيجب اختلاف المسببات.
وإن كان جملة من أصحابنا من المتأخرين المانعين من رفع الغسل المستحب، لما
وردت عليهم الأخبار الدالة على التداخل في الأغسال المستحبة ورأوا أنه لا مندوحة
عن العمل بها، تكلفوا للتفصي عن ذلك بوجوب تعيين الأسباب فيها، وصرحوا بأنه
لو نوى البعض خاصة اختص صحة الغسل بما نواه. إلا أن الأخبار - كما عرفت -
لا دلالة لها على ذلك بل هي دالة على عدمه.
ولهذا أن بعضهم - بعد أن اعترف بدلالة الأخبار على ما ذكرناه - استشكل
فيما لو قصد معينا، فكيف يجزئ عما لم يعينه؟ ثم أجاب أنه ليس بعيدا من كرم الله تعالى
ايصال الثواب بهذا الفعل الخاص في هذا الوقت المشتمل على شرعية هذه الأغسال مع
فعله متقربا، كما قيل في حصول ثواب الجماعة للإمام مع عدم شعوره بأن أحدا يصلي وراءه
وغير ذلك. انتهى.
وأيضا فإنه لما وردت عليهم أخبار تداخل الأغسال الواجبة والمستحبة، أشكل
عليهم المخرج منها باعتبار تضاد وجهي الوجوب والاستحباب، واعتبار نية السبب، بل
لزوم اتصاف شئ واحد بمتضادين، وهو كون غسل واحد واجبا وندبا، وهو بديهي البطلان
وأجابوا تارة بعدم وجوب نية الوجه إما مطلقا أو فيما نحن فيه للأخبار، وتارة
باختيار نية الوجوب ودخول المندوب فيه وسقوط اعتبار السبب هنا بمعنى تأدي إحدى
الوظيفتين بفعل الأخرى، كما تتأدى صلاة التحية بقضاء الفريضة، وصيام أيام البيض
بصيام الواجب فيها. وبالجملة فالواقع هو الغسل الواجب خاصة لكن الوظيفة المسنونة تتأدى به
204

وأنت خبير بأن ما ذكروه من الجواب وإن اندفع به الاشكال بالنسبة إلى النية
لكن الاشكال باعتبار لزوم كون شئ واحد في نفس الأمر واجبا وندبا باق على حاله
والأشكال المذكور على هذا لا اختصاص له بنية الجميع كما ذكروا بل نية أحدهما أيضا
بأن يقال لو كان الغسل الواحد مجزئا عن الجميع لكان واجبا ومندوبا، وهو
محال لتضادهما
وما ذكروه من تأدي الوظيفة المستحبة بفعل الواجبة لا يحسم مادة الاشكال،
لأن تأدي وظيفة المستحب - بمعنى استحقاق ما يترتب عليه من الثواب بفعل الواجب -
تقتضي كون ذلك الغسل مستحبا، لأن ما يكون امتثالا للأمر المذكور يلزم أن يكون
ندبا قطعا. وبالجملة فلما كان الوجوب والندب صفتين متضادتين فكما لا يتأدى الواجب
بالاتيان بالمندوب فكذا العكس.
وأما ما ذكر - من مثال صلاة التحية وصيام أيام البيض - فيمكن الجواب بأن
مقصود الشارع ثمة هو ايقاع العبادة في هذا المكان والزمان المخصوصين من حيث هي
أعم من أن يكون بوجه الوجوب أو الندب، لا خصوصية المندوب، بخلاف ما نحن
فيه بناء على ما يدعونه من عدم رفع المندوب، فإن خصوصية كل واحد ملحوظة
على حدة، لعدم الاشتراك في أمر كلي يجمعهما حتى يجعل ذلك الأمر الكلي موجبا لاجزاء
أحد الفردين عن الآخر واندراجه تحته.
وأجاب بعض فضلاء متأخري المتأخرين عن الاشكال المذكور - بعد الاعتراف
بلزوم ما ذكرنا - بالتزام ذلك ومنع استحالته لاختلاف الجهة، قال: " فإن هذا
الغسل الواحد من حيث إنه فرد لغسل الجمعة وامتثال للأمر به مستحب، ومن حيث إنه
فرد لغسل الجنابة وامتثال للأمر به واجب ".
ولا يخفى ما فيه أيضا، فإن الطبيعة إنما تكون متعلقة للتكاليف باعتبار اتحادها
205

مع أفرادها في الخارج، فمتى تعلق التكليف الاستحبابي كان معناه في الحقيقة يرجع
إلى أن ما تصدق عليه هذه الطبيعة يستحب فعله ويجوز تركه، فلو كان بعض أفرادها
ما لا يجوز تركه لم يكن القدر المشترك بين تلك الأفراد جائز الترك، فلا يتعلق به
التكليف الاستحبابي، هذا خلف، فإذا لا يجوز أن يكون الأمر الذي لا يجوز تركه
فردا للطبيعة المستحبة وفردا
للطبيعة الواجبة فردا يجوز تركه بأن يأتي بفرد آخر لا مطلقا، وهو خارج عن محل البحث
وأنت خبير بأنه إذا رجعت إلى ما قررناه آنفا - من أن الأخبار إنما وردت
بالتداخل في جميع أقسام الغسل كما اخترناه، من حيث اشتراكها في ذلك الأمر الكلي -
اندفع الاشكال من المقام بحذافيره، كما أنه لا مجال لهذا الاشكال عندهم في تداخل
الأغسال الواجبة بعضها في بعض، لاشتراكها في الرفع.
والعجب من جملة من أصحابنا المرجحين لما اخترناه في مسألتي التداخل ورفع
الغسل المندوب، ضاق عليهم الخناق في التفصي عن هذا الاشكال، وأكثروا من الترديد
في دفعة والاحتمال.
وسيأتي - إن شاء الله تعالى في بيان المسألة الثانية - ما يزيد هذا المقام ايضاحا
ويتسع له الصدر انشراحا.
هذا ما اقتضاه النظر القاصر باعتبار ما هو مقتضى الدليل، واستفادة الفكر
الفاتر من كلام تراجمة الوحي والتنزيل. والاحتياط مما لا ينبغي تركه في جميع الأبواب
ولا سيما هنا، بقصد الغايات المتعددة والأسباب.
(المقام الثاني عشر) - قد صرح جملة من الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم)
نقل النية في مواضع:
(الأول) - ما إذا اشتغل بلاحقة ثم ذكر سابقة، سواء كانتا مؤداتين
206

أو مقتضيتين، أو المعدول عنها حاضرة والمعدول إليها فائتة أو بالعكس بشرط
ضيق الوقت عن الحاضرة.
(الثاني) - العدول من القصر إلى الاتمام وبالعكس. (الثالث) - من الائتمام
إلى الانفراد وبالعكس. (الرابع) - من الائتمام إلى الإمامة، ومن الائتمام بإمام
إلى الائتمام بآخر. (الخامس) - من فرض إلى النفل. (السادس) - من النفل
إلى النفل.
إذا عرفت هذا فنقول: (أما الموضع الأول) فقد اشتمل على أربع صور،
والمعلوم صحة ما عدا الرابعة، لاعتضاده بالأخبار بل وعدم الخلاف كما سيأتي تحقيقه في
موضعه إن شاء الله تعالى وأما الرابعة فمحل اشكال، لعدم الوقوف فيها على نص،
وجزم الشهيد في البيان بالعدول من القضاء إلى الأداء، وكذا من السابقة إلى اللاحقة
مع تضيق الوقت، وبالأولى منهما صرح في المفاتيح أيضا.
(الموضع الثاني) - والقول فيه أنه لا يخفى أن جواز العدول من أحد هذين
الفرضين إلى الآخر إنما يكون في موضع يباح فيه كل منهما، كالمسافر المريد لنية الإقامة
ومن حصل في أحد المواطن الأربعة، فإنه لو صلى بقصد أحد الفرضين مع كون الآخر
مباحا له، فإنه يجوز له العدول إلى الثاني
وتفصيل القول في ذلك أما بالنسبة إلى العدول من القصر إلى الاتمام، فقد
ورد في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن رجل
خرج في سفر ثم تبدو له الإقامة وهو في صلاته. قال: يتم إذا بدت له الإقامة "
ومثلها رواية محمد بن سهل عن أبيه عن أبي الحسن (عليه السلام) (2) والحكم هنا مما
لا خلاف فيه.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب صلاة المسافر.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب صلاة المسافر.
207

والظاهر أن الحكم مثله في المصلي في أحد الأماكن الأربعة لو عدل في أثناء
صلاة القصر إلى التمام وبالعكس أيضا، عملا بعموم الدليل الدال على التخيير بالنسبة
إليه في هذه الأماكن. وأنه بمجرد دخوله في أحد الفرضين لا يزول حكم التخيير عنه.
وبالتخيير هنا صرح المحقق في المعتبر واستحسنه جماعة ممن تأخر عنه: منهم -
السيد السند في المدارك وشيخنا المجلسي في البحار وغيرهما في غيرهما.
وينبغي تقييده بما إذا لم يتجاوز محل العدول فيما إذا عدل من التمام إلى القصر،
وما لم يسلم على الركعتين في العكس، وإلا لأشكل ذلك فيما لو دخل بنية الاتمام
ثم سلم على الركعتين ساهيا، أو دخل بنية القصر ثم صلى الركعتين الأخيرتين
ساهيا، فإن الحكم بالصحة - بناء على أنه مخير في الاتيان بأيهما وقد أتى بأحدهما
مشكل، لأن الظاهر أن المكلف وإن كان مخيرا بين الفردين لكن باختياره أحدهما
وقصده الامتثال به من غير عدول عنه يتعين في حقه ويترتب عليه أحكامه من الأبطال
بزيادة ما زيادته مبطلة ونقصان ما نقصانه مبطل، وإلا للزم الحكم بالصحة بناء على
استحباب التسليم فيما لو صلى بنية التمام ثلاث ركعات ثم سلم على الثالثة ساهيا، فإنه
قد أوجد الصلاة المقصورة في ضمن هذه الثلاث ركعات وإن كانت غير مقصودة،
فتكون مجزئة، بل ولو سلم عامدا أو أحدث والحال هذه في أثناء الركعتين الأخيرتين
أو فعل ما يبطلها، فإنه تكون صلاته صحيحة باعتبار اشتمالها على الصلاة المقصورة
في الجملة. والحكم بالصحة في أمثال ذلك خارج عن مقتضى الأصول المقررة
والقواعد المعتبرة.
وبذلك يظهر لك ما في كلام الأردبيلي (قدس سره) في شرح الإرشاد، حيث
قال: " الظاهر أنه لو نوى القصر ثم تممها نسيانا أو عمدا مع النقل تصح الصلاة
وبالعكس " انتهى.
وأما بالنسبة إلى العدول من الاتمام إلى القصر فقد عرفت الكلام فيه بالنسبة
208

إلى المواضع الأربعة. وأما في قاصد الإقامة فهو إنما يتم بالنسبة إلى أول فريضة يريد
ايقاعها بنية التمام، إذ بعدها لا مجال للعدول. لوجوب الاتمام حينئذ حتى يقصد المسافة.
وقد اختلف كلام الأصحاب في هذا المقام، فالمنقول عن الشيخ في المبسوط
وابن الجنيد وأبي الصلاح وجوب المضي على التمام في تلك الفريضة حتى يخرج مسافرا.
وتردد المحقق في المعتبر والشرائع، نظرا إلى افتتاح الصلاة على التمام وهي على ما افتتحت
عليه، وإلى عدم الاتيان بالشرط وهو الصلاة على التمام. وفصل في التذكرة والمختلف
والقواعد بتجاوز محل القصر فلا يرجع، وبعدم تجاوزه فيرجع، لأنه مع التجاوز يلزم
من جواز الرجوع ابطال العمل المنهي عنه، ومع عدم تجاوزه يصدق أنه لم يصل فريضة
على التمام. وإليه ذهب في البيان والدروس. وأطلق في المنتهى العود إلى التقصير،
لعدم حصول الشرط، واختاره السيد السند في المدارك وشيخنا المجلسي في كتاب البحار.
والمسألة غير منصوصة على الخصوص، إلا أنه لما كان فرض المسافر التقصير
وانتقال فرضه إلى آخر يحتاج إلى دليل - وغاية ما يستفاد من صحيحة أبي ولاد (1)
التي هي مستند هذا الحكم هو صلاة فريضة على التمام بنية الإقامة. وبالعدول في أثنائها
وإن تجاوز محل القصر لا يصدق حصول فريضة على التمام، فينتفي الشرط وبانتفائه
ينتفي المشروط - كان الأظهر هو القول الأخير. وحينئذ فمتى كان العدول بعد تحقق
الزيادة المبطلة يتعين الإعادة، لفوات شرط التمام، وبطلان المقصورة بما اشتملت عليه
من الزيادة، وإلا صحت صلاته قصرا.
(الموضع الثالث) - وهو العدول من الائتمام إلى الانفراد وبالعكس، ويشتمل
على صورتين:
(إحداهما) - العدول من الائتمام إلى الانفراد، واستدلوا عليه بصحيحة

(1) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب صلاة المسافر.
209

علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الرجل يكون
خلف إمام فيطول في التشهد، فيأخذه البول أو يخاف على شئ أن يفوت أو يعرض
له وجع، كيف يصنع؟ قال: يلم وينصرف ويدع الإمام ".
وعندي في الاستدلال بهذه الرواية اشكال، وذلك لأنها وإن دلت على جواز
الانصراف مع العذر لكنها قد دلت على كون محله التشهد، وأنه بسبب تطويل الإمام
في التشهد، والظاهر أن المراد بتطويله عبارة عن الاتيان بما اشتمل عليه من الأذكار المستحبة
في التشهد وهو التشهد المستحب، وحينئذ فمن المحتمل قريبا أن الأمر بالانصراف إنما هو
في ضمن تلك الأذكار المستحبة بعد الاتيان بالصيغة الواجبة، وعلى هذا فلا دلالة في هذا
الخبر على المدعى، لأنهم قد صرحوا بجواز تسليم المأموم قبل الإمام وإن كان لا لعذر،
وجعلوها مسألة مستقلة غير ما نحن فيه، واستدلوا عليها بصحيحة أبي المغرا عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (2) " في الرجل يصلي خلف الإمام فيسلم قبل الإمام؟ قال: ليس عليه بذلك بأس "
واستدلوا أيضا بالرواية السابقة في تلك المسألة، وكأنه لفهمهم منها الأولوية لهذه الصورة.
والظاهر عندي - لما عرفت - هو الاختصاص بهذه الصورة، على أن الرواية
المذكورة - بناء على ما ذكروا - معارضة بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
قال: " سألته عن رجل يكون خلف الإمام فيطيل الإمام التشهد. قال: يسلم ويمضي
لحاجته إن أحب " فإنها دالة على جواز الانفراد لا لعذر مع تعين محل المفارقة فيها
كتلك الرواية. وعلى ما ذكرنا من تخصيص ذلك بما بعد التشهد يزول الاشكال عن الجميع
مع أن العذر المذكور في صحيحة علي بن جعفر إنما وقع في كلام السائل. هذا مع العذر.
وأما مع عدمه فالمشهور أيضا جواز العدول مع نية الانفراد، وذهب الشيخ
في المبسوط إلى العدم.
وأدلة كل من الطرفين لا تخلو من دخل، إلا أن يقين البراءة من التكليف

(1) المروية في الوسائل في الباب - 64 - من أبواب الجاعة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 64 - من أبواب الجاعة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 64 - من أبواب الجاعة.
210

الثابت يقينا يعضد ما ذهب إليه في المبسوط.
ويؤيده أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) أنه
" سأله عن إمام أحدث فانصرف ولم يقدم أحدا، ما حال القوم؟ قال: لا صلاة
لهم إلا بإمام.. ".
ومن مواضع العدول في الصورة المذكورة ما لو تبين للمأموم في أثناء الصلاة بطلان
صلاة الإمام، فإنه يعدل إلى الانفراد، لصحيحة زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) (2)
قال: سألته عن رجل صلى بقوم ركعتين ثم أخبرهم أنه ليس على وضوء. قال: يتم
القوم صلاتهم، فإنه ليس على الإمام ضمان ".
(الصورة الثانية) - العدول من الانفراد إلى الائتمام وهو قول الشيخ في
الخلاف مدعيا عليه الاجماع، ونفى عنه البأس العلامة في التذكرة، واختاره السيد العلامة
المحدث نعمة الله الجزائري (قدس سره) في رسالة التحفة، ونقل من حجة المنع
من ذلك التعويل على ما روي (3): " أن الشارع في فريضة ينقلها إلى النفل ويجعلها
ركعتين إذا أحرم إمام الجماعة " فلو ساغ العدول لم يكن ذلك. ثم أجاب بأن القطع
والنقل إنما شرعا تحصيلا لصلاة الجماعة من أول الصلاة. انتهى.
والأظهر - كما استظهره جمع من متأخري المتأخرين - العدم، لعدم ثبوت التعبد
بمثله، مؤيدا بما ذكره السيد المشار إليه. وما أجاب به (قدس سره) عن ذلك منظور
فيه، بأنه لو كان العلة ما ذكره لكان الأنسب بذلك هو العدول دون النقل، إذ
لا يخفى أنه متى كان الغرض ادراك الصلاة من أولها مع الإمام والمسارعة إلى ذلك، فإن
العدول أقرب إلى تحصيله، إذ ربما كان في النقل إلى النفل ما يفوت به الغرض المذكور

(1) المروية في الوسائل في الباب - 72 - من أبواب الجماعة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 36 - من أبواب الجماعة.
(3) رواه صاحب الوسائل في الباب - 56 - من أبواب الجماعة.
211

سيما إذا كان المصلي المنفرد لم يأت بشئ من صلاته سوى تكبيرة الاحرام، وبناء صلاة
الجماعة على التخفيف فربما يفوته بالنقل الادراك للركعة الأولى كما لا يخفى، ولا سيما إذا
جعلنا الموضع الذي يكلف المنفرد بالنقل فيه ما إذا اشتغل الإمام بشئ من واجبات الصلاة
دون ما يقدم من المندوبات، كما هو أحد القولين في المسألة. وبالجملة فما ذكره (رحمه
الله) في الجواب ليس بذلك المستحبات في هذا الباب.
(الموضع الرابع) - وهو العدول من الائتمام إلى الإمامة، ومن الائتمام بإمام
إلى الائتمام بآخر، وهو منصوص في مواضع ثلاثة:
(أحدها) - ما إذا أحدث الإمام في أثناء الصلاة، فإنه يستخلف بعض
المأمومين يتم بهم الصلاة
ويدل عليه روايات عديدة: منها - صحيحة معاوية بن عمار (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي المسجد وهم في الصلاة وقد سبقه الإمام بركعة
أو أكثر. فيعتل الإمام فيأخذ بيده ويكون أدنى القوم إليه فيقدمه. فقال: يتم
صلاة القوم ثم يجلس... الحديث ".
وما رواه في الفقيه (2) مرسلا عن أمير المؤمنين عليه السلام وفيه:
"... ثم لينصرف وليأخذ بيد رجل فليصل مكانه... الحديث ".
و (ثانيها) - ما إذا حدث بالإمام حدث من موت أو اغماء، فإن المأمومين
يستخلفون بعضهم ليتم بهم، وعليه تدل صحيحة الحلبي (3) " في رجل أم قوما فصلى
بهم ركعة ثم مات؟ قال: يقدمون رجلا آخر ويعتدون بالركعة... الحديث ".
و (ثالثها) ما لو ائتم المتمم بالمقصر، فإنه بعد تمام صلاة الإمام يتم بهم بعضهم

(1) المروية في الوسائل في الباب - 40 - من أبواب الجماعة.
(2) ج 1 ص 261 وفي الوسائل في الباب - 72 - من أبواب الجماعة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 43 - من أبواب الجماعة.
212

وعليه تدل صحيحة الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " لا يؤم
الحضري المسافر ولا المسافر الحضري. فإذا ابتلى بشئ من ذلك فأم قوما حاضرين،
فإذا أتم الركعتين سلم ثم أخد بيد بعضهم فقدمه فأمهم... الحديث " ولا أعلم خلافا
في هذه المواضع الثلاثة.
بقي هنا صور ينبغي التنبيه عليها:
(إحداها) - هل يجوز العدول من الائتمام بإمام في أثناء الصلاة إلى الائتمام
بآخر لو حضرت جماعة أخرى في ذلك المكان؟ قولان، اختار أولهما العلامة في التذكرة
وتبعه المحدث الكاشاني في المفاتيح ورد بعدم ثبوت التعبد به. وهو كذلك.
و (ثانيها) - لو صلى الانسان مأموما وكان مسبوقا، فبعد فراغ الإمام
وانفراده بما بقي عليه هل يجوز الاقتداء به من المأمومين المشاركين له في المسبوقية وغيرهم
أولا؟ الظاهر العدم، لأن العبادة توقيفية، والنص إنما ورد في تلك المواضع الثلاثة،
ومجرد الالحاق بها قياس.
واستشكل العلامة في التحرير، حيث قال: " ولو سبق الإمام اثنين ففي ائتمام
أحدهما بصاحبه بعد تسليم الإمام اشكال " انتهى.
وكأن وجه الاشكال، من جهة المساواة للموضع الثالث من المواضع المتقدمة
فيصح الائتمام، ومن حيث عدم النص القاطع على ذلك، العبادة توقيفية. والالحاق لمجرد
المساواة قياس.
و (ثالثها) - لو صلى مأموما ثم عدل في أثناء الصلاة إلى نية الإمامة ببعض
المأمومين أو غيرهم بعد نقل نيته إلى الانفراد أو عدمه.
و (رابعها) - أن ينقل الإمام نيته في أثناء الصلاة إلى الائتمام ببعض المأمومين
والمأموم نيته إلى الإمامة.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب صلاة الجماعة
213

ولم أقف لأحد من الأصحاب على تصريح في هاتين الصورتين. ومقتضى ما قلنا
سابقا عدم الجواز، لما عرفت.
(الموضع الخامس) - العدول من الفرض إلى النفل وقد ورد النص به
في مواضع:
(أحدها) - لو دخل الانسان في الصلاة منفردا فأقيمت الجماعة، فإنه يعدل
بنيته من الفرض إلى النفل ويتم صلاته ركعتين ثم يلحق بالإمام.
ويدل عليه روايات: منه - صحيحة سليمان بن خالد (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل دخل المسجد فافتتح الصلاة، فبينما هو قائم يصلي
إذا أذن المؤذن وأقام الصلاة. قال: فليصل ركعتين ثم ليستأنف الصلاة مع الإمام،
ولتكن الركعتان تطوعا ".
وظاهر الرواية أن تعلق الحكم بالمصلي - من نقل صلاته إلى النافلة - متى
أقيمت الصلاة، وهو أحد القولين في المسألة. وقيل إنه لا يتعلق به إلا بعد اشتغال
الإمام بشئ من واجبات الصلاة.
و (ثانيها) - لو نسي قراءة الجمعة والمنافقين في ظهر الجمعة وقرأ غيرهما حتى
تجاوز النصف، فإنه ينقل الفريضة إلى النافلة ويتمها ركعتين ثم يستأنف الظهر، كذا
نقل عن الصدوق (رحمه الله).
والخبر الذي وقفت عليه في هذه المسألة إنما تضمن صلاة الجمعة، وهو صحيحة
صباح بن صبيح (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل أراد أن يصلي
الجمعة فقرأ بقل هو الله أحد؟ قال: يتمها ركعتين ثم يستأنف " ولم أقف بعد التتبع
على خبر سواه في المسألة.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 56 - من أبواب الجماعة
(2) المروية في الوسائل في الباب - 72 - من أبواب القراءة في الصلاة.
214

وخص الحكم في البيان بصلاة الجمعة. ونقل عن ابن إدريس أنه أنكر النقل
إلى النفل هنا.
وعد في المفاتيح في هذا الموضع أيضا ناسي الأذان والإقامة، مستندا إلى جواز
القطع له والعدول أولى. وهو عجيب منه (قدس سره)
ثم إنه بعد ذلك استظهر جواز العدول لمطلق طلب الفضيلة، قال: " لاشتراك
العلة الواردة في النصوص عليه " وهو منه أعجب، فإن ما استند إليه من الاشتراك
في العلة غير خال من العلة، إذا الفضيلة التي ظنها مجوزة للعدول بزعمه إما أن يريد بها
في المعدول إليه أو في الفعل المستأنف في الموضع الذي يكون كذلك، كما في هذا الموضع.
وعلى الأول فبطلانه أوضح من أن يبين، حيث إن أخبار الموضع الأول إنما تضمنت
العدول إلى السابقة لتقدم اشتغال الذمة بها مع وجوب مراعاة الترتيب. وأما أخبار
الموضع الثاني فإنما هو لإباحة كل من الأمرين له، وأما أخبار الموضع الثالث فإنما هو
للرخصة بل المعدول إليها مفضولة، وأما أخبار الموضع الرابع فإنما هو في فريضة واحدة
لا تمامها، وأما أخبار هذا الموضع فإنما المعدول إليه نافلة وهي مفضولة. وأما على الثاني
فيما ذكرنا إنما يتمشى له في أخبار هذا الموضع، ولم نقف في شئ منها على علة منصوصة
فيها حتى يتم له البناء عليها وإن أمكن استفادة ذلك منها بحسب المقام، إلا أنه غير مجوز
لأن يبنى عليه شئ من الأحكام، بل هو محض القياس المنهي عنه في أخبار أهل
الذكر (عليهم السلام).
(الموضع السادس) - النقل من النفل إلى النفل، وقد نقل السيد السند (قدس
سره) في المدارك عن الأصحاب التصريح بالجواز إذا شرع في نافلة لاحقة ثم ذكر
السابقة. ولم أقف في ذلك على نص يوجب المصير إليه.
(المقام الثالث عشر) - لو شك في نية الصلاة وقد كبر فالظاهر أنه لا خلاف
في الصحة والمضي في صلاته، للأخبار المستفيضة الدالة على أنها بالدخول في غير المشكوك
215

فيه يمضي في صلاته (1).
ولو سها عن النية حتى كبر، فمقتضى كلام الأصحاب - القائلين بوجوب المقارنة
في النية. وأنها عبارة عن ذلك الحديث النفسي والتصوير الفكري - البطلان.
ومقتضى ما قدمنا من التحقيق في معنى النية أنه إن كان السهو إنما عرض له
حال التكبير مع استصحابه لها حال القيام للصلاة والشروع في مستحباته المتقدمة، فلا
وجه للبطلان.
ولو نوى الفريضة ودخل فيها ثم نوى النافلة سهوا وأتى ببعض الركعات أو بالعكس،
فإن كان قد علم حال نفسه عند القيام للصلاة بأنه في الصورة الأولى إنما قام للفريضة وفي الثانية
إنما قام للنافلة، بنى على ما قام له وجدد النية لما بقي وصح ما مضى من صلاته، وإن
لم يعلم حاله ثمة بطلت صلاته. وهكذا لو ذكر القيام للفريضة وأنها ظهر مثلا، ثم سها
في الأثناء وأتى ببعض أفعالها على أنها العصر ثم ذكر، فإنه يجدد النية لما بقي ويمضي.
ويدل على ذلك روايات: منها - ما رواه في الكافي (2) والتهذيب في الحسن
عن عبد الله بن المغيرة قال: " في كتاب حريز أنه قال: إني نسيت أني في صلاة فريصة
حتى ركعت وأنا أنويها تطوعا؟ قال: فقال: هي التي قمت فيها: إن كنت قمت وأنت
تنوي فريضة ثم دخلت الشك فأنت في الفريضة، إن كنت دخلت في نافلة فنويتها
فريضة فأنت في النافلة... ".
ورواية عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " سألته
عن رجل قام في صلاة فريضة فصلى ركعة وهو ينوي أنها نافلة؟ قال: هي التي قمت

(1) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة
(2) ج 1 ص 101 وفي التهذيب ج 1 ص 233 وفي الوسائل في الباب - 2 -
من أبواب النية من كتاب الصلاة
(3) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب النية من كتاب الصلاة
216

فيها ولها، وقال: إذا قمت وأنت تنوي الفريضة فدخلك الشك بعد، فأنت في الفريضة
على الذي قمت له، إن كنت دخلت فيها وأنت تنوي نافلة ثم إنك تنويها بعد فريضة
فأنت في النافلة، وإنما يحسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أول صلاته ".
ورواية معاوية بن عمار (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
قام في الصلاة المكتوبة فسها فظن أنها نافلة، أو قام في النافلة فظن أنها مكتوبة.
قال: هي على ما افتتح الصلاة عليه ".
والظاهر أيضا ثبوت الحكم المذكور إن لم يذكر إلا بعد الفراغ، كما هو ظاهر
اطلاق الرواية الأخيرة.
وهل المراد بالوقت الذي عليه المدار في البناء، هو حال النهوض والقيام للصلاة
من التوجه لها بالأذان والإقامة ونحوها من الأفعال المتقدمة. أو حال النية وتكبيرة الاحرام؟
الظاهر من ظاهر الأخبار الأول، ويؤيده ما صرح به جماعة من الأصحاب
من أنه لو لم يعلم ما نواه فإن الصلاة تبطل، إلا إذا علم ما قام له فإنه يبني عليه، عملا
بالظاهر من أنه نوى ما في نفسه أن يفعله.
واستدل عليه بعضهم بهذه الأخبار المنقولة هنا.
ورد بأنها لا دلالة لها على ذلك، إذ مدلولها إنما هو ما لو نوى شيئا ثم قصد خلافه
سهوا. فإنه يبنى على ما نوى أولا ولا يضره ما فعله بقصد غيره.
وفيه أن الظاهر من قوله (عليه السلام): " هي التي قمت فيها ولها " أنه يبنى على
ما قصده حين قيامه وتوجهه للصلاة. أعم من أن يكون نسي ما نواه أو لا ولم يعلمه
على اليقين، أو شك فيه، أو ذكره ولكن عرض له السهو بأن نوى غيره، إذ خصوص
السؤال عن ذلك الفرد لا يخصص كما قرر في محله. مع أن هذا المورد صرح بأنه لو علم
ما تعين عليه وقام له ثم عرضه الشك في نيته، لا يبعد البناء عليه.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب النية من كتاب الصلاة.
217

(المقام الرابع عشر) - نقل عن بعض متأخري المتأخرين أن من لم يكن
من نيته فعل الصلاة بعد الوضوء لا يجوز له الوضوء ولو فعله كان باطلا، بل لو كان
من نيته فعل الصلاة ولم يفعلها تبين بطلانه.
ونقل عن فخر المحققين (رحمه الله تعالى) أن من كان بالعراق ونوى بوضوئه
استباحة الطواف صح وضوؤه، ومثله نقل عن الشهيد في البيان.
واستشكله المحقق الشيخ علي (قدس سره) بأنه نوى أمرا ممتنعا فكيف يحصل له؟
وأجيب بأن المنوي ليس وقوع الطواف بالفعل بل استباحته، فالمنوي غير
ممتنع والممتنع غير منوي.
وتوضيحه - على ما حققه شيخنا البهائي (قدس سره) في بعض فوائده - أنه
لا ريب أن كون المكلف على حالة يتمكن معها من الدخول في عبادة مشروطة بالطهارة
- كالصلاة والطواف مثلا - أمر راجح في نظر الشارع، فلو توضأ المكلف بقصد
صيرورة الصلاة مباحة له - أعني حصول تلك الحالة - فينبغي أن تحصل له، وكونه يأتي بعد
ذلك بالصلاة أو لا يأتي أمر خارج عن القصد المذكور، فإن حصول تلك الحالة أمر مغاير
لفعل الصلاة بغير مرية. نعم لو نوى بالوضوء فعل الصلاة مجردا عن استباحتها ولم يكن
من قصده فعلها، لكان متلاعبا بنيته. فلا بعد في القول بفساد طهارته حينئذ.
أقول: لا يخفي ما في كلام البعض المذكور من الضعف والقصور:
(أما أولا) - فلعدم الدليل على ما ذكره، بل الدليل على خلافه واضح السبيل
و (أما ثانيا) - فلما فيه من الاجمال بل الاختلال، فإنه إن أراد بذلك ما لو
كان في الوقت، فإنه لا يخفى أن الواجب عليه هو الوضوء والصلاة، والاتيان بأحد
الواجبين وإن لم يأت بالآخر بعده غير مضر بصحته. فمن أين له أنه لا يجوز له الوضوء
وهو مخاطب به وواجب عليه؟ غايته أنه تجب عليه الصلاة معه ولكن وجوب الصلاة
موسع عليه، وحينئذ فلو توضأ في أول الوقت لأجل أن يصلي في آخره فلا مانع
218

من صحته، ومدعى الابطال عليه الدليل، وليس فليس. وإن أراد في غير الوقت،
فإنه لا يخفى أن للوضوء غايات متعددة، وإن قصد أيها كان موجب لصحة الوضوء وإن لم
يقصد الصلاة، ومع ذلك فإنه يجوز له الدخول به في الصلاة.
والحق وما ذكره شيخنا المذكور (قدس سره) لما تقدم تحقيقه في المقام العاشر
مما حاصله أن من نوى بوضوئه إحدى الغايات المتقدمة، فلا ريب في صحة وضوئه وجواز
دخوله به في الصلاة وغيرها مما هو مشروط بالطهارة، وأن التحقيق أن الغاية الحقيقية
للوضوء إنما هو قصد الرفع وأن تلك الغايات إنما تترتب عليه.
إلا أن قول شيخنا المشار إليه في آخر كلامه: " نعم لو نوى بالوضوء فعل
الصلاة.. الخ " لا يخلو من مناقشة، فإنه لا يخفى أنه متى كان المكلف عالما بأنه لا يجوز
له الدخول في الصلاة بغير وضوء وقد قصد بوضوئه هذا الاتيان بالصلاة بعده، فهذا هو
معنى الاستباحة شرعا وإن لم يتصور هذا العنوان بخصوصه ولم يخطر بباله، إذ لا معنى
لاستباحة الصلاة إلا اعتقاد كونها مباحة له بعد الوضوء وأنها لا تباح له قبله، فقصد
الدخول فيها والاتيان بها بهذا الوضوء هو عين قصد الاستباحة. ولعل مبنى كلامه
(قدس سره) على ما هو المشهور من تصور هذا العنوان بخصوصه وأخطاره بباله،
حيث إن النية عندهم عبارة عن هذا الحديث النفسي والتصوير الفكري، وإلا فإن مرجع
هذه النية التي فرضها وزعم بطلان الطهارة بها إلى ما ذكره أولا. والله العالم.
(المقام الخامس عشر) - قال السيد السند (قدس سره) في المدارك - بعد
أن استدل على وجوب النية في الوضوء بآية " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين
له الدين... " (1) وبالأخبار المتقدمة في المقام الأول (2) ما صورته: " واعلم أن الفرق
بين ما تجب فيه النية من الطهارة ونحوها، وما لا تجب من إزالة النجاسة وما شابهها -
ملتبس جدا، لخلو الأخبار من هذا البيان. وما قيل - من أن النية إنما تجب في الأفعال

(1) سورة البينة الآية 5
(2) في الصحيفة 171
219

دون التروك - منقوض بالصوم والاحرام. والجواب بأن الترك فيهما كالفعل تحكم.
ولعل ذلك من أقوى الأدلة على سهولة الخطب في النية وأن المعتبر فيها يتخيل المنوي بأدنى
توجه. وهذا القدر أمر لا ينفك عنه أحد من العقلاء كما يشهد به الوجدان، ومن هنا
قال بعض الفضلاء: لو كلفنا الله الصلاة وغيرها من العبادات بغير نية كان تكليف
ما لا يطاق. وهو كلام متين لمن تدبره ". انتهى.
أقول: الظاهر أن وجه الاشكال الذي أشار إليه (قدس سره) في ذلك هو أن كلا
من الطهارة ونحوها من العبادات وإزالة النجاسة وما شابهها مما قد وقع التكليف به
من الشارع، مع أنهم قد أوجبوا النية في القسم الأول دون الثاني، ووجه الفرق
غير واضح.
وأنت خبير بأنه إما أن يراد بالنية هنا المعنى اللغوي الذي هو عبارة عن مجرد
القصد إلى الفعل، كما يشعر به آخر كلامه من قوله: " وأن المعتبر فيها تخيل
المنوي... الخ " أو المعنى الشرعي الذي هو القصد المخصوص المقرون بالقربة، كما
يشعر به صدر كلامه من الاستدلال بالآية والأخبار المشار إليها. وعلى الأول يكون الاشكال
في إزالة النجاسة من جهة أنه لا يجب في إزالتها القصد إلى ذلك، بل لو زالت بوقوع
الثوب في الماء أو إصابة المطر له اتفاق أو نحو ذلك كفى في الحكم بالطهارة. وعلى الثاني
أيضا أنه متى كان الأمر كذلك فبالطريق الأولى أن لا يشترط في الإزالة القربة ولا نية
الندب ولا غيرهما من قيود النية الشرعية.
وجملة من الأصحاب قد أجابوا عن الاشكال المذكور بالفرق بين المقامين، وأن
النية إنما تجب في الأفعال من حيث وقوعها على أنحاء متعددة، كما تقدم منا بيانه في المقام
الأول (1) فلا بد من النية في تميز بعضها عن بعض، وأما التروك فباعتبار كونها مرادة
للشارع لكن لا على وجه مخصوص بل بأي وجه تحققت، فليس هناك وجوه متعددة

(1) في الصحيفة 170
220

لمتعلق التكليف يتوقف الامتثال على تعيين فرد منها بالنية، بل يكفي في حصول المطلوب
شرعا مجرد الترك وإن كان لا عن قصد، وفي حكمها الأفعال المطلوب بها ترك شئ آخر
كمحل البحث، فإن إزالة النجاسة لما كان المطلوب بها ترك النجاسة كانت ملحقة بالتروك
وأورد عليهم الانتفاض بالصوم والاحرام، فإن كلا منهما مفسر بترك
الأشياء المعينة.
أجابوا بأن الترك هنا كالفعل في وجوب النية، قالوا: إن متعلق التكليف أما فعل
محض أو ترك كالفعل، وكل منهما مما تجب فيه النية، أو ترك محض أو فعل كالترك،
وهما مما لا تجب فيه النية.
ولا يخفى ما في الجواب المذكور من القصور، كما أشار إليه السيد السند (قدس سره)
والتحقيق في هذا المقام ما أفاده المحدث الأمين الاسترآبادي في تعليقاته على
المدارك، حيث قال - بعد نقل عبارة الكتاب - " قلت: تحقيق المقام أن المطلوب
من العبد قد يكون ايجاد أثر في الخارج، كالقراءة والركوع والسجود، وقد يكون
ايجاد أثر في الذهن، كعزمه أن لا يتعمد شيئا من المفطرات من طلوع الفجر إلى المغرب
بشرط أن لا يقع منه ما ينافيه. وحقيقة الصوم هو هذا العزم المقيد بالشرط المذكور،
ولذا لو نوى وأخذه النوم إلى المغرب صح صومه، ولو لم ينو واجتنب المفطرات لم يصح
صومه كما تقرر. فإن كانت حقيقة الاحرام عزمه على أن لا يتعمد شيئا من الأمور المعينة
من حين التلبية إلى وقت الحلق والتقصير بشرط الاتيان بالتلبية، فهو من الباب الثاني
وإن كانت حقيقته الحالة المترتبة على نية الحج والعمرة والاتيان بأول جزء منه وهو
التلبية - كما هو الظاهر عندي من الروايات - فليس من الباب الثاني، بل هو من الأحكام
المترتبة على مجموع النية والاتيان بجزء من المنوي، نظير حرمة منافيات الصلاة على المصلي
بسبب نية الصلاة وتكبيرة الاحرام. وقد يكون وجود حالة كطهارة ثوبه حال صلاته،
221

ففي الصورة الأولى تتميز العبادة عن غيرها كاللعب بالنية. وفي الصورة الثانية العبادة
المطلوبة نفس العزم المقيد بقيد، فلا حاجة لها إلى عزم وإرادة أخرى، وهو واضح.
وأما الصورة الثالثة فليس المطلوب فيها ايجاد أثر، ولذا لو كانت طهارة الثوب حالة
أصلية مستصحبة أو حاصلة بفعل الغير أو بغير فعل أحد كأن يقع في النهر أو يصيبه
السيل، لكفت. وفي الصورة الأولى لما كان المطلوب ايجاد أثر لم يجز أن يغسله غيره
أو يوضئه، ومع الاضطرار لا يصح ذلك أيضا إلا بإرادته كما قرر في موضعه " انتهى
كلامه. وهو جيد متين.
الركن الثاني غسل الوجه
وفيه مسائل: (الأولى) - هل الواجب في الغسل ما يجري فيه جزء من الماء
على جزءين من البشرة بنفسه أو معاون، أو يرجع فيه إلى العرف، أو يكفي الدهن؟
وعلى الثالث فهل يخص بالضرورة، أو مطلقا؟ أقوال: المشهور الأول، وبالثاني قال
جماعة من متأخري المتأخرين، والتخصيص بالضرورة في الثالث نقله في الذكرى
عن الشيخين.
ويدل على اعتبار الجريان في الغسل - بأي من المعنيين الأولين - أنه المتبادر
من معنى الغسل لغة وعرفا.
ومن الأخبار قوله (عليه السلام) في حسنة زرارة (1): " الجنب ما جرى عليه
الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه " ولا قائل بالفرق بين الغسل والوضوء.
وقوله (عليه السلام) في صحيحه زرارة (2): " كل ما أحاط به الشعر فليس
للعباد أن يغسلوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء ".

(1) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 46 - من أبواب الوضوء.
222

وقوله (عليه السلام) في رواية محمد بن مروان (1): " يأتي على الرجل ستون
سنة أو سبعون سنة ما قبل الله منه صلاة. قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنه يغسل
ما أمر الله بمسحه ". و
وقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة (2): " لو أنك توضأت فجعلت مسح
الرجلين غسلا ثم أضمرت أن ذلك هو المفترض، لم يكن ذلك بوضوء... ".
والتقريب في هذين الخبرين الأخيرين أنه لولا اعتبار الجريان في مسمى الغسل
لما حصل الفرق بينه وبين المسح المقابل له بظاهر الآية.
ويؤيده أيضا ما اشتملت عليه أخبار الوضوء البياني من الصب والإفاضة والاسدال
والغرفة لكل عضو.
ويدل على الثالث مطلقا أخبار عديدة: منها - قوله (عليه السلام) في صحيحة
زرارة ومحمد بن مسلم (3): " إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن
يعصيه، وأن المؤمن لا ينجسه شئ. إنما يكفيه مثل الدهن ".
وقوله (عليه السلام) في رواية محمد بن مسلم (4): " يأخذ أحدكم الراحة
من الدهن فيملأ بها جسده، والماء أوسع من ذلك. "
وقوله في صحيحة زرارة (5): "... إذا مس جلدك الماء فحسبك... ".
وقوله في الغسل (6): " وكل شئ أمسسته الماء فقد أنقيته ".
وقوله في الغسل والوضوء (7): " يجزي منه ما أجزأ من الدهن الذي
يبل الجسد. "

(1) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 52 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(5) المروية في الوسائل في الباب - 52 - من أبواب الوضوء
(6) المروي في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الجنابة
(7) المروية في الوسائل في الباب - 52 - من أبواب الوضوء
223

وقوله (عليه السلام) (1): " يجزئك في الغسل والاستنجاء ما بلت يدك. "
والدهن كما يحتمل أنه من الأدهان أي الاطلاء من الدهن كما هو صريح بعضها،
يحتمل أيضا أنه من دهن المطر الأرض إذا بلها بلا يسيرا، وعلى التقديرين فلا جريان
فيه قطعا وعلى الأول وظاهرا على الثاني.
وربما تحمل الأخبار كملا على المعنى الأول ويقيد مطلقها بمقيدها.
والأكثر حملوا هذه الأخبار على المبالغة في أقل الجريان، وظواهرها - كما
ترى - لا تقبله.
وأنت خبير بأن ما اشتمل من الأخبار المتقدمة على الجريان صريحا أو مفهوما
لا دلالة فيه على الانحصار في هذا الفرد وعدم اجزاء ما عداه، ولا في شئ من الأخبار
الأخيرة على الانحصار فيه وعدم جواز ما زاد عليه، حتى تثبت المنافاة بين أخبار
الطرفين ويرتكب الحمل في أحد الجانبين، بل ربما دل لفظ الاجزاء في بعض الأخبار
الأخيرة على أنه أقل المجزئ المستلزم لثبوت مرتبة فوقه.
فلم يبق حينئذ إلا دعوى اعتبار الجريان في مسمى الغسل.
وفيه أن المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته أن ذلك غير
مفهوم من كلام أهل اللغة، قال: " لعدم تصريحهم باشتراط جريان الماء في تحققه،
وأن العرف دال على ما هو أعم منه، إلا أنه المعروف من الفقهاء سيما المتأخرين،
والمصرح به في عباراتهم " انتهى.
ويؤيده ما صرح به السيد السند في المدارك، حيث قال - بعد أن نقل القول
باشتراط الجريان في مسمى الغسل - ما لفظه: " وفي دلالة العرف على ذلك نظر " ثم
قال - بعد أن نقل عن الشارح حمل أخبار الدهن على المبالغة - ما صورته: " وقد

(1) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أحكام الخلوة، وفي الباب - 31 -
من أبواب الجنابة
224

يقال: لا مانع من كونه على سبيل الحقيقة لوروده في الأخبار المعتمدة " ثم ساق جملة
من الأخبار المتقدمة.
وحينئذ فمجرد شهرة ذلك بينهم - من غير دلالة نص عليه من آية أو رواية،
بل وجود الروايات المستفيضة - كما تري - بخلافه - لا يوجب المصير إليه. وبالجملة
فالمسألة لذلك محل اشكال.
وصار بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين - بعد أن صرح بأن
المسألة محل تأمل، ينشأ من تعارض الظاهرين، وقبول التأويل من الطرفين -
إلى تخصيص ذلك بالضرورة وتقديمه على التراب، كعوز الماء وانجماده على وجه لا يمكن
إذابته، كما هو المنقول آنفا عن الشيخين (رحمهما الله) استنادا إلى بعض الأخبار
المصرحة بجواز ذلك ضروة، كقول الكاظم (عليه السلام) في صحيحة أخيه علي (1) حيث
" سأله عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه
للصلاة إذا كان لا يجد غيره، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء وهو متفرق؟
فكيف يصنع؟ فقال: إذا كانت يده نظيفة، إلى أن قال: فإن خشي أن لا يكفيه غسل
رأسه ثلاث مرات ثم مسجد جلده بيده، وإن كان الوضوء غسل وجهه ومسح يده
على ذراعيه ورأسه ورجليه.. ".
وقوله (عليه السلام) في صحيحة أخيه الثانية (2) حين " سأله عن الرجل الجنب
أو على غير وضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا، أيهما أفضل: أيتيمم
أم يتمسح بالثلج؟ قال: الثلج إذا بل رأسه وجسده أفضل، فإن لم يقدر على أن يغتسل
به فليتيمم " ونحوها رواية معاوية بن شريح (3).

(1) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل
(2) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب التيمم.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب التيمم.
225

وما رواه في الكافي (1) مرسلا مضمرا: " في رجل كان معه من الماء مقدار
كف وحضرت الصلاة؟ قال: فقال: يقسمه أثلاثا: ثلث للوجه وثلث لليد اليمنى
وثلث لليسرى، ويمسح بالبلة رأسه ورجليه ".
وعد من ذلك أيضا قول الصادق (عليه السلام) في صحيحة الحلبي (2): " أسبغ
الوضوء إن وجدت ماء، وإلا فإنه يكفيك اليسير " وظني أنها ليست منه، لأن مقابلة
اليسير بما يحصل به الاسباغ قرينة على وجود ما يحصل به الجريان ولو في الجملة.
وحينئذ فالأظهر حمل روايات الدهن على هذه الأخبار دون الحمل على المبالغة.
إلا أنه بعد لا يخلو من شوب نظر.
(المسألة الثانية) - الظاهر أنه لا خلاف في أن الوجه الواجب غسله في الوضوء
هو ما كان من قصاص الشعر - مثلث القاف والضم أعلى، كما ذكره الجوهري، وهو
حيث ينتهي نبت الشعر من مقدم الرأس ومؤخره، والمراد هنا المقدم - إلى طرف
الذقن بالتحريك، وهو مجمع اللحيين الذين تنبت عليهما الأسنان السفلى، طولا،
وما دارت عليه الابهام والوسطى من مستوي الخلقة عرضا،
لما في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) حيث قال: " أخبرني
عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ، الذي قال الله تعالى. فقال: الوجه الذي أمر
الله بغسله - الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر
إن نقص منه إثم - ما دارت عليه الوسطى والابهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن
وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس
من الوجه. قلت: الصدغ من الوجه؟ قال: لا ".

(1) ج 1 ص 9 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 52 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الوضوء.
226

وأنت خبير بأن تطبيق الرواية المذكورة على مدعى الأصحاب لا يخلو من عسر
وما وجهه بعضهم - من أن قوله (عليه السلام): " ما دارت عليه الوسطى والابهام "
بيان لعرض الوجه، وقوله: " من قصاص شعر الرأس إلى الذقن " لطوله، وقوله:
" ما جرت عليه الإصبعان " كأنه تأكيد لبيان العرض - فلا يخفى ما فيه من التكلف
وعدم الارتباط.
وأورد شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) على الأصحاب - في استنباط ما ذهبوا
إليه من الخبر المذكور - أنه متى جعل الحد الطولي من القصاص الذي هو عبارة
عن منابت الشعر من المقدم - والحال أن منتهى منابت الشعر يأخذ من كل جانب
من الناصية ويرتفع عن النزعة ثم ينحدر إلى مواضع التحذيف ويمر فوق الصدغ
حتى يتصل بالعذار - لزم دخول النزعتين والصدغين في التحديد المذكور مع أنهم
لا يقولون به، وخروج العذارين مع أن بعضهم أدخله، ويكف يصدر مثل هذا التحديد
الظاهر القصور الموجب لهذا الاختلاف عنهم (عليهم السلام)؟
ثم وجه للرواية معن آخر، وهو أن كلا من طول الوجه وعرضه هو ما اشتمل
عليه الإبهام والوسطى، بمعنى أن الخط الواصل من القصاص إلى طرف الذقن وهو مقدار
ما بين الإصبعين غالبا، إذا فرض إثبات وسطه وأدير على نفسه ليحصل شبه دائرة،
فذلك القدر هو الوجه الذي يجب غسله، وذلك لأن الجار والمجرور في قوله (عليه
السلام): " من قصاص شعر الرأس " أما متعلق بقوله: " دارت " أو صفة مصدر
محذوف، والمعنى أن الدوران يبتدئ من القصاص منتهيا إلى الذقن، وأما حال من
الموصول الواقع خبرا عن الوجه وهو لفظ " ما " إن جوزنا حال عن الخبر، والمعنى
أن الوجه هو القدر الذي دارت عليه الإصبعان حال كونه من القصاص إلى الذقن،
إلى أن قال: " وبهذا يظهر أن كلا من طول الوجه وعرضه قطر من قطار تلك الدائرة
من غير تفاوت، ويتضح خروج النزعتين والصدغين عن الوجه وعدم دخولهما في التحديد
227

فإن أغلب الناس إذا طبق انفراج الإصبعين على ما بين قصاص الناصية إلى طرف ذقنه
وأدارهما على ما قلناه ليحصل شبه دائرة وقعت النزعتان والصدغان خارجة عنهما،
وكذلك يقد العذاران ومواضع التحذيف، كما يشهد به الاستقراء والتتبع. وأما
العارضان فيقع بعضهما داخلا والبعض خارجا، فيغسل ما دخل ويترك ما خرج
على ما يستفاد من الرواية " انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو بمحل من القبول، وقد تلقاه بالتسليم جملة ممن تأخر عنه من الفحول.
إلا أنه يمكن الجواب عما أورده على القول المشهور ونسبه إليه من القصور:
أما عن دخول النزعتين فبأنهما وإن دخلا في التحديد بالقصاص على ما هو معناه
لغة، إلا أنهما كانتا محاذيتين للناصية التي هي من الرأس قطعا دون الوجه، وخارجتين
عن التسطيح الذي ينفصل به الوجه عن الرأس، وداخلتين في التدوير المختص، وجب
حمل القصاص في الخبر على منتهى الناصية وما يحاذيه من جانبيه كما عليه الأصحاب.،
وما هو إلا من قبيل العام المخصوص أو المطلق المقيد، وكم مثله في الأخبار.
وأما عن الصدغين فإنهما وإن فسرا في كلام أهل اللغة بما بين العين والأذن
تارة، وبالشعر المتدلي على هذا الموضع أخرى، كما في عبارة القاموس ونقل أيضا
عن الصحاح والنهاية، إلا أن العلامة في المنتهى فسره بالشعر الذي بعد انتهاء العذار
المحاذي لرأس الأذن وينزل عن رأسها قليلا، وفي الذكرى ما حاذى العذار فوقه،
وحينئذ فيمكن حمل الصدغ في الخبر على هذا المعنى الثاني، وهو أحد معنييه لغة أيضا كما
عرفت، ولا يشمل شيئا منها الإصبعان، على أنه متى حمل على المعنى الأول فلا ريب
أنه يدخل بعضه في الإدارة التي اعتبرها (قدس سره) وما ذكره (قدس سره) من خروجه
كملا مما تمنعه المشاهدة.
وأما العذاران فالمشهور عندهم خروجه، فلا يرد الاشكال به إلا عند من أدخله
إذا عرفت هذا فاعلم أن ههنا مواضع قد وقع الخلاف فيها في البين:
228

(أحدها) - الصدغ، وقد تقدم معناه. فأدخله الراوندي في الوجه، والمشهور
خروجه كما تدل عليه الرواية (1) ويمكن حمل كلام الراوندي على البعض الذي لا شعر فيه
كما عرفت من كلام أهل اللغة، وحمل الرواية على ما ذكرناه آنفا، فترتفع المنافاة.
و (ثانيها) - العذار، وهو الشعر النابت على العظم الذي على سمت الصماخ،
يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض، والمشهور بين الأصحاب خروجه، لعدم شمول
الإصبعين له غالبا، ولاتصاله بالصدغين. ونقل عن ظاهر كلام الشيخ في المبسوط
والخلاف وابن الجنيد دخوله، وبه صرح ثاني المحققين وثاني الشهيدين. وجمع بعض
المحققين بين القولين بما يكون به النزاع لفظيا في البين، فقال: " إنه لا نزاع في الحقيقة
بل القائلون بالدخول إنما يريدون به دخول بعضه مما يشمله الإصبعان، والقائلون
بالخروج يريدون خروج البعض الآخر كما يشعر به تتبع كلماتهم " انتهى.
و (ثالثها) - مواضع التحذيف بالذال المعجمة، وهي ما بين الصدغ والنزعة،
وفسرها بعضهم بما بين منتهى العذار والنزعة. وأنت خبير بما فيه، فإن العذار أعلاه
يتصل بالصدغ كما تقدم، فالصدغ فوقه. وقد قطع العلامة في المنتهى والتذكرة بخروجها
وجملة من الأصحاب حكموا بدخولها احتياطا.
و (رابعها) - العارض، وهو الشعر المنحط عن محاذاة الأذان. يتصل أسفله
بما يقرب من الذقن وأعلاه بالعذار. وقد قطع العلامة في المنتهى بخروجه والشهيدان
بدخوله، بل ادعى ثانيهما الاجماع على ذلك. وفصل في النهاية بين ما خرج عن حد
الإصبعين فيخرج، ودخل فيهما فيدخل. وهو الأقرب لما دلت عليه الرواية (2).
وما أورده السيد السند في المدارك - من أن الاستدلال على الوجوب ببلوغ
الإبهام والوسطى ضعيف، فإن ذلك إنما يعتبر في وسط التدوير من الوجه خاصة،
وإلا لوجب غسل ما نالته الإبهام والوسطى وإن تجاوز العارض، وهو باطل اجماعا -

(1) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة 226
(2) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة 226
229

مردود (أولا) - بأن التخصيص بما ذكره لا دليل عليه.
و (ثانيا) - بأن خروج بعض الأفراد بدليل خاص لا يقدح في الدلالة
على ما لا معارض له، فإن ما تجاوز العارض خارج عن الوجه بالاجماع.
(المسألة الثالثة) - اختلف الأصحاب (نور الله مراقدهم) في وجوب الابتداء
بالأعلى في غسل الوجه، فالمشهور الوجوب، وذهب المرتضى وابن إدريس إلى جواز
النكس، واختاره جمع من المتأخرين ومتأخريهم.
ويدل على المشهور صحيحة زرارة (1) قال: " حكى لنا أبو جعفر (عليه السلام)
وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدعى بقدح من ماء فأدخل يده اليمنى فأخذ
كفا من ماء فاسد له على وجهه من أعلى الوجه... الحديث " وفعله إذا كان بيانا
للمجمل وجب اتباعه فيه.
وأجيب بأنه من الجائز أن يكون ابتداؤه (عليه السلام) بالأعلى لكونه أحد
جزئيات مطلق الغسل المأمور به لا لوجوبه بخصوصه، فإن امتثال الأمر الكلي إنما
يتحقق بفعل جزئي من جزئياته. وقوله -: " إن فعله إذا وقع بيانا للمجمل وجب
اتباعه فيه " - مسلم، إلا أنه لا اجمال في غسل الوجه حتى يحتاج إلى البيان، مع أن أكثر
الأخبار الواردة في وصف وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) خالية من ذلك،
هكذا ذكره السيد السند في مداركه، وتبعه فيه جمع ممن تأخر عنه.
وفيه نظر من وجوه: (الأول) - أن الأوامر والأحكام القرآنية كلها
إلا ما شذ لا تخلو من اطلاق أو عموم أو اجمال أو نسخ أو نحو ذلك، وقد استفاضت
الأخبار عن أهل الذكر (صلوات الله عليهم) بالرجوع إليهم في ذلك والنهي عن القول
فيه بغير توقيف منهم، وقد نقلنا شطرا وافرا من تلك الأخبار في كتاب الدرر
النجفية، وأظهرنا ما في المسألة من الكنوز الخفية، وقد تقدمت الإشارة إلى شطر

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
230

منها في المقدمة الثالثة (1) وحينئذ فإذا بينوا لنا شيئا من ذلك فالواجب قبوله والعمل عليه.
ومما يؤيد ذلك صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (2) قالا: " قلنا لأبي جعفر
(عليه السلام): ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال: إن الله عز وجل
يقول: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة (3). فصار
التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا: قلنا له: إنما قال الله عز وجل:
فليس عليكم جناح، ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك؟ فقال (عليه السلام): أوليس
قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن
يطوف بهما (4). ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لأن الله عز وجل ذكره
في كتابه وصنعه نبيه (صلى الله عليه وآله)؟ وكذلك التقصير في السفر شئ صنعه النبي
(صلى الله عليه وآله) وذكره الله في كتابه... الحديث ".
فإنه - كما ترى - صريح الدلالة في أن فعله (صلى الله عليه وآله) لما ذكره
الله تعالى في كتابه وإن كان غير صريح في الوجوب كنفي الجناح في الآيتين، صار
موجبا لذلك، وما نحن فيه كذلك.
وبالجملة فإنا لو خلينا وظاهر الآية ولم يرد لنا عنه (صلى الله عليه وآله) كيفية
بيان لذلك، لكان الأمر كما ذهبوا إليه، وأما بعد ورود كيفية البيان فيجب الوقوف
عليها والأخذ بها.
واعترض شيخنا البهائي (قدس سره) في حبله وأربعينه بأنه لو اقتضى البيان
وجوب الابتداء بالأعلى للزم مثله في امرار اليد، لوروده كذلك في مقام البيان.
وفيه أن صحيحة علي بن جعفر - (5) الدالة على الوضوء بالمطر بمجرد تساقطه

(1) ج 1 ص 27
(2) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب صلاة المسافر.
(3) سورة النساء. الآية 102.
(4) سورة البقرة. الآية 158.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 36 - من أبواب الوضوء.
231

وغسله الأعضاء - دليل على عدم وجوب امرار اليد.
ولو قيل بأن ما ذكرتموه يضعف باشتمال الوضوء البياني على جملة من المستحبات أيضا
قلنا: خروج ما قام الدليل على استحبابه لا يوجب خروج ما لا دليل عليه.
(الثاني) - أن منعه الاجمال في غسل الوجه ممنوع بما ذكره المحدث الأمين
الاسترآبادي (قدس سره) في حاشيته على المدارك، من أن الاجمال قد ينشأ من نفس
المعنى، وذلك لأن بعض الماهيات الكلية تحته أفراد تصلح عرفا لتعلق غرض الشارع
ببعضها دون بعض، كحج البيت وغسل الوجه في الوضوء، ويقبح عند العقلاء اقدام
مريد الامتثال على فرد مشكوك فيه من أفرادها من غير دلالة على أن المقصود بالذات
هو الماهية الكلية من حيث هي. انتهى كلامه (زيد مقامه)
ومما يدل على وقوع الاجمال في الغسل هنا وقوع السؤال عن كيفية غسل اليدين
في رواية صفوان (1) ورواية الهيثم (2) الآتيتين في بيان وجوب الابتداء بالمرفق.
(الثالث) - أن خلو أكثر الأخبار الواردة في وصف وضوئه (صلى الله
عليه وآله) عن الابتداء بالأعلى لا يستلزم حمل هذه على الاستحباب، بل الطريقة
الشائعة في مثله حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص: وعلى أن بعض الأخبار ظاهر
الدلالة في مطابقة هذه الصحيحة:
كصحيحة زرارة الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) في حكاية الوضوء
أيضا قال: " ثم غرف فملأها ماء فوضعها على جبينه، ثم قال: بسم الله، وسدله على أطراف
لحيته، ثم أمر يده على وجهه... الحديث ".

(1) المروية في مستدرك الوسائل في الباب - 18 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 19 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
232

وروى الحميري في كتاب قرب الإسناد (1) عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب
عن أبي جرير الرقاشي قال: " قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): كيف: أتوضأ
للصلاة؟ إلى أن قال: ولا تلطم وجهك بالماء لطما ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله
بالماء مسحا... الحديث " والكتاب المذكور من الأصول المعتبرة المشهورة فلا
يضر ضعف الراوي، وهو صريح في المطلوب، للأمر فيه بالغسل من الأعلى، وهو
حقيقة في الوجوب عندهم.
وروى العياشي في تفسيره عن زرارة وبكير ابني أعين (2) قالا: " سألنا أبا جعفر
(عليه السلام) عن وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدعا بطشت أو تور فيه
ماء فغمس كفه اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على جبهته فغسل وجهه بها... الحديث ".
(الرابع) - أن الوضوء على غير هذا الوجه لا أقل أن يكون مشكوكا في صحته
لوقوعه على خلاف ما بينه صاحب الشرع، والشك في صحته يقتضي الشك في رفعه،
ويقين الحدث لا يرتفع إلا بيقين الطهارة، للحديث الصحيح المتفق على العمل
بمضمونه: (3) " ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ".
وما أفاده بعض المحققين من متأخري المتأخرين - من أن القدر المعلوم من هذا
الخبر إنما هو عدم النقض بالشك في وجود الناقض، دون الشك في فردية بعض الأفراد
للناقض، بمعنى أن تيقن الحدث فيما نحن فيه لا يزول بالشك في وجود الرافع، وأما
كونه لا يزول بوجود بعض الأفراد المشكوك في فرديتها للرافع فلا دلالة للحديث عليه -
ففيه ما قدمنا ذكره في المقدمة الحادية عشرة (4) وحينئذ فالواجب تحصيل يقين البراءة

(1) في الصحيفة 129 وفي الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(2) رواها في مستدرك الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(3) وهو صحيح زرارة المروي في الوسائل في الباب - 37 و 41 و 44 - من أبواب
النجاسات.
(4) في الصحيفة 145 من الجزء الأول
233

من التكليف الثابت بيقين، وهو لا يتم إلا بالغسل من الأعلى.
وما ذكره البعض - من أن تحصيل يقين البراءة إنما هو من الاحتياط المستحب
وليس بواجب - فليس على اطلاقه، وذلك فإن تحصيل يقين البراءة أما أن يكون بعد
ثبوت الحكم شرعا بإرادة المطابقة لما هو الحكم واقعا والخروج من جميع الاحتمالات
المنافية للمطابقة، وهذا هو المستحب، كالتنزه عن جوائز الظالم ونحوه، ونكاح من علم
ارتضاعها معه لكن لم يعلم حصول القدر المحرم ولا عدمه، ونحو ذلك، وأما أن يكون
مع عدم ثبوت الحكم شرعا، فيكون الغرض من الاحتياط تحصيله، وهذا هو الواجب،
ولا يخفى أن ما نحن فيه من قبيل الثاني دون الأول، فإن عدم ثبوت الحكم ومعلوميته
أعم من أن يكون لعدم الدليل بالكلية، أو لتعارض الأدلة، أو لاشتباه الحكم منها،
أو نحو ذلك، وما نحن فيه من قبيل الثاني، لتعارض ظاهر الآية والأخبار. والجمع الذي
ذكروه بينهما لا يتعين المصير إليه، لاحتمال غيره بل رجحانه عليه، فيبقى الحكم
في قالب الاشتباه.
وتوهم استحباب الاحتياط في مثل ذلك مردود بالأخبار المستفيضة الدالة على الأمر
بالوقوف على جادة الاحتياط مع الشك والاشتباه، كما تقدم لك بيانه في المقدمة الرابعة.
ومن ذلك ما ورد عن الصادق (عليه السلام) في جملة من الأخبار في كلامه مع
بعض الزنادقة المنكرين للصانع (1) حيث قال (عليه السلام): " إن يكن الأمر كما نقول
- وهو كما نقول - فقد نجونا وهلكتم، وإن يكن الأمر كما تقولون - وليس كما
تقولون - فنحن وأنتم سواء، ولن يضرنا ما صلينا وصمنا... الحديث ".
وفيه دلالة على وجوب سلوك ما فيه النجاة ودفع الضرر عند الاشتباه، وهو
بعينه ما ذكروه من الدليل العقلي على وجوب معرفة الصانع، من أنها لدفع الضرر،
وهو واجب. وكما يجب دفع الضرر المحقق فكذا دفع الضرر المشتبه، فإن من عرض

(1) المروية في الكافي في باب (حدوث العالم واثبات المحدث) من كتاب التوحيد.
234

عليه طعام محتمل لأن يكون غذاء نافعا ولا يكون سما قاتلا، فإن المخاطر بنفسه في أكله
خارج عن ربقة العقلاء، فإن كان هذا في الأمور الدنيوية ففي الدينية بطريق أولى، لشدة خطرها
وزيادة ضررها، فالاحتياط فيها أوجب، وحينئذ فالحديث المذكور دليل نقلي عقلي.
وهذا الدليل وما قبله مما تلجئ إليه الحاجة في جملة من الأحكام، فاحتفظ بهما
فإنهما أقوى دليل في مقام الخصام.
(الخامس) - ما أفاده المحدث الأمين (قدس سره) في حاشية المدارك أيضا،
من أن الأمر بالوضوء وبالطهور ورد في أخبار كثيرة، واللفظان من المجملات، فلا
تبرأ الذمة إلا برعاية الاحتياط، وهو الاتيان بفرد لم يشك في أجزائه. لا يقال:
الآية الشريفة بيان لهما. لأنا نقول: الآية الشريفة إنما تدل على وجوب كذا وكذا
ولا تدل على كفاية ذلك القدر في الصلاة. لا يقال: لو وجب قيد زائد لذكره سبحانه
وتعالى. لأنا نقول: هذا منقوض بصور كثيرة. وأيضا إنما تتجه تلك المقدمة لو لم يكن
البيان مرجوعا إليه وإلى أهل بيته (صلى الله عليه وسلم).
(السادس) - ما أفاده أيضا (قدس سره) من أنا إذا لاحظنا ما روي
عن الصادق (عليه السلام): " الوضوء غسلتان ومسحتان " (1)
وسائر الروايات المتضمنة
لمضمونها، مع صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " لا بأس
بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا " تبادر إلى ذهننا بمعونة قرينة المقام وجود البأس في غسل
الوضوء مدبرا.
ثم اعلم أن شيخنا البهائي (قدس سره) في حبله وأربعينه - بعد أن طعن في دليل
المشهور بما قدمنا نقله عن المدارك - قال: " وظني أنه لو استدل على هذا المطلب بأن
المطلق ينصرف إلى الفرد الشائع المتعارف، والشائع المتعارف في غسل الوجه غسله

(1) لم نقف على حديث بهذا النص عن الصادق (عليه السلام) ولعل نظره إلى ما يفيد
هذا المضمون
(2) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الوضوء.
235

من فوق إلى أسفل، فينصرف في قوله تعالى: "... فاغسلوا وجوهكم... " (1) إليه
لم يكن بعيدا " انتهى.
وفيه (أولا) - أنه لو تم لزم عدم اجزاء غمس الوجه واليد في الماء، وهو
لا يقول به، وكذا عدم وجوب غسل الإصبع الزائدة، مع أنهم اتفقوا على الوجوب.
و (ثانيا) - ما حققه بعض المحققين (طيب الله مرقده) من أن المتبادر
بحسب التصور والتخيل غير ملزوم للمتبادر بحسب التصديق بأنه مراد، كما في اطلاق
اللفظ المشترك من غير قرينة. وتحقق الثاني هنا على وجه بين واضح محل التردد،
والتسمك به مشكل. انتهى.
وأما الاستدلال بما رواه في الفقيه (2) مرسلا - من قوله: " هذا وضوء لا يقبل
الله الصلاة إلا به " - ففيه من الاجمال - مضافا إلى ما هو عليه من الارسال، وبسط
جملة من متأخري أصحابنا في رده لسان المقال - ما يوجب الاعراض عنه في هذا المجال،
مع أن الأدلة - بحمد الله تعالى - على ما اخترناه واضحة المنار ساطعة الأنوار، كما تلوناه
عليك وأوضحناه لديك.
فائدة
قال السيد السند في المدارك: " واعلم أن أقصى ما يستفاد من الأخبار وكلام
الأصحاب وجوب البدأة بالأعلى، بمعنى صب الماء على أعلى الوجه ثم اتباعه بغسل الباقي
وأما ما تخيله بعض القاصرين - من عدم جواز غسل شئ من الأسفل قبل غسل الأعلى
وإن لم يكن في سمته - فهو من الخرافات الباردة والأوهام الفاسدة " انتهى. ونسج
على منواله في هذه المقالة جملة ممن تأخر عنه.

(1) سورة المائدة. الآية 6
(2) ج 1 ص 25، وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
236

ونسبة السيد السند (قدس سره) ذلك إلى خيال بعض القاصرين - مع أن
جده من جملة القائلين - غفلة منه، فإنه صرح في شرح الرسالة بأن المعتبر في غسل
الوجه الأعلى فالأعلى، لكن لا حقيقة لتعسره أو تعذره بل عرفا، فلا تعتبر المخالفة
اليسيرة التي لا يخرج بها في العرف عن كونه غسل الأعلى فالأعلى. ثم قال: " وفي
الاكتفاء - بكون كل جزء من العضو لا يغسل قبل ما فوقه على خطه وإن غسل ذلك
الجزء قبل الأعلى من غير جهته - وجه وجيه " انتهى.
بل هو ظاهر العلامة في مسألة ما لو أغفل لمعة من غسل أعضاء وضوئه، حيث
قال - بعد أن نقل عن ابن الجنيد التفصيل بأنها إن كانت دون سعة الدرهم بلها وصلى -
ما صورته: " ولا أوجب غسل جميع ذلك العضو، بل من الموضع المتروك إلى آخره
إن أوجبنا الابتداء من موضع بعينه، والموضع خاصة إن سوغنا النكس " انتهى.
وأنت خبير بأن هذا هو الظاهر من الأخبار المشتملة على الوضوء البياني وغيرها
ففي صحيحة زرارة (1) " ثم غرف فملأها ماء فوضعها على جنبيه، ثم قال بسم الله
وسدله على أطراف لحيته، ثم أمر يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة، ثم غمس يده
اليسرى فغرف بها ملأها، ثم وضعه على مرفقه اليمنى وأمر كفه على ساعده حتى جرى
الماء على أطراف أصابعه، ثم ذكر في غسل اليسرى مثله ".
وفي حسنة زرارة وبكير (2) " فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل
بها ذراعه من المرفق، ثم ذكر مثله في غسل اليسرى ".
ومثله أيضا في رواية أخرى لهما أيضا (3) صرح بأنه غسل اليدين من المرفق
إلى الكف لا يردها إلى المرفق.
وفي صحيحة صفوان المروية في تفسير العياشي (4) " ثم يفضه على المرفق ثم
يمسح إلى الكف... " وأمثال ذلك.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في مستدرك الوسائل في الباب - 19 - من أبواب الوضوء.
237

وظاهر ذلك - كما ترى - أنه - بعد الابتداء في الوجه بالأعلى وفي اليدين
بالمرفقين - يستمر في اجراء الماء المغسول به إلى آخر العضو، وهو صريح في ترتيب
في نفس العضو على الوجه المذكور في كلام شيخنا الشهيد الثاني. ولزوم الحرج في ذلك
- كما أورده شيخنا الشهيد الأول في الذكرى على العلامة بعد نقله عنه ما نقلناه هنا -
غير واضح. وليس في شئ من الأخبار ما يدل على ما ذكروه من وقوع غسل بعض
الأجزاء السافلة قبل العالية سواء كانت في سمتها أم لا، بل غاية بعضها أن يكون مطلقا
والبعض الآخر كما عرفت من الظهور في الترتيب، والقاعدة تقتضي حمل المطلق على
المقيد. وبذلك يظهر ضعف ما ذهب إليه السيد السند (قدس سره) ومن تبعه.
(المسألة الرابعة) - قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب - منهم: العلامة
في بعض كتبه، بل ربما كان هو أولهم، وتبعه على جمع ممن تأخر عنه - اثبات الخلاف
في وجوب تخليل اللحية الخفيفة وعدمه، فنقلوا عن الشيخ في المبسوط والمحقق في المعتبر
وجماعة ممن تبعهما عدم الوجوب، وعن المرتضى وابن الجنيد وجوب ذلك. واختار
العلامة في المنتهى والارشاد الأول وفي المختلف والتذكرة الثاني.
والتحقيق عند التأمل في كلام هؤلاء المنقول عنهم أنه لا خلاف في البين ولا نزاع
بين الفريقين، فإن كلام ابن الجنيد ينادي بصريحه على عدم وجوب غسل ما ستره
الشعر من البشرة ووجوب غسل ما لم تستره، حيث قال: " إذا خرجت اللحية فلم
تكثر فتوارى بنباتها البشرة من الوجه، فعلى المتوضئ غسل الوجه كما كان قبل أن
ينبت الشعر حتى يستيقن وصول الماء إلى بشرته التي يقع عليها حسن البصر إما بالتخليل
أو غيره، لأن الشعر إذا ستر البشرة قال مقامها، وإذا لم يسترها كان على المتوضئ
ايصال الماء إليها " ولا أراك في شك مما ذكرنا بعد ما تلونا عليك من عبارته، ونحوها
عبارة السيد المرتضى في المسائل الناصرية، وكذا في المسائل الناصرية، وكذا في مسائل الخلاف. وقال
الشيخ في المبسوط: " لا يجب تخليل شعر اللحية سواء كانت خفيفة أو كثيفة، أو بعضها
238

كثيفة وبعضه خفيفة " وقال المحقق في المعتبر: لا يلزم تخليل شعر اللحية كثيفا كان
الشعر أو خفيفا، بل لا يستحب، وأطبق الجمهور على الاستحباب (1) ثم نقل خبرا
من طريق الجمهور، وقال بعده: ولأن الوجه اسم لما ظهر فلا يتبع المغابن، ثم استدل
بصحيحة زرارة (2) الدالة على نفي وجوب طلب ما أحاط به الشعر. انتهى.
وأنت خبير بأن عبارة الشيخ وإن أوهمت ما ادعوه إلا أن عبارة المحقق
- بمعونة التعليلين المذكورين - ظاهرة في وجوب غسل ما ظهر وعدم وجوب غسل
ما ستره الشعر، لتخصيص الوجه بما ظهر ودخول ما ستر الشعر في المغابن، ولنفي
وجوب طلب ما أحاط به الشعر.
وبالجملة فمن لاحظ معنى التخليل - وأنه عبارة عن ايصال الماء إلى البشرة
المستورة، إذ الظاهر أن ايصاله إلى الظاهرة لا يسمى تخليلا، فمعنى عدم وجوب التخليل
هو بعينه ما صرحت به صحيحة زرارة (3) من نفي وجوب الطلب والبحث عما أحاط به
الشعر، وصحيحة محمد بن مسلم (4) من نفى وجوب التبطين - لا يرتاب في اشتراك
القولين في الدلالة على عدم وجوب ايصال الماء إلى البشرة المستورة بالشعر من كل
اللحية كانت أو من بعضها. وبه يظهر أن ما ذكره البعض - من أن مطرح النزاع
وجوب غسل ما ستره الشعر من اللحية الخفيفة وعدمه - ليس في محله، كذلك لا يرتاب
أيضا في اشتراكهما في وجوب ايصاله إلى البشرة الظاهرة التي يقع عليها حسن البصر
في مجلس التخاطب. وبه يظهر أيضا ضعف قول من عكس فجعل محل النزاع وجوب
غسل البشرة الظاهرة دون المستورة، مدعيا الاتفاق على عدم غسل المستورة.

(1) كما في المهذب للشيرازي ج 1 ص 18 والوجيز للغزالي ج 1 ص 8 والمغني لابن
قدامة ج 1 ص 105 ورد المحتار لابن عابدين ج 1 ص 86.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 46 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 46 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 46 - من أبواب الوضوء
239

الركن الثالث - غسل اليدين
والكلام فيه يقع في مواضع: (الأول) - اختلف الأصحاب (نور الله
تعالى مراقدهم) في وجوب الابتداء بالمرفق كمنبر ومجلس: المفصل، وهو عبارة عن رأس
عظمي الذراع والعضد كما هو المشهور، أو مجمع عظمي الذراع والعضد، فعلى هذا شئ
منه داخل في العضد وشئ منه في الذراع:
فالمشهور وجوبه، وذهب المرتضى وابن إدريس إلى الاستحباب وجواز النكس
على كراهية، تمسكا باطلاق الآية (1) وإلى هذا القول مال أولئك الفضلاء المشار إليهم
في المسألة الثالثة من الركن المتقدم.
والأظهر هو المشهور، لما عرفت من الأدلة السابقة وأنهم (صلوات الله
عليهم) قد غسلوا كذلك، فيقين البراءة لا يحصل إلا بمتابعتهم والعمل بما عملوه،
وخلاف ذلك أن لم يكن مرجوح الصحة فلا أقل من أن يكون مشكوكا فيها وموجبا لاحتمال
البقاء تحت العهدة. والأخبار هنا قد اشتملت - إلا النادر منها - على الابتداء بالمرفق:
و (منها) - صحيحة زرارة عن الباقر (عليه السلام) (2) في حكاية الوضوء
البياني، قال فيها: " ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه على مرفقه
اليمنى، وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه، ثم غرف بيمنيه ملأها
فوضعه على مرفقه اليسرى وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف
أصابعه... "
و (منها) ما رواه العياشي في تفسيره عن صفوان (3) قال: " سألت
أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق

(1) سورة المائدة. الآية 6
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في مستدرك الوسائل في الباب - 19 - من أبواب الوضوء
240

وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين (1) فقال: قد سأل رجل أبا الحسن عن ذلك
فقال: ستكفيك - أو كفتك - سورة المائدة، إلى أن قال: قلت: فإنه قال اغسلوا أيديكم
إلى المرافق، فكيف الغسل؟ قال: هكذا أن يأخذ الماء بيده اليمنى فيصبه في اليسرى
ثم يفضه على المرفق ثم يمسح إلى الكف. قلت له: مرة واحدة؟ فقال: كان يفعل ذلك
مرتين. قلت له: يرد الشعر؟ قال: إذا كان عنده آخر فعل وإلا فلا " وحسنة زرارة
وبكير (2) وروايتهما أيضا (3).
ورواية الهيثم بن عروة التميمي عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق (5)
فقلت: هكذا، ومسحت من ظفر كفي إلى المرفق؟ فقال: ليس هكذا تنزيلها. إنما
هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق، ثم أمر يده من مرفقه إلى أصابعه ".
وأنت خبير بأن ظاهر هذه الرواية كون التحديد للغسل دون المغسول، لأن
السائل لما توهم كون " إلى " في الآية لانتهاء الغسل فمسح من ظفر كفه إلى المرفق،
لم يرد عليه الإمام (عليه السلام) إلا بأنه ليس هكذا تنزيلها، وظاهره تقريره على
ما ذهب إليه من معنى الآية، بأنه لو كان تنزيلها كما ذكرت لكان كذلك لكن
تنزيلها إنما هو من المرافق بمن الابتدائية المقتضية لابتداء الغسل من المرفق، ثم أمر
يده (عليه السلام) تعليما له وتأكيدا لما قرره بقوله. هذا هو ظاهر الرواية المشار إليها
وإن حصل المخالفة فيها من جهة أخرى.
وكيف كان فهو ظاهر في الوجوب البتة. وكذلك سؤال صفوان في رواية
العياشي عن كيفية الغسل، وبيانه (عليه السلام) على ذلك الوجه، وقول في آخر

(1) سورة المائدة. الآية 6
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 19 - من أبواب الوضوء.
(5) سورة المائدة. الآية 6
241

الرواية: " قلت: يرد... الخ " فإن الظاهر أن رد الشعر عبارة عن الغسل منكوسا،
وقوله: " إذا كان عنده آخر " الظاهر أن المراد ممن يتقيه، فظاهر الخبر أنه لا يغسل
منكوسا إلا في مقام التقية. وكذلك حكاية غسله (عليه السلام) في حسنة زرارة وبكير (1)
وروايتهما الأخرى (2) - من كونه ابتدأ في غسله من المرفق لا يردها إليه - صريح
في الوجوب.
وما يتناقل في أمثال هذه المقامات - أمكن أنه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال -
فكلام شعري جدلي لا يعتمد عليه عند التحقيق، فإن مدار الاستدلال في جميع الموارد
مع عدم النص على الظواهر. نعم ربما يخرج عنه إلى التأويل لضرورة الجمع بين الأدلة
متى تعارضت على وجه لا يمكن تطبيقها إلا بارتكاب جادة التأويل
وأما اطلاق الآية هنا فهو مخصوص بهذه الأخبار، كما هو القضية الجارية في جميع
اطلاقات الكتاب وعموماته ومجملاته، على أنه لو ورد ما يخالف هذه الأخبار لوجب
حمله على التقية، لأن عمل المخالفين على الابتداء من الأصابع (3).
(الثاني) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم)
في وجوب غسل المرفق هنا، إنما الخلاف في كونه أصالة أو من باب المقدمة، وتظهر
الفائدة في وجوب غسل جزء من العضد لو قطعت اليد من المرفق، كما سيأتي بيانه
إن شاء الله تعالى.
وأنت خبير بأن الظاهر أنه لا دلالة في الآية هنا على شئ من الدخول وعدمه،
لوقوع الخلاف في الغاية دخولا وخروجا وتفصيلا.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(3) في تفسير مفاتيح الغيب للرازي ج 3 ص 270 جعل من السنة الابتداء من
الأصابع ونسبه إلى جمهور الفقهاء، وكذا في (الفقه على المذاهب الأربعة) ج 1 ص 67
وفي بدائع الصنائع ج 1 ص 22.
242

والتحقيق - كما حققه بعض الفضلاء - أن كلا من الغاية الابتدائية والانتهائية قد تكون
داخلة تارة، كما في قول سبحانه "... من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى... " (1)
وقولك: " حفظت القرآن من أوله إلى آخره " وقد تكون خارجة، كقوله سبحانه:
"... ثم أتموا الصيام إلى الليل... " (2) وقوله: "... فنظرة إلى ميسرة... " (3).
وما ذكره الشيخ (رحمه الله) - من أن " إلى " في الآية بمعنى مع، مدعيا في
الخلاف ثبوت ذلك عن الأئمة (عليهم السلام) -
ففيه أن المفهوم من حسنة زرارة وبكير (4) المشار إليها آنفا، حيث قال (عليه
السلام) فيها: " وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع شيئا من يديه
إلى المرفقين إلا غسله، لأن الله تعالى يقول: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم
إلى المرافق (5)... الحديث " فإن قوله (عليه السلام): " فليس له أن يدع " صريح في أن
" إلى " في الآية غاية للمغسول، فإن التحديد له، لأن " إلى " في كلامه (عليه السلام) غاية لليد
بلا اشكال ايراده الآية مستدلا بها على ذلك يقتضي كون " إلى " فيها مثلها في كلامه.
ويؤيده أيضا أن اليد لما كانت تطلق باطلاقات متعددة - فإنها لغة وعرفا من الكتف
إلى أطراف الأصابع، وفي التيمم إلى الزند، وفي قطع السرقة إلى أصول الأصابع،
وفي الوضوء إلى المرفق - كان الأهم في المقام والأولى لدفع الايهام الحمل على التحديد
وبيان الغاية.
وممن نص على عدم دلالة الآية على الدخول الشيخ الطبرسي (قدس سره)
في جامع الجوامع، حيث قال: " لا دليل في الآية على دخول المرافق في الوضوء، إلا
أن أكثر الفقهاء ذهبوا إلى وجوب غسلها، وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) انتهى

(1) سورة بني إسرائيل. الآية 2.
(2) سورة البقرة. الآية 187.
(3) سورة البقرة. الآية 280
(4) المروية في الوسائل الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(5) سورة المائدة. الآية 6.
243

وبما حققناه يظهر أن من استدل من أصحابنا - على وجوب غسل المرفق بظاهر
الأخبار التي قدمناها في الوضوء البياني واستند إلى ذلك أصالة - يرد عليه ما أورده
على وجوب الابتداء بالأعلى في غسل الوجه فلا يتم له ذلك.
(الثالث) - مقطوع اليد إما أن يكون من تحت المرفق أو من فوقه أو منه.
فعلى الأول الظاهر أنه لا خلاف في وجوب غسل الباقي، ولعله الحجة وإلا
فالأخبار المستدل بها في المقام لا تخلو من اجمال وابهام.
فمما استدل به على ذلك صحيحة رفاعة برواية الشيخ عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) قال: " سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضأ؟ قال: يغسل ذلك
المكان الذي قطع منه. "
وحسنته برواية الكليني (2) قال " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأقطع
قال: يغسل ما قطع منه ".
واحتمل بعض المحققين من متأخري المتأخرين أنهما واحد وأن التغير نشأ
من النقل بالمعنى.
وصريح الأولى - كما ترى - غسل محل خاصة، مع عدم تعيين ذلك المحل
فيها بأنه من المرفق أو من تحته أو فوقه، والموصول في الثانية يحتمل وقوعه على المكان
فتصير كالأولى، وحينئذ ف‍ (قطع) خال عن الضمير ونائب الفاعل هو الجار والمجرور
ويحتمل وقوعه على العضو، فيكون المعنى يغسل العضو الذي وقع القطع منه. وكيف كان
فمحل القطع أيضا غير معلوم. ولعل الاستدلال بهما بناء على أن الأمر بالغسل ملزوم
لكون القطع من تحت المرفق، لعدم وجوب غسل ما فوقه. لكن يبقى فيه احتمال
كونه من المرفق، فإنه - كما سيأتي - يجب غسل الباقي.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 49 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 49 - من أبواب الوضوء.
244

ومما استدل به أيضا أن غسل الجميع واجب فقطع بعضه لا يسقط وجوبه
غسل الباقي.
وفيه أن هذا راجع إلى استصحاب الحكم السابق على القطع، وهو ممنوع فيما نحن
فيه، فإنه إنما يكون حجة عند القائل به فيما إذا لم تتجدد هناك حالة أخرى مغايرة لحالة
تعلق الحكم، كما صرحوا به في محله. ولا يخفى أن الأوامر الواردة بغسل اليد إنما تعلقت
بالمجموع من حيث هو مجموع لا باعتبار كل جزء جزء منها، فبزوال الأمر المجموعي
بالقطع يحتاج في غسل الجزء الباقي إلى دليل على حدة.
وعلى الثاني فالظاهر هو سقوط غسل الباقي وجوبا واستحبابا، خلافا لجمع من
الأصحاب: منهم - العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى، حيث صرحوا باستحباب
غسله. وما استندوا إليه في الاستحباب - من صحيحة علي بن جعفر الآتية - فليس في محله
كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. نعم ربما يمكن الاستدلال لهم بصحيحة رفاعة وحسنته
السابقتين (1) لشمول اطلاقهما لهذه الصورة.
ونقل عن الشيخ في المبسوط والعلامة في التذكرة استحباب مسح الباقي. ولم أقف
لهما على مستند إن أريد بالمسح معناه حقيقة، وإن أريد به الغسل مجازا فيمكن الاستدلال
عليه بما عرفت من روايتي رفاعة.
وعلى الثالث فالظاهر وجوب غسل الباقي من المرفق، لصحيحة علي بن جعفر
عن أخيه موسى (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن رجل قطعت يده من المرفق.
قال يغسل ما بقي من عضده " بجعل الموصول للعهد أي الباقي من موضع الفرض،
و " من عضده " أما ظرف مستقر على أنه حال مؤكدة، أو لغو متعلق ب‍ " يغسل "
ومن ابتدائية أو تبعيضية.
وبما ذكرنا يظهر كون وجوب غسل المرفق أصالة لا من باب المقدمة. ويظهر

(1) ص 244
(2) المروية في الوسائل في الباب - 49 - من أبواب الوضوء.
245

أنه لا حجة إلى ما تكلفه شيخنا الشهيد الثاني في الروض - بعد حمله الرواية على القطع
من نفس المرفق وحكمه بوجوب غسل الباقي - من التجوز باطلاق العضد على رأس العضد
وأنه لا ضرورة أيضا إلى الحمل على الندب واستحباب غسل العضد كملا، بحمل الرواية
على القطع من أعلى المرفق، كما هو صريح الذكرى، حتى أنه لذلك ذهب إلى أن في الرواية
إشارة إلى استحباب غسل العضد مع اليد، ثم قال: " وبه استدلوا على مسح المقطوع
باقي العضد " كما ذهب إليه جمع: منهم - السيد السند في المدارك والعلامة
في المنتهى، بحمل الموصول في كلا الفرضين على الاستغراق و " من " على البيانية، فإنه
لا ضرورة تلجئ إليه، مع كون ما ذكرناه معنى صحيحا لا غبار عليه.
وهذا. وعبارات الأصحاب في هذا المقام مختلفة النظام بعيدة الالتئام، فعن الشيخ
في المبسوط أنه يغسل ما بقي، والمحقق في المعتبر " سقط عنه غسلهما ويستحب مسح
موضع القطع بالماء " وفي الشرائع ذكر سقوط فرض الغسل ولم يذكر استحباب المسح،
وابن الجنيد " غسل ما بقي من عضده " والعلامة في المنتهى " سقط غسلها لفوات محل
الغسل " وفي التذكرة " فقد بقي من محل الفرض بقية وهو طرف عظم العضد، لأنه
من جملة المرفق، فإن المرفق مجمع عظم العضد وعظم الذراع " وهذه العبارات المنقولة
كلها جمل جزائية لشرط القطع من المرفق. والعلامة في المنتهى بعد أن ذكر ما نقلناه
عنه نقل عن أصح وجهي الشافعي الوجوب، لأن غسل العظمين المتلاقيين من العضد
المرفق واجب، فإذا زال أحدهما غسل الآخر. ثم رده بأنا إنما توجب غسل طرف
العضد توصلا إلى غسل المرفق، ومع سقوط الأصل انتفى الوجوب. وهذا الكلام
يشعر بأن وجوب غسل المرفق عنده إنما هو من باب المقدمة، وهو خلاف ما عرفت
من كلامه في التذكرة، فإنه صريح في كون غسل المرفق عند أصالة. ثم اعترض على
نفسه في المنتهى بصحيحة علي بن جعفر المذكورة (1) وردها بأنها مخالفة للاجماع، فإن

(1) في الصحيفة 245
246

أحدا لم يوجب غسل العضد، فتحمل على الاستحباب. وتبعه على ذلك السيد السند.
ومنشأ الوهم حمل الموصول على الاستغراق و " من " على أنها بيانية كما تقدم. ولا يخفى
أن عبارة ابن الجنيد مطابقة لعبارة الرواية، فتحمل على ما حملنا عليه الرواية، فلا يكون
من مخالفة الاجماع المشار إليه في المنتهى في شئ.
(الرابع) - الظاهر أنه لا خلاف في وجوب غسل لما تحت المرفق مما زاد
على أصل الخلقة من يد ولحم زائد وجلد متدل وإصبع زائدة، نظرا إلى كونها أجزاء
من اليد المأمور بغسلها كما علله البعض، أو كالأجزاء كما في كلام آخر، أو داخلة في محل
الفرض فتكون تابعة له كما في كلام ثالث.
وكذا ما فوق من يد غير متميزة عن الأصلية، لدخولها في مفهوم اليد وصدق
إلى عليهما بالسوية، فتخصيص إحداهما بالغسل ترجيح من غير مرجح، فوجب غسل
الكل أصالة في إحداهما ومن باب المقدمة في الأخرى تحصيلا للامتثال.
وللمناقشة في الأول منهما مجال، لمنع كون ما زاد على أصل الخلقة أجزاء حقيقية
تنصرف إليها الأحكام الشرعية، وأولى بالمنع تعليلها بكونها كالأجزاء، إذا ترتب
الأحكام الشرعية لا يكفي فيه مجرد المشابهة لما ثبت تعلق الحكم به، أشد أولوية بالمنع
التعليل الثالث. وبالجملة فظاهر الآية كون الإضافة في قوله سبحانه: " وأيديكم " عهدية
فيتعلق الحكم باليد المعهودة وما اشتملت عليه من الأجزاء المعهودة.
وحينئذ فالمعتمد في الاستدلال هو الوقوف على جادة الاحتياط وتحصيل اليقين
في مقام الشك، مؤيدا ذلك بالاتفاق المنقول.
أما اليد المتميزة فوق المرفق فقيل بوجوب غسلها، لصدق اليد عليها، وقيل
بالعدم للأصل وعدم دليل مخرج عنه، ويؤيده ما أشرنا إليه سابقا من أن الظاهر أن
إضافة " وأيديكم " عهدية، فيتعلق الحكم بالمعهودة. ولو حملت الإضافة على العموم
اندفع ما أوردناه سابقا ووجب غسل اليد المذكورة.
247

قال بعض المحققين: " ولو لم يكن لليد الزائدة مرفق لم يجب غسلها قطعا " وهو
جيد. إلا أن ظاهر عبارته بأن ذلك محل وفاق وأن محل الخلاف ما لو كان لها مرفق،
والظاهر من فرض الأصحاب اليد الزائدة فيما فوق المرفق المعشر باتحاد المرفق أن تميزها
مع عدم وجود المرفق لها، إذا لو كان لها مرفق لكانت دونه ووجب غسلها البتة،
إما لدخولها في حكم اليد فيما دون المرفق، أو عدم امتيازها حينئذ عن الأصلية.
وبالجملة فالتحقيق في ذلك أن يقال: إن هذه اليد المفروضة إما أن تكون ذات
مرفق أم لا. وعلى الأول فإما أن تكون كالأصلية على وجه لا امتياز لها عنها أم لا.
والظاهر أنه لا ريب في وجوب الغسل في الصورة الأولى، لكونها يدا ذات مرفق
مشتبهة باليد الأصلية. وفي الصورة الثانية توقف، لأن مجرد كون لها مرفق - مع تميزها
عن الأصلية، لضعف البطش بها مثلا، أو نقص أصابعها، ونحو ذلك - لا يوجب غسلها،
سيما مع اعتبار العهدية في الإضافة. وفي الصورة الثالثة الظاهر عدم وجوب الغسل، حيث إن الشارع أمر بغسل اليد إلى المرفق، وهذه لا مرفق لها. إلا أنه بموجب ذلك يلزم أنه
لو لم يكن له إلا يد واحدة لا مرفق لها فلا يجب غسلها حينئذ، إلا أن يتمسك بالاجماع
هنا على وجوب الغسل.
(الخامس) - الظاهر أنه لا خلاف في أنه يجب تحريك ما يمنع وصول الماء
إلى المغسول من دملج وسوار وخاتم ونحوها، أو نزعه.
ويدل عليه صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) حيث
" سأله عن المرأة يكون عليها السوار والدملج في بعض ذراعها، لا تدري يجري الماء
تحته أم لا، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال تحركه حتى يدخل الماء
تحته أو تنزعه... "
وحسنة ابن أبي العلاء عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الخاتم

(1) المروية في الوسائل في الباب - 41 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 41 - من أبواب الوضوء.
248

إذا اغتسلت. قال: وحوله من مكانه، وقال في الوضوء تديره... ".
وصرح جملة من الأصحاب بأنه يجب تخليل الشعر النابت في اليد وإن كثف
لغسل ما تحته، نظرا إلى أن المأمور به غسل اليد التي هي عبارة عن العضو المخصوص،
بخلاف النابت في الوجه، لدخوله في مسماه، فإن الوجه اسم لما يواجه به، والمواجهة تحصل
بالشعر، فيكفي غسله عما تحته.
وربما يناقش في الحكم المذكور بقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة:
" كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء "
فإنه بعمومه شامل لما نحن فيه.
وربما يجاب بحمل ألف ولام " الشعر " على العهد إشارة إلى شعر الوجه، لتقدمه في
صدر الرواية، كما رواه في الفقيه (2).
وفيه أن الظاهر أنها رواية مستقلة مصدرة بقوله: " أرأيت ما أحاط به
الشعر... الخ " كما ذكره الشيخ في التهذيب (3) وذكر صاحب الفقيه لها - على أثر
صحيحة زرارة الواردة في تحديد الوجه، كما هي عادته في سبك الأخبار، بل جعله كلامه
تارة بينها حتى يظن أنه من جملة الخبر - لا يدل على أنها من جملتها، ولهذا أنه في الوافي (4)
نقلها عن الفقيه منفصلة. وتخصيصها بالاجماع والأخبار على وجوب غسل البشرة في الغسل
يوجب الاقتصار على ما خرج بالدليل وكيف كان فالعمل على ما عليه ظاهر الأصحاب
(رضوان الله عليهم).
ثم إن ظاهر المشهور وجوب غسل الشعر هنا، لدخوله في محل الفرض كما علله
البعض، أو أنه من توابع اليد كما علله آخر. وقد عرفت ما فيه، ومن ثم استظهر بعض

(1) المروية في الوسائل في الباب - 46 - من أبواب الوضوء.
(2) ج 1 ص 28
(3) ج 1 ص في الوسائل في الباب - 46 - من أبواب الوضوء 104
(4) ج 4 ص 45.
249

محققي متأخري المتأخرين العدم هنا للأصل إن لم يكن اجماع. إلا أن الحكم هنا ربما كان
أقرب، لدعم انفكاك اليد غالبا عن الشعر، فيدخل في خطاب الحكم المتعلق بها،
بخلاف ذلك لندوره، فلا ينصرف إليه الاطلاق. نعم لو قيل بعدم وجوب ايصال الماء
إلى ما تحته انتقل حكم الوجوب إليه.
(السادس) - الظاهر أنه لا خلاف في وجوب غسل الأظفار ما لم تخرج عن
حد اليد. وأما معه فقيل بالوجوب أيضا، لجزئيتها من اليد عرفا، وبالعدم كمسترسل
اللحية، للأصل وعدم دليل صالح للخروج عنه.
وكيف كان فالمشهور وجب نزع ما تحتها من الوسخ متى كان مانعا من وصول
الماء، لكونه في حد الظاهر. واحتمل في المنتهى عدم الوجوب، لكونه ساترا عادة
وأيده المحدث الثقة الأمين الاسترآبادي (نور الله رمسه) بالروايات المتضمنة استحباب
إطالة المرأة أظفار يديها، قال: " فإن فيها دلالة على عدم اخلال وسخها بالوضوء والغسل
وجه الدلالة أن الإطالة مظنة اجتماع الوسخ وكان ما تحتها من البواطن. وأيضا اجتماع
الوسخ عادي ومع ذلك لم يرد بإزالته قول أو فعل، وهذا قرينة على عدم وجوب
إزالته. والله أعلم " انتهى. وما ذكره (قدس سره) لا يخلو من قرب إلا أن الاحتياط
في الإزالة.
وأيده بعض أيضا بصدق غسل اليد بدونه، وعدم ثبوت أمر النبي (صلى الله
عليه وآله) أعراب البادية وأمثالهم بذلك، مع أن الظاهر عدم انفكاكهم عن ذلك.
وقيده بعض آخر بالوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة الظاهرة، قال:
" أما المانع من بشرة مستورة تحت الظفر بحيث لا تظهر للحس لولا الوسخ، فالظاهر
عدم الوجوب ".
هذا. والمفهوم من عبائر الأصحاب (رحمهم الله) في المقام - حيث صرحوا
بوجوب إزالة الوسخ المذكور متى كان مانعا من وصول الماء، فلو لم يمنع استحب إزالته
250

- أن مجرد وصول الماء إلى ما تحت الوسخ كاف في صحة الغسل، وهو مناف لما فسروا
به الغسل من اشتراط الجريان في تحققه، لأن ما تحت الوسخ من جملة ما يجب غسله
الذي لا يتحقق إلا باجراء الماء عليه.
نعم يظهر من شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في بعض تحقيقاته الاكتفاء
بذلك في تطهير ما تحت الوسخ من النجاسة الخبيثة، بل ظاهره نقل الاتفاق على ذلك،
حيث أسنده إلى ظاهر النصوص والفتاوى، قال (قدس سره) - بعد تقرير المسألة بأن
دخول الماء في الوسخ الكائن تحت الظفر هل يكفي في طهارته إذا كان نجسا؟ من حيث إنه لم يدخل فيه بقوة وجريان بل على وجه الترشح والسريان - ما لفظه: " الظاهر من
النصوص والفتاوى طهارة ما أصابه الماء من ذلك وأمثاله وإن لم يصل إليه بقوة، بل يكفي
مطلق وصوله إليه ونفوذ الماء في الأجزاء النجسة، وعموم الأوامر بالغسل واطلاقها
يشمله، الاجماع واقع على طهارة الثوب والجلد والحشايا التي تدخل النجاسة إلى أجزائها
الداخلة بوصول الماء إليها، مع عصره ما يمكن عصره كالثوب، ودق الحشايا وتغميزها
لاخراج الغسالة الداخلة في أعماقها. ولا شبهة في أن دخول الماء إلى هذه الأشياء إنما
هو على وجه الترشح والنفوذ اللطيف " ثم أطال في الاستدلال على ذلك بذكر النظائر
لما ذكره، ثم اعترض على الأصحاب فيما أطلقوه مما قدمنا نقله عن ظاهر كلامهم، وقال
بعد نقل شطر من عبائرهم في ذلك: " وظاهر هذه العبارات - كما ترى - الاكتفاء
بمطلق وصول الماء إلى البشرة، لكن لما عهد من الشارع في غسل الوضوء والغسل اعتبار
الجريان، فليكن هناك كذلك، إلى أن قال: ولو فرض أنهم يكتفون بمطلق وصول الماء
فالأظهر عندنا أنه لا يكفي ذلك، لعدم الدليل على سقوط ما وجب فيه. ثم قال:
وعلى هذا يحصل الفرق بين طهارة ما تحت الوسخ من الخبث ومن الحدث، إذ المعتبر
في طهارة الخبث مجرد وصول الماء إلى ما ذكر مع انفصال ما يمكن انفصاله عنه، وفي الحدث
الجريان على نفس البشرة " انتهى كلامه زيد اكرامه.
251

وما ذكره (قدس سره) - من الاكتفاء في طهارة الوسخ المذكور بمجرد وصول
الماء إلى أجزاء الوسخ ولو على جهة الترشح والسريان - لا يخلو من قوة، لما ذكره
من الأدلة. إلا أن ما ذكره أخيرا - من الفرق في طهارة ما تحته من الخبث والحدث
بالاكتفاء بمجرد وصول الماء في الأول، واعتبار الجريان في الثاني - ليس بموجه، فإن
الغسل متى اعتبر بالنسبة إلى البدن ونحوه من الأجسام الصلبة، كان عبارة عندهم عما
يدخل الجريان في مسماه ولا يتحقق بدونه، سواء كان لإزالة خبث أو حدث، ومتى
اعتبر بالنسبة إلى الثوب والحشايا ونحوها من الأجسام المنطبعة، كان عبارة عن استيعاب
المحل النجس مع انفصاله عنه، ولهذا قابلوه في الأول بالمسح الذي لا يشترط فيه الجريان
عندهم، وفي الثاني بالرش والصب الذي لا يشترط فيه الكثرة ولا الانفصال، وحينئذ
فالغسل متى اعتبر في البدن لإزالة حدث أو خبث، فلا بد في تحققه وصدق اسمه عليه
من الجريان عندهم، إذ الواجب الغسل، وهو شرعا بالنسبة إلى البدن ونحوه عبارة
عن جري جزء من الماء على جزئين من البشرة بنفسه أو بمعاون، واعتبار الاكتفاء
بمجرد الوصول إلى أجزاء المتنجس - ولو على جهة الترشح والنفوذ - إنما قام بالنسبة
إلى غير البدن من الأجسام المنطبعة، كما عرفت مما حققه هو وغيره في ملحه، وحينئذ
فحق الكلام بالنسبة إلى تطهير الوسخ تحت الظفر - بمقتضى قواعدهم وتحقيقاتهم - هو
طهارة الوسخ بمجرد نفوذ الماء فيه، وتوقف تطهير ما تحته على الجريان المعتبر في حقيقة
الغسل عندهم متى تعلق بالبدن ونحوه. وإنما أطلنا الكلام في هذا المقام لقلة دوران
المسألة في كلام علمائنا الأعلام.
الركن الرابع - مسح الرأس
وتحقيق الحكم فيه يتوقف على أمور:
(الأول) - اختصاص المسح بمقدم الرأس - بشرة أو شعرا مختصا به - مما
252

انعقد عليه الاجماع فتوى، وهو الأشهر رواية:
فمن الأخبار في ذلك قوله (عليه السلام) فصحيحة محمد بن مسلم (1): " مسح
الرأس على مقدمه ".
وقوله في حسنته بل صحيحته أيضا (2): " امسح على مقدم رأسك... ".
وقوله في صحيح زرارة (3): "... وتمسح ببلة يمناك ناصيتك... " إلى غير
ذلك من الأخبار.
وظاهر الآية وأكثر الأخبار وإن تضمن مسح الرأس بقول مطلق إلا أن
الواجب تقييده بالمقدم، لما ذكرنا من الاجماع والأخبار، حملا للمطلق على المقيد.
وما دل على خلاف ذلك من الأخبار - كحسنتي الحسين بن أبي العلاء (4) ورواية
أبي بصير (5) حيث تضمنت مسح المقدم والمؤخر - فخارج مخرج التقية (6). وما ذكره
بعض من الاحتياط بمسح المؤخر ضعيف.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 15 و 31 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء
(6) في شرح صحيح الترمذي لابن العربي المالكي ج 1 ص 51 " أن المشهور من
أقوال مالك وجوب مسح جميع الرأس: يبدأ بيديه بالمقدم إلى القفا " وفي بداية المجتهد لابن
رشد ج 1 ص 10 " ذهب مالك إلى الواجب مسح الرأس كله، والشافعي وأبو حنيفة
وبعض أصحاب مالك إلى أن الفرض مسح بعضه، وحده أبو حنيفة بالربع وبعض أصحاب
مالك بالثلث وبعضهم بالثلثين، والشافعي لم يحد الماسح ولا الممسوح " وفي المغني لابن قدامة
ج 1 ص 125 " روى عن أحمد وجوب مسح جميعه في كل أحد، وروى عنه أجزاء مسح
بعضه، إلا أن الظاهر عنه وجوب الاستيعاب في حق الرجل ويجزئ المرأة مسح مقدم
رأسها، لأن عائشة كانت تمسحه " وفي الهداية لشيخ الاسلام الحنفي ج 1 ص 4 " المفروض
في مسح الرأس مقدار الناصية وهو ربع الرأس ".
253

ثم إنه قد ذكر جملة من الأصحاب أنه يشترط في شعر المقدم الذي يمسح عليه أن
لا يخرج بمده عن حد المقدم. فلو خرج عن الحد المذكور لم يجز المسح على الزائد،
لخروجه عن محل الفرض، بل يمسح على أصوله وما زاد ما لم يخرج عن الحد المذكور.
بقي هنا شئ أغفل الأصحاب (رضوان الله عليهم) تحقيقه ولم يلجوا مضيقه،
وهو أن المقدم الوارد في هذه الأخبار هل هو عبارة عما هو المتبادر من ظاهر اللفظ،
وهو ما كان من قبة الرأس إلى القصاص مما يلي الجبهة، الذي هو كذلك إلى القصاص
من خلف، فبأي جزء من هذه المسافة مسح تأدى به الواجب، أو هو عبارة عن الناصية
وهي ما بين النزعتين كما فسرها به جماعة من الأصحاب: منهم - العلامة في التذكرة
وغيره في غيره، وحينئذ فيكون المقدم عبارة عما ارتفع من القصاص إلى أن يساوي
أعلى النزعتين؟
لم أقف بعد التتبع على من كشف عن ذلك نقاب الإبهام بكلام صريح في المقام
إلا أن عباراتهم عند التأمل في مضامينها ترجع إلى الأول.
وقد وقفت على رسالة لشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني
(نور الله تعالى ضريحه بأنوار جوده السبحاني) نقل فيها المعنى الأول عن بعض معاصريه
من الفضلاء العظام. والظاهر أنه الوالد (قدس الله نفسه ونور رمسه) ونقل عنه دعوى
اجماع الطائفة عليه وعدم الخلاف،
ثم نسبه في دعوى ذلك إلى الوهم، وقال: إنه لم يصرح بهذه الدعوى الغريبة
غير شيخنا الشهيد الثاني في الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، وهو ظاهر كلامه
في غيرها، وربما يستفاد من اطلاق فحاوي كلام غيرهما أيضا، لكن أكثر عبارات
الأصحاب والأخبار وأهل اللغة ظاهرة بل صريحة في أن المقدم هو قصاص الشعر
والناصية، والمستفاد منها أن ذلك هو محل الفرض، ويكفي مسماه، وأفضله مقدار ثلاث
أصابع مضمومة من قصاص الشعر إلى ما بلغت لا أزيد، وأنه لو مسح ما فوق ذلك
254

بدون مسح الناصية لم يكفه وكان الوضوء باطلا، لعدم الدليل الثابت على جواز التعبد به.
ثم أورد (قدس سره) مقامات ثلاثة تتضمن الاستدلال على ما ذهب إليه:
ذكر في أولها الأخبار الواردة في المسألة. وفي ثانيها كلام أهل اللغة في ذلك. وفي ثالثها
عبارات الأصحاب الدالة على ما ذكره.
وحيث إن المسألة غير مكشوف عنها نقاب الإبهام في كلام علمائنا الأعلام مع
كونها من المهام العظام، فلا بد من ارخاء عنان القلم في تنقيحها وتمييز باطلها من صحيحها
وبيان ما هو المستفاد من كلام الأصحاب في المقام وأخبار أهل الذكر (عليهم السلام):
فنقول: الظاهر أن ما ذكره شيخنا المشار إليه - وادعى أنه المفهوم من كلام أكثر
علمائنا الأبرار، وأخبار الأئمة الأطهار، وكلام أهل اللغة الذي عليه المدار - ليس
بذلك المقدار، ومنشأ الشبهة عند هي حسنة زرارة (1) الدالة على المسح على الناصية خاصة
وها نحن نتكلم على المقامات الثلاثة بما يقشع غمام الإبهام ونشير إلى ما أورده
(قدس سره) على الخصوص في كل مقام، ليتبين للناظر ما هو الأوفق بأخبار أهل
الذكر (عليهم السلام) والأربط بكلام علمائنا الأعلام:
فنقول: أما الأخبار الواردة في هذه المسألة فقد تضمن شطر منها - وهو أكثرها -
المسح على الرأس، وجلها في الوضوء البياني، وشطر منها تضمن المسح على مقدم الرأس
وشطر تضمن المسح على الناصية، وهو صحيحة زرارة المتقدمة خاصة (2).
والكلام في المعنى المراد من الأخبار إنما يتضح بعد الوقوف على كلام الأصحاب
وما ذكره أهل اللغة في هذا الباب:
فأما كلام الأصحاب فمنه - ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية بعد
قول المصنف: " الرابع - مسح مقدم شعر الرأس " حيث قال في ضبطه: " المقدم
بضم الميم وتشديد الدال المفتوحة نقيض المؤخر بالتشديد " انتهى. وصراحة العبارة

(1) الآنية في الصحيفة 256
(2) ص 253
255

في المراد أظهر من أن يعتريها الإيراد.
وقال في الروض بعد قول المصنف " ويجب مسح مقدم بشرة الرأس "
ما لفظه: " دون وسطه أو خلفه أو أحد جانبيه ".
وقريب منها عبارة الفاضل الخراساني في الذخيرة، حيث قال بعد عبارة
المصنف: " دون سائر جوانبه ".
وقال المحقق الخوانساري في شرح الدروس بعد تقسيم ذكره سابقا: " وثانيها
اختصاصه بالمقدم، فلو مسح المؤخر أو الوسط أو أحد جانبيه لم يجز ".
وأنت خبير بأن مقابلة الاختصاص بالمقدم في هذه العبائر ونحوها بهذه المواضع
الثلاثة - من مؤخر الرأس ووسطه وجانبيه - تعطي انحصار المقدم فيما بين القصاص
إلى الوسط، وإلا لبقي فرد آخر مغفل في الكلام، فلا يدل التفريع على الانحصار،
إذ لا يخفى أن الغرض من المقابلة - في أمثال هذه المقامات بعد اثبات الحكم لبعض
الأفراد بنفيه عن الأفراد الأخر - إنما هو الحصر في ذلك الفرد، كما لا يخفى على الفطن
اللبيب العارف بالأساليب.
وقال المولى المحقق الأردبيلي (رحمه الله): " إن ظاهر الآية وبعض الأخبار يدل
على اجزاء مسخ أي جزء كان من الرأس. ولعل الاجماع - مؤيد بالوضوء البياني،
وبصحيحة محمد بن مسلم (1) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): امسح الرأس على
مقدمه " وبحسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (2) " وتمسح ببلة يمناك ناصيتك " دال
على أن المراد جزء من مقدم الرأس لا أي جزء كان، ولعل المراد بالناصية في الخبر هو
مقدم الرأس، لأنه أقرب إلى الناصية المشهورة أو اسم له حقيقة " انتهى.
وحاصل كلامه أن ظاهر الآية وبعض الأخبار دل على اجزاء مسح أي جزء

(1) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 و 31 - من أبواب الوضوء
256

من الرأس، ولما عارضه الاجماع والأخبار الدالة على خصوص مسح المقدم دل على تخصيص
الرأس بالمقدم، لكن لما كان من تلك الأخبار المخصصة حسنة زرارة الدالة على الناصية
التي هي أخص من المقدم، أراد الجمع بينها وبين أخبار المقدم بحمل الناصية على المقدم،
مجازا لقرينة المجاورة، أو حقيقة شرعية.
ثم إن أكثر عبائر الأصحاب في هذا المقام قد اشتملت على التعبير بالمقدم مفردا
أو مضافا إلى الرأس، ومن الظاهر البين أن كل أحد لا يفهم من لفظ المقدم المضاف
إلى الرأس أو غيره متى أطلق إلا ما قابل المؤخر، وسيأتي لك أيضا ما يعضده من كلام أهل
اللغة. وبذلك يعلم أيضا أنه لا يطلق مجردا عن القرينة إلا على ذلك المعنى.
وبذلك أيضا اعترف شيخنا المذكور في آخر رسالته حيث قال: " لا يقال:
إن اطلاق الدليل من الآية يقتضي جواز المسح على الرأس، وحيث قد جاءت السنة
مخصصة له بالمقدم وهو يطلق على ضد المؤخر، كانت مقيدة لاطلاق الكتاب، فيبقى
ما صدق عليه المقدم سالما من التقييد، فيكون كله صالحا للمسح. لأنا نقول: الأمر كما
ذكرتم لكن نحن لا نسلم اطلاق المقدم هنا على ما ادعيتموه بعد تفسير أهل اللغة له
بالناصية وورود الحديث الصحيح بكون الباء للتبعيض، فهو وإن سلمنا ما هو أعم منها
فلا أقل أن يكون من باب حمل المطلق على المقيد " انتهى.
وسيظهر لك الجواب عما أورده هنا. وبذلك يظهر لك ما في استدلاله بعبارات
جملة من الأصحاب، فإن جلها من هذا الباب:
فمما نقله (قدس سره) كلم الصدوق (رحمه الله) في الفقيه حيث قال: " وحد
مسح الرأس أن تمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس " ومثله عبارته في الهداية
إلا أنه قال: " أربع أصابع ".
وأنت لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما حررناه أنه لا دلالة فيها على شئ مما ادعاه
لأنه حكم بوجوب مسح هذا المقدار المعين من المقدم، وقد عرفت المعنى المتبادر من المقدم
257

وسيأتي أيضا ما يؤكده، فيكون معناه وجوب مسح هذا المقدار من أي جزء من أجزاء
هذه المسافة، وأي دليل له في ذلك؟ بل هو بالدلالة على خلاف مدعاه - بتقريب
ما حققناه - أشبه.
ثم نقل عن الشيخ المفيد في المقنعة أنه قال: " يمسح من مقدم رأسه مقدار
ثلاث أصابع مضمومة من ناصيته إلى قصاص شعره مرة واحدة " وعبارة الشيخ
في النهاية " ثم يمسح بباقي نداوة يده من قصاص شعر رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة "
وهاتان العبارتان وإن دلتا على كون المسح في هذا المكان الذي يدعيه. لكن لا دلالة
لهما على الانحصار فيه وعدم اجزاء ما سواه كما هو المدعى. وصدر عبارة الشيخ المفيد ظاهر
الدلالة على أن مقدم الرأس عبارة عما ادعيناه.
ثم نقل كلام السيد المرتضى في المسائل الناصرية، فقال: " قال الناصر في
المسائل الناصرية: فرض المسح متيقن بمقدم الرأس والعامة إلى الناصية. فكتب السيد
المرتضى (رضي الله عنه) في جوابه: هذا صحيح وهو مذهبنا، وبعض الفقهاء يخالفون
في ذلك ويجوزون المسح على أي بعض كان من الرأس. والدليل على صحة مذهبنا
الاجماع المتقدم ذكره. وأيضا فلا خلاف بين الفقهاء في أن من مسح على مقدم الرأس
فقد أدى الفرض. وليس كذلك من مسح مؤخر الرأس، فما عليه الاجماع أولى " انتهى
والعجب منه (قدس سره) في ايراد هذه العبارة واستناده إليها وهي - كما ترى -
صريحة الدلالة في خلاف مدعاه، أما في كلام الناصر فظاهر، وأما في كلام السيد
(رحمه الله) فلجوابه بأنه مذهبنا مؤذنا بدعوى الاجماع عليه، وكأنه (قدس سره)
أوردها بطريق الاستعجال أو مع تشويش في البال.
ثم أورد عبارة المرتضى (رضي الله عنه) في الإنتصار، وهو قوله: " ومما
انفردت به الإمامية القول بأن الفرض مسح مقدم الرأس دون سائر أبعاضه، والفقهاء
258

كلهم مخالفون في هذه الكيفية ولا يوجبونها، ولا شبهة في أن الفرص عند الإمامية
متعلق بمقدم الرأس دون سائر أبعاضه " انتهى.
ثم نقل شطرا من عبائر المتأخرين المشتملة على التعبير بمقدم الرأس.
وأنت خبير بعد الإحاطة بما أسلفناه أنه لا اشعار فيما بما ذكره ولا إيناس، بل
هي في الدلالة على خلاف ما يدعيه عارية عن الإبهام والالتباس، وحينئذ فما ذكره
(رحمه الله) بعد ذلك - من قوله: " فإن كان مراد هؤلاء المتأخرين بالمقدم الناصية،
وبالناصية قصاص الشعر وما فوقه بيسير وهو ما بين النزعتين فلا كلام، وإن كان
المراد ما هو أعم فالبحث أيضا جار معهم، لأنه خلاف فتوى المتقدمين من الأصحاب
والنصوص واللغة " انتهى - فهو تطويل بغير طائل. وإعادة الكلام عليه بعد تحقيق
ما أسفلناه تحصيل الحاصل.
وأما كلام أهل اللغة فمما استند إليه وأورده كلام القاموس، حيث قال: ".. ومقدمة
الجيش - وعن ثعلب فتح داله - متقدموه، وكذا قادمته وقداماه، ومن الإبل أول
ما ينتج ويلقح، ومن كل شئ أوله، والناصية، والجبهة " ثم قال (قدس سره) بعده
" وهو صريح في كون المقدم هو الناصية " انتهى.
وأنت خبير بأن الظاهر من هذه العبارة بالنسبة إلى ما نحن فيه اطلاق المقدم
على ثلاثة معان: (أحدها) - أول الشئ، فإذا أضيف المقدم إلى الرأس يكون بمعنى
أوله. و (الثاني) - الناصية. و (الثالث) - الجبهة.
والأول منها هو الذي اتفقت عليه كلمة أهل العرف، وعليه أيضا اتفقت
كلمة أهل اللغة:
فمنها - ما ذكره هنا، فإن المراد من الأول في عبارته ما قابل الآخر، كما ذكره
في مادة (آخر) حيث قال: " والآخر خلاف الأول " ومن المعلوم أن الأول بالنسبة
إلى الرأس هو المقدم كما أن الآخر هو المؤخر.
259

ومن ذلك - ما صرح به في كتاب مجمع البحرين حيث قال: " والمقدم بفتح
الدال والتشديد نقيض المؤخر، ومنه مسح مقدم رأسه " انتهى. وفيه دلالة واضحة
على أنه المراد شرعا.
وقال في الصحاح: " ومؤخر الشئ نقيض مقدمه ".
وقال في المصباح: " ومؤخر كل شئ بالتثقيل والفتح خلاف مقدمه ".
وأما المعنى الثاني وهو اطلاقه على الناصية فلا دليل فيه على ما ادعاه (طاب
ثراه) فإن الناصية عند أهل اللغة إنما هي عبارة عن القصاص الذي هو لغة وشرعا آخر
منابت شعر الرأس، قال في القاموس: " الناصية قصاص الشعر " ومثله في المصباح.
وفي مجمع البحرين: " الناصية قصاص الشعر فوق الجبهة " والناصية عند الفقهاء - كما تقدم
في كلام العلامة في التذكرة، وهو الذي يدعيه شيخنا المزبور ويخص موضع المسح به -
هو ما ارتفع عن القصاص حتى يسامت أعلى النزعتين، وحينئذ فاطلاق المقدم على الناصية
في عبارة القاموس - مع ما عرفت من معناها لغة - لا دليل فيه على ما ادعاه. ومع
تسليم أن المراد بها ما ادعاه، ففيه أنه قد أطلق فيه أيضا على ما ادعيناه، وهو المعنى الأول
فالتخصيص بما ادعاه ترجيح من غير مرجح، بل المرجح في جانب المعنى الذي ادعيناه
حيث إنه مما اتفقت عليه كلمة العرف واللغة كما عرفت، فحمل الأخبار عليه أظهر البتة.
على أن هذا المعنى الذي ذكره لم نجده في شئ من كتب اللغة بعد الفحص سوى القاموس.
وكيف كان فلا ريب في رجحان مقابله.
ومما نقله أيضا في رسالته عبارة المصباح المنير، حيث قال فيه: " الناصية قصاص
الشعر وجمعها النواصي. ونصوت فلانا نصوا من باب قتل: قبضت على ناصيته. وقول
أهل اللغة -: النزعتان هما البياضان اللذان يكتنفان الناصية، والقفا مؤخر الرأس والجانبان
ما بين النزعتين والقفا، والوسط ما أحاط به ذلك. وتسميتهم كل موضع باسم يخصه
كالصريح في أن الناصية مقدم الرأس فكيف يستقيم على هذا تقدير الناصية بربع
260

الرأس؟ وكيف يصح اثباته بالاستدلال؟ والأمور النقلية إنما نثبت بالسماع لا بالاستدلال
ومن كلامهم " جز ناصيته " و " وأخذ بناصيته " ومعلوم أنه لا يتقدر، لأنهم قالوا:
الطرة هي الناصية. وأما الحديث " ومسح بناصيته " فهو دال على هيئة. ولا يلزم نفي
ما سواها. وإن قلنا: الباء للتبعيض ارتفع النزاع " انتهى. ثم قال (رحمه الله) بعدها،
" وهو نص على ما أمليناه وشاهد صدق على ما ادعيناه " انتهى.
أقول: والذي يلوح للفكر القاصر أن مراد صاحب المصباح من سوق هذا
الكلام - حيث إنه شافعي المذهب - الرد على أبي حنيفة فيما ذهب إليه من وجوب
المسح على ربع الرأس مدعيا أنه الناصية، مستندا إلى رواية المغيرة بن شعبة عن النبي
(صلى الله عليه وآله) بأنه مسح على ناصيته، قال: " والناصية تقرب من ربع الرأس " (1)
فقال صاحب الكتاب بعد تفسير الناصية بما فسيرها به غيره من أهل اللغة بقصاص
الشعر: أن تخصيص أهل اللغة كلا من هذه المواضع من أجزاء الرأس باسم على حدة
- ولم يعينوا اسما للمسافة التي من القصاص مما يلي الوجه إلى قمة الرأس - يعطي أن
الناصية في كلامهم اسم لمقدم الرأس الذي هو عبارة عن هذه المسافة، وحينئذ فإما أن
تكون الناصية عبارة عن القصاص كما هو المشهور في كلامهم، أو عن مجموع المقدم كما
هو المستفاد من هذا التقسيم، فالقول بكونها عبارة عن ربع الرأس لا مجال له. ثم اعترض
عليه بأنه كيف يثبت بالاستدلال، إشارة إلى الاستدلال بالرواية المذكورة، وساق الكلام
في الرد على أبي حنيفة وتأويل الحديث الذي استند إليه. هذا ما يفهم من العبارة
المذكورة. وقوله -: " كالصريح في أن الناصية مقدم الرأس " بحمل المقدم على الناصية
دون العكس - يرشد إلى ما ادعيناه، وحينئذ فالعبارة في الدلالة على ما ندعيه أظهر.

(1) في الهداية لشيخ الاسلام الحنفي ج 1 ص 4 " المفروض في مسح الرأس مقدار
الناصية وهو ربع الرأس، لما روى المغيرة بن شعبة: " أن النبي (صلى الله عليه وآله) توضأ ومسح بناصيته
وخفيه، والكتاب مجمل فالتحق بيانا به " وفي التعليقة 6 في الصحيفة 253 ما يتعلق بالمقام.
261

إذا عرفت ذلك فاعلم أن جل الأخبار قد اشتمل على وجوب المسح على الرأس
وجملة منها قد اشتمل على وجوب مسح مقدمه، فيجب حمل مطلقها على مقيدها كما هو
القاعدة المطردة.
بقي في المقام صحيحة زرارة المشتملة على مسح الناصية (1) ويمكن الجمع بينها وبين
أخبار المقدم بوجوه:
(أحدها) - بما تقدم في كلام المحقق المولى الأردبيلي (رحمه الله) من حمل
الناصية على المقدم، مجازا لقرينة القرب والمجاورة، أو حقيقة شرعية. ويؤيده ما صرح
به الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في كتاب مجمع البيان في تفسير قوله سبحانه: "... فيؤخذ
بالنواصي والأقدام " (2) حيث قال: " والناصية شعر مقدم الرأس ".
و (ثانيها) - كون الأمر بالمسح بالناصية لكونها أحد أجزاء الموضع الممسوح
ولا دلالة فيه على الاختصاص ونفي ما سوى هذا الموضع وأنه لا يجزئ المسح عليه، كما
ورد في جملة من الأخبار المسح بإصبع، فإنه لا دلالة فيه على تعيين هذا القدر لا في
الماسح ولا في الممسوح، ويؤيد ذلك ما ورد في الأخبار - كما سيأتي إن شاء الله تعالى -
من أن المرأة لا تمسح بالرأس كما تمسح الرجال، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها
وتضع الخمار عنها، إذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها، فإن ظاهره
- كما ترى - أن مسح رأسها في الصبح بعد وضع الخمار عنها في غير موضع الناصية
أو زيادة عليها، بخلاف باقي الصلوات مع بقاء الخمار عليها فإنها تدخل يدها تحته وتمسح
على الناصية خاصة.
و (ثالثها) - حمل المسح ببلة اليمنى على الدخول في حيز الاجزاء، بعطف
قوله: " وتمسح " باضمار " أن " على قوله: " ثلاث غرفات " كما سيأتي تحقيقه،

(1) المتقدمة في الصحيفة 253
(2) سورة الرحمان. الآية 41
262

فيصير مسح الناصية داخلا تحت الاجزاء الذي هو أقل مراتب الواجب، فيسقط
الاستدلال بها رأسا.
وذيل الكلام في المقام واسع الأطراف إلا أنا اقتصرنا على ما فيه كفاية
للمتأمل بعين الانصاف.
وبما حققناه في المقام وكشفنا عنه نقاب الإبهام، ظهر لك أن ما نقله شيخنا
المشار إليه في رسالته عن الواحد الماجد (نور الله تعالى تربتهما) من الاجماع صحيح
لا غبار عليه، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه وليته كان حيا فأهدى هذا
التحقيق إليه. ويتبين أيضا أن هذا القول ليس مخصوصا بشيخنا الشهيد الثاني في الروضة
أو غيرها من كتبه، وأن الوالد قلده في ذلك فأغرب بدعوى الاجماع على ما هنا لك،
كما بسط به ذلك الفاضل لسان التشنيع وسجل به من القول الفظيع.
(الثاني) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في قدر واجب المسح
من الرأس:
فالمشهور - كما نقله جمع: منهم - السيد السند في المدارك - الاكتفاء بالمسمى،
ولو بجزء من إصبع ممرا له على الممسوح، ولا يجزئ مجرد الوضع، لعدم صدق
المسح بذلك.
ونقل الشهيد في الذكرى عن القطب الراوندي في أحكام القرآن أنه لا يجزئ
أقل من إصبع.
وظاهر المفيد في المقنعة ذلك. قال: " ويجزئ الانسان في مسح رأسه أن
يمسح من مقدمه مقدار إصبع يضعها عليه عرضا من الشعر إلى قصاصه، وإن مسح منه
مقدار ثلاث أصابع مضمومة بالعرض كان قد أسبغ " انتهى. فإن المتبادر من لفظ
الاجزاء أن يراد به أقل الواجب.
263

وهو الظاهر أيضا من كلام الشيخ في التهذيب حيث قال بعد نقل العبارة
المذكورة: " يدل على ذلك قوله تعالى: "... وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم.. " (1)
ومن مسح رأسه ورجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ويسمى ماسحا، ولا يلزم
على ذلك ما دون الإصبع، لأنا لو خلينا والظاهر لقلنا بجواز ذلك لكن السنة
منعت منه " انتهى.
ويظهر من العلامة في المختلف اختيار ذلك أيضا، بل نسبه فيه إلى المشهور ولم
ينقل القول بالمسمى فيه أصلا، حيث قال: " المشهور بين علمائنا الاكتفاء في مسح الرأس
والرجلين بإصبع واحدة " ثم نقله عن الشيخ في أكثر كتبه وابن أبي عقيل وابن الجنيد
وسلار وأبي الصلاح وابن البراج وابن إدريس، ثم نقل جملة من عبائر الأصحاب
المشتملة على المسح بثلاث أصابع.
وبذلك أيضا صرح الشهيد في الدروس حيث قال: " ثم مسح مقدم الرأس بمسماه
ولا يحصل بأقل من إصبع " وقال بعد ذلك: " والزائد عن إصبع من الثلاث مستحب "
وهو ظاهره في البيان، حيث قال: " والواجب مسماه ولو بإصبع " ثم نقل
الثلاث عن النهاية وحمله على الاستحباب.
بل هو ظاهره في الذكرى حيث قال: " الثانية - الواجب في المقدم مسمى
المسح، لاطلاق الأمر بالمسح الكلي، فلا يتقيد بجزئي بعينه. ثم قال: الثالثة -
لا يجزئ أقل من إصبع، قاله الراوندي في أحكام القرآن " ثم عن المختلف أن
المشهور الاكتفاء به، ثم نقل العبارات المتعلقة بالثلاث.
فإن ظاهر هذا الكلام بمعونة صريح الدروس وظاهر البيان هو القول بالمسمى
وحمله على الإصبع، ولا ينافي ذلك نقله له عن الراوندي.
وهو ظاهره أيضا في الرسالة، حيث قال: " الرابع - مسح مقدم الرأس

(1) سورة المائدة. الآية 6
264

حقيقة أو حكما ببقية البلل ولو بإصبع " نظرا إلى جعله الإصبع المرتبة الدنيا
للأجزاء مبالغة.
وشيخنا الشهيد الثاني في شرحها تمحل في صرفها عن ظاهرها، فقال بعد ذكر
العبارة " يعني الاكتفاء بكون الإصبع آلة للمسح بحيث يحصل بها مسماه لا كونه بقدر
الإصبع عرضا " انتهى. بل تمحل ذلك في شرح الإرشاد باجراء هذا التأول في جملة
العبارات المشتملة على التحديد بالإصبع.
وأنت خبير بعدم انطباق هذا التأويل على عبارة الدروس، فإنها صريحة في أن
المراد وجوب مقدار الإصبع. وأصرح منها كلام الشيخ في التهذيب. وتكلفه فيما
عداهما على غاية من البعد.
وقال الصدوق في الفقيه: " وحد مسح الرأس أن تمسح بثلاث أصابع
مضمومة من مقدم الرأس ".
وبه صريح الشيخ في النهاية لكن خصه بحال الاختيار، فقال: " لا يجوز أقل
من ثلاث أصابع مضمومة مع الاختيار، فإن خاف البرد من كشف الرأس أجزأه
مقدار إصبع واحدة ".
ونسب ذلك أيضا إلى المرتضى في مسائل الخلاف، وإلى هذا القول يميل كلام
المحدث الأمين الاسترآبادي، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتاب
الوسائل، حيث قال: " باب أقل ما يجزئ من المسح " (1) ثم أورد روايات الإصبع
وروايات الثلاث أصابع.
ويدل على الأول ظاهر الآية (2) لاطلاق الأمر فيها بالمسح فلا يتقيد بجزئي
بعينه، والباء فيها للتبعيض بدلالة النص الصحيح (3).

(1) وهو الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
(2) سورة المائدة. الآية 6
(3) وهو صحيح زرارة المروي في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء.
265

وقوله (عليه السلام) في صحيحة الأخوين (1): "... وإذا مسحت بشئ من
رأسك أو بشئ من قدميك... ".
وفي صحيحة أخرى لهما أيضا (2) "... فإذا مسح بشئ من رأسه أو بشئ
من رجليه... ".
ويدل على الثاني صحيحة حماد عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليهما السلام) (3)
" في الرجل يتوضأ وعليه العمامة؟ قال: يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه. فيمسح
على مقدم رأسه ".
ورواية الحسين بن عبد الله (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل يمسح رأسه من خلفه - وعليه عمامة - بإصبعه، أيجزيه ذلك؟ فقال: نعم ".
ويدل على القول الثالث صحيحة زرارة (5) قال: " قال أبو جعفر (عليه السلام) المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها خمارها " فإن
لفظ الاجزاء إنما يستعمل في أقل الواجب.
وما رواه الكشي في رجاله عن محمد بن نصير عن محمد بن عيسى عن يونس (6)
قال: " قلت لحريز يوما: يا أبا عبد الله كم يجزيك أن تمسح من شعر رأسك في وضوئك
للصلاة؟ قال: بقدر ثلاث أصابع، وأومأ بالسبابة والوسطى والثالثة، وكان يونس
يذكر عنه فقها كثيرا " وظاهره أن حريز كان يرى المسح بقدر ثلاث.
ورواية معمر بن عمر عن أبي جعفر (عليه السلام) (7) قال: " يجزئ من المسح

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
(6) في الصحيفة 244 وفي مستدرك الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الوضوء.
(7) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
266

على الرأس موضع ثلاث أصابع، وكذلك الرجل ".
ونقل في الذكرى عن ابن الجنيد تخصيص اعتبار الثلاث بالمرأة دون الرجل،
وتخصيص الرجل بالإصبع الواحدة، حيث قال: " يجزئ الرجل في المقدم إصبع والمرأة
ثلاث أصابع " ولعله استند إلى صحيحة زرارة المتقدمة، ولعل من استند إليها مطلقا
بنى على عدم وجود القائل بالفرق ولم يعتبر بخلاف ابن الجنيد، مؤيدا ذلك برواية
معمر بن عمر.
ثم إنه لا يخفى عليك أن أقصى ما يستفاد من أدلة القول الأول وجوب مسح
بعض من الرأس بمقتضى الآية وشئ منه بمقتضى الأخبار، ومن الظاهر المتفق عليه أنه
ليس المراد بعضا ما من الأبعاض ولا شيئا ما من الأشياء، بل بعضا معينا من أبعاض
الرأس وشيئا معينا من أجزائه. فلا بد من الرجوع إلى دليل معين لذلك البعض المراد،
وليس إلا هذه الأخبار الدالة على الإصبع أو الثلاث، فكما أنه بالنسبة إلى تعيين محل
المسح من اطلاق الآية والأخبار المطلقة، أوجبوا الرجوع إلى أخبار المقدم فخصوا
اطلاقها به، ولم يجوزوا المسح على غير المقدم من أجزاء الرأس، فكذلك يجب أن يكون
بالنسبة إلى مقدار المسح، فيجب الرجوع إلى ما دل عليه من الأخبار، وتخصيص الآية
وجملة من الأخبار الموافقة لها في الاطلاق به.
وبالجملة فالروايات في هذه المسألة ما بين مطلق ومقيد أو مجمل ومفصل، والمقيد
يحكم على المطلق والمفصل على المجمل، فالعمل بالمفصل والمقيد متعين ما لم يظهر خلافه.
ورجح السيد السند في المدارك حمل الأخبار المقيدة على الاستحباب كما هو
المشهور، بعد أن احتمل ما ذكرناه من تقييد مطلق أخبار المسألة بمقيدها.
وأنت خبير بما فيه بعد ما ذكرناه، فإنها عند التحقيق غير دالة على ما ذكروه
من المسمى كما عرفت.
267

نعم يبقى الكلام في التوفيق بين روايات الإصبع والثلاث، ويمكن ذلك
بأحد وجوه:
(منها) - حمل روايات الإصبع - حيث إنها قد اتفقت على المسح بها تحت
العمامة - على الضرورة، لما في رواية حماد عن الحسين (1) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): رجل توضأ وهو معتم فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد؟ فقال ليدخل
إصبعه " وهذا هو ظاهر الشيخ في النهاية كما سلف في عبارته.
و (منها) - حمل الإصبع على أقل الواجب والثلاث على الاستحباب، كما
هو ظاهر المقنعة، وصريح الدروس، وظاهر غيره أيضا كما مر.
و (منها) - حمل روايات الثلاث على مسح هذا المقدار في عرض الرأس
والإصبع الواحدة على كونه في الطول، فإن ظاهر روايات الثلاث اعتبار مسح هذا
المقدار لا وجوب كونه بثلاث أصابع، وإن كان ظاهر عبارة الصدوق تعين كونه
بثلاث أصابع، إلا أنه خلاف ظاهر الأخبار، فيجب تأويله ورده إليها.
وأكثر الأصحاب حملوا روايات الإصبع والثلاث على هذا الوجه، لكن
القائلين منهم بالاكتفاء بالمسمى ولو بجزء من إصبع يجعلون ذلك على جهة الاستحباب،
قال شيخنا المحقق الثاني في شرح القواعد: " اعلم أن المراد بمقدار ثلاث أصابع في عرض
الرأس، أما في طوله فمقداره ما يسمى ماسحا، ويتأدى الفضل بمسح المقدار المذكور
ولو بإصبع " انتهى. "
وأما ما احتمله بعض متأخري المتأخرين من جواز أن يكون الأمر بادخال
الإصبع في تلك الأخبار لا يكون آلة للمسح - بناء على ما قدمناه من كلام شيخنا
الشهيد الثاني - فبعيد جدا.
وما ذكره بعض مشايخنا المحققين - من أن استناد الشيخ في وجوب مسح

(1) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
268

مقدار الثلاث إلى صحيحة زرارة ورواية معمر المتقدمتين (1) ضعيف، إذ لا يلزم من
اجزاء قدر عدم اجزاء ما دونه إلا بالمفهوم الضعيف، ولو سلم دلالته عرفا فلا يعارض
ظاهر الكتاب ومنطوق الخبر الصحيح -
ففيه أن الاستدلال بهما ليس باعتبار دلالة مفهوم اللقب الضعيف، وإنما هو باعتبار
الدلالة العرفية المسلمة بينهم في غير موضع كما ذكره هو وغيره، وأما ما ذكره من معارضة
الكتاب والنص الصحيح فليس بشئ بعد ما عرفت، لعدم المعارضة بين المطلق
والمقيد المجمل والمبين، إذ يجب بمقتضى القاعدة المسلمة فيما بينهم في غير موضع حمل
الأول منهما على الثاني.
ثم اعلم أن الروايات بمسح قدر الثلاث والمسح بإصبع ليس في شئ منها تقييد بكونه
في جهة العرض أو الطول. لكن جملة من الأصحاب - كما عرفت - قيدوا روايات
الثلاث بكون ذلك المقدار في جهة العرض كما تقدم في كلام ثاني المحققين، ومثله أيضا
كلام ثاني الشهيدين في شرح الشرائع، حيث قال - بعد قول المصنف: " والمندوب
مقدار ثلاث أصابع عرضا " - ما لفظه: " عرضا حال من الإصبع أو بنزع الخافض،
والمراد مرور الماسح على الرأس بهذا المقدار وإن كان بإصبع لا كون آلة المسح
ثلاث أصابع " انتهى.
والمفهوم من عبارة الشيخ المفيد المتقدمة أن أقل الواجب مقدار إصبع يضعها
عليه عرضا. فإن كان مستنده (رحمه الله) حمل روايات الإصبع على مقدارها عرضا
وإلا فهو خال من المستند مع كون حمل تلك الروايات على ذلك في غاية البعد من حاق لفظها
فإنها ظاهرة الصراحة في كون المسح بالإصبع، فهو في التحقيق خال عن المستند. اللهم إلا
أن تحمل أخبار قدر الثلاث على كونه طولا، وهي تقرب من الواحدة عرضا، وإلى هذا
الحمل مال المحقق المحدث الاسترآبادي (قدس سره) حيث قال - بعد نقل كلام ثاني

(1) في الصحيفة 266
269

المحققين وثاني الشهيدين المتقدم الدال على حمل روايات قدر الثلاث على كونه في جهة
العرض - ما هذا لفظه: " الظاهر من الروايات أن يكون الممسوح من عرض الرأس
بقدر طول إصبع ومن طوله بقدر ثلاث أصابع مضمومة. ومن الروايات المشار إليها
صحيحة زرارة (1) المشتملة على قوله (عليه السلام): " وتمسح ببلة يمناك ناصيتك "
لأن المتبادر منها مسح كلها، وصحيحته الأخرى (2) قال: " قال أبو جعفر (عليه
السلام): المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى
عنها خمارها " ورواية معمر عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) قال: يجزئ من المسح
على الرأس موضع ثلاث أصابع، وكذلك الرجل " والناصية في غالب الناس عرضها قدر
طول إصبع وطولها قدر ثلاث أصابع مضمومة " انتهى.
وقال صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل بعد كلام في المقام: " والحاصل
إنا لم نظفر بما تضمن المسح بالثلاث، بل المسح بالإصبع، أو مسح موضع الثلاث
ومقدارها، من غير تقييد المسح بكونه في طول الرأس أو عرضه، ولا لموضع الثلاث
بكونه مأخوذا من أحدهما أو كليهما حالة وضع الثلاث على الرأس، منطبقا كل من خطيها
الطولي والعرضي على مثله من خطيه أو على مقابله، فالأعراض عنه - من باب " اسكتوا
عما سكت الله عنه (4) " أولى " انتهى.
وفيه أن الظاهر من الأخبار - بعد ضم بعضها إلى بعض - هو ما ذكره المحدث
الأمين (قدس سره).
(الثالث) - المفهوم من كلام القائلين بالمسمى أو الإصبع أن غاية ما يستحب
الزيادة على بلوغ قدر ثلاث أصابع مضمومة، وأما ما زاد على ذلك المقدار، فهل يكون

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 و 31 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
(4) تقدم الكلام فيه في الصحيفة 156 من الجزء الأول
270

محرما أو جائزا، أو يفرق فيه بين استيعاب الرأس وعدمه؟ أقوال:
قال شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة: " وغاية المؤكد ثلاث أصابع،
ويجوز الزيادة عليها ما لم يستوعب جميع الرأس، فيكره على الأصح، إلا أن يعتقد
شرعيته فيأثم خاصة. وقيل يبطل المصح. وقد أغرب الشارح المحقق (رحمة الله) حيث
جعل الزائد على الثلاث أصابع غير مشروع " انتهى.
وممن صرح بكراهة الاستيعاب الشهيد في الذكرى والدروس، معللا له في
الذكرى بأنه تكلف ما لا يحتاج إليه. وفيه ضعف.
ونقل عن ابن حمزة تحريمه. لأنه مخالف للمشروع. وظاهره عدم الفرق بين
اعتقاد المشروعية وعدمه.
وفي الخلاف ادعى الاجماع على بدعيته فيجب نفيه.
وابن الجنيد حرمه مع اعتقاد المشروعية، وأبطل به الوضوء. ورده جملة من
المحققين باشتمال مسح الرأس على الواجب فلا يؤثر الاعتقاد في الزائد. نعم يأثم بذلك.
وأبو الصلاح أبطل الوضوء لو تدين بالزيادة في الغسل أو المسح. ورد بما
رد به سابقه.
أقول: والذي يقرب عندي أنه متى مسح أو غسل ما زاد على القدر الموظف
شرعا، فإن كان مع عدم اعتقاد المشروعية فالظاهر أنه لا تحريم ولا كراهة، لعدم
الدليل على ذلك، وإن كان مع اعتقاد المشروعية فالظاهر بطلان الوضوء لوجوه:
(أما أولا) - فلأن العبادات تابعة للقصود والنيات صحة وابطالا، بل
وجودا وعدما كما تقدم تحقيقه، ومجرد حصول المأمور به شرعا - مع عدم كونه مقصودا
بخصوصه كما أمر به الشارع - لا يعتد به لأنه في الحقيقة واقع بغير نية، وإلا لصحت
صلاة من أتم عالما عامدا في السفر بناء على استحباب التسليم، فإنها قد اشتملت
على الواجب قطعا، مع أن الاجماع نصا وفتوى على خلافه. وأولى منه صحة صلاة التمام
271

في مواضع التخيير ثم أحدث عمدا أو قطع الصلاة بأحد القواطع في أثناء الركعتين
الأخيرتين، بناء على استحباب التسليم، وعدم قصد العدول إلى المقصورة، فإنه لا يجب
عليه الإعادة، لاشتمال صلاته هذه على الصلاة المقصورة التي هي أحد الفردين في هذا المقام
و (أما ثانيا) - فلأنه تشريع وادخال في العبادة ما ليس منها فيكون مبطلا.
و (أما ثالثا) - فلأن جملة من المحققين صرحوا في مسألة الفرق بين الغسل
والمسح بأن النسبة بينهما العموم من وجه وجوزوا المسح بما اشتمل على الجريان بشرط
قصد المسح به، وهو دال - كما هو الواقع - على أن القصد مما له مدخل في الصحة
وإلا بطل، وإلا فلو أجري المكلف الماء بيده على رجله كلها ورأسه كملا مع اعتقاده
الغسل به، لزم صحة وضوئه، لاشتماله على المسح شرعا بناء على ذلك القول وإن كان
غير مقصود له، وعدم الضرر باعتقاده كون ذلك غسلا، وزيادته على ما هو الواجب
واقعا. والآية والنصوص ترده.
و (أما رابعا) - فلأنهم صرحوا - إلا الشاذ منهم - بتحريم الغسلة الثالثة
في الوضوء. وأما الابطال بها فهو مذهب أبي الصلاح وظاهر الكليني والصدوق، وهو أحد
الأقوال في المسألة، وهو أظهرها دليلا:
لقول الصادق (عليه السلام) في حديث داود الرقي المروي في كتاب رجال
الكشي (1) "... ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له ".
وقوله (عليه السلام) في الحديث المذكور (2) لداود بن زربي: " توضأ مثنى
مثنى ولا تزدن عليه، فإنك إن زدت عليه، فلا صلاة لك ".
وما رواه في الفقيه (3) مرسلا في باب صفة وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: " قال (عليه السلام): من تعدى في وضوئه كان كناقضه " وسيأتي تحقيق
ذلك في محله.

(1) في الصحيفة 200 والوسائل في الباب - 32 - من أبواب الوضوء.
(2) في الصحيفة 200 والوسائل في الباب - 32 - من أبواب الوضوء.
(3) ج 1 ص 25. وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
272

(الرابع) - المفهوم من ظاهر كلام الصدوق في الفقيه، والشيخين في المقنعة
والمبسوط والنهاية، أنه يجب على المرأة وضع القناع في الصبح والمغرب لأجل المسح.
وصرح في المقنعة بأنها تمسح هنا بثلاث أصابع من رأسها حتى تكون مسبغة،
وأنه يرخص لها في باقي الصلوات المسح تحت الخمار، بأن تكتفي بادخال إصبع تحت
خمارها، قال في المقنعة: " وتدخل إصبعها تحت قناعها فتمسح على شعرها ولو كان
ذلك مقدار أنملة ".
وصرح المحقق والعلامة وجملة من المحققين باستحباب وضع الخمار مطلقا،
وتأكده في صلاة الغداة والمغرب.
وبعضهم اقتصر على الغداة خاصة، لعدم وقوفه على نص يتضمن إضافة المغرب
إليها في ذلك.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة رواية الحسين بن زيد بن علي
ابن الحسين (عليهما السلام) عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " لا تمسح
المرأة بالرأس كما يمسح الرجال، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها،
فإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها ".
وما رواه الصدوق في الخصال (2) بسنده فيه عن جابر الجعفي عن أبي جعفر
(عليه السلام) قال: " المرأة لا تمسح كما يمسح الرجال، بل عليها أن تلقي الخمار عن موضع
مسح رأسها في صلاة الغداة والمغرب وتمسح عليه، وفي سائر الصلوات تدخل إصبعها
فتمسح على رأسها من غير أن تلقي عنها خمارها ".
وطعن بعض متأخري المتأخرين بعد ذكر الرواية الأولى فيها بضعف السند والدلالة.
وفيه أن ضعف سندها باصطلاح متأخري أصحابنا لا يقوم حجة على من لم يقل

(1) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء.
(2) ج 2 ص 142 وفي مستدرك الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الوضوء.
273

بذلك الاصطلاح سيما المتقدمين. والأولى من الروايتين دالة على وجوب وضع الخمار
بالجملة الخبرية الظاهرة في الوجوب كالأمر، وإن كان جملة من متأخري متأخرينا يمنعونه
في الأمر فضلا عنها. والرواية الثانية دالة على ذلك بقوله: " عليها أن تلقي " الدال
بظاهره على وجوب الالقاء وتحتمه.
والرواية الثانية قد تضمنت إضافة المغرب إلى الصبح في وضع الخمار. فما اعترض
به جملة من متأخري المتأخرين على المشايخ المتقدمين في إضافة المغرب في عبائرهم ناشئ
عن قصور التتبع. وكم وقع لهم مثله في غير موضع.
ثم إن ظاهر هذه الرخصة للمرأة في المسح تحت القناع - بادخال الإصبع ومسح
ما نالته من رأسها ولو بقدر الأنملة. كما في كلام الشيخ المفيد، وأنها ليست كالرجال
في ذلك - اختصاص هذا الحكم بها في ذلك الوقت المخصوص، وعدم اجزائه لها في غيره
وعدم اجزائه للرجال أيضا، وهو مما يبطل القول بالمسمى كما هو المشهور، ويؤيد ما ذهب
إليه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مضاجعهم) من وجوب المقدار الذي تقدم تحقيقه
في هذا البحث. لكن قد تقدم في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) أنه قال: " المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها
خمارها " وهو مناف لما دلت عليه هاتان الروايتان، من تخصيص المسح بقدر ثلاث
أصابع ببعض الصلوات والأوقات، ومن وجوب القاء الخمار أو استحبابه في موضع المسح
لأن ظاهر قوله: " ولا تلقى عنها خمارها " إما نهي على بعض اللغات، أو خبر في معنى
النهي. ويمكن الجواب عن الأول بأن اطلاقها مخصوص بذينك الخبرين. وعن الثاني
بأن قوله: " ولا تلقى " بالنصب عطف على " تمسح " وحاصل المعنى حينئذ أنه يجزيها
المسح بمقدار ثلاث أصابع، وعدم القاء الخمار في ذلك الوقت الذي يجب أو يستحب فيه
الالقاء، وهو رخصة لها، إذا الظاهر أن حكمة القاء الخمار في موضع الأمر في تلك

(1) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
274

الأخبار إنما هو لأجل الاستظهار في المسح بذلك المقدار، فهي مكلفة في ذلك الوقت
بشيئين: المسح بقدر الثلاث، والالقاء، وهذه الرواية دلت على اجزاء أحدهما، وهو
الأهم والمقصود بالذات الذي هو المسح بالثلاث دون الالقاء. ويمكن أن يستنبط منه
بمعونة ما ذكرنا أن ما يستحب أو يجب مسحه من موضع المسح ثلاث أصابع ليس في
عرض الرأس عرض الأصابع، لعدم توقف ذلك على القاء الخمار.
(الخامس) - لا ريب أنه إذا اقتصر المكلف على الفرد إلا نقص من المسح
فقد تأدى الواجب به، ولو أتى بالفرد الأكمل فقد صرحوا بأن ما زاد منه
على القدر المجزئ مستحب عينا اتفاقا، لكن هل يوصف مع ذلك بالوجوب
أم لا؟ قولان:
اختار أولهما المحقق الشيخ علي في شرح القواعد، قال: " ولا يضر ترك
الزائد، لأن الواجب هو الكلي، أفراده مختلفة بالشدة والضعف، فأي فرد أتى به
تحقق الامتثال به، لأن الواجب يتحقق به " انتهى.
واختار ثانيهما العلامة، نظرا إلى أنه يجوز تركه لا إلى بدل ولا شئ من الواجب
كذلك، فلا شئ من الزائد واجب. وبأن الكلي قد وجد فخرج به المكلف عن العهدة
ولم يبق شئ مطلوب منه حتى يوصف بالوجوب.
وفيه أن جواز تركه هنا إنما هو إلى بدل، وهو الفرد الناقص الذي أتى به
في ضمن هذا المسح، وحينئذ ليكون من قبيل أفراد الواجبات الكلية كأفراد الواجب
المخير، بمعنى أن مقولية الواجب هنا على هذا الفرد الزائد والناقص كمقولية الكلي
على أفراده المختلفة قوة وضعفا، وحصول البراءة بالفرد الناقص لا من حيث هو جزء
الزائد، بل من حيث إنه أحد أفراد الكلي وإن كان ناقصا.
هذا كله مع وقوع المسح دفعة واحدة، أما إذا وقع تدريجا فقد صرح الشهيدان
في الذكرى والروض بأن الزائد مستحب قطعا، قال في الروض بعد نقل كلام
275

الذكرى المتضمن للتفصيل بين الدفعة والتدريج: " وهذا التفصيل حسن، لأنه مع
التدريج يتأدى الواجب بمسح جزء فيحتاج ايجاب الباقي إلى دليل، والأصل يقتضي عدم
الوجوب، بخلاف ما لو مسحه دفعة، إذ لم يتحقق فعل الفرد الواجب إلا بالجميع " انتهى
والسيد السند في المدارك جعل مطرح خلاف في المسألة هو المسح تدريجا.
ولا يخفى - على المتأمل بعين التحقيق والناظر بالفكر الصائب الدقيق - أن كلام
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة ونظائرها على غاية من الاجمال.
وتحقيق المقام - بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم السلام) - أن
يقال: لا ريب أن منشأ التخيير في هذا المقام هو اطلاق الأمر بالمسح الصادق بجزء
من إصبع - مثلا - إلى بلوغ قدر ثلاث أصابع مضمومة التي هي أعلى المراتب، فالواجب
الكلي هو المسح المطلق وأفراده هي كل مسحة قصدها المكلف وأوقعها، قليلة كانت
أو كثيرة، فكل فرد منها أتى به تأدى به الواجب، وكل فرد ناقص منها فهو مفضول
بالنسبة إلى ما هو أزيد منه، وكل واحد من الأفراد المشتملة على الزيادة يوصف في حد
ذاته بالوجوب لكونه أحد أفراد الواجب الكلي، وبالاستحباب لكونه أكمل مما
دونه، وهذا معنى قولهم في الفرد الأكمل من أفراد الواجب التخييري: أنه مستحب ذاتي
واجب تخييري، وحينئذ فمتى مسح المكلف القدر الأكمل دفعة أو تدريجا، بمعنى أنه
قطع على جزء في أثناء مسحه ثم تجاوزه، فإن كان قصده ونيته الامتثال بذلك القدر
الأكمل، فمن الظاهر أن الزائد على القدر المجزئ - وهو المسمى، أو القدر الذي قطع عليه
أولا - واجب. إذ الواجب هو مجموع ما قصده، وما أتى به من القدر المجزئ ضمن
هذا المسح أو قطع عليه لا يخرج به عن العهدة، لعدم قصد الامتثال به خاصة
بل به وما زاد، إلا أن يعدل إلى قصده، ولو أجزأ من غير قصد يتعلق به للزوم اجزاء
عبادة من غير نية، وقد عرفت غير مرة أن الأفعال عبادة وغيرها لا تميز لها وجودا
وعدما - ولا أثر يترتب عليها صحة وبطلانا وثوابا وعقابا - إلا بالمقصود والنيات،
276

فكما أن الركعتين في صورة التخيير غير مجزئة ما دام القصد متعلقا بالاتمام فيجب ضم
الأخيرتين، كذلك هنا لا يجزئ ذلك القدر الأقل لما لم يقصد الامتثال به. وإن كان
قصده الامتثال بالقدر الذي قطع عليه في صورة التدريج أو أقل ما يحصل به المسمى،
فالظاهر أن الزائد عليه لا يتصف بوجوب ولا باستحباب، أما عدم الوجوب فلأن
الواجب الكلي قد حصل في زمن هذا الفرد الذي تعلق به القصد، وأما عدم الاستحباب
فلعدم الدليل عليه، ولأن الاستحباب الملحوظ في هذا المقام إنما هو باعتبار أفضلية أحد
أفراد الواجب التخييري على غيره من سائر الأفراد، وهو غير حاصل هنا. وأيضا فهو
ملازم لوصف الوجوب كما عرفت، فبانتفاء الوجوب عنه ينتفي الاستحباب، ولا دليل
على الاستحباب بغير هذا المعنى، بل الظاهر دخوله حينئذ في التكرار المنهي عنه في المسح
نعم لو أريد بالزائد في كلامهم يعني فردا أكمل من هذا الفرد الذي تعلق به قصد المكلف
لا بمعنى الباقي الذي هو ظاهر مطرح الكلام، فإنه يتصف بالوجوب والاستحباب
في حد ذاته كما قدمنا بيانه، فإن اختيار المكلف فردا ناقصا من أفراد الواجب التخييري
لا ينفي وصف الوجوب والاستحباب عن الفرد الأكمل منها في حد ذاته. وأما أن الباقي
من المسافة الممسوحة بعد قصد الامتثال بجزء منها خاصة يتصف مسحه بالاستحباب
ويترتب ثواب المستحب عليه كما هو أحد القولين، أو الوجوب كما هو القول الآخر
كما هو ظاهر كلامهم، فلا أعرف له وجها. فإنه كما أن المكلف لو قصد الصلاة المقصورة
في موضع التخيير ثم صلى والحال كذلك أربعا. فإن الركعتين الأخيرتين إن لم تكن
مبطلة للصلاة لا أقل أن تكون باطلة، ولا يصح وصفها بالاستحباب فضلا عن الوجوب
وقاصد التسبيح بأربع تسبيحات في الركعتين الأخيرتين ثم تجاوزها إلى بعض الصور الزائدة
من غير عدول إليها. فإنه لا يتصف بالاستحباب من حيث التوظيف في هذا المقام وإن
احتمل الاستحباب من حيث كونه ذكرا. فكذلك فيما نحن فيه، على أنه يلزم هنا خلو
ذلك الزائد من النية والقصد، فكيف يتصف بوجوب أو استحباب مع كونه خاليا
277

من النية والقصد بالكلية؟ فإن المكلف إنما قصد أداء الواجب بذلك الجزء الذي ذكرناه
وبالجملة فالاستحباب الذاتي اللازم للوجوب التخييري في هذا المقام إنما يتعلق
بمجموع الصورة الكاملة لا بهذا الجزء الزائد، وكلام الأصحاب في جميع صور هذه
المسألة في غاية الاجمال كما ذكرنا، وذلك فإنهم في جميع صور هذه المسألة يجعلون محل
الخلاف ما زاد على الفرد الناقص بعد تأدى الواجب بذلك الفرد الناقص، وأنه هل
يتصف بالوجوب أو الاستحباب؟ وهو ظاهر في كون المراد به ما بين الفرد الذي قصده
وتأدى به الواجب إلى نهاية ما اقتصر عليه من الفرد الكامل، ثم إنهم في مقام
الاستدلال على وجوبه ودفع القول بالاستحباب يقولون إنه أحد أفراد الواجب الكلي
وأنها قابلة للشدة والضعف، فهذا الزائد مستحب لكونه أكمل الأفراد، وهو واجب
لكونه أحد أفراد الواجب الكلي. وجواز تركه إنما جاز إلى بدل وهو الفرد الأنقص
وأنت خبير بأن هذه التعليلات إنما تنطبق على نفس الفرد الأكمل لا على ذلك البعض
الذي عرفته. وأيضا فإنهم - على تقدير القول بالوجوب في ذلك الزائد الذي جعلوه مطرح
النزاع - أوردوا اشكالا في أنه يلزم اتصاف شئ واحد بالوجوب والاستحباب. ثم أجابوا
عنه بأن اطلاق الاستحباب على الفرد الزائد محمول على استحبابه عينا، بمعنى أنه أفضل
الفردين الواجبين، وذلك لا ينافي وجوبه تخييرا من جهة تأدى الواجب به وحصول
الامتثال، كذا قرره في الروض في مسألة التسبيح في الأخيرتين. وهذا الجواب
- كما ترى - لا ينطبق إلا على نفس الفرد الأكمل، كما هو صريح العبارة حيث أطلق
عليه الفرد الزائد، لا على نفس الزيادة خاصة كما هو مورد الاشكال. وربما كان مبنى
كلام القوم على اعتبار الأمر الكلي من حيث هو من غير ملاحظة شئ من الخصوصيتين
فيكون من قبيل الماهية لا بشرط شئ، فإنه يتجه حينئذ صدق أداء الواجب بالمسمى
ويصح وصف الزائد - من حيث كونه جزء من هذا المجموع - بكل من وصفي الوجوب
والاستحباب، لاتصاف المجموع بهما حسبما قررنا آنفا، لكن يبقى الاشكال في صورة
278

القطع، لصدق أداء الواجب بما قطع عليه وانتفاء المجموعية الموجبة للوصف بالوجوب
والاستحباب للزائد. والاستحباب بغير المعنى المذكور آنفا لا مجال له في هذا المقام.
والله العالم.
(السادس) - الظاهر - كما هو المشهور - جواز النكس هنا، لاطلاق الآية
وخصوص صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " لا بأس
بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا ".
خلافا للمرتضى والشيخ في النهاية والخلاف وظاهر ابن بابويه، محتجا عليه
في الخلاف - ومثله في الإنتصار - بأن مسح الرأس من غير استقبال رافع للحدث اجماعا
بخلاف مسح الرأس مستقبلا، فيجب فعل المتيقن. ونقل أيضا عن الشيخ في كتابي
الأخبار ذلك، نظرا إلى تخصيص الصحيحة المشار إليها بفحوى قول أبي الحسن (عليه
السلام) في رواية يونس: " (2) الأمر في مسح الرجلين موسع... " ولا يخفى ما في هذه
الأدلة من الوهن.
والعجب من السيد (رحمه الله) في تجويزه النكس في الوجه واليدين لاطلاق
الآية، ومنعه هنا، مع جريان دليله فيه، واعتضاده بالرواية.
وذكر جماعة من الأصحاب كراهية النكس هنا، وعلله في المعتبر بالتفصي
من الخلاف.
ورد بأن المقتضي للكراهة ينبغي أن يكون دليل المخالف لا نفس الخلاف
وهو كذلك.
(السابع) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم)
في وجوب المسح بنداوة الوضوء ما وجد بللها في اليد، والمشهور أنه مع جفاف اليد
يأخذ من شعر لحيته أو حاجبيه، ومع جفاف الجميع، فإن كان لضرورة افراط الحر

(1) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الوضوء.
279

أو قلة الماء جاز الاستئناف وإلا أعاد الوضوء.
وظاهر الشيخ في خلاف - حيث نسب وجوب المسح بنداوة الوضوء إلى
الأكثر - وجود المخالف في المسألة، ولعله ابن الجنيد على ما نقله عنه العلامة
في المختلف، فإنه قال: " إذا كان بيد المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه، مسح
بيمينه رأسه ورجله اليمنى وبنداوة اليسرى رجله اليسرى، وإن لم يستبق ذلك أخذ
ماء جديدا لرأسه ورجليه " وهو باطلاقه شامل لما لو كان عدم الاستبقاء لعدم إمكانه
أو لتفريط من المكلف، ولما لو فقد النداوة من الوجه وعدمه (1) وبذلك يظهر لك
ما في كلام بعض الأصحاب، حيث خص خلافه بجفاف جميع الأعضاء وقال: إن لفظ
اليد في كلامه إنما هو على سبيل التمثيل، فيكون موافقا للمشهور ويرتفع الخلاف. فإنه
على غاية من البعد عن سوق العبارة المذكورة.
ومما يدل على المشهور روايات الوضوء البياني، فإنها قد اشتملت جميعا على المسح
بالبلة. وما ذكره جملة من متأخري المتأخرين - من المناقشة فيها مما تقدم ذكره في وجوب
الابتداء بأعلى الوجه والابتداء بالمرفقين - فقد مر ما فيه مما يكشف عن ضعف باطنه
وخافيه، سيما حسنة الأخوين (2) المتضمنة أنه " مسح رأسه وقدميه ببلل كفه لم يحدث
لهما ماء جديدا " وصحيحة زرارة (3) "... ثم مسح بما يقي في يديه رأسه ورجليه ولم
يعدهما في الإناء).
ويدل عليه أيضا الأخبار المستفيضة بأنه من ذكر أنه لم يمسح حتى انصرفت

(1) الذي يظهر من كلام جملة من أصحابنا أن خلاف ابن الجنيد في هذه المسألة شامل
لما لو كان في يد المتوضئ بلة من ماء الوضوء، فإنه يجوز الاستئناف أيضا. وعبارة
ابن الجنيد المنقولة - كما ترى - بخلافه، فإنه جوز الاستئناف مع فقد البلة وإن كان
بتفريط (منه قدس سره)
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
280

من وضوئه يأخذ من بلل وجهه، وفي بعضها أنه مع تعذر البلل في وجهه يعيد وضوءه.
فمن ذلك رواية مالك بن أعين عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " من نسي
مسح رأسه ثم ذكر أنه لم يمسح رأسه، فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه،
وإن لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد الوضوء ".
ورواية خلف بن حماد عمن أخبره عنه (عليه السلام) (2) قال: " قلت له
الرجل ينسى مسح رأسه وهو في الصلاة؟ قال: إن كان في لحيته بلل فليمسح به.
قلت: فإن لم يكن له لحية؟ قال: يمسح من حاجبيه أو من أشفار عينيه ".
وما رواه ابن بابويه في الفقيه (3) عن أبي بصير عنه (عليه السلام) " في رجل
نسي مسح رأسه؟ قال: فليمسح. قال: لم يذكره حتى دخل في الصلاة؟ قال فليمسح
رأسه من بلل لحيته ".
وروى فيه (4) أيضا مرسلا عنه (عليه السلام) قال: " إن نسيت مسح
رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلة وضوئك، فإن لم يكن بقي في يدك من نداوة
وضوئك شئ فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح به رأسك ورجليك، وإن لم يكن لك لحية
فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به رأسك ورجليك، وإن لم يبق من بلة وضوئك
شئ أعدت الوضوء " ومثلها رواية زرارة (5).
وهذه الروايات وإن اشتركت في ضعف السند بناء على هذا الاصطلاح المحدث
بين متأخري أصحابنا، إلا أنها معتضدة بالشهرة بينهم، وهي من المرجحات عندهم،
مع أن فيها ما هو من مرويات الفقيه المضمون صحة ما تضمنه من مصنفه، كما اعتمدوا
عليها لذلك في غير موضع من كلامهم، بل ورد مثل ذلك في حسنة الحلبي عن أبي عبد الله

(1) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء.
(3) ج 1 ص 36. وفي الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء
(4) ج 1 ص 36. وفي الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء
(5) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء.
281

(عليه السلام) (1) قال: " إذا ذكرت وأنت في صلاتك أنك قد تركت شيئا من
وضوئك المفروض عليك، فانصرف وأتم الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك،
ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح
به مقدم رأسك ".
ومورد الأسئلة في هذه الأخبار وإن كان النسيان، إلا أنه لا قائل بالفرق، مع أن خصوص السؤال لا يخصص
الجواب كما هو مقرر عندهم.
وكيف كان فلا يخفى على المتأمل المنصف أنه إذا كان جملة الأخبار البيانية الواردة
في مقام التعليم على تعددها إنما اشتملت على المسح بالبلة، وأخبار النسيان كذلك وزيادة
أنه مع فقدها يعيد الوضوء فكيف، يبقى مع هذا قوة للتمسك باطلاق الآية؟ على أنه
لو ورد خبر بلفظ الأمر بالمسح بالبلة أو بلفظ النهي عن التجديد، لسارعوا إلى حمله
على الاستحباب والكراهة، محتجين بعدم الجزم بدلالة الأمر على الوجوب والنهي
على التحريم، لشيوعهما في خلاف ذلك، وهو اجتهاد محض وتخريج صرف.
والعجب من جملة من مشايخنا المحققين وعلمائنا المدققين من متأخري المتأخرين،
حيث إنهم جعلوا مذهب ابن الجنيد بمجرد دلالة اطلاق الآية عليه في غاية القوة والجزالة
وأخذوا في المناقشات فيما ذكرنا من الروايات، وارتكاب جادة التأويلات البعيدة
والتمحلات الغير السديدة، مما لا يصح النظر إليه ولا العروج عليه، فبعض منهم إنما اعتمد
على انعقاد الاجماع بعد ابن الجنيد، وبعض منهم بعد الاستشكال إنما التجأ إلى الاحتياط.
على أنه لو تم ابطال الاستدلال بمجرد الاحتمال في المقام. لا نسد هذا الباب في جملة الأحكام،
إذ لا دليل إلا وهو قابل للاحتمال، ولا قول إلا وللقائل فيه مجال. هذا.
ومما استدل به على المشهور أيضا قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة (2):

(1) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 و 31 - من أبواب الوضوء.
282

"... فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة
يمناك ناصيتك، وما بقي من بلة يمناك تمسح به ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسراك
ظهر قدمك اليسرى " فإن الجملة الخبرية بمعنى الأمر الذي هو حقيقة في الوجوب.
ورد بأنه يجوز أن يكون قوله (عليه السلام): و " تمسح " معطوفا على قوله:
" ثلاث غرفات " بتقدير " أن " فيكون داخلا في حيز الاجزاء لا جملة مستقلة
مرادا بها الأمر.
وقد يناقش في ذلك بأن المرتضى قد نقل في كتاب (الغرر والدرر) عن ابن
الأنباري أنه يشترط في اضمار " أن " كذلك كون المعطوف عليه مصدرا لا اسما جامدا
والجواب أن المعطوف عليه في الحقيقة مصدر للمرات، مع إمكان المناقشة فيما
ذكره ابن الأنباري، لعدم الدليل عليه.
واستدل في المختلف لابن الجنيد بموثقة أبي بصير (1) قال، " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن مسح الرأس، قلت: أمسح بما في يدي من الندى رأسي؟ قال:
لا بل تضع يدك في الماء ثم تمسح ".
وصحيحة معمر بن خلاد قال (2): " سألت أبا الحسن (عليه السلام) أيجزئ
الرجل أن يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال برأسه؟: لا. فقلت أبماء جديد؟ فقال
برأسه: نعم ".
أقول: ومثلهما أيضا رواية أبي عمارة الحارثي (3) قال: " سألت جعفر بن محمد
(عليهما السلام) أمسح رأسي ببلل يدي؟ قال: خذ لرأسك ماء جديدا ".
وأنت خبير بأن مدلول هذه الروايات هو وجوب الاستئناف مع وجود البلة،
وهذا لا ينطبق على مذهب ابن الجنيد، لتخصيصه ذلك بفقد البلة من اليد كما عرفت
من عبارته.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء
283

وكيف كان فهذه الأخبار محمولة على التقية (1) كما صرح به جملة من أصحابنا.
واستشكل السيد في المدارك هذا الحمل في صحيحة معمر بأنها لا تنطبق عليه،
لأنها متضمنة لمسح الرجلين وهم لا يقولون به.
ثم أجاب بأنهم يعترفون بصحة اطلاق اسم المسح على الغسل بزعمهم الفاسد،
وهو كاف في تأدى التقية.
واعترض هذا الجواب شيخنا البهائي (قدس سره) في الحبل المتين بأن ما تضمنه
الحديث من المسح بفضل الرأس يأبى عنه هذا التنزيل، ثم قال (قدس سره): " فلو
نزل على مسح الخفين كان أولى " ثم رجح (قدس سره) أن ايماءه (عليه السلام)
برأسه نهي لمعمر عن السؤال لئلا يسمعه المخالفون، فظن معمر أنه (عليه السلام) إنما
نهاه عن المسح ببقية البلل، فقال: " أبماء جديد؟ " فسمعه الحاضرون، فقال
(عليه السلام): " نعم ".
أقول: ويمكن الجواب - عما اعترض به من إباء المسح بفضل الرأس هذا

(1) في المغني لابن قدامة ج 1 ص 130 " ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فصل عن
ذراعيه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قاله الترمذي،
وجوزه الحسن وعروة والأوزاعي، ثم قال: ولنا ما روى عبد الله بن زيد قال: " مسح
النبي (صلى الله عليه وآله) رأسه بماء غير فضل يديه " ولأن البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزئ
المسح به كما لو فصله في إناء ثم استعمله " وفي بداية المجتهد لابن رشد ج 1 ص 11 " أكثر
العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء " وفي جامع الترمذي ج 1
ص 53 من شرحه لابن العربي بعد أن ذكر رواية عبد الله بن زيد وغيره أن النبي (صلى الله عليه وآله)
أخذ لرأسه ماء جديدا قال: " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا أن يأخذ لرأسه ماء
جديدا " وفي أحكام القرآن للشافعي ج 1 ص 50 " أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكل عضو ماء
جديدا " وقال في الأم ج 1 ص 22: " والاختيار له أن يأخذ الماء بيديه فيمسح بهما رأسه
معا: يبدأ بمقدم رأسه إلى قفاه ويردهما إلى المكان الذي بدا منه ".
284

التنزيل - بأنه من المحتمل أنه بعد أن سأله عن المسح بفضل رأسه فقال: " لا " سأله
ثانيا أيمسح بماء جديد؟ كناية عن الغسل وأنه يقدر الغسل دون المسح، بمعنى " أيغسل
بماء جديد؟ فأجازه (عليه السلام) تقية.
هذا. والظاهر أنه لا ورود لأصل الاشكال فلا يحتاج إلى ما تمحله كل من هذين
العلمين من الاحتمال، وذلك فإن المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى نقلا القول بجواز
المسح عن الحسن البصري وأن جرير الطبري وأبي علي الجبائي، وتعين المسح فقط
عن الشعبي وأبي العالية وعكرمة وأنس بن مالك ونقله الشيخ في الإستبصار عن بعض
الفقهاء من غير تعيين. ونقل والدي (قدس سره) في بعض حواشيه الجواز أيضا
عن أحمد والأوزاعي الثوري، وأن الانسان عندهم مخير بين الغسل والمسح، وحينئذ
فيتم الحمل على التقية من غير اشكال، وعلى تقديره فالمراد مسح الرجل كلها بطنا
وظهرا كما هو المنقول عنهم.
ومما يمكن أن يستدل به لابن الجنيد حسنة منصور (1) قال، " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عمن نسي أن يمسح رأسه حتى قال في الصلاة قال: ينصرف ويمسح رأسه ورجليه "
ورواية الكناني (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل توضأ فنسي
أن يمسح على رأسه حتى قام في الصلاة؟ قال: فلينصرف فليمسح على رأسه وليعد الصلاة ".
ورواية أبي بصير عنه (عليه السلام) (3) " في رجل نسي أن يمسح رأسه فذكر
وهو في الصلاة؟ فقال: إن كان استيقن ذلك أنصرف فمسح على رأسه وعلى رجليه
واستقبل الصلاة، وإن شك فلم يدر مسح أو لم يمسح فليتناول من لحيته إن كانت
مبتلة وليمسح على رأسه، وإن كان أمامه ماء فليتناول منه فليمسح به رأسه ".

(1) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 42 - من أبواب الوضوء.
285

وهذه الأخبار قد اشتركت بحسب ظاهرها في الدلالة على الأمر بالاستئناف
متى ذكر نسيان المسح في صلاته
والجواب عنها (أولا) - أنها أخص من المدعى فلا تنهض حجة.
و (ثانيا) - أنه يحتمل حمل الأمر بالمسح بعد الانصراف - بمعنى قطع
الصلاة - على المسح من بلة شعره بناء على أن ثمة بلة حسبما تضمنته الروايات المتقدمة،
وهذا الاحتمال في رواية أبي بصير أقرب منه في غيرها. وأما الأمر بالمسح فيها من بلل
لحيته مع الشك فمحمول على الاستحباب استظهارا. وأما الأمر بتناول الماء إن كان
أمامه في صورة الشك فلعله مخصوص بهذه الصورة.
و (ثالثا) - بحمل قوله (عليه السلام): " يمسح رأسه ورجليه " على أنه
كناية عن إعادة الوضوء بسبب فوات الموالاة، فإن التعبير بمثله مجاز شائع في الأخبار،
ومنه ما تقدم في حسنة الحلبي (1) حيث قال: " إذا ذكرت وأنت في صلاتك أنك قد
تركت شيئا من وضوئك المفروض، فانصرف وأتم الذي نسيته... " فإنه لا يستقيم على
اطلاقه إلا بحمل الاتمام على إعادة الوضوء، إذ لو جف السابق على العضو المنسي المقتضي
لفوات الموالاة، لم يكف الاتمام البتة بل تجب الإعادة.
و (رابعا) بأن بإزائها من الأخبار المتقدمة ما هو صريح في أن الحكم في هذه
الصورة هو الأخذ من بلة ما في الوجه وإلا فإعادة الوضوء، ويدل أيضا على الإعادة
- زيادة على ما تقدم - موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " من نسي
مسح رأسه أو قدميه أو شيئا من الوضوء الذي ذكره الله في القرآن، كان عليه إعادة
الوضوء والصلاة " وحينئذ فلا بد من النظر في الترجيح ولا ريب أنه في الروايات المتقدمة
لموافقتها للمجمع عليه كما هو أحد المرجحات المنصوصة، ولمخالفة ما عليه العامة الذي هو

(1) المروية في الوسائل في الباب - 3 و 42 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 و 35 - من أبواب الوضوء.
286

كذلك، والاحتياط الذي هو معدود منها أيضا، واعتضادها بأخبار الوضوء البياني،
فيتعين حمل هذه الأخبار على أحد المحامل المذكورة آنفا، أو الحمل على التقية (1).
فائدة
اعلم أن جملة من محققي متأخري المتأخرين صرحوا بأن الأخذ من بلة الوجه
لا يتقيد بفقد البلة من اليد، بل يجوز وإن كان فيها بلة تجزئ للمسح، قالوا: والتعليق
في عبارات الأصحاب إنما خرج مخرج الغالب، وأنه لا يختص الأخذ من هذه المواضع
بل يجوز من جميع محال الوضوء، وتخصيص الشعر لكونه مظنة البلل.
ولا يخفى أن الحكم الأول لا يخلو من شوب الاشكال، لعدم الدليل على ذلك
إذ المستفاد من أخبار الأخذ من بلة الوجه تقييد ذلك بحال النسيان والدخول في الصلاة
التي هي مظنة جفاف اليد كما لا يخفى، وأخبار الوضوء البياني - على تعددها وكثرتها -
إنما اشتملت على المسح بنداوة اليد ولم يتضمن شئ منها الأخذ من بلة الوجه، فمن
المحتمل قريبا أن يكون الأخذ من بلة الوجه إنما هو لضرورة جفاف اليد حينئذ وبدونه
فلا يجوز، والاحتياط تركه إلا مع الجفاف.
(الثامن) - قد ذكر جملة من أصحابنا أنه لا يجوز المسح بغير اليد اتفاقا،
وأن الظاهر تعينه بالباطن لأنه المتيقن، إلا أن يتعذر فيجوز بالظاهر، وأن الأولى كونه
في الناصية باليد اليمنى، وأنه يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى والرجل اليسرى باليسرى.
ولا يخفى عليك أن المسح باليمنى في الموضعين الأولين واليسرى في الأخير وإن
كان مما ظاهرهم الاتفاق على استحبابه. إلا أنه لا يخلو من شوب الاشكال، لما عرفت
في مسألة الابتداء بالأعلى، إلا أن يحمل " وتمسح " على الدخول في حيز الاجزاء
بعطف " وتمسح " على " ثلاث غرفات " كما عرفت، فيضعف الاشكال على ما ذكرنا

(1) راجع التعليقة 1 في الصحيفة 284.
287

وكذلك الاستحباب على ما ذكروا.
وذكروا أيضا أن الواجب كونه بالأصابع. ولو تعذر المسح بالكف فقد صرح
في الذكرى بالمسح بالذراع. وفيه اشكال.
وهل يشترط تأثير المسح في الممسوح؟ قولان، أظهرهما وأحوطهما الأول وفاقا
للعلامة في التذكرة والسيد السند في المدارك.
الركن الخامس - مسح الرجلين
والكلام فيه يقع في موارد:
(الأول) - وجوب مسح الرجلين دون غسلهما مما انعقد عليه اجماع الإمامية
(أنار الله برهانهم) فتوى ودليلا كتابا وسنة، ووافقنا عليه بعض متقدمي العامة،
وآخرون خيروا بينه وبين الغسل، وبعض جمعوا بينهما، واستقر فتوى الفقهاء الأربعة
على وجوب الغسل خاصة (1).

(1) في عمدة القارئ ج 1 ص 657 " المذاهب في وظيفة الرجلين أربعة: (الأول) -
مذهب الأئمة الأربعة من أهل السنة أن وظيفتها الغسل. (الثاني) - مذهب الإمامية من الشيعة
الفرض مسحهما. (الثالث) - مذهب الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري وأبي على
الجبائي التخيير بين الغسل والمسح. (الرابع) - مذهب أهل الظاهر وهو رواية عن الحسن
الجمع بين الغسل والمسح، ثم ذكر الأخبار المصرحة بغسل النبي (صلى الله عليه وآله) رجليه وبعدها
ذكر الأحاديث المصرحة بمسح النبي (صلى الله عليه وآله) رجليه كحديث جابر الأنصاري وعمر وأوس
ابن أوس وابن عباس وعثمان ورجل من قيس. ثم ذكر حديث رفاعة بن رافع قال: " غسل
النبي (صلى الله عليه وآله) وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين " قال: " وحديث
رفاعة حسنه أبو علي الطوسي والترمذي وأبو بكر البزاز وصححه الحافظ ابن حبان وابن
حزم " وفي اختلاف الحديث على هامش الأم ج 7 ص 60 وأحكام القرآن ج 1 ص 50
كلاهما للشافعي " غسل الرجلين كمال والمسح رخصة وكمال وأيهما شاء فعل " وفي تفسير
للطبري ج 10 ص 59 من الطبعة تحقيق محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر " عن جابر
عن أبي جعفر قال: امسح على رأسك وقدميك. وعن الشعبي نزل جبريل بالمسح، ألا ترى
التيمم يمسح ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا. وعن عامر نزل جبريل بالمسح، ثم قال
ابن جرير: الصواب عندنا أن الله تعالى أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر
بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم، وإذا فعل ذلك المتوضئ فهو ماسح غاسل لأن غسلهما
امرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء ومسحهما امرار اليد ما قام مقامها عليهما " وبذلك
كله يظهر لك أن قول ابن كثير في تفسيره ج 2 ص 26: " ومن أوجب من الشيعة
مسحهما فقد ضل وأضل " جرأة لا تغفر وعثرة لا تقال.
288

والكلام في دلالة الآية (1) على وجوب المسح ونفي الغسل مما تكفل به مطولات
أصحابنا (جزاهم الله تعالى عنا خير الجزاء).
لكن روى الشيخ (رحمه الله) في التهذيب (2) عن غالب بن الهذيل قال:
" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
إلى الكعبين (3) على الخفض هي أم على النصب؟ قال: بل هي على الخفض " ولا يخفى
أنه على تقدير النصب يدل على المسح أيضا بالعطف على محل الرؤوس، كما تقول:
مررت بزيد وعمرا. إلا أنه ربما يفهم من هذه الرواية أن قراءة أهل البيت (عليهم
السلام) إنما هي على الخفض وإن كان النصب مما يقرأون به في ذلك الوقت، كما هو
أحد القراءات السبع للمشهورة الآن، فإنا قد حققنا في كتاب المسائل - وسيأتي إن شاء
الله تعالى في هذا الكتاب التنبيه عليه في محله - أن هذه القراءات السبع فضلا عن العشر
إن ادعى بعض علمائنا (رضوان الله عليهم) تواترها عن النبي (صلى الله عليه وآله)
إلا أن الثابت في أخبارنا - وعليه جملة من أصحابنا - خلافه وإن صرحت أخبارنا
بالرخصة لنا في القراءة بها حتى يظهر صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه).
وليس بالبعيد أن هذه القراءة كغيرها من المحدثات في القرآن العزيز، لثبوت

(1) سورة المائدة. الآية 2.
(2) ج 1 ص 20، وفي الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
(3) سورة المائدة. الآية 2.
289

التغيير والتبديل فيه عندنا زيادة ونقصانا. وإن كان بعض أصحابنا ادعى الاجماع على نفي
الأول، إلا أن في أخبارنا ما يرده، كما أنهم تصرفوا في قوله تعالى في آية الغار لدفع
العار عن شيخ الفجار، حيث إن الوارد في أخبارنا أنها نزلت: "... فأنزل الله سكينته
على رسوله وأيده بجنود لم تروها... " (1) فحذفوا لفظ " رسوله " وجعلوا محله الضمير.
ويقرب بالبال - كما ذكره أيضا بعض علمائنا الأبدال - أن توسيط آية "... إنما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت... الآية " (2) في خطاب الأزواج من ذلك القبيل.
هذا، وما يدل على وجوب المسح ونفي الغسل من أخبارنا فمستفيض، بل الظاهر أنه من ضروريات مذهبنا.
وأما ما في موثقة عمار - عن أبي عبد الله (عليه السلام) " (3) في الرجل يتوضأ
الوضوء كله إلا رجليه ثم يخوض بهما الماء خوضا؟ قال: أجزأه ذلك " - فمحمول على التقية
وصحيحة أيوب بن نوح - (4) قال: " كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله
عن المسح على القدمين. فقال: الوضوء بالمسح ولا يجب فيه إلا ذلك، ومن غسل فلا
بأس " - فيحتمل الحمل على التقية أيضا، فإن منهم من قال بالتخيير كما تقدم (5) والحمل
على التنظيف كما احتمله الشيخ في التهذيب مستدلا عليه بصحيحة أبي همام عن أبي الحسن
(عليه السلام) (6) " في وضوء الفريضة في كتاب الله المسح، والغسل في الوضوء للتنظيف "
وروى زرارة مضمرا في الصحيح (7) قال قال لي: " لو أنك توضأت فجعلت
مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت أن ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء، ثم
قال: ابدأ بالمسح على الرجلين، فإن بذلك غسل فغسلت فامسح بعده ليكون آخر
ذلك المفترض ".

(1) سورة التوبة. الآية 40.
(2) سورة الأحزاب. الآية 33
(3) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
(5) راجع التعليقة 1 في الصحيفة 288.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
(7) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
290

قال المحدث الكاشاني في الوافي (1) بعد ذكر هذه الرواية: " لعل المراد بالحديث
أنه إن كنت في موضع تقية فابدأ أولا بالمسح ليتم وضوؤك ثم اغسل رجليك، فإن
بدا لك أولا في الغسل فغسلت ولم يتيسر لك المسح، فامسح بعد الغسل حتى تكون
قد آتيت بالفرض في آخر أمرك " انتهى.
وقال شيخنا الشهيد في الذكرى: " ولو أراد التنظيف قدم غسل الرجلين على
الوضوء، ولو غسلهما بعد الوضوء لنجاسة مسح بعد ذلك، وكذا لو غسلهما للتنظيف،
وفي خبر زرارة قال: إن بدا لك فغسلت فامسح بعده ليكون آخر ذلك
المفترض " انتهى.
(الثاني) - المشهور - بل ادعى عليه في الإنتصار الاجماع، وهو ظاهر العلامة
في المنتهى حيث نسبه إلى علمائنا أجمع، وفي التذكرة حيث قال: إنه اجماع فقهاء أهل
البيت (عليهم السلام) - وجوب الاستيعاب في مسح الرجلين طولا ولو بمسماه عرضا،
استنادا إلى ظاهر الكتاب بجعل " إلى " غاية للمسح، وجملة من الأخبار البيانية
المشتملة على كون مسحهم (عليهم السلام) إلى الكعبين.
ويدل عليه أيضا صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (2) قال:
" سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين
إلى الظاهر القدم... الحديث ".
وتردد المحقق في المعتبر ثم رجح وجوب الاستيعاب لظاهر الآية. واحتمل
في الذكرى عدم الوجوب، وبه جزم المحدث الكاشاني في المفاتيح، ونفى عنه البعد صاحب
رياض المسائل وحياض الدلائل.
ولا يخفى أنه لو ثبت جعل " إلى " هنا غاية للمسح كما ذكروه، لقوي الاعتماد
على المشهور، لكن ثبوت جواز النكس - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - مما يمنع ذلك

(1) ج 4 ص 46.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء
291

فالأظهر جعلها غاية للممسوح، ويؤيد ذلك أيضا قرينة السياق، فإنها في المرفقين غاية
للمغسول اتفاقا.
وأما الاستناد إلى بعض أخبار الوضوء البياني في الوجوب فمحل اشكال، لعدم
الصراحة في ذلك، لاشتمال بعضها على مسح الرجلين وبعض على ظهر القدمين الصادق
عرفا بمسح البعض، كاشتماله على مسح الرأس في بعض والمقدم في آخر مع الاتفاق
على عدم الاستيعاب فيه، فكذا فيهما.
ومما يدل على هذا القول أيضا الأخبار الدالة على عدم استبطان الشراكين حال المسح
كما في حسنة الأخوين عن الباقر (عليه السلام) (1) حيث قال (عليه السلام):
"... ولا يدخل أصابعه تحت الشراك... ".
وحسنة زرارة عنه (عليه السلام) (2): " أن عليا (عليه السلام) مسح على النعلين
ولم يستبطن الشراكين ".
وضعيفته أيضا (3): " أن عليا (عليه السلام) توضأ ثم مسح على نعليه ولم يدخل
يده تحت الشراك ".
ورواية جعفر بن سليمان (4) قال: " سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام)
فقلت: جعلت فداك يكون خف الرجل مخرقا فيدخل يده فيمسح ظهر قدمه،
أيجزيه ذلك؟ قال: نعم ".
ويؤيده أيضا قوله (عليه السلام) في صحيحة الأخوين (5): " قال الله تعالى:

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 24 و 38 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء. وسند الرواية في الكافي
ج 1 ص 10 والوافي ج 4 ص 44 عنه هكذا: عن جعفر بن سليمان عن عمه قال... الخ،
وفي التهذيب عن الكافي ج 1 ص 18 والوسائل وجامع الرواة ج 1 ص 152 عنه أيضا هكذا:
عن جعفر بن سليمان عمه قال... الخ
(5) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
292

وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم... (1) فإذا مسح بشئ من رأسه أو بشئ من رجليه
قدميه ما بين الكعبين إلى آخر أطراف الأصابع فقد أجزأه... ".
وقال في حسنتهما (2) أيضا: " ثم قال: وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين. فإذا مسح بشئ من رأسه أو بشئ من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف
الأصابع فقد أجزأه... ".
وفي صحيحتهما الأخرى (3) " أنه قال في المسح: تمسح على النعلين ولا تدخل
يدك تحت الشراك، وإذا مسحت بشئ من رأسك أو بشئ من قدميك ما بين كعبيك
إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك ".
وهي ظاهرة - كما ترى - في كون التحديد في الآية للممسوح لا للمسح، حيث إن
" إلى " في كلامه (عليه السلام) قرنت بالأصابع دون الكعبين عقيب الاستدلال
بالآية في الروايتين الأولتين، فهو كالتفريع عليها والتفسير لها، قال شيخنا صاحب
رياض المسائل (رحمه الله): و " ما " في " ما بين الكعبين " كما تحتمل الموصولية المفيدة
للعموم والابدال من " شئ " فيفيد بمفهوم الشرط توقف الاجزاء على مسح مجموع
المسافة الكائنة بينهما وهو يستلزم الوجوب، فكذا تحتمل الموصوفية مع الابدال منه، وكلاهما
مع كون " ما " واقعة على المكان منتصبة انتصاف الظرف، والعامل فيه ما عمل في الجار
والمجرور الواقع صفة ل‍ " شئ " من الكون، أو بدلا من قدميه أو من رجليه المبدل منه
قدميه بدلا بعد بدل أو بدلا من البدل، فيفيد بالمنطوق دون المفهوم الاجتزاء بمسح
جزء من المسافة المذكورة. والاحتمالات الأخيرة - مع تعددها وانحصار مخالفها في فرد

(1) سورة المائدة. الآية 6.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء. ولا يخفى أن الفرق بين
الصحيحة والحسنة إنما هو في الطريق، فإن الأولى هي رواية الشيخ والثانية رواية الكليني
وقد رواها في الوسائل عن الكليني ثم قال: ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد... الخ
(3) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء.
293

وأظهريتها أقل تخصيصا وأوفق بالأصل، فوجب المصير إلى ما اشتركت في الدلالة عليه
إلا أن يثبت الاجماع على خلافه. انتهى. وهو جيد وجيه
وبالجملة فإنه لا ظهور في شئ من الآية والروايات المتعلقة بالمسألة في الدلالة
على القول المشهور سوى صحيحة البزنطي المتقدمة (1) مع معارضتها بما ذكر من الأخبار
المذكورة، إلا أن الاحتياط في الوقوف على المشهور، وحينئذ فتحمل صحيحة البزنطي
المتقدمة على الاستحباب.
هذا بالنسبة إلى الاستيعاب الطولي. وأما العرضي فقد نقلوا الاجماع على عدمه
ومنهم العلامة في التذكرة والمنتهى، إلا أنه في التذكرة - بعد أن ذكر ما قدمنا نقله
عنه آنفا بأسطر يسيرة - قال: " ويستحب أن يكون بثلاث أصابع مضمومة، وقال
بعض علمائنا يجب " انتهى. وفي المختلف نسبه إلى المشهور مؤذنا بالخلاف فيه.
ويدل على المشهور ما تقدم (2) من صحيحتي الأخوين وحسنتهما وروايات عدم
استبطان الشراكين في المسح مع اعتضادها بالأصل.
وعلى الثاني ظاهر الآية وصحيحة البزنطي المتقدمة (3) حيث قال الراوي بعد
نقل ما تقدم منها: " قلت: جعلت فداك لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا؟
فقال: لا إلا بكفه كلها " ولا يخفى ما فيها من المبالغة في الاستيعاب، حيث إنه مفهوم
أولا من قوله: " فمسحها " ثم من النهي الصريح.
ويؤيده قوية عبد الأعلى (4) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت
فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال: يعرف هذا
وأشباهه من كتاب الله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج. امسح عليه ".

(1) في الصحيفة 291
(2) في الصحيفة 292 و 293.
(3) في الصحيفة 291
(4) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء.
294

ورواية معمر بن عمر عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال: " يجزئ من المسح
على الرأس ثلاث أصابع، وكذلك الرجل ".
والمسألة لا تخلو من اشكال، ولولا أخبار المسح وعدم استبطان الشراكين،
لكان القول بمضمون هذه الروايات في غاية القوة، فإن ما عداها قابل للتأويل والتقييد
بهذه الأخبار. وحمل هذه الأخبار على الاستحباب - كما هو المشهور - ليس أولى مما
قلناه، فإن صراحة صحيحة البزنطي فيما دلت عليه - كما قدمنا الإشارة إليه، مع
الاعتضاد بظاهر الآية والروايتين المذكورتين. واجمال الشئ في روايات الأخوين -
مما يرشد إليه ويحمل عليه. واعتضاد تلك بدعوى الاجماع - كما قيل - ممنوع بعد
وجود الخلاف كما عرفت، مع ما في الاجماع المدعى في أمثال هذه المقامات من المناقشة
الظاهرة، ولهذا قال السيد السند في المدارك - بعد نقل الاجماع على الاكتفاء بالمسمى
ولو بإصبع واحدة عن المعتبر والتذكرة، والاستدلال بصحيحة زرارة (2) - ما لفظه:
" ولولا ذلك لأمكن القول بوجوب المسح بالكف كلها. لصحيحة أحمد بن محمد بن
أبي نصر (3) " ثم ساق الرواية وقال: " فإن المقيد يحكم على المطلق. ومع ذلك
فالاحتياط هنا مما لا ينبغي تركه، لصحة الخبر وصراحته واجمال ما ينافيه " انتهى وهو جيد
ثم إنه على تقدير وجوب الاستيعاب طولا فهل يجب إدخال الكعبين في المسح
أم لا؟ وجهان بل قولان مبنيان على ما سبق في المرفقين. إلا أن ظاهر صحيحتي
الأخوين وأخبار عدم استبطان الشراكين (4) العدم هنا. والاحتياط في أمثال هذه
المقامات مما ينبغي المحافظة عليه.
(الثالث) هل الكعبان هما قبتا القدمين ما بين المفصل والمشط، كما هو

(1) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
(2) المتقدمة في الصحيفة 292.
(3) المتقدمة في الصحيفة 294.
(4) المتقدمة في الصحيفة 292 و 293.
295

المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه جمع منهم الاجماع. أو ملتقى الساق والقدم المعبر
عنه بالمفصل بين الساق والقدم، كما عليه العلامة وجمع ممن تأخر عنه، كالشهيد الأول
في الرسالة وإن بالغ في التشنيع عليه في الذكرى، وصاحب الكنز، وشيخنا البهائي،
والمحدث الكاشاني، والمحدث الحر العاملي، وجمع من متأخري المتأخرين؟ اشكال
ينشأ من تعارض كلام أهل اللغة في هذا المقام، وتدافع أخبار أهل الذكر (عليهم
السلام) مع دخول التأويل في أخبار كل من الطرفين وقبول الانطباق على كل من الجانبين
وتفصيل هذه الجملة على وجه الاختصار أنه قد نقل أول الشهيدين في الذكرى
وثاني المحققين في شرح القواعد، أن لغوية العامة مختلفون في ذلك. وأما لغوية الخاصة
فهم متفقون على أنه بمعنى المشهور.
ونقل شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين أن الكعب يطلق على معان أربعة:
(الأول) - العظم المرتفع في ظهر القدم الواقع بين المفصل والمشط. (الثاني) - المفصل
بين الساق والقدم (الثالث) - عظم مائل إلى الاستدارة واقع في ملتقى الساق والقدم
له زائدتان في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق وزائدتان في أسفله يدخلان
في حفرتي العقب، وهو نأت في وسط ظهر القدم أعني وسطه العرضي ولكن نتوه غير
ظاهر لحسن البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق، وقد يعبر عنه بالمفصل، لمجاورته
له أو من قبيل تسمية الحال باسم المحل. (الرابع) - أحد الناتيين عن يمين القدم وشماله.
وأقول: المعنى الأول هو الذي عليه جمهور الأصحاب، والثالث هو الذي
نسبه (قدس سره) للعلامة وإن عبر عنه بالمفصل مجازا كما ذكره، وعلى هذا فالثاني يرجع
إلى الثالث، والرابع هو الذي عليه العامة.
ثم نقل (قدس سره) جملة من كلام العامة كالفخر الرازي في تفسيره الكبير،
فإنه قال: " قالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح: أن الكعب عبارة
عن عظم مستدير مثل كعب الغنم والبقر موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل
296

الساق والقدم، وهو قول محمد بن الحسن، وكان الأصمعي يختار هذا القول، ثم قال:
حجة الإمامية أن اسم الكعب يطلق على العظم المخصوص الموجود في أرجل جميع
الحيوانات، فوجب أن يكون في حق الانسان كذلك " ومثله كلام صاحب الكشف
وكلام النيشابوري، ثم نقل جملة من كلام علماء التشريح.
وعورض بأن ابن الأثير قال - بعد ذكر الكعب بالمعنى الذي عليه العامة -
ما لفظه: " وذهب قوم إلى أنهما العظمان اللذان في ظهر القدم، وهو مذهب الشيعة،
ومنه قول يحيى بن الحرث: رأيت القتلى يوم زيد بن علي فرأيت الكعاب في وسط
القدم " ومثل ذلك نقل عن صاحب لباب التأويل، ونقل الشهيد في الذكرى عن العلامة
اللغوي عميد الرؤساء أنه صنف كتابا في تحقيق معنى الكعب وأكثر فيه من الشواهد
على أن الكعب هو الناشز في ظهر القدم أمام الساق حيث يقع معقد الشراك من النعل،
ويظهر من الصحاح أن ذلك قول أكثر الناس، حيث قال: " وأنكر الأصمعي قول
الناس أنه في ظهر القدم " وقال في الذكرى أيضا: " ومن أحسن ما ورد في ذلك
ما ذكره أبو عمرو الزاهد في كتاب فائت الجهرة، قال: اختلف الناس في الكعب،
فأخبرني أبو نصر عن الأصمعي أنه الناتي في أسفل الساق عن يمين وشمال، وأخبرني سلمة
عن الفراء قال هو في مشط الرجل وقال هكذا برجله، قال أبو العباس فهذا الذي يسميه
الأصمعي الكعب هو عند العرب المنجم، قال: وأخبرني سلمة عن الفراء عن الكسائي
قال قعد محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) في مجلس كان له وقال: ههنا الكعبان
قال فقالوا هكذا فقال: ليس هو هكذا ولكنه هكذا وأشار إلى مشط رجله، فقالوا
له: أن الناس يقولون هكذا فقال: لا، هذا قول الخاصة وذاك قول العامة " انتهى.
وأنت خبير بأن المعنى الثالث - من المعاني التي ذكرها شيخنا البهائي وهو الذي
ادعى أنه مراد العلامة لم يذكر في كلام أحد من أهل اللغة وإن ذكره جملة من علماء
العامة ونسبوه إلى الشيعة كما نقله، وذكره علماء التشريح أيضا. وما توهمه من عبارة
297

القاموس - حيث قال - بعد تفسيره بالمفصل والعظم الناشز فوق القدم والناشزين من
جانبي القدم - ما لفظ: " والذي يلعب به كالكعبة " - فغير صريح في المعنى الذي أراده،
لاحتمال حمله على كعب النرد كما ذكره في النهاية، حيث قال: " الكعاب فصوص النرد
واحدها كعب وكعبة، واللعب بها حرام " انتهى، بل هذا المعنى أظهر. هذا ما يتعلق بذلك
من كلام أهل اللغة.
وأما كلام علمائنا (رضوان الله عليهم) في هذا المقام فأكثر عباراتهم - تصريحا
في بعض وتلويحا في آخر - إنما ينصب على القول المشهور سيما عبارة الشيخ المفيد، فإنها
في ذلك على غاية من الظهور حيث قال: " الكعبان هما قبتا القدمين أمام الساقين ما بين
المفصل والمشط " وظاهر الشيخ في التهذيب - بعد نقل العبارة المذكورة - القول بذلك
بل دعوى الاجماع على أن الكعب هو ذلك، حيث قال: " ويدل عليه اجماع الأمة،
فإنهم بين قائل بوجوب المسح دون غيره ويقطع على أن المراد بالكعبين ما ذكرناه،
وقائل بوجوب الغسل عينا أو تخييرا بينه وبين المسح ويقول الكعبان هما العظمان الناتيان
خلف الساق، ولا قول ثالث، فإذا ثبت هذا بالدليل الذي قدمنا ذكره وجوب مسح
الرجلين وأنه لا يجوز غيره ثبت ما قلناه من ماهية الكعبين " انتهى. ولا يخفى
عليك ما فيه من الصراحة في المعنى المشهور.
وجملة من عبارات الأصحاب كابن أبي عقيل والسيد المرتضى وأبي الصلاح
والشيخ في أكثر كتبه وابن إدريس والمحقق قد اشتركت في وصف الكعبين بأوصاف
متلازمة، من وصفه بالنتو في ظهر القدم عند معقد الشراك في بعض. وكونه في ظهر
القدم في أخرى، وكونه معقد الشراك في ثالثة، والنتو في وسط القدم في رابعة،
وكونهما في ظهر القدم عند معقد الشراك في خامسة، وأنهما معقدا الشراك في سادسة،
وكونهما قبتي القدم في سابعة.
298

والعلامة (رحمه الله) قد ادعى انصباب هذه العبارات على ما ذهب إليه وادعى
اشتباهها على غير المحصل، وشيخنا البهائي (طاب ثراه) أوضح هذه الدعوى بأن هذه
العبارات لا تأبى الانطباق على ما ذهب إليه العلامة من المعنى الثالث من معاني الكعب
المتقدمة، لأن غاية ما يتوهم منه المنافاة وصفه بالنتو في وسط القدم، والعلامة قد فسره
في التذكرة والمنتهى بذلك لكنه يقول ليس هو العظم الواقع أمام الساق بين المفصل
والمشط بل هو العظم الواقع في ملتقى الساق والقدم، وهو الذي ذكره المشرحون،
وهو - كما تقدم - نأت في وسط ظهر القدم أعني وسطه العرضي ولكن نتوه غير ظاهر
لحس البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق، وربما عبر عنه في بعض كتبه بحد المفصل
وفي بعضها بمجمع الساق والقدم وفي بعضها بالناتي في وسط القدم وفي بعضها بالمفصل، انتهى
أقول: وأنت إذا أعطيت التأمل حقه من الانصاف وجدت أن تنزيل عبائر
الأصحاب على ما ذكره (رحمه الله) في غاية الاعتساف، فإن المتبادر من الوسط هو ما كان
في الطول والعرض ومن الارتفاع والنتو هو ما كان محسوسا مشاهدا، ولو كان المراد
بالكعب هذا المعنى الذي لا يفهمه إلا علماء التشريح دون سائر العلماء فضلا عن المتعلمين
لأوضحوه بعبارات جلية وبينوه بكلمات واضحة غير خفية، ولما اقتصروا في وصفه
على مجرد النتو والارتفاع الغير المحسوس الذي هو من قبيل تعريف المجهول بما هو أخفى
نعم في عبارة ابن الجنيد ما يوهم ذلك، حيث قال: " الكعب في ظهر القدم دون
عظم الساق، وهو المفصل الذي هو قدام العرقوب " ويحتمل رجوع ضمير " هو " إلى عظم
الساق ويكون المراد أنه عند عظم الساق، بقرينة سابق كلامه من قوله: " الكعب في ظهر
القدم " هذا خلاصة ما يتعلق بكلام الأصحاب.
وأما الأخبار الواردة في هذا المضمار (فمنها) صحيحة الأخوين (1) حيث قال
فيها: " فقلنا أين الكعبان؟ قال: ههنا يعني المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
299

ما هذا؟ قال: هذا عظم الساق والكعب أسفل من ذلك " وقوله: " والكعب أسفل
من ذلك " في رواية الكافي دون التهذيب.
وهذا الحديث هو عمدة أدلة العلامة ومن تابعه، وهو ظاهر فيما ادعوه، إلا أن
للمجيب أن يقول - بناء على ظهور غيره من الأخبار في المعنى المشهور وظهور عبارات
الأصحاب في خلافه - كما عرفت غاية في الظهور -:
(أولا) - بأنه وإن ظهر ذلك بالنسبة إلى رواية التهذيب إلا أنه بالنظر إلى الزيادة
التي في الكافي من قوله: " والكعب أسفل من ذلك " لا يخلو من اشكال، فإنه إما
أن يكون المشار إليه في قوله: " هذا من عظم الساق " على ما في الكافي أو " هذا عظم
الساق " على ما في التهذيب المنجم أو منتهى عظم الساق، فإن كان الأول فهو عند
المفصل كما قال في النهاية: " الكعبان: العظمان الناتيان عند مفصل الساق والقدم من
الجنبين " وحينئذ فحكمه (عليه السلام) بأن الكعب أسفل من ذلك ظاهر في أنه المعنى
المعروف عند القوم، وإن كان الثاني فالأمر أوضح، فعلى هذا يجب حمل قوله:
" ههنا يعني المفصل " على أنه قريب إلى المفصل لئلا يلزم التناقض.
فإن قيل: إنه يمكن حمل قوله: " أسفل من ذلك " على التحتية كما يدعيه شيخنا
البهائي (قدس سره) فلا يلزم التناقض.
قلنا: إن لم يكن ما ذكرنا من حمل الأسفلية على الكعب المشهور أظهر لظهور
ذلك لكل ناظر وتبادره لكل سامع، فلا أقل من المساواة، وبه ينتفي ظهور الرواية
في المدعي فضلا عن أظهريتها.
و (ثانيا) بأنها معارضة بما سيأتي من الأخبار فيجب ارتكاب التجوز فيها جمعا
ومن تلك الأخبار صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا (عليه
السلام) (1) قال: " سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع

(1) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء
300

فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم... ".
وهذا مما استدل به العلامة أيضا على ما ذهب إليه، وجملة من الأصحاب نقلوا
الخبر بلفظ " ظهر " بدل " ظاهر " وعلى أيهما كان فقوله " إلى ظاهر " أو " ظهر "
بدل من قوله " إلى الكعبين " وهو محتمل للمعنى المشهور بناء على أن الظاهر يقال
لغة لما ارتفع، قال في القاموس: " والظواهر أشراف الأرض " وقال في مادة شرف:
" الشرف محركة: العلو، والمكان العالي " انتهى. والظهر أيضا يقال لما ارتفع وغلظ
من الأرض كما في القاموس أيضا، وعلى كل من النسختين فانطباقه على المشهور ظاهر
ويحتمل حمل الظهر والظاهر على ما قابل البطن والباطن كما استدل به للقول الآخر، ولكن
لا بد من تتميمه بحمل الظهر أو الظاهر على الاستيعاب طولا لعدم قرينة البعضية، فيكون
المراد به نهايته المتصلة بالساق. ويمكن الجواب بالحمل على الاستيعاب بقرينة أن
ما اشتملت عليه الرواية سوى أصل المسح - من الاستيعاب الطولي بناء على ما أسلفنا
تحقيقه، والعرضي كما أوضحناه أيضا، والابتداء بالأصابع - كله مستحب.
و (منها) - حسنة ميسر بن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال: " الوضوء
واحد، ووصف الكعب في ظهر القدم " وأورد في التهذيب هذه الرواية في موضع
بهذه الكيفية وفي موضع آخر بهذا السند والمتن ولكن بلفظ " واحدة " بدل " واحد "
ولفظ: " ميسرة " بدل " ميسر " كما هو في الكافي كذلك.
وروايته الأخرى أيضا عنه (عليه السلام) (1) في حكاية الوضوء البياني، قال فيها:
" ثم مسح رأسه وقدميه ثم وضع يده على ظهر القدم ثم قال: هذا هو الكعب، قال وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ثم قال: إن هذا هو الظنبوب ".
وهاتان الروايتان مما استدل به القائلون بالقول المشهور من حيث تضمنهما أن

(1) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
301

الكعب في ظهر القدم، والمتبادر من ذلك - كما عرفت - هو ما ظهر في وسطه
الطولي المعبر عنه فيما تقدم من كلامهم بالناتي في وسط القدم والناتئ في ظهر القدم أي
ما كان نتوه ظاهرا محسوسا.
وأما القائلون بالقول الآخر فتأولوا كونه في الظهر بمعنى كونه واقعا فيه وإن
كان في منتهاه وخفي على الحس.
قال في الوافي - بعد نقل أول هذين الخبرين - ما لفظه: (ووصف الكعب
في ظهر القدم لا ينافي كونه المفصل، لأنه في ظهرها ومنتهاها. وإنما قال ذلك ردا على
المخالفين حيث جعلوهما في طرفي القدم وجانبيها " انتهى.
وقال شيخنا البهائي: " على أن قول ميسر - في الحديث الثالث: أن الباقر
وصف الكعب في ظهر القدم - يعطي أن الإمام (عليه السلام) ذكر للكعب أوصافا
ليعرفه الراوي بها، ولو كان الكعب هذا الارتفاع المحسوس المشاهد لم يحتج إلى الوصف
بل كان ينبغي أن يقول: هو ذا، وقس عليه قوله (عليه السلام) في الحديث الأول:
" ههنا " بالإشارة إلى مكانه دون الإشارة إليه " انتهى.
أقول: قد قال في رواية ميسر الثانية " هو هذا " فإن كان ذلك يكفي في
الدلالة على المعنى المشهور فينبغي أن يوافق عليه شيخنا المذكور.
وبالجملة لما كان الكعب يطلق على كل من المعنيين المذكورين فحمل الروايات
جملة على أحدهما دون الآخر يحتاج إلى دلالة بينة واضحة وقرينة مفصحة راجحة، وقد
عرفت أن الاحتمالات قائمة من الطرفين ومتصادمة من الجانبين وإن ادعى كل من القائلين
رجحان ما ذهب إليه وقوة ما اعتمد عليه، إلا أن الحق أن ذلك مما يدخل تلك الأخبار
في حيز المشتبهات ويوجب العمل بالاحتياط في المسألة.
ويقوى عندي ما ذهب إليه بعض الفضلاء من متأخري المتأخرين في هذا المقام وإن
كان خلاف ما عليه جملة من متأخري علمائنا الأعلام، حيث قال بعد نقل جملة من كلام القوم
302

على العلامة وما أوقعوه به من الشناعة والملامة: " هذا ملخص ما شنعوا به عليه، وعند
إمعان النظر في كلام العلامة وملاحظة ما أورده في غير المختلف يعلم أنه لم يخرج بقوله
عن المشهور بل هو عينه إلا أنه بسبب قصده لتطبيق النص عليه خرج في بعض عباراته
عن المعهود من كلامهم، وبيان ذلك أنه (رحمه الله) قال في التذكرة: " ومحل المسح
ظهر القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين، وهما العظمان الناتيان في وسط القدم،
وهما معقد الشراك أعني مجمع الساق والقدم، ذهب إليه علماؤنا أجمع، وبه قال محمد بن
الحسن الشيباني لأنه مأخوذ من " كعب ثدي المرأة إذا ارتفع " ولقول الباقر (عليه
السلام) وقد سئل فأين الكعبان؟ قال: ههنا يعني المفصل دون عظم الساق " وقال
في المنتهى: " ذهب علمائنا إلى أن الكعبين هما العظمان الناتيان في وسط القدم، وهما معقدا
الشراك، وبه قال محمد بن الحسن من الجمهور، وخالف الباقين فيه وقالوا إن الكعبين
هما الناتيان في جانبي الساق، وهما المسميان بالظنابيب " ثم أخذ في الاستدلال وأورد
صحيحة زرارة وبكير ابني أعين المذكورة (1) وروايتي ميسر المتقدمتين (2) إلى أن قال:
فروع (الأول) - قد تشتبه عبارة علمائنا على بعض من لا مزيد تحصيل له في معنى
الكعب. والضابط فيه ما رواه زرارة، وأورد الرواية، وفي القواعد عرف الكعبين بأنهما
حد المفصل بين الساق والقدم، وفي الإرشاد أنهما مجمع القدم وأصل الساق، والمفهوم من
خلال هذه العبارات أنه أطلق المفصل على العظمين الناتيين تارة وأطلق عليهما الحد
والمجمع تارة أخرى، وكلامه في التذكرة صريح في ذلك، حيث فسر العظمين الناتيين
بأنهما معقدا الشراك وفسر معقد الشراك بأنه مجمع الساق والقدم، وفي المنتهى قريب منه
ولما كان مدلول رواية زرارة وأخيه يقتضي أن الكعبين هما المفصل حيث فسر
الإمام (عليه السلام) فيهما الكعبين بأنهما المفصل دون عظم الساق ورأي علمائنا أطبقوا
على أنهما العظمان الناتيان، أراد الجمع بين الكلامين فحمل على ذلك باعتبار كون

(1) في الصحيفة 299
(2) في الصحيفة 301
303

طرفي ذينك العظمين مما يلي الساق حد المفصل والساق لأن عظم الساق متصل بهما،
فأطلق عليهما المفصل من جهة كونهما حدا له وبداية لحصوله، فيكون تعريفهما بالمفصل
باعتبار نهايتهما، وغاية الأمر أن ذلك على طريق التجوز لعلاقة المجاورة، وليس في كلامه
ما ينفي إرادة المعنى المشهور بوجه من الوجوه، بل مقتضى نقله اتفاق علمائنا أجمع عليه
أنه لا يحتمل إرادة غيره، وبسبب أنه مخالف لظاهر الرواية كما ذكرنا نبه عليه بأنه
اشتباه على غير المحصل وأن المحصل يعرف أن المراد بالكعبين هو المفصل باعتبار كونه
حدا ونهاية لهما وذلك أطلق عليهما، وربما كانت الحكمة في هذا الاطلاق من الإمام
(عليه السلام) إرادة ايصال المسح إلى نهاية الكعب، ولا يليق حمل كلام العلامة على
ما فهموه منه، لأنه يلزم من ذلك مناقضة أول كلامه لآخره والخروج عن نقل الاجماع
عليه وعدم فهمه المعنى الظاهر من عبارات الأصحاب، وذلك لا ينسب لأدون الناس
وأبلدهم فضلا عن مثل جلالة قدر العلامة (رحمه الله) ومما يؤكد ذلك أن المحقق في
المعتبر استدل على كون الكعبين هما العظمان الناتيان بهذه الرواية، فلولا أن المراد بالمفصل
ما أشرنا إليه لم يتجه له الاستدلال بها على ذلك " انتهى كلامه زيد مقامه، وإنما نقلناه
بطوله ليظهر لك حسنه وجودة محصوله.
وأقول: ربما يتسارع الناظر - لألفة ذهنه بما زعمه القوم في هذه المسألة من
التحقيق - إلى إنكار ما ذكره هذا الفاضل من التلفيق، وعند التأمل الصادق يجده
أقرب مما ذكره شيخنا البهائي (قدس سره) فإنه (طاب ثراه) وإن دقق النظر في المقام
وأيده بكلام أولئك الأقوام، كما هو مقتضى فهمه الثاقب ونظره الصائب في استجلاء
أبكار الأحكام، إلا أن حمل هذه العبارات من العلامة وغيره من الأصحاب على ما ذكره
من هذا المعنى الخفي - كحمل النتو على النتو في بطن الظهر وإن لم يظهر للحس،
والتوسط على التوسط العرضي في آخر القدم، وحمل معقد الشراك على كونه في المفصل
مع أن كل أحد يعلم أنه قدام المفصل، مع عدم الإشارة إلى شئ من ذلك في تلك
304

العبارات سيما عبارة العلامة (عطر الله مرقده) الذي هو مخترع هذا القول على تعددها
فإن غاية ما يخرج به عن كلام القوم التعبير بالمفصل دون هذا العظم الخفي الذي ذكره -
يكاد يقطع العقل ببعده.
وعمدة ما يدور عليه كلامه (قدس سره) - في الاستدلال على هذا القول
ويشجعه على أنه مراد العلامة - شيئان:
(أحدهما) - نسبة الفخر الرازي ومن تبعه ذلك إلى الشيعة وفيه أن الفخر
الرازي قد نقل ذلك أيضا عن الأصمعي كما قدمنا نقله عنه، مع أنك قد عرفت مما
نقله شيخنا الشهيد في الذكرى عن أبي عمرو الزاهد - أن مذهب الأصمعي في الكعب
إنما هو مذهب العامة، وبذلك أيضا صرح أحمد بن محمد الفيومي في المصباح المنير،
وحينئذ فإذا احتمل تطرق الاخلال إلى نقله عن علماء مذهبه فبالطريق الأولى إلى مذهب
الشيعة، ويؤيده ما قدمنا نقله عن ابن الأثير من أن مذهب الشيعة أنهما العظمان اللذان
في ظهر القدم، وما صرح به في المصباح المنير أيضا، حيث قال: " وذهبت الشيعة
إلى أن الكعب في ظهر القدم وأنكره أئمة اللغة كالأصمعي وغيره ".
و (ثانيهما) - صحيح زرارة وأخيه المتقدم ذكره (1) وهو - بعد ما عرفت
من ظهور هذا المعنى في كلام الأصحاب سيما كلام الشيخين في المقنعة والتهذيب وظهوره
أيضا من تلك الأخبار المتقدمة - يجب ارجاعه إلى ما عليه الأصحاب سيما مع عدم الصراحة
لما عرفت من تطرق الاحتمال إلى المعنى الذي اعتمدوه منه، وجملة من المتقدمين من الأصحاب
لم يفهموا منه المخالفة لما قرروه في عبائرهم من معنى الكعب المشهور، ولهذا أن الشيخ
في التهذيب - بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه مما هو صريح في المعنى المشهور - نظم هذه الرواية
في سلك الأدلة على ذلك ولم يجعلها في قالب المخالف، والمحقق في المعتبر كذلك بعد
ما عرف الكعب بأنه قبة القدم، وما ذاك كله إلا لفهمهم منها الانطباق على المعنى

(1) في الصحيفة 299
305

المشهور وإن احتيج إلى ارتكاب نوع من المجاز.
وبالجملة فتأويل كلام العلامة (رضوان الله عليه) بما يرجع إلى المشهور - وإن
اعتراه في بعض عبائره نوع من القصور - أهون وأقرب مما تكلفه (قدس سره) وحينئذ
فينحصر الخلاف في شيخنا البهائي (رحمه الله) ومن تبعه على تلك المقالة، والاحتياط
بايصال المسح إلى المفصل بل إلى عظم الساق مما ينبغي المحافظة عليه. والله الهادي.
(الرابع) - الظاهر جواز النكس هنا كالرأس. وفاقا للمشهور وخلافا لظاهري
المرتضى وابن بابويه وابن إدريس فيما قطع به، بل نقل عنه في المختلف كراهية الاستقبال
لما تقدم من الأدلة.
ويزيده تأكيدا هنا رواية يونس (1) قال: " أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه
السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم
ويقول: الأمر في مسح الرجلين موسع: من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا،
فإنه من الأمر الموسع إن شاء الله ".
وصحيحة حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " لا بأس بمسح القدمين
مقبلا ومدبرا ".
واستدل للقول الآخر بالآية بناء على أن " إلى " فيها لانتهاء المسح. وفيه أنها
محتملة لكل من غاية المسح والممسوح فالحمل على أحدهما دون الآخر ترجيح بغير مرجح
بل ظاهر الأخبار المتقدمة في المورد الأول من هذا البحث كونها غاية للممسوح كما
تقدمت الإشارة إليه ثمة.
وبالوضوء البياني: وفيه أنه محمول على الاستحباب جمعا بين الأخبار.
وبصحيحة البزنطي حيث قال فيها: "... فوضع كفه على الأصابع فمسحها

(1) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الوضوء.
306

إلى الكعبين... " وفيه أيضا ما في سابقه.
وبيقين البراءة. وفيه أنه يرجع إلى الاحتياط، وهو هنا مستحب لا واجب كما
تقدمت الإشارة إليه.
(الخامس) - قد تقدم في سابق هذا البحث الكلام في وجوب المسح بالبلة
وعدم جواز استئناف ماء جديد للمسح، لكن بقي الكلام هنا في موضعين:
(أحدهما) - أنه لو كانت البلة الباقية مشتملة على ما يتحقق به الجريان لو مسح
فهل يمسح بها والحال كذلك، أو يجب التجفيف حذرا من وقوع الغسل المقابل للمسح
المنهي عنه في الأخبار فلا يحصل الامتثال؟ وجهان بل قولان يلتفتان إلى أن النسبة بين
الغسل والمسح التباين أو العموم على وجه، فيجتمعان في امرار اليد مع الجريان وينفرد
الأول بالثاني خاصة والثاني بالأول، والأول ظاهر المشهور، وإلى الثاني مال جملة من محققي
متأخري المتأخرين، ولعله الأظهر، وسيأتي مزيد تحقيق للمسألة.
و (ثانيهما) - أنه مع وجود بلة على الممسوح خارجة عن ماء الوضوء، فهل
يجوز المسح والحال كذلك، أم يجب التجفيف حذرا من لزوم المسح بماء جديد؟ قولان
وبالثاني صرح العلامة في المختلف ونقله فيه وفي المنتهى عن والده أيضا.
وعلى الأول فهل يجوز مع وجود الرطوبة مطلقا، أو يشترط غلبة ماء الوضوء عليها؟
قولان، وبالثاني صرح الشهيد في الدروس، وبالأول صرح المحقق وابن إدريس وابن
الجنيد، قال ابن الجنيد: " من تطهر إلا رجليه فدهمه أمر يحتاج معه إلى أن يخوض
بهما نهرا مسح عليهما يده وهو في النهر إن تطاول خوضه وخاف جفاف ما وضأ من
أعضائه، وإن لم يخف كان مسحه بعد خروجه أحب إلي وأحوط " وقال ابن إدريس:
" إذا كان قائما في الماء وتوضأ ثم أخرج رجليه من الماء ومسح عليهما من غير أن يدخل
يده في الماء فلا حرج عليه، لأنه ماسح اجماعا، والظاهر من الآيات والأخبار متناول له "
وقال في المعتبر: " لو كان في ماء وغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ورجليه جاز، لأن
307

يديه لا تنفك من ماء الوضوء ولم يضره ما كان على القدمين من الماء " وظاهره جواز
المسح في الماء كما في كلام ابن الجنيد، مع احتمال الحمل على خروج الرجل كما في كلام
ابن إدريس.
احتج العلامة في المختلف على ما ذهب إليه والده ورجحه هو فيه بأن المسح
يجب بنداوة الوضوء ويحرم التجديد. ومع رطوبة الرجلين يحصل المسح بماء جديد.
والأظهر كما استظهره جملة من المحققين القول بالجواز مطلقا، لأصالة الجواز
وصدق الامتثال، وتناول اطلاق الآية والأخبار لذلك، وعدم الدليل على المنع، ومنع
صدق التجديد لو حصل الجريان باجتماع البلتين بل ولو ببله الممسوح منفردة عند عدم
القصد إلى الغسل وإن صدق اسم الغسل، ويؤيده صحيحة زرارة (1): " لو أنك
توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت أن ذلك هو المفترض لم يكن ذلك
بوضوء... " الدالة على جواز غسل الممسوح لا بذلك القصد، وبذلك يظهر أظهرية
ما استظهرناه في المسألة السابقة.
إلا أنه يمكن أن يقال إن ظاهر عبارات المجوزين أن البلة الباقية في اليد من ماء
الوضوء، وإن قلت لا تزول بملاقاتها للماء الذي على الرجل الممسوحة وإن كثر، فالمسح
يحصل بها وإن شاركها غيرها، والاستناد إلى ظواهر الأدلة إنما هو من هذه الجهة، بمعنى
أنه يصدق المسح المأمور به شرعا والحال كذلك، وهو عندي محل اشكال وخفاء
ولا سيما في المسح داخل الماء كما ذكره ابن الجنيد، فإنه لا ريب أن غلبة الماء الذي على
الممسوح على البلة الباقية في اليد على وجه تضمحل به في جنبه توجب حصول التجديد
في المسح، كما أنه لو كان على هذه اليد الماسحة - مثلا - بول فإنه بوضعها في الماء يجب الحكم
بطهارتها، لزوال نجاسة البول منها بغلبة الماء، فبالطريق الأولى هنا، أو كان عليها ماء مضاف
فإنه يجب الحكم بزواله عنها في الصورة المذكورة، وهذا يجري بالنسبة إلى ما لو لم يكن

(1) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
308

في الماء ولكن اخراجها من الماء - كما ذكره ابن إدريس - وعليها ماء كثير والبلة التي
على اليد قليلة جدا، فإنه تضمحل في جانب ذلك الماء ويحكم عرفا بل شرعا بزوالها بملاقاة
ذلك الماء لاضمحلالها في جنبه، ومن الظاهر أن بناء قاعدة التطهير من نحو البول
باستنجاء أو غيره على غلبة المطهر إنما هو من حيث إن النجاسة تزول وتضمحل في جنبه،
ولو كانت باقية لما حصل التطهير، فكذا ما نحن فيه، وحينئذ فمتى كانت الرطوبة التي على
ظهر الرجل مما تغلب على البلة وتضمحل البلة في جنبها فإنه يحصل السمح بالماء الجديد.
وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف لعدم النص، وما ادعوه من الدخول تحت
العمومات ليس بمطرد في جميع ما ذكروه، فالواجب عندي هو الوقوف على جادة
الاحتياط، وأن يراعى عدم غلبة الماء الذي على ظاهر العضو الممسوح على البلة الباقية
والاحتياط - بتخفيف الرجل ونفض اليدين من البلة المستلزمة للجريان - مما ينبغي
المحافظة عليه.
(السادس) - لا يجوز المسح في كل من الرأس والرجلين على حائل اختيارا
اجماعا منا فتوى ورواية، ومن الحائل الشعر في الرجل على المعروف من مذهب الأصحاب
فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1)
" أنه سئل عن المسح على الخفين وعلى العمامة. فقال: لا تمسح عليهما ".
ومرفوعة محمد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) " في الذي يخضب
رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء؟ قال: لا يجوز حتى يصيب بشرة رأسه بالماء ".
وما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه السلام) (3) قال: " سألته
عن المرأة هل يصلح لها أن تمسح على الخمار؟ قال: لا يصلح حتى تمسح على رأسها "
إلى غير ذلك من الأخبار.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 38 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب الوضوء
309

أما مع الضرورة كالتقية والبرد الشديد ونحوهما فظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق
على الجواز.
ويدل عليه بالنسبة إلى الرجلين رواية أبي الورد (1) قال: " قلت لأبي جعفر
(عليه السلام): أن أبا ظبيان حدثني أنه رأى عليا (عليه السلام) أراق الماء ثم مسح
على الخفين؟ فقال: كذب أبو ظبيان، أما بلغكم قول علي (عليه السلام) فيكم: سبق
الكتاب الخفين؟ قلت: فهل فيهما رخصة؟ فقال: لا، إلا من عدو تتقيه أو ثلج
تخاف على رجليك ".
والرواية وإن كانت ضعيفة السند باصطلاح متأخري أصحابنا إلا أنها مجبورة
بعمل الأصحاب واتفاقهم على الحكم المذكور، على أن أبا الورد وإن كان غير مذكور
في كتب الرجال بمدح ولا قدح إلا أنه قد روى في الكافي ما يشعر بمدحه، ولهذا عده
شيخنا المجلسي في وجيزته في الممدوحين، وشيخنا أبو الحسن في بلغته قال روى مدحه
مع أن الرواي عنه هنا بواسطة حماد بن عثمان، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح
ما يصح عنه، والرواية بناء على ظاهر هذه العبارة صحيحة، وكيف كان فهي - باعتبار
مجموع ما ذكرنا من المرجحات مضافا إلى الاتفاق على الحكم - مما يقوى الاعتماد عليها
وأما ما رواه في الكافي (2) عن ابن أبي عمير عن هشام عن سالم عن أبي عمر
الأعجمي قال: " قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا عمر أن تسعة أعشار الدين
في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شئ إلا في النبيذ والمسح على الخفين "
فالظاهر حمله عليهم (صلوات الله عليهم) دون غيرهم، كما يشير إليه ما رواه حريز
عن زرارة في الصحيح (3) قال: " قلت له: هل في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة

(1) المروية في الوسائل في الباب - 38 - من أبواب الوضوء
(2) الأصول ج 2 ص 217 وفي الوسائل بالتقطيع في الباب - 24 و 25 - من الأمر
بالمعروف
(3) رواه صاحب الوسائل في الباب - 38 - من أبواب الوضوء، وفي الباب
- 25 - من الأمر بالمعروف وفي الباب - 22 - من الأشربة المحرمة.
310

لا اتقي فيهن أحدا: شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج. قال زرارة: ولم يقل
الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحدا " وقد حمله الشيخ في التهذيبين على اختصاص
نفي التقية بنفسه كما أوله زرارة. وبالجملة فإن أخبار وجوب التقية عامة ومنها الخبر
المذكور المتضمن لهذا الاطلاق في المنافاة، فالواجب حمله على ما ذكرناه جمعا بين
الأخبار. ومثل خبر زرارة المذكور أيضا ما رواه في الكافي أيضا في الصحيح (1)
عن زرارة عن غير واحد قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام): في المسح على الخفين
تقية؟ قال: لا يتقى في ثلاث. قلت: وما هن؟ قال: شرب الخمر أو قال شرب المسكر
والمسح على الخفين ومتعة الحج " والتقريب فيه ما تقدم.
وراية عبد الأعلى مولى آل سام (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف
هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى: قال الله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج.
امسح عليه ".
ويدل على بالنسبة إلى الرأس صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) " في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ثم يتوضأ للصلاة؟ فقال: لا بأس
بأن يمسح رأسه والحناء عليه " فإن الظاهر حملها على ضرورة التداوي كما ذكره في المنتقى
نعم ربما احتمل على بعد الحمل على عدم استيعاب الحناء لموضع المسح. وأما حمله على
المسح على لون الحناء فلا ينطبق عليه لفظ الطلاء كما لا يخفى.
وصحيحة عمر بن يزيد عنه (عليه السلام) (4) " عن الرجل يخضب رأسه بالحناء
ثم يبدو له في الوضوء؟ قال: يمسح فوق الحناء " والتقريب ما تقدم. ويمكن حمل هذه

(1) الفروع ج 2 ص 95
(2) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب الوضوء
311

الرواية على بعد على الخضاب بماء الحناء فيكون المسح على لونه،
ويؤيد ذلك أيضا اطلاق جملة من أخبار الجبائر، لدلالتها على المسح على الجبيرة متى
تضرر بنزعها أعم من أن يكون في موضع الغسل أو المسح، مثل حسنة كليب الأسدي (1)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟
قال: إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل " وقوله (عليه السلام) في حسنة
الحلبي (2) بعد أن سأله عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع
الوضوء فيعصبها بخرقة ويتوضأ: " إن كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة... " ويؤيده
أيضا أدلة نفي الحرج في الدين.
وبذلك يظهر لك ما في مناقشة جمع من متأخري أصحابنا: منهم - السيد السند
في المدارك في هذا الحكم حيث اقتصروا في الاستدلال عليه على رواية أبي الورد وردوها
بضعف السند، واحتملوا الانتقال إلى التيمم لتعذر الوضوء بتعذر جزئه، وأنت خبير
بعد الإحاطة بجميع ما ذكرنا أن الظاهر أنه لا مجال للتردد في الحكم المذكور، وأيضا
فإن التيمم معلوم الاشتراط بشرط غير معلوم التحقق هنا، والشك في وجود الشرط
يستلزم الشك في وجود المشروط، فلا يتم الانتقال إلى التيمم.
ثم إن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على أن من الحائل الذي لا يجوز المسح عليه
اختيارا الشعر على الرجل، حيث صرحوا في الرأس بالمسح على البشرة أو الشعر
المختص وفي الرجل بالبشرة.
قال بعض المحققين من متأخري المتأخرين بعد نقل ذلك عنهم: " وهذا الحكم
مما لم أقف فيه على تصريح في كلام القوم غير أنهم اقحموا لفظ البشرة في هذا الموضع
ويمكن أن يكون مرادهم الاحتراز عن الخف ونحوه لا الشعر كما هو الظاهر بحسب النظر
لأن المسح على الرجلين إنما يصدق عرفا على المسح على شعرها " انتهى.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء
312

أقول: بل الظاهر أن الوجه في ذلك عندهم ما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني
في شرح الرسالة، حيث قال - بعد نقل عبارة المصنف المتضمنة للمسح على بشرة
الرجلين ما لفظه: " ويستفاد - من حصره المسح في بشرة الرجلين مع تخييره في الرأس
بين مسح مقدم شعره وبشرته - أنه لا يجزئ المسح على الشعر في الرجلين وإن اختص
بالظهر بل يتحتم البشرة. والأمر فيه كذلك، والفارق النص الدال باطلاقه على وجوب
مسح الرجلين، إذ الشعر لا يسمى رجلا ولا جزء منها، مع التصريح في بعض الأخبار
بجواز المسح على شعر الرأس، وإنما لم يصرح الأصحاب بالمنع من المسح على الشعر
في الرجلين لندور الشعر الحائل فيهما القاطع لخط المسح، فاكتفوا باستفادته من لفظ
البشرة، فإنها كالصريح إن لم تكنه " انتهى.
ويرد عليه (أولا) أنه قد صرح هو (قدس سره) وجملة من الأصحاب
بوجوب غسل الشعر النابت على اليد كما تقدم، معللين له تارة بأنه في محل الفرض
وأخرى بأنه من توابع اليد، والفرق بينه وبين ما هنا غير ظاهر، بل تلك التعليلات
إن صحت فهي جارية هنا وإلا فلا في الموضعين.
و (ثانيا) أن الظاهر من خلو الأخبار عن ذكره مع عدم انفكاك الرجل عنه
غالبا جواز المسح عليه.
(السابع) - اختلف الأصحاب في استمرار رفع الوضوء الضروري - بمسح
على الخفين أو الجبائر أو غسل أو نحو ذلك - بعد زوال الضرورة وعدم النقض بأحد الأسباب
المعدودة، فظاهر المشهور بقاء الإباحة وجواز الدخول به في العبادة. ونقل عن الشيخ
في المبسوط - وبه صرح المحقق في المعتبر - تقدير الإباحة بحال الضرورة، وقربه العلامة
في التذكرة، وعللوه بأنها طهارة مشروطة بالضرورة فتزول بزوالها وتتقدر بقدرها.
واعترض عليه بأنه إن أريد الطهارة بقدر الضرورة عدم جواز الطهارة كذلك
بعد زوال الضرورة فحق ولكنه غير ما نحن فيه، وإن أريد عدم إباحتها فهو محل النزاع.
313

وأنت خبير بأن المسألة خالية من النص الدال على ذلك نفيا واثباتا، إلا أنه
يمكن الاستدلال على القول المشهور بأنه لا ريب أن الوضوء المذكور رافع للحدث، ومن
حكم الوضوء الرافع أن لا يزول رفعه إلا بأحد النواقض، وزوال الضرورة ليس
من جملتها، فيجب استصحاب الحكم إلى أن يحصل أحد النواقض المقررة. وفيه أن
الاستصحاب المقطوع بحجيته - كما تقدم تحقيقه - هو ما إذا دل الدليل على ثبوت الحكم
مطلقا، بمعنى عدم الاختصاص بوقت مخصوص أو حالة مخصوصة، فإنه يجب البقاء على
مقتضى ما دل عليه حتى يثبت الرافع، كالحكم باستمرار الطهارة والنجاسة فيما علما فيه
وصحة البيوع والأنكحة ونحو ذلك بعد وقوع العقد الصحيح حتى يثبت الرافع،
أما إذا كانت مخصوصة بحالة معينة أو زمان مخصوص فاجراؤها في الحالة الثانية
والزمان الآخر يتوقف على الدليل، وأنت خبير بأن ما نحن فيه إنما هو من قبيل الثاني،
فإن الدليل الدال على صحة هذا الوضوء ورفعه إنما دل باعتبار حال الضرورة وعدم
التمكن من المسح الواجب أو الغسل مثلا كما هو المفروض، فعند زوال تلك
الحال وتجدد حال أخرى مغايرة لها يحتاج في اجراء الحكم في الحالة الأخرى إلى دليل
وليس فليس. ولعل في تشبيه الشيخ له بالتيمم - حيث نقل عنه أنه علل ذلك بأنها
طهارة ضرورية فتتقدر بقدر الضرورة كالتيمم - إشارة إلى ذلك، فإن وجه المشابهة
ظاهر، فإن الماسح على حائل من خف أو جبيرة والمتيمم شريكان في ترك العضو الممسوح
وكون الترك فيهما لعذر شرعي، فتزول الرخصة فيهما بزواله، وحينئذ فكما أن المتيمم
ينتقض تيممه ولو في الصلاة بزوال الحالة الموجبة له لعدم اقتضاء دليله الاستمرار في جميع
الأحوال على الأصح، كذلك هذا المتوضئ ينتقض وضوؤه بزوال الحالة الموجبة له
لعين ما ذكر.
قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين: " ويتفرع على ذلك أنه لو
زال العذر في المسح على الحائل قبل كمال الوضوء أو بعده وقبل الجفاف والدخول في
314

الصلاة، فهل يجب عليه نزع الحائل والمسح بالبلة قبل الدخول فيها أم يباح له الدخول
فيها به؟ لم أقف لأحد من أصحابنا فيه على صريح كلام، ولعل الأول أقرب، لبقاء
وقت الخطاب بالطهارة المأمور فيها بغسل المغسول ومسح الممسوح - وهو وقت إرادة
القيام إلى الصلاة - إلى وقت زوال العذر وهو متمكن من ايقاعها فيه فيجب، والعدول
عن المأمور به لوجود مانع لا يمنع العود إليه بعد زواله، بل يجب العود إليه لوجود السبب
ومنشأ الخطأ عدم الفرق بين انتفاء الحكم لفقد السبب أو لوجود المانع " انتهى. وبذلك
يظهر قوة القول بالنقض.
(الثامن) - صرح جملة من الأصحاب بأنه لو تأدت التقية بالغسل عوضا عن
المسح على الخفين تعين ولم يجز غيره، وكذا لو تأدت بغسل موضع المسح في الرجل
لم يجب الاستيعاب، وأنه لو مسح في موضع الغسل تقية بطل وضوؤه للنهي المقتضي للفساد
في العبادة، وعلل الأول بأن الغسل أقرب إلى المفروض بالأصل، للالصاق بالبشرة
وكونه مشتملا على المسح مع زيادة، بخلاف المسح على الخفين، لعدم الالصاق، وهو
لا يخلو من شوب النظر، وفي التذكرة جعله أولى ولم يجزم بتعينه، ولعله الأولى.
واحتمل بعضهم في الثاني الصحة لأن النهي لوصف خارج عن العبادة.
(التاسع) - هل يشترط في العمل بالتقية في هذا الموضع وغيره عدم المندوحة
أم لا؟ قولان، اختار ثانيهما ثاني الشهيدين في روض الجنان، وبه صرح أولهما أيضا في مسألة
مسح الرجلين مع البيان وثاني المحققين من شرح القواعد، واختار الأول السيد في المدارك
معللا له بانتفاء الضرر مع وجود المندوحة فيزول المقتضي.
أقول: ويؤيده أيضا أن المكلف لا يخرج عن عهدة التكليف يقينا إلا بالاتيان
بما كلف به شرعا، خرج ما إذا استلزم فعله ضرر التقية ونحوها، فيجوز له الخروج
عن الأول إلى ما يندفع به الضرر، وإلى هذا مال أفاضل متأخري المتأخرين.
إلا أن المفهوم من الأخبار الواردة في استحباب الجماعة مع المخالفين - والحث
315

العظيم عليها، والثواب الموعود عليها، حتى أن من صلى معهم كان كمن صلى مع رسول
الله (صلى الله عليه وآله) مع استلزام ذلك ترك بعض الواجبات أحيانا - مما يؤيد القول
بالجواز مع المندوحة كما هو خيرة الشهيدين.
وقد صرح المحقق الشيخ علي (رحمه الله) في بعض فوائده بالتفصيل بين ما إذا
كان المأمور به في التقية بطريق الخصوص فيصح وإن كان ثمة مندوحة، أو بطريق
العموم فلا يجزي إلا مع عدم المندوحة، وظاهر كلامه (قدس سره) يعطي أن وجه
الفرق حيث إن الشارع في الأول بسبب نصه على ذلك الحكم بخصوصه إقامة مقام
المأمور به حين التقية بخلاف الثاني.
(العاشر) - إذا فعل المكلف فعلا على وجه التقية من العبادات أو المعاملات
فهو صحيح مجزي بلا خلاف، لكن الخلاف في أنه لو تمكن في العبادة قبل خروج
وقتها من الاتيان بها على وجهها هل تجب الإعادة أم لا؟
صرح المحقق الشيخ علي (رحمه الله) بتفريع ذلك على ما قدمنا نقله عنه من
التفصيل بأنه إن كان متعلق التقية مأذونا فيه بخصوصه كغسل الرجلين في الوضوء
والتكتف في الصلاة، فإنه إذا فعل على الوجه المأذون فيه كان صحيحا مجزئا وإن كان
للمكلف مندوحة من فعله، التفاتا إلى أن الشارع أقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين
التقية كما تقدمت الإشارة إليه، فكان الاتيان به امتثالا فيقتضي الاجزاء، قال:
" وعلى هذا فلا تجب الإعادة ولو تمكن منها على غير وجه التقية قبل خروج الوقت،
ولا أعلم في ذلك خلافا من الأصحاب " وبملخص هذا الكلام صرح في شرح القواعد
ثم قال: " وأما إذا كان متعلقها لم يرد فيه نص على الخصوص كفعل الصلاة إلى غير
القبلة، والوضوء بالنبيذ، ومع الاخلال بالموالاة فيجف أعضاء الوضوء كما يراه بعض العامة
فإن المكلف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه إظهار الموافقة لهم
ثم إن أمكن الإعادة في الوقت بعد الاتيان به لوفق التقية وجبت، ولو خرج الوقت نظر
316

في دليل يدل على وجوب القضاء، فإن حصل الظفر به أوجبناه وإلا فلا، لأن القضاء
إنما يجب بأمر جديد. ونقل عن بعض أصحابنا القول بعدم الإعادة مطلقا، نظرا إلى كون
المأتي به شرعيا فيكون مجزئا على كل تقدير. ورد بأن الإذن في التقية من جهة الاطلاق
لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة " انتهى. وأنت خبير بأنه إن اشترط
في جواز العمل بالتقية عدم المندوحة، يلزم على قوله أنه مع المندوحة تجب الإعادة
وقتا وخارجا.
ثم لا يخفى عليك أن المسألة لخلوها عن النص الصريح لا تخلو عن الاشكال
وما ذكره من التعليل في المقام عليل. إلا أن الذي يقرب إلى الفهم العليل والذهن
الكليل - من أخبار حفظة التنزيل الدالة على الأمر بمخالطة العامة ومعاشرتهم وعيادة
مرضاهم وتشييع جنائزهم، حتى ورد " إن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا " (1)
والتأكيد على الصلاة معهم ونحو ذلك، مع استلزام ذلك المخالفة في بعض الأفعال البتة -
هو صحة ما أوجبته التقية مطلقا، سواء كان مأمورا به بطريق الخصوص أو العموم،
له مندوحة عن الاتيان به تقية أم لا، فإن المفهوم من تلك الأخبار أن الغرض من ذلك
هو تأليف القلوب واجتماعها لدفع الضرر والطعن على المذهب وأهله كما يشعر به قول
الصادق (عليه السلام) بعد الأمر بما قدمنا ذكره: " فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا
هؤلاء الجعفرية رحم الله جعفرا ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا فعل
الله بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدب أصحابه " لا أن الغرض إظهار الموافقة لهم في ذلك
الجزئي الخاص لدفع الضرر المترتب عليه خاصة، على أنه في صورة ما إذا كان مستند
التقية الأخبار المطلقة. فمتى اقتضت ضرورة التقية الموافقة لهم وكان ذلك هو الواجب
عليه شرعا فأتى به - وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء - فالإعادة وقتا وخارجا يحتاج
إلى دليل من غير فرق بين المقامين، لأن هذه المسألة في التحقيق فرد من أفراد مسألة

(1) رواه في الوسائل في الباب - 75 - من أبواب الجماعة
(2) رواه في الوسائل في الباب - 75 - من أبواب الجماعة
317

ذوي الأعذار، الأظهر والأشهر فيها عدم الإعادة، وتعليل وجوب الإعادة في الوقت
دون الخارج - بأن اطلاق الإذن في التقية لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة -
فيه أنه كان ما فعله إظهارا للموافقة هو فرضه في تلك الحال شرعا فقد مضى بعد
فعله على الصحة فإعادته مع عدم الدليل لا وجه لها، وإلا فالواجب الإعادة في المقامين
وقتا وخارجا وهو لا يقول به.
(الحادي عشر) - المشهور بين الأصحاب كراهة التكرار في المسح،
وعن ظاهر الخلاف والمبسوط التحريم، وهو ظاهر المقنعة، وعن ابن حمزة أنه عده
من التروك المحرمة، وأن ابن إدريس أنه جعله بدعة، واحتمل في الذكرى أن يكون
مرادهم التكرار مع اعتقاد شرعيته.
ويدل على الوحدة في المسح أخبار الوضوء البياني (1) ومرفوعة أبي بصير
عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " مسح الرأس واحدة... " وعدم الدليل على
الزائد لأنه حكم شرعي وأثباته يحتاج إلى دليل، وربما ظهر من الإنتصار دعوى
الاجماع على ذلك.
لكن نقل شيخنا الشهيد في الذكرى عن ابن الجنيد أنه قال في بيان كيفية
الوضوء: " وفي مسح الرجلين يبسط كفه اليمنى على قدمه الأيمن ويجذبها من أصابع
رجله إلى الكعب ومن الكعب إلى أطراف أصابعه، فمهما أصابه المسح من ذلك أجزأه
وإن لم يقع على جميعه، ثم يفعل ذلك بيده اليسرى على رجله اليسرى " انتهى.
وما ربما يتوهم - من تناول ظواهر أخبار التثنية (3) كقولهم: " الوضوء مثنى
مثنى " لذلك - مردود بما سيجئ تحقيقه إن شاء الله تعالى، ورواية يونس (4) قال:

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الوضوء
318

" أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم
إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم " - مردود بما في تتمتها من قول الرواي:
" ويقول: الأمر في مسح الرجلين موسع: من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا
فإنه من الأمر الموسع إن شاء الله " لأن الظاهر أن قوله (عليه السلام) ذلك تعليل
لما فعله من الاقبال تارة والادبار أخرى. وربما كان مستند ابن الجنيد فيما قدمنا نقله
عنه إلى صدر هذه الرواية إما بقطعها من عجزها أو بحمل العجز على عدم الارتباط بالصدر.
المطلب الرابع
في الأحكام
وتفصيل القول فيها يقع في مسائل: (الأولى) - المشهور بين الأصحاب
استحباب التثنية في الغسل، وتحقيق البحث في هذه المسألة يقع في مواضع:
(الأول) - اعلم أنه قد اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) - بعد
الاتفاق على عدم تقدير الوجوب بعدد معين، بمعنى أنه لو لم يكف الكف الأول
للغسل الواجب وجب الثاني والثالث وهكذا حتى يتأدى الواجب كما نقله في المختلف -
في الغسلة الثانية:
فالمشهور بين الأصحاب الاستحباب، بل نقل عن ابن إدريس دعوى الاجماع
عليه، وكأنه لعدم الاعتداد بخلاف معلوم النسب كما صرح به، حيث قال بعد دعوى
الاجماع: " ولا يعتد بخلاف من خالف من الأصحاب بأنه لا يجوز الثانية، لمعروفية
نسبه " وظاهره وجود القائل بالتحريم أيضا، وهو صريح الشيخ في الخلاف، حيث
قال: " مسألة - الفرض في غسل الأعضاء مرة واحدة والثانية سنة والثالثة بدعة،
وفي أصحابنا من قال: الثانية بدعة. وليس بمعول عليه، ومنهم من قال: إن الثانية
تكلف ولم يقل بأنه بدعة. والصحيح الأول " انتهى. ومنه يفهم أيضا قول ثالث
319

في المسألة وهو الجواز، ولكنه غير ظاهر الجواز.
ونقل جمع من الأصحاب (رضي الله عنهم) عن الصدوق في الفقيه، حيث
قال (1): " الوضوء مرة مرة ومن توضأ مرتين لم يؤجر ومن توضأ ثلاثا فقد أبدع "
وعن البزنطي حيث نقل عنه في مستطرفات السرائر أنه قال (2): " واعلم أن الفضل
في واحدة واحدة ومن زاد على اثنتين لم يؤجر " - عدم استحباب الثانية.
إلا أن الذي يقرب عندي من هذا الكلام هو التحريم:
(أما أولا) - فإنه متى انتفى الأجر عليها لزم زيادتها وعدم كونها من الوضوء
فتكون محرمة لعدم تصور المباح في العبادة، وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني
في الروض.
و (أما الثانية) - فلأن هذا هو الذي يدور عليه كلام الصدوق في غير هذا
الموضع من الفقيه، حيث قال في موضع آخر - بعد أن روى (3) عن الصادق (عليه
السلام): " والله ما كان وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا مرة مرة " - ما هذا
لفظه: فأما الأخبار التي رويت في أن الوضوء مرتين مرتين فأحدها باسناد منقطع يرويه
أبو جعفر الأحول ذكره عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " فرض
الله الوضوء واحدة واحدة، ووضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) للناس اثنتين اثنتين "
وهذا على وجه الانكار لا على جهة الأخبار، كأنه (عليه السلام) يقول: حد الله حدا فتجاوزه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعداه؟ وقد قال الله عز وجل: " ومن يتعد حدود الله
فقد ظلم نفسه " (5) وقد روي " أن الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه
وأن المؤمن لا ينجسه شئ وإنما يكفيه مثل الدهن " (6) وقال الصادق (عليه السلام)

(1) ج 1 ص 29.
(2) رواه في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(3) ج 1 ص 25 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(4) رواه صاحب الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) رواه صاحب الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
320

" من تعدى في وضوئه كان كناقضه " (1) ثم ذكر حديث ابن أبي المقدام الآتي (2) وتأوله
بحمل " اثنتين اثنتين " فيه على التجديد، ثم حمل أيضا حديث " من زاد على مرتين لم
يؤجر " (3) وكذلك ما روى (4) في المرتين " أنه إسباغ " على التجديد أيضا، إلى أن
قال: وقد فوض الله (عز وجل) إلى نبيه (عليه السلام) أ مر دينه، ولم يفوض إليه
تعدي حدوده، وقول الصادق (عليه السلام): " من توضأ مرتين لم يؤجر " (5) يعني
به أنه أتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا يستحق الأجر، وكذلك كل أجير
إذا فعل غير الذي استؤجر عليه لم تكن له أجرة. انتهى.
وهذا الكلام - كما ترى - صريح في انكاره الثانية وقوله ببدعتها، حيث إنه
جعل الحد المفروض من الله تعالى في الوضوء واحدة واحدة، وإن ما زاد تعد للحد،
وإن من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، وفسر عدم الأجر في قوله (عليه السلام):
" من توضأ مرتين لم يؤجر " (6) بأنه أتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا يستحق
الأجر، وملخصه أن التثنية تعد للحد وأنه لا يستحق المثنى - على الأصل وضوئه لكونه
مخالفا متعديا للحد فضلا عن التثنية - أجرا كما لا يستحق الأجير - إذا فعل غير
ما استؤجر عليه - أجرا.
ونقل أيضا القول بعدم الاستحباب عن ثقة الاسلام في الكافي، والذي يظهر
لي من عبارته أيضا هو القول بالتحريم، حيث قال (7) بعد نقل حديث عبد الكريم
الآتي (8) الدال على أنه ما كان وضوء علي (عليه السلام) إلا مرة مرة - ما لفظه " هذا
دليل على أن الوضوء إنما هو مرة مرة لأنه (عليه السلام) كان إذ ورد عليه
أمران كلاهما لله طاعة أخذ بأحوطهما وأشدهما على بدنه، وإن الذي جاء عنهم (عليهم
السلام) أنه قال: " الوضوء مرتان " إنما هو لمن لم تقنعه مرة فاستزاده فقال مرتان

(1) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(4) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(5) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(6) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(7) ج 1 ص 9.
(8) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
321

ثم قال: " ومن زاد على مرتين لم يؤجر " وهو أقصى غاية الحد في الوضوء الذي من
تجاوزه أثم ولم يكن له وضوء، وكان كمن صلى الظهر خمس ركعات، ولو لم يطلق (عليه
السلام) في المرتين لكان سبيلهما سبيل الثلاث " انتهى.
والمفهوم من هذا الكلام أن مراده الجمع بين أخبار المرة والمرتين والثلاث،
بحمل أخبار المرة على أنه الوضوء الشرعي المأمور به، وأخبار المرتين على من أراد سنة
الاسباغ ولم تقنعه المرة لذلك، وإلا فاجزاء المرة - للقدر الواجب الذي كالدهن حقيقة
أو مجازا - مما لا ريب فيه، فيغسل حينئذ بالمرتين، وهو أقصى الحد في الوضوء ومنتهى
الرخصة في الزيادة فيه، وأخبار الثلاث الدالة على عدم الأجر بعد تجاوز الثنتين على من
تجاوز هذا الحد إلى الغسل بثالثة، فإنه يأثم وليس له وضوء، ويمكن توجيهه بأن الثالثة
- بعد غسل العضو غسلا مسبغا بالثنتين - لا مدخل لها في أداء الواجب بل هي زائدة
من تلك الجهة، كزيادة الركعة الخامسة بعد الاتيان بالواجب التي هي الأربع، ولا دليل
هنا على استحباب التكرار بعد أداء الواجب المتصف بكمال سنة الاسباغ، والضمير
في قوله: " وهو أقصى غاية الحد " راجع إلى ما تقدم من الوضوء مرتين، ومحصل
الكلام أن الوضوء الشرعي إنما هو مرة مرة، وأخبار المرتين إنما هي لمن لم تقنعه المرة
في أداء الواجب كاملا، وهذا غاية الحد في الوضوء، فمن زاد على ذلك أثم وبطل
وضوؤه، وهو المراد من عدم الأجر كما أشرنا إليه آنفا، ولعل منشأ ما ذكروه توهم
عود الضمير المذكور إلى قوله: " ومن زاد على مرتين " بمعنى أن الزيادة على المرتين
أقصى غاية الحد، وهو توهم ظاهر البطلان، لأن جعل الزيادة على المرتين الذي هو
عبارة عن التثنية أقصى غاية الوضوء يدل على دخول تلك الزيادة في الوضوء الشرعي
وأنها جزء منه، فتكون الثانية بعد تمام الغسل بالمرتين من جملة الوضوء وأجزائه، وأن
الإثم وعدم الوضوء إنما ينصرف حينئذ إلى من تجاوزها، ويصير حديث التمثيل بمن صلى
الظهر خمس ركعات إنما هو لمن زاد عليها، فكيف يصح حينئذ نفي الأجر عنها بقوله:
322

" ومن زاد على مرتين لم يؤجر " والغرض من المرتين - كما عرفت - إنما هي عبارة عن
غسلة واحدة، ما هذا إلا تناقض ظاهر لا يصدر عن مثل هذا العالم الماهر. ويؤكد
ما قلناه قوله أخيرا: " ولو لم يطلق... الخ " فإن معناه أنه لو لم يرخص لمن استزاده في
المرتين لكان سبيلهما في الإثم وبطلان الوضوء سبيل الثلاث في الإثم وبطلان الوضوء بها
كما ذكره، وهو دليل على ما قلناه من أن غاية الحد المرخص فيه هي المرتان المشتركتان
في أداء الواجب، وأن الزيادة المنفي عنها الأجر في كلامه هي المشار إليها هنا بالثلاث،
وهي التي تكون موجبة للإثم ومبطلة للوضوء عنده.
وأنت إذا تأملت فيما تلوناه ظهر لك أن هذا عين ما ذكره الصدوق (قدس
سره) من تعدي الحد بالتثنية، وعدم استحقاق الأجر على أصل الوضوء المشعر ببطلانه
فضلا عن التثنية كما عرفته مما تقدم، والعجب من أولئك الفضلاء المحققين في عدم إمعان
النظر في كلام الشيخين المذكورين، حيث نقلوا عنهما في الكتابين المذكورين القول
بعدم استحباب الثانية، بل صرح البعض منهم بصراحة كلام الكافي في عدم الحرمة
والبدعية وقال إنه ظاهر الصدوق، ونحن إنما أطلنا البحث بنقل العبارتين وبيان ما هو
المفهوم منهما ليظهر لك جلية الحال مما ذكره أولئك الأبدال، وبذلك يظهر أن الظاهر أن نقل
القول بالتحريم في كلام الشيخ وابن إدريس إشارة إلى ما حررناه من كلام هذين الشيخين
(الثاني) - اعلم أن الأخبار الواردة عن العترة الأطهار (صلوات الله عليهم)
أكثرها دال على الواحدة:
فمنها - أخبار الوضوء البياني (1) فإنها على تعددها إنما تضمنت الغسل بكف
كف لكل من الأعضاء المغسولة.
ومنها - قول الباقر (عليه السلام) في صحيحة زرارة (2): " إن الله وتر يحب

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 و 31 - من أبواب الوضوء.
323

الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه واثنتان للذراعين... "
وقوله (عليه السلام) في حديث ميسرة (1): (الوضوء واحدة واحدة...).
وقول الصادق (عليه السلام) في جواب يونس بن عمار (2) حيث سأله عن الوضوء
للصلاة فقال: " مرة مرة ".
وقول الباقر (عليه السلام) للأخوين في صحيحتهما عنه (3) بعد أن حكى لهما
وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد أن قالا له: أصلحك الله فالغرفة الواحدة
تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ فقال: " نعم إذا بالغت فيها، والثنتان تأتيان على
ذلك كله ".
وقول الصادق (عليه السلام) في موثقة عبد الكريم (4): " ما كان وضوء
علي (عليه السلام) إلا مرة مرة ".
وقوله (عليه السلام) فيما رواه في الفقيه (5) مرسلا مضمرا " من توضأ مرتين لم يؤجر ".
وقول الصادق (عليه السلام) فيما أرسله عنه في الفقيه (6): " والله ما كان
وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا مرة مرة، وتوضأ النبي (صلى الله عليه وآله)
مرة مرة فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " وقوله: " وتوضأ النبي (صلى
الله عليه وآله) إلى آخره " يحتمل أن يكون من مقول قول الصادق (عليه السلام) وأن يكون من كلام صاحب الفقيه. فيكون خبرا مقطوعا، وهو الظاهر الذي فهمه جملة
من الأصحاب.
وأما ما يعارضها ظاهرا من الأخبار فمنه - قول الصادق (عليه السلام) في صحيحة

(1) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(4) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(5) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء. والحديث في
الفقيه والوسائل مروي عن الصادق (ع) كما تقدم منه ص 321.
(6) ج 1 ص 25 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
324

معاوية بن وهب (1): " الوضوء مثنى مثنى " وقوله (عليه السلام) في صحيحة
صفوان (2): " الوضوء مثنى مثنى " وقوله في رواية زرارة (3): " الوضوء مثنى مثنى
من زاد لم يؤجر عليه " وقوله في موثقة يونس (4): " يغسل ذكره ويذهب الغائط
ثم يتوضأ مرتين مرتين ".
وقول الرضا (عليه السلام) فيما رواه في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي (5):
" أن الفضل في واحدة ومن زاد على اثنين لم يؤجر ".
وقول الصادق (عليه السلام) في مرسلة مؤمن الطاق (6): " فرض الله الوضوء
واحدة واحدة ووضع رسول الله للناس اثنتين اثنتين ".
وقوله (عليه السلام) في مرسلة عمرو بن أبي المقدام (7): " إني لأعجب ممن يرغب
أن يتوضأ اثنتين اثنتين وقد توضأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) اثنتين اثنتين ".
وما رواه في الفقيه مضمرا مرسلا (8) " روى في المرتين أنه إسباغ ".
وقول الصادق (عليه السلام) في مرسلة ابن أبي عمير (9): " الوضوء واحدة
فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة ".
وقوله (عليه السلام) في رواية بكير (10): " من لم يستيقن أن الواحدة
من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين ".
وقوله (عليه السلام) في حسنة داود بن زربي (11): " توضأ ثلاثا ثلاثا، قال

(1) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
(5) هذا الحديث - في السرائر والوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء - مروي
عن نوادر البزنطي عن الصادق (ع).
(6) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(7) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(8) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(9) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(10) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(11) المروية في الوسائل في الباب - 32 - من أبواب الوضوء.
325

ثم قال لي: أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟ قلت بلى... ".
وروى الصفار في كتاب بصائر الدرجات بسنده فيه عن عثمان بن زياد (1)
" أنه دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له رجل: أني سألت أباك عن الوضوء
فقال مرة مرة فما تقول أنت؟ فقال: إنك لم تسألني عن هذه المسألة إلا وأنت ترى
أني أخالف أبي، توضأ ثلاثا ثلاثا وخلل أصابعك ".
وروى في كتاب عيون أخبار الرضا (2) بسنده فيه إلى الفضل بن شاذان
مما كتبه الرضا (عليه السلام) للمأمون من محض الاسلام قال فيه: " ثم الوضوء كما أمر
الله في كتابه: غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين مرة واحدة ".
ورواه في موضع آخر (3) مثله إلا أنه قال: " إن الوضوء فريضة واثنتان إسباغ ".
وروى محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي في كتاب الرجال (4) بسنده فيه
عن داود الرقي قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك كم عدة
الطهارة؟ فقال: أما ما أوجبه الله فواحدة، وأضاف إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) واحدة
لضعف الناس، ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له. أنا معه في ذا حتى جاء داود بن زربي
فسأله عن عدة الطهارة فقال له: ثلاثا ثلاثا من نقص عنه فلا صلاة له. قال: فارتعدت
فرائصي وكاد أن يدخلني الشيطان فأبصر أبو عبد الله (عليه السلام) إلي وقد تغير لوني
فقال: اسكن يا داود هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق. قال: فخرجنا من عنده وكان
ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود الزربي وأنه
رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد، فقال أبو جعفر المنصور إني مطلع إلى طهارته فإن هو توضأ
وضوء جعفر بن محمد - فإني لأعرف طهارته - حققت عليه القول وقتلته، فاطلع وداود يتهيأ

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 32 - من أبواب الوضوء
(2) ص 266 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(3) ص 269 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(4) ص 200 وفي الوسائل في الباب - 32 - من أبواب الوضوء
326

للصلاة من حيث لا يراه فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبد الله
(عليه السلام) فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه، قال: فقال
داود: فلما أن دخلت عليه رحب بي وقال: يا داود قد قيل فيك شئ باطل وما
أنت كذلك، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضي فاجعلني في حل،
وأمر له بمائة ألف درهم، فقال داود الرقي: التقيت أنا وداود الزربي عند أبي عبد الله
(عليه السلام) فقال له داود بن زربي: جعلت فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا ونرجو أن
ندخل بيمنك وبركتك الجنة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فعل الله بك وبأخوانك
من جميع المؤمنين. فقال أبو عبد الله (عليه السلام) لداود بن زربي: حدث داود الرقي بما
مر عليك حتى تسكن روعته، قال فحدثه بالأمر كله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):
لذا افتيته لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو، ثم قال يا داود بن زربي: توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه وأنك إن زدت عليه فلا صلاة لك ".
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد (1) بسنده إلى علي بن يقطين: " أنه كتب
إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الوضوء، فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام) فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا
وتستنشق ثلاثا وتغسل وجهك ثلاثا وتخلل شعر لحيتك وتغسل يديك من أصابعك إلى
المرفقين ثلاثا وتمسح رأسك كله وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما وتغسل رجليك إلى الكعبين
ثلاثا، ولا تخالف ذلك إلى غيره، فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما
رسم فيه مما جميع العصابة على خلافه، ثم قال: مولاي أعلم بما قال وأنا أمتثل أمره،
فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالا لأمر أبي الحسن
(عليه السلام) وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد وقيل له إنه رافضي، فامتحنه الرشيد من حيث
لا يشعر فلما نظر إلى وضوئه ناداه كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة

(1) ص 315 وفي الوسائل في الباب - 32 - من أبواب الوضوء
327

وصلحت حاله عنده، وورد عليه كتاب أبي الحسن: ابتداء من الآن يا علي بن يقطين
توضأ كما أمر الله: اغسل وجهك مرة فريضة وأخرى اسباغا، واغسل يديك من
المرفقين كذلك، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد
زال ما كنا نخاف منه عليك، والسلام ".
هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة، وأصحابنا (رضوان الله عليهم)
في مطولاتهم الاستدلالية لم يذكروا منها إلا اليسير، وقد اختلفت كلمتهم (طيب الله تعالى
مراقدهم) في الجمع بينها على أقوال:
(أحدها) - ما هو المشهور من حمل أخبار التثنية والمرتين على التثنية في الغسل
وحمل الثانية على الاستحباب بعد الغسل كاملا بالأولى، وحمل نفي الأمر في الثانية
على ما إذا اعتقد وجوبها.
وفيه أن الأخبار الكثيرة المستفيضة بالوضوء البياني خالية منه بل كلها مشتملة
على الوحدة في الغسل، ويبعد غاية البعد الاستحباب على الوجه المذكور مع عدم اشتمال
شئ منها عليه.
وربما أجيب عن ذلك بأن تلك الأحاديث إنما وردت في مقام بيان الواجب
من الوضوء خاصة.
ويرد عليه (أولا) - أنها دعوى خالية من الدليل، بل المتبادر منه ما كان
يفعله (صلى الله عليه وآله) في وضوئه غالبا، وهو مشتمل على الواجب والمستحب
لا المفترض خاصة، وإلا لكان الأنسب في السؤال أو الحكاية ابتداء أن يسأل
عن المفترض أو يقال: ألا أحكي لكم ما افترضه الله من الوضوء.
و (ثانيا) - إن جملة من الأخبار حكاية وضوئهم (عليهم السلام) كخبر
عبد الرحمان بن كثير الهاشمي (1) الوارد في صفة وضوء مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)

(1) المروي في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الوضوء
328

مع اشتماله على جملة من المستحبات، فإنه ليس فيه تصريح بشئ من ذلك، بل هو ظاهر
الدلالة على العدم، وصحيحتي أبي عبيدة الحذاء (1) وحماد بن عثمان (2) في وصف وضوء
الباقر والصادق (عليهما السلام) سيما مع ارداف بعض أخبار الوحدة بالقسم كما تقدم.
(وثالثا) - أنه قد روى زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال قال:
" الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه، وحكى لنا وضوء رسول الله (صلى الله عليه
وآله): فغسل وجهه مرة واحدة وذراعيه مرة واحدة ومسح رأسه بفضل وضوئه ورجليه "
وأنت خبير بأنه مع حمل التثنية في الخبر على ما هو المشهور من استحباب غرفة ثانية والغسل
مرة ثانية ينافي ما حكاه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المرة الواحدة،
فيحصل التدافع بين صدر الخبر وعجزه.
(الثاني) - ما ذهب إليه الصدوق (طاب ثراه) في الفقيه من حمل المرتين
في تلك الأخبار على التجديد تارة وعلى الغسلتين أخرى كما قدمنا من كلامه، ففي مثل
حديث مؤمن الطاق (4) حمل " اثنتين اثنتين " فيه على غسلتين غسلتين ولكن تأوله
بالحمل على الانكار دون الأخبار، مستندا إلى ما عرفته ثمة من أن " الوضوء حد من حدود الله
وأنه لا يجوز أن يحد الله حدا ويتجاوزه رسوله، وأنه تعالى فوض إلى نبيه أمر دينه
ولم يفوض إليه تعدي حدوده " وكذا فيما رواه من قول الصادق (عليه السلام) (5)
" من توضأ مرتين لم يؤجر " حمله على الغسلتين وأوضح نفي الأجر فيه بما تقدم في كلامه،
وحمل حديث ابن أبي المقدام على التجديد، وعلى ذلك أيضا حمل ما رواه مرسلا (7)
من " أن المرتين إسباغ " قال: " والخبر الذي روى " أن من زاد على مرتين لم يؤجر،

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(2) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(4) المروي في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(5) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(6) المتقدم في الصحيفة 325.
(7) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
329

يؤكد ما ذكرته، ومعناه أن تجديده بعد التجديد لا أجر له كالأذان، من صلى الظهر
والعصر بأذان وإقامتين أجزأه، ومن أذن للعصر كان أفضل، والأذان الثالث
بدعة لا أجر له " انتهى.
ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف الظاهر والنظر الغير الخفي على الماهر:
(أما أولا) - فلأن ما تأول به رواية مؤمن الطاق من الحمل على الانكار دون
الأخبار مدخول بأن صدر رواية الكشي المتقدمة (1) قد تضمن أن الثانية إضافة
من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على وجه لا يقبل التأويل.
و (أما ثانيا) - فلأن ما استند إليه من أن " الوضوء حد من حدود الله... الخ "
مهدوم بما رواه هو وغيره من الأخبار الدالة على أن الذي فرضه الله تعالى من الصلاة
إنما هو ركعتان فأضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الثلاثية منها ركعة وإلى الرباعية
اثنتين (2) وفي بعض الأخبار " وفوض الله إلى محمد فزاد وهي سنة ".
و (أما ثالثا) - فلأن التجديد لا ينحصر في دفعتين خاصة حتى يمكن حمل
حديث (مثنى مثنى) و " مرتين مرتين " أو نحوهما عليه، كما توهمه (قدس سره)
وتبعه جمع من الفضلاء عليه، إذ الظاهر من الأدلة وكلام الأصحاب في هذا الباب
هو استحباب التجديد وإن ترامى مع الفصل ولو بنافلة، وعموم الأدلة - مثل قولهم
(عليهم السلام): " الوضوء على الوضوء نور على نور " (3) وقولهم: " من جدد وضوءه
من غير حدث جدد الله توبته من غير استغفار " (4) وقولهم: " الطهر على الطهر عشر
حسنات (5) " وغير ذلك - شاهد على ما ذكرنا من الزيادة على الدفعتين والثلاث والأزيد.
وأما ما تكلفه (ره) - في معنى " من زاد على المرتين لم يؤجر " من قوله: " ومعناه

(1) في الصحيفة 326.
(2) روى صاحب الوسائل هذه الأخبار في الباب - 13 - من أعداد الفرائض من كتاب الصلاة
(3) المروي في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(4) المروي في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(5) المروي في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
330

أن تجديده بعد التجديد لا أجر له.. الخ " - ففيه أنه إن أراد التجديد من غير
تخلل زمان أو صلاة أو نحوهما فالتجديد الأول أيضا لا أجر له، بل هو ليس بتجديد
لأن الوضوء جديد، وإن أراد به التجديد مع التخلل كما في مثال الأذان الذي أورده
فقوله: " لا أجر له " ممنوع، كيف وهو نفسه وروى في هذا المقام عن النبي (صلى الله
عليه وآله ": " أنه كان يجدد الوضوء لكل فريضة ولكل صلاة (1) ".
و (أما رابعا) - فلأن حمل الاسباغ على التجديد فيما رواه (2) من " أن
المرتين إسباغ " مما لا يكاد يشم له رائحة من الأخبار ولا من كلام أحد من الأصحاب،
إذ الظاهر المتبادر من الاسباغ هو الاكثار من ماء الوضوء لا تكراره، والعجب من جمع
من محققي متأخري المتأخرين حيث تبعوه في هذا التأويل وجعلوا عليه المدار والتعويل
من غير إعطاء التأمل حقه في ذلك ولا إمعان النظر فيما هنالك.
(الثالث) - ما ذهب إليه الشيخ حسن في المنتقى قال (قدس سره) -
بعد نقل الخبر الدال على قوله: " مثنى مثنى " -: " والمتجه حمله على التقية، لأن
العامة تنكر الوحدة وتروي في أخبارهم التثنية " (3) انتهى.

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء.
(2) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(3) في البحر الرائق لابن نجيم ج 1 ص 23 " الأولى فرض والثنتان سنة. وذكروا
لدليل السنة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله). توضأ مرة وتوضأ مرتين وتوضأ ثلاثا " وهذه الروايات
التي أشار إليها رواها البخاري في صحيحه أول باب الوضوء وفي بداية المجتهد لابن رشد
المالكي ج 1 ص 11 " اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة المرة إذا
أسبغ وأن الاثنتين والثلاث مندوب إليهما، وفي المهذب لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي
ج 1 ص 17 " يستحب أن يتوضأ ثلاثا وإن اقتصر على مرة وأسبغ أجزأه وإن خالف
بين الأعضاء فغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا جاز " وفي المغني لابن قدامة
ج 1 ص 139 " الوضوء مرة مرة والثلاث أفضل في قول أكثر أهل العلم. ولم يوقت
مالك المرة أو الثلاث، وعند الأوزاعي الوضوء ثلاثا إلا غسل الرجلين فإنه ينقيهما ويجوز
غسل بعضها مرة وبعضها أكثر " وفي فتح الباري لابن حجر ج 1 ص 166 " من الغريب
ما عن بعض العلماء من عدم جواز النقص عن الثلاث لمخالفته الاجماع، وقول مالك في المدونة -:
لا أحب الواحدة - ليس فيه ايجاب الزيادة عليها " وفي شرح النووي على صحيح مسلم بهامش
إرشاد الساري ج 2 ص 213 " أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة
وعلى أن الثلاث سنة، وجاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة وثلاثا وبعضها مرة وبعضها
مرتين وبعضها ثلاثا، واختلافها دليل الجواز وأن الثلاث كمال والواحدة تجزؤ،
وعلى هذا يحمل اختلاف الأحاديث "
331

أقول: وقد نقل القول بذلك في المعتبر عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، ونقل
من رواياتهم في ذلك ما رووه عن ابن عمر (1) أنه قال: " توضأ رسول الله (صلى الله
عليه وآله) مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين
وقال: من ضاعف وضوءه ضاعف الله له الأجر، ثم توضأ ثالثة وقال: هذا وضوئي
ووضوء الأنبياء من قبلي ".
ثم لا يخفى عليك أن ما ذكره من الحمل وإن كان لا بأس به بحسب الظاهر، إلا
أنه مما لا تجتمع عليه روايات المسألة كملا، لما عرفت في قصتي داود بن زربي وعلي بن
يقطين ورواية بصائر الدرجات (2) من أن التقية إنما كانت في الغسلات الثلاث وأنهم
(عليهم السلام) أمروا داود وعلي بن يقطين بعد زوال المحذور بالتثنية، وقد تضمن
صدر رواية داود تعليل الأمر بإضافة الرسول (صلى الله عليه وآله) الثانية بأنها لضعف

(1) في سنن البيهقي ج 1 ص 80 عن معاوية بن قرة عن ابن عمر قال: " دعا
النبي (صلى الله عليه وآله) بماء فتوضأ واحدة فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم
دعا بماء فتوضأ مرتين وقال: هذا وضوء من يؤتى أجره مرتين، ثم دعا بماء فتوضأ
ثلاثا ثلاثا وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ".
(2) في الصحيفة 326 و 327.
332

الناس، وتضمنت رواية علي بن يقطين تعليلها بالاسباغ، وعاضدها في ذلك أيضا
ما عرفت من بعض الأخبار.
وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين بعد نقل كلام المنتقى ما صورته: " هو
بعيد، لأن معظم العامة ورواياتهم المعتمدة على التثليث (1) فلا تتأدى التقية
بالمرتين " انتهى.
وشيخنا البهائي (طاب ثراه) في كتاب الحبل المتين بعد أن نقل حسنة داود ابن
زربي (2) احتمل فيها أن المراد بالتثليث فيها تثليث الأعضاء المغسولة بمعنى زيادة إدخال
الرجلين في الغسل، ثم قال: " ويكون الأمر بالتقية في غسل الرجلين كما ورد مثله
من أمر الكاظم (عليه السلام) علي بن يقطين بغسل الرجلين تقية للرشيد، والقصة
مشهورة أوردها المفيد في الإرشاد وغيره، ويؤيد هذا الحمل أن هذا هو الفعل الذي
اشتهر بين العامة أنه الفصل المميز بينهم وبين الخاصة، وأما قولنا بوحدة الغسلات أو
تثنيتها وكون الزائد على ذلك بدعة عندنا، فالظاهر أنه لم يشتهر بينهم ولم يصل إلى حد
يكون دليلا على مذهب فاعله حتى يحتاج إلى التقية فيه، على أن الغسلة الثالثة ليست
عندهم واجبة وربما تركوها " انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو قوي بالنظر إلى إجمال تلك الرواية التي نقلها، أما بالنظر إلى ما اشتملت
عليه روايتا الكشي والمفيد (3) من قصتي داود وعلي بن يقطين فغير تام، فإنهما صريحان
في كون التثليث إنما هو في الغسلات كما لا يخفى، وما ذكره (طاب ثراه) - من أن
غسل الرجلين هو الذي اشتهر كونه فصلا مميزا بين الخاصة والعامة دون التثليث - جيد
إلا أن المفهوم من تتبع الأخبار ومطالعة السير أن مذاهب العامة خذلهم الله ليس لها حد

(1) تقدم في التعليقة 3 في الصحيفة 231 ماله دخل في المقام.
(2) المتقدمة في الصحيفة 326
(3) المتقدمتان في الصحيفة 326 و 327
333

ولا انضباط في الصدر الأول، فربما اشتهر القول بينهم في عصر من الأعصار على وجه
لا يتمكن أحد من العمل بخلافه وندر في عصر آخر، لأن المدار في شيوع تلك المذاهب
على ما اعتنت به سلاطين الجور وأئمة الضلال من نصب قضاة من جهتهم وحمل الناس
على العمل بما يفتون به، ولا ريب أن عمل كل من قضاتهم وفقهائهم إنما هو على ما تستحسنه
عقولهم وتقتضيه قياساتهم، فلا قاعدة لهم مربوطة ولا سنة لهم مضبوطة، واشتهار
هذه المذاهب الأربعة إنما وقع أخيرا كما صرح به جملة من علمائنا وعلمائهم، وحينئذ
فمن الجائز اشتهار التثليث في الغسل في ذلك الوقت وإن ندر في وقت آخر، ومن ذلك
يعلم أيضا قرب احتمال التقية في أخبار التثنية كما احتمله في المنتقى، على أن الذي رأيته
فيما حضرني من كتبهم الفروعية ذكر التثليث في مستحبات الوضوء مصرحين بأن الأولى
فرض والثانية سنة والثالثة كمال السنة، ولعل اشتهار التثليث عندهم - وملازمتهم عليه
على وجه يتهمون من تركه بكونه رافضيا، كما سمعته من قصتي داود وعلي بن يقطين -
أن الشيعة لما أنكرته تمام الانكار بل أبطلوا به الوضوء كما دلت عليه نصوصهم ردا على العامة،
شدد العامة الأمر فيه أيضا ردا على الشيعة ولازموا عليه تمام الملازمة عنادا لهم، ويؤيده
أنهم قد تركوا كثيرا من السنن مع اعترافهم بكونها كذلك عنادا للشيعة لملازمتهم عليها،
كما أوضحنا جملة من ذلك في بعض رسائلنا، فجعلوا كل من لم يعمل بالتثليث رافضيا،
والعجب من شيخنا البهائي (طاب ثراه) حيث استند إلى قصة علي بن يقطين في دلالتها
على الأمر بغسل الرجلين تقية وحمل التثليث على ضم غسل الرجلين إلى غسل العضوين
الآخرين، وغفل عما دلت عليه صريحا من الأمر بغسل كل من تلك الأعضاء ثلاثا
ثلاثا، ولعله (قدس سره) لم يلاحظ الرواية وقت التصنيف.
(الرابع) - ما ذهب إليه شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين من حمل التثنية
على الغسل والمسح، قال في الكتاب المذكور: " ولا يخفى احتمال تلك الأخبار لمعنى
آخر طالما يختلج بالبال، وهو أن يكون (عليه السلام) أراد بقوله: " الوضوء مثنى
334

مثنى " أن الوضوء الذي فرضه الله إنما هو غسلتان ومسحتان لا كما يزعمه المخالفون من أنه
ثلاث غسلات ومسحة واحدة، وقد اشتهر عن ابن عباس أنه كأن يقول: " الوضوء
غسلتان ومسحتان (1) نقله الشيخ في التهذيب وغيره، ومما يؤيد هذا الحمل ما تضمنه
الحديث العاشر أعني حديث يونس بن يعقوب (2) من قول الصادق (عليه السلام)
في جواب السؤل عن الوضوء الذي افترضه الله على العباد: " يتوضأ مرتين مرتين "
فإن المراد بالمرتين فيه الغسلتان والمسحتان لا تثنية الغسلات، فإنها ليست مما افترضه
الله على العباد " انتهى.
وما ذكره (رحمه الله) وإن أمكن احتماله بالنسبة إلى صحيحتي معاوية بن وهب
وصفوان (3) الدالتين على أن " الوضوء مثنى مثنى " لاجمالهما وكذا حديث يونس بن
يعقوب إلا أنه لا يجري في غيرهما مما يدل على التثنية من الأخبار المتقدمة، فلا يحسم
مادة الاشكال.
(الخامس) - ما ذهب إليه بعض من الأصحاب من حمل تلك الأخبار على بيان
نهاية الجواز، وإلى هذا يميل كلام السيد السند في المدارك، حيث قال - بعد نقل كلام
المشايخ الثلاثة المتقدم - ما لفظه: " ومقتضى كلام المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم)
أفضلية المرة الواحدة، وهو الظاهر من النصوص، وعلى هذا فيمكن حمل الأخبار
المتضمنة للمرتين على أن المراد بها بيان نهاية الجواز، ثم استشهد بقوله (عليه السلام)

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء، وفي التهذيب ص 18
ورواه عن ابن عباس الطبري في تفسيره ج 10 ص 58 الطبعة الثانية وابن كثير في تفسيره
ج 2 ص 25 وابن العربي في أحكام القرآن ج 1 ص 239 والعيني في عمدة القاري
ج 1 ص 657.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة.
(3) المتقدمتين في الصحيفة 325.
335

في صحيحة الأخوين المتقدمة (1): " والثنتان تأتيان على ذلك كله " ثم قال: وأعلم
المستفاد من كلام الأصحاب أن المستحب هو الغسل الثاني الواقع بعد إكمال الغسل
الواجب، وأنه لو وقع الغسل الواحد بغرفات متعددة لم يوصف باستحباب ولا تحريم،
والأخبار إنما تدل - بعد التسليم - على أن الاستحباب كون الغسل الواجب بغرفتين،
والفرق بين الأمرين ظاهر " انتهى.
والظاهر أنه جنح هنا إلى القول الثالث الذي قدمنا نقله عن الشيخ في الخلاف
وحمل عليه كلام المشايخ الثلاثة، متمسكا ينفي الأجر على الثانية. وفيه ما قد عرفته
سابقا في ذيل كلام ذينك الشيخين الأعظمين، وهو (قدس سره) لم ينقل من كلام
الصدوق إلا ما قدمنا نقله عنه أولا (2) من قوله: " الوضوء مرة مرة، ومن توضأ مرتين
مرتين لم يؤجر، ومن توضأ ثلاثا فقد أبدع " دون الكلام الأخير الذي هو ظاهر الدلالة
بل صريحها فيما ادعيناه، ثم إن قوله (طاب ثراه): " واعلم أن المستفاد... الخ " ظاهر
الدلالة في الرجوع عما ذكره أولا، إذ ظاهر الكلام الأول أن الثانية التي هي نهاية
الجواز إنما هي بعد تمام الغسل الواجب، وكلامه الأخير ظاهر المخالفة لذلك، ولعل
في قوله أولا: " وعلى هذا فيمكن... الخ " إشارة إلى ذلك، ثم إنه مع
الاغماض عما ذكرنا فهذا الحمل لا تنطبق عليه أخبار المسألة كملا على وجه يحسم مادة
النزاع، لعدم جريانه في الأخبار الدالة على أن الثانية إسباغ كما هو ظاهر.
(السادس) - ما ذكره المحدث الكاشاني (قدس سره) في الوافي من حمل
أحاديث الوحدة على الغسلة وأحاديث التثنية على الغرفة، قال: " وبهذا تكاد تتوافق
جميع الأخبار وينكشف عنها الغبار، كما يظهر بعد التأمل في كل كل، وإن كان أيضا
لا يخلو من تكلف إلا أنه أقل تكلفا مما ذكروه، فيصير معنى حديث مؤمن الطاق (3)

(1) في الصحيفة 324.
(2) في الصحيفة 320
(3) المتقدم في الصحيفة 325
336

" أن الفرض في الوضوء إنما هو غسلة واحدة، ووضع رسول الله (صلى الله عليه وآله)
للناس غرفتين لتلك الغسلة " فهو تحديد منه لما لم يرد له من الله تحديد ليس بتعد من حد،
وأما الثنتان في قوله: " واثنتان لا يؤجر " (1) فالمراد بهما الغسلتان، والمراد بالواحدة
والثنتين في قوله: " من لم يستيقن أن الواحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين "
الغرفة والغرفتان، والدليل على هذا التأويل ما مضى من حيث زرارة وبكير:
" فقلنا أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ فقال: نعم أن
بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله " انتهى.
وظني أن هذا الاحتمال أقرب من تلك الاحتمالات إلى الروايات، لكن لا على ما
يفهم من كلامه (رحمه الله) من حمل لفظ الواحدة والمرة على الغسلة كائنا ما كان، بل
على ما تقتضيه القرائن الحالية وتساعده المقامات المقالية، ومن أن الغسلة المفروضة
يستحب أن تكون بغرفتين دائما، كما ذكره في توجيه رواية مؤمن الطاق (4) من حمل
الوحدة على الغسلة والتثنية على الغرفة، وأن ذلك تحديد منه (صلى الله عليه وآله)
لما فرضه الله تعالى، فإنه خلاف ما استفاض عنه (صلى الله عليه وآله) في حكاية وضوئه
وعن أبنائه (عليهم السلام) في الحكاية عنهم من أن الوضوء غرفة غرفة، إذ لو كان
قد وقع الغرفتين حدا لتلك الغسلة بمعنى أنه سن أن تكون الغسلة بغرفتين، لكان هو
(صلى الله عليه وآله) أولى من لازم عليه كما ندب إليه، وأبناؤه (عليهم السلام) أولى
من أحيى سنته ونهج طريقه، بل الظاهر أن المراد منها أن الفرض الذي أوجبه الله
تعالى في الوضوء الغسل ولو كالدهن، وهو يحصل بالغرفة المتعارفة الغير المبالغ فيها،

(1) في مرسل ابن أبي عمير المتقدم في الصحيفة 325.
(2) في رواية ابن بكير المتقدمة في الصحيفة 325
(3) المروي في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(4) المتقدمة في الصحيفة 325
337

وزاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) غرفة أخرى ليحصل بالجميع سنة الاسباغ،
وعلى هذ ينطبق كل من هذه الرواية ورواية الكشي.
(السابع) - ما خطر بالبال العليل والفكر الكليل، وبيانه أن الواجب
من الغسل هو ما يحصل به مسمى الجريان اتفاقا، وهو يحصل بالغرفة اليسيرة إن حملنا
أخبار الدهن على المبالغة، وإلا فقد عرفت ما سبق أن العمل بها على ظاهرها لا يخلو
من قوة ورجحان، وحينئذ نقول هنا: إن بعضا من تلك الأخبار المتقدمة تضمنت
أن التثنية من الاسباغ المستحب في الوضوء كما استفاض في جملة من الأخبار، ومعنى
الاسباغ هو الغسل الواجب بماء كثير يتيقن استيعابه للعضو، ولا يستلزم تعدد
الغرفات بل قد يكون بغرفة واحدة مملوءة، فالاسباغ حينئذ يحصل إما بملء الكف
من الماء مرة واحدة، كما حكاه حماد بن عثمان في صحيحته عن الصادق (عليه السلام)
في حكاية وضوئه (عليه السلام) حيث قال: " فدعا بماء فملأ به كفه فعم به وجهه،
ثم ملأ كفه فعم به يده اليمنى، ثم ملأ كفه فعم به يده اليسرى... الحديث "
وكما حكاه زرارة في صحيحته عن أبي جعفر (عليه السلام) في حكايته وضوء
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن ذلك مبني على سنة الاسباغ، إذ الغسل الواجب
يحصل بما هو كالدهن، وهو يحصل بالغرفة اليسيرة كما لا يخفى، أو بالمرتين الغير المملوءتين،
كما هو الظاهر من أحاديث التثنية بقرينة ما دل منها على أن الثانية إسباغ حملا لمطلقها
على مقيدها، وقد أستفيد كلا الفردين من صحيحة الأخوين حيث قالا له:
" فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ فقال: نعم إذا بالغت فيها والثنتان
تأتيان على ذلك كله " فإن ذلك كله مبني على سنة الاسباغ البتة، وبعين ذلك يقال

(1) المتقدمة في الصحيفة 326
(2) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
338

في رواية مؤمن الطاق وما في معناها مما دل على أن الفريضة واحدة وزاد رسول الله
(صلى الله عليه وآله) الثانية لسنة الاسباغ فيغسل بمجموعهما العضو لأجل الاسباغ،
والظاهر أن معنى قوله في رواية داود الرقي المنقولة عن الكشي: " وأضاف إليها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) الثانية لضعف الناس " أي ضعف عقولهم بسبب عدم
مقاومة الوساوس الشيطانية بالشك في وصول الماء إلى جميع العضو عند الاكتفاء بغرفة،
فسن (صلى الله عليه وآله) الثانية ليحصل الجزم والاطمئنان باستيعاب العضو بالغسل.
(لا يقال): إن زيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الغرفة الثانية لسنة
الاسباغ ينافيه الحصر في المرة في قوله (عليه السلام) في موثقة عبد الكريم (3):
" ما كان وضوء علي (عليه السلام) إلا مرة مرة " والقسم في قوله (عليه السلام) في مرسلة
الصدوق: " والله ما كان وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا مرة مرة ".
(لأنا نقول): قد عرفت أن الاسباغ يحصل بأحد فردين: إما بالغرفة المبالغ
فيها كما عرفت من ذينك الحديثين المتقدمين (5) أو الثنتين الغير المبالغ فيهما، وهذان
الخبران محمولان على الأول.
وبالجملة فإن بعض الأخبار تضمن أن الغرفة الثانية لسنة الاسباغ، وبعض
الأخبار تضمن الغرفة المملؤة والمبالغ فيها، ومن الظاهر البين أن المبالغة فيها وملء الكف
بها إنما هو لتحصيل سنة الاسباغ كما عرفت، وبعض الأخبار جمعهما معا، وبعض
تضمن الغرفة أو المرة من غير ذكر المبالغة والملأ مع كونه مما يجب حمله على الوجه الأكمل،
وبعضها تضمن الثنتين من غير ذكر الاسباغ، فالواجب حمل ما تضمن من الأخبار المرة
أو الغرفة عاريا عن القيد على مقيدها ليكون واقعا على الوجه الأكمل، وما تضمن التثنية

(1) المتقدمة في الصحيفة 325
(2) المتقدمة في الصحيفة 326
(3) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(5) وهما صحيحا حماد وزرارة المتقدمان في الصحيفة 338
339

عاريا عن ذلك القيد أيضا على مقيدها بذلك القيد، وعليه تجتمع الأخبار. على أنه
يمكن أيضا أن يقال: إنه يجوز أن تكون التثنية مخصوصة بغيرهم (صلوات الله عليهم)
ممن يضعف عقله عن الاكتفاء بالواحدة، كما يستفاد من ظاهر حديث الكشي المتقدم
ويؤيده ما تقدم من كلام ثقة الاسلام: " أن الذي جاء عنهم (عليهم السلام) أنه قال:
" الوضوء مرتان " إنما هو لمن لم تقنعه المرة استزاده " ثم إنه حيث كانت سنة الاسباغ -
كما عرفت تحصل بالغرفة الثانية متى أضيفت إلى الأولى وغسل العضو مجموعهما،
فالغرفة الثالثة حينئذ تكون بعد تمام الغسل فتوصف بالبدعة وعدم الأجر، وهذا معنى
ما رواه في مستطرفات السرائر عن الرضا (عليه السلام) من " أن الفضل في واحدة
واحدة ومن زاد على اثنتين لا يؤجر " أي الفضل في واحدة واحدة مملوءة لأن فيه سنة
الاسباغ الذي فيه الفضل أو اثنتين غير مملوءتين كما هو المستفاد مما قدمناه، وهو مطوي
هنا في الكلام ومثله كثير، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر، وهذا هو الذي صرح
به ثقة الاسلام والصدوق (قدس سرهما) فيما قدمنا في تحقيق كلامهما.
وأما قوله في مرسلة ابن أبي المقدام: " إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ
اثنتين اثنتين وقد توضأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) اثنتين اثنتين " مع استفاضة
الأخبار البيانية بأن وضوءه (صلى الله عليه وآله) ما كان إلا بغرفة غرفة، فلعل المعنى
فيه - سبحانه وقائلة أعلم - أنه كما واظب على الغرفة المملوءة في الأكثر كذلك
توضأ في بعض الأوقات بغرفتين خفيفتين، كما أمر به فيما نقله عنه أبناؤه (سلام الله عليهم)
من أنه زاد الثانية لسنة الاسباغ، والإمام (عليه السلام) هنا تعجب ممن رغب عن هذه
السنة التي سنها رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحال أنه قد أتى بها في بعض وضوءاته

(1) ص 326
(2) رواه صاحب الوسائل في الباب - 31 - من أبواب
الوضوء. وقد تقدم في التعليقة 5 ص 325 أن الحديث عن الصادق (عليه السلام)
(3) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
340

وأما ما تضمنته رواية ابن بكير من أن " من لم يستيقن أن الواحدة تجزيه
لم يؤجر على الثنتين " فلعل معناه أنه لما كانت الواحدة هي الفرض من الله سبحانه وأن
الواجب المفروض يتأدى بمثل الدهن كما استفاضت به الأخبار، فمن لم يعتقد اجزاءها
بل اعتقد فرض الثنتين كان مبدعا مشرعا في وضوئه، لاعتقاده وجوب ما ليس بواجب
وهو الثانية فلا يؤجر على وضوئه، وهو عين ما ذكره الصدوق مما قدمنا نقله عنه.
وأما ما تضمنته مرسلة ابن أبي عمير (2) - وهي مضمون عبارة الصدوق المتقدمة
أولا من أن " الوضوء واحدة فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة " - فيحتمل بمعونة
ما ذكرناه في رواية ابن بكير أن الواحدة والاثنتين بمعنى الغرفة وأن عدم الأجر على الثنتين
مع عدم اعتقاد اجزاء الواحدة التي هي الفرض، وأما الثالثة فهي بدعة لأنها زيادة
على ما جاءت به السنة، بخلاف الثانية، فإنها سنة للاسباغ بها كما عرفت، ولعل
في التعبير بعدم الأجر إشارة إلى ذلك. ويحتمل حمل الواحدة والاثنتين على الغسلة
والغسلتين، ومعناه حينئذ أن الغسلة الواحدة فرض والغسلتان لا يؤجر. وقد عرفت
أن معنى هذا اللفظ الكناية عن البدعية والتحريم، وحينئذ فيكون المراد بلفظ البدعة
في الثالثة بمعنى المبتدع المخترع لا ما قابل السنة، وإلا فقد عرفت أن الثانية بدعة بذلك
المعنى، فمرجع عدم الأجر في الثانية والبدعية في الثالثة إلى أمر واحد.
وأما ما ذكره جملة من محققي متأخري متأخرينا - من عدم تحريم الغسلة الثانية
بل عدم الكراهة، مستندين إلى عدم الدليل على ذلك وأن لفظ " لا يؤجر " في الأخبار
غاية ما يفهم منه عدم الأولوية - ففيه ما عرفت في تحقيق كلام الشيخين المتقدمين،
ويزيده هنا أنها مع زيادتها وعدم كونها جزء من العبادة - كما يعترفون به - فأما أن
يعتقد المكلف في حال استعماله لها شرعيتها واستحبابها، وهذا مما لا يستراب في تحريمه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء.
341

وتشريعه بناء على ما اعترفوا به كما قدمنا الإشارة إليه، وأما أن لا يعتقد ذلك بل
يكون عابثا لاعبا، وهذا لا اختصاص له بهذا المقام ليخص بالذكر في أخبارهم (عليهم السلام)
بل يجري مثله في الثالثة، مع أنهم لا يخالفون في بدعيتها وتحريمها، وأن هذا اللفظ قد
ورد في رواية زرارة المتقدمة (1) في تعداد الروايات المعارضة بعد قوله: " مثنى مثنى "
ومن الظاهر بل المعلوم أن المراد به التحريم اتفاقا أعم من أن تجعل التثنية في الغسل كما
هو المشهور أو في الغرفة كما ذكرنا، لأن الزيادة هنا بمعنى التثليث، وهو مما لا اشكال
عندهم في تحريمه، ومما يدل أيضا على أن اللفظ إنما خرج كناية عن التحريم قول الصادق
(عليه السلام) في صحيحة داود بن فرقد المروية في الكافي (2): " إن أبي كأن يقول إن للوضوء حدا من تعداه لم يؤجر... " مع قول الباقر (عليه السلام) في صحيحة زرارة
ومحمد بن مسلم: " إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه... "
فإن نفي الأجر في الأول عبارة عن كونه معصية كما في الثاني كما لا يخفى.
(الثالث) - قال في كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل - بعد البحث
في المسألة، والجمع بين الأخبار بحمل بعضها على التجديد وبعضها على التقية وبعض
على الغسلتين والمسحتين - ما لفظه: " بقي هنا شئ، وهو أنه لا خلاف في أنه إذا
لم تكف الغرفة الأولى في غسل العضو وجبت الثانية وهكذا، لعدم الخروج عن العهدة،
كما صرح به العلامة في المختلف وغيره، كما أنه لا خلاف في وقوع الخلاف في الثانية
إذا كمل غسل العضو بالأولى. وأما لو لم يكمل غسل العضو بالأولى مع إمكان شمولها
إياه واختار غسل العضو بغرفتين موزعتين عليه، فهل يجري في الثانية الخلاف السابق
أم لا؟ لم أقف للأصحاب فيه على صريح كلام، وكلامهم فيه قابل للأمرين، إلى أن

(1) في الصحيفة - 325
(2) ج 1 ص 7 وفي الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 52 - من أبواب الوضوء.
342

قال: والظاهر من الأخبار بعد التأمل فيها ومراجعة ما حررناه أن استئناف الغرفة
الثانية غير مأجور عليه، وأن الاقتصار على الغرفة مع إمكان شمولها العضو ولو بالمبالغة
فيها كما أو كيفا هو الأولى، وأنها ليست بمحرمة بل هي غاية الحد في الوضوء الذي لا يجوز
تعديه، من زاد عليه فقد أبدع " انتهى كلامه زيد مقامه.
وعندي فيه تأمل من وجوه: (أحدها) - أن الظاهر - من الأخبار الدالة
على إجزاء ما يحصل به مسمى الغسل ولو بالدهن، وبه قال الأصحاب أيضا - الاكتفاء
في غسل العضو بالغرفة اليسيرة جدا، وحينئذ فالظاهر من قول العلامة في المختلف -
أنه مع عدم كفاية الكف الأول في غسل العضو يجب الثاني ولو لم يكفيا وجب الثالث
وهكذا - إنما هو من قبيل الفرض في المسألة لا أنه كذلك حقيقة، حتى يصح جعل
ما لو اختار غسل العضو بغرفتين موزعتين مع إمكان شمول الأولى له مطرحا لخلاف آخر
في المسألة أيضا.
(ثانيها) - أنك قد عرفت أن جملة من الأخبار دلت على كون الثانية
اسباغا، وأنه (صلى الله عليه وآله) قد سنها لذلك. ولا مجال لحملها على الغسلة، لما
فيه من المنافاة لأخبار الوحدة، كما عرفت وحققه هو أيضا (قدس سره) في أول كلامه،
فتحمل على الغرفة، ومن الظاهر حينئذ أنها أعم من أن تكون الأولى تأتي على العضو
كلا ولم يغسل بها أم لا، وبذلك يظهر ما في دعواه (قدس سره) في آخر كلامه:
أن الظاهر من الأخبار بعد التأمل فيها أن استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه، فإنه
غفلة زائدة عن ملاحظة هذه الأخبار ولا سيما روايتي الكشي وعلي بن يقطين (1) إلا أن
عذره فيهما ظاهر، حيث لم يتعرض لنقلهما في الكتاب المذكور، ولعله (طاب ثراه)
لم يطلع عليهما أو لم يخطرا بباله حال التصنيف.

(1) المتقدمين في الصحيفة 326 و 327
343

(ثالثها) - أن صحيحة الأخوين (1) - كما عرفت - دلت على أن
الثنتين تأتيان على ذلك كله بعد حكمه فيها بأن الغرفة المبالغ فيها مجزئة لذلك أيضا، وقد
عرفت شرح القول في معناها، وهو أعم من اتيان الأولى على مجموع أو لعضو وعدمه.
وأما ما احتمله (طاب ثراه) في ضمن كلامه أولا في الرواية المذكورة - من كون لام
الثنتين عهدية إشارة إلى الغرفتين المذكورتين أولا للوجه واليدين، بمعنى أن الغرفة
الواحدة للوجه والغرفة الواحدة للذراع مع المبالغة فيهما تأتيان على الوجه والذراع بحيث
لا يحتاج إلى تثنية الغسلات - ففيه من التكلف بل البعد عن ساحة الامكان ما لا يحتاج
إلى الإيضاح والبيان.
(رابعها) - أن الظاهر أنه لا معنى لوصف الغرفة بالوجوب أو الاستحباب
أو البدعية إلا باعتبار الغسل بها، فالوصف إنما يرجع إلى الغسل بها لا إليها نفسها، فلا
يتحقق كل من الأوصاف الثلاثة إلا بعد الغسل، فإذا غسل بالأولى - وإن كانت
تأتي على مجموع العضو - بعضه خاصة، فإنه لا خلاف ولا إشكال في وجوب غسل
بقية العضو ولو بغرفة يمكن اتيانها عليها كملا، وحينئذ فكيف يصح اجراء الخلاف فيها
بعد الغسل بها؟ وكيف يصح مع هذا أن استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه؟
نعم ربما احتمل اجراء كلامه في الثالثة، حيث إن الثنتين المخففتين وإن كان كل منهما
يقوم بالغسل الواجب الذي هو ولو كالدهن، إلا أنه لتحصيل سنة الاسباغ يستحب
الغسل بهما معا، فمع تفريقه لهما على شطر العضو وعدم غسله بهما معا مع اتيانهما عليه
وأخذه ثالثة، ربما تطرق إليها احتمال الدخول تحت أخبار بدعية الثالثة بحملها على ما هو
أعم من أن يغسل بها بعد كمال الغسل بالثنتين أو قبله مع حصول الاسباغ بالثنتين
وتقصيره في الغسل بهما، إلا أنه بعد لا يخلو من شوب الاشكال.
(خامسها) - قوله أخيرا في الغرفة الثانية: أنها ليست بمحرمة، وهو

(1) المتقدمة في الصحيفة 337
344

بناء منه (قدس سره) على ما فهمه من أخبار عدم الأجر على الثانية بحمل الثانية على الغرفة
وعدم الأجر على الجواز وعدم الاستحباب، كما قدمنا نقله عن جملة من الأصحاب،
وقد حققنا لك ما فيه وكشفنا عن باطنه وخافيه.
(الرابع) - المشهور بين الأصحاب تحريم الغسلة الثالثة، وقد صرح جملة
من الأصحاب: منهم - الصدوق والشيخ في الخلاف فيما تقدم من عبارتيهما ببدعيتها،
ونقل عن المبسوط والنهاية أيضا. ونقل عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل القول بعدم
التحريم، لكن الذي في المختلف عن ابن أبي عقيل التعبير عن ذلك بنفي الأجر، كما
هو مضمون رواية زرارة المتقدمة (1) وقد عرفت ما في هذا اللفظ. والشيخ المفيد
(رحمه الله) في المقنعة أثبت التحريم فيما زاد على الثلاث وجعل الثالثة كلفة.
والأظهر المشهور، ويدل عليه التصريح بالبدعية في مرسلة ابن أبي عمير المتقدمة (2)
ونفي الأجر الذي هو ظاهر في التحريم أيضا كما أشرنا إليه آنفا. ولأنها عبادة والاتيان
بها بدون الإذن تشريع محرم.
وما يقال - من أنه مع اعتقاد المشروعية فلا ريب في ذلك ولكن مجرد الاتيان بها
لا يستلزمه، وهب أنه يستلزمه وأنه اعتقد الاستحباب فغاية ما يلزم منه تحريم اعتقاد
ندبيتها لا فعلها دون ذلك الاعتقاد بل مع ذلك الاعتقاد أيضا، والكلام إنما هو في حرمة
الفعل لا الاعتقاد كما هو الظاهر، ثم إن حرمة ذلك الاعتقاد أيضا ممنوعة، لأن الاعتقاد
لو كان ناشئا من الاجتهاد أو التقليد فلا وجه لحرمته، غاية الأمر أن يكون خطأ ولا إثم
على الخطأ كما تقرر عندهم، كذا قرره بعض محققي متأخري المتأخرين -
ففيه نظر من وجوه: (أحدها) - أن ظاهر ما دل على البدعية والتحريم من الأخبار
وكلام الأصحاب كون ذلك ناشئا عن اعتقاد المشروعية، ردا على المخالفين القائلين
باستحبابها والمؤكدين على المواظبة عليها، حتى خرجت الأخبار بالأمر للشيعة بذلك تقية

(1) في الصحيفة 325
(2) في الصحيفة 325
345

منهم كما عرفت سابقا، والمناقشة بجواز الاتيان بها لا بهذا الاعتقاد أمر خارج عن محل البحث
ولا خصوصية له بهذا المقام، بل هي مسألة على حيالها، فإن إدخال الأفعال الأجنبية
في العبادة لا بقصد كونها منها بل لغرض آخر أو خالية من الغرض إن توجه له المنع
من جهة أخرى غير جهة فعله امتنع من تلك الجهة وإلا فلا، ألا ترى أن الصلاة التي هي
عبادة متصلة قد جوز الشارع اشتمالها على بعض الأفعال الأجنبية لأغراض خاصة وحرم
بعضا آخر لمنافاته لها، فالوضوء الذي هو عبادة منفصل بعضها عن بعض أجدر بالجواز،
إلا أنه ينقدح الاشكال فيما نحن فيه من وجه آخر، وهو وجوب المسح ببلة الوضوء
على الأشهر الأظهر، والحال أن بلة الثالثة ليست منه اتفاقا من المحرمين والمجوزين،
لا من مجرد الاتيان بها، وإلا فلو تمضمض أربعا أو زاد في غسل الوجه واليدين على الحدود
المقررة شرعا لا بقصد العبادة في شئ من ذلك فإنه لا ضرر فيه، لما عرفت آنفا
من أن الأفعال تابعة للقصود والنيات في تميز بعضها عن بعض وترتب آثارها عليها.
(ثانيها) - ما ذكره من أنه مع اعتقاد استحبابها فغاية ما يلزم منه تحريم
الاعتقاد لا الفعل ظاهر البطلان، كيف والأفعال - كما عرفت - تابعة للقصود والنيات
صحة وبطلانا وثوابا وعقابا، ومما لا ريب فيه أن هذا الفعل منهي عنه عموما لدخوله
في البدع المحرمة في الدين، وخصوصا في مرسلة ابن أبي عمير ورواية زرارة
السالفتين (1) ولا معنى للمحرم إلا ما نهى الشارع عنه نهيا توجب مخالفته الإثم،
وهو هنا كذلك.
(ثالثها) - أنه لو تم ما رتبه من الغاية المذكورة لجرى فيما لو زاد ركعة في
صلاته عامدا معتقدا وجوبها فضلا عن استحبابها، فإن غاية الأمر تحريم اعتقاد وجوبها
ولا يلزم منه تحريمها، بل يلزم في كل مبدع في الدين أن يكون ما يأتي به من البدع جائزا
غير محرم وإن حرم قصده واعتقاده جواز ذلك فيأثم على مجرد هذا القصد والاعتقاد،

(1) في الصحيفة 325
346

ما هذه إلا سفسطة وكلمات متنافرة.
(رابعها) - أن ما ذكره من منع حرمة ذلك الاعتقاد لو كان ناشئا عن
اجتهاد أو تقليد - على اطلاقه ممنوع بل الوجه فيه أنه إذا كان هذا الاجتهاد مقتضى
ما أدى إليه فهمه من أدلة الكتاب والسنة بعد الفحص والتتبع للأدلة حسب الجهد والطاقة
فهو كذلك، ومن المعلوم أن ما نحن فيه ليس منه، وإلا فهو مخطئ آثم في اعتقاده
ومحتمل لإثم من قلده في ذلك، كما هو مقتضى الآيات القرآنية والسنة المحمدية، وأن
أباه جملة من الأصحاب تبعا لما قرره العامة في هذا الباب كما حققناه في محل آخر.
(الخامس) - أنه على تقدير تحريم الثالثة وبدعيتها فهل يبطل الوضوء بمجرد
فعلها، أو لا يبطل، أو يبطل إن مسح بمائها مطلقا، أو بخصوص ما إذا كانت الغسلة
في اليد اليسرى؟ أقوال: أولها لأبي الصلاح، وثانيها للمحقق في المعتبر، وثالثها ظاهر
الدروس والذكرى، بل الظاهر أنه المشهور بين المتأخرين، ورابعها للعلامة في النهاية.
والأظهر عندي من هذه الأقوال الأول، وهو مقتضى كلام الشيخين الأقدمين
(الصدوق وثقة الاسلام) كما قدمنا بيانه وشيدنا بنيانه.
ويدل عليه من الأخبار رواية الكشي (1) حيث قال في أولها: " ومن توضأ
ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له " وفي آخرها: " توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه، وأنك إن زدت
عليه فلا صلاة لك ".
وما رواه في الفقيه (2) مرسلا وفي كتاب العلل مسندا عن الصادق (عليه
السلام) قال: " من تعدى في وضوئه كان كناقضه ".
ويؤيده ما رواه في الكافي (3) والتهذيب في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم

(1) المتقدمة في الصحيفة 326
(2) ج 1 ص 25 وفي العلل ص 103 وفي الوسائل في الباب - 31 - من أبواب الوضوء
(3) ج 1 ص 7 وفي التهذيب ج 1 ص 38 وفي الوسائل في الباب - 52 - من أبواب الوضوء
347

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه
ومن يعصيه... " فإنه صريح - كما ترى - في عصيان من زاد على الوضوء المحدود، ومن
الظاهر أن العصيان إنما نشأ هنا من مخالفة الأمر في العبادة المستلزمة للابطال.
ثم لا يخفى أنه لو أمكن المناقشة في بعض هذه الأدلة أو في كل منها إلا أنه بالنظر
إلى مجموعها - مع عدم المنافي لها في الأخبار، مع أن بعضها من مرويات الفقيه الذي
ضمن مصنفه في صحة ما يرويه، كما اعتمدوا على ذلك في غير موضع من كلامهم، مضافا
إلى قول الشيخين المعتمدين بذلك لا يبقى لتطرق الشك في الحكم المذكور وجه،
وقد مر أيضا ما يؤكده ويزيده تأييدا.
(المسألة الثانية) - الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا (نور الله تعالى مراقدهم)
في وجوب الموالاة كما ادعاه جماعة، إنما الخلاف في معناها، فقيل إنها مراعاة الجفاف
بمعنى أنه لا يؤخر بعض الأعضاء عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدمه، وقيل إنها عبارة
عن المتابعة اختيارا ومراعاة الجفاف اضطرارا.
وهل الاخلال بالمتابعة المذكورة هنا موجب للإثم خاصة أو للبطلان أيضا؟ قولان
لأصحاب هذا القول، والمشهور عندهم الأول، وبه صرح العلامة في جملة من كتبه
والمحقق في المعتبر، وظاهر المبسوط الثاني، وحينئذ ففي المسألة أقوال ثلاثة.
وظاهر المحقق الشيخ علي في شرح القواعد انكار القول الثالث، فإنه بعد أن
نقل القولين ونقل عن بعض حواشي الشهيد قولا ثالثا جامعا بين التفسيرين قال:
" وعندي أن هذا هو القول الأول، لأن القائل به لا يحكم بالبطلان بمجرد الاخلال
بالمتابعة ما لم يجف البلل، فلم يبق لوجوب المتابعة معنى إلا ترتب الإثم على فواتها،
ولا يعقل تأثيم المكلف بفواتها إلا إذا كان مختارا، لامتناع التكليف بغير المقدور " انتهى.
ويظهر ذلك أيضا من المختلف حيث لم ينقل فيه إلا القول بمراعاة الجفاف والقول
بالمتابعة من غير تعرض لكلام المبسوط، وأنت خبير بأن عبارة الشيخ في المبسوط
348

- حيث قال: " الموالاة واجبة في الوضوء، وهو أن يتابع بين الأعضاء مع الاختيار
وإن خالف لم يجزه " - ظاهرة الدلالة على الابطال مع المخالفة اختيارا كما نسبه إليه
جمع من المتأخرين.
ونقل الصدوق في الفقيه (1) عن أبيه في رسالته إليه أنه قال: " إن فرغت من بعض
وضوئك وانقطع بك الماء من قبل أن تتمه فأتيت بالماء، فتمم وضوءك إن كان ما غلسته رطبا،
وإن كان قد جف فأعد وضوءك، فإن جف بعض وضوئك قبل أن تتم الوضوء من غير أن
ينقطع عنك الماء، فاغسل ما بقي جف وضوؤك أو لم يجف " انتهى. ويظهر منه أن أي
الفردين من مراعاة الجفاف والتتابع حصل فهو كاف في صحة الوضوء، فلو تابع بين أعضاء
الوضوء واتفق الجفاف لضرورة كان أم لا صح وضوؤه، ولو لم يتابع بل فرق بين
الأعضاء لعذر كان أم لا روعي الجفاف وعدمه، فإن حصل بطل وضوؤه وإلا فلا.
وإلى هذا القول مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين: منهم - المحدث الشيخ محمد
ابن الحسن الحر العاملي في كتاب البداية وكتاب الوسائل، حيث خص الابطال بجفاف
السابق بصورة التراخي والتفريق (2) وبذلك يصير في المسألة قول رابع.
ثم إن ظاهر القول بكون الموالاة أحد واجبات الوضوء ترتب الإثم على تركها،
وبذلك صرح أصحاب القولين المذكورين، وأن القائلين بمراعاة الجفاف صرحوا بأنه
مع التفريق بين الأعضاء حتى يجف السابق يأثم ويبطل الوضوء، بل صرح الشهيد منهم
في الدروس والبيان بأنه يأثم مع التفريق إذا فرط في التأخير عن المعتاد وإن لم يبطل
إلا مع الجفاف، والقائلون بالمتابعة صرحوا بالإثم مع الاخلال بها وعدم البطلان
إلا بالجفاف، وبعضهم - كما تقدم قال بالإثم والابطال مع الاخلال بها. وفي ثبوت الإثم
المذكور من الأدلة اشكال، لعدم ما يدل عليه ولو في الجملة، ومن ثم ذهب بعض من
محققي متأخري المتأخرين إلى شرطية الموالاة في الوضوء بمعنى توقف صحته عليها، فغاية

(1) ج 1 ص 35
(2) في الباب - 33 - من أبواب الوضوء
349

ما يلزم من فواتها بطلانه دون الوجوب المستلزم لاستحقاق الذم بالمخالفة اللهم إلا أن
يثبت اجماع على الوجوب أو على حرمة ابطال العمل، وربما كان الظاهر من كلام علي بن
بابويه ذلك، ومنه ربما ينتج بلوغ الخلاف في المسألة إلى أقوال خمسة.
ويدل على القول بمراعاة الجفاف من الأخبار صحيحة معاوية بن عمار (1) قال:
" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما توضأت فنفذ الماء فدعوت الجارية فأبطأت
علي بالماء فيجف وضوئي؟ فقال: أعد ".
وموثقة أبي بصير (2) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا توضأت بعض وضوئك
فعرضت لك حاجة حتى تنشف وضوؤك فأعد وضوءك. فإن الوضوء لا يبعض ".
واستدل بعض الأصحاب على ذلك أيضا برواية مالك بن أعين ومرسلة الصدوق
المتقدمتين في الأمر السابع من البحث الثالث في مسح الرأس (3) لدلالتهما على إعادة
الوضوء لمن نسي مسح رأسه وفقد البلة من أعضاء وضوئه.
وعندي في الدلالة نظر، إذ من الجائز أن يكون استناد وجوب الإعادة المستلزم
لبطلان الوضوء السابق إنما هو للاخلال ببعض أجزاء الوضوء الذي هو المسح، لعدم
جوازه إلا ببلة الوضوء، مع تعذرها كما هو المفروض، دون الجفاف.
وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من الروايتين الأوليتين اللتين هما مستند القول
المذكور الأمر بالإعادة الدال على بطلان ما فعله سابقا ولا دلالة فيه على الذم والإثم
بوجه، بل ربما كان في سكوته (عليه السلام) عن الذم والانكار بالتأخير حتى
يجف الوضوء نوع إيماء إلى العدم، وبذلك يظهر قوة القول بالشرطية خاصة. وما ربما
يتوهم - من قوله في موثقة أبي بصير: " فإن الوضوء لا يبعض " بناء على أن الجملة الخبرية
هنا في معنى الانشاء وأن المعنى حينئذ أنه لا يجوز تبعيضه - فمردود بأنه يجوز أن يكون

(1) المروية في الوسائل في الباب - 33 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 33 - من أبواب الوضوء.
(3) في الصحيفة 281
350

المراد أن الوضوء الشرعي ليس بقابل للتبعيض، بل تبعيضه يوجب الاتيان بوضوء غير مبعض، لعدم الخروج عن العهدة، فهو خبر أريد به خبر آخر هو لازمه وهو عدم
صحة المبعض، ووجوب إعادته من قبيل الكناية، أو أريد به الانشاء وهو الأمر
بالإعادة، وشئ منهما لا يدل على الإثم، ويرشد إلى هذا أنه وقع تعليلا للأمر بالإعادة
مع الجفاف في مادة عروض الحاجة إلى الماء.
ثم إن مضمون الروايتين المشار إليهما أيضا حصول الابطال بالجفاف الناشئ عن
التفريق، أما لو اتفق الجفاف لا مع التفريق للخبرين المذكورين على الابطال،
وليس غيرهما في الباب.
وبه يظهر قوة ما ذهب إليه الصدوقان ومن تبعهما من أنه لو تابع بين أعضاء
الوضوء صح وضوؤه وإن اتفق الجفاف، لعذر كان من حرارة ونحوها أم لا، وضعف
ما ذكره شيخنا الشهيد في الذكرى والدروس من أنه لو وإلى وجف بطل وضوؤه إلا مع
افراط الحر وشبهه، وقال في الذكرى: " ظاهر ابني بابويه أن الجفاف لا يضر مع الولاء
والأخبار الكثيرة بخلافه، مع إمكان حمله على الضرورة " انتهى. وما ذكره من الأخبار
الكثيرة الدالة على الابطال مع الجفاف في الصورة المذكورة لم نعثر منها في هذا الباب
على غير ما قدمناه.
ويدل أيضا على ما ذكرناه ما ذكره في كتاب فقه الرضا (1) حيث قال
(عليه السلام): " إياك أن تبعض الوضوء، وتابع بينه كما قال الله تعالى: ابدأ بالوجه
ثم باليدين ثم بالمسح على الرأس والقدمين، فإن فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك
الماء من قبل أن تتمه ثم أوتيت بالماء، فأتمم وضوءك إذا كان ما غسلته رطبا، فإن كان
قد جف فأعد الوضوء، وإن جف بعض وضوئك قبل أن تتمم الوضوء من غير أن
ينقطع عنك الماء، فامض على ما بقي جف وضوؤك أم لم يجف " وقوله: وإن فرغت

(1) في الصحيفة 1
351

إلى آخره هو عين ما نقله الصدوق عن والده (قدس سرهما) وهو مؤيد لما صرحنا به
في تتمة المقدمة الثانية من مقدمات الكتاب من اعتماد الصدوقين على الأخذ من الكتاب
المذكور ونقلهما عبائره بعينها، ويزيده تأييدا أن صدر عبارة الكتاب المذكور إلى قوله
" فإن فرغت " وإن لم ينقله في الفقيه لكن نقله في الذكرى عن علي بن بابويه متصلا بما نقله
في الفقيه، وبذلك يظهر لك أن ما ذكره في الذكرى بعد نقل كلام علي بن بابويه المتقدم -
من أنه لعله عول على ما رواه حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) كما أسنده ولده في
كتاب مدينة العلم، وفي التهذيب وقفه على حريز، قال: " قلت: إن جف الأول من الوضوء
قبل أن أغسل الذي يليه؟ قال: جف أو لم يجف اغسل ما بقي... " - ليس على ما ظنه
(قدس سره) بل إنما عول على ما قدمنا ذكره، وهذه الرواية حملها في التهذيب على الجفاف
بالريح الشديدة والحر العظيم أو التقية، والأخير أقرب كما ذكره في البحار، لأن في تمام
الخبر " قلت: وكذلك غسل الجنابة؟ قال: هو بتلك المنزلة، وابدأ بالرأس ثم أفض
على سائر جسدك. قلت: وإن كان بعض يوم؟ قال: نعم " إذ ظاهره هنا المساواة بين
الوضوء والغسل، فكما أن الغسل لا يعتبر فيه الريح الشديدة والحر كذلك الوضوء.
واستدل القائلون بالقول الثاني بوجوه نذكر ما هو أمتنها دلالة عندهم:
(فمنها) - قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة (2): " تابع بين الوضوء كما قال
الله تعالى: ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين... " وقوله في رواية حكم
ابن حكيم (3): " أن الوضوء يتبع بعضه بعضا " وقوله (عليه السلام) في حسنة
الحلبي (4): "... اتبع وضوئك بعضه بعضا ".

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الوضوء، وفي الباب - 29 و 41 -
من أبواب الجنابة.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 34 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 33 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 33 و 35 - من أبواب الوضوء.
352

والجواب أن ظاهر الأخبار المذكورة أن المراد بالمتابعة فيها هو الترتيب بين
الأعضاء بتقديم محقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير، فالمراد من المتابعة فيها من باب
تبع فلان فلانا إذا مشى خلفه لا المتابعة بمعنى اللحوق والقرب والدنو كما هو المدعى،
بقرينة قوله في الرواية الأولى: " كما قال الله تعالى: أبدأ بالوجه.. الخ " على وجه التفسير
والابدال والتعليل، وقوله في الثالثة قبل هذا الكلام: " إذا نسي الرجل أن يغسل
يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه
ورجليه، وإن كان إنما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعتد على ما كان توضأ، وقال:
اتبع... الخ " وقوله في الثانية بعد أن سأله الراوي عن رجل نسي من الوضوء الذراع
والرأس قال: " يعيد الوضوء، أن الوضوء... إلخ " على أنه لو تم ما ادعوه منها لوجب
الحكم بالبطلان دون مجرد الإثم بالمخالفة، لعدم الاتيان بالفعل على الوجه المأمور به
شرعا وأكثرهم لا يقول به كما عرفت، وما ذكرناه في معاني الأخبار المذكورة إن لم
يكن متعينا لما ذكرنا من قرائن سياقها فلا أقل أن يكون هو الأظهر، وبذلك يبطل
الاستناد إليها فيما ذكروا، ومنه يعلم ضعف الاعتماد عليها في ثبوت الإثم لمن أخل بالمتابعة
كما يدعونه، فضلا عن حصول الابطال معه كما ادعاه في المبسوط.
و (منها) - أخبار الوضوء البياني (1) فإنها مبينة للأمر المجمل في الوضوء.
والجواب أنه وإن كان كذلك كما حققناه آنفا، إلا أنه إنما يحتج به مع عدم الدليل
من خارج يقتضي تقييد مطلقه وتبيين مجمله، والأخبار الدالة على تخصيص الابطال
بالجفاف في صورة التفريق مخصصة، على أنه يمكن منع دلالة الوضوء البياني هنا على الوجوب
بالحمل على أن ذلك مقتضى العادة في مثله، وجريان مثل ذلك في أعلى الوجه ومرفقي
اليدين ممنوع، والغسل في كل منهما مجمل والوضوء البياني مبين له.
و (منها) - موثقة بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " إن

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء.
353

نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعك بعد الوجه... "
وجه الاستدلال بها أنه أمر بإعادة غسل الوجه على فعله أو لا، وليس ذلك إلا لبطلان
الوضوء بفوات المتابعة بين أعضاء الطهارة، لا لفوات الترتيب. لأنه يحصل بإعادة غسل
الذراع خاصة.
والجواب أنه لو كان الأمر كذلك لحصل المنافاة بين صدر هذه الرواية وعجزها
حيث قال بعد ما قدمنا ذكره منها: " فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد
غسل الأيمن ثم اغسل اليسار، وإن نسيت رأسك حتى تغسل رجليك فامسح
رأسك ثم اغسل رجليك " فإنه لو كان الأمر بإعادة غسل الوجه في صدرها إنما هو لترك
المتابعة، لكان ينبغي الأمر بإعادة غسل الوجه في الفرضين الأخيرين، مع أنه اقتصر
فيهما على إعادة ما آخر تقديمه نسيانا ثم إعادة ما قدمه عليه ليحصل الترتيب بين أجزاء
الوضوء. نعم يرد الاشكال فيها من جهة أخرى وهو أن تحصيل الترتيب ممكن بدون
إعادة غسل ما أخره نسيانا، بأن يعيد غسل ما قدمه عليه خاصة ثم ما بعده، وهذه مسألة
على حيالها قد تعارضت فيها الأخبار، وسيجئ تحقيقها إن شاء الله تعالى، على أن
ظاهر الرواية - بناء على ما يدعيه المستدل - الابطال بترك الموالاة ولو نسيانا، وهم
لا يقولون به، بل غاية ما يدعونه حصول الإثم مع العمد دون النسيان، والشيخ في
المبسوط وإن قال بالابطال إلا أن الظاهر أنه يخصه بصورة العمد أيضا، وحينئذ فلا
انطباق للرواية على ما يدعونه منها.
و (منها) - قوله في موثقة أبي بصير المتقدمة (1): " فإن الوضوء لا يبعض "
وهو صادق مع الجفاف وعدمه.
والجواب أنك قد عرفت آنفا من معنى هذا اللفظ أن المراد به حيث وقع تعليلا
للإعادة مع الجفاف بطلان المبعض وعدم صحته، وحينئذ فلو أريد بالتبعيض فيه مجرد

(1) في الصحيفة 350
354

التفريق كما يدعيه المستدل، للزم القول ببطلان الوضوء بمجرد التفريق وإن لم يحصل
الجفاف، وهو لا يقول به، فالظاهر أن المراد بالتعليل أن الوضوء لا يبعض بأن يصير
بعضه رطبا وبعضه يابسا بالتفريق، بمعنى أنه لا يفرق على وجه يلزم منه يبس السابق.
و (منها) - رواية حكم بن حكيم المتقدمة (1) وجه الاستدلال بها أن المتابعة
لو لم تكن واجبة لما حكم (عليه السلام) بإعادة الوضوء، مؤيدا ذلك بالتعليل: " أن
الوضوء يتبع بعضه بعضا " فإنه يدل على أن المراد بالمتابعة عدم الفصل لا الترتيب، لأن
حصول الترتيب لا يتوقف على إعادة الوضوء، بل يكفي فيه الاتيان على العضو
المنسي وما بعده.
والجواب أن روايات نسيان بعض أجزاء الوضوء قد (2) اتفقت على أن الحكم
في ذلك الاتيان بالجزء المنسي وما بعده ما لم يحصل الجفاف دون الابطال، وهي مستفيضة
ولا سيما الروايات الدالة على المسح بالبلة الباقية في أعضاء الوضوء لمن نسي مسح رأسه
أو رجليه (3) المتضمن جملة منها لعدم ذكران ذلك إلا بعد الدخول في الصلاة، على أنهم - كما عرفت آنفا - لا يقولون بالإعادة إلا في حال الجفاف، وإنما غاية ما يدعونه
حصول الإثم مع التخصيص بصورة العمد، وإلا لو ردت عليهم الأخبار المذكورة،
وحينئذ فالواجب حمل هذه الرواية على إعادة الوضوء بالجفاف الموجب لفوات الموالاة
ويحتمل أيضا حمل إعادة الوضوء على الاتيان بما نسي منه وما بعده وهو الأنسب بالتعليل
وأما على تقدير المعنى الأول فالأظهر في معنى التعليل المذكور حمله على ما تقدم في معنى
قوله: " فإن الوضوء لا يبعض " والمعنى حينئذ أنه يعيد الوضوء لبطلان السابق
بالجفاف، فإن الوضوء يتبع بعضه بعضا ولا يفرق على وجه يجف السابق، وعليه

(1) في الصحيفة 352
(2) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء
355

فتكون الرواية ثالثة لموثقة أبي بصير وصحيحة معاوية بن عمار المتقدمتين في الدلالة
على البطلان مع لجفاف بالتفريق.
وأنت خبير بأن ملخص ما ظهر - من مطاوي هذا البحث بعد استقصاء النظر
في أدلته - أن الموالاة التي هي عبارة عن مراعاة الجفاف شرط في صحة الوضوء مع التفريق
وأما مع المتابعة فلا يضر جفاف ما سبق لعذر كان من حرارة هواء ونحوها أم لا كما
لا يخفى، والاحتياط بالمتابعة مما لا ينبغي تركه.
تنبيهات: (الأول) - هل المبطل على تقدير القول بمراعاة الجفاف هو جفاف
جميع الأعضاء المتقدمة. أو جفاف عضو في الجملة، أو العضو السابق على ما هو فيه؟
أقوال ثلاثة: أولها ظاهر المشهور، وثانيها صريح ابن الجنيد على ما نقل عنه من اشتراط
بقاء البلل في جميع ما تقدم إلا الضرورة، وثالثها ظاهر السيد المرتضى وابن إدريس.
والظاهر هو القول المشهور، لأصالة صحة الوضوء فيقتصر في بطلانه على القدر
المتيقن وهو جفاف الجميع، ولأن الروايتين الدالتين على الابطال مع الجفاف إن لم
تكونا ظاهرتين في ترتب الابطال على جفاف الجميع فلا ظهور لهما في جفاف البعض.
ومما استدل به على ذلك أيضا الأخبار الدالة على الأخذ من بلة الوضوء لمن نسي
مسح رأسه أو رجليه (1) ويضعف باحتمال اختصاص الحكم بالناسي كما هو مورد تلك
الأخبار أو الضرورة كما يقوله ابن الجنيد.
(الثاني) - وقع في عبائر كثير من الأصحاب التقييد في الجفاف بالهواء
المعتدل، وظاهر أن تعجيل الجفاف في الهواء الشديد الحرارة وتأخيره في الهواء
الشديد الرطوبة لا اعتبار به بل الاعتبار بحكم الهواء المتوسط بينهما فيحمل عليه كل
من الطرفين، إلا أن شيخنا الشهيد في الذكرى قال: " لو كان الهواء رطبا جدا بحيث
لو اعتدل جف البلل لم يضر لوجود حسا، وتقييد الأصحاب بالهواء المعتدل

(1) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب الوضوء.
356

ليخرج طرف الافراط في الحرارة " انتهى. وهو جيد، لأن الإعادة إنما علقت
في الخبرين المتقدمين على الجفاف، وهو غير صادق هنا لا لغة ولا عرفا، والجفاف
التقديري لا دليل عليه، لكن يبقى الاشكال أيضا في طرف الافراط بالجفاف بالحرارة
الشديدة من حيث إن الحكم معلق في الأخبار على الجفاف وقد تحقق كما هو المفروض
والتقدير أيضا لا وجه له، وتقييد النص بحال الاعتدال من غير دليل محل اشكال
إلا أن يتمسك بالضرورة. وفيه أنه يندفع بالتيمم أو الاستئناف.
(الثالث) - صرح جمع من الأصحاب بأنه لو تعذرت الموالاة فلم تبق بلة
على اليد للمسح جاز الاستئناف للمسح، للضرورة، وصدق الامتثال، واختصاص المسح
بالبلة بحال الامكان. ويحتمل الانتقال إلى التيمم. ولم أقف على نص في ذلك، والاحتياط
يقتضي التعجيل في الوضوء، فإن لم تبق بلة جميع بين الاستئناف والتيمم.
(المسألة الثالثة) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء فيما عدا الرجلين إحداهما على الأخرى، ووجوب
الإعادة على ما يحصل معه مع مخالفته عمدا أو نسيانا قبل الجفاف، وشرح الكلام
في هذه المسألة ينتظم في فوائد:
(الأولى) - القول بوجوب الترتيب - بأن يبدأ بالوجه ثم باليد اليمنى ثم
باليسرى ثم بالرأس ثم بالرجلين - مما انعقد عليه اجماعنا فتوى ورواية:
فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة زرارة عن الباقر (عليه السلام) (1) قال:
" تابع بين الوضوء كما قال الله عز وجل: ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس
والرجلين. ولا تقدمن شيئا بين يدي شئ تخالف ما أمرت به، فإن غسلت الذراع
قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع، وإن مسحت الرجل قبل الرأس فامسح
على الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل، ابدأ بما بدأ الله عز وجل به " وهي صريحة

(1) المروية في الوسائل في الباب - 34 - من أبواب الوضوء
357

في تقديم الوجه على مجموع اليدين، وهما على مجموع الرأس والرجلين، وتقديم مسح
الرأس على الرجلين.
وصحيحة منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام) (1) في الرجل يتوضأ
فيبدأ بالشمال قبل اليمين؟ قال يغسل اليمين ويعيد اليسار " وهي دالة على الترتيب
بين اليدين.
وموثقة أبي بصير عنه (عليه السلام) (2) قال: " إن نسيت فغسلت ذراعك
قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعك بعد الوجه، فإن بدأت بذراعك الأيسر
قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار، وإن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك
فامسح رأسك ثم اغسل رجليك " وهذه الرواية قد استجمعت الترتيب بين الأعضاء
ما عدا الرجلين، إلى غير ذلك من الأخبار.
بقي الكلام فيما لو توضأ بالمطر المتقاطر عليه، كما رواه علي بن جعفر عن أخيه
موسى (عليه السلام) (3) قال: " سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر
حتى يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه، وهل يجزيه ذلك من الوضوء.؟ قال: إن غسله
فإن ذلك يجزيه " أو في الماء، فالظاهر أن المرجع في وجوب تقديم ما يجب تقديمه وتأخير
ما يجب تأخيره إلى القصد، فلا عبرة بحصول الغسل في شئ من تلك الأعضاء من غير اقترانه
بالقصد المذكور، وحينئذ فلو قدم في قصده عمدا أو سهوا بعض ما يجب تأخيره أبطل
ووجبت الإعادة على ما يحصل به الترتيب.
(الثانية) - اختلف الأصحاب في وجوب الترتيب بين الرجلين وعدمه على
أقوال ثلاثة: (إحداها) - الوجوب بتقديم اليمنى على اليسرى، نقله في المختلف
عن الصدوقين وابن الجنيد وسلا، واختاره جملة من المتأخرين. و (ثانيها) - ما هو

(1) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء
(3) رواه في الوسائل في الباب - 36 - من أبواب الوضوء
358

المشهور من سقوط الوجوب فيجوز مسحها دفعة واحدة بالكفين وتقديم اليمنى على
اليسرى وبالعكس. و (ثالثها) - التخيير بين المقارنة وتقديم اليمنى دون العكس،
نقله في الذكرى عن بعضهم، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في البداية
والوسائل واختاره بعض فضلاء متأخري المتأخرين.
والظاهر منها هو الأول، ويدل عليه حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) قال: " امسح على القدمين وابدأ بالشق الأيمن ".
وما رواه النجاشي في كتاب الرجال (2) بإسناده عن عبد الله بن أبي رافع
وكان كاتب أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يقول: " إذا توضأ أحدكم للصلاة
فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده "
وما استند إليه أصحاب القول المشهور - من اطلاق الأوامر وصدق الامتثال
الذي هو غاية ما اعتمدا عليه - ففيه أنه يجب تقييد مطلق تلك الأوامر بما ذكرنا
من الأخبار، وصدق الامتثال مع ما ذكرنا ممنوع.
والجواب - بحمل الأخبار على الاستحباب وإن كان الأمر من حيث هو حقيقة
في الوجوب كما برهن عليه في الأصول، معللا بكثرة الأوامر في الشريعة للندب،
فلا وثوق في الاحتجاج بها على الوجوب الموجب لاشتغال الذمة، كما اعتمد عليه جملة
من فضلاء متأخري المتأخرين وردوا لأجله الأوامر في جملة من الأحكام - مردود بأنه
تخريص في الدين وجرأة على سيد المرسلين، فإنه كما أن الأصل براءة الذمة كما تعلقوا
به وردوا لأجله تلك الأوامر فلا يثبت اشتغالها إلا بدليل، كذلك الأصل في الأمر
الوجوب كما هو المسلم فلا يخرج عنه إلا بدليل، وكثرة ورود الأخبار للندب - معتضدا
أكثرها بالقرائن الحالية والمقالية على ذلك - لا يقتضي حمل ما ليس عليه،

(1) المروية في الوسائل في الباب - 34 - من أبواب الوضوء
(2) في ص 5 وفيه (أبو محمد) بدل (أبي عبد الله) وفي الوسائل في الباب - 34 - من أبواب الوضوء
359

والتحرز عن الوقوع في اشتغال الذمة ليس أولى من التحرز عن الوقوع في مخالفة
الأمر الموجبة للإثم، والتمسك بأصالة البراءة إنما يتم قبل ورود الأمر أو بعده مع ظهور
الدلالة على عدم الوجوب، والتفصي عن المخالفة بالحمل على الاستحباب لا يسمن ولا
يغني من جوع في هذا الباب، متى كان الحكم واجبا شرعا وقد أمر به حافظ الشريعة
لذلك فحمل أمره على الاستحباب المؤذن بجواز الترك تخرصا عين المخالفة لمقتضى أمره
والرد لنافذ حكمه. هذا. وقد تقدم الجواب عن ذلك مستوفى في المقدمة السابعة (1)
ويدل على القول الثالث ما رواه الطبرسي (قدس سره) في كتاب الاحتجاج (2)
من التوقيع الخارج من الناحية المحروسة في جملة أجوبة مسائل الحميري، حيث سأل
عن المسح على الرجلين: يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعا؟ فخرج التوقيع " يمسح عليهما
جميعا معا، فإن بدأ بإحداهما قبل الأخرى فلا يبدأ إلا باليمين ".
وأنكر جملة من محققي متأخري المتأخرين وجود دليل لهذا القول العدم الوقوف
على الرواية المذكورة حتى تكلف بعضهم الاستدلال عليه بما لا يخلو من شئ.
(الثالثة) - لو خالف مقتضى الترتيب المذكور عمدا أو نسيانا، فإنه تجب
عليه الإعادة على ما يحصل به الترتيب مع عدم الجفاف ومعه فتجب الإعادة من رأس،
وظاهر العلامة في التحرير الإعادة مع العمد من رأس وإن لم يجف، وفي التذكرة
عكسه وهو الإعادة مع النسيان من رأس وإن لم يجف، والتفصيل بالجفاف وعدمه مع
العمد، وهو غريب.
ثم إنه هل يكتفي في الإعادة مع عدم الجفاف إعادة ما قدم مما حقه التأخير دون
ما أخر مما حقه التقديم لصحته، إذ لا مانع من صحته إلا تقديم ما حقه التأخير عليه،
وهو غير صالح للمانعية لفساده، أو يجب إعادة الجميع، نظرا إلى أنه كما بطل الأول
لتقديمه في غير موضعه كذلك بطل الثاني لترتيبه عليه ووضعه أيضا في غير موضعه؟

(1) ج 1 ص 115
(2) ص 255 وفي الوسائل في الباب - 34 - من أبواب الوضوء.
360

وجهان، صرح بأولهما المحقق في المعتبر وجماعة ممن تأخر عنه.
والأخبار في ذلك مختلفة، فمما يدل على الأول ما رواه ابن إدريس في مستطرفات
السرائر نقلا من كتاب نوادر البزنطي عنه عن عبد الكريم بن عمرو عن ابن أبي يعفور
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت
رأسك ورجليك ثم استيقنت بعد أنك بدأت بها غسلت يسارك ثم مسحت
رأسك ورجليك ".
وعلى الثاني موثقة أبي بصير المتقدمة وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (3) في حديث تقديم السعي على الطواف، قال: " ألا ترى أنك إذا
غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك أن تعيد على يمينك ".
وقال الصدوق في الفقيه (4): " روي في من بدأ بغسل يساره قبل يمينه أنه يعيد
على يمينه ثم يعيد على يساره. وقد روي أنه يعيد على يساره " انتهى. والرواية الأولى
منهما مما ينتظم في أدلة القول الثاني والثانية في أدلة القول الأول.
وأما قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة المتقدمة (5): "... فإن غسلت الذراع
قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع، وإن مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على
الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل، ابدأ بما بدأ الله عز وجل به " فالظاهر منها بقرينة
اختصاص لفظ الإعادة بالذراع والرجل وقوع التذكر قبل غسل الوجه في الأول وقبل
مسح الرأس. فأمره بالبدأة بغسل الوجه ثم الإعادة على الذراع والبدأة بمسح الرأس
ثم الإعادة على الرجل، ومثلها صحيحة منصور بن حازم المتقدمة في صدر المقالة
وعلى ذلك فلا دلالة في شئ منهما على ما نحن فيه.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء.
(2) ص 358
(3) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء.
(4) ج 1 ص 29 وفي الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء
(5) في الصحيفة 357
(6) ص 358
361

ويمكن الجمع بين الأخبار المذكورة بحمل موثقة أبي بصير وصحيحة منصور
ونحوهما على ما دلت على صحيحة زرارة وصحيحة منصور الأخرى من التذكر قبل
غسل العضو الأخير أو مسحه، وحينئذ فيحمل لفظ الإعادة فيها على أصل الغسل مشاكلة لمال
بعده، ويحتمل أيضا - كما ذكره بعض - حمل الموثقة المذكورة وأمثالها على ما إذا كان
قد غسل العضو الأخير بقصد أنه مأمور به على هذا الوجه. فإنه تجب الإعادة عليه
لكون ذلك تشريعا محرما، والروايات الآخر على ما إذا غسله لا من هذه الحيثية بل
من حيث إنه جزء من الوضوء وإن كان بالقصد الحكمي المستمر كما في سائر الأجزاء،
ولا يخفى ما فيه من البعد. والجمع بين الأخبار بالتخيير لا يخلو من قرب، وربما كان ذلك
هو الظاهر من كلام الفقيه حيث نقل الخبرين المذكورين مع ظهورهما في التنافي ولم يجمع بينهما
وقد ذكر بعض مشايخنا المتأخرين أن هذا دأبه فيما إذا لم يجمع بين الخبرين المتنافيين.
(المسألة الرابعة) - وجوب المباشرة مع الامكان - وعدم التولية في كل
من الطهارات الثلاثة - هو المشهور بين الأصحاب، بل ادعى عليه في الإنتصار الاجماع
ونقل عن ابن الجنيد أنه قال: " يستحب أن لا يشرك الانسان في وضوئه غيره بأن
يوضئه أو يعينه عليه " ولا ريب في ضعفه، لأن المتبادر من الأوامر الدالة على الغسل
والمسح كتابا وسنة مباشرة المتوضئ ذلك، لأن اسناد الفعل إلى فاعله هو الحقيقة وغيره
مجاز لا يحمل عليه إلا مع الصارف عن الأول.
ويدل على ذلك رواية الوشاء (1) قال: " دخلت على الرضا (عليه السلام) "
وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة، فدنوت لا صب عليه فأبى ذلك وقال
مه يا حسن، فقلت له: لم تنهاني أن أصب عليك، تكره أن أوجر؟ قال: تؤجر أنت
وأؤزر أنا. فقلت له وكيف ذلك؟ فقال: أما سمعت الله يقول: " فمن كان يرجو لقاء

(1) المروية في الوسائل في الباب - 47 - من أبواب الوضوء
362

ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " (1) وها أنا ذا أتوضأ للصلاة وهي
العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد " وجه الاستدلال بها وقوع النهي عن الصب الذي
هو حقيقة في التحريم، مردفا له بما يزيده تأكيدا من أن قبول ذلك للوزر
والإثم الذي لا يكون الأعلى ارتكاب محرم، معللا لذلك بدخوله تحت النهي عن
الشرك بعبادة ربه وكونه جزئيا من جزئيات ما نهى عنه سبحانه في هذه الآية التي
لا مجال لانكار كون النهي فيها للتحريم، فيستلزم تحريم قبول الصب عليه، ولما فيه
من الجمع بينه وبين صحيحة أبي عبيدة الحذاء (2) قال: " وضأت أبا جعفر (عليه
السلام) بجمع وقد بال فناولته ماء فاستنجأ ثم صببت عليه كفا فغسل به وجهه وكفا غسل به
ذراعه الأيمن وكفا غسل به ذراعه الأيسر... الحديث " ورواه الشيخ أيضا في موضع
آخر بلفظ: " ثم أخذ كفا فغسل به وجهه... الخ " بدل قوله: " ثم صببت " إلا أن
قول الراوي: " وضأت " إنما يلائم الأول كما لا يخفى، وبذلك يظهر لك صحة
الاستدلال بالرواية على تحريم التولية، بحمل الصب فيها على الصب على أعضاء الطهارة،
دون الحمل على الاستعانة كما عليه الجمهور من أصحابنا، وجعلها دليلا على كراهتها، حملا
للصب المنهي عنه على الصب في اليد وحمل الوزر على الكراهة بقرينة قوله في آخر الخبر:
" فأكره " وتكلف الجمع بينها وبين صحيحة الحذاء المتقدمة بحمل الصحيحة المذكورة
على الضرورة أو بيان الجواز. وفيه - زيادة على ما عرفت - أن استعمال الكراهة
ذي المعنى المذكور اصطلاح أصولي طارئ والمفهوم من الأخبار استعمالها في التحريم كثيرا
فلا يتقيد به النهي المتأصل في التحريم المؤكد المعلل بما أوضحنا بيانه وشيدنا أركانه.
ومثل رواية الوشاء فيما ذكرناه ما رواه الصدوق (رحمه الله تعالى) في الفقيه (3)

(1) سورة الكهف الآية 110
(2) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(3) رواه في الفقيه ج 1 ص 27 وفي العلل ص 103 وفي الوسائل في الباب - 47 - من أبواب الوضوء
363

مرسلا وفي كتاب العلل مسند عن الصادق (عليه السلام) " أن أمير المؤمنين (عليه
السلام) كان لا يدعهم يصبون الماء عليه ويقول لا أحب أن أشرك في صلاتي أحدا "
والطعن بكون " لا أحب " ظاهرا في الكراهة مردود بما في الأخبار من كثرة ورودها
في مقام التحريم، كما لا يخفى على من خاض في تيار عبابها وذاق صافي لبابها.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بالتولية المحرمة هي أن يتولى الغير غسل أعضائه
أو مشاركته فيها، وأما مجرد صب الماء في اليد فليس منها بل هو من الاستعانة كما
ذكره الأصحاب. وأما طلب احضار الماء للطهارة فقد ذكر جمع من الأصحاب: منهم -
السيد السند أنه من الاستعانة المكروهة. وعندي في أصل الحكم بكراهة الاستعانة
- وإن كان مشهورا بين الأصحاب - اشكال، لعدم الدليل عليه بل قيام الدليل على
العدم، وذلك فإنهم إنما استدلوا على الحكم المذكور برواية الوشاء ومرسلة الفقيه
المتقدمتين، وقد عرفت الحال فيهما، فيبقى الحكم بناء على ما ذكرناه عاريا عن الدليل
وصحيحة الحذاء - كما عرفت - قد دلت على الصب في يده (عليه السلام) ولا معارض
لها بناء على ما اخترناه، فتأويلها - بالحمل على الضرورة أو بيان الجواز من غير معارض -
مشكل، وطلب احضار الماء للطهارة قد وقع في عدة من أخبار الوضوء البياني وغيرها
كحسنة زرارة (1) قال: " حكى لنا أبو جعفر (عليه السلام) وضوء رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فدعا بقدح من ماء... " وفي أخرى " فدعا بقعب من ماء " وفي ثالثة
" فدعا بطشت أو تور " وحديث وضوء علي (عليه السلام) (2) وقول علي (عليه السلام)
لابنه محمد بن الحنيفة " إئتني بإناء من ماء أتوضأ للصلاة " إلى غير ذلك. وارتكاب الحمل
في الجميع من غير معارض سفسطة ظاهرة. وبالجملة فإني لم أقف على دليل على
ذلك زائدا على مجرد الشهرة.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الوضوء.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الوضوء
364

ثم إن ما ذكرناه من تحريم التولية مخصوص بحال الاختيار، فلو اضطر إلى ذلك
لمرض أو تقية أو غيرهما جاز اتفاقا، ولنفي الحرج في الدين وسعة الحنيفة، وعلى ذلك
ينبغي حمل ما رواه الصدوق في كتاب المجالس (1) بسنده فيه عن عبد الرزاق قال:
" جعلت جارية لعلي بن الحسن (عليه السلام) تسكب الماء عليه وهو يتوضأ فسقط
الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه... الحديث " فإنه ظاهر في التولية وغسل
الأعضاء، فالواجب حمله على الضرورة لمرض ونحوه، ولو حمل على صب الماء في اليد
- وإن بعد عن ظاهره - فسبيله سبيل الأخبار المتقدمة الدالة على جواز الاستعانة من
غير معارض، ولا ضرورة إلى حمله حينئذ على الضرورة، لعدم الدليل على الكراهة
كما عرفت.
(المسألة الخامسة) لا يجوز الغسل مكان المسح ولا العكس، وهذا الحكم الثابت
عندنا اجماعا فتوى ودليلا، آية ورواية، إذ مقتضى الآية الشريفة الواردة في الوضوء (2)
غسل بعض ومسح بعض فالواجب الاتيان بكل منهما فيما عين فيه، وإلا لبقي تحت
العهدة. لعدم الاتيان بالمأمور به، وبذلك استفاضت الأخبار:
ففي صحيح زرارة المضمر (3) قال: " لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت أن ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء ".
وفي رواية محمد بن مروان (4): " يأتي على الرجل ستون أو سبعون سنة
ما قبل الله منه صلاة. قال: قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه "
وربما يبني القول بذلك على تباين حقيقتي الغسل والمسح باشتراط الجريان
في الأول ومجرد امرار اليد في الثاني كما هو أحد القولين، إلا أن الظاهر - كما

(1) رواه في مستدرك الوسائل في الباب - 41 - من أبواب الوضوء
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الوضوء
365

استظهره جملة من محققي أصحابنا (رضوان الله عليهم) - أن النسبة بينهما العموم من وجه
فيجتمعان في المسح باليد مع الجريان: فعلى لو مسح في الوضوء بنداوة زائدة يحصل
بها الجريان مع قصده المسح دون الغسل، فالظاهر الخروج من العهدة، وصدق الغسل
عليه - باعتبار الجريان وإن لم يكن مقصودا - غير مضر، لحصول الامتثال بما ذكرنا،
ولأن المتوضئ سيما المسبغ في وضوئه لا تخلو يده بعد الفراغ من بلة زائدة يحصل بها الجريان
ولو أقله كما نشاهده في أنفسنا، مع أنه لم يرد عنهم (عليهم السلام) نفض أيديهم بعد
الغسل لأجل المسح ولا الأمر بذلك، فالتكليف بالنفض والتجفيف حينئذ يحتاج
إلى دليل، وليس فليس. وربما يستأنس لذلك بصحيح زرارة المتقدم الدال بمفهومه
على أن حصول الغسل مع عدم نيته وقصده لا يبطل الوضوء، وحينئذ الظاهر تخصيص
الأخبار المانعة من الغسل والاجماع المدعى في المقام بالغسل المشتمل على الجريان من غير
امرار اليد أو معه قصده كونه غسلا لا مسحا، فإن الظاهر خروج تلك الأخبار في مقام
التعريض بالعامة الموجبين للغسل بأحد الفردين.
وما يقال - من أن وقوع المقابلة بين الغسل والمسح في الآية يقتضي مخالفة حقيقة أحدهما
لحقيقة الآخر ولا فلا معنى للتقابل - ففيه أنه أن أريد بالمخالفة التباين الكلي فالتقابل
بهذا المعنى ممنوع، وإن أريد ما هو أعم فمسلم، وهي متحققة في العموم من وجه،
إذ يصدق الغسل بدون المسح على مجرد الصب ونحوه من غير امرار اليد، والعكس
على الامرار بدون الجريان، وهذا كاف في صحة التقابل وإن اجتمعا في امرار اليد
مع الجريان ولك أن تقول بمعونة صحيحة زرارة المتقدمة أن الغسل حقيقة فيما يحصل
معه الجريان لا مع امرار اليد أو معه بقصد كونه غسلا، ويقابله المسح بامرار اليد لا مع
الجريان أو معه بقصد كونه مسحا، وحينئذ فالنسبة بينهما التباين، وعدم جواز كل منهما
مكان الآخر ظاهر لما بينهما من التباين، وامرار اليد بما يستلزم الجريان في موضع المسح
مع قصد كونه مسحا كما أنه كذلك مع قصد كونه غسلا لا ينافي التباين حينئذ، فإن كان
366

مراد المعترض وغيره ممن عبر بعدم جواز الغسل مكان المسح وما ذكرناه من الغسل
المجرد عن امرار اليد أو معه مع قصد كونه غسلا فمرحبا بالوفاق، وإلا فهو محل
نظر لما عرفت.
(المسألة السادسة) - الظاهر أنه لا خلاف في أن من أخل بالترتيب بترك
بعض الأعضاء نسيانا، أعاد متى ذكر على ما يحصل به الترتيب أن ذكر قبل جفاف
السابق، إلا فمن رأس، ولو كان في الصلاة قطعها وأعادها بعد الوضوء مرتبا،
والأخبار به مستفيضة:
ففي حسنة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (1) " إذا ذكرت وأنت في صلاتك
أنك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك، فانصرف وأتم الذي نسيته من
وضوئك وأعد صلاتك " والاتمام هنا أما محمول على عدم فوات الموالاة أو أنه كناية
عن إعادة الوضوء.
وحسنته الأخرى عنه (عليه السلام) (2) قال: " إذا نسي الرجل أن يغسل
يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجلين وذكر بعد ذلك، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه
ورجليه، وإن كان إنما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعيد على ما كون توضأ " والمراد
من قوله: " ولا يعيد على ما كان توضأ " أي غسل، والوضوء هنا بمعنى الغسل، يعني لا يعيد
ما غسله سابقا، فلا ينافي وجوب مسح الرجل بعد غسل الشمال، وعلى ذلك أيضا تحمل
صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (3) قال: " سألته عن رجل
توضأ ونسي غسل يساره. فقال: يغسل يساره وحدها ولا يعيد وضوء شئ غيرها "
وحمله الشيخ (رحمه الله) على معنى لا يعيد وضوء شئ غيرها مما تقدم دون ما تأخر
ولا ضرورة إليه، فإن الوضوء هنا - كما عرفت - بمعنى الغسل، فينصرف إلى ما تقدم

(1) المروية في الوسائل في الباب - 3 و 42 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء
367

من غير تكلف الحمل على ذلك.
ورواية زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) " في الرجل ينسى مسح رأسه
حتى يدخل في الصلاة؟ قال: إن كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح رأسه ورجليه فليفعل
ذلك وليصل. قال: وأن نسي شيئا من الوضوء المفروض فعليه أن يبدأ بما نسي ويعيد
ما بقي لتمام الوضوء ".
ورواية أبي بصير عنه (عليه السلام) (2) " في رجل نسي أن يمسح على رأسه
فذكر وهو في الصلاة؟ فقال: إن كان استيقن ذلك أنصرف فمسح على رأسه ورجليه
واستقبل الصلاة.
وما ما ورد في بعض الأخبار - في من نسي مسح رأسه مما ظاهره الاقتصار
عليه، كرواية الكناني (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل توضأ فنسي
أن يمسح على رأسه حتى قام في الصلاة. قال: فلينصرف فليمسح على رأسه وليعد
الصلاة " ونحوها رواية المفضل بن صالح وزيد الشحام (4) - فمحمول على ما تقدم
من الروايات الدالة على أنه يأتي بالمنسي وما بعده تحقيقا للترتيب.
ولا فرق في ظاهر الأصحاب بين كون المنسي عضوا كاملا أو بعضا منه ولو
لمعة. فإنه يجب غسله وترتيب ما تأخر عليه، إلا أنه نقل في المختلف عن ابن الجنيد أنه
إذا كان المنسي لمعة دون سعة الدرهم، فإنه يكفي بلها من غير إعادة على ما بعد ذلك
العضو، ولم نقف له دليل إلا أنه نقل فيه أيضا عن ابن الجنيد أنه قال: " وقد روى
توقيت الدرهم ابن سعيد عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وابن منصور عن زيد
ابن علي، ومنه حديث أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) " انتهى. وهو اعرف

(1) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 42 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الوضوء
368

بما نقل. لكن روى الصدوق (رضي الله عنه) في الفقيه (1) مرسلا عن الكاظم (عليه
السلام) وفي كتاب عيون الأخبار مسندا عن الرضا (عليه السلام) أنه " سئل عن الرجل
يبقى من وجهه إذا توضأ موضع لم يصبه الماء. فقال يجزئه أن يبله من جسده " وهو وإن
لم يكن واضح الدلالة على ما ذكره ابن الجنيد إلا أنه مناف بظاهره لما عليه الأصحاب،
والحمل على الاتيان بما بعده وإن كان بعيدا عن ظاهر اللفظ إلا أنه لا مندوحة
عن المصير إليه.
وربما ظهر من الصدوق العمل بظاهر الرواية المذكورة، حيث نقلها ولم يتعرض
لتأويلها ولا ردها، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد الحرفي كتاب البداية. وجرى عليه
أيضا في كتاب الوسائل، حيث قال: " باب من نسي بعض العضو أجزأه أن يبله
من بعض جسده " ثم نقل الرواية المذكورة بطريقي الفقيه والعيون.
وأنت خبير بأن اثبات الحكم المذكور - مع مخالفته لظواهر الأخبار المتعددة
والقواعد الممهدة بمجرد هذه الرواية مع ضعف سندها وقبولها للتأويل - مشكل. وربما
حملت أيضا على ما إذا لم يتيقن عدم إصابة الماء بل وجده جافا.
هذا. ومقتضى ما هو المعروف من كلام الأصحاب أنه بعد غسل اللمعة المذكورة
يرتب عليها ما تأخر عن ذلك العضو من الأعضاء، وأما أنه يرتب أولا ما تأخر عن
تلك اللمعة من العضو الذي هي فيه عليها أيضا فالمفهوم من كلام العلامة في المختلف
بعد نقل كلام ابن الجنيد المتقدم تفريع ذلك على وجوب الابتداء من موضع بعينه وعدمه
حيث قال: " ولا أوجب غسل جميع العضو بل من الموضع المتروك إلى آخره أن
أوجبنا الابتداء من موضع بعينه، والموضع خاصة إن سوغنا العكس " انتهى. وتحقيق
الكلام في ذلك قد تقدم.

(1) ج 1 ص 36 وفي العيون ص 192 وفي الوسائل في الباب - 43 - من أبواب
الوضوء.
369

(المسألة السابعة) - الظاهر أنه لا خلاف في تحريم الوضوء بالماء النجس،
ويدل عليه أيضا ما رواه الشيخ محمد الحر في كتاب الوسائل (1) عن المرتضى (رضي الله
عنه في رسالة المحكم والمتشابه نقلا من تفسير النعماني بإسناده عن علي (عليه السلام)
قال: " وأما الرخصة التي هي الاطلاق بعد النهي، فإن الله تعالى فرض الوضوء على عباده بالماء
الطاهر، وكذلك الغسل من الجنابة... الحديث " ويدل عليه أيضا جملة من الأخبار
الواردة بالنهي عن الوضوء بالماء النجس (2).
وإنما الخلاف في المعنى المراد من التحريم في هذا المقام، فقيل المراد به المعنى
المتعارف وهو ما يترتب الإثم على فعله مع بطلانه، وقيل إنه عبارة عن مجرد البطلان
والأول اختيار جماعة: مهم - الحقق الثاني في شرح القواعد، والشهيد الثاني في الروض،
وسبطه السيد السند في المدارك، وعللوه بأن استعماله فيما يسمى طهارة في نظر الشارع
يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراما، إذ المراد التحريم على تقدير
استعماله والاعتداد به في الصلاة. والقول الثاني اختاره العلامة في النهاية. والأول أقرب لأن
اعتقاد الطهارة بما نهى الشارع عن الطهارة به تشريع البتة، فيترتب عليه الإثم بلا اشكال.
ثم إن الابطال - ووجوب الإعادة وقتا وخارجا إذا كان عن عمد - مما لا خلاف
ولا اشكال فيه، والظاهر من كلامهم أن الطهارة به نسيانا في حكم العمد أيضا من حيث
وجوب التحفظ عليه، وأما الطهارة به جهلا بالنجاسة فظاهر المشهور بين المتأخرين أنه
كذلك أيضا، والمفهوم من كلام الشيخ في المبسوط وجوب الإعادة في الوقت دون
الخارج، وبذلك صرح ابن البراج. وهو ظاهر كلام ابن الجنيد، وعبائر جل متقدمي
علمائنا (رضوان الله عليهم) مطلقة في وجوب الإعادة من غير تفصيل بين
الأفراد المذكورة.

(1) في الباب - 51 - من أبواب الوضوء.
(2) ذكر هذه الأخبار في الفصل الثالث من باب المياه في حكم القليل الراكد
370

وقال العلامة في المختلف بعد نقل جملة من عبارات الأصحاب الواردة في هذا
الباب: " والوجه عندي إعادة الصلاة والوضوء والغسل أن وقعا بالماء النجس، سواء
كان الوقت باقيا أو لا، سبقه العلم أو لا " وعلى منواله حذا جملة من المتأخرين،
واستدل على ما ذهب إليه في المختلف بورود الأخبار بالنهي عن الوضوء بالماء النجس،
مثل صحيحة حريز (1) الدالة على أنه " إذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه "
وصحيحة البقباق (2) الدالة على السؤال عن أشياء حتى انتهى إلى الكلب فقال (عليه
السلام): " رجس نجس لا تتوضأ بفضله... " قال: " والنهي يدل على الفساد، فيبقى في
عهدة التكليف. لعدم الاتيان بالمأمور به " ثم قال: " لا يقال: هذا لا يدل على المطلوب
لاختصاصه بالعالم، فإن النهي مختص به. لأنا نقول: لا نسلم الاختصاص، فإنه
إذا كان نجسا لم يكن مطهرا لغيره " ثم استدل أيضا بما رواه معاوية في في الصحيح عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " سمعته يقول لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما
وقع في البئر إلا أن ينتن. فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة " قال: " وهذا مطلق سواء
سبقه العلم أو لا ".
وقال الشهيد في الذكرى: " يحرم استعمال الماء النجس والمشتبه في الطهارة مطلقا،
لعدم التقرب بالنجاسة، فيعيدها مطلقا وما صلاه ولو خرج الوقت، لبقاء الحدث،
وعموم " من فاتته صلاة فليقضها " (4) يقتضي وجوب القضاء " انتهى.
وللنظر فيما ذكراه (قدس سرهما) مجال: أما ما ذكره العلامة (رحمه الله) من
الاستدلال بالأخبار الدالة على النهي عن الوضوء بالماء النجس، من حيث إن النهي

(1) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق
(2) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الأسئار و - 11 - من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق
(4) الظاهر أنه مضمون مستفاد من الأخبار الواردة في قضاء الصلوات
371

يدل على الفساد فيبقى في عهدة التكليف، فمسلم بالنسبة إلى العامد والناسي، وأما بالنسبة
إلى الجاهل فممنوع لعدم توجه النهي إليه كما ذكروا في غير موضع، معللين له بقبح
تكليف الغافل، كما صرحوا به في مسألة الصلاة في الثوب المغصوب جاهلا والمكان
المغصوب، فإنه لا خلاف بينهم في الصحة، وحجتهم على ذلك ما أشرنا إليه من عدم
توجه النهي إلى الجاهل لقبح تكليف الغافل، على أن الأظهر - كما هو المستفاد من
الأخبار وعليه جماعة جملة من محققي علمائنا الأبرار - هو معذورية جاهل الحكم فضلا عن
جاهل الأصل إلا ما خرج بدليل، كما تقدم تحقيقه في المقدمة الخامسة. وما ذكره أخيرا
- من منع اختصاص النهي بالعالم معللا بأنه إذا كان نجسا لم يكن مطهرا لغيره - ففيه أنه
إن كان المراد به ما كان نجسا في نظر المكلف فمسلم ولكنه ليس محل البحث، وإن
أراد به ما كان كذلك واقعا وإن لم يكن معلوما للمكلف حال الاستعمال فهو أول المسألة
وكذلك ما ذكره في الذكرى من تعليله عدم ارتفاع الحدث به بأنه نجس ولا تحصل به
الطهارة إلى آخر ما ذكره، وتوضيحه إلى التكاليف الواردة من الشارع إنما جعلت
منوطة بالظاهر في نظر المكلف دون الواقع، والشارع لم يلتفت في ذلك إلى نفس الأمر
ولم يكلف بالنظر إليه، للزوم تكليف ما لا يطاق، ولا نقول إن التكليف إنما هو
بالنظر إلى الواقع وإن سقط الإثم بالمخالفة دفعا للحرج المذكور. فلا بد في الصحة من مطابقته
كما هو ظاهر الجماعة، لقولهم (عليهم السلام): " كل ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر " (1)
و " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر... " (2) فإنه - كما ترى - ظاهر
الدالة على الحكم على كل ماء وكل شئ بالطهارة والنظافة إلى وقت العلم بالقذارة،
وبعد العلم بالقذارة يحكم بأنه قذر، فصفة النجاسة لا تثبت له شرعا إلا بعد

(1) المروي في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق
(2) المروي في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب النجاسات
372

العلم ويؤيده قوله: " الناس في سعة ما لم يعلموا " (1) وقوله: " لا أبالي أبول أصابني
أم ماء إذا لم أعلم " (2) إلى غير ذلك من الأخبار، وحينئذ فالمكلف إذا توضأ بهذا الماء
الطاهر في اعتقاده وإن لاقته نجاسة واقعا، فطهارته شرعية مجزئة، وصلاته بتلك
الطهارة شرعية مجزئة اجماعا. فبعد ثبوت النجاسة في ماء وضوئه وانكشاف الأمر لديه
فوجوب قضاء تلك العبادة التي مضت على الصحة من وضوء وصلاة وإعادتها يحتاج
إلى دليل، وليس فليس. وصدق الفوات على مثل هذه العبادة - كما ادعاه في الذكرى -
ممنوع، كيف وقد فعل المأمور به شرعا، وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء والصحة كما
حقق في محله.
والتحقيق في هذا المقام - وإن استدعى مزيد بسط في الكلام، فإن المسألة مما
لم يحم حول حريم تحقيقها أحد من الأقوام مع كونها كالأصل لابتناء جملة من الأحكام -
أن يقال: الخلاف في هذه المسألة مبني على مسألتين أخريين: إحداهما - معذورية
الجاهل وعدمها، وثانيتهما - أن النجس شرعا هل هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا
خاصة أو عما علم المكلف بملاقاة النجاسة له، والمشهور بين الأصحاب في المسألة الأولى
هو عدم معذورية الجهل إلا في مواضع مخصوصة، والمشهور من الأخبار - كما أسلفنا
بيانه في المقدمة المشار إليها آنفا - هو المعذورية إلا في مواضع خاصة، والمستفاد من
كلامهم في المسألة الثانية أن النجس شرعا هو ما لاقته النجاسة وإن لم يعلم به المكلف،
غاية الأمر أنه مع عدم العلم ترتفع عنه المؤاخذة، فعلى هذا لو صلى في النجاسة أو توضأ
بماء متنجس كان كل من صلاته ووضوءه باطلا في الواقع وإن ارتفع الإثم عنه في ظاهر
الأمر، نقل ذلك عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة في الفصل الثالث في المنافيات

(1) تقدم في التعليقة 2 ص 43 ج 1 أن الأصل في هذا الحديث هو قوله (ع): " هم
في سعة حتى يعلموا " في رواية السفرة المروية في الوسائل في الباب - 50 - من النجاسات و - 38 -
من الذبائح و - 23 - من اللقطة.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 37 - من النجاسات.
373

للصلاة، حيث قال المصنف: " الأول - نواقض الطهارة مطلقا ومبطلاتها كالطهارة بالماء
النجس " قال الشارح: " سواء علم بالنجاسة أم لا حتى لو استمر الجهل به حتى مات،
فإن الصلاة باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها، لامتناع تكليف الغافل، وهذا هو الذي
يقتضيه اطلاق العبارة وكلام الجماعة " انتهى. وحينئذ فيتجه القول بالبطلان. والمستفاد
من الأخبار أن النجس ليس عبارة عما ذكروا بل هو عبارة عما علم الكلف بملاقاة النجاسة
له، كما أن الطاهر ليس عبارة عما لم تلاقه النجاسة بل عما لم يعلم ملاقاتها له، وقد تقدم
تحقيق المسألة في المقدمة الحادية عشرة (1) ويزيده هنا ما عرفت من الخبرين المتقدمين
الدالين على أن " كل ماء طاهر، وكل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت
فقد قذر " فإنهما كما دلا على أن الماء وغيره من الأشياء على أصل الطهارة من حيث عدم
العلم بملاقاة النجاسة له وإن حصل ذلك واقعا كذلك دلا على أن النجس الذي هو مقابل
له بالمباينة هو ما علم ملاقاة النجاسة له تحقيقا للمباينة. وبذلك يظهر لك ما في كلامهم
(رضوان الله عليهم) من الغفلة والمسامحة في الأصل المذكور وما يبتني عليه. هذا
مقتضى ما أدى إليه الدليل بالنظر إلى هذا الفكر الكليل والذهن العليل والاحتياط
يقتضي الوقوف على كلام الأصحاب (نور الله مراقدهم).
ولم أر من تنبه لما ذكرناه واختاره ما حققناه سوى العلامة المحدث السيد نعمة الله
الجزائري في رسالته التحفة، والشيخ جواد الكاظمي في شرح الرسالة الجعفرية،
أما الأول منهما فإنه صرح بأن الطاهر والنجس ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته،
فالظاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر بل ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس،
وليس له واقع سوى حكم الشارع بطهارة المسلمين فصاروا طاهرين، صرح بذلك
(قدس سره) في جواب شبهة بعض معاصرين من علماء العراق ممن اعتقد وجوب
عزل السؤر عن الناس بزعم أنهم نجسون قطعا أو ظنا. وأما الثاني فإنه في الكتاب

(1) ج 1 ص 136.
374

المذكور - بعد أن نقل ما قدمنا من عبارة الذكرى - قال: " وفيه نظر، فإنا لا نسلم بقاء
حدثه، قولك: النجس لا تحصل به الطهارة قلنا النجس في نفس الأمر أو النجس
في علم المكلف، الأول ممنوع، والثاني مسلم، ويؤيده أنا مكلفون مع عدم العلم بالنجاسة
لا مع العلم بعدمها، لاستلزام ذلك الحرج المنفي بالآي والأخبار، وعلى هذا فكون
صلاته فاسدة ممنوع، وصدق الفوات بالنسبة إليه غير ظاهر، كيف وهو قد فعل المأمور به
شرعا وامتثال الأمر يوجب الجزاء والصحة. أما الأول فلأنه مأمور بالطهارة بماء
محكوم بطهارته شرعا أي ما كان طاهرا في الظاهر لا في نفس الأمر، لأن الشارع
لم يلتفت إلى نفس الأمر لتعذره، وأما الثاني فلما ثبت في الأصول " انتهى.
وهذه المسألة من جملة ما أشبعنا الكلام في تحقيقها في كتاب المسائل إلا أنا
بعد لم نقف على كلام هذين الفاضلين. وبعض المعاصرين استبعد ما ذهبنا إليه لمخالفته
ما هو المشهور، حيث إن طبيعة الناس جبلت على متابعة المشهورات وإن أنكروا
بظاهرهم تقليد الأموات، وقد وفق الله سبحانه للوقوف على كلام الفاضلين المذكورين
فأثبتناه هنا لا للاستعانة على قوة ما ذهبنا إليه بل لكسر سورة نزاع ما ذكرناه
من المعاصرين، لعدم قبولهم إلا لكلام المتقدمين.
(المسألة الثامنة) - لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في بطلان
الطهارة بالماء المغصوب عالما عامدا، وهو لا اشكال فيه. أما مع الجهل فظاهرهم هنا
الاتفاق على عدم التحريم والابطال، لعدم توجه النهي إليه. وأما نسيان الغصب فهل
يكون حكمه حكم العبد كما ذكروا في ناسي النجاسة. فيتوجه إليه النهي، لأن النسيان
إنما عرض له بقلة التكرار الموجب للتذكار، أو حكم الجاهل لامتناع تكليف الغافل؟
قولان: اختار أولهما العلامة في القواعد، وثانيهما أول الشهيدين في الرسالة، وثانيهما
في شرحها، وثاني المحققين في شرح الرسالة المذكورة وفي رسالته الجعفرية، وشارحاها
في شرحيهما، وهو الأظهر لما حققناه آنفا.
375

ثم إن الفرق بين جاهل الغصب والنجاسة كما ذكروا - معللين له بأن مانع النجاسة
ذاتي فلا يضره الجهل، بخلاف الغصب، فإنه عرضي بسبب النهي عن التصرف في مال
الغير، ومع الجهل والنسيان لا يتحقق النهي لعدم التكليف، فينتفي المانع - محل نظر
يظهر ما حققناه آنفا. هذا في جاهل الغصب وناسيه.
أما جاهل حكم الغصب وناسيه فهو عندهم في حكم العمد، لوجوب التعلم عليهما
وضمهما الجهل إلى التقصير فلا يعد تقصيرهما عذرا. وأنت خبير بما فيه من الوهن
والضعف. لما أشرنا إليه آنفا من قيام دليلي العقل والنقل على معذورية الجاهل، أعم
من أن يكون جاهلا بالأصل أو الحكم، وتقصيره في التعلم غاية ما يوجبه حصول الإثم
لا خلاله على ما ذكرناه في كتاب الدرر النجفية، حيث حققنا هناك المقام بمزيد
بسط في الكلام لا يحوم حوله نقض ولا ابرام.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الغصب - على ما عرفوه - عبارة عن اثبات اليد على حق
الغير عدوانا وظلما، واحترزوا بقيد العدوان عن اثبات الوكيل يده على مال الموكل،
ونحوه المرتهن والولي والمستأجر والمستعير، وظاهرهم عدم الاكتفاء بشاهد الحال أعني
ظن رضا المالك في الخروج عن الغصب، وبذلك ينقدح الاشكال ويقع الداء العضال
في مثل هذه المسألة، فإنه متى سافر الانسان من بلد إلى أخرى مسيرة شهر أو أزيد
أو أنقض، يجب عليه حينئذ حمل ماء مملوك معه إلى أن يتمكن من تحصيل ماء مباح أو
مأذون أو مشتري، ولا يجوز له الأخذ من المياه التي يمر بها في الطرق لدخولها في باب
الغصب، وفيه من المشقة والحرج والعسر المنفي بالآية والرواية (1) ما لا يخفى، ولعله
لذلك صرح جمع: منهم - الشهيدان بجواز الشرب والوضوء والغسل من نحو القناة
المملوكة والدالية والدولاب مطلقا عملا بشاهد الحال إلا أن يغلب على الظن الكراهة،
ونفى عنه البعد في الكفاية، وهو جيد، وحينئذ لا فرق بين كون ذلك الماء مملوكا

(1) راجع الصحيفة 151 من الجزء الأول
376

أو مغصوبا، لأن شاهد الحال حاصل على التقديرين على حد ما يأتي بيانه إن شاء الله
تعالى في المكان.
(المسألة التاسعة) - هل يشترط طهارة أعضاء الوضوء أو لا من النجاسة لو كان
ثمة نجاسة ثم اجراء ماء الوضوء عليها. أو يكفي ماء واحد لإزالة الخبث والحدث؟ قولان:
المشهور الأول، وسيأتي تحقيق المقام في فصل غسل الجنابة إن شاء الله تعالى.
(المسألة العاشرة) - المشهور بين متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم)
اشتراط الإباحة في مكان الطهارة، فلو توضأ في مكان مغصوب عالما عامدا بطلت طهارته
لنهي عن الكون الذي هو من ضروريات الفعل، وقطع المحقق في المعتبر بالعدم مع
اختياره الاشتراط في الصلاة، وإليه جنح السيد في المدارك، وتحقيق المسألة حسبما
يقتضيه النظر سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث المكان من كتاب الصلاة.
(المسألة الحادية عشرة) - ظاهر كلام فقهائنا (رضوان الله عليهم) الاتفاق
على أن من كان على أعضاء طهارته جبائر - وهي في الأصل تقال للعيدان والخرقة التي
تشد على العظام المكسورة، والظاهر من كلام الفقهاء اطلاقها على ما يشد على القروح
والجروح أيضا، لاشتراك الجميع في الحكم الوارد في الروايات التي هي المستند في هذا
الباب - فإنه يجب عليه مع الامكان نزع الجبائر أولا، أو تكرار الماء عليها على وجه
يصل إلى البشرة ويحصل منه الغسل المعتبر شرعا، وظاهرهم التخيير في ذلك مع الامكان
بعدم التضرر بالنزع وعدم التضرر بتطهير ما تحت الجبيرة لو كان نجسا، ولو تعذر
النزع وأمكن ايصال الماء إلى ما تحت الجبيرة وجب أيضا، وإلا فيجب المسح عليها،
واحتمل العلامة في النهاية وجوب أقل ما يسمى غسلا، وهو بعيد. ولو كانت الجبيرة
نجسة ولم يمكن تطهيرها ثم المسح عليها قالنا يضع عليها خرقة طاهرة ثم يمسح عليها،
واحتمل في الذكرى الاكتفاء بغسل ما حولها. وصرح بعضهم بأن القرح أو الجرح لو
كان خاليا من الجبيرة مسح عليه إن أمكن وإلا وضع عليه شيئا طاهرا ومسح عليه.
377

هذا إذا كانت الجبيرة في موضع الغسل، أما إذا كانت في موضع المسح، فإن لم تستوعب
محل المسح بحيث يبقى ما يتأدى به الفرض فلا اشكال، وإن استوعبت فإن أمكن نزعها
والمسح على البشرة مع طهارتها أو أمكن تطهيرها وجب ذلك. وإلا مسح على
الجبيرة مع طهارتها، ولا يكفي هنا تكرار الماء عليها بحيث يصل إلى البشرة، لأن
المسح إنما يتحقق بايصال اليد إلى البشرة فيجب مع الامكان ولا يكفي امرار الماء،
ومع نجاسة الجبيرة يضع عليها خرقة طاهرة ويمسح. هذا ما يستفاد من متفرقات
كلماتهم في بحث الوضوء. ثم إنهم في بحث التيمم جعلوا من جملة موجباته الخوف من
استعمال الماء بسبب القروح والجروح من غير تقييد بتعذر وضع شئ عليها والمسح
عليه، وكلامهم في هذا المقام لا يخلو من اجمال يحصل به الاشكال.
وها نحن نسوق جملة ما وفقنا الله تعالى للوقوف عليه من الأخبار ونتكلم
بعدها بما رزقنا سبحانه فهمه من تلك الآثار، معتصمين بحبل توفيقه من العثار:
فمن ذلك صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج (1) قال: " سألت أبا إبراهيم (عليه
السلام عن الكسير تكون عليه الجبائر أو تكون به الجراحة كيف يصنع بالوضوء
أو عند غسل الجنابة وعند غسل الجمعة؟ قال يغسل ما وصل إليه الغسل مما ظهر مما ليس عليه
الجبائر، ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله، ولا ينزع الجبائر ولا يعبث
بجراحته " ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان مثله إلا أنه أسقط
قوله: " أو تكون به الجراحة (2) ".
وروى العياشي في تفسيره عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) (3) قال:
" سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ

(1) المروية في الوسائل في الباب - 39 - أبواب الوضوء.
(2) ولكن التعبير عنه (ع) ب‍ (أبي إبراهيم) إنما هو في التهذيب وفي الكافي
عبر ب‍ (أبي الحسن).
(3) المروية في الوسائل في الباب - 39 - أبواب الوضوء.
378

صاحبها، وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يجزيه المسح عليها في الجنابة والوضوء. قلت:
فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول الله (صلى الله
عليه وآله): ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (1) ".
ورواية عبد الله بن سنان أو صحيحته عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" سألته عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال: يغسل ما حوله ".
وقال في الفقيه (3): " وقد روي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: يغسل ما حولها ".
وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) أنه " سأل عن الرجل تكون
به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء فيعصبها بالخرقة ويتوضأ ويمسح
عليها إذا توضأ. فقال: إن كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة، وإن كان لا يؤذيه
الماء فلينزع الخرقة ثم ليغسلها قال: وسألته عن الجرح كيف أصنع به في غسله؟
قال: اغسل ما حوله ".
ورواية عبد الأعلى (5) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع
ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال: يعرف هذا وأشباهه
من كتاب الله تعالى: قال الله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (6)
امسح عليه ".
ورواية كليب الأسدي (7) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل

(1) سورة النساء الآية 33
(2) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء.
(3) ج 1 ص 29 وفي الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء.
(6) سورة الحج الآية 78
(7) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء.
379

إذا كان كسيرا كيف، يصنع بالصلاة؟ قال: إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على
جبائره وليصل ".
وحسنة الوشاء (1) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الدواء إذا كان
على يدي الرجل أيجزيه أن يمسح على طلي الدواء؟ قال: نعم يجزيه أن يمسح عليه ".
ورواية جعفر بن إبراهيم الجعفري عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" إن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر له أن رجلا أصابته جنابة على جرح كان به
فأمر بالغسل فاغتسل فكز فمات. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قتلوه قتلهم
الله... الحديث ".
وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) " في الرجل
تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ لا يغتسل ويتيمم "
وحسنة محمد بن مسكين وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: قيل له:
إن فلانا أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات؟ فقال: قتلوه، ألا سألوا ألا يمموه،
إن شفاء العي السؤال " وقال في الكافي (5) عقيب نقل هذه الرواية: " وروى ذلك
ذلك في الكسير والمبطون يتيمم ولا يغتسل ".
وحسنة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6)
قال: " سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات. فقال: قتلوه، إلا سألوا فإن
دواء العي السؤال "
وصحيحة محمد بن مسلم (7) قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل
يكون به القرح والجراحة يجنب. قال: لا بأس بأن لا يغتسل، يتيمم " ورواه في الفقيه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم
(3) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم
(4) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم
(5) ج 1 ص 20 وفي الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم
(6) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم
(7) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم
380

بلفظ القروح والجراحات (1).
وموثقة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (2) " في الرجل تكون به
القروح في جسده فتصيبه الجنابة؟ قال: يتيمم ".
وصحيحة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
قال: " ييمم المجدور والكسير إذا أصابتهما الجنابة ".
وموثقة عمار (4) قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل ينقطع ظفره
هل يجوز أن يجعل عليه علكا؟ قال: لا ولا يجعل عليه إلا ما يقدر على أخذه عنه عند
الوضوء، ولا يجعل عليه ما لا يصل إليه الماء ".
وموثقته الأخرى (5) " في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء
فلا يقدر أن يمسح عليه لحال الجبر إذا جبر، كيف يصنع؟ قال: إذا أراد أن يتوضأ
فليضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى جلده. وقد أجزأه ذلك
من غير أن يحله " ورواه الشيخ في موضع آخر عن إسحاق بن عمار مثله.
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة، والكلام فيها يقع في مواضع:
(الأول) - إن ما دلت عليه حسنة الحلبي - من المسح على الخرقة إذا
كان يؤذيه الماء، ورواية عبد الأعلى من المسح على المرارة لاستلزام رفعها المشقة والحرج
ورواية كليب من الأمر بالمسح على الجبائر مقيدا بالخوف على نفسه - هو مستند
الأصحاب فيما ذكروه من وجوب المسح على الجبيرة متى تعذر ايصال الماء إلى ما تحتها،
واطلاق بعض الأخبار - الدالة على اجزاء المسح على الجبيرة من غير تعرض لتعذر ايصال
الماء إلى ما تحتها كرواية العياشي وحسنة الوشاء - مقيد بهذه الأخبار.

(1) ج 1 ص 58 وفي الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم
(3) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب التميم
(4) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء
(5) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء
381

وناقش جملة من المتأخرين: منهم - السيد في المدارك في وجوب المسح على الجبيرة
قائلا بأنه لولا الاجماع على وجوب مسح الجبيرة لأمكن القول بالاستحباب والاكتفاء
بغسل ما حولها، واحتج على ذلك بصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج.
وأنت خبير بأن المراد من قوله (عليه السلام) في الصحيحة المشار إليها: " ويدع
ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله " يعني يدع غسل ما لا يستطيع غسله من الجبائر،
كما يدل عليه أيضا قوله أخيرا: " ولا ينزع الجبائر ولا يعبث بجراحته " وليس فيها نفي
أو نهي عن المسح بل هي مطلقة بالنسبة إليه، ولا ضرر فيه، لاستفادة الحكم من تلك
الأخبار المذكورة مؤيدا بدعوى الاجماع في المسألة، فيكون اطلاق هذه الرواية مقيدا
بتلك الروايات فلا منافاة، وأما ما عدا هذه الرواية مما دل على غسل ما حول الجرح
فالظاهر منه أن الجرح خال من الجبيرة، كما هو ظاهر الشهيد في الدروس، فإنه بعد أن
ذكر التفصيل في الجبائر وما في حكمها قال: " والمجروح يغسل ما حوله " وصريحه في
الذكرى. وبالجملة فالرواية التي استند إليها فيما ذكره لا تنهض حجة في ذلك. نعم ربما
كان ظاهرا من كلام الصدوق في الفقيه هنا التخيير بين المسح على الجبيرة والاكتفاء بغسل
ما حولها، حيث قال (1): " ومن كان به في المواضع التي يجب عليها الوضوء قرحة
أو جراحة أو دماميل ولم يؤذن حلها فليحلها وليغسلها، وإن أضر به حلها فليمسح يده
على الجبائر والقروح ولا يحلها ولا يعبث بجراحته، وقد روى في الجبائر عن أبي عبد الله
(عليه السلام) أنه قال: يغسل ما حولها " انتهى، وهذا بعينه ما ذكره في كتاب فقه
الرضا حيث قال (عليه السلام) (2): " إن كان بك في المواضع التي يجب عليها الوضوء
قرحة أو دماميل ولم تؤذك حلها واغسلها، وإن أضرك حلها فامسح يدك على الجبائر
والقروح ولا تحلها ولا تعبث بجراحك، وقد نروي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: يغسل ما حولها ".

(1) ج ص 29.
(2) ص 2
382

(الثاني) - المستفاد من ظاهر ورواية عبد الله بن سنان وحسنة الحلبي أن
القروح والجروح الخالية من الجبيرة إذا تضررت بالغسل يكتفى بغسل ما حولها، وأما
ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) - من عنده مع تعذر الغسل يمسح عليها ومع تعذر
المسح يضع عليها ما يمسح عليه فوقها - فلم أقف له على دليل في الأخبار، وقد اعترف
أيضا بذلك بعض متأخري علمائنا الأبرار، وما علل به - من أن فيه تحصيلا لشبه الغسل عند
تعذر حقيقته إذا كان الجرح في محل الغسل، أو أنه وسيلة إلى المسح الواجب في موضع
المسح - فلا محصل له، مع عدم الدليل الشرعي على ذلك، وكذلك ما ذكروه من موضع
خرقه على الجبيرة لو كانت نجسة وتعذر غسلها، فإنه لا اشعار به في تلك الروايات
بوجه، والجبيرة إنما رخص في المسح عليها عند تعذر ايصال الماء إلى ما تحتها، لصيرورتها
بسبب ضرورة التداوي بها ولصوقها بالجسد كأنها منه، وهذا بخلاف وضع الخرقة على
هذا الوجه الذي ذكروه، ولا بأس بالعمل بما ذهبوا إليه، إذا لعلهم اطلعوا على ما لم
نطلع عليه.
(الثالث) - ما دلت عليه رواية عبد إلا على من المسح على المرارة التي
على ظفره دليل ما ذكره الأصحاب من المسح على الجبيرة وإن كانت في موضع المسح
أيضا، وعليه يدل أيضا اطلاق رواية كليب الأسدي وظاهر حسنة الحلبي. وهل يجب
التخليل مع إمكانه وعدم إمكان النزع للتوصل إلى ايصال الماء للبشرة هنا، كما لو كانت
الجبيرة في موضع الغسل، أو الواجب المسح على الجبيرة خاصة؟ ظاهر الأصحاب الثاني
لما قدمنا نقله، والمفهوم من كلام شيخنا صاحب رياض المسائل فيه الأول حيث قال:
" ويجب التخليل مع إمكانه ولو في موضع المسح وإن حصل الجريان عليه على الظاهر،
أما على تقدير عدم صدق الغسل المنهي عنه عرفا عليه فظاهر، وأما بتقدير الصدق فلأنه
ليس باعتقاد أنه المفروض دون المسح بل باعتقاد أنه مقدمة ما أستطيع الاتيان به من
المسح المأمور به وهو ايصال الماء إلى البشرة مع تعذره إلا مع الجريان وعدم المماسة
383

ولتصريح جمع من الأصحاب - كما هو الأقوى - بتعين الغسل على الرجلين لو تأدت التقية
به وبالمسح على الخفين، لكونه أقرب للامتثال، وتعلقه بأعضاء الطهارة لا بأمر خارج
عنها بل عن المتطهر، كما يدل عليه فحوى ما رواه ابن بابويه في الفقيه (1) عن عائشة أنه
(صلى الله عليه وآله) قال: " أشد الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد
غيره " ولظاهر اطلاق رواية إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام) في الرجل
ينكسر ساعدة... الحديث كما تقدم (2). انتهى كلامه (قدس سره) وهو قوي وإن
أمكن المناقشة في بعض ما ذكره.
(الرابع) - أن ما دلت عليه موثقة عمار الأولى في من أنقطع ظفره - من أنه
لا يجعل عليه إلا ما يمكن أخذه عنه عند الوضوء، ولا يجعل عليه ما لا يصل إليه الماء -
مما ينافي بظاهره الأدلة العقلية والنقلية. من وجوب دفع الضرر، ورفع الحرج وسعة
الحنيفية، وخصوص جملة مما تلوناه من أخبار الجبيرة الدالة على جواز استعمالها وأنه
يمسح عليها مع تعذر ايصال الماء، ولا سيما رواية عبد الأعلى الدالة على خصوص الظفر.
ويمكن حملها على عدم انحصار العلاج بذلك حتى أن بعض محققي متأخري
المتأخرين جعل من مستحبات الوضوء أن لا يضع على أعضاء طهارته عند الحاجة إلى العلاج
ما لا يقدر على أخذه عند الوضوء أو ما لا يصل إليه الماء إلا مع انحصار العلاج فيه، ثم
قال: " وفي حرمته تأمل، ينشأ من عموم الرخصة، ومن خصوص الموثقة المذكورة ".
وفيه ما لا يخفى، فإن العمل بظاهر الرواية المذكورة ممنوع بما ذكرنا لك من
الأدلة، فطرحها رأسا كما ذكرنا ليس بذلك البعيد، لا سيما والراوي عمار المتفرد برواية
الغرائب، كما طعن به عليه المحدث الكاشاني في مواضع من كتاب الوافي.
وحملها الشيخ في التهذيب على أنه لا يجوز ذلك مع الاختيار، فأما مع الضرورة

(1) ج 1 ص 30 وفي الوسائل في الباب - 38 - من أبواب الوضوء
(2) تقدم في الصحيفة 381
384

فلا بأس به، قيل: " وهو مجمل محتمل لأن يراد بالاختيار المقابل بالضرورة ارتفاع
الضرورة والحاجة مطلقا، وارتفاع الضرورة الخاصة الداعية إلى العلاج الخاص مما لا
يمكن نزعه عند الوضوء وما لا يصل إليه الماء، وربما كان المتبادر من كلامه الأول " انتهى
وبالجملة فإن أمكن حملها على وجه تنتظم به مع تلك الأخبار وإلا فطرحها متعين،
فما وقع فيه بعض متأخري متأخرينا بسببها من الاشكال ليس بذلك القريب الاحتمال.
(الخامس) - إن ما دلت عليه موثقة عمار المروية في موضع آخر عن إسحاق
ابن عمار (1) - في من انكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر أن يمسح
على موضع الكسر لمحل الجبر، من أنه يضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبيرة فيه على
وجه يصل إلى البشرة - لعله مستند الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما قدمنا نقله عنهم
من أنه لو تعذر النزع وأمكن ايصال الماء إلى ما تحت الجبيرة وجب مقد ما على المسح
على الجبيرة. والشيخ (رضوان الله عليه) حمل الرواية المذكورة على الاستحباب. قائلا
إنه مع الامكان وعدم التضرر يستحب له ذلك. وفيه أنه إنما صير إلى المسح لتعذر
الغسل فمع إمكانه على الوجه المذكور يكون واجبا لا مستحبا، وحينئذ فالخبر محمول على
إمكان ايصال الماء وإن كان مطلقا في ذلك، للاجماع ظاهرا، ولزوم الحرج والمشقة
المنفيين عقلا ونقلا، والروايات المتقدمة.
(السادس) - ظاهر الروايات الدالة على المسح على الجبيرة استيعاب الجبيرة بالمسح،
وهو ظاهر المشهور وجعله الشيخ في المبسوط أحوط، وحسنه في الذكرى مستشكلا في
وجوب الاستيعاب بصدق المسح عليها بالمسح على جزء منها كصدق المسح على الرجلين والخفين
عند الضرورة. ولقائل أن يقول إن تبعيض المسح في الرجلين إنما هو لمكان الباء في المعطوف
عليه وفي الخفين لتبعيته حينئذ لهما. واستدل أيضا في المعتبر على وجوب الاستيعاب بأن
المسح بدل من الغسل فكما يجب الاستيعاب في الغسل يجب في بدله. وصريح الأخبار

(1) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب الوضوء
385

المذكورة عدم وجوب اجراء الماء على الجبيرة وإن أمكن فلا يجب حينئذ لعدم ورود
الأمر به. واحتمل العلامة في النهاية وجوب أقل ما يسمى غسلا. وهو بعيد.
(السابع) - أن ما دل عليه جملة من تلك الأخبار من الأمر بالتيمم الذي القروح
والجروح مناف لما دل عليه الجملة الأخرى من المسح على الجبيرة وغسل ما حول الخالي
عنها، وقد اختلف كلام الأصحاب في وجه الجمع بينها على وجوه لا يخلو أكثرها من
الإيراد والبعد عن المراد، والذي يقوى في البال حمل روايات التيمم في التخصيص
بالبدلية من الغسل، سيما فيما إذا كانت القروح والجروح كثيرة متعددة في البدن،
وقوفا على ظواهر ألفاظها، فإنها إنما وردت بالنسبة إلى الغسل خاصة، ووقوع السؤال
فيها عن القروح والجروح بلفظ الجمع، ومن الغالب لزوم الحميات لذلك، وبكشف
البدن لأجل الغسل ربما أضر به ملاقاة الهواء لذلك، كما تدل عليه رواية جعفر بن إبراهيم
الجعفري، فإنها تضمنت أنه بعد الغسل كز فمات. والكزاز كغراب داء يتولد
من شدة البرد. وهو قرينة ما قلناه من لزوم الحميات للقروح والجروح وتضرر البدن
لذلك بكشفه في الهواء، ومثلها ظاهر روايتي محمد بن مسكين وابن أبي عمير وظاهر
رواية العياشي، فإنها صرحت أولا بأنه يجزيه المسح على الجبائر في الوضوء والغسل حيث
لا يخاف على نفسه، ومع الخوف على نفسه بافراغ الماء على جسده فإنه ينتقل إلى
التيمم، لأن قراءته (صلى الله عليه وآله) الآية المذكورة يريد المنع من الغسل والانتقال
إلى بدله من التيمم.
وبالجملة فروايات التيمم مشعرة بكون السبب في العدول إليه هو التضرر بكشف
البدن للغسل من أجل ما فيه من القروح والجروح، بخلاف روايات المسح على الجبيرة
والغسل لما حول الجرح، فإنها أما صريحة في الوضوء بخصوصه كحسنة الحلبي ورواية
عبد الأعلى وحسنة الوشاء وأما فيه وفي الغسل لكن لا على الوجه الذي أشرنا إليه
كصحيحة عبد الرحمان وصدر رواية العياشي وأما عامة لهما كرواية عبد الله بن سنان
386

ورواية كليب الأسدي، وحينئذ فالتيمم في هذه المسألة مخصوص بالبدلية عن الغسل على
ذلك الوجه، والمسح على الجبيرة والغسل لما حول الجرح والقرح مخصوص بالوضوء
والغسل على غير ذلك الوجه وعلى ذلك تنتظم الأخبار على وجه واضح المنار،
والاحتياط لا يخفى.
(المسألة الثانية عشرة) - قد صرح أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بأن صاحب السلس - وهو الذي لا يمسك بوله - يتوضأ لكن صلاة ويغتفر حدثه بعده،
نظرا إلى أنه بتجدد البول يصير محدثا فتجب عليه الطهارة ويمنع من المشروط بها إلا أن
ذلك لما امتنع اعتباره مطلقا لتعذره وجب عليه الوضوء لكل صلاة مراعاة لمقتضى الحدث
حسب الامكان.
ونقل عن الشيخ في المبسوط جواز الجمع بين صلوات كثيرة بوضوء واحد،
محتجا بأنه لا دليل على تجديد الوضوء وحمله على الاستحاضة قياس لا نقول به. وهذا
الكلام محتمل لوجهين: (أحدهما) - عدم جعل البول بالنسبة إليه حدثا وحصر أحداثه
فيما عداه. و (ثانيهما) - عدم جعل ما يخرج بالتقاطر حدثا وأما الذي يخرج بالطريق
المعهود فيكون حدثا.
وذهب العلامة في المنتهى إلى جواز الجمع بين كل من الظهرين والعشائين بوضوء
واحد واختصاص الصبح بوضوء واحد وأما ما عداها فيجب الوضوء لكل صلاة،
واحتج على ذلك بصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) أنه قال: " إذا
كان الرجل يقطر منه البول والدم، إذا كان حين الصلاة اتخذ كيسا وجعل فيه قطنا،
ثم علقه عليه وادخل ذكره فيه، ثم صلى: يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر يؤخر الظهر
ويعجل العصر بأذان وإقامتين، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء بأذان وإقامتين، ويفعل
ذلك في الصبح " وأما وجوب الوضوء لكل صلاة فيما عدا ما ذكره فوجهه ما تقدم من

(1) المروية في الوسائل في الباب - 19 - من نواقض الوضوء
387

دليل القول الأول كما صرح به في المنتهى.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة صحيحة حريز المتقدمة.
وحسنة منصور بن حازم قال (1): " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل
يعتريه البول ولا يقدر على حبسه؟ قال: فقال لي: إذا لم يقدر على حسبه فالله أولى بالعذر
يجعل خريطة.
ورواية الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سئل عن تقطير
البول. قال يجعل خريطة إذا صلى ".
وموثقة سماعة (3) قال: " سألته عن رجل أخذه تقطير من فرجه أما دم وأما غيره
قال فيصنع خريطة وليتوضأ وليصل، فإن ذلك بلاء ابتلى به فلا يعيدن إلا من الحدث
الذي يتوضأ منه ".
وأنت خبير بأن ما عدا صحيحة حريز من الروايات المذكورة لا تعرض فيها
للوضوء بكونه لكل صلاة ولا لكل صلاتين بل هي مطلقة في ذلك، وقصارى ما تدل
عليه جواز الدخول في الصلاة في تلك الحال مع وجوب التحفظ من النجاسة بحسب الامكان
دفعا للحرج والمشقة المفهومين من أولوية الله سبحانه بالعذر وأنه بلاء ابتلى به، وأن
الخريطة بالنسبة إليه كجزء من بدنه لا ينقض من النجاسة إلا ما خرج منها دون ما بقي
فيها، ومقتضى القاعدة حمل مطلق الأخبار على مقيدها، وبه يظهر قوة ما ذهب إليه
في المنتهى ورجحه السيد في المدارك أيضا. وأما ما عدا الفرائض اليومية فيشكل الوجه
فيه لعدم الدليل الناس على حكمه. والاحتياط في المقام بوضع الخريطة المحشوة بالقطن
والوضوء لكل صلاة في اليومية وغيرها. وقوله (عليه السلام) في آخر موثقة سماعة:
" فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ منه " محتمل للمعنيين المتقدمين في كلام الشيخ

(1) المروية في الوسائل في الباب - 19 - من نواقض الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 19 - من نواقض الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من نواقض الوضوء
388

في المبسوط، وكيف كان فهي ظاهرة في كون التقطير ليس حدثا بالنسبة إليه.
ثم إنهم صرحوا بأنه متى كان للسلس فترة ينقطع فيها التقطير تسع الطهارة
والصلاة وجب انتظارها، لزوال الضرورة التي هي مناط التخفيف. ولا ريب في أولويته
ورجحانه. وذكر البعض أيضا وجوب المبادرة إلى الصلاة بعد الوضوء. وهو كذلك.
وأما المبطون وهو من به داء البطن بخروج غائط أو ريح لا يتمكن من حبسه،
فقد ذكر جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يتوضأ لكل صلاة.
والعلامة في المنتهى مع تصريحه بجمع ذي السلس بين الصلاتين صرح هنا
بوجوب الوضوء لكل صلاة ومنع من الجمع، معللا بأن الغائط حدث فلا يستباح معه
الصلاة إلا مع الضرورة وهي متحققة في الواحدة دون غيرها. ولا يخفى أن ما ذكره جار
في السلس أيضا لكن كأنه قال بجواز الجمع هناك للصحيحة المتقدمة المختصة به.
وصرح الأكثر بأنه متى تطهر ودخل في الصلاة ثم فاجأه الحدث فيها تطهر وبنى
وذهب العلامة في المختلف إلى وجوب استئناف الطهارة والصلاة مع إمكان
التحفظ بقدر زمانهما وإلا بنى بغير طهارة، لأن الحدث المذكور لو نقض الطهارة لأبطل
الصلاة، لأن من شروط الصلاة استمرار الطهارة ورد بأن ما ذكره من التعليل مصادرة
على المطلوب. وأجيب بمنع المصادرة بل هو احتجاج على هذه المقدمة بالاجماع. وفيه
ما لا يخفى لمنع الاتفاق على الشرطية بالمعنى المدعى في موضع النزاع.
وذكر جمع من المتأخرين في ذلك تفصيلا وهو أنه لا يخلو إما أن يكون له فترة
تسع الطهارة والصلاة أم لا، وعلى الثاني فلا يخلو إما أن يستمر حدثه بحيث لا يتمكن
من الدخول في الصلاة على طهارة أم لا، فعلى الأول يجب عليه انتظار حصول الفترة،
وعلى الأول من الثاني يتوضأ لكل صلاة ويغتفر حدثه الواقع بعد الوضوء ولو في أثناء
الصلاة دفعا للحرج، وعلى الثاني فالمشهور أنه متى فاجأه في الصلاة فإنه يتوضأ ويبنى، وقيل
بالتفصيل الذي تقدم عن المختلف. ومحل الخلاف في المسألة غير منقح في كلامهم.
389

والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة موثقة محمد بن مسلم (1) قال:
" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المبطون فقال: يبني على صلاته ".
وموثقته الأخرى عنه (عليه السلام) (2) قال: صاحب البطن يتوضأ ثم
يرجع في صلاته فيتم ما بقي ".
وصحيحته المروية في الفقيه عنه (عليه السلام) قال (3): صاحب البطن
الغالب يتوضأ ويبني على صلاته ".
وهذه الروايات - كما ترى - مطلقة لا دلالة فيها على خصوص فرد من تلك
الأفراد المفصلة، والمفهوم من كلام بعضهم حملها على ما إذا كان ثمة فترة تسع الصلاة
أو بعضها فتوضأ ودخل في الصلاة ثم فاجأه الحدث، ومن كلام بعض آخر على ما إذا
دخل في الصلاة متطهرا مطلقا أعم من أن تكون فترة تسع الصلاة كلا أو بعضا أو بمقدار
الطهارة خاصة كما هو المفهوم من التفصيل المتقدم.
والتحقيق في المقام أن الروايات المذكورة مطلقة إلا أنه إن كان الحدث المذكور
متكررا بحيث يؤدي إعادة الوضوء بعد الدخول في الصلاة إلى العسر والحرج ويلزم
منه الكثرة الموجبة لبطلان الصلاة، فالظاهر وجوب الاستمرار في الصلاة وعدم ايجابه
الوضوء عملا بأخبار سهولة الحنيفية وسعة الشريعة ورفع الحرج في الدين، وإلا فالظاهر
دخوله تحت الأخبار ووجوب الوضوء والبناء. ويحتمل قريبا أن معنى الرواية الأولى
والثالثة أن المبطون يبني على صلاته يعني لا يقطعها بالحدث الواقع في أثنائها، وقوله
في الأخيرة يتوضأ يعني قبل الدخول في الصلاة. إذ ليس فيها دلالة بل ولا إشارة إلى
دخوله في الصلاة خاليا من الحدث، بل ربما أشعر قوله في الأخيرة: " صاحب البطن
الغالب... " باستمرار خروج الحدث، وحينئذ فتكون الروايتان دليلا لما ذكرناه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 19 - من نواقض الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 19 - من نواقض الوضوء. وفي التهذيب والوافي
والوسائل تقييد البطن فيه بالغالب
(3) ج 1 ص 237.
390

في الشق الأول، وأما الرواية الوسطى فهي صريحة في كون الوضوء في اثنا الصلاة للفظ
الرجوع واتمام ما بقي فتجعل دليلا لما ذكرناه في الشق الثاني، قال في الذكرى:
" والظاهر أنه لو كان في السلس فترات والبطن تواتر، أمكن نقل حكم كل منهما
إلى الآخر " انتهى.
ثم لا يخفى أن الروايات الواردة في السلس تضمنت أنه بعد وضع الخريطة يصلي
وإن كان قد دخل في الصلاة بطهارة من الحدث والخبث، فاجأه الحدث في أثنائها أم لا
وروايات المبطون تضمنت إعادة الوضوء والبناء، ولعل الوجه فيه ما أشرنا إليه آنفا من
الخريطة المذكورة تكون كالجزء من بدنه، والاحتياط في المقام بل وفي كل مقام
من أعظم المهام.
(المسألة الثالثة عشرة) - ذكر الأصحاب - (رضوان الله عليهم) أنه لو شك في
شئ من أفعال الوضوء فإن كان على حاله أتى به وبما بعده ما لم يجف السابق وإلا أعاد.
وإن انتقل إلى حال أخرى مضى ولم يلتفت.
وتحقيق هذا القول يقع في موارد: (الأول) - الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال
في وجوب الاتيان بالمشكوك فيه متى كان على حال الوضوء أي مشتغلا بأفعاله وإن
كان في آخره وقد شك في شئ من أوله. لما رواه زرارة في الصحيح عن أبي جعفر
(عليه السلام) (1) قال: " إذا كنت قاعدا على وضوئك ولم تدر أغسلت ذراعيك
أم لا؟ فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله ما دمت
في حال الوضوء. فإذا قمت من الوضوء وفرغت وقد صرت إلى حال أخرى في صلاة
أو غير صلاة وشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوء فلا شئ عليك،
وإن شككت في مسح رأسك وأصبت في لحيتك بلة فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك،
وإن لم تصب بلة فلا تنقض الوضوء بالشك وامض في صلاتك، وإن تيقنت أنك لم تتم

(1) رواه في الوسائل في الباب - 42 - من أبواب الوضوء
391

وضوءك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء " وهو - كما ترى - ظاهر
الدلالة على أنه ما لم يفرغ من وضوئه فإنه يتلافى ما شك فيه.
وروى عبد الله بن أبي يعفور في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشئ إنما الشك
إذا كنت في شئ لم تجزه " وضمير غيره كما يحتمل رجوعه إلى الوضوء فيكون الحديث
المذكور دالا على ما دلت عليه الصحيحة المذكورة كذلك يحتمل رجوعه إلى شئ،
والظاهر أنه الأقرب بحسب السياق، وفيه حينئذ دلالة على عدم الرجوع إلى فعل مع
الشك فيه بعد الدخول فيما يليه، ولا نعلم به قائلا من الأصحاب في هذا المقام، وعلى
ذلك فيكون منافيا للصحيحة المتقدمة. وأظهر منه في المنافاة بذلك قوله (عليه السلام)
في صحيحة زرارة (2): " إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشئ "
وقوله (عليه السلام) في موثقة محمد بن مسلم (3): " كل ما شككت فيه مما قد مضى
فامضه كما هو " وقوله في رواية أبي بصير (4): " كل شئ شك فيه مما قد جاوزه
ودخل في غيره فليمض عليه " لصدق الشيئية على كل فعل من أفعال الوضوء وصدق الغيرية
على كل منها بالنسبة إلى ما سواه، وقصر معنى الشئ في جميع هذه الأخبار على الوضوء
مما لا يرام تجشمه، وبذلك يظهر المنافاة بين جملة هذه الأخبار وبين الصحيحة المتقدمة.
وربما يجاب بقصر الأخبار الثلاثة الأخيرة على موردها وهو الصلاة كما تضمنه
صدر كل منهما من تعداد السؤال عن جملة من أفعال الصلاة، أو عمومها وتخصيصها
بالصحيحة المتقدمة، ولعله أظهر لاستنادهم إلى العمل بالكلية المنصوصة فيها في مواضع
عديدة غير الصلاة، وأما موثقة ابن أبي يعفور فيتعين حملها على المعنى الأول،

(1) رواه في الوسائل في الباب - 42 - من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الخلل في الصلاة
(3) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الخلل في الصلاة
(4) المروية في الوافي في باب (الشك في أجزاء الصلاة)
392

ولا مندوحة عن ارتكاب التأويل في الروايات المذكورة وحمل الموثقة على ما ذكرنا
لاطباق الأصحاب على أن محل الرجوع مدة كون على وضوئه كما هو مقتضى
الصحيحة المذكورة.
(الثاني) - هل الحال الذي يتلافى المشكوك فيها عبارة عن حالة الاشتغال
بالوضوء فلو فرغ منه وإن بقي في محله لا يلتفت حينئذ وأن التقييد بالقيام والصيرورة
إلى حال أخرى - كما اشتملت عليه صحيحة زرارة المتقدمة - إنما خرج مخرج الغالب
من أن المتوضئ إذا فرغ من وضوئه فالغالب أنه يقوم من محله أو يتشاغل بحالة أخرى،
أو أنه عبارة عن البقاء في موضع وضوئه إلى أن يقوم أو يتشاغل بأمر آخر ما لم يطل
القعود حملا لتلك الألفاظ المذكورة على ظاهرها؟ قولان: ظاهر الذكرى والدروس
الثاني، وبالأول صرح جمع من المتأخرين: منهم - ثاني المحققين وثاني الشهيدين في شرح
القواعد والروض وشرح الرسالة والسيد السند في المدارك، بل الظاهر أنه المشهور في
كلام المتأخرين، واستظهره في كتاب رياض المسائل وحمل الصحيحة المتقدمة وما أشبهها
من عبائر متقدمي الأصحاب على الخروج مخرج الغالب. وظاهر المولى الأردبيلي (قدس
سره) في شرح الإرشاد التوقف في ذلك بعد نسبة ذلك إلى ظاهر الأصحاب، حيث
قال بعد كلام في المسألة: " ولكن هنا خفاء في أن المراد بعدم الالتفات بعد الانصراف
ما هو؟ ظاهر الأصحاب أن مجلد الفراغ يوجب ذلك، وفي بعض الأخبار قيد بقوله:
إذا فرغ وانتقل ودخل في شئ آخر مثل الصلاة وغيره، فهو محل تأمل وإن كان ظاهر
بعض الأدلة ما ذكره الأصحاب " انتهى. ولعله أشار بظاهر بعض الأدلة الدال على ما ذكره
الأصحاب إلى حسنة بكير قال (1): " قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال هو
حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " فإنها صريحة في عدم الالتفات إلى الشك بعد اكمال
الوضوء وإن لم يحصل الانتقال إلى حالة أخرى، وموثقة ابن أبي يعفور المتقدمة حيث قال

(1) المروية في الوسائل في الباب - 42 - من أبواب الوضوء
393

في آخرها: " إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه " يعني إنما الشك الموجب للعمل
بمقتضاه من الاتيان بالمشكوك فيه إذا كنت في شئ لم تخرج عنه ولم تجزه، وحينئذ فالمراد
بقوله في صدرها: " وقد دخلت في غيره " كناية عن مجرد الفراغ، والترجيح في المقام
لا يخلو عن اشكال وإن كان القول المشهور لا يخلو من قوة.
لكن يبقى في المقام اشكال أشار إليه السيد السند في المدارك فيما إذا تعلق الشك
بالعضو الأخير، لعدم تحقق الاكمال الموجب لالغاء الشك. وربما يدفع بأن الظاهر تحقق
الاكمال والفراغ بمجرد أن يجد نفسه غير مشغل بالفعال الوضوء بعد تيقن التلبس به
فحينئذ لو طرأ الشك لم يعتد به.
وكيف كان فالأحوط بناء على هذا القول التدارك ما لم يحصل القيام أو ما في
حكمه، وبعض الأصحاب صار إلى القول الأول احتياطا، ولا ريب أنه أحوط.
(الثالث) - قد عرفت مما أشرنا إليه آنفا اشتراط الأصحاب في الاكتفاء
بالاتيان بالمشكوك وما بعده عدم جفاف ما تقدم، وإلا فالواجب عندهم الإعادة تحصيلا
للموالاة الواجبة. وأنت خبير بأن الظاهر من الرواية المتقدمة (2) التي هي مستند هذا
الحكم الإعادة على العضو المشكوك مطلقا بدون تقييد بعدم الجفاف. وما تقدم من
الروايات الدالة على تفسير الموالاة بمراعاة الجفاف لا عموم فيه على وجه يشمل ما نحن
فيه حتى يخصص به هذا الاطلاق، إذ ليس صحيحة معاوية بن عمار وموثقة
أبي بصير كما حققناه سابقا (2) وموردهما خاص بنفاد الماء وعروض الحاجة، ولعله إلى هذا
يشير كلام الحدث الحر (قدس سره) في كتاب الوسائل حيث قال: " باب أن من شك
في شئ من أفعال الوضوء قبل الانصراف وجب أن يأتي بما شك فيه وبما بعده، ومن
شك بعد الانصراف لم يجب عليه شئ.. " فإنه ظاهر في مراعاة الترتيب بالاتيان بما
شك فيه وما بعده أعم من أن يجف ما قبله أم لا، مع تخصيصه في كتاب البداية فيما تقدم

(1) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة 391
(2) ص 250
394

الابطال بالجفاف بالتراخي والتفريق كما أوضحناه هناك، والحق أن الكلام معهم
(رضوان الله عليهم) يرجع إلى أصل المسألة. فإنهم حيث ذهبوا في تفسير الموالاة التي
هي أحد واجبات الوضوء عندهم إلى مراعاة الجفاف مطلقا أو في صورة خاصة، بناء على
الخلاف المتقدم، اتجه لهم تمشية ذلك في جملة فروع المسألة، وأما على ما حققناه آنفا
من التخصيص فلا، فالكلام هنا يتفرع على ذلك. وكيف كان فالأحوط هو الوقوف
على ما قرروه شكر الله تعالى اجتهادهم وأجزل اسعادهم.
(الرابع) - صرح جمع: منهم - الشهيد في الذكرى بأنه لو كثر شكه
فالأقرب الحاقه بحكم كثير الشك في الصلاة دفعا للعسر والحرج، وأيده السيد السند
في المدارك بقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة وأبي بصير (1) الواردة في من كثر
شكه في الصلاة بعد أن أمر بالمضي في الشك: " لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض
الصلاة فتطيعوه، فإن الشيطان خبيث معتاد لما عود " قال: " فإن ذلك بمنزلة التعليل
لوجوب المضي في الصلاة فيتعدى إلى غير المسؤول عنه " انتهى.
أقول: ويؤيده أيضا ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) (2)
قال: " قلت له رجل مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل؟ فقال أبو عبد الله
(عليه السلام): وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له وكيف يطيع الشيطان؟
فقال: سله هذا الذي يأتيه من أي شئ هو، فإنه يقول لك من عمل الشيطان " فإن الظاهر
أن ابتلاءه بذلك باعتبار كثرة الشك في أفعالهما. وأما حمله على ما يشمل الوسواس
في النية - كما ذكره الشارح المازندراني في شرح أصول الكافي - فظني أنه بعيد غاية
البعد، لأن النية في الصدر السابق ليست على ما يتراءى الآن من صعوبة الاتيان بها
ولهذا لم يجر لها ذكر في كلام السلف ولا في الأخبار كما أوضحناه سابقا على وجه واضح

(1) المروية في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الخلل في الصلاة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب مقدمة العبادات
395

المنار ساطع الأنوار، والوسواس فيها إنما حدث بما أحدثه متأخرو أصحابنا (رضوان الله عليهم) من البحث فيها وفي قيودها والمقارنة بها ونحو ذلك.
(الخامس) - الظاهر - كما صرح به بعض محققي المتأخرين - أن عدم الالتفات
إلى ما شك فيه وتركه رخصة لا أنه يحرم فعله، وكذا في صورة تيقن الطهارة والشك في
الحدث، لعموم الاحتياط الموجب المشي على الصراط الذي هو عبارة عن الاتيان بما
يتيقن به الخروج عن العهدة على جميع الاحتمالات. ويحتمل الثاني لعموم قوله (عليه
السلام) في موثقة بكير (1): " إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ، وإياك أن تحدث
وضوءا أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت " والظاهر حمل الخبر المذكور على المنع
عن أحداث الوضوء على سبيل الوجوب والحتم، لعدم العمل به على ظاهره اجماعا
نصا وفتوى.
(المسألة الرابعة عشرة) - لو شك في الطهارة مع تيقن الحدث أو تيقنها مع
الشك فيه، بنى على يقينه في الموضعين اجماعا نصا وفتوى.
ومن الأخبار الواردة في ذلك موثقة بكير المتقدمة، وصحيحة زرارة عن أبي جعفر
(عليه السلام) (2) في حديث قال فيه: " قلت: فإن حرك إلى جنبيه شئ ولم يعلم به؟
قال: لا حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين من
وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر ".
إذا عرفت ذلك ففي المقام فوائد ثلاث: (الأولى) - المفهوم من كلام أصحابنا
(رضوان الله عليهم) استثناء صورة واحدة من هذه القاعدة، وهو ما إذا بال ولم يستبرئ
ثم خرج بلل مشتبه، فإنهم صرحوا بوجوب الوضوء في الصورة المذكورة بلا خلاف،
بل عن ابن إدريس دعوى الاجماع عليه، ويدل عليه مفهوم قول الصادق (عليه السلام)

(1) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء، و 44 من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء
396

في صحيحة ابن البختري (1): " ينتره ثلاثا ثم إن سال حتى يبلغ الساق فلا يبال " وقول
الباقر (عليه السلام) في حسنة محمد بن مسلم (2): " يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث
عصرات ينتر طرفه، فإن خرج بعد ذلك شئ فليس من البول ولكنه من الحبائل "
وصريح صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (3) الواردة في غسل الجنابة
حيث قال فيها: " وإن كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه
الوضوء " ومضمرة سماعة (4): " وإن كان بال قبل أن يغتسل فلا يعيد غسله ولكن
يتوضأ ويستنجي " وهاتان الروايتان وإن أطلقتا الوضوء بخروج البلل وإن كان مع
الاستبراء إلا أنهما مقيدتان بالأخبار المتقدمة مضافة إلى الاجماع على عدم الوضوء مع
الاستبراء، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا الأوحد في كتاب رياض المسائل، حيث
قال بعد نقل الاحتجاج على الحكم المذكور بمفهوم الروايتين المتقدمتين: " وهو إن لم
يكن اجماعا محل تأمل " انتهى.
(الثانية) - قد أورد في المقام اشكال، وهو أن الشك المتعلق بأحد النقيضين
متى كان عبارة عن تساوي اعتقادي الوجود والعدم نافي اليقين المتعلق بالنقيض الآخر
البتة، لاقتضاء اليقين بوجود أحد النقيضين نفي النقيض الآخر، فكيف يمكن اجتماع
الشك في الحدث مع تيقن الطهارة وبالعكس؟
وأجاب شيخنا الشهيد في الذكرى بأن قولنا: اليقين لا يرفعه الشك لا نعني به
اجتماع اليقين والشك في الزمان الواحد لامتناع ذلك، ضرورة أن الشك في أحد النقيضين
يرفع يقين الآخر، بل المعني به أن اليقين الذي كان في الزمن الأول لا يخرج عن حكمه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أحكام الخلوة
(3) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء و 36
من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء و 36
من أبواب الجنابة.
397

بالشك في الزمن الثاني لأصالة بقاء ما كان، فيؤول إلى اجتماع الظن والشك في الزمن
الواحد فيرجح الظن عليه كما هو مطرد في العبارات. انتهى، وحاصل كلامه (قدس
سره) تغاير زماني الشك واليقين، كأن يتيقن في الماضي كونه متطهرا ثم يشك في
المستقبل في كونه محدثا، فهذا الشك لا يرفع حكم اليقين السابق بل يستصحب ذلك الحكم
السابق ويظن بقاءه إلى أن يتحقق الناقل.
وهو جيد إلا أن قوله: فيؤول إلى اجتماع الظن والشك... الخ " محل بحث، إذ عند
ملاحظة ذلك الاستصحاب ينقلب أحد طرفي الشك ظنا والطرف الآخر وهما، فلم يجتمع
الظن والشك في الزمان الواحد، كيف والشك في أحد النقيضين يرفع ظن الآخر كما
يرفع يقينه، كذا أورده بعض محققي المتأخرين عليه.
وأجيب بأن المراد بالشك في هذا المقام ما قابل اليقين، كما تفهمه جملة الاستدراك
في قوله في صحيحة زرارة المتقدمة: " ولكن ينقضه بيقين آخر " بل هذا المعنى هو
الموافق لنص أهل اللغة، وأما اطلاقه على تساوي الاعتقادين فهو اصطلاح بعض أهل المعقول
وحينئذ فالشك بالمعنى المذكور - وهو مطلق التجويز لكل من طرفي النسبة - لا انقلاب
فيه عند ملاحظة ذلك الاستصحاب ولا رفع يقينه، ألا ترى أنه قال: " فيؤول إلى اجتماع
الظن والشك " أي إلى اجتماع ظن طرفي النسبة وتجويز مخالفه، ولم يعبر بلفظ الانقلاب
المؤدي إلى الانقلاب كما وقع في كلام المعترض. وهو جيد متين إلا أن فيه مناقشة
من جهة أخرى سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
وأجاب السيد السند في المدارك بحمل الحدث هنا على ما تترتب عليه الطهارة أعني
نفس السبب لا الأثر الحاصل من ذلك، قال: " وتيقن حصوله بهذا المعنى لا ينافي
الشك في وقوع الطهارة بعده وإن اتحد وقتهما " انتهى. وأنت خبير بأن مجرد الحمل على
نفس السبب لا يحسم مادة الاشكال ما لم يعتبر تعدد زماني الشك واليقين أو تعدد
زمان متعلقيهما.
398

والأظهر في وجه الجواب أن يقال بجواز التزام اجتماع الشك واليقين في زمان
واحد مع تعدد زمان متعلقيهما، كأن يتيقن الآن حصول الحدث في زمان ماض أعم
من أن يراد بالحدث نفس السبب أو الأثر المترتب عليه ثم يشك أيضا في ذلك الآن
في وقوع طهارة سابقة متأخرة عن ذلك الحدث، سواء أريد بالطهارة نفس الوضوء
أو أثره المترتب عليه، ولا شك أن اجتماع اليقين والشك هنا في زمن واحد مما لا شك
فيه ولا خلل يعتريه، لعدم تناقض متعلقيهما لاختلاف زمانيهما كمن تيقن عند الظهر
وقوع التطهر صبحا وهو شاك في انقطاعه، وحينئذ لا يحتاج إلى تكلف التخصيص
بالسبب مما عرفت فيه، ولا حمل اليقين على الظن.
(الثالثة) - هل الظن المقابل لليقين حكمه حكم الشك في وجوب اطراحه
بمعارضة اليقين أم لا؟ المشهور ذلك، وظاهر شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين المخالفة
في ذلك، حيث قال بعد أن صرح أولا بأن ما ذكروه من أن اليقين لا يرتفع بالشك
يرجع إلى استصحاب الحال إلى أن يعلم الزوال، فإن العاقل إذا التفت إلى ما حصل بيقين
ولم يعلم ولم يظن طرو ما يزيله حصل له الظن ببقائه - ما صورته: " ثم لا يخفى أن الظن
الحاصل بالاستصحاب في من تيقن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى على نهج واحد،
بل يضعف بطول المدة شيئا فشيئا بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان بل ربما
يصير الطرف الراجح مرجوحا، كما إذا توضأ عند الصبح - مثلا - وذهل عن التحفظ
ثم شك عند الغروب في صدور الحدث منه ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك
الوقت، والحاصل أن المدار على الظن، فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف " ثم نقل
عن العلامة في المنتهى أن من ظن الحدث وتيقن الطهارة لا يلتفت، لأن الظن إنما يعتبر
مع اعتبار الشارع له، ولأن في ذلك رجوعا عن المتيقن إلى المظنون، وقال بعده: " انتهى
وفيه نظر لا يخفى على المتأمل فيما تلوناه " هذا كلامه (قدس سره).
وبعض محققي متأخري المتأخرين بعد أن جزم بموافقة المشهور في صورة الشك
399

في الحدث مع يقين الطهارة لدلالة ما قدمنا من الأخبار على ذلك استشكل في صورة
العكس لعدم الدليل، قائلا في توجيه الاشكال: " لأن صحيحة زرارة المتقدمة كما
يمكن أن يستدل بها على عدم اعتبار الظن نظرا إلى مفهوم " ولكن ينقضه بيقين آخر "
كذلك يمكن أن يستدل بها على اعتباره بمفهوم " لا ينقض اليقين بالشك " مع أن الأصل
براءة الذمة " انتهى.
أقول: وفيه أن ظاهر قضية الاستدارك يوجب عدم اعتبار الظن بل مساوقته
للشك ثم، وهو المفهوم من جملة الأخبار الواردة في عدم معارضة الشك باليقين
ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال: " قلت أصاب ثوبي دم
رعاف أو غيره إلى قوله: فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم
صليت فيه فرأيت؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت ولم ذلك؟ قال لأنك كنت
على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا "
ومن المعلوم أن المراد بالشك هنا ما يشمل الظن، ومثله في الأخبار غير عزيز يقف
عليه المتتبع.
ثم أقول: أنت خبير بأن الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) لما بنوا الأحكام
الشرعية على ما في الواقع ونفس الأمر وحملوا العلم واليقين في الأخبار المتعلقة بتلك
الأحكام على ما هو المطابق للواقع، أشكل عليهم المخرج في موارد كثيرة تقف عليها
في أثناء مباحث هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وأنت إذا تأملت بعين التحقيق
والانصاف علمت أن الله سبحانه لم يجعل شيئا من الأحكام الشرعية منوطا بالواقع ونفس
الأمر دفعا للحرج ولزوم تكليف ما لا يطاق، فإن يقين الطهارة من النجاسة الذي
أوجب الشارع البناء عليه ودفع الشك في لباس المصلي وبدنه وماء طهارته ونحوها

(1) المروية في الوسائل في الباب - 7 و 37 و 41 و 42 و 44 - من أبواب النجاسات
بنحو التقطيع.
400

ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة لا العلم بالعدم، فكذلك أيضا يقين الطهارة
للصلاة من وضوء وغسل وتيمم ليس إلا عبارة عن فعلها مع عدم العلم بناقض لها لا مع
العلم بالعدم، وحينئذ فالمراد بهذا اليقين المذكور في الأخبار ما هو أعم من اليقين الواقعي
أعني العلم بالعدم والظن باصطلاحهم، وليس له فرد يقابله إلا الشك خاصة الذي هو
عبارة عن تجويز المخالفة واحتمالها، والحمل على الشك الذي هو عبارة عن المعنى المشهور
بينهم اصطلاح متأخر مخالف لكلام أهل اللغة، حيث نص في القاموس والصحاح على
أن الشك خلاف اليقين، مع أنهم قد قرروا في غير موضع وجوب حمل الألفاظ الواردة
في كلام حافظ الشريعة مع عدم الحقيقة الشرعية أو العرفية الخاصة على المعنى اللغوي،
وحينئذ فالشك في الحدث مع تيقن الطهارة - مثلا - ليس إلا عبارة عن تيقن فعل
الطهارة مع عدم العلم بالناقض لها ثم يحصل له بسبب عروض بعض الأشياء شك في
انتقاض طهارته يعني احتمال وتجويز انتقاضها، أعم من أن يكون ذلك الاحتمال والتجويز
قويا كما ربما عبر عنه في الأخبار بالظن أو ضعيفا يعبر عنه بالوهم أو الشك، وأما لو
توضأ صبحا ثم إنه شك في آخر النهار بسبب طول المدة في أنه هل أحدث أم لا وإن كان
من عادته في سائر الأيام الحدث في أثناء النهار وعدم الوضوء فهذا لا يخرج عما ذكرنا
أيضا، فالعمل على هذا الشك خيال نفساني بل وسواس شيطاني وإن قوي حتى يبلغ
مرتبة الظن، بل هذا مقتضى ما ذكرنا من الأخبار متطهر يقينا يعمل على يقين طهارته
وبذلك يظهر لك ما في كلام هؤلاء الفضلاء (نور الله تعالى تربتهم وأعلى رتبتهم)
ولا سيما كلام شيخنا البهائي، هذا هو التحقيق في المقام والله سبحانه الهادي إلى سواء
الطريق في جملة الأحكام.
(المسألة الخامسة عشرة) - لو تيقن الطهارة والحدث معا وشك في المتأخر
فقد أطلق الأكثر سيما المتقدمين وجوب الوضوء، لعموم الأوامر الدالة على وجوب
الوضوء عند إرادة الصلاة من الكتاب والسنة، خرج منه متيقن الطهارة، ويدل عليه
401

خصوص ما ذكره في كتاب فقه الرضا (1) قال (عليه السلام): " وإن كنت على يقين
من الوضوء والحدث ولا تدري أيهما سبق فتوضأ " وبهذه العبارة صبح في الفقيه من غير
اسناد إلى إمام كما هي عادته غالبا من كون ما ينقله فيه عاريا عن النسبة مأخوذا من هذا
الكتاب كما أشرنا إليه آنفا، ولأنه من المعلوم المقطوع ايجاب الشارع لدخول في الصلاة
بطهارة يقينية والمنع من الدخول بالحدث، وهذان اليقينان هنا قد تصادما، ولم يعلم من
الشارع ترجيح لأحدهما، فالعمل على أحدهما ترجيح من غير مرجح، فيجب الغاؤهما
معا والرجوع إلى حكم الأصل من البقاء على الحدث الذي لا ينفك الانسان عنه في سائر
أحواله، ومع المناقشة فيما ذكرنا لا أقل أن يكون ذلك من قبيل الشبهات المأمور فيها
بالاحتياط كما استفاض عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) ولا ريب أن الاحتياط
في الطهارة (لا يقال): إن الاحتياط ليس بدليل شرعي كما يتداوله جملة من المتأخرين
ومتأخريهم (لأنا نقول): قد قدمنا لك في المقدمة الرابعة ما يدل على كونه في مثل
هذا المقام دليلا شرعيا.
وفي المسألة قولان آخران: (أحدهما) - لثاني المحققين صريحا وأولهما ظاهرا،
وهو أنه ينظر إلى حاله قبل الطهارة والحدث المفروضين فإن جهلها تطهر وإن علمها أخذ
بضد ما علمه، واحتج عليه في المعتبر بأنه إن كان سابقا محدثا فقد تيقن رفع ذلك الحدث
بالطهارة المتيقنة مع الحدث الآخر، لأنها إن كانت بعد الحدثين أو بينهما فقد ارتفعت
الأحداث السابقة بها، وانتقاضها بالحدث الآخر غير معلوم للشك في تأخره، فيكون متيقنا
للطهارة شاكا في الحدث، وإن كان متطهرا فقد تيقن أنه نقض تلك الطهارة بالحدث
المتيقن مع الطهارة، ورفعه بالطهارة الأخرى غير معلوم لجواز تقدمها عليه تجديدا للطهارة
السابقة أو مع الذهول عنها، فيكون متيقنا للحدث شاكا في الطهارة، وضعفه
ظاهر، لأن الأحداث السابقة في الصورة الأولى وإن ارتفعت بالطهارة المجامعة

(1) في الصحيفة 2
402

للحدث الأخير، وكذلك الطهارة السابقة في الصورة الثانية وإن ارتفعت بالحدث المجامع
لتلك الطهارة الأخيرة، لكن يبقى الشك في رفع ذلك الحدث الأخير بالطهارة المجامعة
له ونقضها له من حيث الشك في تقدم أيهما على الآخر، وغاية ما يفيده كلامه رفع الحالة
السابقة من طهارة أو حدث وأما محل الاشكال فهو باق على الاشتباه والاحتمال.
و (ثانيهما) - ما نقل عن المختلف، حيث قال - بعد أن نقل عن الأصحاب اطلاق
القول بإعادة الطهارة في المسألة - ما صورته: " ونحن فصلنا ذلك في أكثر كتبنا وقلنا
إن كان في الزمن السابق على زمان تصادم الاحتمالين محدثا وجب عليه الطهارة، وإن
كان متطهرا لم يجب، ومثاله أنه إذا تيقن عند الزوال أنه نقض طهارة وتوضأ عن حدث
وشك في السابق فإنه يستصحب الحال السابق على الزوال، فإن كان في تلك الحال
متطهرا فهو على طهارته، لأنه تيقن أنه نقض تلك الطهارة وتوضأ ولا يمكن أن يتوضأ
عن حدث مع بقاء تلك الطهارة، ونقض الطهارة الثانية مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين
بالشك، وإن كان قبل الزوال محدثا فهو الآن محدث، لأنه تيقن أنه انتقل عنه إلى طهارة
ثم نقضها والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها " انتهى. وفيه أن ما ذكره يشعر بأن طهارته
لا تقع إلا رافعة وحدثه لا يكون إلا ناقضا، والظاهر أن هذا بعينه ما ذكره في القواعد
من قوله: " ولو تيقنهما متحدين متعاقبين وشك في المتأخر فإن لم يعلم حاله قبل زمانهما
تطهر وإلا استصحب " ومراده بالاتحاد تساوي أعداد الطهارات والأحداث وبالتعاقب
وقوع الطهارة بعد الحدث وبالعكس، ومثله في التذكرة أيضا، وبذلك تخرج المسألة
عن باب الشك إلا أن يحمل على أنه باعتبار أول الأمر، وفي عبارته في المختلف مناقشات
رأينا الاغماض عن التطويل بالتعرض لها أولى.
(المسألة السادسة عشرة) - من تيقن بعد الصلاة بطهارتين ترك عضو من
إحداهما أو وقوع حدث بعد إحداهما ففيه صور:
(الأولى) - من توضأ ثم أحدث وضوء آخر ثم صلى ثم ذكر الاخلال بعضو
403

من إحدى الطهارتين، فهذان الوضوءان إما أن يكونا معا واجبين أو مندوبين أو الأول
واجبا والثاني مندوبا أو بالعكس، وعلي التقادير الأربعة إما أن تعتبر القربة خاصة أو يضم
إليها الوجه فقط أو يضم إلى ذلك أحد الأمرين من الرفع والاستباحة، وحيث إنه
لا دليل عندنا على زيادة شئ وراء القربة فالصلاة المذكورة صحيحة، لأن الاخلال إن
كان من الأولى فالثانية صحيحة عندنا، وإن كان من الثانية فالأولى صحيحة اتفاقا،
فلا حاجة إلى إعادتها ولا إعادة الطهارة، وأما على تقدير ضم شئ آخر إلى القربة ففيه
تفاصيل يلزم في بعضها إعادة كل من الوضوء والصلاة، ولا ثمرة مهمة عندنا في تطويل
الكلام بالبحث عن تلك الشقوق، مع ضرورة صرف الوقت فيما هو أهم من ذلك،
ومن أحب الوقوف عليها فليرجع إلى مطولات أصحابنا (شكر الله تعالى سعيهم) وأيضا
فإنا قررنا في هذا الكتاب أن لا نطول البحث إلا في موضع أغفلوا تحقيقه، إلا أن
الشهيد في البيان نقل عن السيد جمال الدين ابن طاوس (قدس سره) عدم الالتفات
إلى هذا الشك مطلقا لاندراجه تحت الشك في الوضوء بعد الفراغ، واستوجهه أيضا،
وقواه العلامة في المنتهى، قال في المدارك بعد نقل ذلك تبعا لما لخصه في الذكرى:
" ويمكن الفرق بين الصورتين بأن اليقين هنا حاصل بالترك وإنما حصل الشك في موضعه
بخلاف الشك بعد الفراغ، فإنه لا يقين فيه بوجه، والمتبادر من الأخبار المتضمنة لعدم
الالتفات إلى الشك في الوضوء بعد الفراغ من الوضوء المتحد الذي حصل الشك فيه بعد
الفراغ منه " انتهى. وفيه أن يقين حصول الترك إنما حصل بالنظر إلى الوضوئين معا
أما بالنظر إلى كل واحد على حدة فإنه غير متيقن الترك بل مشكوكه، لأصالة الصحة
واحتمال كون الترك من الآخر، نظير ما قرره (قدس سره) في مسألة الإناءين المتيقن
وقوع النجاسة في أحدهما من أن كل واحد متيقن الطهارة مشكوك النجاسة،
(الصورة الثانية) - وهي الأولى بعينها ولكنه صلى بالوضوء الأول فرضا
وبالثاني فرضا آخر من غير تخلل حدث، وقد صرح الشيخ في المبسوط بوجوب إعادة
404

الصلاة المتوسطة بين الطهارتين لاحتمال أن يكون الخلل واقعا من الطهارة الأولى، وأما
الفريضة الأخيرة فصحيحة، وهذا واضح مع الحكم بصحة الوضوء الثاني كما اخترناه،
فإن الأخيرة حينئذ واقعة بوضوء صحيح إما الأول أو الثاني، وإما على تقدير العدم
فيعيدهما معا، وبه صرح ابن إدريس بناء على أن الوضوء الثاني عندهم لم يحصل به رفع
ولا استباحة، واختاره في المختلف لاشتراطه ذلك في النية أيضا. ويأتي على ما ذهب إليه
جمال الدين والعلامة في المنتهى واختاره بعض محققي متأخري المتأخرين أيضا عدم
إعادة شئ من الصلاتين، ثم إنه يأتي على القول الأول والثالث عدم إعادة الوضوء
لحصول طهارة صحيحة عنده على الأول وصحتهما لعدم تأثير الشك في شئ منهما على
الثالث، وعلى الثاني تجب الإعادة لعدم صحة شئ منهما، أما الأولى باعتبار احتمال
ترك العضو منها، والثانية غير رافعة ولا مبيحة.
واستشكل بعض مشايخنا المحققين في وجوب إعادة الصلاة المتخللة كما هو قول
المبسوط أو كلتا الصلاتين كما هو القول الآخر، قائلا بأنه إنما تجب إعادة الصلاة بعد
الفراغ منها على تقدير تعين فسادها، وهو إنما يحصل على تقدير حصول كل احتمال
ممكن الوقوع، وما نحن فيه ليس كذلك، فإن أحد الاحتمالين الممكنين هنا كون
الاخلال من الثانية فتصح الصلاتان على القولين، فوجوب إعادتهما يسلتزم نقض اليقين
بالشك المنهي عنه عموما، والخروج عن القاعدة المجمع عليها المندرج ما نحن فيه تحتها عموما
من أن الشك بعد الفراغ لا يلتفت إليه، وليس عدم تعين الصحة كافيا في الوجوب،
وادعاء أن الشك في الصحة كالشك في أصل الايقاع - والأصل بقاء شغل الذمة بها
حتى يعلم المزيل - دعوى عارية عن الدليل، وإن تمت فإنما تتم مع بقاء الوقت، لأن
الشك في الايقاع بعد الفوت لا يوجب القضاء، لعدم كون وجوب الأداء كافيا في سببية
وجوبه إذ هو بأمر جديد، والأمر الجديد ب‍ " من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته " (1)

(1) هذا المضمون مستفاد من الأخبار الدالة على وجوب قضاء الصلوات الفائتة
المروية في الوسائل في الباب - 1 - من قضاء الصلوات، ومنها صحيحة زرارة المروية
في الباب - 6 - منه.
405

لا يتناوله، لعدم حصول ما علق عليه، ولقول الصادق (عليه السلام) في حسنة زرارة
والفضيل (1): " ومتى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنك لم تصلها أو في وقت
فوتها أنك لم تصلها صليتها، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل
فلا إعادة عليك من شك حتى تستيقن... " وليس فساد إحدى الطهارتين بمقتض ليقين
فساد إحدى الصلاتين، لجواز كون الفاسدة واقعا هي الثانية وفسادها لا يقتضي فساد
إحداهما بل يقتضي صحتهما، فظهر أن وجوب إعادة الطهارة - لما يستقبل من الصلاة
على تقدير القول به كما هو مقتضى كلام الفاضلين - لا يقتضي وجوب إعادة شئ من
الصلاتين، لأن وجه وجوب إعادتهما عند يقين حدث سابق على الطهارتين الاندراج
في حكم الشك في الطهارتين مع يقين الحدث، باعتبار أن الشك في حصول الطهارة
المبيحة أو الرافعة شك في أصلها مع يقين الحدث، وذلك لا يوجب إعادة
الصلاة، لأن الشك في الطهارة مع يقين الحدث إنما يبطل من الصلوات ما وقع بعده بلا
طهارة لا ما سبقه لمضيه على الصحة. ولم أقف لأحد من أصحابنا في هذا المقام على إيماء لما
أشرنا إليه إلا أن الأدلة تدل عليه، انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه.
وتقد تلخص مما ذكرنا في هذه الصورة أقوال أربعة: (أحدها) - وجوب
إعادة الصلاة المتوسطة وعدم إعادة الوضوء كما هو مقتضى كلام المبسوط، (وثانيها) -
وجوب إعادة الوضوء والصلاتين معا كما هو قول ابن إدريس والمختلف. و (ثالثها) -
عدم إعادة بشئ من الوضوء والصلاة كما هو مقتضى كلام السيد جمال الدين (قدس سره)
و (رابعها) - صحة الصلاتين وإعادة الوضوء كما يشعر به آخر هذا الكلام الأخير،
إلا أن يحمل آخر كلامه على التنزل والمجاراة دون الاختيار لذلك، وإلا فيرد عليه أن

(1) المروية في الوسائل في الباب - 60 - من مواقيت الصلاة
406

جل ما ذكره من التعليلات في عدم إعادة الصلاة يجري في الوضوء أيضا كما لا يخفى.
(الصورة الثالثة) - هي الثانية بعينها ولكن مع تخلل الحدث بعد الصلاة
المتوسطة، والظاهر أنه لا ريب في إعادة الوضوء حينئذ، لأنه - بالحدث السابق على
الطهارة الأولى والحدث المتوسط مع احتمال كون العضو المتروك من كل من الطهارتين -
يكون متيقنا للحدث شاكا في الطهارة، ولا ريب أيضا في بطلان إحدى الصلاتين لبطلان
إحدى الطهارتين، لكن هل يجب حينئذ إعادة الفرضين معا لتوقف الخروج عن العهدة يقينا
عليه، أم يخص ذلك بما إذا اختلفا عددا وإلا فيكفي الاتيان بفريضة واحدة مرددة في نيتها؟
الأكثر على الثاني، وإلى الأول ذهب الشيخ في المبسوط بل أوجب أيضا بناء على ذلك
قضاء الخمس لو صلاها بخمس طهارات ثم ذكر الاخلال المذكور في إحدى الطهارات مع
تخلل الحدث بين كل طهارة وصلاة منها، وتبعه أبو الصلاح وابن زهرة، وربما لزم على
تقدير ما ذهب إليه السيد جمال الدين عدم وجوب إعادة شئ من الوضوء والصلاتين،
لصدق أنه شك بعد الفراغ، والظاهر أنه لا يلتزمه.
ويدل على قول الأكثر ورود النص في من فاتته صلاة من الخمس مشتبهة أنه
يكتفي باثنتين وثلاث وأربع مرددة (1) أما لكون العلة في الجميع واحدة، أو لكون
المتنازع فيه داخلا في موضوع الخبر، بأن يقال أن بطلان الصلاة ببطلان شرطها المتوقف
صحتها عليه فوت يدخل في عموم " من فاتته... الخبر " ويؤيد ذلك أيضا قول
أبي جعفر (عليه السلام) في حسنة زرارة (2): "... وإن نسيت الظهر حتى صليت العصر
فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الأولى ثم صل العصر، فإنما هي أربع
مكان أربع... " لكن يشكل من حيث اختلاف هيئتي الجهرية والاخفاتية جهرا واخفاتا

(1) وهو مرسل علي بن أسباط ومرفوع الحسين بن سعيد المرويان في الوسائل
في الباب - 11 - من قضاء الصلوات.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 63 - من مواقيت الصلاة.
407

وإن ذكروا أنه مخير بين الجهر والاخفات في صورة اجتماعهما في الفرض المردد وأورد
عليه أيضا وجوب الجزم في النية مع الامكان فلا تجزئ النية المرددة، وهذا لازم على
المورد في صورة مورد الخبر المتقدم.
(الصورة الرابعة) - أن يتوضأ وضوءين ويصلي بكل منهما فرضا ثم يذكر
الحدث عقيب واحد منهما غير معين، فإن قلنا بالاكتفاء بالقربة فالطهارتان صحيحتان
وإنما يقع الشك في فريضة واحدة باعتبار احتمال كون الحدث عقيب الطهارة الأولى فتبطل
الصلاة الأولى خاصة واحتمال كونه عقيب الثانية فتبطل الصلاة الثانية خاصة، فيرجع
الكلام حينئذ إلى ما تقدم من وجوب إعادتهما معا إن اختلفتا عددا تحصيلا ليقين
البراءة، وإلا فذلك العدد مرددا في النية، ومقتضى ما نقل عن الشيخ آنفا إعادة الجميع
مطلقا، لكن لم أر من تصدى لنقل مذهبه هنا، وإن لم نقل بالاكتفاء بالقربة - حسبما
تقدم في الصورة الأولى من التفصيل - وجب إعادة الجميع، لاحتمال كون الحدث عقيب
الأولى فتبطل الصلاة الواقعة بعدها، والوضوء الثاني إنما وقع بنية التجديد، وهو غير
مبيح ولا رافع فتبطل الصلاة الواقعة بعده، وعلى كل تقدير فيجب إعادة الطهارة هنا لاحتمال
وقوع الحدث بعد الطهارة الثانية فيلزم بطلانها مع سابقتها بخلاف صورة الاخلال فإنه
إنما تبطل الطهارة التي وقع فيها خاصة فتسلم له الأخرى.
(المسألة السابعة عشرة) - يكره الوضوء بجملة من المياه: منها - الماء المشمس
في الآنية على المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل نقل الشيخ في الخلاف
الاجماع عليه لكنه اشترط في الحكم القصد إلى ذلك، وصرح في المبسوط بالتعميم
وأطلق في النهاية، وهو الذي عليه جمهور الأصحاب.
والأصل في هذه المسألة رواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الماء الذي تسخنه الشمس لا تتوضؤوا به

(1) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المضاف
408

ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به، فإنه يورث البرص ".
وما رواه الصدوق (رضي الله عنه) في كتاب العلل (1) بسنده إلى ابن عباس
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خمس تورث البرص، وعد منها التوضؤ
والاغتسال بالماء الذي تسخنه الشمس ".
وموثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه السلام) (2) قال: " دخل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس، فقال
يا حميراء ما هذا؟ قالت: أغسل رأسي وجسدي. قال: لا تعودي فإنه يورث البرص ".
وحمل النهي على الكراهة لمرسلة محمد بن سنان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (3) قال: " لا بأس أن يتوضأ بالماء الذي يوضع في الشمس ".
وربما علل الحمل على الكراهة بضعف سند الروايات المذكورة كما هو طريقة جملة
من المتأخرين ومتأخيرهم. وفيه ما تقدم في مقدمات الكتاب من أن ضعف السند
ليس من جملة قرائن المجاز الصارفة عن الحمل على الحقيقة، ولو علل بذكر وجه الحكمة
في الخبر لكان أقرب.
تنبيهات:
(الأول) - ظاهر الخبر الأول والثاني ثبوت الكراهة، سواء كان في آنية
أو غيرها من حوض وساقية، وسواء كانت الآنية منطبعة أم لا، وسواء قصد إلى
تسخينه أو تسخن من قبل نفسه، وسواء كانت البلاد حارة أو معتدلة، وبهذا الاطلاق
حكم جملة من الأصحاب، إلا أن ظاهرهم نفي الكراهة في غير الآنية، بل نقل عن
العلامة في النهاية والتذكرة الاجماع عليه، وظاهر العلامة في النهاية اشتراط كونه في
الأواني المنطبعة غير الذهب والفضة، قال: " لأن الشمس إذا أثرت فيها استخرجت

(1) رواه في الخصال ج 1 ص 128
(2) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المضاف
(3) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المضاف
409

منها زهومة تعلو الماء ومنها يتولد المحذور " وفيه أن العلة المذكورة لبيان وجه الحكمة فلا
يجب اطرادها، وعلل الشرع - كما صرحوا به - معرفات لا علل حقيقية يدور المعلول
مدارها وجودا وعدما.
(الثاني) - الحق جماعة من الأصحاب بالطهارة سائر وجوه الاستعمالات،
واقتصر جماعة: منهم الشهيد في الذكرى على العجين وفاقا للصدوق ووقوفا على ظاهر النص
(الثالث) - هل يشترط القلة في الماء؟ قولان.
(الرابع) - الظاهر ترتب الأثر المذكور على المداومة دون مجرد المرة أو المرتين
ولعل في قوله (صلى الله عليه وآله) في موثقة إبراهيم بن عبد الحميد -: " لا تعودي "
من الاعتياد أو تعودي من العود - إيماء إلى ذلك.
(الخامس) - هل تبقى الكراهة وإن زال التشميس أم لا؟ قولان، قطع
بأولهما الشهيد في الذكرى وتبعه جمع من المتأخرين، تمسكا بالاستصحاب، وبقاء التعليل
وصدق الاسم بناء على أن المشتق لا يشترط في صدقه بقاء مأخذ الاشتقاق، ويرد على
الأول عدم ثبوت حجية الاستصحاب في مثل هذا المقام، إذ الاستصحاب الذي يستفاد
من الأخبار جواز الاعتماد عليه هو ما إذا دل على حكم من غير تقييد بزمان
ولا كيفية ولا حالة مخصوصة، فإنه يستصحب الحكم المذكور في جميع الأزمان والحالات
عملا بعموم الدليل كما تقدم تحقيقه في المقدمة الثالثة (1) إلا أنه ربما يقال هنا أن مقتضى
الدليل الدال على كراهة الوضوء بالمتسخن بالشمس عموم ذلك لما بعد زوال السخونة، وقد
مر نظيره في المسألة الرابعة من الفصل الثاني من الباب الأول (2) وتكلمنا في ذلك بما اقتضاه
المقام. وعلى الثاني ما تقدم هنا. وعلى الثالث (أولا) عدم الدليل على صحة الاعتماد
على هذه القاعدة كما تقدم تحقيقه في المقدمة التاسعة. و (ثانيا) - منع صدق الاسم، فإن
صدق المشتق مع عدم بقاء مأخذ الاشتقاق لو سلم فهو مخصوص بما إذا لم يطرأ على المحل

(1) في الصحيفة 51
(2) ج 1 ص 246
410

وصف وجودي يضاده، وهنا ليس كذلك لطرو وصف البرودة المضاد لوصف السخونة
وما أجاب به في المعالم وتبعه بعض أفاضل متأخري المتأخرين - من أن الاشتقاق هنا
من التسخين لا من السخونة، وحينئذ ولو طرأ الوصف الوجودي لكنه لا يضاد الأول
لاشتراط وحدة الفاعل في التضاد - ففيه أن الحكم منوط بالتسخن كما هو المشهور لا بالتسخين
وإن ذهب إليه الشيخ كما تقدم ذكره، وحينئذ فالتضاد حاصل كما حققنا ذلك في كتاب
الدرر النجفية.
(السادس) - صرح جملة من الأصحاب بأن الحكم بالكراهة مخصوص بما
إذا وجد ماء غيره للطهارة، إذ مع عدم وجدان غيره يتعين استعماله عينا وهو مناف لتعلق
النهي به، واعترض عليه بأنه لا منافاة بين الوجوب عينا والكراهة في الصلاة ونحوها
على بعض وجوه، واللازم من ذلك عدم الكراهة بفقد غيره، لبقاء العلة وعدم
منافاة وجوب الاستعمال لها.
أقول: والتحقيق أنه إن فسرت الكراهة بالمعنى المصطلح الأصولي وهو ما يترجح
تركه على فعله فالمنافاة حاصلة سواء وجد ماء غيره أو لم يوجد، فإنه كما لا ريب في منافاة
تعلق الأمر الإيجابي العيني بشئ من النهي التنزيهي، كذلك يأتي مثله في الأمر الإيجابي
التخييري مع النهي التنزيهي، إذ كما يكون الأمر بالشئ أمرا ايجابيا عينيا مانعا من تعلق
النهي به المقتضي لمرجوحيته، كذلك الأمر به أمرا تخييريا المقتضي لرجحانه يمنع من
تعلق النهي المقتضي لمرجوحيته، وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى.
و (منها) - الماء الآجن، لحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
" في الماء الآجن؟ يتوضأ منه إلا أن يجد غيره فيتنزه عنه ".
و (منها) - الماء الذي مات فيه عقرب، لموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق.
411

السلام) (1) وفيها " وإن كان عقربا فارق الماء وتوضأ من ماء غيره " ومثلها موثقة
أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) (2).
و (منها) - سؤر الحائض، لموثقة الحسين (3) - والظاهر أنه ابن أبي العلاء
الخفاف - قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحائض يشرب من سؤرها
قال: نعم، ولا يتوضأ منه " وقيدها جملة من المتأخرين بالمتهمة، ويدل على التقييد
المذكور موثقة علي بن يقطين (4) وربما ظهر من التهذيب والاستبصار التحريم لظاهر
النهي، وتحقيق المسألة قد تقدم في بحث الأسئار.
(المسألة الثامنة عشرة) - قد صرح جملة من الأصحاب بكراهة الوضوء في
المسجد من حدث البول والغائط، لصحيحة رفاعة (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الوضوء في المسجد فكرهه من البول والغائط " وقال الشيخ في النهاية
وتبعه ابن إدريس: " لا يجوز التوضؤ من الغائط والبول في المساجد ولا بأس بالوضوء
فيها من غير ذلك " وسوى ابن إدريس بين المنع من الوضوء من الغائط والمنع من إزالة
النجاسة فيها، وفي المبسوط " لا يجوز إزالة النجاسة من المساجد ولا الاستنجاء من البول
والغائط فيها، وغسل الأعضاء في الوضوء ولا بأس به فيها " ويحتمل قريبا - بل لعله الأقرب -
حمل كلام الشيخ في النهاية على الاستنجاء وحمل الرواية المتقدمة أيضا على ذلك، فإن استعمال
الوضوء بمعنى الاستنجاء - بل بمعنى مطلق الغسل، والكراهة بمعنى التحريم - شائع في
الأخبار وكلام المتقدمين.
وروى بكير في الحسن عن أحدهما (عليهما السلام) (6) قال: " إذا كان الحدث
في المسجد فلا بأس بالوضوء في المسجد " ولعل المراد بالحدث في المسجد مثل النوم

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الأسئار
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الأسئار
(3) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الأسئار
(4) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الأسئار
(5) المروية في الوسائل في الباب - 57 - من أبواب الوضوء
(6) المروية في الوسائل في الباب - 57 - من أبواب الوضوء
412

والريح مثلا، ومفهوم الرواية على ما ذكرنا أنه لو كان النوم في غير المسجد كره الوضوء
له في المسجد، ولا ينافي ذلك مفهوم الرواية الأولى بناء على حمل الوضوء فيها على الرافع
للحدث، لأن ذلك مفهوم لقب.
ثم إنه لو اتفق حصول البول أو الغائط في المسجد اختيارا أو اضطرارا فهل يتصف
الوضوء له في المسجد بالكراهة أم لا؟ ظاهر الرواية الأولى - بناء على كون الوضوء
فيها بمعنى الرافع - ذلك، ولكن ينافيه ظاهر الرواية الثانية، إلا أن تخص بما ذكرنا أو
تحمل على أن وقوع حدث البول والغائط في المسجد لما كان نادرا أطلق الحكم بعدم البأس
في المسجد من الحدث الواقع فيه. ويحتمل عدم الكراهة عملا باطلاق الرواية الثانية
وعمومها، وحمل الأولى على أن البول والغائط لما كان حدوثهما في المسجد نادرا فلذا أطلق
عليهما كراهة الوضوء لهما في المسجد، ويعضده أصالة البراءة من الكراهة، والله العالم.
(المسألة التاسعة عشرة) - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كراهة
التمندل بعد الوضوء، وقيل بعدم الكراهة، ونقله في المدارك عن ظاهر المرتضى في شرح
الرسالة وأحد قولي الشيخ.
ويدل على الكراهة ما روي بعدة طرق في الكافي وثواب الأعمال والمحاسن (1)
عن الصادق (عليه السلام) قال: " ومن توضأ وتمندل كتبت له حسنة، ومن توضأ ولم
يتمندل حتى يجف وضوؤه كتبت له ثلاثين حسنة ".
ويدل على الجواز روايات كثيرة: منها - صحيحة محمد بن مسلم (2): " قال سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن التمسح بالمنديل قبل أن يجف، قال لا بأس به ".
ورواية الحضرمي عنه (عليه السلام) (3) قال: " لا بأس بمسح الرجل وجهه
بالثوب أو توضأ إذا كان الثوب نظيفا ".
وموثقة إسماعيل بن الفضل (4) قال: " رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) توضأ

(1) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
413

للصلاة ثم مسح وجهه بأسفل قميصه، ثم قال: يا إسماعيل افعل هكذا فإني هكذا أفعل.
وصحيحة منصور بن حازم (1) قال: " رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد
توضأ وهو محرم ثم أخذ منديلا فمسح به وجهه ".
وصحيحته المروية في المحاسن (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل يمسح وجهه بالمنديل. قال: لا بأس به ".
ومرسلة عبد الله بن سنان المروية فيه أيضا (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن التمندل بعد الوضوء؟ فقال " كان لعلي (عليه السلام) خرقة في المسجد ليس
إلا للوجه يتمندل بها " وروى مثله مسندا في الصحيح عن عبد الله بن سنان (4).
وبذلك الاسناد أيضا (5) قال: " كانت لعلي (عليه السلام) خرقة يعلقها في مسجد
بيته لوجهه إذا توضأ تمندل بها ".
وروى فيه أيضا عن محمد بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال:
" كانت لأمير المؤمنين (عليه السلام) خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ للصلاة ثم يعلقها
على وتد ولا يمسها غيره ".
وأنت خبير بأنا لو خلينا وظاهر هذه الأخبار لكان المستفاد منها استحباب ذلك
لظاهر حديث إسماعيل بن الفضل الدال بظاهره على مداومته (عليه السلام) على ذلك
وكذلك أخبار المحاسن عن علي (عليه السلام) كما لا يخفى على المتأمل فيها، فإنها ظاهرة
في مداومته (عليه السلام) على ذلك، ومن البعيد مداومته على ذلك الأمر المكروه،
والحديث الأول يضعف عن معارضتها لوحدته وتعددها، والجمع بين الأخبار بما ذكره
المحدث الكاشاني في الوافي - بحمل الخبر الأول على الأفضل والأولى حمل خبر الحضرمي
وصحيحة محمد بن مسلم على الرخصة والجواز وحمل خبر إسماعيل بن الفضل على الضرورة
من برد وخوف شين وشقاق - وإن احتمل بالنسبة إلى الأخبار التي ذكرها إلا أن
اخبار فعل علي (عليه السلام) الدالة بظاهرها على المداومة على ذلك لا تقبل الحمل على

(1) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
(4) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
(5) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
(6) المروية في الوسائل في الباب - 45 - من أبواب الوضوء
414

الضرورة ولا على مجرد الجواز كما لا يخفى ولعل الأقرب الحمل على التقية (1) إلا أن

(1) اختلف فقهاء المذاهب في التمندل بعد الوضوء، ففي المدونة لمالك ج 1 ص 17
" لا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء، وتبعه الزرقاني في شرح مختصر أبي الضياء ج 1
ص 47 قال: " لا يندب ترك مسح الأعضاء بخرقة بل يجوز " وفي المغني لابن قدامة الحنبلي
ج 1 ص 141 " لا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغسل " قال: " وممن
روى عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وكثير من أهل العلم،
ونهى عنه جابر بن عبد الله، وكرهه عبد الرحمان بن مهدي وجماعة من أهل العلم " وفي المنهاج
للنووي الشافعي ص 4 " من سنن الوضوء ترك التنشيف في الأصح " وفي الوجيز للغزالي
" لا ينشف الأعضاء فهي سنة على أظهر الوجهين " وفي شرح المنهاج لابن حجر ج 1
ص 101 " أن النووي في شرح مسلم اختار إباحة التنشيف مطلقا " وفي شرح الدار المختار
للحصكفي الحنفي ج 1 ص 25 " من آداب الوضوء التمسح بمنديل ".
ولا يفوت القارئ الكريم الوقوف على شئ طالما طعن أهل السنة به على الشيعة
الإمامية وهو العمل بالتقية التي جوزها الكتاب المجيد حيث يقول في آل عمران 28:
" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في
شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة " ويقول في النحل 106: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان "
ولم يتباعد عن العمل بالتقية علماء أهل السنة، ففي تفسير الآلوسي ج 3 ص 121 في الآية
الأولى " أن فيها دلالة على مشروعية التقية، وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال
من شر الأعداء سواء كان العداء لأجل اختلاف الدين أو للأغراض الدنيوية " ثم قال:
" وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والظلمة والفسقة بالتبسم في وجوههم والانبساط
معهم " وقال ابن العربي في (أحكام القرآن) ج 2 ص 223 في الحجرات 2 " ولا ترفعوا
أصواتكم فوق صوت النبي ": جوز الشافعي ونظراؤه الائتمام في الجماعة خلف الفاسق
ومن لا يؤتمن على حبة من مال، وأصله أن الولاة الذين يصلون بالناس جماعة لما فسدت
أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة معهم ولا يستطاع إزالتهم صلى معهم وراءهم، ومن الناس من
إذا صلى معهم تقية أعادها ومنهم من يكتفي بها، وأنا أقول بوجوب إعادتها سرا ولكن
لا ينبغي ترك الصلاة معهم " وقال الآلوسي المفسر في رسالته (الأجوبة العراقية) ص 225:
والمسألة 22 - كنت أصلي الظهر في البيت بعد صلاة الجمعة وأنكر في قلبي على من يصليها
في الجامع جماعة وأنه ليضيق صدري ولا ينطلق لساني " وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي
ج 1 ص 482 " لا تصح إمامة الفاسق مطلقا وإذا لم تصح صلى معه دفعا للأذى ويعيد،
وقرأ المروزي على أحمد بن حنبل أن أنس بن مالك كان يصلي المكتوبة في منزله ويصلي
الجمعة خلف الحجاج فلم ينكر ذلك أحمد " وفي مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ج 1 ص 171
حيدر آباد " أن أبا حنيفة كأن يقول أمام ابن هبيرة: " عمر أفضل من على تقية " وفيه
ص 171 وفي مناقبه للبزار في ذيل مناقبه للخوارزمي ص 172 " كان المشايخ في زمان بني
أمية لا يذكرون عليا (ع) باسمه خوفا منهم والعلامة بينهم إذا رووا عن علي أن يقولوا
قال الشيخ كذا، وكان الحسن البصري يتقى في الرواية عن علي بن أبي طالب فيقول روى
(أبو زينب) كناية عنه خوفا من بني مروان " وروى ابن قدامة في المغني ج 2 ص 186
عن أبي الحارث " أنه لا يصلي خلف مرجئ ولا رافضي ولا فاسق إلا أن يخافهم فيصلي
ويعيد " ولم يتعقب هذه الرواية. وفي تاريخ بغداد للخطيب ج 13 ص 380 " كان أبو حنيفة
يعمل بالتقية خوفا " وفي تفسير المنار ج 3 ص 281 و (اقتضاء الصراط المستقيم) لابن
تيمية ص 176 و (التبصير في الدين الاسلامي) للاسفرائيني ص 164 و (الروض الباسم)
للوزير اليماني ج 2 ص 41 والنجوم الزاهرة لابن تغربردي الحنفي ج 2 ص 219
ما يؤيد ذلك.
415

فيه أيضا ما لا يخفى، قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار بعد نقل
جملة من هذه الأخبار: " والذي يظهر لي أنه لما اشتهر بين بعض العامة كأبي حنيفة
وجماعة منهم نجاسة غسالة الوضوء وكانوا يعدون لذلك منديلا يجففون به أعضاء الوضوء
ويغسلون المنديل، فلذا نهوا عن ذلك وكانوا يتمسحون بأثوابهم ردا عليهم، كما روي
عن مروان بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: توضأ... ثم نقل حديث
إسماعيل بن الفضل إلى أن قال: فيمكن حمل تلك الأخبار على التقية أو أنه لم يكن بقصد
الاجتناب عن الغسالة أو أنه كان لبيان الجواز " انتهى. ولا يخفى ما فيه. والحكم
لا يخلو من شوب الاشكال.
ثم إنه هل يختص الحكم بالمسح بالمنديل فلا يلحق به غيره، أو يشمل الذيل
416

والكم ونحوهما، أو المنديل والذيل خاصة، أو يلحق به التجفيف بالنار والشمس أيضا؟
أقوال، ولعل الأظهر منها الاقتصار على المنديل وقوفا فيما خالف الأصل على موضع
الوفاق، ولاشتمال أكثر الأخبار المتقدمة عليه خاصة.
فائدة
لا يخفى أن المكروه في اصطلاح الأصوليين والفقهاء عبارة عما يكون عدمه
راجحا على وجوده، وهذا المعنى لما لم يتم اجراؤه في العبادات في المواضع التي ورد النهي
عنها لرجحان الاتيان بها على عدمه، فسروا الكراهة فيها بمعنى آخر وهو باعتبار أقلية
الثواب فيها بالنسبة إلى عبادة أخرى.
وأورد عليه أن ذلك منتقض بكثير من المستحبات والواجبات التي بعض أفرادها
أقل ثوابا من الآخر مع أن الأقل ثوابا منها بالنسبة إلى الأكثر لا يطلق عليه الكراهة.
وربما أجيب بأن المراد أقل ثوابا من مثله أي فرد آخر من نوعه.
وفيه أيضا ما تقدم، فإن الصلاة في أحد المساجد أقل ثوابا بالنسبة إلى الصلاة
في المسجد الحرام بل بعض المساجد بالنسبة إلى آخر مع أنه لا يوسم الأقل منها بالنسبة
إلى الأكثر بالكراهة، وأيضا فإن صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء ليس أقل ثوابا
من صوم آخر مع أنه مكروه.
قيل: " والحق أن يقال المراد أن ضده أفضل منه، مثلا - الدعاء يوم عرفة أفضل من
الصوم المضعف عنه فمكروه العبادة إنما يكون في صورة تكون فيها عبادتان متضادتان " انتهى
أقول أنت خبير بأن مكروه العبادة - على ما عرفت هو ما تعلق به النهي
التنزيهي أعم من أن يكون معه عبادة أخرى مضادة أم لا، فإن الصلاة في الحمام ونحوه
- من الأماكن المنهي عنها في الأخبار والوضوء في المسجد وبالماء المشمس ونحوها - ليس
لها عبادة أخرى مضادة لها.
417

والتحقيق في الجواب أن المراد بمكروه العبادة ما كان أقل ثوابا منها نفسها لو لم
تكن كذلك بل كانت متصفة بأصل الإباحة، ويدل على ذلك ما تقدم من حديث
" من توضأ وتمندل كتبت له حسنة، ومن توضأ ولم يتمندل كتبت له ثلاثون حسنة "
وتوضيح ذلك أن يقال: إن العبادة قد تكون بحيث لا يتعلق بها أمر ولا نهي غير
الأمر الذي تعلق بأصل فعلها، وبهذا المعنى تتصف بالإباحة كالصلاة في البيت البعيد
عن المسجد أو حال المطر، وقد يتعلق بها أمر زائد على الأول باعتبار اتصافها أو اشتمالها
على أمر راجح به كالصلاة في المسجد مثلا إلا مع عذر مسقط، وربما انتهى إلى حد
الوجوب كما إذا نذر ايقاعها فيه، وقد يتعلق بها نهي بالاعتبار المذكور مع المرجوحية
كالصلاة في الحمام، وربما انتهى إلى حد التحريم كصلاة الحائض والصلاة في الدار
المغصوبة على أشهر القولين، وحينئذ فمكروه العبادة هو ما كان أقل ثوابا بالاعتبار
المذكور آنفا منها نفسها لو لم تكن كذلك بل كانت متصفة بصفة الإباحة المذكورة،
فالصلاة في الحمام مكروهة بمعنى أنها أقل ثوابا منها في البيت مثلا لا في المسجد، فلا يرد
حينئذ ما أورد سابق من أن الكراهة بمعنى أقلية الثواب توجب كون الصلاة في جميع
المساجد مكروهة لكونها أقل ثوابا من الصلاة في المسجد الحرام، فإن المعتبر - كما
عرفت - في المفضل عليه بالأقلية هو المتصف بأصل الإباحة، وهكذا بالنسبة إلى ما لم
يوجد فيه الأمر زائد على الأول. والله العالم.
تم الجزء الثاني من من كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ويتلوه
الجزء الثالث في الغسل. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه
محمد وعترته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
418