الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ٥
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق وإشراف: محمد تقي الإيرواني
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
حققه وعلق عليه وأشرف على طبعه
محمد تقي الإيرواني
الجزء الخامس
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الخامس
في الطهارة من النجاسات وما يتبعها من ذكر النجاسات وأحكامها وأحكام الأواني
والجلود، فالبحث في هذا الباب يقع في مقاصد ثلاثة:
المقصد الأول
في النجاسات، وتحقيق الكلام فيها في فصول عشرة:
(الأول والثاني) البول والغائط، المشهور - بل ادعى عليه في المعتبر والمنتهى
اجماع العلماء كافة عدا شذوذ من العامة - هو نجاسة البول والغائط مما لا يؤكل لحمه إذا كان ذا نفس سائلة، والمراد بالنفس السائلة الدم الذي يجتمع في العروق ويخرج بقوة
ودفع إذا قطع شئ منها، وهو أحد معاني النفس كما ذكره أهل اللغة، ومقابله ما لا نفس
له وهو الذي يخرج لا كذلك بل رشحا كدم السمك.
أقول: أما ما يدل على نجاسة البول والعذرة من الانسان فأخبار مستفيضة:
منها - صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " سألته عن البول
يصيب الثوب؟ فقال اغسله مرتين " وصحيحة ابن أبي يعفور (2) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن البول يصيب الثوب؟ فقال اغسله مرتين " وحسنة الحسين

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب النجاسات.
2

ابن أبي العلاء (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البول يصيب الجسد؟
قال صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء. قال وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله
مرتين... الحديث " وحسنة الحلبي (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن بول الصبي؟ قال تصب عليه الماء وإن كان قد أكل فاغسله غسلا... الحديث "
وحسنة أبي إسحاق النحوي عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " سألته عن البول يصيب
الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين " ورواية الحسن بن زياد (4) قال: " سئل أبو عبد الله
(عليه السلام) عن الرجل يبول فيصيب بعض فخذه نكتة من بوله فيصلي ثم يذكر بعد أنه
لم يغسله؟ قال يغسله ويعيد صلاته " وصحيحة محمد بن مسلم (5) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فإن غسلته في ماء جار
فمرة واحدة " وأكثر هذه الأخبار وإن كان مطلقا إلا أن المتبادر منه إنما هو بول الانسان
وأما الغائط فيدل على نجاسته أخبار الاستنجاء وقد تقدمت في بابه (6) وما رواه
الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله (7) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من انسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟
قال إن كان لم يعلم فلا يعيد " ومفهومه وجوب الإعادة مع العلم وهو دليل النجاسة،
وهذا المفهوم حجة عند المحققين وقد مر ما يدل عليه من الأخبار في مقدمات الكتاب (8)
وفي الصحيح عن موسى بن القاسم عن علي بن محمد (9) قال: " سألته عن الفأرة والدجاجة
والحمام وأشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أيغسل؟ قال إن كان استبان من أثره شئ

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 19 و 42 من أبواب النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب النجاسات
(6) ج 2 ص 26
(7) رواه في الوسائل في الباب 40 من أبواب النجاسات
(8) ج 1 ص 58.
(9) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات.
3

فاغسله وإلا فلا بأس " وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال
لا إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء.. الحديث " وفي باب البئر في رواية ابن مسكان
عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن العذرة تقع في البئر؟ فقال
ينزح منها عشرة دلاء " وفي رواية علي بن أبي حمزة عن الصادق (عليه السلام) (3) قال:
" سألته عن العذرة تقع في البئر؟ قال ينزح منها عشرة دلاء فإن ذابت فأربعون أو خمسون "
وفي صحيح زرارة (4) قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام) رجل وطأ على عذرة
فساخت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه وهل يجب عليه غسلها؟ قال لا يغسلها إلا أن
يقذرها ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي " ورواية حفص بن أبي عيسى عن الصادق
(عليه السلام) (5) " في من وطأ عذرة بخفه فمسحه حتى لم ير فيه شيئا؟ فقال: لا بأس "
ورواية موسى بن أكيل عن بعض أصحابه عن الباقر (عليه السلام) (6) " في شاة "
شربت بولا ثم ذبحت؟ قال يغسل ما في جوفها ثم لا بأس به وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة
ما لم تكن جلالة... الحديث " وحسنة محمد بن مسلم (7) قال " كنت مع أبي جعفر
(عليه السلام) إذ مر على عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت جعلت فداك قد
وطأت على عذرة فأصابت ثوبك؟ قال أليس هي يابسة؟ فقلت بلى. فقال لا بأس أن
الأرض يطهر بعضها بعضا " ورواية الحلبي في الكافي عن الصادق (عليه السلام) (8)
" في الرجل يطأ في العذرة أو البول أيعيد الوضوء؟ قال لا ولكن يغسل ما أصابه ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الماء المطلق.
(2) المروية في الوسائل في الباب 20 من الماء المطلق. وهما متفقان في المتن
(3) المروية في الوسائل في الباب 20 من الماء المطلق. وهما متفقان في المتن
(4) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب نواقض الوضوء.
(5) المروية في الوسائل في الباب 32 من أبواب النجاسات.
(6) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب الأطعمة المحرمة.
(7) المروية في الوسائل في الباب 32 من أبواب النجاسات.
(8) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب نواقض الوضوء.
4

وأما ما يدل على بول غيره وغائطه مما لا يؤكل لحمه زيادة على الاجماع المتقدم
وعموم جملة من الأخبار المتقدمة ما رواه الشيخ في الحسن عن عبد الله بن سنان (1)
قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه "
وصحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله المتقدمة، ورواية أبي يزيد القسمي عن أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) (2) " أنه سأله عن جلود الدارش التي يتخذ منها الخفاف؟ فقال
لا تصل فيها فإنها تدبغ بخرء الكلاب " وما رواه سماعة عن الصادق (عليه السلام) (3)
قال: " إن أصاب الثوب شئ من بول السنور فلا تصلح الصلاة فيه حتى تغسله " ويؤيد
ذلك ما رواه زرارة في الحسن (4) " أنهما قالا لا تغسل ثوبك من بول شئ يؤكل
لحمه " وما رواه في قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (5)
" أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لا بأس ببول ما أكل لحمه " وفي الموثق عن عمار
الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (6) قال: " كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج
منه " وما رواه علي بن جعفر في المسائل عن أخيه (عليه السلام) (7) قال: " سألته
عن الدقيق يقع فيه خرء الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟ قال إذا لم تعرفه فلا
بأس وإن عرفته فاطرحه " أقول: قوله (عليه السلام) " إذا لم تعرفه " أي لم تعلم
دخوله في الدقيق وإنما تظن ظنا فلا بأس وإن علمته وجب عليك طرحه واخراجه،
ويوضح ما ذكرناه ما رواه في دعائم الاسلام (8) قال: " سئل الصادق (عليه السلام)
عن خرء الفأر يكون في الدقيق؟ قال إن علم به أخرج منه وإن لم يعلم به فلا بأس "

(1) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 71 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(5) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(6) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(7) البحار ج 4 ص 155.
(8) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 4 من أبواب النجاسات
5

وروى العلامة في المختلف نقلا من كتاب عمار بن موسى الساباطي عن الصادق (عليه
السلام) (1) قال: " خرء الخطاف لا بأس به هو مما يؤكل لحمه ولكن كره أكله لأنه
استجار بك وآوى إلى منزلك وكل طير يستجير بك فأجره ".
قال في المدارك بعد الاستدلال بحسنة عبد الله بن سنان المذكورة على نجاسة أبوال
ما لا يؤكل لحمه: " وجه الدلالة أن الأمر حقيقة في الوجوب وإضافة الجمع تفيد العموم،
ومتى ثبت وجوب الغسل في الثوب وجب في غيره إذ لا قائل بالفصل، ولا معنى
للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له بل سائر الأعيان النجسة إنما استفيد نجاستها
من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن من ملاقاتها مضافا إلى الاجماع المنقول في أكثر
الموارد كما ستقف عليه في تضاعيف هذه المباحث " انتهى وهو جيد. وأما قوله في الذخيرة
بعد نقل هذا الكلام " وفيه تأمل " فالظاهر أنه بناء على ما تكرر في كلامه من عدم
دلالة الأمر في الأخبار على الوجوب وقد أوضحنا ضعفه في غير مقام. ثم قال في
المدارك: " أما الأرواث فلم أقف فيها على نص يقتضي نجاستها من غير المأكول على
وجه العموم ولعل الاجماع في موضع لم يتحقق فيه المخالف كاف في ذلك " انتهى.
وهو جيد. والعجب أن المحقق في المعتبر بعد أن ادعى الاجماع المشار إليه آنفا نقل خلاف
الشيخ في المبسوط في رجيع الطير كما سيأتي.
وبالجملة فالمفهوم من كلام البناء على قاعدتين كليتين: الأولى - أن كل
ما يؤكل لحمه فبوله وروثه طاهر، والثانية أن كل ما لا يؤكل لحمه فبوله وروثه نجس،
والخلاف قد وقع في الكليتين، وها أنا أذكر مواضع الخلاف فأقول:
(الأول) رجيع الطير وهذا من الكلية الثانية، فذهب الصدوق إلى طهارته
مطلقا حيث قال في الفقيه: " ولا بأس بخرء ما طار وبوله " وهو ظاهر في اطلاق القول
بالطهارة، ونقله الأصحاب أيضا عن ابن أبي عقيل والجعفي، وهو قول الشيخ في

(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
6

المبسوط إلا أنه استثنى منه الخشاف قال: بول الطيور وذرقها كله طاهر إلا الخشاف.
وقال في الخلاف: ما أكل فذرقه طاهر وما لم يؤكل فذرقه نجس. وبه قال
جمهور الأصحاب.
ويدل على القول بالطهارة موثقة أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (1) قال:
" كل شئ يطير فلا بأس بخرئه وبوله " ونقل شيخنا المجلسي في البحار قال: وجدت
بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي نقلا من جامع البزنطي عن أبي بصير عن الصادق (عليه
السلام) (2) قال: " خرء كل شئ يطير وبوله لا بأس به ".
ولم أقف على خبر يدل على المشهور من التفصيل في الطير بين المأكول وغير
المأكول إلا أن المحقق في المعتبر استدل على ذلك بما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل لحمه
وأضاف إلى ذلك دعوى ترادف الخرء والعذرة، قال بعد الإشارة إلى قول الشيخ
في المبسوط: لعل الشيخ استند إلى رواية أبي بصير، ثم ساقها ثم احتج لما ذهب إليه
من مساواة الطير لغيره في التفصيل المذكور بأن ما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل
يتناول موضع النزاع لأن الخرء والعذرة مترادفان، ثم أجاب عن رواية أبي بصير بأنها
وإن كانت حسنة لكن العامل بها من الأصحاب قليل.
واعترضه في هذا المقام المحققان السيد في المدارك والشيخ حسن في المعالم، قال
في المدارك بعد نقل ذلك عنه: " وهو غير جيد لما بينا من انتفاء ما يدل على العموم، ولأن
العذرة ليست مرادفه للخرء بل الظاهر اختصاصها بفضلة الانسان كما دل عليه العرف
ونص عليه أهل اللغة، قال الهروي العذرة أصلها فناء الدار وسميت عذرة الانسان بها
لأنها كانت تلقى في الأفنية فكني عنها باسم الفناء " انتهى.
أقول: فيه (أولا) أنه يمكن أن يكون صاحب المعتبر أشار بما دل على نجاسة
العذرة مما لا يؤكل لحمه إلى ما ورد عنهم (عليهم السلام) من النهي عن الوضوء والشرب

(1) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات
(2) ج 18 ص 26.
7

من الماء الذي دخلته الحمامة والدجاجة وفي رجلها العذرة. وأمرهم (عليهم السلام)
بغسل الثوب الذي وطأته الدجاجة وفي رجلها العذرة، والأمر بغسل الرجل التي وطئت
بها العذرة، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك وأمثال ذلك مما دل على نجاسة العذرة
بقول مطلق فإنه باطلاقه شامل لعذرة الانسان وغيره.
و (ثانيا) أنه ورد في الروايات اطلاق العذرة على فضلة غير الانسان
صريحا كما تقدم في رواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله، وروى الشيخ بسنده إلى محمد بن
مضارب عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " لا بأس ببيع العذرة " وعن سماعة بن
مهران في الموثق (2) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال إني رجل
أبيع العذرة فما تقول؟ قال حرام بيعها وثمنها، وقال لا بأس ببيع العذرة " ولا ريب
أن المراد بالعذرة في الحديث الأول وآخر الثاني منهما إنما هو عذرة غير الانسان لتحريم
بيع عذرة الانسان اتفاقا.
و (ثالثا) أن صاحب القاموس والصحاح فسرا الخرء بالعذرة وهو يؤذن
بالمرادفة، ويؤيده أيضا ما صرحوا به من تفسير الخرء بالغائط الذي هو في ظاهر كلامهم
مخصوص بفضلة الانسان، قال في المجمع: الخرء الغائط. ومثله في المصباح المنير قال:
خرئ بالهمزة يخرأ من باب تعب إذا تغوط. مع أنهم قالوا في الغائط أنه مخصوص بفضلة
الانسان لما ذكروه في سبب التسمية من أن أصل الغائط المكان المنخفض من الأرض
وكانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوا في تلك الأمكنة فكني بها عن الحدث.
وبذلك يظهر أن كلام المعتبر لا يخلو من قوة وأن ما أورده عليه غير وارد.
إلا أنه يمكن أن يقال إن لفظ العذرة وإن كان عاما بحسب اللغة والعرف الشرعي لكن
لا يبعد ادعاء أنه في الروايات حال الاطلاق وعدم القرينة مخصوص بعذرة الانسان
أو أنه يعمها وغيرها لكن لا على وجه يشمل خرء الطير، لما أشرنا إليه في غير موضع

(1) رواه في الوسائل في الباب 69 من أبواب ما يكتسب به.
(2) رواه في الوسائل في الباب 69 من أبواب ما يكتسب به.
8

وصرح به جملة من المحققين من أن الاطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد المتكثرة المتعارفة
وبما ذكرنا أيضا يسقط كلام صاحب المعالم واعتراضه كلام المحقق حيث إنه حذا
حذو صاحب المدارك في الإيراد عليه وأغرب في كلامه بما أسداه إليه، قال (قدس
سره) بعد نقل كلام المعتبر: " ولي في كلامه ههنا تأمل لأن الاجماع الذي ادعاه على
نجاسة البول والغائط من مطلق الحيوان غير المأكول أن كان على عمومه فهو الحجة في عدم
التفرقة بين الطير وغيره. وإن كان مخصوصا بما عدا الطير فأين الأدلة العامة على نجاسة
العذرة مما لا يؤكل؟ والحال إنا لم نقف في هذا الباب إلا على حسنة عبد الله بن سنان
ولا ذكر أحد من الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم في احتجاجهم لهذا الحكم سواها،
وهي - كما ترى - واردة في البول ولم يذكرها هو في بحثه للمسألة بل اقتصر على نقل
الاجماع كما حكيناه عنه فلا ندري لفظ العذرة أين وقع معلقا عليه الحكم ليضطر إلى بيان
مرادفة الخرء له ويجعلها دليلا على التسوية التي صار إليها؟ ما هذا إلا عجيب من
مثل المحقق " انتهى.
وفيه ما عرفت من الأخبار التي قدمناها دالة على نجاسة العذرة الشاملة باطلاقها
لعذرة الانسان وغيره مع أن صريح صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله اطلاق العذرة
على فضلة غير الانسان، ومما يدل أيضا على اطلاق العذرة على فضلة غير الانسان رواية
محمد بن مضارب المتقدمة، فانكاره وجود العذرة في الأخبار معلقا عليها الحكم لا وجه
له بعدما عرفت. واحتمال حمل كلامه على منع العموم في تلك الأخبار مع بعده عن سياق
كلامه مدفوع بما صرح به هو وغيره من أن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يدل على
عموم المقال، مع أن المحقق ذهب إلى أن المفرد المحلي باللام في المقامات الخطابية حيث
لا عهد يكون للعموم ويقوم مقام الألفاظ العامة. وهو في المعالم قد ساعد على ذلك وقال
به وتبعه فيه، والحال أن ما نحن فيه كذلك حيث لا عهد فيكون للعموم، وحينئذ فلا
عجب من المحقق فيما نسبه إليه إنما العجب منه (قدس سره) في تشنيعه. نعم يمكن
9

تطرق المناقشة من الوجه الذي أشرنا إليه من حيث بعد شمول هذا العموم لخرء الطير.
واستدل في المختلف للقول المشهور بحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة وقوله (عليه
السلام) فيها: " اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه " وهي كما ترى إنما تضمنت
حكم البول مع أن البول من الطير غير معلوم. وما ذكره بعضهم في تقريب الاستدلال
بها من أنها لما تضمنت حكم البول ودلت على نجاسته وجب القول بذلك في الخرء
لعدم القائل بالفرق فهو وإن اشتهر مثله في كلامهم من الضعف عندي بمكان لا يحتاج
إلى بيان كما ستعرفه إن شاء الله تعالى في مسألة أبوال الدواب الثلاث.
ثم إن القائلين بالقول المشهور اختلفوا في الجواب عن رواية أبي بصير التي أسلفنا
ذكر دلالتها على خلاف القول المشهور، فأجاب عنها في المختلف بأنها مخصوصة بالخشاف
اجماعا فتختص بما شاركه في العلة وهو عدم كونه مأكولا.
واعترضه في المدارك بأن فساده واضح (أما أولا) فلمنع الاجماع على تخصيص
الخشاف فإنه (قدس سره) قد حكى في صدر المسألة عن ابن بابويه وابن أبي عقيل القول
بالطهارة مطلقا ونقل استثناء الخشاف عن الشيخ (قدس سره) في المبسوط خاصة.
و (أما ثانيا) فلخروج الخشاف من هذا العموم بدليل لا يقتضي كون العلة فيه أنه
غير مأكول اللحم بل هذه هي العلة المستنبطة التي قد علم من مذهب الإمامية انكار العمل
بها والتشنيع على من اعتبرها. انتهى. وهو جيد.
وأجيب أيضا عن الرواية المذكورة بالحمل على المأكول خاصة جمعا بينها وبين
حسنة عبد الله بن سنان المذكورة من حيث دلالتها على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه
من الطير وغيره.
وفيه (أولا) أن الحسنة المذكورة كما عرفت إنما تضمنت حكم البول خاصة والمدعى
أعم من ذلك. ونجاسة البول لا تستلزم نجاسة الذرق بوجه كما سيظهر لك إن شاء الله
تعالى في مسألة أبوال الدواب الثلاث.
10

و (ثانيا) أنه لو فرض تضمنها لحكم الذرق لأمكن الجمع بحمل الحسنة المذكورة على
غير الطير وابقاء عموم " كل شئ يطير " على حاله، وترجيح أحد الجمعين على الآخر
يحتاج إلى دليل، بل الأظهر هو جعل التأويل في جانب الحسنة المذكورة لو فرض
دلالتها وابقاء عموم تلك الكلية على حاله من حيث ترجيحه بمطابقة الأصل والتأييد
بالعمومات الدالة على الطهارة مثل قولهم (عليهم السلام) (1): " كل شئ طاهر حتى
تعلم أنه قذر " ومن جهة أظهرية " كل شئ يطير " في العموم للطير الغير المأكول اللحم
من قوله: " ما لا يؤكل لحمه " وذلك مناط التخصيص.
و (ثالثا) تأيد رواية أبي بصير بالرواية التي نقلناها من جامع البزنطي بنقل
شيخنا المشار إليه فترجح بذلك على ما عارضها ويصير التأويل في الجانب المرجوح.
وبذلك يظهر لك قوة القول بالطهارة في ذرق الطير مطلقا إلا أنه يبقى التردد في
بوله إن فرض له بول، والأظهر أيضا ترجيح الطهارة لما ذكرناه في الجمع بين روايتي
أبي بصير والبزنطي وبين حسنة ابن سنان من جعل التأويل في جانب الحسنة المذكورة
بالحمل على غير الطير للوجوه التي ذكرناها. وبالقول بالطهارة هنا صرح في المدارك
واختاره في المعالم إلا أنه قيده بشرط أن لا يكون الاجماع المدعى مأخوذا على جهة العموم
وإلا كان هو الحجة والمخرج عن الأصل. وفيه نظر إذ لم يقم على حجية مثل هذه
الاجماعات سيما في مقابلة الروايات وظهور الخلاف في المسألة من جملة من أجلاء
الأصحاب دليل يعتد به.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن السيد في المدارك استدل للقول بالطهارة هنا بما رواه
الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (2) " أنه سأله

(1) قد تقدم في ج 1 ص 42 التعليقة رقم (1) و ص 149 التعليقة رقم (4)
ما يرجع إلى المقام
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من قواطع الصلاة.
11

عن الرجل يرى في ثوبه خرء الطير أو غيره هل يحكه وهو في صلاته؟ قال لا بأس "
قال: وترك الاستفصال في مقام الاحتمال يفيد العموم.
أقول: فيه (أولا) إن هذه الرواية ليست من روايات الشيخ كما يدل عليه
كلامه لعدم وجودها في كتابيه وإنما هي من روايات الصدوق في الفقيه رواها عن علي
ابن جعفر (رضي الله عنه) وطريقه إليه في المشيخة صحيح.
و (ثانيا) أن ما ذكره من تقريب الاستدلال بها من أن ترك الاستفصال
مع قيام الاحتمال يفيد العموم ليس على وجهه هنا إذ ذاك إنما يتم بالنسبة إلى الغرض
المقصود من سياق الكلام، وما ذكره يتم لو كان الغرض من سوق الكلام بيان
حكم الطير وخرئه وأنه يجب الاجتناب عنه أم لا وقيل في الجواب عن ذلك " لا بأس "
من دون تفصيل فإن الظاهر حينئذ هو العموم لما قرروه، وأما إذا لم يكن الغرض متعلقا
بذلك كما فيما نحن فيه فلا إذ الظاهر أن الغرض من السؤال إنما هو عن حك شئ من
الثوب وأنه هل ينافي الصلاة أم لا؟ وذكر خرء الطير إنما وقع من قبيل التمثيل في الجملة
فإذا أجيب حينئذ بأنه لا بأس به ولم يفصل في الطير بأنه مما يؤكل لحمه أم لا لا يدل على
العموم أصلا، وما قلناه ظاهر لمن تأمل وتدبر في أساليب الكلام، ويؤيده أنه قال
وفي الرواية المذكورة بعد ذلك: " وقال لا بأس أن يرفع الرجل طرفه إلى السماء وهو
يصلي " ويؤكد ذلك ايراد الأصحاب الرواية المذكورة في مسألة ما يجوز للمصلي فعله في
الصلاة وما لا يجوز حيث دلت على أنه يجوز للمصلي أن يحك خرء الطير من ثوبه
وهو في الصلاة.
و (ثالثا) أن لفظ " غيره " في كلام السائل سواء جعل عطفا على الطير أو
الخرء عام مع أن الإمام (عليه السلام) لم يفصل فيه فلو كان العموم على ما ذكره ملحوظا
لجرى في لفظ الغير ولزم من ترك الاستفصال فيه جواز الصلاة في النجاسة عمدا بالتقريب
الذي ذكره في خرء الطير، فلو أجيب بأنه لعل الاجمال هنا إنما كان من حيث معلومية
12

الحكم فلم يفصل، قلنا ذلك في خرء الطير أيضا من غير تفاوت.
ويعضد ما ذكرناه ما صرح به شيخنا البهائي في الحبل المتين حيث قال: " وقد
احتج بعض الأصحاب بالحديث السابع على طهارة خرء مطلق الطير، وظني أنه لا ينهض
دليلا على ذلك فإن نفي البأس فيه لا يتعين أن يكون عن الخرء لاحتمال أن يكون عن
حكه في الصلاة عن الثوب ويكون سؤال علي بن جعفر إنما هو عن أن حكه في أثناء الصلاة
هل هو فعل كثير لا يجوز في الصلاة أم لا؟ فأجاب (عليه السلام) بنفي البأس عنه فيها؟
ولفظة " غير " يجوز قراءتها بالنصب والجر وعلى التقديرين ففيها تأييد تام لهذا الاحتمال
إذ لو لم يحمل عليه لم يصح اطلاقه (عليه السلام) نفي البأس عما يراه المصلي في ثوبه
من خرء الطير وغيره، وأيضا فاللام في الطير لا يتعين كونها للجنس لجواز كونها للعهد
والمراد المأكول اللحم ومع قيام الاحتمال يسقط الاستدلال " انتهى. والظاهر أن مراده
ببعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) إنما هو السيد المذكور فإنه لم يتعرض غيره لذكر هذه
الرواية في المقام. وبالجملة فالاستدلال بهذه الرواية بعيد من مثله (قدس سره) والمتناقل
في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) إنما هو الاستدلال برواية أبي بصير خاصة.
فروع: (الأول) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في طهارة رجيع ما لا نفس له كالذباب ونحوه، وفي التذكرة إنما نسب الخلاف إلى الشافعي
وأبي حنيفة وأبي يوسف (1) ولم ينسبه إلى أحد من علمائنا وهو مؤذن بعدم الخلاف فيه عندنا
واستدل عليه في المنتهى بأصل الطهارة، وبأن التحرز عنه متعذر وفيه حرج فيكون منفيا

(1) لم نجد المسألة فيما وقفنا عليه من المصادر بهذا العنوان نعم في بدائع الصنائع
للكاساني الحنفي ج 1 ص 62 تعليل نجاسة الأرواث كلها بأن معنى النجاسة موجود فيها
وهو الاستقذار في الطبائع السليمة لاستحالتها إلى نتن وخبث رائحة مع إمكان التحرز
عنه. وفي المحلى لابن حزم ج 1 ص 191 تعليل وجوب غسل خرء الذباب والبراغيث
والنحل وبول الخفاش فيما إذا لم يكن حرج في ذلك بأنه بول ورجيع
13

واحتج في التذكرة بأن دم ما لا نفس له وميتته طاهر فرجيعه أيضا كذلك.
أقول: أما الاستدلال بأصالة الطهارة فجيد، وأما تعذر التحرز عنه فكذلك
فيما لا يمكن التحرز عنه، وأما ما ذكره في التذكرة فهو قياس محض لا يجري في مذهبنا
وقال المحقق في المعتبر: " وأما رجيع ما لا نفس له كالذباب والخنافس ففيه تردد
أشبهه أنه طاهر لأن ميتته ودمه ولعابه طاهر فصارت فضلاته كعصارة النبات " وظاهر
كلامه يؤذن باحتمال تناول الأدلة على نجاسة فضلة الحيوان غير المأكول له، ولهذا قال
في المدارك بعد ذكر عبارة الشرائع المشتملة على التردد أيضا: " ربما كان منشأ التردد
في البول عموم الأمر بغسله من غير المأكول وأن ما لا نفس له طاهر الميتة والدم فصارت
فضلاته كعصارة النبات ".
أقول: والظاهر عندي ضعف هذا التردد فإن المتبادر من مأكول اللحم وغير
مأكول اللحم في أخبار المسألة بل مطلقا إنما هو ذو النفس السائلة فلا يدخل مثل الذباب
والخنافس والنمل ونحوها. وأما تعليله الطهارة بما ذكره ففيه ما عرفت مما أوردناه على كلام
التذكرة. والعجب من جمود صاحب المدارك عليه وتعليله الطهارة بذلك. وبالجملة فأصالة
الطهارة أقوى متمسك في المقام حتى يقوم ما يوجب الخروج عنها، والاستناد إلى
عموم الأمر بغسله من غير المأكول مدفوع بما عرفت.
(الثاني) قد عرفت أن المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم)
هو نجاسة رجيع الطير الغير المأكول اللحم ومنه الخشاف، والشيخ مع قوله بطهارة
رجيع الطير مطلقا في المبسوط استثنى الخشاف من ذلك، ويأتي على قول من ذهب إلى
الطهارة مطلقا طهارته. والذي يدل على المشهور رواية داود الرقي (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فاطلبه فلا أجده؟ قال اغسل
ثوبك " وهذه الرواية هي مستند الشيخ في استثناء الخشاف في المبسوط.

(1) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات.
14

قال في المدارك بعد نقله عن الشيخ أنه احتج بهذه الرواية: " والجواب أنها مع
ضعف سندها معارضة بما رواه غياث عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (1) قال:
" لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف " وهذه الرواية أوضح سندا وأظهر
دلالة من الرواية السابقة، وأجاب عنها في التهذيب بالشذوذ والحمل على التقية، وهو
مشكل " انتهى.
أقول: أنت خبير بما فيه فإني لا أعرف لهذه إلا وضحية سندا ولا الأظهرية دلالة
وجها بل الروايتان متساويتان سندا ومتنا كما لا يخفى، ويمكن ترجيح الرواية الثانية بما
رواه شيخنا المجلسي في البحار (2) عن الراوندي في كتاب النوادر أنه روى بسنده فيه عن
موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) قال: " سئل علي بن أبي طالب (عليه السلام)
عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخفافيش ودماء البراغيث فقال لا بأس " وحينئذ
فيمكن القول بالطهارة للروايتين المذكورتين، ويؤيدهما عموم موثقة أبي بصير مع رواية
البزنطي المتقدمتين لدلالتهما على أن كل شئ يطير فلا بأس بخرئه وبوله، وقد عرفت
طريق الجمع بينهما وبين حسنة ابن سنان بحملها على غير الطير.
بقي الكلام فيما تحمل عليه رواية داود المذكورة، وجمع من الأصحاب حملوها على الاستحباب، ولا يحضرني الآن مذهب العامة (3) إلا أن الشيخ كما عرفت حمل
رواية غياث على التقية فإن ثبت كونهم كلا أو بعضا أكثريا على ذلك وجب طرح هاتين

(1) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات
(2) ج 18 ص 26
(3) في بدائع الصنائع للكاشاني الحنفي ج 1 ص 62 " بول الخشاف وخرؤه ليس
بنجس " وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي " لا يعفى عن يسير بول الخفاش " وفي المحلى لابن
حزم ج 1 ص 191 فصل في خرء الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش بين ما إذا
كان في التحفظ منه وفي غسله حرج فلم يوجب غسله وما إذا لم يكن فيه حرج فأوجبه
لأنه بول ورجيع.
15

الروايتين للتقية وتخصيص موثقة أبي بصير مع الرواية الثانية برواية داود فيستثنى
الخشاف من عموم الطير كما ذهب إليه الشيخ. إلا أن ما ذكره من الحمل على التقية غير
معلوم عندي وبه يظهر أن الأظهر هو الطهارة، والاحتياط بالعمل بالمشهور مما لا ينبغي
اهماله. ومورد الأخبار المذكورة وإن كان هو البول مع عدم معلوميته يقينا من الخشاف
ولا غيره من الطيور إلا أن الذرق يكون حكمه أيضا كذلك بل هو أولى بالقول بالطهارة
لدخوله تحت عموم موثقة أبي بصير مع الرواية الأخرى وعدم المعارض سوى الاجماع
المدعى في المسألة.
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المعالم حيث قال بعد ذكر رواية داود
ورميها بالضعف ثم رواية غياث وردها بذلك ما صورته: " فإن تحقق للخشاف بول
وعملنا بالحديث الحسن تعين اطراح هذا لدلالة حسنة عبد الله بن سنان على نجاسة البول
من كل حيوان غير مأكول اللحم فتتناول بعمومها الخشاف وتقصر هذه عن تخصيصها
وكذا إن ثبت عموم محل الاجماع، وإلا فالأصل يساعد على العمل بهذه وإن ضعفت
ويكون ذكر البول فيها محمولا على التجوز " انتهى.
أقول: الإشارة بهذه في كلامه راجع إلى رواية غياث وهي الأخيرة من الروايتين
وفيه أنه على تقدير ثبوت البول للخشاف فإن المنافاة لا تختص برواية غياث حتى أنها
تقصر عن تخصيص الحسنة المذكورة بل موثقة أبي بصير المذكورة في كلامه سابقا وهو
إن عمل بالحسنة فالموثقة أيضا مثلها في قوة العمل، وبالجملة فإنه لا بد له من الجمع بين
الحسنة المذكورة والموثقة المشار إليها لتصادمهما في البول، ووجه الجمع هو ما قدمناه من
حمل الحسنة المذكورة على غير الطيور وابقاء الموثقة على عمومها، وحينئذ فيبقى التعارض
بين رواية غياث ورواية داود مع تأيد رواية غياث بعموم موثقة أبي بصير والرواية التي
معها وخصوص رواية الراوندي فيترجح العمل بها، وأما على تقدير عدم ثبوت البول
والحمل على الرجيع تجوزا فالأمر كما ذكره لما عرفت آنفا.
16

(الثالث) لا فرق في غير المأكول الذي تقدم الكلام في خرئه وبوله بين
أن يكون تحريمه أصالة كالسباع والانسان ونحوهما وبين أن يكون لعارض كالجلال
ما لم يستبرأ وموطوء الانسان وشارب لبن الخنزير حتى يشتد عليه لحمه وعظمه، ويظهر
من العلامة في التذكرة أنه اجماعي، قال فيها: رجيع الجلال من كل الحيوان وموطوء
الانسان نجس لأنه حينئذ غير مأكول اللحم ولا خلاف فيه. وفي المختلف ادعى الاجماع
على نجاسة ذرق الدجاج الجلال، والأصل في ذلك اطلاق الأخبار المتقدمة.
(الموضع الثاني) بول الرضيع وهذا من الكلية الثانية أيضا، والمشهور بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا فرق في نجاسة بول الانسان بين الصغير منه والكبير
وعن المرتضى دعوى الاجماع عليه، وفي المختلف عن ابن الجنيد أنه قال: بول البالغ
وغير البالغ من الناس نجس إلا أن يكون غير البالغ صبيا ذكرا فإن بوله ولبنه ما لم
يأكل اللحم ليس بنجس.
ويدل على القول المشهور مضافا إلى عموم الروايات المتقدمة في صدر الباب خصوص
صحيحة الحلبي (1) أو حسنته قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الصبي؟
قال تصب عليه الماء فإن كان قد أكل فاغسله غسلا... "
واحتج في المختلف لابن الجنيد بما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي
(عليه السلام) (2) أنه قال لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم لأن
لبنها يخرج من مثانة أمها، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن يطعم
لأن لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين " وقد أجيب عن الرواية المذكورة (أولا)
بالطعن في السند. و (ثانيا) بالقول بموجبها فإن انتفاء الغسل لا ينافي الحكم بالصب
ونحن إنما نقول بالثاني لا الأول. وفيه نظر سيظهر إن شاء الله تعالى.
أقول: وهذه الرواية قد نقلها مولانا الرضا (عليه السلام) في الفقه الرضوي

(1) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب النجاسات.
17

بعد أن أفتى فيه بمضمون صحيحة الحلبي حيث قال (عليه السلام) (1): " وإن أصابك
بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم اعصره، وإن كان
بول الغلام الرضيع فصب عليه الماء صبا وإن كان قد أكل الطعام فاغسله، والغلام والجارية
سواء، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لبن الجارية يغسل منه الثوب
قبل أن تطعم وبولها لأن لبن الجارية يخرج من مثانة أمها، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب
ولا من بوله قبل أن يطعم لأن لبن الغلام يخرج من المنكبين والعضدين " انتهى. وبهذه
العبارة من أولها إلى آخرها عبر الصدوق في الفقيه بتغيير ما. وأنت خبير بأن كلامه في
الكتاب المذكور وفتواه بما ذكره أولا ظاهر في خلاف الرواية المذكورة ولم يتعرض
(عليه السلام) لبيان الوجه فيها، ولعل الوجه فيه هو كون هذه الرواية من مرويات
العامة عنه (عليه السلام) فاقتصر على نقلها وعدم ردها تقية وايهاما لجواز القول بها فإنه
(عليه السلام) كثيرا ما يروى في هذا الكتاب أمثال ذلك كما نبه عليه أيضا شيخنا المولى
محمد تقي المجلسي، وقد تقدم ذكر ذلك في الكتاب، والظاهر من الرواية المذكورة
هو طهارة البول مثل اللبن لأن ظاهر الجمع بينهما في عدم الغسل ذلك، إذ الحكم بعدم
الغسل إنما تعلق أولا باللبن الذي لا خلاف في طهارته عندهم ثم عطف البول عليه فهو
يقتضي كونه كذلك، وتأويلهم الرواية بأن انتفاء الغسل لا يستلزم نفي الصب إنما يتم
لو لم يذكر في هذه العبارة سوى البول ونفي الغسل إنما وقع في الرواية عن اللبن والبول
إنما عطف عليه بعد ذلك، والقول بالتأويل المذكور لا يصح إلا بادخال اللبن في هذا
الحكم وهم لا يقولون به، وبالجملة فإن التأويل المذكور لا يقبله سياق الخبر.
ثم إنه مما يدل بظاهره على ما دل عليه الخبر المشار إليه ما رواه شيخنا المجلسي
في البحار (2) عن كتاب النوادر للقطب الراوندي باسناده فيه عن موسى بن جعفر عن
آبائه (عليهم السلام) قال: " قال علي (عليه السلام) بال الحسن والحسين على ثوب

(1) ص 6
(2) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 2 من أبواب النجاسات.
18

رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل أن يطعما فلم يغسل بولهما من ثوبه " والتأويل بكونه
لم يغسله وإن صب عليه الماء وإن احتمل لكن الظاهر بعده عن السياق، ولو كان
كذلك لكان الظاهر أن يقول (عليه السلام) " بل صب عليه الماء " أو نحو ذلك،
إلا أنه قد روى في البحار أيضا (1) عن كتاب الملهوف على قتلى الطفوف للسيد
رضي الدين بن طاووس بسنده عن أم الفضل زوجة العباس " أنها جاءت بالحسين (عليه
السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبال على ثوبه فقرضته فبكى فقال مهلا
يا أم الفضل فهذا ثوبي يغسل وقد أوجعت ابني " والظاهر أن المراد بالغسل الصب.
وكيف كان فالعمل على أدلة القول المشهور لأرجحيتها بوضوح الصحة فيها والظهور
مع اعتضادها بعمل الطائفة قديما وحديثا وارجاع ما عارضها إلى قائله حسبما ورد به
الأمر عنهم (عليهم السلام).
(الموضع الثالث) خرء الدجاج غير الجلال وهذا من الكلية الأولى،
فالمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) طهارته وعن الشيخين القول بنجاسته
وظاهر الشيخ في التهذيب والاستبصار الموافقة على الطهارة فينحصر الخلاف في الشيخ المفيد
والمعتمد القول بالطهارة للأصل وقوله (عليه السلام) في موثقة عمار المتقدمة في
صدر الباب (2) " كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه " وقول الصادق (عليه السلام)
في موثقة زرارة الواردة في الصلاة في الجلود والأوبار (3) " إن كان مما يؤكل لحمه
فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شئ منه جائزة... الحديث "
وخصوص رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (4) " أنه قال
لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب النجاسات
(2) ص 5
(3) المروي في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات.
19

ويدل على قول الشيخين ما رواه الشيخ في التهذيب عن فارس (1) قال:
" كتب إليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب لا " وردها
الأصحاب بالطعن في الراوي فإنه مذموم جدا فإن فارسا المذكور هو ابن حاتم القزويني
كما يظهر من كتب الرجال، قال الشيخ فيه أنه غال ملعون، وقال العلامة في الخلاصة أنه
فسد مذهبه وقتله بعض أصحاب أبي محمد العسكري (عليه السلام) وله كتب كلها تخليط
ونقل عن الفضل بن شاذان أنه ذكر أن من الكذابين المشهورين الفاجر فارس بن حاتم
القزويني. وحينئذ فيجب اسقاط روايته، ومن العجب هنا أن العلامة في المختلف عد
روايته في الحسن والحال فيه ما عرفت، هذا مع أن المكاتب فيها أيضا غير معلوم.
وأصحابنا (رضوان الله عليهم) لم يوردوا دليلا للقول المشهور سوى رواية
وهب بن وهب وردوها بضعف السند أيضا مع أن الموثقتين المذكورتين ظاهرتا الدلالة
وإن كان بطريق العموم على المدعى، قال المحقق في المعتبر بعد الطعن في الروايتين
المذكورتين: " وبتقدير سقوط الروايتين يكون المرجع إلى الأصل وهو الطهارة ما لم
يكن جلالا، ولو قيل الدجاج لا يتوقى النجاسة فرجيعه مستحيل عنه فيكون نجسا،
قلنا: بتقدير أن يكون ذلك محضا يكون التنجيس ثابتا أما إذا كان يمزج علفه فإنه يستحيل
أما عنهما أو عن أحدهما فلا تتحقق الاستحالة عن النجاسة إذ لو حكم بغلبة النجاسة
لسرى التحريم إلى لحمها، ولما حصل الاجماع على حلها مع الارسال بطل الحكم بغلبة
النجاسة على رجيعها " انتهى. أقول: ما ذكره هنا من أنه متى كان رجيعه مستحيلا
عن عين النجاسة فإنه نجس أحد القولين في المسألة وهو مذهبه في كتاب الأطعمة من
الشرائع على تردد فيه، مع أنه قد صرح هنا في نجاسة الدم بأن الدم يطهر باستحالته
قيحا ولبنا ولحما، والمشهور هو الطهارة كما سيأتي تحقيقه في الباب إن شاء الله تعالى.
(الموضع الرابع) في أبوال الدواب الثلاث الخيل والبغال والحمير وأرواثها

(1) رواه في الوسائل في الباب 10 من أبواب النجاسات.
20

فالمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) القول بالطهارة على كراهية، ونقل عن
ابن الجنيد والشيخ في النهاية القول بالنجاسة فيهما، قال الشيخ في المبسوط: ما يكره لحمه يكره
بوله وروثه مثل البغال والحمير والدواب وإن كان بعضه أشد كراهة من بعض، وفي
أصحابنا من قال بول البغال والحمير والدواب وأرواثها نجس يجب إزالة قليله وكثيره.
والمستفاد من الأخبار الصحيحة الصريحة - كما ستمر بك إن شاء الله تعالى - هو القول الثاني
لكن بالنسبة إلى الأبوال دون الأرواث. ولا يخفى على من راجع كتب الأصحاب كالمعتبر
والمنتهى ونحوهما من الكتب المبسوطة في الاستدلال ما وقع لهم في هذه المسألة من
المجازفة وعدم اعطاء المسألة حقها من التحقيق كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، وظاهر
صاحب المدارك هنا التوقف مع اعترافه بصحة الروايات الدالة على النجاسة وصراحتها وعدم
صلاحية المعارض للمعارضة رعاية لشهرة القول بالطهارة بين الأصحاب مع أنه في شرحه في
غير موضع إنما يدور مدار الروايات الصحيحة وإن استلزم مخالفة الأصحاب كما لا يخفى
على من له أنس بطريقته في ذلك الكتاب. هذا وممن اختار ما اخترناه المحقق الأردبيلي
كما ذكره في المدارك وكنى عنه بشيخنا المعاصر وبه صرح أيضا الفاضل المحقق الشيخ جواد
الكاظمي في شرحه على الدروس وشيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني.
وها أنا أذكر أدلة القول المختار عندي ثم أعطف الكلام على نقل أدلة القول
المشهور وأبين ما فيها من الوهن والقصور فأقول وبالله سبحانه الاستعانة لبلوغ المأمول:
من الأخبار الدالة على النجاسة ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمان بن
أبي عبد الله (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يمسه بعض أبوال
البهائم أيغسله أم لا؟ قال يغسل بول الحمار والفرس والبغل فأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه
فلا بأس ببوله " وفي الصحيح عن الحلبي (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن أبوال الخيل والبغال؟ قال اغسل ما أصابك منه " وفي الحسن عن محمد بن مسلم

(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
21

عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن أبوال الدواب والبغال والحمير؟
فقال اغسله فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله فإن شككت فانضحه " وفي الصحيح عن
الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " لا بأس بروث الحمير واغسل أبوالها "
ورواية عبد الأعلى بن أعين (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أبوال
الحمير والبغال؟ قال اغسل ثوبك. قال قلت فأرواثها؟ قال هو أكبر من ذلك " ورواية
أبي مريم (4) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في أبوال الدواب
وأرواثها؟ قال أبوالها فاغسل ما أصابك وأما أرواثها فهي أكثر من ذلك " وموثقة
سماعة (5) قال: " سألته عن بول السنور والكلب والحمار والفرس. قال كأبوال
الانسان " ورواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله البصري (6) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الرجل يصيبه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال: يغسل بول
الفرس والبغل والحمار وينضح بول البعير والشاة، وكل شئ يؤكل لحمه فلا بأس ببوله "
وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الإسناد عن أخيه موسى (عليه السلام) (7)
قال: " سألته عن الدابة تبول فيصيب بولها المسجد أو حائطه أيصلي فيه قبل أن يغسل؟
قال إذا جف فلا بأس " وصحيحته الأخرى عنه (عليه السلام) (8) قال: " سألته
عن الثوب يوضع في مربط الدابة على بولها أو روثها؟ قال إن علق به شئ فليغسله
وإن أصابه شئ من الروث أو الصفرة التي تكون معه فلا يغسله من صفرته " وروايته
الثالثة في كتابه (9) قال: " سألته عن الثوب يقع في مربط الدابة على بولها وروثها
كيف يصنع؟ قال إن علق به شئ فليغسله وإن كان جافا فلا بأس " وما رواه الشيخ

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات
(4) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات
(5) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب النجاسات.
(6) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات
(7) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات
(8) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات
(9) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات
22

عن أبي بصير عنه (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟
فقال إن تغير الماء فلا تتوضأ منه وإن لم تغيره أبوالها فتوضأ منه، وكذلك الدم إذا سال في
الماء وأشباهه " وصحيحة محمد بن مسلم (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال إذا كان الماء قدر
كر لم ينجسه شئ " وصحيحته الأخرى عنه (عليه السلام) (3) قال: " قلت له الغدير
فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب... الحديث المتقدم " وزاد في آخره: " والسكر ستمائة
رطل " ورواية أبي بصير (4) قال: " سألته عن كر من ماء مررت به وأنا في سفر قد
بال فيه حمار أو بغل أو انسان، قال لا تتوضأ منه ولا تشرب ".
هذا ما حضرني من الروايات الدالة على المدعى، والأصحاب لم يذكروا دليلا
للقول بالنجاسة إلا رواية واحدة كما في المعتبر حيث اقتصر على حسنة محمد بن مسلم ثم
أولها بالحمل على الاستحباب، وفي المدارك اقتصر على الثلاث الأول، وفيه ما أشرنا
إليه آنفا، وربما زاد بعضهم كصاحب المعالم والفاضل الخراساني في الذخيرة، وأما روايات
المياه فإنه لم يلم بها أحد بالكلية في هذا المقام مع أنهم يستدلون بها على نجاسة القليل
بالملاقاة والكثير بالتغيير في باب المياه ويذهلون عن حكمهم هنا بالطهارة.
وأما أدلة القول المشهور فها أنا أذكرها واحدا واحدا مذيلا كلا منها بالجواب
الكاشف عن حقيقة الحق والصواب.
فأقول: الأول الأصل استدل به في المعالم حيث قال: " ويدل على الطهارة وجوه:
أحدها الأصل فإن ايجاب إزالتها تكليف والأصل يقتضي براءة الذمة منه " انتهى.
والجواب عن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وقد قدمنا من الأدلة الصحيحة
الصريحة في النجاسة ما يشفي العليل ويبرد الغليل، وسيظهر لك ضعف ما عارضها إن شاء

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق
(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب 9 من الماء المطلق.
(4) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق
23

الله تعالى وبطلان ما ناقضها وبه يضمحل هذا الأصل من البين.
الثاني رواية أبي الأغر النخاس (1) " سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال إني
أعالج الدواب فربما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فتضرب إحداها بيدها أو برجلها
فينضح على ثوبي؟ فقال لا بأس به " ورواية المعلي بن خنيس وعبد الله بن أبي يعفور (2)
قالا: " كنا في جنازة وقدامنا حمار فبال فجاءت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا وثيابنا
فدخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) فأخبرناه فقال ليس عليكم بأس " وقد جمعوا
بين هذين الخبرين وما يوردونه من أخبار النجاسة بحمل الأمر بالغسل على الاستحباب،
واستندوا في ذلك تبعا للشيخ إلى رواية زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) (3) " في
أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه، فقلت أليس لحومها حلالا؟ قال بلى ولكن ليس
مما جعله الله للأكل " قال الشيخ في التهذيب والاستبصار بعد نقل جملة من الأخبار الدالة
على النجاسة: هذه الأخبار كلها محمولة على ضرب من الكراهة والذي يدل على ذلك
ما أوردناه من أن ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله وروثه، وإذا كانت هذه الأشياء غير
محرمة اللحوم لم يكن أبوالها وأرواثها محرما. قال ويدل على ذلك أيضا ما رواه أحمد بن
محمد، ثم ساق رواية زرارة المذكورة، ثم قال: فجاء هذا الخبر مفسرا لهذه الأخبار
ومصرحا بكراهية ما تضمنته ويجوز أن يكون الوجه في هذه الأحاديث أيضا التقية لأنها
موافقة لمذهب بعض العامة. انتهى.
والجواب عن ذلك (أولا) بما ذكرناه في غير موضع مما تقدم من أنه لا دليل
على هذه القاعدة التي عكفوا عليها ولا مستند لها وإن استندوا في غير باب إليها؟ فإن
حمل هذه الأوامر الواردة في الأخبار التي هي حقيقة في الوجوب على الاستحباب مجاز
لا يصار إليه إلا مع القرينة واختلاف الأخبار ليس من قرائن المجاز، وأيضا فالاستحباب
حكم شرعي كالوجوب والتحريم يحتاج إلى دليل واضح.

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
24

و (ثانيا) أنه من القواعد المقررة عندهم أنهم لا يجمعون بين الأخبار مع
تعارضها إلا مع التكافؤ في الصحة وإلا فتراهم يطرحون المرجوح ويرمون بالخبر الضعيف
في مقابلة الصحيح، فكيف خرجوا عن هذه القاعدة في هذا المقام؟ ولهذا أن السيد
السند في المدارك بعد نقل روايتي القول المشهور المذكورتين ثم نقل الروايات الثلاث
التي صدرنا بها الأخبار المتقدمة نقل عن الأصحاب حمل هذه الروايات على الاستحباب
واعترضهم بأن ذلك مشكل لانتفاء ما يصلح للمعارضة، وكأنه لذلك تفطن جده (قدس
سره) حيث إنه لم يستدل بهذين الخبرين وإنما استدل بالأدلة الآتية دون هذين الخبرين،
و (ثالثا) أن قوله في التهذيب بعد دعواه حمل أخبار النجاسة على ضرب
من الكراهة: " والذي يدل على ذلك... الخ " مردود بأن ما أورده من أن
ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله عام وهذه الأخبار خاصة وطريق الجمع المعروف في أمثال هذا
المقام حمل العام على الخاص لا ما ذكره.
و (رابعا) أنه من القواعد المقررة في أخبار أهل البيت (عليهم السلام)
في مقام تعارض الأخبار الأخذ بالأعدل والأوثق وكذا الأخذ بالأشهر يعني في الرواية
لا في الفتوى كما نبه عليه جملة من المحققين، ولا ريب أنه بمقتضى هاتين القاعدتين يجب
ترجيح أخبار النجاسة كما لا يخفى على الخبير المنصف.
وأما ما ذكره الشيخ (قدس سره) من حمل أخبار النجاسة على التقية لموافقتها
لقول بعض العامة ففيه أن الحمل على التقية فرع المرجوحية وللخصم أن يحمل خبريه
على التقية أيضا بل هو الظاهر لمرجوحيتهما الموجبة لطرحهما فيحملان على التقية لقول
جملة من العامة بالطهارة تفاديا من طرحهما.
ولا يخفى على المنصف الخبير أنه من البعيد بل الأبعد ارتكاب التأويل في هذه الأخبار في مقابلة ذينك الخبرين الضعيفين مع ما عرفت من كثرتها وتعددها وورودها
في مقامات متعددة وأحكام متفرقة مع صحة أسانيد كثير منها وقوة الباقي وصراحتها
25

ولا سيما موثقة سماعة الدالة على أنها كأبوال الانسان، ويقرب منها حسنة محمد بن مسلم الدالة
على الأمر بغسله أولا ومع جهل موضعه غسل الثوب كله ومع الشك بنضحه، فهل يبلغ
الأمر في الاستحباب المؤذن بالطهارة إلى هذه المرتبة؟ بل نظير ذلك أنما جاء في النجاسة
المحققة المعلومة كما في حسنة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " إذا احتلم
الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه
فلينضحه بالماء وإن استيقن أنه قد أصابه ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كله فإنه أحسن ".
ومن العجيب ما ذكره في المعالم هنا حيث إنه أيد حمل الأمر في حسنة
محمد بن مسلم على الاستحباب بالأمر بالنضح فيها حيث إنه للاستحباب، قال بعد نقل
كلام الشيخ الذي قدمناه: " وحاصله أن الأخبار متعارضة في هذا الباب وحمل روايات
النجاسة على استحباب الإزالة طريق الجمع سيما بقرينة الرواية التي رواها أخيرا وأمره
في حسنة محمد بن مسلم بالنضح مع الشك وهو للاستحباب باعتراف الخصم، مع أنه وقع
في الحديث مجردا عن القرينة الدالة على ذلك فلا بعد في كون الأوامر الواقعة في صحبته
مثله، بل المستبعد من الحكيم سوق الكلام على نمط يعطي الاتفاق في الحكم والحال
على الاختلاف " انتهى.
أقول: أنت خبير بما فيه من التمحل الظاهر والتكلف الذي لا يخفى على الخبير
الماهر، فإن القرينة على الاستحباب في النضح ظاهرة وهو يقين الطهارة وأن الأصل
ذلك كما هو القاعدة المسلمة التي لا يجوز الخروج عنها إلا مع يقين النجاسة، وإنما أمر
بالنضح لدفع توهم الوسوسة كما في جملة من موارد النضح مع يقين الطهارة، ولو تم ما ذكره
للزم مثله في حسنة الحلبي التي ذكرناها وهو لا يقول به، وما ذكره من أنه يستبعد
من الحكيم.. الخ مسلم لو لم تكن هنا قرينة والقرينة ظاهرة كما عرفت، وأما قوله

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
26

في تأييد الحمل على الاستحباب وأنه طريق الجمع: " لا سيما بقرينة الرواية التي رواها
أخيرا " مشيرا إلى رواية زرارة فستعرف ما فيه إن شاء الله تعالى.
(الثالث) أن لحومها حلال وإن كان مكروها وكل ما كان كذلك فبوله
وروثه طاهر، أما الصغرى فاتفاقية نصا وفتوى، وأما الكبرى فلما رواه زرارة في
الحسن (1) " أنهما قالا لا تغسل ثوبك من بول شئ يؤكل لحمه " وما رواه عمار في الموثق
عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " كل ما أكل فلا بأس بما يخرج منه ".
والجواب أن المستفاد من الأخبار على وجه لا يعتريه بعد التأمل الانكار أن المراد
بمأكول اللحم في هذا المقام إنما هو بمعنى ما كان مخلوقا للأكل لا ما كان حلالا كما توهموه
وصار منشأ الشبهة لهم في هذه المسألة، فإن هذه الدواب الثلاث إنما خلقت لأجل الركوب
والزينة كما دلت عليه الآية الشريفة " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " (3) ومن
أوضح الأدلة وأصرحها فيما قلناه ما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن أحدهما (عليهما
السلام) (4) " أنه سأله عن أبوال الخيل والبغال والحمير؟ قال فكرهها فقال أليس لحمها حلالا؟
فقال أليس قد بين الله تعالى لكم: والأنعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون (5)
وقال: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة. فجعل للأكل الأنعام التي نص الله تعالى
في الكتاب وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير ليس لحومها بحرام ولكن الناس
عافوها " ومن هذه الرواية يتضح معنى الرواية التي تمسك بها الشيخ (قدس سره)
وأتباعه فقال في كلامه المتقدم: " فجاء هذا الخبر مفسرا لهذه الأخبار " والمراد
بالكراهة في الروايتين إنما هو النجاسة، وبيانه أنه لما سأله عن أبوال هذه الدواب
فكرهها يعني نجسها وحكم بنجاستها استبعد زرارة ذلك لما تقرر عنده من أنها مأكولة
اللحم وأن كل ما كان مأكول اللحم فبوله وروثه طاهر فراجع في الجواب فقال:

(1) رواه في الوسائل في الباب 90 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 90 من أبواب النجاسات
(3) سورة النحل، الآية 8
(4) البحار ج 18 ص 26
(5) سورة النحل. الآية 5.
27

أليس لحومها حلالا وكل ما كان كذلك فبوله وروثه طاهر؟ فقال له بلى ولكن ليس
المراد بمأكول اللحم الذي حكم الشارع بطهارة ما يخرج منه ما كان حلالا بل إنما هو
ما خلق لأجل الأكل وهذه الدواب الثلاث إنما خلقت لشئ آخر كما أوضحه (عليه
السلام) في رواية العياشي. ومن هذا القبيل أيضا ما في صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله
البصري من قوله (عليه السلام): (1) " يغسل بول الحمار والفرس والبغل وأما الشاة
وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله " فإنه لا مجال لحمل ما يؤكل لحمه في الرواية على ما يحل
أكله بقوله مطلق وإلا لزم منه عدم جواز أكل لحوم تلك الدواب الثلاث لأنها وقعت
في مقابلة ما يؤكل لحمه بل لا بد من حمله على ما خلق للأكل، ومثلها روايته الأخرى (2)
حيث قال فيها: " يغسل بول الحمار والفرس والبغل وينضح بول البعير والشاة وكل
شئ يؤكل لحمه فلا بأس ببوله " أما بعطف " كل شئ " على " الشاة " ويجعل قوله:
" فلا بأس به " مستأنفا وفيه تعليل لذلك، ويصير حاصل المعنى حينئذ أنه ينضح بول
البعير والشاة وبول كل شئ يؤكل لحمه أي ما خلق لأجل الأكل كهذه المعدودات
ولا يجب غسله فإنه لا بأس به، وأما بجعل قوله: " وكل شئ " مبتدأ وخبره
" لا بأس به " والجملة في مقام التعليل، وحاصله أنه ينضح بول هذا الحيوانات ولا يجب
غسله فإن كل شئ يؤكل لحمه فإنه لا بأس ببوله، وكيف كان فإنه لا يصح حمل قوله:
" يؤكل لحمه " على ما يحل أكل لحمه بحيث يدخل فيه تلك الدواب الثلاث، والأمر
بالنضح قد ورد في أمثال ذلك في كثير من الأخبار مثل المذي وعرق الجنب وملاقاة
الكلب الثوب يابسا وأمثال ذلك مما هو معلوم الطهارة يقينا.
(الرابع) الاجماع المركب وهو أن كل من قال بنجاسة الأبوال قال بنجاسة
الأرواث ومن قال بطهارة الأبوال قال بطهارة الأرواث فالقول بالنجاسة في الأبوال مع طهارة
الأرواث خرق للاجماع المركب. وهذا الدليل وإن لم يصرحوا به في كلامهم ويعدوه دليلا

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
28

برأسه إلا أنه مستنبط منه حيث إنهم عمدوا إلى جملة من روايات المسألة المشتملة على
الأمر بغسل البول وطهارة الروث فجعلوها من أدلة القول بالطهارة بتقريب حمل الأمر
بغسل البول على الاستحباب لما اشتملت عليه الرواية من طهارة الروث، حيث إنه
لا قائل بذلك إذ الخلاف في المسألة منحصر في القولين المتقدمين، فالقول بما دل عليه
ظاهر هذه الأخبار خرق للاجماع المركب فلا يجوز القول به. قال المحقق الشيخ حسن
بعد الاستدلال للقول بالطهارة بالروايتين المتقدمتين (1) وما رواه الشيخ باسناده الصحيح
عن أحمد بن محمد ثم ساق صحيحة الحلبي المتقدمة (2) وهي الثانية من روايتيه المشتملة على
الأمر بغسل الأبوال ونفي البأس عن الأرواث، ثم قال: وجه الدلالة في هذا الحديث
نفي البأس عن الروث فيكون الأمر بغسل البول للاستحباب إذ لا قائل بالفصل فيما
يظهر، ثم عطف عليها رواية أبي مريم ورواية عبد الأعلى، وجرى على ذلك أيضا
الفاضل الخراساني في الذخيرة.
والجواب أنه لا يخفى ما في هذا الاستدلال من المجازفة في أحكام الملك المتعال
والبناء على أساس ظاهر الاضمحلال:
(أما أولا) فلما حققه غير واحد من محققيهم في بطلان هذا الاجماع
الشائع في كلامهم ومن المصر حين هذان القائلان، أما الشيخ حسن فقد قدمنا
عبارته المنقولة من المعالم في المقام الثاني من المقدمة الثالثة من مقدمات الكتاب فارجع إليه
ليظهر لك صحة ما أوردناه عليه هنا، وأما الفاضل الخراساني فإنه قد تكلم في الاجماع
وأطال في مسألة الوطء في الدبر وكونه موجبا للغسل أم لا من الذخيرة وقدح في ثبوته
إلى أن قال في آخر كلامه: " والغرض التنبيه على حقيقة الحال ومع هذا فلا أنكر
حصول الظن به في بعض الأخبار ولكن في حجيته على الاطلاق نظر فهو من القرائن
التي توجب التقوية والتأكيد ولا يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية " انتهى. وحينئذ

(1) ص 24
(2) ص 22.
29

فكيف يخالف نفسه هنا ويبني عليه الأحكام بأي تعسف وتكلف في المقام لا يخفى بعد
ما حققناه على ذوي الألباب والأفهام، وبالجملة فإن مناقضة بعضهم بعضا بل الواحد
نفسه في هذه الاجماعات ولا سيما الشيخ والمرتضى اللذين هما الأصل في الاجماع قد كفانا
مؤنة القدح فيه، وقد كان عندي رسالة لشيخنا الشهيد الثاني قد تصدى فيها لنقل جملة
من المسائل التي ناقض الشيخ بها نفسه بدعواه الاجماع على الحكم في موضع ثم يدعيه
على خلافه في موضع آخر وفيها ما ينيف سبعين مسألة. والحق أن هذه الاجماعات
المتناقلة لا تخرج عن مجرد الشهرة كما حققه شيخنا الشهيد في صدر الذكرى وإليه أشار
المحقق الشيخ حسن في كلامه المتقدم الذي أشرنا إليه.
و (أما ثانيا) فإنه أي مانع عقلي أو شرعي يمنع من الفتوى في المسألة إذا قام
الدليل على ذلك وإن لم يقل به قائل من السابقين؟ واشتراط القول بوجود قائل من
المتقدمين وإن قال به شذوذ منا إلا أن المحققين على خلافه، كيف ولو اشترط ذلك لم تتسع
دائرة الخلاف في المسائل والأحكام ولا انتشر فيها النزاع والخصام إلى ما عليه الآن
من الاختلاف حتى أنك لا تجد حكما من الأحكام إلا وقد تعددت فيه أقوالهم إلى ثلاثة
أو أربعة أو خمسة فزائدا وهي تتجدد بتجدد العلماء لانحصار الفتوى في الشيخ في زمنه،
وقد نقل بعض الأصحاب انحصار الفتوى فيه (قدس سره) وأنه لم يبق بعده إلا ناقل
أو حاك حتى انتهت النوبة إلى ابن إدريس ففتح باب الطعن على الشيخ والمخالفة له في
كثير من المسائل ثم اتسع الباب شيئا فشيئا وانتشر الخلاف إلى ما ترى، على أنه قد صرح
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك - وهو القدوة لكل داخل في هذا الباب وسالك - بأنه
متى قام الدليل للفقيه على حكم في مسألة من المسائل جاز له الافتاء فيها بما قام الدليل
عليه عنده وإن ادعى فيه الاجماع قبله فضلا عن أنه لم يقل بها قائل من المتقدمين، قال
(قدس سره) في الكتاب المشار إليه في مسألة ما لو أوصى له بأبيه بعد الطعن في
الاجماع ونعم ما قال ما هذه صورته: " وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره
30

من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الاجماع إذا قام الدليل على ما يقتضي
خلافهم وقد اتفق ذلك لهم كثيرا، ولكن زلة المتقدم متسامحة بين الناس دون
المتأخر " انتهى. وهو جيد وجيه، فإذا كان الأمر كذلك فكيف استجاز هذان
الفاضلان المنع من القول بما دلت عليه هذه الأخبار من نجاسة البول وطهارة الروث لأنه
لم يقل به أحد ممن تقدم، ويا لله والعجب الظاهر للموفق المصيب ومن أخذ
من الانصاف بأدنى نصيب أن الأئمة (عليهم السلام) يفرقون بين البول والروث
فيصرحون بنجاسة الأول ويأمرون بغسله مع تصريحهم في كتبهم الأصولية بأن الأمر
حقيقة في الوجوب، ويحكمون (عليهم السلام) بطهارة الثاني وهم يتعمدون مخالفتهم
ويرتكبون هذه التأويلات الغثة في كلامهم فيحكمون بالطهارة فيهما معا ميلا إلى الأخذ
بهذا الاجماع الغير الحقيق بالاتباع ولا الاستماع، ما هو إلا اجتهاد محض في مخالفة
النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص، فاشرب بكأس هذا الرحيق وارتع في رياض
هذا التحقيق المنجي بحمد الله من لجج المضيق، فإنك لا تجده في كلام غيرنا من علمائنا
الأعلام ولا حام حوله غيرنا أحد في المقام، والله سبحانه العالم بالأحكام.
(الفصل الثالث) في المني وهو إما أن يكون من الانسان أو غيره من
الحيوان ذي النفس السائلة أو من غير ذي النفس السائلة إن ثبت وقوع المني منه فههنا
أقسام ثلاثة:
(الأول) مني الانسان، ولا خلاف نصا وفتوى في نجاسته. والأصل فيه
بعد الاجماع الأخبار المستفيضة كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1)
" في المني يصيب الثوب؟ قال إن عرفت مكانه فاغسله فإن خفي عليك فاغسله كله "
وحسنة عبد الله بن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن المني
يصيب الثوب؟ قال إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفي عليك مكانه فاغسله كله " وموثقة

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
31

سماعة (1) قال: " سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال اغسل الثوب كله إذا خفي عليك
مكانه قليلا كان أو كثيرا " وصحيحة الحلبي أو حسنته على المشهور عن الصادق (عليه
السلام) (2) قال: " إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه. وإن
ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء، وإن استيقن أنه قد أصابه مني فلم
ير مكانه فليغسل ثوبه كله فإنه أحسن " وحسنة محمد بن مسلم عن الصادق (عليه
السلام) (3) قال: ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول، ثم قال: " إن رأيت المني
قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، فإن أنت نظرت في ثوبك فلم
تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك، وكذلك البول " إلى غير ذلك من
الأخبار الكثيرة التي لا حاجة إلى التطويل بنقلها مع الاتفاق على الحكم المذكور،
وأكثر هذه الأخبار ما ذكر منها وما لم يذكر وإن وقع لفظ المني فيها مطلقا إلا أن تبادر
التخصيص بإرادة مني الانسان أمر ظاهر منها كالعيان لا يحتاج إلى بيان، وبذلك صرح
جملة من علمائنا الأعيان.
(الثاني) مني غير الانسان مما له نفس سائلة، وحكمه حكم مني الانسان
عند الأصحاب من غير خلاف يعرف، بل ادعى العلامة في التذكرة الاجماع على نجاسته
مع مني الانسان وجعله الحجة في الحكم المذكور. وفي المعتبر والمنتهى أن الحجة على
نجاسته عموم الأخبار المتقدمة ولم يذكروا الاجماع. ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من
البعد السحيق عن ساحة تلك الأخبار، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما " وعندي في
تحقق العموم بحيث يتناول غير الآدمي نظر، ويمكن أن يحتج له بجعله أشد من البول
في صحيح محمد بن مسلم، فإنه وإن شهدت القرينة الحالية في مثله بإرادة مني الانسان
إلا أن فيه اشعارا بكونه أولى بالتنجيس من البول فكل ما حكم بنجاسة بوله ينبغي أن
تكون لمنيه هذه الحالة، وربما كان هذا القدر كافيا مع الاجماع المنقول وعدم ظهور مخالف

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
32

فيه " انتهى. أقول: من المحتمل قريبا بل الظاهر أنه المراد من الخبر أن التشديد إنما هو
بالنسبة إلى الإزالة لا إلى النجاسة إذ النجاسة لا تقبل الشدة والضعف إلا بنوع من الاعتبار
الذي لا يصلح لبناء حكم شرعي عليه، وأما الإزالة فالأمر فيها ظاهر فإن المني لمزيد
ثخانته ولزوجته يحتاج في الغسل إلى مزيد كلفة بخلاف البول الذي هو كالماء.
ويمكن الاستدلال على الطهارة بعموم موثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه
السلام) (1) قال: " كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه " وموثقة عبد الله بن
بكير (2) " أن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل
شئ منه جائزة " إلا أن في الخروج عما ظاهرهم الاجماع عليه سيما مع أوفقيته بالاحتياط
بهذين الخبرين مع ما هما عليه من الاجمال اشكالا، إذ المتبادر من الأول إنما هو البول
والروث كما فهمه الأصحاب ولذلك نظموه في سلك الأخبار الدالة على طهارة بول وروث
ما يؤكل لحمه، وقد تقدم مع جملة منها كذلك في أول الباب، وأما الثانية فالمراد منها إنما
هو الاشعار والأوبار والجلود ونحوها ويدل على ذلك سياق الخبر المذكور كما لا يخفى على
من راجعه. وظاهره أن الفرق في صحة الصلاة وعدمها في المأكول وغير المأكول إنما هو من
حيث كونه مأكول اللحم وغير مأكول اللحم. وهذا لا يتمشى في المني إذ الحكم بالنجاسة
وعدم جواز الصلاة فيه أو الطهارة وجواز الصلاة فيه لا يفرق فيهما بين مأكول اللحم وعدمه
كما لا يخفى، وبالجملة فالأحوط الوقوف على ما ذكروه وإن لم أقف له على دليل شاف.
(الثالث) مني غير ذي النفس السائلة، والظاهر من كلام جملة من الأصحاب
هو القول بالطهارة، وتردد فيه المحقق في المعتبر ونحوه العلامة في المنتهى مع ميلهما إلى
الطهارة، والظاهر أن وجه التردد هو ما أشرنا إليه آنفا من استدلالهما بأخبار المني المتقدمة
على نجاسة مني غير الانسان من ذوات النفس السائلة وشمولها له بعمومها، وحينئذ
فيحتمل دخول ما لا نفس له تحت عموم تلك الأخبار إذ لا تصريح في تلك الأخبار

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
33

بالتخصيص بذي النفس السائلة. ولا يخفى ما فيه من البعد بل هو مما يقطع بعدمه، فإن
شمول الأخبار المذكورة لما عدا مني الانسان مما يكاد يقطع بعدمه أيضا فكيف ما لا نفس
له، إذ حمل السؤالات المذكورة في الأخبار عن إصابة الثوب والبدن على مني غير الانسان
من الحيوانات أندر نادر وأشذ شاذ، سيما مع تصريحهم في غير موضع بأن الاطلاقات
في الأخبار إنما تنصرف إلى الأفراد الشائعة المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة،
فإذا كان الأمر كذلك في مني ما له نفس فكيف في مني ما لا نفس له؟ وبالجملة فالظاهر أن القول بالطهارة ما لا يحوم حوله شبهة الاشكال ولا يداخله النقض والاختلال.
تنبيهات
(الأول) قد عرفت اتفاق الأصحاب (رضوان الله عليهم) على نجاسة
مني الانسان وتظافر الأخبار به إلا أن هنا جملة من الأخبار لا تخلوا في ذلك من اشكال
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) قال: " سألته عن الرجل
يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ فقال نعم لا بأس به إلا أن تكون النطفة رطبة فإن
كانت جافة فلا بأس " وحمله الشيخ في الإستبصار على ما إذا لم يتجفف بالموضع الذي
فيه المني لئلا يصيبه المني. وفيه أنه لا يظهر على هذا فرق بين الرطبة والجافة لاشتراكهما
في حصول البأس مع الإصابة رطبا كان أو يابسا مع رطوبة بدنه وانتفائه مع عدم إصابتها
مع أنه فرق بينهما.
أقول: قد وقفت في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا البهائي على الجواب عن
هذا الاشكال الوارد على جواب الشيخ عن هذه الرواية، حيث قال: " ظاهر هذا
الحديث مشكل فإنه يشعر بطهارة المني إذا كان جافا كما هو مذهب بعض العامة وإلا
فلا فرق هنا بين ما إذا كان المني رطبا وجافا إذا لم يماس البدن حال تنشيفه. ويمكن أن

(1) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
34

يقال إن من عرف موضع المني في ثوبه ثم نزعه فطرحه عنه ليغتسل فمعلوم أن أجزاء
الثوب حال النزع وبعد الطرح يماس بعضها بعضا فيقع بعض الأجزاء الطاهرة منه على
ذلك المني، فإن كان جافا لا تتعدى نجاسته حال النزع وبعد الطرح إلى ما يماسه من
الأجزاء الطاهرة من الثوب فللمغتسل إذا أراد التنشيف أن يتنشف بأي جزء شاء من
أجزائه سوى الجزء الذي تنجس بالمني، وإذا كان رطبا فإن أجزاء الثوب التي تماسه
غالبا في حال النزع وبعد الطرح تنجس به لا محالة وربما جفت في مدة الاشتغال بالغسل
ولا يميز عند إرادة التنشيف عن الأجزاء الطاهرة التي لم تماسه فيشتبه الطاهر من الثوب
بالنجس منه فلذلك جوز الإمام (عليه السلام) التنشيف إذا كان جافا ولم يجوزه
إذا كان رطبا " انتهى وهو جيد. أقول: ويمكن حمل الخبر أيضا على التقية لما أشار
إليه شيخنا المذكور من أن ذلك مذهب لبعض العامة (1).
ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن على المشهور عن أبي أسامة (2)
قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) تصيبني السماء وعلي ثوب فتبله وأنا جنب
فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أفأصلي فيه؟ قال نعم " ويمكن حمله على التقية
لأن القول بطهارة المني مذهب جماعة من العامة (3) ويحتمل أيضا تأويله بأن البلل جاز أن
لا يعم الثوب بأسره ويكون إصابة الثوب للمني ببعض ليس فيه بلل أو جاز أن يكون
البلل قليلا بحيث لا تتعدى معه النجاسة وإن كان شاملا للثوب بأسره، كذا أفاد والدي
في بعض تحقيقاته.

(1) في المغني ج 2 ص 92 " المشهور عن أحمد طهارة المني وعنه أنه نجس ويعفى
عن يسيره وعنه لا يعفى عن يسيره، ويجزئ الفرك على كل حال، والرواية الأولى هي
المشهورة في المذهب وهو قول سعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس، وقال ابن المسيب
إذا صلى فيه لم يعد، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر " وفي البدائع ج 1 ص 60
" المني نجس وعند الشافعي طاهر "
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
35

ومنها ما رواه في الكافي أيضا في الموثق عن أبي أسامة (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب تكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل علي؟ قال
لا بأس " ويمكن أجراء الحملين المتقدمين فيه أيضا. واحتمل بعضهم أيضا أن يحمل على
إصابة المطر الثوب بحيث طهره قال: وليس ببعيد. أقول: بل هو في غاية البعد حيث إن نجاسة المني لما فيه من الثخانة والزوجة تحتاج إلى مزيد كلفة في الإزالة فمجرد إصابة
المطر لا يكفي في طهارة الثوب منها إلا أن يحمل على نجاسة لا توجد عين المني في الثوب
وإن كان بعيدا من لفظ الجنابة حيث إن المراد منها المني مجازا. قال في الوافي بعد نقل
خبري أبي أسامة المذكورين " والوجه في الخبرين أنه لن يتيقن بلة ذلك الموضع بعينه
بحيث يسري معها المني إليه سراية تنجسه، ومجرد الاحتمال غير كاف وإن كان قويا.
ومنها ما رواه في الكافي والشيخ في التهذيب عن علي بن أبي حمزة (2) قال:
" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟ قال
لا أرى به بأسا. قال إنه يعرق حتى أنه لو شاء أن يعصره عصره؟ قال فقطب أبو عبد الله
(عليه السلام) في وجه الرجل وقال إن أبيتم فشئ من ماء فانضحه به " ويحتمل الحملين
المتقدمين، ويحتمل أيضا أن يكون المراد من قوله: " أجنب في ثوبه " يعني جامع فيه
لا بمعنى أمني فيه ويكون السؤال باعتبار توهم نجاسة بدن الجنب فتتعدى إلى الثوب
بالعرق. ولعله الأقرب فإن كثيرا من السؤالات في الأخبار وردت بناء على هذا التوهم
(الثاني) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه ليس شئ مما
يخرج من الذكر بنجس سوى البول والمني، وعن ابن الجنيد أنه قال ما كان من المذي
ناقضا لطهارة الانسان غسل منه الثوب والجسد ولو غسل من جميعه كان أحوط، وفسر
الناقض للطهارة بما كان خارجا عقيب شهوة، قال في المختلف بعد ذكر المسألة ونقل
خلاف ابن الجنيد: لنا - اجماع الإمامية على طهارته، وخلاف ابن الجنيد غير معتد به

(1) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
36

فإن الشيخ لما ذكره في كتاب فهرست الرجال وأثنى عليه قال إلا أن أصحابنا تركوا
خلافه لأنه كأن يقول بالقياس.
أقول: ويدل على القول المشهور جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة، ومنها
ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن الصادق
(عليه السلام) (1) قال: " ليس في المذي من الشهوة ولا من الانعاظ ولا من القبلة
ولا من مس الفرج ولا من المضاجعة وضوء ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد ".
وعن حريز في الصحيح (2) قال: " حدثني زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال إن سال من ذكرك شئ من مذي أو ودي فلا
تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء إنما ذلك بمنزلة النخامة.... الحديث ".
وعن إسحاق بن عمار في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) (3) قال:
" سألته عن المذي فقال إن عليا (عليه السلام) كان رجلا مذاء واستحيى أن يسأل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمكان فاطمة (عليها السلام) فأمر المقداد أن يسأله وهو
جالس فسأله فقال له ليس بشئ ".
وعن زيد الشحام في الحسن (4) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
المذي ينقض الوضوء؟ قال لا ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد إنما هو بمنزلة البزاق
والمخاط " إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المعتضدة بأصالة الطهارة واجماع من عدا
ابن الجنيد على القول بها.
ومما يدل على القول بالنجاسة ما رواه الحسين بن أبي العلاء (5) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن المذي يصيب الثوب؟ قال إن عرفت مكانه فاغسله وإن

(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من نواقض الوضوء.
(2) رواه في الوسائل في الباب 12 من نواقض الوضوء.
(3) رواه في الوسائل في الباب 12 من نواقض الوضوء.
(4) رواه في الوسائل في الباب 12 من نواقض الوضوء.
(5) رواه في الوسائل في الباب 17 من أبواب النجاسات.
37

خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله ".
وروايته الأخرى أيضا (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المذي
يصيب الثوب فيلتزق به؟ قال يغسله ولا يتوضأ ".
وأجاب الشيخ عن هذين الخبرين بالحمل على الاستحباب جمعا بينهما وبين الأخبار
المتقدمة، ثم قال ويزيد ذلك بيانا ما رواه هذا الراوي بعينه وهو الحسين بن أبي العلاء (2)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المذي يصيب الثوب؟ قال لا بأس به فلما
رددنا عليه قال ينضحه بالماء ".
أقول: والأظهر عندي حمل الخبرين المذكورين على التقية كما قدمنا ذكره في الباب
الثاني في الوضوء (3) ورواية الحسين الثالثة خرجت مخرج الروايات المتقدمة في الدلالة
على الطهارة ولكنه حيث إنه (عليه السلام) فهم من السائل حصول النفرة منه أمره
بالنضح المأمور به في جملة من الأخبار في أمثال ذلك.
(الثالث) قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن كل
رطوبة تخرج من القبل والدبر فهي طاهرة ما عدا البول والغائط والدم والمني تمسكا
بالأصل السالم عن المعارض، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن إبراهيم بن
أبي محمود (4) قال: " سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن المرأة وليها قميصها
أو إزارها يصيبه من بلل الفرج وهي جنب أتصلي بها؟ قال إذا اغتسلت صلت فيهما "
قوله " وليها " أي ولي جسدها مع رطوبته ببلل الفرج. ولا أعلم خلافا في الحكم المذكور
وإنما يحكى من بعض العامة القول بنجاستها، وذكر المحقق في المعتبر أن القائل المذكور
يتشبث بكون الرطوبة جارية من مجرى النجاسة. ورده بأن النجاسة لا يظهر حكمها إلا
بعد خروجها من المجرى. وهذا واضح لا ريب فيه.

(1) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب النجاسات
(3) ج 2 ص 110
(4) رواه في الوسائل في الباب 55 من أبواب النجاسات.
38

(الفصل الرابع) في الدم أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدا ابن
الجنيد وظاهر الصدوق في الفقيه على نجاسة الدم قليله وكثيره إذا كان من ذي نفس سائلة،
قال العلامة في التذكرة: الدم من ذي النفس السائلة نجس وإن كان مأكولا بلا خلاف.
وقال في المنتهى: قال علماؤنا الدم المسفوح من كل حيوان ذي نفس سائلة أي يكون خارجا
بدفع من عرق نجس، وهو مذهب علماء الاسلام. وقال المحقق في المعتبر: الدم كله نجس
عدا دم ما لا نفس له سائلة قليله وكثيره، وهو مذهب علمائنا عدا ابن الجنيد فإنه قال إذا
كان سعته دون سعة الدرهم الذي سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب. انتهى.
ويدل على نجاسة الدم مضافا إلى اتفاق معظم الأصحاب روايات عديدة:
منها ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) قال: " قلت أصاب ثوبي دم
رعاف أو غيره أو شئ من مني فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة
ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة وتغسله. قلت
فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبت فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟
قال تغسله وتعيد. قلت فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم
صليت فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت لم ذلك؟ قال لأنك كنت
على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت
فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال تغسل من ثوبك الناحية التي
ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارته. قلت فهل علي أن شككت في أنه
أصابه شئ أن أنظر فيه؟ قال لا ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في
نفسك. قلت إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت
في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على
الصلاة، لأنك لا تدري لعله شئ أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك "

(1) رواه في الوسائل مقطعا في الباب 7 و 37 و 41 و 42 و 44 من أبواب النجاسات.
39

وإنما أوردنا هذه الرواية بطولها وإن كان الغرض يتم بنقل صدرها لما فيها من الأحكام
العديدة وسيأتي إن شاء الله تعالى التنبيه على كل حكم في محله، وهذه الرواية وإن كانت
مضمرة في التهذيب بل ربما توهم أنها مقطوعة إلا أنها متصلة بالباقر (عليه السلام) في
علل الشرائع (1) مع أن سوق الرواية يدل بأظهر دلالة على أن الخطاب فيها مع الإمام
(عليه السلام).
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم (2) قال: " قلت
له الدم يكون في الثوب علي وأنا في الصلاة؟ قال إن رأيت وعليك ثوب غيره فاطرحه
وصل وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على
مقدار الدرهم. وما كان أقل من ذلك فليس بشئ رأيته قبل أو لم تره، وإذا كنت
قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد
ما صليت فيه ".
وما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟ قال يعيد صلاته كي يهتم
بالشئ إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه. قلت فكيف يصنع من لم يعلم أيعيد حين يرفعه؟
قال لا ولكن يستأنف ".
وعن عبد الله بن سنان في الحسن (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال إن كان علم أنه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن
يصلي ثم صلى فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلى... الحديث ".

(1) ص 127
(2) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 43 من أبواب النجاسات.
40

وعن علي بن جعفر في الصحيح (1) " أنه سأل أخاه موسى (عليه السلام) عن
رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله دم يصلي فيه أو يصلي عريانا؟
قال إن وجد ماء غسله وإن لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل عريانا ".
وما رواه الصدوق في الصحيح عن ابن أذينة عن الصادق (عليه السلام) (2)
" أنه سأله عن الرجل يرعف وهو في الصلاة وقد صلى بعض صلاته؟ قال إن كان الماء
عن يمينه أو عن شماله أو عن خلفه فليغسله... الحديث " إلى غير ذلك من الأخبار
الكثيرة الآتية إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني في أحكام النجاسات.
وأما ما ورد في جملة من شذوذ الأخبار مما ظاهره الطهارة فالظاهر حمله على
التقية وإن لم أقف على قائل بذلك من العامة، لأن الحمل على ذلك لا يتوقف عندي
على وجود القائل وإن كان المشهور بين أصحابنا ذلك كما عرفت في المقدمة الأولى
من مقدمات الكتاب، وتوضيح ذلك أنه لما اتفقت الأخبار الصحاح الصراح كما
عرفت من بعض ما قدمناه وستعرف مما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى وكذا كلمة الأصحاب
(رضوان الله عليهم) قديما وحديثا على النجاسة إذ خلاف من خالف منهم إنما هو في
مادة مخصوصة ليست داخلة في هذه الأخبار، فالواجب البتة طرح ما خالف ذلك
والاعراض عنه، بقي بيان الوجه في صدوره عنهم (عليهم السلام) فإنه لا يكون ذلك عبثا
بغير فائدة وليس وراء ذلك إلا ما ذكرناه من ايقاعهم الاختلاف بين الشيعة في الأحكام
لدفع الشنعة عنهم كما تقدم تحقيقه في المقدمة المشار إليها.
ومن الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار عن جابر عن
الباقر (عليه السلام) (3) قال: " سمعته يقول لو رعفت زورقا ما زدت على أن أمسح

(1) رواه في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من قواطع الصلاة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 7 من نواقض الوضوء.
41

مني الدم وأصلي ".
وعن الحسن بن علي الوشاء في الحسن قال: " سمعت أبا الحسن (1) (عليه
السلام) يقول كان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول في الرجل يدخل يده في أنفه
فيصيب خمس أصابعه الدم، قال ينقيه ولا يعيد الوضوء " ويمكن هنا حمل الانقاء على
الانقاء بالغسل لا مطلق الانقاء فلا منافاة وأن الغرض بيان عدم نقض الوضوء
بخروج الدم.
وعن عبد الأعلى عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الحجامة
أفيها وضوء؟ قال لا ولا يغسل مكانها لأن الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه ولم يكن صبيا
صغيرا " والحمل على أن الحجام ينظفه يعني بالغسل بعيد جدا لأن النهي عن الغسل
متناول للمحتجم نفسه ولمن يقوم مقامه، فالحديث ظاهر في طهارة دم الحجامة بمجرد
إزالة عينه المشار إليها بالتنظيف.
وعن أبي حمزة (3) قال: " قال أبو جعفر (عليه السلام) إن أدخلت يدك في
أنفك وأنت تصلي فوجدت دما سائلا ليس برعاف ففته بيدك " ولا يخفى ما في الخبر
المذكور من الحزازة زيادة على ما دل عليه من طهارة الدم، ولعله وقع فيه تحريف من قلم
الشيخ أو من النساخ لأن ألفت إنما يستعمل في الدم اليابس لا السائل، ولعل الذي
كان في الخبر " غير سائل "، وأيضا فإن كون الدم السائل ليس برعاف لا معنى له، ومع
احتمال كونه من قرح أو جرح لا يفرق بينه وبين دم الرعاف في تعدي النجاسة إلى اليد
وإن قلنا بالعفو عن دم القروح والجروح ما لم ترقأ.

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من نواقض الوضوء.
(2) رواه في الوسائل في الباب 56 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من قواطع الصلاة.
42

وما رواه في الكافي في باب " الثوب يصيبه الدم " عن الحلبي (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟
فقال لا وإن كثر، ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله ".
وما رواه في الزيادات عن عمار عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته
عن الدمل يكون في الرجل فينفجر وهو في الصلاة؟ قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو
بالأرض ولا يقطع الصلاة " واحتمال تخصيص ما يخرج من الدمل بالقيح الخالي من الدم
خلاف ما يشهد به الوجدان، والعفو عن دم القرح لا يتعدى نجاسة اليد به حتى أنه يجوز
مسه ولا يجب غسله إذ العفو مقصور عليه وعلى ما يتعدى إليه بنفسه كما سيأتي بيانه في
المسألة إن شاء الله تعالى.
وما رواه الشيخ عن داود بن سرحان عن الصادق (عليه السلام) (3):
" في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دما؟ قال يتم " وحمله الشيخ على ما إذا كان أقل من
درهم، ولا بأس به.
ولم نقف على خلاف لأحد من أصحابنا في المسألة إلا على خلاف ابن الجنيد
والصدوق في الفقيه، أما ابن الجنيد فقد تقدم نقل خلافه كما صرح به المحقق في المعتبر
وحكاه من عبارته إلا أن عبارته المنقولة من كتابه المختصر كما نقله في المختلف وغيره
عامة في نجاسة الدم وغيره، حيث قال: " كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها
مجتمعة أو متفشية دون سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب
بذلك إلا أن تكون النجاسة دم حيض أو منيا فإن قليلهما وكثيرهما سواء " انتهى. وهو
مردود بالأخبار الدالة على نجاسة البول قليله وكثيره والغائط والمني ونحوهما ووجوب

(1) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.
43

غسلها وإنما استثناء الدرهم أو الأقل منه في الدم خاصة، وأما الصدوق فإنه قال في الفقيه
" وإن كان الدم دون حمصة فلا بأس بأن لا يغسل إلا أن يكون دم الحيض فإنه يجب
غسل الثوب منه ومن البول والمني قليلا كان أو كثيرا وتعاد منه الصلاة علم به أو لم
يعلم " انتهى. وهذه العبارة مأخوذة من الفقه الرضوي بتغيير ما وكذا ما قبلها، حيث
قال (عليه السلام) (1): " وإن كان الدم حمصة فلا بأس بأن لا تغسله إلا أن يكون
دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمني قل أو كثر وأعد منه صلاتك علمت به
أو لم تعلم " انتهى. والظاهر أن لفظ " دون " سقط من النسخة حيث إن الكتاب
لا يخلو من الغلط إلا أن الموجود في البحار حيث إنه ينقل فيه عبائر الكتاب المذكور
كما هنا، وحينئذ فيكون الصدوق بعد أخذه العبارة من أولها إلى آخرها من الكتاب
عدل في هذا الموضع إلى العمل برواية مثنى بن عبد السلام الواردة في المسألة وهي ما رواه
عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " قلت له إني حككت جلدي فخرج منه دم؟
فقال إن اجتمع قدر الحمصة فاغسله وإلا فلا " وسيأتي تمام الكلام إن شاء الله تعالى في
ذلك المقصد الثاني.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الدم إما أن يكون دم حيوان ذي نفس سائلة أو غير ذي
نفس سائلة والأول إما مسفوح أو غير مسفوح وغير المسفوح أما ما يتخلف في اللحم بعد الذبح
الشرعي أو غيره والمتخلف في اللحم بعد الذبح أما من حيوان مأكول اللحم أو غيره، وغير
ذي النفس السائلة أما أن يكون من السمك أو غيره، فهذه ستة أقسام يحتاج إلى التحقيق فيها
والكلام على وجه يرفع غشاوة الإبهام:
(الأول) المسفوح وهو لغة المصبوب أي الذي انصب من العرق بكثرة يقال
سفح الرجل الدمع والدم من باب منع: صبه، وسفحت دمه إذا سفكته، والظاهر أنه
لا خلاف بين علمائنا في نجاسته سوى ما ينقل من الخلاف في دم رسول الله (صلى الله

(1) ص 6
(2) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.
44

عليه وآله) حيث استشكل فيه العلامة في المنتهى، فقال: في نجاسة دم رسول الله (صلى الله
عليه وآله) اشكال ينشأ من أنه دم مسفوح ومن أن أبا طيبة الحجام شربه ولم ينكر
عليه (1) وكذا في بوله (صلى الله عليه وآله) حيث إنه بول ومن أن أم أيمن شربته (2).
وهذا الخلاف مما لا ثمرة له الآن، ويدل على نجاسة الدم المسفوح اطلاق جملة من الأخبار
المتقدمة زيادة على الاجماع المدعى في المقام كما في المعتبر والمنتهى وغيرهما.
(الثاني) ما يتخلف في اللحم بعد الذبح من حيوان مأكول اللحم، وهو
طاهر حلال من غير خلاف يعرف، ولم أقف على نص يدل على طهارته بخصوصه أو حله
إلا أن اتفاق الأصحاب على كلا الحكمين من غير خلاف ينقل - مضافا إلى حصر
المحرمات في الآيات المستلزم للطهارة لأنه متى كان حلالا كان طاهرا، والروايات الدالة
على عد محرمات الذبيحة ولم تذكره منها وإن كانت الدلالة لا تخلو من ضعف، مع اعتضاد
ذلك بأصالة الطهارة - الظاهر أنه كاف في المقام. واستثني من المتخلف ما يجذبه الحيوان
بنفسه إلى باطن الذبيحة فإنه نجس حرام لا يدخل فيما نحن فيه. وهو كذلك لعدم
شمول الأدلة له.
(الثالث) المتخلف في الحيوان الغير المأكول اللحم مما يقع عليه الذكاة،
والظاهر من الأصحاب نجاسته لحصرهم الدم الطاهر في أفراد ولم يعدوا هذا منها، قال
في المعالم: وتردد في حكمه بعض من عاصرناه من مشايخنا، ومنشأ التردد من اطلاق
الأصحاب الحكم بنجاسة الدم مما له نفس مدعين الاتفاق عليه وهذا بعض أفراده،

(1) كما في شرح الزرقاني على المواهب اللدنية لابن حجر ج 4 ص 233.
(2) في الإصابة لابن حجر ج 4 ص 432 ترجمة أم أيمن " قالت كانت للنبي صلى الله عليه وآله
فخارة يبول فيها بالليل فكنت إذا أصبحت صببتها فنمت ليلة وأنا عطشانة فغلطت فشربتها
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله قال إنك لا تشتكي بطنك بعد يومك هذا ".
45

ومن ظاهر قوله تعالى " أو دما مسفوحا " (1) حيث دل على حل غير المسفوح وهو
يدل على طهارته، ثم قال: ويضعف الثاني بأن ظاهرهم الاطباق على تحريم ما سوى الدم
المتخلف في الذبيحة ودم السمك على ما فيه، وقد قلنا أن المتبادر من الذبيحة ما يكون
من مأكول اللحم فدم ما لا يؤكل لحمه حرام عندهم مطلقا، وعموم ما دل على تحريم
الحيوان الذي هو دمه يتناوله أيضا إذ أكثر الأدلة غير مقيدة باللحم وإنما علق التحريم
فيها بالحيوان فيتناول جميع أجزائه، ولا يرد مثله في المحلل لقيام الدليل هناك على تخصيص
التحليل باللحم وأجزاء أخر معينة، وبالجملة فحل الدم مع حرمة اللحم أمر مستبعد جدا
لا سيما بعد ما قررناه من ظهور الاتفاق بينهم فيه وتناول الأدلة بظاهرها له، وإذا ثبت
التحريم هنا لم يبق للآية دلالة على طهارته كما لا يخفى. انتهى. وهو جيد. وبالجملة
فالآية مخصصة وظواهر الأدلة الدالة على تحريم ما لا يؤكل لحمه شاملة للدم وغيره،
مضافا جميع ذلك إلى اطلاق جملة من أخبار نجاسة الدم المتقدمة ونحوها، فلم يبق للتوقف
في النجاسة وجه.
(الرابع) ما عدا المذكورات من الدماء التي لا تخرج بقوة من عرق ولا لها
كثرة وانصباب وليس مما تخلف بعد الذبح كدم الشوكة والعثرة ونحو ذلك من
ذي النفس مطلقا، وظاهر الأصحاب أيضا الاتفاق على نجاسته. ويدل عليه أخبار نجاسة
دم الرعاف والأمر بغسله كما تقدم بعض منها واطلاق الأخبار المتقدمة ونحوها، وربما
أوهم كلام العلامة في جملة من كتبه الطهارة في هذا القسم وسابقه حيث إنه قيد في
المنتهى وجملة من كتبه الدم المحكوم بنجاسته بالمسفوح وظاهره حصر النجس في
المسفوح. وكذا كلامه في المختلف حيث قال فيه محتجا على طهارة المتخلف في الذبيحة:
هو طاهر اجماعا لانتفاء المقتضي للتنجيس وهو السفح. ولصاحب المعالم (قدس سره)
في هذا المقام كلام طويل على عبارة العلامة (قدس سره) في المنتهى أورده في الكتاب

(1) سورة الأنعام، الآية 146.
46

المذكور ومناقشات فيه للفاضل الخوانساري في شرح الدروس ليس للتعرض لها كثير فائدة
مع الاتفاق على الحكم المذكور. والظاهر كما استظهر جملة من الأصحاب أن
الحامل للعلامة على التقييد بالمسفوح في عباراته إنما هو الاحتراز عن الدم المتخلف في
الذبيحة حيث إنه طاهر اجماعا وكذا غيره مما حكموا بطهارته، فإنه لا ريب ولا شك في
نجاسة هذا القسم المذكور الذي نحن في صدد الكلام عليه، لا أن قصده اخراج شئ
من أصناف دم ذي النفس على الاطلاق.
(الخامس) دم السمك، ولا ريب في طهارته تمسكا بالأصل السالم من المعارض
ويعضده فقد شرط التنجيس عند الأصحاب وهو وجود النفس السائلة، وقد نقل الاجماع
على الطهارة جمع من محققي الأصحاب: منهم الشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية
وابن إدريس في السرائر والمحقق في المعتبر والعلامة في المختلف والشهيد في الذكرى،
وقد ذكر في المختلف أن ظاهر تقسيم الشيخ للدم في المبسوط والجمل يعطي حكمه بنجاسة
دم السمك والبق والبراغيث مع أنه لا يجب إزالة قليله ولا كثيره، وتخطى المتأخرون
عن العلامة فنسبوا إلى الشيخ في الكتابين القول بنجاسة الدماء المذكورة جزما مع أن
العلامة إنما نسب ذلك إلى ظاهر كلامه بمعنى أن اللازم منه ذلك لا أنه قائل به حقيقة.
أقول: والسر في ذلك أنه قال في الجمل: النجاسات على ضربين دم وغيره، والدم على ثلاثة
أضرب: ضرب يجب إزالة قليله وكثيره وهي كذا وكذا، فعد أنواعه، وضرب لا يجب
إزالة قليله ولا كثيره وهي خمس أجناس: دم البق والبراغيث والسمك والجراح اللازمة
والقروح الدامية. وهكذا عبارة المبسوط، وأجاب في المعالم بأن ذلك أنما نشأ من سوء
تعبير الشيخ في هذا المقام وإلا فإنه غير مراد له قطعا، وينبه على ذلك أنه في الخلاف ذكر
نظير هذا الكلام المنقول عن الجمل والمبسوط بعدما نقل الاجماع على الطهارة بسطر
واحد، وذلك فإنه بعد أن حكى خلاف الشافعي في هذه الدماء قال دليلنا اجماع
الفرقة، وأيضا فإن النجاسة حكم شرعي ولا دلالة في الشرع على نجاسة هذه الدماء، ثم
47

قال بعد سطر واحد: جميع النجاسات يجب إزالتها عن الثياب والبدن قليلا كان أو كثيرا
إلا الدم فإن له ثلاثة أحوال دم البق والبراغيث ودم السمك وما لا نفس له سائلة ودم
الجروح اللازمة لا بأس بقليله وكثيره، وهذا الكلام الأخير يرجع في المعنى إلى
ما نقلنا عن الجمل والمبسوط في الدلالة على نجاسة الدماء الثلاثة المذكورة مع أنه جمع بينه
وبين الاجماع على الطهارة في مقام واحد وعبارة واحدة. ولا ريب أنه بناء على التوسع
في التعبير لظهور طهارة هذه الدماء اتفاقا أو أنه أراد بالنجاسة التي جعلها مقسما معنى
خلاف الظاهر اعتمادا على القرينة الحالية وهي معلومية الطهارة فعلى هذا يحمل كلامه أيضا
في ذينك الكتابين، وقد جرى مثل ذلك لسلار وابن حمزة أيضا حيث ذكرا مثل
هذا التقسيم الذي نقلناه عن الشيخ في الجمل ولم يظهر منهما ما يوجب الخروج عن ظاهرها
كما اتفق للشيخ بنقل الاجماع في الخلاف إلا أن الظاهر الحمل على ما ذكرناه في عبارة
الشيخ من التجوز، هذا مع أن السهو والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان والمعصوم
من عصمه الله تعالى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن العلامة في المنتهى قد استدل على طهارة دم السمك
بوجوه: منها قوله تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه " (1) وقوله سبحانه:
" قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " (2)
ووجه الدلالة في الأولى بأن التحليل يقتضي الإباحة من جميع الوجوه وذلك يستلزم
الطهارة، وفي الثانية بأن دم السمك ليس بمسفوح فلا يكون نجسا. واعترض عليه بعض
أفاضل المتأخرين بأن الاستدلال بالآية محل تأمل. أقول: الظاهر أن وجه التأمل هو
أن المتبادر من الحل هو حل ما يعهد أكله منه كاللحم ونحوه لا الدم، أما الآية الثانية
فهي ظاهرة في الحل الموجب للطهارة، ومنه يظهر قوة القول بحل دم السمك، وظاهر
كلام جملة من الأصحاب بل الظاهر أنه المشهور هو التحريم واختصاص التحليل في أفراد

(1) سورة المائدة، الآية 97.
(2) سورة الأنعام، الآية 146.
48

الدماء بالمتخلف في الذبيحة، والظاهر أنه لا دليل لهم أزيد من دعوى الاستخباث مع أن الظاهر هنا من جملة من الأصحاب الذين استدلوا بهاتين الآيتين على الطهارة في هذا
المقام هو الحل، ومنهم ابن زهرة في الغنية وابن إدريس.
وفي المعتبر استدل على طهارة دم السمك بأن دم السمك لو كان نجسا لتوقفت
إباحة أكله على سفح دمه بالذبح كحيوان البر لكن الاجماع على خلاف ذلك وأنه يجوز
أكله بدمه. وهو - كما ترى - صريح في قوله بالحل.
قال في المعالم بعد كلام في المقام: وبالجملة فعباراتهم ظاهرة في تخصيص التحليل
في دم الذبيحة وتعميم التحريم في غيره من الدماء، ووقع التصريح بذلك أيضا في كلام
بعضهم والتنصيص على تحريم دم السمك بالخصوص، وليس لهم عليه حجة غير الاستخباث
وهو موضع نظر، وإذا لم يثبت تحريمه تكون الآية دليلا قويا على طهارته. انتهى.
أقول لا يخفى أن ظواهر الأخبار دالة على حل السمك باخراجه من الماء حيا
الذي هو عبارة عن ذكاته والشارع لم يعتبر فيه الذبح والتذكية كما في الحيوانات البرية بل ذكاته
اخراجه من الماء حيا، ومقتضى ذلك جواز أكله حينئذ حيا أو ميتا بغير ذبح ثانيا بغير طبخ
أو مطبوخا، إلا أنه يمكن أن يقال إنه لا ريب في ذلك ما لم يخرج منه دم في تلك الحال
لأنا غير مخاطبين بما تحت جلده من الدم المخالط للحمه بل عموم تحليله في تلك الحال شامل
للجميع أما لو خرج منه دم في تلك الحال فلا مانع من القول بحرمته للأدلة الدالة على
تحريم الدماء من غيره حيث لم يستثن منها إلا المتخلف في الذبيحة، وبالجملة فالحكم يكون
تابعا للاسم فمع وجود الدم يتعلق به حكم الدماء ومع عدم وجوده فإنا غير مخاطبين به،
والاحتياط يقتضي الوقوف على هذا الوجه إلى أن يقوم دليل واضح على أحد الحكمين.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ عن السكوني
عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (1) " أن عليا (عليه السلام) كان لا يرى بأسا

(1) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب النجاسات.
49

بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل يعني دم السمك " أقول: قوله " ما لم يذك "
أي ما لم يدخله التذكية وهو مما لا نفس له ففيه دلالة على طهارة ما لا نفس سائلة لا، إلا أن قوله أخيرا " يعني دم السمك " إن كان من كلامه (عليه السلام) فيحتمل أن يكون
تقييدا لعموم " ما لم يذك " ويحتمل أن يكون تمثيلا يعني دم السمك وأمثاله، والأول أنسب
بسياق الخبر والثاني أنسب بالقواعد المقررة، وكيف كان فهو ظاهر في طهارة دم السمك
(السادس) دم غير السمك مما لا نفس له، وقد نقل الاجماع على طهارته
جملة من الأصحاب: منهم الشيخ في الخلاف فإنه بعد أن ذكر طهارة الدم من كل
حيوان لا نفس له احتج لذلك باجماع الفرقة وعدم الدلالة في الشرع على النجاسة وهي
حكم شرعي لا يثبت بدون الدليل. وممن ادعى الاجماع على ذلك الشهيد في الذكرى
والعلامة في المنتهى والتذكرة، ويظهر من المحقق في المعتبر حيث ذكر أن طهارة دم
السمك مذهب علمائنا أجمع وقال بعده: وكذا كل دم ليس لحيوانه نفس سائلة كالبق
والبراغيث. أقول ويعضد ذلك الأصل، وأما ما يوهم خلافه من ظاهر التقسيم المتقدم نقله
عن الجمل والمبسوط وسلار فقد عرفت الوجه فيه، ويزيد ذلك تأكيدا صحيحة عبد الله
ابن أبي يعفور (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في دم البراغيث؟
قال ليس به بأس. قلت إنه يكثر ويتفاحش؟ قال وإن كثر " ورواية الحلبي (2)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك
من الصلاة؟ قال لا وإن كثر " ورواية محمد بن الريان (3) قال: " كتبت إلى الرجل
(عليه السلام) هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم
البق على البراغيث فيصلي فيه وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع (عليه السلام) يجوز
الصلاة والطهر منه أفضل " وقد تقدم في حديث غياث عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (4)
قال: " لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب النجاسات.
50

فروع: (الأول) قال في الخلاف العلقة نجسة، واحتج على ذلك باجماع
الفرقة وبأن ما دل على نجاسة الدم على نجاسة العلقة. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه:
وفي هذا نظر لا يخفى وجهه بعد الإحاطة بما حققناه في دليل نجاسة الدم. انتهى. وقال
في المعتبر: العلقة التي تستحيل إليها نطفة الآدمي نجسة لأنها دم حيوان له نفس سائلة
وكذا العلقة التي توجد في بيض الدجاج وشبهه وقال في الذكرى بعد نقل ذلك عن
المحقق: وفي الدليل منع وتكونها في الحيوان لا يدل على أنها منه. مع أنه قال في الدروس
في تعداد النجاسات: والدم من ذي نفس سائلة وإن كان بحريا كالتمساح أو كان علقة
في البيضة وغيرها. قال في المعالم بعد نقل كلام الذكرى: وهو متجه لا سيما بالنظر إلى
ما يوجد في البيضة مع أن كونه علقة ليس بمعلوم أيضا فالاجماع الذي ادعاه الشيخ لو ثبت
على وجه يكون حجة لكان في تناوله نظر ومقتضى الأصل طهارته. ويعضده ظاهر
قوله تعالى: " أو دما مسفوحا " حيث إنه دال على حل غير المسفوح مطلقا خرج من
ذلك ما وقع الاتفاق على تحريمه فيبقى الباقي، واثبات الحل مقتض لثبوت الطهارة كما
مر غير مرة. وكتب في الحاشية قال بعض الأصحاب ما يوجد في البيضة أحيانا من
الدم لا يعلم كونه من دم ذلك الحيوان فالعلم بكونه علقة له أشد بعدا. والأمر كما قال. انتهى
أقول: لقائل أن يقول إن ما دل على نجاسة الدم كالأخبار التي قدمناها ونحوها
لا تخصيص فيها بما كان من حيوان بل هي مطلقة في نجاسة الدم أعم من أن يكون من
حيوان أو من استحالة شئ إليه كالمني مثلا وما في البيضة فإنه يكون علقة فيكون
داخلا تحت عموم ما دل على نجاسة الدم بقول مطلق. إلا أن فيه أن الظاهر أن العموم
المدعى من الأخبار لا يشمل مثل هذا الفرد لما قررناه في غير مقام مما تقدم من أن
الاطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد الشايعة المتكثرة وهي هنا دم الانسان وكل ذي نفس
سائلة أو غير سائلة دون الفروض النادرة مثل دم العلقة. وأما اجماع الأصحاب على
نجاسة الدم فهو أيضا مخصوص بدم ذي النفس السائلة فلا يدخل هذا الدم تحت الاجماع
51

ولا الروايات، نعم الشيخ ادعى في الخلاف الاجماع على نجاسة العلقة والعلقة لغة هي القطعة
من الدم، والمراد منها هنا ما ذكره في المعتبر وهو المشار إليه في الآية وهي القطعة
من الدم التي يستحيل إليها المني ثم تصير هي مضغة. فتكون نجاسة العلقة إنما تستند إلى هذا
الاجماع المدعى من الشيخ في الخلاف وفي شمول العلقة للدم الموجود في البيضة اشكال
كما ذكره في المعالم، وحينئذ فلا يدخل تحت الاجماع المدعى من الشيخ ولم يبق إلا
صدق الدم عليه، وقد عرفت أنه لا دليل على نجاسة الدم بحيث يشمل هذا الفرد سواء
تمسك بالاجماع أو الروايات. وبالجملة فقد ظهر مما ذكرنا أن الأقوى هو الطهارة ولا سيما
في ما في البيضة. ومن ذلك يظهر أن الأقرب حله لعدم دليل الحرمة كما يظهر من كلام
صاحب المعالم أيضا في تمسك بالآية على تخصيص الدم المحرم بالمسفوح الدال على حل
غير المسفوح خرج من ذلك ما وقع الاتفاق على تحريمه فيبقى الباقي، والاحتياط
في الموضعين لا يخفى.
(الثاني) لو اشتبه الدم المرئي في الثوب أو البدن فلم يعلم كونه من الدماء
الطاهرة أو النجسة فمقتضى الدليل طهارته لقوله (عليه السلام) في موثقة عمار (1)
" كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " وقول علي (عليه السلام) (2) فيما رواه عنه في
الفقيه " لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم " ولا خلاف في ذلك بين الأصحاب
(رضوان الله عليهم) وهكذا الكلام في كل شئ له أفراد بعضها طاهر وبعضها نجس
فإنه بمقتضى الدليل المذكور يحكم بالطهارة حتى يعلم أن ذلك الفرد من الأفراد النجسة
حتى الجلود كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في محله وإن كان المشهور بينهم خلافه في
الأخير. وكذا يجري الحكم المذكور فيما لو اشتبه دم معفو عنه كدم الحجامة الأقل من

(1) المروية في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات واللفظ " كل شئ
نظيف حتى تعلم أنه قذر ".
(2) المروي في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات.
52

درهم بدم الحيض الغير المعفو عن قليله وكثيره فإنه يحكم بالعفو حتى يعلم خلاف ذلك.
(الثالث) قال المحقق في المعتبر بعد أن نقل عن الشيخ الحكم بطهارة الصديد:
وعندي في الصديد تردد أشبهه النجاسة لأنه ماء الجرح يخالطه يسير دم، ولو خلا من ذلك لم يكن نجسا، وخلافنا مع الشيخ فيه يؤول إلى العبارة لأنه يوافق على هذا التفصيل
أما القيح أن مازجه دم نجس بالممازجة وإن خلا من الدم كان طاهرا (لا يقال): هو
مستحيل عن الدم (لأنا نقول): لا نسلم أن كل مستحيل من الدم لا يكون طاهرا
كاللحم واللبن وحجتنا في الطهارة وجوابنا كما تقدم. أما ما عدا ذلك كالعرق والبصاق
والدموع فقد اتفق الجميع على الطهارة. انتهى.
أقول: ما ذكره في الجواب عن المستحيل من الدم جيد إلا أن قوله هنا بطهارة
المستحيل عن الدم ينافي ما قدمه في مسألة أبوال الدواب الثلاث وأرواثها من كلامه في
ذرق الدجاج مما يدل على أن المستحيل عن عين النجاسة يكون نجسا على الاطلاق،
وسيأتي تحقيق المسألة في محلها إن شاء الله تعالى.
(الرابع) قال في المدارك: المسك طاهر اجماعا قاله في التذكرة والمنتهى
للأصل ولما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) " أنه كان يتطيب به وكان أحب
الطيب إليه " (1) وأما فأرته فسيأتي الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي.
(الفصل الخامس) في الميتة، قد أجمع الأصحاب على نجاسة الميتة من
ذي النفس السائلة نقله جمع: منهم المحقق في المعتبر حيث قال الميتات مما له نفس سائلة
نجس وهو اجماع الناس. وقال في المنتهى: الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة نجسة
سواء كان آدميا أو غير آدمي وهو مذهب علمائنا أجمع. ونحو ذلك في كلام الشهيد

(1) الوسائل في الباب 95 من آداب الحمام عن أبي البختري عن الصادق عن أبيه
(ع) قال " إن رسول الله (ص) كان يتطيب بالمسك حتى يرى وبيصه في مفارقه " وفيه أيضا
" كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتطيب بذكور الطيب وهو المسك والعنبر ".
53

وابن زهرة وغيرهم، قال في المعالم: وقد تكرر في كلام الأصحاب ادعاء الاجماع على هذا
الحكم وهو الحجة فيه إذ النصوص لا تنهض باثباته وجملة ما وقفنا عليه من الروايات في
هذا الباب حسنة الحلبي، ثم ساق الرواية الآتية وأردفها برواية إبراهيم بن ميمون الآتية
أيضا ثم قال وقصور هذين الحديثين عن إفادة هذا الحكم بكماله ظاهر مع أن الصحة منتفية
عن سنديهما، وورد في عدة روايات معتبرة الاسناد المنع من أكل السمن والزيت إذا
ماتت فيه الفأرة وظاهره الحكم بنجاسته، وهذا الحكم خاص أيضا كما لا يخفى فلا
يمكن جعله دليلا على العموم، وحينئذ فالعمدة في اثبات التعميم هو الاجماع المدعى في
كلام الجماعة. انتهى ملخصا، وفيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقام.
وكيف كان فالميتة إما أن تكون من ذي النفس أو غيره والأول إما آدمي أو غيره
فههنا أقسام ثلاثة، وبيان الكلام فيها يقتضي بسطه في مواضع ثلاثة:
(الأول) ميتة غير الآدمي من ذي النفس السائلة، وقد عرفت فيما تقدم
دعوى الاجماع على النجاسة فيما يشمل هذه المسألة.
ولصاحب المدارك في هذه المسألة مناقشتان: (الأولى) في وجود الدليل الدال
على النجاسة في هذه المسألة كما سبق ذكره في كلام المحقق الشيخ حسن وإن كان الكلام
هنا فيما هو أخص مما ذكره المحقق المشار إليه. و (الثانية) في نجاسة جلد الميتة وهي
في الحقيقة راجعة إلى الأولى، وها أنا أسوق كلامه بطوله وأبين ما يكشف عن فساد
محصوله وبه يظهر تحقيق الحال وينجلي عنه غياهب الاشكال، فأقول:
قال السيد المذكور: " واحتج عليه في المنتهى بأن تحريم ما ليس بمحرم بالأصل ولا
فيه ضرر كالسم يدل على نجاسته. وفيه منع ظاهر. نعم يمكن الاستدلال عليه بالروايات
المتضمنة للنهي عن أكل الزيت ونحوه إذا ماتت فيه الفأرة لكنه غير صريح في النجاسة
وبما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز (1) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) لزرارة

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة.
54

ومحمد بن مسلم " اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل
شئ ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه "
وجه الدلالة أن الظاهر أن الأمر بغسل ما يؤخذ من الدابة بعد الموت إنما هو لنجاسة
الأجزاء المصاحبة له من الجلد. ويتوجه عليه أن الأمر بالغسل لا يتعين كونه للنجاسة
بل يحتمل أن يكون لإزالة الأجزاء المتعلقة به من الجلد المانعة من الصلاة فيه كما يشعر به
قوله " وصل فيه " وبالجملة فالروايات متظافرة بتحريم الصلاة في جلد الميتة بل الانتفاع به
مطلقا وأما نجاسته فلم أقف فيها على نص يعتد به، مع أن ابن بابويه روى في أوائل الفقيه
مرسلا عن الصادق (عليه السلام) " أنه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والسمن
والماء ما ترى فيه؟ فقال لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتوضأ
منه واشرب ولكن لا تصل فيها " وذكر قبل ذلك من غير فصل يعتد به أنه لم يقصد
فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه، قال بل إنما قصدت إلى ايراد ما أفتي به وأحكم
بصحته وأعتقد أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته، والمسألة قوية
الاشكال " انتهى كلامه.
أقول: والكلام هنا يقع في مقامين: (الأول) فيما ذكره من المناقشة الأولى
في عدم الدليل على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الانسان، وها أنا أورد ما وقفت
عليه من الروايات المتعلقة بذلك وإن طال به زمام الكلام فإنه أهم المهام.
وأقول: من ذلك روايات ما يقع في البئر والأمر بالنزح لها مع التغير وعدمه
وقد اشتملت تلك الروايات على ميتة الانسان والدابة والفأرة والطير والحمار والبقرة
والجمل والسنور والحمام والدجاجة ونحو ذلك، ولا ينافي ذلك القول بطهارة البئر فإن
ذلك ليس من حيث كون هذه الأشياء غير نجسة بل إنما هو من حيث عدم انفعالها
بالنجاسة ولهذا لو تغير الماء بها فلا خلاف في النجاسة.
ومنها أخبار الدهن والزيت ونحوهما وهي كثيرة، ومنها صحيحة زرارة
55

أو حسنته بإبراهيم بن هاشم على المشهور عن الباقر (عليه السلام) (1) قال: " إذا وقعت
الفأرة في السمن فماتت فيه فإن كان جامدا فالقها وما يليها وكل ما بقي وإن كان ذائبا فلا
تأكله واستصبح به، والزيت مثل ذلك " ومنها صحيحة الحلبي (2) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه؟
فقال إن كان سمنا أو عسلا أو زيتا - فإنه ربما يكون بعض هذا - فإن كان الشتاء فانزع
ما حوله وكله وإن كان الصيف فارفعه حتى تسرج به، وإن كان بردا فاطرح الذي
كان عليه ولا تترك طعامك من أجل دابة ماتت عليه " ومنها صحيحة سعيد
الأعرج (3) قال " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفأرة تقع في السمن والزيت
ثم تخرج منه حيا؟ فقال لا بأس بأكله. وعن الفأرة تموت في السمن والعسل؟ فقال
قال علي (عليه السلام) خذ ما حولها وكل بقيته. وعن الفأرة تموت في الزيت؟ فقال
لا تأكله ولكن أسرج به " ومنها - رواية معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام) (4)
قال " قلت له جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل؟ فقال أما السمن والعسل فيؤخذ الجرذ
وما حوله، وأما الزيت فيستصبح به. وقال في بيع ذلك تبيعه وتبينه لمن اشتراه
ليستصبح به " ومنها - رواية السكوني عن الصادق (عليه السلام) (5) " أن أمير المؤمنين
(عليه السلام) سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة؟ قال يهراق مرقها ويغسل
اللحم ويؤكل " ومنها رواية سماعة (6) قال " سألته عن السمن تقع فيه الميتة؟ فقال إن كان جامدا فالق ما حوله وكل الباقي. فقلت الزيت؟ فقال أسرج به " ومنها -
صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (7) " سألته عن آنية أهل الذمة؟ فقال

(1) المروية في الوسائل في الباب 43 من الأطعمة المحرمة
(2) المروية في الوسائل في الباب 43 من الأطعمة المحرمة
(3) المروية في الوسائل في الباب 43 و 45 من الأطعمة المحرمة
(4) المروية في الوسائل في الباب 43 من الأطعمة المحرمة
(5) المروية في الوسائل في الباب 44 من الأطعمة المحرمة.
(6) المروية في الوسائل في الباب 43 من الأطعمة المحرمة
(7) المروية في الوسائل في الباب 54 من الأطعمة المحرمة.
56

لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة والدم ولحم الخنزير " ومنها رواية جابر
عن الباقر (عليه السلام) (1) قال " أتاه رجل فقال له وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت
فما ترى في أكله؟ قال فقال له أبو جعفر (عليه السلام) لا تأكله فقال له الرجل الفأرة
أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها. قال فقال له أبو جعفر (عليه السلام) إنك لم
تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدينك " إن الله تعالى حرم الميتة من كل شئ ".
أقول: المراد بلفظ التحريم هنا النجاسة ليصح التعليل المذكور وإلا فالحرمة
بمجردها بمعناها المتعارف لا توجب عدم أكل الزيت الذي ماتت فيه الفأرة، ومما يؤيد
ورود هذا اللفظ بمعنى النجاسة لا بالمعنى المتبادر ما رواه في التهذيب والكافي عن الحسن
ابن علي (2) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت جعلت فداك أن أهل الجبل
تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال هي حرام. قلت جعلت فداك فنصطبح
بها؟ فقال أما تعلم أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام؟ " إذ لا ريب بمقتضى سياق الخبر
أن الحرام هنا إنما هو بمعنى النجس.
أقول: ظاهر رواية الحسن بن علي المذكورة عدم جواز الانتفاع بأليات الميتة
أو المبانة من حي مطلقا حتى ولو بالاسراج، وهو المشهور بين الأصحاب وبه صرح
جملة: منهم الشهيد الثاني في المسالك، قال بعد قول المصنف: " ويجوز بيع الأدهان
النجسة ويحل ثمنها.. الخ ": المراد بها الأدهان النجسة بالعرض كما هو المفروض إما
النجسة بالذات كأليات الميتة يقطعها من حي أو ميت فلا يجوز بيعها ولا الانتفاع بها
مطلقا اجماعا لاطلاق النهي عنه، وإنما جاز بيع الدهن النجس لبقاء منفعته
بالاستصباح. انتهى. ونقل الشهيد عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء ثم
قال: وهو ضعيف.

(1) المروية في الوسائل في الباب 5 من أبواب الماء المضاف
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 من الذبائح و 32 من الأطعمة المحرمة.
57

أقول: قد روى ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي عن الرضا (عليه
السلام) (1) قال: " سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء أيصلح
له أن ينتفع بما قطع؟ قال نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها " قال ابن إدريس
بعد نقله " لا يلتفت إلى هذا الحديث لأنه من نوادر الأخبار والاجماع منعقد على تحريم
الميتة والتصرف فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر غير الباغي ولا العادي. وهو جار على
ما قدمنا ذكره عنهم، وروى هذه الرواية أيضا في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن
عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) مثله (2).
وظاهر شيخنا المجلسي في البحار الميل إلى العمل بهذه الرواية حيث قال بعد
نقل الخلاف في المسألة: والجواز عندي أقوى لدلالة الخبر الصحيح المؤيد بالأصل على
الجواز وضعف حجة المنع إذ المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها كما حقق في موضعه
والاجماع ممنوع. انتهى.
أقول: ما ذكره بالنسبة إلى الآية من أن التحريم إنما يتبادر إلى الأكل دون
سائر الوجوه جيد إلا أن جملة من الأخبار صرحت بأن الميتة لا ينتفع بشئ منها. ومنه
ما رواه في الكافي والفقيه بطريقه إلى الكاهلي في حديث عن الصادق (عليه السلام) (3)
" سئل عن أليات الغنم قال إن في كتاب علي (عليه السلام) أن ما قطع منها ميتة
لا ينتفع به " ونحوه غيره كما سيأتي في المقام إن شاء الله تعالى، وليس حجة المانع
منحصرة فيما ذكره مع إمكان حمل الرواية التي اعتمدها على التقية، ولتحقيق المسألة
موضع آخر ولكن الحديث ذو شجون فلنعد إلى ما نحن فيه:
ومنها صحيحة زرارة (4) قال: " إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجسه

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به
(2) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به
(3) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الذبائح
(4) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق.
58

شئ تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلا أن يجئ له ريح يغلب على ريح الماء " ومنها موثقة عمار
الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (1) " في الفأرة التي يجدها في إنائه وقد توضأ من
ذلك الإناء مرارا وغسل ثيابه واغتسل وقد كانت الفأرة متسلخة؟ فقال إن كان رآها
في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء
فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة... الحديث "
ومنها صحيحة حريز عن الصادق (عليه السلام) (2) أنه قال: " كلما غلب
الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه
ولا تشرب " ورواية عبد الله بن سنان (3) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام)
عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضأ " وموثقة
سماعة عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن الرجل يمر بالماء وفيه دابة ميتة
قد انتنت؟ قال إن كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضأ ولا تشرب " ورواية أبي خالد
القماط عن الصادق (عليه السلام) (5) " في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة؟
فقال أبو عبد الله (عليه السلام) إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب
ولا تتوضأ منه... الحديث " وفي فقه الرضوي (6) " وإن مسست ميتة فاغسل يديك
وليس عليك غسل إنما يجب عليك ذلك في الانسان وحده " ومنها موثقة عمار عن
الصادق (عليه السلام) (7) قال: " سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه
ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه؟ قال كل ما ليس له دم فلا بأس به " ورواية
حفص بن غياث عن جعفر بن محمد (عليه السلام) (8) قال: " لا يفسد الماء إلا ما كان له

(1) المروية في الوسائل في الباب 4 أبواب الماء المطلق
(2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق
(3) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق
(4) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق
(5) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق
(6) ص 18
(7) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب النجاسات
(8) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب النجاسات
59

نفس سائلة " وموثقة عمار عن الصادق (عليه السلام) (1) في حديث طويل قال فيه:
" اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبع مرات " إلى غير ذلك من الأخبار
التي يقف عليها المتتبع وهذا ما حضرني منها.
وأنت خبير بأنه لا مجال للتوقف في الحكم المذكور بعد الوقوف على هذه الأخبار
مع تعليق الحكم في كثير منها على مطلق الميتة والجيفة والشئ والدابة والمراد بها
ما يدب على وجه الأرض لا ذات القوائم الأربع من غير مخصص بين الأصحاب ولا مقيد، ولا يخفى
على من أعطى النظر حقه أن أكثر الأحكام الشرعية التي صارت بين الأصحاب قواعد
كلية إنما حصلت من تتبع جزئيات الأحكام وضم بعضها إلى بعض كالقواعد النحوية
المبنية على تتبع كلام العرب وإلا فوجود الأحكام بقواعد مسورة بسور الكلية لا تكاد
يوجد إلا نادرا. وما ذكره في المدارك مما قدمنا نقله عنه بعد إشارته إلى روايات
الزيت الذي ماتت فيه الفأرة أنه غير صريح في النجاسة مردود بأنهم إنما حكموا بالنجاسة في
جل المواضع بل كلها من حيث النهي عن الصلاة فيها أو الأمر بغسلها أو النهي عن أكل
ما وقعت فيه أو النهي عن شربه ونحو ذلك مما هو أعم من المراد حتى أنه لو ورد لفظ
النجاسة لتأولوه بالحمل على المعنى اللغوي لعدم الحقيقة الشرعية فيه كذلك، وهو ممن
صرح بما ذكرناه أيضا في نجاسة البول فقال بعد كلام في المقام والاحتجاج على النجاسة
بالأمر بالغسل: " ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له بل سائر الأعيان
النجسة إنما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب والبدن من ملاقاتها " انتهى.
والحكم في الغسل والأكل واحد باعتبار النجاسة العارضة للمأكول فكما أن النهي عن
الأكل أعم من النجاسة كذلك الأمر بالغسل أعم من ذلك. وبالجملة فإن ما ذكره
المحققان المذكوران إنما نشأ من الغفلة عن تتبع الروايات في هذا المقام وقصر النظر على
ما خطر ببالهما من الأخبار المشار إليها في كلامهما ومن أعطى النظر حقه في هذه الأخبار

(1) المروية في الوسائل في الباب 53 من أبواب النجاسات.
60

التي سردناها لا يخفى على انطباقها على ما ذكرناه من عموم الحكم.
(المقام الثاني) فيما ذكره من المناقشة الثانية في حكم جلد الميتة وأنه لم يقم
على نجاسته عنده دليل معتضدا بما نقله عن الفقيه، ففيه أنه لا ريب أن الروايات هنا
مختلفة في جلد الميتة طهارة ونجاسة والقول بطهارته منقول عن ابن الجنيد لكن بشرط
الدباغ وأنها تطهر بذلك.
فمما يدل على الطهارة ما نقله عن الفقيه ومثله ما رواه الشيخ في الصحيح إلى الحسين
ابن زرارة وهو وإن كان في كتب الرجال مهملا إلا أنه يمكن استفادة مدحه من
دعاء الصادق (عليه السلام) له ولأخيه الحسن عن الصادق (عليه السلام) (1) " في جلد
شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فأشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم، وقال يدبغ فينتفع
به ولا يصلي فيه " وظاهر الرواية التي نقلها عن الفقيه وإن كان أعم إلا أن الظاهر أنه يجب تقييدها بالدباغ، ولعله إنما أطلق الحكم فيها بناء على ما هو المتعارف من الدباغ
وأنه لا يستعملونه إلا بعد ذلك، وحينئذ يكون الجميع مستندا لما ذهب إليه ابن الجنيد
في المسألة وأظهر من هذين الخبرين في ذلك ما صرح به (عليه السلام) في كتاب
الفقه (2) حيث قال: " وإن كان الصوف والوبر والشعر والريش من الميتة وغير الميتة
بعد أن يكون مما أحل الله تعالى أكله فلا بأس به، وكذلك الجلد فإن دباغته طهارته "
وقال بعد هذا الكلام بأسطر قليلة: " وذكاة الحيوان ذبحه وذكاة الجلود الميتة الدباغ "
ومما يدل على المشهور وهو المؤيد المنصور من النجاسة ما رواه في الكافي عن الفتح بن
يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) (3) قال: " كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي
يؤكل لحمها إن ذكي؟ فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب.. الحديث أقول:
" إن ذكي " يحتمل أن يكون قيدا لأكل اللحم بمعنى أن مأكول اللحم مع التذكية ما حكم جلده

(1) رواه في الوسائل في الباب 34 من الأطعمة المحرمة
(2) ص 41.
(3) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة
61

بعد الموت؟ ويحتمل أن يكون راجعا إلى الجلود بالنظر إلى أن دباغته تذكيته كما دل عليه
خبر كتاب الفقه.
وما رواه في الكافي في الصحيح عن علي بن أبي المغيرة (1) وهو ثقة قال: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام) جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشئ؟ قال لا. قلت بلغنا
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر بشاة ميتة فقال ما كان على أهل هذه الشاة
إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ قال تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة
النبي (صلى الله عليه وآله) وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا
بإهابها أي تذكى " وجه الدلالة (أولا) أنه (عليه السلام) ذكران الميتة لا ينتفع
منها بشئ وهو ظاهر الدلالة فيما نحن فيه. و (ثانيا) أنه لما سأله عن حديث الشاة
الذي هو أحد مستندات العامة فيما ذهبوا إليه من طهارة جلد الميتة حيث إنهم رووا
الحديث وحملوا كلامه (صلى الله عليه وآله) على أنه ينبغي أن يسلخوا جلدها بعد الموت
وينتفعوا به وإن لم ينتفعوا بلحمها لكونها ميتة (2) فأجاب (عليه السلام) بأن الوجه في

(1) رواه في الوسائل في الباب 61 من أبواب النجاسات و 34 من الأطعمة المحرمة
(2) في المغني ج 1 ص 66 " المشهور في المذهب نجاسة الجلد بعد الدبغ وهو إحدى
الروايتين عن مالك، وعن أحمد برواية أخرى أنه يطهر جلد ما كان طاهرا حال الحياة.
ومذهب الشافعي طهارة الحيوانات كلها إلا الكلب والخنزير فيطهر عنده كل جلد إلا
جلدهما، وقال أبو حنيفة يطهر كل جلد بالدبغ إلا جلد الخنزير، وحكى عن أبي يوسف أنه
يطهر كل جلد وهو رواية عن ملك. ومذهب من حكم بطهارة الحيوانات كلها قوله صلى الله عليه وآله
" إذا دبغ الإهاب فقد طهر " ولأنه صلى الله عليه وآله وجد شاة لميمونة فقال: هل انتفعتم بجلدها؟
فقالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها " وفي صحيح مسلم ج 1 ص 145 عن ابن عباس قال:
" تصدق لمولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله فقال هلا أخذتم إهابها
فدبغتموه فانتفعتم به؟ قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها " وفيه عن ابن عباس قال " سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول إذا دبغ الإهاب فقد طهر ".
62

الخبر ليس ما توهموه وظنه السائل بناء على شهرة الخبر بينهم بل المعنى فيه والذي أراده
(صلى الله عليه وآله) إنما هو أن تذكى قبل الموت وينتفعوا بإهابها وإن لم ينتفعوا
بلحمها لهزالها، وهو صريح في عدم الانتفاع بجلود الميتة المؤذن بنجاستها، وينبغي تقييد
قوله (عليه السلام): " الميتة لا ينتفع منها بشئ " بما كان تحله الحياة ثم عرض له
الموت جمعا بين الخبر المذكور والأخبار الدالة على طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة.
ومنها ما رواه الشيخ في الموثق عن أبي مريم (1) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام) السخلة التي مر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي ميتة فقال:
ما ضر أهلها لو انتفعوا بإهابها؟ قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام) لم تكن ميتة
يا أبا مريم ولكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها فقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها " أقول: الظاهر أن مورد هذا الخبر
غير سابقه. والتقريب في سؤال السائل هو ما ذكرناه من التقريب في الخبر الأول
ولكن الجواب وقع عنها بأن السخلة إنما رماها أهلها بعد الذبح فهي مذكاة فمن أجل ذلك
قال (صلى الله عليه وآله) إنها بعد التذكية وإن لم ينتفعوا بلحمها لهزاله إلا أن جلدها
مما ينتفع به فكيف لم يأخذوه؟
ومنها ما رواه في التهذيب في الموثق عن سماعة (2) قال: " سألته عن جلود
السباع ينتفع بها؟ قال إذا رميت وسميت فانتفع بجلده وأما الميتة فلا ".
ومنها ما رواه في الكافي وكذا في التهذيب عن قاسم الصيقل (3) قال:
" كتبت إلى الرضا (عليك السلام) أني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب
ثيابي أفأصلي فيها؟ فكتب إلي اتخذ ثوبا لصلاتك. فكتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام)
كنت كتبت إلى أبيك بكذا وكذا فصعب ذلك علي فصرت أعملها من جلود الحمر

(1) رواه في الوسائل في الباب 34 من الأطعمة المحرمة
(2) رواه في الوسائل في الباب 34 من الأطعمة المحرمة
(3) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب النجاسات
63

الوحشية الذكية؟ فكتب إلي كل أعمال البر بالصبر يرحمك الله فإن كان ما تعمل
وحشيا ذكيا فلا بأس ".
ومنها ما رواه في التهذيب عن أبي القاسم الصيقل وولده (1) قال: " كتبوا
إلى الرجل (عليه السلام) جعلنا الله فداك إنا قوم نعمل أغماد السيوف وليس لنا معيشة ولا
تجارة غيرها ونحن مضطرون إليها وإنما علاجنا من جلود الميتة من البغال والحمر الأهلية
لا يجوز في أعمالنا غيرها فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسها بأيدينا وثيابنا ونحن
نصلي في ثيابنا؟ ونحن محتاجون إلى جوابك في المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها، فكتب
(عليه السلام) اجعلوا ثوبا للصلاة.. الحديث ".
هذا ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على القول المشهور، ووجه الجمع بينها وبين
ما عارضها هو حمل المعارض على التقية لموافقته لمذهب بعض العامة كما أشرنا إليه في ذيل
حديث الشاة، ويدل على ذلك ما رواه في التهذيب عن عبد الرحمان بن الحجاج (2)
قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني أدخل سوق المسلمين أعني هذا الخلق
الذين يدعون الاسلام فاشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليست هي ذكية
فيقول بلى فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال لا ولكن لا بأس أن تبيعها
وتقول قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنها ذكية. قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال
أهل العراق الميتة وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكاته ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلا على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) " وفي التهذيب بسنده إلى أبي بصير (3) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في الفراء؟ فقال كان علي بن الحسين (عليه
السلام) رجلا صردا فلا تدفئه فراء الحجاز لأن دباغها بالقرظ فكان يبعث إلى العراق

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب ما يكتسب به
(2) رواه في الوسائل في الباب 61 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 61 من أبواب لباس المصلي.
64

فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه فكان
يسأل عن ذلك فيقول إن أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون أن دباغها
ذكاتها " وبما أوضحناه وشرحناه يظهر لك أنه لا اشكال في صحة القول المشهور كما وقع
فيه لعدم التدبر في أخبار المسألة سيدنا المحقق المذكور. ثم إن ما ذكره (قدس سره)
في تأييد مرسلة الفقيه من قول مصنفه في صدر كتابه ما قاله مع الاغماض عن الطعن
في ذلك بمخالفة مصنفه لهذه القاعدة في مواضع عديدة من كتابه كما لا يخفى على من
تتبعه ففيه أنه في شرحه قد اضطرب كلامه في هذا المقام أيضا كاضطرابه في غيره فتراه
تارة يعمل بمرويات الفقيه الضعيفة ويعتذر بهذا الكلام وتراه يرد رواياته أخرى
من غير التفات إلى ما ذكره في هذا المقام كما لا يخفى على من تتبع شرحه المشار إليه،
وهي طريقة غير جيدة ناشئة من ضيق الخناق في هذا الاصطلاح الذي تمسك به وبالغ
في نصرته كما أوضحناه في مواضع من شرحنا على الكتاب.
الموضع الثاني) ميتة الآدمي، وقد أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم)
على ما نقله غير واحد منهم على نجاستها بعد برده وقبل تطهيره بالغسل، قال في المعتبر:
وعلماؤنا مطبقون على نجاسته نجاسة عينية كغيره من ذوات الأنفس السائلة.
ويدل على ذلك مضافا إلى الاجماع المذكور ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد
ابن الحسن الصفار (1) قال: " كتبت إليه: رجل أصاب يديه أو بدنه ثوب الميت الذي
بلي جسده قبل أن يغسل هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع (عليه السلام): إذا
أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل " وحسنة الحلبي عن الصادق
(عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت؟ فقال يغسل
ما أصاب الثوب " ورواية إبراهيم بن ميمون (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه

(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من غسل مس الميت
(2) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب النجاسات.
65

السلام) عن الرجل يقع ثوبه على جسد الميت؟ فقال إن كان غسل الميت فلا تغسل
ما أصاب ثوبك منه وإن كان لم يغسل الميت فاغسل ما أصاب ثوبك منه " وروى الطبرسي
في الاحتجاج والشيخ في كتاب الغيبة التوقيع الخارج عن الناحية المقدسة في أجوبة
مسائل محمد بن عبد الله الحميري (1) فإنه كتب " روي لنا عن العالم أنه سئل عن إمام
صلى بقوم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ قال يؤخر ويتقدم
بعضهم ويتم صلاتهم ويغتسل من مسه؟ التوقيع ليس على من مسه إلا غسل اليد "
وعنه (2) قال: " كتبت إليه وروي عن المعالم (عليه السلام) أن من مس ميتا بحرارته
غسل يده ومن مسه وقد برد فعليه الغسل وهذا الميت في هذه الحالة لا يكون إلا بحرارته
والعمل في ذلك على ما هو ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه فكيف يجب عليه؟ التوقيع: إذا
مسه في هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده " وفي الفقه الرضوي (3) " وإن مس
ثوبك ميتا فاغسل ما أصاب ".
بقي الكلام في أنها هل هي عينية محضة مطلقا فعلى هذا ينجس ما يلاقي الميت
برطوبة كان أو بيبوسة وتتعدى نجاسة ذلك الملاقي إلى ما لاقاه برطوبة، أو مع الرطوبة
خاصة وإلا فحكمية بمعنى أنها مع اليبوسة إنما ينجس بها ذلك الملاقي خاصة دون ما لاقاه
ولو برطوبة. أو عدم تعديها مطلقا وإن وجب غسل الملاقي تعبدا، أو أنها عينية محضة
مع الرطوبة خاصة وأما مع اليبوسة فلا أثر لها كغيرها من النجاسات، أقوال أربعة:
الأول ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض وقواه شيخنا المحقق الشيخ حسن على تقدير
القول بالتعدي مع اليبوسة، والثاني للعلامة في المنتهى، والثالث ظاهر كلام ابن إدريس
حيث قال على ما نقل عنه في المدارك: إذا لاقى جسد الميت إناء وجب غسله ولو لاقى
ذلك الإناء مائعا لم ينجس المائع لأنه لم يلاق جسد الميت، وحمله على ذلك قياس، والأصل
في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل. والرابع مختار المحقق الشيخ علي.

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من غسل مس الميت
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من غسل مس الميت
(3) ص 18.
66

وأنت خبير بأن ظاهر اطلاق الأخبار المذكورة الدلالة على القول الأول. وهذا
القول أيضا ظاهر الصدوق في الفقيه حيث إنه عبر فيه بمضمون حسنة الحلبي فقال:
ومن أصاب ثوبه جسد الميت فليغسل ما أصاب الثوب منه. وبذلك يظهر قوة القول
المذكور إلا أن قوله (عليه السلام) في موثقة عبد الله بن بكير (1) " كل شئ يابس ذكي "
المعتضد بجملة من الأخبار الدالة في جملة من المواضع على عدم تعدي النجاسة مع اليبوسة
مما يدافع العمل باطلاق هذه الأخبار، وأيضا أن تقييد المطلق أقرب من تخصيص العام
وحينئذ فالأظهر حمل الملاقاة الموجبة للغسل على الملاقاة برطوبة من أحدهما، ومما يستأنس
له بذلك قوله في رواية إبراهيم بن ميمون؟ " ما أصاب ثوبك منه " في الموضعين فإنه
ظاهر في أن إصابة الثوب هو لرطوبة أو قذر على الميت، إلا أن هذا الحمل بعيد
في التوقيع المذكور. ويمكن حمله على الاستحباب سيما مع اشتماله على ما لا يقول به
جمهور الأصحاب من النجاسة قبل البرد، ومن ذلك يعلم قوة القول الرابع، ويؤيده أيضا
صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (2) " عن الرجل يقع ثوبه على حمار
ميت هل تصلح الصلاة فيه قبل أن يغسله؟ قال ليس عليه غسله وليصل فيه ولا بأس به ".
وأما ما ذهب إليه المحدث الكاشاني من حمل أخبار النجاسة في الميت والكافر
ونحوهما مما ذكره على مجرد الخبث الباطني دون المعنى الشرعي الموجب لغسل الملاقي له
برطوبة - فهو من متفرداته الواهية التي هي لبيت العنكبوت - وأنه لأوهن البيوت - مضاهية
وكيف لا الأخبار المتقدمة ظاهرة في وجوب غسل الملاقي له هو مظهر النجاسة،
والظاهر أن منشأ الشبهة عنده هو أنه لو كان نجسا كالأعيان النجسة لم يقبل التطهير بالغسل
كما يدل عليه كلامه في المفاتيح، وهذا دليل الشافعي على ما ذهب إليه من عدم نجاسة

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أحكام الخلوة
(2) والمروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب النجاسات.
67

الانسان بالموت (1) قال: إذ لو كان نجسا لما قبل التطهير كسائر النجاسات. وعارضه
جماعة من الأصحاب: منهم العلامة في المنتهى والشهيدان في الذكرى والروض بأنه لو لم
يكن نجسا لما أمر بالغسل. وفيه أنه يمكن أن يكون الغسل إنما هو للنجاسة الحكمية كنجاسة
بدن الجنب بالجنابة والحائض بالحيض لا العينية، بل هذا هو الظاهر من الأخبار المتقدمة
في باب غسل الجنابة الدالة على أن العلة في غسل الميت إنما هو خروج النطفة التي خلق
منها حال الموت فهو جنب ولذلك أمر بتغسيله غسل الجنابة. والجواب الحق
إنما هو المنع من كون النجاسات والمطهرات منحصرة في قاعدة كلية بل هي تابعة للدليل
الشرعي وليس للعقل فيها مسرح، فلا منافاة بين كون نجاسة الميت بعد البرد وقبل
الغسل كسائر النجاسات العينية وإن كان تطهيرها يقع بالغسل وغيرها لا يقبل التطهير
إلا بالمطهرات الآتية، ألا ترى أن العصير يطهر بالنقص دون غيره وآلات النزح
وجوانب البئر تطهر عندهم بتمام النزح وآلات الخمر بعد انقلابه ونحو ذلك فالاستبعاد
مدفوع بما ذكرناه، وبالجملة فالظاهر من الأخبار أن نجاسة الميت بعد البرد وقبل التطهير
بالغسل حكمية من جهة عينية من أخرى، فمن الجهة الأولى يجب الغسل على كل من مس
الميت في تلك الحال ومن الجهة الثانية يجب غسله وغسل ما لاقاه على الخلاف المتقدم،
ولا منافاة في كون الغسل رافعا للنجاسة العينية والحدثية التي في الجنب أيضا كما دلت عليه
الأخبار المشار إليها إذا اقتضته الأدلة الشرعية.

(1) في المغني ج 1 ص 45 " الآدمي في صحيح المذهب طاهر حيا وميتا لقوله
صلى الله عليه وآله " المؤمن لا ينجس " متفق عليه، وعن أحمد في بئر مات فيها انسان ينزح
ماؤها حتى يغلبهم، وهو مذهب أبي حنيفة قال إنه ينجس بالموت ويطهر بالغسل، وللشافعي
قولان كالروايتين " وأخرج الشافعية كالشيرازي في المهذب ج 1 ص 46 والغزالي في
الوجيز ج 1 ص 4 والنووي في المنهاج ص 5 الميت الآدمي من عداد النجاسات، ويظهر
ذلك من الأم ج 1 ص 235 قال: أحب لمن غسل ميتا أن يغتسل وليس بالواجب عندي
وجاءت أحاديث في ترك الغسل: منها " لا تنجسوا موتاكم ".
68

(الموضع الثالث) ميتة ما لا نفس له سائلة، وقد نقل الاجماع في المعتبر
والمنتهى على طهارتها، قال في المنتهى اتفق علماؤنا على أن ما لا نفس سائلة له من
الحيوانات لا ينجس بالموت ولا يؤثر في نجاسة ما يلاقيه، وذكر في المعتبر أن عدم
نجاسة ما هذا شأنه وانتفاء التنجيس به مذهب علمائنا أجمع. وقال الشيخ في النهاية:
كل ما ليس له نفس سائلة من الأموات فإنه لا ينجس الثوب ولا البدن ولا الشراب
إذا وقع فيه سوى الوزغ والعقرب. وفي المختلف عن ابن البراج أنه قال إذا أصاب
شيئا وزغ أو عقرب فهو نجس وأوجب أبو الصلاح النزح لها من البئر ثلاث دلاء. وما
ذكره الشيخ (قدس سره) هنا من استثناء الوزغ الظاهر أنه مبني على ما سيأتي إن شاء
الله تعالى من حكمه بنجاسة الوزغ عينا وأنه عنده كالكلب، وأما العقرب فلا نعلم
لاستثنائه وجها. ونقل في المختلف عنه الاستدلال عليه برواية أبي بصير عن الباقر
(عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الخنفساء تقع في الماء أيتوضأ منه؟ قال نعم
لا بأس به. قلت فالعقرب؟ قال أرقه " وأجاب عنها بأنها غير دالة على ذلك لجواز
استناد الإراقة إلى وجود السم في الماء لا إلى نجاسة العقرب. وهو جيد، وبمثل ذلك أيضا
يجاب عما رواه سماعة في الموثق (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
جرة وجد فيها خنفساء قد ماتت؟ قال القه وتوضأ منه وإن كان عقربا فارق الماء
وتوضأ من غيره ".
وكيف كان فالمعتمد هو القول المشهور للأصل والأخبار الكثيرة، ومنها موثقة
عمار ورواية حفص المتقدمتان في الموضع الأول وموثقة أبي بصير أو صحيحته عن
الصادق (عليه السلام) (3) قال: " سألته عن الذباب يقع في الدهن والسمن والطعام؟

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الأسئار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 46 من الأطعمة المحرمة.
69

فقال لا بأس " ورواية ابن مسكان (1) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) كل
شئ يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس "
ومرفوعة محمد بن يحيى عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " لا يفسد الماء إلا ما كان
له نفس سائلة " وفي قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر (3)
" أنه سأل أخاه موسى (عليه السلام) عن العقرب والخنفساء وأشباه ذلك يموت في
الجرة والدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال لا بأس ".
وتنقيح البحث في المقام يتوقف على رسم مسائل: (الأولى) قد تقدم نقل
المحقق والعلامة الاجماع على نجاسة ميتة ذي النفس السائلة مطلقا من غير استثناء فرد
وظاهره أعم من أن يكون الحيوان بريا أو بحريا وقال في الخلاف إن مات في الماء
القليل ضفدع أو ما لا يؤكل لحمه مما يعيش في الماء لا ينجس الماء وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي إن قلنا أنه لا يؤكل فإنه ينجسه (4) دليلنا أن الماء على أصل الطهارة
والحكم بنجاسته يحتاج إلى دليل، وروي عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: " إذا
مات فيما فيه حياته لا ينجسه " وهو يتناول هذا الموضع. وقد حكى المحقق في المعتبر
صدر هذه العبارة عن الخلاف ولم يتعرض لما فيه الاحتجاج منها واختار التنجيس بما له
نفس من الحيوان المائي كالتمساح واحتج له بأنه حيوان له نفس سائلة فكان موته منجسا
ثم قال: ولا حجة لهم في قوله (صلى الله عليه وآله) (5) في البحر " هو الطهور ماؤه
الحل ميتته " لأن التحليل مختص بالسموك.
قال في المعالم بعد نقل ما ذكرناه عن المحقق. وكأنه أشار بقوله ولا حجة لهم
إلى القائلين بالطهارة هنا من العامة وفاقا للشيخ وهم الحنفية. وقد نبه على ذلك الشيخ

(1) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب النجاسات.
(4) كما في بدائع الصنائع ج 1 ص 79 والأم ج 1 ص 4 والمغني ج 1 ص 45
(5) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الماء المطلق.
70

في الكلام الذي حكيناه عنه وعزاه البهم العلامة في المنتهى وحكى عنهم الاحتجاج بقوله
(صلى الله عليه وآله) " هو الطهور ماؤه. الحديث " وفساد هذه الحجة عندنا أظهر
من أن يبين والعجب من المحقق في عدوله عن حكاية الحجة التي تمسك بها الشيخ إلى
حجة المخالف الواهية مع كونه في مقام البحث مع الشيخ إذ لم يذكر خلاف غيره ولولا
جمع الضمير في نسبة الاحتجاج لم يختلج في خاطر غير الواقف على كلام الشيخ شك في أن
الحجة له ولا يخفى ما فيه على أن احتمال مشاركة الشيخ لغيره في الاحتجاج بها ليس
بمندفع عن غير العارف بالحال ولعل العذر عدم الوقوف على عين كلام الشيخ في نفس
الكتاب هذا وفي تمسك الشيخ هنا بالأصل قوة إلا أن يثبت تناول ما يدعيه الأصحاب
من الاجماع في أصل المسألة لموضع النزاع. انتهى.
أقول: والكلام هنا يقع في مواضع: (الأول) لا يخفى ما في نقل المحقق
والعلامة الاجماع في أصل المسألة على النجاسة ثم نقلهما خلاف الشيخ في المقام من
التدافع إلا أن يحمل ذلك على عدم الاعتداد بخلاف معلوم النسب كما هو أحد قواعدهم
أو لشهرة القول بالخلاف في الحيوان المائي فيكون الاجماع المدعى إنما هو على غير الحيوان
المائي ولعله الأقرب.
(الثاني) أن ما استند إليه الشيخ من التمسك بالأصل فالجواب عنه أن الأصل
يجب الخروج عنه بالدليل وهو ما قدمناه من الأخبار المتقدمة في المقام الأول من الموضع
الأول الدالة على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الانسان مطلقا وحيث إن صاحب
المعالم في ما قدمنا نقله عنه لم يقم عنده دليل على ذلك إلا الاجماع قوي تمسك الشيخ بالأصل
هنا إلا أن يثبت تناول ما يدعيه الأصحاب من الاجماع لموضع النزاع. وأنت خبير
بعد الإحاطة بما قدمناه من الأخبار أنه لا حاجة إلى التمسك بهذا الاجماع هنا إلا أنه
يبقى الكلام في دخول الحيوان المائي تحت اطلاق تلك الأخبار أو عمومها حيث إن
الذي ينصرف إليه الاطلاق إنما هو الأفراد الكثيرة الوقوع مثل تلك الأشياء
71

المعدودة في الروايات وشمولها لمثل الضفدع والتمساح ونحوهما الظاهر بعده، وكذلك
شمول الاجماع خصوصا على الوجه الثاني مما أجبنا به عن التدافع الواقع في كلامهم، وحينئذ
يقوى تمسك الشيخ بالأصل.
(الثالث) ما نقله الشيخ عنهم (عليه السلام) من الرواية لم نقف عليها
في شئ من كتب الأخبار ولا نقلها غيره غيره فيما أعلم، وقد اعترضه بذلك أيضا بعض
أفاضل المحققين من متأخري المتأخرين فقال: وأما الرواية فلم نجدها في موضع مسندة
حتى ننظر في صحتها وضعفها.
وبالجملة فإن قول الشيخ بالنظر إلى ما ذكرنا من عدم شمول الأخبار المتقدمة لمثل
هذه الأفراد النادرة لا يخلو من قوة، والاحتياط لا يخفى.
(المسألة الثانية) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في أن كل ما ينجس بالموت مما له نفس سائلة فما قطع من جسده حيا كان أو ميتا فهو نجس
قال في المدارك أنه مقطوع به في كلام الأصحاب. وقال في المعالم لا يعرف فيه خلاف
بين الأصحاب. قال في المدارك: " واحتج عليه في المنتهى بأن ذ لنجاسة الجملة
الموت وهذا المقتضي موجود في الأجزاء فيتعلق بها الحكم. وضعفه ظاهر إذ غاية
ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت وهو لا يصدق على الأجزاء قطعا. نعم يمكن
القول بنجاسة القطعة المبانة من الميت استصحابا لحكمها حال الاتصال. ولا يخفى
ما فيه " انتهى.
أقول: الذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة عدة روايات فيها
الصحيح وغيره. ومنها ما رواه في الفقيه في الصحيح عن أبان عن عبد الرحمان بن
أبي عبد الله (1) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) ما أخذت الحبالة فقطعت منه

(1) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب الصيد.
72

فهو ميتة وما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه " ورواه الشيخ في التهذيب
والكليني في الكافي لكن بطريق غير صحيح ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب
في الصحيح أو الحسن إبراهيم بن هاشم عن محمد بن قيس عن الباقر (عليه السلام) (1) قال:
" قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا
فذروه فإنه ميت وكلوا ما أدركتم حيا وذكرتم اسم الله عليه " ومنها ما رواه أيضا عن
الوشاء عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " ما أخذت
الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت وما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه "
وليس في التهذيب " ثم كل منه " ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان
عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " ما أخذت الحبالة فانقطع منه شئ أو مات فهو
ميتة " ومنها ما رواه عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) (4) قال: " ما أخذت
الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت وما أدركت من سائر جسده فذكه ثم كل منه "
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن أيوب بن نوح رفعه إلى الصادق (عليه السلام) (5)
قال: " إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة " ومنها ما رواه في الكافي عن الحسن
ابن علي الوشاء (6) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت جعلت فداك أن
أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال حرام وهي ميتة. فقلت جعلت
فداك فنصطبح بها؟ فقال أما علمت أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام " وعن
الكاهلي (7) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن قطع أليات
الغنم فقال لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثم قال إن في كتاب علي (عليه السلام)
أن ما قطع منها ميت لا ينتفع به " وعن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (8) قال:

(1) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب الصيد
(2) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب الصيد
(3) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب الصيد
(4) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب الصيد
(5) رواه في الوسائل في الباب 1 من غسل المس و 62 من أبواب النجاسات.
(6) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الذبائح.
(7) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الذبائح.
(8) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الذبائح.
73

" في أليات الضأن تقطع وهي أحياء؟ إنها ميتة ".
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما ذكره في المدارك من اعتراضه على كلام المنتهى بأن
ضعفه ظاهر منظور فيه من وجوه:
(الأول) أنه لا يخفى أن ما نقلناه من الأخبار المذكورة صريحة الدلالة
واضحة المقالة في نجاسة الأجزاء المقطوعة من الحي وأنها ميتة فقوله: " إذ غاية ما يستفاد
من الأخبار نجاسة جسد الميت " ليس في محله بل كما يستفاد منها نجاسة جسد الميت
بالموت كذلك يستفاد منها نجاسة ما تحله الحياة بالإبانة منه حيا. وبذلك يظهر ما في كلام
صاحب المعالم أيضا حيث إنه أورد في المقام روايات الأليات الثلاث خاصة وقال:
في الأولى اشعار بالنجاسة لكن في طريقها ضعف، وقال في الأخيرتين إنه لو تم سنداهما
لاحتاجا في الدلالة على النجاسة إلى وجود دليل عام في نجاسة الميتة ليكون اثبات كون
المنقطع ميتة مقتضيا لدخوله في عموم الدليل على نجاسة الميتة، وقد علم أن العمدة في
التعميم الاجماع المدعى في كلام الأصحاب، وحينئذ فالتمسك به موقوف على كونه متناولا
لهذا المنقطع ومعه لا حاجة إلى توسيط الاحتجاج بما دل على أنه ميتة، وعلى كل حال
فالحكم هنا ليس بموضع خلاف. انتهى فإن فيه أن الروايات الدالة على ما ذكرنا هنا
ليست منحصرة في الثلاث التي ذكرها بل فيها الصحيح باصطلاحه والحسن الذي
لا يقصر عن الصحيح عندهم ولكنه معذور حيث لم يقف على ذلك، وأما المستند في
أصل نجاسة الميتة فهو الأخبار التي قدمناها لا الاجماع الذي زعمه حسبما تقدم ايضاحه،
ولكنهم حيث لم يعطوا النظر حقه في التتبع لأدلة المسألة وأخبارها خصوصا مع تفرقها
في أبواب شتى وقعوا فيما وقعوا فيه من هذه المناقشات كما لا يخفى.
(الثاني) أن تنظره في القطعة المبانة من الميت وقوله: لا يخفى ما فيه مردود
بأن النجاسة إذا تعلقت بجملة تعلقت بأجزائها وليس تعلقها بالمجموع من حيث كونه مجموعا
وكيف لا وهو (قدس سره) قد استدل على نجاسة ما لا تحله الحياة من الكلب والخنزير
74

بأنه داخل في مسماه ولا شك أن الكلب والخنزير اسم للجملة.
(الثالث) لا يخفى أن المستفاد من الأخبار أن الطهارة والنجاسة دائرة مدار
حلول الحياة وعدمه ولهذا كما وردت الأخبار المتقدمة بنجاسة القطعة المبانة من الحي وأنها ميتة قد وردت الأخبار أيضا باستثناء تلك العشرة التي لا تحلها الحياة وحكم بطهارتها من الميتة من
حيث إنها لا تحلها الحياة، وقد صرح بذلك في صحيحة الحلبي الآتية إن شاء الله تعالى (1)
فقال: " إن الصوف ليس فيه روح " قد أومأ هو (قدس سره) في تلك المسألة إلى
ما ذكرناه حيث قال بعد ذكره هذا الكلام من الصحيحة المذكورة: " ومقتضى التعليل
طهارة كل ما لا روح فيه " وبما أوضحنا يظهر لك قوة ما ذكره العلامة وضعف
ما أورده عليه.
تذنيب
قال العلامة في المنتهى: الأقرب طهارة ما ينفصل من بدن الانسان من الأجزاء
الصغيرة مثل البثور والثالول وغيرهما لعدم إمكان التحرز عنها فكان دفعا للمشقة.
واعترضه في المعالم فقال: " ويظهر من تمسكه بعدم إمكان التحرز أنه يرى تناول
دليل نجاسة المبان من الحي لها وأن المقتضي لاستثنائها من الحكم بالتنجيس والقول
بطهارتها هو لزوم الحرج والمشقة من التكليف بالتحرز عنها، وهذا عجيب فإن الدليل
على نجاسة المبان من الحي كما علمت إما الاجماع أو الأخبار التي ذكرناها أو الاعتبار أن
اللذان حكيناهما عن بعض الأصحاب أعني مساواة الجزء للكل ووجود معنى الموت فيه
والاجماع لو كان متناولا لما نحن فيه لم يعقل الاستثناء منه، الأخبار على تقدير صحتها
ودلالتها وعمومها إنما تقتضي نجاسة ما انفصل في حال وجود الحياة فيه لا ما زالت عنه
الحياة قبل الانفصال كما في موضع البحث، والنظر إلى ذينك الاعتبارين يقتضي ثبوت

(1) ص 77.
75

التنجيس وإن لم تنفصل تلك الأجزاء لتحقق معنى الموت فيها قبله ولا ريب في بطلانه.
والتحقيق أنه ليس لما يعتمد عليه من أدلة نجاسة الميتة وأبعاضها وما في معناها من الأجزاء
المبانة من الحي دلالة على نجاسة نحو هذه الأجزاء التي يزول عنها أثر الحياة في حال
اتصالها بالبدن فهي على أصل الطهارة، وإذا كان للتمسك بالأصل مجال فلا حاجة إلى
تكلف دعوى لزوم الحرج " انتهى كلامه (قدس سره) وهو جيد رشيق.
واستدل في المدارك على الطهارة أيضا مضافا إلى أصالة الطهارة السالمة من المعارض
بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (1) قال سألته عن الرجل يكون به الثالول
أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح
ويطرحه؟ قال إن لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس وإن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعل " قال:
وترك الاستفصال عقيب السؤال يفيد العموم. وأورد على ذلك أن الظاهر من صحيحة علي بن
جعفر أن السؤال فيها ليس عن طهارة ما يقطع من الثالول أو نجاسته بل عن كون هذا الفعل
في الصلاة من المنافيات لها أم لا فإنه سأله أيضا قبل هذا السؤال فقال: " وسألته عن الرجل
يتحرك بعض أسنانه وهو في الصلاة هل يصلح له أن ينزعه ويطرحه؟ قال إن كان
لا يجد دما فلينزعه وليرم به وإن كان دمي فلينصرف " ثم قال: " وسألته عن الرجل
يكون به الثالول.. الخ " وحينئذ فالغرض من السؤال إنما هو استعلام كون هذا الفعل
في الصلاة مما ينافيها أم لا؟ فأجاب (عليه السلام) بأنه لا ينافيها لأنه ليس بفعل كثير
تنمحي به الصلاة، نعم إن استلزم خروج الدم كالضرس في السؤال الأول أبطل من
حيث الدم. انتهى. والجواب أن الأمر وإن كان كما ذكره من أن السؤال إنما هو عن كون الفعل
المذكور قاطعا للصلاة أم لا إلا أن ظاهر اطلاق نفي البأس عن مس هذه الأجزاء في
الصلاة ونتفها أعم من كون المس برطوبة أو يبوسة مما يشهد بالطهارة، إذ المقام مقام

(1) المروية في الوسائل في الباب 27 من قواطع الصلاة.
76

تفصيل كما يدل عليه اشتراط نفي البأس بانتفاء تخوف سيلان الدم، فلو كان مس تلك
الأجزاء مقتضيا للتنجيس ولو على بعض الوجوه لم يحسن هذا الاطلاق بل كان اللائق البيان
كما وقع في خوف السيلان، وحينئذ فظاهر الاطلاق الطهارة في الحالين وبه يتم الاستدلال
وبالجملة فالظاهر أنه لا خلاف في القول بالطهارة وإن اختلفوا في الدليل على ذلك،
والتمسك بأصالة الطهارة سيما مع الاعتضاد بظاهر الصحيحة المذكورة بالتقريب المذكور
أقوى متمسك في المقام، والاحتياط لا يخفى. والله العالم.
(المسألة الثالثة) اتفق الأصحاب من غير خلاف يعرف على طهارة ما لا
تحله الحياة من الميتة، وهي عشرة: العظم والظفر والظلف والقرن والحافر والشعر
والوبر والصوف والريش والبيض إذا اكتسى القشر الأعلى، وكذا نقله في المدارك بعد
أن ذكر أنه حصر ذلك في عشرة أشياء ثم عد العشرة المذكورة، وفي المعالم وكذا في
المنتهى ذكر العشرة ولكن ذكر الإنفحة مكان الظفر، وفي المدارك بعد أن عد العشرة
المذكورة ونقل بعض أخبار المسألة قال ويستفاد من صحيحة زرارة استثناء الإنفحة
أيضا وهو مقطوع به في كلام الأصحاب وظاهر المنتهى أنه مجمع عليه بين الأصحاب.
وفيه أنه كان الواجب بمقتضى هذا الكلام جعل الإنفحة من جملة الأفراد التي عدها
أولا وإن زادت على العشرة مع أنه ادعى في صدر كلامه الحصر في العشرة التي ذكرها
وهل هذا إلا تدافع ظاهر؟ وكيف كان فالواجب ذكر أخبار المسألة كملا مما وصل إلينا
نقله ثم تذييلها بما تضمنته من الأحكام المتعلقة بذلك:
فأقول: من الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن الصادق
عليه السلام (1) قال: لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة أن الصوف ليس
فيه روح وفي هذا الخبر ما يدل على طهارة ما لا روح فيه مطلقا إذ الظاهر أن قوله
عليه السلام: أن الصوف ليس فيه روح وقع تعليلا لنفي البأس عن الصلاة فيه

(1) رواه في الوسائل في الباب 68 من أبواب النجاسات.
77

وما رواه الشيخ ومثله الصدوق في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن الصادق
(عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الإنفحة تخرج من الجدي الميت؟ قال لا بأس
به. قلت اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال لا بأس به. قلت والصوف
والشعر وعظام الفيل والجلد والبيضة تخرج من الدجاجة؟ قال كل هذا لا بأس به "
والجلد في الخبر ليس في الفقيه وهو الأصح، والظاهر أنه من سهو قلم الشيخ (قدس
سره) كما لا يخفى.
وما رواه الشيخ في الحسن عن حريز (2) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام)
لزرارة ومحمد بن مسلم: اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل
شئ ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي، وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه "
وعن إسماعيل بن مرار عن يونس عنهم (عليه السلام) (3) قال: " خمسة
أشياء ذكية مما فيها منافع الخلق: الإنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر، ولا بأس
بأكل الجبن كله مما عمله مسلم أو غيره وإنما يكره أن يؤكل سوى الإنفحة مما في آنية المجوس
وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقون الميتة والخمر ".
وعن الحسين بن زرارة في الموثق أو الحسن (4) قال: " كنت عند أبي عبد الله
(عليه السلام) وأبي يسأله عن السن من الميتة واللبن من الميتة (5) والبيضة من الميتة
وانفحة الميتة؟ فقال كل هذا ذكي " قال في الكافي: وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن
الحسن بن رباط قال: " والشعر والصوف كله ذكي " وقال في الكافي أيضا: وفي رواية
صفوان عن الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال: " الشعر والصوف
والوبر والريش وكل نابت لا يكون ميتا. قال وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة
الميتة؟ فقال تأكلها ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة
(2) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة
(3) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة
(4) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة
(5) جاء في رواية الكال (اللبن) وفي رواية التهذيب (السن) وجمع بينهما في الوافي.
(6) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة
78

وما رواه في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن الباقر (عليه السلام) (1) في حديث
طويل قال فيه: " قال قتادة فأخبرني عن الجبن فتبسم أبو جعفر (عليه السلام) ثم قال
رجعت مسائلك إلى هذا؟ قال ضلت عني. فقال لا بأس به. فقال إنه ربما جعلت فيه
إنفحة الميت؟ قال ليس بها بأس أن الإنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم إنما
تخرج من بين فرث ودم، ثم قال وإن الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة خرجت منها بيضة
فهل تأكل البيضة؟ قال لا ولا آمر بأكلها، فقال أبو جعفر (عليه السلام) ولم؟
قال لأنها من الميتة. قال له فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال
نعم. قال فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة؟ ثم قال (عليه السلام) فكذلك
الإنفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلا أن
يأتيك من يخبرك عنه ".
وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (2) قال قال الصادق (عليه السلام): " عشرة
أشياء من الميتة ذكية: القرن والحافر والعظم والسن والإنفحة واللبن والشعر والصوف
والريش والبيض " ورواه في الخصال مسندا عن محمد بن أبي عمير رفعه إلى الصادق
(عليه السلام) مثله (3) منع مخالفة في الترتيب.
وما رواه الشيخ عن غياث بن إبراهيم عن الصادق (عليه السلام) (4) " في بيضة
خرجت من است دجاجة ميتة؟ قال إن كانت البيضة اكتست الجلد الغليظ فلا بأس بها "
وما رواه في الكافي عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) (5)
قال " كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكي؟ فكتب لا ينتفع من الميتة
بإهاب ولا عصب وكل ما كان من السخال من الصوف إن جز والشعر والوبر والإنفحة
والقرن ولا يتعدى إلى غيرها إن شاء الله تعالى " قال بعض المحدثين من المحققين " هكذا
وجد هذا الحديث في نسخ الكافي والتهذيبين وكأنه سقط منه شئ " انتهى. وهو كذلك

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة.
(5) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة.
79

وما رواه في التهذيب في باب الذبائح والأطعمة في الحسن عن صفوان عن
الحسين بن زرارة عن الصادق (عليه السلام) (1) " في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه
اللبن أو الماء فأشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم، وقال يدبغ فينتفع به ولا يصلي فيه. قال
الحسين: وسأله أبي عن الإنفحة تكون في بطن العناق أو الجدي وهو ميت؟ فقال لا بأس
به. قال الحسين: وسأله أبي وأنا حاضر عن الرجل يسقط سنه فيأخذ سن انسان ميت
فيجعله مكانه؟ فقال لا بأس. وقال عظام الفيل تجعل شطرنجا؟ فقال لا بأس بمسها.
وقال أبو عبد الله (عليه السلام) العظم والشعر والصوف والريش وكل نابت لا يكون
ميتا. قال وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال لا بأس بأكلها " أقول
عجز هذه الرواية هو الذي تقدم نقل صاحب الكافي له بقوله: وفي رواية صفوان
عن الحسين بن زرارة.. الخ
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع: (الأول) أنه لا يخفى
على من لاحظ الأخبار التي قدمناها في نجاسة الميتة دلالتها على الحكم المذكور الشامل
لجميع أجزاء الميتة من هذه العشرة وغيرها، وأن هذه العشرة إنما استثنيت وخرجت
عن الحكم المذكور بهذه الأخبار المذكورة هنا الصريحة في طهارتها المعبر عنها في جملة من
هذه بأنها ذكية أي طاهرة وفي بعض بأنها لا تحلها الروح كما أشير إليه في صحيحة الحلبي
وفي حديث أبي حمزة الثمالي من قوله (عليه السلام) في الإنفحة " أنها ليس لها عروق ولا فيها
دم ولا لها عظم " فإن الظاهر من سياق هذا الكلام الاستدلال على نفي البأس عن الإنفحة
إنما هو من حيث ما ذكرناه الموجب لطهارتها، والوجه فيه أن العرق مما تحله الحياة وأما
الدم فهو مادة الحياة ولذا يطلق عليه النفس كما صرح به أهل اللغة ووقع التعبير به في
كلام الفقهاء من قولهم ذي النفس السائلة أي الدم الجاري من العرق بعد قطعه بقوة
ودفع، وأما العظم فإنه وإن لم تحله الحياة في حد ذاته لكنه مستلزم لكون ما وقع فيه مما

(1) رواه في الوسائل في الباب 34 و 33 من الأطعمة المحرمة.
80

تحله الحياة البتة ومتعلقا للروح، ألا ترى أنه يجب في القطعة المشتملة على العظم غسلها
وتكفينها وإن لم يجب ذلك في العظم وحده فوجوده مؤكد لتعلق الروح فيما نحن فيه.
وبما ذكرنا يظهر لك ما في كلام المحقق الخوانساري في شرح الدروس من
المناقشة هنا في دلالة الأخبار المذكورة على الاستثناء والاستناد في طهارة هذه الأشياء
إلى الأصل والاتفاق على الحكم المذكور، حيث قال في بيان الدليل على طهارة هذه
الأشياء: " وأما الثاني فالدليل على طهارتها أصالة الطهارة إذ عموم دلالة نجاسة الميتة بحيث
يشمل هذه الأجزاء غير ظاهر كما عرفت، والاتفاق ظاهرا، وعدم صدق اسم الميتة عليها لأن
الموت فرع الحياة. لا يخفى أنه لو كان نص يدل على أن الميتة نجسة فلا يبعد أن يقال إن الظاهر أن جميع أجزائها كما يقولون إن جميع أجزاء الكلب مثلا نجس
باعتبار أنه وجد النص بنجاسة الكلب وهو ظاهر في نجاسة جميع أجزائه، وكون بعض
أجزائها مما لا تحله الحياة لا يقدح فيه. فالعمدة عدم وجود النص الدال على تعليق
الحكم بالنجاسة على الميتة كما يقولون لا عدم حلول الحياة، وكيف وظاهر أن زوال
الحياة ليس سببا للنجاسة وإلا لزم أن يكون الحيوان الذكي أيضا نجسا بل عدم التذكية
يصير سببا لنجاسة الحيوان، ولا استبعاد في أن يصير سببا لنجاسة جميع أجزائه سواء
حلته الحياة أولا " انتهى.
أقول: فيه ما عرفت من وجود الدليل على نجاسة الميتة وأنه عام لجميع أجزائها
بالتقريب الذي ذكره في الكلب، وإنما خرجت هذه العشرة المذكورة هنا بهذه الأخبار
فهي مخصصة لعموم تلك الأخبار ومقيدة لاطلاقها كما هي القاعدة المطردة في مقام اجتماع
العام والخاص والمطلق والمقيد. وأما قوله إنه مع عموم تلك الأخبار فكون بعض
أجزائها مما لا تحله الحياة لا يقدح في العموم فمردود بأن القادح في العموم إنما هو
اشتمال جملة من هذه الأخبار على كون هذه الأشياء ذكية وجملة منها على نفي البأس
الظاهر كل منهما في الطهارة وإن كان الأول أشد ظهورا وإن وقع التعبير في بعضها
81

بكونه مما لا تحله الحياة إلا أن المنافاة الموجبة لتقييد اطلاق تلك الأخبار إنما هو من حيث
دلالة هذه الأخبار على الطهارة بهذه الألفاظ الدالة على ذلك ومقتضى القاعدة كما عرفت تقييد
اطلاق تلك الأخبار بهذه، وحينئذ فما ادعاه من أنه مع وجود النص الدال على نجاسة الميتة
فإنه يشمل جميع هذه الأشياء المذكورة وأن هذه الأخبار لا تفيد تخصيصا ولا تقييدا لها
لعدم ظهور الدلالة على الطهارة حتى أنه إنما التجأ إلى أصالة الطهارة والاتفاق ظاهرا
وعدم صدق الميتة عليها غلط محض حيث إنه غفل عما اشتملت عليه هذه الأخبار من
الألفاظ الظاهرة وإنما تعلق باشتمال بعضها على عدم حلول الحياة ورتب عليه ما ذكره من
المناقشة، وما ذكرناه بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
(الثاني) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدم الفرق في الحكم
بطهارة الصوف والشعر والريش والوبر بين كونها مأخوذة من الميتة بطريق الجز أو
القلع إلا أنه يحتاج في صورة القلع إلى غسل موضع الاتصال من حيث ملاقاة الميتة
بالرطوبة. ويدل على ذلك (أولا) اطلاق الأخبار المتقدمة إذ لا تصريح فيها بالجز
ولا غيره. و (ثانيا) حسنة حريز المتقدمة في صدر المسألة حيث اشتملت على الأمر
بغسل هذه الأشياء بعد أخذها من الميتة، ومن الظاهر أنه لا وجه للأمر بالغسل مع
الجز بل الظاهر أن المراد إنما هو قلعها والخبر المذكور قد صرح بأنه ذكي في الصورة
المذكورة أي طاهر فالخبر ظاهر الدلالة على الطهارة في صورة القلع.
وذهب الشيخ في النهاية إلى اشتراط الجز وخص الطهارة بذلك، ونقل عنه أنه
علل ذلك بأن أصولها المتصلة باللحم من جملة أجزائه وإنما يستكمل استحالتها إلى أحد
المذكورات بعد تجاوزها عنه. ورد (أولا) بالمنع لأنه يصدق على المجموع من المتصل
باللحم والمتجاوز عنه اسم هذه الأشياء وهو لا يجامع كون شئ منها جزء من اللحم.
و (ثانيا) ما قدمنا من أطلاق الأخبار والتقييد يحتاج إلى دليل وليس فليس، مضافا
إلى ما عرفت مما دلت عليه حسنة حريز المشار إليها.
82

قال المحقق الخوانساري في شرح الدروس: " ثم إن حكم الأصحاب بالغسل
في صورة القلع فبناء على عموم نجاسة الملاقي للنجس بالرطوبة والميتة نجسة وأصول هذه
الأشياء ملاقية لها بالرطوبة فيجب غسلها، ويدل عليه أيضا حسنة حريز المذكورة مع
معاضدة الاحتياط. ولا يذهب عليك أن الأحوط عدم الاكتفاء بغسل موضع الاتصال
بل غسل جميعها بل على تقدير الجز أيضا لأن الرواية المذكورة المتضمنة للأمر بالغسل
مطلقة لا تقييد فيها بموضع الاتصال وحالة القلع " انتهى.
ولا يخلو من غرابة أما (أولا) فلتصريح الأخبار المذكورة بطهارة هذه
الأشياء وأنها ذكية، مضافا إلى اتفاق الأصحاب وأصالة الطهارة وعدم صدق الميتة عليها
كما تقدم في كلامه الذي قدمنا ذكره في سابق هذا الموضع. و (أما ثانيا) فإن غسل
موضع الملاقاة للميتة وجهه ظاهر وأما ما عدا موضع الملاقاة وكذا ما أخذ جزا فما وجه
الاحتياط في غسله مع الوجوه المذكورة؟ والرواية التي أشار إليها وإن كانت مطلقة
لكنها معارضة فيما عدا موضع الملاقاة بالأدلة المذكورة الدالة على الطهارة فلا بد من
تخصيصها بموضع الملاقاة كما ذكرناه جمعا بينها وبين تلك الأدلة، ولو قام مثل هذا
الاحتياط في المقام لجرى في جميع الأشياء المحكوم بطهارتها، وبالجملة فإن ما ذكره
(قدس سره) لا أعرف له وجها بالكلية.
هذا، وظاهر حسنة حريز المشار إليها أن حكم القرن والناب والحافر ومثلها الظلف
والظفر حكم ما ذكر في الصوف والشعر والريش والوبر من أنها متى أخذت بالقلع من
الميتة فإنه يغسل موضع الملاقاة منها بالتقريب المتقدم في الشعر وأشباهه وأنها لو أخذت
بالكسر أو البري بسكين ونحوها فإنه يكون كالجز بالنسبة إلى تلك الأشياء وخلاف
الشيخ يجري هنا في القلع أيضا بالتقريب الذي قدمنا نقله عنه إلا أني لم أقف على من
ذكر ذلك من الأصحاب ومقتضى ظاهر الحسنة المشار إليها وكذا تعليل الشيخ المتقدم
هو ما ذكرناه.
83

(الثالث) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا فرق في
الحكم بطهارة هذه الأشياء من الميتة بين كون الميتة مما يؤكل لحمه لو ذكي ولا غيره،
وقال العلامة في النهاية: أما بيض الجلال وما لا يؤكل لحمه مما له نفس سائلة فالأقوى فيه
النجاسة، ونحوه ذكر في المنتهى أيضا، نقل ذلك في المعالم وقال بعد نقل الحكم
المذكور لا نعرف فيه خلافا إلا من العلامة ثم نقل كلامه في الكتابين المذكورين.
وقال: ولا نرى لكلامه وجها ولا عرفنا له عليه موافقا وقد نص الشهيد في الذكرى
على عدم الفرق وأما الإنفحة من غير المحلل كالموطوء ففي طهارتها احتمالان منشأهما
من كون أكثر الأخبار الدالة على طهارتها واردة بالحل أو مسوقة لبيانه ومنه استفيدت
الطهارة وذلك مفقود في غير المحلل، ومن عدم الدليل العام على نجاسة الميتة بحيث
يتناول أمثال هذه الأجزاء كما أشرنا إليه ومقتضى الأصل هو الطهارة إلى أن يقوم
الدليل على خلافها ولا دليل، ولم أقف لأحد من الأصحاب في ذلك على كلام وربما
يكون اطلاقهم الحكم بالطهارة قرينة على عدم التفرقة. ولا يخفى أن فرق العلامة في حكم
البيض يقتضي الفرق هنا أيضا. انتهى.
أقول: فيه أن ما ذكره بالنسبة إلى الإنفحة في الاحتمال الثاني من عدم الدليل العام
على نجاسة الميتة مردود بما قدمنا ذكره من الأخبار الدالة على ذلك وما ذيلناها به من
التقريب الدال على النجاسة، ومتى ثبت ذلك استلزم القول بنجاسة جميع أجزائها
بالتقريب المتقدم في الكلب ونحوه من نجس العين كما سيجئ تحقيقه أيضا إن شاء الله
تعالى في المقام والاعتراف بذلك من جملة من علمائنا الأعلام. وأما قوله: " وربما
يكون اطلاقهم الحكم بالطهارة قرينة على عدم الحكم بالتفرقة " فهو معارض بأن اتفاقهم
على الحكم بنجاسة الميتة كما اعترف به سابقا من أنه لا مستند لهذا الحكم إلا اتفاقهم
المستلزم كما عرفت للحكم بنجاسة كل جزء جزء من أجزاء الميتة موجب للحكم
بالنجاسة في الإنفحة فيبقى الوجه الأول من الاحتمالين المذكورين في كلامه سالما عن
84

المعارض وينتفي ما ادعاه من التمسك بمقتضى الأصل فإنه يجب الخروج عنه بالدليل،
وقد دل على نجاسة الميتة الشامل ذلك للأنفحة وغيرها خرج من ذلك ما دلت عليه
الأخبار الدالة على طهارتها من حيث الحل كما ذكره وبقي ما كان من غير المحلل على
النجاسة، على أن ما ذكره من كون أكثر الأخبار الدالة على طهارتها واردة بالحل أو مسوقة
لبيانه محل نظر. فإن ظاهر سياقها إنما هو بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة لا الحل والحرمة
كما ادعاه، والذي قدمناه من الروايات المشتملة على الإنفحة صحيحة زرارة وفيها نفي
البأس إلا أن موردها الجدي الذي هو مأكول اللحم، ورواية يونس وهي مطلقة
بالنسبة إلى الحيوان المأكول وغيره وذكر الإنفحة فيها في سياق الصوف والشعر والوبر
والحكم فيها بأنها ذكية أظهر ظاهر في أن المراد إنما هو الطهارة لا الحل فإن ما ذكره
معها من الصوف وما بعده ليس من المأكولات، ونحوها موثقة الحسين بن زرارة حيث
ذكر فيها أنها ذكيه أي طاهرة، سيما بإضافة الزيادة المنقولة من الكافي عن علي بن عقبة
وعلي بن رباط بإضافة الشعر والصوف، ومرسلة الصدوق في الفقيه المسندة في الخصال
المشتملة على عد العشرة كملا بالحكم بكونها من الميتة ذكية فإنه ظاهر في الطهارة لا
في الحل، وكذلك رواية الجرجاني، فأين أكثر الأخبار الواردة بالحل أو المسوقة
لبيانه؟ نعم ذكر الحل وقع في حديث الثمالي إلا أن ظاهر سياقه أن الكلام في الحل
والحرمة إنما وقع تفريعا على الطهارة والنجاسة، حيث إنه (عليه السلام) لما نفى البأس
عن الجبن وأحل أكله عارضه السائل بأنه تجعل فيه الإنفحة وهي نجسة لأخذها من الميتة
فأجاب (عليه السلام) بأن الإنفحة طاهرة لأنها ليست مما تحله الحياة بالتقريب الذي
قدمنا ذكره في الموضع الأول ثم نظر له بالبيضة المأخوذة من الميتة، فذكر الحل في
الخبر إنما وقع بطريق العرض وإلا فأصل الكلام إنما هو في الطهارة والنجاسة، ومثلها
تتمة حديث يونس بالتقريب المذكور، على أن لفظ الحل في الأخبار ربما استعمل في حل
الاستعمال وهو شائع سيما في هذا المقام في كلام الفقهاء فإنهم يعبرون في هذا المقام عن
85

طهارة الصوف والشعر ونحوها من القرن والظلف وغيرهما بالحل وأنها تحل من الميتة وليس
المراد إلا حل استعمالها كما لا يخفى على من راجع عباراتهم. والعجب أيضا من متابعة
الفاضل الخراساني في الذخيرة له على ذلك حيث إنه جرى على ما جرى عليه وذكر ذلك
وإن لم يسنده إليه.
(الرابع) قد اختلف كلام أهل اللغة في معنى الإنفحة والظاهر أنه بسبب
ذلك اختلف كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ذلك، فعن الصحاح أن الإنفحة
بكسر الهمزة وفتح الفاء مخففة كرش الحمل والجدي ما لم يأكل. وقال في القاموس:
" الإنفحة بكسر الهمزة وتشديد الحاء وقد تكسر الفاء والمنفحة والتنفحة: شئ
يستخرج من بطن الجدي الراضع أصفر فيعصر في صوفة فيغلظ كالجبن فإذا أكل
الجدي فهو كرش، وتفسير الجوهري الإنفحة بالكرش سهو " وقال الفيومي في
المصباح المنير: " والإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء وتثقيل الحاء أكثر من تخفيفها
قال ابن السكيت وحضرني أعرابيان فصيحان من بني كلاب فسألتهما عن الإنفحة
فقال أحدهما لا أقول إلا إنفحة يعني إلا بالهمزة وقال الآخر لا أقول إلا منفحة يعني
إلا بميم مكسورة ثم افترقا واتفقا على أن يسألا جماعة من بني كلاب فاتفقت جماعة
على قول هذا وجماعة على قول هذا فهما لغتان، والجمع أنافح ومنافح، قال الجوهري
الإنفحة هي الكرش، وفي التهذيب لا تكون الإنفحة إلا لكل ذي كرش، وهو شئ
يستخرج من بطنه أصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ولا يسمى إنفحة
إلا وهو رضيع فإذا رعى قيل استكرش أي صارت أنفحته كرشا. ونقل ابن الصلاح
ما يوافقه فقال الإنفحة ما يؤخذ من الجدي قبل أن يطعم غير اللبن فإن طعم غيره قيل
مجبنة. وقال بعض الفقهاء ويشترط في طهارة الإنفحة أن لا تطعم السخلة غير اللبن وإلا
فهي نجسة وأهل الخبرة بذلك يقولون إذا رعت السخلة وإن كان قبل الفطام استحالت
إلى البعر " انتهى كلام صاحب المصباح. وقال في مجمع البحرين: والإنفحة بكسر
86

الهمزة وفتح الفاء مخففة وهي كرش الحمل والجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش حكاه
الجوهري عن أبي زيد، وفي المغرب إنفحة الجدي بكسر الهمزة وفتح الفاء وتخفيف
الحاء وتشديدها وقد يقال منفحة أيضا وهو شئ يخرج من بطن الجدي أصفر يعصر في
صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ولا يكون إلا لكل ذي كرش، ويقال إنها كرشه إلا أنه ما دام رضيعا سمي ذلك الشئ إنفحة فإذا فطم ورعى العشب قيل استكرش انتهى.
وقال ابن إدريس في السرائر: والإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء كرش الحمل والجدي
ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش وفسرها العلامة على ما نقله في المعالم في جملة من كتبه
بما يوافق كلام القاموس فقال إنها لبن مستحيل في جوف السخلة.
وأنت خبير بأنه قد علم من ذلك الاختلاف في الإنفحة بين كونها عبارة عن
الكرش أو عن ذلك الشئ الأصفر الذي يعصر في صوفة مبتلة فيغلظ، ويمكن ترجيح
الثاني بقوله (عليه السلام) في رواية الثمالي " إنما تخرج من بين فرث ودم " فإن الظاهر أنه
إشارة إلى قوله عز وجل: " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث
ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين " (1) قال في مجمع البيان نقلا عن ابن عباس قال: " إذا
استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق
واللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو " انتهى. ومقتضى ذلك أن اللبن الذي تشربه
السخلة يصير بعد وصوله إلى الكرش إلى هذه الأقسام الثلاثة ثالثها هو هذا الشئ الأصفر
الذي ذكره أهل اللغة وإن كان بعد رعيه العلف يضمحل ذلك ولا يصير كذلك وإنما
يبقى الفرث وهو التفل والدم خاصة. ويمكن أيضا أن يقال وهو الأنسب بكلام أهل
اللغة القائلين بأن الإنفحة عبارة عن ذلك الشئ الأصفر ما دام يغتذي باللبن وإذا اغتذى
بالعلف صار كرشا أنه في حال الاغتذاء باللبن ليس له كرش وإنما الذي يتحول إليه
لبنه الذي يشربه هذا الشئ الأصفر مع التفل والدم وبعد رعيه يصير هذا الشئ الأصفر

(1) سورة النحل، الآية 68.
87

كرشا، وبه ينطبق الخبر المذكور على كلام أهل اللغة انطباقا ظاهرا.
هذا، وقد اضطرب كلام جملة من أفاضل المتأخرين في هذا المقام في الحمل على أي
المعنيين المذكورين، من جهة أنهم حكموا في الصوف والشعر ونحوهما مما يؤخذ قلعا من
الميتة بوجوب الغسل كما تقدم من حيث ملاقاة الميتة برطوبة بناء على القاعدة المقررة
بينهم من أن ملاقي النجس مع الرطوبة ينجس، وحينئذ فبعضهم رجح تفسير الإنفحة
بالكرش دون ذلك الشئ الأصفر لأن ذلك الشئ الأصفر إن كان طاهرا بمقتضى
ظاهر الأخبار على تقدير تفسير الإنفحة به إلا أنه ينجس بملاقاة الجلد الذي يحويه فيمنع
من الانتفاع به ويحكم بنجاسته، وأما الكرش فإنه مع تفسير الإنفحة به يكون طاهرا
بمقتضى الأخبار المذكورة. وهل يحتاج ظاهره إلى تطهير من حيث الملاقاة لباطن الميتة
وإن كانت ذاته طاهرة؟ احتمالان نقل في المعالم عن والده في بعض فوائده أنه اختار
الأول ثم نقل عنه أنه توقف في الروضة. قال ولا نعلم من الأصحاب مصرحا بالثاني
وربما كان في اطلاقهم الحكم بالطهارة اشعار به. وقال في الذكرى الأولى تطهير ظاهرها
من الميتة للملاقاة. انتهى وقال في المدارك: في وجوب غسل الظاهر من الإنفحة
والبيضة وجهان أظهرهما العدم للأصل واطلاق النص، وظاهر كلام المنتهى يعطي الوجوب
وهو أحوط، انتهى. وقال الفاضل الخوانساري في شرح الدروس بعد نقل الخلاف في
المسألة: " والظاهر تفسير العلامة لأنه يظهر من الروايات المذكورة أن الإنفحة شئ
يصنع به الجبن، والظاهر أن الجبن إنما يعمل من الشئ الذي في جوف السخلة مثل
اللبن لا من كرشها الذي هو للحيوان بمنزلة المعدة للانسان، وما في رواية الثمالي من أنها تخرج من بين فرث ودم يشعر أيضا بأنه مثل اللبن، وعلى هذا فالظاهر أن الكرش
محلها " انتهى. وفيه أنه متى فسر الإنفحة بذلك الشئ الأصفر فهب أنها طاهرة
للنصوص إلا أن هذا الكرش الذي جعله محلها نجس البتة فيعود الاشكال كما تقدم ذكره
وبالجملة فإنه لا يخفى أن مقتضى تصريحهم بتعدي النجاسة للصوف المقلوع ونحوه
88

مضافا إلى القاعدة المتقدمة هو النجاسة ووجوب التطهير من حيث الملاقاة وإن كانت
طاهرة في حد ذاتها بأي المعنيين اعتبرت، إلا أن يقال بأن مقتضى الوقوف على ظواهر
النصوص المذكورة هو التطهير بالنسبة إلى الصوف ونحوه حيث دلت على ذلك حسنة حريز
المتقدمة، ولا منافاة في الحكم بطهارة الإنفحة بأي المعنيين المذكورين اعتبرت واستثناء
ذلك من حكم ملاقاة النجاسة كما سيأتي مثله في اللبن في ضرع الميتة، ولعل وجه الاستثناء
هو حكم الضرورة بالحاجة إلى الإنفحة كما يشعر به خبر يونس (1) من قوله (عليه
السلام): " خمسة أشياء ذكية مما فيها منافع الخلق: الإنفحة والبيض والصوف والشعر
والوبر " وحينئذ فيزول الاشكال من هذا المجال.
بقي الكلام هنا في بعض ما يتعلق بالمقام وهو أمران: (الأول) أن ظاهر
كلام أهل اللغة الذي قدمناه هو أن الإنفحة مخصوصة بما إذا لم يرع وإلا فلو رعى لم
يسم إنفحة وإنما يقال كرش مع أن شيخنا الشهيد في الذكرى قال: والإنفحة طاهرة من الميتة
والمذبوحة وإن أكلت السخلة غير اللبن. ولا ريب في ضعفه حيث إن كلامهم متفق
على تخصيص ذلك بما إذا كان اعتياده على اللبن ومع أكل غيره إنما يقال كرش لا إنفحة
(الثاني) قال في المدارك بعد ذكر الإنفحة: " واختلف كلام أهل اللغة في
معناها فقيل إنه كرش السخلة قبل أن تأكل، وقيل إنها شئ أصفر يستخرج من بطن
الجدي، ولعل الثاني أولى اقتصارا على موضع الوفاق وإن كان استثناء نفس الكرش أيضا
غير بعيد تمسكا بمقتضى الأصل " انتهى.
وأنت خبير (أولا) بأن ما علل به أولوية الثاني من الاقتصار على موضع
الوفاق لا أعرف له وجها ظاهرا مع ما عرفت من الخلاف في المسألة وتقابل القولين فيها
نعم لو كان القائل بأن الإنفحة عبارة عن الكرش يعني الكرش وما فيه ومن جملته
ذلك الشئ الأصفر فيكون القول بالكرش أعم مطلقا فإنه يتم ما ذكره لكن لم أقف

(1) ص 78.
89

على من صرح بذلك من الأصحاب ولا من أهل اللغة بل ظاهر الجميع تباين القولين.
و (ثانيا) أن ما ذكره من التمسك بالأصل مردود بما عرفت من عموم نجاسة
الميتة الموجب لتنجيس ما لاقاها برطوبة، والكرش وإن كان طاهرا بالذات من حيث
استثناء الروايات إلا أنه نجس بالعرض، إلا أن يجاب عن الاشكال المذكور بما ذكرناه.
(الخامس) أن جملة من الأخبار المتقدمة قد دلت على استثناء البيضة كجملة
ما ذكر من العشرة. وظاهر اطلاقها الحكم بالطهارة وإن لاقت الميتة بالرطوبة مع مخالفة
ذلك لما عرفت في الصوف ونحوه من أنه متى أخذ بالقلع فإنه يجب تطهير موضع الملاقاة
كما قال به الأصحاب (رضوان الله عليهم) ودلت عليه حسنة حريز، ومن أجل ذلك
اختلفت كلمة الأصحاب في البيضة أيضا، فظاهر بعض الحكم بالطهارة نظرا إلى اطلاق
النصوص والظاهر أنه قول الأكثر كما نقله في المعالم، حيث إنهم أطلقوا الحكم بطهارة
البيضة ولم يتعرضوا لحكم ظاهرها مع معلومية ملاقاتها بالرطوبة للميتة النجسة، والمفهوم
من كلام العلامة النجاسة كما صرح به في النهاية حيث قال: البيضة من الدجاجة الميتة
طاهرة إن اكتست الجلد الفوقاني الصلب لأنها صلبة القشر لاقت نجاسة فلم تكن نجسة
في نفسها بل بالملاقاة، ونحوه في المنتهى أيضا.
ويمكن تأييد ما ذهب إليه العلامة بأن حسنة حريز التي استدل بها على غسل
موضع القلع من الصوف ونحوه قد تضمنت البيضة في جملة تلك الأفراد المعدودة فيها
والأمر بغسل تلك الأشياء المعدودة إذا أخذت بعد الموت فتدخل البيضة في ذلك، غاية
الأمر أنها قد اشتملت أيضا على اللبن واللبأ وهذان الفردان يجب اخراجهما من حيث
عدم إمكان الغسل فيهما فلا ينصرف الأمر المذكور إليهما، واشتملت بعد الأمر بالغسل
على الأمر بالصلاة وهذا ربما يشعر بظاهره خروج البيضة أيضا حيث إنه لا يصلى فيها.
ويمكن أن يقال إن الأمر بالغسل لا يستلزم الأمر بالصلاة فيحمل الأمر بالصلاة على
ما يصلى فيه من تلك الأفراد كالصوف والشعر، إذ لا يخفى أن الرواية قد اشتملت في جملة
90

المعدودات أيضا على القرن والحافر والناب ومن الظاهر أن هذه لا يصلى فيها، وتمحل
الحمل على بعض الأفراد النادرة الشاذة إن اتفق إلا أنه لا يعمل عليه ولا ينبغي أن يصغى
إليه إذ اطلاق الأخبار إنما ينصرف إلى الأفراد المتكثرة كما سمعته غير مرة، وبالجملة
فإن الرواية المذكورة صرحت بعد تعداد تلك الأفراد المذكورة فيها بأن كل شئ يفصل
من الشاة والدابة فهو ذكي وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه، وحينئذ
فكما استثني اللبن واللبأ من حيث عدم صلاحيتهما للغسل ينبغي أن يستثنى من الصلاة
ما لا تقع الصلاة فيه ولا يكون مما يصلي فيه ويبقى الغسل عاما للجميع عدا اللبن واللبأ،
فكأنه قيل: وكل شئ من هذه الأشياء متى أخذ من الميتة فاغسله من حيث ملاقاة الميتة
وصل فيه إن كان مما يصلى فيه. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه. وعلى هذا فيحمل
اطلاق باقي الروايات على هذه الرواية فيجب حينئذ غسل البيضة، ويؤيد ذلك بموافقة
القاعدة الكلية في ملاقاة النجاسة برطوبة وغسل أصل الصوف ونحوه وأوفقيته
بالاحتياط في الدين.
بقي الكلام أيضا في موضعين آخرين: (أحدهما) أن أكثر الأخبار التي
قدمناها خالية من التعرض لاشتراط اكتساء البيضة القشر الأعلى نعم ذلك في رواية
غياث خاصة، وظاهر الأصحاب الاتفاق على هذا الشرط وكأنهم حملوا اطلاق الأخبار
المذكورة على هذه الرواية وطعن فيها في المدارك بضعف السند وظاهره العمل باطلاق
الأخبار المذكورة حيث إن فيها الصحيح مثل صحيحة زرارة، وظاهر صاحب المعالم
أيضا العمل بالاطلاق المذكور لضعف الخبر مع طعنه في الأخبار الآخر أيضا بناء على
اصطلاحه الذي تفرد به من توقف الوصف بالصحة على أخبار اثنين من علماء الرجال،
إلا أنه عضدها بموافقة الأصل وكثرتها وأن الصدوق في المقنع لم يتعرض لهذا الشرط
بل أطلق القول كما في أكثر الأخبار، وجمهور الأصحاب على خلاف ما ذهب إليه وضعف
الخبر المذكور مجبور عندهم بالشهرة وعمل الأصحاب على ما تضمنه، وهو الظاهر الذي عليه
91

العمل حيث إنا لا نرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث.
و (ثانيهما) أن كلام الأصحاب قد اختلف في التعبير عن هذا الشرط
الذي ذكر لطهارة البيضة، فبعض المتقدمين اقتصر على نقل الحديث فعبر بالجلد الغليظ
واقتفاه الشيخ في النهاية كما هي عادته غالبا من التعبير بمتون الأخبار، وبعض عبر بالجلد
ولكن بدلوا لفظ الغليظ بالفوقاني، وعبر جماعة: منهم المحقق والشهيد بالقشر الأعلى
وفي كلام العلامة في جملة من كتبه الصلب كما تقدم في عبارة النهاية ومثله في المنتهى،
وتبعه على التقييد بالصلابة بعض المتأخرين، والظاهر أن مرجع الجميع إلى أمر واحد
والاختلاف إنما هو بحسب اللفظ، أما فيما عدا عبارة العلامة بالصلب فظاهر، وأما في
التعبير بالصلب فيمكن أن يكون خرج مخرج الغالب، وبيان ذلك أن هذا القشر
الذي يجمع البياض والصفرة أول ما يكون رقيقا ثم يغلظ حتى يصير صلبا، والمراد بالقشر
الأعلى والجلد الغليظ والفوقاني في عباراتهم هو هذا الغشاء الرقيق الذي يصلب بعد ذلك
إذا آن رمي الدجاجة للبيضة واخراجها، فالاعتبار في طهارة البيضة بحصوله وإن لم يصلب
على الوجه الذي تخرج عليه البيضة عادة، وتقييد العلامة بالصلابة ربما ينافي ذلك إلا أن
يحمل على الخروج مخرج الغالب كما ذكرنا، نعم حكى العلامة في بعض كتبه عن بعض
الجمهور أنه ذهب إلى طهارة البيضة وإن لم تكتس القشر الأعلى محتجا بأن عليها غاشية
رقيقة تحول بينها وبين النجاسة، ثم قال: والأقرب عندي أنها إن كانت قد اكتست
الجلد الأعلى وإن لم يكن صلبا فهي طاهرة لعدم الملاقاة وإلا فلا، وربما أشعر هذا الكلام
بمنافاة ما ذكرناه إلا أنه يمكن ارجاعه إليه بأن يحمل كلامه على أن المراد أنه إن كانت
هذه الغاشية الرقيقة هي الجلد الأعلى الذي يجمع البياض والصفرة وهو الذي يصلب بعد
ذلك فإنه يصلب عليه الجلد الأعلى الذي هو المناط في الطهارة وإن لم يكن صلبا وإلا فلا،
وهذا يرجع إلى ما قدمنا ذكره.
(السادس) اختلف أصحابنا في طهارة اللبن في ضرع الشاة الميتة ونجاسته،
92

فعن الصدوق في المقنع والشيخ في الخلاف والنهاية وكتابي الحديث وكثير من الأصحاب
الطهارة حتى نقل عن الشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية دعوى الاجماع على ذلك،
وقال ابن إدريس في السرائر: اللبن نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا لأنه
مائع في ميتة ملامس لها، وما أورده شيخنا في نهايته رواية شاذة مخالفة لأصول المذهب
لا يعضدها كتاب الله ولا سنة مقطوع بها ولا اجماع وتبعه على القول بذلك جماعة من
الأصحاب: منهم الفاضلان، قال في المنتهى المشهور عند علمائنا أن اللبن من الميتة
المأكولة للحم بالذكاة نجس وقال بعضهم هو طاهر، ثم قال في الاستدلال على النجاسة:
لنا على التنجيس أنه مائع في وعاء نجس فكان نجسا كما لو احتلب في وعاء نجس، ولأنه
لو أصاب الميتة بعد حلبه تنجس فكذا لو انفصل قبله لأن الملاقاة ثابتة في البابين.
وإلى القول بالطهارة مال من المتأخرين ومتأخريهم الشهيد في الذكرى والسيد
السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المعالم والفاضل الخوانساري في شرح الدروس
والفاضل الخراساني في الذخيرة، وهو المختار لما تقدم من الأخبار وهي صحيحة زرارة
وحسنة حريز وموثقة الحسين بن زرارة أو حسنته ومرسلة الفقيه المسندة في الخصال.
ولا يخفى أن ما استندوا إليه في الحكم بالنجاسة من حيث كونه مائعا ملامسا
للميتة وكل ما كان كذلك فهو نجس فهو لا يخلو من مصادرة، والعموم الدال على نجاسة
الملاقي للنجاسة برطوبة وهو دليل الكبرى مخصوص بالأخبار المذكورة فإنها صالحة
للتخصيص فلا مانع من القول بها واستثناء هذا الفرد من العموم المذكور. وأما ما احتجوا
به زيادة على الدليل المتقدم من رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليهما
السلام) (1) " أن عليا (عليه السلام) سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن فقال علي
(عليه السلام) ذلك الحرام محضا " فهي لا تقوم بمعارضة الأخبار المذكورة، وقد أجاب
عنها الشيخ في التهذيب بأنها رواية شاذة لم يروها غير وهب بن وهب وهو ضعيف جدا

(1) المروية في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة.
93

عند أصحاب الحديث (1) ولو كان صحيحا لجاز أن يكون الوجه فيه ضربا من التقية لأنها موافقة
لمذهب العامة لأنهم يحرمون كل شئ من الميتة ولا يجيزون استعماله على حال (2) انتهى.
وأما ما أجاب به في المختلف عن صحيحة زرارة وحسنة حريز بأنهما محمولان
على ما إذا قاربت الشاة الموت فلا يخفى ما فيه من التمحل البعيد ولو كان كذلك لم
تصلح الروايتان دليلا على طهارة الأشياء المعدودة مع اللبن من الميتة مع أنه وغيره
يستدلون بهما على ذلك، وتخصيص هذا القيد باللبن مع عده في قرن تلك الأشياء باطل
على أن ارتكاب التأويل ولا سيما مثل هذا التكلف السحيق بالنظر إلى قواعدهم إنما
يسوغ مع حصول التعارض بين الدليلين، وأي منصف يدعي صلاحية معارضة هذه
الرواية الضعيفة لتلك الأخبار الصحيحة الكثيرة؟ قال في المعالم ونعم ما قال
والعجب من العلامة بعد تفسيره الإنفحة باللبن المستحيل وحكمه بطهارتها للأخبار الدالة
على ذلك مع تحقق وصف المائعية فيها كيف يجعل اعتبار الملاقاة مع المائعية هنا معارضا
للخبر. انتهى. وأما ما أجاب به الفاضل الخوانساري في شرح الدروس حيث قال
بعد نقل هذا الكلام: " وكأنه لا عجب على ما ذكرناه سابقا من أن الإنفحة كأنها
ليست مائعة على الاطلاق بل هي لبن منجمد " ففيه أن ما قدمنا نقله عن أهل اللغة من أن
الإنفحة شئ يستخرج من بطنه أصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ظاهر
في كونه في بطن السخلة مائعا وأنه بعد أخذه من بطن السخلة يعصر على الوجه المذكور
فيعرض له الجمود بعد ذلك فلا يتم ما ذكره على كلام المحقق المشار إليه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن عبارة العلامة التي قدمناها عن المنتهى تدل على أن محل
النزاع لبن الميتة المأكولة اللحم بالذكاة ولم يتعرض لغير المأكولة، وظاهر كلام غيره
وكذا ظاهر الأخبار هو العموم وعدم الفرق، وصاحب المعالم مع تعرضه في الإنفحة
لكونها من المأكول وغيره وتردده في غير المأكول كما تقدم الكلام فيه لم يتعرض هنا

(1) راجع التعليقة 1 ج 2 ص 81
(2) تأتي تعليقة المورد في الاستدراكات
94

للفرق ولا لعدمه، وبالجملة فالاحتياط في أمثال ذلك مما ينبغي المحافظة عليه.
(السابع) قال في المنتهى: فأرة المسك إذا انفصلت من الظبية في حياتها
أو بعد التذكية طاهرة وإن انفصلت بعد موتها فالأقرب النجاسة. وقال في الذكرى
المسك طاهر اجماعا وفأرته وإن أخذت من غير المذكى. وبهذا القول صرح العلامة في
النهاية أيضا فقال: فأرة المسك إن انفصلت من الظبية في حياتها أو بعد التذكية طاهرة
وإن انفصلت بعد موتها فالأقرب ذلك أيضا للأصل. وفي التذكرة أيضا حكم بالطهارة
مطلقا سواء انفصلت من الظبي حال حياته أو بعد موته وهو خلاف ما ذكره في المنتهى.
قال في المدارك: والأصح طهارتها مطلقا كما أختاره في التذكرة للأصل وصحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن فأرة المسك
تكون مع الرجل وهو يصلي وهي معه في جيبه أو ثيابه؟ فقال لا بأس بذلك " ثم قال:
ولا ينافي ذلك ما رواه عبد الله بن جعفر في الصحيح (2) قال: " كتبت إليه يعني
أبا محمد (عليه السلام) هل يجوز للرجل أن يصلي ومعه فأرة مسك؟ قال لا بأس بذلك
إذا كان ذكيا " لجواز أن يكون للراد بالذكي الطاهر مع أن المنع من استصحابها في الصلاة
لا ينحصر وجهه في النجاسة. انتهى.
أقول: فيه أن ما ذكره من اختيار القول بالطهارة عملا بصحيحة علي بن جعفر وحمل
الصحيحة الأخرى على ما ذكره فلقائل أن يقول بما ذهب إليه في المنتهى من القول بالنجاسة عملا
بصحيحة عبد الله بن جعفر المذكورة، بأن يقال إن المراد من قوله: " إذا كان ذكيا " أما الحمل
على رجوع ضمير " كان " إلى الظبي المدلول عليه بالفأرة بمعنى أن يكون مذكى لا ميتة
والمراد بالمذكى ما هو أعم من حال الحياة أو التذكية بالذبح، وربما يستأنس لذلك بتذكير
الضمير، وأما الرجوع إلى الفأرة باعتبار ما ذكرناه أيضا أي إذا كانت ذكية بالأخذ
من أحد هذين الفردين، والظاهر قرب ما ذكرناه على ما ذكره من أن المراد كونها

(1) رواه في الوسائل في الباب 41 من أبواب لباس المصلي.
(2) رواه في الوسائل في الباب 41 من أبواب لباس المصلي.
95

طاهرة لم تعرض لها نجاسة من الخارج كما احتمله في الذكرى أيضا وأجاب به عن الحديث
المذكور إذ لا خصوصية لذلك بالفأرة. وأما صحيحة علي بن جعفر فلعل منشأ السؤال
فيها عن فأرة المسك إنما هو من حيث توهم نجاسة المسك باعتبار أن أصله الدم كما قيل
" أن المسك بعض دم الغزال " وحينئذ فنفي البأس يرجع إلى طهارته بالاستحالة التي هي
من جملة المطهرات الشرعية، وأما من حيث فأرة المسك واحتمال كونها ميتة المستلزم
لنجاستها كما هو ظاهر صحيحة عبد الله بن جعفر المذكورة التي قد عرفت أنها مستند
العلامة فيما ذهب إليه في المنتهى، وحينئذ فنفي البأس من حيث وجوب البناء على أصالة
الطهارة لقولهم (عليهم السلام) (1) " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " وفأرة المسك
لما كان منها ما هو طاهر ونجس كما عرفت دخلت تحت الكلية المذكورة، ويمكن بناء
على الثاني حمل نفي البأس من حيث إنها لا تتم فيها الصلاة وقد عفي عن نجاسة ما لا تتم
الصلاة فيه فهي وإن كانت نجسة بالموت إلا أنها مما لا تتم الصلاة فيه. لكن يدفع هذا
الوجه ظاهر صحيحة عبد الله بن جعفر فإنها قد دلت على النهي عن الصلاة فيها من حيث
كونها غير ذكية يعني ميتة وهي ظاهرة في عدم جواز الصلاة في الميتة وإن كانت مما
لا تتم الصلاة فيه، وعلى ذلك أيضا تدل جملة من الأخبار فتكون الصلاة فيما لا تتم
الصلاة فيه من الميتة الموجب لبطلانها مستثنى من جواز الصلاة في النجس الذي لا تتم
الصلاة فيه. وبالجملة فالاحتمالان المذكوران متعارضان، وربما يرجح الاحتمال الذي
صار إليه في المدارك وبه صرح أكثر الأصحاب بمطابقة الأصل، إلا أن المسألة عندي
لا تخلو من شوب الاشكال والاحتياط فيها مطلوب على كل حال.
بقي هنا شئ وهو أنه قد تقدم في المسألة الثانية تصريح الأصحاب بأن ما تحله

(1) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات، واللفظ في موثقة عمار
هكذا " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر " وسيأتي منه (قدس سره) التصريح بذلك في
التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة الثانية من البحث الأول من أحكام النجاسات.
96

الحياة من الحيوان ذي النفس السائلة نجس متى انفصل عنه في حال الحياة أو الموت،
والأكثر كما عرفت على ما صرح به العلامة في التذكرة والنهاية من القول هنا بطهارة
الفأرة مطلقا وإن انفصلت من الحية أو الميتة، وهو مدافع لما ذكروه ثمة، والجواب عن
ذلك هو تخصيص الحكم في تلك المسألة بروايات هذه المسألة الدالة على الطهارة واستثناء
هذا الفرد بهذين الخبرين من الحكم المتقدم. والله العالم.
(الثامن) أن ما اشتملت عليه رواية أبي حمزة الثمالي من قوله (عليه
السلام): " فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلا أن يأتيك
من يخبرك عنه " بعد قوله (عليه السلام): أن الإنفحة ليس بها بأس.. إلى آخر الكلام
المؤذن بأن توهم التحريم في الجبن إنما هو من حيث الإنفحة لأنها ميتة كما هو اعتقاد السائل
المذكور ونفيه (عليه السلام) ذلك المقتضي لحل الجبن لا يخلو من اشكال، والظاهر أن الوجه فيه أحد أمرين: أما حمل الكلام الأخير على ما إذا حصل سبب آخر يوجب
التحريم فيكون حكما مستأنفا لا تعلق له بجواب السائل، وأما حمل الكلام على الرجوع
عن الجواب الأول حيث إنه (عليه السلام) فهم من السائل عدم قبوله من حيث حكمه
بأن الإنفحة ميتة موجبة لتنجيس الجبن إذا لاقته فعدل إلى الجواب بالتي هي أحسن من أنه مع تسليم ما يدعيه فإن الأصل في الأشياء الطهارة فاشتر من سوق المسلمين وكل حتى تعلم
أنه خالطه الإنفحة، وبهذا الوجه صرح في الوافي حيث قال: " ولما استفرس (عليه
السلام) من قتادة عدم قبوله ولا قابليته لمر الحق عدل به عن الحق إلى الجدال بالتي
هي أحسن وقال: اشتر الجبن من أسواق المسلمين ولا تسأل عنه " انتهى.
أقول: وأخبار الجبن جلها أو كلها قد اشتملت على تعليل تحليل الجبن بهذه
القاعدة المنصوصة، والظاهر أن السر فيه هو ما ذكرناه في الوجه الأول أو الثاني، ومنها
ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن الصادق (عليه السلام) (1) " في الجبن؟

(1) رواه في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة.
97

قال: كل شئ لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة " وهذا الخبر أقرب
انطباقا على الوجه الثاني، ومنها صحيحة ضريس (1) قال: " سألت أبا جعفر (عليه
السلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال أما ما علمت
أنه خلطه الحرام فلا تأكل وأما ما لم تعلم فكل حتى تعلم أنه حرام " وهي محتملة للوجهين
المتقدمين. ورواية عبد الله بن سليمان (2) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن
الجبن؟ قال سألتني عن طعام يعجبني ثم أعطى الغلام درهما فقال يا غلام ابتع لنا جبنا
ودعى بالغداء فتغدينا معه فأتى بالجبن فأكل وأكلنا فلما فرغنا من الغداء، قلت ما تقول
في الجبن؟ فقال أولم ترني أكلته؟ قلت بلى ولكني أحب أن أسمعه منك. فقال
سأخبرك عن الجبن وغيره: كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام
بعينه فتدعه " وهذا الخبر أظهر انطباقا على المعنى الثاني حيث إن ظاهره أن الجبن من
الأشياء التي فيها الحلال والحرام كاللحم من المذكى والميتة وليس ذلك إلا باعتبار ما يعمل
بالأنفحة وما لا يعمل بها والأول منه حرام لمكان الإنفحة لأنها ميتة، وحينئذ فمخرج
هذه الأخبار كلها إنما هو على التقية من حيث اشتهار الحكم بنجاسة الإنفحة عند العامة كما
عرفته من كلام قتادة الذي هو من رؤوسهم (3) والله العالم.
(الفصل السادس) في الخمر وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في نجاسته، فالمشهور بين أكثر علمائنا بل أكثر أهل العلم هو القول بالنجاسة حتى أنه حكي
عن المرتضى (رضي الله عنه) أنه قال لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن
شذاذ لا اعتبار بقولهم. وعن الشيخ أنه قال: الخمر نجسة بلا خلاف وكل مسكر عندنا حكمه

(1) المروية في الوسائل في الباب 64 من الأطعمة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة.
(3) في المغني ج 1 ص 74 " لبن الميتة وأنفحتها نجسة في ظاهر المذهب وهو قول
مالك والشافعي، وروي أنها طاهرة وهو قول أبي حنيفة وداود.
98

حكم الخمر وألحق أصحابنا الفقاع بذلك. وعن ابن زهرة الخمر نجسة بلا خلاف ممن
يعتد به، ونقل ابن إدريس اجماع المسلمين عليه، وقال الصدوق في الفقيه والمقنع
لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر لأن الله تعالى حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب
أصابته. وهو ظاهر كالتصريح في القول بالطهارة مع أنه حكم بنزح ماء البئر أجمع بانصباب
الخمر فيها، وأصرح منه ما نقل عن ابن أبي عقيل حيث قال: من أصاب ثوبه أو جسده
خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما لأن الله تعالى إنما حرمهما تعبدا لا لأنهما نجسان.
وعزى في الذكرى إلى الجعفي وفاق الصدوق وابن أبي عقيل وكذا في الدروس، قال
في المعالم: بعد نقل القول بالطهارة عن هؤلاء الثلاثة ولا يعرف هذا القول لسواهم
من الأصحاب.
احتج القائلون بالنجاسة بوجوه: (الأول) الاجماع المتقدم ذكره بناء على
ما تقرر عندهم من أن الاجماع المنقول بخبر الواحد حجة.
(الثاني) قوله عز وجل: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس
من عمل الشيطان فاجتنبوه " (1) فإن الرجس هو النجس على ما ذكره بعض أهل اللغة
والاجتناب عبارة عن عدم المباشرة ولا معنى للنجس إلا ذلك.
(الثالث) الروايات والذي وقفت عليه من ذلك ما رواه ثقة الاسلام
في الصحيح عن علي بن مهزيار (2) قال: " قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن
(عليه السلام) جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)
في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا لا بأس بأن يصلي فيه إنما حرم شربها. وروى
غير زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر
فاغسله إن عرفت موضعه وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله وإن صليت فيه فأعد صلاتك.

(1) سورة المائدة، الآية 90.
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات.
99

فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع (عليه السلام) وقرأته: خذ بقول أبي عبد الله (عليه السلام) ".
وما رواه في الكافي عن يونس عن بعض من رواه عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه وإن لم تعرف
موضعه فاغسله كله فإن صليت فيه فأعد صلاتك ".
وعن خيران الخادم (2) قال: " كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر
ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم صل فيه فإن
الله تعالى إنما حرم شربها وقال بعضهم لا تصل فيه. فكتب (عليه السلام) لا تصل فيه
فإنه رجس " ورواه في التهذيب أيضا مثله، وقال في الكافي بعد نقل خبر خيران
قال (3): " وسألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل
الجري أو يشرب الخمر فيرده أيصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال لا يصل فيه حتى يغسله "
ولا يخفى ما في هذا السند من الاشتباه لأن الظاهر أن ضمير " قال " يرجع إلى خيران
وفي رؤيته أبا عبد الله (عليه السلام) وسؤاله منه بعد لأنه من موالي الرضا (عليه
السلام) وأصحابه.
وعن أبي جميلة البصري (4) قال: " كنت مع يونس ببغداد وأنا أمشي في السوق
ففتح صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب ثوب يونس فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت
الشمس فقلت له يا أبا محمد ألا تصلي؟ قال فقال لي ليس أريد أن أصلي حتى أرجع إلى
البيت فاغسل هذا الخمر من ثوبي. فقلت له هذا رأي رأيته أو شئ ترويه؟ فقال أخبرني
هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفقاع فقال لا تشربه فإنه خمر
مجهول وإذا أصاب ثوبك فاغسله ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوافي ج 4 ص 33 وقطعة منه في الوسائل في الباب 27 من الأشربة المحرمة.
100

وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن عمار بن موسى الساباطي عن الصادق
(عليه السلام) (1) قال: " لا تصل في بيت فيه خمر ولا مسكر لأن الملائكة لا تدخله "
ولا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله ".
وما رواه في الكافي عن زكريا بن آدم (2) قال: " سألت أبا الحسن (عليه
السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير؟ قال
يهراق المرق أو تطعمه أهل الذمة أو الكلب واللحم اغسله وكله. قلت فإنه قطر فيه
دم؟ قال الدم تأكله النار إن شاء الله تعالى. قلت فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال
فقال فسد. قلت أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال نعم فإنهم يستحلون شربه.
قلت والفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شئ من ذلك؟ فقال أكره أن آكله إذا قطر
في شئ من طعامي ".
وعن عمار بن موسى الساباطي في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (3) قال:
" سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه الخل أو ماء كامخ أو زيتون؟
قال إذا غسل فلا بأس. وعن الإبريق يكون فيه خمر أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال
إذا غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات.
سئل يجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات "
ورواه الشيخ في التهذيب مثله.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن فضالة عن عبد الله بن سنان (4) قال: " سأل أبي
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري ويشرب الخمر
فيرده أيصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال لا يصلي فيه حتى يغسله " أقول: قد حمله الشيخ

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 51 من النجاسات و 30 من الأشربة المحرمة
(4) رواه في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.
101

على الاستحباب، قال لأن الأصل في الأشياء الطهارة ولا يجب غسل شئ من الثياب
إلا بعد العلم بأن فيها نجاسة، وقد روى هذا الراوي بعينه خلاف هذا الخبر ثم أورد
الخبر الآتي:
وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) قال: " سأل أبي أبا عبد الله
(عليه السلام) وأنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم
الخنزير فيرده علي فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام) صل فيه
ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس أن
تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه ".
وعن عمار في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (2) " في الإناء يشرب فيه
النبيذ؟ قبل أن تغسله سبع مرات ".
وموثقة عمار أيضا عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " لا تصل في ثوب
أصابه خمر أو مسكر واغسله إن عرفت موضعه فإن لم تعرف موضعه فاغسل الثوب كله
فإن صليت فيه فأعد صلاتك ".
وصحيحة الحلبي (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دواء عجن
بالخمر؟ فقال لا والله ما أحب أن أنظر إليه فكيف أتداوى به أنه بمنزلة شحم الخنزير

(1) رواه في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 و 35 من الأشربة المحرمة.
(3) لم نعثر في كتب الحديث على رواية لعمار بهذا اللفظ وإنما الوارد فيها هكذا
" لا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله " وقد رواه في الوسائل في الباب 38 من
النجاسات. نعم ورد هذا المضمون في رواية غير زرارة التي يرويها علي بن مهزيار وفي
رواية يونس المتقدمتين وسيأتي في التنبيه الأول التعرض لموثقة عمار بالنص المتقدم
(4) المروية في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المحرمة.
102

أو لحم الخنزير " وفي بعض الروايات " أنه بمنزلة الميتة ".
وفي رواية أبي بصير (1) وهي طويلة عن الصادق (عليه السلام) في النبيذ
وسؤال أم خالد العبدية عن التداوي به قال: " ما يبل الميل ينجس حبا من ماء،
يقولها ثلاثا ".
وفي الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام)
عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ قال لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون
ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر ".
وعن عمر بن حنظلة (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما ترى في
قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره، فقال لا والله ولا
قطرة تقطر منه في حب إلا أهريق ذلك الحب ".
وعن هارون بن حمزة الغنوي عن الصادق (عليه السلام) (4) " في رجل اشتكى
عينيه فنعت له كحل يعجن بالخمر؟ فقال هو خبيث بمنزلة الميتة فإن كان مضطرا فليكتحل به ".
ومنها الأخبار الواردة في نزح البئر من صب الخمر فيه (5) مع كثرتها وصحة
أسانيد كثير منها.
هذا ما حضرني مما يدل على القول بالنجاسة كما هو القول المشهور والمؤيد المنصور.
وأما ما يدل على القول الآخر بعد الأصل فجملة من الأخبار أيضا: منها ما رواه
الحسن بن أبي سارة في الصحيح (6) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إن

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من الأشربة المحرمة
(2) رواه في الوسائل في الباب 54 من الأطعمة المحرمة
(3) رواه في الوسائل في الباب 18 من الأشربة المحرمة
(4) رواه في الوسائل في الباب 21 من الأشربة المحرمة
(5) رواها في الوسائل في الباب 15 من أبواب الماء المطلق
(6) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات
103

أصاب ثوبي شئ من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال لا بأس أن الثوب لا يسكر ".
وما رواه عبد الله بن بكير في الموثق (1) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه
السلام) وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ فقال: لا بأس به ".
وما رواه الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد في الصحيح
عن علي بن رئاب (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخمر والنبيذ المسكر
يصيب ثوبي أغسله أو أصلي فيه؟ قال صل فيه إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر إن
الله تبارك وتعالى إنما حرم شربها ".
ورواية الحسين بن موسى الحناط (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي؟ فقال لا بأس ".
ورواية أبي بكر الحضرمي (4) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أصاب
ثوبي نبيذ أصلي فيه؟ قال نعم. قلت له قطرة من نبيذ قطرت في حب ماء أشرب منه؟
قال نعم إن أصل النبيذ حلال وإن أصل الخمر حرام " قال في الذخيرة: وجه الدلالة أن
الظاهر عدم القائل بالفصل وحمل الشيخ النبيذ في هذه الرواية على النبيذ الحلال. وهو جيد
ورواية الحسن ابن أبي سارة (5) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
إنا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمر ساقيهم
فيصب على ثيابي الخمر؟ قال: لا بأس به إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره ".
ورواية حفص الأعور (6) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الدن يكون
فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل؟ قال نعم ".
وروى ابن بابويه مرسلا (7) قال: " سئل أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهما

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 39 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات
(5) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات
(6) المروية في الوسائل في الباب 51 من النجاسات و 30 من الأشربة المحرمة.
(7) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات
104

السلام) فقيل لهما إنا نشتري ثيابا يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها أنصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقال نعم لا بأس إنما حرم الله تعالى أكله وشربه ولم يحرم لبسه ومسه
والصلاة فيه " ورواه الصدوق في علل الشرائع بطريق صحيح عن بكير عن الباقر
(عليه السلام) وعن أبي الصباح وأبي سعيد والحسن النبال عن الصادق (عليه السلام).
وروى الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) " أنه
سأله عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن
يغسله؟ فقال لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس " ورواه في قرب الإسناد
عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن رجل مر في
ماء المطر قد صب فيه الخمر.. الحديث ".
ورواية علي الواسطي (3) قال: " دخلت الجويرية وكانت تحت عيسى بن موسى
على أبي عبد الله (عليه السلام) وكانت صالحة فقالت إني أتطيب لزوجي فيجعل في
المشطة التي أتمشط بها الخمر وأجعله في رأسي؟ قال لا بأس ".
وفي الفقه الرضوي (4) " لا بأس أن تصلي في ثوب أصابه خمر لأن الله تعالى
حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته ".
إذا عرفت ذلك فاعلم أن جملة من أفاضل متأخري المتأخرين كالسيد السند في المدارك
والفاضل الخراساني في الذخيرة والمحقق الخوانساري وغيرهم قد اختاروا القول بالطهارة
وأجابوا عن الاجماع بعدم ثبوته بعد تحقق الخلاف في المسألة من هؤلاء الأجلاء، وأما
الآية فأجابوا عنها أيضا بأجوبة واسعة نقضا وإبراما ليس في التعرض لها مزيد فائدة.
والحق هو الرجوع على الأخبار في هذا المقام خاصة، أما الاجماع فلما عرفت في مقدمات

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب الماء المطلق
(2) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب الماء المطلق
(3) المروية في الوسائل في الباب 37 من الأشربة المحرمة
(4) ص 38.
105

الكتاب، وأما الآية فلا دلالة لها ظاهرا إلا بارتكاب تكلفات بعيدة كما يظهر من بحثهم
جوابا وسؤالا.
وهؤلاء الأفاضل المشار إليهم بعد بحثهم في المسألة حملوا أخبار النجاسة على الاستحباب
وجمعوا به بين الأخبار في هذا الباب كما هي قاعدتهم المستمرة في جميع الأبواب حسبما
نبهنا عليه في غير مقام مما تقدم في الكتاب، قال السيد السند في المدارك الذي هو
الأصل في ذلك بعد ذكر القول بالنجاسة ونقل بعض أخباره ثم القول بالطهارة ونقل
بعض أخباره: وأجاب الأولون عن هذه الأخبار بالحمل على التقية جمعا بينها وبين
ما تضمن الأمر بغسل الثوب منه، وهو مشكل لأن أكثر العامة قائلون بالنجاسة (1)
نعم يمكن الجمع بينهما بحمل ما تضمن الأمر بالغسل على الاستحباب لأن استعمال الأمر
في الندب مجاز شائع انتهى. ونحوه في الذخيرة بزيادة تأييد لذلك بوجوه لفقها،
ملخصها بعد الحمل على التقية وإن حمل الأوامر والنواهي في أخبارنا على الاستحباب
والكراهة شائع ذائع كأنه الحقيقة كما أشرنا إليه مرارا.
أقول: لا يخفى أن الكلام في الجمع بين هذه الأخبار دائر بين هذين الوجهين،
وهؤلاء الأفاضل قد اختاروا الحمل على الاستحباب في الجمع بين هذا الأخبار، وها أنا
أبين ما فيه من البعد بل الفساد وعدم انطباق أخبار المسألة عليه، وبه يتعين حمل أخبار
الطهارة على التقية إذ لم يبق بعد بطلان حمل أخبار النجاسة على الاستحباب إلا رميها
بالكلية متى عملنا بأخبار الطهارة، وفيه من البطلان ما هو غني عن البيان لكثرتها
واستفاضتها وصحة جملة منها باصطلاحهم وعمل الطائفة قديما وحديثا عليها إلا هؤلاء الثلاثة

(1) كما في بداية المجتهد لابن رشد المالكي ج 1 ص 70، وذكر ابن قدامة في المغني
ج 1 ص 72 والشيرازي في المهذب ج 1 ص 48 طهارة الخمر بالاستحالة إلى الخل، وفي
بدائع الصنائع ج 1 ص 76 " ينزح ماء البئر كله إذا وقع فيه من الأنجاس كالبول
والدم والخمر ".
106

المذكورين والثلاثة المتقدمين، أو حمل أخبار الطهارة على التقية وبه يتم المطلوب.
فأما ما يدل على بطلان الحمل على الاستحباب فوجوه: (الأول) أنه وإن اشتهر
ذلك بينهم في جميع أبواب الفقه إلا أنه لا مستند له من سنة ولا كتاب، وقد استفاضت
الأخبار عنهم (عليهم السلام) بوجوه الجمع بين الأخبار والترجيح في مقام اختلاف
الأخبار، ولو كان لهذا الحمل والجمع بين الأخبار أصل في الشريعة لما أهملوه (عليهم
السلام) سيما أنهم (رضوان الله عليهم) قد اتخذوه قاعدة كلية في مقام اختلاف
الأخبار في جميع أبواب الفقه وأحكامه.
(الثاني) أن الحمل على الاستحباب مجاز باعترافهم والمجاز لا يصار إليه إلا
بالقرينة الصارفة عن الحقيقة واختلاف الأخبار ليس من قرائن المجاز. وأما قوله في
الذخيرة: " إن حمل الأوامر والنواهي في أخبارنا على الاستحباب والكراهة شائع ذائع
كأنه الحقيقة " ففيه أنه إن كان ذلك مع وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي فلا
بحث فيه وإلا فهو أول المسألة ومحل منع.
(الثالث) أن الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم فيتوقف الحكم
به على دليل واضح وإلا كان قولا على الله تعالى من غير علم، وقد استفاضت الآيات
القرآنية والسنة النبوية بالنهي عنه، واختلاف الأخبار ليس من الأدلة التي توجب
الحكم بالاستحباب.
(الرابع) أن صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران الخادم قد دلتا على
وقوع هذا الخلاف بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في وقتهم وأنهم رجعوا في
ذلك إلى إمام ذلك العصر وسألوه عن الأخذ بأي القولين فأمرهم بالعمل بأخبار النجاسة
ولو كانت الأخبار الواردة عنهم (عليهم السلام) بالنجاسة إنما هي بمعنى استحباب الإزالة
وليس المراد منها النجاسة كما زعمه هؤلاء الأفاضل وأنه طاهر والصلاة فيه صحيحة وإن
كان على كراهة، لما خفي على أصحاب الأئمة (عليهم السلام) يومئذ حتى أنهم يسألون
107

عن ذلك، ولكان الإمام (عليه السلام) يجيبهم بأن هذه الأخبار لا منافاة بينها فإن
الأمر بغسل الثوب منه إنما هو على جهة الاستحباب وإلا فهو طاهر لا أنه يقرهم على
الاختلاف ويجيبهم بقوله " لا تصل فيه فإنه رجس " فيأمرهم بالأخذ بأخبار النجاسة كما
في خبر خيران وبقول أبي عبد الله (عليه السلام) كما في صحيحة علي بن مهزيار. وأما
ما ذكره الفاضل الخوانساري من أنه يمكن أن يكون المراد بقول أبي عبد الله (عليه
السلام) قوله الذي مع أبي جعفر (عليه السلام) ويكون التعبير بهذه العبارة المشتبهة
للتقية فهو مما لا يروج إلا على الصبيان العادمي الأفهام والأذهان.
(الخامس) أن جملة من الروايات الدالة على النجاسة لا تلائم هذا الحمل مثل
صحيحة علي بن مهزيار المتضمنة أن غير زرارة روى عن الصادق (عليه السلام) في
نجاسة الخمر " أنه يغسل الثوب كملا مع جهل موضعه ويعيد الصلاة لو صلى فيه " ومثلها
مرسلة يونس المتقدمة نقلا من الكافي، فإنه لم يعهد في الأخبار التشديد في الأمور
المستحبة والمبالغة فيها إلى هذا المقدار وإنما وقع نظيره في الأخبار في النجاسات المقطوع بها
لا الأشياء الطاهرة، ومثل ذلك في رواية أبي جميلة البصري وحكايته عن يونس فإنه لو كان
طاهرا كما يدعونه وأن إزالته عن الثوب إنما هو على طريق الأولوية والاستحباب لما
خفي ذلك على يونس وهو من أجلاء أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وسياق الخبر كما
عرفت ظاهر بل صريح في أن يونس إنما فهم من خبر هشام النجاسة وصار اعتقاده
القول بالنجاسة، فإن غمه بملاقاة الفقاع له وتوقفه عن المبادرة للصلاة في أول وقتها وسؤال
الراوي له أن هذا رأي رأيته أو شئ ترويه كلها ظاهرة الدلالة في حكمه بالنجاسة،
ومثل حديث العبدية وقوله (عليه السلام): " ما يبل الميل ينجس حبا من ماء " كيف
يحمل على الاستحباب؟ وأي مجال لهذا الاستحباب الذي لا دليل عليه من سنة ولا كتاب؟
وكأن هذا القائل ظن انحصار دليل النجاسة فيما دل غسل الثوب أو البدن كما هو
ظاهر عبارة المدارك.
108

(السادس) أنه قد ورد عنهم (عليهم السلام) من القواعد أنه إذا جاء خبر
عن أولهم وخبر آخر عن آخرهم فإنه يجب الأخذ بالأخير (1) وهذه القاعدة قد صرح
بها الصدوق في الفقيه في باب " الرجل يوصي إلى الرجلين " حيث قال: ولو صح الخبران
لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر الصادق (عليه السلام). ولا ريب أن
صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران قد تضمنتا ذلك، فالواجب بمقتضى هذه القاعدة
الرجوع إلى قول الإمام الأخير وهو الحكم بالنجاسة.
(السابع) ترجح أخبار النجاسة بعمل الطائفة قديما وحديثا الموجب للظن
المتاخم للعلم بكون ذلك هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فإن صاحب كل مذهب
إنما يعلم بعد موته بمذهب مقلديه وشيعته الآخذين بأقواله والمقتفين لآثاره ولا سيما
الشيعة المتهالكين على متابعة مذهب أئمتهم المانعين من الأخذ من غيرهم، مضافا ذلك
إلى الاحتياط في الدين الذي هو أحد المرجحات الشرعية في مقام اختلاف الأخبار كما
دلت عليه رواية زرارة الواردة في طرق الترجيح (2).
والشيخ قد استند في حمل أخبار الطهارة على التقية إلى صحيحة علي بن مهزيار
المتقدمة حيث قال: وجه الاستدلال من هذا الخبر على أن تلك الأخبار يعني أخبار
الطهارة وردت على جهة التقية أنه (عليه السلام) أمر بالأخذ بقول أبي عبد الله (عليه
السلام) على الانفراد والعدول عن قوله مع قول أبي جعفر (عليه السلام) فلولا أن
قوله مع قول أبي جعفر (عليهما السلام) خرج مخرج التقية لكان الأخذ بقولهما معا أولى
وأحرى. قال في المعالم: وهذا الكلام حسن لولا ما أشرنا إليه من نقل الأصحاب
عن أكثر أهل الخلاف الموافقة على القول بالنجاسة، وكيف كان فلا ريب في أن

(1) وردت في ذلك روايات ثلاث رواها في الوسائل في الباب 9 من صفات القاضي
وما يقضي به وقد تقدمت في ج 1 ص 96.
(2) المروية في مستدرك الوسائل في الباب 9 من صفات القاضي وما يقضي به.
109

ما تضمنه هذا الخبر من الأخذ بقول أبي عبد الله (عليه السلام) بعد ما تقرر في السؤال دلالة
على أن الحكم في ذلك هو النجاسة وأن الطهارة لا تعويل عليها، وهذا القدر من الدلالة
في الحديث الصحيح كاف في الاستدلال لاعتضاده بما تقدم من الأخبار وباتفاق أكثر علماء
الاسلام مع ما في التنزه عنه من الاحتياط للدين كما ذكره المحقق (قدس سره) فإذا
القول بالنجاسة هو المعتمد. انتهى. أقول: ما ذكره من استشكاله في حسن ما ذكره
الشيخ بما نقله الأصحاب عن أكثر أهل الخلاف سيأتي الجواب عنه في المقام إن شاء الله تعالى
وبما ذكرناه من الوجوه الظاهرة البيان الغنية عن إقامة الحجة والبرهان كما
لا يخفى على أهل الانصاف من ذوي الأذهان يظهر بطلان حمل أخبار النجاسة على
الاستحباب ويتعين العمل بها في هذا الباب فتبقى أخبار القول بالطهارة ويتعين حملها على
التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية.
بقي الكلام فيما ذكروه من أن أكثر العامة قائلون بالنجاسة، وفيه ما ذكره
بعض المحققين من أصحابنا المتأخرين من أن التقية لا تنحصر في القول بما يوافق
علماءهم بل قد يدعو لها اصرار جهلائهم من أصحاب الشوكة على أمر وولوعهم به فلا
يمكن إشاعة ما يتضمن تقبيحه والازراء بهم على فعله، وما نحن فيه من هذا القبيل فإن
أكثر أمراء بني أمية وبني العباس ووزرائهم وأرباب الدولة كانوا مولعين بشرب الخمر
ومزاولتها واستعمالها وعدم التحرز عن مباشرتها، بل ربما نقل أن بعضهم يأم الناس وهو
سكران فضلا عن أن يكون ثوبه متلوثا بالخمر (فإن قيل) إنهم (عليهم السلام) لو كانوا
يتقون في ذلك لكان تقيتهم في الحكم بالحرمة أوجب وأهم مع أن المعلوم من أخبارهم
أنهم كانوا يبالغون في ذلك تمام المبالغة حتى ورد في أخبارهم (عليهم السلام) " أن
مدمن الخمر كعابد الوثن " (1) ونحو ذلك من التهديد والتشديد في تحريمها ولم يرو عنهم
ما يتضمن إباحتها (قلت) يمكن الجواب عن ذلك بأنه لما كان صريح القرآن تحريمها كان

(1) رواه في الوسائل في الباب 16، 13، 12 من الأشربة المحرمة.
110

التحريم من ضروريات الدين والحكم به لا مجال لإنكاره ولا فساد فيه. وربما أجيب
عما ذكرنا بأن حرمتها وإن كان بصريح القرآن إلا أن التشديد الذي ورد عنهم (عليهم
السلام) ليس في القرآن ولا من ضروريات الدين فكان ينبغي أن يتقوا فيه فترك التقية
في ذلك والتقية في النجاسة بعيد جدا. وفيه أنه متى كان صريح القرآن التحريم فالتشديد
لازم له إذ من المعلوم عند كل عالم عاقل أن مخالف صريح القرآن راد لضروري الدين
وكل من كان كذلك فهو في زمرة المرتدين فافترق الأمران، وبالجملة فالتحريم لما
كان صريح الكتاب العزيز الموجب لكونه من ضروريات الدين فهو معلوم لكافة
المسلمين فلا تدخله التقية سواء أخبروا بمجرد التحريم أو شددوا لقوله (عليه السلام)
في صحيحة زرارة (1): " ثلاثة لا اتقي فيهن أحدا: شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة
الحج " بل لو أفتوا فيه بالتقية لربما نسبوهم إلى الجهل ومخالفة الكتاب العزيز، وأما الحكم
بالنجاسة فلما لم يكن بتلك المثابة حيث لم يدل عليه دليل من القرآن وإنما استفيد من
السنة فالتقية جائزة فيه وغير مستنكرة. وبما حققناه في المقام ورفعنا عنه نقاب الإبهام
ظهر لك أن الحق في المسألة هو القول المشهور وأن ما عداه ظاهر القصور. الله العالم.
تنبيهات
(الأول) المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن حكم جميع الأنبذة
المسكرة حكم الخمر في التنجيس قال في المعالم: ولا نعرف في ذلك خلافا بين الأصحاب.
والظاهر أن مراده من قال من الأصحاب بنجاسة الخمر وإلا فقد عرفت مذهب الصدوق
وابن أبي عقيل والجعفي في قولهم بالطهارة.
واستدل في المعتبر على الحكم المذكور فقال: والأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس
كالخمر لأن المسكر خمر فيتناوله حكم الخمر، أما أنه خمر فلأن الخمر إنما سمي بذلك لكونه

(1) المروية في الوسائل في الباب 22 من الأشربة المحرمة.
111

يخمر العقل ويستره فما ساواه في المسمى يساويه في الاسم، ولما رواه علي بن يقطين عن
أبي الحسن الماضي (عليه السلام) (1) قال: " إن الله سبحانه لم يحرم الخمر لاسمها
ولكن حرمها لعاقبتها فما كان عاقبته الخمر فهو خمر " وروى عطاء بن يسار عن الباقر
(عليه السلام) (2) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل مسكر حرام
وكل مسكر خمر " انتهى.
واعترضه جملة من محققي متأخري المتأخرين كالسيد في المدارك والشيخ حسن
في المعالم والسبزواري في الذخيرة وغيرهم ممن حذا حذوهم بأن هذا الاحتجاج منظور
فيه، قال في المعالم: لأن الظاهر من كلام جماعة من أئمة اللغة أن الخمر حقيقة في المسكر
من عصير العنب والعرف يساعده، وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في معنى لم يدل
استعماله بعد ذلك في غيره على كونه حقيقة في ذلك الغير أيضا، وكون الأصل في الاستعمال
الحقيقة إنما هو مع عدم استلزام الاشتراك أو النقل لكونهما على خلاف الأصل،
فتعارض أصالة عدمهما أصالة الحقيقة وأحدهما لازم بعد ثبوت الحقيقة للفظ، وحينئذ
فمجرد اطلاق لفظ الخمر على مطلق المسكر لا يدل على كونه حقيقة فيه والاعتبار الذي
ذكره من جهة التسمية ليس بشئ، وإذا لم يثبت كون اللفظ حقيقة في الجميع لم يتجه
الاستدلال على تعميم الحكم في الكل بما دل على نجاسة الخمر، والاشتراك في التحريم
لا دلالة فيه وإنما هو وجه علاقة صح من أجله استعمال لفظ الخمر في غير ما وضع له
على جهة المجاز. انتهى. وعلى هذا النهج كلام غيره ممن أشرنا إليه.
وعندي فيه نظر، وتوجيهه أنهم إن أرادوا بكونه حقيقة في عصير العنب يعني
الحقيقة الشرعية ففيه أن الحقيقة الشرعية عبارة عن استعمال اللفظ في كلام الله تعالى
أو رسوله مجردا عن قرينة المجاز، وهذا اللفظ وإن وقع في القرآن العزيز مجملا إلا أن

(1) رواه في الوسائل في الباب 19 من الأشربة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 15 من الأشربة المحرمة.
112

الأخبار قد فسرته بالمعنى الأعم وكذلك وقوعه في كلام الرسول (صلى الله عليه وآله)
إنما وقع بالمعنى الأعم كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى وحينئذ فيكون حقيقة شرعية في
المعنى الأعم، وإن أرادوا به الحقيقة اللغوية كما يفهم من كلام المحقق المذكور ومن تبعه
في ذلك ففيه (أولا) أنه لا يصار إلى الحمل على الحقيقة اللغوية إلا مع تعذر الحمل على
الحقيقة الشرعية والعرفية الخاصة كما قرروه في غير موضع. و (ثانيا) أن كلام أهل
اللغة أيضا ظاهر في المعنى الأعم كما سيظهر لك في المقام.
فأما ما يدل على كونه حقيقة شرعية في المعنى الأعم من كلام الله عز وجل
فقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر.. الآية " (1) روى الثقة الجليل
علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) (2)
في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.. " أما الخمر
فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر، وما أسكر كثيره فقليله حرام. وذلك أن أبا بكر شرب قبل أن تحرم الخمر فسكر فجعل يقول الشعر ويبكي على قتلى المشركين
من أهل بدر فسمع النبي (صلى الله عليه وآله) فقال اللهم امسك على لسانه فأمسك
على لسانه فلم يتكلم حتى ذهب عنه السكر فأنزل الله تحريمها بعد ذلك، وإنما كانت الخمر
يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر والتمر فلما أنزل الله تعالى تحريمها خرج رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فقعد في المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفأها كلها
وقال هذه كلها خمر وقد حرمها الله تعالى، وكان أكثر شئ أكفئ في ذلك اليوم من
الأشربة الفضيخ ولا أعلم أنه أكفئ يومئذ من خمر العنب شئ إلا إناء واحد كان فيه
زبيب وتمر جميعا، وأما عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شئ، وحرم الله تعالى الخمر
قليلها وكثيرها وبيعها وشراءها والانتفاع بها.. الحديث " وهو كما ترى صريح
في المراد عار عن وصمة الشبهة والايراد. ونقل في مجمع البيان عن ابن عباس في تفسير

(1) سورة المائدة، الآية 9
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
113

هذه الآية قال: " يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر وقد قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) الخمر من تسع: من البتع وهو العسل ومن العنب ومن الزبيب ومن التمر
ومن الحنطة ومن الذرة ومن الشعير والسلت ".
وأما ما يدل على ذلك من كلامه (صلى الله عليه وآله) فمنه ما تقدم في رواية
عطاء بن يسار المنقولة في كلام المحقق، وما نقله في مجمع البيان عن ابن عباس عنه (صلى الله
عليه وآله) ومن ذلك صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخمر من خمسة: العصير من الكرم والنقيع
من الزبيب والبتع من العسل والمرز من الشعير والنبيذ من التمر " ورواية علي بن إسحاق
الهاشمي عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
الخمر من خمسة.. الحديث المتقدم " وما رواه الشيخ أبو علي الحسن بن محمد الطوسي
في الأمالي بسنده فيه عن النعمان بن بشير (3) قال: " سمعت رسول الله (صلى الله عليه
وآله) يقول أيها الناس إن من العنب خمرا وإن من الزبيب خمرا وإن من التمر خمرا
وإن من الشعير خمرا ألا أيها الناس أنهاكم عن كل مسكر " وروى الكليني في الصحيح
إلى الحسن الحضرمي عن من أخبره عن علي بن الحسين (عليه السلام) (4) قال:
" الخمر من خمسة أشياء: من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل " وروى العياشي
في تفسيره عن عامر بن السمط عن علي بن الحسين (عليه السلام) (5) قال: " الخمر من
ستة أشياء.. " ثم ذكر الخمسة المذكورة في حديث الحضرمي وزاد الذرة، فقد ظهر لك بما
نقلناه من الأخبار تطابق كلام الله تعالى ورسوله على أن الخمر أعم مما ذكروه من
التخصيص بالمتخذ من العنب فيكون حقيقة شرعية في ذلك بلا اشكال ويجب الحمل على
ذلك حيثما أطلق هذا اللفظ إلا مع القرينة الصارفة عنه كما هو المقرر بينهم في الحقائق
الشرعية وغيرها.

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
(5) رواه في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
114

وأما كلام أهل اللغة في هذا المقام فالذي يستفاد منه تصريحا في مواضع وتلويحا
في أخرى أن الخمر حقيقة فيما قلناه دون عصير العنب كما زعموه، قال في القاموس:
الخمر ما أسكر من عصير العنب أو عام كالخمرة وقد يذكر، والعموم أصح لأنها حرمت
وما بالمدينة خمر عنب وما كان شرابهم إلا البسر والتمر، سميت الخمر خمرا لأنها تخمر
العقل وتستره أو لأنها تركت حتى أدركت واختمرت أو لأنها تخامر العقل أي تخالطه
.. إلى آخر كلامه. وفي الصحاح سميت الخمر خمرا لأنها تركت واختمرت واختمارها
تغير رائحتها، ويقال وجدت خمرة الطيب أي رائحته. وفي كتاب الغريبين للهروي قوله
تعالى: " ويسألونك عن الخمر والميسر " الخمر ما خامر العقل أي خالطه وخمر العقل
ستره وهو المسكر من الشراب. وفي المصباح المنير للفيومي الخمر معروفة، إلى أن قال
ويقال هي اسم لكل مسكر خامر العقل أي غطاه. وفي مجمع البحرين بعد ذكر قوله سبحانه
" إنما الخمر والميسر " الخمر معروف وعن ابن الأعرابي إنما سمي الخمر خمرا لأنها تركت
واختمرت واختمارها تغير رائحتها، إلى أن قال والخمر فيما اشتهر بينهم كل شراب
مسكر ولا يختص بعصير العنب، ثم نقل كلام القاموس وقال بعده ويشهد له ما روي
عن الصادق (عليه السلام) وساق صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج المتقدمة.
وبذلك يظهر لك تطابق الأخبار المتقدمة وكلام أهل اللغة على ما اخترناه في
المقام ويظهر ضعف ما ذكره أولئك الأعلام، وبذلك يظهر ما في كلام المحقق صاحب
المعالم من قوله: والاعتبار الذي ذكره من جهة التسمية ليس بشئ. ونحوه قوله في
المدارك والذخيرة أن اللغات لا تثبت بالاستدلال، فإن فيه أن كلام أئمة اللغة كما سمعت
كله متطابق على تعليل التسمية الموجب لدوران حكم التحريم ونحوه مدار صدق الاسم
وقد وقع نحوه في الأخبار أيضا كما رواه في الكافي عن علي أبي حمزة عن إبراهيم عن
الصادق (عليه السلام) (1) قال: " إن الله تعالى لما أهبط آدم أمره بالحرث والزرع

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
115

وطرح عليه غرسا من غرس الجنة فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان فغرسها لعقبه
وذريته فأكل هو من ثمارها، فقال إبليس ائذن لي أن آكل منه شيئا فأبى أن يطعمه
فجاء عند آخر عمر آدم، وساق الحديث إلى أن قال: ثم إن إبليس بعد وفاة آدم ذهب
فبال في أصل الكرم والنخلة فجرى الماء في عودهما ببول عدو الله تعالى فمن ثم يختمر
العنب والتمر فحرم الله تعالى على ذرية آدم كل مسكر لأن الماء جرى ببول عدو الله في النخلة
والعنب وصار كل مختمر خمرا لأن الماء اختمر في النخلة والكرمة من رائحة بول عدو الله
تعالى " فانظر إلى قوله (عليه السلام): " صار كل مختمر خمرا " من دلالته على
دوران التسمية مدار حصول الاختمار كما هو الظاهر من كلام أهل اللغة أيضا وهو الذي
أراده المحقق في المعتبر ولكن أولئك الفضلاء لم يعطوا التأمل حقه لا في الأخبار ولا
في كلام أهل اللغة فوقعوا فيما وقعوا فيه.
(فإن قيل) إن جملة من الأخبار ظاهرة في اطلاق الخمر على المعنى الأخص
لعطف المسكر أو النبيذ عليه ونحو ذلك من العبارات الظاهرة بل الصريحة في الاختصاص
وعدم صحة الحمل على المعنى الأعم، وربما أشعر بكونه حقيقة في هذا الفرد في عرفهم
(عليهم السلام) فيكون حقيقة عرفية خاصة. مثل قوله (عليه السلام) في صحيحة علي
ابن مهزيار (1) " إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر.. " وقوله (عليه
السلام) في رواية عمار (2): " لا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله "
وقوله (عليه السلام) في رواية يونس (3): " إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر
فاغسله " ونحو ذلك، وعلى هذه الروايات اعتمد في المعالم في الحكم بنجاسة كل مسكر
بعد اعتراضه على كلام المحقق (قدس سره) بما قدمنا نقله.
(قلت): الذي يظهر لي من تتبع الأخبار في هذا المقام أن الخمر قبل نزول
التحريم إنما كان يطلق عرفا على عصير العنب واطلاقه على المعنى الأعم إنما وقع في كلام

(1) ص 99
(2) راجع التعليقة 3 ص 102
(3) ص 100.
116

الله تعالى وكلام رسوله (صلى الله عليه وآله) باعتبار الأحكام التي رتبوها عليه من
حرمة أو نجاسة كما عرفت من الأحاديث المتقدمة فهي حقيقة شرعية في المعنى الأعم وإن
كانت عرفا إنما تطلق على العصير العنبي، وهم (عليهم السلام) ربما أطلقوها على المعنى
الشرعي كما تقدم في الحديثين المنقولين عن علي بن الحسين (عليه السلام) وربما
أطلقوها على المعنى العرفي الدائر بين الناس كما في الأخبار المذكورة.
هذا، والظاهر اتفاق كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) على تخصيص الحكم
بالنجاسة في المسكر بما كان مائعا بالأصالة وإن عرض له الجمود دون الجامد بالأصالة
كالحشيشة وإن عرض له الميعان، والظاهر أن المستند في ذلك هو أن المتبادر من لفظة
المسكر والنبيذ ونحوهما في الأخبار إنما هو الأشربة المتخذة من تلك الأشياء المعدودة في
الأخبار المتقدمة فيبقى ما عداها على حكم الأصل، وأما ثبوت النجاسة لها بعد الجمود
فهو من حيث توقف الطهارة بعد ثبوت النجاسة على الدليل ولم يثبت كون الجمود مطهرا
فيبقى على حكم الأصل. والله العالم.
(الثاني) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ممن
قال بنجاسة الخمر في أن حكم الفقاع حكمه، ونقل العلامة في النهاية والمنتهى اجماع علمائنا
على ذلك، وذكر المحقق في المعتبر عن الشيخ أنه قال وألحق أصحابنا الفقاع بالخمر يعني في
التنجيس وهذا انفراد الطائفة. ثم قال المحقق: ويمكن أن يقال الفقاع خمر فيلحقه أحكامه
أما أنه خمر فلما ذكره علم الهدى (رضي الله عنه) قال: قال أحمد حدثنا عبد الجبار بن
محمد الخطابي عن ضمرة قال الغبيراء التي نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عنها هي الفقاع
قال وعن أبي هاشم الواسطي الفقاع نبيذ الشعير فإذا نش فهو خمر، قال وعن زيد بن أسلم
الغبيراء التي نهى النبي عنها هي الاسكركة (1) وعن أبي موسى أنه قال الاسكركة خمر
الحبشة، ومن طريق الأصحاب ما رواه سليمان بن جعفر (2) قال: " قلت للرضا

(1) في كتب اللغة (سكركة).
(2) رواه في الوسائل في الباب 28 من الأشربة المحرمة.
117

(عليه السلام) ما تقول في شرب الفقاع؟ فقال هو خمر مجهول.. " وعن الوشاء (1)
قال: " كتبت إليه يعني الرضا (عليه السلام) أسأله عن الفقاع؟ فقال حرام وهو
خمر " وعنه (عليه السلام) (2) قال: " هي خمرة استصغرها الناس " وقال ابن الجنيد
وتحريمه من جهة نشيشه ومن ضراوة إنائه إذا كرر فيه العمل. (لا يقال) الخمر من الستر
وهو ستر العقل ولا ستر في الفقاع (لأنا نقول) التسمية ثابتة شرعا والتجوز على خلاف
الأصل فيكون حقيقة في المشترك وهو مائع حرم لنشيشه وغليانه، وإذا ثبت أن الفقاع
خمر وقد بينا حكم الخمر فاطلب حكم الفقاع هناك. انتهى كلامه. قال في المعالم بعد
نقل ذلك عنه: ويرد على احتجاجه بأخبارنا لادخاله في حقيقة الخمر نحو ما ذكرناه في
احتجاجه السابق لادخال المسكرات. وأما ما حكاه عن المرتضى فغير كاف في اثبات
مثله، فالعمدة إذا على الاجماع المدعى، ويؤيده ما رواه الكليني (قدس سره) عن محمد بن
يحيى ثم أورد رواية أبي جميلة البصري المتقدمة.
أقول: ما أورده عليه هنا في الاحتجاج بأخبارنا لادخال الفقاع في حقيقة الخمر
بما ذكره سابقا قد بينا ضعفه وأن هذا الاطلاق حقيقة شرعية، ومن الأخبار الدالة على
ما دلت عليه هاتان الروايتان المذكورتان في كلام المحقق (قدس سره) قول أبي الحسن
(عليه السلام) في جواب مكاتبة ابن فضال (3) " هو الخمر وفيه حد شارب الخمر "
وقول الصادق (عليه السلام) (4) في موثقة عمار: " هو خمر " وقوله (عليه السلام)
في رواية الحسين القلانسي (5) " لا تقربه فإنه من الخمر " وفي رواية محمد بن سنان (6)
" هو الخمر بعينها " وفي رواية زرارة عن الصادق (عليه السلام) (7) " لو أن لي
سلطانا على أسواق المسلمين لرفعت عنهم هذه الخمرة " وفي بعضها (8) " هو خمر مجهول
وفيه حد شارب الخمر " ومن أجل هذه الأخبار رجع صاحب الذخيرة في هذا المقام

(1) رواه في الوسائل في الباب 27 من الأشربة المحرمة
(2) رواه في الوسائل في الباب 28 من الأشربة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 27 من الأشربة المحرمة
(4) رواه في الوسائل في الباب 27 من الأشربة المحرمة
(5) رواه في الوسائل في الباب 27 من الأشربة المحرمة
(6) رواه في الوسائل في الباب 27 من الأشربة المحرمة
(7) رواه في الوسائل في الباب 27 من الأشربة المحرمة
(8) رواه في الوسائل في الباب 27 من الأشربة المحرمة
118

عما ذكره سابقا مما قدمنا نقله عنه، حيث قال بعد ايراد جملة من هذه الأخبار:
لا يخفى أنه وإن أمكن ايراد السابق هنا لكن الانصاف أن من هذه الأخبار
يستفاد أنه مثل الخمر في جميع الأحكام ويؤيده رواية أبي جميلة البصري، ثم ساق الرواية
كما قدمناه. وأما صاحب المدارك فإنه قال: والحكم بنجاسته مشهور بين الأصحاب وبه
رواية ضعيفة السند جدا نعم إن ثبت اطلاق الخمر عليه حقيقة كما ادعاه المصنف في المعتبر
كان حكمه حكم الخمر، وقد تقدم الكلام فيه. انتهى. وقوله: " وقد تقدم الكلام
فيه " إشارة إلى مناقشة التي أشرنا إليها آنفا في عموم اطلاق الخمر، فظاهره هنا التوقف
أو عدم القول بالنجاسة لعدم صدق الاطلاق عنده وحكمه بضعف الخبر الدال على
النجاسة، والعجب منه (قدس سره) حيث لم يقف على ضابطة ولم يرجع إلى رابطة
فإن الخبر الذي طعن عليه بالضعف وإن كان كذلك لكن اتفاق الأصحاب على الحكم
المذكور جابر لضعفه إذ لا مخالف في المسألة، ولهذا أن المحقق الشيخ حسن فيما قدمنا
نقله عنه إنما اعتمد على الاجماع وأيده بالرواية، وهو (قدس سره) في غير موضع من
كتابه قد جرى على هذه الطريقة وقد ذكر في مسألة الدم الأقل من حمصة بعد أن نقل
الروايات الدالة على نجاسته وطعن فيها بضعف السند مع كونها مطابقة لمقتضى الأصل كما
ذكره: " إلا أنه لا خروج عما عليه معظم الأصحاب " انتهى. وعلى هذا فقس.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المفهوم من كلام الأصحاب أن الحكم بالتحريم والنجاسة
تابع للاسم فحيث ما صدق الاسم تعلقت به الأحكام، قال في المسالك بعد ذكر المصنف
الفقاع: " الأصل فيه أن يتخذ من ماء الشعير كما ذكره المرتضى (رضي الله عنه) في
الانتصار لكن لما كان النهي عنه معلقا على التسمية ثبت له ذلك سواء عمل منه أم من
غيره، فما يوجد في أسواق أهل الخلاف مما يسمى فقاعا يحكم بتحريمه تبعا للاسم إلا أن يعلم انتفاؤه قطعا " ونحوه كلام سبطه في المدارك حيث قال بعد نقل كلام المرتضى في
119

الانتصار: وينبغي أن يكون المرجع فيه إلى العرف لأنه المحكم فيما لم يثبت فيه وضع
شرعي ولا لغوي.
أقول: المفهوم من الأخبار أن الفقاع على قسمين: منه ما هو حلال طاهر وهو
ما لم يحصل فيه الغليان والنشيش أيام نبذه، ومنه ما هو حرام نجس وهو ما يحصل فيه
الغليان، وإلى ذلك أشار ابن الجنيد فيما نقله عنه في المعتبر فيما قدمناه من عبارته، وجملة
من الأصحاب قد عدوا كلام ابن الجنيد خلافا في المسألة حيث إن ظاهرهم القول بالتحريم
مطلقا، والحق في المسألة هو مذهب ابن الجنيد وعليه تدل صحيحة ابن أبي عمير عن
مرازم (1) قال: " كان يعمل لأبي الحسن (عليه السلام) الفقاع في منزله، قال ابن
أبي عمير ولم يعمل فقاع يغلي " ورواية عثمان بن عيسى (2) قال: " كتب عبد الله بن
محمد الرازي إلى أبي جعفر (عليه السلام) إن رأيت أن تفسر لي الفقاع فإنه قد اشتبه
علينا أمكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب (عليه السلام) لا تقرب الفقاع إلا ما لم
تضر آنيته أو كان جديدا. فأعاد الكتاب إليه أني كتبت أسأل عن الفقاع ما لم يغل
فأتاني أن اشربه ما كان في إناء جديد أو غير ضار ولم أعرف حد الضراوة والجديد
وسأل أن يفسر ذلك له وهل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة والزجاج والخشب ونحوه
من الأواني؟ فكتب يجعل الفقاع في الزجاج وفي الفخار الجديد إلى قدر ثلاث عملات
ثم لا يعد منه بعد ثلاث عملات إلا في إناء جديد والخشب مثل ذلك " والمستفاد منها أن
الفقاع الذي يتعلق به التحريم وخرجت الأخبار بالمنع عنه وأنه خمر هو الذي يغلي وغليانه
عبارة عن هيجانه واغتلامه وأن من الفقاع ما لا يكون كذلك وهو حلال، وحينئذ فاطلاق
أصحابنا القول بالتحريم وجعلهم التحريم دائرا مدار صدق اسم الفقاع ليس في محله.
ثم إن ظاهرهم كما تقدم في عبارة المحقق أنه لا يشترط فيه بلوغ حد الاسكار
وظاهر الأخبار أيضا أن المدار في الفرق بين الحلال والحرام من قسميه إنما هو الغليان

(1) المروية في الوسائل في الباب 39 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 39 من الأشربة المحرمة.
120

وعدمه، اللهم إلا أن يدعى أنه بالغليان يكون مسكرا كما في سائر الأشربة المسكرة، ولم
أقف هنا على دليل قاطع يظهر منه حكم المسألة إلا الخبران المذكوران وهما غير خاليين
من الاجمال كما عرفت ولكن ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو ما ذكرناه
كما لا يخفى على من لاحظ كلامهم، وأصرح من عبارة المحقق فيما قلنا ما ذكره في مجمع
البحرين للشيخ التقي الزاهد الشيخ فخر الدين بن طريح " والفقاع كرمان شئ يشرب يتخذ
من ماء الشعير فقط وليس بمسكر ولكن ورد النهي عنه. قيل سمي فقاعا لما يرتفع
في رأسه من الزبد ".
هذا، وأما ما ذكره في المدارك من أنه ينبغي أن يكون المرجع فيه إلى العرف لأنه
المحكم فيما لم يثبت فيه وضع شرعي ولا عرفي ففيه أنه وإن اشتهر ذلك بينهم وجعلوه
من جملة القواعد التي يبنون عليها الأحكام إلا أن فيه (أولا) أن المفهوم من الأخبار
على وجه لا يعتريه الانكار عند من رجع إليها وتأمل فيها بعين الاعتبار أن الواجب في
صورة عدم العلم بالمعنى المراد من الخطاب الشرعي هو الفحص والبحث من أخبارهم
(عليهم السلام) عن تحصيل المعنى المراد منه ومع عدم الوقف عليه هو الرجوع
والوقوف على جادة الاحتياط. و (ثانيا) أن الحوالة على العرف مع ما علم يقينا من أن العرف الذي عليه الناس مختلف باختلاف البلدان والأقطار فكل قطر لهم عرف
واصطلاح ليس لغيرهم من سائر الأقطار، ومن المعلوم أن الأحكام الشرعية مضبوطة
معينة فكيف تناط بما هو مختلف متعدد؟ مضافا ذلك إلى أن تتبع جميع الأقطار في
الاطلاع على ذلك العرف أمر عسر بل متعذر كما لا يخفى، وأما فيما نحن فيه من هذه
المسألة فقد عرفت الحكم فيها مما نقلناه من الخبرين المذكورين حسبما ذكرنا. والله العالم
(الثالث) ألحق جمع من الأصحاب بالمسكرات في النجاسة العصير العنبي
إذا على واشتد ولم يذهب ثلثاه وبعض علق الحكم على مجرد الغليان وبعضهم على الاشتداد.
قال المحقق في المعتبر: " وفي نجاسة العصير بغليانه قبل اشتداده تردد أما التحريم
121

فعليه اجماع فقهائنا، ثم منهم من اتبع التحريم بالنجاسة والوجه، الحكم بالتحريم مع الغليان
حتى يذهب الثلثان ووقوف النجاسة على الاشتداد " والمراد بالغليان انقلابه وصيرورة
أسفله أعلاه وبالاشتداد الغلظ والثخانة. ولا ريب أن التحريم يترتب على مجرد الغليان
بلا خلاف نصا وفتوى وإنما الخلاف في النجاسة هل تترتب على ذلك أيضا أو تتوقف
على الاشتداد؟ والظاهر من كلام الشهيد في الذكرى وكذا المحقق الشيخ علي أن
الاشتداد مسبب عن مجرد الغليان فالتحريم والنجاسة متلازمان. والذي عليه الأكثر
هو ما صرح به المحقق هنا من تأخر الاشتداد وأن بينهما زمانا متحققا كما هو المشاهد
بالوجدان خصوصا في الذي يغلي من نفسه أو في الشمس.
ثم إن الظاهر من كلامهم أن القول بالنجاسة هو المشهور، فممن صرح بالنجاسة
المحقق في المعتبر وقال في الشرائع بعد أن ذكر المسكرات وحكم بنجاستها: وفي حكمها
العصير العنبي إذا غلا واشتد والمراد بالغليان انقلابه وصيرورة أعلاه أسفله وباشتداده
حصول الغلظ والثخانة فيه، وبذلك صرح العلامة في المنتهى والارشاد فعلق الحكم
على الغليان والاشتداد أيضا، وفي التذكرة: والعصير إذا غلى حرم حتى يذهب ثلثاه،
وهل ينجس بالغليان أو يقف على الشدة؟ اشكال. وهو صريح في جزمه بالنجاسة
وإنما توقف في حصولها بمجرد الغليان أو تتوقف على الاشتداد، وفي المختلف " الخمر
وكل مسكر والفقاع والعصير إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه بالنار أو من نفسه نجس، ذهب
إليه أكثر علمائنا كالمفيد والشيخ أبي جعفر والمرتضى وأبي الصلاح وسلار وابن إدريس "
ثم نقل خلاف ابن أبي عقيل والصدوق حسبما تقدم في الخمر " وظاهر كلامه نسبة القول
بالنجاسة في جميع هذه الأشياء المعدودة في كلامه التي من جملتها العصير إلى الأكثر
ومنهم هؤلاء المذكورون، وبالجملة فالظاهر أن القول المذكور مشهور ولا سيما بين
المتأخرين، وبذلك صرح الشهيد الثاني في الروض أيضا، والذي يظهر من الذكرى
أن القائل به قليل حيث قال: وفي حكمها العصير إذا غلى واشتد في قول ابن حمزة وفي
122

المعتبر يحرم، ثم نقل ملخص عبارة المعتبر ثم قال وتوقف الفاضل في نهايته، إلى أن قال
ولم نقف لغيرهم على قول بالنجاسة. مع أنه ممن قال بذلك أيضا في الرسالة الألفية. وبالجملة
فإن من ذكر العصير في هذا المقام فإنما صرح فيه بالنجاسة ولكن جملة من المتأخرين
اعترضوهم بعدم الدليل على ذلك، ولهذا قال الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح
الألفية إن تحقق القولين في المسألة مشكوك فيه بمعنى أنه لا قائل إلا بالنجاسة، وفيه
رد لما ذكره الشهيد في الذكرى من أنه لم يقف لغير من ذكره على القول بالنجاسة، نعم
قال في المدارك إنه نقل عن ابن أبي عقيل التصريح بطهارته ومال إليه جدي (قدس
سره) في حواشي القواعد وقواه شيخنا المعاصر سلمه الله تعالى وهو المعتمد تمسكا
بمقتضى الأصل السالم عن المعارض. انتهى. والظاهر أن النقل عن ابن أبي عقيل إنما
هو بسبب خلافه في الخمر وقوله بطهارته المستلزم لطهارة ما حمل عليه. نعم قول المتأخرين
بالطهارة لا ضير فيه ولا منافاة لما ذكرناه.
وكيف كان فأنا لم نقف لهم فيما ذهبوا إليه من القول بالنجاسة على دليل ولم
ينقل أحد منهم دليلا في المقام، قال في الذكرى على أثر الكلام المتقدم: ولا نص
على نجاسة غير المسكر وهو منتف هنا. وقال في البيان أيضا إنا لم نقف على نص يقتضي
تنجيسه إلا ما دل على نجاسة المسكر لكنه لا يسكر بمجرد غليانه واشتداده. ونقل في
المعالم عن والده في المسالك أن نجاسته من المشاهير بغير أصل.
أقول: قد صرح الأمين الاسترآبادي في تعليقاته على المدارك باختياره القول
بالنجاسة واستدل بصحيحة محمد بن عمار (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الرجل من أهل المعرفة يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وأنا أعرف أنه
يشربه على النصف؟ فقال خمر لا تشربه " قال واطلاق الخمر عليه يقتضي لحوق حكمه به.

(1) المروية في الوسائل في الباب 7 من الأشربة المحرمة، والراوي معاوية بن عمار
كما في المتن.
123

أقول: هذه الرواية بهذا المتن رواها في الكافي وفي التهذيب عن معاوية بن عمار
وأما ما ذكره عن محمد بن عمار فالظاهر أنه من سهو قلمه، وأيضا في سند الرواية يونس
ابن يعقوب وحديثه عندهم معدود في الموثق لتصريح جملة منهم بكونه فطحيا وإن وثقه
آخرون، وهذا المتن الذي نقله هو الذي في التهذيب وأما المتن المنقول في الكافي فهو
عار عن لفظ الخمر وهذه صورته: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من
أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وأنا أعلم أنه يشربه على النصف
أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال لا تشربه " وعلى هذه الرواية فلا دلالة
في الخبر، والعجب من صاحبي الوافي والوسائل قد نقلا الرواية بالمتن الذي في الكافي
في الكتابين المذكورين ولم يتنبها لما في البين من الاشكال المذكور، وكيف كان
فالاعتماد على ما ذكره الشيخ مع خلو الكافي عنه لا يخلو من اشكال لما عرفت من أحوال
الشيخ وما وقع له من التحريف والزيادة والنقصان في الأخبار، ومع اغماض النظر عن
ذلك فاثبات النجاسة بذلك لا يخلو من توقف إذ لعل الغرض من التشبيه إنما هو بالنسبة
إلى التحريم المتفق عليه، وبالجملة فأصالة الطهارة أقوى متمسك حتى يقوم الدليل على
ما يوجب الخروج عنه، ونحن إنما خرجنا عنه في الفقاع لاستفاضة الروايات بكونه خمرا
كما عرفت، وترتب هذا المعنى على مجرد هذه الرواية مع ما عرفت من العلة محل
توقف. والله العالم.
(تذنيب) يشتمل على الكلام في حل عصير التمر والزبيب، وهذه المسألة
وإن كانت خارجة عن محل البحث وإن الأنسب بها كتاب الأطعمة والأشربة إلا أنها
لما كانت من الضروريات التي تلجئ الحاجة إلى معرفة حكمها لابتلاء الناس بها ووقوع
الخلاف في هذه الأزمنة المتأخرة فيها ولهذا كثر السؤال عنها وربما صنف فيها الرسائل
وأكثر القائلون فيها بالتحريم من الدلائل التي لا تصل عند التأمل إلى طائل سوى ايقاع
الناس في المشاكل والمعاضل، فرأيت أن أكشف عن وجه تحقيقها نقاب الإبهام وأحيط
124

فيها بأطراف النقض والابرام على وجه لم يسبق إليه سابق من الأعلام مذيلا بأخبار أهل
الذكر (عليهم السلام) وتحقيقات تلذها الأفهام وإن طال بذلك زمام الكلام فإنه لما
ذكرنا من أهم المهام، فأقول وبالله التوفيق إن الكلام هنا في الطهارة والنجاسة والحل
والحرمة في كل من الفردين المذكورين:
أما عصير الزبيب فالظاهر أنه لا خلاف في طهارته وعدم نجاسته بالغليان فإني لم
أقف على قائل بالنجاسة هنا، وبذلك صرح في الذخيرة أيضا فقال بعد الكلام في
نجاسة العصير العنبي: وهل يلحق به عصير الزبيب إذا غلى في النجاسة؟ لا أعلم بذلك
قائلا وأما في التحريم فالأكثر على عدمه. انتهى. ويلوح من كلام شيخنا الشهيد الثاني
وقوع الخلاف هنا حيث قال بعد الكلام في نجاسة عصير العنب: ولا يلحق به عصير
التمر وغيره حتى الزبيب على الأصح ما لم يحصل فيه خاصية الفقاع، للأصل وخروجه
عن مسمى العنب وذهاب ثلثيه بالشمس. وقال في شرح الرسالة: ولا يلحق به عصير
التمر وغيره اجماعا ولا الزبيب على أصح القولين للأصل وضعف متمسك القائل
بالالحاق. انتهى. وهو جيد. ومن ذلك علم أن الخلاف إنما هو في الزبيب وأما التمر
وغيره فقد عرفت نقل شيخنا المشار إليه الاجماع على عدم النجاسة فيه.
بقي البحث في التحريم في كل منهما وعدمه، والبحث في ذلك يتوقف على تقديم مقدمة
تشتمل على فوائد يظهر الحق منها لكل طالب وقاصد ويتضح بها ما في المسألة من المقاصد:
(الفائدة الأولى) لا يخفى أن المستفاد من أخبار أهل العصمة (عليهم السلام)
أن العصير في عرفهم اسم لما يؤخذ من العنب خاصة وأن ما يؤخذ من التمر إنما يسمى بالنبيذ
وما يؤخذ من الزبيب يسمى بالنقيع وربما أطلق النبيذ أيضا على ماء الزبيب، وهذا هو الذي
يساعده العرف أيضا فإنه لا يخفى أن العصير إنما يطلق على الأجسام التي فيها مائية لاستخراج
الماء منها كالعنب مثلا والرمان والبطيخ بنوعيه ونحو ذلك، وأما الأجسام الصلبة التي
فيها حلاوة أو حموضة ويراد استخراج حلاوتها أو حموضتها بالماء مثل التمر والزبيب
125

والسماق والزرشك ونحوها فإنه إنما يستخرج ما فيها من الحلاوة أو الحموضة إما بنبذها
في الماء ونقعها فيه زمانا يخرج حلاوتها أو حموضتها إلى الماء أو أنها تمرس في الماء من
أول الأمر من غير نقع أو أنها تغلي بالنار لأجل ذلك، والمعمول عليه في الصدر الأول
إنما هو النبذ في الماء والنقع فيه كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى، وهذا ظاهر يشهد به الوجدان
في جميع البلدان، وبهذا أيضا صرح كلام أهل اللغة، قال الفيومي في المصباح المنير في
مادة عصر: عصرت العنب ونحوه عصرا من باب ضرب: استخرجت ماءه وقال في مادة
نقع أنقعت الدواء وغيره انقاعا: تركته في الماء حتى انتقع وهو نقيع فعيل بمعنى مفعول،
إلى أن قال ويطلق النقيع على الشراب المتخذ من ذلك فيقال نقيع التمر والزبيب وغيره إذا
ترك في الماء حتى ينتقع من غير طبخ. انتهى. فانظر إلى وضوح هذا الكلام في المقصود
والمراد من الفرق بين القسمين والتغاير في الاسمين بجعل ما يتخذ من الأجسام المائية
عصيرا وما يتخذ من التمر والزبيب ونحوهما نقيعا، وقال في باب مرس: مرست التمر
مرسا من باب قتل: دلكته في الماء حتى تتحلل أجزاؤه. انتهى. وقال ابن الأثير في
النهاية: وفي حديث الكرم يتخذونه زبيبا ينقعونه أي يخلطونه بالماء ليصير شرابا،
إلى أن قال والنقيع شراب يتخذ من زبيب أو غيره ينقع في الماء من غير طبخ. وقال
في القاموس في مادة عصر: عصر العنب ونحوه يعصره فهو معصور وعصير: استخرج
ما فيه، إلى أن قال وعصيره ما يحلب منه. وقال في مادة نقع: والنقيع البئر الكثيرة الماء
الجمع أنقعة، وشراب من زبيب أو كل ما ينقع تمرا أو زبيبا أو غيرهما. انتهى. وهي
صريحة أيضا في المراد، وقال في مجمع البحرين في مادة عصر: والعصير من العنب
يقال عصرت العنب عصرا من باب ضرب: استخرجت ماءه، واسم الماء العصير
فعيل بمعنى مفعول. وقال في مادة نقع: والنقيع شراب يتخذ من زبيب ينقع في الماء
من غير طبخ وقد جاء في الحديث كذلك. وقال في مادة نبذ: والنبيذ ما يعمل من
الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك. انتهى. وهو ظاهر
126

في المطلوب على الوجه المحبوب، وعلى هذا فقد اتفق على صحة ما ذكرناه الشرع
والعرف واللغة. وبذلك يظهر أنه حيثما يذكر العصير في الأخبار فإنما يراد به ماء العنب
إلا مع قرينة تدل على العموم وأن ماء التمر والزبيب لا مدخل لهما في اطلاق هذا اللفظ
(فإن قيل): إن التمر والزبيب بعد نقعهما في الماء وخروج حلاوتهما يعصران فيصدق
عليهما العصير بذلك (قلنا) نعم إنهما يعصران كما ذكرت ويطلق عليهما العصير لغة بمعنى
المعصور إلا أن مبنى ما ذكرنا من الفرق والتسمية إنما هو بالنسبة إلى استخراج ما في
تلك الأشياء من المياه أو غيرها من أول الأمر فإن المعصورات يستخرج ماؤها من
أول الأمر بالعصر ولا يحتاج إلى أمر آخر غيره، وأما هذه ونحوها فإنها تحتاج أولا
إلى إضافة الماء إليها ثم نقعها أو غليها أو مرسها حتى يخرج ما فيها ثم تعصر بعد ذلك وتصفى
ومن الأخبار الصريحة فيما فصلناه الدالة على ما ادعيناه صحيحة عبد الرحمان بن
الحجاج عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
الخمر من خمسة: العصير من الكرم والنقيع من الزبيب والبتع من العسل والمرز من الشعير
والنبيذ من التمر " ونحوها ما في الكافي عن علي بن إسحاق الهاشمي وقد تقدمت قريبا،
وحينئذ فما ورد في الأخبار بلفظ العصير مطلقا مثل قوله (عليه السلام) في صحيحة
عبد الله بن سنان (2): " كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه " وقوله
(عليه السلام) في حسنة حماد بن عثمان (3): " لا يحرم العصير حتى يغلي " وقوله (عليه
السلام) في رواية حماد أيضا (4) لما سأله عن شراب العصير فقال: " اشربه ما لم يغل
فإذا غلى فلا تشربه " وفي رواية ذريح (5) " إذا نش العصير أو غلا حرم " وفي رواية
محمد بن الهيثم عن رجل عن الصادق (عليه السلام) (6) قال: " سألته عن العصير

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 3 من الأشربة المحرمة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 3 من الأشربة المحرمة.
(5) المروية في الوسائل في الباب 3 من الأشربة المحرمة.
(6) المروية في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
127

يطبخ في النار حتى يغلي من ساعته فيشربه صاحبه؟ قال إذا تغير عن حاله فغلى فلا خير
فيه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه " وأمثال ذلك فإنه يجب حمله على العصير العنبي حمل المطلق
على المقيد كما هو القاعدة المشهورة والمتكررة الغير المذكورة.
ومما يزيدك بيانا وايضاحا لهذا الحمل المذكور ورود جملة من الأخبار الدالة على
العلة في تحريم العصير بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه وحله بعد ذلك فإن موردها هو العنب
خاصة دون غيره من الأشربة:
فمن ذلك ما رواه في الكافي عن أبي الربيع الشامي (1) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن أصل الخمر كيف كان بدء حلالها وحرامها ومتى اتخذ الخمر؟ فقال إن آدم (عليه السلام) لما أهبط من الجنة اشتهى من ثمارها فأنزل الله سبحانه قضيبين
من عنب فغرسهما آدم فلما أن أورقا وأثمرا وبلغا جاء إبليس لعنه الله فحاط عليهما حائطا
فقال آدم ما حالك يا ملعون؟ فقال له إبليس إنهما لي فقال كذبت فرضيا بروح القدس
فلما انتهيا إليه قص عليه آدم قصته فأخذ روح القدس ضغثا من نار ورمى به عليهما والعنب
في أغصانهما حتى ظن آدم أنه لم يبق منهما شئ وظن إبليس مثل ذلك، قال فدخلت
النار حيث دخلت وقد ذهب منهما ثلثاهما وبقي الثلث، فقال الروح أما ما ذهب فحظ
إبليس وأما ما بقي فلك يا آدم " وعن الحسن بن محبوب عن خالد بن نافع عن الصادق
(عليه السلام) (2) مثله ورواه الصدوق في العلل نحوه (3).
وما رواه في الكافي أيضا في الحسن عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) (4)
قال: " لما هبط نوح (عليه السلام) من السفينة غرس غرسا فكان فيما غرس الحبلة ثم
رجع إلى أهله فجاء إبليس لعنه الله فقلعها، ثم إن نوحا عاد إلى غرسه فوجده على حاله
ووجد الحبلة قد قلعت ووجد إبليس عندها فأتاه جبرئيل فأخبره أن إبليس لعنه الله
قلعها، فقال نوح لإبليس ما دعاك إلى قلعها؟ فوالله ما غرست غرسا أحب إلي منها

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
128

ووالله لا أدعها حتى اغرسها. فقال إبليس وأنا والله لا أدعها حتى أقلعها، فقال له اجعل لي
منها نصيبا، فجعل له الثلث فأبى أن يرضى فجعل له النصف فأبى أن يرضى فأبى نوح أن يزيده
فقال جبرئيل لنوح يا رسول الله أحسن فإن منك الاحسان فعلم نوح أنه قد جعل له عليها
سلطان فجعل نوح له الثلثين، فقال أبو جعفر (عليه السلام) إذا أخذت عصيرا فاطبخه
حتى يذهب الثلثان وكل واشرب حينئذ فذاك نصيب الشيطان " أقول: الحبلة بالضم
الكرم أو أصل من أصوله على ما صرح به أهل اللغة.
وروى في الكتاب المذكور أيضا في الموثق عن سعيد بن يسار عن الصادق
(عليه السلام) (1) قال: " إن إبليس لعنه الله نازع نوحا في الكرم فأتاه جبرئيل
فقال إن له حقا فاعطه فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس لعنه الله فأعطاه النصف فلم يرض
فطرح جبرئيل نارا فأحرقت الثلثين وبقي الثلث فقال ما أحرقت النار فهو نصيبه وما
بقي فهو لك يا نوح حلال ".
وروى الصدوق في العلل بسنده عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) (2)
قال: " كان أبي يقول إن نوحا حين أمر بالغرس كان إبليس إلى جانبه فلما أراد أن
يغرس العنب قال هذه الشجرة لي فقال له نوح كذبت فقال إبليس فما لي منها؟ فقال
نوح لك الثلثان. فمن هنا طاب الطلاء على الثلث ".
وروى فيه أيضا بسنده عن وهب بن منبه (3) قال: " لما خرج نوح من السفينة
غرس قضبانا كانت معه من النخل والأعناب وسائر الثمار فأطعمت من ساعتها وكانت
معه حبلة العنب وكان آخر شئ أخرج حبلة العنب فلم يجدها نوح وكان إبليس قد
أخذها فخبأها فنهض نوح ليدخل السفينة فيلتمسها، إلى أن قال فقال له الملك إن لك فيها
شريكا في عصيرها فأحسن مشاركته فقال نعم له السبع ولي ستة أسباع فقال له الملك
أحسن فأنت محسن فقال نوح له سدس ولي خمسة أسداس فقال له الملك أحسن فأنت

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
129

محسن فقال له خمس ولي أربعة أخماس فقال له الملك أحسن فإنك محسن فقال نوح
له الربع ولي ثلاثة أرباع فقال له الملك أحسن فإنك محسن فقال له النصف ولي النصف
فقال أحسن فأنت محسن فقال لي الثلث وله الثلثان فرضي فما كان فوق الثلث من
طبخها فلإبليس وهو حظه وما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح وهو حظه فذلك
هو الحلال الطيب فيشرب منه ".
أقول: وقد دلت هذه الأخبار بأوضح دلالة لا يعتريها الانكار أن الشراب
الذي يحرم بغليانه ولا يحل إلا بذهاب ثلثيه إنما هو ماء العنب لأن النزاع من آدم ونوح
ومن إبليس لعنه الله إنما وقع في شجرة العنب خاصة دون سائر الأشجار. وحينئذ فما
ورد في الأخبار من أن العصير يحرم بالغليان ولا يحل إلا بذهاب الثلثين إنما أريد به
عصير العنب خاصة لأكل عصير كما توهمه غير واحد من قاصري النظر وإن ارتكب
تخصيصه بأفراد أخر، وبالجملة فاختصاص العلة الموجبة للحرمة بما أخذ من الكرم يوجب
بقاء ما أخذ من غيره على أصل الحلية والإباحة، نعم يحرم المسكر منها بالنصوص
المستفيضة الدالة على أن ما أسكر كثيره فكثيره وقليله حرام ويبقى ما عداه غلى بالنار أو لم
يغل على أصل الحلية، ويؤيد ذلك ما ورد في جملة من أخبار العصير الذي يحرم بالغلي
ويحل بذهاب ثلثيه من التعبير عنه تارة بالعصير كما عرفت فيما تقدم من الروايات وتارة
يعبر عنه بالطلاء وهو ما طبخ من عصير بالعنب وتارة يعبر عنه بالبختج بالباء الموحدة ثم
الخاء المعجمة ثم التاء المثناة من فوق وفي آخره جيم وهو العصير من العنب المطبوخ وهو
معرب پخته ".
وبالجملة فإنه لا يخفى على من تأمل في الأخبار الواردة بلفظ العصير في أبواب البيوع
وأبواب الأشربة سؤالا وجوابا أن العصير كان شيئا معينا مخصوصا معلوما يسأل عنه تارة بجواز
شربه وعدمه فيجاب بجواز شربه ما لم يغل وبعد الغلي فإنه يحرم حتى يذهب ثلثاه، ويسأل
عمن يشربه ذهاب ثلثيه فيجاب بأنه فعل محرم، ويسأل عن جواز بيعه فيجاب بجواز بيعه
130

بالنقد خاصة، ونحو ذلك من الأحكام المجراة عليه في الأخبار، ولو كان المراد بالعصير
إنما هو المعنى اللغوي وهو كل ما يعصر وهو أمر كلي شامل لأفراد عديدة لا تكاد
تحصى كثرة لما اطردت هذه الأحكام ولا كانت كلية في كل مقام، فإن أفراد العصير
بهذا المعنى الذي بنوا عليه غير متفقة كما لا يخفى على ذوي الأفهام فإنه ليس كل شئ
يعصر فإنه يحرم بمجرد غليه ولا يحرم بيعه بالنسيئة ولا يتغير بتأخيره حتى يصير محرما.
وها نحن نسرد لك جملة من الأخبار الواردة في أبواب البيع زيادة على ما قدمناه
من الأخبار الواردة في باب الشراب، ففي صحيحة البزنطي (1) قال: " سألت
أبا الحسن (عليه السلام) عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن؟ قال فقال
لو باع ثمرته ممن يعلم أنه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس وأما إذا كان عصيرا فلا يباع إلا
بالنقد " وفي رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن ثمن العصير
قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا؟ قال إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو
حلال فلا بأس " وفي رواية يزيد بن خليفة (3) قال: " كره أبو عبد الله (عليه السلام)
بيع العصير بتأخير " قال في الوافي بعد ذكر هذا الخبر: لا يؤمن أن يصير خمرا قبل قبض
الثمن فيأخذ ثمن الخمر. وصحيحة رفاعة بن موسى (4) قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام)
وأنا حاضر عن بيع العصير ممن يخمره؟ قال حلال ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا؟ "
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة من هذا القبيل، ولا يخفى على المتأمل فيها أنه إنما أريد
بالعصير فيها فرد خاص من المعصورات لا كل ما يعصر كما توهمه من لا تأمل له في
الأخبار ولم يعط النظر حقه من التدبر والاعتبار، وأن المراد إنما هو عصير العنب
بالخصوص لأن الخمر كما عرفته فيما تقدم حقيقته في ماء العنب المسكر وإن كان قد أطلق
شرعا على ما هو أعم منه ومن سائر المسكرات، ومن ذا الذي يدعي أنه كل معتصر
يصير خمرا بتأخيره زمانا وأن كل معتصر فإنه يحرم بمجرد غليانه حتى يتم له دعوى

(1) المروية في الوسائل في الباب 88 من أبواب ما يكتسب به.
(2) المروية في الوسائل في الباب 88 من أبواب ما يكتسب به.
(3) المروية في الوسائل في الباب 88 من أبواب ما يكتسب به.
(4) المروية في الوسائل في الباب 88 من أبواب ما يكتسب به.
131

الكلية في لفظ العصير من هذه الأخبار؟
وبالجملة فجميع الأخبار الواردة بلفظ العصير مطلقا غاية ما يتوهم منها الاطلاق
بمعنى الفرد المنتشر فيصير كالنكرة المراد بها فرد شائع في جنسه، وهذا الاطلاق قد
عرفت أنه مقيد بالصحيحة المتقدمة الأخبار التي معها ونحوها مما دل على اختصاص
العصير بماء العنب خاصة، وأما الحمل على الكلية بمعنى أن المراد منها كل ما يعتصر فهو
لا يمكن توهمه ممن له أدنى روية وتمييز في الأحكام فضلا عن أن يكون من ذوي الأذهان
والأفهام، نعم ذلك التوهم إنما يتجه في صحيحة عبد الله بن سنان المسورة بكل (1)
وسيأتي تحقيق الحال في ايضاحها وبيانها إن شاء الله تعالى، على أن جملة من الأخبار
الواردة بالعصير في باب البيع وأبواب الشراب منها ما أضيف فيها إلى العنب ومنها
ما أطلق ونحن هنا قد اقتصرنا على نقل ما أطلق الذي هو محل الشبهة، ولا ريب أنه
مع ملاحظة مطلقها والضم إلى مقيدها يجب حمل المطلق على المقيد كما هو القاعدة المطردة
(الفائدة الثانية) قد عرفت في الفائدة الأولى أن النبيذ اسم مخصوص بما
يؤخذ من التمر وربما أطلق أيضا على ما يؤخذ من الزبيب، وهذه جملة من الأخبار
نسردها عليك في هذه الفائدة صريحة الدلالة في ذلك ويستفاد منها أيضا أن النبيذ على
قسمين: حلال وهو ما لم يسكر طبخ أو لم يطبخ، وحرام وهو ما أسكر طبخ أو لم يطبخ
فمدار الحل والحرمة فيه إنما هو على الاسكار وعدمه:
فمن تلك الأخبار رواية الكلبي النسابة (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن النبيذ؟ فقال حلال. فقلت إنا ننبذه فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك؟
فقال شه شه تلك الخمرة المنتنة.. الحديث ".
ورواية حنان بن سدير قال: " سمعت رجلا وهو يقول لأبي عبد الله (عليه

(1) ص 127.
(2) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب الماء المضاف
(3) المروية في الوسائل في الباب 22 من الأشربة المحرمة.
132

السلام) ما تقول في النبيذ فإن أبا مريم يشربه ويزعم أنك أمرته بشربه؟ فقال صدق
أبو مريم سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال ولم يسألني عن المسكر، قال ثم قال (عليه
السلام): إن المسكر ما اتقيت فيه أحدا سلطانا ولا غيره، قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام. فقال له الرجل جعلت
فداك هذا النبيذ الذي أذنت لأبي مريم في شربه أي شئ هو؟ فقال أما أبي فإنه كان
يأمر الخادم فيجئ بقدح ويجعل فيه زبيبا ويغسله غسلا نقيا ثم يجعله في إناء ثم يصب
عليه ثلاثة مثله أو أربعة ماء ثم يجعله بالليل ويشربه بالنهار ويجعله بالغداة ويشربه بالعشي
وكان يأمر الخادم بغسل الإناء في كل ثلاثة أيام لئلا يغتلم فإن كنتم تريدون النبيذ فهذا
النبيذ " دلت هذه الرواية باطلاقها على إباحة النبيذ بجميع أنواعه عدا المسكر منه فإنه
(عليه السلام) أقر أبا مريم على تحليل النبيذ بقول مطلق ولم يستثن منه إلا المسكر،
ومثلها رواية الكلبي المتقدمة فإنه أجابه أولا بأنه حلال ومراده هذا الفرد الذي ذكره
(عليه السلام) وقد صرح به أيضا في آخر الخبر المذكور فلما أخبره بأنه يجعل فيه العكر
ونحوه مما يصير به مسكرا أجاب بأنه يصير خمرا محرما.
ورواية أيوب بن راشد (1) قال: " سمعت أبا البلاد يسأل أبا عبد الله (عليه
السلام) عن النبيذ فقال لا بأس به. فقال إنه يوضع فيه العكر؟ فقال بئس الشراب
ولكن انبذوه غدوة واشربوه بالعشي.. الحديث ".
وحسنة عبد الرحمان بن الحجاج (2) قال: " استأذنت على أبي عبد الله (عليه
السلام) لبعض أصحابنا فسأله عن النبيذ فقال حلال فقال أصلحك الله إنما سألتك عن
النبيذ الذي يجعل فيه العكر فيغلي حتى يسكر؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام) قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل مسكر حرام ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المباحة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 24 من الأشربة المحرمة.
133

ورواية إبراهيم بن أبي البلاد (1) قال: " دخلت علي أبي جعفر بن الرضا
(عليه السلام).. فدعى بطبق فيه زبيب فأكلت ثم أخذ في الحديث فشكا إلي معدته
وعطشت فاستقيت ماء فقال يا جارية اسقيه من نبيذي فجائتني بنبيذ مريس في قدح
من صفر فشربته فوجدته أحلى من العسل، فقلت له هذا الذي أفسد معدتك. قال فقال لي
هذا تمر من صدقة النبي (صلى الله عليه وآله) يؤخذ غدوة فيصب عليه الماء فتمرسه
الجارية واشربه على أثر الطعام لسائر نهاري فإذا كان الليل أخذته الجارية فسقته أهل
الدار. فقلت له إن أهل الكوفة لا يرضون بهذا. قال وما نبيذهم؟ قال قلت يؤخذ
التمر فينقع ويلقى عليه القعوة. قال وما القعوة؟ قلت الداذي. قال وما الداذي. قلت
حب يؤتى به من البصرة فيلقى في هذا النبيذ حتى يغلي ثم يسكن ثم يشرب. فقال هذا
حرام " وفي رواية أخرى لهذا الراوي عنه (عليه السلام) أيضا في وصف نبيذ أهل
الكوفة (2) قال في آخر الخبر: " وما الداذي؟ قلت ثقل التمر يصرى به في الإناء حتى
يهدر النبيذ ويغلي ثم يسكن ويشرب. فقال هذا حرام " وحكمه (عليه السلام) بالتحريم
في هذين الخبرين من حيث الاسكار وصيرورته خمرا بما يوضع فيه كما تكرر في الأخبار
مما تقدم ويأتي إن شاء الله تعالى من إضافة المسكر إلى النبيذ في حال نضحه وغليانه
وتصريحهم (عليه السلام) بأنه يصير خمرا مسكرا.
وموثقة سماعة (3) قال " سألته عن التمر والزبيب يطبخان للنبيذ؟ فقال لا
وقال كل مسكر حرام. وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أسكر كثيره
فقليله حرام. وقال لا يصلح في النبيذ الخميرة وهي العكرة " أقول: إنما منع (عليه
السلام) من طبخها للنبيذ لكون المعمول يومئذ هو الطبخ الذي تكرر في الأخبار المنع
من وضع العكر فيه حتى يصير مسكرا كما يدل عليه تتمة الخبر المذكور.

(1) رواها في الوسائل في الباب 24 من الأشربة المحرمة.
(2) رواها في الوسائل في الباب 24 من الأشربة المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة.
134

ورواية يزيد بن خليفة (1) وهو رجل من بني الحارث بن كعب قال: " أتيت
المدينة وزياد بن عبيد الله الحارثي عليها فاستأذنت على أبي عبد الله (عليه السلام) فدخلت
عليه وسلمت عليه وتمكنت من مجلسي فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني رجل
من بني الحارث بن كعب قد هداني الله تعالى إلى محبتكم ومودتكم أهل البيت. قال
فقال لي أبو عبد الله (عليه السلام): كيف اهتديت إلى مودتنا أهل البيت فوالله إن
محبتنا في بني الحارث بن كعب لقليل؟ قال: فقلت له جعلت فداك إن لي غلاما
خراسانيا وهو يعمل القصارة وله همشهريجون أربعة وهم يتداعون كل جمعة فتقع الدعوة
على رجل منهم فيصب غلامي في كل خمس جمع جمعة فيجعل لهم النبيذ واللحم، قال ثم
إذا فرغوا من الطعام واللحم جاء بأجانة فملأها نبيذا ثم جاء بمطهرة فإذا ناول انسانا منهم
قال لا تشرب حتى تصلي على محمد وآل محمد، واهتديت إلى مودتكم بهذا الغلام. قال
فقال لي استوص به خيرا واقرأه مني السلام وقل له يقول لك جعفر بن محمد (عليه
السلام) انظر إلى شرابك هذا الذي تشربه فإن كان يسكر كثيره فلا تقربن قليله فإن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال كل مسكر حرام.. الحديث " فانظر إلى ظهور
هذا الخبر في عموم تحليل النبيذ مطلقا عدا المسكر منه فإن المقام مقام البيان والحاجة
وقصده (عليه السلام) هداية ذلك الغلام إلى الحلال دون الحرام، فلو كان هنا فرد
آخر من النبيذ غير المسكر حراما لنبه عليه ولمنعه من شربه.
ورواية الفضيل بن يسار عن الباقر (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن النبيذ
فقال حرم الله تعالى الخمر بعينها وحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الأشربة
كل مسكر " والتقريب أن السائل سأل عن النبيذ وما يحل منه وما يحرم فأجاب (عليه
السلام) بأن الذي حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الأشربة هو ما أسكر

(1) المروية في الوافي ج 11 ص 83 وقطعة منها في الوسائل في الباب 17 من
الأشربة المحرمة
(2) المروية في الوسائل في الباب 15 من الأشربة المحرمة.
135

خاصة، خرج منه العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه بالنصوص وبقي ما عداه
تحت الاطلاق.
ورواية يونس بن عبد الرحمان عن مولى حر بن يزيد (1) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) فقلت له إني أصنع الأشربة من العسل وغيره وأنهم يكلفوني صنعها
أفأصنعها لهم؟ قال فاصنعها وادفعها إليهم وهو حلال من قبل أن يصير مسكرا " وفيه كما
ترى دلالة على أنه لا يحرم من الأشربة إلا المسكر وما عداه فهو حلال لأن المقام
مقام البيان فلو كان ثمة فرد آخر لذكره (عليه السلام).
وصحيحة صفوان (2) قال: " كنت مبتلى بالنبيذ معجبا به فقلت لأبي عبد الله
(عليه السلام) أصف لك النبيذ؟ فقال بل أنا أصفه لك قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام. فقلت هذا نبيذ السقاية
بفناء الكعبة؟ فقال لي ليس هكذا كانت السقاية إنما السقاية زمزم أفتدري من أول
من غيرها؟ قلت لا. قال العباس بن عبد المطلب كانت له حبلة أفتدري ما الحبلة؟
قلت لا. قال: الكرم كان ينقع الزبيب غدوة ويشربه بالعشي وينقعه بالعشي ويشربه
من الغد يريد أن يكسر غلظ الماء عن الناس وأن هؤلاء قد تعدوا فلا تشربه ولا تقربه "
والتقريب فيها أنه (عليه السلام) اضرب عن وصف السائل إلى الوصف بالاسكار
الموجب للتحريم فلو كان للنبيذ قسم آخر محرم وهو ما غلى وإن لم يسكر لما حسن هذا
الاضراب إلى المسكر بخصوصه كما لا يخفى.
وصحيحة معاوية بن وهب (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إن
رجلا من بني عمي وهو من صلحاء مواليك أمرني أن أسألك عن النبيذ فأصفه لك فقال إنا أصفه لك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله

(1) المروية في الوافي ج 11 ص 91.
(2) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة.
136

حرام.. الحديث " والتقريب كما تقدم في سابقه.
ورواية كليب الأسدي (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
النبيذ فقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطب الناس فقال في خطبته أيها الناس
ألا إن كل مسكر حرام ألا وما أسكر كثيره فقليله حرام ".
ورواية محمد بن مسلم (2) قال: " سألته عن نبيذ قد سكن غليانه؟ فقال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل مسكر حرام " إلى غير ذلك من الأخبار الواردة
في هذا المضمار.
وكلها كما ترى واضحة المقالة متطابقة الدلالة على أنه لا يحرم من النبيذ غير المسكر
لأن السؤالات في هذه الأخبار كلها عن النبيذ ما الذي يحل منه وما الذي يحرم منه؟
فأجابوا (عليهم السلام) في بعض بأن الحلال منه هو النقيع الذي لم يكثر مكثه وفي جملة
أن جميع ما يطبخ ويغلى بالنار فإنه يصير مسكرا وذلك بما اعتاد عليه الناس في تلك
الأزمان من وضع العكر فيه المعبر عنه بالخميرة والداذي، والظاهر أنه من المسكر القديم
الذي يضعونه في هذا الماء الجديد الذي يطبخونه حتى يسرع باسكاره فيكون مثل الخمير
الذي يوضع في العجين وعلى هذا كانت عادتهم في النبيذ المطبوخ، فلذا خرجت الأخبار
عنهم (عليهم السلام) مستفيضة بتحريمه والتصريح بكونه مسكرا، ولو كان مجرد الغليان
يوجب التحريم وإن لم يبلغ حد الاسكار لجرى له ذكر أو إشارة في بعض هذه الأخبار
وما ادعاه بعض فضلاء المعاصرين من أنه بمجرد الغليان يحصل منه السكر أو
مبادئه باعتبار بعض الأمزجة أو بعض الأمكنة والأهوية وصنف في القول بتحريم عصير
التمر رسالة أكثر فيها بزعمه من الدلائل وهي تطويل بغير طائل. ومن جملته دعواه في
الجواب عن هذه الأخبار بحصول الاسكار في ماء التمر بمجرد الغليان اشتد أو لم يشتد

(1) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 25 من الأشربة المحرمة.
137

فلا يخفى ما فيه على العارف النبيه فضلا عن الحاذق الفقيه، وهذه عامة الناس في جميع
الأقطار يطبخون الأطعمة بعصير التمر والدبس بل يطبخونها خاصة ويأكلونها ولم يدع
أحد منهم حصول الاسكار، وبالجملة فبطلان هذا الكلام أظهر من أن يحتاج إلى تطويل
في المقام ولا شاهد أبلغ من ضرورة العيان وعدول الوجدان.
ومن أظهر الأخبار في الباب وأوضحها دلالة عند ذوي الألباب ما رواه في الكافي
بسنده عن محمد بن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (1) قال: " قدم على رسول الله
(صلى الله عليه وآله) من اليمن قوم فسألوه عن معالم دينهم فأجابهم فخرج القوم بأجمعهم
فلما ساروا مرحلة قال بعضهم لبعض نسينا أن نسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عما هو أهم إلينا ثم نزل القوم ثم بعثوا وفدا لهم فأتى الوفد رسول الله (صلى الله عليه
وآله) فقالوا يا رسول الله إن القوم بعثوا بنا إليك يسألونك عن النبيذ؟ فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وما النبيذ صفوه لي؟ فقالوا يؤخذ من التمر فينبذ في إناء ثم يصب عليه
الماء حتى يمتلئ ويوقد تحته حتى ينطبخ فإذا انطبخ أخذوه فألقوه في إناء آخر ثم صبوا عليه ماء
ثم يمرس ثم صفوه بثوب ثم يلقى في إناء ثم يصب عليه من عكر ما كان قبله ثم يهدر ويغلي
ثم يسكن على عكره. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يا هذا قد أكثرت أفيسكر؟
قال نعم. قال فكل مسكر حرام. قال فخرج الوفد حتى انتهوا إلى أصحابهم فاخبروهم بما
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال القوم ارجعوا بنا إلى رسول الله حتى نسأله
عنها شفاها ولا يكون بيننا وبينه سفير فرجع القوم جميعا فقالوا يا رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أرضنا أرض دوية ونحن قوم نعمل الزرع ولا نقوى على العمل إلا بالنبيذ؟
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) صفوه لي فوصفوه كما وصف أصحابهم فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفيسكر؟ فقالوا نعم. قال كل مسكر حرام.. الحديث "
وقد جاء هذا الخبر مفصلا بأوضح تفصيل لا يعتريه القال والقيل وهو صريح في المطلوب

(1) رواه في الوافي ج 11 ص 87 وفي الوسائل في الباب 24 من الأشربة المحرمة.
138

والمراد عري عن وصمة الشك والايراد.
وهذا الخبر ظاهر في الرد على ذلك الفاضل المتقدم ذكره المدعي لحصول الاسكار
بالغليان، فإنه لو كان الأمر كما توهمه لم يكن لسؤال النبي (صلى الله عليه وآله) عن
الاسكار معنى فإن الرجل قد ذكر في حكايته عن صفة النبيذ أنه غلى مرتين وفي الغلية
الثانية وضع فيه العكر ولو كان السكر يحصل بمجرد الغليان لحرمه رسول الله (صلى الله
عليه وآله) بمجرد الغليان الأول، وبالجملة فالحديث المذكور واضح الظهور ساطع النور
إلا على من اعترى فهمه وذهنه نوع فتور وقصور، والله الهادي لمن يشاء.
(الفائدة الثالثة) المستفاد من الأخبار المتقدمة في الفائدة الأولى أن العصير
العنبي على قسمين منه ما يغلي ومنه ما لا يغلي، والأول منه ما يكون محرما وهو ما غلى
قبل ذهاب ثلثيه وما يكون حلالا وهو قبل الغلي وما بعد ذهاب الثلثين، والقسم الثاني
أيضا منه ما يكون محرما وهو ما طال مكثه حتى اختمر وصار مسكرا ومنه ما هو حلال
وهو ما لم يبلغ الحد المذكور. وأما النبيذ كما صرحت به الأخبار في الفائدة الثانية فليس
إلا قسمان غلى أو لم يغل: إن أسكر فهو حرام وإن لم يسكر فهو حلال، والاسكار يقع فيه
تارة بطول مكثه في الإناء حتى يختمر ويصير مسكرا كما يشير إليه حديث السقاية وقوله
(عليه السلام) بعد ذكر ما كان العباس يفعله لكسر غلظة الماء: " وأن هؤلاء قد تعدوا
فلا تشربه " يعني أنه لما وصلت النوبة إلى هؤلاء المستحلين لشرب النبيذ المسكر تعدوا
في الزيادة في التمر والزبيب الذي ينبذونه وطول مكثه في الأواني حتى صار مسكرا،
وإليه يشير أيضا قوله (عليه السلام) في حديث حنان بن سدير: " وكان يأمر الخادم
بغسل الإناء في كل ثلاثة أيام لئلا يغتلم " والاغتلام لغة الاشتداد والمراد الكناية عن
بلوغ حد الاسكار، وتارة بالغلي ووضع العكر فيه كما صرحت به الأخبار المتقدمة.
وبالجملة فإنه قد علم من هذه الأخبار كملا أن المحرم من العصير العنبي قسمان أحدهما ما على
ولم يذهب ثلثاه والثاني ما أسكر، وأما المحرم من النبيذ فليس إلا المسكر خاصة فلو كان
139

ثمة قسم آخر يكون محرما وهو ما غلى ولم يذهب ثلثاه من غير عصير العنب لوصلت إلينا
به الأخبار ودلت عليه الآثار وهي كما دريت خالية من ذلك، وروايات نزاع إبليس
مع آدم ونوح المصرحة بعلة التحريم بعد الغليان حتى يذهب الثلثان موردهما إنما هو
العنب خاصة.
(فإن قيل) إن إبليس قد نازع آدم في النخل أيضا لما رواه في الكافي بسنده
عن علي بن أبي حمزة عن إبراهيم عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " إن الله تعالى
لما أهبط آدم من الجنة أمره بالحرث والزرع وطرح إليه غرسا من غروس الجنة فأعطاه
النخل والعنب والزيتون والرمان فغرسها ليكون لعقبه وذريته وأكل هو من ثمارها، فقال له
إبليس لعنه الله يا آدم ما هذا الغرس الذي لم أكن أعرفه في الأرض وقد كنت فيها
قبلك؟ فقال ائذن لي آكل منها فأبى آدم أن يطعمه فجاء إبليس عند آخر عمر آدم وقال
لحواء أنه قد أجهدني الجوع والعطش فقالت له حواء فما الذي تريد؟ فقال أريد أن
تذيقني من هذه الثمار. فقالت حواء أن آدم عهد إلي أن لا أطعمك شيئا من هذا
الغرس لأنه من الجنة ولا ينبغي لك أن تأكل منها شيئا؟ فقال لها فاعصري في كفي
شيئا منه فأبت عليه فقال ذريني أمصه ولا آكله فأخذت عنقودا من عنب فأعطته فمصه
ولم يأكل منه لما كانت حواء قد أكدت عليه فلما ذهب بعضه جذبته حواء من فيه فأوحى
الله تعالى إلى آدم أن العنب قد مصه عدوي وعدوك إبليس لعنه الله وقد حرمت عليك
من عصيره الخمر ما خالطه نفس إبليس فحرمت الخمر لأن عدو الله إبليس مكر بحواء
حتى مص العنب ولو أكله لحرمت الكرمة من أولها إلى آخرها وجميع ثمارها وما يخرج
منها، ثم إنه قال لحواء لو أمصصتني شيئا من هذا التمر كما أمصصتني من العنب فأعطته
تمرة فمصها وكان العنب والتمر أشد رائحة وأذكى من المسك الأذفر وأحلى من العسل،
فلما مصهما عدو الله إبليس ذهبت رائحتهما وانتقصت حلاوتهما، قال أبو عبد الله (عليه

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
140

السلام) ثم إن إبليس الملعون ذهب بعد وفاة آدم فبال في أصل الكرمة والنخلة فجرى
الماء في عروقهما من بول عدو الله فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله تعالى على ذرية
آدم كل مسكر لأن الماء جرى ببول عدو الله في النخل والعنب. وصار كل مختمر خمرا
لأن الماء اختمر في النخلة والكرمة من رائحة بول عدو الله تعالى إبليس ".
(قلت): هذا الخبر بحمد الله تعالى إن لم يكن حجة لنا لا يكون علينا وذلك أن
سياق الخبر كما تقدمت الإشارة إليه إنما هو في بيان العلة في تحريم المسكر من العنب والتمر
وغيرهما، ألا ترى إلى قوله (عليه السلام): " فأوحى الله تعالى إلى آدم أن العنب قد
مصه عدوي وعدوك إبليس لعنه الله وقد حرمت عليك من عصيره الخمر ما خالطه نفس
إبليس فحرمت الخمر لأن عدو الله.. الخ "، وإلى قوله (عليه السلام) بعد حكاية
بول إبليس لعنه الله في أصل الكرمة والنخلة: " فجرى الماء في عروقهما من بول عدو الله
فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله على ذرية آدم كل مسكر.. الخ " ولا دلالة فيه ولا
إشارة إلى التحريم في التمر بمجرد الغليان كما تقدم في أخبار العصير العنبي.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات ثلاثة:
(الأول) في ماء التمر إذا غلى ولم يذهب ثلثاه، والمشهور بل كاد أن يكون اجماعا بل هو اجماع هو القول بحليته فإنا لم نقف على قائل بالتحريم ممن تقدمنا
من الأصحاب وإنما حدث القول بذلك في هذه الأعصار المتأخرة، فممن ذهب إليه
شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني والمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر
العاملي على ما يظهر من الوسائل ثم اشتهر ذلك الآن بين جملة من الفضلاء المعاصرين
حتى صنفوا فيه الرسائل وأكثروا من الدلائل التي لا ترجع إلى طائل، وهذا هو الذي
حدانا على تطويل الكلام في هذه المسألة في هذا المقام وإن كانت خارجة عن محل
البحث إلا بنوع مناسبة تقتضي الدخول في سلكه والانتظام.
141

وربما توهم وقوع الخلاف في الحكم المذكور من بعض عبارات الأصحاب مثل
عبارة المحقق في كتاب الحدود من الشرائع حيث قال: " وأما التمري إذا غلى ولم يبلغ
حد الاسكار ففي تحريمه تردد والأشبه بقاؤه على التحليل حتى يبلغ الشدة المسكرة " انتهى
ومثله عبارة الشهيد في الدروس حيث قال بعد الكلام في عصير الزبيب وحكمه بتحليل
المعتصر منه: " وأما عصير التمر فقد أحله بعض الأصحاب ما لم يسكر، وفي رواية
عمار.. الخ ". (1)
وأنت خبير بأن العبارة الأولى لا دلالة فيها بوجه على وجود القول بالتحريم لأن
التردد في الحكم لا يستلزم وجود الخلاف فيه بل قد يكون منشأه تعارض الأدلة فيه
أو ضعف المستند دلالة أو سندا أو تعارض احتمالين في ذلك كما هو دأب العلماء في كثير من
عبائرهم ومن ثم قال الشهيد الثاني في المسالك في شرح هذه العبارة: وجه التردد في
عصير التمر أو هو نفسه إذا غلى، من دعوى صدق اسم النبيذ عليه حينئذ ومشابهته
لعصير العنب، ومن أصالة الإباحة ومنع صدق اسم النبيذ المحرم عليه حقيقة ومنع
مساواته لعصير العنب في الحكم لخروج ذلك بنص خاص فيبقى غيره على أصل الإباحة
وهذا هو الأصح. انتهى. ويؤيد ما قلناه أيضا ما صرح به الفاضل الشيخ أحمد بن
فهد (قدس سره) في المهذب حيث قال: كل حكم مستفاد من لفظ عام أو مطلق
أو من استصحاب يسمى بالأشبه لأن ما كان مستند الترجيح التمسك بالظاهر والأخذ
بما يطابق ظاهر المنقول يكون أشبه بأصولنا، فكل موضع يقول فيه: " الأشبه "
يريد هذا المعنى، والأصح ما لا احتمال فيه عنده، والتردد ما احتمل الأمرين، ثم قال
بعد ذلك: وربما كان النظر والتردد في المسألة من المصنف خاصة لدليل انقدح في

(1) المروية في الوسائل في الباب 37 من الأشربة المحرمة، واللفظ هكذا: " سألته
يعني أبا عبد الله " عليه السلام " عن النضوح؟ قال يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم
يمتشطن " وسيأتي التعرض لها ص 149.
142

خاطره. انتهى وفيه كما ترى دلالة واضحة على أن المحقق (قدس سره) بل
غيره من الفقهاء أيضا قد يقولون على الأصح أو يترددون أو ينتظرون في المسألة وإن
كانت اجماعية. وأغرب من ذلك أن المحقق في كتاب المختصر في مسألة كثير السفر
قال: وضابطه أن لا يقيم في بلدة عشرة أيام ولو أقام في بلده أو غيره ذلك قصر،
وقيل هذا يختص بالمكاري فيدخل الملاح والأجير. انتهى. قال في المهذب: ولم نظفر
بقائله ولعله سمعه من معاصر له في غير كتاب مصنف فقال " قيل ". وقال في التنقيح:
لم نسمع من الشيوخ قائله ولكن قال بعض الفضلاء كأنه هو نفسه القائل. ونقل عن
الشهيد (قدس سره) أنه قال إنه احتمال عنده. وبذلك يظهر أن العبارة المذكورة وإن
توهم منها في بادئ النظر حصول الخلاف في المسألة إلا أنه عند التأمل الدقيق لا ينبغي الالتفات
إليه، وبه يظهر أيضا ما في كلام شيخنا المشار إليه آنفا حيث قال: وما يقال إن النزاع إنما
هو في العصير الزبيبي كما يفهم من شرح الشرائع في الأطعمة والأشربة وأما التمري فلا
نزاع في إباحته وقد ادعى الاجماع عليه بعض الفضلاء مردود بأن الظاهر من كلام
المحقق في الشرائع في كتاب الحدود خلافه وأن المسألة ليست اجماعية كما قد يظن، فإنه قال: وأما التمري إذا غلى ولم يبلغ الاسكار ثم ساق العبارة المتقدمة، ثم قال ودلالته على
المدعى واضحة. انتهى. أقول: قد عرفت ما فيه.
وأما عبارة الدروس فغاية ما تدل عليه هو اسناد التصريح بالحلية إلى بعض
الأصحاب وهذا لا يستلزم أن البعض الآخر قائل بالتحريم بل الظاهر أن مراده أن
بعض الأصحاب نص على الحلية وصرح بها والبعض الآخر لم يصرح بشئ نفيا ولا
اثباتا، وهو كذلك فإن كثيرا منهم لم يتعرضوا لذكر ماء التمر المغلي بالكلية ومن ذكره
منهم فإنما وصفه بالحلية دون التحريم، وكيف كان فغاية ما يشعر به كلامه هنا هو التوقف
في الحكم لرواية عمار المشار إليها في كلامه وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى، ومما
يساعد على ما ادعيناه المسالك في كتاب الأطعمة والأشربة وهي المشار إليها في
143

كلام شيخنا المتقدم، حيث قال في الكتاب المذكور بعد البحث في عصير العنب: والحكم
مختص بعصير العنب فلا يتعدى إلى غيره كعصير التمر ما لم يسكر للأصل ولا إلى العصير
الزبيب على الأصح.. الخ. ونحوه في الروض وشرح الرسالة، واعتراض شيخنا المتقدم
عليه بما ذكره قد عرفت بطلانه. وأيا ما كان فالاعتماد عندنا في الأحكام على الأدلة
الواردة في المقام لا على الخلاف أو الوفاق من العلماء الأعلام:
ومما يدل على الحلية في هذه المسألة الأصل والآيات والأخبار كقوله سبحانه:
".. خلق لكم ما في الأرض.. " (1) وقوله عز وجل: " قل لا أجد فيما أوحي إلي
محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا.. الآية " (2) وقوله تعالى: " إنما
حرم عليكم الميتة والدم.. " (3) وقوله: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم
الطيبات.. الآية إلى وطعامكم حل لهم " (4) وقوله ".. لا تحرموا طيبات ما أحل الله
لكم.. " (5) وغيرها خرج ما خرج بدليل فيبقى الباقي تحت العموم، وقول الصادق (عليه
السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (6): " إنما الحرام ما حرم الله تعالى ورسوله في كتابه "
عقيب الأمر بقراءة " قل لا أجد.. الآية " وقول أحدهما (عليهما السلام) في صحيحة
زرارة (7) " وإنما الحرام ما حرم الله في كتابه " وقول الباقر (عليه السلام) في صحيحة
زرارة ومحمد بن مسلم (8): " إنما الحرام ما حرم الله في القرآن " وفي صحيحة محمد بن
مسلم (9): " ليس الحرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه " ثم قال: " اقرأ هذه الآية: قل لا

(1) سورة البقرة. الآية 29
(2) سورة الأنعام. الآية 146
(3) سورة البقرة. الآية 173
(4) سورة المائدة. الآية 4
(5) سورة المائدة. الآية 87
(6) المروية في الوسائل في الباب 9 من الأطعمة المحرمة
(7) المروية في الوسائل في الباب 6 من الأطعمة المحرمة.
(8) المروية في الوسائل في الباب 4 من الأطعمة المحرمة.
(9) المروية في الوسائل في الباب 5 من الأطعمة المحرمة.
144

أجد.. الآية " ويدل على ذلك ما قدمناه من الأخبار في الفائدة الثانية المصرحة بأن
المحرم من النبيذ هو المسكر خاصة ولا سيما رواية الوفد.
استدل شيخنا أبو الحسن المشار إليه آنفا على التحريم في العصير التمري والزبيبي
بصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " كل عصير أصابته
النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه " قال وروى أيضا في الحسن عنه (عليه
السلام) (2): " أي عصير أصابته النار فهو حرام " وكلمتا " كل وأي " صريحتان
في العموم فمقتضاهما تحريم الزبيبي والتمري إلا أن يثبت كون العصير حقيقة شرعية أو عرفية
في عصير العنب خاصة كما ادعاه جماعة، وأنت خبير بأن هذه الدعوى في حيز المنع إذ
لم نظفر لها بمستند يعتمد عليه واستسلاقها في هذا المقام مجازفة محضة وعباراتهم طافحة
بتسميتهما عصيرا ومع هذا الاطلاق لا يليق منهم انكاره فيبقى عموم النص شاملا له،
مع أن رواية زيد النرسي (3) بالنون والراء والسين المهملتين شاهدة به وفي رواية
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (4) اشعار ما به كما لا يخفى على العارف
بأساليب الكلام وإن لم تدل عليه صريحا. انتهى كلامه.
أقول: فيه زيادة على ما عرفت نظر من وجوه: (الأول) أن ما ذكره من
رواية ابن سنان وجعله لها روايتين وأن أحدهما صحيحة والأخرى حسنة وأن إحداهما بلفظ
" كل " والأخرى بلفظ " أي " لا وجود له في كتب الأخبار ولا نقله ناقل من علمائنا
الأبرار، والموجود فيها رواية واحدة وهي الأولى إلا أنها صحيحة في التهذيب وحسنة

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة
(2) سيتعرض المصنف (قدس سره) في الوجه الأول من وجوه النظر لعدم وجود
رواية لابن سنان بهذا اللفظ.
(3) المروية في مستدرك الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة وستأتي في المقام الثاني
(4) المروية في الوسائل في الباب 8 من الأشربة المحرمة وستأتي في المقام الثاني.
145

في الكافي، وأما الثانية فلم أقف عليها ولم يذكرها في الوافي الجامع لكتب الأخبار
الأربعة ولا في الوسائل الجامع للكتب الأربعة وغيرها.
(الثاني) إن ما ادعاه من العموم في العصير مردود بما أوضحناه في الفوائد
المتقدمة بما لا مزيد عليه وهو أن العصير مخصوص بما يؤخذ من العنب وأن ما يؤخذ من
التمر والزبيب إنما يطلق عليه النقيع والنبيذ، فهذه الأسماء قد صارت حقائق عرفية في
زمانهم وعرفهم (عليه السلام) كما أطلقوا أيضا على عصير العنب الطلاء تارة والبختج
أخرى، وعاضد على ذلك كلام أهل اللغة أيضا كما سمعت من عبائرهم، ولكنه
لقصور تتبعه (قدس سره) للأخبار وعدم مراجعته لكلام أهل اللغة في هذا المضمار
وقع فيما وقع فيه.
بقي الكلام هنا في التعبير في هذه الصحيحة بلفظة " كل " المشعر بوجود أفراد
متعددة لذلك، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك ما ذكره بعض مشايخنا المحققين من
متأخرين المتأخرين من أن ذلك باعتبار كون المراد منه ما هو أعم من أن يسكر كثيره
أم لا أخذ من كافر أو مسلم مستحل لما دون الثلث أم لا عارف أم لا. أقول: ويؤيده
ورود الأخبار في حل المعصرات المأخوذة من أيدي هؤلاء وعدمه بالفرق في بعضها بين
العارف وغيره وفي بعض بين من يستحله على الثلث وغيره ممن يشربه على النصف
وكذا بالنسبة إلى المسلم وغيره، وبهذا يتم معنى الكلية في الخبر المذكور ويندفع عنه
النقص والقصور.
(الثالث) أنه منع العدول عن حمل العصير في الخبر على ما ذكرناه من عصير
العنب فليس إلا الحمل على المعنى اللغوي الذي هو عبارة عن كل معصور، والحمل على
هذا المعنى مما لا يخفى بطلانه على محصل إذ يلزم من الحكم بصحة هذا المعنى الحكم
بتحريم كل عصير إذا غلى ولا ريب أنه مخالف لما علم ضرورة من مذهب الاسلام من
إباحة الأشربة ومياه العقاقير والأدوية التي تطبخ ومياه الفواكه والبقول ونحو ذلك،
146

ولو رجع إلى تخصيصها بالنصوص فالذي صرحت به النصوص بأن يتم له تخصيص هذا
الخبر به إنما هو السكنجبين ورب التوت والرمان والتفاح والسفرجل والجلاب وهو العسل
المطبوخ بماء الورد حتى يتقوم، وحينئذ فما عدا هذه المعدودة الموجودة في النصوص يبقى
داخلا في عموم الخبر على زعمه ولا أظنه يلتزمه ويقول به، والتخصيص بالعنبي والتمري
تحكم محض مع أنه ارتكاب للتخصيص البعيد الذي قد منع صحته جماعة من الأصوليين،
وبالجملة فصدور هذه الكلية عنهم (عليهم السلام) مع خروج أكثر أفراد الموضوع عن
الحكم بعيد جدا بل مما يكاد يقطع ببطلانه سيما مع كون الخروج بغير دليل ولا مخصص
وبهذا يظهر أنه لا يجوز أن تكون الكلية والعموم في الخبر المذكور باعتبار المعنى
اللغوي الذي توهمه.
(الرابع) قوله: " إلا أن يثبت كون العصير حقيقة.. الخ " فإن فيه
أنه قد ثبت ذلك على وجه لا يعتريه الاشكال ولا يحوم حوله الاختلال إلا لمن لم يعط
التأمل حقه في هذا المجال ولم يسرح بريد النظر كما ينبغي في أخبار الآل عليهم صلوات
ذي الجلال كما أوضحناه بأوضح مقال وكشفنا عنه نقاب الاجمال بما لم يسبق إليه سابق
من علمائنا الأبدال، وأيده أيضا مضي العلماء عليه سلفا وخلفا فإن أحدا منهم لم يتوهم
هذا المعنى الذي تفرد به وذهب إليه، والقائلون بتحريم العصير الزبيبي إنما استندوا
إلى صحيحة علي بن جعفر الآتية مع أن صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة بمرئى منهم
ومنظر وهي بالاستدلال لو كانوا يفهمون من العصير هذا المعنى الذي توهمه أوضح
وأظهر، وإنما فهموا منه أنه عبارة عن ماء العنب خاصة فهو اجماع أو كالاجماع منهم
(رضوان الله عليهم)، وقد عرفت أيضا مساعدة كلام أهل اللغة لهم باعتبار تخصيصهم
لما يتخذ من التمر والزبيب بالنقيع أو النبيذ. وأما ما ذكره من أن عباراتهم طافحة
بتسميتهما عصيرا فلا يليق منهم انكاره ففيه أن عبارات أكثرهم خالية من هذا وإن
ذكره بعضهم فهو على نوع من مجاز المشاكلة، وأما انكاره فمتعلقه الحكم لا التسمية
147

وأحدهما غير الآخر، وبذلك يظهر لك أن المجازفة إنما هو في البناء على هذه الأوهام
من غير اعطاء التأمل حقه في المقام والخروج عما عليه كافة العلماء الأعلام والمخالفة
لنصوص أهل الذكر عليهم أفضل الصلاة والسلام.
(الخامس) ما ذكره بقوله: " مع أن رواية زيد النرسي.. الخ " فإن فيه
أن رواية زيد النرسي التي موردها مخصوص بالزبيب وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله
تعالى ضعيفة فإن زيد النرسي مجهول في الرجال وأصله المنقول منه هذا الخبر مطعون فيه
كما ذكره الشيخ في الفهرست، حيث قال في الطعن على أصل زيد النرسي: أنه لم يروه
محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، ونقل عنه في فهرسته أيضا أنه لم يروه محمد بن الحسن بن
الوليد وكأن يقول إنه موضوع وضعه محمد بن موسى الهمداني. وقال العلامة في الخلاصة
بعد نقل كلام الشيخ وابن الغضائري في زيد الزراد وزيد النرسي: والذي نقله الشيخ
عن ابن بابويه وابن الغضائري لا يدل على طعن في الرجلين وإن كان توقف ففي رواية
الكتابين، ولما لم أجد لأصحابنا تعديلا لهما ولا طعنا فيهما توقفت عن قبول
روايتهما. انتهى. ومن هذا القبيل تمسكه برواية علي بن جعفر وقناعته بما فيها من قوله
" اشعار ما " والعجب منه (قدس سره) في استناده إلى هاتين الروايتين المتهافتتين مع أن ههنا روايات أخر مروية في الأصول المعتبرة التي عليها المدار وهي أوضح دلالة
وأصرح مقالة وأصح سندا وأكثر عددا فيما ادعاه بالنسبة إلى الزبيب كما سيظهر لك
إن شاء الله تعالى في المقام الآتي، وهذا مما يدلك أوضح دلالة على صحة ما قلنا من أن كلامه (قدس سره) في هذا المضمار لم يكن ناشئا عن تحقيق ورجوع إلى الأخبار
وتأمل فيها بعين الفكر والاعتبار، وكذا بالنسبة إلى العصير التمري كان ينبغي أن
يستدل بموثقة عمار التي أشار إليها في الدروس وكأنه اعتمد على ما فهمه من صحيحة
عبد الله بن سنان من صدق العصير على هذه الأشياء ولم يبحث عن دليل سواها، ولو أنه تمسك في ماء التمر بموثقتي عمار الآتيتين وفي الزبيب بالروايات التي سنتلوها عليك
148

إن شاء الله تعالى في المقام الآتي لكان أظهر في مطلوبه ومراده وإن قابله من خالفه
في ذلك باعتراضه وايراده.
هذا، وربما استدل للقول بالتحريم في ماء التمر بموثقة عمار بن موسى عن الصادق
(عليه السلام) (1): " أنه سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال خذ ماء
التمر فاغله حتى يذهب ثلثا ماء التمر " وموثقته الأخرى عنه (عليه السلام) (2) قال:
" سألته عن النضوح؟ قال يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يمتشطن " وهذه
الرواية الثانية هي التي ذكرها في الدروس وظاهره التوقف في الحكم من أجلها،
والنضوح لغة على ما ذكره في النهاية ضرب من الطيب تفوح رائحته، ونقل الشيخ فخر الدين
ابن طريح في مجمع البحرين. أن في كلام بعض الأفاضل النضوح طيب مائع ينقعون التمر والسكر
والقرنفل والتفاح والزعفران وأشباه ذلك في قارورة فيها قدر مخصوص من الماء ويشد
رأسها ويصبرون أياما حتى ينش ويختمر وهو شائع بين نساء الحرمين الشريفين، وكيفية
تطيب المرأة به أن تحط الأزهار بين شعر رأسها ثم ترش به الأزهار لتشتد رائحتها قال:
وفي أحاديث أصحابنا أنهم نهوا نساءهم عن التطيب به بل أمر بإهراقه في البالوعة. انتهى
أقول: الظاهر أنه أشار بحديث الأمر بالاهراق إلى رواية عيثمة (3) قال: " دخلت
على أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده نساؤه قال فشم رائحة النضوح فقال ما هذا؟ قالوا
نضوح يجعل فيه الضياح قال فأمر به فاهريق في البالوعة " أقول: الضياح لغة اللبن
الخاثر يجعل فيه الماء ويمزج به، والظاهر بناء على ما ذكره هذا البعض المنقول عنه
كيفية عمل النضوح المؤيد بخبر عيثمة المذكور أن أمره (عليه السلام) بإهراق النضوح
إنما هو لكونه خمرا وأنه نجس كما هو أحد القولين المعتضد بالأخبار كما تقدم تحقيقه،
فيكون وضعه في الرأس موجبا لنجاسته والصلاة في النجاسة حينئذ، وعلى هذا فتحمل

(1) المروية في الوسائل في الباب 32 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 37 من الأشربة المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 32 من الأشربة المحرمة.
149

رواية عمار على أن الغرض من طبخه حتى يذهب ثلثا ماء التمر إنما هو لئلا يصير خمرا
ببقائه مدة لأن غليه الذي يصير به دبسا يذهب الأجزاء المائية التي يصير بها خمرا لو
مكث مدة كذلك، لأنه إنما يصير خمرا بسبب ما فيه من تلك الأجزاء المائية فإذا
ذهبت أمن من صيرورته خمرا، ويؤيد هذا قوله: " النضوح المعتق " على صيغة اسم
المفعول أي الذي يراد جعله عتيقا بأن يحفظ زمانا حتى يصير عتيقا، ويؤيده قوله أيضا
" ثم يمتشطن " من أن الغرض منه التمشط والوضع في الرأس، فالمراد من السؤال في
الروايتين عن كيفية عمله هو التحرز عن صيرورته خمرا نجسا يمتنع الصلاة فيه إذا تمشطن
به وإلا فهو ليس بمأكول ولا الغرض من السؤال عن كيفية عمله هو حل أكله حتى
يكون الأمر بغليه على مثل هذه الكيفية لحل أكله، فلو فرضنا أنه طبخ على النصف
مثلا وتمشطن به في الحال فإنه وإن فرضنا تحريم أكله كما يدعيه الخصم إلا أنه لا قائل
بنجاسته اجماعا ولا دليل عليها اتفاقا، ولكن لما كان الغرض هو حفظه وتبقيته زمانا كما
عرفت فلو لم يعمل بهذه الكيفية لصار خمرا نجسا فأمر (عليه السلام) بطبخه على هذه
الكيفية لهذه العلة، وكيف كان فدلالة الخبرين المذكورين إنما هو بطريق المفهوم وهو
مع تسليمه إنما يكون حجة إذا لم يظهر للتعليق فائدة سوى ذلك وإلا فلا حجة فيه، وبما
شرحنا من معنى الخبرين المذكورين وهو أن الغرض أن لا يكون خمرا مسكرا تظهر
فائدة التعليق المذكور فلا يكون حجة فيما يدعيه الخصم، وهذا بحمد الله سبحانه واضح
لا سترة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.
بقي هنا شيئان ينبغي التنبيه عليهما (الأول) أن اطلاق الأخبار وكلام الأصحاب دال
على تحريم العصير بالغليان وتوقف حله على ذهاب الثلثين أعم من أن يطبخ وحده أو مع شئ
آخر غيره، وقد روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجال عن
أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) (1) " أن محمد بن علي بن عيسى كتب إليه عندنا طبيخ يجعل فيه
الحصرم وربما يجعل فيه العصير من العنب وإنما هو لحم يطبخ به وقد روي عنهم في العصير

(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من الأشربة المحرمة.
150

أنه إذا جعل على النار لم يشرب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وأن الذي يجعل في القدر
من العصير بتلك المنزلة وقد اجتنبوا أكله إلى أن يستأذن مولانا في ذلك؟ فكتب
لا بأس بذلك " وهو ظاهر في أن حكم العصير مطبوخا مع غيره حكمه منفردا. وكأن
السائل توهم اختصاص الحكم المذكور بالعصير منفردا وشك في جريان ذلك فيه إذا
طبخ مع غيره، لأن ظاهر قوله: " الذي يجعل في القدر من العصير بتلك المنزلة "
يعني يذهب ثلثاه كما روي فأجابه (عليه السلام) بنفي البأس مع ذهاب الثلثين إشارة
إلى أن هذا الحكم ثابت له مطلقا منفردا أو مع غيره.
(الثاني) أنه لو وقع في قدر ماء يغلي على النار حبة أو حبات عنب فإن كان
ما يخرج منها من الماء يضمحل في ماء القدر فالظاهر أنه لا اشكال في الحل لعدم صدق
العصير حينئذ لأن الناظر إذا رآه إنما يحكم بكونه ماء مطلقا وإن أدت إليه الحلاوة مثلا. لأن
الأحكام الشرعية تابعة لصدق الاطلاق والتسمية فإذا كان لا يسمى عصيرا وإنما يسمى
ماء فلا يلحقه حكم العصير البتة، نعم لو كان الواقع في الماء إنما هو شئ من العصير
المحرم وهو ما بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه وكان ذلك أيضا على الوجه الذي ذكرناه
من القلة والاضمحلال في جانب الماء فهل يكون الحكم فيه كما تقدم في الصورة الأولى
أم لا؟ الظاهر الأول لعين ما ذكرناه وبذلك صرح المحقق المولى الأردبيلي (قدس سره)
في شرح الإرشاد حيث قال بعد قول المصنف (قدس سره) في كتاب الأطعمة والأشربة
" أن ما مزج بشئ من هذه يحرم " وتفسير العبارة المذكورة بأن تحريم ما مزج بهذه
المذكورات مع نجاستها ظاهر فإن الملاقي للنجس رطبا نجس وكل نجس حرام، واحتماله أيضا
أنه يريد بيان حكم الممتزج على تقدير عدم النجاسة أيضا ما حاصله: والحكم بتحريم الممتزج
حينئذ إن كان الامتزاج بحيث غلب الحرام وصار من أفراده ظاهر وكذا المساوي بل
ما علم أنه فيه بحيث لم يضمحل بالكلية، فأما ما يضمحل فيمكن الحكم بكونه حلالا مثل
قطرة عرق أو بصاق حرام في حب ماء أو قدر بل في كوز كبير للاضمحلال. ولا يبعد
151

أن يكون ذلك مدار الحكم، فإن كان بحيث إذا أخذ وأكل وشرب لم يعلم بوجود الحرام
فيه يكون حلالا وإن كان يعلم وجوده فيه يكون حراما. ويدل عليه ما تقدم من العمومات
والأصل وحصر المحرمات وصحيحة عبد الله بن سنان (1) قال: " قال الصادق (عليه
السلام) كل شئ يكون فيه حلالا وحرام فهو لك حلال حتى تعلم أنه حرام " ثم قال:
ويحتمل التحريم خصوصا المسكر للروايات مثل حسنة عبد الرحمان بن الحجاج (2) قال:
" قال الصادق (عليه السلام) ما أسكر كثيره فقليله حرام " ثم نقل رواية عمر بن حنظلة
الدالة على أن ما قطرت قطرة من المسكر في حب إلا أهريق ذلك الحب (3) ثم قال
فتأمل فإن المسألة مشكلة والاجتناب أحوط. انتهى كلامه: وفيه أن ما استند إليه في
احتمال التحريم من الروايتين المذكورتين لا دلالة لهما على ما ادعاه. فإن مقتضى حسنة
عبد الرحمان تعلق التحريم بعين القليل ومتفرع على وجوده والمفروض اضمحلاله كما ذكره
سابقا وحينئذ فلا يكون من محل البحث في شئ، ومقتضى رواية عمر بن حنظلة أن
الإراقة إنما تترتب على التنجيس وحكمه (عليه السلام) بنجاسة المسكر كما هو أشهر
الروايات وأظهرها حسبما مر تحقيقه في موضعه لا على التحريم كما توهمه (قدس سره)
وبالجملة فأظهرية الحلية في الصورة المذكورة مما لا ينبغي أن يعتريه الاشكال. والله العالم.
(المقام الثاني) في ماء الزبيب إذا غلى ولم يذهب ثلثاه، المشهور بين الأصحاب
(رضوان الله عليهم) كونه حلالا وقيل بتحريمه كما تقدمت الإشارة إليه في كلام شيخنا
الشهيد الثاني وإليه مال من قدمنا ذكره من متأخري المتأخرين وجملة من المعاصرين، ويدل
على القول المشهور ما تقدم في المقام الأول من الأصل والعمومات في الآيات والروايات
المتقدمة ثمة، واستدل بعض مشايخنا المعاصرين على ذلك أيضا بانحصار النزاع بين آدم

(1) المروية في الوسائل في الباب 64 من الأطعمة المحرمة
(2) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة
(3) المروية في الوسائل في الباب 18 من الأشربة المحرمة.
152

ونوح وبين إبليس لعنه الله في العنب خاصة وأن الحرام هو عصير العنب، والزبيب خارج
عن اسم العنب فلا يحرم ماؤه كالحصرم انتهى. أقول: يمكن للخصم المناقشة في هذا
الاستدلال بأن ظاهر الأخبار التي أشار إليها (قدس سره) أن النزاع كان في ثمرة
شجرة الكرم مطلقا ولا دلالة لها على الاختصاص بالعنب كما في موثقة زرارة الدالة على أن نوحا لما غرس الحبلة وهي شجرة العنب وقلعها إبليس لعنه الله فتنازع معه وقال له
إبليس اجعل لي نصيبا فجعل له الثلث إلى أن استقر الأمر على الثلثين، فإنها دالة على أنه
جعل له نصيبا في الشجرة يعني ما يخرج منها من الثمرة ولا اختصاص له بالعنب، ومثل
ذلك أيضا موثقة سعيد بن يسار وباقي الأخبار المنقولة من العلل.
واستدل الشهيد الثاني في المسالك بعد أن صرح بأن الحكم مختص بالعنب فلا
يتعدى إلى غيره كعصير التمر ما لم يسكر ولا إلى عصير الزبيب على الأصح لخروجه عن
اسم العنب بذهاب ثلثيه وزيادة بالشمس، ومثل ذلك في الروض وشرح الرسالة،
واعترضه في المفاتيح بأن ما ذكره من ذهاب ثلثيه بالشمس إنما يتم لو كان قد نش
بالشمس أو غلى حتى يحرم ثم يحل بعد ذلك بذهاب الثلثين، والغليان بالشمس غير
معلوم فضلا عن النشيش وهو صوت الغليان. وأما ما جف بغير الشمس فلا غليان فيه
فلا وجه لتحريمه حتى يحتاج إلى التحليل بذهاب الثلثين، على أن اطلاق العصير على ما في
حبات العنب كما ترى. انتهى كلامه. وهو جيد.
وأما ما أجاب به بعض مشايخنا المعاصرين وهو الذي تقدمت الإشارة إليه في
صدر المقام من أن الموضوع في الشمس لأجل أن يصير زبيبا قد يحصل فيه القلب أو النشيش
أعني النقص فإذا ذهب منه الثلثان فقد حل، وأن الحكم في العنب إنما تعلق بمائه وإن
لم يخرج من الحب، والتعبير في الأخبار بالعصير إنما هو جريا على الغالب لا تخصيصا
للحكم والمراد ما من شأنه أن يؤخذ بالعصر، ومن ثم لو طبخ حب العنب في ماء
أو طبيخ حرم ذلك المطبوخ اجماعا. انتهى فظني بعده لأن دعوى حصول القلب
153

والغليان في ماء حب العنب إذا وقع في الشمس غير معلوم يقينا أصالة الحل لا يخرج
عنها إلا بيقين، ويلزم على ما ذكره أنه لو وضع العنب في الشمس يوما أو يومين أو
ثلاثة مثلا لم يبلغ إلى حد الزبيب فإنه يحرم لحصول الغليان ولم يذهب ثلثاه بعد
ولا أظنه يلتزمه فإن أصالة الحلية لا يخرج عنها بمجرد ذلك. وأما دعواه أن الحكم في العنب
إنما تعلق بمائه وإن لم يخرج من الحب فإنه خروج عن ظواهر الأخبار وبناء على مجرد
الاعتبار. وأما قوله: " ومن ثم لو طبخ حب العنب.. الخ " ففيه أن ارتكاب المجاز في
اطلاق العصير على ما يخرج بالطبخ لا يستلزم انسحابه إلى ما في العنب قبل أن يخرج
بالكلية، فإن أراد ثبوت التحريم لحب العنب وإن لم يخرج ماؤه بالطبخ منعنا هذه
الدعوى. وبالجملة فإن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه الاعتبارات التخمينية
لا يخلو من مجازفة.
وبمثل ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني صرح الشهيد في الدروس فقال ولا يحرم المعتصر
من الزبيب ما لم يحصل فيه نشيش فيحل طبخ الزبيب على الأصح لذهاب ثلثيه بالشمس غالبا
وخروجه عن مسمى العنب. وحرمه بعض مشايخنا المعاصرين وهو مذهب بعض فضلائنا
المتقدمين لمفهوم رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) ثم ساق متن الرواية
كما سيأتي. وأنت خبير بأن ما ذكراه (قدس سرهما) من تعليل حلية ماء الزبيب بذهاب
ثلثيه بالشمس لا يوافق القائلين بالحلية ولا القائلين بالحرمة، فإن من قال بحل ماء الزبيب
بعد الغلي وقبل ذهاب ثلثيه كما هو المشهور قال به مطلقا سواء ذهب ثلثاه بالشمس أم لم
يذهب لأنه إنما يتمسك بأصالة الحلية ويدعى أن ما ورد من التحريم بمجرد الغليان والحل
بذهاب الثلثين مخصوص بالعنب والزبيب لا يصدق عليه العنب، ومن قال بالتحريم
إنما استند إلى مفهوم رواية علي بن جعفر الآتية وهي التي ذكرها في الدروس فهو قائل
أيضا بتحريمه مطلقا سواء علم ذهاب ثلثيه في حبه بالشمس أم لا. فكلامهما (قدس
سرهما) لا يوافق شيئا من المذهبين في البين.
154

واستدل أيضا في المسالك على الحلية بصحيحة أبي بصير (1) قال: " كان
أبو عبد الله (عليه السلام) تعجبه الزبيبة " قال: وهذا ظاهر في الحل لأن طعام الزبيبة
لا يذهب فيه ثلثا ماء الزبيب كما لا يخفى انتهى. واقتفاه في هذه المقالة المولى الأردبيلي
في شرح الإرشاد فقال بعد نقل الرواية المذكورة مثل ما ذكره هنا. وقال بعض
مشايخنا المعاصرين بعد الاستدلال بهذه الرواية أيضا: لأن الظاهر أن المراد الطعام الذي
يطبخ معه الزبيب أو يطبخ معه ماء الزبيب وهو لا يستلزم ذهاب ثلثي ماء الزبيب غالبا
كما هو واضح.
أقول: والاستدلال بهذه الرواية لا يخلو عندي من اشكال لعدم العلم بكيفية
ذلك الطعام، ومن المحتمل قريبا الحمل على الأشربة الزبيبية التي يأتي ذكرها في الأخبار،
ولكن استدلال شيخنا الشهيد الثاني بالخبر المذكور وقوله بعده ما ذكر وكذا المولى
الأردبيلي ربما يؤذن بكونهما عالمين بكيفية ذلك على الوجه الذي ذكراه ولعله وصل
إليهم ولم يصل إلينا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد استدل على القول بالتحريم كما عرفت برواية علي
ابن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ
حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث ثم يرفع ويشرب
من السنة؟ قال لا بأس به " وطعن في هذه الرواية جملة من المتأخرين ومتأخريهم
بضعف السند (أولا) لاشتماله على سهل بن زياد. و (ثانيا) أن دلالتها بالمفهوم في كلام
السائل وهو ضعيف ومع تسليم صحته فدلالة المفهوم إنما تكون حجة ما لم يظهر للتعليق
فائدة أخرى من الجائز بل الظاهر أن هذا العمل المخصوص إنما هو لمن أراد بقاءه عنده
ليشرب منه فتكون فائدة التقييد بذهاب الثلثين ليذهب مائيته فيصلح للمكث والبقاء

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من الأطعمة المباحة
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من الأشربة المحرمة.
155

ولا يصير مسكرا ويدل عليه قوله في عجز الرواية: " ويشرب منه السنة ".
هذا، وقد روى ثقة الاسلام في الكافي روايات ربما تدل بظاهرها على التحريم:
ومنها موثقة عمار الساباطي (1) قال: " وصف لي أبو عبد الله (عليه السلام)
المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا؟ فقال تأخذ ربعا من زبيب وتنقيه ثم تصب عليه
اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فإذا كان أيام الصيف وخشيت أن ينش جعلته في
تنور مسجور قليلا حتى لا ينش ثم تنزع الماء منه كله حتى إذا أصبحت صببت عليه من
الماء بقدر ما يغمره، إلى أن قال تغليه بالنار ولا تزال تغليه حتى يذهب الثلثان
ويبقى الثلث.. الحديث ".
ومنها موثقته الأخرى عنه (عليه السلام) (2) قال: " سئل عن الزبيب
كيف طبخه حتى يشرب حلالا؟ فقال تأخذ ربعا من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه
اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فإذا كان من الغد نزعت سلافته ثم تصب عليه من
الماء قدر ما يغمره ثم تغليه بالنار غلية ثم تنزع ماءه فتصبه على الماء الأول ثم تطرحه في
إناء واحد جميعا ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث وتحته النار ثم تأخذ
رطلا من عسل فتغليه بالنار غلية وتنزع رغوته ثم تطرحه على المطبوخ ثم تضربه حتى
يختلط به واطرح فيه أن شئت زعفرانا.. الحديث ".
ومنها رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي (3) قال: " شكوت إلى أبي عبد الله
(عليه السلام) قراقر تصيبني في معدتي وقلة استمرائي الطعام، فقال لي لم لا تتخذ نبيذا
نشربه نحن وهو يمرئ الطعام ويذهب بالقراقر والرياح من البطن؟ قال فقلت له صفه لي
جعلت فداك فقال تأخذ صاعا من زبيب، إلى أن قال ثم تطبخه طبخا رقيقا حتى يذهب ثلثاه
ويبقى ثلثه، إلى أن قال في آخر الخبر: وهو شراب لا يتغير إذا بقي إن شاء الله تعالى "
أقول: يمكن الجواب عن هذه الروايات بأنه لا يلزم من الأمر بطبخه على الثلث

(1) المروية في الوسائل في الباب 5 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 5 من الأشربة المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 5 من الأشربة المحرمة.
156

أن يكون ذلك لأجل حليته بعد أن حرم بالغليان بل يجوز أن يكون لئلا يصير مسكرا
بمكثه كما يدل عليه قوله (عليه السلام) في آخر رواية إسماعيل بن الفضل: " وهو شراب
لا يتغير إذا بقي إن شاء الله تعالى " ويجوز أن يكون الخاصية والنفع المترتب عليه
لا يحصل إلا بطبخه على الوجه المذكور كما ورد مثله في رواية خليلان بن هشام (1) قال
" كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) جعلت فداك عندنا شراب يسمى الميبة نعمد
إلى السفرجل فنقشره ونلقيه في الماء ثم نعمد إلى العصير فنطبخه على الثلث ثم ندق
ذلك السفرجل ونأخذه ماءه ثم نعمد إلى ماء هذا الثلث وهذا السفرجل فنلقي عليه المسك
والافاوي والزعفران والعسل فنطبخه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه أيحل شربه؟ فكتب
لا بأس به ما لم يتغير " فإن الطبخ على الثلث هنا إنما هو لما قلناه من حصول الخاصية
وتوقف النفع على ذلك لا للتحليل، فإنه ليس هنا شئ قد حرم بمجرد الغليان حتى
يحتاج في حليته إلى ذهاب الثلثين، ولعله لهذا الوجه أعرض متأخرو أصحابنا عن هذه
الأخبار ولم يلتفتوا إليها وإن كانت موهمة للتحريم في بادئ النظر كما أشار إليه الفاضل
الخراساني في الذخيرة، حيث قال: واعلم أن في الكافي في باب صفة الشراب الحلال
بعض الأخبار الموهمة للتحريم لكن لا دلالة لها عليه عند التأمل الصحيح فارجع
وتدبر. انتهى. لكن ربما يلوح التحريم من بعض ألفاظ هذه الأخبار مثل قوله:
" كيف يطبخ حتى يصير حلالا " وقوله (عليه السلام) أيضا: " فإذا كان أيام
الصيف وخشيت أن ينش جعلته في تنور مسجور حتى لا ينش " فإن النشيش هو صوت
الغليان والظاهر من المحافظة عليه بأن لا ينش ليس إلا لخوف تحريمه بالغليان، وقوله في موثقته
الثانية " حتى يشرب حلالا " إلا أنه يمكن أن يقال إن قوله: " كيف يطبخ حتى يصير
حلالا " إنما هو من كلام الراوي في سؤاله فلا حجة فيه، وما ذكر من الاستناد إلى
قوله " حتى لا ينش فإن فيه أنه بعد ذلك أمر بغليانه حتى يذهب ثلثاه فهو وإن حرم

(1) المروية في الوسائل في الباب 29 من الأشربة المحرمة.
157

بالنشيش فلا مانع منه لتعقبه بالغليان الموجب للتحليل بعد ذلك. وحينئذ فلعل المحافظة عليه
من النشيش إنما هو لغرض آخر لا لأنه يحرم بعد ذلك، فإنه وإن حرم لا منافاة فيه لأنه لم
يجوز استعماله وشربه بعد ذلك وإنما أمره بعد ذلك بغلي ذلك الماء الموجب لحرمته إلى أن يذهب ثلثاه الموجب لحله، وحينئذ فلا فرق في حصول التحريم فيه في وقت النشيش
ولا في وقت الغليان أخيرا، مع أنه يمكن الطعن في هذين الخبرين أيضا من حيث
الراوي وهو عمار لتفرده بروايات الغرائب ونقل الأحكام المخالفة لأصول الشريعة كما
طعن عليه في الوافي في مواضع عديدة، وكيف كان فالخروج بمثل هاتين الروايتين
على ما عرفت فيها من المخالفة عن حكم الأصل وعموم الآيات والروايات الواردة
بتفسيرها كما عرفت مشكل.
ومما استند شيخنا أبو الحسن فيما قدمناه من كلامه حديث الزيدين زيد النرسي
وزيد الزراد عن الصادق (عليه السلام) (1) " في الزبيب يدق ويلقي في القدر ويصب عليه
الماء؟ قال حرام حتى يذهب ثلثاه. قلت الزبيب كما هو يلقى في القدر؟ قال هو كذلك
سواء إذا أدت الحلاوة إلى الماء فقد فسد كلما غلى بنفسه أو بالنار فقد حرم إلا أن
يذهب ثلثاه " وقد تقدم ما في هذه الرواية من الطعن في الراوي والأصل المروي
منه هذا الخبر.
وكيف كان فالحكم في ماء الزبيب عندي لا يخلو من توقف والاحتياط في
تجنبه مما لا ينبغي تركه ولا سيما أن ظاهر الكليني (قدس سره) ربما أشعر بالميل إلى
العمل بظاهر هذه الأخبار حيث إنه عنون الباب بباب صفة الشراب الحلال وذكر
الأخبار المذكورة، وظاهر المفاتيح الميل إلى التحريم هنا حيث قال على أثر الكلام
الذي قدمنا نقله عنه ما هذا لفظه: " نعم أن صب على الزبيب الماء وطبخ بحيث أدت
الحلاوة إلى الماء فيمكن الحاقه بالعصير في التحريم بالغليان كما في الخبر " انتهى. والله العالم

(1) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
158

(المقام الثالث) في ماء الحصرم، لا ريب في أن مقتضى الأصل والعمومات
من الآيات والروايات المتقدمة هو حل ماء الحصرم وإن طبخ ولم يذهب ثلثاه،
وروايات العصير قد عرفت في الفائدة الأولى اختصاصها بماء العنب خاصة والحصرم
ليس بعنب اتفاقا والأحكام الشرعية تابعة للتسمية العرفية، وأنت إذا أمعنت النظر
في روايات العصير المطبوخ والتعبير عنه في الأخبار تارة بالعصير مطلقا الذي قد
عرفت أنه محمول على عصير العنب تارة بعصير العنب وتارة بالطلاء الذي قد عرفت
آنفا أنه ما طبخ من عصير العنب وتارة بالبختج وهو العصير المطبوخ كما عرفت أيضا
وتارة أتى بشراب يزعم أنه على الثلث وتارة إذا كان يخضب الإناء فاشربه المكنى به
عن كونه دبسا وأمثال ذلك وجدت أن الحصرم لا يدخل في شئ من ذلك فإن الحصرم
لا يعمل كذلك والمتعارف طبخه قديما وحديثا إنما هو عصير العنب لما فيه من الحلاوة
التي يصير بها ذا قوام وغلظ ويشرب وتترتب عليه المنافع المطلوبة منه، وماء الحصرم
لا يطبخ على حدة وإنما يطبخ في اللحم أحيانا كما يدل عليه بعض الأخبار، وبالجملة فالأمر
في ذلك أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بيان بعد شهادة عدول الوجدان في جميع الأزمان، ومع
فرض أن ماء الحصرم ربما يطبخ على حدة فاطلاق الأخبار لا يشمله فإن الاطلاق إنما ينصرف
إلى الأفراد الشائعة المتعارفة الجارية بين الناس دون الفروض النادرة كما يحمل أحدنا كلام
من يخاطبه على ما هو المتعارف الجاري في العادة، ولو تكلف حمله على غير المتعارف
المعتاد لعنف بين العباد، وكذا الخطاب الوارد عنهم (عليهم السلام) يجب حمله على
ما هو المتعارف المتكرر المشهور.
وقد وقفت في هذا المقام على كلام لشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن الحاج
صالح البحراني (قدس سره) لا يخلو من نظر واشكال، حيث قال في جواب سائل
يسأله: ما القول في خل العنب إذا طبخ أو لم يطبخ وفي ماء الحصرم إذا غلى وفي الزبيب
إذا طبخ معه الطعام؟ فكتب ما هذه صورته: أقول في هذه المسألة ثلاث مسائل، أما
159

خل العنب فلا بأس به إذا لم يطبخ كالحصرم والزبيب أما مع الطبخ ففيها عندي قلقلة
وأني احتاط في الفتوى والعمل، فالاحتياط في اجتناب ذلك للخبر الصحيح " أي عصير
مسته النار فهو حرام ما لم يذهب ثلثاه " والعصير وإن كان المشهور اطلاقه على عصير
العنب فقط إلا أن اطلاقه في الأخبار على ما ذكرناه محتمل لورود تفسير العصير في
الأخبار بأنه من الكرم والكرم يطلق على العنب وعلى شجره، فإن كان إنما يطلق
على الأول فلا كلام وإن كان يطلق على الثاني فهذا منه، فيكون الدليل متشابها فتشمل
الشبهة كل ما اتخذ من الكرم من حصرم وزبيب ونحوهما مع الغليان، وإن كان ظاهر
الأصل الإباحة وعدم التحريم إلا أن في هذا الأصل كلاما والاحتياط أولى. إلى أن
قال: وبالجملة فالدليل على التحريم غير قاطع وكذا التحليل فالاجتناب أولى. انتهى كلامه
أقول: لا يخفى عليك ما فيه من الاجمال بل الاختلال الناشئ من الاستعجال
وعدم اعطاء التأمل حقه في هذا المجال (أما أولا) فلأن الخبر الصحيح الذي استند إليه
تبعا لشيخه الشيخ أبي الحسن المتقدم ذكره قد عرفت ما فيه.
(وأما ثانيا) فلأن قوله: " وإن كان المشهور اطلاقه على عصير العنب
فقط " مما يؤذن بكون مستند هذا الاطلاق إنما هو مجرد الشهرة مردود بما عرفت في
الفائدة الأولى من دلالة الأخبار وكلام أهل اللغة على اختصاص العصير بماء العنب
(وأما ثالثا) فإن ما ادعاه بعد اعترافه بورود الأخبار بتفسير العصير بأنه
من الكرم من أن الكرم يطلق على العنب وعلى شجره مردود بأنه قد نص أهل اللغة
على أن الكرم هو العنب، قال في القاموس: والكرم العنب. وقال الفيومي في المصباح
المنير: والكرم وزان فلس: العنب. ومثله في مجمع البحرين، وفي النهاية الأثيرية قال:
وفيه لا تسموا على العنب الكرم فإنما الكرم الرجل المسلم، قيل سمى الكرم كرما لأن الخمر
المتخذة منه تحث؟ السخاء والكرم فاشتقوا له منه اسما فكره أن تسمى باسم مأخوذ من
الكرم وجعل المؤمن أولى به، يقال رجل كرم أي كريم وصف بالمصدر كرجل عدل
160

وضيف، وقال الزمخشري أراد أن يقرر ويسدد ما في قوله عز وجل: " إن أكرمكم عند
الله أتقاكم " (1) بطريقة أنيقة ومسلك لطيف وليس الغرض حقيقة النهي عن تسمية
العنب كرما.. الخ ومثله في كتاب الغريبين للهروي وفي كتاب شمس العلوم: الكرم
العنب. فهذه كلمات جملة من أساطين أهل اللغة متفقة في اختصاص اطلاقه بالعنب،
وحينئذ فلو سلم اطلاقه في بعض المواضع على الشجر تجوزا فإنه لا يصح أن يترتب عليه
حكم شرعي، ويزيده بيانا موثقة عمار المروية في الكافي والتهذيب عن الصادق (عليه
السلام) (2) قال: " سألته عن الكرم متى يحل بيعه؟ قال إذا عقد وصار عقودا "
والعقود اسم الحصرم بالنبطية، وحيث قد ثبت اختصاص الكرم بالعنب خاصة في المقام
ارتفع الاشتراط في قوله: " فإن كان إنما يطلق على الأول فلا كلام " وثبت الحكم
وهو الحلية في هذه الأشياء وإن طبخت كما لا يخفى على ذوي الأفهام وزالت الشبهة
وبطل قوله: " وإن كان يطلق على الثاني " وآل إلى الانعدام، وبالجملة فروايات العصير
لما كانت مختصة بالعنب وهذه خارجة عنه لأن الحصرم كما عرفت غير العنب والخل
المتخذ من العنب قد خرج عنه إلى حقيقة أخرى كما في الخمر الذي يصير خلا والعصير
الذي يصير خمرا ونحوهما فلا يلحقهما حينئذ حكم العصير من التحريم بالغليان حتى يحتاج
في حليته إلى ذهاب ثلثيه.
(ولو قيل): أن روايات نزاع إبليس لعنه الله لآدم ونوح (عليهما السلام) في
شجر الكرم واعطائهما له الثلثين منه يعني مما يخرج من هذا الشجر مما يدل على عموم
ذلك للعنب والزبيب والحصرم وخل العنب (قلنا): إن الحكم وإن أجمل في تلك الأخبار
كما ذكرت إلا أن الأخبار المستفيضة الواردة في عصير العنب كما عرفت يحكم بها على
ذلك المجمل، ويؤيده ما في بعض تلك الأخبار وهو موثقة زرارة (3) من قوله بعد

(1) سورة الحجرات. الآية 13.
(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من بيع الثمار
(3) ص 128.
161

نقل القصة في النزاع بين نوح وإبليس: " فقال أبو جعفر (عليه السلام) إذا أخذت
عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان وكل واشرب حينئذ فذاك نصيب الشيطان وقوله (عليه
السلام) في رواية محمد بن مسلم المنقولة من العلل (1) " فمن هنا طاب الطلاء على الثلث "
والطلاء كما عرفت هو المطبوخ من عصير العنب، وقوله (عليه السلام) في رواية وهب بن
منبه (2): " إن لك فيها شريكا في عصيرها " ولأن هذا الفرد هو الذي يتعارف طبخه
ويستعمل دائما في الأزمنة السابقة واللاحقة فهو الذي يتبادر إليه الاطلاق. والله العالم.
وقد أطلنا البحث في هذا المقام وأحطنا بأطراف الكلام لما عرفت من أن المسألة
من أهم المهام سيما بعد وقوع الخلاف فيها في هذه الأيام ودخول الشبهة فيها على جملة من
الأعلام، والله الهادي لمن يشاء، فلنرجع إلى ما نحن فيه:
(الفصل السابع) في الكافر، قالوا: وضابطه من خرج من الاسلام وباينه
أو انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة. والأول شامل للكافر كفرا أصليا أو
ارتداديا كتابيا أو غير كتابي، والثاني كالغلاة والخوارج والنواصب.
وقد حكي عن جماعة دعوى الاجماع على نجاسة الكافر بجميع أنواعه المذكورة
كالمرتضى والشيخ وابن زهرة والعلامة في جملة من كتبه. إلا أن المفهوم من كلام المحقق
في المعتبر الإشارة إلى الخلاف في بعض هذه المواضع، حيث قال: الكفار قسمان
يهود ونصارى ومن عداهما، أما القسم الثاني فالأصحاب متفقون على نجاستهم، وأما
الأول فالشيخ في كتبه قطع بنجاستهم وكذا علم الهدى والأتباع وابنا بابويه، وللمفيد
قولان، أحدهما النجاسة ذكره في أكثر كتبه، والآخر الكراهة ذكره في الرسالة الغرية.
قال في المعالم: وعزى غير المحقق إلى الشيخ في النهاية وابن الجنيد الخلاف في هذا
المقام أيضا، أما الشيخ فلأنه قال في النهاية: يكره أن يدعو الانسان أحدا من الكفار إلى
طعامه فيأكل معه فإن دعاة فليأمره بغسل يديه ثم يأكل معه إن شاء. وأما ابن الجنيد

(1) ص 129.
(2) ص 129.
162

فإنه قال في مختصره: ولو تجنب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي
آنيتهم وكل ما صنع في أواني مستحلي الميتة ومؤاكلتهم ما لم يتيقن طهارة أوانيهم وأيديهم
كان أحوط. ثم قال: وعندي في نسبة الخلاف إلى الشيخ باعتبار عبارته المحكية نظر
قال لأنه قال قبلها بأسطر: ولا يجوز مواكلة الكفار على اختلاف مللهم ولا استعمال
أوانيهم إلا بعد غسلها بالماء. ثم قال وكل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم وباشروه
بنفوسهم لم يجز أكله لأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إياه. وهذا الكلام
صريح في الحكم بنجاستهم فلا بد من حمل الكلام الآخر على خلاف ظاهره، إذ من
المستبعد جدا الرجوع عن الحكم في هذه المسافة القصيرة وابقاؤه مثبتا في الكتاب،
ولعل مراده المواكلة التي لا تتعدى معها النجاسة كأن يكون الطعام جامدا أو في أواني
متعددة ويكون وجه الأمر بغسل يديه إرادة تنظيفهما من آثار القذارات التي لا ينفك
عنها الكافر في الغالب فمؤاكلته على هذه الحالة بدون غسل يديه مظنة حصول النفرة.
وقد تعرض المحقق في نكت النهاية للكلام على هذه العبارة فذكر على جهة السؤال: أنه
ما الفائدة في الغسل واليد لا تطهر به؟ وأجاب بأن الكفار لا يتورعون عن كثير من
النجاسات فإذا غسل يده فقد زالت تلك النجاسة، ثم قال ويحمل هذا على حال الضرورة
أو على مواكلة اليابس وغسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة
النجاسات العينية وإن لم يفد طهارة اليد، ثم قال وروى العيص بن القاسم (1) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مواكلة اليهودي والنصراني؟ فقال لا بأس إذا
كان من طعامك. وسألته عن مواكلة المجوسي؟ فقال إذا توضأ فلا بأس " قال المحقق:
والمعني بتوضؤه هنا غسل اليد. انتهى كلامه. وهو كما ترى صريح في أن كلام
الشيخ محمول على خلاف ظاهره وإن ليس بمخالف لما حكم به أولا، وأن الحامل له على
ذكر هذه المسألة ورود مضمونها في الرواية، وحينئذ فلا ينبغي أن يذكر الشيخ في عداد

(1) رواه في الوسائل في الباب 53 من الأطعمة المحرمة.
163

من عدل عن المشهور هنا. وأما عبارة ابن الجنيد فظاهرها القول بطهارة أهل الكتاب
وله في بحث الأسئار عبارة أخرى تقرب من هذه حكيناها هناك. وقد تحرر من هذا أن
نجاسة من عدا أهل الكتاب ليست موضع خلاف بين الأصحاب معروف بل كلام المحقق
يصرح بالوفاق كما رأيت، وأما أهل الكتاب فابن الجنيد يرى طهارتهم على كراهية
والمفيد في أحد قوليه يوافقه على ذلك في اليهود والنصارى منهم على ما حكاه عنه المحقق،
والباقون ممن وصل إلينا كلامه على نجاستهم. انتهى ما ذكره في المعالم في المقام وهو
جيد، وإنما أطلنا بنقله بطوله لعظم نفعه وجودة محصوله.
أقول: الظاهر أن من ادعى الاجماع من أصحابنا في هذه المسألة على النجاسة بنى
على رجوع المفيد باعتبار تصريحه فيما عدا الرسالة المذكورة من كتبه بالنجاسة وعدم الاعتداد
بخلاف ابن الجنيد لما شنعوا عليه به من عمله بالقيام إلا أنه نقل القول بذلك في باب
الأسئار عن ابن أبي عقيل (قدس سره) ثم العجب أن الشيخ (قدس سره) في التهذيب
نقل اجماع المسلمين على نجاسة الكفار مطلقا مع مخالفة الجمهور في ذلك (1) حتى أن
المرتضى (رضي الله عنه) جعل القول بالنجاسة من متفردات الإمامية.
وكيف كان فالواجب الرجوع إلى الأدلة في المسألة وبيان ما هو الظاهر منها
فنقول احتج القائلون بالنجاسة بالآية والروايات، أما الآية فهي قوله عز وجل: " إنما
المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (2) وأورد عليه (أولا) أن

(1) في المغني ج 1 ص 49 " الآدمي طاهر وسؤره طاهر سواء كان مسلما أو كافرا
عند عامة أهل العلم " وفي عمدة القارئ للعيني الحنفي ج 2 ص 60 " الآدمي الحي ليس
بنجس العين ولا فرق بين الرجال والنساء " وفي المحلى لابن حزم ج 1 ص 183 " الصوف
والوبر والقرن والسن من المؤمن طاهر ومن الكافر نجس " ونسب الشوكاني في نيل
الأوطار نجاسة الكافر إلى مالك، وأغرب القرطبي في نسبة نجاسة الكافر إلى الشافعي.
(2) سورة التوبة. الآية 28.
164

النجس مصدر فلا يصح وصف الجثة به إلا مع تقدير كلمة " ذو " ولا دلالة في الآية معه،
لجواز أن يكون الوجه في نسبتهم إلى النجس عدم انفكاكهم عن النجاسات العرضية
لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون، والمدعى نجاسة ذواتهم. و (ثانيا) عدم إفادة كلام
أهل اللغة كون معنى النجس لغة هو المعهود شرعا وإنما ذكر بعضهم أنه المستقذر وقال
بعضهم هو ضد الطاهر، ومن المعلوم أن المراد بالطهارة في اطلاقهم معناها اللغوي،
فعلى هذين التفسيرين لا دلالة لها على المعنى المعهود في الشرع فتتوقف إرادته على ثبوت
الحقيقة الشرعية أو العرفية المعلوم وجودها في وقت الخطاب، وفي الثبوت نظر.
و (ثالثا) أنه على تقدير التسليم فالآية مختصة بمن صدق عليه عنوان الشرك
والمدعي أعم منه.
أقول: والجواب عن الأول أنه لا ريب في صحة الوصف بالمصدر إلا أنه مبني
على التأويل، فمنهم من يقدر كلمة " ذو " ويجعل الوصف بها مضافا إلى المصدر فحذف المضاف
وأقيم المضاف إليه مقامه وعلى هذا بنى الإيراد المذكور، ومنهم من جعله واردا على جهة
المبالغة باعتبار تكثر الفعل من الموصوف حتى كأنه تجسم منه. وهذا هو الأرجح عند المحققين
من حيث كونه أبلغ، وعليه حمل قول الخنساء " فإنما هي اقبال وادبار " كما ذكره محققوا
علماء المعاني والبيان، وعليه بنى الاستدلال بالآية المذكورة.
وعن الثاني بأن النجس في اللغة وإن كان كما ذكره إلا أنه في عرفهم (عليهم
السلام) كما لا يخفى على من تتبع الأخبار وجاس خلال تلك الديار إنما يستعمل في
المعنى الشرعي، والحمل على العرف الخاص مقدم على اللغة بعد عدم ثبوت الحقيقة
الشرعية، وتنظر المورد في ثبوت الحقيقة العرفية في زمن الخطاب بمعنى أن عرفهم
(عليهم السلام) متأخر عن زمان نزول الآية عليه (صلى الله عليه وآله) فلا يمكن
حمل الآية عليه مردود بأن عرفهم (عليهم السلام) في الأحكام الشرعية وفتاويهم
وأمرهم ونهيهم في ذلك راجع في الحقيقة إليه (صلى الله عليه وآله) فإنهم نقلة عنه وحفظة
165

لشرعه وتراجمة لوحيه كما استفاضت به أخبارهم.
وعن الثالث بصدق عنوان الشرك على أهل الكتاب بقوله سبحانه: " وقالت
اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله.. إلى قوله سبحانه عما يشركون " (1)
وبالجملة فإن دلالة الآية على النجاسة كنجاسة الكلاب ونحوها مما لا اشكال فيه
كما عليه كافة الأصحاب إلا الشاذ النادر في الباب، ومناقشة جملة من أفاضل متأخري
المتأخرين كما نقلنا عنهم مردودة بما عرفت.
وأما الأخبار فمنها ما رواه الصدوق في الموثق عن سعيد الأعرج (2) " أنه سأل
أبا عبد الله (عليه السلام) عن سؤر اليهود والنصارى أيؤكل ويشرب؟ قال لا " ورواه
الكليني والشيخ في الحسن عن سعيد عنه (3) لكن باسقاط قوله " أيؤكل ويشرب ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (4)
قال: " سألته عن رجل صافح مجوسيا؟ قال يغسل يده ولا يتوضأ ".
وعن أبي بصير عن الباقر (عليه السلام) (5) " أنه قال في مصافحة المسلم
لليهودي والنصراني قال من وراء الثياب فإن صافحك بيده فاغسل يدك ".
وصحيحة محمد بن مسلم (6) قال: " سألت أبا جعفر عن آنية أهل الذمة والمجوس؟
فقال لا تأكلوا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر "
وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (7) قال: " سألته عن
فراش اليهودي والنصراني أينام عليه؟ قال لا بأس ولا يصلى في ثيابهما، وقال لا يأكل المسلم
مع المجوسي في قصعة واحدة ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه. قال وسألته
عن رجل اشترى ثوبا من السوق ليس يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال

(1) سورة التوبة. الآية 30.
(2) رواه في الوسائل في الباب 54 من الأطعمة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات.
(5) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات.
(6) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات.
(7) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات.
166

إن اشتراه من مسلم فليصل فيه وإن اشتراه من نصراني فلا يصل فيه حتى يغسله "
وما رواه في الكافي عن علي بن جعفر عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) (1)
قال: " سألته عن مواكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد
وأصافحه؟ فقال لا "
ورواية هارون بن خارجة (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني
أخالط المجوس وآكل من طعامهم فقال لا " ورواية سماعة (3) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن طعام أهل الكتاب ما يحل منه؟ قال الحبوب "
ومنها صحيحة علي بن جعفر (4) " أنه سأل أخاه موسى (عليه السلام) عن
النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام؟ فقال إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام
إلا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل. وسألته عن اليهودي والنصراني
يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال لا إلا أن يضطر إليه ".
أقول: الظاهر أن المعنى في صدر هذا الخبر أنه سأله عن النصراني والمسلم
يجتمعان في الحمام لأجل الغسل والمراد بالحمام ماؤه الذي في حياضه الصغار التي هي
أقل من كر فقال (عليه السلام) إن علم أنه نصراني وقد وضع يده فيه أو يريد ذلك
اغتسل بغير ذلك الماء من الحمام أو غيره إلا أن يكون بعد اغتسال النصراني ويريد
الاغتسال وحده فإنه يغسل الحوض لنجاسته بملاقاة النصراني له وأخذه الماء منه ثم
يجري عليه الماء من المادة، وهو يشعر بعدم اتصال المادة حال اغتسال النصراني منه.
وأما ما ذكره في آخر الخبر من قوله: " إلا أن يضطر إليه " فالظاهر حمل الاضطرار على
ما توجبه التقية.
قال في المعالم بعد ذكر الرواية المذكورة: والمعنى في صدر هذه الرواية لا يخلو

(1) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 51 من الأطعمة المحرمة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات
167

من خفاء وكأن المراد به أن اجتماع المسلم والنصراني حال الاغتسال موجب لإصابة
ما يتقاطر من بدن النصراني لبدن المسلم فينجسه. ولازم ذلك عدم صحة الغسل بماء الحمام
حينئذ وتعين الاغتسال بغيره، وأما إذا اغتسلا منفردين فليس بذلك بأس ولكن مع
تقدم مباشرة النصراني للحوض يغسل المسلم الحوض من أثر تلك المباشرة ثم يغتسل منه،
وبهذا يظهر أن الحكم مفروض في حوض لا يبلغ حد الكثير وتكون المادة فيه منقطعة
حال مباشرة النصراني له ويكون للمسلم سبيل إلى اجرائها ليتصور إمكان غسل الحوض
كما لا يخفى، ولأنه مع كثرة الماء واتصال المادة به لا وجه للحكم بالتنجيس اللهم إلا أن
يراد نجاسة ظاهر الحوض بما يتقاطر من بدن النصراني، وعلى كل حال لا بد أن يراد
من الاغتسال ما يكون بالأخذ من الحوض وإلا فمع كونه بالنزول إلى الماء لا سبيل إلى
النجاسة مع الكثرة أو اتصال المادة ولا معنى لغسل الحوض مع القلة، وقوله في الرواية:
" يغتسل على الحوض " مشعر بذلك أيضا وإلا لأتى ب‍ " في " بدل " على " وأما
استثناء حال الاضطرار في الحكم بالمنع من الوضوء مما يدخل اليهودي والنصراني
يده فيه كما وقع في عجز الرواية فربما كان فيه دلالة على الطهارة وأن المنع محمول على
الاستحباب فلا يتم الاحتجاج به على النجاسة، وقد أشار إلى ذلك في المعتبر على طريق
السؤال عن وجه الاحتجاج به وأجاب بأنه لعل المراد بالوضوء التحسين لا رفع الحدث،
قال ويلزم من المنع منه للتحسين المنع من رفع الحدث بل أولى. ولا يخفى ما في هذا
الجواب من التعسف. ويمكن أن يقال إن استثناء حال الضرورة إشارة إلى تسويغ
استعماله في غير الطهارة عن الاضطرار. انتهى كلامه. وفي بعض مواضعه نظر
يعلم مما قدمناه.
هذا ما حضرني من الأخبار الدالة على القول بالنجاسة وربما وقف المتتبع على
ما يزيد على ذلك أيضا.
168

وأما ما استدل به على القول بالطهارة فوجوه: (الأول) أصالة الطهارة حتى
يقوم دليل النجاسة.
(الثاني) قوله عز وجل ".. وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم.. " (1)
فإنه شامل لما باشروه وغيره، وتخصيصها بالحبوب ونحوها مخالف للظاهر لاندراجها في
الطيبات، ولأن ما بعدها: " وطعامكم حل لهم " شامل للجميع قطعا، ولانتفاء الفائدة في
تخصيص أهل الكتاب بالذكر فإن سائر الكفار كذلك.
(الثالث) الأخبار، ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن
القاسم (2) " أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مواكلة اليهودي والنصراني؟
فقال لا بأس إذا كان من طعامك. وسألته عن مواكلة المجوسي؟ فقال إذا توضأ
فلا بأس " وهذه الرواية قد تقدمت في كلام المحقق مستشهدا بها لما ذكره الشيخ
(قدس سره) في النهاية.
وفي الصحيح عن إبراهيم بن أبي محمود (3) قال: " قلت للرضا (عليه السلام)
الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال
لا بأس تغسل يديها ".
وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود أيضا (4) قال: " قلت للرضا (عليه السلام)
الخياط أو القصار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ما تقول في
عمله؟ قال لا بأس ".
وصحيحة إسماعيل بن جابر (5) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)

(1) سورة المائدة، الآية 7.
(2) رواه في الوسائل في الباب 53 من الأطعمة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات
(4) المروية في الوافي في باب (التطهير من مس الحيوانات) من أبواب الطهارة من الخبث
(5) المروية في الوسائل في الباب 54 من الأطعمة المحرمة.
169

ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال لا تأكله، ثم سكت هنيئة ثم قال لا تأكله،
ثم سكت هنيئة ثم قال لا تأكله ولا تتركه تقول إنه حرام ولكن تتركه تنزها عنه،
أن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير " قال شيخنا الشهيد الثاني على ما نقله عنه ولده في المعالم:
تعليل النهي في هذه الرواية بمباشرتهم النجاسات يدل على عدم نجاسة ذواتهم إذ لو
كانت نجسة لم يحسن التعليل بالنجاسة العرضية التي قد تتفق وقد لا تتفق.
وحسنة الكاهلي (1) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن
قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم؟ قال أما أنا فلا أدعوه ولا أواكله
وإني لأكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم ".
ورواية زكريا بن إبراهيم (2) قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)
فقلت إني رجل من أهل الكتاب وإني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية وأنا
معهم في بيت واحد لم أفارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال لي يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت
لا ولكنهم يشربون الخمر، فقال لي كل معهم واشرب ".
وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (3) " وقد سأله عن
اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال لا إلا أن يضطر إليه "
وقد تقدمت في أدلة القول بالتنجيس وتقدم الجواب عنها.
ورواية عمار الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (4) قال " سألته عن الرجل هل
يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي؟ فقال نعم. قلت من ذلك
الماء الذي يشرب منه؟ قال نعم ".
أقول: أما الاستدلال بالأصل كما ذكروه فيجب الخروج عنه بالدليل وهو

(1) المروية في الوسائل في الباب 53 من الأطعمة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 53 من الأطعمة المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الأسئار.
170

ما قدمناه من الآية والروايات.
وأما الاستدلال بالآية فإن الظاهر من الأخبار المؤيدة بكلام جملة من أفاضل
أهل اللغة هو تخصيص ذلك بالحنطة وغيرها من الحبوب أما حقيقة أو تغليبا بحيث غلب
استعماله فيها. فأما الأخبار. فمنها صحيحة هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) (1)
" في قول الله عز وجل: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم؟ قال العدس والحمص
وغير ذلك " أقول: قوله وغير ذلك يعني من الحبوب كما يدل عليه الخبر الآتي،
ومنها صحيحة قتيبة (2) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له الرجل:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم؟ فقال كان أبي يقول إنما هي
الحبوب وأشباهها " وموثقة سماعة (3) وفيها " العدس وغير ذلك " وموثقة أخرى
له أيضا (4) قال: " سألته عن طعام أهل الذمة ما يحل منه؟ قال الحبوب " وفي رواية
أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) (5) " الحبوب والبقول " وبذلك يعلم أن ما ذكره
بعض أفاضل متأخري المتأخرين من الاشكال في حمل الطعام في الآية على الحبوب كما
نقله في المعالم لا يلتفت إليه بعد ورود الأخبار بتفسير الآية بذلك كما سمعت، مع اعتضادها
بكلام جملة من أفاضل أهل اللغة، فمن ذلك ما نقل عن صاحب مجمل اللغة أنه قال بعض
أهل اللغة أن الطعام البر خاصة، وذكر حديث أبي سعيد (6) " كنا نخرج صدقة الفطرة
على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) صاعا من طعام أو صاعا من كذا.. " وقال
صاحب الصحاح ربما خص اسم الطعام بالبر. وقال في المغرب: الطعام اسم لما يؤكل وقد غلب
على البر ومنه حديث أبي سعيد. ونقل ابن الأثير في النهاية عن الخليل أن الغالب في كلام
العرب أن الطعام هو البر خاصة. وقال الفيومي في المصباح المنير: وإذا أطلق أهل الحجاز لفظ
الطعام عنوا به البر خاصة، وفي العرف الطعام اسم لما يؤكل مثل الشراب اسم لما يشرب.

(1) المروية في الوسائل في الباب 51 من الأطعمة المحرمة
(2) المروية في الوسائل في الباب 51 من الأطعمة المحرمة
(3) المروية في الوسائل في الباب 51 من الأطعمة المحرمة
(4) المروية في الوسائل في الباب 51 من الأطعمة المحرمة
(5) المروية في الوسائل في الباب 51 من الأطعمة المحرمة
(6) تيسير الوصول ج 2 ص 130 " واللفظ كنا نخرج زكاة الفطرة.. "
171

وقال في شمس العلوم بعد أن ذكر أن الطعام الزاد المأكول: وقال بعضهم الطعام البر
خاصة واحتج بحديث أبي سعيد " كنا نخرج صدقة الفطرة على عهد النبي (صلى الله
عليه وآله) صاعا من طعام أو صاعا من شعير.. " انتهى. فهذه جملة من كلمات أهل اللغة
متطابقة الدلالة على ما دلت عليه الأخبار المذكورة.
بقي الكلام هنا في الأخبار ومعارضتها بالأخبار المتقدمة، والحق عندي هو
الترجيح لأخبار النجاسة وذلك من وجوه:
(الأول) اعتضادها بظاهر القرآن بالتقريب الذي قدمنا بيانه في معنى الآية
وهي قوله سبحانه: " إنما المشركون نجس.. " وقد عرفت الجواب عما أوردوه على
الاستدلال بالآية المذكورة، وهذا أحد وجوه الترجيحات المروية عن أهل العصمة
(عليهم السلام) في مقام تعارض الأخبار في الأحكام الشرعية.
(الثاني) كون أخبار الطهارة موافقة لمذهب العامة بلا خلاف ولا اشكال
كما صرح به جملة من الأصحاب حتى أن المرتضى كما قدمنا ذكره جعل القول بالنجاسة
هنا من متفردات الإمامية، ومما يشير إلى التقية قوله (عليه السلام) في حسنة الكاهلي
المسوقة في جملة أدلة القول بالطهارة: " أما أنا فلا أدعوه ولا أواكله وإني لأكره أن
أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم " فإن مرمى هذه العبارة أن ذلك حرام شرعا
ولكنه يكره أن يأمرهم به لما يخاف عليهم من لحوق الضرر بهم في ذلك، وإلا فلو
كان حلالا شرعا فإنه لا معنى لاختصاص ذلك بهم (عليهم السلام) وهذا أيضا أحد
وجوه الترجيحات المنصوصة من عرض الأخبار في مقام الاختلاف على مذهب العامة
والأخذ بخلافهم.
(الثالث) اعتضاد أخبار النجاسة باتفاق الأصحاب إلا الشاذ النادر الذي
لا يعبأ بمخالفته، قال في المعالم: ثم إن مصير جمهور الأصحاب (رضوان الله عليهم)
إلى القول بالتنجيس مقتض للاستيحاش في الذهاب إلى خلافه بل قد ذكرنا أن جماعة
172

ادعوا الاجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف، وكلام العلامة في المنتهى
ظاهر فيه، وكأنهم لم يعتبروا الخلاف المحكي في ذلك، أما من جهة المفيد فلأنه
موافق في أحد قوليه ولعلهم اطلعوا على أنه المتأخر، وأما ابن الجنيد فلأن المشهور
عنه العمل بالقياس فلا التفات إلى خلافه. انتهى. وقال في الذخيرة: والتحقيق أنه
لولا الشهرة العظيمة بين العلماء وادعاء جماعة منهم الاجماع على نجاسة أهل الكتاب
لكان القول بالطهارة متجها لصراحة الأخبار الدالة على الطهارة على كثرتها في المطلوب
وبعد حمل الكلام على التقية وقرب التأويل في أخبار النجاسة بحملها على الاستحباب
والكراهة فإنه حمل قريب. انتهى. أقول: أما ما ذكره من التأييد بالشهرة العظيمة
فجيد كما ذكرنا ومؤيد لما اخترناه. وأما ما ذكره من اتجاه القول بالطهارة لولا ما ذكره
لبعد الحمل على التقية وقرب التأويل في أخبار النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة
فهو وإن سبقه إليه السيد في المدارك إلا أنه اجتهاد محض في مقابلة النصوص وجرأة
تامة على أهل الخصوص، لما عرفت من أنهم (عليهم السلام) قد قرروا قواعد لاختلاف
الأخبار ومهدوا ضوابط في هذا المضمار ومن جملتها العرض على مذهب العامة والأخذ
بخلافه، والعامة هنا كما عرفت متفقون على القول بالطهارة أو هو مذهب المعظم منهم (1)
بحيث لا يعتد بخلاف غيرهم فيه، الأخبار المذكورة مختلفة باعترافهم، فعدولهم عما
مهده أئمتهم إلى ما أحدثوه بعقولهم واتخذوه قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه بآرائهم
من غير دليل عليه من سنة ولا كتاب جرأة واضحة لذوي الألباب، وليت شعري لمن
وضع الأئمة (عليهم السلام) هذه القواعد المستفيضة في غير خبر من أخبارهم إذا كانوا
في جميع أبواب الفقه إنما عكفوا في الجمع بين الأخبار في مقام الاختلاف على هذه القاعدة
والغوا العرض على الكتاب العزيز والعرض على مذهب العامة كما عرفت هنا؟ وهل
وضعت لغير هذه الشريعة أو أن المخاطب بها غير العلماء الشيعة؟ ما هذا إلا عجب

(1) راجع التعليقة 1 ص 146.
173

عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب.
فرع
الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في عموم النجاسة من الكافر لما تحله الحياة
منه وما لا تحله الحياة إلا ما يأتي من كلام المرتضى (رضي الله عنه) في الفصل الثامن والتاسع
من حكمه بطهارة ما لا تحله الحياة من نجس العين.
وظاهر صاحب المعالم المناقشة في هذا المقام والميل إلى الطهارة حيث قال: نص جمع
من الأصحاب على عدم الفرق في نجاسة الكافر بين ما تحله الحياة وما لا تحله الحياة، وظاهر
كلام العلامة في المختلف عدم العلم بمخالف في ذلك سوى المرتضى فإنه حكم بطهارة ما لا تحله
الحياة من نجس العين، وقد مرت حكاية خلافه آنفا وبينا أن الحجة المحكية عنه في ذلك
ضعيفة، ولكن الدليل المذكور هناك للحكم بالتسوية بين جميع الأجزاء لا يأتي هنا لخلو
الأخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم كما وقع هناك، وقد نبهنا على ما في التمسك
بالآيتين من الاشكال فلا يتم التعلق بهما في هذا الحكم، حيث وقع التعليق فيهما بالاسم،
وحينئذ يكون حكم ما لا تحله الحياة من الكافر خاليا من الدليل، فيتجه التمسك فيه
بالأصل إلى أن يثبت المخرج عنه. انتهى.
أقول: فيه (أولا) إن الأخبار التي قدمناها دالة على نجاسة اليهود والنصارى
قد علق الحكم فيها على عنوان اليهودي والنصراني الذي هو عبارة عن الشخص أو
الرجل المنسوب إلى هاتين الذمتين، ولا ريب أن الشخص والرجل عبارة عن هذا
المجموع الذي حصل به الشخص في الوجود الخارجي، ولا ريب في صدق هذا العنوان
على جميع أجزاء البدن وجملته كصدق الكلب على أجزائه، ومتى ثبت الحكم بالعموم
في أهل الكتاب ثبت في غيرهم ممن يوافق على نجاستهم بطريق أولى.
و (ثانيا) أنه قد روى الكليني في الحسن عن الوشاء عمن ذكره عن الصادق
174

(عليه السلام) (1) " أنه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكل من
خالف الاسلام. وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب " ولا اشكال ولا خلاف في أن
المراد بالكراهة هنا التحريم والنجاسة، وقد وقع ذلك معلقا على هذه العناوين المذكورة ومنها
المشرك ومن خالف الاسلام. وكل من هذه العنوانات أوصاف لموصوفات محذوفة قد
شاع التعبير بها عنها من لفظ الرجل أو الشخص أو الذات أو نحو ذلك، ولا ريب في
صدق هذه الموصوفات على جملة البدن وجميع أجزائه كصدق الكلب على جملته كما اعترف
به فكما أن الكلب اسم لهذه الجملة فالرجل أيضا كذلك ونحوه الشخص.
و (ثالثا) أنا قد أوضحنا سابقا دلالة إحدى الآيتين المشار إليهما في
كلامه على النجاسة في المقام وبينا ضعف ما أورد عليها من الالزام وبه يتم المطلوب
والمرام. والله العالم.
وتمام تحقيق القول في هذا الفصل يتوقف على رسم مسائل: (الأولى) المشهور
بين متأخري الأصحاب هو الحكم باسلام المخالفين وطهارتهم، وخصوا الكفر والنجاسة
بالناصب كما أشرنا إليه في صدر الفصل وهو عندهم من أظهر عداوة أهل البيت (عليهم
السلام) والمشهور في كلام أصحابنا المتقدمين هو الحكم بكفرهم ونصبهم ونجاستهم
وهو المؤيد بالروايات الإمامية، قال الشيخ ابن نوبخت (قدس سره) وهو من متقدمي
أصحابنا في كتابه فص الياقوت: دافعوا النص كفرة عند جمهور أصحابنا ومن أصحابنا
من يفسقهم.. الخ. وقال العلامة في شرحه أما دافعوا النص على أمير المؤمنين (عليه
السلام) بالإمامة فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى تكفيرهم لأن النص معلوم بالتواتر من
دين محمد (صلى الله عليه وآله) فيكون ضروريا أي معلوما من دينه ضرورة فجاحده
يكون كافرا كمن يجحد وجوب الصلاة وصوم شهر رمضان. واختار ذلك في المنتهى
فقال في كتاب الزكاة في بيان اشتراط وصف المستحق بالايمان ما صورته: لأن الإمامة

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من الأسئار.
175

من أركان الدين وأصوله وقد علم ثبوتها من النبي (صلى الله عليه وآله) ضرورة والجاحد
لها لا يكون مصدقا للرسول في جميع ما جاء به فيكون كافرا. انتهى. وقال المفيد في
المقنعة: ولا يجوز لأحد من أهل الايمان أن يغسل مخالفا للحق في الولاية ولا يصلي عليه.
ونحوه قال ابن البراج. وقال الشيخ في التهذيب بعد نقل عبارة المقنعة: الوجه فيه أن
المخالف لأهل الحق كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار إلا ما خرج بالدليل.
وقال ابن إدريس في السرائر بعد أن اختار مذهب المفيد في عدم جواز الصلاة على
المخالف ما لفظه: وهو أظهر ويعضده القرآن وهو قوله تعالى: " ولا تصل على أحد
منهم مات أبدا.. " (1) يعني الكفار، والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا.
ومذهب المرتضى في ذلك مشهور في كتب الأصحاب إلا أنه لا يحضرني الآن شئ من
كلامه في الباب. وقال الفاضل المولى محمد صالح المازندراني في شرح أصول الكافي:
ومن أنكرها يعني الولاية فهو كافر حيث أنكر أعظم ما جاء به الرسول وأصلا من
أصوله. وقال الشريف القاضي نور الله في كتاب إحقاق الحق: من المعلوم أن
الشهادتين بمجردهما غير كافيتين إلا مع الالتزام بجميع ما جاء به النبي (صلى الله على وآله)
من أحوال المعاد والإمامة كما يدل عليه ما اشتهر من قوله (صلى الله عليه وآله) (2)
" من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " ولا شك أن المنكر لشئ من ذلك
ليس بمؤمن ولا مسلم لأن الغلاة والخوارج وإن كانوا من فرق المسلمين نظرا إلى الاقرار
بالشهادتين إلا أنهما من الكافرين نظرا إلى جحودهما ما علم من الدين وليكن منه
بل من أعظم أصوله إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام). وممن صرح بهذه المقالة أيضا

(1) سورة التوبة، الآية 85.
(2) رواه الكليني في أصول الكافي ج 1 ص 376 الطبع الحديث بطرق متعددة
عن الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله واللفظ في بعضها " من مات وليس عليه إمام... "
وفي آخر " من مات وليس له إمام.. " وفي ثالث " من مات لا يعرف إمامه. ".
176

الفاضل المولى المحقق أبو الحسن الشريف ابن الشيخ محمد طاهر المجاور بالنجف الأشرف
حيا وميتا في شرحه على الكفاية حيث قال في جملة كلام في المقام في الاعتراض على
صاحب الكتاب حيث إنه من المبالغين في القول باسلام المخالفين: وليت شعري أي
فرق بين من كفر بالله تعالى ورسوله ومن كفر بالأئمة (عليهم السلام) مع أن كل
ذلك من أصول الدين؟ إلى أن قال: ولعل الشبهة عندهم زعمهم كون المخالف مسلما
حقيقة وهو توهم فاسد مخالف للأخبار المتواترة، والحق ما قاله علم الهدى من كونهم
كفارا مخلدين في النار، ثم نقل بعض الأخبار في ذلك وقال والأخبار في ذلك أكثر
من أن تحصى وليس هنا موضع ذكرها وقد تعدت عن حد التواتر. وعندي أن كفر
هؤلاء من أوضح الواضحات في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) انتهى.
هذا، والمفهوم من الأخبار المستفيضة هو كفر المخالف الغير المستضعف ونصبه
ونجاسته، وممن صرح بالنصب والنجاسة أيضا جمع من أصحابنا المتأخرين: منهم شيخنا
الشهيد الثاني في بحث السؤر من الروض حيث قال بعد ذكر المصنف نجاسة سؤر الكافر
والناصب ما لفظه: والمراد به من نصب العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) أو لأحدهم
وأظهر البغضاء لهم صريحا أو لزوما ككراهة ذكرهم ونشر فضائلهم والاعراض عن مناقبهم
من حيث إنها مناقبهم والعداوة لمحبيهم بسبب محبتهم، وروى الصدوق ابن بابويه عن
عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " ليس الناصب من نصب لنا
أهل البيت لأنك لا تجد أحدا يقول أنا أبغض محمدا وآل محمد ولكن الناصب من
نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا ".. وفي بعض الأخبار (2) " أن
كل من قدم الجبت والطاغوت فهو ناصب " واختاره بعض الأصحاب إذ لا عداوة
أعظم من تقديم المنحط عن مراتب الكمال وتفضيل المنخرط في سلك الأغبياء والجهال

(1) عقاب الأعمال ص 4 وفي البحار عنه ج 3 من المجلد 15 ص 13.
(2) رواه في البحار عن مستطرفات السرائر ج 3 من المجلد 15 ص 14 وسيأتي ص 185.
177

على من تسنم أوج الجلال حتى شك في أنه الله المتعال. انتهى. ونحوه في شرحه على
الرسالة الألفية. وممن صرح بالنصب جماعة من متأخري المتأخرين: منهم السيد
نعمة الله الجزائري في كتاب الأنوار النعمانية حيث قال: وأما الناصبي وأحواله وأحكامه
فإنما يتم ببيان أمرين: (الأول) في بيان معنى الناصب الذي وردت الروايات أنه
نجس وأنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي وأنه كافر باجماع الإمامية، والذي
ذهب إليه أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن المراد به من نصب العداوة لآل محمد (صلى الله عليه وآله) وتظاهر ببغضهم كما هو الموجود في الخوارج وبعض ما وراء
النهر، ورتبوا الأحكام في باب الطهارة والنجاسة والكفر والايمان وجواز النكاح
وعدمه على الناصبي بهذا المعنى، وقد تفطن شيخنا الشهيد الثاني من الاطلاع على غرائب
الأخبار فذهب إلى أن الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعة أهل البيت (عليهم
السلام) وتظاهر في القدح فيهم كما هو حال أكثر المخالفين لنا في هذه الأعصار في كل
الأمصار.. إلى آخر كلامه زيد في مقامه. وهو الحق المدلول عليه بأخبار العترة الأطهار
كما ستأتيك إن شاء الله تعالى ساطعة الأنوار.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن من جملة من صرح بطهارة المخالفين بل ربما كان هو
الأصل في الخلاف في هذه المسألة في القول باسلامهم وما يترتب عليه المحقق في المعتبر
حيث قال: أسئار المسلمين طاهرة وإن اختلفت آراؤهم عدا الخوارج والغلاة، وقال الشيخ
في المبسوط بنجاسة المجبرة والمجسمة، وصرح بعض المتأخرين بنجاسة من لم يعتقد الحق عدا
المستضعف، لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يجتنب سؤر أحدهم وكان
يشرب من المواضع التي تشرب منها عائشة وبعده لم يجتنب علي (عليه السلام) سؤر
أحد من الصحابة مع مباينتهم له، ولا يقال إن ذلك كان تقية لأنه لا يصار إليها إلا مع
الدلالة، وعنه (عليه السلام) (1) " أنه سئل أيتوضأ من فضل جماعة المسلمين أحب إليك

(1) رواه في الوسائل في الباب 8 من الماء المضاف.
178

أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال بل من فضل وضوء جماعة المسلمين فإن أحب
دينكم إلى الله الحنيفية السمحة " ذكره أبو جعفر بن بابويه في كتابه. وعن العيص
ابن القاسم عن الصادق (عليه السلام) (1) " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كان يغتسل هو وعائشة من إناء واحد " ولأن النجاسة مستفاد من الشرع فيقف
على الدلالة، أما الخوارج فيقدحون في علي (عليه السلام) وقد علم من الدين تحريم
ذلك، فهم بهذا الاعتبار داخلون في الكفر لخروجهم عن الاجماع وهم المعنيون
بالنصاب. انتهى كلامه زيد مقامه وقال في الذخيرة بعد نقل ملخصه أنه يمكن النظر
في بعض تلك الوجوه لكنها بمجموعها توجب الظن القوي بالمطلوب.
أقول: وعندي فيه نظر من وجوه: (الأول) أنه لا يخفى أنه إنما المراد بالمخالف
له في هذه المسألة الذي أشار إليه بقوله: " وصرح بعض المتأخرين " ابن إدريس،
ولا ريب أن مراد ابن إدريس بالحق الذي صرح بنجاسة من لم يعتقده إنما هو الولاية
كما سيأتيك بيانه إن شاء الله تعالى في الأخبار فإنها معيار الكفر والايمان في هذا
المضمار، ويؤيد ذلك استثناء المستضعف كما سيأتيك التصريح به في الأخبار أيضا، ولا ريب
أيضا أن الولاية إنما نزلت في آخر عمره (صلى الله عليه وآله) في غدير خم والمخالفة
فيها المستلزمة لكفر المخالف إنما وقع بعد موته (صلى الله عليه وآله) فلا يتوجه الإيراد
بحديث عائشة والغسل معها في إناء واحد ومساورتها كما لا يخفى، وذلك لأنها في حياته
(صلى الله عليه وآله) على ظاهر الايمان وإن ارتدت بعد موته كما ارتد ذلك الجم
الغفير المجزوم بايمانهم في حياته (صلى الله عليه وآله) ومع تسليم كونها في حياته من
المنافقين فالفرق ظاهر بين حالي وجوده (صلى الله عليه وآله) وموته حيث إن جملة
المنافقين كانوا في وقت حياته على ظاهر الاسلام منقادين لأوامره ونواهيه ولم يحدث
منهم ما يوجب الارتداد، وأما بعد موته فحيث أبدوا تلك الضغائن البدرية وأظهروا

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من الأسئار.
179

الأحقاد الجاهلية ونقضوا تلك البيعة الغديرية التي هي في ضرورتها من الشمس
المضيئة فقد كشفوا ما كان مستورا من الداء الدفين وارتدوا جهارا غير منكرين ولا
مستخفين كما استفاضت به أخبار الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فشتان ما بين
الحالتين وما أبعد ما بين الوقتين، فأي عاقل بزعم أن أولئك الكفرة اللئام قد بقوا
على ظاهر الاسلام حتى يستدل بهم في هذا المقام والحال أنه قد ورد عنهم عليهم الصلاة
والسلام (1) " ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم:
من ادعى إمامة من الله ليست له ومن جحد إماما من الله ومن زعم أن لهما في الاسلام
نصيبا "؟ نعوذ بالله من زلات الأفهام وطغيان الأقلام.
(الثاني) أن من العجب الذي يضحك الثكلى والبين البطلان الذي أظهر
من كل شئ وأجلى أن يحكم بنجاسة من أنكر ضروريا من سائر ضروريات الدين وإن
لم يعلم أن ذلك منه عن اعتقاد ويقين ولا يحكم بنجاسة من يسب أمير المؤمنين (عليه
السلام) وأخرجه قهرا مقادا يساق بين جملة العالمين وأدار الحطب على بيته ليحرقه
عليه وعلى من فيه وضرب الزهراء (عليها السلام) حتى أسقطها جنينها ولطمها حتى خرت
لوجهها وجبينها وخرجت لوعتها وحنينها مضافا إلى غصب الخلافة الذي هو أصل هذه
المصائب وبيت هذه الفجائع والنوائب، ما هذا إلا سهو زائد من هذا النحرير وغفلة
واضحة عن هذا التحرير، فيا سبحان الله كأنه لم يراجع الأخبار الواردة في المقام الدالة
على ارتدادهم عن الاسلام واستحقاقهم القتل منه (عليه السلام) لولا الوحدة وعدم
المساعد من أولئك الأنام، وهل يجوز يا ذوي العقول والأحلام أن يستوجبوا القتل
وهم طاهرو الأجسام؟ ثم أي دليل دل على نجاسة ابن زياد ويزيد وكل من تابعهم في
ذلك الفعل الشنيع الشديد؟ وأي دليل دل على نجاسة بني أمية الأرجاس وكل من حذا
حذوهم من كفرة بني العباس الذين قد أبادوا الذرية العلوية وجرعوهم كؤوس الغصص

(1) رواه في أصول الكافي ج 1 ص 373 الطبع الحديث.
180

والمنية؟ وأي حديث صرح بنجاستهم حتى يصرح بنجاسة أئمتهم، وأي ناظر وسامع
خفي عليه ما بلغ بهم من أئمة الضلال حتى لا يصار إليه إلا مع الدلالة؟ ولعله (قدس سره)
أيضا يمنع من نجاسة يزيد وأمثاله من خنازير بني أمية وكلاب بني العباس لعدم الدليل
على كون التقية هي المانعة من اجتناب أولئك الأرجاس.
(الثالث) أن ما استند إليه من الاستدلال بحديث أفضلية الوضوء من سؤر
المسلمين لا يخلو من نوع مصادرة، فإن الحكم باسلام المخالفين أول البحث والحاكم بالنجاسة
إنما حكم بذلك لثبوت الكفر والنصب المستلزمين للنجاسة، على أنا لا نسلم أن المراد
بالاسلام هنا المعنى الأعم كما استند إليه بل المراد إنما هو المعنى المرادف للايمان كما فسره
به بعض علمائنا الأعيان حيث قال: والوجه في التعليل كون الوضوء بفضل جماعة المسلمين
أسهل حصولا، إلى أن قال مع ما فيه من التبرك بسؤر المؤمن وتحصيله الألفة بذلك.
(الرابع) أن ما فسر به النواصب من أنهم الخوارج خاصة مما يقضى منه
العجب العجاب لخروجه عن مقتضى النصوص المستفيضة في الباب وعدم موافق له في
ذلك لا قبله ولا بعده من الأصحاب.
وبالجملة فإن كلامه في هذا المقام لا أعرف له وجها وجيها من أخبارهم (عليه
السلام) بل هي في رده وبطلانه أظهر من البدر ليالي التمام.
هذا، وأما الأخبار الدالة على كفر المخالفين عدا المستضعفين فمنها ما رواه في
الكافي (1) بسنده عن مولانا الباقر (عليه السلام) قال: " إن الله عز وجل نصب
عليا (عليه السلام) علما بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا
ومن جهله كان ضالا.. ".
وروى فيه (2) عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: " إن عليا (عليه السلام)
باب من أبواب الجنة فمن دخل بابه كان مؤمنا ومن خرج من بابه كان كافرا ومن لم يدخل

(1) الأصول ج 1 ص 437 الطبع الحديث
(2) الأصول ج 2 ص 389.
181

فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين لله عز وجل فيهم المشيئة ".
وروى فيه (1) عن الصادق (عليه السلام) قال: ".. من عرفنا كان مؤمنا ومن أنكرنا كان كافرا ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا حتى يرجع إلى الهدى الذي
افترضه الله عليه من طاعتنا الواجبة فإن مات على ضلالته يفعل الله به ما يشاء ".
وروى الصدوق في عقاب الأعمال (2) قال: " قال أبو جعفر (عليه السلام)
" أن الله تعالى جعل عليا (عليه السلام) علما بينه وبين خلقه ليس بينهم وبينه علم غيره
فمن تبعه كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا ومن شك فيه كان مشركا " ورواه البرقي
في المحاسن مثله (3).
وروى فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " إن عليا (عليه
السلام) باب هدى من عرفه كان مؤمنا ومن خالفه كان كافرا ومن أنكره دخل النار "
وروى في العلل بسنده إلى الباقر (عليه السلام) قال: " إن العلم الذي وضعه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند علي (عليه السلام) من عرفه كان مؤمنا ومن
جحده كان كافرا ".
وروى في كتاب التوحيد وكتاب اكمال الدين واتمام النعمة عن الصادق (عليه
السلام) (5) قال: " الإمام علم بين الله عز وجل وبين خلقه من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ".
وروى في الأمالي بسنده فيه عن النبي (صلى الله عليه وآله) (6) أنه قال لحذيفة
اليماني " يا حذيفة أن حجة الله عليكم بعدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) الكفر

(1) الأصول ج 1 ص 187 الطبع الحديث
(2) ص 5
(3) ص 89.
(4) المحاسن ص 89 واللفظ: " علي باب الهدى من خالفه كان كافرا ومن أنكره
دخل النار ".
(5) رواه في البحار ج 7 ص 27
(6) رواه في البحار عنه ج 9 ص 283.
182

به كفر بالله سبحانه والشرك به شرك بالله سبحانه والشك فيه شك في الله سبحانه
والالحاد فيه الحاد في الله سبحانه والانكار له انكار لله تعالى والايمان به ايمان بالله تعالى
لأنه أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيه وإمام أمته ومولاهم. وهو حبل الله
المتين وعروته الوثقى التي لا انفصام لها.. الحديث ".
وروى في الكافي (1) بسنده إلى الصحاف قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن قوله تعالى: " فمنكم كافر ومنكم مؤمن " (2) فقال عرف الله تعالى ايمانهم
بموالاتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم ".
وروى فيه بسنده (3) عن الصادق (عليه السلام) قال: " أهل الشام شر من
أهل الروم وأهل المدينة شر من أهل مكة وأهل مكة يكفرون بالله تعالى جهرة ".
وروى فيه بسنده عن أحدهما (عليهما السلام) (4) " أن أهل المدينة ليكفرون
بالله جهرة وأهل المدينة أخبث من أهل مكة، أخبث منهم سبعين ضعفا ".
وروى فيه (5) عن أبي مسروق قال: " سألني أبو عبد الله (عليه السلام) عن
أهل البصرة ما هم؟ فقلت مرجئة وقدرية وحرورية. قال لعن الله تعالى تلك الملل الكافرة
المشركة التي لا تعبد الله على شئ " إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن نشرها
المقام ومن أحب الوقوف عليها فليرجع إلى الكافي ولا سيما في تفسير الكفر في جملة
من الآيات القرآنية.
وأنت خبير بأن التعبير عن المخالفة في الإمامة في جملة من هذه الأخبار بالانكار
في بعض والجحود في بعض دلالة واضحة على كفر هؤلاء المخالفين من قبيل كفر الجحود
والانكار الموجب لخروجهم عن جادة الاسلام بكليته واجراء حكم الكفر عليهم برمته

(1) الأصول ج 1 ص 426 الطبع الحديث.
(2) سورة التغابن، الآية 2.
(3) الأصول ج 2 ص 409 الطبع الحديث.
(4) الأصول ج 2 ص 410 الطبع الحديث.
(5) الأصول ج 2 ص 409 الطبع الحديث.
183

وأن مخالفتهم في ذلك أنما وقع عنادا واستكبارا لقيام الأدلة عليهم في ذلك وسطوع
البراهين فيما هنالك لديهم، لأن الجحود والانكار إنما يطلقان في مقام المخالفة بعد ظهور
البرهان كما صرح به علماء اللغة الذين إليهم المرجع في هذا الشأن. وبذلك يظهر ما في
جواب شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني حيث إنه ممن تبع المشهور
بين المتأخرين في الحكم باسلام المخالفين، فإنه أجاب عن اطلاق الكفر عليهم في الأخبار
بالحمل على الكفر الحقيقي وإن كانوا مسلمين ظاهرا فهم مسلمون ظاهرا فتجري عليهم
أحكام الاسلام من الطهارة وجواز المناكحة وحقن المال والدم والموارثة ونحو ذلك وكفار
حقيقة وواقعا فيخلدون في النار يوم القيامة، ثم احتمل حمل كفرهم على أحد معاني الكفر
وهو كفر الترك فكفرهم بمعنى ترك ما أمر الله تعالى به كما ورد " أن تارك الصلاة
كافر " (1) و " تارك الزكاة كافر " (2) و " تارك الحج كافر " (3) و " مرتكب
الكبائر كافر " (4). وفيه أن ما ذكره من الكفر بالمعنى الأول من أنهم مسلمون ظاهرا
وكفار حقيقة بمعنى اجتماع الكفر والإسلام بهذين المعنيين لم يقم عليه دليل في غير
المنافقين في وقته (صلى الله عليه وآله) وانكاره بمجرد دعوى الاسلام لأولئك المخالفين
أول البحث، ومن المعلوم أن المتبادر من اطلاق الكفر حيث يذكر إنما هو ما يكون
مباينا للاسلام ومضادا له في الأحكام إذ هو المعنى الحقيقي للفظ، وهكذا كل لفظ
أطلق فإنما يحمل على معناه الحقيقي إلا أن يصرف عنه صارف ولا صارف هنا إلا مجرد
هذه الدعوى وهي ممنوعة بل هي أول البحث لعدم الدليل عليها بل قيام الأدلة المتعاضدة
في دفعها وبطلانها كما أوضحناه في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من أعداد الفرائض ونوافلها.
(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من ما يجب فيه الزكاة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب وجوب الحج.
(4) رواه في الوسائل في الباب 2 من مقدمة العبادات.
184

عليه من المطالب. وأما ما ذكره من الحمل على ترك ما أمر الله تعالى فإنه لا يخفى على
من تأمل الأخبار التي أوردناها أن الكفر المنسوب إلى هؤلاء إنما هو من حيث الإمامة
وتركها وعدم القول بالإمامة. ولا يخفى أن الترك لشئ من ضروريات الدين أن
كان إنما هو ترك استخفاف وتهاون فصاحبه لا يخرج عن الايمان كترك الصلاة والزكاة
ونحوهما وإن أطلق عليه الكفر في الأخبار كما ذكره تغليظا في المنع من ذلك، وإن كان
عن جحود وانكار فلا خلاف في كفر التارك كفرا حقيقيا دنيا وآخرة ولا يجوز اطلاق
اسم الاسلام عليه بالكلية كمن ترك الصلاة ونحوها كذلك، والأخبار المتقدمة كما
عرفت قد صرحت بكون كفر هؤلاء إنما هو من حيث جحود الإمامة وانكارها لا أن
ذلك استخفاف وتهاون مع اعتقاد ثبوتها وحقيتها كالصلاة ونحوها فإنه لا معنى له بالنسبة
إلى الإمامة كما لا يخفى، وحينئذ فليختر هذا القائل إما أن يقول بكون الترك هنا ترك
جحود وانكار فيسقط البحث ويتم ما ادعيناه وإما أن يقول ترك استخفاف وتهاون فمع
الاغماض عن كونه لا معنى له فالواجب عليه القول بايمان المخالفين لأن الترك كذلك
لا يوجب الخروج عن الايمان كما عرفت ولا أراه يلتزمه.
وأما ما يدل على نصبهم فمنه ما تقدم نقله في كلام شيخنا الشهيد الثاني من حديث
عبد الله بن سنان (1) ونحوه أيضا ما رواه الصدوق في معاني الأخبار (2) بسند معتبر عن
معلى بن خنيس قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ليس الناصب من نصب
لنا أهل البيت لأنك لا تجد أحدا يقول أنا أبغض آل محمد ولكن الناصب من نصب
لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وتتبرأون من أعدائنا " وروى ابن إدريس في مستطرفات
السرائر مما استطرفه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم لمولانا أبي الحسن علي بن
محمد الهادي (عليه السلام) في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى (3) قال: " كتبت إليه

(1) ص 177
(2) ص 104.
(3) رواه عنه في البحار ج 3 من المجلد 15 ص 14 وفي الوافي ج 2 ص 56.
185

أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاده
بإمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب ".
والمستفاد من هذه الأخبار أن مظهر النصب المترتب عليه الأحكام والدليل عليه
إما تقديم الجبت والطاغوت أو بغض الشيعة من حيث التشيع فكل من اتصف بذلك
فهو ناصب تجري عليه أحكام النصب، نعم يجب أن يستثنى من خبر تقديم الجبت
والطاغوت المستضعف كما عرفت من الأخبار المتقدمة وغيرها أيضا فيختص الحكم بما
عداه، وعموم ذلك لجميع المخالفين بعد اخراج هذا الفرد مما لا يعتريه الريب والشك
بالنظر إلى الأخبار المذكورة كما عليه أكثر أصحابنا المتقدمين الحاكمين بالكفر وكثير
من متأخري المتأخرين كما قدمنا نقل كلام بعضهم.
وأما ما أجاب به الشيخ المحدث الصالح المتقدم ذكره من أن الناصب يطلق على
معان: (أحدها) من نصب العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) وعلى هذا يحمل
ما ورد من حل مال الناصب ونحوه، و (ثانيها) من قدم الجبت والطاغوت كما تضمنه
خبر السرائر. و (ثالثها) من نصب للشيعة فهو ناشئ من ضيق الخناق وإنا لم نجد
لهذا المعنى الأول دليلا ولم نجد لهم دليلا على هذا التقسيم سوى دعواهم اسلام المخالفين
فأرادوا الجمع بين الحكم باسلامهم وبين هذه الأخبار بحمل النصب على ما ذكروه في المعنى
الأول وهو أول البحث في المسألة فإن الخصم يمنع اسلامهم ويقول بكفرهم.
وبالجملة فإنه لا خلاف بيننا وبينهم في أن الناصب هو العدو لأهل البيت والنصب
لغة هو العداوة وشرعا بل لغة أيضا على ما يفهم من القاموس هو العداوة لأهل البيت
(عليهم السلام) إنما الخلاف في أن هؤلاء هل يدخلون تحت هذا العنوان
أم لا؟ فنحن ندعي دخولهم تحته وصدقه عليهم وهم يمنعون ذلك، ودليلنا على ما ذكرنا
الأخبار المذكورة الدالة على أن الأمر الذي يعرف به النصب ويوجب الحكم به على
من اتصف به هو تقديم الجبت والطاغوت أو بغض الشيعة ولا ريب في صدق ذلك على
186

هؤلاء المخالفين، وليس هنا خبر يدل على تفسير الناصب بأنه المبغض لأهل البيت (عليهم
السلام) كما يدعونه بل الخبران المتقدمان صريحان في أنك لا تجد أحدا يقول ذلك.
وبالجملة فإنه لا دليل لهم ولا مستند أزيد من وقوعهم في ورطة القول باسلامهم فتكلفوا
هذه التكلفات الشاردة والتأويلات الباردة، على أنا قد حققنا في الشهاب الثاقب بالأخبار
الكثيرة بغض المخالفين المقدمين للجبت والطاغوت غير المستضعفين لأهل البيت (عليهم
السلام) وإليه يشير كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم نقله من الروض.
ومن أظهر ما يدل على ما ذكرناه ما رواه جملة من المشايخ عن الصادق (عليه
السلام) قال: " الناصبي شر من اليهودي. فقيل له وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال إن الناصبي يمنع لطف الإمامة وهو عام واليهودي لطف النبوة وهو خاص " فإنه لا ريب
أن المراد بالناصبي هنا مطلق من أنكر الإمامة كما ينادي به قوله " يمنع لطف الإمامة "
وقد جعله (عليه السلام) شرا من اليهودي الذي هو من جملة فرق الكفر الحقيقي
بلا خلاف. ومن أراد الإحاطة بأطراف الكلام والوقوف على صحة ما ادعيناه
من أخبار أهل البيت (عليهم السلام) فليرجع إلى كتابنا المشار إليه آنفا فإنه قد أحاط
بأطراف المقال ونقل الأقوال والأدلة الواردة في هذا المجال.
وأما ما يدل على نجاسة الناصب الذي قد عرفت أنه عبارة عن المخالف مطلقا
إلا المستضعف منه فمنه ما رواه في الكافي بسنده عن عبد الله بن أبي يعفور عن الصادق
(عليه السلام) (1) قال: " لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام فإن فيها
غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء وفيها غسالة الناصب وهو شرهما، إن الله لم
يخلق خلقا شرا من الكلب وإن الناصب أهون على الله تعالى من الكلب " وما رواه
فيه أيضا عن خالد القلانسي (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ألقى الذمي

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من الماء المضاف.
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب النجاسات.
187

فيصافحني؟ قال امسحها بالتراب أو بالحائط. قلت فالناصب؟ قال اغسلها " وعن الوشاء
عن من ذكره عن الصادق (عليه السلام) (1) " أنه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي
والنصراني والمشرك وكل من خالف الاسلام، وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب " ورواية
علي ابن الحكم عن رجل عنه (عليه السلام) (2) وفيها " لا تغتسل من ماء غسالة الحمام فإنه يغتسل فيه من
الزنا ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم " وما رواه الصدوق في
العلل في الموثق عن عبد الله ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) (3) في حديث
قال فيه بعد أن ذكر اليهودي والنصراني والمجوسي قال: " والناصب لنا أهل البيت وهو
شرهم، إن الله لم يخلق خلقا أنجس من الكلب وإن الناصب لنا أهل البيت لا نجس منه "
ولجملة من أصحابنا في هذا المقام حيث نقلوا عن ابن إدريس القول بنجاسة من لم
يعتقد الحق عدا الستضعف وعن المرتضى (رضي الله عنه) القول بنجاسة غير المؤمن
وزيفوا لهما حججا واهية كلام واه في الجواب عن ذلك لا يستحق النظر إليه كما لا يخفى
على من تأمل فيما ذكرناه وتدبر ما سطرناه فإنه هو الحجة في المقام لا ما زيفه أولئك الأعلام
فرعان
(الأول) لا يخفى أنه على تقدير القول بالنجاسة كما اخترناه فلو الجأت
ضرورة التقية إلى المخالطة جازت المباشرة دفعا للضرر كما أوجبته شرعية التقية في غير
مقام من الأحكام إلا أنه يتقدر بقدر الضرورة فيتحرى المندوحة مهما أمكن. بقي الكلام
في أنه لو زالت التقية بعد المخالطة والمباشرة بالبدن والثياب فهل يجب تطهيرها أم لا؟
اشكال ينشأ من حيث الحكم بالنجاسة وإنما سوغنا مباشرتها للتقية وحيث زالت
التقية فحكم النجاسة باق على حاله فيجب إزالتها إذ لا مانع من ذلك، ومن حيث

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من الأسئار
(2) المروية في الوسائل في الباب 11 من الماء المضاف.
(3) المروية في الوسائل في الباب 11 من الماء المضاف.
188

تسويغ الشارع المباشرة وتجويزه لها أولا فما أتى به من ذلك أمر جائز شرعا وهو حكم
الله تعالى في حقه تلك الحال وعود الحكم بالنجاسة على وجه يوجب التطهير بعد
ذلك يحتاج إلى دليل، وبالجملة فالمسألة لا تخلو عندي من نوع توقف لعدم الدليل الظاهر
في البين والاحتياط فيها ظاهر. والله العالم.
(الثاني) ينبغي أن يعلم أن جميع من خرج عن الفرقة الاثني عشرية من
أفراد الشيعة كالزيدية والواقفية والفطحية ونحوها فإن الظاهر أن حكمهم كحكم النواصب
فيما ذكرنا لأن من أنكر واحدا منهم (عليهم السلام) كان كمن أنكر الجميع كما وردت
به أخبارهم، ومما ورد من الأخبار الدالة على ما ذكرنا ما رواه الثقة الجليل أبو عمرو
الكشي في كتاب الرجال بإسناده عن ابن أبي عمير عن من حدثه (1) قال: " سألت
محمد بن علي الرضا (عليه السلام) عن هذه الآية " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة " (2)
قال وردت في النصاب، والزيدية والواقفية من النصاب " وما رواه فيه بسنده إلى عمر بن
يزيد (3) قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فحدثني مليا في فضائل الشيعة
ثم قال إن من الشيعة بعدنا من هم شر من النصاب. فقلت جعلت فداك أليس ينتحلون
مودتكم ويتبرأون من عدوكم؟ قال نعم. قلت جعلت فداك بين لنا لنعرفهم فلعلنا منهم
. قال كلا يا عمر ما أنت منهم إنما هو قوم يفتنون بزيد ويفتنون بموسى " وما رواه فيه أيضا (4)
قال: " إن الزيدية والواقفية والنصاب بمنزلة واحدة " وروى القطب الراوندي في كتاب
الخرائج والجرائح عن أحمد بن محمد بن مطهر (5) قال: " كتب بعض أصحابنا إلى
أبي محمد (عليه السلام) من أهل الجبل يسأله عن من وقف على أبي الحسن موسى (عليه
السلام) أتولاهم أم أتبرأ منهم؟ فكتب لا تترحم على عمك لا رحم الله عمك وتبرأ
منه، أنا إلى الله برئ منهم فلا تتولهم ولا تعد مرضاهم ولا تشهد جنائزهم ولا تصل على
أحد منهم مات أبدا سواء، من جحد إماما من الله تعالى أو زاد إماما ليست إمامته من الله

(1) ص 149
(2) سورة الغاشية الآية 2 و 3
(3) ص 286
(4) ص 149
(5) كشف الغمة ص 309.
189

أو قال ثالث ثلاثة، إن الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا والزائد فينا كالناقص
الجاحد أمرنا " وكأن هذا السائل لم يعلم أن عمه كان منهم فأعلمه بذلك. وهي كما
ترى ظاهرة في المراد عارية عن وصمة الإيراد، ولهذا نقل شيخنا البهائي (قدس
سره) في مشرق الشمسين أن متقدمي أصحابنا كانوا يسمون تلك الفرق بالكلاب
الممطورة أي الكلاب التي أصابها المطر مبالغة في نجاستهم والبعد عنهم. والله العالم.
(المسألة الثانية) المشهور بين الأصحاب سيما المتأخرين القول بطهارة ولد
الزنا والحكم باسلامه ودخول الجنة، وعن ابن إدريس القول بكفره ونجاسته، ونقل
العلامة في المختلف القول بالكفر عن المرتضى وابن إدريس، ونقل جملة منهم عن الصدوق
أيضا القول بالنجاسة والكفر، قال في المختلف في باب السؤر: قال الشيخ أبو جعفر بن
بابويه لا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وجعل ولد الزنا
كالكافر، وهو المنقول عن المرتضى وابن إدريس، وباقي علمائنا حكموا باسلامه، وهو
الحق وسيأتي بيان ذلك. وقال المحقق في المعتبر وربما تعلل المانع يعني من سؤر ولد الزنا
بأنه كافر ونحن نمنع ذلك ونطالبه بدليل دعواه، ولو ادعى الاجماع كما ادعاه بعض
الأصحاب كانت المطالبة باقية فإنا لا نعلم ما ادعاه. قال في المعالم بعد نقل الأقوال
المذكورة: إذا عرفت ذلك فاعلم أن المعتمد عندي هو القول بالطهارة لكونها مقتضى
الأصل والمخرج عنه غير معلوم. وقال في الذخيرة: ويدل على الطهارة الأصل وكونه
محكوما عليه بالاسلام ظاهرا وأن سؤره لما أشرنا إليه من العمومات فيلزم العموم
لعدم القائل بالفصل. انتهى.
واحتج في المنتهى للقول بكفره بمرسلة الوشاء المتقدمة (1) قال: ووجهه أنه
لا يريد بلفظ " كره " المعنى الظاهر له وهو النهي عن الشئ نهي تنزيه لقوله
" واليهودي " فإن الكراهة فيه تدل على التحريم فلم يبق المراد إلا كراهة التحريم،

(1) ص 188.
190

ولا يجوز أن يرادا معا وإلا لزم استعمال المشترك في كلا معنييه أو استعمال اللفظ في معنيين
الحقيقة والمجاز وذلك باطل، ثم إنه أجاب عن الاحتجاج بالمنع من الحديث فإنه مرسل،
سلمنا لكن قول الراوي " كره " ليس إشارة إلى النهي بل الكراهة التي في مقابلة
الإرادة وقد تطلق على ما هو أعم من المحرم والمكروه، سلمنا لكن الكراهة قد تطلق
على النهي المطلق فيحمل عليه. انتهى.
وقال شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني في بعض تحقيقاته وقد
سأل عن ولد الزنا: هل يحتمل أن يدخل الجنة مع إمكان أن يكون مؤمنا متشرعا؟ فأجاب
(قدس سره) بما ملخصه أن جواز ايمانه وامكان تدينه عقلا مما لا خلاف فيه كيف
ولو لم يكن كذلك لزم التكليف بالمحال وهو باطل عقلا ونقلا، وإنما الخلاف في الوقوع
هل يقع منه الايمان والتدين أم يقطع بعدم وقوع ذلك؟ والمنقول عن رئيس المحدثين
أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه والمرتضى علم الهدى وأبي عبد الله ابن إدريس الحلي
روح الله أرواحهم وقدس أشباحهم هو الثاني وهو أنه لا يكون إلا كافرا بمعنى أنه
لا يختار إلا الكفر، وهم لا ينكرون أنه لو فرض ايمانه وتدينه أمكن دخول الجنة بل
وجب وإن كان عندهم أن هذا الفرض غير واقع لأنه لا بد وأن يختار من قبل نفسه
الكفر، وفي ظواهر الأخبار ما يشهد بهذا القول مثل قوله (عليه السلام) (1) " ولد الزنا
شر الثلاثة " ومثل قوله (عليه السلام) (2) " لا يبغضك يا علي إلا ولد الزنا " ثم نقل
خبرا عن الكافي (3) يتضمن قوله: " إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذي قليل الحياء
لا يبالي بما قال ولا ما قيل له فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان. فقيل يا رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وفي الناس شرك شيطان؟ فقال أما تقرأ قول الله عز وجل:

(1) البحار ج 8 ص 212 وسفينة البحار ج 1 ص 560.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 560 و 561
(3) الأصول ج 2 ص 323 الطبع الحديث.
191

وشاركهم في الأموال والأولاد " (1) قال فإن ظاهره تحريم الجنة على الصنف المذكور
تحريما مؤبدا، إلى أن قال: ولا يخفى أنه يمكن حمل الخبر على تحريم الجنة عليهم زمانا طويلا
أو تحريم جنة خاصة معدة لغير هذا الصنف كما احتمله شيخنا البهائي في شرح الأربعين،
ثم ذكر جملة من الأخبار الدالة على كون حب علي (عليه السلام) علامة على طيب الولادة
وبغضه علامة على الزنا، إلى أن قال وبالجملة الأخبار المشعرة بهذا المعنى كثيرة إلا أنها قابلة
للتأويل غير خالية عن قصور في سند أو دلالة والقائل بمضمونها قليل نادر، وأكثر أصحابنا
على اسلامه وطهارته وامكان تدينه وعدالته وصحة دخوله الجنة، وأنا في هذه المسألة متوقف
وإن كان القول الثاني لا يخلو من قوة ومتانة. وهو فتوى الشيخين والفاضلين والشهيدين
وكافة المتأخرين، ويعضده الأصل والنظر إلى عموم سعة رحمة الله تعالى وتفضله
بالألطاف الربانية والعنايات السبحانية على كافة البرية. انتهى ملخصا.
أقول: ونحن نبسط الكلام في الإيراد على كلام شيخنا المذكور ونبين ما فيه
من القصور وبه يتضح أيضا ما في القول المشهور، فنقول: لا يخفى أن شيخنا قد دخل
في هذه المسألة من غير الطريق وعرج على الاستدلال فيها من واد سحيق ولم يمعن النظر
فيها بعين التحقيق ولا الفكر الصائب الدقيق ولم يورد شيئا من أخبارها اللائقة بها حسبما
يراد فلذا صار كلامه معرضا للايراد، وبيان ذلك يظهر من وجوه النظر التي تتوجه على
كلامه الظاهرة في تداعي ما بنى عليه وانهدامه.
فأحدها جعله محل الخلاف في المسألة أنه هل يقع من ابن الزنا الايمان
والتدين أم يقطع بعدمه؟ وحمله القول بكفره على معنى أنه لا يقع منه إلا الكفر وإلا
فإنهم لا ينكرون أنه لو فرض ايمانه وتدينه أمكن دخوله الجنة بل وجب، فإنه ليس في
محله بل هؤلاء القائلون بكفره يقولون به وإن أظهر الايمان وتدين به كما هو ظاهر النقل
عنهم، وبه صرح جملة من أصحابنا: منهم شيخنا خاتمة المحدثين غواص بحار الأنوار

(1) سورة بني إسرائيل، الآية 64.
192

حيث قال فيه: ونسب إلى الصدوق والمرتضى وابن إدريس (قدس الله أسرارهم)
القول بكفره وإن لم يظهره، ثم قال: وهذا مخالف لأصول العدل إذ لم يفعل باختياره
ما يستحق به العقاب فيكون عقابه ظلما وجورا وليس بظلام للعبيد. انتهى. أقول: وهذا
الذي نقله عن المشايخ الثلاثة هو الذي تدل عليه الأخبار وهي التي أوجبت مصيرهم إليه
كما ستمر بك إن شاء الله تعالى فإنها صريحة في حرمانه الجنة وإن أظهر التدين والايمان،
نعم ما ذكره من القول بالكفر إنما هو وجه تأويل حيث حمل القائلون باسلام ولد الزنا
الأخبار الدالة على عدم دخوله الجنة على أنه لكونه يظهر الكفر فجعلوه جوابا عن
الأخبار المذكورة مع أنها صريحة في رده أيضا كما سيظهر لك لا أن ذلك مذهب
القائلين بكفره.
وثانيها ما نقله من الأدلة للقائلين بالكفر وقوله في آخر الكلام: وبالجملة
فالأخبار المشعرة بهذا المعنى كثيرة إلا أنها قابلة للتأويل. فإنه مسلم بالنسبة إلى أخباره
التي أوردها لكنها ليست هي أدلة هذا القول كما توهمه بل أدلته ما سنذكره من
الروايات الصحيحة الصريحة المستفيضة الغير القابلة للتأويل، والعجب منه (قدس سره)
مع سعة دائرته في الاطلاع وكونه ممن لا يجاري في سعة الباع كيف غفل عن الوقوف
عليها مع كثرتها وانتشارها وتكررها واشتهارها حتى اعتمد في الاستدلال على هذه الأخبار البعيدة عن المقام بمراحل لا تنطبق عليه إلا بمزيد تكلف كما لا يخفى على
الخبير الكامل.
وثالثها ما ذكره من قوله: إن أكثر أصحابنا على اسلامه وطهارته وامكان
تدينه وعدالته وصحة دخوله الجنة، وميله إلى هذا القول بعد توقفه وقوله إنه لا يخلو من
من قوة ومتانة، ومن الكلام على هذا الوجه يظهر لك ما في القول المشهور أيضا من
القصور فإن فيه أن ما صاروا إليه هنا في هذه المواضع مخالف لجملة الأخبار الواردة عن
العترة الطاهرة في جملة من موارد الأحكام:
193

فمنها دعوى الطهارة مع أن ظواهر الأخبار تدل على النجاسة، ومنها ما تقدم
في آخر المسألة المتقدمة وهي رواية عبد الله بن أبي يعفور (1) الدالة على النهي عن الاغتسال
من البئر الذي يجتمع فيه غسالة الحمام فإن فيه غسالة ولد الزنا مع اشتمالها على المبالغة في
نجاسته بأنه لا يطهر إلى سبعة آباء، ومرسلة الوشاء (2) وإن تمحل في المنتهى لتأويلها بما
قدمنا ذكره إلا أنه إنما يصار إليه مع تسليم صحته مع وجود المعارض، ورواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن
الأول (عليه السلام) (3) في حديث قال فيه: " ولا تغتسل من
البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا
أهل البيت وهو شرهم " وليس في الأخبار ما يعارض هذه الأخبار سوى مجرد دعواهم
الاسلام وسيظهر لك ما فيه في المقام، ورواية علي بن الحكم، فهذه جملة من الأخبار
ظاهرة في نجاسته مع تأيدها بما يأتي من الأخبار في تلك الأحكام.
ومنها دعوى العدالة ولا يخفى أن المواضع التي يشترط فيها العدالة هي الإمامة
في الصلاة وقد اتفقت كلمة الأصحاب والأخبار على اشتراط طهارة المولد فيها وأنها
لا تنعقد بابن الزنا وإن تدين بالاسلام وكان منه في أعلى مقام، والشهادة وقد استفاضت
الأخبار بأنه لا تقبل شهادته، والقضاء وقد اتفقت كلمة الأصحاب على أنه لا يجوز له تولي
القضاء، وحينئذ فأي ثمرة لهذه العدالة التي ادعاها في المقام؟ والأخبار الواردة في هذه
المواضع التي أشرنا إليها معلومة لمن وقف على الأخبار ومن لم يقف فليراجع، فلا ضرورة
إلى التطويل بنقلها وكذا نقل كلام الأصحاب في هذه الأبواب.
ومما يؤيد الحكم بكفره ما ورد في ديته وأنها كدية اليهود والنصارى ثمانمائة
درهم كما ورد في رواية عبد الرحمان بن عبد الحميد (4) ومرسلة جعفر بن بشير (5) ورواية
إبراهيم بن عبد الحميد (6) وفي رواية عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) (7)

(1) ص 187 و 188
(2) ص 187 و 188
(3) المروية في الوسائل في الباب 11 من الماء المضاف
(4) المروية في الوسائل في الباب 15 من ديات النفس.
(5) المروية في الوسائل في الباب 15 من ديات النفس.
(6) المروية في الوسائل في الباب 15 من ديات النفس.
(7) المروية في الوسائل في الباب 15 من ديات النفس.
194

قال: " سألته كم دية ولد الزنا؟ قال يعطي الذي أنفق عليه ما أنفق عليه " وقد حكم بمضمون
هذه الأخبار الصدوق والمرتضى وابن إدريس بناء على مذهبهم في المسألة، والمشهور بناء على
الحكم باسلامه أن ديته دية المسلم مع أنه لا معارض لهذه الأخبار في المقام.
ومنها دعوى دخول الجنة فإن الأخبار مستفيضة بردها، ومنها ما رواه الصدوق
في العلل بسنده عن سعد بن عمر الجلاب (1) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام)
إن الله عز وجل خلق الجنة طاهرة مطهرة فلا يدخلها إلا من طابت ولادته، وقال
أبو عبد الله (عليه السلام) طوبى لمن كانت أمه عفيفة " وروى في الكتاب المذكور (2)
بسنده فيه إلى محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه رفع الحديث إلى الصادق (عليه السلام)
قال: " يقول ولد الزنا يا رب فما ذنبي؟ فما كان لي في أمري صنع، قال فيناديه مناد
فيقول أنت شر الثلاثة أذنب والداك فنبت عليهما وأنت رجس ولن يدخل الجنة إلا
طاهر " أقول: أنظر إلى صراحة هذا الخبر في أن منعه وطرده عن الجنة إنما هو من
حيث كونه ابن زنا حيث إنه احتج بأن لا ذنب لي يوجب بعدي وطردي من الجنة
فلو كان كافرا لم يحتج بهذا الكلام ولو احتج به لأتاه الجواب بأن طرده من الجنة
لكفره، وما رواه في الكافي وغيره بسنده عن أبي خديجة عن الصادق (عليه السلام) (3)
قال: " لو كان أحد من ولد الزنا نجا لنجا سائح بني إسرائيل. فقيل له وما سائح بني
إسرائيل؟ قال كان عابدا فقيل له إن ولد الزنا لا يطيب أبدا ولا يقبل الله تعالى منه
عملا، قال فخرج يسيح في الجبال ويقول ما ذنبي؟ " وروى البرقي في المحاسن بسنده عن
سدير الصيرفي (4) قال: " قال أبو جعفر (عليه السلام) من طهرت ولادته دخل الجنة "
وروى فيه أيضا بسنده عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) (5) قال:
" خلق الله تعالى الجنة طاهرة مطهرة لا يدخلها إلا من طابت ولادته " وهذه الأخبار
كما ترى صريحة في أن منع ابن الزنا من الجنة إنما هو من حيث خبث الولادة لا من

(1) ص 188
(2) ص 188
(3) المحاسن ص 108
(4) ص 139.
(5) ص 139.
195

حيث الكفر الذي زعموا حمل الأخبار عليه كما قدمنا الإشارة إليه، وروى في المحاسن
أيضا بسنده عن أيوب بن الحر عن أبي بكر (1) قال: " كنا عنده ومعنا عبد الله بن
عجلان فقال عبد الله بن عجلان معنا رجل يعرف ما نعرف ويقال إنه ولد زنا؟ فقال
ما تقول؟ فقلت إن ذلك ليقال فقال إن كان ذلك كذلك بني له بيت في النار من صدر
يرد عنه وهج جهنم ويؤتى برزقه " قال بعض مشايخنا بعد نقل هذا الخبر: قوله من صدر
أي يبني له ذلك في صدر جهنم وأعلاه، والظاهر أنه تصحيف الصبر بالتحريك وهو
الجمد، وروى في الكافي بسنده عن ابن أبي يعفور (2) قال: " قال أبو عبد الله (عليه
السلام) ولد الزنا يستعمل أن عمل خيرا جزي به وإن عمل شرا جزي به " أقول
هذا الخبر موافق للقول المشهور من أن ولد الزنا كسائر الناس يجزى بما يعمل إلا أنه
مع اجماله لا يعارض الأخبار المتقدمة، ومما يؤكد هذا أيضا ما رواه الصدوق في عقاب
الأعمال والبرقي في المحاسن بسنديهما عن أبي بصير ليث المرادي عن الصادق (عليه
السلام) (3) قال: " إن نوحا حمل في السفينة الكلب والخنزير ولم يحمل فيها ولد الزنا
وأن الناصب شر من ولد الزنا " وما رواه في ثواب الأعمال في الموثق عن زرارة (4) قال:
" سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول لا خير في ولد الزنا ولا في بشره ولا في شعره ولا
في لحمه ولا في دمه ولا شئ منه يعني ولد الزنا " وبالجملة فالمفهوم من الأخبار التي سردناها
أن ابن الزنا له حالة ثالثة غير حالتي الايمان والكفر، لأن ما تقدم من الأخبار الدالة على
أحكامه في الدنيا من النجاسة وعدم العدالة مع الاتصاف بشروطها وحكم ديته وكذا
أخبار عدم دخوله الجنة وكذا الأخبار الأخيرة لا يجامع الحكم بالايمان بوجه، وأسباب
الكفر الموجبة للحكم بكونه كافرا غير موجودة لأن الفرض أنه متدين بظاهر الايمان
كما عرفت من ظاهر الأخبار المذكورة.

(1) ص 149
(2) رواه في الوافي ج 12 ص 218
(3) المحاسن ص 185
(4) عقاب الأعمال ص 38.
196

وكيف كان فالحق عندي في المسألة ما أفاده شيخنا غواص بحار الأنوار
ومستخرج ما فيها من لئالئ الأخبار، حيث قال بعد نقل جملة من الأخبار الدالة على عدم
دخوله الجنة ما صورته " أقول يمكن الجمع بين الأخبار على وجه يوافق قانون العدل بأن
يقال لا يدخل ولد الزنا الجنة لكن لا يعاقب في النار إلا بعد أن يظهر منه ما يستحقه ومع
فعل الطاعة وعدم ارتكاب ما يحبطه يثاب في النار على ذلك ولا يلزم على الله تعالى أن يثيب
الخلق في الجنة، ويدل عليه خبر عبد الله بن عجلان ولا ينافيه خبر عبد الله بن أبي يعفور إذ
ليس فيه تصريح بأن جزاءه يكون في الجنة، وأما العمومات الدالة على أن من يؤمن بالله ويعمل
صالحا يدخله الله الجنة فيمكن أن تكون مخصصة بتلك الأخبار " انتهى كلامه زيد مقامه.
والذي يقرب عندي أن مقتضى هذه الأخبار الكثيرة المستفيضة التي تلوناها
في أحكامه دنيا وآخرة سيما الأخبار الأخيرة الدالة على أنه شر من الكلب والخنزير وأنه لا خير
في شعره ولا بشره.. الخ. إنه في الغالب والأكثر لا يطيب ولا يكون مؤمنا وإن كان
مؤمنا فايمانه يكون مستعارا وإن ثبت على ايمانه وكان مستقرا يكون ثوابه في النار على الوجه
الذي ذكره شيخنا المشار إليه. وبما حققناه في المقام وكشفنا عنه نقاب الإبهام يظهر
لك ما في كلام علمائنا الأعلام في المسألة لعدم وقوفهم على ما ورد من أخبارهم (عليهم
السلام) والله الهادي لمن يشاء.
(المسألة الثالثة) قال في المعالم: " ظاهر كلام جماعة من الأصحاب أن ولد
الكافرين يتبعهما في النجاسة الذاتية بغير خلاف لأنهم ذكروا الحكم جازمين به غير
متعرضين لبيان دليله كما هو الشأن في المسائل التي لا مجال للاحتمال فيها، وممن ذكر
الحكم كذلك العلامة في التذكرة ولكنه في النهاية أشار إلى نوع خلاف أو احتمال
فيه فقال: الأقرب في أولاد الكفار التبعية لهم. وأنت إذا أحطت خبرا بما قررناه
في نجاسة الكافر وجدت للتوقف في الحكم بالنجاسة هنا على الاطلاق مجالا إن لم يثبت
انعقاد الاجماع عليه. وربما استدل له بأنه حيوان متفرع من حيوانين نجسين فيثبت له
197

حكمهما كالكلب والخنزير. ويشكل بأن الظاهر كون المقتضي لثبوت الحكم في المتولد
من الحيوانين النجسين هو صدق اسم الحيوان النجس عليه لا مجرد التولد، وبهذا
صرح العلامة في أثناء كلام له في المنتهى فقال إن ولد الكلب ليس نجسا باعتبار تولده
من النجس بل باعتبار صدق اسم الكلب عليه. وقد عرفت استشكاله في جملة من كتبه
للحكم بنجاسة المتولد من الكلب والخنزير إذا كان مباينا لهما، وحينئذ يكون الحكم في
ولد الكافر موقوفا على صدق عنوان الكفر عليه " انتهى.
أقول: يمكن الاستدلال للقول المشهور من تبعية ولد الكافر لأبويه في الكفر بما
رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن جعفر بن بشير وطريقه إليه في المشيخة صحيح عن
عبد الله بن سنان (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أولاد المشركين يموتون
قبل أن يبلغوا الحنث؟ قال كفار والله أعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم "
وروى فيه عن وهب بن وهب عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) (2) قال:
" قال علي (عليه السلام) أولاد المشركين مع آبائهم في النار وأولاد المسلمين مع
آبائهم في الجنة ".
ولا ينافي ذلك ما ورد من الأخبار الدالة على أنه تؤجج لهم نار ويؤمرون بدخولها
فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما وكان من أهل الجنة ومن امتنع كان في النار كما
رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن هشام عن الصادق (عليه السلام) (3) قال:
" ثلاثة يحتج عليهم: الأبكم والطفل ومن مات في الفترة، فترفع لهم نار فيقال لهم
ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن أبى قال الله تعالى هذا قد أمرتكم
فعصيتموني " وروى فيه أيضا عن سهل عن غير واحد رفعوه (4) " أنه سئل عن الأطفال

(1) باب (حال من يموت من أطفال المشركين والكفار) من كتاب النكاح
(2) باب (حال من يموت من أطفال المشركين والكفار) من كتاب النكاح
(3) الفروع ج 1 ص 249 الطبع الحديث
(4) الفروع ج 1 ص 248.
198

فقال إذا كان يوم القيامة جمعهم الله تعالى وأجج لهم نارا وأمرهم أن يطرحوا أنفسهم
فيها فمن كان في علم الله تعالى أنه سعيد رمى بنفسه فيها وكانت عليه بردا وسلاما ومن
كان في علمه سبحانه أنه شقي امتنع فيأمر الله تعالى بهم إلى النار فيقولون يا ربنا تأمر
بنا إلى النار ولم تجر علينا القلم؟ فيقول الجبار قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني فكيف لو
أرسلت رسلي بالغيب إليكم؟ " ثم قال في الكافي وفي حديث آخر " أما أطفال المؤمنين
فإنهم يلحقون بآبائهم وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم، وهو قول الله تعالى بايمان
ألحقنا بهم ذريتهم ".
لأنا نقول لا ريب أن مقتضى الخبرين المتقدمين وكذا الخبر المرسل من الكافي
أخيرا الدلالة على اللحوق بالآباء من كل من أولاد المؤمنين والمشركين، والجمع بينهما
وبين ما ذكر من أخبار تأجيج النار ممكن بأحد وجهين، إما بحمل أخبار تأجيج النار على أن
الذين يدخلون النار ويطيعون هم أولاد المؤمنين والذين يمتنعون هم أولاد الكفار
والمشركين وحينئذ فيلحق كل من الفريقين بالآباء في الجنة أو النار بعد الامتحان
المذكور، وإما بحمل أخبار تأجيج النار على غير الأطفال المؤمنين والكفار بناء على ما ثبت
بالأخبار الصحيحة من تقسيم الناس إلى مؤمن ومسلم وكافر فأهل الوعدين وهم المؤمنون
والكفار لا يقفون في الحساب ولا تنشر لهم الدواوين ولا تنصب لهم الموازين وإنما
يساقون بعد البعث إلى الجنة إن كانوا مؤمنين والنار إن كانوا كافرين، وهذان الفريقان
يلحق بهم أولادهم في الجنة والنار كما صرحت به تلك الأخبار، وأما المسلمون وهم أهل
المحشر الذين يقفون في الحساب وتنشر لهم الدواوين وتنصب لهم الموازين فهؤلاء الذين
تأجج لأولادهم النار، ومما يشير إلى هذا الوجه تصريح أخبار الالحاق بالمؤمنين
والكافرين واجمال أخبار التأجيج بالأطفال بقول مطلق فيحمل على هذا الفرد الذي ذكرنا،
ومما يؤكده قول صاحب الكافي بعد نقل خبر التأجيج المتضمن للأطفال بقول مطلق:
وفي حديث آخر " أما أطفال المؤمنين وأولاد المشركين " فإن فيه إيماء إلى أن
199

خبر التأجيج إنما هو لغير أطفال المؤمنين والمشركين وهم أطفال المسلمين الذين هم
أصحاب الحساب.
وأما جمع صاحب الوافي بين الأخبار بحمل أخبار اللحوق على البرزخ وأخبار
التأجيج على يوم القيامة فالظاهر بعده فإن ظاهر الأخبار المذكورة أن ما ذكر في كل
من أخبار الطرفين إنما هو يوم القيامة ولا سيما أن صحيحة عبد الله بن سنان قد صرحت
بالكفر، ثم إنه مع تسليم الجمع بما ذكره فإنه لا ينافي اعتضادنا بالأخبار المذكورة لأن
حاصله هو الحكم بالكفر على أولاد المشركين والايمان على أولاد المؤمنين إلى يوم
القيامة حتى أنهم في البرزخ يلحقون بهم في الجنة والنار ممتدا ذلك إلى يوم القيامة فيقع
التكليف لهم والامتحان بالنار، وبذلك يتميز أصحاب الجنة الأخروية الموجبة للخلود
والنار كذلك، وحينئذ فالاستدلال بهذه الأخبار على ما ادعيناه حاصل على جميع
الاحتمالات، على أنه لا خلاف بينهم في الحكم بايمان أولاد المؤمنين واجراء أحكامه
عليهم من الطهارة ونحوها وجواز الاعطاء من الزكاة التي لا يجوز دفعها إلا إلى المؤمن،
وبذلك صرحت الأخبار من غير خلاف لا في الأخبار ولا في كلام الأصحاب، ولا
وجه للحكم هنا بالايمان إلا مجرد الالحاق لأن ترتب ذلك على العقائد غير ظاهر حيث
لا تكليف قبل البلوغ فكذلك أولاد المشركين والكفار فإنه يحكم بكفرهم إلحاقا لهم
بالآباء بعين ما ثبت في أولاد المؤمنين وتخرج الأخبار المذكورة شاهدة على ذلك.
وإذا قد ثبت بما ذكرنا من الأخبار صدق عنوان الكفر على أولاد الكفار
كصدق عنوان الايمان على أولاد المؤمنين ظهر لك ما في قول صاحب المعالم في آخر
كلامه المتقدم من قوله: " وحينئذ يكون الحكم في ولد الكافر موقوفا على صدق عنوان
الكفر عليه " فإنه قد ثبت ذلك من هذه الأخبار بما لا يداخله الشك ولا يتطرق إليه.
ثم قال في المعالم على أثر الكلام المتقدم ذكره من غير فاصل: إذا عرفت هذا
فاعلم أن بعض الأصحاب استثنى من الحكم بنجاسة ولد الكافر هنا ما إذا سباه المسلم
200

واستشكل ذلك في بحث الجهاد بعدم الدليل عليه واقتضاء الاستصحاب بقاءه على النجاسة
إلى أن يثبت المزيل، ثم ذكر أن ظاهر الأصحاب عدم الخلاف بينهم في طهارته والحال
هذه إنما اختلفوا في تبعيته للمسلم في الاسلام بمعنى ثبوت أحكام المسلم له وهذا أمر آخر
زائد على الحكم بالطهارة كما لا يخفى، وصرح الشهيد في الذكرى ببناء الحكم بطهارته أو
نجاسته على الخلاف في تبعيته للمسلم وعدمها حيث قال: ولد الكافر نجس ولو سباه مسلم
وقلنا بالتبعية طهر وإلا فلا. والتحقيق أن احتمال بقاء النجاسة بعد سبي المسلم له ضعيف
لما قد ظهر من انحصار المقتضي للتنجيس قبله في الاجماع إن ثبت ولا ريب في انتفائه بالنظر
إلى ما بعده، والتمسك باستصحاب النجاسة مردود بمنع العمل بالاستصحاب في مثله كما بيناه
في محله من مقدمة الكتاب، وبه يظهر جودة احتجاج العلامة وجماعة للحكم بطهارته
حينئذ بأصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين النجاسة، وضعف مناقشة بعض الأصحاب
فيه بأن الأمر بالعكس لأن النجاسة تحققت بمجرد الولادة فيجب استصحابها وهو أصل
سالم عن معارضة يقين الطهارة، وتوضيح وجه الجودة والضعف إنه لا ريب في أن
الأصل في الأشياء كلها الطهارة إلى أن يقوم على خلافها دليل وحيث إن الدليل المخرج
عن حكم الأصل في موضع النزاع مخصوص بالحالة السابقة على السبي فالقدر المتحقق من
المخالفة لأصالة الطهارة هو ذاك وما عداه باق على حكم لعدم قبول الاستصحاب
إذا كان دليل الحكم المستصحب مقيدا بحال كما مر. انتهى.
أقول: ما ذكره واختاره وقبله صاحب المدارك من القول بالطهارة بعد السبي
بناء على عدم عموم دليل الكفر وشموله لما بعد السبي جيد بناء على ما ذكروه من عدم
الدليل على الكفر إلا الاجماع وهو غير شامل لموضع النزاع، وأما على ما ذكرناه من
الأخبار الواضحة المنار فإنه لا يصح هذا الكلام ولا ما ابتنى عليه في المقام فإن ظاهر
الأخبار كما ترى تبعية الولد لأبويه في الكفر إلى يوم القيامة فيخلد معه في النار أو يمتحن
بتأجيج نار له، وبه يضمحل هذا البحث الذي أكثروا فيه من القيل والقال والجواب
201

والسؤال ويزول الاشكال من هذا المجال، ويبطل ما ذكروه من التبعية للمسلم السابي
له في الاسلام أو الطهارة خاصة لعدم الدليل الشرعي، ودليل النجاسة الذي ذكرناه
واضح الدلالة طافح المقالة على عموم النجاسة وبقائها سبي أم لا إلى يوم القيامة فضلا
عن أيام الدنيا، ولكنهم (رضوان الله عليهم) معذورون لعدم حضور هذه الأخبار
لهم بالبال بل ولا مرت لهم بالخيال، والله الهادي لمن يشاء والعالم بحقيقة الحال.
(المسألة الرابعة) نقل المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط أنه حكم بنجاسة
المجبرة والمجسمة من فرق المسلمين ولم يرتضه بل ذهب إلى الطهارة محتجا بأن النجاسة حكم
مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة، وادعى دلالة ظواهر بعض الأخبار على الطهارة.
ووافق الشيخ في المجسمة جماعة من الأصحاب: منهم المحقق الشيخ علي والشهيد
الثاني في شرح الرسالة. واختلف كلام العلامة في ذلك، فقال في المنتهى بعد أن ذكر
أن حكم الناصب والغالي حكم الكافر لانكارهما ما علم ثبوته من الدين ضرورة: وهل
المجسمة والمشبهة كذلك؟ الأقرب المساواة لاعتقادهم أنه تعالى جسم وقد ثبت أن كل
جسم محدث. وصرح بهذا القول في التحرير والقواعد أيضا، واستقرب في التذكرة
والنهاية القول بالطهارة. ومثل ذلك وقع للشهيد فإنه في الذكرى استضعف كلام الشيخ
وفي البيان عد المجسمة بالحقيقة والمشبهة كذلك في أقسام الكافر المنتحل للاسلام وهو
جاحد لبعض ضرورياته بعد أن حكم بنجاسة الكافر بجميع أنواعه، وفي الدروس
أطلق نجاسة المجسم ولم يقيده بالحقيقي وبذلك جزم. وقال الشهيد الثاني في الروض بعد
أن عد المجسمة: وهم قسمان مجسمة بالحقيقة وهم اللذين يقولون إن الله تعالى جسم كالأجسام
ولا ريب في كفر هذا القسم وإن تردد فيه بعض الأصحاب، ومجسمة بالتسمية المجردة
وهم القائلون بأنه جسم لا كالأجسام، وفي نجاسة هذا القسم تردد وكأن الدليل الدال
على نجاسة الأول دال على الثاني فإن مطلق الجسمية توجب الحدوث وإن غاير بعضها
بعضا. انتهى. وجزم في شرح الرسالة بالعموم فقال: ومن ضروب الكفار المجسمة
202

ولو بالتسمية. وما ذكره في الروض من الدليل الدال على النجاسة في المجسم الحقيقي جار
في المجسم بالمعنى الثاني فإن مطلق الجسمية توجب الحدوث، واعترضه ابنه في المعالم فقال:
وعندي في الدليل نظر لأن ظاهره كون المقتضي للنجاسة هو القول بالحدوث لا مجرد
التجسيم ومن البين أن المجسم ينفي الحدوث قطعا فكأنه يتخيل برأيه الفاسد عدم المنافاة
بين الجسمية والقدم. انتهى. وحينئذ فلا يلزم من القول بالجسمية الحدوث.
وأما المجبرة فإنه قد نقل غير واحد عن الشيخ القول بنجاستهم واعترضوه بالضعف
ولم ينقلوا له دليلا على ذلك، وقال في المنتهى في باب الأسئار: يمكن أن يكون مأخذ الشيخ
في حكمه بنجاسة سؤر المجبرة والمجسمة قوله تعالى: ".. كذلك يجعل الله الرجس على
الذين لا يؤمنون " (1) والرجس النجس، ثم قال: وتنجيس سؤر المجبرة ضعيف، وفي
المجسمة قوة. ورد هذا الاستدلال للشيخ بالآية جملة ممن تأخر عنه بالضعف، قال في
المعالم: ولعل نظر الشيخ إلى ما ذكره بعض المفسرين من دلالة قوله تعالى: " سيقول
الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين
من قبلهم.. الآية " (2) على كفر المجبرة. أقول: الظاهر أنه أشار ببعض المفسرين
إلى صاحب الكشاف حيث إنه من المعتزلة واستدل بهذه الآية على كفر المجبرة من
الأشاعرة فلعل الشيخ هنا استند إلى هذه الآية، وتوجيه الاستدلال بها على ما ذكره
في الكشاف أنها أخبار عما سوف يقوله المشركون ثم لما قالوه قال سبحانه " وقال الذين
أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ " (3) يعنون بكفرهم وتمردهم أن شركهم
وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله بمشيئة الله وإرادته ولولا مشيئة الله لم يكن شئ من
ذلك كمذهب المجبرة بعينه، قال ومعنى قوله سبحانه: " كذلك كذب الذين من قبلهم "
جاءوا بالتكذيب المطلق لأن الله تعالى ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على

(1) سورة الأنعام، الآية 125
(2) سورة الأنعام، الآية 149.
(3) سورة النحل. الآية 35.
203

غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح
من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله
عز وجل وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره.
قال في الذخيرة بعد الكلام في المقام ونقل الخلاف وذكر نحو مما ذكرناه: وإذ
قد عرفت أن العمدة في اثبات نجاسة الكفار على أصنافها هو الاجماع وهو غير جار في
محل النزاع كان القول بالنجاسة هنا عاريا عن الدليل، ولا يبعد القول بالطهارة تمسكا
بظاهر ما رواه ابن بابويه في كتابه (1) حيث قال: " سئل علي (عليه السلام) أيتوضأ من
فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال لا بل من فضل
جماعة المسلمين فإن أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة " إذ هذه الرواية معتضدة بالأصل
سالمة عن المعارض أو الظاهر أن المسلم شامل لمن أظهر الشهادتين إلا من خرج بالدليل، إذ يلزم
منه طهارة سؤرهم ثم يلزم عموم الحكم إذ الظاهر عدم القائل بالفصل. انتهى. أقول: الظاهر أن هذه الرواية هي التي أشار إليها المحقق فيما قدمنا نقله عنه صدر المسألة من أنه ادعى دلالة
ظواهر بعض الأخبار على الطهارة وقد تقدمت أيضا في كلامه الذي قدمناه في المسألة الأولى.
ثم أقول: لا يخفى أن ما طول به الأصحاب المقال في هذا المجال وتعسفوه من
الاستدلال وكثرة الأقوال مع ما فيه من الاشكال بل الاختلال كله إنما نشأ من القول
باسلام المخالفين وإلا فإنه على القول بكفرهم ونصبهم ونجاستهم كما أوضحناه فيما تقدم
لا ثمرة لهذا البحث ولا خصوصية لهذه الفرق في البحث دون غيرهم من
ذوي الخلاف، وما ذكره صاحب الذخيرة جريا على مذهبه وتصلبه ومبالغته في القول
باسلام المخالفين فهو أوهن من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت، وقد تقدم تحقيق
البحث في المسألة الأولى مستوفى بحمد الله تعالى وتقدم الكلام في خبره المذكور في
الكلام على كلام المحقق الذي هو الأصل في هذا القول المذكور. والله هو العالم.

(1) رواه في الوسائل في الباب 8 من الماء المضاف.
204

(الفصل الثامن والتاسع) الكلب والخنزير ولا خلاف في نجاستهما عينا،
قال الشيخ في الخلاف إن الكلب نجس العين نجس اللعاب نجس السؤر باجماع الفرقة
وإن الخنزير نجس بلا خلاف. وقال المحقق في المعتبر إذا لاقى الكلب والخنزير ثوبا
أو جسدا وهو رطب غسل موضع الملاقاة وجوبا وهو مذهب علمائنا أجمع. وقال العلامة
في المنتهى والتذكرة الكلب والخنزير نجسان عينا عن علمائنا. إلى غير ذلك من
كلامهم الذي على هذا المنوال، وقد وافقنا على ذلك أيضا أكثر العامة (1).
والأصل في الأخبار المستفيضة، ومنها صحيحة محمد بن مسلم (2) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل؟ قال يغسل المكان
الذي أصابه " وصحيحة الفضل أبي العباس (3) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا
أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله وإن مسه جافا فاصبب عليه الماء " وصحيحة علي بن جعفر
عن أخيه (موسى عليه السلام) (4) قال " سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر
وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال إن كان دخل في صلاته فليمض وإن لم يكن دخل في صلاته
فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا أن يكون فيه أثر فيغسله. قال وسألته عن خنزير شرب من إناء
كيف يصنع به؟ قال يغسل سبع مرات قوله في الخبر " إن كان دخل في صلاته فليمض..
إلى قوله فلينضح " المراد به ما إذا كانت الإصابة بغير رطوبة بقرينة قوله " إلا أن يكون

(1) في المغني ج 1 ص 52 " النجاسة قسمان نجاسة الكلب والخنزير والمتولد منهما
فهذا لا يختلف المذهب في أنه يجب غسلها سبعا إحداهن بالتراب " وفي بدائع الصنائع ج 1
ص 74 " اختلف المشايخ في كون الكلب نجس العين فمنهم من قال إنه نجس العين ومنهم
من قال ليس بنجس العين وهذا أقرب القولين إلى الصواب " وفي الأم للشافعي ج 1 ص 7
" جلد الكلب والخنزير لا يطهر بالدباغ لأن النجاسة فيهما وهما حيان قائمة وإنما يطهر بالدباغ
ما لم يكن نجسا حيا والكلب والخنزير لا يطهران بحال أبدا "
(2) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب النجاسات
(4) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب النجاسات.
205

فيه أثر فيغسله " وسيجئ تحقيق الكلام فيه إن شاء الله تعالى قريبا في مسألة الصلاة
في النجاسة، وفي الصحيح عن حريز عن من أخبره عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " إذا مس ثوبك كلب فإن كان يابسا فانضحه وإن كان رطبا فاغسله " وعن الحسين
ابن سعيد عن القاسم عن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن
الكلب يصيب الثوب؟ قال انضحه وإن كان رطبا فاغسله " وعن صفوان بن يحيى عن
معاوية بن شريح (3) قال: " سأل عذافر أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن
سؤر السنور إلى أن قال قلت له الكلب؟ قال لا. قلت أليس هو سبع؟ قال لا والله
إنه نجس لا والله إنه نجس " وصحيحة أبي الفضل البقباق (4) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة، إلى أن قال حتى انتهيت إلى الكلب؟ فقال رجس
نجس.. الحديث " وفي الصحيح عن حريز عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه
السلام) (5) قال: " سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال اغسل الإناء ".
وقد ورد من الأخبار هنا ما ظاهره المنافاة في الحكم المذكور، ومنها ما رواه
الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن ابن سنان عن ابن مسكان عن الصادق
(عليه السلام) (6) قال: " سألته عن الوضوء بماء ولغ الكلب فيه والسنور أو شرب
منه جمل أو دابة أو غير ذلك أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال نعم إلا أن تجد غيره فتنزه
عنه " وحمل الشيخ على ما إذا كان الماء بالغا مقدار الكر واستشهد له برواية أبي بصير
عن الصادق (عليه السلام) (7) وفيها " ولا تشرب من سؤر الكلب إلا أن يكون
حوضا كبيرا يستقى منه " أقول: ما ذكره الشيخ جيد فإن ظاهر الخبر أن هذا الماء من

(1) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الأسئار
(4) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الأسئار
(5) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب النجاسات.
(6) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الأسئار.
(7) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الأسئار
206

مياه الطرق المشاعة وقد أوضحنا في بحث الماء القليل أنها لا تنقص عن كر فضلا عن كرور
وما قدر الكر فإنه لا يأتي على شرب جمل كما ذكر في الخبر، ومنها ما رواه
في الصحيح عن ابن أبي عمير عن أبي زياد النهدي عن زرارة (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به؟ قال لا بأس " وحمله
الشيخ أيضا على قصد استعمال الماء في سقي الدواب أو شبهه لا في نحو الوضوء والشرب
وهو جيد، وعلى هذا فيكون نفي البأس متوجها إلى الماء الذي يستقى به وأنه لا بأس
باستعماله ويحمل على ما ذكره الشيخ. ويحتمل عندي والظاهر أنه الأقرب إن نفي البأس
إنما هو بالنسبة إلى البئر وأنها لا تنجس بذلك فيكون هذا الخبر من الأخبار الدالة على
طهارة البئر وعدم انفعالها بالملاقاة بوقوع جلد الخنزير فيها، ويؤيد هذا المعنى موثقة
الحسين بن زياد عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " قلت له جلد الخنزير يجعل
دلوا يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها؟ قال لا بأس " فإنها ظاهرة في
نفي البأس عن ماء البئر لأن السؤال إنما تعلق بذلك ويصير معنى الرواية لا بأس به أي
بماء البئر والشرب والوضوء منه وأنها لا تنجس بذلك، ولا بأس بالاستقاء بجلد
الخنزير على ماء البئر، وحينئذ فلا دلالة فيه على طهارة الجلد إن لم يكن أظهر في الدلالة
على النجاسة لأن السؤال عن ماء البئر وبقائه على الطهارة إنما يتجه مع النجاسة
لا مع الطهارة.

(1) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب الماء المطلق.
(2) لم نعثر على هذه الرواية بهذا السند والمتن في كتب الحديث وإنما الموجود فيها
موثقة الحسين بن زرارة في " شعر الخنزير يعمل حبلا يستقى به " وستأتي في الصفحة 210
وقد رواها في الوسائل في الباب 14 من الماء المطلق. وقد أثبت المحقق الهمداني (قده) في
مصباح الفقيه للحسين بن زرارة روايتين إحداهما في شعر الخنزير والأخرى في جلده،
ويحتمل أنه اعتمد في رواية الجلد على الحدائق مع ابدال زياد بزرارة.
207

فروع
(الأول) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل لا نعلم فيه
خلافا سوى ما ذهب إليه المرتضى في المسائل الناصرية نجاسة الكلب والخنزير بجميع
أجزائهما ما تحله الحياة منها وما لا تحله، وفرق المرتضى في الكتاب المذكور بينهما فحكم
بطهارة ما لا تحله الحياة، قال في الكتاب المشار إليه بعد قول جده الناصر: شعر الميتة
طاهر وكذا شعر الكلب والخنزير ما صورته: هذا صحيح وهو مذهب أصحابنا وهو
مذهب أبي حنيفة وأصحابه وقال الشافعي إن ذلك كله نجس (1) دليلنا على صحة ما ذهبنا
إليه بعد الاجماع المتكرر ذكره قوله تعالى: " ومن أصوافها.. " (2) إلى أن قال: وأيضا فإن
الشعر لا حياة فيه ألا ترى أن الحيوان لا يألم بأخذه منه، إلى أن قال: وإذا ثبت أن
الشعر والصوف والقرن لا حياة فيه لم يحله الموت، وليس لهم أن يتعلقوا بقوله تعالى
" حرمت عليكم الميتة " فإن اسم الميتة يتناول الجملة بسائر أجزائها وذلك أن الميتة اسم
لما يحله الموت والشعر لا يحله الموت كما لا تحله الحياة ويخرج عن الظاهر، وليس
لأحد أن يقول إن الشعر والصوف من جملة الخنزير والكلب وهما نجسان، وذلك أنه
لا يكون من جملة الحي إلا ما تحله الحياة وما لا تحله الحياة ليس من جملته وإن كان
متصلا به. انتهى ملخصا.
وظاهره كما ترى دعوى الاجماع على هذه الدعوى مع أنه لم يقل بها أحد

(1) في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج 1 ص 232 " المختار جلد الكلب نجس
وشعره طاهر " وفي المغني ج 1 ص 57 " لا فرق بين النجاسة من ولوغ الكلب أو يده أو
رجله أو شعره أو غير ذلك من أجزائه، وحكم الخنزير حكم الكلب لأن النص وقع في الكلب
والخنزير شر منه " وفي ص 82 " اختلفت الرواية عن أحمد في الخزر بشعر الخنزير فروى
عنه وعن ابن سيرين والحكم وحماد وإسحاق والشافعي كراهته لأنه استعمال العين النجسة
ولا يسلم من التنجيس بها "
(2) سورة النحل، الآية 80.
208

من الإمامية سواه. وأما ما تمسك به من الدليل فهو أوهن من بين العنكبوت وأنه
لأوهن البيوت. وذلك فإن ما ذكره مخالف لما هو المعلوم لغة وعرفا وشرعا من صدق
الاسم على جميع ما تركب منه ذلك الحيوان وكان من جملته، أما العرف واللغة فظاهر
وأما الشرع فلما ذكروه فيه في باب الديات من الدية في الجناية على الشعر كالجناية على
سائر أجزاء البدن من رأسه وعنقه وسائر أعضائه فلو لم يكن الشعر جزء منه وداخلا في
جملته لما ترتب على الجناية عليه دية، على أن الأخبار التي قدمناها في تعدي النجاسة مع
الرطوبة شاملة بعمومها لما كان الملاقاة لما تحله ولما لا تحله الحياة بل الغالب في الملاقاة
أن الإصابة إنما تحصل بالشعر كما هو ظاهر.
ونقل في المدارك أن المرتضى استدل هنا بدليل آخر زيادة على ما ذكره وهو أن
ما لا تحله الحياة من نجس العين كالمأخوذة من الميتة، ثم أجاب عنه بأنه قياس مع الفارق
فإن المقتضي للتنجيس في الميتة صفة الموت وهي غير حاصلة فيما لا تحله الحياة بخلاف نجس
العين فإن نجاسته ذاتية.
وأنت خبير بأن كلام المرتضى (رضي الله عنه) في هذا المقام إنما يدور على
الدليل الأول وهو أن ما لا تحله الحياة ليس من جملته وإن كان متصلا به حيا أو ميتا،
وأما كلامه المتقدم فإنما هو في شعر الميتة كما هو أحد المسألتين المذكورتين في كلام جده
الناصر، والظاهر أن هذا الدليل متكلف له كما ينبئ عنه ظاهر كلامهم حيث إنهم
لم يرجعوا إلى الكتاب المذكور فعبروا عنه بأنه نقل عنه القول بكذا ونقل عنه
الاستدلال بكذا.
قال في المعالم: وأما السيد فيعزى إليه القول بطهارة ما لا تحله الحياة، إلى أن
قال وحجة المرتضى على ما ذكره جماعة وذكر مثل ما ذكر في المدارك من الدليلين المتقدمين
ورد الأول بأن المرجع في صدق الاسم إلى اللغة والعرف وهما متفقان على عدم اعتبار
التفرقة المذكورة، والتشبيه بعظم الميتة وشعرها لا وجه له كما لا يخفى. انتهى.
209

أقول: لا يخفى ما في تخصيص الرجوع في صدق الاسم باللغة والعرف دون
الشرع مع دلالة ما قلناه عليه من الغفلة فإنه لولا صدق الاسم عليه ودخوله في مسمى
الانسان لما كان في ايجاب الدية في الجناية على الشعر معنى مع أنه لا خلاف بينهم فيه
وورود الأخبار به. ويؤيده ما رواه في الكافي عن السياري في حكاية ابن أبي ليلى مع
محمد بن مسلم في جارية ليس على عانتها شعر (1) حيث " سئل ابن أبي ليلى عنها فلم يكن
عنده فيه شئ فسأل عنها محمد بن مسلم فقال إي شئ تروون عن أبي جعفر (عليه السلام)
في المرأة لا يكون على ركبها شعر أيكون ذلك عيبا؟ فقال له محمد بن مسلم أما هذا نصا
فلا أعرفه ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى حسبك
ثم رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب " والتقريب ظاهر.
وبالجملة فما ذهب إليه المرتضى ضعيف لا يعول عليه وما احتج به لا يلتفت إليه،
نعم روى الشيخ في الصحيح عن زرارة عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته
عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال
لا بأس " وفي الموثق عن الحسين بن زرارة عنه (عليه السلام) (3) قال: " قلت
فشعر الخنزير يعمل حبلا يستقى به من البئر التي يشرب منها ويتوضأ منها؟ قال لا بأس
به " وكان الأولى بالمرتضى التمسك بهذين الخبرين الموهمين لطهارة شعر الخنزير ثم
يتمسك بعدم القائل بالفرق بين الكلب والخنزير بناء على قواعدهم، ووجه الايهام فيهما
من حيث اطلاق نفي البأس عن استعمال الحبل في الاستقاء مع بعد الانفكاك عن الملاقاة
بالرطوبة لليد أو الماء فإنه لذلك يكون مشعرا بطهارة شعر الخنزير.
والتحقيق عندي في ذلك أن نفي البأس إنما توجه هنا إلى ماء البئر وعدم نجاستها

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أحكام العيوب
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من الماء المطلق.
(3) رواه في الوسائل في الباب 14 من الماء المطلق.
210

بالحبل مع وقوعه فيها كما هو الغالب بقرينة ذكر الوضوء منها في الخبر الأول وإضافة
الشرب في الخبر الثاني فهما من أدلة القول بعدم نجاستها بالملاقاة كما هو الأظهر في المسألة.
بقي الكلام في ملاقاة اليد بالرطوبة للحبل مثلا أو الثياب أو نحو ذلك والخبران مطلقان
في ذلك وحكم ذلك معلوم من غير هذين الخبرين مما دل على نجاسة شعر الخنزير كما
سنتلوه عليك إن شاء الله تعالى.
وبالجملة فمحل الاشكال في الخبرين إنما هو من حيث ذكر نفي البأس فيهما وتوهم
توجهه إلى جواز ملاقاة الحبل بالرطوبة ونحو ذلك وعلى ما ذكرناه من توجه نفي البأس
إلى ماء البئر يزول الاشكال ويبطل الاستناد إليهما في ذلك الاستدلال، نعم يحصل
الاشكال فيهما عند من يقول بنجاسة البئر بالملاقاة، فالشيخ بناء على ذلك أجاب عن الخبر
الأول بعدم وصول الحبل إلى الماء، والعلامة في المنتهى تأول الخبر الثاني بعد حمله نفي البأس
على ملاقاة الحبل بالحمل على ملاقاة الحبل باليبوسة وإن كان خلاف الغالب فيحمل على
النادر جمعا بين الأدلة. ولا يخفى ما في الكلامين من البعد وما ذكرناه هو الأقرب كما
لا يخفى على المتأمل.
ومن الأخبار الدالة على ما أشرنا إليه من نجاسة شعر الخنزير ما رواه الشيخ في
الصحيح عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن سليمان الإسكاف (1)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شعر الخنزير يخرز به؟ قال لا بأس به ولكن
يغسل يده إذا أراد أن يصلي " وفي الصحيح عن الحسين بن سعيد عن أيوب بن نوح
عن عبد الله بن المغيرة عن برد الإسكاف (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) جعلت
فداك إنا نعمل بشعر الخنزير فربما نسي الرجل فصلى وفي يده شئ منه؟ فقال لا ينبغي
له أن يصلي وفي يده شئ منه، وقال خذوه فاغسلوه فما كان له دسم فلا تعملوا به وما لم

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من النجاسات و 65 من الأطعمة المحرمة
(2) رواه في الوسائل في الباب 57 من ما يكتسب به و 65 من الأطعمة المحرمة.
211

يكن له دسم فاعملوا به واغسلوا أيديكم منه " وما رواه عن زرارة عن الباقر (عليه
السلام) (1) قال: " قلت له إن رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير؟ قال
إذا فرغ فليغسل يده " ورواية برد الإسكاف (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن شعر الخنزير يعمل به؟ قال خذ منه فاغله بالماء حتى يذهب ثلث الماء ويبقى
ثلثاه ثم اجعله في فخارة جديدة ليلة باردة فإن جمد فلا تعمل به وإن لم يجمد ليس عليه
دسم فاعمل به واغسل يدك إذا مسسته عند كل صلاة. قلت ووضوء قال لا أغسل اليد
كما تمس الكلب " وحينئذ فيجب تقييد اطلاق الروايتين المتقدمتين بناء على التقريب
الذي حققناه في معناهما بهذه الأخبار. والله العالم.
(الثاني) قال الشهيد الثاني في الروض بعد ذكر نجاسة الكلب والخنزير
وأجزائهما وإن لم تحلها الحياة حتى المتولد بينهما وإن باينهما في الاسم: أما المتولد من أحدهما
وحيوان طاهر فإنه يتبع في الحكم الاسم سواء كان أحدهما أم لغيرهما وإن لم يصدق
عليه اسم أحدهما ولا غيرها مما هو معلوم الحكم فالأقوى فيه الطهارة والتحريم. انتهى.
أقول: أما ما ذكره من نجاسة المتولد منهما فقد صرح في الذكرى بنحوه فقال:
المتولد من الكلب والخنزير نجس في الأقوى لنجاسة أصليه. وظاهره التبعية لهما في
النجاسة وإن باينهما في الاسم لأنه مقتضى التعليل المذكور. واستشكل العلامة في الحكم
في صورة المباينة في المنتهى والنهاية، قال في النهاية المتولد منهما يعني الكلب والخنزير
نجس لأن بعضهما وإن لم يقع عليه اسم أحدهما على اشكال منشأه الأصالة السالمة عن
معارضة النص، وتوقف في التذكرة أيضا فقال الحيوان المتولد منهما يحتمل نجاسته مطلقا
واعتبار اسم أحدهما. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه ولا يخفى قوة وجه الاشكال
فالتوقف في محله غير أن الخطب في مثله سهل إذ البحث فيه لمجرد الفرض. انتهى. وجزم
في المدارك بالطهارة مع المباينة عملا بأصالة الطهارة، قال بعد أن نقل عن الشهيدين تعليل

(1) المروية في الوسائل في الباب 57 من أبواب ما يكتسب به.
(2) المروية في الوسائل في الباب 57 من أبواب ما يكتسب به.
212

النجاسة ولو مع المباينة بنجاسة أصليه ما صورته: وهو مشكل إذ النجاسة معلقة على
الاسم فمتى انتفى تعين الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل من طهارة الأشياء، والأصح عدم
نجاسته إذ لا يصدق عليه اسم نجس العين. انتهى. وهو جيد لو ثبت الأصل الذي
استند إليه إلا أن فيه ما عرفت في المقدمة الحادية عشرة من مقدمات الكتاب، والحكم
لعدم النص الذي هو المعتمد عندنا في الأحكام الشرعية محل اشكال وتوقف،
نعم لو كان المفروض في صورة المباينة كونه مما يصدق عليه اسم أحد الحيوانات
الطاهرة فالظاهر أنه لا اشكال في الحكم بالطهارة من حيث تبعيتها للاسم إنما الاشكال
فيما لو لم يكن كذلك.
وأما ما ذكره من المتولد بين أحدهما وطاهر وأنه يتبع الاسم فذكر في المعالم أنه قاله كثير من الأصحاب ولم ينقلوا فيه خلافا وقال ربما لاح من عبارتي المنتهى والنهاية
وجود الخلاف حيث قال في أحدهما: الأقرب فيه عندي اعتبار الاسم وفي الآخر
الوجه عندي اعتبار الاسم. أقول: الظاهر أنه لا اشكال في الحكم بتبعية الاسم كما
هو المذكور لما علم من الشرع من ترتب الأحكام على ما يصدق عليه الاسم، إنما الاشكال
فيما لو لم يصدق عليه اسم بالكلية وقد حكم فيه بالطهارة والتحريم، وقال في الروضة
في الصورة المذكورة: فإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته وإن حرم لحمه للأصل فيهما. انتهى
أقول: أما الأصل في الأول فظاهر وهو أصالة الطهارة عندهم في جميع الأشياء حتى
يقوم دليل النجاسة، وفيه ما أشرنا إليه آنفا. وأما الأصل في الثاني فلا أعرف له وجها
إلا أن بعض المحشين على الروضة ذكر أن مراده بأصالة التحريم هو ما علله في تمهيد
القواعد بأن المحرم غير منحصر لكثرته على وجه لا ينضبط. وفيه ما لا يخفى فإن بناء
الأحكام الشرعية على مثل هذا الأصل الغير الأصيل مجازفة محضة. والله العالم.
(الثالث) المشهور بين الأصحاب طهارة كلب الماء، وعن ابن إدريس
المخالفة في ذلك والقول بنجاسته لصدق الاسم، وهو ضعيف لما تقرر في غير مقام وبه
213

صرح جملة من علمائنا الأعلام من أن الاطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد الشائعة المتكثرة
دون الأفراد النادرة، ولا ريب ولا اشكال بل من المتيقن الذي لا يداخله الاحتمال
أن الأخبار المتقدمة كلها إنما خرجت في الكلب والخنزير البريين دون البحريين
فاحتمال إرادة هذين الفردين من الأخبار المذكورة مما يقطع بعدمه، هذا مع تسليم كونه
حقيقة في النوعين وإلا فإن قلنا إنه حقيقة في البري لا غير فاطلاقه على الآخر
مجاز كما هو صريح عبارة العلامة في النهاية والتحرير حيث قال: إن لفظ الكلب حقيقة
في المعهود مجاز في غيره. وهو ظاهره في التذكرة أيضا حيث قال بعد أن نقل عن ابن
إدريس المخالفة في الحكم المذكور: ولا يجوز حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز بغير قرينة
ووجه الدفع حينئذ ما ذكره في التذكرة من منع كونه حقيقة في النوعين وإرادة
الحقيقة والمجاز تتوقف على القرينة، وربما ظهر من كلام المنتهى أنه مشترك بين النوعين
بالاشتراك اللفظي والأكثر على الأول. وكيف كان فخلاف ابن إدريس هنا ضعيف
لا يلتفت إليه.
(الفصل العاشر) في جملة من المواضع قد وقع الخلاف فيها بين الأصحاب
(رضوان الله عليهم) زيادة على ما تقدم في تلك الأبواب:
فمنها عرق الجنب من الحرام، قال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه في رسالته:
إن عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه وإن كانت من
حرام فحرام الصلاة فيه ونحوه ذكر ابنه في الفقيه، وقال المفيد في المقنعة: لا يجب غسل
الثوب من عرق الجنب إلا أن تكون الجنابة من حرام فيغسل ما أصابه عرق صاحبها من جسد
وثوب. وقال ابن الجنيد في مختصره: وعرق الحائض لا ينجس الثوب وكذلك عرق
الجنب من حلال وإن كان أجنب من حرام غسل الثوب منه. وقال الشيخ في الخلاف: عرق
الجنب إذا كانت الجنابة من حرام حرام الصلاة فيه. وفي النهاية لا بأس بعرق الحائض
والجنب في الثوب واجتنابه أفضل إلا أن تكون الجنابة من حرام فإنه يجب غسل الثوب
214

إذا عرق فيه. وعزى العلامة في المختلف إلى ابن البراج موافقة الجماعة. وقال ابن زهرة
إن أصحابنا الحقوا بالنجاسات عرق الجنب إذا أجنب من الحرام. ونحوه سلار حيث
نسب ايجاب إزالة هذا العرق إلى أصحابنا إلا أنه اختار كونه على جهة الندب، ونقل عن
ابن إدريس القول بالطهارة وهو اختيار الفاضلين وجمهور المتأخرين، ومما ذكرنا يعلم
أن المشهور بين المتقدمين هو القول بالنجاسة.
واستند المتأخرون فيما حكموا به من القول بالطهارة إلى الأصل والروايات،
ومنها ما رواه الشيخ في الحسن عن أبي أسامة (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الجنب يعرق في ثوبه أو يغتسل فيعانق امرأته ويضاجعها وهي حائض
أو جنب فيصيب جسده من عرقها؟ قال هذا كله ليس بشئ " قبل وعدم الاستفصال
في مثله يشعر بالعموم لو لم يكن في اللفظ ما يدل عليه. وعن حمزة بن حمران عن الصادق
(عليه السلام) (2) قال: " لا يجنب الثوب الرجل ولا يجنب الرجل الثوب " وعن
أبي بصير (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القميص يعرق فيه الرجل
وهو جنب حتى يبتل القميص؟ فقال لا بأس وإن أحب أن يرشه بالماء فليفعل " ونحو
ذلك من الروايات.
واحتج الشيخ في الخلاف باجماع الفرقة وطريقة الاحتياط والأخبار ولم يتعرض
لنقلها بل أحالها على كتابي الحديث، قال في المعالم بعد الكلام في المسألة ونقل
الخلاف فيها واختياره الطهارة والاحتجاج على ذلك بجملة من الأخبار التي قدمناها
ما هذا لفظه: وجملة من وقفنا عليه في الكتابين من الروايات التي تخيل فيها
الدلالة على هذا المعنى حديثان: أحدهما رواه عن محمد الحلبي في الصحيح (4)
قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟
قال يصلي فيه وإذا وجد الماء غسله " قال في التهذيب لا يجوز أن يكون المراد بهذا

(1) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
215

الخبر إلا من عرق في الثوب من جنابة إذا كانت من حرام لأنا قد بينا أن نفس الجنابة
لا تتعدى إلى الثوب وذكرنا أيضا أن عرق الجنب لا ينجس الثوب فلم يبق معنى يحمل
عليه الخبر إلا عرق الجنابة من حرام فحملناه عليه، ثم قال على أنه يحتمل أن يكون المعنى
فيه أن يكون أصاب الثوب نجاسة فحينئذ يصلي فيه ويعيد. وجعل هذا الاحتمال في
الإستبصار أشبه. والحديث الثاني رواه في الصحيح عن عاصم بن حميد عن أبي بصير (1)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يجنب فيه الرجل ويعرق فيه؟ قال
أما أنا فلا أحب أن أنام فيه وإذا كان الشتاء فلا بأس ما لم يعرق فيه " قال الشيخ
الوجه في هذا الخبر ضرب من الكراهية وهو صريح فيه، ويمكن أن يكون محمولا على أنه إذا كانت الجنابة من حرام. ثم قال في المعالم: ولا يخفى عليك ما في الاستناد إلى
هذين الخبرين في اثبات الحكم من التعسف، فإن الأول ظاهر في كون المقتضي لغسل
الثوب هو إصابة المني له وقد رأيت اعتراف الشيخ في الإستبصار بأنه أشبه. وظاهر
الخبر الثاني أن المقتضي لثبوت البأس مع العرق في الثوب هو احتمال سريان النجاسة
الحاصلة بالمني، والعجب من الشيخ (قدس سره) كيف احتمل في هذا الحديث إرادة
الجنابة من الحرام مع قول الإمام (عليه السلام) فيه: أما أنا فلا أحب أن أنام فيه. انتهى.
وقال في المدارك بعد نقل الخلاف في المسألة واختياره القول بالطهارة
والاستدلال عليه برواية أبي أسامة المتقدمة ما صورته: احتج الشيخ في التهذيب على
النجاسة بما رواه في الصحيح عن محمد الحلبي ثم نقل الصحيحة المتقدمة ثم قال: قال الشيخ
ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الخبر ثم ذكر عبارة الشيخ المتقدمة إلى آخرها، ثم قال
ولا يخفى ما في هذا الحمل البعيد إذ لا اشعار في الخبر بالعرق بوجه.. إلى آخره. أقول:
لا يخفى أن مجرد ايراد الشيخ الخبر المذكور وحمله على ذلك لا يسمى استدلالا حتى أنه
يطعن فيه بالبعد ثم ينفي الدلالة، بل الوجه في ذلك أن هذا الحكم لما كان ثابتا عند

(1) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
216

الشيخ بالأدلة التي وصلت إليه حمل هذا الخبر عليه وإن كان بعيدا فبعد حمل الخبر
المذكور على ذلك لا يوجب انتفاء الحكم غاية الأمر أن الشيخ لم يورد دليلا من الأخبار
ولا غيره ممن قال بذلك في هذه المسألة.
والتحقيق في المقام بتوفيق الملك العلام أن يقال إنه لما كانت أخبار هذه المسألة
الصريحة الدلالة ليست في شئ من الكتب المشهورة بين المتأخرين عدلوا فيها عما أفتى
به المتقدمون من القول بالنجاسة حيث لم تصل إليهم الأدلة في ذلك، وما تكلفوه من
الروايات في الاستدلال للقول بالنجاسة كما قدمنا نقله عن المعالم ليس هو الدليل ولكن
في روايات الكتب الأربعة ما يشير إلى الحكم المذكور أيضا وكان هو الأولى بالنقل
في الاستدلال للقول المذكور مثل ما رواه في الكافي عن علي بن الحكم عن رجل عن
أبي الحسن (عليه السلام) (1) قال: " لا تغتسل من غسالة ماء الحمام فإنه يغتسل فيه من
الزنا.. الحديث " وقد قدم قريبا في نجاسة المخالفين، وما رواه فيه أيضا عن محمد بن علي
ابن جعفر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (2) في حديث قال " قلت لأبي الحسن
(عليه السلام) أن أهل المدينة يقولون إن فيه شفاء من العين؟ فقال. كذبوا يغتسل فيه الجنب
من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما ثم يكون فيه شفاء من العين.. الحديث "
وأما الأخبار الصريحة في الحكم بالنجاسة فمنها قول مولانا الرضا (عليه السلام)
في الفقه الرضوي (3) " إن عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من الحلال
فتجوز الصلاة فيه وإن كانت حراما فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل " ومن هذه العبارة
أخذ علي بن الحسين بن بابويه عبارته المتقدمة وكذا ابنه في الفقيه كما عرفت في غير
موضع مما تقدم لكنه هنا غير تغييرا ما.
ومنها ما نقله في الذكرى قال روى محمد بن همام باسناده إلى إدريس بن يزداد

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من الماء المضاف
(2) رواه في الوسائل في الباب 11 من الماء المضاف
(3) ص 4.
217

الكفرثوثي (1) " أنه كان يقول بالوقف فدخل سر من رأى في عهد أبي الحسن (عليه
السلام) فأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أيصلي فيه؟ فبينما هو قائم في
طاق باب الانتظار إذ حركه أبو الحسن (عليه السلام) بمقرعة وقال مبتدئا إن كان من حلال
فصل فيه وإن كان من حرام فلا تصل فيه " أقول: إدريس بن يزداد المذكور غير مذكور
في كتب الرجال والموجود فيها إدريس بن زياد الكفرثوثي ثقة ولم ينقل فيه القول
بالوقف واحتمال أنه هو قريب. وأما ما ذكره في المعالم بعد نقل الخبر عن الذكرى
من أنه لم يقف عليه بعد التتبع بقدر الوسع في كتب الحديث الموجودة يومئذ عنده ثم
قال فحال اسناده غير واضح ولا يبعد ضعفه وإلا لذكره بكماله أو نبه على صحته. انتهى
أقول: إن الأصول السابقة كانت موجودة عند مثل شيخنا الشهيد والمحقق والعلامة وابن
إدريس وفيها أخبار عديدة قد خلت منها هذه الكتب المشهورة كما لا يخفى على من
راجع ما استطرفه ابن إدريس من الأصول التي كانت عنده، فمن الظاهر أن شيخنا
الشهيد إنما أخذ الرواية من تلك الأصول. وأما طعنه وأمثاله بضعف السند فهو باب
آخر قد تقدم الكلام فيه في مقدمات الكتاب.
ومنها ما نقله شيخنا المجلسي في البحار (2) من كتاب المناقب لابن شهرآشوب
نقلا من كتاب المعتمد في الأصول قال: " قال علي بن مهزيار وردت العسكر وأنا شاك في
الإمامة فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم من الربيع إلا أنه صائف والناس
عليهم ثياب الصيف وعلى أبي الحسن (عليه السلام) لباد وعلى فرسه تجفاف لبود وقد
عقد ذنب فرسه والناس يتعجبون منه ويقولون ألا ترون إلى هذا المدني وما قد فعل
بنفسه؟ فقلت في نفسي لو كان هذا إماما ما فعل هذا، فلما خرج الناس إلى الصحراء
لم يلبثوا إلا أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلا ابتل حتى غرق بالمطر

(1) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
(2) ج 12 ص 139.
218

وعاد (عليه السلام) وهو سالم من جميعه، فقلت في نفسي يوشك أن يكون هو الإمام
ثم قلت أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب فقلت في نفسي إن كشف وجهه
فهو الإمام فلما قرب مني كشف وجهه ثم قال: إن كان عرق الجنب في الثوب وجنابته
من حرام لا يجوز الصلاة فيه وإن كانت جنابته من حلال فلا بأس فلم يبق في نفسي
بعد ذلك شبهة " وقال شيخنا المشار إليه في الكتاب المذكور أيضا وجدت في كتاب
عتيق من مؤلفات قدماء أصحابنا رواه عن أبي الفتح غازي بن محمد الطرايفي عن علي بن
عبد الله الميموني عن محمد بن علي بن معمر عن علي بن مهزيار بن موسى الأهوازي (1) عنه
(عليه السلام) مثله وقال: " إن كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال وإن كان
من حرام فالصلاة في الثوب حرام ".
أقول: وإلى هذه الأخبار استند متقدموا الأصحاب فيما ذهبوا إليه من القول
بالنجاسة ولا سيما كتاب الفقه الرضوي الذي قد عرفت في غير موضع أن كثيرا من
الأحكام التي اشتهرت بين المتقدمين ولم يصل دليلها إلى المتأخرين حتى اعترضوهم بعدم
الدليل أو تكلفوا لهم دليلا قد وجدت أدلتها في هذا الكتاب وأفتى بها ابن بابويه في
رسالته، ويعضد هذه الأخبار ما عرفت أيضا من أخبار الحمام المتقدمة، وبذلك يظهر
لك قوة ما ذهبوا إليه، وحينئذ فما دل بعمومه على ما ادعوه من الطهارة مخصص بهذا الأخبار
فروع
(الأول) قال العلامة في المنتهى تفريعا على القول بالنجاسة. ولا فرق بين أن يكون الجنب رجلا أو امرأة ولا بين أن تكون الجنابة من زنا أو لواط أو وطئ بهيمة أو ميتة
وإن كانت زوجة وسواء كان من الجماع إنزال أم لا، والاستمناء باليد كالزنا، أما لو وطئ
في الحيض أو الصوم فالأقرب طهارة العرق فيه. وفي المظاهرة اشكال، ثم قال ولو وطئ
الصغير أجنبية وألحقنا به حكم الجنابة بالوطئ ففي نجاسة عرقه اشكال ينشأ من عدم التحريم في

(1) في البحار ج 12 ص 143 (علي بن يقطين بن موسى الأهوازي).
219

حقه. انتهى. ولا يخفى أن ما قربه في الوطئ في الحيض والصوم لا يخلو من بعد بعد
شمول الأخبار المتقدمة لذلك كما لا يخفى.
(الثاني) نقل في المعالم عن ابن الجنيد أنه قال في مختصره بعد أن حكم بوجوب
غسل الثوب من عرق الجنب من حرام: وكذلك عندي الاحتياط إن كان جنبا من حلم ثم
عرق في ثوبه. ثم قال في المعالم بعد نقله: ولا نعرف لهذا الكلام وجها ولا رأينا له فيه
رفيقا. انتهى. وهو جيد.
(الثالث) قال في المعتبر: الحائض والنفساء والمستحاضة والجنب من الحلال
إذا خلا الثوب من عين النجاسة فلا بأس بعرقهم اجماعا. ويدل على ما ذكره مضافا إلى
ما ذكره من الاجماع ما تقدم في صدر المسألة من الأخبار الواردة في الجنب، ومنها
ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الحائض تعرق في ثيابها أتصلي فيها قبل أن تغسلها؟ قال نعم لا بأس " وما رواه
في التهذيب عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) (2) قال: " سألت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الجنب والحائض يعرقان في الثوب حتى يلصق
عليهما؟ فقال إن الحيض والجنابة حيث جعلهما الله عز وجل ليس في العرق فلا يغسلان
ثوبهما " وعن عمار الساباطي في الموثق (3) قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام)
عن الحائض تعرق في ثوب تلبسه " فقال ليس عليها شئ إلا أن يصيب شئ من مائها
أو غير ذلك من القذر فتغسل ذلك الموضع الذي أصابه بعينه " وعن سورة بن
كليب (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحائض أتغسل ثيابها
التي تلبسها في طمثها؟ قال تغسل ما أصاب ثيابها من الدم وتدع ما سوى ذلك. قلت له
وقد عرقت فيها؟ قال إن العرق ليس من الحيض " وفي الموثق عن علي بن يقطين عن

(1) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب النجاسات
(4) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب النجاسات
220

أبي الحسن (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الحائض تعرق في ثوبها؟ قال إن كان
ثوبا تلزمه فلا أحب أن تصلي فيه حتى تغسله " وأما ما رواه الشيخ في الموثق عن
إسحاق بن عمار (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) المرأة الحائض تعرق
في ثوبها؟ فقال تغسله. قلت فإن كان دون الدرع إزار وإنما يصيب العرق ما دون الإزار؟
قال لا تغسله " فالظاهر حمله على الاستحباب من حيث احتمال مباشرة موضع الدم بالعرق
كما يدل عليه عدم الغسل مع وضع الإزار تحت الثوب وإن أصابه العرق. والله العالم.
ومنها عرق الإبل الجلالة وقد اختلف فيه كلام الأصحاب، فقال المفيد في
المقنعة: يغسل الثوب من عرق الإبل الجلالة إذا أصابه كما يغسل من سائر النجاسات.
وذكر الشيخ في النهاية نحوه فقال: إذا أصاب الثوب عرق الإبل الجلالة وجب عليه
إزالته. وحكى العلامة في المختلف عن ابن البراج أنه وافقهما في ذلك، وقال ابن زهرة
ألحق أصحابنا بالنجاسات عرق الإبل الجلالة. وقال سلار: عرق جلال الإبل أوجب
أصحابنا إزالته وهو عندي ندب. وحكم العلامة في المختلف بطهارته وادعى أنه المشهور
ونقله عن سلار وابن إدريس، ونقله في المدارك عن سائر المتأخرين.
أقول: ويدل على ما ذهب إليه الشيخان وأتباعهما صحيحة هشام بن سالم عن
الصادق (عليه السلام) (3) قال: " لا تأكلوا اللحوم الجلالة وإن أصابك من عرقها فاغسله "
وعن حفص بن البختري في الحسن على المشهور والصحيح عندي عن الصادق (عليه
السلام) (4) قال: " لا تشرب من البان الإبل الجلالة وإن أصابك شئ من
عرقها فاغسله ".
احتج العلامة في المختلف لما ذهب إليه من الطهارة بأن الأصل الطهارة وأن الإبل
الجلالة ليست نجسة فلا ينجس عرقها كغيرها من الحيوانات. الطاهرة وكالجلال من

(1) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب النجاسات.
221

غيرها. وقال المحقق في المعتبر قال الشيخان عرق الإبل الجلالة نجس يغسل منه الثوب
وقال سلار غسله ندب وهو مذهب من خالفنا، وربما يحتج الشيخ برواية هشام بن سالم
ثم ساق الرواية، ثم قال واستناد سلار إلى الأصل وأنه يجري مجرى عرق الحيوانات
الطاهرة وإن لم يؤكل لحمها كعرق السنور والنمر والفهد، وتحمل الرواية على الاستحباب. انتهى
وبذلك أجاب في المختلف عن الخبرين بالحمل على الاستحباب.
وأنت خبير بما في كلاميهما من النظر الظاهر والمجازفة التي لا تخفى على الخبير
الماهر (أما أولا) فلأن الأصل لا يصلح للتمسك إلا مع عدم النص الموجب للخروج
عنه وهو هنا موجود. و (أما ثانيا) فلأن الحمل على الاستحباب إنما يصار إليه بمقتضى
قواعدهم المتفق عليها مع وجود المعارض لتصريحهم في الأصول بأن الأمر حقيقة في
الوجوب. و (أما ثالثا) فلأن البناء على التشبيه بهذه الأشياء المشار إليها في كلاميهما
لا يصلح لأن يكون مستندا شرعيا تبني عليه الأحكام الشرعية، ومع الاغماض عن
ذلك فإنه لا معنى مع وجود النص الصحيح الصريح المقتضي للفرق والتخصيص بهذا
الفرد. والظاهر أنه لما ذكرنا رجع في المنتهى إلى قول الشيخين فقال بعد حكمه بالطهارة
في أول المسألة واحتجاجه بالأصل وجوابه عن حجة الشيخ بما يقرب من كلامه في المختلف
ما صورته: الحديثان قويان ولأجل ذلك جزم الشيخ في المبسوط بوجوب إزالة عرقها
وعليه أعمل. انتهى.
وظاهر السيد في المدارك التوقف هنا حيث نقل الخلاف في المسألة ونقل الخبرين
المذكورين دليلا للقول بالنجاسة ونقل الجواب من طرف القائلين بالطهارة عنهما بالحمل
على الاستحباب، ثم قال: وهو مشكل مع عدم المعارض. ولم يجزم بشئ في البين وهو
لا يخلو من غرابة عند من له أنس بطريقته في الكتاب من التمسك بالأخبار الصحيحة
والأخذ بها وإن خرج عما عليه الأصحاب.
والعجب أيضا من المحدث الحر في الوسائل حيث وافق المشهور وعنون الباب
222

بالكراهة حملا للخبرين المذكورين على ذلك، وهو من جملة سقطاته لما عرفت من أن
الخبرين مع صحتهما لا معارض لهما يوجب ارتكاب التأويل فيهما مع قول جملة من فضلاء
الأصحاب بمضمونهما. والله العالم.
ومنها المسوخ، والمشهور بين الأصحاب القول بطهارتها ونقل عن الشيخ في الخلاف
القول بنجاستها وعزى العلامة في المختلف موافقته إلى سلار وابن حمزة، ونقل في المعالم
عن ابن الجنيد أنه استثناها مما حكم بطهارة سؤره مع حكمه بطهارة سؤر السباع وقرنها في
الاستثناء بالكلب والخنزير، وظاهر ذلك القول بنجاستها أو نجاسة لعابها. والظاهر الأول
فإن الحكم بنجاسة اللعاب مع طهارة العين بعيد وإن نقل أيضا عن بعض الأصحاب، وعدها
في قرن الكلب والخنزير مؤيد لما ذكرنا.
ويدل على القول المشهور وهو المعتمد مضافا إلى أصالة الطهارة ما رواه الشيخ في
الصحيح عن الفضل أبي العباس (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك
شيئا إلا سألته عنه فقال لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب فقال رجس نجس.. الحديث "
وفي المختلف وغيره أن الشيخ احتج على النجاسة بتحريم بيعها ولا مانع من البيع
سوى النجاسة. وربما استدل على تحريم بيعها برواية مسمع عن الصادق (عليه السلام) (2)
" أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن القرد أن يشترى أو يباع " وأجيب
بالمنع من تحريم البيع (أولا) فإن الرواية الدالة على ذلك مع كونها ضعيفة السند مختصة
بالقرد خاصة. و (ثانيا) بالمنع من كون المقتضي لحرمة البيع هو النجاسة فلا بد من
إقامة الدليل على انحصار المقتضي فيها.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الروايات قد اختلفت في أنواع المسوخ زيادة ونقصا ووجودا وفناء

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب ما يكتسب به.
223

ومنها ما رواه الشيخ عن الحلبي في الحسن عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " إن الضب والفأرة والقردة والخنازير مسوخ ".
وما رواه في الصحيح عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن الأشعري عن أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) (2) قال: " الفيل مسخ كان ملكا زناء والذئب كان أعرابيا
ديوثا والأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها، والوطواط
مسخ كان يسرق تمور الناس، والقردة والخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في
السبت، والجريث والضب فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حين نزلت المائدة على
عيسى بن مريم فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البر، والفأرة هي الفويسقة،
والعقرب كان نماما، والدب والوزغ والزنبور كان لحاما يسرق في الميزان ".
وما رواه في الكافي عن الحسين بن خالد (3) قال: " قلت لأبي الحسن (عليه
السلام) أيحل أكل لحم الفيل؟ فقال لا فقلت لم؟ قال لأنه مثلة وقد حرم الله تعالى
لحوم المسوخ ولحم ما مثل به في صورها ".
وعن أبي سهل القرشي (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لحم
الكلب؟ فقال هو مسخ. قلت هو حرام؟ قال هو نجس، أعيدها ثلاث مرات كل
ذلك يقول هو نجس ".
وعن سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (5) قال:
" الطاووس مسخ كان رجلا جميلا كابر امرأة رجل مؤمن تحبه فوقع بها ثم راسلته بعد
فمسخهما الله تعالى طاووسين أنثى وذكرا فلا تأكل لحمه ولا بيضه ".
وعن الكلبي النسابة (6) قال " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجري؟ فقال إن الله تعالى مسخ طائفة من بني إسرائيل، فما أخذ منهم بحرا فهو الجري والزمير

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الأطعمة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الأطعمة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الأطعمة المحرمة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الأطعمة المحرمة.
(5) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الأطعمة المحرمة.
(6) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الأطعمة المحرمة.
224

والمار ما هي وما سوى ذلك، وما أخذ منهم برا فالقردة والخنازير والوبر والورل
وما سوى ذلك ".
وروى في الفقيه مرسلا (1) قال: " روي أن المسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة
أيام وإن هذه مثل لها فنهى الله عز وجل عن أكلها ".
وفي العلل بسند معتبر عن علي بن مغيرة عن الصادق عن أبيه عن جده (عليهم
السلام) (2) قال: " المسوخ من بني آدم ثلاثة عشر صنفا: منهم القردة والخنازير
والخفاش والضب والفيل والدب والدعموص والجريث والعقرب وسهيل والقنفذ والزهرة
والعنكبوت " قال الصدوق سهيل والزهرة دابتان من دواب البحر المطيف بالدنيا.
وروى في الكتاب المذكور أيضا بسند قوي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى
(عليه السلام) (3) قال: " المسوخ ثلاثة عشر: الفيل والدب والأرنب والعقرب
والضب والعنكبوت والدعموص والجري والوطواط والقرد والخنزير والزهرة وسهيل.
فسئل يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان سبب مسخ هؤلاء؟ فقال أما الفيل
فكان رجلا جبارا لوطيا لا يدع رطبا ولا يابسا، وأما الدب فكان رجلا مؤنثا يدعو
الرجال إلى نفسه، وأما الأرنب فكانت امرأة قذرة لا تغتسل من حيض ولا من جنابة
ولا غير ذلك، وأما العقرب فكان رجلا همازا لا يسلم منه أحد، وأما الضب فكان
رجلا أعرابيا يسرق الحاج بمحجته، وأما العنكبوت فكانت امرأة سحرت زوجها،
وأما الدعموص فكان رجلا نماما يقطع بين الأحبة، وأما الجري فكان رجلا ديوثا
يجلب الرجال على حلائله، وأما الوطواط فكان رجلا سارقا يسرق الرطب على رؤوس
النخل، وأما القردة فاليهود اعتدوا في السبت، وأما الخنازير فالنصارى حين سألوا
المائدة فكانوا بعد نزولها أشد ما كانوا تكذيبا، وأما سهيل فكان رجلا عشارا باليمن،
وأما الزهرة فكانت امرأة تسمى ناهيد وهي التي يقول الناس إنه افتتن بها هاروت

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأطعمة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأطعمة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأطعمة المحرمة.
225

وماروت) إلى غير ذلك من الأخبار المروية في العلل، وفيما ذكرناه كفاية لمن أحب
الاطلاع على عدها وأسباب مسخها. والله العالم.
ومنها الأرنب والثعلب والفأرة والوزغة، فأوجب الشيخ في النهاية غسل
ما يصيب الثوب أو البدن منها برطوبة وقرنها في هذا الحكم مع الكلب والخنزير، مع أنه في باب المياه من الكتاب المذكور نفى البأس عما وقعت فيه الفأرة من الماء الذي في
الآنية إذا خرجت منه وكذا إذا شربت، وقال إن الأفضل ترك استعماله على كل حال.
واقتصر المفيد في المقنعة على الفأرة والوزغة فجعلهما كالكلب والخنزير في غسل الثوب
إذا مساه برطوبة وأثرا فيه. وحكى في المختلف عن أبي الصلاح أنه أفتى بنجاسة الثعلب
والأرنب، وهو قول السيد أبي المكارم ابن زهرة أيضا كما نقله في المعالم، وفي المعالم
أيضا عن ظاهر الصدوقين القول بنجاسة الوزغ، وحكى في المختلف أيضا عن ابن البراج أنه
أوجب غسل ما أصابه الثعلب والأرنب والوزغة وكره الفأرة، وعن سلار أنه حكم
بنجاسة الفأرة والوزغة، وعن ابن بابويه أنه قال: إذا وقعت الفأرة في الماء ثم خرجت
ومشت على الثياب فاغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء. وعن ابن إدريس
أنه حكم بطهارة ذلك أجمع، ثم قال والوجه عندي طهارة ذلك أجمع، وهو اختيار والدي
وشيخنا أبو القاسم بن سعيد. وعزى المحقق في المعتبر القول بالطهارة إلى السيد المرتضى
في بعض كتبه. وعلى هذا القول جمهور المتأخرين ومتأخريهم.
أقول: ومنشأ هذا الاختلاف هنا اختلاف ظواهر الأخبار في هذا المقام وها أنا
أورد ما وصل إلي منها على التمام وأبين ما ظهر لي من الحكم فيها بتوفيق الملك العلام:
فمنها صحيحة الفضل أبي العباس وقد تقدمت قريبا، ومنها ما رواه الشيخ في
الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن العظاية
والحية والوزغ تقع في الماء فلا تموت أيتوضأ منه للصلاة؟ قال لا بأس به. وسألته عن

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب النجاسات.
226

فأرة وقعت في حب دهن فأخرجت منه قبل أن تموت أيبيعه من مسلم؟ قال نعم
ويدهن منه ".
وفي الصحيح عن سعيد الأعرج (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الفأرة تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حية؟ فقال لا بأس بأكله ".
وفي الصحيح عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام) (2) " إن
أبا جعفر (عليه السلام) كأن يقول لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن
يشرب منه ويتوضأ منه ".
ورواية هارون بن حمزة الغنوي عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " سألته
عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا هل يشرب من ذلك الماء
ويتوضأ منه؟ قال يسكب منه ثلاث مرات وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ثم يشرب منه
ويتوضأ منه غير الوزغ فإنه لا ينتفع بما يقع فيه ".
وروى الحميري في قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه
(عليهما السلام) (4) " أن عليا (عليه السلام) قال لا بأس بسؤر الفأرة أن يشرب
منه ويتوضأ ".
وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة بل صريحة في الدلالة على الطهارة وإليها استند
القائل بالطهارة في الفأرة والوزغة، وأما صحيحة أبي العباس فعمومها صالح للدلالة على الجميع
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه
السلام) (5) قال: " سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي على الثياب أيصلي
فيها؟ قال اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 45 من أبواب الأطعمة المحرمة
(2) في الوسائل في الباب 9 من أبواب الأسئار
(3) في الوسائل في الباب 9 من أبواب الأسئار
(4) في الوسائل في الباب 9 من أبواب الأسئار
(5) رواه في الوسائل في الباب 33 من النجاسات.
227

وما رواه في الصحيح عنه أيضا عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن الفأرة والكلب إذا أكلا من الخبز أو شماه أيؤكل؟ قال يطرح ما شماه ويؤكل
ما بقي " ورواه علي بن جعفر في كتابه أيضا (2).
وروى في قرب الإسناد بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (3)
قال: " سألته عن الفأرة والكلب إذا أكلا من الخبز وشبهه أيحل أكله؟ قال يطرح
منه ما أكل ويؤكل الباقي ".
وما رواه في الصحيح عن أحمد بن محمد بن يحيى عن محمد بن عيسى عن يونس
ابن عبد الرحمان عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " سألته هل
يجوز أن يمس الثعلب والأرنب أو شيئا من السباع حيا أو ميتا؟ قال لا يضره ولكن
يغسل يده ".
وما رواه عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (5) في حديث طويل
قال: " سئل عن الكلب والفأرة إذا أكلا من الخبز وشبهه؟ قال يطرح منه ويؤكل
الباقي. وعن العظاية تقع في اللبن؟ قال يحرم اللبن، وقال إن فيها السم " أقول قال في
القاموس: العظاية دويبة كسام أبرص.
وما رواه في الصحيح عن معاوية بن عمار (6) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الفأرة والوزغة تقع في البئر قال ينزح منها ثلاث دلاء ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 45 من الأطعمة المحرمة
(3) رواه في الوسائل في الباب 45 من الأطعمة المحرمة
(4) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب النجاسات.
(5) التهذيب ج 1 ص 80 وروى صاحب الوسائل المسألة الأولى في الباب 36
من أبواب النجاسات.
(6) رواه في الوسائل في الباب 19 من الماء المطلق.
228

وما في الفقه الرضوي حيث قال (عليه السلام) (1) " إن وقع في الماء وزغ
أهريق ذلك الماء وإن وقع فيه فأرة أو حية أهريق الماء وإن دخلت فيه حية وخرجت
منه صب من ذلك الماء ثلاث أكف واستعمل الباقي وقليله وكثيره بمنزلة واحدة "
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة.
وقد أجاب القائلون بالطهارة عما دل على نجاسة الفأرة والوزغة بأنه معارض بما
دل على الطهارة وطريق الجمع حمل أخبار النجاسة على التنزيه والاستحباب فإنه مع العمل
بأخبار النجاسة يلزم طرح أخبار الطهارة مع صحتها وصراحتها وكثرتها، قال المحقق في
المعتبر بعد نقل صحيحة علي بن جعفر الدالة على غسل ما لاقته الفأرة برطوبة ومعارضتها
بصحيحة سعيد الأعرج ما لفظه: ومن البين استحالة أن ينجس الجامد ولا ينجس
المائع ولو ارتكب هنا مرتكب لم يكن له في الفهم نصيب، وأما خبر يونس فقد رده
بالارسال أولا وبكون الراوي فيه محمد بن عيسى عن يونس، وقد حكى النجاشي عن
أبي جعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنه قال ما تفرد به محمد بن عيسى من كتب يونس
وحديثه لا يعتمد عليه وقال الشيخ أنه ضعيف استثناه أبو جعفر بن بابويه من رجال
نوادر الحكمة وقال لا أروي ما يختص بروايته.
وتحقيق الكلام في المقام بما أدى إليه الفهم القاصر، أما بالنسبة إلى الأخبار
المتعارضة في الفأرة فلا يخفى أن الترجيح فيها لأخبار الطهارة لاعتضادها بأصالة الطهارة
وكثرتها وصحة أكثرها وصراحتها، وليس في الأخبار المقابلة لها ما هو ظاهر
في النجاسة سوى صحيحة علي بن جعفر الدالة على غسل أثرها إذا مشت على الثياب
برطوبة وإلا فغيرها من الروايات الدالة على الأكل من الخبز أو شمه لا ظهور لها في
النجاسة، فإن الحكم بالنجاسة إنما يكون مع تعدي رطوبة فم الفأرة إلى الخبز والتمسك
بأصالة الطهارة يدفع ذلك حتى يعلم، ومجرد الأكل والشم لا يستلزم وجود رطوبة

(1) ص 5.
229

وتعديها، وحينئذ لا يثبت الحكم بالنجاسة فتعين الحمل على التنزيه والاستحباب كما
ذكره الأصحاب، وأما بالنسبة إلى الكلب فإن علم أيضا تعدي لعابه إليه وإلا فالحكم فيه
كذلك، وبالجملة فالتمسك بأصالة الطهارة أقوى متمسك حتى يظهر ما يوجب الخروج
عنه، وحينئذ فلم يبق إلا تلك الرواية فتعين التأويل فيها البتة إما بالحمل على ما ذكره
الأصحاب من الاستحباب أو الحمل على التقية فإن القول بنجاسة الفأرة مذهب بعض
العامة كما ذكره في المنتهى، على أنه لا يشترط عندنا في الحمل على التقية وجود القائل كما
تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب.
وأما بالنسبة إلى الوزغة فقد عرفت دلالة صحيحة علي بن جعفر الأولى على
الطهارة فيها مع اعتضادها بالأصل وأن الوزغة ليست بذي نفس وميتتها طاهرة اجماعا،
والحكم بالنجاسة في حال الحياة والطهارة بعد الموت غير معقول ولا معهود من الشرع
وإنما المعهود العكس، ومجرد النزح المذكور لا يستلزم النجاسة كما وقع في أخبار نزح سبع
دلاء لدخول الجنب واغتساله مع اتفاقهم على اعتبار طهارة بدنه من المني وإلا لوجب له بقدر
المني، على أنه يمكن حمل الخبر على رجوع ذلك إلى الفأرة بالخصوص باعتبار أن السؤال
وقع عن وقوع الفأرة والوزغة معا لا كل بانفراده، والتأويل بذلك تفاديا من الطرح
غير بعيد ومثله غير عزيز.
وأما بالنسبة إلى الثعلب والأرنب كما اشتملت عليه مرسلة يونس فهي أيضا معارضة
بالأصل وبما دل من الأخبار على قبول هذا الأشياء مثل الثعلب والسباع للتذكية، ومن
المعلوم أن نجس العين كالكلب والخنزير لا يقبل التذكية ولا يطهر بها، فمما ورد في الثعلب
ما رواه الشيخ عن صفوان عن جميل عن الحسن بن شهاب (1) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن جلود الثعالب إذا كانت ذكية أيصلى فيها؟ قال نعم " وعن
عبد الرحمان بن الحجاج (2) قال: " سألته عن اللحاف من الثعالب أو الجرز منه أيصلي

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من لباس المصلي.
(2) رواه في الوسائل في الباب 7 من لباس المصلي.
230

فيها؟ قال إن كان ذكيا فلا بأس به " وعن جميل في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " سألته عن الصلاة في جلود الثعالب؟ قال إن كانت ذكية فلا بأس " ولا ينافي
ذلك ما دل من الأخبار على عدم جواز الصلاة في الجلود المذكورة فإن الاختلاف في ذلك أنما
نشأ من حيث اشتراط كون ما يصلى فيه لا بد أن يكون مما يؤكل لحمه أم لا، ولهذا أن جمعا
من الأصحاب ذهبوا إلى القول بجواز الصلاة فيها لهذه الأخبار وما ذلك إلا للحكم
بثبوت التذكية وطهارة الجلود، والمانع إنما يمنع من حيث الاشتراط المذكور لا من حيث
النجاسة وعدم قبول التذكية، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر. ومما يدل على ذلك في
السباع أيضا التي قرنت في هذه الرواية بالثعلب المستلزم لنجاستها أيضا فهو ما رواه الشيخ
والصدوق عن سماعة في الموثق (2) قال: " سألته عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال
أما لحوم السباع من الطير والدواب فإنا نكرهه وأما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا
منها شيئا تصلون فيه " وروى في المحاسن عن علي بن أسباط عن علي بن جعفر عن أخيه
(عليه السلام) (3) قال: " سألته عن ركوب جلود السباع؟ فقال لا بأس ما لم يسجد
عليها " وعنه عن عثمان بن عيسى عن سماعة (4) قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام)
عن جلود السباع فقال اركبوها ولا تلبسون شيئا منها تصلون فيه " قال شيخنا المجلسي في البحار
بعد نقل هذين الخبرين: يدلان على كون السباع قابلة للتذكية بمعنى إفادتها جواز الانتفاع
بجلودها لطهارتها كما هو المشهور بين الأصحاب، بل قال الشهيد أنه لم يعلم القائل بعدم
وقوع التذكية عليها سوى الكلب والخنزير. واستشكال الشهيد الثاني وبعض المتأخرين
في الحكم بعد ورود النصوص المعتبرة وعمل القدماء والمتأخرين مما لا وجه له. انتهى.
على أن ظاهر الخبر المذكور بناء على ما ذكروه لا يخلو من تدافع فإن المتبادر من قوله
" لا يضره " ليس إلا بمعنى لا ينجسه إذ لا معنى للضرر في هذا المقام إلا التنجيس كما

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من لباس المصلي.
(2) رواه في الوسائل في الباب 5 من لباس المصلي.
(3) رواه في الوسائل في الباب 5 من لباس المصلي.
(4) رواه في الوسائل في الباب 5 من لباس المصلي.
231

لا يخفى، وحينئذ فحمل " لكن يغسل يده " على النجاسة مدافع لذلك، وأما إذا
أريد التنزيه والاستحباب أمكن مجامعته للعبارة المتقدمة وتم الكلام بأحسن نظام والله العالم.
ومنها لبن الجارية والمشهور طهارته. ونقل عن ابن الجنيد القول بنجاسته لرواية
السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (1) " أن عليا (عليه السلام) قال لبن
الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم لأن لبنها يخرج من مثانة أمها.. الحديث " وقد
تقدم الكلام في ذلك في الموضع الثاني من الفصل الأول والثاني في مسألة بول الرضيع، وربما
ظهر من كلام الصدوق في الفقيه القول بذلك حيث ذكر الرواية فيه مع قوله في أول
كتابه أنه لا يورد فيه إلا ما يفتي به ويحكم بصحته سيما مع قرب هذه الرواية مما ذكره من
الكلام المشار إليه، ولم أر من تنبه لنسبة ذلك إلى الصدوق والحال كما ذكرناه إلا المحقق
الشيخ حسن في المعالم فإنه أشار إلى ذلك كما ذكرناه، ونقل في المعالم أيضا عن والده أنه
ذكر الرواية في رسالته لكن لم يظهر منه التزام ما التزمه ولده من التقييد في ذكر الأخبار
بما يفتي به مع التصريح بكونه خبرا.
أقول: قد تقدم في الموضع المشار إليه آنفا أن هذه الرواية قد ذكرها مولانا
الرضا (عليه السلام) في كتاب الفقه فقال بعد فتواه بمضمون صحيحة الحلبي الواردة
في بول الرضيع: وقد روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " أنه قال لبن الجارية..
الحديث) والأصحاب قد أجابوا عن خبر السكوني بضعف الاسناد وهو مشكل بعد
اعتضاده بالخبر المذكور في الكتاب المشار إليه، والأظهر كما قدمناه في الموضع المشار
إليه حمل الخبر؟ على التقية ولا سيما أن راويه من العامة. ويعضده نقله (عليه السلام)
الخبر في كتاب الفقه بعد افتائه بخلاف ما تضمنه بالنسبة إلى بول الرضيع، وجمع من
الأصحاب حملوا الرواية على الاستحباب كما هي قاعدتهم في جملة الأبواب. والله العالم.
ومنها القئ قد صرح جملة من الأصحاب: منهم المحقق في المعتبر بأن القئ

(1) المروية في الوسائل في الباب 3 من النجاسات.
232

والقلس والنخامة وكل ما يخرج من المعدة إلى الفم أو ينزل من الرأس طاهر عدا الدم.
وقال الشيخ في المبسوط القئ طاهر وقال بعض أصحابنا نجس، قال والصديد والقيح
حكمهما حكم القئ.
أقول: ويدل على الطهارة مضافا إلى الأصل موثقة عمار الساباطي (1) " أنه سأل
أبا عبد الله (عليه السلام) عن القئ يصيب الثوب فلا يغسل؟ قال لا بأس به " وعن
عمار أيضا (2) " أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يتقيأ في ثوبه أيجوز أن يصلي
فيه ولا يغسله؟ قال لا بأس به " فأما ما رواه الشيخ عن عثمان بن عيسى عن أبي هلال (3)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) أينقض الرعاف والقئ ونتف الإبط
الوضوء؟ فقال وما تصنع بهذا؟ هذا قول المغيرة بن سعيد لعن الله المغيرة، ويجزيك
من الرعاف والقئ أن تغسله ولا تعيد الوضوء " فإنه يمكن أن يجعل دليلا للقول بالنجاسة
بتقريب الأمر فيه بالغسل، وفيه أن الأمر بالغسل أعم، وطريق الجمع بينه وبين ما تقدم
حمل الغسل على إزالة الاستقذار الحاصل منه لا النجاسة فإن الغسل مطلوب في أمثال ذلك
كما ورد في جملة من المواضع من الأمر بالصب والرش في مواضع لزوال النفرة ومظنة
النجاسة، والقئ لا يزول بمجرد الرش فأمر فيه بالغسل لإزالة عينه عن الثوب أو البدن
ولم أقف على من تعرض لنقل حجة القول بالنجاسة سوى العلامة في المختلف فإنه تكلف
لذلك دليلا واهيا لا يستحق أن يسطر ولا يلتفت إليه ولا ينظر.
ومنها الحديد وإن لم أقف على قائل بنجاسته إلا أنه ربما يفهم من بعض
الأخبار ذلك حتى أن بعض المتورعين كان يجتنب أكل مثل البطيخ ونحوه إذا قطع
بالحديد. ومن الأخبار الدالة على ذلك موثقة عمار عن الصادق (عليه السلام) (4)

(1) المروية في الوسائل في الباب 48 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 48 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 7 من نواقض الوضوء.
(4) المروية في الوسائل في الباب 83 من أبواب النجاسات.
233

" عن الرجل إذا قص أظفاره بالحديد أو أخذ من شعره أو حلق قفاه فإن عليه أن يمسحه
بالماء قبل أن يصلي. سئل فإن صلى ولم يمسح من ذلك بالماء؟ قال يمسح بالماء ويعيد
الصلاة لأن الحديد نجس، وقال إن الحديد لباس أهل النار والذهب لباس أهل الجنة "
وعن عمار في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (1) قال " الرجل يقرض من شعره بأسنانه
أيمسحه بالماء قبل أن يصلي؟ قال لا بأس إنما ذلك في الحديد " ويعضده ما رواه في
الكافي في باب الخواتيم في حديث عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (2) قال:
" قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تختموا بغير الفضة فإن رسول الله (صلى الله
عليه وآله) قال ما طهرت كف فيها خاتم من حديد " وفي الفقيه مرسلا (3) قال: " قال
(صلى الله عليه وآله) ما طهر الله يدا فيها حلقة حديد ".
ويدل على الطهارة مضافا إلى اجماع الأصحاب على الحكم قديما وحديثا ما رواه
في الفقيه (4) عن إسماعيل بن جابر " أنه سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يأخذ
من أظفاره وشاربه أيمسحه بالماء؟ فقال لا هو طهور " وما رواه في الفقيه في الصحيح
عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) (5) أنه قال له: " الرجل يقلم أظفاره ويجز شاربه
ويأخذ من شعر لحيته ورأسه هل ينقض ذلك وضوءه؟ فقال يا زرارة كل هذا سنة،
إلى أن قال وإن ذلك ليزيده تطهيرا " وما رواه الشيخ في الصحيح عن سعيد بن عبد الله
الأعرج (6) قال " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) آخذ من أظفاري ومن شاربي وأحلق رأسي
فاغتسل؟ قال لا ليس عليك غسل. قلت فأتوضأ؟ قال لا ليس عليك وضوء. قلت فأمسح
على أظفاري الماء؟ قال هو طهور ليس عليك مسح " وعن وهب بن وهب عن جعفر بن
محمد (عليهما السلام) (7) " أن عليا عليه السلام) قال: السيف بمنزلة الرداء تصلي فيه ما لم تر فيه

(1) رواه في الوسائل في الباب 83 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 32 من لباس المصلي
(3) رواه في الوسائل في الباب 32 من لباس المصلي
(4) رواه في الوافي ج 4 ص 37.
(5) رواه في الوسائل في الباب 83 من أبواب النجاسات
(6) رواه في الوسائل في الباب 83 من أبواب النجاسات
(7) رواه في الوسائل في الباب 83 من أبواب النجاسات
234

دما " وما رواه في الكافي في الموثق عن الحسن بن الجهم (1) قال: " أراني أبو الحسن
(عليه السلام) ميلا من حديد ومكحلة من عظام فقال كان هذا لأبي الحسن (عليه
السلام) فاكتحل به فاكتحلت " ومن الظاهر أن الميل بالاكتحال لا يخلو من ملاقاة
الرطوبة غالبا، والأخبار في هذا الباب كثيرة كما يأتي في كتاب الحج إن شاء الله تعالى
في أخبار الحلق والتقصير، ومن الظاهر المعلوم اطباق كافة الناس على حلق الرأس
من وقته (صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا بآلة الحديد ولم ينقل في شئ منها
الأمر بالتطهير.
وبالجملة فهذه الروايات الدالة على النجاسة مطرحة باجماع الأصحاب وهذه الأخبار
مضافا ذلك إلى أن الراوي عمار المتفرد بالغرائب في رواياته كما طعن به عليه في غير
موضع المحدث الكاشاني في الوافي، ومن الأخبار في ذلك أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن
موسى بن أكيل النميري عن الصادق (عليه السلام) (2) " في الحديد أنه حلية أهل
النار والذهب حلية أهل الجنة وجعل الله تعالى الذهب في الدنيا زينة النساء فحرم على
الرجال لبسه والصلاة فيه وجعل الله الحديد في الدنيا زينة الجن والشياطين فحرم على الرجل
المسلم أن يلبسه في الصلاة إلا أن يكون قبال عدو فلا بأس به، إلى أن قال وفي غير ذلك
لا يجوز الصلاة في شئ من الحديد فإنه نجس ممسوخ ".
ورأيت في بعض الحواشي المنسوبة إلى الأمين الاسترآبادي ما صورته: قوله
(عليه السلام) " نجس ممسوخ " أقول: أهل الكيمياء زعموا أن المعدنيات المنطبعة
كلها في الأصل قابلة للذهب فأصاب بعضها الجذام فصار حديدا وبعضها البرص فصار
نحاسا وبعضها البهق فصار فضة وذكروا أن حقيقة الكيمياء إنما هي إزالة ما أصابها من المرض
وأنه كما لا يمكن معالجة جذام الانسان كذلك لا يمكن معالجة جذام المعدنيات بالإكسير،

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 من لباس المصلي.
235

وقوله (عليه السلام): " نجس ممسوخ " إشارة إلى ذلك أو إلى أنه قذر، وحمل النجس
على نجس العين توهم صرف يكذبه حلق رأس النبي (صلى الله عليه وآله) في المروة
وقطعه (عليه السلام) البطيخ بالحديد ولبسه الدرع يوما وليلة في حرب أحد وهو يصلي
فيه وعدم اجتنابهم (عليهم السلام) من السيف وأشباه ذلك من الأمور التي يعم بها
البلوى، وفي الكافي حديث صريح في صحة الكيمياء وفيه نوع إشارة إلى
ما ذكرناه. انتهى.
وبالجملة فالعمل على القول بالطهارة، بقي الكلام في روايات عمار المتقدمة
والأصحاب قد حملوها على الاستحباب ولا بأس به كما يدل عليه ما رواه في الكافي
عن محمد الحلبي في الصحيح (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
يكون على طهر فيأخذ من أظفاره أو شعره أيعيد الوضوء؟ فقال لا ولكن يمسح رأسه
وأظفاره بالماء. قلت فإنهم يزعمون أن فيه الوضوء؟ فقال إن خاصموكم فلا
تخاصموهم وقولوا هكذا السنة ".
المقصد الثاني
في الأحكام وفيه بحوث: (الأول) في بيان ما به يتحقق التنجيس وما يلحق
ذلك ويتعلق به وفيه مسائل:
(الأولى) الظاهر أن كل نجاسة عينية فهي مؤثرة في تنجيس ما تلاقيه
برطوبة إلا الماء على تفصيل تقدم فيه في باب المياه بين ما ينفعل بمجرد الملاقاة
وما لا ينفعل وأما مع اليبوسة فلا، وكل ما حكم بنجاسته شرعا فهو مؤثر للتنجيس في
غيره مع الرطوبة أيضا، وقد وقع الخلاف في كل من الكليتين فهنا مقامان:
(الأول) في بيان الخلاف في الكلية الأولى وهي عدم تعدي النجاسة مع

(1) رواه في الوسائل في الباب 14 من نواقض الوضوء.
236

اليبوسة فإنه قد وقع الخلاف في تعدي نجاسة الميتة مع اليبوسة، فظاهر جملة من الأصحاب
التعدي فإن لهم في ذلك أقوالا متعددة، فقيل بتأثيرها مطلقا قال في المعالم وهو
صريح كلام العلامة في النهاية وظاهره في مواضع أخر من كتبه وفي بعض عبارات
المحقق اشعار به. أقول: وهو صريح والده في الروض بالنسبة إلى نجاسة الميت من
الانسان حيث قال بعد ذكر خبري الحلبي وإبراهيم الآتيين وكلام في البين ما لفظه:
ودلا أيضا على أن نجاسة الميت تتعدى مع رطوبته ويبوسته للحكم بها من غير استفصال،
وقد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يدل على
العموم في المقال وإلا لزم الاغراء بالجهل. انتهى. وقيل بعدم تأثيرها بدون الرطوبة
مطلقا كغيرها من النجاسات، قال في المعالم صرح به بعض المتأخرين. أقول: الظاهر أنه المحقق الشيخ علي (قدس سره) فإنه صرح بذلك. وقيل بالتفصيل بموافقة الأول
في ميتة الآدمي والثاني في ميتة غيره، اختاره جماعة من الأصحاب: منهم العلامة في
التذكرة والشهيد في الذكرى، وقيل بموافقة القول الأول في الآدمي مطلقا وموافقة الثاني
في ايجاب غسل ما تلاقيه ميتة غير الآدمي لا في نجاسته، ويظهر ذلك من المنتهى.
وقد تلخص من ذلك بالنسبة إلى ميتة الآدمي أن في نجاسته قولين: (أحدهما) كون
نجاسته عينية محضة مطلقا مع الرطوبة أو اليبوسة فعلى هذا ينجس ما يلاقي الميت برطوبة
كان أو يبوسة، وهذا هو المشهور كما عرفت من ذهاب جماعة من فضلاء الأصحاب
إليه كالعلامة في النهاية والتذكرة والمنتهى والشهيدين في الروض والذكرى والمحقق كما
تقدم نقله عن المعالم وغيرهم. و (ثانيهما) كونها عينية محضة مع الرطوبة خاصة كغيرها
من النجاسات وأما مع اليبوسة فلا تتعدى نجاستها، وهو اختيار المحقق الشيخ علي كما
عرفت.
ثم إنه على القول الأول فهل تكون نجاسة الملاقي عينية محضة كسائر النجاسات
التي لا تتعدى إلا مع الرطوبة خاصة دون اليبوسة أو أنها حكمية لا تتعدى إلى الملاقي لها
مطلقا وإنما توجب غسل ذلك الذي لاقى بدن الميت خاصة؟ والأول ظاهر الأكثر.
237

وهو اختيار المحقق الشيخ علي بناء على القول المذكور حيث قال في شرح القواعد بعد
البحث في المسألة: " والتحقيق أن نجاسة الميت أن قلنا إنها تتعدى ولو مع اليبوسة
فنجاسة الماس عينية بالنسبة إلى العضو الذي وقع به المس حكمية بالنسبة إلى جميع البدن
فلا بد من غسل العضو ثم الغسل إن قلنا إنها إنما تتعدى مع الرطوبة وهو الأصح فمعها تثبت
النجاستان وبدونها تثبت نجاسة واحدة وهي الشاملة لجميع البدن ". انتهى. والثاني ظاهر
العلامة في المنتهى حيث قال في أحكام ميت الآدمي: " لو مسه رطبا ينجس بنجاسة
عينية لما يأتي من أن الميت نجس ولو مسه يابسا فالوجه أن النجاسة حكمية فلو لاقى ببدنه
بعد ملاقاته الميت رطبا لم يؤثر في تنجيسه لعدم دليل التنجيس وثبوت الأصل الدال
على الطهارة " انتهى. وهو ظاهر ابن إدريس أيضا كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما بالنسبة إلى غير الآدمي من ذوات النفس فقولان أيضا (أحدهما) الاقتصار
في تعدي نجاستها على حال الرطوبة فلا تتعدى مع اليبوسة. وهو قول المحقق الشيخ علي
والشهيد في الذكرى والعلامة في التذكرة. و (الثاني) التعدي مع اليبوسة أيضا وبه صرح
العلامة في المنتهى. ثم إنه على تقدير هذا القول فهل تكون نجاسة الملاقي عينية أو حكمية
ظاهره في المنتهى الثاني على اشكال، قال في الكتاب المذكور بعد ذكر ميتة غير الآدمي:
لا فرق بين أن يمس الميتة برطوبة أم لا في ايجاب غسل اليد خاصة. ثم قال بعد ذلك بأسطر
يسيرة: هل تنجس اليد لو كانت الميتة يابسة؟ فيه نظر ينشأ من كون النجاسات العينية
يابسة غير مؤثرة في الملاقي ومن عموم وجوب الغسل وإنما يكون مع التنجيس، وحينئذ
تكون نجاستها عينية أو حكمية؟ الأقرب الثاني فلو لامس رطبا قبل غسل يده لم يحكم
بنجاسته على اشكال. انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن حجة الأول القول وهو تعدي نجاسة ميت الآدمي مطلقا
ما قدمناه من الأخبار في الفصل الخامس في نجاسة الميتة فإنها دالة باطلاقها على تعدي
نجاسته مع الرطوبة كان أو اليبوسة بالتقريب الذي تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروض
238

وحجة القول الثاني وهو عدم تعديها مع اليبوسة مع الأصل قوله (عليه السلام) في موثقة
عبد الله بن بكير (1): " كل شئ يابس ذكي " المؤيد بجملة من الأخبار الدالة على
عدم تعدي النجاسة مع اليبوسة والظاهر أن تقييد المطلق أقرب من تخصيص العام
وحينئذ فالظاهر حمل اطلاق تلك الأخبار على الملاقاة بالرطوبة من أحدهما، ومما يستأنس
به لذلك قوله (عليه السلام) في رواية إبراهيم بن ميمون المتقدمة (2) " ما أصاب
ثوبك منه " في الموضعين فإن فيه إشارة إلى تعدي رطوبة أو قذر من الميت، وإلى
هذا القول يميل كلام المفاتيح، وظاهر المدارك التوقف في الحكم، وظاهر المعالم ترجيح
القول المشهور لحسنة الحلبي (3) وعدم نهوض موثقة ابن بكير بالمعارضة لقصورها من
حيث السند، والمسألة لا تخلو من اشكال والاحتياط فيها مطلوب على كل حال وإن
كان القول بالطهارة لا يخلو من قوة. وأما حجة القول في ميتة غير الآدمي باختصاص
التعدي بالرطوبة فلنجاسة الميتة ودلالة الأخبار الكثيرة في مواضع متفرقة على أن
ملاقاة النجاسة بالرطوبة موجب لتعديها والحكم مجمع عليه كما تقدم نقله، وتوقف التعدي
مع اليبوسة على الدليل والذي ثبت على تقدير تسليمه مخصوص بميت الانسان وأما غيره
فالحكم فيه كسائر النجاسات العينية لا تتعدى نجاستها إلا مع الرطوبة، ويدل على ذلك
أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن
الرجل يقع ثوبه على حمار ميت هل تصلح الصلاة فيه قبل أن يغسله. قال ليس عليه غسله
وليصل فيه ولا بأس " وحجة القول بالتعدي في نجاسة غير الآدمي مع اليبوسة كما ذكره
العلامة في المنتهى على ما نقله بعض الأصحاب مرسلة يونس المتقدمة قريبا في مسألة
الخلاف في نجاسة الأرنب والثعلب (5) قيل وتقريب الدلالة في الأمرين واحد وهو
ترك الاستفصال عن كون الإصابة والمس برطوبة أو غيرها وهو دليل على تعميم الحكم

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أحكام الخلوة.
(2) ص 65
(3) ص 65
(4) المروية في الوسائل في الباب 26 من النجاسات.
(5) ص 228.
239

وانتفاء الفرق والحق أن الرواية المذكورة بناء على ما حققناه سابقا في الموضع المشار إليه
وبينا معارضتها بالأخبار المستفيضة لا تصلح مستندا في المقام.
(تذنيب) يشتمل على فائدتين: (الأولى) اعلم أن النجاسة العينية
تطلق في كلام الفقهاء على معان وتقابلها الحكمية في كل منها (فأحدها) أن يراد بها
ما تتعدى نجاسته مع الرطوبة وهو مطلق الخبث وهو الأكثر دورانا في كلامهم. وتقابلها
الحكمية بمعنى ما لا تتعدى بأن يكون المحل الذي قامت به معها طاهرا لا ينجس الملاقي
له ولو مع الرطوبة ويحتاج زوال حكمها إلى مقارنة النية كنجاسة بدن الجنب والحائض
ونحوها المتوقف على الغسل. و (ثانيها) ما إذا كانت عين النجاسة محسوسة مع قبول
الطهارة كالدم والغائط والبول قبل جفافه ونحوها، وتقابلها الحكمية بهذا الاعتبار وهو
ما لا يكون له جرم ولا عين يشار إليها كالبول اليابس في الثوب. و (ثالثها) ما يكون
عينا غير قابل للتطهير كالكلب والخنزير وتقابلها الحكمية بهذا الاعتبار وهو ما يقبل
التطهير كالميت بعد برده وقبل تطهيره بالغسل، وعلى هذا فتكون نجاسة الميت عينية
بالمعنى الأول والثاني حكمية بالمعنى الثالث فهي عينية من جهة وحكمية من جهة، وأما
نجاسة الماس له فإنها حكمية بالمعنى الأول برطوبة كان المس أو يبوسة وعينية بالنسبة إلى
العضو الذي وقع المس به بالرطوبة اجماعا ومع اليبوسة يبني على الخلاف المتقدم.
(الثانية) قد صرح جمع من الأصحاب بأن المعتبر من الرطوبة التي يتوقف
تأثير النجاسة عليها ما يتعدى منها شئ إلى الملاقي فأما القليلة البالغة في القلة إلى حد
لا يتعدى منها شئ فهي في حكم اليبوسة. وهو جيد ويدل عليه أخبار موت الفأرة في الدهن
الجامد ونحوه (1) وأنه يؤخذ ما حولها خاصة والباقي طاهر، والتقريب فيها أن الجمود
في الدهن لا يبلغ إلى حد اليبس بل الرطوبة فيه في الجملة موجودة كما لا يخفي.
(المقام الثاني) في بيان الخلاف في الكلية الثانية وهي أن كل ما حكم

(1) رواها في الوسائل في الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة، وقد تقدمت ص 56.
240

بنجاسته شرعا فهو مؤثر في تنجيس ما يلاقيه برطوبة، والخلاف هنا وقع من العلامة
وابن إدريس والمحدث الكاشاني:
أما العلامة فلما صرح به في المنتهى في نجاسة ميت الآدمي كما قدمنا نقله من أنه
لو مسه يابسا ولاقى ببدنه بعد ملاقاته للميت رطبا لم يؤثر في تنجيسه لعدم دليل التنجيس
وثبوت الأصل الدال على الطهارة. وأنت خبير بما فيه فإن النصوص المشار إليها آنفا قد
دلت على وجوب غسل الملاقي لبدن الميت مطلقا وما ذاك إلا لنجاسته لأن أكثر النجاسات
إنما استفيد الحكم بنجاستها من الأمر بغسلها وإزالتها ونحوه مما تقدم ذكره في غير مقام،
ومن حكم النجس تعدي نجاسته لملأ يلاقيه برطوبة كما هو المستفاد من الأخبار في غير
مقام، ولعله بنى على أن الأمر بالغسل لا يستلزم حصول التنجيس إذ هو أعم من ذلك،
وفيه ما عرفت. ثم العجب من العلامة فيما قدمنا من كلاميه في ميتة الآدمي وميتة غيره
في المنتهى حيث جزم بكون النجاسة في الأول في صورة الملاقاة باليبوسة حكمية واستشكل
في الثاني في الصورة المذكورة في كونها حكمية أو عينية، مع أنه في ميتة الآدمي لم يتوقف
في حصول التنجيس بها بين كون الملاقاة برطوبة أو يبوسة وفي ميتة غير الآدمي توقف
في النجاسة مع اليبوسة كما عرفت.
وأما ابن إدريس فإنه قال في السرائر بعد الكلام في التغسيل: " ثم ينشفه بثوب
نظيف ويغتسل الغاسل فرضا واجبا في الحال أو فيما بعد فإن مس مائعا قبل اغتساله وخالطه
لا يفسده ولا ينجسه، وكذلك إذ لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء
قبل غسله مائع فإنه لا ينجس ذلك المائع وإن كان الإناء يجب غسله لأنه لاقى جسد الميت وليس
كذلك المائع الذي حصل فيه لأنه لم يلاق جسد الميت، وحمله على ذلك قياس وتجاوز في الأحكام
بغير دليل، والأصل في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل قاطع للعذر وإن كنا متعبدين يغسل
ما لاقى جسد الميت لأن هذه نجاسات حكميات وليست عينيات والأحكام الشرعية نثبتها بحسب
الأدلة الشرعية. ولا خلاف أيضا بين الأمة كافة أن المساجد يجب أن تنزه وتجنب النجاسات
241

العينيات، وقد أجمعنا بلا خلاف في ذلك بيننا على أن من غسل ميتا له أن يدخل المسجد
ويجلس فيه فضلا عن مروره وجوازه ودخوله إليه فلو كان نجس العين لما جاز ذلك
وأدى إلى تناقض الأدلة. وأيضا فإن الماء المستعمل في الطهارة على ضربين ما استعمل
في الصغرى والآخر في الكبرى، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا أنه طاهر
مطهر، والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصحيح عند محققي أصحابنا أنه أيضا طاهر
مطهر وخالف فيه من أصحابنا من قال إنه طاهر تزال به النجاسات العينيات ولا ترفع
به الحكميات، فقد اتفقوا جميعا على أنه طاهر. ومن جملة الأغسال والطهارات الكبرى
غسل من غسل ميتا فلو نجس ما يلاقيه من المائعات لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله
وإزالة حدثه طاهرا بالاتفاق والاجماع الذين أشرنا إليهما " انتهى.
واعترضه المحقق في هذا المقام واستوفى الكلام في الرد عليه بما هذا لفظه:
فرع إذا وقعت يد الميت بعد برده وقبل تطهيره في مائع فإن ذلك المائع ينجس ولو
وقع ذلك المائع في آخر وجب الحكم بنجاسة الثاني، وخبط بعض المتأخرين فقال إذا
لاقى جسد الميت، ثم ساق كلامه ملخصا ثم قال: والجواب عما ذكره أن نقول لا نسلم
أن الإناء ينجس بملاقاة الميت أو اليد الملامسة للميت بعد برده ولو لاقت مائعا لم ينجس.
قوله لأن الحكم بنجاسة المائع قياس على نجاسة ما لاقى الميت، قلنا هذا الكلام ركيك
لا يصلح دليلا على دعواه بل يصلح جوابا لمن يستدل على نجاسة المائع الملاقي لليد بالقياس على
نجاسة اليد الملاقية للمائع، لكن أحدا لم يستدل بذلك بل نقول لما أجمع الأصحاب على
نجاسة اليد الملاقية للميت وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين
نجاسة ذلك المائع لا بالقياس على نجاسة اليد، فإذن ما ذكره لا يصلح دليلا ولا
جوابا. قوله لا خلاف أن المساجد يجب أن تجنب النجاسات ولا خلاف أن لمن مس ميتا
أن يجلس في المسجد ويستوطنه، قلنا هذه دعوى عرية عن البرهان ونحن نطالبك بتحقيق
الاجماع على هذه الدعوى ونطالبك أين وجدتها؟ فإنا لا نوافقك على ذلك بل نمنع
242

الاستيطان كما نمنع من على جسده نجاسة ويقبح اثبات الدعوى بالمجازفات. قوله الماء
المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر، قلنا هذا حق. قوله فيكون ماء المغتسل من
ملامسة الميت طاهرا، قلنا هذا الاطلاق ممنوع وتحقيق هذا أن الملامس للميت تنجس
يده نجاسة عينية ويجب عليه الغسل وهو طهارة حكمية فإن اغتسل قبل غسل يده نجس
ذلك الماء بملاقاة يده التي لامس بها الميت أما لو غسل يده ثم اغتسل لم يحكم بنجاسة ذلك
الماء، وكذا نقول في جميع الأغسال الحكمية لأن ماء الغسل من الجنابة طاهر وإن كان
الغسل يجب لخروج المني وينجس موضع خروجه ولو اغتسل قبل غسل موضع الجنابة
كان ماء الغسل نجسا بالملاقاة لمخرج النجاسة اجماعا، وكذلك غسل الحيض يجب عند
انقطاع دم الحيض ويكون المخرج نجسا فلو اغتسلت ولما تغسل المخرج كان ماء الغسل
نجسا ولو أزالته ثم اغتسلت كان ماء الغسل طاهرا، وكذا جميع الأغسال، فقد بأن ضعف
ما ذكره المتأخر. اللهم إلا أن يقول إن الميت ليس بنجس وإنما يجب الغسل تعبدا كما هو
مذهب الشافعي (1). لكن هذا مخالف لما ذكره الشيخ أبو جعفر فإنه ذكر أنه نجس
باجماع الفرقة وقد سلم هذا المتأخر نجاسته ونجاسة ما يلاقي بدنه. ولو قال إنا أوجب
غسل ما لاقى بدنه ولا أحكم بنجاسة ذلك الملاقي، قلنا فحينئذ يجوز استصحابه في الصلاة
والطهارة به لو كان ماء، ثم يلزم أن يكون الماء الذي يغسل به الميت طاهرا ومطهرا،
ويلزمك حينئذ أن تكون ملاقاته مؤثرة في الثوب منعا وغسلا وغير مؤثرة في الماء
القليل وهو باطل. انتهى.
قال في المعالم بعد نقله هنا كلام المحقق (قدس سره): " وكأنه أراد من النجاسة
التي ادعى الاجماع على تنجيس المائع بوقوعها فيه ما يشمل المتنجس لينتظم الدليل مع
الدعوى وإلا فالاجماع على تأثير عين النجاسة لا يدل على تأثير المتنجس كما هو واضح،
وإذا ثبت انعقاد الاجماع على تأثير المتنجس مع الرطوبة كالنجاسة واندفع به قول ابن

(1) راجع التعليقة 1 ص 68.
243

إدريس فكذا يندفع به قول العلامة، وربما نازعا في تحقق هذا الاجماع انتهى،
وظاهره أنه لا دليل على تعدي النجاسة من المتنجس مع ملاقاته بالرطوبة غير الاجماع مع أنه قد ورد في كثير من الأخبار الأمر بغسل الثوب والبدن وإعادة الصلاة من ملاقاة
الماء المتنجس كما في أحاديث البئر وغيرها وهي كثيرة متفرقة في الأحكام.
وأما المحدث الكاشاني فإنه قد تفرد بالقول بأن المتنجس بعد إزالة عين النجاسة
عنه بالتمسح لا تتعدى نجاسته إلى ما يلاقيه برطوبة، وقد تقدم البحث معه في ذلك في
صدر الباب الثاني في الوضوء إلا أنا لم نعط المسألة فيه حقها من التحقيق، وحيث كان
الأنسب بها هو هذا المقام فلا بد من ذكرها وإعادة البحث فيها بما يحيط بأطراف
الكلام بابرام النقض ونقض الابرام، وسيأتي البحث فيها هنا في مسألة على حدة
قريبا إن شاء الله تعالى.
(المسألة الثانية) لا ريب في الحكم بالتنجيس متى حصل العلم بملاقاة النجاسة
على الوجه الذي بينا كونه مؤثرا في التنجيس، أما لو استند ذلك إلى الظن فقد اختلف
في ذلك كلام الأصحاب على أقوال: (الأول) القول بعدم تأثير الظن مطلقا وإن
استند إلى سبب شرعي بل لا بد من القطع واليقين، وهو المنقول عن ابن البراج
الشيخ عبد العزيز الطرابلسي. (الثاني) الاكتفاء بالظن وقيامه مقام العلم مطلقا استند إلى
سبب شرعي كشهادة العدلين واخبار المالك أم لا، وهو المنقول عن الشيخ أبي الصلاح
تقي بن نجم الحلبي. (الثالث) أنه إن استند إلى سبب شرعي من شهادة العدلين
وأخبار ذي اليد وإن لم يكن عدلا قبل وإلا فلا، وهو قول جماعة من الأصحاب:
منهم العلامة في المنتهى وموضع من التذكرة، قال في المنتهى: لو أخبر عدل بنجاسة
الماء لم يجب القبول أما لو شهد عدلان فالأولى القبول. وقال في موضع آخر: لو أخبر
العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول ولو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول أيضا.
واحتج لقبول العدلين بأن شهادتهما معتبرة في نظر الشارع قطعا ولهذا لو كان الماء مبيعا
244

فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا وشهد له عدلان ثبت جواز الرد. وقال في المعالم
بعد نقل ذلك عنه: وما فصله في المنتهى هو المشهور بين المتأخرين وقد ذكر نحوه في
موضع من التذكرة. (الرابع) أنه إن استند إلى سبب كقول العدل فهو كما لو
علم وإن لم يستند إلى سبب كما في ثياب مدمني الخمر والقصابين والصبيان وطين الشوارع
والمقابر المنبوشة لم يحكم بالتنجيس اختاره العلامة في موضع من التذكرة، وجزم المحقق
في المعتبر بعدم القبول مع أخبار العدل الواحد، ونقل عن ابن البراج القول بعدم القبول
أيضا في العدلين، ثم قال والأظهر القبول لثبوت الأحكام بشهادتهما عند التنازع كما لو
اشتراه وادعى المشتري نجاسته قبل العقد فلو شهد شاهدان لساغ الرد وهو مبني على
ثبوت العيب. ونفى عنه البأس في المعالم بعد نقله، ونسبه العلامة في المختلف إلى ابن إدريس
أيضا، وربما قد قيد بعضهم قبول خبر العدلين في ذلك بذكر السبب. قال لاختلاف العلماء
في المقتضي للتنجيس إلا أن يعلم الوفاق فيكتفى بالاطلاق، ونقله في المعالم عن بعض
الأصحاب واستحسنه قال وهذا الاشتراط حسن ووجهه ظاهر، ثم نقل فيه أنه قيد جماعة
الحكم بقبول أخبار الواحد بنجاسة مائه بما إذا وقع الأخبار قبل الاستعمال فلو كان بعده
لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له فإن ذلك في الحقيقة أخبار بنجاسة الغير فلا يكفي
فيه الواحد وإن كان عدلا، ولأن الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه إذ هو في معنى
الاتلاف أو نفسه، قال وبهذا التقييد صرح في التذكرة.
أقول: هذا ملخص ما حضرني من الأقوال في المسألة، وقد روى المشايخ
الثلاثة (رضوان الله عليهم) بأسانيدهم المعتبرة عن الصادق (عليه السلام) (1) أنه قال: " الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر " وروى الشيخ عن حفص بن غياث عن جعفر
عن أبيه عن علي (عليهم السلام) (2) قال: " ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم "

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من الماء المطلق.
(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات
245

والظاهر أن من اعتبر القطع واليقين كما تقدم نقله عن ابن البراج حمل العلم هنا على ذلك
كما هو اصطلاح أهل المعقول، ولهذا نقل عنه الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الطهارة
معلومة بالأصل وشهادة الشاهدين لا تفيد إلا الظن فلا يترك لأجله المعلوم. ومن اعتبر
الظن الشرعي مطلقا كأبي الصلاح حمل العلم هنا على ما هو أعم من اليقين والظن مطلقا
ولهذا نقل عنه الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الشرعيات كلها ظنية وأن العمل بالمرجوح
مع قيام الراجح باطل. ومن اعتبر الظن المستند إلى سبب شرعي حمل العلم على ما هو
أعم من اليقين أو العلم الشرعي، ويقرب منه القول الرابع كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد أجاب في المعالم عن حجة ابن البراج بأن شهادة
العدلين في معنى العلم شرعا، وبأن معلومية الطهارة بالأصل إن أراد بها تيقن عدم عروض
منجس فهو ممنوع وإن أراد حكم الشارع بالطهارة قطعا استنادا إلى الأصل فكذلك
شهادة الشاهدين. انتهى.
أقول: وتحقيق ذلك بوجه أوضح وببيان أفصح هو أن يقال: (أولا) إن
اشتراطه اليقين والعلم في الحكم بالنجاسة إن كان مخصوصا بالنجاسة دون ما عداها
من الطهارة والحلية والحرمة فهو تحكم محض، وإن كان الحكم في الجميع واحدا فيقين
الطهارة الذي اعتمده ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة وهو أعم من العلم بالعدم
ومثله يقين الحلية. و (ثانيا) أنه قد روى الشيخان الكليني والطوسي في الكافي
والتهذيب بسنديهما عن الصادق (عليه السلام) في الجبن (1) قال: " كل شئ لك
حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة " ورويا أيضا بسنديهما عنه
(عليه السلام) (2) " كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل
نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، إلى أن قال والأشياء

(1) رواه في الوسائل في الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة
(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب ما يكتسب به.
246

كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة " والحكم في المسألتين من
باب واحد بل الخبران وإن كان موردهما الحل والحرمة إلا أن التحريم في الخبر الأول
إنما نشأ من حيث النجاسة والخبران صريحان في الاكتفاء بالشاهدين في ثبوت كل
من النجاسة والحرمة.
ومما يؤيد الاكتفاء بشهادة العدلين في الحكم بالنجاسة أن الظاهر أنه لا خلاف
ولا اشكال في أنه لو كان الماء مبيعا فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا وأقام شاهدين
عدلين بذلك فإنه يتسلط على الفسخ وما ذاك إلا لثبوت النجاسة والحكم بها كما قد تقدم
ذكره في عبارتي المحقق والعلامة. وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين من
إمكان المناقشة في ذلك بأن اعتبار شهادتهما في نظر الشارع مطلقا بحيث يشمل ما نحن فيه
ممنوع وقبول شهادتهما في الصورة المفروضة لا يدل على أزيد من ترتب جواز الرد
أو أخذ الأرش عليه وأما أن يكون حكمه حكم النجس في سائر الأحكام فلا بل لا بد له
من دليل. انتهى مما لا ينبغي أن يصغى إليه، كيف واستحقاق جواز الرد أو أخذ
الأرش إنما هو فرع ثبوت النجاسة وحكم الشارع بها ليتحقق العيب الذي هو سبب لذلك
ومتى ثبتت النجاسة شرعا ترتبت عليها أحكامها التي من جملتها هنا العيب الموجب
للرد والأرش.
وأما ما احتج به أبو الصلاح فإنه قد أجاب عنه في المعالم بالمنع من العمل بمطلق
الظن شرعا، قال وثبوته في مواضع مخصوصة لدليل خاص لا يقتضي التعدية إلا
بالقياس. وهو جيد، ويؤكده أن المستفاد من الأخبار أن يقين الطهارة ويقين
الحلية لا يخرج عنه إلا بيقين مثله كالأخبار الواردة في من تيقن الطهارة من الحدث والطهارة
من الخبث في ثوبه أو بدنه فإنه لا يخرج عن ذلك إلا بيقين مثله، ومن تلك الأخبار
صحيحة عبد الله بن سنان (1) في الثوب إذا أعير الذمي وهو يعلم أنه يشرب الخمر

(1) المروية في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.
247

ويأكل لحم الخنزير حيث قال (عليه السلام): " صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك
فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه
نجسه " وما ورد في الجبن من قوله (عليه السلام) (1): " ما علمت أنه ميتة فلا تأكله
وما لم تعلم فاشتر وبع وكل، إلى أن قال والله إني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم
والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان " وما ورد في موثقة
عمار (2) " في الرجل يجد في إنائه فأرة وكانت متفسخة وقد توضأ من ذلك الإناء
مرارا واغتسل وغسل ثيابه، حيث قال (عليه السلام) ليس عليه شئ لأنه لا يعلم متى
سقطت، ثم قال لعله إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها " ولا يخفى أنه لو جاز العمل
بالظن مطلقا لكان الوجه هو النجاسة والحرمة في جميع ما دلت عليه هذه الأخبار وأمثالها
على طهارته وحليته ولا سيما موثقة عمار لظهورها في سبق موت الفأرة لمكان التفسخ
مع أنه (عليه السلام) عملا بسعة الشريعة لم يلتفت إلى ذلك وقال: " لعلها إنما سقطت
تلك الساعة " ومنها ما ورد في صحيحة زرارة (3) في إصابة المني للثوب من أنه " إذا
احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه وإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن
ولم ير مكانه فلينضحه بالماء.. الحديث " وهو صريح في المطلوب والنضح فيه محمول
على الاستحباب كما في نظائره.
والتحقيق عندي في هذا المقام بما لا يحوم للناظر حوله نقض ولا ابرام هو أن
كلا من الطهارة والنجاسة والحل والحرمة ليست أمورا عقلية بل هي أمور شرعية مبنية
على التوقيف من صاحب الشرع ولها أسباب معينة معلومة منه تدور مدارها، والمعلوم

(1) رواه في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 4 من الماء المطلق.
(3) لم نعثر في كتب الحديث على رواية لزرارة بهذا اللفظ وإنما الوارد بهذا اللفظ
حسنة الحلبي المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات وقد تقدمت ج 1 ص 138.
248

منه أن حصول الطهارة والحلية هي عبارة عن عدم علم المكلف بالنجس والمحرم لا عبارة عن
عدم ملاقاة النجاسة وحصول السبب المحرم واقعا، وحصول النجاسة عبارة عن مشاهدة
المكلف لذلك أو أخبار المالك بنجاسة مائه وثوبه مثلا أو شهادة الشاهدين وهكذا في
ثبوت الحرمة، وليس ثبوت النجاسة لشئ واتصافه بها عبارة عن مجرد ملاقاة عين
أحد النجاسات في الواقع ونفس الأمر خاصة وإن كان هو المشهور حتى أنه يقال بالنسبة
إلى غير العالم بالملاقاة أن هذا نجس في الواقع وطاهر بحسب الظاهر بل هو نجس بالنسبة
إلى العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المتقدمة طاهر بالنسبة إلى غير العالم، والشارع لم يجعل
شيئا من الأحكام الشرعية منوطا بالواقع ونفس الأمر. وحينئذ فلا يقال إن أخبار
المالك وشهادة العدلين إنما يفيدان ظن النجاسة لاحتمال أن لا يكون كذلك في الواقع
كيف وهما من جملة الأسباب التي رتب الشارع الحكم بالنجاسة عليها، وبالجملة فحيث
حكم الشارع بقبول شهادة العدلين وأخبار المالك في ذلك فقد حكم بثبوت الأحكام بهما
فيصير الحكم حينئذ معلوما من الشارع ولا معنى للنجس شرعا كما عرفت إلا ذلك وإن فرض
عدم ملاقاة النجاسة في الواقع، ألا ترى أنه وردت الأخبار وعليه اتفاق كلمة الأصحاب أن
الأشياء كلها على يقين الطهارة ويقين الحلية حتى يعلم النجس والحرام بعينه مع أن هذا
اليقين كما عرفت ليس إلا عبارة عن عدم العلم بالنجاسة والحرمة وعدم العلم لا يدل على العدم،
فيجوز أن تكون تلك الأشياء كلا أو بعضا بحسب الواقع ونفس الأمر على النجاسة والحرمة
لو كان كل من النجاسة والحرمة من الأمور النفس الآمرية الواقعية بدون علم المكلف بذلك،
وكذا القول في حكم الشارع بقبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه وطهارة ما في أسواق المسلمين
وحليته لعين ما ذكرنا، وبالجملة فالعلم واليقين المتعلق بهذه الأحكام ليس عبارة عما
توهموه من الإناطة بالواقع ونفس الأمر وإن لم يظهر للمكلف وأن متيقن النجاسة ليس
إلا عبارة عما وجد فيه النجاسة حتى أنه يصير ما عدا هذا الفرد مما أخبر به المالك أو شهد
به العدلان مظنون النجاسة، إذ لو كان كذلك للزم مثله في جانب الطهارة إذ الجميع من
249

باب واحد فإنها أحكام متلقاة من الشارع فيختص الحكم بالطهارة يقينا حينئذ بما
باشر المكلف تطهيره ولم يغب عنه بعد ذلك وإلا لكان مظنون الطهارة أو مرجوحها،
مع أن المعلوم من الشرع كما عرفت خلافه فإنه قد حكم بأن الأشياء كلها على يقين الطهارة
حتى يعلم المزيل عنها.
ويؤكد ما صرنا إليه في هذا المقام وإن غفل عنه جملة من علمائنا الأعلام ما نقله
في المعالم عن السيد المرتضى (رضي الله عنه) وارتضاه جملة ممن تأخر عنه من أن وجوب
الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث إنها توجب الظن بل من
حيث إن الشارع جعلها سببا لوجوب الحكم على القاضي كما جعل دخول الوقت سببا
لوجوب الصلاة. وأيده بعض من تأخر عنه بأنه كثيرا ما لا يحصل الظن بشهادتهما
لمعارضة قرينة حالية مع وجوب الحكم على القاضي. انتهى. ومثله يأتي فيما ذكرنا من
الأسباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.
ومما ذكرناه من هذا التحقيق الرشيق يظهر لك أن أظهر الأقوال هو القول المشهور
وأن الخبر المتقدم أعني قوله (عليه السلام): " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر " ظاهر
الانطباق عليه، والتقريب فيه أن المراد بالعلم فيه ما هو المتبادر من اللفظ وهو اليقين
والقطع لكن لا بالنظر إلى الواقع ونفس الأمر من حيث هو إذ لا مدخل له كما عرفت
في الأحكام الشرعية بل بالنظر إلى الأسباب التي جعلها الشارع مناطا للنجاسة وعلم
المكلف بها، فيقين الطهارة والنجاسة إنما يدور على ذلك وجودا وعدما فالطاهر شرعا
هو ما لم يعلم المكلف بملاقاة النجاسة له لا ما لم تلاقه النجاسة مطلقا والنجس هو ما علم
المكلف بنجاسته بأحد الأسباب لا ما لاقته النجاسة مطلقا.
ولم أقف على من تنبه لما ذكرنا من هذا التحقيق في المقام من علمائنا الأعلام إلا
الفاضل المحقق السيد نعمة الله الجزائري في رسالة التحفة، حيث قال بعد أن نقل عن بعض
معاصريه من علماء العراق وجوب عزل السؤر عن الناس، ونقل عنهم أن من أعظم
250

أدلتهم قولهم إنا قاطعون بأن في الدنيا نجاسات وقاطعون أيضا بأن في الناس من لا يتجنبها
والبعض الآخر لا يتجنب ذلك البعض فإذا باشرنا أحدا من الناس فقد باشرنا مظنون
النجاسة أو مقطوعها، إلى أن قال فقلنا لهم يا معشر الإخوان إن الذي يظهر من أخبار
الأئمة الأطهار (عليهم السلام) التسامح في أمر الطهارات وأن الطاهر والنجس هو
ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته لا ما باشرته النجاسة والطهارة فالطاهر ليس هو الواقع
في نفس الأمر بل ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس وليس له واقع سوى حكم
الشارع بطهارة المسلمين فصاروا طاهرين، إلى أن قال وبهذا التحقيق.. إلى آخر ما سيأتي
نقله في المقام إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذكره العلامة في التذكرة من ثبوت النجاسة بالعدل الواحد فقد تقدم
رد المحقق له في المعتبر وانكار العلامة في المنتهى له أيضا، قال في المعالم وأما ما ذهب
إليه في التذكرة فلم يتعرض للاحتجاج عليه فيها ولكنه في النهاية احتمل قبول أخبار
العدل الواحد بنجاسة إناء معين إن وجد غيره، ووجهه بأن الشهادة في الأمور المتعلقة
بالعبارة كالرواية والواحد فيها مقبول فيقبل بشبهها من الشهادة. وربما كان التفاته في
كلام التذكرة إلى نحو هذا التوجيه، وحاله لا يخفى. انتهى.
أقول: الحق عندي أن قبول قول العدل الواحد في هذا المقام لا يخلو من قوة لا لما
ذكر من هذا التعليل السخيف بل لدلالة جملة من الأخبار على إفادة قوله العلم، ومنها
ما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " سألته
عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا فقال لي إن حدث بي حدث فاعط فلانا
عشرين دينارا واعط أخي بقية الدنانير فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق
فقال لي إنه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدق
منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين ولم يعلم أخوه أن عندي شيئا؟ فقال أرى أن

(1) رواه في الوسائل في الباب 97 من كتاب الوصايا.
251

تتصدق منها بعشرة دنانير كما قال " وفيه دلالة على ثبوت الوصية بقول الثقة. وما رواه
الشيخ في التهذيب والصدوق عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه
السلام) (1) في حديث قال فيه: " إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض
أبدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة "
والأصحاب قد صرحوا في هذه المسألة بأنه لا ينعزل الوكيل إلا مع العلم، ومنه يعلم أن نظم
أخبار الثقة في سلك المشافهة الموجبة للعلم ظاهر في أنه مثله في إفادة العلم المشترط في المسألة
ونحو ذلك من الأخبار الدالة على جواز وطء الأمة بغير استبراء إذا كان البائع عدلا
قد أخبر بالاستبراء، والأخبار الدالة على الاعتماد في دخول الوقت المشروط فيه العلم
على أذان الثقة، إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع، وبذلك يظهر قوة
القول المذكور كما قدمنا الإشارة إليه وإن لم تخطر هذه الأدلة ببال صاحبه.
تنبيهات
(الأول) ظاهر الأصحاب الاتفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه
وإنائه ونحوهما ونجاستهما، وناقش فيه المحقق الخوانساري في شرح الدروس حيث
قال: وأما قبول قول المالك عدلا كان أو فاسقا فلم نظفر له على حجة وقد يؤيد بما رواه
في التهذيب عن إسماعيل بن عيسى (2) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن
جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما
غير عارف؟ قال عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلون
فيه فلا تسألوا عنه " وجه التأييد أن ظاهره أن قول المشركين يقبل في أموالهم أنها ذكية وإلا
فلا فائدة في السؤال عنهم وإذا قبل قول المشركين فقول المسلمين بطريق أولى. لكن

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من كتاب الوكالة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 50 من أبواب النجاسات.
252

سند الرواية غير نقي ما أن في الظهور المذكور تأملا. انتهى.
أقول: ما ذكره من الرواية المذكورة وزعم دلالتها على قبول المشرك فالظاهر أن المعنى فيها ليس على ما فهمه وإن كان قد سبقه فيه إلى ذلك المحدث الكاشاني في الوافي
أيضا حيث قال بعد نقل الخبر المذكور: وإنما يجب السؤل إذا كان البائع مشركا لغلبة الظن
حينئذ بأنه غير ذكي إلا أن يخبر هو بأنه من ذبيحة المسلمين فيصير بالسؤال مشكوكا فيه
فجاز لبسه حينئذ حتى يعلم كونه ميتة. انتهى. ولا يخفى أنه يرد على هذا التفسير
(أولا) أنه لا مناسبة في ارتباط الجواب بالسؤال إذ السائل إنما سأل عن الاشتراء من
المسلم فكيف يجاب على تقدير الاشتراء من المشترك؟ و (ثانيا) أنه لا معنى لقوله في
آخر الخبر: " وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه " والأظهر عندي في معنى الخبر
المذكور هو أنه لما سأل السائل عن حكم الشراء من السوق المذكورة إذا كان البائع مسلما
وأنه هل يسأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب (عليه السلام) بالتفصيل بأنه إن كان في تلك
السوق من يبيع من المشركين فعليكم السؤال من ذلك المسلم إذ لعله أخذه من المشركين
وإذا رأيتم المسلم يصلي فيه فلا تسألوا لأن صلاته فيه دليل على طهارته عنده، ويفهم من
الخبر بمفهوم الشرط أنه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليهم السؤال.
ومما يدل على عدم السؤال اطلاق صحيحة البزنطي (1) قال: " سألته عن الرجل
يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم
ليس عليكم المسألة إن أبا جعفر (عليه السلام) كأن يقول إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم
بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك " وأنت خبير بأن الظاهر من الصحيحة المذكورة
حيث تضمنت نفي المسألة المؤكد بالرد على الخوارج ونسبتهم إلى تضييق الدين بالمسألة
أو ما هو نحوها أن مع السؤال يقبل قول المسؤول وإلا لما حصل الضيق في الدين بالسؤال
كما لا يخفى، إذ الظاهر أن المراد من الخبران جميع الأشياء بمقتضى سعة الدين المحمدي

(1) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات و 55 من لباس المصلي
253

على ظاهر الحل والطهارة، والسؤال والفحص عن كل فرد فرد بأنه حلال أو حرام
أو طاهر أو نجس تضييق لها ورفع لسهولتها التي قد من الشارع بها على عباده، ومعلوم
أن حصول الضيق إنما يتم بقبول قول المالك بالنجاسة والحرمة. ومما يدل على المنع من
السؤال أيضا بعض الأخبار الواردة في الجبن حيث إنه (عليه السلام) أعطى الخادم
درهما وأمره أن يبتاع به من مسلم جبنا ونهاه عن السؤال (1) وحينئذ ففي هذه الأخبار
ونحوها دلالة على قبول قول المالك عدلا كان أو غيره.
ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد الله بن بكير (2)
قيل: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو
لا يصلي فيه؟ قال لا يعلمه. قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد " وهي كما ترى صريحة في
قبول قول المالك في طهارة ثوبه ونجاسته لحكمه (عليه السلام) بإعادة الصلاة على المستعير
لو صلى بعد الاعلام، ويدل على ذلك أيضا موثقة معاوية بن عمار (3) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول قد
طبخ على الثلث وأنا أعلم أنه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟
فقال لا تشربه. قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا
يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه نشرب منه؟ قال
نعم " ورواية علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن الرجل
يصلي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب زعم أنه على الثلث أيحل شربه؟ قال لا يصدق
إلا أن يكون مسلما عارفا " وموثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليه السلام) (5)
" أنه سأل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول هذا مطبوخ على الثلث؟ فقال إن كان

(1) وهو خبر بكر بن حبيب المروي في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة
(2) رواه في الوسائل في الباب 47 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 7 من الأشربة المحرمة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 7 من الأشربة المحرمة.
(5) المروية في الوسائل في الباب 7 من الأشربة المحرمة.
254

مسلما ورعا مأمونا فلا بأس أن يشرب " وقد دلت هذه الأخبار على قبول قول
المالك إلا في مقام الريبة وحصول الظن بكذبه وهو أمر خارج عن موضع البحث.
(الثاني) قد عرفت ما تقدم أن الأصل الطهارة في كل شئ حتى يقوم الدليل
الشرعي على النجاسة ولا يكفي مجرد الظن، وهذا الأصل وإن لم يرد بقاعدة كلية فيما
سوى الماء إلا ما يتناقله الفقهاء في كتب الاستدلال من قوله (عليه السلام): " كل
شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " مع عدم وجوده في كتب الأخبار فيما أعلم إلا أن هذه
مستفادة من جملة من الأخبار بضم بعضها إلى بعض بل ظاهرة من بعضها أيضا.
ومنها ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن الصادق (عليه السلام) (1)
في حديث قال: " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم
فليس عليك " وهذا الخبر في معنى الخبر المشهور المشار إليه إذ المراد بالنظافة
إنما هو الطهارة.
وعن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) (2) قال
قال: " ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم ".
ومنها صحيحة عبد الله بن سنان (3) قال: " سأل أبي أبا عبد الله (عليه
السلام) وأنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير
فيرده علي فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام) صل فيه ولا تغسله
من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس أن تصلي فيه
حتى تستيقن أنه نجسه ".
وفي الصحيح عن معاوية بن عمار (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

(1) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات
(4) رواه في الوسائل في الباب 73 من النجاسات.
255

عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك
الحال ألبسها ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال نعم. قال معاوية فقطعت له قميصا وخطته
وفتلت له أزرارا ورداء من السابري ثم بعثت بها إليه (عليه السلام) في يوم الجمعة
حين ارتفع النهار فكأنه عرف ما أريد فخرج فيها إلى الجمعة ".
ورواية أبي جميلة عن الصادق (عليه السلام) (1): " أنه سأله عن ثوب المجوسي
ألبسه وأصلي فيه؟ قال نعم قال قلت يشربون الخمر؟ قال نعم نحن نشتري الثياب
السابرية فنلبسها ولا نغسلها ".
وروى عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر بن
محمد عن أبيه (عليهما السلام) (2) " أن عليا (عليه السلام) كان لا يرى بالصلاة بأسا في
الثوب الذي يشترى من النصارى واليهود والمجوس قبل أن يغسل يعني الثياب التي
تكون في أيديهم فينجسونها وليس ثيابهم التي يلبسونها " قوله " يعني الثياب.. الخ "
من كلام الراوي تفسيرا لما ذكره من الخبر، والظاهر أن مراده أنها مظنة للنجاسة وأنها
لا تخلو منها غالبا.
وفي الصحيح عن زرارة (3) قال: " قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره،
ثم ساق الخبر إلى أن قال قلت: فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا
ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد الصلاة. فقلت لم ذاك؟ قال لأنك كنت
على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا "
وهذا الخبر وإن كان مضمرا في التهذيب إلا أنه مروي عن أبي جعفر (عليه السلام)

(1) المروية في الوسائل في الباب 73 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 7 و 37 و 41 و 42 و 44 من النجاسات
بنحو التقطيع.
256

كما صرح به في كتاب العلل (1) وهو صريح في الدلالة على كلية الحكم المذكور وأنه
لا ينصرف عن يقين الطهارة بالظن بل لا بد من اليقين الشرعي.
وفي الصحيح عن ضريس الكناسي (2) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام)
عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال أما ما علمت أنه
خلطه الحرام فلا تأكله وأما ما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام " والمراد بالحرام هنا النجس
فإنه كثيرا ما يطلق على ذلك كما قدمنا ذكره في الكتاب.
وصحيحة الحلبي المروية في الكافي (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال صل فيها حتى يقال لك
أنها ميتة بعينها ".
وصحيحته الأخرى المروية في التهذيب (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينة ".
ورواية الحسن بن الجهم (5) قال: " قلت لأبي الحسن (عليه السلام) أعترض
السوق فاشترى خفا لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال صل فيه. قلت فالنعل؟ قال مثل
ذلك. قلت إني أضيق من هذا، قال أترغب عن ما كان أبو الحسن (عليه السلام) يفعله؟ "
وصحيحة البزنطي المتقدمة في سابق هذا التنبيه ومثلها رواية سليمان بن جعفر
الجعفري (6) " أنه سأل العبد الصالح موسى بن جعفر (عليه السلام) عن الرجل يأتي
السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس
عليكم المسألة أن أبا جعفر (عليه السلام) كأن يقول إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم
بجهالتهم أن الدين أوسع من ذلك ".

(1) ص 127
(2) رواه في الوسائل في الباب 64 من أبواب الأطعمة المحرمة
(3) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.
(6) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.
257

ورواية المعلي بن خنيس (1) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول
لا بأس بالصلاة في الثياب التي يعملها المجوس والنصارى واليهود ".
وروى في قرب الإسناد عن أحمد بن عيسى عن البزنطي عن الرضا
(عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الخفاف يأتي الرجل السوق فيشترى الخف لا يدري
أذكي هو أم لا ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري؟ قال نعم أنا أشتري الخف من السوق
وأصلي فيه وليس عليكم المسألة ".
وبهذا الاسناد (3) قال: " سألته عن الجبة الفراء يأتي الرجل السوق من أسواق
المسلمين فيشترى الجبة لا يدري أذكية هي أم لا يصلي فيها؟ قال نعم إن أبا جعفر (عليه
السلام) كأن يقول إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم إن الدين أوسع من ذلك أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كأن يقول إن شيعتنا في أوسع ما بين السماء إلى
الأرض أنتم المغفور لكم ".
إلا أنه قد ورد بإزاء هذه الأخبار ما ظاهره المنافاة والبناء على الظن ولعله مستند
أبي الصلاح فيما تقدم نقله عنه من الاكتفاء في ثبوت النجاسة بمجرد الظن:
ومنها صحيحة عبد الله بن سنان (4) قال: " سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري ويشرب الخمر فيرده عليه أيصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال لا يصل فيه حتى يغسله ".
ورواية أبي بصير (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في
الفراء فقال كان علي بن الحسين (عليه السلام) رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز لأن

(1) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 50 من النجاسات
(3) قرب الإسناد ص 171
(4) المروية في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات
(5) المروية في الوسائل في الباب 61 من لباس المصلي.
258

دباغها بالقرظ وكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة
ألقاه وألقى القميص الذي يليه وكان يسأل عن ذلك فيقول إن أهل العراق يستحلون لباس
جلود الميتة ويزعمون أن دباغه ذكاته ".
وروى في مستطرفات السرائر من كتاب البزنطي (1) قال: " وسألته عن
رجل يشتري ثوبا من السوق للبس لا يدري لمن كان يصلح له الصلاة فيه؟ قال إن كان اشتراه
من مسلم فليصل فيه وإن كان اشتراه من نصراني فلا يلبسه ولا يصل فيه حتى يغسله "
ومثلها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (2) قال: " سألته
عن رجل اشترى ثوبا من السوق اللبس لا يدري لمن كان هل يصلح الصلاة فيه؟ قال إن
اشتراه من مسلم صلى فيه وإن اشتراه من نصراني فلا يصل فيه حتى يغسله ".
ورواية محمد بن الحسين الأشعري (3) قال: " كتب بعض أصحابنا إلى
أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال إن كان
مضمونا فلا بأس " أقول: يعني إذا ضمن البائع ذكاته وأخبر بها عن علم.
ومن ذلك رواية عبد الرحمان بن الحجاج (4) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) إني أدخل سوق المسلمين أعني هذا الخلق الذين يدعون الاسلام فأشتري منهم
الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليس هي ذكية؟ فيقول بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها
ذكية؟ فقال لا ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول قد شرط الذي اشتريتها منه أنها ذكية.
قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة وزعموا أن دباغ جلود الميتة
ذكاته ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ".
والشيخ (قدس سره) لم يذكر في الإستبصار سوى خبري عيد الله بن سنان
وقال بعدهما: هذان الخبران راويهما جميعا عبد الله بن سنان والحكاية فيهما عن مسألة أبيه

(1) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 61 من النجاسات.
259

أبا عبد الله (عليه السلام) ولا يجوز أن يتناقض بأن يقول تارة " صل فيه " وتارة " لا تصل فيه "
إلا أن يكون قوله (عليه السلام) " لا تصل فيه " على وجه الكراهية دون الحظر. انتهى
وبالجملة فإن كل من ذكر خبرا من هذا الأخبار فإنما يحمله على الاستحباب لإجماعهم على
العمل بالأخبار الأول التي هي مستند القاعدة المتفق عليها بينهم قديما وحديثا ولا بأس به،
ويدل عليه رواية أبي علي البزاز عن أبيه (1) قال: " سألت جعفر بن محمد (عليهما السلام)
عن الثوب يعمله أهل الكتاب أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال لا بأس وإن يغسل أحب إلي "
وصحيحة الحلبي (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟
قال يرش بالماء " والتقريب في الأولى ظاهر وأما الثانية فلما علم من الأخبار المتكاثرة كما
سيأتي إن شاء الله تعالى أن الأمر بالرش الذي هو النضح إنما هو في مقام زوال النفرة
في الأشياء الطاهرة كملاقاة الكلب باليبوسة ونحوه وإلا فالنجس بنجاسة عينية إنما يؤمر
فيه بالغسل كما لا يخفى. والله العالم.
(الثالث) قال في المعالم: قال بعض الأصحاب لو وجد عدلان في ثوب الغير
أو مائه نجاسة أمكن وجوب الأخبار لوجوب تجنب النجاسة وهو يتوقف على الأخبار المذكور
فيجب، والعدم لأن وجوب التجنب مع العلم لا بدونه لاستحالة تكليف الغافل، قال
وأبعد منه ما لو كان عدلا وأبعد منهما ما لو كان فاسقا ثم قال ولا ريب أن الأخبار
أولى. ثم قال في المعالم وما ذكره في توجيه احتمال الوجوب ظاهر الضعف ولا ريب أن
العدم هو مقتضى الأصل فيجب التمسك به إلى أن يدل دليل واضح على الوجوب وقد
روى الشيخان في الكافي والتهذيب بسند يعد في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما
السلام) (3) قال: " سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟ قال لا يؤذنه
حتى ينصرف " وهذا ربما أشعر بعدم الوجوب. انتهى.

(1) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.
260

أقول: وجدت منسوبا إلى بعض الفضلاء مسألة مذيلة بالجواب بما هذه صورته
مسألة لو رأى المأموم في أثناء الصلاة في ثوب الإمام نجاسة غير معفو عنها فهل يجوز له
الاقتداء في تلك الحال أم لا؟ وهل يجب عليه اعلامه أم لا؟ ولو لم يجز له الاقتداء فهل
يبني بعد نية الانفراد على ما مضى أم يعيد من رأس؟ الجواب: الأولى عدم الائتمام
ويجب الاعلام ويجب الانفراد في الأثناء ويبني على قراءة الإمام. انتهى.
أقول: ما ذكره هذا الفاضل المجيب من وجوب الاعلام قد صرح به العلامة في
أجوبة مسائل السيد السعيد مهنا بن سنان المدني محتجا على ذلك بكونه من باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. وأنت خبير بما في (أما أولا) فلأن الأصل عدمه كما تقدم في
كلام المحقق الشيخ حسن، وأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تشمله لعدم توجه
الخطاب للجاهل والناسي كما ذكروه فلا منكر بالنسبة إليهما ولا معروف. و (أما ثانيا) فلأن
المفهوم من تتبع الأخبار أنه لا يجب الاعلام بمثل، ذلك فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم
المذكورة، ومن ذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) (1): " أن
أبا جعفر (عليه السلام) اغتسل وبقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء فقيل له فقال ما كان
عليك لو سكت؟ ومن ذلك رواية عبد الله بن بكير المروية في كتاب قرب الإسناد (2)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو
لا يصلي فيه؟ قال لا يعلمه. قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد " والمستفاد من هذه الأخبار
كراهة الأخبار فضلا عن الجواز فكيف بالوجوب الذي ذكروه؟ والظاهر أن الوجه في
ذلك هو أنه لما كان بناء الأحكام الشرعية إنما هو على الظاهر في نظر المكلف دون
الواقع ونفس الأمر تحقيقا لبناء الشريعة على السهولة والسعة فإن الفحص والسؤال عن أمثال
ذلك تضييق لها كما استفاضت به الأخبار الدالة على النهي عن السؤال، نهى عن الأخبار
بذلك والاعلام لعين ما ذكرناه في المقام.

(1) المروية في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.
261

وما ذكره من عدم الائتمام ووجوب الانفراد على المأموم فقد نقل شيخنا
أبو الحسن الشيخ سليمان البحراني في رسالته في الصلاة عن المحقق الشيخ علي نحوه ثم نقل
عن بعض المتأخرين الجواز ثم تنظر في الجواز أولا ثم قال بعد نقل القول به: ولا يخلو من
قوة. ولم ينقل دليلا في المقام نفيا ولا اثباتا.
أقول: وتحقيق القول في ذلك مبني على مسألة أخرى وهي أن من صلى في النجاسة
جاهلا بها هل صلاته والحال هذه صحيحة واقعا وظاهرا أو تكون صحيحة ظاهرا باطلة
واقعا إلا أنه غير مؤاخذ لمكان الجهل بالنجاسة؟ ظاهر الأصحاب كما صرح به
شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية هو الثاني حيث قال في مسألة ما لو تطهر بالماء
النجس جاهلا وأن ذلك مبطل لصلاته ما صورته: حتى لو استمر الجهل به حتى مات
فإن صلاته باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها لامتناع تكليف الغافل، هذا هو الذي
يقتضيه اطلاق العبارة وكلام الجماعة، ولا يخفى ما فيه من البلوى فإن ذلك يكاد يوجب
فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسات في نفس الأمر وإن لم يحكم
الشارع ظاهرا بفسادها. فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة وإن استحق أجر
الذاكر المطيع بحركاته وسكناته إن لم يتفضل الله تعالى بجوده عليه. انتهى. وحينئذ فإن
قلنا بما ذكره شيخنا المذكور ونقله عن الأصحاب فإنه يتجه كلام هؤلاء القائلين بتعين
الانفراد ومنه الاقتداء، والظاهر أن ما ذكروه في المسألة مبني على ذلك لظهور بطلان
صلاة الإمام عند المأموم العالم بالنجاسة فلا يجوز له الاقتداء بصلاة باطلة وإن كانت صحيحة
في نظر الإمام لجهله بالنجاسة، وربما احتمل على هذا وجوب الاعلام واندرج تحت
الأمر بالمعروف كما ذكره العلامة أيضا.
إلا أن الأظهر عندي هو الأول لوجوه: (أحدها) ما قدمنا تحقيقه من أن
الشارع لم يجعل الحكم بالطهارة والنجاسة منوطا بالواقع ونفس الأمر وإنما رتبه على
الظاهر في نظر المكلف فأوجب عليه الصلاة في الثوب الطاهر أي ما لم يعلم بملاقاة
262

النجاسة له وإن لاقته واقعا لا ما لم تلاقه النجاسة لأنه تكليف بما لا يطاق وهو مردود
عقلا ونقلا، وحينئذ فإذا صلى المصلي في الثوب المذكور فقد امتثل أمر الشارع وصارت
صلاته صحيحة شرعية إذا خلت من سائر المبطلات.
و (ثانيها) ما أسلفناه من الأخبار الدالة على المنع من الأخبار بالنجاسة وإن
كان في أثناء الصلاة، ولو كان الأمر كما يدعونه من كون النجاسة والطهارة ونحوهما إنما هو
باعتبار الواقع ونفس الأمر وإن تلبس المصلي بالنجاسة جاهلا موجب لبطلان صلاته
واقعا فكيف يحسن من الإمام (عليه السلام) المنع من الايذان بها في الصلاة كما في صحيح
محمد بن مسلم أو قبلها كما هو أحد الوجهين في رواية ابن بكير وهل هو بناء على ما ذكروه
إلا من قبيل التقرير على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في بطلانه.
و (ثالثها) أنه يلزم على ما ذكروه عدم الجزم بصحة شئ من العبادات
إلا نادرا كما اعترف به شيخنا الشهيد الثاني فيما قدمنا من عبارته في شرح الرسالة،
وبنحوه صرح المحدث السيد نعمة الله الجزائري على أثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه
في أصل المسألة حيث قال: وبهذا التحقيق يظهر لك بطلان ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب
من أن من تطهر بماء نجس فاستمر الجهل به حتى مات فصلاته باطلة غايته عدم المؤاخذة
عليها لامتناع تكليف الغافل، ولو صح هذا الكلام لوجب فساد جميع العبادات
المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسة في نفس الأمر. انتهى. وبذلك يظهر لك أن
الأصح هو صحة صلاة المصلي بالنجاسة جهلا ظاهرا وواقعا واستحقاق الثواب عليها، وبه
يتضح أنه لا وجه للانفراد في أثناء الصلاة بسبب رؤية النجاسة كما ذكره المجيب
والمحقق الشيخ علي.
(فإن قيل): ما ذكرتموه متجه على تقدير حمل الإمام على كونه بالنجاسة أما مع
احتمال العلم بها ونسيانها وقت الصلاة فالمشهور بين الأصحاب وجوب الإعادة في الوقت
وقيل في خارجه أيضا، وعليه فلا يتم ما ذكرتم لأن وجوب الإعادة كاشف عن البطلان
263

(قلنا) فيه (أولا) إنه قد تقرر في كلامهم وعليه دلت الأخبار أيضا حمل أفعال
المسلمين على الصحة وأن الفعل متى احتمل الصحة والبطلان فإنه يحمل على الوجه المصحح
حتى يظهر دليل البطلان، وهذا أصل عندهم قد بنوا عليه أحكاما عديدة في العبادات
والمعاملات كما لا يخفى على المتدرب، وحينئذ فنقول لما ثبت صحة الصلاة في النجاسة
جهلا فعلى تقدير القول ببطلان الصلاة نسيانا فمقتضى القاعدة المذكورة في هذه النجاسة
المرئية المحتملة لكونها مجهولة أو منسية الحمل على الوجه الصحيح إذ الأصل هو الصحة،
والناس في سعة مما لم يعلموا (1) فلا يكون مجرد الرؤية موجبا للحكم ببطلان الصلاة.
و (ثانيا) أن مقتضى اطلاق صحيحة محمد بن مسلم الدالة على المنع من الاعلام
بالنجاسة شمول الجهل والنسيان ولعل وجهه أن الناسي في حال نسيانه كالجاهل في حال
جهله غير مخاطب بما أخل به فتكون صلاته صحيحة على التقديرين. والله العالم.
(الرابع) ربما دلت الروايات المتقدمة من حيث الدلالة على كراهة الأخبار
بالنجاسة على أنه يجوز للانسان إذا كان عنده طعام نجس أن يبيعه ممن لا يعلم بالنجاسة
أو يطعمه إياه وأنه لا إثم عليه ولا حرج سيما رواية عبد الله بن بكير الدالة على جواز
إعارة الثوب الذي لا يصلي فيه من حيث النجاسة لمن يصلي فيه من غير أن يعلمه (2)
والتقريب فيها أنه إن لم يكن أمر الصلاة أشد والمنع فيها آكد فلا يكون أقل من الأكل
أو البيع، ويؤيد ذلك ما قدمنا من أنه طاهر في نظر المشتري والأكل والطهارة
والنجاسة ليست منوطة بالواقع وإنما هي منوطة بعلم المكلف وعدمه وهذا المفروض وإن
كان نجسا بالنسبة إلى المالك إلا أنه طاهر بالنسبة إلى الآخر.
والقول بذلك لا يخلو من قوة إلا أن ظواهر جملة من الأخبار تدفعه مثل صحيحة

(1) لم نجد في كتب الحديث خبرا بهذا اللفظ وقد ورد في حديث السفرة (هم في
سعة حتى يعلموا " وقد رواه في الوسائل في الباب 50 من النجاسات و 38 من الذبائح و 23
من اللقطة، وقد تقدم الحديث في التعليقة 2 ص 43 ج 1.
(2) ص 261.
264

ابن أبي عمير عن بعض أصحابه (1) قال وما أحسبه إلا حفص بن البختري قال:
" قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) في العجين يعجن بالماء النجس كيف يصنع به؟ قال
يباع ممن يستحل أكل الميتة " وفي الصحيح عن ابن أبي عمير أيضا عن بعض أصحابه
عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " يدفن ولا يباع " وما رواه الشيخ في الصحيح
عن الحلبي (3) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إذا اختلط الذكي بالميتة
باعه ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه " ومثلها حسنته أيضا (4) وقد تقدم أيضا في صدر الفصل
الخامس (5) في رواية معاوية بن عمار (6) المتضمنة للسؤال عن جرذ مات في سمن أو زيت
أو عسل أنه قال: " تبيعه وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به ".
والمسألة لذلك غير خالية من الاشكال، والتأويل في الأخبار الأولة بالحمل على
أخبار الغير بنجاسة ثوبه أو بدنه أو نحوهما وإن أمكن في صحيحة محمد بن مسلم كما هو
مورد الرواية المذكورة فلا منافاة بينها وبين هذه الأخبار إلا أن رواية عبد الله بن بكير
لا تقبل ذلك لكون النهي فيها بالنسبة إلى المالك وأنه يجوز أن يعير ثوبه النجس ولا
يخبر بنجاسته وهو ظاهر المنافاة لهذه الأخبار ومؤيد بما ذكرناه من القاعدة في الباب،
وفي معنى رواية ابن بكير المذكورة صحيحة العيص بن القاسم (7) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياما ثم إن صاحب الثوب أخبره
أنه لا يصلي فيه؟ قال لا يعيد شيئا من صلاته " والتقريب فيها تقريره (عليه السلام)
السائل على إعارته ثوبه النجس لمن يصلي فيه إذ من المعلوم أن صلاة ذلك الرجل فيه إنما
تكون بإذن صاحبه وإعارته إياه، وتقريره (عليه السلام) حجة كما تقرر في موضعه.

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب الأسئار
(2) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب الأسئار
(3) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الأطعمة المحرمة
(4) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الأطعمة المحرمة
(5) ص 56
(6) هكذا فيما وقفنا عليه من النسخ والصحيح (معاوية بن وهب)
كما في كتب الحديث.
(7) المروية في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.
265

(فإن قيل) إن الخبرين المذكورين لا دلالة فيهما على نجاسة الثوب المعار فلعل
عدم الصلاة فيه كما في رواية ابن بكير والأخبار بأنه لا يصلي فيه كما في الصحيحة المذكورة
إنما هو لأمر آخر كالغصب ونحوه من الموانع.
(قلنا أولا) إنه قد تقرر عندهم أن عدم الاستفصال في مقام الاحتمال دليل على
العموم في المقال فيكفي دلالة الخبرين على ما ذكرنا بعمومهما. و (ثانيا) إن الأصحاب
إنما فهموا من الروايتين النجاسة ولهذا نظموا صحيحة العيص المذكورة في روايات من
صلى في النجاسة جاهلا ومن ذكر منهم رواية ابن بكير فإنما ذكرها في مقام الصلاة
في النجاسة أيضا.
(المسألة الثالثة) قد تفرد المحدث الكاشاني بالقول بأن المتنجس إذا أزيلت عنه
عين النجاسة بالتمسح ونحوه فإنه لا تتعدى نجاسته إلى ما يلاقيه في موضعها ولو مع الرطوبة
وبالغ في نصرته وشنع على من خالفه، قال في المفاتيح: إنما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة
وأما ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه بالتمسح ونحوه بحيث لا يبقى فيه شئ منها فلا يجب غسله
كما يستفاد من المعتبرة (1) على أنا لا نحتاج إلى دليل على ذلك فإن عدم الدليل على وجوب
الغسل دليل على عدم الوجوب إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا حكم إلا بعد البرهان،
إلا أن هذا الحكم مما يكبر في صدور الذين غلب عليهم التقليد من أهل الوسواس الذين
يكفرون بنعمة الله تعالى ولا يشكرون سعة رحمة الله سبحانه وفي الحديث (2) " أن
الخوارج ضيقوا على أنفسهم وأن الدين أوسع من ذلك " انتهى.
أقول: إن عبارته وكلامه لا يخلو من اجمال واختلال (أما الأول) فإن مقتضى
قوله: " إنما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة " هو أن تعدي النجاسة يدور مدار الملاقاة
لعين النجاسة وجودا وعدما دون الملاقاة للمتنجس أعم من أن تكون عين النجاسة

(1) سيأتي التعرض لها في الصفحة 268 وما بعدها
(2) وهو صحيح البزنطي المتقدم ص 253 ورواية الجعفري ص 257 ورواية قرب
الإسناد ص 258.
266

مصاحبة له أم لا إذا لم يستلزم ملاقاة العين، وعلى هذا يستفاد منه الحكم بطهارة كل
ما لم يلاق عين النجاسة سواء لاقى المحل بعد زوال عين النجاسة عنه كما ذكره أو لاقاه
والعين باقية فيه لكن على وجه لا تصل إلى الملاقي، ومقتضى قوله: " وأما ما لاقى
الملاقي لها بعد ما أزيل عنه العين.. الخ " إن تعدي النجاسة لا يدور مدار ملاقاة العين
بخصوصها بل هو أعم من الملاقاة لها وللمحل الذي هي فيه بشرط كونه مائعا مصاحبا
للنجاسة، وعلى هذا فيستفاد منه تخصيص الطهارة بما لاقى محل النجاسة بعد ما أزيل عنه
العين أعم من أن يكون محل النجاسة مائعا كالدهن المائع ونحوه أو غير مائع كالبدن
والخشب والثوب ونحوها.
و (أما الثاني) فإن كلامه على كلا الاحتمالين مردود، أما على تقدير الاحتمال
الأول من دوران الطهارة والنجاسة مدار الملاقاة للعين وجودا وعدما ففيه أنه معلوم
البطلان لاستفاضة الروايات بما ينافيه كروايات نجاسة الدهن والدبس المائعين بوقوع
الفأرة وموتها فيه ونجاسة الأواني لنجاسة مياهها. وأما على تقدير الاحتمال الثاني ولعل
مراده ذلك ولعل في تصريحه بذلك الفرد الخاص اشعارا به ففيه أن المفهوم من كلامه
كما أشرنا إليه آنفا هو عدم تعدي نجاسة ذلك المحل الذي فيه النجاسة بعد زوال العين منه
أعم من أن يكون مائعا أو جامدا، مثلا لو وضعت إصبعا في دهن نجس بعد رفع عين
النجاسة فإنه لا يقتضي نجاسة الإصبع، وهذا في البطلان أظهر من أن يحتاج إلى بيان
لدلالة الأخبار على نجاسة الدهن ونجاسة ما تعدى إليه ولهذا حرم أكله والانتفاع به إلا
في الاسراج ونحوه، اللهم إلا أن يخص الدعوى بغير المائع كالخشب والثوب والبدن
ونحوها كما هو مورد المعتبرة التي استند إليها. وفيه (أولا) أن الظاهر من كلامه في
مفاتيح النجاسات إنما هو ما ذكرنا من المعنى الأعم الشامل للمائع والجامد حيث إنه بعد
ذكر النجاسات العشرة في مفاتيح متعددة قال ما صورته: مفتاح كل شئ غير ما ذكر
267

فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة للأصل السالم عن المعارض، وللموثق (1)
" كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر " فإن تخصيصه الاستثناء بما يلاقي شيئا من النجاسات
خاصة دون المتنجس ظاهر في طهارة ما لاقى المتنجس صلبا كان أو مائعا بعد إزالة عين
النجاسة أو قبلها ما لم يلاقها. و (ثانيا) أنه مع تسليم ما ذكر فإنه معارض باستفاضة
الأخبار بغسل الأواني والفرش والبسط ونحوها متى تنجس شئ منها إذ من المعلوم أن
الأمر بغسلها ليس إلا لمنع تعدي نجاستها إلى ما يلاقيها برطوبة مما يشترط فيه الطهارة،
ولو كان مجرد زوال العين كافيا في جواز استعمال تلك الأشياء لما كان للأمر بغسلها
فائدة بل كان عبثا لأن تلك الأشياء أنفسها لا تستعمل فيما يشترط فيه الطهارة
كالصلاة ونحوها حتى يقال إن الأمر بغسلها لذلك، وبالجملة لا يظهر وجه حسن لهذا
التكليف لو كان ما ادعاه حقا سيما مع بناء الدين على السهولة والتخفيف في التكاليف
ونفي العسر والحرج، هذا.
وأما المعتبرة التي أشار إليها واعتمد في المقام عليها وهي موثقة حنان بن سدير (2)
قال: " سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال إني ربما بلت فلا أقدر على
الماء ويشتد ذلك علي؟ فقال إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك فإن وجدت شيئا
فقل هذا من ذاك " فهي غير صريحة بل ولا ظاهرة فيما ادعاه بل هي بالدلالة على خلافه
أقرب وبما ندعيه أنسب، وتوضيح ذلك أنه بعد أن نقل هذه الرواية في الوافي نبه على
احتمالها لمعنيين (أحدهما) وهو الذي يظهر عندنا من لفظ الرواية وسياقها هو أن السائل
شكا إليه أنه ربما بال وليس معه ماء ويشتد ذلك عليه بسبب عرق ذكره وبعد ذلك أو
بلل يخرج من ذكره فيلاقي مخرج البول فيتنجس به ثوبه وبدنه، فأمره (عليه السلام)
لذلك بحيلة شرعية يتخلص بها من ذلك وهو أن يمسح غير المخرج من الذكر أعني المواضع

(1) المروي في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء.
268

الطاهرة منه بعد ما ينشف المخرج بشئ حتى لو وجد بللا بعد ذلك لقدر في نفسه أنه
يجوز أن يكون من بلل ريقه الذي وضعه وليس من العرق ولا من المخرج فلم يتيقن
النجاسة من ذلك البلل حينئذ (الثاني) وهو الذي بنى عليه أن تكون شكاية ذلك
السائل إنما هي من انتقاض وضوئه بالبلل الذي يجده بعد المسح لاحتمال كونه بولا،
وقوله: " إنه لا يقدر على الماء " يعني لإزالة ذلك البلل المحتمل كونه بولا فإنه قد
تعدى من المخرج إلى ثوبه وبدنه، فأمره (عليه السلام) أن يمسح ذكره يعني مخرج
البول بعدما مسح البول عنه بريقه حتى لو خرج بعد ذلك بلل صار مشكوكا فيه من
حيث الريق الموضوع على طرف الذكر لاحتمال كونه منه، هذا حاصل كلامه، ثم قال
وهذا المعنى أوفق بالأخبار الأخر.
ثم قال: وهذان الأمران أعني عدم الحكم بالنجاسة إلا بعد التيقن وعدم تعدي
النجاسة من المتنجس بابان من رحمة الله الواسعة فتحهما الله لعباده رأفة بهم ونعمة لهم
ولكن أكثرهم لا يشكرون فينتقم الله منهم بابتلائهم بالوسواس واتباعهم الخناس الذي
يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. انتهى.
أقول: لا يخفى عليك ما في قوله: " وعدم تعدي النجاسة من المتنجس "
من الدلالة على العموم للمائع والجامد كما قدمنا ذكره.
ثم أقول لا يخفى أن ما ذكره من هذا الاحتمال الذي بنى عليه الاستدلال مردود
من وجوه: (أولها) أنه قد ذكر الاحتمالين في معنى الرواية كما قدمنا نقله عنه وهو
لم يذكر مرجحا لهذا الاحتمال الذي استند إليه وقد عرفت أن الاحتمال الآخر لا يجري
فيما ذهب إليه، وقد تقرر بينهم أنه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.
و (ثانيها) أنه لا دلالة في الخبر على هذا الوضوء الذي بنى عليه هذه المباني
المتعسفة وارتكب لأجله هذا التمحلات المتكلفة وإن كان قد سبقه إلى هذا الاحتمال السيد
السند في المدارك أيضا حيث قال بعد نقل خبر حنان: لأنا نجيب عنه أولا بالتقية أو على أن
269

المراد نفي كون البلل الذي يظهر على المحل ناقضا. انتهى.
و (ثالثها) أن الوضوء الذي ذكره لا يكون إلا بعد البول فلم لا غسل
مخرج البول أولا لدفع هذه الحيرة التي شكاها لأنه واجد للماء بزعمه وإزالة البول التي
يكفي فيها مثلا ما على الحشفة لا يحتاج إلى كثير ماء حتى ربما يقال إنه لا زيادة فيه على
الوضوء، فالواجب حينئذ هو إزالة البول أولا ولا سيما على مذهب الصدوق القائل
بابطال الوضوء ووجوب إعادته مع نسيان غسل مخرج البول كما دلت عليه أخباره
التي استند إليها.
و (رابعها) أنه لو كانت شكاية السائل إليه إنما هو من حيث خوف انتقاض
وضوئه بالبلل الخارج من جهة احتمال كونه بولا لكان الأولى جوابه بالأمر بالاستبراء
بعد البول، فإن قضية الاستبراء البناء على طهارة ما يخرج بعده وعدم نقضه للوضوء.
و (خامسها) أنه لو كانت الحكمة في الأمر بوضع الريق على مخرج البول
إنما هو عدم انتقاض الطهارة بأن ينسب ذلك البلل الذي يجده إلى الريق ليكون غير ناقض
ولا ينسبه إلى الخروج من الذكر فيكون ناقضا فأي فرق في ذلك بين الحكم بتعدي النجاسة
من المخرج بعد مسحها وعدم تعديها؟ فإن وجه الحكمة يحصل على كلا التقديرين فلو قلنا
بالتعدي ومسح المخرج بريقه لقصد هذه الحكمة وكون الخارج غير ناقض أمكن وإن
كان نجسا، وبالجملة فإنه لا منافاة بين حصول هذه الحكمة وبين القول بتعدي النجاسة.
وبذلك يظهر أن الوجه الصحيح في معنى الخبر إنما هو المعنى الأول المشتمل على
حكمة ربانية لدفع الوساوس الشيطانية، ويظهر أيضا بطلان ما ذهب إليه ويكون الخبر بناء
على ما اخترنا ظاهرا في الرد عليه، وذلك فإنه لو كان الملاقي للمتنجس بعد إزالة العين
بالتمسح ونحوه لا ينجس لما حسن أمره بوضع الريق لأن المفروض أن المخرج قد أزيلت
عنه عين النجاسة ولم يبق إلا محلها ومحلها لا تتعدى نجاسته كما يدعيه، فأي وجه لهذه
الحكمة بوضع الريق؟ وهو (عليه السلام) إنما أمر بوضعه لدفع احتمال تعدي النجاسة
270

من المحل بالعرق أو خروج شئ من الذكر فينجس بملاقاة المحل بأن ينسب ذلك إلى
الريق الذي وضعه، ولو صح ما ذكره لم يكن لهذا الاحتمال مجال بالكلية مع أنه قد
اعترف به وعلى تقديره يبطل به أصل قاعدته.
وبما ذكرناه من هذا التحقيق وأوضحناه من البيان الواضح الرشيق يظهر لك
أيضا ما في كلام شيخنا الشهيد في الذكرى حيث قال: وخبر حنان " يمسحه بريقه فإذا
وجد بللا فمنه " متروك. انتهى إذ لا وجه لتركه مع وجود معنى صحيح يحمل عليه كما
أوضحناه، والظاهر أنه فهم من الخبر كون مسحه بالريق مطهرا من البول عند فقد الماء
ولا ريب أنه بهذا المعنى متروك اجماعا، ولو كان صريح الدلالة في ذلك لأمكن حمله
على التقية كما احتمله في المدارك لموافقته لمذهب أبي حنيفة من جواز إزالة النجاسة
بكل مائع، هذا.
وأما الأخبار التي ادعى أوفقية هذا التأويل بها فهي غير ظاهرة فيما ادعاه،
فمنها صحيح العيص بن القاسم (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال يغسل ذكره
وفخذيه " وهي بالدلالة على ما ندعيه أقرب وبالرد عليه فيما ذهب إليه أنسب. وذلك
فإن الظاهر أن جملة " وقد عرق ذكره " معطوفة على ما تقدمها دون أن تكون حالا كما
سيأتي توضيحه، وحينئذ فتدل الرواية على أن العرق إنما وقع بعد البول ومسح
الذكر فأمر (عليه السلام) بغسل الذكر والفخذين لذلك العرق المتعدي من مخرج
البول بعد مسحه.
وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل حيث قال في الكتاب
بعد نقل خبر حنان المذكور ثم موثقة سماعة الآتية وتأويلهما ما هذا لفظه " ولبعض
المعاصرين هنا كلام غريب هو أن المحل النجس إذا أزيل عنه عين النجاسة بغير المطهر الشرعي فلا

(1) رواه في الوسائل في الباب 21 من أحكام الخلوة و 26 من أبواب النجاسات.
271

تتعدى نجاسته إلى الملاقي ولو مع الرطوبة لأن النجس إنما هو عين النجاسة لا المتنجس
وجعل هذين الخبرين شاهدا على ذلك، وهو كلام متين إن لم يقم الاجماع على خلافه
ولم يكن ما دل عليه موافقا للعامة وقابلا للتأويل بما ذكرناه، وأيضا ففي دلالة الخبر
الأول على ما ادعاه تأمل، ويمكن أن يستدل له بما هو أوضح سندا ومتنا وهو صحيح
العيص بن القاسم (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل بال في موضع
ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال يغسل ذكره وفخذيه.
وسألته عن من مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال لا " بأن
يقال الفرق بين الذكر والفخذ عند عرقهما قبل التطهير الشرعي وبين الثوب عند إصابته
لعرق اليد الماسحة للذكر قبله بالأمر بغسلهما دونه لا وجه له ظاهرا سوى الفرق بين
ما يلاقي المتنجس وما يلاقي عين النجاسة، فإن غسلهما إنما هو لملاقاتهما بالرطوبة للمحل
النجس قبل زوال عين النجاسة بالمسح بالحجر كما يرشد إليه واو الحال، وذلك يقتضي
تعديها من المحل إلى ما يجاوره ويلاصقه من بقية أجزاء الذكر والفخذ بخلاف الثوب
فإن ملاقاته إنما وقعت بالمتنجس وهي اليد الماسحة بعد زوال عين النجاسة عن الماسح
والممسوح. انتهى كلامه زيد مقامه.
وفيه (أولا) أنه لا يخفى أن مفاد عطف مسح الذكر على البول بالفاء التي
مقتضاها الترتيب بلا مهلة هو كون المسح وقع عقيب البول بلا مهلة، ويؤيده أيضا أنه
هو المتعارف فإن الانسان متى بال ولم يكن معه ماء مسح ما بقي على طرف ذكره من
البول لئلا يتعدى إلى ثوبه أو بدنه فينجسه ولا يعقل أنه يتركه بغير مسح حتى يتردد
في المغدى والمجئ على وجه يعرق ذكره وفخذاه وعين البول باقية ضمن تلك المدة
حتى أنه بسبب العرق تتعدى نجاسة البول إلى فخذيه مثلا ثم بعد ذلك يمسح ذكره، بل
من المعلوم أنه بمجرد المغدى والمجيئ تتعدى نجاسة البول من غير حصول عرق إلى سائر

(1) رواه في الوسائل مقطعا في الباب 6 و 26 من أبواب النجاسات.
272

بدنه وثيابه، أو يعقل أنه يعرق في محله ذلك من غير تردد على وجه يسيل العرق من
مخرج البول إلى سائر أجزاء الذكر والفخذين؟ وبالجملة فمعنى الرواية المتبادر منها إنما
هو ما ذكرناه أولا وهو أنه سأله عن رجل بال فمسح مخرج بوله في وقته ذلك وعرق
ذكره وفخذاه بعد ذلك فأمره (عليه السلام) بغسل ذكره وفخذيه لملاقاة ذلك المحل
المتنجس برطوبة، وحينئذ فجملة " وقد عرق " معطوفة لا حالية كما أشرنا إليه آنفا، وحينئذ
فتكون هذه الرواية مع رواية حنان دليلا على ما ندعيه من تعدي نجاسة المتنجس بعد
إزالة عين النجاسة ومسحها.
و (أما ثانيا) فلأن آخر صحيح العيص المذكور غير صريح ولا ظاهر في
كون المسح المذكور وقع بمجموع اليد ولا في كون الجزء الماسح منها بعينه هو الذي
أصاب الثوب بالعرق بل هو محتمل لذلك ومحتمل لأن تكون الملاقاة بجزء من اليد غير
الجزء المتنجس منها كما سيأتي تحقيقه.
ومنها رواية سماعة (1) قال: " قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) إني أبول
ثم أتمسح بالأحجار فيجيئ مني البلل ما يفسد سراويلي؟ قال ليس به بأس " قال شيخنا
صاحب رياض المسائل بعد ذكر خبر حنان ورواية سماعة المذكورة أنه لا يدل ذلك على
طهر المحل بالمسح بوجه من الوجوه وإنما يدل على أن وجدان شئ من البلل وإن أفسد
السراويل من كثرته مع عدم القطع بخروجه من مخرج البول الباقي على النجاسة أو ملاقاته
له لا بأس به خصوصا مع مسح ما سوى المخرج من الذكر بالريق فإنه ينسبه إلى الريق،
ثم ذكر الكلام الذي قدمنا نقله عنه بقوله: ولبعض المعاصرين.. إلى الآخر.
ومنها رواية حكم بن حكيم (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شئ من البول فامسحه بالحائط أو التراب ثم تعرق

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من نواقض الوضوء
(2) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب النجاسات.
273

يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال لا بأس به " فإنه لا دلالة
فيها على كون إصابة الثوب ومسح الوجه أو بعض الجسد بذلك الموضع النجس ولا على
كون النجاسة شاملة لليد كملا حتى تستلزم الإصابة ببعض منها ذلك بل هي أعم من ذلك،
ونفي البأس إنما هو لأجل ذلك لأنه ما لم يعلم وصول عين النجاسة أو المتنجس إلى شئ
ومباشرته له بالرطوبة فلا يحكم بالنجاسة عملا بأصالة الطهارة وتمسكا بها إلى أن يعلم الرافع
لها، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
قال المحقق الشيخ حسن في المنتقى بعدما أورد هذين الخبرين ما نصه " والخبران
كما ترى مخالفان لما هو معروف من مذهب الأصحاب ويمكن تأويلهما بالحمل على عدم
تيقن إصابة الموضع المتنجس من الكف للثوب والوجه والجسد أو على توهم سريان
النجاسة إلى سائر الكف بتواصل رطوبة العرق " انتهى.
أقول: وقد اعترف بذلك في الوافي فقال بعد ذكر الرواية: الوجه في ذلك
أمران (أحدهما) أن بالمسح بالحائط والتراب زال العين ولم يبق من البول شئ فما
يلاقيه برطوبة إنما يلاقي اليد المتنجسة لا النجاسة العينية والتطهير لا يجب إلا من ملاقاة
عين النجاسة. و (الثاني) أنه لم يتيقن إصابة البول جميع أجزاء اليد ولا وصول جميع
أجزاء اليد إلى الوجه أو الجسد أو الثوب ولا شمول العرق كل اليد فلا يخرج شئ من
الثلاثة عما كان عليه من الطهارة باحتمال ملاقاة البول فإن اليقين لا ينقض بالشك أبدا
وإنما ينقض بيقين مثله كما يأتي في باب التطهير من المني النص عليه. انتهى.
أقول: ولا استبعاد في حمل الخبرين المذكورين على ما ذكرناه وأن لهما نظائر في
الأخبار توهم بظاهرها المخالفة وتحتاج في تطبيقها إلى نوع تأويل قريب أو بعيد، مثل
صحيحة زرارة (1) قال: " سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟
فقال: نعم لا بأس به إلا أن تكون النطفة فيه رطبة فإن كانت جافة فلا بأس " فإنه يوهم

(1) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب النجاسات.
274

طهارة المني وقد تقدم القول فيه في الفصل الثالث في نجاسة المني ومثلها صحيحة أبي أسامة (1)
وقد تقدم الكلام فيها في الموضع المشار إليه أيضا، ومثل ذلك في الأخبار كثير كما
لا يخفى من تتبع الأخبار، والغرض هنا إنما هو التنبيه على قبول ما يستدل به على
ما ذهب إليه التأويل كما في نظائره التي من هذا القبيل فلا يحتج بها إذا على خلاف النهج
الواضح السبيل الذي عليه عامة العلماء جيلا بعد جيل.
وقد وافقنا في هذا المقام بعض الفضلاء من تلامذته الناسجين على منواله في جل
مذاهبه وأقواله حيث قال في حواشيه على الوافي في هذا المقام: ما استدل به الحبر العلامة
(طاب ثراه) من الأخبار على أن المتنجس لا ينجس الظاهر أنه لا يتم لأن ليس فيها أن لهم
أن يصلوا على تلك الحال بل سألوا عن كراهة ما فعلوا فأجابهم (عليه السلام) بعدم البأس فإذا
أرادوا الصلاة تطهروا وطهروا وصلوا، وإن سلمنا هذا فخبر ابن حكيم وعجز خبر العيص
الأول لا يدل إلا على أن ما لم يعلم وصول المتنجس إلى شئ رطبا متعديا رطوبته إليه لم يحكم
بالنجاسة، ثم ذكر تأويل خبر حنان بن سدير بنحو آخر غير ما ذكرناه، إلى أن قال وخبر
سماعة إن كان المراد بعدم البأس أن يصلي في السعة والحال هذه فهو باطل بالاتفاق بل
لا بد من تطهير مخرج البول ولا يبعد وجوب تطهير ثوبه أيضا، فالمراد أما عدم البأس من فعله
وأما أن يكون في موضع ليس فيه ماء فبال وتمسح وتيمم ثم وجد البلل فسأل عن انتقاض
التيمم به فأجابه (عليه السلام) بعدم الانتقاض والحال هذه. انتهى.
قال في الوافي ذيل هذه الأخبار التي نقلنا استناده إليها وتعويله عليها ما نصه:
لا يخفى على من فك رقبته عن ربقة التقليد أن هذه الأخبار وما يجري مجراها صريحة في
عدم تعدي النجاسة من المتنجس إلى شئ قبل تطهيره وإن كان رطبا إذا أزيل عنه عين
النجاسة بالتمسح ونحوه وإنما المنجس للشئ عين النجاسة لا غير، على أنا لا نحتاج إلى

(1) ص 35.
275

دليل في ذلك فإن عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب إذ لا تكليف
إلا بعد البيان. انتهى.
أقول: لا يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت من التحقيق الكاشف عن ضعف
باطنه وخافيه. أما قوله إن هذه الأخبار صريحة فيما ادعاه فهو ظاهر البطلان، كيف
وهو قد ذكر كما قدمنا نقله في معنى موثقة حنان بن سدير معنيين وكلامه إنما يتم على
تقدير أحدهما وكذا في رواية حكم بن حكيم، فكيف تكونان صريحتين فيما ادعاه مع
اعترافه بالاحتمالين الآخرين الموجبين لخروج الرواية من قالب الاستدلال؟ ما هذا إلا
سهو ظاهر من هذا المحدث الماهر، وأما باقي الأخبار فيما أوضحناه وذكره الأصحاب
من وجوه المعاني المحتملة فيها فكيف يدعى صراحتها؟
وأما قوله: " إن عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب " ففيه إنا
قد أوضحنا بحمد الله سبحانه وتوفيقه دلالة موثقة حنان وصدر صحيحة العيص على
ما ندعيه من وجوب الغسل في الصورة المذكورة، مضافا إلى ما أشرنا إليه من أخبار
تطهير الأواني والفرش والبسط والجلود ونحوها، هذا إن خصصنا محل النزاع بالأجسام
الصلبة وإن عممنا الحكم في المائع كما عرفت من أنه ظاهر كلامه كان ما ذكره في الضعف
والبطلان أظهر من أن يخفى على الصبيان فضلا عن العلماء الأعيان، والله الهادي لمن يشاء
(المسألة الرابعة) لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في أنه متى علمت الملاقاة
الموجبة للتنجيس واشتبه محلها فإن كان موضع الاشتباه محصورا وجب اجتناب ما حصل
فيه الاشتباه وهكذا في الاشتباه بالمحرم، وإن كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة
أثر وبقي كل واحد من الأفراد والأجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل الطهارة
والحلية في الاختلاط بالنجس والحرام، وحينئذ فالكلام هنا يقع في مقامين:
(الأول) بالنسبة إلى المحصور فإن الحكم فيه ما ذكرناه كما عليه كافة
الأصحاب إلى أن انتهت النوبة إلى السيد السند السيد محمد والمحقق الشيخ حسن وقبلهما
276

شيخهما المحقق الأردبيلي فنازعوا في الحكم المذكور وتبعهم جمع ممن تأخر عنهم، وقد سبق
البحث معهم في مسألة الإناءين لكنا نورد كلامي السيد والشيخ حسن في ذلك في هذا
المقام ونبين ما يتعلق به من النقض والابرام:
فنقول قال في المدارك بعد قبول المصنف: وإذا كانت النجاسة في موضع محصور
كالبيت وشبهه وجهل موضع النجاسة لم يسجد على شئ منه ما هذا نصه: هذا الحكم
مقطوع به في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) واحتجوا عليه بأن المشتبه بالنجس
قد امتنع فيه التمسك بأصالة الطهارة للقطع بحصول النجاسة فيما وقع فيه الاشتباه فيكون
حكمه حكم النجس في أنه لا يجوز السجود عليه ولا الانتفاع به في شئ مما يشترط فيه
الطهارة. وفيه نظر من وجوه: (أما أولا) فلأن أصالة الطهارة إنما امتنع التمسك بها
بالنسبة إلى مجموع ما وقع فيه الاشتباه لا في كل جزء من أجزائه فإن أي جزء فرض من
الأجزاء التي وقع فيها الاشتباه مشكوك في نجاسته بعد إن كان متيقن الطهارة واليقين
إنما يخرج عنه بيقين مثله، وقد روى زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا " (1) و (أما ثانيا) فلأن ذلك
آت بعينه في غير المحصور فلو تم لاقتضى عدم جواز الانتفاع به فيما يفتقر إلى الطهارة
وهو معلوم البطلان، إلى أن قال وبالجملة فالمتجه جواز السجود على ما لا يعلم نجاسته بعينه
وعدم نجاسة الملاقي له تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض. انتهى.
وفيه (أولا) أنه متى جاز التمسك بأصالة الطهارة في كل جزء جزء فإنه ينتج من ذلك
الحكم بالطهارة في الجميع البتة، مثلا - في مسألة الإناءين التي هي أحد جزئيات هذه المسألة
متى لوحظ هذا الإناء على حدة فإن الأصل فيه الطهارة فيجب الحكم بطهارته وترتب أحكام
الطاهر عليه من شربه والوضوء به ونحو ذلك ومتى لوحظ الآخر على حدة كان كذلك،
فاللازم من ذلك هو طهارتهما وجواز استعمالهما وهذا عين السفسطة للزوم سقوط

(1) تقدمت هذه الجملة من الرواية ص 256.
277

حكم النجاسة المحققة بالكلية، والسيد (قدس سره) إنما التجأ في دفع ذلك كما تقدم في
مسألة الإناءين إلى أنه مجرد استبعاد لا يلتفت إليه وأنه قد وجد نظيره في حكم واجدي
المني في الثوب المشترك، ونحن قد أوضحنا ثمة بطلانه وهدمنا أركانه.
و (ثانيا) أن النصوص الواردة في جملة من جزئيات هذه المسألة صريحة
في ابطال هذا الكلام المزيف، ومنها مسألة الثوب الذي قد تنجس بعض منه غير
معلوم وقد اشتبه موضعه في الثوب كملا، فإن النصوص أوجبت تطهير الثوب كملا
ويأتي بمقتضى كلامه هنا أنه يكفي تطهير جزء من الثوب بقدر الموضع النجس والنصوص
تأباه، وقد اعترف هو نفسه بذلك في المسألة المشار إليها. ومنها مسألة الثوب النجس
المشتبه بثوب آخر طاهر فإن الشارع أوجب الصلاة في كل منهما ومقتضى كلامه أنه يكفي
الصلاة في واحد منهما والنص يدفعه، ومنها - مسألة قطع اللحم المشتبه ذكيه بميته فإن النصوص
دلت على حرمة الجميع ومقتضى كلامه هنا حل كل قطعة قطعة منه، ومنها مسألة
الإناءين، وهذه المسائل كلها متفق عليها بين الأصحاب سلفا وخلفا والنصوص أيضا متفقة فيها
على ما ذكرناه والسيد ومن حذا حذوه إنما نازعوا في مسألة الإناءين من حيث ضعف السند
باصطلاحه وإن كان موثقا لعده عنده في قسم الضعيف متى أعرض عنه، وجملة أصحاب هذا
الاصطلاح عملوا به وجبروا ضعفه باتفاق الأصحاب على العمل بمضمونه مع اعترافهم
في تلك المسائل الباقية بما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة وإن خالف مقتضى
قاعدتهم، والجميع كما ترى أظهر شئ في رد كلامهم واختلال نظامهم فإنه لو كان
ما ذكروه حكما كليا بناء على ما توهموه من صحيحة زرارة المذكورة في كلامه لما خرجت
الأخبار المعتضدة باتفاق الأصحاب في تلك الجزئيات المذكورة بخلافه، والمعنى في
صحيحة زرارة ليس كما توهموه كما سيظهر لك في المقام إن شاء الله تعالى.
و (ثالثا) أنه يلزم بما ذكره هنا أيضا أنه لو اشتبهت أمه أو أخته أو إحدى
محارمه بامرأة أخرى أو اثنتين مثلا فإنه يجوز له نكاح أي تلك النساء شاء لأصالة الحل
278

في كل واحدة واحدة ولا يحكم بتحريم الأم والأخت ونحوهما إلا إذا كانت متشخصة
ولا أظنه يتفوه به.
وبالجملة فالقول الفصل والتحقيق الجزل في المقام هو أن يقال لا ريب أنه قبل وقوع
النجاسة فإن الطهارة متيقنة في كل جزء من أجزاء الأرض مثلا وكل فرد من أفراد
الأواني المحصورة وبعد وقوع النجاسة ومعلوميتها في موضع مخصوص أو فرد مخصوص فإنه يحكم
بنجاسته يقينا، وأما وقوعها في جزء من تلك الأجزاء أو فرد من تلك الأفراد
واشتباهه بالباقي فإنه قد حصل لهذه الأجزاء وهذه الأفراد حالة ثالثة بين يقين الطهارة
ويقين النجاسة فكل منها ليس بمتيقن الطهارة ولا متيقن النجاسة، والمعلوم من
الشارع أنه ألحق هذا القسم بالقسم الأول وهو المتيقن النجاسة كما عرفت من الجزئيات
التي ذكرناها وكذا بالنسبة إلى اختلاط الحلال بالحرام، ووجه الفرق بين هذا القسم
وما دلت عليه صحيحة زرارة المذكورة ونحوها أن في هذا القسم الذي ذكرناه قد علم وجود
النجاسة قطعا ولكن اشتبه علينا موضعها من تلك الأفراد والأجزاء ومورد الصحيحة
المشار إليها وأمثالها إنما هو حصول الظن والشك بالنجاسة، فالمقابل ليقين الطهارة إنما
هو الظن أو الشك فمن أجل ذلك أمر (عليه السلام) باستصحاب يقين الطهارة وأنه
لا يخرج عنه بمجرد الظن والشك، وفرض الشارح هذا بالنسبة إلى كل جزء جزء من
الأجزاء المحصورة ليس في محله لما يلزم منه من رفع حكم النجاسة المعلومة يقينا بالكلية
ومن أجل ذلك دلت النصوص على اعطاء حكم المشتبه بالنجس أو المحرم في المحصور حكم
ما اشتبه به، فإن قوله تعالى " حرمت عليكم الميتة " (1) و " حرمت عليكم
أمهاتكم.. الآية " (2) شامل لما لو كان ذلك المحرم متعينا متشخصا أو مشتبها بأفراد
مخصوصة متعينة، فإنه كما يقطع بوجود النجس والحرام مع التشخص بقطع أيضا بوجوده
في صورة الاشتباه في الأفراد المعينة فتشمله الأوامر المذكورة، غاية الأمر أنه لما لم

(1) سورة المائدة، الآية 4
(2) سورة النساء، الآية 23.
279

يمكن الوصول إلى الاجتناب عن ذلك النجس أو المحرم إلا بالاجتناب عن الجميع وجب
اجتناب الجميع من باب أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ونظيره في الأحكام غير
عزيز فإن من فاتته صلاة فريضة واشتبهت بباقي الخمس وجب عليه الاتيان بالجميع نصا
وفتوى بالتقريب المذكور، وأما لو لم يكن محصورا كالموجود بأيدي الناس وفي الأسواق
فإنه لا يقطع بوجود المحرم ولا النجس فيما يراد استعماله منه وإن علم وجوده في الواقع
ونفس الأمر، ومن هنا حكم الشارع بحل ما في أيدي المسلمين وأسواقهم وطهارته
وجواز شرائه وإن علم وجود الحرام والنجس في أيدي بعض الناس الغير المعلومين، وهذا
هو الذي وردت فيه صحيحة زرارة المذكورة في كلامه ونحوها وورد فيه " أن كل شئ
فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه " (1) وورد " كل شئ
نظيف حتى تعلم أنه قذر " (2) فهذه الأخبار إنما وردت في غير المحصور دون المحصور
بمعنى أن كل شئ له أفراد بعضها طاهر وبعضها نجس أو بعضها حلال وبعضها حرام فإن
الحكم فيها الطهارة والحلية حتى يعلم كونه من الأفراد المحرمة أو النجسة، ومن هنا
دخلت الشبهة على جملة من أفاضل متأخري المتأخرين حيث أجروا هذه الأخبار في قسم
المحصور ومنهم السيد المذكور ونحوه ممن حذا حذوه في مسألة الطهارة والنجاسة والمحدث
الكاشاني والفاضل الخراساني في مسألة اختلاط الحلال بالحرام فحكموا بحل الجميع في
المحصور، وهذا غلط نشأ من عدم التأمل في الأخبار، وقد أشبعنا الكلام معهما
في الدرر النجفية.
ومما يوضح ما قلناه موثقة مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليه السلام) (3)
قال: " سمعته يقول كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل
نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك وهو حر

(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب ما يكتسب به
(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب ما يكتسب به
280

ولعله قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك،
والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة " ورواية أبي الجارود
المروية في المحاسن (1) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن فقلت له أخبرني
من رأى أنه يجعل فيه الميتة؟ فقال أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع
الأرضين؟ ما علمت أنه ميتة فلا تأكل وما لم تعلم فاشتر وبع وكل، والله إني لأعترض
السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه
السودان " إلى غير ذلك من الأخبار، ومورد الخبرين وإن كان الحل والحرمة إلا أن
المسألتين من باب واحد فبعين ما قيل هنا يقال في " كل شئ طاهر حتى يعلم أنه قذر " بمعنى
أنا نحكم على كل شئ نراه في أيدي الناس وأسواقهم بالطهارة وإن كان نجسا في الواقع
ونستصحب هذا الحكم إلى أن يعلم الرافع له لا أن مورده المحصور كما في مسألة الإناءين
ونحوها لمعلومية النجاسة الموجبة للخروج عن ذلك الأصل. والله العالم.
وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم: وإذا علمت الملاقاة على الوجه المؤثر واشتبه محلها فإن
كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كل واحد من الأجزاء التي وقع
فيها الاشتباه على أصل الطهارة لا نعرف في ذلك خلافا، وإن كان محصورا فظاهر جماعة من
الأصحاب أنه لا خلاف حينئذ في وجوب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه كما مر في
اشتباه الإناء من الماء الطاهر بالنجس، ولم يذكروا على الحكم هنا حجة وقد بينا في مسألة
الإناءين أن العمدة في الحكم بوجوب اجتنابهما على الاجماع المدعى هناك وأن ما عداه
من الوجوه التي احتجوا بها ضعيفة مدخولة ولعل اعتمادهم في الحكم هنا أيضا على الاجماع
لا على تلك الوجوه. انتهى.
أقول: أما ما ذكره بالنسبة إلى المحصور من أنه ظاهر جماعة من الأصحاب المؤذن
بعدم الاتفاق على ذلك فهو مردود بأنه لم يوجد المخالف في هذه المسألة بكل من طرفيها أعني

(1) المروية في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة
281

المحصور وغير المحصور سواه ومن في طبقته ومن تأخر عنه، ولهذا أنه في المدارك كما قدمنا في
عبارته قال هذا الحكم إشارة إلى المحصور مقطوع به في كلام الأصحاب وأما ما ذكره
من أنه ليس عليه دليل ولا حجة سوى الاجماع فهو مردود بما عرفت من الجزئيات الداخلة
تحت هذه القاعدة الثابتة بالنصوص، ولا يخفى أن القواعد الكلية في الأحكام الشرعية
كما تثبت بورود النص في الحكم مسورا بسور الكلية كذلك تثبت بتتبع الجزئيات
المتفقة على ذلك الوجه، ونحن قد تتبعنا الأخبار بالنسبة إلى المحصور فوجدناها قد
وردت في جملة من الأحكام متفقة النظام ملتئمة تمام الالتئام على الدخول تحت هذه
القاعدة التي ذكرها الأصحاب وهو اعطاء المشتبه بالنجس والحرام حكمهما في المحصور
كما مرت إليه الإشارة، والقواعد الكلية كما تثبت بورودها مسورة بسور الكلية تثبت
أيضا بتتبع الجزئيات واتفاقها على نهج واحد في الحكم كالقواعد النحوية المبنية على تتبع
جزئيات كلام العرب، وأكثر القواعد في الأحكام الشرعية إنما هو من هذا القبيل كما
لا يخفى على المتتبع من ذوي التحصيل، ويعضد ذلك الاجماع المدعى في المسألة والوجوه
التي ذكروها وقد بينا وجه صحتها في مسألة الإناءين. والله العالم.
(المقام الثاني) بالنسبة إلى غير المحصور وقد عرفت اجماع الأصحاب هنا أيضا
على ارتفاع حكم النجاسة، بقي الاشكال في أنه لم يرد في الأخبار في هذا المقام التعبير بالمحصور
وغير المحصور وترتب كل من حكمي المحصور وغير المحصور على وجود هذا العنوان وإنما المستفاد
من تتبعها كما قدمنا بيانه أنه متى وقع الاشتباه في أفراد معلومة مشاهدة كمسألة الإناءين
واللحم المختلط ذكيه بميته والثياب المختلط نجسها بطاهرها ونحو ذلك فإنه يجب عليه اجتناب
الجميع وأن الشارع قد أعطى المشتبه هنا حكم ما اشتبه به في النجاسة والحرمة، وأما
ما يوجد في أيدي المسلمين وأسواقهم فالحكم فيه هو الطهارة والحلية وإن علم النجس
والحرام في الجملة لا في تلك العين بخصوصها متحدة أو متعددة، والأصحاب هنا قد
عبروا عن الحكمين المذكورين بالمحصور وغير المحصور وكلامهم في بيان المراد من ذلك
282

لا يخلو من اضطراب. فجملة من الأصحاب جعلوا المرجع في الحصر إلى ما يصدق
عليه العرف إذ لم يثبت له حقيقة في غيره ومثلوا له في الأرض بالبيت والبيتين ولغير
المحصور فيها بالصحراء.
وقال المحقق الشيخ علي في حاشية الشرائع: المراد بالمحصور وغير المحصور ما كان
كذلك في العادة لأن الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية عند فقد الشرعية، ولأنه لولا
إرادة العرفية هنا لامتنع تحقق الحكم فإن كل ما يوجد من المعدودات فهو قابل للعد
والحصر والمراد به ما يعسر حصره وعده عرفا باعتبار كثرة آحاده، وطريق ضبطه
وضبط أمثاله أنك إذا أخذت مرتبة من مراتب العدد عليا تقطع بأنها مما لا يحصر ولا
يعد عادة لعسر ذلك في الزمان القصير كالألف مثلا تجعلها طرفا ثم تأخذ مرتبة أخرى
دنيا كالثلاثة مما يقطع بكونها محصورة ومعدودة لسهولة عدها في الزمان القصير فتجعلها
طرفا مقابلا للأول ثم تنظر فيما بينهما من الوسائط فكل ما جرى مجرى الطرف
الأول تلحقه به وما جرى مجرى الطرف الثاني تلحقه به وما وقع فيه الشك يعرض
على القوانين والنظائر ويراجع فيه القلب فإن غلب على الظن الحاقه بأحد الطرفين فذاك
وإلا عمل فيه بالاستصحاب إلى أن يعلم الناقل، وهذا ضابط لما ليس بمحصور
شرعا في أبواب الطهارة والنكاح وغيرهما، فمتى اشتبه الذكي بغيره والطاهر بالنجس
في الثياب والمكان والأواني والمياه وغير ذلك والمحرمة بالأجنبية وكان غير
محصور لم يجب الاجتناب وإلا وجب، إذا عرفت ذلك فاعلم أن المشتبه بالنجس
من الأمكنة كالبيت والبيتين له حكمه على معنى وجوب اجتناب الجميع فلا يجوز أن
يجعل شئ منه مسجد الجبهة لما تقرر من أن مسجد الجبهة يشترط فيه الطهارة وقد تكافأ
في المشتبه بالنجس كل من طرفي الطهارة والنجاسة، وكذا استعماله في كل ما يشترط فيه
الطهارة كالتعفير في إناء الولوغ والتيمم، أما لو باشر بعضه برطوبة فإن المحل الملاقي
لا ينجس إذا كان مملوكا لطهارته قبل ذلك لعدم القطع بملاقاة النجاسة فيستصحب حكم الطهارة
283

والثابت قبل الملاقاة، وما وقع في كلامهم من أن المشتبه بالنجس له حكم النجس
لا يريدون به من جميع الوجوه للقطع بأنه في الأصل طاهر قطعا ولم يعرض له تنجيس
وما كان كذلك فهو في نفسه على طهارته فقد خالف حكم النجس من هذا الوجه،
وغاية ما هناك أن الاشتباه صيره بحيث يمتنع استعماله فيما يشترط فيه الطهارة فصار
كالنجس من هذه الجهة، على أن تشبيه شئ بآخر لا يقتضي المساواة من كل وجه كما
تقرر بين الأصوليين. انتهى كلامه علا مقامه.
أقول: ومما يمكن أن يؤيد ما ذكره في غير المحصور بأنه ما يعسر حصره عرفا
باعتبار كثرة آحاده موثقة حنان بن سدير عن الصادق (عليه السلام) (1) " في جدي
رضع من خنزيرة حتى شب واشتد عظمه استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ما تقول
في نسله؟ فقال أما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه وأما ما لم تعرفه فإنه بمنزلة الجبن "
والتقريب فيه أنه لكثرة تلك الغنم على وجه يعسر عدها فالحكم فيه الحلية لكل
فرد فرد منها، ويمكن ولعله الأقرب أن الوجه فيه إنما هو عدم معلومية بقاء ما خرج
من نسله في تلك الغنم لكثرتها فلعله قد ذهب منها بأحد وجوه الذهاب كما يشير إليه
التنظير بالجبن من حيث عدم معلومية الحرام منه بعينه. وأما ما ذكره بالنسبة إلى ملاقي
ذلك المشتبه برطوبة وأنه لا يتعدى إليه حكم ما لاقاه فهو أحد القولين في المسألة وقد
تقدم تحقيق القول فيه في مسألة الإناءين.
وجمع من المتأخرين جعلوا المرجع في صدق الحصر وعدمه إلى حصول الحرج
والضرر بالاجتناب وعدمه، قال في المعالم: وهذا الكلام ناظر إلى ما يوجد في عبارات
كثير من تعليل عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور بلزوم المشقة والعسر. وليس
بشئ فإن الغرض من هذا التعليل كما يظهر تقريب الحكم لا الاستدلال له إذ لا يعقل
الاعتماد في مثل التفرقة والبناء في تأسيس هذا الحكم على نحو هذه القاعدة كما هو

(1) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة
284

واضح، ولو قدر بناء الحكم على ذلك لأنهار من أصله إذ المشقة قد تنتفي في كثير مما
ليس بمحصور وربما وجدت في بعض أفراد المحصور فأي معنى حينئذ لجعل الحصر مناطا
للحكم وقد كان الواجب على هذا أن يناط بعدم المشقة ووجودها. وبالجملة فالاشكال
في التفرقة هنا بين ما يجب فيه الاجتناب وما لا يجب قوي جدا إذ ليس لها شاهد من
جهة النص يعول في حكمها عليه وإنما هي من عبارات الفقهاء، والرجوع إلى القاعدة
المقررة في الألفاظ التي لم يثبت لها حقيقة من جهة الشرع يتوقف على وجدان غيرها،
ولا يكاد يظهر من اللغة ولا من العرف معنى مشخص لهذا اللفظ يطابق ما هو غرضهم
منه، مع أن في كلامهم اختلافا في التمثيل للمحصور فالمحقق والفاضل مثلا له بالبيت
وقد حكينا عن جماعة التمثيل بالبيت والبيتين ومثل بعض بالبيتين والثلاثة، وربما فسر غير
المحصور بما يعسر حصره وعده لكثرة آحاده، والظلام يلوح على الكل انتهى، وهو جيد
وإنما أطلنا الكلام بنقل كلماتهم في المقام لتطلع على أن النفخ في غير ضرام.
وبالجملة فالمستفاد من الأخبار هو ما قدمنا ذكره فكل ما دخل في أفراد القسم الأول
ألحق به وما دخل في أفراد الثاني ألحق به وما اشتبه الأمر فيه فالاحتياط طريق
السلامة. والله العالم.
(المسألة الخامسة) قال في المعالم إن حكم بنجاسة شئ لعروض أحد
الأسباب المقتضية لذلك توقف في عوده إلى الطهارة على العلم بحصول أحد الوجوه التي
ثبت كونها مفيدة للتطهير أو ما يقوم مقام العلم وهو شهادة العدلين، ويحتمل الاكتفاء
بأخبار العدل الواحد لعموم مفهوم قوله تعالى: ".. إن جاءكم فاسق بنبأ.. الآية " (1)
ولا اعتبار بأخبار غير العدل إلا أن ينضم إليه القرائن المفيدة معه للعلم، ولو أفادته منفردة
كفت في الحكم بالطهارة أيضا. انتهى.
أقول: لم أقف على من تعرض لهذا الحكم غيره بنفي أو اثبات إلا الفاضلان

(1) سورة الحجرات، الآية 6.
285

الأمين الاسترآبادي والمحقق السيد نعمة الله الجزائري فإنهما نقلا عن جملة من علماء
عصريهما أنهم كانوا لأجل هذه الشبهة يهبون ثيابهم للقصارين أو يبيعونها عليهم ثم
يشترونها منهم مستندين إلى ما قدمنا نقله عن المحقق المذكور، ثم ردا ذلك بأن المستفاد
من الأخبار أن كل ذي عمل فهو مؤتمن على عمله ما لم يظهر منه خلافه، قال الأمين الاسترآبادي
في الفوائد المدنية في عد جملة من أغلاط الفقهاء: ومن جملتها أن جمعا من أرباب التدقيق
منهم زعموا أنه إذا علمنا نجاسة ثوب مثلا لا نحكم بطهارته إلا إذا قطعنا بإزالتها أو شهد
عندنا شاهدان عدلان لأن اليقين لا ينقض إلا بيقين أو بما جعله الشارع في حكم اليقين
وهو شهادة العدلين في الوقائع الجزئية. وأنا أقول: لنا على بطلان دقتهم دليلان:
(الأول) أن اللبيب الذي تتبع أحاديثنا بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأنه يستفاد
منها أن كل ذي عمل مؤتمن على عمله ما لم يظهر خلافه، وإن شئت أن تعلم كل ما علمنا
فانظر إلى الأحاديث الواردة في القصارين والجزارين وحديث تطهير الجارية ثوب
سيدها (1) والحديث الصريح في أن الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة (2) لكن
لا بد من قريحة قويمة وفطنة مستقيمة وإلا لأتعبت نفسك وغيرك فإن كلا ميسر لما
خلق له. و (الدليل الثاني) أن هذه المسألة مما يعم به البلوى فلو كان مضيقا كما زعموا
لظهر عندنا منه أثر واضح بين، ولم يظهر منهم (عليهم السلام) إلا ما يدل على التوسعة
وقد بلغني أن جمعا من فحول علمائهم المتورعين يهبون الثياب النجسة للقصارين ثم
يسترجعونها ومن المعلوم عند الفقيه الحاذق أن هذه الحيلة غير نافعة. انتهى كلامه.
أقول: ومن الأخبار التي أشار إليها ما ورد في صحيحة الفضلاء (3) " أنهم سألوا
أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون؟

(1) المروي في الوسائل في الباب 18 من أبواب النجاسات وسيأتي ص 287
(2) المروي في الوسائل في الباب 56 من النجاسات وسيأتي ص 287
(3) المروية في الوسائل في الباب 29 من الذبائح.
286

فقال كل إذا كان في سوق المسلمين ولا تسأل عنه " وفي رواية سماعة (1) قال:
" سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغراء؟ فقال لا بأس به ما لم تعلم
أنه ميتة " وفي صحيحة إبراهيم بن أبي محمود (2) " أنه قال للرضا (عليه السلام) الخياط والقصار
يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال لا بأس "
وفي صحيحة معاوية بن عمار (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثياب السابرية
يعملها المجوس وهو أخباث.. " وقد تقدمت قريبا، وفي رواية عبد الأعلى عن الصادق
(عليه السلام) (4) قال: " سألته عن الحجامة أفيها وضوء؟ قال لا ولا يغسل مكانها لأن
الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه ولم يكن صبيا صغيرا " إلى غير ذلك من الأخبار الواردة
من هذا القبيل، والتقريب فيها أن أصالة الطهارة والحلية التي قد صارت قاعدة إنما بنيت
على ائتمانهم على أعمالهم المذكورة، ويؤيد ذلك ما ورد في كثير من أخبار الصناع
والمستأجرين على الأعمال إذا أفسدوا من أنه لا يضمنه إلا أن يتهمه فمتى كان مأمونا
لا يتهمه فلا يضمنه ولا يغرمه ما أفسد، وليس الوجه فيه إلا أنه مؤتمن وموثوق بعمله
وأنه لا يخالف صاحب العمل إلا أن يكون بغير اختياره وهو ظاهر في التأييد.
وأما الرواية التي أشار إليها المحدث المذكور بحديث تطهير الجارية ثوب سيدها
فهي رواية ميسر (5) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) آمر الجارية فتغسل
ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ فقال أعد صلاتك أما أنك
لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شئ " وهذا الخبر ربما استند إليه من ذهب إلى

(1) المروية في الوسائل في الباب 38 من الذبائح
(2) المروية في الوافي في باب (التطهير من مس الحيوانات) من أبواب الطهارة
من الخبث.
(3) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات وتقدمت ص 255
(4) المروية في الوسائل في الباب 56 من النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب النجاسات.
287

التمسك بأصالة النجاسة حتى يظهر الرافع حيث أمره (عليه السلام) بإعادة الصلاة لما لم
يكن هو الغاسل بنفسه لقوله (عليهم السلام): " أما لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك
شئ " وهو غلط فإن ظاهر الخبر أن الأمر بإعادة الصلاة إنما هو لبقاء المني لا لكون
الجارية قد غسلته وغسلها غير معتبر ولا مطهر حتى لو فرض أنه أزالته عن الثوب ولم
يجده فيه كان عليه إعادة الصلاة وغسل الثوب لعدم الاعتداد بغسلها فإنه توهم محض،
بل الأمر في الإعادة والغسل إنما ابتنى على وجود المني، وبهذا التقريب يكون الخبر
من أدلة المسألة كما ذكره المحدث المذكور فإن مفهوم الخبر أنه لو لم يجد المني لم يأمره
(عليه السلام) بإعادة الصلاة، وفيه حينئذ دلالة على الاكتفاء بغسل الجارية كما هو
المدعى (فإن قيل) إنه لو كان غسل الجارية معتبرا شرعا وموجبا لطهارة الثوب لم تجب
الإعادة وإن وجد المني بعد ذلك لأنه وإن علم بالمني فيه سابقا إلا أنه قد بنى على طهارة
الثوب طهارة شرعية موجبة لجواز الصلاة كجاهل النجاسة فلا تتعقبه الإعادة (لأنا نقول)
إن غسل الجارية إنما يكون غسلا شرعيا معتدا به لو لم يظهر فساده وأما بعد ظهور فساده
فلا مجال للحكم بكونه شرعيا وقوله (عليه السلام): " أما لو كنت غسلت أنت لم
يكن عليك شئ " يعني أنك لو غسلت أنت لبالغت في إزالة النجاسة ولم يبق منها أثر
فلم يكن عليك إعادة.
ومما يؤيد ما ذكرناه أيضا أن الظاهر من الأخبار أن الناس في الصدر الأول كانوا
يدفعون ثيابهم للغسال لأجل غسلها من الأوساخ والنجاسات ويسترجعونها ويلبسونها
ويصلون فيها من غير تناكر ولو كان ما ذكروه حقا من أنه لا يتم الحكم بالطهارة إلا
بتمليكه إياها لنقل ذلك. وأيضا فمن المعلوم وجود الأطفال في بيوت الأئمة (عليهم
السلام) وبيوت أصحابهم ولا ريب في حصول النجاسات أيضا في ثيابهم منهم أو من
غيرهم ولو كان ما ذكروه حقا لورد في خبر من الأخبار أو نقله ناقل في عصر من
الأعصار وليس فليس.
288

وإلى هذا الوجه أشار المحدث المتقدم ذكره بالدليل الثاني وهو عموم البلوى
بذلك ومرجعه إلى العمل بالبراء فالأصلية في مثل هذا الموضع كما تقدم ذكره في مقدمات
الكتاب، وقد وجهه في موضع آخر من كتابه المتقدم ذكره قال: فإن جمعا غفيرا من
أصحابهم (عليهم السلام) منهم الأربعة آلاف رجل الذين هم أصحاب الصادق (عليه
السلام) وتلامذته كانوا ملازمين لهم في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة وكان همهم وهم
الأئمة (عليهم السلام) إظهار الدين وترويج الشريعة وكانوا لحرصهم على ذلك يكتبون
كل ما يسمعونه خوفا من عروض النسيان لهم وكان الأئمة (عليهم السلام) يحثونهم
على ذلك وليس الغرض منه إلا العمل بذلك بعدهم، ففي مثل ذلك يجوز التمسك بالبراءة
الأصلية إذ لو كان ثمة دليل والحال كذلك لظهر.
على أن ما اعتمده هذا القائل من أن يقين النجاسة لا يرتفع إلا بيقين الطهارة
على اطلاقه ممنوع:
(أما أولا) فلعدم الدليل عليه والنصوص إنما وردت بذلك بالنسبة إلى
أصالة الطهارة والحلية لبناء الأحكام الشرعية على السهولة والسماحة، وقياس النجاسة
على ذلك قياس مع الفارق.
و (أما ثانيا) فإنه منقوض بما ذهب إليه جمع من المحققين: منهم المحدث
المذكور من الحكم بطهارة الانسان بمجرد الغيبة لأن معلومية الحدث من المكلف في اليوم
والليلة بالبول والغائط مما لا سبيل إلى انكاره فالحكم بنجاسته يقيني البتة فلو توقف
الحكم بطهارته على يقين وجود ذلك لم يمكن الحكم بطهارة أحد من الناس بالكلية ولو
اكتفى بأخباره بالطهارة. فإنه لا يجوز الصلاة خلف الإمام حتى يسأله عن ذلك، وكذا
لو رأى في ثوب أحد نجاسة مثلا ثم رآه بعد ذلك خاليا من تلك النجاسة فإنه لا يجوز له
استعماله والصلاة فيه وأن يقتدي بإمام يصلي فيه حتى يسأله عن ذلك، واللوازم كلها
باطلة إذ لا قائل بها ولا دليل عليها بل الأدلة على خلافها ظاهرة.
289

و (أما ثالثا) فلأنه قد ورد في جملة من المواضع الخروج عن اليقين بمجرد
الظن كما في صورة اخبار المرأة بموت الزوج واخبارها بالطلاق واخبارها بالخروج من
العدة والنقاء من الحيض، فإن الشارع قد جوز قبول خبرها في هذه المواضع كلها وغاية
ما يفيده هو الظن مع أن الأمور التي أخبرت بالخروج عنها متيقنة معلومة تترتب عليها
أحكام شرعية وتنتفي تلك الأحكام بقبول خبرها، وحينئذ فقول ذلك القائل أن يقين
النجاسة لا يخرج عنه إلا بيقين الطهارة إن أراد من حيث خصوص النجاسة فقد عرفت
أنه لا دليل عليه، وإن أراد أنه حيثما كان اليقين وفي أي موضع كان فإنه لا يجوز الخروج
عنه إلا بما يوجب اليقين فهذه جملة من المواضع قد جوز الشارع فيها الخروج عن اليقين
بمجرد الظن، ونحو ذلك ما ورد في حسنة زرارة والفضيل (1) من أنه متى شك في
الصلاة وأنه أتى بها أو لم يأت بها بعد خروج الوقت فإنه لا يلتفت، مع أن اشتغال الذمة
متيقن ومجرد خروج الوقت لا يوجب يقين البراءة، بل ورد في القاعدة المتفق عليها من أن
يقين الطهارة لا يجوز الخروج عنه إلا بيقين النجاسة ما أوجب الخروج في بعض الجزئيات
بمجرد الشك كمن تطهر بعد أن بال ولم يستبرئ أو اغتسل ولم يبل ثم خرج منه بلل
مشتبه فإن ينقض وضوءه وغسله مع أنه غير متيقن كونه بولا أو منيا، إلى غير ذلك
من المواضع التي من هذا القبيل. ولا يخفى أنه ولو أمكن تطرق المناقشة إلى بعض ما ذكرناه
من الأدلة إلا أنها باجتماعها مما تفيد دلالة قوية على ما ذكرناه والله العالم.
البحث الثاني
فيما تجب إزالته من النجاسات وما يعفى عنه وفيه مسائل: (الأولى) اتفق
الأصحاب عدا ابن الجنيد على أنه تجب إزالة النجاسات عن الثوب والبدن للصلاة
والطوافين الواجبين عدا الدم على التفصيل الآتي فيه إن شاء الله تعالى، وكذا ما تتم

(1) المروية في الوسائل في الباب 60 من أبواب مواقيت الصلاة.
290

الصلاة فيه من الثياب إذا لم يمكن ابداله بطاهر. وقال ابن الجنيد في مختصره: كل
نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو متفشية دون سعة الدرهم الذي تكون
سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلا أن تكون النجاسة دم حيض
أو منيا فإن قليلهما وكثيرهما سواء. انتهى. وظاهر هذا الكلام أنه قصر الحكم بوجوب
إزالة النجاسات كلها عدا دم الحيض والمني على ما بلغ منها مقدار سعة الدرهم فصاعدا
وسوى في دم الحيض والمني بين القليل والكثير، وظاهره طهارة الناقص عن الدرهم
من النجاسات التي ذكرها، والمشهور في كلام الأصحاب أن خلافه إنما هو في العفو فلعل
الكلام في عبارته خرج مخرج التجوز والتوسع، ومن العجب أنه في المعتبر عزى إليه
القول بالعفو هنا كما هو المعروف في كلام غيره وفي حكم الدم نسب إليه القول بطهارة
القليل منه، ولا يخلو من تدافع فإن عبارته المحكية عنه هنا ظاهرة في تساوي الدم وغيره
في عدم نجاسة ما دون سعة الدرهم أو العفو عنه اللهم إلا أن يكون ما نقله في مسألة الدم
من كتاب آخر أو قول آخر نسب إليه.
ويدل على القول المشهور الأخبار الكثيرة المتضمنة للغسل من النجاسات، إذ
من الظاهر أن الغسل ليس واجبا لنفسه وإنما هو لأجل العبادة ونحوها، وقد وقع
التصريح في جملة من الأخبار الصحيحة بإعادة الصلاة بنجاسة الثوب بالبول والمني والمسكر
وقدر الدرهم من الدم وعذرة الانسان والسنور والكلب ورطوبة الخنزير، وهي
مطلقة في القليل من النجاسات المذكورة والكثير، وجملة من الأخبار الدالة على
ما ذكرنا قد تقدمت في أصناف النجاسات، وسيأتي طرف منها في المباحث الآتية وطرف
في الخلل الواقع في الصلاة إن شاء الله تعالى.
فرع
قد صرح جماعة من الأصحاب بأن اعتبار الطهارة في ملبوس المصلي ومحموله
291

الذين تتم فيهما الصلاة إنما هو فيما يقله منهما ولو في بعض أحوال الصلاة فلو تنجس طرف
الثوب الذي لا يقله على حال منها كالعمامة لم يضر لانتفاء الحمل واللبس عن موضع النجاسة.
واستحسنه المحقق الشيخ حسن في المعالم معللا له بأن أصالة البراءة تقتضيه والأدلة الدالة على
اشتراط الطهارة وايجاب الإزالة لا تصلح لتناول مثله، قال وممن تعرض لهذه المسألة الشيخ
في الخلاف فقال: إذا ترك على رأسه طرف عمامة وهو طاهر وطرفها الآخر على الأرض
وعليه نجاسة لم تبطل صلاته، وحكي عن بعض العامة القول بالبطلان به، وقال بعد ذلك
دليلنا أن الأصل براءة الذمة فمن حكم ببطلان هذه الصلاة فعليه الدلالة. انتهى. وهو جيد
وأما ما ذهب إليه ابن الجنيد فلم نقف له على مستند وقد اعترف بذلك جملة من
الأصحاب أيضا، والعلامة في المختلف احتج له بالقياس على الدم وأجاب عنه بأن نجاسة
المذكورات أغلظ من نجاسة الدم فقياس حكمها على المني أولى. انتهى. وكل من الاحتجاج
والجواب بمكان من الضعف.
ثم إنه قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تعداد المواضع التي تجب فيها
الإزالة بعد الثوب والبدن مسجد الجبهة، وعلله الشهيد في الذكرى بالنص فقال: وتجب
إزالة النجاسات عن مسجد الجبهة أيضا للنص. ولم أقف على هذا النص ولا نقله ناقل فيما أعلم
بل ربما ظهر من النصوص خلافه كما سيأتي في بحث المكان من كتاب الصلاة.
وعن مكان المصلي بأسره عند المرتضى والمساجد السبعة عند أبي الصلاح،
وسيأتي الكلام فيها في الموضع المشار إليه.
وعن المأكول والمشروب وأوانيهما مع الملاقاة برطوبة لتحريم النجس، وهو
جيد وعليه تدل الأخبار الآتية الدالة على الأمر بتطهير الأواني فإنه ليس ذلك إلا
لأجل الأكل والشرب.
وعن ما أمر الشارع بتعظيمه كالمصحف والضرائح المقدسة، وهو حسن للأمر
بتعظيم شعائر الله.
292

وعن المساجد وقد نقل الاجماع عليه جمع من الأصحاب: منهم الشيخ في
الخلاف فإنه قال: لا خلاف في أن المساجد يجب أن تجنب النجاسة. وعن ابن إدريس
أنه نقل اجماع الأمة، وظاهر جمع: منهم الفاضلان أنه لا فرق في ذلك بين النجاسة
المتعدية وغيرها حتى قال في التذكرة: لو كان معه خاتم نجس وصلى في المسجد لم تصح صلاته
واستدلوا على ذلك بقوله عز وجل: ".. إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد
الحرام.. " (1) حيث رتب النهي على النجاسة فيكون تقريبها حراما ومتى ثبت التحريم
في المسجد الحرام ثبت في غيره إذ لا قائل بالفصل. وقول النبي (صلى الله عليه وآله)
" جنبوا مساجدكم النجاسة " (2).
واعترض عليه بأنه يتوجه على الأول أن النجاسة لغة المستقذر والواجب الحمل
عليه إلى أن تثبت الحقيقة الشرعية ولم يثبت كون المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء حقيقة
شرعية. سلمنا الثبوت لكن النهي إنما ترتب على نجاسة المشرك خاصة فالحاق غيرها بها
يحتاج إلى دليل وهو منتف هنا. سلمنا ذلك لكن النهي إنما تعلق بقرب المسجد الحرام
خاصة وعدم الظفر بالقائل بالفرق بينه وبين غيره لا يدل على العدم فيحتمل الفرق.
وعلى الثاني الطعن في الرواية بعدم الوقوف على المستند والمراسيل لا تنهض حجة في
اثبات حكم مخالف للأصل، وأيضا فإن مجانبة النجاسة المساجد تتحقق بعدم تعديها إليها
فيحصل به الامتثال ولا يلزم من ذلك تحريم إدخالها مع عدم التعدي، ومن ثم ذهب
جمع من المتأخرين إلى عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية إلى المسجد أو فرشه
وآلته. انتهى. وهو جيد.
ويؤيد ما ذكره أخيرا من عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية ما نقله الشيخ في
الخلاف من الاجماع على جواز عبور الحيض من النساء في المساجد مع عدم انفكاكهن من

(1) سورة التوبة، الآية 28.
(2) رواه في الوسائل في الباب 24 من أحكام المساجد.
293

النجاسة غالبا، وقوله (عليه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار الواردة في
المستحاضة " (1).. وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت
كل صلاة بوضوء.. " وربما لاح منه تحريم إدخال النجاسة المتعدية حيث خص دخولها
المسجد بصورة ما إذا لم يثقب الكرسف، وظاهرهم الاتفاق على تحريم إدخال النجاسة
المتعدية ولا أعرف لهم دليلا سواه إلا ما لاح من الرواية المشار إليها، إلا أنه قد روى
عمار في الموثق أيضا عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الدمل يكون
في الرجل، فينفجر وهو في الصلاة، قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا
يقطع الصلاة " فإن اطلاقها شامل لما لو كانت الصلاة في المسجد بل هو الغالب، والعفو
عن هذا الدم إنما ثبت بالنسبة إلى المصلي خاصة كما يأتي إن شاء الله ذكره، وبالجملة فأصالة
الجواز أقوى دليل في المقام إلى أن يثبت المخرج عنها.
بقي الكلام في أن المفهوم من كلامهم القطع بوجوب الإزالة على الفور كفاية بناء
على التحريم فلو أخل بالإزالة أثم، ولو صلى والحال هذه فإن كان في ضيق الوقت فلا
خلاف في الصحة وأما في السعة فقولان مبنيان على أن الأمر بالشئ هل يستلزم النهي
عن ضده الخاص أم لا؟ ولهم في هذه المسألة أبحاث طويلة الذيل نقضا وإبراما في الأصول
وفي مواضع من كتب الفروع، والذي أقوله في ذلك واعتمد عليه في أمثال هذه
المسالك هو الثاني، وتوضيحه أن يقال: التحقيق عندي وأن أباه من ألف بالقواعد
الأصولية إنا متى رجعنا إلى الأدلة العقلية في الأحكام الشرعية فهي لا تقف على حد
ولا ساحل ولهذا كثرت في هذه المسألة الأبحاث وتصادمت من الطرفين الدلائل وصنفت
فيها الرسائل واضطربت فيها أفهام الأفاضل.
والجواب الحق عما ذكروه أن يقال (أولا) إن الأحكام الشرعية توقيفية

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة
(2) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات.
294

من الشارع فلو كان لهذه المسألة أصل مع عموم البلوى بها لخرج عنهم (عليهم السلام)
ما يدل عليها أو يشير إليها وحيث لم يخرج عنهم فيها شئ سقط التكليف بها إذ لا تكليف
إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد إقامة البرهان، وهذا يرجع في التحقيق إلى ما قدمنا
ذكره في غير موضع وبه صرح المحدث الأمين الاسترآبادي من الاستدلال بالبراءة الأصلية
والعمل بها فيما يعم به البلوى من الأحكام.
و (ثانيا) أن القول بذلك موجب للحرج والضيق المنفيين بالآية والرواية
والاجماع (1) إذ لا يخفى أنه لا يكاد أحد من المكلفين فارغ الذمة من واجب من الواجبات
البدنية أو المالية ويأتي بناء على هذا القول بطلان عباداته وصلواته في غير ضيق الوقت وعدم
ترخصه في أسفاره وتأثيمه في جملة أفعاله من أكله وشربه ومغداه ومجيئه ونومه ونكاحه
ونحو ذلك لأن الفرض أنه منهي عن هذه الأضداد الخاصة والنهي حقيقة في التحريم،
وأي ضيق وحرج أعظم من ذلك؟
و (ثالثا) الأخبار الدالة على عدم التكليف بأمثال هذه الأمور التي لم يرد فيها شئ
بنفي ولا اثبات مثل قول الصادق (عليه السلام) في رواية إسحاق بن عمار (2) " أن
عليا (عليه السلام) كأن يقول أبهموا ما أبهمه الله " وما رواه الشيخ المفيد عن أمير المؤمنين
علي (عليه السلام) (3) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن الله حد لكم
حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فاتبعوها وحرم
عليكم حرمات فلا تنتهكوها وعفا لكم عن أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تتكلفوها "
وما رواه في الفقيه (4) في خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال فيها: " إن الله حد
حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقضوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها

(1) تقدم ما يدل على ذلك ج 1 ص 151
(2) رواه في البحار في الباب 33 من كتاب العلم رقم 5
(3) رواه في البحار في الباب 32 من كتاب العلم رقم 11
(4) باب (نوادر الحدود).
295

نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها " ولا ريب أن هذه المسألة داخلة فيما
سكت الله عنه فتكلف البحث فيها كما ذكره أصحابنا (رضوان الله عليهم) تبعا للمخالفين
في كتبهم الأصولية ناشئ من عدم ملاحظة هذه الأخبار، وكم لهم مثل ذلك كما
لا يخفى على من جاس خلال الديار. والله العالم.
فروع
(الأول) قد صرح المحقق والعلامة في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى بأنه إذا
تعذر غسل مخرج البول وجب مسحه بحجر ونحوه، واحتج له المحقق ومثله العلامة بأن الواجب
إزالة العين والأثر فإذا تعذرت إزالة الأثر بقيت إزالة العين، وفهم من هذا الحكم جملة
من المتأخرين بأنهم يرون وجوب تخفيف مطلق النجاسة عند تعذر إزالتها وأن ذلك بدل
اضطراري للطهارة من النجاسات كبدلية التيمم للطهارة من الأحداث، ونحن قد قدمنا ما في
هذا الكلام من تطرق المناقشة إليه في الفصل الأول في آداب الخلوة في التنبيه الخامس من التنبيهات
الملحقة بذلك البحث، ونزيده تأييدا هنا بما ذكره بعض المحققين من متأخري المتأخرين
حيث قال بعد نقل ما ذكرناه: وعندي في هذا الكلام من أصله نظر لأن وجوب إزالة
العين والأثر حكم واحد مستفاد من دليل واحد ومن البين أن الأمر بالمركب إنما يقتضي
الأمر بأجزائه على الاجتماع لا مطلقا، وحينئذ فلا بد في اثبات التكليف بجزء منها على
الانفراد من دليل غير الأمر بالمركب وهو مفقود في المتنازع، بل ظاهر الأخبار المسوغة
للصلاة مع النجاسة عند تعذر الإزالة نفي التكليف بأمر آخر سوى الإزالة باعتبار اطلاق
الإذن من غير تعرض للتخفيف بوجه، وما ورد في بعض الأخبار من ذكر المسح للبول عن
المخرج عند تعذر غسله لا يصلح شاهدا على العموم لأن الوجه فيه منع النجاسة عن التعدي
إلى غير محلها من الثوب أو البدن وهو أمر آخر غير التخفيف. انتهى. وهو جيد.
(الثاني) المستفاد من النصوص وعليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب أن
296

زوال حكم النجاسة متوقف على زوال عينها أو استحالتها كما سيأتي تفصيل ذلك في
مواضع مخصوصة ولا عبرة بما يبقى من اللون والرائحة وحكى المحقق في المعتبر على ذلك اجماع
العلماء، ومن الأخبار في ذلك ما رواه الشيخ في الحسن عن ابن المغيرة عن أبي الحسن
(عليه السلام) (1) قال: " قلت له للاستنجاء حد؟ قال لا حتى ينقى ما ثمة؟ قلت فإنه ينقى
ما ثمة ويبقى الريح؟ قال الريح لا ينظر إليها " والخبر وإن كان مورده الاستنجاء إلا أنه
لا خلاف ولا اشكال في تعدية الحكم إلى جملة النجاسات بطريق تنقيح المناط القطعي
المتقدم ذكره في مقدمات الكتاب، وما رواه علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح (عليه
السلام) (2) قال: " سألته أم ولد لأبيه فقالت جعلت فداك إني أريد أن أسألك عن
شئ وأنا استحيي قال سليني ولا تستحي قالت أصاب ثوبي دم الحيض فغسلته فلم يذهب
أثره؟ قال اصبغيه بمشق حتى يختلط ويذهب أثره " وعن عيسى بن أبي منصور (3)
قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) امرأة أصاب ثوبها من دم الحيض فغسلته
فبقي أثر الدم في ثوبها؟ قال: قل لها تصبغه بمشق حتى يختلط " والمشق بالكسر المغرة،
قاله في الصحاح والقاموس.
(الثالث) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في الاكتفاء في طهر البواطن
بزوال العين، وعلى ذلك تدل جملة من الأخبار: منها ما رواه الشيخ عن عمار الساباطي (4)
قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل يسيل من أنفه الدم هل عليه أن يغسل
باطنه يعني جوف الأنف؟ فقال إنما عليه أن يغسل ما ظهر منه " وما رواه في الكافي في
الصحيح عن إبراهيم بن أبي محمود (5) قال: " سمعت الرضا (عليه السلام) يقول يستنجي

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 و 35 من أحكام الخلوة و 25 من النجاسات
(2) الفروع ج 1 ص 18 وفي الوسائل في الباب 52 من أبواب الحيض
(3) رواه في الوسائل في الباب 25 من النجاسات
(4) رواه في الوسائل في الباب 24 من النجاسات.
(5) رواه في الوسائل في الباب 24 من النجاسات.
297

ويغسل ما ظهر منه على الشرج ولا يدخل فيه الأنملة " وعن محمد بن مسلم عن أحدهما
(عليهما السلام) (1) " في الرجل يمس أنفه في الصلاة فيرى دما كيف يصنع أينصرف؟
قال إن كان يابسا فليرم به ولا بأس " وبالاسناد المتقدم في الحديث الأول عن عمار
عن الصادق (عليه السلام) (2) في حديث قال: " إنما عليه أن يغسل ما ظهر منها
يعني المقعدة وليس عليه أن يغسل باطنها " وما رواه الشيخ عن عبد الحميد بن أبي الديلم (3)
قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه؟
فقال ليس بشئ " ويؤيده أيضا ما رواه زرارة عن الباقر (عليه السلام) (4) قال: " ليس
المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة إنما عليك أن تغسل ما ظهر ".
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المعالم في هذا المقام حيث إنه بعد ذكر الحكم
المذكور إنما استدل برواية عمار الأولى ثم ردها بضعف السند وقال إنها لا تصلح بمجردها
دليل على الحكم، ثم قال: وضم إليها بعض الأصحاب التعليل برفع الحرج والاشكال بحاله
والحق أنه يكفي في الاستدلال له التمسك بأصالة البراءة فإنها ملزومة للطهارة ولا، وجه
لعدم الاعتداد بها في نحو هذا الموضع إلا توهم كون أنواع النجاسات أسباب مؤثرة فيما تلاقيه
برطوبة مطلقا، وقد أسلفنا في مسألة تطهير الشمس أن ذلك بعيد عن التحقيق. انتهى.
ولا يخفى ما فيه من النظر الظاهر فإن الاعتماد على أصالة البراءة بعد استفاضة
الروايات التي تقدمت في فصول النجاسات بتعديها إلى ما لاقته بالرطوبة أمر من الشمس
أظهر ومن البدر أنور كما تقدم تحقيقه، هذا بناء على ما ذكر من تلك الرواية خاصة
وإلا فالناظر في جميع ما أوردنا من الأخبار التي فيها الصحيح باصطلاحه فلا مجال للتوقف
في الحكم المذكور. وأما ما أشار إليه وأحال عليه من التحقيق الذي زعمه في مسألة تطهير
الشمس فسيأتي نقله إن شاء الله تعالى في مسألة تطهير الشمس وبيان ما فيه.

(1) رواه في الوسائل في الباب 24 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 24 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 24 من النجاسات.
298

تذنيب
قد نقل جملة من الأصحاب عن المرتضى (رضي الله عنه) الحكم بطهارة الصقيل بمجرد
زوال عين النجاسة وظاهرهم انحصار القول بذلك في المرتضى، وظاهر الشيخ في الخلاف تقدم
القول بذلك عليه حيث ذكر أن في أصحابنا من قال بأن الجسم الصقيل كالسيف والمرآة والقوارير
إذا أصابته نجاسة كفى في طهارته مسح النجاسة، وعزى إلى المرتضى اختياره ثم قال ولست
أعرف به أثرا، وذكر أن عدم طهارته بدون غسله بالماء هو الظاهر، واحتج له بأن حصول
النجاسة في هذا الجسم معلوم والحكم بزوالها يحتاج إلى شرع وليس في الشرع ما يدل على
زوال هذا الحكم بما قالوه. وظاهره كما ترى عدم انحصار القول بالطهارة في المرتضى (رضي
الله عنه) ثم إن الفاضلين وغيرهما اقتفوا أثر الشيخ في هذا الاحتجاج على بقائه النجاسة
واستصحابها وزاد الفاضلان الاستدلال بأن النجاسة الرطبة يتعدى حكمها إلى الملاقي فلا يزول
بزوال عين النجاسة. وعلى هذا كلام من تأخر عنهما في هذا المقام وغيره مما لاقته النجاسة
برطوبة فإنه يجب استصحاب حكم النجاسة حتى يقوم الدليل على الطهارة، إلى أن انتهت
النوبة إلى صاحب المعالم فخالف الأصحاب في ذلك بقول انفرد به وهو أن هذا الحكم
أعني توقف الطهارة بعد زوال عين النجاسة على مطهر مخصوص بالثوب والبدن والآنية
وأما غير هذه الثلاثة فإنه يطهر بزوال العين. وسيجئ نقل كلامه في مسألة تطهير
الشمس، ومن ثم قال في هذا المقام بعد أن نقل عن الأصحاب ما قدمنا ما صورته: وقد
تكرر القول في أمر الاستصحاب وذكرنا في المباحث الأصولية أن السيد لا يعول عليه في
مثل هذا المقام والعجب من غفلة الجماعة عن رأي السيد فيه وأن كلامه مبني على أصله فلا يحسن
أن يحتج عليه بما لا يقبله. انتهى. أقول: لا يخفى أن الاستصحاب في هذا المقام عند
الأصحاب وهو التحقيق ليس من قبيل الاستصحاب الذي هو محل النزاع ومطرح
البحث بين السيد وغيره، فإن هذا الاستصحاب إنما هو من قبيل العمل بعموم الدليل
299

واطلاقه حتى يحصل الرافع، ونظائره في أحكام الفقه أكثر من أن تحصى كما تقدم
ذكره في مقدمات الكتاب، ولا خلاف في العمل به في الأحكام الشرعية فإن النجاسة
قد ثبتت بملاقاة عين النجاسة برطوبة فالحكم بطهارة ما لاقته يحتاج إلى دليل سواء كانت
باقية أو زالت بغير مطهر شرعي وهو مما لا خلاف فيه نصا وفتوى، وسيأتي مزيد
تحقيق للمقام في مسألة تطهير الشمس إن شاء الله تعالى.
ثم إن ممن اختار القول بالطهارة أيضا بمجرد زوال العين عن الصقيل المحدث الكاشاني
في المفاتيح وقد سلف البحث معه في ذلك في الباب الأول في آخر مسألة جواز رفع
الخبث بالمضاف وعدمه فليراجع. والله العالم.
(المسألة الثانية) لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في أصل العفو عن دم
الجروح والقروح قليلا كان أو كثيرا والأخبار به متظافرة، وإنما الخلاف بينهم في حد
العفو فمنهم من جعل الحد في ذلك البرء ومنهم من جعله الانقطاع وأصحاب هذا القول
بين مطلق لذلك ومقيد بكونه في زمان يتسع لأداء الصلاة، فالاطلاق للعلامة في بعض كتبه
والشهيد فيما سوى الذكرى والتقيد للمحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى، وناط العلامة
في القواعد العفو بحصول المشقة بالإزالة وهو ظاهره في النهاية ومثله المحقق في الشرائع،
وجمع في المنتهى والتحرير بينه وبين عدم وقوف جريانها فجعلهما المناط في العفو،
واستشكل في النهاية وجوب إزالة البعض إذا لم يشق وأوجب فيها وفي المنتهى ابدال
الثوب مع الامكان معللا بانتفاء المشقة فينتفي الترخيص لانتفاء المعلول عند انتفاء علته.
واعترضه في المعالم فقال بعد نقل ذلك: وأنت خبير بأنه مع وجوب إزالة البعض حيث
لا يشق ووجوب ابدال الثوب إن أمكن لا يبقى لهذا الدم خصوصية فإن ايجاب إزالة
البعض مع عدم المشقة يقتضي وجوب التحفظ من كثرة التعدي أيضا مع الامكان كما
لا يخفى، واغتفار ما دون ذلك ثابت في مطلق الدم بل في مطلق النجاسات. وظاهر
جماعة من الأصحاب أن الخصوصية هنا ثابتة عند الكل وإن اختلفوا في مقدارها
300

وذكر الفاضل الشيخ علي في بعض مصنفاته أن الشيخ نقل الاجماع على عدم وجوب عصب
الجرح وتقليل الدم بل يصلي كيف كان وإن سال وتفاحش إلى أن يبرأ، قال وهذا
بخلاف المستحاضة والسلس والمبطون إذ يجب عليهم الاحتياط في منع النجاسة وتقليلها
بحسب الامكان، وأطلق الشيخ في النهاية وغيرها من كتبه التي رأيناها الحكم بعدم
وجوب إزالة دم القروح الدامية والجروح اللازمة قل أو كثر، وهو ظاهر في موافقة القول
الأول أعني التحديد بالبرء. واعلم أنه قد اتفق للعلامة في الإرشاد التعبير هنا بعبارة
الشيخ فقال فيه: وعفي في الثوب والبدن عن دم القروح والجروح اللازمة. وحيث إنه لم
يظهر من العلامة في شئ من كتبه اطلاق العفو بل اشترطه تارة بعدم انقطاع سيلان
الدم وتارة بحصول المشقة وثالثة بهما حمل الشهيد الثاني في الروض كلامه هنا على أن
المراد بالوصف باللازمة استمرار الخروج، والمحقق الشيخ علي فسرها بالتي لم تبرأ،
واعترضه في الروض بأنه ليس مذهبا للمصنف حتى يفسر كلامه به. وفيه ما ذكر ابنه
في المعالم وإن لم يصرح بنسبة التفسير الأول إلى أبيه بل عبر عنه ببعض الأصحاب فقال
والحق مع الثاني فإن الظاهر من هذا الوصف إرادة كون الجرح باقيا غير مندمل، ومجرد
كون العلامة لم يصرح بهذا القول في غير ذلك الكتاب لا يسوغ حمل اللفظ على خلاف
ظاهره والمصير إلى المعنى الأول سيما مع ما هو معلوم من حال العلامة من عدم الالتزام
بالقول الواحد في الكتاب الواحد فضلا عن الكتب المختلفة وبعد ظهور انتشار رأيه
في هذه المسألة، وحينئذ تكون أقواله في هذه المسألة أربعة.
أقول: وكيف كان فأظهر الأقوال وأصحها هو القول الأول ويدل عليه
الأخبار الكثيرة:
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما
السلام) (1) قال: " سألته عن الرجل تخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلي؟

(1) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات.
301

فقال يصلي وإن كانت تسيل ".
وفي الصحيح عن ليث المرادي (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
الرجل تكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوءة دما وقيحا وثيابه بمنزلة جلده؟
قال يصلي في ثيابه ولا شئ عليه ولا يغسلها " وفي الحسن عن ليث المرادي عن الصادق
(عليه السلام) نحوه (2) إلا أنه لم يذكر في متنه " وثيابه بمنزلة جلده ".
وما رواه في الصحيح عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله (3) قال " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام) الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم والقيح
فيصيب ثوبي؟ فقال دعه فلا يضرك أن لا تغسله ".
وعن سماعة بن مهران في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " إذا
كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم ".
ورواية أبي بصير (5) قال: " دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وهو يصلي
فقال لي قائدي إن في ثوبه دما فلما انصرف قلت له إن قائدي أخبرني أن بثوبك دما؟
قال (عليه السلام) إن بي دماميل ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ ".
وموثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (6) قال: " سألته عن الدمل
يكون في الرجل فينفجر وهو في الصلاة؟ قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض
ولا يقطع الصلاة ".
وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب البزنطي عن عبد الله
ابن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) (7) قال: " سألته عن الرجل به القرح لا
يزال يدمى كيف يصنع؟ قال يصلي وإن كانت الدماء تسيل ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 12 من النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 12 من النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 12 من النجاسات
(4) رواه في الوسائل في الباب 12 من النجاسات
(5) رواه في الوسائل في الباب 12 من النجاسات
(6) رواه في الوسائل في الباب 12 من النجاسات
(7) السرائر نوادر البزنطي الحديث 12.
302

ومن الكتاب المذكور عن البزنطي عن العلاء عن محمد بن مسلم (1) قال: " قال إن صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ثوبه
في اليوم أكثر من مرة ".
ورواية سماعة (2) قال: " سألته عن الرجل به القرح أو الجرح فلا يستطيع
أن يربطه ولا يغسل دمه؟ قال يصلي ولا يغسل ثوبه إلا كل يوم مرة فإنه لا يستطيع أن
يغسل ثوبه كل ساعة ".
هذا ما وقفت عليه من روايات المسألة وهي ظاهرة الدلالة على امتداد العفو إلى
البرء وبه صرح في موثقة سماعة ورواية أبي بصير ويقرب منه قوله (عليه السلام) في
صحيحة محمد بن مسلم: " يصلي وإن كانت الدماء تسيل " ونحوها رواية عبد الله بن
عجلان، فإن الظاهر من هذه العبارة أن المفهوم أولى بالحكم من المنطوق فيكون حالة عدم
السيلان أولى بالعفو، وربما يسبق إلى الفهم من قوله في الصحيحة المشار إليها: " فلا تزال
تدمي " إن الحكم مفروض في استمرار الجريان والعفو معلق عليه، وهو باطل
(أما أولا) فإن هذا الكلام مفروض في استمرار السائل ومقتضى جوابه إنما هو ما ذكرناه
والعبرة لا بكلام السائل. و (أما ثانيا) فإن الظاهر أنه ليس معنى " لا تزال تدمي "
إن جريانها متصل لا ينقطع بل معناه تكرر الخروج وإن كان دفعة بعد دفعة وحينا بعد
حين، ومن الظاهر أن ذلك هو مقتضى العرف من هذه العبارة فإنه إذا قيل فلان
لا يزال يتكلم بكذا وكذا ولا يزال يتردد إلى كذا وكذا ونحو ذلك فإنه يراد منه
أنه يفعله حينا بعد حين لا أنه مستمر على فعله على وجه لا انقطاع ولا انفصال فيه، وبذلك
يظهر أن ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) من اعتبار المشقة وابدال الثوب مع
الامكان واعتبار التقييد بعدم الانقطاع مطلقا أو مقيدا كما تقدم لا دليل عليه بل

(1) السرائر نوادر البزنطي الحديث 13.
(2) المروية في الوسائل في الباب 22 من أبواب النجاسات.
303

الأدلة واضحة ظاهرة في رده، فإن المستفاد منها هو العفو عن هذا الدم شقت إزالته أم لا
وسواء كانت له فترة ينقطع فيها بقدر الصلاة أو مطلقا أم لا، وأنه لا يجب ابدال الثوب
ولا تخفيف النجاسة ولا تعصيب موضع الجرح أو القرح بحيث يمنعه من الخروج، قال
اطلاق الأمر بالصلاة وإن كانت الدماء تسيل والنهي عن الغسل والحال هذه أظهر
ظاهر في ذلك.
فروع
(الأول) قد صرح العلامة في جملة من كتبه كالنهاية والمنتهى والتحرير
أنه يستحب لصاحب القروح والجروح غسل ثوبه في كل يوم مرة، واحتج له في المنتهى
والنهاية بأن فيه تطهيرا غير مشق فكان مطلوبا وبرواية سماعة المتقدمة. أقول: ومثلها
صحيحة محمد بن مسلم المنقولة من مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي. والسيد في المدارك
بعد أن نقل عن العلامة الاستدلال برواية سماعة اعترضه بأن في السند ضعفا. والعجب
منه أن في غير موضع من شرحه المذكور بعد الطعن في الخبر بضعف السند وعدم نهوضه
بالدلالة على الوجوب أو التحريم يحمله على الاستحباب أو الكراهة تفاديا من طرحه
وهكذا قاعدة غيره من أصحاب هذا الاصطلاح، فكيف خالف قاعدته هنا مع أن
صحيحة محمد بن مسلم كما عرفت صريحة في ذلك؟ فلا يتوجه الطعن المذكور.
ثم إن ما ذكره العلامة ومن تبعه من حمل الرواية على الاستحباب إنما نشأ من حيث
ضعف سندها عندهم كما أشرنا إليه من أن قاعدتهم حمل الأخبار على ذلك متى ضعف سندها
تفاديا من طرحها، وأنت قد عرفت وجود الرواية الصحيحة بذلك وبموجب ذلك
يجب العمل بالخبرين المذكورين في وجوب الغسل مرة واحدة في اليوم كما دلا عليه وتقييد
تلك الأخبار بهما وإن لم يوجد به قائل منهم، ولا ريب أنه الأحوط مع الامكان
وأما ما ذكره العلامة من التعليل الأول فإنه عليل لا يعول عليه ولا يصح اسناد حكم
304

شرعي إليه، نعم يصلح توجيها للنص المذكور.
(الثاني) لو تعدى الدم عن محل الضرورة من الجروح والقروح في الثوب والبدن
فهل يسري العفو أم لا؟ وجهان صرح بثانيهما في المنتهى فقال: لو تعدى الدم عن
محل الضرورة في الثوب ‍ أو البدن بأن لمس بالسليم من بدنه دم الجرح أو بالطاهر من
ثوبه فالأقرب عدم الترخيص فيه. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه: وما استقربه حسن.
وقال في المدارك: لو تعدى الدم عن محل الضرورة في الثوب احتمل بقاء العفو تمسكا
بالاطلاق وعدمه لانتفاء المشقة بإزالته، وهو خيرة المنتهى.
أقول: لا يبعد التفصيل هنا بين ما إذا تعدى الدم بنفسه إلى سائر أجزاء البدن
أو الثوب الطاهر وبين ما إذا عداه المكلف بنفسه بأن وضع يده الطاهرة على دم الجرح
أو طرف ثوبه الطاهر عليه، والقول بالعفو في الأول دون الثاني، والظاهر من عبارة
المنتهى إنما هو الثاني إلا أن موثقة عمار المتقدمة ظاهرة في العفو في الثاني أيضا وبه يظهر
ضعف ما قربه في المنتهى واستحسنه في المعالم، ولو لم يرد هذا الخبر في أخبار المسألة لكان
ما ذكرناه من التفصيل جيدا فإن المتبادر منها إنما هو القسم الأول خاصة إلا أنه يمكن
أن يقال بحمل الموثقة المذكورة على خروج القيح من الدمل دون الدم فإنه بعد نضجه
متى انفجر فإنما يخرج منه القيح الأبيض خاصة وربما خالطه لون الدم، وبالجملة فإن حمل
الخبر على ذلك غير بعيد وبه يظهر قوة ما ذكرناه من التفصيل.
(الثالث) قال في المدارك: لو لاقى هذا الدم نجاسة أخرى فلا عفو، وإن
أصابه مائع طاهر كالعرق ونحوه فالأظهر سريان العفو إليه لاطلاق النص ومس الحاجة
واستقرب في المنتهى العدم قصرا للترخيص على موضع النص وهو الدم ولا ريب أنه
أحوط. انتهى. وهو جيد
(الرابع) إذا لاقى ذا الدم جسم برطوبة ثم لاقى الجسم بدن صاحب الدم وثوبه
فهل يثبت فيه العفو كأصله أو لا؟ احتمالان استقرب ثانيهما العلامة في النهاية والمنتهى،
305

ولم نقف لغيره على كلام في هذا الفرع إلا أنهم ذكروا نظيره في الملاقي للدم القليل المعفو
عنه كالأقل من درهم، واختار جمع منهم ثبوت العفو في الملاقي أيضا مستندين إلى أن
المتنجس بشئ لا يزيد حكمه عنه وغايته أن يساويه فإذا ثبت العفو عن عين النجاسة فما
هو أضعف منه حكما أولى بالعفو، وهذا التوجيه جار فيما نحن فيه، وبهذا التقريب رجح
في المعالم هنا الاحتمال الأول. والمسألة عندي محل توقف.
(المسألة الثالثة) الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في أن ما نقص عن سعة
الدرهم من الدم المسفوح الذي ليس من أحد الدماء الثلاثة ولا دم الجروح والقروح
معفو عنه وأن ما زاد على الدرهم فلا يعفى عنه. ويدل على الأول بعد الاجماع المدعى
من جمع من الأصحاب كالمحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والنهاية والتذكرة والمختلف
الأخبار الآتية، وعلى الثاني مضافا إلى الاجماع المدعى أيضا الأخبار الدالة على نجاسة الدم
كما تقدم والأخبار الآتية الدالة على العفو عن الناقص، وإنما الخلاف والاشكال في قدر
سعة الدرهم، فذهب الأكثر ومنهم الصدوقان والشيخان والفاضلان والشهيدان وغيرهم
إلى ايجاب إزالته، وعن المرتضى وسلار عدم الوجوب.
وها أنا أبسط ما وقفت عليه من أخبار المسألة وأذيلها بما رزقني الله تعالى فهمه
منها في الجمع بين مختلفاتها وتأليف متفرقاتها:
ومنها صحيحة عبد الله بن أبي يعفور (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) ما تقول في دم البراغيث؟ قال ليس به بأس. قال قلت إنه يكثر ويتفاحش؟
قال وإن كثر. قال قلت فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله
فيصلي ثم يذكر بعدما صلى أيعيد صلاته؟ قال يغسله ولا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار
الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة ".

(1) المروية في الوسائل بالتقطيع في الباب 20 و 23 من النجاسات.
306

وحسنة محمد بن مسلم (1) قال: " قلت له الدم يكون في الثوب علي وأنا في الصلاة؟
قال إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض
في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك فليس
بشئ رأيته قبل أو لم تره، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت
غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه " هكذا في رواية الكافي، وفي
التهذيب هكذا: " وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشئ " بزيادة الواو
وحذف " وما كان أقل " وفي الإستبصار حذفه أيضا ولم يزد الواو، وفي الفقيه رواه
عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) كما في الكافي وزاد في آخره " وليس ذلك
بمنزلة المني والبول ثم ذكر المني فشدد فيه.. الحديث " كما تقدم في الفصل الثالث
في نجاسة المني.
ورواية إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) (2) قال: " في الدم
يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة وإن كان أكثر من قدر الدرهم
وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته وإن لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة "
ورواية جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن الباقر والصادق (عليهما
السلام) (3) أنهما قالا: " لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقا شبه النضح
وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم ".
وقال الرضا (عليه السلام) في الفقه الرضوي (4) " إن أصاب ثوبك دم فلا بأس
بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف، والوافي ما يكون وزنه درهما وثلثا، وما كان
دون الدرهم الوافي فلا يجب عليك غسله ولا بأس بالصلاة فيه، وإن كان الدم حمصة فلا
بأس بأن لا تغسله إلا أن يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمني قل أم

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات
(4) ص 6.
307

كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم " انتهى كلامه وبهذه العبارة عبر الصدوق
في الفقيه بأدنى تغيير.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع: (الأول) لا يخفى أن
مورد الأخبار المذكورة إنما هو الثوب خاصة وظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على ضم
البدن إليه أيضا، قال في المنتهى: حكم البدن حكم الثوب في هذا الباب ذكره
أصحابنا ويؤيده رواية مثنى بن عبد السلام (1) ولأن المشقة موجودة في البدن كالثوب
بل أبلغ لكثرة وقوعها إذ لا تتعدى غالبا إلى الثوب إلا منه. انتهى. وقال في المعالم
بعد ذكر ملخصه: ولا بأس به. وقال في المدارك: مورد الروايات المتضمنة للعفو تعلق
النجاسة بالثوب، وقال في المنتهى إنه لا فرق في ذلك بين الثوب والبدن وأسنده إلى
الأصحاب لاشتراكهما في المشقة اللازمة من وجوب الإزالة، وهو جيد لمطابقته لمقتضى
الأصل السالم عما يصلح للمعارضة، ويشهد له رواية مثنى بن عبد السلام عن الصادق
(عليه السلام) (2) قال: " قلت له إني حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال إذا اجتمع
منه قدر حمصة فاغسله وإلا فلا " والظاهر أن المراد بقدر الحمصة قدرها وزنا لا سعة وهي
تقرب من سعة الدرهم. انتهى.
أقول: لا يخفى ما في كلامهم هنا من المجازفة الظاهرة (أما أولا) فلأن
التعليل في الحاق البدن بالثوب بالمشقة إنما يتم على تقدير تسليمه لو كان وجوب الإزالة
عن الثوب معللا بالمشقة، مع أن هذه العلة غير موجودة في شئ من الأخبار المتقدمة
وإنما هي علة مستنبطة والعلة الحقيقية في وجوب الإزالة عن الثوب إنما هي الأخبار الدالة
على ذلك ولا اشعار لها بشئ من هذه العلة، ثم أي مشقة في إزالة الدم وحده مع وجوب
الإزالة فيما عداه من النجاسات قل أو كثر بل في غيره من الدماء؟ وبالجملة فإن هذا
التعليل عليل لا يصلح لبناء حكم شرعي ".

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.
308

و (أما ثانيا) فإن ما ذكره في المدارك من الاستناد إلى مطابقة الأصل
غير متأصل إذ الظاهر أن مراده من هذا الأصل هنا هو أصالة براءة الذمة من وجوب
الإزالة، وهو مردود بما عرفت من استفاضة النصوص بنجاسة الدم ووجوب إزالته في
الصلاة قليلا كان أو كثيرا خرج ما خرج بدليل وبقي ما بقي وهو ما يوجب الخروج
عن هذا الأصل.
و (أما ثالثا) فإن ما ذكره من خبر الحمصة وتأوله به من أن المراد بالحمصة
قدرها وزنا لا سعة مدخول بأنه يمكن أن يلطخ بقدر الحمصة وزنا من الدم تمام الثوب،
وحينئذ لا معنى لقوله " وهو يقرب من سعة الدرهم " فإنا لا ندري أي شئ أراد بهذا
القرب والحال كما ذكرنا، والظاهر من الرواية المذكورة إنما هو قدرها في السعة وأنه
لا يعفى عنه وإنما يعفى عما دونه، فالرواية بالدلالة على خلاف ما يدعونه أشبه.
وربما أشعرت الرواية بعدم نجاسة هذا المقدار اليسير من الدم كما هو ظاهر
عبارة الصدوق في الفقيه حيث قال: " وإن كان الدم دون حمصة فلا يغسل " ويؤيده
أيضا ما في رواية الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (1) حيث " سأله عن دم البراغيث
يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال لا وإن كثر ولا بأس أيضا بشبهه من
الرعاف بنضحه ولا يغسله " والتقريب أن المتفرق من الرعاف غالبا إنما يكون أقل من
الحمصة فلو كان نجسا لكان النضح إنما يزيده نجاسة، ولكن لا أعلم قائلا بذلك إلا
ما يظهر من اطلاق عبارة ابن الجنيد المتقدمة في صدر المسألة الأولى.
هذا ما اقتضاه البحث بحسب النظر إلى الدليل وإن كان الاحتياط فيما ذهبوا
إليه سيما مع ظاهر اتفاقهم على ذلك ولا أعرف لهم دليلا سواه.
وأما ما تضمنه كتاب الفقه كما قدمنا في عبارته من نفي البأس عن قدر الحمصة
من الدم فمشكل والصدوق (قدس سره) مع أخذ عبارته في الفقيه من عبارة الكتاب

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.
309

المذكور قد عدل في هذا المقام عن ذلك كما قدمنا من عبارته، ويمكن حمل عبارة كتاب
الفقه كما هو ظاهر سياقها على أن مقدار الحمصة الذي نفى عن البأس إنما في
الثوب وحينئذ فنفي البأس من حيث السعة فتدخل تحت عموم قوله: " وما كان دون
الدرهم " فإنها من حيث السعة دون الدرهم المذكور وإنما محل الاشكال في البدن باعتبار
احتمال الوزن كما ذهب إليه في المدارك.
(الموضع الثاني) قد اتفقت هذه الروايات على ما قدمنا ذكره في العفو عما
نقص من قدر الدرهم وعدم العفو عما زاد وإنما اختلفت في العفو عن قدر الدرهم
وعدمه وبذلك اختلفت كلمة الأصحاب، والمشهور الثاني كما قدمنا ذكره.
واستدل عليه بوجوه: (أولها) أن مقتضى الدليل وجوب إزالة قليل النجاسة
وكثيرها لقوله (عليه السلام) " إنما يغسل الثوب من البول والمني والدم " (1) ونحو
ذلك من الأخبار التي قدمناها في الفصل الرابع في نجاسة الدم مما دل على وجوب تطهير
الثوب من الدم وإعادة الصلاة بالصلاة فيه ناسيا ونحو ذلك، فإن اطلاقها يقتضي وجوب
إزالة الدم كيف كان خرج منه ما وقع الاتفاق على العفو عنه وهو الأقل من درهم وبقي
الباقي وعلى هذا الوجه اقتصر المحقق في المعتبر وإن كان كلامه فيه بوجه مختصر،
وهو جيد وجيه كما لا يخفى على العارف النبيه.
و (ثانيها) قوله تعالى: " وثيابك فطهر " (2) قال العلامة في المختلف وهو عام
تركناه فيما نقص عن الدرهم للمشقة وعدم الانفكاك منه فيبقى ما زاد على عموم الأمر
بإزالته. أقول: وفيه عندي نظر تقدم ذكره قريبا وهو أن الأخبار الواردة بتفسير الآية قد

(1) الظاهر أن هذا مضمون الأخبار الواردة في نجاسة هذه الأمور وليس لفظا
واردا في حديث خاص وقد أورده كذلك المحقق في المعتبر وصاحبا المدارك والمعالم
ومرجعه إلى التمسك بالاطلاقات.
(2) سورة المدثر، الآية 4.
310

اتفقت على تفسير التطهير هنا بتشمير الثياب فلا وجه للاستدلال بها هنا بعد ورود
التفسير لها بنوع خاص.
و (ثالثها) صحيح ابن أبي يعفور المتقدم ورواية جميل بن دراج ودلالتهما
على ذلك ظاهرة بل صريحة، ومثلهما عبارة كتاب الفقه، وهذا القول هو المعتمد
عندي لما عرفت.
وأما أدلة القول الآخر فوجهان: (أحدهما) ما حكاه في المختلف عن المرتضى
فقال: قال المرتضى (رضي الله عنه) إن الله أباح الصلاة في قوله تعالى: ".. إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا.. " (1) عند تطهير الأعضاء الأربعة فلو تعلقت الإباحة بغسل
نجاسة لكان ذلك زيادة لا يدل عليها الظاهر لأنه بخلافها، ولا يلزم على ذلك ما زاد
على الدرهم وما عدا الدم من سائر النجاسات لأن الظاهر وإن لم يوجب ذلك فقد عرفناه
بدليل أوجب الزيادة على الظاهر وليس ذلك في يسير الدم. ثم أجاب في المختلف
عن هذه الحجة بأن الآية لا تدل على الإباحة عند تطهير الأعضاء الأربعة بل
على اشتراط تطهيرها في الصلاة. أقول: ومع تسليم ما ذكره فإنه كما خصص الآية
بالأدلة الدالة على وجوب إزالة ما زاد على الدرهم وما دل على إزالة سائر النجاسات
فليكن مثلها صحيحة ابن أبي يعفور ورواية جميل وكلامه (عليه السلام) في كتاب
الفقه لدلالتها على وجوب إزالة قدر الدرهم وعدم العفو عنه.
و (ثانيهما) حسنة محمد بن مسلم بطريق الشيخ المتقدم ذكره ورواية إسماعيل
الجعفي المتقدمتان. وأجاب في المختلف عن الحسنة المذكورة بأن محمد بن مسلم لم يسنده
إلى الإمام (عليه السلام) قال وعدالته وإن كانت تقتضي الأخبار عن الإمام إلا أن
ما ذكرناه لا لبس فيه يعني حديث ابن أبي يعفور.
ولله در المحقق الشيخ حسن في المعالم حيث رد ذلك فقال: وأما جوابه عن الثاني

(1) سورة المائدة، الآية 6.
311

فمنظور فيه وذلك لأن الممارسة تنبه على أن المقتضي لنحو هذا الاضمار في الأخبار ارتباط
بعضها ببعض في كتب روايتها عن الأئمة (عليهم السلام) فكان يتفق وقوع أخبار
متعددة في أحكام مختلفة مروية عن إمام واحد ولا فصل بينها يوجب إعادة ذكر الإمام
(عليه السلام) بالاسم الظاهر فيقتصرون على الإشارة إليه بالمضمر. ثم إنه لما عرض
لتلك الأخبار الاقتطاع والتحويل إلى كتاب آخر تطرق هذا اللبس ومنشأه غفلة المقتطع
لها وإلا فقد كان المناسب رعاية حال المتأخرين لأنهم لا عهد لهم بما في الأصول، واستعمال
ذلك الاجمال إنما ساغ لقرب البيان وقد صار بعد الاقتطاع في أقصى غاية البعد ولكن
عند الممارسة والتأمل يظهر أنه لا يليق بمن له أدنى مسكة أن يحدث بحديث في حكم شرعي
ويسنده إلى شخص مجهول بضمير ظاهر في الإشارة إلى معلوم فكيف باجلاء أصحاب
الأئمة (عليهم السلام) كمحمد بن مسلم وزرارة وغيرهما، ولقد تكثر في كلام المتأخرين
رد الأخبار بمثل هذه الوجوه التي لا يقبلها ذو سليقة مستقيمة، هذا وقد كان الأولى
للعلامة (قدس سره) في الجواب عن الاحتجاج بهذا الحديث بعد حكمه بصحة حديث
ابن أبي يعفور ورجوع كلامه في جوابه إلى أن حديث ابن أبي يعفور أرجح في الاعتبار
من خبر ابن مسلم أن يجعل وجه الرجحان كون ذلك من الصحيح وهذا من الحسن. انتهى.
أقول: ومن العجب هنا كلامهم في الرواية المذكورة فيما اشتملت عليه من
الارسال اعتراضا وجوابا مع أن الصدوق رواها في الفقيه عن محمد بن مسلم أنه قال للباقر
(عليه السلام) كما قدمنا ذكره في عد الروايات فكيف غفل الجميع عن ملاحظة ذلك
واحتاجوا إلى هذا التكلف سؤالا وجوابا؟
إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المدارك بعد أن استدل للمرتضى بحسنة محمد بن مسلم
المروية في التهذيب ورواية الجعفي قال: وجه الدلالة أنه (عليه السلام) رتب الإعادة
على كون الدم أكثر من مقدار الدرهم فينتفي بانتفائه عملا بالشرط وهو منتف مع المساواة،
ولا يعارض بالمفهوم الأول لاعتضاد الثاني بأصالة البراءة. انتهى.
312

أقول: لا يخفى أن هذين المفهومين الحاصلين من الشرطيتين إنما هما في رواية
الجعفي حيث قال: " إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة وإن كان أكثر
فليعد صلاته " وأما حسنة محمد بن مسلم بناء على نقله لها من التهذيب فليس فيها إلا أن
" وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشئ " وهو يرجع إلى الشرطية الثانية
من رواية الجعفي، وأما على روايتي الكافي والفقيه فهي مشتملة على الشرطيتين معا.
بقي الكلام معه في ترجيح أحد المفهومين على الآخر فإن مفهوم الشرطية الأولى
أنه لو لم يكن أقل من درهم بل كان درهما فصاعدا فإنه يعيد، وعلى هذا المفهوم بنى
الاستدلال للقول المشهور، ومفهوم الشرطية الثانية أنه لو لم يكن أكثر من الدرهم فلا
يعيد، وعليه بنى استدلال المرتضى (رضي الله عنه) واختاره في المدارك ورجحه
باعتضاده بأصالة البراءة. ولا يخفى ما فيه فإن أصالة البراءة لا معنى لها بعد استفاضة
الأخبار بنجاسة الدم بقول مطلق ووجوب الطهارة منه في الصلاة ووجوب إعادتها بالصلاة
فيه ناسيا خرج ما خرج بدليل وبقي ما بقي، ومع تسليم ما ذكره فهذا الأصل هنا مخصوص
بصحيحة ابن أبي يعفور وما شابهها مما دل على القول المشهور وبه يظهر وجه رجحان مفهوم
الشرطية الأولى، وبذلك يظهر أن حمله لروايات القول المشهور على الاستحباب غير جيد
لظهورها في وجوب الإعادة وصحة بعضها وكثرتها واعتضادها بالأخبار المطلقة التي
أشرنا إليها وقبول ما قابلها للتأويل، مع ما عرفت في غير موضع من أنه لا دليل على
الجمع بين الأخبار بالاستحباب والكراهة وإن كان مشهورا بينهم.
قال في المعالم بعد البحث في المقام: وبالجملة فحديث ابن أبي يعفور أقرب إلى
القبول من خبر ابن مسلم فمع التعارض يكون الترجيح للأول، وبتقدير المساواة فخبر
ابن مسلم أقرب إلى التأويل إذ يمكن حمل الزيادة عن مقدار الدرهم فيه على كونها إشارة
إلى أن اتفاق كون الدم بمقدار الدرهم فحسب بعيد جدا فإن الغالب فيه الزيادة أو النقصان
ومما يرشد إلى هذا قوله في رواية إسماعيل الجعفي: " إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد
313

الصلاة وإن كان أكثر فليعد صلاته " ولم يتعرض لحال مساواته للدرهم، والظاهر أنه
لا وجه لتركه إلا بعد وقوعه، وحينئذ فيكون مفهوم الشرط الأول في هذه الرواية
مخصصا لعموم مفهوم الشرط الثاني بمعونة ملاحظة الجمع بينه وبين حديث ابن
أبي يعفور. انتهى. وهو جيد إلا أن استشهاده برواية إسماعيل الجعفي على ما ذكره مبني
على نقله حسنة محمد بن مسلم من التهذيب وإلا فهي في الكافي والفقيه قد اشتملت على
ما اشتملت عليه رواية الجعفي من الشرطيتين المذكورتين فيها كما قدمنا نقله لأنه قال:
" ولا إعادة عليك ما لم يرد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك يعني من الدرهم
فليس بشئ " إلا أن للتأويل فيها مدخلا بارجاع اسم الإشارة إلى الأزيد وهو غلط كما
سيظهر لك إن شاء الله تعالى، والظاهر أنه وكذا قبله صاحب المدارك لم يلاحظوا الكافي
والفقيه في تحقيق هذه الرواية.
أقول: والذي يقرب عندي ويدور في خلدي في معنى حسنة محمد بن مسلم هو أنه
لما كان فرض الدرهم نادر الوقوع بل الغالب إما الزيادة عليه أو النقيصة عنه عبر عن الدرهم
فصاعدا بما زاد على الدرهم كأنه قيل ما لم يكن درهما فزائدا كما قالوه في قوله عز وجل: " فإن
كن نساء فوق اثنتين " (1) أي اثنتين فما فوق، والتعبير بمثل ذلك عن إرادة المعنى
الذي ذكرناه شائع في الأخبار، ويؤيده ترك التعرض لمقدار الدرهم في الخبر والاقتصار
على ذكر الأكثر والأقل والظاهر أنه مطوي في جانب الأكثر، وقد تتبعت في الأخبار
ما جرى هذا المجرى إلا أنه لا يحضرني الآن منه إلا رواية واحدة وهي رواية يونس
عن بعض رجاله عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن حد المكاري الذي
يصوم ويتم؟ قال أيما مكار أقام في منزله أو البلد الذي يدخله أقل من عشره أيام وجب
عليه الصيام والتمام، وإن كان له مقام في منزله أو البلد الذي يدخله أكثر من عشرة

(1) سورة النساء، الآية 12.
(2) المروية في الوسائل في الباب 12 من صلاة المسافر
314

أيام فعليه التقصير والافطار " فإن حكم العشرة التي هي الحد الشرعي في وجوب القصر
غير مذكور وما ذاك إلا أنه من حيث ندرة الاقتصار على العشرة من غير زيادة ولا
نقصان فأدرجها في جانب الأكثر، فالمعنى في قوله (عليه السلام) " أكثر من عشرة
أيام " أي عشرة فأكثر، وبالجملة رمي هذه العبارة بهذا المعنى في هذا المقام كثير يعرفه
المتتبع المتأمل في الأخبار، وحينئذ فقوله في الحسنة المذكورة بناء على روايتي الكافي
والفقيه " وما كان أقل من ذلك " لا دلالة فيه فإن الإشارة فيه إنما هي إلى الدرهم يعني
أقل من درهم حسبما وقع في رواية الجعفي. والله العالم.
(الموضع الثالث) اختلف الأصحاب في الدم المتفرق في الثوب أو البدن الذي
لو جمع لبلغ قدر الدرهم هل تجب إزالته أم لا؟ على أقوال، فقيل إن حكمه حكم المجتمع أن بلغ درهما وجبت إزالته وإلا فلا وبه قال سلار من المتقدمين وأكثر المتأخرين،
وظاهر الشيخ في النهاية أنه لا تجب إزالته مطلقا إلا أن يتفاحش، ويحكى عنه في المبسوط
أنه قال ما نقص عن الدرهم لا تجب إزالته سواء كان في موضع واحد من الثوب أو في
مواضع كثيرة بعد أن يكون كل موضع أقل من مقدار الدرهم، وإن قلنا إذا كان جميعه
لو جمع لكان مقدار الدرهم وجب إزالته كان أحوط للعبادة. ونقل عن ابن إدريس
اطلاق القول بعدم وجوب الإزالة واختاره المحقق في النافع، وظاهره في المعتبر وفاق
الشيخ في النهاية.
وقد ظهر من ذلك أن الأقوال في المسألة ثلاثة: (أحدهما) التفصيل بين
بلوغ الدرهم وعدمه فتجب الإزالة على الأول دون الثاني، وهو المشهور بين المتأخرين.
(الثاني) عدم وجوب الإزالة مطلقا إلا أن يتفاحش وهو قول الشيخ في
النهاية والمحقق في المعتبر.
(الثالث) عدم وجوب الإزالة مطلقا وهو مذهب ابن إدريس والمحقق
في النافع والشرائع أيضا والشيخ في المبسوط واختاره السيد في المدارك.
315

وهو الأقرب وتدل عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة وقوله فيها " إلا أن
يكون مقدار الدرهم مجتمعا ".
وأجاب عنها في المختلف بأن " مجتمعا " كما يحتمل أن يكون خبرا ل‍ " يكون "
يحتمل أن يكون حالا مقدرة واسمها ضمير يعود إلى " نقط الدم " و " مقدار " خبرها
والمعنى إلا أن تكون نقط الدم مقدار الدرهم إذا قدر اجتماعها.
ورد (أولا) بأن تقدير الاجتماع مما لا يدل عليه اللفظ. وفيه أن صدر الحديث
مفروض في نقط الدم والفرض أن الضمير عائد إلى نقط الدم.
و (ثانيا) بأنه لو كانت الحال مقدرة وكان الحديث المذكور مخصوصا بما
قدر فيه الاجتماع لا ما حقق لما صلح دليلا للمجتمع حقيقة مع استدلال الأصحاب به قديما
وحديثا على ذلك.
و (ثالثا) أنه مع كونه حالا لا خبرا فالظاهر أنه حال محققة وهو الظاهر
من الخبر، ويصير المعنى إلا أن يكون الدم بمقدار الدرهم حال كونه مجتمعا.
و (رابعا) أن الحال المقدرة كما ذكروه هي التي زمانها غير زمان عاملها
ولها مثال مشهور وهو قولهم " مررت برجل معه صقر صائدا به غدا " أي مقدرا فيه
الصيد، وما نحن فيه ليس كذلك إذ كون الدم قدر الدرهم إنما هو حال اجتماعه فزمانهما
واحد، وكيف كان فالظاهر من الخبر المذكور إنما هو كون " مجتمعا " خبرا أو حالا
محققة وعلى كل منهما فالاستدلال بالرواية على المدعى ظاهر.
وأظهر منها في الدلالة على اعتبار الاجتماع في الدم المتفرق مرسلة جميل المتقدمة
لتصريحه (عليه السلام) بنفي البأس عن الصلاة في الدم المتفرق ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم
احتج القائلون بالقول المشهور بوجوه: (منها) أن الحكم معلق على مقدار
الدرهم في حسنة محمد بن مسلم وقريب منها رواية إسماعيل الجعفي، وهو أعم من
المجتمع والمتفرق.
316

و (منها) رواية عبد الله بن أبي يعفور المتقدمة فإن الحكم فيها مفروض في
نقط الدم الذي هو عبارة عن الدم المتفرق.
و (منها) أن الأصل وجوب الإزالة بقوله تعالى: " وثيابك فطهر " (1)
خرج ما نقص عن الدرهم فيبقى الباقي مندرجا تحت الاطلاق.
و (منها) أن النجاسة البالغة قدرا معينا لا يتفاوت الحال باجتماعها
وتفرقها في المحل.
والجواب عن الأول بأن مقدار الدرهم في الخبر مخصوص بالمجتمع لقيام المخصص
كما هو ظاهر روايتي ابن أبي يعفور ومرسلة جميل كما تقدم تحقيقه.
وعن الثاني بأن الرواية المذكورة وإن كانت مفروضة في نقط الدم كما ذكر إلا أن الظاهر كون السؤال عن النقط باعتبار مجموعها أو باعتبار كل نقطة منه مكانها، فعلى
تقدير كون " مجتمعا " خبرا ل‍ " يكون " و " مقدار " اسمها فكأنه (عليه
السلام) قال في الجواب: لا يعيد صلاته باعتبار شئ من ذلك إلا أن يكون مقدار الدرهم
مجتمعا بأن يكون الشئ من تلك النقط بمقدار الدرهم. وعلى تقدير كون " مجتمعا " حالا محققة
يكون المعنى لا يعيد صلاته إلا أن تكون تلك النقط المتفرقة مقدار الدرهم حال كونها
مجتمعة، فإفادة اشتراط الاجتماع حاصل على كل من التقديرين.
وعن الثالث بما تقدم ذكره من أن مورد الآية كما دلت عليه الأخبار الواردة
بتفسيرها إنما هو التشمير لا الطهارة بمعنى إزالة النجاسة، وقد تقدم في مقدمات الكتاب
أن اللفظ المتشابه في القرآن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد ورود تفسيره عن أهل البيت
(عليهم السلام) بمعنى من المعاني والوارد عنهم في تفسير هذا اللفظ هو ما ذكرناه.
وأما ما أجاب به عنه في المدارك من أن الخطاب في الآية مخصوص بالنبي
(صلى الله عليه وآله) فتناوله للأمة يتوقف على الدلالة ولا دلالة فهو ضعيف لا يلتفت

(1) سورة المدثر، الآية 4.
317

إليه فإن الظاهر أن كلامه هذا مبني على ما حقق عندهم في الأصول من أن خطابات القرآن
إنما هي متوجهة إلى الحاضرين زمن الخطاب وانسحاب الحكم إلى من سيوجد بعد ذلك مستند
إلى الاجماع، وحيث إن المسألة محل خلاف والاجماع غير محقق منع عموم الخطاب في
الآية المذكورة. وفيه أنه لا حاجة بنا في اثبات العموم إلى الاجماع بل الأخبار بحمد الله
سبحانه بذلك مكشوفة القناع وهي الأحرى والأحق في ذلك بالاتباع، ومنها ما رواه
في الكافي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: " لو كانت
إذا نزلت آية في رجل ثم مات الرجل ماتت الآية مات الكتاب والسنة ولكنه
حي يجري في من بقي كما جرى في من مضى " وهو صريح الدلالة واضح المقالة في
المراد. وما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق (عليه
السلام) (1) حين سأله عن أحكام الجهاد، وساق الخبر إلى أن قال (عليه السلام):
" فمن كان قد تمت فيه شرائط الله الذي وصف بها أهلها من أصحاب النبي (صلى الله
عليه وآله) وهو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد كما إذن لهم لأن حكم الله في الأولين
والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون والأولون والآخرون
أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون عن أداء
الفرائض كما يسأل الأولون ويحاسبون كما يحاسبون " وما رواه الصدوق في العلل (2)
عن الرضا عن أبيه (عليهما السلام) " أن رجلا سأل الصادق (عليه السلام) ما بال
القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال إن الله تعالى لم يجعله لزمان دون
زمان ولناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة "
إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع، وبذلك يظهر لك أن المرجع في عموم
تلك الخطابات إنما هو إلى هذه الأخبار ونحوها، على أن الأخبار الواردة بتفسير هذه

(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من كتاب الجهاد وأصول الكافي ج 1 ص 192.
(2) عيون أخبار الرضا ص 239.
318

الآية ظاهرة في العموم إلا أنها مخصوصة بما قدمنا ذكره. ولو أجيب بضعف هذه الأخبار
بهذا الاصطلاح الجديد، قلنا إن هذه الأصول بل الفضول التي مهدوا فيها هذه القاعدة
أضعف إذ هي مجرد اصطلاحات اتفاقية أو خلافية وعن الأدلة النبوية خالية عرية.
وعن الرابع بأنه مجرد مصادرة فإنه محل البحث. وكيف كان فإنه وإن كان
مقتضى البحث وتحقيق الحال في المسألة هو ما ذكرناه من عدم وجوب الإزالة إلا أن
الاحتياط بالعمل بالقول المشهور مما ينبغي المحافظة عليه فإن احتمال ذلك من الأدلة
المذكورة أيضا غير بعيد. والله العالم.
فروع
(الأول) اعلم أن التفاحش قدمنا ذكره عن الشيخ في النهاية والمحقق
في المعتبر وعلقوا وجوب الإزالة عليه لم نقف له على مستند ولم يبينوا أيضا مقداره،
وقد ذكر المحقق في المعتبر أنه ليس له تقدير شرعي وأن قول الفقهاء فيه مختلف فبعض قدره
بالشبر وبعض بما يفحش في القلب قال وقدره أبو حنيفة بربع الثوب، ثم قال والمرجع
فيه إلى العادة لأنها كالأمارة الدالة على المراد باللفظ إذا لم يكن له تقدير شرعا ولا
وضعا. انتهى. أقول: والظاهر أنهم أخذوا هذا الفرع من كتب العامة واختلفوا فيه
كاختلافهم وأخبارنا خالية منه كما عرفت. وقال في المدارك بعد نقل كلام المعتبر كما
ذكرناه: وهو جيد لو كان لفظ التفاحش واردا في النصوص. انتهى. وفيه ما عرفت
في غير موضع من أن الحوالة على العرف والعادة في الأحكام الشرعية غير جيد لعدم
انضباطها في جميع الأعصار والأمصار وتعذر الإحاطة بها والاطلاع عليها لو سلمنا انضباطها
ولم يعهد من الشارع إناطة الأحكام الشرعية بذلك، وقد تقدم في مباحث الكتاب ما
ينبغي العمل عليه في مثل ذلك.
(الثاني) قال الشهيد الثاني في الروض بعد الكلام في هذه المسألة: هذا حكم الدم
319

المتفرق في الثوب الواحد أما المتفرق في الثياب المتعددة أو فيها وفي البدن فهل الحكم
فيها كذلك بمعنى تقدير جمع ما فيها أو لكل واحد من الثوب والبدن حكم بانفراده
فلا يضم أحدهما إلى الآخر أو لكل ثوب حكم كذلك فلا يضم بعضها إلى بعض ولا
إلى البدن؟ أوجه واعتبار الأول أوجه وأحوط. انتهى. أقول: أما الدم المتفرق في
البدن فقد عرفت فيما قدمنا بيانه أن النصوص خالية منه، أما المتفرق في الثياب فيمكن
ترجيح ما ذكره واستوجهه (قدس سره) بحمل الثوب في النصوص المتقدمة على ما هو
أعم من الثوب الواحد بإرادة الجنس فيه وقوته ظاهرة.
(الثالث) قال السيد في المدارك: لو أصاب الدم المعفو عنه مائع طاهر ولم يبلغ
المجموع الدرهم ففي بقائه على العفو قولان أظهرهما ذلك، لأصالة البراءة من وجوب
إزالته، ولأن المتنجس بشئ لا يزيد حكمه عنه بل غايته أن يساويه إذ الفرع لا يزيد
على أصله واستقرب العلامة في المنتهى وجوب إزالته لأنه ليس بدم فوجب إزالته بالأصل
السالم عن المعارض، ولأن الاعتبار بالمشقة المستندة إلى كثرة الوقوع وذلك غير موجود
في صورة النزاع لندوره. وضعف الوجهين ظاهر. ولو أزال عين الدم بما لا يطهرها
فلا ريب في بقاء العفو لخفة النجاسة حينئذ. انتهى. أقول: وإلى ما رجحه هنا من البقاء
على العفو ذهب الشهيد في الذكرى قال: لأن المتنجس بشئ لا يزيد عليه. واستظهره
في المعالم أيضا، وإلى ما استقربه العلامة من وجوب الإزالة وعدم العفو صار في البيان.
أقول: كما يمكن أن يعلل العفو وعدم وجوب الإزالة بما ذكروه فلقائل أن يقول
أيضا بأنه إذا كان مورد الأخبار في هذه المسألة على خلاف الأصل المستفاد من الأخبار
المستفيضة المجمع على القول بمضمونها من نجاسة الدم ووجوب إزالته عن الثوب والبدن
للصلاة وكذا نجاسة ما يتعدى إليه نجاسة أحد أعيان النجاسات برطوبة ووجوب الإزالة
للعبادة فالواجب الاقتصار في ذلك على مورد النص كما قرروه في غير موضع أخذا بالمتيقن
المتفق عليه وهو العفو عن ذلك الدم خاصة فتعديته إلى ذلك المائع المتصل به خروج
320

عن موضع النص، وأصالة البراءة التي استند إليها ممنوعة لما عرفت من قيام الأدلة على
النجاسة واشتراط إزالتها في صحة الصلاة خرج ما خرج بدليل واضح وبقي الباقي.
وقولهم إن المتنجس بشئ لا يزيد حكمه عنه مجرد تعليل عقلي لا يصلح لأن يكون
مستندا لتأسيس حكم شرعي فإن بناء الأحكام الشرعية طهارة ونجاسة وصحة وفسادا
على ما علم من الشرع وثبت لا على الأدلة العقلية. وإلى ما ذكرنا في المقام يميل كلام صاحب
الذخيرة مع اقتفائه أثر صاحب المدارك غالبا كما لا يخفى على من تتبعه.
(الرابع) أطلق جماعة من الأصحاب أنه إذا أصاب الدم وجهي الثوب فإن كان
من التفشي من جانب إلى آخر فهو دم وإلا فدمان، وفصل الشهيد في البيان فقال:
لو تفشى الدم في الرقيق فواحد وفي الصفيق اثنان، ونحو ذلك في الذكرى واستحسنه
في المدارك، ونص العلامة في المنتهى والتحرير على أن التفشي موجب للاتحاد في
الصفيق، وقال في المعالم بعد نقل الأقوال المذكورة: والتحقيق تحكيم العرف في ذلك
إذ ليس له ضابط شرعي ولا سبيل إلى استفادة حكم اللغة في مثله فالمرجع حينئذ إلى
ما يقتضيه العرف. أقول: قد عرفت ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف من
الاشكال في غير مقام مما تقدم بل الحق كما نطقت به أخبار أهل الذكر (عليهم السلام)
هو الوقوف في كل قضية لم يعلم حكمها من الأخبار بعد التتبع والفحص عن الفتوى فيها
والأخذ بالاحتياط إن احتيج إلى العمل بها.
(الخامس) قال العلامة في النهاية: لو كان الدم اليسير في ثوب غير ملبوس
أو في متاع أو آنية أو آلة فأخذ ذلك بيده وصلى وهو حامل له احتمل الجواز لعموم
الترخيص والمنع لانتفاء المشقة. وذكر نحوه في المنتهى، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه:
وفي كلا الوجهين نظر، أما الأول فلأن أدلة الترخص ليس فيها ما يتناول مثل هذا
وأما الثاني فلأن اعتبار المشقة لو أخذ دليلا على الحكم لانتفت الرخصة في كثير من
الصور لعدم المشقة فيها، قال والحق أن الحكم بالعفو في موضع النزاع غير محتاج إلى
321

تكلف تناول دليل العفو في أصل المسألة له بل يكفي فيه كونه مقتضى الأصل فإن
ايجاب الإزالة والاجتناب تكليف والأصل براءة الذمة منه وإنما احتاجوا في حكم
الثوب الملبوس والبدن إلى التمسك بغير هذا الوجه لقيام الدليل على منافاة النجاسة فيهما
لصحة الصلاة كما مرت الإشارة إليه فيتوقف استثناء بعض النجاسات على الحجة، ولولا
ذلك لكان الأصل دليلا قويا في الجميع. انتهى. وهو جيد، ويؤيده أن المتبادر من
قولهم (عليهم السلام) (1) " لا يجوز الصلاة في النجاسة " و " لا تصح الصلاة في
الذهب " (2) إنما هو ما كان ملبوسا من هذه الأشياء تحقيقا للظرفية فلا يدخل فيه
المحمول ومرجع كلامه (قدس سره) إلى ما ذكرناه، وعلى هذا فلا وجه لتخصيص
الكلام بالدم اليسير بل ولو كان أكثر من درهم والحال أنه محمول غير ملبوس، وإلا
فلو لم يلحظ ما ذكرناه لكان للمناقشة فيه مجال فإنه إن أسلم صدق الصلاة فيه في تلك
الحال دخل تحت عموم الأدلة المانعة من الصلاة في النجاسة كالثوب الملبوس والبدن
النجسين فيحتاج الاستثناء إلى دليل ولا يمكنه التمسك هنا بالأصل، وإن منع ذلك كما
ذكرنا تم ما ذكره من الاستناد إلى الأصل لعدم دخوله تحت عموم الأدلة المانعة فيبقى
على الاطلاق ويصح التمسك فيه بالأصل وتوقف الاجتناب على الدليل، وبه يظهر لك
أنه لا فرق في المقام بين كون النجاسة المحمولة أقل من الدرهم وأكثر وكذا سائر
ما دلت الأخبار على عدم صحة الصلاة فيه من الذهب والحرير ونحوهما إذا كان محمولا
فإنه تصح الصلاة معه بالتقريب المذكور، إلا أن كلامهم بالنسبة إلى المحمول وصحة الصلاة
معه إذا كان مما لا تصح الصلاة فيه لا يخلو من اضطراب كما سيمر بك إن شاء الله تعالى.

(1) هذا مضمون الأخبار الدالة على عدم جواز الصلاة مع النجاسة وليس حديثا
خاصا واردا بهذا اللفظ.
(2) هذا مضمون ما دل على مانعية الذهب من صحة الصلاة ولم نقف على حديث
بهذا اللفظ.
322

(السادس) قال الشهيد في الدروس: لو اشتبه الدم المعفو عنه بغيره كدم
الفصد بدم الحيض فالأقرب العفو، ولو اشتبه الدم الطاهر بغيره فالأصل الطهارة. ولم
يتعرض لبيان الوجه في الحكمين المذكورين، وقد وجهه بعض بأنه مبني على القاعدة
المقررة في اشتباه الشئ بين المحصور وغيره وهي الالحاق بغير المحصور من حيث إن
الحصر على خلاف الأصل وفي موضع البحث لا حصر في دم المعفو عما نقص عن الدرهم
منه ولا في الدم الطاهر.
قال في المعالم: وهذا الكلام متجه بالنظر إلى الحكم الأول حيث إن ما لا يعفى
عن قليله من الدماء منحصر وما يعفى عنه غير منحصر كما ذكره، وأما في الحكم الثاني
فواضح الفساد لأن كلا من الدم الطاهر والنجس غير منحصر، ثم نقل عن بعض من
عاصره من مشايخه بأنه وجهه بأن أصالة الطهارة لم ترد في نفس الدم بل فيما لاقاه على معنى
أن طهارته إذا علمت قبل ملاقاة هذا الدم المشتبه فالأصل بقاؤها إلى أن يعلم المقتضي
لنجاسته ومع الاشتباه لا علم، ثم قال وله وجه غير أن لنا في المقام توجيها أحسن منه
وهو أنه لا فرق للنجس إلا ما أمر الشارع بإزالته واجتنابه ولا للطاهر إلا ما لا تكليف
فيه بأحد الأمرين فإذا حصل الاشتباه كان مقتضى الأصل هو الطهارة بمعنى براءة الذمة
من التكليف بواحد من الأمرين. انتهى.
وأنت خبير بأنه يمكن تطرق المناقشة إلى مواضع من هذا الكلام: (منها) الاستناد
في الطهارة والعفو في التوجيه الأول إلى القاعدة المذكورة المثمرة للظن بناء على أن
الحاق الفرد المذكور بالأغلب مظنون كما قيل، وبناء الأحكام الشرعية الموقوفة على
التوقيف من الشارع التي قد استفاضت الآيات والروايات بالمنع فيها عن القول بغير علم
على مثل هذه القواعد التي لم يثبت لها مستند من الشرع مجازفة محضة وقول على الله
عز وجل بلا حجة ولا بينة، والبناء على مثل هذا الظن الغير المستند إلى آية
أو رواية مشكل
323

و (منها) التوجيه الثالث فإن ما ذكره معارض بأنه قد قام الدليل على اشتراط
صحة الصلاة بطهارة الثوب والبدن إلا ما استثنى فلا بد من العلم بالطهارة ويقين البراءة
موقوف على ذلك، والمشتبه المحتمل لكل من الأمرين لا يحصل فيه ذلك.
وأما ما ذكره في المعالم من معنى النجس والطاهر فهو غير معلوم ولا ظاهر وإنما
معنى الطاهر هو ما لم يعلم نجاسته أي كونه من أحد الأعيان النجسة ولا ملاقاة
النجاسة له على الوجه الموجب لذلك والنجس هو ما علم فيه أحد الأمرين، وما ذكره من
اللوازم لا أنه معنى النجس والطاهر.
والتحقيق عندي في المقام أما بالنسبة إلى الدم فهو يرجع إلى ما قدمنا من معنى
المحصور وغير المحصور، وذلك فإنه إن وقع الاشتباه في دمين أو ثلاثة مثلا بعضها طاهر
وبعضها نجس كما لو اقتصد مثلا وباشر دم السمك فرأى في ثوبه دما لا يدري هو من دم أيهما
مع عدم احتمال غيرهما فإن هذا يكون من قبيل المحصور يلحق حكم الطاهر منهما حكم ما اشتبه
به من النجس، وهكذا لو كان معفوا عنه والآخر غير معفو فإنه يلحق حكم المعفو
عنه هنا حكم غير المعفو عنه، ولو وقع اشتباه في الدماء مطلقا كأن وجد ثوبا أو شيئا عليه دم
مع احتمال تطرق الدماء الطاهرة والنجسة إليه فهذا يكون من قبيل غير المحصور ويكون
الأصل فيه الطهارة عملا بالقاعدة المنصوصة الكلية " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه
قذر " (1) و " لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم " (2) وقول ذلك القائل في الوجه
الثاني أن أصالة الطهارة لم ترد في نفس الدم ليس في محله فإن كل شئ له أفراد بعضها طاهر
وبعضها نجس ووجد منه فرد لا يعلم أنه أي القسمين هو يجب فيه الحكم بأصالة الطهارة دما
كان أو غيره، هذا بالنسبة إلى الدم وأما بالنسبة إلى الثوب أو البدن الذي لاقى ذلك الدم
فإن كان ذلك الدم من قسم غير المحصور فلا اشكال في طهارة الملاقي للحكم بطهارة الدم
كما عرفت، وإن كان من القسم الأول بني على الخلاف المتقدم في مسألة الإناءين بأن

(1) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.
324

ما لاقى المشتبه في المحصور هل يحكم فيه بحكمه أم يكون باقيا على أصل الطهارة؟ قولان
قد تقدم البحث فيهما ثمة. والله العالم
(الموضوع الرابع) اطلاق النصوص المتقدمة بالعفو عن الأقل من الدرهم أو العفو
عن الدرهم على القول الآخر شامل لدم الحيض وغيره من الدماء إلا أن المشهور بين الأصحاب
من غير خلاف يعرف استثناء دم الحيض حيث قطعوا بعدم العفو عنه وأوجبوا إزالة قليله
وكثيره عن الثوب والبدن للصلاة لرواية أبي سعيد عن أبي بصير (1) قال: " لا تعاد
الصلاة من دم لم يبصره إلا دم الحيض فإن قليله وكثيره في الثوب إن رآه وإن
لم يره سواء ".
قال المحقق في المعتبر بعد الاستدلال بالرواية المذكورة: لا يقال الراوي له عن
أبي بصير أبو سعيد وهو ضعيف والفتوى موقوفة على أبي بصير وليس قوله حجة، لأنا
نقول الحجة عمل الأصحاب بمضمونه وقبولهم له فإن أبا جعفر بن بابويه قاله والمرتضى
والشيخان وأتباعهما، ويؤيد ذلك أن مقتضى الدليل وجوب إزالة قليل الدم وكثيره
عملا بالأحاديث الدالة على إزالة الدم لقوله (صلى الله عليه وآله) لأسماء (2) " حتيه ثم
اقرصيه ثم اغسليه بالماء " وما رواه سورة بن كليب عن الصادق (عليه السلام) (3)
" عن الحائض قال تغسل ما أصاب ثيابها من الدم " لكن ترك العمل بذلك في بعض

(1) المروية في الوسائل في الباب 21 من أبواب النجاسات
(2) في سنن ابن ماجة ج 1 ص 217 عن أسماء بنت أبي بكر قالت: " سئل
رسول الله صلى الله عليه وآله عن دم الحيض يكون في الثوب، قال اقرصيه واغسليه وصلى فيه " وفي
سنن البيهقي ج 1 ص 13 عنها أيضا أنه صلى الله عليه وآله قال: " لتحته ثم لتقرصه بالماء ثم لتنضحه
ثم لتصل فيه " وفي سنن أبي داود ج 1 ص 99 عنها أيضا أنه صلى الله عليه وآله قال: " حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه ".
(3) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب النجاسات.
325

الدماء لوجود المعارض فلا يجب العمل به في الباقي. انتهى.
وفيه أنه ما ذكره في هذه الرواية من أن الفتوى موقوفة على أبي بصير وإن تبعه
فيه جملة ممن تأخر عنه كصاحبي المدارك والمعالم حيث إنهم لم يقفوا في الرواية إلا على
هذا الطريق إلا أن الشيخ قد رواها في موضع آخر وكذا صاحب الكافي عن أبي بصير
عن الباقر والصادق (عليهما السلام) وأما ما ذكره من جبر ضعفها بعمل الأصحاب فهو
جيد إلا أنه لم يقف عليه في غير موضع من كتابه كما قدمنا ذكره في غير مقام.
وأما ما ذكره من حديث أسماء فالظاهر أنه من طريق العامة حيث إنه لم يذكر في كتب
أخبارنا فيما أعلم وبذلك صرح في المعالم أيضا، وأما قوله: إن مقتضى الدليل وجوب إزالة
الدم قليله وكثيره.. الخ فجيد.
وأما مناقشة صاحب المعالم هنا بأنه ليس فيما وصل إلينا ونقله الأصحاب في
كتبهم من الأخبار المعتمدة حديث مطلق في ايجاب إزالة الدم بحيث يصلح لتناول
القليل من دم الحيض بل هي أما ظاهرة في الكثير أو مفروضة في غير دم الحيض
فهو مردود بما قدمناه في الفصل الرابع في نجاسة الدم من الأخبار الدلة باطلاقها على
نجاسة الدم قليلا كان أو كثيرا دم حيض كان أو غيره فارجع لها وتدبر، على أنه يكفي
في المقام أن يقال وبه اعترف أيضا في آخر كلامه أنه وردت الأخبار المعتبرة المعتضدة
باتفاق الأصحاب بأنه يشترط في صحة الصلاة الطهارة من الدم في ثوب المصلي وبدنه وأنه
بالصلاة فيه عالما أو ناسيا يجب عليه الإعادة، ومن البين أن دم الحيض وإن قل موجب للنجاسة
وبالجملة فالحكم باستثناء دم الحيض من البين مما لا اشكال فيه وإنما الاشكال فيما
الحق به حيث عزى إلى الشيخ الحاق دم الاستحاضة والنفاس بدم الحيض في وجوب
إزالة قليله وكثيره، قال المحقق في المعتبر بعد نقل ذلك عن الشيخ: ولعله نظر إلى تغليظ
نجاسته لأنه يوجب الغسل واختصاصه بهذه المزية يدل على قوة نجاسته على باقي الدماء فغلظ حكمه
في الإزالة، ثم قال وألحق بعض فقهاء قم دم الكلب والخنزير ولم يعطنا العلة، ولعله
326

نظر إلى ملاقاته جسدهما ونجاسة جسدهما غير معفو عنها. انتهى.
وقد حكى العلامة في المختلف إلحاق دم الكلب والخنزير والكافر بالدماء الثلاثة
عن القطب الراوندي وابن حمزة وحكي عن ابن إدريس المنع من ذلك مدعيا أنه خلاف
اجماع الإمامية، ثم اختار العلامة الالحاق ووجهه بأن المعفو عنه إنما هو نجاسة الدم
والدم الخارج من الكلب والخنزير والكافر يلاقي أجسامها فتتضاعف نجاسته ويكتسب
بملاقاة الأجسام النجسة نجاسة أخرى غير نجاسة الدم وتلك لم يعف عنها، كما لو أصاب
الدم المعفو عنه نجاسة غير الدم فإنه يجب إزالته مطلقا، قال وابن إدريس لم يتفطن لذلك
فشنع على قطب الدين بغير الحق. انتهى.
وظاهره في المعالم الميل إلى ما ذكره العلامة في هذا المقام حيث قال بعد نقل
كلام العلامة المذكور: قلت العجب من غفلة ابن إدريس عن ملاحظة هذا الاعتبار
الذي حرره العلامة ونبه عليه المحقق مع تنبهه لمثله في ظاهر كلامه السابق في البحث عما
ينزح لموت الانسان في البئر حيث فرق في ذلك بين المسلم والكافر وأنكر عليه الجماعة
فيه أشد الانكار ونحن صوبنا رأيه هناك وأوضحنا المقام بما لا مزيد عليه، فكيف
انعكست القضية هنا فصار هو إلى الانكار ورجعوا هم إلى الاعتراف والمدرك في
المقامين واحد؟ وربما كان مراد ابن إدريس هنا خلاف ما أفهمه ظاهر كلامه الذي
حكوه عنه، وعلى كل حال فالحق أن الحيثية مرعية في جميع هذه المواضع والحكم منوط
بها فإن العفو الثابت في مسألتنا هذه على ما سيأتي بيانه متعلق بنجاسة الدم من حيث هي
فإذا انضم إليها حيثية أخرى كملاقاة جسم نجس كان لتلك الحيثية المنضمة إليها حكم
نفسها لو انفردت. انتهى.
أقول: لا يخفى أن صحة ما ذكره مبني على أمرين (أحدهما) اعتبار الحيثية التي
ادعاها في المقام ولا دليل عليه ظاهرا فإن اطلاق الدم أعم من ذلك والحكم مترتب عليه.
و (ثانيهما) استفادة النجاسة بملاقاة نجاسة أخرى زيادة نجاسة على ما كانت عليه
327

وهو محل غموض لا مدرك له من الأخبار وإن كان جاريا في كلامهم، وبذلك يظهر
الاشكال فيما ذكره ووجه به كلام العلامة.
والذي يقرب عندي في هذا المقام أما بالنسبة إلى دم الاستحاضة والنفاس فالظاهر
دخولهما في عموم أخبار العفو، وما ذكروه من استثنائهما الحاقا بدم الحيض نظرا إلى
تساويهما في ايجاب الغسل فإن النفاس حيض في المعنى والاستحاضة مشتقة منه
لا يخرج عن القياس، وبناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة مجازفة
محضة كما أشرنا إليه في غير مقام. وأما دم الكافر وأخويه فالظاهر أنه لا عموم في
الأخبار المتقدمة على وجه يشمله إذ لا يخفى أن المتبادر من الدم فيها إنما هو الأفراد
الشائعة المتكاثرة المعتادة المتكررة الوقوع كما صرحوا به في غير مقام من أن اطلاق
الأخبار إنما ينصرف إلى الأفراد المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة التي ربما لا تقع
مدة العمر ولو مرة واحدة. فالواجب هو الحمل على الأفراد المتعارفة من دم الانسان
أو الحيوانات التي يتعارف ذبحها أو نحو ذلك، وحينئذ يبقى على وجوب الإزالة وعدم
الدخول تحت عموم أخبار العفو ولا ريب أن الاحتياط يقتضيه.
ويلحق بدم الحيض هنا في وجوب إزالة قليله وكثيره دم الغير لمرفوعة البرقي
عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك
شبه النضح من دمك فلا بأس، وإن كان دم غيرك قليلا أو كثيرا فاغسله " ولم أقف
على من تنبه على هذا الكلام إلا الأمين الاسترآبادي فإنه ذكره واختاره، وإلى هذه
الرواية أشار أيضا في كتاب الفقه الرضوي (2) فقال: " وأروي أن دمك ليس مثل
دم غيرك " والله العالم.
(الموضع الخامس) قد اشتملت الأخبار المتقدمة على تحديد القدر المعفو
عنه من الدم وغير المعفو عنه بالدرهم، وهي مجملة في ذلك تفسيرا وتقديرا إلا أن ظاهر

(1) المروية في الوسائل في الباب 21 من النجاسات
(2) البحار ج 18 ص 21.
328

الأصحاب الاتفاق على أنه البغلي وهو المشار إليه بالدرهم الوافي في كلامه (عليه السلام)
في الفقه الرضوي الذي وزنه درهم وثلث.
قال المحقق في المعتبر: الدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث وسمي البغلي
نسبة إلى قرية بالجامعين. وفي كلام جماعة من الأصحاب أنه على هذا التفسير مفتوح
الغين مشدد اللام.
وقال ابن إدريس في السرائر: فهذا الدم نجس إلا أن الشارع عفى عن ثوب
وبدن أصابه منه دون سعة الدرهم الوافي وهو المضروب من درهم وثلث، وبعضهم
يقولون دون قدر الدرهم البغلي وهو منسوب إلى مدينة قديمة يقال لها بغل قريبة من بابل
بينها وبينها قريب من فرسخ متصلة ببلدة الجامعين يجد فيها الحفرة والغسالون دراهم
واسعة شاهدت درهما من تلك الدراهم، وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة
السلام المعتاد تقرب سعته من سعة أخمص الراحة، وقال بعض من عاصرته ممن له علم بأخبار
الناس والأنساب أن المدينة والدراهم منسوبة إلى ابن أبي البغل رجل من كبار أهل
الكوفة اتخذ هذا الموضع قديما وضرب هذا الدرهم الواسع فنسب إليه الدرهم البغلي.
وهذا غير صحيح لأن الدراهم البغلية كانت في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)
قبل الكوفة. انتهى كلامه.
وقال الشهيد في الذكرى: عفى عن الدم في الثوب والبدن عما نقص عن سعة الدرهم
الوافي وهو البغلي باسكان الغين وهو منسوب إلى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته
بسكة كسروية وزنته ثمانية دوانيق، والبغلية كانت تسمى قبل الاسلام الكسروية فحدث
لها هذا الاسم في الاسلام والوزن بحاله وجرت في المعاملة مع الطبرية وهي أربعة دوانيق فلما
كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما واستقر أمر الاسلام على ستة دوانيق،
وهذه التسمية ذكرها ابن دريد، وقيل منسوب إلى بغل قرية بالجامعين كان يوجد فيها
دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة لتقدم الدراهم على الاسلام، قلنا لا ريب في
329

تقدمها وإنما التسمية حادثة والرجوع إلى المنقول أولى. انتهى. ومراده بالمنقول ما نقله
عن ابن دريد.
ونقل في مجمع البحرين عن بعضهم أنه كانت الدراهم في الجاهلية مختلفة فكان
بعضها خفافا وهي الطبرية وبعضها ثقالا كل درهم ثمانية دوانيق وكانت تسمى العبدية
وقيل البغلية نسبت إلى ملك يقال له رأس البغل فجمع الخفيف والثقيل وجعلا درهمين
متساويين فجاء كل درهم ستة دوانيق، ويقال إن عمر هو الذي فعل ذلك لأنه لما أراد
جباية الخراج طلب بالوزن الثقيل فصعب على الرعية فجمع بين الوزنين واستخرجوا هذا
الوزن. هذا ما ذكروه بالنسبة إلى تفسيره.
وأما بيان سعته فقد تقدم في كلام ابن الجنيد أن سعته كعقد الإبهام الأعلى، وفي
كلام ابن إدريس المذكور هنا ما يقرب سعته من أخمص الراحة، ونقل في المعتبر عن
ابن أبي عقيل إنه ما كان بسعة الدينار، قال في المعتبر بعد تفسيره له بالوافي الذي وزنه
درهم وثلث كما قدمنا نقله عنه ونقل قولي ابن أبي عقيل وابن الجنيد: والكل متقارب
والتفسير الأول أشهر، هذه عبارته.
قال في المعالم: وقال بعض الأصحاب أنه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز
اختلاف أفراد الدرهم من الضارب الواحد كما هو الواقع وأخبار كل واحد عن فرد
رآه، ثم قال بعد نقل ذلك: وهذا الكلام إنما يتم لو لم يكن في التفسير خلاف وإلا فمن
الجائز استناد الاختلاف في التقدير إلى الاختلاف في التفسير ولم يعلم من حال الذين حكى
كلامهم في التقدير أنهم متفقون على أحد التفسيرين، فإن ابن الجنيد لم يتعرض في كلامه
الذي رأيناه لذكر البغلي فضلا عن تفسيره ولم ينقل عنه أحد من الأصحاب في ذلك
شيئا، والكلام الذي حكاه المحقق عن ابن أبي عقيل خال من التعرض للفظ البغلي
أيضا، وأما ابن إدريس فقد عزى إليه المصير إلى التفسير الثاني وبناء التقدير عليه،
والعجب من جماعة من الأصحاب أنهم بعد اعترافهم بوقوع الاختلاف هنا قالوا أن
330

شهادة ابن إدريس في قدره مسموعة مريدين بذلك الاعتماد على التقدير الذي ذكره،
وكيف يستقيم ذلك وفرض كون كلامه شهادة مقتض لتوقف الحكم بمضمونها على
التعدد كما هو شأن الشهادة، ومع التنزل فهو مبني على تفسيره كما قلناه فلا بد من ثبوت
التفسير أولا ولم يظهر من حال الجماعة الذين ذكروا هذا الكلام أنهم معتمدون على هذا
التفسير، وبالجملة فالمصير إلى شئ من التفسيرين والبناء على واحد من التقديرين مع عدم
ظهور الحجة وإنما هي دعاو مجردة عن الدليل دخول في ربقة التقليد، والوقوف مع
القدر الأقل هو الأولى ولعل القرائن الحالية تشهد بنفي ما دونه. انتهى كلامه.
أقول: لا يخفى أن هذا البعض الذي أشار إليه بقوله: وقال بعض الأصحاب إنه
لا تناقض.. الخ إنما هو والده في الروض حيث قال بعد ذكر المصنف التقدير بسعة
الدرهم البغلي ما صورته: باسكان الغين وتخفيف اللام منسوب إلى رأس البغل ضربه
الثاني في ولايته بسكة كسروية فاشتهر به وقيل بفتحها وتشديد اللام منسوب إلى بغل
قرية بالجامعين كان يوجد فيها دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة وهو ما انخفض من
باطن الكف ذكر ابن إدريس أنه شاهده كذلك وشهادته في قدره مسموعة، وقدر
أيضا بعقد الإبهام العليا وهو قريب من أخمص الكف وقدر بعقدة الوسطى، والظاهر أنه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز اختلاف أفراد الدراهم من الضارب الواحد كما
هو الواقع وأخبار كل واحد عن فرده رآه. انتهى.
ثم أقول: لا يخفى أن ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على أن المراد بالدرهم في الأخبار المذكورة هو الدرهم الوافي الذي وزنه درهم وثلث كما
اشتملت عليه عبارة ابن إدريس والمحقق والشهيد في الذكرى وبه صرح الصدوق في
الفقيه والمفيد في المقنعة حيث قال: فإن أصاب ثوبه دم وكان مقداره في سعة الدرهم
الوافي الذي كان مضروبا من درهم وثلث وجب عليه غسله بالماء ولم يجز له الصلاة
فيه.. إلى آخره، والعلامة في جملة من كتبه والشهيد الثاني في الروض وغيرهم
331

لأن ظاهر جملة من علماء الخاصة والعامة أن غالب الدراهم التي في صدر الاسلام هي
الدرهم البغلي الذي وزنه ثمانية دوانيق والطبري الذي وزنه أربعة دوانيق، والأصحاب
احترزوا هنا بقيد الوافي وإن وزنه درهم وثلث عن الدرهم الآخر وهو الطبري، وكلام
ابن الجنيد وابن أبي عقيل ليس فيه ظهور في مخالفة ذلك وإنما غاية ما فيه أنه مطلق بالنسبة
إلى تعيين الدرهم فيحمل على كلام الأصحاب المذكور جمعا وأن المراد به الدرهم الوافي الذي
هو البغلي، والأخبار التي قدمناها وإن كانت مطلقة أيضا إلا أن كلام الرضا (عليه السلام)
في الفقه الرضوي صريح في إرادة الدرهم الذي ذكره الأصحاب، وحينئذ فالواجب حمل
مطلق الأخبار عليه، وبما ذكرنا يحصل اتفاق الأخبار وكلمة الأصحاب على أن
المراد بالدرهم هو الدرهم الوافي الذي وزنه درهم وثلث دون الدرهم الطبري الذي هو
الدرهم الآخر ودون الدرهم الذي استقر عليه أمر الاسلام أخيرا وهو الذي وزنه ستة
دوانيق، وعلى هذا فلا اشكال ولا خلل فيما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في الروض من أنه لا تناقض بين هذه التقديرات.. إلى آخر ما تقدم نقله عنه، فإنه متى ثبت أن
المراد بالدرهم في الأخبار هو الدرهم الذي بهذا الوزن المخصوص فسعته الحاصلة من ضربه
ربما اختلفت كما هو المشاهد من الدراهم والدنانير المضروبة في هذه الأزمنة، وأما
ما يظهر من بعض عباراتهم من أن التفسير بكونه عبارة عن الوافي الذي هو درهم وثلث مناف
للتقدير بأخمص الراحة وسعة عقد الإبهام الأعلى فهو غلط محض لأن التقدير الأول إنما هو
تقدير للوزن والتقديرين الأخيرين إنما هو تقدير للمساحة والسعة فأي منافاة هنا كما توهموه؟
نعم يبقى الاشكال هنا في مقامين: (الأول) أن ظاهر الأخبار وكلام
الأصحاب كما عرفت هو أن المراد بهذا الدرهم هو الدرهم الوافي الذي كان في زمنه
(صلى الله عليه وآله) دون الدرهم الآخر الناقص وأنه كما ذكره في الذكرى ونقله
عن ابن دريد يسمى بالبغلي للعلة التي ذكرناها، ومن المتفق عليه بين الخاصة والعامة أن
الدرهم المذكور قد غير مع الدرهم الآخر واستقر أمر الاسلام على الدرهم الذي وزنه ستة
332

دوانيق في زمن عبد الملك كما في الذكرى أو زمن عمر كما في النقل الآخر، وحينئذ فما
ذكره المحقق في المعتبر وابن إدريس من أن الدرهم البغلي هو المنسوب إلى هذه القرية
المذكورة وأن ابن إدريس شاهد بعضا منها ربما أوهم المنافاة لما تقدم من حيث كون الدرهم
المذكور ضرب أخيرا وجرى في المعاملة كذلك مع ما علم من اختصاص ذلك بعصره
(صلى الله عليه وآله) وما قبله وما قرب منه أخيرا. ويمكن أن يقال في الجواب عن
ذلك أن النسبة إلى هذه القرية وضربه بها يمكن أن يكون في زمنه (صلى الله عليه وآله)
وقبله لأن بابل وما قرب منها من البلدان القديمة وبقاء بعض منها إلى ذلك الوقت لا يدل
على المعاملة وإنما يدل على أنها بعد نسخها وهجرها وبطلان المعاملة بها بقيت في تلك
القرية الخربة حتى أنهم كانوا يلتقطونها منها، وإنما تبقى المنافاة في سبب التسمية والنسبة
بين ما ذكره في الذكرى من أن السبب في تسميتها بغلية هو ضرب ذلك الرجل المسمى
برأس البغل لها وبين ما ذكروه هنا من النسبة إلى هذه القرية، والأمر في ذلك سهل
لا يترتب على اختلافه حكم شرعي بعد الاتفاق على الدرهم المعلوم.
و (الثاني) أن أكثر هذه الأخبار المتقدمة قد وردت عن الباقر والصادق
ومن بعدهما (عليهم السلام) والدرهم الذي استقر عليه أمر الاسلام في زمانهم (عليهم
السلام) إنما هو الذي وزنه ستة دوانيق فاطلاق الأخبار إنما ينصرف إليه وهذا
الاشكال قد تنبه له في المدارك فقال بعد نقل ملخص كلام الذكرى: ومقتضاه أن
الدرهم كان يطلق على البغلي وغيره وأن البغلي ترك في جميع العالم زمان عبد الملك
وهو متقدم على زمان الصادق (عليه السلام) قطعا فيشكل حمل النصوص الواردة عنه
(عليه السلام) عليه والمسألة قوية الاشكال. انتهى. والجواب عن ذلك ما قدمنا ذكره
من أن الأخبار وإن كانت مطلقة بذكر الدرهم إلا أن عبارة الفقه الرضوي قد اشتملت
على تقييده بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيجب حمل اطلاق الأخبار الباقية
عليها، ويؤيده أن الظاهر أن التحديد بهذا الدرهم إنما ذكره الأئمة (عليهم السلام)
333

بيانا عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فالواجب حمله على زمانه لأنهم نقلة لأحكامه وحفظة
لشريعته وبيان معالم حلاله وحرامه، ولكن العذر للسيد المزبور واضح حيث لم يقف
على الكتاب المذكور، وكم كشف الله تعالى بهذا الكتاب الميمون من أشكل في
أمثال هذا المجال كما عرفت فيما مضى وستعرف إن شاء الله تعالى فيما يأتي بتوفيق
الملك المتعال. والله العالم.
(المسألة الرابعة) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أن كل ما لا تتم
فيه الصلاة وحده كالتكة والقلنسوة والخف والنعل يعفى عن نجاسته كائنة ما كانت
ولو كدم الحيض ونجس العين، وإنما الخلاف هنا في تعميم الحكم فيما تعلقت به وعدمه
كما سيأتي تفصيله في المقام إن شاء الله تعالى.
ويدل على أصل الحكم مضافا إلى الاتفاق المشار إليه جملة من الأخبار:
منها ما رواه الشيخ في الموثق عن زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال:
" كل ما كان لا يجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يكون عليه الشئ مثل القلنسوة
والتكة والجورب " وعن عبد الله بن سنان عن من أخبره عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (2) أنه قال: " كل ما كان على الانسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده
فلا بأس أن يصلي فيه وإن كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكة والكمرة والنعل والخفين
وما أشبه ذلك " وعن حماد بن عثمان في الصحيح عن من رواه عن الصادق (عليه
السلام) (3) " في الرجل يصلي في الخف الذي قد أصابه قذر؟ قال: إذا كان مما لا تتم
الصلاة فيه فلا بأس " وعن إبراهيم بن أبي البلاد عن من حدثهم عن الصادق (عليه
السلام) (4) قال: " لا بأس بالصلاة في الشئ الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيبه
القذر مثل القلنسوة والتكة والجورب " وعن زرارة (5) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام) أن قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صليت؟

(1) رواه في الوسائل في الباب 31 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 31 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 31 من النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 31 من النجاسات.
(5) رواه في الوسائل في الباب 31 من النجاسات.
334

فقال لا بأس " وعن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " كل ما لا تجوز
الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار
يكون في السراويل ويصلي فيه ".
وطعن جمع من أصحاب هذا الاصطلاح في هذه الأخبار بضعف الاسناد:
منهم السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المعالم وإنما اعتمدوا في الحكم
على الأصل مضافا إلى اتفاق الأصحاب وأيدوا ذلك بهذه الأخبار، ولا يخفى ما فيه من
الضعف عند النظر بعين التحقيق والتأمل بالفكر الصائب الدقيق ولكن ضيق الخناق
في هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب منه إلى الصلاح أوجب لهم التشبث بهذه
العلل العليلة والوجوه الضئيلة.
وقال في الفقه الرضوي (2): " إن أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التكة
أو الجورب أو الخف مني أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه وذلك أن الصلاة لا تتم في شئ من هذه وحده ".
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الأصحاب مع اتفاقهم على أصل الحكم المذكور كما
تقدمت الإشارة إليه اختلفوا فيه من جهة المتعلق فذهب جمع من متأخري الأصحاب:
منهم المحقق والشهيد في أكثر كتبه والشهيد الثاني وغيرهم إلى تعميم الحكم في كل
ما لا تتم الصلاة فيه من ملبوس ومحمول في محلها كانت تلك الملابس أم لا، وخصه ابن
إدريس بالملابس وتبعه العلامة في ذلك، فقال في النهاية والمنتهى لو كان معه دراهم نجسة
أو غيرها لم تصح صلاته، وتبعه الشهيد في البيان، وزاد العلامة في أكثر كتبه أيضا اعتبار
كون الملابس في محالها فصرح في المنتهى بأنه لو وضع التكة على رأسه والخف في يده
وكانا نجسين لم تصح صلاته. ووافقه على ذلك في البيان أيضا، ونقل عن القطب الراوندي

(1) رواه في الوسائل في الباب 14 من لباس المصلي
(2) ص 6.
335

قصر الحكم أيضا على الملابس وزاد تخصيصها بخمسة أشياء: القلنسوة والتكة والجورب
والخف والنعل. والظاهر هو القول الأول لاطلاق الأخبار المتقدمة فإنها شاملة بعمومها
للملبوس بنوعيه في محله وغير محله وكذا المحمول، ورواية عبد الله بن سنان قد صرحت
بالعفو عن المحمول بالخصوص من الملابس كان أو من غيرها. ولم نقف لشئ من هذه
الأقوال المخصصة على دليل إلا أن العلامة في المختلف نقل عن الراوندي الاحتجاج
على ما قدمنا نقله عنه بالاجماع على هذه الخمسة وما عداه لم يثبت فيه النص فيبقى على المنع
ثم أجاب بأنا قد بينا الثبوت والمشاركة في الجواز، وأشار بذلك إلى ما استدل به على
العموم حيث اختاره في الكتاب المذكور فقال لنا على التعميم الاشتراك في العلة المبيحة
للصلاة وهي كونه ملبوسا لا تتم الصلاة فيه منفردا، وما رواه حماد ثم نقل مرسلة حماد
المتقدمة، ورواية عبد الله بن سنان. وهو جيد.
وما ذكره في المنتهى والنهاية وكذا في البيان من عدم صحة الصلاة لو كان معه
دراهم نجسة أو غيرها لا أعرف له وجها ولا عليه دليلا فإن غاية ما يفهم من الأدلة
اشتراط صحة الصلاة بطهارة ثوب المصلي يعني ملبوسه شاملا كان للبدن أو غير شامل
وأما محموله سيما مثل الدراهم ونحوها فأي دليل دل على اشتراط صحة الصلاة بطهارته؟
وبما ذكرنا صرح السيد في المدارك ونقله عن المعتبر حيث قال: وغاية ما يستفاد من
النص والاجماع اشتراط طهارة الثوب والبدن أما المنع من حمل النجاسة في الصلاة إذا
لم تتصل بشئ من ذلك فلا دليل عليه كما اعترف به المصنف في المعتبر. انتهى.
فروع
(الأول) قد صرح الصدوق في الفقيه والمقنع بعد العمامة في جملة ما يعفى
عنه ونقله عن أبيه في الرسالة أيضا، قال في الفقيه " ومن أصاب قلنسوته أو عمامته
أو تكته أو جوربه أو خفه مني أو دم أو بول أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه. وذلك
336

لأن الصلاة لا تتم في شئ من هذا وحده " انتهى.
والأصحاب قد استشكلوا في عده العمامة في جملة هذه المذكورات ونحوها، قال
شيخنا المجلسي في حواشيه على الكتاب: ظاهر الصدوق جواز الصلاة في العمامة وإن
كانت نجسة، والظاهر أنه وجد فيها نصا وإلا فيشكل الجزم بجواز الصلاة باعتبار أنها
بهذه الهيئة لا يتمكن من ستر العورتين بها فيلزم جواز الصلاة في كل ثوب مطوي مع
نجاسته والظاهر أن التزامه سفسطة، وعلى أي حال فالعمل في خلافه. انتهى.
أقول: العجب من شيخنا المذكور أن كتاب الفقه الرضوي عنده وهذه العبارة
عين كلامه (عليه السلام) في الكتاب المذكور بتغيير يسير فكيف لم يطلع على ذلك
مع تنبيهه في غير موضع على أمثال ذلك؟
ونقل المحقق في المعتبر عن القطب الراوندي حمل العمامة في كلام الصدوق على
عمامة صغيرة كالعصابة، قال لأنها لا يمكن ستر العورة بها وربما حملت على اعتبار كونها
على تلك الكيفية.
قال في المدارك: ولعل المراد أن الصلاة لا تتم فيها وحدها مع بقائها على
تلك الكيفية المخصوصة، ثم نقل تأويل الراوندي وقال وهذا أولى وإن كان الاطلاق
محتملا لما أشرنا إليه سابقا من انتفاء ما يدل على اعتبار طهارة ما عدا الثوب والجسد
والعمامة لا يصدق عليها اسم الثوب عرفا مع كونها على تلك الكيفية المخصوصة. انتهى.
واقتفاه في ذلك الفاضل الخراساني في الذخيرة فقال: والمسألة محل اشكال للشك
في صدق اسم الثوب على العمامة عرفا وإذا لم يصدق عليها الثوب كان القول بالالحاق
متجها لأن الدليل الدال على وجوب تطهير لباس المصلي مختص بالثوب فيبقى غيره على
الأصل، لكن في عدم التمثيل بالعمامة في الأخبار والتمثيل بالقلنسوة وغيرها اشعار بأن
الحكم فيها ليس ذلك وإلا لكانت العمامة أحق بالتمثيل كما لا يخفى على المتأمل. انتهى.
وأنت خبير بأن دعوى عدم صدق الثوب عليها عرفا مع كونها على تلك الكيفية
337

لا أعرف له وجها إذ الثوب عرفا كما يطلق على المنشور يطلق على المطوي أيضا، وبالجملة
فإن الخبر المذكور وإن دل على استثناء العمامة أيضا وقال بمضمونه الشيخان المشار إليهما
إلا أنه غير خال من شوب الاشكال إلا مع الحمل على ما ذكره الراوندي، وهو لا يخلو
من البعد أيضا والله العالم.
(الثاني) قال المحقق في المعتبر: لو حمل حيوانا طاهرا غير مأكول اللحم
أو صبيا لم تبطل صلاته لأن النبي (صلى الله عليه وآله) حمل أمامة وهو يصلي (1)
وركب الحسين (عليه السلام) على ظهره وهو ساجد (2) وفي المنتهى ذكر نحوه أيضا

(1) ذكر العلامة المقرم في تعليقه على محاضرات الفقه الجعفري لفقيه العصر آية الله
السيد أبو القاسم الخوئي أدام الله ظله ص 51 أن قصة حمل النبي صلى الله عليه وآله أمامة في الصلاة لم
ترد من طرقنا وأنها مروية في جوامع أهل السنة كصحيح مسلم ج 1 ص 205 وموطأ
مالك ج 1 ص 183 وسنن البيهقي ج 2 ص 263 وغيرها وأن الأحاديث تنتهي إلى واحد
وهو أبو قتادة والمروي عنه واحد وهو عمرو بن سليم الزرقي، وقد قرب أن القصة من
الموضوعات وحقق الموضوع تحقيقا وافيا راجع التعليقة 4 ص 51 تقف على المسألة مفصلا
(2) قصة ركوب الحسن والحسين عليهما السلام على ظهر النبي صلى الله عليه وآله من مرويات العامة
رواها ابن حجر في الإصابة ج 1 ص 329 ترجمة الحسن (ع) عن الزبير بن بكار عن عمه
مصعب الزبيري وفيه ص 330 عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود ورواها ابن
عساكر في تاريخه ج 4 ص 202 عن مصعب بن عمير عن عبد الله بن الزبير والذهبي في ميزان
الاعتدال ج 2 ص 352 عن أبي هريرة وابن حجر في الصواعق المحرقة ص 82 عن
أبي بكرة وفي كنز العمال ج 6 ص 109 عن أبي بكرة. وقد يترجح في نظر بعض أن هذه
القصة من موضوعاتهم وأن الله قد أعطى الإمام العلم وأوقفه على أسرار التكوين منذ كان
حملا في بطن أمه، فقد ورد في أحاديث كثيرة رواه الصفار في بصائر الدرجات والكليني في
أصول الكافي عن أهل البيت عليهم السلام " إذا ولد المولود منا رفع له عمود نور يرى به أعمال
العباد وما يحدث في البلدان " إشارة إلى القوة القدسية المودعة في نفوس الأئمة عليهم السلام فالإمام
يعرف ماهية الصلاة ومن الذي يسجد له نبي الاسلام صلى الله عليه وآله ولم يفته أن هذا الحال هو
أقرب أحوال النبي صلى الله عليه وآله مع مولاه عن شأنه فكيف يشغله الإمامان على الأمة إن قاما
وإن قعدا بنص الرسول صلى الله عليه وآله عن مخاطبة حبيبه سبحانه؟ والإمام لا يلهو ولا يلعب كما في
الحديث راجع (وفاة الإمام الجواد) للعلامة المقرم ص 73، على أن رواة هذه القصة
لا يعتمد على نقلهم فإن آل الزبير أكثروا فيما يحط بكرامة أهل البيت عليهم السلام وقد أخرجهم
علماء الرجال عن صف من يوثق به من الرواة راجع كتاب (السيدة سكينة بنت الحسين)
للعلامة المقرم ص 38 الطبعة الثالثة. وأما عاصم فهو ابن بهدلة ابن أبي النجود أحد القراء
وفي تهذيب التهذيب لابن حجر ج 5 ص 38 كان عثمانيا سئ الحفظ كثير الخطأ مضطرب
الحديث وفيه نكرة. وأما أبو بكرة فهو أخو زياد لأمه كان منحرفا عن أمير المؤمنين (ع)
ويخذل الناس عن نصرته يوم الجمل وهو الذي رد الأحنف بن قيس عن نصرته يوم الجمل
بافتعاله الحديث " ستكون بعدي فتنة القاتل والمقتول في النار قلت يا رسول الله صلى الله عليه وآله
هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال لأنه أراد قتل صاحبه " وأما أبو هريرة فإن أحاديثه كلها
لا تساوي فلسا لأن دنيا معاوية أعمته عن أبصار الحق فلم يبال بالكذب.
338

وزاد في حكاية ركوب الحسين (عليه السلام) ظهر جده أن الجمهور كافة نقلوه،
وأضاف إلى هذه الرواية وجها آخر وهو أن النجاسة في المحمول في معدته كالحامل.
ونقل عن بعض الأصحاب أنه احتج لجواز ذلك بالأصل السالم عن معارضة ما يقتضي
المنافاة. وهو كذلك. أقول: ومفهوم هذا الكلام أنه لو كان المحمول حيوانا نجسا
نجاسة ذاتية أو عارضية بطلت صلاته، وهو مبني على اشتراط الطهارة في المحمول
أيضا وقد عرفت ما فيه.
(الثالث) قال الشيخ في الخلاف: إذا حمل قارورة مسدودة الرأس بالرصاص
وفيها بول أو نجاسة ليس لأصحابنا فيه نص والذي يقتضيه المذهب أنه لا ينقض الصلاة،
وبه قال ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي غير أنه قاسه على حيوان طاهر في جوفه
نجاسة ثم عزى إلى غيره من العامة القول بالبطلان (1) وقال بعد ذلك: دليلنا أن قواطع

(1) في المغني ج 2 ص 67 " لو حمل قارورة فيها نجاسة مسدودة لم تصح صلاته وقال
بعض أصحاب الشافعي لا تفسد صلاته " وفي المهذب ج 1 ص 61 " إذا حمل قارورة فيها
نجاسة وقد شد رأسها فيه وجهان أحدهما يجوز لأن النجاسة لا تخرج منها والمذهب أنه
لا يجوز لأنه حمل نجاسة غير معفو عنها في غير معدنها فأشبه ما إذا حمل النجاسة في كمه ".
339

الصلاة طريقها الشرع ولا دليل في الشرع على أن ذلك يبطل الصلاة ثم قال: ولو قلنا إنه
يبطل الصلاة لدليل الاحتياط كان قويا، ولأن على المسألة الاجماع وخلاف ابن أبي هريرة
لا يعتد به. انتهى.
وقال المحقق في المعتبر بعد نقل مجمل هذا الكلام ثم نقل عن الشيخ في المبسوط
أنه جزم بالبطلان ما صورته: والوجه عندي الجواز وما استدل به الشيخ ضعيف لأنه
سلم أن ليس على المسألة نص لأصحابنا وعلى هذا التقدير يكون ما استدل به من الاجماع
هو قول جماعة من فقهاء الجمهور وليس في ذلك حجة عندنا ولا عندهم أيضا، والدليل
على الجواز أنه محمول لا تتم الصلاة به منفردا فيجوز استصحابه في الصلاة بما قدمناه من
الخبر، ثم نقول الجمهور عولوا على أنه حامل نجاسة فتبطل صلاته كما لو كانت على ثوبه
ونحن نقول النجاسة على الثوب منجسة له فتبطل لنجاسة الثوب لا لكونه حاملا نجاسة
ونطالبهم بالدلالة على أن حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب والبدن. انتهى
وهو جيد متين.
وقال في المعالم بعد نقل كلام المحقق المذكور: وهذه المناقشة متوجهة وما اختاره
المحقق هو الحق واحتجاجه له مع جوابه عما عول الجمهور عليه في غاية الجودة، وقد
ذكر الشهيد في الذكرى بعد حكايته لكلام المحقق هنا أنه لا حاجة على قوله إلى سد
رأس القارورة إذا أمن تعدي النجاسة منها، قال ومن اشترطه من العامة لم يقل بالعفو
عما لا تتم الصلاة فيه وحده بل مأخذه القياس على حمل الحيوان.
أقول: ما ذكره (قدس سره) من الاستدراك على المحقق الظاهر أنه لا وجه له،
فإن المحقق قد أشار في آخر كلامه إلى ما ذكره الشهيد هنا من قوله ونطالبهم بالدلالة
على أن حمل النجاسة مبطل إذا لم تتصل بالثوب والبدن، وسد الرأس إنما ذكره
340

أولا مشيا في كلامه على أثر الشيخ (قدس سره) في فرض المسألة والشيخ قد اقتفى أثر
العامة في الفرض المذكور.
إذا عرفت هذا فاعلم أن ابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه قد اختارا ما ذهب
إليه الشيخ في المبسوط من عدم الجواز، واحتج له في المختلف بأنه حامل نجاسة فتبطل
صلاته كما لو كانت النجاسة على ثوبه وبدنه، وبأن ايجاب تطهير الثوب والبدن لأجل
الصلاة ووجوب تحريز المساجد التي هي مواطن الصلاة عن النجاسة يناسب البطلان هنا،
وبأن الاحتياط يقتضي ذلك.
وأنت خبير بما في هذه الوجوه من التعسف: أما الأول فمع كونه مصادرة على
المطلوب قد عرفت جوابه من كلام المحقق. وأما استشهاده بوجوب التحرز من إدخال
النجاسة إلى المساجد فهو مبني على رأيه من عدم جواز إدخال النجاسة إلى المساجد مع
عدم التعدي وقد تقدم ما فيه. وأما الاحتياط فهو ليس بدليل شرعي عنده.
وقال في المدارك بعد رد كلامه بنحو ما ذكرناه: ونحن نطالبه بالدليل على أن
حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب والبدن، وعلى ما ذكرناه فلا حاجة إلى سد
رأس القارورة بل يكفي الأمن من التعدي كما نبه عليه في الذكرى، ثم نقل عبارته المتقدمة
أقول: في كلام هؤلاء الأعلام في هذا المقام تأييد لما قدمناه من صحة الصلاة في
المحمول مما لا يجوز الصلاة فيه ملبوسا كالنجاسة في الثوب والحرير والذهب ونحو ذلك
(الرابع) ذكر الشيخ في النهاية بعد نفي البأس عن الصلاة فيما أصابه نجاسة
مما لا تتم الصلاة فيه أن إزالة النجاسة عنه أفضل، وبنحو ذلك صرح السيد أبو المكارم
ابن زهرة، وقال المفيد في المقنعة: لا بأس بالصلاة في الخف وإن كانت فيه نجاسة
وكذلك النعل والتنزه عن ذلك أفضل. ولم أقف على من صرح بذلك غير هؤلاء
(رضوان الله عليهم) والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك أنما يدل على ما ذهب إليه
الشيخ المفيد، وهو ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن الصادق
341

(عليه السلام) (1) قال: " إذا صليت فصل في نعليك إذا كانت طاهرة فإنه يقال
ذلك من السنة " وعن عبد الله بن المغيرة في الحسن (2) قال: " إذا صليت فصل في
نعليك إذا كانت طاهرة فإن ذلك من السنة " وربما كان التفات الشيخ وابن زهرة إلى
الخبرين المذكورين وأنه متى ثبت ذلك في النعل فغيره بطريق أولى وإلا فلم أقف على
ما يدل على ما ذكراه من العموم.
(الخامس) ذكر جماعة من الأصحاب أنه إذا جبر عظمه بعظم نجس كعظم
الكلب والخنزير والكافر وجب قلعه ما لم يخف التلف أو المشقة وادعى في الدروس عليه
الاجماع، واحتمل في الذكرى عدم الوجوب إذا اكتسى اللحم لالتحاقه بالباطن
واستوجهه في المدارك، وجزم الشيخ في المبسوط ببطلان الصلاة لو أحل بالقلع مع الامكان
لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها، واستشكله في المدارك بخروجها عن حد الظاهر
ولأنها نجاسة متصلة كاتصال دمه فتكون معفوا عنها.
أقول: الظاهر هو ما صرح به الأكثر من وجوب القلع مع الامكان وعدم
المشقة، وما اختاره في المدارك وفاقا لما في الذكرى من التحاقه بالباطن وكذا
ما ذكره في رد كلام الشيخ من خروجه عن الظاهر وأنها نجاسة متصلة كاتصال دمه
لا يخفى ما فيه وإن تبعه عليه صاحب الذخيرة، فإن غاية ما يستفاد من الأدلة هو عدم
تعلق التكليف بما في باطن البدن من النجاسات الخلقية كدمه الذي تحت جلده والغائط
في البطن ونحو ذلك ما لم يظهر إلى فضاء البدن لما في التكليف بذلك من العسر والحرج
وتكليف ما لا يطاق، وحمل ما ذكروه على ذلك قياس مع الفارق من حيث تعذر
الإزالة في الأول وامكانها في الثاني كما هو المفروض في كلام الأصحاب لأنهم إنما
يوجبون الإزالة مع الامكان وعدم المشقة، وبالجملة فمجرد الصيرورة في الباطن كيف اتفق
لا دليل على اسقاطه وجوب الإزالة. ويؤيده ما صرحوا به في غير موضع من أن

(1) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب لباس المصلي
(2) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب لباس المصلي
342

الاطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد الشائعة المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة ومثل
هذه الفروض النادرة الشاذة لا تدخل تحت اطلاق البواطن التي رتب عليها العفو عن
الإزالة إذ المتبادر منها ما كان من أصل الجسد وأجزائه الخلقية.
ومثل ما ذكرناه يأتي أيضا في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى من إدخال الدم
النجس تحت جلده فإن الأظهر فيها أيضا وجوب الإزالة مع عدم الضرر، ومما يؤكد ما ذكرناه
ويؤيد ما أردناه أنه الأحوط في الدين والموجب للبراءة بيقين.
(فإن قيل) إن الاحتياط ليس بدليل شرعي (قلنا) هذا الكلام على اطلاقه
ممنوع وإن زعموا صحته بناء على العمل بالبراءة الأصلية إلا أن المستفاد من الأخبار
خلافه وهو أن الاحتياط في موضع اشتباه الحكم واجب كما تقدم تحقيقه في مقدمات
الكتاب، ولا ريب أن المسألة عارية عن النصوص بالعموم والخصوص والحكم فيها
لذلك محل اشتباه والحكم عندنا في الشبهات كما تقدم تحقيقه هو الوقوف فيها عن
الفتوى والعمل بالاحتياط. والله العالم.
(السادس) قال العلامة في التذكرة: لو أدخل دما نجسا تحت جلده وجب
عليه اخراجه مع عدم الضرر وإعادة كل صلاة صلاها مع ذلك الدم. قال في المدارك:
ويشكل بخروجه عن حد الظاهر وبصيرورته كجزء من دمه وأولى بالعفو ما لو احتقن دمه
بنفسه تحت الجلد قال في الذخيرة بعد ذكره هذا الاستشكال: وبالجملة لقدر الثابت وجوب
تطهير ظواهر البدن وأما البواطن فليس في الأدلة ما يقتضي وجوب تطهيرها بل فيها ما يدل
على العفو عنها فيكون أصالة البراءة على حاله، واطلاق الصلاة غير مقيد بشرط لا يدل عليه
الدليل فيحصل الامتثال، فظهر ضعف القول بوجوب إعادة الصلاة. انتهى.
أقول: فيه زيادة على ما عرفت في سابقه أن الأدلة الدالة على نجاسة البدن بما
لاقاه من الدم والمني ونحوهما من النجاسات لا تخصيص فيها بباطن ولا ظاهر وإن كان
الغالب إنما يقع بالظاهر خاصة والمتبادر كما عرفت من الباطن إنما هو بالنسبة إلى ما كان
343

من أصل الجسد وخلقته لا إلى ما يطرح فيه من غيره، وكيف كان فالمسألة لما كانت عارية
عن النصوص فهي داخلة تحت الشبهات التي يجب فيها الاحتياط كما سلف تحقيقه في
مقدمات الكتاب.
بقي هنا شئ وهو أن الدم لو خرج من الجسد لكن لم يبرز إلى فضاء البدن بل
احتقن تحت الجلد فالظاهر العفو عنه لأن الخطاب بوجوب غسله مرتب على خروجه
على الجلد، ونقل عن الشهيد في البيان أنه جزم بوجوب اخراجه وجعل حكمه حكم الدم
الذي هو محل البحث وهو غير جيد، إلا أن عندي في حمل عبارته على ما ذكروه نوع
تأمل بل الظاهر أنه إنما أراد احتقان دم أجنبي تحت جلده وقد صرح بذلك في الدروس
أيضا، وعبارته في الدروس أظهر فيما قلناه فإنه قال في البيان: ولو شرب نجسا فالأقوى
وجوب استفراغه إن أمكن، وكذا لو احتقن في جلده دم أو جبر عظمه بعظم نجس
أو خاط جرحه بخيط نجس، ولو خيف الضرر سقط. وقال في الدروس: ولو شرب
خمرا أو منجسا أو أكل ميتة أو احتقن تحت جلده دم نجس احتمل وجوب الإزالة مع
إمكانها ولو عللت القارورة بأنها من باب العفو احتمل ضعيفا اطراده هنا ولأنه التحق
بالباطن. انتهى. ولا يخفى أن تقييده الدم في هذه العبارة بالنجس ظاهر في كونه غير
دم البدن، والظاهر أن عبارته في البيان أيضا من هذا القبيل وإن حصل الاشتباه فيها
من ترك هذا القيد، ويؤيده أنه لم يتعرض لذكر دم الغير تحت جلده كما هو الدائر في
كلام الأصحاب في هذا المقام.
(السابع) قال العلامة في المنتهى: لو شرب خمرا أو أكل ميتة ففي وجوب
قيئه نظر الأقرب الوجوب لأن شربه محرم فاستدامته كذلك. قال في المدارك بعد نقل
ذلك: وهو أحوط وإن كان في تعينه نظر، وقال: ولو أخل بذلك لم تبطل صلاته وربما
قيل بالبطلان كما في القارورة المشتملة على النجاسة وهو ضعيف. انتهى.
أقول: يمكن الاستدلال هنا على وجوب القئ بما رواه في الكافي في الموثق
344

عن عبد الحميد بن سعيد (1) قال: " بعث أبو الحسن (عليه السلام) غلاما يشتري له
بيضا فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بهما فلما أتى به أكله فقال مولى له أن فيه من
القمار قال فدعا بطشت فتقيأ فقاءه " بقي الكلام في بطلان الصلاة لو أخل بقيئه وعدمه
والأظهر الثاني لعدم الدليل عليه.
(المسألة الخامسة) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) من
غير خلاف العفو عن نجاسة ثوب المربية للصبي ذات الثوب الواحد إذا غسلته
في اليوم مرة، واستدل الفاضلان في المعتبر والمنتهى على ذلك بما رواه الشيخ عن
أبي حفص عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سئل عن امرأة ليس لها إلا قميص
ولها مولود فيبول عليها كيف تصنع؟ قال تغسل القميص في اليوم مرة " وأن تكرار
بول الصبي يمنع التمكن من إزالته فجرى مجرى دم القرح الذي لا يمنع من استصحاب
الثوب في الصلاة، قال المحقق فكما يجب اتباع الرواية هناك دفعا للحرج فكذا هنا لتحقق
الحرج في الإزالة. وقال في المعالم بعد نقل ذلك: وهذه الحجة بينة الوهن فإن الرواية
ضعيفة السند فلا تصلح لتأسيس حكم شرعي، واعتبار الحرج يقتضي إناطة الحكم بما
يندفع معه لا بالزمان المعين والالحاق بدم القرح قياس، ووجوب اتباع الرواية هناك
ليس باعتبار الحرج وإنما هو لصلاحيتها لاثبات الحكم وجهة الحرج مؤيدة لها، وحيث إن الصلاحية هنا منتفية فلا معنى لكون وجوب الاتباع هناك موجبا لوجوبه هنا. انتهى.
وهو جيد وجيه بالنسبة إلى تعليل المحقق المذكور بعد الرواية فإن الأولى يجعله وجها
للنص لا علة مستقلة لما ذكره في المعالم. وأما رد النص فهو مبني على تصلب هذا القائل
في هذا الاصطلاح ومثله صاحب المدارك حيث قال بعد الطعن في سند الرواية: والأولى
وجوب الإزالة مع الامكان وسقوطها مع المشقة الشديدة دفعا للحرج. والعجب منهما

(1) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب ما يكتسب به
(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب النجاسات.
345

(قدس سرهما) أنهما في غير موضع قد وافقا الأصحاب في العمل بالخبر الضعيف متى
كان اتفاق الأصحاب على العمل به ويتعللان بأن المعتمد إنما هو على اتفاق الأصحاب،
والحكم هنا كذلك فإنه لا مخالف فيه ولا راد له، وكيف كان فالأظهر ما عليه الأصحاب
من قبول الخبر المذكور والعمل بما دل عليه.
نعم يبقى الكلام هنا في مواضع (الأول) ظاهر الخبر المذكور شمول الحكم
للصبي والصبية حيث عبر فيه بلفظ المولود الشامل لهما، وبذلك أيضا صرح جملة من
الأصحاب، ونقله في المعالم عن الشهيدين وأكثر المتأخرين. أقول: وبه جزم في المدارك
وهو الظاهر، والذي صرح به المحقق في المعتبر والشرائع والنافع هو الصبي خاصة وكذا
العلامة في المنتهى والارشاد والشهيد في البيان، وفي الدروس بعد ذكر الصبي ذكر الصبية
الحاقا كما ذكر المربي الحاقا بالمربية، نعم ظاهر كلامه في الذكرى العموم من حيث التعبير
بلفظ المولود الوارد في النص، ونقل في المعالم عن بعض الأصحاب أنه قال المتبادر من
المولود هو الصبي، ثم قال ولا يخلو من قرب. وكلام العلامة في النهاية مشعر بذلك أيضا
حيث قال بعد ذكر الرواية: أن الحكم مخصوص بالذكر اقتصارا في الرخصة على
المنصوص، وللفرق فإن بول الصبي كالماء وبول الصبية أصفر ثخين وطبعها أحر فبولها
ألصق بالمحل. انتهى.
(الثاني) مورد النص المذكور البول فلا يتعدى إلى غيره اقتصارا فيما
خالف الأصل على مورد النص، وهو اختيار الشهيد الثاني في الروض وسبطه السيد
السند في المدارك وابنه المحقق في المعالم، واستشكل ذلك العلامة في النهاية والتذكرة،
والظاهر من كلام شيخنا الشهيد عدم الفرق وقربه بأنه ربما كني عن الغائط بالبول كما
هو قاعدة لسان العرب في ارتكاب الكناية فيما يستهجن التصريح به. وفيه أن مجرد
هذا الاحتمال لا يكفي في اخراج اللفظ عن معناه المتبادر منه واثبات التسوية بينه وبين
الغائط، والتجربة شاهدة بعسر التحرز من إصابة البول لتكرره فالحاق الغائط به بعيد.
346

وأبعد منه غيره من النجاسات كالدم كما يفهم من اطلاق بعض العبارات.
(الثالث) مورد الرواية المذكورة المربية وألحق بعض الأصحاب بها المربي
أيضا للاشتراك في العلة وهو وجود المشقة فيهما، وأنكره آخرون وقوفا على مورد النص
والتعليل المذكور في كلامهم ليس منصوصا وإنما هو علة مستنبطة وعلى هذا يكون الالحاق
قياسا، وهذا هو الأظهر، وبالأول صرح العلامة في التذكرة والنهاية وتبعه الشهيد في
كتبه الثلاثة، وبالثاني جزم في المدارك وهو الذي عليه اقتصر المحقق في كتبه.
(الرابع) ألحق بعض الأصحاب بالمولود الواحد المتعدد للاشتراك في العلة
وهي المشقة وزيادة فلا معنى لزواله. وفيه أنه يمكن أن يكون التعدد لكونه مقتضيا
لكثرة النجاسة وقوتها فمن الجائز اختصاص العفو بالقليل الضعيف منها دون الكثير
القوي فلا وجه للالحاق المذكور، وبالأول جزم الشهيد في الذكرى والدروس، ونقله
في المعالم عن والده أيضا في بعض كتبه ثم قال وله وجه. أقول: ما نقله عن والده من
الحاق المتعدد قد صرح به في المسالك وأما في الروض فظاهره التوقف للوجهين المذكورين
(الخامس) لو كان لها أكثر من ثوب واحد فإن احتاجت إلى لبس الجميع
لبرد ونحوه فالظاهر كما صرح به في الروض أن الجميع في حكم الثوب الواحد وإلا فلا تلحقها
الرخصة لزوال المشقة بابدال الثياب ووقوفا مع ظاهر النص، ولو أمكن ذات الثوب
الواحد تحصيل غيره بشراء أو استئجار أو استعارة ففي وجوب ذلك عليها تردد ينشأ
من اطلاق النص المتقدم فإن ظاهره أن الحكم فيها مع وحدة الثوب ما ذكر وإن أمكنها
ذلك، ومن انتفاء المشقة بتكرير الغسل. وظاهر الروض التوقف في ذلك، ونقل في
المعالم عن جماعة من المتأخرين أنهم استقربوا الثاني وكتب في الحاشية في تفسير الجماعة
المشار إليهم: السيد حسن بن جعفر وشيخنا السيد علي ابن الصائغ، ثم قال هو (قدس
سره) وكأن الأول أقرب. وهو جيد وقوفا على ظاهر النص ونظرا إلى أن هذه العلة
التي يكررون الإشارة إليها ليست منصوصة كما قدمنا ذكره بل هي مستنبطة.
347

(السادس) قد صرح جماعة من الأصحاب بأن الحكم المذكور مختص بالثوب
أما البدن فيجب غسله مع المكنة لعدم النص والمشقة الحاصلة في الثوب الواحد بسبب
توقف لبسه على يبسه. قال في المعالم وربما صار بعض من تأخر إلى تعدية الرخصة إليه نظرا
إلى عسر الاحتراز عن الثوب النجس ومشقة غسل البدن في كل وقت. ثم قال وليس
بشئ وكتب في الحاشية في بيان ذلك البعض: السيد حسن. أقول: وهذا السيد أحد
مشايخ شيخنا الشهيد الثاني وله (قدس سره) أقوال غريبة مثل قوله في هذه المسألة
وقوله في تطهير المطر ولو بالقطرة الواحدة ونحو ذلك.
(السابع) قد دل الخبر المذكور على تعيين الغسل مع أنه كما سيأتي إن شاء
الله تعالى قريبا أن الحكم في بول الصبي الذي لم ينفطم إنما هو الصب والمغايرة بينهما
ظاهرة، وبه يظهر المنافاة بين الحكمين مع اتفاق الأصحاب على كل منهما وبه يعظم
الاشكال، قال العلامة في النهاية: الأقرب وجوب عين الغسل فلا يكفي الصب مرة
واحدة وإن كفى في بوله قبل أن يطعم الطعام عند كل نجاسة. ومرجعه إلى وجه جمع
بين الأمرين بأن يقال إن الاكتفاء بالصب في بول الرضيع على ما سيأتي إنما هو مع
تكرير الإزالة كلما حصل منه البول بحسب الحاجة إلى الدخول في العبادة وأما مع
الاقتصار على المرة في اليوم في هذه الصورة فلا بد من الغسل عملا بالخبر. ومرجعه إلى
تخصيص تلك الأخبار الدالة على الصب بهذا الخبر في هذه المادة المخصوصة وهي اتحاد
الثوب، ويؤيده الاعتبار وإن كان العمل إنما هو على النص من حيث إن تكرر حصول
النجاسة من دون تخلل الإزالة بينهما يقتضي قوتها وتزايدها فيجوز اختلاف الحكم مع
تحقق هذا المعنى وبدونه.
(الثامن) - قد ذكر كثير من الأصحاب أن المراد باليوم في الخبر ما يشمل
الليل أيضا أما لاطلاقه لغة على ما يشمل الليل أو لالحاق الليل به والحكم موضع توقف
لاحتمال ما ذكروه واحتمال اختصاص اليوم بالنهار خاصة والخروج عنه يحتاج إلى دليل
348

(التاسع) قد صرح جمع من الأصحاب بأن الأفضل أن تجعل غسل الثوب
آخر النهار لتوقع الصلوات الأربع على طهارة، ولا بأس به، والعلامة في التذكرة بعد أن
ذكر أفضلية التأخير لذلك قال: وفي وجوبه اشكال ينشأ من الاطلاق ومن أولوية
طهارات أربع على طهارة واحدة. وفي دلالة هذا التوجيه على الوجوب تأمل، والأظهر
الاستحباب. وهل يجب ايقاع الصلاة عقيب غسل الثوب والتمكن من لبسه متى اقتضت
العادة نجاسته بالتأخير؟ فيه توقف. قيل ولو أخلت بالغسل فالظاهر وجوب قضاء آخر
الصلوات لجواز تأخير الغسل إلى وقته. والله العالم.
(المسألة السادسة) الظاهر أنه لا اشكال ولا خلاف في العفو عما يتعذر
إزالته من النجاسة التي في البدن من أي نوع كانت، وكأنه لما علم من إباحة الضرورات
المحظورات لم يتعرض الأصحاب هنا للاستدلال على ذلك. ويمكن أن يستدل على ذلك
بالأخبار الواردة في السلس والمبطون وقد تقدمت في المسائل الملحقة بالوضوء فإنها
صريحة في الصلاة بالنجاسة لمكان الضرورة، وفي حسنة منصور (1) " إذا لم يقدر
على حبسه فالله تعالى أولى بالعذر " وفي موثقة سماعة (2) " فليتوضأ وليصل فإنما
ذلك بلاء ابتلى به " ونحو ذلك. وأيد ذلك بعضهم بأن الأدلة الدالة على شرطية الطهارة
من الخبث في الصلاة غير متناولة لحال الضرورة فيبقى عموم الأوامر سالما عن معارضة
ما يقتضي الاشتراط والتخصيص. وهو جيد.
وإنما الخلاف في نجاسة الثوب فذهب جمع من الأصحاب: منهم الشيخ وابن
البراج وابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه وغيرهم والظاهر أنه المشهور كما في
المدارك إلى عدم العفو ووجوب الصلاة عاريا إلا أن يضطر إلى لبسه فيجوز للضرورة
ويصير مناط العفو إنما هو الضرورة. وانفرد الشيخ من بينهم بايجاب إعادة الصلاة فيه

(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من نواقض الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب 7 من نواقض الوضوء
349

حال الضرورة، وذهب الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيدان وجماعة من المتأخرين
إلى أن العفو ثابت اضطر إلى لبسه أم لم يضطر وأن المصلي مخير بين الصلاة فيه والصلاة
عاريا، وزاد الشهيدان وجماعة أن الصلاة فيه أفضل، وبهذا القول صرح ابن الجنيد من
المتقدمين في كتابه المختصر فقال: ولو كان مع الرجل ثوب فيه نجاسة لا يقدر على
غسلها كانت صلاته فيه أحب إلي من صلاته عريانا. وأوجب مع ذلك إعادة الصلاة إذا
وجد ثوبا طاهرا فقال في موضع آخر من الكتاب: والذي ليس معه إلا ثوب واحد
نجس يصلي فيه ويعيد في الوقت إذا وجد غيره ولو أعاد إذا خرج الوقت كان أحب
إلي. أقول: والأصل في هذا الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في المسألة كما ستقف عليه
احتج الشيخ على ما ذهب إليه من عدم العفو ووجوب الصلاة عاريا مع عدم
الضرورة باجماع الفرقة ذكره في الخلاف، وبأن النجاسة ممنوع من الصلاة فيها ومن
يجيزها فيها فعليه الدلالة، وبما رواه سماعة (1) قال: " سألته عن رجل يكون في فلاة
من الأرض ليس عليه إلا ثوب واحد وأجنب فيه وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال
يتيمم ويصلي عريانا قاعدا ويومئ " هكذا في الكافي والتهذيب وفي الإستبصار
" ويصلي عريانا قائما ويومئ إيماء " وما رواه محمد بن علي الحلبي عن الصادق (عليه
السلام) (2): " في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة وليس عليه إلا ثوب واحد فأصاب
ثوبه مني؟ قال يتيمم ويطرح ثوبه ويجلس مجتمعا ويصلي ويومئ إيماء ".
واحتج على ما ذهب إليه من جواز الصلاة فيه بالنجاسة مع الضرورة ووجوب
الإعادة حينئذ بما رواه عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (3) " أنه سئل
عن رجل ليس معه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟
قال يتيمم ويصلي فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 46 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 46 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.
350

وأنت خبير بأن هذه الرواية وإن دلت على الإعادة إلا أنها لا دلالة لها على
الضرورة، إلا أن يكون الحمل على ذلك لأجل الجمع بينها وبين الروايتين المتقدمتين
وهو خلاف الظاهر من مدعاه، ومع هذا فهي إنما تدل على الإعادة في صورة التيمم
دون الوضوء والمدعى أعم من ذلك.
ومما يدل على العفو مطلقا كما هو القول الآخر صحيحة علي بن جعفر عن أخيه
موسى (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا
نصفه دم أو كله أيصلي فيه أو يصلي عريانا؟ فقال إن وجد ماء غسله وإن لم يجد ماء
صلى فيه ولم يصل عريانا ".
وصحيحة محمد بن علي الحلبي برواية الصدوق (2) " أنه سأل الصادق (عليه
السلام) عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله؟ قال يصلي فيه "
وفي الصحيح عن محمد الحلبي عنه (عليه السلام) (3) " أنه سأل عن رجل
أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله " قال في الفقيه
بعد ذكر الخبر: وفي خبر آخر " وأعاد الصلاة ".
وفي الصحيح عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) (4)
قال: " سألته عن الرجل يجنب في ثوب ليس معه غيره ولا يقدر على غسله؟ قال
يصلي فيه " قال في الفقيه بعد ذكر هذا الخبر أيضا: وفي خبر آخر " يصلي فيه فإذا
وجد الماء غسله وأعاد الصلاة " أقول: إن كان مراد الصدوق بالرواية الدالة على الإعادة
هي رواية عمار المتقدمة فقد عرفت ما فيها وأما غيرها فلم نقف عليه.
هذا ما وصل إلينا من أخبار المسألة المذكورة، والشيخ قد جمع بينها بحمل هذه الأخبار الأخيرة على الضرورة من برد أو نحوه أو على صلاة الجنازة، والثاني منهما بعيد
لا ينبغي النظر إليه، أما الأول فقد عرفت أنه استدل عليه بموثقة عمار وقد عرفت

(1) المروية في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 45 من أبواب النجاسات.
351

ما فيه. نعم ربما يمكن الاستدلال له برواية الحلبي (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه
إذا اضطر إليه " إلا أن الخبر غير صريح ولا ظاهر في المدعى إذ يمكن حمل الاضطرار
إليه على معنى عدم وجود غيره كما هو محل السؤال، وحاصل الجواب حينئذ أنه يجوز له في
الصورة المفروضة لمكان الضرورة بعدم وجود غيره، وحينئذ فلا يمكن تخصيص اطلاق
تلك الأخبار به، والآخرون قد جمعوا بين الأخبار بالتخيير، وبعضهم كما عرفت
صرح بأفضلية الصلاة في الثوب النجس على الصلاة عاريا، ويؤيده زيادة على صحة
الأخبار الدالة على الجواز أنه مع الصلاة في الثوب لا يلزم إلا فوات شرط واحد وهو طهارة
الساتر ومع الصلاة عاريا يلزم فقد شروط وهو الساتر وترك القيام والركوع والسجود
لأنه يصلي قاعدا بايماء كما صرحت به روايتا الصلاة عريانا إلا على رواية الإستبصار
لحديث سماعة حيث صرح فيه بالقيام فإنه يبقى الاشكال بترك الركوع والسجود، وبالجملة
فرجحان هذا القول أظهر من أن يخفى.
وظاهر السيد السند في المدارك النظر في الجمع بين الأخبار بالتخيير مستندا إلى أنه فرع حصول التعارض وهو خلاف الواقع لأن روايات الصلاة في الثوب متعددة
صحيحة الاسناد وتلك بالعكس من ذلك، وهو جيد بناء على أصله المعتمد عليه عنده من
العمل بهذا الاصطلاح الجديد، إلا أن جملة أصحاب هذا الاصطلاح لم يعملوا على ذلك
لاعتضاد تلك الأخبار بالشهرة بين الأصحاب حتى ادعى الشيخ في الخلاف الاجماع على
ما دلت عليه، ويؤيده ظاهر كلام العلامة في المنتهى فإن ظاهره الاجماع على جواز الصلاة
عاريا حيث قال فيه: لو صلى عاريا لم يعد الصلاة قولا واحدا. واقتصر البعض على
التمسك بهذا الوجه في الخروج عن ظاهر هذه الأخبار قائلا أنه لولاه لم يكن عن القول
بتعين الصلاة في الثوب معدل واعترضه في المعالم بعدم صحة شئ من الأخبار الأولة

(1) المروية في الوسائل في الباب 45 من النجاسات.
352

وعدم ثبوت الاجماع وإن ادعاه الشيخ والعلامة قال واحتجاج الشيخ بالمنع من الصلاة
في النجاسة وطلبه للدلالة ممن يجيزها فيها واضح الجواب، فإن الأخبار التي ذكرناها
صالحة للدلالة متنا واسنادا فالمتجه العمل بما دلت عليه. انتهى.
أقول: وهو ظاهر الصدوق في الفقيه حيث اقتصر في الكتاب على نقل الروايات
الدالة على الصلاة في الثوب ولم يتعرض لنقل شئ من روايات الصلاة عاريا وهو بناء
على قاعدته التي ينسبون بها المذاهب إليه في هذا الكتاب ظاهر في اختياره تعين الصلاة
في الثوب كما جنح إليه في المعالم.
وكيف كان فإن ملخص الكلام في المقام أن مقتضى العمل بهذا الاصطلاح
الجديد هو ما ذكره في المعالم وقبله السيد في المدارك إلا أن ظاهره في المدارك التوقف
ولم يجزم بذلك كما في عبارة المعالم حيث قال بعد رد تأويلات الشيخ بالبعد: ويمكن الجمع
بينها بالتخيير بين الأمرين وأفضلية الصلاة في الثوب كما اختاره ابن الجنيد إلا أن ذلك
موقوف على تكافؤ السند وهو خلاف الواقع، وكيف كان فلا ريب أن الصلاة في الثوب
أولى. انتهى. وهو ظاهر في التوقف حيث لم يجزم بشئ وإنما جعل الصلاة في الثوب
أولى، ومقتضى العمل بجملة الأخبار هو القول بالتخيير جمعا بينها دون ما ذكره الشيخ
(قدس سره) وأما ما ذكره الشيخ من الإعادة وكذا ما ذكره ابن الجنيد ففيه ما تقدم
في غير موضع من أن وجوب الأداء والقضاء مما لا يجتمعان بمقتضى الأصول الشرعية
والقواعد المرعية كما تقدم تحقيقه في باب التيمم والله العالم.
فروع
(الأول) نقل في المعالم أنه ذكر بعض أصحابنا المتأخرين أن لكل من
البدن والثوب بالنظر إلى تعذر الإزالة حكما برأسه فإذا تعددت النجاسة فيهما واختص
التعذر بأحدهما وجبت الإزالة عن الآخر، قال ولو اختصت بأحدهما وكانت متفرقة
353

وأمكن إزالة بعضها وجبت، وبتقدير اجتماعها فإن كانت دما وأمكن تقليله بحيث ينقص
عن مقدار الدرهم وجب أيضا وإلا ففي الوجوب نظر، ثم قال وهذا التفصيل حسن
ولا بأس به. أقول: ظاهر هذا الكلام التفرقة في صورة اختصاص النجاسة بأحدهما بين
المتفرقة التي يمكن إزالة بعضها فإنه تجب الإزالة وبين المجتمعة التي إذا كانت غير الدم
وأمكن تقليلها وإزالة بعضها فإنه لا تجب بل هو محل نظر عنده، ولا أعرف لهذه
التفرقة وجها.
(الثاني) قد عرفت أن الظاهر من الصدوق هو اختيار القول بالصلاة في الثوب
إلا أنه قد أشار كما عرفت في ذيل صحيحتي الحلبي وعبد الرحمان إلى رواية عمار الدالة على
الإعادة، ومنافاتها للأخبار المذكورة ظاهرة والأصحاب قد حملوها على الاستحباب جمعا،
وهو لم يتعرض للجواب عنها ولا الجمع بينها وبين تلك الأخبار، وربما أشعر ذلك بقوله
بمضمونها وتقييد اطلاق تلك الأخبار بها والظاهر بعده، وبما احتمل التوقف حيث اقتصر
على نقل الجميع ولم يتعرض لوجه الجمع ولعله الأقرب، وقد وقع له أمثال ذلك في غير
موضع: منها خروج البلل المشتبه بعد الوضوء.
(الثالث) أنه على تقدير القول المشهور من وجوب الصلاة عاريا فهل يصلي
جالسا مومئا برأسه للركوع والسجود مطلقا أو قائما مطلقا مومئا كذلك أو يفرق بين
أمن المطلع وعدمه فيصلي على الأول قائما وعلى الثاني جالسا؟ أقوال أشهرها الثالث،
وسيجئ تحقيق المسألة المذكورة في محلها ونقل أخبارها إن شاء الله تعالى وبيان المختار منها
(الرابع) لا خلاف في أنه لو نظر إلى الصلاة فيه لبرد ونحوه فإن صلاته
صحيحة وإنما وقع الخلاف في وجوب الإعادة، والظاهر أن مستنده موثقة عمار المذكورة
وقد عرفت ما فيها من الاشتمال على التيمم أولا فيجوز أن تكون الإعادة مستندة إلى
ذلك كما تقدم في باب التيمم، وأما مع ظهور كون ذلك من حيث الصلاة في النجاسة
فقد عرفت ما فيه من المخالفة لمقتضى الأصول الشرعية فيجب تأويلها البتة والله العالم.
354

(المسألة السابعة) قد ذهب جمع من الأصحاب: منهم الشهيد في الذكرى
والدروس إلى العفو عن نجاسة ثوب الخصي الذي يتواتر بوله إذا غسله في النهار مرة، واحتجوا
لذلك بالحرج والمشقة مع ما رواه الشيخ في الصحيح إلى سعدان بن مسلم عن عبد الرحيم
القصير (1) قال: " كتبت إلى أبي الحسن الأول (عليه السلام) أسأله عن خصي يبول
فيلقى من ذلك شدة ويرى البلل بعد البلل؟ فقال يتوضأ وينضح ثوبه في النهار مرة
واحدة " واعترضهم بعض المحققين من متأخري المتأخرين بأن في طريقها ضعفا لجهالة
سعدان وعبد الرحيم، وقال المحقق في المعتبر بعد نقل الخبر المذكور: والراوي المذكور
ضعيف فلا أعمل على روايته وربما صير إليها دفعا للحرج. وظاهر قوله " صير " بالبناء
للمجهول وجود قائل بمضمونها إلا أن العلة في ذلك هو الحرج دون الخبر، ويحتمل أن يكون كناية عن ميله هو إلى ذلك وتعليل الحكم بالحرج. واعترض عليه بأن الاستناد
في الحكم إلى الحرج يقتضي جعل المناط في العفو ما تندفع معه المشقة والحرج ككثير
من الأحكام التي يستندون فيها إلى دفع الحرج دون الخصوصية المذكورة فإنها موقوفة
على نهوض الرواية بها، مع أن الرواية إنما تضمنت الصب لا الغسل كما ذكروه فالفرق
بينهما ظاهر. والعلامة في المنتهى قد اقتصر على العمل بمضمون الرواية من غير تعرض
للغسل فقال بعد ذكرها: وفي الطريق كلام لكن العمل بمضمونها أولى لما فيه من الرخصة
عند المشقة. واستوجه في التذكرة بعد بيان ضعف الرواية وجوب تكرار الغسل فإن
تعسر عمل بمضمون الرواية دفعا للمشقة، وهو كما ترى. والصدوق في الفقيه قد ذكر
هذه الرواية مرسلة وظاهره العمل بها.
أقول: وتحقيق الكلام في المقام أن يقال إن هذه الرواية لا تخلو من الاجمال
فالاستناد إليها فيما ذكروه لا يخلو من الاشكال، وذلك فإنه يحتمل أن يكون ذلك البلل
بولا فأمره بالوضوء يعني غسل البول الذي

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من نواقض الوضوء.
355

يخرج معتدلا والنضح مرة واحدة في نهاره لأجل هذا البلل، وعلى هذا فيكون من
قبيل المرأة المربية للمولود ذات الثوب الواحد، وحينئذ فيجب حمل الصب على الغسل
ويجب تقييده بأنه ليس له إلا ثوب واحد. والظاهر بعده فإنه على هذا التقدير يكون
من قبيل صاحب السلس وحكمه شرعا كما تقدم في محله أنه يضع ذكره في خريطة
محشوة بالقطن ويصلي بعد التطهير من النجاسة. ويحتمل أن يكون هذا البلل غير معلوم
كونه بولا بل يكون مظنونا أو موهوما فيكون النضح على ظاهر معناه الشرعي ونظيره
في الأخبار غير عزيز، فإن من جملة مواضع النضح كما سيأتي إن شاء الله ما شك في نجاسته.
ويحتمل أنه أمر بالنضح وجعل الثوب رطبا ليمكن استناد البلل إليه ولا يتيقن كونه
خارجا من الذكر ولا نجسا ويكون من قبيل الحيل الشرعية كما تقدم نظيره. ولا يخفى
أن كلام الجماعة مبني على الاحتمال الأول وقد عرفت ما فيه، فالأظهر هو طرح هذه
الرواية لاشتباهها وعدم ظهور المعنى المراد منها والرجوع إلى الأصول المقررة والقواعد
المعتبرة في النجاسات وإزالتها. والله العالم.
البحث الثالث
في ما تزال به النجاسات
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن المطهرات عشرة: الماء
والشمس والأرض والنار والاستحالة والإسلام واستبراء الحيوان الجلال ونقص العصير
والانقلاب والانتقال، فالكلام هنا يقع في مطلبين:
(الأول) في تطهير الماء وإزالة النجاسة به وكيفية الإزالة وما يتعلق بذلك
ويلحق به، وفيه مسائل:
(الأولى) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب المرتين
في إزالة نجاسة البول عن الثوب والبدن في غير بول الرضيع بل ظاهر المحقق في المعتبر
356

أنه اجماع حيث قال بعد ذكر الحكم المذكور: وهذا مذهب علمائنا. إلا أن الشهيد في
الذكرى بعد أن اختار التثنية عزى إلى الشيخ في المبسوط عدم مراعاة العدد في غير الولوغ
وهو ظاهر في المخالفة، وما عزاه إلى الشيخ قد جزم به في البيان فقال ولا يجب التعدد
إلا في إناء الولوغ. ونقل في المعالم عن العلامة أنه اكتفى فيه بالمرة صريحا إذا كان جافا
وأنه يظهر من فحوى كلامه في جملة من كتبه الاكتفاء بها مطلقا حيث قال: إن الواجب
هو الغسل المزيل للعين، قال ومن البين إن زوال العين معتبر على كل حال وأن مسمى
الغسل يصدق بالمرة. انتهى. ومن ذلك يظهر أن الخلاف في المسألة والقول باجزاء المرة
مطلقا متحقق في كلام الأصحاب.
والأظهر ما هو المشهور من اعتبار المرتين في إزالة نجاسة البول عن الثوب
والبدن للأخبار الصحيحة الصريحة:
ومنها ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب في الحسن عن الحسين بن
أبي العلاء (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البول يصيب الجسد؟
قال صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله
مرتين. وسألته عن الصبي يبول على الثوب؟ قال تصب عليه الماء قليلا ثم تعصره "
وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن أبي يعفور (2) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين ".
وعن محمد بن مسلم في الصحيح (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فإن غسلته في ماء جار فمرة
واحدة " قال الجوهري: المركن الإجانة التي يغسل فيها الثياب.
وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (4) قال: " سألته

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 1 من النجاسات.
357

عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين ".
وعن أبي إسحاق النحوي في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين ".
وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن
محمد بن أبي نصر (2) قال: " سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين
فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول قال اغسله مرتين ".
وفي الفقه الرضوي (3) " وإن أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة
ومن ماء راكد مرتين ثم اعصره ".
وما تضمنه جملة من هذه الأخبار من وجوب المرتين في البدن مما لم يظهر فيه
خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلا من صاحبي المدارك والمعالم لمزيد
تصلبهما في هذا الاصطلاح الجديد فردا روايتي الحسين بن أبي العلاء وأبي إسحاق
النحوي بضعف السند واكتفيا بالمرة في البدن لذلك. وفيه أن الأولى حسنة والثانية
صحيحة أو حسنة ويعضدهما رواية ابن أبي نصر المنقولة في السرائر وهي صحيحة لأنها
منقولة من أصله المشهور بلا واسطة وبذلك يظهر ضعف ما ذهبا إليه. وأما ما رواه
عبد الرحمان بن الحجاج في الصحيح (4) قال: " سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن
رجل يبول بالليل فيحسب أن البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزيه أن يصب على ذكره
إذا بال ولا يتنشف؟ قال يغسل ما استبان أنه أصابه وينضح ما يشك فيه من جسده
أو ثيابه.. الحديث " فغايته أن يكون مطلقا فيجب تقييده بما ذكرناه من الأخبار.
واعتضد في المعالم فيما ذهب إليه من أجزاء المرة في البدن بأن العلامة في المنتهى
قد اقتصر على الثوب في العبارة التي حكم فيها بوجوب المرتين وكذلك صنع في التحرير.

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب النجاسات
(3) ص 6
(4) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.
358

وفيه أن عدم تعرضه لحكم البدن بالكلية لا يدل على حكمه بعدم التعدد والقول بالمرة
فيه بل هو أعم من ذلك. واعتضد أيضا بأنه جزم في بحث الاستنجاء من المنتهى والنهاية
بالاكتفاء فيه بالمرة إذا زالت العين وكذا في المختلف وحكي القول به عن أبي الصلاح
وابن إدريس وقال إنه الظاهر من كلام ابن البراج وهو قول سلار أيضا. وفيه أنه من
الجائز بل الظاهر أن مسألة الاستنجاء لها حكم غير هذه المسألة كما سيأتي بيانه إن شاء
الله تعالى. وكيف كان فإن المدار عندنا على النصوص وقد عرفت دلالتها على المدعى
لا على القائل قل أو كثر فإنه محجوج مع المخالفة بما ذكرناه من النصوص أيضا.
وأما من ذهب إلى الاكتفاء بالمرة مطلقا كما تقدم نقله عن المبسوط والبيان فلم
نقف له على دليل في الأخبار ولا في كلام الأصحاب بل الدليل كما عرفت على خلافه
مكشوف الحجاب. إلا أن العلامة في المنتهى قد احتج على ما ذهب إليه من الاكتفاء بالمرة
مع الجفاف بوجهين: (أحدهما) أن المطلوب من الغسل إنما هو إزالة العين والجاف ليس
له عين فيكتفى فيه بالمرة. و (الثاني) أن الماء غير مطهر عقلا لأنه إذا استعمل في المحل
جاورته النجاسة فينجس وهكذا دائما وإنما عرفت طهارته بالشرع بتسميته طهورا بالنص
فإذا وجد استعمال الطهور مرة عمل عمله من الطهارة. وأنت خبير بما فيه من الوهن
والضعف الذي لا يحتاج إلى تنبيه فإن النصوص المتقدمة مطلقة شاملة باطلاقها للبول
بقسميه يابسا ورطبا وتخصيصها بمجرد هذه التعليلات مجازفة محضة. وما ذكره من أن
المطلوب من الغسل إزالة العين والأثر دعوى لا دليل عليها في نص ولا خبر، إلا أن
في الذكرى نقل ذلك رواية فقال أما البول فيجب تثنيته لقول الصادق (عليه السلام)
" في الثوب يصيبه البول اغسله مرتين: الأولى للإزالة والثانية للانقاء " وقد تقدمه في
ذلك المحقق في المعتبر وذكر هذه الزيادة في رواية الحسين بن أبي العلاء فقال بعد قوله:
وعن الثوب يصيبه البول قال: " اغسله مرتين الأولى للإزالة والثانية للانقاء " والظاهر أنها من كلام صاحب المعتبر وتبعه من تبعه في ذلك ظنا أنها من أصل الخبر، وهذه الزيادة
359

لا وجود لها في شئ من كتب الأخبار وقد صرح بذلك أيضا في المعالم فقال: بعد نقل
ذلك عن الذكرى والمعتبر: ولم أر لهذه الزيادة أثرا في كتب الحديث الموجودة الآن
بعد التصفح بقدر الوسع، ولو ثبت لأمكن تقييد اطلاق تلك الأخبار بها فيخص ما دل
على المرتين بما له عين لكن الكلام في ثبوتها.
تنبيهات
(الأولى) اطلاق روايات الحسن بن أبي العلاء وأبي إسحاق النحوي وابن
أبي نصر المنقولة من السرائر شامل لمخرج البول فيجب فيه المرتان بمقتضى ذلك، إلا أنهم قد اختلفوا أيضا في مسألة الاستنجاء وقد تقدم البحث فيها في محله، وقد بينا أن
الظاهر من الأخبار المذكورة في تلك المسألة هو وجوب المرة خاصة كما هو اختيار جملة
من الأصحاب، وذكرنا وجه الجمع بين أخبار تلك المسألة على تقدير هذا القول الذي
اخترناه والأخبار المذكورة هنا، وذلك لأن أخبار تلك المسألة بناء على ما اخترناه
مطلقة بالنسبة إلى الغسل ومقيدة بالنسبة إلى المغسول وأخبار هذه المسألة مطلقة بالنسبة إلى
المغسول من كونه مخرج البول أو غيره من الجسد ومقيدة بالنسبة إلى الغسل بالمرتين،
فوجه الجمع بينها إما بتخصيص عموم أخبار هذه المسألة بأخبار الاستنجاء فيقال بوجوب
المرتين في غير موضع الاستنجاء أو بتقييد أخبار الاستنجاء بهذه الأخبار فيقال بوجوب
المرتين في الاستنجاء، لكن الظاهر أن الترجيح للأول لمنع شمول أخبار المرتين لموضع
النزاع بل الظاهر منها إنما هو ما عداه من سائر الجسد فإن المتبادر من هذه الروايات إنما هو
عروض النجاسة من خارج وتطرقها إلى الثوب أو الجسد.
وكلام الأصحاب في هذا الباب غير منقح في كون المسألتين من باب واحد
أو متعددتين وكما اختلفوا هنا فقد اختلفوا هناك أيضا، والمحقق في المعتبر قد ادعى
الاجماع في هذه المسألة على التعدد كما قدمنا ذكره ولم يدعه هناك وإنما استدل برواية
360

نشيط بن صالح الدالة على المثلين (1) مع ما في دلالتها من الاجمال في البين، وأيدها بما
روى من أن البول إذا أصاب الجسد يصب عليه الماء مرتين، ولقد كانت هذه الروايات
أصرح وأوضح وأولى في الاستدلال لو كانت هذه المسألة من قبيل ما اشتملت عليه
دون أن تجعل مؤيدة وغيره لم يشر إليها بالكلية، وقد عرفت مما تقدم في كلام صاحب
المعالم أن المسألتين عنده من باب واحد وأنه يكتفي بالمرة فيهما. وفيه ما عرفت فإن
الأظهر هو وجوب المرة في الاستنجاء والمرتين فيما عداه عملا بالظاهر من أخبار كل
من المسألتين.
(الثاني) الظاهر كما صرح به جماعة: منهم الشهيد الثاني اعتبار الفصل بين
المرتين ليتحقق العدد وصدق المرتين المأمور بهما في الأخبار، واكتفى الشهيد في الذكرى
باتصال الماء بقدر الغسلتين، قال في المدارك: وهو مشكل نعم لو كان الاتصال بقدر زمان
الغسلتين والقطع أمكن الاكتفاء به فيما لا يعتبر تعدد العصر فيه لأن اتصال الماء في زمان
القطع لا يكون أضعف حكما من عدمه. وفيه أن صدق التعدد في الصورة المذكورة مشكل
والظاهر أنه لا يصدق إلا مع القطع الحسي لا التقديري.
وقال في المعالم: ذكر جماعة من الأصحاب أنه يكفي في المرتين التقدير فلو اتصل
الصب على وجه لو انفصل لصدق التعدد حسا أجزأ، ووجهه البعض بدلالة فحوى
الاكتفاء بالحسي عليه. وهو على اطلاقه مشكل لأن دلالة الفحوى موقوفة على العلم بعلة
الحكم في المنطوق وكونها في المفهوم أقوى وليست العلة هنا بواضحة. انتهى.
أقول: الظاهر أن الإشارة بالبعض المذكور في كلامه إلى صاحب المدارك وما
نقلناه عنه هنا.
ثم قال في المعالم بعد كلام في البين: والذي يقوى في نفسي اعتبار صدق المرتين
عرفا مع التراخي لأن المقتضي للفرق بين التراخي وعدمه ملاحظة تحقق المرتين المأمور بهما

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أحكام الخلوة.
361

والتراخي بمجرده غير كاف في صدقهما. انتهى. وهو يرجع إلى ما قدمناه بعد نقل
كلام صاحب المدارك من عدم صدق التعدد في الصورة المفروضة وإنما يحصل بالقطع
الحسي. نعم لو صحت الرواية التي ذكرها في الذكرى من تعليل المرتين بأن الأولى
للإزالة والثانية للانقاء أمكن ما ذكره في المدارك وسقط ما أورده عليه في المعالم لوجود
العلة في المنطوق وحينئذ فإن اكتفى بذلك مع القطع الحسي فمع حصول الغسل بقدر
زمان القطع إن لم يكن أولى بالاكتفاء لا أقل أن يكون مساويا لكن الخبر كما عرفت
آنفا غير ثابت وإنما المعلوم كون ذلك تعبدا شرعا فيقين البراءة لا يحصل إلا به، ومن
ذلك علم أن في المسألة أقوالا ثلاثة.
والشهيد (قدس سره) مع تصريحه هنا بالاكتفاء باتصال الماء بقدر الغسلتين
صرح في الاستنجاء بأنه لا بد في حصول التعدد من الفصل حسا وبين الكلامين تناقض
ظاهر، وقد تقدم الجواب عنه في مسألة الاستنجاء من البول فليلحظ.
(الثالث) قد صرحت صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة وكذا عبارة كتاب
الفقه بالاكتفاء بالمرة في الغسل في الجاري، وبذلك صرح جملة من الأصحاب كالشهيدين
والعلامة في التذكرة والنهاية والشيخ علي وصاحب المدارك وأضافوا إلى الجاري الراكد
الكثير، وهو جيد. ويمكن أن يكون ذكر الجاري في الخبرين المذكورين إنما هو من
قبيل التمثيل لا من قبيل الحصر. وأما قوله في كتاب الفقه " ومن ماء راكد مرتين "
فينبغي حمله على الأقل من كر لينطبق على ظواهر الأخبار وكلام الأصحاب، والصدوق
في الفقيه قد عبر بعين عبارة كتاب الفقه. وقال في المنتهى في أحكام الأواني: الجسم
النجس إذا وقع في الكثير من الراكد احتسب بوضعه في الماء ومرور الماء على أجزائه
غسله وإن خضخضه وحركه بحيث تمر عليه أجزاء غير الأجزاء التي كانت ملاقية له
احتسب بذلك غسلة ثانية كما لو مرت عليه جريات من الجاري. ومقتضى هذا الكلام
اعتبار التعدد في الجاري والراكد الكثير، ونقل عن الشيخ نجيب الدين في الجامع
362

التعدد في الراكد دون الجاري، وصرح المحقق في المعتبر في مسألة الولوغ باعتبار
التعدد في الكثير مطلقا إلا أنه اكتفى في تحقق المرتين في الجاري بتعاقب الجريتين
عليه، واطلاق عبارته في الشرائع حيث قال: " ويغسل الثوب والبدن من البول مرتين
يقتضي اعتبار التعدد في قليل كان أو كثير راكد أو جار.
والظاهر هو القول الأول للخبرين المذكورين ولا معارض لهما إلا اطلاق أخبار
المرتين المتقدمة، والظاهر تقييدها بالقليل كما هو الظاهر منها للتصريح بالصب في جملة
منها والغسل في المركن في بعض.
بقي الكلام في أن مورد صحيحة محمد بن مسلم وعبارة كتاب الفقه الدالتين على المرة
في الجاري إنما هو الثوب خاصة وظاهر الأصحاب العموم للبدن أيضا فلو أراد إزالة نجاسة
البول عنه في الجاري كفت المرة وكأنه لمفهوم الموافقة فإنه إذا ثبت ذلك في الثوب المتوقف
على العصر لو كان الغسل في القليل ثبت في البدن بطريق أولى. وفيه ما فيه فتأمل.
(الرابع) قد عرفت الخلاف في البول بالنسبة إلى الثوب والبدن بقي الكلام
بالنسبة إليه في غيرهما وغيره في غير الأواني، وقد اختلف الأصحاب في ذلك ففي الذخيرة
عن ظاهر جمع من الأصحاب طرد الحكم بالمرتين من نجاسة البول في غير الثوب والبدن
مما يشبههما فتعتبر الغسلتان في ما يمكن اخراج الغسالة منه بالعصر من الأجسام الشبيهة
بالثوب والصب مرتين فيما لا مسام له بحيث ينفذ فيه الماء كالخشب والحجر، قال ولعلهم
نظروا في هذه التعدية إلى المشابهة الصرفة أو مع ادعاء الأولوية في الفرع، والأول
قياس غير معتبر واثبات الثاني مشكل، فإذن الاقتصار على مورد النص غير بعيد كما نقل
التصريح به عن بعض الأصحاب. انتهى. أقول: قد ذهب الشهيد في اللمعة والرسالة والمحقق
الشيخ علي إلى وجوب المرتين مطلقا من نجاسة البول وغيرها في الثوب والبدن وغيرهما
عدا الأواني، وذهب شيخنا الشهيد الثاني في الروضة إلى وجوب المرتين من نجاسة
البول خاصة في الثوب والبدن وغيرهما والمرة الواحدة في غيره والنقل المذكور عن
جمع من الأصحاب إنما ينطبق على مذهب شيخنا الشهيد الثاني القائل بوجوب التثنية
363

من نجاسة البول مطلقا كائنة ما كانت، إلا أن ما ذكره من التقييد بما يشبههما لم أقف عليه
في كلامه بل ظاهره القول بوجوب التثنية من نجاسة البول مطلقا، وما ذكره في توجيه
التعدية فالظاهر بعده بل الظاهر أن الوجه في ذلك أنما هو احتمال خروج الثوب والبدن
في الأخبار مخرج التمثيل بناء على أنه الفرد الغالب في ملاقاة النجاسة فلا يقتضي قصر
الحكم عليهما وأن خصوص السؤال عنهما لا يخصص. وقيل بوجوب المرة مطلقا وقد تقدم
نقله عن الشيخ في المبسوط وبه جزم في البيان، واعتبر في المعتبر المرة بعد إزالة العين
أخذا بالاطلاق، وأوجب العلامة في التحرير المرتين فيما له قوام وثخن كالمني دون
غيره، وقال في المنتهى النجاسات التي لها قوام وثخن كالمني أولى بالتعدد في الغسلات.
أقول: وتحقيق القول في هذا المقام بما يصل إليه الفهم القاصر من أخبارهم
(عليهم السلام) هو وجوب المرتين من نجاسة البول في الثوب والبدن كما تقدم للأخبار
المتقدمة ووجوب المرة فيما عدا ذلك لاطلاق الأمر بالغسل إذ لا ذكر للتعدد إلا في البول
في الموضعين المذكورين والأواني على بعض الوجوه كما يأتي ونحن قد استثنيناها في
صدر الكلام، إذ الأمر بالماهية يصدق بالمرة والأصل يقتضي براءة الذمة من الزائد.
نعم يبقى الكلام فيما له قوام وثخن كما ذكره العلامة فإن ظاهر قوله (عليه السلام) في
حسنة الحسين بن أبي العلاء: " صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء " يدل بمفهومه على أن
غير الماء أكثر عددا ويدل على أنه أضعف حكما بالنظر إلى الإزالة مما له قوام وثخن،
ويؤيده ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول " وهو ظاهر في ثبوت الأولوية في المني
(لا يقال): إن مقتضى ما ذكرتم هو كون البول أضعف نجاسة من الدم إذ
البول ماء كما ذكرتم والدم له ثخن وقوام، مع أن الأمر بالعكس حيث إنه قد عفي عن
الدم في مواضع كما تقدم والبول لم يعف عن قليله ولا كثيره بل تجب إزالته كيف كان

(1) رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.
364

(لأنا نقول) الأحكام الشرعية لا مسرح للعقل فيها بالكلية بل هي تابعة للنصوص
الشرعية واثبات القوة والضعف موقوف على الدلالة الشرعية. ولا ريب أن مقتضى
الخبرين المذكورين أن البول أضعف حكما بالنسبة إلى الإزالة مما له قوام وثخن وإن كان بالنسبة
إلى العفو أقوى إذ لا منافاة مع اختلاف الحيثية، وحينئذ فيتجه المصير إلى ما ذكره
العلامة من التعدد في ما له قوام وثخن. إلا أنه يمكن أن يقال أيضا إن ما ذكر في الخبرين
المذكورين من الدلالة على أشدية نجاسة ما له ثخن وقوام لا يستلزم التعدد وإنما غاية
ما يلزم منه المبالغة في غسله وإزالته، إذ لا يخفى أن الظاهر من الأخبار الدالة على التطهير
من النجاسات أن الغرض من الغسل إنما هو إزالة النجاسة من المحل وأنه بالإزالة منه
وقلعها يطهر المحل ولو بدفعة مشتملة على ماء كثير يقلعها، والأمر بالتعدد في بعض
النجاسات وإن حصلت الإزالة قبل تمام العدد إنما هو تعبد شرعي إذ لا يظهر له وجه سواه
وحينئذ فمتى غسل المني دفعة بماء كثير يقلعه ويزيله وجب الحكم بالطهارة ولا يشترط
فيه دفعة أخرى بعد زوال النجاسة لعدم الدليل على ذلك، وشدته وقوته زيادة على
البول إنما هو باعتبار احتياجه إلى مزيد فرك وزيادة ماء على غيره مما لا قوام له والتعدد
في البول كما عرفت إنما هو تعبد كغيره فلا يستلزم أن يحمل عليه ما لم يرد فيه تعدد لأن
الغرض الإزالة وقد حصلت بما ذكرناه. نعم لو صح الخبر الذي ذكره في الذكرى من أن
العلة في التعدد أن الأولى للإزالة والثانية للانقاء يعني الطهارة لربما أمكن الحكم بما ذكره
من التعدد ولكن الشأن في ثبوته. وبالجملة فالظاهر ما عليه المشهور من المرة في غير البول
في الثوب والبدن. والله العالم.
(المسألة الثانية) المعروف من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف
وجوب العصر في الثوب ونحوه مما يرسب فيه الماء فلو غسله ولم يعصره حتى جف بالهواء
أو الشمس فهو باق على نجاسته كما صرح به جملة منهم.
إلا أنهم اختلفوا هنا في موضعين: (الأول) في مدرك وجوب العصر حيث لم
365

يقفوا على دليل يدل عليه من الأخبار كما ذكره بعض الأصحاب. فبين من علل ذلك
بأنه لا يتيقن خروج النجاسة إلا به وبين من علله بأنه مأخوذ في حقيقة الغسل وبين من
علله بأن الغسالة نجسة فيجب اخراجها. وأحتج المحقق في المعتبر بأن النجاسة ترسخ في الثوب
فلا تزول إلا بالعصر، وبأن الغسل إنما يتحقق في الثوب ونحوه بالعصر وبدونه يكون
صبا لا غسلا. واستدل عليه في التذكرة والنهاية يكون الغسالة نجسة فلا تحصل الطهارة مع
بقائها. وجمع في المنتهى بين ما ذكره المحقق وما ذكره هو في الكتابين المذكورين. وعلله
الشهيد في الذكرى بوجوب اخراج النجاسة وتبعه جمع من المتأخرين، وربما أضاف إليه
بعضهم الوجه المذكور في التذكرة والنهاية.
وكيف كان فلا يخفى ما في بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات
العليلة من المجازفة سيما مع ما هي عليه من تطرق الإيراد وعدم الاطراد: (أما الأول) فإنه
أخص من المدعى لاختصاصه بصورة العلم بتوقف خروج النجاسة عليه والمدعى أعم من
ذلك. و (أما الثاني) فلتطرق المنع إليه لغة وعرفا إذ الظاهر أن الغسل لغة وعرفا إنما هو
عبارة عما يحصل به الجريان والتقاطر في ثوب كان أو بدن أو غيرهما، ويقابله الصب
الذي هو عبارة عن وصول الماء خاصة من غير جريان ولا انفصال ويسمى بالرش أيضا
كما وقع التعبير بهما معا في ملاقاة الكلب بيبوسة، ومقتضى هذا الوجه وجوب العصر
سواء قلنا بنجاسة الغسالة أو طهارتها وأن القدر المعتبر منه ما يصدق معه مسمى الغسل
في العرف حتى لو بقيت فيه أجزاء يمكن اخراجها بغير مشقة لم تضر إذا كان مفهوم
الغسل قد تحقق بدون خروجها. و (أما الثالث) فلتطرق المنع إلى نجاسة الغسالة، ومع
تسليم ذلك فنمنع انحصار طريق الإزالة في العصر فإنه يحصل بالجفاف أيضا، على أن
العصر لا يشترط فيه اخراج جميع الرطوبة التي في الثوب، وقد اعترف الأصحاب
بطهارة المتخلف بعد العصر وإن أمكن اخراجه بعصر أشد من الأول.
والتحقيق عندي في المقام وإن لم يهتد إليه أولئك الأعلام أن أكثر الأخبار
366

المتقدمة وإن خلا من ذكر العصر إلا أن كلامه (عليه السلام) في الفقه الرضوي (1)
قد اشتمل عليه وبه يخص اطلاق تلك الأخبار، وبه يظهر أن العلة إنما هو النص دون
ما ذكروه من هذه التخريجات، والظاهر أن من ذكر العصر من المتقدمين ولا سيما
الصدوقين الذين عبارتهما عين عبارة الكتاب في هذا المقام كما بيناه في شرحنا على
كتاب الفقيه إنما اعتمدوا على هذا الكتاب والمتأخرون قد أخذوا الحكم بذلك من
كلام المتقدمين ولما خفي عليهم الدليل رجعوا إلى هذه التعليلات العليلة فكل منهم علله
بما أدى إليه نظره في المقام وبذلك يزول الاشكال في هذا المجال، وقد تقدم نظير
ذلك في غير مقام ويأتي مثله وأمثاله من الأحكام الجارية على هذا المنوال.
(الموضع الثاني) أنهم اختلفوا في تعدد العصر وعدمه فأوجب المحقق في المعتبر
العصر مرتين فيما يجب غسله كذلك، واكتفى بعضهم بعصر بين الغسلتين وبه صرح
الشهيد في اللمعة، وصرح الصدوق في الفقيه وكذا أبوه في الرسالة على ما نقله في المعالم
بالعصر بعد المرتين وهو المذكور في الفقه الرضوي كما عرفت من عبارته المتقدمة
والصدوقان إنما أخذاه منها كما أشرنا إليه من أن عبارتيهما هنا عين عبارة كتاب الفقه
بتغيير يسير، ومتأخرو المتأخرين بناء على خفاء النص عليهم في المسألة قد أطالوا
في تفريع هذا الخلاف على الخلاف المتقدم في الموضع الأول وتطبيقه عليه، قال في
المدارك بعد نقل هذه الأقوال الثلاثة: ويمكن بناء الأقوال الثلاثة على الوجه المقتضي لاعتبار
العصر فإن قلنا إنه دخوله في مسمى الغسل وعدم تحققه بدونه كما ذكره المصنف في
المعتبر وجب تعدده بتعدد الغسل قطعا، وإن قلنا إنه زوال أجزاء النجاسة الراسخة في
الثوب به اتجه اعتباره في الغسل الأول خاصة إذا حصلت به الإزالة، وإن قلنا إنه نجاسة
الماء بملاقاة الثوب كما ذكره في المنتهى اتجه الاكتفاء بعصر بعد الغسلتين لحصول الغرض منه
وانتفاء الفائدة في فعله قبل الغسلة الثانية لبقاء النجاسة مع العصر وبدونه. ولا ريب

(1) ص 6.
367

أن ما ذهب إليه المصنف من التعدد أحوط وإن كان الاكتفاء بالعصر الواحد بعد
الغسلتين أقوى. انتهى. وما اختاره أخيرا من قوة الاكتفاء بالعصر الواحد بعد
الغسلتين جيد لا لما ذكره بل لما ذكرناه من النص، وما ذكره أيضا من الأحوطية لا بأس به
وإن كان للنظر فيه مجال.
فوائد: (الأولى) قال في التذكرة: لو جف الثوب من غير عصر ففي الطهارة
اشكال ينشأ من زوال النجاسة بالجفاف والعدم لأنا نظن انفصال أجزاء النجاسة في
صحبة الماء بالعصر لا بالجفاف. وقال الشهيد في البيان: لو أخل بالعصر في موضعه
فالأقرب عدم الطهارة لأنا نتخيل خروج أجزاء النجاسة به. وفي الذكرى الأولى
الشرطية يعني في العصر لظن انفصال النجاسة مع الماء بخلاف الجفاف المجرد. وقال في
المعالم بعد نقل ذلك عنهم: وأنت إذا أحطت خبرا بما قلناه في المسألة يتضح لك الحال
في هذا الفرع لأن العصر إن أخذ قيدا في ماهية الغسل أو توقف عليه خروج النجاسة
لم يغن عنه الجفاف وإن اعتبر لاخراج الغسالة فلا ريب في كون الجفاف مخرجا لها
وما ذكراه من الظن والتخيل ليس بشئ كيف وهذا الظن في أكثر الصور لا يأتي
والنخيل في الأحكام الشرعية لا يجدي. انتهى.
أقول: لا يخفى أن الظاهر أن هذا الاشكال الذي ذكره في التذكرة ونحوه
ما ذكره في البيان والذكرى إنما نشأ من التردد في الدليل على وجوب العصر وتردده
بين الوجوه المتقدمة، وايراده في المعالم عليهم إنما يتم مع اختيار دليل بخصوصه وكلامهم
ليس مبنيا عليه فلا وجه لايراد ما أورده. وكيف كان فقد ظهر لك مما أوضحناه سابقا
سقوط هذا البحث من أصله فلا وجه للتفريع عليه لأن النص قد دل على وجوب العصر
فلا تحصل الطهارة إلا به.
(الثانية) قال في المدارك في شرح قول المصنف: ويعصر الثوب من
النجاسات كلها: " اطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في اعتبار العصر مرتين بين القليل
368

والكثير وربما كان الوجه فيه ما ادعاه المصنف (قدس سره) من عدم تحقق الغسل
بدونه وهو ضعيف جدا. وجزم العلامة في التذكرة والنهاية ومن تأخر عنه باختصاص
الحكم بالقليل وسقوطه في الكثير ووجهه معلوم مما قررناه " انتهى.
أقول: لا ريب أن الحكم بالعصر مرتين في الكثير يترتب على أمرين:
(أحدهما) وجوب تعدد الغسل في الكثير ليكون العصر بعد كل غسلة و (ثانيهما) كون
العلة في العصر هو أنه مأخوذ في معنى الغسل، وكل من الأصلين المذكورين لهذا الفرع
قد صرح بهما المحقق المذكور، وحينئذ فالحكم بالضعف في هذا الحكم يرجع إلى ضعف
ما بنى عليه من الحكمين المذكورين. وكيف كان فالحق ما ذكره من اختصاص العصر
بالقليل لا لما أشار إليه بقوله: " ووجهه معلوم مما قررناه " بل لما دل عليه كلامه
(عليه السلام) في الفقه الرضوي (1) من أنه إن غسل في ماء جار كفت المرة من غير
عصر وإن غسل في ماء راكد فمرتان بعدهما عصر واحد. وقد أشرنا سابقا إلى أن
مراده (عليه السلام) بالراكد ما كان أقل من الكر.
(الثالثة) اعتبر العلامة في النهاية والتحرير في طهارة الجسد ونحوه من الأجسام
الصلبة دلكه، لما فيه من الاستظهار في إزالة النجاسة، ولقوله (عليه السلام) في رواية
عمار (2) وقد سأله عن القدح الذي يشرب فيه الخمر: " لا يجزيه حتى يدلكه بيده
ويغسله ثلاث مرات " ولا يخفى ما فيه من تطرق القدح فإن الاستظهار مع تسليمه إنما
يصلح دليلا للاستحباب لا للوجوب، وقياس البول على الخمر في القدح قياس مع الفارق
فإنه يمكن أن يكون الأمر بالدلك في الخبر المذكور لخصوصية النجاسة المذكورة كما
اختصت بالثلاث أو لخصوصية المحل أو لهما معا، إذ لا يخفى أن القدح الذي من الخشب
مظنة لعلوق بعض أجزاء الخمر به فتحتاج طهارته إلى الزيادة على مجرد الصب وربما كان
الخمر أشد لصوقا بمحله من البول كما هو ظاهر، فمن المحتمل قريبا بل هو الظاهر أن

(1) ص 6.
(2) رواه في الوسائل في الباب 51 من أبواب النجاسات.
369

الأمر بالدلك لعدم العلم بزوال العين بدونه، وبذلك يظهر ضعف الالحاق بالخمر في القدح
والقياس عليه، هذا مع أن الرواية المذكورة معارضة بما رواه هذا الراوي أيضا عن
الصادق (عليه السلام) من الاكتفاء في غسل الإناء من الخمر بالمرة الخالية من الدلك (1)
كما سيأتي ذكر ذلك في محله إن شاء الله تعالى. ويظهر من المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى
الميل إلى الاستحباب. وكلام جماعة من الأصحاب خال من التعرض لذلك بالكلية.
وكيف كان فلو توقفت الإزالة على الدلك وجب قطعا.
(الرابعة) قد نص جملة من الأصحاب القائلين بوجوب العصر على أن
ما يتعذر فيه العصر يكتفي فيه بالدق والتغميز، وفي بعض عبارات العلامة التقليب والدق
قال في المنتهى: ولو كان المتنجس بساطا أو فراشا يعسر عصره غسل ما ظهر في وجهه،
وإن سرت النجاسة في أجزائه غسل الجميع واكتفى بالتقليب والدق عن العصر للضرورة.
وظاهره أن العلة فيما ذكره من التقليب والدق هو ضرورة عدم إمكان العصر فجعل ذلك
قائما مقامه للضرورة. ووقع في كلام جماعة من المتأخرين تبعا للشهيد في الذكرى تعليل
ذلك بالرواية.
والذي وقفت عليه مما يتعلق بهذا المقام روايات ثلاث:
إحداها ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن إبراهيم بن أبي محمود (2) قال:
" قلت للرضا (عليه السلام) الطنفسة والفراش يصيبهما البول كيف يصنع بهما وهو

(1) ليس في كتب الحديث خبر لعمار يدل على كفاية المرة في غسل الإناء من الخمر ويمكن
أن يكون نظره إلى موثقه الوارد في كيفية غسل الإناء وأنه يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم
يفرغ منه هكذا ثلاث مرات، ولم يتعرض في مقام البيان للدلك، فيكون مراده بالاكتفاء
بالمرة الخالية من الدلك الاكتفاء بالغسلة الخالية من الدلك في كل من الغسلات الثلاث
وقد رواه في الوسائل في الباب 53 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 5 من أبواب النجاسات.
370

ثخين كثير الحشو؟ قال يغسل ما ظهر منه في وجهه ".
والثانية ما رواه في الكافي عن إبراهيم بن عبد الحميد في الصحيح أو الموثق (1)
قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب
الآخر وعن الفرو وما فيه من الحشو؟ قال اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر فإن
أصبت مس شئ منه فاغسله وإلا فانضحه بالماء ".
والثالثة ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن علي بن جعفر ورواه علي بن جعفر
أيضا في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الفراش
يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال يغسل الظاهر ثم يصب عليه الماء في
المكان الذي أصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر ".
وهذه الروايات كما ترى لا تعرض في شئ منها لما ذكروه من الدق والتغميز
والتقليب، وغاية ما تدل عليه الأولى هو غسل ما ظهر في وجهه من غير تعرض لما بطن
منه، وغاية ما تدل عليه الثانية هو غسل الجانبين مع نفوذ النجاسة، إلا أن الظاهر أن
المراد هو غسل الجانبين وما بينهما في الباطن من الحشو كما تدل عليه رواية علي بن جعفر
(عليه السلام) وكيف كان فغاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هو غسل الجميع ولا
تعرض فيها لذكر الدق ولا غيره مما ذكروه بل ظاهرها هو صب الماء عليه بحيث ينفذ
منه ويجري مع تعدي النجاسة إلى الطرف الآخر والعلم بوصولها إلى الباطن، وإلا فإنه
يكتفي بمجرد الرش على الطرف الآخر إذا لم يصب فيه النجاسة التي وقعت في ذلك
الطرف. ولا يخفى ما في هذه الأخبار من الدلالة على السعة في تطهير النجاسات وظهورها
في طهارة الغسالة، وبذلك يظهر أن نسبة الشهيد (قدس سره) ومن تبعه المستند في هذا
الحكم إلى الرواية ليس في محله، ولعل السبب في نسبة الشهيد ذلك إلى الرواية هو
ما ذكره في المنتهى حيث إنه بعد ذكر خبر إبراهيم بن أبي محمود أولا قال إنه محمول على

(1) رواه في الوسائل في الباب 5 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 5 من النجاسات.
371

ما إذا لم تسر النجاسة في أجزائه وأما مع سريانها فيغسل جميعه ويكتفى بالتقليب والدق
عن العصر. وجعل الخبر الثاني شاهدا على هذا التفصيل، هذا حاصل كلامه في المقام،
فكأن الشهيد من هذا الكلام أخذ الاحتجاج بالرواية وإلا فليس في المسألة رواية غير
ما ذكرناه. والله العالم.
(المسألة الثالثة) اعلم أن ههنا أشياء لا تنفصل عنها الغسالة بنفسها ولا بالعصر
ولا الدق ولا الغمز الذي أوجبوه وقد وقع الخلاف والاشكال في تطهيرها، وذلك مثل
الصابون والفواكه والخبز والحبوب وما جرى هذا المجرى ومثل الصابون أيضا إذا انتقع
في الماء النجس والسمسم والحنطة إذا انتقعا أيضا فيه ومثل المائع من الدهن المتنجس
ونحوه ومثل التراب، وظاهر كلام جملة من الأصحاب اختصاص الطهارة على القول بها
بالكثير فلا تقع بالقليل من حيث عدم خروج ماء الغسالة عن المحل وانفصاله عنه فلا
تحصل الطهارة إلا بالكثير ونحوه.
والكلام في هذه المسألة يقع في مقامات: (الأول) في الصابون والفواكه وما
الحق بهما، نقل في المدارك عن جمع من الأصحاب أن ما لا تنفصل عنه الغسالة كالصابون
والورق والفواكه والخبز والحبوب وما جرى هذا المجرى لا يطهر بالغسل في القليل
بل تتوقف طهارته على غسله في الكثير، ثم قال: وهو مشكل (أما أولا) فللحرج
والضرر اللازم من ذلك. و (أما ثانيا) فلأن ما يتخلف في هذه المذكورات من الماء
ربما كان أقل من المتخلف في الحشايا بعد الدق والتغميز وقد حكموا بطهارتها بذلك.
و (أما ثالثا) فلعدم تأثير مثل ذلك في المنع مع اطلاق الأمر بالغسل المتحقق بالقليل
والكثير. انتهى. وهو جيد، ويؤيده ما قدمنا من الروايات الدالة على حكم الفرش
والحشايا فإنها باطلاقها إنما دلت على الغسل الذي هو كما حققناه سابقا عبارة عن كثرة
الماء بحيث يجري وينفصل عن محل النجاسة.
وأما ما أورده في الذخيرة على الوجه الثالث حيث قال بعد نقل كلامه:
372

وفي الأخير نظر لأنه ليس في الأدلة فيما أعلم ما دل على الأمر بالغسل في كل مادة بحيث
يشمل مورد النزاع لاختصاصها بالبدن والثوب وبعض الموارد الخاصة فتعدية الحكم إلى
غيرها يحتاج إلى دليل. انتهى ففيه أن اللازم مما ذكره أحد أمرين وهو إما بقاء تلك
الأشياء على النجاسة وعدم قول التطهير أو طهارتها من غير ماء، وبطلان الأمرين
أظهر من أن يخفى على ذي روية. والتحقيق أن الطهارة بالغسل لا خصوصية لها بهذه
الجزئيات التي وردت بها النصوص حتى يحتاج فيها إلى طلب الدليل ويقال إنه لا بد في
طهارة كل جزئي من الأشياء المتنجسة من نص عليه بخصوصه فإنه مجرد سفسطة ظاهرة
بل التحقيق أن تلك الجزئيات الواردة في النصوص إنما خرجت مخرج التمثيل لا على
جهة الاختصاص وحينئذ فيصير الحكم كليا، وهذا البحث لا يختص بهذا الموضع بل
هو جار في جميع الأحكام الشرعية من طهارة ونجاسة وصحة العبادة وبطلانها بالمبطلات
ونحو ذلك ولا قائل به البتة. ولا يخفى على المتأمل في الأحكام والمتدبر في القواعد المقررة
بين علمائنا الأعلام أن الأحكام الشرعية لم ترد عنهم (عليهم السلام) بقواعد كلية إلا
نادرا وإنما صارت قواعد كلية بينهم بتتبع الجزئيات الواردة عنهم كالقواعد النحوية
المبنية على تتبع كلام العرب كما لا يخفى.
(المقام الثاني) في ما انتقع في الماء النجس، قال العلامة في المنتهى: الصابون
إذا انتقع في الماء النجس والسمسم والحنطة إذا انتقعا كان حكمها حكم العجين، ثم نقل
عن بعض العامة أنه قال: الحنطة والسمسم إذا تنجسا بالماء واللحم إذا كان مرقه نجسا
يطهر بأن يغسل ثلاثا ويترك حتى يجف في كل مرة فيكون ذلك كالعصر، ثم قال وهو
الأقوى عندي لأنه قد ثبت ذلك في اللحم مع سريان أجزاء الماء النجسة فيه فكذا
ما ذكرناه. انتهى. والظاهر من قوله: كان حكمها حكم العجين يعني في عدم قبول التطهير
بالماء فإن ذلك مذهبه في العجين كما هو المشهور.
بقي الكلام في تقويته لما نقله عن بعض العامة من الغسل ثلاثا والتجفيف بعد كل
373

غسلة لقيامه مقام العصر، فإنه محل اشكال حيث إنه لم يعهد ذلك من مذهبه في كل من
الموضعين، وتأول كلامه بعض محققي متأخري المتأخرين بأنه ليس مراده إلا اثبات القبول
للتطهير وأما اعتبار التعدد والجفاف فغير منظور إليه. وأيده بتعليل الحكم بحال اللحم مع أن الحكم فيه كما ذكره هو وغيره إنما هو طهارته بالغسل إذا وقع في مرقه وما يقتضي تنجيسه
فلو أراد تقوية ما زاد على الغسل لم يكن التعليل وافيا باثبات المدعى، وأيده أيضا بأنه اقتصر
في النهاية على الحكم بقبولها التطهير فقال بعد أن حكم بعدم طهارة الصابون والعجين
بالغسل: أما السمسم والحنطة إذا انتقعا في النجس فالأقوى قبولهما للطهارة وكذا اللحم
إذا تنجست مرقته. أقول: ما ذكره (قدس سره) من التأويل وإن كان لا يخلو من
قوة إلا أنه لا يخفى على من له أنس باختلاف أقوال العلامة في المسألة الواحدة في كتبه
بل في كتاب واحد أنه لا يبعد حمل كلامه هنا على ظاهره.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي دل على حكم اللحم المذكور هنا روايتان إحداهما
رواية السكوني عن الصادق (عليه السلام) (1) " أن أمير المؤمنين (عليه السلام)
سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة؟ قال يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل "
والأخرى رواية زكريا بن آدم (2) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة
خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير ومرق كثير؟ قال يهراق المرق أو يطعمه
أهل الذمة أو الكلاب واللحم اغسله وكله " وظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف
القول بمضمونهما وعندي في ذلك على اطلاقه اشكال وذلك فإنه إن كانت النجاسة قد رفعت
بعد وقوعها بحيث لم تسر النجاسة إلا إلى المرق وظاهر اللحم فلا اشكال وإن كانت قد
بقيت في القدر مدة بحيث على بها القدر وسرت نجاسة المرق إلى باطن اللحم كما هو
ظاهر عبارة العلامة المتقدمة فكيف يطهر بمجرد غسل ظاهره والنجاسة قد سرت إلى

(1) المروية في الوسائل في الباب 5 من الماء المضاف و 44 من الأطعمة المحرمة
(2) المروية في الوسائل في الباب 38 من النجاسات و 26 من الأشربة المحرمة
374

باطنه كما هو المفروض؟ نعم لو علم وصول الماء المطهر إلى الباطن وكان في ماء كثير
فالقول بالطهارة متجه، ولا فرق حينئذ بين اللحم ولا غيره مما انتقع في ماء نجس وسرت
النجاسة إلى باطنه. وإلى ما ذكرنا يشير كلام الشهيد في الذكرى حيث قال: والظاهر
طهارة الحنطة واللحم وشبهه مما طبخ بالماء النجس بالكثير إذا علم التخلل. وبذلك يظهر
لك ما في كلام العلامة الأخير الدال على التطهير مطلقا.
وأما العجين الذي عجن بالماء النجس فظاهر كلامه الأول عدم قبوله التطهير
ومثله كلامه في النهاية، وذلك لأنه قد عجن بالماء النجس وقد سرت النجاسة إلى جميع
أجزائه فطهره لا يكون إلا باستيلاء الماء الطاهر عليه ووصوله إلى كل جزء والظاهر أنه
لا يحصل ذلك إلا بذهاب عين العجين، إلا أنه في التذكرة قد صرح بقبوله التطهير
فقال: العجين النجس إذا مزج بالماء الكثير حتى صار رقيقا وتخلل الماء جميع أجزائه
طهر. وظاهر الذكرى اختيار ذلك واستحسنه أيضا في المعالم، وهو جيد إن علم استيعاب
المطهر لجميع الأجزاء إلا أن في العلم بذلك اشكالا ومجرد صيرورته رقيقا لا يدل على ذلك
وكيف كان فطهره بصيرورته رقيقا كما ذكروه لا يتم إلا في الجاري أو الكثير كما
لا يخفى. وقال في الذكرى: وفي صحاح ابن أبي عمير المرسلة عن الصادق (عليه السلام)
" طهره بالخبز والبيع والدفن " (1) وهي مشعرة بسد باب طهارته بالماء إلا أن يقيد
بالمعهود من القليل. واعترضه في المعالم فقال: ولا أرى لهذا الكلام وجها فإن ما دل
من الأخبار على طهره بالنار خال من الاشعار قطعا، وما دل على بيعه أو دفنه فالسر
فيه توقف تطهيره بالماء على الممازجة والنفوذ في أجزائه بحيث يستوعب كل ما أصابه الماء
النجس، إذ المفروض في الأخبار عجنه بماء نجس وفي ذلك من المشقة والعسر ما لا يخفى

(1) أما ما تضمن الطهر بالخبز فقد رواه في الوسائل في الباب 14 من الماء المطلق
برقم 18 وأما روايتا البيع والدفن فهما مرسلتاه المرويتان في الوسائل في الباب 11
من الأسئار.
375

فلذا وقع العدول عنه إلى الوجهين المذكورين. انتهى. أقول: لا يخفى أن مراد شيخنا
الشهيد (قدس سره) بما ذكره إنما هو أنه لما كان العجين المذكور من المأكولات
المتعارفة وحيث عجن بالماء النجس لم يرد عنهم (عليهم السلام) ما يدل على قبوله التطهير
بالماء وإنما ورد ما يدل على قبوله التطهير بالخبز وورد ما يشعر بعدم قبوله التطهير مطلقا
من بيعه على مستحل الميتة أو دفنه، ولا ريب في اشعار الجميع بعدم قبوله التطهير بالماء
كما ذكره شيخنا المشار إليه، ولو كان ثمة صورة يمكن فيها تطهيره بالماء من ترقيقه كما
ذكروه لم يكن للاضراب عنها مع الحاجة إليه إلى هذه الصورة المذكورة في الأخبار وجه
وهو كلام جيد كما لا يخفى. والتحقيق أن الخبر الوارد بالخبز لا دلالة فيه على النجاسة
كما لا يخفى فإيراده ليس في محله والخبران الباقيان ظاهران في الاشعار بما ذكرناه، وأما
ما ذكره من السر في العدول إلى بيعه ودفنه وهو المشقة في تطهيره فهو ممنوع وأي مشقة
تلزم من ذلك حتى توجب رفع اليد عنه بالكلية؟ فإن وضعه في الكثير جاريا أو راكدا
على وجه يصير رقيقا كما يدعونه أمر سهل لا مشقة فيه توجب رفع اليد عنه وإلا
لاستلزم حصول المشقة ورفع اليد عن كل ما توقف تطهيره على الكثير ولا أراه
يقول به. وبالجملة فكلام شيخنا المذكور عندي جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه
ومن تأمل فيما ذكرناه من التوجيه.
(المقام الثالث) في المائع من مثل الدهن ونحوه فقال جماعة إن غير الماء من
المائعات مطلقا لا يقبل التطهير ما دام باقيا على حقيقته، وظاهر كلام العلامة في التذكرة
قبولها الطهارة حيث قال: إنما يطهر بالغسل ما يمكن نزع الماء المغسول به عنه دون
ما لا يمكن كالمائعات والكاغد والطين وإن أمكن ايصال الماء إلى أجزائها بالضرب ما لم
تطرح في كر فما زاد أو في جار بحيث يسري إلى جميع أجزائها قبل اخراجها منه، فلو
طرح الدهن في ماء كثير وحركه حتى تخلل جميع الماء أجزاء الدهن بأسرها طهر.
وقال في المنتهى: الدهن النجس لا يطهر بالغسل نعم لو صب في كر ماء ومازجت
376

أجزاء الماء أجزاءه واستظهر على ذلك بالتصويل بحيث يعلم وصول الماء إلى جميع أجزائه طهر
قال في المدارك بعد نقل ذلك: قلت لا ريب في الطهارة بعد العلم بوصول الماء
إلى كل جزء من أجزاء المائع إلا أن ذلك لا يكاد يتحقق في الدهن لشدة اتصال
أجزائه ولا في غيره من المائعات إلا مع خروجه عن تلك الحقيقة وصيرورته ماء
مطلقا. انتهى. وهو جيد.
وقال الشهيد في الذكرى: ولا تطهر المائعات والقرطاس والطين ولو ضربت بالماء
إلا في الكثير، وفي طهارة الدهن في الكثير وجه اختاره الفاضل في تذكرته. انتهى
وظاهره الموافقة للتذكرة فيما ذكره من المائعات غير الدهن والكاغد والطين وتوقفه في
الدهن، ولا وجه لاقتصاره في نسبة الحكم بذلك إلى التذكرة خاصة بل هو اختياره
أيضا في المنتهى كما عرفت وكذا في النهاية حيث قال: لو صب الدهن النجس في كر فما
زاد ومازجت أجزاؤه أجزاء الماء بالتصويل فالأقرب الطهارة.
وربما توهم بعض الأصحاب من اقتصاره في النهاية والمنتهى على ذكر الدهن
وعدم التعرض فيهما لغيره مغايرة ذلك لما ذكره في التذكرة من العموم، وليس بشئ
لأنه لا يخفى أنه متى ثبت ذلك في الدهن ثبت في غيره بطريق أولى فإن شهادة الوجدان
ظاهرة في أن الدهن أبعد المائعات عن قبول الطهارة من حيث الدهنية والزوجة وشدة
اتصال أجزائه بعضها ببعض المانع جميع ذلك من نفوذ الماء في أجزائه، فالقول بامكان
الطهارة فيه يقتضي القول بذلك في سائر المائعات.
إلا أن الحق هو ما ذكره في المدارك من الفرق بين الدهن وغيره بعدم قبول
الدهن للتطهير بالكلية وقبول ما عداه من المائعات لكن على وجه لا يبقى لها أثر،
وتسمية ذلك تطهيرا ليس في محله.
ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به في المعالم حيث قال ما ملخصه: أن غير الدهن من
المائعات إذا خالطها الماء على الوجه المشترط في الممازجة تخرج عن الصلاحية للانتفاع بها
377

في الغالب بخلاف الدهن فإن مخالطة الماء له غير مستقرة إذ يسرع انفصاله منه فتبقى
الصلاحية للانتفاع بحالها وهو ظاهر، ثم قال وقد ناقشه يعني العلامة جماعة بأن العلم
بوصول الماء إلى جميع أجزاء الدهن غير ممكن بل قد يعلم خلافه لأن الدهن يبقى في الماء
مودعا فيه غير مختلط به وإنما يصيب سطحه الظاهر. وهذا الكلام جيد بل التحقيق
أن العيان شاهد باستحالة مداخلة الماء لجميع أجزاء الدهن وأنه مع الاختلاط لا يحصل له
إلا ملاقاة سطوح الأجزاء المنقطعة بالضرب ولا سبيل إلى نفوذ الماء في بواطنها، ولهذه
العلة يبقى على الصلاحية للانتفاع إذ اختلاطه بالماء إنما حصل على جهة التفرق في خلاله
فإذا ترك ضربه سارع إلى الانفصال واستقر لخفته على وجه الماء وهذا من الأمور
الواضحة التي لا تحتاج إلى كثير تأمل. وأما غير الدهن من سائر المائعات فإنما يعقل
حصول الطهارة لها مع إصابة الماء لجميع أجزائها إنما يتحقق بشيوعها في الماء
واستهلاكها فيه بحيث لا يبقى شئ من أجزائها ممتازا إذ مع الامتياز يعلم عدم نفوذ الماء في
ذلك الجزء الممتاز، وإذا حصل الاستهلاك على الوجه المذكور يخرج المائع عن الحقيقة
التي كان عليها كما تخرج عين النجاسة بشيوعها في الماء الكثير عن حكمها ومثل هذا
لا يسمى تطهيرا في الاصطلاح. انتهى. وهو جيد متين، والمراد بقوله في الدهن أنه
يبقى على الصلاحية للانتفاع يعني في الجملة لا أن المراد الانتفاع فيما يشترط فيه الطهارة
فإنه قد صرح بعدم قبوله التطهير وعدم قبوله إنما هو لما ذكره من بقاء تلك الأجزاء التي
يحصل بها الانتفاع وعدم دخول الماء فيها كما لا يخفى. والله العالم.
(المقام الرابع) الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في أن الأرض متى
تنجست بالبول ونحوه فإنه يحصل تطهيرها بالقاء الكثير عليها أو الجاري أو المطر أو
الشمس إذا جففت النجاسة على المشهور، وأما بالماء القليل فعلى تقدير القول بطهارة الغسالة
فلا اشكال أيضا وإنما محل الكلام والاشكال على تقدير القول بالنجاسة.
والشيخ مع قوله بنجاسة الغسالة قد صرح في الخلاف بالطهارة فقال فيه: إذا
378

بال على موضع من الأرض فتطهيره أن يصب الماء عليه حتى يكاثره ويغمزه ويقهره ويزيل
لونه وطعمه وريحه، فإذا زال حكمنا بطهارة المحل وطهارة الماء الوارد عليه ولا يحتاج إلى نقل
التراب ولا قلع المكان وبه قال الشافعي (1) وقال أبو حنيفة إن كانت الأرض رخوة
فصب عليها الماء فنزل الماء عن وجهها إلى باطنها طهرت الجلدة العليا دون السفلى التي وصل
الماء والبول إليها وإن كانت الأرض صلبة فصب الماء على المكان فجرى عليه إلى مكان آخر
طهر مكان البول لكن نجس المكان الذي انتهى الماء إليه فلا يطهر حتى يحفر التراب ويلقى
عن المكان (2) ثم إن الشيخ احتج لما صار إليه بأن في التكليف بما زاد على ذلك حرجا
منفيا بقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (3) وبالرواية العامية المشهورة
المتضمنة أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإهراق الذنوب من الماء على بول الأعرابي لما بال
في المسجد وقوله لهم بعد ذلك " علموا ويسروا ولا تعسروا " (4) وابن إدريس قد وافق
الشيخ في هذا المقام على جميع هذه الأحكام، وهو جيد على أصله من اختياره طهارة الغسالة.
والمحقق في المعتبر بعد أن أورد كلام الشيخ المذكور قال: وما ذكره الشيخ
مشكل لأن الرواية المذكورة عندنا ضعيفة الطريق ومنافية للأصل لأنا قد بينا أن الماء
المنفصل عن محل النجاسة نجس تغير أو لم يتغير لأنه ماء قليل لاقى نجاسة، ثم عارض
الرواية برواية عامية مثلها إلى أن قال: الوجه أن طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى
يستهلك النجاسة أو يزال التراب النجس على اليقين أو تطلع عليها الشمس حتى تجف بها
أو تغسل بما يغمرها ثم يجري إلى موضع آخر فيكون ما انتهى إليه نجسا. انتهى.
أقول: ينبغي حمل كلامه الأخير أعني قوله: " أو تغسل بما يغمرها ثم
يجري.. إلى آخره " على ما إذا كانت الأرض صلبة كما تقدم في كلام أبي حنيفة وإلا عاد

(1) كما في الأم ج 1 ص 80 وتابعه أبو إسحاق في المهذب ج 1 ص 49.
(2) كما في بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج 1 ص 89 والبحر الرائق ج 1 ص 226
(3) سورة الحج، الآية 78
(4) راجع التعليقة 1 ص 309 ج 1.
379

الاشكال لأنه مع كون الأرض رخوة تنفذ الغسالة فيها ولو بعضها، والقول باغتفاره
رجوع إلى مذهب الشيخ وهو قد رده إذ لا فرق بين البعض والجميع فاعتذار البعض
عنه بذلك لا يجدي في المقام نفعا. وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره في المعتبر من رد هذا
الخبر والبناء على مقتضى الأصول المقررة في إزالة النجاسات.
وقال الشهيد في الذكرى: تطهر الأرض بما لا ينفعل من الماء بالملاقاة، وفي
الذنوب قول لنفي الحرج ولأمر النبي (صلى الله عليه وآله) به في الحديث المقبول.
أقول: لا يخفى ما فيه فإنهم ما بين أن يردوا الأخبار الصحيحة المستفيضة في
الأصول بهذا الاصطلاح المتأخر وأن يعتمدوا في حكم مخالف للأصول على هذه الرواية
العامية، وليت شعري بأي وجه دخلت هذه الرواية في حيز القبول أمن جهة راويها
أبي هريرة الذي قد اعترف أبو حنيفة بكذبه ورد رواياته؟ ونقل بعضهم أنهم لا يقبلون
رواياته في معالم الحلال والحرام وإنما يقبلونها في مثل أخبار الجنة والنار ونحو ذلك (1)

(1) في نوادر الآثار للعلامة المقرم عن شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 360
طبعة مصر " كان أبو جعفر الإسكافي يقول: أبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي
الرواية ضربه عمر بالدرة، وروى سفيان الثوري عن إبراهيم التيمي أنهم لا يأخذون
عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر الجنة والنار. وكان أبو حنيفة يقول الصحابة عدول
إلا رجال: منهم أبو هريرة وأنس بن مالك " وفي مختلف الحديث للابن قتيبة ص 27 " قال
النظام كذب أبا هريرة عمر وعثمان وعلي وعائشة " وفي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي
الحنفي ج 8 ص 23 " قال أبو حنيفة: النصوص والأصول تأبى حديث أبي هريرة في
المصراة وأبو هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب أشياء " وفي
شرح السير الكبير للسرخسي ج 3 ص 73 طبعة حيدر آباد " استعمل عمر أبا هريرة على
البحرين فجاء بمال فقال يا عدو الله سرقت وأخذه منه " وفي تاريخ آداب العرب للرافعي
ج 1 ص 282 " كان عمر وعثمان وعلي وعائشة ينكرون على أبي هريرة أحاديثه ويتهمونه
وهو أول راوية اتهم في الاسلام ".
380

أم من حيث اعتضادها بالأصول الشرعية والقواعد المرعية؟ ما هذه إلا مجازفة محضة،
ولا أعرف لهذه المقبولية وجها إلا مجرد قول الشيخ بها في هذا الكتاب. وفيه ما لا يخفى
على ذوي الأفهام والألباب.
وبالجملة فإن الطهارة والنجاسة أحكام شرعية يتوقف ثبوتها على الدليل الشرعي
الواضح وثبوت النجاسة في موضع البحث مما لا خلاف فيه فالحكم برفعها وزوالها
يتوقف على الدليل الشرعي الواضح وأمثال هذه التخريجات لا تصلح لاثبات
الأحكام الشرعية.
وأما ما ذكره في المعالم حيث قال: وقد روى عبد الله بن سنان في الصحيح
عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت
المجوس؟ فقال رش وصل " وروى أبو بصير (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الصلاة في بيوت المجوس فقال رش وصل " وفي هذين الخبرين نوع اشعار
بالاكتفاء في زوال النجاسة عن الأرض بصب الماء عليها وإلا لم يكن للرش في المواضع
المذكورة فائدة كما لا يخفى أقول: فيه أنه من الجائز بل هو الظاهر أن الأمر بالرش
في هذا المقام وكذا في أمثاله من ملاقاة الكلب بيبوسة ونحوه من المواضع الآتية إنما
هو تعبد شرعي وجوبا أو استحبابا، ويمكن حمل ذلك على طهارة الغسالة كما هو أحد
الأقوال في المسألة وقد تقدم في محله، إذ من الظاهر أنه على تقدير القول بنجاسة
الغسالة إنما يحصل بالرش زيادة النجاسة وتضاعفها، وقد ورد الأمر بالرش في مشكوك
النجاسة من الثوب والبدن أيضا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في صحيحة عبد الرحمان بن
الحجاج وحسنة الحلبي (3) ولو لم يحمل النضح على أحد الأمرين الذين ذكرناهما للزم

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من مكان المصلي
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من مكان المصلي
(3) في المسألة الخامسة في الثوب والبدن الذي شك في نجاسته.
381

البتة ما ذكرناه من زيادة النجاسة وتضاعفها لا زوالها بالنضح. ولا يبعد أيضا أن الوجه
في الأمر بالنضح في هذه المواضع إنما هو زوال النفرة ولا تعلق له بنجاسة ولا طهارة
كما ورد في جملة من المواضع الظاهرة في ذلك أيضا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم قال في المعالم أيضا على أثر الكلام المتقدم: وكذا صحيح هشام بن سالم عن
الصادق (عليه السلام) (1) " في السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب؟
قال لا بأس به ما أصابه من الماء أكثر منه " ووجه الاشعار فيه تعليل نفي البأس بكون
الماء الذي أصاب المحل أكثر من البول فإنه ليس بالبعيد كون أداة التعريف في الماء
للعهد الذهني لا الخارجي فتأمل. انتهى.
أقول: لا يخفى أن صحة التطهير بالماء القليل بناء على المشهور من نجاسة الغسالة مشروطة
بأمرين (أحدهما) غلبة المطهر وكونه قاهرا للنجاسة وهذا مما لا خلاف فيه ولا اشكال
وإليه يشير جملة من الأخبار: منها هذا الخبر وخبر الاستنجاء المتقدم في باب الاستنجاء
نقله من العلل (2) حيث قال فيه: " إن الماء أكثر من القذر " و (ثانيهما) انفصال
الغسالة عن المحل بعصر ونحوه كما هو المشهور أو بغير ذلك، والجريان في المطر على
السطح كما اشتمل عليه الخبر أمر معلوم والسؤال لم يتعلق به وإنما تعلق بتقاطر المطر
على الثوب بعد إصابته السطح النجس، فأجاب (عليه السلام) بأن المطر قد طهر السطح
لتدافعه وتكاثره بالوقوع عليه لأنه في حكم الجاري كما تقدم بيانه في محله فلا بأس
حينئذ بما يتقاطر منه فاللام في الماء إنما هي للعهد الخارجي وهو ماء المطر لا الذهني
بمعنى أي ماء كان. تذنيب
قال في المعالم: الثوب المصبوغ بالمتنجس المائع يتوقف طهره قبل الجفاف على

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من الماء المطلق.
(2) ج 1 ص 468 وفي الوسائل في الباب 13 من الماء المستعمل.
382

استهلاك الماء للأجزاء المائعة من الصبغ وكذا القول في ليقة الحبر المتنجس، أما بعد
التجفيف فيمكن طهارة الثوب مع بقاء أجزاء الصبغ فيه وذلك إذا علم نفوذ الماء في جميع
تلك الأجزاء. وأما طهارة الليقة فموضع نظر من حيث إن الاجتماع الحاصل في أجزائها
موجب لعدم نفوذ الماء إلى الأجزاء الداخلة إلا بعد المرور على الخارجة والحال يشهد
غالبا بأن تكرر مرور الماء على أجزاء الحبر يقتضي تغيره وخروجه عن الاطلاق وحصول
الطهارة موقوف على نفوذ الماء باقيا على اطلاقه، ولو فرض تفريق أجزائها بحيث علم
النفوذ قبل التغير المخرج عن الاطلاق طهرت كالثوب، ولو اتفق في الثوب اجتماع
أجزائه على وجه يتوقف النفوذ إلى باطنها على تكرر المرور بأجزاء الصبغ فهو في معنى
الليقة المجتمعة. انتهى.
أقول: ينبغي أن يعلم أن صبغ الثوب إنما يقع بنقع الثوب في ماء الصبغ أو غليه
به مدة ليدخل الصبغ في أجزاء الثوب. وحينئذ فإذا كان ماء الصبغ نجسا وقد صبغ
الثوب فمتى أريد تطهيره قبل جفافه فالظاهر أنه لا يمكن ذلك إلا في الماء الكثير على
وجه يضمحل ماء الصبغ فيه، ولو أريد تطهيره بالقليل والحال كذلك فإنه لا ريب في
حصول الإضافة في ما يصل إلى باطن الثوب وخروجه عن الاطلاق بعين ما فرضه في الليقة
ونجاسته أيضا بملاقاة ماء الصبغ فلا يفيد الثوب تطهيرا. وبالجملة فالتطهير بالقليل في هذه
الصورة لا يخلو من الاشكال، وأما بعد الجفاف فإنه يذهب الماء النجس من الثوب ولا
يبقى إلا نجاسة الثوب خاصة. وحينئذ فإذا أريد تطهيره بالقليل فإن كان ما فيه من الصبغ
لا ينفصل عنه في الماء على وجه يغيره ويسلبه الاطلاق فلا اشكال في حصول الطهارة به
وإلا ففي الطهارة اشكال لعين ما تقدم، فإنه بأول ملاقاته للثوب يتغير به ولا يداخله
إلا متغيرا فلا يحصل التطهير به، وبذلك يظهر ما في قوله (قدس سره): " فيمكن طهارة
الثوب مع بقاء أجزاء الصبغ " وبالجملة فإن علم التغير في حال الغسل به فلا اشكال
في صحة ما ذكره وإلا فالاشكال ظاهر، ولعله يشير إلى ذلك قوله " ويمكن " فإن التعبير
383

بهذا اللفظ مشعر بنوع تردد وتوقف كما لا يخفى إذ لا وجه له إلا ما ذكرناه.
(المسألة الرابعة) مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم) لا نعلم فيه
مخالفا أنه يكفي صب الماء في بول الرضيع من غير غسل ونقل عليه الشيخ في الخلاف
اجماع الفرقة.
والمستند فيه بعد الاجماع الأصل السالم من المعارض وما رواه الشيخ في الحسن
على المشهور بإبراهيم بن هاشم الصحيح على الاصطلاح الغير الصحيح عندي وعند جملة
من المحققين عن الحلبي (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الصبي؟
قال تصب عليه الماء فإن كان قد أكل فاغسله غسلا، والغلام والجارية شرع سواء "
وأيد بعضهم هذه الرواية برواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (2)
" أن عليا (عليه السلام) قال: لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم
لأن لبنها يخرج من مثانة أمها، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا بوله قبل أن يطعم
لأن لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين " وفيه اشكال يعلم مما قدمنا من الكلام
في هذه الرواية، وفي الفقه الرضوي (3) " وإن كان بول الغلام الرضيع فصب عليه
الماء صبا وإن كان قد أكل الطعام فاغسله والغلام والجارية سواء ".
إلا أنه قد روى الشيخان الكليني والطوسي في الحسن عن الحسين بن أبي العلاء (4)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصبي يبول على الثوب؟ قال تصب عليه
الماء قليلا ثم تعصره " وروى الشيخ في الموثق عن سماعة (5) قال: " سألته عن بول الصبي
يصيب الثوب؟ فقال اغسله. قلت فإن لم أجد مكانه؟ قال اغسل الثوب كله " وظاهر
الخبرين المذكورين كما ترى المنافاة لما تقدم.
وقد أجاب الشيخ في الإستبصار عن الخبر الثاني بحمل الغسل على الصب أو على

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 3 من النجاسات.
(3) ص 6.
(4) رواه في الوسائل في الباب 3 من النجاسات.
(5) رواه في الوسائل في الباب 3 من النجاسات.
384

أن المراد بالصبي من أكل الطعام والثاني منهما لا بأس به في مقام الجمع، وأما الأول
فيحتاج إلى مزيد تكلف.
وأما حسنة الحسين بن أبي العلاء فردها في المدارك (أولا) بعدم توثيق الراوي
و (ثانيا) بالحمل على الاستحباب: و (ثالثا) بحمل العصر على ما يتوقف عليه اخراج
عين النجاسة من الثوب فإن ذلك واجب عند من يرى نجاسة هذا البول. أقول: والثالث
منها جيد في مقام الجمع فلا بأس به، وأما الأولان فقد تقدم الكلام عليهما مرارا،
وربما يؤيد الوجه المذكور بقوله في السؤال: " يبول على الثوب " فإنه يشعر بذلك، وأيضا
فإن الحمل على الغسل بقرينة العصر يدافعه قوله: " تصب عليه الماء قليلا " فإن ظاهره
عدم إرادة الغسل فلا بد من التأويل في جانب العصر بالحمل على ما ذكرناه من اخراج
عين النجاسة.
بقي الكلام هنا في مواضع: (الأول) أن ظاهر كلام الأكثر اختصاص
الحكم هنا بالصبي وأما بول الصبية فيجب فيه الغسل عندهم كالكبير، ونقل في المعالم
عن ظاهر كلام ابن بابويه في رسالته عدم الفرق بين الصبي والصبية حيث فرض الحكم
أولا في بول الصبي ثم قال والغلام والجارية فيه سواء. أقول: ونحوه ابنه في الفقيه حيث
قال: وإن كان بول الغلام الرضيع صب الماء صبا وإن كان قد أكل الطعام غسل،
والغلام والجارية في هذا سواء وهذا عين عبارة الفقه الرضوي التي قدمنا نقلها ومثلها
ما في رسالة أبيه، ومنه يعلم أن مستندهما في هذا الحكم إنما هو الكتاب المذكور وإن
كانت صحيحة الحلبي أو حسنته دالة عليه أيضا.
والعجب من الأصحاب مع اعتمادهم في أصل الحكم على الحسنة المذكورة كيف
عدلوا عما تضمنته من التسوية بين الغلام والجارية، فقال الشيخ في الإستبصار قوله:
" الغلام والجارية شرع سواء " معناه بعد أكل الطعام. ولا يخفى ما فيه وقال المحقق في
المعتبر بعد الإشارة إلى دلالة حسنة الحلبي على ما ذكره الشيخ علي بن بابويه: والأشبه
385

اختصاص التخفيف ببول الصبي والرواية محمولة على التسوية في التنجيس لا في حكم
الإزالة مصيرا إلى ما أفتى به أكثر الأصحاب. انتهى. وقال في المدارك بعد نقل ذلك
عنه: وهو بعيد جدا. أقول: وفيه مع بعده أنه قد خالف الأصحاب في غير موضع من
كتابه مع وجود الدليل على كلامهم بزعمه ضعفه والطعن فيه فكيف يوافقهم هنا فيما دل
الدليل على خلافه؟
وأما صاحب المعالم فإنه بعد أن أورد حسنة الحلبي قال: وهذه الرواية نص في
الحكم فليت اسنادها كان صحيحا، ثم قال ولعل انضمام عدم ظهور المخالف إليها يجبر
هذا الوهن مضافا إلى أن حسنها بواسطة إبراهيم بن هاشم وبعض الأصحاب يرى الاعتماد
على روايته لشهادة القرائن بحسن حاله، إلى أن قال بعد ذكر مذهب علي بن بابويه في
المساواة بين الصبي والجارية ما لفظه: ولا يخفى عليك أن عبارته المذكورة موجودة بمعناها
وأكثر ألفاظها في الخبر الذي هو العمدة في مستند الحكم فكان اللازم من التمسك به
عدم الفرق ولكن حيث إن التعلق بها مراعى بضميمة ما يظهر من الوفاق على الحكم
وهو مفقود في الصبية فلا جرم كان الاقتصار في الحكم على محل الوفاق هو الأنسب،
ثم نقل كلام المحقق والشيخ المتقدمين.
وأنت خبير بأن كلامه هذا جيد بناء على أصله من رد الأخبار الحسنة بل
الصحيحة التي ليست جارية على حسب اصطلاحه الذي هو بالضعف أولى وأحرى
حيث إنه قد زاد على الطنبور نغمة أخرى، وأما من يعمل بالأخبار الحسنة كما هو المشهور
بين أصحاب هذا الاصطلاح وغيرهم بل يعد حديث إبراهيم بن هاشم من بين أفراد
الحسن في الصحيح كما صرح به في الذخيرة والمدارك وغيرهما فإنه لا يحتاج في العمل بالخبر
المذكور إلى جبر باتفاق الأصحاب ولا غيره لأنه دليل صحيح شرعي صريح فلا معنى
لاحتياجه إلى جابر، وبذلك يظهر صحة التزامنا لكلام الأصحاب في المسألة بما قدمنا ذكره
وبالجملة فإن الخبر المذكور قد اشتمل على حكمين ولا معارض له فيهما في البين فالقول
386

بأحدهما دون الآخر تحكم كما لا يخفى. هذا مع قطع النظر عن اعتضاد الخبر المذكور
بكلامه (عليه السلام) في كتاب الفقه.
والعجب من صاحب الذخيرة هنا حيث جرى على ما جرى عليه صاحب المعالم
مع مباينته له في اصطلاحه وعده حسنة إبراهيم في الصحاح في شرحه المذكور في غير
موضع بل اعتماده على سائر الأخبار الضعيفة بالقرائن المؤيدة للصحة كما لا يخفى على
من مارس كتابه.
(الثاني) أن المفهوم من كلام جملة من متأخري الأصحاب: منهم شيخنا
الشهيد الثاني في الروض أن المراد بالرضيع من لم يغتذ بغير اللبن كثيرا بحيث يزيد على
اللبن أو يساويه ولم يتجاوز الحولين. وأنت خبير بأن لفظ الرضيع غير موجود في
رواياتهم وإنما هو موجود في عبارة كتاب الفقه ولهذا أنه في المدارك جعل الحكم معلقا
بالمولود الذي لم يأكل لا الرضيع. وكيف كان فظاهر الخبرين هو تعليق الحكم على
الأكل وعدمه والظاهر من الأكل كما ذكره في المنتهى هو ما استند إلى شهوته وإرادته
فإن أكل على الوجه المذكور كان الواجب الغسل في بوله وإلا فالصب، وأما كونه يزيد
على اللبن أو ينقص عنه أو يساويه فلا اشعار في شئ من الخبرين به.
وابن إدريس هنا قد علق الحكم ببلوغ الحولين فقال في سرائره: بول الصبي
الرضيع وحده من لم يبلغ سنتين نجس إذا أصاب الثوب يكفي أن يصب عليه الماء من غير
عصر له وقد طهر وبول الصبية لا بد من عصره مرتين مثل البالغين وإن كان للصبية
دون الحولين، فإذا تم للصبي حولان وجب عصر الثوب من بوله. ورده جملة من تأخر
عنه، وهو كذلك لعدم وجود دليل على ما ذكره إذ الأخبار الواردة في المسألة كما
عرفت لا تعرض في شئ منها لذلك وإنما الحكم وقع فيها معلقا على الأكل وعدمه.
قال المحقق في المعتبر: والمعتبر أن يطعم ما يكون غذاء ولا عبرة بما يلعق دواء
أو من الغذاء في الندرة ولا تصغ إلى من يعلق الحكم بالحولين فإنه مجازف بل لو استقل
387

بالغذاء قبل الحولين تعلق ببوله وجوب الغسل. انتهى.
وقال العلامة في المنتهى بعد تحقيق المسألة: وهذا التخفيف متعلق بمن لم يأكل،
وحده ابن إدريس بالحولين وليس شيئا إذ روايتا الحلبي والسكوني دلتا على الأكل والطعم
سواء بلغ الحولين أو لم يبلغ ولا أعلم علته في ذلك بل الأقرب تعلق الحكم بطعمه
مستندا إلى إرادته وشهوته وإلا لتعلق الغسل بساعة الولادة إذ يستحب تحنيكه
بالتمر. انتهى. وهو جيد.
وأنت خبير بما في كلام المحقق والعلامة هنا من المنافاة لما قدمنا نقله عن الجماعة
المشار إليهم حيث إن كلامهما ظاهر في أن الضابط هو صدق الاغتذاء لا على سبيل
الندرة وهذا هو الأوفق بأخبار المسألة ولم يعتبرا زيادة الأكل على اللبن ومساواته له كما
وقع في كلامهم. وأما قوله في المعتبر في آخر كلامه: " بل لو استقل بالغذاء.. الخ "
فلا ينافي ما في صدر كلامه من أن الغسل يترتب على أن يطعم ما يكون غذاء وإن لم
يستقل به، لأن كلامه الأخير إنما وقع مبالغة في توجيه المجازفة التي عزاها إلى ابن
إدريس بمعنى أن اطلاق ابن إدريس تعلق الحكم بالحولين يتناول صورة الاستقلال بالغذاء
وترك الرضاع رأسا قبل مضيهما مع أن تسميته في تلك الحال رضيعا مجازفة واضحة.
وبالجملة فإن كلام هذين الفاضلين هو المرتبط بالدليل دون ما ذكره الجماعة.
(الثالث) أن لفظ الخبر المذكور قد ورد بالصب وجملة من الأصحاب قد
فرقوا بينه وبين الغسل في الثوب ونحوه بأخذ العصر في حقيقة الغسل دون الصب،
والذي قدمنا تحقيقه أن الفرق بينهما إنما هو باعتبار الانفصال والتقاطر وعدمه، والصب
بهذا المعنى مرادف للرش والنضح الوارد في الأخبار في جملة من المواضع كما سيأتي
بيانه إن شاء الله تعالى، وربما ظهر من العلامة في التذكرة في هذه المسألة مغايرة الرش
للصب، ومما يدل على ترادف النضح والصب الأخبار الواردة في ملاقاة الكلب مع
388

اليبوسة، فإن أكثر الأخبار قد عبر فيها بالنضح وصحيحة أبي العباس (1) قد
تضمنت الصب.
قال في المدارك في هذه المسألة: ويعتبر في الصب الاستيعاب لما أصابه البول
لا الانفصال على ما قطع به الأصحاب ودل عليه اطلاق النص إلا أن يتوقف عليه زوال
عين النجاسة، مع احتمال الاكتفاء به مطلقا لاطلاق النص، وحكى العلامة في التذكرة قولا
بالاكتفاء فيه بالرش قال فيجب فيه التعميم ولا يكفي إصابة الرش بعض موارد النجاسة
وبه قطع في النهاية إلا أنه اعتبر في حقيقة الرش الاستيعاب وجعله أخص من النضح
وفرق بينه وبين الغسل باعتبار السيلان والتقاطر في الغسل دون الرش وهو بعيد لنص
أهل اللغة على أن للنضح والرش بمعنى وصدقهما لغة وعرفا بدون الاستيعاب. انتهى.
أقول: ما يظهر منه من أن الصب لا بد فيه من الاستيعاب وأن النضح والرش
يصدقان عرفا بدون الاستيعاب لا يخفى ما فيه بل الظاهر هو ترادف الثلاثة على معنى
واحد من الاستيعاب بدون الانفصال والتقاطر فإنه يكون بذلك غسلا، ويدل على
ما ذكرناه ما أشرنا إليه من أخبار ملاقاة الكلب باليبوسة وورود الأخبار بالنضح
تارة وبالصب أخرى.
بقي الكلام في أن المفهوم من كلام أهل اللغة هو ترادف الرش والنضح حيث
قال في الصحاح: النضح الرش وقال في القاموس نضح البيت رشه وأما الصب لغة
فهو بمعنى الإراقة والسكب وهو بعيد من معنى الرش والنضح قال الله تعالى: " إنا صببنا
الماء صبا " (2) أي سكبناه سكبا إشارة إلى ماء المطر، ويقال دم صبيب أي كثير، وحينئذ
فالحكم بالمرادفة له مع الفردين المذكورين لا يخلو من اشكال إلا أن يستعان بالأخبار
الواردة في الكلب والتعبير في بعضها بالصب وفي آخر بالنضح، ويؤيدها خبر بول

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الأسئار
(2) سورة عبس، الآية 25.
389

الصبي المعلوم منه مغايرة الصب للغسل، فيكون الحكم بالمرادفة من حيث الشرع
لا من جهة اللغة.
وأما ما ذكره في النهاية مما يؤذن بالفرق بين النضح والرش حيث قال: مراتب
ايراد الماء ثلاثة النضح المجرد ومع الغلبة ومع الجريان، قال ولا حاجة في الرش إلى
الدرجة الثالثة قطعا وهل يحتاج إلى الثانية؟ الأقرب ذلك ثم قال ويفترق الرش والغسل
بالسيلان والتقاطر ففيه ما ذكره في المعالم حيث قال ونعم ما قال في جعل الرش مغايرا
للنضح أن المستفاد من كلام أهل اللغة ترادفهما والعرف إن لم يوافقهم فليس بمخالف
لهم ولا نعلم الفرق الذي استقربه من أين أخذه؟ مع أنه في غير النهاية كثيرا ما يستدل
على الرش بما ورد بلفظ النضح وبالعكس، والظاهر من كلامهم وكلامه في غيره ترادف
الصب والرش والنضح. انتهى. وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك من الفرق
بين الصب وبين الفردين الآخرين.
ثم لا يخفى أن الظاهر أن المراد بقوله في النهاية النضح المجرد ومع الغلبة إنما هو
غلبة الماء المنضوح به زيادة على البلل اليسير الذي يحصل به النضح عنده لا باعتبار استيعاب
المحل وعدمه كما ذكره في المدارك وفسر به كلامه في النهاية ليتم له الاعتضاد به في ما
ذهب إليه من الفرق.
(المسألة الخامسة) قد تفرد الصدوق فيما أعلم بعدم وجوب الغسل في
ملاقاة كلب الصيد برطوبة واكتفى فيها بالرش ونفاه مع اليبوسة، فقال في الفقيه: ومن
أصاب ثوبه كلب جاف ولم يكن بكلب صيد فعليه أن يرشه بالماء وإن كان رطبا فعليه
أن يغسله وإن كان كلب صيد وكان جافا فليس عليه شئ وإن كان رطبا فعليه أن
يرشه بالماء. ولم أقف له على موافق ولا على دليل بل الأخبار وكلام الأصحاب متفقة
على وجوب الغسل بملاقاة الكلب برطوبة والرش مع اليبوسة من غير فرق بين كلب
الصيد وغيره وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في الفصل الثامن والتاسع في نجاسة
390

الكلب والخنزير وهي حجة عليه فيما صار إليه هنا في كل من الغسل والرش.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ههنا جملة من المواضع قد وردت الأخبار بالأمر بالنضح
فيها وجملة منها قد وقع الخلاف فيه بكونه على جهة الوجوب أو الاستحباب.
(فمنها) مس الكلب جافا فإن الأخبار المشار إليها آنفا قد دلت على الأمر
بالنضح وقد اختلف الأصحاب في كونه على جهة الوجوب أو الاستحباب، والمشهور
الثاني، وظاهر الشيخ في المبسوط الحكم بالاستحباب في جميع النجاسات إذا لاقاها
بيبوسة حيث قال: كل نجاسة أصابت الثوب وكانت يابسة لا يجب غسلها وإنما يستحب
نضح الثوب. وفي استفادة هذا العموم من الأخبار نظر كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى
ونقل عن ابن حمزة القول بالوجوب هنا استنادا إلى الأوامر الواردة به فإنها حقيقة
في الوجوب. ورده العلامة في المختلف بأن النجاسة لا تتعدى مع اليبوسة اجماعا وإلا
لوجب غسل المحل فيتعين حمل الأمر على الاستحباب. وفيه (أولا) أن الحمل على
الوجوب لا ينحصر بالنجاسة لجواز كونه تعبدا شرعيا. و (ثانيا) أن ما ذكره من أن
تعدي النجاسة موجب للغسل ليس كليا ليتم ما ذكره بل هو أكثري وكيف لا وقد
اكتفى في بول الرضيع كما تقدم مع الاتفاق على نجاسته بالرش فلا مجال هنا للاستبعاد.
هذا. والظاهر من كلام جملة من الأصحاب هنا أيضا هو الوجوب مثل عبارة
الصدوق المتقدمة وقوله " فعليه أن يرشه بالماء " في الموضعين منها، وقال الشيخ في
النهاية: إذا أصاب ثوب الانسان كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة
وكان يابسا وجب أن يرش الموضع بعينه فإن لم يتعين رش الثوب كله. وقال المفيد
في المقنعة: وإذا مس ثوب الانسان كلب أو خنزير وكانا يابسين فليرش موضع
مسهما منه بالماء وكذا الحكم في الفأرة والوزغة. ونقل عن سلار أنه صرح في رسالته
بوجوب الرش من مماسة الكلب والخنزير والفأرة والوزغة وجسد الكافر باليبوسة.
والقول بالوجوب تعبدا لا يخلو من قوة لاتفاق الأخبار عليه من غير معارض
391

واتفاق كلمة هؤلاء الفضلاء الذين هم أساطين المذهب ويرجحه اعتضاده بالاحتياط،
وأكثر الأصحاب إنما عبروا هنا بالرش والموجود في الأخبار كما أشرنا إليه آنفا التعبير
بالنضح في بعض والصب في آخر وكأنه بناء منهم على فهم ترادف الألفاظ الثلاثة،
وقد عرفت في آخر المسألة المتقدمة ما في كلام النهاية وصاحب المدارك من المخالفة
في ذلك وبينا ما فيه.
و (منها) ملاقاة الخنزير جافا والمشهور هنا أيضا بين المتأخرين الاستحباب
وقد تقدم نقل القول بالوجوب عن الجماعة المتقدم ذكرهم، ويدل على الحكم هنا صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الرجل يصيب
ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال إن كان دخل في صلاته
فليمض وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا أن يكون فيه أثر
فيغسله " والرواية المذكورة قد اشتملت على النضح وقد تقدم الكلام في مرادفته
للرش وعدمها وإن الأظهر المرادفة، واحتمال الوجوب أو الاستحباب هنا في الأمر
جار على ما تقدم إلا أن الظاهر هنا أن الأمر على تقدير الوجوب لا يكون مستندا إلى
النجاسة وإنما هو تعبد كما ذكرنا آنفا، وذلك لأنه قد أمره بالمضي في الصلاة إذا كان
دخل فيها وهذا لا يجامع النجاسة، ولا ينافي ذلك الأمر بالغسل إذا كان فيه أثر لأن
سياق الرواية إنما هو الإصابة بقول مطلق ولم يعلم كونها برطوبة أو عدمها وقد دخل في
الصلاة والحال كذلك. فأمر (عليه السلام) بالمضي في الصلاة استصحابا لأصالة
الطهارة، لأن الإصابة بيبوسة غير موجبة للتنجيس والرطوبة غير معلومة فيتم البناء على
أصالة الطهارة ويتم الأمر بالمضي فيها وإن كان ذلك قبل دخوله في الصلاة فلينضحه إلا
أن يكون فيه أثر فيغسله، وظاهر الخبر الدلالة على عدم وجوب الفحص بعد دخوله في
الصلاة وأنه يكفي البناء على أصالة الطهارة عند الشك كما يدل عليه صحيح زرارة الطويل

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من النجاسات.
392

الوارد في المني (1) وقد تقدم وروى الشيخ في الصحيح عن موسى بن القاسم عن علي
ابن محمد (2) وهو مشترك قال: " سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جاف هل تصلح
الصلاة فيه قبل أن يغسله؟ قال نعم ينضحه بالماء ثم يصلي فيه.. " وفي قرب الإسناد (3)
عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: " سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو
جاف أتصلح الصلاة فيه قبل أن يغسل؟ قال نعم ينضحه بالماء ثم يصلي فيه ".
و (منها) بول الرضيع وقد تقدم الكلام فيه مستوفى.
و (منها) الفأرة ففي صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (4)
قال: " سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي على الثياب أيصلي فيها؟ قال
اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء " ومورد الخبر كما ترى هو نضح ما لا
يرى من أثر الفأرة الرطبة في الثوب وأما ما يرى منه فحكم فيه بالغسل وجوبا أو استحبابا
كما تقدم من الخلاف في الفأرة نجاسة وطهارة، وحينئذ فما وقع في عبارة جملة من الأصحاب
(رضوان الله عليهم) من اطلاق القول بالنضح في الفأرة الرطبة ليس بجيد، والمشهور
بين الأصحاب حمل النضح في الخبر المذكور على الاستحباب وقد تقدم كلام الأصحاب
الظاهر في الوجوب، وأنت خبير بأن الكلام في ذلك يتفرع على الخلاف في طهارة
الفأرة ونجاستها فإن حكمنا بطهارتها كما هو الأشهر الأظهر تعين الحكم بحمل النضح على
الاستحباب وإن حكمنا بالنجاسة كما هو أحد القولين في المسألة جرى الكلام فيها كما في
الكلب والخنزير من احتمال الوجوب تعبدا.
و (منها) ثوب المجوسي ففي صحيحة الحلبي (5) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال يرش بالماء " وينبغي حملها على عدم

(1) ص 256
(2) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب النجاسات
(3) ص 89
(4) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب النجاسات
(5) المروية في الوسائل في الباب 73 من أبواب النجاسات.
393

معلومية ملاقاة المجوسي له برطوبة وإلا لكان نجسا يجب غسله، وبذلك يعلم أن اطلاق
القول بالنضح في ثوب المجوسي ليس بجيد، ويجب حمل الأمر في الخبر بالنضح بناء على
ما ذكرنا على الاستحباب لصحيحة معاوية بن عمار عنه (عليه السلام) (1) " في الثياب
السابرية يعملها المجوس.. ألبسها ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال نعم.. الحديث " وقد
تقدمت في التنبيه الثاني من التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية من المقصد الثاني في الأحكام،
ولم أقف على من ذهب إلى الوجوب في هذا المقام.
و (منها) الثوب والبدن الذي حصل الشك في نجاسته، ففي صحيحة عبد الرحمان
ابن الحجاج (2) قال: " سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يبول بالليل
فيحسب أن البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزيه أن يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟
قال يغسل ما استبان أنه أصابه وينضح ما يشك فيه من جسده وثيابه ويتنشف
قبل أن يتوضأ ".
وفي حسنة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " إذا احتلم الرجل
فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه
فلينضحه بالماء.. ".
وفي حسنة عبد الله بن سنان (4) في ثوب أصابه جنابة أو دم وفيها " وإن كان
يرى أنه أصابه شئ فنظر فلم ير شيئا أجزأه أن ينضحه بالماء ".
وفي حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) قال: " سألته عن

(1) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 37 من النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات
(4) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات
(5) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.
394

أبوال الدواب والبغال والحمير؟ فقال اغسله فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله فإن
شككت فانضحه ".
ومن هذا الباب رواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة في تطهير الفرش ونحوها
من الحشايا (1) حيث قال: " اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر فإن أصبت
مس شئ منه فاغسله وإلا فانضحه بالماء "
ومورد هذه الأخبار وإن كان نجاسات مخصوصة لكن ظاهر الأصحاب العموم
قال الشيخ في النهاية: ومتى حصل في الثوب شئ من النجاسات التي يجب إزالتها وجب
غسل الموضع، إلى أن قال وإن كان حصولها مشكوكا فيه فإنه يستحب أن يرش الثوب.
وقال المفيد في المقنعة: وإذا ظن الانسان أنه قد أصاب ثوبه نجاسة ولم يتيقن ذلك رشه بالماء.
وصريح عبارة النهاية الحكم باستحباب الرش وبذلك صرح العلامة في المنتهى والنهاية
لكنه عبر عن الحكم بالنضح كما هو مورد الأخبار المتقدمة وقد عرفت الترادف فيهما
فلا مشاحة حينئذ في التعبير خلافا لنهاية العلامة كما تقدم ذكره، وظاهر عبارة المفيد
المذكورة احتمال كل من الاستحباب والوجوب لاطلاقها، ونقل عن سلار أنه أوجب
الرش إذا حصل الظن بنجاسة الثوب ولم يستيقن، والمفهوم من الأخبار النضح في الثوب
والبدن في مقام الشك أو الظن كما عرفت، وحينئذ فما ذكره من ايجاب الرش مع الظن
إن استند فيه إلى ظاهر لفظ الأمر ففيه أن مثل ذلك أيضا قد ورد في مقام الشك كما
في صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج المذكورة وحسنة محمد بن مسلم فلا وجه لتخصيصه
بصورة الظن وإن استند إلى دليل آخر فلم نقف عليه، والظاهر أن الأصحاب إنما حكموا
هنا بالاستحباب لمعارضة أصالة الطهارة، وفيه ما أشرنا إليه آنفا من احتمال كونه وجوبا
وإن وجهه التعبد بذلك لا النجاسة.
و (منها) وقوع الثوب على الكلب الميت يابسا لما رواه علي بن جعفر عن

(1) المروية في الوسائل في الباب 5 من أبواب النجاسات.
395

أخيه موسى (عليه السلام) (1) في الصحيح قال " " سألته عن رجل وقع ثوبه على كلب
ميت؟ قال ينضحه بالماء ويصلي فيه ولا بأس ".
و (منها) المذي لصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (2)
قال: " سألته عن المذي يصيب الثوب؟ قال ينضحه بالماء إن شاء.. " وهي صريحة
في الاستحباب.
و (منها) بول البعير والشاة لرواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصيبه أبوال البهائم أيغسله أم لا؟
قال يغسل بول الفرس والبغل والحمار وينضح بول البعير والشاة.. " ولم أقف في هذا الموضع
على مصرح بوجوب النضح.
و (منها) عرق الجنب في الثوب لرواية أبي بصير (4) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتى يبتل القميص؟
فقال لا بأس وإن أحب أن يرشه بالماء فليفعل " ورواية علي بن أبي حمزة (5) قال:
" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟
قال لا أرى به بأسا. قال إنه يعرق حتى أنه لو شاء أن يعصره عصره؟ قال فقطب
أبو عبد الله (عليه السلام). في وجه الرجل فقال إن أبيتم فشئ من ماء فانضحه به " والرواية
الأولى ظاهرة بل صريحة في الاستحباب والثانية مشعرة بعدم الاستحباب، والذي يلوح
منها الإباحة ونفى البأس بالكلية والأمر بالنضح إنما وقع مماشاة للسائل حيث فهم (عليه

(1) رواه في الوسائل في الباب 26 من النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات
(4) المروية في الوسائل في الباب 27 من النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 27 من النجاسات.
396

السلام) منه الامتناع عن ذلك والميل إلى التنزه عن العرق المذكور كما ينادي به تقطيب
وجهه وقوله " إن أبيتم ".
و (منها) ذو الجرح في مقعدته بجد الصفرة بعد الاستنجاء لصحيحة
البزنطي (1) قال: " سأل الرضا (عليه السلام) رجل وأنا حاضر فقال إن بي جرحا
في مقعدتي فأتوضأ واستنجى ثم أجد بعد ذلك الندى والصفرة من المقعدة أفأعيد
الوضوء؟ فقال وقد انقيت؟ فقال نعم. قال لا ولكن رشه بالماء ولا تعد الوضوء "
وهذا الموضع قل من ذكره من الأصحاب والظاهر من كلام من ذكره هو استحباب
الرش كما هو مورد الخبر وقد تقدم نحوه في ثوب المجوسي وعرق الجنب وبه يتضح
ما ذكره الأصحاب من الترادف مع النضح.
و (منها) ما ورد في رواية عبد الرحيم القصير (2) قال: " كتبت إلى أبي الحسن
الأول (عليه السلام) أسأله عن خصي يبول فيلقى من ذلك شدة ويرى البلل بعد البلل؟
فقال يتوضأ وينضح ثوبه في النهار مرة واحدة " ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا عنه
(عليه السلام) (3) وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه الرواية في فروع المسألة السادسة من
البحث الثاني فيما يجب ازالته من النجاسات وما يعفى عنه (4).
أقول: وسيأتي جملة من المواضع إن شاء الله تعالى في أمكنة الصلاة قد امر فيها
بالنضح والرش نذكرها في محالها.
تذنيب
قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) مسح اليد بالتراب
من ملاقاة بعض النجاسات باليبوسة، قال الشيخ في النهاية وان مس الانسان بيده كلبا
أو خنزيرا أو ثعلبا أو ارنبا أو فأرة أو وزغة أو صافح ذميا أو ناصبا معلنا بعداوة

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من نواقض الوضوء (4) ص 355.
(2) المروية في الوسائل في الباب 13 من نواقض الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب 13 من نواقض الوضوء.
397

آل محمد (صلى الله عليه وآله) وجب غسل يده إن كان رطبا وإن كان يابسا مسحه
بالتراب. وقال المفيد: ان مس جسد الانسان كلب أو خنزير أو فأرة أو وزغة وكان
يابسا مسحه بالتراب، ثم قال وإذا صافح الكافر ولم يكن في يده رطوبة مسحها ببعض
الحيطان أو التراب. وحكى العلامة في المختلف عن ابن حمزة ايجاب مسح البدن بالتراب
إذا اصابه الكلب أو الخنزير أو الكافر بغير رطوبة. وحكى المحقق في المعتبر عن الشيخ
في المبسوط أنه قال كل نجاسة أصابت البدن وكانت يابسة لا يجب غسلها وإنما يستحب
مسح اليد بالتراب. وقد ذكر جمع من الأصحاب انهم لم يعرفوا للمسح المذكور وجوبا
أو استحبابا وجها ولا دليلا. وقد ذكر العلامة في المنتهى استحبابه أيضا من ملاقاة
البدن للكلب أو الخنزير باليبوسة بعد حكمه بوجوب الغسل مع كون الملاقاة برطوبة، ثم
ذكر الدليل على ايجاب الغسل وقال بعد ذلك اما مسح الجسد فشئ ذكره بعض
الأصحاب ولم يثبت.
(المسألة السادسة) قال في المدارك اعتبر المرتضى (رضي الله عنه) على
ما نقل عنه في إزالة النجاسة بالقليل ورود الماء على النجاسة فلو عكس نجس الماء ولم يفد
المحل طهارة، وبه قطع العلامة في جملة من كتبه. انتهى. أقول: قال في المنتهى إذا
أراد غسل الثوب بالماء القليل ينبغي ان يورد الماء عليه، ولو صبه في الاناء ثم غمسه فيه
لم يطهر، قاله السيد وهو جيد، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء عليها.
وبذلك صرح أيضا الشهيد في الدروس فقال ويشترط الورود حيث يمكن. ونحوه في
البيان فقال ويشترط ورود الماء على النجاسة فلو عكس نجس الماء القليل ولم يطهره إلا
في نحو الاناء فإنه يكفي الملاقاة ثم الانفصال. وقال في الذكرى الظاهر اشتراط ورود الماء
على النجاسة لقوته إذ الوارد عامل. وللنهي عن إدخال اليد في الاناء، فلو عكس
نجس الماء ولم يطهر، وهذا ممكن في غير الأواني وشبهها مما لا يمكن فيه الورود إلا أن
يكتفى بأول وروده، ثم قال مع أن عدم اعتباره مطلقا متوجه لان امتزاج الماء بالنجاسة
398

حاصل على كل تقدير والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة. انتهى. وأنت خبير
بأن هذا القول من المرتضى بناء على مذهبه في نجاسة الماء القليل كما تقدم في أبواب
المياه من الفرق بين ورود النجاسة على الماء وعكسه وانه إنما يكون نجسا في الأول دون
الثاني جيد لأن الماء عنده في حال وروده على النجاسة باق على الطهارة فيحصل التطهير
به قطعا، واما على مذهب الجماعة من نجاسة القليل بالملاقاة مطلقا فمشكل إذ الملاقاة حاصلة
على كل من الحالين، واليه أشار في الذكرى في آخر كلامه بقوله مع أن عدم اعتباره
مطلقا متوجه.. إلى آخره، وبه يشكل الحكم بالطهارة بالماء القليل لأنه متى ثبت
القول بنجاسة الماء القليل مطلقا وثبت القول بالتطهير بالماء القليل فاللازم من ذلك
حصول الطهارة بالماء النجس، ولا يخرج عن ذلك إلا بأحد وجوه ثلاثة ذهب إلى كل
منها ذاهب: (أحدها) القول بطهارة الغسالة واستثناؤها من نجاسة الماء القليل بالملاقاة
و (ثانيها) تخصيص النجاسة بالانفصال عن المحل المغسول. و (ثالثها) ان النجاسة
المانعة من التطهير هي ما ثبتت قبل التطهير لا ما كانت حال التطهير إذ لا مانع من التطهير
بما حصلت نجاسته بذلك التطهير. وتحقيق هذه الأقوال وما يتعلق بها من الأبحاث في
هذا المجال قد تقدم منقحا في المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد من
الباب الأول وفي مسألة الغسالة من ختام الباب المذكور.
ثم لا يخفى ان ممن نقل عنه أيضا القول باشتراط الورود في التطهير الشيخ
والمحقق حيث قال في الخلاف: إذا ولغ الكلب في إناء ثم وقع في ماء قليل تنجس ولم
يجز استعماله ولا يعتد بذلك في غسل الإناء. وقال في المعتبر: لو وقع اناء الولوغ في ماء
قليل نجس الماء ولم يتحصل من الغسلات شئ. أقول: يمكن أن يكون عدم الاعتداد
بهذه الغسلة إنما هو من حيث تقدمها على التعفير لما سيأتي إن شاء الله تعالى في المسألة
من أن الواجب أولا التعفير ثم الغسل فلو تقدم الغسل لم يحسب من ذلك لا من حيث
ورود النجاسة على الماء.
399

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما ذكروه من اعتبار الورود لا يتم لهم في الأواني
ونحوها ولهذا استثناها في الذكرى وتأول الورود فيها بالحمل على أول الورود، وقال
بعض الأصحاب بعد أن حكى كلام الذكرى وقوله فيها بالاكتفاء في الأواني وشبهها
بأول وروده: الحق أنه لا يراد بالورود أكثر من هذا وإلا لم يتحقق الورود في شئ
مما يحتاج فصل الغسالة عنه إلى معونة شئ آخر.
قال في المعالم: والذي ينبغي تحصيله في هذا المقام أن مبنى اعتبار الورود على أن
انتفاءه يقتضي نجاسة الماء ومن المستبعد صلاحية ما حكم بنجاسته لرفع حكم النجاسة عن
غيره، ومن أمعن نظره في دليل انفعال القليل بالملاقاة رأى أنه مختص بما إذا وردت
النجاسة على الماء، فيجب حينئذ أن يكون المعتبر هنا هو عدم ورود النجاسة على الماء
لا ورود الماء على النجاسة إذ بين الأمرين فرق واضح، وإذا ثبت أن المعتبر ما ذكرناه
لم يحتج إلى استثناء نحو الأواني ولا لتكلف حمل الورود على ما يقع أولا فإن ورود
النجاسة في جميع ذلك منتف والمحذور إنما يأتي من جهته. انتهى.
أقول: مبني هذا الاشكال وهذه التكلفات كلها في دفعه إنما نشأ مما قدمنا
ذكره من لزوم نجاسة الماء مع الورود كما ذكره ونحن قد حققنا سابقا في الموضع المشار
إليه آنفا أنه لا مانع من النجاسة الحاصلة آن التطهير بذلك الماء وإنما قام الدليل على منع
التطهير بما تنجس سابقا قبل التطهير، وبذلك اعترف أيضا صاحب المعالم في هذا المقام
بعد هذا الكلام فقال بعد أن ذكر بأنه على رأي القائلين بنجاسة الماء القليل تعويلا
على أن الماء القليل ينفعل بملاقاة النجاسة بأي وجه فرض وأن اعتبار ذلك مشكل إذ
نجاسة الماء حاصلة على كل حال ومسمى الغسل المأمور به يصدق وإن كان الوارد هو
النجاسة ما هذا لفظه: والفرق بينه وبين استعمال ما حكم بنجاسته بغير هذا الوجه من
مقتضيات التنجيس قيام الدليل على عدم صلاحية ذك للاستعمال وانتفاؤه في هذا، فإن
دليل نجاسته إنما يقتضي المنع من استعماله في مغسول آخر وأما نفس المغسول الأول الذي
400

منه نشأ الحكم بالتنجيس فليس في الدليل ما يقتضي المنع من استعماله فيه بالنظر إلى إزالة
ذلك الحكم عنه. انتهى. وأما عدوله بعد ذلك عن هذا الكلام إلى ما نقله عن العلامة
من تخصيصه حصول النجاسة بما بعد الانفصال وما تكلفه من استثناء ذلك للضرورة
فيحتاج إلى بيان القدح فيه وبيان ابطاله بدليل شاف وإلا فلا وجه للعدول عنه إلى
ما ذكره لظهور صحته واستقامته كما حققناه فيما تقدم. والله العالم.
(المسألة السابعة) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في أنه إذا علم موضع النجاسة في ثوب ونحوه غسل ذلك الموضع خاصة وإن اشتبه غسل
ما وقع فيه الاشتباه من الثوب كله أو بعض نواحيه وبالجملة كل موضع يحتمل كون النجاسة
فيه. قال في المعتبر إنه مذهب علمائنا وفي المنتهى أنه مذهب علمائنا أجمع وإنما خالف
فيه جماعة من العامة. وإذا حصل الاشتباه في ثوبين بحيث لا يدري أيهما النجس وجب
تطهيرهما معا ولو تعذر صلى الصلاة الواحدة فيهما مرتين.
والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين: (الأول) فيما إذا حصل الاشتباه في
الثوب الواحد، ويدل على الحكم المذكور عدة روايات:
منها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال في المني يصيب
الثوب: " إن عرفت مكانه فاغسله فإن خفي عليك مكانه فاغسله كله ".
وصحيحة زرارة الطويلة (2) وفيها قال: " قلت فإني قد علمت أنه أصابه ولم
أدر أين هو فاغسله؟ قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون
على يقين من طهارتك ".
واعترض هذا الخبر العلامة في المنتهى بأن زرارة لم يسنده إلى الإمام (عليه
السلام) فلا حجة فيه. وفيه أن الشيخ وإن رواه في الصحيح كما ذكره إلا أن الصدوق قد

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات.
(2) التهذيب ج 1 ص 119 وفي الوسائل في الباب 37 و 41 و 42 و 44 من النجاسات.
401

رواه في العلل (1) في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) على أنه من الظاهر
البين الظهور أن مثل زرارة لا يعتمد في أحكام دينه على غير إمام سيما مع ما اشتمل عليه
الخبر من الأسئلة العديدة والمراجعة مرة بعد أخرى فإن صدور مثل هذا من غير الإمام
لا يقبله الفهم السليم.
ومنها حسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (عليه السلام) (2) قال:
" إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم
يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وإن استيقن أنه قد أصابه مني ولم ير مكانه فليغسل
الثوب كله فإنه أحسن ".
وفي الحسن أو الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) (3) قال:
" سألته عن أبوال البغال والدواب والحمير فقال اغسله فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله "
وعن سماعة (4) قال: " سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال اغسل الثوب كله
إن خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا ".
قال في المدارك بعد أن نقل عن المحقق في المعتبر أنه استدل على هذا الحكم
بأن النجاسة موجودة على اليقين ولا يحصل اليقين بزوالها إلا بغسل جميع ما وقع فيه
الاشتباه ما هذا لفظه: ويشكل بأن يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه
الاشتباه يساوي قدر النجاسة وإن لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه. انتهى.
أقول: ما ذكره من الاشكال هنا مبني على ما قدمنا نقله عنه في مسألة الإناءين
من حكمه بالطهارة في أحدهما، وقد أوضحنا ثمة بطلانه وبطلان ما توهمه من الاشكال وأنه
مجرد وهم نشأ من عدم التأمل في أدلة المسألة وتتبعها من جملة مواردها، وبالجملة فإنه لو
كان ما ادعاه حقا بناء على قاعدته التي بنى عليها في أمثال هذا المقام والأخبار التي توهم

(1) ص 127
(2) المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 9 من النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات
402

دلالتها على ما صار إليه لكان الحكم في هذا الموضع ما ذكره من الاكتفاء بغسل جزء
مما يظن فيه الاشتباه لأنه أحد جزئيات المسألة مع أن الأخبار كما ترى متفقة على وجوب
غسل الجميع وأنه لا يطهر إلا بذلك وهو أظهر ظاهر في بطلان ما بنى عليه، ومثل هذا
الموضع غيره من المواضع التي نبهنا عليها ثمة في دلالة أخبارها على خلاف ما بنى عليه مع
موافقته على العمل بما دلت عليه كما اعترف به هنا.
ثم قال أيضا (قدس سره) في المقام المذكور بعد ايراد أخبار المسألة: ولا يخفى
أن الحكم بوجوب غسل الجميع لتوقف الواجب عليه أو للنص لا يقتضي الحكم بنجاسة
كل جزء من أجزائه فلو لاقى بعض المحل المشتبه جسم طاهر برطوبة فالأظهر بقاؤه على الطهارة
استصحابا للحكم قبل الملاقاة إلى أن يحصل اليقين بملاقاته للنجاسة، وفي خبر زرارة
المتقدم (1) " ليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك أبدا " انتهى.
أقول: قد حققنا سابقا في مسألة الإناءين أن المستفاد من أخبار المسألة هو
اعطاء المشتبه بالنجس في المحصور حكم النجس والمشتبه بالحرام كذلك حكم الحرام
واحد لم يقل بنجاسة المشتبه ويجزم بالحكم عليه بالنجاسة وإنما يدعى أنه في حكم النجس
في اجراء أحكامه، ولا ريب أنه هو المستفاد من الأخبار كأخبار هذا الموضع فإن الظاهر
من الأمر فيها بتطهير الثوب كملا هو ترتب حكم النجس عليه قبل التطهير من عدم جواز
الصلاة فيه ومن تعدي النجاسة منه برطوبة ونحو ذلك من أحكام النجس المتيقن النجاسة
وأما خبر زرارة الذي ذكره هنا هو غيره فقد تقدم القول فيه ثمة وبينا أنه ليس من
محل المسألة في شئ فلا نعيده.
تذنيب
قال الشيخ في الخلاف: إذا أصاب الثوب نجاسة فغسل نصفه وبقي نصفه فإن

(1) تقدم ص 256.
403

المغسول يكون طاهرا ولا تتعدى نجاسة النصف الآخر إليه، ثم حكي عن بعض العامة
أنه قال لا يطهر النصف المغسول لأنه مجاور لأجزاء نجسة فتسري إليه النجاسة فينجس (1)
قال الشيخ وهذا باطل لأن ما يجاوره أجزاء جافة لا تتعدى نجاستها إليه، قال ولو تعدت
لكان يجب أن يكون إذا نجس جسم أن ينجس العالم كله لأن الأجسام كلها متجاورة
وهذا تجاهل، ثم قال وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن أئمتنا (عليهم
السلام) (2) أنه إذا وقع الفأر في سمن جامد أو في زيت ألقى وما حوله واستعمل
الباقي، ولو كانت النجاسة تسري لوجب أن ينجس الجميع وهذا خلاف النص. وما ذكره
(قدس سره) هنا جيد، وقد اقتفاه في هذه المقالة جمع ممن تأخر " منهم الفاضلان
في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى فأوردوا محصول كلامه ودليله، واستجوده في
المعالم ثم قال: ولا يخفى أن ما ذكره من لزوم نجاسة العالم بنجاسة جسم فيه يحتاج إلى التقييد
بحال كونه بأجمعه رطبا ولظهور ذلك لم يتعرض له وكذا الجماعة بعده.
(المقام الثاني) فيما إذا حصل الاشتباه في الثوبين والأشهر الأظهر هو
ما قدمناه من وجوب تطهيرهما معا ووجوب الصلاة الواحدة في كل منهما، ونقل في
الخلاف عن بعض الأصحاب أنه يطرحهما ويصلي عاريا وجعله في المبسوط رواية واختاره
ابن إدريس بعد نقله عن بعض الأصحاب.
والذي يدل على وجوب الصلاة فيهما ما رواه الصدوق في الصحيح أو الحسن

(1) في المهذب ج 1 ص 50 " قال أبو العباس بن القاص إذا كان ثوبه كله نجسا
فغسل بعضه في جفنة ثم عاد فغسل ما بقي لم يطهر حتى يغسل الثوب كله دفعة واحدة لأنه
إذا صب على بعضه ماء ورد جزء من البعض الآخر على الماء نجسه وإذا نجس الماء نجس الثوب "
(2) في سنن البيهقي ج 9 ص 354 " أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عن فأرة سقطت
في سمن فماتت فقال النبي صلى الله عليه وآله خذوها وما حولها وكلوا سمنكم " والأحاديث المروية
عن أئمتنا (عليهم السلام) في ذلك تقدمت ص 56.
404

عن صفوان عن أبي الحسن (عليه السلام) (1): " أنه كتب إليه يسأله عن رجل كان
معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس
عنده ماء كيف يصنع؟ قال يصلي فيهما جميعا " قال الصدوق يعني على الانفراد.
واستدل على ذلك في المدارك أيضا بأنه متمكن من الصلاة في ثوب طاهر من
غير مشقة فيتعين عليه، وبأن الصلاة في الثوب المتيقن النجاسة سائغة بل ربما كانت متعينة
على ما سيجئ بيانه إن شاء الله تعالى فالمشكوك فيه أولى، ومتى امتنعت الصلاة عاريا
ثبت وجوب الصلاة في أحدهما أو في كل منهما إذ المفروض انتفاء غيرهما والأول منتف
إذ لا قائل به فيثبت الثاني، ويدل عليه ما رواه صفوان ثم أورد الرواية المذكورة.
أقول: ما ذكره من أن الأول منتف إذ لا قائل به فيه أنه وإن كان
لا قائل به كما ذكره إلا أن مقتضى قاعدته التي بنى عليها النزاع في مسألة الإناءين ونحوها
هو صحة الصلاة في واحد منهما كما ذكره في مسألة الإناءين حيث قال إن اجتناب النجس
لا يقطع بوجوبه إلا مع تحققه لا مع الشك، وما ذكره أيضا في مسألة حصول النجاسة
في المكان المحصور من أنه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب
المباشرة، وحينئذ فاللازم من ذلك في هذا الموضع لو كان ما ذكره صحيحا هو وجوب
الصلاة في أحدهما فنفيه له هنا مناقض لما اختاره في تلك المسائل مع أن الجميع من باب
واحد، ومن الظاهر أن النص الوارد في هذه المسألة كالنصوص الواردة في سابقتها
أظهر ظاهر في رد كلامه وابطاله من أصله لأن هذه من جزئيات المسألة المذكورة.
وقال ابن إدريس في السرائر: وإذا حصل معه ثوبان أحدهما نجس والآخر
طاهر ولم يتميز له الطاهر ولا يتمكن من غسل أحدهما، قال بعض أصحابنا يصلي في
كل واحد منهما على الانفراد وجوبا، وقال بعض منهم ينزعها ويصلي عريانا، وهذا
الذي يقوى في نفسي وبه أفتى لأن المسألة بين أصحابنا خلافية ودليل الاجماع فيه منفي

(1) رواه في الوسائل في الباب 64 من النجاسات.
405

فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلناه، فإن قال قائل بل الاحتياط يوجب الصلاة
فيهما على الانفراد لأنه إذا صلى فيهما جميعا تبين وتيقن بعد فراغه من الصلاتين معا أنه
قد صلى في ثوب طاهر، قلنا المؤثرات في وجوه الأفعال يجب أن تكون مقارنة لها
لا متأخرة عنها والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة وهذا
يجوز عند افتتاح كل صلاة من الصلاتين أنه نجس ولا يعلم أنه طاهر عند افتتاح كل صلاة
فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ولا يجوز أن تكون صلاته
موقوفة على أمر يظهر فيما بعد، وأيضا كون الصلاة واجبة وجه يقع عليه الصلاة فكيف
يؤثر في هذا الوجه ما يأتي بعده ومن شأن المؤثر في وجوه الأفعال أن يكون مقارنا لها
لا يتأخر عنها على ما بيناه. انتهى.
وفيه أنه مع كونه محض اجتهاد صريح في مقابلة النص الصحيح مردود بما
ذكره جملة ممن تأخر عنه، أما ما ذكره من وجوب اقتران ما يؤثر في وجوه الأفعال
فبالمنع لانتفاء ما يدل عليه. ثم لو سلم ذلك فنقول إنه مقيد بحال التمكن لا مطلقا. ثم
مع تسليم هذا أيضا فيمكن أن يقال بحصول ذلك فإنه يقصد وجوب كل واحدة من الصلاتين
فإن ستر العورة بالساتر الطاهر لما كان واجبا وكان تحصيله موقوفا على الاتيان بالصلاتين
تعين فتكون الصلاتان واجبتين من باب المقدمة، قال في المختلف بعد حكمه بوجوب
الصلاتين من باب المقدمة: وهو يعني ابن إدريس لم يتفطن لذلك وحسب أن إحدى
الصلاتين واجبة دون الأخرى ثم يعلم المكلف بعد فعلهما أنه قد فعل الواجب في الجملة،
وليس كذلك. وأما ما ذكره من أن الواجب عليه عند افتتاح كل فريضة أن يقطع
بطهارة ثوبه فبالمنع من ذلك فإنه شرط مع القدرة لا مع الاشتباه، وإنما أوردنا لك
كلامه بطوله وما ينبه على ضعف محصوله لتطلع على مزيد ضعف ما ذهب إليه وإلا فذكر
جميع ذلك بعد ما عرفت من النص الواضح تطويل بغير طائل وتحصيل لغير حاصل.
406

فروع
(الأول) ما ذكر من الحكم المذكور لا يختص بالثوبين بل لو وقع الاشتباه
في ثلاثة وقد علم كون واحد منها نجسا يقينا فإنه يصلي الفريضة الواحدة في اثنين منها
خاصة، أما لو تعدد النجس كما لو كان ثوبان نجسان اشتبها بثوب طاهر فإنه يصلي
الفريضة الواحدة فيما زاد عن النجس بواحد لتصادف الصلاة الزائدة الطاهر، فإن
كان النجس واحدا صلى الفريضة مرتين في ثوبين وإن كان اثنين صلاها ثلاثا وهكذا
مراعيا للترتيب، فيصلي من وجبت عليه الظهر والعصر مثلا الظهر أولا في كل منهما ثم
العصر في كل منهما لو كان الاشتباه بواحد نجس، ولو صلى الظهر والعصر في أحدهما
ثم نزعه وصلى الفرضين أيضا في الآخر فقد صرح الأصحاب بالصحة لتحقق الترتيب
واستشكل ذلك بعض للنهي عن الشروع في الثانية حتى تتحقق البراءة من الأولى.
وهو جيد.
ولو صلى الظهر في أحدهما ثم صلى العصر في الآخر ثم صلى الظهر فيما صلى
فيه العصر ثم صلى العصر فيما صلى فيه الظهر صحت الظهر لا غير ووجب إعادة العصر
فيما صلى فيه العصر أولا لجواز أن يكون الطاهر هو ما وقعت فيه العصر الأولى.
(الثاني) لو تعددت الثياب وضاق الوقت عن التكرار مطلقا فقيل بالصلاة
عاريا لتعذر العلم بالصلاة في الطاهر بيقين. وقيل بتعين الصلاة في أحدها، لامكان
كونه الطاهر، ولاغتفار النجاسة عند تعذر إزالتها، ولأن فقد وصف الساتر أسهل من
فقده نفسه. ولما ورد من النصوص الدالة على الصلاة في الثوب النجس يقينا فالمشتبه
أولى، وهو الأقرب.
(الثالث) قال في المنتهى: لو كان معه ثوب متيقن الطهارة تعين الصلاة
فيه ولم يجز له أن يصلي في الثوبين لا متعددة ولا منفردة. قال في المدارك بعد نقله:
وهو حسن إلا أن وجهه لا يبلغ حد الوجوب وهو جيد.
407

(الرابع) قال في المنتهى: ولو كان أحدهما طاهرا والآخر نجسا معفوا
عنه تخير في الصلاة في أيهما كان والأولى الصلاة في الطاهر، قال وكذا لو كان إحدى
النجاستين المعفو عنهما في الثوب أقل من الأخرى كان الأولى الصلاة في الأقل.
أقول: أما حكمه بالأولوية في الصورة الأولى فجيد وعليه يدل بعض الأخبار بالتقريب
المذكور ذيلها. وقد تقدمت في بعض فروع المسألة الرابعة من البحث الثاني فيما يجب
إزالته من النجاسات من المقصد الثاني في الأحكام. وأما في الصورة الثانية فمحل توقف
لأنه مع بقاء النجاسة وصحة الصلاة معها لا يظهر لأولوية نقصانها وجه كما لا يخفى.
(الخامس) قيل لو فقد أحد المشتبهين صلى في الآخر وعاريا، وقيل
بالاكتفاء بالصلاة في الباقي لجواز الصلاة في متيقن النجاسة. أقول: وهو جيد بناء على
القول بذلك كما هو الأظهر وأما على قول من يوجب الصلاة عاريا فالمتجه هنا هو القول
الأول. والله العالم.
(المسألة الثامنة) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما لو لم يجد
إلا الثوب النجس ولا ضرورة تلجئ إلى لبسه من برد ونحوه ولا يقدر على غسله فهل
تجوز الصلاة فيه والحال كذلك أو تجب عليه الصلاة عاريا؟ وقد تقدم تحقيق البحث في
هذه المسألة في المسألة السادسة من البحث الثاني فليرجع إليها من احتاج إليها.
(المسألة التاسعة) لو صلى في النجاسة فلا يخلو إما أن يكون قد علم بها وصلى
فيها عامدا أو لم يعلم بالكلية أو علم ونسي حال الدخول في الصلاة ولم يعلم إلا بعد الفراغ
أو رآها في حال الصلاة.
وتحقيق الكلام في ذلك يتوقف على بسطه في مقامات أربعة (الأول) أن
يصلي فيه عالما عامدا، ولا خلاف بين الأصحاب في بطلان صلاته ووجوب الإعادة
عليه وقتا وخارجا، قال في المعتبر وهو اجماع ممن جعل طهارة البدن والثوب شرطا.
واطلاق كلام كثير من الأصحاب وصريح بعضهم أنه لا فرق في العالم بالنجاسة بين
408

أن يكون عالما بالحكم الشرعي أو جاهلا فإنه كالعالم في البطلان، لأن شرط التكليف
إمكان العلم فيكون مكلفا بما يشترط في الصلاة وعدم معرفة ذلك تقصير منه مستند إلى
تفريطه فيكون قد ضم تفريطا إلى جهل فلا يكون معذورا، لأنه بعد أن وصل إليه
وجوب الصلاة واشتراطها بأمور لزمه الفحص والتحقيق عما تصح معه وتفسد فتركه ذلك
اخلال به عمدا، ونقل في المدارك عن العلامة وغيره أنهم صرحوا بأن جاهل الحكم
عامد لأن العلم ليس بشرط للتكليف، ثم اعترضه بأنه مشكل لقبح تكليف الغافل قال
والحق أنهم إن أرادوا بكون الجاهل كالعامد أنه مثله في وجوب الإعادة في الوقت
مع الاخلال بالعبادة فهو حق لعدم حصول الامتثال المقتضي لبقاء التكليف تحت العهدة
وإن أرادوا أنه كالعامد في وجوب القضاء فهو على اطلاقه مشكل لأن القضاء فرض
مستأنف ويتوقف على الدليل فإن ثبت مطلقا أو في بعض الصور ثبت الوجوب وإلا
فلا، وإن أرادوا أنه كالعامد في استحقاق العقاب فمشكل لأن تكليف الجاهل بما هو
جاهل به تكليف بما لا يطاق، نعم هو مكلف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل
والشرع فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح انتهى كلامه. وعليه جرى
جملة ممن تأخر عنه.
والتحقيق عندي في المقام هو التفصيل بالنسبة إلى أفراد المكلفين وإن كلام كل
من القائلين بعدم المعذورية والقائلين بالمعذورية ليس على اطلاقه، وذلك لما حققناه
في المقدمة الخامسة من مقدمات الكتاب من أن الجهل على قسمين: (أحدهما) أن
يراد به الغفلة عن الحكم الشرعي بالكلية وهو الجهل الساذج وهذا هو الذي يجب القول
بمعذوريته في جميع الأحكام لأن تكليف الغافل الذاهل مما منعت منه الأدلة العقلية
والنقلية وعليه يجب أن تحمل الأخبار المستفيضة بمعذورية الجاهل و (ثانيهما) أن
يراد به الغير العالم وإن كان شاكا أو ظانا وهذا هو الذي يجب أن يقال بعدم معذوريته
وعليه تحمل الأخبار الدالة على عدم معذورية الجاهل كما تقدمت في المقدمة المذكورة،
409

وقد بينا ثمة أن الحكم في ذلك مختلف باختلاف الناس في أنسهم بالأحكام والتمييز بين
الحلال والحرام وعدمه وقوة أفهاهم وعقولهم وعدمها، وبالجملة فتحقيق المسألة كما هو حقه
قد تقدم في المقدمة المذكورة موضحا ومبرهنا عليه بالأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار
(عليهم السلام) فليرجع إليه من أحب تحقيق الحال وإزاحة الاشكال، وأوضح منه
وأبسط ما في كتابنا الدرر النجفية.
وبذلك يظهر أن الجاهل بالمعنى الأول لا إعادة عليه لا وقتا ولا خارجا لعدم
توجه الخطاب إليه بالكلية نعم لو علم في الوقت لزمه الإعادة حيث إن وقت الخطاب باق
وأما القضاء فلا لتوقفه على أمر جديد، وهذا هو الذي يتم فيه كلام صاحب المدارك
وتفصيله، وأما الجاهل بالمعنى الثاني فتجب عليه الإعادة وقتا وخارجا وذلك لتوجه التكليف
إليه وعدم ثبوت المعذورية بالجهل على هذا الوجه لأنه عالم في الجملة ويتمكن من الفحص
والتحقيق في الأحكام كما يشير إليه قولهم في حجة المشهور: لأنه بعد أن وصل إليه
وجوب الصلاة واشتراطها بأمور لزمه الفحص والتحقيق عما تصح معه وتفسد. فإنه جيد
وجيه في الجاهل بهذا المعنى وعليه تدل الأخبار كصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وحسنة
بريد الكناسي وصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج الواردة في التزويج في العدة كما تقدم
جميع ذلك في المقدمة المذكورة (1) ويزيدها تأكيدا ما رواه الكليني عن الفضل بن
إسماعيل الهاشمي عن أبيه (2) قال: " شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) ما ألقى
من أهل بيتي من استخفافهم بالدين فقال يا إسماعيل لا تنكر ذلك من أهل بيتك فإن
الله تبارك وتعالى جعل لكل أهل بيت حجة يحتج بها على أهل بيته في القيامة فيقال
لهم ألم تروا فلانا فيكم ألم تروا هديه فيكم ألم تروا صلاته فيكم ألم تروا دينه فهلا اقتديتم
به؟ فيكون حجة الله عليهم في القيامة " وعن معاوية بن عمار (3) قال: " سمعت أبا عبد الله

(1) ج 1 ص 73 و 82
(2) روضة الكافي ص 83 الطبع الحديث
(3) روضة الكافي ص 84 الطبع الحديث.
410

(عليه السلام) يقول إن الرجل منكم ليكون في المحلة فيحتج الله تعالى يوم القيامة على
جيرانه به فيقال لهم ألم يكن فلان فيكم ألم تسمعوا كلامه ألم تسمعوا بكاءه في الليل؟
فيكون حجة الله عليهم " والتقريب فيهما هو الدلالة على أن الله عز وجل يحتج على الجهال
وما يأتونه لجهلهم من عبادة وغيرها بالصلحاء الذين بين أظهرهم وعباداتهم ونسكهم
فينبغي لهم الاقتداء بهم والسؤال والفحص منهم، ومنه يعلم أن الجهال متى علموا بوجوب
الصلاة وأن لها شروطا مصححة وأمورا مبطلة في الجملة ورأوا المصلين وما هم عليه من
القيام بالشروط المصححة واجتناب الأمور المبطلة فإنه يجب عليهم الفحص والسؤال عن
تلك الأحكام والاقتداء بهم كما دلت عليه الأخبار المشار إليها آنفا، ويعضدها أيضا
الأخبار المستفيضة بالأمر بالتثبت والتوقف عند الجهل بالحكم وعدم وجود من يسأل
عنه كقول الصادق (عليه السلام) في رواية حمزة بن الطيار (1) " لا يسعكم فيما ينزل
بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على
القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق.. الحديث " وأما من لم يصل إليه
العلم بهذه الأشياء كمن نشأ في البادية مثلا وأخذ الصلاة من أمثاله من الجهال أو الرساتيق
الغالب عليها الجهل وأمثالهم من النساء والبله فهؤلاء من القسم الأول كما لا يخفى.
أقول: وممن حام حول هذا التفصيل في معنى الجاهل ولكن لم يهتد للدخول فيه
الفاضل المحقق الأردبيلي (قدس سره) في شرح الإرشاد حيث قال في هذا المقام: وإن
كان جاهلا بالمسألة فقيل حكمه حكم العامد وفيه تأمل إذ الاجماع غير ظاهر والأخبار ليست
صريحة في ذلك، والنهي الوارد بعدم الصلاة مع النجاسة أو الأمر الوارد بالصلاة مع الطهارة
المستلزم له غير واصل إليه فلا يمكن الاستدلال بالنهي المفسد للعبادة لعدم علمه به فكيف يكون
منهيا عنه؟ ولما هو المشهور من الخبر " الناس في سعة ما لم يعلموا أو مما لم يعلموا " (2)

(1) المروية في الوسائل في الباب 4 و 8 و 12 من صفات القاضي.
(2) راجع التعليقة 2 ج 1 ص 43.
411

وما علم شرطية الطهارة في الثوب والبدن للصلاة مطلقا حتى ينعدم بانعدامه مع أن
الإعادة تحتاج إلى دليل جديد. إلا أن يقال إنه وصل إليه وجوب الصلاة واشتراطها
بأمور فهو بعقله مكلف بالفحص والتحقيق والصلاة مع الطهارة وقالوا شرط التكليف
هو إمكان العلم فهو مقصر ومسقط عن نفسه بأنه لم يعلم فلو كان مثله معذورا للزم فساد
عظيم في الدين، فتأمل فإن هذا أيضا من المشكلات، انتهى كلامه. أقول: لا اشكال
بحمد الله الملك المتعال بعدما أوضحناه من التفصيل في معنى الجاهل في هذا المجال، وأما
قوله فهو بعقله ففيه أنه مكلف بالأخبار أيضا كما عرفت من الأخبار الدالة على وجوب الفحص
والسؤال على الجاهل بالمعنى الثاني وإن أيدتها الأدلة العقلية أيضا، وعليك بالتوثق بهذا
التحقيق لتنجو به في جملة من الأحكام من لجج المضيق، هذا.
وأما الأخبار الدالة على بطلان صلاة العالم العامد فهي كثيرة، ومنها صحيحة
محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " إن رأيت المني قبل أو بعد ما
تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه
ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك، وكذلك البول ".
وحسنة عبد الله بن سنان (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال إن كان علم أنه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلي ثم صلى
فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلى وإن كان يرى أنه أصابه شئ فنظر فلم ير شيئا
أجزأه أن ينضحه بالماء ". وصحيحة إسماعيل الجعفي عن الباقر (عليه السلام) (3) قال: " في الدم يكون
في الثوب إلى أن قال وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.
412

صلاته وإن لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة ".
(المقام الثاني) أن يصلي فيها جاهلا بها والأشهر الأظهر صحة صلاته،
وقال الشيخ في المبسوط يعيد قي الوقت لا في خارجه ونقل عنه إنه اختاره في باب المياه
من النهاية أيضا وقال في الدروس بعد نقل هذا القول: وحملناه في الذكرى على من لم
يستبرئ بدنه وثوبه عند المظنة للرواية. وظاهر الأصحاب الاتفاق على عدم وجوب
القضاء لو لم يعلم حتى خرج الوقت، ونقل ابن إدريس في السرائر وابن فهد في المهذب
الاجماع عليه، ونسبه في المنتهى إلى أكثر علمائنا مؤذنا بالخلاف فيه، وهو الظاهر
أيضا من الخلاف حيث قال فيه: مسألة - إذا صلى ثم رأى على ثوبه نجاسة أو بدنه
يتحقق أنها كانت عليه حين الصلاة ولم يكن علمها قبل اختلف أصحابنا في ذلك واختلفت
رواياتهم، فمنهم من قال تجب الإعادة على كل حال، وقال بعد ذلك ومنهم من قال إن علم في الوقت أعاد وإن لم يعلم إلا بعد خروج الوقت لم يعد. انتهى. والعجب
أنه اقتصر على القولين المخالفين في المسألة ولم ينقل القول المشهور وهو عدم الإعادة مطلقا.
وكيف كان فالظاهر هو القول الأول للأخبار الكثيرة، ومنها صحيحة محمد بن
مسلم وصحيحة الجعفي المتقدمتان.
ومنها صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) (1)
" عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من انسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال إن
كان لم يعلم فلا يعد ".
ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن رجل
صلى وفي ثوبة جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم؟ قال قد مضت صلاته ولا شئ عليه "
وصحيحة زرارة عن الباقر (عليه السلام) الطويلة (3) وفيها " قلت فإن ظننت

(1) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات.
(3) التهذيب ج 1 ص 119 وفي الوسائل في الباب 37 و 41 و 42 و 44 من النجاسات.
413

أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله
ولا تعيد الصلاة ".
ورواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " إن أصاب ثوب الرجل
الدم فصلى فيه وهو لا يعلم فلا إعادة عليه.. الحديث ".
وحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة إلا أن ما تقدم برواية الشيخ وأما برواية الكليني (2)
فقل فيها بعد قوله " فعليه أن يعيد ما صلى " " وإن كان لم يعلم فليس عليه إعادة.. إلى آخر ما تقدم ".
وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الإسناد عن أخيه (عليه السلام) (3)
وستأتي إن شاء الله تعالى في المطلب الآتي وفيها " وإن كان رآه وقد صلى فليعتد بتلك
الصلاة ثم ليغسله ".
ويؤيده أيضا صحيحة محمد بن مسلم (4) قال: " سألته عن الرجل يرى في ثوب
أخيه دما وهو يصلي؟ قال لا يؤذنه حتى ينصرف ".
وصحيحة العيص بن القاسم (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
رجل صلى في ثوب رجل أياما ثم إن صاحب الثوب أخبره أنه لا يصلي فيه؟ قال لا يعيد
شيئا من صلاته ".
هذا ما وقفت عليه من أخبار المسألة وكلها كما ترى ظاهرة الدلالة على
صحة القول المشهور.
بقي الكلام فيما ذكره في الدروس من الكلام بالنسبة إلى النجاسة المظنونة
والفرق بينها وبين المجهولة جهلا ساذجا حيث إنه فصل في صورة الظن بين الاجتهاد
بالنظر وعدمه فأوجب الإعادة على الثاني دون الأول. قال في الذكرى بعد نقل صحيحة
محمد بن مسلم المتقدمة المتضمنة لقوله: " وإن أنت نظرت في ثوبك.. الخ " ما صورته:

(1) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات
(4) المروية في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.
414

ولو قيل بعدم الإعادة على من اجتهد قبل الصلاة ويعيد غيره أمكن لهذا الخبر ولقول
الصادق (عليه السلام) (1) في المني تغسله الجارية ثم يوجد: " أعد صلاتك أما أنك
لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شئ " إن لم يكن احداث قول ثالث. انتهى.
واعترضه في ذلك جملة من المتأخرين: منهم السيد في المدارك.
أقول: إن ظاهر الشيخين والصدوق القول بذلك وإن لم يعثر عليه شيخنا المشار
إليه، ولهم في الاستدلال عليه ما هو أصرح من دليله، أما الشيخ المفيد (قدس
سره) فإنه قال بعد أن ذكر وجوب الإعادة على من ظن أنه صلى على طهارة ثم انكشف فساد ظنه ما صورته: وكذلك من صلى في الثوب وظن أنه طاهر ثم عرف
بعد ذلك أنه كان نجسا ففرط في صلاته من غير تأمل له إعادة الصلاة. وظاهر الشيخ
موافقته حيث استدل له بما رواه عن منصور الصيقل عن الصادق (عليه السلام) (2)
قال: " قلت له رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل وصلى فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه
جنابة؟ فقال الحمد لله الذي لم يدع شيئا إلا وقد جعل له حدا إن كان حين قام نظر فلم
ير شيئا فلا إعادة عليه وإن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة " وأما الصدوق فإنه
روى في الفقيه مرسلا (3) قال: وقد روى في المني " أنه إن كان الرجل حين قام
نظر وطلب فلم يجد شيئا فلا شئ عليه وإن كان لم ينظر ولم يطلب فعليه أن يغسله
ويعيد صلاته " ويعضد ما دلت عليه هاتان الروايتان قوله (عليه السلام) في صحيحة
محمد بن مسلم المتقدمة: " وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد
فلا إعادة عليك " الدال بمفهومه على أنك إذا لم تنظر فعليك الإعادة، ويشير إليه قوله
(عليه السلام) في صحيحة زرارة وإن كان في كلام الراوي: " قلت فإن ظننت أنه أصابه
ولم يتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد

(1) المروي في الوسائل في الباب 18 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 41 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 41 من النجاسات.
415

الصلاة " فإن الجواب بعدم إعادة الصلاة قد ترتب هنا على ظن الإصابة مع النظر وعدم
الرؤية فيفهم منه ترتب الإعادة مع الظن المذكور وعدم النظر.
وبالجملة فظاهر الروايات المذكورة ولا سيما الأوليين هو ما ذكره أولئك الأجلاء
(رضوان الله عليهم) إلا أنه ربما يشكل ذلك باعتبار بناء المصلي على يقين الطهارة فإن
الظاهر أنه لا يجب عليه الفحص في الثوب ولا طلب النجاسة متى ظنها أو شك فيها لما
يفهم من جملة من الأخبار وقد تقدمت من النهي عن السؤال عما يشترى من أسواق
المسلمين وأن ذلك تضييق للدين (1) وما يستفاد من صحيحة زرارة الطويلة وفيها بعد
ما قدمنا نقله هنا منها من قوله: " قلت فإن ظننت أنه أصابه. الخ " " قلت لم ذلك؟
قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين
بالشك أبدا.. إلى أن قال فهل علي إن شككت في أنه أصابه شئ أن أنظر فيه؟ قال
لا ولكنك إنما تريد أن تذهب عنك الشك الذي في نفسك.. الحديث " وهي
صريحة كما ترى في البناء على يقين الطهارة كما هي القاعدة المطردة المتفق عليها وأن
النظر في مقام الظن أو الشك إنما هو مستحب لاذهاب وسوسة الشيطان، والمراد بالشك
في الخبر ما يشمل الظن كما حققناه في محل أليق، والمراد بالشك هنا ما يقابل اليقين
الشامل للظن والشك بالمعنى المصطلح، وحينئذ فيمكن حمل الإعادة في تلك الأخبار على
الاستحباب. اللهم إلا أن يقال إنه لا منافاة بين عدم وجوب النظر عليه من أول الأمر
ووجوب الإعادة لو ظهرت النجاسة في الصورة المذكورة لعدم فحصه عنها وطلبه لها
وتظهر الفائدة في صحة صلاته مع استمرار الاشتباه، ونظيره في الأحكام غير عزيز
فإن من صلى مع اشتباه الوقت بانيا على ظن دخوله ثم ظهر خلاف ظنه بأن كانت صلاته
قبل الوقت فإنه يعيد وإن كانت صلاته صحيحة مع استمرار الاشتباه، وظاهر رواية
منصور أن هذا التفصيل حد شرعي للنجاسة في هذه الصورة فالمتعدي عنه داخل تحت

(1) ص 257 و 258.
416

قوله تعالى: " ومن يتعد حدود الله.. " (1) وتحت قولهم (عليه السلام) (2) " إن الله
عز وجل جعل لكل شئ حدا ولمن تعدى ذلك الحد حدا " وهذه الروايات
لا معارض لها بحسب الظاهر إلا اطلاق الروايات الدالة على عدم وجوب الإعادة على
الجاهل وقضية الجمع توجب تقييد اطلاقها بهذه الروايات لكونها أخص، وعلى هذا
فتكون الأخبار مخصوصة بالجهل الساذج الخالي من حصول الظن بالكلية، وبذلك يظهر
قوة القول المذكور ويعضده أنه الأوفق بالاحتياط.
بقي شئ وهو أن مورد الأخبار المذكورة إنما هو نجاسة المني إلا أن ظاهر عبارة
الشيخ المفيد مطلق النجاسة وكذا كلام الشهيد، وهو كذلك إذ لا خصوصية للمني بذلك.
وظاهر الأخبار المذكورة أيضا الإعادة وقتا وخارجا وهو ظاهر القائلين بذلك أيضا، هذا.
وأما ما ذهب إليه الشيخ من الإعادة في الوقت فنقل عنه أنه استدل عليه بأنه لو
علم النجاسة في أثناء الصلاة وجب عليه الإعادة فكذا إذا علم في الوقت بعد الفراغ.
وأجيب عنه بمنع الملازمة إذ لا دليل عليها. وبالجملة فضعفه أظهر من أن يبين بعد ورود
تلك الأخبار الصحاح والحسان. وأضعف منه القول بالإعادة بعد الوقت.
بقي هنا في المقام روايتان إحداهما ما رواه الشيخ في الصحيح عن وهب بن
عبد ربه عن الصادق (عليه السلام) (3) " في الجنابة تصيب الثوب ولا يعلم بها صاحبه
فيصلي فيه ثم يعلم بعد ذلك؟ قال يعيد إذا لم يكن علم " والثانية ما رواه عن أبي بصير عن
الصادق (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن رجل صلى وفي ثوبه بول أو جنابة؟
فقال علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم " وظاهرهما الدلالة على القول بالإعادة
مطلقا، والشيخ قد أجاب عن الأولى في التهذيب بالحمل على أنه إذا لم يعلم في حال الصلاة
وكان قد سبقه العلم بحصول النجاسة في الثوب. ولا يخفى بعده. وحملها بعض على

(1) سورة البقرة، الآية 229.
(2) أصول الكافي ج 1 ص 59 الطبع الحديث
(3) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب النجاسات.
417

الاستحباب وبعض على الاستفهام الانكاري بحذف الهمزة وبعض على زيادة حرف النفي
وتوهم الراوي. والثانية حملها الشيخ على عدم العلم حال الاشتغال بالصلاة وبعض
على الاستحباب.
أقول وكيف كان فهما لا يبلغان قوة المعارضة لما سردناه من الأخبار الصحيحة
الصريحة المعتضدة بعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا فهما من المرجئة إلى قائلها (عليه
السلام) حسب ما ورد عنهم من الرد إليهم فيما اشتبه علينا. والله العالم.
(المقام الثالث) أن يصلي فيها ناسيا وقد اختلف في ذلك كلام الأصحاب
(رضوان الله عليهم) على أقوال: ثالثها أن يعيد في الوقت لا في خارجه وهو المشهور
بين المتأخرين، ورابعها استحباب الإعادة وإليه ذهب جملة من متأخري المتأخرين
كصاحب المدارك وغيره.
وينبغي أن يعلم أولا أن ظاهر كلام الأصحاب في هذا المقام الفرق بين نجاسة
الاستنجاء وغيرها من أفراد النجاسات، وذلك فإنهم قد صرحوا بأنه لو صلى ناسيا
الاستنجاء فالمشهور وجوب الإعادة وقتا وخارجا، وقال ابن الجنيد: إذا ترك غسل
البول ناسيا تجب الإعادة في الوقت وتستحب بعد الوقت. وقال أبو جعفر بن بابويه:
ومن صلى وذكر بعد ما صلى أنه لم يغسل ذكره فعليه أن يغسل ذكره ويعيد الوضوء
والصلاة ومن نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة. كذا نقله العلامة
في المختلف. وأما الصلاة في النجاسة بغير ذلك فالمشهور بين المتقدمين هو وجوب
الإعادة وقتا وخارجا حتى ادعى ابن إدريس عليه الاجماع وذكر بأنه لولا الاجماع
لما صار إليه كذا نقل عنه في المدارك، والذي وقفت عليه من كلامه في السرائر في هذا
المقام خلاف ذلك حيث إنه بعد ذكر المسألة ادعى فيها عدم الخلاف إلا من الشيخ في
الإستبصار، وما ذكره عنه من قوله لولا الاجماع لما صار إليه ليس له أثر في الموضع المذكور
واحتمال نقل صاحب المدارك عنه من غير السرائر أو منه في غير موضع المسألة بعيد كما
418

لا يخفى فينبغي التنبيه لأمثال ذلك. وحكى العلامة في التذكرة عن الشيخ في بعض أقواله
عدم الإعادة مطلقا. وفصل الشيخ في الإستبصار بين الوقت وخارجه وتبعه المتأخرون
وصار المشهور بينهم هذا القول، وبذلك يظهر أن ما ذكره في المدارك في باب الاستنجاء
وحكم الصلاة مع نسيانه من أنها من جزئيات هذه المسألة التي نحن فيها على اطلاقه
لا يخلو من نظر، فإنه إن أراد عند الأصحاب فهو ليس كذلك لما عرفت وإن أراد
باعتبار الدليل فيمكن، وقد تقدم الكلام في الأخبار المتعلقة بالاستنجاء وبسط البحث
فيها في صدر الباب الثاني من الأبواب التي رتب عليها الكتاب.
بقي الكلام في أخبار هذه المسألة التي نحن بصدد الكلام عليها وتحقيق البحث فيها:
فنقول وبالله الثقة لكل مأمول من الأخبار الدالة على الإعادة مطلقا فيها
حسنة محمد بن مسلم الواردة في الدم (1) حيث قال (عليه السلام) " وإذا كنت قد
رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد
ما صليت فيه ".
ورواية أبي بصير في الدم أيضا (2) قال فيها: " وإن هو علم قبل أن يصلي فنسي
وصلى فيه فعليه الإعادة ".
ورواية سماعة (3) " عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟
قال يعيد صلاته كي يهتم بالشئ إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه "
وصحيحة الجعفي في الدم أيضا (4) قال: " وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان
رآه ولم يغسله حتى صلى فليعد صلاته ".
ورواية جميل بن دراج في الدم أيضا (5) قال: " وإن كان قد رآه صاحبه قبل

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 40 من أبواب النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 42 من النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.
419

ذلك فلا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم ".
وصحيحة ابن أبي يعفور (1) " في نقط الدم يعلم به ثم ينسى أن يغسله فيصلي فيه ثم
يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال يغسله ولا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار الدرهم
مجتمعا فيغسله ويعيد صلاته ".
وصحيحة زرارة (2) قال: " قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ
من مني فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي
شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة وتغسله. قلت فإن لم أكن رأيت
موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال تغسله وتعيد ".
ورواية ابن مسكان (3) قال: " بعثت بمسألة إلى أبي عبد الله (عليه السلام)
مع إبراهيم بن ميمون قلت أسأله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله
فيصلي فيه ثم يذكر أنه لم يغسله؟ قال يغسله ويعيد صلاته ".
وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الإسناد وكتاب المسائل عن أخيه موسى
(عليه السلام) (4) قال: " سألته عن رجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى
إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال إن كان رآه ولم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر
ما كان يصلي ولا ينقص منه شئ، وإن كان رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة ".
ومما يدل على عدم الإعادة في هذه الصورة صحيحة العلاء عن الصادق (عليه
السلام) (5) قال: " سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشئ فينجسه فينسى أن يغسله
فيصلي فيه ثم يذكر أنه لم يكن غسله أيعيد الصلاة؟ قال لا يعيد قد مضت الصلاة وكتبت

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات
(2) التهذيب ج 1 ص 119 وفي الوسائل في الباب 37 و 40 و 42 و 44 من النجاسات
(3) المروية في الوسائل في الباب 42 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات.
(5) المروية في الوسائل في الباب 42 من أبواب النجاسات.
420

له " وظاهرها عدم الإعادة في الوقت وخارجه بتقريب التعليل المذكور فيها المشعر بكونها
بعد الفراغ منها قد كتبت له لكونها على ظاهر الصحة.
ويظهر من المحقق في المعتبر الميل إلى العمل بمضمونها حيث قال: وعندي أن
هذه الرواية حسنة والأصول تطابقها لأنه صلى صلاة مشروعة مأمورا بها فيسقط الفرض
بها. ومراده بالحسن هنا يعني بالنسبة إلى متنها وما تضمنته من الحكم لا الحسن باعتبار
السند لأن هذا الاصطلاح في التقسيم للأقسام المشهورة إنما وقع بعده وإن كان وقع
التحدث به في زمانه كما يشعر به طعنه في الأخبار في المعتبر بضعف الاسناد إلا أن
استقرار الاصطلاح المذكور إنما وقع من تلميذه العلامة فلا يتوهم المنافاة في كلامه.
بقي الكلام في اختياره العمل بهذه الرواية مع أن بإزائها من الأخبار ما عرفت
والترجيح في جانب تلك الأخبار لكثرتها وتعددها واعتضادها بالشهرة بين المتقدمين
كما عرفت والمخالف مجهول القائل كما تقدم، والشيخ وإن خالف في الإستبصار إلى
ما ذكره من التفصيل بين الوقت وخارجه إلا أنه في جميع كتبه قد وافق الأصحاب
كما نقله ابن إدريس في السرائر حيث إنه كما عرفت ادعى الاجماع إلا من الشيخ
في الإستبصار، وبالجملة فإني لا أعرف لاختياره العمل بهذه الرواية وعدم الجواب
عن ما بإزائها وجها.
والشيخ في الإستبصار قد جمع بين الأخبار بحمل روايات الإعادة على ما إذا
ذكر في الوقت ورواية العلاء على ما إذا ذكر خارج الوقت، واستدل على هذا الجمع
بصحيحة علي بن مهزيار (1) قال: " كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنه بال في ظلمة
الليل وأنه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه أصابه ولم يره وأنه مسحه بخرقة
ثم نسي أن يغسله وتمسح بدهن ومسح به كفيه ووجهه ورأسه ثم توضأ وضوء الصلاة
فصلى؟ فأجابه بجوابه قرأته بخطه: أما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشئ إلا

(1) المروية في الوسائل في الباب 42 من النجاسات.
421

ما تحقق فإن حققت ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلوات التي كنت صليتهن بذلك
الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها من قبل أن
الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت وإذا كان جنبا أو صلى على غير
وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته لأن الثوب خلاف الجسد فاعمل على
ذلك أن شاء الله تعالى " وجل المتأخرين قد تبعوه في ذلك.
واعترض هذه الرواية في المدارك فقال وهي مع تطرق الضعف إليها من حيث
السند بجهالة الكاتب مجملة المتن أيضا، بل ربما أفادت بظاهرها عدم اعتبار طهارة محال
الوضوء وهو مشكل إلا أن يحمل قوله: " فإن تحققت ذلك " على أن المراد إن تحققت
وصول البول إلى بدنك على وجه لا يكون في أعضاء الوضوء. انتهى.
أقول وفي ما ذكروه من الجمع المذكور عندي نظر من وجهين: (أحدهما) أن
من جملة أخبار وجوب الإعادة حسنة محمد بن مسلم المتقدمة وقوله فيها " وإذا كنت قد
رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت
فيه " وظاهرها كما ترى أنه صلى في النجاسة صلوات كثيرة، ومن المعلوم أن هذه
الصلوات بلفظ الجمع ووصف الكثرة فأكثرها إنما يقع خارج الوقت فالإعادة تقع خارج
الوقت البتة فلا يتم ما ذكروه، ونحوها صحيحة علي بن جعفر المتقدم نقلها من الكتابين
المشار إليهما ثمة، فإن ظاهرها عموم الحكم للعامد والناسي في الوقت وخارجه لأن فرضه
(عليه السلام) رؤيته وعدم غسله أعم من أن يكون سابقا أو حال الصلاة ووقوع
الأمر بلفظ القضاء والتعبير عن المقضى بقوله: " جميع ما فاته " يعطي أن ذلك في
خارج الوقت وأن الفائت صلوات متعددة، ويؤكده أن فرض الرؤية للنجاسة إنما وقع
من الغد بعد مضي تلك الصلوات في اليوم السابق، وما عدا هذين الخبرين وإن كان مطلقا
يقبل التقييد بما ذكروه إلا أن هذين الخبرين لا يقبلان ذلك، وحينئذ فلا تنطبق أخبار
المسألة على ما ذكروه وبه يظهر بطلانه وابقاء الأخبار المطلقة على اطلاقها كما هو المشهور المأثور
422

و (ثانيهما) أن ما استندوا إليه في حمل تلك الأخبار على وجوب الإعادة
في الوقت من صحيحة علي بن مهزيار المذكورة فإنه على غاية من الاشكال المانع من
الاستناد إليها في الاستدلال، فإنه لا يخفى على من تأمل في الرواية المذكورة بعين
التحقيق ما فيها من الاشكالات العديدة والاحتمالات البعيدة بل الغير السديدة وبذلك
صرح جملة من الأصحاب في الباب (الأول) أنها تقتضي عدم اشتراط طهارة أعضاء
الوضوء قبل ورود مائه عليها وهو موجب لتنجسه حينئذ فكيف يصح رفع الحدث به؟
(الثاني) أن ذلك الوضوء الذي قد توضأه أما أن يكون صحيحا أم لا وعلى كلا
التقديرين فالمنافاة حاصلة في البين، أما على الأول فإن ظاهر أمره (عليه السلام) بإعادة
الصلاة التي صلاها بذلك الوضوء بعينه مشعر بأن منشأ الإعادة فساد الوضوء، وأما على
الثاني فلأن آخر الخبر دل على أن فساد الوضوء يقتضي قضاء الفوائت مع أنه حكم فيه
بأن ما فات وقتها فلا إعادة عليه. وقد حمل بعضهم الوضوء في قوله (عليه السلام)
" بذلك الوضوء بعينه " على التمسح والتدهن قال فإنه معنى لغوي. ولا يخفى ما فيه من
البعد التام (الثالث) أن اليد الماسحة للرأس لا ريب في تنجسها بملامسة الرأس
لنجاسته فتنجس الرطوبة التي عليها (الرابع) قوله: " كنت حقيقا أن تعيد الصلوات
التي كنت صليتهن بذلك الوضوء " يعطي أنه لو أحدث عقيب ذلك الوضوء وتوضأ وضوء
آخر وصلى صلوات فإنه لا يعيدها مع أن العلة مشتركة.
وأجاب بعضهم عن الاشكال الأول بالتزام ذلك قال: لأنه لم يقم لنا دليل تام
على بطلان الوضوء حينئذ فلنا أن نلتزم عدم الاشتراط والاكتفاء في إزالة الخبث ورفع
الحدث بورود ماء واحد. انتهى. وفيه مع تسليم صحة ما ادعاه أن المفهوم من الروايات
الواردة في تطهير الثوب والبدن من نجاسة البول وجوب المرتين وهذا القائل من جملة
القائلين بذلك فكيف يتم ما ذكره هنا؟
وأما ما أجاب به في المدارك مما قدمنا نقله عنه وقوله: " إلا أن يحمل قوله فإن
423

تحققت. الخ " ففيه أن السؤال قد تضمن أنه أصاب كفه لم يشك في أنه أصابه إلا أن
الإمام (عليه السلام) في الجواب لأجل بيان شقوق المسألة واستيفاء أحكامها ردد له
بين التوهم والتحقيق في إصابة البول اليد فقال إن كان على جهة التوهم فليس بشئ وإن
حققت ذلك يعني إصابة البول اليد فالتحقيق راجع إلى إصابة البول اليد فكيف يتم الحمل
على تحقيق إصابة البدن على وجه لا يصيب إمضاء الوضوء كما زعمه (قدس سره)؟
وأجيب أيضا عن الاشكال الثالث بأنه ليس في كلام السائل ما هو نص في
استيعاب الرأس بمسح الدهن فلعل مقدار ما يقع عليه مسح الوضوء لم ينجس بذلك
الدهن وهو (عليه السلام) قد اطلع على ذلك ولا يخفى ما فيه من التكلف والخروج
عن الظاهر إلى أقصى غايات البعد.
وأجاب شيخنا البهائي في الحبل المتين عن الاشكال الرابع فقال: ولمتكلف
أن يقول لعله أراد بذلك الوضوء بعينه الوضوء النوعي الخاص أعني الواقع بعد التدهن
وقبل تطهير البدن، وهذا التفصي وإن كان كما ترى إلا أنه محمل صحيح في ذاته. انتهى
وبالجملة فمعنى الخبر المذكور على غاية من الخفاء وعدم الظهور وارتكاب هذه
التمحلات في دفع هذه الاشكالات لا يجدي نفعا في مقام الاستدلال، ولقد أجاد
المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال بعد نقل الرواية المذكورة: معنى هذا الحديث غير
واضح وربما يوجه بتكلفات لا فائدة في ايرادها ويشبه أن يكون قد وقع فيه غلط من
النساخ. انتهى. وبعض فضلاء المتأخرين جعل بعض هذه الاشكالات المذكورة منشأ
الاضطراب الموجب لرد الحديث.
هذا، وأما ما قدمنا نقله عن المدارك في اعتراضه على سند الرواية فهو منظور فيه
بأن الاعتماد في صحة الخبر المذكور إنما هو على كلام الثقة الجليل علي بن مهزيار وقوله:
" فأجابه بجواب قرأته بخطه " ويحتمل أن يكون مراده الطعن بجهالة المكتوب إليه كما
طعن به جده في الروض على الرواية المذكورة فحرف قلمه فانصرف إلى الكاتب،
424

وفيه أيضا أن علي بن مهزيار في جلالة شأنه لا ينسب مثل هذه العبارة إلى غير
الإمام (عليه السلام) بل ولا يعتمد على غيره في شئ من الأحكام كما صرحوا به
(رضوان الله عليهم) في أمثال هذا المقام.
وصار جماعة من فضلاء متأخري المتأخرين لما رأوا ما في جمع الشيخ من الاختلال
إلى الجمع بين الأخبار بحمل أخبار الإعادة على الاستحباب والظاهر أنهم قد اقتفوا في
ذلك المحقق (قدس سره) في المعتبر حيث اختار القول بعدم وجوب الإعادة فجعلوا
التأويل في جانب أخبار الإعادة بحملها على الاستحباب، قال في المدارك بعد كلام في
المسألة: والأظهر عدم وجوب الإعادة لصحة مستنده ومطابقته لمقتضى الأصل والعمومات
وحمل ما تضمن الأمر بالإعادة على الاستحباب. انتهى.
وفيه (أولا) ما قدمنا ذكره في غير موضع من أنه لا مستند لهذا الجمع وإن
تكرر منهم في جميع أبواب الفقه بل ظواهر القواعد الأصولية المبتنى عليها عندهم تقتضي
رده فإن ظواهر الأخبار الوجوب بلا خلاف والحمل على الاستحباب مجاز لا يصار إليه
إلا مع القرينة واختلاف الأخبار ليس من قرائن المجاز، ولأن الاستحباب حكم شرعي
يحتاج ثبوته إلى الدليل الواضح ومجرد اختلاف الأخبار لا يوجب ذلك.
و (ثانيا) أن الأمر بالإعادة قد ورد في أخبار متعددة ونجاسات متفرقة
ومقامات متباينة وفيها الصحيح والحسن والموثق وغيرها كما تقدم لك ذكره وما استند
إليه رواية واحدة وإن صح سندها، ومن القواعد المقررة في كلام أهل العصمة (عليهم
السلام) الترجيح بالشهرة يعني في الرواية سيما مع اعتضادها بالشهرة في الفتوى فكيف
يصح الحكم بترجيح تلك الرواية على هذه الأخبار والحال كما عرفت؟ ولا يخفى أن
ترجيحها على هذه الأخبار والحال أن فيها الصحيح باصطلاحه خلاف قاعدته التي بنى
عليها في أكثر المواضع من شرحه، واعتضاد تلك الرواية بالعمومات ومطابقة مقتضى
الأصل غير مجد هنا فإن الأصل يجب الخروج عنه بمقتضى الدليل والعمومات يجب تخصيصها،
425

وبالجملة فإنه لما تعارضت هذه الرواية وباقي أخبار المسألة وكان الترجيح في جانب
الأخبار المذكورة لما ذكرناه من الوجوه فإنه لا يبقى للتمسك بهذا الأصل ولا بالعمومات
وجه كما لا يخفى.
و (ثالثا) أن موثقة سماعة التي هي من جملة أخبار الإعادة قد دلت بعد
الأمر بالإعادة على أن ذلك عقوبة لنسيانه بمعنى تهاونه بالإزالة حتى أدى إلى نسيانها والصلاة
فيها وإلا فالنسيان من حيث هو لا يترتب عليه عقوبة، والظاهر أن العقوبة لا تجامع
الاستحباب الذي يجوز معه الترك اختيارا.
وبالجملة فالظاهر عندي هو القول المشهور إلا أنه يبقى الاشكال في صحيحة العلاء
وما الذي ينبغي أن تحمل عليه، وكيف كان فالاحتياط في جانب القول المشهور وبه
يظهر ترجيحه لو تعارضت الأخبار على وجه لا يمكن ترجيح أحد طرفيها، وأن الاحتياط
عندنا في مثل ذلك واجب كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب. والله العالم.
(المقام الرابع) أن يرى النجاسة وهو في الصلاة، والحال هنا دائرة بين
أمرين فأما أن يعلم سبق النجاسة على الدخول في الصلاة بإحدى القرائن والأمارات
الدالة على ذلك وإن كان حال دخوله في الصلاة جاهلا بها أم لا، فههنا صورتان:
(الأولى) أن يعلم سبقها، والمشهور بين الأصحاب وبه قطع الشيخ في النهاية
والمبسوط والمحقق وغيرهما أنه يجب عليه إزالة النجاسة أو القاء الثوب النجس وستر
العورة بغيره مع الامكان واتمام الصلاة وإن لم يمكن إلا بفعل المبطل أبطلها واستقبل
الصلاة، قال في المعتبر: وعلى قول الشيخ الثاني يستأنف. وأشار بالقول الثاني إلى
ما تقدم نقله عن المبسوط من إعادة الجاهل لو علم في الوقت، قال في المدارك ويشكل
بمنع الملازمة إذ من الجائز أن تكون الإعادة لوقوع الصلاة بأسرها مع النجاسة ولا يلزم مثله
في البعض، وبأن الشيخ قطع في المبسوط بوجوب المضي في الصلاة مع التمكن من القاء الثوب
وستر العورة بغيره مع حكمه فيه بإعادة الجاهل في الوقت. انتهى. وهو جيد.
426

(الثانية) أن لا يعلم السبق والحكم فيها عند الأصحاب كما في سابقتها بل
هي أولى كما لا يخفى، ونقل في المدارك هنا أيضا عن المعتبر أنه قطع بوجوب الاستئناف
هنا بناء على القول بالإعادة على الجاهل في الوقت، ثم قال في المدارك وهو أشكل
من السابق.
أقول: وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على نقل جملة الأخبار المتعلقة بالمسألة
وتذييل كل منها بما هو الظاهر من سياقه وبيان ما هو الحق في المسألة:
والذي وقفت عليه من الأخبار روايات: (الأولى) صحيحة زرارة
المذكورة (1) حيث قال في آخرها " قلت إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال تنقض
الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت
الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شئ أوقع عليك فليس ينبغي
أن تنقض اليقين بالشك ".
وظاهر الخبر المذكور التفصيل بعد رؤية النجاسة بأنه إن كان قد حصل له ظن
بالنجاسة قبل دخوله في الصلاة وصلى والحال هذه فإنه تجب عليه الإعادة، وينبغي تقييده
بما إذا لم ينظر في الثوب بعد ظنه لأنه (عليه السلام) قد قدم في الخبر أنه مع الظن
والنظر في الثوب وعدم رؤية النجاسة ثم يجدها بعد ذلك فلا إعادة عليه، وإن لم يحصل
له ظن بالنجاسة بل كان خالي الذهن من ذلك ثم علم في أثناء الصلاة فإن الحكم فيه
ما ذكره من إزالة النجاسة والبناء على ما صلى، وفي حكمه القاء الثوب الذي فيه النجاسة
والاستتار بغيره إن أمكن، والحكم في الصورة الأولى مخالف لما عليه الأصحاب
(رضوان الله عليهم) من المضي في الصلاة بعد طرح النجاسة أو غسلها إن أمكن الحاقا
لرؤية النجاسة في الأثناء مع الجهل بها سابقا بالرؤية بعد الصلاة مع الجهل كذلك فإنه إذا
صحت الصلاة كملا بالنجاسة في الصورة المذكورة فبعضها مع استدراك الباقي أولى إلا

(1) التهذيب ج 1 ص 119 وفي الوسائل في الباب 27؟ و 41 و 42 و 44 من النجاسات.
427

أنه موافق ومعاضد لما قدمناه من التحقيق في المقام الثاني وإن حكم بعض الصلاة حكمها
كملا في التفصيل المتقدم. وقال (عليه السلام) في الرواية المذكورة كما تقدم " وإن
لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شئ
أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك " ومن هذا الكلام يستفاد دليل
الصورة الثانية. وغاية ما استدل به في المدارك في هذه الصورة الأصل السالم عما يصلح
للمعارضة وغفل عن الصحيحة المذكورة.
الثانية حسنة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (1) أنه قال له: " الدم
يكون في الثوب علي وأنا في الصلاة؟ فقال إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل
في غيره، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على
مقدار الدرهم فإن كان أقل من درهم فليس بشئ رأيته أو لم تره، وإذا كنت قد رأيته
وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت
فيه، وليس ذلك بمنزلة المني والبول، ثم ذكر المني فشدد فيه وجعله أشد من البول، ثم
قال (عليه السلام) إن رأيت المني قبل أو بعد فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت
ثوبك فلم تصبه وصليت فيه فلا إعادة عليك وكذلك البول " هكذا رواه الصدوق
في الفقيه (2) ورواه ثقة الاسلام في الكافي (3) أيضا كذلك إلى قوله: " فأعد ما صليت
فيه " ورواه الشيخ في التهذيب (4) إلا أن فيه هكذا " ولا إعادة عليك وما لم يزد
على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشئ " بزيادة الواو وحذف جملة " فإن كان أقل
من درهم " وفي الإستبصار (5) حذف الجملة المذكورة ولم يزد الواو، وكيف كان
فالاعتماد على رواية الشيخين المذكورين بل أحدهما لو لم يكن إلا هو إذ لا يخفى على من
لاحظ التهذيب وما وقع للشيخ فيه من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان في متون

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات
(2) ج 1 ص 161.
(3) ج 1 ص 18
(4) ج 1 ص 72
(5) ج 1 ص 175.
428

الأخبار وأسانيدها ترجيح ما ذكره غيره من المحدثين ولا ريب أن هذا من جملة ذلك.
ثم إنه قد دل صدر الخبر المذكور على أنه إذا رأى الدم في ثوبه وهو في الصلاة فإن
كان عليه ثوب غيره طرح الثوب النجس وأتم صلاته وهو مما لا خلاف فيه بين الأصحاب
إلا أنهم خيروا فيما إذا لم يكن عليه إلا ذلك الثوب النجس بين إزالة النجاسة والقاء
الثوب النجس والستر بغيره إن أمكن، وظاهر الخبر أن الحكم في المسألة ما ذكرنا
وإن علم سبق النجاسة ببعض القرائن المفيدة لذلك، وبذلك صرح الأصحاب أيضا كما
تقدم، وإن لم يكن عليه ثوب غيره ولم يمكنه إزالة النجاسة كما ذكره الأصحاب ودلت
عليه صحيحة زرارة ولا الاستبدال مضى في صلاته بذلك الدم الذي في الثوب إذا كان
الدم مما يعفى عنه بأن لم يزد على مقدار الدرهم ومفهومه أنه إذا لم يكن مما يعفى عنه فإنه
يقطع صلاته ويعيدها من رأس، وبالجملة فظاهر الخبر هو أنه بعد الرؤية إن أمكن إزالة
النجاسة بأي الوجوه المتقدمة وإلا قطع الصلاة واطلاقه يقتضي عموم ذلك لما لو علم
بالتقدم أو لم يعلم، وهو موافق لما أفتى به الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه
الصورة والصورة الثانية فتكون الرواية دليلا لكل منهما. وأما قوله: " وإذا كنت
قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله " فقد تقدم حكمه في المقام الثالث
وأما قوله: " إن رأيت المني قبل أو بعد.. إلى آخر الخبر " فالظاهر أن معناه إن رأيت
المني قبل الدخول في الصلاة ثم صليت فيه عامدا أو ناسيا فعليك الإعادة، وهذا مما
لا اشكال فيه كما تقدم ذكره في المقام الأول والثالث. بقي الكلام في رؤيته بعد الدخول
وهو (عليه السلام) قد رتب عليه أيضا وجوب الإعادة كما إذا رآه قبل ويجب تقييده
بحصول العلم بتقدمه بل هو الظاهر من المني لأنه ليس من قبيل سائر النجاسات التي
يحتمل وقوعها عليه في أثناء الصلاة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد المذكور، ثم فصل (عليه
السلام) في الرؤية البعدية بعد حكمه بالإعادة بأنه إن نظر فلم يصبه فلا إعادة عليه، وهذا
التفصيل نظير ما تقدم في صحيحة زرارة المتقدمة وهو مؤيد لما حققناه في المقام الثاني
429

وإن خالف مقتضى ما عليه كلمة جمهور الأصحاب من عدم الإعادة مطلقا، وحينئذ
فصدر الخبر محمول على الجهل الساذج الذي لا ظن فيه أو عدم العلم بالتقدم.
وبالجملة فالمتلخص من هذين الخبرين هو الحكم بما ذكره الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في غير صورة حصول الظن بالنجاسة وعدم النظر في الثوب فإنهما دلا على
وجوب الإعادة في هذه الصورة خاصة ويعضدهما في ذلك الخبران المتقدمان في المقام المذكور
الثالثة موثقة أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (1) " في رجل صلى في
ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به؟ قال عليه أن يبتدئ الصلاة " وربما حملت على من
علم بالنجاسة ثم صلى فيها ناسيا أو على الاستحباب، والأظهر حملها على ما دل عليه عجز
صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة من الصلاة في الجنابة بعد حصول الظن بها من غير نظر
في الثوب فتكون من جملة أخبار المسألة المذكورة.
الرابعة ما رواه الشيخ عن داود بن سرحان عن الصادق (عليه السلام) (2)
" في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دما قال يتم ".
الخامسة ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب المشيخة
للحسن بن علي بن محبوب عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) (3) قال: " إن
رأيت في ثوبك دما وأنت تصلي ولم تكن رأيته قبل ذلك فأتم صلاتك فإذا انصرفت
فاغسله، قال وإن كنت رأيته قبل أن تصلي فلم تغسله ثم رأيته بعد وأنت في صلاتك
فانصرف واغسله وأعد صلاتك ".
والخبر الأول حمله الشيخ على ما إذا كان الدم مما يعفى عنه كالأقل من الدرهم،
وهو جيد في مقام الجمع إلا أن الخبر الثاني لا يقبل هذا التأويل لأمره (عليه السلام)
بالإعادة متى صلى فيه ناسيا، والظاهر شذوذ الخبرين المذكورين لمخالفتهما الأخبار
المستفيضة عموما وخصوصا لأن أخبار هذه المسألة ما بين صريح في الابطال أو صريح

(1) رواه في الوسائل في الباب 44 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 44 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 44 من النجاسات.
430

في وجوب إزالة النجاسة أو طرح الثوب النجس والاستبدال والأخبار العامة دالة على
بطلان الصلاة في النجاسة عامدا فكيف يجوز الاتمام في النجاسة كما يدل عليه ظاهر
الخبرين ومخالفتهما لما عليه علماء الطائفة المحقة قديما وحديثا؟ فهما مرجئان إلى قائلهما.
السادسة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (1) قال: " سألته
عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلا يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال إن كان دخل في صلاته فليمض وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه
إلا أن يكون فيه أثره فيغسله ".
وهذا الخبر وإن كان لا يخلو من نوع اجمال إلا أن الظاهر بعد التأمل فيه أن
الأمر بالمضي مبني على كون الملاقاة إنما وقعت مع اليبوسة وهو موجب للنضح خاصة
ولما كان في الصلاة أمره بالمضي فيها للطهارة بقرينة قوله: " وإن لم يكن دخل في صلاته
فلينضح ما أصاب من ثوبه " فحاصل الكلام أنه إن ذكر في الصلاة فليمض وإن لم
يدخل فلينضح غاية الأمر أنه (عليه السلام) في صورة عدم الدخول في الصلاة بين له
حكما آخر وهو أنه في حال النضح إن رأى فيه أثرا بسبب الملاقاة غسله، وبالجملة فهذا
الاستثناء إنما هو قيد للأخير خاصة كما لا يخفى على العارف بأسلوب الكلام.
هذا ما وقفت عليه من أخبار المسألة وخلاصة البحث فيها، ولصاحب المدارك
هنا كلام لا بأس بايراده وبيان ما فيه فإنه قال بعد الكلام في المسألة: وقد اختلفت
الروايات في ذلك فروى زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) (2) قال:
" قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ من مني، والحديث طويل قال في آخره:
قلت فإن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة " وروى محمد بن مسلم في
الصحيح عن الصادق (عليه السلام) (3) أنه قال: " إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من النجاسات
(2) ص 427.
(3) رواه في الوسائل في الباب 16 من النجاسات.
431

في الصلاة فعليك إعادة الصلاة " ومقتضى هاتين الروايتين تعين القطع مطلقا سواء
تمكن من القاء الثوب وستر العورة بغيره أم لا، وروى محمد بن مسلم في الحسن (1)
قال: " قلت له الدم يكون في الثوب علي وأنا في الصلاة؟ قال إن رأيته وعليك ثوب
غيره فاطرحه وصل وإن لم يكن عليك غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك "
وروى علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: " سألته عن الرجل
يصيب ثوبه خنزير، ثم ساق الرواية المتقدمة (2) ثم قال ومقتضى هاتين الروايتين وجوب
المضي في الصلاة إذا لم يكن عليه غيره أو كان وطرح الثوب النجس، والجمع بين
الروايات يتحقق بحمل ما تضمن الأمر بالاستئناف على الاستحباب وإن جاز المضي في
الصلاة مع طرح الثوب النجس إذا كان عليه غيره وإلا مضى مطلقا، ولا بأس بالمصير
إلى ذلك وإن كان الاستئناف مطلقا أولى. انتهى.
وفيه (أولا) أن ما ذكره من أن مقتضى صحيحتي زرارة ومحمد بن مسلم
تعين القطع مطلقا وإن أوهمه ما نقله من الروايتين حيث اقتصر منهما على هاتين العبارتين
إلا أنك بالتأمل في سياقهما كما قدمناهما يظهر لك بطلان ما ذكره، وهذا أحد العيوب
في الاستدلال بالأخبار حيث يقتطع منها ما يظن دلالته ويترك باقي الخبر، أما صحيحة
زرارة فإنه قال فيها بعد هذه العبارة " وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وإن
لم تشك.. إلى آخره " فقيد (عليه السلام) نقض الصلاة والإعادة بصورة ظن
النجاسة كما أسلفنا تحقيقه ومع عدم الظن أمره (عليه السلام) بإزالة النجاسة والبناء
وأين هذا مما يدعيه من القطع مطلقا؟ وأما صحيحة محمد بن مسلم فإنه قال فيها بعد ما نقله
منها " وإن نظرت في ثوبك.. إلى آخره " وظاهرها كما قدمنا ايضاحه أن الإعادة
مع الرؤية بعد الصلاة إنما هو مع عدم النظر في الثوب لا مطلقا، ولكن العذر له واضح

(1) رواه في الوسائل في الباب 20 من النجاسات
(2) ص 431
432

حيث إنه وغيره لم يحوموا حول هذا المعنى ولم يتوجهوا إليه وإن كانت الروايات
ظاهرة الدلالة عليه.
و (ثانيا) أن ما ادعاه من أن مقتضى روايتي محمد بن مسلم وعلي بن جعفر
وجوب المضي في الصلاة في النجاسة إذا لم يكن عليه غيره ليس في محله
أما حسنة محمد بن مسلم فإنه بنى فيها على نقل الشيخ في التهذيب بل غيره من أصحاب
كتب الاستدلال إنما نقلوها برواية التهذيب وعليه بنى استدلاله هنا، وقد عرفت آنفا
صورة رواية الشيخين المتقدمين لها فإنه على تقدير ما روياه وهو الأصح لا يتم ما ذكره
لأنه (عليه السلام) قيد الحكم بعدم الإعادة بما إذا لم يزد على مقدار الدرهم، وحاصله
أن عدم الإعادة من حيث العفو عن ذلك الدم ومفهومه وجوب الإعادة مع الزيادة،
فأين ما ذكره من الدلالة على وجوب المضي في الصلاة مع النجاسة؟ وعذره هنا أيضا
واضح لعدم اطلاعه على الرواية المذكورة بنقل الشيخين إلا أن ذلك من مثله من المحققين
لا يخلو من مجازفة فإن الواجب مراجعة كتب الأخبار كملا سيما مع اعترافه في شرحه
بما وقع للشيخ (قدس سره) من التساهل والخبط في الروايات متونا وأسانيد
وأما صحيحة علي بن جعفر فقد عرفت المعنى فيها وهو الأوفق بمقتضى الأصول الشرعية
والضوابط المرعية، فإن اتمام الصلاة في النجاسة عمدا من غير عذر شرعي بعد العلم بها
مما منعت منه الأدلة الصحيحة الصريحة عموما وخصوصا. وكان الأولى له الاستناد في
هذا القول إلى موثقة أبي بصير ورواية السرائر المتقدمتين الدالتين على المضي في النجاسة
واتمام الصلاة بها. وممن ساعدنا على ما ذكرناه في معنى صحيحة علي بن جعفر المحقق الشيخ
حسن في المعالم حيث قال بعد نقل الخبر: قوله في هذا الحديث " إن كان دخل في
صلاته إلى قوله فلينضح " أراد به ما إذا كانت الإصابة بغير رطوبة بقرينة قوله: " إلا
أن يكون فيه أثر فيغسله " انتهى.
و (ثالثا) أن ما ذكره من الجمع بالاستصحاب الذي اتخذوه قاعدة كلية في
433

جميع الأبواب قد عرقت ما فيه مما قدمناه في غير موضع من الكتاب.
وأما ما ذكره الأصحاب في الصورتين المتقدمتين من أنه إذا لم يمكن إزالة النجاسة
إلا بما يستلزم بطلان الصلاة فإنه يبطلها ويعيدها من رأس فإنه يدل عليه جملة من أخبار
الرعاف كما ستأتي إن شاء الله تعالى في موضعها.
بقي الكلام هنا في مواضع: (الأول) لم علم بالنجاسة المعلوم سبقها في أثناء الصلاة
ولكن الوقت يضيق عن الإزالة والاستئناف فهل يجب الاستمرار في الصلاة أو يزيل
النجاسة وإن لزم القضاء؟ قطع الشهيد في البيان بالأول ومال إليه في الذكرى موجها له
باستلزامه القضاء المنفي، قال في المدارك بعد نقله عنه: ويشكل بانتفاء ما يدل على
بطلان اللازم مع اطلاق الأمر بالاستئناف المتناول لهذه الصورة، ثم قال والحق بناء هذه
المسألة على أن ضيق الوقت عن إزالة النجاسة هل يقتضي انتفاء شرطيتها أم لا؟ بمعنى
أن المكلف إذا كان على بدنه أو ثوبه نجاسة وهو قادر على الإزالة لكن إذا اشتغل بها
خرج الوقت فهل يسقط وجوب الإزالة ويتعين فعل الصلاة بالنجاسة أو يتعين عليه
الإزالة والقضاء لو خرج الوقت؟ وهي مسألة مشكلة من حيث اطلاق النصوص المتضمنة
لإعادة الصلاة مع النجاسة المتناول لهذه الصورة. ومن أن وجوب الصلوات الخمس في
الأوقات المعينة قطعي واشتراطها بإزالة النجاسة على هذا الوجه غير معلوم فلا يترك لأجله
المعلوم. وقد سبق نظير هذه المسألة في التيمم إذا ضاق الوقت عن الطهارة المائية والأداء
مع وجود الماء عنده. انتهى.
أقول: الظاهر أن ما ذكره من الاشكال لا ورود له في هذا المجال وذلك فإنه
لا ريب أن وجوب الصلاة في الأوقات المعينة لها شرعا أمر قطعي كتابا وسنة واجماعا
من كافة الأمة غاية الأمر أن صحتها مشروطة بشروط: منها استقبال القبلة ومنها ستر
العورة ومنها طهارة الساتر، وقد صرحوا من غير خلاف يعرف بأن شروط الصحة إنما
تعتبر مع الامكان فلو تعذر شئ منها لم يوجب سقوط الصلاة ولا تأخيرها عن وقتها إلى أن
434

يحصل الشرط ثم يأتي بها قضاء ولا ريب أن ما نحن فيه من هذا القبيل فلو جاز تأخير
الصلاة عن وقتها للاشتغال بإزالة النجاسة ثم الصلاة قضاء لجاز لفاقد القبلة أو فاقد الستر
أو طهارته تأخير الصلاة عن وقتها إلى أن يحصل الشرط المذكور ثم يصلي قضاء ولا قائل به
ولا دليل عليه بل الأدلة واجماعهم على خلافه، فإن فاقد القبلة يصلي إلى أربع جهات أو جهة
واحدة على الخلاف وفاقد الستر يصلي عريانا وفاقد طهارته مع النجاسة أو عريانا
على الخلاف، وبالجملة فهذه المسألة من قبيل هذه المسائل المذكورة ولو جاز تقديم مراعاة
الشرط فيما نحن فيه لجاز في تلك الصور لأن الجميع من باب واحد وليس فليس.
وأما ما ذكره من اطلاق الأخبار الذي صار منشأ لاستشكاله في المقام المتضمنة
لإعادة الصلاة مع النجاسة الشامل اطلاقها لهذه الصورة
ففيه (أولا) أنه حقق جملة من المحققين أن الأحكام المودعة في الأخبار
إنما تحمل على الأفراد المتكررة الشائعة المتكثرة فهي التي ينصرف إليها الاطلاق دون
الفروض النادرة الوقوع.
و (ثانيا) أنه مع فرض شمول اطلاقها لهذه الصورة فإنه يجب تقييدها بما
ذكرناه من القاعدة المتفق عليه نصا وفتوى، وحينئذ فيجب حمل الأخبار المشار إليها
على ما لو حصل رؤية النجاسة في أثناء الصلاة في الوقت الذي فيه سعة للإزالة والإعادة
دون هذا الفرد النادر الوقوع الذي ربما لا يتفق وإن كان ممكنا، وبذلك يظهر أن
الأنسب بالقواعد الشرعية هو وجوب الصلاة بالنجاسة. نعم يأتي على الخلاف في مسألة
الصلاة في النجاسة مع تعذر إزالتها من الصلاة فيها أو الصلاة عاريا احتمال الصلاة عاريا
هنا أيضا بناء على القول به ثمة، إلا أنه حيث إن المسألة خالية من النصوص فالأحوط
فيها مع ذلك القضاء في ساتر طاهر، هذا.
ولا يخفى عليك ما في كلام السيد من التدافع حيث إنه ذكر في أول وجهي الاشكال
أن اطلاق النصوص المتقدمة المتضمنة لإعادة الصلاة مع النجاسة متناول لهذه الصورة
435

ثم ذكر في الوجه الثاني أن اشتراط الصلاة بإزالة النجاسة على هذا الوجه غير معلوم، وهو
مما يدافع الكلام الأول فإن دخول هذه الصورة تحت اطلاق تلك الأخبار يقتضي
المعلومية البتة فإن إعادة الصلاة مع النجاسة التي من جملته محل البحث إنما هو لاشتراطها
بإزالة النجاسة، نعم معلومية الاشتراط على هذا الوجه لا يبلغ إلى معلومية وجوب
الصلوات الخمس في الأوقات المعينة إلا أنه غير المراد من عبارته، وقد تقدم منا في
بحث التيمم ما يعضد ما صرنا إليه هنا أيضا. والله العالم.
(الثاني) لو وقعت عليه نجاسة في أثناء الصلاة ثم زالت ولما يعلم ثم علم استمر
على صلاته وهو مما لا اشكال فيه لأنه إذا جاز الاستمرار مع العلم بها في الأثناء والإزالة
كما في الصورة الثانية بل مع العلم بتقدمها والإزالة كما في الصورة الأولى فبالأولى
هذه الصورة.
(الثالث) لو صلى ثم رأى النجاسة وشك هل كانت عليه في الصلاة أم لا؟
فلا ريب في مضي صلاته على الصحة لعدم معارضة هذا الشك لليقين الذي كان
عليه، قال في المنتهى بعد ذكر الفرع المذكور: ولا نعرف فيه خلافا من أهل العلم عملا
بالأصلين الصحة وعدم النجاسة.
(المطلب الثاني) في باقي المطهرات وفيه مسائل: (الأولى) من المطهرات
عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) الشمس إلا أنه قد اختلف كلامهم هنا في مواضع
ثلاثة: (الأول) أن ما تجففه الشمس هل هو طاهر حقيقة كما يطهر بالماء أو يكون مخصوصا
بجواز الاستعمال مع اليبوسة فيكون عفوا لا طهارة حقيقة؟ (الثاني) ما الذي يطهر بها
من النجاسات هل هو البول بخصوصه أم كل نجاسة ليس لها جرم يبقى بعد اليبوسة؟
(الثالث) ما الذي يطهر بها من المواضع؟
وقد صرح جماعة من الأصحاب: منهم المحقق في الشرائع والعلامة في جملة
من كتبه والشهيدان والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين إن الأرض إذا أصابتها
436

نجاسة برطوبة ولم يكن لها عين كفى في طهارتها اشراق الشمس عليها وتجفيفها للرطوبة
الحاصلة فيها، وكذا لو كانت لها عين فأزيلت بوجه غير مطهر وبقيت رطوبتها ثم
جففتها الشمس، وألحقوا بالأرض في هذا الحكم كل ما لا ينقل ولا يحول في العادة
كالأشجار والأبنية والأبواب المثبتة والأوتاد الداخلة والفواكه على الشجر ومن المنقول
الحصر والبواري لا غير. وذهب العلامة في المنتهى إلى الاختصاص بنجاسة البول مع وقوعها
على ما تقدم ذكره في القول المشهور، ونقل بعض الأصحاب عنه في التحرير أن ظاهره
فيه التوقف في تعدية الحكم إلى غير البول، ونقل في المنتهى عن الشيخ في موضع
من المبسوط التخصيص بالبول أيضا، وذهب المحقق في النافع إلى العموم في النجاسة
مع تخصيص ما وقعت عليه بالأرض والحصر والبواري، وهو قول الشيخ في الخلاف
حيث قال في موضع منه: الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها
الشمس وهبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة طهرت وقال في موضع آخر منه بعد
الحكم بطهارة الأرض بتجفيف الشمس لها من نجاسة البول: وكذا الكلام في الحصر
والبواري. وذهب الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة ونقل أيضا عن سلار في
رسالته إلى القول بالاختصاص بالبول مع الثلاثة المذكورة من الأرض والحصر والبواري،
ونقل العلامة في المختلف عن القطب الراوندي أنه قال: الأرض والبارية والحصر هذه
الثلاثة فحسب إذا أصابها البول فجففتها الشمس حكمها حكم الطاهر في جواز السجود عليها ما لم
تصر رطبة ولم يكن الجبين رطبا. وقال المحقق في المعتبر أن الراوندي وصاحب الوسيلة ذهبا
إلى أن الأرض والبواري والحصر إذا أصابها البول وجففتها الشمس لا تطهر بذلك ولكن
يجوز الصلاة عليها، ثم قال وهو جيد. نقله عنه في المختلف أيضا فقال بعد نقل قول
الراوندي: وكان شيخنا أبو القاسم بن سعيد يختار ذلك. وإلى القول بالعفو ذهب
المحدث الكاشاني، وظاهر صاحب المدارك التوقف في المسألة وهو في محلة كما سيظهر
لك إن شاء الله تعالى.
437

وكيف كان فلا بد من سوق روايات المسألة وتذييل كل منها بما تدل عليه وما
يتلخص من الجميع وما يرجع إليه، والذي وقفت عليه من ذلك روايات: منها ما هو ظاهر
في الطهارة ومنها ما هو ظاهر في العدم ومنها ما هو مجمل قابل للدخول تحت كل من الفردين
المذكورين، وها أنا أذكر ما وقفت عليه منها مذيلا لكل منها بما أدى إليه فهمي القاصر:
الأولى صحيحة زرارة (1) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن
البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلي فيه؟ فقال إذا جففته الشمس فصل
عليه فهو طاهر ".
أقول: ومورد هذه الرواية هو نجاسة البول خاصة مع خصوص الأرض وهو
مما وقع الاتفاق عليه، وظاهرها الحكم بالطهارة كما هو المشهور، والمناقشة فيها بالحمل
على المعنى اللغوي لعدم ثبوت كون المعنى المصطلح عليه حقيقة عرفية عندهم (عليهم السلام)
كما صار إليه المحدث المتقدم ذكره حيث اختار القول بالعفو فالظاهر بعدها من سياق الخبر
المذكور وإن سلم ما ذكره من عدم ثبوت الحقيقة العرفية عندهم (عليهم السلام) إلا أن
قرينة السياق ظاهرة الدلالة على أن المراد بالطهارة هي الطهارة الشرعية لأنها هي المعتبرة
في أحكام الصلاة مكانا أو لباسا سيما مع تعلق السؤال بالنجاسة، ويؤيده اطلاق الأمر
بالصلاة عليه بعد تجفيف الشمس الشامل لكونه بعد التجفيف وحال الصلاة رطبا ويابسا
بمعنى أنه متى جف بالشمس جازت الصلاة عليه رطبا كان أو يابسا لحصول الطهارة
بالتجفيف الحاصل من الشمس ثم أكد ذلك بقوله: " فهو طاهر " وبالجملة فالخبر عندي
ظاهر في الطهارة إلا أنه سيأتي ما هو ظاهر في المعارضة.
الثانية رواية أبي بكر الحضرمي عن الباقر (عليه السلام) (2) قال:
" يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر ".
وهي كما ترى ظاهرة في القول المشهور من طهارة الأرض والحصر والبواري

(1) المروية في الوسائل في الباب 29 من النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 29 من النجاسات
438

وما لا ينقل ولا يحول، وهي وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ما زاد على ذلك إلا أنه
لا بد من تقييدها بما ذكروه لأن ما لا ينقل ويحول لا بد من غسله بالأدلة الكثيرة،
وكذلك بالنسبة إلى النجاسة فإن اطلاقها شامل لجميع النجاسات، وبالجملة فإنها ظاهرة
الدلالة على القول المشهور وإن أمكن تطرق المناقشة إلى الطهارة فيها بالتأويل المتقدم إلا أنه خلاف الظاهر. والعلامة في المنتهى حيث خص النجاسة في هذه المسألة بالبول رد هذه
الرواية بضعف السند وهو عندنا غير مرضي ولا معتمد مع أنه استدل بها في المختلف على
العموم. ويعضد هذه الرواية أيضا ما في الفقه الرضوي حيث قال: (عليه السلام) (1)
" ما وقعت عليه الشمس من الأماكن التي أصابها شئ من النجاسات مثل البول وغيره
طهرتها وأما الثياب فإنها لا تطهر إلا بالغسل " وهي ظاهرة تمام الظهور في القول المشهور.
الثالثة صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (2) قال: " سألته عن الأرض
والسطح يصيبه البول أو ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال كيف يطهر
من غير ماء ".
وهذه الرواية كما ترى ظاهرة الدلالة على ما ذهب إليه الراوندي ومن حذا
حذوه من عدم الطهارة وإنما هو عفو، وقد احتج بها العلامة في المختلف للقائلين بعدم الطهارة
بعد أن نقل عنهم الاحتجاج بأن الاستصحاب يقتضي الحكم بالنجاسة وتسويغ الصلاة لا يدل
على الطهارة لجواز أن يكون معفوا عنه كما في الدم اليسير. ثم أجاب عن الاستصحاب بأن
الاستصحاب ثابت مع بقاء الأجزاء النجسة أما مع عدمها فلا والتقدير عدمها بالشمس.
عن الرواية بأنها متأولة لجواز حصول اليبوسة من غير الشمس. وفيه أن ما أجاب به
عن الاستصحاب هنا لا يوافق مذهبه في الأصول من القول بحجية الاستصحاب كما هو
المشهور بينهم، وبذلك اعترض عليه أيضا في المعالم فقال: وهذا الكلام من العلامة
غريب إذ المعروف من مذهبه قبول مثل هذا الاستصحاب والاعتداد به نعم هو

(1) ص البحار ج 18 ص 35
(2) المروية في الوسائل في الباب 29 من النجاسات.
439

على ما سلف تحقيقه في المباحث الأصولية واخترناه وفاقا للمرتضى والمحقق من
الاستصحاب المردود.
أقول: الظاهر عندي هنا هو صحة الاستدلال بالاستصحاب المذكور فإن مرجعه
إلى عموم الدليل كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب فإن مقتضى الأدلة أن النجاسة
حكم شرعي يتوقف رفعه على وجود الرافع والنجاسة قد ثبتت بلا خلاف ولا اشكال
فرفعها يحتاج إلى دليل ظاهر، وأما ما ذكره في المعالم من عد الاستصحاب هنا من
الاستصحاب المردود الذي قد أوضحنا في مقدمات الكتاب بطلانه فهو مبني على قول
تفرد به في هذا المقام ولم أعرف له موافقا عليه من علمائنا الأعلام إلا الفاضل الخراساني في
الذخيرة حيث حذا حذوه في هذا الكلام.
قال في المعالم على أثر العبارة المتقدمة في بيان كونه من الاستصحاب المردود
ما صورته: لأن ما دل من النصوص على تأثير النجاسات والتأثر بها على وجه يبقى وإن
لم تبق أعيانها مقصور على البدن والثوب والآنية كما يشهد به الاستقرار والتتبع وإنما
استفيد الحكم فيما عدا ذلك من الاجماع، وأكثر ما يكون الاستصحاب المردود فيما
مدركه الاجماع لأن الحكم الثابت به في موضع الحاجة إلى الاستصحاب يكون لا محالة
مخصوصا بحال أولى فيطلب بالاستصحاب انسحابه إلى حالة ثانية. وقد مر أن اعتبار
الاستصحاب حينئذ اثبات للحكم بغير دليل. ومن هنا يتجه في موضع النزاع أن يقال إن الدليل الدال على تأثر الأرض والحصر والبواري وكل ما لا ينقل في العادة بالنجاسة
مختص بالحال التي قبل زوال العين عنها وتجفيف الشمس لها لانتفاء الاجماع فيما بعد ذلك
قطعا فمن ادعى ثبوت الحكم في الحال التي بعد فهو مطالب بالبرهان عليه وليس في
يده غير الاستصحاب ولا يقبل منه (فإن قلت) كأن الاتفاق واقع على أن النجاسات
المعلومة أثرا في كل ما تلاقيه برطوبة مستمرا إلى أن يحصل المطهر الشرعي فيفتقر كل نوع
من أنواع المطهرات إلى دليل يثبته (قلت): هذا كلام ظاهري يقع في خاطر العاجز
440

عن استنباط بواطن الأدلة ويلتفت إليه القانع بالمجمل عن التفاصيل وما قررناه أمر وراء
ذلك. وبالجملة فالذي يقتضيه التحقيق أنه لا معنى لكون الشئ نجسا إلا دلالة الدليل
الشرعي على التكليف باجتنابه في فعل مشروط بالطهارة وإزالة عينه أو أثره لا جله وأما
ما لا دليل فيه على أحد الأمرين فهو على أصل الطهارة بمعنى أصالة براءة الذمة من
التكليف فيه بأحدهما. وأما ما يتخيل من أن كل نوع من أنواع النجاسات بمنزلة
العلة الحقيقية في التأثير فكل ما لاقاه برطوبة أثر فيه النجاسة وتوقف في عوده إلى
الطهارة على طرو المطهر فمن الأوهام التي يظهر فسادها بأدنى تأمل ولا يستريح إلى
أمثالها محصل. انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول فيه (أولا) - إنه لا يخفى أن ما ذكره من قصر الحكم المذكور على
الثلاثة المذكورة من حيث إنه لم يرد في النصوص ما يدل على الأمر بالغسل بعد زوال
العين في غير الثلاثة المذكورة إن كان مقصورا على هذا الموضع ومخصوصا بهذا الحكم
فهو تخصيص من غير مخصص، وإن كان مطردا فيما جرى هذا المجرى مما وردت
النصوص في خصوص بعض الأفراد دون بعض وأنه يخص الحكم بما وردت به الروايات
فلا أراه يلتزمه، وذلك فإنه لا يخفى أن جل الأحكام الشرعية التي صارت عند الأصحاب
قواعد كلية إنما استفيد حكمها من جزئيات السؤالات المخصوصة وخصوص وقائع جزئية
مثلا لا خلاف بين الأصحاب في أن من صلى في النجاسة عامدا أو ناسيا وجبت عليه
الإعادة أي نجاسة كانت مع أن الوارد في النصوص إنما هو نجاسات مخصوصة ولم يقل
أحد من الأصحاب بتخصيص الإعادة بها بخصوصها بل عدوا الحكم إلى كل نجاسة
نظرا إلى الاشتراك في العلة وهي النجاسة وهو تنقيح المناط القطعي الذي صرحوا به في
الأصول وحملا للنجاسات المذكورة على الخروج مخرج التمثيل فلا يقتضي التخصيص ولا
ريب أن ما نحن فيه من هذا القبيل، ومن قبيل ذلك ما لو سأل السائل الإمام (عليه
السلام) عن نجاسة أصابت قميصه فحكم بإزالتها وبطلان الصلاة فيها فإن من المعلوم أنه
441

لا خصوصية للقميص بذلك بل يعدى الحكم إلى جميع لباس المصلي ويحكم ببطلان
الصلاة في أيها كان إلا ما استثني ولا يقال إن الخبر إنما تضمن القميص خاصة
فلا يجوز تعدي الحكم إلى غيره، فإن العلة الموجبة للإعادة الصلاة في النجاسة وهي
شاملة لجميع الثياب. ثم لا يخفى أيضا أن جل الأحكام من عبادات ومعاملات ونحو ذلك أنما خرجت في الرجال والسؤالات إنما وقعت في الرجال مع أنه لا خلاف في دخول
النساء ما لم تعلم الخصوصية للرجال في ذلك الحكم، ونحو ذلك مما لا يخفى على المتدبر
في الأخبار الواردة في جميع الأحكام، وما ذلك إلا لما ذكرناه من حمل ما ذكر في
الأخبار على مجرد التمثيل وتعدية الحكم إلى ما عدا المذكور بطريق تنقيح المناط القطعي
وحينئذ فالواجب بمقتضى ما ذكره في هذه المسألة هو الوقوف على موارد النصوص في
جميع هذه المواضع التي أشرنا إليها ولا أراه يقوله.
و (ثانيا) أنه لا يخفى أن الأمر بالغسل في الثلاثة المذكورة في كلامه بعد
إزالة العين لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما في البين (أحدهما) أن العلة في ذلك هو
ملاقاة عين النجاسة بالرطوبة ولا شك في وجود العلة المذكورة في محل النزاع فلا يتخلف
عنها معلولها ولا يتوقف على وجود نص ولا اجماع. و (ثانيهما) أن يكون ذلك تعبدا
شرعيا لا من حيث النجاسة وهو موجب لحصول الطهارة بمجرد زوال العين، ولا أراه
يلتزمه ولا يقول به بل هو خلاف صريح كلامه.
و (ثالثا) الصحيحة المذكورة فإن ظاهرها عدم حصول الطهارة بالماء من
عين النجاسة أو محلها وهو قد اعترف في باقي كلامه بذلك أيضا إلا أنه زعم عدم ظهورها
في ذلك حيث ارتكب تأويلها بما سيأتي ذكره من التكلفات البعيدة والتعسفات الغير
السديدة. قال بعد الكلام الذي نقلناه: قلت لو أبقى حديث ابن بزيع على ظاهره
لسقطت هذه المباحث من أصلها لكن المعارض أخرجه عن الظاهر فانتفى احتمال النظر
إليه انتهى أقول: الحق إن المسألة بسببه قد بقيت في قالب الاشكال كما صرح به
442

في المدارك أيضا. وعليه اعتمد المحدث الكاشاني في الاستدلال كما قدمنا نقله عنه فذهب
إلى القول بالعفو دون الطهارة وقوفا على ظاهر هذا الخبر وجعل التأويل فيما عارضه
كما تقدم ذكره، والحق كما ذكرنا ظهور كل من الخبرين فيما دل عليه في البين وبعد
التأويلات من الجانبين وبه حصل التوقف في المسألة.
و (رابعا) موثقة عمار الآتية عن الصادق (عليه السلام) (1) قال:
" سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنه قد يبس
الموضع القذر؟ قال لا تصل عليه واعلم موضعه حتى تغسله.. الحديث " وهو ظاهر
الدلالة في احتياج الأرض بعد زوال العين وجفاف النجاسة إلى الغسل بالماء وبه تبطل
دعواه الاختصاص بالثلاثة التي ذكرها كما لا يخفى. وأما ما أجاب به في المختلف عن
الصحيحة المذكورة من الحمل على التطهير بعد يبس البول حيث إنه في هذه الحال
لا يطهره إلا الماء لأن الشمس إنما تكون مطهرة إذا أشرقت عليه رطبا وجففت الرطوبة
وإلا فلو جف بدونها فإنها لا تكفي في تطهيره بل يجب الماء البتة فهو وإن كان بعيدا
إلا أنه في مقام الاحتمال قريب للجمع بين الأخبار. وقيل في الجواب عنها بأن المراد
بالماء الذي سئل عن تطهير الشمس بدونه ما يبل به الموضع إذا كان جافا، قالوا إذ ليس
في السؤال اشعار بوجوده في المحل حال اشراق الشمس فيحمل على ما إذا جف قبل
اشراقها. ولا يخفى ما فيه وإن استقربه في الذخيرة. وقيل بأن المراد من الماء الرطوبة
الحاصلة من النجاسات فكأنه قال هل تطهره إذا كان جافا؟ فأجابه (عليه السلام) بإنكار
ذلك. وفيه ما في سابقه. وقيل بكون انكار الطهارة بدون الماء عائدا إلى مجموع
ما وقع في السؤال بعد حمل المشابهة في قوله: " وما أشبهه " على المماثلة في أصل النجاسة
فيتناول النجاسات التي لها أعيان كالدم وتأثير الشمس فيها إنما يتصور بعد ذهاب العين
فيرجع حاصل الانكار إلى أن من النجاسات ما له عين وهذا النوع لا سبيل إلى طهارته

(1) المروية في الوسائل في الباب 29 من أبواب النجاسات.
443

بالشمس إلا بتوسط الماء وذلك بجعله مائعا على وجه يمكن تجفيف الشمس له ويذهب
بالجفاف عينه وهو أبعد الجميع. وهذه الاحتمالات الثلاثة قد ذكرها في المعالم لاخراج
الخبر عن ظاهره بزعمه ولا يخفى أنه لو قامت أمثال هذه الاحتمالات لانسدت أبواب
الاستدلالات. وبالجملة فإنه لا يخفى ما في هذه الأجوبة من التكلف نعم ربما أشعرت
الرواية المذكورة بعدم التطهير إلا بالماء مطلقا إلا أن ظاهر سياقها إنما هو اختصاص الحكم
بالمسؤول عنه، وبالجملة فالرواية ظاهرة في عدم التطهير إلا بالماء كما فهمه منها الأصحاب.
الرابعة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفت من غير أن تغسل؟
قال نعم لا بأس ".
الخامسة صحيحته الأخرى عن أخيه موسى (عليه السلام) (2) قال:
" سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلي عليها؟ قال إذا يبست فلا بأس ".
السادسة صحيحة له ثالثة عنه (عليه السلام) (3) " أنه سأله عن البيت والدار
لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلى فيهما إذا جفا؟ قال نعم ".
أقول: وغاية ما تدل عليه هذه الأخبار هو الصلاة على الموضع النجس بعد
الجفاف وعدم وجود عين النجاسة أعم من أن يكون الجفاف بالشمس أو بدونها بل ظاهر
الثالث منها أن الجفاف إنما هو بغير الشمس، وظاهرها جواز السجود على ذلك الموضع
مع أن الأصحاب قد اشترطوا في موضع السجود الطهارة، وظاهرهم الاتفاق عليه وإن
لم أقف له على دليل بل ظاهر هذه الأخبار كما ترى خلافه، وظاهر كلام الراوندي
المتقدم أيضا خلاف ذلك إلا أن يتأول كلامه بحمل السجود على الصلاة ولا يخلو من
بعد كما لا يخفى على من تأمل العبارة المذكورة. وربما قيل إن اطلاق هذه الأخبار وما

(1) المروية في الوسائل في الباب 29 من النجاسات
(2) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب النجاسات.
444

تدل عليه من جواز السجود شامل لما لو كانت الجبهة رطبة وهو مشكل إلا على ما سيأتي
نقله عن الشيخ في الخلاف من الحكم بالطهارة بتجفيف الريح إلا أنه خالف نفسه في
ذلك في الكتاب المذكور كما سيأتي نقل كلامه إن شاء الله تعالى، نعم يتجه ذلك
على ما تقدم نقله عن صاحب المعالم من حكمه بالطهارة مع الجفاف وزوال العين في غير
الثلاثة التي ذكرها. وبالجملة فالظاهر عندي أن هذه الروايات كما عرفت ليست من
روايات المسألة في شئ ومع فرض كونها منها بحمل التجفيف على كونه بالشمس فإنما هي
من القسم الثالث الذي قدمنا ذكره لاجمالها.
السابعة ما رواه زرارة وحديد بن حكيم الأزدي في الصحيح (1) قال:
" قلنا لأبي عبد الله (عليه السلام) السطح يصيبه البول أو يبال عليه أيصلي في ذلك
الموضع؟ فقال إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافا فلا بأس إلا أن يتخذ مبالا "
وهذه الرواية أيضا من القسم الثالث ولا يمكن الاستدلال بها لشئ من القولين المذكورين
في البين، وموردها الأرض خاصة.
الثامنة ما رواه عمار في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سئل
عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنه قد يبس الموضع
القذر؟ قال لا تصل عليه واعلم موضعه حتى تغسله. وعن الشمس هل تطهر الأرض؟
قال إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة
على الموضع جائزة، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطبا فلا تجوز
الصلاة عليه حتى ييبس، وإن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك
ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع وإن كان عين الشمس أصابه
حتى ييبس فإنه لا يجوز.. الحديث ".
وظاهر عجز الخبر بل صريحه الدلالة على عدم حصول التطهير بالشمس إلا أن

(1) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب النجاسات.
445

جملة من المحدثين نقلوا عن بعض نسخ التهذيب بدل " عين الشمس " بالعين المهملة
والنون " غير الشمس " بالغين المعجمة والراء أخيرا وحينئذ يسقط الاستدلال به على
بقاء النجاسة، وأيضا قد روى الشيخ هذه الرواية بالاسناد المذكور في آخر أبواب
الزيادات من التهذيب خالية من قوله: " وإن كان غير الشمس أصابه " وعليه أيضا
يسقط الاستدلال المذكور على عدم الطهارة. وأما قوله: " وعن الشمس هل تطهر الأرض
إلى قوله فالصلاة على الموضع جائزة " فغايته أن يكون من القسم الثالث لما عرفت من أن مجرد الرخصة في الصلاة عليه مع اليبوسة لا يدل على الطهارة لوقوع ذلك فيما جف
بغير الشمس كما عرفت من روايات علي بن جعفر المذكورة، إلا أن هذه الرواية قد
تضمنت النهي عن الصلاة على الموضع القذر بعد الجفاف بخلاف ما دلت عليه صحاح
علي بن جعفر فبالنظر إلى ما دلت عليه من النهي متى كان الجفاف بغير الشمس وتجويز
الصلاة متى كان الجفاف بالشمس يقوى القول بأن تجويز الصلاة إنما هو من حيث
حصول الطهارة بالشمس، إلا أنك قد عرفت دلالة صحاح علي بن جعفر الثلاث على
جواز الصلاة مع الجفاف مطلقا وهي أرجح من هذه الرواية البتة سيما مع ما علم من
أحوال روايات عمار.
وأما ما ذكره جملة من الأصحاب: منهم العلامة في المختلف من أن السؤال
في الرواية وقع عن الطهارة فلو لم يكن في الجواب ما يفهم منه السائل الطهارة أو عدمها
لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة لكن الجواب الذي وقع لا يناسب النجاسة فدل
على الطهارة فظني أنه قاصر بل ربما كان بالدلالة على خلاف ما ادعوه أشبه، بأن
يقال إن عدوله (عليه السلام) عن الجواب الصريح بكونه طاهرا إلى الجواب بجواز
الصلاة عليه ربما أشعر بعدم الطهارة وإن جازت الصلاة عليه ولا سيما على رواية " عين
الشمس " في آخر الخبر الصريح في عدم الطهارة فإنه هو الملائم لهذا المعنى. وأما دعوى
لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة بناء على ما ذكره فليس كذلك بل اللازم تأخير
446

البيان عن وقت الخطاب ولا مانع منه إذ كون الوقت وقت الحاجة ممنوع.
وبالجملة فإنه قد وقع التعارض في هذه المسألة بين صحيحة زرارة المتقدمة
المعتضدة برواية الحضرمي وكلامه (عليه السلام) في الفقه الرضوي وبين صحيحة ابن
بزيع المعتضدة بموثقة عمار على المشهور من روايتها ب‍ " عين الشمس " والتأويل كما عرفت
من الجانبين قائم إلا أنه بعيد عن ظواهر الأخبار المذكورة، فالمسألة عندي بالنسبة
إلى النجاسة وإلى ما تقع عليه حسبما عليه القول المشهور كما تقدمت الإشارة إليه ذيل
الروايات المتقدمة وبالنسبة إلى الطهارة والعفو محل توقف والاحتياط فيها لازم.
هذا ولا يخفى عليك أن كلام المحقق في المعتبر هنا لا يخلو من اضطراب، فإن
مقتضى ما تقدم نقله عنه اختيار قول الراوندي مع أنه قال بعد أن نقل عن الشيخ الاحتجاج
على الطهارة برواية عمار وصحيحة علي بن جعفر وهي الرابعة ما لفظه: وفي استدلال
الشيخ بالروايات اشكال لأن غايتها الدلالة على جواز الصلاة عليها ونحن لا نشترط طهارة
موضع الصلاة بل نكتفي باشتراط طهارة موضع الجبهة، ويمكن أن يقال الإذن في الصلاة
عليها مطلقا دليل جواز السجود عليها والسجود يشترط طهارة محله، ثم قال ويمكن أن
يستدل بما رواه أبو بكر الحضرمي وساق الرواية، وبأن الشمس من شأنها الاسخان
والسخونة تلطف الأجزاء الرطبة وتصعدها فإذا ذهب أثر النجاسة دل على مفارقتها
المحل والباقي يسير تحيله الأرض إلى الأرضية فيطهر لقول الصادق (عليه السلام) (1)
" التراب طهور " انتهى. وهذا الكلام منه بعد اختياره لمذهب الراوندي يشعر بالتردد
أو العدول إلى ترجيح جانب الطهارة، وأظهر من ذلك قوله بعد ذلك بقليل في مسألة
تطهير الأرض من البول بالقاء الذنوب بعد أن استضعف دليل الشيخ فيها: فإذا تقرر
هذا فيماذا تطهر؟ الوجه أن طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى يستهلك النجاسة أو

(1) ورد في حديث محمد بن حمران وجميل بن دراج المروي في الوسائل في الباب
23 و 14 من التيمم " إن الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا ".
447

يزال التراب النجس على اليقين أو تطلع عليه الشمس حتى يجف بها. انتهى.
فروع
(الأول) المشهور بين الأصحاب القائلين بتطهير الشمس أن الجفاف بغير
الشمس لا يثمر طهارة بل قال في المنتهى: لو جف بغير الشمس لم يطهر عندنا قولا واحدا خلافا
للحنفية (1) قال في المدارك: ويدل عليه أن المفروض نجاسة المحل بالنص أو الاجماع فيقف
زوال النجاسة على ما عده الشارع مطهرا، ثم أيد ذلك بصحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة
ورواية عمار وغيرهما. أقول: وعلى هذا النهج كلام غيره من الأصحاب.
ونقل عن الشيخ في الخلاف أنه قال: الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه
وطلعت عليها الشمس أو هبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة فإنها تطهر ويجوز
السجود عليها والتيمم بترابها وإن لم يطرح عليها الماء. واحتج باجماع الفرقة وقوله تعالى:
" فتيمموا صعيدا طيبا " (2) قال: والطيب ما لم تعلم فيه نجاسة ومعلوم زوال النجاسة
عن هذه الأرض وإنما يدعى حكمها وذلك يحتاج إلى دليل. ثم ذكر بعد هذا الكلام
في موضع آخر من الكتاب: أن البول إذا أصاب موضعا من الأرض فجففته الشمس
طهر الموضع وإن جف بغير الشمس لم يطهر. حكى ذلك عنه جملة من الأصحاب. منهم
العلامة في المنتهى والمختلف، والظاهر أن دعوى العلامة الاجماع في المنتهى على الحكم
المذكور مبني على رجوع الشيخ عن الحكم المذكور في كلامه الأول إلى ما ذكره في
كلامه الأخير، وتأول في المختلف كلام الشيخ الأول بأن مراده بهبوب الرياح المزيلة
للأجزاء الملاقية للنجاسة الممازجة لها وليس مراد الشيخ ذهاب الرطوبة عن الأجزاء
كذهابها بحرارة الشمس.
وصاحب المعالم بناء على ما تفرد به مما قدمنا نقله عنه وأوضحنا بطلانه استراح

(1) كما في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج 1 ص 226
(2) سورة المائدة، الآية 6.
448

إلى كلام الشيخ الأول لموافقته لما توهمه من المقالة المخالفة لما عليه كافة العلماء الأعلام فقال: ولولا
مخالفة الشيخ نفسه في الحكم لم يكن بذلك البعيد لما علم من أن الدليل على ثبوت التنجيس
في مثله بعد ذهاب العين منحصر في الاجماع والشيخ قد ادعى الاجماع على الطهارة فلا
أقل من أن يكون ذلك دليلا على انتفاء الاجماع على النجاسة. وفيه ما عرفت آنفا من
دلالة صحيحة ابن بزيع وموثقة عمار على عدم الطهارة إلا بالماء كما أشار إليه في المدارك
فيما قدمنا نقله عنه مضافا إلى الوجهين الآخرين اللذين تقدما في رد كلامه.
(الثاني) عد جماعة من المتأخرين في ما تطهره الشمس مما لا ينقل ولا يحول
الثمرة على الشجرة، وظاهر العلامة في النهاية اخراجها من ذلك حيث مثل لغير المنقول
وأخرج الثمرة منه فقال كالنبات والبناء دون الثمرة على الأشجار، قال في المعالم بعد
نقل ذلك: وما ذكره الجماعة أولى بالاعتبار وإن كان الحاقها بالمنقول إذا صارت في محل
القطع أولى. وعد والده (قدس سره) في الروضة في ما تطهره الشمس مما لا ينقل الفواكه
الباقية على الأشجار وإن حان قطعها. وكأن المستند في ذلك عموم اطلاق رواية الحضرمي
وقوله (عليه السلام) فيها: " ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر " وهو كذلك وإن كان
الاحتياط في ما ذكره في المعالم.
(الثالث) لو أنتقل كل من المنقول وغير المنقول إلى الحالة الأخرى كان
المناط حال الجفاف، فلو هدم الجدار الذي فيه أحجار نجسة كان تطهيرها بالماء دون
الشمس، ولو طين الجدار أو السطح بطين نجس طهر بالشمس، ونقل الشيخ أحمد بن
فهد في الموجز عن فخر المحققين هنا قولا غريبا قال: وكان فخر المحققين يرى عموم
الحكم في النباتات وإن انفصلت كالخشب والآلات المتخذة من النباتات، قال ويؤيده
قوله في رواية الحضرمي: " ما أشرقت.. الخ " ثم قال لكن التمسك به ضعيف. أقول:
يمكن أن يكون مراد فخر المحققين هو أنها إذا اتخذت أبوابا أو نحوها مما يكون مثبتا كما يشير
إليه لفظ الآلات، وقد صرح بنحو ذلك شيخنا الشهيد الثاني في الروضة فعد من جملة
449

ما لا ينقل الأبواب المثبتة، وإلا فصدور مثل هذا الكلام من مثل هذا المحقق بعيد جدا
(الرابع) المفهوم من كلام الأصحاب وهو ظاهر النصوص أيضا أن تطهير
الشمس على القول به إنما يكون مع بقاء رطوبة النجاسة فلو أشرقت عليه الشمس بعد
الجفاف لم تفده طهارة لكن لو بل بماء فأشرقت عليه الشمس وجففته هل يطهر أيضا أم لا؟
الظاهر من كلام جملة من المتأخرين الأول بل الظاهر أنه المشهور بينهم. أقول: يمكن
الاستدلال عليه بقوله (عليه السلام) في الفقه الرضوي (1) " ما وقعت عليه الشمس
من الأماكن التي أصابها شئ من النجاسات مثل البول وغيره طهرتها " قال في الذخيرة
بعد أن ذكر أن المشهور بين المتأخرين الطهارة: ويؤيده خبر زرارة السابق المذكور في
الكافي والتهذيب ورواية محمد بن إسماعيل ببعض التأويلات. ويؤيد النجاسة مفهوم
خبر زرارة وخبر عمار عند التأمل، والحق أنه لا يصلح شئ من ذلك للدلالة فالمسألة
محل تردد. انتهى.
أقول: التحقيق عندي في هذا المقام هو أنه إن قلنا بتخصيص ما تطهره الشمس
بنجاسة البول كما هو أحد الأقوال فلا دليل على التطهير في الصورة المفروضة لذهاب عين
البول وهذه الرطوبة نجاسة أخرى بملاقاة المحل وإن قلنا بتطهيرها لما هو أعم كما هو
المشهور فلا اشكال في حصول الطهارة، وذلك لأنه لا اشكال في أنه لو أريق ماء نجس
بنجاسة البول أو غيرها على الأرض فأشرقت عليه الشمس وجففته فإنها تطهره على المشهور،
وما نحن فيه من قبيل ذلك فإنه متى رشت الأرض الجافة المتنجسة بنجاسة البول عادت
النجاسة بسبب هذه الرطوبة فتصير من قبيل ما ذكرناه.
(الخامس) قد نص جمع من متأخري الأصحاب على أن الباطن في ما تطهره
الشمس كالظاهر فيطهر إذا جف الجميع بها وكانت النجاسة متصلة كالأرض التي دخلت
فيها النجاسة، أما مع الانفصال كوجهي الحائط إذا كانت النجاسة فيهما غير خارقة

(1) البحار ج 18 ص 35.
450

فتختص الطهارة بما حصل عليه الاشراق. واستجوده جملة من أفاضل متأخري المتأخرين
وهو كذلك. وربما لاح من كلام العلامة في المنتهى اختصاص الطهارة بالظاهر حيث إنه علل تطهير الشمس بوجه اعتباري فقال بعد الاستدلال بالروايات التي ذكرها
ما لفظه: وبأن حرارة الشمس تفيد تسخينا وهو يوجب تبخير الأجزاء الرطبة وتصعيدها
والباقي تشربه الأرض فيكون الظاهر طاهرا. انتهى. والظاهر ضعفه.
(السادس) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو كانت النجاسة
ذات جرم فإنه لا تحصل الطهارة بالشمس ما لم يزل جرم النجاسة، ونقل في المدارك
عن ابن الجنيد أنه قال لا يطهر الكنيف والمجزرة بالشمس، ثم قال وهو حسن لمخالطة
أجزاء النجاسة ترابهما، نعم لو أزيلت تلك الأجزاء وحصل التجفيف بالشمس اتجه
مساواتهما لغيرهما. انتهى. وقال في الذكرى: ولا تطهر المجزرة والكنيف بالشمس لبقاء
العين غالبا وكذا كل ما تبقى فيه العين. وبالجملة فالظاهر أن الحكم لا خلاف
ولا اشكال فيه.
(السابع) لو وضع حصيران نجسان أو باريتان كذلك أحدهما على الآخر
فالذي يطهر بالشمس هو الأعلى خاصة ظاهره وباطنه لأنه هو الذي أشرقت عليه الشمس
ولا يطهر الآخر وإن جف لأن جفافه إنما استند إلى حرارة الشمس دون عينها والمعتبر
في التطهير اشراق عين الشمس لا مجرد حرارتها. والله العالم.
(المسألة الثانية) من المطهرات أيضا الأرض إلا أن كلام الأصحاب أيضا في هذا
الباب لا يخلو من اختلاف واضطراب فإنهم ما بين من خص ما يطهر بها بالخف والنعل والقدم
خاصة وبين من لم يذكر القدم وبين من عدى ذلك إلى مثل النعل من خشب كالقبقاب
وآخرون إلى كل ما يوطأ به ولو كخشبة الأقطع، وبعض اشترط طهارة الأرض وبعض
جزم بالعموم، وبعض اشترط جفافها وبعض العدم، وبعض المشي خمسة عشر ذراعا وبعض
العدم، أما الاقتصار على الثلاثة الأول فالظاهر أنه المشهور بل قال في المدارك أنه مقطوع به
451

في كلام الأصحاب مع أن المفيد (قدس سره) في المقنعة قال: وإذا داس الانسان
بخفه أو نعله نجاسة ثم مسحها بالتراب طهر بذلك. وهو مشعر باختصاص الحكم بهما
ونحوه في كلام سلار أيضا حيث قال في رسالته: إزالة النجاسة على أربعة أضرب
أحدها ما يمسح على الأرض والتراب وهو ما يكون في النعل والخف. ونقل عن العلامة
في التحرير أنه استشكل الحكم في القدم وعزى في المنتهى القول بمساواته للنعل والخف إلى بعض
الأصحاب وقال إن عنده فيه توقفا. وابن الجنيد صرح في كتاب المختصر الأحمدي بالتعميم
فقال وإذا وطأ الانسان برجله أو ما هو وقاء لها نجاسة رطبة أو كانت رجله رطبة والنجاسة
يابسة أو رطبة فوطأ بعدها نحوا من خمسة عشر ذراعا أرضا طاهرة يابسة طهر ما ماس النجاسة
من رجله والوقاء لها ولو غسلها كان أحوط، ولو مسحها حتى يذهب عين النجاسة وأثرها بغير
ماء أجزأ إذا كان ما مسحها به طاهرا. انتهى. وقال ابن فهد في موجزه: الأرض
تطهر باطن النعل والقدم وكعب العكاز والصندل وكذا حكم الخف والحافر والظلف.
وقال في الذكرى بعد ذكر الثلاثة المتقدمة: وحكم الصنادل حكم النعل لأنه مما يتنعل
به. أقول لم أقف في كلام أهل اللغة على معنى الصندل هنا ولعل المراد به القبقاب
المتخذ من الخشب في زماننا. وقال الشهيد الثاني في الروضة: والمراد بالنعل ما يجعل
أسفل الرجل للمشي وقاية من الأرض ونحوها ولو من خشب وخشبة الأقطع كالنعل.
وقال في الروض: ولا فرق بين النعل والخف وغيرهما مما يتنعل به ولو من خشب
كالقبقاب، وفي الحاق خشبة الزمن والأقطع بالنعل نظر من الشك في تسميتها نعلا
بالنسبة إليه، ولا يلحق بهما أسفل العكاز وكعب الرمح وما شاكل ذلك لعدم اطلاق
اسم النعل عليهما حقيقة ولا مجازا. انتهى. وربما ظهر من الشيخ في الخلاف عدم طهارة
أسفل الخف بمسحه في الأرض حيث قال: إذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه في
الأرض حتى زالت يجوز الصلاة فيه عندنا، ثم قال دليلنا إنا قد بينا فيما تقدم أن ما لا
452

تتم الصلاة فيه بانفراده جازت الصلاة فيه وإن كانت فيه نجاسة والخف لا تتم الصلاة فيه
بانفراده وعليه اجماع الفرقة.
أقول: والواجب بسط الأخبار الواردة في المسألة كملا والنظر في ما تدل عليه من
الأحكام المذكورة وما لا تدل عليه:
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) قال: " قلت لأبي جعفر
(عليه السلام) رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه وهل يجب
عليه غسلها؟ فقال لا يغسلها إلا أن يقذرها ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي "
وفي الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه السلام) (2) قال: " جرت السنة في
أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله ويجوز أن يمسح رجليه ولا يغسلهما "
وما رواه ثقة الاسلام في الصحيح عن الأحول عن الصادق (عليه السلام) (3)
قال: " في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ بعده مكانا نظيفا؟ قال
لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعا أو نحو ذلك ".
وعن المعلي بن خنيس (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخنزير
يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء أمر عليه حافيا؟ فقال أليس وراءه
شئ جاف؟ قلت بلى: قال لا بأس إن الأرض يطهر بعضها بعضا ".
وعن محمد الحلبي في الموثق (5) قال: " نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق
قذر فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال أين نزلتم؟ فقلت نزلنا في دار فلان
فقال إن بينكم وبين المسجد زقاقا قذرا أو قلنا له إن بيننا وبين المسجد زقاقا قذرا فقال
لا بأس إن الأرض يطهر بعضها بعضا. قلت فالسرقين الرطب اطأ عليه؟ فقال
لا يضرك مثله ".
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن فضالة وصفوان بن يحيى عن عبد الله بن

(1) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات.
(5) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات.
453

بكير عن حفص بن أبي عيسى (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني وطأت
عذرة بخفي ومسحته حتى لم أر فيه شيئا ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال لا بأس ".
وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر
عن المفضل بن عمر عن محمد بن علي الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (2) قال:
" قلت له إن طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه وليس علي حذاء
فيلصق برجلي من نداوته؟ فقال أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت بلى.
قال فلا بأس إن الأرض يطهر بعضها بعضا. قلت فأطأ على الروث الرطب؟ قال لا بأس
أنا والله ربما وطأت عليه ثم أصلي ولا أغسله ".
وفي الحسن أو الصحيح عن محمد بن مسلم (3) قال: " كنت مع أبي جعفر
(عليه السلام) إذ مر على عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت جعلت فداك وطأت
على عذرة فأصابت ثوبك؟ فقال أليست هي يابسة؟ فقلت بلى. قال لا بأس إن الأرض
يطهر بعضها بعضا ".
هذا ما وقفت عليه من روايات المسألة وتحقيق الكلام فيها يقع في مواضع:
(الأول) لا يخفى أن صحيحة زرارة الأولى ومثلها رواية المعلي بن خنيس
وكذا رواية الحلبي المنقولة في السرائر قد تضمنت باطن القدم وصرحت بأنه مما يطهر
بالأرض، وبذلك يظهر ما في كلام العلامة ودعواه الاشكال في موضع والتوقف في
آخر مع دلالة الأخبار كما ترى عليه، ورواية حفص بن أبي عيسى قد تضمنت الخف
وهي مستند الأصحاب فيما تقدم نقله عنهم من عد الخف في ما يطهر بالأرض، وأما ما طعن
به في الذخيرة تبعا لصاحب المعالم على دلالتها من أنه يكفي في جواز الصلاة في
الخف كونه مما لا تتم الصلاة فيه ولا يقتضي ذلك طهارته وإن كان الأصحاب أوردوها
في الاحتجاج فالظاهر بعده وذلك فإن ظاهر كلام السائل أن سؤاله إنما هو عن الطهارة

(1) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات
454

بالمسح وعدمها وسؤاله عن الصلاة فيه أما بناء منه على عدم علمه بالعفو عن نجاسة ما لا تتم
الصلاة فيه أو المراد الصلاة الكاملة الواقعة في الطاهر، وعلى هذا فيجب في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال وحينئذ يكون نفي البأس كناية عن الطهارة وإلا فلو كان عالما بجواز
الصلاة فيما لا تتم فيه ولم يحمل سؤاله على الصلاة الكاملة فإنه لا معنى للسؤال عن الصلاة
فيه بل لا معنى لأصل سؤاله بالكلية كما لا يخفى وعلى هذا بنى الاستدلال بالخبر، ولعل
ما تقدم نقله عن الشيخ في الخلاف مبني على ما ذكره هذان الفاضلان، إلا أن اطلاق
صحيحة الأحول وموثقة الحلبي أيضا يرده لدلالتهما على ما يوطأ به، والظاهر أنه إلى
اطلاق هذين الخبرين استند من عمم الحكم في كل ما يوطأ به من خف أو نعل ولو من
خشب ومثل خشبة الأقطع، إلا أن مقتضى ما قرروه في غير مقام من أن الأحكام
المودعة في الأخبار إنما تنصرف إلى الأفراد الشائعة المتكثرة دون الفروض النادرة
بعد الحكم في مثل خشبة الأقطع وأبعد منه ما ذكره بعضهم من أسفل العكاز وكعب الرمح
وشيخنا الشهيد الثاني في الروض إنما تنظر في خشبة الأقطع من حيث عدم صدق النعل
عليها. وفيه أنه وإن لم يصدق عليها النعل إلا أنها مما يوطأ به فتدخل تحت اطلاق صحيحة
الأحول وإنما يمكن المناقشة فيها من الجهة التي ذكرناها إلا أنه ربما أمكن أيضا شمول
الحكم لها من حيث قوله (عليه السلام) في جملة من الأخبار المتقدمة: " إن الأرض
يطهر بعضها بعضا " بل ربما استفيد منه تطهير أسفل العصا والرمح إلا أن يجعل التعليل
مقصورا على ما علل به من الأفراد الواردة في تلك الأخبار، والاحتياط لا يخفى.
والذي تلخص مما ذكرناه أنه يستفاد من الأخبار المذكورة طهارة القدم والخف
والنعل وكل ما يوطأ به مما يكون متعارفا أكثريا وفي الحاق ما عدا ذلك اشكال أحوطه العدم.
وصاحب المعالم لما كان اعتماده إنما هو على صحاح الأخبار دون ضعيفها خرج
لعموم الحكم فيما عدا القدم الذي هو مورد صحيحة زرارة وجها لا يخفى على الناظر
ما فيه، قال بعد ذكر أخبار المسألة: وهذه الأخبار وإن لم تكن نقية الأسانيد فإنها
455

معتضدة بالحديث الأول الصحيح. وكونه مختصا بالقدم غير ضائر فإن ثبوت الحكم فيه يقتضي
ثبوته في غيره بطريق أولى، ألا ترى أن الخف والنعل لا توقف لأحد من الأصحاب
في حكمهما على ما يظهر وقد حصل في القدم نوع توقف. انتهى. وفيه نظر لمنع الأولوية التي
ذكرها بالنظر إلى الأخبار، وأما ما استند إليه في ثبوتها من الخلاف بين الأصحاب في القدم
والاتفاق على الخف والنعل ففيه (أولا) أن من خالف في القدم فهو غالط لمخالفته للأخبار
المذكورة فلا يعتبر بخلافه على أن الخلاف أيضا في الخف حاصل كما تقدم في عبارة
الشيخ في الخلاف. و (ثانيا) أن الكلام بالنظر إلى الأخبار لا بالنظر إلى كلام الأصحاب
وليس في الأخبار ما يشير إلى أولوية الخف والنعل في هذا الحكم على القدم إن لم
يكن الأمر بالعكس، وبالجملة فالظاهر أن الذي ألجأه إلى هذا الكلام عدم جرأته على
الخروج عن ما عليه كافة الأصحاب في هذا الباب. والله العالم.
(الثاني) الظاهر أنه لا فرق في حصول التطهير بين كونه بالمشي أو المسح
والدلك، وعلى الاكتفاء بالمسح تدل صحيحة زرارة الأولى وكذا الثانية الواردة في
الاستجمار ورواية حفص بن أبي عيسى، وبذلك صرح المفيد في عبارته المتقدمة وكذا
آخر عبارة ابن الجنيد، وحينئذ فما نقله الأصحاب عن ابن الجنيد من أنه يشترط المشي
خمسة عشر ذراعا ونحوها وكذلك ما دلت عليه صحيحة الأحول محمول على مقدار المشي
الذي تزول به النجاسة غالبا وفي قوله في الخبر " أو نحو ذلك " إيماء إليه. ولا اشكال
أيضا أن هذا مراد ابن الجنيد لتصريحه في آخر عبارته بالاكتفاء بالمسح كما عرفت.
(الثالث) قد اختلف الأصحاب في طهارة الأرض فقيل بالاشتراط وبه
صرح الشهيد في الذكرى وهو صريح عبارة ابن الجنيد المتقدمة، وذهب جماعة من
الأصحاب: منهم الشهيد الثاني إلى عدم الاشتراط بل ادعى (قدس سره) أن اطلاق
النص والفتوى يقتضي عدم الفرق في الأرض بين الطاهرة وغيرها. وهو كما ترى
لتصريح من ذكرناه بالطهارة وهو ظاهر فحاوي جملة من عبائرهم أيضا نعم النصوص
456

مطلقة في ذلك إلا أن صحيحة الأحول مصرحة باشتراط ذلك حيث إنه لما سأله عن
الرجل الذي يطأ الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ بعده مكانا نظيفا قال: " لا بأس إذا
كان ذلك المكان النظيف قدر خمسة عشر ذراعا " ففيه اشعار بأن نفي البأس مخصوص بما
إذا كان نظيفا بالمقدار المذكور.
أقول: والأظهر عندي الاستدلال على ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله) في ما
روى عنه بعدة طرق فيها الصحيح وغيره (1) " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "
وهو باطلاقه شامل لما نحن فيه فإن الطهور لغة بمعنى الطاهر المطهر كما تقدم تحقيقه في صدر
الباب الأول وهو أعم من أن يكون مطهرا من الحدث والخبث، والعجب من أصحابنا
(رضوان الله عليهم) حيث إنهم في المقام ناقشوا في اشتراط طهارة الأرض ولم يلم أحد
منهم ممن قال بالطهارة بهذا الحديث وإنما استدلوا بأن النجس لا يفيد غيره تطهيرا،
وفي بحث التيمم لم يذكروا دليلا على طهارة التراب سوى الاجماع، وبعض متأخري
المتأخرين نقل الخبر المذكور دليلا وتنظر في الاستدلال به، وليت شعري أي معنى
لهذا الخبر وأين مصداقه الذي افتخر به (صلى الله عليه وآله) وذكر أنه اختص به؟
إذ لا يخفى أنه لم يرد في الشرع موضع تصير فيه الأرض مطهرة غير هذين الموضعين
وثالثهما إناء الولوغ ولم يذكروا أيضا هذا الخبر فيه ورابعها أحجار الاستجمار، وحينئذ فإذا
لم تدخل هذه المواضع في مصداق الخبر ولم يجعل دليلا عليها فلا مصداق له بالكلية
فكيف يقول (صلى الله عليه وآله) " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "؟ وليس المراد
الاختصاص به حتى أنه يكون ذلك من خصوصياته بل المراد إنما هو له ولأمته، وفي
أي موضع يوجد مصداقه إذا لم تدخل هذه الأشياء فيه؟ ما هذه إلا غفلة ظاهرة تبع فيها
المتأخر المتقدم، ويزيد ذلك ما في دعائم الاسلام (2) حيث قال: " قالوا (عليهم السلام)

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من التيمم.
(2) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 25 من النجاسات.
457

في المتطهر إذا مشى على أرض نجسة ثم على طاهرة طهرت قدميه " انتهى.
الرابع) ظاهر رواية المعلي بن خنيس ورواية الحلبي المنقولة من السرائر
اشتراط جفاف الأرض التي يمشي عليها، وبذلك صرح ابن الجنيد في عبارته المتقدمة، وإليه
ذهب جماعة من متأخري الأصحاب كما ذكره في المعالم، ونفاه العلامة في النهاية فقال:
لا فرق بين الدلك بأرض رطبة أو يابسة إذا عرف زوال العين أما لو وطأ وحلا فالأقرب
عدم الطهارة. واقتفاه شيخنا الشهيد في الروضة والروض وذكر أن الرطوبة اليسيرة
التي لا يحصل منها تعد غير قادحة على القولين. وفي المعالم جعله الأحوط، وفي المدارك
نفى عنه البأس. والأظهر عندي هو القول الأول لظاهر الخبرين المتقدمين ولا معارض
لهما إلا اطلاق غيرهما من الأخبار فيجب تقييده بهما كما هو القاعدة.
(الخامس) ربما أشعرت صحيحة زرارة الأولى من حيث اطلاق المسح فيها
بالاكتفاء بالمسح ولو بخشب أو نحوه، وهو منقول في كلام الأصحاب عن ابن الجنيد،
وهو ظاهر اطلاق عبارته المتقدمة، إلا أن الظاهر حمل اطلاق الرواية المذكورة على ما هو
المعهود الغالب حال المشي من كون المسح بالأرض وهو الذي ينصرف إليه الاطلاق،
وعلى ذلك أيضا يمكن حمل عبارة ابن الجنيد خصوصا مع تصريحه في صدرها بالأرض،
ويؤكده أنه هو المعروف بين الأصحاب من غير خلاف يعرف، وكأنه لما ذكرنا استشكل
العلامة في النهاية فقال لو دلك النعل والقدم بالأجسام الصلبة كالخشب أو مشى عليها
فاشكال. وبالجملة فالظاهر الوقوف على ما عليه الأصحاب (رضوان الله عليهم).
(السادس) ما تكرر في الأخبار من قولهم (عليهم السلام): " الأرض
يطهر بعضها بعضا " يحتمل أن يكون المراد به وهو الأقرب أن بعضها يطهر ما ينجس
ببعض وإنما أسنده إلى البعض مجازا كما يقال الماء مطهر للبول أي لنجاسة البول، فالمطهر
بصيغة اسم المفعول في الحقيقة ما ينجس بالبعض لا نفس البعض، ويحتمل أن يكون
بعضها وهو المماس لأسفل النعل والقدم الطاهر منها يطهر بعضا وهو النعل والقدم فالبعض
458

الثاني عبارة عن المطهر بها، وعلى الوجه الأول يكون التطهير مخصوصا بالنجاسة التي من
الأرض النجسة، وقال شيخنا البهائي في الحبل المتين. لعل المراد بالأرض ما يشمل نفس
الأرض وما عليها من القدم والنعل والخف. انتهى. والظاهر أنه ناظر إلى الاحتمال
الثاني. وقيل الوجه في هذا التطهير انتقال النجاسة بالوطئ عليها من موضع إلى آخر مرة
بعد أخرى حتى تستحيل ولا يبقى منها شئ. والله العالم.
(المسألة الثالثة) المشهور أن النار تطهر ما أحالته رمادا أو دخانا وتردد
فيه المحقق في كتاب الأطعمة والأشربة من الشرائع فقال: ودواخن الأعيان النجسة
عندنا طاهرة وكذا ما أحالته النار فصيرته رمادا أو دخانا على تردد.
ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه حكم بنجاسة الدخان النجس معللا له بأنه لا بد من أن يتصاعد من أجزائه قبل إحالة النار لها شئ بواسطة السخونة. ورده جملة من الأصحاب
بمنع تصاعد أجزاء الدهن بدون الاستحالة. وهو جيد مع أنه في الخلاف ادعى الاجماع
على طهارة الأعيان النجسة بصيرورتها رمادا.
وقد احتج في الخلاف على ما ذكر من الحكم بالطهارة بالاستحالة رمادا بالاجماع
وبصحيحة الحسن بن محبوب (1) " أنه سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه
بالعذرة وعظام الموتى ويجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إليه بخطه: إن الماء
والنار قد طهراه ".
وظاهر المحقق في المعتبر هنا المنازعة في هذا الاستدلال والتوقف في الحكم
حيث قال: وفي احتجاج الشيخ اشكال، أما الاجماع فهو أعرف به ونحن لا نعلمه هنا،
وأما الرواية فمن المعلوم أن الماء الذي يمازج الجص هو ما يحل به وذلك لا يطهر اجماعا
والنار لم تصيره رمادا وقد اشترط صيرورة النجاسة رمادا وصيرورة العظام والعذرة
رمادا بعد الحكم بنجاسة الجص غير مؤثر طهارته. قال ويمكن أن يستدل باجماع الناس

(1) المروية في الوسائل في الباب 81 من النجاسات و 10 من ما يسجد عليه.
459

على عدم التوقي من دواخن السراجين النجسة فلو لم يكن طاهرا بالاستحالة لتورعوا
منه. انتهى. واقتفى أثره العلامة في المنتهى في الكلام على الخبر المذكور كما هي عادته
غالبا فقال: إن في الاستدلال به اشكالا من وجهين: (أحدهما) أن الماء الممازج
هو الذي يحل به وذلك غير مطهر اجماعا. و (الثاني) أنه حكم بنجاسة الجص ثم
بتطهيره قال وفي نجاسته بدخان الأعيان النجسة اشكال. انتهى.
أقول: أما ما ذكره المحقق من المنازعة للشيخ في الاجماع فهو بمحل من النظر
لموافقته له في اجماعاته التي يدعيها بل استدلاله بها في غير موضع كما لا يخفى على من
تأمل كتابه، والحكم المذكور هنا لم يظهر فيه مخالف قبله حتى يكون موجبا للطعن في
اجماعه وقد قرروا في أصولهم أن الاجماع المنقول بخبر الواحد حجة. وأما ما ذكره بعد
الطعن في دليلي الشيخ من الاستدلال على الطهارة باجماع الناس على ما ذكره فهو أوهن
من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت فإن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه
التخريجات الوهمية مجازفة ظاهرة.
وأما ما ذكره من الكلام على الاستدلال بالرواية فليس في محله فإنه وكذا
العلامة بعده لم يمعنا النظر في تحقيق المعنى المراد منها، وذلك فإن الظاهر أن المراد منها
والله سبحانه أعلم هو أن المستفاد من ظاهر السؤال هو أن العذرة تحرق على الجص
ويختلط رمادها به وغرض السائل معرفة حالها بعد الاحراق وأنها هل تبقى على النجاسة فيلزم
تنجيس الجص بها لملاقاته لها بالرطوبة بالمزج بالماء وقت البناء أم لا؟ فخرج الجواب عنه
(عليه السلام) بأنها تطهر بالاحراق والاستحالة رمادا فليس على الجص منها بأس، وهو
معنى واضح ودليل مفصح لا غبار عليه. وهذا المعنى وإن لم يفصح به لفظ الخبر إلا أنه هو
المرجع من سياقه كما ستعرف، ويؤيده ما رواه في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه
موسى (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الجص يطبخ بالعذرة أيصلح أن يجصص به

(1) رواه في الوسائل في الباب 65 من أحكام المساجد
460

المسجد؟ قال لا بأس " لا أن المعنى فيها ما توهماه (قدس سرهما) من نجاسة الجص وأنه لا يطهر
بالنار لعدم الاستحالة وهو قد حكم بأن تطهير النار إنما هو بالاستحالة ولا بالماء الممازج له فإنه
لا يطهره اجماعا، وبالجملة فما ذكرناه معنى ظاهر الاستقامة.
وإلى ما ذكرنا أشار السيد السند في المدارك فقال: ويمكن أن يستدل على الطهارة
أيضا بما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسن بن محبوب ثم ساق الرواية ثم قال: وجه
الدلالة أن الجص يختلط بالرماد والدخان الحاصل من تلك الأعيان النجسة ولولا كونه
طاهرا لما ساغ تجصيص المسجد به والسجود عليه والماء غير مؤثر في التطهير اجماعا كما
نقله في المعتبر فتعين استناده إلى النار، وعلى هذا فيكون اسناد التطهير إلى النار حقيقة
وإلى الماء مجازا أو يراد به فيهما المعنى المجازي. وتكون الطهارة الشرعية مستفادة مما علم
من الجواب ضمنا من جواز تجصيص المسجد به ولا محذور فيه. انتهى.
أقول: الظاهر أنما هو المعنى الأول لأن مطابقة الجواب للسؤال تقتضي حصول
الطهارة ولا مطهر هنا حقيقة إلا النار كما عرفت فذكره (عليه السلام) في الجواب
ولا ينافيه ضم الماء إلى ذلك لأنه يمكن حمل مدخليته في التطهير هنا على أن يكون من قبيل
رش الماء على الثوب أو المكان المظنون النجاسة استحبابا، وبالجملة فالغرض من الخبر بيان
أنه قد ورد على ذلك الجص مطهران شرعيان الماء والنار وإن كان أحدهما حقيقة والآخر
مجازا، فلا يبقى توقف في طهارته ولا يرد السؤال بأن النار إذا طهرته أولا فلا معنى
لتطهيره بالماء إذ لا يلزم من ورود المطهر الثاني تأثيره في الطهارة كما عرفت بل يكفي
حصول المعنى المجازي.
هذا، ولا يخفى عليك أن العلة الحقيقية في الطهارة إنما هي الاستحالة سواء كانت
بالنار أو بغيرها لأن الأحكام الشرعية تابعة لصدق الاسم فمتى انتقل الشئ عن حالته
الأولى وحقيقته السابقة إلى حقيقة أخرى وسمي باسم ما صدق عليه أفراد الحقيقة الثانية
انتقل الحكم أيضا عما كان عليه أولا إلى حكم آخر ويخرج الخبر المذكور شاهدا على
461

ذلك، وبذلك صرح جملة من الأصحاب أيضا قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض.
وليست الاستحالة مختصة بالنار بل هي مطهرة بنفسها ومن ثم طهرت النطفة والعلقة
بصيرورتهما حيوانا والعذرة والميتة إذا صارا ترابا. وقال سبطه في المدارك في هذه
المسألة: والمعتمد الطهارة لأنها الأصل في الأشياء، ولأن الحكم بالنجاسة معلق على
الاسم فيزول بزواله. انتهى. وهو جيد. ونحن إنما ذكرنا النار في عداد المطهرات مع
ما سيأتي إن شاء الله تعالى من عد الاستحالة جريا على كلامهم (رضوان الله عليهم)
وبذلك يظهر أنه لا فرق بين الرماد والدخان في الحكم المذكور سيما مع دلالة ظاهر
الخبر المذكور على ذلك، لأنه لا ريب أن الجص كما اختلط بتراب العذرة والعظام
فقد لاقاه دخانها أيضا فلو لم يكن طاهرا لامتنع تجصيص المسجد به وجواز السجود عليه،
هذا خلف، وبذلك يظهر أنه لا وجه لما ذكره الشيخ في المبسوط من حكمه بنجاسة
دخان الدهن النجس ولا لتردد المحقق في الرماد والدهن في كتاب الأطعمة.
قال في المعالم بعد البحث في المسألة: إذا عرفت هذا فاعلم أن مورد الحديث
كما علمت هو استحالة عين النجاسة وقد وقع في كلام أكثر الأصحاب فرض المسألة كما
في النص، وعمم وبعضهم الحكم على وجه يتناول المتنجس أيضا نظرا إلى أن ثبوت ذلك
في أعيان النجاسات يقتضي ثبوته في المتنجس بها بطريق أولى، وهو جيد ويؤيده
ملاحظة ما قررناه في تطهير الشمس من كون دليل التنجيس في أمثال ذلك غالبا هو
الاجماع وانتفاؤه بعد الاستحالة معلوم. انتهى. وظاهره أن ثبوت الطهارة في المسألة
المذكورة بالنسبة إلى عين النجاسة بعد الاستحالة إنما هو بالاجماع مضافا إلى النص المذكور
وأما في المتنجس فليس إلا طريق الأولوية المؤيدة بعدم الاجماع كما ذكره. وفيه نظر
بل الحق في الموضعين هو ما قدمنا ذكره من تبعية الأحكام للتسمية التابعة للحقيقة التي
عليها ذلك الشئ، وسيأتي في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى مزيد ايضاح لذلك.
نعم هنا مواضع قد وقع الخلاف في طهارتها بالنار مع عدم الاستحالة أو الشك فيها
462

(الأول) الفحم قال في المعالم: ألحق بعض المتأخرين بالرماد الفحم محتجا بزوال
الصورة فيه والاسم، وتوقف والدي (قدس سره) في ذلك، وكلام المتقدمين خال
من التعرض له، والتوقف في محله إن كانت استحالته عن عين نجاسة أما إذا كان مستحيلا
عن متنجس كالحطب النجس فليس بالبعيد طهارته نظرا إلى ما قلناه في استحالة هذا النوع
رمادا. انتهى. وهو جيد إلا أن في الفرق بين عين النجاسة والمتنجس خفاء فإنه إن حصلت
الاستحالة والخروج عن الحقيقة الأولى والاسم التابع لها إلى حقيقة أخرى يتبعها اسم
آخر فالظاهر الطهارة كما قدمناه في الموضعين وإلا فلا.
(الثاني) الطين النجس إذا طبخ بالنار حتى صار خزفا أو آجرا، فذهب
الشيخ في الخلاف والعلامة في النهاية وموضع من المنتهى والشهيد في البيان والمحقق الشيخ
حسن في المعالم إلى القول بالطهارة، وجزم جمع من المتأخرين: منهم الشهيد الثاني
بالعدم، وتوقف المحقق في المعتبر والعلامة في موضع آخر من المنتهى والسيد السند في المدارك
استدل الشيخ في الخلاف بالاجماع وصحيحة الحسن بن محبوب المتقدمة، واحتج
في المعالم على ذلك فقال: لنا أصالة الطهارة بالتقريب السابق في تطهير الشمس وملاحظة
كون مدرك الحكم بالتنجيس في مثله بعد ذهاب العين هو الاجماع لا ريب في التفائه
بعد الطبخ، كيف وقد احتج الشيخ للطهارة باجماع الفرقة فلا أقل من دلالته على نفي
الاجماع على ثبوت التنجيس حينئذ وقد علم أن الاستصحاب في ما مدركه الاجماع مطرح وإذا
لم يكن على الحكم بالنجاسة فيما بعد الطبخ دليل فالأصل يقتضي براءة الذمة من التكليف
باجتنابه أو تطهيره أو تطهير ما يلاقيه برطوبة لأجل فعل مشروط بالطهارة. انتهى.
أقول: أما ما استدل به الشيخ هنا على الطهارة فإنا لا نعرفه وهو أعرف به،
أما اجماعاته المدعاة في هذا الموضع وغيره فلا يخفى على العارف الخائض في الفن ما فيها،
وأما الرواية فلا دليل فيها على ما يدعيه بالكلية كما تقدم بيانه إذ لا اشعار فيها بنجاسة
الجص قبل الحرق حتى أنه بالحرق صار طاهرا ويصير الحكم في الخزف مثله.
463

وأما ما ذكره في المدارك بعد نقل احتجاج الشيخ (قدس سره) حيث قال: وفيه
اشكال منشأه الشك في تحقق الاستحالة وإن كان القول بالطهارة محتملا لعدم تيقن استمرار
حكم النجاسة ففيه أن ما ذكره من الاشكال باعتبار الشك في تحقق الاستحالة كما تقدم منه
أيضا في باب التيمم في محله، وأما ما ذكره من أن القول بالطهارة محتمل لعدم تيقن
استمرار حكم النجاسة فكلام مزيف لا يخفى ما فيه على المتأمل بعين التحقيق فإنه متى
ثبتت النجاسة وحكم بها استمر الحكم بها حتى يثبت الرافع الشرعي والمطهر الشرعي
وليس هنا إلا الاستحالة وهو لا يقول بها بل جعلها موضع شك، ولو كان مجرد خروج
الشئ من حال إلى أخرى يوجب الطهارة لوجب بمقتضى ذلك الحكم بطهارة العجين
النجس بخبزه وطهارة الأرض بعد الرطوبة باليبوسة بالهواء ونحو ذلك وهو لا يقول به،
وقد صرح به في الفرع الأول من فروع مسألة تطهير الشمس في ما لو جف بغير الشمس
فقال: ويدل عليه أن نجاسة المحل بالنص فيقف زوال النجاسة على ما عده الشارع
مطهرا. انتهى. وهو آت في ما نحن فيه، وبالجملة فإن الاستصحاب هنا إنما هو من
قبيل استصحاب عموم الدليل المتفق على صحته. نعم ما ذكره يأتي في الاستصحاب
المصطلح الذي هو محل النزاع بينهم وهو محل ما دل الدليل فيه على حال مخصوصة وأريد
تعدية الحكم إلى حالة أخرى خالية من النص لا في ما إذا كان الدليل شاملا للحالين.
وأما ما ذكره في المعالم فهو مبني على ما تفرد به في تطهير الشمس مما نقلناه ثمة
عنه وبينا ما فيه وهو أصل متزعزع الأركان وقاعدة منهدمة البنيان بما أوضحنا من الأدلة
الساطعة البرهان المخالفة لما عليه كافة العلماء الأعيان، وحينئذ فمتى ثبتت النجاسة وجب
استصحاب حكمها إلى أن يحصل المطهر الشرعي وليس ثبوت أصل الحكم بالاجماع
خاصة كما ادعاه حتى أنه بعد الطبخ حيث لا اجماع فمقتضى الأصل الطهارة، وبالجملة فإن
المعتبر في الحكم بالنجاسة هو ملاقاتها للشئ مع الرطوبة فإنه يصير بذلك متنجسا
بالاجماع نصا وفتوى وهذا الحكم لا يزول عنه إلا بتطهيره بأحد المطهرات المنصوصة،
464

هذا هو مقتضى الأصول الشرعية والقواعد المرعية المتفق عليها بين كافة العلماء قديما
وحديثا، وزوال العين لم يجعل مطهرا إلا في حالة مخصوصة متفق عليها نصا وفتوى
لا مطلقا كما يدعيه في غير الثلاثة التي قدمها.
احتج شيخنا الشهيد الثاني في الروض على ما ذهب إليه من النجاسة بعدم خروج
الخزف عن مسمى الأرض كما لم يخرج الحجر عن مسماها مع أنه أقوى تصلبا منه مع تساويهما
في العلة وهو عمل الحرارة في أرض أصابتها رطوبة ومن ثم جاز السجود عليهما مع اختصاصه
بالأرض ونباتها بشرطية. انتهى.
وأجاب عن ذلك ولده في المعالم فقال: هذا، وعندي أن ادعاء عدم الخروج عن
الاسم هنا توهم منشأه النظر إلى الحجر وملاحظة ما ذكر من اشتراكهما في علة الصلابة
وكونها في الحجر أقوى، والعرف الذي هو المحكم عند فقدان الحقيقة الشرعية وخفاء
اللغوية ينادي بالفرق ويعلن بصدق اسم الأرض على الحجر دون الخزف، وقد تنبه
لهذا جماعة: منهم المحقق في المعتبر فقال في بحث التيمم: إن الخزف خرج بالطبخ
عن اسم الأرض فلا يصلح التيمم به، ثم ذكر جوازه في الحجر محتجا بأنه أرض اجماعا
(لا يقال) هذا مناف لتوقفه في طهارته (لأنا نقول) ليس نظره في التوقف إلى عدم
الخروج عن الاسم لأنه توقف فيما لا ريب في خروجه وقد عرفت كلامه في الرماد
وستري كلامه في ما يستحيل بغير النار. انتهى. ومن هنا يظهر أن توقف من توقف
في المسألة للشك في الخروج وعدمه في محله. والله العالم.
(الثالث) العجين المعجون بماء نجس هل يطهر بخبزه أم لا؟ المشهور العدم
وقال الشيخ في النهاية في باب المياه: فإن استعمل شئ من هذه المياه النجسة في عجين
يعجن به ويخبز لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز فإن النار قد طهرته. وقال في باب الأطعمة
من الكتاب المذكور: وإذا نجس الماء بحصول شئ من النجاسات فيه ثم عجن به وخبز
لم يجز أكل ذلك الخبز وقد رويت رخصة في جواز أكله وذلك أن النار قد طهرته
465

والأحوط ما قدمناه. واختلف كلامه أيضا في كتابي الحديث فأفتى في الإستبصار بالطهارة
وفي التهذيب بعدمها.
واحتج في المعالم بعد اختياره القول المشهور من عدم الطهارة فقال: لنا أصالة
النجاسة إذ المفروض كون الماء نجسا والنار لا تخرج من العجين المخبوز جميع الماء وإنما
تجفف بعض رطوبته فيفتقر الحكم بطهارة باقي الرطوبة إلى الدليل (لا يقال) يلزم على
هذا طهر الأجزاء التي تجففها النار من رطوبة الماء رأسا لزوال المقتضي لاستصحاب
النجاسة حينئذ (لأنا نقول) مدار غالب أحكام النجاسات على الاجماع ومن البين أن
الخلاف هنا منحصر في القول بالبقاء على النجاسة مطلقا والقول بطهارته إذا صار خبزا
مطلقا والتمسك باستصحاب النجاسة ينفي القول الثاني، وأما احتمال الطهارة إذا صار خبزا
يابسا فإنما ينفيه فرض انحصار الخلاف في القولين إذ لا مساغ لاحداث الثالث على
ما يقتضيه أصول الأصحاب، وقد بينا هذا في مبحث الاجماع من مقدمة الكتاب. انتهى.
أقول: لا يخفى أن ما ذكره في صدر كلامه جيد وبه استدل جملة من الأصحاب
إلا أنه في سؤالاته لنفسه وأجوبته قد ناقض نفسه في ما تقدم نقله عنه في تطهير الشمس
فإنه قد قال ثمة بعد أن ذكر انحصار وجوب التطهير بعد زوال العين في الثوب والبدن
والآنية دون غيرها ما لفظه: (فإن قلت) كأن الاتفاق واقع على أن للنجاسات
المعلومة أثرا في كل ما تلاقيه برطوبة مستمرا إلى أن يحصل المطهر الشرعي فيفتقر كل
نوع من أنواع المطهرات إلى دليل يثبته (قلت) هذا كلام ظاهري يقع في خاطر
العاجز عن استنباط بواطن الأدلة ويلتفت إليه القانع بالمجمل عن التفاصيل وما قررناه أمر
وراء ذلك، وبالجملة فالذي يقتضيه التحقيق أنه لا معنى لكون الشئ نجسا إلا دلالة
الدليل الشرعي على التكليف باجتنابه في فعل مشروط بالطهارة أو إزالة عينه أو أثره
لأجله وأن ما لا دليل فيه على أحد الأمرين فهو على أصل الطهارة بمعنى أصالة براءة الذمة
من التكليف فيه بأحدهما.. إلى آخر ما تقدم.
466

أقول: لا ريب في دخول الخبز اليابس بالنار أو الهواء في ما ذكره من الأفراد
التي يجب بمقتضى تحقيقه الحكم فيه بالطهارة كالأرض التي تجف بغير الشمس، وتوقفه
هنا على وجود القائل به يدفعه قوله بما ذهب إليه من هذا القول الذي تفرد به فإن عامة
الأصحاب قديما وحديثا كما لا يخفى على من راجع كتبهم وكلامهم على أن النجاسات متى
أثرت في شئ بملاقاتها له برطوبة وجب استصحاب ذلك إلى وجود المطهر الشرعي وهو
قد ذهب إلى طهارته بمجرد زوال العين في غير الثوب والبدن والآنية، فاللازم هنا هو
طهارة الخبز الذي عجينه نجس باليبس وزوال الماء النجس كيف اتفق كما لا يخفى إذ العلة في
الموضعين واحدة والتستر عن ذلك بلزوم احداث قول ثالث في هذا المقام تستر بما هو
أوهن من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت، فإن انتشار الخلاف وتكثر الأقوال
في المسائل الشرعية بين المتأخرين مما لم يوجد في كلام المتقدمين ولو صحت هذه القاعدة
لم يبلغ الأمر إلى ذلك، على أن الأصل الذي بنى عليه كما عرفت إنما أحدثه هو
خاصة ولم يقل به أحد قبله بل عبائر الأصحاب كلها على خلافه وإن سجل عليه بما سجل
وأكثر بما طول، وبالجملة فظهور المنافاة بين كلاميه مما تقدم في مسألة تطهير الشمس وما
ذكره هنا أوضح من أن يحتاج إلى تطويل وإن تستر عنه بما لا اعتماد عليه ولا تعويل.
وكيف كان فالواجب الرجوع إلى الروايات الواردة في المقام وبيان ما يفهم
منها من الأحكام:
فمنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال وما
أحسبه إلا حفص بن البختري (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في العجين
يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال يباع ممن يستحل أكل الميتة ".
وفي الصحيح عن ابن أبي عمير أيضا عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه
السلام) (2) قال: " يدفن ولا يباع ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب الأسئار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب الأسئار.
467

وما رواه ثقة الاسلام والشيخ عن زكريا بن آدم (1) قال: " قلت لأبي الحسن
(عليه السلام) فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال فقال فسد. قلت أبيعه من
اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال نعم فإنهم يستحلون شربه " وبمضمون هذه الرواية
أفتى في الفقيه من غير اسنادها إلى الإمام فقال: " وإن قطر خمر أو نبيذ في عجين فقد
فسد فلا بأس ببيعه من اليهود والنصارى بعد أن يبين لهم ".
وفي الصحيح عن ابن أبي عمير أيضا عن من رواه عن الصادق (عليه السلام) (2)
" في عجين عجن وخبز ثم علم أن الماء كان فيه ميتة؟ قال لا بأس أكلت النار ما فيه ".
وعن عبد الله بن الزبير (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البئر
تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال
إذا أصابته النار فلا بأس بأكله ".
أقول: والظاهر أن مستند الشيخ في ما تقدم نقله عنه من الطهارة بالخبز هو
الخبران الأخيران، ورده المتأخرون بعد الطعن بضعف السند بالطعن في الدلالة
(أما الأول) فلأن الميتة أعم من الطاهرة والنجسة ولا دلالة في الخبر على كونها من
ذوات الأنفس النجسة بالموت. و (أما الثاني) فهو موقوف على القول بنجاسة البئر
والأظهر طهارتها وهذا الخبر من جملة الأخبار الدالة على ذلك، ونفي البأس عن أكله
بعد إصابة النار إنما هو كناية عن الاستقذار المتوهم مما في الماء كما يشير إليه قوله في الخبر
الأول " أكلت النار ما فيه " ومن المحتمل قريبا أن المراد بالماء في رواية ابن أبي عمير الثالثة
إنما هو ماء البئر. وحينئذ فلا فرق بين كونها نجسة العين أو طاهرة بناء على عدم نجاسة
البئر بالملاقاة، وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور لأصالة بقاء النجاسة حتى يحصل

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من الماء المطلق.
(3) رواه في الوسائل في الباب 14 من الماء المطلق.
468

المطهر الشرعي كما عليه جملة الأصحاب في هذا الباب وتخرج الروايات الثلاث المتقدمة
شاهدة على ذلك.
بقي الكلام هنا في مسألتين: (إحداهما) أن الرواية الأولى تضمنت أنه يباع ممن
يستحل الميتة والثانية تضمنت أنه يدفن ولا يباع. ويمكن الجمع بينهما بحمل النهي عن البيع
على البيع على المسلم من غير اعلام وإلا فبيعه على المسلم مع الاعلام لا اشكال في جوازه بل
الظاهر أنه لا خلاف فيه كالدهن النجس ونحوه فإن له منافع محللة.
و (ثانيتهما) أن الرواية الأولى تضمنت أنه يباع من أهل الذمة وبه صرح
الشيخ في النهاية وهو ظاهر المشهور بين الأصحاب أيضا، ومنع ابن إدريس من ذلك
وذهب إلى أنه لا يجوز بيعه مطلقا وقال إن الرواية الواردة بذلك متروكة فلا
عمل عليها لأنها مخالفة لأصول مذهبنا ولأن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: " إذا
حرم الله شيئا حرم ثمنه " (1) وأجاب العلامة في المختلف بعد اختياره مذهب الشيخ عن
كلام ابن إدريس بأن هذا في الحقيقة ليس بيعا وإنما هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه
فكان سائغا. انتهى. وهو مؤذن بتوقفه في الحكم بصحة البيع، وبذلك صرح في المنتهى
فقال: وأما ما تضمنته الرواية من البيع ففيه نظر والأقرب أنه لا يباع لرواية ابن أبي عمير
فإن استدل بما رواه ابن أبي عمير وذكر الرواية الأولى، ثم قال والجواب أنها معارضة لما
قدمناه ويمكن أن يحمل على البيع على غير أهل الذمة وإن لم يكن ذلك بيعا حقيقة.
وعندي في ما ذكره ابن إدريس وكذا ما ذكره العلامة في المنتهى نظر

(1) لم يرد هذا الحديث بهذا اللفظ في كتب الأخبار لا من طرق الخاصة ولا من طرق
العامة نعم ورد في حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله " إن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم ثمنه
عليهم " وقد رواه أحمد في المسند ج 1 ص 247 و ص 293 والبيهقي في السنن ج 6
ص 13 وأبو داود في السنن ج 2 ص 280 وابن الدتيع في تيسير الوصول ج 1 ص 55
والشوكاني في نيل الأوطار ج 5 ص 121.
469

(أما أولا) فلما قدمنا الإشارة إليه من أنه عين مملوكة يجوز الانتفاع بها نفعا محللا في
علف الحيوان كالدهن النجس للاستصباح وغيره فلا مانع من بيعه، نعم إذا باعه على
مسلم فظاهر الأصحاب وجوب اعلامه وإن لم أقف فيه على دليل وأما بيعه على الكافر
المستحل لذلك فلا يتوقف على الاعلام.
و (أما ثانيا) فلتظافر الأخبار بذلك ومنها رواية زكريا بن آدم المتقدمة
وصحيحة ابن أبي عمير الأولى وحسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (عليه السلام) (1)
" أنه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ثم إن الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع؟ قال يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه.. "
وصحيحته الأخرى أيضا عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سمعته يقول إذا
اختلط الذكي بالميت باعه ممن يستحل الميتة.. " ومع دلالة هذه الأخبار على الحكم المذكور
فلا مجال للتوقف فيه ولا ضرورة إلى ما تكلفه العلامة في المختلف من التأويل.
وأما ما استند إليه ابن إدريس من الحديث الذي نقله ففيه أنه بعد صحته وثبوته
فغايته أن يكون مطلقا وهذه الأخبار مع تكاثرها وصحتها خاصة فيجب تقييد اطلاق
ذلك الخبر بها كما هو القاعدة المتكررة في كلامهم.
بقي أن رواية زكريا ابن آدم تضمنت الاعلام قبل البيع إلا أن ذلك في كلام
السائل فلا يتقيد به الحكم المذكور لكن ظاهر عبارة الصدوق المتقدمة تقييد الحكم
بذلك في البيع على أهل الذمة وإليه يشير كلام العلامة في المنتهى وقوله: " ويمكن أن
يحمل على البيع على غير أهل الذمة " ويمكن توجيه ذلك بأنهم مع القيام بشرائط الذمة
يعاملون معاملة المسلمين فلا يباع عليهم إلا مع الاعلام. إلا أن فيه أن رواية زكريا
المشتملة على ذلك وهي التي أخذ الصدوق عبارته منها تضمنت أنهم يستحلون شربه فأي

(1) المروية في الوسائل في الباب 36 من الأطعمة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من الأطعمة المحرمة.
470

فائدة تترتب على الأعلام، وبالجملة فالاشكال في عبارة الصدوق لا في الرواية لما
عرفت. والله العالم.
(المسألة الرابعة) من المطهرات عند الأصحاب الاستحالة إلا أنهم قد اتفقوا
على مواضع منها واختلفوا في مواضع:
فأما ما وقع عليه الاتفاق فالنطفة والعلقة إذا استحالتا حيوانا طاهرا والخمر إذا انقلب
خلا والدم إذا صار قيحا، وقد نقل العلامة في المنتهى الاجماع في كل من
هذه المذكورات وأضاف إلى القيح الصديد أيضا، وفيه كلام تقدم في آخر الفصل الرابع
في نجاسة الدم وهو أن الصديد قيح يخالطه الدم كما لا يخفى، ومن ذلك أيضا استحالة الماء
النجس بولا لحيوان مأكول اللحم والغذاء النجس روثا لحيوان مأكول اللحم.
وأما ما وقع فيه الخلاف من الأفراد فمنه ما تقدم في مسألة التطهير بالنار،
ومنه الكلب إذا وقع في المملحة فصار ملحا فذهب المحقق في المعتبر والعلامة في
عدة من كتبه إلى عدم الطهارة، قال في المنتهى: إذا وقع الخنزير وشبهه في ملاحة
فاستحال ملحا والعذرة في البئر فاستحالت حمأة لم تطهر وهو قول أكثر أهل العلم خلافا
لأبي حنيفة (1) وبنحو ذلك صرح المحقق في المعتبر، واحتجا بأن النجاسة قائمة بالأجزاء
لا بالصفات فلا تزول بتغير أوصاف محلها وتلك الأجزاء باقية فتكون النجاسة باقية لانتفاء
ما يقتضي ارتفاعها. والمشهور في كلام المتأخرين عنهما هو القول بالطهارة لما قدمنا ذكره
في بحث تطهير النار من أن الأحكام تابعة للاسم الجاري على حقائق الأشياء وجارية
على ذلك، والكلب بعد استحالته ملحا قد صارت حقيقته إلى حقيقة الملح وسمي باسم آخر
باعتبار ما صار إليه، فما ورد من الأخبار الدالة على نجاسة الكلب لا تصدق في محل البحث
والأخبار الدالة على طهارة الملح وحله جارية عليه في هذه الحالة بعين ما وافقوا عليه في الأفراد
المتقدمة، ولو صحت هذه التعليلات العليلة لجرت أيضا فيما وافقوا على طهارته بالاستحالة.

(1) كما في البحر الرائق ج 1 ص 227.
471

ولا بأس بالتعرض لنقل كلام جملة من الأصحاب في الباب ليزول عنك
الشك فيما ذكرنا والارتياب. قال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد أن ذكر
عبارة المصنف المؤذنة بالتوقف في الحكم المذكور في بيان وجهي التوقف: من أن
أجزاء النجاسة باقية لم تزل وإنما تغيرت الصورة وكما أن النجاسة حكم شرعي لا يثبت
إلا بدليل كذا حصول الطهارة موقوف على الدليل ولم يثبت، ومن أن مناط النجاسة
هي تلك الصورة مع الاسم لأن أحكام الشرع جارية على المسميات بواسطة الأسماء لأن
المخاطب بها كافة الناس فينزل على ما هو المتفاهم بينهم عرفا أو لغة كما يليق بالحكمة،
ولا ريب أن الذي كان من أفراد نوع الكلب قبل الاستحالة بحيث يصدق عليه اسمه
قد زال عنه ما كان وصار في الفرض من أفراد الملح بحيث لا يصدق عليه ذلك الاسم
بل يعد اطلاقه غلطا، وكذا القول في العذرة بعد صيرورتها ترابا فيجب الآن أن
تجري عليها الأحكام المترتبة شرعا على التراب والملح، على أن جميع ما أجمعوا على
طهارته من نحو العذرة تصير دودا والمني يصير حيوانا طاهر العين ونحو ذلك لا يزيد
على هذا، فكان التوقف في الطهارة هنا لا وجه له. انتهى كلامه. وهو جيد وجيه
وبالجملة فإن المعلوم من الشرع والنصوص الواردة عن أهل الخصوص (عليهم السلام)
هو دوران الأحكام مدار الأسماء الثابتة لتلك المسميات فإذا حكم الشارع بنجاسة الكلب
مثلا أو العذرة بقي الحكم ثابتا ما ثبت هذا الاسم وإذا حكم بطهارة الملح وحله وطهارة
التراب ثبت أيضا ما ثبت الاسم كائنا ما كان، وقد تقدم كلام صاحب المدارك في ذلك
في سابق هذه المسألة ونحوه كلام جده، وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم في هذه
المسألة بعد نقل القول بالنجاسة عن الفاضلين والطهارة عن فخر المحققين والمحقق الشيخ
علي والشهيد ووالده ما صورته: وهو الأظهر لنا أن الحكم بالنجاسة منوط
بالاسم كما هو الشأن في سائر الأحكام الشرعية فيزول بزواله والمفروض في محل النزاع
انتفاء صدق الاسم الأول ودخوله تحت اسم آخر فيجب زوال الحكم الأول ولحوق
472

أحكام الاسم الثاني له، ثم نقل حجة الفاضلين المتقدمة وقال: والجواب أن قيام النجاسة
بالأجزاء مسلم لكن لا مطلقا بل بشرط الوصف لأنه المتبادر من تعليق الحكم بالاسم
والمعهود في الأحكام الشرعية ولا ريب في انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه. انتهى.
وهو جيد وجيه.
فرعان
(الأول) قد نبه جملة من الأصحاب في الصورة المفروضة على اشتراط كرية
ماء المملحة، والظاهر أن الوجه فيه تنجس الماء والأرض لو كان الماء أقل من كر وكذا
الملح الملاقي له في المملحة، فطهارته بالاستحالة بعد تنجس جميع ذلك لا يجدي في
زوال النجاسة العارضة به أولا وكذا استحالة الماء ملحا بعد نجاسة أرضه لا يجدي في
زوال النجاسة عنه.
(الثاني) ينبغي أن يعلم أن طهارة العذرة مثلا باستحالتها ترابا والحكم بطهارة
التراب في الصورة المذكورة إنما هو فيما إذا كانت العذرة التي كانت في الأرض يابسة
ثم استحالت أما لو كانت رطبة ثم استحالت فإن الأرض قد تنجست بها في حال الرطوبة
فهي وإن استحالت إلا أن الأرض باقية على النجاسة بذلك السبب وإن كانت عرضية،
وهكذا كل نجاسة رطبة استحالت أرضا.
وأما باقي المطهرات العشرة كما عده الأصحاب فمنه الاسلام والأمر فيه ظاهر،
والانقلاب وقد تقدمت الإشارة إليه في الاستحالة بانقلاب الخمر خلا والعصير، وعليه
تدل جملة من الأخبار ومنها موثقة عبيد بن زرارة (1) قال " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الرجل يأخذ الخمر فيجعله خلا؟ قال لا بأس " وموثقة أخرى له أيضا
عن الصادق (عليه السلام) (2) أنه قال: " في رجل باع عصيرا فحبسه السلطان حتى

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 31 من الأشربة المحرمة.
473

صار خمرا فجعله صاحبه خلا؟ فقال إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس " وفي هذا الخبر كما
ترى دلالة على ما قدمنا ذكره من تبعية الأحكام الشرعية للاسم طهارة ونجاسة وحلا وحرمة
ومنها نقصان العصير وقد تقدم جملة من الأخبار الدالة عليه في فصل نجاسة الخمر.
ومنها الانتقال كالدم المنتقل إلى البعوضة والقمل ونحوهما والحكم فيه أيضا مما لا خلاف
فيه ولا اشكال يعتريه والله العالم.
(المقصد الثالث) في الأواني والكلام يقع في حكم تطهيرها وبيان ما يجوز استعماله منها
وما لا يجوز فالكلام في هذا المقصد يقع في مطلبين: (الأول) في حكم تطهيرها وفيه مسائل:
(الأولى) اختلف الأصحاب في كيفية تطهير الإناء من ولوغ الكلب بالماء
القليل، فالمشهور أنه يطهر بغسله ثلاث مرات أولاهن بالتراب. وقال المفيد (قدس
سره) في المقنعة يغسل ثلاثا وسطاهن بالتراب ثم يجفف. وأطلق جملة من الأصحاب:
منهم المرتضى (رضي الله عنه) والشيخ في الخلاف أنه يغسل ثلاثا إحداهن بالتراب
وقال الصدوق في الفقيه بعد تقدم ذكر الإناء: " وإن وقع فيه كلب أو شرب منه
أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء ثم يجفف " وكذا
نقله عن أبيه في الرسالة أيضا بعين هذه العبارة، وقال ابن الجنيد في مختصره: " والأواني
إذا نجست بولوغ الكلب أو ما جرى مجراه غسل سبع مرات أولاهن بالتراب ".
والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة صحيحة أبي الفضل البقباق المروية في
التهذيب عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الكلب فقال رجس نجس
لا يتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء " وروى هذه الرواية
المحقق في المعتبر وكذا العلامة في المنتهى وزاد لفظ " مرتين " بعد قوله " بالماء ".
وما في الفقه الرضوي حيث قال (عليه السلام) (2): " إن وقع كلب
في الماء أو شرب منه أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء ثم

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من الأسئار و 12 من النجاسات.
(2) ص 5.
474

يجفف " انتهى. ومن هذه العبارة أخذ الصدوق في الفقيه وكذا في المقنع وأبوه في
الرسالة ما ذكراه حسبما عرفت وستعرف إن شاء الله تعالى في جملة من الأحكام الآتية
في كتاب الصلاة والكتب التي بعده.
وما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (1)
" في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ؟ قال تغسله سبع مرات وكذلك الكلب " والظاهر أن هذا الخبر مستند ابن الجنيد في ما نقل عنه من السبع والخبر وإن كان خاليا من ذكر
التراب إلا أنه يمكن أخذه من الخبر المتقدم.
وتحقيق البحث في المسألة يتوقف على بسط الكلام في موارد: (الأول) مورد
الخبرين المتقدمين شرب الكلب من الإناء والأصحاب عبروا في هذا الموضع بالولوغ
وهو لغة على ما نص عليه في الصحاح وغيره شرب الكلب بطرف لسانه، وزاد في
القاموس إدخال لسانه في الإناء وتحريكه.
ونص جماعة من متأخري الأصحاب على أن لطع الكلب بلسانه أي لحسه للإناء
في معنى الولوغ أيضا وإن لم يصدق عليه اسمه حقيقة نظرا إلى أنه أولى بالحكم من الولوغ
فيتناوله الدليل بمفهوم الموافقة، وصرح به في المدارك واستحسنه في المعالم وهو غير بعيد.
ونص العلامة في النهاية على أنه لو حصل اللعاب بغير الولوغ فالأقوى الحاقه به
إذ المقصود قلع اللعاب من غير اعتبار السبب، قال وهل يجري عرقه وسائر رطوباته
وأجزائه وفضلاته مجرى لعابه؟ اشكال الأقرب ذلك لأن فمه أنظف من غيره ولهذا
كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات لكثرة لهثه، مع أنه قال في المنتهى:
لا يغسل بالتراب إلا من الولوغ خاصة فلو أدخل الكلب يده أو رجله أو غيرهما كان
كغيره من النجاسات، ثم نقل عن ابن بابويه التسوية بين الوقوع والولوغ ونقل أقوال
بعض العامة ثم أجاب عنه بأنه تكليف غير معقول المعنى فيقف على النص وهو إنما دل

(1) رواه في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المحرمة.
475

على الولوغ، ثم نقل حجة المخالف بأن كل جزء من الحيوان يساوي بقية الأجزاء في
الحكم، ثم أجاب بأن التساوي ممنوع والفرق واقع إذ في الولوغ تحصل ملاقاة الرطوبة
اللزجة للإناء المفتقرة إلى زيادة في التطهير. وقد اقتفى في هذه الحجة المحقق في المعتبر
ومنها يعلم الجواب عما صار إليه في النهاية، ومن العجب أنه قال فيها بعد الكلام المتقدم
بسطر واحد تقريبا: ولو أدخل يده أو رجله أو غيرهما من أجزائه كان كغيره من
النجاسات وقيل بمساواته للولوغ، والأصحاب قد نقلوا عن ابني بابويه الحاق الوقوع
بالولوغ وردوه بعدم الدليل.
قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما: والمشهور بين الأصحاب قصر الحكم على
الولوغ وما في معناه وهو اللطع، والوجه فيه ظاهر إذ النص إنما ورد في الولوغ وادعاء
الأولوية في غيره مطلقا في حيز المنع وبدونها يكون الالحاق قياسا. انتهى.
أقول: العذر لهم واضح حيث إنهم لم يقفوا على هذا الكتاب الذي هو
مستندهم في جميع ما يستغربونه من الأحكام التي يقول بها ولم يوجد مستندها في الكتب
المشهورة. لكن الأولى بهم في مثل المقام أن يحملوا كلامهما على وصول خبر إليهما ولم
يصل إلى المتأخرين حيث إنهما من أرباب النصوص الذين لا يعولون إلا عليها على
الخصوص لا على مفهوم أولوية ولا قياس ولا نحوهما مما لا يخرج عن شبهة الالتباس،
وبالجملة فقد عرفت مستندهما في ما ذكرناه فلا ورود لما أورد عليهما.
والعجب أيضا أن ممن صرح بالحاق الوقوع بالولوغ المفيد (قدس سره) والظاهر أن مستنده أيضا في ذلك هو الكتاب المذكور وإن كانت عبارته على غير نهج عبارة
الكتاب حيث قال: إذا شرب منه كلب أو وقع فيه أو ماسه ببعض أعضائه فإنه يهراق
ما فيه من ماء ثم يغسل مرة بالماء ومرة ثانية بالتراب ومرة ثالثة بالماء ويجفف ويستعمل.
ومنه يظهر قوة ما ذهب إليه في النهاية بالنسبة إلى أجزاء الكلب. نعم ما ذكره زيادة
على ذلك من عرقه وسائر رطوباته محل توقف لعدم الدليل.
476

(الثاني) المشهور بين الأصحاب من غير خلاف يعرف متقدميهم ومتأخريهم
هو وجوب المرتين بالماء مع أن الخبر الذي نقله الشيخ خال من ذلك ولفظ المرتين إنما
وجد في الخبر بنقل المعتبر ومن أجل ذلك اعترضهم في المدارك فقال بعد نقل الخبر عن
الشيخ: كذا وجدته في ما وقفت عليه من كتب الأخبار ونقله كذلك الشيخ (قدس سره)
في مواضع من الخلاف والعلامة في المختلف إلا أن المصنف في المعتبر نقله بزيادة لفظ
" مرتين " بعد قوله: " اغسله بالماء " وقلده في ذلك من تأخر عنه، ولا يبعد أن
تكون الزيادة وقعت سهوا من قلم الناسخ، ومقتضى اطلاق الأمر بالغسل الاكتفاء
بالمرة الواحدة بعد التعفير إلا أن ظاهر المنتهى وصريح الذكرى انعقاد الاجماع على
تعدد الغسل بالماء فإن تم فهو الحجة وإلا أمكن الاجتزاء بالمرة لحصول الامتثال بها. انتهى
أقول: إن ذكر المرتين لو اختص بمن تأخر عن المحقق لتم ما ذكره ولكنه موجود في
كلام المتقدمين كالشيخين والصدوقين والمرتضى وغيرهم. وأما ما ادعاه من توهم السهو
في النقل فقد أجاب عنه شيخنا البهائي في الحبل المتين بأن عدم اطلاعنا على هذه الزيادة
في الأصول المتداولة في هذا الزمان غير قادح وأن كلام المحقق في المعتبر يعطي أنه نقل
بعض الأحاديث المذكورة من كتب ليست في أيدي أهل زماننا إلا أسماؤها ككتب
الحسن بن محبوب وأحمد بن محمد بن أبي نصر والحسين بن سعيد والفضل بن شاذان
وغيرهم، ولعله (قدس سره) نقل هذه الزيادة من بعض هذه الكتب. انتهى. وهو
جيد، ويؤيده ما عرفت من تصريح أساطين الفرقة الناجية بذلك ووجود ذلك في
كتاب الفقه فلا مجال للتوقف فيه.
(الثالث) قد عرفت مما تقدم أنه أطلق جملة من الأصحاب الغسل ثلاثا
إحداهن بالتراب، وبعض قيد بتقديم التراب وبعض جعله متوسطا، وظاهر الجميع
الاتفاق على عدم جواز التأخير. بقي الكلام في القولين المذكورين وصحيحة البقباق
477

قد صرحت بالتقديم. وأما القول بالتوسط كما ذهب إليه شيخنا المفيد فلم نقف
له على مستند.
(الرابع) اختلف الأصحاب في الغسلة التي بالتراب هل يجب المزج فيها
بالماء أم لا؟ فذهب إلى الأول الراوندي وابن إدريس ومال إليه العلامة في المنتهى
خاصة، والمشهور العدم لكنهم بين ساكت عن حكم المزج وبين مصرح بجوازه واجزائه
في التطهير، وممن صرح بالاجزاء الشهيد في الدروس والبيان وهو ظاهر الشهيد الثاني
في المسالك أيضا إلا أنه اشترط بأن لا يخرج التراب بالمزج عن اسمه.
قال ابن إدريس على ما نقله عنه العلامة في المختلف: كيفية غسله بالتراب أن
يمزج الماء بالتراب ثم يغسل به الإناء أول مرة لأن حقيقة الغسل جريان المائع على المحل.
وقال في المنتهى قال ابن إدريس الغسل بالتراب غسل بمجموع الأمرين منه ومن الماء
لا يفرد أحدهما عن الآخر إذ الغسل بالتراب لا يسمى غسلا لأن حقيقته جريان المائع على
الجسم المغسول والتراب وحده غير جار، وفي اشتراط الماء نظر وإن كان ما قاله قويا. انتهى.
أقول: ومن هذا الكلام علم دليل القول المذكور وملخصه أن حقيقة الغسل
جريان المائع على الجسم المغسول والتراب وحده لا يحصل به الجريان فيعتبر مزجه بالماء
تحصيلا لحقيقة الغسل.
وأجاب عنه المحقق الشيخ علي بأنه خيال ضعيف فإن الغسل حقيقة اجراء الماء
فالمجاز لازم على تقدير ذلك مع أن الأمر بغسله بالتراب والممزوج ليس ترابا.
وأجاب عنه الشهيد في الذكرى تبعا للعلامة في المختلف بأنه لا ريب في انتفاء
الحقيقة على التقديرين والخبر مطلق فلا ترجيح. وهو يرجع في الحقيقة إلى الأول
وتوضيحه أن ادعاء صدق مفهوم الغسل مع المزج إن كان بالنظر إلى الحقيقة فالمزج
ليس بمحصل لحقيقة الغسل قطعا إذ الغسل حقيقة إنما هو بالماء أو نحوه من المائعات
المشابهة له، وإن كان باعتبار المجاز فهو صادق بالتراب وحده، وليس على ترجيح
478

أحد المجازين دليل، والاطلاق الواقع في الخبر يدل بظاهره على الاكتفاء بأقل ما يتحقق
معه الاسم فيحتاج اثبات الزائد عليه إلى دليل.
ويمكن دفعه بأن يقال التراب الممتزج وإن لم يسم غسلا حقيقة إلا أنه أقرب
إلى حقيقة الغسل من الدلك بالتراب وحده ومع تعذر الحقيقة يصار إلى أقرب المجازات
إلا أنه ربما تطرق القدح أيضا إلى هذا الوجه بأنه على تقدير المزج يلزم ارتكاب تجوزين
(أحدهما) في الغسل كما اعترف به و (ثانيهما) في التراب فإن الممزوج بالماء على وجه
يحصل فيه الجريان لا يسمى ترابا كما تقدم في كلام المحقق الشيخ علي، وأما على الوجه
الآخر وهو الغسل بالتراب وحده فإنما يلزم ارتكاب مجاز واحد في لفظ الغسل.
وربما بنى الكلام في المقام على معنى الباء في قوله (عليه السلام) " بالتراب "
فإن حملناها على الاستعانة كما في قولهم " كتبت بالقلم " والظرف حينئذ لغو ومتعلقه خاص
مذكور تعين التجوز في لفظ الغسل بإرادة الدلك منه بنوع من العلاقة وكان الخبر واضح
الدلالة على القول المشهور، وإن حملناها على المصاحبة كما في قولهم " دخلت عليه بثياب
السفر " فالظرف على هذا التقدير حال من الغسل المدلول عليه بالأمر وهو حينئذ مستقر
لكون متعلقه أمرا عاما واجب الحذف وهو الكون والاستقرار كما قرر في محله من
الكتب النحوية، وعلى هذا فلا حاجة إلى التجوز في الغسل بل يبقى على حقيقته إلا أنه يحتاج الكلام إلى تقدير متعلق الجار ويصير حاصل الكلام واغسله حال كون الغسل
كائنا بمصاحبة التراب، وليس في هذا الوجه ما ربما يستبعد به إلا تقدير متعلق الجار
وهو وإن كان خلاف الأصل إلا أن مقتضى القواعد النحوية ذلك، وبهذا الوجه يكون
الخبر حجة لابن إدريس ومن قال بمقالته وربما رجح أيضا بقلة استعمال الغسل في الدلك
بالتراب وبعده عن الفهم وليس الاضمار لمتعلق الجار بهذه المثابة بل هو شائع الاستعمال.
وبالجملة فالمسألة لا تخلو من الاشكال لما عرفت والاحتياط بالتراب وحده والتراب
الممزوج مما لا ينبغي تركه.
479

تذنيب
قال العلامة في التذكرة. إن قلنا بمزج التراب بالماء فهل يجزئ لو صار مضافا؟
اشكال، وعلى تقديره هل يجزئ عوض الماء ماء الورد وشبهه؟ اشكال، وبنى الحكم
في النهاية على أن التعفير هل ثبت تعبدا أو استظهارا في القلع بغير الماء؟ فعلى الأول يتوقف
فيه مع ظاهر النقل وعلى الثاني يجزئ عوض الماء غيره من المائعات كالخل وماء الورد
ولا يضر خروج الماء عن الاطلاق بالمزج بطريق أولى.
أقول: أنت خبير بأن الظاهر أن الأمر بالتعفير إنما هو تعبد شرعي والتعليل
بإزالة الأجزاء اللعابية علة مستنبطة مع تخلفها في كثير من الموارد كما لا يخفى، والمعلوم
من الشرع عدم مدخلية غير الماء المطلق في التطهير مطلقا، وصدق التراب مع صيرورة
الماء به مضافا لا يخلو من اشكال، وبالجملة فإن إدخال هذه الفروع في المسألة لا يخلو
من الاشكال.
(الخامس) قد نص جمع من الأصحاب على اشتراط طهارة التراب التفاتا
إلى أن المطلوب منه التطهير والنجس لا يطهر، واحتمل العلامة في النهاية أجزاء النجس
ووجهه بأن المقصود من التراب الاستعانة على القلع بشئ آخر وشبهه حينئذ بالدفع بالنجس
وأنت خبير بما فيه لأن التعليل بما ذكره وإن تكرر في كلام جملة منهم إلا أنه غير معلوم
من النص بل هو علة مستنبطة بأهل القياس أنسب. وظاهر كلام صاحبي المعالم والمدارك
الجواز بالنجس نظرا إلى اطلاق النص إلا أنه قال في المعالم بعد بذلك: ولعل إرادة
الطاهر تتبادر إلى الفهم عند الاطلاق. وقال في المدارك بعد أن نقل عن العلامة في المنتهى
اشتراط طهارة التراب لأن المطلوب منه التطهير وهو غير مناسب للنجس: ويشكل
باطلاق النص وحصول الانقاء بالطاهر والنجس.
أقول: والتحقيق عندي هو ما تقدمت الإشارة إليه في مسألة تطهير الأرض
من أن الأظهر الاستدلال على مثل هذا الحكم بالحديث الوارد عنه (صلى الله عليه وآله)
480

بعدة طرق من قوله (1): " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " فإنه شامل للطهارة
الحدثية والخبثية، والطهور كما تقدم تحقيقه في صدر الكتاب هو الطاهر المطهر،
فيجب الحكم هنا بطهارة التراب وإن غفل عنه الأصحاب في هذا الباب.
(السادس) نقل العلامة في المختلف عن ابن الجنيد أنه يجزئ في الغسلة الأولى
التراب أو ما قام مقامه وهو يدل على عدم تحتم التراب عنده بل يجزئ ما قام مقامه في
إزالة النجاسة عن المحل وظاهره التخيير بين التراب وغيره مما في معناه، وجمهور
الأصحاب على خلافه وقوفا على النص الوارد في المسألة كما تقدم، ولعل ذهاب ابن
الجنيد إلى ذلك مبني على ما نقله الأصحاب عنه من العمل بالقياس، قال الشيخ في
الفهرست في ترجمة ابن الجنيد: وكان جيد التصنيف حسنه إلا أنه كان يرى القول
بالقياس فترك لذلك كتبه ولم يعول عليها. وقال النجاشي في كتابه: أحمد بن الجنيد
أبو علي الكاتب وجه في أصحابنا ثقة جليل القدر صنف فأكثر وأنا ذاكرها بحسب
الفهرست الذي ذكرت فيه، ثم ذكرها إلى أن قال سمعت شيوخنا الثقات يقولون إنه
كأن يقول بالقياس. وقال العلامة في الخلاصة: إنه كان وجها في أصحابنا ثقة جليل
القدر، ثم نقل كلام الشيخ المتقدم. أقول: لا يخفى ما في كلامه وكذا كلام النجاشي
قبله من الاشكال لأن وصفه بالجلالة والوثاقة مع نقلهم عنه القول بالقياس مما لا يجتمعان
فإن أصحابنا مجمعون على أن ترك العمل بالقياس من ضروريات مذهب أهل البيت
(عليهم السلام) لاستفاضة الأخبار بالمنع منه فكيف يجامع القول به الوثاقة؟ وظاهر
كلام الشيخ الجزم بذلك والنجاشي قد نقل عن شيوخه الثقات ذلك فكيف يصفه مع
ذلك بما ذكره في صدر الترجمة؟ وبالجملة فكلامهم هنا لا يخلو من النظر الواضح.
(السابع) نقل المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط أنه قال: إذا لم يوجد
التراب اقتصر على الماء وإن وجد غيره كالأشنان وما يجري مجراه أجزأ. ثم نقل ذلك

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من التيمم.
481

عن ابن الجنيد أيضا، ثم قال: ووجه ما ذكراه أن الأشنان أبلغ في الانقاء فإذا طهر بالتراب
فبالأشنان أولى، ثم تردد فيه فقال وفيه تردد منشأه اختصاص التعبد بالتراب وعدم العلم
بحصول المصلحة المرادة منه بغيره على أنه لو صح ذلك لجاز مع وجود التراب. انتهى.
وهو جيد، وفيه تأييد لما قدمناه من أن الأمر بالغسل بالتراب إنما هو أمر تعبدي
لا لما ذكروه من الوجه الاستنباطي، إلا أنه قد نقل عن ابن الجنيد ما ذكره من أن ما عدا
التراب من الأجسام المشابهة له إنما يصار إليه بعد فقد التراب، والذي نقله عنه في المختلف
كما تقدم ومثله الشهيد في الذكرى أيضا هو القول بالتخيير. وكيف كان فإنه بالنظر
إلى توجيه المحقق لهذا القول إذ لا وجه له ظاهرا سواه فالأرجح هو قول ابن الجنيد
بالتخيير لأن أولويته في الإزالة والقلع من التراب لا أقل تقتضي مساواته فيجوز به وإن
كان التراب موجودا ويرجع إلى التخيير بين التراب المذكور في النص وبين غيره بحكم
الأولوية إلا أن فيه ما أورده عليه في المعتبر.
واقتفى الشيخ في ما ذكره من هذا الحكم جمع من الأصحاب: منهم العلامة في
كثير من كتبه، وتوقف في النهاية، وقال في المنتهى إن عدم اجزاء غير التراب هو الأقوى
لأن المصحلة الثابتة من التعبد باستعمال التراب لو حصلت بالأشنان وشبهه لصح
استعماله مع وجود التراب.
ونقل عن المحقق الشيخ علي أنه انتصر لهذا القول فقرب دليله واستوجهه ثم
استدرك بأن جمعا من الأصحاب ذكروا الاجتزاء بالمشابه مع فقد التراب والخروج عن
مقالتهم أشد اشكالا. ولا يخفى ما فيه فإن غاية ما شاع بينهم تناكره هو عدم جواز
احداث القول في المقام دعوى الاجماع لا في مقام الخلاف واختيار أحد القولين في المسألة
والأمر هنا من قبيل الثاني لا الأول.
ثم إنه لا يخفى أن ظاهر عبارة الشيخ المنقولة التخيير عند عدم التراب بين الاقتصار
على الماء واستعمال ما يشبه التراب ولم نقف على قائل بذلك صريحا في كلامهم نعم نقل
482

عن العلامة في التذكرة والنهاية أنه ذكر ذلك احتمالا.
(الثامن) يعزى إلى الشيخ القول باجزاء الماء وحده عند عدم التراب
وشبهه وإليه ذهب العلامة في جملة من كتبه والشهيد، وعبارة الشيخ المتقدمة في سابق
هذا المورد لا تدل عليه وإنما تدل على ما قدمنا ذكره اللهم إلا أن يكون وصل إليهم
من موضع آخر.
ثم إنه تقدير الاجتزاء بالماء مع فقد التراب وشبهه فهل يجب الغسل ثلاث
مرات أو مرتين؟ احتمالان مبنيان على أنه مع فوات التراب وشبهه ينتقل إلى ما هو أبلغ
منه وهو الماء فتجب الثلاث حينئذ أو أنه بفقد التراب يسقط التكليف به وقيام غيره مقامه
يحتاج إلى دليل فيكتفى بالغسلتين لأن الحكم ببقاء الإناء على النجاسة والحال هذه تكليف
بالمشقة. وقواه العلامة في التحرير والمنتهى على ما نقل عنه، وفي القواعد اختار الثلاث.
وأورد على أصل المسألة المذكورة بأن مقتضى اشتراط حصول الطهارة للإناء بالغسل المعين
بالتراب والماء عند عروض هذا النوع من النجاسة هو انتفاء المشروط عند فقدان شرطه
كما هو القاعدة في مثله، ومن البين أن الشرط إذا كان مركبا من أمرين أو أمور كفى
في انتفائه انتفاء جزئه، وادعاء قيام البدل عن الجزء المفقود أو سقوط اشتراطه عند تعذره
يحتاج إلى الدليل، ألا ترى أن الجزء الآخر للشرط هنا وهو الماء لا يتفاوت الحال في
انتفاء المشروط عند انتفائه بين إمكان وجوده وتعذره؟ وما ذاك إلا لفقد الدليل
على سقوط اعتباره في حال التعذر وقيام البدل مقامه. انتهى. وهو جيد وجيه كما لا يخفى
على الفطن النبيه، ومن ذلك يظهر ضعف ما بنى على أصل المسألة من احتمال المرتين
أو الثلاث بل الظاهر هو بقاء الإناء على النجاسة لعدم حصول المطهر الشرعي الذي
قرره الشارع لهذه النجاسة المخصوصة، وبه صرح أيضا جمع من المتأخرين نظرا إلى
ما تقدم وقد عرفت جودته وقوته.
(التاسع) قد ذكر جملة من المتأخرين ومتأخريهم ما صرح به الصدوقان
483

والمفيد من الحكم بالتجفيف. واعترضوه بأنه منفي بالأصل والنص فإن ظاهره الاكتفاء
بمضمونه. أقول: قد عرفت أن مستندهم في ذلك أنما هو كلامه (عليه السلام) في
الفقه الرضوي ولكن حيث لم يبلغهم ذلك أوردوا عليهم ما أوردوه وبه يجب الخروج
عن الأصل المذكور. وأما النص المشار إليه في كلام المحقق وهو صحيحة البقباق فغايتها
أن تكون مطلقة فيحمل اطلاقها على الخبر المذكور ويقيد به فلا اشكال.
(العاشر) اختلف الأصحاب فيما لو خيف فساد المحل باستعمال التراب،
فقيل بأن الحكم فيه كما لو فقد التراب من المرتين أو الثلاث كما تقدم وهو منقول عن
العلامة في المنتهى والتذكرة والتحرير إلا أنه في التذكرة صرح بالاجتزاء بالماء ولم
يتعرض لذكر العدد وفي المنتهى رجح المرتين.
وقيل ببقاء الإناء على النجاسة وبه صرح الشهيد الثاني في الروضة ونقله في المعالم
عن بعض مشايخه الذين عاصرهم، والوجه فيه ظاهر مما تقدم حيث إن الدليل يقتضي
توقف حصول الطهارة على التراب والماء وليس على استثناء حال التعذر دليل يعتمد عليه
فيبقى على أصالة النجاسة.
وفصل ثالث بأن خوف الفساد باستعمال التراب إن كان باعتبار توقف ايصاله
إلى الآنية على كسر بعضها كما في الأواني الضيقة وأمكن مزج التراب بالماء وانزاله
إليها وخضخضتها به على وجه يستوعبها وجب وأجزأ، وإن كان باعتبار نفاسة الآنية
بحيث يترتب الفساد على أصل الاستعمال اكتفى بالماء قال وكذا إذا امتنع في الصورة
الأولى إنزاله ممتزجا على الوجه الذي ذكر، وفرق بين هذا وبين ما إذا فقد التراب
حيث مال ثمة إلى بقائه على النجاسة بأن الحكم بذلك هنا يفضي إلى التعطيل الدائم وهو غير
مناسب لحكمة الشرع وتخفيفه وأما هناك فحصول التراب مرجو فلا تعطيل.
أقول: والتحقيق في المقام إنه إن قيل باجزاء الممزوج بالماء كما هو أحد الأقوال
المتقدمة فما ذكره هذا المفصل في الوجه الأول جيد لأن هذا أحد أفراد التطهير بالتراب
484

بل لقائل أن يقول إنه متى أمكن وضع التراب فيه وإن كان ضيق الرأس وتحريكه في
مواضع النجاسة فإنه يحصل التطهير به إذ الدلك غير مشترط فلا اشكال ولا ضرورة إلى
المزج، وأما ما ذكره في الوجه الثاني من تفصيله من الاكتفاء بالماء فضعيف والفرق
بينه وبين فقد التراب الذي اختار فيه البقاء على النجاسة غير ظاهر. وما استند إليه
من الفرق بالحكمة مزيف فإن الخروج من يقين النجاسة المخصوصة بمطهر مخصوص مع
عدم وجود مطهرها بمثل هذه التخريجات الواهية مجازفة، وأي ضرر على المالك في
تعطيل إناء من خزف أو غيره لا ينتفع به؟ وكثير من الأشياء غير قابل للتطهير أصلا مع
قابليته للانتفاع، وبالجملة فإن التفات الشارع إلى التخفيف في الصورة المذكورة ونحوها
غير معلوم من الشرع، وإن قلنا بعدم اجزاء الممزوج كما هو أحد الأقوال فالحق هو
القول الثاني كما جزم به شيخنا الشهيد الثاني في الروضة إلا أنه يرد على شيخنا المذكور
أن ما اختاره في هذه المسألة وصرح به في الروضة لا يلائم ما اختاره في المسالك في
مسألة المزج من اجزائه. اللهم إلا أن يقول إنه بالمزج على الكيفية التي في كلام هذا
المفصل يخرج التراب عن اسمه كما قيد به قوله في المسالك فلا منافاة. والله العالم.
(الحادي عشر) قال الشيخ في الخلاف: إذا ولغ كلبان أو كلاب في إناء
واحد لم يجب أكثر من غسل الإناء ثلاث مرات، ثم ذكر أن جميع الفقهاء لم يفرقوا بين
الواحد والمتعدد إلا من شذ من العامة فأوجب لكل واحد العدد بكماله، واحتج
الشيخ على ما ذكره بأن النص خال من التعرض للفرق بين الواحد والأكثر والكلب
جنس يقع على القليل والكثير. وهذا الحكم قد ذكره أيضا أكثر الأصحاب وزادوا
فيه أيضا تكرر الولوغ من الواحد، واحتج عليه الفاضلان في المعتبر والمنتهى بأن النجاسة
واحدة فقليلها ككثيرها لأنها لا تتضمن زيادة عن حكم الأولى. وهو جيد إلا أن
تعليل الشيخ (قدس سره) أجود وأقوى لأن سوق الخبر يساعده حيث إنه صريح في
485

كون السؤال عن الجنس حيث قال فيه (1): " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك
شيئا إلا سألته عنه؟ فقال لا بأس به، حتى انتهيت إلى الكلب فقال رجس نجس لا يتوضأ
بفضله.. الحديث " هذا كله فيما لو كان قبل التطهير أما لو وقع في الأثناء فقد صرح
جملة منهم بالاستئناف وعدم التداخل، قال في الروض ولو تكرر الولوغ قبل التطهير
تداخل وفي الأثناء يستأنف. ونحوه في الذكرى أيضا.
(الثاني عشر) قال الشيخ في الخلاف: إذا ولغ الكلب في إناء نجس الماء
الذي فيه فإن وقع ذلك الماء على بدن الانسان أو ثوبه وجب غسله ولا يراعي فيه العدد
ثم حكى عن بعض العامة ايجاب غسل الموضع الذي يصيبه ذلك الماء بقدر العدد المعتبر
في الإناء، ثم قال بعد ذلك دليلنا أن وجوب غسله معلوم بالاتفاق لنجاسة الماء
واعتبار العدد يحتاج إلى دليل وحمله على الولوغ قياس لا نقول به. وذكر نحو ذلك
المحقق أيضا وزاد ما ذكره الشيخ من البدن والثوب الإناء أيضا، والظاهر أن كلام
الشيخ (قدس سره) إنما خرج مخرج التمثيل فيكون ما ذكره عاما، وقال الشهيد في
الذكرى ولا يعتبر التراب في ما ينجس بماء الولوغ. ونقل عن العلامة في النهاية أنه
استقرب الحاق هذا الماء بالولوغ وعلله بوجود الرطوبة اللعابية. ورده جملة ممن تأخر عنه
بالضعف وهو كذلك.
(الثالث عشر) المعروف من كلام أكثر الأصحاب أن الحكم في غسالة الإناء
كسائر النجاسات فلا يعتبر فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه، قال العلامة في المنتهى:
ليس حكم الماء الذي يغسل به إناء الولوغ حكم الولوغ في أنه متى لاقى جسما يجب غسله
بالتراب لأنها نجاسة فلا يعتبر فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه، ثم حكى عن بعض
الجمهور أنه يجب غسله بالتراب وإن كان المحل الذي انفصل عنه غسل بالتراب وعن بعض آخر

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الأسئار.
486

منهم أنه أوجب غسله من الغسلة الأولى ستا بناء على قولهم بوجوب السبع في الولوغ
ومن الثانية خمسا ومن الثالثة أربعا، وكذا لو كانت قد انفصلت عن محل غسل بالتراب
غسل محلها بغير تراب وإن كانت الأولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب (1) ثم قال
وهذا كله ضعيف والوجه أنه يساوي غيره من النجاسات لاختصاص النص
بالولوغ. انتهى. وهو جيد.
وللمحقق الشيخ علي (قدس سره) هنا كلام في بعض كتبه لا يخلو من غفلة
في مقام ونظر في آخر حيث إنه نقل عن العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى أنه
لا يعتبر التراب فيما نجس بماء الولوغ ثم ناقش في ذلك بأن عدم اعتبار التراب في هذه
الصورة إن كان منوطا بتقديم تعفير إناء الولوغ على غسله بالماء الذي فرضت الملاقاة به
فهو حق وكذا إن كان الجسم الملاقي به غير إناء وإلا فالظاهر اعتباره لأنها نجاسة الولوغ،
ثم ذكر أن قوله: " والوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات " مشكل لأن حكم النجاسة
يخف شرعا بزيادة الغسل ويشتد بنقصانه فلا تتجه التسوية. انتهى كلامه.
أقول: أما وجه الغفلة في هذا الكلام فإن العبارة التي أسندها إلى العلامة في المنتهى
والشهيد في الذكرى إنما هي في حكم ماء الولوغ نفسه والشهيد إنما ذكرها كما قدمناها عنه
في سابق هذا المورد في بيان ذلك وكلام العلامة الذي ذكر من جملته قوله:
" والوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات " إنما هو في ما يغسل به إناء الولوغ الذي
صرح به الشهيد في الذكرى وهو الذي ولغ فيه الكلب في الإناء، فالمسألتان
مفترقتان كما أشرنا إليه في مورد كل منهما، والعلامة لم يتعرض في المنتهى لحكم ماء
الولوغ الذي نقله عنه بهذه العبارة وإنما هذه العبارة التي نقلها عنهما هي عبارة الشهيد
في الذكرى خاصة.
وأما وجه النظر في كلامه فمن وجهين (أحدهما) قوله في المناقشة الأولى

(1) كما في المغني ج 1 ص 56.
487

مع كون مورد محل المناقشة غير العبارة التي ذكرها كما عرفت: " فالظاهر اعتباره لأنها
نجاسة الولوغ " أي الظاهر اعتبار تعفير ذلك الإناء الذي لاقاه ماء الغسالة التي لم يعفر
إناؤها أولا لأنها نجاسة ماء الولوغ، فإنه منظور فيه بأنه إن أراد بكونها نجاسة ماء الولوغ
بمعنى أنها مسببة عنه فلا يجدي نفعا وإن أراد أنه يصدق عليها العنوان المرتب عليه الحكم
فمنعه أوضح من أن يخفى، إذ ماء الولوغ الذي يترتب عليه التعفير والعدد إنما هو الماء
الذي ولغ فيه الكلب لا ما غسل به إناؤه، وما أبعد قوله هنا بوجوب التعفير والغسل
بعده كما في أصل ماء الولوغ وبين قول الشيخ في الخلاف كما نقله عنه جملة من الأصحاب
من طهارة غسالة ماء الولوغ.
و (ثانيهما) ما ذكره من الاشكال فإنه لا وجه له عند التأمل في كلام العلامة
وذلك فإن غرضه من الحكم بالمساواة المذكورة إنما هو الرد على الأقوال التي نقلها عن
العامة من التعدد الذي ذكروه في تلك المراتب فإنها موقوفة على الدليل وليس فليس
فالمتجه كونها نجاسة كغيرها من النجاسات، والتعلق بأن حكم النجاسة يضعف ويشتد
موقوف على الدليل الدال على التعدد في تلك المراتب وأما مع عدم الدليل فليس إلا
الرجوع إلى الأمر الاجمالي من الاتصاف بالتنجيس واعتبار ما يصدق به زوالها. وهذا
بحمد الله ظاهر لا سترة عليه. والله العالم.
(الرابع عشر) قال في المنتهى: لو وقع فيه نجاسة بعد غسله بعض العدد
فإن كانت ذات عدد مساو للباقي كان كافيا وإلا حصلت المداخلة في الباقي وأتى بالزائد
وهكذا لو وقع فيه نجاسة قبل الغسل إلا أن التراب لا بد منه للولوغ ثم إن كانت النجاسة
تفتقر إلى الغسل ثلاثا وجب الثلاث من غير تراب، وبالجملة إذا تعددت النجاسة فإن
تساوت في الحكم تداخلت وإن اختلفت فالحكم لأغلظها. انتهى. أقول: ما ذكره
من التداخل في ما حصل الاتفاق فيه جيد إلا أنه مخالف لمقتضى ما صرحوا به في غير
موضع من أن تعدد الأسباب موجب لتعدد المسببات.
488

(الخامس عشر) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) سقوط
التعدد في الغسل إذا وقع الإناء في الماء الكثير، وهكذا كل متنجس يحتاج إلى العدد
إلا أنه لا بد من تقديم التعفير في إناء الولوغ.
ونقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط أنه قال: إذا ولغ الكلب في الإناء ثم وقع
ذلك الإناء في الماء الكثير الذي بلغ كرا فما زاد لا ينجس الماء ويحصل له بذلك غسلة
من جملة الغسلات ولا يطهر الإناء بذلك بل إذا تمم غسلاته بعد ذلك طهر. ومقتضاه
وجوب التعدد في الكثير.
قال في المعالم: ومستند الشيخ في هذا أن الأمر بالعدد متناول للقليل والكثير
فلا بد للتخصيص من دليل، والجماعة عولوا في التخصيص على أن اللفظ إذا أطلق ينصرف
إلى المعنى المتعارف المعهود وظاهر الحال أن المتعارف في محال الأمر بالتعدد هو الغسل
بالقليل، قال ويعضد ذلك في الجملة من جهة الاعتبار أن الماء الكثير إذا استولى على عين
النجاسة وإن كانت مغلظة بحيث اقتضى شيوع أجزائها فيه واستهلاكها سقط حكمها شرعا
وصار وجودها فيه كعدمها فإذا وقع المتنجس في الكثير واستولى الماء على آثار النجاسة
فبالحري أن يسقط حكمها ويجعل وجودها كعدمها وإلا لكان الأثر أقوى من العين،
ويؤيده من جهة النص ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فإن
غسلته في ماء جار فمرة واحدة " انتهى وهو جيد.
أقول: ومثل صحيحة محمد بن مسلم المذكورة ما صرح به مولانا الرضا (عليه
السلام) في كتاب الفقه (2) حيث قال: " وإن أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء
جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم اعصره " وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه كما
قدمنا ذكره. وذكرنا أن المراد بالراكد في كلامه (عليه السلام) القليل.

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من النجاسات
(2) ص 6.
489

بقي هنا شئ آخر في كلام الشيخ (قدس سره) فإن ظاهره حصول غسلة
واحدة له وإن لم يتقدم التعفير بالتراب، وهو مشكل بل الظاهر ضعفه لقيام الدليل
الصحيح الصريح على وجوبه مطلقا وغاية الكلام إنما هو في وجوب تعدد الغسل بالماء
في الكثير وعدمه وإلا فالتراب لا بد منه على كل حال.
ويظهر من العلامة في المختلف موافقة الشيخ في هذا المقام وإن لم يقل بوجوب
التعدد كما هو ظاهر كلام الشيخ حيث قال بعد نقل كلام الشيخ المتقدم: والوجه عندي
طهارة الإناء بذلك لأنه حال وقوعه في الكثير لا يمكن القول بنجاسته حينئذ لزوال
عين النجاسة إذ التقدير ذلك والحكم زال بملاقاة الكر.
وفيه (أولا) ما عرفت من دلالة النص الصحيح الصريح على التعفير مطلقا
فيمتنع الحكم بالطهارة بدونه.
و (ثانيا) أن استبعاده البقاء على النجاسة مع كونه في كثير وقد زالت
عين النجاسة مسلم لو انحصر التطهير في الماء هنا كما في سائر النجاسات، وأما إذا
ضم له الشارع مطهرا آخر فجعل المطهر حينئذ مركبا من أمرين ولم يحصل أحدهما فلا مجال
هنا للاستبعاد المذكور، ونظيره في هذا المقام وضع كر من ماء في جلد ميتة فإن الماء
يكون طاهرا مع نجاسة الجلد فلا منافاة بين بقائه على النجاسة وكونه في ماء كثير (فإن
قيل) إنه يأتي على قول من جعل الغسل بالتراب تعبدا شرعيا كما اخترتموه آنفا دون
أن يكون مطهرا ما قررتم منه هنا (قلنا) إن أحدا لم يقل بأن التراب غير مطهر وأنه
لا دخل له في التطهير وإنما معنى قولنا تعبدا هو أن الشارع تعبد المكلفين بالتطهير به
هنا ردا على من قال إن الغرض منه إنما هو قلع النجاسة أنه أبلغ من الماء في ذلك
حتى رتبوا على هذا جملة من الأحكام المتقدمة التي قد عرفت ما فيها.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر كلام المحقق في المعتبر موافقة الشيخ في ما ذكره
من وجوب التعدد في الكثير إلا أن ظاهره الاكتفاء في حصول التعدد في الجاري
490

بتعاقب الجريتين، ومقتضاه أنه لو كان التطهير في الكثير الواقف الذي لا جريان
فيه فالواجب التعدد حقيقة كما ذكره الشيخ وبه صرح أيضا في الكتاب المذكور، قال
لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يتحصل من الغسلات شئ ولو وقع في كثير
لم ينجس ويحصل له غسلة واحدة إن لم يشترط تقديم التراب، ولو وقع في جار ومر عليه
جريات قال في المبسوط لم يحكم له بالثلاث. وفي قوله اشكال وربما كان ما ذكره حقا إن لم
يتقدم غسله بالتراب لكن لو غسل مرة بالتراب وتعاقب عليه جريات كانت الطهارة
أشبه. انتهى.
ونقل عن الفاضل الشيخ نجيب الدين في الجامع اعتبار التعدد في الراكد دون
الجاري ولعله التفاتا إلى ما ذكره المحقق من أنه في الجاري تتعاقب عليه الجريات فيحصل
التعدد دون الكثير الواقف.
وظاهر العلامة في المنتهى أيضا اقتفاء المحقق في ذلك إلا أنه في آخره قد ناقض
أوله. ولا بأس بنقل كلامه وبيان ما فيه، قال (قدس سره): لو وقع إناء الولوغ في ماء
قليل نجس الماء ولم يحتسب بغسلة، ولو وقع في كثير لم ينجس وهل تحصل له غسلة
أم لا؟ الأقرب أنه لا تحصل لوجوب تقديم التراب، هذا على قولنا أما على قول المفيد
فإن الوجه الاحتساب بغسلة، ولو وقع في ماء جار ومرت عليه جريات متعددة احتسب
كل جرية بغسلة خلافا للشيخ إذ القصد غير معتبر فجرى مجرى ما لو وضعه تحت المطر
ولو خضخضه في الماء وحركه بحيث تخرج تلك الأجزاء الملاقية عن حكم الملاقاة ويلاقيه
غيرها احتسب بذلك غسلة ثانية كالجريات، ولو طرح فيه ماء لم يحتسب به غسلة حتى
يفرغ منه سواء كان كثيرا بحيث يسع الكر أو لم يكن خلافا لبعض الجمهور فإنه قال
في الكثير إذا وسع قلتين لو طرح فيه ماء وخضخض احتسب له غسلة ثانية، والوجه
أنه لا يكون غسلة إلا بتفريغه منه مراعاة للعرف، ثم قال: والأقرب عندي بعد ذلك
كله أن العدد إنما يعتبر لو صب الماء فيه أما لو وقع الإناء في ماء كثير أو جار وزالت
491

النجاسة طهر. انتهى. ولا يخفى ما في آخر كلامه من المدافعة لما قدمه، وظاهر آخر
كلامه الرجوع إلى ما ذهب إليه في المختلف وقد عرقت ما فيه. وقد ذكر بعض محققي
أصحابنا من متأخري المتأخرين أنه كانت عنده من المنتهى نسختان وأن العبارة الأخيرة
غير موجودة فيهما ونسخة أخرى عبارتها كما ذكرناه وذكر أن بينهما تفاوتا بالزيادة
والنقصان في مواضع ووجهه بأنه خرجت منه نسخة الكتاب أولا كما كتبه ثم حصل له
عدول في مواضع في النسخة الأخيرة وما هنا من جملة ذلك وهو قريب. والله العالم.
(المسألة الثانية) في بيان باقي ما يجب فيه التعدد وذلك في مواضع:
(منها) الخنزير وقد اختلف الأصحاب في عدد ما يجب من ولوغه فالمشهور بين
المتأخرين وجوب السبع ذهب إليه العلامة ومن تأخر عنه، وقال الشيخ في الخلاف إن
حكمه حكم الكلب، ونفى ذلك المحقق وجعل حكمه حكم غيره من النجاسات مع أنه كما
سيأتي إن شاء الله تعالى في المسألة الآتية يختار المرة فيها.
ويدل على المشهور وهو المؤيد المنصور ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر
عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن خنزير شرب من إناء كيف
يصنع به؟ قال يغسل سبع مرات ".
احتج الشيخ على ما نقل عنه على ما ذهب إليه بوجهين. (أحدهما) أن الخنزير
يسمى كلبا في اللغة فتتناوله الأخبار الواردة في ولوغ الكلب. و (الثاني) أن الإناء
يغسل ثلاث مرات من سائر النجاسات والخنزير من جملتها.
وأجيب عن الأول بمنع الصدق حقيقة. وعن الثاني بأن غاية دليله الذي ادعاه
مع تسليمه هو عموم ما دل على الثلاث للخنزير والصحيحة المذكورة خاصة فيجب تقييد
العموم بها كما هو القاعدة، مع أن فيه أيضا أن ملاحظة هذا الوجه تقتضي الاكتفاء بالماء

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من النجاسات.
492

وحده وملاحظة الأول تقتضي وجوب التراب معه فعلى كل تقدير لا ينتظم أحد وجهي
الدليل على ما ادعاه.
والمحقق في المعتبر قد حمل صحيحة علي بن جعفر على الاستحباب مع أنه
لا معارض لها في الباب، قيل ولعل المانع له من العمل بالرواية عدم وجود القائل بها من
المتقدمين قبله وهو كثيرا ما يراعي ذلك ونحوه في العمل بالأخبار، والقرينة على هذا
أنه لم يذكره قولا مع حكايته الخلاف في المسألة، ولهذا أن العلامة في المنتهى قال لو
قيل بوجوب غسل الإناء منه سبع مرات كان قويا لما رواه علي بن جعفر، وذكر الحديث
ثم قال وحمله على الاستحباب ضعيف إذ لا دليل عليه مع ثبوت أن الأمر للوجوب.
و (منها) الخمر وقد اختلف كلام الأصحاب في ذلك فقيل بالسبع أيضا ذهب
إليه جمع من الأصحاب: منهم المفيد وسلار والشهيد في أكثر كتبه والمحقق الشيخ
علي والشيخ في المبسوط والجمل وجمع من المتأخرين. وقيل بالثلاث ذهب إليه المحقق
في غير المعتبر والعلامة في بعض كتبه وإليه ذهب الشيخ في النهاية والتهذيب كذا نقله
عنه في المدارك، والذي وجدته في النهاية إنما هو سبع لا ثلاث كما نقله حيث قال بعد
ذكر الأواني فإن أصابها خمر أو شئ من الشراب المسكر وجب غسلها سبع مرات،
وأما ما نقله عن التهذيب فلم أقف عليه لأنه بعد أن ذكر عبارة المفيد الدالة على غسل الأواني
من الخمر والأشربة المسكرة أورد جملة من الأخبار الدالة على نجاسة أواني الخمر ومنها
موثقة عمار الآتية الدالة على غسل الإناء منه ثلاثا ولم يستدل لما ذكره في المقنعة من
السبع بشئ من الأخبار، وبمجرد نقل الرواية بذلك لا يعد ذلك مذهبا له كما لا يخفى،
واحتمال كونه ذكر ذلك في غير موضع المسألة ممكن إلا أن الأمر كما ترى فينبغي التأمل
والمراجعة في هذه النقول؟ وإن كانت من الفحول، وإلى القول بالثلاث ذهب الشيخ
في الخلاف أيضا لكن لا من حيث الخصوصية كما ذهب إليه الفاضلان بل من حيث
وجوب الثلاث عنده في سائر النجاسات كما يأتي نقله. وقيل بالمرة اختاره المحقق في
493

المعتبر والعلامة في أكثر كتبه كغيره من النجاسات عدا الولوغ، وهو اختيار الشهيد
الثاني في الروض أيضا إلا أنه أطلق الاجتزاء بالمرة، والفاضلان في المعتبر والمختلف
قيداه بكونه بعد إزالة العين، واختار هذا القول السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن
في المعالم. وقيل بالمرتين وهو مذهب الشهيد في اللمعة حيث إنه أوجب المرتين في غسل
الإناء من جميع النجاسات بل في غير الإناء أيضا وإن وجب تقديم التعفير في إناء ولوغ
الكلب، هذا ما وقفت عليه من الأقوال في المسألة.
والذي وقفت عليه من أخبارها منها موثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليه
السلام) (1) " في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ فقال تغسله سبع مرات " وإلى هذه الرواية
استند أصحاب القول الأول.
ومنها موثقة عمار الأخرى عنه (عليه السلام) (2) " أنه سئل عن قدح
أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات. سئل أيجزيه أن يصب فيه الماء؟
قال لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات " وبهذا الخبر أخذ من قال
بالقول الثاني.
وأما من اكتفى بالمرة فإنه رد الخبرين بضعف السند واعتمد على ما دل على
الأمر بالغسل الحاصل بالمرة المزيلة للعين، قال المحقق في المعتبر بعد أن ذكر عبارة النافع
المطابقة لعبارته في الشرائع بايجاب الثلاث ما صورته: هذا مذهب الشيخ ثم نقل
قوله بالسبع ثم احتج للثلاث بموثقة عمار المتقدمة، ثم قال: مسألة ويغسل الإناء من
سائر النجاسات مرة والثلاث أحوط، إلى أن قال بعد كلام في البين؟: والذي يقوى
عندي الاقتصار في اعتبار العدد على الولوغ وفيما عدا ذلك على إزالة النجاسة وغسل
الإناء بعد ذلك مرة واحدة لحصول الغرض من الإزالة ولضعف ما ينفرد به عمار

(1) المروية في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 51 من النجاسات و 30 من الأشربة المحرمة.
494

وأشباهه وإنما اعتبرنا في الخمر والفأرة الثلاث ملاحظة لاختيار الشيخ والتحقيق ما
ذكرناه. انتهى أقول: كم قد عمل في غير موضع من كتابه بموثقة عمار وإن تفرد بها كما
قدمنا ذكره ولكنهم لا قاعدة لهم يقفون عليها.
ثم إن ما ذكره ومثله العلامة كما قدمنا نقله عنهما من اعتبار إزالة عين النجاسة
أولا ثم الاكتفاء بالمرة قد اعترضهما فيه الشهيد الثاني في الروض حيث اكتفى بالمرة التي
يحصل بها الانقاء فقال ويحتمل اعتبار المرة بعد زوال العين إن كانت موجودة وهو
خيرة المعتبر إذ لا أثر للماء الوارد مع وجود سبب التنجيس. ويضعف بأن الباقي من
البلل وغيره في المحل عين نجاسة فيأتي الكلام فيه.
أقول: وتحقيق الكلام في المقام أما على تقدير ما ذكره هؤلاء من اطراح هذين
الخبرين وإن قبلوا أمثالهما في غير موضع فالاكتفاء بالمرة ظاهر، وأما من لا يرى العمل
بهذا الاصطلاح أو يراه ويتستر ببعض الأعذار كالجبر بالشهرة ونحوه فإنه لا خروج عما
دل عليه الخبران المذكوران وإنما يبقى الكلام في الجمع بينهما فظاهر من قال بخبر الثلاث
حمل خبر السبع على الاستحباب جمعا وأما من قال بالسبع فلا أعرف لاطراحه رواية
الثلاث وجها مع الاشتراك في السند وعدم إمكان الترجيح، وربما دل كلام بعضهم على
ترجيحها بالشهرة وفيه ما فيه، ويقرب عندي في وجه الجمع بين الخبرين المذكورين
الحمل على اختلاف الأواني في قلع النجاسة المذكورة منها فمنه ما يحصل بالثلاث ومنه
ما يتوقف على السبع، وهو وإن كان أيضا لا يخلو من تأمل إلا أنه في مقام الجمع لا بأس
به وكيف كان فالاحتياط لا يخفى. وأما القول بالمرتين فلا أعرف له وجها.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن بعض من صرح بالسبع كالشيخين في المقنعة والنهاية
والمبسوط جعلوا حكم سائر المسكرات كالخمر في ذلك وبعض اقتصر على ذكر الخمر خاصة
ومورد الرواية إنما هو النبيذ ومقتضاها تخصيص الحكم بما يصدق عليه هذا اللفظ، والذي
يظهر لي كما مر تحقيقه من صدق الخمر على الجميع أنه لا منافاة بين التعبير بالخمر وحده
495

وبه مع ضم سائر الأشربة المسكرة لصدق الخمر على الجميع، نعم لفظ الخبر ورد بالنبيذ
وهو أخص من الخمر ولعلهم فهموا منه أن المراد به مطلق الخمر كما صرحت به الرواية
الثانية، نعم يأتي على قول من خص اسم الخمر بعصير العنب كما قدمنا نقله عن جملة
منهم الاشكال في المقام.
ثم إن جملة ممن طعن في الخبرين بالضعف صرح باستحباب السبع خروجا من خلاف
من أوجها، ولا يخفى وهنه لما حققناه في غير موضع مما تقدم من أن الاستحباب حكم
شرعي يتوقف على الدليل فالخبر المذكور إن صلح للحجية والاستدلال فليحمل على
ظاهره من الوجوب وإن كان لا يصلح فلا معنى للحمل المذكور، ثم أي مخرج يحصل
بالحمل على الاستحباب المؤذن بجواز الترك وعدم الإثم عن الوجوب الموجب تركه
للمؤاخذة والعقاب؟ والله العالم.
و (منها) موت الفأرة فيه فأوجب الشيخ فيه سبعا وتبعه على ذلك جملة
من الأصحاب، واكتفى المحقق في الشرائع ومختصره والعلامة في جملة من كتبه والشيخ
في الخلاف بالثلاث إلا أن مذهب الشيخ إلى ذلك بالاعتبار المتقدم في سابق هذا
الموضع، وقيل بالمرة وهو مذهب المحقق في المعتبر. والعلامة في أكثر كتبه بالاعتبار
المتقدم ثمة، وقيل بالمرتين كما ذهب إليه في اللمعة بالاعتبار المذكور أيضا.
والذي وقفت عليه هنا من الأخبار موثقة عمار عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبعا " وهي ظاهرة الدلالة على مذهب
الشيخ ومن تبعه، وردها المحقق في المعتبر فقال بعد ذكر عبارة المختصر التي اختار فيها
القول بالثلاث ونقل القول بالرواية عن الشيخ ما صورته: وحجته رواية عمار ثم ساقها
ثم قال والرواية ضعيفة لانفراد الفطحية بها ووجود الخلاف في مضمونها فإن الشيخ
يقتصر على الثلاث في جميع النجاسات عدا الولوغ ولأن ميتة الفأرة والجرذ لا تكون

(1) المروية في الوسائل في الباب 53 من النجاسات.
496

أعظم نجاسة من ميتة الكلب والخنزير، ولأن امتثال الغسل يحصل بالثلاث فلا يجب
ما زاد، ولأنه يحتمل أن يكون هذا الحكم مختصا بالجرذ فلا يتناول الفأرة. انتهى. ثم إنه
رجع عن ذلك إلى القول بالاكتفاء بالواحدة في كلامه الذي قدمنا نقله، وكلامه
(رحمه الله) قوي من حيث الاعتبار إلا أن اطراح النص من غير معارض مما لا وجه
له، وطعنه فيه بالضعف غير مسموع مع عمله بمثله وأمثاله في غير مقام من كتابه.
نعم يبقى الاشكال في أن مورد النص الجرذ وهو ضرب من الفأر كما ذكره في
الصحاح فيشكل تعديته إلى ما هو أعم منه وقد أشار إلى ذلك في المعتبر كما قدمناه عنه،
وللمحقق الشيخ علي (قدس سره) في شرح القواعد هنا كلام لا يخلو من الغفلة. قال بعد
قول المصنف (قدس سره): " ومن الجرذ والخمر ثلاث مرات ويستحب السبع "
ما صورته: الأصح وجوب السبع فيهما لخبري عمار عن الصادق (عليه السلام) الدالين
على وجوب السبع فيهما وضعف عمار منجبر بالشهرة ولا تضر المعارضة بخبره الدال على الثلاث
لأن الشهرة مرجحة، وليس الحكم مقصورا على الخمر بل المسكر المائع كله كذلك
ولا يبعد الحاق الفقاع بها. وأما الجرذ فهو بضم الجيم وفتح الراء المهملة والذال المعجمة
أخيرا ضرب من الفأر والمراد الغسل من نجاسة موته، وهل يكون الغسل من غير
هذا ضرب من الفأر واجبا؟ الظاهر عدم التفاوت نظرا إلى اطلاق اسم الفأر على الجميع
وقد صرح به جمع من الأصحاب وإن توقف فيه صاحب المعتبر. انتهى. أقول لا يخفى
أن كلامه هذا إنما يتجه لو ورد لفظ الفأر في خبر ليتمشى ما ذكره والوارد إنما هو أخص
منه كما عرفت. غير أن ظاهر كلامه هنا الحاق الفقاع بالخمر في السبع أيضا ولم أقف
على من ذكره سواه ويمكن أن يكون منشأه تكاثر الأخبار باطلاق اسم الخمر عليه كما
تقدم والله العالم.
(المسألة الثالثة) اختلف الأصحاب في غسل الإناء من باقي النجاسات فقيل
بالثلاث في ما عد الولوغ مطلقا وهو مذهب الشيخ في الخلاف وابن الجنيد في مختصره
497

على ما نقل عنه واختاره الشهيد في الذكرى والدروس والمحقق الشيخ علي، وقيل بالمرة
وهو قول المحقق في المعتبر وتبعه الشهيدان في البيان والروض، وقيل بالمرتين.
احتج الشيخ على ما ذهب إليه بطريقة الاحتياط فإنه مع الغسل ثلاثا يحصل العلم
بالطهارة، وبموثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " سئل عن الكوز
أو الإناء يكون قذرا كيف يغسل وكم مرة يغسل؟ قال يغسل ثلاث مرات: يصب فيه الماء
فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك الماء ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرع منه ذلك الماء ثم يصب
فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه وقد طهر وقال اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا
سبع مرات " ورده المتأخرون أما الاحتياط فإنه ليس بدليل شرعي وأما الرواية فبضعف السند.
وأما حجة من قال بالمرة فهي ظاهرة من رد الرواية المذكورة، فإن امتثال
الأمر بالغسل يحصل بالمرة ومسمى الإزالة يتحقق معها.
والأظهر القول بما دلت عليه الرواية المذكورة عند من لا يرى العمل بهذا
الاصطلاح أو يراه ولكن يحكم بجبر ضعف الرواية بالشهرة كما صرح به غير واحد في المقام
نعم قال الشيخ في المبسوط: ويغسل الإناء من سائر النجاسات ثلاث مرات
ولا يراعي فيها التراب وقد روي غسله مرة واحدة والأول أحوط. إلا أنا لم نقف
على هذه الرواية فيما وصلنا من كتب الأخبار.
وصرح جمع من الأصحاب بأنه لو ملأ الإناء ماء كفى افراغه منه عن تحريكه
وأنه يكفي في التفريغ مطلقا وقوعه بآلة لكن يشترط عدم إعادتها قبل تطهيرها وقيده
بعضهم بكون الإناء مثبتا بحيث يشق قلعه. أقول: ما ذكروه من اشتراط عدم الإعادة
إلا بعد التطهير متجه على تقدير القول بنجاسة الغسالة، وما ذكر من التقييد بكونه مثبتا
لا وجه له لأنه لا فرق في حصول الطهارة بين اخراج ماء الغسالة منه بأن يكفئه أو يخرجه
بالآلة بالشرط المذكور.

(1) المروية في الوسائل في الباب 53 من أبواب النجاسات.
498

وأما حجة القول بالمرتين كما ذهب إليه في اللمعة فقد عرفت أنها غير مختصة بهذا
المقام حيث إنه ذهب إلى وجوب المرتين في إزالة جميع النجاسات في ثوب أو بدن
أو آنية أو غير ذلك، والظاهر أن الوجه فيه عنده ورود التعدد بالمرتين في إزالة البول
عن الثوب والبدن وأن اعتباره في البول يدل بمفهوم الموافقة على اعتباره في غيره من
النجاسات كما تقدم ذكره في مسألة إزالة نجاسة البول وأن غير الثوب والبدن مثلهما في
الحكم بالتقريب المتقدم، ويؤيده ورود الأخبار بالتعدد في خصوص الإناء كما ينبه
عليه حكم الولوغين والفأرة والخمر، ويضاف إلى ذلك أصالة البراءة مما زاد على المرتين
الذي وردت به الأخبار الصحيحة واستضعاف الأخبار الدالة على الزيادة، هذا أقصى
ما يمكن أن يتكلف لتوجيه الحجة له (قدس سره) في المقام. ولا يخفى ما فيه على ذوي
الأفهام فإن الحاق ما عدا البول به وما عدا الثوب والبدن بهما لا يخرج عن القياس سواء
سمي مفهوم موافقة أو أولوية أو لم يسم سيما مع ورود الأخبار في تطهير الأواني بأعداد
مخصوصة تباين ما ذكره. والله العالم.
تتميم يشتمل على مسألتين
(الأولى) المفهوم من كلام أكثر الأصحاب أن أواني الخمر كلها قابلة للتطهير
سواء في ذلك الصلب لا يشتف كالصفر والرصاص والحجر والمغضور وغير
الصلب كالقرع والخشب والخزف غير المغضور إلا أنه يكره استعمال غير الصلب
ونسب الفاضلان في المعتبر والمنتهى إلى ابن الجنيد القول بعدم طهارة غير الصلب بأنواعه
المذكورة، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما: ولم أره في مختصره. والعلامة في المختلف
نسب إلى ابن البراج القول بعدم جواز استعمال هذا النوع أيضا غسل أو لم يغسل.
وكيف كان فالواجب أولا ذكر الأخبار الواردة في المقام وبيان ما تدل عليه
من الأحكام، ومنها ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم في
499

الصحيح عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " سألته عن نبيذ سكن غليانه، إلى أن
قال: وسألته عن الظروف فقال نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الدباء والمزفت
وزدتم أنتم الحتم يعني الغضار والمزفت يعني الزفت الذي يكون في الزق ويصير في الخوابي
ليكون أجود للخمر. قال وسألته عن الجرار الخضر والرصاص قال لا بأس بها " وفي
التهذيب عوض " الحتم " " الحنتم " وهو الموجود في اللغة. أقول الدباء هو القرع والمزفت
هو الإناء الذي يطلى بالزفت بالكسر وهو القير والغضار بالفتح هو الطين اللازب
الأخضر الحر، والحنتم بالحاء المهملة ثم النون ثم التاء المثناة الفوقانية على ما في النهاية:
جرار خضر مدهونة كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله
حنتم واحده حنتمة، وإنما نهى عن الانتباذ فيها لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها،
وقيل إنها تعمل من طين يعجن بالدم والشعر فنهى عنها ليمتنع من عملها. انتهى.
وما روياه أيضا عن أبي الربيع الشامي عن الصادق (عليه السلام) (2) قال:
" نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كل مسكر فكل مسكر حرام. فقلت له
فالظروف التي يصنع فيها منه؟ فقال نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الدباء
والمزفت والحنتم والنقير. فقلت وما ذلك؟ قال الدباء القرع والمزفت الدنان والحنتم جرار
خضر والنقير خشب كان أهل الجاهلية ينقرونها حتى يصير لها أجواف ينبذون فيها ".
وما رواه في الكافي عن جراح المدائني عن الصادق (عليه السلام) (3) " أنه
منع مما يسكر من الشراب كله ومنع النقير ونبيذ الدباء.. الحديث ".
وما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب في الموثق عن عمار (4) قال: " سألته
عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء أو كامخ أو زيتون؟ قال

(1) رواه في الوسائل في الباب 52 من النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 52 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 25 من الأشربة المحرمة
(4) رواه في الوسائل في الباب 51 من النجاسات.
500

إذا غسل فلا بأس وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال إذا
غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات.. الحديث "
وقد تقدم تمامه قريبا.
وموثقته الأخرى المتقدمة أيضا في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ وأنه يغسله
سبع مرات.
وما رواه في الكافي عن حفص الأعور (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
إني آخذ الركوة فيقال إنه إذا جعل فيها الخمر وغسلت ثم جعل فيها البختج كان أطيب لها
فنأخذ الركوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ثم نصبه ونجعل فيها البختج؟ قال لا بأس به " قال
في الوافي: الزكاة بضم المعجمة زق الشراب. أقول الذي في كلام أهل اللغة بالراء المهملة زق
يتخذ للخمر والخل وفي القاموس زق صغير. هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمقام
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد استدل للقول المشهور بأمرين: (أحدهما) أن الواجب
إزالة النجاسة المعلومة والاستظهار بالغسل وتحصيل هذا القدر ممكن وما لا يعلم من النجاسة
لا يجب تتبعه واللازم من ذلك حصول الطهارة حينئذ، وبأنه بعد إزالة عين النجاسة
يرتفع المانع من الاستعمال فيكون سائغا، أما المقدمة الأولى فظاهرة لأن البحث على
تقدير ارتفاع العين عن المحل وكون المقتضي للمنع ليس إلا تلك العين. وأما الثانية
فلأن المنع لو بقي بعد ارتفاع سببه لزم بقاء المعلول بعد العلة وذلك يخرجها عن العلية.
و (ثانيهما) رواية عمار المتقدمة والتقريب فيها أنها دالة باطلاقها على قبول أواني الخمر
التطهير مغضورة أو غير مغضورة صلبة أو غير صلبة ونحوها روايته الثانية ولو كان غير
المغضور لا يطهر لوجب الاستفصال في الجواب.
واحتج للقول الآخر بوجهين (أحدهما) صحيحة محمد بن مسلم ورواية أبي الربيع
الشامي المتقدمتان. و (الثاني) أن للخمر حدة ونفوذا في الأجسام الملاقية له فإذا لم تكن

(1) رواه في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المحرمة.
501

الآنية مغضورة دخلت أجزاء الخمر في باطنها فلا ينالها الماء.
وأجيب عن الأول بأن النهي للكراهة. وأجاب في المدارك عن ذلك بأن النهي
عن ذلك لا يتعين كونه للنجاسة إذ من الجائز أن يكون لاحتمال بقاء شئ من أجزاء الخمر
في ذلك الإناء فيتصل بما يحصل فيه المأكول والمشروب انتهى. وعن الثاني بأن نفوذ الماء
أشد من نفوذ غيره فإن ما يشرب الخمر يشرب الماء فيصل الماء إلى ما يصل إليه الخمر.
وأجاب في المدارك عن ذلك بأنه مع تسليم ما ذكر فإنه لا ينافي طهارة الظاهر وجواز استعماله
إلى أن يعلم ترشح أجزاء من الخمر المستكن في الباطن إليه.
أقول: لا يخفى على المتأمل في هاتين الروايتين أن النهى عن استعمال هذه الظروف
المعدودة في الانتباذ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها فيصير مسكرا ويشير إلى ذلك
ما تقدم في كلام صاحب النهاية، ولو كان النهي عنها إنما هو من حيث نفوذ الخمر فيها وعدم
قبولها للتطهير كما فهمه المستدل والمجيب لم يكن لذكر المزفت وهو المطلي بالزفت الذي هو
القير معنى لأنه لا نفوذ فيه وكذلك الحنتم وهي الجرار الخضر المغضورة، ويشير إلى
ما ذكرنا قوله في رواية جراح المدائني " إنه منع نبيذ الدباء " يعني ما ينبذ فيه، وبالجملة
فالظاهر من الأخبار المذكورة إنما هو النهي عن النبيذ فيها خوفا من التغيير والانقلاب
إلى المحرم لا عن الاستعمال بقول مطلق كما ظنوه وحينئذ فلا تكون الأخبار المذكورة
من محل البحث في شئ ويبقى اطلاق الأخبار الأولة سالما عن المعارض. وأما الوجه
الاعتباري الذي أضافوه إلى هاتين الروايتين فهو لا يسمن ولا يغني من جوع بعد
بطلان دلالة الخبرين المذكورين مع ما عرفت من الجواب عنه بالوجهين المتقدمين،
وبذلك يظهر لك قوة القول المشهور.
بقي الكلام هنا في شئ آخر وهو أن ظاهر صحيحة محمد بن مسلم لا يخلو من
حزازة حيث إنه في آخر الخبر نفى البأس عن الجرار الخضر مع أنه في صدر الخبر قال
بعد ذكر ما نهى (صلى الله عليه وآله) عنه " وزدتم أنتم الحنتم " وقد عرفت أن المراد
502

به الجرار الخضر المدهونة. ويمكن الجمع بحمل الجرار الخضر التي نفى البأس عنها على ما
لا تكون مدهونة ويمكن أيضا الفرق باعتبار المعنى الثاني للنهي من حيث العمل من الطين
المعجون بالدم والشعر بأن يحمل نفي البأس أخيرا من حيث عدم العمل من ذلك الطين
وأما الجمع بأن النهي عن الحنتم في صدر الخبر لم يسنده له (صلى الله عليه وآله) وإنما
قال: " وزدتم أنتم " " فلا ينافيه نفي البأس في آخر الخبر فيضعف بحصول النهي عنه
في حديث أبي الربيع الشامي كما عرفت. والله العالم.
(الثانية) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن أواني المشركين
طاهرة حتى تعلم النجاسة، قال في المعتبر: أواني المشركين طاهرة ما لم يعلم نجاستها بمباشرتهم
لها أو ملاقاة نجاسة، والضابط أن الآنية في الأصل على الطهارة فلا يحكم بالنجاسة إلا مع
اليقين بورود النجس وحينئذ إما أن يكون ذلك معلوم الحصول فتكون نجسة أو معلوم
الانتفاء فتكون طاهرة أو مشكوكا فيه فيكون استعمالها مكروها، ويستوي في ذلك المجوسي
ومن ليس من أهل الكتاب، وفي الذمي روايتان أشهرهما النجاسة نجاسة عينية ونجاسة ما يلاقيه
بالمائع، ثم نقل خلاف العامة واختلاف أقوالهم. أقول: وبذلك صرح الشيخ في المبسوط
وغيره إلا أنه قال في الخلاف لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة وغيرهم،
وقال الشافعي لا بأس باستعمالها ما لم يعلم فيها نجاسة وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال أحمد
ابن حنبل وإسحاق لا يجوز استعمالها (1) ثم استدل على المنع بقوله تعالى " إنما المشركون
نجس " (2) وبإجماع الفرقة ورواية محمد بن مسلم (3) قال: " سألت أبا جعفر (عليه
السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي
يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر " ولم أقف في كتب أصحابنا على من نقل

(1) كما في الأم ج 1 ص 7 والمغني ج 1 ص 82 وبدائع الصنائع ج 1 ص 63
(2) سورة التوبة، الآية 28.
(3) المروية في الوسائل في الباب 14 من النجاسات.
503

خلافه في هذه المسألة مع أن كلامه صريح في ذلك، وأغرب منه دعواه الاجماع عليه مع
أنه لم يقل بذلك غيره فيما أعلم، واستند الأصحاب هنا إلى التمسك بأصالة الطهارة حتى
يعلم وجود الرافع وهو قوي منصوص في غير خبر كما تقدم في مقدمات الكتاب. وقد
تقدم تحقيق القول في هذه المسألة زيادة على ما أشرنا إليه في المقدمات في التنبيه الثاني
من التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية من مسائل المقصد الثاني في الأحكام من هذا الباب.
ثم إن غاية ما تدل عليه الآية التي ذكرها مع الاغماض عن المناقشات التي أوردت عليها
هو نجاسة المشركين وهو مما لا نزاع فيه هنا ومن القواعد المقررة المتفق عليها أن عين
النجاسة لا يحكم بتعدي نجاستها إلا مع العلم واليقين بذلك. وأما الخبر فهو محمول على
الاستحباب كما حققناه في المسألة المشار إليها.
(المطلب الثاني) في ما يجوز استعماله من الأواني والآلات وما لا يجوز،
لا خلاف بين الأصحاب في تحريم الأكل والشرب وكذا سائر الاستعمالات كالتطيب
وغيره في أواني الذهب والفضة، وادعى عليه العلامة في التذكرة وغيره الاجماع،
ونقل عن الشيخ في الخلاف أنه قال يكره استعمال الذهب والفضة. وصرح جملة ممن تأخر
عنه بحمل العبارة المذكورة على التحريم، وهو جيد.
والأخبار بذلك مستفيضة من طرق الخاصة والعامة، فروى الجمهور عنه (صلى الله
عليه وآله) (1) أنه قال: " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها
فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " وعن علي (عليه السلام) (2) أنه قال: " الذي

(1) رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب الأكل في إناء مفضض إلا أن فيه " ولنا
في الآخرة " بدل " ولكم في الآخرة " ورواه أبو داود في السنن ج 3 ص 337 هكذا:
" أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الحرير والديباج وعن الشرب في آنية الذهب والفضة
وقال هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ".
(2) رواه ابن ماجة في السنن ج 2 ص 335 عن النبي صلى الله عليه وآله ولم نجد روايته عن علي (ع).
504

يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ".
ومن طريق الأصحاب ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (1)
قال: " سألت الرضا (عليه السلام) عن آنية الذهب والفضة فكرههما فقلت قد روى
بعض أصحابنا أنه كان لأبي الحسن مرآة ملبسة فضة؟ فقال لا والحمد لله إنما كانت له حلقة
من فضة وهي عندي، ثم قال إن العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس من فضة من نحو ما
يعمل للصبيان تكون فضته نحوا من عشرة دراهم فأمر به أبو الحسن فكسر " أقول العذر
بالعين المهملة ثم الذال المعجمة بمعنى الاختتان وعذر الغلام اختتانه. وعن الحلبي في
الحسن أو الصحيح عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " لا تأكل في آنية من فضة
ولا في آنية مفضضة " وعن داود بن سرحان عن الصادق (عليه السلام) (3) قال:
" لا تأكل في آنية الذهب والفضة " وعن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (4)
" أنه نهى عن آنية الذهب والفضة " وعن موسى بن بكر عن أبي الحسن موسى
(عليه السلام) (5) قال: " آنية الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون " ورواه في
الفقيه مرسلا عن النبي (صلى الله عليه وآله) (6) وفي الفقيه بطريقه إلى أبان عن محمد بن
مسلم عن الباقر (عليه السلام) (7) قال: " لا تأكل في آنية ذهب ولا فضة " وفي
الكافي عن سماعة بن مهران في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (8) قال: " لا ينبغي
الشرب في آنية الذهب والفضة " وعن يونس بن يعقوب عن أخيه يوسف (9) قال:
" كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في الحجر فاستسقى ماء فأتى بقدح من صفر فقال
رجل أن عباد بن كثير يكره الشرب في الصفر فقال لا بأس. وقال (عليه السلام)
للرجل ألا سألته أذهب هو أم فضة؟ " ورواه الصدوق أيضا. وفي حديث المناهي من
الفقيه (10) قال: " نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الشرب في آنية الذهب

(1) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(4) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(5) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(6) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(7) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(8) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(9) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(10) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
505

والفضة " وفي قرب الإسناد عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما
السلام) (1) " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهاهم عن سبع: منها الشرب في آنية
الذهب والفضة " وروى في الكافي عن بريد في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (2)
" أنه كره الشرب في الفضة وفي القدح المفضض وكذلك أن يدهن في مدهن مفضض والمشطة
كذلك " ورواه الصدوق بإسناده عن ثعلبة عن بريد مثله (3) وزاد " فإن لم يجد بدا من
الشرب في القدح المفضض عدل بفمه عن موضع الفضة " وهذه الزيادة محتملة لأن تكون
من كلامه أو من أصل الخبر. وروى الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب (4) قال
" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الشرب في القدح فيه ضبة من فضة؟ قال لا بأس
إلا أن تكره الفضة فتنزعها " وعن عبد الله بن سنان في الحسن بالوشاء عن الصادق (عليه
السلام) (5) قال: " لا بأس أن يشرب الرجل في القدح المفضض واعزل فمك عن موضع
الفضة " وهذه الرواية وصفها في المدارك بالصحة وهو كما ترى. وروى في المحاسن بسنده
عن عمرو بن أبي المقدام (6) قال: " رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) قد أتى بقدح
من ماء فيه ضبة من فضة فرأيته ينزعها بأسنانه " ورواه الكليني عن جعفر بن بشير عن
عمرو بن أبي المقدام. وروى في الكافي عن الفضيل بن يسار عن الصادق (عليه السلام) (7)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السرير فيه الذهب أيصلح إمساكه في
البيت؟ فقال إن كان ذهبا فلا وإن كان ماء الذهب فلا بأس " وفي الصحيح عن منصور
بن حازم عن الصادق (عليه السلام) (8) قال: " سألته عن التعويذ يعلق على الحائض
فقال نعم إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة حديد " وعن صفوان بن يحيى (9) قال:
" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلى الله عليه

(1) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
(4) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
(5) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
(6) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
(7) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات.
(8) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات.
(9) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات.
506

وآله) قال نزل به جبرئيل من السماء وكانت حلقته فضة " وروى نحوه في عيون
الأخبار (1) إلا أن فيه عوض " حلقته " " وكانت حليته من فضة " وعن يحيى بن
أبي العلاء (2) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول درع رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمها وحلقتان من ورق في مؤخرها
وقد لبسها علي (عليه السلام) يوم الجمل " وروى الصدوق في الصحيح عن محمد بن
قيس عن الباقر (عليه السلام) (3) قال: " إن اسم النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أن
قال وكان له درع تسمى ذات الفضول لها ثلاث حلقات فضة حلقة بين يديها وحلقتان
خلفها.. الحديث " وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه
موسى (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن المرآة هل يصلح امساكها إذا كان لها حلقة
فضة؟ قال نعم إنما يكره استعمال ما يشرب به. قال وسألته عن السرج واللجام فيه
الفضة أيركب به؟ قال إن كان مموها لا يقدر على نزعه منه فلا بأس وإلا فلا يركب به "
ورواه علي بن جعفر في كتابه (5) ورواه الكليني في أحكام الدواب (6) وروى ابن
إدريس في آخر السرائر نقلا من جامع البزنطي (7) قال: " سألته عن السرج
واللجام.. " وذكر مثل ما تقدم.
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المناسبة للمقام الداخلة في سلك هذا النظام، وتحقيق
البحث فيها يقع في مواضع:
(الأول) المفهوم من كلام جملة من الأصحاب أن النهي عن الأكل في
أواني الذهب والفضة إنما ينصرف إلى الأخذ والتناول منها فيأثم بذلك دون ما فيها فلا
يتعلق به نهي ولا تحريم متى كان مباحا قال في المبسوط: ومن أكل أو شرب في آنية
ذهب أو فضة فإنه يكون قد فعل محرما، ولا يكون قد أكل محرما إذا كان المأكول مباحا

(1) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات
(2) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات
(3) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات
(4) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات
(5) البحار ج 4 ص 154
(6) ج 2 ص 230.
(7) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات
507

لأن النهي عن الأكل فيه لا يتعدى إلى المأكول. وعلى هذا النحو كلام من تأخر عنه،
ونقل في المدارك عن المفيد (قدس سره) تحريم المأكول والمشروب، قال ولو استدل بقول
علي (عليه السلام) (1) " إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " أجيب عنه بأن الحقيقة غير مرادة
والمتبادر من المعنى المجازي كون ذلك سببا في دخول النار بطنه وهو لا يستلزم تحريم نفس
المأكول والمشروب. انتهى.
أقول: يمكن توجيه كلام المفيد (قدس سره) بأن يقال إن النهي أولا وبالذات
وإن كان عن تناول المأكول والمشروب لكن يرجع ثانيا وبالعرض إلى المأكول بأن
يقال إن هذا المأكول يكون حراما متى أكل على هذه الكيفية، وظاهر النصوص
يساعده لأنها تضمنت النهي عن الأكل حال كونه في هذه الأواني والأكل حقيقة عبارة
عن المضغ في الفم والازدراد في الحلق وحمل الأخبار على مجرد التناول مجاز فهذا الطعام
أو الشراب الذي في الآنية وإن كان حلالا في حد ذاته يجوز أكله بأي نحو كان إلا أنه بوضعه في هذه الآنية وأكله فيها عرض له التحريم، ونظيره تحريم أخذ الحق
الشرعي بحكم حاكم الجور وأنه سحت كما دلت عليه الأخبار مع جواز التوصل إلى أخذه
مقاصة فضلا عن التوصل بحكم حاكم العدل. وبالجملة فإنه إذا قال الشارع لا تأكل في آنية
الذهب مثلا والأكل إنما هو عبارة عن المعنى الذي قدمناه والنهي حقيقة في التحريم
فإنه لا وجه للتحريم إلا من حيث عدم صلاحية المأكول للأكل من هذه الجهة فيرجع
التحريم إلى المأكول بالآخرة لا من حيث ذاته بل من هذه الحيثية المخصوصة. والله العالم
(الثاني) قد صرح المحقق في المعتبر وقبله الشيخ في المبسوط بأنه لو تطهر
من آنية الذهب والفضة لم يبطل وضوؤه ولا غسله. والشيخ ذكر الحكم ولم يعلله بشئ
والمحقق نقل في المعتبر عن بعض الحنابلة المنع (2) معللا له بأنه استعمله في العبادة فيحرم

(1) راجع التعليقة 2 ص 504.
(2) حكاه في المغني ج 1 ص 76 عن أبي بكر وهو من شيوخ الحنابلة.
508

كالصلاة في الدار المغصوبة. ثم قال (قدس سره) في الاستدلال لما اختاره: لنا
أن انتزاع الماء ليس جزء من الطهارة بل لا يحصل الشروع فيها إلا بعده فلا يكون له
أثر في بطلان الطهارة، وقوله هو استعمال في العبادة قلنا أما انتزاع الماء فهو استعمال
لكنه ليس جزء من الطهارة. ونحو ذلك ذكر العلامة في المنتهى إلا أنه استوجه بعد
ذلك البطلان فقال بعد موافقة المعتبر فيما ذكره في المقام: ولو قيل إن الطهارة لا تتم
إلا بانتزاع الماء المنهي عنه فيستحيل الأمر بها لاشتمالها على المفسدة كان وجها وقد
سلف نظيره. انتهى.
أقول لا ريب أن النهي في الأخبار المتقدمة ما بين مقيد بالأكل والشرب وما
بين مطلق ومقتضى قواعدهم في مثل ذلك حمل المطلق على المقيد، وحينئذ فلا دليل على حكم
الوضوء من آنية الذهب والفضة وأن الوضوء هل يكون صحيحا أو باطلا؟ وقضية الأصل
الصحة إلا أن ظاهر الأصحاب هو حمل النهي المطلق على النهي عن الاستعمال مطلقا، وقد
نقل في المنتهى الاجماع على تحريم الاستعمال مطلقا. وحينئذ فالنهي عن الاستعمال في الوضوء
لا يستلزم بطلان الوضوء كما ذكروه بل غايته حصول الإثم بالاستعمال خاصة وهذا بخلاف
النهي عن الأكل والشرب كما حققناه آنفا نعم لو كان ورود النهي عن الوضوء من آنية
الذهب لتوجه القول بالبطلان لورود النهي على الوضوء وتوجه النهي إليه موجب لبطلانه
بمقتضى القاعدة المقررة من أن توجه النهي إلى العبادات موجب لبطلانها إلا أن الأخبار
خالية من ذلك وغاية ما يفهم من مطلقاتها النهي عن الاستعمال إن لم يرتكب فيها التقييد
كما قدمنا ذكره. نعم يأتي ما ذكره العلامة من لزوم اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد،
وقد تقدم نبذة من القول في ذلك ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في كتاب الصلاة.
(الثالث) المشهور بين الأصحاب تحريم اتخاذ الأواني المذكورة وإن كان للقنية
والادخار صرح بذلك المحقق في المعتبر ونقله عن الشيخ (قدس سره) ولم ينقل فيه خلافا إلا
509

عن الشافعي حيث جوزه (1) واستدل في المعتبر على ذلك بأن فيه تعطيلا للمال فيكون سرفا
لعدم الانتفاع، وبرواية محمد بن مسلم المتقدمة (2) المتضمنة للنهي عن آنية الذهب والفضة،
قال: وهو على اطلاقه. بمعنى أن النهي أعم من الاتخاذ والاستعمال فتكون الرواية دالة
باطلاقها على محل البحث، ثم أورد رواية موسى بن بكر. أقول: ويدل على ذلك أيضا
اطلاق صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع فإنها وإن تضمنت الكراهة إلا أن الكراهة هنا
بمعنى التحريم اتفاقا كما هو شائع في الأخبار وتحريمها على الاطلاق شامل للقنية والاتخاذ
وغيرهما، ونقل في المدارك عن العلامة في المختلف أنه استقرب الجواز استضعافا لأدلة
المنع واستحسنه وجعل المنع أولى. والظاهر ضعفه لما عرفت.
(الرابع) قد عرفت اتفاق كلمة الأصحاب على تحريم استعمال أواني الذهب
والفضة وإنما الخلاف في المفضضة والمذهبة فعن الخلاف أن حكمها حكم أواني الفضة
والذهب، وذهب في المبسوط إلى الجواز لكن أوجب عزل الفم عن موضع الفضة
وهو اختيار عامة المتأخرين ومتأخريهم: منهم المحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم.
واستدل الشيخ (قدس سره) على ما نقل عنه بحسنة الحلبي أو صحيحته المتقدمة
المتضمنة للنهي عن الأكل في آنية فضة أو مفضضة. أقول: ويدل عليه أيضا موثقة
بريد المتقدم نقلها عن الكافي والفقيه فإنه ساوى فيها بين الفضة والمفضض، والرواية
وإن وردت بلفظ الكراهة لكن قد عرفت أن المراد بها هنا هو التحريم اتفاقا، ونقل
الشهيد في الذكرى على أثر هذه الرواية عنه (عليه السلام) قال: وقوله: في التور
يكون فيه تماثيل أو فضة لا يتوضأ منه ولا فيه " قال والنهي للتحريم. وهذه الرواية
لم أقف عليها فيما حضرني الآن من كتب الأخبار.
واستدل على القول المشهور بحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة، وظاهر المتأخرين
القائلين بالجواز حمل الأخبار الأولة على الكراهة جمعا بينها وبين الحسنة المذكورة حتى

(1) كما في المغني ج 1 ص 77.
(2) ص 55.
510

أن صاحب المعتبر استدل على ذلك بموثقة بريد المذكورة حيث تضمنت لفظ الكراهة
مع أن القدح المفضض فيها إنما عطف على الفضة ولا خلاف عندهم في التحريم فيها،
إلا أن يقول بجواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه إن قلنا إنه حقيقة في أحدهما
أو معنييه إن قلنا بالاشتراك وهم لا يقولون به كما صرحوا به في أصولهم، ولهذا أن
شيخنا الشهيد في الذكرى نظم هذه الرواية في أدلة الشيخ كما أشرنا إليه آنفا وقال في تقريب
الاستدلال بها: والعطف على الشرب في الفضة مشعر بإرادة التحريم. إلا أنه (قدس
سره) اختار الجمع بين الأخبار بالكراهة كما أشرنا إليه وقال في التفصي عن هذه
الرواية: واستعمال اللفظة فيها في التحريم مجاز يصار إليه بقرينة. ولا يخفى ما فيه فإنه
خروج عن قواعدهم المقررة في أصولهم وأي قرينة هنا تدل على الجواز في المفضض؟
ومجرد وجود الخبر النافي ليس من قرائن المجاز.
وقال العلامة في المنتهى بعد اختيار الجواز: احتج الشيخ على القول الثاني برواية
الحلبي (1) قال: " لا تأكلوا في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة " والعطف يقتضي
التساوي في الحكم وقد ثبت التحريم في آنية الفضة فيثبت في المعطوف، وبرواية
بريد عن الصادق (عليه السلام) (2) " أنه كره الشرب في الفضة وفي القداح المفضضة "
والمراد بالكراهة في الأول التحريم فيكون في الثاني كذلك تسوية بين المعطوف
والمعطوف عليه، ولأنه لولا ذلك للزم استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه أو اللفظ
الواحد في معنى الحقيقة والمجاز وذلك باطل، ثم قال والجواب عن الحديث الأول أن
المعطوف والمعطوف عليه قد اشتركا في مطلق النهي وذلك يكفي في المساواة ويجوز
الافتراق بعد ذلك بكون أحدهما نهي تحريم والآخر نهي كراهة، وكذا الجواب عن
الرواية الثانية إذ استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه أو في الحقيقة والمجاز غير لازم إذ

(1) المروية في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.
511

المراد بالكراهة مطلق رجحان العدم غير مقيد بالمنع من النقيض وعدمه فكان من
قبيل المتواطئ. انتهى.
أقول: فيه (أولا) ما عرفت مما أسلفنا ذكره في غير مقام من أن الجمع بين
الأخبار بالكراهة والاستحباب مما لا دليل عليه من سنة ولا كتاب ولا عقل يصفو
عن شوب الارتياب. و (ثانيا) أن ما أجاب به عن الخبر الأول لا يخلو من غرابة
فإنه قد صرح في كتبه الأصولية وكذا غيره من المحققين بأن النهي من حيث هو حقيقة
في التحريم كما أن الأمر حقيقة في الوجوب، ومقتضاه أن الحمل على الكراهة
والاستحباب مجاز لا يصار إليه إلا بالقرينة، وبذلك يظهر لك ما في كلامه هنا من قوله
" إن المعطوف والمعطوف عليه قد اشتركا في مطلق النهي.. الخ " فإن فيه زيادة على
ما عرفت أنهما متى اشتركا في مطلق النهي والنهي حقيقة في التحريم فقد ثبت التحريم
في الجميع فلا معنى لهذا الافتراق ولا دليل عليه سوى مجرد التحكم، وكذا ما أجاب به
عن الرواية الثانية فإنه أغرب وأعجب فإن حمل الكراهة على مطلق رجحان العدم الشامل
للتحريم والكراهة الاصطلاحية مجرد دعوى الجأت إليها ضرورة الوقوع في شباك الالزام
وإلا فمعنى الكراهة لا يخرج عن التحريم أو الكراهة الاصطلاحية ولو قامت هذه
الاحتمالات البعيدة والتمحلات الغير السديدة في دفع الأدلة وصرفها عن ظاهرها لا نسد
باب الاستدلال إذ لا قول إلا وهو قابل للاحتمال.
والأظهر عندي هو القول المشهور من الجواز على كراهية والاستدلال بالأخبار
المذكورة، والقريب فيها مبني على جواز استعمال المشترك على معنييه أو اللفظ في حقيقته ومجازه،
وهو وإن منعوه في الأصول كما عرفت إلا أن ظواهر كثير من الأخبار وقوعه كما أشرنا إليه
في غير مقام ومنه هذه الأخبار، والاشكال في الاستدلال بها إنما يتجه على من يعمل بهذه
القواعد الأصولية ومنها هذه القاعدة، وما استندوا إليه في الخروج عن الاشكال بعد
التزامهم بالقاعدة المذكورة قد عرفت ما فيه. نعم هنا احتمالات أخر أيضا في الجمع بين أخبار
512

المسألة إلا أن الظاهر هو ما ذكرناه.
بقي الكلام في أنه على تقدير القول بالجواز كما هو المشهور هل يجب العزل عن
موضع الفضة أم لا وإن استحب؟ الظاهر الأول كما اختاره الشيخ في المبسوط والعلامة
في المنتهى والشهيد في الذكرى لحسنة عبد الله بن سنان (1) وقوله (عليه السلام) فيها
" واعزل فمك عن موضع الفضة " واختار المحقق في المعتبر الاستحباب وتبعه في المدارك
واستند في المعتبر إلى رواية معاوية بن وهب المتقدمة. قال في المدارك بعد نقل ذلك
عنه: وهو حسن فإن ترك الاستفصال في جواب السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم.
وفيه أن غاية ما يدل عليه الخبر المذكور هو جواز استعمال المفضض لا موضع الفضة
وأحدهما غير الآخر، وما استند إليه من العموم الناشئ من ترك الاستفصال مخصوص
برواية عبد الله بن سنان الدالة على الأمر بعزل الفم عن موضع الفضة كما لا يخفى.
(الخامس) مورد الأخبار تحريما أو كراهة الإناء المفضض وهل يكون الإناء
المذهب أيضا كذلك؟ الظاهر نعم إن لم يكن أولى لاشتراكهما في أصل الحكم. وقال
العلامة في المنتهى: الأحاديث وردت في المفضض وهو مشتق من الفضة ففي دخول الآنية
المضببة بالذهب نظر ولم أقف للأصحاب فيه على قول، والأقوى عندي جواز اتخاذه
عملا بالأصل والنهي إنما يتناول استعمال آنية الذهب والفضة. نعم هو مكروه إذ لا ينزل
عن درجة الفضة. انتهى. واختياره الجواز في المذهب جرى على اختياره الجواز في
المفضض كما سلف نقله عنه. وقال الشهيد في الذكرى: هل ضبة الذهب كالفضة؟ يمكن
ذلك كأصل الإناء والمنع لقوله (صلى الله عليه وآله) (2) في الذهب والحرير: " هذان
محرمان على ذكور أمتي ". والظاهر ضعفه والحديث المذكور إن ثبت فالظاهر منه إرادة
اللبس كما يشير إليه ذكر الحرير.

(1) ص 506.
(2) رواه ابن ماجة في السنن ج 2 ص 335 والنسائي في السنن ج 2 ص 285.
513

(السادس) الظاهر دخول مثل المكحلة وظرف الغالية في الإناء وبذلك
صرح الشهيد في الذكرى فقال: الأقرب تحريم المكحلة منهما وظرف الغالية وإن كانت
بقدر الضبة لصدق الإناء أما الميل فلا. وبنحو ذلك صرح العلامة في جملة من كتبه وتردد
في المدارك للشك في اطلاق اسم الإناء حقيقة على ذلك. أقول: ومما يؤيد صدق الإناء
على ما نحن فيه ما ذكره الفيومي في المصباح المنير حيث قال: الإناء والآنية الوعاء
والأوعية وزنا ومعنى. وهو صريح في المراد لأنها وعاء لما يوضع فيها. وأما الميل
فالظاهر أنه من قبيل الآلات فلا يتعلق به حكم الأواني وبه جزم الشهيد في الذكرى
كما تقدم. والله العالم.
(السابع) قد صرح جملة من الأصحاب: منهم المحقق في المعتبر والعلامة
في المنتهى والشهيد في الذكرى وغيرهم بجواز نحو الحلقة للقصعة وقبضة السيف والسلسلة
واتخاذ الأنف من الذهب وربط الأسنان به. وظاهر كلامهم جواز ذلك بلا كراهة،
واستندوا في ذلك إلى أنه كان للنبي (صلى الله عليه وآله) قصعة فيها حلقة من فضة
ولموسى بن جعفر (عليه السلام) مرآة كذلك وإن قبضة سيف النبي (صلى الله عليه
وآله) كانت من فضة ولدرعه حلق من فضة.
أقول: لا ريب في صحة ما ذكروه ووجود الأخبار به كما تقدم (1) إلا أنه قد ورد أيضا ما ظاهره المنافاة مثل حديث الفضيل بن يسار الوارد في السرير فيه
الذهب حيث منع (عليه السلام) عن إمساك السرير في البيت إن كان فيه ذهب وإنما
جوز المموه بماء الذهب، وصحيحة علي بن جعفر الواردة في اللجام والسرج فيه الفضة
حيث منع من الركوب به إن كان فضة وجوزه إن كان مموها لا يقدر على نزعه،
وصحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة المشتملة على القضيب الملبس فضة وأمر الكاظم
(عليه السلام) بكسره وحديث بريد المشتمل على المشط، ويؤيد ذلك ما روي عن

(1) ص 505 و 506 و 507.
514

الصادق (عليه السلام) (1) في القرآن المعشر بالذهب وفي آخره سورة مكتوبة بالذهب
فلم يعب سوى كتابة القرآن بالذهب وقال: " لا يعجبني أن يكتب القرآن إلا بالسواد
كما كتب أول مرة " وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في الكراهة إن تنزلنا عن التحريم وسؤال
الفرق بينها وبين ما ورد في تلك الأخبار متجه، وبالجملة فالظاهر هو الجواز في الآلات على
كراهة وإن تفاوتت شدة وضعفا في مواردها، هذا في المذهب والمفضض منها وأما المموه
فالظاهر جوازه من غير كراهة إلا أن في صحيحة علي بن جعفر ما يشعر أيضا بكون
الحكم فيه كذلك من قوله: " إن كان مموها لا يقدر على نزعه " والاحتياط لا يخفى.
(الثامن) قد صرح جملة من الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز
استعمال الأواني من غير هذين المعدنين من سائر الجواهر وإن غلا ثمنه. وهو جيد للأصل
وعدم ما يوجب الخروج عنه.
(التاسع) قد عرفت آنفا الخلاف في جواز الاتخاذ للقنية وعدم الاستعمال
وعدمه، ويتفرع على ذلك فروع: منها عدم جواز كسر الآنية المذكورة وضمان
الأرش لو كسرها على الأول دون الثاني لأنه لا حرمة لها من حيث التحريم،
ومنها جواز بيعها على الأول دون الثاني إلا أن يكون المطلوب كسرها ووثق من
المشتري بذلك.
(العاشر) قال العلامة في المنتهى: تحريم الاستعمال مشترك بين الرجال
والنساء لعموم الأدلة وإباحة التحلي للنساء بالذهب لا يقتضي إباحة استعمالهن للآنية
منه إذ الحاجة وهي التزيين ماسة في التحلي وهو مخيص به فتختص به الإباحة. انتهى.
وادعى في التذكرة الاجماع على الاشتراك المذكور. وهو جيد. والله العالم.
تذنيب
في أحكام الجلود والبحث فيها يقع في مواضع: (الأول) المشهور بين الأصحاب

(1) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب ما يكتسب به.
515

(رضوان الله عليهم) بل ادعى عليه الاجماع أن جلد الميتة مما هو طاهر في حال الحياة
لا يطهر بالدباغ وادعى العلامة في المنتهى والمختلف الاجماع عليه من غير ابن الجنيد،
والشهيد في الذكرى ادعى الاجماع من غير استثناء، وهو إما بناء على أن معلوم النسب
خروجه غير قادح في الاجماع أو لعدم الاعتداد بخلافه لشذوذه وموافقة قوله لأقوال
العامة، ولم ينقلوا الخلاف هنا إلا عن ابن الجنيد خاصة حيث ذهب إلى طهارته بالدباغ
مما هو طاهر في حال الحياة لكن لا يجوز الصلاة فيه، وعزى الشهيد في الذكرى إلى
أبي جعفر الشلمغاني من قدماء أصحابنا إلا أنه تغير وظهرت منه مقالات منكرة
موافقة ابن الجنيد، مع أن ظاهر الصدوق في الفقيه ذلك أيضا حيث روى في صدر
الكتاب مرسلا عن الصادق (عليه السلام) (1) " أنه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها
اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال لا بأس " وهو ظاهر في الطهارة كما ترى وليس
بين هذا الكلام وبين صدر الكتاب الذي قرر فيه أنه لا يورد في كتابه إلا ما يعتقد
صحته ويفتي به إلا أوراق يسيرة.
أقول: وقد قدمنا تحقيق القول في هذه المسألة في الفصل الخامس في الميتة من
المقصد الأول استوفينا الأخبار الواردة في المسألة وبينا الوجه فيها وفي الجمع بينها إلا أنه
قد وقع للمحقق الشيخ حسن في هذا المقام كلام لا بأس بنقله وبيان ما فيه من نقض
وإبرام وقد سبقه إلى ذلك أيضا صاحب المدارك إلا أنا نكتفي بالكلام على ما ذكره
في المعالم حيث إنه أبسط ومنه يعلم الجواب عما ذكره في المدارك.
قال في المعالم بعد نقل الخلاف في المسألة: إذا عرفت هذا فاعلم أن العمدة في
الاحتجاج هنا لكل من القولين حسب ما ذكره المتأخرون هو الأخبار إلا أن الشيخ
والفاضلين أضافوا إليها في الاحتجاج لعدم الطهارة عموم قوله تعالى " حرمت عليكم
الميتة " (2) تعويلا على تناوله لجميع أنواع الانتفاع، واستصحاب النجاسة لثبوتها قبل

(1) ج 1 ص 9
(2) سورة المائدة، الآية 4.
516

الدبغ فكذا بعده. ويلوح من الشهيد التمسك بالاجماع كما حكيناه عنه وهو صريح كلام
الشيخ في الخلاف. وهذه الوجوه كلها ضعيفة، أما التمسك بالآية فلأن المتبادر منها
بحسب العرف تحريم الأكل كما سبق تحقيقه في بحث المجمل من مقدمة الكتاب،
وأما الاستصحاب فلأن التمسك به موقوف على ملاحظة دليل الحكم وكونه عاما في الأزمان
كما سلف القول فيه محررا وقد تقدم في البحث عن نجاسة الميتة أن العمدة فيه على الاجماع
وحينئذ فلا استصحاب، وأما الاجماع فلعدم ثبوته على وجه يصلح للحجية ولهذا لم
يتعرض له المحقق، وحال الشيخ والشهيد في الاجماع معلوم إذ قد أشرنا في غير موضع
إلى أنهما داخلان في عداد من ظهر منه في أمر الاجماع ما أوجب حمله على غير معناه
المصطلح الذي هو الحجة عندنا أو أفاد قلة الضبط في نقلهم. ثم إن الأخبار التي احتجوا
بها لعدم الطهارة كثيرة: منها ما رواه علي بن المغيرة قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) جعلت فداك الميتة ينتفع بشئ منها؟ قال لا. قلت بلغنا.. الحديث "
وقد قدمناه في الموضع المشار إليه آنفا عن علي بن أبي المغيرة (1) ثم ذكر بعده رواية الفتح
ابن يزيد الجرجاني وقد تقدمت أيضا (2) ثم روايات لا دلالة فيها في الحقيقة،
ثم قال فأما ما يدل من الأخبار على الطهارة فحديث واحد رواه الشيخ باسناده ثم
نقل رواية الحسين بن زرارة وقد تقدمت أيضا في الموضع المشار إليه (3) ثم قال:
وأنت إذا تأملت هذه الأخبار كلها وجدت ما عدا الأولين منها والأخير ليس من
محل النزاع في شئ، ثم ساق الكلام في بيان ذلك إلى أن قال: فالتعارض واقع
بينهما وبينه " يعني الخبرين الأولين وخبر الحسين والترجيح من جهة الاسناد منتف
لأن رواية الفتح ضعيفة والخبران الآخران مشتركان في جهالة حال راوييهما،
وحينئذ فيمكن أن يجعل وجه الجمع حمل الروايتين الأوليين على الكراهة أو حمل رواية
الطهارة على التقية ويرجح الثاني رعاية الموافقة لما عليه اتفاق أكثر الأصحاب، ويؤيد

(1) ص 62.
(2) ص 61.
(3) ص 61.
517

الأول موافقته لمقتضى الأصل من براءة الذمة بملاحظة ما قدمناه من عدم استقامة اعتبار
الاستصحاب في مثله. انتهى.
أقول: لا يخفى ما فيه على المتأمل النبيه (أما أولا) فإن ما ذكره من أن التمسك
بالاستصحاب موقوف على ملاحظة دليل الحكم وكونه عاما فجيد، وأما قوله إن
العمدة في نجاسة الميتة إنما هو الاجماع فمردود بما قدمنا تحقيقه في الفصل المتقدم
ذكره ونقلناه من الأخبار المستفيضة الدالة على الحكم المذكور وما ذيلنا به من
التحقيق الظاهر في ذلك تمام الظهور، وعلى هذا فالاستدلال بالاستصحاب في محله
لأن الأخبار المذكورة قد دلت على نجاسة الميتة ومنه الجلد وهي مطلقة عامة
شاملة لجميع الأزمان حتى يقوم الرافع فالاستصحاب هنا راجع إلى الاستصحاب بعموم
الدليل كما هو المدعى.
و (أما ثانيا) فإن ما ذكره من الطعن في الاجماع فهو حق على رأينا الواجب
الاتباع وإن كان قليل الاتباع من الاقتصار في الاستدلال على الكتاب والسنة لا على
رأي من يعتمد على القواعد الأصولية كهذا القائل ونحوه. وذلك فإنه لا يخفى أن من
قواعدهم العمل بالاجماع المنقول بالخبر الواحد، ومنها أن خلاف معلوم النسب غير قادح
في الاجماع والأمر هنا كذلك فيكون حجة، وقد ادعاه هنا العلامة في المنتهى والمختلف
وإن استثنى ابن الجنيد منه، وادعاه الشيخ في الخلاف والشهيد في الذكرى من غير
استثناء بناء على القاعدة الثانية، وبذلك اعترف هذا القائل في صدر كلامه فقال بعد نقل
الاجماع عن العلامة كما حكيناه: وقال الشهيد في الذكرى لا يطهر جلد الميتة بالدباغ اجماعا
فلم يحتفل باستثناء المخالف نظرا إلى عدم اعتبار مخالفة معلوم الأصل في تحقق الاجماع انتهى.
وحينئذ فالاجماع المدعى هنا بمقتضى قواعدهم حجة في المقام فلا معنى لقدحه فيه،
ووقوع التساهل من الشيخ والشهيد في دعوى الاجماع في غير هذا الموضع لا يقتضي
رد ما نقلاه هنا من الاجماع المشتمل على شروط الاجماع المقبولة وإلا لأدى ذلك إلى
518

عدم قبول الاجماع بين المتأخرين مطلقا ولا جعله دليلا شرعيا عنده لأن عمدة الاجماعات
الأصل فيها هو الشيخ والمرتضى اللذان هما في الصدر الأول فإذا لم يعول على نقلهم
الاجماع مع عدم ظهور فساده ولا مانع منه فبالطريق الأولى اجماعات المتأخرين الذين
هم أبعد طبقة من معرفة أقوال المتقدمين، غاية الأمر أنه في مقام ظهور خلافه سيما إذا
لم يعلم القائل به سوى المدعى أو مخالفة المدعى نفسه فيه في موضع آخر أو مخالفة غيره
له فيه لا يعمل عليه، وما لم يظهر فيه شئ من ذلك ونحوه فإنه لا معنى لرده بمجرد
التشهي كما لا يخفى.
و (أما ثالثا) فإن ما ذكره من أنه لا تعارض في الأخبار التي نقلها
إلا بين روايتي علي بن المغيرة والفتح بن يزيد الجرجاني وبين رواية الحسين بن زرارة
فحق لا ريب فيه إلا أن قوله: " والترجيح من جهة الاسناد منتف " غفلة ظاهرة قد
سبقه إليها صاحب المدارك أيضا، وذلك فإن الرواية التي نقلاها عن علي بن بالمغيرة إنما
نقلاها من التهذيب وهي فيه كذلك وعلي بن المغيرة المذكور مجهول ذكره ولم يتعرضوا
له بمدح ولا قدح وأما في الكافي فإنما رواها عن ابن أبي المغيرة وهو ثقة كما في كتب
الرجال والتحريف قد وقع من الشيخ كما لا يخفى على من له أنس بطريقته وقد نبهنا على
ذلك مرارا، ويدل على ذلك أنه إنما نقل الحديث عن ابن يعقوب بالسند المذكور في
الكافي ولكن حرف قلمه فسقط منه لفظ " أبي " والمحدثان الفاضلان محسن الكاشاني
والشيخ الحر في الوافي والوسائل إنما نقلا الخبر بسند صاحب الكافي كما ذكرنا ولكن المحققين
المذكورين لم يراجعا الكافي واعتمدا على التهذيب والحال كما ترى، وحينئذ فالرواية
المذكورة صحيحة صريحة في النجاسة ورواية الحسين بن زرارة قاصرة عن معارضتها،
وأقصر منها وأضعف باصطلاحهم مرسلة الصدوق التي نوه بها في المدارك واعتمد عليها،
على أن أدلة القول بالنجاسة غير منحصرة في هاتين الروايتين بل هي عدة روايات قدمنا
ذكرها في الموضع المشار إليه آنفا.
519

و (أما رابعا) فإن ما ذكره من وجهي الجمع بحمل رواية الطهارة على التقية
أو حمل روايتي النجاسة على الكراهة وأيد الحمل الأول برعاية اتفاق أكثر الأصحاب
والثاني بموافقة الأصل ففيه أن وجه الجمع الموافق لقواعد أهل العصمة (عليهم السلام)
التي وضعوها إنما هو الأول لما استفاض عنهم من الأخبار في مقام اختلاف الروايات
الواردة عنهم في الأحكام من العرض على الكتاب العزيز والأخذ بما وافقه والعرض
على مذهب العامة والأخذ بخلافه والأخذ بالمجمع عليه والأخذ بالأعدل ونحو ذلك،
وأما الحمل على الكراهة والاستحباب والترجيح بالأصل كما اتخذوه قاعدة كلية في جميع
الأبواب فهو اجتهاد صرف وتخريج بحت ورد لنصوص أهل الخصوص، وليت شعري
أرأيت حين خرجت عنهم (عليهم السلام) هذه القواعد في ترجيح الأخبار في مقام
الاختلاف لم يعلموا بهذا الأصل وأنه مما ترجح به الأخبار حتى أغفلوه وأهملوه أو علموا
به ولم يذكروه والأول كفر محض فتعين الثاني وليس إلا لعدم صلاحيته للترجيح وإلا
لعدوه في جملة هذه المرجحات.
وبهذا يظهر لك أيضا ما في كلام صاحب المدارك حيث قال بعد الكلام في
المسألة: وبالجملة فالمسألة محل تردد لما بيناه فيما سبق من أنه ليس على نجاسة الميتة دليل
يعتد به سوى الاجماع وهو إنما انعقد على النجاسة قبل الدبغ لا بعده، وعلى هذا
فيمكن القول بالطهارة تمسكا بمقتضى الأصل وتخرج الروايتان شاهدا. انتهى.
أقول: لا تردد بحمد الله تعالى في ذلك بعد وضوح المدارك فيها والمسالك من
الأخبار المستفيضة بنجاسة الميتة على العموم والجلد على الخصوص المعلوم وحمل المخالف
في الثاني على التقية كما استفاضت به الأخبار عن سادات البرية. والله الهادي لمن يشاء
(الثاني) اشترط ابن الجنيد في حصول الطهارة بالدباغ أن يكون ما يدبغ به
طاهرا، قال في المختصر على ما نقل عنه: وليس يكون دباغها المحلل لها إلا بمحلل طاهر
كالقرظ والشث والملح والتراب فإذا دبغت بشئ من النجس لم تطهر كالدارش فإنها
520

تدبغ بخرء الكلاب وكذا اللنكا. انتهى قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه: ولا نعلم
حجته على هذا الشرط ويمكن أن يكون الوجه فيه علوق بعض أجزاء النجس به لسريانه
في أعماق الجلد. انتهى. أقول: بل الظاهر أن الوجه فيه إنما هو عدم وقوع التطهير
بالنجس حيث إنه جعل الدبغ مطهرا شرعا وقد تقرر في كلامهم أنه لا بد في المطهر أن يكون طاهرا ليفيد غيره طهارة كما صرحوا به وعليه دلت الأخبار أيضا. أقول: قد
روى الشيخان في الكافي والتهذيب عن السياري عن أبي يزيد القسمي عن أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) (1) " أنه سأله عن جلود الدارش التي يتخذ منها الخفاف فقال
لا تصل فيها فإنها تدبغ بخرء الكلاب " والنهي في الخبر عن الصلاة في الخفاف المذكورة
مخصوص بعدم تطهير الجلد وغسله وإلا فلو غسل فلا بأس، صرح بذلك الفاضلان
في المعتبر والمنتهى.
والمذكور في كلام جملة من الأصحاب أنه لا يجوز الدباغ إلا بما كان طاهرا قاله
الشيخ في المبسوط وكذا ابن إدريس والعلامة في المنتهى وظاهره تحريمه بالنجس،
ولا أعرف للتحريم وجها بعد حصول الطهارة بالغسل كما صرح به هنا، ونحوه في المنتهى
قال: يجوز استعمال الطاهر في الدباغ كالشث والقرظ والعفص وقشور الرمان وغيرها،
والقائلون بتوقف الطهارة على الدباغ من أصحابنا والجمهور اتفقوا على حصول الطهارة
بهذه الأشياء أما الأشياء النجسة فلا يجوز استعمالها في الدباغ. وهل يطهر أم لا؟ أما عندنا
فإن الطهارة حصلت بالتذكية فكان ملاقاة النجس موجبة لتنجس الجلد ويطهر بالغسل،
وأما القائلون بتوقف الطهارة على الدباغ فقد ذهب بعضهم إلى عدم الطهارة ذكره ابن
الجنيد وبعض الجمهور لأنها طهارة من نجاسة فلا تحصل بالنجس كالاستجمار والغسل إلى أن قال وقد روي عن الرضا (عليه السلام) ثم نقل رواية أبي يزيد القسمي المتقدمة وردها
أولا بضعف السند ثم قال ومع تسليمها تحمل على المنع من الصلاة قبل الغسل. انتهى.

(1) رواه في الوسائل في الباب 71 من النجاسات.
521

وقد ضبط جملة من أصحابنا لفظ " الشث " هنا بالشين المعجمة والثاء المثلثة قال
الجوهري أنه نبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به، وفي الذكرى بعد أن ضبطه هكذا
قال وقيل بالباء الموحدة وهو شئ يشبه الزاج. والقرظ بالقاف والراء والظاء المعجمة
قال الجوهري هو ورق السلم يدبغ به. وأما الدارش فذكر الجوهري وغيره أنه جلد
معروف. وأما ما ذكره ابن الجنيد من اللنكا فذكر في المعالم أنه ليس بعربي إذ لم
يذكره أهل اللغة.
(الثالث) لو قلنا ببقاء جلود الميتة بعد الدباغ على النجاسة كما هو المشهور
المنصور فهل يجوز الانتفاع بها في اليابس أم لا؟ صرح جملة من الأصحاب: منهم
الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى بالثاني. وعلله المحقق في المعتبر بعموم
النهي عن الانتفاع ونحوه العلامة في المنتهى، وزاد الشهيد في الذكرى عموم " حرمت
عليكم الميتة " (1).
واعترضهم في المعالم بأنه ليس بجيد لأن الآية غير صالحة لأن يتناول عمومها مثله
كما بيناه والخبران العامان قد علم ضعف اسنادهما.
أقول: أما ما ذكره من منع دلالة الآية سابقا وفي هذا الموضع فهو جيد لما ذكره
من أن المتبادر إنما هو الأكل كما في قوله سبحانه " حرمت عليكم أمهاتكم.. الآية " (2)
فإن المتبادر إنما هو النكاح خاصة. وأما الطعن في الخبرين الدالين على ذلك فهو أيضا
جيد على أصله الغير الأصيل المخالف لما عليه كافة العلماء جيلا بعد جيل، لاطباقهم على العمل
بهذه الأخبار واتفاقهم على ذلك في جميع الأعصار وإن اختلفوا في الوجه في ذلك
فبين من يحكم بصحتها كما عليه كافة المتقدمين وجملة من متأخري المتأخرين وبين من
يجبر ضعفها باتفاق الأصحاب على العمل بها واجماعهم عليها. والله العالم.
(الرابع) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما

(1) سورة المائدة، الآية 4.
(2) سورة النساء، الآية 27.
522

اعلم أن ما عدا الكلب والخنزير والانسان من الحيوانات الطاهرة مما لا يؤكل لحمه كالسباع
ونحوها تقع عليها الذكاة وإنما الخلاف في أنه بعد التذكية هل يشترط في الانتفاع بجلده الدبغ
أم لا؟ المشهور على ما ذكره في الذكرى الأول حيث قال: الأصح وقوع الذكاة على الطاهر
في حال الحياة كالسباع لعموم " إلا ما ذكيتم " (1) وقول الصادق (عليه السلام) (2)
" لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ذكاه الذبح أو لم يذكه " فيطهر بالذكاة، والمشهور تحريم استعماله
حتى يدبغ والفاضلان جعلاه مستحبا لطهارته وإلا لكان ميتة فلا يطهره الدبغ. انتهى.
وربما أشعر صدر عبارته بالخلاف في وقوع التذكية.
أقول: لم أقف في كلام أحد من الأصحاب على نقل الخلاف في جواز الاستعمال
قبل الدبغ إلا عن الشيخ والمرتضى خاصة حيث نقل عنهما التحريم كما في المعتبر والمختلف
والمنتهى، وشيخنا الشهيد في الذكرى قد ذكر أنه هو المشهور وظاهر أكثر المتأخرين
إنما هو ما ذهب إليه الفاضلان من الجواز وإن كان على كراهة خروجا من خلاف القائل
بالتحريم، نعم ظاهر كلام العلامة أن خلاف الشيخ والمرتضى إنما هو في الطهارة لا في
الاستعمال كما هو المفهوم من كلام غيره، قال وأما الحيوان الطاهر حال الحياة مما لا يؤكل
لحمه كالسباع فإنه تقع عليه الذكاة ويطهر الجلد بها وهو قول مالك وأبي حنيفة وقال
الشيخ والمرتضى لا يطهر إلا بالدباغ وبه قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وفي
الأخرى لا يجوز الانتفاع بجلود السباغ قبل الدبغ ولا بعده.. الخ (3). وهو غريب
ونحوه كلام المحقق الشيخ علي في شرح القواعد حيث قال بعد قول المصنف " نعم
يستحب الدبغ فيما لا يؤكل لحمه ": وقيل بالوجوب ومقتضى كلام القائلين به أن

(1) سورة المائدة، الآية 4.
(2) الظاهر أنه مضمون ما ورد في موثق ابن بكير المروي في الوسائل في الباب 2
من لباس المصلي من فساد الصلاة في كل شئ من غير المأكول ذكاه الذبح أو لم يذكه.
(3) المغني ج 1 ص 66 و 71 وبداية المجتهد ج 1 ص 72.
523

الطهارة تحصل بالدبغ وهو مردود لأن الطهارة حاصلة بالتذكية إذ لولاها لكان ميتة فلا
يطهر بالدبغ، قال والأصح عدم الوجوب وإن كان العمل به أحوط. وفيه أن مجرد
القول بالوجوب لا يستلزم ما ذكره إذ يجوز أن يكون وجوب الدبغ الذي ذهبوا إليه
إنما هو لحل الاستعمال إلا أن يدعى أن حل الاستعمال تابع للطهارة فمتى قيل بها جاز
الاستعمال ثم يستثنى من ذلك الصلاة اتفاقا. ثم إن ظاهر الشهيد في الذكرى ونحوه في
الدروس هو التوقف في المسألة حيث اقتصر على نقل الخلاف في المقام ولم يرجح شيئا.
وبالجملة فالذي يتلخص من كلام من وقفت على كلامهم في هذا المقام هو أن محل
الخلاف إنما هو جواز الاستعمال قبل الدبغ وعدمه فالشيخ والمرتضى على الثاني والمتأخرون
كالفاضلين ومن تأخر عنهما على الأول.
ونقل عن الشيخ في الخلاف أنه احتج بالاجماع على جواز الاستعمال بعد الدبغ ولا
دليل قبله. وفيه منع ظاهر لتظافر الأدلة بالجواز، ومنها ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ
في التهذيب عن سماعة في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن لحوم
السباع وجلودها فقال أما لحوم السباع والسباع من الطير والدواب فإنا نكرهه وأما الجلود
فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون فيه ".
وروى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن سماعة في الموثق الأوثق عن
الصادق (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن لحوم السباع وجلودها فقال أما لحوم
السباع من الطير والدواب فإنا نكرهه وأما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا منها
تصلون فيه ".
وروى في المحاسن عن ابن أسباط عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (3)
قال: " سألته عن ركوب جلود السباع قال لا بأس ما لم يسجد عليها ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من الأطعمة المحرمة
(2) رواه في الوسائل في الباب 5 من لباس المصلي.
(3) رواه في الوسائل في الباب 5 من لباس المصلي.
524

وعن عثمان بن عيسى عن سماعة (1) قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام)
عن جلود السباع قال فقال اركبوها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون فيه ".
قال شيخنا المجلسي في البحار ذيل هذين الخبرين: هذان الخبران يدلان على
كون السباع قابلة للتذكية بمعنى إفادتها جواز الانتفاع بجلودها لطهارتها كما هو المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل قال الشهيد إنه لم يعلم القائل بعدم وقوع الذكاة
عليها سوى الكلب والخنزير. واستشكال الشهيد الثاني وبعض المتأخرين في الحكم
بعد ورود النصوص المعتبرة وعمل القدماء والمتأخرين بها لا وجه له. انتهى.
أقول: ومن الأخبار في ذلك أيضا ما يأتي في كتاب الصلاة إن شاء الله
تعالى من جواز الصلاة في الخز اتفاقا وفي جلود جملة من الحيوانات كالفنك والسنجاب
والسمور والثعالب والأرانب على خلاف في ذلك دون أصل اللبس فإنها
ظاهرة في جوازه.
وقال في الفقه الرضوي (2) " ولا تجوز الصلاة في سنجاب أو سمور أو فنك
فإذا أردت الصلاة فانزعه عنك وقد روى فيه رخصة وإياك أن تصلي في الثعالب ولا
في ثوب تحته جلد ثعالب وصل في الخز إذا لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب.. ولا تصل
في جلد الميتة " انتهى.
واطلاق هذه الأخبار شامل للمدبوغ وغيره وبه يظهر قوة القول المشهور، وبالجملة
فإنه متى ثبتت الطهارة بالتذكية جاز الاستعمال ومدعى الزيادة على ذلك عليه الدليل.
وبما سردناه من الأخبار يظهر ما في حكم أصحابنا (رضوان الله عليهم) بكراهة
الاستعمال قبل الدبغ تفصيا من خلاف الشيخ والمرتضى فإنه لا يخفى أن الكراهة عندهم
من الأحكام الشرعية المتوقف ثبوتها على الدليل فكيف يسوغ الحكم بها من غير دليل؟
ومجرد قول هذا القائل مع خلوه من الدليل ليس بدليل الكراهة، وغاية ما يمكن

(1) رواه في الوسائل في الباب 5 من لباس المصلي
(2) ص 16.
525

التنزل إليه بعد الاغماض عما ذكرناه في غير موضع من التحقيق هو حمل دليله لو كان
ثمة دليل على الكراهة جمعا كما هي قاعدتهم لا الحكم بالكراهة لمجرد التفصي من الخلاف
فإنه لا يخفى ما فيه على ذوي الانصاف.
(الخامس) المشهور في كلام متأخري أصحابنا نجاسة الجلد لو وجد مطروحا
وإن كان في بلاد المسلمين جديدا أو عتيقا مستعملا أو غير مستعمل لأصالة عدم التذكية
ونحو ذلك اللحم أيضا.
وأنت خبير بما فيه (أما أولا) فللقاعدة الكلية المتفق عليها نصا وفتوى من أن
" كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه " (1) و " كل شئ
طاهر حتى تعلم أنه قذر " (2) ومن قواعدهم المقررة أن الأصل يخرج عنه بالدليل والدليل
موجود كما ترى، فترجيحهم العمل بالأصل المذكور على هذه القاعدة المنصوصة خروج
عن القواعد، ويعضد هذه القاعدة المذكورة جملة من الأخبار كصحيحة سليمان بن جعفر
الجعفري عن العبد الصالح موسى (عليه السلام) (3) " أنه سأله عن الرجل يأتي السوق
فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم
المسألة أن أبا جعفر (عليه السلام) كأن يقول إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم
أن الدين أوسع من ذلك " وبمضمونها روايات عديدة قد تقدمت، والتقريب فيها دلالتها
على الحل في موضع الاشتباه حتى في الصلاة.
و (أما ثانيا) فلما رواه الشيخ عن السكوني عن الصادق (عليه السلام) (4)
" أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير
لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) يقوم ما فيها
ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء فإن جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل يا أمير المؤمنين

(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من ما يكتسب به
(2) راجع ص 255
(3) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب النجاسات.
526

لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ قال هم في سعة حتى يعلموا " وهو صريح في
المطلوب، ونقل هذه الرواية في البحار (1) عن الراوندي بسنده عن موسى بن إسماعيل
عن أبيه إسماعيل عن أبيه موسى.. الحديث إلا أن فيه " لا نعلم أسفرة ذمي
هي أم سفرة مجوسي ".
و (أما ثالثا) فإن مرجع ما ذكروه من الأصل إلى استصحاب عدم الذبح
نظرا إلى حال الحياة. وفيه مع الاغماض عما حققناه في مقدمات الكتاب من أن
مثل هذا الاستصحاب ليس بدليل شرعي أنه صرح جملة من المحققين كما حققناه في
الدرر النجفية بأن من شرط العمل بالاستصحاب أن لا يعارضه استصحاب آخر يوجب
نفي الحكم الأول في الثاني واستصحاب عدم التذكية هنا معارض باستصحاب طهارة
الجلد حال الحياة، وتوضيحه أن وجه تمسكهم بالأصل المذكور من حيث استصحاب عدم
الذبح نظرا إلى حال الحياة ولم يعلم زوال عدم المذبوحية لاحتمال الموت حتف أنفه فيكون
نجسا إذ الطهارة لا تكون إلا مع الذبح، هكذا قالوا، ونحن نقول إن طهارة الجلد في
حال الحياة ثابتة ولم يعلم زوالها لتعارض احتمال الذبح وعدمه فيتساقطان ويبقى الأصل
ثابتا لا رافع له.
و (أما رابعا) فإن ما اعتمدوه من الاستصحاب وإن سلمنا صحته إلا أنه
غير ثابت هنا ولا موجود عند التأمل بعين التحقيق، فإنه لا معنى للاستصحاب كما
حقق في محله إلا ثبوت الحكم بالدليل في وقت ثم اجراؤه في وقت ثان لعدم قيام دليل
على نفيه مع بقاء الموضوع في الوقتين وعدم تغيره فثبوت الحكم في الوقت الثاني متفرع
على ثبوته في الوقت الأول وإلا فكيف يمكن اثباته في الثاني مع عدم ثبوته أولا؟
واستصحاب عدم المذبوحية في المسألة لا يوجب الحكم بالنجاسة كما توهموه لأن النجاسة
لم تكن ثابتة في الوقت الأول وهو وقت الحياة، وبيانه أن عدم المذبوحية لازم لأمرين

(1) ج 14 ص 766.
527

أحدهما الحياة وثانيهما الموت حتف الأنف الموجب للنجاسة ليس هو هذا اللازم من حيث
هو بل ملزومه الثاني أعني الموت حتف الأنف فعدم المذبوحية للحياة مغاير لعدم
المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف والمعلوم ثبوته في الزمن الأول هو الأول لا الثاني
وظاهر أنه غير باق في الوقت الثاني. والله العالم.
خاتمة الكتاب
في الاستطابة التي صرح بها جملة من الأصحاب وهي مشتملة على فصول من
السنن والآداب:
(فصل) روى الشيخ في التهذيب عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن جده (1)
قال: " دخل علي (عليه السلام) وعمر الحمام فقال عمر بئس البيت الحمام يكثر فيه
العناء ويقل فيه الحياء. وقال علي (عليه السلام) نعم البيت الحمام يذهب الأذى
ويذكر بالنار ".
وروى في الكافي عن محمد بن أسلم رفعه (2) قال: " قال أبو عبد الله
(عليه السلام) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) نعم البيت الحمام يذكر بالنار ويذهب
الدرن، وقال عمر بئس البيت الحمام يبدي العورة ويهتك الستر. قال فنسب الناس قول
أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عمر وقول عمر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ".
وقال في الفقيه (3) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " نعم البيت الحمام تذكر
فيه النار ويذهب بالدرن ". وقال (عليه السلام) " بئس البيت الحمام يهتك الستر
ويذهب بالحياء " وقال الصادق (عليه السلام) " بئس البيت الحمام يهتك الستر ويبدي
العورة ونعم البيت الحمام يذكر حر النار ".
وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن رفاعة عن الصادق (عليه السلام) (4)

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 16 من آداب الحمام.
528

قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام ".
وعن سماعة في الموثق عن الصادق (عليه السلام) (1) " من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يرسل حليلته إلى الحمام ".
وروى في الفقيه مرسلا (2) قال: وقال (عليه السلام) " من أطاع امرأته
أكبه الله على منخريه في النار. قيل وما تلك الطاعة؟ قال: تدعوه إلى النياحات والعرسات
والحمامات ولبس الثياب الرقاق فيجيبها ".
وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن رفاعة عن الصادق (عليه السلام) (3)
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ".
وعن علي بن الحكم عن رجل من بني هاشم (4) قال: " دخلت على جماعة
من بني هاشم فسلمت عليهم في بيت مظلم فقال بعضهم سلم على أبي الحسن (عليه السلام)
فإنه في الصدر قال فسلمت عليه وجلست بين يديه وقلت له جعلت فداك قد أحببت أن
ألقاك منذ حين لأسألك عن أشياء فقال سل عما بدا لك قلت ما تقول في الحمام؟ قال
لا تدخل الحمام إلا بمئزر وغض بصرك ولا تغتسل من غسالة ماء الحمام فإنه يغتسل فيه
من الزنا ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت (عليهم السلام) وهو شرهم ".
وعن محمد بن جعفر عن بعض رجاله عن الصادق (عليه السلام) (5) قال:
" قال رسول الله (صلى لله عليه وآله) لا يدخل الرجل مع ابنه الحمام فينظر إلى عورته.
وقال ليس للوالدين أن ينظرا إلى عورة الولد وليس للولد أن ينظر إلى عورة الوالد،

(1) رواه في الوسائل في الباب 16 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 16 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 9 من آداب الحمام
(4) فروع الكافي ج 2 ص 219 وفي الوسائل بعضه في الباب 11 من الماء المضاف
و 9 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 21 من آداب الحمام.
529

وقال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناظر والمنظور إليه في الحمام بلا مئزر ".
وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (1) قال: " سئل الصادق (عليه السلام) عن
قول الله عز وجل: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى
لهم " (2) فقال كل ما كان في كتاب الله من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلا في
هذا الموضع فإنه الحفظ من أن ينظر إليه " قال: وروي عن الصادق (عليه السلام) (3)
أنه قال: " إنما كره النظر إلى عورة المسلم فأما النظر إلى عورة الذمي ومن ليس بمسلم فهو
مثل النظر إلى عورة الحمار " وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير
عن غير واحد عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: " النظر إلى عورة من ليس بمسلم
مثل نظرك إلى عورة الحمار ".
وروى في الكافي والفقيه باسنادين صحيح وحسن عن حنان بن سدير عن
أبيه (5) قال: " دخلت أنا وأبي وجدي وعمي حماما بالمدينة فإذا رجل في بيت المسلخ فقال
لنا ممن القوم؟ فقلنا من أهل العراق. فقال وأي العراق؟ فقلنا كوفيون. فقال مرحبا
بكم يا أهل الكوفة أنتم الشعار دون الدثار ثم قال ما يمنعكم من الإزر؟ فإن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) قال: عورة المؤمن على المؤمن حرام. قال فبعث أبي إلى كرباسة
فشقها بأربعة ثم أخذ كل واحد منا واحدا ثم دخلنا فيها، فلما كنا في البيت الحار
صمد لجدي فقال يا كهل ما يمنعك من الخضاب؟ فقال له جدي أدركت من هو خير
مني ومنك لا يختضب. قال فغضب لذلك حتى عرفنا غضبه في الحمام فقال ومن ذلك الذي
هو خير مني؟ فقال أدركت علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو لا يختضب. قال

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أحكام الخلوة.
(2) سورة النور، الآية 30
(3) رواه في الوسائل في الباب 6 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 6 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 9 و 41 من آداب الحمام.
530

فنكس رأسه وتصاب عرقا وقال صدقت وبررت ثم قال يا كهل إن تختضب فإن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) قد خضب وهو خير من علي وإن تترك فلك بعلي أسوة. قال فلما
خرجنا من الحمام سألنا عن الرجل فإذا هو علي بن الحسين ومعه ابنه محمد بن علي (عليهما السلام) "
وروى الشيخ في التهذيب عن حماد بن عيسى عن جعفر عن أبيه عن علي
(عليهم السلام) (1) قال: " قل له إن سعيد بن عبد الملك يدخل مع جواريه الحمام
قال وما بأس إذا كان عليه وعليهن الإزر لا يكونون عراة كالحمير ينظر بعضهم إلى
سوأة بعض ".
وفي الفقيه عن سعدان بن مسلم (2) قال: " كنت في الحمام الأوسط فدخل علي
أبو الحسن (عليه السلام) وعليه النورة وعليه إزار فوق النورة فقال السلام عليكم
فرددت عليه السلام وبادرت فدخلت إلى البيت الذي فيه الحوض فاغتسلت وخرجت ".
وعن عبيد الله المرافقي (3) قال: " دخلت حماما بالمدينة وإذا شيخ كبير وهو قيم
الحمام فقلت يا شيخ لمن هذا الحمام؟ فقال لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي
(عليهم السلام) فقلت أكان يدخله؟ فقال نعم فقلت كيف كان يصنع؟ قال كان يدخل
فيبدأ فيطلي عانته وما يليها ثم يلف إزاره على طرف إحليله ويدعوني فأطلي سائر بدنه
فقلت له يوما من الأيام: الذي تكره أن أراه فقد رأيته فقال كلا إن النورة سترة ".
بيان: ما في هذه الأخبار الشريفة يشتمل على فوائد (الأولى) الدلالة على
استحباب الحمام لدخول الأئمة (عليهم السلام) فيه ومدحه كما ورد عن علي (عليه
السلام) وأما أحاديث الذم فقد حملها الأصحاب على دخوله عاريا، قال الشهيد في
الذكرى: ويستحب الاستحمام لدخول النبي (صلى الله عليه وآله) حمام الجحفة ودخول

(1) رواه في الوسائل في الباب 12 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 18 من آداب الحمام.
531

علي (عليه السلام) وكان الباقر (عليه السلام) يدخل حمامه، وقال علي (عليه السلام) (1)
" نعم البيت الحمام تذكر فيه النار ويذهب بالدرن " وما روى عنه وعن الصادق (عليهما
السلام) (2) " بئس البيت الحمام يهتك الستر ويذهب الحياء ويبدي العورة " فالمراد
به مع عدم المئزر. وقال في المعالم: وحمل الشهيد في الذكرى ما ورد من الذم على حال
الدخول بغير مئزر. وفيه بعد والأقرب ترجيح المدح بما رواه في الكافي عن الصادق
(عليه السلام) ثم ذكر مرفوعة محمد بن أسلم الجبلي المتقدمة. وظاهره حمل ما ورد عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) من الذم على نقل العامة عنه ذلك، وأما ما نقل عن
الصادق (عليه السلام) فعلى التقية موافقة لقول إمامهم. وهو جيد وإن كان الأول
أيضا لا يخلو من قرب.
(الثانية) ما ورد من منع النساء من دخول الحمام مشكل ولا أعلم بمضمونه
قائلا بل ظاهر كلام من وقفت على كلامه خلافه من القول بالجواز وارتكاب التأويل
في هذه الأخبار، وقال في الوافي بعد نقل سماعة ومرسل الفقيه المتقدمين ما صورته:
حمل على ما إذا كان هناك ريبة فإنهم ضعفاء العقول تزيغ قلوبهن بأدنى داع إلى ما لا
ينبغي لهن ويحتمل أن يكون لانكشاف سوأتهن وكان ذلك مختصا بذلك الزمان
أو ببعض البلدان. انتهى. وظاهر الشهيد في الذكرى حمل الأخبار المذكورة على حال
اجتماعهن واستثنى من الكراهة مع الاجتماع حال الضرورة. واستحسنه في المعالم،
وذكر في الذكرى أيضا أن الاتزار عند الاجتماع يخفف الكراهة وأن ذلك مروي عن
علي (عليه السلام). ولم نقف على هذه الرواية وبذلك اعترف في المعالم أيضا إلا أنه قال
ولكن الاعتبار يشهد له.
(الثالثة) يجب على الداخل للحمام ستر العورة عن الناظر المحترم لما تقدم في
باب الوضوء وعليه قوله (عليه السلام) في صحيحة رفاعة المتقدمة (3): " من كان

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من آداب الحمام
(3) ص 529
532

يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر " وأما مع عدم الناظر المحترم فلا
بأس وإن كره ذلك لما رواه الحلبي في الصحيح (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه أحد؟ قال لا بأس " وأما ما يدل
على الكراهة فرواية أبي بصير عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم
السلام) (2) قال: " إذا تعرى أحدكم نظر إليه الشيطان فطمع فيه فاستتروا " وأما
ما ورد في جملة من الأخبار من الأمر بغض البصر عند دخول الحمام فهو مبني على ذلك
الوقت من حيث عدم الاتزار وأنهم عراة فأمروا بغض البصر عن النظر إلى عورات الناس
(الرابعة) ما تضمنه مرسل الصدوق ومرسل ابن أبي عمير من جواز النظر
على عورة غير المسلم خلاف ما هو المفهوم من كلام أكثر الأصحاب، قال شيخنا الشهيد
في الذكرى: نعم يجب ستر الفرج وغض البصر ولو عن عورة الكافر وفيه خبر عن
الصادق (عليه السلام) بالجواز. وقال المولى محمد تقي المجلسي في شرحه على الفقيه بعد
نقل الرواية: يدل على جواز النظر إلى عورة الكافر ولكن ظاهر الآيات والأخبار
عموم الحرمة والخبر ليس بصحيح يمكن تخصيصهما به، وذهب جماعة إلى الجواز كما هو
ظاهر الخبر والأحوط عدم النظر، هذا إذا لم يكن النظر بشهوة وتلذذ وإلا فإنه حرام
بلا خلاف. وظاهر صاحب المعالم الميل إلى ما دلت عليه هذه الأخبار حيث قال: وظاهر
الشهيد في الذكرى أنه لا خلاف في وجوب غض البصر عن عورة الكافر حيث قال، ثم
نقل العبارة المتقدمة وقال بعدها ولم يزد على هذا، وأنت خبير بأن ايراد الخبر في الفقيه
يدل على أن مصنفه يعمل به كما نبهنا عليه مرارا فيكون القائل بجواز النظر إلى عورة
الكافر موجودا، ورواية الكافي وإن لم تكن صحيحة السند فالأصل يعضدها والخبر

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 9 من آداب الحمام.
533

الذي سبق الاحتجاج به لتحريم النظر إلى العورة في بحث الخلوة مخصوص بعورة
المسلم. انتهى. وهو جيد.
(الخامسة) قال في الفقيه بعد ايراد خبر حنان بن سدير المتقدم ما لفظه:
وفي هذا الخبر اطلاق للإمام (عليه السلام) أن يدخل ولده معه الحمام دون من ليس بإمام
وذلك لأن الإمام معصوم في صغره وكبره لا يقع منه النظر إلى عورة في حمام ولا غيره.
وقال أيضا قبل ذلك: ومن الآداب أن لا يدخل الرجل ولده معه الحمام فينظر إلى
عورته. وتبعه الشهيد في الذكرى في هذه المقالة فقال: ويكره دخول الولد مع أبيه الحمام
ودخول الباقر مع أبيه (عليهما السلام) لعصمتهما.
أقول: لا يخفى أن ما ذكراه من عموم كراهة دخول الرجل مع ابنه الحمام غير
ثابت حتى يستثنى منه المعصوم، والموجود من أخبار هذه المسألة مرسلة محمد بن جعفر
المتقدمة (1) ومرفوعة سهل بن زياد رفعه (2) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام)
لا يدخل الرجل مع ابنه الحمام فينظر إلى عورته " وظاهرهما النهي عن دخولهما عاريين
والظاهر أن تخصيص النهي بهما مع ورود النهي عن الدخول عاريا مطلقا أن ذلك أشد
كراهة بالنسبة إليهما، وأما خبر حنان بن سدير المتضمن لدخول الباقر مع أبيه (عليهما
السلام) فهو إنما كان بالإزار وكل منهما متزر فلا تعارض بين الأخبار حتى يحتاج إلى
الاستثناء كما ذكروه، وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه، ويؤيده أنه لو كان مجرد
دخول الولد مع أبيه مكروها لما أقر الإمام (عليه السلام) الجماعة المذكورين في الخبر
على ذلك من الجد والأب والابن فكما أمرهم بستر العورة كان يخبرهم بكراهة دخولهم
جميعا، وبالجملة فالظاهر أن ما ذكراه بعيد غاية البعد عن أخبار المسألة ولا ضرورة
تلجئ إلى تكلفه.
(السادسة) لو ترك الستر حال غسله واغتسل عاريا مع وجود الناظر المحترم

(1) ص 529
(2) رواه في الوسائل في الباب 21 من آداب الحمام.
534

فقد صرح الأصحاب بصحة غسله وإن فعل محرما، قال الشهيد في الذكرى. ولو ترك الستر
متعمدا قادرا فالأشبه صحة غسله للامتثال وخروج النهي عنه عن حقيقة الغسل. انتهى.
وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين: يمكن أن يبين بطلان الغسل بأنه حال فعل الغسل
مأمور بالاستتار فلا يكون مأمورا بضده وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وإذا لم يكن
مأمورا لم يكن مجزئا فلا يتحقق به الامتثال ولا الخروج عن العهدة إذ الموجب لذلك
الأمر كما تقرر في محله أقول: تقريب ما ذكره جعل هذه المسألة من قبيل فعل الصلاة
في المكان المغصوب واللباس المغصوب وإن غير العبارة في الاستدلال، وقد مضى
نبذة من القول في ذلك في باب التيمم وسيجئ إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في ذلك
في كتاب الصلاة.
قال في الفقيه بعد ذكر خبر سعدان بن مسلم المتقدم (1): وفي هذا الخبر اطلاق
في التسليم في الحمام لمن عليه مئزر والنهي الوارد عن التسليم فيه فهو لمن لا مئزر عليه.
قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه: ولم نقف على رواية النهي التي أشار إليها. أقول: يمكن
أن يكون مراده بالخبر المذكور هو ما رواه في الكافي عن محمد بن الحسين رفعه (2) قال
" كان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول ثلاثة لا يسلمون: الماشي مع الجنازة والماشي إلى
الجمعة وفي بيت الحمام " أقول: وقد ورد النهي عن التسليم على أقوام منهم من في الحمام
رواه في الخصال (3) عن الباقر (عليه السلام) قال: " لا تسلموا على اليهود ولا على
النصارى ولا على المجوس ولا على عبدة الأوثان ولا على موائد شراب الخمر ولا على
صاحب الشطرنج والنرد ولا على المخنث ولا على الشاعر الذي يقذف المحصنات ولا على المصلي،
وذلك أن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام لأن التسليم من المسلم تطوع والرد عليه فريضة
ولا على آكل الربا ولا على رجل جالس على غائط ولا على الذي في الحمام ولا على

(1) ص 531
(2) رواه في الوسائل في الباب 42 من أحكام العشرة
(3) ج 2 ص 82 وفي الوافي في باب التسليم ورده من الفصل الخامس من الايمان والكفر
535

الفاسق المعلن بفسقه ".
(فصل) ومما يستحب في حال الحمام ما رواه في الفقيه عن يحيى بن سعيد
الأهوازي عن البزنطي عن محمد بن حمران (1) قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه
السلام) " إذا دخلت الحمام فقل في الوقت الذي تنزع فيه ثيابك: اللهم انزع عني ربقة
النفاق وثبتني على الايمان. وإذا دخلت البيت الأول فقل: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي
واستعيذ بك من أذاه وإذا دخلت البيت الثاني فقل: اللهم اذهب عني الرجس النجس
وطهر جسدي وقلبي. وخذ من الماء الحار وضعه على هامتك وصب منه على رجليك
وإن أمكن أن تبلع منه جرعة فافعل فإنه ينقي المثانة، والبث في البيت الثاني ساعة وإذا
دخلت البيت الثالث فقل: نعوذ بالله من النار ونسأله الجنة. ترددها إلى وقت خروجك
من البيت الحار، وإياك وشرب الماء البارد والفقاع في الحمام فإنه يفسد المعدة، ولا تصبن
عليك الماء البارد فإنه يضعف البدن وصب الماء البارد على قدميك إذا خرجت فإنه يسل
الداء من جسدك، فإذا لبست ثيابك فقل: اللهم ألبسني التقوى وجنبني الردى. فإذا
فعلت ذلك أمنت من كل داء " بيان: الظاهر أن المراد من الفقاع ما هو أعم من المحال
والمحرم والنهي عنه إنما هو لحكمة صلاح البدن وإن حرم أو حل في حد ذاته.
ويكره التدلك فيه بالخزف لما رواه في الكافي عن محمد بن علي بن جعفر عن
أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (2) قال: " من أخذ من الحمام خزفة فحك بها جسده
فأصابه البرص فلا يلومن إلا نفسه، ومن اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام
فلا يلومن إلا نفسه. قال محمد بن علي فقلت لأبي الحسن (عليه السلام) إن أهل المدينة
يقولون إن فيه شفاء من العين؟ فقال كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب
الذي هو شرهما وكل خلق من خلق الله تعالى ثم يكون فيه شفاء من العين إنما شفاء

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 11 من المضاف و 20 و 101 من آداب الحمام.
536

العين قراءة الحمد والمعوذتين وآية الكرسي والبخور بالقسط والمر واللبان " وفي الخبر زيادة
على ما ذكرنا النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام وقد تقدم الكلام فيه.
وروى في الكافي مسندا مرفوعا وفي الفقيه مرسلا (1) قال: " قال أبو عبد الله
(عليه السلام) لا تتك في الحمام فإنه يذيب شحم الكليتين ولا تسرح في الحمام فإنه
يرقق الشعر ولا تغسل رأسك بالطين فإنه يذهب بالغيرة ولا تدلك بالخزف فإنه يورث البرص ولا تمسح وجهك بالإزار فإنه يذهب بماء الوجه " بيان: في الفقيه بدل قوله:
" فإنه يذهب بالغيرة " " فإنه يسمج الوجه " قال وفي حديث آخر: " يذهب
بالغيرة " وقال بعد تمام الحديث: وروي أن ذلك طين مصر وخزف الشام. أقول:
روى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أسباط عن أبي الحسن الرضا (عليه
السلام) (2) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تغسلوا رؤوسكم بطين
مصر فإنه يذهب بالغيرة ويورث الدياثة " أقول: في قصة عزيز مصر حيث علم من
زوجته مع يوسف على نبينا وآله وعليه السلام ما علم وغاية ما صدر عنه في المقام أن قال:
" يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " (3) قيل وفي
كثرة وقوع البرص بالشام ما ينبئ عما دل عليه الخبر من أن التدلك بالخزف المفسر هنا
بخزف الشام يورث البرص.
وروى في الكافي والتهذيب عن سليمان بن جعفر الجعفري (4) قال: " مرضت حتى
ذهب لحمي ودخلت على الرضا (عليه السلام) فقال أيسرك أن يعود إليك لحمك فقلت بلى
فقال الزم الحمام غبا فإنه يعود إليك لحمك وإياك أن تدمنه فإن ادمانه يورث السل ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 13 من آداب الحمام
(3) سورة يوسف، الآية 28.
(4) رواه في الوسائل في الباب 2 من آداب الحمام.
537

بيان: قال في الوافي: الغب بكسر الغين المعجمة وتشديد الباء الموحدة أن يدخله
يوما ويتركه يوما ومنه حمى الغب، وأما تفسير بعض اللغويين الغب في " زر غبا تزدد
حبا " (1) بالزيارة في كل أسبوع فإن صح فهو مخصوص بالغب في الزيارة لا غير. انتهى.
أقول: ما ذكره هنا مأخوذ من كلام شيخنا البهائي (قدس سره) في مشرق
الشمسين، وأما كلام أهل اللغة الذي أشار إليه فهو ما ذكره الجوهري قال: والغب في
الزيارة قال الحسن في كل أسبوع يقال " زر غبا تزدد حبا ". وقال في القاموس " الغب
في الزيارة أن تكون في كل أسبوع " وظاهر كلامهما إنما هو تفسير الغب في الزيارة
لا الغب حيثما كان.
ومما يؤيد هذا الخبر أيضا ما رواه في الكافي عن الجعفري المتقدم (2) قال:
" من أراد أن يحمل لحما فليدخل الحمام يوما ويغب يوما ومن أراد أن يضمر وكان
كثير اللحم فليدخل الحمام كل يوم " وما رواه في الكافي عن الجعفري عن أبي الحسن
(عليه السلام) (3) ورواه في الفقيه عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: " الحمام
يوم ويوم لا يكثر وادمانه في كل يوم يذيب شحم الكليتين ".
وروى في الكافي عن رفاعة عن من أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4)
" أنه كان إذا أراد دخول الحمام تناول شيئا فأكله قال قلت له إن الناس عندنا يقولون إنه
على الريق أجود ما يكون؟ قال لا بل يؤكل شئ قبله يطفئ المرار ويسكن حرارة الجوف "
وروى في الفقيه مرسلا (5) قال: " قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)
لا تدخلوا الحمام على الريق ولا تدخلوه حتى تطعموا شيئا ".

(1) أورده ابن الأثير في النهاية في مادة (غبب) والسيوطي في الجامع الصغير
في حرف الزاي.
(2) رواه في الوسائل في الباب 2 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 17 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 17 من آداب الحمام.
538

وروى في الكافي في الصحيح عن علي بن يقطين (1) قال: " قلت لأبي الحسن
(عليه السلام) أقرأ القرآن في الحمام وأنكح؟ قال لا بأس " وعن محمد بن مسلم في
الحسن (2) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) أكان أمير المؤمنين (عليه السلام)
ينهى عن قراءة القرآن في الحمام؟ فقال لا إنما نهى أن يقرأ الرجل وهو عريان فأما إذا
كان عليه إزار فلا بأس " وعن الحلبي في الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
قال: " لا بأس للرجل أن يقرأ القرآن في الحمام إذا كان يريد به وجه الله ولا يريد ينظر
كيف صوته " وروى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن
أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (4) قال: " سألته عن الرجل يقرأ في الحمام وينكح
فيه؟ قال لا بأس به " وفي الصحيح عن علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) (5)
قال " سألته عن الرجل يقرأ في الحمام وينكح فيه قال لا بأس به " وعن أبي بصير (6)
قال: " سألته عن القراءة في الحمام؟ قال إذا كان عليك إزار فاقرأ القرآن إن شئت كله "
وروى في الكافي عن ابن مسكان (7) قال: " كنا جماعة من أصحابنا دخلنا
الحمام فلما خرجنا لقينا أبا عبد الله (عليه السلام) فقال لنا من أين أقبلتم؟ فقلنا له من
الحمام فقال أنقى الله غسلكم فقلنا جعلنا الله فداك. وإنا جئنا معه حتى دخل الحمام فجلسنا
له حتى خرج فقلنا له أنقى الله غسلك فقال طهركم الله " وروى في الكافي مسندا عن
أبي مريم الأنصاري رفعه (8) قال: إن الحسن وفي الفقيه " أن الحسن بن علي (عليه السلام)
خرج من الحمام فلقيه انسان فقال له طاب استحمامك فقال يا لكع وما تصنع بالاست ههنا؟
فقال طاب حميمك. فقال أما تعلم أن الحميم العرق؟ فقال طاب حمامك فقال فإذا
طاب حمامي فأي شئ لي؟ ولكن قل طهر ما طاب منك وطاب ما طهر منك " أقول:
الظاهر أن القائل المذكور من المخالفين وروى في الفقيه مرسلا (9) قال: " قال

(1) رواه في الوسائل في الباب 15 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 15 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 15 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 15 من آداب الحمام
(5) رواه في الوسائل في الباب 15 من آداب الحمام
(6) رواه في الوسائل في الباب 15 من آداب الحمام
(7) رواه في الوسائل في الباب 24 من آداب الحمام
(8) رواه في الوسائل في الباب 24 من آداب الحمام
(9) رواه في الوسائل في الباب 24 من آداب الحمام
539

الصادق (عليه السلام) إذا قال لك أخوك وقد خرجت من الحمام: طاب حمامك فقل
أنعم الله بالك ".
(فصل) في استحباب النورة روى في الكافي في الصحيح (1) أو الحسن عن سليم
الفراء قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي الفقيه مرسلا قال: " قال أمير المؤمنين:
النورة طهور " وروى في الكافي عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله (2) قال: " دخلت مع
أبي عبد الله (عليه السلام) الحمام فقال يا عبد الرحمان أطل فقلت إنا اطليت منذ أيام فقال
أطل فإنها طهور " وروى في الكافي عن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين (3) قال:
" دخل أبو عبد الله (عليه السلام) الحمام وأنا أريد أن أخرج منه فقال يا محمد ألا تطلي؟ فقلت
عهدي به منذ أيام فقال أما علمت أنها طهور؟ " وعن خلف بن حماد عن من رواه (4) قال:
" بعث أبو عبد الله (عليه السلام) ابن أخيه في حاجة فجاء وأبو عبد الله قد اطلى
بالنورة فقال له أبو عبد الله أطل فقال إنما عهدي بالنورة منذ ثلاث فقال أبو عبد الله (عليه
السلام) إن النورة طهور " وعن هارون بن حكيم الأرقط خال أبي عبد الله (عليه
السلام) (5) قال: " أتيته في حاجة فأصبته في الحمام يطلي فذكرت له حاجتي فقال
ألا تطلي؟ فقلت إنما عهدي به أول من أمس فقال أطل فإن النورة طهور " ونحوه في
حديث أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) حيث " دخل عليه وهو يتنور
فقال له يا أبا بصير تنور قال إنما تنورت أول من أمس واليوم الثالث فقال أما علمت أنها
طهور فتنور " وروى في الكافي والفقيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (7) قال:
" أحب للمؤمن أن يطلي في كل خمسة عشر يوما " وروى فيهما عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (8) قال: " السنة في النورة في كل خمسة عشر يوما فإن أتت عليك عشرون

(1) رواه في الوسائل في الباب 28 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 32 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 32 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 32 من آداب الحمام
(5) رواه في الوسائل في الباب 32 من آداب الحمام
(6) رواه في الوسائل في الباب 32 من آداب الحمام
(7) رواه في الوسائل في الباب 33 من آداب الحمام.
(8) رواه في الوسائل في الباب 33 من آداب الحمام.
540

يوما وليس عندك شئ فاستقرض على الله " وروى فيهما عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا
يترك عانته فوق أربعين يوما ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدع ذلك منها
فوق عشرين يوما " وروى في الكافي عن علي بن الحكم عن علي بن أبي حمزة (2)
قال: " دخلت مع أبي بصير الحمام فنظرت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قد اطلى
إبطيه بالنورة قال فخبرت أبا بصير فقال أرشدني إليه لأسأله عنه فقلت قد رأيته أنا فقال أنت رأيته وأنا لم أره أرشدني إليه قال فأرشدته إليه فقال له جعلت فداك أخبرني قائدي
إنك أطليت وطليت إبطيك بالنورة فقال نعم يا أبا محمد إن نتف الإبطين يضعف البصر
أطل يا أبا محمد فإنه طهور فقال اطليت منذ أيام فقال أطل فإنه طهور " وروى في الكافي عن
ابن أبي يعفور (3) قال: " كنا بالمدينة فلاحاني زرارة في نتف الإبط وحلقه فقلت حلقه
أفضل وقال زرارة نتفه أفضل فاستأذنا على أبي عبد الله (عليه السلام) في الحمام فأذن لنا وهو في
الحمام يطلي وقد اطلى إبطيه فقلت لزرارة يكفيك فقال لا لعله فعل هذا لما لا يجوز لي أن أفعله
فقال فيما أنتما؟ فقلت إن زرارة لاحاني في نتف الإبط وحلقه فقلت حلقه أفضل وقال زرارة
نتفه أفضل فقال أصبت السنة وأخطأها زرارة إن حلقه أفضل من نتفه وطليه أفضل من
حلقه. ثم قال لنا أطليا فقلنا فعلنا منذ ثلاث فقال (عليه السلام) أعيدا فإن الاطلاء طهور ".
بيان: المفهوم من هذه الأخبار استحباب النورة وأنه لا حد لها في جانب القلة
من الأيام لما علل به في هذه الأخبار من أنها طهور وأما في جانب الكثرة فخمسة عشر
يوما فإنها غاية الترك لها وقوله (عليه السلام) فيما تقدم " السنة في النورة في كل خمسة
عشر يوما " يعني نهايتها هذه المدة لا إنها ليست بسنة قبلها وكذا قوله (عليه السلام)
" أحب للمؤمن أن يطلي في كل خمسة عشر يوما " أي لا يترك زيادة على ذلك، ولهذا

(1) رواه في الوسائل في الباب 86 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 85 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 85 من آداب الحمام.
541

أمره بالاستقراض على الله سبحانه لو أتت عليه عشرون يوما وليس عنده شئ، وبالغ
في الانكار على الرجل إذا أتى عليه أربعون يوما والمرأة إذا أتت عليها عشرون يوما،
وبذلك يظهر ما في كلام بعضهم من توظيف الاستحباب بالخمسة عشر يوما بمعنى أنها
لا تكون مستحبة قبل ذلك كما يعطيه ظاهر كلامه فإنه غفلة ظاهرة عن ملاحظة هذه الأخبار
وروى في الكافي والفقيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله) " لا يطولن أحدكم شعر إبطيه فإن الشيطان يتخذه مخبأ يستتر به ".
وروى في الكافي عن حذيفة بن منصور (2) قال " سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يطلي العانة وما تحت الأليين في كل
جمعة أقول: يحتمل أن يراد بالجمعة اليوم المخصوص وأن يراد به الأسبوع فإنه يطلق
عليه في الأخبار أيضا.
وروى في الكافي عن السياري رفعه (3) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام)
من أراد الاطلاء بالنورة فأخذ من النورة بإصبعه فشمه وجعل على طرف أنفه وقال صلى الله
على سليمان بن داود كما أمرنا بالنورة لم تحرقه النورة " وروى في الفقيه مرسلا (4)
قال: " قال الصادق (عليه السلام) من أراد أن يتنور فليأخذ من النورة ويجعله على
طرف أنفه ويقول اللهم ارحم سليمان بن داود كما أمرنا بالنورة فإنه لا تحرقه النورة
إن شاء الله تعالى ".
وعن سدير (5) " أنه سمع علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول من قال إذا
اطلى بالنورة اللهم طيب ما طهر مني وطهر ما طاب مني وأبدلني شعرا طاهرا لا يعصيك

(1) رواه في الوسائل في الباب 84 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من صلاة الجمعة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 29 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 29 من آداب الحمام
(5) رواه في الوسائل في الباب 30 من آداب الحمام.
542

اللهم إني تطهرت ابتغاء سنة المرسلين وابتغاء رضوانك ومغفرتك فحرم شعري وبشري
على النار وطهر خلقي وطيب خلقي وزك عملي واجعلني ممن يلقاك على الحنيفية السمحة ملة
إبراهيم خليلك ودين محمد (صلى الله عليه وآله) حبيبك ورسولك عاملا بشرائعك تابعا لسنة
نبيك آخذا به متأدبا بحسن تأديبك وتأديب رسولك (صلى الله عليه وآله) وتأديب
أوليائك الذين غذوتهم بأدبك ووزعت الحكمة في صدورهم وجعلتهم معادن لعلمك صلواتك
عليهم من قال ذلك طهره الله عز وجل من الأدناس في الدنيا ومن الذنوب وأبدله شعرا
لا يعصى وخلق الله بكل شعرة من جسده ملكا يسبح له إلى أن تقوم الساعة، وأن
تسبيحة من تسبيحهم تعدل ألف تسبيحة من تسبيح أهل الأرض ".
وروى في الكافي عن البرقي رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" قيل له يزعم الناس أن النورة يوم الجمعة مكروهة؟ فقال ليس حيث ذهبت أي طهور
أطهر من النورة يوم الجمعة " وروى في الفقيه مرسلا (2) قال: " قال الصادق (عليه
السلام) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ينبغي للرجل أن يتوقى النورة يوم الأربعاء فإنه يوم نحس
مستمر ويجوز النورة في سائر الأيام " بيان: يفهم من هذا الخبر أن يوم الأربعاء حيث
كان من الشهر نحس لا خصوصية له بالأخير من الشهر أو الأول منه كما هو المشهور، وقال
في الفقيه: وروى أنها في يوم الجمعة تورث البرص وروى فيه عن الريان بن الصلت
عن من أخبره عن أبي الحسن (عليه السلام) (3) قال: " من تنور يوم الجمعة فأصابه
البرص فلا يلومن إلا نفسه ".
بيان: قال في الوافي بعد ذكر مرفوعة البرقي أولا ثم الروايتين الأخيرتين ثانيا:
يمكن الجمع بين الخبرين بأن يحمل هذا الخبر على أنه من تنور يوم الجمعة معتقدا أنه يورث
البرص كما يزعمه الناس بزعمهم الفاسد فأصابه البرص فلا يلومن إلا نفسه وذلك لأن
التطير مؤثر في نفس المتطير. أقول: بل الظاهر حمل هذا الخبر على التقية لموافقته لما

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من صلاة الجمعة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من صلاة الجمعة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 38 من صلاة الجمعة.
543

نقله في الخبر الأول عن الناس الذين هم العامة كما لا يخفى.
(فصل) روى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) بأسانيدهم عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) قال: " غسل الرأس بالخطمي في كل جمعة أمان من البرص
والجنون " وروى الشيخان في الكافي والفقيه بسنديهما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2)
قال: " غسل الرأس بالخطمي يذهب الدرن وينفي الأقذار " أقول: وفي بعض النسخ
" ينقى " بالقاف وفي الفقيه " الأقذاء " بالهمزة في آخره جمع قذى مقصورا وهو يقال لما
يقع في العين وإن أطلق على غيره مجازا. وروى في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن
سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " من أخذ من شاربه وقلم أظفاره
وغسل رأسه بالخطمي في يوم الجمعة كان كمن أعتق نسمة " وعن سفيان بن السمط عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " تقليم الأظفار والأخذ من الشارب وغسل
الرأس بالخطمي ينفي الفقر ويزيد في الرزق " وقال في الفقيه (5) قال الصادق (عليه
السلام) " غسل الرأس بالخطمي ينفي الفقر ويزيد في الرزق ".
وروى في الكافي عن منصور بزرج (6) قال: " سمعت أبا الحسن (عليه
السلام) يقول غسل الرأس بالسدر يجلب الرزق جلبا " ورواه في الفقيه مرسلا (7)
وروى في الكافي عن محمد بن الحسين العلوي عن أبيه عن جده عن علي (عليه
السلام) (8) قال: " لما أمر الله عز وجل رسوله (صلى الله عليه وآله) باظهار
الاسلام وظهر الوحي رأى قلة من المسلمين وكثرة من المشركين فاهتم رسول الله
(صلى الله عليه وآله) هما شديدا فبعث الله إليه جبرئيل بسدر من سدرة المنتهى فغسل

(1) رواه في الوسائل في الباب 32 من صلاة الجمعة
(3) رواه في الوسائل في الباب 32 من صلاة الجمعة
(2) رواه في الوسائل في الباب 25 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 25 من آداب الحمام
(5) ج 1 ص 71 وفي الوسائل في الباب 25 من آداب الحمام
(6) رواه في الوسائل في الباب 26 من آداب الحمام.
(7) رواه في الوسائل في الباب 26 من آداب الحمام.
(8) رواه في الوسائل في الباب 26 من آداب الحمام.
544

به رأسه فجلا به همه " ونحوه في الفقيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مرسلا (1)
وروى في الفقيه مرسلا (2) قال: " قال الصادق (عليه السلام) اغسلوا رؤوسكم بورق
السدر فإنه قدسه كل ملك مقرب وكل نبي مرسل، ومن غسل رأسه بورق السدر
صرف الله عنه وسوسة الشيطان سبعين يوما ومن صرف الله عنه وسوسة الشيطان سبعين
يوما لم يعص الله ومن لم يعص الله دخل الجنة ".
(فصل) روى ثقة الاسلام في الكافي عن إسحاق بن عبد العزيز (3) قال:
" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن التدلك بالدقيق بعد النورة؟ فقال لا بأس قلت
يزعمون أنه إسراف؟ فقال ليس فيما أصلح البدن إسراف وإني ربما أمرت بالنقى فيلت
بالزيت فأتدلك به إنما الاسراف فيما أتلف المال وأضر بالبدن " بيان: قال في الوافي
النقي بالكسر المخ من العظام في غير الرأس ويقال قرصة النقي للخبر الأبيض الذي نخل
حنطته مرة بعد أخرى ولعل المراد به هنا الحنطة المنخولة ناعما، وكانوا يتدلكون
بالنخالة بعد النورة ليقطع ريحها.
وروى في التهذيب عن إسحاق بن عبد العزيز عن رجل ذكره عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (4) قال: " قلت له إنا نكون في طريق مكة نريد الاحرام ولا يكون
معنا نخالة نتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق فيدخلني من ذلك ما الله به عليم؟ قال
مخافة الاسراف؟ فقلت نعم. فقال ليس فيما يصلح البدن إسراف.. الحديث ".
وروى في الكافي عن هشام بن الحكم عن أبي الحسن (عليه السلام) (5) " في
الرجل يطلي ويتدلك بالزيت والدقيق؟ قال لا بأس به ".

(1) الفقيه ج 1 ص 70 و 72 وكذا في الوافي ج 4 ص 95 وفي الوسائل في الباب
26 من آداب الحمام لم يسنده إلى أمير المؤمنين (ع).
(2) رواه في الوسائل في الباب 26 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 38 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 38 من آداب الحمام
(5) رواه في الوسائل في الباب 38 من آداب الحمام
545

وعن أبان بن تغلب (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إنا لنسافر ولا يكون
معنا نخالة فنتدلك بالدقيق؟ فقال لا بأس إنما الفساد فيما أضر بالبدن وأتلف المال فأما
ما أصلح البدن فإنه ليس بفساد إني ربما أمرت غلامي فلت لي النقي بالزيت ثم أتدلك به ".
وعن عبد الرحمان بن الحجاج في الصحيح (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الرجل يطلي بالنورة فيجعل الدقيق بالزيت يلته به يتمسح به بعد النورة
ليقطع ريحها؟ قال لا بأس " قال في الكافي (3) وفي حديث آخر لعبد الرحمان قال:
" رأيت أبا الحسن (عليه السلام) وقد تدلك بدقيق ملتوت بالزيت فقلت له إن الناس
يكرهون ذلك؟ قال لا بأس به ".
وروى في التهذيب عن عبيد بن زرارة في الموثق (4) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الدقيق يتوضأ به؟ قال لا بأس بأن يتوضأ به وينتفع به " يعني ينظف
به البدن من التوضؤ بمعنى التنظيف والتحسين.
وروى في الكافي عن الحسين بن موسى (5) قال: " كان أبي موسى بن جعفر
(عليه السلام) إذا أراد الدخول إلى الحمام أمر أن يوقد له عليه ثلاثا وكان لا يمكنه
دخوله حتى يدخله السودان فيلقون له اللبود فإذا دخل فمرة قاعد ومرة قائم فخرج يوما
من الحمام فاستقبله رجل من آل الزبير يقال له لبيد وبيده أثر حناء فقال له ما هذا الأثر
بيدك؟ فقال أثر حناء. فقال ويلك يا لبيد حدثني أبي وكان أعلم أهل زمانه عن أبيه
عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من دخل الحمام فأطلى ثم أتبعه
بالحناء من قرنه إلى قدمه كان أمانا له من الجنون والجذام والبرص والآكلة إلى
مثله من النورة ".

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 38 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب التيمم
(5) رواه في الوسائل في الباب 27 و 26 من آداب الحمام.
546

وروى في الفقه مرسلا (1) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من
اطلى واختضب بالحناء آمنه الله عز وجل من ثلاث خصال: الجذام والبرص والآكلة
إلى طلية مثلها ".
وروى في الكافي عن الحسين بن موسى (عليه السلام) (2) قال: " كان أبو الحسن
(عليه السلام) مع رجل عند قبر رسول الله (صلى الله وآله) فنظر إليه وقد أخذ
الحناء من يديه فقال بعض أهل المدينة ألا ترون إلى هذا كيف قد أخذ الحناء من يديه
فالتفت إليه فقال فيه ما تخبره وما لا تخبره ثم التفت إلي فقال إنه من أخذ الحناء بعد فراغه
من النورة من قرنه إلى قدمه أمن من الأدواء الثلاثة الجنون والجذام والبرص ".
وعن الحكم بن عيينة (3) قال: " رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد أخذ
الحناء وجعله على أظافيره فقال يا حكم ما تقول في هذا؟ فقلت ما عسيت أن أقول فيه
وأنت تفعله وأن عندنا يفعله الشبان فقال يا حكم إن الأظافير إذا أصابتها النورة غيرتها
حتى تشبه أظافير الموتى فغيرها بالحناء ".
وعن عبدوس بن إبراهيم (4) قال: " رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد خرج من
الحمام وهو من قرنه إلى قدمه مثل الوردة من أثر الحناء " بيان: المراد بأبي جعفر هنا
هو الجواد (عليه السلام).
وروى في التهذيب عن عبدوس بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5)
قال: " الحناء يذهب بالسهك ويزيد في ماء الوجه ويطيب النكهة ويحسن الولد، وقال من اطلى
في الحمام فتدلك بالحناء من قرنه إلى قدمه نفي عنه الفقر "، وقال رأيت أبا جعفر الثاني
(عليه السلام) قد خرج من الحمام وهو من قرنه إلى قدمه مثل الورد من أثر الحناء ".
بيان: قيل السهك الرائحة الشديدة الكريهة ممن عرق.

(1) رواه في الوسائل في الباب 35 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 36 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 36 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 35 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 35 من آداب الحمام.
547

أقول: وربما سبق إلى الوهم من هذه الأخبار اختصاص استحباب الحناء أو
جوازه بكونه بعد النورة خاصة ولذلك أنكر بعض المتعسفين استحبابه أو جوازه في غير
ذلك، وربما استندوا في ذلك إلى ما رواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار عن
أبيه عن سعد عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه رفعه (1) قال: " نظر أبو عبد الله (عليه
السلام) إلى رجل وقد خرج من الحمام مخضوب اليدين فقال له أبو عبد الله (عليه
السلام) أيسرك أن يكون الله خلق يديك هكذا؟ قال لا والله وإنما فعلت ذلك لأنه
بلغني عنكم أنه من دخل الحمام فلير عليه أثره يعني الحناء. فقال ليس ذلك حيث ذهبت
إنما معنى ذلك إذا خرج أحدكم من الحمام وقد سلم فليصل ركعتين شكرا ".
والظاهر كما هو المفهوم من كلام جملة من الأصحاب أنه لا اختصاص له بالنورة
ومن أظهر الأدلة على ذلك ما رواه الصدوق (قدس سره) في كتاب الخصال (2)
بسنده فيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله) أربع من سنن المرسلين: العطر والنساء والسواك والحناء " فإنه دال باطلاقه على أنه في حد ذاته من السنن لا بخصوص موضع كالأفراد المعدودة معه، ويظهر ذلك أيضا
مع بعض الأحاديث الآتية في فضل الخضاب واستحبابه كما سنشير إليه إن شاء الله،
ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به المحدث الكاشاني في الوافي في باب الخضاب بعد نقل أخبار
تغير الأظافير بالنورة ومسحها بالحناء وخبر انكار المدني على الإمام (عليه السلام)
الحناء في يديه كما تقدم حيث قال: وفي هذه الأخبار دلالة على جواز ما هو المتعارف
بين أصحابنا اليوم من خضاب اليدين والرجلين بلا كراهة على أنه لو لم تكن هذه الأخبار لكفى في ذلك " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي " (3) إذ لم يرد في هذا

(1) رواه في الوسائل في الباب 36 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب السواك.
(3) الفقيه ج 1 ص 208 وفي الوسائل في الباب 19 من أبواب القنوت.
548

نهى، ويمكن أن يستفاد ذلك من عموم أخبار هذا الباب واطلاقها وإن كانت ظاهرة
في اللحية والرأس بل لو استفيد ذلك من قوله (عليه السلام) (1) " لا بأس بالخضاب كله "
وجعل أحد معانيه لم يكن بذلك البعيد. انتهى.
أقول: ومن أظهر الأدلة على جواز ذلك من غير كراهية ولا ذم أنه لا شك
أن ذلك من الزينة وقد قال سبحانه: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات
من الرزق " (2) وسياق الآية وإن كان إنما هو الانكار على من حرم ذلك إلا أن
سياقها أظهر ظاهر في أن الله قد حلل لعباده الزينة والطيبات من الرزق تفضلا وكرما
فالمانع منها تحرما أو كراهة راد عليه سبحانه فيما تفضل به.
وأما الخبر الذي نقلناه من معاني الأخبار فالأقرب عندي أنه إنما خرج مخرج
التقية لما عرفت من سياق جملة من الأخبار المتقدمة من إنكار ذلك وأن المعروف
بين المخالفين بل عامة الناس لشهرة الأمر بين المخالفين انكار ذلك، كما تضمنه حديث
الحسين بن موسى المتضمن لانكار ذلك الرجل الذي هو من أهل المدينة على الإمام
(عليه السلام) أخذ الحناء من يديه وكما تضمنه حديث الحسين بن موسى وانكار
الزبيري على الكاظم (عليه السلام) الحناء في يده، وما تضمنه حديث الحكم بن
عبينة لما رأى الحناء على أظافير أبي جعفر (عليه السلام) وقوله " إن عندنا إنما يفعله
الشبان " فإن الجميع ظاهر في كون هذه السنة كانت متروكة عند العامة، وقال صاحب
الوسائل بعد ايراد هذا الخبر. أقول: هذا غير صريح في الانكار ولعله استفهام منه
ليظهر غلط الراوي في فهم الحديث، وكون معناه ما ذكر لا ينافي الاستحباب،
والانكار السابق إنما هو من العامة مثل الحكم وأهل المدينة، ثم إن الأخير يحتمل التقية
ويمكن حمله على الافراط والمداومة للرجل بل ظاهره ذلك بقرينة قوله " خلق يديك "
إذ لو كان اللون خلقيا لدام. والله العالم. وربما احتمل بعض أيضا كون المتحني فعل

(1) الفقيه ج 1 ص 69.
(2) سورة الأعراف، الآية 30.
549

بالحناء ما يشبه النساء من التخطيط والنقش بالحناء، قال وقد ورد النهي عن التشبه بالنساء
وذمه فلعل الانكار كان لذلك. أقول: والكل عندي بمحل من التكلف الذي
لا ضرورة إليه بعد ما ذكرناه وانطباق سياق الخبر على هذه الاحتمالات على غاية
من البعد. والله العالم.
(فصل) روى في الكافي والفقيه عن الحسن بن الجهم (1) قال: " دخلت على
أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) وقد اختضب بالسواد فقلت أراك اختضبت
بالسواد؟ فقال إن في الخضاب أجرا والخضاب والتهيئة مما يزيد الله به في عفة النساء ولقد
ترك النساء العفة بترك أزواجهن لهن التهيئة. قال قلت له بلغنا أن الحناء يزيد في الشيب؟
فقال أي شئ يزيد في الشيب الشيب يزيد في كل يوم ".
وعن مسكين أبي الحكم عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فنظر إلى الشيب في لحيته فقال النبي نور
ثم قال من شاب شيبة في الاسلام كانت له نورا يوم القيامة قال فخضب الرجل بالحناء
ثم جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما رأى الخضاب قال نور واسلام.
فخضب الرجل بالسواد فقال النبي (صلى الله عليه وآله) نور واسلام وايمان ورغبة
إلى نسائكم ورهبة في قلوب عدوكم ".
وعن العباس بن موسى الوراق عن أبي الحسن (عليه السلام) (3) قال: " دخل
قوم على أبي جعفر (عليه السلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه فقال إني رجل أحب
النساء وأنا أتصنع لهن ".
وعن خالد الزيدي عن أبي جعفر (عليه السلام) (4) قال: " دخل قوم

(1) رواه في الوسائل في الباب 46 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 44 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 41 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 46 من آداب الحمام
550

على الحسين بن علي (عليه السلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه عن ذلك فمد يده إلى
لحيته ثم قال أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد
ليقووا به على المشركين ".
وعن إبراهيم بن عبد الحميد في الصحيح أو الحسن عن أبي الحسن (عليه السلام) (1)
قال: " في الخضاب ثلاث خصال: مهيبة في الحرب ومحبة إلى النساء ويزيد في الباه ".
وعن محمد بن عبد الله بن مهران عن أبيه رفعه (2) قال: " قال النبي (صلى الله عليه وآله)
نفقة درهم في الخضاب أفضل من نفقة مائة درهم في سبيل الله أن فيه أربع عشرة خصلة:
يطرد الريح من الأذنين ويجلو الغشاء من البصر ويلين الخياشيم ويطيب النكهة ويشد اللثة
ويذهب بالغشيان ويقل وسوسة الشيطان وتفرح به الملائكة ويستبشر به المؤمن ويغيظ
به الكافر وهو زينة وطيب وبراءة في قبره ويستحيى منه منكر ونكير ".
وروى في الفقيه مرسلا (3) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لعلي (عليه السلام) يا علي درهم في الخضاب أفضل من ألف درهم في غيره في سبيل الله
وفيه أربع عشرة خصلة.. الحديث " وقال بدل " الغشيان " " الضنى " وفي بعض
النسخ " الصفار " بيان: والغشيان خبث النفس وأن لا تطيب والضنى الهزال والصفار
كغراب الماء الأصفر يجتمع في البطن.
وروى في الكافي عن الحلبي في الصحيح (4) " قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن خضاب الشعر؟ فقال قد خضب النبي (صلى الله عليه وآله) والحسين بن
علي وأبو جعفر (عليه السلام) بالكتم " قبل الكتم محركة نبت يخلط بالوسمة يختضب به

(1) رواه في الوسائل في الباب 41 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 42 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 42 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 48 من آداب الحمام.
551

وعن معاوية بن عمار في الصحيح أو الحسن (1) قال: " رأيت أبا جعفر (عليه
السلام) مخضوبا بالحناء " بيان: ظاهر هذا الخبر مطلق في خضاب لحيته أو يديه ورجليه
كما تقدمت الإشارة إليه.
وعن معاوية بن عمار في الصحيح (2) قال: " رأيت أبا جعفر (عليه السلام)
يختضب بالحناء خضابا قانيا " أقول: وهذا كذلك.
وعن حفص الأعور (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن خضاب
اللحية والرأس أمن السنة؟ فقال نعم. قلت إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يختضب
فقال إنما منعه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن هذه ستخضب من هذه "
وعن عبد الله بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " خضب
النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يمنع عليا (عليه السلام) إلا قول رسول الله (صلى الله
عليه وآله) تخضب هذه من هذه وقد خضب الحسين وأبو جعفر (عليهما السلام) "
بيان: الظاهر أن المراد من هذين الخبرين المذكورين أنه لما أخبره رسول الله (صلى الله
عليه وآله) بأن لحيته ستخضب من دم رأسه وخضابها بذلك حقيقة لا يكون إلا مع
بياضها ثم احمرارها بالدم وإلا فلو كانت سوداء ثم جرى عليها الدم لم يصدق الخضاب
إلا بنوع من التجوز ترك (عليه السلام) الخضاب وجعلها بيضاء انتظارا لما وعده به ليقع
كلامه (صلى الله عليه وآله) على وجه الحقيقة لا المجاز، لعن الله الفاعل لذلك والراضي به
لعنا يستعيذ منه أهل النار في النار.
ويعضد ما ذكرناه ما رواه في كتاب العلل بسنده فيه عن الأصبغ بن نباتة (5)
قال: " قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما يمنعك من الخضاب وقد اختضب

(1) رواه في الوسائل في الباب 50 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 50 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 45 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 41 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 41 من آداب الحمام.
552

رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال انتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي
بعهد معهود أخبرني به حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) " والأخبار في هذا
الباب كثيرة يقف عليها من يرجع إليها.
وروى في من لا يحضره الفقيه مرسلا عن رسول الله (صلى الله وآله) (1)
أنه قال: " الشيب نور فلا تنتفوه " قال الصدوق (قدس سره) (2): النهي عن نتف
الشيب نهي كراهة لا نهي تحريم لأن الصادق (عليه السلام) يقول: " لا بأس بجز
الشمط ونتفه وجزه أحب إلي من نتفه " وأخبارهم (عليه السلام) لا تختلف في حالة
واحدة لأن مخرجها من عند الله تعالى ذكره وإنما تختلف بحسب اختلاف الأحوال انتهى
أقول: ما ذكره (قدس سره) من أن أخبارهم تختلف في حالة واحدة على اطلاقه
ممنوع نعم هو مسلم فيما عدا موضع التقية. وروى عن الصادق (عليه السلام) مرسلا (3)
أنه قال: " أول من شاب إبراهيم الخليل (عليه السلام) وأنه ثنى لحيته فرأى طاقة
بيضاء فقال يا جبرئيل ما هذا؟ فقال هذا وقار فقال إبراهيم اللهم زدني وقارا " أقول:
وقد روى الكليني حديث نتف الشيب باسناد حسن عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (4) قال: " لا بأس بجز الشمط ونتفه وجزه أحب إلي من نتفه " أقول:
الشمط بياض شعر الرأس يخالطه سواده والمراد هنا الشيب.
(فصل) روى ثقة الاسلام في الصحيح عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (5) قال: " قال لي استأصل شعرك يقل درنه ودوابه ووسخه وتغلظ
رقبتك ويجلو بصرك " قال: وفي رواية أخرى " ويستريح بدنك " وعن معمر بن خلاد
عن أبي الحسن (عليه السلام) (6) قال: " ثلاث من عرفهن لم يدعهن: جز الشعر

(1) رواه في الوسائل في الباب 79 من آداب الحمام
(2) الفقيه ج 1 ص 77
(3) الفقيه ج 1 ص 76.
(4) رواه في الوسائل في الباب 79 من آداب الحمام
(5) رواه في الوسائل في الباب 59 من آداب الحمام.
(6) رواه في الوسائل في الباب 59 من آداب الحمام.
553

وتشمير الثياب ونكاح الإماء ".
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " إني لأحلق كل
جمعة فيما بين الطلية إلى الطلية " بيان: قال في الوافي أظهر معنيي الحلق هنا حلق العانة
كما يشعر به تمام الكلام ويحتمل حلق الرأس أيضا لانصراف الاطلاق إليه، وأظهر
معنيي الجمعة اليوم المعهود ويحتمل الأسبوع وعلى الأول فيه دلالة على عدم البأس بالنورة
يوم الجمعة كما مر. انتهى. أقول: والأظهر عندي هو حمل الحلق على حلق الرأس
(أما أولا) فلانصراف الاطلاق إليه كما اعترف به. و (أما ثانيا) فلما علم من الأخبار
من أنهم كانوا يطلون العانة ولم يرد ما يدل على حلقهم لها. و (أما ثالثا) فلقوله:
" فيما بين الطلية إلى الطلية " فإنه مع طلي البدن يطلى معه العانة البتة، وبالجملة فحاصل
الخبر أنه (عليه السلام) يحلق رأسه في كل جمعة يعني يوم الجمعة وأن ذلك بين الطليتين
فلعله كان (عليه السلام) يطلي في الأسبوع مرتين.
وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " قلت جعلت
فداك ربما كثر الشعر في قفاي فغمني غما شديدا؟ قال فقال يا إسحاق أما علمت أن
حلق القفا يذهب بالغم ".
وعن علي بن محمد رفعه (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إن الناس يقولون حلق
الرأس مثلة؟ فقال عمرة لنا ومثلة لأعدائنا " وروى في التهذيب عن حفص عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (4) قال: " حلق الرأس في غير حج ولا عمرة مثلة " وروى في الفقيه
مرسلا (5) قال: " قال الصادق (عليه السلام) حلق الرأس في غير حج ولا عمرة مثلة
لأعدائكم وجمال لكم " وروى فيه مرسلا قال (6): " وقال رسول الله (صلى الله عليه

(1) رواه في الوسائل في الباب 60 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 61 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 60 من آداب الحمام
(4) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الحلق والتقصير.
(5) رواه في الوسائل في الباب 60 من آداب الحمام
(6) رواه في الوسائل في الباب 60 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 61 من آداب الحمام
554

وآله) لرجل احلق فإنه يزيد في جمالك " وروى في الكافي والفقيه عن البزنطي (1)
قال: " قلت لأبي الحسن (عليه السلام) إن أصحابنا يروون أن حلق الرأس في غير
حج ولا عمرة مثلة؟ فقال كان أبو الحسن (عليه السلام) إذا قضى مناسكه عدل إلى قرية
يقال لها ساية فحلق " قيل لعل عدوله إلى ساية لأجل الحلق للتقية، وفي الفقيه
" سايق " وكأنه معرب. وروى في الكافي عن عبد الرحمان بن عمر بن أسلم (2) قال
" حجمني الحجام فحلق من موضع النقرة فرآني أبو الحسن (عليه السلام) فقال أي شئ
هذا اذهب فاحلق رأسك. قال فذهبت فحلقت رأسي ".
وعن عبد الله بن سنان (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول
في إطالة الشعر؟ فقال كان أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) مشعرين يعني الطم "
بيان: قال في الوافي مشعرين من أشعر أو شعر بمعنى نبت عليه الشعر يعني كانوا
تاركين له، وفي النهاية الأشعر الذي لم يحلق رأسه ولم يرجله ورجل أشعر أي كثير الشعر
وقيل طويله وطم الشعر جزه وأطم شعره حان له أن يجز وكأن المراد أنهم كانوا يطيلون
وكان دأبهم الجز دون الحلق. وروى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (4) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اتخذ شعرا فليحسن
ولايته أو ليجزه " ورواه في الفقيه عنه (صلى الله عليه وآله) مرسلا (5) وروى
فيه (6) قال: " قال (صلى الله عليه وآله) الشعر الحسن من كسوة الله فأكرموه " وروى
فيه مرسلا (7) قال: " قال الصادق (عليه السلام) من اتخذ شعرا فلم يفرقه فرقه الله

(1) رواه في الوسائل في الباب 60 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 61 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 60 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 78 من آداب الحمام
(5) رواه في الوسائل في الباب 78 من آداب الحمام
(6) رواه في الوسائل في الباب 78 من آداب الحمام
(7) رواه في الوسائل في الباب 62 من آداب الحمام
555

بمنشار من نار يوم القيامة، قال وكان شعر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفرة
لم يبلغ الفرق ".
بيان: ظاهر هذه الأخبار الاختلاف في أن السنة في شعر الرأس هو الحلق
أو التوفير وبذلك أيضا اختلفت كلمة الأصحاب، قال العلامة في المنتهى والتحرير اتخاذ
الشعر يعني شعر الرأس أفضل من إزالته ثم أورد حديثين على أثر ذلك وهو قول النبي
(صلى الله عليه وآله): " الشعر الحسن من كسوة الله فأكرموه " وقوله (صلى الله
عليه وآله) " من اتخذ شعرا فليحسن ولايته أو ليجزه " والظاهر أن غرضه من
ايرادهما الاحتجاج بهما لما ذكره حيث إنه لم يورد دليلا في المقام ويؤيده أنه قال بعد
ذكر الخبرين: وقد روى خلاف ذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل
" احلق فإنه يزيد في جمالك " ثم ذكر أنه يحتمل كون الأمر بالحلق مختصا بذلك المخاطب
لمعرفته بأن الحلق يزيد في جماله. وقال أيضا في المنتهى والتحرير أن من الفطرة فرق
الرأس قال ابن الأثير في الحديث " عشر من الفطرة " أي من السنة يعني سنن الأنبياء
التي أمرنا أن نقتدي بهم فيها. وقال في صفة النبي (صلى الله عليه وآله) إن انفرقت
عقيصته فرق أي إن صار شعره فرقتين بنفسه في مفرقه تركه وإن لم ينفرق لم يفرقه.
وهذا الحكم أيضا لم يذكر له حجة وإنما نقل معه الخبر الذي تقدم نقله عن الصدوق
مرسلا عن الصادق (عليه السلام) من أن " من اتخذ شعرا ولم يفرقه فرقه الله بمنشار
من نار " ونحوه أيضا روى في الكافي عن أبي العباس البقباق (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له وفرة أيفرقها أو يدعها؟ قال يفرقها " قال
في المعالم بعد نقل ذلك عن العلامة في الكتابين المتقدمين: وكلام الصدوقين في الرسالة
ومن لا يحضره الفقيه موافق لما قاله العلامة فإنهما ذكرا أن السنن الحنيفية عشر سنن خمس
في الرأس وخمس في الجسد، فأما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والسواك وقص

(1) رواه في الوسائل في الباب 62 من آداب الحمام.
556

الشارب والفرق لمن طال شعر رأسه، قال في الرسالة: وإياك أن تدع الفرق إن كان
لك شعر طويل فقد روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " من لم يفرق شعره
فرقه الله يوم القيامة بمنشار من نار " وأما التي في الجسد فالاستنجاء والختان وحلق
العانة وقص الأظفار ونتف الإبطين. انتهى. أقول: وكلام الصدوق في كتابه في
هذا المقام لا يخلو من الاضطراب بناء على ما قرره في صدر كتابه وغفل الأصحاب عنه
من افتائه بمضمون ما يرويه، وهو قد جمع هنا في النقل بين روايات الحلق والتوفير
والتدافع بينهما غير خفي ولم يجمع بينهما بوجه يرتفع به التنافي من البين.
والذي يظهر لي من الأخبار وفاقا لجملة من متأخري علمائنا الأبرار (رفع
الله تعالى مقامهم جميعا في دار القرار) هو أفضلية الحلق وحمل ما دل على خلاف
ذلك على التقية.
ويدل على ذلك زيادة على ما تقدم من الأخبار ما رواه في الكافي عن أيوب بن
هارون عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " قلت له أكان رسول الله (صلى الله
عليه وآله) يفرق شعره؟ قال لا أن رسول الله كان إذا طال شعره كان إلى شحمة أذنه "
وعن عمرو بن ثابت عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " قلت إنهم
يروون أن الفرق من السنة قال من السنة. قلت يزعمون أن النبي (صلى الله عليه وآله)
فرق قال ما فرق النبي ولا كانت الأنبياء تمسك الشعر ".
وروى في الكافي أيضا عن أبي بصير (3) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام) الفرق من السنة؟ قال لا قلت فهل فرق رسول الله (صلى الله
عليه وآله)؟ قال نعم قلت كيف فرق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليس
من السنة؟ قال من أصابه ما أصاب رسول الله وفرق كما فرق رسول الله (صلى الله
عليه وآله) فقد أصاب سنة رسول الله وإلا فلا. قلت كيف ذلك؟ قال إن رسول الله

(1) رواه في الوسائل في الباب 62 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 62 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 62 من آداب الحمام.
557

(صلى الله عليه وآله) حين صد عن البيت وقد كان ساق الهدي وأحرم أراه الله الرؤيا
التي أخبرك بها في كتابه إذ يقول: " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد
الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين " (1) فعلم رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أن الله سيفي له بما أراه فمن ثم وفر ذلك الشعر الذي كان على رأسه حين
أحرم انتظارا لحلقه في الحرم حيث وعده الله فلما حلقه لم يعد في توفير الشعر ولا كان
ذلك من قبله ".
قال في الوافي ونعم ما قال قيل إن الحلق كان في الجاهلية عارا عظيما في
العرب فلما جاء الاسلام وفرض الحج وصار سنة لم يجدوا بدا من فعله حين يحجون
أو يعتمرون ولكنه كان كبيرا عليهم في غيرهما ولما رأى النبي (صلى الله عليه وآله)
ذلك منهم أمرهم بتربية الشعر لئلا يكونوا شعثا دوي قمل، ثم إن منهم من حلق ومنهم
من ترك الشعر حتى آل الأمر إلى أن صار الحلق شعارا للشيعة لأن أئمتهم (عليهم
السلام) كانوا محلقين أسوة برسول الله (صلى الله عليه وآله) وخلافه شعارا لمخالفيهم
لأن أئمتهم لحميتهم الجاهلية يعدونها مثلة لارتدادهم إلى ما كانوا عليه قبل الاسلام. انتهى
وأما ما ذكره الصدوقان في الرسالة والفقيه من حديث السنن العشر فهو عين
عبارة الفقه الرضوي حيث قال بعد كلام قد سقط من النسخة التي عندي من الكتاب
" ولكنها من الحنيفية التي قال الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله) " واتبع ملة
إبراهيم حنيفا " (2) فهي عشر سنن خمس في الرأس وخمس في الجسد. فأما التي في
الرأس فالفرق والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك، وأما التي في الجسد
فنتف الإبط وتقليم الأظافير وحلق العانة والاستنجاء والختان، وإياك أن تدع الفرق
إن كان لك شعر فقد روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) أنه قال: " من لم يفرق

(1) سورة الفتح، الآية 27
(2) سورة النساء، الآية 124.
(3) رواه في الوسائل في الباب 62 من آداب الحمام.
558

شعره فرقه الله بمنشار من النار " انتهى. وقد عرفت الوجه فيه. والله العالم.
(فصل) روى ثقة الاسلام في الكافي عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) قال " ما زاد من اللحية عن القبضة فهو في النار " وروى في الكافي
عن محمد بن أبي حمزة عن من أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " ما زاد
على القبضة ففي النار يعني اللحية " وعن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (3) ورواه في الفقيه مرسلا عن أبي عبد الله " في قدر اللحية؟ قال تقبض
بيدك على اللحية وتجز ما فضل " بيان: قال في الوافي المراد بالقبض على اللحية أن
يضع يده على ذقنه فيأخذ بطرفيه فيجز ما فضل من مسترسل اللحية طولا لا القبض
مما تحت الذقن.
وروى في الكافي والفقيه عن محمد بن مسلم (4) قال: " رأيت أبا جعفر (عليه
السلام) والحجام يأخذ من لحيته فقال دورها " ورويا فيهما مسندا في الكافي عن
درست عن أبي عبد الله (عليه السلام) ومرسلا في الفقيه (5) قال: " مر النبي (صلى
الله عليه وآله) برجل طويل اللحية فقال ما كان على هذا لو هيأ من لحيته؟ فبلغ ذلك
الرجل فهيأ من لحيته بين اللحيتين ثم دخل على النبي (صلى الله عليه وآله) فلما رآه
قال هكذا فافعلوا ".
وروى في الفقيه مرسلا (6) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
حفوا الشوارب واعفوا اللحى ولا تتشبهوا باليهود " وقال: وقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) " إن المجوس جزوا لحاهم ووفروا شواربهم وإنا نحن نجز الشوارب ونعفي
اللحى وهي الفطرة " بيان: قال في الوافي الحف الاحفاء وهو الاستقصاء في الأمر

(1) رواه في الوسائل في الباب 65 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 65 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 65 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 63 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 63 من آداب الحمام.
(6) رواه في الوسائل في الباب 67 من آداب الحمام.
559

والمبالغة فيه واحفاء الشارب المبالغة في جزه والاعفاء الترك، واعفاء اللحى أن يوفر
شعرها من عفى الشعر إذا كثر وزاد، وقوله " واعفوا عن اللحى " أي لا تستأصلوها بل
اتركوا منها ووفروا، وقوله " ولا تتشبهوا باليهود " أي لا تطيلوها جدا وذلك لأن
اليهود لا يأخذون من لحاهم بل يطيلونها، وذكر الاعفاء عقيب الاحفاء ثم النهي عن
التشبه باليهود دليل على أن المراد بالاعفاء أن لا يستأصل ويؤخذ منها من غير استقصاء
بل مع توفير وابقاء بحيث لا يتجاوز القبضة فيستحق النار. وقال بعض المنسوبين إلى
العلم والحكمة من فهم من هذا الحكم طلب الزينة الإلهية في قوله تعالى: " قل من حرم
زينة الله " (1) نظر إلى لحيته فإذا كانت الزينة في توفيرها وأن لا يأخذ منها شيئا تركها
وإن كانت الزينة في أن يأخذ منها قليلا حتى تكون معتدلة تليق بالوجه وتزينه أخذ
منها على هذا الحد وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان يأخذ من
طول لحيته لا من عرضها. انتهى كلامه. ولعل مراده أن الزينة تختلف باختلاف الناس
في لحاهم ولهذا لم يحدد أعني من جهة التقليل وإن حد من جهة التوفير، وقد مضى في كتاب الحجة حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2) " أن أقواما حلقوا اللحى وفتلوا
الشوارب فمسخوا " وقد أفتى جماعة من فقهائنا بتحريم حلق اللحية وربما يستشهد لهم بقوله
سبحانه عن إبليس اللعين: " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " (3) انتهى كلامه في الوافي.
وروى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يطولن أحدكم شاربه فإن الشيطان يتخذه
مخبئا يستتر به " ورواه في الفقيه عنه (صلى الله عليه وآله) مرسلا (5) وروى في الكافي

(1) سورة الأعراف، الآية 30.
(2) رواه في الوسائل في الباب 67 من آداب الحمام.
(3) سورة النساء، الآية 119.
(4) رواه في الوسائل في الباب 66 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 66 من آداب الحمام.
560

بالسند المتقدم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) إن من ألسنة إن تأخذ من الشارب حتى يبلغ الاطار " بيان: قيل الاطار
ككتاب ما يفصل بين الشفة وبين شعرات الشارب. وقال في مجمع البحرين: في الحديث
" من السنة أن تأخذ الشارب حتى يبلغ الاطار " وهو ككتاب طرف الشفة الأعلى
الذي يحول بين منابت الشعر والشفة وكل شئ أحاط بشئ فهو اطار له. انتهى.
وعن عبد الله بن عثمان (2) " أنه رأى أبا عبد الله (عليه السلام) أحفى شاربه حتى الزقة
بالعسيب " بيان: العسيب منبت الشعر. وعن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه
أبي الحسن (عليه السلام) (3) قال: " سألته عن قص الشارب أمن السنة هو؟ قال
نعم " وعن ابن فضال عن من ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " ذكرنا
الأخذ من الشارب فقال نشرة وهو من السنة " أقول: النشرة لغة رقية يعالج بها
المجنون والمريض المراد هنا أنها عوذة من الشيطان. وروى في الفقيه مرسلا (5) قال:
" قال الصادق (عليه السلام) أخذ الشارب من الجمعة إلى الجمعة أمان من الجذام " قال (6)
" وقال أبو عبد الله (عليه السلام) أخذ الشعر من الأنف يحسن الوجه ".
بيان: يستنبط من هذه الأخبار فوائد: (الأولى) أن الأفضل المندوب إليه هو
اعفاء اللحية إلى حد القبضة المذكورة وما زاد عليها فالأفضل جزه واحفاء الشارب وجزه
حتى يبلغ به أصول الشعر وهذا لا خلاف فيه ولا اشكال.
(الثانية) الظاهر كما استظهره جملة من الأصحاب كما عرفت تحريم حلق
اللحية لخبر المسخ المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه لا يقع إلا على ارتكاب
أمر محرم بالغ في التحريم، وأما الاستدلال بآية " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " (7)

(1) رواه في الوسائل في الباب 66 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 66 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 66 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 66 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(6) الوسائل الباب 68 من آداب الحمام
(7) سورة النساء، الآية 119.
561

ففيه أنه قد ورد عنهم (عليهم السلام) أن المراد دين الله فيشكل الاستدلال بها على ذلك
وإن كان ظاهر اللفظ يساعده.
(الثالثة) أنه هل يجوز حلق الشارب؟ استظهر بعض مشايخنا المحققين من
متأخري المتأخرين ذلك قال للأوامر المطلقة الشاملة له وإن كان الأحوط العدم لأنه
لم ينقل عن النبي والأئمة (صلوات الله عليهم) حلقه لا الرخصة في حلقه. انتهى.
أقول ما استند إليه في القول بالجواز من الأوامر المطلقة لا يخلو من اشكال لأن الأوامر
الواردة في الأخبار منها ما هو بلفظ الأخذ ومنها ما هو بلفظ الجز ومنها ما هو بلفظ
القص وقضية حمل مطلقها على مقيدها هو العمل بالجز وهو الظاهر ويؤيده ما ذكره أخيرا
في وجه الأحوطية، وبالجملة فإن دليل الجواز غير ظاهر بل ربما دخل تحت آية
" ليغيرن خلق الله " التي استدلوا بها على تحريم حلق اللحية بناء على ظاهر اللفظ.
(الرابعة) أنه هل أفضلية القبضة في اللحية بالنسبة إلى ما زاد خاصة بمعنى
أنه لا يتجاوز القبضة أو يكون كذلك أيضا بالنسبة إلى ما نقص عنها بمعنى أنه يستحب له
أن يعفيها ويتركها حتى تبلغ أيضا؟ لم أقف على كلام لأحد من أصحابنا في ذلك
إلا أن ظاهر الأخبار الأول. والله العالم.
(فصل) روى ثقة الاسلام في الكافي عن سفيان بن السمط (1) قال: " قال
لي أبو عبد الله (عليه السلام) الثوب النقي يكبت العدو والدهن يذهب بالبؤس والمشط
للرأس يذهب بالوباء قال قلت وما الوباء؟ قال الحمى، والمشط للحية يشد الأضراس "
وروى في الفقيه مرسلا (2) قال: " قال الصادق (عليه السلام) مشط الرأس يذهب بالوباء
ومشط اللحية يشد الأضراس " وقال في الفقيه أيضا (3): " قال الصادق (عليه السلام)

(1) ج 2 ص 216 وفي الوسائل بعضه في الباب 69 و 102 من آداب الحمام وفي
الباب 6 من أحكام الملابس.
(2) رواه في الوسائل في الباب 73 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 70 من آداب الحمام.
562

المشط يذهب بالوباء وهو الحمى " وفي رواية البرقي " يذهب بالونا وهو الضعف قال الله
تعالى ولا تنيا في ذكري (1) أي لا تضعفا " وروى في الكافي عن عمار النوفلي عن
أبيه (2) قال: " سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول المشط يذهب بالوباء وكان
لأبي عبد الله (عليه السلام) مشط في المسجد يتمشط به إذا فرغ من صلاته " وعن
عبد الله بن المغيرة عن أبي الحسن (عليه السلام) (3) " في قوله تعالى " خذوا
زينتكم عند كل مسجد " (4) قال من ذلك التمشط عند كل صلاة " وروى في الفقيه
مرسلا (5) قال: " سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله.. الحديث "
وروى في الكافي عن عنبسة بن سعيد رفع الحديث إلى النبي (صلى الله عليه وآله) (6)
قال: " كثرة تسريح الرأس يذهب بالوباء ويجلب الرزق ويزيد في الجماع " وعن
يونس عن من أخبره عن أبي الحسن (عليه السلام) ورواه في الفقيه عن أبي الحسن
موسى (عليه السلام) (7) قال: " إذا سرحت رأسك ولحيتك فأمر المشط على
صدرك فإنه يذهب بالهم والوباء " وروى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه (8)
قال: " كثرة التمشط تقلل البلغم " وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله ورواه
في الفقيه مرسلا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (9) قال: " من سرح لحيته سبعين
مرة وعدها مرة مرة لم يقربه الشيطان أربعين يوما ".
ويستحب بالعاج لما رواه في الكافي عن الحسين بن عاصم عن أبيه (10) قال:

(1) سورة طه، الآية 44.
(2) رواه في الوسائل في الباب 71 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 71 من آداب الحمام
(4) سورة الأعراف، الآية 31
(5) رواه في الوسائل في الباب 71 من آداب الحمام
(6) رواه في الوسائل في الباب 69 من آداب الحمام.
(7) رواه في الوسائل في الباب 75 من آداب الحمام.
(8) رواه في الوسائل في الباب 70 من آداب الحمام والرواية في كتب الحديث عن
البرقي عن أبيه
(9) رواه في الوسائل في الباب 76 من آداب الحمام.
(10) رواه في الوسائل في الباب 72 من آداب الحمام.
563

" دخلت على أبي إبراهيم (عليه السلام) وفي يده مشط عاج يتمشط به فقلت له جعلت
فداك إن عندنا بالعراق من يزعم أنه لا يحل التمشط بالعاج؟ فقال ولم فقد كان لأبي
منها مشط أو مشطان، ثم قال تمشطوا بالعاج فإن العاج يذهب بالوباء " بيان: قال
في كتاب مجمع البحرين: العاج عظم أنياب الفيل وعن الليث لا يسمى غير عظم الناب
عاجا، ثم قال وروي أنه كان لفاطمة (عليها السلام) سوار من عاج. انتهى. وعن
موسى بن بكر (1) قال: " رأيت أبا الحسن (عليه السلام) يتمشط بمشط عاج
واشتريته له " وعن عبد الله بن سليمان (2) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن
العاج فقال لا بأس به وإن لي منه لمشطا " وعن القاسم بن الوليد (3) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن عظام الفيل مداهنها وأمشاطها؟ قال لا بأس به ".
وروى في كتاب الخصال عن عبد الرحمان بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (4) " في قول الله عز وجل: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " (5) قال المشط يجلب
الرزق ويحسن الشعر وينجز الحاجة ويزيد في ماء الصلب ويقطع البلغم وكان رسول الله
(صلى الله عليه وآله) يسرح تحت لحيته أربعين مرة ومن فوقها سبع مرات ويقول إنه
يزيد في الذهن ويقطع البلغم " وروى العياشي في تفسيره عن أبي بصير (6) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " (7)
قال هو التمشط عند كل صلاة فريضة ونافلة ".
ويكره التمشط من قيام لما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن ثابت بن أبي صفية
الثمالي عن ثور بن سعيد بن علاقة عن أبيه عن علي (عليه السلام) (8) قال في حديث

(1) رواه في الوسائل في الباب 72 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 72 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 72 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 71 من آداب الحمام.
(5) سورة الأعراف، الآية 29.
(6) رواه في الوسائل في الباب 71 من آداب الحمام.
(7) سورة الأعراف، الآية 29.
(8) رواه في الوسائل في الباب 74 من آداب الحمام.
564

" والتمشط من قيام يورث الفقر " وما رواه الحسن بن الفضل الطبرسي في كتاب
مكارم الأخلاق عن النبي (صلى الله عليه وآله) (1) قال: " من امتشط قائما ركبه
الدين " وعن أبي الحسن موسى (عليه السلام) (2) قال: " لا تمتشط من قيام فإنه
يورث الضعف في القلب وامتشط جالسا فإنه يقوي القلب ويمخخ الجلد ".
ويستحب قراءة إنا أنزلناه وسورة والعاديات، قال السيد الزاهد العابد المجاهد
رضي الدين علي بن طاووس في كتاب الأمان من الأخطار: روي أنه يبدأ من تحت
ويقرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر، قال وفي رواية يسرح لحيته من تحت إلى فوق أربعين
مرة ويقرأ إنا أنزلناه ومن فوق إلى تحت سبع مرات ويقرأ والعاديات ويقول اللهم
سرح عني الهم والغموم والوحشة في الصدر. وفي كتاب الفقه الرضوي (3) قال:
(عليه السلام): " إذا أردت أن تمشط لحيتك فخذ المشط بيدك اليمنى وقل بسم الله
وضع المشط على أم رأسك ثم تسرح مقدم رأسك وقل اللهم حسن شعري وبشري
وطيب عيشي وافرق عني السوء، ثم تسرح مؤخر رأسك وقل اللهم لا تردني على عقبي
واصرف عني كيد الشيطان ولا تمكنه مني، ثم تسرح حاجبيك وقل اللهم زيني بزينة
أهل التقوى، ثم تسرح لحيتك من فوق وقل اللهم اسرح عني الغموم والهموم ووسوسة
الصدور، ثم أمر المشط على صدغك " بيان: الظاهر أن الأمر بتسريح مقدم الرأس
ومؤخره مبني على ما تقدم من توفير شعر الرأس لما يدل عليه لفظ الدعاء في تلك الحال
وأما بناء على ما قدمناه من استحباب الحلق فلا، وأما الأمر بتسريح اللحية من فوق
فظاهره أن وظيفة الاستحباب ذلك ويؤيده أنه قال في موضع آخر بعد هذا الكلام
بعد أن نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " ادهنوا غبا واكتحلوا وترا
وامشطوا مرسلا " قال: " فسئل عن معناها فقال (عليه السلام) ادهنوا يوم ويوم لا
واكتحلوا وترا وامشطوا مرسلا قال من فوق لا من تحت " انتهى. وهو بظاهره مناف

(1) رواه في الوسائل في الباب 74 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 74 من آداب الحمام
(3) ص 54.
565

لما تقدم في حديثي الخصال والأمان من الأخطار من أكثرية التسريح من تحت على
التسريح من فوق ولعل هذا الخبر محمول على الآكد. والله العالم.
(فصل) روى ثقة الاسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر
(عليه السلام) (1) قال: " قال النبي (صلى الله عليه وآله) ما زال جبرئيل يوصيني
بالسواك حتى خفت أن أحفى أو أدرد " بيان: قد تقدم معنى الحفاء بالحاء المهملة والفاء
وهو مبالغة في الاستقصاء، والدرد هو سقوط الأسنان يقال درد دردا من باب تعب
سقطت أسنانه وبقيت أصولها فهو أدرد والأنثى درداء مثل أحمر وحمراء وبه كنى
أبو الدرداء، والمراد هنا حتى خفت ذهاب أسناني من كثرة السواك، واستظهر جملة
من المحدثين أن الترديد من بعض الرواة. وعن جميل بن دراج في الصحيح أو الحسن
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أوصاني جبرئيل بالسواك حتى خفت على أسناني " وعن إسحاق بن عمار في الموثق (3)
قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) من أخلاق الأنبياء السواك " وعن إسحاق بن عمار
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " السواك من سنن المرسلين ".
وعن مهزم الأسدي (5) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في السواك
عشر خصال: مطهرة للفم ومرضاة للرب ومفرحة للملائكة وهو من السنة ويشد اللثة
ويجلو البصر ويذهب بالبلغم ويذهب بالحفر " ورواه البرقي في المحاسن، بيان: قيل
الحفر بثر في أصول الأسنان أو تقشير فيها أو صفرة تعلوها والخصلتان الباقيتان
إما مطويتان في مقام التفصيل أو ساقطتان من قلم النساخ. وعن عبد الله بن سنان عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال " في السواك اثنتي عشرة خصلة، هو من السنة ومطهرة
للفم ومجلاة للبصر ويرضي الرب ويذهب بالغم ويزيد في الحفظ ويبيض الأسنان ويضاعف
الحسنات ويذهب بالبلغم ويشد اللثة ويشهي الطعام وتفرح به الملائكة " ورواه البرقي

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب السواك.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب السواك.
(3) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب السواك.
(4) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب السواك.
(5) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب السواك.
(6) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب السواك.
566

في المحاسن والصدوق ولكنه خالف في الترتيب.
وعن حنان عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال: " شكت الكعبة
إلى الله عز وجل ما تلقى من أنفاس المشركين فأوحى الله إليها أن قري يا كعبة فإني مبدلك
بهم قوما يتنظفون بقضبان الشجر فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) أوحى إليه
مع جبرئيل بالسواك والخلال ".
وعن المعلي بن خنيس (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السواك
بعد الوضوء فقال الاستياك قبل أن يتوضأ. قلت أرأيت أن نسي حتى يتوضأ؟ قال يستاك
ثم يتمضمض ثلاث مرات ".
قال في الكافي (3): وروي أن السنة في السواك وقت السحر. وروى في الكافي
أيضا أن أبي بكر بن أبي سمال (4) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا قمت
بالليل فاستك فإن الملك يأتيك فيضع فاه على فيك وليس من حرف تتلوه وتنطق به إلا
صعد به إلى السماء فليكن فوك طيب الريح ".
وروى في الفقيه مرسلا (5) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " إن
أفواهكم طرق القرآن فطهروها بالسواك " وروى البرقي في المحاسن عن إسماعيل بن أبان
الخياط عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله) نظفوا طريق القرآن قيل يا رسول الله وما طريق القرآن؟ قال أفواهكم قيل
بماذا؟ قال بالسواك " وعن علي بن الحكم عن عيسى بن عبد الله رفعه (7) قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفواهكم طريق من طرق ربكم فأحبها إلى الله أطيبها ريحا

(1) رواه في الوسائل في الباب 8 من أبواب السواك.
(2) رواه في الوسائل في الباب 4 من أبواب السواك.
(3) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب السواك.
(4) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب السواك.
(5) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب السواك.
(6) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب السواك.
(7) رواه في الوسائل في الباب 7 من أبواب السواك.
567

فطيبوها بما قدرتم عليه ".
وروى في الكافي عن معاوية بن عمار في الصحيح (1) قال: " سمعت
أبا عبد الله (عليه السلام) يقول كان في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه
السلام) أن قال يا علي أوصيك في نفسك بخصال احفظها عني ثم قال اللهم أعنه، وعد
جملة من الخصال إلى أن قال وعليك بالسواك عند كل صلاة " وعن محمد بن مروان عن
أبي جعفر (عليه السلام) (2) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين
(عليه السلام) " عليك بالسواك لكل صلاة " وعن القداح عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) ورواه في الفقيه مرسلا عن أبي عبد الله قال: " ركعتان بالسواك
أفضل من سبعين ركعة بغير سواك " قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة " بيان: أي أوجبت ذلك عليهم
" لأن الأمر حقيقة في الوجوب كما عرفت، وفي الفقيه (4) " عند وضوء كل صلاة " وروى
في الكافي عن ابن بكير عن من ذكره عن أبي جعفر (عليه السلام) (5) ورواه في الفقيه
مرسلا عن أبي جعفر " في السواك قال لا تدعه في كل ثلاث ولو أن تمره مرة ".
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) " أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا صلى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه
فيوضع عند رأسه مخمرا فيرقد ما شاء الله ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي أربع ركعات
ثم يرقد ويقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي ثم قال لقد كان لكم في رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أسوة حسنة " وروى البرقي في المحاسن عن إسحاق بن عمار (7) قال:

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب السواك.
(2) رواه في الوسائل في الباب 5 من أبواب السواك
(3) رواه في الوسائل في الباب 5 من أبواب السواك
(4) ج 1 ص 34.
(5) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب السواك.
(6) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب السواك.
(7) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب السواك.
568

" قال أبو عبد الله إني لأحب للرجل إذا قام بالليل أن يستاك وأن يشم الطيب فإن الملك
يأتي الرجل إذا قام بالليل حتى يضع فاه على فيه فما خرج من القرآن من شئ دخل
في جوف ذلك الملك ".
بيان: قد دلت أخبار هذا الفصل على استحباب السواك في حد ذاته استحبابا
مؤكدا ويتأكد زيادة على ذلك للوضوء وللصلاة ولقراءة القرآن وفي السحر خصوصا
مع الاتيان بصلاة الليل.
ويكره في مواضع: منها الحمام والخلاء فقد روى الصدوق في الفقيه في حديث
المناهي المذكور في آخره (1) قال: " ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن السواك
في الحمام " قال وروي: " أن السواك في الحمام يورث وباء الأسنان " وروى في
كتاب العلل في الموثق عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) في حديث
قال: " وإياك والسواك في الحمام فإنه يورث وباء الأسنان " وقد تقدم في آداب الخلوة
ما يدل على أنه يورث البخر في الخلاء.
(فصل) في استحباب قص الأظفار روى ثقة الاسلام في الكافي عن عبد الله بن
ميمون القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " احتبس الوحي عن النبي (صلى
الله عليه وآله) فقيل له احتبس الوحي عنك فقال وكيف لا يحتبس وأنتم لا تقلمون أظفاركم
ولا تنقون رواجبكم " بيان: قال في النهاية: فيه " ألا تنقون رواجبكم " هي ما بين عقد
الأصابع من داخل واحدها راجبة والبراجم العقد المتسنمة (4) في ظاهر الأصابع. وقال في
القاموس. والرواجب مفاصل أصول الأصابع أو بواطن مفاصلها أو هي قصب الأصابع أو مفاصلها
أو ظهور السلاميات أو ما بين البراجم من السلاميات أو المفاصل التي تلي الأنامل واحدتها
راجبة. وعن القاسم عن جده (5) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) تقليم الأظفار

(1) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب السواك.
(2) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب السواك.
(3) رواه في الوسائل في الباب 80 من آداب الحمام
(4) في النهاية (المتشنجة)
(5) رواه في الوسائل في الباب 80 من آداب الحمام
569

يمنع الداء الأعظم ويدر الرزق ".
وعن هشام بن سالم في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
قال: " تقليم الأظفار يوم الجمعة يؤمن من الجذام والبرص والعمى وإن لم تحتج فحكها
حكا " ورواه في الفقيه عن هشام بن سالم (2) وزاد على الثلاثة المذكورة " الجنون " ثم
قال وفي خبر آخر " إن لم تحتج فأمر عليها السكين أو المقراض " وروى في الكافي
والتهذيب في الصحيح عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال:
" أخذ الشارب والأظفار من الجمعة إلى الجمعة أمان من الجذام " وعن عبد الله بن هلال (4)
قال: " قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) خذ من شاربك وأظفارك في كل جمعة فإن لم
يكن فيها شئ فحكها لا يصيبك جنون ولا جذام ولا برص " وروى في الكافي عن
ابن بكير في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) قال: " تقليم الأظفار وأخذ
الشارب في كل جمعة أمان من البرص والجنون " وعن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه
السلام) (6) قال: " إنما قصوا الأظفار لأنها مقيل الشيطان ومنه يكون النسيان " وعن
حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (7) قال: " إن أستر وأخفى ما يسلط
الشيطان من ابن آدم أن صار يسكن تحت الأظافير " وعن أبي بصير عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (8) قال: " قلت له ما ثواب من أخذ من شاربه وقلم أظفاره في كل جمعة؟
قال لا يزال مطهرا إلى الجمعة الأخرى " ورواه الصدوق مرسلا (9) قال: قال الحسين
ابن أبي العلاء للصادق (عليه السلام).. الحديث. وروى المشايخ الثلاثة عن عبد الرحيم
القصير (10) قال: " قال أبو جعفر (عليه السلام) من أخذ من شاربه وأظفاره كل
جمعة وقال حين يأخذ بسم الله وبالله وعلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تسقط

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(5) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(6) رواه في الوسائل في الباب 80 من آداب الحمام.
(7) رواه في الوسائل في الباب 80 من آداب الحمام.
(8) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(9) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(10) رواه في الوسائل في الباب 35 من صلاة الجمعة.
570

منه قلامة ولا جزازة إلا كتب الله له بها عتق نسمة ولا يمرض إلا مرضه الذي يموت فيه "
بيان: في الفقيه " على سنة محمد وآل محمد " وروى في الكافي عن أبي كهمس (1)
قال: " قال رجل لعبد الله بن الحسن علمني شيئا في الرزق فقال الزم مصلاك إذا صليت
الفجر إلى طلوع الشمس فإنه أنجع في طلب الرزق من أن تضرب في الأرض. فأخبرت
بذلك أبا عبد الله (عليه السلام) فقال ألا أعلمك في الرزق ما هو أنفع من ذلك؟ قال
قلت بلى. قال خذ من شاربك وأظفارك في كل جمعة " وعن علي بن عقبة عن أبيه (2)
قال: " أتيت عبد الله بن الحسن فقلت علمني دعاء في الرزق فقال. قل اللهم تول أمري
ولا تول أمري غيرك. فعرضته على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال ألا ترى أدلك على ما هو
أنفع من هذا في الرزق؟ تقص من أظفارك وشاربك في كل جمعة ولو بحكها " وعن
خلف (3) قال: " رآني أبو الحسن (عليه السلام) بخراسان وأنا أشكتي عيني فقال
أدلك على شئ إن فعلته لم تشتك عينك؟ قلت بلى فقال خذ من أظفارك في كل خميس
قال ففعلت فما اشتكيت عيني إلى يوم أخبرتك " وروى في الفقيه مرسلا (4) قال: قال
أبو جعفر (عليه السلام) " من أخذ من أظفاره كل يوم خميس لم يرمد ولده " وقال
فيه أيضا: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) " من قلم أظفاره يوم السبت ويوم
الخميس وأخذ من شاربه عوفي من وجع الضرس ووجع العين " وعن عبد الله بن الفضل
عن أبيه وعمه جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) (5) قال: " من أخذ أظفاره كل
خميس لم ترمد عينه ".
وروى في الكافي والفقيه مسندا في الأول ومرسلا في الثاني (6) قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) للرجال قصوا أظفاركم وللنساء أتركن فإنه أزين لكن "

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 34 من صلاة الجمعة
(4) رواه في الوسائل في الباب 34 من صلاة الجمعة
(5) رواه في الوسائل في الباب 34 من صلاة الجمعة
(6) رواه في الوسائل في الباب 81 من آداب الحمام.
571

وفي الفقيه " اتركن من أظفاركن فإنه أزين لكن " بيان: يعني لا يبالغن في قصها كما
يبالغ الرجال بل يتركن شيئا منها كما يستفاد من لفظة " من " التبعيضية.
وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير رفعه (1) " في قص
الأظافير تبدأ بخنصرك الأيسر ثم تختم باليمين " وقال في الفقيه (2) وروى " أن من يقلم
أظفاره يوم الجمعة يبدأ بخنصره من اليد اليسرى ويختم بخنصره من اليد اليمنى " بيان:
قال في الوافي: لعل السر في ذلك تحصيل التيامن في كل إصبع إصبع وذلك لأن الوضع
الطبيعي لليدين أن يكون ظهرهما إلى فوق وبطنهما إلى تحت.
وروى في الفقيه مرسلا (3) قال: قال الصادق (عليه السلام) " من قلم أظفاره
يوم الجمعة لم تسعف أنامله " بيان: في بعض النسخ " تشعث أنامله " والمعنى واحد
وهو تفرق الجلد حول الأظفار فينفصل منه أجزاء صغار، وقد تقدم ذكر الخلاف بين
الأصحاب في حكم هذه الأجزاء بعد الانفصال طهارة ونجاسة وأما قبل الانفصال فلا
ريب في طهارتها.
وروى في الفقيه عن موسى بن بكر (4) " أنه قال للصادق (عليه السلام) إن
أصحابنا يقولون إنما أخذ الشارب والأظفار يوم الجمعة فقال سبحان الله خذها إن شئت
في يوم الجمعة وإن شئت في سائر الأيام " بيان: ظاهر السؤال حصر أخذها في يوم
الجمعة ولعله توهم الوجوب في هذا اليوم بخصوصه فأجاب (عليه السلام) بجواز أخذها
في سائر الأيام وإلا فحصر الاستحباب أو تأكده في اليوم المذكور لا شك فيه، أو يحمل
الخبر على ما إذا طالت فإنه لا ينتظر بها اليوم المذكور، وكيف كان فالظاهر أن ما ورد
من أخذها يوم الخميس ويترك واحد ليوم الجمعة أو السبت فهي رخص لا تنافي التوظيف

(1) رواه في الوسائل في الباب 83 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 83 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 33 من صلاة الجمعة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 80 من آداب الحمام.
572

والاستحباب في ذلك اليوم لما عرفت من الأمور المرتبة عليه فيه بخصوصه.
وروى في الفقيه مرسلا (1) قال: قال الصادق (عليه السلام) " يدفن الرجل
شعره وأظفاره إذا أخذ منها وهي سنة " وقال وروى: " أن من السنة دفن الشعر
والظفر والدم " وروى في الكافي عن أبي كهمس عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
" في قول الله تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا احياء وأمواتا (3)؟ قال دفن الشعر والظفر "
بيان: قال في الوافي: الكفات بالكسر الموضع يكفت فيه الشئ أي يضم ويجمع والأرض
كفات لنا. انتهى. أقول: لعل ذكر الشعر والظفر للتنبيه على أنهما مما يكفتان في
الأرض أي يضمان فيها كما يضم فيها الانسان بعد الموت.
(فصل) في استحباب الكحل روى ثقة الاسلام في الكافي عن سليمان الفراء
عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يكتحل بالأثمد إذا آوى إلى فراشه وترا وترا " وعن زرارة في الصحيح عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (5) قال: " الكحل بالليل ينفع العين وهو بالنهار زينة " وعن
الفضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه وعمه (6) قالا " قال أبو جعفر (عليه السلام)
الاكتحال بالأثمد يطيب النكهة ويشد أشفار العين " وعن حماد بن عيسى في الموثق عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (7) قال: " الكحل يعذب الفم " وعن خلف بن حماد عن من
ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (8) قال: " الكحل ينبت الشعر ويحد البصر
ويعين على طول السجود " وعن علي بن عقبة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (9)

(1) رواه في الوسائل في الباب 77 من آداب الحمام
(2) رواه في الوسائل في الباب 77 من آداب الحمام
(3) سورة المرسلات، الآية 25 و 26.
(4) رواه في الوسائل في الباب 55 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 57 من آداب الحمام.
(6) رواه في الوسائل في الباب 55 من آداب الحمام.
(7) رواه في الوسائل في الباب 54 من آداب الحمام.
(8) رواه في الوسائل في الباب 54 من آداب الحمام.
(9) رواه في الوسائل في الباب 55 من آداب الحمام.
573

قال: " الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر في الجفن ويذهب بالدمعة " وعن ابن فضال عن
بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " الكحل يزيد في المباضعة "
بيان: المباضعة المجامعة. وعن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
قال: " الكحل ينبت الشعر ويجفف الدمعة ويعذب الريق ويجلو البصر " وعن الحسين
ابن الحسن بن عاصم عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " من نام على
إثمد غير ممسك أمن من الماء الأسود أبدا ما دام ينام عليه " وعن ابن القداح عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (4) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) من اكتحل فليوتر ومن
فعل فقد أحسن ومن لم يفعل فلا بأس " وروى الصدوق مرسلا (5) قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) اكتحلوا وترا واستاكوا عرضا " وعن زرارة في
الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كان يكتحل قبل أن ينام أربعا في اليمنى وثلاثا في اليسرى " وعن الحسن بن الجهم (7)
قال: " أراني أبو الحسن (عليه السلام) ميلا من حديد ومكحلة من عظام فقال هذا
كان لأبي (عليه السلام) فاكتحل به " وروى الحسين بن بسطام في كتاب طب الأئمة
عن أبي صالح الأحول عن الرضا (عليه السلام) (8) قال: " من أصابه ضعف في
بصره فليكتحل سبعة مراود عند منامه من الإثمد " وعن جابر عن خداش عن عبد الله
بن ميمون عن الصادق (عليه السلام) (9) قال: " كان للنبي (صلى الله عليه وآله)
مكحلة يكتحل منها في كل ليلة ثلاثة مراود في كل عين عند منامه " وروى الحسن بن الفضل

(1) رواه في الوسائل في الباب 54 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 54 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 55 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 56 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 56 من آداب الحمام.
(6) رواه في الوسائل في الباب 57 من آداب الحمام.
(7) رواه في الوسائل في الباب 58 من آداب الحمام.
(8) رواه في الوسائل في الباب 57 من آداب الحمام.
(9) رواه في الوسائل في الباب 57 من آداب الحمام.
574

الطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق (1) قال: " كان النبي (صلى الله عليه وآله) يكتحل
في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى ثنتين، قال من شاء اكتحل ثلاثا في كل عين ومن
فعل دون ذلك أو فوقه فلا حرج، وربما اكتحل وهو صائم وكانت له مكحلة يكتحل
منها في الليل وكان كحله الإثمد " وفي كتاب الفقه الرضوي (2) قال: " إذا أردت أن
تكتحل فخذ الميل بيدك اليمنى واضربه بالمكحلة وقل بسم الله وإذا جعلت الميل في
عينك فقل اللهم نور بصري واجعل فيه نورا أبصر به حقك واهدني إلى طريق الحق
وأرشدني إلى سبيل الرشاد اللهم نور علي دنياي وآخرتي " وقال في موضع آخر
" روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال ادهنوا غبا واكتحلوا وترا "
بيان: هنا فوائد (الأولى) أن الكحل المستحب وهو الذي ذكرت له هذه
الخواص هو الإثمد وهو بكسر الهمزة حجر معروف يؤتى به الآن من مكة المشرفة
يجلب إليها ثم يؤتى به منها، قال في مجمع البحرين: والإثمد بكسر الهمزة والميم حجر
يكتحل به ويقال إنه معرب ومعادنه بالمشرق، ومنه الحديث " اكتحلوا بالأثمد "
وعن بعض الفقهاء الإثمد هو الأصفهاني ولم يتحقق. انتهى.
(الثانية) المستفاد من هذه الأخبار باعتبار ضم بعضها إلى بعض أن الأفضل
في الاكتحال أن يكون وترا في كل من العينين أو فيهما معا بأن يكون ثلاثة ثلاثة في
كل واحدة أو خمسة أو سبعة فيهما معا بأن تكون الزيادة في العين اليمنى.
(الثالثة) ما دلت عليه صحيحة زرارة التي هي الثانية من الروايات المتقدمة
من أن الكحل ينفع بالليل وزينة بالنهار مما يدفع ما توهمه بعض المتعسفين وربما سرى الوهم منه
إلى بعض الفضلاء أيضا من ايجاب غسل الكحل من العين وقت الوضوء أو عدم الاكتحال
لذلك لأنه يكون حائلا عن وصول ماء الوضوء إلى ما تحته أو يكون الماء به مضافا يخرج
عن الاطلاق، وليت شعري كيف خفي هذا المعنى الذي اهتدى إليه هذا القائل على

(1) رواه في الوسائل في الباب 57 من آداب الحمام
(2) ص 54.
575

النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الذين يكتحلون ويأمرون به في هذا الأخبار التي
سمعت؟ أرأيت أنه كان يجب غسله لما ذكره هؤلاء ويغفلون (عليهم السلام) عن الأمر
بذلك وتنبيه الناس عليه؟ وكيف يكون زينة بالنهار وهو يجب غسله إذا انتبه وتوضأ لصلاة
الصبح؟ ما هذه إلا وساوس شيطانية وخيالات وهمية ولقد كنت لا أعتني بهذا القائل
حتى وقفت في كلام بعض الفضلاء المعاصرين في رسالة له في الصلاة على مثل ذلك فزاد
تعجبي، ولعل الفاضل المشار إليه لم يقف على الصحيحة المذكورة.
(الرابعة) يستفاد من رواية الحسن بن الجهم المتقدمة استحباب كون
الميل من حديد.
(فصل) في استحباب الطيب روى ثقة الاسلام (عطر الله مرقده) في الكافي
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (1) قال: " الطيب
من أخلاق الأنبياء " وعن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" العطر من سنن المرسلين " وعن العباس بن موسى (3) قال: " سمعت أبي (عليه السلام)
يقول العطر من سنن المرسلين وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4)
قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الطيب في الشارب من أخلاق النبيين وكرامة
للكاتبين " وعن ابن رئاب (5) قال: " كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا مع
بصير فسمعت أبا عبد الله يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الريح الطيبة
تشد القلب وتزيد في الجماع " وعن أبي بصير (6) قال: " قال أبو عبد الله (عليه
السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطيب يشد القلب " وروى الشيخان في
الكافي والفقيه عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (7) قال:

(1) رواه في الوسائل في الباب 89 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 89 من آداب الحمام.
(3) رواه في الوسائل في الباب 89 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 90 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 89 من آداب الحمام.
(6) رواه في الوسائل في الباب 89 من آداب الحمام.
(7) رواه في الوسائل في الباب 37 من صلاة الجمعة.
576

" لا ينبغي للرجل أن يدع الطيب في كل يوم فإن لم يقدر عليه فيوم ويوم لا فإن لم يقدر ففي كل
جمعة ولا يدع " وزاد في الفقيه (1) " وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا كان
يوم الجمعة ولم يصب طيبا دعا بثوب مصبوغ بزعفران فرش عليه الماء ثم مسح بيده ثم مسح به
وجهه " وروى في الكافي عن علي رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " من
تطيب أول النهار لم يزل عقله معه إلى الليل " قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام) " صلاة
متطيب أفضل من سبعين صلاة بغير طيب " وعن إسحاق الطويل العطار عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (3) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينفق في الطيب
أكثر مما ينفق في الطعام " وعن زكريا المؤمن رفعه (4) قال: " ما أنفقت في الطيب
فليس بسرف " وعن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) (5)
" أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان لا يرد الطيب والحلوا " وعن القداح عن
أبي عبد الله (عليه السلام) (6) قال: " أتي أمير المؤمنين (عليه السلام) بدهن وقد
كان أدهن فأدهن وقال إنا لا نرد الطيب " وعن سماعة عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (7) قال: " سألته عن الرجل يرد الطيب؟ قال لا ينبغي له أن يرد الكرامة "
وعن الحسن بن الجهم (8) قال: " دخلت على ابن الحسن (عليه السلام) فأخرج
إلي مخزنة فيها مسك فقال خذ من هذا فأخذت منه شيئا فتمسحت به فقال أصلح
واجعل في لبتك منه قال فأخذت منه قليلا فجعلته في لبتي فقال لي أصلح فأخذت منه
أيضا فمكث في يدي منه شئ صالح فقال لي اجعل في لبتك ففعلت، ثم قال: قال
أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يأبى الكرامة إلا حمار. قال قلت ما معنى ذلك؟

(1) ج 1 ص 274
(2) رواه في الوسائل في الباب 90 من آداب الحمام
(3) رواه في الوسائل في الباب 92 من آداب الحمام.
(4) رواه في الوسائل في الباب 92 من آداب الحمام.
(5) رواه في الوسائل في الباب 94 من آداب الحمام.
(6) رواه في الوسائل في الباب 94 من آداب الحمام.
(7) رواه في الوسائل في الباب 94 من آداب الحمام.
(8) رواه في الوسائل في الباب 94 و 95 من آداب الحمام.
577

قال الطيب والوسادة، وعد أشياء.. الحديث " بيان: قال في الوافي: أصلح
يعني خذ منه قدرا صالحا معتدا به، واللبة المنحر، وشيئا صالحا أي زمانا يعتد به. وعن
أبي البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كان يتطيب بالمسك حتى يرى وبيصه في مفارقه " بيان: الوبيص بالصاد المهملة البريق
واللمعان والمفرق محل فرق الشعر من الرأس. وعن نوح بن شعيب عن بعض أصحابنا
عن أبي الحسن (عليه السلام) (2) قال: " كان يرى وبيص المسك في مفرق رسول الله
(صلى الله عليه وآله) والأخبار في الباب أكثر من أن يأتي عليها الكتاب.
وعلى أخبار المسك تمسك أعنة الأقلام ويقطع الكلام ليكون ختامه مسكا تيمنا بما
ذكره الملك العلام وأسأل الله سبحانه بمزيد فضله وبركة أهل البيت (عليهم السلام) أن يكون
هذا الكتاب وسيلة لديه ولديهم صلوات الله عليهم أجمعين في يوم القيامة وأن يوفقني لإكماله
والفوز بسعادة الاختتام، وهو المجلد الثاني (3) من كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة
الطاهرة ويتلوه إن شاء الله تعالى في المجلد الثالث كتاب الصلاة، وقد وقع الفراغ من
تحريره في الأرض المقدسة التي هي على التقوى مؤسسة أرض كربلاء المعلى في جوار
سيد الشهداء وإمام السعداء صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه النجباء بتأريخ اليوم السادس
والعشرين من شهر جمادى الثانية من السنة الثامنة والسبعين بعد المائة والألف من
الهجرة المحمدية على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحية، وكتبه مؤلفه بيمينه الداثرة أعطاه
الله تعالى كتابه بها في الآخرة فقير ربه الكريم يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني
عفى عنهم بمنه حامدا مصليا مسلما مستغفرا.

(1) رواه في الوسائل في الباب 95 من آداب الحمام.
(2) رواه في الوسائل في الباب 95 من آداب الحمام.
(3) هذا بحسب ترتيب المصنف (قدس سره) حيث جعل كتاب الطهارة مجلدين الأول
ينتهي بانتهاء فصل غسل الجنابة والثاني ينتهي بانتهاء كتاب الطهارة، وقد جعلناه في هذه الطبعة
خمسة أجزاء وبانتهاء هذا الجزء (الخامس) ينتهي كتاب الطهارة ويتلوه الجزء السادس
في مقدمات الصلاة، والحمد لله أولا وآخرا.
578