الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ٣
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
حققه وعلق عليه وأشرف على طبعه
محمد تقي الإيرواني
الجزء الثالث
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الثالث في الغسل
ومنه الواجب والمندوب، فالكلام فيه يقع في مطلبين:
المطلب الأول
في الواجب وفيه فصول:
الفصل الأول
في غسل الجنابة، ولما كان له سبب وغاية وكيفية واجبة وآداب وأحكام متفرعة
عليه، فالبحث فيه يقع في مقاصد خمسة:
المقصد الأول
في السبب وهو الجنابة الحاصلة بأحد أمرين: الجماع والانزال، فلا بد من الكلام
عليهما حينئذ في مقامين:
(المقام الأول) - في الجماع وفيه مسائل: (الأولى) - وجوب الغسل على
الرجل والمرأة - بالجماع في القبل حتى تغيب الحشفة وإن لم ينزل - مما انعقد عليه
الاجماع نصا وفتوى:
2

فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة محمد بن إسماعيل (1) قال: " سألت الرضا
(عليه السلام) عن الرجل يجامع المرأة قريبا من الفرج فلا ينزلان متى يجب الغسل؟
فقال: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. فقلت: التقاء الختانين هو غيبوبة
الحشفة؟ قال: نعم ".
وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " إذا أولجه
فقد وجب الغسل.. ".
وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (3) قال: " إذا أدخله فقد
وجب الغسل... " إلى غير ذلك من الأخبار.
ثم إن جمعا من الأصحاب (نور الله مراقدهم) صرحوا بأن التقاء الختانين المرتب
عليه وجوب الغسل في الأخبار عبارة عن تحاذيهما، قالوا: لأن الملاقاة حقيقة غير متصورة
فإن مدخل الذكر أسفل الفرج وهو مخرج الولد والحيض وموضع الختان أعلاه وبينهما
ثقبة البول، وحينئذ فالمراد من الالتقاء في الأخبار التقابل كما يقال: " تلاقى الفارسان
والتقيا " إذا تقابلا، لكن في صحيحة علي بن يقطين (4) " إذا وقع الختان على الختان
فقد وجب الغسل " وهو ظاهر الدلالة على أن المراد الملاصقة، وأظهر منها صحيحة الحلبي (5)
" إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل " ولعل توسط ثقبة البول بين الموضعين
المذكورين لا يكون مانعا من المماسة والملاصقة لانضغاطها بدخول الذكر فتحمل الأخبار
كلا على ظاهرها.
ثم لا يخفى عليك أن جملة من الأخبار قد تضمنت تعليق وجوب الغسل بالجماع
على التقاء الختانين، وصحيحة ابن بزيع المتقدمة قد تضمنت تفسير التقاء الختانين
بغيبوبة الحشفة من قبيل حمل السبب على المسبب، والمراد أنه يحصل بغيبوبة الحشفة،

(1) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 54 من أبواب المهور.
(3) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
(5) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
3

وحينئذ فما ورد من الأخبار بلفظ الادخال والايلاج مطلقا يجب تقييده بمقدار الحشفة
لتنتظم الأخبار.
نعم روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن كتاب النوادر لمحمد بن علي
ابن محبوب في الصحيح عن محمد بن عذافر (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
متى يجب على الرجل والمرأة الغسل؟ فقال: يجب عليهما الغسل حين يدخله، وإذا التقى
الختانان فيغسلان فرجهما " وظاهره أن التقاء الختانين لا يوجب الغسل بل إنما يوجب
غسل كل منهما فرجه. واحتمل فيه بعض مشايخنا (عطر الله تعالى مراقدهم) عطف قوله:
" وإذا التقى " على قوله: " حين يدخله " أي يجب عليهما الغسل إذا التقى الختانان،
وقوله: " فيغسلان " حكم آخر. وظني بعده، ولكن بمقتضى ما قدمنا نقله عن الأصحاب
- من أن التقاء الختانين إنما هو عبارة عن تحاذيهما وأن موضع دخول الذكر أسفل من
ذلك - يمكن حينئذ حمل التقاء الختانين في هذا الخبر على حقيقته بأن يضع ذكره على
موضع الختان ولا يدخله فيما هو أسفل منه بقرينة أنه جعله مقابلا لدخول الفرج.
(المسألة الثانية) - اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) في حكم
الوطء في دبر المرأة وكذا دبر الغلام:
(أما الأول) - فالمشهور وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة فيه على الفاعل والمفعول
بل نقل جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) عن المرتضى (رضي الله عنه) أنه قال:
لا أعلم خلافا بين المسلمين في أن الوطء في الموضع المكروه من ذكر أو أنثى يجري
مجرى الوطء في القبل مع الايقاب وغيبوبة الحشفة في وجوب الغسل على الفاعل والمفعول
به وإن لم يكن أنزل، ولا وجدت في الكتب المصنفة لأصحابنا الإمامية إلا ذلك،
ولا سمعت ممن عاصرني منهم من شيوخهم نحوا من ستين سنة يفتي إلا بذلك، فهذا
اجماع من الكل، واتصل لي في هذه الأيام عن بعض الشيعة الإمامية أن الوطء في الدبر

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
4

لا يوجب الغسل تعويلا على أن الأصل عدم الوجوب أو على خبر يذكر أنه في منتخبات
سعد أو غيره، وهذا مما لا يلتفت إليه " انتهى. ونقل عن الشيخ في الإستبصار والنهاية
وسلار عدم الوجوب، وهو ظاهر الصدوق (رحمه الله) في الفقيه حيث روى فيه (1)
ما يدل على عدم الوجوب وهو صحيحة الحلبي الآتية (2) ولم ينقل شيئا من أخبار الغسل،
وهو ظاهر ثقة الاسلام في الكافي أيضا حيث روى فيه (3) مرفوعة البرقي الآتية (4) ولم
يورد ما ينافيها.
واستدل على القول الأول بوجوه: (أحدها) قوله سبحانه: " أو لامستم النساء
فلم تجدوا ماء فتيمموا..... " (5) وجه الاستدلال أنه جعل الملامسة سببا للتيمم مع فقد
الماء، والتيمم أما عن الوضوء أو عن الغسل، لا سبيل إلى الأول إذ الاجماع منا منعقد
على عدم ايجاب فرد من الأفراد الملامسة الوضوء فتعين الثاني، خرج منه الملامسة في غير
القبل والدبر بالاجماع وبالنقل عن أهل الذكر (عليهم السلام) كما رواه أبو مريم
الأنصاري في الصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام) (6) حيث سأله فقال: " ما تقول
في الرجل يتوضأ ثم يدعو جاريته فتأخذ بيده حتى ينتهي إلى المسجد فإن من عندنا
يزعمون أنها الملامسة؟ فقال: لا والله ما بذلك بأس وربما فعلته، وما يعني بهذا:
" أو لامستم النساء " إلا المواقعة في الفرج " والفرج شامل للقبل والدبر لغة وشرعا
(أما الأول) فلتصريح أهل اللغة بذلك. و (أما الثاني) فلقوله سبحانه: " والذين هم
لفروجهم حافظون " (7) مراد به الذكر من الرجل.

(1) ج 1 ص 47
(2) ص 8
(3) ج 1 ص 15
(4) ص 9.
(5) سورة النساء الآية 43. وسورة المائدة. الآية 6.
(6) رواه في الوسائل في أبواب 9 من أبواب نواقض الوضوء.
(7) سورة المؤمنون الآية 6 وسورة المعارج الآية 29.
5

وأنت خبير بأن مرجع هذا الاستدلال إلى صدق الفرج على الدبر في هذا المقام
وفيه أنه وإن صح اطلاقه عليه إلا أن المتبادر منه فيما نحن فيه بقرينة المقام هو القبل خاصة
لأنه المتعارف المتكرر والمندوب إليه وغيره منهي عنه فينصرف الاطلاق لذلك إليه،
ويؤيده ما صرح به الفيومي في كتاب المصباح المنير، حيث قال: " والفرج من الانسان
القبل والدبر، وأكثر استعماله في العرف في القبل " انتهى. ويؤيد ذلك أيضا التعبير في
جملة من الأخبار بالتقاء الختانين المختص بالقبل، وسيجئ ما فيه مزيد تحقيق لذلك أن شاء
الله تعالى. وكيف كان فلا أقل من حصول الاحتمال بما ذكرنا احتمالا مساويا لما ذكروه
أن منع الرجحان، وهو كاف في بطلان الاستدلال.
و (ثانيها) صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال:
" سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة؟ فقال: إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر
والرجم " والادخال صادق فيهما.
وفيه ما تقدم في الوجه الأول، وزيادة ما عرفت آنفا من تقييد هذه الرواية وأمثالها
بالتقاء الختانين المفسر بغيبوبة الحشفة في صحيح ابن بزيع المؤذن بالاختصاص بالقبل.
و (ثالثها) صحيحة زرارة (2) الواردة في قضية المهاجرين والأنصار
واختلافهم في من يخالط أهله ولا ينزل، حيث قالت الأنصار: الماء من الماء. وقالت
المهاجرون: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. وقول أمير المؤمنين (عليه السلام)
فيها: " أتوجبون عليه الحد والرجم ولا توجبون عليه صاعا من ماء؟ إذا التقى الختانان
فقد وجب عليه الغسل " الدال بالاستفهام الانكاري على أن اثبات الحد والرجم مع عدم
ايجاب الصاع من الماء الذي هو كناية عن الغسل كالجمع بين النقيضين، إذ هما معلولا علة
واحدة واثبات أحدهما مع نفي الآخر يؤدي إلى اثبات العلة ورفعها في وقت واحد وهو
محال، أو على أن ايجاب الصاع من الماء أولى بالاثبات من ايجاب الحد لكون الحد مبنيا

(1) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
6

على التخفيف بخلاف ايجاب الصاع، وحينئذ يقال: كلما ثبت الحد والرجم ثبت الغسل
أو كان أولى بالثبوت، والمقدم ثابت بالاجماع والروايات فيثبت التالي. كذا قرره بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين.
ويرد عليه أن هذا الاستدلال وأن وجهه بما قال إلا أنه لا يخرج بذلك عن
القياس ولا يبرز عن ظلمة الالتباس وإن كان على الثاني يكون من قبيل قياس الأولوية،
فإنا لا نسلم أن العلة في وجوب كل من الغسل والحد هو الايلاج، بل العلة هي أمر
الشارع بذلك عند وقوع الايلاج، ولئن أطلق على ذلك علة فهو كما في سائر علل
الشرع لما صرحوا به أنها من قبيل الأسباب والمعرفات، لا أنها علل حقيقة يدور المعلول
معها وجودا وعدما كالعلل العقلية حتى يلزم المحال باثبات العلة ورفعها في وقت واحد،
وحينئذ فحمل الغسل على الحد والرجم لاشتراكهما في جامع الايلاج قبلا قياس محض،
إذ ليس القياس إلا عبارة عن تعدية الحكم من جزئي إلى آخر لاشتراكهما في جامع،
وهو هنا كذلك فإنه قد عدى الحكم وهو الوجوب من الحد والرجم إلى الغسل لاشتراكهما
في العلة الجامعة وهو النكاح في القبل، فأثبت وجوب الغسل في كل موضع ثبت فيه
الحد والرجم، والأخبار الدالة على بطلان القياس في الشريعة أظهر من أن يتعرض
لنقلها في المقام. وأما قياس الأولوية فهو وإن سلم ثبوته هنا وذهب بعض الأصحاب
إلى القول به إلا أن جملة من الأخبار تدفعه كما تقدم ذلك في المقدمة الثالثة من مقدمات
الكتاب (1) وحينئذ فالأظهر في معنى الخبر المذكور أن يقال: إن كلامه (عليه السلام)
إنما هو على طريق الالزام لأولئك المخالفين حيث إنهم قائلون بالقياس، أو أنه (عليه
السلام) أنكر عليهم ذلك مع مخالفته لاعتقادهم، بمعنى أنه كيف تقولون بهذا القول مع أنه مخالف لمعتقدكم؟ ثم بين (عليه السلام) الحكم بقوله: " إذا التقى الختانان فقد وجب
الغسل " قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل الخبر المذكور: " قد جادلهم (عليه

(1) ج 1 ص 60.
7

السلام) بالتي هي أحسن. لأنهم كانوا أصحاب قياس وكان مثل هذا التمثيل والمقايسة أوقع
في نفوسهم وأقرب لقبولهم، وحاشاه (عليه السلام) أن يقيس في الدين أو يكون
طريق (عليه السلام) معرفته بالأحكام القياس " انتهى.
و (رابعها) رواية حفص بن سوقة عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) حيث " سأله عن الرجل يأتي المرأة من خلفها. قال: هو أحد المأتيين فيه
الغسل " وهو صريح الدلالة إلا أنه مع ضعف السند - معارض بما يأتي.
و (خامسها) الاجماع المنقول في كلام السيد (رضي الله عنه). وفيه أن
الاجماع المذكور وإن كثر نقله في كلامهم وتداولوه على رؤوس أقلامهم إلا أنه لم تثبت
حجيته عندنا، كما تقدم القول فيه مفصلا في المقدمة الثالثة (2).
واستدل على القول الثاني أيضا بوجوه (أحدها) - صحيحة الحلبي (3) قال:
" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصيب المرأة فيما دون الفرج أعليها
غسل إن هو أنزل ولم تنزل هي؟ قال: ليس عليها غسل، وإن لم ينزل هو فليس
عليه غسل ".
وأجيب بأن الفرج هنا لا خصوصية له بالقبل بل هو شامل المدبر أيضا. لصدق
الفرج عليه كما تقدم.
وفيه (أولا) - أن المتبادر من الفرج كما قدمنا ذكره - هو القبل وعليه بناء
الاستدلال، فإن الظاهر المتبادر من لفظ الإصابة هنا هو الكناية عن الوطء والنكاح،
كما غبر به وبأمثاله في غير موضع من الأخبار الإمامية والآيات القرآنية، وذلك لا يكون
في غير الفرجين.
و (ثانيا) أن الصدوق في الفقيه (4) روى الخبر المذكور بقوله: " فيما دون

(1) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب الجنابة.
(2) ج 1 ص 35.
(3) المروية في الوسائل في الباب 11 من أبواب الجنابة.
(4) ج 1 ص 47.
8

ذلك " عوض قوله: " فيما دون الفرج " ومن الظاهر - سيما بانضمام أفراد اسم الإشارة
دون تثنيته - ظهوره في القبل، إذ هو المعهود والمتكرر فيختص بالإشارة، وبالجملة فتطرق
احتمال الدبر على بعد - كما يدعيه الخصم - وإن سلم إلا أنه لا يقاوم الظاهر المتبادر من اللفظ
وما يتناقل في عباراتهم ويدور في محاوراتهم - من أنه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال -
فكلام شعري وخطاب جدلي، إذ لو تم لا نسد باب الاستدلال، إذ لا لفظ إلا وهو قابل
للاحتمال ولا دليل إلا وللمنازع فيه بذلك مجال. وبه ينسد باب اثبات الإمامة والنبوة
والتوحيد، كما لا يخفى على الماهر الوحيد ومن ألقى السمع وهو شهيد.
و (ثانيها) - ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن البرقي رفعه عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " إذا أتى الرجل المرأة في دبرها فلم ينزل فلا غسل
عليهما، وإن أنزل فعليه الغسل ولا غسل عليها ".
وأجيب بضعف الرواية بالارسال، مع المعارضة برواية حفص المتقدمة، وباحتمال
الحمل على عدم غيبوبة الحشفة.
و (ثالثها ورابعها) - ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن محبوب عن بعض
الكوفيين رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) (2) " في الرجل يأتي المرأة في دبرها
وهي صائمة؟ قال: لا ينقض صومها وليس عليها غسل " وما رواه أيضا في الصحيح عن
علي بن الحكم عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " إذا أتى الرجل
المرأة في دبرها وهي صائمة لم ينقض صومها وليس عليها غسل ".
وأنت خبير بأن هذه الروايات الثلاث وإن ضعف سندها بهذا الاصطلاح المحدث
إلا أنها لما كانت صريحة الدلالة على المطلوب - معتضدة بظاهر صحيحة الحلبي المتقدمة
مع أنها لا معارض لها في صراحتها بل مطلقا على ما حققناه آنفا إلا مرسلة حفص وهي
لذلك تضعف عن المعارضة - كان أظهر القولين هو الثاني. إلا أن الحكم بعد لا يخلو

(1) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الجنابة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الجنابة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الجنابة.
9

من شوب الاشكال، لما ذكره السيد (قدس سره) من شيوع الفتوى في عصره بما
ذكره وعدم المخالف سابقا في ذلك، فهو مما يثمر الظن الغالب بكون أصحاب الطبقة
المتصلة بأصحاب العصمة (سلام الله عليهم) كانوا على ذلك القول. لكن فيه ما ذكرنا
من اقتصار ثقة الاسلام والصدوق (قدس سرهما) في كتابيهما الكافي والفقيه على الأخبار
الدالة على عدم الغسل مع ما علم من حالهما في ديباجتي كتابيهما سيما الصدوق. وكيف كان
فالاحتياط - بأن يغتسل ثم يحدث ثم يتوضأ - سبيل النجاة، عجل الله تعالى الفرج لمن بزبل
عنا أمثال هذه الرتج.
ثم العجب من شيخ الطائفة (نور الله مرقده) حيث عمل في هذا المقام على هذه
الروايات واستند إليها في الحكم المذكور، وطعن في رواية حفص المعارضة لها ثم حملها
على التقية (1) وفي كتاب الصوم من التهذيب طعن في مرسلة علي بن الحكم بأنه خبر
غير معمول عليه وهو مقطوع الاسناد ولا يعول عليه.
هذا. وصريح كلام السيد المتقدم هو وجوب الغسل بالوطء في الدبر على كل من
الفاعل والمفعول، وهو ظاهر كل من قال بالوجوب، إلا أن المفهوم من كلام العلامة في
المنتهى أنه تردد في الوجوب على المرأة، حيث قال: " وهل يجب على المرأة الموطوأة
في الدبر الغسل مع عدم الإنزال؟ فيه تردد " ونقل عن ظاهر كلام ابن إدريس
الوجوب، واستدل له بقوله (عليه السلام) (2): " أتوجبون عليه الحد والرجم... إلى آخر

(1) في بدائع الصنائع ج 1 ص 36 والبحر الرائق ج 1 ص 58 " تواري الحشفة
في القبل والدبر يوجب الغسل وإن لم ينزل على الفاعل والمفعول به " وكذا في الأم للشافعي
ج 1 ص 32 والمهذب للشيرازي ج 1 ص 28 والمغني لابن قدامة ج 1 ص 199. وفي
الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 95 " عند المالكية يجب الغسل بادخال الحشفة في القبل
أو الدبر مع الحائل أم لا ".
(2) في صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة 6.
10

كلامه " ويظهر أيضا من المحدث الكاشاني في المفاتيح والوافي حيث قال في الثاني:
" وأكثر أصحابنا على وجوب الغسل عليهما في ذلك، ولم نجد على وجوبه حديثا لا قول
أمير المؤمنين (عليه السلام): " أتوجبون عليه الحد... الخ إن أفاد ذلك " انتهى.
أقول: يمكن الاستدلال على ذلك بظاهر قوله (عليه السلام) في رواية حفص
التي هي أصرح أدلة الوجوب: " هو أحد المأتيين " فإنه يظهر منه وجوب الغسل على
كل منهما في هذا المأتي كما أنه في الآخر كذلك. ولا يخلو من شوب الاشكال. هذا
بالنسبة إلى دبر المرأة.
وأما دبر الغلام فالأكثر أيضا على وجوب الغسل على الفاعل والمفعول استنادا
إلى الاجماع المركب الذي ادعاه المرتضى (رضي الله عنه) فإنه ادعى أن كل من أوجب
الغسل بالغيبوبة في دبر المرأة أوجبه في دبر الذكر وكل من نفاه هناك نفاه هنا، ولما كان
الأول ثابتا بالأدلة علمنا أن الإمام (عليه السلام) قائل به، فيكون قائلا بالوجوب
في الثاني، هكذا ذكره جملة من الأصحاب.
وفيه (أولا) - أن صريح كلام السيد - كما قدمناه ذكره - دعوى الاجماع
على الوجوب في الموضعين فلا حاجة إلى دعوى الاجماع المركب هنا.
و (ثانيا) - أن هذه الدعوى ممنوعة بما عرفته سابقا.
إلا أن بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين - حيث إنه ممن ذهب
إلى القول بالوجوب في المسألة الأولى واستدل بما نقلناه آنفا واجبنا عنه - استدل هنا
على الوجوب بصحيحة زرارة المتقدمة في قضية المهاجرين والأنصار، بناء على ما قرره
ثمة من دلالتها على الوجوب في دبر المرأة بما ذكره من الكلية القائلة: كلما ثبت الحد
والرجم ثبت الغسل أو كان أولى بالثبوت، والمقدم ثابت بالاجماع والروايات فيثبت
التالي، وقد ثبت الحد في وطء الغلام فيثبت الغسل. وقد عرفت ما فيه مما كشف عن
باطنه وخافيه إلا أن الأحوط - كما قدمنا - هو الغسل ثم الحدث بعده ثم الوضوء.
11

ويمكن أن يستدل لوجوب الغسل بظاهر حسنة الحضرمي المروية في الكافي (1)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من جامع
غلاما جاء جنبا يوم القيامة لا ينقيه ماء الدنيا. الحديث " فإنه ظاهر في ثبوت الجنابة
له مطلقا، واطلاقه شامل للجماع مع الإنزال وعدمه. وأما كونه لا ينقيه ماء الدنيا
يعني أن غسله في الدنيا لا ينقيه من الجنابة، فهو محمول على تغليظ الحكم في المنع والردع
عن ذلك، وبذلك يظهر قوة القول بالوجوب.
هذا. وقد صرح جملة من الأصحاب بأنه لا فرق في الموضعين بين كون المفعول
حيا أو ميتا. لعموم حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا " (2) وفيه نظر، فإن أقصى
ما يستفاد منه حصول الإثم بهتك حرمته بذلك، وأما ترتب الغسل على ذلك فظني
أن الخبر لا يفي به، إذ وجوب الغسل على الفاعل لا تعلق له بحرمة الميت.
وربما استدل على ذلك بالظواهر المتضمنة لوجوب الغسل على من أولج في الفرج
وفيه أن أمثال ذلك أنما يحمل على المتكرر المعهود - كما أشرنا إليه في غير موضع - دون
الأفراد النادرة الوقوع، وأما وجوب الغسل على الميت لو فعل به ذلك فالظاهر عدمه،
لعدم الدليل عليه وعدم توجه التكليف إليه. وكذا لا دليل على الوجوب على الولي
ولا على غيره من سائر المسلمين.
(المسألة الثالثة) - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الايلاج في
فرج البهيمة. فنقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط العدم لعدم النص، واستحسنه
المحقق وجمع من المتأخرين ومتأخريهم، والظاهر أنه المشهور، وخالف فيه العلامة
في المختلف، ونقل عن السيد المرتضى (رضي الله عنه) في تتمة كلامه المتقدم ما يدل

(1) ج 2 ص 70.
(2) ورد هذا المضمون في حديث العلاء بن سيابة المروي في الوسائل في الباب 51
من أبواب الدفن، وأورد بعض الأخبار المشتملة عليه في الباب 25 من ديات الأعضاء.
12

على دعوى الاجماع عليه أيضا، واستدل عليه في المختلف بإنكار علي (عليه السلام)
على الأنصار في صحيحة زرارة المتقدمة. وفيه ما عرفت سابقا، مع أن المنقول عن العلامة
التعزير بوطء البهيمة دون الحد. وقال في الذكرى: " أما فرج البهيمة فلا نص فيه،
والحمل على ختان المرأة قوي، ولفحوى قضية الأنصار " انتهى. وضعفه ظاهر.
(المسألة الرابعة) - لو أولج الرجل في دبر الخنثى وجب الغسل عليهما بناء
على ما تقدم من الوجوب في الدبر. ولو أولج في قبله أو أولج الخنثى في فرج المرأة لم
يجب الغسل، لاحتمال الزيادة في أحد هذين الفرجين وأن يكون رجلا على الأول وأنثى
على الثاني، فلا يتعلق به حكم. وقال في التذكرة بالنسبة إلى الأول بعد أن نقل عن بعض
علمائنا عدم الوجوب لما ذكرنا: " ولو قيل بالوجوب كان وجها، لقوله (عليه السلام):
" إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " (1)، ولوجوب الحد به " انتهى. وقال بالنسبة
إلى الثاني بعد أن أفتى بالعدم لما قدمنا: " ويحتمل الوجوب للعموم " وضعف ما ذكر
من دليل الوجوب في الموضعين ظاهر. ولو أولج الرجل في قبل الخنثى والخنثى في قبل
المرأة كان الخنثى جنبا والرجل والمرأة كواجدي المني في الثوب المشترك، ويأتي على
ما ذكره العلامة من الاحتمال الحكم بجنابة الجميع. هذا كله بالنسبة إلى الخنثى المشكل
وإلا فالواضح يتبع في حكمه ما يلحق به.
(المسألة الخامسة) - قد صرح الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) بأن مقطوع
الحشفة يجب الغسل عليه بغيبوبة قدرها من الذكر، واستدل عليه في المنتهى وتبعه جمع
منهم بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في المسألة الأولى الدالة على وجوب الغسل بمجرد
الادخال. وأنت خبير بأن هذه الرواية وأمثالها مما دل على وجوب الغسل بمجرد الادخال
إن عمل بها على ظاهرها نافى ما اتفقوا عليه ووردت به جملة من الأخبار من التخصيص
بادخال الحشفة، فلا بد حينئذ من تقييدها بذلك كما قدمنا ذكره، وبه تنتفي دلالة الرواية

(1) في صحيحة محمد بن إسماعيل المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
13

المذكورة وأمثالها على المدعى، فيبقى الحكم عاريا عن الدليل والأصل البراءة، إلا أن
الاحتياط يقتضي الوقوف على ما عليه الأصحاب (رضوان الله عليهم) سيما مع عدم
المخالف ظاهرا.
(المقام الثاني) - في الإنزال وفيه أيضا مسائل: (الأولى) - لا ريب أنه كما
يجب على الرجل والمرأة الغسل بالجماع على الوجه المتقدم كذا يجب عليهما بإنزال الماء
الأكبر يقظة ونوما على المعروف من مذهب الأصحاب بل لم ينقل فيه خلاف، إلا أنه
يظهر من كلام الصدوق (قدس سره) في المقنع الخلاف في المرأة إذا أنزلت بالاحتلام
حيث قال: " وإن احتلمت المرأة فأنزلت فليس عليها غسل، وروي أن عليها الغسل
إذا أنزلت " وهو في الرجل مجمع عليه رواية، وأما في المرأة فعلى أشهرها:
فمن الأخبار الدالة عليه في الرجل حسنة الحلبي (1) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن المفخذ عليه غسل؟ قال: نعم إذا أنزل ".
وحسنة الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " كان علي
(عليه السلام) يقول: إنما الغسل من الماء الأكبر ".
ورواية عنبسة بن مصعب عنه (عليه السلام) (3) قال: " كان علي (عليه
السلام) لا يرى في شئ الغسل إلا في الماء الأكبر ".
والحصر في هذه الأخبار وأمثالها إضافي بالنسبة إلى ما يخرج من الذكر من المذي
ونحوه، فلا ينافي ما دل على الوجوب بمجرد التقاء الختانين كما تفصح عنه رواية عنبسة عنه
(عليه السلام) (4) قال: " كان علي (عليه السلام) لا يري في المذي وضوء ولا غسلا
ما أصاب الثوب منه إلا في الماء الأكبر " إلى غير ذلك من الأخبار.

(1) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
14

وأما المرأة فمما يدل على وجوب الغسل عليها بذلك أيضا صحيحة محمد بن إسماعيل
عن الرضا (عليه السلام) (1) " في الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج وتنزل المرأة
هل عليها غسل؟ قال: نعم ".
وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن المرأة
ترى في المنام ما يرى الرجل. قال: إن أنزلت فعليها الغسل وإن لم تنزل فليس
عليها الغسل ".
ورواية معاوية بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " إذا أمنت المرأة
والأمة من شهوة - جامعها الرجل أو لم يجامعها، في نوم كان ذلك أو في يقظة - فإن عليها الغسل
وحسنة أديم بن الحر (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة
ترى في منامها ما يرى الرجل عليها غسل؟ قال: نعم ولا تحدثوهن فيتخذنه علة ".
أقول: ولعل المراد باتخاذ ذلك علة يعني للزناء أو الخروج إلى الحمامات.
إلى غير ذلك من الأخبار كصحيحة عبد الله بن سنان (5) وصحيحة إسماعيل
ابن سعد الأشعري (6) وصحيحة محمد بن إسماعيل الأخرى (7) وأخبار أخر أيضا.
وبإزاء هذه الأخبار ما يدل على عدم الوجوب كصحيحة عمر بن يزيد (8) قال:
" اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة ولبست ثيابي وتطيبت، فمرت بي وصيفة ففخذت لها
فأمذيت أنا وأمنت هي فدخلني من ذلك ضيق، فسألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
ذلك. فقال: ليس عليك وضوء ولا عليها غسل ".
ورواية عبيد بن زرارة (9) قال: " قلت له: هل على المرأة غسل من جنابتها
إذا لم يأتها الرجل؟ قال: لا، وأيكم يرضى أن يرى أو يصبر على ذلك أن يرى

(1) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(5) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(6) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(7) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(8) المروية في الوسائل في الباب 12 من نواقض الوضوء و 7 من أبواب الجنابة.
(9) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
15

ابنته أو أخته أو أمه أو زوجته أو أحدا من قرابته قائمة تغتسل فيقول مالك؟ فتقول
احتلمت وليس لها بعل. ثم قال: لا ليس عليهن ذلك، وقد وضع الله ذلك عليكم، قال:
وإن كنتم جنبا فاطهروا " (1) ولم يقل ذلك لهن ".
وصحيحة محمد بن مسلم (2) قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كيف جعل
على المرأة إذا رأت في النوم أن الرجل يجامعها في فرجها الغسل ولم يجعل عليها الغسل
إذا جامعها دون الفرج في اليقظة فأمنت؟ قال: لأنها لما رأت في منامها أن الرجل
يجامعها في فرجها فوجب عليها الغسل، والآخر إنما جامعها دون الفرج فلم يجب عليها
الغسل لأنه لم يدخله، ولو كان أدخله في اليقظة وجب عليها الغسل أمنت أو لم تمن "
ومثلها صحيحة عمر بن يزيد الأخرى (3) وصحيحة ابن أذينة (4).
وقد تأول الشيخ (رضوان الله عليه) ومن تأخر عنه هذه الأخبار بتأويلات
في غاية البعد، وصحتها وصراحتها في عدم الوجوب مما لا سبيل إلى انكاره، فالأولى
ردها إلى العالم من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) والعمل على تلك الأخبار
الأولة، لاعتضادها بعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا، وموافقتها للاحتياط في الدين
الذين هما من جملة المرجحات المنصوصة.
ويقرب عندي خروج هذه الأخبار مخرج التقية (5) (أما أولا) - فلجواز
وجود القائل به في تلك الأعصار وإن لم ينقل عن أحد الأربعة المشهورة الآن بينهم،
فإن شهرة هذه الأربعة وحصر مذهبهم فيها إنما تجدد في الأعصار المتأخرة بقرب

(1) سورة المائدة الآية 9.
(2) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(5) في نيل الأوطار للشوكاني ج 2 ص 195 بعد أن ذكر حديث خولة بنت حكيم
" سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. قال ليس عليها غسل
حتى تنزل " قال: " يدل الحديث على وجوب الغسل على الرجل والمرأة إذا وقع الإنزال،
وهو اجماع إلا ما يحكى عن النخعي ".
16

سنة الستمائة. وإلا فمذاهبهم في أعصار الأئمة (عليهم السلام) لا تكاد تحصى كثرة
وانتشارا، كما نبه عليه جملة من علمائنا وعلمائهم، وأوضحناه في مواضع من رسائلنا.
و (أما ثانيا) - فلأن المستفاد من الأخبار وإن كان خلاف ما اشتهر بين
أصحابنا (رضوان الله عليهم) إلا أن فتواهم (عليهم السلام) بالتقية أحيانا لا يختص بوجود
القائل بذلك من العامة، بل كثيرا ما يقصدون (عليهم السلام) إلى مجرد ايقاع
الاختلاف في الحكم تقية كما مر بك تحقيقه في المقدمة الأولى من مقدمات الكتاب
وأما ما يفهم من كلام المقنع - من العمل بما ورد من هذه الروايات في الاحتلام
دون ما ورد في اليقظة - فلا أعرف له وجها وجيها.
ولقد أشكل الأمر في هذه الأخبار على أصحاب هذا الاصطلاح المتأخر من
تقسيم هذه الأخبار إلى الأقسام الأربعة، لصحتها وصراحتها فلم يستطيعوا ردها بضعف
الاسناد كما هو المقرر بينهم والمعتاد. حتى قال صاحب المنتقى الذي هو من جملة من شيد
أركان هذا الاصطلاح بل زاد بزعمه في الاصلاح بعد نقله هذه الأخبار: " والعجب
من اضطراب هذه الأخبار مع ما لأسانيدها من الاعتبار ".
فرع
ينبغي أن يعلم أنه لو كان الخارج من المرأة إنما هو من مني الرجل يقينا أو مشكوكا
في مصاحبته منيها، فإنه لا يوجب الغسل يقينا على الأول وفي الثاني على الظاهر تمسكا
بالأصل سيما بعد الغسل، كما تدل عليه صحيحة سليمان بن خالد (1) المتضمنة للسؤال عن
المرأة يخرج منها شئ من بعد الغسل فقال: " لا تعيد " وعلله بأن ما يخرج من المرأة إنما هو من ماء الرجل، ومثلها صحيحة منصور (2) ويدل على الأول أيضا رواية
عبد الرحمان البصري قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة تغتسل

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب الجنابة.
17

من الجنابة ثم ترى نطفة الرجل بعد ذلك هل عليها غسل؟ فقال: لا " أما لو حصل
الاشتباه في غير مورد الصحيحة المتقدمة فالظاهر الرجوع إلى الأوصاف المعتبرة عند
الاشتباه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، إذ هذه الأوصاف إنما توجد عند خروج منيها
لا مطلق المني كما هو الظاهر.
(المسألة الثانية) - لو أنزل من غير الموضع المعتاد فهل يكون موجبا للغسل
مطلقا مع تيقن كونه منيا. أو يحلق بالحدث الأصغر الخارج من غير الموضع المعتاد على
القول به هناك فيشترط في حدثيته الاعتياد أو انسداد الخلقي؟ قولان، وبالأول صرح
العلامة في التذكرة والمنتهى، وبالثاني الشهيد في الذكرى.
ويدل على الأول اطلاق جملة من الأخبار الدالة على وجوب الغسل بخروج المني
كقولهم (عليهم السلام) في جملة منها (1): " إنما الغسل من الماء الأكبر " وقولهم في
بعض منها (2): " إذا جاءت الشهوة وأنزلت الماء وجب عليها الغسل " ولعل مستند
القول الثاني ما تقدم في الحدث الأصغر.
وتردد بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين في المسألة، نظرا إلى أصالة
البراءة من الوجوب، ووجوب استصحاب حكم الطهارة حتى يعلم المزيل، وإلى
اطلاق الأخبار.
وأنت خبير بأن الظاهر أن اطلاق الأخبار موجب للخروج عن الأصالة المذكورة
والاستصحاب المذكور، إلا أن يمنع الاعتماد على الاطلاق في الدلالة والظاهر أنه لا قائل
به. نعم لو كان الشك في العمل بالاطلاق من حيث احتمال تقييده بالحمل على ما هو
المعهود المتعارف من الخروج من الموضع الخلقي فيحمل اطلاق الأخبار عليه لكان وجها، إلا أنه
يحتمل أن ذكر الخروج من الفرجين في بعض الأخبار باعتبار كونه المتعارف لا يدل.

(1) المروي في الوسائل في الباب 9 من أبواب الجنابة.
(2) المروي في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
18

على الانحصار بوجه فلا يصلح لتقييد ما أطلق منها، وإلى هذا يميل كلام المحدث الأمين
الاسترآبادي (قدس سره) في مسألة خروج الحدث الأصغر من غير الموضع المعتاد،
والمسألة لا تخلو من تردد.
ومن هنا يعلم الحكم في الخنثى لو خرج من أحد مخرجيها لا مع الاعتباد من
أحدهما كما هو أحد القولين بل الظاهر أنه أشهرهما، والقول الآخر اعتباره منهما إلا مع
الاعتياد من أحدهما، وإليه ذهب ثاني المحققين وثاني الشهيدين.
(المسألة الثالثة) - الطاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) -
كما نقله جملة منهم - في وجوب الغسل مع تيقن كون الخارج منيا وإن لم يكن على
الصفات الآتية، وأن الرجوع إليها كلا أو بعضا إنما هو مع الاشتباه، ويدل عليه الأخبار
الكثيرة المتضمنة لترتب الغسل على مطلق الإنزال وخروج الماء (1) وحينئذ فما ورد في بعض
الأخبار - من تقييد وجوب الغسل بالقيود الثلاثة من الشهوة والدفع وفتور الجسد وأنه
مع عدم ذلك فلا بأس، كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (2)
قال: " سألته عن الرجل يلعب مع المرأة ويقبلها فيخرج منه المني فما عليه؟ قال: إذا
جاءت الشهوة ودفع وفتر فعليه الغسل، وإن كان إنما هو شئ لم يجد له فترة ولا شهوة
فلا بأس " أو الشهوة فقط كصحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري (2) قال: " سألت
الرضا (عليه السلام) عن الرجل يلمس فرج جاريته حتى تنزل الماء من غير أن يباشر،
يعبث بها بيده حتى تنزل. قال: إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل " ومثلها رواية
محمد بن الفضيل (4) قال: " إذا جاءت الشهوة وأنزلت الماء وجب عليها الغسل "
- فمحمول على حال الاشتباه قال الشيخ (قدس سره) في التهذيب بعد نقل صحيحة
علي بن جعفر المذكورة: " أن قوله (عليه السلام) -: " وإن كان إنما هو شئ لم يجد له

(1) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
19

فترة ولا شهوة فلا بأس " - معناه إذا لم يكن الخارج الماء الأكبر. لأن من المستبعد
من العادة والطبائع أن يخرج المني من الانسان ولا يجد له شهوة ولا لذة. وإنما أراد أنه
إذا اشتبه على الانسان فاعتقد أنه مني وإن لم يكن في الحقيقة منيا يعتبره بوجود الشهوة
من نفسه، فإذا وجد وجب عليه الغسل وإذا لم يجد علم أن الخارج منه ليس بمني " انتهى.
وهو جيد مطابق لما يحكم به الوجدان ويحققه العيان، على أنه لو أريد به ظاهره لوجب
حمله على التقية لموافقته لأشهر مذاهب العامة، فإنه منقول عن أبي حنيفة ومالك وأحمد (1)
مع أن فيه أيضا أنه دلالة بمفهوم الشرط، وهو إنما يكون حجة إذا لم يظهر للشرط فائدة
سوى التعليق والتقييد، ومن المحتمل خروج ذلك مخرج الغالب إن لم يدع اللزوم الكلي
مع عدم العارض من مرض ونحوه، وبه تنتفي حجية المفهوم في نفسه فضلا أن يصلح
لتقييد ظواهر الأخبار المستفيضة.
ثم إنه مع اشتباه الخارج فقد ذكر جمع من الأصحاب أنه يعتبر في الصحيح باللذة
والدفق وفتور البدن، وفي المريض باللذة والفتور ولا يعتبر الدفق لأن قوة المريض
ربما عجزت عن دفعه، وزاد الشهيد في الذكرى والدروس علامة أخرى للاشتباه أيضا
وهو قرب رائحته من رائحة الطلع والعجين إذا كان رطبا وبياض البيض جافا.
واحتجوا على اعتبار الأوصاف الثلاثة في الصحيح بأنها صفات لازمة في الأغلب
فمع الاشتباه يرجع إليها. وبصحيحة علي بن جعفر المتقدمة، وفي المريض بما تقدم من
العجز، وبصحيحة عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" قلت له: الرجل يرى في المنام ويجد الشهوة فيستيقظ وينظر فلا يجد شيئا ثم يمكث بعد

(1) في المغني ج 1 ص 199 " الموجب للغسل خروج المني وهو الماء الغليظ الدافق
الذي يخرج عند اشتداد الشهوة، فإن خرج شبيه المني لمرض أو برد لا عن شهوة فلا غسل
فيه وهو قول أحمد ومالك وأبي حنيفة، وقال الشافعي يجب به الغسل لقوله صلى الله عليه وآله: " الماء
من الماء " ولأنه مني خارج فأوجب الغسل كما لو خرج حال الاغماء ".
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الجنابة.
20

فيخرج؟ قال: إن كان مريضا فليغتسل وإن لم يكن مريضا فلا شئ عليه. قال فقلت:
فما فرق بينهما؟ فقال: لأن الرجل إذا كان صحيحا جاء الماء بدفقة وقوة وإذا كان
مريضا لم يحبئ الأبعد ".
أقول: ومن الأخبار الواردة أيضا في المريض صحيحة معاوية بن عمار عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن رجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا
فقال: ليس بشئ إلا أن يكون مريضا فإنه يضعف فعليه الغسل ".
وصحيحة زرارة (2) قال: " إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة فإنه ربما كان هو
الدافق لكنه يحبئ ضعيفا ليست له قوة لمكان مرضك ساعة بعد ساعة قليلا قليلا
فاغتسل منه ".
ورواية محمد بن مسلم (3) قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام): رجل رأى
في منامه فوجد اللذة والشهوة ثم قام فلم ير في ثوبه شيئا؟ فقال: إن كان مريضا فعليه
الغسل وإن كان صحيحا فلا شئ عليه ".
إلا أن هذه الرواية لا تخلو من اشكال لتضمنها وجوب الغسل على المريض بمجرد
وجود اللذة والشهوة مع عدم رؤية شئ بعد انتباهه. ولم يذهب إليه ذاهب من الأصحاب
ولم يرد به خبر آخر في الباب، بل ربما دلت الأخبار على خلافه، ومنها - حسنة الحسين
ابن أبي العلاء (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرى في المنام
حتى يجد الشهوة فهو يرى أنه قد احتلم فإذا استيقظ لم ير في توبة الماء ولا في جسده.
قال: ليس عليه الغسل " وحينئذ فالواجب حمل تلك الرواية على وجود شئ وإلا
فطرحها رأسا.
ثم لا يخفى أن غاية ما يستفاد من هذه الأخبار هو البناء على الظن بواسطة أحد

(1) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الجنابة.
21

هذه الأشياء في المريض بل الصحيح أيضا حال الشك، ومن المقطوع به نصا وفتوى أنه
لا يعارض يقين الطهارة، لكن الظاهر من الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق
على العمل بما دلت عليه هذه الأخبار وعدم الراد لها، ولعله على الاستثناء من قاعدة
عدم نقض اليقين بالشك وتخصيصها بهذه الأخبار، إذ المراد بالشك هنا ما يشمل الظن
كما تقدم تحقيقه في المقدمة الحادية عشرة.
(المسألة الرابعة) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في أن من نام ولم ير في منامه أنه احتلم ثم وجد بعد الانتباه في ثوبه أو على بدنه منيا فإنه
يجب عليه الغسل للعلم بتحقق الجنابة بذلك، وكثير من الأصحاب عبروا في هذا المقام
بأن واجد المني على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل، ومن الظاهر بعده عن مورد الأخبار
المتعلقة بهذه المسألة:
ومنها - موثقة سماعة (1) قال: " سألته عن الرجل يرى في ثوبه المني بعد
ما يصبح ولم يكن رأى في منامه أنه قد احتلم. قال: فليغتسل وليغسل ثوبه ويعيد صلاته "
وموثقته الأخرى (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل ينام
ولم ير في نومه أنه احتلم فيجد في ثوبه أو على فخذه الماء هل عليه غسل؟ قال: نعم "
وأما ما رواه أبو بصير (3) قال " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
يصيب في ثوبه منيا ولم يعلم أن احتلم. قال ليغسل ما وجد بثوبه وليتوضأ " فحمله الشيخ
(رحمه الله) على ما إذا شاركه في الثوب غيره جمعا بين الأخبار. ولعل الأقرب في وجه
الجمع حمل موثقتي سماعة على من وجد المني بعد النوم بغير فصل مدة بحيث يحصل له العلم
أو الظن الغالب باستناد المني إليه لا إلى غيره كما يظهر من سياقهما، ورواية أبي بصير
على وجدانه في الثوب في الجملة من غير تعقبه للنوم على الوجه المتقدم.
وكيف كان فالظاهر أن مفاد الموثقتين المذكورتين لا يخرج عن مجرد الظن

(1) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب الجنابة.
22

بخروج المني منه، إذ دعوى حصول اليقين بمجرد وجوده كذلك بعيدة، وحينئذ فلا بد
من تخصيص قاعدة عدم نقض اليقين بالشك بذلك أيضا إلا أن يقيد بذلك والمفهوم من كلام
المحدث الكاشاني في الوافي اعتبار حصول اليقين بحصول حدث الجنابة بتلك العلامة،
نظرا إلى أن يقين الطهارة لا يرتفع إلا بيقين الحدث.
وبالجملة فالجمع بين الأخبار المذكورة لا ينحصر فيما ذكروه، حتى أنهم بسبب
ذلك جعلوها مسألة برأسها في البين وفرعوا عليها فروعا لا أثر لها في النصوص ولا عين
إذ من الممكن حمل الموثقتين المذكورتين على ما ذكرنا من أنه وجد المني بعد الانتباه على
وجه يحصل له العلم باستناده إليه كما يظهر من سياقهما، وحمل رواية أبي بصير على وجدانه
في الثوب في الجملة، فإنه يستصحب البقاء على يقين الطهارة لعدم حصول العلم في الصورة
المذكورة باستناده إليه. وغاية ما يمكن دعواه الظن وإن كان غالبا وهو لا يعارض
اليقين السابق، وإلى هذا يميل كلام المحدث الكاشاني في الجمع بين الأخبار المذكورة
ولا ريب أنه أقرب مما ذكروه، إذ لا قرينة في خبر تؤنس بالمشاركة في ذلك الثوب
بل المتبادر من إضافته إلى الضمير الاختصاص بصاحبه، والأصحاب (رضي الله عنهم) -
بناء على ما صوروه من هذه المسألة التي طرحوها وجعلوها مقرا للبحث - عبروا بأن واجد
المني على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل، ومن الظاهر بعده عن ظاهر الموثقتين
المذكورتين. إذ الظاهر منهما - كما عرفت - هو رؤية المني على وجه يوجب اليقين
باستناده إليه لا مجرد وجوده، فإنه لا يوجب ذلك، ومن الممكن احتماله لدفع سورة الاستبعاد
أنه يجوز أن يكون احتلم في الثوب واغتسل ولم يعلم بالمني ثم رآه بعد يومين أو ثلاثة
مثلا، فمجرد وجوده لا يوجب الحكم عليه بالجنابة مع أن يقين الطهارة لا يخرج عنه
إلا بيقين النجاسة، وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه
ولا من بين يديه.
فوائد: (الأولى) - لو كان الثوب الذي رأى فيه المني مشتركا بينه وبين
23

غيره - أما بأن يكونا معا مجتمعين فيه دفعة كالكساء الذي يفترش أو يلتحف به،
أو كان بينهما على سبيل النوبة - فأكثر الأصحاب على أنه لا يجب الغسل عملا باستصحاب
يقين الطهارة وعدم الخروج عنها إلا بيقين النجاسة. وفي حكمه المختص أيضا إذا احتمل
كون المني الموجود عليه من غيره كما حملنا عليه رواية أبي بصير، وظاهر جمع: منهم -
ثاني المحققين وثاني الشهيدين تخصيص الاشتراك الموجب لسقوط الغسل بما كان على سبيل
المعية، أما المتناوب بينهما فأوجبوا الغسل فيه على صاحب النوبة وإن احتمل جواز التقدم
كما صرح به في الروض وإليه يميل كلام الدروس أيضا، ولهذا فسر شيخنا الشهيد الثاني
(نور الله مرقده) في الروض الثوب المختص الذي يوجب رؤية الجنابة فيه الغسل بما
اختص بلبسه أو النوم عليه حين الوجدان وإن كان يلبسه أو ينام عليه هو وغيره
تناوبا. وفيه أن المسألة لما كان خالية من النص فالواجب فيها الوقوف على مقتضى
القواعد المقررة التي من جملتها عدم جواز نقض اليقين بالشك كما هو المتفق عليه نصا
وفتوى، فالحكم بالوجوب على صاحب النوبة مطلقا وإن احتمل جواز التقدم مدفوع
بعدم جواز الخروج عن يقين الطهارة إلا بالعلم يكون المني من واجده، نعم لو علم
ذو النوبة أنه منه بوجه من الوجوه وجب الغسل عليه إلا أنه لا من حيث كونه صاحب
النوبة، وكذا لو علم السبق سقط عنه قطعا ولم يجب على الأول إلا مع التحقق أيضا
وبالجملة فالمعتبر في الخروج عن يقين الطهارة اليقين بكون المني من واجده وإلا لم يجب
عليه شئ.
(الثانية) - الأشهر الأظهر أنه لا يحكم على هذا الواجد المحكوم عليه بوجوب
الغسل بإعادة شئ من الصلوات إلا ما جزم بتأخره عن الجنابة، وهي المتعقبة لآخر نومة
وجد عقيبها المني المذكور، عملا بأصالة عدم التقدم، واستصحابا للطهارة المتيقنة إلى أن
يتيقن الحدث، وحينئذ يحكم عليه بكونه محدثا ويجب عليه قضاء ما يتوقف على الطهارة
من ذلك الوقت إلى أن تحصل منه طهارة رافعة. خلافا للشيخ (رحمه الله) في المبسوط
24

حيث حكم - كما نقل عنه - بوجوب قضاء كل صلاة صلاها بعد آخر غسل رافع، ولعله
أخذ بالاحتياط كما حملة عليه جملة من الأصحاب. إلا أن فيه (أولا) - أن الاحتياط
هنا ليس بدليل للوجوب. و (ثانيا) - أنه لا احتياط في إعادة ما وقع من الصلوات
بعد آخر الأغسال الرافعة وقبل النوم. و (ثالثا) - أن مقتضى الاحتياط أن يعيد
ما صلاه قبل آخر الأغسال أيضا متى احتمل أن يكون خروج المني سابقا عليه، وحينئذ
فمتى أريد سلوك جادة الاحتياط فالطريق إليها أن يعيد كل صلاة لا يعلم سبقها على المني
ولم يفصل بينها وبينه على تقدير سبقه غسل رافع. هذا بالنسبة إلى الحدث.
وأما بالنسبة إلى الخبث فتبنى الإعادة منه على ما سيأتي إن شاء الله في محله من الخلاف
في وجوب إعادة المصلي في النجاسة جاهلا، فعلى القول بالوجوب يمكن أن يستند وجوب
الإعادة هنا على تقديره إلى كل من الحدث والخبث، وإلى الحدث خاصة كما لو حصل
إزالة النجاسة ولو اتفاقا، وإلى الخبث خاصة كما لو اتفق الغسل الرافع في البين. ونقل
عن الشيخ في المبسوط هنا أنه يستحب أن يعيد كل صلاة صلاها من أول نومة نامها
في ذلك الثوب. ويجب أن يعيد ما صلاه من آخر نومة نامها فيه. ثم قوى عدم وجوب إعادة
شئ من الصلوات إلا ما لم يخرج وقتها. والظاهر أن تقويته عدم إعادة ما خرج وقته
بناء على عدم وجوب الإعادة على جاهل النجاسة بعد خروج الوقت كما هو المنقول عنه
في المبسوط في المسألة المشار إليها، وبذلك يظهر ما في كلام السيد السند في المدارك
في هذا الموضع من الغفلة إن ثبت ما نقل عن المبسوط في الموضعين المتقدمين فإن
الكتاب لا يحضرني الآن لا حقق ذلك منه، حيث قال السيد (قدس سره) في الكتاب
المذكور حاكيا خلاف الشيخ في المبسوط ما لفظه: " وذهب الشيخ في المبسوط أولا
إلى إعادة كل صلاة لا يعلم سبقها على الحدث ثم قوى ما اخترناه وقوته ظاهرة " انتهى.
وأشار بما اختاره إلى ما ذكره أولا من أنه إنما يحكم على واجد المني بالجنابة من آخر
أوقات إمكانها.
25

(الثالثة) - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكم المشتركين
في الثوب الموجود عليه المني مع عدم تيقن اختصاصه بأحدهما بعد الاتفاق على سقوط
أحكام الجنب عن كل منهما في حد ذاته من وجوب الغسل وتحريم قراءة العزائم ونحوهما
من الأحكام الآتية، فيجوز لهما معا دخول المسجد دفعة وقراءة العزائم كذلك، وإنما
تظهر فائدة الخلاف هنا في انعقاد الجمعة بهما وائتمام أحدهما بصاحبه، فقيل بالقطع
بوجود جنب فلا يصح انعقاد الجمعة بهما لأن أحدهما جنب البتة، ولا تصح صلاة المأموم
منهما لأنه نفسه أو إمامه جنب، وإليه ذهب المحقق في المعتبر والشهيد في الدروس
وثاني المحققين وثاني الشهيدين، ورجحه بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين
وقيل بسقوط هذه الجنابة عن الجميع في نظر الشارع، ومال إليه العلامة في جملة من كتبه،
واختاره السيد السند في المدارك وغيرهما.
حجة الأول القطع بجنابة أحدهما البتة، وسقوط بعض أحكام الجنب إنما كان لتعذر
العلم بالجنب المستلزم للمحذور وهو منتف في موضع النزاع.
وأجيب بأنه إن أريد القطع بخروج المني من أحدهما فمسلم لكن خروج المني من واحد
لا بعينه لا يوجب حكما، وإن أريد القطع بكون أحدهما لا بعينه جنبا لا تصح منه الأفعال
التي لا تصح من الجنب ويتعلق به أحكامه فظاهر الفساد، لأن عدم صحة أفعال واحد
منهما لا بعينه وتعلق أحكام الجنب به مع أن كل واحد بعينه أفعاله صحيحة فلا يتعلق
به حكم الجنب مما لا معنى له، وبالجملة القدر المسلم في اشتراط انعقاد الجمعة أن تكون
صلاة كل من العدد صحيحة في الواقع وههنا كذلك، وأما ما وراء ذلك فلا، وكذا
يلزم في صحة صلاة المأموم عدم علمه بفساد صلاة الإمام وقد تحقق هنا، ومن يدعي
زيادة على ذلك فعليه البيان.
حجة القول الآخر - زيادة على ما علم من الجواب المذكور - التمسك بيقين الطهارة
ولم يعارضه إلا الشك في الحدث وكل منهما متيقن الطهارة شاك في الحدث.
26

أقول: والمسألة لخلوها من نصوص أهل الخصوص لا تخلو من الاشكال وإن
كان القول الثاني أوفق بالقواعد الشرعية وأدخل في تلك الضوابط المرعية.
(أما أولا) - فلما ذكر من التمسك بأصالة يقين الطهارة التي هي أقوى متمسك
و (أما ثانيا) - فلأن المفهوم من النصوص أن الشارع لم يجعل الواقع مناطا
لشئ من الأحكام وإنما بناها على ما يظهر للمكلف، ويعضده أن الذي دلت عليه
نصوص هذا الباب هو أن الشارع قد ناط حكم الجنابة بالنسبة إلى خروج المني، أما بالعلم
بخروجه كما تضمنته النصوص المستفيضة، أو بوجوده على بدن الجنب أو ثوبه المختص
به كما تقدم في موثقتي سماعة، وما عدا ذلك فلم يدل عليه دليل، ولا يخفى على من
تتبع مظان الأحكام أنه كثيرا ما يغلب على الظن بالقرائن الحالية أحد الأحكام الشرعية
من نجاسة وحرمة ونحوهما، والشارع بمجرد معارضة احتمال ينافي ذلك وإن بعد
لا يلتفت إلى ما غلب على الظن وترجح عنده كما في موثقة عمار الواردة في الفأرة
المتفسخة (1) ونحوها.
و (أما ثالثا) - فلأن القول بثبوت الجنابة على واحد لا بعينه - مع اتفاقهم
على صحة أفعال كل واحد منهما وسقوط أحكام الجنب عنه وأن مظهر الخلاف إنما هو في
الصورتين المذكورتين - لا يخلو من تدافع.
إلا أن الحكم بعد لا يخلو عندي من شوب الاشكال، نظرا إلى أن المفهوم من
النصوص في غير موضع من الأحكام - كما تقدم بسط الكلام عليه في مسألة الإناءين -
أن الشارع قد أعطى المشتبه بالنجس حكم النجس والمشتبه بالحرام حكم الحرام في الأفراد
المحصورة، ولم يلتفت إلى أصالة الحلية والطهارة في تلك المواضع، كما في مسألة الإناءين
واللحم المختلط ذكيه بميته، والصلاة في كل من الثوبين المتيقن نجاسة أحدهما لا بعينه،
ووجوب تطهير الثوب الذي أصاب بعض أجزائه النجاسة مع اشتباه موضع الإصابة بباقي

(1) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الماء المطلق.
27

الثوب، إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع، فإن النصوص في جميع هذه
المواضع قد أعطت المتيقن الطهارة والحلية حكم المشتبه به، وربما ظهر من ذلك تخصيص
أخبار التمسك بيقين الطهارة والحلية بغير مورد هذه الأخبار وهو الأشياء المعلومة
بشخصها ويكون ذلك هو وجه الجمع بين أخبار الطرفين. وكيف كان فالوقوف على ساحل
الاحتياط - بالغسل لكل منهما واجتناب ما يجتنبه الجنب قبله - سبيل السلامة والنجاة،
عجل الله تعالى الفرج والظهور لمن به تحل مشكلات الأمور.
وجملة من أصحابنا بناء على اتفاقهم على سقوط وجوب الغسل في المسألة صرحوا
باستحبابه، والظاهر أن منشأه الاحتياط لعدم دليل له على الخصوص.
(المسألة الخامسة) - لو خرج منه بلل بعد الغسل فلا يخلو إما أن يعلم أنه مني
أو بول أو يعلم أنه غيرهما أو لا يعلم شيئا من ذلك، ولا خلاف ولا اشكال أنه في الصورة
الأولى يكون موجبا للغسل وفي الثانية للوضوء وفي الثالثة لا يوجب شيئا، وأما الصورة
الرابعة فلا يخلو إما أن يكون قد بال قبل الغسل واجتهد أو لم يأت بشئ منهما أو أتى بأحدهما
إما البول أو الاجتهاد، ثم إنه مع الاتيان بالاجتهاد خاصة فإما أن يكون مع إمكان البول
أو مع عدم إمكانه، فههنا صور خمس:
(الأولى) - أن يغتسل ثم يجد بللا مشتبها وقد بال واجتهد، والظاهر أنه
لا خلاف في عدم وجوب شئ عليه من غسل أو وضوء، ومما يدل على ذلك عمومات
الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك (1) وخصوصا، أما بالنسبة إلى سقوط الغسل
فالأخبار الدالة على أنه بالبول قبل الغسل يسقط عنه الغسل، كقول الصادق (عليه السلام)
في حسنة الحلبي (2): " إن كان بال قبل أن يغتسل فلا يعيد الغسل " وقوله (عليه
السلام) في صحيحة محمد (3) وهو ابن مسلم: "... إلا أن يكون بال قبل أن يغتسل فإنه

(1) تقدم بعضها في الجزء الأول ص 142.
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
28

لا يعيد غسله " ومثلهما أخبار كثيرة طوينا نشرها للاتفاق على الحكم المذكور فتوى
ورواية، وأما بالنسبة إلى سقوط الوضوء فللأخبار الدالة على أنه بالاجتهاد لا ينتقض
بما يخرج كذلك، كقول الصادق (عليه السلام) في صحيحة حفص بن البختري (1):
" ينتره ثلاثا ثم إن سال حتى يبلغ السابق فلا يبالي " وغيرها من الأخبار التي تقدمت
في مسألة الاستبراء من البول.
وأما ما رواه ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " ثلاث يخرجن
من الإحليل وهن المني فمنه الغسل، والودي فمنه الوضوء لأنه يخرج من دريرة
البول... " فمحمول على ما قبل الاستبراء جمعا لصحيحة زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " إن سال من ذكرك شئ من مذي أو ودي
فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء، إنما ذلك بمنزلة النخامة... الحديث "
وأما صحيح محمد بن عيسى (4) قال: " كتب إليه رجل هل يجب الوضوء مما
خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ قال: نعم " فحمله في التهذيبين على الاستحباب، وزاد
في الإستبصار حمله على التقية لموافقته لمذهب أكثر العامة (5).
أقول: وهو الأقرب، ويحتمل أيضا حمل ذلك على ما إذا كان الخارج بولا،
لتطرق الوهم إلى أن ما خرج بعد الاستبراء لا ينقض وإن كان بولا، ولعله (عليه
السلام) علم ذلك، فإنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا ما يجيبون على علمهم من حال
السائل وإن لم يفصح عنه السؤال.
(الثانية) - خروج البلل مع عدم البول والاستبراء، والمشهور بين الأصحاب
- بل ادعى ابن إدريس عليه الاجماع - وجوب الغسل، وظاهر الفقيه والمقنع الاكتفاء
بالوضوء في هذه الصورة.

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب نواقض الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء.
(5) راجع التعليقة (5) ج 2 ص 61.
29

ويدل على المشهور روايات: منها - موثقة سماعة (1) قال: " سألته عن الرجل
يجنب ثم يغتسل قبل أن يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل. قال يعيد الغسل... ".
وصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن
رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شئ. قال: يعيد الغسل " وفي الصحيح عن
منصور بن حازم (3) مثله.
وصحيحة محمد بن مسلم (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
يخرج من إحليله بعد ما يغتسل شئ. قال: يغتسل ويعيد الصلاة إلا أن يكون بال قبل أن
يغتسل فإنه لا يعيد غسله. قال محمد: وقال أبو جعفر (عليه السلام): من اغتسل وهو
جنب قبل أن يبول ثم وجد بللا فقد انتقض غسله، وإن كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا
فليس ينتقض غسله ولكن عليه الوضوء، لأن البول لم يدع شيئا ".
وقول الصادق (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن ميسرة (5): "... وإن لم يبل
حتى اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل ".
ويدل عليه أيضا مفهوم الشرط في جملة من الأخبار: منها - حسنة الحلي المتقدمة
لقوله: " إن كان بال قبل أن يغتسل فلا يعيد الغسل ".
(لا يقال): إن هذه الأخبار إنما تدل على خروج البلل مع عدم البول بعد الغسل
ولا تعرض فيها للاستبراء كما هو المدعى.
(لأنا نقول): تعليق الحكم فيها على عدم البول - الذي هو أعم من أن يكون
مع عدم الاستبراء كما هو موضوع هذه الصورة، أو معه مع إمكان البول أو عدمه كما هو
موضوع الصورة الآتية - كاف في الاستدلال، وحينئذ فالاستدلال بها من حيث الاطلاق.
إلا أنه قد ورد بإزاء هذه الأخبار ما يدل على عدم الوجوب في الصورة المذكورة

(1) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب الجنابة
(4) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(5) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
30

ومنه - رواية جميل (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل تصيبه
الجنابة فينسى أن يبول حتى يغتسل ثم يرى بعد الغسل شيئا أيغتسل أيضا؟ قال: لا قد
تعصرت ونزل من الحبائل ".
ورواية أحمد بن هلال (2) قال: " سألته عن رجل اغتسل قبل أن يبول.
فكتب: أن الغسل بعد البول إلا أن يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل ".
ورواية عبد الله بن هلال (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
يجامع أهله ثم يغتسل قبل أن يبول ثم يخرج منه شئ بعد الغسل. فقال: لا شئ عليه إن
ذلك مما وضعه الله عنه ".
ورواية زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن رجل
أجنب ثم اغتسل قبل أن يبول ثم رأى شيئا. قال لا يعيد الغسل، ليس ذلك الذي
رأى شيئا ".
ومما يعارضها أيضا الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك
والشيخ جمع في بعضها بالحمل على ترك البول ناسيا وفي بعض بالحمل على من اجتهد
قبل الغسل ولم يتأت له البول، وأورد على الحمل الأول دليلا مضمرة أحمد بن هلال
المذكورة ولم يورد للحمل الآخر مستندا.
ولا يخفى ما فيه من البعد، أما الحمل على النسيان فلأن النسيان وإن وقع في رواية
جميل إلا أنه (أولا) - في كلام الراوي فلا يصلح للتقييد، مع ضعف سند الرواية باشتماله
على علي بن السندي وهو مهمل في كتب الرجال، بل ظاهر التعليل في الرواية بقوله:
" تعصرت ونزل من الحبائل " الدلالة على عدم الفرق بين حالتي النسيان والعمد.
و (ثانيا) - إن الخارج مع عدم البول متى حكم بكونه منيا فكيف يعذر الناسي فيه،
إذ الأسباب لا يفرق فيها بين الناسي والعامد. وأما الحمل على من اجتهد ولم يتمكن من

(1) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
31

البول ففيه - مع عدم الدليل عليه في الأخبار - أن عدم القدرة على البول لا يخرج الخارج
عن كونه منيا ليسقط وجوب الغسل، فإن مقتضى العلة المستنبطة من جملة من الأخبار
بل المنصوصة في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة عن الباقر (عليه السلام) حيث قال في
آخرها: " لأن البول لم يدع شيئا " أن مع عدم البول وإن تعذر لا يقطع بزوال المني
ونظافة المخرج منه.
وأما الجمع بين الأخبار - بالحمل على الاستحباب كما صار إليه جملة من متأخري
المتأخرين -
ففيه (أولا) - أنه وإن اشتهر بينهم البناء على هذه القاعدة في الجمع بين
الأخبار بحمل ما يدل على الوجوب على الاستحباب وما يدل على التحريم على الكراهة
إلا أنه لم يرد بها أثر من الآثار، والقواعد المقررة عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم)
في اختلاف الأخبار خالية عنها.
و (ثانيا) - أنه لا ريب أن الحمل على ذلك مجاز لا يصار إليه إلا مع القرينة،
ووجود المعارض ليس قرينة، لجواز خروجه مخرج التقية (1) أو احتماله لمعنى آخر.
وبالجملة فالتحقيق أن الأخبار المذكورة صريحة المنافاة في الحكم المذكور، وطريق
الجمع بينها وبين ما تقدمها بعيد، فالواجب النظر في الطرق المرجحة للحمل على أحد
الطرفين ورمى الطرف الآخر من البين، ولا ريب أنها مع أخبار الإعادة لصحتها سندا
وكثرتها وصراحتها دلالة وتعددها منطوقا ومفهوما، واعتضادها بعمل الطائفة قديما
وحديثا، وموافقتها للاحتياط في الدين، وضعف ما يعارضها، فأما رواية جميل فيما

(1) في المغني ج 1 ص 301 " إذا احتلم أو جامع فأمنى ثم اغتسل ثم خرج منه مني
فالمشهور عن أحمد لا غسل عليه بال أو لم يبل، وفي رواية ثانيه عنه إن خرج بعد البول فلا
غسل عليه وإن خرج قبله اغتسل وبه قال أبو حنيفة، وفي رواية ثالثة عليه الغسل بكل
حال وهو مذهب الشافعي ".
32

عرفت من اشتمال سندها على علي بن السندي، وأما رواية أحمد بن هلال فبضعف
الراوي المذكور حتى ورد فيه أنه كان غاليا متهما في دينه، وورد فيه ذموم عن سيدنا
أبي محمد العسكري (عليه السلام) مضافا إلى إضماره، مع أنه لا دلالة فيه على موضع
البحث بوجه، لعدم اشتماله على خروج شئ بعد الغسل، وأما رواية عبد الله بن هلال
فبعدم ذكره في كتب الرجال بمدح أو قدح، وأما رواية الشحام فباشتمالها على أبي جميلة
المفضل بن صالح، وقد رمي بالكذب ووضع الحديث كما ذكره العلامة في الخلاصة. هذا.
والأقرب عندي خروج الأخبار المشار إليها مخرج التقية، إذ هي السبب التام في اختلاف
أخبارهم (عليهم السلام) وإن لم يعرف بذلك قائل من العامة كما تقدم تحقيقه في المقدمة
الأولى. وأما المعارضة بأخبار عدم نقض اليقين بالشك فلا ورود لها، إذ هو عام مخصوص
كما تقدم تخصيصه غير مرة.
وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا المحقق صاحب الكتاب رياض المسائل وحياض
الدلائل في الكتاب المذكور من التوقف في الحكم لتعارض الأخبار في المسألة وجبر
ضعف الأخبار الأخيرة بالاعتضاد بالأصل وبأخبار عدم نقض اليقين بالشك. وفيه - زيادة
على ما عرفت - أن الترجيح بالأصل لا يعرف له أصل وإلا لذكر في جملة المرجحات
المنصوصة عن أهل الذكر (سلام الله عليهم).
وأما ما ذهب إليه الصدوق قدس سره - من الاكتفاء هنا بالوضوء، حيث قال
في الفقيه (1) - بعد نقل صحيحة الحلبي الآتية المتقدم عجزها في أدلة وجوب الإعادة -
ما لفظه: " وروي في حديث آخر " إن كان قد رأى بللا ولم يكن بال فليتوضأ ولا
يغتسل إنما ذلك من الحبائل " قال مصنف هذا الكتاب رحمة الله عليه: إعادة الغسل أصل
والخبر الثاني رخصة " ونحوه في المقنع، وإليه يميل ظاهر المحدث الكاشاني (طاب ثراه) في
الوافي، حيث قال بعد نقل كلام الفقيه: " أقول وبه يجمع بين الأخبار المتقدمة والآتية " -.

(1) ج 1 ص 47 وفي الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة
33

ففيه أن الخبر المذكور مع صحته وثبوته لا يعارض الأخبار المتقدمة لما ذكرنا
آنفا وإن كان فتواه به لا يخلو من تأييد له، إلا أن الخبر المذكور لا يخلو من اشكال،
لأن الحكم فيه بالوضوء مع قوله في آخره: " إنما ذلك من الحبائل " لا يخلو من تدافع،
إذ ما يخرج من الحبائل لا يوجب وضوء، ولم أر من تنبه لذلك من أصحابنا (رضوان
الله عليهم) ولو حمل الوضوء في الخبر المذكور على مجرد الغسل لذلك البلل لما ذكرنا لكان
وجها، وبه يخرج عن صلاحية الاستدلال.
وبالجملة فقوة القول المشهور مما ينبغي أن يرتاب فيها بوجه، لكن شيخنا الشهيد
في الذكرى نقل عجز صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر هذه الصورة هكذا: " قال محمد
قال أبو جعفر (عليه السلام): من اغتسل وهو جنب قبل أن يبول ثم وجد بللا فليس
ينقض غسله ولكن عليه الوضوء " ونزل رواية الفقيه التي استند إليها في الرخصة على هذه
حيث قال: " ورواه الصدوق بعد رواية إعادة الغسل مع ترك البول " انتهى.
وأنت خبير بأن ما نقله لم نقف عليه في شئ من كتب الأخبار بل ولا كتب
الاستدلال، بل الموجود في التهذيب والاستبصار وكذا في المنتهى هو ما قدمناه. والذي
يخطر بالبال هو وقوع السهو في النقل أو الغلط في المنقول عنه بترك ما بين " بللا " الأول
إلى " بللا " الثاني. والله أعلم.
(الثالثة) - خروج البلل بعد البول بدون الاجتهاد، والمعروف من مذهب
أكثر الأصحاب وجوب الوضوء خاصة، ويدل عليه مفهوم الأخبار الدالة على أنه " بعد
الاستبراء إن سال حتى يبلغ السابق فلا يبالي " كما في صحيحة حفص، و " إن خرج
بعد ذلك شئ فليس من البول ولكنه من الحبائل " كما في حسنة محمد بن مسلم، وقد
تقدمتا في مسألة الاستبراء من البول (1) وخصوص منطوق صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة
في صدر الصورة الثانية. وموثقة سماعة (2) قال: " سألته عن الرجل يجنب ثم يغتسل قبل

(1) ج 2 ص 54
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
34

أن يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل. قال: يعيد الغسل، وإن كان بال قبل أن يغتسل
فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجي " ورواية ابن ميسرة (1) قال: " سمعت أبا عبد الله
(عليه السلام) يقول في رجل رأى بعد الغسل شيئا قال: إن كان بال بعد جماعه قبل
الغسل فليتوضأ وإن لم يبل حتى اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل ".
واطلاق هذه الروايات وإن شمل وجوب الوضوء مع الاستبراء بعد البول حيث
رتب الوضوء فيها على البول خاصة أعم من أن يكون معه استبراء أم لا. إلا أن تصريح
صحيحة حفص وحسنة محمد بن مسلم المشار إليهما آنفا - بنفي كون الخارج بعد الاستبراء
من البول بولا وإن بلغ الساق، مضافا إلى عدم القائل بالوضوء مع الاجتهاد - يوجب
تقييد اطلاق الأخبار المذكورة، وبالجملة فالصورة المفروضة ترجع إلى ما قدمنا في مسألة
الاستبراء من البول، إذ هي فرد من أفرادها وعدد من أعدادها، والظاهر أنه لا مدخل
لخصوصية الجنابة في المقام، ولا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الوضوء
في الحال المذكورة استنادا إلى المفهوم المتقدم ذكره. وأما ما عارضه من صحيحتي ابن
أبي يعفور وحريز فقد تقدم الجواب عنه ثمة (2).
إلا أنه ربما ظهر من كلام الشيخين (قدس سرهما) في المقنعة والتهذيب
والاستبصار عدم وجوب الوضوء في الصورة المذكورة، قال في المقنعة: " وإذا وجد
المغتسل من الجنابة بللا على رأس إحليله أو أحس بخروج شئ منه بعد اغتساله، فإنه إن
كان قد استبرأ بما ذكرناه قبل هذا من البول أو الاجتهاد فليس عليه وضوء ولا إعادة
غسل، لأن ذلك ربما كان وذيا أو مذيا وليس ينتقض من هذين، وإن لم يكن استبرأ
بما ذكرناه أعاد الغسل " وأشار بقوله: " بما ذكرناه " إلى ما قدمه قبيل هذا الكلام
حيث قال: " وإذا عزم الجنب على التطهير بالغسل فليستبرئ بالبول ليخرج ما بقي من
المني في مجاريه، فإن لم يتيسر له ذلك فليجتهد في الاستبراء: بمسح تحت الأنثيين

(1) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة
(2) ج 2 ص 59
35

إلى أصل القضيب إلى آخره " والمفهوم من هذا الكلام أنه بعد خروج البلل المشتبه بعد
الغسل إن كان قد استبرأ إما بالبول مع إمكانه أو بالاجتهاد خاصة مع عدم إمكانه فلا
وضوء عليه ولا غسل، وهو ظاهر في نفي الوضوء مع البول الخالي من الاجتهاد.
وأما الشيخ في التهذيب فإنه بعد أن أورد صحيحة محمد بن مسلم ورواية معاوية
ابن ميسرة قال: " فما تضمن هذان الحديثان من ذكر إعادة الوضوء فإنما هو على طريقة
الاستحباب، لأنه إذا صح بما قدمنا ذكره أن الغسل من الجنابة مجزئ عن الوضوء ولم
يحدث هنا ما ينقض الوضوء فينبغي أن لا تجب عليه الطهارة ولا تعلق على ذمته الطهارة
إلا بدليل قاطع، وليس ههنا دليل يقطع العذر، ويحتمل أيضا أن يكون ما خرج منه
بعد الغسل كان بولا فيجب عليه حينئذ الوضوء وإن لم يجب الغسل حسبما تضمنه الخبر "
ونحوه قال في الإستبصار (1) وظاهر هذا الكلام بل صريحه أن البلل المشتبه بعد البول
بدون الاستبراء لا يوجب إعادة الوضوء مطلقا.
ولا يخفى ما فيه (أما أولا) - فلما قدمنا في مسألة الاستبراء من البول من دلالة
مفهوم تلك الأخبار على ذلك، مع أنه نقل الروايات المذكورة في باب وجوب الاستبراء
من البول في أحكام الوضوء من الإستبصار ثم ذكر بعدها في المنافي رواية محمد بن عيسى
الدالة على إعادة الوضوء بعد الاستبراء وحملها على الاستحباب، وكيف يتم الحمل على
الاستحباب بعد الاستبراء مع عدم الوجوب قبله، مع أنه أفتى في المبسوط بما يوافق
الجماعة من انتقاض الوضوء بالبلل المشتبه إذا لم يستبرئ. وما استند إليه من أجزاء غسل

(1) فإنه قال بعد نقل خبر سماعة ومحمد بن مسلم ما لفظه: " وما يتضمن من خبر سماعة ومحمد
ابن مسلم من ذكر إعادة الوضوء محمول على الاستحباب، ويجوز أن يكون المراد بما خرج بعد
البول والغسل ما ينقض الوضوء فحينئذ يجب عليه الوضوء، ولأجل ذلك قال (عليه السلام) " عليه
الوضوء والاستنجاء، في حديث سماعة. وذلك لا يكون إلا فيما ينقض الوضوء " انتهى.
منه (قدس سره)
36

الجنابة عن الوضوء مسلم بالنسبة إلى ما قبل الغسل، فإن كل ما يتجدد من الأحداث يندرج
تحت الجناية، أما بعد الغسل فلا. ومنعه من ايجاب البلل المشتبه الوضوء ممنوع، لدلالة
مفاهيم تلك الأخبار مع مناطيق هذه على ذلك معتضدا بالبلل المشتبه الخارج بعد الغسل
مع عدم البول الموجب للغسل.
و (أما ثانيا) - فلبعد ما ذكره من التأويل بمعنييه، أما الحمل على الاستحباب
فمردود بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى من استفاضة الأخبار بعدم مشروعية الوضوء
مع غسل الجنابة، وأما الحمل على كون الخارج بولا ففيه أنه لو كان كذلك فكيف يتجه
التفصيل في تلك الأخبار بأنه إن كان قبل البول فيجب إعادة الغسل به أو بعده فلا يجب
إعادة الغسل بل الوضوء، إذا البول لا يوجب الغسل سواء بال قبل الغسل أو لم يبل.
وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض المسائل وحياض
الدلائل في الكتاب المذكور، حيث جمد على كلام الشيخين بعد نقله، وأثبت الخلاف
في المسألة بظاهر كلاميهما، وقوى القول بعدم الوضوء بخروج البلل المشتبه في شئ من
الأحوال، وأوجب حمل ما دل على الإعادة مطلقا أو في بعض الأحوال منطوقا أو مفهوما
على الاستحباب أو التقية أو على تخصيص الخارج بالناقض.
(الرابعة) - خروج البلل المذكور بعد الاجتهاد خاصة بدون البول مع إمكانه
والظاهر من كلام الأكثر وجوب الغسل، وربما ظهر من عبارتي الشرائع والنافع هنا العدم
وهو ضعيف، وعموم الأخبار - الدالة على ايجاب الغسل مع عدم البول كما تقدم في الصورة
الثانية - يدفعه.
(الخامسة) - الصورة المذكورة مع عدم إمكان البول، وظاهر الأكثر
- ومنهم الشيخان فيما تقدم من كلاميهما في الصورة الثالثة - عدم وجوب شئ هنا من
غسل أو وضوء، وتوقف في النهاية والمنتهى.
احتجوا على ذلك بالأخبار المتقدمة في الصورة الثانية الدالة على عدم الغسل مع
37

عدم البول بحملها على عدم إمكانه. وقد عرفت ما في هذا الحمل آنفا.
واحتج المحقق الثاني في شرح القواعد أيضا على ذلك بأصالة البراءة لعدم العلم
بكون الخارج منيا، قال: " وايجاب الإعادة فيما تقدم الدليل لا يقتضي الوجوب هنا ".
ولا يخفى عليك ما فيه من الوهن، فإن أصالة البراءة يجب الخروج عنها بعموم
الأخبار المتقدمة الموجبة للإعادة مع عدم البول مطلقا، وبه يظهر ما في باقي كلامه.
واستند الشهيدان (قدس سرهما) في الذكرى والروض إلى قوله (عليه السلام)
في رواية جميل المتقدمة في الصورة الثانية: " قد تعصرت ونزل من الحبائل ".
وفيه (أولا) - أن ذلك فرع الحمل على التعذر كما هو المدعى، وليس في الخبر
المذكور ولا في غيره من الأخبار قرينة تؤنس به فضلا عن الدلالة عليه. و (ثانيا) - أن
مورد الخبر حال النسيان والمدعى أعم من ذلك فلا يقوم حجة. و (ثالثا) - أن التعليل
المذكور لا يخلو من الاشكال، إذ حملهم له على أن المراد أنه مع ترك البول نسيانا اجتهد
واستبرأ لا يساعده لفظ الرواية وغيره غير ظاهر في البين.
وبالجملة فالأظهر والأحوط هو القول بوجوب الإعادة عملا بعموم تلك الأخبار،
وإليه مال جملة من فضلاء متأخري المتأخرين.
فرع
المعروف من مذهب الأكثر عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة بعد الغسل
وقبل خروج ذلك البلل الموجب له أو للوضوء، لأنه حدث جديد والصلاة الواقعة قبله
مستكملة لشرائط الصحة. وتخيل فساد الغسل ببقاء المني في مخرجه واحتباسه في الطريق
باطل، لأن موجب الجنابة خروجه من الفرج لا بروزه من مقره الأصلي وإن
احتبس في المجرى.
ونقل عن بعض الأصحاب الميل إلى بطلان الصلاة المذكورة، وهو باطل بما
38

ذكرنا. وربما استدل له بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر الصورة الثانية، والظاهر
حملها على من صلى بعد وجدان البلل وعدم الغسل منه، ورجح بعض حملها على الاستحباب
وهو بعيد إلا أنه أحوط. وربما احتج على ذلك أيضا بمرسلة أحمد بن هلال المتقدمة
لدلالتها على أن الغسل قبل البول لا اعتداد به. وفيه مع ضعفها التقييد بحال العمد.
تذنيب
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل كاد يكون اجماعا أنه يجب الغسل
على الكافر لأن الكفار مكلفون بالفروع، ولم ينقلوا في المسألة خلافا عن أحد من
الخاصة بل من العامة إلا عن أبي حنيفة، قالوا: لكن لا يصح منه حال كفره لاشتراط
الصحة بالاسلام ولا يجبه الاسلام وإن جب الصلاة لخروجها بدليل خاص.
وما ذكروه (نور الله مراقدهم وأعلى في الفردوس مقاعدهم) منظور فيه
عندي من وجوه:
(الأول) - عدم الدليل على التكليف المذكور وهو دليل العدم كما هو مسلم
بينهم، وما استدلوا به مما سيأتي ذكره مدخول بما سنذكره.
(الثاني) - الأخبار الدالة على توقف التكليف على الاقرار والتصديق
بالشهادتين. ومنها - ما رواة ثقة الاسلام في الكافي (1) في الصحيح عن زرارة قال:
" قلت لأبي جعفر (عليه السلام) أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟
فقال: إن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى الناس أجمعين رسولا وحجة لله
على خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتبعه وصدقه فإن معرفة الإمام منا
واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما فكيف يجب
عليه معرفة الإمام وهولا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما... الحديث " وهو - كما ترى -

(1) الأصول ج 1 ص 180.
39

صريح الدلالة على خلاف ما ذكروه، فإنه متى لم تجب معرفة الإمام قبل الايمان بالله
ورسوله فبطريق الأولى معرفة سائر الفروع التي هي متلقاة من الإمام (عليه السلام)
والحديث صحيح السند باصطلاحهم صريح الدلالة، فلا وجه لرده وطرحه والعمل بخلافه
إلا مع الغفلة عن الوقوف عليه.
وإلى العمل بالخبر المذكور ذهب المحدث الكاشاني (قدس سره) حيث قال في
كتاب الوافي بعد نقله ما صورته: " وفي هذا الحديث دلالة على أن الكفار ليسوا
مكلفين بشرائع الاسلام كما هو الحق خلافا لما اشتهر بين متأخري أصحابنا " انتهى.
ويظهر ذلك أيضا من المحدث الأمين الاسترآبادي (عطر الله مرقده) في كتاب
الفوائد المدنية، حيث صرح فيه بأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون تعلق التكاليف
بالناس على التدريج، بأن يكلفوا أولا بالاقرار بالشهادتين ثم بعد صدور الاقرار عنهم
يكلفون بسائر ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ومن الأحاديث الدالة على
ذلك صحيحة زرارة المذكورة في الكافي، ثم ساق الرواية بتمامها، وقال أيضا - بعد نقل
جملة من أخبار الميثاق المأخوذ على العباد في عالم الذر بالتوحيد والإمامة ونقل جملة من
الأخبار الدالة على فطرة الناس على التوحيد وأن المعرفة من صنع الله - ما لفظه: " أقول:
هنا فوائد. إلى أن قال: الثالثة - إنه يستفاد منها أن ما زعمه الأشاعرة - من أن مجرد
تصور الخطاب - من غير سبق معرفة الهامية بخالق العالم وبأن له رضى وسخطا وأنه لا بد
من معلم من جهته ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم - كاف في تعلق التكليف بهم -
ليس بصحيح " انتهى.
ومنها - ما رواه الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب
الاحتجاج (1) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الزنديق الذي جاء إليه
مستدلا بآي من القرآن قد اشتبهت عليه، حيث قال (عليه السلام): " فكان أول

(1) ص 128 طبعة سنة 1302
40

ما قيدهم به الاقرار بالوحدانية والربوبية والشهادة أن لا إله إلا الله، فلما أقروا بذلك
تلاه بالاقرار لنبيه (صلى الله عليه وآله) بالنبوة والشهادة بالرسالة، فلما انقادوا لذلك
فرض عليهم الصلاة ثم الصوم ثم الحج... الحديث ".
ومنها - ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي (قدس سره) في تفسيره عن
الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى "... وويل للمشركين الذين لا يؤتون
الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون " (1) حيث قال (عليه السلام): " أترى أن الله
عز وجل طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به حيث يقول: " وويل
للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون " وإنما دعى الله العباد للايمان
به. فإذا آمنوا بالله ورسوله افترض عليهم الفرائض ".
قال المحدث الكاشاني في كتاب الصافي بعد نقل الحديث المذكور: " أقول:
هذا الحديث يدل على ما هو التحقيق عندي من أن الكفار غير مكلفين بالأحكام الشرعية ما داموا باقين على الكفر " انتهى.
ومما يدل على ذلك أيضا ما روي عن الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله:
"... أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم... " (2) حيث قال: " كيف يأمر
بطاعتهم ويرخص في منازعتهم؟ إنما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول ".
(الثالث) - لزوم تكليف ما لا يطاق، إذ تكليف الجاهل بما هو جاهل به
تصورا وتصديقا عين تكليف ما لا يطاق، وهو مما منعته الأدلة العقلية والنقلية. لعين
ما تقدم في المقدمة الخامسة في حكم معذورية الجاهل.
وإلى ذلك يشير كلام الفاضل الخراساني (طاب ثراه) في الذخيرة في مسألة
الصلاة مع النجاسة عامدا، حيث نقل عن بعضهم الاشكال في الحاق الجاهل بالعامد وقال

(1) سورة فصلت الآية 5 و 6.
(2) سورة النساء الآية 62.
41

بعده: " والظاهر أن التكليف متعلق بمقدمات الفعل كالنظر والسعي والتعلم، وإلا لزم
تكليف الغافل أو التكليف بما لا يطاق، والعقاب يترتب على ترك النظر، إلى أن
قال: ولا يخفى أنه يلزم على هذا أن لا يكون الكفار مخاطبين بالأحكام وإنما يكونون
مخاطبين بمقدمات الأحكام، وهذا خلاف ما قرره الأصحاب، وتحقيق هذا المقام من
المشكلات " انتهى.
أقول: لا اشكال - بحمد الله - فيما ذكره بعد ورود الأخبار بمعذورية الجاهل
حسبما مر بك مشروحا في المقدمة الخامسة، وورودها بخصوص الكافر كما نقلنا هنا،
ولكنهم (قدس سرهم) يدورون مدار الشهرة في جميع الأحكام وإن خلت عن الدليل
في المقام، سيما مع عدم الوقوف على ما يضادها من أخبار أهل الذكر (عليهم السلام).
(الرابع) - الأخبار الدالة على وجوب طلب العلم كقولهم (عليهم السلام):
" طلب العلم فريضة على كل مسلم " (1) فإن موردها المسلم دون مجرد البالغ العاقل.
(الخامس) - أنه كما لم يعلم منه (صلى الله عليه وآله) أنه أمر أحدا ممن دخل
في الاسلام بقضاء صلواته كذلك لم يعلم منه أنه أمر أحدا منهم بالغسل من الجنابة بعد
الاسلام مع أنه قلما ينفك أحد منهم من الجنابة في تلك الأزمنة المتطاولة، ولو أمر
بذلك لنقل وصار معلوما كغيره، وأما ما رواه في المنتهى عن قيس بن عاصم وأسيد
ابن حصين - مما يدل على أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالغسل لمن أراد الدخول في
الاسلام فخبر عامي (2) لا ينهض حجة.
(السادس) - اختصاص الخطاب القرآني بالذين آمنوا، وورود " يا أيها

(1) المروي في الوسائل في الباب 4 من أبواب صفات القاضي.
(2) في سنن البيهقي ج 1 ص 171 عن قيس بن عاصم أنه " أتى النبي (ص) فأسلم
فأمره أن يغتسل بماء وسدر " ورواه أبو داود في سننه ج 1 ص 98 والبغوي في مصابيح
السنة ج 1 ص 37 وفي تيسير الوصول ج 3 ص 101 " أخرجه أصحاب السنن ".
42

الناس " في بعض وهو الأقل يحمل على المؤمنين حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص
كما هو القاعدة المسلمة بينهم.
احتج العلامة (قدس سره) في المنتهي على أن الكفار مخاطبون بفروع
العبادات بوجوه:
(منها) - قوله سبحانه: "... ولله على الناس حج البيت... " (1) و " يا أيها
الناس اعبدوا ربكم... " (2).
و (منها) - أن الكفر لا يصلح للمانعية حيث إن الكافر متمكن من الاتيان
بالايمان أولا حتى يصير متمكنا من الفروع.
و (منها) - قوله تعالى: " لم نك من المصلين " (3) وقوله تعالى: " فلا صدق
ولا صلى " (4) وقوله تعالى: "... وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة..... " (5).
والجواب عن الأول بما عرفته من الأخبار الدالة على عدم التكليف إلا بعد معرفة
المكلف والمبلغ، وبما ذكر في الوجه الثالث والسادس.
وعن الثاني أنه مصادرة محضة.
وعن الثالث بعد تسليم جواز الاستدلال بظواهر الآيات القرآنية، أما الآية
الأولى فبالحمل على المخالفين المقرين بالاسلام، إذ لا تصريح فيها بالكفار، ويدل عليه
ما ورد في تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي (رضي الله عنه) من تفسيرها باتباع
الأئمة (عليهم السلام) أي لم نك من أتباع الأئمة (عليهم السلام) وهو مروي عن
الصادق (عليه السلام) وفسر (عليه السلام) المصلي في الآية بمعنى الذي يلي السابق في
الحلبة، قال فذلك الذي عنى حيث قال: " لم نك من المصلين " أي لم نك من أتباع

(1) سورة آل عمران الآية 97.
(2) سورة البقرة الآية 21.
(3) سورة المدثر الآية 44
(4) سورة القيامة الآية 31
(5) سورة فصلت الآية 5 و 6
43

السابقين، وعن الكاظم (عليه السلام) يعني أنا لم نتول وصي محمد (صلى الله عليه وآله)
والأوصياء من بعده ولم نصل عليهم. وفي هذه الأخبار وأشباهها ما يؤيد ما حققناه في
المقدمة الثالثة من عدم جواز المسارعة إلى الاستدلال بالظواهر بدون مراجعة التفسير
عنهم (عليهم السلام) وأما الآية الثانية فبجواز حمل الصلاة فيها على ما دلت عليه الأخبار
في الآية الأولى، فإن اللفظة من الألفاظ المجملة المتشابهة المحتاج في تعيين المراد منها
إلى التوقيف، فالاستدلال بها والحال كذلك مردود بتصادم الاحتمالات فيها والدخول تحت
قوله: " يتبعون ما تشابه منه... الآية " على أن ما ذكرنا من المعنى هو الموجود في تفسير
الثقة الجليل علي بن إبراهيم كما لا يخفى على مراجعه. وأما الآية الثالثة فيما عرفت في
الوجه الأول من الخبر الوارد بتفسيرها.
وقد جري بيني وبين بعض مشايخي المعاصرين من علماء بلادنا البحرين كلام
في هذه المسألة، فأظهرت له صحيح زرارة المتقدم والخبر الوارد في تفسير قوله سبحانه:
"... وويل للمشركين... " ولم يحضر ببالي في ذلك الوقت سواهما، فلم يجب عنهما بمقنع،
وهو لم يرجع عن القول المشهور متمسكا بالاجماع عليه وعدم المخالف، وعلى هذا كانت
طريقتهم (رضي الله عنهم) من الجمود على المشهورات سيما مع زخرفتها بالاجماعات.
المقصد الثاني
في الغاية والمراد بها ما لا يستباح فعله إلا بالغسل، ومنها الواجب أصالة
أو بعارض فيجب المغيا بها، ومنها ما ليس كذلك فيكون شرطا في استباحته، وهي أمور:
(الأول) - الصلاة وهي إن كانت واجبة فوجوب الغسل لها مما انعقد عليه
الاجماع فتوى ودليلا آية ورواية.
لكن الوجوب هنا محتمل لمعنيين: (أحدهما) - أن المراد وجوب الغسل بمعنى
أمر الشارع به أمرا حتميا يترتب على مخالفته الإثم للصلاة، وهذا إنما يتم بقوله:
44

" اغتسل للصلاة " ونحوه مما يؤدي هذا المعنى.
و (ثانيهما) - أن المراد شرطيته لها بمعنى أنها لا تصح بدونه.
وغاية ما يستفاد من الأدلة آية ورواية هو الثاني، وهذا هو القدر الثابت
بالضرورة من الدين.
أما الآية وهي قوله سبحانه: "... إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، إلى قوله:
وإن كنتم جنبا فاطهروا... " (1) فدلالتها على المعنى الأول مبني على عطف قوله: " وإن
كنتم جنبا " على جزاء الشرط الذي هو جملة " فاغسلوا " ودخولها في حيز " إذا قمتم "
إلا أنه يحتمل العطف على جملة " إذا قمتم " وحينئذ فلا دلالة فيها. وفيه (أولا) - أن
العطف ب‍ " أن " دون " إذا " يأبى ذلك. و (ثانيا) - أن قوله: " وإن كنتم مرضى "
وما بعده الواقع بعد قوله: " وإن كنتم جنبا " مندرج تحت الشرط البتة، فلو كان
قوله: " وإن كنتم جنبا " الذي هو متوسط بينهما معطوفا على قوله: " إذا قمتم " أو كان
مستأنفا لم يتناسق المتعاطفان، وللزم أن لا يستفاد الارتباط بين الغسل والصلاة من
الآية، والمعلوم من الأخبار خلافه، ومن هنا يستفاد من الآية الوجوب الغيري كما
سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. إلا أنه قد تقدم في موثقة ابن بكير (2) تفسير القيام إلى
الصلاة بالقيام من حدث النوم، مع الاجماع المنقول عن المفسرين على هذا المعنى، وحينئذ
فوجوب الغسل للصلاة في غير الصورة المذكورة يرجع فيه إلى السنة المطهرة، أو يضم
إلى ذلك تنقيح المناط القطعي، للجزم بعدم مدخلية النوم في ذلك إلا من حيث أغلبية
تأخير الغسل الواقع سببه ليلا إلى الصبح، وذلك لا مدخل له في ترتب وجوب الغسل
على الصلاة.
ومما يدل من الأخبار على ذلك روايات متفرقة في جزئيات الأحكام المرتبطة

(1) سورة المائدة الآية 8 و 6.
(2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء
45

بذلك، و (منها) - قوله عليه السلام في رواية زرارة (1) في من ترك بعض ذراعه
أو بعض جسده في غسل الجنابة حتى دخل في الصلاة: "... وإن رآه وبه بلة مسح عليه
وأعاد الصلاة... " و (منها) - قوله (عليه السلام) في رواية الحلبي (2) في من أجنب في
شهر رمضان فنسي أن يغتسل حتى خرج الشهر: " عليه أن يغتسل ويقضي الصلاة والصيام ".
و (منها) - قوله (عليه السلام) في رواية الحسن الصيقل (3) في من تيمم وقام يصلي فمر
به نهر وقد صلى ركعة: " فليغتسل وليستقبل الصلاة " إلى غير ذلك من الأخبار التي
يقف عليها المتتبع.
(الثاني) - الطواف وسيأتي الكلام عليه بقسميه إن شاء الله تعالى في كتاب الحج
(الثالث) - مس كتابة القرآن، وهو إن كان واجبا فالغسل له واجب
وإلا فهو شرط في استباحته. وكل منهما مبني على تحريم المس على المحدث حدثا أكبر،
والظاهر أنه اجماعي كما نقله غير واحد من معتمدي الأصحاب، بل نقل في المعتبر والمنتهى
أنه اجماع علماء الاسلام، ونقل عن العلامة في النهاية أنه لا خلاف هنا في تحريم المس وإن
وقع الخلاف في الحدث الأصغر. ونقل الشهيد في الذكرى عن ابن الجنيد القول
بالكراهة، وذكر أنه كثيرا ما يطلق الكراهة ويريد التحريم فينبغي أن يحمل كلامه
عليه. وهو جيد فإن اطلاق الكراهة في كلام المتقدمين كما في الأخبار شائع. وأما نقل
ذلك عن المبسوط كما في المدارك فقد رده جمع ممن تأخر عنه بأنه سهو وأنه إنما صرح
بذلك في الحدث الأصغر وأما الأكبر فقد صرح فيه بالتحريم، وجنح في المدارك بعد نقل
القول بالكراهة عن ابن الجنيد والمبسوط إلى ذلك زاعما ضعف الأدلة سندا ودلالة.
وتحقيق البحث في هذه المسألة وفروعها قد تقدم مستوفى في المطلب الثاني من الباب الثاني (4)

(1) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الجنابة
(2) المروية في الوسائل في الباب 39 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 21 من أبواب التيمم.
(4) ج 2 ص 122
46

إلا أنه نقل هنا عن السيد المرتضى (رضي الله عنه) تحريم مس هامش القرآن
للجنب والحائض، ولم نقف له على دليل، وربما استدل له على ذلك بحسنة محمد بن مسلم
عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال: " الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء
الثوب ويقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة... " ورواية إبراهيم بن عبد الحميد عن
أبي الحسن (عليه السلام) (2) قال: " المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمسه
خطه ولا تعلقه... " ولا يخفى ما فيهما من قصور الدلالة على ذلك.
(الرابع) - مس ما عليه اسم الله تعالى من دراهم وغيرها، وقد وقع في
كلام جملة من الأصحاب التعبير بمثل ما ذكرنا إلا أن الظاهر أن المراد من ذلك مس نفس
الاسم كما هو صريح المحقق (رحمه الله تعالى) في المعتبر، حيث قال: " ويحرم عليه
مس اسم الله سبحانه ولو كان على درهم أو دينار أو غيرهما " والمعروف من كلام الأصحاب
(رضوان الله عليهم) من غير خلاف هو التحريم.
واستدل عليه في المعتبر بموثقة عمار عن أبي عبد الله (عليهم السلام) (3) قال:
" لا يمس الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله... ".
وطعن جملة من متأخري المتأخرين في الخبر المذكور بضعف السند ومعارضته
بما رواه في المعتبر من كتاب الحسن بن محبوب عن خالد عن أبي الربيع عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (4) " في الجنب يمس الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله؟ قال: لا
بأس به ربما فعلت ذلك ".
ومما يعضد موثقة عمار ظاهر القرآن من قوله سبحانه: "... ومن يعظم شعائر الله
فإنها من تقوى القلوب " (5) الدال ظاهرا على أن عدم التعظيم صادر عن عدم التقوى

(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(2) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب الجنابة
(4) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب الجنابة
(5) سورة الحج الآية 31
47

لما قيل من أن علة النقيض نقيض العلة.
وظاهر حسنة داود بن فرقد عنه (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن التعويذ
يعلق على الحائض. قال نعم لا بأس. قال وقال: تقرأه ولا تكتبه ولا تصيبه يدها ".
ورواية منصور بن حازم (2) الدالة على أن جواز تعليق التعويذ على الحائض
مشروط بما إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة أو حديد لئلا يستلزم مس الكتابة.
ومما يعضد رواية أبي الربيع أيضا ما رواه في المعتبر من جامع البزنطي عن محمد
ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) قال: " سألته هل يمس الرجل الدرهم
الأبيض وهو جنب. فقال: إي والله إني أؤتى بالدرهم فآخذه وإني لجنب. وما سمعت
أحدا يكره من ذلك شيئا إلا أن عبد الله بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا، يقول جعلوا
سورة من القرآن في الدرهم فيعطى الزانية وفي الخمر ويوضع على لحم الخنزير " وقوله:
" وما سمعت أحدا... الخ " يحتمل لأن يكون من كلام الإمام (عليه السلام) وأن يكون
من كلام محمد بن مسلم، والأول أظهر، وبه يقوى الاستدلال بالخبر على الجواز.
وموثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن
الجنب والطامث يمسان بأيديهما الدراهم البيض. قال: لا بأس ".
ويمكن الجمع بحمل موثقة عمار على مس نفس الاسم وإن عبر عنه بمس الدرهم
والدينار كما وقع في جملة من عبائر الأصحاب، وخبر أبي الربيع على مس الدرهم من غير
تعد إلى الاسم الذي عليه. وأما العمل بروايات الجواز لموافقتها الأصل وحمل ما دل
على المنع على الكراهة فظني بعده، إذ نسبته (عليه السلام) ذلك إلى نفسه في رواية
أبي الربيع مما يبعد ذلك. وكيف كان فسبيل الاحتياط واضح.
وألحق جملة من الأصحاب تبعا للشيخين (قدس سرهما) باسمه سبحانه أسماء

(1) المروية في الوسائل في الباب 37 من أبواب الحيض
(2) المروية في الوسائل في الباب 37 من أبواب الحيض
(3) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب الجنابة
(4) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب الجنابة
48

الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ولم نقف له على مستند ولعله مجرد التعظيم. والله أعلم.
(الخامس) - دخول المسجدين ولو اجتيازا، ولا خلاف فيه بين الأصحاب
(نور الله تعالى مراقدهم) فيما أعلم.
ويدل عليه حسنة جميل (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجنب
يجلس في المساجد؟ قال: لا ولكن يمر فيها كلها إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول
(صلى الله عليه وآله) " وروايته الأخرى (2) ورواية محمد بن حمران (3) وحسنة
محمد بن مسلم (4).
ونقل في الذكرى عن الصدوقين والمفيد أنهم أطلقوا المنع عن دخول المساجد إلا
اجتيازا، وربما أشعر ذلك بجواز الاجتياز في المسجدين، وهو ضعيف بما ذكرنا من الأخبار
بقي هنا شئ لم يتنبه له لأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما وقفت عليه من كتبهم
وهو جواز دخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) له وللمعصومين من آله (صلوات الله
عليهم) مع الجنابة بل اللبث فيه وأن ذلك من جملة خصائصهم.
فمما وقفت عليه من الأخبار في ذلك ما رواه الصدوق في كتاب المجالس بسنده
فيه عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (5) قال: " قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلا أنا وعلي وفاطمة والحسن
والحسين ومن كان من أهلي فإنه مني ".
وما رواه فيه أيضا وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (6) في حديث
طويل عنه (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) " ألا إن هذا
المسجد لا يحل لجنب إلا لمحمد وآله ".
وما رواه في كتاب العلل (7) بسنده إلى أبي رافع قال: " إن رسول الله (صلى.

(1) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(2) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(3) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(4) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(5) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(6) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(7) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
49

الله عليه وآله) خطب الناس فقال: أيها الناس إن الله أمر موسى وهارون أن يبنيا
لقومهما بمصر بيوتا وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا
هارون وذريته، وأن عليا مني بمنزلة هارون من موسى، ولا يحل لأحد أن يقرب
النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنب إلا على وذريته... ".
ورواه فيه (1) أيضا بسند آخر قريبا من ذلك وقال فيه: " ثم أمر موسى أن
لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ولا يدخله جنب إلا هارون وذريته، وأن عليا مني
بمنزلة هارون من موسى وهو أخي دون أهلي، ولا يحل لأحد أن ينكح فيه النساء إلا علي
وذريته... " وفيها زيادة على ما ذكرنا حل النكاح لهم فيه فضلا عن الدخول بالجنابة
وما رواه في تفسير الإمام (عليه السلام) (2) روى عن آبائه (عليهم السلام)
عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث سد الأبواب أنه قال: " لا ينبغي لأحد يؤمن
بالله واليوم الآخر أن يبيت في هذا المسجد جنبا إلا محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين
والمنتجبون من آلهم الطيبون من أولادهم.
(السادس) - اللبث فيما عدا المسجدين من المساجد، والظاهر أن الحكم
موضع وفاق بين الأصحاب ما عدا سلار حيث نقل عنه القول بالكراهة.
ويدل على المشهور قوله سبحانه: "... ولا جنبا إلا عابري سبيل... " (3) المفسر
في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) المروية في كتاب العلل (4)
بذلك حيث قالا: " قلنا له: الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ فقال: الجنب
والحائض لا يدخلان المسجد إلا مجتازين، إن الله تبارك وتعالى يقول: ولا جنبا إلا عابري
سبيل حتى تغتسلوا... الحديث ".
ورواه العياشي في تفسيره عن الباقر (عليه السلام) والثقة الجليل علي بن إبراهيم

(1) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(2) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(3) سورة النساء الآية 43
(4) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
50

القمي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام) وبه يظهر لك ضعف كلام بعض فضلاء
متأخري المتأخرين حيث قال: " وأما الاستدلال بالآية فمشكل، لعدم تعين هذا المعنى
فيه واحتمال غير ذلك كما عرفت سابقا " انتهى. وفيه أن الاحتمالات المذكورة في كلام
سائر المفسرين لا تعارض تفسير أهل البيت (عليهم السلام) سيما مع صحة سند الرواية
وتعدد الناقل لها عنهم (عليهم السلام) إذ القرآن عليهم أنزل وإليهم يرجع فيما أبهم
منه وأجمل.
ويدل على ذلك أيضا الأخبار المستفيضة، ومنها - حسنة جميل المتقدمة (1)
والروايات الأخر التي بعدها وأخبار أخر طوينا ذكرها.
ولم نقف لسلار على دليل سوى التمسك بالأصل، ولا ريب في ضعف التمسك
به بعد ما عرفت.
وربما يستدل له بصحيحة محمد بن القاسم (2) قال: " سألت أبا الحسن (عليه
السلام) عن الجنب ينام في المسجد؟ فقال: يتوضأ ولا بأس أن ينام في المسجد ويمر فيه ".
وفيه (أولا) - أنها أخص من المدعى. و (ثانيا) - أنها مخالفة للآية والرواية
المستفيضة فيجب طرحها، قال في المعتبر بعد نقلها: " أنها متروكة بين أصحابنا لأنها
منافية لظاهر التنزيل " واحتمل بعض الأصحاب حملها على التقية لموافقتها لمذهب بعض
العامة. وهو جيد فإنه منقول عن أحمد بن حنبل (3) حيث قال: " إذا توضأ الجنب
جاز أن يقيم في المسجد كيف شاء " بل لو لم ينقل القول بذلك عن أحد منهم فالحمل على التقية
متعين كما نبهنا عليه غير مرة.

(1) ص 49
(2) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة
(3) في المغني لابن قدامة الحنبلي ج 1 ص 146 " إذا توضأ الجنب له اللبث في
المسجد في قول أصحابنا وإسحاق، وقال أكثر أهل العلم لا يجوز للآية والخبر " ثم استدل
على ذلك بالاجماع المستفاد من حديث زيد بن أسلم وأنه مخصص للعموم وبوجه اعتباري
51

وأما حمل المحدث الكاشاني في الوافي - التوضؤ المأمور به على تطهير البدن
بالغسل - فظني بعده.
وظاهر الصدوق (قدس سره) في الفقيه القول بمضمون الرواية المذكورة، حيث
قال: " ولا بأس أن يختضب الجنب ويجنب وهو مختضب، إلى أن قال: وينام في المسجد
ويمر فيه " ومثله في المقنع، وظاهره تخصيص الإباحة بالنوم من أفراد اللبث، ولم يذكر
التوضؤ الذي في الرواية.
وكيف كان فهو محجوج بالآية والرواية المستفيضة، فروايته مطروحة لمخالفتها
القرآن الذي هو المحكم في الأخبار عند تعارضها، بل مع عدم التعارض أيضا كما تقدم
تحقيقه في مقدمات الكتاب، وضعفها عن معارضة ما ذكرنا من الأخبار.
وبذلك يظهر لك ما في كلام بعض محققي متأخري المتأخرين، حيث قال - بعد
نقل الرواية المذكورة ونقل كلام المعتبر واحتمال الحمل على التقية - ما صورته: " ولا
يذهب عليك أنه لو لم تكن الشهرة العظيمة بين الأصحاب لأمكن الجمع بين الروايات
بحمل ما تقدم على الكراهة وبحمل هذه الرواية على نفي الحرمة، لكن الأولى اتباع
الشهرة " انتهى.
ولا أراك في شك من ضعف هذا الكلام إن أحطت خبرا بالقواعد المقررة
عن أهل الذكر (عليهم السلام) والعجب منه (قدس سره) ومن أمثاله أنهم يعتمدون
على الشهرة بين الأصحاب ويلتجؤون إليها في جميع الأبواب، ويتركون الشهرة في الأخبار
التي هي أحد المرجحات المروية في هذا المضمار، ويبنون في الجمع بين الأخبار على ارتكاب
المجاز في الأمر والنهي. وفيه - مع أنه لا مستند له في الشريعة - أنه لا قرينة ثمة لتكون
الوسيلة إلى ذلك والذريعة، وقد تقدم لك في مقدمات الكتاب ما في البناء على هذه
القاعدة من الاضطراب.
بقي هنا شئ وهو أن المحرم هنا إنما هو اللبث أما الاجتياز فهو جائز بالآية
52

والرواية، لكن هل المراد بالاجتياز أن يدخل من باب ويخرج من آخر، أو يشمل
الدخول والخروج من باب واحد من غير لبث ولا تردد، أو يشمل التردد مغدا ومجيئا
في نواحي المسجد؟ المقطوع به من ظاهر الآية والرواية الواردة في تفسيرها هو الأول،
وفي شمولها للثاني احتمال ليس بذلك البعيد، وأما الثالث فالظاهر القطع بعدمه، وبه
صرح العلامة على ما نقل عنه، لكن في رواية العلل المشار إليها آنفا (1) قال: " للجنب أن
يمشي في المساجد كلها ولا يجلس فيها إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلى الله عليه
وآله) " والظاهر أن اطلاقها يحمل على ما أفاده غيرها من التقييد.
وألحق جملة من متأخري أصحابنا بالمساجد الضرائح المقدسة والمشاهد المشرفة،
ورده جملة من متأخري المتأخرين بعدم المستند الموجب للتحريم.
أقول: ويمكن الاستدلال عليه بظاهر آية تعظيم شعائر الله (2) وبالأخبار الدالة
على عدم جواز دخول الجنب بيوتهم أحياء، ولا ريب أن حرمتهم أمواتا كحرمتهم أحياء
ومن تلك الأخبار ما رواه الصفار في كتاب بصائر الدرجات (3) في الصحيح
عن بكر بن محمد قال: " خرجنا من المدينة نريد أبا عبد الله (عليه السلام) فلحقنا
أبو بصير خارجا من زقاق وهو جنب ونحن لا نعلم حتى دخلنا على أبي عبد الله (عليه
السلام) فرفع رأسه إلى أبي بصير فقال: يا أبا محمد أما تعلم أنه لا ينبغي لجنب أن يدخل
بيوت الأنبياء؟ قال: فرجع أبو بصير ودخلنا " ومثله روي في كتاب قرب الإسناد.
وروى الكشي في كتاب الرجال (4) بسنده عن بكير قال: " لقيت أبا بصير
فقال أين تريد؟ فقلت: أريد مولاك. قال أنا أتبعك. فمضى فدخلنا عليه، واحد

(1) ما ذكره إنما هو نص رواية جميل المشار إليها ص 49 بقوله: وروايته
الأخرى. ولعل لفظ (العلل) من غلط النساخ.
(2) سورة الحج الآية 33
(3) رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب الجنابة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب الجنابة.
53

النظر إليه وقال هكذا تدخل بيوت الأنبياء وأنت جنب؟ فقال أعوذ بالله من غضب
الله وغضبك وقال أستغفر الله ولا أعود " وروى نحوه الشيخ المفيد في الإرشاد ورواه
في كشف الغمة نقلا عن دلائل الحميري.
وظاهر الأخبار المذكورة تحريم مجرد الدخول وإن كان لا مع اللبث، إلا أن
يقال إن انكاره (عليه السلام) على أبي بصير لعلمه بإرادته اللبث، والأول أقرب.
(السابع) - وضع شئ في المساجد دون الأخذ منها، وهو موضع وفاق أيضا
ما عدا سلار، فإنه نقل عنه القول بالكراهة، ويضعف بالأخبار الدالة على المنع:
و (منها) - صحيحة عبد الله بن سنان (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال: نعم ولكن
لا يضعان في المسجد شيئا ".
وصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المنقولة آنفا من كتاب العلل (2) حيث قال
(عليه السلام) بعد ذكر ما قدمنا نقله منها: " ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا
قال زرارة فقلت له: فما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه؟ قال: لأنهما لا يقدران على
أخذ ما فيه إلا منه ويقدران على وضع ما بأيديهما في غيره... الحديث ".
ونقل عن بعض المتأخرين تخصيص التحريم بالوضع المستلزم لللبث في سائر المساجد
والدخول في المسجدين، ونقل عنه الاستدلال بأنه قد تعارض اطلاقا تحريم الوضع
وتجويز المشي والمرور فيتساقطان ويرجع إلى حكم الأصل خصوصا مع أغلبية اقتران
الوضع باللبث. ورد بأن ظاهر النص تعليق التحريم على الوضع مطلقا ولو كان من خارج
وإلا لم يبق لتعلق التحريم على الوضع معنى، لأن فيه أخذ ما ليس بعلة ولا مستلزم للعلة
مكانها، ومنه يظهر أن اطلاق تحريم الوضع لا ينافي اطلاق تجويز المرور والمشي ليتساقطا
ويرجع إلى حكم الأصل كما احتج به، إذ تحريم أحد المتقارنين اللذين لا تلازم بينهما

(1) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب الجنابة.
54

يجامع تجويز الآخر كما لا يخفى، وأيضا فإن الخبر المذكور الذي هو مستند الحكم في
تحريم الوضع دل على إباحة التناول وتحريم الوضع، فلو خص تحريمه بما ذكر لم يظهر
للفرق بينه وبين التناول وجه، إذ إباحة التناول مقيدة بما إذا لم يستلزم لبثا كما هو الظاهر
فتوى ودليلا (فإن قيل): إن التناول من حيث هو مباح وإن كان مقارنه محرما (قلنا): إن
الوضع من حيث هو محرم وإن كان مقارنه مباحا، بل ما نحن فيه أولى، إذ مقارنة
المباح للحرام إن لم توجب حرمة المباح فإن لا توجب إباحة الحرام أولى، هذا كله مع
قطع النظر عن ظاهر التعليل الذي في رواية العلل، وإلا فمع النظر إليه لا يبقى لاعتبار
القول المذكور ما يوجب النقل في السطور.
(الثامن) - قراءة إحدى العزائم الأربع وهي سجدة " ألم السجدة " و " حم
السجدة " و " النجم " و " اقرأ " ومن العجب سهو جملة من المتقدمين: منهم -
الصدوق (رحمه الله) في المقنع والفقيه وجرى عليه جملة من تأخر عنه من عد سجدة
" لقمان " عوض " ألم السجدة " مع أن سورة " لقمان " ليس فيها سجدة وإنما السجدة في
السورة التي تليها وهي " آلم ".
هذا، والظاهر أن الحكم موضع وفاق كما نص عليه في المعتبر والمنتهى، إلا أن
جل المتأخرين ناطوا الحكم بمجموع السورة حتى البسملة إذا قصد بها إحدى السور
الأربع، وظاهر الأخبار لا يساعدهم على ذلك.
فمن الأخبار الدالة على الحكم المذكور حسنة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه
السلام) المتقدمة في حكم مس كتابة القرآن (1)
وموثقة زرارة ومحمد بن مسلم عنه (عليه السلام) (2) قال: " الحائض والجنب
يقرءان شيئا؟ قال: نعم ما شاء إلا السجدة ويذكران الله على كل حال " وروى ذلك
في المعتبر عن جامع البزنطي عن الصيقل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3).

(1) ص 47
(2) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(3) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
55

وأنت خبير بأن الظاهر من هذه الأخبار هو قصر الحكم على نفس السجدة دون
سورتها. ووجهه شيخنا المحقق في كتاب رياض المسائل بأن السجدة في الأصل مصدر
للمرة من السجود، وليس المراد به هنا حقيقته بل معناه المجازي وهو سبب السجدة
أو محلها، وليس شئ من أبعاض السورة المذكورة سوى موضع الأمر بالسجود سببا
ولا محلا. ومن ذلك يظهر أن لا مستند لعموم الحكم سوى الاجماع المدعى في المسألة.
وقد عرفت في المقدمة الثالثة ما في هذه الاجماعات المتناقلة في أمثال هذه المقامات،
سيما مع معارضة الأصل له هنا والعمومات من الكتاب والسنة الدالة على استحباب
قراءة القرآن، وحينئذ فالأظهر - كما استظهره جملة من متأخري المتأخرين - قصر
الحكم بالتحريم على موضع ذكر السجود.
إلا أنه قد ورد في جملة من الأخبار - منها الصحيح وغيره - جواز أن يقرأ
الجنب من القرآن ما شاء:
فمن ذلك صحيحة الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال:
" لا بأس أن تتلوا الحائض والجنب القرآن ".
وفي صحيحة الحلبي (2) " في النفساء والحائض والجنب والمتغوط يقرأون
القرآن؟ فقال يقرأون ما شاءوا ".
ومن أجل هذه الأخبار مضافا إلى عموم ظاهر الكتاب لم يعتمد شيخنا المحقق
صاحب كتاب رياض المسائل إلا على الاجماع المدعى في المقام، مؤيدا ذلك بالطعن
في دلالة تلك الأخبار على المدعى بأنه كما يحتمل الاستثناء في قوله: " نعم ما شاءا إلا
السجدة " أن يكون استثناء من أصل جواز قراءة القرآن يحتمل أن يكون استثناء من استحبابها
ولا يفيد إلا رفع الاستحباب ولا يقتضي التحريم. وفيه أن أخبار السجدة مقيدة وتلك
مطلقة والمفيد يحكم على المطلق، وعمومات الكتاب واطلاقاته تخصص بالسنة كما وقع

(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.
56

في غير موضع، وقد مر تحقيق القول فيه في مقدمات الكتاب. واحتمال الاستثناء
من الاستحباب بعيد من سياق الأخبار، إذ سياق ما فيها من الأحكام المشتملة عليها في
غير موضع النزاع كله بالنسبة إلى الجواز وعدمه من دخول المساجد واللبث فيها ودخول
مسجدي الحرمين والوضع في المسجد والأخذ منه، على أنه لا معنى هنا للاستثناء من
الاستحباب بعد ثبوت أصل الجواز، إذ بعد ثبوت الجواز يلزم الاستحباب الذي هو
عبارة عما يوجب ترتب الثواب على ذلك، إذ قراءة القرآن من جملة العبادات البتة
فالمناسب هو السؤال عن أصل الجواز وعدمه.
ونقل عن الشيخ في التهذيب أنه استدل على الحكم المذكور بأن في هذه السور
سجودا واجبا ولا يجوز السجود إلا لطاهر من النجاسات بلا خلاف، مع أنه قال بعيد
هذا باستحباب السجود للطامث.
(التاسع) - الصوم، ووجوب الغسل للواجب منه وشرطيته للمستحب هو
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ونقل عن الصدوق (رضي الله عنه)
القول بعدم الوجوب، وإليه مال المحقق الأردبيلي، واختاره العلامة الفيلسوف العماد
مير محمد باقر الداماد كما صرح به في رسالته الموضوعة في مسائل التنزيل. والأخبار من
الطرفين متعارضة إلا أن الأخبار الدالة على القول المشهور أكثر عددا وأصرح دلالة،
وسيجئ نشر الأخبار في المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الصوم.
والأظهر العمل على المشهور (أما أولا) - فلاعتضاد أخباره بعمل الطائفة قديما
وحديثا بذلك، ولم ينقل الخلاف في ذلك عن أحد من متقدمي الأصحاب إلا عن الصدوق
وفي ثبوت النقل اشكال، فإنه لم يصرح بذلك في فقيهه ولا في شئ من كتبه، وإنما
نسب إليه القول بذلك برواية رواها في المقنع (1) حيث قال: " وسأل حماد بن عثمان
أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان من أول الليل فأخر الغسل

(1) رواها في الوسائل في الباب 13 من أبواب ما يمسك عنه الصائم
57

إلى أن يطلع الفجر. فقال: قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجامع نساءه من
أول الليل ويؤخر الغسل إلى أن يطلع الفجر، ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب يقضي
يوما مكانه " قالوا: ومن عادته في الكتاب المذكور الافتاء بمتون الأخبار. وفي ثبوت
نسبة القول المذكور له بذلك تأمل، سيما مع نقله في فقيهه جملة من الأخبار الدالة على
القضاء بترك الغسل وإن كان نسيانا المؤذن بموافقة القول المشهور. والمعهود منه عدم
الاختلاف في الفتوى في كتبه كما هو الطريق الذي عليه غيره من المحدثين.
و (أما ثانيا) - فلأن من القواعد المقررة عن أهل العصمة (سلام الله عليهم)
عرض الأخبار عند اختلافها على مذهب العامة والأخذ بخلافه، والأخبار المخالفة
للمشهور موافقة لهم، وفي بعض منها ما يؤذن بذلك كاسناد الإمام (عليه السلام) النقل
إلى عائشة في رواية إسماعيل بن عيسى (1) واشعار ظاهر رواية حماد المتقدمة بمداومته
((صلى الله عليه وآله) على ذلك، ومن البعيد مداومته على المكروه إن لم نقل بالتحريم
وما ربما يقال - من أن أخبار المشهور وإن ترجحت بمخالفة العامة إلا أن أخبار
القول الآخر معتضدة بظاهر القرآن، وهو قوله سبحانه: " أحل لكم ليلة الصيام
الرفث... الآية " (2) الدال باطلاقه على التحليل في كل جزء من أجزاء الليل التي
من جملتها الجزء الأخير -
فالجواب عنه - بعد تسليم جواز الاستدلال بالظواهر القرآنية بغير تفسير وارد فيها
عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) - بأنه قد تقدم في المقدمة السادسة الإشارة إلى أنه
لا يصح الاختلاف بين هاتين القاعدتين. بمعنى أن كل ما خالف العامة من الأخبار
الخارجة عنهم (عليهم السلام) فهو موافق للقرآن العزيز وإن لم يهتدوا إلى وجه الموافقة
ولا يجوز أن يكون مخالفا له، وذلك لأن الأحكام الواقعية الخارجة لا على جهة التقية

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.
(2) سورة البقرة الآية 187.
58

لا يجوز مخالفتها للقرآن كما تقدم بيانه ثمة، وما عليه العامة فهو خلاف الحنيفية، لما
استفاض من أنهم ليسوا من الحنيفية على شئ، وأنه لم يبق في أيديهم إلا استقبال القبلة
وأنهم ليسوا إلا مثل الجدر المنصوبة، ونحو ذلك مما تقدم ذكره ثمة أيضا، وحينئذ فنقول
فيما نحن فيه أن اطلاق الآية مخصوص بالأخبار الدالة على وجوب الغسل، وقد حققنا
في المقدمة المشار إليها آنفا أنه لا منافاة بين المطلق والمقيد ولا بين العام والخاص حتى
يتجه الترجيح بالآية في هذا المقام.
ثم إن وجوب الغسل للصوم على القول به هل يختص بما إذا بقي من الليل مقدار
ما يغتسل خاصة، فعلى هذا لا يكون الصوم غاية للغسل إلا مع تضيق الليل بحيث لا يبقى
منه إلا قدر فعله علما أو ظنا، فلو أوقعه المكلف قبل ذلك لم يكن الصوم غاية له لعدم
المخاطبة به حينئذ، أو يجوز ايقاعه بنية الوجوب من أول الليل وإن قيل بوجوبه لغيره؟
قولان، وظاهر الأكثر الأول ونقل السيد السند في المدارك عن بعض مشايخه
- والظاهر أنه المولى الأردبيلي (قدس سره) - الثاني، إلا أنه في المدارك تأوله بالحمل
على الوجوب الشرطي زاعما انتفاء الوجوب بالمعنى المصطلح عليه قطعا على هذا التقدير،
ويظهر من كلام شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في كتاب الحبل المتين أن الوجوب
هنا على تقدير القول به هو الوجوب المصطلح، حيث قال - في جواب استدلال القائلين
بوجوب الغسل لنفسه بأنه لو لم يجب لنفسه لم يجب قبل الفجر للصوم لعدم وجوب المغيا
قبل وجوب الغاية - ما لفظه: " وأما وجوب غسل الجنابة قبل الفجر للصوم فلوجوب
توطين النفس على ادراك الفجر طاهرا والغاية واجبة " انتهى.
أقول: والأظهر في بيان الوجوب هنا أن يقال إنه لا شك أن الغسل مما يتوقف
عليه الصوم ولا يتم إلا به، وقد تقرر في الأصول أن ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، كما قالوا أن قطع المسافة واجب للحج مع أنه لا يقع إلا قبل الحج، وبالجملة
فإنه إذا علم أو ظن وجوب الغاية في وقتها فإنه لا مانع من وجوب المقدمة وإن لم تجب
59

الغاية بعد لكن وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بتضيق الغاية، وإلى ذلك يشير كلام المحدث
الأمين الاسترآبادي (قدس سره) في تعليقاته على المدارك، حيث قال - بعد نقل كلام السيد
(قدس سره) وتأويله كلام بعض مشايخه - ما صورته: " قلت: مقصوده بالوجوب
المعنى المصطلح عليه فإنه صالح للنزاع والترجيح، وإن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو
عليك من الكلام والله الموفق، فنقول: مقدمات الواجب المضيق كالصوم يجب تحصيلها
قبل وقته، وبعض مقدمات الواجب الموسع وهو ما لا يسعه وقته كذلك، ومنه
وجوب معرفة الصلاة وأجزائها قبل دخول وقتها، والغسل كالنية من شرائط صحة
الصوم ومقدماته فيجب من الليل وجوبا موسعا، لأن الوجوب من باب المقدمة إنما
يكون بحسبه وهو لا يقتضي إلا الوجوب الموسع، وما ثبت من أنه إذا كان من عادته
استمرار نومه إلى طلوع الفجر لا يجوز له النوم اختيارا قبل الغسل يدل على وجوبه
وجوبا موسعا، وأيضا تعلق تكليف الشارع بأمر في وقت غير منضبط غير مستقيم.
والله أعلم بحقائق أحكامه. وبعد ما عرضت ذات ليلة في خير البلاد هذه الدقيقة على
الأستاذ العلامة والحبر الفهامة مجتهد زمانه ووحيد أوانه ميرزا محمد باقر الاسترآبادي
(أطال الله بقاءه) سمعت منه أنه في عنفوان الشباب تفطن لهذه الدقيقة وذكرها
للعالم الرباني مولانا أحمد الأردبيلي (رحمه الله) فلم يرض بها وطال البحث بينهما من غير
فيصل، ثم رجع العالم المذكور إلى قوله وذكرها في بعض تصانيفه " انتهى كلامه زيد
مقامه. وهو جيد إلا أنه سيأتي في مسألة وجوب الغسل لنفسه أو لغيره من ظاهر كلامهم
ما يدل على الغفلة عن هذه المسألة.
وأما شرطية الغسل للصوم المستحب فهو قول الأكثر من أصحابنا (رضوان الله
عليهم) ومال جملة من متأخري المتأخرين إلى العدم، وتحقيق المسألة مع ما يتعلق بها من
الأخبار سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
60

تكملة
تقييد وجوب الغسل بوجوب الغاية هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) وقيل بوجوبه في نفسه، اختاره القطب الراوندي، وذهب إليه العلامة ونقله عن
والده سديد الدين يوسف بن المطهر، ومال إليه من متأخري المتأخرين الفاضل الخراساني
في الذخيرة وقبله السيد السند في المدارك، والبحث في المسألة وإن كان قليل الجدوى
عندنا لانحصار فائدة الخلاف في وجوب نية الوجوب قبل الوقت وعدمه، مع أنك
قد عرفت مما قدمنا في مبحث نية الوضوء عدم الدليل على ذلك، إلا أنا جريا على منوالهم
(قدس الله أرواحهم وطيب مراحهم) قد قدمنا لك في البحث عن غاية الوضوء ما بقي
بتحقيق الحال وإزالة الاشكال، من ذكر ما يدل على الوجوب الغيري والجواب عما يدل
على الوجوب النفسي، إلا أنه بقي مما يدل على الوجوب الغيري في خصوص هذه المسألة مما لم
نتعرض له آنفا الآية الكريمة أعني قوله سبحانه: "... وإن كنتم جنبا فاطهروا... " (1)
وقد تقدم في أول هذا المقصد بيان دلالتها على ذلك. وأما ما أجاب به الفاضل الخراساني
في الذخيرة عن ذلك - من أن غاية ما يلزم منه وجوبه لأجل الصلاة وذلك لا ينافي
وجوبه لنفسه أيضا، فيجوز أن يجتمع فيه الوجوبان، ولا يفهم منه التخصيص ولا يراد
البتة، لوجوبه لغير الصلاة كالطواف ومس كتابة القرآن وغيرها بالاتفاق - فمدخول
بما قدمنا تحقيقه في مبحث غاية الوضوء.
واستدل جملة من متأخري المتأخرين على ذلك أيضا بأخبار الجنب إذا فاجأها
الحيض قبل الغسل:
و (منها) - حسنة عبد الله بن يحيى الكاهلي عن الصادق (عليه السلام) (2)

(1) سورة المائدة الآية 9.
(2) المروية في الوسائل في الباب 22 من أبواب الحيض.
61

" في المرأة يجامعها الرجل فتحيض وهي في المغتسل؟ قال: قد جاءها ما يفسد الصلاة
فلا تغتسل ".
ورواية سعيد بن يسار عنه (عليه السلام) (1) " في المرأة ترى الدم وهي جنب
أتغتسل من الجنابة أم غسل الجنابة والحيض واحد؟ فقال: قد أتاها ما هو أعظم من ذلك "
وموثقة حجاج الخشاب (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
وقع على امرأته فطمثت بعد ما فرغ، أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرتين؟
قال تجعله غسلا واحدا عند طهرها " ومثلها موثقات زرارة وأبي بصير وعبد الله بن سنان (3)
و (منها) - موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن
المرأة بواقعها زوجها ثم تحيض قبل أن تغتسل؟ قال: إن شاءت أن تغتسل فعلت وإن لم
تفعل ليس عليها شئ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة ".
وجه الاستدلال بها أنها قد اشتركت ما عدا الأخيرة في الدلالة على تأخير غسل
الجنابة إلى بعد الطهر من الحيض وجعل الغسلين غسلا واحدا، وهو مؤذن لا أقل
بمرجوحية المبادرة إلى الفعل حينئذ مع أن قضية الوجوب النفسي لا أقل رجحان المبادرة
إلى الواجب وإن كان موسعا، سيما مع قوله (عليه السلام) في الرواية الأولى: " قد
جاءها ما يفسد الصلاة " مفرعا عليه قوله: " فلا تغتسل " وقوله في الثانية: " قد أتاها
ما هو أعظم من ذلك " المشعر بطريق الايماء والتنبيه بأن العلة في وجوب غسل الجنابة
رفع المفسد للصلاة الذي هو حدث الجنابة، فإذا حصل ما يفسدها وإني ما هو أعظم
من ذلك في الافساد قبل الغسل انتفت العلة في وجوبه، فإنه (عليه السلام) نفى
الغسل معللا بفساد الصلاة، فحاصل كلامه (عليه السلام) أن الغرض من الغسل الصلاة
ولما جاء ما يفسدها فلا غسل حينئذ.

(1) المروية في الوسائل في الباب 22 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 43 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 43 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 43 من أبواب الجنابة.
62

ورد باحتمال حمل الرواية على أن المراد مجئ مفسد الصلاة مانع من الوجوب،
إذ شرط تأثير المؤثر ارتفاع المانع.
وأجيب بأن حمل الكلام على هذا المعنى مما يكاد يلحقه بالمعميات والألغاز،
بل الاغراء بالجهل والخطاب بما له ظاهر مع إرادة خلاف ظاهره من غير نصب قرينة
عليه، وقد ثبت استحالته على الحكيم في الأصول. فلا يليق نسبته إلى سادات الأنام
وأبواب الملك العلام (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
والتحقيق عندي هو ما أفاده بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين،
من أن الرواية المشار إليها لا دخل لها في البين ولا تعلق لها بشئ من القولين، وذلك
فإن الغرض اللازم من الغسل هو رفع الحدث أو الاستباحة، والرواية قد دلت على
سقوط الغسل بطرو الحدث الذي لا يمكن رفعه ولا استباحة الصلاة مع وجوده،
إذ التكليف به والحال كذلك تكليف بما لا يطاق، وهو خارج عن حيز الوفاق
ولا دخل للوجوب الذاتي أو الغيري فيه، وحينئذ فكما أن الرواية المذكورة ترد القول
بالوجوب النفسي باعتبار عدم صحة الغسل في تلك الحال مع أن قضية الوجوب النفسي
ذلك، كذلك ترد القول بالوجوب الغيري باعتبار ما اتفق عليه القائلون بذلك من صحة
الغسل قبل وقت الغاية واجزائه عن الواجب بعده، مع أنه في تلك الحال غير
صحيح ولا مجزئ عن الواجب، وأيضا فإنه بعد زوال المانع المذكور يرجع السبب إلى
مقتضاه ويعود الخلاف بحذافيره، ومن ذلك يعلم الكلام في باقي الأخبار. نعم ربما
أوهم قوله في موثقة عمار: " إن شاءت أن تغتسل فعلت " صحة الاتيان بالغسل حينئذ
وارتفاع حدث الجنابة. وفيه (أولا) - أن ما عدا هذه الرواية مما هو أكثر عددا
وأصرح دلالة قد دل على تأخير الغسل وجعله مع الحيض غسلا واحدا. و (ثانيا) - أن
الفريقين متفقون على عدم حصول الرفع والاستباحة بالغسل في تلك الحال، فلا ثمرة
حينئذ لهذه الصحة ولا أثر يترتب عليها في ذلك المجال، مع أن قوله فيها: " فإذا طهرت
63

اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة " دال على أن الغسل الأول لم يكن مجزئا عن
غسل الجنابة، فيتعين أن يكون المراد بالغسل المذكور مجرد رفع الأوساخ البدنية وإزالة
الأدناس الحسية، ومن ثم احتمل بعض أنه يستنبط من الخبر المشار إليه صحة الغسل
لذلك على الاطلاق أو عند تعذر قصد رفع الحدث، وأيده بشرعية غسل الاستحاضة،
وكون الأغسال الواجبة والمستحبة إذا علم من الشارع أن أصل مشروعيتها لذلك كغسل
الجمعة والاحرام لا تتوقف على الطهارة من الحدث وإن كانت بحيث لو خلت منه
لأفادت رفعه، كما قدمنا بيانه في بحث نية الوضوء وينبه على ذلك ما ورد من أمر
الحائض بغسل الاحرام. وأما ما ورد في موثقة سماعة عن أبي عبد الله وأبي الحسن
(عليهما السلام) (1): " في الرجل يجامع المرأة فتحيض قبل أن تغتسل من الجنابة؟
قال: غسل الجنابة عليها واجب " فغاية ما يدل عليه أن غسل الجنابة لا يسقط عنها بعروض
الحيض بل يجب عليها الغسل إذا طهرت من الحيض وأرادت عبادة وإن اتحد الغسلان
كما دلت عليه الأخبار المتقدمة. وأما حملها على استحباب غسل الجنابة في تلك الحال
- كما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار مستندا إلى موثقة عمار الآنفة، فيستفاد منها
حينئذ استحباب الغسل في نفسه وإن كان واجبا لغيره كما ذكره بعضهم - فتكلف
لا ضرورة تلجئ إليه بعد ما ذكرنا، وكيف يتم الحمل على الاستحباب وقد صرح في
الرواية بالوجوب، وأي ثمرة لهذا الاستحباب مع وجوب إعادته كما عرفت من موثقة
عمار. وبالجملة أن ما ذكرناه هو المتبادر من حاق اللفظ والمراد مع سلامته من الطعن
والايراد. نعم يبقى الكلام هنا في أن جملة من القائلين بالوجوب الغيري صرحوا
باستحباب الغسل قبل اشتغال الذمة بالغاية الواجبة، حتى أورد عليهم الغسل لأجل
الصوم، فأجاب بعضهم بأن الغاية إنما هي توطين النفس على إدارك الفجر متطهرا كما عرفته
آنفا من كلام شيخنا البهائي (عظم الله مرقده) وأجاب آخر بالتخصيص بما عدا الصوم.

(1) المروية في الوسائل في الباب 43 من أبواب الجنابة.
64

وأنت قد عرفت آنفا أن قضية توقف الواجب عليه وكونه مما لا يتم الواجب إلا به
هو وجوبه متى علم وجوب الغاية في وقتها كما عرفت، ومن الظاهر أن الصلاة متوقفة
على الغسل فيكون واجبا لأجلها، وهو كما يحصل بعد دخول الوقت وتستباح به العبادة
حينئذ يحصل أيضا قبل دخوله وتحصل به الاستباحة أيضا، فكل من الأمرين فرد
للواجب، فيكون الغسل قبل الوقت واجبا وإن قلنا بأنه واجب لغيره، وحينئذ تضمحل
فائدة الخلاف من البين بناء على وجوب نية الوجه وإلا فقد عرفت أنه لا ثمرة أيضا
للبحث في المقام، وكذا لو قلنا بوجوبها وقلنا أن قصد الوجوب في المندوب غير ضائر
كما اختاره الشهيد (رحمة الله تعالى).
المقصد الثالث
في الكيفية، وهي - على ما وردت به نصوص أهل الخصوص (سلام الله
عليهم) - على وجهين:
(أحدهما) - الترتيب، وهو غسل الرأس أولا، ومنه الرقبة من غير خلاف
يعرف بين الأصحاب ولا اشكال يوصف في هذا الباب، إلى أن انتهت النوبة إلى جملة
من متأخري المتأخرين: منهم - الفاضل الخراساني في الذخيرة وشيخنا المحقق صاحب
رياض المسائل في الكتاب المذكور، فاستشكلوا في الحكم لفقد صريح النص في الدخول
وعدمه كما ذكره شيخنا المشار إليه، ووقع مثل ذلك لشيخنا المعاصر المحدث الشيخ
عبد الله بن صالح البحراني (طيب الله تعالى مرقده) فاستشكل في المسألة وجعلها من
المتشابهات، وطول زمام الكلام في أن الرقبة غير داخلة في غسل الرأس، وقال: إن
المعروف من كتب اللغة والشرع أن الرقبة ليست من الرأس، وأنه لم يعرف في كلام
أهل العصمة (سلام الله عليهم) نص يتضمن دخول الرقبة في الرأس وأن هذه المسألة
من المسائل الاجتهادية التي أفتى بها المجتهدون من غير دليل، وعين فيها الاحتياط بالجمع
65

بين غسلها مع الرأس حينئذ كما قاله الأصحاب وغسلها مع البدن كما استظهره. وقد أجاب
الوالد (نور الله ضريحه وطيب ريحه) عن ذلك بما يطول به زمام الكلام، إلا أنه مع
طوله لجودة محصوله مما يستحق أن يسطر في المقام، قال (قدس سره) بعد نقل كلام المحدث
المشار إليه: " أقول: المفهوم من كلام علمائنا (قدس الله أرواحهم) - تصريحا في مواضع
وتلويحا في أخرى بحيث لم يعلم خلاف منهم بل هو كالاجماع فيما بينهم - أن الواجب هو
غسل الرقبة مع الرأس من غير فرق بين كون الرقبة جزء من الرأس أو خارجة، وكون
اطلاق الرأس على ما يشمل الرقبة حقيقة على سبيل الاشتراك اللفظي أو مجازا على سبيل
التبع، بل المراد أنهما من حيث تعلق حكم الغسل بهما أمر واحد وعضو واحد بحيث
يغسلان معا بلا ترتيب بينهما ويجوز مقارنة النية لكل منهما، ولذا ترى الأصحاب
(رضوان الله عليهم) تارة يقولون يجب غسل الرأس مطلقا، وتارة يقولون غسل الرأس
والرقبة، وتارة غسل الرأس ومنه الرقبة، وتارة يصرحون بأن الرأس والرقبة في الغسل
عضو واحد، إلى غير ذلك من العبارات التي غرضهم منها وقصدهم مجرد كون الرقبة
تغسل مع الرأس سواء كانت جزء من الرأس أو خارجة عند، فلا فائدة حينئذ في هذا
الخلاف بعد تصريح الأصحاب بل اتفاقهم على غسلها مع الرأس. ولنعم ما قال شيخنا
في بعض مؤلفاته: " ولا ثمرة في هذا الخلاف بعد الاتفاق على عدم الترتيب بينهما " انتهى
وهو - كما ترى - صريح في الاجماع على غسلها مع الرأس، ويؤيد ذلك ما صرح به بعض
المحققين من علمائنا المتأخرين، حيث قال: " إن الرأس عند الفقهاء (رضوان الله عليهم)
يقال على معان: (الأول) - كرة الرأس التي هي منبت الشعر وهو رأس المحرم
(الثاني) - أنه عبارة عن ذلك مع الأذنين وهو رأس الصائم (الثالث) - أنه ذلك مع
الوجه وهو رأس الجناية في الشجاج (الرابع) - أنه ذلك كله مع الرقبة وهو رأس
المغتسل " انتهى كلامه زيد اكرامه، وهو صريح في أن الرأس في الغسل عند الفقهاء
عبارة عما يشمل الرقبة، وكأنه حقيقة عرفية عندهم في ذلك. وظاهره الاجماع على ذلك
66

كما يفهم من الجمع المحلى. وأنت خبير بأن جميع تلك المعاني المذكورة للرأس مفهومة من
الأخبار المروية عن العترة الأطهار، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار ونظر
بعين التأمل والاعتبار، لا أنه مجرد اجتهاد بحت وقول على الله بلا دليل، كما زعمه ذلك
الفاضل الجليل نسجا منه على منوال طائفة من المتأخرين قد سموا أنفسهم بالأخباريين.
وادعوا أنهم وفقوا لتحصيل الحق واليقين واطلعوا على أسرار الدين التي قد خفيت
على المجتهدين، كما يتبجح به مقدمهم في ذلك صاحب الفوائد محمد أمين ومما يمكن أن
يستدل به من الأخبار على دخول الرقبة في حكم غسل الرأس حسنة زرارة المذكورة
آنفا (1) حيث قال (عليه السلام): "... ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على
منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه الأيسر مرتين... " فإن الخبر - كما ترى - ظاهر الدلالة
بل صريح في دخول الرقبة في غسل الرأس، إذ لا تدخل في المنكبين قطعا، ولا تبقى
متروكة بلا غسل قطعا، ولا تغسل عضوا واحدا بانفرادها قطعا، فتحتم دخولها في
غسل الرأس وهو المطلوب، سواء كان اسم الرأس شاملا لها حقيقة أم مجازا، فلا
يلتفت إذن إلى ما ذكره المعاصر (سلمه الله) واستظهره من خروج الرقبة عن الرأس كما
عرفته، واستناده - فيما استظهره إلى أنه المعروف في كتب اللغة والشرع - وهم ظاهر،
لأن غاية ما قاله أهل اللغة أن رأس الانسان معروف، وهو لا يفهم منه شئ، وأما في
كتب الشرع فإن أراد بها كتب الفقهاء فقد عرفت دلالتها على دخول الرقبة في حكم
غسل الرأس تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى، وإن أراد بها كتب الأخبار فلا يخفى
أنه ليس في شئ دلالة ظاهرة فضلا عن الصريحة على خروجها عن حكم غسل الرأس،
بل فيها ما هو صريح في دخولها كحسنة زرارة المذكورة آنفا، أما ما في صحيحة يعقوب
بن يقطين (2) من عطف الوجه على الرأس لقوله (عليه السلام): "... ثم يصب الماء على

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
67

رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كله... " فالظاهر أن المراد به التنصيص على غسل الوجه
من قبيل عطف الجزء على الكل، لا لكونه خارجا عن اسم الرأس وأن غسل الرأس
لا يشمله لو لم يذكر حتى تكون الرقبة خارجة عن غسل الرأس بالطريق الأولى، إذ لو تم
ذلك لزم الاخلال بذكر غسل الوجه في الأخبار الخالية عن التصريح بالوجه مع ورودها
في معرض البيان وجواب السؤال عن كيفية الغسل، فلا مندوحة عن التزام دخوله في
الرأس البتة كالتزام دخول الرقبة فيه في حسنة زرارة بل في سائر الأخبار. هذا. والعجب
منه (سلمه الله) أنه جعل المسألة من المتشابهات، والظاهر أنه عنى بها - كما فسره جماعة
من الأخباريين - ما حصل فيه الاشتباه في نفس الحكم الشرعي بحيث لم يعلم وجهه
ولذا عين فيها الاحتياط، والحال أنه استظهر خروج الرقبة عن حكم غسل الرأس كما هو
صريح عبارته، فإن كان هذا الاستظهار علم مأخذه من الأخبار وظهر لديه صحته من
الآثار، فالواجب عليه العمل بمقتضاه وعدم الالتفات إلى ما سواه، فمن أين يجب إذ ذاك
الاحتياط؟ ومن أين تكون المسألة من المتشابهات التي حصل فيها الاشتباه؟ إذ مع
الاستظهار للخروج لا اشتباه في الحكم الشرعي عنده، نعم الاحتياط أمر راجح
للخروج عن عهدة التكليف على اليقين لكنه ليس بواجب على التعيين إلا مع عدم ظهور
الحكم الشرعي واشتباهه، وإن كان منشأ هذا الاستظهار مجرد التخمين والاعتبار من
غير دليل واضح من الأخبار، فهو خلاف ما يتفوه به (سلمه الله) من عدم تعدي
الآثار والوقوف على مقتضى ما ورد عن الأئمة الأطهار، وبالجملة فالمسألة ليست من
الشبهات كما ادعاه (سلمه الله) أما عندنا فلحكمنا يل جزمنا بدخول الرقبة في حكم غسل
الرأس كما حققناه فيما سلف، وأما عنده فلتصريحه باستظهار خروجها عن غسل الرأس
والشبهة لا تجامع ظهور أحد الطرفين كما هو ظاهر " انتهى كلام الوالد عطر الله مرقده.
أقول: حيث كان شيخنا المحدث الصالح (قدس سره) شديد التصلب في
مذهب الأخباريين اجترأ قلمه على المجتهدين، وكان الوالد (نور الله تربته) شديد
68

التعصب للمجتهدين جرى قلمه بالتعريض بالأخباريين، وقد عرفت في المقدمة الثانية
عشرة من مقدمات الكتاب ما هو الأليق بالعلماء الأنجاب، من سد هذا الباب حذرا
من طغيان الأقلام بمثل هذا الخطاب، وانجراره للقدح في العلماء الأطياب، وارتكاب
مخالفة السنة في ذلك والكتاب، وقد أخبرني بعض الثقات أنه بعد وقوف المحدث
الصالح على كلام الوالد (قدس سرهما) رجع عما هو عليه إلى موافقة الأصحاب،
وحينئذ فالظاهر أن ما ذهب إليه ناشئ عن عدم التأمل في المسألة وملاحظة أدلتها.
وأما الفاضلان الآخران فظاهر كلاميها يؤذن بالوقوف على الحسنة المتقدمة لكنهما
يدعيان عدم صراحتها في الحكم المذكور. وفيه ما عرفت من كلام الولد (قدس سره)
أقول: ومما يستأنس به لدخول الرقبة في غسل الرأس ظاهر موثقة سماعة (1)
حيث قال فيها: "... ثم ليصب على رأسه ثلاث مرات ملء كفيه ثم يضرب بكف من ماء
على صدره وكف بين كتفيه ثم يفيض الماء على جسده كله... الحديث ".
ثم إن وجوب الترتيب بين غسل الرأس والبدن مما انعقد عليه اجماعنا واستفاضت
به أخبارنا، وربما نقل عن الصدوقين وابن الجنيد العدم، إلا أن كلام الفقيه في صدر
الباب فيما نقله عن أبيه في رسالته إليه وإن أشعر بذلك، حيث إنه في بيان الكيفية عطف
البدن على الرأس بالواو، إلا أنه في آخر الباب قال فيما نقله عن الرسالة أيضا: " فإن
بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك بعد غسل رأسك " وهذا
الكلام وما قبله مما أسنده إلى رسالة أبيه عين عبارة كتاب الفقه الرضوي، وبذلك يظهر
لك ما في كلام صاحب المدارك من توهم عدم اعتبار الصدوقين الترتيب هنا لعدم تعرضهما
له في بيان الكيفية مع اشتمال ما ذكراه على الواجب والمستحب، ولهذا أن جملة من
متأخري المتأخرين إنما نقلوا خلاف الصدوقين وابن الجنيد في نفس البدن.
ومما يدل على وجوب الترتيب هنا من الأخبار حسنة زرارة (2) قال: " قلت كيف

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
69

يغتسل الجنب؟ فقال: إن لم يكن أصاب كفه شئ غمسها في الماء ثم بدأ بفرجه فأنقاه
بثلاث غرف ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه
الأيسر مرتين، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه " وقد رواه في المعتبر عن زرارة عن
أبي عبد الله (عليه السلام) وحينئذ فيخرج عن وصمة الاضمار الذي ربما طعن به في الأخبار
ولعله (قدس سره) نقله عن بعض الأصول القديمة التي كانت عنده.
وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " سألته عن غسل
الجنابة. فقال: تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك، ثم تصب على رأسك ثلاثا ثم
تصب على سائر جسدك مرتين، فما جرى عليه الماء فقد طهر ".
وموثقة سماعة المتقدمة آنفا (2) وحسنة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
قال: " من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثم بدا له أن يغسل رأسه لم يجد بدا
من إعادة الغسل ".
ومقطوعة حريز (4) قال فيها: " وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك... الحديث "
وأما ما ورد بإزاء هذه الأخبار مما يدل بظاهره على عدم وجوب الترتيب مطلقا -
كصحيحة زرارة (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجنابة
فقال: تبدأ فتغسل كفيك ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك ثم
تمضمض واستنشق، ثم تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك، ليس بعده ولا قبله
وضوء، وكل شئ أمسسته الماء فقد أنقيته... الحديث ".
وصحيحة أحمد بن محمد (6) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن غسل الجنابة.
فقال: تغسل يدك اليمنى، إلى أن قال: ثم أفض على رأسك وجسدك، ولا وضوء فيه ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(2) ص 69
(3) المروية في الوسائل في الباب 28 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 33 من أبواب الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(6) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
70

وصحيحة يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) (1) وفيها " ثم يصب
الماء على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كله ثم قد قضى الغسل ولا وضوء عليه " فإن
ظاهرها من حيث اطلاقها واجمالها وورودها في مقام البيان وجواب السؤال عن الكيفية
عدم وجوب الترتيب بين الرأس والجسد - فمقتضى الجمع بينه وبين ما تقدم تقييد اطلاق
هذه الأخبار بالأخبار المتقدمة كما هو مقتضى القاعدة المسلمة.
وأما ما ورد في صحيحة هشام بن سالم (2) - قال: " كان أبو عبد الله (عليه السلام)
فيما بين مكة والمدينة ومعه أم إسماعيل فأصاب من جارية له فأمرها فغسلت جسدها
وتركت رأسها... الحديث " ففيه أن هشام المذكور قد روى القصة المشار إليها في
الصحيح عن محمد بن مسلم (3) قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فسطاطه
وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه، فقال: ادن هذه أم إسماعيل جاءت وأنا أزعم أن هذا
المكان الذي أحبط الله فيه حجها عام أول، كنت أردت الاحرام فقلت ضعوا لي الماء
في الخباء، فذهبت الجارية بالماء فوضعته فاستخففتها فأصبت منها، فقلت اغسلي رأسك
وامسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك فإذا أردت الاحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي
رأسك فتستريب مولاتك، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئا فمست
مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء فحلقت رأسها وضربتها، فقلت لها هذا المكان الذي أحبط
الله فيه حجك " ومن ثم حمل الشيخ (رحمه الله) ومن تأخر عنه الخبر الأول على وهم
الراوي في النقل وغلطه.
واحتمل شيخنا صاحب رياض المسائل أن يكون الغسل المأمور فيه بغسل الجسد
أولا وترك الرأس ليس غسل الجنابة بل غسل الاحرام، كما أشعرت به الرواية الثانية

(1) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب الجنابة.
(3) رواها في الوسائل في الباب 29 من أبواب الجنابة.
71

حيث قال فيها: " فإذا أردت الاحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك " قال:
" وهو لا يشترط فيه الترتيب عندنا لعدم الدليل عليه ".
أقول: ولعله - وإن كان بعيدا - أقرب من الحمل على السهو والغلط، لايجابه
القدح في الراوي المذكور بعدم التثبت في النقل الذي ربما قدح في العدالة، مع أن الرجل
المذكور من أجلاء الرواة ومعتمديهم.
ويمكن أيضا أن يقال - ولعله الأقرب - أن المأمور به منه (عليه السلام) غير
مذكور، ولعل فعلها من غسل الجسد وترك الرأس كان خطأ منها وخلاف ما أمرت به
ثم إنه (عليه السلام) أمرها بغسل رأسها وقت الركوب وتأخير غسل البدن إلى وقت
آخر وإن لم ينقله الراوي في تتمة الكلام، إذ لعل همه إنما تعلق بنقل ما وقع من أم
إسماعيل وما أنكر به (عليه السلام) عليها.
وأما الترتيب في الجسد بين يمينه ويساره بتقديم الأول على الثاني فهو المشهور بين
أصحابنا بل ادعى عليه الاجماع إلا أن كلام الصدوق وكذا ابن الجنيد على ما نقل عنه
خال منه، والمنقول أيضا عن ابن أبي عقيل عطف الأيسر على الأيمن بالواو كما في الأخبار
وقد اعترض ذلك المحقق في المعتبر، حيث قال: " واعلم أن الروايات قد دلت على
وجوب تقديم الرأس على الجسد، وأما اليمين على الشمال فغير صريحة بذلك، ورواية
زرارة دلت على تقديم الرأس على اليمين، ولا تدل على تقديم اليمين على الشمال، لأن
الواو لا تقتضي ترتيبا، فإنك لو قلت: " قام زيد ثم عمرو وخالد " دل ذلك على تقديم
قيام زيد على عمرو، وأما تقديم عمرو على خالد فلا، ولكن فقهائنا اليوم بأجمعهم يفتون
بتقديم اليمين على الشمال ويجعلونه شرطا في صحة الغسل، وقد أفتى بذلك الثلاثة
وأتباعهم " انتهى. وهو جيد وعلى حذوه جرى جملة من متأخري المتأخرين.
احتج شيخنا الشهيد الثاني في الروض على وجوب الترتيب هنا بأن هذه الروايات
وإن دلت صريحا على تقديم الرأس على غيره لعطف اليمين عليه ب‍ " ثم " الدالة على التعقيب
72

لكن تقديم الأيمن على الأيسر استفيد من خارج إن لم نقل بإفادة الواو الترتيب كما ذهب
إليه الفراء، بل على الجمع المطلق أعم من الترتيب وعدمه كما هو رأي الجمهور، إذ
لا قائل بوجوب الترتيب في الرأس دون البدن والفرق احداث قول ثالث، ولأن
الترتيب قد ثبت في الطهارة الصغرى على هذا الوجه وكل من قال بالترتيب فيها قال
بالترتيب في غسل الجنابة، فالفرق مخالف للاجماع المركب فيهما، وما ورد من الأخبار
أعم من ذلك يحمل مطلقها على مقيدها. انتهى. ولا ريب في ضعف هذا الكلام
لدخوله في باب المجازفة في أحكام الملك العلام. واستدل أيضا بوجوه أخر لا فائدة في
التطويل بذكرها.
ولا بأس ببسط جملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار زيادة على ما قدمناه
ليظهر للناظر حقيقة الحال وجلية المقال:
فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " سألته
عن غسل الجنابة. فقال: تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك ثم تصب على رأسك
ثلاثا ثم تصب على سائر جسدك مرتين، فما جرى عليه الماء فقد طهر ".
وموثقة أبي بصير أو صحيحته (2) على الخلاف فيه وإن كان الأرجح الثاني
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجنابة. فقال: تصب على يديك الماء
فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تتمضمض وتستنشق وتصب الماء على
رأسك ثلاث مرات وتغسل وجهك، وتفيض على جسدك الماء ".
وصحيحة حكم بن حكيم (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل
الجنابة. فقال: أفض على كفك اليمنى من الماء فاغسلها، ثم أغسل ما أصاب جسدك من
أذى ثم اغسل فرجك، وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل، فإن كنت في مكان

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
73

نظيف فلا يضرك أن لا تغسل رجليك، وإن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل
رجليك... الحديث ".
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة على هذا المنوال، وكلها - كما ترى - جارية
على خلاف ما ذكروه.
إلا أن للوالد (نور الله تعالى تربته وأعلى رتبته) هنا تحقيقا حسنا لم أعثر عليه
لأحد قبله في المقام، به يندفع الإيراد عما هو المشهور بين علمائنا الأعلام. قال - (طيب
الله مرقده) بعد نقل جملة من الأخبار وشطر من كلام علمائنا الأبرار - ما صورته: " هذا
وقد يستدل على وجوب الترتيب - كما هو المشهور - بالأخبار الواردة في غسل الميت
الصريحة في الترتيب مضافا إلى الأخبار الواردة بأن غسل الميت كغسل الجنابة، وحينئذ
فيستفاد من مجموع الأخبار أن غسل الجنابة مرتب، أما الروايات بالترتيب في غسل
الميت فكثيرة، كرواية يونس ورواية عبد الله الكاهلي ورواية عمار بن موسى
وغيرها (1) وأما الروايات المتضمنة أن غسل الميت كغسل الجنابة فكثيرة أيضا،
كرواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (2) قال: " غسل الميت كغسل
الجنابة... " ورواية محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه عن أبي عبد الله (3) قال في حديث:
" أن رجلا سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال: إذا
خرجت الروح من البدن خرجت النطفة التي خلق منها بعينها منه كائنا ما كان صغيرا كان
أو كبيرا ذكرا أو أنثى، فلذلك يغسل غسل الجنابة... " وفي حديث عن الكاظم (عليه
السلام) (4) وقد سئل عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ فذكر حديثا يقول فيه: " إذا مات
الميت سالت منه تلك النطفة بعينها - يعني التي خلق منها - فمن صار يغسل غسل الجنابة "
وروي الصدوق (5) قال: " سئل الصادق (عليه السلام) لأي علة يغسل الميت؟ قال:

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
(2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت.
(3) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت.
(4) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت.
(5) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت.
74

تخرج منه النطفة التي خلق منها، تخرج من عينيه أو من فيه... الحديث " وفي كتاب
العلل (1) قال: " سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) عن غسل الميت لأي
علة يغسل ولأي علة يغتسل الغاسل؟ قال: يغسل الميت لأنه جنب... الحديث "
إلى غير ذلك من الأخبار الصريحة في أن الكيفية والترتيب الثابتين في غسل الأموات
هما بعينهما الثابتان في غسل الجنابة، معللا ذلك بأن الميت جنب لخروج النطفة التي خلق
منها منه فأوجب ذلك تغسيله غسل الجنابة، وذلك صريح في الدلالة على أن غسل الجنابة
مرتب كما لا يخفى على ذي الذوق السليم والذهن المستقيم، ويمكن أن يجعل ذلك من قبيل
الاستدلال بالشكل الثالث، هكذا: غسل الميت غسل الجنابة، وغسل الميت مرتب، ينتج
غسل الجنابة مرتب وهو المطلوب. (فإن قلت): إن المعلوم الثابت من الحديث - خصوصا
الأول - أن غسل الأموات كغسل الجنابة، والمشابهة لا تقتضي المساواة من كل وجه
بل تحقق المشاركة في الجملة كاف (قلت): إن ذا الذوق السليم إذا تأمل مضمون هذه الأخبار وما اشتملت عليه من التعليل لا يشك في أن الكيفية الترتيبية الثابتة في غسل
الأموات مطابقة للكيفية الثابتة في غسل الجنابة، كما هو قضية الحكم بكونه غسل جنابة
وقضية التعليل بخروج النطفة منه وقت خروج روحه، ولذا ورد في الخبر المذكور في العلل
أن الميت جنب، ومع تمام هذا الاستدلال يؤيد بالاجماع المنقول عن الشيخ (رحمه الله)
فلا يبعد تقييد اطلاق تلك الأخبار بذلك، فتأمل المقام فإنه حرى بالتأمل التام " انتهى
كلامه رفعت في أوج العلا أعلامه.
أقول: ومن الأخبار الدالة على ما ذكره الوالد زيادة على ما نقله (قدس سره)
ما رواه في كتاب العلل وعيون الأخبار عن الرضا (عليه السلام) (2) في العلل التي
رواها عنه محمد بن سنان في حديث قال فيه: " وعلة أخرى أنه يخرج منه الأذى الذي

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل الميت.
75

منه خلق فيجنب فيكون غسله له... الحديث ".
وما رواه أيضا في كتاب العلل بسنده عن عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد عن أبيه
(عليهما السلام) (1) أنه " سئل ما بال الميت يغسل؟ قال النطفة التي خلق منها يرمى بها ".
وما رواه فيه أيضا بسنده إلى عبد الرحمان بن حماد (2) قال: " سألت أبا إبراهيم
(عليه السلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال: إن الله تبارك وتعالى، وساق
الحديث إلى أن قال: فإذا مات سألت منه تلك النطفة بعينها لا غيرها فمن ثم صار الميت
يغسل غسل الجنابة ".
وأنت خبير بأن مقتضى هذه الأخبار المستفيضة - من حيث التعليل بكون الميت
جنبا في بعض وبخروج النطفة في بعض - أن غسل الميت في الحقيقة غسل جنابة، ولا
ينافيه التشبيه الرافع في صحيحة محمد بن مسلم لاشعاره بالمغايرة، إذ الظاهر أن المراد منه
الايماء إلى ما ذكر من العلة وإلا لم يكن لتخصيص التشبيه به نكتة، ولكن حيث كان
اندراج غسل الميت في غسل الجنابة خفيا لخفاء علته، صح التشبيه للمغايرة بين طرفي
التشبيه، إذ المعنى أن غسل الميت كغسل الجنابة المتعارف يومئذ لكونهما فردين من
أفراد غسل الجنابة الواقعي، والمغايرة بين أفراد الماهية واضحة، وحينئذ فالظاهر أن
خروج بعض الأخبار - الواردة في بيان الكيفية بالواو في عطف الأيسر على الأيمن،
أو مشتملة على ذكر الجسد بعد الرأس من غير تعرض للجانبين - اعتماد على معلومية
الحكم في زمانهم (صلوات الله عليهم) كما تقدم في الترتيب بين الرأس والجسد،
فليحمل مطلقها على مقيدها في الموضعين، وإلى القول بالترتيب كما هو المشهور يميل كلام
المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (قدس سره) في كتاب الوسائل.
و (ثانيهما) - الارتماس، وهو عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) عبارة
عن الدخول تحت الماء دفعة واحدة عرفية. قالوا: ولا ينافي الدفعة الاحتياج إلى التخليل

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت، ولا يخفى أن حديث
عبد الرحمان هو عين ما ذكره والده (قدهما) عن الكاظم (ع).
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت، ولا يخفى أن حديث
عبد الرحمان هو عين ما ذكره والده (قدهما) عن الكاظم (ع).
76

لو كان كثيف الشعر أو كان لجلده مكاسر أو نحو ذلك، لعدم إمكان التخلص عن مثل
هذه الأشياء عادة، ولا خلاف بينهم في قيامه مقام الترتيب المتقدم ذكره.
والأصل في ذلك الأخبار الواردة عن أهل الذكر (سلام الله عليهم):
ومنها - صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال في حديثه المتقدم:
"... ولو أن رجلا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وإن لم يدلك جسده "
وحسنة الحلبي (2) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا ارتمس
الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله ".
ورواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " قلت له: الرجل
يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة ويخرج يجزئه ذلك عن غسله؟ قال: نعم ".
وصحيحة الحلبي (4) قال: " حدثني من سمعه - يعني أبا عبد الله (عليه السلام) -
يقول: إذا اغتمس الجنب في الماء اغتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله ".
وظاهر هذه الأخبار أن الارتماس رخصة وتخفيف والأصل هو الترتيب، كما
يومئ إليه لفظ الاجزاء من غسله أي بدل غسله المعهود، ف‍ " من " فيه مثلها في قوله سبحانه
"..... أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة... " (5) أي بدلا من الآخرة، ولهذا جعل بعض
محدثي متأخري المتأخرين الترتيب أفضل.
وظاهر اشتراط الدفعة الواحدة العرفية - كما عرفت من كلام الأصحاب - أنه
لو حصل نوع تأن ينافي ذلك بطل الغسل، ولعلهم استندوا في اعتبار الدفعة المذكورة
إلى قولهم (عليهم السلام) في الأخبار المذكورة: " ارتماسة واحدة " والذي يظهر عند
التأمل في الأخبار المشار إليها أن الظاهر أن المراد بالارتماسة الواحدة إنما هو المقابلة
بالارتماسات المتعددة، وبيان ذلك أنه حيث كان الغسل الأصلي الذي استفاضت به

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(5) سورة المائدة الآية 38.
77

الأخبار وفعله النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) من بعده إنما هو
الترتيبي الذي هو عبارة عن التعدد في الغسل مرتين أو ثلاثا، والغسل الارتماسي إنما
وقع رخصة كما عرفت، نبه (عليه السلام) على أنه لا يحتاج في الغسل الارتماسي إلى
رمس كل عضو على حدة أو إلى ارتماسات متعددة لأجل كل عضو، بل تكفي ارتماسة
واحدة، فالوحدة هنا احتراز عن التعدد المعتبر في الغسل الأصلي لا بمعنى الدفعة،
وحينئذ فلو حصل فيها تأن ينافي الدفعة العرفية لم يضر بصحة الغسل، إلا أن ما ذكروه
(رضوان الله عليهم) أحوط.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الظاهر أنه لا ترتيب حكميا في الغسل الارتماسي كما هو
اختيار الشيخ في المبسوط، ونقل فيه عن بعض الأصحاب أنه يترتب حال الارتماس
حكما، قال شيخنا الشهيد في الذكرى بعد نقله ذلك عنه: " وما نقله الشيخ يحتمل أمرين:
(أحدهما) - وهو الذي عقله عنه الفاضل أنه يعتقد الترتيب حال الارتماس، ويظهر ذلك
من المعتبر حيث قال: وقال بعض الأصحاب يرتب حكما. فذكره بصيغة الفعل المتعدي
وفيه ضمير يعود إلى المغتسل، ثم احتج بأن اطلاق الأمر لا يستلزم الترتيب والأصل
عدم وجوبه، فيثبت في موضع الدلالة، فالحجة تناسب ما ذكره الفاضل. (الأمر
الثاني) - أن الغسل بالارتماس في حكم الغسل المرتب بغير الارتماس، وتظهر الفائدة لو
وجد لمعة مغفلة فإنه يأتي بها وبما بعدها، ولو قيل بسقوط الترتيب بالمرة أعاد الغسل من
رأس لعدم الوحدة المذكورة في الحديث، وفيما لو نذر الاغتسال مرتبا فإنه يبرأ بالارتماس.
لا على معنى الاعتقاد المذكور لأنه ذكره بصورة اللازم المسند إلى الغسل أي يترتب
الغسل في نفسه حكما وإن لم يكن فعلا، وقد صرح في الاستبصار بذلك لما أورد وجوب
الترتيب في الغسل وأورد اجزاء الارتماس، فقال: لا ينافي ما قدمناه من وجوب
الترتيب لأن المرتمس يترتب حكما وإن لم يترتب فعلا، لأنه إذا خرج من الماء حكم له
أولا بطهارة رأسه ثم جانبه الأيمن ثم جانبه الأيسر، فيكون على هذا التقدير مرتبا،
78

قال: ويجوز أن يكون عند الارتماس يسقط مراعاة الترتيب كما يسقط عند غسل الجنابة
فرض الوضوء. قلت: هذا محافظة على وجوب الترتيب المنصوص عليه بحيث إذا ورد
ما يخالفه ظاهرا أول بما لا يخرج عن الترتيب، ولو قال الشيخ إذا ارتمس حكم له أولا
بطهارة رأسه ثم الأيمن ثم الأيسر ويكون مرتبا، كان أظهر في المراد، لأنه إذا خرج
من الماء لا يسمى مغتسلا، وكأنه نظر إلى أنه ما دام في الماء ليس الحكم بتقدم
بعض على الآخر أولى من عكسه، لكن هذا يرد في الجانبين عند خروجه إذ لا يخرج
جانب قبل آخر " انتهى كلام الذكرى.
أقول: والظاهر أن أصل القول المذكور وما وجه به من الاحتمالين وفرع عليه
من الفائدتين تكلف محض في البين: (أما أولا) - فلأن صريح الأخبار الواردة في
المسألة الدلالة على اجزاء الارتماس دفعة واحدة وفراغ الذمة به من الغسل الواجب، وهو
بيان لأحد نوعي الغسل، فإنه كما يقع ترتيبا - كما تقدم - يقع ارتماسا، فلا حاجة إلى الجمع
بين الأخبار الطرفين كما ذكره الشيخ (قدس سره) ووجهه في الذكرى بأنه محافظة على
وجوب الترتيب المنصوص، إذ لا دلالة في أخبار الترتيب على الاختصاص والحصر فيه
ليحتاج إلى حمل هذه الأخبار على الترتيب الحكمي كما ذكروه. و (أما ثانيا) - فلأنه
لا معنى لهذا الترتيب الحكمي بكلا معنييه، أما ما ذكره الشيخ في الاستبصار فيما أورده
عليه في الذكرى، وأما ما ذكره الفاضلان فلأن قصد الترتيب واعتقاده فيما لا ترتيب
فيه خارجا غير معقول، ومن ذلك يعلم حال التفريع على القولين.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن مورد أخبار الارتماس غسل الجنابة خاصة، وظاهر
الأصحاب (رضوان الله عليهم) تعدية الحكم إلى ما عداه من الأغسال، والظاهر أنه
من باب العمل بتنقيح المناط القطعي لعدم معلومية الخصوصية للجنابة في المقام، قال
شيخنا الشهيد (قدس سره) في الذكرى - بعد ايراد روايتي زرارة والحلبي المتقدمتين -
ما لفظه: " والخبران وإن وردا في غسل الجنابة ولكن لم يفرق أحد بينه وبين غيره.
79

من الأغسال " انتهى. وأيده بعضهم برواية الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
قال: " غسل الجنابة والحيض واحد " أقول: ويؤيده أيضا الأخبار المتظافرة بأن غسل
الميت كغسل الجنابة كما تقدم بيانه.
وتنقيح البحث في هذا المقصد يتم برسم مسائل: (الأولى) - أجرى الشيخ
في المبسوط الوقوف تحت المجرى والمطر الغزير مجرى الارتماس في سقوط الترتيب،
ونقل ذلك عن العلامة في جملة من كتبه، وطرد الحكم في التذكرة في الميزاب وشبهه،
ونقل عن بعض الأصحاب أنه أجرى الصب من الإناء الشامل للبدن مجرى ذلك أيضا،
قال في الذكرى: " وهو لازم للشيخ أيضا " ومنع ابن إدريس من ذلك وخص الحكم
بالارتماس بالدخول تحت الماء دون هذه المذكورات، وإليه يشير كلام المحقق في المعتبر كما سيأتي
والأصل في هذه المسألة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (2)
قال: " سألته عن الرجل يجنب هل يجزيه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتى يغسل رأسه
وجسده وهو يقدر على ما سوى ذلك؟ فقال: إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك ".
ومرسلة محمد بن أبي حمزة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3): " في
رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتى سال على جسده أيجزيه ذلك من الغسل قال نعم "
قال في المعتبر بعد نقل صحيحة علي: " وهذا الخبر مطلق وينبغي أن يقيد بالترتيب
في الغسل " وجعله في الذكرى أحوط، وقربه بعض فضلاء متأخري المتأخرين بناء
على اعتبار ما دل على وجوب الترتيب في غسل الجنابة، لعموم دلالته إلا ما خرج
بالأخبار المختصة بالارتماس من كونه بالدخول تحت الماء فيكون غيره داخلا تحت العموم.
أقول: وقد تلخص من ذلك أن هنا شيئين: (أحدهما) - أن الغسل بالمطر
هل يقع ترتيبا وارتماسا أو يخص بالترتيب؟ فالشيخ ومن تبعه على الأول وابن إدريس

(1) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب الحيض
(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
80

ومن تبعه على الثاني، وأنت خبير بأن ظاهر الخبرين المذكورين لا يأبى الانطباق على
كلام الشيخ (رحمه الله) فإن قوله في الخبر الأول -: " إن كان يغسله اغتساله بالماء
أجزأه؟ وتقييده الاجزاء في الثاني بالسيلان على جسده - لا يأبى أن يكون الاغتسال به ارتماسا
مع كثرته وحصول الدفعة العرفية سيما على ما فسرنا به الدفعة آنفا، وترتيبا إن لم يكن
كذلك، فيجوز للمغتسل قصد الارتماس به على الأول والترتيب على الثاني، ولعل في
ذكر الشيخ الغزارة في عبارة المبسوط إشارة إلى ذلك. وإلى ما ذكرنا يشير كلام
شيخنا البهائي وشيخنا المحقق في كتاب الحبل المتين ورياض المسائل. وما يوهمه كلام
ذلك الفاضل - من عموم أدلة الترتيب إلا ما خرج بالدليل - فيه أن الأدلة المشار إليها
لا عموم فيها بل بالخصوص أنسب، لدلالة أكثرها على أن الغسل بالاعتراف من الأواني
القليلة المياه، وما يوهمه اطلاق بعضها في ذلك يمكن حمله على المقيد منها، فلا دلالة حينئذ
على حكم الاغتسال بغير ذلك الفرد. و (ثانيهما) - أنه هل يحلق بالمطر على تقدير جواز
الارتماس به ما ذكر من تلك الأشياء أم لا؟ اشكال ينشأ من فقد النص عليه بخصوصه،
لاختصاص الخبرين المذكورين بالمطر مع ما عرفت من المناقشة في الدلالة أيضا، ومن العلة
المشار إليها بالتعليق على الشرط في قوله في صحيحة علي: " إن كان يغسله اغتساله بالماء
أجزأه " واطلاق قوله في صحيحة زرارة (1): " الجنب ما جرى عليه الماء من جسده
قليله وكثيره فقد أجزأه " وما يقرب منه ويؤدي مؤداه، فإنه علق الاجزاء على جريان
الماء على الجسد مطلقا، فإذا جرى دفعة بأي وجه وجب الحكم بالاجزاء وعدم الافتقار
إلى الترتيب. ولعله الأقرب.
(الثانية) - هل يجب في الغسل ارتماسا في الماء الكثير الخروج من الماء بالكلية
ثم القاء نفسه فيه دفعة، أم يجوز وإن كان بعضه في الماء بحيث ينوي ويدفع نفسه إلى
موضع آخر تحت الماء على وجه تختلف عليه سطوح الماء؟ ظاهر كلام جملة من متأخري

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الجنابة.
81

المتأخرين: منهم - الفاضل الخراساني في الكفاية وشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله
ابن صالح البحراني (عطر الله مرقديهما) الأول، والمفهوم من كلام الأصحاب - كما تقدم
في مسألة الماء المستعمل في الحدث الأكبر من نقل شطر من عبائرهم الدالة على النية بعد
الارتماس في الماء - هو الثاني، وهو الذي سمعته من والدي (عطر الله مرقده) غير
مرة، وهو الظاهر عندي: (أما أولا) - فلاطلاق الأخبار الواردة بالارتماس (1) فإنها
أعم من أن يكون المرتمس خارج الماء بكله أو بعضه. و (أما ثانيا) - فلأن الغسل
المأمور به شرعا ليس إلا عبارة عن غسل البشرة المقارن للنية، والغسل ليس إلا عبارة
عن جري جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو بمعاون كما صرح به الأصحاب
(رضوان الله عليهم) ولا يخفى حصول جميع ذلك في موضع البحث، فإن المغتسل متى
كان بعضه في الماء بل كله وقصد الغسل ثم دفع نفسه إلى موضع آخر بحيث اختلفت عليه
سطوح الماء الذي به يتحقق الجريان، فقد حصل الغسل المطلوب شرعا.
ولم أقف لأحد من الأصحاب (رضوان الله عليهم) على كلام في هذا المقام سوى
الفاضل الشيخ علي سبط شيخنا الشهيد الثاني، فإنه قال في كتاب الدر المنظوم والمنثور
بعد نقل كلام في المقام: " وما أحدث في هذا الزمان - من كون الانسان ينبغي أن
يلقي نفسه في الماء بعد أن يكون جميع جسده خارجا عنه - ناشئ عن الوسواس المأمور
بالتحرز منه، ومن توهم كون الارتماس في الماء يدل على ذلك. وهذا ليس بسديد،
لأن الارتماس في الماء يصدق على من كان في الماء بحيث يبقى من بدنه جزء خارج وعلى
من كان كله خارجا، بل ربما يقال إنه صادق على من كان جميع بدنه في الماء ونوى الغسل
بذلك مع حركة ما بل بغير حركة، ومثله ما لو كان الانسان تحت المجرى أو المطر الغزير
فإنه لا يحتاج إلى أن يخرج أو يحصل له مكانا خاليا من نزول المطر أو الميزاب ثم يخرج
إليه، وينبغي على هذا أن لا يجوز غسل الترتيب في حال نزول المطر عليه ونحو ذلك.

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
82

نعم لو قال (عليه السلام): " وقع في الماء دفعة واحدة " دل على ذلك، على أنه لم ينقل عن
أحد من علمائنا المتقدمين والمتأخرين فعل ذلك، وهو مما يتكرر فتتوفر الدواعي على نقله
لغرابته فلو فعل لنقل، مع منافاته للشريعة السهلة السمحة خصوصا في أمر الطهارة،
والقاء النفس إلى ما يحتمل معه تعطل بعض الأعضاء لا ظهور له من الحديث، وكأن
الشيطان (لعنة الله) يريد أن يسر بكسر أحد أعضاء بعض المؤمنين فيوسوس لهم
ذلك ويحسنه ". انتهى. وهو جيد. وبما ذكرنا يظهر أنه لا مانع من الغسل ترتيبا في
الماء على الوجه المذكور، ويؤيده صحيحة علي بن جعفر ومرسلة محمد بن أبي حمزة السالفتان
وصحيحة علي بن جعفر الواردة في الوضوء بالمطر حال تقاطره (1) وقد أشبعنا في هذه
المسألة الكلام زيادة على ما في هذا المقام في أجوبة مسائل بعض الأعلام.
(الثالثة) - الظاهر أنه لا خلاف في عدم وجوب الموالاة في الغسل بشئ من
التفسيرين المتقدمين في الوضوء.
ويدل عليه ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم الواردة في قضية أم إسماعيل (2).
وحسنة إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " إن
عليا (عليه السلام) لم ير بأسا أن يغسل الرجل رأسه غدوة ويغسل سائر جسده
عند الصلاة ".
وفي صحيحة حريز المتقدمة في مسألة الموالاة في الوضوء (4) "... وابدأ بالرأس
ثم أفض على سائر جسدك. قلت: وإن كان بعض يوم؟ قال: نعم ".
وما ورد في كتاب الفقه الرضوي (5) حيث قال (عليه السلام): " ولا بأس
بتبعيض الغسل: تغسل يديك وفرجك ورأسك وتؤخر غسل جسدك إلى وقت الصلاة

(1) ج 2 ص 358
(2) ص 71.
(3) المروية في الوسائل في الباب 29 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 33 من أبواب الوضوء.
(5) ص 4.
83

ثم تغسل إن أردت ذلك ".
إلا أن الأصحاب صرحوا باستحبابها هنا، ولم يفسروها بشئ من المعنيين
المتقدمين، ولم يوردوا على ذلك أيضا دليلا في المقام، وربما استدل على ذلك بمواظبة
السلف والخلف من العلماء والفقهاء على مرور الأعصار بل الأئمة الأطهار (صلوات الله
عليهم) إلا أنه لا يخلو من شوب الاشكال، إذ ربما يقال إن ذلك لما كان من الأفعال
العادية التي هي أسهل وأقل كلفة في غالب الأحوال حصل المواظبة عليها لذلك. نعم
ربما يمكن أن يستدل على ذلك بعموم آيات المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير (1)
والتحفظ من طريان المفسد. والمتابعة لفتوى جمع من الأصحاب بالاستحباب. ولا يخفى
ما فيه أيضا.
وهل تجب متى خاف فجأة الحدث الأصغر كما في السلس والمبطون؟ احتمال مبني
على وجوب الإعادة بتخلل الحدث الأصغر كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. أما إذا
خاف فجأة الحدث الأكبر فهل تجب محافظة على سلامة العمل من الابطال، أم لا لعدم
استناد الابطال إليه مع وجوب الاستئناف؟ احتمالان أظهرهما الثاني لما ذكر، أما لو كان
الحدث الأكبر مستمرا فالأقرب الأحوط اشتراطها في صحة الغسل، لعدم العفو عما سوى
القدر الضروري كما تقدم مثله في الوضوء.
(الرابعة) - قد عرفت أن الأظهر الأشهر وجوب الترتيب في الغسل الترتيبي
بين الأعضاء الثلاثة، وحينئذ فلو أغفل المغتسل ترتيبا لمعة من بدنه فقد صرح الأصحاب
(رضوان الله عليهم) بأنه إن كان في الجانب الأيسر غسلها وإن كان في الأيمن فكذلك
مع إعادة غسل الأيسر تحصيلا للترتيب.
والذي وقفت عليه من الأخبار مما يتعلق بذلك صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله

(1) سورة آل عمران الآية 133 وسورة البقرة. الآية 148 وسورة المائدة،
الآية 48.
84

(عليه السلام) (1) قال: " اغتسل أبي من الجنابة فقيل له قد بقيت لمعة من ظهرك لم
يصبها الماء فقال له: ما كان عليك لو سكت؟ ثم مسح تلك اللمعة بيده ".
وقد يستشكل في هذه الرواية من حيث إباء العصمة ذلك. وأجيب بأنه لعل
الترك لقصد التعليم. ولا يخفى بعده. والأقرب عندي حمل الخبر على عدم فراغه (عليه
السلام) من الغسل وانصرافه عنه، فمعنى قوله (عليه السلام): " اغتسل أبي " أي اشتغل
بالغسل فقيل له في حال الغسل، والتجوز في مثل ذلك شائع في الكلام، فلا منافاة فيه
للعصمة. وما ربما يتراءى من دلالة قول المخبر: " قد بقيت لمعة " على ذلك، فإن مرمى
هذه العبارة إنما يكون بالنسبة إلى من فرغ من الغسل، فإنه يمكن أن يقال إنه (عليه
السلام) في حال الاشتغال بالغسل وتعديه إلى أسافل البدن مع بقاء تلك اللمعة في أعاليه
استعجل الرائي لها باخباره بها، وإلا فهو كان يرجع إليها بامرار يده عليها مرة أخرى.
نعم قوله (عليه السلام): " ما كان عليك لو سكت " فيه تعليم للمخبر بعدم وجوب
الأخبار بمثل ذلك.
وروى مثل ذلك القطب الراوندي في نوادره بسنده فيه عن موسى بن إسماعيل
عن أبيه عن جده موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) (2) قال: " قال علي (عليه
السلام) اغتسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جنابة فإذا لمعة من جسده لم يصبها
ماء فأخذ من بلل شعره فمسح ذلك الموضع ثم صلى بالناس ".
وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) في حديث قال فيه: قال حماد وقال
خريز قال زرارة: " قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة
فقال: إذا شك ثم كانت به بلة وهو في صلاته مسح بها عليه، وإن كان استيقن رجع
وأعاد الماء عليه ما لم يصب بلة، فإن دخله الشك وقد دخل في حال أخرى فليمض في

(1) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الجنابة
(2) رواه في البحار ج 18 ص 156.
(3) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الجنابة
85

صلاته ولا شئ عليه، وإن استيقن رجع وأعاد عليه الماء، وإن رآه وبه بلة مسح عليه وأعاد
الصلاة باستيقان، وإن كان شاكا فليس عليه في شكه شئ فليمض في صلاته ".
وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من هذه الأخبار هو غسل موضع الخلل خاصة أعم
من أن يكون في طرف اليمين أو اليسار، إلا أن يقيد اطلاقها بما علم من الترتيب المتقدم
وهو قريب في الخبرين الأولين باحتمال كون المغفل من الظهر في الأول والجسد في
الثاني داخلا في الجانب الأيسر إلا أنه في الثالث بعيد، أو يقال باستثناء موضع البحث
ويؤيده أن اثبات وجوب الترتيب من الأخبار المتقدمة بحيث يشمل مثل هذه الصورة
لا يخلو من الاشكال، وظاهر الأخبار المذكورة أيضا الاكتفاء بمجرد مسحه بالبلة الباقية
إلا أن يحمل المسح على ما يحصل به الجريان ولو قليلا والظاهر بعده، أو يقال بالاكتفاء
بالمسح في مثل ذلك خاصة. وكيف كان فلا ريب أن الأحوط هو ما ذكروه (نور الله
مراقدهم وأعلى مقاعدهم).
ولو كان اغفال اللمعة في الغسل الارتماسي فهل يعيد مطلقا، أو يكتفي بغسل اللمعة
مطلقا، أو يغسلها وما بعدها كالمرتب، أو يفصل بطول الزمان فالإعادة وعدمه فالاجتزاء
بغسل اللمعة؟ احتمالات، وبالأول صرح الشهيد في الدروس والبيان، وقواه العلامة في
المنتهى بعد أن نقله عن والده، معللا له بأن المأخوذ عليه الارتماس دفعة واحدة بحيث
يصل الماء إلى سائر الجسد في تلك الدفعة، لقول أبي عبد الله (عليه السلام) (1): " إذا
ارتمس ارتماسة واحدة أجزأه " ومن المعلوم عدم الاجزاء مع عدم الوصول. وبالثاني
صرح العلامة في القواعد، واحتج عليه في المنتهى بعد ذكره احتمالا بأن الترتيب سقط
في حقه وقد غسل أكثر بدنه فأجزأه، لقول أبي عبد الله (عليه السلام) (2): " فما جرى عليه
الماء فقد أجزأه " وأما الثالث فذكره في القواعد احتمالا مقويا له على الأول، وكأن وجهه
البناء على أن الارتماس يترتب حكما أو نية وإلا فلا وجه له، وأما الرابع فاختاره المحقق

(1) المروي في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(2) المروي في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
86

الشيخ علي في شرح القواعد ولم يذكر الوجه فيه، والظاهر أن وجهه أنه مع عدم الفصل
الكثير تصدق الوحدة العرفية فيكون غسل اللمعة فقط مجزئا، ومع الفصل كذلك لا تصدق
الوحدة المذكورة فتجب الإعادة.
وأنت خبير بأن الحكم المذكور لخلوه من النص لا يخلو من الاشكال، لتدافع
ما ذكروه من الوجوه في هذا المجال، بل ورود النقض فيها والاختلال: (أما الأول)
فلاحتمال صدق الارتماسة الواحدة عرفا وإن لم يصل الماء إلى بعض يسير من جسده
ولا سيما إذا كان ذلك لمانع، إذ الفرض أن جميع البدن تحت الماء، وأما الحيثية المذكورة
فغير مفهومة من الارتماسة الواحدة. و (أما الثاني) فلأن سقوط الترتيب في حقه لا مدخل
له في عدم وجوب الإعادة، وغسل أكثر البدن لا مدخل له في العلية بل هو محض
مصادرة، والخبر الذي ذكره مورده الترتيب. و (أما الثالث) فقد عرفت أنه لا وجه
له إلا البناء على الترتيب الحكمي وقد تقدم ما فيه. و (أما الرابع) فإنه إنما يتم لو لم
يخرج المغتسل من الماء، وأما إذا خرج فإنه لا يخلو إما أن يقول بدلالة الخبر الذي هو
مستند الغسل الارتماسي على غسل جميع الأعضاء في الارتماسة الواحدة أم لا، فعلى الأول
لا يخفى أنه بعد الخروج وإن لم يقع فصل كثير لا يصدق على غسل اللمعة خارجا أنه وقع
في الارتماسة الواحدة، وعلى الثاني لا وجه للفرق بالاجزاء وعدمه بين طول الزمان وعدمه
كما لا يخفى، وحينئذ فالواجب الوقوف على ساحل الاحتياط بالإعادة من رأس.
(الخامسة) - لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب
اجراء الماء في الغسل تحقيقا لمسمى الغسل الوارد في الآية والرواية، ولورود جملة من الأخبار
بذلك، كقوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (1): "... فما جرى عليه الماء فقد
طهر " وقوله في صحيحة زرارة (2): " الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(2) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الجنابة
87

فقد أجزأه " وغيرهما، وحينئذ فما يدل بظاهره على خلاف ذلك - كرواية إسحاق بن
عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (1) " أن عليا (عليه السلام) قال: الغسل من
الجنابة والوضوء يجزئ منه ما أجزأ من الدهن الذي يبل الجسد " ونحوها - محمول على
أقل ما يحصل معه الجريان أو عوز الماء، ويؤيد الثاني ما في كتاب الفقه الرضوي حيث
قال (2) " ويجزئ من الغسل عند عوز الماء الكثير ما يجزئ من الدهن " وقد تقدم في
بحث الوضوء من التحقيق في المقام ما له مزيد نفع في ايضاح المرام.
(السادسة) - المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) تصريحا في
مواضع وتلويحا في أخرى أنه لا يجب غسل شعر الجسد كائنا ما كان خفيفا كان
أو كثيفا، نعم يجب تخليله لايصال الماء إلى ما تحته، وظاهر المعتبر والذكرى الاجماع
على الحكم المذكور، وربما ظهر من عبارة المقنعة الخلاف في ذلك، حيث قال: " وإذا
كان الشعر مشدودا حلته " إلا أن الشيخ (رحمه الله) في التهذيب حملها على ما إذا لم
يصل الماء إلى أصول الشعر إلا بعد حله، وأما مع الوصول فلا يجب ذلك.
واستدل بعض الأصحاب على ذلك بأصالة العدم مما لم يرد الأمر بالتكليف به،
إذ قصارى ما تدل عليه الأخبار الأمر بغسل الجسد: والشعر لا يسمى جسدا، وصحيحة
الحلبي عن رجل عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي (عليه السلام) (3) قال: " لا تنقض
المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة ".
وللنظر في ذلك مجال: (أما أولا) - فلمنع خروجه من الجسد ولو مجازا، كيف
وهم قد حكموا بوجوب غسله في يدي الوضوء كما تقدم، معللين ذلك تارة بدخوله في
محل الفرض وأخرى بأنه من توابع اليد، وحينئذ فإذا كان داخلا في اليد بأحد الوجهين
المذكورين واليد داخلة في الجسد كان داخلا في الجسد البتة، ولو سلم خروجه عن الجسد

(1) المروية في الوسائل في الباب 52 من أبواب الوضوء
(2) ص 3
(3) المروية في الوسائل في الباب 38 من أبواب الجنابة.
88

فلا يخرج عن الدخول في الرأس والجانب الأيمن والأيسر المعبر بها في جملة من الأخبار
و (أما ثانيا) - فلأنه لا يلزم من عدم النقض في صحيحة الحلبي عدم وجوب
الغسل، لامكان الزيادة في الماء حتى يروي، كما في حسنة الكاهلي عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) في المرأة التي في رأسها مشطة حيث قال (عليه السلام): "... فإذا
أصابها الغسل بقذر مرها أن تروي رأسها من الماء وتعصره حتى يروي فإذا روى فلا
بأس عليها... الحديث ".
و (أما ثالثا) - فلما روي في صحيحة حجر بن زائدة عن الصادق (عليه
السلام) (2) أنه قال: " من ترك شعرة من الجنابة متعمدا فهو في النار " والتأويل
بالحمل على أن المراد بالشعرة ما هو قدرها من الجسد لكونه مجازا شائعا كما ذكروا وإن
احتمل إلا أنه خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا بدليل، إذ وجوب غسل الجسد كملا في
الغسل وعدم صحته إلا بذلك مما تكفلت به الأخبار المستفيضة، ويزيد ذلك بيانا
وتأكيدا ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) مرسلا من قوله: " تحت كل شعرة جنابة
فبلوا الشعر وانقوا البشرة " (3) وما ورد في حسنة جميل (4) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عما تصنع النساء في الشعر والقرون. فقال: لم تكن هذه المشطة إنما
كن يجمعنه ثم وصف أربعة أمكنة ثم قال يبالغن في الغسل " وصحيحة محمد بن مسلم عن
أبي جعفر (عليه السلام) (5) قال: " حدثتني سلمى خادمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قالت: كان أشعار نساء النبي (صلى الله عليه وآله) قرون رؤوسهن مقدم رؤوسهن فكان
يكفيهن من الماء شئ قليل، فأما النساء الآن فقد ينبغي لهن أن يبالغن في الماء ".
ومن ثم قوى بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين وجوب غسله، قائلا

(1) المروية في الوسائل في الباب 38 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الجنابة
(3) كما في سنن ابن ماجة ج 1 ص 207 والمغني ج 1 ص 238، وفي الأول "
فاغسلوا الشعر "
(4) المروية في الوسائل في الباب 38 من أبواب الجنابة.
(5) المروية في الوسائل في الباب 38 من أبواب الجنابة.
89

بعد الطعن في أدلة المشهور: " أنه إن ثبت اجماع فعليه المعتمد في الفتوى وإلا فوجوب
غسل الشعر كما هو الموافق للاحتياط والتقوى هو الأقوى " وإلى ذلك أيضا يميل كلام
شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في الحبل المتين.
والعجب من شيخنا الشهيد الثاني (رحمه الله) في شرح الألفية، حيث قال
- بعد أن صرح بعدم وجوب غسل الشعر إلا أن يتوقف عليه غسل البشرة - ما لفظه:
" والفرق بينه وبين شعر الوضوء النص " انتهى. فإنا لم نقف على نص في هذا الباب
ولا نقله ناقل من الأصحاب سوى ما ذكرنا هنا من الأخبار، وهي إن لم تدل على
غسل الشعر فلا أقل أن لا تدل على عدمه، وأما في الوضوء فغاية ما تمسكوا به بالنسبة
إلى شعر الوجه دخوله فيما يواجه به وبالنسبة إلى اليد فبدعوى التبعية والتغليب لاسم اليد
على جميع ما عليها كما عرفت. وبالجملة أنه لا دليل لهم في الفرق إلا الاجماع إن تم.
(السابعة) - لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب
تخليل ما يمنع وصول الماء إلى الجسد من شعر وغيره، ويدل عليه عموم ما علق فيه
الحكم على الجسد من الأخبار. وخصوص صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى
(عليه السلام) (1) قال: " سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها
لا تدري يجزي الماء تحتهما أو لا، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال: تحركه
حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه... الحديث " وحينئذ فما أشعر بخلاف ذلك - كحسنة
الحسين بن أبي العلاء (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخاتم إذا اغتسلت
قال: حوله من مكانه، وقال في الوضوء تديره، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا
آمرك أن تعيد الصلاة " حيث دلت على اغتفاره مع النسيان وإن ذكره بعده، وهو خلاف
ما عليه الأصحاب، وبمضمون هذه الرواية صرح في الفقيه (3) فقال: " فإذا كان مع

(1) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الوضوء.
(3) ج 1 ص 31 وفي الوسائل في الباب 41 من أبواب الوضوء.
90

الرجل خاتم فليدره في الوضوء ويحوله عند الغسل. وقال الصادق (عليه السلام): إن
نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد " وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود (1)
قال: " قلت للرضا (عليه السلام): الرجل يجنب فيصيب جسده ورأسه الخلوق
والطيب والشئ اللكد مثل علك الروم والطرار وما أشبهه، فيغتسل فإذا فرغ وجد شيئا
قد بقي في جسده من أثر الخلوق والطيب وغيره؟ قال: لا بأس " - يجب ارتكاب
جادة التأويل فيه بحمل الخبر الأول على الخاتم الذي لا يمنع وصول الماء ويكون الأمر
بالإدارة والتحويل محمولا على الاستحباب، والخبر الثاني بالحمل على الأثر الذي
لا يمنع الوصول.
ويظهر من بعض فضلاء متأخري المتأخرين الميل إلى العمل بظاهر الخبرين
المذكورين من عدم الاعتداد ببقاء شئ يسير لا يخل عرفا بغسل جميع البدن أما مطلقا
أو مع النسيان لو لم يكن الاجماع على خلافه، ثم قال: " لكن الأولى أن لا يجترأ
عليه " انتهى. والأقرب ارتكاب التأويل فيهما بما ذكرناه. وأظهر منهما في قبول التأويل
المذكور رواية إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) (2) قال:
" كن نساء النبي (صلى الله عليه وآله) إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على
أجسادهن، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمرهن أن يصببن الماء صبا
على أجسادهن ".
(الثامنة) - محل الغسل هو الظواهر من الجسد بلا خلاف، قال في المنتهى:
" ويجب عليه ايصال الماء إلى جميع الظاهر من بدنه دون الباطن منه بلا خلاف ".
أقول: ويدل على ذلك مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه (3) قال: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): الجنب يتمضمض ويستنشق؟ قال: لا إنما يجنب الظاهر ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة
(2) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة
(3) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب الجنابة
91

ورواية عبد الله بن سنان (1) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يجنب
الأنف والفم لأنهما سائلان ".
وروى الصدوق في العلل عن أبي يحيى الواسطي عمن حدثه (2) قال: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): الجنب يتمضمض؟ فقال: لا إنما يجنب الظاهر ولا يجنب
الباطن، والفم من الباطن " قال: وروى في حديث آخر أن الصادق (عليه السلام) قال
في غسل الجنابة: " إن شئت أن تتمضمض أو تستنشق فافعل وليس بواجب، لأن الغسل
على ما ظهر لا على ما بطن ".
أقول: وبهذه الأخبار يجمع بين ما دل على الأمر بالمضمضة والاستنشاق وما دل
على نفيهما كما سيأتي ذكره إن شاء الله بحمل ما دل على النفي على نفي الوجوب وما دل
على الأمر على الاستحباب، وفي خبر زرارة أيضا (3): "... إنما عليك أن تغسل ما ظهر "
ومن البواطن الثقب الذي يكون في الإذن للحلقة إذا كان بحيث لا يرى باطنه للناظر،
وبه صرح في المدارك وجزم به شيخه المولى الأردبيلي، ونقل عن المحقق الشيخ علي (ره)
في حاشية الشرائع أنه حكم بايصال الماء إلى باطنه مطلقا. ولا يخفى ما فيه. وينبغي أن يعلم أيضا
أن الظاهر وجوب غسل باطن الأذنين وهو ما يرى للناظر من سطح باطنهما عند تعمد
الرؤية لدخوله في الظاهر وإن توقف على التخليل وجب، قال في التذكرة في تعداد
واجبات الغسل: " ويغسل أذنيه وباطنهما ولا يدخل الماء فيما بطن من صماخه " وعلى ذلك
يحمل أيضا ما ذكره في المقنعة حيث قال: " ويدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه فيغسل
باطنهما ويلحق ذلك بغسل ظاهرهما ".
(التاسعة) - قال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة: " ولا ينبغي له أن يرتمس
في الماء الراكد، فإنه إن كان قليلا أفسده وإن كان كثيرا خالف السنة بالاغتسال فيه ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة
(2) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة
(3) المروي في الوسائل في الباب 29 من أبواب الوضوء
92

واستدل له الشيخ (رحمه الله) في التهذيب بالنسبة إلى الحكم الأول بأن الجنب
حكمه حكم النجس إلى أن يغتسل فمتى لاقى الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد،
وبالنسبة إلى الثاني بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) قال: " كتبت إلى من يسأله
عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء أو يستقى فيه من بئر فيستنجي فيه الانسان من بول
أو يغتسل فيه الجنب. ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب: لا تتوضأ من مثل هذا إلا من
ضرورة إليه " ثم قال (قدس سره) قوله: " لا تتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه "
يدل على كراهة النزول فيه، لأنه لو لم يكن مكروها لما قيد الوضوء والغسل منه بحال
الضرورة. انتهى.
ولا يخفى عليك ما في أول استدلالية، فإنه مجرد دعوى لم يقم عليها دليل، ولم
يقل بها أحد قبله ولا بعده من الأصحاب جيلا بعد جيل، واطلاق أخبار الارتماس
شامل لما لو كان الغسل بالماء القليل، وقد ادعى المحقق في المعتبر الاجماع على طهارة غسالة
الجنب الخالي بدنه من النجاسة العينية، وعبارة المقنعة وإن أشعرت بذلك ظاهرا إلا أنه
يمكن حملها على تلوث بدن الجنب بالنجاسة كما هو الغالب الذي انصبت عليه أخبار كيفية الغسل
حسبما تقدم بيانه، مع أن رواية محمد بن ميسر عن الصادق (عليه السلام) (2) قال:
" سألته عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس
معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال: يضع يده ويتوضأ ثم يغتسل، هذا مما قال الله
تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج... " (3) - تدل بظاهر اطلاقها على
جواز الغسل وإن كان ارتماسا مع إمكانه استنادا إلى نفي الحرج الدال على الامتنان
المناسب للتعميم.

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الماء المطلق.
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الماء المطلق.
(3) سورة الحج الآية 78
93

وأما ما أجاب به (قدس سره) عن هذا الخبر - حيث قال بعد ذكر ما قدمنا
نقله عنه من الاستدلال الأول: " وليس ينقض هذا الحديث الذي رواه محمد بن يعقوب
ثم ساق الخبر وقال: لأن معنى هذا الخبر أن يأخذ الماء من المستنقع بيده ولا ينزله بنفسه
ويغتسل بصبه على بدنه، فأما إذا نزله فسد حسبما بيناه " انتهى - ففيه أن التخصيص
بما ذكره يحتاج إلى دليل، وما ذكره من التعليل الأول قد عرفت ما فيه فلا يصلح للتخصيص
نعم ربما يقال إن مبنى كلام الشيخين (نور الله مرقديهما) هنا على ما ذهبا
إليه من المنع من استعمال الماء المستعمل في الحدث الأكبر، كما تقدم بيانه في محله ويشير
إليه تعبيرهما بالافساد، وحاصل مرادهما أنه بعد الارتماس فيه يفسد بمعنى يمتنع استعماله
في طهارة أخرى، حيث إن حكم الجنب في اغتساله من القليل وافساده له حكم النجس
في ملاقاته للقليل وتنجيسه له كما علله في التهذيب، لا أن المراد بافساد الماء تنجيسه كما
ذكرنا أولا، وهو الذي عقله عنهما جمع من فضلاء المتأخرين، ليرد عليه ما ذكرنا آنفا،
بل المراد بافساده سلب طهوريته كما هو مذهبهما (رضي الله عنهما) لكن لا بالنسبة إلى
المغتسل بمعنى أنه بالارتماس يصير الماء بأول ملاقاة الجنب له بقصد الاغتسال مستعملا
مسلوب الطهورية، ليرد عليه ما ذكره شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل، من أنهم إن
أرادوا بصيرورته مستعملا بالملاقاة المذكورة أنه لا يجوز استعماله بالنسبة إلى المغتسل وإلى
غيره فهو واضح الفساد، وإلا لزم عدم طهارة المغتسل ولو مرتبا لأنه لا ينفك عن جريان
الماء من جزء بدنه إلى جزء آخر، وإن أرادوا بها أنه لا يجوز استعماله بالنسبة إلى غيره
فلا ينفعهم. انتهى ملخصا، فإن فيه أنه لم يصرح في المقنعة بما ينافي ذلك أو ينافره،
وإنما غرضه التنبيه على حكم في البين وهو أن الارتماس في الماء القليل يوجب افساده وعدم
رفع الحدث به فلا ينبغي للجنب ذلك، وهذا معنى صحيح لا غبار عليه ولا يتوجه القدح
إليه، وفي التعبير ب‍ " لا ينبغي " اشعار بذلك.
وأما ثاني استدلالية فقد مر ما يتضح الحال به صحة وابطالا في الفائدة الحادية
94

عشرة من مسألة الماء المستعمل في الطهارة الكبرى (1).
(العاشرة) - لا يخفى أنه حيث لا مفصل محسوس بين الجانب الأيمن والأيسر
في أعالي البدن فالواجب في الغسل الترتيبي - بناء على المشهور من وجوب الترتيب
بينهما - غسل الحد المشترك مع كل من الجانبين من باب المقدمة، واستظهر جمع من الأصحاب
الاكتفاء بغسل العورة مع أحد الجانبين، وحكم بعض بغسلها مع كل من الجانبين،
ويمكن توجيه الأول بأن العورة لما كانت عضوا مستقلا وليست داخلة في الحد المشترك
بين الجانبين ليجب غسلها مرتين فالواجب غسلها مرة واحدة مع أي الطرفين كان،
والتكليف بالتعدد يحتاج إلى دليل. ويمكن خدشه بأن مقتضى ما دلت عليه الأخبار
المشتملة على ذكر الجانبين غسل كل منهما، وحينئذ فلو كانت العورة عضوا زائدا
لكانت متروكة الذكر في تلك الأخبار، وبذلك يظهر رجحان القول الثاني مضافا
إلى أوفقيته للاحتياط.
(الحادية عشرة) - الظاهر أنه لا خلاف في وجوب المباشرة إلا ما ينقل
عن ظاهر ابن الجنيد من جواز تولي الغير، وظاهر الآية والأخبار يرده لظهورها في
فعل المكلف نفسه، حتى أنه لو اضطر إلى التولية فلا بد من حصول القصد منه، قال
عز وجل: "... حتى تغتسلوا... " (2) وقال: " وإن كنتم جنبا فاطهروا... " (3) وهو
ظاهر في توجه الخطاب للمكلف نفسه فلا يجزيه فعل غيره به ذلك. ونحوها الأخبار. وقول
ابن الجنيد هنا جار على ما تقدم نقله عنه في الوضوء، وقد تقدم الكلام في المسألة
مستوفى، والمنقول عنه هنا على ما ذكره في الذكرى أنه قال: " وإن كان غيره يصب
عليه الماء من إناء متصل الصب أو كان تحت أنبوب قطع ذلك ثلاث مرات يفصل
بينهن بتخليل الشعر بكلتا يديه " وهو ظاهر في التولية، وفيه ما عرفت.

(1) ج 1 ص 457
(2) سورة النساء. الآية 43
(3) سورة المائدة. الآية 6
95

ويمكن الاستدلال على ذلك أيضا بقوله عز وجل: " فمن كان يرجو لقاء ربه
فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " (1) بالتقريب الذي ذكره مولانا
الرضا (عليه السلام) في رواية الوشاء (2) حيث استدل على تحريم التولية بالآية المذكورة
والرواية وإن كان موردها الوضوء وصب الحسن الوشاء عليه الماء إنما هو للوضوء
إلا أن قوله (عليه السلام) في الخبر المذكور بعد الاستدلال بالآية: " وها أنا
ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد " يشعر بأن التولية في
طهارة العبادة التي لا تستباح إلا بها مطلقا نوع من أنواع الشرك، وقد تقدم بيان معنى
الخبر المذكور ودلالته على التحريم وأن مورده التولية دون الاستعانة كما توهمه جملة
من أصحابنا (رضي الله عنهم).
(الثانية عشرة) - قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بإزالة النجاسة
عن البدن أولا ثم الغسل ثانيا، إلا أنهم اختلفوا في أن ذلك هل هو على جهة لوجوب
أو الاستحباب؟ قولان: ظاهر القواعد الأول، ونقله بعض مشايخنا عن جملة من الأصحاب
أيضا، وصريح العلامة في النهاية الثاني، وبه جزم ثاني المحققين في شرح القواعد،
وقبله أيضا أول الشهيدين على ما نقله شيخنا المتقدم ذكره، بمعنى أن الواجب إنما هو
تطهير المحل النجس أولا قبل اجراء ماء الغسل عليه بحيث كلما طهر شيئا غسله تدريجا،
وأما تقديم ذلك على أصل الغسل فهو الأفضل.
وربما أيد الأول ظواهر الأخبار الواردة في كيفية الغسل (3) حيث اشتملت
على عطف الغسل على الأمر بالإزالة ب‍ " ثم " المرتبة ولعل " ثم " في هذا المقام
منسلخة عن الترتيب، إذ لا يعقل لوجوب التقديم على أصل الغسل وجه، لأن الغرض

(1) سورة الكهف الآية 110
(2) المروية في الوسائل في الباب 47 من أبواب الوضوء
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
96

إنما هو اجراء الغسل على محل طاهر وهو يحصل بالتدريج. ويمكن أن يكون مخرج الأخبار
- كما هو ظاهرها - إنما هو بالنسبة إلى العورة التي هي محل النجاسة المعهودة أو نحوها
من الأماكن اليسيرة كالإصبع ونحوها، وفرض المسألة في نجاسة منتشرة أو متعددة
بحيث يندرج فيها كما هو محل البحث بعيد عن سياق الأخبار المشار إليها كما لا يخفى
على من راجعها.
وكيف كان فمرجع القولين إلى وجوب إزالة النجاسة قبل اجراء ماء الغسل،
وأنه لا يجزئ اجراء ماء الغسل المقصود به رفع الحدث لإزالة النجاسة الخبثية.
وهو المشهور في كلام المتأخرين خلافا للشيخ في المبسوط كما سيأتي نقل كلامه،
معللين ذلك (أولا) - بأنهما سببان متغايران فيجب تغاير مسببيهما، والأصل عدم التداخل.
و (ثانيا) - بأن الماء القليل ينجس بالملاقاة فإذا ورد على المحل النجس تنجس به فلا
يقوى على رفع الحدث فلا بد من طهارة المحل أولا. قال الشيخ علي في شرح القواعد
بعد قول المصنف (رحمه الله): " لا يجزئ غسل النجس من البدن عن غسله من
الجنابة بل يجب إزالة النجاسة أولا ثم الاغتسال ثانيا " ما صورته: " إنما وجب ذلك
لأنهما سببان فوجب تعدد حكمهما، لأن التداخل خلاف الأصل، ولأن ماء الغسل لا بد
أن يقع على محل طاهر وإلا لأجزأ الغسل مع بقاء عين النجاسة، ولانفعال القليل وماء
الطهارة يشترط أن يكون طاهرا اجماعا " انتهى، وعلى هذا المنوال جرى كلام غيره
في هذا المجال.
وفيه أن ما ذكروه - من أن تعدد السبب يقتضي تعدد المسبب وأن الأصل
عدم التداخل - لم نقف له على دليل يعتد به بل ظواهر النصوص ترده كما سيأتي تحقيقه
إن شاء الله تعالى في مسألة تداخل الأغسال، على أنه قد أورد عليه أيضا إنا لا نسلم أن
اختلاف السبب يقتضي تعدد المسبب، لأن مقتضى التكليف وجود المسبب عند حصول
السبب، أما كونه مغايرا للأمر المسبب عن سبب آخر فتكليف آخر يحتاج إلى دليل
97

والأصل عدمه، فما ذكره من أن التداخل خلاف الأصل ضعيف. انتهى. وهو جيد
وأما ما ذكروه من أن ماء الغسل لا بد أن يقع على محل طاهر فهو على اطلاقه ممنوع، وما
استندوا إليه من أنه لو لم يكن كذلك للزم اجراء ماء الغسل مع بقاء عين النجاسة، إن
أريد به مع بقائها بحيث تمنع من وصول الماء إلى البدن فبطلان الثاني مسلم لكن الملازمة
ممنوعة، لجواز وقوع الغسل على المحل النجس بشرط عدم المنع، وإن أريد مع عدم
بقائها أو بقائها مع عدم المنع فبطلان الثاني ممنوع لعدم الدليل عليه. وأما ما ذكروه
من انفعال القليل واشتراط طهارة الماء اجماعا، إن أريد به الاجماع على طهارته قبل الوصول
فمسلم لكن لا ينفعهم، وإن أريد به الاجماع على الطهارة بعد الوصول فهو ممنوع إذ هو
مصادرة على المطلوب حيث إنه محل النزاع، ونظيره غسل النجاسات، فإنه لا يكون
إلا بماء طاهر قبل الورود. ونجاسته بعد الورود - بنجاسة المحل المغسول على تقدير القول
بنجاسة القليل - لا تسلبه الطهورية، على أن مذهب العلامة أنه حال الورود أيضا طاهر
لأنه لا ينجس عنده إلا بعد الانفصال.
ومما يؤيد ما ذكرنا في هذا المقام أن إزالة النجاسة في التحقيق ترجع إلى التروك
وتصير من قبيلها حيث إن المطلوب ترك النجاسة دون الأفعال، فلا تقتضي فعلا يختص
بها، بل يكتفى فيها بتحققها بأي وجه اتفق مع صدق مسمى الغسل المعتبر على ذلك
التقدير، ألا ترى أنه لو وقع الثوب النجس في الماء اتفاقا أو أصابه المطر طهر البتة
وإصابة ماء الغسل من هذا القبيل.
نعم ربما يستدل لهم بظواهر الأخبار الواردة في بيان كيفية غسل الجنابة (1)
المشتملة على تقديم الإزالة وعطف الغسل عليها ب‍ " ثم " المرتبة. ويضعف باشتمالها على
جملة من المستحبات وعد ذلك في قرنها كغسل اليدين والمضمضة والاستنشاق ونحوها.
إلا أن يجيبوا عن ذلك بأنه قد قام الدليل على الاستحباب في تلك الأشياء، فحمل الأمر

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
98

في الأخبار المذكورة عليه لا اشكال فيه، وأما ما لم يقم فيه دليل فيجب ابقاء الأمر
فيه على حقيقته من الوجوب. إلا أنك قد عرفت أن جملة من القائلين بوجوب تقديم
الإزالة لا يقولون به قبل الغسل وإنما يوجبونه تدريجا، وعلى تقديره لا يمكن حمل
الأوامر المذكورة في الأخبار على الوجوب، مع أنه من المحتمل قريبا أن الأمر بتقديم
الإزالة في الأخبار المشار إليها وعدم الاكتفاء بماء الغسل إنما هو من حيث خصوص
نجاسة المني الذي هو مورد تلك الأخبار ولا سيما بعد يبسه، فإنه يحتاج إلى مزيد كلفة
وذلك لثخانته ولزوجته، فلذا وقع الأمر بالإزالة أولا، واحتمال غيره من النجاسات
بعيد عن سياق الأخبار المشار إليها.
وربما يستدل لهم أيضا بصحيحة حكم بن حكيم (1) حيث قال (عليه السلام)
في آخرها بعد ذكر الغسل: " فإن كنت في مكان نظيف فلا يضرك أن لا تغسل
رجليك، وإن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك " فإنه ظاهر في عدم
الاكتفاء بماء الغسل لإزالة النجاسة الخبثية بل لا بد من ماء آخر لإزالتها. ويمكن تطرق
القدح إلى ذلك بأنه لا ظهور له في تقديم إزالة النجاسة بل غايته الدلالة على وجوب غسل
آخر، ومن المحتمل أن يكون ذلك بعد تمام الغسل، لعدم زوال النجاسة بماء الغسل وإن
ارتفع به الحديث كما هو المفهوم من كلام الشيخ (رحمه الله) الآتي ذكره، وإذا تطرق
الاحتمال لم يتم الاستدلال بها.
وقال في المبسوط: " وإن كان على بدنه نجاسة أزالها ثم اغتسل، وإن خالف
واغتسل أولا ارتفع حدث الجنابة وعليه أن يزيل النجاسة إن كانت لم تزل، وإن
زالت بالاغتسال فقد أجزأ عن غسلها " انتهى. وهو - كما ترى - يدل على أحكام
ثلاثة: (أحدها) - أن طهارة المحل ليست شرطا في الغسل كما ادعاه المتأخرون.
و (ثانيها) - أن الغسل الواحد يجزئ لرفع الحدث والخبث معا، خلافا لما ذكروه أيضا

(1) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب الجنابة
99

من وجوب تعدد المسبب بتعدد السبب. و (ثالثها) - أنه لو لم تزل النجاسة الخبثية
ارتفع حدثه ووجب عليه إزالة النجاسة الخبثية بعد الغسل إلا أنه يجب تقييد هذا
الحكم بما إذا لم يكن للنجاسة عين مانعة من وصول الماء إلى البدن، وإلا فلا ريب في
بطلان الغسل لوجوب ايصال الماء إلى البشرة.
وجملة من المتأخرين بعد نقل كلام الشيخ المذكور اعترضوه: منهم - العلامة
في المختلف حيث قال بعد نقله: " والحق عندي أن الحدث لا يرتفع إلا بعد إزالة
النجاسة، لأن النجاسة إذا كانت عينية ولم تزل عن البدن ولم يحصل ايصال الماء إلى جميع
البدن فلا يزول حدث الجنابة، وإن كانت حكيمة زالت بنية غسل الجنابة " وقال في
الذكرى بعد نقله أيضا: " ويشكل بأن الماء ينجس فكيف يرفع الحدث، والاجتزاء
بغسلها عن الأمرين مشكل أيضا
أقول: أما ما ذكره العلامة (رحمه الله) ففيه أن صحة الغسل مع بقاء النجاسة
لا ينحصر في بقاء عينها على البدن على وجه يمنع وصول الماء إلى البشرة حتى أنه يمنع
ارتفاع النجاسة، بل يمكن ذلك مع بقائها على وجه لا يمنع من وصول الماء وانتقالها من
محل إلى آخر، ومن الظاهر البين أن الشيخ لم يرد إلا ما ذكرناه كما قدمنا الإشارة إليه،
إذ لا يخفى على من هو دونه وجوب ايصال الماء إلى البشرة، وحينئذ فيطهر عنده البدن
من النجاسة الحدثية وإن بقيت الخبثية. بقي الكلام في قوله (رحمه الله): " وإن كانت
حكمية زالت بنية غسل الجنابة " والظاهر أنه أراد بالحكمية ما لا عين له من النجاسات
بقرينة وقوع التقسيم في النجاة المفروضة في عبارة الشيخ ومحل البحث هو النجاسة
الخبثية، فهو حينئذ قسيم لقوله: " فإن كانت عينية " ومعطوف عليه، وحينئذ فمقتضاه
موافقة الشيخ (رحمه الله) في الاكتفاء بماء الغسل في الطهارة عما لا عين له من
النجاسات. وأما ما ذكره شيخنا الشهيد (رحمه الله) فقد عرفت جوابه.
وبالجملة فحاصل كلام الشيخ (رحمه الله) أنه مأمور بتقديم إزالة النجاسة قبل
100

الاغتسال بالأخبار التي تقدمت الإشارة إليها، فإن خالف واغتسل أولا، فإن زالت
النجاسة بماء الغسل ارتفعت النجاستان الحدثية والخبثية، وإلا فالحدثية خاصة واحتاج
في إزالة الخبثية إلى غسل آخر، وهذا لا ينافي ما يستفاد من الأخبار المشار إليها، فإن
غايته القول بوجوب إزالة النجاسة ثم الغسل بعد ذلك، ولا يلزم أن يكون منهيا عن تقديم
الغسل أو المقارنة إلا على تقدير القول باقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده الخاص،
وهو مما لم يقم عليه دليل، ومع تسليمه فلا يلزم من النهي هنا أيضا بطلان الغسل، لأن
النهي لم يتوجه إلى العبادة ولا إلى جزئها ولا شرطها بل إلى خارجها اللازم، فلم يبق
للبطلان وجه إلا ما ادعوه مما عرفت بطلانه آنفا.
وإلى هذا القول مال جملة من متأخري المتأخرين: منهم - الفاضل الخوانساري
في شرح الدروس حيث قال بعد نقل عبارة المبسوط ما ملخصه: وهذا يدل على أن
طهارة المحل ليست شرطا في الغسل، وعلى أن الغسل الواحد يجزئ عن رفع الحدث
والخبث معا. وما ذكره هو الظاهر: (أما الأول) فلأن الأمر بالاغتسال مطلق والتقييد
بطهارة المحل خلاف الظاهر. نعم لا بد من وصول الماء إلى البشرة فيجب أن لا يكون
للنجاسة عين مانع عن الوصول، أما إذا لم يكن لها عين أو كان ولم يكن مانعا فلا دليل
على بطلانه، وإن لم يطهر بصب الماء للغسل كما إذا كان لها عين غير مانع ولم تزل أو لم
يكن لها عين ولكن لا بد في تطهيرها من الصب مرتين. و (أما الثاني) فلمثل ذلك أيضا، لأن
الأمر بالاغتسال مطلق وكذا الأمر بالتطهير، فإذا صب الماء على العضو فقد امتثل الأمرين،
فلو كانت النجاسة مما يكفيه صب واحد فقد ارتفع الحدث والخبث، وإن لم يكفها صب
واحد بل لا بد فيها من مرتين كما إذا كانت بولا فيحسب هذا الصب بواحد ويجب صب
آخر، وأما النجاسة الحكمية فقد ارتفعت بالصب الأول. انتهى.
أقول: والتحقيق عندي في هذا المقام أن يقال لا ريب أن ما ادعوه، من وجوب
إزالة الخبثية ثم الغسل بعد ذلك وأن ماء الغسل لا يجزئ لهما متى زال عين النجاسة الخبثية
101

- فلا دليل عليه، وأضعف منه ما ادعوه من تعدد المسببات بتعدد الأسباب، فيبقى
ما ذكره الشيخ (رحمه الله) سالما مما ذكروه. نعم يبقي الاشكال فيما ذكره (قدس
سره) من وجه آخر، وهو أنهم قد أجمعوا إلا من شذ على نجاسة الماء القليل بالملاقاة،
والمشهور بينهم نجاسة الغسالة من الخبث، وقد أجمعوا أيضا من غير خلاف يعرف على أن ما كان نجسا قبل التطهير لا يكون مطهرا، فبناء على هذه المقدمات الثلاث متى اغتسل
المكلف وعلى بدنه نجاسة لم تزل عنه بالغسل وإن كانت لا تمنع من وصول الماء إلى البشرة
أو زالت عينها من ذلك الموضع إلى موضع آخر أو زالت عينها بالكلية ولكن تعدت
غسالتها إلى موضع آخر من البدن، فالقول بصحة الغسل هنا بناء على هذه المقدمات
الثلاث مشكل جدا، لأن الماء بملاقاة النجاسة لا ريب في تنجسه بناء على المقدمة الأولى
وحينئذ فإن طهر ذلك الموضع الذي فيه النجاسة إذ لا منافاة عندنا بين نجاسته بالملاقاة
وتطهيره كما تقدم تحقيقه في مسألة نجاسة الماء القليل بالملاقاة، إلا أنه بعد التعدي عن ذلك
الموضع إلى موضع آخر خال من النجاسة يكون منجسا له بمقتضى المقدمة الثانية، والماء
النجس لا يرفع حدثا، ولو بنى الحكم على طهارة الغسالة أو عدم انفعال القليل بالملاقاة زال
الاشكال، والشيخ (رحمه الله) وإن لم يقل بعدم نجاسة القليل بالملاقاة إلا أنه قائل بطهارة
الغسالة فيتجه كلامه هنا بناء على ذلك. وأما ما ذكره الفاضل المتقدم ذكره في توجيه
كلام الشيخ فهو جيد إن وافق على ما ذكرنا، وإلا فالنظر متوجه إليه حسبما شرحناه.
وصرح العلامة في النهاية بالاكتفاء بغسلة واحدة لكن من إزالة النجاسة الحدثية
والخبثية فيما إذا كان الغسل فيما لا ينفعل بالملاقاة كالكثير، وفي القليل بشرط أن
تكون النجاسة في آخر العضو فإن الغسلة تطهره. وهو جيد بناء على القول بنجاسة
الغسالة كما هو مذهبه (رحمه الله).
واعترضه الشيخ علي في شرح القواعد فقال بعد نقل ذلك عنه: " والتحقيق
أن محل الطهارة إن لم يشترط طهارته أجزأ الغسل مع وجود عين النجاسة وبقائها في جميع
102

الصور، ولا حاجة إلى التقييد بما ذكره، خصوصا على ما اختاره من أن القليل الوارد
إنما ينجس بعد الانفصال، وإن اشترط طهارة المحل لم تجزئ غسلة واحدة لفقد الشرط،
والشائع على السنة الفقهاء هو الاشتراط فالمصير إليه هو الوجه " انتهى.
أقول: فيه أن ما ذكره على تقدير عدم الاشتراط من اجزاء الغسل مع وجود
عين النجاسة على اطلاقه ممنوع بناء على ما ذكرنا من المقدمات المتقدمة، فإنه متى حكم
بنجاسة الماء القليل بالملاقاة ونجاسة الغسالة فكيف يجزئ الغسل مع تعدي الغسالة إلى
سائر أجزاء البدن؟ والكلام ليس في خصوص موضع النجاسة كما يشير إليه قوله:
" خصوصا على ما اختاره... الخ " ومن أجل ما ذكرناه التجأ في النهاية إلى قصر
التطهير وصحة الغسل بغسلة واحدة على الغسل في الماء الكثير الذي لا ينفعل بالملاقاة
وفي القليل بالشرط الذي ذكره. نعم يأتي بناء على ما ادعوه من وجوب تعدد المسبب بتعدد
السبب العدم، ولهذا أن شيخنا في الذكرى بناء على القاعدة المذكورة صرح بعدم
الاكتفاء بالمرة في الكثير لإزالة حدث الجنابة والنجاسة الخبثية، قال: لأنهما سببان
فيتعدد حكمهما. وفيه ما عرفت. والله العالم.
المقصد الرابع
في الآداب، ومنها ما هو مقدم ومنها ما هو مقارن، وهي أمور:
(الأول) - البول مع إمكانه على المشهور بين المتأخرين، وبه صرح المرتضى
وابن إدريس والعلامة ومن تأخر عنه، وقيل بالوجوب، ونقله في الذكرى عن جمع
من متقدمي الأصحاب: منهم - الشيخ في المبسوط وابن حمزة وابن زهرة والكيدري
وابن البراج في الكامل وأبو الصلاح وظاهر صاحب الجامع، وفي من لا يحضره الفقيه:
" من ترك البول على أثر الجنابة أو شك تردد بقية الماء في بدنه فيورثه الداء الذي
لا دواء له " قال في الذكرى: " وهو مروي في الجعفريات عن النبي (صلى الله
103

عليه وآله) " (1) وفي عبائر جملة منهم كالشيخ المفيد والجعفي وابني بابويه وابن البراج
في غير الكتاب المتقدم وابن الجنيد (رحمه الله) الأمر بذلك.
ونقل في المختلف عن الشيخ أنه احتج بالأحاديث الدالة على وجوب الغسل مع
وجود البلل (2) ثم أجاب بأنها غير دالة على محل النزاع فإنا نسلم أنه يجب عليه مع وجود
البلل إعادة الغسل. واحتج في المختلف للاستحباب بالأصل، وبقوله عز وجل: " وإن
كنتم جنبا فاطهروا... " (3) ولم يوجب الاستبراء. وقال في الذكرى: " ولا بأس بالوجوب
محافظة على الغسل من طريان مزيله، ومصيرا إلى قول معظم الأصحاب، وأخذا
بالاحتياط " انتهى وفي البيان حكم بأن الأصح الاستحباب.
أقول: أما ما ذكره الشيخ (رحمه الله) - من الاستدلال بالأخبار المشار إليها
كما صرح به في الإستبصار - ففيه ما ذكره في المختلف، فإن وجوب الإعادة بدون
الاستبراء لا دلالة له على أصل وجوب الاستبراء بوجه. وأما ما ذكره في الذكرى من
قوله: " ولا بأس بالوجوب... الخ " فإن كان المراد منه اختيار القول بالوجوب كما هو
ظاهر كلامه فهذه الوجوه التي ذكرها لا تصلح دليلا له كما لا يخفى، وإن أراد أن الاحتياط
في ذلك فلا ريب فيه.
والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح أو الحسن
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي (4) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام)
عن غسل الجنابة. قال تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك، وتبول إن قدرت
على البول، ثم تدخل يدك في الإناء ثم اغسل ما أصابك منه... الحديث ".
ومضمرة أحمد بن هلال المتقدمة في المقصد الثاني (5) قال: " سألته عن رجل

(1) ص 21.
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة
(3) سورة المائدة. الآية 6
(4) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(5) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة
104

اغتسل قبل أن يبول فكتب: أن الغسل بعد البول إلا أن يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل "
وفي الفقه الرضوي (1) " فإذا أردت الغسل من الجنابة فاجتهد أن تبول حتى
تخرج فضلة المني التي في إحليلك، وإن جهدت ولم تقدر على البول فلا شئ عليك
وتنظف موضع الأذى منك... الخ " وبصدر هذه العبارة عبر ابنا بابويه على ما نقل عنهما
والظاهر أنه على هذه الأخبار اعتمد المتقدمون فيما صرحوا به من الوجوب
أو ذكر الأمر بذلك في كلامهم، ولا سيما الشيخ علي بن بابويه في رسالته، فإنها إلا
الشاذ النادر منقولة من الفقه الرضوي كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى في المباحث الآتية من
هذا الكتاب، والصدوق في الفقيه كثيرا ما يعبر أيضا بعبارات الكتاب من غير استناد
ولا نسبة إلى الرواية، وعبارة الكتاب المذكور هنا ظاهرة في الوجوب للأمر بذلك
الذي هو حقيقة في الوجوب كما أوضحناه في مقدمات الكتاب، ونحوها صحيحة
البزنطي وإن كان الأمر فيها بالجملة الفعلية، لما حققنا ثم أيضا من أنه لا اختصاص
للوجوب بمفاد صيغة الأمر بل كل ما دل على الطلب، كما هو مقتضى الآيات القرآنية
والأحاديث المعصومية حسبما تقدم تحقيقه في الموضع المشار إليه. وبذلك يندفع ما أورده
بعضهم على الاستدلال بالرواية لذلك. وما ربما يورد عليها أيضا - من أن ورود الأمر
بذلك في قرن هذه المستحبات يؤذن بالاستحباب - فهو مردود بأن الأمر حقيقة في
الوجوب، وقيام الدليل على خلافه في بعض الأوامر لا يستلزم انسحابه إلى ما لا معارض
له ولا دليل على خلافه كما صرحوا به، وهل هو إلا من قبيل العام المخصوص فإنه يصير
حجة في الباقي، وبما ذكرناه يظهر قوة ما ذهب إليه المتقدمون (رضوان الله عنهم) ويظهر
ضعف ما ذكره في المختلف من الاستناد في الاستحباب إلى الأصل، فإنه يجب الخروج عنه
بالدليل، والآية مطلقة يجب تقييدها أيضا به كما وقع لهم في غير مقام.
بقي الكلام هنا في موضعين: (الموضع الأول) - أنه هل ينسحب الحكم إلى

(1) ص 3.
105

المرأة فيجب أو يستحب لها البول أيضا أم لا؟ قولان: ظاهر المقنعة والنهاية الأول،
حيث قال في المقنعة: " ينبغي للمرأة أن تستبرئ نفسها قبل الغسل بالبول، فإن لم
يتيسر لها ذلك لم يكن عليها شئ " وقال في النهاية بعد ذكر الرجل وأنه يستبرئ نفسه
بالبول: " وكذلك تفعل المرأة " وظاهر العلامة ومن تأخر عنه الثاني، قال في المختلف
- بعد أن نقل عن الشيخ في الجمل تخصيص الحكم بالرجل - ما صورته: " وهو الحق
لأن المراد منه استخراج المختلف من بقايا المني في الذكر، وهذا المعنى غير متحقق في
طرف المرأة، لأن مخرج البول ليس هو مخرج المني فلا معنى لاستبرائها " انتهى.
والأجود الاستناد في ذلك إلى عدم الدليل الذي هو دليل على العدم، والالحاق
بالرجل قياس مع الفارق، ولأن الغرض من الاستبراء - كما يفهم من الأخبار - إنما هو
لعدم إعادة الغسل ومورد الأخبار المذكورة إنما هو الرجل، ويعضده أن يقين الطهارة
لا يرتفع بالشك، والرجل قد خرج بالنصوص الصحيحة الصريحة فتبقى المرأة لعدم الدليل
وحينئذ فما تجده المرأة من البلل المشتبه لا يترتب عليه حكم.
وأورد على ما ذكره العلامة من عدم ترتب الفائدة عليه لتغاير المخرجين بأنه
يمكن أن يعصر البول بعد خروجه مخرج المني فيخرجه، مع أن الحال في الرجل أيضا
كذلك لأن مخرج منيه غير مخرج بوله إلا أنهما أشد تقاربا من مخرجي المرأة، ومن أجل
ذلك أنا ضربنا صفحا عن الاعتماد عليه وإن أمكن الجواب عنه بالفرق بين مخرجي الرجل
والمرأة، لاشتراك مخرجي الرجل في نفس الذكر ومخرج الجميع من مخرج واحد، بخلاف
مخرجي المرأة فإنهما مفترقان إلى وقت الخروج، فالحكم هنا - بعصر البول عند خروجه
لمخرج المني كما ادعاه القائل المذكور - غير معلوم.
وأما ما ذكره صاحب رياض المسائل - من التوقف في هذه المسألة لاطلاق قوله
(عليه السلام) في مضمرة أحمد بن هلال (1): " أن الغسل بعد البول " وأن خصوص

(1) ص 104.
106

السؤال عن الرجل لا يخصص. ومن حيث خصوص أكثر الروايات المشتملة على حكمة
الأمر به وهو إعادة الغسل لو وقع قبله عند خروج بلل مشتبه بعده بالرجل، مع
التصريح في البعض بالفرق بينهما بالإعادة فيه دونها معللا بأن ما يخرج من المرأة إنما هو
من ماء الرجل -
فلا يخفى ما فيه: (أما أولا) - فلأن الاستناد إلى هذا الاطلاق الذي ذكره
وأن خصوص السؤال عن الرجل لا يخصص إنما يتم لو كان الجواب مقصورا على هذه
العبارة التي ذكرها، ولكن الضمائر الواقعة في الجواب بعدها لا مرجع لها إلا الرجل
المذكور في السؤال، وحينئذ فما ادعاه من الاطلاق غير تام بل الجواب ظاهر في خصوص
الرجل المسؤول عنه، واحتمال عود الضمير إلى المغتسل المفهوم من قوله: " إن الغسل "
خلاف الظاهر.
و (أما ثانيا) - فلما في متن هذه الرواية من العلة زيادة على ضعف سندها
بالراوي المذكور، حيث إن ظاهرها يشعر بأنه لو تعمد الغسل قبل البول فإنه يعيد الغسل
فإن تقدير الكلام باعتبار اضمار المستثنى منه في قوة أن يقال: الغسل بعد البول فلا يصح
قبله إلا أن يكون ناسيا فإنه يصح ولا يعيد الغسل منه. وهو باطل اجماعا نصا وفتوى.
و (أما ثالثا) - فلأن الأصل العدم، ويعضده ما ذكره في الوجه الثاني من
خصوص الروايات المشتملة على حكمة الأمر به المعتضدة بالتصريح بالفرق بين ما يخرج
من الرجل وما يخرج من المرأة، والرواية التي ذكرها لا تبلغ قوة المعارضة لشئ من
ذلك متنا وسندا بل هي ساقطة مرجوعة إلى قائلها، وبذلك يظهر قوة القول المشهور.
هذا كله فيما إذا لم يعلم أن الخارج مني، وإلا فلو علم فالذي دل عليه موثق
سليمان بن خالد المتقدم (1) أن الذي يخرج منها إنما هو مني الرجل، وقطع ابن إدريس

(1) المروي في الوسائل في الباب 13 من أبواب الجنابة
107

بوجوب الغسل عليها في الصورة المذكورة ولم يعمل بالرواية لعموم " الماء من الماء " (1)
ولا يخفى ضعفه. فإن حديثه عام أو مطلق وهذا خاص أو مقيد ومقتضى القاعدة
تقديم العمل به.
(الموضع الثاني) - لو أجنب ولم ينزل فهل يستحب أيضا له الاستبراء بالبول أم لا؟
ظاهر جملة من الأصحاب (رضي الله عنهم) الثاني، قال في المنتهى: " لو جامع
ولم ينزل لم يجب عليه الاستبراء، ولو رأى بللا يعلم أنه مني وجب عليه الإعادة، أما
المشتبه فلا لأنا إنما حكمنا هناك بكون البلل منيا بناء على الغالب من استخلاف الاجزاء بعد
الإنزال، وهذا المعنى غير موجود مع الجماع الخلي من الإنزال " وبذلك صرح الشهيدان
والمحقق الشيخ علي (رحمهم الله) قال في الذكرى: " إنما يجب الاستبراء أو يستحب
ويتعلق به الأحكام للمنزل، أما المولج بغير أنزال فلا لعدم سببه. هذا مع تيقن عدم
الإنزال، ولو جوزه أمكن استحباب الاستبراء أخذا بالاحتياط، أما وجوب الغسل
بالبلل فلا. لأن اليقين لا يرفع بالشك " انتهى.
واعترضهم في الذخيرة فقال: " ويرد عليهم عموم الروايات كما ستطلع عليه من
غير تفصيل، وانتفاء الفائدة ممنوع إذ عسى أن ينزل ولم يطلع عليه واحتبس شئ في المجاري
لكون الجماع مظنة نزول الماء " انتهى.
أقول: لا ريب في أن الروايات في هذه المسألة وإن كانت مطلقة كما ذكره إلا
أن اطلاقها إنما وقع من حيث معلومية الحكم وظهوره، فإنه لا يخفى على ذي مسكة أن
المستفاد من الأخبار المذكورة أن العلة في الأمر بالبول هو تنقية المخرج لئلا يخرج بعد
ذلك شئ يوجب إعادة الغسل، ولا يعقل لاستحباب البول بمجرد الايلاج سيما مع تيقن
عدم الإنزال وجه وإن شمله اطلاق الأخبار المذكورة. وأما قوله: " وعسى أن ينزل... "

(1) هذا مضمون الروايات الدالة على أن الغسل من الماء الأكبر المروية في الوسائل في الباب
7 و 9 من أبواب الجنابة، وقد ورد هذا اللفظ في صحيحة زرارة المتقدمة ص 6 حكاية عن الأنصار.
108

ففيه أن الإنزال مقرون بعلامات موجبة للعلم به مثل الشهوة وفتور الجسد والدفق
ونحوها، وفرض ما ذكره - مع كونه من النادر الذي لا تبنى عليه الأحكام الشرعية -
لا يوجب قصر الحكم عليه، فلا يكون ما ذكره من الحكم كليا وهو خلاف ظاهر
كلامه. وبالجملة فإن خروج الأخبار في هذا المقام مطلقة إنما هو من حيث معلومية ذلك
(الثاني) - غسل اليدين إن لم يصبهما قذر قبل إدخالهما الإناء إذا كان الغسل
منه، كما هو المعروف في الأزمنة السابقة وبه وردت الأخبار، وأن استحباب ذلك ثابت
اجماعا فتوى ورواية.
ويجزئ غسل الكفين من الزندين كما اشتمل عليه أكثر الأخبار وهو المشهور،
ونقل في الذكرى عن الجعفي أنه يغسلهما إلى المرفقين أو إلى نصفهما لما فيه من المبالغة
في التنظيف والأخذ بالاحتياط:
ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " سألته عن
غسل الجنابة. فقال: تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك... الحديث ".
وفي موثقة أبي بصير (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجنابة.
فقال: تصب على يديك الماء فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك... الحديث ".
وفي صحيحة زرارة (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل
الجنابة فقال: تبدأ فتغسل كفيك... ".
ويجزئ غسل الكف الأيمن كما تضمنته صحيحة حكم بن حكيم (4) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجنابة. فقال: أفض على كفك اليمنى
من الماء فاغسلها... الحديث ".
والأفضل دون المرفق كما تضمنته موثقة سماعة (5) عن الصادق (عليه السلام)
قال: " إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفيه فليغسلهما دون المرفق... ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(4) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(5) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
109

أو إلى نصف الذراع كما تشعر به رواية يونس عنهم (عليهم السلام) (1) المتضمنة لغسل
الميت وأنه يغسل يده ثلاث مرات كما يغتسل الانسان من الجنابة إلى نصف الذراع.
وإلا كمل من المرفق لما تضمنته صحيحة يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن (عليه
السلام) (2) " يبدأ فغسل يديه إلى المرفقين قبل أن يغمسهما في الماء... " وصحيحة أحمد
ابن محمد بن أبي نصر (3) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن غسل الجنابة
فقال: تغسل يديك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك وتبول... الحديث " وقد تقدم
قريبا، ورواية قرب الإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر
عن الرضا (عليه السلام) (4) أنه قال في غسل الجنابة: " تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى
أصابعك... " والظاهر أن تثنية المرفق وافراد اليد في الرواية الثانية من سهو قلم الشيخ
(رحمه الله) ورواية الحميري تؤيد الأول، قال في الوافي بعد نقل الخبر المذكور: " وفي
بعض النسخ تغسل يديك إلى المرفقين وهو الصواب ".
وتكفي المرة والأفضل الثلاث لصحيحة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (5)
قال: " سأل كم يفرغ الرجل على يده قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حدث
البول وثنتين من الغائط وثلاثا من الجنابة " وروى في الفقيه مرسلا قال قال الصادق
(عليه السلام) (6): " اغسل يديك من البول مرة ومن الغائط مرتين ومن الجنابة
ثلاثا " ورواية حريز عن الباقر (عليه السلام) (7) قال: " يغسل الرجل يده من النوم
مرة ومن الغائط والبول مرتين ومن الجنابة ثلاثا " وفي الفقه الرضوي (8) " وتغسل
يديك إلى المفصل ثلاثا قبل أن تدخلهما الإناء وتسمى بذكر الله تعالى قبل إدخال يدك

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
(2) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(5) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب الوضوء
(6) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب الوضوء
(7) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب الوضوء
(8) ص 3.
110

الإناء " ومن المحتمل قريبا تعين الثلاث. فإنه لا دليل للمرة إلا اطلاق الأخبار المتقدمة
ويمكن تقييده بهذه الروايات.
وهل الحكم مختص بالغسل من الإناء الواسع الرأس القليل الماء، أو ينسحب
إلى الارتماس والغسل تحت المطر أو من إناء يصب عليه ونحو ذلك؟ ظاهر الأخبار
الأول، وصرح العلامة بالثاني محتجا بأنه من سنن الغسل، قال في الذخيرة بعد نقل
ذلك عنه: " وهو حسن لعموم صحيحة زرارة وصحيحة محمد بن مسلم وصحيحة حكم
ابن حكيم ورواية أبي بكر الحضرمي " (1) وفيه أن سياق أكثر روايات الغسل بل روايات
الوضوء أيضا ظاهر في كون الطهارة إنما هي من الأواني الواسعة الرأس القليلة الماء
كالطشوت ونحوها، وما أطلق وأجمل منها وهو القليل يحمل على المفيد والمبين، والقول
بعموم الاستحباب - كما ذكره - يحتاج إلى دليل واضح وليس فليس. والله العالم.
(الثالث) - المضمضة والاستنشاق ومحلهما بعد إزالة النجاسة كما يفهم من الأخبار
ففي صحيحة زرارة عن الصادق (عليه السلام) (2) " تبدأ فتغسل كفيك ثم
تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك ثم تمضمض واستنشق.. "
وفي رواية أبي بصير عنه (عليه السلام) (3) " تصب على يديك الماء فتغسل
كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تتمضمض وتستنشق... ".
وحملتا على الاستحباب جمعا بينهما وبين ما تقدم في المسألة الثامنة من المقصد
المتقدم (4) من الأخبار الدالة على نفيهما في الغسل بحملها على نفي الوجوب كما
تقدمت الإشارة إليه.
والمشهور استحباب التثليث مقدما لثلاث الأولى على الثانية، وجملة منهم ذكروا
الحكم المذكور هنا وفي الوضوء ولم يوردوا له دليلا، وبعضهم اعترف بعدم الوقوف على

(1) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.
(4) ص 91.
111

الدليل في الموضعين، والذي وقفت عليه من الدليل هنا ما ذكره في الفقه الرضوي (1)
حيث قال (عليه السلام): " وقد نروي أن يتمضمض، يستنشق ثلاثا ويروي مرة مرة
تجزيه وقال الأفضل الثلاث وإن لم يفعل فغسله تام " وأما الوضوء فقد تقدم دليله (2).
(الرابع) - التسمية على ما ذكره جملة من الأصحاب، وأسندها في الذكرى
إلى الجعفي، قال: " وقال الشيخ المفيد (رحمه الله): يسمى الله عز وجل عند اغتساله
ويمجده ويسبحه. ونحوه قال ابن البراج في المهذب، والأكثر لم يذكروها في الغسل،
والظاهر أنهم اكتفوا بذكرها في الوضوء تنبيها بالأدنى على الأعلى " انتهى. أقول:
لا يخفى ما في هذا العذر من البعد، بل الظاهر أن عدم ذكرهم لها إنما هو لعدم وقوفهم
على دليل لذلك، ومن ذكرها فلعله وقف على الدليل.
واستدل في الذكرى على ذلك باطلاق صحيحة زرارة عن الباقر (عليه السلام) (3)
قال: " هذا وضعت يدك في الماء فقل بسم الله وبالله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني
من المتطهرين. فإذا فرغت فقل الحمد لله رب العالمين " وهذا الخبر إنما أورده الأصحاب
في الوضوء ولهذا أن صاحب رياض المسائل إنما استند في استحبابها إلى الخبر العام،
والظاهر أنه أشار به إلى قوله (عليه السلام): " كل أمر لم يبدأ فيه باسم الله فهو
أبتر " ثم قال: " ويتخير في جعلها عند غسل اليدين وعند المضمضة والاستنشاق وعند
ابتداء غسل الرأس لصدق البدأة في الكل " أقول: ما ذكره من التخيير جيد بالنسبة

(1) ص 3
(2) ج 2 ص 162
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الوضوء
(4) في سفينة البحار ج 1 ص 663 عن تفسير الإمام العسكري عن أمير المؤمنين
(عليهما السلام) عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث " كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله
فهو أبتر " وفي عمدة القارئ ج 1 ص 25 والجامع الصغير ج 1 ص 91 عن أبي هريرة
عن رسول الله صلى الله عليه وآله " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع ".
112

إلى ما خرجه من الدليل، والمستفاد من كلامه (عليه السلام) في الفقه الرضوي - كما
قدمنا ذكره قريبا - هو استحباب التسمية وأن محلها قبل إدخال اليد في الإناء، وهذا مما
اختص ببيان دليله الكتاب المذكور. والله العالم.
(الخامس) - الدلك باليد، ذكره الأصحاب (رض) وعللوه بما فيه من
الاستظهار والمبالغة في ايصال ماء الغسل، وقال في المعتبر أنه اختيار علماء أهل البيت
(عليهم السلام) وفي المنتهى أنه مذهب أهل البيت، وظاهر كلاميهما دعوى الاجماع
عليه، وظاهر كلام الجميع عدم الوقوف فيه على نص، والحكم المذكور قد صرح به
في الفقه الرضوي (1) فقال بعد أن ذكر صفة الغسل وأنه يصب على رأسه ثلاث أكف
وعلى جانبه الأيمن مثل ذلك وعلى جانبه الأيسر مثل ذلك إلى أن قال: " ثم تمسح
سائر بدنك بيديك وتذكر الله تعالى فإنه من ذكر الله تعالى على غسله وعند وضوئه
طهر بدنه كله... الحديث ".
أقول: لا ريب أنه متى كان غسل الأعضاء الثلاثة إنما هو بالأكف الثلاثة
ونحوها كما تضمنه هذا الخبر وغيره، فإنه لا يبعد وجوب الدلك ليحصل يقين ايصال الماء
إلى جميع البدن. وبالجملة فالحكم المذكور مما لا اشكال فيه ويشير إليه أيضا قوله في صحيحة
زرارة عن الصادق (عليه السلام) (2): "... ولو أن جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة
أجزأه ذلك وإن لم يدلك جسده ".
(السادس) - تخليل ما يصل إليه الماء بدون التخليل استظهارا كالشعر
الخفيف ومعاطف الأذنين والإبطين والسرة وعكن البطن في السمين وما تحت ثدي
المرأة ونحو ذلك، أما ما لا يصل إليه الماء بدون التخليل فإنه يجب تخليله كما تقدم،
ويشير إلى الحكم المذكور ما تقدم في المسألة السادسة من سابق هذا المقصد (3) من

(1) ص 3
(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(3) ص 89
113

قوله (عليه السلام) في حسنة جميل: " ثم قال يبالغن في الغسل " وفي صحيحة محمد بن
مسلم: " يبالغن في الماء " وفي الفقه الرضوي: " والاستظهار فيه إذا أمكن " ولا ينافي
ذلك ما تقدم في المسألة السابعة من سابق هذا المقصد (1) في صحيحة إبراهيم بن
أبي محمود ورواية إسماعيل بن أبي زياد، فإن غاية ما تدلان عليه صحة الغسل مع عدم
التخليل وهو لا ينافي استحبابه، على أنك قد عرفت ثمة ارتكاب التأويل فيهما. ونقل
في الذكرى عن العلامة أنه حكم باستحباب تخليل المعاطف والغضون ومنابت الشعر
والخاتم والسير قبل إفاضة الماء للغسل ليكون أبعد عن الاسراف وأقرب إلى ظن وصول الماء
قال: وقد نبه عليه قدماء الأصحاب. انتهى. وفيه ما لا يخفى.
(السابع) - الدعاء لما رواه الشيخ (رحمه الله) عن عمار الساباطي (2) قال: " قال
أبو عبد الله (عليه السلام) إذا اغتسلت من جنابة فقل اللهم طهر قلبي وتقبل سعيي واجعل ما
عندك خيرا لي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، وإذا اغتسلت للجمعة
فقل اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني وتبطل عملي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني
من المتطهرين " وما رواه عن محمد بن مروان عن الصادق (عليه السلام) (3) قال:
" تقول في غسل الجمعة اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني وتبطل عملي، وتقول في
غسل الجنابة اللهم طهر قلبي وزك عملي واجعل ما عندك خيرا لي " وفي كتاب المصباح (4)
تقول عند الغسل: " اللهم طهرني وطهر قلبي واشرح لي صدري واجر على لساني
مدحتك والثناء عليك اللهم اجعله لي طهورا وشفاء ونورا إنك على كل شئ قدير "
وقال المفيد (رحمه الله) في المقنعة: " ويسمي الله تعالى عند اغتساله ويمجده ويسبحه، فإذا
فرغ من غسله فليقل اللهم طهر قلبي وزك عملي واجعل ما عندك خيرا لي اللهم اجعلني
من التوابين واجعلني من المتطهرين " والظاهر حصول الامتثال بالدعاء حال الاغتسال

(1) ص 91
(2) المروية في الوسائل في الباب 37 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 37 من أبواب الجنابة.
(4) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
114

وبعده والأخبار المذكورة لا تأباه، وبذلك صرح شيخنا الشهيد في الذكرى فقال:
" ولعل استحباب الدعاء للغسل شامل حال الاغتسال وبعده ".
(الثامن) - الاستبراء بالاجتهاد على المشهور سيما بين المتأخرين، وبه صرح المرتضى
(رضي الله عنه) وابن إدريس ومن تأخر عنه، ونقل عن الشيخ في المبسوط والجمل وجوبه
وعبارته تدل على وجوب الاستبراء بالبول أو الاجتهاد على الرجل، وظاهر هذا الكلام
هو أن الواجب الاستبراء بالبول إن أمكن وإلا فبالاجتهاد، وهو الظاهر من كلام الشيخ
المفيد (رحمه الله) في المقنعة حيث قال: " وإذا عزم الجنب على التطهير بالغسل
فليستبرئ بالبول ليخرج ما بقي من المني في مجاريه، فإن لم يتيسر له ذلك فليجتهد في
الاستبراء بمسح ما تحت الأنثيين إلى أصل القضيب وعصره إلى رأس الحشفة ليخرج
ما لعله باق فيه من نجاسة " ونقل مثله أيضا عن ابن البراج. وعن ظاهر الجعفي وجوب
البول والاجتهاد معا. وجملة من عبائر القائلين بالوجوب مجملة حيث صرحوا بوجوب
الاستبراء ولم يفسروه بالبول أو الاجتهاد أو هما معا. وكيف كان فالظاهر هو القول
المشهور وضعف القول المذكور، لعدم الدليل عليه، والدليل الذي أورده الشيخ على
وجوب الاستبراء بالبول - وهو الروايات الدالة على وجوب إعادة الغسل بدونه (1) -
لا يمكن الاستدلال به هنا سيما في صورة ما إذا بال. وبالجملة فإنا لم نقف في شئ من
أخبار الغسل على الأمر للمنزل بالاستبراء بالاجتهاد وإنما ورد ذلك بعد البول.
وهل يستحب الاستبراء للمرأة أيضا؟ قولان.
وأما كيفية الاستبراء بالاجتهاد فقد تقدم تحقيق القول فيه في بحث الوضوء (2)
(التاسع) - الموالاة ذكرها جملة من متأخري الأصحاب، وعللوه بما فيه
من المبادرة إلى الواجب والتحفظ من طريان المفسد للغسل، ولأن المعلوم من صاحب
الشرع وذريته المعصومين (صلوات الله عليهم) فعل ذلك، وظهر كلامهم الاتفاق

(1) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(2) ج 2 ص 56.
115

على عدم وجوبها هنا بكل من المعنيين المذكورين في الوضوء، وقد تقدم الكلام في
ذلك في المسألة الثالثة من المسائل الملحقة بالمقصد المتقدم (1).
(العاشر) - الغسل بصاع، وعليه اجماع علمائنا وأكثر العامة، ونسب إلى
أبي حنيفة القول بوجوب الصاع (2).
ويدل على الاستحباب - مضافا إلى اجماع - الروايات الدالة على الاكتفاء
بمجرد الجريان ولو كالدهن، ومنها - صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (3)
قال: " سألته عن غسل الجنابة، فقال تبدأ بكفيك فتغسلهما، إلى أن قال: ثم تصب
على سائر جسدك مرتين فما جرى عليه الماء فقد طهر " وفي صحيحة زرارة أو حسنته (4)
قال: " قلت كيف يغتسل الجنب؟ فقال: إن لم يكن أصاب كفه شئ، إلى أن قال: فما
جرى عليه الماء فقد أجزأه " وفي صحيحته الأخرى (5) "... وكل شئ أمسسته الماء فقد
أنقيته... " وفي موثقته أيضا (6) " أفض على رأسك ثلاث أكف وعن يمينك وعن
يسارك إنما يكفيك مثل الدهن " وفي حسنة هارون بن حمزة الغنوي (7) قال: " يجزيك
من الغسل والاستنجاء ما بلت يدك " إلى غير ذلك من الأخبار.
ومما يدل على استحباب الصاع هنا ما رواه في التهذيب في الصحيح عن معاوية
بن عمار (8) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان رسول الله (صلى الله

(1) ص 83
(2) في المغني لابن قدامة الحنبلي ج 1 ص 224 " حكى عن أبي حنيفة
أنه لا يجزئ دون الصاع في الغسل والمد في الوضوء " وفي بدائع الصنائع للكاسانى الحنفي
ج 1 ص 35 " ذكر في ظاهر الرواية أدني ما يكفي في الغسل من الماء صاع وفي الوضوء مد،
وهذا التقدير غير لازم بحيث لا يجوز النقصان عنه والزيادة عليه بل هو لبيان أدنى الكفاية
عادة حتى أن من أسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك أجزأه ".
(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(4) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(5) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة
(6) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الجنابة
(7) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الجنابة
(8) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب الجنابة
116

عليه وآله) يغتسل بصاع وإذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع ومد " وعن زرارة في الصحيح
عن الباقر (عليه السلام) (1) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتوضأ بمد ويغتسل
بصاع، والمد رطل ونصف والصاع ستة أرطال " قال الشيخ (رحمه الله): " أراد به أرطال المدينة
فيكون تسعة أرطال بالعراقي " وعن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير في الصحيح عن الباقر
والصادق (عليهما السلام) (2) أنهما قالا: " توضأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمد واغتسل
بصاع، ثم قال: اغتسل هو وزوجته بخمسة أمداد من إناء واحد. قال زرارة فقلت كيف صنع
هو؟ فقال بدأ هو فضرب يده في الماء قبلها وأنقى فرجه ثم ضربت هي فأنقت فرجها ثم
أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا، فكان الذي اغتسل به رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ثلاثة أمداد والذي اغتسلت به مدين، وإنما أجزأ عنهما لأنهما اشتركا
جميعا ومن أنفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع ".
أقول: قوله (عليه السلام): " ومن أنفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع "
لا ينافي ما قدمنا من الأخبار، لأنه محمول على سنة الاسباغ جمعا بينه وبين الأخبار المتقدمة،
وبذلك صرح جملة من الأصحاب (رضي الله عنهم) قال شيخنا المفيد (رحمه الله):
" والغسل بصاع من الماء وقدره تسعة أرطال بالبغدادي، وذلك إسباغ ودون ذلك مجزئ
في الطهارة " وقال الشيخ في المبسوط: " والاسباغ بتسعة أرطال " وفي النهاية " والاسباغ
يكون بتسعة أرطال من ماء " وفي الخلاف " الفرض في الغسل ايصال الماء إلى جميع
البدن وفي الوضوء إلى أعضاء الطهارة، وليس له قدر لا يجوز أقل منه إلا أن المستحب أن يكون الغسل بتسعة أرطال والوضوء بمد ".
وهذه العبارات كلها ولا سيما عبارة الخلاف مطابقة للأخبار المتقدمة متوافقة في أن المجزئ هو ما صدق عليه الغسل وأن نهاية ما يستحب من الزيادة لسنة الاسباغ هو

(1) رواه في الوسائل في الباب 50 من أبواب الوضوء
(2) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب الجنابة
117

الصاع، وبذلك يظهر لك ما في كلام العلامة في المنتهى وقبله المحقق في المعتبر من أن
المستحب هو الصاع فما زاد، قال في المعتبر في تعداد سنن الغسل: " والغسل بصاع فما
زاد لا خلاف بين فقهائنا في استحبابه " وقال في المنتهى: " الغسل بصاع فما زاد
مستحب عند علمائنا أجمع " وقال الشهيد في الذكرى: " والشيخ وجماعة ذكروا استحباب
الغسل بصاع فما زاد، والظاهر أنه مقيد بعدم أدائه إلى السرف المنهى عنه " انتهى.
أقول: لا يبعد أن ما نسبه الشهيد إلى الشيخ وجماعة إنما نشأ من نظره إلى عبارتي
المعتبر والمنتهى، حيث ادعوا أن الحكم بذلك اجماعي، وإلا فعبارات الشيخ (رحمه
الله) التي قدمناها خالية عما نقله عنه، واحتمال كون ذلك في موضع آخر من كتبه الظاهر
بعده، فإن هذه الكتب الثلاثة هي المعول عليها في نقل مذاهبه غالبا، وأيضا لو كان
كذلك لم ينقل ذلك على الاطلاق. ومما يدفع ما ادعاه الفاضلان المذكوران من الاجماع
(أولا) - تصريح الأصحاب المتقدم ذكرهم بعدم الزيادة بل ظاهر كلامهم أن هذا نهاية
الاستحباب. و (ثانيا) - ما تقدم في بحث الوضوء من مرسلة الفقيه (1) عنه (صلى الله
عليه وآله) قال: " الوضوء مد والغسل صاع وسيأتي أقوام من بعدي يستقلون ذلك
فأولئك على خلاف سنتي والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس " وربما استفيد من
أخبار كيفية الغسل دخول ماء الاستنجاء والغسل المستحب والمضمضة والاستنشاق في
الصاع المذكور، وصحيحة الفضلاء المتقدمة ظاهرة في دخول ماء الاستنجاء. وأما تحقيق
الصاع وقدره فسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الزكاة.
المقصد الخامس
في الأحكام وفيه مسائل: (الأولى) - المشهور بين الأصحاب وجوب الوضوء
مع كل غسل إلا غسل الجنابة فإنه لا يجب. معه أجماعا، وهل يستحب معه أم لا؟ قولان

(1) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب الوضوء.
118

المشهور العدم. فالكلام هنا يقع في مقامين:
(الأول) - في وجوب الوضوء مع كل غسل، وعليه جل الأصحاب، وذهب
المرتضى (رضي الله عنه) إلى أنه لا يجب الوضوء مع الغسل سواء كان فرضا أو نفلا،
ونقله في المختلف عن ابن الجنيد أيضا، وإليه مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين.
احتج الأولون بقوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم... الآية " (1) فإنه شامل لمن اغتسل وغيره، خرج منه الجنب بالنص
والاجماع وبقي ما عداه.
وما رواه في الكافي (2) في الصحيح عن ابن أبي عمير عن رجل عن الصادق
(عليه السلام) قال: " كل غسل قبله وضوء إلا غسل الجنابة " قال في الكافي (3): " وروي
أنه ليس شئ من الغسل فيه وضوء إلا غسل يوم الجمعة فإن قبله وضوء " قال: " وروي
أي وضوء أطهر من الغسل؟ ".
وما رواه في التهذيب (4) في الصحيح عن ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان أو
غيره عن الصادق (عليه السلام) قال: " في كل غسل وضوء إلا الجنابة " وهذه الرواية
رواها في المختلف في الحسن عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه السلام). وفيه أن
سندها في كتب الأخبار عن حماد بن عثمان أو غيره فهي لا تخرج عن الارسال، ولهذا
ردها المتأخرون بالارسال كسابقتها بل جعلها في المدارك رواية واحدة وردها بضعف
السند وشنع على من جعلهما روايتين، وأما نقل العلامة لها عن حماد عنه (عليه السلام)
فالظاهر أنه من سهو القلم حيث إن الموجود في كتب الأخبار إنما هو ما ذكرناه.
وعن علي بن يقطين في الصحيح عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) (5)

(1) سورة المائدة الآية 9
(2) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الجنابة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الجنابة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الجنابة.
(5) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
119

قال: " إذا أردت أن تغتسل للجمعة فتوضأ واغتسل "
أقول: ويدل عليه ما ذكره (عليه السلام) في الفقه الرضوي (1) حيث قال
(عليه السلام): " والوضوء في كل غسل ما خلا غسل الجنابة، لأن غسل الجنابة فريضة
تجزئه عن الفرض الثاني ولا يجزئه سائر الغسل عن الوضوء لأن الغسل سنة والوضوء
فريضة ولا تجزئ سنة عن فرض، وغسل الجنابة والوضوء فريضتان فإذا اجتمعا فأكبرهما
يجزئ عن أصغرهما، وإذا اغتسلت لغير جنابة فابدأ بالوضوء ثم اغتسل ولا يجزيك الغسل
عن الوضوء. فإن اغتسلت ونسيت الوضوء فتوضأ وأعد الصلاة " انتهى. ولا يخفى
ما فيه من الصراحة والمبالغة في وجوب الوضوء، وبهذه العبارة بعينها عبر الصدوق في
الفقيه من غير اسناد إلى الرواية، وهو قرينة ظاهرة في الاعتماد على الكتاب المذكور
والافتاء بعبارته كما جرى عليه أبوه قبله في رسالته إليه، وسيظهر لك ذلك أن شاء الله
تعالى في الأبواب الآتية ظهورا لا يعتريه الشك والريب.
وأما ما يدل على القول الثاني وهو المختار فجملة من الأخبار: منها - ما رواه
الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (2) قال: " الغسل يجزئ
عن الوضوء وأي وضوء أطهر من الغسل؟ " وفي الصحيح عن حكم بن حكيم (3) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجنابة. فقال: أفض على كفك اليمنى، إلى
أن قال: قلت إن الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل، فضحك (عليه السلام)
وقال: وأي وضوء أنقى من الغسل وأبلغ؟ " وعن عبد الله بن سليمان (4) قال: " سمعت
أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الوضوء بعد الغسل بدعة " وعن سليمان بن خالد في الصحيح
عن الباقر (عليه السلام) (5) قال: " الوضوء بعد الغسل بدعة " وعن الحسن بن علي
ابن إبراهيم بن محمد عن جده إبراهيم بن محمد أن محمد بن عبد الرحمان الهمداني (6)

(1) ص 3
(2) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
(3) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة
(4) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
(5) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
(6) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
120

" كتب إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) يسأله عن الوضوء للصلاة في غسل الجمعة.
فكتب: لا وضوء للصلاة في غسل الجمعة ولا غيره " وعن حماد بن عثمان عن رجل عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (1): " في الرجل يغتسل للجمعة أو غير ذلك أيجزيه من الوضوء؟
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وأي وضوء أطهر من الغسل؟ " وعن عمار الساباطي
في الموثق (2) قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل إذا اغتسل من جنابة
أو يوم جمعة أو يوم عيد، هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال: لا ليس عليه
قبل ولا بعد قد أجزأه الغسل، والمرأة مثل ذلك إذا اغتسلت من حيض أو غير
ذلك فليس عليها الوضوء لا قبل ولا بعد قد أجزأها الغسل " وعن محمد بن أحمد بن يحيى
مرسلا (3) " أن الوضوء بعد الغسل بدعة " وبهذا الاسناد قال: " الوضوء قبل
الغسل وبعده بدعة ".
ومما يعضد هذه الأخبار ويعلى هذا المنار الأخبار الواردة في أحكام الحائض
والمستحاضة والنفساء، فإنها قد اشتملت على الغسل خاصة ولا سيما في مقام التقسيم
إلى الغسل في بعض والوضوء في بعض، والمقام مقام البيان فلو كان الوضوء مع الغسل
واجبا لذكروه (عليهم السلام) ففي صحيحة زرارة (4) "... وإن جاز الدم الكرسف تعصبت
واغتسلت ثم صلت الغداة بغسل والظهر والعصر بغسل... " وفي صحيحة ابن سنان (5)
" المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر وتصلي الظهر والعصر ثم تغتسل عند المغرب وتصلي المغرب
والعشاء ثم تغتسل عند الصبح وتصلي الفجر... " وفي صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج (6)
" إن كانت صفرة فلتغتسل ولتصل، إلى أن قال: وإن كان دما ليس بصفرة فلتمسك
عن الصلاة أيام قرئها ثم لتغتسل ولتصل " وفي صحيحة الحسين بن نعيم الصحاف (7)

(1) المروية في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
(2) المروية في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
(3) المروية في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
(4) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(5) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(6) المروية في الوسائل في الباب 5 من أبواب النفاس.
(7) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
121

"... فإن انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل ولتصل... " وفي صحيحة معاوية بن عمار (1)
"... فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر، إلى قوله:
وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء... "
إلى غير ذلك من الأخبار.
أقول: هذا ما وقفت عليه من أخبار المسألة، والظاهر عندي هو القول الثاني
لدلالة جملة هذه الأخبار عليه، وجمهور أصحابنا (رضي الله عنهم) لم يوردوا في مقام
الاستدلال للقول الثاني إلا اليسير منها، وقد اختلف كلامهم في الجواب عنها:
فأما الشيخ (رحمه الله) في التهذيب فإنه بعد أن ذكر موثقة عمار ورواية حماد
ابن عثمان ومحمد بن عبد الرحمان الهمداني حملها على ما إذا اجتمعت هذه الأغسال مع غسل
الجنابة، ولا يخفى بعده إذ لا قرينة ولا إشارة في شئ من الأخبار المذكورة تدل على ذلك
وأما الشهيد في الذكرى فإنه لم يورد إلا مكاتبة الهمداني ومرسلة حماد بن عثمان
ثم قال: " وهي دليل المرتضى (رضي الله عنه) وابن الجنيد على اجزاء الغسل فرضه
ونفله عن الوضوء، إلى أن قال بعد كلام في البين: والحق أن الترجيح بالشهرة بين
الأصحاب وكاد يكون اجماعا. والروايات معارضة بمثلها وبما هو أصح اسنادا منها "
ولا يخفى ما فيه فإن الترجيح بالشهرة في الفتوى لم يدل عليه دليل وإنما الشهرة الموجبة
للترجيح بين الأخبار هي الشهرة في الرواية كما اشتملت عليه مقبولة عمر بن حنظلة (2)
وغيرها، وهو ثابت في جانب روايات القول الثاني. وما ذكره من أن الروايات
متعارضة فهو كذلك لكن الترجيح في جانب روايات القول الثاني لكثرتها واستفاضتها
وضعف ما يقابلها سندا ودلالة كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، وليس الدليل منحصرا
في هاتين الروايتين المذكورتين في كلامه كما يوهمه ظاهر كلامه.

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
122

وأما المحقق في المعتبر فإنه بعد نقل القولين قال: " لنا إن كل واحد من الحدثين
لو انفرد لأوجب حكمه ولا منافاة فيجب حكمهما لكن ترك العمل بذلك في غسل الجنابة
فيبقى معمولا به هنا، ويؤكد ذلك رواية ابن أبي عمير، ثم أورد روايتيه المتقدمتين،
ثم قال: فإن احتج المرتضى (رضي الله عنه) بما رواه محمد بن مسلم، ثم أورد الرواية
الأولى، ثم قال عاطفا عليها: وما روى من عدة طرق عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الوضوء بعد الغسل بدعة " (1) فجوابه أن خبرنا يتضمن والعمل
بالمفصل أولى " انتهى.
أقول: أما ما أورده أولا - من الدليل العقلي الذي هو بزعمهم أقوى من
الدليل النقلي حتى أنه إنما جعل الدليل النقلي مؤيدا - ففيه (أولا) - أن الأحكام الشرعية
توقيفية ليس للعقول فيها مسرح كما حققناه في مقدمات الكتاب، بل المرجع فيها إلى
الكتاب العزيز والسنة المطهرة. و (ثانيا) - أنه من الجائز الممكن أنه وإن كان كل
من الحدثين لو أنفرد لأوجب حكمه إلا أنه بالاجتماع يندرج الأصغر تحت الأكبر كما
في الجنابة، وكما خرجت الجنابة بالدليل - كما اعترف به - كذلك غيرها بالأدلة التي
قدمناها غاية الأمر أن الجنابة قد أجمعوا عليها وهذه محل خلاف بينهم، ولكن بالنظر إلى
الأدلة الشرعية والأخبار المعصومية التي هي المعتمد وعليها المدار فالاندراج حاصل
والاكتفاء بالغسل ثابت.
وأما ما أجاب به عن احتجاج المرتضى (رضي الله عنه) ففيه (أولا) - أن
دليل المرتضى غير منحصر فيما نقله، فلو تم له ما ذكره في هذين الخبرين فإنه
لا يتم في غيرهما من الأخبار المتقدمة المشتملة على بعض من الأغسال المعينة، مثل
مكاتبة الهمداني ومرسلة حماد بن عثمان وموثقة عمار وروايات الحائض والمستحاضة.
و (ثانيا) - أن الظاهر - كما حققه جملة من متأخري المتأخرين - أن المراد من المفرد

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة
123

المعرف باللام في أمثال هذه المواضع العموم، إذ لا يجوز أن يكون للعهد لعدم تقدم
معهود ولا للعهد الذهني إذ لا فائدة فيه فتعين أن يكون للاستغراق، ويؤيده التعليل
المستفاد من قوله: " وأي وضوء أطهر من الغسل؟ " فإنه ظاهر في العموم، إذ لا خصوصية
لغسل الجنابة بذلك، ولوروده في غسل الجمعة في مرسلة حماد بن عثمان المتقدمة، وكذا
في صحيحة حكم بن حكيم وإن كان أصل السؤال فيها عن غسل الجنابة إلا أنه قد تقرر
أن خصوص السؤال لا يخصص عموم الجواب. وما ربما يقال - إن غسل الجنابة هو
الشائع المتكرر فيكون في قوة المعهود فينصرف الاطلاق إليه - ممنوع فإن غسل الحيض
والاستحاضة لا يقصران في التكرار والشيوع عنه فالحمل عليه بعد ما عرفت تحكم
محض، على أن الحق في ذلك أن يقال إن ما أوردناه من الروايات في الاستدلال للقول
المذكور ما بين مفصل ومجمل فيحمل مجملها على مفصلها.
وأما العلامة في المنتهى فإنه ذكر أكثر الروايات المتقدمة ثم أجاب عن صحيحة
محمد بن مسلم بأن اللام لا تدل على الاستغراق فلا احتجاج فيه فيصدق بصدق أحد أجزائه
وقد ثبت هذا الحكم لبعض الأغسال فيبقى الباقي على الأصل، وأيضا تحمل الألف
واللام على العهد جمعا بين الأدلة، ثم أجاب عن الروايات الباقية بضعف السند، ثم احتمل
ما أجاب به الشيخ (رحمه الله) مما قدمناه ذكره، ثم قال: " ويمكن أن يقال في الجواب
عن الأحاديث كلها أنها تدل على كمالية الأغسال والاكتفاء بها فيما شرعت له ونحن
نقول به، والوضوء لا نوجبه في غسل الحيض والجمعة مثلا ليكمل الغسل عنهما وإنما نوجب
الوضوء للصلاة، فعند غسل الحيض يرتفع حدث الحيض وتبقى المرأة كغيرها من المكلفين
إذا أرادت الصلاة يجب عليها الوضوء، وكذا باقي الأغسال " انتهى.
أقول: أما ما أجاب به عن صحيحة محمد بن مسلم فقد تقدم الكلام فيه. وأما
طعنه في الأخبار الباقية بضعف السند فهو ضعيف عندنا غير معمول عليه ولا معتمد،
على أنه متى ألجأته الحاجة إلى الاستدلال بأمثالها من الأخبار الضعيفة باصطلاحه استدل
124

بها وأغمض عن هذا الطعن كما لا يخفى على من راجع كتبه وكتب غيره من أرباب هذا
الاصطلاح، ولو أنهم يقفون على هذا الاصطلاح حق الوقوف ولا يخرجون عنه لما
استطاعوا تصنيف هذه الكتب ولا تفريع هذه الفروع، إذ الصحيح من الأخبار
باصطلاحهم لا يفي لهم بعشر معشار الأحكام التي ذكروها كما لا يخفى على من تأمل بعين
الانصاف. وأما ما ذكره من جواب الشيخ فقد تقدم ما فيه. وأما ما ذكره أخيرا في
الجواب عن الأخبار كلها - من أن مشروعية الوضوء هنا ليس لتكميل الأغسال وإنما
هو لرفع موجبه وهو الحدث الأصغر فإذا أراد الصلاة وجب عليه الوضوء لذلك - ففيه
أن مكاتبة الهمداني التي هي إحدى الروايات التي نقلها قد تضمنت أنه لا وضوء للصلاة
في غسل الجمعة ولا غيره. وأما ما أجاب به في المختلف من التقييد بما إذا لم يكن وقت
صلاة فمع ظهور أنه تعسف محض يرده قوله في موثقة عمار: " ليس عليه قبل الغسل
ولا بعد قد أجزأه الغسل " وكذا الأخبار الدالة على أنه بعد الغسل بدعة، وبذلك
اعترف في الذكرى أيضا.
وبالجملة فإن الروايات المذكورة ظاهرة الدلالة على القول المذكور غاية الظهور
لا يعتريها فتور ولا قصور.
نعم يبقى الكلام في الجواب عن أدلة القول المشهور، أما الآية فالجواب عنها أن
اطلاقها مقيد بالأخبار المذكورة، كما هو معلوم في جملة من الأحكام من تقييد اطلاقات
الكتاب العزيز وتخصيص عموماته بالسنة المطهرة، على أنه قد ورد تفسير الآية في
موثق ابن بكير (1) بالقيام من حدث النوم، وادعى عليه العلامة في المنتهى وقبله
الشيخ في التبيان الاجماع كما تقدم في بحث الوضوء، وحينئذ فيجب تخصيص المأمور
بالوضوء بالمحدث حدثا أصغر إن ضم إليها الاجماع المركب أو المحدث بالنوم، ولا تدل
على أن من كان محدثا حدثا أكبر بل غير النوم مأمور بالوضوء لا منفردا ولا مع ضميمة

(1) المروي في الوسائل في الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء.
125

الغسل، وبالجملة فالتحقيق أن سياق الآية الشريفة ظاهر في أن الجنب مأمور بالغسل وغيره
مأمور بالوضوء، وامتثال كل منهما ما أمر به يقتضي الاجزاء، إلا أنه لما ورد عنهم
(عليهم السلام) تفسير القيام إلى الصلاة بالقيام من حدث النوم وتأكد ذلك بدعوى
الاجماع وجب تخصيص المأمور بالوضوء بالمحدث حدثا أصغر أو النوم كما قدمنا. وأما
روايتا ابن أبي عمير وصحيحة علي بن يقطين فقد أجاب عنها جملة من متأخري
المتأخرين بالحمل على الاستحباب جمعا بين الأخبار، وأيدوا ذلك بما ذكره المحقق (رحمه
الله) في مسألة وضوء الميت، حيث قال بعد ايراد روايتي ابن أبي عمير: " لا يلزم من
كون الوضوء في الغسل أن يكون واجبا بل من الجائز أن يكون غسل الجنابة لا يجوز فعل
الوضوء فيه وغيره يجوز، ولا يلزم من الجواز الوجوب " وتبعه في هذه المقالة جمع ممن
تأخر عنه كالعلامة في المختلف والشهيد الثاني في الروض. وهو مما يقضي منه العجب
فإنهم مع اعترافهم بذلك في مسألة وضوء الميت يستدلون بالخبرين المذكورين هنا على
وجوب الوضوء في غير غسل الجنابة. والأظهر عندي حمل الأخبار المذكورة وكذا كلامه
(عليه السلام) في الفقه الرضوي على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل
كل بلية، وعليه تجتمع أخبار المسألة، وذلك فإن العامة بالنسبة إلى الوضوء مع غسل
الجنابة على قولين، فالمشهور بينهم استحباب الوضوء معه بأن يكون قبله كما نقله في المنتهى
حيث قال: لا يستحب الوضوء عندنا خلافا للشيخ في التهذيب، وأطبق الجمهور على
استحبابه قبله (1). ونقل في صدر المسألة عن الشافعي في أحد قوليه وهو رواية عن أحمد
ومثل ذلك عن داود وأبي ثور الوجوب لو جامعه حدث أصغر وأما سائر الأغسال

(1) كما في المغني لابن قدامة ج 1 ص 217 و ص 219 وجامع الترمذي على شرحه
لابن العربي ج 1 ص 155 ونيل الأوطار للشوكاني ج 1 ص 213 وشرح المنهاج لابن
حجر ج 1 ص 118.
(2) كما في فتح الباري لابن حجر ج 1 ص 250 وعمدة القارئ للعيني ج 2 ص 3.
126

واجبة أو مستحبة فالظاهر أنه لا خلاف بينهم في الوجوب (1) كما عليه جمهور أصحابنا
(رضي الله عنهم) وحينئذ فمعنى خبري ابن أبي عمير أن كل غسل معه وضوء واجب
إلا غسل الجنابة فإنه لا يجب الوضوء معه وإنما يستحب.
ثم إنه على القول بوجوب الوضوء مع الغسل كما هو المشهور فهل يجب تقديمه على
الغسل أم يتخير وإن كان التقديم أفضل؟ المشهور الثاني، وعن الشيخ في بعض كتبه
الأول، وبه صرح أبو الصلاح وهو ظاهر كلام المفيد وابني بابويه على ما نقله في المختلف
ويدل عليه مرسلة ابن أبي عمير المتقدمة، وأجاب عنها في المختلف بالحمل على الاستحباب
وربما أيد هذا القول أيضا بقولهم (عليهم السلام) (2) فيما قدمناه: " الوضوء بعد الغسل
بدعة " وظاهر ابن إدريس دعوى الاجماع على عدم وجوب التقديم حيث قال: " وقد
يوجد في بعض كتب أصحابنا في كيفية غسل الحائض مثل كيفية غسل الجنابة ويزيد
بوجوب تقديم الوضوء على الغسل، وهذا غير واضح من قائله بل الزيادة على غسل الجنابة
أن لا تستبيح الحائض إذا طهرت بغسل حيضها وبمجرده الصلاة كما يستبيح الجنب سواء
قدمت الوضوء أو أخرت، وإن أراد أنه يجب تقديم الوضوء على الغسل فغير صحيح بلا
خلاف " انتهى. وكلامه وإن كان في غسل الحائض إلا أنه خرج مخرج التمثيل، إذ لا فرق
في هذا المعنى بين غسل الحائض والأغسال المندوبة التي أوجبوا فيها الوضوء. وكيف كان
فالبحث في ذلك عندنا مفروغ عنه وإن كان على تقدير القول المذكور فالأقرب وجوب

(1) في شرح الزرقاني المالكي على مختصر أبي الضياء في فقه مالك ج 1 ص 105
" ويجزئ الغسل من جنابة أو حيض أو نفاس عن الوضوء وإن تبين عدم جنابته أو
حيضها أو نفاسها وإن كان خلاف الأولى " وفي حاشية ابن قاسم العبادي على شرح المنهاج
ج 1 ص 118 قال: " في شرح العباب أن الوضوء إنما يكون سنة في الغسل الواجب وأنه
صرح أبو زرعة وغيره تبعا للمحاملي، ولو قيل بندبه كغيره من سائر السنن التي ذكروها
في الغسل المسنون لم يبعد ".
(2) المروي في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة.
127

التقديم، لدلالة مرسلة ابن أبي عمير المشار إليها على ذلك، ومثلها الخبر المرسل من الكافي
وإن كان مورده غسل الجمعة، وأصرح من ذلك عبارة الفقه الرضوي (1) حيث قال:
" فابدأ بالوضوء ثم اغتسل " ورواية أبي بكر الحضرمي الآتية، وما في صحيح حكم
ابن حكيم (2) من قوله: "... أن الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل... " وهذه
الروايات لا معارض لها إلا اطلاق بعض الأخبار فيحمل عليها. وكيف كان فالاحتياط -
بالوضوء مع هذه الأغسال وتقديمه عليها - مما لا ينبغي تركه.
(المقام الثاني) - هل يستحب الوضوء مع غسل الجنابة أم لا؟ المشهور الثاني،
وذهب الشيخ في التهذيب إلى الأول استنادا إلى ما رواه عن أبي بكر الحضرمي عن الباقر
(عليه السلام) (3) قال: " سألته كيف أصنع إذا أجنبت؟ قال: اغسل كفك وفرجك
وتوضأ وضوء الصلاة ثم اغتسل " بحملها على الاستحباب جمعا بينها وبين ما دل من الأخبار
على عدم الوضوء مع غسل الجنابة كصحيحة حكم بن حكيم ونحوها، ويدل عليه أيضا
ما رواه الكليني (4) في الصحيح أو الحسن بن إبراهيم بن هاشم عن عبد الله بن مسكان وهو
ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه عن محمد بن ميسر وهو غير موثق في كتب
الرجال قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل
في الطريق ويريد أن يغتسل وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال: يضع يده
ويتوضأ ويغتسل، هذا مما قال الله عز وجل: وما جعل عليكم في الدين من حرج " (5)
والجواب عن الخبر الأول أن الأظهر في مدلوله هو الحمل على التقية، لما قدمناه من أن
العامة في ذلك على قولين في الوضوء مع غسل الجنابة، فالمشهور الاستحباب والقول
الآخر الوجوب ويشير إلى ذلك قوله (عليه السلام) في صحيحة حكم بن حكيم (6)

(1) ص 4
(2) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الماء المطلق.
(5) سورة الحج. الآية 78.
(6) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
128

" إن الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل " فإن المراد بالناس هم المخالفون
وأظهر من ذلك ما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم (1) قال: " قلت لأبي جعفر (عليه
السلام) إن أهل الكوفة يروون عن علي (عليه السلام) أنه كان يأمر بالوضوء قبل
الغسل من الجنابة؟ قال كذبوا على علي ما وجدوا ذلك في كتاب علي، قال الله تعالى:
" وإن كنتم جنبا فاطهروا " (2) ويعضده أيضا ما تقدم من مرسلة محمد بن أحمد بن
يحيى (3) وقوله: " الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة " وكذا غيرها مما دل على كونه
مع الغسل بدعة. ورد الشيخ (رحمه الله) الخبر الأول بالارسال واحتمل في الخبرين
الآخرين التخصيص بما عدا غسل الجنابة، قال: " لأن المسنون في هذه الأغسال أن يكون الوضوء فيها قبلها " ولا يخفي ما فيه بعد ما عرفت من التحقيق. وأما الخبر الثاني
فالظاهر أن الوضوء فيه ليس بالمعنى المعروف وإنما هو بمعنى الغسل كما يدل عليه سياق
الكلام، وكيف كان فإنه مع هذا الاحتمال لا يصلح الاستدلال. وبالجملة فالاستحباب
كالوجوب ونحوه أحكام شرعية لا تثبت إلا بالدليل الواضح.
(المسألة الثانية) - اختلف الأصحاب (رضي الله عنهم) فيما إذا اغتسل مرتبا
وأحدث في أثناء الغسل على أقوال: فقيل بوجوب الإعادة من رأس، وهو مذهب
الشيخ (رحمه الله) في النهاية والمبسوط وابن بابويه، واختاره العلامة في جملة من كتبه
والشهيد في الدروس والذكرى. وقال ابن البراج يتم الغسل ولا شئ عليه، وهو اختيار
ابن إدريس واختاره من أفاضل متأخري المتأخرين مير محمد باقر الداماد والخراساني
في الذخيرة وشيخنا الشيخ سليمان البحراني. وقال المرتضى (رضي الله عنه) أنه يتم
الغسل ويتوضأ إذا أراد الدخول في الصلاة، واختاره المحقق والفاضل الأردبيلي وتلميذه
السيد في المدارك وجده الشهيد الثاني وتلميذه الشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصمد

(1) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
(2) سورة المائدة. الآية 9.
(3) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.
129

الحارثي وابنه الشيخ بهاء الملة والدين.
احتج في الذكرى للقول الأول حيث اختاره فقال بعد نقل الأقوال الثلاثة:
" والأقرب الأول لامتناع الوضوء في غسل الجنابة عملا بالأخبار المطلقة، وامتناع خلو
الحدث عن أثره مع تأثيره بعد الكمال " واحتج في المختلف لهذا القول أيضا - حيث
اختاره - بأن الحدث الأصغر ناقض للطهارة بكمالها فلأبعاضها أولى، وإذا انتقض ما فعله
وجب عليه إعادة الغسل، لأنه جنب لم يرتفع حكم جنابته بغسل بعض أعضائه، ولا أثر
للحدث الأصغر مع الأكبر. ومرجع الكلامين إلى دليل واحد، وينحل إلى أمرين:
(أحدهما) - الاستدلال بالأخبار الدالة على أنه لا وضوء مع غسل الجنابة، وهذا جنب
في هذه الحال. و (ثانيهما) - أن الحدث الأصغر مؤثر في نقض الطهارة بعد كمال الغسل
بلا خلاف فلأن يؤثر في نقض بعضها أولى، وحينئذ فإذا كان الوضوء لا يجامع الجنابة
ولا يؤثر في الصورة المذكورة - وفيه رد على القول بايجاب الوضوء، - والحدث الأصغر
مؤثر في نقض ما أتى به من الطهارة - وفيه رد على من ذهب إلى الاكتفاء باتمام الغسل -
وجب إعادة الغسل من رأس.
وأورد على هذا الدليل منع الأولوية المذكورة بل نقول القدر المسلم أن الحدث
الأصغر إذا لم يجامع الأكبر فهو سبب لوجوب الوضوء وإذا جامع الأكبر فلا تأثير له
أصلا، فلا بد لما ذكروه من دليل، ألا ترى أنه بعد الغسل يقتضي الوضوء وفي الأثناء
لا يقتضيه عندكم، فلم لا يجوز أن لا يؤثر في الأثناء أصلا أو يؤثر تأثيرا يرتفع
ببعض الغسل؟
وقريب مما ذكرناه ما أورده في المدارك أيضا، حيث قال: " والقول بالإعادة
للشيخ (رحمه الله) في النهاية والمبسوط وابن بابويه وجماعة، ولا وجه له من حيث
الاعتبار، وما استدل به عليه - من أن الحدث الأصغر ناقض للطهارة بتمامها فلأبعاضها
أولى، وأن الحدث المتخلل قد أبطل تأثير ذلك البعض في الرفع والباقي من الغسل غير صالح
130

للتأثير - ففساده ظاهر، لمنع كونه ناقضا ومبطلا وإنما المتحقق وجوب الوضوء به خاصة
ثم قال (رحمه الله) ولعل مستندهم ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كتاب عرض المجالس
عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " لا بأس بتبعيض الغسل: تغسل يدك وفرجك ورأسك
وتؤخر غسل جسدك إلى وقت الصلاة ثم تغسل جسدك إذا أردت ذلك. فإن أحدثت
حدثا من بول أو غائط أو ريح أو مني بعد ما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك
فأعد الغسل من أوله " ولو صحت هذه الرواية لما كان لنا عنها عدول لصراحتها في المطلوب
إلا أني لم أقف عليها مسندة، والواجب المصير إلى الأول إلى أن يتضح السند " انتهى.
أقول: أما ما ذكره - من منع كون الحدث الأصغر ناقضا ومبطلا وإنما المتحقق
وجوب الوضوء خاصة - فلا يخلو من اشكال، فإنه إن أراد بخصوص هذا الموضع من
حيث إنه لا تأثير له مع الجنابة واندراجه تحتها فجيد لكن ينافيه قوله: " وإنما المتحقق
وجوب الوضوء خاصة " وإن أراد مطلقا فهو خلاف الاجماع بين الأصحاب (رضي الله
عنهم) من عد هذه الأحداث نواقض ومبطلات للطهارة المتقدمة، وبه سميت نواقض
وأسبابا وموجبات باعتبار ايجابها الوضوء. وأما ما ذكره من الخبر - وقبله جده - فقد
اعترضه جملة من الأصحاب (رضي الله عنهم) بأنهم لم يقفوا عليه في الكتاب المذكور،
إذا الظاهر أن مراده بالكتاب المذكور هو كتاب الأمالي المشهور أيضا بمجالس الصدوق
وقد صرح في الذكرى بذلك أيضا فقال بعد نقل القول المذكور: " وقد قيل إنه مروي
عن الصادق (عليه السلام) في كتاب عرض المجالس للصدوق " ولعل السيد وجده
اعتمدا على هذا النقل من غير مراجعة الكتاب المشار إليها. نعم هذه الرواية مذكورة
في الفقه الرضوي (2) حيث قال (عليه السلام): " ولا بأس بتبعيض الغسل: تغسل
يديك وفرجك ورأسك وتؤخر غسل جسدك إلى وقت الصلاة ثم تغسل إن أردت ذلك

(1) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب الجنابة
(2) ص 4.
131

فإن أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح بعد ما غسلت رأسك من قبل أن تغسل
جسدك فأعد الغسل من أوله، وإذا بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك
بعد غسل الرأس " انتهى. وهذه العبارة بعينها نقلها الصدوق في الفقيه عن أبيه في رسالته
إليه فقال: وقال أبي (رحمه الله) في رسالته إلي: ولا بأس بتبعيض الغسل ثم ساق الكلام
إلى آخر ما نقلناه، وفيه دلالة على ما قدمناه من اعتماده على الكتاب المذكور.
وأما القول الثاني فاستدل عليه الشيخ سليمان البحراني المتقدم ذكره في بعض
فوائده - وإليه يرجع في التحقيق ما ذكره في الذخيرة - بأنه ينبغي أن يعلم أن الوضوء
هو الرافع للحدث الأصغر لكن في غير صورة مجامعته للجنابة، لأنه لا يكون للأصغر
مع الجنابة أثر أصلا لانقهاره معها فلا يتمكن من التأثير، فيسقط حكم الوضوء ما دامت
الجنابة باقية بالفعل البتة. فلا يكون للأصغر أثر في ايجاب الوضوء أصلا بالتقريب المتقدم
ومن الظاهر البين أنه لا تأثير له في ايجاب الغسل بوجه من الوجوه، وعلى هذا فمتى
أكمل الغسل تم السبب التام لرفع الجنابة. وبالجملة فإنه بالنظر إلى ما دامت الجنابة باقية
فإنه مقهور بها ومندرج تحتها، ومن المعلوم أنه ما لم يتم الغسل فالجنابة باقية، فلا وجه
للقول بما ذهب إليه المرتضى (رضي الله عنه) ومن تبعه، ويؤيده عموم الأخبار الدالة
على نفي الوضوء والمنع منه مع غسل الجنابة وتحريمه وعدم مشروعيته (1).
أقول: وبهذا التقرير يظهر ضعف ما ذكره في المعتبر في رد هذا القول - كما
سيأتي نقله من أنه يلزم أن لو بقي من الغسل مقدار درهم من الجانب الأيسر ثم تغوط
أن يكتفي عن الوضوء بغسل موضع الدرهم، وهو باطل، فإنه - مع كونه مجرد استبعاد
لا يجدي في دفع الأحكام الشرعية - مردود بأنه إذا كان حدث الجنابة باقيا مع بقاء
هذا المقدار وكذا ما يترتب على الجنابة من الأحكام ولا يرتفع ذلك الحدث ولا يستبيح
ما يحرم على الجنب إلا بغسل هذا المقدار فأي استبعاد في ارتفاع الحدث الأصغر به

(1) المروية في الوسائل في الباب 33 و 34 من أبواب الجنابة.
132

أيضا؟ بقي الكلام في أنه بناء على هذا التقدير وإن كان هذا الدليل بحسب الظاهر لا يخلو
من متانة وقرب، إلا أن لقائل أن يقول إن ما ذكروه من انقهار الحدث الأصغر تحت
الجنابة وأنه لا تأثير له معها إنما استنبطوه من الأخبار الدالة على تحريم الوضوء مع غسل
الجنابة وأنه معه بدعة، إذ ليس ثمة دليل غير ذلك، ومن المحتمل قريبا حمل الأخبار
المذكورة على ما هو الشائع المتكرر المتكثر من وقوع الحدث قبل الغسل دون هذا
الفرد النادر الذي لا يتبادر إليه الذهن عند الاطلاق، لما قرروه في غير مقام من أن
الأحكام المودعة في الأخبار إنما تحمل على ما هو المعهود المتكرر الشائع الذي ينساق إليه
الذهن عند الاطلاق دون الفروض النادرة القليلة الدوران، وبهذا يضعف القول المذكور.
وأما القول الثالث فاحتج عليه المحقق في المعتبر بأن الحدث الأصغر يوجب الوضوء
وليس موجبا للغسل ولا لبعضه، فيسقط وجوب الإعادة ولا يسقط حكم الحدث بما بقي
من الغسل، ثم ألزم القائلين بسقوط الوضوء أنه يلزم لو بقي من الغسل قدر الدرهم من
جانبه الأيسر ثم تغوط أن يكتفي عن وضوئه بغسل موضع الدرهم، وهو باطل
أقول: فيه (أولا) - منع ما ذكره من أن الحدث الأصغر يوجب الوضوء، فإنه
على اطلاقه ممنوع بل القدر المعلوم هو ايجابه ما لم يجامع الجنابة وأما مع مجامعتها فإنه يندرج
تحتها كما تقدم ذكره. و (ثانيا) - منع قوله: ولا يسقط حكم الحدث بما بقي من الغسل
للالزام الذي ذكره، بل هو ساقط بما بقي لانقهار الحدث الأصغر تحت الأكبر ما دام
باقيا. وأما الالزام الذي ذكره فقد عرفت ما فيه.
واستدل في المدارك لهذا القول حيث اختاره فقال: " أما وجوب الاتمام فلأن
الحدث الأصغر ليس موجبا للغسل ولا لبعضه قطعا فيسقط وجوب الإعادة، وأما وجوب
الوضوء فلأن الحدث المتخلل لا بد له من رافع وهو أما الغسل بتمامه أو الوضوء والأول
منتف لتقدم بعضه فتعين الثاني " وفيه ما عرفت من تقرير دليل القول الثاني من أن
الحدث الأصغر لا أثر له مع الجنابة. وبالجملة فإن هذا القول بالنظر إلى تقرير الدليل
133

المشار إليه - كما قدمناه - يظهر ضعفه، وبالنظر إلى ما أوردناه من الاشكال على الدليل
المذكور يظهر قوته.
وكيف كان فالمسألة لما عرفت لا تخلو من شوب الاشكال وإن كان القول
الأول - بالنظر إلى رواية الفقه الرضوي المعتضدة برواية المجالس وفتوى الشيخ علي
ابن الحسين بن بابويه بها، وهم ممن يعدون فتاويه في عداد النصول إذا أعوزتهم، مع
أوفقيته للاحتياط - لا يخلو من قوة وإن كان الاحتياط في الاتمام ثم الوضوء ثم الإعادة
والله العالم.
وينبغي التنبيه على فوائد: (الأولى) - قال في الذكرى: " لو كان الحدث
من المرتمس فإن قلنا بسقوط الترتيب حكما فإن وقع بعد ملاقاة الماء جميع البدن يوجب
الوضوء لا غير وإلا فليس له أثر، وإن قلنا بوجوب الترتيب الحكمي القصدي فهو
كالمرتب، وإن قلنا بحصوله في نفسه وفسرناه بتفسير الإستبصار أمكن انسحاب البحث
فيه " انتهى. وظاهره أنه مع عدم القول بالترتيب الحكمي في الغسل الارتماسي فإنه
لا يتفق فيه تخلل الحدث في أثناء الغسل فيختص البحث بالغسل الترتيبي. وقال في
المدارك: " الظاهر عدم الفرق في غسل الجنابة بين كونه غسل ترتيب أو ارتماس،
ويتصور ذلك في غسل الارتماس بوقوع الحدث بعد النية وقبل اتمام الغسل، ثم نقل
صدر كلام الذكرى وقال: وهو مشكل لامكان وقوعه في الأثناء " وجرى على
منواله في الذخيرة.
أقول: الظاهر أن مبنى كلام السيد (رحمه الله) على أن الدفعة المشترطة في
الارتماس إنما هي الدفعة العرفية، وحينئذ فيمكن حصول الحدث بعد النية وقبل استيلاء
الماء على جميع البدن. إلا أن فيه أن الظاهر أن مبنى كلام الشهيد (رحمه الله) إنما هو على أن الارتماس لا يحصل إلا بعد الدخول تحت الماء واستيلاء الماء على جميع أجزاء البدن،
وأما الدخول شيئا فشيئا فإنما هو من مقدماته، وعلى هذا فلا يمكن تخلل الحدث للغسل
134

لأن وصول الماء إلى الجميع بعد الولوج دفعي، وعلى هذا المعنى الذي ذكرناه يدل
ظاهر كلام أهل اللغة أيضا قال في المصباح المنير: " رمست الميت رمسا من باب قتل:
دفنته إلى أن قال: ورمست الخبر: كتمته، وارتمس في الماء: انغمس " وفي القاموس
" الارتماس الانغماس " وفي مجمع البحرين " وأصل الرمس الستر، ورمست الميت رمسا
من باب قتل: دفنته، وارتمس في الماء مثل انغمس " انتهى. وهذه العبارات كلها
ظاهرة - كما ترى - في عدم صدق الارتماس إلا بعد الدخول تحت الماء، وحينئذ فلا
يظهر فرض هذا الحكم فيه. وأما ما ذكره في الذكرى - من بناء ذلك على الترتيب
الحكمي ففيه ما تقدم بيانه من أنه لم يقم دليل على الترتيب الحكمي بشئ من معنييه
المذكورين فلا ضرورة إلى تكلف التفريع عليه في البين.
(الثانية) - قال في الذكرى أيضا: " لو تخلل الحدث الغسل المكمل بالوضوء
أمكن المساواة في طرد الخلاف وأولوية الاجتزاء بالوضوء هنا لأن له مدخلا في اكمال
الرفع والاستباحة، وبه قطع الفاضل في النهاية مع حكمه بالإعادة في غسل الجنابة " انتهى.
أقول: لا ريب أن الظاهر أنه متى قلنا بعدم وجوب الوضوء في سائر الأغسال
- كما هو الحق في المسألة - فإنه يطرد الخلاف فيها كما في غسل الجنابة، وإنما يبقى الكلام
بناء على القول المشهور من وجوب الوضوء معها، فظاهر كلامه في الذكرى احتمال طرد
الخلاف أيضا وإن كان الأولى هنا الاجتزاء بالوضوء، والظاهر بعد ما احتمله من طرد
الخلاف مع ايجاب الوضوء، بل الظاهر وجوب الاتمام والوضوء كما اختاره في المدارك.
ولعل الوجه في ايجاب العلامة الوضوء هنا مع ايجابه الإعادة في غسل الجنابة هو سقوط
الوضوء مع غسل الجنابة لعدم تأثير الحدث الأصغر ثمة بخلاف ما نحن فيه فإنه ثابت
بثبوت موجبه. وربما احتمل إعادة الغسل هنا بناء على أن كل واحد من الوضوء والغسل
مؤثر ناقص في رفع الحدث المطلق، فحصول تأثيرهما موقوف على حصولهما تأمين، فإذا
حصل الحدث في الأثناء لم يكف الاتمام والوضوء ويحتاج إلى إعادة الغسل. والتحقيق
135

إنا متى وقفنا على مورد الأخبار فإنه لا اشكال لا في غسل الجنابة ولا غيره إذ الواجب
العمل بما دلت عليه، وأما مع عدم ذلك فالمسألة لا تخلو من الاشكال في الموضعين، فإن
مجال التخريجات العقلية والاعتبارات الفكرية في هذه المسألة وغيرها واسع لا ينتهي إلى
ساحل، ولذا ترى المتقدم يعلل بتعليل حسبما وصل إليه فهمه ويجعلها أدلة ويأتي من بعده
وينقضها ويأتي بأدلة أخرى حسبما أدى إليه فكره وهكذا، فالحق هو الوقوف على
الأخبار إن وجدت في هذه المسألة وغيرها وإلا فالوقوف على جادة الاحتياط كما أمرت
به أخبارهم (عليهم السلام).
(الثالثة) - نقل في المدارك عن بعض المتأخرين القائلين بوجوب الاتمام
والوضوء الاكتفاء باستئناف الغسل إذا نوى قطعه، لبطلانه بذلك فيصير الحدث متقدما
على الغسل، ثم تنظر فيه بأن نية القطع إنما تقتضي بطلان ما يقع بعدها من الأفعال
لا ما سبق كما صرح به المصنف وغيره.
أقول: ما ذكره (رحمه الله) على اطلاقه لا يخلو من اشكال، لأنه لا يخلو إما أن
تكون نية القطع بمجردها موجبة للبطلان أو أن البطلان إنما يحصل مع الاتيان بشئ
من أفعال العبادة بعد هذه النية، ونظره إنما يتمشى على الثاني، ولعل مراد هذا القائل
إنما هو الأول. وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في بعض مقامات النية في الوضوء.
(المسألة الثالثة) - هل يجب ماء الغسل عينا أو ثمنا على الزوج أم لا؟ قال
في المنتهى: " فيه تفصيل: قال بعضهم لا يجب مع غنائها ومع الفقر يجب على الزوج تخليتها
لتنتقل إلى الماء أو ينقل الماء إليها، وقال آخرون يجب عليه كما يجب عليه ماء الشرب والجامع أن كل واحد منهما مما لا بد منه. والأول عندي أقرب " انتهى. والمفهوم من كلام الذكرى
الثاني وهو الوجوب على الزوج مطلقا، قال (رحمه الله): " ماء الغسل على الزوج في الأقرب
لأنه من جملة النفقة فعليه نقله إليها ولو بالثمن أو تمكينها من الانتقال إليه، ولو احتاج
136

إلى عوض كالحمام فالأقرب وجوبه عليه أيضا مع تعذر غيره دفعا للضرر، ووجه العدم أن ذلك
مؤنة التمكين الواجب عليها. وربما فرق بين غسل الجنابة وغيره إذا كان سبب الجنابة
من الزوج. وأما الأمة فالأقرب أنها كالزوجة لأنه مؤنة محضة، وانتقالها إلى التيمم مع وجود
الماء بعيد. وحمله على دم التمتع قياس من غير جامع، ويعارض بوجوب فطرتها فكذا ماء
طهارتها " انتهى. والمسألة عندي محل توقف، لعدم النص الذي هو المعتمد في الأحكام
وتدافع التعليلات المذكورة، مع عدم صلاحيتها لو سلمت من ذلك لتأسيس
الأحكام الشرعية.
(المسألة الرابعة) يكره للجنب أمور: (الأول) - الأكل والشرب ما لم
يتمضمض ويستنشق على المشهور بل قال في التذكرة إنه مذهب علمائنا مؤذنا بدعوى
الاجماع عليه، ونقل عن ابن زهرة دعوى الاجماع على ذلك، وفي المعتبر إنه
مذهب الخمسة وأتباعهم، وقال الصدوق في الفقيه: " والجنب إذا أراد أن يأكل
أو يشرب قبل الغسل لم يجز له إلا أن يغسل يديه ويتمضمض ويستنشق، فإنه إن أكل
أو شرب قبل أن يفعل ذلك خيف عليه من البرص " وظاهره التحريم ثم قال: " وروي
أن الأكل على الجنابة يورث الفقر " (1).
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح
عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله (2) قال: " قلت للصادق (عليه السلام) أيأكل الجنب
قبل أن يتوضأ؟ قال: إنا لنكسل ولكن ليغسل يده والوضوء أفضل " قال
في الوافي بعد ذكر هذا الخبر: " هكذا يوجد في النسخ ويشبه أن يكون مما صحف
وكان " إنا لنغتسل " لأنهم (عليه السلام) أجل من أن يكسلوا في شئ من عبادات
ربهم عز وجل " انتهى. أقول: لا يخفى أن الخبر المذكور على ما رواه المحدثون ونقله
الأصحاب في كتب الفروع إنما هو بلفظ " نكسل " والظاهر أن المراد به إنما هو مطلق

(1) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب الجنابة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب الجنابة.
137

الناس بمعنى أن الناس ليكسلون وإن عبر عن ذلك بصيغة تشمله (عليه السلام) وغيره
ونظيره ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) من قوله: " إني أكره السلام
على المرأة الشابة مخافة أن يعجبني صوتها " فإن الظاهر أن مراده إنما هو منع الناس عن
ذلك خوفا مما ذكره، لأن عصمته تمنع من حمل هذا اللفظ على ظاهره فكذا ما نحن فيه.
وأما ما احتمله بعض المحققين من متأخري المتأخرين من أن قوله: " لنكسل " يعني
عن الأكل ولم نتسارع إليه قبل الغسل فالظاهر بعده سيما بالنظر إلى الاستدراك
ب‍ " لكن " بعد هذا الكلام.
وما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) (2) قال:
" الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه وأكل وشرب "
وما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي عن الصادق
(عليه السلام) (3) قال: " إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ ".
وبإسناده عن الحسين بن زيد عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين
(عليهم السلام) (4) في حديث المناهي المذكور في آخر كتاب الفقيه قال: " نهى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الأكل على الجنابة وقال إنه يورث الفقر ".
وما رواه في الكافي عن السكوني عن الصادق (عليه السلام) في حديث (5)
قال: " لا يذوق الجنب شيئا حتى يغسل يديه ويتمضمض فإنه يخاف منه الوضح "
أقول: الوضح البرص.
وفي الفقه الرضوي (6) قال (عليه السلام): " وإذا أردت أن تأكل على جنابتك
فاغسل يديك وتمضمض واستنشق ثم كل واشرب إلى أن تغتسل، فإن أكلت أو شربت
قبل ذلك أخاف عليك البرص ولا تعود إلى ذلك " انتهى.

(1) رواه في الوسائل في الباب 48 من أبواب العشرة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة
(3) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة
(4) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة
(5) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة
(6) ص 4.
138

ومما يدل على أن المراد بهذه الأخبار الكراهة ما رواه في الكافي في الموثق عن
ابن بكير (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ
القرآن؟ قال: نعم يأكل ويشرب ويقرأ ويذكر الله عز وجل ما شاء ".
والمفهوم من هذه الأخبار بضم بعضها إلى بعض هو ما ذكره الأصحاب (رضي
الله عنهم) من كراهية الأكل والشرب وأنها تزول بما ذكر فيها، وقال في المدارك - بعد
أن نقل صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله أولا ثم صحيحة زرارة - ما لفظه: " ومقتضى
الرواية الأولى استحباب الوضوء لمريد الأكل والشرب أو غسل اليد خاصة، ومقتضى
الرواية الثانية الأمر بغسل اليد والوجه والمضمضة، وليس فيهما دلالة على كراهة الأكل
والشرب بدون ذلك، ولا على توقف زوال الكراهة على المضمضة والاستنشاق أو
خفتها بذلك " وجرى على منواله في الذخيرة كما هي قاعدته غالبا.
أقول: لما كان نظر السيد المذكور مقصورا على صحاح الأخبار اقتصر على
هاتين الصحيحتين وهما وإن أوهما ما ذكره إلا أن جملة ما عداهما مما قدمناه ولا سيما عبارة
كتاب الفقه الرضوي ظاهر فيما ذكره الأصحاب. فيجب تقييد هاتين الصحيحتين
بها، والعجب منه أنه خفى عليه الوقوف على صحيحة الحلبي المروية في الفقيه وهي صحيحة
صريحة في كراهة الأكل والشرب بدون ذلك.
بقي الكلام في أن صحيحة زرارة قد دلت على غسل اليد والمضمضة وغسل الوجه
وصحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله دلت على الوضوء أو غسل اليد وأن الأول أفضل
وصحيحة الحلبي دلت على الوضوء خاصة، ورواية السكوني دلت على غسل اليد والمضمضة
وكتاب الفقه على غسل اليد والمضمضة، والاستنشاق غير موجود إلا في عبارة هذا
الكتاب، والظاهر أن الصدوق في عبارته المتقدمة إنما أخذه منه وتبعه الأصحاب في
عبائرهم، والظاهر ترتب هذه الأمور في الفضل وزوال الكراهة بها بأن يكون أكمل.

(1) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.
139

الجميع الوضوء ثم غسل اليد والمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه ثم الثلاثة الأول ثم الأولين
خاصة وهو أدنى المراتب، والمفهوم من كلام الأصحاب (رضي الله عنهم) أنه بهذه
الأمور ترتفع الكراهة ويزول المحذور المذكور في النصوص، وظاهر عبارة الشرائع
بقاء الكراهة وإن كانت تخف بهذه الأشياء، ويمكن أن يستدل له بما تقدم من الروايتين
على أن الأكل على الجنابة يورث الفقر، فإنه بالوضوء ونحوه من تلك الأمور لا يخرج
عن كونه جنبا، إلا أنه يمكن تقييد اطلاقهما بالأخبار الأخر بمعنى أنه يورث الفقر ما لم
يأت بالوضوء ونحوه من تلك الأشياء المذكورة في الأخبار.
وهل يكفي الاتيان بالأمور المذكورة مرة واحدة، أو لا بد أن يكون عند كل
أكل مع الفصل بالمعتاد بين الأكلين، أو مع تخلل الحدث، أو مع التعدد عرفا؟ احتمالات
واطلاق الأخبار يؤيد الأول وإن كان الأخير أحوط. والله العالم.
(الثاني) - النوم حتى يغتسل أو يتوضأ، فأما ما يدل على جواز النوم وهو
جنب بدون الوضوء والغسل فهو ما رواه الشيخ (رحمه الله) في الصحيح عن سعيد
الأعرج (1) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ينام الرجل وهو جنب
وتنام المرأة وهي جنب " وأما ما يدل على الكراهة فصحيحة عبد الرحمان بن
أبي عبد الله (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يواقع أهله أينام
على ذلك؟ قال إن الله تعالى يتوفى الأنفس عند منامها ولا يدري ما يطرقه من البلية، إذا
فرغ فليغتسل... " وأما ما يدل على انتفاء الكراهة مع الوضوء فهو ما رواه الصدوق في
الصحيح عن عبيد الله الحلبي (3) قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل أينبغي
له أن ينام وهو جنب؟ قال: يكره ذلك حتى يتوضأ " قال وفي حديث آخر " أنا أنام على ذلك
حتى أصبح وذلك أني أريد أن أعود " ومما يدل على الثلاثة ما رواه الشيخ في الموثق عن
سماعة (4) قال: " سألته عن الجنب يجنب ثم يريد النوم. قال: إن أحب أن يتوضأ فليفعل

(1) رواه في الوسائل في الباب 25 من أبواب الجنابة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 25 من أبواب الجنابة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 25 من أبواب الجنابة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 25 من أبواب الجنابة.
140

والغسل أفضل من ذلك، فإن هو نام ولم يتوضأ ولم يغتسل فليس عليه شئ إن شاء
الله تعالى " وروى الصدوق في العلل (1) بسنده عن أبي بصير عن الصادق عن أبيه عن آبائه
عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: " لا ينام المسلم وهو جنب ولا ينام إلا على
طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد... الحديث " وأما ما ذكره المحقق الخوانساري
في شرح الدروس - من أن صحيحة عبد الرحمن المذكورة لا دلالة لها على الكراهة وإنما
تدل على استحباب الغسل قبل النوم وفضله على الوضوء وأما كراهة النوم بدونه فلا -
ففيه أن غايتها أن تكون مطلقة في ذلك فيجب تقييد اطلاقها بالروايات الأخر حسبما
تقدم في مسألة الأكل والشرب، فإن موثقة سماعة دلت أيضا على استحباب الوضوء له
والغسل مع أنه (عليه السلام) غيابها الكراهة في صحيحة الحلبي، ورواية العلل دلت
على الكراهة إلا مع الطهور بغسل كان أو وضوء أو تيمم، وبذلك يظهر أن الأمر
بالغسل في تلك الصحيحة إنما هو لإزالة الكراهة التي دلت عليها هذه الأخبار.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر كلام جملة من أفاضل متأخري المتأخرين:
منهم - المحقق المشار إليه والشيخ الحر في الوسائل أن المرد من قوله (عليه السلام)
في الحديث المرسل الذي رواه الصدوق وهو قوله: " إنا أنام على ذلك حتى أصبح لأني
أريد أن أعود " إنما هو العود في الجماع. ولا يخفى ما فيه، بل الظاهر أن المراد إنما هو العود
في الانتباه وأنه لا يموت في تلك الليلة، وذلك فإن المفهوم من صحيحة عبد الرحمان أن
كراهة النوم على الجنابة إنما هو من حيث خوف الموت في تلك اللية للآية المذكورة،
فإنه ربما أمسك الروح وقضى عليه الموت، وحيث كان (عليه السلام) عالما بوقت موته
كما دلت عليه الأخبار وأنه لا يموت في تلك الليلة بل يعود سقطت الكراهة في حقه،
وحينئذ فلا ينافي ما دل على الكراهة بالنسبة إلى غيرهم (عليهم السلام).
(الثالث) - قراءة ما زاد على سبع آيات على المشهور، وعن ابن البراج

(1) ص 107 وفي الوسائل في الباب 25 من أبواب الجنابة.
141

أنه لم يجوز الزيادة على ذلك، وعن سلار تحريم القراءة مطلقا، نقل ذلك عنهما في الدروس
والذكرى، ونقل في المنتهى والسرائر عن بعض الأصحاب تحريم ما زاد على سبعين،
وقال في المختلف: " المشهور كراهة ما زاد على سبع آيات أو سبعين من غير العزائم، أما
العزائم وأبعاضها فإنها محرمة حتى البسملة إذا نوى أنها منها " وقال الصدوق: " لا بأس أن
تقرأ القرآن كله ما خلا العزائم " وقال الشيخ في النهاية: " ويقرأ من القرآن من أي
موضع شاء ما بينه وبين سبع آيات إلا أربع سور " وفي المبسوط " يجوز له أن يقرأ
من القرآن ما شاء إلا العزائم، والاحتياط أن لا يزيد على سبع آيات أو سبعين آية "
وقال ابن إدريس " له أن يقرأ جميع القرآن سوى العزائم الأربع من غير استثناء
لسواهن على الصحيح من الأقوال، وبعض أصحابنا لا يجوز إلا ما بينه وبين سبع
آيات أو سبعين آية والزائد على ذلك محرم مثل السور الأربع، والأظهر الأول، والحق
عندي كراهة ما زاد على السبعين لا تحريمه، والظاهر من كلام الشيخ (رحمه الله)
في كتابي الأخبار التحريم " انتهى المقصود من كلامه (رحمه الله) وما نقله عن ظاهر
كلام الشيخ في كتابي الأخبار غير ظاهر حيث إن الشيخ قصد الجمع بين الأخبار
كصحيحة الحلبي الآتية الدالة على قراءة ما شاء ومقطوعتي سماعة الآتيتين إن شاء الله
تعالى الدالتين إحداهما على السبع والأخرى على السبعين، بحمل المثبتة المطلقة في القراءة
على هذا العدد، ثم إنه احتمل أيضا الجمع بينها بحمل الاقتصار على العدد المذكور على
الاستحباب والباقي على الجواز، ومن هنا يعلم أنه غير جازم بالتحريم حتى ينسب قولا
إليه، ولو عدت احتمالاته في الجمع بين الأخبار أقوالا ومذاهب له لم تنحصر أقواله،
وليس في تأويله الثاني أيضا تصريح بالكراهة بل غايته أنه ترك الأفضل.
وكيف كان فالواجب الرجوع إلى الأخبار ونقلها وبيان ما يفهم منها:
و (منها) - ما رواه الشيخ في الصحيح عن الفضيل بن يسار عن الباقر
142

(عليه السلام) (1) قال: " لا بأس أن تتلوا الحائض والجنب القرآن " وفي الصحيح
عن عبيد الله بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سألته أتقرأ
النفساء والحائض والجنب والرجل يتغوط القرآن؟ قال: يقرأون ما شاءوا " وفي الموثق
عن ابن بكير (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجنب يأكل ويشرب
ويقرأ القرآن؟ قال: نعم يأكل ويشرب ويقرأ القرآن ويذكر الله عز وجل ما شاء "
وعن محمد بن مسلم في الصحيح قال قال أبو جعفر (عليه السلام) (4): " الجنب
والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ويقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة...
الحديث " وما رواه ثقة الاسلام في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن زيد
الشحام عن الصادق (عليه السلام) (5) قال: " تقرأ الحائض القرآن والنفساء والجنب
أيضا " وما رواه الصدوق في العلل (6) في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر
(عليه السلام) قالا: " قلنا له الحائض والجنب هل يقرءان من القرآن شيئا؟ قال: نعم
ما شاءا إلا السجدة ويذكر أن الله تعالى على كل حال " ورواه الشيخ (رحمه الله)
في الموثق مثله، وما رواه في الفقيه (7) عن أبي سعيد الخدري في وصية النبي (صلى الله
عليه وآله) " لعلي (عليه السلام) أنه قال: " يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته
فلا يقرأ القرآن فإني أخشى أن تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما " قال الصدوق
(رحمه الله): " يعني به قراءة العزائم دون غيرها " وما رواه الشيخ في الموثق عن
سماعة (8) قال: " سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال ما بينه وبين سبع آيات " ثم
قال الشيخ (رحمه الله) وفي رواية زرعة عن سماعة (9) قال " سبعين آية " وفي الفقه
الرضوي (10) " ولا بأس بذكر الله تعالى وقراءة القرآن وأنت جنب إلا العزائم التي
تسجد فيها وهي ألم تنزيل وحم السجدة والنجم وسورة اقرأ باسم ربك " وبهذه العبارة

(1) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(2) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(3) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(4) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(5) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(6) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(7) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(8) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(9) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة
(10) ص 4.
143

عبر الصدوق في الفقيه بتغيير يسير، وما رواه الصدوق في الخصال (1) بسنده عن السكوني
عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام) قال: " سبعة لا يقرأون القرآن: الراكع
والساجد وفي الكنيف وفي الحمام والجنب والنفساء والحائض " وقال في المعتبر (2):
" يجوز للجنب والحائض أن يقرءا ما شاءا من القرآن إلا سور العزائم الأربع وهي
اقرأ باسم ربك والنجم وتنزيل السجدة وحم السجدة، روى ذلك البزنطي في جامعه
عن المثنى عن الحسن الصيقل عن أبي عبد الله (عليه السلام) ".
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة، وأكثرها وأصحها صريح في جواز
قراءة ما شاء، نعم في بعضها تصريح باستثناء أو سورة السجدة خاصة، والأصحاب
(رضي الله عنهم) قد حملوا هذه الأخبار على الكراهة جمعا بينها وبين روايتي سماعة
المذكورتين وخصوا الجواز بلا كراهة بالسبع أو السبعين، والأظهر عندي حمل ما دل
على المنع مطلقا أو ما دون سبع أو سبعين على التقية، فإن العامة قد شددوا في المنع فما
بين محرم ومكره، فعن الشافعي القول بتحريم قراءة الجنب والحائض شيئا منه، وقال
أبو حنيفة يجوز قراءة ما دون الآية وتحريم الآية، وعن أحمد تفصيل في بعض الآية،
وعن مالك الجواز للحائض دون الجنب، ورووا كراهة قراءة القرآن للجنب عن علي
(عليه السلام) وعمر والحسن البصري والنخعي والزهري وقتادة (3). أقول: ومن هنا

(1) ج 2 ص 10
(2) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.
(3) في بدائع الصنائع ج 1 ص 37 " لا يباح للجنب قراءة القرآن عند عامة العلماء
وقال مالك يباح له ذلك، ولا فرق بين القليل والكثير إذا قصد التلاوة وأما إذا لم يقصد
وقال " بسم الله " لافتتاح الأعمال تبركا فلا بأس به " وفي المغني ج 1 ص 143 بعد الحكم
بحرمة قراءة آية ذكر أن في قراءة بعض الآية إذا قصد به القرآن أو كان ما يقرأه يتميز به
القرآن عن غيره روايتين: إحداهما لا يجوز وهو المروي عن علي " ع " وذهب إليه الشافعي
وثانيهما لا يمنع وهو قول أبي حنيفة. وفي نيل الأوطار ج 1 ص 197 " ذهب إلى تحريم
قراءة القرآن على الجنب القاسم والهادي والشافعي من غير فرق بين الآية وما دونها
وما فوقها، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز له قراءة دون الآية إذا لم يكن قرآنا " وفي
بداية المجتهد ج 1 ص 44 " ذهب الجمهور إلى منع الجنب من قراءة القرآن وقال قوم
بإباحته وقال قوم الحائض بمنزلة الجنب وفرق قوم بينهما فأجازوا للحائض قراءة القرآن
القليلة استحسانا لطول مقامها حائضا وهو مذهب مالك " وفي المغني ج 1 ص 143
" رويت كراهية قراءة القرآن للجنب والحائض والنفساء عن علي وعمر والحسن والنخعي
والزهري وقتادة والشافعي إلى أن قال: وحكى عن مالك جواز قراءة القرآن للحائض
دون الجنب ".
144

يظهر حمل روايتي الخدري والسكوني على التقية، وما تكلفه شيخنا الصدوق في الرواية
الأولى فمع بعده لا ضرورة تلجئ إليه والحال كما عرفت. وأما موثقتا سماعة فهما وإن
لم يرو القول بمضمونهما عن العامة إلا أنه لا مانع من حملهما على التقية من حيث موافقتهما
لهم في الجملة ومخالفتهما للأخبار الصحاح الصراح في الجواز مطلقا، على أنه لا يشترط
عندنا في الحمل على التقية وجود القول بذلك من العامة كما تقدم تحقيقه في مقدمات
الكتاب، وقد ردهما جملة من الأصحاب أيضا: منهم - العلامة في المنتهى وغيره بضعف
السند مع معارضتهما بعموم الإذن المستفاد من الروايات الصحيحة، وبذلك يظهر أن الأقوى
هو القول بالجواز مطلقا.
بقي الكلام هنا في شئ آخر وهو أن المشهور بين أصحابنا (رضي الله عنهم)
هو تحريم سور العزائم بأجمعها، واعترضهم جملة من متأخري المتأخرين بأن الروايات
إنما دلت على تحريم آية السجدة خاصة دون السورة، مثل صحيحتي محمد بن مسلم المتقدمتين
الدالتين على أن الجنب والحائض يقرءان ما شاءا إلا السجدة، يعني إلا الآية المشتملة
على السجود، ونحن قد أسلفنا القول في ذلك، ولكن الظاهر هنا من عبارة كتاب الفقه
الرضوي وعبارة المعتبر المنسوبة إلى رواية جامع البزنطي هو تحريم السورة، وعبارة
كتاب الفقه وإن أمكن ارتكاب التأويل فيها إلا أن عبارة الجامع لا تقبل التأويل لأنه
استثنى فيها نفس السورة، ولعل هذين الخبرين هما مستند من قال بتحريم السورة كملا،
145

وقبول صحيحتي محمد بن مسلم للتأويل بما دلا عليه غير بعيد بأن المراد من السجدة سورة
السجدة لا آية السجدة. وبالجملة فالاحتياط يقتضي القول بتحريم نفس السورة لما عرفت،
وبه يظهر قوة القول المشهور. والله العالم.
(الرابع) - مس المصحف والمراد ما عدا كتابة القرآن من الورق والجلد، وهو
مذهب الشيخين وأتباعهما. ونقل عن المرتضى (رضي الله عنه) القول بالمنع لرواية إبراهيم
ابن عبد الحميد الآتية، وقال الصدوق في الفقيه: " ومن كان جنبا أو على غير وضوء فلا
يمس القرآن وجاز له أن يمس الورق " وهو مؤذن بعدم الكراهة.
والذي وقفت عليه في هذه المسألة من الأخبار رواية إبراهيم بن عبد الحميد المشار
إليها عن أبي الحسن (عليه السلام) (1) قال: " المصحف لا تمسه على غير طهر ولا
جنبا ولا تمس خطه ولا تعلقه، إن الله تعالى يقول لا يمسه إلا المطهرون " (2) وقال
(عليه السلام) في كتاب الفقه (3): " ولا تمس القرآن إذا كنت جنبا أو على غير وضوء
ومس الأوراق " وعبارة الصدوق مأخوذة من هذه العبارة على القاعدة التي عرفت
وستعرف إن شاء الله تعالى، وبالرواية الأولى تعلق المرتضى (رضي الله عنه) قال
في المدارك بعد الاستدلال بها على ما ذهب إليه الشيخان وأتباعهما من الكراهة: " وإنما
حمل النهي على الكراهة لضعف سند الرواية باشتماله على عدة من المجاهيل والضعفاء فلا
تبلغ حجة في اثبات التحريم " أقول: الأظهر في الجواب عنها إنما هو عدم صراحتها بل
ولا ظهورها في المدعى، بل الظاهر من قوله (عليه السلام): " المصحف لا تمسه " إنما
هو نفس القرآن الذي تقدم القول في تحريم مسه، ويؤيده قوله (عليه السلام):
" ولا تمس خطه " بأن يكون عطفا تفسيريا لما قبله وإن وجد في بعض النسخ " خيطه "
والظاهر أنه تصحيف، وعلى تقدير صحته فيبقى الكلام فيه وفي النهي عن التعليق،

(1) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب الوضوء.
(2) سورة الواقعة الآية 78.
(3) ص 4.
146

وينبغي حمل ذلك على الكراهة لمناسبة التعظيم فلا تكون الرواية من محل البحث في شئ
نعم فيها اشعار بكراهة مس الورق والجلد من حيث النهي عن مس الخيط - بناء على النسخة
المشار إليها - والتعليق، وحينئذ فما ذكره في المدارك - من الاستدلال بها للشيخين على الكراهة
وقوله أنه لولا ضعف السند لكانت دليلا للمرتضى (رضي الله عنه) على القول بالتحريم
في هذه المسألة - ليس في محله، فإن الرواية لا تعلق لها بهذه المسألة بوجه، وهذه الرواية
هي مستند الأصحاب في القول بتحريم مس خط المصحف على المحدث حدثا أصغر
أو أكبر كما تقدم بيانه، والعجب من غفلة جملة من الأصحاب عن ذلك بايرادها في هذه
المسألة والحال كما عرفت، وعبارة كتاب الفقه - كما عرفت - ظاهره في الجواز وهو فتوى
الصدوق، وهو الظاهر وإن كان القول بالكراهة - لما عرفت - من اشعار رواية إبراهيم بن
عبد الحميد بذلك - لا بأس به، ويؤيده ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم (1) من قوله
(عليه السلام): " الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب... " والله العالم.
(الخامس) - الخضاب على المشهور، وهو مذهب المفيد والمرتضى والشيخ
في جملة من كتبه، وقال الصدوق في الفقيه: " ولا بأس بأن يختضب الجنب ويجنب
وهو مختضب ويحتجم ويذكر الله تعالى ويتنور ويذبح ويلبس الخاتم وينام في المسجد
ويمر فيه " وهو ظاهر في عدم الكراهة.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة ما رواه الشيخ عن أبي سعيد (2)
قال: " قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): أيختضب الرجل وهو جنب؟ قال: لا. قلت:
فيجنب وهو مختضب؟ قال: لا. ثم سكت قليلا ثم قال: يا أبا سعيد ألا أدلك على شئ تفعله؟
قلت: بلى. قال إذا اختضبت بالحناء وأخذ الحناء مأخذه وبلغ فحينئذ فجامع " وعن كردين
المسمعي (3) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا يختضب الرجل وهو

(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
147

جنب ولا يغتسل وهو مختضب " وعن جعفر بن محمد بن يونس (1) " أن أباه كتب
إلى أبي الحسن الأول (عليه السلام) يسأله عن الجنب يختضب أو يجنب وهو مختضب؟
فكتب: لا أحب ذلك " وعن عامر بن جذاعة عن الصادق (عليه السلام) (2) قال
" سمعته يقول: لا تختضب الحائض ولا الجنب ولا تجنب وعليها خضاب ولا يجنب هو
وعليه خضاب ولا يختضب وهو جنب " وروى الفضل بن الحسن الطبرسي في مكارم
الأخلاق (3) من كتاب اللباس للعياشي عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال:
" يكره أن يختضب الرجل وهو جنب، وقال من اختضب وهو جنب أو أجنب في خضابه
لم يؤمن عليه أن يصيبه الشيطان بسوء " وعن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (4) قال:
" لا تختضب وأنت جنب ولا تجنب وأنت مختضب، ولا الطامث فإن الشيطان يحضرها
عند ذلك، ولا بأس به للنفساء ".
وهذه كلها - كما ترى - متطابقة الدلالة على النهي، وإنما حمل الأصحاب النهي فيها
على الكراهة دون التحريم جمعا بينها وبين ما دل على الجواز من الأخبار، ومنها -
ما رواه في الكافي (5) عن أبي جميلة عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال:
" لا بأس بأن يختضب الجنب ويجنب المختضب ويطلي بالنورة " قال في الكافي (6):
" وروى أيضا أن المختضب لا يجنب حتى يأخذ الخضاب وأما في أول الخضاب فلا "
وعن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (7) قال: " لا بأس بأن يختضب الرجل
ويجنب وهو مختضب... الحديث " وما رواه الشيخ عن علي - والظاهر أنه ابن
أبي حمزة - عن العبد الصالح (عليه السلام) (8) قال: " قلت: الرجل يختضب وهو
جنب؟ قال: لا بأس. وعن المرأة تختضب وهي حائض؟ قال: ليس به بأس " وفي الموثق
عن سماعة (9) قال: " سألت العبد الصالح (عليه السلام) عن الجنب والحائض يختضبان

(1) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(5) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(6) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(7) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(8) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
(9) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.
148

قال: لا بأس " وما رواه في الكافي (1) في الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليه
السلام) قال: " لا بأس أن يختضب الرجل وهو جنب " إلا أن في بعض نسخ الكافي
" يحتجم " بدل " يختضب " أقول: ويؤيد ما ذكروه من الجمع ظاهر روايتي مكارم
الأخلاق وظاهر رواية جعفر بن محمد بن يونس. وعن المفيد في المقنعة أنه علل الكراهة
بأن الخضاب يمنع وصول الماء إلى ظاهر الجوارح التي عليها الخضاب. وأنت خبير بأن
مقتضى هذا التعليل هو التحريم لا الكراهة، ومن أجل ذلك اعتذر عنه في المعتبر
فقال: " وكأنه نظر إلى أن اللون عرض وهو لا ينتقل فيلزم حصول أجزاء من الخضاب
في محل اللون ليكون وجود اللون بوجودها، لكنها حقيقة لا تمنع الماء منعا تاما فكرهت
لذلك " انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف.
بقي هنا شئ وإن كان خارجا عن محل البحث وهو أن ظاهر عبارة الصدوق
المتقدمة جواز نوم الجنب في المسجد، وهو باطل اجماعا للأخبار المستفيضة الصريحة في
المنع عن اللبث في المسجد (2) وتخصيص الجواز بالمشي دون اللبث، إلا أنه قد روى
الشيخ عن الحسين بن سعيد عن محمد بن القاسم (3) قال: " سألت أبا الحسن (عليه
السلام) عن الجنب ينام في المسجد: فقال: يتوضأ ولا بأس أن ينام في المسجد ويمر
فيه " وحينئذ فإن كان اعتماد الصدوق (رحمه الله) على هذه الرواية فهي - مع الاغماض
عما فيها من مخالفة الاجماع والروايات المستفيضة - مقيدة بالوضوء أولا وعبارته
(رحمه الله) مطلقة، وأيضا فإن العمل بها في مقابلة تلك الأخبار موجب لطرح تلك
الأخبار المشار إليها وهو مشكل. وبعض المحشين على الكتاب تكلف لها من الاحتمالات
ما هو في البعد أظهر من أن يخفى، قال (قدس سره): " يحتمل أن يكون المراد النوم
في حال الاجتياز من غير لبث وإن كان الفرض بعيد، ويحتمل أن يكون المراد أنه

(1) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الجنابة.
(2) رواها في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.
(3) رواها في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.
149

يجوز النوم في المسجد وإن عرض له الجنابة بعد النوم، فلا بأس بهذا النوم وإن كان
معرضا للجنابة، والمراد بالجنب حينئذ من تعرض له الجنابة. وفيه بعد بحسب العبارة.
وربما يقرأ " في المسجد " بلفظ الاسم لا الحرف أي ينام في ظل المسجد ويحذف ويوصل
المفعول. وهو بعيد " انتهى. وبالجملة فظاهر كلامه غير موجه، والرواية المذكورة
محمولة على الضرورة أو التقية، ونقل بعض مشايخنا المتأخرين عن أحمد أحد الأئمة
الأربعة أنه إذا توضأ جاز له اللبث (1) وأيد بعض الحمل على التقية بأن الرواية عن الرضا
(عليه السلام) وأكثر الأخبار المروية عنه (عليه السلام) ظاهرة في التقية، لأنه (عليه
السلام) كان في خراسان وفي أكثر الأوقات كان في مجلسه جماعة من رؤسائهم كما
هو الشائع من الآثار. انتهى.
(المسألة الخامسة) - إذا اجتمعت أغسال واجبة أو مستحبة أجزأ عنها غسل
واحد عندنا للأخبار الدالة على التداخل، وقد مر تحقيق المسألة مستوفى في المقام
الحادي عشر من مقامات الركن الأول في نية الوضوء (2) فليراجع. والله العالم.
الفصل الثاني
في غسل الحيض، والكلام فيه يتوقف على بيان الحيض وأنه عبارة عماذا،
وما يترتب عليه من الأحكام، وأحكام الحائض وما يجوز لها وما لا يجوز، وحينئذ
فالبحث هنا يقع في مقاصد ثلاثة:
(الأول) - في بيان الحيض، وهو الدم المتصف بالصفات الآتية، الذي لا ينقص
عن ثلاثة ولا يزيد على عشرة، الخارج من الجانب الأيسر أو الأيمن على الخلاف الآتي
المستنقع مع اشتباهه بالعذرة، الذي تراه المرأة بعد بلوغ تسع سنين إلى أن تبلغ سن اليأس
وفي مجامعته الحمل قولان، وتفصيل هذه الجملة يقع في مسائل:

(1) راجع التعليقة 3 ص 51.
(2) ج 2 ص 196.
150

(الأولى) - دم الحيض في الأغلب هو الأسود الحار الخارج بحرقة ولذع،
وإنما قيد بالأغلب لما سيجئ أن شاء الله تعالى من أن ما تراه المرأة في أيام العادة وإن
كان حمرة أو صفرة فهو حيض.
ويدل على ذلك من الأخبار روايات عديدة: منها - ما في الكافي في الصحيح
أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن حفص بن البختري (1) قال: " دخلت على أبي عبد الله
(عليه السلام) امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم فلا تدري حيض هو أو غيره؟
قال فقال لها: إن دم الحيض حار عبيط أسود له دفع وحرارة، ودم الاستحاضة أصفر بارد،
فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة. قال: فخرجت وهي تقول: والله لو
كان امرأة ما زاد على هذا ".
وعن معاوية بن عمار في الصحيح (2) قال قال أبو عبد الله (عليه السلام):
" إن دم الاستحاضة والحيض ليسا يخرجان من مكان واحد، إن دم الاستحاضة بارد
وإن دم الحيض حار ".
وعن إسحاق بن جرير في الموثق (3) قال: " سألتني امرأة منا أن أدخلها
على أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت ومعها مولاة لها، فقالت له
يا أبا عبد الله ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها؟ فقال إن كان أيام حيضها
دون عشرة أيام استظهرت بيوم واحد ثم هي مستحاضة. قالت فإن الدم استمر بها الشهر
والشهرين والثلاثة كيف تصنع بالصلاة؟ قال تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل صلاتين
قالت إن أيام حيضها تختلف عليها وكان يتقدم الحيض اليوم واليومين والثلاثة ويتأخر
مثل ذلك فما علمها به؟ قال دم الحيض به خفاء هو دم حار تجد له حرقة،
ودم الاستحاضة دم فاسد بارد، قال فالتفتت إلى مولاتها فقالت أتراه كان
امرأة مرة؟ ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب الحيض.
151

والمستفاد من هذه الأخبار أنه حيثما وجدت هذه الأوصاف يجب الحكم بالحيض
وحيث انتفت انتفى إلا ما خرج بدليل.
(الثانية) - لو اشتبه دم الحيض بدم العذرة - بضم العين المهملة وسكون الذال
المعجمة: البكارة بفتح الباء الموحدة - اعتبر بخروج القطنة بعد وضعها في الفرج على الوجه
الآتي، فإن خرجت مطوقة حكم به للعذرة، وإن خرجت مستنقعة حكم به للحيض،
صرح به الشيخ ومن تأخر عنه من الأصحاب
والمستند فيه ما رواه في الكافي عن خلف بن حماد الكوفي في الصحيح (1)
قال: " تزوج بعض أصحابنا جارية معصرا لم تطمث، فلما افتضها سأل الدم فمكث
سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيام، قال: فاروها القوابل ومن ظنوا بأنه يبصر ذلك
من النساء فاختلفن: فقال بعض هذا من دم الحيض وقال بعض هو من دم العذرة،
فسألوا عن ذلك فقهاءهم كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم فقالوا: هذا شئ قد أشكل
والصلاة فريضة واجبة، فلتتوضأ ولتصل وليمسك عنها زوجها حتى ترى البياض، فإن كان
دم الحيض لم تضرها الصلاة وإن كان دم العذرة كانت قد أدت الفريضة، ففعلت
الجارية ذلك، وحججت في تلك السنة فلما صرنا بمنى بعثت إلى أبي الحسن موسى
(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك أن لنا مسألة قد ضقنا بها ذرعا فإن رأيت أن تأذن
لي فآتيك وأسألك عنها؟ فبعث إلي إذا هدأت الرجل وانقطع الطريق فاقبل إن شاء الله تعالى
قال خلف فرعيت الليل حتى إذا رأيت الناس قد قل اختلافهم بمنى توجهت إلى مضربه،
فلما كنت قريبا إذا أنا بأسود قاعد على الطريق فقال من الرجل؟ فقلت رجل من الحاج
فقال ما اسمك؟ قلت خلف بن حماد. فقال ادخل بغير إذن فقد أمرني أن أقعد ههنا
فإذا أتيت أذنت لك، فدخلت فسلمت فرد السلام وهو جالس على فراشه وحده
ما في الفسطاط غيره، فلما صرت بين يديه سألني وسألته عن حاله فقلت له: إن رجلا

(1) روى قطعة منه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الحيض.
152

من مواليك تزوج جارية معصرا لم تطمث فلما افتضها سأل الدم فمكث سائلا لا ينقطع
نحوا من عشرة أيام، وأن القوابل اختلفن في ذلك فقال بعضهن دم الحيض وقال بعضهن
دم العذرة فما ينبغي لها أن تصنع؟ قال: فلتتق الله تعالى فإن كان من دم الحيض فلتمسك
عن الصلاة حتى ترى الطهر وليمسك عنها بعلها، وإن كان من العذرة فلتتق الله تعالى
ولتتوضأ ولتصل ويأتيها بعلها إن أحب ذلك. فقلت: وكيف لهم أن يعلموا مما هو حتى
يفعلوا ما ينبغي؟ قال فالتفت يمينا وشمالا في الفسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد قال ثم نهد
إلي فقال: يا خلف سر الله سر الله فلا تذيعوه ولا تعلموا هذا الخلق أصول دين الله
بل ارضوا لهم ما رضي الله تعالى لهم من ضلال، قال ثم عقد بيده اليسرى تسعين ثم
قال تستدخل القطنة ثم تدعها مليا ثم تخرجها اخراجا رفيقا فإن كان الدم مطوقا في القطنة
فهو من العذرة وإن كان مستنقعا في الفطنة فهو من الحيض. قال خلف فاستخفني الفرح
فبكيت فلما سكن بكائي قال ما أبكاك؟ قلت: جعلت فداك من يحسن هذا غيرك؟
قال فرفع يده إلى السماء وقال: إني والله ما أخبرك إلا عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) عن جبرئيل عن الله عز وجل ".
وما رواه في التهذيب عن خلف بن حماد (1) قال: " قلت لأبي الحسن الماضي: جعلت
فداك أن رجلا من مواليك سألني أن أسألك عن مسألة فتأذن لي فيها؟ فقال لي هات فقلت
جعلت فداك رجل تزوج جارية أو اشترى جارية طمثت أو لم تطمث أو في أول ما طمثت
فلما افترعها غلب الدم فمكث أياما وليالي، فأريت القوابل فبعض قال من الحيضة وبعض
قال من العذرة؟ قال فتبسم وقال: إن كان من الحيض فليمسك عنها بعلها ولتمسك عن الصلاة
وإن كان من العذرة فلتوضأ ولتصل ويأتيها بعلها إن أحب. قلت جعلت فداك وكيف لها
أن تعلم من الحيض هو أو من العذرة؟ فقال: يا خلف سر الله فلا تذيعوه تستدخل قطنة ثم

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الحيض.
153

تخرجها فإن خرجت القطنة مطوقة بالدم فهو من العذرة وإن أخرجت مستنقعة بالدم
فهو من الطمث ".
وما رواه في الكافي والشيخ أيضا في التهذيب في الصحيح عن زياد بن سوقة (1)
قال: " سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجل افتض امرأته أو أمته فرأت دما كثيرا
لا ينقطع عنها يومها كيف تصنع بالصلاة؟ قال تمسك الكرسف فإن خرجت القطنة مطوقة
بالدم فإنه من العذرة تغتسل وتمسك معها قطنة وتصلي، فإن خرج الكرسف منغمسا بالدم
فهو من الطمث تقعد عن الصلاة أيام الحيض ".
وفي الفقه الرضوي (2) " وإن افتضها زوجها ولم يرق دمها ولا تدري دم الحيض
هو أم دم العذرة فعليها أن تدخل قطنة فإن خرجت القطنة مطوقة بالدم فهو من العذرة
وإن خرجت منغمسة فهو من الحيض، واعلم أن دم العذرة لا يجوز الشفرين ودم الحيض
حار يخرج بحرارة شديدة ودم الاستحاضة بارد يسيل وهي لا تعلم " انتهى. وهذه
العبارة بلفظها نقلها في الفقيه عن أبيه في رسالته إليه.
وهذه الأخبار كلها متطابقة الدلالة على الحكم المذكور. وظاهر كلام المحقق
في الشرائع والنافع وصريحه في المعتبر التوقف في الحكم بكونه حيضا مع الاستنقاع،
قال في المعتبر: " لا ريب أنها إذا خرجت مطوقة كان من العذرة فإن خرجت مستنقعة
فهو محتمل، فإذن يقتضي أنه من العذرة مع التطوق قطعا فلهذا اقتصر في الكتاب
على الطرف المتيقن " واعترضه في المدارك بأن فيه نظرا من وجهين: (أحدهما) - أن
المسألة في كلامه في المعتبر مفروضة فيما إذا جاء الدم بصفة دم الحيض ومعه لا وجه للتوقف
في كونه مع الاستنقاع حيضا، لاعتبار سند الخبرين وصراحتهما في الدلالة على الحكمين
ومطابقتهما للروايات الدالة على اعتبار الأوصاف. و (ثانيهما) - أنه (رحمه الله)
صرح بعد ذلك بأن ما تراه المرأة من الثلاثة إلى العشرة يحكم بكونه حيضا وبأنه لا عبرة.

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الحيض.
(2) ص 22
154

بلونه ما لم يعلم أنه لقرح أو لعذرة ونقل عليه الاجماع، وهو مناف لما ذكره هنا من
التوقف في هذه المسألة، إذا المفروض فيها انتفاء العلم بكون الدم للعذرة بل انتفاء الظن
بذلك باعتبار استنقاعه كما هو واضح. انتهى. وهو جيد وإن كان ما ذكره المحقق
لا يخلو من وجه بالنظر إلى الاعتبار، إلا أنه لا وجه له في مقابلة الأخبار ولا سيما مع
تصريحه بما نقله عنه في الموضعين. ثم إنه لا يخفى أن ما ذكره المحقق هنا من تقييد الدم
الذي هو محل البحث بأن يكون بصفة دم الحيض تقييد للنص بغير دليل، وأي مانع
من الحكم بكونه حيضا مطلقا مع عدم التطوع؟ سيما على القاعدة المقررة المعتمدة عندهم
من أن ما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، وإليه يشير كلامه في الوجه الثاني الذي
نقله عنه في المدارك.
بقي هنا شئ وهو أنه قد نقل في المدارك عن الشهيد (رحمه الله) في الشرح أن
طريق معرفة التطوق وعدمه أن تضع قطنة بعد أن تستلقي على ظهرها وترفع رجليها ثم
تصبر هنيئة ثم تخرج القطنة اخراجا رفيقا، ونقل عن جده أيضا في الروض أن مستند
هذا الحكم روايات عن أهل البيت (عليهم السلام) لكن في بعضها الأمر باستدخال
القطنة من غير تقييد بالاستلقاء وفي بعضها إدخال الإصبع مع الاستلقاء، وطريق الجمع
حمل المطلق على المقيد والتخيير بين الإصبع والكرسف إلا أن الكرسف أظهر في الدلالة،
ثم اعترضه بأن ما ذكره (رحمه الله) لم أقف عليه في شئ من الأصول ولا نقله ناقل في
كتب الاستدلال. انتهى. وما ذكره (رحمه الله) جيد وجيه، فإنا لم نقف في المسألة إلا
على ما قدمنا من الأخبار وليس في شئ منها ما يدل على الاستلقاء ولا وضع الإصبع، ولا
يبعد عندي أن منشأ توهم شيخنا المشار إليه هو رواية القرحة الآتية للأمر فيها بالاستلقاء
ووضع الإصبع، فربما جرى على خاطره وقت الكتابة أن مورد الرواية هو افتضاض
البكر وزوال العذرة فعدها في جملة روايات المسألة وجمع بينهما بما ذكره من غير أن
يراجعها، وجريان الأقلام على الاستعجال بأمثال هذا المقال غير عزيز في كلامهم.
155

(المسألة الثالثة) - لو اشتبه دم الحيض بدم القرحة فقد اختلف الأصحاب
في ذلك، فقيل إن كان خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض وإن كان من
الجانب الأيمن فهو من القرحة، وبه صرح الصدوق في كتابه والشيخ في النهاية وأتباعه
قال في الفقيه: " وإن اشتبه عليها دم الحيض ودم القرحة فربما كان في فرجها قرحة،
فعليها أن تستلقي على قفاها وتدخل إصبعها فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من
القرحة وإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض " وظاهر هذا الكلام أن
مخرج دم الحيض دائما إنما هو من الجانب الأيسر، وعن ابن الجنيد أنه عكس ذلك
فقال: " دم الحيض أسود عبيط تعلوه حمرة يخرج من الجانب الأيمن وتحس المرأة
بخروجه، ودم الاستحاضة بارد رقيق يخرج من الجانب الأيسر " واضطرب كلام
الشهيد فأفتى في البيان بالأول وفي الدروس والذكرى بالثاني، قيل: ومنشأ الاختلاف
هنا اختلاف متن الرواية حيث إنه قد روى في الكافي عن محمد بن يحيى رفعه عن أبان (1)
قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) فتاة منابها قرحة في جوفها والدم سائل لا تدري
من دم الحيض أم من دم القرحة؟ فقال: مرها فلتستلق على ظهرها ثم ترفع رجليها ثم
تستدخل إصبعها الوسطى، فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض وإن خرج من
الجانب الأيسر فهو من القرحة " والشيخ قد نقل الرواية المذكورة بعينها في التهذيب وساق
الحديث إلى أن قال: " فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض وإن خرج
من الجانب الأيمن فهو من القرحة " وربما قيل بترجيح رواية التهذيب لأن الشيخ
أعرف بوجوه الحديث وأضبط خصوصا مع فتواه بمضمونها في النهاية والمبسوط.
وفيه أنه لا يخفى على من راجع التهذيب وتدبر أخباره ما وقع للشيخ (رحمه
الله) من التحريف والتصحيف في الأخبار سندا ومتنا وقلما يخلو حديث من أحاديثه
من علة في سند أو متن، وأما فتواه (رحمه الله) فالكلام فيها أظهر من أن يخفى على

(1) رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب الحيض.
156

من مارس الفن، والترجيح بهذه القاعدة في جانب رواية الكافي أظهر، ويعضده
أن في الذكرى نقل أنه وجد الرواية في كثير من نسخ التهذيب كما في الكافي، وفي
المدارك عن ظاهر كلام ابن طاووس أن نسخ التهذيب القديمة كلها موافقة له أيضا وبه
يظهر ترجيحها. نعم عبارة الفقه الرضوي صريحة في القول الأول حيث قال (عليه
السلام) (1): " وإن اشتبه عليها الحيض بدم القرحة فربما كان في فرجها قرحة
فعليها أن تستلقي على قفاها وتدخل إصبعها فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من القرحة
وإن خرج من الجانب الأيسر فهو من الحيض " وعبارة الصدوق المتقدمة عين هذه
العبارة، ومنه يعلم أنه أخذها من الكتاب المذكور وأفتى بها وأن مستنده في هذا الحكم إنما
هو الكتاب المذكور، والصدوق في كتابه قد ذكر بعد هذه العبارة بلا فصل عبارة
كتاب الفقه المتقدمة (2) في اشتباه دم الحيض بدم العذرة وقال بعدها ذكره أبي في
رسالته إلي، ومنه يعلم - كما عرفت وستعرف إن شاء الله تعالى في مطاوي أبحاث هذا
الكتاب - اعتماد الصدوقين على الكتاب المذكور وأخذ عبائره والافتاء بها، والظاهر أن مستند من قال بالقول الأول إنما هو ما في رسالة علي بن الحسين بن بابويه من
العبارة المأخوذة من كتاب الفقه لا من رواية التهذيب كما قيل، لما عرفت من نقل
الشيخين المتقدمين أن نسخ التهذيب القديمة موافقة للكافي، وحينئذ فالتعارض إنما هو
بين رواية الكافي، وكتاب الفقه، والمسألة لذلك لا تخلو من اشكال، ويؤكده أن
احتمال القرحة لا يختص بجانب دون جانب فلا يتم الحكم كليا بكونها في جانب اليمين
كما في كتاب الفقه أو الأيسر كما في رواية الكليني. والله العالم.
(المسألة الرابعة) - لا خلاف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) في أن
أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة، وهي أقل الطهر، وأما أكثره فلا حد له على
الأشهر الأظهر.

(1) ص 22
(2) ص 154.
157

فأما الأول فالأخبار به مستفيضة: (منها) - ما رواه في الكافي في الصحيح
عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " أقل ما يكون الحيض ثلاثة
أيام وأكثره ما يكون عشرة أيام ". وعن صفوان بن يحيى (2) قال: " سألت أبا الحسن
الرضا (عليه السلام) عن أدنى ما يكون من الحيض؟ فقال أدناه ثلاثة وأبعده عشرة "
وما رواه الشيخ في الصحيح عن يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) (3):
" أدنى الحيض ثلاثة وأقصاه عشرة " إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
وأما ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) (4)
من " أن أكثر ما يكون الحيض ثمان وأدنى ما يكون منه ثلاثة " فقد أجاب الشيخ عنه بأنه
خبر شاذ أجمعت العصابة على ترك العمل به، قال: " ولو صح لكان معناه أن المرأة إذا
كان من عادتها أن لا تحيض أكثر من ثمانية أيام ثم استحاضت واستمر بها الدم وهي
لا يتميز لها دم الحيض من دم الاستحاضة، فإن أكثر ما تحتسب به أيام الحيض ثمانية
أيام حسبما جرت عادتها قبل استمرار الدم " انتهى. ولا يخفى بعده. وحمله في المنتقى على
إرادة الأكثر بحسب العادة والغالب في الشرع. وهو جيد فإن بلوغ العشرة
في العادة نادر.
وأما الثاني فيدل عليه بعد الاجماع الأخبار الكثيرة، ومنها - مرسلة يونس
الآتية (5) ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه
السلام) (6) قال: " لا يكون القرء في أقل من عشرة أيام فما زاد، أقل ما يكون عشرة
من حين تطهر إلى أن ترى الدم " وهي متضمنة لحكم الأقل وأنه عشرة ولحكم الأكثر وهو
عشرة فما زاد من غير الانتهاء إلى حد، وعن أبي الصلاح أنه حد الأكثر بثلاثة أشهر، ولم
نقف له على مستند، وحمله العلامة على أن مراده باعتبار الغالب وفي صحيحة محمد بن مسلم

(1) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب الحيض.
(4) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب الحيض.
(5) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب الحيض.
(6) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب الحيض
158

الآتية (1) ونحوها موثقته (2) " إذا رأت الدم بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة "
وكيف كان فكل من هذه الأحكام لا خلاف فيه، إنما الخلاف في اشتراط
التوالي في الثلاثة التي تكون أقل الحيض فهل يشترط تواليها أم يكفي كونها في جملة العشرة؟
المشهور الأول وبه قال الشيخ (رحمه الله) في الجمل والمرتضى وابنا بابويه، قال
في الفقيه نقلا عن أبيه في رسالته إليه: " فإن رأت الدم يوما أو يومين فليس ذلك
من الحيض ما لم تر الدم ثلاثة أيام متواليات، وعليها أن تقضي الصلاة التي تركتها
في اليوم أو اليومين ".
أقول: وهذه العبارة عين عبارة الفقه الرضوي كما سيأتي نقله في هذا المقام إن شاء
الله تعالى، وهكذا ما بعدها
وقال الشيخ في النهاية: " إن رأت يوما أو يومين ثم رأت قبل انقضاء العشرة
ما يتم به الثلاثة فهو حيض، وإن لم تر حتى تمضي عشرة فليس من الحيض " وإلى هذا
القول ذهب ابن البراج، وإليه مال جملة من متأخري المتأخرين: منهم - المولى الأردبيلي
(رحمه الله) في شرح الإرشاد والشيخ الحر في رسالته والشيخ عبد الله بن صالح
البحراني، ونقله عن الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن يوسف البحراني صاحب رياض
المسائل، وهو الأظهر عندي.
ويدل عليه روايات: (منها) - ما رواه الشيخ عن يونس عن بعض رجاله عن الصادق
(عليه السلام) (3) قال: " أدنى الطهر عشرة أيام، وذلك أن المرأة أول ما تحيض ربما
كانت كثيرة الدم فيكون حيضها عشرة أيام، فلا تزال كلما كبرت نقصت حتى ترجع إلى
ثلاثة أيام فإذا رجعت إلى ثلاثة أيام ارتفع حيضها ولا يكون أقل من ثلاثة أيام، فإذا رأت
المرأة الدم في أيام حيضها تركت الصلاة، فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام فهي حائض

(1) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب الحيض.
(3) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب الحيض.
159

وإن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت وصلت وانتظرت من يوم رأت
الدم إلى عشرة أيام، فإن رأت في تلك العشرة أيام من يوم رأت الدم يوما أو يومين
حتى يتم لها ثلاثة فذلك الذي رأته في أول الأمر مع هذا الذي رأته بعد ذلك في
العشرة فهو من الحيض، وإن مر بها من يوم رأت الدم عشرة أيام ولم تر الدم فذلك اليوم
واليومان الذي رأته لم يكن من الحيض إنما كان من علة أما قرحة في جوفها وأما من الجوف،
فعليها أن تعيد الصلاة تلك اليومين التي تركتها لأنها لم تكن حائضا فيجب أن تقضي
ما تركت من الصلاة في اليوم واليومين، وإن تم لها ثلاثة أيام فهو من الحيض وهو
أدنى الحيض ولم يجب عليها القضاء ولا يكون الطهر أقل من عشرة أيام، وإذا حاضت
المرأة وكان حيضها خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت وصلت، فإن رأت بعد ذلك الدم
ولم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام فذلك من الحيض تدع الصلاة، وإن رأت الدم
من أول ما رأت الثاني الذي رأته تمام العشرة أيام ودام عليها عدت من أول ما رأت
الدم الأول والثاني عشرة أيام ثم هي مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة، وقال كل ما
رأت المرأة في أيام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض وكل ما رأته بعد أيام حيضها
فليس من الحيض ".
أقول: لا يخفى ما في الخبر المذكور من الصراحة والظهور في الدلالة على القول
المذكور، وظاهره أيضا أن النقاء الذي بين أيام الدم المتفرقة طهر حيث خص الحيض
بأيام الدم المتقدمة والمتأخرة (لا يقال): إنه قد استفاضت الأخبار بأن أقل الطهر عشرة
أيام (لأنا نقول): نعم وهذا الخبر من جملتها أيضا حيث قال فيه: " ولا يكون الطهر
أقل من عشرة أيام " ولكن وجه الجمع - بين ما دل عليه الخبر المذكور ونحوه من
الحكم بكون النقاء المتخلل بين الثلاثة الأيام المذكورة هنا طهرا وبين تلك الأخبار -
بحمل الطهر في تلك الأخبار على ما كان بين حيضتين مستقلتين كما في العدد ونحوها فلا
ينافيه ما كان في أثناء الحيضة الواحدة، ويشير إلى ذلك ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم
160

المتقدمة التي هي مستندهم في هذا الحكم (1) من قوله (عليه السلام): " أقل ما يكون
عشرة من حين تطهر إلى أن ترى الدم " بعد قوله: " لا يكون القرء في أقل من عشرة "
وقوله (عليه السلام) -: " فإن رأت بعد ذلك الدم ولم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام
فذلك من الحيض " - معناه أنه إذا كان حيضها خمسة أيام - مثلا - ثم انقطع الدم فإنها
تغتسل وتصلي، فإن عاد الدم بعد مضي عشرة أيام من انقطاعه فلا اشكال في كونه
حيضة ثانية لتوسط أقل الطهر بين الدمين، وإن كان قبل تمام العشرة فإنه يكون من
الحيضة الأولى وما بينهما طهر حسبما تقدم في الثلاثة المتفرقة. نعم إنما يحكم بكون الدمين
حيضا ما لم يتجاوز الجميع عشرة أيام التي هي أكثر الحيض وإلا فلو تجاوز كان ما زاد
على العشرة استحاضة. وإلى هذا أشار (عليه السلام) بقوله في تتمة الخبر: " وإن رأت
الدم من أول ما رأت الثاني.. الخ " بمعنى أنه إن رأت هذا الدم الثاني من أول ما رأته
متمما للعشرة التي مبدأها أول اليوم ثم دام وتجاوز العشرة عدت أيام الدم الأول
وأيام الدم الثاني وجعلت حيضها منه عشرة أيام وعملت في الباقي ما تعمله المستحاضة،
وفي قوله: " عدت من أول ما رأت الدم الأول والثاني عشرة أيام " إشارة إلى أن ما بين
الدمين طهر لأنها إنما تعد أيام الدم خاصة.
و (منها) - ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن
محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (2) قال: " إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أيام فهو
من الحيضة الأولى وإن كان بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة ".
وما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
قال: " أقل ما يكون الحيض ثلاثة أيام، وإذا رأت الدم قبل عشرة أيام فهو من الحيضة
الأولى، وإذا رأته بعد عشرة أيام فهو من حيضة أخرى مستقبلة ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 11 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 11 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب الحيض.
161

والتقريب فيهما أنهما ظاهرتان في أنه إذا رأت المرأة الدم بعد ما رأته أولا سواء
كان الأول يوما أو أزيد، فإن كان بعد توسط عشرة أيام خالية من الدم كان الدم الثاني
حيضة مستقلة، وإن كان قبل ذلك كان من الحيضة الأولى.
وأما ما ذكره في المدارك - بعد أن نقل عن الشيخ الاستدلال على هذا القول
برواية يونس وصحيحة محمد بن مسلم حيث قال: " والجواب أن الرواية الأولى ضعيفة
مرسلة والثانية غير دالة على المطلوب صريحا، إذ مقتضاها أن ما تراه في العشرة فهو
من الحيضة الأولى ولا نزاع فيه لكن لا بد من تحقق الحيض أولا، قال في المعتبر بعد
أن ذكر نحو ذلك: ونحن لا نسمي حيضا إلا ما كان ثلاثة فصاعدا، فمن رأت ثلاثة ثم
انقطع ثم جاء في العشرة ولم يتجاوز فهو من الحيضة الأولى لا أنه حيض مستأنف، لأنه
لا يكون بين الحيضتين أقل من عشرة. وهو حسن " انتهى -
ففيه (أولا) - أن ما طعن به على رواية يونس من الضعف لا يقوم حجة على
الشيخ ونحوه من المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم، بل اعترف جملة من محققي
أصحاب هذا الاصطلاح كالمحقق الشيخ حسن في المنتقى والبهائي في مشرق الشمسين
بصحة الأخبار كملا عند المتقدمين لوضوح الطرق الدالة على صحتها لديهم، وأن هؤلاء
المتأخرين إنما جددوا هذا الاصطلاح لخفاء تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عند
المتقدمين عليهم. و (ثانيا) - ما قدمناه في مقدمات هذا الكتاب من بطلان هذا
الاصطلاح. و (ثالثا) - أن ما ذكره في صحيحة محمد بن مسلم من عدم دلالتها على
المطلوب صريحا مؤذن بأنها دالة عليه ظاهرا وهو كاف في الاستدلال، فإنها وإن لم تكن
في الصراحة كرواية يونس المذكورة إلا أنها ظاهرة في ذلك، وما ارتكبوه في تأويلها
خلاف الظاهر بل تعسف محض كما لا يخفى على الخبير الماهر، وذلك فإن ظاهر الخبر
المذكور ومثله الموثقة التي بعده أن العشرة التي وقع التفصيل فيها في الخبر بكون رؤية
الدم قبل تمامها فيكون من الحيضة الأولى أو بعده فيكون حيضة مستقلة إنما هي عشرة
162

واحدة وهي ما بعد رؤية الدم الأول سواء كان يوما أو يومين أو ثلاثة، ومبدأها
انقطاع الدم الأول، واللام في العشرة الثانية عهدية كما في قوله تعالى: "... أرسلنا
إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول... " (1) وعلى هذا بنى الاستدلال بالرواية
المذكورة، وعلى ما ذكروه يلزم أن يكون مبدأ العشرة من أول الدم، وهو وإن تم لهم
بالنسبة إلى أول الترديدين إلا أنه لا يتم لهم بالنسبة إلى الترديد الثاني وهو قوله:
" وإن كان بعد العشرة " فإنها عبارة عن عشرة أيام الطهر البتة، وبالجملة فإن مبنى
كلامهم على أن المراد بالعشرة الأولى مبدأ الدم الأول والعشرة الثانية من انقطاعه.
ولا يخفى ما فيه من التمحل بل البطلان، إذ المتبادر من الترديد المذكور هو اتحاد
العشرة لا تعددها.
ومما يؤيد ما ذكرناه من أن العشرة التي وقع الترديد فيها هي عشرة الطهر
ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله (2) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن المرأة إذا طلقها زوجها متى تكون أملك بنفسها؟ فقال إذا رأت الدم
من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها. قلت فإن عجل الدم عليها قبل أيام قرءها؟ فقال: إذا كان
الدم قبل العشرة أيام فهو أملك بها وهو من الحيضة التي طهرت منها، وإن كان الدم
بعد العشرة فهو من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها ".
والتقريب فيها كما مر في صحيحة محمد بن مسلم إلا أن هذه أظهر في كون الطهر
يكون أقل من عشرة أيام، وأن ما ذكروه من حمل العشرة الأولى في تلك الرواية على
مبدأ الدم الأول لا يجري في هذه الرواية، بل المراد بالعشرة فيها في الموضعين هي عشرة
الطهر الخالي من الدم، وذلك فإن معناها أنها إذا حاضت الحيضة الثانية وطهرت ثم أتاها
الدم، فإن كان قبل تمام العشرة أيام الطهر فله الرجوع فيها لأنها باقية في العدة، وإن

(1) سورة المزمل. الآية 15 و 16
(2) رواه في الوسائل في الباب 17 من أبواب العدد.
163

كان بعد تمام العشرة فقد خرجت عن عدته لحصول الأقراء الثلاثة التي هي عبارة عن الأطهار
وتقريب الاستدلال بهذه الروايات الثلاثة بناء على ما ذكرناه زيادة على ما عرفت
أن الحكم بكون ما تراه قبل تمام العشرة من الحيضة الأولى إنما يتم على اطلاقه بناء على
الحكم بكون أيام النقاء المتخللة طهرا، وإلا فلو فرضنا أن حيضها الأول خمسة أيام أو ستة
أيام ثم بعد الطهر والغسل رأت الدم في اليوم السابع أو الثامن من طهرها قبل تمام العشرة
فإنه (عليه السلام) في هذه الأخبار حكم بكون الدم من الحيضة الأولى، فلو حكم بكون
النقاء أيضا حيضا كما يدعونه للزم زيادة الحيض على عشرة أيام، وهو باطل اجماعا نصا
وفتوى، وفي معنى هذه الرواية ما صرح به في الفقه الرضوي (1) حيث قال: " وربما
تعجل الدم من الحيضة الثانية، والحد بين الحيضتين القرء وهو عشرة أيام بيض،
فإن رأت الدم بعد اغتسالها من الحيض قبل استكمال عشرة أيام بيض فهو ما بقي من
الحيضة الأولى، وإن رأت الدم بعد العشرة البيض فهو ما تعجل من الحيضة الثانية "
انتهى. وهو ظاهر في أن ما تخلل من النقاء بين الدمين - متى كان في العشرة - طهر لما
فرضناه من المثال المتقدم ونحوه، وفي هذا الكلام ما يشير إلى ما قدمناه من حمل
روايات " أقل الطهر عشرة " على ما كان بين حيضتين لا مطلقا.
ومما حققناه في هذا المقام يظهر أن ما يأتي إن شاء الله تعالى في كلامهم - من أنه
متى رأت الدم ثلاثة - مثلا - وانقطع ثم رأته قبل العاشر ولم يتجاوز العشرة فإن جميع
العشرة حيضة - لا وجه له، فإن ظاهر هذه الأخبار أن الحيض أيام الدم خاصة كما عرفت
وأما قول صاحب المعتبر فيما نقله عنه في المدارك: " ونحن لا نسمي حيضا إلا
ما كان ثلاثة فصاعدا.. الخ " ففيه أنه أول المسألة لأن مراده بالثلاثة يعني المتوالية،
واطلاق الحيض في الرواية على الدم المتقدم وإن كان أقل من ثلاثة كما ندعيه إنما وقع
من حيث رجوع الدم في العشرة الموجب لكون المتقدم بانضمام المتأخر إليه حيضا واحدا
وبهذا يصح اطلاق الحيض على الدم الأول وإن كان أقل من ثلاثة، لظهور كونه حيضا

(1) ص 21.
164

بانضمام الدم الأخير إليه. وبالجملة فالرواية مطلقة بالنسبة إلى الدم المتقدم، واطلاق الحيض
على ما كان أقل من ثلاثة أيام صحيح بما ذكرناه. فالعمل بها على اطلاقها لا يعتريه
وصمة الاشكال.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما استدلوا به على ما ذكروه من القول المشهور أمور:
(الأول) - أن الصلاة ثابتة في الذمة بيقين فلا يسقط التكليف بها إلا مع
تيقن السبب ولا تيقن بثبوته مع انتفاء التوالي.
(الثاني) - أن المتبادر من قولهم: " أدنى الحيض ثلاثة وأقله ثلاثة " (1)
كونها متوالية، ذكر ذلك في المدارك والأول منهما العلامة في المختلف أيضا.
(الثالث) - أن تقدير الحيض أمر شرعي غير معقول فيقف على مورد
الشرع. ولم يثبت في المتفرق التقدير الشرعي، احتج به العلامة في المختلف.
(الرابع) - أن اللازم من القول بخلاف القول المشهور كون الطهر أقل من
عشرة وهو خلاف الاجماع نصا وفتوى.
(الخامس) - ما ذكره (عليه السلام) في الفقه الرضوي (2) حيث قال:
" وإن رأت يوما أو يومين فليس ذلك من الحيض ما لم تر ثلاثة أيام متواليات، وعليها
أن تقضي الصلاة التي تركتها في اليوم واليومين " وهذه العبارة عين العبارة المتقدم نقلها
عن الصدوق في رسالة أبيه إليه وكذا ما بعدها أيضا، ومنه يعلم أن مستنده في هذا
الحكم إنما هو الكتاب المذكور كما عرفت وستعرف إن شاء الله تعالى.
والجواب (أما عن الأول) فإن ما ذكروه من ثبوت الصلاة في الذمة بيقين مسلم إلا أنه
قد دلت الأخبار المتفق عليها على أنها تسقط بالحيض الذي أقله ثلاثة، وهي مطلقة شاملة
باطلاقها لما لو كانت متوالية أو متفرقة في ضمن العشرة، ومدعى التقييد بالتوالي عليه
الدليل وليس فليس، بل الأدلة بصريحها وظاهرها عاضدة لهذا الاطلاق كما عرفت.

(1) المروي في الوسائل في الباب 10 من أبواب الحيض
(2) ص 21
165

و (أما عن الثاني) فبالمنع من هذه الدعوى (أما أولا) - فلأنه لو نذر المكلف
صيام ثلاثة أيام على الاطلاق فاللازم بمقتضى ما ذكره وجوب التوالي فيها وهو لا يلتزمه
و (أما ثانيا) - فلأنه لو تم ذلك في الثلاثة للزم مثله في العشرة لاشتراكهما في الاطلاق
في أخبار هذه المسألة كما تقدم وهم لا يقولون به. و (أما ثالثا) - فلأنه لو سلم ذلك
فإنه يجب الخروج عنه بقيام الدليل على خلافه وهو الأخبار المتقدمة.
و (أما عن الثالث) فبما عرفت من أن غاية ما دلت عليه الأخبار أن أقله ثلاثة وهي
أعم من أن تكون متوالية أو متفرقة، ومدعى التقييد بالتوالي يحتاج إلى الدليل، وتخرج
الأخبار التي ذكرناها شاهدة على ذلك.
و (أما عن الرابع) فيما تقدم آنفا من أن وجه الجمع بين الأخبار يقتضي حمل أخبار
" أقل الطهر عشرة أيام " على الطهر الواقع بين حيضتين بمعنى أنه لا يحكم بتعدد الحيض إلا
مع توسط العشرة لا الواقع في حيضة.
ومما يعضد ما ذكرناه من وقوع الطهر في أقل من عشرة أيام ما رواه الشيخ
في الموثق عن يونس بن يعقوب (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المرأة
ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة. قلت: فإنها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟
قال: تصلي. قلت فإنها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة. قلت فإنها ترى
الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تصلي. قلت فإنها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع
الصلاة تصنع ما بينها وبين شهر فإن انقطع الدم عنها وإلا فهي بمنزلة المستحاضة " ونحوها
رواية أبي بصير أيضا (2).
و (أما عن الخامس) فالظاهر أن كلامه (عليه السلام) هنا خرج مخرج البناء على
الغالب لا أنه حكم كلي، لأنه قد صرح قبيل هذا الكلام بما قدمنا نقله عنه قريبا مما
هو ظاهر المنافاة لو حمل هذا الكلام على ظاهره، فإن ظاهر الكلام هو أنه قد يكون

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب الحيض.
166

الطهر أقل من عشرة إذا كان في حيضة واحدة، فلا بد من حمل هذا الكلام على ما
ذكرناه جمعا.
وينبغي التنبيه على أمور: (الأول) - قال في الروض: " وعلى هذا القول
- يعني عدم اعتبار التوالي - لو رأت الأول والخامس والعاشر فالثلاثة حيض لا غير "
واعترضه سبطه بأن مقتضاه أن أيام النقاء المتخللة بين أيام رؤية الدم تكون طهرا، وهو
مشكل لأن الطهر لا يكون أقل من عشرة أيام اجماعا، وأيضا قد صرح المصنف في المعتبر
والعلامة في المنتهى وغيرهما من الأصحاب بأنها لو رأت ثلاثة ثم رأت العاشر كانت الأيام
الأربعة وما بينهما من النقاء حيضا، والحكم في المسألتين واحد انتهى. وفيه نظر من وجهين:
(أحدهما) - أن قوله: " إن الطهر لا يكون أقل من عشرة اجماعا " على اطلاقه ممنوع،
فإن ذلك أنما هو فيما إذا كان بين حيضتين يعني لا يحكم بتعدد الحيض إلا مع توسط
العشرة، كما يشير إليه كلامه (عليه السلام) في الفقه الرضوي حسبما نبهنا عليه آنفا، وقد عرفت
دلالة الأخبار على أنه لا مانع منه في الحيضة الواحدة، وهذا معظم الشبهة عندهم في اطراح
هذا القول، وفيه ما عرفت. و (ثانيهما) - أن ما نقله عن المعتبر والمنتهى وغيرهما إنما
استندوا فيه إلى صحيحة محمد بن مسلم وموثقته المتقدمتين بناء على ما توهموه من المعنى
الذي زعموه، وقد أوضحنا بعده ومخالفته لظاهر الخبرين المذكورين كما يفصح عنه خبر
عبد الرحمان بن أبي عبد الله وكلامه (عليه السلام) في كتاب الفقه. فإنهما صريحان في المدعى
كما أوضحناه آنفا، وحينئذ فما ذكروه خال من الدليل بل الدليل على خلافه واضح
السبيل. وبالجملة فإن الروايات المذكورة كملا قد اشتركت في الدلالة على أن ما تراه في
عشرة الطهر قبل تمامها فهو من الحيضة الأولى وأن ما بين الدمين طهر، وإلا لزم المحذور
الذي قدمنا ذكره من زيادة الحيض على العشرة وهو باطل، إلا أنها مختلفة في الظهور
شدة وضعفا، وهم إنما حكموا بكون النقاء المتوسط حيضا بشبهة أن الطهر لا يكون أقل
من عشرة، وقد أوضحنا فساده فلا اشكال بحمد الله المتعال.
167

(الثاني) - إعلم أن ظاهر الأصحاب (رضي الله عنهم) أن محل الخلاف في
هذه المسألة الثلاثة مطلقا أعم من أن تكون في أيام العادة أم لا، وصريح رواية يونس
هو كونها في أيام العادة، وظاهر روايتي محمد بن مسلم وإن كان الاطلاق بناء على ما ذكرناه
من معناهما إلا أنه يمكن حمله على رواية يونس حمل المطلق على المقيد، وبذلك يجمع بين
هذه الأخبار وكلامه (عليه السلام) في كتاب الفقه بحمله على غير أيام العادة، ولا بأس
به اقتصارا في الخلاف على القدر المتيقن، إلا أنه صلح من غير تراضي الخصمين.
(الثالث) - قد صرح جملة من الأصحاب: منهم - الشهيد الثاني في الروض
بأن المراد بالأيام الثلاثة ما يدخل فيها الليالي أما تغليبا وأما لدخول الليل في مسمى اليوم
عرفا، قال: " وقد صرح بدخولها في بعض الأخبار وفي عبارة بعض الأصحاب "
أقول: هو ابن الجنيد على ما نقله عنه بعض أصحابنا. والظاهر أن المراد بالثلاثة
مقدارها من الزمان ولو بالتلفيق لا خصوص الثلاثة، فلو رأته من أول الظهر - مثلا -
اعتبر الامتداد إلى ظهر اليوم الرابع.
(الرابع) - اختلف الأصحاب في المعنى المراد من التوالي على تقدير القول المشهور
فقيل بأنه عبارة عن استمراره في الثلاثة بلياليها بحيث متى وضعت الكرسف تلوث،
وهو اختيار الشيخ علي في شرح القواعد بعد أن ذكر أنه لا يعرف الآن في كلام أحد
من المعتبرين تعيينا له، ثم قال: " وقد يوجد في بعض الحواشي الاكتفاء بحصوله فيها
في الجملة وهو رجوع إلى ما ليس له مرجع " ونقل هذا القول عن الشيخ جمال الدين
ابن فهد في التحرير. وقيل بالاكتفاء بوجوده في كل يوم من الثلاثة وقتا ما، ونقله في
المدارك عن ظاهر الأكثر عملا بالعموم، وهو اختيار الروض قال: " ظاهر النص الاكتفاء
بوجوده في كل يوم من الثلاثة وإن لم يستوعبه لصدق رؤيته ثلاثة أيام لأنها ظرف له،
ولا تجب المطابقة بين الظرف والمظروف، وهذا هو الظاهر من كلام المصنف " انتهى
وقيل إنه يعتبر أن يكون في أول الأول وآخر الآخر وفي أي جزء من الوسط، فإذا
168

رأته في أول جزء من أول ليلة من الشهر فلا بد أن تراه في آخر جزء من اليوم الثالث
بحيث يكون عند غروبه موجودا وفي اليوم الوسط يكفي أي جزء كان، ونسب هذا
القول إلى الفاضل السيد حسن ابن السيد جعفر معاصر شيخنا الشهيد الثاني، واستبعده في
المدارك ونفى عنه البعد في الحبل المتين، قال بعد نقله: " وهذا التفسير لبعض مشايخنا
المتأخرين وهو غير بعيد، وإنما اعتبر وجود الدم في أول الأول وآخر الآخر عملا بما
ثبت بالنص والاجماع من أنه لا يكون أقل من ثلاثة أيام. إذ لو لم يعتبر وجوده في
الطرفين المذكورين لم يكن الأقل مما جعله الشارع أقل فلا تغفل " انتهى. أقول:
والمسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال، لعدم النص الموضح لهذا الاجمال والتعليلات
متدافعة، وإن كان القول بما عليه ظاهر الأكثر لا يخلو عن قرب. والله العالم.
(المسألة الخامسة) - لا خلاف بين الأصحاب في أن ما تراه المرأة من الدم
قبل اكمال التسع فليس بحيض وما تراه بعد بلوغ سن اليأس فليس بحيض، فالكلام
هنا يقع في مقامين:
(الأول) - في ما تراه قبل التسع، وهو - كما عرفت - اجماعي حتى من العامة (1)
ويدل عليه من الأخبار صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج (2) قال: " قال
أبو عبد الله (عليه السلام): ثلاث يتزوجن على كل حال، وعد منها التي لم تحض ومثلها
لا تحيض - قال قلت وما حدها؟ قال: إذا أتى لها أقل من تسع سنين - والتي لم يدخل
بها والتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض. قال قلت وما حدها؟ قال: إذا كان
لها خمسون سنة ".

(1) كما في بدائع الصنائع ج 1 ص 41 وفي المغني ج 1 ص 307 وفي الفروع لابن
مفلح ج 1 ص 177 وفي المهذب ج 1 ص 37 وفي المدونة لمالك ج 1 ص 54 وفي شرح
الزرقاني على مختصر أبي الضياء في فقه مالك ج 1 ص 133 وفي الميزان للشعراني ج 1 ص 117
(2) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب العدد.
169

وعن عبد الرحمان بن الحجاج أيضا في الموثق (1) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول: ثلاث يتزوجن على كل حال: التي يئست من المحيض ومثلها لا تحيض
- قلت ومتى تكون كذلك؟ قال إذا بلغت ستين سنة فقد يئست من المحيض ومثلها
لا تحيض - والتي لم تحض ومثلها لا تحيض - قلت ومتى تكون كذلك؟ قال ما لم تبلغ
تسع سنين فإنها لا تحيض ومثلها لا تحيض - والتي لم يدخل بها ".
وههنا اشكال مشهور وهو أن الأصحاب ذكروا من علامات بلوغ المرأة الحيض
وحكموا ههنا بأن ما تراه المرأة قبل التسع فليس بحيض، وهو بحسب الظاهر مدافع
للأول، فما الذي يعلم به البلوغ؟
وأجيب عن ذلك بحمل ما هنا على من علم بلوغها التسع، فإنه لا يحكم على الدم الذي
تراه قبل التسع بكونه حيضا، وحمل ما ذكروه من أن الحيض علامة البلوغ على من جهل
سنها مع خروج الدم الجامع لصفات الحيض، فإنه يحكم بكونه حيضا ويعلم به البلوغ كما
ذكره الأصحاب ونقلوا عليه الاجماع.
أقول: ويؤيده رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب، وإذا
بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك أنها تحيض لتسع سنين " ويستفاد من هذه
الرواية أن الحيض لازم للتسع، وحينئذ فمتى كان سنها مجهولا وحصل لها الحيض فإنه دليل
على بلوغ التسع.
وأما ما أجيب به عن الاشكال المذكور - من أن البلوغ مما اختلف فيه فقيل إنه
بالتسع وقيل بالعشر فلو رأت دما بعد التسع وقبل بلوغ العشر حكم بالبلوغ - فأورد عليه
بأن هذا إنما يتم على قول من قال بالعشر وأما من قال بأن بلوغها بالتسع فإنه لا يكون

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب العدد.
(2) المروية في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوصايا.
170

الدم هنا دليلا على البلوغ عنده، بل الحق هو الأول.
(الثاني) - في ما تراه بعد بلوغ سن اليأس، وقد عرفت أنه لا خلاف بينهم
في أنه ليس بحيض، وعليه تدل الأخبار التي في المسألة.
إنما الخلاف في ما به يتحقق اليأس، فقيل بأنه يتحقق ببلوغ خمسين سنة مطلقا،
ذهب إليه الشيخ في النهاية والجمل واختاره المحقق في كتاب الطلاق من الشرائع. وقيل ببلوغ
الستين مطلقا، واختاره العلامة في بعض كتبه والمحقق في الشرائع في باب الحيض،
وقيل بالتفصيل بين القرشية وغيرها واعتبار الستين فيها والخمسين في غيرها، واختاره
الشيخ في أكثر كتبه، وهو ظاهر الصدوق في الفقيه أيضا حيث قال (1): " وقال
الصادق (عليه السلام): المرأة إذا بلغت خمسين سنة لم تر حمرة إلا أن تكون امرأة من
قريش، وهو حد المرأة التي تيأس من الحيض " انتهى. وهذا الكلام بعينه عين
مرسلة ابن أبي عمير الآتية، ورجحه المحقق في المعتبر، والظاهر أنه المشهور. وربما ألحق
بعض أصحاب هذا القول بالقرشية النبطية كالشهيد في كتبه الثلاثة.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة روايتا عبد الرحمان المتقدمتان
وصحيحة أخرى له أيضا عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " حد التي يئست من
المحيض خمسون سنة " ورواية أحمد بن محمد بن أبي نصر عن بعض أصحابنا (3) قال:
" قال أبو عبد الله (عليه السلام): المرأة التي قد يئست من المحيض حدها خمسون سنة "
رواها الكليني والشيخ في الضعيف والمحقق في المعتبر عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر
وعلى هذا فلا يضر ضعف السند بناء على الاصطلاح الغير المعتمد، ومرسلة ابن أبي عمير
عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " إذا بلغت المرأة خمسين
سنة لم تر حمرة إلا أن تكون امرأة من قريش ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الحيض.
(3) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الحيض.
(4) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الحيض.
171

حجة القول الأول رواية عبد الرحمان بن الحجاج المتقدمة في المقام الأول وصحيحته
المنقولة هنا ورواية ابن أبي نصر.
وحجة القول الثاني موثقة عبد الرحمان الثانية من روايتيه المتقدمتين في المقام
الأول، ورواية مرسلة ذكرها في الكافي (1) بعد نقل رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر
قال: " وروى ستون سنة أيضا ".
حجة القول الثالث الجمع بين الأخبار، ومستند هذا الجمع مرسلة ابن أبي عمير
التي هي في عداد المسانيد عندهم، حيث دلت على الخمسين إلا أن تكون امرأة من قريش
وأورد على ذلك عدم صراحة الرواية في كون الحمرة التي تراها القرشية بعد الخمسين
حيضا، إذ لا منافاة بين رؤيتها الحمرة وعدم اعتبار الشارع تلك الحمرة حيضا، مع أنه
ليس في الخبر ذكر الستين.
أقول: يمكن الجواب عن الأول بأن الظاهر أن لفظ الحمرة هنا كناية عن الحيض
وإلا فإنه يصير معنى الكلام مغسولا متهافتا يجل عنه كلام الإمام الذي هو إمام الكلام
وعن الثاني (أولا) - بأنه لما كانت الروايات عنهم (عليهم السلام) قد صرحت بالخمسين
مطلقا تارة وبالستين كذلك أخرى وقد نفى الخمسين عن القرشية فإنه يعلم منه أن مراده
الستون، إذ لم يخرج عنهم سوى هذين العددين وبنفي أحدهما يتعين الآخر. و (ثانيا) -
أنه نقل عن المبسوط أنه قال (2): " تيأس المرأة إذا بلغت خمسين سنة إلا أن تكون امرأة
من قريش فإنه روي أنها ترى دم الحيض إلى ستين سنة " وقال المفيد في المقنعة (3) " روي
أن القرشية من النساء والنبطية تريان الدم إلى ستين سنة " وكلام الشيخين المذكورين
مؤذن بوصول رواية لهما دالة على الستين في القرشية بل النبطية، ومراسيل هذين الشيخين
لا تقصر عن مراسيل ابن أبي عمير ونحوه، وحينئذ فيجب تقييد اطلاق المرسلة المذكورة
بهذه الرواية المرسلة في كلام الشيخين، وبه يظهر قوة القول بالتفصيل، وبذلك يظهر

(1) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب الحيض.
172

أيضا لك ما في كلام جملة من متأخري المتأخرين: منهم - صاحب المدارك من الطعن
على المفيد ومن تبعهم بأنهم ذكروا النبطية معترفين بعدم النص عليها، وعبارة المفيد
- كما سمعت - ظاهرة في وصول النص إليه بذلك.
وأنت خبير بأن من يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث يترجح عنده العمل
بروايات الخمسين لصحة سند بعضها وتأيده بالباقي وضعف ما يعارضها ولذلك مال في
المدارك إلى هذا القول، وأما من يرى العمل بالأخبار مطلقا فيمكن القول بالتفصيل لما
ذكرناه إلا أنه غير خال من شوب الاشكال. وبالجملة فالمعلوم من الأخبار المذكورة
عدم اليأس قبل الخمسين وتحققه بعد الستين مطلقا وإنما يبقى الشك فيما بين ذلك.
وأما ما قيل - من أنه لا تعارض بين روايات عبد الرحمان في المنطوق إذ التحديد
بالخمسين يستدعي كون ذات الستين آيسة البتة، نعم مفهوم موثقة الستين يعطي عدم
اليأس بدون بلوغ الستين فيشمل الخمسين فيكون ذلك المفهوم بعمومه منافيا لتحديد
الخمسين، والمفهوم مع خصوصه لا يصلح لمعارضة المنطوق بل يجب الغاؤه معه فكيف مع
عمومه وخصوص المنطوق؟ بل يجب تخصيصه به كما هي القاعدة حتى في غيره فلا
تعارض. انتهى - فظني بعده بل عدم استقامته، وذلك لأن ثبوت التعارض بين الروايتين
أظهر من أن ينكر وإنما هذه شبهة عرضت لهذا القائل، وبيان ذلك أنه قد علم من
الشارع تكليف النساء بأحكام مخصوصة من الحيض وما يترتب عليه من الصوم والصلاة
والعدد وما يترتب عليها ونحو ذلك، وجعل لهذه الأحكام غاية وحدا تنقطع وترتفع
ببلوغه وهو سن اليأس، وهاتان الروايتان قد تصادمتا وتخاصمتا في بيان هذا الحد الذي
تسقط عنده هذه الأحكام، فمقتضى رواية الخمسين سقوطها ببلوغ هذا الحد ومقتضى
رواية الستين أنها تستمر بعد الخمسين ولا تسقط إلا ببلوغ هذا الحد وبذلك حصل
التعارض، فيجب بناء على الرواية الأولى العمل بتلك الأحكام واستصحابها إلى حد
الخمسين خاصة ويجب على الثانية إلى حد الستين، والروايتان لم تتعارضا في أصل ثبوت
173

التكاليف وعدمه حتى يقال إن رواية الستين تدل على عدمه بالمنطوق والمفهوم يضعف
عن معارضة المنطوق، فإن تلك الأحكام ثابتة معلومة من الشارع واجب استصحابها
والعمل بها إلى وجود المانع والتعارض هنا وقع في بيان هذا الحد، فإن ثبت كونه
الخمسين وجب استصحاب الأحكام إليها خاصة وإن ثبت كونه الستين فكذلك، وهذا
بحمد الله سبحانه ظاهر لا خفاء عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، ونظير
ذلك أخبار البلوغ المختلفة ببلوغ الأربعة عشرة والخمسة عشرة والثلاثة عشرة والعشر،
إلا أن أخبار البلوغ اختلفت في الحد الموجب للأحكام وهذه اختلفت في الحد الذي به
تسقط تلك الأحكام. على أن ما ذكره من ضعف المفهوم وعدم معارضة المنطوق ممنوع
وإن كان قد ذكره غيره من الأصوليين، فإن المفهوم هنا مفهوم شرط وقد قدمنا لك
في مقدمات الكتاب الآيات والأخبار الدالة على حجيته شرعا فهو لا يقصر في الحجية
عن المنطوق، وكلام الأصوليين مبني على ما استدلوا به على الحجية من الأدلة الاقناعية
والوجوه التخريجية التي قد طال فيها التشاجر ابراما ونقضا، وأما ما دلت عليه الآيات
والروايات - كما أوضحناه في المقدمات - فليس كذلك، فإنه متى كان الدليل من
الطرفين إنما هو الأخبار والآيات فالطعن بالضعف غير متجه وإنما الواجب الترجيح
بالمرجحات الخارجة كما هو القاعدة المعروفة
وبالجملة فالاحتياط في المسألة لما عرفت مما لا ينبغي تركه، وهو من بعد كمال
الخمسين إلى كمال الستين بأن تعمل ما تعمله الطاهر في وقت الدم وتقضي الصوم بعد
ذلك، هذا بالنسبة إلى العبادة، وأما بالنسبة إلى العدة فتعتد بالأشهر إن طابقت الأطهار
المحتملة بأن تقع الأطهار الثلاثة في ثلاثة أشهر وإلا فأكثر الأمرين بمعنى أنه إذا لم تحصل
المطابقة المذكورة بأن تقع الأطهار الثلاثة في أربعة أشهر أو شهرين ففي الأول تعتد بالأطهار
وفي الثاني بالأشهر الثلاثة لكونهما أكثر الأمرين، ولا ينبغي لزوجها أن يراجعها في
هذه العدة وأن يجري عليها النفقة فيها ونحو ذلك. والله العالم.
174

فوائد
(الأولى) - إعلم أن المراد بالقرشية هي المنتسبة إلى قريش وهو النضر بن كنانة
جدهم، وظاهر جملة من الأصحاب أن المراد الانتساب إليه ولو بالأم وبعضهم جعله
احتمالا من حيث إن للأم مدخلا في ذلك بسبب تقارب الأمزجة، ومن ثم اعتبر نحو
ذلك في المبتدأة كما سيأتي إن شاء الله تعالى من الرجوع إلى الخالات وبناتها، إلا أنه
لا يخفى أنه لا يعلم في مثل هذه الأزمان من هؤلاء سوى الهاشميين فالأصل يقتضي عدم
القرشية واستصحاب التكليف في غير الهاشمية بناء على القول المشهور.
(الثانية) - قد اختلف في معنى النبط، قال في المصباح المنير: " النبط جيل من الناس
كانوا ينزلون سواد العراق ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم، والجمع أنباط مثل
سبب وأسباب، الواحد نباطي بزيادة الألف والنون تضم وتفتح، قال الليث ورجل
نبطي ومنعه ابن الأعرابي " انتهى. وقيل إنهم عرب استعجموا أو عجم استعربوا. وقيل إنهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، وذلك
لمعرفتهم بانباط الماء أي استخراجه لكثرة فلاحتهم، ونقل في الصحاح عن بعضهم أن
أهل عمان عرب استنبطوا وأهل البحرين نبط استعربوا. وفي النهاية الأثيرية " أنهم جيل
معروف كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين. قال وفي حديث ابن عباس نحن معاشر قريش
من النبط من أهل كوثى، قيل لأن إبراهيم الخليل (عليه السلام) ولد بها وكان النبط سكانها،
ومنه حديث عمرو بن معدي كرب سأله عمر عن سعد ابن أبي وقاص فقال أعرابي في
حبوته نبطي في جبوته، أراد أنه في جباية الخراج وعمارة الأرضين كالنبط حذقا بها ومهارة
فيها لأنهم كانوا سكان العراق وأربابها، وفي حديث الشعبي أن رجلا قال لآخر يا نبطي
فقال لا حد عليه كلنا نبط يريد الجوار والدار دون الولادة " انتهى. ومنه يستفاد سيما
من هذه الأخبار التي نقلها أن النبط جيل من العرب يسكنون العراق، وكيف كان فهم
175

لا وجود لهم في أمثال هذه الأيام وإنما الغرض بيان الخلاف وتحقيق المقام.
(الثالثة) - قال المحقق الشيخ علي بعد اعترافه بأن الحكم في النبطية خال عن
مستند قوي سوى الشهرة: " ويمكن أن يستأنس له بأن الأصل عدم اليأس فيقتصر فيه على
موضع الوفاق، وفي بعض الأخبار الصحيحة عن الصادق (عليه السلام) (1) " حد التي
يئست من الحيض خمسون سنة " وفي بعضها استثناء القرشية، والأخذ بالاحتياط - في
بقاء الحكم بالعدة وتوابع الزوجية استصحابا لما كان لعدم القطع بالمنافي - أولى "
وتنظر فيه في الذخيرة قال: " لأن التمسك بأن الأصل العدم والاستصحاب ضعيف
عندي لا يصلح لتأسيس الحكم الشرعي عليه وإن اشتهر الاستناد إليه بين كثير من
المتأخرين، وتمام تحقيقه في الأصول، والاحتياط الذي ذكره معارض بمثله " انتهى.
أقول: لا يخفى أن التمسك بأصالة العدم والاستصحاب هنا إنما هو تمسك بعموم
الدليل، وهذا أحد معاني الأصل والاستصحاب كما تقدم في مقدمات الكتاب، وذلك
فإن الأخبار دلت على أن الدم الذي تراه المرأة بعد بلوغ التسع بالشروط المقررة ثمة حيض
ودلت على أحكام تتعلق بكونه حيضا وعلى هذا اتفقت كلمة الأصحاب، واختلفت الأخبار
وكذا كلمة الأصحاب في الحد الذي يرتفع به الحيض وترتفع به تلك الأحكام،
فالمحقق المذكور
ادعى العمل بعموم تلك الأدلة والاقتصار على موضع الوفاق في النبطية إلى بلوغ الستين إذ
لا خلاف بعد بلوغ الستين في حصول اليأس وانقطاع تلك الأحكام، هذا حاصل كلامه،
وليس الاستصحاب في كلامه عبارة عن الاستصحاب المختلف في حجيته كما يوهمه ظاهر كلامه،
بل هذا من قبيل استصحاب عموم الدليل أو اطلاقه إلى أن يثبت الرافع، وكذا الاستصحاب
في قوله: " والأخذ بالاحتياط في بقاء الحكم بالعدة وتوابع الزوجية استصحابا لما كان "
فإنه أيضا من قبيل الأول، فإن الأدلة مطلقة أو عامة في وجوب العدة على المطلقة
وأحكام الزوجية من النفقة والكسوة والسكنى في العدة ونحو ذلك فيجب استصحابها إلى أن

(1) المروي في الوسائل في الباب 31 من أبواب الحيض.
176

يثبت الرافع، ومن هذا الباب في الأحكام الفقهية ما لا يحصى، كما إذا وقع الخلاف
في صحة الطلاق مثلا أو البيع أو نحو ذلك، فإن للقائل أن يقول الأصل صحة النكاح
إلى أن يثبت المزيل والأصل بقاء الملك إلى أن يثبت الناقل ونحو ذلك، وبالجملة فالظاهر أن مناقشته غير واضحة. نعم يمكن المناقشة فيه بأن هذا الأصل قد انتفى بما ورد من النصوص
في هذه المسألة الدال بعضها على التفصيل القاطع للشركة وبعضها على الاطلاق فلا يمكن العمل
عليه ولا استصحابه، بل الواجب الرجوع إلى الأخبار المذكورة والجمع بينها واستنباط
الحكم منها، والاحتياط المذكور معارض بمثله فإن الحكم بصحة الرجعة ولحوق أحكام
الزوجية مع وجود الدليل الدال على نفيها يوجب التهجم على الفروج والأموال بما لا يصلح
سندا، والاستصحاب المدعى قد انقطع بالدليل المذكور. والله العالم.
(المسألة السادسة) - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الحبلى هل
تحيض أم لا؟ قيل بالأول وعليه الأكثر، ومنهم الصدوق والمرتضى، وقال الشيخ
في النهاية وكتابي الأخبار " ما تجده المرأة الحامل في أيام عادتها يحكم بكونه حيضا وما
تراه بعد عادتها بعشرين يوما فليس بحيض " وقال في الخلاف أنه حيض قبل أن يستبين
الحمل لا بعده ونقل فيه الاجماع، وقال المفيد وابن الجنيد لا يجتمع حيض مع حمل،
وهو اختيار ابن إدريس، وكلام الخلاف يرجع إلى هذا القول.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن
ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) (1) " أنه سئل عن الحبلى ترى الدم أتترك الصلاة؟
فقال: نعم إن الحبلى ربما قذفت بالدم ".
وفي الصحيح عن صفوان (2) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن
الحبلى تري الدم ثلاثة أيام أو أربعة أيام تصلي؟ قال: تمسك عن الصلاة ".
وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (3) قال: " سألته عن الحبلى

(1) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
177

ترى الدم كما كانت ترى أيام حيضها مستقيما في كل شهر؟ قال: تمسك عن الصلاة كما
كانت تصنع في حيضها فإذا طهرت صلت ".
وعن حريز عمن أخبره عن الباقر والصادق (عليهما السلام) (1) " في الحبلى ترى
الدم؟ قالا: تدع الصلاة فإنه ربما بقي في الرحم الدم ولم يخرج وتلك الهراقة ".
وعن أبي بصير في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الحبلى
ترى الدم؟ قال: نعم إنه ربما قذفت المرأة الدم وهي حبلى ".
وعن سماعة (3) قال: " سألته عن امرأة رأت الدم في الحبل؟ قال: تقعد أيامها
التي كانت تحيض فإذا زاد الدم على الأيام التي كانت تقعد استظهرت بثلاثة أيام ثم
هي مستحاضة ".
وما رواه الكليني في الحسن عن سليمان بن خالد (4) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام) جعلت فداك الحبلى ربما طمثت؟ فقال: نعم وذلك أن الولد في بطن
أمه غذاؤه الدم فربما كثر ففضل عنه فإذا فضل دفقته فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة "
قال وفي رواية أخرى " إذا كان كذلك تأخر الولادة ".
وعن عبد الرحمان بن الحجاج في الصحيح (5) قال: " سألت أبا الحسن (عليه
السلام) عن الحبلى ترى الدم وهي حامل كما كانت ترى قبل ذلك في كل شهر هل تترك
الصلاة؟ قال تترك الصلاة إذا دام ".
وهذه الأخبار هي مستند القول المشهور وهي ظاهرة فيه تمام الظهور.
ومنها - ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن نعيم الصحاف (6) قال: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): أن أم ولدي ترى الدم وهي حامل كيف تصنع بالصلاة؟ قال
فقال لي: إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوما من الوقت الذي كانت ترى
فيه الدم من الشهر الذي كانت تقعد فيه فإن ذلك ليس من الرحم ولا من الطمث فلتتوضأ

(1) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(4) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(5) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(6) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
178

ولتحتش بكرسف وتصل، وإذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي كانت ترى فيه
الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنه من الحيضة فلتمسك عن الصلاة عدد أيامها
التي كانت تقعد في حيضها فإن انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل ولتصل.. الحديث "
وبهذه الرواية احتج الشيخ (رحمه الله) في كتابي الأخبار على ما قدمنا نقله عنه
في النهاية وفي كتابي الأخبار.
ومنها - ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (1)
قال: " قال النبي (صلى الله عليه وآله): ما كان الله تعالى ليجعل حيضا مع حبل يعني
إذا رأت المرأة الدم وهي حامل لا تدع الصلاة إلا أن ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق
ورأت الدم تركت الصلاة ".
وعن حميد بن المثنى في الصحيح (2) قال: " سألت أبا الحسن الأول (عليه
السلام) عن الحبلى ترى الدفقة والدفقتين من الدم في الأيام وفي الشهر والشهرين؟
فقال تلك الهراقة ليس تمسك هذه عن الصلاة ".
وبهاتين الروايتين استدل في المختلف لابن الجنيد ومن تبعه ثم زاد في الاحتجاج
قال: " ولأنه زمن لا يصادفها الحيض فيه غالبا فلا يكون ما رأته فيه حيضا كاليائسة،
ولأنه يصح طلاقها مع رؤية الدم اجماعا ولا يصح طلاق الحائض اجماعا فلا يكون
الدم حيضا ".
أقول وبالله التوفيق: أما ما نقل دليلا لقول المفيد وابن الجنيد وابن إدريس من
رواية السكوني فقد حملها أصحابنا على محامل أقربها عندي الحمل على التقية، فإن هذا
القول قد نقله في المنتهى عن أكثر العامة وهو المشهور بينهم (3) وأما رواية حميد بن

(1) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(3) في شرح الزرقاني على موطأ مالك ج 1 ص 118 " ذهب ابن المسيب وابن شهاب
ومالك في المشهور عنه والشافعي في الجديد وغيرهم إلى أن الحامل تحيض، إلى أن قال:
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد والثوري إلى أنها لا تحيض، وفي الميزان للشعراني
ج 1 ص 118 " اتفق أبو حنيفة وأحمد على أن الحامل لا تحيض ومالك والشافعي في أرجح
قوليهما أنها تحيض " وفي بدائع الصنائع في فقه الحنفية ج 1 ص 42 " دم الحامل ليس بحيض
وأن كان ممتدا عندنا، وقال الشافعي هو حيض في حق ترك الصوم والصلاة وحرمة القربان
لا في حق أقراء العدة، وفي المغني لابن قدامة الحنبلي ج 1 ص 306 نفى الحيض عن الحامل.
179

المثنى فلا دلالة فيها وأن ما ذكر فيها لم يستجمع شرائط الحيض. وأما ما ذكره العلامة
في المختلف من التعليلات فمع قطع النظر عن أنها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية،
فإنه قد أجاب عن الأول بالفرق بأن اليائسة لا يصح منها الحيض لارتفاعه منها بالكلية
بخلاف الحامل التي يكون لحرارة مزاجها وفور دم الحيض بحيث يفضل عن غذاء الصبي
ما تقذفه المرأة من الرحم، وأما عن الثاني - وبه استدل ابن إدريس حيث قال:
" أجمعنا على بطلان طلاق الحائض مع الدخول والحضور على صحة طلاق الحامل مطلقا
ولو كانت تحيض لحصل التناقض " - فأجاب بالمنع عن كون الحائض لا يصح طلاقها ولهذا
جوزنا طلاق الغائب مع الحيض. انتهى. وبالجملة فهذا القول بمكان من الضعف لا يخفى
لعدم الدليل الواضح. بقي الكلام فيما ذهب إليه الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار فإن
صحيحة الصحاف المذكورة ظاهرة فيه، وأما ما أجاب به عنها في المنتهى - من أن الغالب
أن المرأة إذا تجاوزت عادتها وقتها لا يكون الدم حيضا - فالظاهر بعده والذي يقرب
عندي هو حمل الأخبار المتقدمة على هذه الصحيحة بأن يقال إن ما تجده الحبلى في أيام العادة
كما كانت تراه قبل فإنه يجب الحكم بكونه حيضا وما لم يكن كذلك فلا، وفي بعض
الأخبار المشار إليها إشارة إلى ذلك مثل صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وصحيحة محمد
ابن مسلم، وبالجملة فأخبار المسألة ما بين مطلق في ذلك ومقيد وإن كان التقييد في بعضها
أظهر من بعض، والواجب بمقتضى القاعدة المقررة حمل مطلقها على مقيدها، وبه يظهر
أن ما اشتهر بينهم من القول بحيضها مطلقا ليس كذلك، قال في المدارك - بعد نقل جملة
180

من روايات القول المشهور ثم الاستدلال للشيخ بصحيحة الصحاف - ما صورته: " وهي
مع صحتها صريحة الدلالة في المدعى فيتجه العمل بها وإن كان الأول لا يخلو من قوة " انتهى
وفيه من الاجمال والاشكال ما لا يخفى، فإنه لا يخفى أن اتجاه العمل بهذه الرواية لا يتم
إلا بتقييد تلك الأخبار بها، وإلا للزم الترجيح من غير مرجح لصحة الأخبار التي
قدمها بل الترجيح لتلك الأخبار لكثرتها، وكون الأول لا يخلو من قوة إنما يتم مع
طرح هذه الصحيحة الصريحة باعترافه وإلا كان الواجب عليه بيان معنى لها تحمل عليه
بقي هنا شئ يجب التنبيه عليه وهو أن الأصحاب قد نقلوا عن الصدوق القول
بما هو المشهور من كون الحامل كالحائل في التحيض، وعبارة الفقيه لا تساعد على هذا
الاطلاق حيث قال: " والحبلى إذا رأت الدم تركت الصلاة فإن الحبلى ربما قذفت الدم
وذلك إذا رأت الدم كثيرا أحمر فإن كان قليلا أصفر فلتصل وليس عليها إلا الوضوء "
وظاهر هذه العبارة التحيض بخصوص ما كان بصفة دم الحيض والرجوع إلى التمييز،
ويدل على ذلك أيضا ظواهر جملة من الأخبار: منها - رواية محمد بن مسلم عن أحدهما
(عليهما السلام) (1) قال: " سألته عن المرأة الحبلى قد استبان حبلها ترى ما ترى الحائض
من الدم؟ قال تلك الهراقة من الدم إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصل وإن كان قليلا أصفر
فليس عليها إلا الوضوء " والظاهر أن عبارة الصدوق مأخوذة من هذه الرواية،
ومنها - صحيحة أبي المغراء (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحبلى قد
استبان ذلك منها ترى كما ترى الحائض من الدم؟ قال تلك الهراقة إن كان دما كثيرا
فلا تصلين وإن كان قليلا فلتغتسل عند كل صلاتين " وموثقة إسحاق بن عمار (3)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم واليومين؟
قال إن كان دما عبيطا فلا تصل ذينك اليومين وإن كانت صفرة فلتغتسل عند كل
صلاتين " والظاهر أن المراد بالكثرة والقلة في صحيحة أبي المغرا ما هو عبارة عن

(1) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
(3) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض.
181

الثخانة والغلظة وقوة الدفع التي هي من صفات دم الحيض وما قابلها الذي هو من صفات
دم الاستحاضة. وفي الفقه الرضوي (1) قال (عليه السلام): " والحامل إذا رأت الدم
في الحمل كما كانت تراه تركت الصلاة أيام الدم فإن رأت صفرة لم تدع الصلاة " وهذه الأخبار كلها ظاهرة في اعتبار التمييز في دمها بأنه إن كان بصفة الحيض تحيضت وإلا عملت
عمل المستحاضة، ولم أقف على من تنبه لهذا التفصيل من كلام الصدوق ولا من هذه الأخبار مع ظهور الجميع في ذلك. وبالجملة فإن ظاهر الأصحاب القائلين بتحيضها هو
التحيض بما تراه لا سيما في أيام العادة مطلقا وعليه تدل ظواهر الأخبار المتقدمة، وهذه الأخبار صريحة في التفصيل كما ترى، ووجه الجمع بينها وبين الأخبار المتقدمة ممكن أما
بحمل الأخبار الأولة على الدم في أيام العادة وهذه على ما لم يكن كذلك، وأما بابقاء
الأدلة على اطلاقها وتقييدها بهذه الأخبار وحينئذ فيعتبر التمييز فيها. والله العالم.
(المقصد الثاني) - في ما يترتب عليه بعد معلومية كونه حيضا، وذلك إما أن
تكون مبتدأة أو ذات عادة أو مضطربة، ويدل على هذا التقسيم مع بعض أحكام كل
من الأقسام الثلاثة رواية يونس الطويلة، وأنا أذكرها بطولها لعموم نفعها وجودة محصولها،
وهي ما رواه ثقة الاسلام في الكافي والشيخ في التهذيب (2) عن يونس عن غير واحد
" سألوا أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحيض والسنة في وقته فقال (عليه السلام): إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) سن في الحيض ثلاث سنن بين فيها كل مشكل لمن
سمعها وفهمها حتى لم يدع لأحد مقالا فيه بالرأي، أما إحدى السنن فالحائض التي لها أيام معلومة
قد أحصتها بلا اختلاط عليها ثم استحاضت واستمر بها الدم وهي في ذلك تعرف أيامها
ومبلغ عددها، فإن امرأة يقال لها فاطمة بنت أبي حبيش استحاضت فأتت أم سلمة
فسألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك فقال تدع الصلاة قدر أقرائها أو
قدر حيضها وقال إنما هو عزف وأمرها أن تغتسل وتستثفر بثوب وتصلي، قال أبو عبد الله

(1) ص 21
(2) رواها في الوسائل في الباب 3 و 5 و 7 و 8 من أبواب الحيض.
182

(عليه السلام): هذه سنة النبي (صلى الله عليه وآله) في التي تعرف أيام أقرائها لم
تختلط عليها، ألا ترى أنه لم يسألها كم يوم هي؟ ولم يقل إذا زادت على كذا يوما فأنت
مستحاضة وإنما سن لها أياما معلومة ما كانت من قليل أو كثير بعد أن تعرفها، وكذلك
أفتى أبي (عليه السلام) وسئل عن المستحاضة فقال: إنما ذلك عزف عامر أو ركضة
من الشيطان فلتدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة. قيل وإن سال؟ قال:
وإن سال مثل المثعب، قال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا تفسير حديث رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وهو موافق له، فهذه سنة التي تعرف أيام أقرائها لا وقت لها
إلا أيامها قلت أو كثرت. وأما سنة التي قد كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط عليها من طول
الدم فزادت ونقصت حتى أغفلت عددها وموضعها من الشهر فإن سنتها غير ذلك، وذلك أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت إني أستحاض فلا
أطهر؟ فقال النبي: ليس ذلك بحيض إنما هو عزف فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا
أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي. وكانت تغتسل في كل صلاة وكانت تجلس في مركن
لأختها وكانت صفرة الدم تعلو الماء، قال أبو عبد الله (عليه السلام): أما تسمع رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أمر هذه بغير ما أمر به تلك، ألا تراه لم يقل لها دعي الصلاة أيام
أقرائك ولكن قال لها إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي،
فهذا يبين أن هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها لم تعرف عددها ولا وقتها، ألا تسمعها
تقول إني أستحاض فلا أطهر. وكان أبي (عليه السلام) يقول إنها استحيضت بسبع
سنين، ففي أقل من هذا تكون الريبة والاختلاط فلهذا احتاجت إلى أن تعرف اقبال
الدم من ادباره وتغير لونه من السواد إلى غيره وذلك أن دم الحيض أسود يعرف، ولو
كانت تعرف أيامها ما احتاجت إلى معرفة لون الدم لأن السنة في الحيض أن تكون
الصفرة والكدرة فما فوقها في أيام الحيض إذا عرفت حيضا كله إن كان الدم أسود
أو غير ذلك، فهذا يبين لك أن قليل الدم وكثيرة أيام الحيض حيض كله إذا كانت
183

الأيام معلومة، فإذا جهلت الأيام وعددها احتاجت إلى النظر حينئذ إلى اقبال الدم وادباره
وتغير لونه ثم تدع الصلاة على قدر ذلك، ولا أرى النبي (صلى الله عليه وآله) قال اجلسي كذا
وكذا يوما فما زادت فأنت مستحاضة كما لم يأمر الأولى بذلك وكذلك أبي (عليه السلام)
أفتى في مثل هذا، وذلك أن امرأة من أهلنا استحاضت فسألت أبي عن ذلك فقال: إذا رأيت
الدم البحراني فدعي الصلاة وإذا رأيت الطهر ولو ساعة من نهار فاغتسلي وصلي. قال أبو عبد الله
وارى جواب أبي ههنا غير جوابه في المستحاضة الأولى، ألا ترى أنه قال تدع الصلاة
أيام أقرائها لأنه نظر إلى عدد الأيام وقال ههنا إذا رأت الدم البحراني فلتدع الصلاة وأمرها
ههنا أن تنظر إلى الدم إذا أقبل وأدبر وتغير، وقوله البحراني شبه معنى قول النبي (صلى الله
عليه وآله) أن دم الحيض أسود يعرف، وإنما سماه أبي بحرانيا لكثرته ولونه، فهذه سنة
النبي (صلى الله عليه وآله) في التي اختلط عليها أيامها حتى لا تعرفها وإنما تعرفها بالدم ما كان
من قليل الأيام وكثيرها. قال: وأما السنة الثالثة ففي التي ليس لها أيام متقدمة ولم تر الدم
قط ورأت أول ما أدركت واستمر بها فإن سنة هذه غير سنة الأولى والثانية، وذلك أن
امرأة يقال لها حمنة بنت جحش أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت إني استحضت
حيضة شديدة فقال احتش كرسفا فقالت إنه أشد من ذلك أني أثجه ثجا؟ فقال تلجمي
وتحيضي في كل شهر في علم الله تعالى ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي غسلا وصومي ثلاثة وعشرين
يوما أو أربعة وعشرين، واغتسلي للفجر غسلا وأخرى الظهر وعجلي العصر واغتسلي
غسلا وأخرى المغرب وعجلي العشاء واغتسلي غسلا. قال أبو عبد الله (عليه السلام) فأراه
قد سن في هذه غير ما سن في الأولى والثانية وذلك لأن أمرها مخالف لأمر تينك،
ألا ترى أن أيامها لو كانت أقل من سبع وكانت خمسا أو أقل من ذلك ما قال لها تحيضي
سبعا فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما وهي مستحاضة غير حائض، وكذلك لو كان
حيضها أكثر من سبع وكانت أيامها عشرة أو أكثر لم يأمرها بالصلاة وهي حائض،
ثم مما يزيد هذا بيانا قوله (صلى الله عليه وآله لها: " تحيضي " وليس يكون التحيض
184

إلا للمرأة التي تريد أن تكلف ما تعمل الحائض، ألا تراه لم يقل لها أياما معلومة تحيضي
أيام حيضك. ومما يبين هذا قوله لها: " في علم الله تعالى " لأنه قد كان لها وإن كانت
الأشياء كلها في علم الله وهذا بين واضح أن هذه لم يكن لها أيام قبل ذلك قط، وهذه سنة
التي استمر بها الدم أول ما تراه أقصى وقتها سبع وأقصى طهرها ثلاث وعشرون حتى
تصير لها أيام معلومة فتنتقل إليها. فجميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث
لا تكاد أبدا تخلو من واحدة منهن، إن كانت لها أيام معلومة من قليل أو كثير فهي على
أيامها وخلقها الذي جرت عليه ليس فيه عدد معلوم موقت غير أيامها، وإن اختلطت الأيام
عليها وتقدمت وتأخرت وتغير عليها الدم ألوانا فسنتها اقبال الدم وادباره وتغير حالاته
وإن لم يكن لها أيام قبل ذلك استحاضت أول ما رأت فوقتها سبع وطهرها ثلاث وعشرون
فإن استمر بها الدم أشهرا فعلت في كل شهر كما قال لها، فإن انقطع الدم في أقل من سبع
أو أكثر من سبع فإنها تغتسل ساعة ترى الطهر وتصلي فلا تزال كذلك حتى تنظر
ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأول سواء حتى توالى عليها
حيضتان أو ثلاث فقد علم الآن أن ذلك قد صار لها وقتا وخلقا معروفا تعمل عليه وتدع
ما سواه وتكون سنتها فيما يستقبل أن استحاضت قد صارت سنة إلى أن تجلس أقراءها
وإنما جعل الوقت إن توالى عليها حيضتان أو ثلاث لقول رسول الله (صلى الله عليه
وآله) للتي تعرف أيامها: " دعي الصلاة أيام أقرائك " فعلمنا أنه لم يجعل القرء الواحد
سنة لها فيقول دعي الصلاة أيام قرءك ولكن سن لها الأقراء وأدناه حيضتان
فصاعدا، وإن اختلط عليها أيامها وزادت ونقصت حتى لا تقف منها على حد ولا من
الدم على لون عملت باقبال الدم وادباره وليس لها سنة غير هذا لقول رسول الله
(صلى الله عليه وآله): " إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي "
ولقوله: " إن دم الحيض أسود يعرف " كقول أبي " إذا رأيت الدم البحراني " فإن لم
يكن الأمر كذلك ولكن الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارة وكان الدم على لون واحد
185

وحالة واحدة فسنتها السبع والثلاث والعشرون لأن قصتها كقصة حمنة حين قالت:
إني أثجه ثجا ".
أقول: ويستفاد من هذه الرواية أحكام عديدة يطول الكلام بنقلها إلا أن
(منها) - أن سنة المضطربة التحيض بما كان بصفة دم الحيض مطلقا وأنه لا تقييد بما
قيدوه به من الشروط الآتية، وهذا أيضا هو المفهوم من اطلاق موثقة إسحاق بن جرير
وكذا اطلاق حسنة حفص بن البختري المتقدمتين في المسألة الأولى من القصد الأول (1)
فإن موردهما وكذا مورد هذا الخبر هو الدم المستمر، وقد أمر (عليه السلام) في كل
من الأخبار الثلاثة بالتحيض بما كان بصفة دم الحيض قليلا كان أو كثيرا فيمكن أن يخص
هذا الحكم بهذا الموضع، ويؤيد ذلك موثقة يونس بن يعقوب وموثقة أبي بصير المتقدمتان
في المسألة الرابعة (2) وتحمل الأخبار الدالة على أن أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة على
غير هذا الموضع، ويشير إلى ذلك أيضا أنه في آخر هذه الرواية جعل العدول إلى التحيض
بالسبعة للمضطربة تفريعا على كون الدم على لون واحد وحالة واحدة يعني لم يحصل فيه
اختلاف بالكلية، ومفهومه أنه مع الاختلاف كيف كان تتحيض به، والأصحاب قد
حكموا عليها بالرجوع إلى الروايات وإن اختلف الدم إذا فقدت الشرائط المعتبرة عندهم
وهو خلاف ظاهر الخبر كما ترى. و (منها) - أن ظاهر الخبر أنه مع عدم التمييز بأن يكون دمها لونا واحدا فإنه يجب عليها التخصيص بسبعة أيام لا غير، والأصحاب قد أوجبوا
عليها الرجوع إلى الروايات التي هي موثقة سماعة وموثقتا ابن بكير الآتيات (3) بأي عدد
كان من أيها، ومورد الروايات المذكورة إنما هو المبتدأة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وليس في شئ من الأخبار ما يدل على رجوع المضطربة إلى الأيام بعد فقد التمييز إلا هذه
الرواية الدالة على السبع كما عرفت. و (منها) - أن حكم المبتدأة الرجوع من أول
الأمر إلى الأيام كما في موثقتي ابن بكير الآتيتين (4) إن شاء الله تعالى، إلا أن موثقة

(1) ص 151
(2) ص 166
(3) ص 188 و 189.
(4) ص 188 و 189.
186

سماعة دلت على رجوعها أولا إلى نسائها ثم مع تعذر ذلك إلى الأيام وحينئذ يقيد بها
اطلاق ما عداها، والأصحاب قد ذكروا أولا رجوعها إلى التمييز ثم مع فقده إلى الروايات
والروايات الدالة على التمييز كما تحتمل تقييد روايات المبتدأة بها كذلك تحتمل العكس
وقصر التمييز على المضطربة كما هو ظاهر هذا الخبر ورواية إسحاق بن جرير المشار إليها آنفا
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام في هذا المقصد يستدعي بسطه في مطالب
ثلاثة: (الأول) - في المبتدأة بكسر الدال أو فتحها اسم فاعل أو اسم مفعول وهي
التي ابتدأت الحيض أو ابتدأها الحيض، وفسرها المحقق في المعتبر بأنها التي رأت الدم
أول مرة، وربما قيل بأنها من لم تستقر لها عادة والظاهر ضعفه، والذي دلت
عليه الأخبار إنما هو الأول كما عرفت من رواية يونس المذكورة، ومثلها ما سيأتي إن
شاء الله تعالى في المقام من موثقتي سماعة وابن بكير.
والبحث في هذا المطلب يقع في مقامين: (الأول) - هل تتحيض المبتدأة بمجرد
رؤية الدم أو بعد مضي ثلاثة أيام تستظهر فيها بالعبادة؟ قولان: أولهما للشيخ والعلامة
في المنتهى والمختلف وغيرهما، وثانيهما للمرتضى وابن الجنيد وأبي الصلاح وابن إدريس
والمحقق والعلامة في بعض كتبه، وفي المدارك أن موضع الخلاف ما إذا كان الدم المرئي بصفة
الحيض كما صرح به في المختلف وغيره. وفيه أن ما نقله عن العلامة وغيره ليس كذلك
بل ظاهر كلام الجميع هو عموم محل الخلاف لا تخصيصه بما ذكر، قال في المختلف
" قال الشيخ: المبتدأة تترك الصلاة والصوم إذا رأت الدم يوما أو يومين كذات العادة
وقال المرتضى: لا تترك الصلاة والصوم حتى يمضي لها ثلاثة أيام وهو اختيار أبي الصلاح
وابن إدريس، والوجه عندي الأول وهو الذي اخترناه في كتاب منتهى المطلب،
واخترنا في التحرير الثاني " انتهى. وهو ظاهر - كما ترى - في العموم، ويؤكده
ما يشير إليه كلام الشيخ حيث شبه المبتدأة هنا بذات العادة التي لا خلاف في تحيضها
بمجرد رؤية الدم أعم من أن يكون بصفة دم الحيض أم لا، نعم أن العلامة قد استدل
187

على ما اختاره من التحيض برؤية الدم ببعض أخبار التمييز، ومجرد هذا الاستدلال لا يوجب
تخصيص محل الخلاف ولهذا اعترضه في الذكرى بأن الدليل أخص من المدعى. وقال في
الروض: " واعلم أنه مع رؤية المعتادة الدم قبل العادة كما هو المفروض هنا هل تترك
العبادة بمجرد رؤيته أم يجب الصبر إلى مضي ثلاثة أو إلى وصول العادة؟ يبنى على ايجاب
الاحتياط بالثلاثة على المبتدأة والمضطربة وعدمه، فإن لم نوجبه عليهما كما هو اختيار
المصنف في المختلف لم يجب عليها بطريق أولى، وإن أوجبناه كما اختاره المرتضى وابن الجنيد
والمحقق في المعتبر احتمل الحاقها بهما... إلى آخره " ولا أراك في شك من ظهور العبارة
المذكورة في العموم غاية الظهور، ونحو ذلك كلام المعتبر والذكرى إلا أن المحقق رجح
مذهب السيد والشهيد رجح مذهب الشيخ، وأما في الدروس والبيان فرجح مذهب
المرتضى على تفصيل في الثاني منهما، فقال فيه: " وفي المبتدأة قولان أقواهما قول المرتضى
بمضي ثلاثة أيام بالنسبة إلى الأفعال وأما التروك فالأحوط تعلقها برؤية الدم المحتمل " انتهى.
والظاهر أنه أشار بالمحتمل إلى ما كان بصفة الحيض وحينئذ يصير هذا قولا ثالثا في
المسألة، وإذا أضيف إلى ذلك ما اختاره في المدارك من التحيض بما إذا كان بصفة دم
الحيض صار قولا رابعا أيضا.
أقول: والظاهر عندي من هذه الأقوال هو مذهب الشيخ، وعليه تدل من
الأخبار موثقة سماعة (1) قال: " سألته عن الجارية البكر أول ما تحيض تقعد في الشهر
يومين وفي الشهر ثلاثة أيام يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدة أيام سواء؟ قال فلها
أن تجلس وتدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة فإذا اتفق شهران عدة أيام
سواء فتلك أيامها " ولا يخفى ظهور دلالتها في المراد على وجه لا يتطرق إليه الإيراد.
وموثقة ابن بكير عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " المرأة إذا رأت الدم

(1) المروية في الوسائل في الباب 14 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الحيض.
188

في أول حيضها فاستمر الدم تركت الصلاة عشرة أيام... الحديث ".
وموثقته الأخرى (1) قال: " في الجارية أول ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون
مستحاضة أنها تنتظر بالصلاة فلا تصلي حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض، فإذا مضى
ذلك وهو عشرة أيام فعلت ما تفعل المستحاضة... ".
والمناقشة في ذلك - بأنه لا يصدق أول حيضها كما في الأولى وأول ما تحيض كما في
الثانية إلا بعد ثلاثة أيام، إذ بذلك يعلم كونه حيضا كما ذكره في الذخيرة - مردودة
بأن باب المجاز واسع واطلاق الحيض على أول الدم إنما هو باعتبار ما يؤول إليه، والرواية
الثانية ظاهرة فيما ذكرناه تمام الظهور، فإن قوله فيها: " إنها تنتظر بالصلاة فلا تصلي حتى
يمضي أكثر ما يكون من الحيض فإذا مضى ذلك وهو عشرة أيام فعلت ما تفعل المستحاضة "
ظاهر في كون مبدأ العشرة التي تركت الصلاة فيها هو أول الدم كما لا يخفى.
ويؤيد هذه الأخبار أيضا اطلاق جملة من الروايات كصحيحة منصور بن حازم
عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " أي ساعة رأت الدم فهي تفطر الصائمة... ".
وموثقة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (3) وقد سأله عن المرأة التي
ترى الدم غدوة أو ارتفاع النهار أو عند الزوال قال: " تفطر... ".
وموثقة ثانية له أيضا عن الباقر (عليه السلام) (4) " في المرأة تطهر في أول النهار
في رمضان، إلى أن قال وفي المرأة ترى الدم من أول النهار في شهر رمضان أتفطر
أم تصوم؟ قال تفطر إنما فطرها من الدم ".
ورواية أبي الورد (5) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المرأة التي
تكون في صلاة الظهر وقد صلت ركعتين ثم ترى الدم؟ قال تقوم من مسجدها ولا

(1) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب الحيض.
(3) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب الحيض.
(4) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب الحيض.
(5) المروية في الوسائل في الباب 48 من أبواب الحيض.
189

تقضي الركعتين... الحديث " ونحو ذلك موثقة عمار (1) وموثقة الفضل بن يونس (2)
وفي المعتبر قد نقل بعض هذه الأخبار حجة للشيخ ثم أجاب عنها بأن الحكم بالافطار
عند رؤية الدم غير مراد فينصرف إلى المعهود وهو دم الحيض ولا يحكم بكونه حيضا
إلا إذا كان في العادة فيحمل على ذلك. وفيه أن دعوى المعهودية ممنوعة والأخبار
بعمومها أو اطلاقها شاملة لموضع النزاع، ولو فرض خروج بعض الأفراد فإنها تبقى حجة
في الباقي، على أنه يمكن أن يقال إن كون الدم حيضا إما أن يكتفى فيه بصلاحيته
لأن يكون حيضا أو يعتبر فيه وجود ما يعلم به كونه حيضا، وعلى الثاني يلزم أن ما تراه
ذات العادة من أول الدم لا يتحقق كونه حيضا لجواز أن ينقطع قبل الثلاثة، مع أنه
قائل بوجوب تحيضها به وليس إلا للصلاحية المذكورة وهي مشتركة بين ذات العادة
وما نحن فيه.
هذا. وما ذكره الأصحاب من الاحتياط بالثلاثة في أول الحيض لم أقف له على
دليل من الأخبار في شئ من أقسام الحائض بالكلية معتادة كانت أم مبتدأة أم مضطربة
وإنما الموجود الاستظهار في آخر الدم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وغاية ما استدل
به في المعتبر على هذا القول الذي اختاره أن مقتضى الدليل لزوم العبادة حتى يتيقن
المسقط ولا يتيقن قبل استمراره ثلاثة. وفيه أن المسقط الأخبار التي قدمناها لدلالتها
على التحيض بمجرد رؤية الدم خصوصا وعموما، ثم مع قطع النظر عن الأخبار المذكورة
فدعوى التيقن ممنوعة بل يكفي الظهور والظن وإلا لم يتم الحكم بوجوب التحيض بمجرد
الرؤية لذات العادة لجواز انقطاعه قبل بلوغ الثلاثة كما ذكرنا، بل لا يتم الحكم بكون
الثلاثة بعد كما لها حيضا يقينا لجواز أن يكون الحيض إنما هو ما بعدها، ثم قال موردا على
نفسه ومجيبا: " ولو قيل لو لزم ما ذكرته قبل الثلاثة لزم بعدها لجواز أن ترى ما هو أسود

(1) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 48 و 49 من أبواب الحيض.
190

ويتجاوز فيكون هو حيضها لا الثلاثة. قلنا الفرق أن اليوم واليومين ليس حيضا حتى
يستكمل ثلاثة والأصل عدم التتمة حتى يتحقق، وأما إذا استمر ثلاثة فقد كمل ما يصلح
أن يكون حيضا ولا يبطل هذا إلا مع التجاوز والأصل عدمه ما لم يتحقق " انتهى.
واعترضه في المدارك بأن أصالة العدم لا تكفي في حصول اليقين الذي قد اعتبره سابقا.
أقول: وتوضيح جوابه في بيان الفرق المذكور أن الدم في اليوم واليومين وإن
صلح لأن يكون حيضا إلا أن الأصل عدم بلوغ الثلاثة لجواز انقطاعه قبلها فلا يكون
حيضا حتى تتم الثلاثة ويتحقق الحيض، وأما إذا كملت الثلاثة فقد كمل ما يصلح أن يكون حيضا ولا يبطل هذا الحكم إلا مع تجاوزه عنه إلى الدم الذي بعد الثلاثة والأصل
عدمه. ووجه ما أورده عليه في المدارك أنه قد حكم سابقا بوجوب العبادة حتى يتيقن
المسقط وما التجأ إليه هنا من أن الأصل عدم سقوط هذا الحكم عن الثلاثة لا يوجب
التيقن بوجود المسقط، لأن أصالة العدم لا تفيد يقين العدم فيبقى وجوب التكليف بالعبادة
في الثلاثة ثابتا حتى يتحقق المسقط، إذ غاية ما يفيده الأصل المذكور رجحان العدم وظنه
لا يقينه، وبالجملة فباب المناقشات في التعليلات العقلية واسع ومن ثم ذكرنا في غير موضع
أنها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.
(المقام الثاني) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أن المبتدأة إذا انقطع
دمها لدون العشرة وكذا المعتادة إذا انقطع دمها على العادة فعليها الاستبراء بالقطنة فإن
خرجت نقية اغتسلت وإن خرجت ملطخة صبرت حتى تنقى أو تمضي لها عشرة أيام.
أما الحكم الأول وهو وجوب الاستبراء فيدل عليه جملة من الأخبار:
منها - صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (1) قال: " إذا أرادت
الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة فإن خرج فيها شئ من الدم فلا تغتسل وإن لم تر شيئا
فلتغتسل وإن رأت بعد ذلك صفرة فلتتوضأ ولتصل ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب الحيض.
191

ورواية يونس عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " سئل
عن امرأة انقطع عنها الدم فلا تدري أطهرت أم لا؟ قال تقوم قائما وتلزق بطنها بحائط
وتستدخل قطنة بيضاء وترفع رجلها اليمنى فإن خرج على القطنة مثل رأس الذباب دم
عبيط لم تطهر وإن لم يخرج فقد طهرت تغتسل وتصلي ".
وموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " قلت له المرأة ترى
الطهر وترى الصفرة أو الشئ فلا تدري طهرت أم لا؟ قال: فإذا كان كذلك فلتقم
فلتلصق بطنها إلى حائط وترفع رجلها على حائط كما رأيت الكلب يصنع إذا أراد أن يبول ثم
تستدخل الكرسف فإذا كان ثمة من الدم مثل رأس الذباب خرج، فإن خرج دم فلم
تطهر وإن لم يخرج فقد طهرت ".
ورواية شرحبيل الكندي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " قلت له
كيف تعرف الطامث طهرها؟ قال تعمد برجلها اليسرى على الحائط وتستدخل الكرسف
بيدها اليمنى فإن كان ثم مثل رأس الذباب خرج على الكرسف ".
وفي الفقه الرضوي (4) " وإذا رأت الصفرة أو شيئا من الدم فعليها أن تلصق
بطنها بالحائط وترفع رجلها اليسرى كما ترى الكلب إذا بال وتدخل قطنة فإن خرج
فيها دم فهي حائض وإن لم يخرج فليست بحائض " وهذه العبارة مع ما بعدها نقلها
الصدوق في الفقيه من رسالة أبيه إليه.
وهل يكفي وضع القطنة كيف اتفق عملا باطلاق صحيحة محمد بن مسلم وحملا
للروايات المذكورة بعدها على الاستحباب، أو يجب الرفع على الكيفية التي تضمنتها هذه الأخبار ويحمل اطلاق صحيحة محمد بن مسلم عليها؟ وجهان اختار أولهما في المدارك
والذخيرة، والظاهر الثاني كما يدل عليه لفظة " عليها " في عبارة الفقه الرضوي، والظاهر
فتوى الصدوقين بذلك، ويؤيده أنه الأحوط. بقي أن رواية يونس دلت على الأمر

(1) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب الحيض
(2) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب الحيض
(3) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب الحيض
(4) ص 22.
192

برفع الرجل اليمنى ورواية شرحبيل وكذا عبارة صاحب الفقه على الرجل اليسرى
والظاهر حصوله بأيهما اتفق.
وأما ما يدل على الثاني وهو الصبر حتى تنقى أو تمضي عشرة أيام زيادة على الاجماع
المدعى في المقام فقوله (عليه السلام) في موثقة سماعة المتقدمة (1): " فلها أن تجلس
وتدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة... " ونحوها في الدلالة على الانتهاء
إلى العشرة موثقتا ابن بكير (2).
ولو استمر دمها بعد العشرة فقد امتزج حيضها بطهرها، والمذكور في كلام الأصحاب
(رضوان الله عليهم) أنها ترجع إلى التمييز واعتبار الدم فما شابه الحيض تجعله حيضا وما شابه
دم الاستحاضة تجعله طهرا بشرط أن يكون دم الحيض لا ينقص عن ثلاثة أيام ولا يزيد على
عشرة، فإن لم يحصل لها شرائط التمييز رجعت إلى عادة نسائها إن اتفقن. وقيل أو عادة
ذوي أسنانها من بلدها، فإن اختلفن رجعت إلى الروايات الآتية.
وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع (الأول) - في حكمهم (رضوان الله عليهم)
مع الاستمرار بأنها ترجع إلى التمييز بالشروط المتقدمة. وهذا مجمع عليه بينهم كما يظهر
من المعتبر والمنتهى حيث أسنداه إلى علمائنا مؤذنين بدعوى الاجماع عليه، واستدلوا عليه
بالروايات المشتملة على أوصاف الحيض وقد تقدمت في المسألة الأولى من المقصد الأول (3)
واشترطوا في العمل بالتمييز أمورا: (أحدها) - أن لا يقصر ما شابه دم الحيض عن
أقله ولا يتجاوز أكثره. و (ثانيها) - توالي الثلاثة بناء على المشهور من اشتراط
التوالي فيها كما تقدم. و (ثالثها) - بلوغ الضعيف مع أيام النقاء أقل الطهر، وقيل
هنا بالعدم للعموم، قال في المدارك: " وضعفه ظاهر " ثم إن المشابهة تحصل باللون فالأسود
قوى الأحمر وهو قوى الأشقر وهو قوى الأصفر، والقوام فالثخين قوى الرقيق،
والرائحة فالنتن قوي بالنسبة إلى غيره، ومتى اجتمع في دم خصلة وفي آخر اثنتان فهو

(1) ص 188
(2) 188 و 189
(3) ص 151.
193

أقوى، ولو استوى العدد كما لو كان في أحدهما الثخانة وفي الآخر الرائحة فلا تمييز،
هذا ملخص كلامهم هنا.
وعندي فيه اشكال من وجوه: (الأول) - أن الذي وقفت عليه من الأخبار
المتعلقة بالمبتدأة وبيان ما يجب عليها مع استمرار الدم لم يشتمل شئ منه على ما يدل على
الأخذ بصفات الدم والتمييز فيه بالكلية فضلا عن اعتبار الشروط المتفرعة عليه، وإنما
دلت على الأخذ بالأيام، ومنها رواية يونس المتقدمة (1) فإنها قد دلت على ذلك على أبلغ
وجه حيث صرح فيها بذلك مع ما في صدرها من " أنه سن في الحيض ثلاث سنن بين فيها
كل مشكل لمن سمعها وفهمها حتى لم يدع لأحد مقالا فيه بالرأي " وجعل التمييز سنة المضطربة
خاصة وسنة المبتدأة إنما هو الرجوع إلى الأيام وكرر ذلك في الرواية، ومثلها - وإن لم يكن بهذا
التأكيد - موثقة ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) " المرأة إذا رأت الدم في
أول حيضها فاستمر تركت الصلاة عشرة أيام ثم تصلي عشرين يوما فإن استمر بها الدم
بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام وصلت سبعة وعشرين يوما " قال الحسن: وقال ابن
بكير: وهذا مما لا يجدون منه بدا. وما رواه الشيخ في الموثق عن ابن بكير أيضا (3) قال:
" في الجارية أول ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون مستحاضة أنها تنتظر بالصلاة فلا تصلي حتى
يمضي أكثر ما يكون من الحيض، فإذا مضى ذلك وهو عشرة أيام فعلت ما تفعله المستحاضة
ثم صلت فمكثت تصلي بقية شهرها، ثم تترك الصلاة في المرة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة
وتجلس أقل ما يكون من الطمث وهو ثلاثة أيام، فإن دام عليها الحيض صلت في وقت الصلاة التي
صلت وجعلت وقت طهرها أكثر ما يكون من الطهر وتركها الصلاة أقل ما يكون من الحيض "
وموثقة سماعة (4) قال: " سألته عن جارية حاضت أول حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر وهي
لا تعرف أيام أقرائها؟ قال أقراؤها مثل أقراء نسائها فإن كانت نساؤها مختلفات فأكثر
جلوسها عشرة أيام وأقله ثلاثة أيام " وهي - كما ترى - ظاهرة فيما قلناه، فلو كان الرجوع

(1) ص 182
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الحيض.
(3) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الحيض.
(4) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الحيض.
194

إلى التمييز فيها واجبا كما ذكروه لذكر ولو في بعضها لأن المقام فيها مقام البيان، وبالجملة فإني
لا أعرف لهم مستندا في الحكم المذكور سوى ما يدعونه من الاجماع، وكأنهم
خصصوا هذه الأخبار بروايات التمييز لأنها أظهر في الحكم بالتحيض متى حصلت شرائط
التمييز، إلا أن فيه (أولا) - ما قدمنا ذكره ذيل رواية يونس من أنه يمكن العكس وهو
تخصيص روايات التمييز بهذه الأخبار. و (ثانيا) - أن هذا التخصيص في رواية يونس
بعيد، حيث جعل التمييز فيها سنة المضطربة خاصة وأنها بعد اختلال شرائط التمييز ترجع
إلى الأيام، فلو كانت المبتدأة كذلك لشركها معها في الحكم المذكور.
(الثاني) - أن ما اشترطوه هنا من أنه لا يقصر ما شابه دم الحيض عن أقله
وهو الثلاثة ولا يتجاوز أكثره لا تساعده الروايات الواردة في هذه المسألة، فإنها مطلقة
في التخصيص بما شابه دم الحيض قليلا كان أو كثيرا كما أشرنا إليه آنفا ذيل رواية يونس.
(الثالث) - أن ما اشترطوه من بلوغ الضعيف مع أيام النقاء أقل الطهر
لا دليل عليه هنا بل ظاهر الأخبار يرده، ومنها - موثقة أبي بصير (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة ترى الدم خمسة أيام والطهر خمسة أيام وترى الدم أربعة
أيام وترى الطهر ستة أيام؟ فقال: إن رأت الدم لم تصل وإن رأت الطهر صلت ما بينها
وبين ثلاثين يوما، فإذا تمت ثلاثون يوما فرأت دما صبيبا اغتسلت واستثفرت
واحتشت بالكرسف في وقت كل صلاة فإذا رأت صفرة توضأت " وموثقة يونس بن
يعقوب (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) المرأة ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟
قال تدع الصلاة. قلت فإنها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تصلي. قلت: فإنها ترى
الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة. قلت فإنها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تصلي
قلت فإنها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة تصنع ما بينها وبين شهر فإن
انقطع عنها الدم وإلا فهي بمنزلة المستحاضة " وحملها في الإستبصار على مضطربة اختلط حيضها

(1) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الحيض.
195

أو مستحاضة استمر بها الدم واشتبهت عادتها قال: " ففرضها أن تجعل ما يشبه دم الحيض
حيضا والآخر طهرا صفرة كانت أو نقاء ليتبين حالها " وفيه - كما ترى - دلالة ظاهرة
على أنه لا يشترط في مقام استمرار الدم كون الدم الضعيف أقل الطهر وهو العشرة،
ونحوه ما ذكره في المبسوط حيث صرح بأنه إن اختلط عليها أيامها فلا تستقر على وجه
واحد تركت العبادة كلما رأت الدم وصلت كلما رأت الطهر إلى أن تستقر عادتها، وهو
جار على ظاهر الخبرين المذكورين، وبنحو ذلك صرح في الفقيه أيضا فقال: " وإذا
رأت الدم خمسة أيام والطهر خمسة أيام أو رأت الدم أربعة أيام والطهر ستة أيام فإذا رأت
الدم لم تصل وإذا رأت الطهر صلت، تفعل ذلك ما بينها وبين ثلاثين يوما... إلى آخره "
وكذا الشيخ في النهاية، وبالجملة فظاهر أكثر من تعرض لهذه المسألة هو القول بمضمون
الخبرين وإن اختلفوا في تنزيلهما على المبتدأة أو ذات العادة التي اضطربت عادتها،
وقال المحقق بعد نقل تأويل كلام الشيخ: " وهذا تأويل لا بأس به، ولا يقال: الطهر
لا يكون أقل من عشرة، لأنا نقول: هذا حق لكن ليس هذا طهرا على اليقين ولا حيضا
بل دم مشتبه تعمل فيه بالاحتياط " وفيه ما قدمنا ذكره في مسألة اشتراط توالي الأيام
الثلاثة التي هي أقل الحيض وعدمه من أن اشتراط كون أقل الطهر عشرة على اطلاقه ممنوع،
ومما ذكرنا يعلم أن اشتراط هذا الشرط هنا لا وجه له وإن الأظهر هو القول الآخر
للعموم كما عرفت. وظاهر الذكرى يميل إلى ذلك حيث قال بعد نقل خبر يونس
المذكور وتأويل الشيخ له بما ذكرناه: " وهو تصريح بعدم اشتراط كون الضعيف أقل
الطهر " وأما في البيان والدروس فلم يذكر هذا الشرط في شروط التمييز بالكلية وهو
مؤذن بعدم اشتراطه، وإلى ما ذكرنا أيضا يميل كلام الذخيرة، وهو الأظهر كما عرفت.
(الرابع) - أنهم ذكروا تفريعا على الخلاف في اشتراط هذا الشرط أنها
لو رأت خمسة أسود ثم أربعة أصفر ثم عاد الأسود عشرة فعلى الأول لا تمييز لها وعلى
الثاني حيضها خمسة، كذا صرح في المدارك ومثله الشهيد في الذكرى تفريعا على الخلاف
196

المذكور، حيث قال: " فلو رأت خمسة أسود ثم تسعة أصفر وعاد الأسود ثلاثة فصاعدا فعلى
الأول لا تمييز لها وهو ظاهر المعتبر وعلى الثاني حيضها خمسة " ثم نقل عن ظاهر
المبسوط تخصيص الحيض بالدم العائد بعد الدم الأصفر أن لم يتجاوز العشرة قال:
" لأن الصفرة لما خرجت عن الحيض خرج ما قبلها " انتهى. أقول: وعبارة المبسوط
على ما في الذخيرة هكذا: " فإن رأت ثلاثة أيام مثلا دم الحيض ثم رأت ثلاثة أيام دم
الاستحاضة ثم رأت إلى تمام العشرة دم الحيض، إلى أن قال: وإن جاوز العشرة الأيام
ما هو بصفة الحيض فبلغ ستة عشر يوما كانت العشرة الأيام كلها حيضا وقضت الصوم
والصلاة في الستة الأولى " انتهى. أقول: إن كلامهم في هذا المقام لا يخلو عندي من
الاشكال، فإن تخصيص الحيض بالدم المتقدم كما هو ظاهر عبارتي المدارك والذكرى
أو المتأخر كما هو ظاهر عبارة المبسوط لا أعرف له وجها، إذ لا يخفى أن قضية الرجوع
إلى التمييز مع إلغاء هذا الشرط كما هو المفروض هو التحيض بالدم المتقدم والمتأخر في الأمثلة
المذكورة في كلامهم، لأنهم قرروا في التمييز مع اختلاط الدم هو أنه متى رأت المرأة
الدم بصفة الحيض ولم ينقص عن ثلاثة أيام ولم يزد على العشرة فإنها تتحيض به والدم
الآخر المخالف له تتعبد فيه وإن كان أقل من عشرة بناء على إلغاء هذا الشرط، ومما يعضد
ذلك موثقتا أبي بصير ويونس بن يعقوب المتقدمتان، وبذلك اعترف أيضا في الذكرى
حيث قال بعد نقل خبر يونس وعبارة المبسوط على أثره: " وهو مطابق لظاهر الخبر "
ومراده المطابقة له في عدم اعتبار مضي الأقل بين الدمين اللذين هما بصفة دم الحيض،
وكل هذا ظاهر في التحيض بما كان بصفة دم الحيض متقدما ومتأخرا كما ذكرناه
والتعبد فيما خالف ذلك الدم في صفاته.
(الموضع الثاني) - في الحكم بالرجوع إلى نسائها ثم ذوي أقرانها، والمراد
بنسائها على ما صرحوا به هم الأقارب من الأبوين أو أحدهما، قيل ولا تعتبر العصبة هنا
لأن المعتبر الطبيعة وهي جارية من الطرفين، صرح بذلك جملة من الأصحاب،
197

واعترضهم بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين قال: " أقول: في اخراج العصبة
نظر لصدق اطلاق نسائها عليها عرفا " أقول: الظاهر أن مرادهم من هذه العبارة إنما هو
نفي تخصيص العصبة كما صرح به في الذكرى فقال: " ولا اختصاص للعصبة هنا لأن
المعتبر الطبيعة وهي جارية من الطرفين " لا اخراج العصبة بالكلية كما توهمه، وقد
صرحوا بأن المراد الأقارب من الأبوين أو أحدهما.
والحكم بالرجوع إلى نسائها بعد فقد التمييز مما لا خلاف فيه عندهم، وعزاه في
المعتبر إلى الخمسة وأتباعهم، واحتج عليه بأن الحيض يعمل فيه بالعادة وبالأمارة كما يرجع
إلى صفات الدم ومع اتفاقهن يغلب أنها كإحداهن إذ من النادر أن تشذ واحدة عن جميع
الأهل، قال: ويؤكد ذلك ما رواه محمد بن يعقوب عن أحمد بن محمد رفعه عن زرعة
عن سماعة (1) قال: " سألته عن جارية حاضت أول حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر وهي
لا تعرف أيام أقرائها؟ قال أقراؤها مثل أقراء نسائها، فإن كان نساؤها مختلفات فأكثر
جلوسها عشرة أيام وأقله ثلاثة " وعن زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (2)
قال: " يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي بأقرائها ثم تستظهر على ذلك
بيوم " ثم قال: " واعلم أن الروايتين ضعيفتان، أما الأولى فمقطوعة السند والمسؤول
فيها مجهول، والثانية في طريقها علي بن فضال وهو فطحي ومع ذلك تتضمن الرجوع
إلى بعض نسائها وهو خلاف الفتوى، ولأن الاقتراح في الرجوع إلى واحدة من النساء
مع إمكان مخالفة الباقيات معارض للرواية الأولى، لكن الوجه في ذلك اتفاق الأعيان
من فضلائنا على الفتوى بذلك، وقوة الظن بأنها كإحداهن مع اتفاقهن كلهن على تردد
عندي " وتبعه في المدارك على الطعن بضعف السند في الخبرين المذكورين فقال:
" إن في الروايتين قصورا من حيث السند، أما الأولى فبالارسال والاضمار واشتمال
سندها على عدة من الواقفية، وأما الثانية فلأن في طريقها علي بن الحسن بن فضال وهو.

(1) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الحيض.
198

فطحي، وأيضا فإنها تتضمن الرجوع إلى بعض نسائها وهو خلاف الفتوى، لكن الشيخ
في الخلاف نقل على صحة الرواية اجماع الفرقة فإن تم فهو الحجة وإلا أمكن التوقف في هذا
الحكم لضعف مستنده " انتهى.
أقول: أما ما ذكره في المعتبر من التعليل العقلي فهو تعليل عليل لا يهدي إلى سبيل
فلا اعتماد عليه ولا تعويل، والحجة في الحقيقة هي الروايتان المذكورتان، وأما طعنه في سند
الخبرين المذكورين فهو مناف لما صرح به في صدر كتابه حيث قال: " أفرط الحشوية
في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا إلى كل خبر وما فطنوا إلى ما تحته من التناقض، فإن
من جملة الأخبار قول النبي (صلى الله عليه وآله): " ستكثر بعدي القالة علي "
وقول الصادق (عليه السلام): " إن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه " واقتصر بعض
عن هذا الافراط فقال كل سليم السند يعمل به. وما علم أن الكاذب قد يصدق،
وما تنبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب، إذ لا مصنف إلا وهو يعمل
بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل، وأفرط آخرون في طرف رد الخبر حتى أحال استعماله
عقلا ونقلا، واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا لكن الشرع لم يأذن به، وكل
هذه الأقوال منحرفة عن السنن والتوسط أصوب، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن
على صحته عمل به، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ وجب اطراحه " ثم استدل على
ذلك بأدلة تركنا التعرض لها اختصارا، والمناقضة بين الكلامين ظاهرة. وأما ما ذكره
في المدارك فهو من المناقشات الواهية (أما أولا) - فلما ذكرنا في غير موضع أن
الطعن بضعف سند الأخبار لا يصلح حجة على المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح
عندهم بل الأخبار عندهم كلها صحيحة، والصحة والبطلان إنما هو باعتبار متون الأخبار
وما اشتملت عليه لا باعتبار الأسانيد، وقد اعترف بذلك جملة من أرباب هذا الاصطلاح:
منهم - صاحب المنتقى فيه والبهائي في مشرق الشمسين وغيرهما، حيث ذكروا أن الأخبار
كلها صحيحة عند المتقدمين لوفور القرائن الدالة على صحتها وقرب العهد، وأن المتأخرين
199

إنما عدلوا عنه إلى هذا الاصطلاح المحدث لما بعدت المدة وخفيت القرائن كما تقدم ذكره
منقحا في مقدمات الكتاب. و (أما ثانيا) - فلتصريحه في غير موضع في شرحه بأن
الاضمار في الأخبار غير مضمر، فكيف يطعن هنا في موثقة سماعة بذلك وهو قد قبلها
ونحوها في غير موضع من الأحكام؟ و (أما ثالثا) - فلأن الحكم متفق عليه كما ذكره
هو نفسه في صدر البحث. فقال: " وهذا أعني رجوع المبتدأة مع فقد التمييز إلى عادة
نسائها هو المعروف من مذهب الأصحاب " وهو قد وافق الأصحاب في أمثال ذلك
مع ضعف دليلهم بزعمه في غير موضع من شرحه، وقد أوضحنا جملة من ذلك في
شرحنا على الكتاب.
نعم يبقي الاشكال في الجمع بين الخبرين المذكورين حيث إن ظاهر موثقة سماعة
اشتراط اتفاق نسائها في الرجوع إليهن فلو اختلفن فلا رجوع، وبه صرح العلامة في
النهاية فقال: " حتى لو كن عشرا فاتفق فيهن تسع رجعت إلى الأقران " وظاهر
موثقة زرارة ومحمد بن مسلم الاكتفاء بالبعض إلا أنه لا قائل به من الأصحاب. ويمكن
حملها على تعذر الرجوع إلى جميع نسائها لتفرقهن في البلد فيكتفي بالرجوع إلى البعض
إلا أني لم أعلم قائلا به، وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال. قال في المدارك:
" ورجح الشهيد اعتبار الأغلب مع الاختلاف وهو ضعيف جدا، لأنه إن استند في الحكم
إلى مقطوعة سماعة وجب القطع بالانتقال عن نسائها لمجرد الاختلاف كما هو منطوق
الرواية، وإن استند إلى رواية زرارة ومحمد بن مسلم وجب القول برجوعها إلى بعض
نسائها مطلقا ولا قائل به " انتهى.
ثم إن ظاهر موثقة زرارة ومحمد بن مسلم (1) الاستظهار بيوم بعد الاقتداء بأقرائها،
وبذلك صرح في الذكرى وأوجب على المبتدأة الاستظهار بيوم بعد الرجوع إلى نسائها

(1) ص 198.
200

للرواية المذكورة، وأنت خبير بأن بحث الأصحاب عن هذه الرواية في حكم المبتدأة
- في جميع ما ذكرناه ونقلناه عنهم مع أنها لم تشتمل على ذكر المبتدأة وإنما المذكور فيها
المستحاضة بقول مطلق - لا يخلو من اشكال، وكلهم فهموا ذلك من الأمر بالرجوع
إلى بعض نسائها حيث إنه لم يقع الأمر بالرجوع إلى النساء إلا في المبتدأة.
بقي الكلام فيما ذكروه من الرجوع إلى الأقران فإني لم أقف فيه على خبر يدل
عليه، وهذا الحكم ذكره الشيخ وتبعه عليه جملة من الأصحاب، ورده في المعتبر فقال
بعد نقله عنه: " ونحن نطالب بدليله فإنه لم يثبت. ولو قيل كما يغلب في الظن أنها
كنسائها مع اتفاقهن يغلب في الأقران، منعنا ذلك فإن ذوات القرابة بينها مشابهة في الطباع
والجنسية والأصل فقوى الظن مع اتفاقهن بمساواتها لهن، ولا كذا الأقران إذ لا مناسبة
تقتضيه لأنا قد نرى النسب يعطي شبها ولا نرى المقارنة لها أثر فيه " انتهى. وأجاب عنه
في الذكرى فقال بعد نقل ذلك عنه: " ولك أن تقول لفظ " نسائها " دال عليه فإن الإضافة
تصدق بأدنى ملابسة وما لابستها في السن والبلد صدق عليهن النساء، وأما المشاكلة فمع
السن واتحاد البلد تحصل غالبا، وحينئذ ليس في كلام الأصحاب منع منه وإن لم يكن تصريح
به، نعم الظاهر اعتبار اتحاد البلد في الجميع لأن للبلد أثرا ظاهرا في تخالف الأمزجة " وأورد
عليه أن الملابسة المذكورة لو كانت كافية في صحة المراجعة لم يستقم اشتراط اتحاد
البلد والسن بل يلزم صحة الاكتفاء بأحدهما لصدق الملابسة معه، بل لا تنحصر الملابسة
في أحدهما لتكثر وجوه الملابسات وذلك يؤدي إلى ما هو منفي بالاجماع، وتوقف
تمامية المشاكلة ومقارنة الطبيعة على اجتماع الأمرين لا يصلح مخصصا لعموم النص.
أقول: والتحقيق هو ما أشرنا إليه في غير موضع من أن بناء الأحكام الشرعية على
هذه التخريجات العقلية والتقريبات الظنية لا يخلو من مجازفة في الأحكام الشرعية، والنص
المذكور ظاهر في الأقارب خاصة إذ هو المتبادر من حاق هذا اللفظ، والتعدي عنه يحتاج
إلى دليل واضح وإلا لدخل في القول على الله عز وجل بغير علم كما لا يخفى على المنصف
201

وحينئذ فالظاهر اطراح هذا القول من البين. والله العالم.
(الموضع الثالث) - في الرجوع إلى الروايات بعد تعذر الرجوع إلى المراتب
المتقدمة، وقد اختلف كلام الأصحاب في ذلك على أقوال عديدة: منها - أنها تتخير
بين التحيض في الشهر الأول ثلاثة أيام وفي الشهر الثاني عشرة وبين التحيض في كل
شهر سبعة، وهذا قول الشيخ في الجمل وموضع من المبسوط. ومنها - أنها تجعل عشرة
أيام حيضا وعشرة أيام طهرا وعشرة أيام حيضا وهكذا، وهو قول الشيخ في موضع
من المبسوط. ومنها - التخيير بين التحيض في كل شهر بسبعة أيام وبين التحيض في الشهر
الأول عشرة وفي الشهر الثاني ثلاثة، وهو ظاهرة في النهاية، هكذا نقله عنه في الذخيرة،
والذي في النهاية أنها تترك الصلاة والصوم في كل شهر سبعة أيام وتصلي وتصوم ما بقي
ثم لا تزال هذا دأبها إلى أن تعلم حالها وتستقر على حال، وقد روى أنها تترك الصلاة
والصوم في الشهر الأول عشرة أيام وتصلي عشرين يوما وهي أكثر أيام الحيض، وفي
الشهر الثاني ثلاثة أيام وتصلي سبعة وعشرين يوما وهي أقل الحيض، وهو ظاهر في أن
مذهبه فيه إنما هو التحيض بالسبعة دائما وأما العشرة والثلاثة فإنما نسبها إلى الرواية،
فما ذكره من نسبة التخيير بين الأمرين المذكورين إليه ليس في محله كما لا يخفى
ومنها - التخيير بين الثلاثة من الأول والعشرة من الثاني وبين الستة وبين السبعة، وهو قوله
في الخلاف، كذا نقله عنه في الذخيرة أيضا، والذي نقله عنه في المختلف إنما هو التحيض
بالثلاثة من الأول والعشرة من الثاني، ثم قال: وقد روى أنها تترك الصلاة في كل
شهر ستة أيام أو سبعة، ونسبته إلى الرواية بعد افتائه بالأول يؤذن بأن مذهبه هو الأول
وإنما حكى هذا رواية، فنسبة القول له بالتخيير كما ذكره (قدس سره) ليس في محله،
وحينئذ فمذهبه هنا يرجع إلى ما نقل عن ابن البراج، ومنها - التخيير بين الثلاثة من
شهر وعشرة من آخر وبين الستة وبين السبعة، وهو مختار العلامة وجمع من الأصحاب.
ومنها - التحيض في الشهر الأول بثلاثة وفي الشهر الثاني بعشرة، وهو قول ابن البراج
202

ومنها - عكس ذلك، نقله ابن إدريس عن بعض الأصحاب. ومنها - التحيض في كل
شهر بعشرة أيام، نقله في المعتبر عن بعض فقهائنا. ومنها - أن تجلس بين ثلاثة إلى عشرة
وهو قول المرتضى (رضي الله عنه) وهو ظاهر ابن بابويه حيث قال: " أكثر جلوسها
عشرة أيام في كل شهر " ومنها - أنها تترك الصلاة في كل شهر ثلاثة أيام وتصلي سبعة
وعشرين يوما، وهو قول ابن الجنيد واختاره في المعتبر.
واختلاف أكثر هذه الأقوال إنما نشأ من اختلاف أخبار المسألة المتقدمة في الموضع
الأول (1) ومنها - رواية يونس الطويلة (2) وفيها التخيير بين الستة والسبعة،
وبهذه الرواية استدل الشيخ ومن تبعه على التحيض بالسبعة كما هو مذهبه في النهاية على
ما أوضحناه وفيه أن ظاهر الرواية التخير بين الستة والسبعة فهي غير منطبقة على المدعى
ومنها - موثقتا ابن بكير (3) وبهما استدلوا على التحيض بالعشرة من الأول وبالثلاثة من
الثاني وهكذا، وظاهرهما إنما هو التحيض بالعشرة في الدور الأول والثلاثة بعد ذلك
دائما لا أن العشرة والثلاثة دائما في كل دور كما ذكروه، وأيضا فإن الشيخ في الجمل
والمبسوط جعل الثلاثة في الدور الأول والعشرة في الثاني مع أن الموثقتين صريحتان في
عكس ذلك. ومنها - موثقة سماعة (4) وظاهرها يدل على مذهب المرتضى وابن بابويه
ومنه يعلم عدم انطباق الأخبار المذكورة على أكثر الأقوال المتقدمة، فإن هذه أخبار المسألة
الموجودة في كتب الأخبار وكلام الأصحاب. وطعن جملة من متأخري المتأخرين في
هذه الأخبار بضعف الأسانيد وتقدمهم في ذلك المحقق في المعتبر، فقال بعد نقل رواية
يونس وموثقة (5) ابن بكير الأولى (6): " واعلم أن الروايتين ضعيفتان (أما الأولى) فلما
ذكره ابن بابويه عن ابن الوليد أنه لا يعمل بما تفرد به محمد بن عيسى عن يونس.
و (أما الثانية) فرواية عبد الله بن بكير وهو فطحي لا أعمل بما ينفرد به لكن لما
كان الغالب في عادة النساء الستة والسبعة قضينا بالغالب. والوجه عندي أن تتحيض

(1) ص 193
(2) ص 182
(3) ص 194.
(4) ص 194.
(5) ص 182
(6) ص 194.
203

كل واحدة منهما ثلاثة أيام لأنه اليقين في الحيض وتصلي وتصوم بقية الشهر استظهارا
وعملا بالأصل في لزوم العبادة " انتهى. قال في المدارك بعد نقل ذلك: " هذا
كلامه ولا يخلو من قوة، وتؤيده الروايتان المتقدمتان والاجماع، فإن الخلاف واقع في
الزائد عن الثلاثة ".
أقول: لا يخفى ما في هذا الكلام من الضعف والوهن الظاهر لمن أعطى التأمل
حقه في المقام (أما أولا) - فإن ما طعن به في سند الروايتين بما ذكره فيه أن هذا
مناف لما صرح به في صدر كتابه كما قدمنا نقله عنه قريبا.
و (أما ثانيا) - فإنه قال في باب غسل النفاس بعد نقل موثقة عمار الساباطي
ما لفظه: " وهذه وإن كان سندها فطحية لكنهم ثقات في النقل " وقال بعد نقل رواية
السكوني: " والسكوني عامي لكنه ثقة " وأنت خبير بأن ما ورد في حق عبد الله بن بكير
من المدح حتى عد في جملة من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه لا يكاد يوجد
في أحد من هؤلاء الذين قد حكم هنا بتوثيقهم. وقد أجاب في الذكرى عن ذلك فقال
- ونعم ما قال - إن الشهرة في النقل والافتاء بمضمونه حتى عد اجماعا يدفعهما، قال:
" ويؤيده أن حكمة الباري أجل من أن يدع أمرا مبهما يعم به البلوى في كل زمان
ومكان ولم يبينه على لسان صاحب الشرع مع لزوم العسر والحرج فيما قالوه، وهما منفيان
بالآي والأخبار وغير مناسبين للشريعة السمحة ".
و (أما ثالثا) - فلأنه لا يخفى أن اثبات الأحكام الشرعية التوقيفية على الوقف
من الشارع بهذه التخريجات لا يخلو من المجازفة سيما مع وجود الأخبار في المسألة (فإن
قيل): إن كلامه هذا مبني على الاحتياط الذي صرحتم في غير موضع بأنه يجب الأخذ
به مع عدم وجود النصوص، والفرض هنا كذلك حيث إن هذه النصوص عندهم غير
ثابتة، فالوقوف على الاحتياط لا بأس به (قلنا): لا يخفى أنه مع الاغماض عن المناقشة
في طرح النصوص المذكورة فإن هذا الاحتياط للعبادة فيما زاد على الأيام الثلاثة المحتملة
204

لكونها حيضا معارض بمخالفة الاحتياط في تحليل ما حرم الله تعالى على الحائض من
نكاحها وجلوسها في المساجد وأمثال ذلك من المحرمات والمكروهات، وحينئذ
فالاحتياط المدعى غير تام بجميع موارده.
و (أما رابعا) - فلأن الظاهر من أخبار " أن أقل الحيض ثلاثة " (1) إنما هو
بالنسبة إلى من أنقطع عنها الدم لدون ثلاثة، فإنه لا يحكم بكونه حيضا وبها يستدل في هذا
المقام، وأما من دام دمها بعد الثلاثة واستمر وحكم بكونه حيضا قطعا ولكن وقع التردد
في مقداره كمحل البحث فإنه لا مجال للاستدلال بالأخبار المذكورة، لأن الشارع قد جعل
ما تراه من الدم إلى تمام العشرة صالحا لأن يكون حيضا وعادات النساء قد جرت على ذلك،
فكل فرد فرد من أفراد هذه الأعداد صالح لأن يكون فردا وترجيح بعضها على بعض
يحتاج إلى مرجح شرعي، ويشير إلى ذلك ما في موثقة سماعة (2) من التخيير بين الثلاثة
إلى تمام العشرة، حيث إن هذا المقدار هو الذي علم من الشارع جعله حيضا، وبذلك
يظهر أن قوله: " لأنه اليقين في الحيض " على اطلاقه ممنوع بل إنما يتعين بالنسبة إلى
ما نقص عن هذا العدد، وأما ما زاد عليه إلى العشرة وهو حد الأكثر من الحيض
فالحكم باليقينية ممنوع، نعم العشرة يقين بالنسبة إلى ما زاد عليها كما لا يخفى.
و (أما خامسا) - فلأن قوله: " الأصل لزوم العبادة " مدفوع بأنه يجب
الخروج عن هذا الأصل بتحقق الحيض، والحيض هنا متحقق وإنما وقع الشك في أيامه
زيادة ونقيصة، وترجيح بعضها على بعض من غير مرجح ممتنع، والاستناد إلى أخبار
" أقل الحيض ثلاثة " (3) غير مجد هنا لما عرفت، على أن هذا الأصل معارض بأصالة
تحريم ما حرم الله تعالى على الحائض من المحرمات المشار إليها آنفا، وهذه حائض بالاتفاق
وبالجملة فما ذكراه هنا وفي المضطربة كما سيأتي إن شاء الله تعالى - من التحيض بالثلاثة
خاصة استضعافا للأخبار - ضعيف.

(1) ص 158
(2) ص 194.
(3) ص 158
205

و (أما سادسا) - فإن المستفاد من الأخبار على وجه لا يعتريه الشك والانكار
هو أنه متى تعذر الوقوف على الدليل في الحكم الشرعي فالواجب الوقوف عن الفتوى
والعمل بالاحتياط متى احتيج إلى العمل، ومن ذلك صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج
عن الكاظم (عليه السلام) الواردة في جزاء الصيد (1) قال فيها: " قلت إن بعض
أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ فقال (عليه السلام): إذا أصبتم بمثل ذلك
فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا " وفي رواية زرارة عن الباقر
(عليه السلام) (2) " ما حق الله تعالى على العباد؟ فقال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا
عندما لا يعلمون " ومثلها موثقة هشام بن سالم (3) إلى غير ذلك من الأخبار.
إذا عرفت ذلك فالظاهر عندي هو التخيير بين ما دلت عليه هذه الروايات،
إذ لا أعرف طريقا إلى الجمع بينها بعد صحتها وصراحتها فيما دلت عليه غير ذلك.
فوائد
(الأولى) - هل المراد بقوله (عليه السلام) في رواية يونس (4): " ستة
أو سبعة " التخيير أو العمل بما يؤدي إليه اجتهادها وظنها بأنه الحيض؟ قيل بالثاني،
وعن العلامة في النهاية قال: " لأنه لولا ذلك لزم التخيير بين فعل الواجب وتركه " ونقض
بأيام الاستظهار. ونقل عن المحقق (رحمه الله) الأول تمسكا بظاهر اللفظ قال: " وقد
يقع التخيير في الواجب كما يتخير المسافر بين القصر والاتمام في بعض المواضع " وهو جيد
(الثانية) - قد صرح الشهيد الثاني - بعد أن ذكر أنها مخيرة في أخذ عشرة
من شهر وثلاثة من آخر أو سبعة من كل شهر أو الستة - أن الأفضل اختيار

(1) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب صفات القاضي.
(2) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب صفات القاضي.
(3) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب صفات القاضي، وفيما عثرنا عليه
من النسخ المطبوعة والمخطوطة (هشام بن الحكم) والرواية لهشام بن سالم كما في الكافي
والوافي والوسائل.
(4) ص 182.
206

ما يوافق مزاجها، فتأخذ ذات المزاج الحار السبعة والبارد الستة والمتوسط الثلاثة والعشرة
وفيه أنه تقييد للنص من غير دليل واجتهاد في مقابلة النص فلا عمل عليه.
(الثالثة) - قال في الذكرى: معنى قوله (عليه السلام) (1): " في علم الله "
اختصاص علمه بالله إذ لا حيض لها معلوم عندها، أو فيما علمك الله من عادات النساء فإنه
القدر الغالب عليهن، ثم حمل خبري الرجوع إلى نسائها (2) على المعنى الثاني،
قال: " فيكون قوله ستة أو سبعة للتنويع أي أن كن يحضن ستة فتتحيض ستة وإن كن يحضن
سبعة فتتحيض سبعة فإن زدن عن السبع أو نقصن عن الست فالمعتبر عادتهن، لأن الأمر
بالستة أو السبعة بناء على الغالب، ويمكن أخذ الستة إن نقصن والسبعة إن زدن عملا بالأقرب
إلى عادتهن في الموضعين " أقول: لا يخفى ما في حمل الخبر المذكور على المعنى الذي ذكره وفرع
عليه ما بعده من البعد، بل الظاهر أنما هو المعنى الأول كما يدل عليه سياق الخبر من قوله
(عليه السلام) بعد ما ذكر من أمر هذه مخالف للأوليين وأنه ليس لها أيام سابقة:
" ومما يبين هذا قوله لها: " في علم الله " لأنه قد كان لها وإن كانت الأشياء كلها في علم الله "
قال في الوافي: " قوله: " لأنه قد كان لها " لعل المراد به قد كان لها في علم الله
ستة أو سبعة وذلك لأنه ليس لها قبل ذلك أيام معلومة ".
(الرابعة) - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه متى اختارت
عددا كان لها وضعه متى شاءت من الشهر وإن كان الأول أولى، ويقتضي موثقتي ابن
بكير (3) أخذ الثلاثة بعد العشرة ثم أخذها بعد السبعة والعشرين دائما، قال في المدارك:
" ولا ريب أنه الأولى ".
(المطلب الثاني) - في ذات العادة وفيه مسائل: (الأولى) - لا يخفى أن
العادة مشتقة من العود فما لم يعد مرة أخرى لم يصدق اسم العادة، وهو اتفاق بين

(1) في مرسلة يونس المتقدمة ص 182.
(2) ص 198
(3) ص 194.
207

أصحابنا وأكثر العامة، وقال بعض العامة تثبت بالمرة الواحدة (1) وهو باطل لما ذكرنا
وتصير ذات عادة بأن ترى الدم مستكملا لصفات الحيض دفعة ثم ينقطع أقل الطهر فصاعدا
ثم تراه ثانيا مثل ذلك العدد الأول، ويدل على ثبوتها بالمرتين مضافا إلى الاتفاق على
ذلك قول أبي عبد الله (عليه السلام) في رواية يونس الطويلة المتقدمة في صدر
المقصد (2): "... فإن انقطع الدم لوقته في الشهر الأول سواء حتى توالت عليها حيضتان أو
ثلاث فقد علم الآن أن ذلك قد صار لها وقتا وخلقا معروفا تعمل عليه وتدع ما سواه وتكون
سنتها فيما تستقبل أن استحاضت قد صارت سنة إلى أن تجلس أقراءها، وإنما جعل الوقت أن
توالى عليها حيضتان أو ثلاث لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) للتي تعرف أيامها:
دعي الصلاة أيام أقرائك، فعلمنا أنه لم يجعل القرء الواحد سنة لها فيقول دعي الصلاة أيام
قرؤك ولكن سن لها الأقراء وأدناه حيضتان... " وقوله (عليه السلام) في موثقة سماعة (3):
"... إذا اتفق شهر أن عدة أيام سواء فتلك عادتها ".
ثم إن ذات العادة إما أن تكون متفقة عددا ووقتا أو عددا خاصة أو وقتا خاصة
فههنا أقسام ثلاثة " (الأول) - أن يتفق عددا ووقتا وهذه أنفع العادات تتحيض بمجرد
رؤية الدم وترجع إليه بعد التجاوز عند الأصحاب، كأن تراه سبعة في أول الشهر ثم تراه
في أول الثاني أيضا سبعة.
(الثاني) - أن يتفق في العدد دون الوقت كما إذا رأت في أول الشهر سبعة ثم رأت
بعد مضي أقل الطهر سبعة فقد استقر عددها ولكن تكون بالنسبة إلى الوقت كالمضطربة
عند الأصحاب، فإذا رأت دما ثالثا وتجاوز العشرة رجعت إلى العدد عندهم، وهذه تستظهر
عندهم في أول الدم لعدم استقرار الوقت بناء على القول باستظهار المضطربة والمبتدأة.
(الثالث) - أن يتفق في الوقت خاصة كما لو رأت سبعة في أول الشهر وثمانية

(1) في المغني ج 1 ص 316 " لم يختلف المذهب أن العادة لا تثبت بمرة وظاهر
مذهب الشافعي أنها تثبت بمرة.
(2) ص 182
(3) ص 188.
208

في أول الآخر فتستقر بحسب الوقت فإذا رأت الدم الثالث في الوقت تركت العبادة،
وهل تكون مضطربة بحسب العدد فتستظهر بتحيض ثلاثة أو يثبت لها أقل العددين
لتكرره؟ وجهان، نقل أو لهما عن المحقق الشيخ علي واستجوده الشهيد الثاني، قال:
" لعدم صدق الاستواء والاستقامة " وثانيهما عن العلامة في النهاية والشهيد في الذكرى.
وهل يشترط في استقرار العادة عددا ووقتا استقرار عادة الطهر وهو تكرر طهرين
متساويين وقتا أم لا؟ قولان، أولهما للشهيد في الذكرى فاشترط تكرر الطهرين متساويين
وقتا، ولو تساويا عددا واختلفا وقتا استقر العدد لا غير فحينئذ تستظهر برؤية الدم
الثالث ثلاثة على تقدير القول بوجوب الاستظهار على المبتدأة والمضطربة، وثانيهما للعلامة
واختاره في الروض، فعلى هذا لو رأت سبعة في أول الشهر وسبعة في أول الثاني فقد
ثبتت العادة وقتا وعددا على القول الثاني، وعلى القول الأول لا نثبت الوقتية حتى
تعود إلى الطهر مرة ثانية في الوقت المتقدم فلو تقدم عليه لم تثبت الوقتية وإنما يثبت
العدد خاصة، قال في الذكرى بعد نقل القول الثاني عن العلامة: " وتظهر الفائدة لو
تغاير في الوقت الثالث فإن لم نعتبر استقرار الطهر جلست لرؤية الدم وإن اعتبرناه فبعد
الثلاثة أو حضور الوقت، هذا إن تقدم على الوقت ولو تأخر أمكن ذلك استظهارا
ويمكن القطع بالحيض هنا ".
أقول: لا يخفى أن ظاهر الخبرين المتقدمتين أنه بمجرد رؤية الدم بعد استقرار
العادة بمضي شهرين عدة أيام سواء فإنها تتحيض به، فعلى هذا لو رأت سبعة من أول
الشهر الأول ثم سبعة من أول الثاني فقد تحققت العادة الموجبة للتحيض بمجرد رؤية الدم
بعد مضي أقل الطهر، فلو رأت الدم الثالث بعد عشرة من الشهر الثاني تحيضت بمجرد
رؤيته، وما ذكره (قدس سره) من الشرط المذكور لا أعرف له وجها وجيها.
وهل المراد بالشهر في تحقق العادة هو الهلالي كما هو الشائع في الاستعمال المتبادر
إلى الأفهام الغالب وقوع الحيض فيه للنساء، أم ما يمكن أن يفرض فيه حيض وطهر
209

صحيحان المعبر عنه بشهر الحيض؟ قولان، صرح بأولهما جملة من الأصحاب: منهم -
الشيخ علي لما ذكرناه، وثانيهما صرح به العلامة في النهاية حيث قال بعد قوله: وتثبت
العادة بتوالي شهرين ترى فيهما الدم فيهما الدم أياما سواء: " والمراد بشهرها المدة التي لها فيها حيض
وطهر وأقله عندنا ثلاثة عشر يوما " وبذلك صرح ابنه فخر المحققين وكتبه الشهيد على
قواعده ناقلا له عنه، وعبارات الأصحاب في المقام مجملة قابلة لاحتمال كل منهما وإن كان
المفهوم من اطلاق الأخبار إنما هو الهلالي، وقابل في الذكرى: " لا يشترط في العادة
تعدد الشهر وما ذكر في الخبر من الشهرين بناء على الغالب، فلو تساوى الحيضان في شهر
واحد كفى في العددية، صرح به في المبسوط والخلاف، وكذا لو تساويا في زيادة على
شهرين " قال في الروض: " ويرجح اعتبار الهلالي أيضا أن اتفاق الوقت بدمين فيما
دونه لا يتفق إلا مع تكرر الطهر وهو خروج عن المسألة، لكن قبل تكرر الطهر تثبت
العادة بالعدد خاصة فيرجع في الثالث إليه مع عبوره العشرة بعد احتياطها بالطهر ثلاثة في
أوله " أقول: ثبوت الاتفاق في الوقت بتكرر الطهر كما ذكره لا يخلو من غموض واشكال
ولا سيما بالنظر إلى ظاهر النصوص الدالة على الشهر الهلالي، وأن المتبادر من الوقت هو
الزمان المعين مثلا أو الشهر أو وسطه أو آخره ونحو ذلك لا ما كان بعد أيام معينة
وعدد مخصوص، قال الشيخ علي تفريعا على ما اختاره من الشهر الهلالي: " أن
العادة الوقتية لا تحصل إلا بالشهرين الهلاليين لأن الشهر في كلام النبي والأئمة (صلوات
الله وسلامه عليهم) إنما يحمل على الهلالي نظرا إلى أنه الأغلب في عادات النساء وفي
الاستعمال، فلو رأت ثلاثة ثم انقطع عشرة ثم رأت ثلاثة ثم انقطع عشرة ثم رأته وعبر
العشرة فلا وقت لها لعدم تماثل الوقت باعتبار الشهر " واعترضه في الروض بأن فيما
ذكره نظرا لأن تكرر الطهر يحصل الوقت كما قلناه، وقد صرح بذلك في المعتبر والذكرى
وحكاه فيه عن المبسوط والخلاف ناقلا عبارتهما في ذلك، واحتجاجه بأن الشهر في كلامهم
(عليهم السلام) يحمل على الهلالي إنما يتم لو كان في النصوص المقيدة الدالة على العادة
210

ذكر الشهر، وقد بينا في أول المسألة حكايتها خالية من ذكر الشهر فيما عدا الحديثين
الأخيرين، وفي الاحتجاج بهما اشكال لضعف أولهما بالارسال وثانيهما بجرح سماعة
وانقطاع خبره. انتهى.
أقول: لا يخفى أنه ليس عندهم دليل على تفسير العادة بالمعنى المعروف بينهم سوى
هذين الخبرين كما لا يخفى على من راجع كلامهم وراجع الأخبار، وقوله: " أنه قد بين في
أول المسألة الأخبار خالية من ذكر الشهر فيما عدا الحديثين " عجيب فإنه لم يذكر سواهما وكذا
غيره إذ ليس في الباب سواهما، وحينئذ فإن عمل بهما ففي الموضعين وإلا فلا، على أن
حديث يونس (1) مما استدلوا به في أحكام عديدة حتى قال هو نفسه بعد الاستدلال بجملة
منه على أحكام في كتابه المشار إليه: " وهو حديث شريف يدل على أمور مهمة في هذا
الباب " وبذلك يظهر لك قوة ما ذكره المحقق الشيخ علي ومن وافقه على القول المذكور
وضعف ما اعترض به هنا، ومنه يظهر ضعف القول الآخر أيضا.
(المسألة الثانية) - إعلم أن الأصحاب (رضوان الله عليهم) قد صرحوا بأن
ذات العادة تتحيض بمجرد رؤية الدم، قال في المعتبر: " تترك ذات العادة الصلاة والصوم
برؤية الدم في أيامها وهو مذهب أهل العلم، لأن المعتاد كالمتيقن، ولما رواه يونس عن
بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: "... إذا رأت المرأة الدم في أيام
حيضها تركت الصلاة " أقول: ويدل على ذلك أيضا صحيحة محمد بن مسلم (3) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة ترى الصفرة في أيامها؟ فقال لا تصلي حتى تنقضي
أيامها فإن رأت الصفرة في غير أيامها توضأت وصلت " وفي رواية يونس عن بعض
رجاله عنه (عليه السلام) (4) "... كل ما رأت المرأة في أيام حيضها فهو حيض وإذا رأت
بعدها فليس من الحيض " إلى غير ذلك من الأخبار. وبالجملة فإن الحكم لا اشكال فيه

(1) ص 182
(2) ص 159.
(3) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(4) ص 159.
211

نعم يبقى الكلام في الحمل على معاني المعتادة المتقدمة، والظاهر أنه لا اشكال
في الحمل على المعتادة بالمعنى الأول وأنها تتحيض بمجرد الرؤية. وكذا بالمعنى الثالث
إذا وقعت الرؤية في أيام العادة، كما لا اشكال ولا خلاف بينهم في عدم الحمل على المعتادة
بالمعنى الثاني، فإنها عندهم لا تتحيض بمجرد الرؤية بل حكمها عندهم كرؤية المبتدأة والمضطربة
في ايجاب الاستظهار عليها بالثلاثة، وتفصيل هذه الجملة بالنسبة إلى المعنى الأول والثالث
أنه لا يخلو إما أن تكون رؤية الدم في وقت العادة وأيامها أو قبل ذلك أو بعده، فأما
الأول فإنه لا اشكال في التحيض بمجرد الرؤية للأخبار المتقدمة. وأما قبل العادة فظاهر
كلام جملة من الأصحاب الحكم بكونه حيضا لأن الحيضة ربما تقدمت وتأخرت، قال
في المبسوط: " إذا استقرت العادة ثم تقدمها أو تأخر عنها الدم بيوم أو يومين إلى العشرة
حكم بأنه حيض وإن زاد على العشرة فلا " وظاهر كلام الشهيد الثاني في المسالك الاستظهار
كالمبتدأة والمضطربة حيث قال بعد حكمه بالتحيض برؤية الدم في القسم الأول من أقسام
المعتادة والقسم الثالث بشرط أن تراه في أيام العادة: " وأما القسم المتوسط وما تراه
متقدما عنها فهو كرؤية المبتدأة والمضطربة " واعترضه سبطه في المدارك فقال بعد نقل ذلك:
" هذا كلامه وهو يقتضي ثبوت الاحتياط لذات العادة في أغلب الأحوال بناء على
وجوبه في المبتدأة لندرة الاتفاق في الوقت، وهو مع ما فيه من الحرج مخالف لظاهر
الأخبار المستفيضة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى " ثم نقل عن المصنف في كتبه الثلاثة
أن الذي يلوح منه عدم وجوب الاحتياط لذات العادة مطلقا، ثم إنه (قدس سره) استظهر
أن ما تجده المعتادة في أيام العادة يحكم بكونه حيضا مطلقا وكذا المتقدم والمتأخر مع كونه
بصفة الحيض، وتبعه على ذلك جملة من أفاضل متأخري المتأخرين كالفاضل الخراساني في
الذخيرة وغيره، وحينئذ يصير هذا قولا ثالثا في المسألة، وقال في الروض: واعلم أنه مع رؤية المعتادة الدم قبل العادة كما هو المفروض هنا هل تترك العبادة بمجرد رؤيته
أو يجب الصبر إلى مضي ثلاثة أو وصول العادة؟ يبنى على ايجاب الاحتياط بالثلاثة على.
212

المبتدأة والمضطربة وعدمه، فإن لم نوجبه عليهما كما هو اختيار المصنف في المختلف لم يجب
عليها بطريق أولى، وإن أوجبناه كما اختاره المرتضى وابن الجنيد والمحقق في المعتبر
احتمل الحاقها بهما، لأن تقدمه على العادة بالأمور الجبلية يوجب الشك في كونه
حيضا فتكون فيما سبق على أيام العادة كمعتادة العدد المضطربة الوقت، والظاهر قول
أبي عبد الله (عليه السلام) (1): ".. إذا رأت المرأة الدم أيام حيضها تركت الصلاة... "
إذ الظاهر أن المراد بأيام حيضها العادة، ومثله قوله (عليه السلام) (2): " المرأة ترى الصفرة أيام
حيضها لا تصلي " ويحتمل قويا عدمه لصدق الاعتياد عليها، ولأن العادة تتقدم وتتأخر
وعموم رواية منصور بن حازم عنه (عليه السلام) (3) " أي ساعة رأت الصائمة الدم
تفطر... " ومثله خبر محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (4) " تفطر إنما
فطرها من الدم ".
أقول: الأظهر الاستدلال للقول الأول وهو التحيض برؤية الدم بما ورد
من الأخبار دالا على تقدم العادة وأنها تتحيض برؤية الدم قبل العادة وإن كان بغير
صفة دم الحيض، مثل موثقة سماعة (5) قال: " سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت
حيضها؟ قال فلتدع الصلاة فإنه ربما تعجل بها الوقت " وموثقة أبي بصير عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (6) " في المرأة ترى الصفرة؟ فقال إن كان قبل الحيض بيومين فهو من
الحيض وإن كان بعد الحيض فليس من الحيض " ورواية علي بن محمد (7) قال: " سئل

(1) في مرسل يونس ص 159
(2) في صحيحة محمد بن مسلم ص 211.
(3) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب الحيض.
(4) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب الحيض.
(5) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الحيض.
(6) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(7) هذه الرواية مروية في الكافي عن (علي بن أبي حمزة) كما في التهذيب وليس
في سندها من اسمه " علي بن محمد " نعم في الكافي يرويها بسنده عن محمد بن خالد عن القاسم
ابن محمد عن علي بن أبي حمزة، وفي التهذيب عن محمد بن خالد عن علي بن أبي حمزة. وقد
رواها في الوسائل عن الكافي والتهذيب في الباب 4 من أبواب الحيض.
213

أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عن المرأة ترى الصفرة؟ قال ما كان قبل الحيض
فهو من الحيض وما كان بعد الحيض فليس منه " ورواه الشيخ عن علي بن أبي حمزة (1)
قال سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وذكر مثله، وموثقة معاوية بن حكيم (2) قال:
قال " الصفرة قبل الحيض بيومين فهو من الحيض وبعد أيام الحيض ليس من الحيض
وهي في أيام الحيض حيض " وفي الفقه الرضوي (3) " والصفرة قبل الحيض حيض
وبعد أيام الحيض ليست من الحيض " ويؤيده أيضا صحيحة العيص بن القاسم (4)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة ذهب طمثها سنين ثم عاد إليها شئ
قال تترك الصلاة حتى تطهر " وأيده بعضهم بلزوم الحرج والعسر في الاستظهار،
وإن تقدم العادة كثيرا غالب. وأما ما ذكره (رحمه الله) من بناء الحكم في هذه
المسألة على ما ذكره من الخلاف في المبتدأة والمضطربة ففيه (أولا) - أنك قد
عرفت أنه لا دليل على ما ذكروه من وجوب الاستظهار عليها. و (ثانيا) - أنه مع
وجود الدليل فيهما فالحاق المعتادة بهما قياس لا يوافق قواعد مذهبنا لتغاير الفردين
وتقابل القسمين. وبالجملة فالأظهر هو القول بالتحيض بمجرد الرؤية من غير استظهار
للأخبار التي ذكرناها، ويؤيدها اطلاق الأخبار المذكورة في كلام شيخنا المذكور.
وأما ما ذكره في المدارك من تقييد ذلك باتصافه بصفات دم الحيض مستدلا على ذلك
بعموم قوله (عليه السلام) في حسنة حفص بن البختري (5): "... إذا كان للدم دفع
وحرارة وسواد فلتدع الصلاة " ففيه (أولا) - أن اطلاقها مقيد بالروايات التي ذكرناها

(1) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(3) ص 21.
(4) المروية في الوسائل في الباب 32 من أبواب الحيض.
(5) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الحيض.
214

و (ثانيا) - أن دلالتها إنما هو بالمفهوم وما ذكرناه من الأخبار بالمنطوق وهو أقوى
دلالة فيجب تقديم العمل به.
وأما رؤية الدم بعد العادة فالذي دلت عليه الأخبار - كما سيأتي إن شاء الله
تعالى نقلها في محلها - هو أن الدم متى تجاوز العادة وجب عليها الاستظهار بترك العبادة
يومين أو ثلاثة ثم تعمل عمل المستحاضة إن استمر الدم، وحينئذ فما دلت عليه الأخبار
المتقدمة من أن الصفرة قبل الحيض حيض وبعده ليست بحيض ينبغي حملها على البعدية
عن أيام الاستظهار لدخول أيام الاستظهار في الحيض كما عرفت، فيصدق أنه بعد
الحيض أي ما حكم الشارع بكونه حيضا لا ما كان حيضا من حيث العادة. والعجب
من الفاضل الخراساني في الذخيرة فإنه قال بعد أن اختار مذهب المدارك. من تخصيص دم
القبلية والبعدية بالمتصف بصفات التمييز واستدل بدليله قال: وأما ما رواه الكليني والشيخ،
ثم أورد رواية أبي بصير، ورواية علي بن أبي حمزة التي قدمنا نقلها عن علي بن محمد، وموثقة
معاوية بن حكيم ثم قال: " فلا ينافي ما ذكرناه لأن قوله (عليه السلام): " ما كان
بعد الحيض فليس من الحيض " المراد به ما إذا رأت الدم في أيام العادة وانقضت فما
كان بعد ذلك بيومين ليس من الحيض، بل لا يبعد أن يقال تلك الأخبار مؤيدة لما
ذكرناه في الجملة " انتهى.
أقول: وجه المدافعة في هذه الأخبار لما اختاروه إنما هو من حيث إنهم قيدوا
الدم المتقدم على العادة بالاتصاف بصفات دم الحيض، وهو مؤذن بأن ما لم يتصف بصفات
دم الحيض فلا يحكم بكونه حيضا، وعلى هذا فالصفرة قبل العادة ليست بحيض مع أن
الأخبار المذكورة دلت على كونها حيضا وكان الواجب عليه الجواب عن ذلك، على أن
في كلامهم أيضا مناقشة أخرى وهو أنهم قيدوا الدم المتأخر عن العادة بذلك أيضا،
ومقتضاه أن ما لم يكن كذلك لا يحكم بكونه حيضا، والمستفاد من كلام الأصحاب
(رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف - كما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء
215

الله تعالى - أن الدم متى تجاوز العادة فإنها تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة وبعد أيام
الاستظهار تعمل ما تعمله المستحاضة من غير تفصيل في الدم باتصافه بصفات دم
الاستحاضة وعدمه، والأخبار وإن اختلفت في الاستظهار وعدمه إلا أنه لا تفصيل في
شئ منها بين الاتصاف بذلك وعدمه فما ذكروه من هذا التفصيل في الدم الأخير
لا مستند له من الأخبار ولا من كلام الأصحاب، وبه يظهر سقوط هذا القول
بالكلية والله العالم.
(المسألة الثالثة) - المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف
يعرف أنه مع تجاوز الدم أيام العادة فإنها تستظهر إذا كانت عادتها أقل من عشرة ثم تعمل أعمال
المستحاضة فإن انقطع الدم بعد الاستظهار أو على العاشر فالجميع حيض فتقضي الصيام أن
عملته استظهارا إلى العشرة، وإن تجاوز العشرة تحيضت بأيام عادتها خاصة وقضت ما أخلت
به أيام الاستظهار، ولو اجتمع لها مع العادة تمييز فهل تعمل على العادة أو التمييز أو تتخير؟
أقوال: وبيان ما اشتملت عليه يقع في مواضع:
(الأول) - أجمع الأصحاب على ثبوت الاستظهار لذات العادة مع تجاوز دمها
العادة إذا كانت عادتها دون عشرة كما قدمناه، والمراد بالاستظهار طلب ظهور الحال
باستصحاب ما كانت عليه سابقا من التحيض بعد العادة ثم الغسل بعد ذلك، وهل هو
على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ قولان، نقل أولهما عن الشيخ في النهاية والجمل
والمرتضى في المصباح، والثاني نقله في المدارك عن عامة المتأخرين، وقال في المعتبر بعد
نقل القولين المذكورين: " والأقرب عندي أنه على الجواز أو ما يغلب عند المرأة
في حيضها " ويظهر من كلامه أن هذا قول ثالث في المسألة، وقد نقل في الذخيرة
القول بالجواز أيضا قولا ثالثا ولعله استند فيه إلى عبارة المعتبر، والظاهر أن صاحب
المعتبر إنما أراد بالعبارة بذلك الاستحباب كما فهمه صاحب المدارك، حيث نقل القول
بالاستحباب عنه وعمن تأخر عنه.
216

والأصل في هذا الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة في المسألة، ومنها - ما رواه
الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (1): " في الحائض إذا
رأت دما بعد أيامها التي كانت ترى الدم فيها فلتقعد عن الصلاة يوما أو يومين ثم تمسك
قطنة فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل ".
وفي الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) (2) قال:
" سألته عن الحائض كم تستظهر؟ فقال: تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة ".
وفي الصحيح عن محمد بن عمرو بن سعيد عن الرضا (عليه السلام) (3) قال:
" سألته عن الطامث كم حد جلوسها؟ قال تنتظر عدة ما كانت تحيض ثم تستظهر بثلاثة
أيام ثم هي مستحاضة ".
وعن زرارة في الصحيح (4) قال: " قلت له النفساء متى تصلي؟ قال تقعد
قدر حيضها وتستظهر بيومين فإن انقطع الدم وإلا اغتسلت، إلى أن قال: قلت
فالحائض؟ قال مثل ذلك سواء فإن انقطع عنها الدم وإلا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء
سواء ثم تصلي... ".
وعن سعيد بن يسار في الموثق (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن المرأة تحيض ثم تطهر فربما رأت بعد ذلك الشئ من الدم الرقيق بعد اغتسالها من
طهرها؟ قال تستظهر بعد أيامها بيومين أو ثلاثة ثم تصلي ".
وعن زرارة في الموثق بابن بكير عن الباقر (عليه السلام) (6) قال: " سألته عن الطامث

(1) لم نعثر على هذه الرواية من الشيخ " قده " في مظانها، نعم رواها صاحب الوسائل
عن المحقق في المعتبر في الباب 13 من أبواب الحيض و (1) من أبواب الاستحاضة، كما سيأتي
من المصنف " قده " روايتها عن المحقق أيضا ص 218.
(2) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
(4) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(5) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
(6) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
217

تقعد بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال تستظهر بيوم أو يومين ثم هي مستحاضة... الحديث "
وعن سماعة في الموثق (1) قال: " سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها؟
قال فلتدع الصلاة فإنه ربما تعجل بها الوقت، فإذا كان أكثر من أيامها التي كانت
تحيض فيهن فلتتربص ثلاثة أيام بعد ما تمضي أيامها، فإذا تربصت ثلاثة أيام فلم ينقطع
الدم عنها فلتصنع كما تصنع المستحاضة ".
وعن عبد الله بن المغيرة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2): " في
المرأة ترى الدم؟ فقال إن كان قرؤها دون العشرة انتظرت العشرة وإن كانت أيامها
عشره لم تستظهر ".
وعن داود مولى أبي المعزاء عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال:
" سألته عن المرأة تحيض ثم يمضي وقت طهرها وهي ترى الدم؟ قال فقال تستظهر بيوم إن كان
حيضها دون العشرة أيام فإن استمر الدم فهي مستحاضة وإن انقطع الدم اغتسلت وصلت "
وعن زرارة في الموثق عن الباقر (عليه السلام) (4) قال: " المستحاضة
تستظهر بيوم أو يومين ".
وروى المحقق في المعتبر عن الحسن بن محبوب في كتاب المشيخة عن أبي أيوب
الثقة عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (5) " في الحائض إذا رأت دما بعد
أيامها التي كانت ترى الدم فيها فلتقعد عن الصلاة يوما أو يومين ثم تمسك قطنة فإن
صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل ويصيب منها زوجها إن أحب
وحلت لها الصلاة ".
أقول: وهذه الأخبار كلها - كما ترى - ظاهرة الدلالة في القول بالوجوب
لورود الأمر فيها بذلك، وهو حقيقة في الوجوب كما تقرر في محله.
ومنها - ما رواه في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
(4) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
(5) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
218

(عليه السلام) (1) قال: " المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلي فيها ولا يقربها بعلها فإذا
جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر... الحديث ".
وعن عبد الله بن سنان في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سمعته
يقول: المرأة المستحاضة التي لا تطهر قال تغتسل عند صلاة الظهر فتصلي، إلى أن قال لا بأس
بأن يأتيها بعلها متى شاء إلا أيام قرئها... ".
وعن سماعة في الموثق (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
المستحاضة؟ قال فقال: تصوم شهر رمضان إلا الأيام التي كانت تحيض فيها... ".
وعن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " المستحاضة إذا مضت
أيام أقرائها اغتسلت واحتشت... الحديث ".
وفي رواية يونس الطويلة المتقدمة (5) نقلا عنه (صلى الله عليه وآله) " تحيضي أيام أقرائك "
وبهذه الأخبار أخذ القائل بالاستحباب جمعا بينها وبين الأخبار المتقدمة كما هي
قاعدتهم المطردة عندهم في الجمع بين الأخبار.
وفيه نظر (أما أولا) - فإنه لا دليل عليه من سنة ولا كتاب وإن اشتهر بين
الأصحاب. و (أما ثانيا) - فإن الاستحباب من جملة الأحكام الشرعية المتوقف ثبوتها
على الدليل كالوجوب والتحريم ونحوهما، ومجرد اختلاف الأخبار ليس دليلا من الأدلة
المقررة لاثبات الأحكام. و (أما ثالثا) - فلأن حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب
لا يصار إليه إلا مع القرينة، ووجود المعارض ليس من قرائن المجاز. قال في المدارك
بعد أن نقل القول بالاستحباب عن المعتبر ومن تأخر عنه جمعا بين الأخبار: " ويمكن
الجمع بينها بحمل أخبار الاستظهار على ما إذا كان الدم بصفة دم الحيض والأخبار المتضمنة
للعدم على ما إذا لم يكن كذلك، قال واحتمله المصنف في المعتبر " انتهى. واعترضه في الذخيرة

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الاستحاضة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(5) ص 182.
219

بأن هذا التفصيل غير مستفاد من نص دال عليه والقول به بدون ذلك تحكم، ورد
الحمل على الاستحباب أيضا بأن استحباب ترك العبادة لا وجه له، والتزام وجوب العبادة
أو استحبابها على تقدير الغسل بعيد جدا، واختار فيها حمل أخبار الاستظهار على الجواز،
والظاهر أنه يرجع إلى التخيير بين الاستظهار وعدمه وإلا فالعبادة لا تتصف بالجواز،
إلا أن جواز الاستظهار وعدمه يرجع إلى جواز العبادة وعدمه وهو باطل. وكيف كان
فلا ريب في بعده. هذا. وأما ما اعترض به كلام السيد في المدارك - من أنه تحكم إذ
لا يستفاد من النصوص - ففيه أنه لا يخفى أن الظاهر أن السيد (رحمه الله) إنما قيد
أخبار الاستظهار مع اطلاقها بالاتصاف بصفة دم الحيض بناء على ما تقدم نقله عنه في سابق
هذه المسألة من أن المتقدم على العادة والمتأخر عنها يحكم بكونه حيضا بشرط اتصافه بصفة
دم الحيض، وهو قد وافق السيد على هذه المقالة كما قدمنا نقله عنه، ولا ريب أن
ما نحن فيه أحد جزئيات تلك المسألة فكيف يعترضه بما ذكره مع لزوم ذلك له؟
والذي يقرب عندي في الجمع بين الأخبار المذكورة أحد وجهين: إما حمل
الأخبار الأخيرة على التقية، ويعضده اتفاق الأصحاب على العمل بالأخبار الأولة وإن
اختلفوا في كونه وجوبا أو استحبابا، ومنشأ الاستحباب عندهم هو الجمع بين الأخبار كما
عرفت، والعمل بالأخبار الأولة متفق عليه في الجملة، والقول بالاقتصار على العادة من دون
استظهار مذهب الجمهور إلا مالكا على ما ذكره في المنتهى، قال - بعد أن نقل عن مالك
الاستظهار بثلاثة أيام: " وخالف باقي الجمهور في الاستظهار واقتصروا على العادة خاصة " (1)

(1) في المدونة ج 1 ص 54 " قال ابن القاسم: كل امرأة كانت أيامها أقل من خمسة
عشر يوما فإنها تستظهر بثلاثة ما بينها وبين خمسة عشر، مثلا - التي أيامها اثنا عشر تستظهر
بثلاث والتي أيامها ثلاثة عشر تستظهر بيومين والتي أيامها أربعة عشر تستظهر بيوم والتي
أياما خمسة عشر لا تستظهر بشئ وتغتسل وتصلي ويأتيها زوجها، ولا تقيم امرأة في حيض
أكثر من خمسة عشر باستظهار كان أو غيره " وفي ص 55 " قال ابن القاسم قال مالك إذا
رأت المرأة الدم يوما ثم انقطع عنها يومين ثم رأته يوما وانقطع يوما أو يومين ثم رأته
بعد ذلك يوما أو يومين قال إذا اختلط هكذا حسبت أيام الدم والغت ما بين ذلك من الأيام
التي لم تر فيها الدم فإذا استكملت من أيام الدم قدر أيامها التي كانت تحيضها استظهرت بثلاثة
أيام " ويظهر من فقه المذاهب الأخر عدم العبرة بالاستظهار وأن عليها الغسل إذا انتهى
حيضها المعتاد أو أكثر أيام الحيض وهي عند بعض عشرة وعند الآخر خمسة عشر.
220

وإما تخصيص اطلاق أخبار الاستظهار بغير مستقيمة الحيض وتقييد الأخبار الأخيرة
بمن كانت مستقيمة الحيض لا زيادة فيها ولا نقصان ولا تقدم ولا تأخر كالوقتية العددية
التي لا يتقدم دمها ولا يتأخر والعددية كذلك، وحيث إن وجود الحيض بهذا التقييد
نادر جدا - والأغلب مع الاعتياد هو التقدم والتأخر والزيادة والنقصان - تكاثرت
الأخبار بالاستظهار لها لأجل ذلك، والمستند في هذا الجمع صحيحة عبد الرحمان بن أبي
عبد الله (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستحاضة أيطأها زوجها
وهل تطوف بالبيت؟ قال تقعد قرءها الذي كانت تحيض فيه فإن كان قرؤها مستقيما
فلتأخذ به وإن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين ولتغتسل... الحديث " ويشير
إلى ذلك أيضا قول الباقر (عليه السلام) في رواية مالك بن أعين (2) وقد سأله عن
المستحاضة كيف يغشاها زوجها؟ قال: " ينظر الأيام التي كانت تحيض فيها وحيضتها
مستقيمة فلا يقربها في عدة تلك الأيام من ذلك الشهر ويغشاها فيما سوى ذلك من الأيام،
ولا يغشاها حتى يأمرها فتغتسل ثم يغشاها إن أراد ".
ثم لا يخفى أنه على تقدير القول باستحباب الاستظهار - كما هو المشهور بين
المتأخرين - فقد أورد عليه أنه متى كان الاستظهار فإنه يجوز تركه واختيار
العبادة. وحينئذ يلزم الاشكال في اتصاف العبادة بالوجوب، إذ يجوز تركها لا إلى بدل
ولا شئ من الواجب كذلك. وأجيب بأن العبادة واجبة مع اختيارها عدم الاستظهار

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب الحيض و
(3) من الاستحاضة.
221

لا مطلقا، بمعنى أن التخيير إنما وقع في الاستظهار نفسه فلها أن تستظهر ولها أن تترك
الاستظهار لكنها متى اختارت ترك الاستظهار وجبت عليها الصلاة، فوجوب الصلاة عليها
منوط باختيارها عدم الاستظهار فقط لا أن التخيير بين الفعل والترك يتعلق بالصلاة نفسها فحينئذ
لا يخرج الواجب عن الوجوب. أقول: لا يخفى ما فيه فإن التخيير في الاستظهار يوجب
التخيير في العبادة فإن اختارت الاستظهار فلا عبادة وإن اختارت عدم الاستظهار وجبت العبادة،
غاية الأمر أن التخيير في العبادة هنا وإن لم يكن أولا وبالذات لكنه ثانيا وبالعرض،
فالتخيير لازم البتة وإن كان متفرعا على التخيير في الاستظهار، فهي مخيرة حينئذ بين
العبادة إن اختارت عدم الاستظهار وبين تركها إن اختارت الاستظهار، فقول شيخنا
البهائي في الحبل المتين بعد نقل الاستحباب عن متأخري الأصحاب: " ولا استبعاد في
وجوب العبادة عليها باختيارها عدم الاستظهار ولا يلزم جواز ترك الواجب لا إلى بدل
كما لا يخفى " لا أعرف له وجها وجيها، والظاهر أنه قصد بهذا الكلام الرد على صاحب المدارك
حيث قال في هذه المسألة: " ثم إن قلنا بالاستحباب واختارت فعل العبادة ففي وصفها
بالوجوب نظر من حيث جواز تركها لا إلى بدل ولا شئ من الواجب كذلك اللهم
إلا أن يلتزم وجوب العبادة بمجرد الاغتسال. وفيه ما فيه " انتهى. وهو جيد، وبذلك
يظهر ترجيح القول بالوجوب كما اخترناه زيادة على ما تقدم.
(الثاني) - اختلف الأصحاب في قدر الاستظهار واجبا كان أو مستحبا،
فقال الشيخ في النهاية تستظهر بعد العادة بيوم أو يومين، وهو مذهب ابن بابويه والمفيد
وقال الشيخ في الجمل إن خرجت ملوثة بالدم فهي بعد حائض تصبر حتى تنقى. وقال
المرتضى تستظهر عند استمرار الدم إلى عشرة أيام فإن استمر عملت ما تعمله المستحاضة
ونقل ذلك عن ابن الجنيد أيضا، وقواه في الذكرى مطلقا وفي البيان مقيدا بظنها بقاء
الحيض، قال في الروض: " وكأنه يريد به ظن الانقطاع على العشرة وإلا فمع التجاوز
ترجع ذات العادة إليها وإن ظنت غيرها " واختار في المدارك التخيير بين اليوم واليومين
222

والثلاثة، وهو المفهوم من الأخبار المتقدمة. وأما ما في المنتهى - من عدم جواز الحمل
على التخيير لعدم جواز التخيير في الواجب، ثم قال: " بل التفصيل اعتمادا على اجتهاد
المرأة في قوة المزاج وضعفه الموجبين لزيادة الحيض وقتله " - فالظاهر ضعفه، وكيف
والتخيير في الواجب واقع في جملة من الأحكام، مثل تخيير المسافر في المواضع الأربعة
والتخيير في ذكر الأخيرتين والتخيير في ذكري الركوع والسجود وأمثال ذلك، وأما
حمل الأخبار المذكورة على مزاج المرأة فبعده أظهر من أن يخفى. وأما ما نقل عن
المرتضى فيدل عليه مرسلة عبد الله بن المغيرة المتقدمة (1) وموثقة يونس بن يعقوب (2)
قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) امرأة رأت الدم في حيضها حتى جاوز وقتها
متى ينبغي لها أن تصلي؟ قال تنتظر عدتها التي كانت تجلس ثم تستظهر بعشرة أيام فإن
رأت الدم دما صبيبا فلتغتسل في وقت كل صلاة " قال الشيخ (رحمه الله): " معنى قوله
بعشرة أيام إلى عشرة أيام وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض " وطعن فيهما
في المدارك بضعف السند. وفيه ما عرفت في غير موضع. وكيف كان فالعمل بكل
ما دلت عليه الأخبار المذكورة وجه الجمع بينها. والله العالم.
(الثالث) - قد صرح الأصحاب أنه إن انقطع دمها على العاشر كان ذلك
كاشفا عن كون العشرة حيضا فتقضي صوم العشرة وإن كانت قد صامت بعضها، وإن
تجاوز العشرة كان ذلك كاشفا عن كون الزائد على العادة طهرا وأن صومها وصلاتها
بعد أيام الاستظهار كانا صحيحين ووجب عليها قضاء ما أخلت به منهما أيام الاستظهار.
ولم نقف لهم في هذا التفصيل على دليل بل ظواهر الأخبار ترده، وكأنهم بنوا الحكم
بكون العشرة كملا حيضا لو أنقطع الدم عليها على القاعدة المشهورة بينهم بأن كل ما أمكن كونه
حيضا فهو حيض. وهي محل البحث كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في محله، مع أن الأخبار
المتقدمة ظاهرة في أنه متى زاد الدم على أيام العادة فإن الواجب عليها الاستظهار بالأيام المذكورة

(1) ص 218
(2) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
223

ثمة، ثم إنها بعد الاستظهار تعمل عمل المستحاضة وتصلي وتصوم من غير فرق بين تجاوز الدم
العشرة وانقطاعه عليها أو دونها، وما ذكروه - من التكليف المتفرع على الانقطاع على
العشرة وكذا التكليف المتفرع على تجاوز العشرة - لا مستند له، ويعضدها الأخبار الأخيرة
الدالة على أنها تعمل ما تعمل المستحاضة بعد مضي أيام العادة من غير استظهار، ولو
كان لما ذكروه من هذا التفصيل أصل لوقعت الإشارة إليه ولو في خبر من هذه الأخبار
على كثرتها وتعددها وليس فليس، ومما يدل على ذلك زيادة على الأخبار المتقدمة
صحيحة الحسين بن نعيم الصحاف (1) وفيها "... وإذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي
كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنه من الحيضة فلتمسك عن
الصلاة عدد أيامها التي كانت تقعد في حيضها، فإن انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل
ولتصل، وإن لم ينقطع الدم عنها إلا بعد ما تمضي الأيام التي كانت ترى فيها الدم بيوم أو يومين
فلتغتسل ثم تحتش وتستذفر وتصل الظهر والعصر... الحديث " ثم ذكر أعمال المستحاضة
إلى أن قال: " وكذلك تفعل المستحاضة فإنها إذا فعلت ذلك أذهب الله تعالى بالدم
عنها " وموثقة سماعة (2) قال: " سألته عن امرأة رأت الدم في الحبل؟ قال تقعد أيامها التي
كانت تحيض فإذا زاد الدم على الأيام التي كانت تقعد استظهرت بثلاثة أيام ثم هي مستحاضة "
قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين - بعد اعترافه بأن الدليل على القول المشار
إليه غير صريح - ما صورته: " قلت: قد يستفاد من رواية يونس عن غير واحد عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (3) الرجوع إلى العادة مع التجاوز ومع الرجوع إلى العادة
يثبت ما ذكروه من الأحكام، وهو وإن كان غير صحيح إلا أن الأصحاب قد أجمعوا
على العمل بمضمونه، وأما الرجوع إلى العشرة مع عدم التجاوز فلما روي عنهم (عليهم

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب الحيض.
(3) المتقدمة ص 182.
224

السلام) من " أن الدم في أيام الحيض حيض " (1) وفسره الشيخ وجماعة بما يمكن أن يكون حيضا، ومع عدم التجاوز إلا مكان ثابت، وبالجملة هذه الأحكام تستنبط من
الروايات وإن لم يكن عليها بصراحتها رواية، فتأمل " انتهى.
أقول: لا يخفى ما فيه، أما ما استند إليه من رواية يونس ففيه أن مورد الرواية
من أولها إلى آخرها وما اشتملت عليه من السنن الثلاث إنما هو فيما إذا استمر الدم ودام
عليها أشهرا عديدة بل سنين عديدة، فإن سنة ذات العادة أن تتحيض بأيام عادتها،
وسنة المضطربة التمييز إن أمكن وإلا فالرجوع إلى العدد المذكور فيها، وسنة المبتدأة
العمل بالستة أو السبعة، ومحل البحث هنا - كما هو مورد الأخبار المتقدمة وصريح كلام
الأصحاب - إنما هو بالنسبة إلى أول الدم إذا تجاوز العادة، ولهذا يفصلون بين انقطاعه
على العشرة وتجاوزه لها وأن لكل منهما حكما غير الآخر، وبذلك يظهر لك أن ما استند
إليه ليس من محل البحث في شئ. وأما ما استند إليه من قولهم: " أن الدم في أيام الحيض
حيض " فالمراد بأيام الدم أيام العادة لا ما يمكن أن يكون حيضا، فإن تفسيره بذلك
تعسف محض سواء وقع من الشيخ أو غيره، ويؤيد ما قلناه ما تقدم من الأخبار ومثله
في كلام الأصحاب " أن الصفرة في أيام الحيض حيض " (2) فإن المراد إنما هي أيام
العادة كما عليه اتفاق كلمة الأصحاب، وبالجملة فإن كلامه في البطلان أظهر من أن يحتاج
إلى مزيد بيان.
(الرابع) - لو اجتمع لها مع العادة تمييز فلا يخلو إما أن يتفقا وقتا وعددا
وحينئذ فلا اشكال، وأما أن يختلفا وحينئذ فإن مضى بينهما أقل الطهر فالذي صرح به
جملة من الأصحاب أنها تتحيض بهما معا لتوسط أقل الطهر بينهما، واستشكل فيه بعض
فضلاء متأخري المتأخرين نظرا إلى النصوص، فإن مقتضاها أن المستحاضة تجعل أيامها
حيضا والباقي استحاضة، قال: " والظاهر الرجوع إلى العادة " وهو جيد. ويظهر من

(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
225

العلامة في النهاية التردد بين جعلهما حيضا وبين التعويل على التمييز وبين التعويل على العادة
والظاهر ضعفه لما عرفت من أن ظاهر الأخبار التعويل على العادة مطلقا، ومن أظهر
الأخبار زيادة على ما قدمنا موثقة إسحاق بن جرير (1) قال: " سألتني امرأة منا أن أدخلها
على أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت ومعها مولاة لها، فقالت
له: يا أبا عبد الله ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها؟ قال: إن كان أيام حيضها
دون عشرة أيام استظهرت بيوم واحد ثم هي مستحاضة. قالت: فإن الدم يستمر بها
الشهر والشهرين والثلاثة فكيف تصنع بالصلاة؟ قال تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل
صلاتين. قالت له: إن أيام حيضها تختلف عليها وكان يتقدم الحيض اليوم واليومين
والثلاثة ويتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال دم الحيض ليس به خفاء هو دم حار تجد له
حرقة ودم الاستحاضة دم فاسد بارد... " ألا ترى كيف شدد عليها الرجوع إلى العادة
كلما راجعته في الكلام ولم يأمرها بالرجوع إلى التمييز إلا حيث أخبرته باختلاف العادة
واضطرابها، وبالجملة فإن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يدل على العموم في المقال كما
قرروه في غير موضع. وإن لم يمض بينهما أقل الطهر فإن أمكن الجمع بينهما بأن لا يتجاوز
المجموع العشرة فالمنقول عن غير واحد من المتأخرين أنه يجمع بينهما، وعن الشيخ فيه
قولان أحدهما ترجيح التمييز والآخر ترجيح العادة ولعله الأقرب إلى الأخبار.
وإن لم
يمكن الجمع بينهما كما إذا رأت في أيام العادة صفرة وقبلها أو بعدها بصفة دم الحيض وتجاوز
الجميع العشرة فالمشهور بين الأصحاب - ومنهم الشيخ في الجمل والمبسوط وابن الجنيد
والمرتضى - الرجوع إلى العادة، وقال الشيخ في النهاية بالرجوع إلى التمييز، وحكى في
الشرائع قولا بالتخيير ولم ينقل هذا القول في المعتبر ولا نقله ناقل من الأصحاب كما
اعترف به في المدارك، وكيف كان فالمعتمد هو القول الأول للأخبار الكثيرة المتقدمة (2)
ونقل في المدارك عن الشيخ أنه احتج لما ذهب إليه في النهاية بصحيحة حفص بن البختري

(1) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الحيض
(2) ص 213.
226

المتقدمة (1) ونحوها من الأخبار الدالة على صفات دم الحيض، ثم أجاب بأن صفة
الدم يسقط اعتبارها مع العداة لأن العادة أقوى في الدلالة، ولما رواه محمد بن مسلم
في الصحيح (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة ترى الصفرة والكدرة
في أيامها؟ قال لا تصل حتى تنقضي أيامها فإن رأت الصفرة في غير أيامها توضأت
وصلت " أقول: قد سبقه إلى ما ذكره هنا جده (قدس سره) في الروض، والظاهر أن وجه استدلالهما بصحيحة محمد بن مسلم المذكورة هو أنه لما كانت الصفرة والكدرة
ليستا من صفات الحيض بل من صفات الطهر فلو رجح العمل بالتمييز لحكم بالطهر بوجودهما
في أيام العادة مع أن الأمر بالعكس في الخبر، فهو يدل على أنه إذا تعارضت العادة
والتمييز قدمت العادة فيجب تقديمها في محل البحث. وهو جيد. أما ما ذكروه من التعليل
الأول فإنه محض مصادرة لأنه عين الدعوى، نعم يصلح أن يكون وجها للنص المذكور
وبيانا لوجه الحكمة فيما اشتمل عليه من الحكم. والأظهر هو الاستدلال على ذلك بموثقة إسحاق
بن جرير المذكورة، حيث إنه (عليه السلام) أمرها أولا مع استمرار الدم بالجلوس أيام
الحيض حصل لها تمييز أم لم يحصل ثم بعد أن أخبرته باضطراب عادتها بالتقدم والتأخر
والزيادة والنقصان أمرها بالرجوع إلى التمييز، وعلى هذا ينبغي أن تحمل حسنة
حفص (3) ونحوها. وفي المختلف بعد أن أورد حسنة حفص المذكورة حجة للشيخ أجاب
بأن ما دلت عليه حكم المضطربة والمبتدأة، أما ذات العادة المستقرة فممنوع. وبالجملة
فروايات التمييز مطلقة وهذه الروايات مختصة بذات العادة فيجب تخصيص أخبار
التمييز بهذه الأخبار.
والمراد بالعادة التي يجب الأخذ بها هنا ما هو أعم من العادة الحاصلة بالأخذ والانقطاع
بالنسبة إلى ذات العادة الحاصلة من التمييز بالنسبة إلى ما عداها من المبتدأة
والمضطربة عند الأصحاب والمضطربة خاصة عندنا إذ لم تجد للتمييز في المبتدأة مستندا.

(1) ص 151
(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(3) ص 151
227

وعن المحقق الشيخ علي أنه رجح تقديم العادة المستفادة من الأخذ والانقطاع دون
المستفادة من التمييز حذرا من لزوم زيادة الفرع على أصله، قال في المدارك " وهو ضعيف "
وهو كذلك. والله العالم.
(المسألة الرابعة) - قد صرح الأصحاب بأن العادة كما تحصل بالأخذ
والانقطاع كذا تحصل بالتمييز، فلو مر بها شهران قد رأت الدم فيهما بصفات دم الحيض
متفقا في الوقت ثم اختلف الدم في باقي الأشهر فإنها ترجع إلى عادتها في الشهرين وتتحيض
بها ولا تعتبر باختلاف الدم لأن الأول صار عادة، قال في المنتهى: " العادة تثبت
بالتمييز فإن رأت في الشهرين الأولين خمسة أيام دما أسود وما بينهما دما أحمر ثم رأت
في الثالث وما بينهما تحيضت بالخمسة. لنا أن المبتدأة ترجع إلى التمييز لما يأتي فتتحيض به
فإذا عاودها صار عادة فوجب الرجوع في الثالث إليه ولا نعرف فيه خلافا " انتهى.
وما ذكره من رجوع المبتدأة إلى التمييز قد عرفت أنه لا دليل عليه وإنما هو في المضطربة
كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، وحينئذ فالعادة الحاصلة من التمييز إنما هو بالنسبة إليها
حيث إنها هي التي ورد في حقها العمل بالتمييز، والوجه في حصول العادة بذلك هو أن
الشارع قد جعل التمييز - متى حصل - قرء لها تتحيض به فمتى تكرر في الشهر الثاني وقتا
وعددا فقد حصلت العادة بتقريب ما تقدم في العادة الحاصلة من الأخذ والانقطاع،
وتدخل حينئذ تحت اطلاق تلك الأخبار مثل قوله (عليه السلام) في موثقة سماعة
المتقدمة (1): " إذا اتفق شهران عدة أيام سواء فتلك عادتها " وقوله (صلى الله عليه وآله) في
حديث يونس (2): " تحيضي أيام أقرائك " وأدناه حيضتان بالتقريب الذي ذكره الصادق
(عليه السلام) في الخبر المشار إليه. وبالجملة فالظاهر أن الحكم لا اشكال فيه بالنسبة
إلى من ورد في حقها العمل بالتمييز. وأما ما ذكره الأصحاب من التمييز في المبتدأة فقد
عرفت أنه لا مستند له. وما ذكروه في ذات العادة إذا استمر بها الدم ففيه أيضا ما عرفت

(1) ص 188
(2) ص 182.
228

في سابق هذه المسألة من أنه لا دليل عليه وإنما حكمها الرجوع إلى العادة أعني الأيام
التي اعتادتها بالأخذ والانقطاع.
وينبغي التنبيه على فوائد - (الأولى) - قد صرح الأصحاب بأن ما تراه المرأة من
الثلاثة إلى العشرة مما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض تجانس أو اختلف، قال في المعتبر:
" وهو اجماع " وقال الشهيد الثاني: " والمراد بالامكان هنا معناه العام وهو سلب
الضرورة عن الجانب المخالف للحكم، فيدخل فيه ما تحقق كونه حيضا لاجتماع شرائطه
ولارتفاع موانعه كرؤية ما زاد على الثلاثة في زمن العادة الزائدة عنها بصفة دم الحيض وانقطاعه
عليها، وما احتمله كرؤيته بعد انقطاعه على العادة ومضى أقل الطهر متقدما على العادة
فإنه يحكم بكونه حيضا لامكانه، ويتحقق عدم الامكان بقصور السن عن التسع سنين وزيادته
على الخمسين أو الستين وبسبق حيض محقق لم يتخلل بينهما أقل الطهر أو نفاس كذلك
وكونها حاملا على مذهب المصنف وغير ذلك " انتهى. وظاهر المدارك التوقف في أصل
الحكم المذكور حيث قال بعد نقل ذلك عنهم: وهو مشكل جدا من حيث ترك
المعلوم ثبوته في الذمة تعويلا على مجرد الامكان، ثم قال: والأظهر أنه إنما يحكم بكونه حيضا
إذا كان بصفة دم الحيض لعموم قوله (عليه السلام) (1): " إذا كان للدم دفع وحرارة وسواد
فلتدع الصلاة " أو كان في العادة لصحيحة محمد بن مسلم قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن المرأة ترى الصفرة في أيامها... الحديث " وقد تقدم قريبا (2).
أقول: يمكن الاستدلال لما ذكره الأصحاب من أنه بعد تحقق الحيض فكل ما رأته
المرأة في العشرة التي مبدأها الدم الأول فهو حيض برواية يونس الدالة على عدم اعتبار
التوالي في الأيام الثلاثة التي هي أقل الحيض، وقد تقدمت في المسألة المشار إليها (3)
ونحوها صحيحة محمد بن مسلم وموثقته المتقدمتان ثمة (4) الدالتان على أنه إذا رأت

(1) في صحيحة حفص المتقدمة ص 151.
(2) ص 227.
(3) ص 159.
(4) ص 161.
229

الدم قبل إتمام العشرة فهو من الحيضة الأولى، ونحو ذلك كلامه (عليه السلام) (1)
في الفقه الرضوي حيث قال: " فإن رأت الدم بعد اغتسالها من الحيض قبل استكمال
عشرة أيام بيض فهو ما بقي من الحيضة الأولى، وإن رأت الدم بعد العشرة البيض
فهو ما تعجل من الحيضة الثانية " انتهى. وكان الأولى في الاستدلال لما ذكروه هو
هذه الأخبار لا التعليل بمجرد الامكان الذي جعلوه كالقاعدة الكلية في غير مكان
فإنه عليل لا يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية حسبما أورده عليهم في المدارك. نعم
يبقى الاشكال في أنه قد دلت الأخبار المتقدمة على أن ما تراه المرأة بعد أيام العادة
والاستظهار أو العادة خاصة كما في الأخبار الأخر هو استحاضة أعم من أن ينقطع على
العشرة أو يتجاوز، ويمكن الجمع بتخصيص عموم الأخبار المشار إليها بهذه الأخبار بأن
يستثنى منها حكم ذات العادة ويقال إن كل دم رأته المرأة في العشرة فهو حيض ما عدا مورد
هذه الأخبار المتعلقة بذات العادة. هذا. وأما ما استظهره في المدارك من الحكم بكونه حيضا
مع الاتصاف بصفة دم الحيض فلا يتم كليا لأن من فروع هذه القاعدة عندهم من زاد
دمها على العادة ثم استمر حتى أنقطع على العاشر فإنهم حكموا بكون الجميع حيضا، أما دم
العادة فظاهر وأما ما زاد فبهذه القاعدة وهو أنه يمكن أن يكون حيضا فيجب أن يكون
حيضا، والمستفاد - كما عرفت آنفا - من أخبار المسألة أن ما زاد على أيام العادة
أو مع أيام الاستظهار فهو استحاضة مطلقا انقطع على العاشر أم لا بصفة الحيض كان
أم لا، وبذلك صرح هو نفسه في الموضع الخامس من شرح قول المصنف (رحمه
الله): " الثالثة - إذا انقطع الدم لدون العشرة فعليها الاستبراء " حيث قال:
" والمستفاد من الأخبار أن ما بعد أيام الاستظهار استحاضة... الخ " وأما على ما ذكرنا
من الاستناد إلى ما نقلناه من الأخبار والجمع بينها بما ما ذكرناه فلا اشكال في المقام
بتوفيق الملك العلام.

(1) ص 21.
230

(الثانية) - قد صرحوا بأنه لو رأت الدم ثلاثة ثم انقطع ورأته قبل العاشر
كان الجميع من الدمين وما بينهما من النقاء حيضا، أما الدم الأول فلا يخلو إما أن يكون
دم عادة فلا اشكال أولا فيكون مما يمكن أن يكون حيضا، وأما الثاني فهو مما يمكن أن يكون حيضا فيجب الحكم بكونه حيضا، وأما البقاء فلكونه أقل من عشرة فلا يمكن
الحكم بكونه طهرا. ولو تأخر بمقدار عشرة أيام ثم رأته كان الأول حيضا منفردا
والثاني يمكن أن يكون حيضا مستأنفا لمضي أقل الطهر بينهما، قال في المدارك: " فإن
ثبتت الكلية المدعاة في كلامهم تحيضت برؤيته - يعني الدم الثاني الذي بعد العشرة - وإلا
وجب مراعاة الصفات على ما تقدم من التفصيل ".
أقول: أما ما ذكروه من الحكم بكون النقاء المتوسط بين الدمين حيضا متى
كان أقل من عشرة فقد تقدم الكلام فيه، لأن كلامهم هذا مبني على قاعدة أقل الطهر
عشرة مطلقا، وهو ممنوع لما قدمناه من أنه مخصوص بالطهر المتوسط بين حيضتين،
بمعنى أنه لا يحكم بتعدد الحيض إلا بتوسط العشرة أما إذا كان في حيضة واحدة فلا
مانع منه. وعليه تدل الأخبار المتقدمة في مسألة اشتراط توالي الثلاثة وعدمه كما
أوضحناه ثمة (1) والمستفاد منها أنه متى رأت الدم المحكوم بكونه حيضا ثم انقطع فإن
مضت عشرة أيام خالية من الدم ثم عاد فإنه يحكم بكونه حيضا ثانيا مع بلوغه الثلاثة
وإن لم تمض العشرة فإنه من الحيضة الأولى، وهو صريح في ابطال كلامهم في هذه
المسألة، لأن من جملة فروض المسألة ما لو تحيضت أولا بخمسة أيام ثم انقطع الدم ثمانية
أيام مثلا ثم عاد خمسة، فمقتضى قواعدهم من البناء على قاعدة الامكان بتقدير اجرائه
في هذا المكان لأنه لا يمكن الحكم بالتحيض على ما عدا الدم الأول فالدم الثاني عندهم
استحاضة، ولا يمكن الحكم بكونه حيضا مستقلا لعدم توسط أقل الطهر عندهم، ولا
بانضمامه إلى الدم الأول مع النقاء المتوسط للزوم الزيادة على العشرة التي هي أكثر

(1) ص 159.
231

الحيض، والمفهوم من الأخبار المشار إليها أن الدم الثاني من الحيضة الأولى، ومنه يلزم
أن النقاء المتوسط طهر وإلا لزم المحذور المذكور، ومن أظهر الروايات الدالة على ذلك
رواية الفقه الرضوي المتقدمة قريبا، ورواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله المتقدمة في مسألة
توالي الأيام الثلاثة (1) ونحوهما روايتا محمد بن مسلم (2) وأما ما ذكره في المدارك - من أن التحيض بالدم الثاني الذي بعد العشرة مبني على الكلية المدعاة فإن ثبتت وإلا وجب
مراعاة الصفات - ففيه أن الحكم المذكور ثابت بالنصوص التي أشرنا إليها، ولعلها
مستند الأصحاب في هذه الكلية، إلا أنه لا عموم فيها على الوجه الذي يدعونه بحيث
يكون حكما كليا بل يجب الاقتصار فيها على مواردها. والله العالم.
(الثالثة) - قد صرح الأصحاب بأن ما تراه المرأة في أيام الحيض من الصفرة
والكدرة حيض وما تراه في أيام الطهر طهر، وفسر في الروض أيام الحيض بما يمكن
أن يكون حيضا، قال: " والمراد بأيام الحيض ما يحكم على الدم الواقع فيها بأنه حيض
سواء كانت أيام العادة أم غيرها فتدخل المبتدأة ومن تعقب عادتها دم بعد أقل الطهر،
وضابطه ما أمكن كونه حيضا، وربما فسرت بأيام العادة والنصوص دالة بعمومها على
الأول " قال في المدارك بعد أن نقل عن جده ذلك: " هذا كلامه (رحمه الله)
وأقول إن هذا التفسير أولي، إذ الظاهر اعتبار الأوصاف في غير المعتادة مطلقا كما بيناه "
أقول: أشار بقوله " هذا التفسير " إلى التفسير الأخير وهو التفسير بأيام العادة. وهو
الظاهر فإنه المتبادر من النصوص بالخصوص لا العموم كما ادعاه، ومنها - صحيحة
محمد بن مسلم (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة ترى الصفرة
في أيامها؟ فقال لا تصل حتى تنقضي أيامها وإن رأت الصفرة في غير أيامها توضأت
وصلت " وموثقة معاوية بن حكيم (4) قال قال: " الصفرة قبل الحيض بيومين فهو من

(1) ص 163
(2) ص 161.
(3) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(4) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
232

الحيض وبعد أيام الحيض ليس من الحيض وفي أيام الحيض حيض " وفي مرسلة يونس
عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) " كل ما رأت المرأة في أيام حيضها
من صفرة أو حمرة فهو من الحيض، وكل ما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض " ورواية
إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " إذا رأت المرأة الصفرة قبل انقضاء أيام عادتها لم تصل وإن كانت صفرة بعد انقضاء أيام قرئها صلت " إلى غير ذلك
من الأخبار الظاهرة في المراد، فإن التعبير بأيامها في الخبر الأول إنما ينصرف إلى المعهود
من أيام عادتها لا ما يمكن كونه حيضا، وقرينة التقسيم في الثانية ظاهرة في العادة،
وكذا في الثالثة والرابعة، وبالجملة فإن تبادر ذلك من الأخبار أظهر من أن ينكر.
وأما ما ذكره في المدارك من أن الظاهر اعتبار الأوصاف في غير المعتادة مطلقا فهو على
اطلاقه ممنوع بل الأظهر الوقوف على الأخبار إن وجدت وإلا فالرجوع إلى الأوصاف
كما ذكره، وقد قدمنا جملة من الأخبار الدالة على التحيض بما ينفق في العشرة ونحوها الأخبار
الدالة على التحيض بالدم الثاني بعد توسط أقل الطهر، ومثل ذلك أخبار المبتدأة فإنه
قد تقدم ما يدل على تحيضها برؤية الدم مطلقا، وهذه كلها خارجة عن أيام العادة مع
دلالة الأخبار على التحيض فيها برؤية الدم وافق دم الحيض أو خالفه. والله العالم.
(المطلب الثالث) - في المضطربة وفيه مسائل: (الأولى) - قد اضطرب
كلامهم في تفسير المضطربة، ففسرها في المعتبر بأنها التي لم تستقر لها عادة وجعل الناسية
للعادة قسيما لها، والذي صرح به العلامة ومن تأخر عنه أنها من استقرت لها عادة ثم
اضطرب عليها الدم ونسيتها. أقول: وهذا المعنى الثاني هو الذي صرحت به رواية
يونس الطويلة المتقدمة (3) حيث قال (عليه السلام): " وأما سنة التي قد كانت لها أيام
متقدمة ثم اختلط عليها من طول الدم فزادت ونقصت حتى أغفلت عددها وموضعها
من الشهر... الحديث " وظاهره أن المضطربة هي ناسية الوقت والعدد، وتعرف هذه

(1) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض.
(3) ص 182.
233

عند الفقهاء بالمتحيرة لتحيرها في نفسها والمحيرة للفقيه في أمرها، وظاهر الأصحاب
رجوع المضطربة بتفسيرها إلى التمييز، وعلله في المدارك بعموم الأدلة الدالة على ذلك ثم نقل
عن بعض المحققين أنه قال: وقد تقدم أن المضطربة من نسيت عادتها إما عددا أو وقتا
أو عددا ووقتا، والحكم برجوعها إلى التمييز مطلقا لا يستقر لأن ذاكرة العدد الناسية للوقت
لو عارض تمييزها عدد أيام العادة لم ترجع إلى التمييز بناء على ترجيح العادة على التمييز، وكذا
القول في ذاكرة الوقت ناسية العدد، ويمكن الاعتذار عنه بأن المراد برجوعها إلى التمييز
ما إذا طابق تمييزها العادة بدليل ما ذكره من ترجيح العادة على التمييز. هذا كلامه
(رحمه الله) ثم قال: " ولا يخفى أنه على هذا الاعتذار لا يظهر لاعتبار التمييز فائدة،
ويمكن أن يقال باعتبار التمييز في الطرف المنسي خاصة أو تخصيص المضطربة بالناسية للوقت
والعدد " انتهى.
أقول: لا يخفى أنه لم يرد في الأخبار ما يدل على معنى المضطربة وحكمها من
الرجوع إلى التمييز إلا رواية يونس المشار إليها (1) وقد عرفت أن الذي تضمنته إنما
هو ناسية الوقت والعدد خاصة، وأما من لم تستقر لها عادة - كما فسرها به في المعتبر
أو ناسية العدد خاصة كما ذكره المحقق المشار إليه - فلا أعرف له مستندا، ومنه يظهر عدم
ورود ما أورده من الاشكال الذي تكلف الجواب عنه. ويمكن استفادة المضطربة بالمعنى
الذي ذكره المحقق المشار إليه وهي الناسية للعدد خاصة أو الوقت خاصة بما ورد في رواية
إسحاق بن جرير (2) حيث قال فيها: " قالت فإن الدم يستمر بها الشهر والشهرين
والثلاثة فكيف تصنع بالصلاة؟ قال تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل صلاتين. قالت
له أن أيام حيضها تختلف عليها وكان يتقدم الحيض اليوم واليومين والثلاثة ويتأخر مثل
ذلك فما علمها به؟ قال: دم الحيض ليس به خفاء هو دم حار تجد له حرقة ودم الاستحاضة

(1) المتقدمة ص 182.
(2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الحيض.
234

دم فاسد بارد... الحديث " والتقريب فيه أنه إذا كان الاضطراب يحصل بالتقدم والتأخر
على الوجه المذكور فلأن يحصل بنسيان العدد أو الوقت بطريق أولى. وفيه ما فيه، على أنه
يحتمل أن يكون المعنى في الخبر المذكور أنه تنظر إلى هذا الدم الذي يأتيها في أيام العادة
مع ما هي عليه من التقدم والتأخر على الوجه المذكور فتجعل ما تجده بصفة الحيض حيضا
وما كان بصفة الاستحاضة استحاضة، وبذلك يظهر أنه لا يكون حكما كليا كما هو
المدعى. والتحقيق أنه إن عارض التمييز العادة فالترجيح للعادة لما عرفت فيما تقدم.
وإلا فإن وجد في الأخبار ما يدل على التحيض بذلك الدم مطلقا فالواجب الأخذ به
وإلا فالعمل على التمييز، إذ الظاهر من أخبار التمييز هو الرجوع إليه في مقام اشتباه
الدم، ففي صحيحة حفص بن البختري (1) قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)
امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم فلا تدري حيض هو أو غيره؟ قال فقال لها: إن دم
الحيض حار عبيط أسود له دفع وحرارة ودم الاستحاضة أصفر بارد فإذا كان للدم
حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة... " وحينئذ فيجب الرجوع إلى التمييز في جميع أقسام
المضطربة ما لم تعارضه ثمة عادة، هذا بالنسبة إلى العادة العددية الوقتية، أما العددية
خاصة فلو عارضها التمييز كان تكون عادتها خمسة مثلا ورأت الدم بصفات دم الحيض أقل
أو أكثر منها فظاهر اطلاق كلام الأصحاب هو الرجوع إلى التمييز حيث إنهم أطلقوا
رجوع المضطربة بجميع أقسامها إلى التمييز، واحتمال الرجوع إلى العادة قوي، والأحوط
هنا الجمع بينهما يجعل الجميع حيضا وقضاء عبادات ما زاد أو نقص عن أيام العادة،
وأما الوقتية فمتى عارضها التمييز فالظاهر رجحان العادة، فلو رأت في ذلك الوقت ما هو
بصفة دم الاستحاضة وفي غيره ما هو بصفة دم الحيض فالأقرب تحيضها بما رأته في الوقت
المذكور لقوة دلالة الوقت وعموم الأخبار الدالة على أن الصفرة والكدرة في وقت

(1) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الحيض.
235

الحيض حيض (1). والله العالم.
(المسألة الثانية) - قد تقدم أن ظاهر كلام الأصحاب أنه يجب الاستظهار على
المبتدأة والمضطربة بأن تتعبد في أول الدم ثلاثة أيام ليتحقق كونه حيضا، وقد عرفت أنه
في المبتدأة لا دليل عليه بل الدليل واضح في خلافه، وكذا هنا، قال في المدارك - بعد
أن نقل عن المصنف وجوب الاحتياط على المضطربة بأقسامها الثلاثة المتقدمة - ما لفظه:
" والحكم بوجوب الاحتياط عليها إنما يتم في ناسية الوقت أما ذاكرته فإنها تتحيض
برؤية الدم قطعا، وقد تقدم أن الأظهر تحيض الجميع برؤية الدم إذا كان بصفة دم الحيض "
أقول: أما ما ذكره - من تحيض ذاكرة الوقت بمجرد رؤية الدم - فلا اشكال فيه، وأما
ما ذكره - من أن الأظهر كما تقدم تحيض الجميع برؤية الدم إذا كان بصفة دم الحيض
إشارة إلى ما قدمه في المبتدأة - فقد عرفت ما فيه ثمة، إلا أن الحكم في المضطربة لما كان
هو الرجوع إلى التمييز الذي هو الأخذ بصفات دم الحيض فإنه يختص التحيض بما إذا
كان الدم بصفة دم الحيض البتة، وأما ما ذكره الأصحاب من الاحتياط بأن لا تترك
العبادة ثلاثة أيام فإن أرادوا به الاحتياط في صورة كون الدم بصفة دم الحيض فهو خلاف
النص الذي هو رواية يونس المتقدمة (2) فإنه قد تكرر فيها الأمر بالتحيض بصفات
الدم كقوله (صلى الله عليه وآله): " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت
فاغسلي عنك الدم وصلي " وقول الباقر (عليه السلام): " إذا رأيت الدم البحراني
فدعي الصلاة وإذا رأيت الطهر ولو ساعة من نهار فاغتسلي " وإن أرادوا به الاحتياط
في غير الصورة المذكورة فهو ليس باحتياط بل هو الحكم الشرعي في ذلك، فإنها مع
عدم اتصاف الدم بصفات دم الحيض فالحكم الشرعي فيها وجوب العبادة عليها كما
عرفت من قوله (صلى الله عليه وآله): " وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي "
والمراد باقبال الدم وادباره هو الاتصاف بصفات دم الحيض وعدمه، ونحوه قول الباقر

(1) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الحيض
(2) ص 182.
236

(عليه السلام): " وإذا رأيت الطهر ساعة " يعني ما ليس بصفة دم الحيض، وبالجملة
فإني لا أعرف لهذا الاحتياط هنا محلا ولا دليلا.
(المسألة الثالثة) - قد صرح الأصحاب بأن المضطربة متى فقدت التمييز فلا يخلو
إما أن تكون ناسية الوقت والعدد معا أو ناسية للوقت خاصة ذاكرة للعدد أو بالعكس
فههنا صور ثلاث:
(الأولى) - ناسية الوقت والعدد وهي المشهورة بالمتحيرة كما تقدم، قيل
بأنها ترجع إلى الروايات بأن تتحيض في كل شهر بستة أيام أو سبعة أو عشرة من شهر
وثلاثة من آخر، ومتى اختارت عددا جاز لها وضعه في أي موضع شاءت لعدم الترجيح
في حقها ولا اعتراض للزوج، وهل يجب في الشهر الثاني وما بعده المطابقة في الوقت لما
عليه في الأول أو يكون التخيير باقيا وكذا التخيير في الأعداد؟ احتمالان، وهذا هو
المشهور عندهم بل نقل عليه الشيخ في الخلاف الاجماع، مع أنه في المبسوط أفتى بوجوب
الاحتياط عليها بأن تعمل في الزمان كله ما تعمله المستحاضة، وتغتسل للحيض في كل
وقت يحتمل انقطاع الدم فيه وهو بعد الثلاثة لكل صلاة، لاحتمال انقطاع الدم عنها
إذ ما من زمان بعد الثلاثة إلا ويحتمل الحيض والطهر والانقطاع، وتقضي صوم عادتها
وأوجب عليها اجتناب ما تجتنبه الحائض، وجعل العلامة في القواعد هذا القول أحوط.
وقال الشيخ في الجمل ترجع إلى التمييز فإن فقدته تركت الصلاة في كل شهر سبعة أيام.
وقال في النهاية: " فإن كانت المرأة لها عادة إلا أنه اختلطت عليها العادة واضطربت وتغيرت
عن أوقاتها وأزمانها فكلما رأت الدم تركت الصوم والصلاة وكلما طهرت صلت وصامت
إلى أن ترجع إلى حال الصحة. وقد روي أنها تفعل ذلك ما بينها وبين شهر ثم تفعل ما تفعله
المستحاضة " وقريب منه كلام الصدوق في الفقيه، وقال أبو الصلاح أنها ترجع إلى عادة
نسائها فإن لم يكن لها نساء تعرف عادتهن اعتبرت صفة الدم، فإن كان الدم بصفة واحدة
تحيضت في كل شهر سبعة أيام، قال في المختلف: " وهذا القول مخالف للمشهور في
237

أمرين: (الأول) - أنه جعل للمضطربة رجوعا إلى نسائها والمشهور أن ذلك للمبتدأة
خاصة (الثاني) - أنه جعل التمييز مرجوعا إليه بعد فقد النساء " وقال ابن إدريس:
إذا فقدت التمييز كان فيها الأقوال الثلاثة المذكورة في المبتدأة، وكان قد ذكره في المبتدأة
ستة أقوال: (الأول) - أنها تتحيض في الشهر الأول بثلاثة أيام وفي الثاني بعشرة.
(الثاني) - عكسه (الثالث) - سبعة أيام (الرابع) - ستة أيام (الخامس) - ثلاثة
أيام في كل شهر (السادس) - عشرة في كل شهر. ورجح المحقق في المعتبر أنها تتحيض
بثلاثة أيام وتصلي وتصوم بقية الشهر استظهارا وعملا بالأصل في لزوم العبادة. قال في
المدارك بعد نقله عنه: " وهو متجه " هذا ما وقفت عليه من أقوالهم في هذه المسألة.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة رواية يونس المتقدمة (1) وقد تضمنت
أنها مع فقد التمييز تتحيض بسبعة أيام حيث قال (عليه السلام) في آخر الرواية بعد
الأمر بالعمل بالتمييز والأخذ باقبال الدم وادباره: " فإن لم يكن الأمر كذلك ولكن
الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارة وكان الدم على لون واحد وحالة واحدة
فسنتها السبع والثلاث والعشرون... الحديث " ومن ذلك يظهر قوة ما ذهب إليه في
الجمل لدلالة هذا الخبر عليه. وأما القول المشهور فهو مبني على الاستدلال بموثقتي
ابن بكير وموثقة سماعة المتقدمات في بحث المبتدأة (2) وموردها إنما هو المبتدأة كما
عرفت فالاستدلال بها هنا لا أعرف له وجها، والعجب من غفلة الجميع عن ذلك ولا سيما
متأخري المتأخرين الذين عادتهم المناقشة في الأدلة كصاحب المدارك ونحوه. وأما قول
الشيخ في النهاية ونحوه الصدوق فمستنده موثقتا يونس بن يعقوب وأبي بصير المتقدمتان
في الموضع الأول من المقام الثاني من المطلب الأول في المبتدأة من المقصد الثاني (3)
بحمل الروايتين على من اختلط دمها كما عبر به في النهاية ونحوه في الإستبصار كما تقدم ثمة.
وفيه أن الظاهر أن الحكم المذكور كلي في جميع أفراد المضطربة والخبران لا يساعدان

(1) ص 182
(2) ص 194
(3) ص 195.
238

عليه لتخصيصهما ذلك بالشهر أو الثلاثين يوما ثم تعمل عمل المستحاضة، وبالجملة فالظاهر
هو القول بهما والوقوف على موردهما كما يشعر به كلام الصدوق وإن كان ظاهر عبارة
الفقيه كونه حكما كليا حيث أوجب عليها ذلك إلى أن ترجع إلى حال الصحة، فإنه
لا دليل عليه في المقام سوى الخبرين المذكورين وهما قاصران عن الدلالة على ما ادعاه.
وأما ما ذهب إليه أبو الصلاح من التحيض بسبعة بعد فقد التمييز فهو جيد لما عرفت من
الدليل وإن كان ما ادعاه من الرجوع إلى نسائها أولا لا دليل عليه. وأما ما ذكره ابن
إدريس فقد عرفت ما فيه مما أوردناه على القول المشهور. وأما ما ذكره المحقق فقد تقدم
الكلام فيه وأوضحنا ما يكشف عن ضعف باطنه وخافيه في بحث المبتدأة في الموضع
الثالث من المقام الثاني من المطلب الأول في المبتدأة من المقصد الثاني. وأما ما ذكره
الشيخ من الاحتياط المذكور فقد رده جملة من الأصحاب باستلزامه الحرج المنفي في الآية
والأخبار، قال في الذكرى: " والقول بالاحتياط عسر منفى بالآية والرواية " وقال
في البيان: " الاحتياط هنا بالرد إلى أسوء الاحتمالات ليس مذهبا لنا " وفيه إشارة
إلى كونه قولا للعامة، وهو كذلك فإنه نقله في المنتهى عن الشافعي، وبالجملة فهو قول
لا دليل عليه بل الدليل ظاهر في خلافه كما عرفت. وبالجملة فالظاهر عندي في المسألة
هو ما ذهب إليه الشيخ في الجمل لما عرفت. والله العالم.
(الثانية) - ناسية الوقت ذاكرة العدد، والمشهور بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) أنها تعمل على العدد المذكور وتتخير في وضعه في أي موضع أرادت من
الشهر، وعن المبسوط أنها تعمل بالاحتياط المتقدم، واختاره العلامة في الإرشاد ونسبه
في الشرائع إلى القيل واقتصر عليه، ومثله في المعتبر حيث نقل ذلك عن الشيخ واقتصر
عليه، وهو مؤذن باختياره، وقال في الروض: " ويتفرع على هذا القول فروع جليلة
ومسائل مشكلة " ثم إنه ينبغي أن يعلم أن موضع الخلاف هنا ما إذا لم يحصل لها وقت
معلوم في الجملة بحيث يتحقق فيه الحيض كما لو لم تعرف قدر الدور وابتداءه فإنها لا تخرج
239

عن المتحيرة إلا في نقصان العدد التي حفظته أو زيادته عما في الروايات، كما لو قالت
كان حيضي سبعة لكن لا أعلم في كم أضللتها، أو قالت مع ذلك دوري ثلاثون ولكن
لا أعلم ابتداءه، أو قالت دوري يبتدئ يوم كذا ولكن لا أعرف قدره، ففي هذه
الصور ترجع إلى الروايات على المشهور لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع في كل وقت،
أو تعمل بالاحتياط في كل الزمان عند من ذهب إليه، وإن حفظت قدر الدور وابتداءه
مع العدد كما لو قالت حيضي سبعة في كل شهر هلالي فقدر العدد من أوله لا يحتمل
الانقطاع وإنما يحتمل الحيض والطهر وبعده يحتمل الثلاثة إلى آخر الدوران كان
الاضلال فيه أجمع، وإن تيقنت سلامة بعضه كالعشرة الأخيرة من الشهر - مثلا -
حكمت بكونه طهرا، والحكم حينئذ في العشرين الباقية أنها تتحيض بالعدد المذكور
وتتخير في وضعه بين الأيام التي أضلت فيها وتجعل الدور استحاضة، أو تعمل بالاحتياط
عند من ذهب إليه في جميع أوقات الاضلال، وهو أن تغتسل للحيض في كل وقت
يحتمل الانقطاع وهو ما زاد على العدد من أول الدور لعدم إمكان الانقطاع قبل انقضائه
وهكذا ما بعده من الأوقات التي يحتمل فيها الانقطاع، تغتسل لكل عبادة مشروطة
به، وتترك تروك الحائض، ولزمها مع ذلك تكليف المنقطعة من العبادات والأغسال
أو الوضوءات، وتقضي صوم عادتها خاصة وهو العدد الذي حفظته إن علمت عدم
الكسر وإلا لزمها قضاء يوم آخر، وبالجملة فإن الاحتياط على القول به وعدم تحقق
الحيض إنما يكون فيما إذا لم يحصل لها وقت معلوم في الجملة بأن تضل العدد في وقت يزيد
نصفه عن ذلك العدد أو يساويه، كما لو أضلت خمسة أو أربعة في عشرة فإنها لا حيض
لها متيقن لمساواة العدد لنصف الزمان ونقصانه، أما لو زاد العدد على نصف الزمان كما
إذا أضلت سبعة في عشرة فإنه يتعين كون الزائد وضعفه حيضا بيقين وهو السادس والخامس
لاندراجهما بتقدير تقدم الحيض وتأخره وتوسطه ويتعلق احتمال الانقطاع بالسادس
إلى تمام العشرة، فعلى العمل بالمشهور تضم إلى هذين اليومين بقية العدد المذكور متقدما
240

أو متأخرا أو بالتفريق، وعلى العمل بالاحتياط تجمع في الأربعة الأولى بين أفعال
المستحاضة وتروك الحائض وفي الأربعة الأخيرة تزيد على ذلك غسل الانقطاع عند كل
صلاة، ولو أضلت خمسة في التسعة الأولى فالخامس خاصة حيض لأن العدد يزيد عن
نصف الوقت الذي وقع فيه الضلال بنصف يوم فهو مع ضعفه يوم كامل حيض، ولو أضلت
سبعة في العشرة فالمتحقق حيضا أربعة وهو الرابع والسابع وما بينهما، والحكم في ذلك
بناء على القولين ما تقدم في مسألة اضلال الستة في العشرة، ومن هنا يعلم أحكام مسائل
المزج المشهورة في كلامهم وأمثلتها كثيرة، ولنذكر منها مثالين للتدرب بهما في تحصيل
نظائرهما (فمنها) - ما لو قالت حيضي ستة وكنت أمزج أحد نصفي الشهر بالآخر
بيوم، فهذه أضلت ستة في العشرة الأواسط فلها يومان حيض متيقن وهما الخامس عشر
والسادس والعشرة الأولى من الشهر طهر بيقين ويتعلق احتمال الانقطاع بالسادس
عشر إلى العشرين، والعمل في الأربعة المتقدمة والمتأخرة كما تقدم. و (منها) - ما لو
قالت حيضي عشرة وكنت أمزج أحد نصفي الشهر بالآخر بيوم فقد أضلتها في ثمانية عشر،
فالزائد من العشرة عن نصفها وهو يوم وضعفه حيض في وسط وقت الضلال وهو ما بين
السادس والخامس والعشرين، والخامس عشر والسادس عشر حيض متيقن كما أن الستة
الأولى من الشهر والستة الأخيرة طهر متيقن، ويتعلق احتمال الانقطاع بالسادس عشر
إلى الرابع والعشرين، فعلى الاحتياط تغتسل عليها للحيض وتجمع في الثمانية السابقة على
اليومين والثمانية اللاحقة بين أفعال المستحاضة وتروك الحائض، وعلى المشهور تضم
أي الثمانيتين شاءت إلى اليومين، وعلى ذلك فقس.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المسألة المذكورة لما كانت عارية من النصوص على العموم
والخصوص فالواجب فيها الرجوع إلى الاحتياط كما أمروا به (عليهم السلام) في مقام
اشتباه الأحكام، إما لعدم الدليل أو لاشتباهه وعدم ظهور المعنى المراد منه، وبذلك
يظهر قوة ما ذهب إليه الشيخ (رحمه الله) هنا، وما رده به بعض الأصحاب من لزوم.
241

العسر والحرج غير مسموع في مقابلة النصوص الدالة على وجوبه في مثل ذلك، ولولا
أن الدليل في الصورة الأولى موجود لما كان عن القول بالاحتياط فيها أيضا معدل.
(الثالثة) - ذاكرة الوقت ناسية العدد، وهذه لا تخلو إما أن تذكر أول الوقت
أو آخره أو وسطه أو شيئا منه في الجملة، فههنا أيضا صور أربع:
(الأولى) - أن تذكر أوله وحينئذ فيجب أن تكمله بيومين لتبين كون الجمع حيضا
ويبقي الزائد عنها إلى تمام العشرة محل شك واشكال لاحتمال الطهر والحيض فيها، فيحتمل
أن تجعل طهرا بناء على أن تلك الثلاثة هي وظيفة الشهر والحيض المتيقن، واختاره الشهيد
في البيان، ونقله في المدارك عن المعتبر واستحسنه جريا على ما قدمنا نقله عنه سابقا.
وفيه ما عرفت ثمة. وقيل - وهو المشهور - ترجع إلى الروايات بأن تجعل حيضها عشرة
أو ستة أو سبعة فتضم إلى الثلاثة ما تكمل بما تختاره منها، لصدق النسيان الموجب للحكم
في حديث السنن (1) وتجعل الباقي استحاضة، ونقله في الروض عن الشهيد أيضا. وفيه
أن ظاهر مورد حديث السنن إنما هو ناسية الوقت والعدد معا كما قدمنا ذكره لا ناسية
أحدهما، حيث قال فيه: " وأما سنة التي قد كانت لها أيام متقدمة ثم اختلط عليها
من طول الدم فزادت ونقصت حتى أغفلت عددها وموضعها من الشهر، ثم قال (عليه
السلام) بعد كلام في البين: فهذا يبين أن هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها لم تعرف
عددها ولا وقتها... الحديث " وحينئذ فلا دلالة في الخبر على هذه الصورة كما لا دلالة
فيه على سابقتها. وقيل بالعمل بالاحتياط كما ذكره الشيخ ومن تبعه بالجمع بين التكاليف
الثلاثة: الحيض والاستحاضة والانقطاع، فتغتسل للانقطاع بعد الثلاثة وعند كل صلاة
أو غاية مشروطة بالطهارة، وحينئذ إن قلنا بالتداخل بين الأغسال - كما هو الحق في
المسألة - يجب عليها للصلوات الخمس خمسة أغسال، وإن قلنا بعدم التداخل يجب عليها
للصلوات الخمس ثمانية أغسال مع كثرة الدم، خمسة للانقطاع وثلاثة للاستحاضة.

(1) وهو مرسل يونس المتقدم ص 182.
242

(الثانية) - أن تذكر آخره فيكون نهاية الثلاثة فتجعلها حيضا بيقين، والكلام
في السبعة حسبما تقدم، إلا أنه لا مجال هنا لامكان الانقطاع فتقتصر على أفعال
المستحاضة وتروك الحائض، وغسل الانقطاع إنما يكون بعد الثلاثة المتيقنة.
(الثالثة) - أن تذكر وسطه خاصة بالمعنى المعروف لغة وهو ما بين الطرفين
ومرجعه إلى أن تعرف كونه في أثناء الحيض، فإن ذكرت يوما واحدا حفته بيومين
حيضا محققا وضمت إلى الثلاثة ما يكمل باختيارها من الروايات - على القول بالرجوع إلى
الروايات - قبل المتيقن أو بعده أو بالتفريق، وإن ذكرت يومين حفتهما بيومين آخرين
فيتحقق لها أربعة أيام حيضا محققا وتضم إليها تمام الرواية التي تختارها، وعلى القول
بالاحتياط تكمل ما تحققته عشرة قبله أو بعده أو بالتفريق وتعمل في الزائد على ما تحققته
بالتكاليف الثلاثة متى كان متأخرا عما تحققته وإلا بما عدا الانقطاع لو كان متقدما، ولو
ذكرت الوسط بالمعنى الحقيقي أعني المحفوف بمتساويين، فإن كان يوما فالحكم فيه
ما تقدم في اليوم من الوسط بالمعنى الأول، إلا أنها هنا على تقدير العمل بالروايات
لا تختار من الروايات زوجا كالستة لعدم تحقق الحافتين بل إما تأخذ سبعة أو ثلاثة،
وعلى تقدير القول بالاحتياط تضم إلى الثلاثة المتيقنة ثلاثة أخرى قبلها وثلاثة أخرى
بعدها وتكتفي بالتسعة للعلم بانتفاء العاشر حينئذ.
(الرابعة) - أن تذكر شيئا منه في الجملة فهو الحيض المتيقن، فعلى القول
بالرجوع إلى الروايات إن ساوى إحداها أو زاد اقتصرت عليه حسبما يتصور وإن
قصر عنها أكملته بإحداها قبله أو بعده أو بالتفريق، وعلى القول بالاحتياط
تكمله عشرة أو تجعله نهاة عشرة. إذا عرفت ذلك فاعلم أن الواجب في هذه
الصورة بمقتضى ما قدمناه من عدم وجود النص ووجوب العمل بالاحتياط في أمثال
ذلك هو العمل بالاحتياط الذي ذكره الشيخ فيما زاد على المتيقن من الفروض
المذكورة. والله العالم.
243

(المقصد الثالث) - في الأحكام وفيه أيضا مسائل: (الأولى) - المشهور بين
الأصحاب جواز وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الغسل على كراهية، ونقلوا عن
الصدوق في الفقيه القول بالتحريم، واعترضهم جملة من متأخري المتأخرين: منهم - بل
ربما كان أولهم - صاحب المدارك وتبعه من تبعه بأن كلامه في الفقيه غير ظاهر في التحريم
لتصريحه بجواز مجامعتها لو كان الزوج شبقا. أقول وعبارة الفقيه هكذا: " ولا يجوز
مجامعة المرأة في حيضها لأن الله عز وجل فهي عن ذلك فقال: "... ولا تقربوهن حتى
يطهرن... " (1) يعني بذلك الغسل من الحيض، فإن كان الرجل شبقا وقد طهرت المرأة
وأراد أن يجامعها قبل الغسل أمرها أن تغسل فرجها ثم يجامعها " انتهى. ومن نقل عنه
القول بالتحريم استند إلى صدر عبارته الدال على أن الله سبحانه نهى عن ذلك حتى
تغتسل، ولا ريب أن هذا الكلام صريح فيما ذكروه ونسبوه إليه من القول بالتحريم،
ومن نقل عنه القول بالجواز استند إلى قوله: " فإن كان الرجل شبقا... الخ " وأنت
خبير بأن المفهوم من هذه العبارة أنه يرى التحريم كما هو صريح صدر عبارته ولكنه
يستثنى هذا الفرد للأخبار الدالة عليه (2) فكأنه يخصص عموم الآية بالأخبار المذكورة
ولولا ذلك لكان التدافع في كلامه أظهر ظاهر، فإن صدر كلامه ظاهر في التحريم حتى
تغتسل عملا بظاهر الآية التي استند إليها وهي قراءة " يطهرن " بالتشديد، إذ المراد
بالطهارة الغسل البتة، وبالجملة فالظاهر عندي هو صحة ما نسبوه إليه من القول بالتحريم
وإن استثنى منه هذا الفرد بخصوصه.
والواجب أولا تحقيق الكلام في معنى الآية ثم العطف على الأخبار الواردة في المسألة،
فنقول: قد استدل على القول المشهور بقراءة السبعة: " ولا تقربوهن حتى يطهرن " (3)
بالتخفيف أي يخرجن من الحيض، يقال طهرت المرأة إذا انقطع حيضها، فجعل سبحانه

(1) سورة البقرة. الآية 221.
(2) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب الحيض.
(3) سورة البقرة. الآية 221.
244

غاية التحريم انقطاع الدم فيثبت الحمل بعده عملا بمفهوم الغاية، لأن الحق أنه حجة بل
صرح الأصوليون بأنه أقوى من مفهوم الشرط، قالوا: ولا ينافي ذلك قراءة التشديد
(أما أولا) - فلأن " تفعل " قد جاء في كلامهم بمعنى " فعل " كقولهم تبين وتبسم
وتطعم بمعنى بأن وبسم وطعم، قيل ومن هذا الباب المتكبر في أسماء الله تعالى بمعنى
الكبير، وإذا ثبت اطلاق هذه البنية على هذا المعنى كان الحمل عليه أولى صونا للقراءتين
عن التنافي. و (أما ثانيا) - فلامكان حمل النهي في هذه القراءة على الكراهة توفيقا
بين القراءتين وكون النهي عن المباشرة بعد انقطاع الدم لسبق العلم بتحريمها حالة الحيض
من صدر الآية أعني قوله تعالى: "... فاعتزلوا النساء في الحيض... " (1) هكذا قرره في
المدارك. وفيه (أولا) - أن مدار الاستدلال على حجية مفهوم الغاية كما ذكره، وهو
وإن سجل على حجيته بما ذكره إلا أنه غير ظاهر عندي لما قدمناه في مقدمات الكتاب
من أنه لم يقم دليل شرعي على حجية شئ من المفاهيم المذكورة سوى مفهوم الشرط
كما تقدم، والتعويل على مجرد ما يذكر في الأصول من الدعاوي التي يزعمونها أدلة غير
ثابت عندي، بل المدار عندي في الاستدلال إنما هو على الكتاب والسنة وهما الثقلان
اللذان أمر (صلى الله عليه وآله) بالتمسك بهما بعده. و (ثانيا) - فإن ما ادعاه - من أن " يطهرن " بالتخفيف أي يخرجن من الحيض - مبني على تفسير الطهارة بالمعنى
اللغوي، ولم لا يجوز الحمل على المعنى الشرعي؟ سيما مع القول بالحقائق الشرعية لا بد
لنفيه من دليل. و (ثالثا) - أن ما ذكره من حمل صيغة " تطهرن " بالتشديد على
" طهرن " مجاز لا يصار إليه مع إمكان الحمل على الحقيقة، وما ادعاه - من أن الحمل
عليه أولى لصون القراءتين عن التنافي - مردود بأنه يمكن دفع التنافي بحمل الطهارة في
قراءة التخفيف على المعنى الشرعي فتجتمع مع قراءة التشديد الصريحة في المعنى الشرعي.
و (رابعا) - أن التعارض إنما وقع بين مفهوم الغاية على تقدير قراءة التخفيف وبين

(1) سورة البقرة. الآية 221.
245

منطوق قراءة التشديد، ومع تسليم حجية المفهوم المذكور في حد ذاته فترجيحه على المنطوق
ممنوع بل حجية المنطوق أقوى، ويؤيده أيضا مفهوم الشرط في قوله سبحانه: "... فإذا
تطهرن فآتوهن... " (1) فإن الأمر للإباحة ومفهوم أن قبل التطهر غير مباح اتيانهن وكذا
قوله في آخر الآية: "... إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " فإن هذه المحبة إنما تترتب
على من فعل الطهارة وأتى بها التي هي عبارة عن الغسل لا على من حصلت له قهرا بانقطاع الدم.
وكيف كان فالاستناد إلى الآية المذكورة مما لا يخلو من شوب الاشكال لما
عرفت من تعدد الاحتمال فلم يبق إلا الرجوع إلى الأخبار:
ومنها - ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه
السلام) (2): " في المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها؟ قال إذا أصاب زوجها
شبق فليأمرها فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء قبل أن تغتسل ".
وما رواه الشيخ في الموثق عن علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) (3)
قال: " سألته عن الحائض ترى الطهر أيقع عليها زوجها قبل أن تغتسل؟ قال لا بأس
وبعد الغسل أحب إلي ".
وفي الموثق عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال:
" إذا انقطع الدم ولم تغتسل فليأتها زوجها إن شاء ".
وعن عبد الله بن المغيرة عمن سمعه عن العبد الصالح (عليه السلام) (5) " في
المرأة إذا طهرت من الحيض ولم تمس الماء فلا يقع عليها زوجها حتى تغتسل وإن فعل
فلا بأس به، وقال تمس الماء أحب إلي "
أقول: وبهذه الأخبار أخذ من قال بالقول المشهور.
ومنها - ما رواه الشيخ في الموثق عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6)

(1) سورة البقرة. الآية 221.
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب الحيض.
(4) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب الحيض.
(5) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب الحيض.
(6) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب الحيض.
246

قال: " سألته عن امرأة كانت طامثا فرأت الطهر أيقع عليها زوجها قبل أن تغتسل؟ قال:
لا حتى تغتسل. قال: وسألته عن امرأة حاضت في السفر ثم طهرت فلم تجد ماء يوما
أو اثنين أيحل لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل؟ قال: لا يصلح حتى تغتسل ".
وفي الموثق عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمان (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن امرأة حاضت ثم طهرت في سفر فلم تجد الماء يومين أو ثلاثة هل لزوجها
أن يقع عليها؟ قال لا يصلح لزوجها أن يقع عليها حتى تغتسل ".
وعن سعيد بن يسار في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " قلت له
المرأة تحرم عليها الصلاة ثم تطهر فتتوضأ من غير أن تغتسل أفلزوجها أن يأتيها قبل أن
تغتسل؟ قال: لا حتى تغتسل ".
وهذه الأخبار مما دل بظاهرها على التحريم قبل الغسل والأصحاب قد حملوها
على الكراهة جمعا بين الأخبار. أقول: لا اشكال في الحكم بالكراهة لدلالة الأخبار
المتقدمة عليها، والأظهر عندي في هذه الأخبار الحمل على التقية فإن جل العامة على
التحريم في هذه المسألة (3) ونقله في المنتهى عن الشافعي والزهري وربيعة ومالك
والليث والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ونقل عن أبي حنيفة أنه إن انقطع الدم
لأكثر الحيض حل وطؤها وإن انقطع لدون ذلك لم يبح حتى تغتسل أو تتمم أو يمضي
عليها وقت الصلاة (4).
أقول: ومن أخبار المسألة ما رواه في الكافي (5) عن أبي عبيدة قال: " سألت

(1) رواه في الوسائل في الباب 21 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب الحيض.
(3) كما في المغني لابن قدامة الحنبلي ج 1 ص 338 والبداية لابن رشد المالكي
ج 1 ص 52.
(4) كما في المغني ج 1 ص 338 والبداية ج 1 ص 52 والبحر الرائق ج 1 ص 202.
(5) رواه في الوسائل في الباب 21 من أبواب الحيض.
247

أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحائض ترى الطهر في السفر وليس معها من الماء
ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة؟ فقال: إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله
ثم تتيمم وتصلي. قلت: فيأتيها زوجها في تلك الحال؟ قال: نعم إذا غسلت فرجها
وتيممت فلا بأس ".
وعن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن المرأة
إذا تيممت من الحيض هل تحل لزوجها؟ قال: نعم ".
وربما يفهم من هذين الخبرين توقف الحل متى تعذر الغسل على التيمم بل وغسل
الفرج، وفي المعتبر أن ظاهر بعض عباراتهم وجوب غسل الفرج. أقول: لا يبعد
حمل توقف الحل على التيمم في هذين الخبرين على التقية لموافقته لمذهب أبي حنيفة كما
قدمنا نقله (2) والله العالم.
(المسألة الثانية) - المشهور بين الأصحاب أنه متى حاضت وقد مضي من
الوقت ما يسع الطهارة والصلاتين معا ولم تصلهما وجب عليها قضاؤهما بعد الطهر ولو لم
يسع إلا الأولى ولم تصلها وجب قضاؤها خاصة، وكذا المشهور - بل ادعى عليه
الاجماع - أنها متى طهرت من حيضها وقد بقي من الوقت ما يسع الطهارة والصلاتين
وجب عليها الأداء ومع التفريط القضاء حتى لو لم تدرك إلا بقدر الطهارة وركعة وجب
عليها الاتيان بما أدركت وقته وإلا فالقضاء، فههنا مقامان:
(الأول) - فيما لو حاضت وقد مضى من الوقت ما يسع الطهارة والصلاة،
فإنه يجب عليها الأداء ومع التفريط القضاء، ولو لم يمض القدر المذكور فإنه لا يجب عليها
القضاء، ويدل على الحكم الأول موثقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) قال: " في امرأة دخل علبها وقت الصلاة وهي طاهر فاخرت الصلاة حتى

(1) رواه في الوسائل في الباب 21 من أبواب الحيض.
(2) ص 247.
(3) المروية في الوسائل في الباب 48 من أبواب الحيض.
248

حاضت؟ قال: تقضي إذا طهرت " ورواية عبد الرحمان بن الحجاج (1) قال: " سألته
عن المرأة تطمث بعد ما تزول الشمس ولم تصل الظهر هل عليها قضاء تلك الصلاة؟ قال:
نعم " ويؤيده عموم ما دل على وجوب قضاء الفوائت وأما الحكم الثاني فاستدل عليه
العلامة في المنتهى بأن وجوب الأداء ساقط لاستحالة التكليف بما لا يطاق ووجوب
القضاء تابع لوجوب الأداء. وفيه أنه منقوض بوجوب الصلاة على الساهي والنائم وقضاء
الصوم على الحائض. والتحقيق أن يقال إن الأصل براءة الذمة مما لم يقم دليل على
التكليف به، وأن القضاء لا ترتب له على الأداء بل إنما يجب بأمر جديد كما عليه جملة
من المحققين، ويدل على ذلك موثقة سماعة (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن امرأة صلت من الظهر ركعتين ثم إنها طمثت وهي جالسه؟ فقال: تقوم من مكانها
ولا تقضي الركعتين " بحملها على كون صلاتها في أول الوقت. ونقل هنا عن المرتضى
والصدوق (رضي الله عنهما) الاكتفاء في وجوب القضاء بخلو الوقت عن الحيض بمقدار أكثر
الصلاة. ورده الأصحاب بعدم الوقوف على مأخذه. أقول: يمكن أن يكون مأخذه رواية
أبي الورد المروية في الكافي والتهذيب (3) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المرأة
التي تكون في صلاة الظهر وقد صلت ركعتين ثم ترى الدم؟ قال: تقوم من مسجدها
ولا تقضي الركعتين، قال: فإن رأت الدم وهي في صلاة المغرب وقد صلت ركعتين
فلتقم من مسجدها فإذا تطهرت فلتقض الركعة التي فاتتها من المغرب " وبهذه الرواية عبر
الصدوق في الفقيه فقال: " فإن صلت المرأة من الظهر ركعتين ثم رأت الدم قامت من
مجلسها وليس عليها إن طهرت قضاء الركعتين، فإن كانت في صلاة المغرب وقد صلت
منها ركعتين قامت من مجلسها فإذا طهرت قضت الركعة " والتقريب في الرواية المذكورة
بالحمل على الصلاة في أول الوقت، حيث فرق فيها بين الظهر والمغرب فأوجب قضاء الباقي
من المغرب دون الباقي من الظهر، لمضي أكثر الصلاة بالنسبة إلى المغرب دون الظهر.

(1) المروية في الوسائل في الباب 48 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 48 من أبواب الحيض.
(3) المروية في الوسائل في الباب 48 من أبواب الحيض.
249

وظاهر الرواية المذكورة إنما هو قضاء الباقي من الصلاة، والمعروف من كلام الأصحاب
- وهو الموافق للأدلة - إنما هو قضاء الصلاة كملا لو مضى من الوقت مقدارها مع الطهارة
ثم طرأ الحدث لا البناء على ما مضى والاتمام لها، وإن كان هذا مما ينطبق على مذهب
الصدوق في من نسي ركعة أو ركعتين ثم ذكر فإنه يقضي ما بقي ولو بلغ الصين، وبالجملة
فهذا القول ضعيف مرغوب عنه وروايته ضعيفة متهافتة وهي مردودة إلى قائلها وهو أعلم
بها. وأما ما أجاب به العلامة في المختلف - من حملها على أنها فرطت في المغرب دون الظهر،
قال: " وإنما يتم قضاء الركعة بقضاء الباقي ويكون اطلاق الركعة على الصلاة مجازا " انتهى -
فلا يخفى بعده.
(المقام الثاني) - فيما لو طهرت من حيضها وقد بقي من الوقت ما يسع الطهارة
والصلاتين أو إحداهما، فإنه يجب عليها الأداء ومع التفريط القضاء.
ويدل عليه جملة من الأخبار: منها - صحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) قال قال: " أيما امرأة رأت الطهر وهي قادرة على أن تغتسل في
وقت صلاة ففرطت فيها حتى يدخل وقت صلاة أخرى كان عليها قضاء تلك الصلاة
التي فرطت فيها، وإن رأت الطهر في وقت صلاة فقامت في تهيئة ذلك فجاز وقت الصلاة
ودخل عليها وقت صلاة أخرى فليس عليها قضاء وتصلي الصلاة التي دخل وقتها ".
ومنها - صحيحة أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" إذا رأت المرأة الطهر وهي في وقت الصلاة ثم أخرت الغسل حتى يدخل وقت صلاة
أخرى كان عليها قضاء تلك الصلاة التي فرطت فيها، وإذا طهرت في وقت فاخرت الصلاة
حتى يدخل وقت صلاة أخرى ثم رأت دما كان عليها قضاء تلك الصلاة التي فرطت فيها "
ورواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " إذا طهرت

(1) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 48 و 49 من أبواب الحيض بالتقطيع.
(3) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
250

الحائض قبل العصر صلت الظهر والعصر فإن طهرت في آخر وقت العصر صلت العصر "
ورواية أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " إذا
طهرت المرأة قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء وإن طهرت قبل أن تغيب الشمس
صلت الظهر والعصر ".
وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " إذا
طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصل الظهر والعصر وإن طهرت من آخر الليل
فلتصل المغرب والعشاء ".
ونحوها رواية داود الزجاجي (3) ورواية عمر بن حنظلة (4) فإنهما مشتملتان
على هذا التفصيل بالنسبة إلى الظهرين والعشاءين حسبما في سابقتيهما.
وبإزاء هذه الأخبار ما هو ظاهر المنافاة، ومنه - صحيحة معمر بن يحيى (5)
قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الحائض تطهر عند العصر تصلي الأولى؟
قال: لا إنما تصلي الصلاة التي تطهر عندها " وبهذا المضمون عبر في الفقيه فقال: " والمرأة
التي تطهر من حيضها عند العصر فليس عليها أن تصلي الظهر إنما تصلي الصلاة التي تطهر
عندها " والرواية المذكورة محمولة على الوقت المختص جمعا بينها وبين ما تقدم، وحينئذ فإن
أراد الصدوق ذلك وإلا كان ما ذكره مخالفا للمشهور بين الأصحاب.
ومنه - موثقة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (6) قال: " قلت
المرأة ترى الطهر عند الظهر فتشتغل في شأنها حتى يدخل وقت العصر؟ قال تصلي
العصر وحدها فإن ضيعت فعليها صلاتان " ويجب حملها أيضا على الوقت المختص.
والمراد باشتغالها في شأنها يعني السعي في تحصيل أسباب الغسل.
ورواية أبي همام عن أبي الحسن (عليه السلام) (7) " في الحائض إذا اغتسلت

(1) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
(3) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
(4) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
(5) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
(6) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
(7) المروية في الوسائل في الباب 49 من أبواب الحيض.
251

في وقت العصر تصلي العصر ثم تصلي الظهر " ويجب حملها على ما إذا طهرت في وقت يسع
الظهر والعصر ثم توانت بالغسل إلى الوقت المختص.
ومن ذلك موثقة الفضل بن يونس (1) قال: " سألت أبا الحسن الأول (عليه
السلام) قلت: المرأة ترى الطهر قبل غروب الشمس كيف تصنع بالصلاة؟ قال: إذا
رأت الطهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام فلا تصلي إلا العصر، لأن وقت
الظهر دخل عليها وهي في الدم وخرج عنها الوقت وهي في الدم فلم يجب عليها أن تصلي
الظهر، وما طرح الله تعالى عنها من الصلاة وهي في الدم أكثر، قال: وإذا رأت المرأة
الدم بعدما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام فلتمسك عن الصلاة فإذا طهرت من الدم
فلتقض صلاة الظهر، لأن وقت الظهر دخل عليها وهي طاهر وخرج عنها وقت الظهر
وهي طاهر فضيعت صلاة الظهر فوجب عليها قضاؤها ".
وظاهر الشيخ في التهذيب الجمع بين الأخبار المتقدمة بهذا الخبر حيث قال: " إن
المرأة إذا طهرت بعد زوال الشمس إلى أن يمضي منه أربعة أقدام فإنه يجب عليها قضاء الظهر
والعصر معا. وإذا طهرت بعد أن يمضي أربعة أقدام فإنه يجب عليها قضاء العصر لا غير
ويستحب لها قضاء الظهر إذا كان طهرها إلى مغيب الشمس ".
وإلى هذا القول مال في الذخيرة فقال بعد نقل كلام الشيخ: " وبهذا الوجه
جمع بين الأخبار المختلفة الواردة في هذا الباب، ونحوه قال في النهاية والمبسوط، وما
ذكره الشيخ طريقة حسنة في الجمع بين الأخبار " ثم نقل جملة من روايات الطرفين
وقال بعدها: " ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بوجهين: (الأول) حمل خبر الفضل
على التقية. و (الثاني) حمل خبر ابن سنان وما في معناه على الاستحباب، والثاني أقرب
لعدم ظهور كون مدلول خبر الفضل معمولا به بين العامة بل المشتهر بينهم خلافه (2)

(1) المروية في الوسائل في الباب 48 و 49 من أبواب الحيض بالتقطيع.
(2) في المغني لابن قدامة ج 1 ص 396 " قال الخرقي إذا طهرت الحائض وأسلم
الكافر وبلغ الصبي قبل أن تغرب الشمس صلوا الظهر فالعصر، وإن بلغ الصبي وأسلم
الكافر وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر صلوا المغرب والعشاء الآخرة. وروى هذا
القول في الحائض تطهر عن عبد الرحمان بن عوف وابن عباس ومجاهد والنخعي والزهري
وربيعة ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وقال الإمام أحمد: عامة التابعين
يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده قال لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها
وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأن وقت الأولى خرج في حال عذرها فلم تجب كما لو لم
تدرك من وقت الثانية شيئا. وحكى عن مالك أنه إذا أدرك خمس ركعات من وقت الثانية
وجبت الأولى لأن قدر الأولى من الخمس وقت للصلاة الأولى في حال العذر فوجبت
بادراكه كما لو أدرك ذلك من وقتها المختار بخلاف ما لو أدرك دون ذلك " وفي المحلى لابن حزم
ج 2 ص 176 " إذا طهرت الحائض في آخر وقت الصلاة بمقدار ما لا يمكنها الغسل
والوضوء حتى يخرج الوقت فلا تلزمها ولا قضاؤها، وهو قول الأوزاعي وأصحابنا
وقال الشافعي وأحمد عليها أن تصلي ".
252

فتعين الثاني، فظهر أن قول الشيخ قوي متجه " انتهي.
أقول: فيه (أولا) - ما عرفت من أن ما عدا رواية الفضل فإنه محمول على
وجه يمكن انطباقه على الأخبار الأولة وبه يرتفع التنافي بينهما فيجب المصير إليه جمعا
بين الأخبار المذكورة، والحمل على الاستحباب - كما ذهب إليه الشيخ ومن تبعه من
الأصحاب في جملة الأبواب - قد عرفت أنه لا دليل عليه من سنة ولا كتاب، مع أنه
مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة في الباب، واختلاف الأخبار ليس من قرائن المجاز كما
لا يخفى على ذوي الألباب.
و (ثانيا) - أن ما ذكره الشيخ من حمل الأخبار الثانية على ما دلت عليه
موثقة الفضل بن يونس موجب للحكم بكون آخر وقت الظهر هو مضى أربعة أقدام،
وهو وإن كان منقولا عنه في باب الأوقات إلا أنه مردود بالآية والروايات التي ربما
بلغت التواتر المعنوي من امتداد وقت الظهرين إلى الغروب إلا بمقدار صلاة العصر
253

واتفاق الأصحاب سلفا وخلفا على ذلك، وليس المخالفة منحصرة في أخبار هذه المسألة كما
ظنه فزعم قوة ما ذهب إليه الشيخ هنا للجمع بينها، بل المخالفة في تلك الأخبار المشار
إليها المتفق عليها أظهر وأشنع، وحينئذ فما جنح إليه من موافقة الشيخ على هذا الحمل
مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.
و (ثالثا) - أن الحمل على التقية لا يختص بوجود القائل من العامة كما حققناه
في المقدمة الأولى من مقدمات الكتاب، على أن مذاهب العامة في الصدر الأول
لا انحصار لها في عدد بل لهم في كل عصر مذهب، والانحصار في هذه الأربعة إنما وقع
أخيرا في سنة ستمائة تقريبا كما صرح به علماؤنا وعلماؤهم، وبالجملة فإن الخبر المذكور
ظاهر المخالفة للقرآن العزيز والسنة المستفيضة بل المتواترة معنى وما عليه كافة العلماء سلفا
وخلفا ومنهم هذا القائل، فيجب طرحه في مقابلتها ويتعين حمله على ما ذكرنا. والله العالم
(المسألة الثالثة) - يحرم عليها أمور: (الأول) - كل ما يشترط فيه الطهارة
كالصلاة والطواف ومس كتابة القرآن اجماعا في الأولين وعلى المشهور في الثالث، وعن
ابن الجنيد أنه مكروه، وحمله على التحريم غير بعيد فإن عبائر المتقدمين تجري على
الأخبار التي قد كثر فيها اطلاق الكراهة على التحريم.
ومن الأخبار في المسألة زيادة على الاتفاق ما رواه في الكافي في الصحيح عن زرارة
عن الباقر (عليه السلام) (1) قال: " إذا كانت المرأة طامثا فلا تحل لها الصلاة... "
وما رواه في العلل والعيون عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) (2) قال:
" إذا حاضت المرأة فلا تصوم ولا تصلي، لأنها في حد نجاسة فأحب الله تعالى أن لا يعبد إلا
طاهرا، ولأنه لا صوم لمن لا صلاة له... الحديث " وما في كتاب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين
(عليه السلام) (3) قال: " معاشر الناس إن النساء نواقص الايمان نواقص العقول
نواقص الحظوظ، فأما نقصان ايمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن،

(1) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الحيض.
254

وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد، وأما نقصان حظوظهن
فمواريثهن على الانصاف من مواريث الرجال ".
وأما الطواف فستأتي الأخبار الدالة عليه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى،
وأما مس كتابة القرآن فقد مر ما يدل عليه في مبحث الوضوء (1) وفي غسل الجنابة (2)
(الثاني) - الصوم إلا أنه يجب قضاؤه عليها دون الصلاة، ويدل على ذلك
زيادة على ما تقدم في الأخبار السابقة ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (3) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستحاضة؟ فقال تصوم شهر رمضان إلا الأيام
التي كانت تحيض فيها ثم تقضيها بعد " وفي قضاء المنذور وشبهه الذي وافق الحيض
وجهان أقربهما عند العلامة عدم الوجوب، واختار الشهيد الوجوب وهو الأحوط. وأما
عدم قضاء الصلاة فاجماعي نصا وفتوى، وفي جملة من الأخبار تعليل قضاء الصوم دون
الصلاة بأنه محض تعبد، وفي بعضها بأنه دليل على بطلان القياس، ففي رواية الحسن بن
راشد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) لما سأله عن وجه الفرق بينهما قال: " إن أول
من قاس إبليس " وفي بعضها بأن الصوم إنما هو في السنة مرة والصلاة في كل يوم
وليله، وأكثر الأخبار على الثاني. ثم إنه لا يخفى أن ظاهر النصوص الاختصاص بالصلوات
اليومية، وهل يلحق بها غيرها من الصلوات الواجبة عند عروض أسبابها في وقت الحيض
كالكسوف والخسوف؟ وجهان أحوطهما العدم. وأما الزلزلة فالظاهر أن وقتها العمر
كما سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى. وهل تتوقف صحة صومها على الغسل أم لا؟
قولان يأتي الكلام فيهما إن شاء الله في كتاب الصوم.
(الثالث) - اللبث في المساجد والاجتياز في المسجدين الحرمين، قال في

(1) ج 2 ص 122
(2) ج 2 ص 46.
(3) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الحيض.
(4) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الحيض.
255

المدارك بعد ذكر الحكم الأول: " هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب بل قال في
المنتهى أنه مذهب عامة أهل العلم " أقول: لا يخفى أن دعوى الاجماع هنا لا تخلو من
غفلة عن خلاف سلار في المسألة حيث قال في التحرير في أحكام الحائض: " يحرم عليها اللبث
في المساجد اجماعا إلا من سلار " وقال في الروض: " وعد سلار اللبث في المساجد
للجنب والحائض ووضع شئ فيها مما يستحب تركه ولم يفرق بين المسجدين وغيرهما "
والحق أنه متحقق اللهم إلا أن يقال الاجماع انعقد بعده أو أن مخالفة معلوم النسب غير
قادح في الاجماع.
ويدل على الحكم المذكور ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن على المشهور
عن محمد بن مسلم (1) قال قال أبو جعفر (عليه السلام): " الجنب والحائض يفتحان
المصحف من وراء الثوب ويقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة ويدخلان المسجد
مجتازين ولا يقعدان فيه ولا يقربان المسجدين الحرمين ".
وما رواه الصدوق في العلل في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر
(عليه السلام) (2) قالا: " قلنا له الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ فقال:
الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين... الحديث ".
ولم نقف لسلار على دليل معتد به إلا التمسك بالأصل ولا ريب في وجوب الخروج
عنه بما ذكرناه من الدليل.
(الرابع) - وضع شئ في المساجد، ولا خلاف فيه إلا من سلار فإنه نقل
عنه الكراهة، ويدل على المشهور صحيحة عبد الله بن سنان (3) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال: نعم

(1) رواه في الوسائل في الباب 15 و 19 من أبواب الجنابة بالتقطيع.
(2) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب الجنابة.
256

ولكن لا يضعان في المسجد شيئا " وصحيحة زرارة وابن مسلم المتقدم نقلها من العلل
حيث قال فيها: " ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه. قال زرارة فقلت له فما بالهما
يأخذان منه ولا يضعان فيه؟ قال: لأنهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلا منه ويقدران
على وضع ما بيدهما في غيره... الحديث " وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن
زرارة عن الباقر (عليه السلام) (1) قال: " سألته كيف صارت الحائض تأخذ ما في
المسجد ولا تضع فيه؟ فقال: لأن الحائض تستطيع أن تضع ما في يدها في غيره ولا
تستطيع أن تأخذ ما فيه إلا منه ".
(الخامس) - قراءة سور العزائم، وقصر جملة من متأخري المتأخرين التحريم
على آية العزيمة هنا وفي الجنب، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك في المسألة الرابعة من المقصد
الخامس من مقاصد غسل الجنابة (2) وأما ما يدل على ذلك ويتعلق به من البحث فقد
تقدم في المقصد الثاني من فصل غسل الجنابة (3).
بقي الكلام هنا في موضعين: (الأول) - لو تلت السجدة أو سمعتها هل يجب
عليها السجود أم لا؟ ظاهر الأكثر ذلك، وعن الشيخ أنه حرم عليها السجود مستندا
إلى أنه يشترط في السجود الطهارة من النجاسات مدعيا على ذلك الاتفاق، والأظهر هو
القول المشهور لما رواه الكليني في الصحيح والشيخ في الموثق عن أبي عبيدة الحذاء (4)
قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الطامث تسمع السجدة؟ قال: إن كانت
من العزائم فلتسجد إذا سمعتها " وفي الموثق عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5)
قال: " إن صليت مع قوم فقرأ الإمام " اقرأ باسم ربك... " إلى أن قال
والحائض تسجد إذا سمعت السجدة " وعن أبي بصير أيضا (6) قال قال: " إذا.

(1) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الحيض
(2) ص 141.
(3) ص 55
(4) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الحيض.
(5) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب الحيض.
(6) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الحيض.
257

قرئ شئ من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد وإن كنت على غير وضوء وإن كنت جنبا
وإن كانت المرأة لا تصلي، وسائر القرآن أنت فيه بالخيار إن شئت سجدت وإن
شئت لم تسجد ".
وأما ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) - قال: " سألته عن الحائض هل تقرأ القرآن وتسجد سجدة إذا
سمعت السجدة؟ قال تقرأ ولا تسجد " قال في الوافي: وفي بعض النسخ " لا تقرأ
ولا تسجد " وحمله في الإستبصار على جواز الترك، ومثله ما رواه ابن إدريس في
مستطرفات السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن الحسين عن
محمد بن يحيى الخزاز عن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) (2) قال:
" لا تقضي الحائض الصلاة ولا تسجد إذا سمعت السجدة " - فسيأتي الجواب عنهما.
ومن العجيب أن الشيخ (رحمه الله) في التهذيب حمل خبر أبي عبيدة وخبر
أبي بصير الثاني على الاستحباب مع أنه حكم بتحريم السجود وأنه لا يجوز إلا لطاهر من
النجاسات استنادا إلى صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله المذكورة.
وأجاب في المختلف عن صحيحة عبد الرحمان المذكورة بالحمل على المنع من قراءة العزائم،
قال " وكأنه (عليه السلام) قال " تقرأ القرآن ولا تسجد " أي ولا تقرأ العزيمة التي تسجد
فيها واطلاق المسبب على السبب مجازا جائزا " ولا يخفى ما فيه من البعد. وأجاب عنها
المتأخرون بالحمل على السجدات المستحبة بدليل قوله " تقرأ " وحينئذ فالدلالة منتفية. وفي
المدارك أنه يمكن حملها على السماع الذي لا يكون معه الاستماع، قال فإن: صحيحة أبي عبيدة
إنما تضمنت وجوب السجود عليها مع الاسماع.
أقول: والكل تكلف مستغنى عنه، والأظهر حمل الخبر المذكور وكذا خبر
غياث على التقية فإن جمهور الجمهور على المنع من السجود، ونقله في المنتهى عن أبي حنيفة

(1) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الحيض.
258

والشافعي وأحمد، ونقل عن بعض أنها تومئ برأسها (1) وأما على ما نقله في الوافي من
نسخة " لا تقرأ ولا تسجد " فلا منافاة في الخبر المذكور، وبذلك يظهر ما في كلام صاحب
الذخيرة تبعا لبعض نسخ المدارك من التوقف في المسألة وأنها موضع اشكال ينشأ من
الاحتمالات السابقة في حمل الصحيحة المشار إليها، وعلى ما ذكرناه فلا اشكال، ولكنهم
حيث ضربوا صفحا عن الترجيح بين الأخبار بهذه القاعدة مع استفاضة النصوص بها
وقعوا في ما وقعوا فيه. والله العالم.
(الثاني) - اختلف الأصحاب في موجب سجود التلاوة في هذا الموضع وغيره
هل هو مجرد السماع وإن كان من غير قصد أو الاستماع الذي هو عبارة عن الاصغاء
والقصد إلى ذلك؟ قولان يأتي تحقيق الكلام فيهما في بحث السجود من كتاب الصلاة
إن شاء الله تعالى.
(المسألة الرابعة) - لا خلاف بين الأصحاب في أنه لا يصح طلاقها بعد
الدخول وحضور الزوج أو ما في حكمه وهو قربه منها بحيث يمكنه استعلام حالها كالمحبوس
ونحوه، فغير المدخول بها يصح طلاقها وإن كانت حائضا وكذا مع غيبة الزوج، إلا أنه
قد وقع الخلاف في حد الغيبة المجوزة، فقيل إنه ثلاثة أشهر، وقيل شهر، وقيل المعتبر
أن يعلم انتقالها من الطهر الذي واقعها فيه إلى آخر بحسب عادتها وهو المشهور بين
المتأخرين، وسيأتي تحرير الكلام في المسألة في محلها إن شاء الله تعالى من كتاب الطلاق.

(1) في بدائع الصنائع ج 1 ص 186 ومجمع الأنهر ج 1 ص 157 " لا تجب سجدة
التلاوة على الحائض والنفساء دون الجنب " وفي البحر الرائق ج 2 ص 121 " لا يجب
السجود على الحائض بتلاوتها كما لا يجب بسماعها " وفي المغني ج 1 ص 620 " لا نعلم خلافا
في اشتراط السجود للتلاوة بالطهارتين من الحدث والخبث وستر العورة واستقبال القبلة
والنية إلا ما روي عن عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة تومئ برأسها وبه قال
سعيد بن المسيب ".
259

(المسألة الخامسة) - لا خلاف بين الأصحاب في تحريم وطء الحائض في القبل
بل نقل عن جمع منهم التصريح بكفر مستحله حيث إنه من ضروريات الدين، إلا أن يدعى
في ذلك شبهة ممكنة كقرب عهده بالاسلام أو نشوئه في بادية بعيدة على العلم بمعالم الدين
وتحقيق البحث في المقام يقع في مواضع: (الأول) - قال في المدارك: " ولا ريب
في فسق الواطئ بذلك ووجوب تعزيره بما يراه الحاكم مع علمه بالحيض وحكمه، ويحكى
عن أبي علي ولد الشيخ تقديره بثمن حد الزاني ولم نقف على مأخذه " وتبعه في هذه المقالة
الفاضل الخراساني في الذخيرة وغيره، وتقدمه فيها جده في الروض وغيره، والعجب منهم
(رضوان الله عليهم) في عدم وقوفهم على حد التعزير في الصورة المذكورة حتى أرجعوه إلى
الحاكم مع تكاثر الأخبار بذلك، ومنها - ما رواه ثقة الاسلام والشيخ عن إسماعيل بن الفضل
الهاشمي قال: " سألت أبا الحسن عن رجل أتى أهله وهي حائض؟ قال يستغفر الله ولا
يعود. قلت فعليه أدب؟ قال: نعم خمسة وعشرون سوطا ربع حد الزاني وهو صاغر لأنه أتى
سفاحا " وروى الشيخان المذكوران أيضا عن محمد بن مسلم (2) قال: " سألت أبا جعفر
(عليه السلام) عن الرجل يأتي المرأة وهي حائض؟ قال: يجب عليه في استقبال الحيض
دينار وفي استدباره نصف دينار. قلت جعلت فداك يجب عليه شئ من الحد؟ قال: نعم
خمسة وعشرون سوطا ربع حد الزاني لأنه أتى سفاحا " وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم
القمي في تفسيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) أنه قال: " من أتى امرأته في الفرج
في أول أيام حيضها فعليه أن يتصدق بدينار وعليه ربع حد الزاني خمسة وعشرون جلدة،
وإن أتاها في آخر أيام حيضها فعليه أن يتصدق بنصف دينار ويضرب اثنتي عشرة جلدة
ونصفا " وظاهر الخبرين الأولين التعزير بالخمسة والعشرين مطلقا في أول الحيض أو آخره
وظاهر الخبر الثالث التخصيص بأوله، ويمكن الجمع بتقييد اطلاق الخبرين الأولين بالخبر

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب التعزيرات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب التعزيرات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 28 من أبواب الحيض.
260

الثالث، ويمكن ترجيح الخبرين الأولين برواية الشيخين المشار إليهما لما ذكراه مسندا
وارسال هذه الرواية. ولو جهل الحيض أو نسيه أو جهل الحكم أو نسيه فالظاهر أنه لا شئ عليه
لعدم توجه الخطاب في هذه الحالات إليه، وبذلك صرح جملة منهم (رضوان الله عليهم).
(الثاني) - قال في المدارك: " ولو اشتبه الحال فإن كان لتحيرها فسيأتي
حكمه وإن كان لغيره كما في الزائد على العادة فالأصل الإباحة، وأوجب عليه في المنتهى
الامتناع، قال لأن الاجتناب حالة الحيض واجب والوطء حالة الطهر مباح فيحتاط
بتغليب الحرام لأن الباب باب الفروج. وهو حسن إلا أنه لا يبلغ حد الوجوب " انتهى
أقول: لا يخفى أن هذا الكلام إنما يتمشى على ما هو المشهور في كلامهم من أن ما زاد
على العادة يراعى بالانقطاع قبل العشرة أو تجاوزها، فإن انقطع حكم بكون الجميع حيضا
وإن تجاوز علم أن ما زاد على العادة استحاضة، فعلى هذا يكون الدم بعد العادة وقبل
وصول العشرة محتملا للحيض والطهر، وبه يتجه ما قاله هنا من أن الأصل الإباحة وكذا
ما نقله عن العلامة، وأما على ما هو المفهوم من الأخبار - كما نبهنا عليه فيما تقدم من أنه بعد
تجاوز الدم عن أيام العادة فإنها تستظهر بيومين أو ثلاثة ثم بعد ذلك تعمل عمل المستحاضة انقطع
الدم على العشرة أو تجاوز - فلا وجه لهذا الكلام بل التحقيق فيه أن الدم في أيام الاستظهار
- حيث ألحقه الشارع بالحيض - في حكم الحيض بالنسبة إلى ترك العبادة وجماع الزوج ونحو
ذلك من الأحكام الحائض، وما بعد أيام الاستظهار فالواجب عليها العمل بما تعمله المستحاضة
وتكون بذلك طاهرة يجوز لزوجها اتيانها، وحينئذ فلا يكون ما بعد أيام العادة محل احتمال
ولا شك لا في أيام الاستظهار ولا فيما بعدها. والعجب منه أنه ناقش الأصحاب فيما
تقدم في هذا الحكم الذي ذكرناه وصرحوا بأن الروايات لا تساعده ومع هذا تبعهم
في هذا المقام وحذا حذوهم بهذا الكلام.
(الثالث) - الظاهر أنه لا اشكال ولا خلاف في قبول قولها لو أخبرت
بالحيض ما لم تكن متهمة بتضييع حق الزوج، لظاهر قوله تعالى: "... ولا يحل لهن أن
261

يكتمن ما خلق الله في أرحامهن... " (1) ولولا وجوب القبول لما حرم الكتمان، ويدل
عليه من الأخبار أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) (2)
أنه قال: " العدة والحيض إلى النساء " وما رواه الكليني في الحسن عن زرارة عن الباقر
(عليه السلام) (3) أنه قال: " العدة والحيض إلى النساء إذا ادعت صدقت " وأما
ما يشير إلى عدم القبول مع التهمة فهو ما رواه الشيخ عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر
عن أبيه (عليهما السلام) (4) " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في امرأة
ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض فقال كلفوا نسوة من بطانتها أن حيضها
كان فيما مضى على ما ادعت فإن شهدن صدقت وإلا فهي كاذبة " ورواه الصدوق
مرسلا (5) وحمل الشيخ هذا الخبر على صورة تكون المرأة متهمة، قال بعض الأصحاب:
" ومفاد الخبر على تقدير العمل به أخص مما ذكره الشيخ، إذ الدعوى فيه مخالفة للعادة
الجارية قليلة الوقوع " وهو جيد إلا أنه غير خال من الاشعار بذلك، ولو ظن الزوج
كذبها قيل: لا يجب القبول وإليه مال الشهيد الثاني، وقيل يجب وهو اختيار العلامة
في النهاية والشهيد في الذكرى، وهو الأقوى عملا بظاهر الخبرين المتقدمين.
(الرابع) - المشهور بين الأصحاب تخصيص التحريم بالجماع في القبل وأنه
يجوز له الاستمتاع بما عدا ذلك، وعن المرتضى في شرح الرسالة أنه قال: " لا يحل
الاستمتاع منها إلا بما فوق المئزر ومنه الوطي في الدبر ".
احتج المجوزون بقوله عز وجل: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم
أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " (6) وهو ظاهر في عدم اللوم على الاستمتاع
كيف كان، خرج منه موضع الدم بالنص وبقي الباقي على أصل الجواز، وبالأخبار الكثيرة

(1) سورة البقرة. الآية 227.
(2) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الحيض.
(4) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الحيض.
(5) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الحيض.
(6) سورة المؤمنون. الآية 5 و 6.
262

ومنها - موثقة عبد الله بن بكير عن بعض بأصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
قال: " إذا حاضت المرأة فليأتها زوجها حيث شاء ما اتقى موضع الدم " ورواية
عبد الملك بن عمرو (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما لصاحب المرأة
الحائض منها؟ قال كل شئ ما عدا القبل بعينه " وصحيحة عمر بن يزيد (3) قال: " قلت:
لأبي عبد الله (عليه السلام) ما للرجل من الحائض؟ قال ما بين أليتيها ولا يوقب "
ورواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن الحائض
ما يحل لزوجها منها؟ قال: ما دون الفرج " ورواية عبد الله بن سنان (5) قال: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام) ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال: ما دون
الفرج " وموثقة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) " في الرجل يأتي
المرأة فيما دون الفرج وهي حائض؟ قال: لا بأس إذا اجتنب ذلك الموضع " ونحوها
روايات أخر أعرضنا عن التطويل بذكرها.
احتج المرتضى بقوله عز وجل: "... ولا تقربوهن حتى يطهرن... " (7) وقوله
تعالى: "... فاعتزلوا النساء في المحيض... " (8) أي في وقت الحيض، وصحيحة الحلبي
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (9) " في الحائض ما يحل لزوجها منها؟ قال: تتزر بإزار إلى
الركبتين وتخرج سرتها ثم له ما فوق الإزار... " أقول: ويدل عليه أيضا موثقة أبي بصير عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (10) قال: " سئل عن الحائض ما يحل لزوجها منها؟ قال:
تتزر بإزار إلى الركبتين وتخرج ساقيها وله ما فوق الإزار " ويؤيد ذلك أيضا رواية حجاج
الخشاب (11) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحائض والنفساء ما يحل
لزوجها منها؟ قال: تلبس درعا ثم تضطجع معه ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الحيض.
(3) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الحيض.
(4) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الحيض.
(5) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الحيض.
(6) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الحيض.
(7) سورة البقرة. الآية 221.
(8) سورة البقرة. الآية 221.
(9) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الحيض.
(10) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الحيض.
(11) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الحيض.
263

والظاهر هو القول المشهور المؤيد بالأدلة المذكورة، وأما ما يدل على مذهب المرتضى
(رضي الله عنه) فقد أجاب في المختلف عن الآية الأولى بأن حقيقة القرب ليست مرادة
بالاجماع فيحمل على المجاز المتعارف وهو الجماع في القبل لأن غير نادر، وعن الثانية بأنه
يحتمل إرادة موضع الحيض بل هو المراد قطعا فإن اعتزال النساء مطلقا ليس مرادا بل اعتزال
الوطء في القبل. أقول: أما ما أجاب به عن الأولى فهو جيد، لما عرفت في غير موضع من أن الاطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد الشائعة المتكررة وبعد تعذر الحمل على الحقيقة فالفرد
المتكرر إنما هو الجماع في القبل، ويؤيده ما ذكره المفسرون في سبب النزول من أن اليهود
كانوا يعتزلون النساء فلا يؤاكلوهن ولا يباشروهن مدة الحيض فسئل النبي (صلى الله
عليه وآله) عن ذلك فنزلت هذه الآية فقال النبي: " اصنعوا كل شئ إلا النكاح " (1)
وأما ما أجاب به عن الثانية فتوضيحه أن الظاهر أن المحيض هنا اسم مكان بمعنى موضع
الحيض كالمبيت والمقيل واحتمال كونه مصدرا أو اسم زمان يوجب الاضمار والتخصيص
للاجماع على عدم وجوب اعتزالهن بالكلية. وأيده بعضهم بأن الحكم بالاعتزال على تقدير
أن يكون اسم زمان أو مصدرا لا يشمل ما بعد زمان الحيض بوجه فكان منتهاه معلوما
فتقل الفائدة في قوله تعالى: " حتى يطهرن ".
وأما الأخبار فالجواب عنها من وجوه: (أحدها) - أنها معارضة بما هو أكثر
عددا وأصرح دلالة فيجب الجمع بينهما بحمل هذه الروايات على كراهة ما تحت الإزار
و (ثانيها) - أن قصارى ما دلت عليه هذه الأخبار أن له الاستمتاع بما فوق المئزر
ونحن نقول به، ودلالتها على تحريم ما عداه إنما هو بمفهوم اللقب وهو ضعيف كما
قرروه في الأصول. و (ثالثها) - أن المراد بما يحل هو المعنى المتعارف عند الفقهاء
والأصوليين وهو ما يتساوى طرفاه المرادف للمباح، ولا ريب أن نفيه لا يستلزم الحرمة
لجواز إرادة الكراهة، ونحن لا نخالف فيها جمعا بين الأدلة لأن من حام حول الحمى

(1) رواه البغوي في مصابيح السنة ج 1 ص 38 وغيره.
264

أوشك أن يقع فيه و (رابعها) - وهو المعتمد - حمل هذه الأخبار على التقية، لموافقتها
لمذهب العامة كما ذكر الشيخ، لأن العامة ما بين محرم ومكره، فنقل في المنتهى التحريم
عن أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي يوسف (1) والكراهة عن عكرمة وعطاء والشعبي
والثوري وإسحاق والأوزاعي وأبي ثور وداود ومحمد بن الحسن والنخعي وأبي إسحاق
المروزي وابن المنذر (2) وبذلك يظهر أن ما دلت عليه هذه الأخبار - من عدم حل ما تحت
الإزار تحريما أو كراهة - فهو محمول على التقية، وبه يظهر ضعف حمل الأخبار المذكورة على
الكراهة كما هو المشهور. والله العالم.
(المسألة السادسة) - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب
الكفارة بالوطء في الحيض واستحبابها، والمشهور بين المتقدمين الأول وبه قال الشيخ
في الجمل والمبسوط والمفيد والمرتضى وابنا بابويه وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس،
والمشهور بين المتأخرين الثاني وبه قال الشيخ في النهاية، وأما الأخبار الواردة في المسألة
فأكثرها - وإن ضعف سند جملة منها بالاصطلاح المحدث - يدل على الوجوب:
(منها) - ما رواه الشيخ عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
" في كفارة الطمث أنه يتصدق إذا كان في أوله بدينار وفي أوسطه بنصف دينار وفي
آخره بربع دينار. قلت: فإن لم يكن عنده ما يكفر؟ قال: فليتصدق على مسكين واحد
وإلا استغفر الله تعالى ولا يعود، فإن الاستغفار توبة وكفارة لمن لم يجد السبيل إلى شئ
من الكفارة ".

(1) كما في المحلى لابن حزم ج 1 ص 176 والبحر الرائق لابن نجيم ج 1 ص 197
ونيل الأوطار للشوكاني ج 1 ص 241.
(2) كما في نيل الأوطار للشوكاني ج 1 ص 241 والمهذب للشيرازي ج 1 ص 37
والبحر الرائق ج 1 ص 197.
(3) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب الحيض.
265

وعن عبد الملك بن عمرو (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
رجل أتى جاريته وهي طامث؟ قال: يستغفر الله ربه. قال عبد الملك: فإن الناس يقولون
عليه نصف دينار أو دينار؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فليتصدق على عشرة مساكين "
وعن محمد بن مسلم (2) قال: " سألته عن من أتى امرأته وهي طامث؟ فقال
يتصدق بدينار ويستغفر الله تعالى ".
وعن أبي بصير في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " من أتى
حائضا فعليه نصف دينار يتصدق به ".
وعن عبيد الله بن علي الحلبي في الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) " في
الرجل يقع على امرأته وهي حائض ما عليه؟ قال يتصدق على مسكين بقدر شبعه.
وقد حمل الأصحاب اطلاق ما بعد الرواية الأولى على ما تضمنته من التفصيل في
أفراد الكفارة، وهو جيد، وقال في المقنع (5): " روي أن من جامعها في أول
الحيض فعليه أن يتصدق بدينار وإن كان في نصفه فنصف دينار وإن كان في آخره فربع
دينار " أقول: وقد تقدم في الموضع الأول (6) رواية محمد بن مسلم الدالة على أنه
يجب عليه في استقبال الدم دينار وفي استدباره نصف دينار، ونحوها رواية تفسير
علي بن إبراهيم.
وأما ما يدل على القول الثاني فما رواه الشيخ في الصحيح عن عيص بن القاسم (7)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل واقع امرأته وهي طامث؟ قال:
لا يلتمس فعل ذلك وقد نهى الله تعالى أن يقربها. قلت فإن فعل أعليه كفارة؟ قال:
لا أعلم فيه شيئا يستغفر الله تعالى ".
وعن زرارة في الموثق عن أحدهما (عليهما السلام) (8) قال: " سألته عن الحائض

(1) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب الحيض.
(4) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب الحيض.
(5) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب الحيض.
(6) ص 260
(7) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب الحيض.
(8) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب الحيض.
266

يأتيها زوجها؟ قال: ليس عليه شئ يستغفر الله تعالى ولا يعود ".
وعن ليث المرادي (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن وقوع
الرجل على امرأته وهي طامث خطأ؟ قال: ليس عليه شئ وقد عصى ربه ".
وحمل المتأخرون الأخبار الأولة لضعف أسانيدها على الاستحباب وأيدوا ذلك
باختلافها في تقدير الكفارة. وفيه ما عرفت فيما تقدم في غير مقام.
وفي المدارك عن المحقق في المعتبر أنه قال بعد طعنه في الأخبار بضعف الأسانيد:
" ولا يمنعنا ضعف طريقها عن تنزيلها على الاستحباب لاتفاق الأصحاب على اختصاصها بالمصلحة
الراجحة إما وجوبا أو استحبابا، فنحن بالتحقيق عاملون بالاجماع لا بالرواية " ثم قال
في المدارك: وهو حسن.
أقول: بل هو عن الحسن بمعزل (أما أولا) - فلمنافاة هذا الكلام لما قدمه
في صدر كتابه مما هو كالقاعدة في أمثال المقام من قوله: " أفرط الحشوية في العمل
بخبر الواحد... الخ " وقد تقدم نقله في الموضع الثاني من المقام الثاني من المطلب الأول
في المبتدأة من المقصد الثاني (2) وملخصه عدم الطعن في الأخبار بضعف السند وإنما
المرجع إلى قبول الأصحاب للخبر أو دلالة القرائن على صحته، والأمران المذكوران
حاصلان في جانب هذه الأخبار، أما قبول الأصحاب لها فظاهر لما عرفت من أن القول
بها هو المشهور بين المتقدمين، ولهذا أن الشهيد في الذكرى استند إلى جبرها بالشهرة،
وأما دلالة القرائن فلتدوينها في الأصول المعتمدة التي عليها المدار.
و (أما ثانيا) - فلأن مرجع هذا الاجماع الذي استند إليه في الاستحباب إنما
هو الأخبار المذكورة، حيث إنهم أجمعوا على العمل بها وجوبا عند بعض واستحبابا عند
آخرين، وكيف كان فحملها على الاستحباب مع دلالتها بظاهرها على الوجوب لا يخرج
عن طرحها، إذ مقتضى الوجوب هو تحتم الفعل مع ثبوت العقوبة على تركه، ومقتضى

(1) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب الحيض
(2) ص 199.
267

الاستحباب جواز الترك وعدم العقوبة، والقول بالاستحباب ظاهر في طرحها وعدم
العمل بما دلت عليه من الوجوب الذي إنما خرجوا عنه لضعف السند وإلا فلو صحت
أسانيدها لحكموا بالوجوب.
و (أما ثالثا) - فإن ظاهر كلامهم أنهم إنما حملوا هذه الأخبار على الاستحباب
من حيث ضعف أسانيدها تفاديا من طرحها وإلا فلو صحت أسانيدها لقالوا بالوجوب
كما هو ظاهرها، وأنت خبير بأن الحمل على الاستحباب حينئذ مجاز لا يصار إليه ألا مع
القرينة الظاهرة، وضعف الأسانيد ليس من جملة قرائن المجاز، ولا وجود المخالف من
الأخبار في ذلك الحكم، ويرجح القول بالوجوب أنه الأوفق بالاحتياط وهو أحد
المرجحات الشرعية، وبالجملة فإن حمل الأخبار المشار إليها على الاستحباب بعيد عن جادة
الصواب. وحمل الشيخ (رحمه الله) الأخبار الأخيرة على الجاهل بالحيض. ولا يخفى
بعده في الخبر الأول.
والأقرب عندي حمل الأخبار الأخيرة على التقية التي هي في اختلاف الأخبار
والأحكام الشرعية أصل كل بلية، فإن ذلك مذهب جمهور المخالفين، قال في المنتهى
بعد نقل القول بالوجوب: " وهو إحدى الروايتين عن أحمد واحد قولي الشافعي "
وقال بعد نقل القول بالاستحباب: " وهو قول مالك وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم "
وأما ما طعنوا به من اختلاف المقادير في الكفارة فقد عرفت أنه محمول على ما صرحت
به الرواية الأولى من المراتب في الصدقة ومع تعذرها فالاستغفار. وبالجملة فإنك قد
عرفت في غير مقام ما في الجمع بين الأخبار بالاستحباب، فإن القاعدة المروية عنهم (عليهم
السلام) هو العرض على مذهب العامة في مقام اختلاف الأخبار والأخذ بما يخالفه وهو هنا في
روايات القول بالوجوب، وبه يظهر أن القول بالوجوب هو الأقوى. قال في الذكرى:
" وأما التفصيل بالمضطر وغيره والشاب وغيره - كما قاله الراوندي - فلا عبرة به " والله العالم.
وههنا فوائد: (الأولى) - المشهور أنه على تقدير القول بالكفارة وجوبا
268

أو استحبابا فهي دينار في أوله ونصف دينار في وسطه وربع دينار في آخره كما دلت
عليه رواية داود المتقدمة، والمراد بأوله الثلث الأول منه وبوسطه الثلث الثاني وبآخره
الثلث الثالث، فالأول لذات الثلاثة اليوم الأول ولذات الأربعة هو مع ثلث الثاني
ولذات الخمسة هو مع ثلثيه ولذات الستة اليومان الأولان وعلى هذا القياس، ومثله في
الوسط والأخير، وعن سلار أن الوسط ما بين الخمسة إلى السبعة، واعتبر الراوندي
العشرة دون العادة، ويلزم على قوليهما خلو بعض العادات عن الوسط والأخير،
والظاهر أن مرجع قولي سلار والراوندي إلى جعل محل هذا التقدير هو العشرة خاصة
دون العادة، لكن سلار يعتبر الوسط منها ما بين الخمسة إلى السبعة فما تحت الخمسة وهو
الأربعة يجعله أولا وما فوق السبعة وهي الثلاثة يجعله أخيرا فالوسط على هذا ثلاثة،
والراوندي يثلث العشرة كما يقوله الأصحاب في ذات العشرة، فخلافه للأصحاب في
تخصيص ذلك بالعشرة دون العادة، وخلاف سلار في ذلك في عدم التثليث في العشرة،
وعلى هذا فإذا كانت العادة سبعة - مثلا - فلا آخر لها عندهما ولو كانت ثلاثة - مثلا -
فلا آخر ولا وسط لها عندهما أيضا. ويدفعهما - زيادة على ندورهما - رجوع الضمير
في قوله (عليه السلام) (1): " يتصدق إذا كان في أوله بدينار " إلى الحيض من غير تفصيل
وعن الصدوق في المقنع أنه قال: " يتصدق على كل مسكين بقدر شبعه " ونسب دليل
القول المشهور إلى الرواية مع أنه في الفقيه وافق الأصحاب، والظاهر أنه استند إلى
حسنة الحلبي المتقدمة (2) وهي محمولة على ما عرفت من عدم إمكان ما زاد على ذلك.
(الثانية) - قد ذكر الأصحاب أن المراد بالدينار هو المثقال من الذهب
المضروب الخالص وكانت قيمته في زمانه (عليه السلام) عشرة دراهم، فلا تجزئ
القيمة كباقي الكفارات ولا التبر لعدم تناول النص لهما، وقد قطع العلامة في جملة من
كتبه بعدم اجزاء القيمة، وهو كذلك كما عرفت. قال في الذكرى: " قدر الشيخان

(1) في رواية داود بن فرقد المتقدمة ص 265
(2) ص 266.
269

الدينار بعشرة دراهم والخبر خال منه، فإن لم نقل به ففي جواز اخراج القيمة نظر التفاتا
إلى عدم اجزاء القيم في الكفارات، وعلى قولهما لا يجزئ دينار قيمته أقل من عشرة،
والظاهر أن المراد به المضروب فلا يجزئ التبر لأنه المفهوم من الدينار " انتهى. وقال
في المنتهى: " لا أفرق في الاخراج بين المضروب والتبر لتناول الاسم لهما. ويشترط أن يكون صافيا من الغش، وفي اخراج القيمة نظر أقربه عدم الاجزاء لأنه كفارة فاختص
ببعض أنواع المال كسائر الكفارات " ونحوه في التحرير، وظاهره اجزاء التبر وهو
غير المضروب، وفي تناول الاسم له - كما ادعاه - اشكال، إذ المتبادر منه إنما هو
المضروب بسكة المعاملة كما عرفت من كلام الذكرى.
(الثالثة) - قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأن مصرف هذه
الكفارة الفقراء والمساكين من أهل الايمان، ويكفي الواحد ولا يجب التعدد عملا
باطلاق الخبر، وهو كذلك.
وظاهرهم أيضا أنه لا فرق في الزوجة بين الدائمة والمنقطعة الحرة والأمة للاطلاق،
وهو كذلك أيضا.
قيل: وهل يلحق بها الأجنبية المشتبهة أو المزني بها؟ وجهان منشأهما استلزام
ثبوت الحكم في الأدنى ثبوته في الأعلى، ومن حيث عدم النص سيما مع احتمال كون
الكفارة مسقطة للذنب، فلا يتعدى إلى الأقوى لأنه بتفاحشه قد لا يقبل التكفير
وإنما يناسبه الانتقام كما في كفارة الصيد ثانيا.
أقول: والأظهر هو الأول، لا لما ذكروه بل لما تقدم (1) في رواية أبي بصير
من قوله (عليه السلام): " من أتى حائضا... " فإنه شامل باطلاقه للزوجة والأجنبية،
ونقل القول بذلك عن العلامة والشهيد استنادا إلى الرواية المذكورة. أقول: ونحوها
أيضا قوله في رواية محمد بن مسلم (2) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يأتي

(1) ص 266
(2) ص 260.
270

المرأة وهي حائض؟ قال: يجب عليه في استقبال الحيض دينار... الحديث " وقد تقدم.
ولو كانت الحائض الموطوءة أمة قال الشيخ في النهاية والصدوق أنه يتصدق
بثلاثة أمداد من طعام، وبه قال العلامة أيضا في المنتهى إلا أنه حمل التصدق على
الاستحباب، قال في المقنع: " وإن جامعت أمتك وهي حائض تصدقت بثلاثة أمداد
من طعام " ونقل الأصحاب في كتب الاستدلال أن بذلك رواية وإن ردوها بضعف
السند، ولم أقف عليها، مع أنه قد تقدم في رواية عبد الملك بن عمرو (1) ما يدل
على التصدق على عشرة مساكين على من أتى جاريته، قال في الروض: " ولا فرق حينئذ
بين أول الحيض وأوسطه وآخره لاطلاق الرواية والفتوى، ولا بين الأمة القنة
والمدبرة وأم الولد والزوجة وإن حرم الوطء ".
(الرابعة) - اختلف الأصحاب فيما لو تكرر الوطء فهل تتكرر الكفارة
مطلقا أو لا مطلقا أو تتكرر مع اختلاف الزمان كما إذا كان بعضه في أول الحيض وبعضه
في وسطه مثلا أو سبق التكفير وعدمه بدونهما؟ أقوال: اختار أولها الشهيد الثاني في الروض
والأول في البيان وثانيها ابن إدريس على ما نقله في المختلف، قال: " وقال ابن إدريس إذا
كرر الوطء فالأظهر أن عليه تكرار الكفارة، لأن عموم الأخبار يقتضي أن عليه بكل
دفعة كفارة، ثم قال والأقوى عندي والأصح أن لا تكرار في الكفارة، لأن الأصل
براءة الذمة وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعية، وأما العموم فلا يصح
التعلق به في أمثال هذه المواضع لأن هذه أسماء الأجناس والمصادر، ألا ترى أن من
أكل في نهار رمضان متعمدا وكرر الأكل لا يجب عليه تكرار الكفارة بلا خلاف "
وهذا القول ظاهر الشيخ أيضا حيث قال في المبسوط: " إنه لا نص لأصحابنا في ذلك وعموم
الأخبار يقتضي أن يكون عليه بكل دفعة كفارة، ثم قال: وإن قلنا أنه لا يتكرر لأنه لا دليل
عليه والأصل براءة الذمة كان قويا " وثالثها لجملة من الأصحاب: منهم - العلامة في المختلف

(1) ص 266.
271

والمنتهى والشهيد في الذكرى وغيرهما من الأصحاب واختاره في المدارك.
حجة القول الأول - كما قرره في الروض - أن كل وطء سبب في الوجوب
والأصل عدم التداخل بل اختلاف الأسباب يوجب اختلاف المسببات، قال: " وعلى
هذا يصدق تكرر الوطء بالادخال بعد النزع في وقت واحد ويتحقق الادخال بغيبوبة
الحشفة لأنه مناط الوطء شرعا " حجة القول الثاني ما سمعت من كلام ابن إدريس. حجة القول
الثالث كما ذكره في المختلف فقال: " لنا على التكرر مع تغاير الوقت أنهما فعلان مختلفان
في الحكم فلا يتداخلان كغيرهما من العقوبات المختلفة على الأفعال المختلفة، وعلى التكرر
مع تخلل التكفير أن الكفارة إنما تجب أو تستحب بعد موجب العقوبة فلا تؤثر المتقدمة
في اسقاط ما يتعلق بالفعل المتأخر، وعلي عدم التكرر مع عدم أحد الأمرين إن الكفارة
معلقة على الوطء من حيث هو هو وكما يصدق في الواحد يصدق في المتعدد فيكون
الجزاء واحدا فيهما ".
أقول: ويرد على الحجة الأولى أن ما ادعوه - من أن اختلاف الأسباب يقتضي
اختلاف المسببات - مما لم يقم عليه دليل، بل الدليل على خلافه واضح السبيل لما قدمنا
في أبحاث النية في الوضوء (1) من دلالة الأخبار على تداخل الأغسال بما لا يداخله شك
ولا اشكال، وغاية ما يلزم من وجوب السبب الذي هو الوطء هنا - وإن تكرر -
وجوب الكفارة وأما كونها كفارة مغايرة لما يلزم بسبب آخر فلا، وهذا غاية ما يفهم
من اطلاق الأدلة، فمن ادعى تخصيص كل سبب يفرد من الكفارة غير الآخر فعليه
البيان، وبه يظهر ضعف قولهم بأن الأصل عدم التداخل. ويرد على الحجة الثانية ما قرروه
في الحجة الثالثة. وعلى الحجة الثالثة أن ما ذكروه في الاستدلال على عدم التكرر مع
عدم الأمرين من أن الكفارة معلقة على الوطء من حيث هو هو لو تم للزم مثله مع تغاير
الوقت، لأن حاصله أن وجوب الكفارة معلق على الوطء من حيث هو هو بحيث لا مدخل.

(1) ج 2 ص 200.
272

للأفراد فلا يؤثر في ذلك تغاير الوقت على وجه يقتضي التعدد.
وكيف كان فالمسألة لخلوها عن النص لا تخلو من الاشكال، والركون إلى هذه
التعليلات مع سلامتها من الإيرادات لا يخلو من المجازفة في الأحكام الشرعية التي
أوجب فيها الشارع الرجوع إلى الأدلة القطعية من آية قرآنية أو سنة نبوية.
(المسألة السابعة) - المشهور بين الأصحاب أنه يستحب للحائض أن تتوضأ
في وقت كل صلاة وتجلس في مصلاها فتذكر الله تعالى بمقدار صلاتها، وفي المختلف
عن علي بن بابويه القول بالوجوب، ونقل ذلك جملة من الأصحاب عن ابنه أيضا، وقال
في الفقيه: " وقال أبي في رسالته إلي: إعلم أن أقل الحيض ثلاثة أيام، إلى أن قال:
ويجب عليها عند حضور كل صلاة أن تتوضأ وضوء الصلاة وتجلس مستقبلة القبلة وتذكر
الله بمقدار صلاتها كل يوم " والأصحاب قد استدلوا على الاستحباب بحسنة زيد
الشحام (1) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ينبغي للحائض أن تتوضأ
عند وقت كل صلاة ثم تستقبل القبلة فتذكر الله تعالى مقدار ما كانت تصلي " قال في
المدارك: " ولفظ ينبغي ظاهر في الاستحباب " ثم نقل عن ابن بابويه القول بالوجوب
لحسنة زرارة عن الباقر (عليه السلام) (2) قال: " إذا كانت المرأة طامثا فلا تحل لها
الصلاة وعليها أن تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة ثم تقعد في موضع طاهر
فتذكر الله عز وجل وتسبحه وتهلله وتحمده بمقدار صلاتها ثم تفرغ لحاجتها " قال: " وهو مع
صراحته في الوجوب محمول على الاستحباب جمعا بين الأدلة " أقول: أما الاستناد في
الاستحباب إلى لفظ " ينبغي " في الرواية الأولى ففيه ما عرفت في غير موضع من أن
لفظ " ينبغي ولا ينبغي " وإن اشتهر في العرف أنه بمعنى الأولى وعدم الأولى إلا أنه
في الأخبار ربما استعمل في الاستحباب والكراهة وربما استعمل في الوجوب والتحريم
بل هو الغالب في الأخبار كما لا يخفى على من له بها مزيد أنس، وحينئذ فينبغي أن يكون

(1) المروية في الوسائل في الباب 40 من أبواب الحيض.
(2) المروية في الوسائل في الباب 40 من أبواب الحيض.
273

التأويل في جانب هذه الرواية لصراحة الأخيرة - كما اعترف به - في الوجوب واجمال
هذه فينبغي أن يحمل لفظ " ينبغي " هنا على الوجوب جمعا. وأما ما استدل به لابن بابويه
من حسنة زرارة فليس في محله، بل الظاهر أن دليل ابن بابويه إنما هو الفقه الرضوي
فإن عبارة أبيه في الرسالة التي قدمنا نقلها عن الفقيه عين عبارة كتاب الفقه الرضوي،
حيث قال (عليه السلام) (1): " ويجب عليها عند حضور كل صلاة أن تتوضأ وضوء
الصلاة وتجلس مستقبلة القبلة وتذكر الله تعالى بمقدار صلاتها كل يوم " وكذا ما بعد
هذه العبارة مما نقله في الفقيه عين عبارة الكتاب المذكور، ومنه يعلم أن مستنده إنما
هو الكتاب المذكور وإن كانت الرواية المشار إليها دالة على ذلك، ولكن أصحابنا حيث
لم يقفوا على ذلك استدلوا له بهذه الرواية. ثم إنه لا يخفى أن ظاهر صاحب الكافي أيضا القول
بالوجوب حيث عنون به الباب فقال: " باب ما يجب على الحائض في أوقات الصلاة " (2)
ثم ذكر الأخبار الواردة في المسألة المشتملة على الحكم المذكور، ومن ذلك يظهر أن
القول بالوجوب أرجح، وقد تقدم مزيد بحث في المسألة ونقل جملة من رواياتها في المقصد
الثاني في الغاية المستحبة من المطلب الثاني من الباب الثاني في الوضوء (3).
(المسألة الثامنة) - قد صرح الأصحاب بأنه يكره لها أشياء: (منها) - الخضاب
ويدل عليه ما رواه الشيخ عن عامر بن جذاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال:
" سمعته يقول: لا تختضب الحائض ولا الجنب... الحديث " وعن أبي بصير في الموثق
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) " هل تختضب الحائض؟ قال: لا، يخاف عليها الشيطان
عند ذلك " ورواه الصدوق في العلل عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6)
مثله إلا أنه قال: " لا لأنه يخاف عليها الشيطان " وروى الحميري في قرب الإسناد
عن محمد بن عبد الحميد عن أبي جميلة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) (7) قال:

(1) ص 21
(2) ج 1 ص 29
(3) ج 2 ص 142.
(4) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الحيض.
(5) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الحيض.
(6) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الحيض.
(7) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الحيض.
274

" لا تختضب الحائض ".
وحمل الأصحاب هذه الأخبار على الكراهة لما ورد من نفي البأس عنه في عدة
أخبار: منها - ما رواه الكليني عن محمد بن سهل بن اليسع عن أبيه (1) قال: " سألت
أبا الحسن (عليه السلام) عن المرأة تختضب وهي حائض؟ قال: لا بأس به " وعن علي بن
أبي حمزة (2) قال: " قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام) تختضب المرأة وهي طامث؟
قال: نعم " وما رواه الشيخ عن أبي المغراء عن العبد الصالح (عليه السلام) (3) في
حديث قال: " قلت: المرأة تختضب وهي حائض؟ قال: ليس به بأس " ونحو ذلك
موثقة سماعة (4) " الجنب والحائض يختضبان؟ قال: لا بأس ".
و (منها) - مس ورق المصحف غير الكتابة وحمله، وقد تقدم الكلام
فيه مستوفى في بحث غسل الجنابة (5).
و (منها) - قراءة ما عدا العزائم الأربع من القرآن من غير استثناء للسبع
أو السبعين المجوز للجنب قراءتها، قال في المسالك - بعد قول المصنف: " لا يجوز
لها قراءة شئ من العزائم، ويكره لها ما عدا ذلك - ما لفظه: " مقتضاه كراهة السبع
المستثناة للجنب، وهو حسن لانتفاء النص المقتضي للتخصيص " انتهى. واعترضه سبطه في
المدارك بأنه غير جيد قال: " بل المتجه عدم كراهة قراءة ما عدا العزائم بالنسبة إليها مطلقا،
لانتفاء ما يدل على الكراهة بطريق الاطلاق أو التعميم حتى يحتاج استثناء السبع إلى
المخصص، ورواية سماعة التي هي الأصل في كراهة قراءة ما زاد على السبع مختصة
بالجنب فتبقى الأخبار الصحيحة المتضمنة لإباحة قراءة الحائض ما شاءت سالمة عن
المعارض " انتهى. أقول: قد تقدم في باب الجنب رواية الصدوق في الخصال (6) عن
السكوني عن الصادق عن آبائه عن علي (عليهم السلام) قال: " سبعة لا يقرأون القرآن... "

(1) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الحيض.
(2) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الحيض.
(3) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الحيض.
(4) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الحيض.
(5) ص 146
(6) ج 2 ص 10.
275

وعد منهم الجنب والنفساء والحائض، قال الصدوق في الكتاب المذكور بعد نقل الخبر:
" هذا على الكراهة لا على النهي وذلك أن الجنب والحائض مطلق لهم قراءة القرآن
إلا العزائم الأربع " والخبر المذكور ظاهر في اطلاق المنع للحائض من قراءة القرآن،
مضافا ذلك إلى ما ادعوه من الاجماع في المسألة كما يشعر به كلامه في الروض، والظاهر أن السيد لم يقف على الرواية بل الظاهر أنه لو وقف عليها لردها بضعف السند بناء على
الاصطلاح الغير المعتمد. ومما ذكرنا يظهر وجه القول المشهور من كراهة ما عدا العزائم،
إلا أنه قد قدمنا في بحث الجنابة أن الأظهر حمل ما دل على المنع من قراءة الجنب
والحائض القرآن على التقية (1) والله العالم.
و (منها) - الجواز في المسجد، ذكره في الخلاف وتبعه الأصحاب، وقال
في المنتهى أنه لم يقف فيه على حجة ثم احتمل كون سبب الكراهة أما جعل المسجد
طريقا وأما إدخال النجاسة إليه. وأورد على الأول بأنه لا وجه لتخصيص الكراهة بالحائض
بل يعم كل مجتاز، وعلى الثاني أن ذلك محرم عنده فكيف يكون سببا في الكراهة؟
وعللها في الروض بالتعظيم ولا بأس به. وألحق جماعة من الأصحاب بالمساجد المشاهد،
قال في الروض: " وهو حسن بل الأمر في المشاهد أعظم لتأديتها فائدة المسجد وتزيد
بشرف المدفون بها " والله العالم
الفصل الثالث
في غسل الاستحاضة، قيل وهي في الأصل استفعال من الحيض يقال استحيضت
المرأة بالبناء للمفعول فهي تستحاض لا تستحيض إذا استمر بها الدم بعد أيامها فهي
مستحاضة، ذكره الجوهري وهو يعطي أن بناء المعلوم غير مسموع، ثم استعمل في دم
فاسد يخرج من عرق في أدنى الرحم يسمى العاذل، وتعريفه يعلم مما قدمناه في تعريف

(1) ص 144.
276

الحيض، فهو في الأغلب دم أصفر بارد رقيق يخرج بفتور، وإنما قيدناه بالأغلب لأنه
قد يكون بهذه الصفات حيضا وقد يكون بصفة الحيض استحاضة، ومنه أيضا ما نقص عن
الثلاثة التي هي أقل الحيض ما لم يكن دم قرح ولا عذرة وما زاد على العادة بعد الاستظهار
والأصحاب عبروا هنا بما زاد عن أيام العادة مع تجاوز العشرة، وقد تقدم ما فيه، ومنه
ما تراه قبل بلوغ التسع وإن لم يوجب الأحكام في الحال لكن عند البلوغ يجب عليها
الغسل والوضوء كما تقدم في بحث الوضوء من أنه قد يتخلف المسبب عن السبب لفقد
شرطه، ومنه ما يكون بعد بلوغ سن اليأس.
وكيف كان فالبحث هنا يقع في مقامات: (الأول) - لا يخفى أن المستحاضة
إما أن يثقب دمها الكرسف أو لا وعلى الأول فإما أن يسيل أو لا، فإن لم يثقب الكرسف
فهي قليلة وإن ثقب ولم يسل عنه فهي متوسطة وإن سال فهي كثيرة، فههنا أقسام ثلاثة:
(الأول) - ما لم يثقب الكرسف، والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
أنه يجب عليها عند كل صلاة تغير القطنة والوضوء، وعن ابن أبي عقيل إنه لا غسل عليها
ولا وضوء، وعن ابن الجنيد أن عليها في اليوم والليلة غسلا واحدا، قال ابن أبي عقيل على
ما نقله في المختلف: " يجب عليها الغسل عند ظهور دمها على الكرسف لكل صلاتين غسل،
تجمع بين الظهر والعصر بغسل وبين المغرب والعشاء بغسل وتفرد الصبح بغسل، وأما إن لم
يظهر الدم على الكرسف فلا غسل عليها ولا وضوء " وقال ابن الجنيد: " المستحاضة التي
يثقب دمها الكرسف تغتسل لكل صلاتين آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية منهما
وتصليهما، وتفعل للفجر مفردا كذلك، والتي لا يثقب دمها الكرسف تغتسل في اليوم
والليلة مرة واحدة ما لم يثقب " وظاهر هاتين العبارتين أن المستحاضة منحصر في
فردين خاصة فأدرجا المتوسطة في الكبرى، وأما الصغرى فابن أبي عقيل نفى عنها
الغسل والوضوء وابن الجنيد أوجب عليها غسلا واحدا في اليوم والليلة.
حجة المشهور فيما ذكروه، أما بالنسبة إلى تغيير القطنة فعلل بعدم العفو عن هذا
277

الدم في الصلاة قليلة وكثيرة، قال في المنتهى: " ولا خلاف عندنا في وجوب الابدال " وهو
مؤذن بدعوى الاجماع عليه ولعله الحجة عندهم وإلا فعدم العفو عن هذا الدم قليله
وكثيره كما ادعوه لم يقم عليه دليل وإنما هو الحاق من الشيخ بدم الحيض كما سيأتي بيانه
في موضعه إن شاء الله تعالى، مع أنه قد ورد العفو عما لا تتم الصلاة فيه وبه قال
الأصحاب وهذا من جملته، وأما بالنسبة إلى الوضوء لكل صلاة فما رواه الشيخ في
الموثق عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الطامث تقعد بعدد
أيامها كيف تصنع؟ قال: تستظهر بيوم أو يومين ثم هي مستحاضة فلتغتسل وتستوثق من
نفسها وتصلي كل صلاة بوضوء ما لم يثقب الدم... الحديث " ووصف هذه الرواية في
المدارك بالصحة وهو سهو فإن الرواي عن زرارة فيها ابن بكير وهو ربما رد حديثه في غير
موضع من شرحه. وفي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
"... وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة
بوضوء... " وفي صحيحة الصحاف (3) "... وإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب
لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة... " وفي الفقه
الرضوي (4) " فإن لم يثقب الدم القطن صلت صلاتها كل صلاة بوضوء... الحديث "
وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى.
وعن ابن أبي عقيل أنه احتج بصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5)
قال: المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر وتصلي الظهر والعصر ثم تغتسل عند المغرب
فتصلي المغرب والعشاء ثم تغتسل عند الصبح فتصلي الفجر... " قال: وترك الوضوء
يدل على عدم الوجوب وهذه الرواية قد احتج بها له في المختلف، والظاهر أنه تكلفها
له حيث لم يقف له على دليل وإلا فإن هذه الرواية لا تعلق لها بالمسألة أصلا، إذ غاية ما تدل

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(4) ص 22.
(5) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
278

عليه عدم وجوب الوضوء مع الأغسال الثلاثة الواجبة في الكبرى وهو بمعزل عما نحن فيه
وعن ابن الجنيد أنه احتج بموثقة سماعة (1) قال قال: " المستحاضة إذا ثقب
الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين غسلا وللفجر غسلا، وإن لم يجز الدم الكرسف
فعليها الغسل لكل يوم مرة والوضوء لكل صلاة... " وأجاب عنه في المختلف بأنه محمول
على نفوذ الدم الكرسف وإليه أشار بقوله: " وإن لم يجز الدم الكرسف " يعني إذا
نفذ إلى ظاهره ولم يتجاوز. وهو جيد وسيأتي مزيد تحقيق له إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذكره في الذخيرة من حمل الخبر المذكور على الاستحباب فهو بعيد عن جادة
الصواب كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى في الباب، وأما ما ادعى أنه مؤيد للاستحباب
حيث قال -: ومما يؤيد ذلك ما رواه الشيخ عن إسماعيل الجعفي في القوي عن الباقر (عليه
السلام) (2) قال: " المستحاضة تقعد أيام قرئها ثم تحتاط بيوم أو يومين فإن هي رأت طهرا
اغتسلت، وإن هي لم تر طهرا اغتسلت واحتشت فلا تزال تصلي بذلك الغسل حتى يظهر
الدم على الكرسف فإذا ظهر أعادت الغسل وأعادت الكرسف " - ففيه أن الرواية المذكورة
وإن كانت مجملة بالنسبة إلى الوضوء لكل صلاة لكنها يجب حملها على الأخبار المتقدمة
والغسل المذكور في صدرها " إن رأت الطهر أو لم تره " إنما هو غسل الحيض لانقطاعه بعد
الاستظهار وجد الدم أو انقطع فكأنه قال تغتسل للانقطاع على كلا التقديرين، ولعل
منشأ توهمه من قوله (عليه السلام): " فلا تزال تصلي بذلك الغسل " وباب المجاز
أوسع من أن ينكر. وربما أشعرت هذه الرواية بما هو المشهور من تغيير القطنة إلا أنك
قد عرفت قيام الدليل الصحيح الصريح على العفو عن نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه،
واستثناء دم الاستحاضة مما لم يقم عليه دليل فينبغي حمل هذه الرواية ونحوها على الاستحباب
(القسم الثاني) - أن يثقبه ولا يسيل عنه، والمشهور أنه يجب عليها مع ذلك
تغيير الخرقة والغسل لصلاة الغداة، أما تغيير الخرقة فلما تقدم في تغيير القطنة وقد

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
279

عرفت ما فيه، وأما الغسل لصلاة الغداة فهو المشهور. وقد تقدم عن ابن أبي عقيل وابن
الجنيد أنهما ساويا بين هذا القسم والقسم الثالث في وجوب الأغسال الثلاثة، وبه جزم
في المعتبر فقال: " والذي ظهر لي أنه إن ظهر الدم على الكرسف وجب ثلاثة أغسال
وإن لم يظهر لم يكن عليها غسل وكان عليها الوضوء لكل صلاة " وتبعه العلامة في المنتهى كما
هي عادته غالبا حيث إنه في الأكثر يحذو حذو المعتبر وإن زاد عليه في البحث والاستدلال
وإلى هذا القول أيضا مال في المدارك، ونقله عن شيخه المعاصر والمراد به المحقق
الأردبيلي (رحمه الله) كما أشار إليه بذلك في غير موضع، وتبعهم في ذلك الفاضل
الخراساني في الذخيرة والمحقق الشيخ البهائي وغيرهم.
قال في المدارك في الاستدلال على ذلك: " لنا ما رواه الشيخ في الصحيح،
ثم نقل صحيحة معاوية بن عمار وصحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة صفوان بن يحيى الآتيات
في القسم الثالث، قال: وهي مطلقة في وجوب الأغسال الثلاثة خرج منها من لم يثقب
دمها الكرسف بالنصوص المتقدمة فيبقى الباقي مندرجا في الاطلاق، ثم قال: احتج
المفصلون بصحيحة الحسين بن نعيم الصحاف عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) حيث
قال فيها: " ثم لتنظر فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف
فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف، فإن طرحت الكرسف
عنها فسال الدم وجب عليها الغسل، وإن طرحت الكرسف ولم يسل الدم فلتتوضأ
ولتصل ولا غسل عليها، قال وإن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف
الكرسف صبيبا لا يرقأ فإن عليها أن تغتسل في كل يوم وليلة ثلاث مرات " وصحيحة
زرارة (2) قال: " قلت له النفساء متى تصلي؟ قال تقعد قدر حيضها وتستظهر بيومين فإن
انقطع الدم وإلا اغتسلت واحتشت واستثفرت وصلت، فإن جاز الدم الكرسف
تعصبت واغتسلت ثم صلت الغداة بغسل والظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل،

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
280

وإن لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد... " والجواب عن الرواية الأولى أن موضع
الدلالة فيها قوله (عليه السلام): " فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها
الغسل " وهو غير محل النزاع فإن موضع الخلاف ما إذا لم يحصل السيلان، مع أنه لا
اشعار في الخبر بكون الغسل للفجر فحمله على ذلك تحكم، ولا يبعد حمله على الجنس ويكون
تتمة الخبر كالمبين له. وعن الرواية الثانية أنها قاصرة من حيث السند بالاضمار، ومن
حيث المتن فإنها لا تدل على ما ذكروه نصا، فإن الغسل لا يتعين كونه لصلاة الفجر
بل ولا للاستحاضة لجواز أن يكون المراد به غسل النفاس، فيمكن الاستدلال بها على
المساواة بين القسمين " انتهى كلامه.
أقول: لا يخفى أن صحيحة الصحاف التي ذكرها لا تخلو من الاجمال في هذا المجال،
وغاية ما يستفاد منها أنه مع وضع الكرسف فإن كان الدم لا يسيل من خلف الكرسف
فعليها الوضوء خاصة وإن سال من خلفه فإن عليها أغسالا ثلاثة، وهذا التفصيل بحسب
الظاهر لا ينطبق على شئ من القولين، لأن المتوسطة عندهم هي التي يظهر دمها على
الكرسف ولا يسيل عنه، فهي لا تدخل في ذات الأغسال الثلاثة لأنها مخصوصة بمن
يسيل دمها عن الكرسف صبيبا، ولا في الأولى - وإن احتملها لفظ العبارة - لأنه جعل
حكمها الوضوء خاصة والفتوى في المتوسطة على وجوب الغسل متحدا أو متعددا على القولين
المذكورين. فأما التفصيل الآخر في الرواية بالسيلان وعدمه بعد طرح الكرسف عنها
فلا يصلح للاستدلال ولا يدخل في هذا المجال، لأن التقسيم إلى الأقسام الثلاثة مرتب
على وضع الكرسف وأنه هل يثقبه الدم أم لا ومع ثقبه هل يسيل عنه أم لا؟ فسيلان الدم مع
عدم وضع الكرسف خارج عن موضع المسألة، وكما يحتمل في هذا الغسل هنا الاتحاد كما ادعاه
من استدل بالرواية على ما ذكره السيد (رحمه الله) هنا يحتمل الجنس أيضا فيكون المراد به
الأغسال الثلاثة ويكون الكلام في آخر الرواية من قبيل التفصيل بعد الاجمال. وأما طعنه
في صحيحة زرارة بالاضمار فهو مناف لما صرح به في غير موضع من شرحه هذا بأن الاضمار
281

غير مناف ولا مضر بصحة الرواية ولا سيما إذا كان المضمر مثل زرارة ممن لا يعتمد في
أحكام دينه على غير الإمام (عليه السلام) ولكنه (قدس سره) كما أشرنا إليه في غير
موضع ليس له قاعدة يقف عليها فإن احتاج إلى العمل بالرواية اعتذر عن جميع ما ربما
يتطرق إليها من القدح وإن لم توافق ما ذهب إليه قدح فيها بما منع القدح به في غير ذلك
المقام. وأما طعنه في متنها بأنه لا يدل على ما ذكروه نصا ففيه اشعار بأنه يدل عليه ظاهرا
وهو كاف في الاستدلال، إذ لا يشترط في الدلالة خصوص النص بل يكفي ما هو الظاهر
المتبادر إلى الفهم. وأما ما ذكره - من أن الغسل لا يتعين كونه لصلاة الفجر ولا
للاستحاضة لجواز أن يكون المراد به غسل النفاس - فإنه مردود بأن الأول منهما وإن
كان متجها بالنظر إلى ظاهر اللفظ إلا أنه سيظهر لك الجواب عنه في المقام. وأما الثاني
فإنه بعيد غاية البعد بل ربما يقطع بفساده، والظاهر أن أول من أجاب بهذا الجواب
السيد السند وتبعه جمع من محققي متأخري المتأخرين كالمحقق الشيخ حسن في المنتقى
والشيخ البهائي في الحبل المتين والفاضل الخراساني في الذخيرة وغيرهم، وبيان بعده بل
فساده أن سياق الخبر يدل بظاهره على أنه مع عدم انقطاع الدم بعد قعودها بقدر حيضها
واستظهارها بيومين فإنها تعمل عمل المستحاضة، ثم فصل الكلام في الاستحاضة بين
تجاوز الدم الكرسف فتغتسل الأغسال الثلاثة وعدم التجاوز فتغتسل غسلا واحدا، غاية
الأمر أنه ربما يقال إن عدم تجاوز الدم الكرسف شامل لصورتي القليلة والمتوسطة،
والجواب عنه أنه قد قام الدليل في القليلة أنه لا غسل عليها فيختص بالمتوسطة.
بقي الكلام في عدم تعين ذلك الغسل للصبح، والجواب عنه أنه وإن أجمل هذا
الحكم في هذه الرواية ونحوها مما سيأتي في المقام إلا أنه قد وقع التصريح به في الفقه
الرضوي، ومنه أخذ الشيخ علي بن الحسين بن بابويه ذلك في رسالته إلى ابنه كما نقله
في الفقيه، وقد أشرنا في غير موضع إلى أن جملة من الأحكام التي ذهب إليها المتقدمون
ولم تصل أدلتها إلى المتأخرين حتى اعترضوا عليهم بعدم وجود الدليل قد وحدت أدلتها
282

في هذا الكتاب، وهو دليل على شهرته سابقا بينهم ولا سيما الشيخ علي بن الحسين بن
بابويه المذكور، فإن رسالته المذكورة كلها أو جلها إلا القليل عين عبارة الكتاب المشار
إليه كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في المباحث الآتية، حيث قال (عليه السلام) (1)
في الكتاب المذكور: " وإن رأت الدم أكثر من عشرة أيام فلتقعد عن الصلاة عشرة
ثم تغتسل يوم حادي عشر وتحتشي، فإن لم يثقب الدم القطن صلت صلاتها كل صلاة
بوضوء، وإن ثقب الدم الكرسف ولم يسل صلت صلاة الليل والغداة بغسل واحد
وسائر الصلوات بوضوء، وإن ثقب الدم الكرسف وسال صلت صلاة الليل والغداة
بغسل والظهر والعصر بغسل وتؤخر الظهر قليلا وتعجل العصر وتصلي المغرب والعشاء
الآخرة بغسل واحد وتؤخر المغرب قليلا وتعجل العشاء الآخرة ".
ثم إنه مما يؤيد صحيحة زرارة المذكورة في الدلالة على الأقسام الثلاثة المشهورة
ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (2) قال قال: " المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف
اغتسلت لكل صلاتين وللفجر غسلا، وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل
يوم مرة والوضوء لكل صلاة، وإن أراد زوجها أن يأتيها فحين تغتسل، هذا إن كان
دمها عبيطا وإن كانت صفرة فعليها الوضوء " والمعنى فيها أنه إن ثقب الدم الكرسف
أي سال عنه بقرينة الأمر بالأغسال الثلاثة، وقوله: " وإن لم يجز الدم الكرسف "
بمعنى أنه ثقبه ولم يسل عنه بقرينة المقابلة، وقوله: " وإن كانت صفرة " كناية عن
عدم ثقب الدم وهي القليلة، وكنى عنها بالصفرة لقلتها وضعف الدم وعدم نفوذه، فتكون
الرواية منطبقة على الأقسام الثلاثة.
ونحوه ما رواه في الكافي في الموثق عن سماعة أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
قال: " غسل الجنابة واجب وغسل الحائض إذا طهرت واجب وغسل المستحاضة واجب،

(1) ص 21
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الجنابة.
283

إذا احتشت الكرسف فجاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل صلاتين وللفجر غسل، وإن لم
يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرة والوضوء لكل صلاة... الحديث "
والتقريب فيه أنه قد اشتمل على قسمي المستحاضة الكبرى والمتوسطة ولم يذكر الصغرى.
بقي الكلام في عدم اشتمالهما على كون هذا الغسل للصبح فيجب تقييدهما بكلامه
في الفقه الرضوي المعتضد بعمل أولئك الفضلاء المتقدمين الذين هم أساطين الدين بعد
الأئمة الطاهرين، وبذلك يتجه الجواب - عما احتج به السيد السند لذلك القول من
اطلاق تلك الصحاح المشار إليها - بأنه يمكن تقييد اطلاقها بهذه الأخبار كما اعترف بتقييد
بعضها بأخبار الصغرى، لأن هذه الأخبار بمعونة ما ذكرناه قد اشتملت على التفصيل بين
السيلان عن الكرسف ومجرد الظهور عليه من غير سيلان، وأنه في الصورة الأولى
تجب الأغسال الثلاثة وفي الثانية يجب غسل واحد، فيجب تقييد أخبارهم بهذه الأخبار
وتكون أخبارهم مخصوصة بالكبرى. والله العالم.
(القسم الثالث) - أن يثقبه ويسيل عنه، والظاهر أنه لا خلاف هنا في
وجوب الأغسال الثلاثة، قال في المنتهى: " وهو مذهب علمائنا أجمع " إنما الخلاف في أنه هل يجب الوضوء مع هذه الأغسال ويتعدد بتعدد الصلاة أم لا يجب بالكلية أم يجب
وضوء واحد مع الغسل؟ أقوال: فذهب جمع من متقدمي الأصحاب: منهم - الشيخ
في النهاية والمبسوط والمرتضى وابنا بابويه وابن الجنيد إلى الثاني، وعن ابن إدريس
الأول وإليه ذهب عامة المتأخرين على ما نقله في المدارك، وعن المفيد الثالث، وهو
أنها تصلي بوضوئها وغسلها الظهر والعصر على الاجتماع ثم تفعل ذلك في المغرب والعشاء
وتفعل مثل ذلك لصلاة الليل والغداة، واختاره المحقق في المعتبر.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا القسم روايات: منها - ما رواه
الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (1) قال: " المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلي

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
284

فيها ولا يقربها بعلها فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر
والعصر تؤخر هذه وتعجل هذه وللمغرب والعشاء غسلا تؤخر هذه وتعجل هذه وتغتسل
للصبح وتحتشي وتستثفر، إلى أن قال: وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت
ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء وهذه يأتيها بعلها إلا في أيام حيضها " وهذه
الرواية وإن كان ظاهرها ترتب الأغسال الثلاثة على مجرد ثقب الدم الكرسف الذي
هو أعم من السيلان وعدمه إلا أنها مخصوصة بما قدمناه من الروايات الظاهرة في أنه مع
عدم السيلان فليس إلا غسل واحد، وحينئذ فتحمل هذه الرواية على السيلان كما لا يخفى
وما رواه الكليني في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) قال: " المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر فتصلي الظهر والعصر ثم
تغتسل عند المغرب فتصلي المغرب والعشاء ثم تغتسل عند الصبح فتصلي الفجر، ولا بأس
أن يأتيها بعلها إذا شاء إلا أيام حيضها فيعتزلها بعلها، قال وقال: لم تفعله امرأة قط
احتسابا إلا عوفيت من ذلك " وهذه الرواية وإن كانت مطلقة شاملة باطلاقها لأقسام
المستحاضة الثلاثة إلا أنه يجب تقييدها بأخبار القسمين المتقدمين.
ومنها - ما رواه في الكافي أيضا في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن
(عليه السلام) (2) قال: " قلت له: جعلت فداك إذا مكثت المرأة عشرة أيام ترى الدم
ثم طهرت فمكثت ثلاثة أيام ظاهرة ثم رأت الدم بعد ذلك أتمسك عن الصلاة؟ قال
لا هذه مستحاضة تغتسل وتستدخل قطنة بعد قطنة وتجمع بين صلاتين بغسل ويأتيها
زوجها إن أراد " وهي أيضا مطلقة يجب تقييد اطلاقها بما ذكرناه في سابقتها.
وما رواه الشيخ في الموثق عن فضيل وزرارة عن أحدهما (عليهما السلام) (3)
قال: " المستحاضة تكف عن الصلاة أيام أقرائها وتحتاط بيوم أو اثنين ثم تغتسل كل
يوم وليلة ثلاث مرات وتحتشي لصلاة الغداة وتغتسل وتجمع بين الظهر والعصر بغسل

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
285

وتجمع بين المغرب والعشاء بغسل فإذا حلت لها الصلاة حل لزوجها أن يغشاها ".
ومنها - صحيحة الصحاف وقد تقدمت في القسم الثاني (1) وكلامه (عليه السلام)
في الفقه الرضوي وقد تقدم (2) وهو أصرح الأخبار في بيان الأقسام الثلاثة وحكم
كل منهما فينبغي أن يحمل عليه اطلاق ما عداه من أخبار الأقسام الثلاثة واجماله.
ومنها - صحيحة أبي المغراء وموثقة إسحاق بن عمار وقد تقدمتا في مسألة اجتماع
الحيض مع الحبل (3) ورواية يونس الطويلة المتقدمة (4) المشهورة برواية السنن، إلى غير
ذلك من الأخبار.
وكلها - كما ترى - ظاهرة في عدم الوضوء متحدا أو متعددا، إذ المقام مقام البيان
فلو كان واجبا لوقع ذكره ولو في بعضها ليحمل عليه الباقي وليس فليس. وغاية ما احتج به
من قال بوجوبه لكل صلاة عموم قوله تعالى: "... إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا... الآية " (5)
وفيه (أولا) - ما عرفت آنفا (6) من دلالة النص المعتضد بدعوى الاجماع من الشيخ
والعلامة على التخصيص بالقيام من حدث النوم. و (ثانيا) - أنه من المعلوم تقييد ذلك
بالمحدثين ولم يثبت كون الدم الخارج بعد الغسل على هذا الوجه حدثا لأن الأحكام الشرعية مبنية على التوقيف. وقد بالغ المحقق في المعتبر في رد هذا القول والتشنيع على
قائله فقال: " وظن غالط من المتأخرين أنه يجب على هذه مع الأغسال وضوء مع كل
صلاة، ولم يذهب إلى ذلك أحد من طائفتنا، ويمكن أن يكون غلطه لما ذكره الشيخ في
المبسوط والخلاف أن المستحاضة لا تجمع بين فرضين بوضوء فظن انسحابه على مواضعها
وليس على ما ظن بل ذلك مختص بالموضع الذي يقتصر فيه على الوضوء " وأما ما ذكره
المفيد والمحقق فالظاهر أن مرجعه إلى وجوب الوضوء مع الغسل حيثما كان إلا غسل
الجنابة، وبذلك صرح في المعتبر بعد أن اختار فيه مذهب المفيد وألزم به الشيخ أبا جعفر

(1) ص 280
(2) ص 283
(3) ص 181
(4) ص 182
(5) سورة المائدة. الآية 7
(6) ص 125
286

هنا حيث إن عنده أن كل غسل لا بد فيه من الوضوء إلا غسل الجنابة، قال: " وإذا
كان المراد بغسل الاستحاضة الطهارة لم يحصل المراد به إلا مع الوضوء، أما علم الهدى
فلا يلزمه ذلك لأن الغسل عنده يكفي عن الوضوء " أقول: يمكن الجواب عما ألزم به
الشيخ بتخصيص خبر ابن أبي عمير (1) الذي هو معتمدهم في ايجاب الوضوء مع كل
غسل عدا غسل الجنابة بهذه الأخبار الظاهرة في عدم الوضوء في هذه الصورة، وقد تقدم
تحقيق البحث في ذلك مستوفى في غسل الجنابة (2) وأن الحق عدم وجوب الوضوء مع
الأغسال كائنة ما كانت.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن تنقيح البحث في المقام يتوقف على بيان أمور:
(الأول) - صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض - ونحوه غيره - بأن وجوب
الأغسال الثلاثة في هذه الحالة إنما هو مع استمرار الدم سائلا إلى وقت العشاءين فلو طرأت
القلة بعد الصبح فغسل واحد أو بعد الظهرين فغسلان خاصة. وهو حسن فإنه الظاهر من الأخبار
وإن كان في فهمه من بعضها نوع غموض، وأصرح الروايات في بيان أحكام الاستحاضة
بأقسامها الثلاثة عبارة الفقه الرضوي (3) والظاهر من التقسيم فيها إلى الأقسام الثلاثة من عدم
ثقب الدم أو ثقبه ولم يسل أو ثقبه وسيلانه هو كون استمرار كل من هذه الحالات في
الأوقات الثلاثة كما لا يخفى، وعليها يحمل غيرها.
(الثاني) - أنه قد صرح غير واحد منهم بأن اعتبار الجمع بين الصلاتين إنما هو
لأجل الاكتفاء بغسل واحد وإلا فلو فرقت وأفردت كل صلاة بغسل جاز بل استحب
كما نقله في المدارك عن المنتهى، قيل: وفي بعض الروايات الموثقة أنها تغتسل عند وقت
كل صلاة، وهو مؤيد لذلك بأن يحمل على عدم الجمع، ويمكن حمله على الأوقات الثلاثة،
والأول أقرب، وفي رواية يونس الطويلة (4) " أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تغتسل
في كل صلاة " انتهى. أقول: لا يخفى أن الأمر بالاغتسال وقت كل صلاة لا يستلزم

(1) ص 119
(2) ص 120
(3) ص 283
(4) ص 182
287

الاتيان بصلاة واحدة خاصة، وقد أوضح هذا الاجمال في صحيحة عبد الله بن سنان
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر فتصلي
الظهر والعصر ثم تغتسل عند المغرب فتصلي المغرب والعشاء ".
(الثالث) - قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يشترط معاقبة الصلاة للغسل بأن تقع
بعده بلا فصل، قالوا: ولا يقدح في ذلك الاشتغال بعده بالستر وتحصيل القبلة والأذان
والإقامة لأنها مقدمات للصلاة، واستثنى العلامة في النهاية والشهيد في الدروس انتظار
الجماعة، وربما منع ذلك لعدم الضرورة. أقول: لا ريب أنه الأحوط وإن كان في فهمه
من الأخبار نظر.
واختلفوا في اعتبار معاقبة الصلاة للوضوء في الصغرى على قولين، قال في المختلف:
" قال الشيخ إذا توضأت المستحاضة في أول الوقت ثم صلت آخر الوقت لم تجزها تلك
الصلاة. وهو اختيار ابن إدريس. وعندي فيه نظر أقربه الجواز، لنا - العموم الدال
على تجويز فعل الطهارة في أول الوقت والعموم الدال على توسعة الوقت " ثم نقل عن الشيخ
أنه احتج بأن الأخبار تدل على أنه يجب عليها تجديد الوضوء عند كل صلاة وذلك يقتضي أن
يتعقبه فعل الصلاة، ولأنها مع مقارنة الصلاة تخرج عن العهدة بيقين ومع التأخير لا تخرج عن
العهدة إلا بالدليل وهو منتف. ثم أجاب عن الأول بالمنع من دلالة الأخبار على ما ادعاه فإن
بعضها ورد بقوله: " فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة " ولا دلالة في ذلك على
ما ادعاه، وفي بعضها " وصلت كل صلاة بوضوء " ولا دلالة فيه أيضا، وفي بعضها " الوضوء
لكل صلاة " ولا شئ من هذه الأخبار دال على ما ذكره الشيخ. وعن الثاني أن
الدليل على خروجها عن العهدة قائم وهو الامتثال. انتهى. أقول: أما ما أجاب به عن
الأول فحسن فإن الأخبار المذكورة لا دلالة فيها على ما ادعاه الشيخ. وأما ما أجاب به
عن الثاني فهو لا يخرج عن المصادرة، فإن مقتضى كلام الشيخ أنه لا يحصل الامتثال

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
288

الموجب للخروج عن العهدة إلا بالمقارنة فكيف يدعي أن الدليل على الخروج عن العهدة
الامتثال؟ وربما أيد مذهب الشيخ هنا بأن العفو عن حدثها المستمر الواقع في الصلاة
أو بينها وبين الطهارة إنما وقع للضرورة فيقتصر فيها على ما تقتضيه مما لا يمكن الانفكاك
عنه، واعتبار الجمع بين الفرضين بغسل أيضا يدل عليه. وبالجملة فالمسألة لفقد النص
لا تخلو من الاشكال، والاحتياط فيها بما ذكره الشيخ مطلوب على كل حال.
(الرابع) - هل الاعتبار في كمية الدم وقلته وكثرته بوقت الصلاة لأنه وقت
الخطاب بالطهارة فلا أثر لما قبله، أو أنه كغيره من الأحداث متى حصل كفى في وجوب
موجبه لأنه حدث فيمنع سواء كان حصوله في وقت الصلاة أم في غيره؟ قولان، اختار
أولهما في الدروس وثانيهما في البيان ورجحه في الروض ونقله عن ظاهر العلامة، وفي
الذكرى نسب القول الأول إلى لفظ " قيل " بعد أن ذكر فيها أن ظاهر خبر الصحاف
يشعر به، واستدل على القول الثاني باطلاق الروايات المتضمنة لكون الاستحاضة موجبة
للوضوء أو الغسل. وبقوله (عليه السلام) في خبر الصحاف (1): " فلتغتسل وتصلي
الظهرين ثم لتنظر فإن كان الدم لا يسيل فيما بينها وبين المغرب فلتتوضأ ولا غسل عليها
وإن كان إذا أمسكت يسيل من خلفه صبيبا فعليها الغسل " واستند في الدروس أيضا
إلى خبر الصحاف كما في الذكرى فقال: " والاعتبار في كميته بأوقات الصلاة في ظاهر
خبر الصحاف " وفيه ما عرفت من ظهور دلالة الخبر المذكور في القول الآخر.
وأما ما استندوا إليه - من أن وقت الصلاة هو وقت الخطاب بالطهارة فلا أثر لما قبله -
ففيه أن الحدث مانع سواء كان في الوقت أم لا وإلا لم تجب الطهارة من غيره من الأحداث
إذا طرأ قبل الوقت، ومن ذلك يظهر قوة القول الثاني. ويتفرع على الخلاف المذكور
ما لو كثر قبل الوقت ثم طرأت القلة، فعلى القول الأول لا غسل عليها ما لم توجد في
الوقت متصلة أو طارئة، وعلى الثاني يجب الغسل للكثرة المتقدمة. ولو طرأت الكثرة

(1) المروي في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
289

بعد صلاة الظهرين فلا غسل لهما، وأما بالنسبة إلى العشاءين فيراعى استمرار الكثرة
إلى وقتهما على الأول وعلى الثاني يجب الغسل لهما وإن لم يستمر. وهل يتوقف صوم اليوم
الحاضر على هذا الغسل الطارئ سببه بعد الظهرين؟ الظاهر العدم على كل من القولين
أما على الأول فلأنه لا يوجب الغسل إلا بعد وجوده في وقت العشاءين وقد انقضى
الصوم، وأما على الثاني فلأنه وإن حكم بكونه حدثا في الجملة لكنهم حكموا بصحة
الصوم مع اتيانها بالأغسال، والغسل لهذا الحدث إنما هو في الليلة المستقبلة فلا يتوقف
عليه صحة صوم اليوم الماضي، واختار في الذكرى وجوبه هنا للصوم في سياق التفريع على أن
الاعتبار في كميته بأوقات الصلاة، وتوقف العلامة في التذكرة.
(الخامس) - ظاهر الأخبار المتقدمة أن المدار في ثبوت الكثرة الموجبة
للأغسال الثلاثة هو ثقب الدم الكرسف وخروجه منه أعم من أن يكون يخرج من
الخرقة التي يشد بها الكرسف أم لا، وهو أيضا ظاهر كلام أكثر الأصحاب، وظاهر
عبارة المفيد في المقنعة أنه لا بد من خروجه من الخرقة وسيلانه منها، وجعل المتوسطة
هي التي يثقب دمها الكرسف ويرشح على الخرق ولكن لا يسيل منها، وهذه هي
الكثيرة عند الأصحاب، ولم أر في الأخبار ما يدل عليه، إذ الذي جعل فيها مناطا
للكثيرة والمتوسطة هو ثقب الكرسف وعدمه من غير تعرض للخرقة، ونقل شيخنا
المجلسي في بعض حواشيه عن المحقق الشيخ علي في بعض حواشيه أنه ذهب إلى ما ذكره
الشيخ المفيد (رحمه الله) وفيه ما عرفت.
(السادس) - صرح غير واحد من الأصحاب بأنه لو أرادت ذات الدم
المتوسط أو الكثير التهجد في الليل قدمت الغسل على الفجر واكتفت به، قال في الذخيرة
بعد نقل الحكم المذكور: " ولا أعلم فيه خلافا بينهم ولم أطلع على نص دال عليه "
أقول: قد عرفت أن كلامه (عليه السلام) في الفقه الرضوي (1) دال عليه ولكنه لم

(1) ص 283
290

يصل إليه، والظاهر أنه هو المستند لمن ذكر هذا الحكم من المتقدمين ولا سيما الصدوقين
كما عرفت وستعرف إن شاء الله تعالى. قال في الروض: " وينبغي الاقتصار في التقديم
على ما يحصل به الغرض ليلا فلو زادت على ذلك هل يجب إعادته؟ يحتمل لما مر في الجمع
بين الصلاتين به، وعدمه للإذن في التقديم من غير تقييد " أقول: لا يخفى ضعف الوجه
الثاني من وجهي الاحتمال المذكور، وذلك (أولا) - لما تقدم من تصريحهم بوجوب
معاقبة الصلاة للغسل وهو المشار إليه في كلامه " لما مر... الخ " و (ثانيا) - أنه ليس في الخبر
الذي هو المستند في الحكم المذكور لفظ التقديم حتى يمكن الاستناد إلى اطلاقه وإنما وقع
هذا اللفظ في عبارات الأصحاب. والذي في كلامه (عليه السلام) في الفقه الرضوي (1)
إنما هو " أن ثقب الدم الكرسف ولم يسل صلت صلاة الليل والغداة بغسل " وبنحو
ذلك عبر في ذات الأغسال الثلاثة كما تقدم نقل كلامه (عليه السلام) وظاهره إنما هو
معاقبة الصلاة للغسل كما تقدم.
(المقام الثاني) - صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنها إذا فعلت ما هو
الواجب عليها في الأقسام الثلاثة فإنها تكون بحكم الطاهر وتستبيح ما تستبيحه الطاهر من
الأمور المشروطة بالطهارة، فتصح صلاتها وصومها ودخولها المساجد ومس القرآن ونحو ذلك،
إلا أنه قد وقع الخلاف في جواز اتيانها قبل الغسل ونحوه. فقيل بالجواز على كراهية، واختاره
المحقق في المعتبر، وتبعه جملة من المتأخرين: منهم - السيد في المدارك والفاضل الخراساني في
الذخيرة وغيرهما، وقيل بتوقف ذلك على الغسل خاصة، وقيل بتوقفه على الوضوء أيضا،
وقيل بتوقفه على جميع ما تتوقف عليه الصلاة، ونسبه في الذكرى إلى ظاهر الأصحاب،
ونقل عن المفيد القول بتوقفه أيضا على نزع الخرق وغسل الفرج، والظاهر عندي هو القول
المشهور من توقفه على ما تتوقف عليه الصلاة وأنه تابع لها فمتى حلت لها الصلاة حل
لزوجها أن يأتيها وإلا فلا، وحيث إن أول من تصدى لنصرة مذهب المحقق في هذه

(1) ص 22
291

المسألة السيد في المدارك فلا بأس بنقل كلامه وبيان ما في نقضه وإبرامه، قال - بعد
ذكر اشتراط اتيانها بما يجب عليها من الغسل والوضوء وتغيير القطنة والخرقة في كونها
بحكم الطاهر - ما صورته: " وفي جواز اتيانها قبله أقوال، أظهرها الجواز مطلقا وهو
خيرة المصنف في المعتبر، لعموم قوله تعالى: " فإذا تطهرن فأتوهن " - 1) وقوله (عليه
السلام) في صحيحة ابن سنان (2): " ولا بأس أن يأتيها بعلها متى شاء إلا في أيام حيضها "
وفي صحيحة صفوان بن يحيى (3): " ويأتيها زوجها إذا أراد " وقيل بتوقفه على الغسل
خاصة، لقوله (عليه السلام) في رواية عبد الملك بن أعين في المستحاضة (4): " ولا يغشاها
حتى يأمرها بالغسل " وفي السند ضعف وفي المتن اجمال لاحتمال أن يكون الغسل المأمور
به غسل الحيض. وقيل باشتراط الوضوء أيضا لقوله (عليه السلام) في رواية زرارة
وفضيل (5): " فإذا حلت لها الصلاة حل لزوجها أن يغشاها " وهي مع ضعف سندها
وخلوها من ذكر الوضوء لا تدل على المطلوب، بل ربما دلت على نقيضه إذا الظاهر أن المراد من حل الصلاة
الخروج من الحيض كما يقال لا تحل الصلاة في الدار المغصوبة
فإذا خرج حلت، فإن معناه زوال المانع الغصبي وإن افتقر بعد الخروج منها إلى الطهارة
وغيرها من الشرائط " انتهى. واقتفاه في هذا التقرير جملة ممن تأخر عنه: منهم -
الفاضل الخراساني في الذخيرة وغيره.
أقول: والظاهر من الأخبار لمن تأمل فيها بعين الفكر والاعتبار هو تبعية حل
الوطء لحل الصلاة كما دلت عليه رواية زرارة وفضيل المذكورة وغيرها، وها أنا
أوضح لك الحال بتوفيق الملك المتعال بما تنقطع به مادة الاشكال.
فأقول: أما رواية زرارة وفضيل المشار إليها فهي ما روياه عن أحدهما (عليهما

(1) سورة البقرة. الآية 221.
(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(3) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(4) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الاستحاضة
(5) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
292

السلام) (1) قال: " المستحاضة تكف عن الصلاة أيام أقرائها وتحتاط بيوم أو اثنين
ثم تغتسل كل يوم وليلة ثلاث مرات وتحتشي لصلاة الغداة وتغتسل وتجمع بين الظهر
والعصر بغسل وتجمع بين المغرب والعشاء بغسل، فإذا حلت لها الصلاة حل لزوجها
أن يغشاها " وما طعن به عليها من ضعف السند فهو غير مسموع عندنا ولا معتمد لما
عرفت في مقدمات الكتاب، وكذا عند غيرنا من قدماء الأصحاب الذين لا أثر
لهذا الاصطلاح عندهم، على أن الدلالة على ما ندعيه غير منحصرة في هذه الرواية بل
هو مدلول أخبار عديدة. وأما طعنه في متنها من حملها على ما ذكره من أن المراد من
حل الصلاة يعني الخروج من الحيض فهو مبني على رجوع قوله في آخر الرواية: " فإذا
حلت لها الصلاة... الخ " إلى ما ذكره في صدر الرواية من قوله: " تكف عن الصلاة
أيام أقرائها " وهو تعسف ظاهر كما لا يخفى عن الخبير الماهر، فإن هذا الكلام إنما هو
مرتبط بحكم المستحاضة المذكور بعد حكم الحائض كما سيظهر لك من الأخبار الآتية إن
شاء الله تعالى، والتقريب فيها أنه بعد ذكر الحيض وأيام الاستظهار بين أنها تحتاج
في الاتيان بالصلاة إلى هذه الأغسال وأن الصلاة تتوقف عليها ثم بين أنه متى حلت لها
الصلاة بذلك حل لزوجها أن يغشاها.
وأظهر منها في إفادة هذا المعنى صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله (2) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستحاضة أيطأها زوجها وهل تطوف بالبيت؟
قال تقعد قرءها الذي كانت تحيض فيه فإن كان قرؤها مستقيما فلتأخذ به وإن كان فيه
خلاف فلتحتط بيوم أو يومين ولتغتسل وتستدخل كرسفا فإن ظهر على الكرسف
فلتغتسل ثم تضع كرسفا آخر ثم تصلي فإذا كان الدم سائلا فلتؤخر الصلاة إلى الصلاة ثم
تصلي صلاتين بغسل واحد، وكل شئ استحلت به الصلاة فليأتها زوجها ولتطف
بالبيت " وهي مع صحة سندها صريحة في المراد عارية عن وصمة الإيراد، وهي

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
293

- كما ترى - مثل الرواية الأولى قد اشتملت أولا على حكم الحيض ثم الاستظهار ثم
حكم المستحاضة وأنها تصلي بعد الاتيان بالأغسال الثلاثة، ثم ذكر أن كل شئ استحلت
به الصلاة وكان مبيحا لها فهو مبيح لاتيان زوجها وطوافها.
ومن الأخبار في المسألة أيضا ما رواه المحقق في المعتبر من كتاب المشيخة
للحسن بن محبوب في الصحيح (1) قال: روى الحسن بن محبوب في كتاب المشيخة
عن أبي أيوب عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) " في الحائض إذا رأت دما
بعد أيامها التي كانت ترى الدم فيها فلتقعد عن الصلاة يوما أو يومين ثم تمسك قطنة فإن
صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل ويصيب منها زوجها إن أحب
وحلت لها الصلاة ".
وما رواه في قرب الإسناد عن محمد بن خالد الطيالسي عن إسماعيل بن
عبد الخالق (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستحاضة كيف تصنع؟
قال إذا مضى وقت طهرها الذي كانت تطهر فيه فلتؤخر الظهر إلى آخر وقتها ثم تغتسل
ثم تصلي الظهر والعصر فإن كان المغرب فلتؤخرها إلى آخر وقتها ثم تغتسل ثم تصلي
المغرب والعشاء فإذا كان صلاة الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر ثم تصلي ركعتين قبل
الغداة ثم تصلي الغداة. قلت يواقعها زوجها؟ قال إذا طال بها ذلك فلتغتسل ولتتوضأ
ثم يواقعها إن أراد " والظاهر أن المراد بالوضوء المعنى اللغوي وهو غسل الفرج.
ومنها - ما رواه سماعة في الموثق (3) قال: " المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف
اغتسلت لكل صلاتين وللفجر غسلا، وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل
يوم مرة والوضوء لكل صلاة، وإن أراد زوجها أن يأتيها فحين تغتسل... الحديث "
وقد تقدم بيان معناه.
ومنها - ما رواه صفوان بن يحيى في الصحيح عن أبي الحسن (عليه السلام) (4)

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
294

قال: " قلت له جعلت فداك إذا مكثت المرأة عشرة أيام ترى الدم ثم طهرت فمكثت
ثلاثة أيام طاهرة ثم رأت الدم بعد ذلك أتمسك عن الصلاة؟ قال لا هذه مستحاضة
تغتسل وتستدخل قطنة وتجمع بين صلاتين بغسل ويأتيها زوجها إن أراد ".
ومنها - ما في الفقه الرضوي حيث قال (عليه السلام) (1) بعد ذكر المستحاضة:
" والوقت الذي يجوز فيه نكاح المستحاضة وقت الغسل وبعد أن تغتسل وتتنظف لأن
غسلها يقوم مقام الطهر للحائض ".
فهذه جملة من الأخبار واضحة الدلالة ظاهرة المقالة في أن جماع المستحاضة إنما
هو بعد الغسل وأنه تابع لحل الصلاة، وحينئذ فما استندوا إليه من اطلاق الآية والأخبار
المتقدمة فهو مخصص بما ذكرنا من الأخبار الواضحة عملا بالقاعدة المقررة المسلمة بينهم،
والعمل باطلاق الآية والأخبار موجب لطرح هذه الأخبار، وأما الجمع بحملها على
الاستحباب - كما هو قاعدتهم في غير باب - فقد عرفت ما فيه في غير موضع من الكتاب
من أنه (أولا) - لا دليل عليه. و (ثانيا) - بأنه مجاز موقوف على القرينة واختلاف
الأخبار ليس من قرائن المجاز، ويؤيد ما ذهبنا إليه أنه الأوفق بالاحتياط الذي هو
أحد المرجحات الشرعية في مقام اختلاف الأخبار كما صرحت به رواية زرارة الواردة
في طرق الترجيح والله العالم.
(المقام الثالث) - للظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أن المستحاضة
متى أخلت بشئ من الأفعال الواجبة عليها من وضوء أو غسل كما تضمنته الأخبار المتقدمة
فإنه لا تصح صلاتها ولا يباح لها ما يباح للطاهر، ولو أخلت بالأغسال في المتوسطة
أو الكبرى فإنه لا يصح صومها، وقد تقدم في الأخبار المتقدمة ما يدل على الحكم الأول
وأما الحكم الثاني فاستدلوا عليه بما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار (2) قال:
" كتبت إليه: امرأة طهرت من حيضها أو من دم نفاسها في أول يوم من شهر رمضان ثم استحاضت

(1) ص 21
(2) رواه في الوسائل في الباب 41 من أبواب الحيض.
295

فصلت وصامت شهر رمضان كله من غير أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكل صلاتين،
فهل يجوز صومها وصلاتها أم لا؟ فكتب تقضي صومها ولا تقضي صلاتها لأن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) كان يأمر فاطمة والمؤمنات من نسائه بذلك " ورواه الكليني في
الصحيح أيضا نحوه (1) ورواه الصدوق في الفقيه بطرق ثلاث فيها الصحيح مثله (2).
وهذا الخبر من مشكلات الأخبار ومعضلات الآثار وذلك من وجهين:
(أحدهما) - ما يشعر به من أن فاطمة (عليها السلام) كانت ترى الدم مع ما تكاثرت
به الأخبار من أنها لم تر حمرة قط لا حيضا ولا استحاضة (3). و (ثانيهما) - ما اشتمل عليه
من الحكم بعدم قضاء الصلاة مع الحكم بقضاء الصوم مع أن العكس كان أقرب وبالانطباق
على الأصول أنسب، إذ الصلاة مشروطة بالطهارة بخلاف الصوم فإنه ربما اتفق مع الحدث

(1) رواه في الوسائل في الباب 41 من أبواب الحيض
(2) رواه في الوسائل في الباب 41 من أبواب الحيض
(3) في الفقيه ج 1 ص 50 " وقال النبي (صلى الله عليه وآله): أن فاطمة (ع) ليست
كأحد منكن أنها لا ترى دما في حيض ولا نفاس كالحورية، وفي أصول الكافي ج 1
ص 458 بسنده عن أبي الحسن (ع): أن فاطمة " ع " صديقة شهيدة وأن بنات الأنبياء
لا يطمئن " وفي كشف الغمة للأربلي ص 139 عن علي عن رسول الله " ص " قال:
" مريم بتول وفاطمة بتول والبتول التي لم تر حمرة قط أي لم تحض فإن الحيض مكروه في
بنات الأنبياء " ونحوه في العلل ص 71، وفي كنز العمال ج 6 ص 219 عن ابن عباس
" قال رسول الله " ص ": ابنتي فاطمة " ع " حوراء آدمية لم تحض ولم تطمث " وفي مجمع
الزوائد للهيثمي ج 9 ص 202 " قال رسول الله " ص " لعائشة يا حميراء فاطمة ليست
كنساء الآدميين ولا تعتل كما يعتلون " وفي اللئالي المصنوعة للسيوطي ج 1 ص 205 عن
أم سليم زوجة أبي طلحة الأنصاري قالت: " لم تر فاطمة بنت رسول الله " ص " دما قط
في حيض ولا نفاس، وفي ص 208 منه عن ابن عباس عنه " ص " " فاطمة حوراء آدمية
لم تحض ولم تطمث " ولم يتعقبه السيوطي. وفي الذخائر العقبى للمحب الطبري ص 26 عن
ابن عباس مثله وفي تاريخ القرماني ص 87 " لم تحض فاطمة بنت رسول الله " ص " لأنها
خلقت من تفاحة الجنة ".
296

في الجملة، ويظهر من الشيخ في المبسوط التوقف في هذا الحكم حيث أسنده إلى رواية
الأصحاب، وهو في محله لما عرفت. وجل الأصحاب (رضوان الله عليهم) قد عملوا
بالخبر في الحكم الأول وتركوا الحكم الثاني، وربما ظهر من رواية الصدوق له في الفقيه
من غير تعرض للطعن في متنه العمل بمضمونه، وكذا الشيخ كما يفهم من تأويله الآتي.
والاشكال الأول إنما يتوجه على رواية الشيخ والكليني للخبر المذكور كما قدمناه
وأما الصدوق في الفقيه فإنه رواه هكذا: " لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان
يأمر المؤمنات من نسائه بذلك " وكذلك في العلل رواه كما في الفقيه. وربما أجيب - على
تقدير صحة هذه الزيادة - بأنه كان يأمر فاطمة أن تأمر المؤمنات بذلك، ويعضده ما في
صحيحة زرارة (1) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قضاء الحائض الصلاة ثم تقضي
الصوم؟ فقال ليس عليها أن تقضي الصلاة وعليها أن تقضي صوم شهر رمضان. ثم أقبل علي
فقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بذلك فاطمة وكانت تأمر بذلك
المؤمنات " واحتمل بعضهم أن المراد بفاطمة هنا بنت أبي حبيش المتقدمة في حديث
السنن (2) فإنها كانت مشهورة بكثرة الاستحاضة والسؤال عن مسائلها في ذلك الزمان
كما يفهم من الحديث المشار إليه ويكون ذكر الصلاة والسلام بعد لفظ فاطمة في الخبر
المذكور ناشئا من توهم بعض الرواة ونقلة الخبر أنها فاطمة الزهراء (عليها السلام).
وأما الاشكال الثاني فقد أجيب عنه بوجوه: (الأول) - ما ذكره الشيخ في
التهذيب حيث قال: " لم يأمرها بقضاء الصلاة إذا لم تعلم أن عليها لكل صلاتين غسلا
ولا تعلم ما يلزم المستحاضة، فأما مع العلم بذلك والترك له على العمد يلزمها القضاء " واعترضه
في المدارك بأنه إن بقي الفرق بين الصوم والصلاة فالاشكال بحاله وإن حكم بالمساواة بينهما
ونزل قضاء الصوم على حالة العلم وعدم قضاء الصلاة على حالة الجهل فتعسف ظاهر.
(الثاني) - ما أجاب به المولى الأردبيلي من أن المراد لا يجب عليها قضاء

(1) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الحيض
(2) ص 182.
297

جميع الصلوات لأن منها ما كان واقعا في الحيض. ورده في الحبل المتين بأنه مع بعده
محل كلام فإن الصلاة في قول المسائل: " هل يجوز صومها وصلاتها " المراد بها صلاة التي
أتت بها في شهر رمضان وهو الزمان الذي استحاضت فيه كما يدل عليه قوله: " طهرت
من حيضها أن نفاسها من أول شهر رمضان " وليس الكلام في الصلاة التي قعدت عنها
أيام حيضها قبل دخول شهر رمضان، وأما تعليق الجار في قوله: " من أول شهر رمضان "
بالحيض أو النفاس فمع أنه بعيد عن ظاهر الكلام بمراحل لا يجدي نفعا. انتهى. وهو جيد
(الثالث) - ما ذكره في المنتقى قال: " والذي يختلج في خاطري أن الجواب
الواقع في الحديث غير متعلق بالسؤال المذكور والانتقال إلى ذلك من وجهين:
(أحدهما) - قوله فيه: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر فاطمة... الخ "
فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما يكثر وقوعه ويتكرر، وكيف يعقل كون تركهن
ما تعمله المستحاضة في شهر رمضان جهلا كما ذكره الشيخ أو مطلقا مما يكثر وقوعه؟
و (ثانيهما) - أن هذه العبارة بعينها مضت في حديث من أخبار الحيض في كتاب الطهارة
مرادا بها قضاء الحائض للصوم دون الصلاة وبينا وجه تأويلها على ما يروى في أخبارنا
من أن فاطمة (عليها السلام) لم تكن تطمث، ولا يخفى أن للعبارة بذلك الحكم
مناسبة ظاهرة تشهد بذلك السليقة لكثرة وقوع الحيض وتكرره والرجوع إليه
في حكمه، وبالجملة فارتباطها بذلك الحكم ومنافرتها لقضية الاستحاضة مما لا يرتاب فيه
أهل الذوق السليم، وليس بالمستبعد أن يبلغ الوهم إلى وضع الجواب مع غير سؤاله، فإن
من شأن الكتابة في الغالب أن تجمع الأسئلة المتعددة فإذا لم ينعم الناقل نظره فيها يقع له
نحو هذا الوهم " وهو جيد إلا أن فتح هذا الباب في الأخبار مشكل.
(الرابع) - ما أفاده الأمين الاسترآبادي حيث قال: " السائل سأل عن حكم
المستحاضة التي صامت وصلت في شهر رمضان ولم تعمل أعمال المستحاضة والإمام ذكر
حكم الحائض وعدل عن جواب السؤال من باب التقية، لأن الاستحاضة من باب الحدث
298

الأصغر عند العامة فلا توجب غسلا عندهم (1) وأما ما أفاده الشيخ فلم يظهر له وجه،
بل أقول: لو كان الجهل عذرا لكان عذرا في الصوم أيضا، مع أن سياق كلامهم (عليهم
السلام) الوارد في حكم الأحداث يقتضي أن لا يكون فرق بين الجاهل بحكمها ولا بين
العالم به " انتهى. وهو لا يخلو من قرب.
(الخامس) - ما نقل عن بعض الأفاضل حيث قال: " خطر لي احتمال لعله
قريب لمن تأمله بنظر صائب، وهو أنه لما كان السؤال مكاتبة وقع (عليه السلام) تحت
قول السائل " فصلت " " تقضي صلاتها " وتحت قوله " صامت " " تقضي صومها

(1) في فتح الباري شرح البخاري لابن حجر الشافعي ج 1 ص 281 " ثم صار حكم دم
الاستحاضة حكم الحدث فتتوضأ لكل صلاة لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة
مؤداة أو مقضية لظاهر قوله صلى الله عليه وآله: " ثم تتوضأ لكل صلاة " وبهذا قال الجمهور، إلى أن
قال: وعند المالكية يستحب لها الوضوء لكل صلاة ولا يجب إلا بحدث آخر، وقال أحمد
وإسحاق إن اغتسلت لكل فرض فهو أحوط " وفي نيل الأوطار للشوكاني ج 1 ص 210
باب غسل المستحاضة لكل صلاة " بعد أن استحاضت زينب بن جحش قال لها النبي صلى الله عليه وآله
" اغتسلي لكل صلاة " ذهب الإمامية إلى وجوب الاغتسال عليها لكل صلاة، وروي عن
ابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح وروي عن علي " ع " وابن عباس، وعن عائشة
أنها قالت تغتسل كل يوم غسلا واحدا، وعن ابن المسيب والحسن قالا تغتسل من صلاة
الظهر إلى صلاة الظهر، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب عليها الاغتسال لشئ من الصلوات
ولا لوقت من الأوقات إلا مرة واحدة وقت انقطاع حيضها، قال النووي وبهذا قال جمهور
العلماء من السلف والخلف " وفي المغني لابن قدامة ج 1 ص 366 " اختلف أهل العلم في
المستحاضة فقال بعضهم يجب عليها الغسل لكل صلاة، إلى أن قال وقال بعضهم تغتسل كل
يوم غسلا، وقال بعضهم تجمع بين كل صلاتي جمع بغسل واحد وتغتسل للصبح، وقال
بعضهم تغتسل مرة لانقضاء حيضها وتتوضأ لكل صلاة وأنه يجزئها ذلك وبه قال عطاء
والنخعي وأكثر أهل العلم ويروى عن عروة وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وقال
عكرمة وربيعة ومالك إنما عليها الغسل عند انقضاء حيضها وليس عليها للاستحاضة وضوء ".
299

ولاء " أي متواليا، والقول بالتوالي ولو على وجه الاستحباب (1) ودليله كذلك فهذا من
جملته، وذلك كما هو متعارف في التوقيع من الكتابة تحت كل مسألة ما يكون جوابا
لها حتى أنه قد يكتفى بنحو " لا " و " نعم " بين السطور، أو أنه (عليه السلام) كتب
ذلك نحو قوله: " هل يجوز صومها وصلاتها " وهذا أنسب بكتابة التوقيع وبالترتيب
من غير تقديم وتأخير، والراوي نقل ما كتبه (عليه السلام) ولم يكن فيه واو يعطف
" تقضي صلاتها " أو أنه كان " تقضي صومها ولا وتقضي صلاتها " بواو العطف من غير
اثبات همزة فتوهمت زيادة الهمزة التي التبست الواو بها، أو أنه " ولا تقضي صلاتها " على معنى
النهي فتركت الواو لذلك، وإذا كان التوقيع تحت كل مسألة كان ترك الهمزة أو المد
في خطه (عليه السلام) وجهه ظاهرا لو كان، فإن قوله: " تقضي صومها ولاء " مع انفصاله لا يحتاج فيه إلى ذلك، فليفهم، ووجه توجيه الواو احتمال أن يكون (عليه السلام)
جمع في التوقيع بالعطف أو أن الراوي ذكر كلامه وعطف الثاني على الأول " انتهى.
أقول: لا يخفى أن ما ذكره هذا الفاضل لا يخلو من قرب لو اقتصر في الجواب على ما ذكره
من هذين اللفظين، وأما بالنظر إلى التعليل المذكور في الخبر فلا يخلو من بعد لأنه من
تتمة الجواب، واردافه باللفظين المذكورين بين السطور بعيد وفصله عنهما أبعد.
(السادس) - ما ذكره بعضهم من الحمل على الاستفهام الانكاري. ولا يخفى
بعده سيما في المكاتبة، مضافا إلى التعليل المذكور في الخبر.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الظاهر من كلام جملة من الأصحاب فساد الصوم
بالاخلال بشئ من الأغسال، وقيد ذلك جمع من المتأخرين بالأغسال النهارية وحكموا
بعدم توقف صحة الصوم على غسل الليلة المستقبلة لسبق تمامه، وترددوا في التوقف على
غسل الليلة الماضية، قال في الروض: " وهل يشترط في اليوم الحاضر غسل ليلته الماضية؟
وجهان، والحق أنها إن قدمت غسل الفجر ليلا أجزأ عن غسل العشاءين بالنسبة إلى الصوم

(1) هكذا وردت العبارة فيما عثرنا عليه من النسخ والظاهر سقوط خبر المبتدأ.
300

وإن أخرته إلى الفجر بطل الصوم هنا وإن لم نبطله لو لم يكن غيره " انتهى. وظاهره
التفصيل بالاشتراط إن أخرت غسل الفجر إلى طلوع الفجر وعدمه إن قدمته على طلوع الفجر
فإنه يجزئ عنه لوقوعه ليلا، ولو لم يكن عليها إلا غسل الفجر خاصة دون غسل العشاءين
فإنه لا يبطل صومها وإن أخرته إلى طلوع الفجر. وفي استفادة هذه التفاصيل من النص
اشكال، والمستفاد من النصوص المتقدمة هو أن هذه الأغسال إنما هي للصلاة ليلا كانت
أو نهارا ومقتضى ذلك وجوبها في أوقات تلك الصلوات، غاية الأمر أن صحيحة ابن
مهزيار دلت على أنه بالاخلال بها كملا يجب عليها قضاء الصوم، وحينئذ فكما أن المعتبر
منها للصلاة ما كان بعد الوقت فليكن للصوم أيضا كذلك، ومنه يظهر أن الأظهر عدم
وجوب تقديم غسل الفجر عليه للصوم، واحتمل في الروض وجوب تقديمه هنا، قال:
" لأنه حدث مانع من الصوم فيجب تقديم غسله عليه كالجنابة والحيض المنقطع، ولأن جعل
الصوم غاية لوجوب غسل الاستحاضة مع الغمس يدل عليه " وفي كل من الأمرين
المذكورين منع ظاهر، إذ لم يقم دليل على كونه حدثا مانعا من الصوم كما ادعاه بل هو
أول المسألة، ولم يرد ما يدل على أن الصوم غاية لوجوب غسل الاستحاضة مع الغمس كما
ادعاه وإن وقع في كلامهم، إذ ليس في وجوب توقف الصوم على الأغسال المذكورة
غير صحيحة ابن مهزيار المتقدمة (1) وهي خالية من ذلك. ثم نقل في الروض عن الشهيد
هنا وجوب التقديم وعن العلامة في النهاية التوقف في المسألة، وهما ضعيفان بما ذكرنا.
وتنقيح البحث في المقام يتوقف على رسم مسائل: (الأولى) - نقل جملة من
الأصحاب عن الشيخ في المبسوط أنه حكم بأن انقطاع دم الاستحاضة موجب للوضوء،
وظاهره أنه أعم من أن يكون انقطاعه للبرء أو لا، ونقل عن بعض الأصحاب أنه قيده
بالانقطاع للبرء، وبذلك صرح العلامة في التحرير، وقال في الذكرى: " والأصل فيه أن
انقطاع الدم يظهر معه حكم الحدث أو أن الصلاة أبيحت مع الدم للضرورة وقد زالت،

(1) ص 295
301

وعلى التقديرين تنتقض الطهارة الأولى " ويرد عليه أن دم الاستحاضة يوجب الغسل
تارة والوضوء أخرى فايجاب الوضوء خاصة تحكم، والأظهر على هذا أن يقال إن الانقطاع
للبرء يوجب ما أوجبه الدم قبل الانقطاع من الوضوء أو الغسل لا الوضوء خاصة كما قالوه
وتوضيحه أن الموجب في الحقيقة هو الدم السابق على الانقطاع لا نفس الانقطاع لأنه
ليس بحدث ودم الاستحاضة في حد ذاته حدث يوجب الغسل أو الوضوء، فمع الانقطاع
للبرء بعد الطهارة سابقا يظهر حكم الحدث إذ الموجب هو خروج الدم وقد حصل بعد الطهارة
فيترتب عليه حكمه، والطهارة السابقة أباحت الصلاة بالنسبة إلى ما سبق قبلها من الدم، ولا
يلزم من صحة الصلاة مع الدم بعد الطهارة الأولى عدم تأثيره في الحدث، وظاهر المدارك
الميل إلى ما ذكرنا حيث إنه بعد نقل قول الشيخ قال: " وقيده بعض الأصحاب بكونه
انقطع للبرء أي الشفاء، وهو حسن لكن لا يخفى أن الموجب له في الحقيقة هو الدم السابق على
الانقطاع لا نفس الانقطاع، وأن دم الاستحاضة يوجب الوضوء تارة والغسل أخرى، فاسناد
الإيجاب إلى الانقطاع والاقتصار على الوضوء خاصة لا يستقيم " انتهى. وظاهر المعتبر الميل
إلى عدم بطلان الطهارة الأولى بالانقطاع فإن الانقطاع ليس بحدث. ولو قيل: النصوص
مختصة بصورة الاستمرار قلنا فحينئذ اثبات كون الدم المنقطع يوجب الوضوء يحتاج إلى دليل يدل
على كونه حدثا وليس هنا ما يصلح لذلك. وجوابه يعرف بما قدمناه فإن ظاهر النصوص
يدل على كونه حدثا، واغتفار حدثيته بعد الطهارة وقبل الصلاة من حيث الضرورة
لا يستلزم الانسحاب فيما لا ضرورة تلجئ إليه وهو حال الانقطاع للبرء. وبالجملة
فالمسألة لخلوها من النصوص لا تخلو من شوب الاشكال، قال في الذكرى: " وهذه
المسألة لم نظفر فيها بنص من قبل أهل البيت (عليهم السلام) ولكن ما أفتى به الشيخ
هو قول العامة بناء منهم على أن حدث الاستحاضة يوجب الوضوء لا غير فإذا انقطع بقي
على ما كان عليه، ولما كان الأصحاب يوجبون به الغسل فليكن مستمرا " انتهى.
ومرجعه إلى أن دم الاستحاضة حدث كغيره من الأحداث فيجب أن يترتب عليه.
302

مسببه غسلا كان أو وضوء، والخلاف المتقدم في اعتبار الكثرة بأوقات الصلاة
أو مطلقا جار هنا أيضا.
(الثانية) - قال في المبسوط: " إذا توضأت المستحاضة وقامت إلى الصلاة فانقطع
الدم قبل الدخول وجب عليها الوضوء ثانيا، لأن دم الاستحاضة حدث فإذا انقطع وجب منه
الوضوء، فإذا انقطع بعد تكبيرة الاحرام ودخولها في الصلاة مضت في صلاتها ولم يجب عليها
استئناف الصلاة لأنه لا دليل عليه " واعترضه ابن إدريس بأنه إن كان انقطاع دمها حدثا
وجب عليها قطع الصلاة واستئناف الوضوء، قال: " وإنما هذا كلام الشافعي أورده الشيخ لأن
الشافعي يستصحب الحال، وعندنا أن استصحاب الحال غير صحيح، وما استصحب فيه
الحال فبدليل وهو الاجماع على المتيمم إذا دخل في الصلاة ووجد الماء فإنا لا نوجب
عليه الاستئناف بالاجماع لا بالاستصحاب " انتهى. ومال في المختلف إلى مذهب الشيخ
قال: " والحق ما قاله الشيخ، أما وجوب الاستئناف قبل الدخول فلأن طهارتها غير
رافعة للحدث على ما قلناه وإنما تفيد استباحة الدخول مع وجود الحدث، فإذا انقطع
الدم وجب عليها نية رفع الحدث لأن الطهارة الأولى كانت ناقصة فلذا أوجبنا عليها إعادة
الوضوء. وأما عدمه مع الدخول فلأنها دخلت في صلاة مشروعة فيجب عليها اكمالها،
لقوله تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم (1) " انتهى.
أقول: لا يخفى ما علل به الشيخ وجوب الوضوء ثانيا في الصورة الأولى غير ما علل
به العلامة ذلك، وكلام ابن إدريس متجه بناء على تعليل الشيخ فإن مرجع كلام الشيخ إلى أن
انقطاع الدم موجب للوضوء، وحينئذ فيرد عليه أن الفرق بين الدخول في الصلاة وعدمه غير
جيد إذا الوجه المقتضي لوجوب الاستئناف في الصورة الأولى موجود في الصورة الثانية،
والحدث كما يمنع من ابتداء الدخول في الصلاة يمنع من استدامتها، والتمسك بالاستصحاب
ضعيف كما تقدم بيانه في مقدمات الكتاب، وأما على تقدير كلام العلامة فإن مرجعه

(1) سورة محمد. الآية 34
303

إلى الفرق بين الرفع والاستباحة وعدمه والمشهور الأول، فإنهم قد فرقوا بينهما بأن نية
الاستباحة عبارة عن رفع المنع ونية رفع الحدث عبارة عن رفع المانع، وحينئذ فدائم
الحدث كالمستحاضة والسلس والمبطون والمتيمم يقتصر على نية الاستباحة لأن حدثه دائم
غير أن الشارع قد أباح له الدخول في الصلاة بالطهارة ولا ينوي رفع الحدث لاستمراره
منه، وعليه يتجه كلامه في الصورة الأولى، إلا أن التحقيق العدم لأن الحدث عندنا
عبارة عن الحالة المانعة من الدخول في العبادة المشروطة بالطهارة، وحينئذ فمتى سوغ
الشارع للمكلف الدخول فيها بأحد أنواع الطهارة فقد علم زوال تلك الحالة وهو معنى
الرفع، غاية الأمر أن زوالها قد يكون إلى غاية كما في المتيمم ودائم الحدث وقد يكون
مطلقا كما في غيرهما، ولهذا لا يوجب تخصيص كل قسم باسم بحيث لا ينصرف إلى غيره،
وبذلك يظهر ضعف ما بنى عليه في المختلف في كل من الصورتين وأن الأظهر عدم الفرق
بين الصورتين المذكورتين، ويرجع الكلام هنا إلى ما تقدم في المسألة الأولى فكل من
قال بالبطلان ثم قال به هنا ومن قال بالصحة قال بها هنا. وأما ما ذهب إليه الشيخ من
الفرق والتفصيل فقد عرفت ضعفه.
ويظهر من المعتبر هنا الميل إلى عدم وجوب الاستئناف مطلقا لأن خروج دمها بعد
الطهارة معفو عنه فلم يكن مؤثرا في نقضها والانقطاع ليس بحدث، قال في المدارك بعد نقل
كلامه: " وهو متجه " والشهيد في الذكرى بعد أن نقل كلام المحقق قال: " قلت لا أظن أن
أحدا قال بالعفو عن هذا الدم الخارج بعد الطهارة مع تعقب الانقطاع، إنما العفو عنه مع قيد
الاستمرار فلا يتم الاعتراض، واعترضه، في المدارك بأنه مدفوع بعموم الإذن لها في الصلاة
بعد الوضوء المقتضي للعفو عما يخرج منها من الدم بعد ذلك مطلقا. أقول: لا يخفى أن
اختياره هنا لما ذهب إليه المحقق مناف لما قدمنا نقله عنه في المسألة الأولى من استحسانه
لما نقله عن ذلك البعض الذي قيد الانقطاع بالبرء كما لا يخفى على من راجعه، على أن
304

ما ادعاه هنا من عموم الإذن لها في الصلاة لا يخلو من المناقشة بل ربما كان الظاهر من
سياق الأخبار المشار إليها عدمه.
(الثالثة) - الظاهر من كلام غير واحد من الأصحاب - ومنهم الشهيد
في الذكرى - أنه لو كان انقطاع الدم بعد الطهارة انقطاع فترة لا برء - أما لاعتيادها
ذلك أو لاخبار خبير عارف فإنه لا يؤثر في نقض الطهارة لأنه بعوده كالمستمر الموجود
دائما، واطلاق كلام الشيخ المتقدم كما أشرنا إليه آنفا يقتضي حصول النقض به مطلقا
وعن العلامة أنه اعتبر قصور زمان الفترة عن الطهارة والصلاة فلو طالت بقدرهما وجبت
الإعادة لتمكنها من طهارة كاملة، فلو لم تعدها وصلت فاتفق عوده قبل الفراغ على خلاف
العادة وجب عليها إعادة الصلاة لدخولها فيها مع الشك في الطهارة. قال في الروض:
" ومثله ما لو شكت في الانقطاع هل هو للبرء أم لا أو هل يطول زمانه بمقدار الطهارة
والصلاة أم لا؟ فيجب إعادة الطهارة لأصالة عدم العود، لكن لو عاد قبل إمكان فعل
طهارة والصلاة فالوضوء بحاله لعدم وجود الانقطاع المانع من الصلاة مع الحدث ".
(الرابعة) - صرح الأصحاب بأنه يجب على المستحاضة الاستظهار في منع الدم
من التعدي بقدر الامكان، وعليه تدل جملة من الأخبار: منها - قوله (عليه السلام)
في صحيحة معاوية بن عمار (1): "... وتحتشي وتستثفر وتحشي (2) وتضم فخذيها في

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
(2) قال في الوافي بعد ذكر الرواية: " بيان: تحشى مضبوط في بعض النسخ المعتمد
عليها بالحاء المهملة والشين المعجمة المشددة وفسر بربط خرقة محشوة بالقطن - يقال لها
المحشى - على عجيزتها للتحفظ من تعدي الدم حال القعود، وفي الصحاح المحشى العظامة تعظم
بها المرأة عجيزتها. وفي بعض النسخ تحتبي بالتاء المثناة من فوق والباء الموحدة من الاحتباء
وهو جمع الساقين والفخذين إلى الظهر بعمامة ونحوها ليكون ذلك موجبا لزيادة تحفظها من
تعدي الدم. وفي بعض النسخ ولا تحنى بزيادة " لا " وبالنون وحذف حرف المضارعة
أي لا تختضب بالحناء، ونقل عن العلامة الحلي أنها بالياءين التحتانيتين أولاهما مشددة
أي لا تصلي تحية المسجد. والأول أقرب إلى الصواب والواو في قوله (عليه السلام):
" وسائر جسدها خارج " واو الحال يعني أنها لا تدخل المسجد ولكنها تجلس قريبا من
المسجد بحيث يكون سجودها فيه ضامة فخذيها حين تدخل رأسها للسجود، إلى أن قال:
وكأن المراد بالمسجد محل صلاتها الذي كانت تصلي فيه وإنما لا تدخله احتراما له " أقول:
وفي بعض التعاليق على الكافي احتمال أن يكون " ولا تحني " أي لا تحني ظهرها كثيرا
مخافة أن يسيل الدم.
305

المسجد وسائر جسدها خارج... " وقوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي (1): "... ثم
تغتسل وتستدخل قطنة وتستذفر بثوب ثم تصلي حتى يخرج الدم من وراء الثوب... " وفي
موثقة زرارة (2): "... ثم هي مستحاضة فلتغتسل وتستوثق من نفسها وتصلي كل صلاة
بوضوء... الحديث " وفي حديث يونس (3) المشتمل على السنن الثلاث " وأمرها أن
تغتسل وتستثفر بثوب وتصلي " وفي موضع آخر منه " وتلجمي " إلى غير ذلك من
الأخبار. والاستثفار بالسين المهملة ثم التاء المثناة من فوق ثم الثاء المثلثة وفي آخره راء
مصدر قولك: استثفر الرجل بثوبه إذا رد طرفيه بين رجليه إلى حجزته بضم الحاء
والجيم الساكنة، أو من استثفر الكلب بذنبه: جعله بين فخذيه، أو من ثفر الدابة بالثاء
المثلثة الذي يجعل تحت ذنبها، ومنه الحديث " الاستثفار أن تجعل مثل ثفر الدابة (4) وفي
المغرب " استثفر المصارع إزاره وبإزاره إذا اتزر به ثم رد طرفيه بين رجليه فغرزهما في
حجزته " وقد ذكر في الروض أن المراد به هنا التلجم بأن تشد على وسطها خرقة كالتكة
وتأخذ خرقة أخرى وتعقد أحد طرفيها بالأولى من قدام وتدخلها بين فخذيها وتعقد الطرف

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(3) ص 182
(4) هذه الجملة وردت في ذيل صحيحة الحلبي المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب
الاستحاضة وقبلها تفسير الاستذفار. وقال المحدث الكاشاني: " وكأن تفسير اللفظتين من
كلام صاحب الكافي " إلا أن في مجمع البحرين بعد بيان معنى الاستثفار قال: " ومنه الحديث
والاستثفار ".
306

الآخر من خلفها بالأولى، كل ذلك بعد غسل الفرج وحشوه قطنا قبل الوضوء، وبنحو
منه فسر ابن الأثير الاستثفار الواقع في حديث المستحاضة.
وكذا يجب الاستظهار على السلس والمبطون لرواية حريز عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) قال: " إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم إذا كان حين الصلاة اتخذ
كيسا وجعل فيه قطنا ثم علقه عليه وأدخل ذكره فيه ثم صلى: يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر
بأذان وإقامتين... الحديث " وعلل أيضا باشتراك الجميع في النجاسة فيجب الاحتراز
منها بقدر الامكان، قال في الروض: " فلو خرج الدم أو البول بعد الاستظهار والطهارة
أعيدت بعد الاستظهار إن كان لتقصير منه وإلا فلا للحرج، ويمتد الاستظهار إلى فراغ
الصلاة، قال: ولو كانت صائمة فالظاهر وجوبه جميع النهار، لأن تأثير الخارج في
الغسل وتوقف الصوم عليه يشعر بوجوب التحفظ كذلك وبه قطع المصنف " أقول: أما
ما ذكره من الحكم الأول فجيد، وأما الثاني فمحل اشكال وإن كان هو الأحوط.
أما الجرح السائل فلا يجب شده بل تجوز الصلاة وإن كان سائلا كما دلت عليه الأخبار
الكثيرة (2) مضافا إلى اتفاق الأصحاب، قالوا: ويفرق السلس والمبطون والمستحاضة
بعدم وجوب تغيير الشداد في الأولين ووجوبه في الثالث لاختصاص الاستحاضة بالنقل
والتعدي قياس. وقد تقدم ما فيه، ولعله وصل إليهم من الأخبار ما يدل على التغيير
لكن صلاة وإلا فالأخبار الواصلة إلينا خالية من ذلك، مضافا إلى ما دل على العفو من
نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه (3) كما تقدم بيانه. والله العالم.
الفصل الرابع
في غسل النفاس وفيه مسائل: (الأولى) - النفاس بكسر النون يقال: نفست

(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب نواقض الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب النجاسات
307

المرأة كفرح ونفست بالبناء للمجهول وفي الحيض بفتح النون لا غير، والولد منفوس،
ومنه الحديث: " لا يرث المنفوس حتى يستهل صائحا " (1) والمرأة نفساء بضم النون
وفتح الفاء والجمع نفاس مثل عشراء وعشار، قال الجوهري: " ليس في كلام العرب
فعلاء يجمع على فعال غير نفساء وعشراء " ويجمع أيضا على نفساوات كعشراوات.
وهو إما مأخوذ من النفس بمعنى الدم كما يقال ذو نفس سائلة إذا كان يخرج دمه بعد الذبح
بقوة، وإنما سمي الدم بذلك لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قوامها بالدم، أو من خروج
النفس يعني الولد، أو من تنفس الرحم بالدم، والأشهر في كلام اللغويين المعنى الأول.
وكيف كان فقد نقله الفقهاء عن معناه اللغوي إلى آخر وهو الدم الخارج في
الولادة في الجملة. وقد اتفق الأصحاب على أن الخارج قبل الولادة ليس بنفاس والخارج
بعد الولادة نفاس، وأما المصاحب لخروج الولد فظاهر كلامهم الخلاف فيه، وقد نص
الشيخ في المبسوط والخلاف ومثله سلار على أنه الخارج عقيب الولادة أو معها، وقال
المرتضى في المصباح: " النفاس هو الدم الذي تراه المرأة عقيب الولادة " ونحوه كلام الشيخ
في الجمل وأبي الصلاح، ومقتضاه أن الخارج مع الولد ليس بنفاس، قال في المعتبر بعد
ايراد القولين: " والتحقيق أن ما تراه مع الطلق ليس بنفاس وكذا ما تراه عند الولادة
قبل خروج الولد، أما ما يخرج بعد ظهور شئ من الولد فهو نفاس " وكأنه أراد بذلك
الجمع بين القولين المذكورين بحمل قول المرتضى عقيب الولادة على ما هو أعم من خروج
الولد أو شئ منه، وقال في المختلف بعد نقل القولين أيضا: " والظاهر أنه لا منافاة
بينهما فإن كلام الشيخ في الجمل محمول على الغالب لا أن النفاس يجب أن يكون عقيب
الولادة " وعلل كونه نفاسا بحصول المعنى المشتق منه وخروجه بسبب الولادة فيشمله
عموم الأدلة. وفيهما ما لا يخفى.
ويمكن الاستدلال لما ذهب إليه المرتضى ومن تبعه بما رواه ثقة الاسلام في الكافي

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه
308

في الموثق عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1): " في المرأة يصيبها
الطلق أياما أو يوما أو يومين فترى الصفرة أو دما؟ قال: تصلي ما لم تلد فإن غلبها
الوجع ففاتتها صلاة لم تقدر أن تصليها من الوجع فعليها قضاء تلك الصلاة بعد ما تطهر "
وما رواه الصدوق بإسناده عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" سألته عن امرأة أصابها الطلق اليوم واليومين وأكثر من ذلك ترى صفرة أو دما كيف
تصنع بالصلاة؟ قال: تصلي ما لم تلد فإن غلبها الوجع صلت إذا برأت " والتقريب فيهما
أنه (عليه السلام) أوجب عليها الصلاة حتى تلد، والمتبادر من الولادة خروج الولد كملا
وحينئذ فايجاب الصلاة عليها قبل خروج الولد كملا يوجب الحكم بكون دمها قبل خروجه
دم استحاضة لا دم نفاس. نعم روى الشيخ في المجالس بسنده عن زريق بن الزبير
الخرقاني (3) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة حامل رأت
الدم؟ فقال: تدع الصلاة. قال فإنها رأت الدم وقد أصابها الطلق فرأته وهي تمخض؟
قال: " تصلي حتى يخرج رأس الصبي فإذا خرج رأسه لم تجب عليها الصلاة، وكل ما
تركته من الصلاة في تلك الحال لوجع أو لما هي فيه من الشدة والجهد قضته إذا خرجت
من نفاسها. قال قلت جعلت فداك ما الفرق بين دم الحامل ودم المخاض؟ قال: إن الحامل
قذفت بدم الحيض وهذه قذفت بدم المخاض إلى أن يخرج بعض الولد فعند ذلك يصير
دم النفاس فيجب أن تدع في النفاس والحيض، فأما ما لم يكن حيضا أو نفاسا فإنما ذلك
من فتق في الرحم " وهي صريحة في القول الأول، وحينئذ فيجب حمل الخبرين المتقدمين
على ما يرجعان به إلى هذا الخبر جمعا، من حمل قوله " ما لم تلد " على خروج بعض من
الولد. وقريب من هذه الرواية ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه
(عليهما السلام) (4) قال: " قال النبي (صلى الله عليه وآله): ما كان الله تعالى ليجعل

(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب النفاس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب النفاس.
(3) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض
(4) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الحيض
309

حيضا مع حبل يعني إذا رأت المرأة الدم وهي حامل لا تدع الصلاة إلا أن ترى على رأس
الولد إذا ضربها الطلق ورأت الدم تركت الصلاة " والظاهر أن قوله: " يعني " من كلامه
(عليه السلام) بعد نقله الحديث النبوي.
ثم إنه لا يخفى أن رواية المجالس لا تخلو من اشكال، وذلك فإنها قد تضمنت
أن الحامل إذا رأت الدم تدع الصلاة وهو ظاهر في اجتماع الحمل مع الحيض كما هو أصح
القولين وأشهرهما، وتضمنت أنها إذا رأت الدم وقد أصابها الطلق وهي تمخض تصلي
حتى يخرج رأس الصبي، وهو ظاهر في كون هذا الدم دم استحاضة، والقائلون باجتماع
الحمل مع الحيض لا يفرقون بين الدمين المذكورين بل الجميع حيض عندهم مع استكمال
شرائط الحيض، وهو أيضا ظاهر الأخبار الدالة على الاجتماع. نعم اختلف القائلون
بالاجتماع في أنه هل يعتبر تخلل أقل الطهر بينه وبين النفاس إما بنقاء أو بما يحكم بكونه
استحاضة كالخارج بعد العادة متجاوزا لأكثره على المشهور أو أعم على ما اخترناه
سابقا أم لا؟ قولان. للأول أنهم حكموا بأن النفاس كالحيض بل هو حيض محتبس وإليه
يشير بعض الأخبار، وللثاني عدم كونه حيضا حقيقيا والمشابهة لا تستلزم اتحاد الحقيقة
وعموم الأحكام بل يكفي فيها الاتحاد في بعض المواد. واستقرب العلامة في النهاية الأول
وهو ظاهر الذكرى، وفي المنتهى والتذكرة الثاني، واختاره جملة ممن تأخر عنه ومنهم
السيد في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة، ويدل على الأول روايتا عمار
المتقدمتان (1) وظاهر الروض الميل إليه أيضا، وحينئذ فلو رأت الدم ثلاثة أيام مثلا
ثم ولدت قبل مضي أقل الطهر فهو استحاضة على القول الأول لفقد شرط ما بين
الحيضتين وفصل الولادة لم يثبت أنه كاف عن الطهر، وحيض على الثاني لعدم اشتراط
فصل أقل الطهر في هذا الموضع، وقد عرفت قوة الأول بدلالة الخبرين المذكورين.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه يشترط عندهم في صدق الولادة الموجبة للحكم بكون

(1) ص 309
310

الدم المصاحب لها والمتأخر عنها نفاسا خروج جزء مما يسمى آدميا أو مبدأ نشو آدمي ولو
كان مضغة، وقيدها بعضهم مع اليقين بكونها مبدأ نشوء آدمي، أما العلقة وهي القطعة
من الدم الغليظ فلا لعدم اليقين. قال في المعتبر: " ولو وضعت مضغة كان كما لو وضعت
جنينا لأنه دم جاء عقيب حمل، أما العلقة فلا يتيقن معهما الحمل فيكون حكمه
حكم الدم السائل " ونحوه في المنتهى. وألحق العلامة في النهاية العلقة بالمضغة مع شهادة
القوابل، وقال في الذكرى أنه لو فرض العلم بكونها مبدأ نشو انسان بقول أربع من
القوابل كان نفاسا. وتوقف فيه بعض المحققين لانتفاء التسمية، واعترضه في الروض
بأنه لا وجه للتوقف بعد فرض العلم، قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه: " وفيه أن منشأ
التوقف عدم صدق الولادة عرفا وإن علم أنه علقة فالتوقف في محله: أقول: لا يخفى أن
ما اعترضه على جده هنا مندفع بما ذكره عقيب هذه العبارة حيث قال بعد نقل كلام الذكرى
" وتوقف فيه بعض المحققين لانتفاء التسمية ولا وجه له بعد فرض العلم، ولأنا إن اعتبرنا
مبدأ النشوء فلا فرق بينها وبين المضغة مع العلم. نعم قد يناقش في إمكان العلم بذلك
وهو خارج عن الفرض " انتهى. ومرجعه إلى أنه متى اعتبر مبدأ النشوء وقد حصل ذلك
في العلقة بشهادة القوابل فإنه تصدق الولادة بعين ما اتفقوا عليه في المضغة. وهو جيد
لا يرد عليه شئ مما ذكره سبطه.
بقي الكلام في ترتب صدق الولادة والحكم بالنفاس على ما ذكروه من مبدأ
النشوء مضغة كانت أو علقة، فإن غاية ما يفهم من الأخبار ترتب النفاس على الولادة والمتبادر
من هذا اللفظ باعتبار ما هو الشائع المتكرر المتكثر هو خروج الولد الآدمي، لما عرفت
في غير مقام من تصريحهم بأن الاطلاقات في الأخبار إنما تحمل على الأفراد الشائعة
المتكثرة دون الفروض النادرة، ويؤيده التصريح بلفظ الولد في جملة من الأخبار،
والحكم بترك العبادة المفروضة المعلومة بالأدلة القطعية يحتاج إلى دليل واضح، وليس
في الأخبار ما يدل هنا على ما ذكروه من صدق الولادة وحصول النفاس بخروج ما كان
311

مبدأ نشو آدمي، والظاهر أن أول من ذكر ذلك المحقق في المعتبر والعلامة وتبعهما
من تأخر عنهما، وكلام المتقدمين خال من ذلك كما لا يخفى على من راجعه، وبالجملة
فالحكم بذلك عندي موضع توقف لما عرفت. ثم إنه قد ذكر في الروض أنه تصدق
المعية بخروج الجزء وإن كان منفصلا ولو لحقه الثاني كان كولادة التوأمين فابتداء
النفاس من الأول وغايته من الأخير. انتهى. وللتأمل فيه مجال. والله العالم.
(المسألة الثانية) - لا خلاف بين الأصحاب في أنه لا حد لقليل النفاس فيجوز
أن يكون لحظة بل يجوز أن لا ترى دما مطلقا، كل ذلك لأصالة العدم وتوقف التكاليف
الشرعية على الأدلة القطعية، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ عن ليث المرادي عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن النفساء كم حد نفاسها حتى يجب عليها الصلاة
وكيف تصنع؟ قال: ليس لها حد " والشيخ حمله على أنه ليس له حد شرعي لا يزيد
ولا ينقص بل ترجع إلى عادتها، والأظهر أن المراد السؤال عن حده في جانب القلة،
حيث إن الأخبار قد تضمنت حده في جانب الكثرة فسأل عن حده في جانب القلة كما
في الحيض من وجود الحد بذلك فأجاب (عليه السلام) بأنه لا حد له. وعن علي بن
يقطين في الصحيح عن أبي الحسن (عليه السلام) (2) " أنه سأله عن النفساء فقال: تدع
الصلاة ما دامت ترى الدم العبيط... " ونقل المحقق في المعتبر قال: " وقد حكي أن امرأة
ولدت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم تر دما فسميت الجفوف " (3)
إنما الخلاف في حد أكثره فقيل بأنه عشرة ونقله في المختلف عن علي بن بابويه والشيخ
قال: وبه أفتى أبو الصلاح وابن البراج وابن إدريس. أقول ونسبه في المبسوط إلى أكثر

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب النفاس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(3) في المغني لابن قدامة ج 1 ص 347 والمهذب للشيرازي الشافعي ج 1 ص 45
" روي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله " ص " فلم ترد دما فسميت ذات الجفوف ".
312

الأصحاب وهو مؤذن بشهرته بين المتقدمين، وهو اختيار المحقق في كتبه الثلاثة. وقيل إنه ثمانية عشر، ونقله في المختلف عن المرتضى والمفيد وابن بابويه وابن الجنيد وسلار
إلا أن المفيد قال: " وقد جاءت أخبار معتمدة في أن أقصى مدة النفاس مدة الحيض
عشرة أيام وعليه أعمل لوضوحه " (1) وقيل بالتفصيل بأنها إن كانت مبتدأة أو ذات
عادة غير مستقرة فعشرة أيام وإن كانت ذات عادة فعادتها. والظاهر أنه هو المشهور
بين المتأخرين. وقيل بأنها إن كانت ذات عادة فعادتها وإن كانت مبتدأة فثمانية عشر
يوما، وهو اختياره في المختلف حيث قال فيه بعد نقل القولين الأولين: " والذي
اخترناه نحن في أكثر كتبنا أن المرأة إن كانت مبتدأة في الحيض تنفست بعشرة أيام
فإن تجاوز الدم فعلت ما تفعله المستحاضة بعد العشرة، وإن لم تكن مبتدأة وكانت
ذات عادة مستقرة تنفست بأيام الحيض، وإن كانت عادتها غير مستقرة فكالمبتدأة،
والذي نختاره هنا أنها ترجع إلى عادتها في الحيض إن كانت ذات عادة، وإن كانت
مبتدأة صبرت ثمانية عشر يوما " انتهى.
والسبب في اختلاف هذه الأقوال هو اختلاف الأخبار واختلاف الأفكار في
الجمع بينها، وها أنا أنقل أولا أخبار المسألة كاملا وأذيلها - إن شاء الله تعالى - بما يتضح
به الحال مما ظهر لي منها بتوفيق ذي الجلال:
فمنها - ما رواه الشيخ عن زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) (2) قال:
" النفساء تكف عن الصلاة أيامها التي كانت تمكث فيها ثم تغتسل وتعمل كما
تعمل المستحاضة ".
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الفضيل بن يسار وزرارة عن
أحدهما (عليهما السلام) (3) قال: " النفساء تكف عن الصلاة أيام أقرائها التي كانت

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(3) ج 1 ص 28 وفي الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
313

تمكث فيها ثم تغتسل وتعمل كما تعمل المستحاضة " ورواه الشيخ باسناد آخر في القوي (1)
وعن زرارة في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " قلت له
النفساء متى تصلي؟ قال: تقعد قدر حيضها وتستظهر بيومين فإن انقطع الدم وإلا
اغتسلت واحتشت واستثفرت... الحديث ".
وعن يونس بن يعقوب في الموثق (3) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: النفساء تجلس أيام حيضها التي كانت تحيض ثم تستظهر وتغتسل وتصلي ".
وعن زرارة في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " تقعد النفساء
أيامها التي كانت تقعد في الحيض وتستظهر بيومين ".
وعن يونس في الموثق (5) - والظاهر أنه ابن يعقوب - قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن امرأة ولدت فرأت الدم أكثر مما كانت ترى؟ قال: فلتقعد أيام
قرئها التي كانت تجلس ثم تستظهر بعشرة أيام فإن رأت دما صبيبا فلتغتسل عند وقت كل
صلاة... " والمراد بقوله: " عشرة أيام " يعني إلى عشرة كما ذكره الشيخ.
وعن مالك بن أعين في القوي (6) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام)
عن النفساء يغشاها زوجها وهي في نفاسها من الدم؟ قال نعم إذا مضى لها منذ يوم
وضعت بقدر أيام عدة حيضها ثم تستظهر بيوم فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها، يأمرها
فتغتسل ثم يغشاها إن أحب ".
وعن عبد الرحمان بن أعين (7) قال: " قلت له إن امرأة عبد الملك ولدت فعدلها
أيام حيضها ثم أمرها فاغتسلت واحتشت وأمرها أن تلبس ثوبين نظيفين وأمرها بالصلاة
فقالت له لا تطيب نفسي أن أدخل المسجد فدعني أقوم خارجا عنه وأسجد فيه. فقال
قد أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فانقطع الدم عن امرأة ورأت الطهر،

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(3) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(4) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(5) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(6) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(7) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
314

وأمر علي (عليه السلام) بهذا قبلكم فانقطع الدم عن المرأة ورأت الطهر، فما فعلت
صاحبتكم؟ قلت: ما أدري ".
وعن أبي بصير في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " النفساء إذا
ابتليت بأيام كثيرة مكثت مثل أيامها التي كانت تجلس قبل ذلك واستظهرت بمثل ثلثي أيامها
ثم تغتسل وتحتشي وتصنع كما تصنع المستحاضة، وإن كانت لا تعرف أيام نفاسها فابتليت
جلست بمثل أيام أمها أو أختها أو خالتها واستظهرت بثلثي ذلك ثم صنعت كما تصنع المستحاضة
تحتشي وتغتسل " وحمل بعض الأصحاب الاستظهار بمثل ثلثي ذلك على ما إذا كانت
العادة ستة فما نقص لئلا يزيد أيام العادة والاستظهار عن العشرة.
وهذه الأخبار كلها - كما ترى - تدل على التنفس بأيام العادة في الحيض.
ومنها - ما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم في الصحيح (2) قال: " سألت
أبا جعفر (عليه السلام) عن النفساء كم تقعد؟ قال: إن أسماء بنت عميس نفست فأمرها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تغتسل لثمان عشرة، ولا بأس أن تستظهر
بيوم أو بيومين ".
وعن زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) (3) " أن أسماء بنت عميس
نفست بمحمد بن أبي بكر فأمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين أرادت الاحرام
بذي الحليفة أن تحتشي بالكرسف والخرق وتهل بالحج، فلما قدموا ونسكوا المناسك
فأتت لها ثمانية عشرة ليلة فأمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تطوف بالبيت
وتصلي ولم ينقطع عنها الدم ففعلت ذلك ".
وفي الموثق عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الباقر (عليه السلام) (4) " أن
أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن أبي بكر فأمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله)
حين أرادت الاحرام من ذي الحليفة أن تغتسل وتحتشي بالكرسف وتهل بالحج. فلما

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(3) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(4) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
315

قدموا ونسكوا المناسك سألت النبي عن الطواف بالبيت والصلاة فقال لها منذ كم ولدت؟
فقالت منذ ثمانية عشر يوما، فأمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تغتسل
وتطوف بالبيت وتصلي ولم ينقطع عنها الدم ففعلت ذلك ".
وما رواه في الكافي عن علي عن أبيه رفعه (1) قال: " سألت امرأة أبا عبد الله
(عليه السلام) فقالت إني كنت أقعد في نفاسي عشرين يوما حتى أفتوني بثمانية عشر
يوما؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ولم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل:
للحديث الذي روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأسماء بنت عميس
حين نفست بمحمد بن أبي بكر. فقال أبو عبد الله (عليه السلام) أن أسماء سألت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أتى لها ثمانية عشر يوما ولو سألته قبل ذلك
لأمرها أن تغتسل وتفعل ما تفعل المستحاضة ".
وما رواه في المنتقى عن كتاب الأغسال لأحمد بن محمد بن عياش الجوهري عن
أحمد بن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن إبراهيم بن هاشم عن عثمان بن عيسى عن
عمر بن أذينة عن حمران بن أعين (2) قال: " قالت امرأة محمد بن مسلم وكانت ولودا
اقرأ أبا جعفر السلام وقل له أني كنت أقعد في نفاسي أربعين يوما وأن أصحابنا ضيقوا
علي فجعلوها ثمانية عشر يوما؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام) من أفتاها بثمانية عشر يوما؟ قال
فقلت: للرواية التي رووها في أسماء بنت عميس أنها نفست بمحمد بن أبي بكر بذي
الحليفة فقالت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيف أصنع؟ فقال لها: اغتسلي
واحتشي وأهلي بالحج فاغتسلت واحتشت ودخلت مكة ولم تطف ولم تسع حتى تقضي
الحج، فرجعت إلى مكة فأتت رسول الله فقالت يا رسول الله أحرمت ولم أطف ولم
أسع؟ فقال لها رسول الله وكم لك اليوم؟ فقالت ثمانية عشر يوما. فقال أما الآن فاخرجي
الساعة فاغتسلي واحتشي وطوفي واسعي. فاغتسلت وطافت وسعت وأحلت. فقال

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
316

أبو جعفر (عليه السلام): أنها لو سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل ذلك
وأخبرته لأمرها بما أمرها به. قلت فما حد النفساء؟ قال تقعد أيامها التي كانت تطمث
فيهن أيام قرئها فإن هي طهرت وإلا استظهرت بيومين أو ثلاثة أيام ثم اغتسلت واحتشت
فإن كان انقطع الدم فقد طهرت وإن لم ينقطع الدم فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل لكل
صلاتين وتصلي ".
وروى الصدوق في العلل عن حنان بن سدير (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) لأي علة أعطيت النفساء ثمانية عشر يوما ولم تعط أقل منها ولا أكثر؟ قال:
لأن الحيض أقله ثلاثة أيام وأوسطه خمسة وأكثره عشرة فأعطيت أقله وأوسطه وأكثره "
وروى في العيون عن الرضا (عليه السلام) فيما كتبه للمأمون (2) قال:
" والنفساء لا تقعد عن الصلاة أكثر من ثمانية عشر يوما فإن طهرت قبل ذلك صلت
وإن لم تطهر قبل العشرين حتى تجاوز ثمانية عشر يوما اغتسلت وصلت... الحديث "
وفي الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليه السلام) (3) في حديث
شرائع الدين قال: " والنفساء لا تقعد أكثر من عشرين يوما إلا أن تطهر قبل ذلك
فإن لم تطهر قبل العشرين اغتسلت واحتشت وعملت عمل المستحاضة ".
ومنها - ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (4) قال: " سمعت
أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: تقعد النفساء سبع عشرة ليلة فإن رأت دما صنعت
كما تصنع المستحاضة ".
وعن محمد بن مسلم في الصحيح (5) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
كم تقعد النفساء حتى تصلي؟ قال ثماني عشرة سبع عشرة ثم تغتسل وتحتشي وتصلي ".
وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال: " تقعد
النفساء إذا لم ينقطع عنها الدم ثلاثين أو أربعين يوما إلى الخمسين ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(3) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(4) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(5) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(6) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
317

وعن علي بن يقطين في الصحيح (1) قال: " سألت أبا الحسن الماضي (عليه
السلام) عن النفساء وكم يجب عليها ترك الصلاة؟ قال تدع الصلاة ما دامت ترى الدم
العبيط إلى ثلاثين يوما فإذا رق وكانت صفرة اغتسلت وصلت إن شاء الله تعالى ".
وعن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) (2) قال:
" النفساء تقعد أربعين يوما فإن طهرت وإلا اغتسلت وصلت ويأتيها زوجها وكانت
بمنزلة المستحاضة تصوم وتصلي ".
وعن محمد بن يحيي الخثعمي (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
النفساء؟ فقال كما كانت تكون مع ما مضى من أولادها وما جربت. قلت فلم تلد فيما
مضى؟ قال: بين الأربعين إلى الخمسين ".
وروى في كتاب نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي
(عليهم السلام) قال: " أكثر الحيض عشرة أيام وأكثر النفاس أربعون يوما "
وفي الفقه الرضوي (4) قال (عليه السلام): " والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل
أيام حيضها وهي عشرة أيام وتستظهر بثلاثة أيام ثم تغتسل فإذا رأت الدم عملت كما
تعمل المستحاضة، وقد روى ثمانية عشر يوما، وروى ثلاثة وعشرون يوما، وبأي
هذه الأخبار من باب التسليم أخذ جاز ".
هذا ما وقفت عليه من روايات المسألة، ولا يخفى ما هي عليه من التصادم
والاختلاف إلا أن ظاهر الأصحاب الأعراض عن الروايات الأخيرة المتضمنة لما زاد
على الثمانية عشرة، قال الصدوق في الفقيه - بعد أن أفتى بأنها تقعد عن الصلاة ثمانية
عشر يوما مستدلا بحديث أسماء - ما صورته: " والأخبار التي رويت في قعودها أربعين
يوما وما زاد إلى أن تطهر معلولة كلها وردت للتقية لا يفتي بها إلا أهل الخلاف ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(3) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
(4) ص 21.
318

بقي الكلام في أن جملة من الأصحاب - كما عرفت - ذهبوا إلى أن أكثره عشرة
والشيخ في التهذيب إنما استدل على هذا القول بأخبار العادة المتقدمة التي تضمنت أنها
تكف عن الصلاة أيام أقرائها التي كانت تمكث فيها. ولا يخفى ما فيه فإن أيام الأقراء
تختلف باختلاف عادات النساء فاطلاق القول بأن العشرة أكثر النفاس إذا رأت عشرة
ليس بصحيح، نعم قال المفيد في المقنعة (1): " وقد جاءت أخبار معتمدة في أن
أقصى مدة النفاس مدة الحيض عشرة أيام وعليه أعمل لوضوحه " أقول: ولم يصل إلينا
من هذه الأخبار إلا ما قدمناه في كتاب الفقه ونقل الشيخ محمد بن إدريس في أوائل
السرائر قال: " وذكر الشيخ محمد بن محمد بن النعمان في جواب سائل سأله فقال كم قدر
ما تقعد النفساء عن الصلاة وكم تبلغ أيام ذلك؟ فقد رأيت في كتابك أحكام النساء
أحد عشر يوما وفي الرسالة المقنعة ثمانية عشر يوما وفي كتاب الأعلام أحد وعشرين
يوما فعلى أيها العمل دون صاحبه؟ فأجابه بأن قال الواجب على النفساء أن تقعد عشرة
أيام وإنما ذكرت في كتبي ما روى من قعودها ثمانية عشر يوما وما روى في النوادر
استظهارا بأحد وعشرين يوما، وعملي في ذلك على عشرة أيام لقول الصادق (عليه
السلام) لا يكون دم نفاس زمانه أكثر من زمان الحيض " انتهى.
إذا عرفت ذلك فالذي يظهر عندي من التأمل في أخبار المسألة هو أن ذات العادة
في الحيض ترجع إلى عادتها للأخبار المتقدمة الصحيحة الصريحة في ذلك، وإنما يبقى
الاشكال في غيرها فهل تعمل على روايات الثمانية عشر كما ذهب إليه العلامة في
المختلف وجعله وجه جمع بين أخبار المسألة، أو على روايات العشرة كما هو المشهور بين
المتأخرين؟ اشكال ينشأ من أن روايات الثمانية عشر لا تخلو من الاضطراب، فإن
صريح مرفوعة علي بن إبراهيم ورواية الجوهري المنقولة من كتاب المنتقى هو أن أمره
(صلى الله عليه وآله) لأسماء بعد الثمانية عشر بالغسل والطواف إنما هو لتأخر سؤالها

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب النفاس.
319

وإلا فلو سألته قبل ذلك لأمرها بذلك، وعلى هذا المعنى حمل الشيخ أخبار المسألة
مستندا إلى مرفوعة علي بن إبراهيم المشار إليها. والحمل على هذا المعنى قريب في بعضها
كموثقة محمد بن مسلم وفضيل وزرارة، ومحتمل على بعد في صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة
زرارة المذكورة بعدها، وممتنع في باقي روايات الثمانية عشر الغير المتعلقة بقصة أسماء
مثل رواية حنان بن سدير المنقولة من العلل وما بعدها من الأخبار، وحينئذ فأخبار
الثمانية عشر في حد ذاتها تحتاج إلى وجه تجتمع عليه حتى يمكن الاستدلال بها. هذا وجه
الاشكال في روايات الثمانية عشر. وأما روايات العشر فقد عرفت أنه لم يرد شئ منها
مسندا في كتب الأخبار إلا ما عرفت من عبارة كتاب الفقه الرضوي ونقل المفيد
وصول الأخبار بذلك إليه، ويمكن ترجيحه (أولا) - بأن نقله (رحمه الله) لا يقصر
عن مراسيل ابن أبي عمير ونحوه من أجلاء الأصحاب التي قد تلقاها العلماء سلفا وخلفا
بالقبول. و (ثانيا) - بدلالة كلامه (عليه السلام) في الفقه الرضوي على ذلك، وقد
عرفت أن الكتاب معتمد لاعتماد الصدوقين عليه وافتائهما بعبائره كما عرفت وستعرف
إن شاء الله تعالى في المباحث الآتية من هذا الكتاب وكتاب الصلاة وكتاب الزكاة
والصوم والحج. و (ثالثا) - بامكان التأويل في أخبار الثمانية عشر على وجه
لا تصلح به للاستدلال في هذا المجال بأن يحمل المطلق من أخبار أسماء على ما دلت عليه
مرفوعة علي بن إبراهيم ورواية الجوهري حمل المطلق على المقيد وعلى ما لم يقبل ذلك
فيحمل على التقية وإن تضمن العلة في ذلك، وإلى ذلك أشار الشيخ ورجحه المحقق
الشيخ حسن في المنتقى إلا أنه حمل أخبار أسماء وغيرها من أخبار الثمانية عشر على التقية، قال
بعد أن اختار حمل أخبار أسماء على التقية: " أنه يمكن أن يكون القدر الذي يستبعد
فيه ذلك منسوخا لأنه متقدم والحكم بالرجوع إلى العادة متأخر، وإذا تعذر الجمع تعين
النسخ ويكون تقرير الحكم بعد نسخه محمولا على التقية لما قلناه من أن في ذلك تقليلا
للمخالفة، ومع تأدي التقية بالأدنى لا يتخطا إلى الأعلى " انتهى. وظني أن ما ذكرناه
320

في أخبار أسماء أقرب. و (رابعا) - أن الحكم بالرجوع إلى العادة في الأخبار المتقدمة
يدل على ارتباط النفاس بالحيض واختلاف عادات النساء لا يقتضي أكثر من احتمال
كون مدة حيض المبتدأة أقصى العادات وهي لا تزيد على العشرة، فالقدر المذكور
في أخبار الثمانية عشر من التفاوت بين المبتدأة وذات العادة لا يساعد عليه الاعتبار
الذي هو للجمع ميزان ومعيار. و (خامسا) - أن الظاهر من إنكار الإمامين (عليهما
السلام) في مرفوعة إبراهيم بن هاشم وخبر الجوهري لخبر الثمانية عشر أن أخبار الثمانية
عشر كملا إنما خرجت بالنسبة إلى ذات العادة وغيرها مطلقا كما قال به من قدمنا نقله
عنه، ولهذا أنه لما رجع له السائل في الخبر الثاني بعد انكاره (عليه السلام) خبر الثمانية
عشر فسأله ما حد النفساء؟ أجابه بالرجوع إلى العادة، ولو كان الثمانية عشر إنما يعمل
عليها في بعض الأفراد كما ذهب إليه في المختلف لم ينكرها (عليه السلام) مطلقا بل
يخبره بأنها مخصوصة بالفرد الفلاني دون غيره. و (سادسا) - ما ذكره جملة من متأخري
المتأخرين من أن أسماء تزوجت بأبي بكر بعد موت جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)
وكانت قد ولدت منه عدة أولاد، ويبعد جدا أن لا يكون لها في تلك المدة كلها عادة
في الحيض، وأخبار العشرة وإن كانت مطلقة إلا أنه يجب حملها على ما ذكرناه من
التفصيل جمعا بينها وبين أخبار العادة.
بالجملة فالأظهر عندي والأقرب هو أن المعتادة ترجع إلى عادتها بلا اشكال كما
عرفت من الأخبار المتقدمة، وأما غيرها فالأمر فيها دائر بين الثمانية عشر والعشرة
وأخبار الثمانية عشر قد عرفت ما فيها من التعارض وأنه لا يمكن الجمع بينها إلا بوجه
تخرج به عن صحة الاستدلال بها مع تأيد القول بالعشرة بما ذكرناه من الوجوه فعليه
العمل وبه الفتوى.
هذا، ولا يخفى أنه على تقدير القول بالثمانية عشر مطلقا يلزم طرح أخبار العادة
المتقدمة مع ما هي عليه من الكثرة والصحة والصراحة وكذا على تقدير القول بالعشرة
321

مطلقا، قال في الذكرى: " تنبيه: الأخبار الصحيحة المشهورة تشهد برجوعها إلى عادتها في
الحيض والأصحاب يفتون بالعشرة وبينهما تناف ظاهر، ولعلهم ظفروا بأخبار غيرها
وفي التهذيب قال: جاءت أخبار معتمدة في أن أقصى مدة النفاس عشرة وعليها أعمل
لوضوحها عندي. ثم ذكر الأخبار الأولى ونحوها حتى أن في بعضها عن الصادق (عليه
السلام): " فلتقعد أيام قرئها التي كانت تجلس ثم تستظهر بعشرة أيام " قال الشيخ:
يعني إلى عشرة أيام إقامة لبعض الحروف مقام بعض. وهذا تصريح بأن أيامها أيام عادتها
لا العشرة، وحينئذ فالرجوع إلى عادتها كقول الجعفي في الفاخر وابن طاووس والفاضل
أولى وكذا الاستظهار كما مر هناك، نعم قال الشيخ: لا خلاف بين المسلمين في أن
عشرة أيام إذا رأت المرأة الدم من النفاس، والذمة مرتهنة بالعبادة قبل نفاسها فلا يخرج
عنها إلا بدلالة والزائد على العشرة مختلف فيه، فإن صح الاجماع فهو الحجة ولكن فيه
طرح للأخبار الصحيحة أو تأويلها بالبعيد " انتهى. والتحقيق في المسألة ما قدمناه.
والله العالم بحقائق أحكامه.
(المسألة الثالثة) - قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن ذات
التوأمين فصاعدا يتعدد نفاسها عملا بالعلة لانفصال كل من الولادتين عن الأخرى فلكل
نفاس حكم نفسه، فإن وضعت الثاني لدون عشرة أيام أمكن اتصال النفاسين، ولو تراخت
ولادة الثاني بحيث يمكن فرض استحاضة بين النفاسين حكم به، بل يمكن فرض حيض
أيضا وإن بعد، وربما ظهر من بعض العبارات كونه نفاسا واحدا حيث صرحوا بأنه لو
تراخت ولادة التوأمين فعدد أيامها من التوأم الثاني وابتداؤه من الأول، وحمل على
الغالب من تعاقب ولادتهما فيتحد النفاس بحسب الصورة وإلا ففي التحقيق لكل واحد
نفاس مستقل لما عرفت آنفا، ويتفرع على كونهما نفاسين ما لو ولدت الثاني لدون عشرة
من ولادة الأول ولم تر بعد ولادة الأول إلا يوما واحدا مثلا وانقطع في باقي الأيام المتخللة
بينهما فإنه يحكم بكونه طهرا وإن رأت بعد ولادة الثاني في العشرة وانقطع عليها بخلاف
322

ما لو حكم بكونها نفاسا واحدا كما يقتضيه ظاهر العبارة المتقدمة فإنه يلزم كون الدمين والنقاء
المتخلل بينهما نفاسا. وتردد المحقق في المعتبر في كون الدم الحاصل قبل ولادة الثاني نفاسا بناء
على مذهبه من عدم اجتماع الحيض والحبل، ثم اختار كونه نفاسا لحصول مسمى النفاس
فيه وهو تنفس الرحم به بعد الولادة فيكون لها نفاسان.
بقي الكلام في الولد الواحد لو تقطع وتعدد خروجه فهل يحكم بتعدد النفاس
على ذلك التقدير أم لا؟ اشكال، قال في الذكرى: " لو سقط عضو من الولد وتخلف
الباقي فالدم نفاس على الأقرب، ولو وضعت الباقي بعد العشرة أمكن جعله نفاسا آخر
كالتوأمين، وعلى هذا لو تقطع بفترات تعدد النفاس، ولم أقف فيه على كلام سابق " انتهى
أقول: ولم أقف في الأخبار على ما يتعلق بهذه المسألة إلا أن ما ذكروه من تعدد النفاس
بتعدد الولادة ربما يمكن الاستناد فيه إلى العمومات المتقدمة. والله العالم.
(المسألة الرابعة) - صرح جملة من المتأخرين بأنه لو لم تر دما ثم رأت في العاشر
كان ذلك نفاسا، وهو بناء على القول بأن أكثر النفاس عشرة مطلقا ظاهر، وأما على
القول بتخصيص المعتادة بأيام عادتها وجعل العشرة لغيرها فيجب تقييد الحكم المذكور
في شموله للمعتادة بما إذا كانت عادتها عشرة أو دونها وانقطع على العاشر كما صرحوا به
والحكم هنا في المعتادة - لو كانت عادتها أقل من عشرة ورأت الدم في العادة ثم انقطع
على العشرة فإنه يحكم بكون الجميع نفاسا - مبني على ما تقدم نقله عنهم في الحيض من أنه
إذا تجاوز العادة وانقطع على العاشر حكم بكون الجميع حيضا. وقد عرفت ما فيه ثمة.
ولو رأت في العاشر وتجاوز فعلى مذهب من يرى العشرة مطلقا فإنه يحكم باليوم
العاشر خاصة. وعلى القول بالتفصيل بين ذات العادة فعادتها وغيرها فالعشرة فكذلك
أيضا في غير ذات العادة وفي ذات العادة إذا كانت عادتها عشرة، أما لو كانت عادتها
دون العشرة فإنه لا نفاس لها إلا ما رأته في شئ من أيام العادة. وبالجملة فالحكم عندهم
هنا تابع للحيض فكما أنه مع تجاوز العشرة عندهم يرجع إلى العادة خاصة كذلك هنا
323

يرجع إلى العشرة التي هي بمنزلة العادة ثمة.
وظاهر المدارك الاستشكال في الحكم الأول أعني الحكم بالنفاس على الدم الذي
تراه اليوم العاشر خاصة، قال بعد ذكر المسألة: " واعلم أن هذا الحكم مقطوع به
في كلام الأصحاب، وهو محل اشكال لعدم العلم باستناد هذا الدم إلى الولادة وعدم
ثبوت الإضافة إليها عرفا ".
أقول: هذا الاشكال لو تم لا خصوصية له بهذه المادة بل يجري فيما تراه في العادة،
فإنها لو كانت ذات عادة وحكمنا بتنفسها بأيام عادتها وولدت ثم لم تر دما إلا في اليوم
الثالث أو الرابع مثلا فإنه لا يعلم أيضا استناده إلى الولادة لانفصاله عنها وعدم ثبوت
الإضافة إليها عرفا، فعلى هذا يختص النفاس بما يصاحب خروج الولد أو يكون بعده بلا
فصل وهو بعيد غاية البعد عن ظواهر الأخبار المتقدمة، فإن ظاهر الحكم بالتنفس أيام
العادة أعم من أن يكون أول الدم من الولادة أم بعد ذلك من أيام العادة، وقضية
الحاق النفاس بالحيض - وأنه حيض في المعنى يترتب أحكام الحيض عليه - هو الحكم
بالنفاس على الدم الحاصل بعد الولادة في أي وقت من أيام العادة إن كانت ذات عادة
أو العشرة بناء على ما حققناه آنفا لغير ذات العادة من العمل على العشرة، ويؤيده قوله
(عليه السلام) في صحيحة زرارة (1): " أن الحائض مثل النفساء سواء " وحينئذ
فكل دم رأته في ضمن هذه المدة أولا أو آخرا أو وسطا فإنه يحكم عليه بكونه نفاسا، وقد
تقدم منه ما يشير إلى ذلك أيضا عند قول المصنف: " ولو ولدت ولم تر دما... الخ "
حيث قال: " المراد أنها لم تر دما في الأيام المحكوم بكون الدم الموجود فيها نفاسا " وبالجملة
فإنه يحكم على هذا الدم بالنفاس في الصورة المذكورة على قياس الحيض كما لو رأت في أيام
العادة، غاية الأمر أنه لا بد في الحكم بكونه حيضا من بلوغ الثلاثة التي هي أول الحيض
ليحكم بكونه حيضا وأما النفاس فلا حد لأقله كما عرفت، وبذلك يظهر أن ما ذكره

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.
324

الأصحاب وقطعوا به هو الموافق لمقتضى القاعدة المقررة إلا أن المسألة حيث كانت
عارية عن النصوص بالخصوص فلا ينبغي إهمال الاحتياط فيها.
وقد صرحوا أيضا بأنه لو رأت الأول والعاشر خاصة كان الدمان وما بينهما
من النقاء نفاسا، وهو مبني على ما صرحوا به في الحيض من أنها لو رأت ثلاثة فانقطع
ثم رأت العاشر فانقطع فإن العشرة حيض، قال في الذخيرة بعد نقل الحكم المذكور:
" وإن لم يثبت اجماع على الكلية المذكورة كان للتأمل في الحكم المذكور مجال لفقد
النص الدال عليه " أقول: وفيه زيادة على ما ذكره ما تقدم تحقيقه في هذه المسألة في باب
الحيض من أن الحكم على النقاء المتخلل بين الدمين بكونه حيضا محل بحث، وبه يظهر
ما في التفريع عليه والحاق النفاس به في ذلك.
ولو فرض تجاوزه العشرة في الصورة المذكورة فالحكم فيه عندهم كما تقدم من أنها إن كانت مبتدأة أو مضطربة أو عادتها عشرة فالعشرة نفاس وإلا فنفاسها الدم
الأول خاصة إلا أن يصادف الثاني جزء من العادة فيكون جميع العادة نفاسا لوجود
الدم في طرفيها وما بينهما أقل من عشرة فيكون الجميع نفاسا على قياس الحيض. وفيه
ما عرفت. والله العالم.
(المسألة الخامسة) - صرحوا بأن حكم النفساء كالحائض في كل الأحكام
الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة لأنه في الحقيقة حيض احتبس، ونفى في المنتهى
الخلاف فيه بين أهل العلم مؤذنا بدعوى الاجماع عليه، وفي المعتبر أنه مذهب أهل العلم
لا أعلم فيه خلافا.
وقد استثنوا من ذلك أشياء: (الأول) - الأقل للاجماع على أن أقل الحيض
ثلاثة ولا حد في جانب القلة للنفاس كما تقدم. وهو كذلك.
(الثاني) - الأكثر للخلاف في أكثر النفاس كما تقدم بخلاف الحيض فإن
أكثره عشرة اتفاقا نصا وفتوى.
325

(الثالث) - أن الحيض دليل على سبق البلوغ بخلاف النفاس، فإن الدلالة
حصلت بالحمل لأنه أسبق من النفاس فدل على سبق البلوغ على الوضع لستة أشهر فما زاد،
قال في الروض: " وهذا الوجه ذكره المصنف في النهاية وتبعه عليه في الذكرى، وفيه نظر
لأن دلالة الحمل عليه لا تمنع من دلالة النفاس أيضا لامكان اجتماع دلالات كثيرة. لأن
هذه الأمور معرفات شرعية لا علل عقلية فلا يمتنع اجتماعها، كما أن الحيض غالبا
لا يوجد إلا بعد سبق البلوغ بغيره " أقول: الظاهر أن كلام شيخنا المشار إليه هنا
لا يخلو من نظر، فإن الظاهر من كلام الأصحاب أن المراد بالدلالة على البلوغ، إنما هو
باعتبار ترتب الأحكام من العبادات والحدود ونحو ذلك على العلم بالبلوغ، فبأي
شئ يعرف ما يترتب عليه هذه الأحكام؟ لا أن المراد الدلالة في الجملة، ولا ريب
أنه متى حصل الحمل للمرأة فقد علم به البلوغ وترتب الأحكام المذكورة عليه فلا ثمرة في
دلالة النفاس حينئذ ولا أثر لهذه الدلالة لمعلومية البلوغ قبله. وأما ما ذكره - من أن
الحيض غالبا لا يوجد إلا مع سبق البلوغ بغيره - ففيه أنا لا نقول بكون الحيض مطلقا
دليلا على البلوغ أو على سبق البلوغ وإنما نقول بذلك فيمن جهل سنها، وأما من علم بلوغها
التسع فإن الحيض بعده لا أثر له في الدلالة كما أشرنا إليه فيما تقدم في المسألة الخامسة من
المقصد الأول من الفصل الثاني في غسل الحيض (1) وبذلك صرح الأصحاب أيضا.
(الرابع) - أن العدة تنقضي بالحيض دون النفاس، وذلك لأن انقضاء العدة
إنما يحصل بوضع الولد وإن لم تر دما بالكلية فلو وضعت من غير نفاس خرجت من العدة
فلا دخل للنفاس في انقضائها بخلاف الحيض، نعم هذا الحكم جار على الغالب ووجه التقييد
بالغالب أنه ربما اتفق انقضاء العدة بالنفاس نادرا كما في الحامل من الزنا إذا طلقها زوجها،
فإنه لو تقدمها قرءان سابقان على الوضع بناء على مجامعة الحيض للحمل ثم رأت بعد الوضع
نفاسا عد في الأقراء وانقضت به العدة ولو لم يتقدمه قرءان عد في الأقراء.

(1) ص 170.
326

(الخامس) - أن الحائض ترجع إلى عادتها في الحيض عند تجاوز العشرة
بخلاف النفساء فإنها لا ترجع إلى عادة النفاس وإنما ترجع إلى عادة الحيض. أقول:
لا يخفى أن النفاس ليس له أثر عادة يبنى عليها في مادة من المواد لما عرفت آنفا من أن
ذات العادة تبني على عادتها وغيرها على العشرة وهكذا بالنسبة إلى سائر الأقوال المتقدمة،
ومن ذلك يعلم أنه ليس في النفاس عادة.
(السادس) - أن الحائض ترجع إلى عادة نسائها على بعض الوجوه بخلاف
النفساء فإنها لا ترجع إلى ذلك عند الأصحاب، وقد تقدم في موثقة أبي بصير (1)
الدلالة على الرجوع في النفاس إلى نسائها، ونسبها في الروض وقبله العلامة في المنتهى إلى
الشذوذ. قال في المنتهى: " وهل ترجع إلى عادة أمها وأختها في النفاس؟ لا نعرف
فتوى لأحد ممن تقدمنا في ذلك " ثم نقل موثقة أبي بصير وردها بالشذوذ وضعف
السند، ثم قال: " والأقوى الرجوع إلى أيام الحيض " أقول: وهو جيد لما تقدم من أن ذات العادة تتنفس بعادتها في الحيض وغيرها بالعشرة أو الثمانية عشر على الخلاف.
الفصل الخامس
في غسل المس وفيه مسائل: (الأولى) - المشهور رواية وفتوى وجوب الغسل
على من مس ميتا بعد برده وقبل تطهيره بالغسل، وعن المرتضى في شرح الرسالة
والمصباح القول بالاستحباب، وظاهر كلام الشيخ في الخلاف وجود قائل بذلك قبل
المرتضى حيث قال: " وعند بعضهم أنه يستحب وهو اختيار المرتضى " ونسبه سلار
إلى إحدى الروايتين مع أنا لم نقف على رواية ظاهره في الاستحباب كما سيظهر لك
إن شاء الله تعالى.
والأظهر الأول، لنا الأخبار الكثيرة، ومنها - ما رواه الشيخ في الصحيح عن

(1) ص 315.
327

محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " قلت الرجل يغمض عين الميت
أعليه غسل؟ فقال: إذا مسه بحرارته فلا ولكن إذا مسه بعد ما يبرد فليغتسل. قلت
فالذي يغسله يغتسل؟ قال: نعم... الحديث ".
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن على المشهور عن حريز عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (2) قال: " من غسل ميتا فليغتسل. قلت فإن مسه ما دام حارا؟
قال فلا غسل عليه وإذا برد ثم مسه فليغتسل. قلت فمن أدخله القبر؟ قال لا غسل عليه
إنما يمس الثياب ".
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " يغتسل
الذي غسل الميت، وإن قبل الميت انسان بعد موته وهو حار فليس عليه غسل ولكن
إذا مسه وقبله وقد برد فعليه الغسل، ولا بأس أن يمسه بعد الغسل ويقبله ".
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " قلت له أيغتسل
من غسل الميت؟ قال نعم. قلت: من أدخله القبر؟ قال: لا إنما يمس الثياب ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن عاصم بن حميد (5) قال: " سألته عن الميت
إذا مسه انسان أفيه غسل؟ قال فقال إذا مسست جسده حين يبرد فاغتسل ".
وعن إسماعيل بن جابر في الصحيح (6) قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه
السلام) حين مات ابنه إسماعيل الأكبر فجعل يقبله وهو ميت، فقلت جعلت فداك
أليس لا ينبغي أن يمس الميت بعد ما يموت ومن مسه فعليه الغسل؟ فقال أما بحرارته فلا
بأس إنما ذلك إذا برد ".
وعن معاوية بن عمار في الصحيح (7) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
الذي يغسل الميت عليه غسل؟ قال: نعم. قلت فإذا مسه وهو سخن؟ قال: لا غسل

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
(4) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب غسل المس.
(5) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
(6) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
(7) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
328

عليه فإذا برد فعليه الغسل قلت: والبهائم والطير إذا مسها عليه غسل؟ قال: لا ليس
هذا كالانسان ".
وعن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " من غسل ميتا وكفنه
اغتسل غسل الجنابة ".
وعن محمد بن الحسن الصفار في الصحيح (2) قال: " كتبت إليه: رجل أصابت
يده أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل هل يجب عليه غسل يده أو بدنه؟
فوقع (عليه السلام): إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل "
وعن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) " عن الرجل يمس
الميتة أينبغي أن يغتسل منها؟ قال: لا إنما ذلك من الانسان ".
وأما ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) -
قال: " يغتسل الذي غسل الميت وكل من مس ميتا فعليه الغسل وإن كان الميت قد
غسل " - فحمله في التهذيبين على الاستحباب وفيه بعد، والأولى طرح الخبر المذكور
والرد إلى قائله ولا سيما مع كونه مخالفا لاجماع المسلمين ومن روايات عمار المتفرد
بنقل الغرائب.
وأما ما رواه عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه
السلام) (5) - قال: " الغسل من سبعة: من الجنابة وهو واجب، ومن غسل الميت وإن
تطهرت أجزأك، وذكر غير ذلك " وظاهره أن الوضوء يجزئ عن غسل مس الميت وإن
كان الغسل أفضل - فقد حمله الشيخ على التقية، قال: " لأنا بينا وجوب الغسل على
من غسل ميتا وهذا موافق للعامة لا يعمل به " انتهى. وهو جيد، ويعضده أن رواة

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
(3) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب غسل المس.
(4) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل المس.
(5) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
329

الخبر من العامة والزيدية. وأما ما ذكره في الوافي - بعد نقل ذلك عن الشيخ حيث
قال: " ولا يخفى أن الوجوب بالمعنى الذي إرادة غير ثابت " - فلا أعرف له معنى مع
تصريحه هو وغيره بوجوب غسل المس.
وروى الطبرسي أبو منصور أحمد بن أبي طالب في الاحتجاج (1) قال: مما خرج
عن صاحب الزمان (عليه السلام) إلى محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري حيث كتب
إليه: " روي لنا عن العالم أنه سئل عن إمام صلى بقوم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة
كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخر ويتقدم بعضهم ويتم صلاتهم ويغتسل من مسه؟
التوقيع: ليس على من مسه إلا غسل اليد وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمم الصلاة مع
القوم. قال: وكتب إليه وروي عن العالم أن من مس ميتا بحرارته غسل يده ومن مسه
وقد برد فعليه الغسل، وهذا الميت في هذه الحالة لا يكون إلا بحرارته فالعمل في ذلك
على ما هو؟ ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع: إن مسه في
هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده ".
وأما ما ذكره في الذخيرة - حيث قال بعد بعد نقل جملة من أخبار المسألة: " ولا يخفى
أن الأمر وما في معناه في أخبارنا غير واضح الدلالة على الوجوب فالاستناد إلى هذه الأخبار في اثبات الوجوب لا يخلو من اشكال " - فهو من جملة تشكيكاته الواهية
وفيه خروج من الدين من حيث لا يشعر قائله (أما أولا) - فلما حققناه في
مقدمات الكتاب من دلالة الأمر على الوجوب بالآيات القرآنية والأخبار النبوية.
و (أما ثانيا) - فلأنه متى كان الأوامر الواردة في الأخبار في جميع الأحكام
لا تدل على الوجوب والنواهي الواردة كذلك لا تدل على التحريم كما كرره في غير موضع
من كتابه هذا فلم يبق إلا الإباحة، وبذلك يلزم تحليل المحرمات وترك الواجبات إذ لا
تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد إقامة البرهان، والفرض بناء على ما ذكره

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل المس.
330

أنه لا دليل على وجوب ولا تحريم، واللازم حينئذ سقوط التكليف وأن إرسال الرسل
وانزال الشرائع عبث وهو كفر محض كما لا يخفى.
ولم نقف للمرتضى هنا على دليل في حمل الأخبار على الاستحباب إلا التمسك
بأصالة البراءة وما رواه الشيخ عن سعد بن أبي خلف (1) قال: " سمعت أبا عبد الله
(عليه السلام) يقول: " الغسل في أربعة عشر موطنا، واحد فريضة والباقي سنة "
وما رواه عن القاسم الصيقل (2) قال: " كتبت إليه: جعلت فداك هل اغتسل
أمير المؤمنين حين غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند موته؟ فأجاب (عليه
السلام) أن النبي طاهر مطهر ولكن أمير المؤمنين فعل وجرت به السنة " ولا يخفى أن
الأصالة المذكورة يجب الخروج عنها بالدليل وقد تقدم. وأما الروايتان المذكورتان
فقاصرتان سندا ودلالة، واللازم من العمل بمضمون الأولى من حمل السنة فيها على
المستحب عدم وجوب غسل الحيض وأخويه من الاستحاضة والنفاس وعدم وجوب غسل
الميت، وهو باطل قطعا، ويحتمل في الثانية جعل مفعول " فعل " غسل الميت لا غسل المس
وحينئذ فالضمير في قوله: " وجرت به السنة " عائد إليه لا إلى غسل المس، على أن
استعمال السنة في الأخبار فيما وجب بالسنة أو الأعم شائع كثير.
ثم إنه صرح جملة من الأصحاب بأنه لا فرق في وجوب الغسل بالمس بين كون
الميت مسلما أو كافرا عملا باطلاق الأخبار في وجوب الغسل بمس الميت بعد برده
الشامل للمسلم والكافر. واحتمل في المنتهى عدم الوجوب بناء على أن ايجاب الغسل
بالمس قبل التطهير بالغسل إنما يتحقق في من يقبل التطهير أما ما لا يقبل كالبهيمة ونحوها
فلا، والكافر لا يقبل التطهير فيكون جاريا مجراها. ورد بما تقدم من شمول الأخبار باطلاقها
للمسلم والكافر. وفيه أن ظاهر الأخبار المشار إليه - باعتبار ما دل عليه بعضها من أنه قبل

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الجنابة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
331

الغسل يجب الغسل بمسه وبعد الغسل لا يجب وحمل مطلقها في ذلك على مقيدها ومجملها
على مفصلها - هو اختصاص موردها بالمسلم، لأنه لا خلاف ولا اشكال في أن غسل
الكافر لا يفيده طهارة وحينئذ فلا يكون داخلا تحت الأخبار المشار إليها، وبذلك يظهر
قرب الاحتمال الذي ذكره في المنتهى وإن كان الاحتياط في وجوب الغسل بمسه غسل
أو لم يغسل.
وأما الميمم ولو عن بعض الغسلات فالظاهر وجوب الغسل بمسه، لعدم دخوله
تحت الأخبار المذكورة، لأن التيمم غير الغسل وبدليته عنه لا تقتضي المساواة من
جميع الوجوه.
(الثانية) - لو تقدم غسله على موته كالمرجوم أو غسل مع فقد الخليطين فهل
يجب الغسل بمسه أم لا؟ اشكال، قال في المدارك بعد الكلام في المسألة ونقل بعض
أخبارها: " ويندرج في من غسل من تقدم غسله على موته ومن غسل غسلا صحيحا ولو
مع فقد الخليطين ".
أقول: لا يخفى تطرق المناقشة إلى كل من الصورتين المذكورتين، أما من تقدم
غسله كالمرجوم ففيه (أولا) - أن هذا الحكم وإن دلت عليه رواية مسمع كردين
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " المرجوم والمرجومة يغسلان ويحنطان ويلبسان
الكفن قبل ذلك ثم يرجمان ويصلى عليهما، والمقتص منه بمنزلة ذلك يغسل ويحنط
ويلبس الكفن ويصلى عليه " إلا أنها مع ضعف سندها معارضة بالأخبار المستفيضة بل
المتواترة معنى الدالة على نجاسة الميت بالموت ولا سيما الأخبار الكثيرة الدالة على أن
العلة في وجوب غسل الميت إنما هو خروج النطفة التي خلق منها بالموت وأن الميت لذلك
كالجنب يغسل غسل الجنابة كما قدمنا جملة منها في باب غسل الجنابة (2) وتخصيص تلك
الأخبار بما هي عليه من الكثرة والصراحة بهذا الخبر الضعيف مشكل، على أنه لا يعقل.

(1) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب غسل الميت
(2) ص 74.
332

سبق التطهير على وقوع النجاسة وحصولها كما لا يخفى، ولولا اتفاق الطائفة على هذا
الحكم سلفا وخلفا لكان الأظهر الوقوف على تلك الأخبار، وكيف كان فالأجود
عندي إعادة غسله. و (أما ثانيا) - فلأنه مع تسليم العمل بالرواية المذكورة والحكم
بصحة هذا الغسل والاكتفاء به عن تغسيله ثانيا فانسحاب أحكام الغسل الصحيح المتعارف
إلى هذا الغسل ممنوع، وذلك فإن اطلاق الأخبار المتقدمة الدالة على وجوب الغسل بمس
الميت بعد برده وقبل غسله وجواز المس بعد الغسل إنما ينصرف إلى الغسل المتكرر
المتعارف الشائع الوقوع وهو الغسل بعد الموت. لما صرح به غير واحد من محققي
الأصحاب من أن الأحكام المودعة في الأخبار إنما تنصرف إلى الأفراد الشائعة المتعارفة
فإنها هي التي ينصرف إليها الاطلاق وتتبادر إلى الذهن دون الفروض الشاذة النادرة،
وبالجملة فإن غاية ما دلت عليه رواية مسمع بعد تسليمها مع مخالفتها لمقتضى القواعد
هو سقوط الغسل بعد الموت وأما ما عداه فلا، ودعوى كون هذه الأمور مترتبة على
الغسل مطلقا ممنوعة لما عرفت، وقد وافقنا في هذا المقام صاحب الذخيرة مع اقتفائه أثر
صاحب المدارك غالبا فقال: " وفي وجوب الغسل بمسه بعد الموت تردد " وتنظر العلامة
في المنتهى في المسألة أيضا، وعن ابن إدريس أنه أوجب الغسل بمسه.
وأما من غسل مع فقد الخليطين فلعدم الدليل على صحة هذا الغسل لعدم النص
كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في محله وإنما عللوا ذلك بأمور اعتبارية لا تصلح
لتأسيس الأحكام الشرعية.
(الثالثة) - قال في المنتهى: " الأقرب في الشهيد أنه لا يجب الغسل بمسه
لأن الرواية تدل بمفهومها على أن الغسل إنما يجب في الصورة التي يجب فيها تغسيل الميت قبل
غسله " وظاهره في المعتبر القطع بالحكم المذكور، وقال في المدارك بعد نقل ذلك عنه:
" وهو كذلك لأن ظاهر الروايات أن الغسل إنما يجب بمس الميت الذي يجب تغسيله
333

قبل أن يغسل، ويعضده أصالة البراءة وانتفاء العموم في الأخبار الموجبة بحيث
يتناول كل ميت ".
أقول: لا يخفى أن أكثر الروايات المتقدمة مطلقة في وجوب الغسل على من مس
ميتا، مثل صحيحة حريز أو حسنته ورواية عبد الله بن سنان الأولى وصحيحة عاصم بن
حميد وصحيحة إسماعيل بن جابر وصحيحة معاوية بن عمار (1) وصحيحة الحلبي (2)
وصحيحة محمد بن مسلم (3) فإنها كلها مطلقة في وجوب الغسل بالمس بعد البرد شاملة باطلاقها
للشهيد وغيره. وأما ما دلت عليه صحيحة الصفار (4) من قوله (عليه السلام): " إذا
أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل " وهي التي تشعر بما ذكروه
- فيمكن الجواب عنها بأن هذا القيد خرج بناء على ما هو الغالب المتكرر فلا يدل على
تقييد اطلاق تلك الأخبار الكثيرة، وبذلك يظهر لك ما في دعوى صاحب المدارك
(أولا) - أن ظاهر الروايات أن الغسل إنما يجب بمس الميت الذي يجب تغسيله قبل أن يغسل، فإن أكثر الروايات - كما عرفت - مطلق لا اشعار فيه بما ذكره وإنما ذلك
في صحيحة الصفار خاصة. و (ثانيا) - دعواه انتفاء العموم في الأخبار الموجبة بحيث
يتناول كل ميت، فإنه ليس في محله لما عرفت من شمول الأخبار المذكورة باطلاقها
للشهيد وغيره من الأموات. ووقوع السؤال في بعضها عمن غسل ميتا لا اشعار
فيه بما ادعوه، لأن هذا أحد أفراد المس الذي يترتب عليه الغسل، وأي ظهور في
العموم أظهر من صحيحة عاصم بن حميد (5) وقوله: " سألته عن الميت إذا مسه الانسان
فيه غسل؟ فقال: إذا مسست جسده حين يبرد فاغتسل "؟ ونحوها صحيحة إسماعيل بن
جابر (6) وبالجملة فظواهر الأخبار المذكورة العموم. نعم يمكن أن يقال إن الظاهر من
الروايات الدالة على نجاسة الميت بالموت وطهره بالغسل والروايات الدالة على أن
الشهيد لا يغسل هو طهارة الشهيد وعدم نجاسته بالموت، وحينئذ فيكون حكمه حكم غيره

(1) ص 328
(2) ص 329
(3) ص 327
(4) ص 329
(5) ص 328
(6) ص 328
334

من الأموات بعد الغسل.
(الرابعة) - لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو مسه قبل البرد فلا غسل، وقد
تقدم في الأخبار المتقدمة ما يدل عليه وإنما الخلاف في ثبوت النجاسة بذلك ووجوب
غسل ما باشره. فقيل بذلك وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في الروض ونقله عن العلامة
أيضا، وقيل بطهارته وعدم وجوب غسل ما باشره وهو اختيار الذكرى والدروس
والمنتهى، وإليه مال في المدارك وقبله المولى الأردبيلي في شرح الإرشاد.
واحتج الأولون بصدق الموت الموجب للحكم بالنجاسة. وأجاب عنه في الذكرى
بأنا إنما نقطع بالموت بعد البرد. واعترضه في الروض بمنع عدم القطع قبله وإلا لما جاز دفنه
قبل البرد، ولم يقل به أحد خصوصا صاحب الطاعون، قال: " وقد أطلقوا القول
باستحباب التعجيل مع ظهور علامات الموت وهي لا تتوقف على البرد، مع أن الموت
لو توقف القطع به على البرد لما كان لقيد البرد فائدة بعد ذكر الموت ".
واحتج الآخرون بأصالة البراءة فيجب التمسك بها إلى أن يقوم دليل على خلافها
وعدم القطع بنجاسته قبل البرد، وزاد في الذكرى بأن نجاسته ووجوب الغسل متلازمان
إذ الغسل بمس النجس.
واعترضه في الروض - زيادة على ما تقدم - بمنع الملازمة هنا أيضا، قال: لأن
النجاسة علقها الشارع على الموت والغسل على البرد، وكل حديث دل على التفصيل بالبرد
وعدمه دل على صدق الموت قبل البرد، كخبر معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) " إذا مسه وهو سخن فلا غسل عليه فإذا برد فعليه الغسل " فإن ضمير
" مسه " يعود إلى الميت، وعن عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام) (2) " يغتسل الذي
غسل الميت... " ثم ساق الرواية وهي الأولى من روايتيه المتقدمتين إلا أنه قال فيها:
" وأن غسل الميت انسان بعد موته... إلى آخر الخبر " ثم قال بعد هذا: " وهذا الحديث

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب غسل المس.
335

كما يدل على صدق الموت قبل البرد كذلك يدل على جواز تغسيله قبله أيضا " أقول:
الموجود فيما حضرني من كتب الأخبار - وهو الذي نقله في الوافي وكذلك في الوسائل -
إنما هو " قبل الميت انسان... إلى آخره " لا " غسل " كما نقله. واستدل به أيضا على
النجاسة بالموت الشامل باطلاقه لما قبل البرد، وبعده بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) " عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت؟ قال يغسل ما أصاب الثوب "
ورواية إبراهيم بن ميمون (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقع
ثوبه على جسد الميت؟ قال إن كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه وإن
كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه " وهما دالان على نجاسة الميت بالموت مطلقا ومدعى
التقييد بالبرد عليه الدليل.
وبالجملة فهذا القول لما عرفت لا يخلو من قوة، إلا أن ظاهر نفي البأس عن مسه
بحرارته وتقبيله في تلك الحال - كما في جملة من الأخبار المتقدمة - هو الطهارة ولا سيما
فعل الصادق (عليه السلام) بابنه إسماعيل كما تضمنته صحيحة إسماعيل بن جابر (3)
وحينئذ فيمكن تقييد اطلاق الميت في الأخبار المتقدمة بالبرد جمعا بين الأخبار. وبذلك
يظهر ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني وقوله: " أن النجاسة علقها الشارع على الموت والغسل
على البرد " من أن الموت بمجرده لا يستلزم النجاسة بل لا بد من تقييده بالبرد ليتم نفي البأس
عن تقبيله ومسه بحرارته كما تضمنته الأخبار المشار إليها. وأما اعتراضه على كلام الشهيد (رحمه
الله) حيث ادعى أنه إنما يقطع بموته بعد البرد بالمنع من ذلك مستندا إلى أنه لم يصرح أحد
بعدم جواز دفنه قبل البرد ففيه أنه لم يصرح أحد أيضا بجواز ذلك قبل البرد. وأما اطلاقهم
القول باستحباب التعجيل مع ظهور علامات الموت وهي - لا تتوقف على البرد - ففيه أن
برد بدن الميت بعد الموت لا يتوقف على زمان يحصل به المنافاة لاستحباب التعجيل. وأما
قوله -: إنه لو توقف القطع بالموت على البرد لما كان لقيد البرد فائدة - ففيه أنا لا نمنع الموت حال

(1) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب النجاسات
(3) ص 228.
336

الحرارة وإنما نمنع انفصال الروح بكليتها في تلك الحال، وذلك فإن الروح بعد خروجها
من البدن يبقى لها اتصال به كاتصال شعاع الشمس بعد غروبها بما أشرقت عليه، وآثار
ذلك الاتصال باقية ما دامت الحرارة موجودة، وبعد البرد ينقطع ذلك ويقطع بخروجها
بجميع متعلقاتها وآثارها فلا منافاة حينئذ. نعم يبقى الكلام فيما تضمنه التوقيع الخارج
من الناحية المقدسة (1) فإنه ظاهر بل صريح في النجاسة قبل البرد وأنه يجب غسل ما مسه
به، وبذلك يظهر أن المسألة لا تخلو من شوب الاشكال والاحتياط فيها مطلوب على
كل حال. والله العالم.
(الخامسة) - لو مس عضوا كمل غسله فهل يجب الغسل بمسه أم لا؟ اشكال،
فقيل بالأول لاطلاق الأمر بالغسل بمس الميت بعد برده، خرج منه من غسل بالنص
والاجماع وبقي ما عداه، ولصدق الميت الذي لم يغسل عليه في هذه الصورة، وبذلك
صرح جملة من الأصحاب: منهم - العلامة في بعض كتبه والسيد السند في المدارك
والفاضل الخراساني في الذخيرة. وقيل بالثاني وإليه ذهب العلامة أيضا والشهيد في الذكرى
والدروس لأن الظاهر أن وجوب الغسل تابع لمسه نجسا للدوران وقد حكم بطهارة
العضو المفروض.
والحق في المقام أن يقال: إن الكلام في هذه المسألة يتوقف على الكلام في نجاسة
الميت، فإن قلنا بأنها عينية محضة - كما هو اختيار المحقق في المعتبر محتجا عليه بأن الملاقي
لبدن الميت ينجس بملاقاته وليس ذلك إلا لكونه نجسا - فلا اشكال في عدم الوجوب
وذلك لأن النجاسة العينية لا يشترط في طهارة بعض أجزاء محلها طهارة الباقي، إذ طهارة
المحل تحصل بمجرد غسله وانفصال لغسالة عنه من غير توقف على أمر آخر، وإن قلنا
بأنها حكمية محضة، كما ذهب إليه المرتضى وجعله كالجنب وفرع عليه عدم وجوب
غسل المس، أو قلنا بأنها حكمية من وجه وعينية من آخر كما هو ظاهر الأكثر وهو الأقرب

(1) ص 230.
337

الأظهر، أما جهة كونها حكمية فللأخبار الكثيرة الدالة على تعليل وجوب غسل الميت
بخروج النطفة منه، وقد تقدمت في باب غسل الجنابة في مسألة وجوب الترتيب (1)
وأما جهة كونها عينية فللأخبار الدالة على وجوب غسل الملاقي لجسد الميت بعد برده
وقبل تطهيره بالغسل، وهي صحيحة الحلبي ورواية إبراهيم بن ميمون المتقدمتان (2)
- فاشكال ينشأ من أن الأصل كون هذا الغسل كغيره من الأغسال الرافعة للحدث في
كونه بتمامه سببا تاما في رفع النجاسة الحكمية ولهذا وجبت فيه النية كغيره من الأغسال
وحينئذ فوجوب الغسل بالمس ثابت إلى أن يحصل كمال الغسل لعدم صدق اسمه عليه قبل
اكماله، ومن صدق كمال الغسل بالنسبة إلى ذلك العضو، ولأنه لو كان منفصلا لما وجب
الغسل بمسه قطعا فكذا مع الاتصال، لعدم تعقل الفرق ولأصالة البراءة من وجوب
الغسل. والظاهر ضعفه. فالأقرب حينئذ هو الوجوب. نعم ينقدح هنا اشكال آخر
وهو أن مقتضى القواعد الفقهية أن طهارة المحل من الخبث تحصل بانفصال الغسالة عن
المغسول ولا يتوقف بعدها على تطهير جزء آخر كما عرفت، فعلى هذا إذا أكمل غسل عضو
وجب الحكم بطهارته من الخبث بحيث لا يجب غسل اللامس له، ولو توقف طهارة ذلك
العضو من الخبث على طهارة المجموع لزم مخالفة القاعدة المشار إليها. وحينئذ يبعد الحكم
بوجوب الغسل بمسه دون غسل العضو اللامس، إذ لم يعهد انفكاك الغسل عن الغسل
إلا على ما يأتي إن شاء الله تعالى من مذهب الشهيد في ايجابه الغسل بمس العظم المجرد مع أنه قد يكون طاهرا من الخبث لأنه مما لا تحله الحياة، وسيأتي بيان ضعفه إن شاء الله تعالى
والتحقيق في المقام هو الموقوف على ظواهر الأخبار المتقدمة، وقد دلت على أن
مس الميت بعد برده وقبل غسله موجب للغسل والمتبادر منه كمال الغسل، وحينئذ فما لم
يكمل غسله لا يحصل مصداق الأخبار المذكورة، واستبعاد انفكاك الغسل عن الغسل
غير مسموع في مقابلة الأخبار المذكورة، وحينئذ فالأظهر هو وجوب الغسل بمس العضو

(1) ص 74
(2) ص 336.
338

المذكور وإن لم يوجب غسل ما لاقاه.
(السادسة) - الظاهر من كلام جملة من الأصحاب إن مس الميت على الوجه
المتقدم من جملة الأحداث الموجبة لنقض الطهارة المتوقف ارتفاعها على الغسل أما خاصة
كما اخترناه سابقا أو مع الوضوء على المشهور، وبذلك صرح الشهيد في الألفية حيث عده
من النواقض والشيخ في النهاية حيث قال: " ومن جملة ما ينقض الوضوء ما يوجب
الغسل وهو خمسة أشياء: الجنابة والحيض والاستحاضة والنفاس ومس الأموات " وهو
أيضا ظاهره في الذكرى والدروس. والظاهر أنه لا خلاف فيه بينهم، وظاهر المدارك
التوقف في ذلك حيض قال: " وأما غسل المس فلم أقف على ما يقتضي اشتراطه في شئ
من العبادات. ولا مانع من أن يكون واجبا لنفسه كغسل الجمعة والاحرام عند من أوجبهما
نعم أن ثبت كون المس ناقضا للوضوء اتجه وجوبه للأمور الثلاثة المتقدمة إلا أنه غير
واضح " ثم نقل الاستدلال عليه بعموم قوله (عليه السلام) (1): " كل غسل قبله
وضوء إلا غسل الجنابة " ورده بأنه مع عدم صحة سنده غير صريح في الوجوب كما
اعترف به جماعة من الأصحاب.
أقول: لم أقف في شئ من الأخبار بعد التتبع التام على ما يقتضي كون المس
ناقضا مشروطا رفعه بالغسل إلا على ما في الفقه الرضوي، حيث قال في باب غسل الميت
وتكفينه بعد ذكر غسل المس (2): " وإن نسيت الغسل فذكرت بعد ما صليت فاغتسلت وأعد
صلاتك " قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين: " ومثل هذه الرواية لا تفيد
حكما لعدم ثبوت هذا الكتاب عنه (عليه السلام) والقرائن تدل على عدمه، ومع
ذلك فالإعادة غير نص في المدعى لاحتمال الاستحباب " انتهى. أقول: لا يخفى على
من أعطى التأمل حقه فيما نقلناه في هذا الكتاب وما سننقله إن شاء الله تعالى في المباحث
الآتية - من اعتماد الصدوقين على هذا الكتاب والافتاء بعبائره وترجيحها على النصوص

(1) المروي في الوسائل في الباب 35 من أبواب الجنابة
(2) ص 18.
339

الصحيحة المستفيضة في مواضع عديدة، حتى أن الأصحاب نسبوا كثيرا من فتاوى علي
ابن الحسين بن بابويه إلى الشذوذ لمخالفتها صحاح الأخبار وهي مأخوذة من هذا الكتاب
كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى في المقامات الآتية مضافا إلى ما تقدم - أن الكتاب
المذكور من الأصول المعتمدة التي لا تقصر عن نسبة غيره من الأصول إلى مصنفيها،
ويؤيده ما ذكره شيخنا المجلسي (طاب ثراه) في مقدمات كتاب البحار حيث قال:
" كتاب فقه الرضا أخبرني به السيد الفاضل المحدث القاضي أمير حسين (طاب ثراه)
بعدما ورد أصفهان، قال: قد اتفق في بعض سني مجاورتي بيت الله الحرام أن أتاني
جماعة من أهل قم حاجين وكان معهم كتاب قديم يوافق تأريخه عصر الرضا (عليه
السلام) وسمعت الوالد أنه قال: سمعت السيد يقول كان عليه خطه (عليه السلام) وكان
عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء، وقال السيد حصل لي العلم بتلك القرائن أنه
تأليف الإمام فأخذت الكتاب وكتبته وصححته. فأخذ والدي هذا الكتاب من السيد
واستنسخه وصححه، وأكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر ابن بابويه في
الفقيه من غير سند وما يذكره والده في رسالته إليه، وكثير من الأحكام التي ذكرها
أصحابنا ولا يعلم مستندها مذكورة فيه كما ستعرف في أبواب العبادات " انتهى كلامه.
ونحوه وجدت بخط والده المذكور أيضا، وبذلك يظهر لك ما في كلام البعض المشار إليه
فإنه ناشئ عن قصور التتبع وعدم اشتهار الكتاب المذكور. وأن الأظهر هو العمل
بما دل عليه كلامه (عليه السلام) كما عليه من عرفت من أصحابنا، مضافا إلى أوفقيته
للاحتياط المطلوب في الدين.
وقال في الذكرى: " وهذا الغسل يجامعه الوضوء وجوبا، لما سلف، ولو أحدث
بعد الوضوء المقدم أعاده، وبعد الغسل المقدم الوضوء لا غير، وفي أثناء الغسل الأقرب
حكمه حكم المحدث في أثناء غسل الجنابة، وقطع في التذكرة بأنه لو أحدث في أثناء غسله
أتم وتوضأ تقدم أو تأخر، ولعله يرى أن الحدث الأكبر يرفعه الغسل والأصغر يرفعه
340

الوضوء بالتوزيع. وفيه بعد لظهور أن الوضوء والغسل علة لرفع الحدث مطلقا وهذا
ينسحب في جميع الأغسال سوى الجنابة " انتهى. وسياق هذا الكلام وما اشتمل
عليه من الخلاف ظاهر في أن غسل المس رافع عندهم وهو موجب لكون المس عندهم
من جملة النواقض كما سلف ذكره عن جملة منهم وأما الحدث في أثناء هذا الغسل فقد تقدم
الكلام في نظيره.
وقال في الدروس: " ولا يمنع هذا الحدث من الصوم ولا من دخول المساجد
في الأقرب نعم لو لم يغسل العضو اللامس وخف سريان النجاسة إلى المسجد حرم
الدخول وإلا فلا " انتهى. أقول: ظاهر هذا الكلام هو أن حدثية المس الموجبة للغسل
كالحدث الأصغر فيجب لما يجب له الوضوء من الصلاة والطواف ونحوهما ولا يجب للصوم
ولا لدخول المساجد للأصل وعدم الدليل المخرج عنه، نعم يأتي في دخول المساجد لو لم
يغسل العضو اللامس ما يأتي في سائر النجاسات من تحريم الدخول مطلقا أو بشرط
خوف التعدي إلى المسجد أو شئ من الآية.
(السابعة) - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب الغسل بمس
القطعة المبانة ذات العظم من حي أو ميت، وادعى في الخلاف الاجماع عليه، واستدلوا
على ذلك برواية أيوب بن نوح عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسه انسان فكل ما فيه عظم فقد
وجب على كل من يمسه الغسل، وإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه " وهذه الرواية
شاملة باطلاقها المبانة من حي أو ميت. أقول: ويدل عليه أيضا قوله (عليه السلام) (2)
في الفقه الرضوي: " وإن مسست شيئا من جسد أكلة السبع فعليك الغسل إن كان
فيما مسست عظم، وما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليك في مسه " وبهذه العبارة عبر في
الفقيه بأدنى تغيير فقال: " ومن مس قطعة من جسد أكيل السبع فعليه الغسل إن كان

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل المس
(2) ص 17.
341

فيما مس عظم وما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه في مسه " انتهى. ومورد العبارة
المذكورة وإن كان بالنسبة إلى القطعة المبانة من الميت إلا أنه لا دلالة فيها على الاختصاص
ولم أقف على من خالف في الحكم المذكور إلا المحقق في المعتبر وتبعه في المدارك
قال في المعتبر بعد أن نقل عن الشيخ دعوى الاجماع على ذلك والاستدلال بالرواية
المتقدمة: " والذي أراه التوقف في ذلك، فإن الرواية مقطوعة والعمل بها قليل ودعوى
الشيخ في الخلاف الاجماع لم يثبت فإذن الأصل عدم الوجوب، وإن قلنا بالاستحباب
كان تفصيا من اطراح قول الشيخ والرواية " انتهى. قال في المدارك بعد نقل كلامه:
" هذا كلامه وهو في محله ".
أقول: فيه (أولا) - ما قدمنا نقله عنه في أوائل المعتبر من وجوب
العمل بالخبر وأن ضعف سنده متى قبله الأصحاب، والأمر هنا كذلك فإنه لا راد له
سواه ومن تبعه، وكل من تأخر عنه من أصحاب هذا الاصطلاح ما عدا صاحب المدارك
فإنهم ردوا كلامه بأن ضعف الخبر مجبور بشهرة العمل به وأن الاجماع المنقول بخبر
الواحد حجة كما حقق في الأصول، وأما المتقدمون فقد عرفت في غير موضع مما تقدم
أنه لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم ومن ذكر المسألة منهم فإنما حكم فيها بما تقدم ومن لم
يتعرض لها فإنه لا يدل على انكارها وعدم القول بها، فقوله: " والعمل بها قليل " لا وجه
له. و (ثانيا) - أن ما ادعاه - من أن في القول بالاستحباب تفصيا عن اطراح قول
الشيخ والرواية - ليس في محله، لأنه متى كان قول الشيخ وكذا ظاهر الرواية إنما هو
الوجوب الموجب مخالفته للمؤاخذة بالعقاب والقول بالاستحباب موجب لجواز الترك
وعدم المؤاخذة، فكيف يكون فيه تفص عن مخالفة الشيخ والرواية: وبذلك يظهر أن
القول المشهور هو المؤيد المنصور.
وهل يجب الغسل بمس العظم المجرد متصلا أو منفصلا؟ قولان أشهرهما العدم،
وذهب في الذكرى والدروس إلى الوجوب لدوران الغسل معه وجودا وعدما. ورد
342

بمنع حجية الدوران وجواز كون العلة هي المجموع المركب منه ومن اللحم، ولأن العظم
طاهر في نفسه حيث إنه مما لا تحله الحياة فلا يوجب نجاسة غيره، ولو فرضت نجاسته
فهي عرضية خبثية تزول بتطهيره كباقي المتنجسات بالخبث، هذا مع انفصاله وأما مع
الاتصال فالظاهر وجوب الغسل بمسه لا من حيث هو هو بل من حيث وجوب الغسل
بمس الميت الصادق بمس أي جزء منه. ونحوه أيضا مس الشعر والظفر على اشكال ينشأ
مما ذكرناه من أن مس الشعر والظفر لا يسمى مسا للميت عرفا سيما إذا طالا بخلاف العظم
والضرس لأن الظاهر صدق مس الميت بمسهما، والاحتياط يقتضي الغسل بمس كل من
هذه الأشياء المذكورة حال الاتصال.
ويتفرع على وجوب الغسل بمس العظم ما لو وجد العظم في مقبرة، فإن كانت
مقبرة المسلمين فلا غسل لأن الظاهر أنه دفن بعد الغسل حملا لأفعال المسلمين على الصحة
وإن كانت مقبرة الكفار وجب الغسل إذ لا عبرة بغسل الكافر كما تقدم، ولو تناوب
عليها الفريقان فاشكال لتعارض أصالة عدم الغسل لجواز كونه كافرا، والشك في حصول
الحدث فلا يرفع يقين الطهارة التي عليها الماس، إلا أن في عدم رفع يقين الطهارة بمثل
هذا الشك بحثا تقدم الكلام فيه في المقدمة الحادية عشرة من مقدمات الكتاب، ورجح
في الدروس هنا سقوط الغسل. وإن جهلت فلم يعلم كونها مقبرة المسلمين أو الكفار
تبعت الدار فيلحق بأهلها.
قال في الروض: " واعلم أن كل ما حكم في مسه بوجوب الغسل مشروط بمس ما تحله
الحياة من اللامس لما تحله الحياة من الملموس فلو انتفى أحد الأمرين لم يجب الغسل، فإن
كان تخلف الحكم لانتفاء الأول خاصة وجب غسل اللامس خاصة، وإن كان لانتفاء الثاني
خاصة فلا غسل ولا غسل مع اليبوسة، وكذا إن كان لانتفاء الأمرين معا، هذا كله في غير
العظم المجرد كالشعر والظفر ونحوهما، أما العظم فقد تقدم الاشكال فيه، وهو في السن
أقوى، ويمكن جريان الاشكال في الظفر أيضا لمساواته العظم في ذلك، ولا فرق
343

في الاشكال بين كون العظم والظفر من اللامس أو الملموس " انتهى.
الفصل السادس
في غسل الأموات وما يستتبعه من أحكام الاحتضار والدفن ونحوهما، والكلام
فيه يقع في مقاصد: (الأول) - في الاحتضار، ولا بأس بتقديم بعض الأخبار
المناسبة للمقام والمتعلقة بهذه الأحكام:
فعن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
رفع رأسه إلى السماء فتبسم فسئل عن ذلك فقال: نعم عجبت لملكين هبطا من السماء
إلى الأرض يلتمسان عبدا مؤمنا صالحا في مصلى كان يصلي فيه ليكتبا له عمله في يومه وليلته
فلم يجداه في مصلاه، فعرجا إلى السماء فقالا ربنا عبدك فلأن المؤمن التمسناه في مصلاه
لنكتب له عمله ليومه وليلته فلم نصبه فوجدناه في حبالك، فقال الله عز وجل اكتبا
لعبدي مثل ما كان يعمل في صحته من الخير في يومه وليلته ما دام في حبالي فإن علي
أن أكتب له أجر ما كان يعمله إذا حبسته عنه " وعن الباقر (عليه السلام) (2) قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن المؤمن إذا غلبه ضعف الكبر أمر الله تعالى
الملك أن يكتب له في حاله تلك مثل ما كان يعمل وهو شاب نشيط صحيح، ومثل
ذلك إذا مرض وكل الله تعالى به ملكا يكتب له في سقمه ما كان يعمله من الخير في
صحته حتى يرفعه الله ويقبضه، وكذلك الكافر إذا اشتغل بسقم في جسده كتب الله
له ما كان يعمل من الشر في صحته ".
أقول: لعل الوجه في ذلك أن المؤمن لما كان من نيته المداومة على تلك الأعمال

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الكافي ج 1 ص 32 وروى في الوسائل قطعة منه في الباب 1 من
أبواب الاحتضار.
344

الصالحة فمتى حيل بينه وبينها بالمرض أو الكبر فإن الله سبحانه يكتب له ثواب ذلك
من حيث نيته، والكافر أيضا لما كان في نيته المداومة على تلك الأعمال القبيحة كتب
له، وهو السر في الحديث الوارد بأن كلا من أهل الجنة والنار إنما خلدوا فيها بالنيات.
وعن الباقر (عليه السلام) (1): " سهر ليلة من مرض أفضل من عبادة سنة "
وعن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " الحمى رائد الموت وهو سجن الله تعالى في
الأرض وهو حظ المؤمن من النار " وبهذا المضمون جملة من الأخبار. وعن الباقر
(عليه السلام) (3): " حمى ليلة تعدل عبادة سنة وحمى ليلتين تعدل عبادة سنتين
وحمى ثلاث ليال تعدل عبادة سبعين سنة. قال قلت: فإن لم يبلغ سبعين سنة؟ قال فلأبيه
وأمه. قال قلت: فإن لم يبلغا؟ قال: فلقرابته. قال قلت: فإن لم يبلغ سبعين سنة؟ قال:
فلجيرانه " وعن الرضا (عليه السلام) (4) قال: " المرض للمؤمن تطهير ورحمة وللكافر
تعذيب ونقمة، وأن المرض لا يزال بالمؤمن حتى ما يكون عليه ذنب " وعن جعفر بن
محمد عن آبائه في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) (5) قال:
" يا علي أنين المؤمن تسبيح وصياحه تهليل ونومه على فراشه عبادة وتقلبه من جنب إلى
جنب جهاد في سبيل الله تعالى، فإن عوفي مشى في الناس وما عليه ذنب " وعن الباقر
(عليه السلام) (6) قال: " إذا أحب الله تعالى عبدا نظر إليه فإذا نظر إليه أتحفه بواحدة
من ثلاث: أما صداع وأما حمى وأما رمد " وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) (7) قال:
" حمى ليلة كفارة سنة وذلك لأن ألمها يبقى في الجسد سنة " وعن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) (8) " أنه تبسم فقيل له تبسمت يا رسول الله؟ فقال عجبت للمؤمن وجزعه من
السقم ولو يعلم ما له في السقم من الثواب لأحب أن لا يزال سقيما حتى يلقى ربه عز وجل "
وعن أبي إبراهيم (عليه السلام) (9) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(4) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(5) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(6) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(7) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(8) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(9) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
345

للمريض أربع خصال: يرفع عنه القلم ويأمر الله تعالى الملك فيكتب له كل فضل كان
يعمله في صحته ويتبع مرضه كل عضو في جسده فيستخرج ذنوبه منه فإن مات مات
مغفورا له وإن عاش عاش مغفورا له " وعن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليهم السلام) (1)
" أنه عاد سلمان الفارسي فقال له: يا سلمان ما من أحد من شيعتنا يصيبه وجع إلا بذنب
قد سبق منه وذلك الوجع تطهير له. فقال له سلمان: فليس لنا في شئ من ذلك أجر خلا
التطهير؟ قال علي (عليه السلام): يا سلمان لكم الأجر بالصبر عليه والتضرع إلى الله تعالى
والدعاء له بهما تكتب لكم الحسنات وترفع لكم الدرجات، فأما الوجع خاصة فهو
تطهير وكفارة " وعن الباقر (عليه السلام) (2) قال: " كان الناس يعتبطون اعتباطا
فلما كان زمان إبراهيم (عليه السلام) قال: يا رب اجعل للموت علة يؤجر بها الميت
ويسلي بها عن المصاب، قال: فأنزل الله تعالى الموم وهو البرسام ثم أنزل بعده الداء ".
أقول: الاعتباط بالمهملتين أولا وآخرا: نزول الموت بغير علة. والموم بضم الميم
والبرسام: علة معروفة يهذي فيها، يقال: برسم الرجل فهو مبرسم، والداء سائر أنواع المرض
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: أكثر من يموت من موالينا
بالبطن الذريع " أقول: البطن محركة: داء البطن، يقال بطن الرجل على صيغة المجهول:
اشتكى بطنه، والذريع: السريع الكثير، وهو عبارة عن كثرة الاسهال وسرعته بسبب
انطلاق البطن. وعن الصادق (عليه السلام) " أن أعداءنا يموتون بالطاعون وأنتم
تموتون بعلة البطون ألا إنها علامة فيكم يا معشر الشيعة " وعن الصادق (عليه السلام)
" ما من داء إلا وهو شارع إلى الجسد ينتظر متى يؤمر به فيأخذه " قال في الكافي
وفي رواية أخرى " إلا الحمى فإنها ترد ورودا " وعن الصادق (عليه السلام) قال:

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الكافي ج 1 ص 31.
(3) رواه في الكافي ج 1 ص 31 عن الرضا " عليه السلام ".
346

" قال موسى يا رب من أين الداء؟ قال: مني. قال فالشفاء؟ قال مني. قال: فما يصنع
عبادك بالمعالج؟ قال: تطيب أنفسهم فيومئذ سمي المعالج بالطبيب ".
أقول: لا يخفى ما في هذا الحديث من الاشكال، إذ لا يظهر هنا وجه مناسبة
بين المشتق والمشتق منه، فإن أحدهما من " طيب " بالياء المثناة والآخر من " طبب "
بالبائين الموحدتين، ولعل قوله (عليه السلام): " تطيب أنفسهم " إنما هو بالبائين
لا بالياء، فإن الطب كما يكون للبدن يكون للنفس أيضا كما قال في القاموس: " الطب
مثلث الطاء: علاج الجسم والنفس " فالاشتقاق متجه، وما في النسخ من الكتابة بالياء
المثناة من تحت في اللفظ المشار إليه فالظاهر أنه غلط من النساخ.
وعن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " قال الله تعالى: أيما عبد ابتليته ببلية فكتم
ذلك عواده ثلاثا أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وبشرا خيرا من بشره،
فإن أبقيته أبقيته ولا ذنب له وإن مات مات إلى رحمتي " وزاد في خبر آخر مثله " قال
قلت: جعلت فداك وكيف يبدله؟ قال يبدله لحما ودما وشعرا وبشرا لم يذنب فيها "
وعن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " من مرض ليله فقبلها بقبولها كتب الله له
عبادة ستين سنة. قلت ما معنى قبولها؟ قال لا يشكو ما أصابه فيها إلى أحد " وعن
الصادق (عليه السلام) (3) وقد سئل عن حد الشكاية للمريض قال: " إن الرجل يقول
حممت اليوم وسهرت البارحة وقد صدق وليس هذا شكاية، وإنما الشكوى أن يقول
لقد ابتليت بما لم يبتل به أحد ويقول لقد أصابني ما لم يصب أحدا، وليس الشكوى
أن يقول سهرت البارحة وحممت اليوم ونحو هذا ".
وعن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " ينبغي للمريض منكم أن يؤذن

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب الاحتضار.
(3) رواه في الوسائل في الباب 5 من أبواب الاحتضار.
(4) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب الاحتضار.
347

إخوانه بمرضه فيعودونه فيؤجر فيهم ويؤجرون فيه قال فقيل له نعم هم يؤجرون فيه بممشاهم
إليه فكيف يؤجر هو فيهم؟ قال فقال باكتسابه لهم الحسنات فيؤجر فيهم، فيكتب له
بذلك عشر حسنات ويرفع له عشر درجات ويمحى بها عنه عشر سيئات " وعن أبي الحسن
(عليه السلام) (1) قال: " إذا مرض أحدكم فليأذن للناس يدخلون عليه فإنه ليس
من أحد إلا وله دعوة مستجابة " وعن الصادق (عليه السلام) (2) " ما من أحد
يحضره الموت إلا وكل به إبليس من يأمره بالكفر ويشككه في دينه حتى
تخرج نفسه فمن كان مؤمنا لم يقدر عليه، فإذا حضرتم موتاكم فلقنوهم شهادة أن لا إله إلا
الله وأن محمدا رسول الله حتى يموتوا " وعنه (عليه السلام) في حديث (3) " أن ملك
الموت يتصفح الناس في كل يوم خمس مرات عند مواقيت الصلاة فإن كان ممن يواظب
عليها عند مواقيتها لقنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونحى عنه ملك الموت
إبليس " وعن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " لا عيادة في وجع العين ولا تكون
عيادة في أقل من ثلاثة أيام فإذا وجبت فيوم ويوم لا فإذا طالت العلة ترك المريض
وعياله " وعن بعض موالي جعفر بن محمد (عليه السلام) (5) قال: " مرض بعض مواليه
فخرجنا إليه نعوده ونحن عدة من موالي جعفر فاستقبلنا جعفر (عليه السلام) في بعض
الطريق فقال لنا أين تريدون؟ فقلنا نريد فلانا نعوده. فقال لنا. قفوا فوقفنا فقال:
مع أحدكم تفاحة أو سفرجلة أو أترجة أو لعقة من طيب أو قطعة من عود بخور؟ فقلنا ما معنا
شئ من هذا. فقال أما تعلمون أن المريض يستريح إلى كل ما أدخل عليه؟ " وعن الصادق

(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الاحتضار.
(3) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الاحتضار.
(4) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الاحتضار.
(5) رواه في الوسائل في الباب 17 من أبواب الاحتضار.
348

(عليه السلام) (1) قال: " تمام العيادة للمريض أن تضع يدك على ذراعه وتعجل القيام
من عنده فإن عيادة النوكى أشد على المريض من وجعه " أقول: النوك بالضم: الحمق، ورجل
أنوك والجمع نوكى كفتلى. وعن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " إن أمير المؤمنين
(عليه السلام) قال. إن من أعظم العواد أجرا عند الله لمن إذا عاد أخاه خفف الجلوس
إلا أن يكون المريض يحب ذلك ويريده ويسأله ذلك... " وعن الصادق (عليه السلام) (3)
قال: " إذا دخل أحدكم على أخيه عائدا له فليسأله يدعو له فإن دعاءه مثل دعاء الملائكة " وعن
الباقر (عليه السلام) (4) قال: " من عاد مريضا في الله لم يسأل المريض للعائد شيئا
إلا استجاب الله له " وعن الصادق (عليه السلام) (5) قال: " عودوا مرضاكم وسلوهم
الدعاء فإنه يعدل دعاء الملائكة " وعن الباقر (عليه السلام) (6) قال: " أيما مؤمن
عاد مؤمنا خاض الرحمة خوضا، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإذا انصرف وكل الله تعالى
به سبعين ألف ملك يستغفرون له ويسترحمون عليه ويقولون طبت وطابت لك الجنة إلى
تلك الساعة من غد، وكان له يا أبا حمزة خريف في الجنة. قلت ما الخريف جعلت فداك؟
قال زاوية في الجنة يسير الراكب فيها أربعين عاما " والأحاديث في استحباب العيادة
وزيادة فضلها أكثر من أن يأتي عليها هذا المقام.
وعن أبي عبيدة الحذاء (7) قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام): حدثني
بما انتفع به فقال: يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت فإنه لم يكثر انسان ذكر الموت إلا زهد
في الدنيا " وعن أبي بصير (8) قال: " شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) الوسواس
فقال: يا أبا محمد اذكر تقطع أوصالك في قبرك ورجوع أحبائك عنك إذا دفنوك في

(1) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الاحتضار.
(3) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الاحتضار.
(4) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الاحتضار.
(5) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الاحتضار.
(6) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب الاحتضار.
(7) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الاحتضار.
(8) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الاحتضار.
349

حفرتك وخروج بنات الماء من منخريك وأكل الدود لحمك فإن ذلك يسلي عنك ما أنت
فيه. قال أبو بصير فوالله ما ذكرته إلا سلى عني ما أنا فيه من هم الدنيا " وعن الباقر
(عليه السلام) (1) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الموت الموت ألا
ولا بد من الموت، إلى أن قال وقال: إذا استحقت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين
العينين وذهب الأمل وراء الظهر، وإذا استحقت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل
بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر. قال وسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أي المؤمنين أكيس؟ فقال أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم له استعدادا ".
وعن أبي حمزة عن بعض الأئمة (عليهم السلام) (2) قال: " إن الله تبارك وتعالى
يقول يا ابن آدم تطولت عليكم بثلاث؟ سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك،
وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدم خيرا، وجعلت لك نظرة عند موتك في
ثلثك فلم تقدم خيرا " وعن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) (3) قال: " قال
علي (عليه السلام): من أوصى فلم يجحف ولم يضار كان كمن تصدق به في حياته.
قال وقال (عليه السلام): ستة يلحقن المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له ومصحف يخلفه
وغرس يغرسه وبئر يحفرها وصدقة يجريها وسنة يؤخذ بها من بعده " وعن جعفر بن محمد
عن أبيه (عليهما السلام) (4) " أن النبي سئل عن رجل يدعى إلى وليمة وإلى جنازة
فأيهما أفضل وأيهما يجيب؟ قال يجيب الجنازة فإنها تذكر الآخرة، وليدع الوليمة فإنها تذكر
الدنيا " وعن الصادق (عليه السلام) (5) قال: " الوصية حق على كل مسلم " وعن
زيد الشحام (6) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوصية فقال هي حق
على كل مسلم ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الاحتضار.
(3) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الاحتضار.
(4) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب الاحتضار.
(5) رواه في الوسائل في الباب 1 من كتاب الوصايا
(6) رواه في الوسائل في الباب 1 من كتاب الوصايا
350

قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم): قوله: " الوصية حق " أي لازم وجوبا
إذا كانت ذمته مشغولة ولم يظن الوصول إلى صاحب الحق إلا بها، واستحبابا مؤكدا
في غيره من الخيرات والمبرات.
وقال بعض مشايخنا المحدثين: " الوصية العهد، يقال أوصاه ووصاه توصية: عهد
إليه، والوصية التي هي حق على كل مسلم أن يعهد إلى أحد إخوانه أن يتصرف في بعض
ماله بعد موته تصرفا ينفعه في آخرته، فإن كان عليه حق لله سبحانه أو لبعض عباده قضاه
منه، وإن كان له أولاد صغار قام عليهم وحفظ عليهم أموالهم، أو كان في ورثته
مجنون أو معتوه أو سفيه فكذلك نظرا لهم وصيانة لأموالهم وتخفيفا على المؤمنين مؤنتهم
وأن يفرض شيئا من ماله لأصدقائه وأقربائه ممن لا يرث أن فضل عن غنى الورثة وكان
ذلك الصديق أو القريب به أحرى إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وأن
يشهد جماعة من المؤمنين على ايمانه وتفصيل عقائده الحقة ويعهد إليهم أن يشهدوا له بها
عند ربه يوم يلقاه، ولا يشترط في الوصية أن تكون عند حضور الموت بل ورد أنه
لا ينبغي أن لا يبيت الانسان إلا ووصيته تحت رأسه " انتهى كلامه زيد اكرامه.
وعن الصادق (عليه السلام) (1) " قال له رجل إني خرجت إلى مكة فصحبني
رجل وكان زميلي فلما أن كان في بعض الطريق مرض وثقل ثقلا شديدا فكنت أقوم عليه
ثم أفاق حتى لم يكن عندي به بأس فلما أن كان في اليوم الذي مات فيه أفاق فمات في
ذلك اليوم. فقال الصادق (عليه السلام) ما من ميت تحضره الوفاة إلا رد الله تعالى
عليه من سمعه وبصره وعقله للوصية أخذ الوصية أو ترك وهي الراحة التي يقال لها راحة
الموت، فهي حق على كل مسلم ".
وعن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله من لم يحسن وصيته

(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من كتاب الوصايا
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من كتاب الوصايا
351

عند الموت كان نقصا في مروته وعقله. قيل يا رسول الله وكيف يوصي الميت؟ قال إذا
حضرته الوفاة واجتمع الناس إليه قال: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة
الرحمن الرحيم، اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا إني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك
لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك وأن الجنة حق والنار حق وأن البعث حق
والحساب حق والقدر حق والميزان حق وأن الدين كما وصفت وأن الاسلام كما شرعت
وأن القول كما حدثت وأن القرآن كما أنزلت وأنك أنت الله الحق المبين، جزى الله
محمدا عنا خير الجزاء وحيا الله محمدا وآله بالسلم. اللهم يا عدتي عند كربتي ويا صاحبي
عند شدتي ويا وليي عند نعمتي، إلهي وإله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا
فإنك إن تكلني إلى نفسي طرفة عين كنت أقرب من الشر وأبعد من الخير، وآنس
في القبر وحشتي واجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا. ثم يوصي بحاجته، وتصديق هذه
الوصية في القرآن في السورة التي يذكر فيها مريم في قوله تعالى: " لا يملكون الشفاعة
إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " (1) فهذا عهد الميت، والوصية حق على كل مسلم وحق عليه
أن يحفظ هذه الوصية ويعلمها، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) علمنيها رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وقال رسول الله علمنيها جبرئيل ".
إذا عرفت ذلك فالكلام في هذا المقصد يقع في مواضع: (الأول) - المشهور بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يجب حال الاحتضار - وهو وقت نزع الروح من البدن،
وسمي به لأن الملائكة تحضره أو لحضور أهله عنده أو لحضور المؤمنين لتجهيزه - توجيهه
إلى القبلة بأن يلقى على ظهره ويجعل باطن قدميه إلى القبلة بحيث لو جلس كان مستقبلا،
وعن الخلاف القول بالاستحباب، قال في المعتبر: " وهو مذهب الجمهور خلا سعيد بن
المسيب فإنه أنكره " وإلى هذا القول ذهب المحقق في المعتبر وصاحب المدارك وصاحب
الذخيرة، قال شيخنا الشهيد الثاني بعد ذكر الحكم المذكور: " ومستنده من الأخبار

(1) سورة مريم. الآية 87.
352

السليمة سندا ومتنا ما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير
عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد (1) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة، وكذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل
تجاه القبلة فيكون مستقبلا بباطن قدميه ووجهه إلى القبلة " وأما غيره من الأخبار التي
استدل بها على الوجوب فلا يخلو من شئ إما في السند أو في الدلالة " واعترضه سبطه
في المدارك فقال بعد نقل ذلك: " هذا كلامه، ويمكن المناقشة في هذه الرواية من حيث
السند بإبراهيم بن هاشم حيث لم ينص علماؤنا على توثيقه وبأن راويها وهو سليمان بن
خالد في توثيقه كلام، ومن حيث المتن بأن المتبادر منها أن التسجية تجاه القبلة إنما
يكون بعد الموت لا قبله، ومن ثم ذهب جمع من الأصحاب: منهم - المصنف في المعتبر
إلى الاستحباب استضعافا لأدلة الوجوب وهو متجه " انتهى.
أقول: لا يخفى أن هذه المناقشة من المناقشات الواهية وإن كان قد تقدمه فيها
شيخه المحقق الأردبيلي:
(أما أولا) - فمن حيث طعنه في إبراهيم بن هاشم بعدم التوثيق وكذا طعنه في
سليمان بن خالد ورده الرواية بذلك، فإنه قد قبل رواية إبراهيم في غير موضع من شرحه
وعدها من قسم الحسن مصرحا بأنها لا تقصر عن الصحيح، بل نظمها في الصحيح
أيضا في مواضع وإن طعن فيها أيضا في مواضع أخر مثل هذا الموضع، كل ذلك يدور
مدار احتياجه لها تارة وعدمه أخرى، وهذا من جملة المواضع التي اضطرب فيها كلامه،
ومن ذلك ما ذكره في كتاب الصوم في مسألة رؤية الهلال قبل الزوال حيث قال:
" والمسألة قوية الاشكال لأن الروايتين المتضمنتين لاعتبار ذلك معتبرتا الاسناد، والأولى
منهما لا تقصر عن مرتبة الصحيح لأن دخولها في مرتبة الحسن بإبراهيم بن هاشم " انتهى
على أن حديث إبراهيم بن هاشم مما عده في الصحيح جملة من محققي متأخري المتأخرين

(1) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الاحتضار
353

كالشيخ البهائي ووالده والمولى محمد باقر المجلسي ووالده وغيرهم، وهو الحق الحقيق
بالاتباع، إذ لا يخفى أن ما ذكره علماء الرجال في حقه من أنه أول من نشر حديث
الكوفيين بقم من أعلى مراتب التوثيق، لما علم من تصلب أهل قم في قبول الروايات
والطعن بمجرد الشبهة في جملة من الثقات وزيادة احتياطهم في ذلك، فأخذهم عن هذا
الفاضل وسماعهم عنه الحديث واعتمادهم عليه لا يقصر عن قولهم ثقة بقول مطلق إن لم
يزد على ذلك، وبالجملة فأهل هذا الاصطلاح مجمعون على قبول روايته ولا راد لها بالكلية
إلا من مثل السيد (رحمه الله) في مقام حب المناقشة، وبالجملة فإنه ليس له في هذا الباب ضابطة
ولا يقف على رابطة. وأما سليمان بن خالد فإنه قد نظم حديثه في الصحيح في مواضع عديدة
من كتابه: منها - في بحث غسل الجنابة في مسألة خروج البلل المشتبه بعد الغسل، ومنها -
في بحث القنوت في قنوت الجمعة، ومنها - في نوافل يوم الجمعة وفي مبحث الوقت في آخر
وقت صلاة الليل وأنه الفجر الثاني وفي مواضع من الجلد الثاني في مواضع تنيف على عشرين
موضعا، ولا أعلم أحدا من أصحاب هذا الاصطلاح ينقل حديثه إلا ويعده في الصحيح.
و (أما ثانيا) - فما ناقش به في متن الرواية المذكورة بما ذكره فهو وإن كان
بحسب ما يترائى إلا أنه قد وقع تجوز في العبارة. وهو مجاز شائع كما في قوله
سبحانه " إذا قمتم إلى الصلاة... " (1) أي إذا أردتم " فإذا قرأت القرآن فاستعذ
بالله " (2) ونحو ذلك، والمراد هنا من قوله (عليه السلام): " إذا مات لأحدكم ميت "
يعني إذا أشرف على الموت واحتضر لا وقوع الموت بالفعل، وإلا للزم وجوب توجيه
الميت إلى القبلة حيث ما وضع ما لم يدفن ولا أظنه يلتزمه، وكذا القول في قوله في الخبر
المذكور " إذا غسل " أي إذا أريد غسله نظير الآيتين المذكورتين، وبما ذكرنا صرح
أيضا شيخنا البهائي في الحبل المتين فقال: " وأنت خبير بأن اطلاق الميت على المشرف على الموت
شائع في الاستعمال كثير في الأخبار كما في الحديث الثاني والثامن والتاسع والعاشر " انتهى.

(1) سورة المائدة الآية 8.
(2) سورة النحل الآية. 10.
354

و (أما ثالثا) - فإنه إذا كانت الرواية باعتبار المعنى الذي صار إليه لا دلالة
فيها على وجوب توجيه المحتضر إلى القبلة كما هو القول المشهور لأن موردها إنما هو بعد
الموت، وغيرها من الروايات الواردة في المقام كما ستمر بك إن شاء الله تعالى كلها من
هذا القبيل، فالاستحباب الذي صاروا إليه بأي دليل اعتمدوا فيه عليه؟ إذ لا ريب أن
الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل، وعلى هذا فينعكس الاشكال فيما ذهبوا
إليه لقولهم باستحباب توجيه المحتضر إلى القبلة من غير دليل، إذ ليس إلا هذه الروايات
ومعناها - كما زعمه - إنما هو التوجيه بعد الموت، فأي دليل دل على استحباب التوجيه حال
الاحتضار؟ ما هذه إلا مجازفات واهية، وصاحب الذخيرة هنا إنما التجأ في الحمل على
الاستحباب إلى قاعدته التي قدمنا الكلام فيها من عدم دلالة الأوامر في أخبارنا على
الوجوب، فالتجأ إلى الاستحباب تفاديا من طرح الأخبار، وقد عرفت ما فيه.
ثم إن من روايات المسألة ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا وفي العلل مسندا عن
الصادق عن أمير المؤمنين (عليهما السلام) (1) قال: " دخل رسول الله (صلى الله عليه
وآله) على رجل من ولد عبد المطلب وهو في السوق وقد وجه إلى غير القبلة، فقال
وجهوه إلى القبلة فإنكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة... الحديث " وهو صريح
- كما ترى - في كون التوجيه إلى القبلة في حال الاحتضار. وطعن فيه في المعتبر بأنه
قضية في واقعة معينة فلا تدل على العموم، وأن التعليل في الرواية كالقرينة الدالة على
الفضيلة. وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور إذ لو قام مثل هذا الكلام لا نسد به
باب الاستدلال في جميع الأحكام، إذ لا حكم وارد في خبر من الأخبار إلا ومورده
قضية مخصوصة فلو قصر الحكم على مورده لا نسد باب الاستدلال، فإنه إذا سأل سائل
الإمام أني صليت وفي ثوبي نجاسة نسيتها فقال أعد صلاتك، فلقائل أن يقول في هذا الخبر
كما ذكره هنا مع أنه لا خلاف بين الأصحاب في الاستدلال به على جزئيات الأحكام

(1) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الاحتضار.
355

والنجاسات مما هو نظير هذه الواقعة، وأضعف من ذلك استناده إلى دلالة التعليل على
الاستحباب. وأما طعنه في المعتبر في أخبار المسألة بضعف الاسناد فقد تقدم الكلام
فيه وبيان منافاته لما قرره في صدر كتابه. وبالجملة فإن مناقشاتهم في هذه المسألة مما
لا يلتفت إليها ولا يقول عليها.
ومنها - ما رواه في الكافي في الحسن بإبراهيم بن هاشم على المشهور والصحيح
عندي إلى إبراهيم الشعيري وغير واحد عن الصادق (عليه السلام) (1): " في توجيه
الميت؟ قال: تستقبل بوجهه القبلة وتجعل قدميه مما يلي القبلة ".
وعن معاوية بن عمار (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الميت
فقال: استقبل بباطن قدميه القبلة ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن ذريح المحاربي عن الصادق (عليه السلام) (3)
في حديث قال: " إذا وجهت الميت للقبلة فاستقبل بوجهه القبلة لا تجعله معترضا كما
يجعل الناس، فإني رأيت أصحابنا يفعلون ذلك وقد كان أبو بصير يأمر بالاعتراض... "
والظاهر أن قوله: " وقد كان أبو بصير " من كلام الراوي، ويحتمل أن يكون من كلام
الإمام (عليه السلام) ولعل أمر أبي بصير بذلك أنما كان من حيث التقية (4).
وهل يبقى لمتأمل منصف بعد الوقوف على هذه الأخبار السالمة عن المعارض

(1) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الاحتضار.
(3) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الاحتضار.
(4) في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج 2 ص 170 " وبوجه إلى القبلة على يمينه
للسنة المنقولة واختار مشايخنا بما وراء النهر الاستلقاء على ظهره وقدماه إلى القبلة لأنه
أيسر لخروج الروح " وفي المهذب للشيرازي الشافعي ج 1 ص 126 " يستحب أن يضجع
على جنبه الأيمن مستقبل القبلة " وفي نيل الأوطار للشوكاني ج 4 ص 18 " واختلف في
صفة التوجيه إلى القبلة فقال الهادي والناصر والشافعي في أحد قوليه إنه يوجه مستلقيا
ليستقبلها بكل وجه، وقال المؤيد وأبو حنيفة والإمام يحيى والشافعي في أحد قوليه إنه يوجه
على جنبه الأيمن ".
356

توقف في الحكم بالوجوب.
وفي المقام فوائد: (الأولى) - لا يخفى أنه على تقدير القول بالوجوب فهل
يسقط بالموت أم يجب دوام الاستقبال بالميت مهما أمكن؟ اشكال، قال في الذكرى:
" ظاهر الأخبار سقوط الاستقبال بموته وأن الواجب أن يموت إلى القبلة، وفي بعضها
احتمال دوام الاستقبال، ونبه عليه ذكره حال الغسل ووجوبه حال الصلاة والدفن وإن
اختلفت الهيئة عندنا " وقال المحقق الأردبيلي: " والظاهر ابقاؤه على تلك الحالة حتى
ينقل إلى المغتسل ويراعى هناك أيضا كذلك لا أنه يكون حين خروج الروح فقط لأن
ظاهر الأخبار بعد الموت ".
أقول: مبني كلام الشهيد على ما قدمناه من حمل الميت في الأخبار على المشرف
على الموت، حيث إنه قائل بوجوب الاستقبال بالميت حال الاحتضار، وبذلك يظهر
ما في كلام صاحب المدارك حيث قال بعد نقل ذلك عنه: " ولم أقف على ما ذكره من
الأخبار المتضمنة للسقوط " انتهى. وفيه ما عرفت من أنه متى حملت الأخبار على
المشرف على الموت وخصت به فظاهرها السقوط بعد الموت، ومبنى كلام المحقق المذكور
على حمل الأخبار المذكورة على ظاهرها من كون الاستقبال بعد الموت حيث إنه ممن
اختار عدم الوجوب، وشيخنا المشار إليه إنما صار إلى احتمال الدوام من حيث أخبار
الغسل والصلاة والدفن كما ذكره. والأقرب بناء على تأويل تلك الأخبار بما ذكرناه
هو اختصاص الوجوب بحال الاحتضار، إذ هو مقتضى الدليل خاصة والتعدي عنه
يحتاج إلى الدليل، وورود الاستقبال في أخبار الغسل والصلاة والدفن لا يقتضي
الحكم به فيما بينها وما قبلها.
(الثانية) - لو اشتبهت القبلة فالظاهر سقوط وجوب الاستقبال لعدم إمكان
توجيهه في حالة واحدة إلى الجهات الأربع، واحتمل في الذكرى ذلك. أقول: هذا
الكلام مبني على القول المشهور من أن فاقد القبلة يصلي إلى أربع جهات، وأما على ما هو
357

المختار في المسألة من أنه يصلي إلى أي جهة شاء فيكون هنا كذلك أيضا. وأما ما احتمله
في الذكرى بناء على المشهور فالظاهر بعده.
(الثالثة) - الظاهر أنه لا فرق في هذا الحكم بين الصغير والكبير للعموم،
قالوا: والظاهر اختصاص الحكم بوجوب الاستقبال بمن يعتقد وجوبه، فلا يجب توجيه
المخالف إلزاما له بمذهبه كما يغسل غسله ويقتصر في الصلاة عليه على أربع تكبيرات. أقول:
هذا التفريع إنما يتجه على تقدير الحكم باسلام المخالف ووجوب تغسيله والصلاة عليه ودفنه
كما هو المشهور بين متأخري أصحابنا، وأما على ما هو الحق من كفره وعدم جواز
تغسيله ولا الصلاة عليه ولا دفنه كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى في المباحث الآتية
فلا وجه له. والله العالم.
(الموضع الثاني) - المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه الاجماع جمع منهم أن
جميع أحكام الميت من توجيهه إلى القبلة وتكفينه وتغسيله وتحنيطه وحفر قبره واجبة
كفائية على من علم بموته من المسلمين، قالوا: والمراد من الواجب الكفائي هنا مخاطبة كل
من علم بموته من المكلفين ممن يمكنه مباشرة ذلك الفعل به استقلالا أو منضما إلى غيره
حتى يعلم تلبس من فيه الكفاية به فيسقط حينئذ عنه سقوط مراعى باستمرار الفاعل
عليه حتى يفرغ.
وهل يبقى الوجوب على من علم إلى أن يعلم وقوع الفعل شرعا أو يكتفى بظن
قيام الغير به؟ قولان: صرح بالثاني العلامة وجماعة، قالوا لأن العلم بأن الغير يفعل كذا
في المستقبل ممتنع ولا تكليف به والممكن تحصيل الظن، ولاستبعاد وجوب حضور أهل البلد
الكبير عند الميت حتى يدفن، وفرعوا عليه أنه لو ظن قوم قيام غيرهم به سقط عنهم ولو
ظنوا عدمه وجب عليهم. وبالأول صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض وسبطه في المدارك
وأجاب في الروض عن الدليل المتقدم بأنه يشكل بأن الظن إنما يقوم مقام العلم مع النص عليه
بخصوصه أو دليل قاطع، وما ذكره لا تتم به الدلالة لأن تحصيل العلم بفعل الغير في المستقبل
358

ممكن بالمشاهدة ونحوها من الأمور المثمرة له والاستبعاد غير مسموع، وباستلزامه
سقوط الواجب عند عدم العلم بقيام الغير به، وبأن الوجوب معلوم والمسقط مظنون
والمعلوم لا يسقط بالمظنون.
أقول: والظاهر بناء على ثبوت ما ذكروه من الوجوب كفاية هو القول الأول
لما ذكره شيخنا المشار إليه فإنه الأوفق بالقواعد الشرعية، إلا أني لا أعرف لهذا القول
- وإن اشتهر بينهم بل ادعى عليه الاجماع - دليلا يعتمد عليه ولا حديثا يرجع فيه إليه،
ولم يصرح أحد منهم بدليل في المقام حتى من متأخري المتأخرين الذين عادتهم المناقشة في
الأحكام وطلب الأدلة فيها عنهم (عليهم السلام) وكأن الحكم مسلم الثبوت بينهم. مع أن الذي يظهر لي من الأخبار أن توجه الخطاب بجميع هذه الأحكام ونحوها من التلقين
ونحوه من المستحبات أيضا إنما هو إلى الولي، كأخبار الغسل وأخبار الصلاة والدفن والتلقين
ونحوها كما ستقف عليها إن شاء الله تعالى في مواضعها، وأخبار توجيه الميت إلى القبلة
وإن لم يصرح فيها بالولي إلا أن الخطاب فيها توجه إلى أهل الميت دون كافة المسلمين
فيمكن حمل اطلاقها على ما دلت عليه تلك الأخبار. ولا أعرف للأصحاب مستندا فيما
صاروا إليه من الوجوب الكفائي إلا ما يظهر من دعوى الاتفاق حيث لم ينقل فيه خلاف
ولم يناقش فيه مناقش، ومما يؤكد ما ذكرنا ما صرح به في الروض في مسألة ما يستحب
أن يعمل بالميت حال الاحتضار حيث قال: " واعلم أن الاستحباب في هذا الموضع
كفائي فلا يختص بالولي وإن كان الأمر فيه آكد، وفي بعض الأخبار وروايات الأصحاب
ما يدل على اختصاصه بذلك " ثم نقل في حاشية الكتاب عن العلامة في النهاية أنه قال:
والأقوى أنه إذا تيقن الولي نزول الموت بالمريض أن يوجهه إلى القبلة... إلى آخره، ثم
حكى حديثا يظهر منه ذلك. انتهى. ولا يخفى ما في الخروج عن مقتضى الأخبار الدالة
على الاختصاص - كما اعترف به - من غير دليل من المجازفة، ولا ريب أن الواجب هو
العمل بمقتضى الدليل من الأخبار المشار إليها. نعم لو أخل الولي بذلك ولم يكن ثمة
359

حاكم شرعي يجبره على القيام بذلك أو لم يكن ثمة للميت ولي انتقل الحكم إلى المسلمين بالأدلة
العامة، كما تشير إليه أخبار العراة الذين رأوا ميتا قد قذفه البحر عريانا ولم يكن عندهم
ما يكفنونه به وأنهم أمروا بدفنه والصلاة عليه (1).
وربما يقال إن الوجوب كفاية شامل للولي وغيره وإن كان الولي أو من يأمره
أولى بذلك فتكون هذه الأولوية استحباب وفضل، كما يفهم من عبارة المحقق في
الشرائع في مسألة التغسيل وقوله: إنه فرض على الكفاية وأولى الناس به أولاهم بميراثه. وبه
صرح في المنتهى حيث قال: " ويستحب أن يتولى تغسيله أولى الناس به... إلى آخره "
إلا أن فيه (أولا) - أن ذلك فرع ثبوت الوجوب الكفائي وقد عرفت أنه لا مستند
له من الأخبار بل ظاهرها خلافه. و (ثانيا) - أن ظاهر كلامهم في مسألة الصلاة على
الميت إناطة الحكم بالولي أو من يأمره ولا يجوز التقدم في الصلاة بغير إذنه، ومن الظاهر أنه لا فرق بين الصلاة وغيرها بالنسبة إلي ما يفهم من الأخبار، إذ الخطابات فيها في
جميع هذه المواضع على نهج واحد وإن كان الأصحاب إنما ذكروا ذلك في مسألة
الصلاة. والله العالم.
(الموضع الثالث) - في آداب الاحتضار، ومنها - تلقينه الشهادتين والاقرار
بالأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وكلمات الفرج.
ويدل على ذلك جملة من الأخبار: منها - ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن
عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " إذا حضرت الميت قبل أن يموت
فلقنه شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله ".
وعن محمد بن مسلم في الصحيح أو الحسن عن الباقر (عليه السلام) عند الموت وحفص بن
البختري عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " إنكم تلقنون موتاكم لا إله إلا الله

(1) رواها في الوسائل في الباب 36 من أبواب صلاة الجنازة
(2) رواه في الوسائل في الباب الباب 36 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب الباب 36 من أبواب الاحتضار
360

ونحن نلقن موتانا محمد رسول الله ".
ومنها - ما رواه في الكافي في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) (1)
قال: " إذا أدركت الرجل عند النزع فلقنه كلمات الفرج: لا إله إلا الله الحليم الكريم
لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما فيهن
وما بينهن ورب العرش العظيم والحمد الله رب العالمين. قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام):
لو أدركت عكرمة عند الموت لنفعته، فقيل لأبي عبد الله (عليه السلام) بماذا كان ينفعه؟
قال يلقنه ما أنتم عليه ".
وعن أبي بصير عن الباقر (عليه السلام) (2) قال: " كنا عنده وعنده حمران إذ
دخل عليه مولى له فقال له: جعلت فداك هذا عكرمة في الموت، وكان يرى رأي الخوارج
وكان منقطعا إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال لنا أبو جعفر انظروني حتى أرجع إليكم
فقلنا نعم، فما لبث أن رجع فقال أما أني لو أدركت عكرمة قبل أن تقع النفس موقعها لعلمته
كلمات ينتفع بها ولكني أدركته وقد وقعت النفس موقعها. قلت: جعلت فداك وما
ذاك الكلام؟ قال: هو والله ما أنتم عليه فلقنوا موتاكم عند الموت: شهادة أن
لا إله إلا الله والولاية ".
وعن أبي خديجة عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " ما من أحد يحضره
الموت إلا وكل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر ويشككه في دينه حتى تخرج
نفسه، فمن كان مؤمنا لم يقدر عليه فإذا حضرتم موتاكم فلقنوهم شهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله حتى يموتوا ".
قال في الكافي وفي رواية أخرى (4) قال: " فلقنه كلمات الفرج والشهادتين

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب الاحتضار
(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الاحتضار
(4) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب الاحتضار
361

وتسمى له الاقرار بالأئمة (عليهم السلام) واحدا بعد واحد حتى ينقطع عنه الكلام "
وعن أبي بكر الحضرمي (1) قال: " مرض رجل من أهل بيتي فأتيته عائدا له
فقلت له يا ابن أخي إن لك عندي نصيحة أتقبلها؟ فقال نعم. فقلت له قل أشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، فشهد بذلك، فقلت له قل وأن محمدا رسول الله، فشهد
بذلك، فقلت إن هذا لا تنتفع به إلا أن يكون منك على يقين، فذكر أنه منه على يقين
فقلت له قل أشهد أن عليا وصيه وهو الخليفة من بعده والإمام المفترض الطاعة من بعده
فشهد بذلك، فقلت له إنك لا تنتفع به حتى يكون منك على يقين، فذكر أنه منه على
يقين، ثم سميت له الأئمة (عليهم السلام) واحدا بعد واحد فأقر بذلك وذكر أنه على
يقين، فلم يلبث الرجل أن توفي فجزع عليه أهله جزعا شديدا. قال فغبت عنهم ثم أتيتهم
بعد ذلك فرأيت عزاء حسنا فقلت كيف تجدونكم كيف عزاؤك أيتها المرأة؟ قالت والله
لقد أصبنا بمصيبة عظيمة بوفاة فلان (رحمه الله) وكان مما سخا بنفسي لرؤيا رأيتها الليلة
فقلت وما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت فلانا - تعني الميت - حيا سليما فقلت فلان قال: نعم
فقلت أما كنت ميتا؟ فقال بلى ولكن نجوت بكلمات لقننيها أبو بكر ولولا ذلك لكدت
أهلك " وعن أبي بكر الحضرمي (2) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو أن
عابد وثن وصف ما يصفونه عند خروج نفسه ما طعمت النار من جسده شيئا أبدا "
وعن القداح عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام)
إذا حضر أحدا من أهل بيته الموت قال له: قل لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي
العظيم سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما بينهما ورب العرش
العظيم والحمد لله رب العالمين. فإذا قالها المريض قال اذهب فليس عليك بأس ".

(1) رواه في التهذيب ج 1 ص 81 والكافي ج 1 ص 34
(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب الاحتضار
362

وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن الصادق (عليه السلام) (1) " أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل على رجل من بني هاشم وهو يقضي فقال له:
رسول الله قل لا إله إلا الله العلي العظيم لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب
السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما بينهن ورب العرش العظيم والحمد الله رب العالمين.
فقالها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحمد لله الذي استنقذه من النار ".
ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا (2) قال: " قال الصادق (عليه السلام) إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل على رجل من بني هاشم وهو في النزع فقال
له: قل لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع
وما فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
فقالها... إلى آخر ما تقدم في رواية الكافي " ثم قال الصدوق: " وهذه هي
كلمات الفرج ".
وعن أبي سلمة عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " حضر رجلا الموت فقيل
يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن فلانا قد حضره الموت فنهض رسول الله ومعه
أناس من أصحابه حتى أتاه وهو مغمى عليه قال فقال يا ملك الموت كف عن الرجل حتى
أسأله، فأفاق الرجل فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) ما رأيت؟ قال رأيت بياضا
كثيرا وسوادا كثيرا. قال فأيهما كان أقرب إليك؟ فقال السواد. فقال النبي (صلى الله
عليه وآله) قل: اللهم اغفر لي الكثير من معاصيك واقبل مني اليسير من طاعتك،
فقاله ثم أغمي عليه، فقال يا ملك الموت خفف عنه حتى أسأله، فأفاق الرجل فقال
ما رأيت؟ قال رأيت بياضا كثيرا وسوادا كثيرا. قال: فأيهما كان أقرب إليك؟ فقال
البياض، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) غفر الله لصاحبكم. قال فقال أبو عبد الله: إذا

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب الاحتضار
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الاحتضار
363

حضرتم ميتا فقولوا له هذا الكلام ليقوله:.
أقول: ويستفاد من مجموع هذه الأخبار فوائد: (الأولى) - أن من جملة
ما يستحب عند الاحتضار زيادة على ما قدمناه تلقين هذا الدعاء المذكور في الخبر الأخير
والظاهر أن المراد بالبياض والسواد في الخبر المشار إليه هي الأعمال الصالحة والأعمال
السيئة، وإن قرب السواد إليه كناية عن إرادة مؤاخذته بتلك الأعمال السيئة وحيلولتها
بينه وبين ذلك البياض الذي هو كتابة عن الأعمال الصالحة ومن يقول ذلك الدعاء غفر
له وقرب منه البياض الذي هو أعماله الصالحة وتباعد عنه ذلك السواد. وفي خبر آخر
رواه في الكافي (1) أيضا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) زيادة على هذا الدعاء
ونقصان منه، وصورته: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له: قل لا إله إلا الله
فقال لا إله إلا الله. فقال قل: يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير اقبل مني اليسير
واعف عني الكثير إنك أنت العفو الغفور فقالها فقال له: ماذا ترى؟ فقال: أرى
أسودين قد دخلا علي فقال أعدها فأعادها فقال ما ترى؟ قال قد تباعدا عني ودخل
أبيضان وخرج الأسودان فما أراهما ودنا الأبيضان مني الآن يأخذان بنفسي فمات من
ساعته " والتقريب فيه قريب مما تقدم، فإن جميع ما يراه في تلك النشأة من حسن
وقبيح فإنه من ثمرة أعماله الحسنة والقبيحة وربما كان متجسما من كل منهما.
(الثانية) - اختلفت الأخبار في كلمات الفرج زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا
ومنها هنا صحيحة زرارة المتقدمة (2) ورواية القداح ومرسلة الفقيه (3) ولا يخفى ما بينها من
الاختلاف، ومنها أيضا رواية أبي بصير الواردة في قنوت يوم الجمعة عن الصادق (عليه
السلام) (4) قال: " القنوت يوم الجمعة في الركعة الأولى بعد القراءة تقول في القنوت:
لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم لا إله إلا الله رب السماوات السبع

(1) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الاحتضار عن الفقيه
(2) ص 361
(3) ص 362 و 363
(4) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب القنوت
364

ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ورب العرش العظيم والحمد لله
رب العالمين... الحديث " قال في المدارك " وذكر المفيد وجمع من الأصحاب أنه يقول قبل التحميد: " وسلام على المرسلين " وسئل عنه المصنف في الفتاوى فجوزه لأنه
بلفظ القرآن، ولا ريب في الجواز لكن جعله في أثناء كلمات الفرج مع خروجه عنها
ليس بجيد " انتهى. أقول: فيه أن ما رواه في الفقيه مرسلا (1) عن الصادق (عليه السلام)
مع قوله بعد ذكر الرواية: " وهذه هي كلمات الفرج " ظاهر في دخول " وسلام على
المرسلين " كما هو المنقول عن المفيد ومن تبعه، ومثله أيضا ما ذكره في الفقه الرضوي
حيث قال (عليه السلام) في هذا المقام (2): " ويستحب تلقين كلمات الفرج وهي
لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات السبع
ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين " وأما جواب المحقق كما نقله فهو أيضا ناشئ عن عدم الوقوف
على الرواية. لكن العجب هنا من صاحبي الوافي والوسائل أنهما في نقلهما حديث الفقيه
لم يذكرا فيه هذه الزيادة، ولعل ما عندهما من نسخ الكتاب كان عاريا عن ذلك إلا أنها
موجودة فيما عندنا من نسخ الكتاب، وعلى ذلك أيضا نبه الشيخ محمد ابن الشيخ حسن
في شرحه على الكتاب. وهو يدل على وجودها في كتابه حتى أنه رجح ثبوتها بعد أن
نقل صحيحة زرارة خالية منها فقال: " ولعل الصدوق أثبت في النقل وأبعد من السهو "
وإلى ذلك أيضا يشير كلام المولى محمد تقي المجلسي في شرحه على الكتاب. وكيف كان فلا
يخفى أن الأخبار المذكورة مختلفة في تأدية هذه الكلمات التي هي كلمات الفرج ولا وجه
للجمع بينها إلا العمل بكل منها ويرجع إلى التخيير في ذلك.
(الثالثة) - أن ما تضمنته صحيحة محمد بن مسلم وحفص بن البختري (3) من قولهما
(عليهما السلام): " إنكم تلقنون موتاكم... الخ " لا يخلو من اشكال وتعدد وجوه الاحتمال

(1) ص 363
(2) ص 17
(3) ص 360
365

قيل: ولعل خطابهما (عليهما السلام) مع أهل مكة ونحوهم الذين يكتفون بتلقين كلمة
التوحيد، وفي الوافي بعد نقل الخبر المذكور: وذلك لأنهم مستغنون عن تلقين التوحيد
لأنه خمر بطينتهم لا ينفكون عنه " انتهى. أقول: فيه أن ظاهر كلامه تخصيص ذلك
بالأئمة بمعنى أن المراد بموتانا يعني من الأئمة وهو بعيد غاية البعد فإنهم (عليهم
السلام) حال موتهم لا يحتاجون إلى تلقين كلمة التوحيد ولا غيرها، ولهذا لم يرد في
شئ من أخبار موت النبي (صلى الله عليه وآله) ولا أحد من الأئمة (عليهم السلام)
تعرض لتلقينهم، وخطاب الأمر بالتلقين إنما توجه لغيرهم بأن يلقن بأسمائهم مضافا إلى
كلمتي الشهادة، وأيضا فإن الأمر بالتلقين إنما هو لدفع وساوس الشياطين الذين يعرضون
لابن آدم عند الموت كما تقدم في الأخبار والشياطين لا تسلط لهم عليهم، وأيضا كما أن
طينتهم معجونة بالتوحيد فهي بالرسالة أشد لأنهم من مواليد عنصرها وأغصان شجرها.
وإن أراد ما عداهم من بني هاشم ففيه أن ظاهر خبري القداح والحلبي (1) الدالين على
تلقين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) لمن حضراه من
بني هاشم كلمات الفرج يرد ما ذكره. وبالجملة فإن كلامه عندي غير موجه وإن تبعه فيه
غيره أيضا. والأظهر عندي في معنى الخبر المذكور أن معنى قوله: " تلقنون موتاكم كلمة
التوحيد " يعني خاصة من غير اردافها بكلمة الرسالة، وكأنه إشارة إلى ما يقوله
العامة يومئذ من الاقتصار على تلك الكلمة، ومراده أن ذلك هو المعمول في بلادكم
وأما نحن يعني معشر الأئمة (عليهم السلام) فإنا نأمر شيعتنا وموالينا ونفعل بمن حضرناه
منهم تلقين الرسالة زيادة على كلمة التوحيد لا أن المراد تلقين الرسالة خاصة، ويحتمل أن يكون خطابهما (عليهما السلام) إنما هو لبعض المخالفين لا الراويين المتقدمين وإن نقلا
ذلك مجملا، وأمثال ذلك غير عزيز في الأخبار.
(الرابعة) - ظاهر الأخبار المذكورة متابعة المريض للملقن فيما يقول وهو

(1) ص 362 و 363
366

الغرض المترتب على التلقين. ولو كان المريض قد اعتقل لسانه عن النطق فالظاهر بقاء
الاستحباب لأنه وإن لم يتيسر له النطق إلا أنه يفهم الكلام فيجريه على باله وينتفع
به في دفع ما يصوره له الشيطان في تلك الحال من الموعودات الكاذبة والاضلال
عن دين الاسلام.
(الخامسة) - يستفاد من بعض الأخبار المتقدمة استحباب تكرار ذلك عليه
حتى يموت، وهو الأحوط والأولى وإن كان يكفي الاتيان بذلك مرة واحدة كما يدل
عليه بعضها أيضا.
و (منها) - أن تغمض عيناه ويطبق فوه وتمد يداه إلى جنبيه، ذكر ذلك
الأصحاب. أما الأول والثاني فعلل بأن لا يقبح منظره، ويدل عليه ما رواه الشيخ
في الموثق عن زرارة (1) قال: " ثقل ابن لجعفر وأبو جعفر جالس في ناحية فكان إذا
دنا منه انسان قال لا تمسه فإنه إنما يزداد ضعفا وأضعف ما يكون في هذه الحال ومن مسه
في هذه الحال أعان عليه، فلما قضى الغلام أمر به فغمض وشد لحياه... الحديث " وعن
أبي كهمس (2) قال: " حضرت موت إسماعيل وأبو عبد الله جالس عنده فلما حضره
الموت شد لحييه وغمضه وغطى عليه الملحفة ". وأما الثالث فعلل بأنه أطوع للغسل وأسهل
للادراج في أكفانه، قال في المعتبر: " ولا أعرف فيه نقلا عن أئمتنا (عليهم السلام) "
ثم علله بما تقدم. ويستفاد من خبر أبي كهمس استحباب تغطيته بعد الموت بثوب، وبه
صرح بعض الأصحاب أيضا.
و (منها) - متى اشتد به النزع النقل إلى مصلاه الذي كان يصلي عليه أو فيه
لما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) (3)
قال: " إذا عسر على الميت موته ونزعه قرب إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه أو عليه "

(1) رواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الاحتضار
(2) رواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 40 من أبواب الاحتضار. وليس في الكافي والتهذيب (أو عليه)
367

وعن زرارة في الصحيح أو الحسن (1) قال: " إذا اشتد النزع عليه فضعه في مصلاه الذي
كان يصلي فيه أو عليه " وعن ذريح (2) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول
قال علي بن الحسين (عليهما السلام) إن أبا سعيد الخدري كان من أصحاب رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وكان مستقيما فنزع ثلاثة أيام فغسله أهله ثم حمل إلى مصلاه فمات
فيه " وعن ليث المرادي عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " إن أبا سعيد الخدري قد
رزقه الله تعالى هذا الرأي وأنه اشتد نزعه فقال احملوني إلى مصلاي فحملوه فلم
يلبث أن هلك " أقول: المراد بقوله " مستقيما " في سابق هذا الخبر هو ما أشير إليه في
هذا الخبر من أن الله تعالى رزقه هذا الرأي وهو القول بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)
وأنه لم يكن مع الصحابة الذين ارتدوا على أدبارهم، ولعل المراد بتغسيله في الخبر المذكور
هو تنظيفه وتطهيره من النجاسات. وفي الفقه الرضوي (4) " وإذا اشتد عليه نزع روحه
فحوله إلى المصلى الذي كان يصلي فيه أو عليه وإياك أن تمسه، وإن وجدته يحرك يديه أو رجليه
أو رأسه فلا تمنعه من ذلك كما يفعله جهال الناس " وروى الحسين بن بسطام وأخوه
عبد الله في كتاب طب الأئمة بسند معتبر عن حريز (5) قال: " كنا عند أبي عبد الله
(عليه السلام) فقال له رجل إن أخي منذ ثلاثة أيام في النزع وقد اشتد عليه الأمر
فادع له. فقال: اللهم سهل عليه سكرات الموت ثم أمره وقال حولوا فراشه إلى مصلاه
الذي كان يصلي فيه فإنه يخفف عليه إن كان في أجله تأخير، وإن كانت منيته قد حضرت
فإنه يسهل عليه إن شاء الله تعالى " وظاهر الخبرين الأولين (6) مع عبارة الفقه التخيير بين
المكان الذي يصلي فيه والمصلى الذي كان يصلي عليه، وظاهر الأكثر التعبير بالمكان
الذي يصلي فيه خاصة، وعن ابن حمزة أنه جمع بينهما، وظاهر الأكثر أيضا استحباب
ذلك مطلقا، والأخبار مقيدة بما إذا اشتد عليه النزع.

(1) رواه في الوسائل في الباب 40 من أبواب الاحتضار
(2) رواه في الوسائل في الباب 40 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 40 من أبواب الاحتضار
(4) ص 17
(5) رواه في الوسائل في الباب 40 من أبواب الاحتضار
(6) راجع التعليقة 3 ص 367
368

و (منها) - قراءة " الصافات " ويدل عليه ما رواه في الكافي عن سليمان
الجعفري (1) قال: " رأيت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول لابنه القاسم قم
يا بني فاقرأ عند رأس أخيك " والصافات صفا " حتى تستتمها فقرأ فلما بلغ " أهم أشد
خلقا أم من خلقنا " (2) قضى الفتى، فلما سجي وخرجوا أقبل عليه يعقوب بن جعفر
فقال له كنا نعهد الميت إذا نزل به الموت يقرأ عنده " يس والقرآن الحكيم " فصرت
تأمرنا ب‍ " الصافات " فقال يا بني لم تقرأ عند مكروب من موت قط إلا عجل الله تعالى راحته "
وذكر في الوسائل استحباب قراءة " يس والصافات " وأورد هذا الخبر، وفي دلالته على
ما ادعاه نظر فإن غاية ما يدل عليه أخبار الرجل بأنهم كانوا يقرأون سورة " يس " والإمام
(عليه السلام) لم يقرره على ذلك، وإنما ذكر التعليل المذكور لسورة " الصافات "
وليس فيه أنه (عليه السلام) كان يأمر بسورة " يس " حتى يكون حجة فيما ادعاه. وفي
الفقه الرضوي (3) " إذا حضر أحدكم الوفاة فاحضروا عنده القرآن وذكر الله تعالى
والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) " وظاهره استحباب قراءة القرآن عنده
قبل خروج الروح وبعده، وبذلك صرح جملة من الأصحاب، قال في الذكرى:
" ويستحب قراءة القرآن بعد خروج روحه كما يستحب قبله استدفاعا عنه ".
و (منها) - كراهة مسه، وقد تقدم في موثقة زرارة عن الباقر (عليه
السلام) وفي عبارة الفقه الرضوي (4) ما يدل على ذلك أيضا.
و (منها) - أنه يستحب للميت أن يحسن ظنه بالله سبحانه ولا يقنط من رحمته، روى
الصدوق في العيون عن الحسن بن علي العسكري عن آبائه (عليهم السلام) (5) قال: " سأل
أبو عبد الله (عليه السلام) عن بعض أهل مجلسه فقيل عليل فقصده عائدا وجلس عند رأسه

(1) رواه في الوسائل في الباب 41 من أبواب الاحتضار
(2) سورة الصافات. الآية 11.
(3) ص 20
(4) ص 367 و 368
(5) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب الاحتضار
369

فوجده دنفا فقال له أحسن ظنك بالله. فقال أما ظني بالله فحسن... الحديث " وروى
الشيخ في المجالس بسنده عن أنس (1) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لا يموتن أحدكم حتى يحسن ظنه بالله عز وجل فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة " وقال
في كتاب عدة الداعي (2) " روى عنهم: (عليهم السلام) أنه ينبغي في حالة المرض
خصوصا مرض الموت أن يزيد الرجاء على الخوف " قال شيخنا الشهيد في الذكرى:
" ويستحب حسن الظن بالله في كل وقت وآكده عند الموت، ويستحب لمن حضره
أمره بحسن الظن وطمعه في رحمة الله تعالى ".
و (منها) - أنه يكره حضور الجنب والحائض عنده، لما رواه في الكافي عن
علي بن أبي حمزة (3) قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) المرأة تقعد عند رأس المريض
في حد الموت وهي حائض؟ فقال لا بأس أن تمرضه فإذا خافوا عليه وقرب ذلك فلتنح
عنه وعن قربه فإن الملائكة تتأذى بذلك " وعن يونس بن يعقوب عن الصادق (عليه
السلام) (4) قال: " لا تحضر الحائض الميت ولا الجنب عند التلقين ولا بأس أن يليا
غسله " والظاهر أن المراد بالتلقين حال الاحتضار فهو كناية عن الاحتضار، ويحتمل
العموم وروى في الخصال (5) بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال: " لا يجوز للمرأة الحائض والجنب الحضور عند تلقين الميت لأن الملائكة تتأذى
بهما ولا يجوز لهما إدخال الميت قبره " أقول: ما دل عليه هذا الخبر من كراهية إدخال
الجنب والحائض الميت قبره مما لم أقف عليه في كلام الأصحاب بل ظاهر كلامهم الجواز
من غير كراهة، ومثله أيضا في الفقه الرضوي حيث قال (عليه السلام) (6): " ولا
تحضر الحائض ولا الجنب عند التلقين فإن الملائكة تتأذى بهذا ولا بأس بأن يليا غسله

(1) رواه في الوسائل في الباب 31 من ا بواب الاحتضار
(2) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 22 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 43 من أبواب الاحتضار
(4) رواه في الوسائل في الباب 43 من أبواب الاحتضار
(5) ج 2 ص 143
(6) ص 17
370

ويصليا عليه ولا ينزلا قبره فإن حضرا ولم يجدا من ذلك بدا فليخرجا إذا قرب خروج
نفسه " والحكم بكراهة حضورهما وقت الاحتضار مما لا خلاف فيه بين الأصحاب كما
يفهم من كلام المعتبر، والظاهر اختصاص الكراهة بحال الاحتضار إلى أن يتحقق
الموت، وهل تزول الكراهة بانقطاع الدم قبل الغسل أو بالتيمم بدل الغسل؟ اشكال
و (منها) - أن لا يترك وحده، لما رواه في الكافي عن أبي خديجة عن
الصادق (عليه السلام) (1) قال: " ليس من ميت يموت ويترك وحده إلا لعب
الشيطان في جوفه " وروى الصدوق مرسلا (2) فقال: " قال الصادق (عليه السلام):
ولا تدعن ميتك وحده فإن الشيطان يعبث في جوفه " وقال في كتاب العلل:
" قال أبي في رسالته إلي لا يترك الميت وحده فإن الشيطان يعبث في جوفه " أقول:
وهذه العبارة في الفقه الرضوي أيضا (3) قال في البحار: " لا يبعد أن يكون المراد به حال
الاحتضار فالمراد بعبث الشيطان وسوسته واضلاله والأصحاب حملوه على ظاهره " أقول:
لا بعد في حمله على ظاهره كما نقل عن بعض الأموات أنه ترك وحده ليلا إلى الصباح
فوجدوه قد خسف بعض أعضائه.
و (منها) - ما ذكره الشيخان وجملة من الأصحاب من استحباب الاسراج عنده إن
مات ليلا، واستدل عليه الشيخ بما رواه الكليني عن عثمان بن عيسى عن عدة من أصحابنا (4)
قال: " لما قبض أبو جعفر (عليه السلام) أمر أبو عبد الله (عليه السلام) بالسراج في البيت
الذي كان يسكنه حتى قبض أبو عبد الله ثم أمر أبو الحسن (عليه السلام) بمثل ذلك في بيت
أبي عبد الله حتى أخرج به إلى العراق ثم لا أدري ما كان " ورواه الصدوق مرسلا مثله (5).
واعترضه المحقق الشيخ علي بأن ما دل عليه الحديث غير المدعى، ثم قال:
" إلا أن اشتهار الحكم بينهم كاف في ثبوته للتسامح في أدلة السنن " قال في المدارك بعد

(1) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الاحتضار.
(3) ص 17.
(4) رواه في الوسائل في الباب 45 من أبواب الاحتضار
(5) رواه في الوسائل في الباب 45 من أبواب الاحتضار
371

نقله: " وقد يقال إن ما تضمنه الحديث يندرج فيه المدعى أو يقال إن استحباب ذلك يقتضي
استحباب الاسراج عند الميت بطريق أولى فالدلالة واضحة، لكن السند ضعيف
جدا " انتهى.
أقول: أنت خبير بأن كلا من الكلامين لا يخلو من نظر، أما كلام المحقق
المذكور وما ذكره بعد الطعن في دلالة الخبر من أن اشتهار الحكم كاف في ثبوته للتسامح
في أدلة السنن فهو لا يخلو من المجازفة والخروج عن نهج السنن، وذلك فإن الاستحباب
حكم شرعي يتوقف ثبوته على الدليل الواضح الشرعي وإلا كان قولا على الله سبحانه
بغير علم كما دلت عليه الآيات القرآنية وعضدتها السنة النبوية، وبلوغ التسامح إلى هذا
المقدار أمر خارج عن النهج الواضح المنار. وأما كلام السيد المذكور ففيه أن ظاهر الخبر
أن الاسراج الذي أمر به الصادق (عليه السلام) إنما هو في البيت الذي كان يسكنه
الباقر (عليه السلام) وليس فيه دلالة على أنه الذي مات فيه فلعله مات في خارجه،
وبالجملة فإنه أعم من موضع الموت والعام لا دلالة له على الخاص، والظاهر أن هذا هو
الذي أراده المحقق المشار إليه، وحينئذ فما ذكره في المدارك - من قوله: " إن ما تضمنه
الحديث يندرج فيه المدعى " بناء على أن مراد المحقق المذكور إنما هو دلالة النص على
دوام الاسراج والمدعى الاسراج عند الميت بعد الموت ليلا - ليس محله فإنه لو كان الأمر كما
توهمه لصح ما اعترض به عليه واتجه ما فرعه على ذلك من الأولوية وأن الدلالة واضحة
ولكن الأمر ليس كما توهمه كما عرفت، وبذلك يظهر سقوط ما ذكره وصحة ما ذكره
المحقق المشار إليه. ويمكن أن يكون ذكر من تقدم للاسراج عنده إنما هو من حيث
استحباب قراءة القرآن عنده بعد الموت كما يشير إليه بعض الأخبار. وبالجملة فالحكم
المذكور لا أعرف له مستندا واضحا. والله العالم.
و (منها) - ما نقل عن الشيخ المفيد (قدس سره) من أنه يكره أن يجعل
على بطنه حديد، قال الشيخ في التهذيب: " سمعناه مذاكرة من الشيوخ " وفي الخلاف
372

احتج عليه باجماع الفرقة. وذكر العلامة وجمع ممن تأخر عنه أيضا كراهية وضع شئ على
بطنه غير الحديد. وعن ابن الجنيد خلافه وهو أن يوضع على بطنه شئ. ورده
في الروض بأن الاجماع على خلافه.
(الموضع الرابع) - الظاهر أنه لا خلاف نصا وفتوى في استحباب تعجيل
تجهيزه إلا مع الاشتباه.
فأما ما يدل على الحكم الأول مضافا إلى الاتفاق فجملة من الأخبار: منها - ما رواه
في الكافي عن جابر عن الباقر (عليه السلام) (1) قال: " قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) يا معشر الناس لا ألفين رجلا مات له ميت ليلا فانتظر به الصبح ولا رجلا
مات له ميت نهارا فانتظر به الليل، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها عجلوا بهم
إلى مضاجعهم يرحمكم الله تعالى. قال الناس وأنت يا رسول الله يرحمك الله " ورواه الصدوق
مرسلا (2) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)... مثله. وعن السكوني عن الصادق
(عليه السلام) (3) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا مات الميت أول النهار
فلا يقبل إلا في قبره " وما رواه الشيخ عن جابر (4) قال: " قلت لأبي جعفر (عليه
السلام) إذا حضرت الصلاة على الجنازة في وقت مكتوبة فبأيهما أبدأ؟ فقال عجل
بالميت إلى قبره إلا أن تخاف فوت وقت الفريضة. ولا تنتظر بالصلاة على الجنازة طلوع
الشمس ولا غروبها " وعن عيص عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) (5) أنه قال: " إذا
مات الميت فخذ في جهازه وعجله... الحديث " وروى الصدوق مرسلا (6) قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كرامة الميت تعجيله ".
وأما الحكم الثاني فإنه ينتظر به حتى يتحقق موته فإن في دفنه قبل ذلك إعانة على
قتله، كما يدل عليه ما رواه في الكافي عن علي بن أبي حمزة (7) قال: " أصاب بمكة سنة

(1) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الاحتضار
(2) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الاحتضار
(4) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الاحتضار
(5) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الاحتضار
(6) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب الاحتضار
(7) رواه في الوسائل في الباب 48 من أبواب الاحتضار
373

من السنين صواعق كثيرة مات من ذلك خلق كثير فدخلت على أبي إبراهيم (عليه
السلام) فقال مبتدئا من غير أن أسأله: ينبغي للغريق والمصعوق أن يتربص به ثلاثة أيام
لا يدفن إلا أن يجئ منه ريح تدل على موته. قلت جعلت فداك كأنك تخبرني أنه
قد دفن ناس كثير أحياء؟ فقال نعم يا علي قد دفن ناس كثير أحياء ما ماتوا إلا في قبورهم "
وقال العلامة في النهاية: " شاهدت واحدا في لسانه وقفة فسألته عن سببها فقال مرضت
مرضا شديدا واشتبه الموت فغسلت ودفنت في أزج، ولنا عادة إذا مات شخص فتح
عنه باب الأزج بعد ثلاثة أيام أو ليلتين أما زوجته أو أمه أو أخته أو ابنته فتنوح عنده
ساعة ثم تطبق عليه هكذا يومين أو ثلاثة، ففتح علي فعطست فجاءت أمي بأصحابي
وأخذوني من الأزج وذلك منذ سبعة عشرة سنة ".
ومما يدل على وجوب التأخير حتى يتحقق الموت ما رواه في الكافي في الصحيح
عن هشام بن الحكم عن أبي الحسن (عليه السلام) (1) " في المصعوق والغريق؟ قال
ينتظر به ثلاثة أيام إلا أن يتغير قبل ذلك " وعن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه
السلام) (2) قال: " سألته عن الغريق أيغسل؟ قال نعم ويستبرأ. قلت وكيف يستبرأ؟ قال
يترك ثلاثة أيام من قبل أن يدفن إلا أن يتغير قبل فيغسل ويدفن، وكذلك أيضا صاحب
الصاعقة فإنه ربما ظنوا أنه مات ولم يمت " وعن عمار الساباطي في الموثق عن الصادق
(عليه السلام) (3) قال: " الغريق يحبس حتى يتغير ويعلم أنه قد مات ثم يغسل ويكفن
قال: وسئل عن المصعوق فقال إذا صعق حبس يومين ثم يغسل ويكفن " وعن إسماعيل
ابن عبد الخالق ابن أخي شهاب بن عبد ربه قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) (4)
خمسة ينتظر بهم إلا أن يتغيروا: الغريق والصعيق والمبطون والمهدوم والمدخن " ورواه
في الفقيه مرسلا مقطوعا وزاد " ثلاثة أيام " بعد قوله: " ينتظر بهم ".
وظاهر هذه الأخبار جعل غاية التأخير ثلاثة أيام أو يومين إلا أن يتغير قبل

(1) رواه في الوسائل في الباب 48 من أبواب الاحتضار
(2) رواه في الوسائل في الباب 48 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 48 من أبواب الاحتضار
(4) رواه في الوسائل في الباب 48 من أبواب الاحتضار
374

ذلك، والأصحاب قد جعلوا نهاية التأخير حصول العلم بالموت بالأمارات التي ذكروها
من انخساف صدغيه وميل أنفه وامتداد جلدة وجهه وانخلاع كفه من ذراعه واسترخاء
قدميه وتقلص أنثييه إلى فوق مع تدلي الجلدة، قيل: ومنه زوال النور عن بياض العين
وسوادها وذهاب النفس وزوال النبض. ومن الظاهر حصول المنافاة بين ما ذكروه وما دلت
عليه الأخبار المذكورة لأنه متى علم الموت بهذه الأمور المذكورة فلا معنى للتأخير ثلاثة أيام
إلا أن يتغير قبل ذلك، اللهم إلا أن يكون ما ذكره الأصحاب ليس كليا فيجوز تخلفه في
بعض الأموات فلا بد من التأخير المدة المذكورة أو حصول التغير قبلها أو يراد بالتغير في
الأخبار التغير عن حالة الحياة بحصول هذه الأسباب كلا أو بعضا لا التغير باعتبار حدوث
الرائحة ولعله الأقرب في الجمع بين كلامهم وبين الأخبار المذكورة. ولم أطلع على من تعرض لوجه
الاشكال فيما ذكرناه فضلا عن الجواب عنه. ونقل في الذكرى عن جالينوس أن أسباب
الاشتباه الاغماء أو وجع القلب أو افراط الرعب أو الغم أو الفرح أو الأدوية المخدرة
فيستبرأ بنبض عروق بين الأنثيين أو عرق يلي الحالب والذكر بعد الغمز الشديد أو
عرق في باطن الألية أو تحت اللسان أو في بطن المنخر ومنع الدفن قبل يوم وليلة إلى ثلاث
أقول: وظاهر كلام هذا الحكيم أيضا لا يخلو من منافاة لما ذكره الأصحاب من العلامات
لو كانت كلية وإلا لذكرها أو شيئا منها وإنما ذكر لاستعلام الموت حال الاشتباه أشياء
آخر كما عرفت. والله العالم.
نكت
قال الصدوق في المقنع (1): " إذا قضى فقل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم اكتبه
عندك في المحسنين وارفع درجته في أعلى عليين واخلف على عقبه في الغابرين ونحتسبه عندك
يا رب العالمين " وقال في الفقيه (2): " وإذا قضى نحبه يجب أن يقول إنا لله وإنا إليه

(1) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 39 من أبواب الاحتضار
(2) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 39 من أبواب الاحتضار
375

راجعون " وقال ابن الجنيد: " يقرأ عنده من غير أن يرفع صوته بالقراءة، وقال عقيب
تلقينه: ولا يكثر عليه عند أحوال الغشي لئلا يشتغل بذلك عن حال يحتاج إلى معاينتها "
وضم أبو حمزة إلى نقله إلى مصلاه بسط ما كان يصلي عليه تحته، وقد تقدمت الإشارة
إليه. وقال صاحب الفاخر: ضعه في مصلاه الذي كان يصلي فيه أو عليه، وقال:
لا يحضر عنده مضمخ بورس أو زعفران وأمر بجعل الحديد على بطنه وقراءة آية الكرسي
والسخرة عند احتضاره وقول اللهم أخرجها منه إلى رضى منك ورضوان. وفي كتاب
دعوات الراوندي (1) كان زين العابدين (عليه السلام) يقول عند الموت: اللهم ارحمني
فإنك كريم اللهم ارحمني فإنك رحيم فلم يزل يرددها حتى توفي (عليه السلام)، وكان عند
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدح فيه ماء وهو في الموت ويدخل يده في القدح ويمسح وجهه
بالماء ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت، وروى أنه يقرأ عند المريض والميت آية
الكرسي ويقول اللهم أخرجه إلى رضى منك ورضوان اللهم اغفر له ذنبه جل ثناء وجهك ثم
يقرأ آية السخرة (2): إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض إلى آخرها ثم يقرأ ثلاث
آيات من آخر البقرة: لله ما في السماوات والأرض... ثم يقرأ سورة الأحزاب.
(المقصد الثاني) - في الغسل والبحث فيه يقع في الغاسل والمغسول والغسل،
فههنا مقامات ثلاثة:
(الأول) - في الغاسل وفيه مسائل: (الأولى) - قد صرح جمع من الأصحاب
بأن الغسل واجب كفائي وإن أولى الناس به أولاهم بميراثه، أما الأول فقد تقدم الكلام
فيه في المقصد الأول، إلا أن بعض الأصحاب ربما صرحوا بأن أولى الناس به في جميع
أحكامه أولاهم بميراثه، قال في الذكرى: الأول في الغاسل وأولى الناس به أولاهم بإرثه
وكذا باقي الأحكام لعموم " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " (3) ولقول علي.

(1) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 29 و 39 من أبواب الاحتضار
(2) سورة الأعراف. الآية 54
(3) سورة الأنفال. الآية 76.
376

(عليه السلام) (1): " يغسل الميت أولى الناس به " وقول الصادق (عليه السلام)
في خبر إسحاق بن عمار (2): " الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها " انتهى.
وربما أشعر هذا الكلام بعدم الوجوب على الكافة كما هو المشهور وإنما الوجوب على
الولي خاصة كما قدمنا ذكره في المقصد الأول وبينا أنه هو المفهوم من الأخبار الواردة في
أحكام الميت، ويؤيده قوله على أثر هذا الكلام " فرع: ولو لم يكن ولي فالإمام وليه مع
حضوره ومع غيبته فالحاكم ومع عدمه فالمسلمون، ولو امتنع الولي ففي اجباره نظر من
الشك في أن الولاية هل هي نظر له أو للميت؟ انتهى. وهذا الكلام - كما ترى -
كالصريح في تعلق الوجوب به خاصة دون المسلمين المعبر عنه بالوجوب الكفائي.
بقي الكلام فيما قدمنا نقله أولا من القول بالوجوب على المسلمين كفاية وأن أولى الناس
به أولاهم بميراثه فإنه لا يخلو من تدافع، إلا أن تحمل الأولوية على الاستحباب والأفضلية
بمعنى أن الوجوب عام لجميع المسلمين من الولي وغيره إلا أن الأفضل هو تقديم الولي في
ذلك، وقد تقدم ما فيه آنفا. وبالجملة فالظاهر من الأخبار هو تعلق الخطاب في ذلك
بالولي خاصة في جميع الأحكام وأن ما ادعوه من الوجوب الكفائي لا أعرف له
دليلا واضحا.
وأما الثاني وهو أن أولى الناس به أولاهم بميراثه فهو مما لا خلاف فيه نصا وفتوى،
فروى الشيخ في الصحيح إلى غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم
السلام) (3) أنه قال: " يغسل الميت أولى الناس به " وروى في الفقيه مرسلا (4)
قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) يغسل الميت أولى الناس به أو من يأمره الولي
بذلك " وفي الفقه الرضوي (5) " ويغسله أولى الناس به أو من يأمره الولي بذلك "
والمراد بأولى الناس به في هذه الأخبار هو الأولى بميراثه كما ذكره الأصحاب،

(1) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب غسل الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت
(3) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب غسل الميت
(4) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب غسل الميت
(5) ص 17
377

ويدل على ذلك صحيحه حفص بن البختري عن الصادق (عليه السلام) (1) " في الرجل
يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال يقضي عنه أولى الناس بميراثه. قلت إن كان أولى
الناس به امرأة؟ قال لا إلا الرجال " ولا ريب أن الولي الذي جعل إليه أحكام الميت
هو الذي أوجب عليه الشارع قضاء ما فات الميت من صيام وصلاة، وتؤيده مرسلة ابن
أبي عمير عن رجاله عن الصادق (عليه السلام (2) " في الرجل يموت وعليه صلاة
أو صيام؟ قال يقضيه أولى الناس به ".
وأما ما توهمه صاحب المدارك في هذا المقام - وإن تبعه عليه جملة من الأعلام
حيث قال بعد ذكر رواية غياث المذكورة: " وهي مع ضعف سندها غير دالة على أن المراد
بالأولوية الأولوية في الميراث، ولا يبعد أن المراد بالأولى بالميت هنا أشد الناس به علاقة لأنه
المتبادر، والمسألة محل توقف " انتهى - ففيه أن كلامه هذا مبني على أن المراد بقولهم
في تلك الأخبار: " أولى الناس به " معنى التفضيل فتوهم أن المتبادر من الأولوية على هذا
التقدير الأولوية بالقرب وشدة العلاقة، وليس كذلك بل المراد بهذا اللفظ إنما هو الكناية
على الولي المالك للتصرف، والتعبير عنه بذلك قد وقع في جملة من أخبار الغدير من قوله
(صلى الله عليه وإله) " ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال من كنت
مولاه فعلي مولاه " أي ألست المالك للتصرف فيكم دون أنفسكم. ويزيد ذلك بيانا ما نقله
الفاضل الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني في كتاب
الدر المنظوم والمنثور عن العلامة الفيلسوف الشيخ ميثم بن علي بن ميثم البحراني (عطر
الله مرقده) في كتاب النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة من أن لفظ " الأولى " إنما
يطلق لغة على من يملك التدبير في الأمر والتصرف فيه، قال: " وأهل اللغة لا يطلقون
لفظ " الأولى " إلا في من ملك تدبير الأمر والتصرف فيه " وبذلك يظهر أن " الأولى " في

(1) المروية في الوسائل في الباب 23 من أحكام شهر رمضان.
(2) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب قضاء الصلاة.
378

جملة أخبار الميت من أخبار الغسل وأخبار الصلاة وغيرهما إنما هو بمعنى المالك للتصرف
وتدبير الأمر وهو معنى الولي كما في ولي الطفل وولي البكر ونحو ذلك. ففي حسنة ابن
أبي عمير بإبراهيم بن هاشم عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " يصلي
على الجنازة أولى الناس بها أو يأمر من يحب ونحوها مرسلة أحمد بن محمد بن أبي نصر (2)
ولا ريب أن المراد بأولى الناس في هذه الأخبار إنما هو الولي الذي دلت الأخبار المتقدمة
على أن عليه قضاء ما فات الميت من صلاة وصيام، وقد عرفت في صحيحة حفص أنه هو
الأولى بميراثه، وبذلك يظهر ما في كلام السيد المشار إليه - وإن تبعه فيه من تبعه - من
الغفلة وعدم اعطاء التأمل حقه في أخبار المسألة، فإنه مبني على ملاحظة معنى التفضيل
من الصيغة المذكورة وأن المراد بقوله: " أولى الناس به " بمعنى أولى الناس بميراثه،
وليس كذلك إذ الأولوية بالميراث إنما وقعت في كلام الأصحاب تعريفا للولي ومحمولة
عليه لا أنها تفسير له وأن معناهما واحد ويصير من قبيل الحذف والايصال، ألا ترى أن
عبارة الشرائع في هذا المقام حيث قال: " وأولى الناس به أولاهم بميراثه " ظاهرة في أن
المراد إنما هو أن الولي للميت القائم بأحكامه هو كل من كان أحق بميراثه.
وينبغي التنبيه على أمور: (الأول) - لا يخفى أن المراد بتقديم الأولى في الميراث
هو أنه حيث كانت مراتب الإرث متعددة مترتبة فلا ترث أصحاب المرتبة الثانية إلا مع
فقد أهل المرتبة الأولى وهكذا، فالولي للميت هو من يرث من هذه المراتب دون من
لا يرث، وأما تفصيل الكلام في أصحاب مرتبة الإرث لو تعددوا ومن الأولى منهم
فسيأتي الكلام فيه في بحث الصلاة على الميت من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
(الثاني) - قال في الذكرى: " إذا كان التقديم تابعا للإرث انتفى مع عدمه
وإن كان أقرب كالقاتل ظلما والرق والكافر، ولو سلم الأولى إلى غيره جاز إلا في
تسليم الرجال إلى النساء في الرجل وبالعكس في المرأة " انتهى. أقول: لقائل أن يقول

(1) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب صلاة الجنازة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب صلاة الجنازة.
379

إن المراد من الخبر الدال على أن الولي هو الأولى بالميراث إنما هو الكناية عن القرب إلى
الميت المستلزم للإرث لو لم يمنع منه مانع لا أن المراد الإرث بالفعل، فالتقديم إنما هو تابع
للقرب إلى الميت لأن مراتب الإرث مترتبة بترتب القرب فكل مرتبة أقرب تقدم على
ما بعدها، وعلى هذا فالقرب إلى الميت موجب للإرث وموجب للولاية عليه بعد موته ومنع
القتل ظلما - مثلا - من الإرث لا يوجب المنع من الأولوية. وبالجملة فإن ما ذكرناه من
الاحتمال أقرب قريب في المقام.
(الثالث) - لو كان الأولياء رجالا ونساء فظاهر الأصحاب أن الرجال أولى
لكن هل يفرق في ذلك بين ما إذا كان الميت ذكرا أو أنثى فتخص أولوية الرجال
بالأول دون الثاني فتكون النساء أولى بغسل بعضهن بعضا، أم لا فرق فلو كان الميت
امرأة ولا يمكن الولي مباشرة غسلها أذن للنساء فلا يصح الغسل بدون إذنه؟ قولان:
وبالأول صرح المحقق الشيخ علي في شرح القواعد، وبالثاني جزم أكثر المتأخرين
ومنهم - الشهيد الثاني في الروض، قال بعد نقل القول الثاني عن المصنف وغيره: " وربما قيل إن ذلك مخصوص بالرجال أما النساء فالنساء أولى بغسلهن ولم يثبت، وامتناع المباشرة
لا يستلزم انتفاء الولاية " واعترضه سبطه في المدارك بأنه قد يقال إن الرواية المتقدمة التي
هي الأصل في هذا الحكم إنما تتناول من يمكن وقوع الغسل منه ومتى انتفت دلالتها
على العموم وجب الرجوع في غير ما تضمنته إلى الأصل والعمومات. انتهى. وأشار
بالرواية إلى رواية غياث بن إبراهيم المتقدمة (1). أقول: ما ذكره وإن احتمل في الرواية
المذكورة حيث إنها تشعر بمباشرة الولي للغسل إلا أنه لا يتم في الروايتين اللتين بعدها
مما قدمناه (2) لتضمنهما الولي أو من يأمره وهو أعم من مباشرة الولي إن أمكن المباشرة
أو الأمر لغيره إن تعذرت المباشرة، على أن الرواية التي تعلق بها لا بد من تقدير هذا
المعنى فيها أيضا وإلا لزم أنه لو تعذرت المباشرة على الولي لمرض ونحوه انتفى الغسل

(1) ص 377.
(2) ص 377.
380

بالكلية وهو مما يقطع بفساده، وحينئذ فإذا جاز الإذن في صورة التعذر بمرض ونحوه
جاز في صورة عدم إمكان المباشرة يكون الميت امرأة، وبالجملة فالرواية لا اختصاص
لها بمن يمكن وقوع الغسل منه حتى أنه يصير هذا الفرد خارجا عنها كما زعمه، بل المراد
من قوله: " يغسل الميت أولى الناس به " يعني تكون ولاية الغسل لأولى الناس به
لا التغسيل بالفعل، وإلا لجري ذلك في أخبار الصلاة على الميت لقولهم (عليهم السلام) (1):
" يصلي على الميت أولى الناس به " مع أنه لا خلاف في جواز إذنه لغيره ولا سيما إذا لم
يكن أهلا للإمامة، هذا مع قطع النظر عن الخبرين الآخرين وإلا فدلالتهما على ما ذكرنا
أظهر من أن ينكر. هذا كله مع ثبوت ما ذكروه من أنه متى اجتمع الرجال والنساء في
مرتبة الولاية فالرجال أولى إلا أني لم أقف على ما يدل عليه في هذه المسألة. والله العالم.
(المسألة الثانية) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أن الزوج أولى
بزوجته في جميع الأحكام، ويدل عليه ما رواه الكليني والشيخ عن إسحاق بن عمار
عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها "
قال في المعتبر بعد ذكر هذا الخبر: " ومضمون الرواية متفق عليه " قال في المدارك:
" قلت إن كانت المسألة اجماعية فلا بحث وإلا أمكن المناقشة فيها لضعف السند، ولأنه
معارض بما رواه الشيخ في الصحيح عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) " في المرأة تموت ومعها أخوها وزوجها أيهما يصلي عليها؟ فقال: أخوها
أحق بالصلاة عليها " وأجاب الشيخ عن هذه الرواية بالحمل على التقية (4) وهو إنما يتم

(1) المروي في الوسائل في الباب 23 من أبواب صلاة الجنازة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب صلاة الجنازة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب صلاة الجنازة.
(4) في المغني لابن قدامة ج 2 ص 483 " إذا اجتمع زوج المرأة وعصبتها فظاهر
كلام الخرقي تقديم العصبات وهو أكثر الروايات عن أحمد وقول سعيد بن المسيب والزهري
وبكير بن الأشج ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي إلا أن أبا حنيفة يقدم زوج المرأة على
ابنها منه، وروي عن أحمد تقديم الزوج على العصبات لأن أبا بكرة صلى على زوجته ولم
يستأذن إخوتها، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وعطاء وعمر بن عبد العزيز وإسحاق،
381

مع التكافؤ في السند كما لا يخفى ". انتهى. أقول: ومما يعضد صحيحة حفص المذكورة
أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة على المرأة الزوج أحق بها أو الأخ؟ قال: الأخ "
ومما يعضد الرواية الأولى اتفاق الأصحاب على العمل بمضمونها كما ذكره في المعتبر ومثله
العلامة في المنتهى، وما رواه الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه عن أبي بصير عن
الصادق (عليه السلام) (2) قال: " قلت له المرأة تموت من أحق بالصلاة عليها؟
قال زوجها. قلت الزوج أحق من الأب والولد والأخ؟ قال: نعم ويغسلها " وروى
في الكافي عن أبي بصير (3) مثله بدون قوله: " ويغسلها " وعموم الأخبار الدالة على أن الأولى بالميت هو الأولى بميراثه، ولا ريب أن الزوج أولى من الأخ بأي معنى
اعتبرت الأولوية من أصل الإرث أو كثرته، وحينئذ فالظاهر هو القول المشهور ويتعين
حمل الخبرين المذكورين على ما ذكره الشيخ من التقية، وبالجملة فإنه لا اشكال ولا خلاف
في الحكم المذكور.
إنما الخلاف في جواز تغسيل كل من الزوجين الآخر في حال الاختيار فعن
المرتضى (رضي الله عنه) في شرح الرسالة والشيخ في الخلاف وابن الجنيد والجعفي أنه يجوز لكل منهما تغسيل الآخر مجردا مع وجود المحارم وعدمهم، وقال
الشيخ في النهاية بالجواز أيضا إلا أنه اعتبر فيه كونه من وراء الثياب. ونقل ذلك عن
ابن زهرة واختاره جملة من المتأخرين، وقال في كتابي الأخبار إن ذلك مختص بحال
الاضطرار دون الاختيار وتبعه على ذلك جماعة من الأصحاب، واستظهر في المدارك

(1) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب صلاة الجنازة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب صلاة الجنازة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب صلاة الجنازة.
382

جواز تغسيل كل منهما الآخر مجردا وإن كان الأفضل كونه من وراء القميص كما
مطلق التغسيل.
وتحقيق الكلام في المقام يحتاج إلى بسط الأخبار الواردة في المسألة ثم الكلام
فيها بما يخطر بالبال ومنه سبحانه الهداية إلى سواء السبيل: فمنها - ما رواه الشيخ
في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل أيصلح له أن ينظر إلى امرأته حين تموت أو يغسلها إن لم يكن عنده من يغسلها؟
وعن المرأة هل تنظر إلى مثل ذلك من زوجها حين يموت؟ فقال لا بأس بذلك أنما يفعل
ذلك أهل المرأة كراهة أن ينظر زوجها إلى شئ يكرهونه " وعن منصور في الصحيح (2)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج في السفر ومعه امرأته
أيغسلها؟ قال نعم وأمه وأخته ونحو هذا يلقي على عورتها خرقة " وفي الحسن عن محمد بن
مسلم (3) قال: " سألته عن الرجل يغسل امرأته؟ قال نعم إنما يمنعها أهلها تعصبا "
وبهذه الروايات استدل في المدارك على جواز تغسيل كل منهما الآخر مجردا وموردها
- كما ترى - إنما هو تغسيل الرجل زوجته خاصة دون العكس، ثم قال: ويدل على أن
الأفضل كونه من وراء الثياب روايات كثيرة: منها - صحيحة الحلبي عن الصادق
(عليه السلام) (4) " أنه سئل عن الرجل يموت وليس عنده من يغسله إلا النساء؟ قال
تغسله امرأته أو ذو قرابته إن كانت له وتصب النساء عليه الماء صبا. وفي المرأة إذا ماتت
يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها " وصحيحة محمد بن مسلم (5) قال: " سألته عن
الرجل يغسل امرأته؟ قال نعم من وراء الثياب " وصحيحة أبي الصباح الكناني عن
الصادق (عليه السلام) (6) " في الرجل يموت في السفر في أرض ليس معه إلا النساء؟
قال يدفن ولا يغسل، والمرأة تكون مع الرجال بتلك المنزلة تدفن ولا تغسل إلا أن

(1) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(5) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(6) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
383

يكون زوجها معها، فإن كان زوجها معها غسلها من فوق الدرع... " ثم قال في المدارك بعد
ايراد هذه الأخبار: " والجمع بين الأخبار وإن أمكن بتقييد الأخبار المطلقة بهذه
الأحاديث إلا أن حمل هذه الأحاديث على الاستحباب أولى لظهور تلك الأخبار في
الجواز مطلقا وثبوت استحباب ذلك في مطلق التغسيل على ما سنبينه " انتهى.
أقول: ومن أخبار المسألة صحيحة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (1) قال:
" سئل عن الرجل يغسل امرأته؟ قال نعم من وراء الثوب لا ينظر إلى شعرها ولا
إلى شئ منها، والمرأة تغسل زوجها لأنه إذا مات كانت في عدة منه وإذا ماتت هي
فقد انقضت عدتها " وصحيحة زرارة عن الصادق (عليه السلام) (2) " في الرجل يموت
وليس معه إلا نساء؟ قال تغسله امرأته لأنها منه في عدة وإذا ماتت لم يغسلها لأنه ليس
منها في عدة " وظاهر هاتين الصحيحتين تحريم تغسيل الرجل امرأته مجردة للعلة المذكورة
وظاهر صحيحة زرارة وإن كان عدم جواز تغسيله لها مطلقا لكن يجب حملها على
ما إذا كانت مجردة جمعا بينها وبين غيرها مما دل على الجواز من وراء الثياب، وبما قلنا
صرح الشيخ في التهذيب فقال بعد ذكر صحيحة زرارة: " أي لا يغسلها مجردة وإنما
يغسلها من وراء الثوب، قال: وعلى هذا دل أكثر الروايات ويكون الفرق بين المرأة
والرجل في ذلك أن المرأة يجوز لها أن تغسل الرجل مجردا وإن كان الأفضل والأولى
أن تستره ثم تغسله وليس كذلك الرجل لأنه لا يجوز أن يغسلها إلا من وراء الثياب،
قال: والمطلق من الأخبار يحمل على المقيد " انتهى. ومنها - موثقة عبد الرحمان بن
أبي عبد الله (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يموت وليس عنده
من يغسله إلا النساء هل تغسله النساء؟ فقال تغسله امرأته أو ذات محرمه وتصب عليه النساء
الماء صبا من فوق الثياب " وموثقة سماعة (4) قال: " سألته عن المرأة إذا ماتت؟ فقال

(1) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(2) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(3) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
(4) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
384

يدخل زوجها يده تحت قميصها إلى المرافق فيغسلها " وبمضمونها رواية الحلبي (1)
ورواية داود بن سرحان عن الصادق (عليه السلام) (2) " في الرجل يموت في السفر
أو في أرض ليس معه فيها إلا النساء؟ قال يدفن ولا يغسل، وقال في المرأة تكون مع
الرجال بتلك المنزلة إلا أن يكون معها زوجها، فإن كان معها زوجها فليغسلها من فوق
الدرع ويسكب عليها الماء سكبا ولتغسله امرأته إذا مات، والمرأة ليست مثل الرجل
المرأة أسوأ منظرا حين تموت ".
أقول: والكلام في هذه الأخبار يقع في مقامين: (الأول) - في تغسيل
الرجل زوجته، ولا يخفى أن بعضا من أخبار المسألة مطلق مثل صحيحة عبد الله بن سنان (3)
وحسنة محمد بن مسلم (4) وجملة منها ما بين صريح وظاهر في التقييد بكونه من وراء
الثياب، والجمع بينهما بتقييد اطلاق الأولى بالثانية. وأما الجمع بحمل روايات التقييد على
الاستحباب والعمل باطلاق تلك الأخبار وحملها على الجواز فهو وإن أمكن بالنظر إلى
دلالة صحيحة منصور (5) على جواز تغسيلها عارية وإنما يلقى على عورتها خرقة، إلا أنه يشكل بدلالة ظاهر صحيحتي زرارة والحلبي (6) على عدم الجواز كما عرفت، وبه صرح
الشيخ كما سمعت من كلامه، ويعضده - مع كونه أوفق بالاحتياط - الأخبار الدالة على التقييد
بكونه من وراء الثياب، ولا يعارضها اطلاق الروايتين المشار إليهما ويجب تقييده كما
عرفت، وأظهر من ذلك تأييدا لما ذكرنا الأخبار الواردة بتغسيل علي (عليه السلام) لفاطمة
(عليها السلام) والتعليل فيها بكونها صديقة لا يغسلها إلا صديق، فإن قضية التعليل تخصيص
جواز ذلك بها وإلا لو كان ذلك جائزا مطلقا كما هو المشهور لم يكن لهذا التعليل مزيد فائدة
ومنها - ما رواه الصدوق في العلل عن مفضل بن عمر (7) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام) من غسل فاطمة؟ قال ذاك أمير المؤمنين (عليه السلام) فكأنما

(1) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(3) ص 383
(4) ص 383
(5) ص 383
(6) ص 384.
(7) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
385

استفظعت ذلك فقال كأنك ضقت مما أخبرتك؟ قلت قد كان ذلك جعلت فداك. فقال
لا تضيقن فإنها صديقة لم يكن يغسلها إلا صديق... الحديث " ورواه الكليني والشيخ أيضا،
ويشير إلى ما ذكرنا ما نقله في البحار قال: " وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي نقلا
من خط الشهيد قال: لما غسل علي (عليه السلام) فاطمة قال له ابن عباس: أغسلت فاطمة؟
قال أما سمعت قول النبي (صلى الله عليه وآله): هي زوجتك في الدنيا والآخرة؟ قال
الشهيد: هذا التعليل يدل على انقطاع العصمة بالموت فلا يجوز للزوج التغسيل " انتهى.
ويمكن أن يقال - ولعله الأقرب في هذا المجال - بأن صحيحتي الحلبي وزرارة (1) إنما خرجتا
مخرج التقية فإن القول بالمنع من تغسيل الزوج زوجته مذهب أبي حنيفة والثوري
والأوزاعي كما نقله في المنتهى، ونقل الجواز عن الشافعي ومالك وإسحاق وداود، وعن أحمد روايتين (2) ولا ريب أن مذهب أبي حنيفة في وقته كان هو المشهور والمعتمد بين
خلفاء الجور، وغيره من المذاهب الأربعة إنما اشتهر وحصل الاجتماع عليه في الأعصار
المتأخرة مما يقرب من سنة ستمائة، وحينئذ فلا يبعد حمل الروايتين المذكورتين على التقية
ونقل في المنتهى الاحتجاج عن القائلين بالتحريم بأن هذه الفرقة تبيح نكاح الأخت
فوجب أن يحرم النظر إليها كما لو طلقها قبل الدخول. وأما ما نقله في البحار من حديث
ابن عباس فهو وإن أشعر بما ذكره إلا أنه لا يبلغ قوة المعارضة لما قدمناه من الأخبار
الدالة على الجواز مع أنه غير مروي من طرقنا ولعله من طرق أخبار العامة، ومع
تسليم صحته وثبوته ودلالته فلا بد في حمله على التقية أيضا، مع أن المفهوم من بعض
الأخبار الذي لا يحضرني الآن موضعها أن كل امرأة لم تتزوج إلا رجلا واحدا فإنها

(1) ص 384
(2) في المغني لابن قدامة ج 2 ص 523 " المشهور عن أحمد أن للزوج أن يغسل
زوجته وهو قول علقمة وعبد الرحمان بن يزيد بن الأسود وجابر بن زيد وسليمان بن يسار
وأبي سلمة بن عبد الرحمان وقتادة وحماد ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق، وعن أحمد
رواية ثانية ليس للزوج غسلها وهو قول أبي حنيفة والثوري ".
386

يوم القيامة تكون زوجته، ومن أخذت أزواجا عديدة فإنها تخير يوم القيامة وتختار
أحسنهم خلقا معها في الدنيا. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال فلا ينبغي ترك
الاحتياط فيها على كل حال. والله العالم.
(الثاني) - في تغسيل المرأة لزوجها، والأخبار هنا ما بين مطلق ومقيد بكونه
من وراء الثياب، والجمع بينها إما بحمل مطلقها على مقيدها أو بحمل مطلقها على الجواز
ومقيدها على الاستحباب، والظاهر الثاني لقضية التعليل في صحيحتي الحلبي وزرارة
المتقدمتين (1) والاحتياط لا يخفى، وبذلك يظهر لك أن حكم تغسيل المرأة زوجها غير
حكم العكس وإن كان الأصحاب قد أطلقوا القول فيهما وجعلوا الحكم واحدا، لظهور مخالفة
حكم الزوج للزوجة من الأخبار كما شرحناه وأوضحناه. وأما ما ذهب إليه الشيخ في
كتابي الأخبار - من أن جواز تغسيل كل من الزوجين الآخر مخصوص بحال الاضطرار
دون الاختيار - فلا أعرف له مستندا ظاهرا والأخبار المتقدمة - كما عرفت - صريحة في رده
ويظهر منه أنه استند في ذلك إلى روايات وقع التقييد بذلك فيها في كلام السائل مثل
صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة صدر الروايات المتقدمة (2) وصحيحة الحلبي الأولى (3)
ورواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله المتقدمة أيضا (4) ورواية الحلبي عن الصادق (عليه
السلام) (5) " في المرأة إذا ماتت وليس معها امرأة تغسلها؟ قال يدخل زوجها يده
تحت قميصها فيغسلها إلى المرافق " إلى غير ذلك مما ورد كذلك، واعتضد في ذلك برواية
أبي حمزة عن الباقر (عليه السلام) (6) قال: " لا يغسل الرجل المرأة إلا أن لا توجد
امرأة " وحمل في الإستبصار ما روى عن أمير المؤمنين من تغسيل فاطمة على اختصاص
ذلك بهم (عليهم السلام) وفي الكل نظر ظاهر، أما الروايات الأولى فإن التقييد فيها

(1) ص 384.
(2) ص 383.
(3) ص 383.
(4) ص 384.
(5) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(6) المروية في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
387

إنما وقع في كلام السائل وهو لا يوجب تقييدا في تلك الأخبار الكثيرة مما ذكرناه
وما لم نذكره، فإن السؤال إذا وقع عن بعض الأفراد لا يجب تخصيص الحكم بذلك في غيره
كما هو ظاهر. وأما رواية أبي حمزة فأجاب عنها في المختلف، قال بعد نقل الاستدلال عنه
" والجواب المنع من صحة السند ثم لو سلم لكان محمولا على الاستحباب أو على الرجل
الأجنبي ويكون الاستثناء إشارة إلى ما روي أنه يغسل من الأجنبية وجهها وكفيها "
وأما حديث تغسيل فاطمة فقد تقدم الكلام فيه. ولكن العمدة في الاستدلال إنما
هو ما قدمناه من الأخبار الصريحة الدالة. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) - قال في المدارك: " قال بعض المحققين ولا يقدح انقضاء عدة
الزوجة في جواز التغسيل بل يجوز وإن تزوجت. وفيه نظر لصيرورتها والحال هذه
أجنبية. قال في الذكرى: ولا عبرة بانقضاء عدة المرأة عندنا بل لو نكحت جاز لها
تغسيله وإن كان الفرض بعيدا. وهو كذلك أخذا بالاطلاق " انتهى. أقول: لا يخفى
أن ما ذكره في الذكرى هو عين ما نقله عن بعض المحققين فلا معنى لتنظره في الأول
واختياره ما في الذكرى، إلا أن يحمل ما نقله عن بعض المحققين على عدة الطلاق وكلام
الذكرى على عدة الوفاة حيث إن ظاهر كلامهم الفرق بين العدتين. ثم إن ما ذكره
في الذكرى من الحكم المذكور قد صرح به الشهيد الثاني في الروض أيضا، وظاهر
كلامهم - حيث صرحوا في المطلقة بائنا بأنها ليست زوجة فلا يجوز لها تغسيله وصرحوا هنا
بجواز تغسيلها له بعد انقضاء عدة الوفاة - الفرق بين العدتين وأنها في هذه الصورة بعد
العدة بل بعد التزويج يصدق عليها أنها زوجة فيجوز لها تغسيله، كما يشير إليه قوله في
المدارك: " أخذا بالاطلاق " بخلاف المطلقة بائنا فإنها قد بانت منه حال الحياة. وعندي
فيه نظر (أما أولا) فلمنع صدق الزوجة عليها في الحال المفروضة بل هي أجنبية،
388

ولا سيما بالنظر إلى التعليل المذكور في صحيحتي الحلبي وزرارة (1) الدال على أنها إنما تغسله
بعد الموت لأنها منه في عدة، ومفهومه أنه بعد انقضاء العدة لا تغسله و (أما ثانيا) فلما
أشرنا إليه مرارا وذكره غير واحد من المحققين من أن الأحكام المودعة في الأخبار إنما
تنصرف إلى الأفراد الشائعة المتكثرة دون الفروض النادرة، وكأنهم بنوا في ذلك
على أن الزوجية الثابتة في حال الحياة لكل منهما لا تنقطع بالموت وإلا لامتنع جواز
تغسيل كل منهما للآخر بعد الموت والأخبار بخلافه ولم يعرض هنا شئ يقتضي رفع
هذا الحكم وإن طال الزمان، وهو وإن كان كذلك لكن المتبادر من الأخبار المتقدمة
إنما هو ما ذكرناه من كون التغسيل بعد الموت، ودخول هذا الفرض المذكور فيها بمجرد
صدق الزوجة ممنوع ولا سيما بعد التزويج فإنها تكون أجنبية وصدق الزوجة في هذه
الحال في غاية البعد. وكيف كان فالاحتياط أوضح سبيل سيما مع غموض الدليل وهو
فيما ذكرناه كما لا يخفى. والله العالم.
(الثاني) - قال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد - بعد أن اختار القول
بجواز تغسيل كل من الزوجين الآخر من وراء الثياب كما صرح به جمع من الأصحاب
- ما صورته: " ولم أقف في كلام على تعيين ما يعتبر في التغسيل من الثياب والظاهر أن المراد ما يشمل جميع البدن، وحمل الثياب على المعهود يقتضي استثناء الوجه والكفين
والقدمين فيجوز أن تكون مكشوفة " انتهى. أقول: لا يخفى أن أخبار المسألة ما بين
مقيد بالقميص وما بين مطلق بالثياب وقضية الجمع حمل مطلقها على مقيدها، ففي صحيحة
الحلبي الأولى من الأخبار المتقدمة (2): " وفي المرأة إذا ماتت يدخل زوجها يده تحت
قميصها فيغسلها " وفي روايته المذكورة أخيرا (3) قال: " يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها
إلى المرافق " وفي صحيحة أبي الصباح المتقدمة (4) " وإن كان زوجها معها غسلها من فوق

(1) ص 384
(2) ص 383
(3) ص 387.
(4) ص 383
389

الدرع " وفي موثقة عمار (1) "... غير أنه يكون عليها درع فيصب الماء من فوق الدرع... "
ومثل ذلك في رواية داود بن سرحان المتقدمة (2) والدرع: القميص. وفي موثقة سماعة
المتقدمة (3) " يدخل زوجها يده تحت قميصها إلى المرافق فيغسلها " وفي رواية زيد الشحام (4)
".... وإن كان له فيهن امرأة فيغسل في قميص من غير أن تنظر إلى عورته " بل قد ورد في جملة
من الأخبار الصحيحة اعتبار التغسيل في القميص مطلقا كما في صحيحة يعقوب بن يقطين (5)
" ولا يغسل إلا في قميص " ومثلها صحيحة ابن مسكان (6) وحسنة سليمان بن خالد (7)
وأما ما ورد بلفظ الثوب فمنه - صحيحة محمد بن مسلم (8) قال: " سألته عن الرجل يغسل
امرأته؟ قال: نعم من وراء الثوب " ورواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله المتقدمة (9)
وصحيحة الحلبي الثانية (10) من صحيحتيه المتقدمتين. والواجب في مقام الجمع حمل ما تضمن
الثوب على القميص حمل المطلق على المقيد، وبذلك يظهر أنه لا وجه لما استظهره من أن
المراد ما يشمل جميع البدن، وعلى هذا فينبغي استثناء الوجه والكفين والقدمين فيجوز
أن تكون مكشوفة، والأخبار المذكورة وإن كانت عارية عن ذكر الرأس وربما أوهم
ذلك جواز كونه مكشوفا أيضا إلا أن الظاهر الحاقه بالبدن وإن ذكر القميص فيها إنما
خرج مخرج الأغلب باعتبار معظم البدن لا على جهة التخصيص، ويدل على ذلك قوله
في صحيحة الحلبي الثانية (11) قال: " نعم من وراء الثوب لا ينظر إلى شعرها... "
(الثالث) - هل يطهر الثوب بصب الماء من غير عصر قال في الروض:
" مقتضى المذهب عدمه " وهو منقول عن المحقق في المعتبر صرح به في تغسيل الميت في قميصه

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
(2) ص 385 و 384.
(3) ص 385 و 384.
(4) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
(5) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
(6) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
(7) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
(8) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت.
(9) ص 384.
(10) ص 384.
(11) ص 384.
390

من مماثله، ومنع الشهيد في الذكرى من عدم طهارته بالصب لاطلاق الرواية قال:
" وجاز أن يجري مجرى ما لا يمكن عصره " أقول: والظاهر هو ما اختاره في الذكرى
(أما أولا) - فلأن ظواهر الأخبار هو أنه بعد التغسيل في قميصه ينقل إلى الأكفان
ولو توقف طهارة القميص على العصر كما يدعونه للزم نجاسة الميت بها بعد تمام الغسل وقبل
نزعها ووجب تطهيره زيادة على الغسل الموظف وظواهر النصوص المذكورة ترده وما
ذاك إلا من حيث طهرها بمجرد الصب في الغسلة الثالثة. و (أما ثانيا) - فلأن ما ادعوه
من وجوب العصر في الثوب وأنه لا يطهر بعد اجراء الماء إلا بعد العصر وإن اشتهر بينهم كما
يشير إليه قوله في الروض " مقتضى المذهب " إلا أنه محل بحث كما سيأتي إن شاء الله تعالى
التنبيه عليه في بحث النجاسات وأن أدلتهم في المسألة قاصرة عن إفادة المدعى.
(الرابع) - الظاهر - كما ذكره جملة من الأصحاب - أنه لا فرق في الزوجة
بين الحرة والأمة ولا بين الدائم والمنقطع، والمطلقة رجعية في العدة زوجة بخلاف
البائن، كل ذلك لاطلاق النصوص، والمشهور أنه يجوز للسيد تغسيل أمته الغير المزوجة
والمعتدة ومدبرته وأم ولده، والظاهر أن المستند فيه استصحاب الحكم فيه من حال
الحياة وعدم ما يوجب زواله وأنهن في حكم الزوجة، ولم أقف فيه على نص، وفي جواز
تغسيلها له أقوال: (أحدها) - الجواز مطلقا لاستصحاب حكم الملك ولأنها في معنى الزوجة
في إباحة اللمس والنظر فتباح وهو اختيار العلامة. و (ثانيها) - المنع لانتقالها إلى الورثة
و (ثالثها) - تخصيص الجواز بأم الولد وهو اختيار جمع من الأصحاب: منهم - المحقق
في المعتبر، واستدل عليه بخبر إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (1)
" أن علي بن الحسين (عليهما السلام) أوصى أن تغسله أم ولد له إذا مات فغسلته "
قال في المعتبر: ولا يمنع العتق من ذلك لأن جواز الاطلاع في زمن الحياة قد يستصحب
بعد الوفاة كما في الزوجة تغسل وإن انقطعت العصمة. أقول: لا يخفى أن الرواية.

(1) المروي في الوسائل في الباب 25 من أبواب غسل الميت.
391

المذكورة لا تخلو من الاشكال لما تحقق عندنا من أن الإمام لا يغسله إلا إمام مثله
فلا بد من تأويل الخبر المذكور أما بحمله على أن الوصية بذلك للتقية ودفع الضرر
عن الإمام الباقر (عليه السلام) كما ذكره بعض مشايخنا أو بحملها على المعاونة كما
يدل عليه ما في الفقه الرضوي حيث قال (1): " ونروي أن علي بن الحسين (عليه
السلام) لما مات قال أبو جعفر (عليه السلام) لقد كنت أكره أن أنظر إلى عورتك
في حياتك فما أنا بالذي أنظر إليها بعد موتك، فأدخل يده وغسل جسده ثم دعا أم ولد له
فأدخلت يدها فغسلت مراقه وكذلك فعلت أنا بأبي " وأما قوله: " ولا يمنع العتق
من ذلك... الخ " فضعفه أظهر من أن يذكر لضعف الاستصحاب عندنا والالحاق
بالزوجة قياس لا يوافق أصول مذهبنا، وصاحب المدارك هنا إنما رد القول بضعف
سند الرواية وغفل عما في متنها من الاشكال. وربما علل جواز تغسيل أم الولد لسيدها
أيضا ببقاء علاقة الملك من وجوب الكفن والمؤنة والعدة. وفيه نظر فإن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات لا يخلو من مجازفة، ومثل ذلك ما علل به الجواز
مطلقا كما هو المنقول عن العلامة. وبالجملة فإن أم الولد قد انعتقت بعد الموت وصارت
حرة أجنبية وغيرها قد انتقلت إلى الوارث وصارت أيضا أجنبية فالقول بجواز تغسيلهن
له يحتاج إلى نص واضح. والله العالم.
(المسألة الثالثة) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط المماثلة في الذكورة
والأنوثة بين الغاسل والمغسول مع الاختيار لتحريم النظر، وقد استثني من ذلك ما تقدم
من مسألة الزوجين وما يتبعها من الإماء، ومما استثنى أيضا من القاعدة المذكورة وجود
المحرمية، والمراد بها - على ما ذكره جملة من الأصحاب هنا وفي كتاب النكاح - من يحرم
نكاحه مؤبدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة، واحترزوا بقيد التأبيد عن أخت الزوجة
وبنت غير المدخول بها فإنهما ليستا من المحارم لعدم التحريم المؤبد بل هما بحكم الأجانب،

(1) ص 21.
392

وتوقف حل نكاحهما على مفارقة الأخت والأم لا يقتضي حل النظر ودخولهما في اسم
المحارم وإلا لزم كون نساء العالم محارم للمتزوج أربعا لتوقف نكاح واحدة منهن على فراق
واحدة. كذا أفاده شيخنا الشهيد الثاني في الروض. واستدرك عليه في الحبل المتين
في قوله: " إن توقف حل نكاحهما على مفارقة الأخت والأم لو اقتضى دخولهما في
المحارم للزم كون نساء العالم محارم للمتزوج أربعا " بأن فيه مناقشة لطيفة لعدم تحريم النكاح
المنقطع على ذي الأربع، ولو قال للزم أن تكون ذوات الأزواج محارم للأجانب لكان
أولى. انتهى. أقول: يمكن أن يقال إن المسألة في تحريم ما زاد على الأربع مطلقا
خلافية فلعل شيخنا المشار إليه ممن يذهب إلى التحريم مطلقا دائما كان أو منقطعا بل
نقل عنه بعض الأصحاب أنه صرح بذلك في بعض المواضع، فلعل كلامه هنا مبني عليه
فلا ترد عليه هذه المناقشة. وأما ما ذكره من العبارة ففيه أن الكلام في أن توقف حل
النكاح على المفارقة لو اقتضى المحرمية للزم كون نساء العالم محارم إذ حل النكاح فيهن
موقوف على مفارقة إحدى زوجاته الأربع، وظاهر أن ذوات الأزواج الأجانب ليس
ممن يحل نكاحهن بعد المفارقة.
وكيف كان فالظاهر أنه لا خلاف في أصل الحكم المذكور أعني جواز التغسيل
مع المحرمية، والمعروف من كلامهم أنه من وراء الثياب بل ذكر شيخنا البهائي بأنهم
قطعوا بكونه من وراء الثياب إلا أنه سيأتي عن صاحب المدارك ما يؤذن بخلافه في ذلك
وإنما اختلفوا في أنه هل يشترط في ذلك فقد المماثل أو يجوز وإن وجد؟ قولان، والمشهور
الأول وإلى الثاني ذهب ابن إدريس والعلامة في المنتهى.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة روايات: منها - موثقة
عبد الرحمان بن أبي عبد الله البصري وقد تقدمت في سابق هذه المسألة (1) وهي متضمنة
لكون الغسل من فوق الثياب، وظاهره في الذكرى ذلك مع عدم وجود المماثل، وصحيحة (2)

(1) ص 384
(2) ص 383.
393

الحلبي المتقدمة وهي الأولى من صحيحتيه، وهي مطلقة بالنسبة إلى الثياب وظاهرة
في عدم وجود المماثل، ومنها - موثقة عمار عن الصادق (عليه السلام) (1) " أنه سئل
عن الرجل المسلم يموت في السفر وليس معه رجل ومعه رجال نصارى ومعه عمته وخالته
مسلمتان كيف يصنع في غسله؟ قال تغسله عمته وخالته في قميصه ولا يقربه النصارى.
وعن المرأة تموت في السفر وليس معها امرأة مسلمة ومعها نساء نصارى وعمها وخالها
مسلمان؟ قال يغسلانها ولا تقربها النصرانية كما كانت المسلمة تغسلها غير أنه يكون عليها درع
فيصب الماء من فوق الدرع... " وهي - كما ترى - ظاهرة في عدم وجود المماثل وكون
ذلك من فوق الثياب. ومنها - موثقة سماعة (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن رجل مات وليس عنده إلا نساء؟ قال: تغسله امرأة ذات محرم منه
وتصب النساء عليه الماء ولا تخلع ثوبه. وإن كان امرأة ماتت مع رجال وليس معها
امرأة ولا محرم لها فلتدفن كما هي في ثيابها، وإن كان معها ذو محرم لها غسلها من فوق
ثيابها " وهي - كما ترى - كسابقتها ظاهرة في عدم المماثل وكون ذلك من فوق الثياب.
ومنها - حسنة عبد الله بن سنان (3) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إذا
مات الرجل مع النساء غسلته امرأته فإن لم تكن امرأته معه غسلته أولاهن به وتلف على
يديها خرقة " وهذه الرواية ظاهرة في عدم وجود المماثل ومطلقة بالنسبة إلى الثياب.
ومنها - رواية زيد الشحام (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة ماتت
وهي في موضع ليس معهم امرأة غيرها؟ قال إن لم يكن فيهم لها زوج ولا ذو رحم دفنوها
بثيابها ولا يغسلونها، وإن كان معهم زوجها أو ذو رحم فليغسلها من غير أن ينظر إلى
عورتها. قال وسألته عن رجل مات في السفر مع نساء ليس معهن رجل؟ فقال إن لم يكن له
فيهن امرأة فليدفن بثيابه ولا يغسل، وإن كان له فيهن امرأة فليغسل في قميص من غير أن تنظر إلى عورته " وهي ظاهرة في عدم وجود المماثل وصدرها مطلق بالنسبة إلى الثياب

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
(2) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
(3) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
(4) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
394

وعجزها ظاهر في اشتراط الثياب. ومنها - رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن
آبائه عن علي (عليهم السلام) (1) في حديث قال: " إذا مات الرجل في السفر، إلى أن
قال: وإذا كان معه نساء ذوات محرم يؤزرنه ويصببن عليه الماء صبا ويمسسن جسده ولا
يمسسن فرجه " ومنها - صحيحة منصور المتقدمة (2) وهي دالة على جواز تغسيل المرأة
مجردة ومطلقة في عدم المماثل.
وأنت خبير بأن هذه الروايات المذكورة ما عدا صحيحة منصور المشار إليها ورواية
عمرو بن خالد ما بين مطلق في وجود المماثل وعدمه وبين مقيد بعدم وجود المماثل ومطلق
بالنسبة إلى الثياب وعدمها أو مقيد بكونه من وراء الثياب، وقضية الجمع المتكررة في
كلامهم حمل مطلقها في كل من الأمرين على مقيدها. وبه يظهر قوة القول المشهور وأنه
المؤيد المنصور نعم يبقى الكلام في صحيحة منصور ولم أجد بها قائلا سوى ما يظهر
من صاحب المدارك حيث قال بعد نقل القولين المتقدمين: " والأظهر الجواز مطلقا تمسكا
بمقتضى الأصل وصحيحة منصور " ثم ساق الرواية المذكورة. وأنت خبير بأن هذه
الرواية وإن صح سندها ولأجله عمل بها في المدارك حيث إنه يدور مدار الأسانيد المتصلة
في العمل بهذا الاصطلاح إلا أنها - كما عرفت في المسألة السابقة - معارضة بأخبار تغسيل
الرجل امرأته، فإن جملة منها قد اشتملت على كون ذلك من وراء الثياب وبه قيد مطلقها
وجملة أخبار هذه المسألة على تعددها ومنها الصحيح والحسن والموثق وهي مجتمعة - بناء
على حمل مطلقها على مقيدها - على كون ذلك من وراء الثياب بشرط عدم وجود المماثل
والقول بمضمون هذه الرواية مناف لجملة روايات المسألتين، وترجيحها على جملة هذه
الروايات بعيد غاية البعد، فالأظهر هو القول المشهور سيما مع أوفقيته بالاحتياط في الدين
ورد هذه الرواية إلى قائلها.
(المسألة الرابعة) - مما استثني من القاعدة المتقدمة أيضا عند جمهور الأصحاب

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت.
(2) ص 383.
395

تغسيل الرجل بنت ثلاث سنين مجردة والمرأة ابن ثلاث سنين مجردا إلا أن الشيخ في
النهاية قيد ذلك بعدم وجود المماثل، وقال في المبسوط: " الصبي إذا مات وله ثلاث
سنين فصاعدا فحكمه حكم الرجال سواء وإن كان دونه جاز للأجنبيات غسله مجردا من ثيابه
وإن كانت صبية لها ثلاث سنين فصاعدا فحكمها حكم النساء البالغات وإن كانت دون
ثلاث جاز للرجال تغسيلها عند عدم النساء " وقال المفيد: " إذا كان الصبي ابن خمس
سنين غسله بعض النساء الأجنبيات مجردا من ثيابه وإن كان ابن أكثر من خمس سنين
غسلنه من فوق ثيابه وصببن عليه الماء صبا ولم يكشفن له عورة ودفنه بثيابه بعد تحنيطه،
وإن ماتت صبية بين رجال ليس لها فيهم محرم وكانت بنت أقل من ثلاث سنين جردوها
من ثيابها وغسلوها وإن كانت أكثر من ثلاث سنين غسلوها في ثيابها وصبوا عليها الماء
صبا وحنطوها بعد الغسل ودفنوها في ثيابها " وبه قال سلار. وجوز الصدوق تغسيل
بنت أقل من خمس سنين مجردة، ومنع المحقق في المعتبر من تغسيل الرجل الصبية مطلقا
وجوز للمرأة تغسيل ابن الثلاث اختيارا واضطرارا نظرا إلى أن الشارع أذن في اطلاع
النساء على الصبي لافتقاره إليهن في التربية بخلاف الصبية والأصل حرمة النظر.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة منه - ما رواه المشايخ الثلاثة عن
أبي النمير مولى الحارث بن المغيرة (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) حدثني
عن الصبي إلى كم تغسله النساء؟ قال إلى ثلاث سنين " وما رواه الشيخ في الموثق عن
عمار الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (2) " أنه سئل عن الصبي تغسله امرأة: فقال إنما
تغسل الصبيان النساء، وعن الصبية ولا تصاب امرأة تغسلها؟ قال يغسلها رجل أولى الناس
بها " وما رواه في التهذيب عن محمد بن أحمد مرسلا (3) قال: " روى في الجارية تموت
مع الرجل فقال إذا كانت بنت أقل من خمس سنين أو ست دفنت ولم تغسل " وحكم المحقق
في المعتبر والشهيد في الذكرى بأن هذا الحديث مضطرب الاسناد والمتن. أقول: نقل

(1) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب غسل الميت.
(2) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب غسل الميت.
(3) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب غسل الميت.
396

عن ابن طاووس أنه قال: " لفظ أقل هنا وهم " وهو جيد، ويؤيده ما ذكره في الذكرى قال:
" وفي جامع محمد بن الحسن إذا كانت ابنة أكثر من خمس سنين أو ست سنين دفنت ولم
تغسل وإن كانت ابنة أقل من خمس سنين غسلت، قال وأسند الصدوق في كتاب
المدينة ما في الجامع إلى الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (1) " ونقل الصدوق في
الفقيه عن الجامع كما في الذكرى قال وذكر عن الحلبي حديثا في معناه عن الصادق
(عليه السلام).
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الظاهر أنه لا اشكال في تغسيل النساء ابن ثلاث سنين
لاتفاق خبري أبي النمير وعمار عليه بحمل اطلاق خبر عمار على مقيد خبر أبي النمير مضافا إلى
اتفاق الأصحاب كما عرفت من نقل الأقوال المتقدمة، وأما تغسيل الرجل بنت ثلاث
سنين أو أزيد فالمعتمد فيه على الرواية المشار إليها في الجامع وإن كانت مرسلة وكذا
في كتاب مدينة العلم كما صرح به في الذكرى، ويعضدها أيضا أن الظاهر أن جواز الغسل
تابع لحل النظر واللمس ولا ريب في جوازهما إلى الصغير والصغيرة في حال الحياة فيكون
كذلك في حال الموت بعين ما تقدم من كلامهم في الزوجين، وبذلك ظهر ما في دعوى
صاحب المعتبر من استناده في تحريم تغسيل الرجل الصبية مطلقا إلى أن الأصل حرمة
النظر فإن هذا الأصل ممنوع لعدم الخلاف نصا وفتوى في جواز النظر في حال الحياة
وتحريمه هنا يحتاج إلى دليل وإلا فالأصل بقاء الجواز، وبالجملة فالظاهر هو القول بما دلت
عليه الأخبار المذكورة بعد تقييد مطلقها بمقيدها.
واعلم أن المتبادر من تحديد السن هنا وفي الصلاة إنما هو بالنسبة إلى الموت بأن
يموت على نهاية الثلاث مثلا فلا اعتبار بما بعده وإن طال، فيمكن على هذا حصول الموت
على نهاية الثالثة ووقوع الغسل بعد ذلك، فلا يشترط في صحة الحكم وقوع الغسل قبل
تمام الثالثة، وبه يندفع ما ذكره المحقق علي (رحمه الله) من أن ثلاث سنين إذا
كان نهاية الجواز فلا بد من كون الغسل واقعا قبل تمامها فاطلاق ابن ثلاث سنين يحتاج
397

إلى التنقيح، ثم قال: إلا أن يصدق على من شرع في الثالثة أنه ابن ثلاث انتهى
فإنه مبني على أن نهاية تحديد السن بذلك الغسل وليس كذلك بل الموت كما ذكرنا.
(المسألة الخامسة) - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) - بل ادعى
عليه في المعتبر - الاجماع أنه لا يغسل الرجل من ليس له بمحرم ولا المرأة من ليس لها
بمحرم عدا ما تقدم في مسألة الصبي والصبية، وعن الشيخ أنه صرح في النهاية والمبسوط
والخلاف بسقوط التيمم والحال هذه، وبه قطع في المعتبر، قال: " لأن المانع من الغسل
مانع من التيمم وإن كان الاطلاع مع التيمم أقل لكن النظر محرم قليله وكثيره " وعن
المفيد (عطر الله مرقده) وجوب التغسيل من وراء الثياب وكذا عن ابن زهرة
وأبي الصلاح إلا أنهما أوجبا تغميض العينين.
والأخبار في هذه المسألة في غاية الاختلاف إلا أن أكثرها وأصحها يدل على
القول المشهور:
ومنها - ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن علي الحلبي عن الصادق
(عليه السلام) (1) " أنه سأله عن المرأة تموت في السفر وليس ذو محرم ولا نساء
قال: تدفن كما هي بثيابها. وعن الرجل يموت وليس معه إلا النساء ليس معهن رجال؟
قال: يدفن كما هو بثيابه ".
وعن عبد الله بن أبي يعفور في الصحيح (2) " أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الرجل يموت في السفر مع النساء ليس معهن رجل كيف يصنعن به؟ قال يلففنه لفا
في ثيابه ويدفنه ولا يغسلنه ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله البصري (3) قال:
" سألته عن امرأة ماتت مع رجال؟ قال تلف وتدفن ولا تغسل ".
ومنها - صحيحة أبي الصباح الكناني ورواية داود بن سرحان وقد تقدمتا

(1) رواه في الوسائل في الباب 21 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 21 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 21 من أبواب غسل الميت.
398

في المسألة الثانية (1)، ومنها - موثقة سماعة ورواية زيد الشحام وقد تقدمتا في
المسألة الثالثة (2).
وهذه الروايات كلها ظاهرة المقالة متعاضدة الدلالة في عدم الغسل والأمر
بالدفن بثيابه.
ومنها - ما رواه في التهذيب عن جابر عن الصادق (عليه السلام) (3) " في
رجل مات ومعه نسوة وليس معهن رجل؟ قال: يصببن الماء من خلف الثوب ويلففنه
في أكفانه من تحت الستر ويصلين عليه صفا ويدخلنه قبره. والمرأة تموت مع الرجال ليس
معهم امرأة؟ قال: يصبون الماء من خلف الثوب ويلفونها في أكفانها ويصلون ويدفنون "
وعن أبي بصير (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة ماتت
في سفر وليس معها نساء ولا ذو محرم؟ فقال: يغسل منها موضع الوضوء ويصلى
عليها وتدفن ".
وعن جابر عن الصادق (عليه السلام) (5) قال: " سئل عن المرأة تموت وليس
معها محرم؟ قال يغسل كفيها ".
وعن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهم السلام) (6) قال:
" أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفر فقالوا إن امرأة توفيت معنا وليس معها
ذو محرم؟ فقال كيف صنعتم بها؟ فقالوا صببنا الماء عليها صبا. فقال أما وجدتم امرأة من
أهل الكتاب تغسلها؟ فقالوا لا فقال أفلا يممتموها؟ "
وعن المفضل بن عمر (7) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) جعلت فداك
ما تقول في المرأة تكون في السفر مع رجال ليس فيهم لها ذو محرم ولا معهم امرأة
فتموت المرأة ما يصنع بها؟ قال: يغسل منها ما أوجب الله تعالى عليه التيمم ولا تمس ولا

(1) ص 384 و 385
(2) ص 394.
(3) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
(5) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
(6) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
(7) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
399

يكشف شئ من محاسنها التي أمر الله تعالى بسترها. فقلت فكيف يصنع بها؟ قال يغسل
بطن كفيها ثم يغسل وجهها ثم يغسل ظهر كفيها ".
وعن داود بن فرقد (1) قال: " مضى صاحب لنا يسأل أبا عبد الله (عليه
السلام) عن المرأة تموت مع رجال ليس فيهم ذو محرم هل يغسلونها وعليها ثيابها؟
فقال إذن يدخل ذلك عليهم ولكن يغسلون كفيها ".
وعن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهم السلام) (2)
قال: " إذا مات الرجل في السفر مع النساء ليس فيهن امرأته ولا ذو محرم من نسائه؟
قال يؤزرنه إلى الركبتين ويصببن عليه الماء صبا ولا ينظرن إلى عورته ولا يلمسنه
بأيديهن... الحديث " وقد تقدم تمامه في سابق هذه المسألة (3).
وعن أبي حمزة عن الباقر (عليه السلام) (4) قال: " لا يغسل الرجل المرأة
إلا أن لا توجد امرأة ".
وعن عبد الله بن سنان (5) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: المرأة
إذا ماتت مع الرجال فلم يجدوا امرأة تغسلها غسلها بعض الرجال من وراء الثوب
ويستحب أن يلف على يديه خرقة ".
وعن أبي سعيد (6) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إذا ماتت
المرأة مع قوم ليس لها فيهم ذو محرم يصبون عليها الماء صبا، ورجل مات مع نسوة ليس
فيهن له محرم فقال أبو حنيفة يصببن الماء عليه صبا فقال أبو عبد الله (عليه السلام): بل
يحل لهن أن يمسسن منه ما كان يحل لهن أن ينظرن منه إليه وهو حي فإذا بلغن الموضع
الذي لا يحل لهن النظر إليه ولا مسه وهو حي صببن الماء عليه صبا ".
أقول: هذا ما وقفت عليه من أخبار المسألة، والشيخ وجملة ممن تبعه قد حملوا

(1) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
(3) ص 395.
(4) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
(5) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
(6) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب غسل الميت.
400

هذه الأخبار الأخيرة على الاستحباب كما هي قاعدتهم المطردة في جميع الأبواب. وأنت
خبير بما هي عليه من الاختلاف والاضطراب ومنافاة بعضها بعضا، ففي بعض التغسيل
من وراء الثياب وفي آخر يغسل منها موضع الوضوء وفي ثالث يغسل كفيها وفي رابع
الأمر بالتيمم وفي خامس يغسل منها ما أوجب الله تعالى عليه التيمم وفي سادس المنع
من التغسيل من وراء الثوب الذي دل عليه بعضها والأمر بغسل الكفين خاصة وفي سابع
يؤزرنه إلى الركبتين ويصببن عليه الماء صبا، ومن الظاهر البين أن العمل بهذه الأخبار
يتوقف أولا على الجميع بينها على وجه يندفع به التنافي، وأنى به سيما مع ما تدل عليه من
جواز النظر والمباشرة الذين لا ريب في تحريمها خصوصا الرواية الأخيرة الدالة على جواز
مس النساء للرجل ما كان يحل لهن النظر إليه منه في حال حياته. وبالجملة فالاعراض عنها
وردها إلى قائلها هو الأظهر والعمل على هذا المسألة على ما هو الأشهر. وأما خبر أبي حمزة
وخبر عبد الله بن سنان المذكور بعده فالظاهر حملهما على المحارم فلا يكونان من أخبار
هذه المسألة، ويدل على ذلك قوله في الثاني منهما: " ويستحب أن يلف على يديه خرقة "
المشعر بجواز المس. والله العالم.
(المسألة السادسة) - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه مع تعذر
المسلم والمحرم يجوز أن يغسل الكافر المسلم وهكذا المرأة المسلمة تغسلها الكافرة إذا لم تكن
مسلمة ولا محرم ويكون ذلك بعد اغتسال الكافر والكافرة، واستدلوا على ذلك بما رواه
المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الموثق عن عمار عن الصادق (عليه السلام) (1)
في حديث قد تقدم صدره وفيه قال: " قلت فإن مات رجل مسلم وليس معه رجل مسلم ولا
امرأة مسلمة من ذوي قرابته ومعه رجال نصارى ونساء مسلمات ليس بينه وبينهن قرابة؟
قال يغتسل النصارى ثم يغسلونه فقد اضطر. وعن المرأة المسلمة تموت وليس معها امرأة
مسلمة ولا رجل مسلم من ذوي قرابتها ومعها نصرانية ورجال مسلمون ليس بينها وبينهم

(1) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب غسل الميت وقد تقدم صدره ص 394.
401

قرابة؟ قال تغتسل النصرانية ثم تغسلها... الحديث " ورواية عمرو بن خالد عن زيد
ابن علي المتقدمة في سابق هذه المسألة (1) أقول: ويدل عليه أيضا ما ذكر في الفقه
الرضوي حيث قال (عليه السلام) (2): " وإن مات ميت بين رجال نصارى
ونسوة مسلمات غسله الرجال النصارى بعد ما يغتسلون، وإن كان الميت امرأة مسلمة
بين رجال مسلمين ونسوة نصرانية اغتسلت نصرانية وغسلتها ".
قال المحقق في المعتبر بعد نقل الخبرين الأوليين: " وعندي في هذا توقف والأقرب
دفنها من غير غسل لأن غسل الميت يفتقر إلى النية والكافر لا تصح منه نية القربة
ثم طعن في الحديث الأول بأن السند كله فطحية وهو مناف للأصل والحديث الثاني بأن
رجاله زيدية وحديثهم مطرح بين الأصحاب. وفيه ما عرفت فيما تقدم في غير موضع
من منافاة هذا الكلام لما قرره في صدر كتابه مما ملخصه أن ضعف الخبر لا يوجب
الطعن مع عمل الأصحاب به واتفاقهم على القول بمضمونه، والأمر هنا كذلك فإنه لم يظهر
لهذا الحكم مخالف قبله وإن تبعه فيه بعده من تبعه، ومتى ثبت قبول الخبرين فلا وجه لما
ذكره من الكلام في أمر النية فإنه متى دل الدليل على الجواز دل على صحة نية الكافر
وصار الطعن بما ذكره اجتهادا في مقابلة النص.
قال شيخنا الشهيد (رحمه الله) في الذكرى بعد ذكر الحكم المذكور: " ولا أعلم
مخالفا لهذا من الأصحاب سوى المحقق في المعتبر محتجا بتعذر النية من الكافر مع
ضعف السند. وجوابه منع النية هنا أو الاكتفاء بنية الكافر كالعتق والضعف منجبر
بالعمل، فإن الشيخين نصا عليه وابنا بابويه وابن الجنيد وسلار والصهر شتى وابن حمزة
والمحقق في غير المعتبر وابن عمه نجيب الدين يحيى بن سعيد. نعم لم يذكره ابن
أبي عقيل ولا الجعفي ولا ابن البراج في كتابيه ولا ابن زهرة ولا ابن إدريس ولا الشيخ

(1) ص 399
(2) ص 18.
402

في الخلاف، وللتوقف فيه مجال لنجاسة الكافر في المشهور فكيف يفيد غيره الطهارة؟ " انتهى
وهو جيد.
أقول: لا يخفى أن الأخبار مختلفة في طهارة أهل الكتاب ونجاستهم وهذه الأخبار
من جملة ما يدل على الطهارة، فمن ترجح عنده القول بالطهارة فلا اشكال عنده في هذه
المسألة من هذه الجهة، ومن ترجح عنده القول بالنجاسة، كما هو الأظهر - فللتوقف
في هذا الحكم عنده مجال وإن كان ظاهر الكل ممن قال بالطهارة أو النجاسة قد حكموا
بصحة هذا الحكم هنا، وهو مشكل كما ذكره شيخنا المشار إليه.
فرع
قال في الذكرى: " لو وجد بعد الغسل الاضطراري فاعل الاختياري فلا إعادة
في غير من غسله كافر للامتثال، والأقرب الإعادة في الكافر لعدم الطهارة الحقيقية " انتهى
أقول: هذه الأقربية إنما تتم على القول بنجاسة أهل الكتاب كما أشرنا إليه آنفا وأما
على القول بطهارتهم فيصير الحكم فيه كسائر الأفراد الاضطرارية من عدم وجوب
الإعادة بل لا يبعد القول بتعين الإعادة على القول بالنجاسة، وبالجملة فإن من حكم
بالأخبار المذكورة وأوجب الغسل في الصورة المشار إليها من غير توقف عنده ولا اشكال
فلا وجه للقول بالإعادة عنده، لأن المأمور به في تلك الحال هو الغسل على هذه الكيفية
وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء، وأما من توقف في العمل بالأخبار وحصل له الاشكال
بما ذكرناه في هذا المجال فلا ريب في تحتم الإعادة عنده لعدم حصول يقين البراءة عنده
بذلك الغسل، وبه يظهر ما في كلام صاحب الذخيرة في هذا المقام حيث إنه بعد أن
ذكر المسألة وما ورد فيها من الخبرين المتقدمين ونقل عن المحقق استضعاف الخبرين وأن
الكافر لا تصح منه القربة اعترضه فقال: " وفيه منع، ثم قال: والظاهر عدم العدول
عن الخبرين لما أشرنا إليه آنفا من أن الظاهر جواز العمل بالأخبار الموثقة خصوصا مع
403

اعتضادها بغيرها وبالشهرة بين الأصحاب وسلامتها من المعارض وتأيدها بالعمومات،
ثم قال: وهل تجب إعادة الغسل لو وجد من يجوز من يجوز له تغسيله من المسلمين؟ فيه قولان أقربهما
نعم لأن المأمور به لم يوجد للتعذر فإذا ارتفع العذر لم يكن هنا معدل عن وجوبه " وفيه
أن مقتضى الكلام الأول صحة العمل بالخبرين المذكورين وقبولهما من غير اشكال لما
ذكره من المؤيدات ومقتضى ذلك عدم وجوب الإعادة، وقوله في الكلام الثاني: " لأن
المأمور به لم يوجد " إن أراد المأمور به من أن يغسله مسلم فهو غير مسلم لأن المأمور به
في الحال المذكورة إنما هو غسل الكافر لتعذر المسلم فالمسلم غير مأمور به لتعذره وإلا
للزم تكليف ما لا يطاق إذ الفرض تعذره فكيف يؤمر به والحال كذلك؟ ومتى ثبت
أن المأمور به في تلك الحال إنما هو الكافر للخبرين المذكورين المؤيدين عنده بما ذكر
من وجوه التأييدات ثبت عدم الإعادة لأن امتثال الأمر يقتضي الاجزاء والإعادة
تحتاج إلى دليل وليس فليس، وهذا بحمد الله سبحانه واضح لا شبهة فيه. والله العالم.
وفي المقام فوائد: (الأولى) - هل يصح الغسل من المميز أم لا؟ قولان،
وتفصيل الكلام في المقام أن يقال إن غسل الميت إن كان إنما هو لتطهيره من نجاسة
الموت من غير أن تعتبر فيه النية - كما هو أحد القولين في المسألة - فلا كلام في وقوعه
من المميز فإنه كغسل الثوب من النجاسة، وإن اعتبرنا فيه النية بناء على أنه عبادة - كما
هو المشهور والمؤيد المنصور - فاحتمالان: أحدهما صحة ذلك لأن المميز يصح منه نية
القربة ولأنه مأمور بالعبادة وهو يستلزم صحة نية القربة منه وإلا لامتنع الأمر له بذلك
واختار ذلك العلامة في بعض كتبه والمحقق في المعتبر، والثاني العدم لعدم وقوع النية منه
على الوجه المعتبر شرعا لأنه تمرين، وبه قال الشهيد في الدروس، وقال في الذكرى:
" المميز صالح لتغسيل الميت لصحة طهارته وأمره بالعبادة، ويمكن المنع لأن فعله تمرين
والنية معتبرة " انتهى. وهو مؤذن بنوع توقف في ذلك. والظاهر عندي هو الأول
للأخبار الكثيرة الواردة في جواز عتق ابن عشر سنين ووصيته وصدقته ونحو ذلك،
404

وسيأتي في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى ما فيه مزيد تحقيق للمقام.
(الثانية) - منع صاحب الفاخر من تغسيل الجنب والحائض الميت، فإن
أراد التحريم فهو مردود برواية يونس بن يعقوب المتقدمة عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " لا تحضر الحائض الميت ولا الجنب عند التلقين ولا بأس أن يليا غسله " وبه
صرح ابن بابويه. وقد تقدم نقل ذلك أيضا عن الفقه الرضوي (2).
(الثالثة) - إذا فقد الزوج والنساء في المرأة ووجد الأب والجد فالمشهور أن
الأب أولى لكونه هو الأولى بالميراث، ونقل عن ابن الجنيد أن الجد أولى لصلاحيته
لولاية الأب ولتقديمه في النكاح. ورد بأنه معارض بالقرب وتقدمه في الحضانة. والله العالم.
(المقام الثاني) - في المغسول وهو المسلم الغير الشهيد ويلحق به صدره منضما
أو منفردا اجماعا نصا وفتوى، وتفصيل هذه الجملة يقع في مسائل:
(الأولى) - المشهور بين المتأخرين أن كل مظهر للشهادتين وإن لم يكن
معتقدا للحق يجوز تغسيله عدا الخوارج والغلاة فيغسله غسل المخالفين، ولو تعذر معرفته
غسله غسل الإمامية. وقال المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة: " ولا يجوز لأحد من
أهل الايمان أن يغسل مخالفا للحق في الولاية ولا يصلي عليه وإلا أن تدعو ضرورة إلى
دلك من جهة التقية " واستدل له الشيخ في التهذيب بأن المخالف لأهل الحق كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكافر إلا ما خرج بدليل وإذا كان غسل الكافر لا يجوز فيجب أن يكون غسل المخالفين أيضا غير جائز، ثم قال: والذي يدل على أن غسل الكافر لا يجوز
اجماع الإمامية لأنه لا خلاف بينهم في أن ذلك محظور في الشريعة. أقول: وهذا القول
عندي هو الحق الحقيق بالاتباع لاستفاضة الأخبار بكفر المخالفين وشركهم ونصبهم
ونجاستهم كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما
يترتب عليه من المطالب. وممن اختار هذا القول ابن البراج أيضا على ما نقل عنه،

(1) المروية في الوسائل في الباب 43 من أبواب الاحتضار
(2) الفقه ص 17.
405

وهو لازم للمرتضى وابن إدريس لقولهما بكفر المخالف إلا أني لم أقف على نقل مذهبهما في هذه
المسألة، لكن ابن إدريس صرح بذلك في السرائر في مسألة الصلاة بعد أن اختار مذهب المفيد
في عدم جواز الصلاة على المخالف، فقال ما هذا لفظه: " وهو أظهر ويعضده القرآن وهو
قوله تعالى: " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا... " (1) يعني الكافر، والمخالف لأهل
الحق كافر بلا خلاف بيننا " وبذلك صرح جملة من متأخري المتأخرين: منهم - الفاضل
المولى محمد صالح المازندراني في شرح أصول الكافي، حيث قال: " ومن أنكرها
يعني الولاية فهو كافر حيث أنكر أعظم ما جاء به الرسول وأصلا من أصوله " ومنهم -
الفاضل المحقق المولى أبو الحسن الشريف المجاور بالمشهد الغروي على مشرفه أفضل الصلاة
والسلام على ما وجدته في شرحه على الكفاية وهو من أفضل تلامذة شيخنا المجلسي،
حيث إن صاحب الكتاب المذكور ممن يحكم باسلام المخالفين تبعا للمشهور بين المتأخرين
حيث قال في مطاوي كلام له: " وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله ورسوله ومن
كفر بالأئمة؟ مع أن كل ذلك من أصول الدين إلى أن قال: ولعل أصل الشبهة عندهم
زعمهم كون المخالف مسلما حقيقة، وهو توهم فاسد مخالف للأخبار المتواترة، والحق
ما قاله علم الهدى من كونهم كفارا مخلدين في النار، ثم نقل بعض الأخبار الدالة على
ذلك ثم قال: إن الأخبار أكثر من أن تحصى وليس هذا موضع ذكرها وقد تعدت عن
حد التواتر، وعندي أن كفر هؤلاء من أوضح الواضحات في مذهب أهل البيت (عليهم
السلام) " انتهى كلامه. وأما ما استدل به في الذكرى - أن محل الغسل المسلم من قول
الصادق (عليه السلام): " اغسل كل الموتى إلا من قتل بين الصفين " (2) - ففيه أنه على
عمومه غير معمول عليه لتصريحهم باستثناء بعض الموتى كما قدمنا نقله عنهم في صدر المسألة
فكما استثنى من ذكروه بالأدلة الدالة على الكفر فكذا ما ندعيه للأدلة الصحيحة
الصريحة الدالة على كفر هؤلاء المذكورين، وليس هذا موضع ذكرها ومن أحب الوقوف

(1) سورة التوبة. الآية 85.
(2) الوسائل الباب 14 من غسل الميت.
406

عليها فليرجع إلى كتابنا المذكور آنفا. وقال صاحب المدارك هنا بعد أن نقل كلام
الشيخين المذكورين ما لفظه: " والمسألة قوية الاشكال وإن كان الأظهر عدم وجوب
تغسيل غير المؤمن " واقتفاه في الذخيرة أيضا فقال: " ولم أطلع على دليل يدل على
وجوب الغسل لكل مسلم ولا اجماع ههنا والأصل يقتضي عدم وجوب تغسيل غير
المؤمن " انتهى. ولا يخفى ما فيه بعد الإحاطة بما أسلفناه، فإنه مع ثبوت الحكم
بالاسلام فالواجب اجراء جميع أحكامه ولو بالأدلة العامة إن لم توجد الخاصة بذلك
الجزئي، والعمومات الدالة على غسل الميت موجودة ومع الحكم باسلام المخالف فلا وجه
للعدول عنها. وبالجملة فإن الأصحاب في هذه المسألة بين قائلين إما بالاسلام فيجب الغسل
البتة أو بالكفر فلا يجب بلا لا يجوز، واحداث هذا القول في البين مما لا وجه له.
تنبيهات: (الأول) - لا خلاف نصا وفتوى في أن المتولد من المسلم في حكم المسلم
طفلا كان أو مجنونا أو سقطا لأربعة أشهر فصاعدا، وقد تقدم في المسألة الرابعة من المقام
المتقدم (1) جملة من أخبار غسل الصبي والصبية. وأما ما يدل على حكم السقط فجملة من
من الأخبار أيضا، ومنها - ما رواه في الكافي عن زرارة عن الصادق (عليه السلام) (2)
قال: " السقط إذا تم له أربعة أشهر غسل " وعن سماعة في الموثق عن أبي الحسن الأول
(عليه السلام) (3) قال: " سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل واللحد
والكفن؟ فقال كل ذلك يجب عليه " ورواه الشيخ في الموثق أيضا مثله بأدنى تفاوت (4)
وما رواه الشيخ عن أحمد بن محمد عمن ذكره (5) قال: " إذا تم للسقط أربعة أشهر
غسل... الحديث " وفي الفقه الرضوي (6) " وإذا أسقطت المرأة وكان السقط تاما
غسل وحنط وكفن ودفن، وإن لم يكن تاما فلا يغسل ويدفن بدمه وحد تمامه إذا
أتى عليه أربعة أشهر " وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه، وقال في المدارك بعد ذكر

(1) ص 396
(2) الوسائل الباب 12 من غسل الميت.
(3) الوسائل الباب 12 من غسل الميت.
(4) الوسائل الباب 12 من غسل الميت.
(5) الوسائل الباب 12 من غسل الميت.
(6) ص 19.
407

مرفوعة محمد بن أحمد ثم موثقة سماعة ما لفظه: " ثم لا يخفى أن الحكم في الرواية الثانية
وقع معلقا على استواء الخلقة لا على بلوغ الأربعة اللهم إلا أن يدعى التلازم بين الأمرين
واثباته مشكل " انتهى. أقول: لا اشكال بحمد الملك المتعال بعد ورود ذلك في أخبار
الآل (عليهم صلوات ذي الجلال)، ومنها - ما رواه في الكافي (1) في الموثق عن الحسن
ابن الجهم قال: " سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: قال أبو جعفر (عليه
السلام) إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوما ثم تصير
مضغة أربعين يوما فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله تعالى ملكين خلاقين فيقولان يا رب
ما تخلق ذكرا أو أنثى؟ فيؤمران... الحديث " وعن محمد بن إسماعيل أو غيره (2) قال:
" قلت لأبي جعفر (عليه السلام) جعلت فداك ندعو للحبلى أن يجعل الله تعالى ما في
بطنها ذكرا سويا؟ قال تدعو ما بينه وبين أربعة أشهر فإنه أربعين ليلة نطفة وأربعين
ليلة علقة وأربعين ليلة مضغة فذلك تمام أربعة أشهر ثم يبعث الله تعالى ملكين
خلاقين... الحديث " ونحو ذلك أيضا صحيحة زرارة (3).
وهذه الأخبار - كما ترى - صريحة في أنه بتمام الأربعة تمت خلقته، وبذلك صرح
(عليه السلام) في الفقه الرضوي كما سمعت. وأما ما رواه الشيخ عن محمد بن الفضيل (4)
قال: " كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) أسأله عن السقط كيف يصنع به؟ قال السقط
يدفن بدمه في موضعه " فحملها الشيخ ومن تبعه على من نقص عن الأربعة، وهو جيد
بقي الكلام في أنه بعد غسله هل يجب تكفينه أو يلف بخرقة ويدفن: قولان
وبالأول صرح الشهيد في الذكرى وجمع من الأصحاب وبالثاني المحقق، والظاهر الأول لما
عرفت من دلالة موثقة سماعة على ذلك وكذا عبارة كتاب الفقه، والظاهر أن المراد منه
التكفين بالقطع الثلاث لأنه المتبادر من اللفظ.

(1) ج 2 ص 85.
(2) ج 2 ص 85.
(3) ج 2 ص 85.
(4) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب غسل الميت.
408

ولو نقص السقط عن الأربعة سقط غسله، وذكر الأصحاب أنه يجب لفه في
خرقة ولم أقف على مستنده. والمفهوم من عبارة كتاب الفقه هو أنه يدفن بدمه من غير
تعرض للفه، وكذا رواية محمد بن الفضيل المتقدمة المحمولة على ما قبل الأربعة.
(الثاني) - قيل ويلحق بالمسلم أيضا في الحكم المذكور مسبيه ولقيط دار
الاسلام أو دار الكفر وفيها مسلم صالح للاستيلاد بحيث يمكن الحاقه به والطفل المتخلق
من الزنا، واستشكل الشهيد الثاني في كون الطفل المسبي إذا كان السابي مسلما والطفل
المتخلق من ماء الزاني بحكم المسلم فيجب تغسيلهما، نظرا إلى الشك في تبعية المسبي في
جميع الأحكام وإنما المعلوم تبعيته في الطهارة وعدم لحوق الثاني بالزاني شرعا، وإلى اطلاق
الحكم بالتبعية وكون الثاني ولدا لغة فيتبعه في الاسلام كما يحرم نكاحه. انتهى. وهو جيد
وأما ابن الزنا البالغ المظهر للاسلام فلا خلاف في وجوب تغسيله كما ادعاه في
المنتهى إلا من قتادة كما ذكره.
(الثالث) - المفهوم من عبائر كثير من الأصحاب في غسل المخالف هو الجواز
على كراهية حيث إنهم صرحوا بأنه يجوز غسله وصرحوا في المكروهات بأنه يكره،
والظاهر أن المراد من الجواز هنا هو معناه الأعم فيدخل فيه الجواب، قال شيخنا
صاحب رياض المسائل: " وفي وجوب تغسيل المخالف غير المحكوم بكفره كالناصب
ونحوه خلاف والأكثر على الوجوب، وما يظهر من عبارات كثير من الأصحاب من
الحكم بالجواز فالمراد به الجواز بالمعنى الأعم الشامل للواجب، وما في بعضها من الحكم
بجوازه على كراهية ربما ظهر منه عدم الوجوب في بادي الرأي وليس كذلك بل الكراهة
في متعلقه أي التعرض لتغسيله مع وجود الغير من المخالفين أو بمعنى نقص الثواب
أي أن تغسيله ليس كتغسيله المؤمن في الأجر " انتهى. وقال في المدارك - بعد قول
المصنف في تعداد المكروهات: وأن يغسل مخالفا فإن اضطر غسله غسل أهل الخلاف -
ما لفظه: " المراد بالكراهة هنا معناها المتعارف في العبادات إن ثبت وجوب تغسيل
409

المخالف وإلا كان تغسيله مكروها بالمعنى المصطلح أو محرما وقد تقدم الكلام فيه، وأما
تغسيله غسل أهل الخلاف فربما كان مستنده ما اشتهر من قولهم (عليهم السلام) (1):
" الزموهم بما ألزموا به أنفسهم " ولا بأس به " انتهى.
أقول: لا يخفى ما في هذه الكلمات كملا من الاختلال والاضطراب والخروج
عن جادة الحق والصواب، وذلك أنه متى ثبت بالأدلة المروية وجوب تغسيل المسلمين
وأن الخطاب متوجه إلى كافة المكلفين وأن الغسل الشرعي الذي أمر به الشارع هو أن يكون على هذه الكيفية المشهورة بين الإمامية فالواجب على من توجه إليه الخطاب من
المسلمين الموجودين أن يغسل هذا الميت المسلم بهذه الكيفية المنصوصة مخالفا كان أو مؤالفا
فما ذكروه من هذه الكراهة ومن التعبير بالجواز ومن التخصيص بحال الاضطرار فكله
مما لا يعرف له وجه وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه، فإنهم كما أوجبوا اجراء أحكام
الاسلام على المخالف في حال الحياة من الحكم بطهارته ومناكحته وحقن ماله ودمه
وموارثته ونحو ذلك فكذا بعد الموت، وأي دليل دل على الفرق بين الحالين حتى يتم
ما ذكروه من هذه التخريجات؟ فإن الجميع مرتب على الاسلام، والقائلون بمنع تغسيله
إنما صاروا إليه من حيث حكمهم بالكفر وهو ظاهر، وأما مع الحكم بالاسلام فكما أنه
لا فرق بينه وبين المؤمن في حال الحياة في تلك الأحكام فكذلك بعد الممات إلا أن
يدل دليل على الفرق وليس فليس، وأيضا فإن الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل
وأي دليل على كراهة غسل المخالف مع الحكم باسلامه؟ فإن كان لمجرد كونه مخالفا فلأي شئ
لم يثبتوا هذه الكراهة في الأحكام المترتبة على الحياة بل جعلوه مثل المؤمن مطلقا؟ على أن
الكراهة في العبادات إنما هو باعتبار وقوع العبادة على أنواع بعضها أكثر ثوابا وبعضها أقل
ثوابا بالنسبة إلى أصل العبادة الخالية مما يوجب الراجحية أو المرجوحية كما تقدم تحقيقه، وهذا

(1) المروي في الوسائل في الباب 29 من مقدمات الطلاق وشرائطه والباب 4 من
ميراث الأخوة والأجداد.
410

مما لا مجال له في هذا المقام، لأن غسل المسلمين كملا واجب وهذا أحدهم ولم يرد هنا ما يدل
على أفضلية غسل نوع من أنواع المسلمين وأكثرية ثوابه وأقلية آخر، ولو أريد باعتبار
نقصان قدر المخالف وانحطاط درجته وإن كان مسلما جرى ذلك في الجاهل من المسلمين
والمستضعفين بالنسبة إلى العالم الفاضل الورع مع أنهم لم يصرحوا هنا بالكراهة، وأيضا فإنه
على تقدير عدم الوجوب كما ذهب إليه في المدارك فإنه لا معنى لهذه الكراهة التي ذكرها بالمعنى
المصطلح لأن محلها الأمور الراجحة الترك الجائزة والغسل عندهم من العبادات الشرعية
كما صرحوا به، وحينئذ فإن تم الدليل على وجوبه كان واجبا وإن لم يثبت كان محرما
ولا وجه للقول بالجواز فيه حتى يمكن اجراء الكراهة بالمعنى المصطلح فيه. وأما كون
غسل المخالفين مخالفا لغسل الإمامية فهو أيضا لا يسوغ لهم العدول عن الغسل الشرعي
عندهم المأمورين به إذ الخطاب المتعلق بهم والوجوب الذي لزمهم باعترافهم إنما هو بهذا الغسل
المعمول عليه عندهم فالاتيان بغيره غير مبرئ للذمة، وأما ما ذكره المحقق من الضرورة
فإنه لا معنى له على القول بالاسلام ووجوب تغسيلهم كما هو مذهبه، بل الضرورة إنما
تتجه على مذهب من قال بتحريم غسلهم كما تقدم في عبارة المفيد القائل بتحريم غسلهم
لكفرهم، فإنه قد تلجئه التقية من المخالفين إلى مداخلتهم ومساعدتهم في مثل هذا وغيره
فيغسله غسلهم، وأما من يوجب غسله كغيره من المؤمنين فإنه لا يجد بدا من القيام به
لوجوبه عليه كفاية أو عينا إن انحصر الأمر فيه ولا يتوقف تغسيله له على الضرورة، نعم ربما
تكون الضرورة بالتقية ملجئة إلى الانتقال من غسله غسل أهل الحق إلى تغسيله غسل المخالفين،
فالضرورة ليست متعلقة بأصل الغسل وإنما هي بالانتقال من أحد الفردين إلى الآخر،
وبذلك يظهر ما في استدلاله في المدارك بالخبر المذكور على ذلك فإنه لا معنى له وإنما
المستند التقية. وبالجملة فإني لا أعرف لهذه الكلمات الملفقة في هذا المقام وجها يبتنى عليه
الكلام وينتسق به النظام بل هو أظهر في البطلان من أن يحتاج بعد ما ذكرناه إلى
مزيد بيان والله العالم
411

(الرابع) - الظاهر أنه لا خلاف في أنه لا يجوز للمسلم تغسيل الكافر وإن كان
ذميا ولا تكفينه ولا دفنه ولو كان من قرابته أبا أو أما أو نحوهما، ونقل في الذكرى الاجماع
عليه واستدل بالآية وهي قوله سبحانه: "... ومن يتولهم منكم فإنه منهم... " (1) قال
وأولادهم يتبعونهم. أقول: ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار
ابن موسى عن الصادق (عليه السلام) (2): " أنه سئل عن النصراني يكون في السفر وهو
مع المسلمين فيموت؟ قال لا يغسله مسلم ولا كرامة ولا يدفنه ولا يقوم على قبره وإن كان
أباه " ورواه الصدوق بإسناده عن عمار مثله، ورواه الكليني مثله إلى قوله: " ولا يقوم
على قبره " (3) ونقل المحقق في المعتبر عن شرح الرسالة للمرتضى أنه روى فيه عن
يحيي بن عمار عن الصادق (عليه السلام) النهي عن تغسيل المسلم قرابته الذمي والمشرك
وأن يكفنه ويصلي عليه ويلوذ به (4) وروى أحمد بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج
عن صالح بن كيسان (5): " أن معاوية قال للحسين (عليه السلام) هل بلغك ما صنعنا
بحجر بن عدي وأصحابه شيعة أبيك؟ فقال (عليه السلام) وما صنعت بهم؟ قال قتلناهم
وكفناهم وصلينا عليهم. فضحك الحسين (عليه السلام) فقال خصمك القوم يا معاوية
لكنا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا غسلناهم ولا صلينا عليهم ولا دفناهم " وعن المرتضى
في شرح الرسالة أنه قال: " فإن لم يك له من يواريه جاز مواراته لئلا ينتفخ " قال في
الذكرى - بعد نقل ذلك عن المرتضى والاحتجاج بقوله تعالى: "... وصاحبهما في الدنيا
معروفا... " (6) وبتغسيل علي (عليه السلام) أباه وبجواز تغسيله حيا - يرد بأن ما بعد الموت
من الآخرة لا من الدنيا، ونمنع كون ذلك معروفا لأنه لم يعلم التجهيز إلا من الشرع
فيقف على دلالة الشرع، وأبو علي (عليه السلام) قد قامت الأدلة القطعية على أنه مات

(1) سورة المائدة. الآية 51.
(2) رواه في الوسائل في الباب 18 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 18 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 18 من أبواب غسل الميت.
(5) رواه في الوسائل في الباب 18 من أبواب غسل الميت.
(6) سورة لقمان. الآية 14.
412

مسلما وهذا من جملتها، والغسل حيا للتنظيف لا للتطهير بخلاف غسل الميت. انتهى.
وهو جيد. والله العالم.
(المسألة الثانية) - لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن
الشهيد وهو الذي قتل بين يدي الإمام (عليه السلام) ومات في معركة الحرب - لا يغسل
ولا يكفن وإنما يصلي عليه ويدفن، قال في المعتبر: إنه اجماع أهل العلم خلا سعيد بن
المسيب والحسن فإنهما أوجبا غسله لأن الميت لا يموت حتى يجنب، قال: ولا عبرة
بكلامهما. وبنحو ذلك صرح العلامة في المنتهى.
والأصل في هذه المسألة عدة من الأخبار: منها - ما رواه ثقة الاسلام في
الصحيح عن أبان بن تغلب (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذي يقتل
في سبيل الله تعالى أيغسل ويكفن ويحنط؟ قال يدفن كما هو في ثيابه إلا أن يكون به
رمق ثم مات فإنه يغسل ويكفن ويحنط ويصلي عليه، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
صلى على حمزة وكفنه لأنه كان قد جرد " ورواه في الفقيه بطريقه إلى أبان مثله.
وعن زرارة وإسماعيل بن جابر في الصحيح عن الباقر (2) قال: " قلت له
كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه؟ قال نعم في ثيابه بدمائه ولا يحنط ولا يغسل ويدفن
كما هو، ثم قال دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمه حمزة في ثيابه بدمائه التي
أصيب فيها ورداه النبي بردائه فقصر عن رجليه فدعا له بإذخر فطرحه عليه وصلى
عليه سبعين صلاة وكبر عليه سبعين تكبيرة ".
وعن أبي مريم (3) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الشهيد إذا
كان به رمق غسل وكفن وحنط وصلي عليه وإن لم يكن به رمق دفن في أثوابه " ورواه
في الفقيه بسنده إلى أبي مريم مثله.
وعن أبان بن تغلب في الصحيح أو الحسن (4) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه

(1) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
413

السلام) يقول: الذي يقتل في سبيل الله تعالى يدفن في ثيابه ولا يغسل إلا أن يدركه
المسلمون وبه رمق ثم يموت بعد فإنه يغسل ويكفن ويحنط، إن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) كفن حمزة في ثيابه ولم يغسله ولكنه صلى عليه ".
وعن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) (1) قال: " قال
أمير المؤمنين (عليه السلام) ينزع عن الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة
والسراويل إلا أن يكون أصابه دم فإن أصابه دم ترك ولا يترك عليه شئ معقود إلا حل "
وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي خالد (2) قال: " اغسل كل شئ من
الموتى الغريق وأكيل السبع وكل شئ إلا ما قتل بين الصفين فإن كان به رمق
غسل وإلا فلا ".
وعن عمرو بن خالد عن زيد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه
السلام) (3) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا مات الشهيد من يومه
أو من الغد فواروه في ثيابه وإن بقي أياما حتى تتغير جراحته غسل ".
وما رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (4)
" أن عليا (عليه السلام) لم يغسل عمار بن ياسر ولا هاشم بن عتبة المرقال ودفنهما في
ثيابهما ولم يصل عليهما " ورواه الصدوق مرسلا (5) ثم قال: " هكذا روي لكن الأصل
أن لا يترك أحد من الأمة إذا مات بغير صلاة ".
وقال في الفقيه الرضوي (6): " وإن كان الميت قتيل المعركة في طاعة الله لم يغسل
ودفن في ثيابه التي قتل فيها بدمائه ولا ينزع منه من ثيابه شئ إلا أنه لا يترك عليه شئ
معقود مثل الخف وتحل تكته ومثل المنطقة والفروة، وإن أصابه شئ من دمه لم ينزع
عنه شئ إلا أنه يحل المعقود، ولم يغسل إلا أن يكون به رمق ثم يموت بعد ذلك فإن

(1) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
(5) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت.
(6) ص 18.
414

مات بعد ذلك غسل كما يغسل الميت وكفن كما يكفن الميت ولا يترك عليه شئ من
ثيابه، وإن كان قتل في معصية الله تعالى غسل كما يغسل الميت وضم رأسه لي عنقه
ويغسل مع البدن كما وصفناه في باب الغسل فإذا فرغ من غسله جعل على عنقه قطنا وضم
إليه الرأس وشده مع العنق شدا شديدا " انتهى.
أقول: والكلام في هذه الأخبار العلية المنار يقع في مواضع: (الأول) - المفهوم
من جملة من أخبار المسألة أن من قتل في معركة الجهاد السائغ ولو مع غيبة الإمام (عليه
السلام) كما إذا دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الاسلام فهو شهيد يجب أن يعمل
به ما تضمنته هذه الأخبار، ونقل عن الشيخين (نور الله مرقديهما) تقييد ذلك بما
إذا كان مع الإمام أو نائبه وتبعهما على ذلك أكثر فيها قتله في سبيل الله كما في صحيحتي أبان
أو بين الصفين كما في رواية أبي خالد أو في المعركة كما في الفقه الرضوي، وبما ذكرناه
صرح المحقق في المعتبر حيث قال بعد اختياره ما اخترناه ونقل قول الشيخين وايراد
بعض أخبار المسألة - ما لفظه: " فاشتراط ما ذكره الشيخان زيادة لم تعلم من النص "
وهو حسن وبنحو ذلك صرح الشهيدان أيضا، ولا خلاف في أنه لا يشمل غير هؤلاء
ممن أطلقت الشهادة عليه.
(الثاني) - أنه قد ذكر جملة من الأصحاب بأنه قد أطلقت الشهادة في الأخبار
على المقتول دون أهله وماله وعلى المبطون والغريق وغيرهم والمراد به هنا ما هو أخص من
ذلك. أقول: الظاهر أن هذا التنبيه هنا مما لا حاجة إليه لأن مورد هذه الأخبار القتيل
في سبيل الله والقتيل بين الصفين وفي المعركة ونحو ذلك مما يختص بالفردين المتقدمين
أعني ما ذكره الشيخان ومن تبعهما من المقتول في معركة الإمام أو نائبه وما ذكره في المعتبر
من المجاهدين لمن دهم بلاد الاسلام، والتعبير بالشهيد وإن وقع في بعض الأخبار إلا أن قرينة
سياق باقي الخبر ظاهرة في كونه في الحرب كالأمر بنزع تلك الأشياء عنه إلا أن يصيبها
415

الدم ونحو ذلك. نعم هذا التنبيه يصلح بالنسبة إلى عبائر الأصحاب حيث إنهم إنما
يعبرون في هذه المسألة بالشهيد.
(الثالث) - المفهوم من كلام الأصحاب إناطة الفرق في الشهيد بين وجوب
تغسيله وعدمه بالموت في المعركة وعدمه فإن مات في المعركة فلا غسل وإن مات خارج
المعركة غسل كغيره، والمفهوم من الروايات المذكورة إناطة الفرق بادراكه وبه رمق
وعدمه فإن أدرك وبه رمق غسل وإلا فلا وهو أعم من أن يكون في معركة الحرب أم
خارجها، وعلى هذا فلو أدرك في المعركة وبه رمق ثم مات بعد ذلك فمقتضى الأخبار
أنه يغسل لصدق ادراكه وبه رمق وعلى كلام الأصحاب لا يغسل لصدق موته في
المعركة والجمع بين الأخبار وكلامهم (رضوان الله عليهم) لا يخلو من اشكال.
(الرابع) - اختلف الأصحاب فيما يدفن مع الشهيد المذكور من لباسه،
فقال الشيخ يدفن معه جميع ما عليه إلا الخفين، وقد روى أنه إذا أصابهما الدم دفنا معه
وقال في الخلاف يدفن بثيابه ولا ينزع منه إلا الجلود. وقال الشيخ المفيد يدفن بثيابه
التي قتل فيها وينزع عنه من جملتها السراويل إلا أن يكون أصابه دم فلا ينزع عنه ويدفن
معه وكذلك ينزع عنه الفرو والقلنسوة وإن أصابهما دم دفنا معه وينزع عنه الخف على كل
حال. وقال ابن بابويه في رسالته لا ينزع عنه شئ من ثيابه إلا الخف والفرو والمنطقة
والقلنسوة والعمامة والسراويل وإن أصاب شيئا من ثيابه دم لم ينزع عنه شئ. وقال ابن الجنيد
ينزع عنه الجلود والحديد والفرو والمنسوج مع غيره ويخلع عنه السراويل إلا أن يكون
فيه دم. وقال سلار لا ينزع عنه إلا سراويله وخفه وقلنسوته ما لم يصب شيئا منها دم
فإن أصابها دم دفنت معه ولم تنزع. وقال ابن إدريس يدفن معه ما يطلق عليه اسم
الثياب سواء أصابها دم أو لم يصبها، فأما غير الثياب فإن كان سلاحا لم يدفن وإن أصابه
الدم وإن كان غيره وهو الفرو والقلنسوة والخف فإن أصاب شيئا من ذلك دمه فقد
اختلف قول أصحابنا فيه فبعض ينزعه وإن كان قد أصابه دمه وبعض لا ينزعه إلا أن
416

يكون ما أصابه دمه فأما إن كان أصابه دمه فلا ينزعه. قال وهذا الذي يقوى عندي.
والمشهور بين المتأخرين هو دفنه بثيابه مطلقا أصابها الدم أو لم يصبها. وأما الجلود ونحوها
من السلاح فإنها تنزع أصابها الدم أو لم يصبها لعدم صدق الثياب عليها فلا تدخل في
النصوص الدالة على أنه يدفن بثيابه ويكون دفنها معه تضييعا. ودعوى اطلاق الثوب
على الجلود ممنوعة بأن المعهود عرفا هو المنسوج فينصرف إليه الاطلاق. أقول: لا يخفى أن
صحيحتي أبان (1) قد دلتا على أنه يدفن بثيابه ونحوهما صحيحة زرارة وإسماعيل بن جابر (2)
ورواية أبي مريم (3) وموثقة عمار (4) وعبارة الفقه الرضوي (5) وهي مطلقة في إصابة الدم
وعدمه وشاملة للسراويل وغيرها، واستثناء السراويل منها إلا إذا أصابه الدم - كما ذكره
شيخنا المفيد والشيخ علي بن بابويه وسلار - لا أعرف عليه دليلا إلا رواية عمرو بن خالد
الأولى (6) وقد اشتملت أيضا على الجلود وأنها تنزع إلا أن يكون أصابها الدم، والمتأخرون حيث
قصروا الحكم على الثياب ردوا هذه الرواية بضعف السند ولم يعملوا بها، ومثلها في ذلك
كلامه (عليه السلام) في الفقه الرضوي، والظاهر أنه هو مستند الشيخ علي بن بابويه إلا أن عبارة كتاب الفقه خالية من استثناء السراويل ولعله سقط من نسخة الكتاب الذي
عندي فإنها كثيرة الغلط لما عرفت وستعرف من أن رسالة الشيخ علي بن بابويه إنما أخذ
جلها من الكتاب المذكور، وبالجملة فالقول بمضمون الخبرين المذكورين في الجلود غير
بعيد حيث لا معارض لهما، وأما بالنسبة إلى السراويل كما دلت عليه رواية عمرو بن خالد
فالظاهر العمل في ذلك بالأخبار الكثيرة الدالة على الدفن بثيابه أصابها الدم أو لم
يصبها الشامل ذلك للسراويل وغيرها، بل ظاهر كلامه في كتاب الفقه الدفن في السراويل
لقوله (عليه السلام) بعد أن صرح أولا أنه لا يترك عليه شئ معقود: " وتحل
تكته " والتكة إنما هي في السروايل فهو ظاهر في الدفن فيها بعد حل التكة..
(الخامس) - المشهور بين الأصحاب أنه لا فرق في سقوط الغسل عن الشهيد

(1) ص 413
(2) ص 413
(3) ص 413
(4) ص 414
(5) ص 414
(6) ص 414
417

بين كونه جنبا أو غيره لاطلاق الأخبار المتقدمة أو عمومها، وعن ابن الجنيد أنه يغسل
ونسب هذا القول إلى السيد المرتضى (رضي الله عنه) في شرح الرسالة محتجا بأخبار
النبي (صلى الله عليه وآله) بغسل الملائكة حنظلة بن الراهب لمكان خروجه جنبا.
وأجيب عنه بأن تكليف الملائكة بذلك لا يدل على تكليفنا. وربما استدل له أيضا
بخبر العيص عن الصادق (عليه السلام) (1): " في الجنب يموت يغسل من الجنابة ثم
يغسل بعد غسل الميت " وأجيب عنه بأنه لا دلالة فيه على محل النزاع فلا يعارض به اطلاق
الأخبار المتقدمة أو عمومها مع أنه معارض بجملة من الأخبار الدالة على التداخل في
الأغسال كما سيأتي إن شاء الله تعالى في محلها، ومنها - صحيحة زرارة (2) قال: " قلت له
ميت مات وهو جنب كيف يغسل وما يجزيه من الماء؟ قال يغسل غسلا واحدا يجزي ذلك
عنه لجنابته ولغسل الميت لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة " وسيأتي بيان القول في
خبر العيص إن شاء الله تعالى في الموضع المشار إليه.
(السادس) - اطلاق الأخبار المتقدمة يقتضي عدم الفرق في الشهيد الذي
لا يغسل ولا يكفن بين الصغير والكبير ولا الرجل والمرأة ولا الحر والعبد ولا المقتول
بالحديد أو الخشب أو الصدم أو اللطم ولا بين من عاد سلاحه عليه فقتله وغيره، كل
ذلك عملا بالاطلاق المذكور، قيل إنه كان في قتلى بدر وأحد أطفال كحارثة بن النعمان
وعمرو بن أبي وقاص وقتل في الطف مع الحسين (عليه السلام) ولده المرضع ولم ينقل
في ذلك كله غسل وروى (3): " أن رجلا أصاب نفسه بالسيف فلفه رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بثيابه ودمائه وصلى عليه فقالوا يا رسول الله أشهيد هو؟ قال نعم وأنا
له شهيد " وبالجملة كل موجود في المعركة ميتا وفيه أثر القتل، وإنما وقع الخلاف في من
وجد كذلك خاليا من أثر القتل فحكم العلامة وجماعة - وقبلهم الشيخ وجمع ممن تبعه

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت
(2) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت
(3) رواه أبو داود في سننه ج 3 ص 21 رقم 2539
418

بل الظاهر أنه هو المشهور - بكونه شهيدا أيضا عملا بالظاهر ولأن القتل لا يستلزم ظهور
الأثر، وقيل ليس بشهيد للشك في الشرط وأصالة وجوب الغسل، ونسب إلى ابن الجنيد
وظاهر الشهيدين في الذكرى والروض التوقف حيث اقتصرا على نقل الخلاف، وهو
جيد لعدم النص في المسألة إلا أن مذهب ابن الجنيد هو الأوفق بالقواعد الشرعية.
(السابع) - صرح جملة من الأصحاب بأن عدم تكفين الشهيد كما ورد مشروط
ببقاء ثيابه عليه كما تدل عليه الأخبار من قولهم: " يدفن بثيابه " وإلا فلو جرد وجب
تكفينه واستدل على ذلك بصحيحة أبان بن تغلب الأولى (1) الدالة على أن النبي (صلى الله
عليه وآله) كفن عمه حمزة لأنه كان قد جرد. وما ذكروه جيد إلا أن الرواية المذكورة
لا تخلو من الاشكال لدلالة ما عداها من أخبار حمزة على أنه دفن بثيابه كما في صحيحة
زرارة وإسماعيل بن جابر (2) وإن تضمنت أن النبي (صلى الله عليه وآله) رداه
بردائه ونحوها رواية أبي مريم، ولعل وجه الجمع بين الجميع حمل صحيحة أبان على أنه
جرد من بعض أثوابه فجعل (صلى الله عليه وآله) الرداء الذي تضمنه الحديث
الآخر قائما مقام ما جرد منه وتممه بالإذخر كما في الخبر.
(الثامن) - ما تضمنه حديث عمار (3) - من أن أمير المؤمنين (عليه السلام)
لم يصل على عمار ولا على هاشم المرقال - قد رده الأصحاب لمخالفته للاجماع من وجوب
الصلاة على الشهيد والأخبار الدالة على ذلك وقد تقدم كلام الصدوق في ذلك، وحمله
الشيخ (رحمه الله) على وهم الراوي أولا ثم قال: ويجوز أن يكون الوجه فيه أن العامة
تروي ذلك عن علي (عليه السلام) فخرج هذا موافقا لهم وجزم في موضع آخر بحمله
على التقية (4) وهو جيد. وقد روى في قرب الإسناد عن أبي البختري وهب بن وهب

(1) ص 413
(2) ص 413
(3) ص 414
(4) في المبسوط للسرخسي ج 2 ص 49 " إذا قتل الشهيد في المعركة لا يغسل ولا
يصلي عليه عند الشافعي " وفي المغني ج 2 ص 528 " إذا مات في المعترك لا يغسل رواية
419

عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (1) " أن عليا (عليه السلام) لم يغسل عمار عن
ياسر ولا عتبة يوم صفين ودفنهما في ثيابهما وصلى عليهما ".
(التاسع) - ما تضمنه خبر عمرو بن خالد الثاني (2) - من أنه إذا مات الشهيد
من يومه أو من الغد فواروه في ثيابه... الخ - ظاهر المخالفة لجملة أخبار المسألة ولاتفاق
الأصحاب من أن الدفن بثيابه من غير غسل إنما هو لمن لم يدرك وبه رمق وإلا فلو أدرك
وبه رمق وجب تغسيله كغيره وحمله الأصحاب على التقية لموافقته للعامة (3) وهو جيد.
(العاشر) ما تضمنه خبر عمرو بن خالد الأول (4) وكذا كلامه (عليه
السلام) في كتاب الفقه (5) - من الأمر بحل ما كان معقودا عليه من اللباس الذي عليه
كالسراويل والخف على تقدير القول بدفنه فيه ونحوهما - مما لم يتعرض له الأصحاب في
هذا المقام فيما أعلم، ويجب العمل بذلك لدلالة الخبرين المذكورين من غير معارض في البين.
(الحادي عشر) - ما تضمنه كلامه (عليه السلام) في كتاب الفقه من.

واحدة وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه خلافا إلا عن الحسن وسعيد بن المسيب
وأما الصلاة عليه فالصحيح لا يصلى عليه وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وعن أحمد
رواية أنه يصلى عليه اختارها الخلال وهو قول الثوري وأبي حنيفة وفي هذه الرواية إشارة
إلى أن الصلاة مستحبة لا واجبة ".
(1) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب غسل الميت
(2) ص 414
(3) في المغني ج 2 ص 532 " إن حمل وبه رمق أي حياة مستقرة فيغسل ويصلى
عليه وإن كان شهيدا فإن سعد بن معاذ غسل وصلي عليه، وقال مالك إن أكل أو شرب أو
بقي يومين أو ثلاثة غسل وصلي عليه، وقال أحمد إن تكلم أو أكل أو شرب صلى عليه، وقال
إذا بقي المجروح في المعركة يوما إلى الليل ومات يصلى عليه، وقال أصحاب الشافعي إن مات
حال الحرق لم يغسل ولم يصل عليه وإلا فلا " وفي المبسوط للسرخسي ج 2 ص 51 " فإن
حمل من المعركة حيا ثم مات في بيته أو على أيدي الرجال غسل لأنه صار مرتثا وقد ورد
الأثر بغسل المرتث "
(4) ص 414
(5) ص 414
420

حكم من قتل في معصية من أنه يغسل ويضم رأسه إلى عنقه... إلى آخره قد ورد أيضا فيما
رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن العلاء بن سيابة (1) قال: " سئل أبو عبد الله
(عليه السلام) وأنا حاضر عن رجل قتل فقطع رأسه في معصية الله تعالى أيغسل
أم يفعل به ما يفعل بالشهيد؟ فقال إذا قتل في معصية الله يغسل أولا منه الدم ثم يصب عليه
الماء صبا ولا يدلك جسده ويبدأ باليدين والدبر، وتربط جراحاته بالقطن والخيوط،
فإذا وضع عليه القطن عصب وكذلك موضع الرأس يعني الرقبة ويجعل له من القطن
شئ كثير ويذر عليه الحنوط ثم يوضع القطن فوق الرقبة وإن استطعت أن تعصبه فافعل
قلت فإن كان الرأس قد بان من الجسد وهو معه كيف يغسل؟ فقال يغسل الرأس إذا
غسل اليدين والسفلة بدأ بالرأس ثم بالجسد ثم يوضع القطن فوق الرقبة ويضم إليه الرأس
ويجعل في الكفن، وكذلك إذا صرت إلى القبر تناولته مع الجسد وأدخلته اللحد
ووجهته للقبلة ".
فروع: (الأول) - من قتله البغاة من أهل العدل لا يغسل ولا يكفن لما
تقدم من عدم تغسيل علي (عليه السلام) عمار بن ياسر وعتبة، ومن قتله أهل العدل
من البغاة فإنه لا يغسل أيضا ولا يكفن لأنه عندنا كافر، صرح بذلك الشيخ في المبسوط
والخلاف، وعن الشيخ في السير من الخلاف فإنه يغسل ويصلى عليه، وهو ضعيف.
(الثاني) - قطاع الطريق يغسلون ويصلى عليهم لأن الفسق لا يمنع هذه
الأحكام، صرح بذلك في المعتبر.
(الثالث) - لو اشتبه موتى المسلمين بالكفار في غير الشهداء قال في الذكرى:
الوجه وجوب تغسيل الجميع لتوقف الواجب عليه. قال: ولو تميز بإمارة قوية عمل عليها
وحينئذ لو مس أحدهم بعد غسله وجب الغسل بمسه لجواز كونه كافرا. ويمكن عدمه
للشك في الحدث فلا يرفع يقين الطهارة، أما لو مس الجميع فلا اشكال في الوجوب.

(1) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب غسل الميت
421

(الرابع) - قال في المعتبر: " لوجد ميت فلم يعلم أمسلم هو أم كافر فإن
كان في دار الاسلام غسل وكفن وصلى عليه وإن كان في دار الكفر فهو بحكم الكافر
لأن الظاهر أنه من أهلها ولو كان فيه علامات المسلمين لأنه لا علامة إلا ويشارك فيها
بعض أهل الكفر ".
(المسألة الثالثة) - المشهور بين الأصحاب - بل الظاهر أنه لا خلاف فيه - أنه لو
وجد بعض الميت فإن كان فيه الصدر أو كان الصدر وحده وجب تغسيله وتكفينه
والصلاة عليه ودفنه، وإن لم يكن وكان فيه عظم غسل ولف في خرقة ودفن. وأطلق
العلامة (رحمه الله) في جملة من كتبه أن صدر الميت كالميت في جميع أحكامه، وقال
في المنتهى: ولو وجد بعض الميت فإن كان فيه عظم وجب تغسيله بغير خلاف بين
علمائنا ويكفن وإن كان صدره صلى عليه، ثم استدل بصحيحة علي بن جعفر الآتية،
إلى أن قال: أما لو لم يكن فيها عظم فإنه لا يجب غسلها وكان حكمها حكم السقط قبل أربعة
أشهر وكذا البحث لو أبينت القطعة من حي. انتهى ملخصا. وقال في المعتبر: إذا
وجد بعض الميت وفيه الصدر فهو كما لو وجد كله وهو مذهب المفيد في المقنعة، ثم ساق
البحث إلى أن قال: والذي يظهر لي أنه لا تجب الصلاة إلا أن يوجد ما فيه القلب
أو الصدر واليدان أو عظام الميت ثم استدل بصحيحة علي بن جعفر الآتية ثم ذكر رواية
البزنطي ورواية الفضل بن عثمان الأعور. وقال الشهيد في الذكرى: وما فيه الصدر يغسل
لمرفوعة رواها البزنطي، ثم ساق متن الرواية وقال: وهو يستلزم أولوية الغسل، ثم نقل
رواية الفضل بن عثمان، وقال بعدها: ولشرف القلب لمحلية العلم والاعتقاد الموجب
للنجاة، ثم قال: وكذا عظام الميت تغسل لخبر علي بن جعفر عن أخيه، ثم قال: وكذا
تغسل قطعة فيها عظم، ذكره الشيخان واحتج عليه في الخلاف باجماعنا وبتغسيل أهل
مكة واليمامة يد عبد الرحمان بن عتات ألقاها طائر من وقعة الجمل عرفت بنقش خاتمة وكان
قاطعها الأشتر ثم قتله فحمل يده عقاب أو نسر. وقال في المختلف: " إذا وجد بعض الميت
422

فإن كان الصدر فحكمه حكم الميت يغسل ويكفن ويحنط ويصلى عليه ويدفن " وإن كان
غيره فإن كان فيه عظم غسل وكفن من غير صلاة وإن لم يكن فيه عظم لف في خرقة
ودفن من غير غسل ولا صلاة هذا هو المشهور بين علمائنا. وقال ابن الجنيد: ولا يصلى
على عضو الميت والقتيل إلا أن يكون عضوا تاما بعظامه أو يكون عظما مفردا ويغسل
ما كان من ذلك لغير الشهيد كما يغسل بدنه ولم يفصل بين الصدر وغيره. وقال علي
ابن بابويه: فإن كان الميت أكيل السبع فاغسل ما بقي منه وإن لم يبق منه إلا عظام جمعتها
وغسلتها وصليت عليها ودفنتها ".
أقول: والذي وقت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة: منها - ما رواه
المشايخ الثلاثة في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن الرجل يأكله السبع أو الطير فتبقى عظامه بغير لحم كيف يصنع به؟ قال
يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن " وزاد في الكافي والتهذيب " وإذا كان الميت
نصفين صلى على النصف الذي فيه القلب "
وما رواه في الفقيه عن الفضل بن عثمان الأعور عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) (2)
في الرجل قتل فيوجد رأسه في قبيلة ووسطه وصدره ويداه في قبيلة والباقي منه في قبيلة؟
قال ديته على من وجد في قبيلته صدره ويداه والصلاة عليه ".
وروى المحقق في المعتبر عن البزنطي في جامعه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن
بعض أصحابنا (3) يرفعه قال: " المقتول إذا قطع أعضاؤه يصلى على العضو الذي
فيه القلب ".
والروايات باعتبار الصلاة في هذه المسألة كثيرة لكنها على غاية من الاختلاف
والاضطراب كما سيأتي البحث فيها إن شاء الله تعالى في كتاب الصلاة، والأصحاب
أوردوا منها ههنا هذه الروايات الثلاث، وتقريب الاستدلال عندهم فيما عدا صدر

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة
(3) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة
423

صحيحة علي بن جعفر من هذه الأخبار أنها دلت على وجوب الصلاة على الصدر والعضو
الذي فيه القلب، ووجوب الصلاة مستلزم لوجوب الغسل بطريق أولى كما يفهم من
عبارة الذكرى المتقدمة. ولا يخلو من الاشكال سيما بناء على ما يفهم من ظاهر صحيحة
علي بن جعفر على رواية الشيخين المشار إليهما آنفا، من دلالة صدرها على وجوب الغسل
والتكفين والصلاة والدفن بالنسبة إلى عظام الميت الخالية من اللحم من حيث إنها
مجموع بدن الميت كما تفيده إضافة الجمع، ودلالة عجزها بالنسبة إلى النصف الذي فيه
القلب على الصلاة خاصة ولم يتعرض لذكر الغسل ولا التكفين، والدفن وإن لم يذكر
إلا أنه يفهم من أدلة أخر، وإلى ما ذكرناه أشار في المدارك أيضا فقال بعد نقل رواية
الفضل بن عثمان ومرفوعة أحمد بن محمد بن عيسى: " وهاتان الروايتان مع ضعف
سندهما إنما تدلان على وجوب الصلاة على الصدر واليدين والعضو الذي فيه القلب
خاصة واستلزام ذلك وجوب الغسل والتكفين ممنوع " انتهى. نعم وجوب الصلاة خاصة
من غير غسل ولا تكفين لا يخلو من استبعاد بالنسبة إلى القواعد الشرعية. وبالجملة فإني
لم أقف في الأخبار على ما يتضمن الأمر بالغسل في هذه المسألة إلا على صحيحة علي بن
جعفر المتقدمة ونحوها في كتاب الفقه الرضوي حيث قال (عليه السلام) (1): " وإن
كان الميت أكله السبع فاغسل ما بقي منه وإن لم يبق منه إلا عظام جمعتها وغسلتها
وصليت عليها ودفنتها " وما تقدم نقله عن علي بن بابويه عين عبارة كتاب الفقه وهو
مصداق ما ذكرناه في غير موضع من اعتماد الصدوقين على هذا الكتاب وأخذ عبائره
والافتاء بها، وظاهر صدر هذه العبارة هو غسل ما يبقى منه بعد أكل السبع كائنا
ما كان وظاهر عجزها الصلاة على عظامه كما في صحيحة علي بن جعفر، ويحمل على
العظام كملا كما يستفاد من تلك الصحيحة بحمل قوله: " وإن لم يبق منه إلا عظام " على
إرادة أكل اللحم خاصة وبقاء العظام، فيكون متفقا مع تلك الصحيحة على وجوب تلك

(1) ص 18
424

الأحكام في عظام الميت كملا، وهذا أقصى ما يمكن الحكم به من الأحكام المذكورة
مضافا إلى اتفاق الأصحاب في هذه الصورة وما ذكر من حكم الصدر أو القلب، فلا ريب
أن كلام الأصحاب هو الأوفق بالاحتياط وإن كان في استنباطه من الأخبار المذكورة
نوع غموض وخفاء سيما مع اختلافها فيما يصلى عليه من الميت. ولو جعل الغسل تابعا
للصلاة وحاصلا من الأمر بها بطريق الأولوية كما ذكره شيخنا الشهيد لا شكل عليهم
ذلك في العظم المجرد كما دلت عليه صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (1)
قال: " إذا قتل قتيل فلم يوجد إلا لحم بلا عظم لم يصل عليه وإن وجد عظم بلا لحم
صلى عليه " فإن ظاهرها الصلاة على العظم المجرد ويلزم منه وجوب غسله مع أنه لا قائل
بشئ منهما فيه، إلا أنه يمكن تأويل هذه الرواية بارجاعها إلى ما دلت عليه صحيحة
علي بن جعفر من العظام كملا بأن يكون المعنى أنه إن كان الموجود من هذا القتيل بعد
قتله جميع لحمه إلا أنه لا عظم فيه فإنه لا يصلى عليه وإن وجدت عظامه خالية من اللحم
صلي عليها، ولا بعد فيه إلا من حيث اطلاق العظم وإرادة المجموع ومثله في باب
المجاز أوسع من أن ينكر، وسيجئ تحقيق الكلام في هذه الروايات إن شاء الله تعالى
في محله من كتاب الصلاة، قال في الذكرى: " ويلوح ما ذكره الشيخان من خير علي
ابن جعفر لصدق العظام على التامة والناقصة " ورد بأن ظاهر الرواية أن الباقي جميع
عظام الميت لأن إضافة الجمع يفيد العموم، على أنه لو سلم تناولها للناقصة لم يتم الاستدلال
بها على ما ذكره الشيخان لتضمنها وجوب الصلاة مع تصريحهما بنفيها.
بقي أن ما ذكره العلامة (قدس سره) من أن الصدر كالميت في جميع
أحكامه مع الاغماض عن المناقشة التي قدمنا ذكرها، فإنه يشكل في وجوب الحنوط:
(أولا) من حيث عدم الدلالة على هذه الكلية والتصريح بذلك أنما وقع في كلامهم
لا في النصوص كما عرفت وهي إنما اشتملت هنا على الأمر بالصلاة ولكنهم الحقوا بها

(1) المروية في الوسائل في الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة
425

الغسل لزوما بطريق الأولوية وكذلك التكفين. و (ثانيا) - بعدم وجود محله، ومن
ثم قال الشهيد (رحمه الله) في بعض تحقيقاته على ما نقل عنه على الاشكال في التحنيط:
" إن كانت محال الحنوط موجودة فلا اشكال في الوجوب وإن لم تكن موجودة فلا
اشكال في العدم " وهو جيد.
هذا كله بالنسبة إلى ما عدا القطعة ذات العظم من حي أو ميت وأما بالنسبة إليها
كما ذكروه من ايجاب الغسل فيها فإنه قد رده جملة من متأخري المتأخرين بعدم الدليل عليه
من الأخبار، قال في المدارك بعد نقل القول بذلك عن الشيخين واتباعهما: " واحتج
عليه في الخلاف باجماع الفرقة واعترف جمع من الأصحاب بعدم الوقوف في ذلك على نص
لكن قال جدي إن نقل الاجماع من الشيخ كاف في ثبوت الحكم بل ربما كان أقوى
من النص، وهو مناف لما صرح به في عدة مواضع من التشنيع على مثل هذا الاجماع
والمبالغة، وقد تقدم منا البحث في ذلك مرارا. انتهى " أقول: فيه أيضا إن ما اعترض
به على جده وارد عليه حيث إنه في غير موضع وافق الأصحاب على هذا الاجماع وإن
نازعهم في مواضع أخر. وبالجملة فالظاهر أنه لا دليل لهم على ذلك إلا الاجماع. وربما
استدل على ذلك بكونها بعضا من جملة يجب تغسيلها حين الاتصال فيجب بعده عملا
بالاستصحاب. وفيه - مع كونه لا يجري في القطعة المبانة من الحي والمدعى أعم منه -
أنه لو تم ذلك للزم منه وجوب تغسيل غير ذات العظم بل العظم المجرد ولا قائل به،
وقد تقدم في فصل غسل (1) المس ما يتعلق بهذه المسألة من حيث ايجاب الغسل بمس القطعة
المبانة من حي أو ميت.
وقد خطر هنا الآن شئ بالبال مما يمكن الاحتجاج به والاستدلال في المسألتين
المذكورتين، وذلك بأن يقال إنه قد روى المشايخ الثلاثة عن أيوب بن نوح في الصحيح
عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " إذا قطع من الرجل قطعة

(1) ص 341
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل مس الميت
426

فهي ميتة فإذا مسه انسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل فإن لم يكن فيه
عظم فلا غسل عليه " والتقريب فيه أن يقال إن المراد بالميتة هنا ميتة الانسان لا مطلق
الميتة ليتم تفريع قوله: " فإذا مسه انسان فكل ما كان فيه عظم... إلى آخر الخبر " وإذا
ثبت اطلاق اسم ميتة الانسان على القطعة المذكورة شرعا ثبت لها الأحكام المتعلقة بميت
الانسان من التغسيل والتحنيط والتكفين والدفن وغير ذلك إلا ما أخرجه الدليل والاقتصار
هنا على تفريع وجوب غسل المس لا يوجب نفي ما سواه من الأحكام، ولعل تخصيصه
بالذكر لأنه أخفى في الحكم وفرع في الوجوب على وجوب غسل الميت لأنه ورد في الأخبار
معلقا على من مس أو غسل ميتا من الناس بالشرطين المشهورين، فهو مشروط بتحقق
الميت من الناس وعند تحققه يجب تغسيله فيجب الغسل على مغسله، ومرجع ذلك إلى
دعوى لزوم وجوب غسل المس لوجوب غسل الميت وكونه فرعا في الوجود عليه كما هو ظاهر
الأخبار وكلام الأصحاب فكلما وجب الغسل بالموت وجب الغسل بالمس، فايجاب غسل
المس في الرواية للقطعة ذات العظم كاشف عن كونها مما يجب تغسيلها تحقيقا للملازمة،
ومنه يظهر وجوب التغسيل في الصدر ونحوه. وبالجملة فالاحتياط في أمثال هذه المقامات
جيد وسبيله واضح.
وظاهر الأكثر أنه لا فرق في القطعة المبانة ذات العظم بين كونها من حي
أو ميت، وقطع في المعتبر بدفن المبانة من حي من غير غسل مستندا إلى أنها من جملة
لا تغسل ولا يصلى عليها. وأجاب عن ذلك في الذكرى بأن الجملة لم يحصل فيها الموت
بخلاف القطعة. أقول: أنت خبير بأن رواية أيوب بن نوح المذكورة مطلقة في القطعة
المذكورة التي يجب بمسها الغسل المترتب ذلك على وجوب غسلها كما عرفت، ومنه يظهر
قوة القول المشهور.
ولو خلت القطعة من العظم فلا غسل ولا كفن ولا صلاة اتفاقا، وأوجب سلار
لفها في خرقة ودفنها ولم يذكره الشيخان، وصرح في المعتبر بعدم وجوب اللف للأصل.
427

(المسألة الرابعة) - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أن من وجب عليه
القتل يؤمر بالاغتسال والتحنيط والتكفين ثم يقام عليه الحد ولا يغسل بعد ذلك، قال
في الذكرى: " ولا نعلم فيه مخالفا من الأصحاب ".
أقول: ويدل عليه ما رواه في الكافي عن مسمع كردين عن الصادق (عليه
السلام) (1) قال: " المرجوم والمرجومة يغتسلان ويتحنطان ويلبسان الكفن قبل ذلك
ثم يرجمان ويصلى عليهما، والمقتص منه بمنزلة ذلك يغتسل ويتحنط ويلبس الكفن ثم يقاد
ويصلى عليه " ورواه الصدوق عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مرسلا.
وقال (عليه السلام) في الفقه الرضوي (2): " وإن كان الميت مرجوما بدئ
بغسله وتحنيطه وتكفينه ثم يرجم بعد ذلك وكذلك القاتل إذا أريد قتله قودا ".
أقول: قد قدمنا في فصل غسل المس (3) ما في هذه المسألة من الاشكال ولولا
اتفاق الأصحاب قديما وحديثا على الحكم المذكور لأمكن المناقشة فيه لخروجه عن مقتضى
القواعد الشرعية والأصول المرعية كما تقدم التنبيه عليه.
تنبيهات: (الأول) - هل يختص الحكم المذكور بزنا أو قود كما هو مورد
الخبرين أو يشمل كل من وجب قتله؟ ظاهر الأصحاب الثاني وبه صرح في الذكرى
للمشاركة في السبب. والأظهر الأول قصرا للحكم المخالف للأصول - كما عرفت -
على مورده.
(الثاني) - قد عبر الأصحاب في هذه المسألة بأنه يؤمر من وجب عليه الحد
بالاغتسال والتحنيط والتكفين، قالوا: والآمر هو الإمام أو نائبه. وأنت خبير بأن الخبر
الذي هو مستند الحكم عندهم خال من ذلك وكذا الخبر الذي نقلناه وإنما ظاهرهما وجوب
ذلك على المرجوم والمقتص منه، نعم يمكن تخصيص الأمر بما إذا كان جاهلا بذلك
فيؤمر به وإلا فإنه لا نعلم لهم مستندا لهذا الاطلاق.

(1) رواه في الوسائل في الباب 17 من أبواب غسل الميت
(2) ص 19
(3) ص 332
428

(الثالث) - قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض " وفي تحتمه عليه أو التخيير
بينه وبين غسله بعد الموت لقيامه مقامه نظر، هذا بالنسبة إلى الآمر أما المأمور
فيجب عليه امتثال الأمر إن وجد " أقول: قد عرفت أن النص خال من الأمر وإن
وجد ذلك في كلامهم. بقي الكلام في دلالة الخبر على تقديمه الغسل هل هو عزيمة
أو رخصة؟ وجهان أقربهما الثاني ولعله أحوطهما أيضا لما عرفت آنفا.
(الرابع) - الظاهر من الخبرين المتقدمين هو كون هذا الغسل الذي يقدمه
مشتملا على الغسلات الثلاث وأنه غسل الأموات قد أمر بتقديمه وإن كان حيا بدليل
التحنيط والتكفين بعده، واحتمل في الروض الاكتفاء بغسل واحد. لكونه حيا
وذلك الغسل مخصوص بالأموات ولأن الأمر لا يقتضي التكرار وإنما لم يغسل بعد ذلك
للامتثال. والظاهر بعده.
(الخامس) - هل يدخل تحت هذا الغسل مع تقديمه شئ من الأغسال ويحصل
به التداخل كما في سائر الأغسال الواجبة أم لا؟ جزم في الروض بالثاني قال: " أما عدم
دخولها تحته فلعدم نية الرفع أو الاستباحة فيه وأما عدم دخوله تحتها فللمغايرة كيفية
وحكما " وتردد الشهيد في الذكرى لظاهر الأخبار الدالة على الاجتزاء بغسل واحد
كخبر زرارة عن الباقر (عليه السلام) (1): " في الميت جنبا يغسل غسلا واحدا يجزئ
ذلك للجنابة ولغسل الميت " ولأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة. وقيل عليه أن
الظاهر أن الخبر ليس من هذا في شئ ويمنع اجتماع الحرمتين لأصالة عدم تداخل المسببات
مع اختلاف الأسباب، وتداخلها في بعض المواضع لنص خاص. أقول: والمسألة محل
توقف لاشتباه الحكم فيها.
(السادس) - لو سبق موته قتله أو قتل بسبب آخر لم يسقط الغسل قطعا سواء
بقي السبب الأول كالقصاص مع ثبوت الرجم أم لا كما لو عفى عن القود لأنه سبب

(1) الوسائل الباب 3 من غسل الميت والتعليل من الخبر كما في الذكرى وكتب الحديث
429

جديد، وقوفا على ظاهر النص لأن الحكم - كما عرفت - خارج عن مقتضى الأصول
فيقتصر فيه على مورد النص.
(السابع) - قالوا: ولا يجب الغسل بعد موته لقيام الغسل المتقدم مقام الغسل
المتأخر عن الموت لاعتبار ما يعتبر فيه، ولا يرد لزوم سبق التطهير على النجاسة لأن
المعتبر أمر الشارع بالغسل وحكمه بالطهر بعده وقد وجد الأمران، وليست نجاسة الميت
بسبب الموت عينية محضة وإلا لم يطهر، فعلم من ذلك أن تقديم الغسل يمنع من الحكم
بنجاسته بعد الموت لسقوط غسله بعده وما ذاك إلا لعدم النجاسة. أقول: لا ريب في
صحة هذا الكلام بعد ثبوت النص والقول بما دل عليه. إلا أنه مشكل لما قدمنا سابقا
في بحث غسل المس من أن هذه الرواية معارضة بجملة من الأخبار الصحيحة الصريحة
في مواضع عديدة فلا تبلغ قوة في تخصيصها ولكن اجماعهم على الحكم المذكور قديما
وحديثا سد النزاع فيه، إلا أنه روى في الكافي (1) عن البرقي رفعه إلى أمير المؤمنين
(عليه السلام) قال: " أتاه رجل بالكوفة فقال يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني.. "
ثم ساق الخبر في حكاية رجمه وأنه رجمه أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام)
فمات الرجل قال: " فأخرجه أمير المؤمنين وأمر فحفر له وصلى عليه فدفنه فقيل
يا أمير المؤمنين ألا تغسله؟ فقال قد اغتسل بما هو طاهر إلى يوم القيامة ولقد صبر على
أمر عظيم " فإنه ظاهر في عدم وجوب الغسل بعد الرجم، إلا أن الخبر غير خال من
الاشكال حيث إن ظاهره أن الرجل لم يغتسل قبل الرجم ومع هذا دفنه (عليه السلام)
بغير غسل، قال شيخنا المجلسي في تعليقاته على الكافي على هذا الخبر: " المشهور بين
الأصحاب وجوب تغسيل المرجوم إن لم يغتسل قبل الرجم ولعله (عليه السلام) أمره
بالغسل قبل الرجم وإن كان ظاهر التعليل عدمه. والله يعلم " وبالجملة فالخبر المذكور
خارج عن مقتضى الأصول مضافا إلى ضعف سنده فلا اعتماد عليه، والمرجع إنما هو

(1) ص 289
430

ما أشرنا إليه من اتفاقهم على الحكم قديما وحديثا ويخرج الخبران المتقدمان شاهدين
على ذلك. والله العالم.
(المسألة الخامسة) - المشهور بين الأصحاب أن المحرم إذا مات كالمحل إلا أنه
لا يقرب بالكافور، صرح به الشيخان واتباعهما، وعن ابن أبي عقيل والمرتضى في
شرح الرسالة أنه لا يغطى رأسه ولا يقرب بالكافور.
ويدل على المشهور روايات: منها - ما رواه في الكافي عن عبد الرحمان بن
أبي عبد الله (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المحرم يموت كيف يصنع
به؟ قال إن عبد الرحمان بن الحسن مات بالأبواء مع الحسين (عليه السلام) وهو محرم
ومع الحسين عبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وصنع به كما يصنع بالميت وغطى وجهه
ولم يمسه طيبا قال وذلك كان في كتاب علي (عليه السلام) ".
وما رواه الشيخ عن سماعة في الموثق (2) قال: " سألته عن المحرم يموت؟
فقال يغسل ويكفن بالثياب كلها ويغطى وجهه ويصنع به كما يصنع بالمحل غير أنه لا يمس
الطيب " ورواه الكليني مثله إلا أنه أسقط " ويغطى وجهه ".
وما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد الله بن سنان في الصحيح (3) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن المحرم يموت كيف يصنع به؟ فحدثني أن عبد الرحمان بن
الحسن مات بالأبواء مع الحسين بن علي (عليهما السلام) وهو محرم ومع الحسين عبد الله
ابن العباس وعبد الله بن جعفر فصنع به كما يصنع بالميت وغطى وجهه ولم يمسه طيبا،
قال وذلك في كتاب علي (عليه السلام) ".
وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) (4) قال: " سألته
عن المحرم إذا مات كيف يصنع به؟ قال يغطى وجهه ويصنع به كما يصنع بالحلال غير أنه
لا يقربه طيبا " وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن الباقر والصادق (عليهما السلام) مثله (5).

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب غسل الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب غسل الميت
(3) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب غسل الميت
(4) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب غسل الميت
(5) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب غسل الميت
431

وما رواه في الكافي عن أبي مريم في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " توفي عبد الرحمان بن الحسن بن علي بالأبواء وهو محرم ومعه الحسن والحسين
وعبد الله بن جعفر وعبد الله وعبيد الله ابنا العباس فكفنوه وخمروا وجهه ورأسه ولم
يحنطوه، وقال هكذا في كتاب علي (عليه السلام) ".
وعن ابن أبي حمزة عن أبي الحسن (عليه السلام) (2) " في المحرم يموت؟ قال
يغسل ويكفن ويغطى وجهه ولا يحنط ولا يمس شيئا من الطيب ".
وهذه الأخبار كلها - كما ترى - ظاهرة الدلالة على القول المشهور، ونقل المحقق في
المعتبر عن المرتضى أنه احتج بما روي عن ابن عباس (3) " أن محرما وقصت به ناقته فذكر
ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) قال اغسلوه بماء وسدر وكفنوه ولا تمسوه طيبا ولا
تخمروا رأسه فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا " وفي المختلف عن ابن أبي عقيل إنه احتج بأن
تغطية الرأس والوجه مع تحريم الطيب مما لا يجتمعان والثاني ثابت فالأول منتف، ثم
أطال في بيان هذه المقدمة. ولا يخفى ما في هذين التعليلين العليلين من الضعف سيما في مقابلة
النصوص المذكورة، وليت شعري كأنهما لم يقفا على هذه النصوص ولم يراجعاها وإلا
فالخروج عنها إلى هذه الحجج الواهية لا يلتزمه محصل.
وفي المقام فوائد: (الأولى) - لا فرق في هذا الحكم بين احرام الحج
والعمرة مفردة كانت أو متمتعا بها إلى الحج، كل ذلك للعموم ولا بين كون موته قبل
الحلق والتقصير أو بعده قبل طواف الزيارة لأن تحريم الطيب إنما يزول به. أما لو وقع
الموت بعد الطواف ففي تحريمه عليه اشكال من صدق اطلاق المحرم عليه ومن حل الطيب
له حيا فهنا أولى، وبالثاني صرح العلامة في النهاية، والمسألة محل توقف وإن كان

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب غسل الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب غسل الميت
(3) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب الكفن في ثوبين وباب الحنوط وباب كيف
يكفن المحرم؟ ورواه مسلم في صحيحه ج 1 ص 457. وفي الجميع الأمر بالتكفين في ثوبين.
432

ما اختاره في النهاية لا يخلو من قرب.
(الثانية) - لا يلحق بالمحرم في هذا الحكم المعتدة عدة الوفاة والمعتكف
من حيث تحريم الطيب عليهما حيين، لعدم الدليل على ذلك وبطلان القياس عندنا.
(الثالثة) - الظاهر أن حكم الأعضاء التي يجب تغسيلها من الصدر والقلب
ونحوهما حكم جميع البدن فيما ذكر. وعن الشيخ في النهاية والمبسوط أنه قطع بتحنيط ما فيه
عظم، قال وإن كان موضع الصدر صلى عليه أيضا.
(المقام الثالث) - في الغسل وفيه فضل عظيم، فعن الباقر (عليه السلام) (1)
قال: " أيما مؤمن غسل مؤمنا فقال إذا قلبه: " اللهم إن هذا بدن عبدك المؤمن قد أخرجت
روحه منه وفرقت بينهما فعفوك عفوك " إلا غفر الله له ذنوب سنة إلا الكبائر " وعنه (عليه
السلام) (2) قال: " من غسل ميتا مؤمنا فأدى فيه الأمانة غفر الله له. قيل وكيف
يؤدي فيه الأمانة؟ قال لا يخبر بما يرى، وحده إلى أن يدفن الميت " هكذا رواه في الفقيه
واحتمل بعض المحدثين أن قوله: " وحده إلى أن يدفن الميت " من كلام الصدوق
والمراد منه إخفاء ما يراه إلى أن يدفن. وعن الصادق (عليه السلام) (3) قال:
" ما من مؤمن يغسل مؤمنا ويقول وهو يغسله: " رب عفوك عفوك " إلا عفا الله تعالى
عنه " وعن الباقر (عليه السلام) (4) قال: " كان فيما ناجى الله تعالى به موسى قال
يا رب ما لمن غسل الموتى؟ فقال اغسله من ذنوبه كما ولدته أمه " وعن الصادق (عليه
السلام) (5): " من غسل ميتا فستر وكتم خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه " وعن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبة طويلة (6) " من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة
كان له بكل شعرة منه عتق رقبة ورفع له مائة درجة. قيل يا رسول الله وكيف يؤدي
فيه الأمانة؟ قال يستر عورته ويستر شينه وإن لم يستر عورته ويستر شينه حبط أجره وكشفت

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب غسل الميت
(3) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب غسل الميت.
(5) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب غسل الميت
(6) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب غسل الميت
433

عورته في الدنيا والآخرة ".
والبحث في هذا المقام يقع في موضعين: (الأول) - قد صرح الأصحاب
(رضوان الله عليهم) بأنه يجب أمام الغسل إزالة النجاسة عن بدنه، قال في المنتهى
أنه لا خلاف فيه بين العلماء. قال في المعتبر في الاستدلال على ذلك: لأن المراد تطهيره
وإذا وجب إزالة الحكمية عنه فوجوب إزالة العينية أولى، ولئلا ينجس ماء الغسل
بملاقاتها، ولما رواه يونس عنهم (عليهم السلام) (1): " امسح بطنه مسحا رفيقا فإن
خرج منه شئ فانقه ".
وقال في المدارك - بعد قول المصنف: " ويجب إزالة النجاسة أولا " وبعد أن
نقل عن العلامة أنه لا خلاف فيه بين العلماء - ما لفظه: " ويدل عليه روايات: منها - قوله
(عليه السلام) في رواية الكاهلي (2): " ثم ابدأ بفرجه بماء السدر والحرض فاغسله ثلاث
غسلات " وفي رواية يونس (3): " واغسل فرجه وانفقه ثم اغسل رأسه بالرغوة " وقد
يناقش في هذا الحكم بأن اللازم منه طهارة المحل الواحد من نجاسة دون نجاسة وهو غير
معقول. ويجاب بعدم الالتفات إلى هذا الاستبعاد بعد ثبوت الحكم بالنص والاجماع،
أو يقال إن النجاسة العارضة إنما تطهر بما يطهر غيرها من النجاسات بخلاف نجاسة
الموت فإنها تزول بالغسل وإن لم يكن مطهرا لغيرها من النجاسات فاعتبر إزالتها أولا
ليطهر الميت بالغسل. وفي بعض نسخ الكتاب: أن هذه الأسباب من قبيل المعرفات
ولا بعد في رفع نجاسة الموت بالغسل وتوقف غيرها على ما يطهر به سائر النجاسات
فيجب إزالتها أولا ليطهر الميت بالغسل ".
أقول: فيه (أولا) - أنه لا يخفى على من راجع الأخبار الواردة في كيفية
غسل الميت ونظر فيها بعين التأمل أنه لا أثر لهذا الذي ذكره الأصحاب فيها من أنه يجب
إزالة النجاسة أولا وإن اشتهر ذلك في كلامهم، واستدل السيد السند (قدس سره)

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
(2) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
(3) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
434

على ذلك هنا بهاتين الروايتين عجيب منه (أما أولا) - فإن الماء المذكور فيهما
مضاف وهو لا يزيل النجاسة الخبثية ولا يطهرها بلا ريب ولا اشكال لأن هذا الماء في
الخبرين ماء الغسلة الأولى من الغسلات الثلاث. فإن قيل: إنهم اشترطوا في الخليطين أن لا
يخرج بهما الماء عن الاطلاق. قلنا: نعم ذلك هو المشهور ولكن الذي اختاره السيد المذكور
في المسألة - وهو الظاهر من الأخبار - عدم الاشتراط المذكور. و (أما ثانيا) - فإن
سياق الخبرين المذكورين - وبه صرح جملة من الأصحاب - هو أنه يستحب غسل
الفرج في كل غسلة من الغسلات بذلك الماء الذي يغسل به بدنه، حيث قال
(عليه السلام) في رواية الكاهلي المذكورة (1): " ثم إبداء بفرجه بماء السدر والحرض
فاغسله ثلاث غسلات وأكثر من الماء وامسح بطنه مسحا رفيقا ثم تحول إلى رأسه فابدأ
بشقة الأيمن، إلى أن قال بعد تمام الغسل بالسدر والحرض: ثم رده إلى قفاه وابدأ بفرجه
بماء الكافور واصنع كما صنعت أول مرة، ثم ساق الكلام إلى أن قال في الغسل بالماء
القراح: ثم اغسله بماء قراح كما صنعت أولا: ابتدأ بالفرج ثم تحول إلى الرأس... الحديث "
وأما رواية يونس (2) فقال (عليه السلام) فيها: " واعمد إلى السدر فصيره في طست
وصب عليه الماء واضربه بيدك حتى ترتفع رغوته واعزل الرغوة في شئ وصب الآخر
في الإجانة التي فيها الماء ثم اغسل يديه ثلاث مرات كما يغتسل الانسان من الجنابة إلى نصف
الذراع ثم اغسل فرجه ونقه ثم اغسل رأسه بالرغوة، وساق الكلام في ذلك إلى أن قال
في الغسلة الثانية بالكافور: ثم صب الماء في الآنية وألق فيها حبات كافور وافعل به كما
فعلت في المرة الأولى: ابدأ بيديه ثم بفرجه، ثم ساق الكلام إلى أن قال في الغسلة الثالثة:
واغسله بماء قراح كما غسلته في المرتين الأولتين... الحديث " ومن الأخبار في ذلك
أيضا وإن كان مجملا صحيحة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (3) وفيها " تبدأ بكفيه
ورأسه ثلاث مرات بالسدر ثم سائر جسده وابدأ بشقة الأيمن فإذا أردت أن تغسل.

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
(2) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
(3) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
435

فرجه فخذ خرقة نظيفة فلفها على يدك اليسرى ثم ادخل يدك من تحت الثوب الذي على
فرج الميت فاغسله من غير أن ترى عورته فإذا فرغت من غسله بالسدر... الحديث "
وفي رواية عبد الله بن عبيد (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الميت
قال تطرح عليه خرقة ثم يغسل فرجه ويوضأ وضوء الصلاة... الحديث " ورواية
حريز (2) قال: " أخبرني أبو عبد الله (عليه السلام) قال: الميت يبدأ بفرجه ثم
يوضأ وضوء الصلاة وذكر الحديث ". وبالجملة فالمفهوم من هذه الأخبار ونحوها
أن غسل الفرج فيها إنما هو من حيث إنه من مستحبات الغسل لا من حيث النجاسة.
و (ثانيا) - أن ما ذكره في جواب المناقشة المذكورة - من عدم الالتفات إلى هذا
الاستبعاد بعد ثبوت الحكم بالنص والاجماع - فإن فيه أن النص لا وجود له كما عرفت
وأما الاجماع ففيه ما قدمه قريبا في شرح قول المصنف: " وإن لم يكن وكان فيه عظم
غسل ولف في خرقة " حيث نقل ثمة اعتراف جمع من الأصحاب بعدم النص على ذلك
ونقل عن جده أن الشيخ قد نقل الاجماع على ذلك وهو كاف في ثبوت الحكم، ثم
اعترضه بأنه مناف لما صرح به في عدة مواضع من التشنيع على مثل هذا الاجماع والمبالغة
في انكاره، ثم قال (قدس سره): " وقد تقدم من البحث في ذلك مرارا " فكيف يتم
له الاستناد إليه في هذا الحكم أو غيره؟ نعم الجواب الحق عن ذلك ما أجاب به ثانيا
من قوله: " أو يقال إن النجاسة العارضة إنما تطهر بما يطهر غيرها... " وتوضيحه أنه
لا شك أن الأحكام الشرعية من طهارة ونجاسة وحل وحرمة ونحوها موقوفة على التوقيف
من الشارع، والمعلوم من الأخبار أن أفراد المطهرات متعددة بتعدد النجاسات فربما
اشتركت جملة من النجاسات في مطهر واحد كالبول والغائط والدم ونحوها فإنما يطهرها
الماء وفي الاستنجاء من الغائط ربما طهره الأحجار وربما اختص بعضها بمطهر مخصوص
كالشمس والأرض والنار ونحوها، والمعلوم من الأخبار أن المطهر لنجاسة الميت الحكمية

(1) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب غسل الميت
(2) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب غسل الميت
436

والعينية إنما هو الغسل بالمياه الثلاثة خاصة، فعلى هذا إذا أصاب بدنه غائط أو دم أو بول
أو نحوها فإنه يجب إزالته أولا بمطهره الذي هو الماء خاصة وإن كانت نجاسة الموت
بعينها باقية حتى يحصل مطهرها المذكور، إذ لو لم تزل هذه النجاسة أولا لتنجس بها ماء
الغسل، ولا ضرورة هنا إلى دعوى الاجماع ولا إلى شئ من الأخبار كما لا يخفى على من
نظر بعين التدبر والاعتبار.
وأما ما ذكره في المعتبر - من قوله (عليه السلام) في رواية يونس (1): " فإن
خرج منه شئ فانقه " - فليس فيه دلالة على ما ادعوه من وجوب الإزالة قبل الغسل لأن
هذا الكلام إنما هو في الغسلة الثانية بماء الكافور، نعم فيه دلالة على وجوب إزالة
النجاسة عنه مطلقا وهو مما لا اشكال فيه كما يدل عليه أيضا ما ورد من وجوب الإزالة
بعد الغسل. وبالجملة فالاشكال المذكور ضعيف لا وجه له بعد ما عرفت.
وقال شيخنا الثاني في الروض: " والأولى الاستناد إلى النص وجعله
تعبدا إن حكمنا بنجاسة بدن الميت كما هو المشهور وإلا لزم طهارة المحل الواحد من نجاسة
دون نجاسة، وأما على قول المرتضى فلا اشكال لأنه ذهب إلى كون بدن الميت ليس
بنجس بل الموت عنده من قبيل الأحداث كالجنابة، فحينئذ يجب إزالة النجاسة
الملاقية لبدن الميت كما إذا لاقت بدن الجنب " انتهى. وفيه ما عرفت من أنه لا أثر
لهذا النص المدعى بل ليس إلا الاجماع إن تم، وطهارة المحل الواحد من نجاسة دون
أخرى متى اختلفت النجاستان واختلف المطهران مما لا اشكال فيه، فإن نجاسة الموت
العينية أمر سار في جميع البدن لا يرتفع إلا بغسله بالمياه الثلاثة، ونجاسة البول والغائط
ونحوهما الواقع في بدن الميت مخصوصة بمحل الملاقاة ومطهرها هو الماء المطلق خاصة،
ولا بعد في طهارة البدن من هذه النجاسة العارضية مع بقاء تلك النجاسة السارية في جميع
أجزاء البدن حتى يحصل مطهرها. وأما ما ذكره - من أنه على قول المرتضى لا اشكال

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
437

لأنه ذهب إلى كون بدن الميت ليس بنجس... الخ - فقد اعترضه فيه سبطه في المدارك
بأن المنقول عن المرتضى عدم وجوب غسل المس لا عدم نجاسة الميت، قال: بل حكى
المصنف عنه في المعتبر في شرح الرسالة التصريح بنجاسته، وعن الشيخ في الخلاف أنه
نقل اجماع الفرقة على ذلك.
(الموضع الثاني) - في كيفية الغسل، وهي مشتملة على الواجب والمندوب
والمكروه، ولننقل جملة من أخبار المسألة ثم نذيلها إن شاء الله تعالى ببيان ما اشتملت
عليه من الأحكام وما ينكشف به عن الأقسام الثلاثة المشار إليها نقاب الإبهام.
فمنها - ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن الصادق
(عليه السلام) (1) قال: " إذا أردت غسل الميت فاجعل بينك وبينه ثوبا يستر عنك
عورته أما قميص وأما غيره ثم تبدأ بكفيه ورأسه ثلاث مرات بالسدر ثم سائر جسده
وابدأ بشقه الأيمن، فإذا أردت أن تغسل فرجه فخذ خرقة نظيفة فلفها على يدك اليسرى
ثم ادخل يدك من تحت الثوب الذي على فرج الميت فاغسله من غير أن ترى عورته،
فإذا فرغت من غسله بالسدر فاغسله مرة أخرى بماء وكافور وبشئ من حنوطه ثم اغسله
بماء بحت غسلة أخرى حتى إذا فرغت من ثلاث غسلات جعلته في ثوب ثم جففته ".
وعن الكاهلي (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الميت
فقال استقبل بباطن قدميه القبلة حتى يكون وجهه مستقبل القبلة ثم تلين مفاصله فإن امتنعت
عليك فدعها، ثم ابدأ بفرجه بماء السدر والحرض فاغسله ثلاث غسلات وأكثر من الماء
وامسح بطنه مسحا رفيقا، ثم تحول إلى رأسه فابدأ بشقه الأيمن من لحيته ورأسه ثم تثنى
بشقه الأيسر من رأسه ولحيته ووجه فاغسله برفق وإياك والعنف واغسله غسلا ناعما
ثم اضجعه على شقه الأيسر ليبدو لك الأيمن ثم اغسله من قرنه إلى قدمه وامسح يدك
على ظهره وبطنه بثلاث غسلات، ثم رده على جنبه الأيمن حتى يبدو لك الأيسر فاغسله

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
438

بماء من قرنه إلى قدمه وامسح يدك على ظهره وبطنه بثلاث غسلات، ثم رده على قفاه
فابدأ بفرجه بماء الكافور فاصنع كما صنعت أول مرة: اغسله بثلاث غسلات بماء الكافور
والحرض وامسح يدك على بطنه مسحا رفيقا، ثم تحول إلى رأسه فاصنع كما صنعت أولا
بلحيته من جانبيه كليهما ورأسه ووجه بماء الكافور ثلاث غسلات، ثم رده إلى الجانب
الأيسر حتى يبدو لك الأيمن ثم اغسله من قرنه إلى قدمه ثلاث غسلات، وأدخل يدك
تحت منكبيه وذراعيه ويكون الذراع والكف مع جنبيه ظاهرة كلما غسلت منه شيئا
أدخلت يدك تحت منكبيه وفي باطن ذراعيه، ثم رده على ظهره ثم اغسله بماء قراح كما
صنعت أولا: تبدأ بالفرج ثم تحول إلى الرأس واللحية والوجه حتى تصنع كما صنعت أولا بماء
قراح. ثم اذفره بالخرقة ويكون تحتها القطن تذفره به اذفارا قطنا كثيرا ثم تشد فخذيه على
القطن بالخرقة شدا شديدا حتى لا يخاف أن يظهر شئ، وإياك أن تقعده أو تغمز بطنه
وإياك أن تحشو في مسامعه شيئا، فإن خفت أن يظهر من المنخر شئ فلا عليك أن تصير ثم
قطنا فإن لم تخف فلا تجعل فيه شيئا، ولا تخلل أظفاره. وكذلك غسل المرأة ".
وعن يونس عنهم (عليهم السلام) (1) قال: " إذا أردت غسل الميت فضعه
على المغتسل مستقبل القبلة، فإن كان عليه قميص فاخرج يده من القيمص واجمع قميصه
على عورته وارفعه من رجليه إلى فوق الركبة وإن لم يكن عليه قميص فالق على عورته
خرقة، واعمد إلى السدر فصيره في طست وصب عليه الماء واضربه بيدك حتى ترتفع
رغوته واعزل الرغوة في شئ وصب الآخر في الإجانة التي فيها الماء، ثم اغسل يديه
ثلاث مرات كما يغتسل الانسان من الجنابة إلى نصف الذراع ثم اغسل فرجه ونقه ثم
اغسل رأسه بالرغوة وبالغ في ذلك واجتهد أن لا يدخل الماء منخريه ومسامعه، ثم أضجعه
على جانبه الأيسر وصب الماء من نصف رأسه إلى قدمه ثلاث مرات وادلك بدنه دلكا
رفيقا وكذلك ظهره وبطنه، ثم أضجعه على جانبه الأيمن وافعل به مثل ذلك، ثم صب

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
439

ذلك الماء من الإجانة واغسل الإجانة بماء قراح واغسل يديك إلى المرفقين، ثم صب الماء في
الآنية وألق فيها حبات كافور وافعل به كما فعلت في المرة الأولى: ابدأ بيديه ثم بفرجه وامسح
بطنه مسحا رفيقا فإن خرج شئ فانقه ثم اغسل رأسه ثم أضجعه على جنبه الأيسر واغسل
جنبه الأيمن وظهره وبطنه ثم أضجعه على جنبه الأيمن واغسل جنبه الأيسر كما فعلت أول مرة
ثم اغسل يديك إلى المرفقين والآنية وصب فيها الماء القراح واغسله بالماء القراح كما غسلت
في المرتين الأولتين، ثم نشفه بثوب طاهر واعمد إلى قطن فذر عليه شيئا من حنوط وضعه
على فرجه قبلا ودبرا واحش القطن في دبره لئلا يخرج منه شئ، وخذ خرقة طويلة
عرضها شبر فشدها من حقويه وضم فخذيه ضما شديدا ولفها في فخذيه ثم أخرج رأسها
من تحت رجليه إلى الجانب الأيمن واغرزها في الموضع الذي لففت فيه الخرقة وتكون الخرقة
طويلة تلف فخذيه من حقويه إلى ركبتيه لفا شديدا ".
ومنها - ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (1):
" أنه سئل عن غسل الميت؟ قال تبدأ فتطرح على سوأته خرقة ثم تنضح على صدره وركبتيه
من الماء ثم تبدأ فتغسل الرأس واللحية بسدر حتى تنقيه ثم تبدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر
وإن غسلت رأسه ولحيته بالخطمي فلا بأس. وتمر يدك على ظهره وبطنه بجرة من ماء حتى
تفرغ منهما ثم بجرة من كافور تجعل في الجرة من الكافور نصف حبة ثم تغسل رأسه ولحيته ثم شقه
الأيمن ثم شقه الأيسر وتمر يدك على جسده كله وتنضب رأسه ولحيته شيئا ثم تمر يدك على
بطنه فتعصره شيئا حتى يخرج من مخرجه ما خرج ويكون على يدك خرقة تنقي بها دبره، ثم
ميل برأسه شيئا فتنفضه حتى يخرج من منخره ما خرج، ثم تغسله بجرة من ماء قراح فذلك
ثلاث جرار فإن زدت فلا بأس وتدخل في مقعدته من القطن ما دخل ثم تجففه بثوب
نظيف... وقال: الجرة الأولى التي يغسل بها الميت بماء السدر والجرة الثانية بماء الكافور
تفت فيها فتا قدر نصف حبة والجرة الثالثة بماء قراح ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
440

وعن يعقوب بن يقطين في الصحيح (1) قال: " سألت العبد الصالح (عليه
السلام) عن غسل الميت أفيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال: غسل الميت يبدأ بمرافقه فيغسل
بالحرض ثم يغسل وجهه ورأسه بالسدر ثم يفاض عليه الماء ثلاث مرات، ولا يغسل
إلا في قميص يدخل رجل يده ويصب عليه من فوقه، ويجعل في الماء شيئا من سدر
وشيئا من كافور، ولا يعصر بطنه إلا أن يخاف شيئا قريبا فيمسح مسحا رفيقا من غير أن يعصر، ثم يغسل الذي غسله يده قبل أن يكفنه إلى المنكبين ثلاث مرات، ثم إذا
كفنه اغتسل ".
وعن عبد الله بن عبيد (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل
الميت؟ قال تطرح عليه خرقة ثم يغسل فرجه ويوضأ وضوء الصلاة ثم يغسل رأسه بالسدر
والأشنان ثم بالماء والكافور ثم بالماء القراح يطرح فيه سبع ورقات صحاح في الماء ".
وعن سليمان بن خالد في الصحيح (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن غسل الميت كيف يغسل: قال: بماء وسدر واغسل جسده كله واغسله أخرى بماء
وكافور ثم اغسله أخرى بماء. قلت ثلاث مرات؟ قال نعم. قلت فما يكنون عليه حين يغسله؟
قال إن استطعت أن يكون عليه قميص فيغسل من تحت القميص ".
ومنها - ما رواه في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن مسكان عن الصادق
(عليه السلام) (4) قال: " سألته عن غسل الميت؟ فقال اغسله بماء وسدر ثم اغسله على
أثر ذلك غسلة أخرى بماء وكافور وذريرة إن كانت واغسله الثالثة بماء قراح. قلت
ثلاث غسلات لجسده كله؟ قال نعم قلت يكون عليه ثوب إذا غسل؟ قال إن استطعت
أن يكون عليه قميص فغسله من تحته، وقال أحب لمن غسل الميت أن يلف على يده
الخرقة حين يغسله ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
(4) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
441

وعن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن الميت هل يغسل في الفضاء؟ قال لا بأس وإن ستر بستر فهو أحب إلي ".
وعن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (2)
وسئل عن الرجل يحترق بالنار فأمرهم أن يصبوا عليه الماء صبا وأن يصلى عليه ".
وما رواه الشيخ عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه
السلام) (3) قال: " إن قوما أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا يا رسول الله
مات صاحب لنا وهو مجدور فإن غسلناه انسلخ؟ فقال يمموه ".
وقال (عليه السلام) في الفقه الرضوي (4): " وغسل الميت مثل غسل الحي
من الجنابة إلا أن غسل الحي مرة واحدة بتلك الصفات وغسل الميت ثلاث مرات على
تلك الصفات: تبتدئ بغسل اليدين إلى نصف المرفقين ثلاثا ثلاثا ثم الفرج ثلاثا ثم الرأس
ثلاثا ثم الجانب الأيمن ثلاثا ثم الجانب الأيسر ثلاثا بالماء والسدر ثم تغسله مرة أخرى بالماء
والكافور على هذه الصفة ثم بالماء القراح مرة ثالثة. فيكون الغسل ثلاث مرات كل مرة
خمسة عشرة صبة ولا يقطع الماء إذا ابتدأت بالجانبين من الرأس إلى القدمين، فإن كان
الإناء يكبر عن ذلك وكان الماء قليلا صببت في الأول مرة واحدة على اليدين ومرة
على الفرج ومرة على الرأس ومرة على الجنب الأيمن ومرة على الجنب الأيسر بإفاضة
لا تقطع الماء من أول الجانبين إلى القدمين. ثم عملت ذلك في سائر الغسل فيكون غسل
كل عضو مرة واحدة على ما وصفناه، ويكون الغاسل على يديه خرقة ويغسل الميت من
وراء الثوب أو يستر عورته بخرقة " وقال (عليه السلام) في موضع آخر من الكتاب
أيضا (5): " ثم ضعه على مغتسله من قبل أن تنزع قميصه أو تضع على فرجه خرقة ولين

(1) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب غسل الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب غسل الميت
(3) رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب غسل الميت
(4) ص 20
(5) ص 17
442

مفاصله ثم تقعده فتغمز بطنه غمزا رفيقا، وتقول وأنت تمسحه: " اللهم إني سلكت حب
محمد في بطنه فاسلك به سبيل رحمتك " ويكون مستقبل القبلة، ويغسله أولى الناس به
أو من يأمره الولي بذلك، ويجعل باطن رجليه إلى القبلة وهو على المغتسل، وتنزع قميصه
من تحته أو تتركه عليه إلى أن تفرغ من غسله لتستر به عورته وإن لم يكن عليه قميص
ألقيت على عورته شيئا مما تستر به عورته، وتلين أصابعه ومفاصله ما قدرت بالرفق وإن
كان يصعب عليك فدعه، وتبدأ بغسل كفيه ثم تطهر ما خرج من بطنه، ويلف غاسله
على يده خرقة ويصب غيره الماء من فوق يديه ثم تضجعه ويكون غسله من وراء ثوبه
إن استطعت ذلك وتدخل يدك تحت الثوب، وتغسل قبله ودبره بثلاث حميديات ولا
تقطع الماء عنه، ثم تغسل رأسه ولحيته برغوة السدر وتتبعه بثلاث حميديات ولا تقعده
إن صعب عليك، ثم اقلبه إلى جنبه الأيسر ليبدو لك الأيمن ومد يدك اليمنى إلى جنبه
الأيمن إلى حيث تبلغ ثم اغسله بثلاث حميديات من قرنه إلى قدمه فإذا بلغت وركه
فأكثر من صب الماء وإياك أن تتركه، ثم اقلبه إلى جنبه الأيمن ليبدو لك الأيسر وضع بيدك
اليسرى على جنبه الأيسر واغسله بثلاث حميديات من قرنه إلى قدمه ولا تقطع الماء عنه،
ثم اقلبه على ظهره وامسح بطنه مسحا رفيقا، واغسله مرة أخرى بماء وشئ من الكافور
واطرح فيه شيئا من الحنوط مثل الغسلة الأولى، ثم خضخض الأواني التي فيها الماء واغسله
الثالثة بماء قراح ولا تمسح بطنه في الثالثة، وقل وأنت تغسله: " عفوك عفوك " فإنه من قالها عفا
الله تعالى عنه، وعليك بأداء الأمانة فإنه روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
" أنه من غسل ميتا مؤمنا فأدى فيه الأمانة غفر له. قيل كيف يؤدي الأمانة؟ قال
لا يخبر بما يرى " فإذا فرغت من الغسلة الثالثة فاغسل يديك من المرفقين إلى أطراف
أصابعك وألق عليه ثوبا تنشف به الماء عنه، ولا يجوز أن يدخل الماء الذي ينصب عن الميت
من غسله في كنيف ولكن يجوز أن يدخل في بلاليع لا يبال فيها أو في حفيرة، ولا

(1) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب غسل الميت
443

يقلمن أظافيره ولا يقص شاربه ولا شيئا من شعره فإن سقط منه شئ من جلده فاجعله
معه في أكفانه، ولا تسخن له ماء إلا أن يكون ماء باردا جدا فتوقى الميت مما توقى منه
نفسك، ولا يكون الماء حارا شديدا وليكن فاترا " انتهى كلامه (عليه السلام).
أقول: فهذه جملة وافرة من الأخبار الجارية في هذا المضمار وبيان ما اشتملت
عليه من الأحكام يقع في مسائل:
(الأولى) - ما اشتملت عليه هذه الأخبار - من التغسيل بالمياه الثلاثة على
الترتيب المذكور فيها بماء السدر ثم بماء الكافور ثم بالماء القراح - مذهب الأصحاب
(رضوان الله عليهم) لا أعلم فيه مخالفا إلا ما نقل عن سلار من الاكتفاء بغسل واحد
وعن ظاهر ابن حمزة من عدم وجوب الترتيب بينها، وهما ضعيفان مردودان بما عرفت
من الأخبار. ونقل عن سلار الاحتجاج على ما نقل عنه بالأصل وبقوله (عليه السلام)
في رواية علي عن أبي إبراهيم (1) قال: " سألته عن الميت يموت وهو جنب؟ قال غسل
واحد " وهاتان الحجتان بمكان من الضعف لأن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وقد
تقدم، والغسل الواحد في الرواية المذكورة إنما أريد به الاكتفاء بغسل الميت عن غسل
الجنابة كما دل على ذلك جملة من الأخبار فمعنى كونه واحدا يعني لا يتعدد بتعدد السبب
فهو من جملة أخبار تداخل الأغسال المستفيض في الأخبار وغسل الميت عندنا واحد
وإن اشتمل على ثلاث غسلات. ونقل على الترتيب في المعتبر اتفاق فقهاء أهل
البيت (عليهم السلام).
(الثانية) - ما دل عليه خبر عبد الله بن عبيد (2) من الأمر بوضوء الميت إمام
غسله مما يدل بظاهره على مذهب أبي الصلاح من القول بوجوبه، والمفيد ذكر الوضوء في
صفة غسل الميت إلا أنه لم يصرح بوجوبه، ونحوه ابن البراج، وقال الشيخ في النهاية:
" وقد رويت أحاديث أنه ينبغي أن يوضأ الميت قبل غسله فمن عمل بها كان أحوط "

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت
(2) ص 441
444

وقال في الخلاف: " غسل الميت كغسل الحي ليس فيه وضوء وفي أصحابنا من قال
يستحب فيه الوضوء قبله غير أنه لا خلاف بينهم أنه لا يجوز المضمضة والاستنشاق فيه "
وقال في المبسوط: " قد روي أنه يوضأ الميت قبل غسله فمن عمل به كان جائزا غير أن عمل الطائفة على ترك العمل بذلك لأن غسل الميت كغسل الجنابة ولا وضوء في غسل
الجنابة " وقال سلار: " وفي أصحابنا من يوضئ الميت وما كان شيخنا (رضي الله عنه)
يرى ذلك " وقال ابن إدريس: " وقد روي أنه يوضأ وضوء الصلاة وهو شاذ والصحيح
خلافه، قال: وإذا كان الشيخ قال في المبسوط إن عمل الطائفة على ترك العمل
بذلك لم يجز العمل بالرواية لأن العامل بها يكون مخالفا للطائفة ".
أقول: الظاهر أن المشهور بين المتأخرين هو الاستحباب كما صرح به المحقق في
المعتبر والعلامة في المختلف والمنتهى والشهيد في الذكرى وغيرهم في غيرها.
والذي يدل على الأمر به من الأخبار زيادة على الخبر المذكور ما رواه الشيخ
عن حريز في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " الميت يبدأ بفرجه ثم
يوضأ وضوء الصلاة وذكر الحديث ".
وعن أبي خيثمة عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " إن أبي أمرني أن أغسله
إذا توفي وقال لي أكتب يا بني ثم قال إنهم يأمرونك بخلاف ما تصنع فقل لهم هذا كتاب
أبي ولست أعدو قوله، ثم قال تبدأ فتغسل يديه ثم توضئه وضوء الصلاة ثم تأخذ ماء
وسدرا... الحديث ".
وعن معاوية بن عمار (3) قال: " أمرني أبو عبد الله (عليه السلام) أن أعصر
بطنه ثم أوضئه ثم اغسله بالأشنان ثم اغسل رأسه بالسدر ولحيته ثم أفيض على جسده منه ثم
أدلك به جسده ثم أفيض عليه ثلاثا ثم اغسله بالماء القراح ثم أفيض عليه الماء بالكافور

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب غسل الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب غسل الميت
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
445

وبالماء القراح واطراح فيه سبع ورقات سدر ".
قال في الذكرى بعد ذكر هذا الخبر: " وفي هذا الخبر غرائب " أقول: لعل ذلك
من حيث دلالته بظاهره على أنه تولى تغسيل الإمام (عليه السلام) مع ما علم من الأخبار
أنه لا يغسله إلا إمام مثله، ومن حيث دلالته على عصر بطنه مع النهي عنه في الأخبار، ومن
حيث دلالته على عدم الترتيب بين المياه الثلاثة والأخبار والاجماع - كما عرفت - على خلافه.
إلا أنه يمكن الجواب عن الأول بأن الضمير في " بطنه " يعود إلى الميت المفهوم من قرائن
المقام أو المتقدم في سابق هذا الكلام، إذ الظاهر أن هذا كلام مقتطع من حديث قبله.
ومن العجب أن الأصحاب إنما استدلوا لأبي الصلاح أو نقلوا الاستدلال عنه
برواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " في كل
غسل وضوء إلا غسل الجنابة " مع أن هذه الأخبار التي ذكرناها واضحة الدلالة صريحة
المقالة في مذهبه. وأعجب من ذلك أن المحقق في المعتبر أجاب عن هذه الرواية بعدم الصراحة
في الوجوب وأنها كما تحتمل الوجوب تحتمل الاستحباب، وتبعه في هذا الجواب جملة
من المتأخرين كالشهيدين وغيرهما، مع أنهم في غير موضع يستدلون بهذه الرواية على
وجوب الوضوء مع الغسل كما تقدم البحث فيه في باب الجنابة.
واستدل على نفي الوضوء هنا بالأخبار الكثيرة الدالة على بيان الكيفية مع
خلوها من التعرض لذكره والمقام مقام البيان. أقول: لقائل أن يقول أن غاية هذه الأخبار أن تكون مطلقة والقاعدة تقتضي تقييدها بالأخبار الدالة على وجوب الوضوء
فلا منافاة. نعم صحيحة يعقوب بن يقطين المتقدمة (2) ظاهرة في نفيه حيث إن أصل
السؤال إنما وقع عن الوضوء في غسل الميت يعني وجوبه فخرج الجواب ببيان الكيفية
عاريا عن التعرض له بنفي أو اثبات، ولا ريب أن اضراب الإمام (عليه السلام) عن
ذلك أنما يكون لعلة.

(1) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب غسل الجنابة
(2) ص 441
446

ولولا اتفاق العامة على الوضوء في غسل الميت كما نقله في المنتهى (1) لكان
العمل بأخبار الوجوب في غاية القوة، وظاهر اضراب الإمام (عليه السلام) عن الجواب
في صحيحة يعقوب المذكورة مشعر بالتقية. وأما القول بالاستحباب كما هو المشهور بين
المتأخرين فلا وجه له لأن تلك الأخبار ظاهرة في الوجوب لا معارض لها إلا اطلاق
غيرها من الأخبار المتقدمة وقضية القاعدة المشهورة حمل مطلقها على مقيدها. (فإن قيل)
الحمل على التقية إنما يكون عند وجود المعارض لها (قلنا) قد تكاثرت الأخبار بعرض
الخبر على مذهب العامة والأخذ بخلافه وإن كان لا معارض له ثمة حتى ورد أنه إذا
احتاج إلى معرفة حكم من الأحكام وليس في البلد من يستفتيه من علماء الإمامية يسأل
فقهاء العامة ويأخذ بخلافهم (2) وقد ورد أيضا " إذا رأيت الناس مقبلين على شئ فدعه "
ويؤيد ذلك ما تقدم عن الشيخ من أن عمل الطائفة على ترك العمل بذلك وما يشعر به
صحيح يعقوب بن يقطين. وبالجملة فالظاهر إما القول بالوجوب كما هو ظاهر الأخبار
المذكورة أو طرحها وحملها على التقية كما ذكرنا والقول بالتحريم. ولعله الأقرب.
(الثالثة) - اختلف الأصحاب في أنه هل الأفضل تغسيل الميت عريانا مستور
العورة أو في قميص يدخل الغاسل يده تحته؟ قال في المختلف: " المشهور أنه ينبغي أن ينزع
القميص عن الميت ثم يترك على عورته ما يسترها واجبا ثم يغسله الغاسل. وقال ابن

(1) في المغني ج 2 ص 457 " إذا أنجاه وأزال عنه النجاسة بدأ بعد ذلك فوضأه
وضوء الصلاة. " وفي عمدة القارئ شرح البخاري ج 4 ص 41 " وضوء الميت سنة كما
في الاغتسال حال الحياة غير أنه لا يمضمض ولا يستنشق عندنا " وفي الأم للشافعي ج 1
ص 234 في مقام بيان صفة الغسل " ثم يوضئه وضوء الصلاة " وفي بداية المجتهد لابن
رشد ج 1 ص 211 " قال أبو حنيفة لا يوضأ الميت وقال الشافعي يوضأ وقال مالك إن
وضئ فحسن ".
(2) كما في حديث علي بن أسباط عن الرضا (عليه السلام) المروي في الباب 9 من
صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به.
447

أبي عقيل السنة في غسل الميت أن يغسل في قميص نظيف، وقد تواترت الأخبار عنهم
(عليهم السلام) أن عليا (عليه السلام) غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قميصه
ثلاث غسلات. وقال الشيخ في الخلاف: يستحب أن يغسل الميت عريانا مستور العورة
إما بأن يترك قميصه على عورته أو ينزع القميص ويترك على عورته خرقة، إلى أن قال
دليلنا اجماع الفرقة وعملهم على أنه مخير بين الأمرين. وقال أبو جعفر بن بابويه: وينزع
القميص عنه من فوق إلى سرته ويتركه إلى أن يفرغ من غسله ليستر به عورته فإن لم يكن
عليه قميص ألقى على عورته ما يسترها. ويدل على ما اختاره ابن أبي عقيل ما رواه ابن
مسكان في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " قلت يكون عليه ثوب
إذا غسل؟ قال إن استطعت أن يكون عليه قميص فغسله من تحته " انتهى ما ذكره
في المختلف. وقد ظهر من كلامه أن المشهور هو استحباب غسله مكشوف البدن ما عدا
العورة، وكلام ابن أبي عقيل ظاهر في استحباب التغسيل في قميص وهو ظاهر من الأخبار
كصحيحة ابن مسكان المذكورة وصحيحة يعقوب بن يقطين المتقدمة (2) وصحيحة سليمان
ابن خالد المتقدمة (3) أيضا بل ظاهر صحيحة يعقوب الوجوب، ويعضدها أيضا الأخبار
المتقدمة في تغسيل الزوجين المتكاثرة بكونه من وراء الثياب وبالجملة فقول ابن أبي عقيل هو
الأظهر في المسألة، وظاهر العلامة في كلامه المذكور الميل إليه حيث استدل لابن أبي عقيل
بالصحيحة المذكورة ولم يستدل لغيره بشئ.
وظاهر هذه الأخبار الدالة على أفضلية تغسيله في قميصه هو طهارة القميص بطهارة
الميت من غير عصر إذا كان خاليا من نجاسة خبثية وإلا وجب إزالتها أولا قبل الشروع
في الغسل كما تقدم الكلام فيه، وكذا طهارة الخرقة التي يضعها على فرجه إذا جرده
والخرقة التي يلفها على يده، وبذلك صرح في الحبل المتين حيث قال: " والظاهر عدم
احتياج طهارة القميص إلى العصر كما في الخرقة التي يستر بها عورة الميت. أقول: وقد

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت
(2) ص 441
(3) ص 441
448

تقدم في صدر المقام الأول في التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية (1) ذكر الخلاف بين
أصحابنا في طهر القميص وعدمه بدون العصر.
ثم إنه مع استحباب تغسيله عاريا كما هو المشهور فإنهم صرحوا بأنه يفتق جيبه
وينزع ثوبه من تحته، ذكر ذلك الشيخان في النهاية والمبسوط والمقنعة وبالغ في المقنعة
فقال: " يفتق جيبه أو يخرقه ليتسع عليه " قال في المدارك: " ولا خفاء في أن ذلك
مشروط بإذن الورثة فلو تعذر لصغر أو غيبة لم يجز " أقول: قد روى المحقق في المعتبر (2)
عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) قال: " ثم يخرق القميص إذا فرغ من
غسله وينزع من رجليه " وهو - كما ترى - مطلق فلا يتقيد بما ذكره.
ثم إن ظاهر خبر يونس (3) أنه يجمع القميص على موضع العورة بأن يخرج يده
من القميص ويجذبه منحدرا إلى سرته ويجرد ساقيه إلى فوق الركبة، وظاهر عبارة كتاب
الفقه (4) أنه يتخير بين نزع قميصه من تحته وبين أن يتركه عليه إلى أن يفرغ من غسله
(الرابعة) - المشهور بين الأصحاب استحباب الاستقبال بالميت حال الغسل
مثل حال الاحتضار، وفي المختلف عن المبسوط القول بالوجوب حيث قال: " معرفة
القبلة واجبة للتوجه إليها في الصلوات واستقبالها عند الذبيحة واحتضار الأموات وغسلهم "
وقال في المدارك - بعد عد المصنف الاستقبال في حال الغسل من سنن الغسل - ما صورته
" هذا قول الشيخ وأكثر الأصحاب بل قال في المعتبر أنه اتفاق أهل العلم للأمر به في
عدة روايات، وإنما حمل على الندب جمعا بينها وبين ما رواه يعقوب بن يقطين في
الصحيح (5) قال: " سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الميت كيف يوضع على
المغتسل موجها وجهه نحو القبلة أو يوضع على يمينه ووجهه نحو القبلة؟ قال: يوضع كيف
تيسر " ونقل عن ظاهر الشيخ في المبسوط وجوب الاستقبال ورجحه المحقق الشيخ علي

(1) ص 390
(2) ص 72
(3) ص 439
(4) ص 443
(5) رواه في الوسائل في الباب 5 من أبواب غسل الميت
449

محتجا بورود الأمر به ثم قال: ولا ينافيه ما سبق - يعني خبر يعقوب بن يقطين - لأن
ما تعسر لا يجب. وهو غير جيد لأن مقتضى الرواية اجزاء أي جهة اتفقت فالمنافاة
واضحة وحمل الأمر على الاستحباب متعين " انتهى كلامه. وبنحو ذلك صرح جده.
أقول: الظاهر عندي هو القول بالوجوب، وهو ظاهر العلامة في المنتهى حيث إنه
- بعد ذكر صحيحة سليمان بن خالد وهي ما رواه في الصحيح (1) قال: " سمعت أبا عبد الله
(عليه السلام) يقول: إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة وكذلك إذا غسل
يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبل باطن قدميه ووجهه إلى القبلة " - قال:
" وهذه أوامر تدل على الوجوب " انتهى. ومما يدل على ذلك أيضا خبر الكاهلي
المتقدم (2) وقوله فيه: " استقبل بباطن قدميه القبلة حتى يكون وجهه مستقبل القبلة "
وخبر يونس (3) وقوله فيه: " إذا أردت غسل الميت فضعه على المغتسل مستقبل القبلة "
وقوله (عليه السلام) في كتاب الفقه (4): " ويكون مستقبل القبلة " وأما ما توهموه - من
منافاة صحيحة يعقوب بن يقطين المتقدمة لهذه الأخبار بناء على ما فهموه من أن المراد
أنه يوضع على أي كيفية كانت - ففيه ما ذكره شيخنا البهائي في الحبل المتين حيث قال -
بعد الكلام في المسألة ونقله عن الشهيد الثاني أنه استضعف كلام الشيخ علي ورده بما
ذكره سبطه - ما صورته: " وأنت خبير بأن لقائل أن يقول أن الظاهر من قوله
(عليه السلام): " يوضع كيف تيسر " التخيير بين الوضعين اللذين ذكرهما السائل أعني
توجيهه إلى القبلة على هيئة المحتضر أو على هيئة الملحود فأجابه (عليه السلام) باجزاء ما تيسر
من الأمرين، ففي الحديث دلالة على أنه إذا تعسر توجيهه على هيئة المحتضر وتيسر
التوجيه على هيئة الملحود فلا عدول عنه لأنه أحد توجيهي الميت فتأمل. والظاهر أن
هذا مراد شيخنا الشيخ علي أعلى الله قدره. والأصح وجوب الاستقبال. والله سبحانه.

(1) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الاحتضار.
(2) ص 438
(3) ص 439
(4) ص 443
450

أعلم " انتهى كلامه. أقول: وبما ذكره يظهر أن الأخبار المتقدمة لا معارض لها فيجب
العمل بها، وما ذكره أن لم يكن أرجح - سيما مع ما عرفت غير مرة مما في الحمل على
الاستحباب وإن اشتهر العمل عليه بين الأصحاب - فلا أقل أن يكون مساويا لما ذكروه،
وبه يسقط الاستدلال بالخبر المذكور على ما ذكروه من جواز الوضع كيف اتفق
ويحتمل أيضا حمل خبر يعقوب بن يقطين على عدم إمكان الاستقبال المذكور في الأخبار
فيوضع كيف اتفق، وبه يحصل الجمع أيضا بين الأخبار المذكورة. وقد نقل في الحبل المتين
القول بالوجوب أيضا عن الشهيدين في المسالك والدروس، وهو الأقوى كما عرفت.
(الخامسة) - ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من وجوب ستر عورته بقميصه
أو بخرقة مما وقع عليه الاجماع ولما علم من الشرع من تحريم النظر إلى العورة، نعم لو
كان الغاسل ممن لا يبصر أو أنه يثق من نفسه بكف البصر عن العورة بحيث يتيقن
السلامة من الوقوع في ذلك المحذور فلا بأس، لأن وجوب الستر إنما هو لمنع الابصار
فإذا أمكن من دون الستر لم يجب، إلا أن الأحوط أن لا يترك الستر استظهارا في المنع
وقد استثني من ذلك الزوجان على تقدير جواز تغسيل كل منهما الآخر أو أحدهما
الآخر مجردا، وقد تقدم تحقيق البحث في المسألة. وهل يجب ستر عورة الصبي الذي
يجوز للنساء تغسيله مجردا أم لا؟ قرب في المعتبر عدم الوجوب بناء على جواز نظر المرأة
إليه، قال: " وهو يدل على جواز نظر الرجل " واعترضه في الذكرى قال: " فإن
أراد إلى العورة أمكن توجه المنع إلا أن يعلل بعدم الشهوة فلا حاجة إلى الحمل على النساء "
(السادسة) - ما دل عليه جملة من الأخبار المتقدمة - من وجوب الترتيب
في غسله بأن يبدأ بالرأس أولا ثم بالجانب الأيمن ثانيا ثم الأيسر - مما وقع الاتفاق عليه
وقد ذكر جمع من المتأخرين أنه يسقط الترتيب بغمس الميت بالماء غمسة واحدة بأن
يغمس في كل ماء من المياه الثلاثة غمسة واحدة استنادا إلى رواية محمد بن مسلم عن الباقر
451

(عليه السلام) (1) قال: " غسل الميت مثل غسل الجنب... " واستشكله جمع من متأخري
المتأخرين لما فيه من الخروج عن صرائح تلك الروايات المتكاثرة بهذه الرواية المجملة، إذ المماثلة
لا تقتضي أن تكون من كل وجه فلعله باعتبار الترتيب أو عدم الوضوء أو نحو ذلك.
ثم إنه هل الغاسل حقيقة هو الصاب أو المقلب؟ المشهور الأول، قالوا وتظهر
الفائدة في النية فأيهما ثبت أنه الغاسل تعلقت به النية، ومستندهم في ذلك هو أن الغسل
شرعا جريان الماء على المحل والصاب هو الذي حصل بفعله الجريان. وربما علل الثاني
بأن الصاب إنما هو بمنزلة الآلة. أقول: لا يخفى ما في البناء على مثل هذه التعليلات
العليلة، والذي يظهر لي من الأخبار هو الثاني، ومنها - موثقة سماعة (2) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مات وليس عنده إلا نساء؟ قال تغسله
امرأة ذات محرم وتصب النساء عليه الماء... " وموثقة عبد الرحمان ابن أبي عبد الله البصري
عن الصادق (عليه السلام) (3) وفيها " تغسله امرأته أو ذات محرمة وتصب عليه النساء
الماء صبا... " وحسنة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (4) وفيها " تغسله امرأته أو ذو قرابته
إن كانت له وتصب النساء عليه الماء صبا " وهي - كما ترى - ظاهرة في أن الغسل إنما
هو للمباشر بيده لبدن الميت لا الصاب. وفي عبارة كتاب الفقه المتقدمة (5) " ويلف
غاسله على يده خرقة ويصب غيره الماء من فوق بدنه " ويدل على ذلك أيضا الأخبار
المتقدمة الدالة على المماثلة وأنه مع عدم المماثل لا بد من اشتراط المحرمية أو الزوجية بين
الغاسل والميت، فإنها إنما تنطبق على المباشر لبدن الميت لا الصاب عليه. فإن الصب في
هذه الأخبار ونحوها جائز من الأجانب الذين ليس بينهم وبين الميت محرمية ولا زوجية
ثم إنهم بناء على ما قدمنا نقله عنهم اختلفوا في أنه هل تجب النية في كل غسلة من

(1) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت
(2) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت
(3) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب غسل الميت
(4) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب غسل الميت
(5) ص 443
452

الغسلات الثلاث أم تكفي الواحدة؟ ظاهر الذكرى الاكتفاء بالواحدة بناء على أن هذا غسل
واحد وإن تعده باعتبار كيفيته، وقيل بتعدد النية بتعدد الغسلات لتعدد الأغسال اسما وصورة
ومعنى، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في الروض، وعن المحقق الشيخ علي في شرح القواعد
التخيير بين نية واحدة ونية ثلاث عند أول كل غسل لأنه في المعنى عبادة واحدة وغسل
واحد مركب من غسلات ثلاث وفي الصورة ثلاث فيجوز مراعاة الوجهين، وتردد في
المعتبر في وجوب النية في هذا الغسل مطلقا لأنه تطهير للميت من نجاسة الموت فهو إزالة
نجاسة كغسل الثوب ثم احتاط بوجوبها، وفرع في الذكرى على الخلاف في النية وعدمها
جواز الغسل في المكان المغصوب وبالماء المغصوب وعدمه. أقول: والوجه في ذلك أنه
على الأول يكون عبادة فلا يصح في المكان المغصوب ولا بالماء المغصوب كما صرحوا به في
الوضوء والغسل من الجنابة ونحوهما، وعلى الثاني يكون من قبيل إزالة النجاسات وهي
غير مشترطة بشئ من ذلك.
ثم إن الغاسل إن اتحد وجب عليه النية وإن اشترك جماعة في غسله فإن اجتمعوا
في الصب اعتبرت النية من الجميع لاستناده إلى الجميع فلا أولوية، ولو كان بعضهم يصب
والآخر يقلب وجبت على الصاب لأنه الغاسل حقيقة واستحبت من المقلب. أقول:
وهذا البحث بجميع ما ذكر فيه من الشقوق والأقسام مفروغ عنه عندنا لما أسلفنا لك
تحقيقه في نية الوضوء، وكلامهم هذا مبني على النية المشهورة بينهم التي هي عبارة عن
التصوير الفكري والحديث النفسي الذي يترجمه قول القائل: افعل كذا لوجوبه أو ندبه
قربة إلى الله تعالى. وهذه ليست هي النية الحقيقية كما سلف تحقيقه.
(السابعة) - أكثر الروايات المتقدمة مطلقة في السدر الذي يضاف إلى الماء،
وفي رواية عبد الله بن عبيد (1) سبع ورقات، وكلام الأصحاب هنا مختلف، فاعتبر فيه
بعضهم مسماه والظاهر أنه المشهور، وبعض ما يصدق به الاسم بمعنى ما يصدق عليه أنه

(1) ص 441
453

ماء سدر وماء كافور فلو كان السدر ورقا غير مطحون ولا ممروس لم يجز وكذا لو كان
قليلا على وجه لا يصدق على ذلك الماء أنه ماء سدر، وعن المفيد تقديره برطل وابن
البراج برطل ونصف، واعتبر بعضهم سبع ورقات كما دل عليه الخبر المشار إليه.
والظاهر من هذه الأقوال هو اعتبار ما يصدق به الاسم عملا بالأخبار الكثيرة المصرحة
بماء السدر.
ثم إنهم اختلفوا أيضا في أنه لو خرج بذلك عن الاطلاق فهل يجوز التغسيل به أم لا؟
قولان اختار ثانيهما العلامة وغيره والظاهر أنه هو المشهور، وإلى الأول مال في المدارك
قال: " واطلاق الأخبار واتفاق الأصحاب على ترغية السدر كما نقله في الذكرى يقتضيان
الجواز " وظاهره في الذكرى التوقف في المسألة حيث إنه اقتصر على نقل الأقوال
في المسألة، فنقل عن الفاضل أنه يشترط كون السدر والكافور لا يخرجان الماء إلى
الإضافة لأنه مطهر والمضاف غير مطهر. ثم نقل قولي المفيد وابن البراج، وقال: اتفق
الأصحاب على ترغيته وهما يوهمان الإضافة ويكون المطهر هو القراح والغرض بالأولين
التنظيف وحفظ البدن من الهوام بالكافور لأن رائحته تطردها. انتهى. ومن هذا
الكلام الأخير يعلم الجواب عما احتجوا به على المنع من أنه مطهر والمضاف غير مطهر.
وبالجملة فالظاهر من الأخبار المتقدمة هو القول الأول، واستند الشهيد الثاني - بعد
اختياره للقول المشهور واستدلاله عليه بما تقدم في كلام العلامة - إلى قوله (عليه السلام):
في صحيحة سليمان بن خالد ومثلها في صحيحة عبد الله بن مسكان (1): " بماء وسدر "
فإنه ظاهر في اشتراط بقاء ماء السدر على الاطلاق. أقول: ومثل ذلك في عبارة كتاب
الفقه الأولى (2) إلا أن ظاهر كلامه في الثانية (3) هو الغسل برغوة السدر، وظاهر خبر
يونس (4) مما يؤيد القول الأول وكذا ظاهر رواية الكاهلي (5). وبالجملة فالمسألة لا تخلو
من شوب الاشكال لتصادم ظواهر الأدلة وتقابلها في ذلك. وأما ما ذكره في المدارك

(1) ص 441
(2) ص 442
(3) ص 442
(4) ص 439
(5) ص 438
454

من الاحتجاج باطلاق الأخبار على الجواز ففيه أن الأخبار مختلفة في تأدية هذا المعنى
كما عرفت فإن ما عبر به في بعضها من قوله: " ماء وسدر " ظاهر في الدلالة على القول بعدم
الجواز كما استدل به جده (قدس سره) في الروض على ذلك، وما عبر به من قوله: " ماء
السدر " فهو محتمل للحمل على كل من القولين، نعم ما ذكره من الاستناد إلى الترغية
جيد باعتبار دلالة رواية يونس وعبارة كتاب الفقه على أنه يغسل بها الرأس، وظاهرهما
أنه الغسل الواجب ولهذا ذكرا بعده غسل الجانب الأيمن من البدن. وأما ما ذكره
في الذكرى - من أنه يكون المطهر هو القراح والغرض من الأولين التنظيف... " الخ -
فهو غير صالح لتأسيس حكم شرعي لأنه مجرد ظن واستنباط لا دليل عليه. ولم لا يجوز
أن يكون لكل من الغسل بماء السدر وماء الكافور مدخل في التطهير؟ وكيف لا وقد
اتفقوا على وجوب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة فيهما كما في الأغسال الشرعية واتفقوا
على طهارتهما من النجاسة لتحصيل التطهير بهما ونحو ذلك من شروط الأغسال الشرعية،
ولو كان الغرض منهما ما ذكره لم يتوقف ذلك على أمر آخر وراءه والحال بخلاف ذلك
والمسألة لا تخلو من نوع توقف وإن كان القول الأول لا يخلو من قرب. وظاهر جملة
من الأصحاب التوقف في ذلك أيضا كشيخنا الشهيد في الذكرى والشيخ البهائي في
الحبل المتين حيث اقتصروا على نقل كلام الأصحاب في المسألة. والله العالم.
(الثامنة) - ظاهر الأصحاب الاتفاق على وجوب التغسيل بالماء القراح فيما إذا
عدم الخليطان وإنما الخلاف في وجوب غسلة واحدة به أو ثلاث غسلات؟ قولان،
وبالأول جزم المحقق في المعتبر والسيد السند في المدارك وبالثاني ابن إدريس والعلامة
في الإرشاد والشهيد الثاني في الروض، وتوقف في المنتهى والمختلف وهو ظاهر
الشهيد في الذكرى.
وعلل القول الأول - كما ذكره في المعتبر - بالأصل وبأن المراد بالسدر الاستعانة
على إزالة الدرن وبالكافور تطييب الميت وحفظه بخاصية الكافور من اسراع التغير
455

وتعرض الهوام ومع عدمها فلا فائدة في تكرار الماء مع حصول النقاء. أقول: وفي
التعليل الثاني ما عرفت آنفا من أن هذه العلة لا تخرج من أن تكون مستنبطة، إذ لا دلالة
في شئ من الأخبار عليها ومع تسليم وجودها في الأخبار فاستلزامها لما ذكروه مردود
بأن علل الشرع إنما هي من قبيل المعرفات لا أنها علل حقيقة يدور المعلول مدارها
وجودا وعدما. ألا ترى أنه قد ورد في تعليل وجوب العدة على النساء أن العلة في
ذلك استبراء الرحم مع وجوبها على من لم يدخل بها زوجها في الوفاة وعلى من طلقها
أو مات عنها في بلاد بعيدة بعد مدة مديدة. ونحو ذلك ما ورد في علة غسل الجمعة من أنه كانت الأنصار تعمل في نواضحها فإذا حضروا الجمعة تأذى الناس بروائحهم فأمر
(صلى الله عليه وآله) بغسل الجمعة لذلك (1) مع ثبوت استحبابه أو وجوبه على القول به
مطلقا بل ورد تقديمه على يوم الجمعة وقضاؤه بعده، وحينئذ فمع ورود هذه العلة التي
ذكرها لا يجب اطرادها ودوران المعلول مدارها وجودا وعدما حتى أنه مع فقد الخليطين
يسقط الغسل عملا بالعلة المذكورة.
وعلل القول الثاني - كما ذكره في الذكرى - بامكان الجزء فلا يسقط بفوات
الآخر لأصالة عدم اشتراط أحدهما بصاحبه. وقال في المنتهى: " لو لم يوجد السدر
والكافور وجب أن يغسل بالماء القراح، وفي عدد غسله حينئذ اشكال ينشأ من سقوط
الغسل بعدم ما يضاف إليه لأنه المأمور به ولم يوجد فيسقط الأمر، ومن كون الواجب
الغسل بماء الكافور أو السدر فهما واجبان في الحقيقة ولا يلزم من سقوط أحد الواجبين
للعذر سقوط الآخر " وزاد في الروض الاستدلال على ما ذهب إليه من وجوب الثلاث
بقوله (عليه السلام) (2): " الميسور لا يسقط بالمعسور " كما ورد في الخبر وقوله

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة.
(2) رواه النراقي في العوائد ص 88 ومير فتاح في العناوين ص 146 عن عوالي
اللئالي عن أمير المؤمنين " عليه السلام ".
456

(صلى الله عليه وآله): " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم " (1)
وعلى هذا النحو كلماتهم في هذا المقام وهي مما لا تسمن ولا تغني من جوع
كما لا يخفى على من له إلى الانصاف أدنى رجوع، والمسألة غير منصوصة، وبناء الأحكام
على هذه التعليلات العليلة سيما مع تعارضها وتصادمها لا يخلو من المجازفة في أحكامه
سبحانه، إلا أنه ربما لاح من بعض الأخبار سقوط الغسل بالكلية في هذه الصورة مثل
موثقة عمار (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في قوم كانوا في سفر
لهم يمشون على ساحل البحر فإذا هم برجل ميت عريان قد لفظه البحر وهم عراة ليس عليهم
إلا إزار، كيف يصلون عليه وهو عريان وليس معهم فضل ثوب يكفنونه به؟ فقال يحفر
له ويوضع في لحده ويوضع اللبن على عورته لتستر عورته باللبن ثم يصلى عليه ويدفن... "
ونحوه خبر محمد بن مسلم عن رجل من أهل الجزيرة (3) قال: " قلت لأبي الحسن الرضا
(عليه السلام) قوم كسر بهم مركب في بحر فخرجوا يمشون على الشط فإذا هم برجل
ميت عريان والقوم ليس عليهم إلا مناديل متزرين بها وليس عليهم فضل ثوب يوارون به
الرجل كيف يصلون عليه وهو عريان؟ فقال: إذا لم يقدروا على ثوب يوارون به عورته
فليحفروا له قبره ويضعوه في لحده يوارون عورته بلبن أو حجارة أو تراب ثم يصلون عليه
ثم يوارونه في قبره... الحديث " والتقريب فيهما أنه (عليه السلام) لم يتعرض لذكر
الغسل في المقام بل أمر أن يحفر له ويوضع في حفرته ولم يتعرض لذكر غسله، والظاهر أنه لا وجه لسقوطه إلا فقد الخليطين فإن ظاهر تلك الحال يشهد بتعذر وجوده وإلا فمجرد
كونه عريانا لا يمنع من وجوب غسله وهم على ساحل البحر، ويعضد ذلك أن التكليف
الشرعي إنما تعلق بهذه المياه الثلاثة على الترتيب المخصوص والكيفية المخصوصة في

(1) رواه مسلم في صحيحة ج 1 ص 513 والنسائي ج 2 ص 1 وابن حزم في المحلى
ج 1 ص 64 رقم 100 باسناد متصل إلى أبي هريرة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب صلاة الجنازة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب صلاة الجنازة.
457

الأخبار وايجاب غيرها بأي نحو كان بعد تعذرها يتوقف على الدليل الشرعي والنص
الواضح الحلبي والركون إلى هذه التعليلات العقلية - وإن زعموها أدلة شرعية بل قدموها
على الأدلة السمعية سيما مع تصادمها كما عرفت - لا يخلو من المجازفة في أحكامه التي قد دلت
الآيات والروايات على النهي عن القول فيها بغير علم منه عز وجل أو من نوابه (عليهم
السلام) وحملة كتابه (لا يقال): إن الواجب مع تعذر الغسل التيمم وهذان الخبران
خاليان من التعرض له أيضا (لأنا نقول) - غايتهما في ذلك أن يكونا مطلقين في هذا
الحكم فيجب تقييدهما بما دل على الحكم المذكور من الأخبار كما سيأتي في المسألة بخلاف
الغسل فإنه ليس هنا ما يوجب تقييد اطلاقها إذ لا رواية في المسألة كما عرفت، وروايات
الغسل المتكاثرة إنما وردت بالخليطين وهما غير موجودين كما هو المفروض في المسألة.
وبذلك يظهر لك الكلام فيما فرعوا على هذه المسألة من مس الميت بعد غسله
كذلك وقد تقدم الكلام في ذلك في فصل غسل المس (1) وكذا فيما لو وجد الخليطان
بعد الغسل كذلك فهل يجب إعادة الغسل أم لا؟ واستظهر في المدارك هنا عدم وجوب
الإعادة، قال: " لتحقق الامتثال المقتضي للاجزاء " أقول: لا يخفى أن هذه العبارة
إنما يرمى بها في مقام وجود النص الشرعي ويكون المراد بالامتثال يعني امتثال أمر
الشارع وهو الذي يقتضي الاجزاء لا في مثل هذا المقام المبني على هذه التخرصات
والتخريجات العقلية. وأنت خبير بأن للخصم أن يقول أن التكليف بالغسل بالخليطين
ثابت بالنصوص التي لا ريب فيها، سقط التكليف به فيما إذا تعذر حتى دفن الميت، وما لم
يدفن فالخطاب إلى من تعلق به الخطاب أو لا متوجه والتكليف باق وهذا الغسل الذي
وقع لم يقم عليه نص ولا دليل يعتمد عليه حتى يمكن حصول الامتثال به ورفع تعلق
الخطاب. وبالجملة فإن البناء إذا كان على غير أساس تطرق إليه الهدم والانطماس.
(التاسعة) - من المستحبات في هذا الغسل غسل اليدين إلى نصف الذراع

ص 333.
458

والفرجين في كل غسلة بمائها كما في رواية يونس (1) " ثم اغسل يديه ثلاث مرات كما
يغتسل الانسان من الجنابة إلى نصف الذراع ثم اغسل فرجه ونقه " وفي رواية الكاهلي (2)
" ثم ابدأ بفرجه بماء السدر والحرض فاغسله ثلاث غسلات " ونحو ذلك في عبارة
كتاب الفقه (3).
وقد ذكر جمع من الأصحاب أنه يستحب إمام الغسلة الأولى أن يغسل رأسه
برغوة السدر ولم أقف له على مستند في الأخبار، وغسل الرأس المذكور فيها برغوة
السدر - كما تضمنه خبر يونس وعبارة كتاب الفقه أو بماء السدر كما في غيرهما - إنما هو
الغسل الواجب ولهذا ثنى (عليه السلام) في تلك الأخبار بعده بغسل الجانب الأيمن.
ولم يتعرض في الذكرى لهذا الحكم، وكذلك في المنتهى جعل غسل الرأس بالرغوة
من اجزاء الغسل الواجب.
وظاهر حديث الكاهلي استحباب البدأة في غسل الرأس بالشق الأيمن
ثم بالشق الأيسر وبه صرح جملة من الأصحاب: منهم - الشهيد في النفلية إلا أنه جعل
ذلك مما يستحب أمام الغسل كما قدمنا ذكره وباقي الأخبار مطلقة في ذلك، وحينئذ
فيمكن حمل اطلاق الأخبار على هذه الرواية.
ومنها - استحباب التثليث في كل غسلة في غسل اليدين والفرجين كما سمعت
من هذه الأخبار، وكذا غسل الرأس والجانب الأيمن والجانب الأيسر كما صرح
بذلك في عبارة كتاب الفقه الأولى ونحوها رواية الكاهلي وبذلك صرح الأصحاب أيضا،
قال في الذكرى: " يستحب تقديم غسل يديه وفرجيه مع كل غسلة كما في الخبر وفتوى
الأصحاب، وتثليث غسل أعضائه كلها من اليدين والفرجين والرأس والجنبين بالاجماع،
وحضرها الجعفي في كل غسلة خمس عشرة صبة لا تنقطع " أقول: ما نقله عن الجعفي من الخمس
عشرة صبة قد صرح به (عليه السلام) في عبارة كتاب الفقه الأولى (4) والوجه فيه

(1) ص 439
(2) ص 438
(3) ص 442.
(4) ص 442.
459

أن الأعضاء المغسولة وجوبا واستحبابا خمسة وبتثليث كل منها يصير المجموع خمسة عشرة صبة،
قال في الذكرى: " والصدوق ذكر ثلاث حميديات وكأنه إناء كبير ولهذا مثل ابن البراج
الإناء الكبير بالإبريق الحميدي " انتهى. أقول: ما ذكره الصدوق في هذا المقام مأخوذ
من عبارة كتاب الفقه الثانية (1) وهو في العبارة الأولى من عبارتيه المتقدمتين عبر عن
التثليث الذي يستحب في كل عضو من الأعضاء الخمسة بالغسل ثلاثا ثلاثا وفي العبارة الثانية
عبر عنه بثلاث حميديات، والظاهر من ذلك أن كل حميدية تقوم بغسلة من الغسلات
الثلاث، فيصير مرجع العبارتين إلى أمر واحد.
ومنها - أن لا يقطع الماء في كل غسلة من هذه الغسلات واجبة أو مستحبة
حتى يتم غسل ذلك العضو، وبذلك صرح الأصحاب أيضا كما تقدم في نقل الذكرى
عن الجعفي، ونقل فيها عن ابن الجنيد والشيخ أنهما قالا بعدم الانقطاع أيضا حتى يستوفى
العضو، وقال في المنتهى: " يستحب لمن يصب الماء أن لا يقطعه بل يصب متواليا فإذا
بلغ حقويه أكثر من الماء لأن الاستظهار هناك أتم " وعلى هذا الحكم يدل كلامه
(عليه السلام) في كتاب الفقه كما تقدم في كل من العبارتين ولم أقف على هذا الحكم
في الأخبار إلا في هذا الكتاب.
ومنها - اغتسال الغاسل قبل التغسيل ذكره بعض الأصحاب، قال في البحار:
" وقيل باستحباب الغسل لتغسيل الميت وتكفينه قبلهما وإن لم يمسه " ولم أعثر على من
تعرض لنقل هذا القول سواه وكفى به، ويدل على هذا القول قوله (عليه السلام) في
الفقه الرضوي (2) " تتوضأ إذا أدخلت القبر الميت واغتسل إذا غسلته ولا تغتسل
إذا حملته " وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الأغسال المستحبة ما يؤيد ذلك.
ومنها - أن يجعل مع الكافور في الغسلة الثانية ذريرة كما تقدم في صحيحة
عبد الله بن مسكان (3) والذريرة - على ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في التبيان - فتات

(1) ص 442
(2) ص 20
(3) ص 441.
460

قصب الطيب وهو قصب يجاء به من الهند كأنه النشاب، وقال في المبسوط والنهاية
يعرف بالقمحة بضم القاف وبفتح الميم المشددة والحاء المهملة أو بفتح القاف واسكان
الميم، وقال ابن إدريس هي نبات طيب غير الطيب المعهود القمحان بالضم
والتشديد، وقال المحقق في المعتبر أنها الطيب المسحوق.
ومنها - أن يكثر الماء إذا بلغ حقويه حال الغسل، ويدل عليه قوله (عليه
السلام) في عبارة كتاب الفقه الثانية (1): " فإذا بلغت وركه فأكثر من صب الماء "
وبه صرح في المنتهى كما تقدم في عبارته، وهذا الحكم مما انفرد به هذا الكتاب
أيضا فيما أعلم.
ومنها - تليين أصابعه ومفاصله فإن امتنعت عليه تركها كما يدل عليه قوله (عليه
السلام) في رواية الكاهلي (2): " ثم تلين مفاصله فإن امتنعت عليك فدعها " وفي عبارة
كتاب الفقه الثانية " ثم لين مفاصله، إلى أن قال وتلين أصابعه ومفاصله ما قدرت بالرفق
وإن كان يصعب عليك فدعها " قال في المعتبر: ثم تلين أصابعه برفق فإن تعسر
ذلك تركها وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وفي بعض أحاديثهم " تلين
مفاصله " وقال في الذكرى: " يستحب تليين أصابعه برفق فإن تعسر تركها وبعد
الغسل لا تليين لعدم فائدته " ثم نقل عن ابن أبي عقيل إنه نفاه مطلقا لخبر طلحة بن زيد
عن الصادق (عليه السلام) (3) " ولا يغمز له مفصل " وحمله الشيخ على ما بعد الغسل، قال
في المدارك بعد نقل حمل الشيخ المذكور: " وهو حسن " أقول: قد روى الشيخ في الحسن
عن حمران بن أعين (4) قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إذا غسلتم الميت منكم
فارفقوا به ولا تعصروه ولا تغمزوا له مفصلا... الحديث " وهو ظاهر في كون ذلك

(1) ص 442.
(2) ص 438.
(3) المروي في الوسائل في الباب 11 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 9 و 11 من أبواب غسل الميت.
461

وقت الغسل لا بعده فلا يقبل تأويل الشيخ المذكور. ويمكن الجمع بين هذين الخبرين
وما تقدمهما بحمل هذين الخبرين على ما ينافي الرفق المأمور به في صدر الخبر مع ما دل عليه
الخبران الأولان من الأمر بالتليين برفق فإن امتنعت فدعها.
ومنها - الرفق به حال الغسل كما تدل عليه حسنة حمران المذكورة، وما رواه
الشيخ في الصحيح إلى عثمان النوا (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني أغسل
الموتى. قال أو تحسن؟ قلت إني أغسل. قال إذا غسلت ميتا فارفق به ولا تعصره ولا تقربن
شيئا من مسامعه بكافور " وروي في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر
(عليه السلام) (2) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن الرفق لم يوضع
على شئ إلا زانه ولا نزع من شئ إلا شانه ".
ومنها - وضع الخرقة على يده حال الغسل كما تضمنته صحيحة عبد الله بن
مسكان ونحوها عبارة كتاب الفقه الثانية (3) وإن كان في بعضها التخصيص بغسل العورة
كما في صحيحة الحلبي أو حسنته وموثقة عمار (4) قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري
المتأخرين: ولا خلاف في رجحان وضع الغاسل خرقة على يده عند غسل فرج الميت،
قال في الذكرى: وهل يجب؟ يحتمل ذلك لأن المس كالنظر بل أقوى ومن ثم ينشر حرمة
المصاهرة دون النظر، أما باقي بدنه فلا يجب فيه الخرقة قطعا وهل يستحب؟ كلام الصادق (عليه
السلام) يشعر به. انتهى. أقول: الظاهر أنه لا وجه لنسبة الوجوب هنا إلى الاحتمال كما ذكره
مع ما علم من تحريم مس العورة نصا وفتوى في حال الحياة والحكم في الموت كذلك مؤيدا
بما ذكره وبالجملة فالظاهر أن وضع الخرقة لغسل العورة واجب ولسائر البدن مستحب
ومنها - كون الغسل تحت سقف لا في الفضاء وعليه تدل صحيحة علي بن جعفر

(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب غسل الميت.
(3) ص 441 و 442
(4) ص 438 و 440.
462

المتقدمة (1) ومثلها رواية طلحة بن زيد عن الصادق (عليه السلام) (2) " أن أباه
(عليه السلام) كان يستحب أن يجعل بين الميت وبين السماء ستر يعني إذا غسل "
وقوله: " يعني إذا غسل " الظاهر أنه من كلام الراوي أو من كلام الصادق (عليه السلام)،
ونقل في الذكرى أن عليه اتفاق علمائنا. قال في المعتبر: " ولعل الحكمة كراهة أن
يقابل السماء بعورته ".
ومنها - كثرة الماء ففي رواية الكاهلي (3) " وأكثر من الماء " وفي موثقة
عمار (4) " لكل من المياه الثلاثة جرة جرة " وفي صحيحة حفص بن البختري عن
الصادق (عليه السلام) (5) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه
السلام) يا علي إذا أنا مت فاغسلني بسبع قرب من بئر غرس " وفي آخر " ست قرب "
أقول: وغرس بالغين المعجمة وسكون الراء بئر بالمدينة، ويؤيده أخبار التثليث المتقدمة،
قال في الذكرى: " ولا حد في ماء الغسل غير التطهير كما مر، وظاهر المفيد صاع لغسل
الرأس واللحية بالسدر ثم صاع لغسل البدن بالسدر، وفي المعتبر عن بعض الأصحاب
أن لكل غسلة صاعا وهو مختار الفاضل في النهاية " وربما ظهر من هذه الأقوال عدم
اجزاء ما دون ذلك، قال في المعتبر: قيل يغسل الميت بتسعة أرطال في كل غسلة
كالجنب لما روى عنهم (عليهم السلام) (6) " أن غسل الميت كغسل الجنابة " والوجه
انقاؤه بكل غسلة من غير تقدير، ثم استدل بما رواه محمد بن الحسن الصفار (7) قال:
" كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) كم حد الماء الذي يغسل به الميت كما رووا أن

(1) ص 442
(2) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب غسل الميت.
(3) ص 438
(4) ص 440.
(5) المروية في الوسائل في الباب 28 من أبواب غسل الميت.
(6) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت.
(7) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب غسل الميت.
463

الحائض تغتسل بتسعة أرطال فهل للميت حد؟ فوقع: حده يغسل حتى يطهر إن شاء الله
تعالى " أقول: قال الصدوق في الفقيه بعد نقل الخبر المذكور: " هذا التوقيع في جملة
توقيعاته إلى محمد بن الحسن الصفار عندي بخطه (عليه السلام) في صحيفته "
ومنها - الدعاء في حال الغسل، ففي رواية سعد الإسكاف عن الباقر (عليه
السلام) (1) قال: " أيما مؤمن غسل مؤمنا فقال إذا قلبه: " اللهم إن هذا بدن عبدك
المؤمن قد أخرجت روحه منه وفرقت بينهما فعفوك عفوك " إلا غفر الله تعالى له ذنوب سنة
إلا الكبائر " وفي صحيحة إبراهيم بن عمرو عن الصادق (عليه السلام) (2) قال:
" ما من مؤمن يغسل مؤمنا ويقول وهو يغسله: " يا رب عفوك عفوك " إلا عفا الله تعالى عنه ".
ومنها - أن يوضع على ساجة وهو خشب مخصوص ذكره الأصحاب (رضوان
الله عليهم) قالوا والمراد هنا مطلق الخشب، قال في المبسوط: يجعل على ساجة أو سرير
وقال في المدارك: " وينبغي كونه على مرتفع وأن يكون مكان الرجلين أخفض حذرا من
اجتماع الماء تحته " وعلل بماء فيه من صيانة الميت عن التلطخ. ولم أقف في شئ من الأخبار
على ما فيه تعرض لذلك سوى رواية يونس (3) وقوله: " فضعه على المغتسل مستقبل
القبلة " وكتاب الفقه وقوله (عليه السلام) فيه (4): " ثم ضعه على مغتسله " وقوله:
" وتجعل باطن رجليه إلى القبلة وهو على المغتسل " والظاهر أن الاجمال فيه لاستمرار
السلف عليه ومعلوميته من غير أن يعتبر فيه نوع مخصوص ولا شئ معين، قال ابن
الجنيد " يقدم اللوح الذي يغسل عليه إلى الميت ولا يحمل الميت إلى اللوح ".
ومنها - أن يحفر للماء حفيرة أو يكون في بالوعة ولا يجعل في كنيف، ويدل
عليه صحيحة محمد بن الحسن الصفار (5) " أنه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام) هل

(1) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب غسل الميت.
(2) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب غسل الميت.
(3) ص 439
(4) ص 442.
(5) المروية في الوسائل في الباب 29 من أبواب غسل الميت.
464

يجوز أن يغسل الميت وماؤه الذي يصب عليه يدخل إلى بئر كنيف؟ فوقع (عليه السلام)
يكون ذلك في بلاليع " ويدل على الحفيرة قوله (عليه السلام) في حسنة سليمان بن خالد (1)
" وكذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبلا بباطن قدميه ووجهه
إلى القبلة " وفي كتاب الفقه (2) " ولا يجوز أن يدخل ما ينصب عن الميت من غسله في
كنيف ولكن يجوز أن يدخل في بلاليع لا يبال فيها أو في حفيرة " وظاهره
التحريم كما ترى.
ومنها - أن يجعل في دبره شئ من القطن قال في الخلاف: يستحب أن يدخل
في سفل الميت شئ من القطن لئلا يخرج منه شئ. ونحوه قال ابن الجنيد وزاد القبل
من المرأة وأضاف إلى القطن الذريرة وأن يحشى كل منهما بمقدار ما يؤمن معه نزول
شئ من الجوف. وقال سلار ويضع القطن على دبره. وقال ابن إدريس يحشو القطن
على حلقة الدبر، وبعض أصحابنا يقول في كتاب له ويحشو القطن في دبره. والأول
أظهر. أقول: مما دل على هذا الحكم قوله (عليه السلام) في رواية يونس (3) " واحش
القطن في دبره لئلا يخرج منه شئ " وقوله (عليه السلام) في رواية عمار (4) " وتدخل
في مقعدته من القطن ما دخل " وهما دالان على ما ذكره الشيخ من استدخال ذلك في
الدبر لا وضعه عليه من خارج كما ذكره ابن إدريس. وفي كتاب الفقه (5) " وقبل أن
تلبسه قميصه تأخذ شيئا من القطن وتجعل عليه حنوطا وتحشو به دبره " ونقل في المختلف
الاحتجاج لسلار وابن إدريس بأن للميت حرمة تمنع من حشو القطن في دبره كالحي،
وبما رواه عمار عن الصادق (عليه السلام) (6): " وتجعل على مقعدته شيئا من القطن " ثم
أجاب عن الأول بأن حرمة الميت تقتضي ما ذكرناه. وعن الثاني بأنه لا يمنع من المدعى.

(1) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب الاحتضار.
(2) ص 17
(3) ص 439
(4) ص 440
(5) ص 17.
(6) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
465

أقول: ولم أقف على هذه الرواية التي ذكرها إلا في رواية عمار التي اشتملت على ما ذكرناه
فإنه ذكر فيها في كيفية الغسل ما قدمناه وذكر في كيفية التكفين كما سيأتي نقله من الرواية
المذكورة ما نقله العلامة هنا، ولا يخلو من تدافع، والقول باستحباب الأمرين كما يعطيه
ظاهر هذه الرواية لم أقف عليه في كلام أحد من الأصحاب، ولا يبعد أن يكون هذا
من الهفوات التي تكون في رواية عمار غالبا.
ومنها - استحباب وقوف الغاسل عن يمينه ذكره جملة من الأصحاب، لقول
الصادق (عليه السلام) في رواية عمار (1) عنه (عليه السلام): " لا يجعله بين رجليه في
غسله بل يقف من جانبه " كذا استدل به العلامة في النهاية. وهو أعم من المدعى.
ومنها - مسح بطنه في الغسلتين الأوليين وعليه تدل رواية الكاهلي (2)
ويونس (3) وأصرح منهما عبارة كتاب الفقه الثانية لقوله بعد ذكر المسح في الغسلتين
الأوليين: " ولا تمسح بطنه في الثالثة " قال في المعتبر: " ويمسح بطنه أمام الغسلتين
الأوليين إلا الحامل، والمقصود من المسح خروج ما لعله بقي مع الميت فإن مع مسح بطنه
يخرج ذلك لاسترخاء أعضائه وخلوها من القوة الماسكة، وإنما قصد ذلك لئلا يخرج
بعد الغسل ما يؤذي الكفن ولا يمسح في الثالثة وهو اجماع فقهائنا " انتهى. أقول:
دعوى المحقق الاجماع هنا إما غفلة عن خلاف ابن إدريس أو لعدم الاعتداد بخلافه فإن
المنقول عنه كما ذكره في الذكرى أنه بعد أن جوزه في أول الباب أنكره لما ثبت من مساواة
الميت للحي في الحرمة، وما ذكرناه مبني على رجوع دعوى الاجماع إلى أصل المسألة
أما لو خص بعدم المسح في الثالثة فلا.
بقي الكلام فيما إذا خرجت منه نجاسة بعد المسح في الأثناء أو بعد تمام
الغسل، فالمشهور بين الأصحاب هو صحة الغسل وعدم انتقاضه وإنما يجب إزالة النجاسة

(1) رواها في المعتبر ص 74.
(2) ص 438
(3) ص 439.
466

خاصة، للامتثال، ولما تقدم في خبر يونس (1) من قوله (عليه السلام): " فإن خرج
منه شئ فانقه " وما رواه الشيخ في الموثق عن روح بن عبد الرحيم عن الصادق (عليه
السلام) (2): " إن بدا من الميت شئ بعد غسله فاغسل الذي بدا منه ولا تعد
الغسل " وعن عبد الله الكاهلي والحسين بن المختار عن الصادق (عليه السلام) (3) قالا:
" سألناه عن الميت يخرج منه الشئ بعد ما يفرغ من غسله؟ قال يغسل ذلك ولا يعاد عليه
الغسل " ونحوهما ما رواه في الكافي عن سهل عن بعض أصحابه رفعه (4) وعن ابن أبي عقيل
وجوب إعادة الغسل فإنه قال: " إذا انتقض منه شئ استقبل به الغسل استقبالا ".
ومنها - أن ينشف بثوب بعد الغسل لقوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي
أو حسنته (5): " إذا فرغت من ثلاث غسلات جعلته في ثوب نظيف ثم جففته " ونحوها
رواية يونس وموثقة عمار وعبارة كتاب الفقه الثانية (6).
(العاشرة) - من المكروهات في هذا الغسل اقعاد الميت على المشهور بين
الأصحاب ذكره الشيخ وكثير ممن تأخر عنه وادعى في الخلاف اجماع الفرقة، قال:
" وخالف جميع الفقهاء في ذلك " وأنكره المحقق في المعتبر فقال بعد ذكر رواية أبي العباس
الآتية: " قال الشيخ في الإستبصار هذا موافق للعامة ولسنا نعمل به. وأنا أقول ليس
العمل بهذه الأخبار بعيدا ولا معنى لحملها على التقية لكن لا بأس أن يعمل بما ذكره
الشيخ من تجنب ذلك والاقتصار على ما اتفق على جوازه " ويدل على النهي عن الاقعاد
قوله (عليه السلام) في رواية الكاهلي (7): " وإياك أن تقعده أو تغمز بطنه " وجملة
من أصحابنا إنما استندوا في ذلك إلى حسنة حمران ورواية عثمان النوا المتقدمتين في الرفق
بالميت (8) حيث إن الاقعاد له خلاف الرفق به. وأما ما يدل على الاقعاد فهو ما رواه

(1) ص 439.
(2) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب غسل الميت.
(5) ص 438
(6) ص 439 و 440 و 442
(7) ص 438
(8) ص 461 و 462.
467

الشيخ في الصحيح عن أبي العباس وهو الفضل بن عبد الملك البقباق عن الصادق (عليه
السلام) (1) قال: " سألته عن الميت فقال اقعده واغمز بطنه غمزا رفيقا ثم طهره من
غمز البطن... الحديث " ولم أقف في كتب الأخبار المشهورة بينهم على أزيد من هذه
الرواية ولم ينقل ناقل في المسألة سواها. فما ذكره في المدارك - من أنه قد ورد في
الأمر بالاقعاد عدة روايات - لا أعرف له وجها، نعم وقع ذلك في عبارة كتاب الفقه
الثانية. وكيف كان فما ذكره الشيخ من حمل هذه الرواية ونحوها على التقية جيد حيث إن العامة متفقون على استحباب اقعاده حال الغسل (2) وكلام صاحب المعتبر عليه
لا وجه له لما علم من أخبار أهل البيت (عليهم السلام) من الحث الشديد والتأكيد
الأكيد على مجانبتهم خذلهم الله تعالى وعرض الأخبار على مذهبهم والأخذ بخلافه وإن
لم يكن في مقام التعارض وأنهم ليسوا من الحنيفية على شئ وأنه ليس في يدهم إلا استقبال
القبلة وأنهم ليسوا إلا مثل الجدر المنصوبة ونحو ذلك مما بسطنا الكلام عليه في محل
أليق، فكيف وقد دلت رواية الكاهلي على النهي المذكور.
ومنها - حلق رأسه وعانته وتسريح لحيته وقلم أظفاره على المشهور، وحكم
ابن حمزة بالتحريم، ونقل الشيخ الاجماع على أنه لا يجوز قص الأظفار ولا تنظيفها من
الوسخ بالخلال ولا تسريح اللحية، وهو مقتضى ظاهر النهي في الأخبار الواردة بذلك
ومنها - ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.
(2) في المغني لابن قدامة ج 2 ص 457 " يبدأ الغاسل فيحني الميت حنيا رفيقا لا يبلغ
به قريبا من الجلوس لأن في الجلوس أذية له " وفي المهذب للشيرازي ج 1 ص 128
" المستحب أن يجلسه اجلاسا رفيقا ويمسح بطنه مسحا بليغا " وفي المنهاج للنووي ص 23
" ويجلسه الغاسل على المغتسل مائلا إلى ورائه ثم يمسح بطنه " وفي الفروع للشيباني الحنبلي
ج 1 ص 629 " يرفع رأسه إلى قريب من جلوسه فيعصر بطنه برفق " وفي البحر الرائق
ج 2 ص 172 والمبسوط للسرخسي ج 2 ص 59 " ويقعده فيمسح بطنه مسحا رفيقا ".
468

عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " لا يمس من الميت شعر ولا ظفر وإن سقط
منه شئ فاجعله في كفنه " وعن غياث عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " كره
أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يحلق عانة الميت إذا غسل أو يقلم له ظفر أو يجز له شعر "
وعن عبد الرحمان ابن أبي عبد الله (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الميت
يكون عليه الشعر فيحلق عنه أو يقلم ظفره؟ قال لا يمس منه شئ اغسله وادفنه " وعن طلحة
ابن زيد عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " كره أن يقص من الميت ظفر أو
يقص له شعر أو يحلق له عانة أو يغمز له مفصل " وما رواه الصدوق عن أبي الجارود (5)
" أنه سأل الباقر (عليه السلام) عن الرجل يتوفى أتقلم أظافيره وينتف إبطه وتحلق عانته
إن طالت به من المرض؟ فقال لا " ولفظ الكراهة في هذين الخبرين لا ينافي التحريم
فإنه قد شاع استعماله في التحريم في الأخبار، وبالجملة فالتحريم قريب لعدم المعارض
لهذه الأخبار الدالة بظاهرها على ذلك ولا سيما مع استحباب هذه الأشياء عند العامة
واتفاقهم على ذلك (6) ونقل في الذكرى عن العلامة أنه يخرج الوسخ من أظفاره بعود
عليه قطن مبالغة في التنظيف، ثم رده بأنه مدفوع بنقل الاجماع مع النهي عنه في خبر
الكاهلي السابق (7) وأما ما ذكروه من أنه لو قص شيئا من هذه الأشياء وجب جعله

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب غسل الميت.
(5) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب غسل الميت.
(6) في الفروع فقه الحنابلة ج 1 ص 631 " يجز شاربه ويقلم أظفاره ويؤخذ شعر إبطه
وعانته " وفي المنهاج للنووي ص 23 " في الجديد لا يكره في غير المحرم أخذ ظفره وشعر إبطه وعانته
وشاربه. وفي الوجيز للغزالي ص 45 غير المحرم هل يقلم ظفره ويحلق شعره الذي يستحب في
الحياة حلقه؟ فيه قولان " وفي البداية لابن رشد المالكي ج 1 ص 212 " اختلفوا في تقليم
أظفار الميت والأخذ من شعره فقيل تقلم أظفاره ويؤخذ من شعره وقيل لا وليس فيه أثر " وفي
المهذب للشيرازي ج 1 ص 129 " في تقليم أظفاره وحف شاربه وحلق عانته قولان أحدهما
يفعل به ذلك لأنه تنظيف كإزالة الوسخ والثاني يكره وهو قول المزني لأنه قطع جزء منه "
وفي المبسوط للسرخسي ج 2 ص 59 المنع من ذلك كله. (7) ص 438.
469

مع الميت في كفنه فيدل عليه مرسلة ابن أبي عمير المذكورة.
ومنها - غسله بالماء المسخن بالنار، وحكى في المنتهى الاجماع على كراهته،
وقال الشيخ لو خشي الغاسل من البرد انتفت الكراهة، وقيده المفيد (رحمه الله)
بالقلة فقال يسخن قليلا، وتبعهما في الاستثناء جمع من الأصحاب، والصدوقان أيضا
استثنيا حال شدة البرد، والظاهر من كلامهما أن ذلك لرعاية حال الميت لا حال الغاسل.
والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن
زرارة (1) قال: " قال أبو جعفر (عليه السلام) لا يسخن الماء للميت " وفي الصحيح
عن عبد الله بن المغيرة عن رجل عن الباقر والصادق (عليهما السلام) (2): " قالا
لا يقرب الميت ماء حميما " وما رواه في الكافي عن يعقوب بن يزيد عن عدة من
أصحابنا عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " لا يسخن للميت الماء لا تعجل له
النار ولا يحنط بمسك " وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (4) قال قال الباقر (عليه
السلام): " لا يسخن الماء للميت " وروي في حديث آخر: " إلا أن يكون شتاء
باردا فتوقي الميت مما توقي منه نفسك " أقول: الظاهر أن الصدوق أشار بهذه الرواية إلى
ما تقدم في كتاب الفقه الرضوي (5) حيث قال: " ولا تسخن له ماء إلا أن يكون باردا
جدا فتوقي الميت مما توقي منه نفسك ولا يكون الماء حارا شديدا وليكن فاترا " انتهى. ومن
هذه العبارة أخذ الصدوقان، والظاهر أن المراد بقوله: " فتوقي الميت مما توقي منه نفسك "
ما ذكره بعض مشايخنا يعني توقي نفسك وتوقي الميت بتبعية توقي نفسك لأن الميت
يتضرر بذلك وتوقيه منه.
ومنها - جعل الميت حال الغسل بين رجليه لما تقدم من رواية عمار (6) وقوله (عليه
السلام): " لا يجعل الميت بين رجليه في غسله بل يقف من جانبه " وأما ما رواه الشيخ

(1) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب غسل الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب غسل الميت
(3) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب غسل الميت
(4) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب غسل الميت
(5) ص 17
(6) رواها المحقق في المعتبر ص 74.
470

عن العلاء بن سيابة عن الصادق (عليه السلام) (1) - قال: " لا بأس أن تجعل الميت بين
رجليك وأن تقوم من فوقه فتغسله إذا قلبته يمينا وشمالا تضبطه برجليك لكيلا يسقط
لوجهه " - فقد حمله في التهذيبين على الجواز وإن كان الأفضل أن لا يركب الغاسل
الميت، والأظهر تخصيصه بحال الضرورة وعدم التمكن من الغسل إلا بذلك كما هو ظاهر
سياق الخبر المذكور فلا تنافي.
ومنها - الدخنة على المشهور، قال في المعتبر: ولا يعرف أصحابنا استحباب الدخنة
بالعود ولا بغيره عند الغسل واستحبه الفقهاء، لنا - أن الاستحباب يتوقف ثبوته على دلالة
الشرع والتقدير عدمها (لا يقال) ذلك لدفع الرائحة الكريهة (لأنا نقول) ليست الرائحة دائمة
مع كل ميت ولأن ذلك قد يندفع بغيره وكما سقط اعتبار غير العود من الأطياب فكذا التجمير،
ويؤيده رواية محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " قال أمير المؤمنين
(عليه السلام) لا تجمروا الأكفان ولا تمسوا موتاكم بالطيب إلا بالكافور فإن الميت
بمنزلة المحرم " انتهى. أقول: لم أقف في الأخبار على ما يدل على حكم الدخنة حال
الغسل لا نفيا ولا اثباتا لكن لا يبعد من حيث اتفاق العامة على استحباب ذلك واشتهاره
بينهم (3) أن يقال بالكراهة للأخبار الدالة على الأخذ بخلافهم مطلقا.
(الحادية عشرة) - ما تضمنته رواية عمرو بن خالد المتقدمة (4) - من الأمر
بتيمم المجدور وكذا مثله ممن يخاف من تغسيله تناثر جلده كالمحترق - مما لا خلاف فيه

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب غسل الميت.
(2) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب التكفين.
(3) في شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء في فقه مالك ج 2 ص 106 " يستحب
تجمير الدار بالبخور عند خروج روحه وغسله " وفي البحر الرائق ج 2 ص 177 " يجمر
الميت في ثلاثة مواضع: عند خروج روحه وعند غسله وعند تكفينه " وفي مجمع الأنهر
ج 1 ص 179 " يوضع حول سريره الذي يغسل عليه مجمر ".
(4) ص 442.
471

بين الأصحاب بل قال في التهذيب أن به قال جميع الفقهاء إلا الأوزاعي، والمستند في الحكم
المذكور هو الرواية المذكورة، وقال الصدوق في الفقيه: " والمجدور إذا مات يصب عليه
الماء صبا إذا خيف أن يسقط من جلده شئ عند المس وكذلك الكسير والمحترق والذي
به القروح " وظاهر هذا الكلام أن الحكم في المجدور ونحوه إنما هو الصب دون
التيمم كما هو المشهور. ويدل عليه رواية عمرو بن خالد الأخرى المتقدمة أيضا (1) ورواية
ضريس عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أو الباقر (عليه السلام) (2) قال:
" المجدور والكسير والذي به القروح يصب عليه الماء صبا " وما في الفقه الرضوي (3)
حيث قال: (عليه السلام): " وإن كان الميت مجدورا أو محترقا فخشيت إن مسسته سقط
من جلوده شئ فلا تمسه ولكن صب عليه الماء صبا فإن سقط منه شئ فاجعله في
أكفانه " انتهى وظاهر ما بين الكلامين من التدافع، إلا أن يقال إن الواجب في
المجدور ونحوه هو الصب أولا دون المس باليد فإن خيف بالصب تناثر لحمه فالحكم التيمم وهو
ظاهر المحقق في المعتبر وقد جعله وجه جمع بين رواية ضريس ورواية عمرو بن خالد الدالة
على التيمم، وفقال: " يستحب امرار اليد على جسد الميت فإن خيف من ذلك لكونه
مجدورا أو محترقا اقتصر الغاسل على صب الماء من غير امرار، ولو خيف من الصب لم
يغسل ويمم، ذكر ذلك الشيخان في النهاية والمبسوط والمقنعة وابن الجنيد. أما الأولى
فلأن الامرار مستحب وتقطيع جلد الميت محظور فيتعين العدول إلى ما يؤمن معه تناثر
الجسد، ويؤيد هذا الاعتبار ما رواه، ثم ساق رواية ضريس ثم قال: وأما الثانية فلأن
التيمم طهارة لمن تعذر عليه استعمال الماء قال الشيخ في الخلاف: وبه قال جميع الفقهاء
إلا الأوزاعي. وعلى قول الشيخ تكون المسألة اجماعية لأن خلاف الأوزاعي منقرض،
ويؤيد ذلك ما رواه عمرو بن خالد " ثم ساق روايته المتضمنة للتيمم وحاصل كلامه أنه

(1) ص 442
(2) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب غسل الميت.
(3) ص 18.
472

متى علم تناثر جسده بالمس اكتفى بالصب إذا لم يتناثر جسده بالصب ومتى علم تناثر جسده
بالصب اكتفى بالتيمم. وهو جمع حسن بين الروايتين المذكورتين، إلا أن في قبول
عبارة الصدوق وعبارة كتاب الفقه التي منها أخذت عبارة الصدوق وإن كان بالمعنى
اشكالا، حيث إن ظاهر الأولى وصريح الثانية أنه مع خوف التناثر بالمس ينتقل إلى الصب
وإن حصل به التناثر، ولهذا أمر (عليه السلام) بجعل ما يسقط منه مع الصب في أكفانه
ولم يأمر بالتيمم، والمراد بالصب هنا هو ما يعبر عنه بالنضح تارة والرش أخرى وهو
مقابل للغسل الذي يحصل به الجريان. وكيف كان فالظاهر أن الأحوط بل الأقوى ما هو
المشهور من التفصيل الذي ذكره في المعتبر.
بقي هنا شئ وهو أن السيد السند قال في المدارك بعد الطعن في رواية عمرو
ابن خالد التي هي مستند الحكم بالتيمم في المسألة بضعف السند باشتماله على جماعة من
الزيدية: فإن كانت المسألة اجماعية على وجه لا يجوز مخالفته فلا بحث وإلا أمكن التوقف
في ذلك، لأن ايجاب التيمم زيادة تكليف والأصل عدمه خصوصا إن قلنا أن الغسل
إزالة النجاسة كما يقوله المرتضى، وربما ظهر من بعض الروايات عدم الوجوب أيضا
كصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج عن أبي الحسن (عليه السلام) (1) في الجنب والمحدث
والميت إذا حضرت الصلاة ولم يكن معهم من الماء إلا بقدر ما يكفي أحدهم، قال:
" يغتسل الجنب يدفن الميت ويتيمم الذي هو على غير وضوء لأن الغسل من الجنابة
فريضة وغسل الميت سنة والتيمم للآخر جائز " انتهى. أقول: لا يخفى أن الراوي
لهذه الرواية في كتب الأخبار إنما هو عبد الرحمان بن أبي نجران لا عبد الرحمان بن الحجاج
كما ذكره هنا، وهو أيضا قد ذكر هذه الرواية في بحث التيمم في مسألة اجتماع الجنب والميت
والمحدث ونقلها عن عبد الرحمان بن أبي نجران. وأما ما وصفها به من صحة السند فإن كان
نقله لها من التهذيب فهي ليست بصحيحة لأن في طريقها في الكتاب المذكور محمد بن عيسى

(1) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب التيمم.
473

وهو مشترك وفيه عبد الرحمان عمن حدثه، وإن كان من الفقه فهي صحيحة لأنه رواها
فيه عن عبد الرحمان بن أبي نجران وطريقه إليه صحيح في المشيخة، إلا أن متنها فيه
ليس كما ذكره بل الذي فيه " ويدفن الميت بتيمم ويتيمم الذي هو على غير وضوء...
إلى آخره " وهي صريحة في تيمم الميت خلافا لما يدعيه، وبالجملة فإن كان نقله لها من
التهذيب فمتنها فيه على ما ذكره إلا أن السند غير صحيح وإن كان من الفقه فالسند
صحيح كما وصفه إلا أن متنها ليس كما ذكره. إلا أن صاحب الوافي والوسائل قد نقلا
أيضا هذه الرواية من التهذيب بهذا المتن الذي ذكره ثم نقلاها عن الفقيه وأحالا المتن على
ما نقلاه عن التهذيب ولم ينبها على الزيادة التي ذكرناها. وهو محتمل لاتحاد هذا المتن
في الكتابين كما ذكره السيد ومحتمل لوقوع السهو منهما عن التنبيه على ذلك فإنه قد
جرى لهما مثل ذلك في مواضع عديدة، وبالجملة فإني قد تتبعت نسخا عديدة مضبوطة من
الفقيه فوجدت الرواية فيها كما ذكرته من الزيادة المذكورة. والله العالم.
(الثانية عشرة) - إذا مات الجنب أو الحائض أو النفساء كفى غسل الميت على
المعروف من مذهب الأصحاب ولا يجب غسلان بل ولا يستحب، قال في المعتبر:
وهو مذهب أكثر أهل العلم. أقول: ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن
زرارة (1) قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام) ميت مات وهو جنب كيف
يغسل وما يجزئه من الماء؟ قال يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة ولغسل الميت
لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة " ورواه الكليني في الصحيح أو الحسن مثله.
وعن عمار في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (2) " أنه سئل عن المرأة إذا ماتت
في نفاسها كيف تغسل؟ قال مثل غسل الطاهر وكذلك الحائض وكذلك الجنب إنما
يغسل غسلا واحدا فقط " ورواه الصدوق بإسناده عن عمار مثله. وعن علي عن أبي إبراهيم
(عليه السلام) (3) قال: " سألته عن الميت يموت وهو جنب؟ قال غسل واحد "

(1) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت.
(3) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت.
474

وعن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) (1) " في الجنب إذا مات؟ قال ليس عليه
إلا غسلة واحدة ".
وأما ما رواه الشيخ في الصحيح عن عيص عن الصادق (عليه السلام) (2)
قال: " سألته عن رجل مات وهو جنب؟ قال يغسل غسلة واحدة بماء ثم يغسل بعد
ذلك " وعن عيص عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " إذا مات الميت فخذ في
جهازه وعجله وإذا مات الميت وهو جنب غسل غسلا واحدا ثم يغسل بعد ذلك " وعن
عيص بن القاسم في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " إذا مات الميت
وهو جنب غسل غسلا واحدا ثم اغتسل بعد ذلك " فقد أجاب الشيخ (قدس سره)
بحملها على الاستحباب بعد أن طعن فيها بأن الأصل فيها كلها عيص وهو واحد لا يعارض به
جماعة كثيرة ثم وجهها بتوجيه الغسل الأخير إلى الغاسل كما هو ظاهر الخبر الأخير
ويكون ذلك غلطا من الراوي أو الناسخ في البواقي يعني في جعل " يغسل " مكان
" يغتسل " أقول: قد تقدم البحث في تداخل الأغسال في نية الوضوء (5) وبسطنا
الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه وبينا صحة القول بالتداخل، وهذه الأخبار الثلاثة
لا تقوم بمعارضة جملة أخبار المسألة فيتعين حملها على ما ذكره الشيخ وإن بعد وإلا فطرحها
وارجاعها إلى قائلها، وحملها على التقية غير بعيد وإن كان القائل بها من العامة غير معلوم
فإنه متى كان علماء الطائفة سلفا وخلفا على القول بالاكتفاء بغسل واحد كما دلت عليه
الأخبار الكثيرة فمن الظاهر حمل ما خالف ذلك على التقية (6) وإن لم يكن به قائل كما

(1) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت.
(2) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت.
(3) روى صدره في الوسائل في الباب 47 من أبواب الاحتضار وذيله في الباب 31
من أبواب غسل الميت.
(4) رواه في الوسائل في الباب 31 من أبواب غسل الميت.
(5) ج 2 ص 196.
(6) في المغني لابن قدامة ج 2 ص 463 " الحائض والجنب إذا ماتا كغيرهما في
الغسل، قال ابن المنذر هذا قول من تحفظ عنه من علماء الأمصار، وقيل عن الحسن يغسل
الجنب للجنابة والحائض ثم يغسلون للموت ".
475

عرفت في مقدمات الكتاب، وأيضا فقد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة (1) " خذ بما
اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر " ولا ريب أن الرواية بالتداخل أشهر لتعدد نقلتها
وكثرتهم وشذوذ هذه الروايات لانحصار رواتها في رجل واحد. والله العالم.
تتمة
تشتمل على فائدتين
(الأولى) - قد صرح الأصحاب بأن الحامل إذا ماتت والولد حي في بطنها
فإنه يشق بطنها من الجانب الأيسر ويخرج الولد ويخاط الموضع ثم تغسل وتكفن بعد
ذلك. ويدل على ذلك جملة من الأخبار: منها - ما رواه في الكافي في الموثق عن علي
ابن يقطين (2) قال: " سألت العبد الصالح (عليه السلام) عن المرأة تموت وولدها
في بطنها؟ قال يشق بطنها ويخرج ولدها " وعن علي بن أبي حمزة عن الصادق (عليه
السلام) (3) قال: " سألته عن المرأة تموت ويتحرك الولد في بطنها أيشق بطنها ويستخرج
ولدها؟ قال: نعم " ورواها في الكافي أيضا في الحسن أو الصحيح عن ابن أبي عمير
عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه السلام) (4) مثله وزاد " ويخاط بطنها " وما رواه
الشيخ في الصحيح عن علي بن يقطين (5) قال: " سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام)
عن المرأة تموت وولدها في بطنها يتحرك؟ قال يشق عن الولد " قال في المدارك: " واطلاق
الروايات يقتضي عدم الفرق في الجانب بين الأيمن والأيسر، وقيده الشيخان في المقنعة
والنهاية وابن بابويه بالأيسر ولا أعرف وجهه " أقول: وجهه قول الرضا (عليه السلام)
في كتاب الفقه (6) حيث قال: " وإذا ماتت المرأة وهي حاملة وولدها يتحرك في بطنها
شق بطنها من الجانب الأيسر وأخرج الولد " وبهذه العبارة بعينها عبر الصدوق في الفقيه

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به.
(2) رواه في الوسائل في الباب 46 من أبواب الاحتضار
(3) رواه في الوسائل في الباب 46 من أبواب الاحتضار
(4) رواه في الوسائل في الباب 46 من أبواب الاحتضار
(5) رواه في الوسائل في الباب 46 من أبواب الاحتضار
(6) ص 19.
476

جريا على ما عرفت في غير موضع، وكذا ما بعد العبارة المذكورة، والظاهر أن من تأخر
عن الصدوق قد تبعه في ذلك أو أخذه من الكتاب المذكور. والمفيد أيضا كثير الرواية منه
وقال في المدارك أيضا: " وأما خياطة المحل بعد القطع فقد نص عليه المفيد في المقنعة
والشيخ في المبسوط واتباعهما وهو رواية ابن أبي عمير عن ابن أذينة (1) وردها المصنف
في المعتبر بالقطع وبأنه لا ضرورة إلى ذلك فإن المصير إلى البلا. وهو حسن لكن الخياطة
أولى لما فيها من ستر الميت وحفظه عن التبدد وهو أولى من وضع القطن على الدبر " انتهى
أقول: ما ذكره في المعتبر من رد الرواية غير معتبر وما استحسنه السيد من ذلك غير
حسن، فإن الدليل غير منحصر فيما ذكره من مقطوعة ابن أذينة وهي ما رواه الشيخ
عن ابن أبي عمير بطريقه إليه عن عمر بن أذينة (2) قال: " يخرج الولد ويخاط بطنها "
بل قد روى ذلك في الكافي أيضا - كما عرفت - عن الصادق (عليه السلام) والحديث
صحيح أو حسن ليس فيه ما ربما يطعن عليه، ولكن الظاهر أنهما لم يقفا على رواية
ابن أبي عمير المذكورة وإلا لما خصوا الاستدلال بالمقطوعة المشار إليها وطعنوا فيها بذلك
وأما لو مات الولد في بطنها وهي حية أدخلت القابلة أو غيرها ممن يحسن ذلك
يدها في فرج المرأة وقطعت الولد وأخرجته قطعة قطعة، قال في الخلاف بعد ذكر الحكم
المذكور: " ولم أعرف فيه للفقهاء نصا " واستدل باجماع الفرقة وكأنه قد غاب عن خاطره
الرواية الآتية. وقال في المعتبر: " ويتولى ذلك النساء فالرجال المحارم فإن تعذر جاز
أن يتولاه غيرهم " ويدل عليه ما رواه في الكافي عن وهب بن وهب عن الصادق
(عليه السلام) (3) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا ماتت المرأة وفي
بطنها ولد يتحرك يشق بطنها ويخرج الولد، وقال في المرأة يموت في بطنها الولد
فيتخوف عليها؟ قالا لا بأس أن يدخل الرجل يده فيقطعه ويخرجه " ورواه في
موضع آخر وزاد في آخرها " إذا لم ترفق به النساء " وقال في الفقه الرضوي (4) في

(1) رواه في الوسائل في الباب 46 من أبواب الاحتضار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 46 من أبواب الاحتضار.
(3) رواه في الوسائل في الباب 46 من أبواب الاحتضار.
(4) ص 19.
477

تتمة العبارة المتقدمة: " وإن مات الولد في جوفها ولم يخرج أدخل انسان يده في فرجها
وقطع الولد بيده وأخرجه، وروى أنها تدفن مع ولدها إذا مات في بطنها " أقول:
الظاهر تعلق هذه الرواية بصدر كلامه (عليه السلام) فيما إذا ماتت الأم بأن يقال
الحكم في الولد إن كان حيا الشق كما تقدم وإن كان ميتا دفن معها.
فروع
(الأول) - قال في المنتهى: " لو ماتت ومات الولد بعد خروج بعضه أخرج
الباقي وغسل وكفن ودفن، وإن لم يمكن اخراجه إلا بالشق على تلك الحال وغسل
مع أمه لأن الشق هتك حرمة الميت من غير ضرورة " أقول: ما ذكره وإن لم يرد
بخصوصه نص إلا أنه مطابق لمقتضى الأصول والنصوص العامة، وعلل الحكم الثاني
وهو التغسيل مع أمه بأن الخارج له حكم من مات بعد خروجه في وجوب التغسيل
وما بطن له حكم من مات في بطن أمه.
(الثاني) - قال أيضا في الكتاب المذكور: " لو بلع الميت مالا فإن كان
له لم يشق بطنه لأنه أتلفه في حياته ولا يستعقب الغرم على نفسه، ويحتمل أن يقال إن
كان كثيرا ساغ الشق واخراجه لأن فيه حفظا للمال عن الضياع وعونا للورثة، وإن
كان لغيره فإن كان بإذنه فهو كماله وإن كان بغير إذنه كان كالغاصب، فيمكن أن
يقال لا يشق بطنه ويؤخذ من تركته احتراما للميت وتركا للمثلة به، ويمكن أن يقال
بالشق لأن فيه حفظا للمال ونفعا لصاحبه ".
(الثالث) - قال (قدس سره) أيضا: " لو كان في إصبع الميت أو إذنه
أو يده شئ من الحلي وجب أخذه فإن لم يمكن ذلك برد وأخذ من غير تمثيل بالميت ".
(الفائدة الثانية) - قال الصدوق في الفقيه: " ومن كان جنبا وأراد أن يغسل
الميت فليتوضأ وضوء الصلاة ثم يغسله،
ومن أراد الجماع بعد غسله للميت فليتوضأ ثم
478

ليجامع " انتهى. وهذا الحكم مما ذكره جملة من الأصحاب في هذا المقام. والمستند فيه
حسنة شهاب بن عبد ربه (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجنب أيغسل
الميت أو من غسل ميتا أله أن يأتي أهله ثم يغتسل؟ فقال: هما سواء لا بأس بذلك، إذا كان
جنبا غسل يديه وتوضأ وغسل الميت وهو جنب، وإن غسل ميتا توضأ ثم أتى أهله
ويجزئه غسل واحد لهما " وكذلك يدل عليه ما في الفقه الرضوي حيث قال (عليه
السلام) (2): " وإذا أردت أن تغسل ميتا وأنت جنب فتوضأ وضوء الصلاة ثم اغسله
وإذا أردت الجماع بعد غسلك الميت من قبل أن تغتسل من غسله فتوضأ ثم جامع " انتهى.
وعبارة الصدوق مأخوذة من هذه العبارة بتغيير ما، وظاهر الخبرين المذكورين استحباب
الوضوء لمريد تغسيل الميت إذا كان جنبا ولمريد الجماع إذا غسل ميتا ولما يغتسل غسل
المس وإن لم يكن جنبا، وبه يظهر ما في كلام السيد السند في المدارك حيث قال في ضمن
تعداد أفراد الوضوء المستحب: " وجماع غاسل الميت ولما يغتسل إذا كان الغاسل جنبا "
فقيد استحباب الوضوء لغاسل الميت إذا أراد الجماع بما إذا كان جنبا في حالة غسله
للميت، وتبعه على هذا جمع ممن تأخر عنه كما هي عادتهم غالبا. والروايتان المذكورتان
تناديان بخلافه. والله العالم. تم الجزء الثالث من كتاب الحدائق الناضرة في الأغسال
ويتلوه الجزء الرابع من تكفين الميت. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير
خلقه محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

(1) المروي في الوسائل في الباب 34 من أبواب غسل الميت.
(2) ص 18.
479