الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ١
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات: قام بنشره : الشيخ علي الآخوندي

الحدائق الناضرة
في أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 ه‍
الجزء الأول
حقوق الطبع محفوظة للناشر
قام بنشره
الشيخ علي الآخوندي
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين. بقم المشرفة (إيران)
تعريف الكتاب 1

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. وبعد... فإننا نشكر الله سبحانه على
أن وفق هذه المؤسسة لطبع هذا الكتاب الفقهي الشريف " الحدائق الناضرة " لمؤلفه الفقيه الخبير
والمحدث الكبير الشيخ يوسف البحراني " قدس الله سره " الذي استند في استدلالاتهن وتحقيقاته
اللطيفة إلى آيات القرآن الكريم وأحاديث أهل بيت الوحي (صلوات الله عليهم).
وأن الفقهاء الأفاضل والعلماء المحققين يعلمون جيدا " قيمة هذا الكتاب العلمية ومكانته السامية
في ميدان الفقه وعالم الاستنباط بحيث لا يستغنى فقيه عن النظر فيه والغور في جمل معانيه، واستخراج
لآلئه ومراميه.
هذا وكانت انجزت طباعة المجلدات العشرين في النجف الأشرف على مشرفها آلاف التحية
والثناء على يد سماحة الشيخ على الآخوندي (وفقه الله تعالى لاحياء تراث أهل البيت عليهم السلام)
وقد نفدت من الأسواق فاستجزناه لتجديد طباعتها بواسطة هذه المؤسسة - بعد تصحيح الأخطاء
وبذل العناية التامة في طباعتها بشكل أنيق - فأجازنا في ذلك
وأما الجزءان الحادي والعشرون والثاني والعشرون فقد قامت هذه المؤسسة بطباعتهما لأول مرة
بعد انتظار طويل، واشتياق من الفضلاء كثير وتمتاز طباعتهما بما يلي:
1 - المقابلة مع النسخ المتعددة
2 - تخريج الآيات الكريمة والروايات والأحاديث الشريفة المستدل بها في الكتاب... من
مظانها ومصادرها
3 - تعيين الصفحات في المصادر التي أرجع المؤلف إليها في نقوله واستشهاداته
4 - ذكر عناوين الأبحاث في أعلى الصفحات
5 - تنظيم فهرست جامع لمطالب الكتاب
6 - اعتماد الطريقة الفنية في الطباعة، والتي تقضي بوضع علامات التعجب والاستفهام
والفواصل وما إلى ذلك
أما باقي الأجزاء، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لانجازها وتقديمها إلى أهل العلم والفضل ونجوا منه
تعالى أن يسدد خطانا ويمين علينا بالتوفيق لنشر الثقافة الاسلامية الأصيلة والتراث الاسلامي الغني
واحياء فقه أهل بيت الوحي سلام الله عليهم أجمعين.
1363 ش
مؤسسة النشر الاسلامي
(التابعة) لجماعة المدرسين بقم المشرفة
كلمة المؤسسة 2

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الناشر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد فإن دار الكتب الاسلامية - في النجف الأشرف التي وقفت نفسها
على خدمة العترة الطاهرة آل البيت عليهم السلام، واحياء شريعتهم بطبع آثارهم وأحكامهم
ونشرها بين الناس، بأسلوب محقق يلائم العصر الحاضر ويساير النهج الطباعي الحديث -
تضيف اليوم - إلى جملة ما جددت طباعته من الكتب المعتمدة في الفقه
والأصول والحديث والتفسير والأخلاق - كتاب (الحدائق الناضرة في أحكام العترة
من الكتب الفقهية القيمة التي لها مكانتها السامية لدى الفقهاء، ويحتاج إليها معالم الفقيه
في مقام مراجعته وبحوثه لتفهم الأحكام واستنباطها، بعد أن عزت نسخه على كثرتها
وعلى الرغم من أغلاطها.
وقد طلبنا - من حضرة العلامة الكبير سماحة الحجة الشيخ محمد تقي الإيرواني
أدام الله ظله - القيام بتحقيقه والتعليق عليه وتخريج أحاديثه على كتاب (وسائل الشيعة
إلى تحصيل مسائل الشريعة) الذي يعتبر المرجع الوحيد للفقهاء في معرفة الأحاديث
كلمة الناشر 3

الواردة في الأحكام الشرعية، كما طلبنا من سماحته الاشراف على طبعه وتصحيحه،
فأجابنا إلى ذلك على ما هو عليه من كثرة الأعمال، اهتماما " منه بهذا المشروع الديني
الجليل، وتقديرا " لجهودنا في هذا السبيل، وقد بذل غاية جهده في التحقيق والتعليق
والمقابلة على عدة نسخ خطية ومطبوعة، فخرج الجزء الأول منه - وهو يشتمل
على المقدمات وأحكام المياه - على أحسن تنظيم وأدقه، خاليا " من الأغلاط إلا ما زاغ
عنه البصر. ومنه تعالى نستمد المعونة والتوفيق لاخراج سائر الأجزاء.
وفي الختام أتقدم إلى سماحته بوافر الشكر والامتنان، سائلا المولى أن يمده بالعون
والتوفيق، وإلى حضرة البحاثة المحقق سماحة الحجة السيد عبد الرزاق المقرم دامت
بركاته جزيل الشكر على ما قدمه من خدمات علمية، وما ساهم فيه من مراجعة بعض
المصادر وضبطها، كما وأتي لا أنسى تقديم الشكر لفضيلة الأستاذ الأسدي المحترم مدير
مطبعة (النجف) على ما بذله من جهود في سبيل إتقان طباعة هذا الكتاب
والحمد لله أولا وآخرا "، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الأطهار.
10 / 6 / 1377
الحاج الشيخ علي الآخوندي
صاحب دار الكتب الاسلامية
في النجف الأشرف
كلمة الناشر 4

حياة شيخنا
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني
قدس سره
المتوفى سنة 1186
بقلم
السيد عبد العزيز الطباطبائي
ترجمة المؤلف 5

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين وآله الطاهرين
تمهيد
مضت علينا أجيال وقرون منذ عصر التابعين وعهد الصادقين (عليهم السلام)
إلى يومنا هذا وتاريخنا العلمي حافل بأبطال عز نظيرهم في جهادهم الديني وأداء رسالتهم
إلى المجتمع، فقد نبغ منا علماء فطاحل وأفذاذ محققون وأعلام جهابذة مشاركون
في العلوم.
والأجيال على ذلك متسلسلة والقرون متتابعة، وفي كل خلف عدول من أمة
محمد (صلى الله عليه وآله) ينفون عن دينه تأويل المبطلين وتحريف الغالين
وانتحال الجاهلين (1) فلو قرأت تأريخهم (قدس الله أرواحهم) لو جدتهم في كل عصر
وجيل قد أدوا رسالتهم، ونهضوا بأعباء واجبهم الديني، وخدموا العلم والدين والانسانية
بكتبهم ومؤلفاتهم، وأقلامهم واقدامهم، وبيانهم وبنانهم، وجهاد هم المتواصل وجهودهم
الجبارة، ونضالهم ونصالهم، وجميع ما آتاهم الله من حول وطول، ولذلك سطعت آثارهم
في سماء المجد والشرف وافق الرفعة والعظمة، كالنجوم الزاهرة والكواكب النيرة
والشهب الثاقبة. فجزاهم الله عن نبيه وعن دينه وعن أمته خيرا "

(1) ايعاز إلى الأحاديث التي وردت في هذا المعنى: منها - ما رواه الكشي بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " يحمل
هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين.. " ورواه العلامة المجلسي (قدس
سره) في بحاره ج 2 ص 92 ج 16 من طبعة سنة 1376.
ترجمة المؤلف 6

وإن آثارهم لتتفاوت فيما بينها في الخلود والقبول، إذ الحظوظ تتفاوت في شتى
النواحي، والانصباء تختلف في مختلف المراحل والشؤون، فترى من بين تلك
الكتب والمؤلفات كتبا " حظيت بالنصيب الأوفر والكيل الأوفى من القبول، فتلقتها
الأوساط العلمية بكل ولع وشعف، ورجالات العلم والدين بكل اكبار واعجاب،
وتداولتها أندية العلم درسا " وتدريسا " وتدقيقا " وتحقيقا "، وتناولتها أيدي العلماء نقدا "
ودفاعا " وشرحا " وتحشية. فكأن المولى (جل شأنه) قد طبعها بطابع القبول ووسمها
بسمة الخلود، فلا تعرف الدثور والبلى ولا الدرس والعفاء، بل تزداد نضارة وجلالا
وبهاء بمرور الدهور.
وأن في الطليعة من تلك الكتب كتابنا هذا الممثل للطبع (الحدائق الناضرة
في أحكام العترة الطاهرة) لمؤلفه الفقيه المحقق والمحدث المتتبع، الشيخ يوسف البحراني
الدرازي، فقد طبقت شهرته الآفاق، وملأ دويه الأرجاء، ودوى رجعه
في الخافقين، وراح صداه يرن في الأسماع ويصك المسامع ويأخذ بمجامع القلوب.
وناهيك به شهرة أن صار معرفا " لمؤلفه الشهير، فلم يكد شيخنا المحدث البحراني يعرف
ويعرف ولا يذكر ويميز إلا بقولهم عنه " صاحب الحدائق "
أما الكتاب فسيوافيك بحث ضاف عنه فيما نعقده (حول كتاب الحدائق)
وأما مؤلفه فإليك شيئا " من ترجمته:
نسبه ومولده:
هو الفقيه العظيم والمحدث الكبير الشيخ يوسف نجل العلامة الكبير الحجة العلم
الأوحد الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عصفور بن أحمد بن
عبد الحسين بن عطية بن شيبة الدرازي البحراني.
كان مولده بقرية (ما حوز) حيث كان قد هاجر شيخنا الأوحد الشيخ أحمد
ترجمة المؤلف 7

(والد المؤلف) من موطنه (دراز) إليها لينهي دراسته العالية علي شيخه المحقق الكبير
الشيخ سليمان الماحوزي، وكان قد حمل معه عياله، فألقى رحله مستوطنا هناك عاكفا "
على الأخذ والتحصيل من شيخه المومأ إليه، وفي مدة استقامته ولد له شيخنا المؤلف
عام 1107.
حياته
نشأته - دراسته - تخرجه:
وحيث كان أول ذكر ولد لأبيه، اختص به جده لأبيه التاجر الصالح الكريم
الحاج إبراهيم (وكان تاجرا " له سفن وعمال يمتهن غوص اللؤلؤ، ويتعاطى تجارته
واصداره) فشب ودرج في حجر جده البار. ونشأ وترعرع تحت كلاءته، فأحضر
له معلما " في البيت يعلمه القراءة والكتابة حتى أتقنهما، فقام والده بتدريبه وتربيته
بكل عطف وحنان، وتصدى لتدريسه وتعليمه، وتولى ذلك بنفسه محافظا " عليه يوليه
عنايته وتوجيهه، فطفق يلقي عليه الدروس الآلية، ويملي عليه المبادئ ويعلمه
العربية. ويفيض عليه العلوم الأدبية وغير الأدبية، حتى أكملها ومهر فيها، وحاز مكانته
السامية في فنون الأدب وتضلعه التام في علوم البلاغة. وسوف نستوفي البحث عنه فيما
نعقده حول (أدبه)
واستمر على ذلك يقرأ على والده ويستقى من منهله العذب ونميره الصافي إلى أن
خسرته الأمة عامة وخسره هو خاصة (تغمده الله برحمته)
وأن حياة شيخنا المؤلف (قدس سره) ملؤها البلايا والفتن والرزايا والمحن.
فكأنه قدر عليه من أول يومه أن يكون غرضا " للآفات والنكبات، ففوق إليه الدهر
نبال المصائب وسهام النوائب منذ نعومة أظفاره وأينما حل وارتحل إلى أن وافاه الأجل
وهو في خلال ذلك كله مكب على دراسته مجد في اشتغاله مهتم بتآليفه.
ترجمة المؤلف 8

فما إن مضت من عمره خمس سنين إلا وابتدأت الفتن والاضطرابات والحوادث
الداخلية في بلاده (البحرين) فوقعت الحروب القبلية بين القبيلتين (الهولة) و (العتوب)
وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، واستمرت هي وتبعاتها سنين.
ولما تنتهي هذه المشكلة، ولم يكد ينجو منها أهل البحرين إلا ودهموا بأعظم منها
وأشد وأخزى، إلا وهي هجمات الخوارج على البحرين كرة بعد أخرى، حتى إذا كانت
السنة الثالثة حاصروها واحتلوها عنوة، فكانت وقعة عظمي وداهية دهماء، لما وقع
من عظيم القتل والسلب والنهب وسفك الدماء وتلف الأموال. حتى اضطر وجهاء
البلد وزعماؤها إلى الجلاء عن أوطانهم فارين بعيالهم منجين أنفسهم، ومنهم: والد
المؤلف، فقد هاجر بعائلته إلى القطيف وخلف أكبر ولده (المؤلف) في ذلك المأزق
الحرج والموقف الرهيب، عساه يتحفظ على ما تبقى من بقايا النهب، وعساه يسترجع
بعضا " مما نهب من أثاث ومتاع، ولا سيما الكتب التي أخذت سلبا "، وذهبت نهبا "،
خلفه ليستنقذ الذاهب وليتحفظ على الباقي ويبعث بذلك إلى والده شيئا " فشيئا "
وبعد سنين قضاها كما مر، لحق أباه بالقطيف فجدد به العهد، وكان والده
قد سئم المقام بالقطيف ومل المكث هناك، لكثرة العيال وقلة ذات يده، وكان
قد أقلقته أنباء نوائب بلاده وأخبار حوادثها المسيئة فأشغلت فكره وأزعجته أيما إزعاج
حتى بلغه أن سرية جاءت من إيران لاستخلاص البحرين وانقاذها من أيدي الخوارج
فتربص يترقب عواقب الأمور، حتى جاء النبأ بأن الخوارج قد غلبوا الجيش الإيراني
وقتلوا الجند جميعا " وأحرقوا البلاد، وكان مما أحرقوه دارا " مشيدة وبيتا " معمورا " لوالد
المؤلف، فاتصل به نبأ احراق الدار فاغتم لذلك عما شديدا " أثر على صحته، فمرض
من ذلك وطال به المرض شهرين إلى أن وافاه أجله، واختاره الله إلى دار رحمته الواسعة
ضحوة اليوم الثاني والعشرين من شهر صفر سنة 1131.
ترجمة المؤلف 9

وكان أكبر ولده وولي الأمر بعده شيخنا المؤلف، وله إذ ذاك من العمر أربع
وعشرون سنة، فتكفل بعائلة والده على كثرتهم، وناء بأعباء ذلك الحمل الباهض،
وبقي بالقطيف سنتين يقرأ فيهما على العلامة الكبير الشيخ حسين الماحوزي، إلى أن
أخذت البحرين من الخوارج صلحا " بعد دفع مبلغ خطير، فقفل شيخنا المؤلف
إلى البحرين، ولبث بها بضع سنين ينهي دراسته على شيخيه الحجتين الشيخ أحمد
ابن عبد الله والشيخ عبد الله بن علي البلاديين البحرانيين.
وشاء الله له أن يحج البيت، وبعد رجوعه عرج على القطيف ومكث بها لقراءة
الحديث على شيخه العلامة الماحوزي المتقدم. إلى أن زوده بالإجازة في الرواية عنه، فرجع
إلى البحرين وقد ضاق به الحال، لما ارتكبه من الديون، وكثرة العيال وقلة اليسار
ولحصول الاضطرابات والمشاغبات الداخلية في البحرين، فغادرها إلى إيران بعد مقتل
الشاه سلطان حسين الصفوي.
إلى إيران.
وبعد احتلال الأفاغنة بلاد إيران وقتلهم الشاه سلطان حسين آخر ملوك الصفوية
وذهاب ملكهم، تفاقمت الاضطرابات في البحرين وعمها الفوضى واستمرت
الثورات الداخلية، حتى ألجأت شيخنا المترجم له إلى مغادرة بلاده والجلاء عن وطنه
فغادرها إلى إيران، وحل برهة في كرمان، ثم ارتحل إلى شيراز واستقر مقيما بها على عهد
حاكمها (محمد تقي خان) فعرف لشيخنا المترجم له علمه وفضله وتقاه فقربه وعظمه، ولقي
الشيخ منه حفاوة بالغة واعظاما " وتبجيلا، فلبث بها غير يسير مدرسا " وإماما "،
ناهضا " بأعباء الوظائف الشرعية، حيث ألقت إليه الزعامة الروحية مقاليدها، وتفرغ
للمطالعة والتأليف، والبحث والتدريس، والإجابة على الأسئلة الدينية، فألف جملة
من الكتب وعدة من الرسائل، على فراغ البال ورفاهية الحال ورغد في العيش،
ترجمة المؤلف 10

وما إن أمهله الدهر حتى عصفت بتلك البلاد عواصف الأيام التي لا تنيم ولا تنام،
ففرقت شملها، وبددت أهلها، ونهبت أموالها، وهتكت نساءها، ولعب الزمان
بأحوالها، فغادرها المترجم له إلى بعض القرى، واستوطن قرية (فسا) وحاكمها آنذاك
الزعيم (محمد علي) فأجل الشيخ وعظمه، فصرف أوقاته كلها فيما تتوق إليه نفسه،
وما هي أمنيته من حياته، وهي المطالعة والتصنيف والتدريس، فصنف كتبا " ورسائل
وابتدأ هناك بتصنيف (الحدائق الناضرة) واستمر فيه إلى باب الأغسال، حتى ثار
طاغية شيراز (نعيم دان خان) الثائر بها من ذي قبل في أخريات عام 1163، فنزل
بتلك البلاد أيضا " من حوادث الأقدار ما أوجب تشتت أهلها إلى الأقطار، وتفرق جمعها
إلى الصحارى والبرار، فقتل حاكمها (محمد علي) وهجم حتى على دار المترجم له وهو
مريض، ونهبت أمواله وأكثر كتبه ومؤلفاته القيمة التي هي أعز عليه من نفس وثمرات
حياته الثمينة. وفيها يقول من قصيدة تأتي:
وأعظم حسرة أضنت فؤادي * تفرق ما بملكي من كتاب
ففر منها مريضا " بعائلته صفر اليد يجوب الجبال والقفار، حتى استقر بناحية
(اصطهبانات) ولبث بها مدة يقاسي مرارات الآفات ويكابد أنواع النكبات، كما لم يزل
على ذلك طيلة حياته في بلاده واغترابه، لم تشذ عن بلدته أي بلدة لجأ إليها من (شيراز)
فقرية (فسا) فناحية (اصطهبانات) فلم يستطع الفرار منها ولم يمكنه التباعد عنها، فما
فر من بلية إلا ومني بأعظم منها، وما تخلص من رزية إلا ودهمته أدهى منها، فقضى
حياته تتعاوره البلايا وتتعاقبه الفتن، وتحوطه المصائب وتدور عليه دوائرها، ولهذا لم يكد
يوجد لشيخنا المترجم له قصيدة إلا ويذكر فيها ما عاناه من كوارث، ويعدد ما قاساه
من نكبات: منها - قصيدة بعثها من اصطهبانات إلى إخوته يشكو إليهم حاله ويصف لهم
ما حل به ملمات استهلها بقوله:
ترجمة المؤلف 11

إلا من مبلغ عصر الشباب * وشبانا به كانوا صحابي
وهي قصيدة طويلة مثبتة في كشكوله ج 2 ص 237 ننتخب منها ما يلي
وقد أصبحت في دهر كنود * به الغارات تشعل بالتهاب
وقد خلت المساكن من ذويها * فرارا " في الوهاد وفي الهضاب
مصائب قد غدت منها دواما " * دموع العين تجري بانسكاب
علتني نارها فغدوت منها * طريدا " في الصحارى والشعاب
وأعظم حسرة أضنت فؤادي * تفرق ما بملكي من كتاب
لقد ضاقت علي الأرض طرا " * وسد علي منها كل باب
طوتني النائبات وكنت نارا " * على علم بها طي الكتاب
وأجلى ظاهرة من حياة هذا الشيخ المجاهد - تلفت الأنظار وتزيد الباحث
إعجابا " به واكبارا " له - هو دؤوبه في العمل بكل حول وطول وقوة، والسعي في مهمته بكل
بهجة ونشاط، مهما بلغت به الحال في تلك الظروف القاسية والمواقف الحرجة، فتراه
في خلالها كلها مكبا " على مطالعاته، جادا " في تآليفه، دائبا " في عمله، سائرا " في نهجه،
مستمرا " في خطته، ماضيا " في مشروعه، فانيا " في مبدأه، فسبحان خالق تلك النفس
الجبارة التي لا تعرف السأم ولا الملل، ولا يعيقها شئ، ولا يحول دون ما ترومه أي
مانع، فقد أنتج من بين تلك الظروف وهاتيك الأدوار كتبا " قيمة ناهزت الأربعين
وانتشرت له من بين السلب والنهب آثارا " ثمينة ومآثر خالدة (وسوف يوافيك عدها)
وشعت من بين تلك الأدوار المظلمة والعصور الحالكة اشعاعات فضائله وفواضله،
فأنارت للقوم سبيل هداهم ومهيع رشدهم.
وإلى هذه الظاهرة لوح العلامة الجابلقي في (الروضة البهية) حيث قال: " فلينظر
المشتغلون إلى ما وقع على هذا الشيخ من البلايا والمحن ومع ذلك كيف اشتغل وصنف
تصنيفات فائقة... "
ترجمة المؤلف 12

في كربلاء
ومنذ حل اصطهبانات عزم على مغادرة بلاد إيران، وصمم على المقام بالعراق
حيث الأعتاب المقدسة، ومنبثق أنوار العلم والفضيلة، فأخذ في تمهيد مقدمات سفره، فغادر
بلاد إيران ويمم العراق، فألقى رحله في كربلاء المشرفة، موطنه الأخير ومستقره الأبدي
وأنا لم نقف على تاريخ هبوطه كربلاء إلا أن الذي يظهر من تاريخ بعض تآليفه
أنه حل بها قبل عام 1169.
وقد حل شيخنا المؤلف بالحائر المقدس حين كانت تلك البلدة القدسية من أكبر
معاهد العلم للشيعة، وكانت تضاهي النجف الأشرف بمعاهدها الدينية وأعلامها
الأفذاذ، حل بها على عهد زعيمها الأوحد الأستاذ الأكبر معلم البشر شيخنا الوحيد البهبهاني
(قدس سره) مجدد المذهب في القرن الثالث عشر. فكانت كربلاء على عهد هذا
الزعيم العظيم في الغارب والسنام من المجد والعظمة، فقد بلغت ذرى عزها الشامخ،
وتسامى شرفها الباذخ، حيث كانت آنذاك مفعمة بالأوضاح والغرر من صيارفة العلم
ونقاد الفضيلة، طافحة بأعلام الأمة ورجالات الدين، محتشدة بكبار المجتهدين وأفذاذ
المحققين، ممن انعقدت عليهم تيجان العلم. ورفت عليهم ألوية الفضيلة، وخفقت عليهم
بنود الكمال
ولقد كان لشيخنا المؤلف حينذاك صيت شامخ دوى في العالم ذكره، فملأت
الأرجاء شهرته الطائلة، لما ذاع وشاع بين الملأ الديني من آثاره القيمة ومآثره الخالدة
وأسفاره الثمينة، فعرفته الأوساط العلمية وأقرانه من أعلام عصره بعلمه الغزير، وأدبه
الجم، وتضلعه في العلوم، وتبحره في الفقه والحديث، وإنما يعرف الفضل ذووه.
ولذلك لما هبط كربلاء رحب بقدومه أعلامها، وسر به فطاحلها، فتوسط أندية
العلم وحلقات التدريس، وانضوى إليه عير يسير من أولئك الأفذاذ يرتشفون من بحر
ترجمة المؤلف 13

علمه المتدفق. كأربعة من المهديين الخمسة - وهم من أشهر مشاهير تلامذة الأستاذ
الأكبر - والعلمين الحجتين صاحبي الرياض والقوانين. وغيرهم من كبار المجتهدين
ممن تخرجوا عليه، ويأتي سرد أسمائهم بأجمعهم في (تلامذته)
وازداد أولئك النياقد خبرا " بغزارة علمه وفضله، ومكانته المرموقة في الفقه
والحديث. بعد أن وقفوا عليه من كثب، ودارت بينه وبين الأستاذ الأكبر المحقق
الوحيد (نور الله ضريحهما) مناظرات كثيرة طويلة في الأبحاث العلمية العميقة، ربما
استوعب بعضها الليل كله. وقد تعرض لسرد تلك المناظرات القيمة سيدنا الحجة
أبو محمد السيد حسن الصدر في كتاب (بغية الوعاة)
فلم يفتأ منذ حل بها زعيما روحيا " يزهو به دست الزعامة والتدريس، وإماما "
في مسجده الخاص (الموجود الآن، وهو بباب الصحن السلطاني قبال مسجد زميله
الوحيد، وقد جدد بناؤه في العالم الماضي).
ولم يبرح طيلة مقامه بها - وربما بلغت العشرين سنة - مصدرا " للفتيا، ينوء بأعباء
الوظائف الشرعية والزعامة الروحية، تتقاطر عليه الأسئلة تترى من شتى النواحي النائية
ومختلف البلاد الشاسعة، فيجيب عنها بالفتوى المحضة تارة ومشفوعة بالأدلة المبسوطة
أخرى (حسب رغبة سائليها) ومدرسا " يسقى الجماهير الكثير والجموع الغفيرة من نمير
علمه وبحر فضله وأفضاله، فأكب على التدريس والتأليف والتصنيف، كما كان ذلك دأبه
أينما ترامت به يد الأقدار ومهما بلغت به الحال.
وفي خلال مقامه بها زار النجف الأشرف ولم نعلم مدة لبثه بها إلا أن
الظاهر أنه ألف كتابه الدرر النجفية في النجف الأشرف خلال مكثه بها.
مشايخه في الدراسة وشيوخه في الرواية
نحو لو استطردنا بعض القول عن تخرج شيخنا المؤلف طي نشأته، غير أن
ترجمة المؤلف 14

الأجدر به عقد بحث يخصه، فإنه (قدس سره) لم يشبع بهمته العلمية أعلام بيئته وجهابذة
بلاده، فقد كان العلم بغيته. والفقه منيته، والحديث طلبته، والحكمة ضالته
يلتقطها حيث يجدها. ويتطلبها من مظانها، فكانت له في سبيل أخذ العلم وكسب
الفضيلة تجولات ورحلات إلى أمهات المعاهد العلمية في إيران والعراق، وقد اجتمع
- لا محالة - بأمة كبيرة من صيارفة العلم والفضيلة. وجهابذة الفقه والحديث من بقايا أعلام
ذلك العصر الذهبي عصر الدولة الصفوية، وهي أعظم حكومة اسلامية خدمت العلم
وأيدت رجالات الدين، وعاضدت الملأ العلمي
كما وأن شيخنا المؤلف قد حج البيت، وزار مشاهد أئمة الهدى (صلوات الله
وسلامه عليهم) وأتيحت له عدة رحلات إلى النجف الأشرف مرتكز لواء العلم والدين
وعاصمة الفقه والحديث، ومنتدى الفضيلة والأدب، ومحتشد الفطاحل والمحققين،
فالتقى بعلمائها، وتلقى من أعلامها، بل لم يكن ليقتنع بمن اجتمع به من العلماء، فكان
يستدر ضروع العلم بالمكاتبة، كما كانت له مراسلات في المعضلات العلمية مع شيخه
المحدث الجيلاني، يوجد بعضها في كشكوله، وذلك قبل زيارته له واجتماعه به، فأنتج
كله ذلك فيه تعمقا " في التفكير، ونضجا " في الرأي، وغزارة في العلم وتبحرا "
في الفقه. وتضلعا " في الحديث.
وأما الذين عدم هو من مشايخه ونص عليهم في اللؤلؤة فهم أربعة، وهم:
1 - والده العلامة الحجة العلم الأوحد الشيخ أحمد، يأتي إيعاز إلى ترجمته
في (أسرة المؤلف).
2 - العلامة الفذ الشيخ أحمد بن عبد الله بن الحسن بن جمال البلادي البحراني
المتوفى سنة 1137.
3 - المحقق الحجة الشيخ حسين ابن الشيخ محمد جعفر الماحوزي المتوفى
ترجمة المؤلف 15

عام 1171، وهو عمدة مشايخه وشيوخه في الفقه والحديث.
4 - الشيخ عبد الله بن علي بن أحمد البلادي البحراني المتوفى في شيراز
سنة 1148.
كما أن لشيخنا المؤلف في الإجازة والرواية أيضا " شيوخ أربعة يروي عنهم
بطرقهم الكثيرة المذكورة في اللؤلؤة إجازة وقراءة وسماعا "، وهم: شيخاه الأخيران.
3 - السيد عبد الله ابن السيد علوي البلادي البحراني، ومن طريقه يروي
المؤلف عن والده الشيخ أحمد.
4 - المحدث الكبير المولى محمد رفيع بن فرج الشهير بالمولى رفيعا الجيلاني،
وهو أعلى أسانيده، لأنه يروي عن العلامة المجلسي.
تلامذته.
أشرنا فيما سبق إلى أن شيخنا المؤلف ما حل بلدة يقيم بها إلا وانثال عليه لفيف
من أفاضلها المشتغلين وطلاب العلم والفضيلة، فتعقد له حلقات التدريس، يستقون
من نمير علمه ويرتوون من عباب فضله، إلا أنه من المؤسف جدا " أن التاريخ أهمل
الجميع ممن تخرجوا عليه في بلاد إيران ولا سيما معهدها الديني (شيراز) كما أنه قصر
في ضبط الكثير من أولئك الجموع الغفيرة الذين تخرجوا عليه في مقره الأخير
(كربلاء) وقد لبث بها زعيما مدرسا " طيلة عشرين سنة يوم كانت تعج بالألوف من العلماء
والمشتغلين. فلم نقف منهم - على كثرتهم - إلا على أفذاذ، وهم:
1 - الرجالي الشهير أبو علي الحائري محمد بن إسماعيل مؤلف منتهى المقال.
2 - المحقق القمي ميرزا أبو القاسم صاحب القوانين.
3 - السيد أحمد العطار البغدادي المتوفى سنة 1215
4 - السيد أحمد الطالقاني النجفي المتوفى سنة 1208.
ترجمة المؤلف 16

5 - الشيخ أحمد الحائري
6 - الشيخ أحمد بن محمد ابن أخي المؤلف تأتي ترجمته في (أسرة المؤلف).
7 - الأمير السيد عبد الباقي بن مير محمد حسين الخواتون آبادي سبط
العلامة المجلسي.
8 - الشيخ حسن ابن المولى محمد علي السبزواري الحائري
9 - الشيخ حسين بن محمد ابن أخي المؤلف ومتمم (الحدائق) تأتي ترجمته
في (أسرة المؤلف).
10 - السيد شمس الدين المرعشي الحسيني النسابة المتوفى سنة 1200 وهو جد
سيدنا الحجة السيد شهاب الدين المرعشي.
11 - الشيخ علي بن علي التستري.
12 - الشيخ علي بن رجب علي.
13 - الشيخ محمد علي الشهير ب‍ (ابن السلطان)
14 - الأمير السيد علي الحائري صاحب الرياض.
15 - الشيخ محمد بن علي التستري الحائري
16 - الحاج معصوم.
17 - آية الله السيد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212.
18 - المحقق النراقي المولى محمد مهدي الكاشاني مؤلف (مستند الشيعة)
19 - آية الله السيد ميرزا مهدي الشهرستاني.
20 - السيد ميرزا مهدي بن هداية الله الأصفهاني الخراساني الشهيد سنة 1216
أستاذ بحر العلوم في الفلسفة، وهو الذي لقبه، (بحر العلوم)
21 - الحاج ميرزا يوسف الطباطبائي المرعشي القاضي التبريزي المتوفى 1242.
ترجمة المؤلف 17

الراوون عنه
غير خفي على من له إلمام بطرق الروايات ومشيخة الإجازات، أن شيخنا
المؤلف من عقود جمانها، فقد انتهت إليه سلاسل الإجازات وحلقات الروايات،
وقد أثبتها شيخنا الحجة العلامة النوري في (خاتمة مستدركه) وتلميذاه الشيخان العلمان
الرازيان شيخنا الحجة ميرزا محمد العسكري مؤلف (المستدرك على البحار) المتوفى في 28 ج 1
سنة 1371 في الأجزاء الثمانية من المستدرك على إجازات البحار، وشيخنا المحقق البحاثة
الشيخ آقا بزرك صاحب الذريعة دام ظله في (إجازات القرون الثلاثة) و (الاسناد
المصفى إلى آل المصطفى)
وإليك السماء من وقفت عليه ممن أجاز لهم شيخنا المؤلف، فروينا بطرقنا
إليهم عنه وهم:
1 - الشيخ أحمد ابن الشيخ حسن بن علي بن خلف الدمشقاني.
2 - الشيخ أحمد بن محمد، ابن أخي المؤلف.
3 - السيد الأمير عبد الباقي الحسيني الخواتون آبادي الأصفهاني سبط العلامة
المجلسي وشيخ إجازة بحر العلوم.
4 - الشيخ حسين ابن الشيخ محمد، ابن أخي المؤلف واحد المجازين بلؤلؤة
البحرين لقرتي العينين.
5 - الشيخ خلف ابن الشيخ عبد علي، ابن أخي المؤلف والثاني من المجازين
باللؤلؤة، تأتي له ترجمة في (أسرة المؤلف)
6 - الشيخ زين العابدين ابن المولى محمد كاظم، كتب له إجازة على كتاب
التهذيب تاريخها 1168.
7 - الشيخ سليمان بن معتوق العاملي.
ترجمة المؤلف 18

8 - السيد شمس الدين النسابة الحسيني التبريزي المتوفى 1200.
9 - السيد عبد العزيز بن أحمد الموسوي النجفي، تاريخ إجازته 1167.
10 - السيد عبد الله بن السيد علوي الموسوي الغريفي البحراني الشهير ب‍ (عتيق
الحسين) عليه السلام القاطن في بهبهان، ويروي عنه بالإجازة المدبجة، تاريخ الإجازة
عام 1153، وقد تقدم ذكره في شيوخ المؤلف، وصورة الإجازة عند العلامة السيد
شهاب الدين المرعشي.
11 - الشيخ علي بن حسين بن فلاح البحراني.
12 - الشيخ علي بن محمد بن علي بن عبد النبي بن محمد ابن الشيخ سليمان
المقابي البحراني
13 - الأمير السيد علي الحائري صاحب الرياض ابن أخت الوحيد البهبهاني.
14 - علي بن موسى البحراني.
15 - الشيخ محمد علي الشهير ب‍ (ابن السلطان).
16 - الشيخ محمد بن الحسن البحراني
17 - الحاج معصوم.
18 - المولى محمد مهدي الفتوني: من شيوخ إجازة بحر العلوم.
19 - المولى محمد مهدي النراقي صاحب (المستند) و (جامع السعادات) وغير هما.
20 - آية الله السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي المتوفى 1212، يوجد نص
الإجازة ذيل فوائده الرجالية.
21 - آية الله السيد ميرزا مهدي الشهرستاني
22 - السيد ميرزا مهدي الرضوي الخراساني الشهيد سنة 1216، كما نص
عليه في إجازته للسيد دلدار علي الهندي.
ترجمة المؤلف 19

23 - الشيخ موسى بن علي البحراني.
24 - الشيخ ناصر بن محمد الجارودي الخطي البحراني.
جمل الثناء وحلل الاطراء
وهؤلاء أصحاب المعاجم وأرباب التراجم مصفقين على اكبار المؤلف والثناء عليه
ممن عاصره إلى اليوم، وإليك نصوص جملة منهم، فمنهم:
1 - تلميذه أبو علي الحائري مؤلف منتهى المقال المشهور ب‍ (رجال أبي علي)
قال في ترجمة المؤلف: عالم فاضل متبحر ماهر متتبع محدث ورع عابد صدوق دين،
من أجلة مشايخنا وأفاضل علمائنا المتبحرين. وبعين ما مر كلام العلامة المامقاني في تنقيحه
2 - وقال تلميذه الأمير عبد الباقي سبط العلامة المجلسي في منتخب لؤلؤة
البحرين: كان فاضلا عالما محققا " نحريرا " مستجمعا للعلوم العقلية والنفلية.
3 - وقال المحقق الكبير الشيخ أسد الله التستري في مقابسه: العالم العامل
المحقق كامل، المحدث الفقيه، المتكلم الوجيه، خلاصة الأفاضل الكرام،
وعمدة الأماثل العظام، الحاوي من الورع والتقوى أقصاهما، ومن الزهد والعبادة
أسناهما، ومن الفضل والسعادة أعلاهما، ومن المكارم والمزايا أغلاهما، الرضي
الزكي التقي النقي، المشتهر فضله في أقطار الأمصار وأكناف البراري، المؤيد
بعواطف ألطاف الباري.
4 - وقال المحقق الخوانساري صاحب الروضات: العالم الرباني والعامل
الانساني شيخنا الأفقه الأوحد الأحوط الأضبط، صاحب الحدائق الناضرة، والدرر
النجفية، ولؤلؤة البحرين، وغير ذلك من التصانيف الفاخرة الباهرة التي تلذ بمطالعتها
النفس، وتقر بملاحظتها العين، لم يعهد مثله من بين علماء هذه الفرقة الناجية في التخلق
بأكثر المكارم الزاهية، من سلامة الجنبة، واستقامة الدربة، وجودة السليقة
ترجمة المؤلف 20

ومتانة الطريقة، ورعاية الاخلاص في العلم والعمل، والتخلي بصفات طبقاتنا الأول،
والتخلي عن رذائل طباع الخلف الطالبين للمناصب والدول.
5 - وقال العلامة المحدث ميرزا محمد النيسابوري الأسترآبادي في رجاله:
كان فقيها " محدثا " ورعا ".
6 - وقال مؤلف نجوم السماء في تراجم العلماء ما معربه: صاحب الحدائق
من العلماء المتأخرين، والكمل المحدثين، والفقهاء المتبحرين، وأعاظم أصحاب
الدين، وأرباب الانصاف والاعتدال بين طريقتي الأصوليين والأخباريين.
7 - وقال العلامة المولى شفيع الجابلقي في إجازته الكبيرة المسماة ب‍ (الروضة البهية،
في الإجازات الشفيعية): أما الشيخ المحدث المحقق الشيخ يوسف (قدس سره) صاحب
الحدائق فهو من أجلاء هذه الطائفة، كثير العلم، حسن التصانيف، نقي الكلام
بصير بالأخبار المروية عن الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) يظهر كمال
تتبعه وتبحره في الآثار المروية بالنظر إلى كتبه سيما الحدائق الناضرة، فإنها حقيق أن
تكتب بالنور على صفحات وجنات الحور، وكل من تأخر عنه استفاد من الحدائق
الناضرة (جزاه الله عن الاسلام وأهله أفضل جزاء المحسنين) وكان ثقة ورعا " عابدا "
زاهدا "... وبالجملة هذا الشيخ من فحول العلماء الأجلة، فلينظر إلى ما وقع على هذا
الشيخ من البلايا والمحن، ومع ذلك كيف أشغل نفسه وصنف تصنيفات فائقة؟
8 - وقال العلامة الكبير المحدث النوري في خاتمة مستدركه في عد مشايخ
بحر العلوم: سابعهم العالم العامل المحدث الكامل الفقيه الرباني...
9 - وقال العلامة المولى حبيب الله الكاشاني، في كتابه لباب الألقاب:
صاحب الحدائق الناضرة وكان عالما " فاضلا محدثا " متتبعا " أخباريا ".
10 - وقال في الدرر البهية: كان فاضلا محققا " مدققا "، لم يكن له في عصره
ترجمة المؤلف 21

ثاني، لقد صنف فأكثر، واشتهرت مصنفاته وكتبه.
وقال العلامة الشيخ علي البحراني مؤلف أنوار البدرين في تراجم علماء الأحساء
والقطيف والبحرين: العالم العامل الجليل، الفاضل الكامل النبيل، عديم النظير
والمثيل، العلامة المنصف الرباني الشيخ، الأجل الشيخ يوسف.... صاحب الحدائق الناضرة
وغيره من المصنفات الفاخرة، شيخ مشايخ العراق والبحرين، العري من كل
وصمة وشين:
وقال: هذا الشيخ العلام من أكابر علماء الأديان والإسلام، ومن أكبر
أعاظم أرباب النقض والابرام، وقد ذكره كل من تأخر عنه وأثنوا عليه الثناء الجميل
علما " وعملا وتقوى ونبلا... وبالجملة فهذا الشيخ من أعاظم العلماء الأعلام وأكابر
أساطين علماء الاسلام.
11 - وقال خاتمة المحدثين العلامة القمي في الفوائد الرضوية ما معربه: هو
الشيخ العالم العابد العامل، والمحدث الورع الكامل، الفاضل المتبحر الجليل، المتتبع
الماهر النبيل، مرجع الفقهاء الأعلام، وفقيه أهل البيت عليهم السلام، عالم رباني،
وفقيه بحراني، صاحب التصانيف الرائقة النافعة الجامعة التي أحسنها الحدائق الناضرة
في أحكام العترة الطاهرة، وهو كتاب جليل في الغاية كثير النفع.
وقال أيضا في (هدية الأحباب): عالم فاضل محدث ورع كامل، مرجع
الفقهاء الأعلام فقيه أهل البيت عليهم السلام.
12 - وقال شيخنا الحجة المحقق الفذ العلامة الأميني متع الله الأمة ببقائه في
شهداء الفضيلة: فقيه الطائفة ومحدثها الكبير الشيخ يوسف بن أحمد، وكتابه
(الحدائق) الدائر السائر بين الفقهاء ينم عن غزارة علم مؤلفه وتضلعه في العلوم
وتبحره في الفقه والحديث، كما يشف كتابه (لؤلؤة البحرين) عن سعة اطلاعه على أحوال
الرجال وطرق إجازات المشايخ...
ترجمة المؤلف 22

13 - وقال العلامة الخياباني في ريحانة الأدب في المعروفين بالكنى واللقب:
عالم رباني، فقيه جليل، محدث نبيل، محقق مدقق، علامة متبحر، عابد زاهد
متدين، متخلق بمكارم الأخلاق، حاز غاية الشهرة في العلم والعمل وجودة السليقة.
14 - وقال العلامة ابن يوسف، في فهرست مكتبة سپهسالار ج 1 ص 399:
هو من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين.
15 - وقال مترجمه في مقدمة الحدائق المطبوعة في إيران (تبريز) سنة 1315:
وممن صرف لخدمة هذا العلم (الفقه) أيامه، واشتغل بتحقيقه شهوره وأعوامه، وكان
ممن قدح في زند الفضل فأورى، وجمع من نكات العلم فأوعى، الشيخ الجليل والحبر النبيل
فريد عصره ووحيد دهره، الجامع بين رتبتي الرواية والدراية، والرافع من ألوية الفضائل
أرفع راية، المحقق الفاضل المدقق، ومحدث الزمان وراوية الأوان، المستخرج من تيار
أنواع العلوم غوالي اللئالي، الشيخ يوسف... فإنه رحمه الله ممن حاز في هذه الأعصر
الأواخر قصبات السبق في مضمار التحقيق، واستنزل عصم المشكلات من معاقلها فأخذ
منها المسك الفتيق، وغاص بحار الأخبار فاستخرج ما يزري باللؤلؤ الثمين، ولا غرو
في ذلك فإنه من بحرين.
تآليفه
1 - أجوبة الشيخ أحمد ابن الشيخ حسن الدمستاني البحراني
2 - أجوبة الشيخ أحمد بن يوسف بن علي بن مظفر السيوري البحراني.
3 - أجوبة المسائل البهبهانية، الواردة من بهبهان، سأله عنها السيد عبد الله
ابن السيد علوي البحراني القاطن ببلدة بهبهان، توجد عند الحجة السيد شهاب الدين
المرعشي النجفي بقم.
4 - أجوبة المسائل الخشتية، سأله عنها الشيخ إبراهيم الخشتي.
ترجمة المؤلف 23

5 - أجوبة المسائل الشاخورية، سأله عنها السيد عبد الله ابن السيد حسين
الشاخوري.
6 - أجوبة المسائل الشيرازية.
7 - أجوبة المسائل الكازرونية، وردت من كازرون من الشيخ إبراهيم
ابن الشيخ عبد النبي البحراني.
8 - أجوبة الشيخ محمد بن علي بن حيدر القطيفي، ولعلها متحدة مع التي تلوها.
9 - أجوبة المسائل النعيمية، سأله عنها الشيخ محمد بن علي بن حيدر
النعيمي (1).
10 - الأربعون حديثا ". في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) استخرجها
من كتب العامة، قال شيخنا العلامة الرازي في الذريعة ج 1 ص 431: " يقرب
من ألف بيت، أول أحاديثه مستخرج من شرح المقامات للمطرزي، يوجد في مكتبة
سردار كابلي ".
11 - أعلام القاصدين إلى مناهج أصول الدين، خرج منه الباب الأول
في التوحيد.
12 - الأنوار الحيرية، والأقمار البدرية، في جواب المسائل الأحمدية
تقرب من مائة مسألة، نسبة إلى الحير وهو الحائر الحسيني على مشرفه السلام.
(إجازة كبيرة مبسوطة) تأتي باسمها (لؤلؤة البحرين)

(1) هذه المؤلفات التسعة أوردها شيخنا الحجة العلامة الرازي دام ظله في الجزء
الثاني من موسوعته (القيمة الذريعة إلى تصانيف الشيعة في حرف الألف بعنوان
(الأسئلة...) وفي الخامس في حرف الجيم بعنوان (جوابات المسائل..) ونحن ذكرنا
هاهنا في حرف الألف بعنوان أجوبة المسائل... تبعا " لما عبر به مؤلفها في لؤلؤته.
ترجمة المؤلف 24

(أنيس المسافر وجليس الحاضر) أو بالعكس أو جليس المسافر وأنيس الخاطر
أو بالعكس، يأتي بعنوان (الكشكول).
13 - تدارك المدارك، فيما هو غافل عنه وتارك. وهو حاشية على كتاب
(مدارك الأحكام) للفقيه العاملي السيد محمد سبط الشهيد الثاني، خرج منه كتاب
الطهارة والصلاة، وعاقه عن اتمامه اشتغاله بكتابه الكبير المهم (الحدائق) وأدرج بقية
مناقشاته مع صاحب المدارك هناك.
(جليس الحاضر وأنيس المسافر، أو جليس المسافر وأنيس الحاضر) وبتصحيف
الحاضر بالخاطر فيهما، تقدمت الإشارة إليه ويأتي باسم (الكشكول)
14 - حاشية على كتابه تدارك المدارك.
15 - حاشية على شرح الشمسية في المنطق
16 - حاشية على الوافي. لشيخ العلوم العقلية والنقلية، المحدث المحقق
الفيض الكاشاني، وهي تعليقة على كتاب الصوم منه فحسب
17 - حاشية على كتابه لؤلؤة البحرين.
18 - حواش وتعاليق على كتابه الدرر النجفية، طبعت بهامش الأصل.
19 - حواش على كتاب (الحدائق) طبعت بهامش الأصل.
20 - الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة. وهو كتابنا هذا الماثل
للطبع، وقد طبع لأول مرة قبل ستين سنة استوعب طبعه أربع سنين، بوشر بطبعه
في (تبريز) من سنة 1315 إلى 1318 في ستة مجلدات وربما كان بعض دوراته في خمسة
مجلدات، وهو من كتاب الطهارة إلى كتاب الظهار، ثم تممه تلميذه وابن أخيه الشيخ
حسين، وسوف نستوفي البحث عن الكتاب فيما نعقده فيما بعد (حول كتاب الحدائق).
21 - الخطب: خطب الجمعات والأعياد، يوجد عند الحجة السيد
شهاب الدين المرعشي.
ترجمة المؤلف 25

22 - الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية، قال عنه المؤلف في (اللؤلؤة):
فهو كتاب لم يعمل مثله في فنه (1) مشتمل على تحقيقات رائقة، وأبحاث فائقة "
وقال الحائري في منتهى المقال: " وهو كتاب جيد جدا " مشتمل على علوم ومسائل،
وفوائد ورسائل، جامع لتحقيقات شريفة وتدقيقات لطيفة ".
وقال شيخنا العلامة الرازي في الذريعة ج 8 ص 140: " فيها مسائل معضلة
ورسائل ذات دقائق لطيفة " وهي سبعون درة، ربما يظهر منها أنه ألفها حين مقامه
في النجف الأشرف، فرغ من تأليفها في العشرين من ذي القعدة سنة 1177 وطبعت
سنة 1307، ومقدمات (الحدائق) الاثنتي عشرة مبثوثة في درره بتغيير يسير
23 - رسالة في تحقيق معنى الاسلام والايمان، وأن الايمان عبارة عن
الاقرار باللسان والاعتقاد بالجنان والعمل بالأركان.
24 - رسالة في حكم العصير التمري والزبيبي.
25 - رسالة في تقليد الميت ابتداء وبقاء، وفي ذيلها مقالة في اشتراط
الصيغة وعدمه في العقود.
26 - رسالة في ولاية الموصى إليه بالتزويج وعدمها، كتبها عام 1176، كتب
إلينا بهذه الرسائل الثلاث - فيما كتبه إلينا - العلامة الحجة السيد شهاب الدين المرعشي

(1) أراد بذلك استخراج القواعد الأصولية من الأحاديث وتطبيقها عليها، وجمع
ما ورد عنهم (صلوات الله وسلامه عليهم) من النتف المتفرقة في القواعد الأصولية، وقد
سبقه إلى ذلك المحدثان المتعاصران صاحبا الوسائل والبحار، فجمعها الأول في (الفصول المهمة
في أصول الأئمة) والثاني في أوائل موسوعته الكبرى لأحاديث الشيعة (بحار الأنوار)
كما ألف بعده المحدث الكبير السيد عبد الله شبر كتابا " في ذلك سماه (الأصول الأصلية) وهو لم يزل
مخطوطا " عند حفيده الحجة السيد على شبر، ونبتهل إلى المولى جل شأنه أن يقيض له من يزفه
إلى الطبع في القريب العاجل.
ترجمة المؤلف 26

النجفي دام ظله، وذكر أنها موجودة في مكتبته بخط أحد تلامذة المؤلف.
27 - سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد والرد عليه في شرحه
لنهج البلاغة، وقدم له مقدمة شافية في الإمامة تصلح أن تكون كتابا مستقلا، خرج
منه جزآن.
28 - الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب
29 - الرسالة الصلاتية متنا " وشرحا "، فرغ منها في كربلاء عام 1170.
30 - الرسالة الصلاتية المنتخبة منها، كتبها في النجف الأشرف عام 1175.
31 - رسالة صلاتية أخرى وجيزة، ولعلها المتن للصلاتية الأولى.
32 - الصوارم القاصمة لظهور الجامعين بين ولد فاطمة، حرم فيها الجمع
بين فاطميتين، فرغ منها عام 1169، ولم يشاركه فيه غير شيخنا الحر (قدس سره)
وقد تفرد هو فحكم بالبطلان وعدم وقوع العقد، وللأستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني
(قدس سره) رسائل متعددة في الرد عليه: مختصرة ومطولة، وكذا لولده رسالة مبسوطة
جيدة في الرد عليه، ولبعض المشايخ الأزكياء أيضا " رسالة وجيزة في الرد عليه، وهذه
الرسائل الأربع للمؤلف بخط أحد تلامذته توجد عند سيدنا الحجة السيد شهاب الدين
المرعشي النجفي دام ظله، وفي آخر الرسالة الأخيرة تقريظ وجيز من العلامة الكبير
الشيخ محمد مهدي الفتوني العاملي، وإليك نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم أن ما كتبه شيخنا العلامة متعه الله بالصحة والسلامة،
هو التحقيق الذي هو بالقبول حقيق، والعمل على ما استند إليه وعول عليه، سيما
على طريقتنا المثلى وسنتنا الفضلى من العمل على مضمون الأخبار وإن لم يقل به أحد
من الفقهاء الأخيار، وكتب الأقل محمد المهدي الفتوني.
33 - عقد الجواهر النورانية في أجوبة المسائل البحرانية، سأله عنها
الشيخ علي بن الحسن البلادي
ترجمة المؤلف 27

34 - قاطعة القال والقيل في انفعال الماء القليل، تعرض فيها للنقاش العلمي
مع إمام المعقول والمنقول المحقق المحدث الفيض الكاشاني (قدس سره)
35 - الكشكول، اسمه جليس الحاضر وأنيس المسافر كما في اللؤلؤة.
أو أنيس المسافر وجليس الخاطر كما هو المطبوع على الكشكول وفي جزئيه الأول والثاني
وقد وقعت تصحيفات في اسمه كما مر الايعاز إليه. لكنه اشتهر بكشكول الشيخ
يوسف، وقد طبع في بمبئ عام 1291.
36 - كشف القناع عن صريح الدليل في الرد على من قال في الرضاع
بعموم التنزيل، ناقش فيه أدلة سلطان المحققين المولى العماد (مير داماد) في القول بعموم
المنزلة، ألفه في شيراز سنة 1149، توجد منه نسخة في مدرسة البادكوبي في كربلاء.
37 - الكنوز المودعة في اتمام الصلاة في الحرم الأربعة.
38 - الكنوز المودعة في اتمام الصلاة في الحرم الأربعة.
38 - لؤلؤة البحرين في الإجازة لقرتي العينين، وهي إجازة كبيرة
مبسوطة كتبها لابني أخويه: الشيخ حسين ابن الشيخ محمد والشيخ خلف ابن الشيخ
عبد علي. تشتمل على تراجم أكثر علمائنا من عصره إلى عصر الصدوقين، يعرف منها
تتبعه في الرجال وإحاطته بالتراجم. وعلى اللؤلؤة حواش ثلاث:
1 - حواش وتعليقات للمؤلف نفسه كما مر ذكرها.
2 - حاشية عليها للميرزا محمد التنكابني مؤلف قصص العلماء
3 - حاشية عليها للميرزا محمد بن عبد النبي بن عبد الصانع النيشابوري الهندي
الأخباري المقتول سنة 1232.
ولخصها وانتخب منها تلميذ المؤلف الأمير عبد الباقي سبط العلامة المجلسي
39 - اللئالي الزواهر في تتمة عقد الجواهر، في أجوبة مسائل لذلك السائل،
وهي اثنتان وعشرون مسألة، فرغ منها في جمادى الثانية عام 1173 في كربلاء.
ترجمة المؤلف 28

40 - الرسالة المحمدية في أحكام الميراث الأبدية، كتبها للشيخ محمد
ابن الشيخ أحمد البحراني، توجد نسخة من هذه الرسالة والتي قبلها بالمكتبة الجعفرية
العامة في المدرسة الهندية في كربلاء
41 - المسائل، أحال إلى كتابه هذا في المقدمة الثانية من حدائقه راجع ج 1 ص 24
42 - معراج النبيه في شرح من لا يحضره الفقيه.
43 - مناسك الحج، موجودة عند الشيخ محمد صالح البحراني.
44 - ميزان الترجيح في أفضلية القول فيما عدا الأوليين بالتسبيح، توجد
عند الحجة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي.
45 - النفحات الملكوتية في الرد على الصوفية.
حول كتاب الحدائق
قدمنا بعض القول حول الكتاب في (التمهيد) وأرجأنا انهاء القول إلى هذا
المقام، ولكن الكتاب بنفسه وبشهرته الطائلة وصيته الطائر غني عن أن نحوم حوله
فضلا عن الاسهاب في الاطراء، أضف إلى ذلك ما يؤثر عن أعلام الأمة وفقهائها
من عقود ذهبية وجمل عسجدية وكلم خالدة في الثناء عليه، وسيوافيك شذور
من كلماتهم، فهو كتاب جامع مبسوط لم يعمل مثله في بابه في كتب الأصحاب قبله، وقد
عمله مؤلفه لكي يغني رواد عن سبر غيره من كتب الفقه والحديث والاستدلال (1)
ولا بدع، فإنه أول مجموعة فقهية ومدونة كبرى في الفرائض والسنن تحوي جل الفروع إن
لم يكن كلها، وتضم في طيها الأقوال والآراء وأصول الدلائل، وحوت بين دفتيها
جميع ما ورد من الأحاديث عن الصادع الكريم وأئمة العترة الطاهرة - صلوات الله
وسلامه عليه وعليهم - في الأحكام الشرعية، وقد انبرى لكلمات الفقهاء وما فهموه

(1) من كلام للمؤلف يأتي تمامه بلفظه.
ترجمة المؤلف 29

من الروايات فأفتوا بمؤدى اجتهادهم ونتيجة أنظارهم ومحصل استنباطهم، وافق الشهرة
القائمة والاجماع بقسميه أو خالف، ثم ضم إلى كل رأي أدلته وأضاف إلى كل قول مستنده
وما يؤيده ويدعمه، ثم حاول نقاشها بما يمكن أن يورد عليها من نقود ومؤاخذات،
فإن تم عنده دليل ورأي الشبهة مزيفة ردها وأبطلها، وأحكم الدليل وأثبته واختار ما أدى
إليه اجتهاده، كأنه يلمسك الحقائق بيده أو ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، وبذلك
أعجب من تأخر عنه من جهابذة الفقه وصيارفة الفن ومهرته ما وجدوه في طيه من علم غزير،
وفضل كثار، وفقاهة ودراية، وتضلع في فنون الحديث، وتبحر في الفقه،
وتتبع في الآراء واطلاع على الفتاوى، وحيطة بالأدلة واستقصاء فيها، وخبرة بمعاقد
الاجماع وموارد الشهرة، ومقدرة على البحث وقوة في البرهنة، وتثبت في الحكم،
وتعمق في التفكير، ونضج في الرأي، وما هنا لك من دقة وتثبت وتحقيق، فإن
قال فقول فصل، وإن احتج فبرهنة صادقة، وإن صدع فبالحق الصراح، وإن
جنح فإلى الحقيقة الراهنة، فهو حين يفيض الحجج فكالسيل المنحدر، من شاهق،
وإذا حل مشكلة فكأن الاشكال لم يطرقها، وإذا دحض شبهة فهي كالريشة في مهب
الريح، كل ذلك ببيان سهل وكلام منسجم، وقول جزل معتضد بالمنطق، فأصبح
وطلبة الفقيه، وغاية المحدث، وضالة المجتهد المحقق، فخلد الكتاب لمؤلفه - على
صفحة الدهر وغرة الزمن وسجل الخلود - ذكرا " لا يبلى وعظمة لا يخلقها مر الجديدين
وكان بذلك في الطليعة من ناشري ألوية الفقه، وعاقدي بنوده، ومنظمي صفوفه،
وقائدي كتائبه، وسائقي مقانبه، وجامعي شوارده، كما تقدمت جمل الثناء
عليه، فمن الحري أن توقف الباحث على نزر يسير مما جاء حول الكتاب.
الثناء عليه
1 - قال المؤلف في اللؤلؤة: وكتابنا هذا - بحمد الله سبحانه - لم يعمل
ترجمة المؤلف 30

مثله في كتب الأصحاب، ولم يسبق إليه سابق في هذا الباب، لاشتماله على جميع
النصوص المتعلقة بكل مسألة. وجميع الأقوال، وجملة الفروع التي ترتبط بكل مسألة،
إلا ما زاغ عنه البصر وحاد عنه النظر، إلى أن قال رحمه الله: وبالجملة، فإن قصدنا
فيه إلى أن الناظر فيه لا يحتاج إلى مراجعة غيره من الأخبار ولا كتب الاستدلال،
ولهذا صار كتابا " كبيرا " واسعا " كالبحر الزاخر باللؤلؤ الفاخر.
2 - وقال تلميذ المؤلف الرجالي الكبير أبو علي الحائري في (منتهى المقال):
هو كتاب جليل لم يعمل مثله جدا "، جمع فيه الأقوال والأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار.
3 - وقال المحقق التستري في المقابس: وله تصانيف كثيرة كأنها الخرائد
وتآليف غزيرة أبهى من القلائد: منها - وهو أشهرها - كتاب الحدائق.
4 - وقال المحقق الخوانساري في الروضات: صاحب الحدائق الناضرة،
والدرر النجفية، ولؤلؤة البحرين، وغير ذلك من التصانيف الفاخرة الباهرة، التي
تلذ بمطالعتها النفس، وتقر بملاحظتها العين.
5 - وقال مؤلف الدرر البهية: لقد صنف فأكثر، واشتهرت مصنفاته وكتبه
لا سيما (الحدائق) فإنه كتاب لم يكن له نظير، ولا ينبئك مثل خيبر.
6 - وقال مؤلف الروضة البهية: صاحب الحدائق، فهو من أجلاء هذه
الطائفة، كثير العلم، حسن التصانيف، نقي الكلام، بصير بالأخبار المروية عن
الأئمة المعصومين (صلوات وسلامه عليهم أجمعين) يظهر كمال تتبعه وتبحره في الآثار
المروية بالنظر إلى كتبه، سيما (الحدائق الناضرة) فإنها حقيق أن تكتب بالنور على
صفحات وجنات الحور، وكل من تأخر عنه استفاد من الحدائق الناضرة.
7 - وقال شيخنا العلامة النوري: وله تصانيف رائقة نافعة جامعة، أحسنها
الحدائق الناضرة، ثم الدرر النجفية.
ترجمة المؤلف 31

8 - وقال خاتمة المحدثين الشيخ عباس القمي في الفوائد الرضوية: صاحب
التصانيف الرائقة النافعة الجامعة التي أحسنها الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة،
وهو كتاب جليل في الغاية كثير النفع.
9 - وقال مؤلف أنوار البدرين: صاحب الحدائق الناضرة وغيره من
المصنفات الفاخرة
10 - وقال شيخنا الحجة المحقق الأكبر العلامة الأميني - متعنا الله ببقائه -
في شهداء الفضيلة: وكتابه (الحدائق) الدائر السائر بين الفقهاء ينم عن غزارة علم مؤلفه
وتضلعه في العلوم وتبحره في الفقه والحديث.
11 - وقال العلامة الجليل ابن يوسف الشيرازي في فهرست مكتبة سپهسالار:
كتاب الحدائق من خيرة الكتب الفقهية للشيعة، يجمع بين دفتيه جميع الفتاوى الفقهية
وأدلتها من الآيات والأخبار، ولهذا حظي بالقبول من أعلام الأمة وفقهائها بأجمعهم
على اختلاف أذواقهم
12 - وقال مترجمة في مقدمة الطبعة الأولى من الحدائق: ومن جملة ما أفرغه
في قالب التصنيف وألفه في غاية الأحكام والترصيف، هو كتاب الحدائق الناضرة في
أحكام العترة الطاهرة، وهو لعمري كتاب حوى ما لم يحوه كتاب، ومؤلف جمع ما لم
يجر في خطاب، فصل المسائل فتفضل، وطول الدلائل فتطول، فكم فيها من أزهار
نكات تزري على زهر الروض المطلول. وأنوار أبحاث يخجل عندها نور الربيع وإن أتى
بالوجه المصقول، وشوامخ معضلات كانت تزول عنها ظفر الطائر فارتقى ذراها بايراد
حججها، وبحار مشكلات كانت تقذف بالبوصى والماهر فشق بسفن التدقيق لججها.
فهو كتاب جامع للأدلة والأقوال، حاو للفروع الكثيرة، حسن الترتيب،
يشتمل على أبحاث لطيفة ومسائل شريفة.
ترجمة المؤلف 32

وأما جمل الثناء عليه في غضون الكتب الفقهية فكثيرة يعسر استقصاؤها،
يعثر عليها المتصفح فيها، فإن الكتب الفقهية مشحونة بالنقل من كلماته، ومملوءة
بآرائه وحججه، فقد أضحى الكتاب منذ أن أفرغ في قالب التأليف شرعة لو راد
الفقه ونجعة لرواده، أكب عليه الفقهاء، وتداولته الأوساط العلمية وأنديتها بكل إكبار
واعجاب ولا تكاد تجد فقيها إلا ويأخذ منه ولا كتابا فقهيا " إلا وينقل عنه، حتى أن
بعضهم كان مغرما " به بحيث كان ينقل منه نصف الصفحة والأكثر بنص عباراته في كتابه (1)
ولشدة اعتدادهم بالكتاب وكثرة مزاولتهم له نرى لهم على الكتاب قيودا " وتعاليق،
وكتبوا عليه شروحا " وحواشي. وإليك جملة مما عثرنا عليه من التعاليق والحواشي منها:
1 - حاشية للمؤلف نفسه، وهي تعاليق كثيرة طبعت بهامش الأصل
في الطبعة الأولى وفي ذيله في هذه الطبعة، وهي التي يرمز إليها بكلمة (منه).
2 - حاشية لتلميذ المؤلف الفقيه الشهير السيد علي الطباطبائي الحائري مؤلف
(الرياض) المتوفى 1231 والمدفون مع المؤلف ومع خاله الوحيد البهبهاني في الرواق.
3 - حاشية للسيد ميرزا إبراهيم الفسائي الشيرازي حفيد العلامة الجليل السيد
علي خان الكبير، توجد نسخة منها في (مكتبة كاشف الغطاء).
4 - حاشية للسيد إبراهيم بن محمد الموسوي الدزفولي الكرمانشاهي الحائري
المتوفى قبل عام 1300، توجد نسخة منها عند شيخنا العلم الحجة العلامة الرازي دام ظله.
5 - حاشية للعلامة الفاضل المعاصر ابن يوسف الحدائقي الشيرازي
من أحفاد المؤلف.
6 - حاشية لشيخنا العلامة المحقق الحجة الشيخ محمد تقي الإيرواني دام بقاؤه

(1) وهو السيد أسد الله الأصفهاني نجل الزعيم العظيم حجة الاسلام الشفتي الأصفهاني
راجع ترجمته في الكرام البررة ج 1 ص 126.
ترجمة المؤلف 33

وقد تصدى للتعليق على الكتاب بعد تحقيقه وتصحيحه، وأتعب نفسه في تخريج
أحاديثه، ومراجعة رجالها وأسنادها وتصحيحها على مصادرها، وتفضل باخراج
الكتاب على أجمل صورة وأحسن هيئة، هي التعاليق غير المرموزة في هذه الطبعة.
كما أن هناك أفذاذ لم يرقهم مواضع من الكتاب، فكتبوا عليه شروحا "
وتناولوه بالنقاش الفني، وحاولوا معه الحجاج العلمي بكل أدب في التعبير وحرية في الرأي
والتفكير، نذكر منهم:
1 - المحدث المحقق السيد محسن الأعرجي الكاظمي المتوفى سنة 1227،
شرح مقدمتين من مقدمات (الحدائق) الاثنتي عشرة، وربما ناقشه في شئ من المسائل،
2 - العلامة الفاضل آقا محمود بن آقا محمد علي الكرمانشاهي المتوفى عام 1269
حفيد المحقق الوحيد البهبهاني، شرح مقدمات الحدائق وسماه (الجنة الواقية)
3 - الرد على مقدمات الحدائق، لبعض الأعلام عنوانه (قال - أقول) فيه
عدة سؤالات تنتهي إلى ثلاثة وعشرين سؤالا.
تتميم الحدائق
ومن المأسوف عليه جدا " أن القضاء المحتوم لم يمهله حتى يبلغ أقصى آماله، ويتمم
كتابه (الحدائق)، وحالت المنية دون هذه الأمنية، فاخترمه الأجل ولما يكتب
الفقه دورة كاملة، وبقيت بتراء ناقصة، بلغ في تأليفه - على الرغم من دؤوبه وكثرة
جهوده في ذلك وعظيم اهتمامه به - إلى كتاب الظهار. غير أن ابن أخيه وتلميذه الأجل
شيخنا الفاضل المدقق الشيخ حسين كتب بعد عمه (كتاب عيون الحقائق الناظرة في تتميم
الحدائق الناضرة) وربما تحذف كلمة (العيون) طبعت في النجف الأشرف عام 1354،
وهذا المطبوع يحتوي على تسعة من كتب الفقه، وهي: الظهار، الايلاء، اللعان،
العتق، الاقرار. الجعالة، الأيمان، النذر، الكفارات. وبعضهم سمى
الكتاب (الحقائق الفاخرة) ولعله اسم للجزء الثاني منه إلى آخر الفقه. نسأله تعالى
ترجمة المؤلف 34

التوفيق لطبع التتميم واتمام هذه الطبعة به إن شاء الله. وتأتي ترجمة مؤلفه وسرد بعض
تآليفه في (أسرة المؤلف).
أدبه
من سبر تآليف شيخنا المؤلف ولاحظ آثاره العلمية، وقف على مكانته الأدبية
السامية، وبهره ما يراه من بلاغة البيان، وانسجام الكلام، وجزالة القول،
وجودة السرد، وحسن الأسلوب، وعلم أن لمؤلفها اليد الطولى في العلوم الأدبية،
وسعة الباع في فنون البلاغة. وهذه الناحية هي إحدى محاسن كتبه وميزات مؤلفاته
ولا سيما كتابه (الحدائق).
وللمؤلف كتاب كبير في خطب الجمعات والأعياد يضم بين دفتيه خطبا " بليغة
ومواعظ حسنة، تدل القارئ على مدى تضلعه في الأدب وفنونه، وله رسائل
بليغة ومساجلات أدبية، توجد عشرة منها في الجزء الثاني من كشكوله، ونحن الآن
نسوق للتدليل على سمو كعبه في الأدب صدر الرسالة الثالثة والرابعة ونقتصر في الأنموذج
عليه، قال: " ما الروض الأنيق المتفتحة فيه أزهار العرار والشقيق، ولا السلاف
العتيق المقتول بمختوم أريج الرحيق، بأزهر ولا أحلى، ولا ألذ ولا أشهى، من
تسليمات تتفجر من خلالها عيون الاخلاص، وتحيات يتضوع من نشرها أريج
الاختصاص... الخ ".
وقال في الأخرى: " أبهى ما نشرته أيدي الأقلام في طي الصحف والرسائل،
وأولى ما نطقت به الإنس فتضوع في أرجاء أوقات الفضائل، عرائس تسليمات
تتأرج الأرجاء بشذاها، وتتألق آفاق السماء بسناها، وخرائد دعوات تعجز الأوهام
عن نظمها في سمط التحرير، وتقصر الأفهام عن وصفها في كليات الحصر والتقرير،
وصوافي أثنية تزري بلطافة النسيم، وتنسي حلاوة التسنيم... ".
ترجمة المؤلف 35

ولم يكن أدبه مقصورا " على النثر فحسب، بل ربما جاشت عواطفه فنظم وأجاد
في نظمه، وربما تفجرت زفرات قلبه ونفثات صدره، فصاغها قريضا " بعثها إلى إخوته
وأحبته، بيد أنه لم يحفظ له من الشعر إلا ما أثبته هو في كشكوله، منه - قصيدتان
بعثهما إلى إخوته يشكو إليهم ما ألم به من حوادث وكوارث، بعث إحداهما حين
سافروا إلى الهند عام 1141، وبعث الأخرى إلى مكة رجوع أخيه العلامة
الشيخ محمد من الهند.
ومنه - تخميسه لقصيدة طويلة بعثها إليه أحد إخوانه الأخلاء، مثبتة هي
والتخميس في الكشكول ج 2 ص 338.
ومنه - قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين حين يمم العراق لزيارته (صلوات الله
وسلامه عليه) عام 1156.
وفاته ومدفنه
توفي رحمه الله بعد الظهر من يوم السبت رابع ربيع الأول عام 1186 (1) عن عمر
ناهز الثمانين، كرسه في خدمة العلم والدين، وضحاه في تدوين الفقه وتبويبه ورد
فروعه على أصوله، وقضاه: في جمع شتات أحاديث أئمة بيت الوحي (صلوات الله
وسلامه عليهم) وبثها في الملأ الديني، قدس الله روحه ونور مضجعه وجزاه عن نبيه
وعن أئمته خيرا ".
لبى - رحمه الله - نداء ربه بعد زعامة دينية ألقيت إليه مقاليدها زهاء عشرين سنة،
فما إن صوت الناعي بفقده إلا وتهافت أهل كربلاء من كل صوب وحدب على تشييع جثمانه
الطاهر، جثمان أنهكته العبادة وريضه الزهد وتقوى الله (2) وأبلاه دؤوب الأيام وسهو

(1) وقيل في عام أقوال شاذة وهي: 87، 88، 89، والأصح الأشهر
ما أثبتناه ثم الأقرب بعده إلى الصحة 87، وعليه ينطبق ما قيل من شعر في تأريخ وفاته.
(2) لم نتعرض لو صف تقواه العظيم استغناءا " بما قدمنا من كلمات أعلام الأمة
حول الثناء عليه ووصف ما كان عليه من زهد وورع وتقى.
ترجمة المؤلف 36

الليالي في فقه أئمة آل الرسول (صلوات الله وسلامه عليه وعليهم) فكان يومذاك يوما "
مشهودا "، شيعه أهل مصره على بكرة أبيهم (1) بمختلف الطبقات. وفي طليعتهم
الهيئة العلمية والطبقة الروحية، يقدمهم زعيمهم الأوحد الأستاذ الأكبر المحقق الوحيد
البهبهاني (قدس سره) وتولى تغسيله تلميذاه التقيان: الحاج معصوم والشيخ محمد علي
ابن السلطان. وصلى عليه الأستاذ الوحيد بوصية منه (قدس سره) ودفن بالحائر
الشريف بالرواق الحسيني الأطهر عند رجلي الشهداء، ودفن في جواره المحقق الوحيد
المتوفى 1208، وتلميذهما ابن أخت الوحيد سيدنا الطباطبائي (صاحب الرياض)
المتوفى 1231 (قدس الله أسرارهم) وعلى مثوى هؤلاء الأعلام صندوق خشبي.
وأقيمت له الفواتح في كربلاء المشرفة وسائر البلاد الشيعية، وفي عاصمتها
النجف الأشرف، وأول من أقام له الفاتحة بها تلميذه الأكبر سيدنا الأجل آية الله
بحر العلوم.
رثاؤه
رثاه جمع من شعراء ذلك العصر، نقتصر على قصيدة الشاعر الأديب السيد
محمد آل السيد رزين، فقد رثاه بفائية وأرخ وفاته قائلا:
يا قبر يوسف كيف أوعيت العلى * وكنفت في جنبيك من لا يكنف
قامت عليه نوائح من كتبه * تشكو الظليمة بعدد وتأسف
ك‍ (حدائق) العلم التي من زهرها * كانت أنامل ذي البصائر تقطف
وعلا الفلول (صوارما) قد أصلتت * قصفا بها زمر الأعادي تقصف

(1) بالغ في وصف ذلك التشييع العظيم من حضره ورآه بأم عينه، وهو تلميذه
الرجالي الكبير أبو علي الحائري في منتهى المقال.
ترجمة المؤلف 37

وتفصمت حلق (السلاسل) بعده * في قيدها كان المعاند يؤسف
وانحل عقد (لئالئ) الدرر التي * كانت به عنق الأفاضل تتحف
تسقى ترابك بعد صوب دموعنا * من صيب الغفران سحب وكيف
وجزيت يوسف من بقية أحمد * أجرا " لك الجنات منه تزلف
وحللت من فردوسها بمقامة * يزهو عليها العبقري ورفرف
مذ غبت عن عين الأنام فكلنا * يعقوب حزن غاب منه يوسف
فقضيت واحد ذا الزمان فأرخوا * (قرحت قلب الدين بعدك يوسف) *
وفي أنوار البدرين أن بعض الأدباء الشعراء أرخ وفاته بقوله:
(بكاء يوسف تأويل الأحاديث)
وقال العلامة البروجردي في نخبة المقال:
ويوسف بن أحمد البحراني * شيخ جليل قدرة الأعيان
له حدائق قد استوفى الخبر * وبعد (عد) قبضه (لنا ظهر)
74 * 1186
أسرة المؤلف (آل عصفور)
أن أسرة شيخنا (المؤلف) أسرة علمية جليلة نبغ فيها رجال كثيرون، يعدون
من أعلام الطائفة وأعيان الأمة، خدموا الحق والعلم والمذهب والدين، توجد تراجمهم
مبثوثة في معاجم التراجم، والذي أحصى الكثير منهم وترجم لهم هو الشيخ علي
في المجلد الأول من (أنوار البدرين) والشيخ مرزوق الشويكي في (الدرر البهية) والسيد
ابن أبي شبانة في (التكملة) وشيخنا البحاثة المحقق العلم الحجة الأميني دام بقاؤه في (شهداء
الفضيلة) ص 7 إلى 318، وشيخنا البحاثة الحجة العلامة الرازي في (الظليلة) وحيث ضاق
بنا نطلق البحث وليس بوسعنا التوسع في ترجمة كل منهم - وهم أكثر من أربعين -
ترجمة المؤلف 38

ولا يسعنا الغض عنهم بالمرة نقتصر، على عدهم وسرد أسمائهم والايعاز إلى ملخص
تراجمهم، فمنهم:
1 - والد (المؤلف) العلامة الحجة الشيخ أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني
قال العلامة الحائري في منتهى المقال: " وكان من أجلاء تلامذة شيخنا الشيخ
سليمان الماحوزي، وكان عالما " فاضلا محققا " مدققا " مجتهدا " صرفا " وقال تلميذه الشيخ عبد الله
ابن صالح السماهيجي " وهذا الشيخ ماهر في أكثر العلوم العقلية والرياضية، وهو فقيه
محدث مجتهد، له شأن كبير في بلادنا واعتبار عظيم " ولد عام 1084، وتعلم الآليات من
الشيخ أحمد بن إبراهيم المقابي، ثم قرأ على الشيخ محمد بن يوسف البحراني ثم تخرج على
العلامة المحقق الشيخ سليمان الماحوزي الشهير وكان من أجل تلامذته كما مر. وقال
في الدرر البهية: " كان فاضلا محققا " مجتهدا " صرفا لا يمل من بحث، وقد صنف فأكثر "
له كتب ورسائل عديدة، منها:
1 - رسالة في بيان حياة الأموات بعد الموت - 2 - رسالة في الجوهر والعرض
- 3 - رسالة في الجزء الذي لا يتجزأ - 4 - رسالة في الأوزان - 5 - الرسالة
الاستثنائية في الاقرار - 6 - رسالة في ثبوت الولاية على البكر البالغة الرشيدة
- 7 - رسالة في القرعة - 8 - رسالة في التقية - 9 - رسالة في شرح عبارة اللمعة
في مبحث الزوال - 10 - رسالة في مهر الزوجة عند موت الزوج قبل الدخول - 11 - رسالة
في هدم الطلقة أو الطلقتين بتحليل المحلل وعدمه، إلى آخر ما هو معدود في اللؤلؤة وغيرها
يقرب من ثلاثين مؤلفا ". زار النجف الأشرف عام 1125 والتقى بعلمائها. يروي
بالإجازة عن شيخه الشيخ سليمان الماحوزي تأريخها 1119.
توفي رحمه الله في القطيف ضحوة اليوم الثاني والعشرين من صفر 1131.
ترجم له سيدنا الأمين في أعيان الشيعة ج 8 ص 360، ويشترك مع ولده
(المؤلف) في جميع مصادر الترجمة.
ترجمة المؤلف 39

ولشيخنا المؤلف ولدان، أحدهما:
2 - الشيخ حسن، عالم فاضل، بل ذكره بعضهم في عداد تلامذة والده،
وجاء ذكره في (لباب الألقاب) وترجم له سيدنا الأمين في أعيان الشيعة، وشيخنا
الرازي في أعلامها، فقال في الكواكب المنتثرة: " رأيت بخطه حاشية المدارك تأليف
الوحيد، ومما كتب عليه: كتبه بنفسه لنفسه، جعل الله يومه خيرا " من أمسه،
وقرأه على مصنفه الأستاذ، وهو صريح في أنه من تلامذة الوحيد، ولعله تلمذ على
والده أيضا "، وكأنه توفي عام 1197 " وثانيهما:
3 - الشيخ محمد، قال المؤلف في الكشكول: " كتاب كتبه لا بني محمد ".
ترجم له الشويكي في (الدرر البهية) قال: " عالم فاضل محقق فقيه، اسمه الشيخ محمد وكان
للشيخ محمد ابنان فاضلان عالمان قد اجتمعت بهما في حدود السنة الرابعة عشرة بعد المائتين
والألف: أحدهما - الشيخ موسى، والآخر - الشيخ عبد علي، مسكنهما مع والدهما
في العجم في (فسا) ".
ولشيخنا المؤلف خمسة إخوة: الشيخ عبد الله، والشيخ عبد النبي، والشيخ علي
والشيخ عبد علي، والشيخ محمد، أما الثلاثة الأول فلم يعقبوا، وأما أخوه الرابع:
4 - الشيخ عبد علي، فهو شريك المؤلف في الدراسة والقراءة والرواية عن
المشايخ، قال في الدرر البهية: " شيخنا الأعظم الأعلم البهي الشيخ عبد علي، كان عالما "
فاضلا محققا " مدققا "، وهو من أفاضل تلمذة الشيخ محمد المقابي البحراني. له مؤلفات منها:
كتاب احياء علوم الدين في الفقه. ولد عام 1116 وتوفي في كربلاء في رجب 1177
وأعقب ولدين: أحدهما - الشيخ أحمد وترجم له أصحاب التراجم وأثنوا عليه، والثاني:
5 - الشيخ خلف ابن أخي وتلميذه المتخرج عليه والراوي عنه وأحد
قرتي العينين المجازين ب‍ (لؤلؤة البحرين) ترجم له الشويكي في (الدرر البهية) وقال عنه:
ترجمة المؤلف 40

" العالم الفاضل المحقق المدقق غائص بحار الأخبار، سكن القطيف ثم الدورق ثم المحمرة
وتوفي بالبصرة عام 1208 ودفن بالنجف الأشرف، وقال شيخنا العلامة الرازي
في (الكرام البررة): له مجموعة رسائل كانت عند شيخنا العلامة النوري، تدل
على غزارة علمه وفضله. وترجم له شيخنا الحجة الأميني في شهداء الفضيلة فقال " إنه
من أعيان علماء الطائفة، وفضلائها المحققين، له حواش كثيرة على المجلد الرابع
من بحار شيخنا المجلسي " وللشيخ خلف هذا أولاد ثلاثة: الشيخ يوسف والشيخ
أحمد والشيخ محمد، وتوفي الأخير عام 1207 وأعقب ولده الشيخ حسن، ترجم لهم
في (الدرر البهية) ووصفهم بالعلم والفضل: وقال " عاصرناهم واستفدنا منهم ".
وأما أخو المؤلف الخامس وهو:
6 - الشيخ محمد، عالم فاضل، ولد سنة 1112، ونشأ بالبحرين وتخرج بها،
يروي عن الشيخ حسين الماحوزي، ويروي عنه ولداه: الشيخ أحمد والشيخ حسين
وله مراث في الإمام السبط الشهيد، وله كتاب (مرآة الأخبار في أحكام الأسفار) ولشيخنا
المؤلف قصيدة يمدحه بها. وللشيخ محمد هذا أبناء أربعة: الشيخ عبد الله، توفي
سنة 1208. والثاني:
7 - ابن أخي المؤلف الشيخ علي، وكان متكلما فاضلا شاعرا " ماهرا ". وأعقب
الشيخ علي نجله العالم الفاضل الشيخ محمد، تولى إمامة الجمعة والجماعة والقضاء في (الشاخورة)
له مؤلفات: منها - كتاب في الأصول الخمسة ورسالة في وجوب الجمعة.
والثالث من أبناء الشيخ محمد:
8 - ابن أخي المؤلف الشيخ أحمد، قال في الدرر: " عالم فاضل فقيه محقق
مدقق " وقال شيخنا العلامة الحجة الرازي: " إنه من كبار علماء عصره، وكان مفتي
البلاد وقاضيها. يروي عنه الشيخ أحمد الأحسائي " وهو يروي عن أبيه وعن شيخيه
ترجمة المؤلف 41

وعميه: شيخنا (المؤلف) والشيخ عبد علي. وله مؤلفات وقصائد، وذكره العلامة
الكلباسي في مبحث حجية الأخبار من (إشاراته) وترجم له سيدنا الصدر في (التكملة)
وللشيخ أحمد هذا خلف واحد وهو:
9 - الشيخ محمد، قال في الدرر: " كان عالما " عاملا متكلما ماهرا " خطيبا " مفوها "، له
كتب " وخلف ابن عمه الذي مر ذكره في إمامة الشاخورة وزعامتها وقضائها.
والرابع من أنجال الشيخ محمد:
10 - الشيخ حسين ابن أخي المؤلف، وتلميذه المتخرج عليه والراوي عنه
والثاني من قرتي العينين المجازين بالإجازة الكبيرة المبسوطة (لؤلؤة البحرين) ومتمم
كتاب شيخه وعمه (الحدائق الناضرة) ترجم له تلميذه الشويكي في الدرر البهية فقال:
" هذا الشيخ أجل من أن يذكر، وفضله وشرفه أعظم من أن يشهر، قد انتهت إليه
رئاسة الإمامية حيث لم تسمع الأذان ولم تبصر الأعيان ثلا له في عصره قد بلغ النهاية وجاز
الغاية، كان محققا " مدققا " مصنفا " ماهرا " ورعا " زاهدا " أديبا ". وقال في أنوار البدين: " كان
من العلماء الربانيين، والفضلاء المتتبعين، والحفاظ الماهرين، وأجلة متأخري المتأخرين
وأساطين المذهب والدين، بل عده بعض العلماء الكبار من المجددين للمذهب على
رأس الألف والمائتين كان يضرب به المثل في قوة الحافظة. ملازما " للتدريس والتصنيف
والمطالعة والتأليف، وبالجملة فهو من أكابر علماء عصره وأساطين فضلاء دهره علما "
وعملا وتقوى ونبلا "، ونادي بحثه مملوء من العلماء الكبار ".
ترجم له شيخ أعلام الشيعة في الكرام البررة ج 1 من ص 427 إلى 429
فقال دام ظله: " كان من كبار علماء عصره ومشاهيرهم، زعيم الفرقة، وشيخها
المتقدم، وعلامتها الجليل، وكان من المصنفين المكثرين المتبحرين في الفقه
والأصول والحديث وغيرها ".
ولد عام 1147، وتخرج على عمه شيخنا المؤلف فكان قرة عينه، وكتب له إجازتين:
ترجمة المؤلف 42

صغيرة وكبيرة مبسوطة وهي (لؤلؤة البحرين في الإجازة لقرتي العينين) وأوصى إليه
بكتبه، ولذلك تصدى لتتميم (الحدائق) وسماه (عيون الحقائق الناظرة في تتميم
الحدائق الناضرة) وقد طبع في النجف الأشرف عام 1342، وله زهاء بضع وثلاثين تأليفا "،
عدها له مترجموه وعد بعضها في بعض إجازاته: منها - النفحة القدسية، ومنها - الفرحة
الأنسية (مطبوعتان) وله مفاتيح الغيب والتبيان في تفسير القرآن، والأنوار اللوامع مع
شرح مفاتيح الشرائع للفيض الكاشاني في عدة مجلدات ولخصه بعض تلامذته، وغير ذلك
من الكتب والرسائل في مختلف العلوم، وله ديوان في رثاء الحسين (عليه السلام)
ومنظومتان في الفقه وأصول العقائد، ومنظومة أخرى في النحو
ويروي أيضا " عن أبيه الشيخ محمد وعن عمه وأبي زوجته الشيخ عبد علي.
ويروي عنه جماعة: منهم - الشيخ عبد المحسن اللويمي، والشيخ على ابن الشيخ عبد الله
الجد حفصي، والشيخ محمد بن خلف السري، والشيخ مرزوق الشويكي الخطي وغيرهم
ضربه ملعون من أعداء الدين بحربة في ظهر قدمه، فمات شهيدا " ليلة الأحد
الحادي والعشرين من شهر شوال سنة 1216، وتاريخ شهادته:
(طود الشريعة قد وهي وتهدما)
وللأديب الشاعر الشهير الحاج هاشم الكعبي قصيدتان طويلتان في رثائه طبعتا
في آخر الكشكول لشيخنا المؤلف.
وله أولاد سبعة: الأول - العالم الفاضل الشيخ محمد. ولد سنة 1169، وتوفي
سنة 1216 بعد أبيه بقليل. والثاني - الشيخ عبد الرضا. ولد عام 1185. والثالث -
الشيخ علي، قال في الدرر: " كان عالما " فاضلا متكلما مات في رجب 1208 ". والرابع:
11 - الشيخ حسن وهو من الأعلام الأفاضل، ولد سنة 1182، هاجر بعد أبيه
إلى شيراز ثم بعد عام 1240 إلى أبو شهر، فكان عالمها وإمامها وتولى القضاء والافتاء
والتدريس فكان زعيمها الروحي له مكانته السامية وله تآليف: منها - رسالة عملية، وشرح
ترجمة المؤلف 43

منظومة والده في أصول العقائد، وتوفي بها عام 1261. والخامس:
12 - الشيخ عبد الله وهو من العلماء الأفاضل، خلف أباه في زعامة البحرين
الروحية والفيام بالوظائف الشرعية، وأعقب ولده الشيخ سليمان، وهو من أعلام هذه
الأسرة، هاجر إلى شيراز، له مؤلفات ومنظومة في الكلام وشرحها. والسادس:
13 - الشيخ عبد علي، قال في الدرر البهية: كان عالما " فاضلا محققا " متكلما
مجتهدا "، توفي بالبحرين في حياة والده في ذي القعدة عام 1208، وخلف نجله العالم الفاضل
الصالح الشيخ خلف. وتاريخ ولادته (لا شك فيه لا بيه خلف 1194) وكان عالم
أبو شهر وإمامها في الجمعة والجماعة، له مؤلفات كثيرة. وأعقب ولده الشيخ عبد علي
فخلف أباه الشيخ خلف في زعامة أبو شهر وتولى الإمامة والقضاء، وله كتب كثيرة:
منها - لئالئ الأفكار في الأصولين مطبوع، توفي سنة 1303. وعمرا كثر من ثمانين سنة
والسابع من أولاد الشيخ حسين:
14 - الشيخ أحمد، وله ولدان: أحدهما - الشيخ حسين عالم فاضل وأديب شاعر
له قصائد في مراثي الإمام السبط الشهيد، والثاني - الشيخ محمد، وكان زعيما دينيا " في أبو شهر
وتوفي بها سنة 1263 وأعقب ابنه الشيخ أحمد، تلمذ على الشيخ محمد طاهر الحويزي
وخلف أباه في زعامة أبو شهر وتوفي سنة 1315. ترجم له ولأبيه شيخنا الرازي في نقباء
البشر ج 1 ص 118. وأعقب الشيخ أحمد ولدين: أولهما - الشيخ محمد، والثاني - الشيخ
خلف، وخلف أباه وجده في زعامة أبو شهر ولد سنة 1285، وتلمذ على الحقق الخراساني
صاحب الكفاية. له كتاب (الأنوار الجعفرية) وهو من مشايخ إجازة العلامة الحجة
السيد شهاب الدين المرعشي، توفي سنة 1353، ترجم له في (نقباء البشر).
والحمد لله أولا وآخرا "، والصلاة على سيد الأنبياء وآله الأوصياء
ليلة الثامن عشر من شهر رجب 1377.
ترجمة المؤلف 44

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
حققه وعلق عليه وأشرف على طبعه
محمد تقي الإيرواني
الجزء الأول
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا بواضح الدليل إلى سبيل معادن العلم والتأويل، وسقانا
بكأس رحيق السلسبيل من زلال عيون الوحي والتنزيل، وعرج بنا إلى معارج
الهداية والدراية. وفتح لنا مغلقات الأحكام بمحكمات الآية والرواية، وشرح لنا
مبهمات الحلال والحرام بلامعات الولاية الدامغة لدلهمات الغواية. والصلاة على مؤسس
قواعد الدين بالقواعد الباهرة والبراهين. وآله الرافعين لأعلام ما أسس والمشيدين،
صلاة توجب لنا الفوز بجوارهم في أعلى عليين.
(أما بعد) فيقول الفقير إلى ربه الكريم، والمتعطش إلى فيض جوده العميم
يوسف بن أحمد بن إبراهيم أصلح الله تعالى له أمر داريه، ورزقه حلاوة نشأتيه، وثبته
بالأمر الثابت لديه. ووفقه لتدارك ذنوبه قبل أن يخرج الأمر من يديه، وألحقه
بأئمته مع جملة ولده وإخوانه ووالديه: أني كثيرا ما تشوقت نفسي إلى تأليف كتاب
جامع للأحكام الفقهية المذيلة بالأخبار النبوية والآثار المعصومية، مشتمل على أمهات المسائل
وما يتبعها من الفروع المرتبطة بالدلائل. فيعوقني عن ذلك تلاطم أمواج الفتن
والغارات، وتزاحم أفواج المحن والشتات. وتراكم حنادس عوائق الزمان، وتصادم
2

بوائق الحدثان، وانجذام يد الدين المنيف، وخمود صيت الشرع الشريف، في كل
ناحية ومكان. وتشتت أهاليه في أقاصي البلدان، بل اضمحلال الفضلاء منهم
والأعيان، حتى لقد أصبحت عرصات العلم دارسة الآثار، ومنازله مظلمة الأقطار،
وعفت أطلاله ومعالمه، وخلت دياره ومراسمه.
خلت من أهاليها الكرام وأقفرت * فساحتها تبكي عليهم تلهفا
وأوحش ربع الأنس بالإنس بعدهم * كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
ولم تبق في ساحتها إلا قوم ببلدح عجفى. ولا من عرصاتها إلا دمنة لم تكلم من أم
أوفى. وكنت ممن رمته أيدي الحوادث في الديار العجمية، وقذفته في تلك الأقطار منجنيق
الرزية، على ما هي عليه من ترادف البلايا بلية إثر بلية، واضمحلال اسم الشرع فيها
بالكلية، وتلبس الأغبياء بلباس الأفاضل. وتصدر الجهلاء لافتاء المسائل. فلم تزل
تترامى بي أقطارها فأطوي هناك المراحل، وأقصد اليم فتقذفني الأمواج إلى الساحل
يوما بحزوى ويوما بالعقيق * وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء
حتى أنخت ركابي بدار العلم شيراز. ومن الله تعالى بالإكرام فيها
والاعزاز، فبقيت فيها برهة من السنين مع جملة الأهل والبنين. في أرغد عيش
وأصفاه، وأهنأ شراب وأوفاه، مشتغلا بمدارسة العلوم الدينية. وممارسة الأخبار
المعصومية، فخطر بي ذلك الخاطر القديم. وناداني المنادي أن يا إبراهيم، فبقيت
أقدم رجلا وأؤخر أخرى. وارى أن التقديم أحق وأحرى، فكم استنهضت
مطي العزم على السير فلم تساعد. وبئس السير على ذلك العير الغير المساعد. إلا أني قد
أبرزت ضمن تلك المدة جملة من الرسائل في قالب التحقيق. ونمقت شطرا من المسائل
على نمط أنيق وطرز رشيق، حتى عصفت بتلك البلاد ريح عاصف حتت الورق،
وفرقت من عقد نظامها ما اتسق. ولعبت بها أيدي الحوادث التي لا تنيم ولا تنام،
وسقت أهلها من مرير علقهما كؤوس الحمام، قتلا وسلبا وأسرا وهتكا، كأنهم
3

ممن خلع ربقة الاسلام، واستبدل بها عبادة الأوثان والأصنام، وحيث من الله تعالى
بمزيد كرمه بالسلامة من تلك الأخطار، والنجاة من أيدي أولئك الأشرار،
ركبت الفرار إلى بعض النواحي، وأغمضت عن عذل العذال واللواحي، واتخذت
العزلة عن أشباه الناس وطنا، والوحدة من الدنفاس سكنا، وفي ذلك سلامة الدنيا
والدين، والفوز بسعادة الحق واليقين، وضربت صفحا عن الطموح إلى زهرة هذه
الدار، وطويت كشحا دون النظر إلى ما أسدته الأقدار، من البأس حلل اليسار
أو أطمار الاعسار. وثوقا بضامن الأرزاق والمعطي على قدر الاستحقاق، وعند ذلك
هجس بفكري ما كنت أتمناه من ذلك الكتاب، وأن هذه الخلوة أعز من أن تصرف
في غير هذا الباب، ورأيت انتهاز الفرصة فإنها تمر مر السحاب، ولم يثن عزمي قلة
الطلاب، ولا إشراف شموس الفضل على الغياب، بل صار ذلك أقوى سبب لي
على القدوم، لما استفاض عن سدنة الحي القيوم من الحث الأكيد ومزيد التأكيد
في إحياء هذا الدين ونشر شريعة سيد المرسلين، وعسى الله سبحانه أن ينفع به بعض
الإخوان المؤمنين، والخلان الطالبين للحق واليقين، وقد سميته ب‍ (كتاب
الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) وإليه سبحانه أرغب في التوفيق سيما للاتمام
والعصمة من زلل أقدام الأقلام في ميادين الأحكام، إنه تعالى أكرم من رغب إليه
وأكفى من توكل عليه.
وقد رأيت أن أبدأ أولا بتمهيد جملة من المقدمات التي يتوقف عليها
الاستدلال، ويرجع إليها في تحقيق الأحوال، ليكون كتابنا هذا كافلا بتحقيق
ما يحتاج إليه من أصول وفروع، مغنيا عن الافتقار إلى غيره والرجوع.
المقدمة الأولى
غير خفي - على ذوي العقول من أهل الايمان وطالبي الحق من ذوي
4

الأذهان - ما بلي به هذا الدين من أولئك المردة المعاندين بعد موت سيد المرسلين،
وغصب الخلافة من وصيه أمير المؤمنين، وتواثب أولئك الكفرة عليه، وقصدهم
بأنواع الأذى والضرر إليه، وتزايد الأمر شدة بعد موته صلوات الله عليه، وما بلغ
إليه حال الأئمة صلوات الله عليهم من الجلوس في زاوية التقية، والاغضاء على كل محنة
وبلية. وحث الشيعة على استشعار شعار التقية، والتدين بما عليه تلك الفرقة الغوية،
حتى كورت شمس الدين النيرة، وخسفت كواكبه المقمرة، فلم يعلم من أحكام
الدين على اليقين إلا القليل، لامتزاج أخباره بأخبار التقية، كما قد اعترف بذلك
ثقة الاسلام وعلم الأعلام (محمد بن يعقوب الكليني نور الله تعالى مرقده) في جامعه
الكافي، حتى أنه (قدس سره) تخطأ العمل بالترجيحات المروية عند تعارض
الأخبار، والتجأ إلى مجرد الرد والتسليم للأئمة الأبرار. فصاروا صلوات الله عليهم
- محافظة على أنفسهم وشيعتهم - يخالفون بين الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من
أولئك الأنام، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وإن لم يكن بها قائل
من المخالفين، كما هو ظاهر لمن تتبع قصصهم وأخبارهم وتحدى (2) سيرهم وآثارهم.
وحيث إن أصحابنا رضوان الله عليهم خصوا الحمل على التقية بوجود قائل من
العامة، وهو خلاف ما أدى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم صلوات الله
عليهم، رأينا أن نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالة على ذلك، لئلا
يحملنا الناظر على مخالفة الأصحاب من غير دليل، وينسبنا إلى الضلال والتضليل.
فمن ذلك ما رواه في الكافي (1) في الموثق عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام
قال: (سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني،
ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت:

(1) في باب اختلاف الحديث.
(2) (حدى الشئ وتحداه) تحدية وتحديا: تعمده. أقرب الموارد.
5

يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا وأبقى لكم. ولو
اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. قال:
ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا
وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه).
فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه السلام في مسألة واحدة
في مجلس واحد وتعجب زرارة، ولو كان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى
جواب واحد بما هم عليه، ولما تعجب زرارة من ذلك، لعلمه بفتواهم عليهم السلام
أحيانا بما يوافق العامة تقية، ولعل السر في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين
كل ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر، سخف مذهبهم في نظر العامة، وكذبوهم
في نقلهم. ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين، وهانوا في نظرهم، بخلاف ما إذا
اتفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم، فإنهم يصدفونهم ويشتد بغضهم لهم ولإمامهم
ومذهبهم، ويصير ذلك سببا لثوران العداوة، وإلى ذلك يشير قوله عليه السلام:
(ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا... الخ).
ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب (1) في الصحيح - على الظاهر - عن سالم
أبي خديجة عن أبي عبد الله (ع) قال: (سأله انسان وأنا حاضر فقال: ربما دخلت
المسجد وبعض أصحابنا يصلي العصر، وبعضهم يصلي الظهر؟ فقال: أنا أمرتهم
بهذا، لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم) وهو أيضا صريح في المطلوب،
إذ لا يخفى أنه لا تطرق للحمل هنا على موافقة العامة، لاتفاقهم على التفريق بين وقتي
الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك.

في باب المواقيت.
6

وما رواه الشيخ في كتاب العدة (1) مرسلا عن الصادق عليه السلام: أنه
(سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت؟ فقال: أنا خالفت بينهم).
وما رواه في الإحتجاج (2) بسنده فيه عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قال:
(قلت له: إنه ليس شئ أشد علي من اختلاف أصحابنا. قال ذلك من قبلي).
وما رواه في كتاب معاني الأخبار (3) عن الخزاز عمن حدثه عن أبي الحسن (ع)
قال: (اختلاف أصحابي لكم رحمة وقال (ع): إذا كان ذلك جمعتكم على أمر
واحد). وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال عليه السلام: (أنا فعلت ذلك بكم ولو
اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم).
وما رواه في الكافي (4) بسنده فيه عن موسى بن أشيم قال: (كنت عند
أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله عز وجل فأخبره بها ثم دخل
عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول. فدخلني من ذلك
ما شاء الله، إلى أن قال: فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية
فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي. فسكنت نفسي وعملت أن ذلك منه تقية.
قال: ثم التفت إلي فقال: يا ابن أشيم إن الله عز وجل فوض إلى سليمان بن داود
فقال: هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب. وفوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله

(1) في مبحث الخبر الواحد.
(2) هذا الحديث مذكور في العلل باب 131 (العلة التي من أجلها حرم الله الكبائر)
ولم ينقله المجلسي في البحار إلا عن العلل.
(3) هذا الحديث مذكور في العلل في الباب المتقدم ولم ينقله المجلسي في البحار
إلا عن العلل.
(4) في باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى الأئمة (ع) في أمر الدين.
7

فقال: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. فما فوض إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله فقد فوضه إلينا).
ولعلك بمعونة ذلك تعلم أن الترجيح بين الأخبار بالتقية - بعد العرض على
الكتاب العزيز - أقوى المرجحات. فإن جل الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كله
عند التأمل والتحقيق إنما نشأ من التقية (1) ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري
أصحابنا رضوان الله عليهم، فظنوا أن هذا الاختلاف إنما نشأ من دس أخبار الكذب
في أخبارنا، فوضعوا هذا الاصطلاح ليميزوا به صحيحها عن سقيمها وغثها من سمينها،
وقوى الشبهة فيما ذهبوا إليه شيئان: (أحدهما) رواية مخالف المذهب وظاهر الفسق
والمشهور بالكذب من فطحي وواقفي وزيدي وعامي وكذاب وغال ونحوهم.
و (ثانيهما) ما ورد عنهم عليهم السلام من أن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه وأمثاله
مما يدل على دس بعض الأخبار الكاذبة في أحاديثهم عليهم السلام، ولم يتفطنوا نور
الله ضرائحهم إلى أن هذه الأحاديث التي بأيدينا إنما وصلت بعد أن سهرت

(1) أقول: وقد وفق الله تعالى إلى الوقوف على كلام للمحدث الأمين الأسترآبادي
(قدس سره) يطابق ما سنح لنا في هذه المقالة، حيث قال في تعليقاته على كتاب
المدارك في بحث البئر في بيان السبب في اختلاف أخبار النزح ما لفظه: وأما الروايات
المختلفة المتضمنة للنزح ففي سبب اختلافها احتمالات، وذلك لتضمن كثير من الروايات
أنه من أنواع التقية صدور أجوبة مختلفة عنهم عليهم السلام في مسألة واحدة لئلا يثبت
عليهم قول واحد، ولنص كثير منها أن خصوصيات كثير من الأحكام مفوضة إليهم
عليهم السلام كما كانت مفوضة إليه صلى الله عليه وآله، ليعلم المسلم لأمرهم من غيره. إلى آخر كلامه
خصه الله بمزيد اكرامه. وأني سابقا كان يكثر تعجبي من عدم اهتداء أحد سيما من المحدثين
إلى ما ذكرنا. حتى وفق الله سبحانه للوقوف على هذا الكلام. وما ذكره (قدس سره)
من خروج بعض الاختلافات عنهم (ع) من باب التفويض يدل عليه من الأخبار المذكورة
هنا خبر موسى بن أشيم (منه رحمه الله).
8

العيون في تصحيحها وذابت الأبدان في تنقيحها، وقطعوا في تحصيلها من معادنها
البلدان، وهجروا في تنقيتها الأولاد والنسوان، كما لا يخفى على من تتبع السير
والأخبار، وطالع الكتب المدونة في تلك الآثار، فإن المستفاد منها - على وجه
لا يزاحمه الريب ولا يداخله القدح والعيب - أنه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين
لهم (عليهم السلام) إلى وقت المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة ضبط الأحاديث
وتدوينها في مجالس الأئمة، والمسارعة إلى اثبات ما يسمعونه خوفا من تطرق السهو
والنسيان، وعرض ذلك عليهم، وقد صنفوا تلك الأصول الأربعمائة المنقولة كلها
من أجوبتهم (عليهم السلام) وأنهم ما كانوا يستحلون رواية ما لم يجزموا بصحته، وقد
روي أنه عرض على الصادق (ع) كتاب عبيد الله بن علي الحلبي فاستحسنه وصححه،
وعلى العسكري (ع) كتاب يونس بن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان فأثنى
عليهما، وكانوا (عليهم السلام) يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذابين،
ويأمرونهم بمجانبتهم، وعرض ما يرد من جهتهم على الكتاب العزيز والسنة النبوية
وترك ما خالفهما.
فروى الثقة الجليل أبو عمرو الكشي في كتاب الرجال (1) بإسناده عن محمد
ابن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن: أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال:
يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك
على رد الحديث (2)؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله (ع) يقول:
" لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا
المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دس في كتب (3) أبي أحاديث لم يحدث
بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله "
قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر ووجدت أصحاب

(1) في أحوال المغيرة بن سعيد.
(2) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة، وفي رجال الكشي (رد الأحاديث) و (كتب أصحاب أبي).
(3) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة، وفي رجال الكشي (رد الأحاديث) و (كتب أصحاب أبي).
9

أبي عبد الله (ع) متوافرين، فسمعت منهم، وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد
على أبي الحسن الرضا (ع)، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث
أبي عبد الله، وقال: " إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله (ع) لعن الله أبا الخطاب
وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب
أبي عبد الله (ع)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنا إن تحدثنا بموافقة القرآن
وموافقة السنة، إنا عن الله وعن رسوله نحدث ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا،
إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا. وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا، فإذا أتاكم
من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به، فإن لكلامنا
حقيقة وعليه نورا، فما لا حقيقة له ولا عليه نور فذلك قول الشيطان ".
أقول: فانظر - أيدك الله تعالى - إلى ما دل عليه هذا الحديث من توقف يونس
في الأحاديث واحتياطه فيها. وهذا شأن غيره أيضا كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى،
وأمرهم (عليهم السلام) بعرض ما يأتي من الأخبار من غير المؤتمن على الكتاب والسنة
تحرزا من تلك الأحاديث المكذوبة، فهل يجوز في العقول السليمة والطباع المستقيمة
إن مثل هؤلاء الثقات العدول إذا سمعوا من أئمتهم مثل هذا الكلام أن يستحلوا بعد
ذلك نقل ما لا يثقون بصحته ولا يعتمدون على حقيقته. بل من المقطوع والمعلوم
عادة من أمثالهم إنهم لا يذكرون ولا يروون في مصنفاتهم إلا ما اتضح لهم فيه الحال وإنه
في الصدق والاشتهار كالشمس في رابعة النهار كما سمعت من حال يونس، وهذا كان
دأبهم (عليهم السلام) في الهداية لشيعتهم. يوقفونهم على جميع ما وقع وما عسى أن يقع
في الشريعة من تغيير وتبديل، لأنهم (صلوات الله عليهم) حفاظ الشريعة وحملتها
وضباطها وحرستها. ولهم نواب فيها من ثقات أصحابهم وخواص رواتهم، يوحون إليهم
أسرار الأحكام، ويوقفونهم على غوامض كل حلال وحرام، كما قد روي ذلك
بأسانيد عديدة، على أن المفهوم من جملة من تلك الأخبار أن تلك الأحاديث المكذوبة
10

كلها كانت من أحاديث الكفر والزندقة والأخبار بالغرائب.
فمن ذلك ما رواه في الكتاب المتقدم (1) عن يونس عن هشام بن الحكم: أنه
سمع أبا عبد الله (ع) يقول: " كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ
كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب
أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدس فيها كتب الكفر والزندقة ويسندها إلى
أبي (عليه السلام)، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة. فكل ما كان
في كتب أصحاب أبي (عليه السلام) من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم "
وبإسناده عن حماد عن حريز قال - يعني أبا عبد الله (ع) -: إن أهل
الكوفة لم يزل فيهم كذاب، أما المغيرة بن سعيد فإنه يكذب على أبي - يعني أبا جعفر
(عليه السلام) - قال: حدثه أن نساء آل محمد (صلى الله عليه وآله) إذا حضن
قضين الصلاة. وكذب والله ما كان من ذلك شئ ولا حدثه. وأما أبو الخطاب
فكذب علي وقال: إني أمرته هو وأصحابه أن لا يصلي المغرب حيت يروا
الكواكب... " الحديث.
على أن مقتضى الحكمة الربانية وشفقة الأئمة (صلوات الله عليهم) على من في
أصلاب الرجال من شيعتهم تمنع من أن يتركوهم هملا يمشون على غير طريق واضح
ولا منار لائح، فلا يميزون لهم الغث من السمين، ولا يهدونهم إلى جادة الحق المبين.
ولا يوقفونهم على ما يقع في الشريعة من تغيير وتبديل. وما يحدثه الكذابون المفترون
من البدع والتضليل، كلا ثم كلا، بل أوضحوا الدين المبين نهاية الإيضاح. وصفوه
من شوب كل كدر، حتى أسفر كضوء الصباح. ألا ترى إلى ما ورد عنهم من حثهم
شيعتهم على الكتابة لما يسمعونه منهم. وأمرهم بحفظ الكتب لمن يأتي بعدهم. كما

(1) في أحوال المغيرة بن سعيد وكذا الخبر الآتي.
11

ورد في جملة من الأخبار التي رواها ثقة الاسلام في جامعه الكافي وغيره في غيره.
وإلى تحذيرهم الشيعة عن مداخلة كل من أظهر البدع وأمرهم بمجانبتهم، وتعريفهم لهم
بأعيانهم، كما عرفت فيما تلونا من الأخبار.
ومن ذلك أيضا ما خرج عن الأئمة المتأخرين (صلوات الله عليهم أجمعين) في
لعن جماعة ممن كانوا كذلك، كفارس بن حاتم القزويني، والحسن بن محمد بن بابا،
ومحمد بن نصير النميري، وأبي طاهر محمد بن علي بن بلال، وأحمد بن هلال،
والحسين بن منصور الحلاج. وابن أبي العزاقر، وأبي دلف، وجمع كثير ممن
يتسمى بالشيعة. ويظهر المقالات الشنيعة من الغلو والإباحات والتناسخ ونحوها، وقد
خرجت في لعنهم التوقيعات عنهم (عليهم السلام) في جميع الأماكن والبراءة منهم.
وقد ذكر الشيخ (قدس سره) في كتاب الغيبة جمعا من هؤلاء، وأورد الكشي أخبارا
فيما أحدثوا. وما خرج فيهم من التوقيعات لذلك. من أحب الوقوف عليها فليرجع
إليه. وقد شدد أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الأمر في ذلك، حتى ربما تجاوزوا
المقام. حتى أنهم كانوا يجانبون الرجل بمجرد التهمة بذلك، كما وقع لأحمد بن محمد
ابن عيسى مع أحمد بن محمد بن خالد البرقي من اخراجه من برقة قم لما طعن عليه القميون.
ثم أعاده إليها لما ظهر له براءته. ومشى في جنازته حافيا إظهارا لنزاهته مما رمي به،
وكما أخرج سهيل بن زياد الآدمي. وأظهر البراءة منه ومنع الناس من السماع عنه. وكما
استثنى محمد بن الحسن بن الوليد جملة من الرواة. منهم جماعة ممن روى عنهم محمد بن
أحمد بن يحيى الأشعري وغيرهم. وقد عدوا جماعة من الرواة في الضعفاء. ونسبوهم
إلى الكذب والافتراء. ومنهم من خرجت التوقيعات فيه عنهم (عليهم السلام) ومنهم
من اطلعوا على حاله الموجب لضعفه، ومنهم محمد بن علي الصيرفي أبو سمينة. ومحمد بن
سنان. ويونس بن ظبيان. ويزيد الصائغ وغيرهم، وذلك ظاهر لمن تصفح كتب
12

الرجال واطلع على ما فيها من الأحوال. ومن الظاهر البين الظهور أنه مع شهرة الأمر
في هؤلاء المعدودين وأمثالهم، فإنه لا يعتمد أحد ممن اطلع على أحوالهم على رواياتهم،
ولا يدونونها في أصولهم إلا مع اقترانها بما يوجب صحتها ويعلن بثبوتها (1) كما صرح

(1) ومن ذلك ما ذكره (قده) في كتاب الغيبة، حيث نقل حديثا في الغيبة عن أحمد
ابن زياد، ثم قال: قال مصنف هذا الكتاب (رضي الله عنه): لم أسمع هذا الحديث
إلا من أحمد بن زياد (رضي الله عنه) بعد انصرافه من حج بيت الله الحرام، وكان رجلا
ثقة دينا فاضلا (رحمة الله ورضوانه عليه) انتهى.
(ومنه) أيضا ما ذكره في الكتاب المذكور بعد نقل حديث عن علي بن عبد الله
الوراق، حيث قال: قال مصنف هذا الكتاب (رضي الله عنه): لم أسمع هذا الحديث
إلا من علي بن عبد الله الوراق، ووجدته بخطه مثبتا فسألته عنه فرواه لي عن سعد بن
عبد الله عن أحمد بن إسحاق كما ذكرته. انتهى.
(ومنه) ما ذكره في معاني الأخبار في باب معنى ما جاء في لعن الذهب والفضة، حيث
قال: قال مصنف هذا الكتاب: هذا حديث لم أسمعه إلا من لحسن بن حمزة العلوي (رضي الله عنه) ولم أروه عن شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد، ولكنه صحيح عندي إلى آخر
كلامه (ولا يخفى) على الفطن اللبيب والمنصف الأريب أن تخصيصه هذه الأخبار ونحوها مما
ذكره يدل دلالة واضحة على أن ما لم يذكر فيه شيئا من ذلك كله مقطوع مجزوم على صحته
كما لا يخفى.
ومنه ما ذكره (قدس سره) في كتاب من لا يحضره الفقيه في باب ما يجب على من أفطر
أو جامع في شهر رمضان، حيث روى عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) في رجل أتى
امرأته وهي صائمة وهو صائم. فقال: إن كان أكرهها فعليه كفارتان. وإن كانت طاوعته
فعليه كفارة. الحديث. ثم قال (قدس سره) قال مصنف هذا الكتاب: لم أجد ذلك في شئ
من الأصول وإنما تفرد بروايته علي بن إبراهيم بن هاشم. وفيه كما ترى دلالة واضحة على أن جميع ما يرويه في هذا المقام وغيره إنما هو من الأصول المقطوع على صحتها عنده. كما
صرح به في أول الفقيه، وأنه إذا نقل ما ليس كذلك نبه على أن الراوي له ثقة معتمد. فكيف
بعد أمثال هذا الكلام الذي لا يليق بأمثاله من أولئك الأعلام خلط الغث بالسمين حتى يحتاج
إلى ما ذكروه من هذا الاصطلاح العديم الاصطلاح (منه رحمه الله).
13

به شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين، وقد نقل الصدوق (قدس سره) في
كتاب عيون أخبار الرضا حديثا في سنده (محمد بن عبد الله المسمعي)، ثم قال بعد تمام
الحديث ما هذا لفظه: قال مصنف هذا الكتاب: كان شيخنا (محمد بن الحسن
ابن الوليد) سئ الرأي في (محمد بن عبد الله المسمعي) راوي هذا الحديث، وإنما
أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره
ورواه لي، انتهى. أقول: وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله. فانظر إلى شدة احتياطهم
وتورعهم في عدم نقل ما لا يثقون به إلا مع انضمام القرائن الموجبة لصحته وثبوته.
وبالجملة: فالخوض في كتب الرجال - والنظر في مصنفات المتقدمين والاطلاع على
سيرتهم وطريقتهم - يفيد الجزم بما قلنا. وأما من أخذ بظاهر المشهور من غير تدبر
لما هو ثمة مذكور فهو فيما ذهب إليه معذور. وكل ميسر لما خلق له، وذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء.
المقدمة الثانية
قد صرح جملة من أصحابنا المتأخرين بأن الأصل في تنويع الحديث إلى
الأنواع الأربعة المشهورة هو العلامة أو شيخه جمال الدين بن طاوس نور الله تعالى
مرقديهما. وأما المتقدمون فالصحيح عندهم هو ما اعتضد بما يوجب الاعتماد عليه من
القرائن والأمارات التي ذكرها الشيخ (قدس سره) في كتاب العدة. وعلى هذا جرى
جملة من أصحابنا المحدثين وطائفة من متأخري متأخري المجتهدين كشيخنا المجلسي رحمه الله
وجمع ممن تأخر عنه. وقد اتسع خرق الخلاف بين المجتهدين من أصحابنا والأخباريين
في جمل عديدة من مسائل الأصول التي تبنى عليها الفروع الفقهية. وبسط كل من
علماء الطرفين لسان التشنيع على الآخر، والحق الحقيق بالاتباع ما سلكه طائفة من
14

متأخري المتأخرين كشيخنا المجلسي (طاب ثراه) وطائفة ممن أخذ عنه. فإنهم سلكوا
من طرق الخلاف بين ذينك الفريقين طريقا وسطى بين القولين ونجدا أوضح من ذينك
النجدين (وخير الأمور وسطها) ونحن قد بسطنا الكلام في ايضاح هذا المرام في جملة
من مؤلفاتنا ولا سيما كتاب المسائل، فإنا قد أعطينا المسألة حقها من الدلائل، ولا بأس
بذكر طرف من ذلك في هذا الكتاب، حيث إنا قد قصدنا فيه ضرب الصفح غالبا
عن الكلام في أسانيد الأخبار والطعن فيها بذلك. فربما يظن الناظر الغير العالم
بطريقتنا أن ذلك عن عجز أو غفلة أو نحو ذلك، فرأينا أن نبين هنا أن ذلك إنما
هو من حيث ثبوت صحة تلك الأخبار عندنا والوثوق بورودها عن أصحاب العصمة
(صلوات الله عليهم).
فنقول: قد صرح شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين وقبله المحقق
الشيخ حسن (أعلى الله رتبتهما) في مقدمات كتاب المنتقى بما ملخصه: أن السبب
- الداعي إلى تقرير هذا الاصطلاح في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة - هو أنه
لما طالت المدة بينهم وبين الصدر الأول وبعدت عليهم الشقة وخفيت عليهم تلك القرائن
التي أوجبت صحة الأخبار عن المتقدمين. وضاق عليهم ما كان متسعا على غيرهم.
التجأوا إلى العمل بالظن بعد فقد العلم. لكونه أقرب مجازا إلى الحقيقة عند تعذرها،
وبسبب التباس الأخبار غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها التجأوا إلى هذا الاصطلاح
الجديد. وقربوا لنا البعيد، ونوعوا الحديث إلى الأنواع الأربعة. وزاد في كتاب
مشرق الشمسين: أنهم ربما سلكوا طريقة القدماء في بعض الأحيان، ثم عد
(قدس سره) مواضع من ذلك. هذا خلاصة ما ذكروا في تعليل ذلك. ونحن
نقول: لنا على بطلان هذا الاصطلاح وصحة أخبارنا وجوه.
(الأول) ما قد عرفت في المقدمة الأولى من أن منشأ الاختلاف في أخبارنا
إنما هو التقية من ذوي الخلاف لا من دس الأخبار المكذوبة حتى يحتاج إلى هذا
15

الاصطلاح. على أنه متى كان السبب الداعي إنما هو دس الأحاديث المكذوبة
كما توهموه (رضوان الله عليهم) ففيه أنه لا ضرورة تلجئ إلى اصطلاحهم، لأنهم
(عليهم السلام) قد أمرونا بعرض ما شك فيه من الأخبار على الكتاب والسنة فيؤخذ
بما وافقهما ويطرح ما خالفهما، فالواجب في تمييز الخبر الصادق من الكاذب مراعاة
ذلك، وفيه غنية عما تكلفوه، ولا ريب أن اتباع الأئمة (عليهم السلام) أولى
من اتباعهم.
(الثاني) أن التوثيق والجرح الذي بنوا عليه تنويع الأخبار إنما أخذوه
من كلام القدماء، وكذلك الأخبار التي رويت في أحوال الرواة من المدح والذم
إنما أخذوها عنهم، فإذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في
تصحيح ما صححوه من الأخبار واعتمدوه وضمنوا صحته كما صرح به جملة منهم، كما
لا يخفى على من لاحظ ديباجتي الكافي والفقيه وكلام الشيخ في العدة وكتابي الأخبار
فإن كانوا ثقاتا عدولا في الأخبار بما أخبروا به ففي الجميع، وإلا فالواجب تحصيل
الجرح والتعديل من غير كتبهم وأنى لهم به (لا يقال) (1) إن أخبارهم بصحة ما رووه
في كتبهم يحتمل الحمل على الظن القوي باستفاضة أو شياع أو شهرة معتد بها أو قرينة
أو نحو ذلك مما يخرجه عن محوضة الظن (لأنا نقول) فيه (أولا) إن أصحاب هذا
الاصطلاح مصرحون بكون مفاد الأخبار عند المتقدمين هو القطع واليقين وأنهم إنما
عدلوا عنه إلى الظن لعدم تيسر ذلك لهم كما صرح به في المنتقى ومشرق الشمسين

(1) هذا أحد الأجوبة التي أجابوا بها فيما ذكرنا، صرح به شيخنا أبو الحسن (قده)
في كتاب العشرة الكاملة، حيث إنه في الكتاب المذكور كان شديد التعصب لهذا الاصطلاح
وترويج القول بالاجتهاد، إلا أن مصنفاته الأخيرة تدل على عدوله عن ذلك وميله إلى
العمل بالأخبار، وإن كان دون طريقة الأخباريين من الجادة الوسطى التي قدمنا الإشارة
إليها (منه رحمه الله).
16

(وأما ثانيا) فلما تضمنته تلك العبارات مما هو صريح في صحة الأخبار بمعنى القطع
واليقين بثبوتها عن المعصومين (فإن قيل) تصحيح ما حكموا بصحته أمر اجتهادي
لا يجب تقليدهم فيه، ونقلهم المدح والذم رواية يعتمد عليهم فيها (قلنا) فيه أن أخبارهم
بكون الراوي ثقة أو كذابا أو نحو ذلك إنما هو أمر اجتهادي استفادوه بالقرائن
المطلعة على أحواله أيضا.
(الثالث) - تصريح جملة - من العلماء الأعلام وأساطين الاسلام ومن هم المعتمد
في النقض والابرام من متقدمي الأصحاب ومن متأخريهم الذين هم أصحاب هذا
الاصطلاح أيضا - بصحة هذه الأخبار وثبوتها عن الأئمة الأبرار، لكنا نقتصر
على ما ذكره أرباب هذا الاصطلاح في المقام. فإنه أقوى حجة في مقام النقص والالزام.
فمن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد (نور الله مضجعه) في الذكرى في الاستدلال
على وجوب اتباع مذهب الإمامية، حيث قال ما حاصله: أنه كتب من أجوبة
مسائل أبي عبد الله (عليه السلام) أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف. ودون من
رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام. وكذلك
عن مولانا الباقر (ع)، ورجال باقي الأئمة (ع) معروفون مشهورون أولو مصنفات
مشتهرة، فالانصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم إليهم، إلى أن قال بعد عد جملة
من كتب الأخبار وغيرها مما يطول تعداده بالأسانيد الصحيحة المتصلة المنتقدة والحسان
والقوية: فالانكار بعد ذلك مكابرة محضة وتعصب صرف. ثم قال: (لا يقال) فمن
أين وقع الاختلاف العظيم بين فقهاء الإمامية إذا كان نقلهم عن المعصومين (ع)
وفتواهم عن المطهرين (ع)؟ (لأنا نقول) محل الخلاف أما من المسائل المنصوصة أو مما
فرعه العلماء، والسبب في الثاني اختلاف الأنظار ومبادئها كما هو بين سائر علماء
الأمة، وأما الأول فسببه اختلاف الروايات ظاهرا، وقلما يوجد فيها التناقض بجميع
شروطه، وقد كانت الأئمة (ع) في زمن تقية واستتار من مخالفيهم، فكثيرا ما يجيبون
17

السائل على وفق معتقده أو معتقد بعض الحاضرين أو بعض من عساه يصل إليه
من المناوئين، أو يكون عاما مقصورا على سببه أو قضية في واقعة مختصة بها أو اشتباها
على بعض النقلة عنهم أو عن الوسائط بيننا وبينهم (عليهم السلام). انتهى.
ولعمري إنه كلام نفيس يستحق أن يكتب بالنور على وجنات الحور، ويجب
أن يسطر ولو بالخناجر على الحناجر. فانظر إلى تصريحه بل جزمه بصحة تلك الروايات
التي تضمنتها هذه الكتب التي بأيدينا، وتخلصه من الاختلاف الواقع بين الأخبار
بوجوه تنفي احتمال تطرق دخول الأحاديث الكاذبة في أخبارنا.
ومن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (أعلى الله تعالى رتبته) في شرح
الدراية، حيث قال: " كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولا
فكان عليها اعتمادهم، تداعت (1) الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول، ولخصها جماعة
في كتب خاصة تقريبا على المتناول. وأحسن ما جمع منها: الكافي. والتهذيب.
والاستبصار. ومن لا يحضره الفقيه ".
فانظر إلى شهادته (قدس سره) بكون أحاديث كتبنا هي أحاديث تلك الأصول
بعينها (2) وحينئذ فالطاعن في هذه كالطاعن في تلك الأصول. ثم إن الظاهر أن
تخصيصه هذه الكتب الأربعة بالأحسنية إنما هو من حيث اشتمالها على أبواب الفقه

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة، وفي المطبوع من شرح
الدراية (ثم تداعت).
(2) ويؤيد ذلك ما صرح به شيخنا البهائي (قدس سره) في أول كتاب مشرق
الشمسين، حيث عد من جملة الأمور الموجبة للقطع بصحة الأخبار عند المتقدمين وجودها
في كثير من الأصول الأربعمائة المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم السلام)، قال: وكانت
متداولة بينهم في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رابعة النهار. انتهى،
(منه رحمة الله).
18

كملا على الترتيب بخلاف غيرها من كتب الأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال
تلك الديار. ولا يتوهم - من ظاهر قوله: تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك
الأصول ولخصها إلى آخره - أن تلخيص تلك الجماعة لها إنما وقع بعد ذهاب معظمها،
فإن ذلك باطل (أما أولا) فلأن التلخيص وقع عطفه في كلامه بالواو، دون - ثم -
المفيدة للترتيب. وأما (ثانيا) فلأن الظاهر - كما صرح به بعض فضلائنا - أن
اضمحلال تلك الأصول إنما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه الكتب التي دونها
أصحاب الأخبار، لكونها أحسن منها جمعا وأسهل تناولا. وإلا فتلك الأصول
قد بقيت إلى زمن ابن طاووس (رضي الله عنه). كما ذكر أن أكثر تلك الكتب
كان عنده ونقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبع مصنفاته. وبذلك يشهد كلام
ابن إدريس في آخر كتاب السرائر. حيث إنه نقل ما استطرفه من جملة منها شطرا
وافرا من الأخبار. وبالجملة: فاشتهار تلك الأصول في زمن أولئك الفحول لا ينكره
إلا معاند جهول.
ومن ذلك ما صرح به المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني. حيث
قال في بحث الإجازة من العالم ما صورته: " أن أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما
يظهر حيث لا يكون متعلقها معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا، فإنها متواترة
اجمالا، والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة
فيه غالبا ".
ومن ذلك ما صرح به شيخنا البهائي (نور الله مضجعه) في وجيزته، حيث
قال: " جميع أحاديثنا - إلا ما ندر - ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر (عليهم السلام) وهم
ينتهون فيها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أن قال: وكان قد جمع قدماء محدثينا
ما وصل إليهم من كلام أئمتنا (عليهم السلام) في أربعمائة كتاب تسمى (الأصول) ثم
19

تصدى جماعة من المتأخرين (شكر الله سعيهم) لجمع تلك الكتب وترتيبها تقليلا للانتشار
وتسهيلا على طالبي تلك الأخبار، فألفوا كتبا مضبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة
بأصحاب العصمة (عليهم السلام) كالكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب،
والاستبصار. ومدينة العلم، والخصال. والأمالي، وعيون الأخبار، وغيرها ".
هذا ما حضرني من كلامهم (نور الله مراقدهم)،
وأما كلام المتقدمين، كالصدوق في الفقيه، وثقة الاسلام في الكافي،
والشيخ الطوسي في جملة من مؤلفاته. وعلم الهدى وغيرهم ممن نقلنا كلامهم في غير
هذا الكتاب، فهو ظاهر البيان ساطع البرهان في هذا الشأن.
ثم العجب من هؤلاء الفضلاء الذين نقلنا كلامهم هنا أنه إذا كان الحال على
ما صرحت به عبائرهم من صحة هذه الأخبار عن الأئمة (عليهم السلام) فما الموجب لهم
إلى المتابعة في هذا الاصطلاح الحادث؟ وأعجب من ذلك كلام شيخنا البهائي (ره)
في كتاب مشرق الشمسين. حيث ذكر ما ملخصه: أن اجتناب الشيعة لمن كان منهم
ثم أنكر إمامة بعض الأئمة (عليهم السلام) كان أشد من اجتناب المخالفين في أصل
المذهب. وكانوا يتحرزون عن مجالستهم والتكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم،
فإذا نقل علماؤنا رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها وقالوا
بصحتها مع علمهم بحاله. فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح
لا يتطرق إليه القدح. ولا إلى ذلك الرجل الثقة الراوي عمن هذا حاله، كأن يكون
سماعة منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق،
أو أن النقل إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي
ألفه بعد الوقف ولكنه أخذ الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد
ككتب علي بن الحسن الطاطري، فإنه كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية إلا أن
20

الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم. إلى غير
ذلك من المحامل الصحيحة، إلى آخر كلامه (طاب ثراه).
ولقد أجاد فيما أفاد ولكنه ناقض نفسه فيما أورده من العذر للمتأخرين في عدولهم
إلى تجديد هذا الاصطلاح. لأن قوله -: كانوا يتحرزون عن مجالستهم فضلا عن أخذ
الحديث عنهم. وقوله: فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه
صحيح - يستلزم أن تكون أحاديث كتب هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين شهدوا بصحة
ما رووه فيها كلها صحيحة.
(الرابع) - إنه لو تم ما ذكروه وصح ما قرروه للزم فساد الشريعة وابطال الدين،
لأنه متى اقتصر في العمل على هذا القسم الصحيح أو مع الحسن خاصة أو بإضافة
الموثق أيضا ورمي بقسم الضعيف باصطلاحهم من البين والحال أن جل الأخبار من هذا
القسم كما لا يخفى على من طالع كتاب الكافي أصولا وفروعا وكذا غيره من سائر
كتب الأخبار وسائر الكتب الخالية من الأسانيد. لزم ما ذكرنا وتوجه ما طعن
به علينا العامة من أن جل أحاديث شريعتنا مكذوبة مزورة، ولذا ترى شيخنا الشهيد
في الذكرى كيف تخلص من ذلك بما قدمنا نقله عنه دفعا لما طعنوا به علينا ونسبوه إلينا.
ولله در المحقق (ره) في المعتبر حيث قال: أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى
انقادوا لكل خبر وما فطنوا إلى ما تحته من التناقض. فإن من جملة الأخبار قول
النبي (صلى الله عليه وآله): " ستكثر بعدي القالة " إلى أن قبل: واقتصر بعض
على هذا الافراط فقال: كل سليم السند يعمل به. وما علم أن الكاذب قد يصدق
والفاسق قد يصدق ولم ينتبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب. إذ
لا مصنف إلا وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل، إلى أن قال: وكل هذه
الأقوال منحرفة عن السنن، والتوسط أقرب، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن
21

على صحته عمل به وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب اطراحه. انتهى. وهو
قوي متين بل جوهر ثمين.
(الخامس) - أن ما اعتمدوه من ذلك الاصطلاح غير منضبط القواعد والبنيان
ولا مشيد الجوانب والأركان (أما أولا) فلاعتمادهم في التمييز بين أسماء الرواة
المشتركة على الأوصاف والألقاب والنسب والراوي والمروي عنه ونحوها، ولم لا
يجوز اشتراك هذه الأشياء؟ وذلك، لأن الرواة عنهم (عليهم السلام) ليسوا محصورين
في عدد مخصوص ولا في بلدة واحدة. وقد نقل الشيخ المفيد (ره) في ارشاده:
أن الذين رووا عن الصادق (ع) خاصة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات
كانوا أربعة آلاف رجل. ونحو ذلك ذكر ابن شهرآشوب في كتاب معالم العلماء.
والطبرسي في كتاب إعلام الورى، والجميع قد وصفوا هؤلاء الأربعة آلاف بالتوثيق
وهو مؤيد لما ادعيناه ومشيد لما أسسناه، فإذا كان هؤلاء الرواة عن الصادق (عليه
السلام) خاصة فما بالك بالرواة عن الباقر إلى العسكري (عليهم السلام)؟ فأين تأثير
القرائن في هذه الأعداد؟ وأين الوصول إلى تشخيص المطلوب منها والمراد؟ (وأما ثانيا) فلأن
مبنى تصحيح الحديث عندهم على نقل توثيق رجاله في أحد كتب المتقدمين. ككتاب
الكشي. والنجاشي. والفهرست، والخلاصة. ونحوها، نظرا إلى أن نقلهم ذلك شهادة منهم
بالتوثيق، حتى أن المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى لم يكتف في تعديل الراوي
بنقل واحد من هؤلاء بل أوجب في تصحيح نقل اثنين منهم لعدالة الراوي،
نظرا إلى أنها شهادة فلا يكفي فيها الواحد.
وأنت خبير بما بين مصنفي تلك الكتب وبين رواة الأخبار من المدة والأزمنة
المتطاولة فكيف اطلعوا على أحوالهم الموجب للشهادة بالعدالة أو الفسق؟ والاطلاع
على ذلك - بنقل ناقل أو شهرة أو قرينة حال أو ذلك كما هو معتمد مصنفي تلك
الكتب في الواقع - لا يسمى شهادة. وهم قد اعتمدوا على ذلك وسموه شهادة، وهب
22

أن ذلك كاف في الشهادة، لكن لا بد في العمل بالشهادة من السماع من الشاهد لا بمجرد
نقله في كتابه، فإنه لا يكفي في كونه شهادة، هب أنا سلمنا الاكتفاء به في ذلك، فما
الفرق بين هذا النقل في هذه الكتب وبين نقل أولئك - الأجلاء الذين هم أساطين المذهب -
صحة كتبهم وأنها مأخوذة عن الصادقين (عليهم السلام)؟ فيعتمد عليهم في أحدهما دون
الآخر (وأما ثالثا) فلمخالفتهم أنفسهم فيما قرروه من ذلك الاصطلاح فحكموا بصحة
أحاديث هي باصطلاحهم ضعيفة كمراسيل ابن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وغيرهما.
زعما منهم أن هؤلاء لا يرسلون ألا عن ثقة. ومثل أحاديث جملة من مشايخ الإجازة
لم يذكروا في كتب الرجال بمدح ولا قدح. مثل أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد،
وأحمد بن محمد بن يحيى العطار، والحسين بن الحسن بن أبان، وأبي الحسين
ابن أبي جيد. وأضرابهم. زعما منهم أن هؤلاء مشايخ الإجازة وهم مستغنون عن التوثيق.
وأمثال ذلك كثير يظهر للمتتبع (وأما رابعا) فلاضطراب كلامهم في الجرح والتعديل
على وجه لا يقبل الجمع والتأويل، فترى الواحد منهم يخالف نفسه فضلا عن غيره.
فهذا يقدم الجرح على التعديل، وهذا يقول لا يقدم إلا مع عدم إمكان الجمع، وهذا
يقدم النجاشي على الشيخ، وهذا ينازعه ويطالبه بالدليل. وبالجملة: فالخائض في الفن
يجزم بصحة ما ادعيناه، والبناء من أصله لما كان على غير أساس كثر الانتقاض
فيه والالتباس.
(السادس) - أن أصحاب هذا الاصطلاح قد اتفقوا على أن مورد التقسيم
إلى الأنواع الأربعة إنما هو خبر الواحد العاري عن القرائن. وقد عرفت. - من كلام
أولئك الفضلاء المتقدم نقل كلامهم، وبذلك صرح غيرها أيضا - أن أخبار كتبنا
المشهورة محفوفة بالقرائن الدالة على صحتها. وحينئذ يظهر عدم وجود مورد التقسيم
المذكور في أخبار هذه الكتب. وقد ذكر صاحب المنتقى: أن أكثر أنواع الحديث
المذكورة في دراية الحديث بين المتأخرين من مستخرجات العامة بعد وقوع معانيها
23

في أحاديثهم وأنه لا وجود لأكثرها في أحاديثنا. وأنت إذا تأملت بعين الحق
واليقين وجدت التقسيم المذكور من هذا القبيل. إلى غير ذلك من الوجوه (1) التي
أنهيناها في كتاب المسائل إلى اثني عشر وجها، وطالب الحق المنصف تكفيه الإشارة
والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة.

(1) ومنها - أن التعديل والجرح موقوف على معرفة ما يوجب الجرح ومنه الكبائر.
وقد اختلفوا فيها اختلافا شديدا، فلا يمكن الاعتماد على تعديل المعدل وجرحه إلا مع
العلم بموافقة مذهبه لمذهب من يريد العمل، وهذا العلم مما لا يمكن أصلا، إذ المعدلون
والجارحون من علماء الرجال ليس مذهبهم في عدد الكبائر معلوما، قال شيخنا البهائي
(قدس سره) على ما نقل عنه من المشكلات، أنا لا نعلم مذهب الشيخ الطوسي في العدالة
وأنه يخالف مذهب العلامة، وكذا لا لعلم مذهب بقية أصحاب الرجال كالكشي
والنجاشي، وغيرهم، ثم نقبل تعويل العلامة في التعديل على تعديل أولئك. وأيضا كثير
من الرجال ينقل عنه أنه كان على خلاف المذهب ثم رجع وحسن إيمانه. والقوم يجعلون
روايته في الصحيح مع أنهم غير عالمين بأن أداء الرواية متى وقع؟ بعد التوبة أم قبلها؟.
وهذان المشكلان لا أعلم أن أحدا قبل تنبه لشئ منهما. انتهى.
(ومنها) - أن العدالة بمعنى الملكة المخصوصة عند المتأخرين مما لا يجوز اثباتها بالشهادة،
لا الشهادة وخبر الواحد ليس حجة إلا في المحسوسات لا فيما خفى كالعصمة فلا تقبل فيها
الشهادة، فلا اعتماد على تعديل المعدلين بناء على اعتقاد المتأخرين. وهذا مما أورده المحدث
الأمين (قدس سره)
(ومنها) - أنه قد تقرر في محله أن شهادة فرع الفرع غير مسموعة، إذ لا يقبل إلا
من شاهد الأصل أو شاهد الفرع خاصة. على أن شهادة علماء الرجال على أكثر المعدلين
والمجروحين إنما هو من شهادة فرع الفرع، فإن الشيخ والنجاشي ونحوهما لم يلقوا
أصحاب الباقر والصادق (ع) فلا تكون شهادتهم إلا من قبيل شهادة فرع الفرع بمراتب
كثيرة فكيف يجوز التعويل شرعا على شهادتهم ثم بالجرح والتعديل. وهذا أيضا مما
أورده المحدث الأمين (قدس سره) إلى غير ذلك من الوجوه التي لا يسع الاتيان عليها.
إلا أن المحقق المنصف تكفيه الإشارة والمعاند المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة (منه ره).
24

(تتمة مهمة)
قد اشتهر بين أكثر متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) قصر العمل
بالأخبار على ما في هذه الكتب الأربعة المشهورة، زعما منهم أن غيرها لم يبلغ في الضبط
والانتقاد على وجه يوجب الاعتماد على مثله. وقد علت - مما قدمنا من كلام شيخنا البهائي
(رحمه الله) في الوجيزة، ومثله أيضا شيخنا الشهيد في الذكرى مما طويناه في أثناء كلامه
المتقدم ذكره - عدم الانحصار في الكتب المشار إليها، وهو الحق الحقيق بالاتباع،
قال السيد المحدث السيد نعمة الله الجزائري (طيب الله مرقده) في مقدمات شرحه
على التهذيب: " والحق أن هذه الأصول الأربعة لم تستوف الأحكام كلها، بل قد وجدنا
كثيرا من الأحكام في غيرها، مثل عيون أخبار الرضا، والأمالي، وكتاب
الاحتجاج، ونحوها. فينبغي مراجعة هذه الكتب وأخذ أحكام منها ولا يقلد
العلماء في فتاويهم، فإن أخذ الفتوى من دليلها هو الاجتهاد الحقيقي، وكم قد رأينا
جماعة من العلماء ردوا على الفاضلين بعض فتاويهم لعدم الدليل فرأينا دلائل تلك الفتاوى
في غير الأصول الأربعة، خصوصا كتاب الفقه الرضوي الذي أتي به من بلاد الهند في
هذه الأعصار إلى أصفهان وهو الآن في خزانة شيخنا المجلسي، فإنه قد اشتمل على
مدارك كثيرة للأحكام وقد خلت عنها هذه الأصول الأربعة وغيرها " انتهى كلامه
زيد مقامه. ولقد أجاد فيما حرر وفصل وأشاد وطبق المفصل وعليه المعتمد والمعول.
ولقد وفق الله تعالى شيخنا غواص بحار الأنوار إلى استخراج كنوز تلك الآثار فجمعها
في جامعه المشهور ب‍ (البحار) بعد التقاطها من جميع الأقطار، جزاه الله تعالى عن علماء
الفرقة المحقة أفضل جزاء الأبرار. وقد جمع فيه أخبارا جمة من الأصول المندرسة وأظهر
كنوزا من الأحكام كانت بمرور الأيام منطمسة. ومن جملتها كتاب الفقه الرضوي
الذي ذكره السيد المتقدم ذكره. قال شيخنا المشار إليه في مقدمات كتاب البحار
25

في ضمن تعداد الكتب التي نقل منها ما لفظه: " كتاب فقه الرضا (عليه السلام) أخبرني
به السيد الفاضل المحدث القاضي أمير حسين (طاب ثراه) بعد ما ورد أصفهان. قال:
قد اتفق في بعض سني مجاورتي ببيت الله الحرام أن أتاني جماعة من أهل قم حاجين.
وكان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا (عليه السلام). وسمعت الوالد
(رحمه الله) أنه قال: سمعت السيد يقول: كان عليه خطه (صلوات الله عليه)
وكان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء. وقال السيد: حصل لي العلم بتلك
القرائن أنه تأليف الإمام (عليه السلام) وأخذت الكتاب وكتبته وصححته. فأخذ
والدي (قدس الله روحه) هذا الكتاب من السيد واستنسخه وصححه. وأكثر عباراته
موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر بن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند
وما يذكره والده في رسالته إليه، وكثيرا من الأحكام - التي ذكرها أصحابنا ولا يعلم
مستندها - مذكورة فيه كما ستعرف في أبواب العبادات " انتهى كلامه زيد
في الخلد مقامه.
أقول: وما ذكره (قدس سره) - من مطابقة كلام الصدوق في الفقيه
ووالده في رسالته لما في الكتاب المذكور - قد وقفت عليه في غير موضع وسيمر بك
إن شاء الله تعالى في كتابنا هذا، وقد اعتمدنا في الاستدلال في كتابنا هذا على ما اعتمده
شيخنا المذكور من الكتب المعدودة في كتابه، وستمر بك أخبارها في أثناء الأبحاث
إن شاء الله تعالى.
المقدمة الثالثة
في مدارك الأحكام الشرعية، وهي عند الأصوليين أربعة: (الكتاب والسنة
والاجماع ودليل العقل) وحيث تقدم مجمل الكلام في السنة يبقى الكلام هنا
في مقامات ثلاثة:
26

(المقام الأول) - في الكتاب العزيز، ولا خلاف بين أصحابنا الأصوليين
في العمل به في الأحكام الشرعية والاعتماد عليه حتى صنف جملة منهم كتبا في الآيات
المتعلقة بالأحكام الفقهية وهي خمسمائة آية عندهم. وأما الأخباريون فالذي وفقنا عليه
من كلام متأخريهم ما بين افراط وتفريط، فمنهم من منع فهم شئ منه مطلقا حتى
مثل قوله: " قل هو الله أحد " (1) إلا بتفسير من أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم)
ومنهم ممن جوز ذلك حتى كاد يدعي المشاركة لأهل البيت (عليهم السلام) في تأويل
مشكلاته وحل مبهماته.
والتحقيق في المقام أن الأخبار متعارضة من الجانبين ومتصادمة من الطرفين،
إلا أن أخبار المنع (2) أكثر عددا وأصرح دلالة.
ففي جملة منها - قد ورد في تفسير قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا
الآية " (3) - دلالة على اختصاص ميراث الكتاب بهم (عليهم السلام) وجملة
في تفسير قوله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم.. " (4) بأن

(1) قال المحدث السيد نعمة الله الجزائري (قده) في بعض رسائله: إني كنت
حاضرا في المسجد الجامع في شيراز. وكان الأستاذ المجتهد الشيخ جعفر البحراني والشيخ
المحدث صاحب جوامع الكلم يتناظران في هذه المسألة. فانجر الكلام ههنا حتى قال له الفاضل
المجتهد: ما تقول في معنى " قل هو الله أحد " فهل يحتاج في فهم معناها إلى الحديث؟ فقال:
نعم لا نعرف معنى الأحدية ولا الفرق بين الأحد والواحد ونحو ذلك إلا بذلك. انتهى.
(أفول): ونقل عن بعض المتحذلقين - ممن يدعي الانتظام في سلك الأخباريين - أنه
يمنع من اللباس على غير الهيئة التي كان عليها لباس الأئمة (عليهم السلام) وهو جهل
محض (منه قدس سره).
(2) قد عقد لها في الوسائل (الباب الثالث عشر) من أبواب صفات القاضي وما يقضي
به من كتاب القضاء، وعنوانه (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن
إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة).
(3) سورة فاطر. آية 32.
(4) سورة العنكبوت. آية 49.
27

المراد بهم الأئمة (صلوات الله عليهم)، وجملة في تفسير " قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب " (1) قال: إيانا عنى. ومثل ذلك في تفسير قوله
سبحانه: " وإنه لذكر لك ولقومك. " (2). وكذا في تفسير قوله تعالى: " وما يعلم
تأويله إلا الله والراسخون في العلم.. " (3).
وفي جملة من تلك الأخبار: " ليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ".
وفي مناظرة الشامي لهشام بن الحكم بمحضر الصادق (عليه السلام) المروية
في الكافي (4) وغيره: " قال هشام: فبعد رسول الله صلى الله عليه وآله من الحجة؟
قال الشامي: الكتاب والسنة. فقال هشام: فهل نفعنا الكتاب والسنة في رفع
الاختلاف عنا؟ قال الشامي: نعم. قال هشام: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت
إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ فسكت الشامي. فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للشامي
ما لك لا تتكلم؟ فقال الشامي: إن قلت لم نختلف كذبت وإن قلت إن الكتاب
والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه، إلى أن قال
الشامي: والساعة من الحجة؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا
بأخبار السماء.. " الحديث. ولا يخفى ما فيه من الصراحة.
وفي بعض آخر (5): " قال السائل: أو ما يكفيهم القرآن؟ قال (عليه السلام):
بلى لو وجدوا له مفسرا. قال: أو ما فسره رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال:

(1) سورة الرعد. آية 43
(2) سورة الزخرف. آية 44
(3) سورة آل عمران. آية 7
(4) في باب (الاضطراب إلى الحجة) من كتاب الحجة.
(5) وهو خبر الحسن بن العباس بن جريش عن أبي جعفر الثاني (ع) المروي
في الوسائل في باب " 13 " (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن الخ)
من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
28

بلى فسره لرجل واحد وفسر للأمة شأن ذلك الرجل.. " الحديث.
وفي آخر (1) " إنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ولقوم يتلونه حق
تلاوته وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه. وأما غيرهم فما أشد اشكاله عليهم وأبعده
من مذاهب قلوبهم، إلى أن قال: وإنما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه
وصراطه ويعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوام بكتابه والناطقين عن أمره وأن
يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم.. " الحديث (2).
ويدل على ذلك الحديث المتواتر بين العامة والخاصة (3) من قوله (صلى الله عليه وآله)
إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض " فإن الظاهر أن المراد من عدم افتراقهما إنما باعتبار الرجوع في معاني
الكتاب إليهم (صلوات الله عليهم) وإلا لو تم فهمه كلا أو بعضها بالنسبة إلى الأحكام

(1) وهو خبر المعلي بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) المروي في الوسائل
في باب " 13 " (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن الخ)
من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
(2) ومن الأخبار في ذلك ما رواه العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ خر أبعد من السماء " وفي الكافي
عن الصادق (عليه السلام) قال: " ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر "
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار "
وحمل الرأي - على الميل الطبيعي المرتب على الأغراض الفاسدة والمطالب الكاسدة كما
ذكره بعضهم - بعيد كما أوضحناه في كتاب الدرر النجفية (منه رحمة الله).
(3) وقال في الوسائل في باب 5 (تحريم الحكم بغير الكتاب والسنة ووجوب نقض
الحكم مع ظهور الخطأ) من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء: وقد
تواتر بين العامة والخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " أني تارك فيكم الثقلين ما إن
تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض "
29

الشرعية والمعارف الآلهية بدونهم لصدق الافتراق ولو في الجملة.
ويؤيد ذلك أيضا قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): " القرآن كتاب
الله الصامت وأنا كتاب الله الناطق " (1) فلو فهم معناه بدونه (عليه السلام) لم يكن
لوصفه بكونه صامتا معنى (2).
ولا يخفى على الفطن المنصف صراحة هذه الأدلة في المدعى، وظني أن ما يقابلها
مع تسليم التكافؤ لا صراحة له في المعارضة.
فمن ذلك - الأخبار الواردة بعرض الحكم المختلفة فيه الأخبار على القرآن
والأخذ بما يوافقه وطرح ما يخالفه. ووجه الاستدلال أنه لو لم يفهم منه شئ إلا
بتفسيرهم (عليهم السلام) انتفى فائدة العرض. والجواب أنه لا منافاة، فإن تفسيرهم
(عليهم السلام) إنما هو حكاية مراد الله تعالى فالأخذ بتفسيرهم أخذ بالكتاب، وأما
ما لم يرد فيه تفسير عنهم (صلوات الله عليهم) فيجب التوقف فيه وقوفا على تلك
الأخبار وتقييدا لهذه الأخبار بها
ومن ذلك الآيات، كقوله سبحانه: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل
شئ.. " (3) وقوله: " ما فرطنا في الكتاب من شئ.. " (4) وقوله: " لعلمه الذين

(1) وقد رواه في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب صفات القاضي وما يقضى به
من كتاب القضاء هكذا: " هذا كتاب الله الصامت وأنا كتاب الله الناطق ".
(2) ومن ذلك أيضا ما ورد من أن القرآن مشتمل على الناسخ والمنسوخ والمحكم
والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل والتقديم والتأخير والتغيير
والتبديل، واستفادة الأحكام الشرعية من مثل ذلك لا يتسير إلا للعالم بجميع ما هنالك
وليس إلا هم (عليهم السلام) خصوصا الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية، فإنها لا تخرج
عن هذه الأقسام المذكورة (منه قدس سره).
(3) سورة النحل. آية 89
(4) سورة الأنعام. آية 38
30

يستنبطونه.. " (1) وقوله: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " (2).
والجواب أن الآيتين الأوليين لا دلالة فيهما على أكثر من استكمال القرآن
لجميع الأحكام وهو غير منكور، وأما كون فهم الأحكام مشتركا بين كافة الناس كما
هو المطلوب بالاستدلال فلا، كيف؟ وجل آيات الكتاب سيما ما يتعلق بالفروع
الشرعية كلها ما بين مجمل ومطلق وعام ومتشابه لا يهتدى منه - مع قطع النظر عن السنة -
إلى سبيل. ولا يركن منه إلى دليل. بل قد ورد من استنباطهم (عليهم السلام) جملة
من الأحكام من الآيات ما لا يجسر عليه سواهم ولا يهتدي إليه غيرهم، وهو مصداق
ما تقدم من قولهم: " ليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن "
كالأخبار الدالة على حكم الوصية بالجزء من المال، حيث فسره (عليه السلام) بالعشر
مستدلا بقوله سبحانه: " ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا.. " (3) وكانت الجبال عشرة،
والوصية بالسهم. حيث فسره بالثمن لقوله سبحانه: " إنما الصدقات للفقراء.. الآية " (4)
والنذر بمال كثير. حيث فسره (عليه السلام) بالثمانين لقوله تعالى: " في مواطن
كثيرة.. " (5) وكانت ثمانين موطنا، وأمثال ذلك مما يطول به الكلام.
وأما الآية الثالثة فظاهر سياق ما قبلها وهو قوله: " ولو ردوه إلى الرسول
وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.. " يدل على كون المستنبطين هم الأئمة
(عليهم السلام) وبذلك توافرت الأخبار عنهم (عليهم السلام)، ففي الجوامع عن الباقر
(عليه السلام): " هم الأئمة المعصومون " والعياشي عن الرضا (عليه السلام):
" يعني آل محمد وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام " وفي الاكمال
عن الباقر (عليه السلام) مثل ذلك. وقد تقدم في بعض الأخبار التي قدمناها ما يشعر

(1) سورة النساء. آية 83
(2) سورة محمد (صلى الله عليه وآله). آية 24
(3) سورة البقرة. آية 260
(4) سورة التوبة. آية 60
(5) سورة التوبة. آية 25
31

بذلك أيضا. وأما الآية الرابعة فإنا - كما سيتضح لك - لا نمنع فهم شئ من القرآن
بالكلية ليمتنع وجود مصداق آلية، فإن دلالة الآيات - على الوعد والوعيد والزجر لمن
تعدى الحدود الإلهية والتهديد - ظاهر لا مرية فيه، وهو المراد من التدبر في الآية كما
ينادي عليه سياق الكلام.
والقول الفصل والمذهب الجزل في ذلك ما أفاده شيخ الطائفة (رضوان الله عليه)
في كتاب التبيان وتلقاه بالقبول جملة من علمائنا الأعيان، حيث قال بعد نقل جملة
من أخبار الطرفين ما ملخصه: والذي نقول: إن معاني القرآن على أربعة أقسام:
(أحدها) - ما اختص الله تعالى بالعلم به. فلا يجوز لأحد تكلف القول فيه
(وثانيها) - ما يكون ظاهره مطابقا لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب
بها عرف معناه، مثل قوله: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.. " (1)
(وثالثها) - ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا مثل قوله " أقيموا الصلاة.. " (2)
ثم ذكر جملة من آليات التي من هذا القبيل وقال: إنه لا يمكن استخراجها إلا ببيان
من النبي (صلى الله عليه وآله) (ورابعها) - ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد
عليهما ويمكن أن يكون كل واحد منهما مرادا. فإنه لا ينبغي أن يقدم أحد فيقول إن مراد
الله بعض ما يحتمله إلا بقول نبي أو إمام معصوم، إلى آخر كلامه " زيد في اكرامه "
وعليه تجتمع الأخبار على وجه واضح المنار. ويؤيده ما رواه (3) في الاحتجاج

(1) سورة الأنعام. آية 151
(2) سورة الأنعام. آية 72
(3) ومنه ما روى أن الحسن (عليه السلام) تلا قوله سبحانه: " ولا رطب ولا
يابس إلا في كتاب مبين " فقال معاوية: أين قصة لحيتي ولحيتك في الكتاب. وقد كان
الحسن (عليه السلام) حسن اللحية وكان معاوية قبيحها، فقال (عليه السلام): " والبلد
الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " وما روى في حديث أبي الجارود
قال قال أبو جعفر (عليه السلام): " إذا حدثتكم بشئ فاسألوني من كتاب الله " ثم قال
في بعض حديثه: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن القيل والقال وفساد
المال وكثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول الله! أين هذا من كتاب الله فقال: إن
الله عز وجل يقول: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف
أو اصلاح بين الناس " وقال: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما "
وقال: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " (منه قدس سره)
32

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) في حديث الزنديق الذي جاء إليه بآي من القرآن
زاعما تناقضها. حيث قال (عليه السلام) في أثناء الحديث: " إن الله جل ذكره
لسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه قسم كلامه ثلاثة أقسام:
فجل قسما منه يعرفه العالم والجاهل. وقسما منه لا يعرفه إلا من صف ذهنه ولطف
حسه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للاسلام. وقسما لا يعرفه إلا الله وأنبياؤه
والراسخون في العلم، وإنما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل المستولون على ميراث
رسول الله (صلى الله عليه وآله) من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم، وليقودهم الاضطرار
إلى الائتمار لمن ولاه أمرهم. إلى أن قال: فأما ما علمه الجاهل والعالم من فضل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كتاب الله، فهو قوله سبحانه: " من يطع الرسول
فقد أطاع الله.. " (2) وقوله: " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا
صلوا عليه وسلم تسليما " (3) ولهذه الآية ظاهر وباطن. فالظاهر هو قوله:
(صلوا عليه) والباطن (سلموا تسليما) أي سلموا - لمن وصاه واستخلفه عليكم - فضله وما
عهد إليه تسليما. وهذا مما أخبرتك أنه لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه وصفا ذهنه
وصح تمييزه، وكذلك قوله: " سلام على آل يس " (4) لأن الله سمى النبي (صلى الله

(1) في احتجاجات أمير المؤمنين (عليه السلام).
(2) سورة النساء. آية 80
(3) سورة الأحزاب. آية 56
(4) سورة الصافات. آية 130
33

عليه وآله) بهذا الاسم، حيث قال: " يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين "
لعلمه أنهم يسقطون " سلام على آل محمد " كما أسقطوا غيره.. الحديث ".
(أقول): والقسم الثاني من كلام الشيخ (قدس سره) هو الأول من كلامه (صلوات الله
عليه) وهو الذي يعرفه الجاهل والعالم، وهو ما كان محكم الدلالة. وهذا مما لا ريب في صحة
الاستدلال به والمانع مكابر. والقسم الرابع من كلامه (رضوان الله عليه) هو الثاني من كلامه
(صلوات الله عليه) وهو الذي لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه، والظاهر أنه أشار بذلك إلى الأئمة (عليهم السلام)، فإنهم هم المتصفون بتلك الصفات
على الحقيقة، وأن ادعى بعض من أشرنا إليه آنفا دخوله في ذلك. والآيات - التي
جعلها (عليه السلام) من هذا القسم - دليل على ذلك، فإنها كما أشار إليه (صلوات الله
عليه) من التفسير الباطن الذي لا يمكن التهجم عليه إلا من جهتهم (لا يقال): إنه يلزم
اتحاد القسم الثاني من كلامه (صلوات الله عليه) بما بعده، لكون القسم الثالث أيضا
من المعلوم لهم (عليهم السلام) (لأنا نقول): الظاهر تخصيص القسم الثالث بعلم الشرائع
الذي يحتاج إلى توقيف، وأنه لا يعلمه إلا هو (جل شأنه) أو أنبياؤه بالوحي إليهم وإن
علمه الأئمة (عليهم السلام) بالوراثة من الأنبياء. بخلاف الثاني. فإنه مما يستخرجونه
بصفاء جواهر أذهانهم ويستنبطونه باشراق لوامع أفهامهم، وحينئذ فالقسم الثالث
من كلام الشيخ (قدس سره) هو الثالث من كلامه (صلوات الله عليه) ولعل عدم
ذكره (صلوات الله عليه) للقسم الأول من كلام الشيخ لقلة أفراده في القرآن المجيد
إذ هو مخصوص بالخمسة المشهورة، أو أن الغرض التام إنما يتعلق بذكر الأقسام التي
أخفاها (جل شأنه) عن تطرق تغيير المبدلين وإن ذكر معها القسم الأول استطرادا،
ومرجع هذا الجمع الذي ذكره الشيخ (قدس سره) إلى حمل أدلة الجواز على القسم
الثاني من كلامه (طاب ثراه) وأخبار المنع على ما عداه، وأما ما يفهم من كلام
المحدث الكاشاني (قدس سره) - في المقدمة الخامسة من كتاب الصافي من الجمع بين
34

الأخبار بالحمل على تفاوت مراتب الناس في الاستعداد والوصول إلى تحصيل المقصود
منه والمراد - فظني بعده عن سياق الأخبار. فإن أخبار المنع - كما عرفت من الشطر الذي
قدمناه منها - قد دلت على الاختصاص بالأئمة (عليهم السلام). وادعاء مزاحمتهم (صلوات
الله عليهم) في تلك المرتبة يحتاج إلى جرأة عظيمة. ومن أراد تحقيق الحال والإحاطة
بأطراف المقال فليرجع إلى كتابنا الدرر النجفية.
(المقام الثاني) - في الاجماع. ومجمل الكلام فيه ما أفاده المحقق (طاب ثراه)
في المعتبر واقتفاه فيه جمع ممن تأخر، قال (قدس سره): " وأما الاجماع فهو عندنا
حجة بانضمام المعصوم. فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو حصل
في اثنين لكان قولهما حجة، لا اعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله (عليه السلام). فلا
تغتر إذا بمن يتحكم فيدعي الاجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهلة قول
الباقين " انتهى. وحينئذ فالحجة هو قوله (عليه السلام) لا مجرد الاتفاق، فيرجع
الكلام - على تقدير ثبوت الاجماع المذكور - إلى خبر ينسب إلى المعصوم (عليه السلام)
اجمالا. وترجيحه على الأخبار المنسوبة إليه تفصيلا غير معقول. وكأنهم زعموا أن
انتسابه إليه في ضمن الاجماع قطعي ولا في ضمنه ظني. وهو ممنوع. على أن تحقق هذا
الاجماع في زمن الغيبة متعذر. لتعذر ظهوره (عليه السلام) وعسر ضبط العلماء
على وجه يتحقق دخول قوله في جملة أقوالهم. إلا أن ينقل ذلك بطريق التواتر
والآحاد المشابه له نقلا مستندا إلى الحس، بمعاينة أعمال جميع من يتوقف انعقاد الاجماع
عليه، أو سماع أقوالهم على وجه لا يمكن حمل القول والعمل على نوع من التقية ونحوها،
ودونه خرط القتاد. لما يعلم يقينا من تشتت العلماء وتفرقهم في أقطار الأرض بل
انزوائهم في بلدان المخالفين وحرصهم على أن لا يطلع أحد على عقائدهم ومذاهبهم.
وما يقال - من أنه إذا وقع إجماع الرعية على الباطل يجب على الإمام أن يظهر
35

ويباحثهم حتى يردهم إلى الحق لئلا يضل الناس، أو أنه يجوز أن تكون هذه الأقوال -
المنقولة في كتب الفقهاء التي لا يعرف قائلها - قولا للإمام (عليه السلام) ألقاه بين أقوال
العلماء حتى لا يجتمعوا على الخطأ كما ذهب إليه بعض المتأخرين، حتى أنه (قدس سره)
كان يذهب إلى اعتبار تلك الأقوال المجهولة القائل لذلك - فهو مما لا ينبغي أن يصغي القائل لذلك - فهو مما لا ينبغي أن يصغي
إليه (1) ولا يعرج في مقام التحقيق عليه. وعلى هذا فليس في عد الاجماع في الأدلة
إلا مجرد تكثير العدد وإطالة الطريق، لأنه إن علم دخوله (عليه السلام) فلا بحث
ولا مشاحة في اطلاق اسم الاجماع عليه واسناده الحجة فيه ولو تجوزا، وإلا فإن
ظن ولو بمعاضدة خبر واحد فكذلك، وإلا فليس نقل الاجماع بمجرده
موجبا لظن دخول المعصوم (عليه السلام) ولا كاشفا عنه كما ذكروه، نعم لو انحصر
حملة الحديث في قوم معروفين أو بلدة محصورة في وقت ظهوره (عليه السلام) كما
في وقت الأئمة الماضين (صلوات الله عليهم أجمعين) اتجه القول بالحجية، ويقرب
منا أيضا ما لو أفتى - جماعة من الصدر الذي يقرب منهم كعصر الصدوق وثقة الاسلام
الكليني (عطر الله مرقدهما) ونحوهما من أرباب النصوص - بفتوى لم نقف فيها على خبر
ولا مخالف منهم، فإنه أيضا مما يقطع بحسب العلم العادي فيها بالحجية ودخول قول
المعصوم (عليه السلام) فيهم لوصول نص لهم في ذلك، ومن هنا نقل جمع من أصحابنا

(1) اما الأول منهما فلما هو ظاهر لكل ناظر من تعطيل الاحكام جلها بل كلها
في زمان الغيبة، ولا سيما في مثل زماننا هذا الذي قد انطمس فيه الدين، بل صار جملة أهله
شبه المرتدين. وقد صار المعروف فيه منكرا والمنكر معروفا، وصارت الكبائر لهم
ألفا مألوفا، واما الثاني منهما فكيف يكفي في الحجية مجرد احتمال كون ذلك هو المعصوم؟
مع أنهم في الاخبار يبالغون في تنقية أسانيدها والطعن في رواتها، ولا يحتجون الا
بصحيح السند منها ولا يكتفون بمجرد الاحتمال هناك مع توفر القرائن على الصحة فكيف
هنا؟ ما هذا الا تخريص في الدين وجمود على مجرد التخمين. وهو مما قد نهت عنه سنة
سيد المرسلين (منه قدس سره).
36

أن المتقدمين كانوا إذا أعوزتهم النصوص في المسألة يرجعون إلى فتاوى علي بن الحسين
ابن بابويه.
وممن صرح بامتناع انعقاد الاجماع في زمن الغيبة المحقق الشيخ حسن في كتاب
المعالم، حيث قال: الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الاجماع في زماننا هذا
وما ضاهاه من غير جهة النقل، إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام (عليه السلام)
كيف؟ وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين، ليدخل في جملتهم ويكون قوله
مستورا بين أقوالهم، وهذا مما يقطع بانتفائه، فكل اجماع - يدعي في كلام الأصحاب
مما يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا هذا وليس مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد
حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم - فلا بد أن يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة.
وأما الزمان السابق على ما ذكرناه المقارب لعصر ظهور الأئمة (عليهم السلام) وامكان
العمل بأقوالهم، فيمكن فيه حصول الاجماع والعلم به بطريق التتبع وإلى مثل هذا نظر
بضع علماء أهل الخلاف، حيث قال: الانصاف أنه لا طريق إلى معرفة حصول
الاجماع إلا في زمان الصحابة، حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم
على التفصيل " انتهى كلام المحقق المذكور (منحه الله تعالى البهجة والسرور).
والتحقيق أن أساطين الاجماع كالشيخ والمرتضى وابن إدريس وأضرابهم قد
كفونا مؤنة القدح فيه وابطاله بمناقضاتهم بعضهم بعضا في دعواه، بل مناقضة الواحد
منهم نفسه في ذلك كما لا يخفى على المتتبع البصير، ولا ينبئك مثل خبير، ولقد
كان عندي رسالة الظاهر أنها لشيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) كتبها في الاجماعات
التي ناقض الشيخ فيها نفسه، وقد ذهبت في بعض الحوادث التي جرت على
جزيرتنا البحرين.
(فإن قيل): إن بعض الأخبار مما يدل على حجية الاجماع، كمقبولة عمر
37

ابن حنظلة (1) حيث قال السائل: " فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ليس يتفاضل
واحد منهما على صاحبه؟ فقال (عليه السلام): ينظر إلى ما كان - من روايتهما عنا في ذلك
الذي حكاه - المجمع عليه أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور
عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ".
وما رواه في الكافي في باب ابطال الرؤية (2) في الصحيح عن صفوان،
قال: " سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) إلى أن
قال: فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إذا
كانت الرويات مخالقة للقرآن كذبتها، وما أجمع عليه المسلمون أنه لا يحاط به علما
ولا تدركه الأبصار.. الحديث ".
وما رواه في الكافي أيضا في الباب المذكور عن محمد بن عبيد قال: " كتبت
إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما ترويه العامة والخاصة، وسألته
أن يشرح لي ذلك، فكتب بخطه: اتفق الجميع لا تمانع بينهم أن المعرفة من جهة
الرؤية.. الحديث ".
(فالجواب) عن ذلك ممكن اجمالا وتفصيلا، أما الأول فلأن المسألة من الأصول
المنوطة بالقطع عندهم. والأخبار المذكورة لا تخرج عن خبر الآحاد الذي قصاراه الظن
عندهم فلا يتم الاستدلال. وأما الثاني فأما عن الخبر الأول (فأولا) أن غاية ما يستفاد
منه كون الاجماع مرجحا لأحد الخبرين على الآخر عند التعارض وهو مما لا نزاع فيه،
إنما النزاع في كونه دليلا مستقلا برأسه، والخبر لا يدل عليه، (وثانيا) فإن ظاهره
بل صريحه كون الاجماع في الرواية وهو مما لا نزاع فيه، لا في الفتوى كما هو المطلوب

(1) المروية في الوسائل في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من
كتاب القضاء.
(2) من كتاب التوحيد.
38

بالاستدلال. وأما عن الأخيرين فيمكن (أولا) الحمل على كون الاستدلال جدليا
إلزاميا للخصم القائل بجواز الرؤية بالاجماع الذي يعتقد حجيته على ما ينافي مدعاه
من جوازها. و (ثانيا) بأنه على تقدير دلالتهما على الحجية في الجملة فلا دلالة لهما
على العموم في الأمور العقلية والنقلية، إذ متعلق الاستدلال هنا الأمور العقلية. والجواب
- بأنه لا قائل بالفرق - مردود بأن اللازم من ذلك الاستدلال بفرع من فروع حجية
الاجماع قبل ثبوت أصل حجيته. على أن المفهوم - من رسالة الصادق (عليه السلام)
التي كتبها لشيعته وأمرهم بتعاهدها والعمل بما فيها المروية في روضة الكافي (1) بأسانيد
ثلاثة - أن أصل الاجماع من مخترعات العامة وبدعهم، قال (عليه السلام): " وقد
عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه السلام) قبل موته فقالوا: نحن بعد ما قبض الله تعالى
رسوله يسعنا أن نأخذ ما اجتمع عليه رأي الناس بعد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إلى أن قال (عليه السلام): فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك
وزعم أن ذلك يسعه.. الحديث ".
وبالجملة: فإنه لا شبهة ولا ريب في أنه لا مستند لهذا الاجماع من كتاب
ولا سنة. وإنما يجري ذلك على مذاق العامة ومخترعاتهم، ولكن جملة من أصحابنا
قد تبعوهم فيه غفلة، كما جروا على جملة من أصولهم في مواضع عديدة مع مخالفتهم لما هو
المستفاد من الأخبار، كما سيظهر لك إن شاء الله في ضمن مباحث هذا الكتاب.
وقد نقل المحدث السيد نعمة الله الجزائري (قدس سره) - عن بعض مشايخه
في بيان وجه العذر لمشايخنا المتقدمين في اختلاف الاجماعات المنقولة عنهم - ما ملخصه:
أن الأصول التي كان عليها المدار وهي التي انتخبوا منها كتب الحديث المشهورة الآن
كانت بأيديهم، وإنما حدث فيها التلف والاضمحلال من زمان ابن إدريس لأسباب

(1) في أول الكتاب.
39

ذكر ها، وكانوا - بملاحظة ما اشتملت عليه جميعها أو أكثرها من الأحكام - يدعون
عليه الاجماع، وربما اختلفت الأخبار في ذلك الحكم بالتقية وعدمها ا والجواز والكراهة
ونحوها، فيدعي كل منهم الاجماع على ما يؤدي إليه نظره وفهمه من تلك الأخبار بعد
اشتمال أكثر تلك الأصول أو كلها على الأخبار المتعلقة بما يختاره ويؤدي إليه نظره.
(أقول): وعندي أن هذا الاحتمال ليس ببعيد، فإن الظاهر أن مبدأ التفريع
في الأحكام والاستنباط إنما هو من زمن المرتضى والشيخ (رضوان الله عليهما) فإن
كتب من تقدمهما من المشايخ إنما اشتملت على جمع الأخبار وتأليفها، وإن كان بعضها
قد اشتمل على مذهب واختيار في المسألة، فإنما يشار إليه في عنوان الأبواب وينقل ما يخصه
من الأخبار، كما لا يخفى على من لاحظ الكافي والفقه ونحوهما من كتب الصدوق وغيره
وكذلك أيضا فتاويهم المحفوظة عنهم لا تخرج عن موارد الأخبار، وحينئذ فنقل
الشيخ والسيد (قدس سرهما) اجماع الطائفة على الحكم مع كون عمل الطائفة إنما هو
على ما ذكرنا من الأخبار وكونهما على أثر أولئك الجماعة الذين هذه طريقتهم من غير
فاصلة، فكيف يصح حمل ما يدعونه من الاجماع على الاجماع في الفتوى وإن كان
من غير خبر؟ بل الظاهر أنما هو الاجماع في الأخبار. ألا ترى أن الشيخ في الخلاف
المرتضى في الإنتصار إنما استندا في الاستدلال إلى مجرد الاجماع وجعلوه هو المعتمد
والمعتبر مع كون الأخبار بمرأى منهم ومنظر، وليس ذلك إلا لرجوعه إليها وكونه
عبارة عن الاجماع فيها، وهذا أحد الوجوه التي اعتذر بها شيخنا الشهيد في الذكرى
عن اختلافهم في تلك الاجماعات، وهو أظهرها وإن جعله آخرها
(المقام الثالث) - في دليل العقل. وفسره بعض بالبراءة الأصلية والاستصحاب،
وآخرون قصروه على الثاني، وثالث فسره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل
الخطاب، ورابع بعد البراءة الأصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج
40

فيه مقدمة الواجب واستلزام الأمر بالشئ النهي عن ضده الخاص والدلالة الالتزامية
ولا بد لنا أن نتكلم على ما لا بد منه في مطالب:
(المطلب الأول) - في البراءة الأصلية، اعلم أن الأصل - كما ذكره جملة من الفضلاء -
يطلق على معان (أحدها) - الدليل كما يقال: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة
و (ثانيهما) - الراجح كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة و (ثالثها) - القاعدة كقولهم:
الأصل في البيع (1) اللزوم، والأصل في تصرفات المسلمين الصحة.
(ورابعها) الاستصحاب كقولهم: إذا تعارض الأصل والظاهر فالأصل مقدم.
والأصل فيما نحن فيه إما بمعنى الراجح، والمراد منه ما يترجح إذا خلى الشئ ونفسه، بمعنى أنه
متى لوحظت الذمة من حيث هي هي مع قطع النظر عن التكليفات فإن الراجح برائتها،
كما في قولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، بمعنى أن الراجح ذلك لو خلي الكلام ونفسه
من غير قرينة صارفة عن معناه الموضوع له، ويحتمل أن يكون الأصل هنا أيضا بمعنى
استصحاب الحالة التي كان عليها الشئ قبل التكليف أو قبل حال الاختلاف كاستصحاب
براءة الذمة قبل ذلك. ومن هنا صرح بعضهم بأن الوجه في التمسك بالبراءة الأصلية
من حيث إن الأصل في الممكنات العدم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المعنى الأول من هذه المعاني مما لا اشكال ولا خلاف
فيه، وكذا الثاني في غير البراءة الأصلية، وأما فيها ففيه ما سيتضح لك من التفصيل

(1) وما ذكروه - من قولهم: الأصل في البيع اللزوم، حتى أنهم كثيرا ما يتمسكون
به في اثبات بيع أو عقد مشتمل على شرط مختلف في صحته وفساده - ففيه ان ظاهر الاخبار
ترده، فان العقود المشتملة على القيود بعضها مما دلت الاخبار على صحته وبعضها مما دلت على
فساد الشرط دون العقد، والحكم بالصحة والفساد تابع لما ورد عن أهل العصمة
(عليهم السلام) كما أشرنا إلى ذلك في المقدمة الحادية عشرة من مقدمات هذا الكتاب
(منه رحمه الله).
41

إن شاء الله تعالى. وأما الثالث فإن كانت تلك القاعدة مستفادة من الكتاب والسنة
فلا اشكال في صحة البناء عليها، ومنه قولهم: الأصل في الأشياء الطهارة، أي القاعدة
المستفادة من النصوص - وهي قولهم (عليهم السلام): " كل شئ طاهر حتى تعلم
أنه قذر " (1) - تقتضي طهارة كل شئ، وأما الرابع فهو محل الاختلاف في المقام
ومرمى سهام النقض والابرام.
ثم إنه يجب أن يعلم أن الأصل بمعنى النفي والعدم إنما يصح الاستدلال به - على
تقديره - على نفي الحكم الشرعي لا على اثباته، ولهذا لم يذكر الأصوليون البراءة
الأصلية في مدارك الأحكام الشرعية، وحينئذ فإذا كانت البراءة مستلزمة لشغل
الذمة من جهة أخرى امتنع الاستدلال بها، كما إذا علم نجاسة أحد الثوبين أو الإناءين
بعينه واشتبه بالآخر، فإنه لا يصح الاستدلال على طهارة كل واحد منهما بأن يقال:
الأصل عدم نجاسته، فإنه ينتج ممن ذلك الحكم بطهارتهما ويلزم منه اشتغال الذمة
بالنجاسة لمعلوميتها كما عرفت وإن جهل تعينها، ولذلك فروع (2) كثيرة في أبواب

(1) الوارد بهذا المضمون هو موثق عمار الذي رواه الشيخ في التهذيب في كيفية
غسل الأواني من باب (تطهير الثياب وغيرها من النجاسات) من كتاب الطهارة. ورواه
في الوسائل في باب - 27 - من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.
واليك نصه: (عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد
عن مصدق بن صدقة عن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: كل شئ نظيف
حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك.
(2) (منها) - ما لو اشتغلت ذمة المكلف بصلاة من الخمس غير معينة، فإنه لا يصح
ان يقال: الأصل براءة الذمة من كل فرد فرد من تلك الافراد المعلومة الاشتغال وان جهل
محله، بل الواجب كما ورد به النص الاتيان بجميع الافراد المشكوكة، ومثله الشك في الجمعة
والظهر، والشك في القبلة. وفي جميع هذه المواضع يجب الاحتياط بما يوجب الخروج
من عهدة التكليف. نعم لو حصل الشك مع ذلك الواجب في محرم كما إذا وجب عليه وطء
الزوجة بنذر وشبهه واشتبهت بالأجنبية، امتنع الاحتياط بالاتيان بالافراد المشكوكة،
لتحريم وطء والأجنبية مطلقا معلومة كانت أو مشتبهة. وللزوم الجمع بين النقيضين، وهكذا
في كل موضع تردد الفعل بين الوجوب والتحريم، كما لو وجب قتل شخص قصاصا فاشتبه
بمحترم ونحو ذلك، فإنه لا مجال هنا لأصالة الوجوب ولا للاحتياط، ويفهم من بعض الأخبار
- كما ذكرنا في المقدمة الرابعة - ان الاحتياط هنا بالترك (منه رحمه الله).
42

الفقه يقف عليها المتدبر. والسر في ذلك أن حجية الأصل في النفي والعدم إنما هو من حيث
لزوم قبح تكليف الغافل كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى، وهذا لا يجري في اثبات
الحكم به، ولا دليل سوى ذلك، فيلزم اثبات حكم لا دليل.
إذا تقرر ذلك فاعلم أن البراءة الأصلية في قسمين: (أحدهما) - أنها عبارة عن نفي
الوجوب في فعل وجودي إلى أن يثبت دليله. بمعنى أن الأصل عدم الوجوب حتى
يثبت دليله. وهذا القس مما لا خلاف ولا اشكال في صحة الاستدلال به والعمل
عليه، إذ لم يذهب أحد إلى أن الأصل الوجوب، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق
وللأخبار الدالة على أن " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم " (1)
و " الناس في سعة ما لم يعلموا " (2) و " رفع القلم عن تسعة أشياء. وعد منها

(1) المروى في الوسائل عن التوحيد والكافي في باب - 12 - من أبواب صفات
القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء. ولكن رواية الكافي ليس فيها كلمة (علمه).
(2) الشهاب في الحكم والآداب ص 7 (في الألف الموصول والمقطوع) للقاضي محمد بن سلامة
والذي وقفنا عليه مما يوافقه في المعنى من كتبنا - هي رواية السفرة المروية في الكافي في باب 48 - من كتاب
الأطعمة وفي الوسائل في باب 23 - من كتاب اللقطة. واليك نص الرواية كما في الكافي:
(علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)
ان أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفره وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها
وخبزها وبيضها وجبنها، وفيها سكين. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوم ما فيها
ثم يؤكل، لأنه يفسد وليس له بقاء، فان جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل يا أمير المؤمنين
لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتى يعلموا.
43

ما لا يعلمون " (1) و (ثانيهما) - أنه عبارة عن نفي التحريم في فعل وجودي إلى أن يثبت
دليله بمعنى أن الأصل الإباحة وعدم التحريم في ذلك الفعل إلى أن يثبت دليل تحريمه،
وهذه هي البراءة الأصلية التي وقع النزاع فيها نفيا واثباتا، فالعامة كملا وأكثر أصحابنا
على القول بها والتمسك في نفي الأحكام بها، حتى طرحوا في مقابلتها الأخبار الضعيفة
باصطلاحهم بل الأخبار الموثقة، كما لا يخفى على من طالع كتبهم الاستدلالية كالمسالك
والمدارك ونحوهما، فالأشياء عندهم إما حلال أو حرام خاصة، وجملة علمائنا
المحدثين وطائفة (2) من الأصوليين على وجوب التوقف والاحتياط، فالأشياء عندهم
مبنية على التثليث (3) (حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك)، وربما نقل أيضا
القول بأن الأصل التحريم إلى أن تثبت الإباحة، وهو ضعيف.
والحق - الحقيق بالاتباع، وهو المؤيد بأخبار أهل الذكر (صلوات الله عليهم) -
هو القول الثاني، ولنا عليه وجوه:

(1) رواه في الوسائل عن الكافي والتوحيد والخصال في باب - 56 - من أبواب
جهاد النفس وما يناسبه من كتاب الجهاد. واليك نص الحديث كما عن التوحيد والخصال:
(عن أحمد بن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حماد
ابن عيسى عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله): رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون
وما لا يطيقون وما اضطروا اليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم
ينطقوا بشفة)
(2) منهم الشيخ (قدس سره) في كتاب العدة، فإنه قد اختار القول بالتثليث
في الاحكام ومنع من الاعتماد على البراءة الأصلية وأطال في الاستدلال، ونقل ذلك أيضا
في الكتاب المذكور عن شيخه المفيد (رضي الله عنه) وقد نقلنا شطرا من كلامه في المسألة
في كتاب الدرر النجفية. ومثله أيضا المحقق في المعتبر (منه رحمه الله).
(3) نقله الشيخ في كتاب العدة عن طائفة من أصحابنا الإمامية البغداديين (منه قدس سره).
44

(الأول) - أن ما عداه قول بلا دليل فيجب اطراحه، وأدلة الخصم لا تنهض
بالدلالة كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى.
(الثاني) - استفاضة الأخبار بأن الله في كل واقعة حكما شرعيا مخزونا عند أهله حتى
أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة، وحينئذ فإذا كان جميع الأحكام قد ورد فيها خطاب
شرعي فكيف يصح التمسك بأصالة العدم والاستدلال به؟ نعم الاستدلال بذلك أنما
يتجه على مذهب المخالفين القائلين بأن جميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)
أظهره للصحابة ولم يكتم شيئا منه لا عن الأبيض ولا الأسود، ولا خص أحدا دون
أحد بشئ من علومه، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء شئ مما جاء به (صلى الله عليه وآله) فالمجتهد إذا فحص وفتش عن الأدلة الشرعية ولم يقف على دليل ذلك الحكم
يجب عنده الجزم بنفي ذلك الحكم ويكون التمسك بالبراءة الأصلية على نفيه، كما قالوا:
عدم وجود المدرك للحكم الشرعي مدرك شرعي لعدم الحكم، وبعبارة أخرى عدم وجود
الدليل دليل على العدم. وأما عندنا معاشر الإمامية فحيث استفاض في أخبارنا - بل صار
من ضروريات ديننا - أنه أودع علومه عند أهل بيته وخصهم بها دون غيرهم، واستفاض
أيضا أنه لم يبق شئ من الأحكام جزئي ولا كلي إلا وقد ورد فيه خطاب شرعي وحكم
إلهي وأن جميع ذلك عندهم، وأنهم كانوا في زمن تقية وفتنة، فقد يجيبون عن السؤال بما
هو الحكم الشرعي الواقعي تارة وقد يجيبون بخلافه تقية وقد لا يجيبون أصلا، فلا يتجه
اجراء هذا الكلام ولا صحته في هذا المقام (1)، ولا تمام هذه القاعدة ولا ما يترتب
عليها من الفائدة، ولا يمكن التمسك بالعدم الأصلي الذي هو عبارة عن عدم تعلق التكليف

(1) إذ الفرض انه لا حكم من الاحكام الا وقد ورد فيه خطاب شرعي وان كان
لم يصل الينا، فكيف يقال: الأصل براءة الذمة وخلوها لعدم الدليل واقعا، بمعنى انها
إذا لوحظت مع قطع النظر عن تعلق التكليف فالراجح الحكم بخلوها وبراءتها؟
(منه رحمه الله).
45

ووقوعه بالكلية. وما ذكرنا سابقا - من صحة الاستدلال بالقسم الأول من قسمي البراءة
الأصلية على نفي الوجوب في فعل وجودي - لا باعتبار عدم الحكم واقعا بل لعدم وصول
الحكم وللزوم تكليفنا بذلك مع عدم العلم بالحكم للحرج المنفي بالآية والرواية، وللأخبار المشار
إليها ثمة. نعم ما ذكروه يتم عندنا فيما تعمم به البلوى من الأحكام كما نبه على ذلك جملة
من علمائنا الأعلام (1) وإليه أشار المحقق في المعتبر قال في بيان معاني الاستصحاب:
" الثاني - أن يقال: عدم الدليل على كذا فيجب نفيه. وهذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هناك
دليل لظفر به، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف " انتهى.
(الثالث) - استفاضة الأخبار بتثليث الأحكام " حلال بين وحرام بين
وشبهات بين ذلك ". ولو تم ما ذكروا من العمل بالبراءة الأصلية المتقضي لدخول
ما دلت عليه في الحلال البين، لم يبق للقسم الثالث فرد يندرج تحته ولما كان للتثليث
وجه، بل يتعين القول بالتثنية وهو الحلال والحرام خاصة، والأخبار بخلافه.
(الرابع) - الأخبار المتكاثرة بل المتواترة معنى أنه مع عدم العلم بالحكم الشرعي
يجب السؤال منهم (عليهم السلام) أو من نوابهم، وإلا فالتوقف والوقوف على جادة
الاحتياط. ولو كان للعمل بالبراءة الأصلية أصل في الشريعة لما كان لأمرهم (عليهم
السلام) بالتوقف وجه.

(1) من أن عدم الدليل يدل على العدم - والتمسك بالبراءة الأصلية على عدم الحكم
واقعا - يتم عندنا في الاحكام التي تعم بها البلوى، كوجوب قصد السورة ووجوب نية
الخروج من الصلاة بالتسليم ونحوهما، فان المحدث الماهر - إذا تتبع الأدلة حق تتبعها
في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها، ولم يظفر بما يدل
على ذلك - يحصل له الجزم أو الظن القي عند بعض بعدم الحكم. وتحقيق القول فيما
أجملنا هنا يرجع فيه إلى كتابنا الدرر النجفية، حيث إن المسالة فيه قد أعطيناها حقها
من التحقيق ووفيناها ما هو بها حقيق (منه رحمه الله).
46

(الخامس) - أنه قد ورد عنه (عليهم السلام) جملة من الطرق لترجيح الأخبار
كما تقرر في مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها، ولم يذكروا البراءة الأصلية في جملة تلك
الطرق، بل قد اشتملت مقبولة عمر بن حنظلة بعد التوافق في جميع طرق الترجيح
على الأرجاء حتى يلقى إمامه (1)، معللا له بأن " الوقوف في الشبهات خير من
الاقتحام في الهلكات " وحينئذ فإذا كان الواجب مع الاتفاق في جميع تلك الطرق
هو ترك الحكم من كل منهما والتوقف فأي ترجيح بأصالة البراءة التي ذكروها؟ إذ لو
كانت دليلا شرعيا على العدم وموجبة لترجيح ما اعتضد بها لترجح بها هنا أحد الجانبين
وما ربما يظهر من كلام بعض الأجلاء - من أن ذلك مخصوص بالمنازعات في الأموال
والفرائض والمواريث كما يعطيه صدر الخبر وهو قول السائل: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث " - ففيه
(أولا) - أن خصوص السؤال لا يخصص عموم الجواب كما تقرر عندهم. و (ثانيا) - أن
هذه الترجيحات التي ذكرها (عليه السلام) لم يخصها أحد من الأصحاب بالأخبار
المتعارضة في خصوص هذه الأشياء التي ذكرها بل يجرونها في كل حكم تعارضت فيه
الأخبار، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار وذاق لذيذ تلك الثمار.
احتج بعض فضلاء متأخري المتأخرين بأن القول بالبراءة الأصلية مما تدل عليه
الآية والأخبار، كقوله تعالى: " خلق لكم ما في الأرض جميعا " (2) وقول الصادق

(1) ومن ذلك أيضا ما ورد في موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته
عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في امر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر باخذه
والاخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه،
فتراه في هذا الخبر أيضا أوجب التوقف الذي هو ساحل الهلكة ولم يرجح بأصالة البراءة
ولا بغيرها (منه رحمه الله).
(2) سورة البقرة آية 29.
47

(عليه السلام): " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي " (1) قال: على أنا لا نعني
بالبراءة الأصلية عدم التكليف بالكلية، لظهور فساده بما استفاض في الأخبار
أنه لا حكم من الأحكام إلا وقد ورد فيه خطاب شرعي، وإنما نعني بها عدم تعلق
التكليف بنا وأصالة براءة الذمة منه، لعدم الوقوف على دليله، إذ لا تكليف إلا بعد
البيان. ولعين ما تقدم من الأخبار المشار إليها في المعنى الأول من معاني البراءة
الأصلية. وأجاب بتخصيص الشبهة والتثليث في الأحكام بما تعارضت فيه الأخبار،
وأما ما لم يرد فيه نص فليس من الشبهة في شئ، وعلى تقدير تسليم كونه شبهة وشمول
تلك الأخبار له يخرج بالأخبار الدالة على أن " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي " ونحوه.
وما ذكره (قدس سره) محل نظر، أما الآية المذكورة فالجواب عنها
(أولا) - ما عرفت في المقام الأول من أن محل الاستدلال من القرآن العزيز هو ما كان
محكم الدلالة. والآية المذكورة مجملة محتملة لمعان عديدة كما سيظهر لك و (ثانيا) - أنه
قد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قال: " خلق لكم ما في
الأرض لتعتبروا به.. الحديث ". وعلى هذا يسقط الاستدلال رأسا و (ثالثا) - أن غاية
ما تدل عليه أنه (سبحانه) حلق ما في الأرض لأجل منافع العباد الدينية والدنيوية بأي
وجه أنفق، وذلك لا يستلزم إباحة كل شئ، ومجرد خلقه للانتفاع لا يستلزم
حلية ما لم يرد في حليته نص، لجواز الانتفاع به على وجه آخر، إذ لا شئ
من الأشياء إلا وفيه وجوه عديدة من المنافع. ولئن سلمنا الدلالة فالتخصيص قائم
بما قدمناه من الأخبار كما قد خصت بغيرها مما لا يخالف فيه الخصم.

(1) المروى في الفقيه في باب (وصف الصلاة من فاتحها إلى خاتمتها).
وفي الوسائل في باب - 19 - من أبواب القنوت من كتاب الصلاة. وفي باب - 12 -
من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
48

وأما الرواية فمن وجوه أيضا عديدة: (أحدها) - أن هذا الخبر وما ضاهاه
مما استدلوا به أخبار آحاد لا تفيد إلا الظن، والمسألة من الأصول المطلوبة فيها القطع
عندهم. و (ثانيها) - أن هذا الخبر وما شاكله موافق للعامة، لدلالتها على التثنية
في الأحكام بالحل والتحريم وأنه لا وجود للتشابه فيها، وأنه لا توقف ولا احتياط
في شئ من الأحكام كما هو مذهبهم، والأخبار التي قدمناها دالة على التثليث
والتوقف ووجوب الاحتياط في بعض وهو المتشابه، وقد تقرر في أخبارنا وجوب
الأخذ بخلافهم فإن الرشد فيه. و (ثالثها) - أن المفروض في الخبر المذكور عدم وجود
النهي وعدم حصول العلم، والحال أن النهي موجود فيما أشرنا إليه آنفا من الأخبار
وهو النهي عن القول بغير علم في الأحكام الشرعية والنهي عن ارتكاب الشبهات.
وحصل أيضا العلم منها وهو العمل بالاحتياط في بعض أفراد موضع النزاع والتوقف
في بعض، وعلى هذا يكون مضمون هذا الخبر وأمثاله مخصوصا بما قبل اكمال الشريعة
أو بمن لم يبلغه النهي العام المعارض لهذه الأخبار، فيبقى الآن مضمونها غير موجود
عند العلماء العارفين بمعارضاتها. و (رابعها) - الحمل على الخطابات الشرعية. وحاصل
معناه: أن كل خطاب شرعي فهو باق على اطلاقه وعمومه حتى يرد فيه نهي في بعض
أفراده يخرجه عن ذلك الاطلاق، مثل قولهم: " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " (1)
و " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه " (2) ونحو ذلك
من القواعد الكلية والضوابط الجلية. و (خامسها) - أن العمل بهذا الخبر وما شابهه
خلاف الاحتياط وما يقابلها موافق للاحتياط، فإنه لا خلاف في رجحان

(1) تقدم الأصل في ذلك في صحيفة (42).
(2) قد روى الأحاديث الواردة بهذا المضمون في الوسائل في باب - 35 - من أبواب
الأطعمة المحرمة من كتاب الأطمعة والأشربة، وفي باب - 61 - من أبواب الأطمعة المباحة
من كتاب الأطعمة والأشربة، وفي باب - 31 - من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.
49

الاحتياط في المقام وإنما الخلاف في وجوبه أو استحبابه، فالنافون للبراءة الأصلية
على الوجوب والمثبتون لها على الاستحباب، والأخبار الدالة على الأمر بالاحتياط
في الدين أوضح دلالة وأكثر عددا فالعمل بها أرجح البتة.
وأما قول: على أنا لا نعني بأصالة البراءة إلى آخره، فإن فيه أنه خروج عن ظاهر
العبارة بل عن تصرفاتهم بذلك كما لا يخفى على من راجع كلامهم، فإن مرادهم بالإباحة
هي الإباحة الأصولية التي هي عبارة عن عدم تعلق التكليف، لكن هذا القائل حيث
استشعر الإيراد بالأخبار التي أشرنا إليها التجأ إلى القول بما ذكره، مع أن فيه أيضا
أن الإباحة الشرعية أحد الأحكام الشرعية المتوقفة أيضا على الدليل، ولا دليل على إباحة
ما لا نص فيه، والآية والخبر اللذان هما عمدة أدلة أولئك القائلين بالحجية قد
عرفت ما فيهما.
وأما الأخبار التي استند إليها في عدم تعلق التكليف بنا حتى يظهر دليله، فهي
محمولة على المعنى الأول من معنيي البراءة الأصلية كما ينساق للناظر من ظاهر ألفاظها
لا المعنى الثاني منهما، لمعارضتها بالأخبار المستفيضة التي أشرنا إليها آنفا من حيث دلالتها
على وجوب الكف والتثبت في كل فعل وجودي لم نقطع بجوازه عند الله تعالى.
وأما جوابه - بتخصيص الشبهة والتثليث في الأحكام بما تعارضت فيه الأخبار
بناء على ظنه انحصار الدليل في مقبولة عمر بن حنظلة ونحوها - ففيه أن الأخبار دالة
على ما هو أعم بل صريحة في الفرد الذي ندعيه، ومن ذلك ما رواه في الفقيه (1)
من خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: " إن الله حد حدودا فلا تعتدوها،
وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها
رحمة من الله لكم فاقبلوها، ثم قال (عليه السلام): حلال بين وحرام بين وشبهات

(1) في باب (نوادر الحدود) وفي الوسائل في باب - 12 - من أبواب صفات القاضي
وما يقضى به من كتاب القضاء.
50

بين ذلك.. الحديث ". ومن المعلوم أن السكوت عنها إنما هو باعتبار عدم النص عليها
بالكلية. وفي حديث الطيار عن الصادق (عليه السلام) (1): " لا يسعكم فيما ينزل
بكم مما لا تعلمون (2) إلا الكف عنه والتثبت والرد على أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه
على القصد " وبمضمونه أخبار عديدة، وحينئذ فلا يتجه ما ذكره من اخراج ما لم يرد
فيه نص من الشبهة على تقدير شمول تلك الأخبار، فإن الدليل على دخوله في الشبهة
ليس مختصا بعموم أخبار الشبهة كما توهمه، بل خصوص هذه الأخبار الناصة عليه
بخصوصه الآمرة بالتوقف فيه والرد إلى أصحاب العصمة (سلام الله عليهم).
وأما الأخبار التي ادعى الاستناد إليها والتخصيص بها فقد عرفت وجه الجواب عنها مفصلا.
(المطلب الثاني) - في الاستصحاب، اعلم أنهم صرحوا بأن الاستصحاب
يقع على أقسام أربعة: (أحدها) - استصحاب نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة منه
إلى أن يظهر دليله، وهو المعبر عنه بالبراءة الأصلية التي تقدم الكلام عليها بمعنييها.
و (ثانيها) - استصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصص، وحكم النص إلى أن
يرد الناسخ. و (ثالثها) - استصحاب اطلاق النص إلى أن يثبت المقيد.
و (رابعها) استصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم
لها، بمعنى أنه يثبت حكم في وقت ثم يجيئ وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك

(1) المروى في الوسائل في باب - 4 و 8 و 12 - من أبواب صفات القاضي وما يقضى
به من كتاب القضاء.
(2) وهذا القسم من افراد الشبهة ربما عبر عنه بما ذكر في هذا الخبر، وربما عبر عنه
تارة بالمبهمات كما في خبر عبد الرحيم القصير وصفوان وموسى الحلبي عن الصادق (عليه السلام)
وربما عبه عنه تارة بالمبهمات المعضلات كما في الخطبة المروية عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
قال في جملة وصف أبغض الخلق إلى الله: (وان نزلت به احدى المبهمات المعضلات هيأ لها
حشوا من رأيه ثم قطع به. فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت، فهو خباط
عشوات ركاب شبهات... الحديث) (منه رحمه الله).
51

الحكم فيه، فيحكم ببقائه على ما كان، استصحابا لتلك الحالة الأولى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا خلاف ولا اشكال في حجيته بالمعنى الثاني والثالث،
لأن مرجعهما إلى الاستدلال بعموم النص واطلاقه، وإنما الاشكال والخلاف في أحد
معنى البراءة الأصلية، وقد تقدم وفي المعنى الرابع، وهو محل الخلاف في المقام ومنتصل
سهام النقض والابرام، فجملة من علمائنا الأصوليين بل أكثرهم على ما نقله البعض
على القول بالحجية، والمشهور بين المحدثين وجملة من علمائنا الأصوليين - بل نقل بعض
أنه مذهب أكثرهم أيضا - على العدم، وهو المنقول عن الشيخ والسيد المرتضى والمحقق.
وهو اختيار صاحبي المعالم والمدارك. ومثلوا له بالمتيمم إذا دخل في الصلاة ثم وجد
الماء في أثنائها، فإن الاتفاق واقع على وجوب المضي فيها قبل الرؤية، لكن هل يستمر
على فعلها والحال كذلك أم يستأنف؟ مقتضى الاستصحاب الأول.
احتج القائلون بالحجية بوجوه: (أحدها) - أن المقتضي للحكم الأول
ثابت والعارض لا يصلح رافعا له، فيجب الحكم بثبوته في الثاني. وجوابه أن صلاحية
العارض للرفع وعدمها فرع الثبوت في الثاني، فإن غاية ما دل عليه الدليل ثبوت الحكم
في الزمن الأول، وثبوته في الثاني يحتاج إلى دليل.
و (ثانيها) - أن الثابت أولا قابل للثبوت ثانيا، وإلا لا نقلب من الامكان
الذاتي إلى الاستحالة، فيجب أن يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا، فلا
ينعدم إلا بمؤثر، لاستحالة خروج الممكن عن أحد طرفيه إلى الآخر إلا لمؤثر، فإذا كان التقدير عدم العلم بالمؤثر بكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد، والعمل
بالراجح واجب. وجوابه أن توقف الانعدام على مؤثر فرع الوجود بالفعل
لا إمكان الوجود. وبالجملة فالمانع مستظهر، قال سيدنا المرتضى (قدس سره) - في الاحتجاج
52

على إبطال العمل بالاستصحاب - ما حاصله: أن في الاستصحاب جمعا بين حالين مختلفين
في حكم من غير دلالة، فإنا إذا كنا أثبتنا الحكم في الحالة الأولى بدليل فالواجب أن
ننظر، فإن كان الدليل يتناول الحالين، سوينا بينهما فيه إلا أنه ليس من الاستصحاب
في شئ، وإن كان تناول الدليل إنما هو للحالة الأولى فقط والثانية عارية عن الدليل،
فلا يجوز اثبات مثل الحكم لها من غير دليل، وجرت هذه الحالة مع الخلو عن الدليل
مجرى الأولى لو خلت من دلالة، فإذا لم يجز اثبات الحكم للأولى إلا بدليل فكذلك
الثانية. انتهى. وهو جيد.
و (ثالثها) - أن الفقهاء عملوا باستصحاب الحال في كثير من المسائل، والموجب
للعمل هناك موجود في موضع الخلاف، وذلك كمسألة من تيقن الطهارة وشك في الحدث
فإنه يعمل على يقينه. وجوابه أنه قياس مع وجود الفارق، لأن الاستصحاب
المقاس عليه من القسم الثاني من الأقسام المتقدمة، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر.
(أما الأول) - فإن محل الاستصحاب المتنازع فيه هو الحكم الشرعي، وذلك القسم محل
الاستصحاب فيه جزئيات الحكم الشرعي، والشارع قد أوجب في الحكم الشرعي البناء
على العلم واليقين دون جزئيات الحكم، فإن الحكم فيها مختلف كما أوضحناه في محل
أليق و (أما ثانيا) - فلأن الاستصحاب المقاس عليه ليس هو في التحقيق
من الاستصحاب في شئ كما صرح به علم الهدى (رضي الله عنه) فيما تقدم من كلامه،
بل هو عمل باطلاق الدليل أو عمومه، لأن قوله -: " لا تنقض اليقين بالشك.
ولا تنقضه إلا بيقين آخر " وقوله: " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " ونحو ذلك
- دال على ثبوت تلك الأحكام في جميع الأحوال والأزمان إلى أن يحصل يقين
وجود الرافع، بخلاف الاستصحاب المتنازع فيه، فإن الدليل - كما عرفت - إنما دل

(1) قد أوضحنا ذلك حسبما يراد على وجه لا يتطرق إليه إلا يرد في كتاب الدرر
النجفية من الملتقطات اليوسفية، وفقنا الله تعالى لاتمامه (منه قدس سره).
53

على حكم الحال الأولى وسكت عن الثانية، ولهذا سمي تعديته إلى الحال
الثانية حيث كانت عارية عن الدليل استصحابا، ومن ثم أيضا جعل الاستصحاب دليلا
برأسه مقابلا للسنة، وبابطال الأدلة المذكورة تنتفي الحجية ويزيد ذلك بيانا أيضا وجوده:
(الأول) - أن مفاد الاستصحاب - على ما ذكروه - إنما هو الظن، وقد قامت
الأدلة القاطعة - كما بسطنا الكلام عليه في كتاب المسائل - على أن الظن المتعلق
بنفس أحكامه تعالى غير معتبر شرعا. على أن وجود الظن أيضا فيه ممنوع، لأن
موضوع المسألة الثانية مقيد بالحالة الطارئة وموضوع المسألة الأولى مقيد بنقيض تلك
الحالة، فكيف يظن بقاء الحكم الأول؟
(الثاني) - أنه لا يخفى - على من راجع الأخبار وغاص لجج تلك البحار - أنه قد
ورد من الشارع في بعض الصور حكم يوافق الاستصحاب بالمعنى الذي ذكروه وفي بعضها
ما يخالفه. ومنه يعلم أنه ليس حكما كليا ولا قاعدة مطردة تبنى عليه الأحكام،
ومن تأمل - في أحاديث مسألة المتيمم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة التي هي
المثال الدائر للاستصحاب - ظهر له صحة ما قلنا، فإن بعضها قد دل على أنه ينصرف
من الصلاة ويتوضأ ما لم يركع، وبعضها على أنه يمضي في صلاته مطلقا، وبعضها
على أنه ينصرف بعد أن صلى ركعة ويتوضأ ويبني على ما مضى، وجل الأخبار دال
على الانصراف وإن كان في بعضها (ما لم يركع) وبعضها (ولو بعد تمام الركعة)
ولم يرد بالمضي إلا رواية محمد بن حمران، فلو كان الاستصحاب - الذي اعتمدوه دليلا
في الأحكام ومثلوا له بهذا المثال - دليلا برأسه لوجب - على هذا المصلي بمقتضى ذلك -
المضي في الصلاة ولزم طرح هذه الأخبار. وفيه من البطلان ما لا يحتاج إلى البيان (1).

(1) ومثل ذلك مسألة من نوى الإقامة عشرا ثم بدا له. سواء كان بعد الصلاة أم قبلها
فإن مقتضى العمل بالاستصحاب وجوب التمام بنية الإقامة القاطعة للسفر والاستمرار
علي ذلك، وأن العزم على السفر بعد ذلك ولو قبل الصلاة تماما لا يزيل حكم نية الإقامة مع
أن الأخبار فيه فصلت بالصلاة وعدمها، فلو كان الاستصحاب قاعدة كلية يتحتم البناء عليها
في الأحكام لما كان للتفصيل وجه في هذا المقام (منه رحمة الله).
54

(الثالث) - أن هذا الموضع من المواضع الغير المعلوم حكمه تعالى فيها في غير
ما دلت عليه النصوص، وقد تواترت الأخبار في مثل ذلك بوجوب التوقف والاحتياط
كما سلف تحقيقه. هذا. والمفهوم - من كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره)
في تعليقاته على المدارك - الميل إلى العمل بالاستصحاب على تفصيل ذكره هناك. وقد
بسطنا الكلام على المسألة المذكورة في كتاب الدرر النجفية، ونقلنا كلام المحدث
المذكور وأوضحنا ما فيه من القصور، وكذا كلام بعض الأعلام في المقام وما يتعلق
به من النقض والابرام، وههنا مواضع من الأحكام قد حصل الشك في اندراجها تحت
القسم الثالث الذي هو عبارة عن اطلاق النص، أو القسم الرابع الذي هو محل النزاع
سيأتي التنبيه عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
(المطلب الثالث) - في لحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب. ومرجع
ذلك إلى دلالة المفهوم موافقة أو مخالفة.
وتفصيل القول في ذلك أن دلالة اللفظ على معناه إما أن تكون في محل النطق أو لا في محله.
والأول - إما أن يكون مطابقة أو تضمنا أو التزاما، وإلا ولأن صريح المنطوق
والثالث غير صريحه، وهو أقسام:
(أحدها) - ما يتوقف صدق المعنى أو صحته عليه، ويسمى دلالة اقتضاء.
و (الأول) - نحو قوله (صلى الله عليه وآله): " رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ
والنسيان.. الحديث " (1). فإن صدقه يتوقف على تقدير المؤاخذة ونحوها.
و (الثاني) - نحو قوله سبحانه: " واسأل القرية " (2) فإن صحة المعنى تتوقف على تقدير

(1) رواه في الوسائل في باب - 56 - من أبواب جهاد النفس وما يناسبه من كتاب الجهاد
(2) سورة يوسف آية 82.
55

الأهل، لأن السؤال من القرية لا يصح عقلا، وحجية هذا القسم ظاهرة إذا كان
الموقوف عليه مقطوعا به.
(الثاني) - ما لا يتوقف عليه صدق المعنى ولا صحته لكنه اقترن بحكم
على وجه يفهم منه أنه علة لذلك الحكم، فيلزم حينئذ جريان الحكم المذكور في غير
هذا المورد مما اقترن بتلك العلة، ويسمى بدلالة التنبيه والايماء، نحو قوله (صلى الله
عليه وآله): " أعتق رقبة " (1) حين قال له الأعرابي: واقعت أهلي في شهر
رمضان. فإنه يفهم منه أن علة وجوب العتق هي المواقعة فتجب في كل موضع تحققت،
وكما إذا قيل له (عليه السلام): صليت مع النجاسة فقال: أعد صلاتك، فإنه يفهم منه
أن علة الإعادة هي النجاسة، فتجب الإعادة حينئذ في كل موضع تحققت النجاسة، والظاهر
حجيته مع علم العلية وعدم مدخلية خصوص الواقعة في ذلك. وهذا أحد قسمي تنقيح
المناط، وإليه أشار المحقق في المعتبر حيث حكم بحجية تنقيح المناط القطعي، وهو
كذلك، فإن مدار الاستدلال في جل الأحكام الشرعية على ذلك، إذ لو لوحظ
خصوصية السائل أو الواقعة لم يثبت حكم كلي في مسألة شرعية إلا نادرا.
(الثالث) - ما لم يقصد عرفا من الكلام ولكنه يلزمه، نحو قوله تعالى:
" وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " (2) مع قوله سبحانه " وفصاله في عامين " (3) فإنه
يعلم منه أن أقل الحمل ستة أشهر، والمقصود من الآية الأولى إنما هو بيان حق
الوالدة وتعبها، وفي الثانية بيان مدة الفصال، ولكن قد لزم منهما بيان أقل الحمل،
وتسمى دلالة إشارة، وحجيته ظاهرة مع قطعية اللزوم.

(1) هذا من حديث رواه في الوسائل عن الفقيه من باب - 8 - من أبواب ما يمسك
عنه الصائم ووقت الامساك من كتاب الصيام.
(2) سورة الأحقاف آية 15.
(3) سورة لقمان آية 14.
56

واعترض بعض الفضلاء على عد الدلالة الالتزامية بأقسامها الثلاثة من المنطوق
واختار دخولها في المفهوم، محتجا بأن المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم
ما دل عليه لا في محله، والمطلوب بالدلالة الالتزامية ليس مدلولا عليه في محل النطق.
والثاني - وهو دلالة اللفظ لا في محل النطق، وتسمى دلالة المفهوم - قسمان:
مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة، لأن حكم غير المذكور إما موافقة لحكم المذكور نفيا
واثباتا أو لا، والأول الأول والثاني الثاني.
فالقسم الأول يسمى بفحوى الخطاب ولحم الخطاب. ومثلوه بقوله
تعالى: " فلا تقل لهما أف.. " (1) فإنه يعلم من حال التأفيف وهو محل النطق حال
الضرب وهو غير محل النطق ويعلم اتفاقهما في الحرمة، وقوله سبحانه: " فمن
يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " (2) فإنه يعلم منه حال
ما زاد على الذرة والمجازاة عليه، ومرجعه إلى التنبيه بالأدنى أي الأقل مناسبة على الأعلى
أي الأكثر مناسبة، وهو حجة إذا كان قطعيا، بمعنى قطعية العلية في الأصل كالاكرام
في منع التأفيف وعدم تضييع الاحسان والإساءة في الجزاء، وكون العلة أشد مناسبة
في الفرع. وأما إذا كان ظنيا فيدخل في باب القياس المنهي عنه، كما يقال: يكره
جلوس الصائم المجبوب في الماء لأجل ثبوت الكراهة للمرأة الصائمة. لعدم علم كون
علة الكراهة للمرأة هو جذب الفرج الماء.
والقسم الثاني ويسمى دليل الخطاب - ينقسم إلى مفهوم الشرط، ومفهوم
الغاية، ومفهوم الصفة. ومفهوم الحصر. ومفهوم العدد. ومفهوم الزمام والمكان
وقد وقع الخلاف بين الأصوليين من أصحابنا وغيرهم في حجية المفهوم بجميع

(1) سورة الإسراء. آية 23.
(2) سورة الزلزال. آية 7 و 8.
57

أقسامه، فنفاه من أصحابنا المرتضى (رضي الله عنه) وجماعة من العامة، وإليه مال
المحدث السيد نعمة الله الجزائري والشيخ محمد بن الحسن العاملي (قدس الله سرهما)
وأدلة القوم - في كتب الأصول من الطرفين - متصادمة، والاحتجاجات متعارضة.
إلا أن الظاهر تبادر ذلك في كثير من الأمثلة الواردة في جملة منها. ولعل ذلك بحسب
العرف ولم نقف في النصوص على ما يقتضي الحجية في شئ منها سوى مفهوم الشرط،
فقد ورد في جملة منها ما يدل على ذلك.
فمنها - ما ورد عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: " بل فعله كبيرهم
هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون " (1) قال: " والله ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم.
فقيل: كيف ذاك؟ قال: إنما قال: فعله كبيرهم هذا إن نطقوا، وإن لم ينطقوا فلم
يفعل كبيرهم هذا شيئا ".
و (منها) - ما رواه الشيخ في التهذيب في باب النفر من منى (2) عنه (عليه السلام)
في حديث قال فيه: " فإن الله عز وجل يقول: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه
ومن تأخر فلا إثم عليه " (3) فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجل لكنه قال ومن تأخر
فلا إثم عليه ".
و (منها) - ما رواه في الكافي والفقيه عن عبيد بن زرارة (4) قال: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام) قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه (5) قال: ما أبينها
من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه ".

(1) سورة الأنبياء. آية 63.
(2) وفي الوسائل في باب - 9 - من أبواب العود إلى منى ورمي الجمار والمبيت والنفر
من كتاب الحج.
(3) سورة البقرة. آية 203.
(4) وفي الوسائل في باب - 1 - من أبواب من يصح منه الصوم من كتاب الصيام.
(5) سورة البقرة. آية 185.
58

و (منها) - ما رواه في الفقيه في باب الشقاق، في الصحيح عن ابن أبي عمير
هشام بن الحكم: " أنه تناظر هو وبعض المخالفين في الحكمين بصفين: عمرو
ابن العاص وأبي موسى الأشعري، فقال المخالف: إن الحكمين لقبولهما الحكم كانا
مريدين للاصلاح بين الطائفتين. فقال هشام: بل كانا غير مريدين للاصلاح بين
الطائفتين. فقال المخالف: من أين قلت هذا؟ قال هشام: من قوله الله تعالى
في الحكمين: " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " (1) فلما اختلفا ولم يكن بينهما اتفاق
على أمر واحد ولم يوفق الله بينهما. عملنا أنهما لم يريدا الاصلاح.. ".
ولا ريب أن هشاما من أجلاء ذوي الأفهام ورؤساء علماء الكلام، ولهذا أن
خصمه سلم إليه ولم يمكنه الرد عليه.
والعجب هنا من المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (طاب ثراه)
في كتاب الفوائد الطوسية، حيث بالغ في إنكار حجية مفهوم الشرط، وأورد جملة
من الآيات القرآنية دالة على عدم جواز اعتبار مفهوم الشرط. مع ورود ما سردناه
من الأخبار الدالة على ذلك بأوضح دلالة. وأنه قد تقرر - عند القائلين بحجيته - أن اعتبار
المفهوم إنما يصار إليه إذا لم يكن للتعليق على الشرط فائدة سوى الانتفاء بانتفائه،
وما أورده من الآيات كلها من ذلك القبيل. هذا.
وأما ما ذكروه - من الملازمة بالنسبة إلى مقدمة الواجب وكذلك استلزام
الأمر بالشئ النهي عن ضده الخاص - فلم نقف له في الأخبار على أثر، مع أن الحكم
في ذلك مما تعم به البلوى. وقد حققنا - في كتاب الدرر النجفية في مسألة البراءة
الأصلية، وأشرنا إلى ذلك أيضا هنا في المطلب الأول من المقام الثالث - أن التمسك
بالبراءة الأصلية فيما تعم به البلوى من الأحكام بعد تتبع الأدلة وعدم الوقوف على ذلك

(1) سورة النساء. آية 36.
59

فيها حجة واضحة، ولو كان الأمر كما ذكروا، لورد عنهم (عليهم السلام) النهي
عن أضداد الواجبات من حيث هي كذلك بالنسبة إلى مسألة استلزام الأمر بالشئ
النهي عن ضده الخاص. والتالي باطل. على أنه لا يخفى ما في القول بذلك من الحرج
المنفي بالآية والرواية كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (1) وحينئذ فيكون داخلا في باب
" اسكتوا عما سكت الله عنه " (2).
تتميم نفعه عميم
جمهور الأصوليين من أصحابنا وغيرهم على حجية قياس الأولوية ومنصوص
العلة، ومثلوا للأول بدلالة تحريم التأفيف في الآية على تحريم أنواع الأذى الزائدة عليه.
وسماه بعضهم بالقياس الجلي، وأنكره المحقق وجمع من الأصحاب، واختلفوا في وجه
التعدية في الآية، فذهب بعض إلى أنه من قبيل دلالة المفهوم وهو مفهوم الموافقة كما
تقدم تحقيقه، وقيل إنه منقول عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى، لاستفادة
ذلك المعنى من اللفظ من غير توقف على استحضار القياس، وهو اختيار المحقق.
ويدل على عدم حجيته من الأخبار ما رواه الصدوق في كتاب الديات (3)
عن أبان (4) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في رجل قطع إصبعا
من أصابع المرأة كم فيها؟ قال عشرة من الإبل. قلت: قطع اثنين: قال عشرون

(1) قال (قدس سره) - بعد الكلام في المسألة - ما صورته: لو كان كذلك
لم يتحقق السفر إلا لا وحدي الناس، لمصادمته غالبا لتحصيل العلوم الواجبة، وقلما ينفك الانسان
عن شغل الذمة بشئ من الواجبات الفورية. مع أنه على ذلك التقدير موجب لبطلان
الصلاة الموسعة في غير آخر وقتها. ولبطلان النوافل اليومية وغيرها. انتهى (منه رحمة الله).
(2) الذي قد تضمنته خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) المروية في الفقيه في باب
(نوادر الحدود) المتقدمة في صحيفة (50) وغيرها من الرويات.
(3) في باب (الجراحات والقتل بين الرجال والنساء) وفي الوسائل في باب - 45 -
من أبواب ديات الأعضاء من كتاب الديات.
(4) ابن تغلب.
60

قلت: قطع ثلاثا؟ قال: ثلاثون. قلت: قطع أربعا؟ قال: عشرون.
قلت: سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟
إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله، ونقول: الذي قاله شيطان. فقال.
مهلا يا أبان إن هذا حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث
الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف، يا أبان إنك أخذتني بالقياس،
والسنة إذا قيست محق الدين " ورواه في كتاب المحاسن، وزاد - بعد قوله:
" إنك أخذتني بالقياس " - " إن السنة لا تقاس، ألا ترى أنها تؤمر بقضاء صومها
ولا تؤمر بقضاء صلاتها " ولا يخفى عليك ما في الخبر المذكور من الصراحة في المطلوب.
و (منها) - ما ورد من قول الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة: " اتق الله ولا تقس
الدين برأيك، فإن أول من قاس إبليس، إلى أن قال: ويحك أيهما أعظم، قتل
النفس أو الزنا؟ قال: قتل النفس. قال: فإن الله عز وجل قد قبل في قتل النفس
شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة. ثم قال: أيهما أعظم، الصلاة أو الصوم؟ قال: الصلاة.
قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فكيف يقوم لك قياس؟
فاتق الله ولا تقس ".
و (منها) - قوله (عليه السلام) لأبي حنيفة في عدة أخبار: " البول أقذر
أم المني؟ فقال: البول أقذر. فقال يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول
دون المني، وقد أوجب الله الغسل من المني دون البول (1).

(1) وفي بعض الأخبار أيضا: لما قال له السائل: " الحائض تقضي الصلاة؟ قال:
لا. قال: تقضي الصوم؟ قال: نعم. قال: من أين جاء هذا؟ قال أول من قاس إبليس. ثم
قال: والصائم يستنقع في الماء؟ قال نعم. قال: يبل الثوب على جسده؟ قال: لا. قال:
من أين جاء هذا؟ قال: ذا من ذاك " ومن ذلك صحيحة عبد الله بن سنان، قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يسافر في شهر رمضان ومعه جارية له فله أن
يصيب منها بالنهار؟ فقال: سبحان الله أما يعرف حرمة شهر رمضان، إن له في الليل
سبحا طويلا. قلت: أليس له أن يأكل ويشرب ويقصر فقال: إن الله تعالى قد رخص
للمسافر في الافطار والتقصير رحمة وتخفيفا لموضع التعب والنصب ووعث السفر. ولم يرخص
له في مجامعة النساء في السفر بالنهار في شهر رمضان، وأوجب عليه القضاء الصيام ولم يوجب
عليه قضاء تمام الصلاة إذا آب من سفره، ثم قال: والسنة لا تقاس.. الحديث "
(منه رحمه الله).
61

و (منها) - ما رواه في تفسير العسكري (عليه السلام) (1) عن أمير المؤمنين
(صلوات الله عليه): قال: " قال: يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا إياكم
وأصحاب الرأي، إلى أن قال: أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين
أولى بالمسح من ظاهرهما " إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع (2) وقد
دلت على كون ذلك قياسا ولا سيما الخبر الأول منها، مع أنه قد استفاضت الأخبار
عنهم (عليهم السلام) بالمنع عن العمل بالقياس بقول مطلق من غير تخصيص بفرد بل
صار ذلك من ضروريات مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
فما يظهر - من بعض مشايخنا المتأخرين (3) من كون ذلك ليس من باب
القياس، مستندا إلى أن ما جعل فرعا على الأصل في الحكم أولى بالحكم من الأصل
فكيف يجعل فرعا عليه؟ - اجتهاد في مقابلة النصوص أو غفلة عن ملاحظة ما هو
في تلك الأخبار مسطور ومنصوص. على أنه يمكن الجواب عما ذكره من عدم الفرعية
بأن الحكم إنما ثبت أولا وبالذات بمنطوق الكلام للتأفيف مثلا، لمنافاته لوجوب الاكرام،
والضرب إنما ثبت له لمشاركته للأول في العلة المذكورة وإن كانت العلة أشد بالنسبة إليه

(1) في تفسير قوله تعالى: " غير المغضوب عليهم ولا الضالين ".
(2) روى أخبار المنع عن العمل بالقياس في الوسائل في باب - 6 - من أبواب صفات
القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
(3) هو شيخنا بهاء الملة والحق والدين في كتاب الزبدة، حيث أشار إلى ذلك في المتن
وبين وجهه في الحاشية بما نقلناه عنه رحمة الله (منه قدس سره).
62

وأشديتها بالنسبة إليه لا تخرجه عن الفرعية، إذ اعتبار الأصالة والفرعية إنما هو بالنظر
إلى ما دل على الكلام أولا وبالذات وثانيا وبالعرض.
وربما استند بعض الفضلاء إلى الاستدلال على الحجية بقول أمير المؤمنين
(عليه السلام) في خطابه للأنصار: " أتوجبون عليه الحد والرجم، ولا توجبون عليه
صاعا من ماء؟ " (1) وسيأتي الجواب عن ذلك في باب غسل الجنابة في مسألة الجماع
في دبر المرأة.
وأما منصوص العلة فظاهر كلام المرتضى (رضي الله عنه) انكاره. والعلامة
وجمع من الأصحاب على القول به.
احتج المرتضى (رضي الله عنه) بما ملخصه: أن علل الشرع إنما تنبئ
عن الدواعي إلى الفعل أو عن وجه المصلحة فيه، وقد يشترك الشيئان في صفة واحدة
ويكون في أحدهما داعية في فعله دون الآخر مع ثبوتها فيه، وقد يكون مثل المصلحة
مفسدة، وقد يدعو الشئ إلى غيره في حال دون حال وعلى وجه دون وجه. إلى أن
قال: " فإذا صحت هذه الجمل لم يكن في النص على العلة ما يوجب التخطي والقياس
وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على موضعه ".
وحكى العلامة (قدس سره) عن المانعين الاحتجاج بأن قول الشارع: حرمت
الخمر لكونها مسكرة. يحتمل أن تكون العلة هي الاسكار، وأن تكون اسكار الخمر
بحيث يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلة. وإذا احتمل الأمران لم يجز القياس.
ثم أجاب بالمنع من احتمال اعتبار القيد في العلة، ثم أطال في البحث إلى أن قال:
" والتحقيق أن النزاع هنا لفظي. لأن المانع إنما يمنع من التعدية لأن قوله: حرمت
الخمر لكونه مسكرا. محتمل لأن يكون في تقدير التعليل بالاسكار المختص بالخمر، فلا

(1) هذا من صحيح زرارة المروي في الوسائل في باب - 6 - من أبواب الجناية
من كتاب الطهارة.
63

يعم، وأن يكون في تقدير التعليل بمطلق الاسكار فيعم. والمثبت يسلم أن التعليل بالاسكار
المختص بالخمر غير عام وأن التعليل بالمطلق يعم. فظهر أنهم متفقون على ذلك. نعم
النزاع وقع في أن قوله -: حرمت الخمر لكونه مسكرا - هل هو بمنزلة علة التحريم
للاسكار أم لا؟ فيجب أن يجعل البحث في هذا لا في أن النص على العلة هل يقتضي
ثبوت الحكم في جميع مواردها، فإن ذلك متفق عليه " انتهى (وفيه) أن الأمر كما ذكر
لو كان حجة الخصم ما ذكره خاصة، وقد عرفت من كلام السيد (رضي الله عنه)
التعليل بغير ذلك مما لا ينطبق عليه هذا التفصيل الذي ذكره.
ونقل عن المحقق (رحمه الله) التفصيل في المسألة بأنه إذا نص الشارع على العلة
وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم، جاز
تعدية الحكم وكان ذلك برهانا. وإليه مال أيضا المحقق الشيخ حسن في المعالم، وأجاب فيه
عن حجة المرتضى (رضي الله عنه) بأن المتبادر من العلة - حيث يشهد الحال بانسلاخ
الخصوصية فيها - تعلق الحكم بها لا بيان الداعي ووجه المصلحة. وما ذكره
(قدس سره) جيد بالنظر إلى مفهوم العلة، إلا أن المتتبع - لعلل الشرع الواردة
في الأخبار - لا يخفى عليه أن جلها إنما هو من قبيل ما ذكره المرتضى (رضي الله عنه).
وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين: " والحق أن يقال: إذا حصل القطع
بأن الأمر الفلاني علة لحكم خاص من غير مدخلية شئ آخر في العلية وعلم وجود تلك
العلة في محل آخر لا بالظن بل بالعلم، فإنه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم في هذا
المحل الآخر، لأن الأصل حينئذ يصير من قبيل النص على كل ما فيه تلك العلة،
فيخرج في الحقيقة عن القياس. وهذا مختار المحقق لكن هذا في الحقيقة قول بنفي
حجية القياس المنصوص العلة، إذ حصول هذين القطعين مما يكاد ينخرط في سلك
المحالات إلا في تنقيح المناط " انتهى. وهو جيد.
64

وبالجملة فالحق هو عدم القول بالحجية في كلا الموضعين إلا مع الدلالة العرفية
في بعض الموارد أو بما يرجع إلى تنقيح المناط القطعي (1) والله وأولياؤه أعلم.
المقدمة الرابعة
في الاحتياط
وقد اختلف أصحابنا (رضوان الله عليهم) في وجوبه واستحبابه، فالمجتهدون
على الثاني، والأخباريون على وجوبه في بعض المواضع، وربما يظهر من كلام بعض
متأخري المتأخرين عدم مشروعيته.
قال المحقق (قدس سره) - على ما نقله عنه غير واحد - في كتاب الأصول:
" العمل بالاحتياط غير لازم، وصار آخرون إلى وجوبه، وقال آخرون مع اشتغال
الذمة: يكون العمل بالاحتياط واجبا ومع عدمه لا يجب مثال ذلك: إذا ولغ الكلب
في الإناء، نجس. واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة أم لا بد من سبع؟ وفيما عدا الولوغ هل
يطهر بغسلة أم لا بد من ثلاث؟ احتج القائلون بالاحتياط بقوله (صلى الله عليه وآله):
" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". وبأن الثابت اشتغال الذمة يقينا، فيجب أن لا يحكم
ببراءتها إلا بيقين ولا يكون هذا إلا مع الاحتياط. والجواب عن الحديث أن نقول:
هو خبر واحد لا يعمل بمثله في مسائل الأصول. سلمناه لكن إلزام المكلف بالأثقل
مظنة الريبة، لأنه إلزام مشقة لم يدل الشرع عليها. فيجب اطراحها بموجب الخبر.

(1) وإلى القول يمنع حجية كل من الفردين المذكورين مال المحدث السيد نعمة الله
الجزائري (قدس سره) مستندا إلى دخولهما في القياس الذي تواترت الأخبار بالنهي عنه:
و (منها) - قول الصادق (عليه السلام) فيما استفاض عنه " أن أصحاب القياس
طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا " قال: " وهو باطلاقه متناول
لجميع أفراد القياس في موضع النزاع وغيره " (منه رحمه الله).
65

والجواب عن الثاني أن نقول: البراءة الأصلية مع عدم الدلالة الناقلة حجة، وإذا
كان التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية على الزيادة في المثال المذكور كان العمل بالأصل
أولى، وحينئذ لا نسلم اشتغالها مطلقا بل لا نسلم اشتغالها إلا بما حصل الاتفاق عليه
أو اشتغالها بأحد الأمرين. ويمكن أن يقال: قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الإناء
واختلفنا فيما به يطهر، فيجب أن نأخذ بما حصل الاجماع عليه في الطهارة، ليزول
ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة ". انتهى كلامه
زيد مقامه.
وهو محل نظر من وجوه: (أحدها) - أن ما جعله موضوعا للنزاع من مسألة
إناء الولوغ ونحوها ليس كذلك على اطلاقه، لأنه مع تعارض الأدلة فللناظر الترجيح
بينها والعمل بما يترجح في نظره من أدلة أي الطرفين، وحينئذ فلا مجال هنا للقول
بوجوب الاحتياط، وأما الاستحباب فيمكن إذا ترجح عنده الأقل، فإنه يمكن حمل
الزائد على الاستحباب كما هو المعروف عندهم في أمثال ذلك. نعم مع عدم الترجيح
فالمتجه - كما سيأتي تحقيقه - وجوب الاحتياط في العمل والتوقف في الحكم.
و (ثانيها) - ما أجاب به أولا عن الخبر المذكور، فإنه مبني على اشتراط
القطع في الأصول وعدم العمل بالآحاد مطلقا، وكلاهما محل نظر (أما الأول) فلعدم
الدليل عليه، ومن تأمل اختلافاتهم في الأصول وتكثر أقوالهم وادعاء كل منهم التبادر
على خلاف ما يدعيه الآخر، علم أن البناء على غير أساس، ومن ثم وقع الاشكال
في جل مسائله والالتباس، ولو كانت أدلته مما تفيد القطع كما يدعونه لما انتشر فيه
الخلاف، كما لا يخفى على ذوي الانصاف، على أنه لو ثبت ثمة دليل على اشتراط القطع
في الأصول لوجب تخصيصه بالأصول الكلامية والعقائد الدينية، إذ هي المطلوب فيها
ذلك بلا خلاف، دون هذه التي لم يرد لها أصل في الشريعة. وإنما هي من محدثات العامة
ومخترعاتهم كما حققناه في محل أليق.
66

و (أما الثاني) فلما صرح به جم غفير من أصحابنا - متقدميهم ومتأخريهم -
ولا سيما هذا القائل نفسه في كتاب المعتبر وكذا في كتابه في الأصول، بل الظاهر أنه إجماعي كما ادعاه غير واحد منهم، من حجية خبر الواحد والاعتماد عليه،
وعلى ذلك يدل من الأخبار ما يضيق عن نشره نطاق البيان، وما سبق إلى بعض
الأوهام - من تناقض كلامي الشيخ في العمل بخبر الواحد ودعوى المرتضى الاجماع
على عدم جواز العمل به - فهو توهم بارد وخيال شارد نشأ عن قصور التتبع لكلامهم
والتطلع في نقضهم وابرامهم، لدلالة كلام الشيخ (رضوان الله عليهم) في غير موضع
من كتبه على صحة أخبارنا وتواترها عن الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم)،
وأن المراد بالخبر الواحد الممنوع من جواز التعبد به هو ما كان من طريق المخالفين مما لم
تشتمل عليه أصولنا التي عليها معتمد شريعتنا قديما وحديثا. ولتصريح المرتضى (رضي الله عنه) على ما نقله عنه جمع: منهم صاحب المعالم، من أن أكثر أخبارنا المروي في كتبنا
معلومة مقطوع على صحتها إما بالتواتر أو بأمارة وعلامة دلت على صحتها وصدق رواتها
فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص
من طريق الآحاد. انتهى. وحينئذ فيرجع كلامه إلى كلام الشيخ في معنى الخبر
الواحد الممنوع من جواز التعبد به، وقد مضى في المقدمة الثانية ما فيه مقنع للبيب
ومرجع للموفق المصيب.
و (ثالثها) - ما أجاب به عن الدليل الثاني من الاستناد إلى حجية البراءة
الأصلية في المقام. وفيه ما تقدم نقله عنه (قدس سره) في المعتبر. من أن الاعتماد
على البراءة الأصلية إنما يتجه فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لعثر عليه، أما لا مع ذلك
فإنه يجب التوقف. والدليل في الجملة هنا موجود. ووجود المعارض لا يخرجه عن كونه
دليلا. ولو عورض بمرجوحيته في مقابلة المعارض فلا يصلح للدلالة، فالدليل العام
67

على وجوب الاحتياط كاف في الخروج عن قضية الأصل ووجوب الزيادة.
و (رابعها) - قوله: ويمكن أن يقال قد أجمعنا.. الخ فإن فيه أن ثبوت
الاجماع إنما هو قبل الغسل بالمرة. وأما بعد الغسلة الواحدة فليس ثمة إجماع، فالاستصحاب
غير ثابت. على أن في الاستدلال بالاستصحاب ما قد عرفت آنفا. نعم يمكن أن
يقال: إن مقتضى صحاح الأخبار أن يقين كل من الطهارة والنجاسة لا يزول إلا بيقين
مثله. والنجاسة هنا ثابتة بيقين قبل الغسل بالكلية، ولا تزول إلا بيقين وهو الغسل
بالأكثر. وزوالها بالأقل مشكوك فيه، وهو لا يرفع يقين النجاسة، والاستصحاب
هنا مما لا خلاف في حجيته، لدلالة صحاح الأخبار عليه كما سبق تحقيقه في المسألة
المذكورة. هذا.
والتحقيق في المقام - على ما أدى إليه النظر القاصر من أخبار أهل الذكر
(عليهم السلام) - هو أن يقال: لا ريب في رجحان الاحتياط شرعا واستفاضة الأمر
به. كما سيمر بك شطر من أخباره. وهو عبارة عما يخرج به المكلف من عهدة
التكليف على جميع الاحتمالات، ومنه ما يكون واجبا، ومنه ما يكون مستحبا.
(فالأول) - كما إذا تردد المكلف في الحكم، إما لتعارض أدلته،
أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها، أو لعدم الدليل بالكلية بناء على نفي البراءة
الأصلية، أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكليات المعلومة
الحكم، أو نحو ذلك.
و (الثاني) - كما إذا حصل الشك باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل
الشرعي احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوزة، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعي
إباحة شئ وحليته، لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب أنه مما حرمه الشارع
وإن لم يعلم به المكلف، ومنه جوائز الجائر ونكاح امرأة بلغك أنها أرضعت معك
68

الرضاع المحرم إلا أنه لم يثبت ذلك شرعا. ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه،
أما إذا لم يحصل له ما يوجب الشك والريبة في ذلك، فإنه يعمل على ما ظهر له من الدليل
وإن احتمل النقيض باعتبار الواقع، ولا يستحب له الاحتياط هنا، بل ربما كان
مرجوحا، لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين
ما يحتمل تطرق احتمال النجاسة أو الحرمة إليه كأخبار الجبن وأخبار الفراء، جريا
على مقتضى سعة الحنيفية، كما أشار إليه في صحيحة البزنطي (1) الواردة في السؤال
عن شراء جبة فراء لا يدرى أذكية هي أم غير ذكية ليصلى فيها، حيث قال
(عليه السلام): " وليس عليكم بالمسألة. أن أبا جعفر (عليه السلام) كأن يقول: إن
الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، وإن الدين أوسع من ذلك ".
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الاحتياط قد يكون متعلقا بنفس الحكم الشرعي وقد
يكون متعلقا بجزئيات الحكم الشرعي وأفراد موضوعه. و (كيف كان) فقد يكون
الاحتياط بالفعل وقد يكون بالترك وقد يكون بالجمع بين الأفراد المشكوك فيها،
ولنذكر جملة من الأمثلة يتضح بها ما أجملناه ويظهر منها ما قلناه.
فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي المتعلق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم
من الدليل بأن تردد بين احتمالي الوجوب والاستحباب، فالواجب التوقف في الحكم
والاحتياط بالاتيان بذلك الفعل، ومن يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجحة
للاستحباب.
وفيه (أولا) - ما عرفت من عدم الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام الشرعية.
و (ثانيا) - أن ما ذكروه يرجع إلى أن الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة
البراءة الأصلية، ومن المعلوم أن أحكامه تعالى تابعة للحكم والمصالح المنظورة له تعالى

(1) المروية في الوسائل في باب - 55 - من أبواب لباس المصلي من كتاب الصلاة.
69

وهو أعلم بها، ولا يمكن أن يقال: مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصلية، فإنه
رجم بالغيب وجرأة بلا ريب.
ومن هذا القسم أيضا ما تعارضت فيه الأخبار على وجه يتعذر الترجيح بينها
بالمرجحات المنصوصة، فإن مقتضى الاحتياط التوقف عن الحكم ووجوب الاتيان
بالفعل متى كان مقتضى الاحتياط ذلك.
(فإن قيل): إن الأخبار في الصورة المذكورة قد دل بعضها على الارجاء
وبعضها على العمل من باب التسليم (قلنا): هذا أيضا من ذلك، فإن التعارض
المذكور - مع عدم ظهور مرجح لأحد الطرفين ولا وجه يمكن الجمع به في البين - مما يوجب
دخول الحكم المذكور في المتشابهات المأمور فيها بالاحتياط، وسيأتي ما فيه مزيد
بيان لذلك.
ومن هذا القسم أيضا ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي لا تعم بها البلوى
عند من لم يعتمد على البراءة الأصلية، فإن الحكم فيه ما ذكر كما سلف بيانه في مسألة
البراءة الأصلية.
ومن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي - لكن بالترك - ما إذا تردد الفعل
بين كونه واجبا أو محرما، فإن المستفاد من الأخبار أن الاحتياط هنا بالترك.
كما تدل عليه موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: سألته عن رجل
اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخر
ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره. فهو في سعة حتى يلقاه ".
وموثقة زرارة (2) " في أناس من أصحابنا حجوا بامرأة معهم فقدموا إلى الوقت

(1) المروية في الوسائل في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يقضى به
من كتاب القضاء.
(2) المروية في الوسائل في باب - 14 - من أبواب المواقيت من كتاب الحج.
وفي باب - 12 - من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
70

وهي لا تصلي. وجهلوا أن مثلها ينبغي أن يحرم. فمضوا بها كما هي حتى قدموا مكة وهي
طامث حلال، فسألوا الناس فقالوا: تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه. وكانت
إذا فعلت ذلك تدرك الحج. فسألوا أبا جعفر (عليه السلام) فقال: تحرم
من مكانها، قد علم الله نيتها ".
وجه الدلالة أن المرأة المذكورة قد تركت واجبا لاحتمال حرمته عندها، والإمام
(عليه السلام) قررها على ذلك ولم ينكره عليها. بل استحسن ذلك من فعلها بقوله:
قد علم الله نيتها.
وما توهمه - بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) (1) من دلالة هذه الرواية
على عدم الاحتياط، حتى نظمها في سلك أخبار زعم أنها تدل على عدم الاحتياط وجعلها
معارضة لأخبار الاحتياط - ناشئ عن عدم اعطاء التأمل حقه من التحقيق، وعدم
النظر في الأخبار بعين التدقيق
ومن الاحتياط المستحب في الحكم الشرعي بالفعل أو الترك ما إذا تعارضت
الأدلة في حكم بين فعله وجوبا أو استحبابا وترجح في نظر الفقيه الثاني بأحد المرجحات
الشرعية، فإن الاتيان بالفعل أحوط، ولذا ترى الفقهاء في مثل هذا الموضع يحملون
الدليل المرجوح على الاستحباب تفاديا من طرحه، كأخبار غسل الجمعة عند من يرجح
الاستحباب. أو تعارضت الأخبار بين الحرمة والكراهة مع ترجيح الثاني، فإن
الاحتياط هنا بالترك، وعلى هذا أيضا جرى الفقهاء (رضوان الله عليهم) في غير موضع.
ومن الاحتياط الواجب في جزئيات الحكم الشرعي بالاتيان بالفعل ما إذا علم
أصل الحكم وكان هو الوجوب ولكن حصل الشك في اندراج بعض الأفراد تحته،

(1)
هو شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني (قدس سره)
في كتاب العشرة الكاملة (منه رحمه الله).
71

وستأتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في جزاء الصيد دالة على ذلك.
ومن هذا القسم - لكن مع كون الاحتياط بالترك - ما إذا كان الحكم الشرعي التحريم وحصل الشك
في اندراج بعض الجزئيات تحته، فإن الاحتياط هنا بالترك،
كحكم السجود على الخزف والحكم بطهارته بالطبخ، فإن أصل الحكم في كل
من المسألتين معلوم، ولكن هذا الفرد بسبب الشك في استحالته بالطبخ وعدمها
قد أوجب الشك في اندراجه تحت أصل الحكم، فالاحتياط - عند من يحصل
له الشك المذكور - واجب بترك السجود وترك استعماله فيما يشترط فيه الطهارة. ومنه
الشك في اندراج بعض الأصوات تحت الغناء المعلوم تحريمه، فإن الاحتياط
واجب بتركه، وأما من يعمل بالبراءة الأصلية فإنه يرجح بها هنا جانب العدم، فلا يتجه
ذلك عنده.
ومن الاحتياط الواجب بالجمع بين الأفراد المشكوك فيها ما إذا استغلت ذمته
يقينا بواجب لكن تردد بين فردين أو أزيد من أفراد ذلك الواجب، فإنه يجب عليه
الآيتان بالجميع. ومنه من اشتغلت ذمته بفريضة من اليومية مع جهلها في الخمس مثلا،
فإنه يجب عليه الاتيان بالخمس مقتصرا فيما اشترك منها في عدد على الاتيان بذلك العدد
مرددا في نيته. ومنه التردد في وجوب الجمعة، فإنه يجب عليه الجمع بينها وبين الظهر،
إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.
وأما الاحتياط المستحب فعلا أو تركا فقد تقدم لك شطر من أمثلته، والمتدرب
لا يخفى عليه استنباط ذلك.
ولا بأس بنقل جملة من الأخبار المشتملة على ذكر الاحتياط وتذييل كل منها
بما يوقف الناظر على سواء الصراط، فإن جملة من مشايخنا (رضوان الله عليهم) قد
اشتبه عليهم ما تضمنته من الأحكام، حتى صرحوا بتعارضها في المقام على وجه يعسر
72

الجمع بينها والالتيام كما تقدمت الإشارة إليه (1).
فمن ذلك - صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال: " سألت أبا الحسن
(عليه السلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان، الجزاء عليهما. أم على كل واحد
منهما جزاء؟ فقال: لا بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما عن الصيد. قلت:
إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال (عليه السلام): إذا أصبتم
بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط " (3).
وهذا الرواية قد دلت على وجوب الاحتياط في بعض جزئيات الحكم الشرعي
مع الجهل به وعدم إمكان السؤال، وذلك لأن ظاهر الرواية أن السائل عالم بأصل وجوب
الجزاء وإنما شك في موضعه بكونه عليهما معا جزاء واحدا أو على كل منهما
جزاء بانفراده.
ومن ذلك - صحيحته الأخرى عن أبي إبراهيم (عليه السلام) (4) قال:
" سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة؟ أهي ممن لا تحل له أبدا. فقال:
لا أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو
أعظم من ذلك. فقلت: بأي الجهالتين أعذر: بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه
أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن

(1) في صحيفة 71 سطر (8).
(2) المروية في الوسائل في باب - 18 - من أبواب كفارات الصيد وتوابعها
من كتاب الحج. وفي باب - 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به
من كتاب القضاء.
(3) تتمة الصحيحة هكذا: " حتى تسألوا عنه فتعلموا ".
(4) المروية في الوسائل في باب 17 - من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها
من كتاب النكاح.
73

الله حرم عليه ذلك، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت: هو في الأخرى
معذور، فقال: نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها.. الحديث ".
وهذه الرواية قد اشتملت على فردي الجاهل بالحكم الشرعي والجاهل ببعض
جزئياته، ودلت على معذورية كل منهما إلا أن الأول أعذر، لعدم قدرته على الاحتياط،
وبيان ذلك: أن الجاهل - بالحكم الشرعي وهو تحريم التزويج في العدة جهلا ساذجا غير
متصور له بالمرة - لا يتصور الاحتياط في حقه بالكلية، لعدم تصوره الحكم بالمرة كما
عرفت. وأما الجاهل بكونها في عدة مع علمه بتحريم التزويج في العدة، فهو جاهل
بموضوع الحكم المذكور مع معلومية أصل الحكم له، ويمكنه الاحتياط بالفحص
والسؤال عن كونها ذات عدة أم لا، إلا أنه غير مكلف به، بل ظاهر الأخبار
مرجوحية السؤال والفحص كما في غير هذا الموضع مما قدمنا الإشارة إليه (1)، وكل ذلك
عملا بسعة الحنيفية وسهولة الشريعة. نعم لو كان في مقام الريبة فالأحوط السؤال، كما
يدل عليه بعض الأخبار.
ومن ذلك - رواية عبد الله بن وضاح (2) قال: " كتبت إلى العبد الصالح
(عليه السلام) يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنا الشمس
وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذن، أفأصلي حينئذ أو أفطر إن كنت
صائما، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلي: أرى لك أن
تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك "
(أقول): والاحتياط هنا - بالتوقف على ذهاب الحمرة عند من قام له الدليل
على أن الغروب عبارة عن استتار القرص المعلوم بعدم رؤيته عند المشاهدة مع عدم

(1) في صحيفة (69) سطر (4).
(2) المروية في الوسائل في باب 16 - من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.
وفي باب 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن به من كتاب القضاء.
74

الحائل - محمول على الاستحباب. وأما عند من يجعل أمارة الغروب زوال الحمرة
- كما هو المختار عندنا، لحمل تلك الأخبار على التقية - فهو محمول على الوجوب،
وكلامه (عليه السلام) هنا محتمل لكلا الأمرين.
ومن ذلك - صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام)
في المتمتع بها (1) حيث قال فيها: " اجعلوهن من الأربع (2) فقال له صفوان
ابن يحيى: على الاحتياط. قال: نعم " والظاهر كما استظهره أيضا جملة من أصحابنا
(رضوان الله عليهم) حمل الاحتياط هنا على المحاذرة من العامة والتقية منهم،
لاستفاضة النصوص وذهاب جمهور الأصحاب إلى عدم الحصر في المتعة وأنها ليست
من السبعين فضلا عن الأربع، ولعل وجهه أنه إذا اقتصر على جعلها رابعة لم يمكن
الاطلاع عليه بكونها متعة ليطعن عليه بذلك ليتيسر دعوى الدوام له، بخلاف ما إذا
جعلها زائدة على الأربع، فإنه لا يتم له الاعتذار ولا النجاة من أولئك الفجار.
ومن ذلك - رواية شعيب الحداد (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (ع):
رجل من مواليك يقرئك السلام وقد أراد أن يتزوج امرأة قد وافقته وأعجبه بعض
شأنها، قد كان لها زوج فطلقها ثلاثا على غير السنة، وقد كره أن يقدم على تزويجها
حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو الفرج
وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد ونحن نحتاط فلا يتزوجها ".
(أقول): ظاهر هذا الخبر كما ترى كون المطلق مخالفا، ولا خلاف بين

(1) المروية في الوسائل في باب - 4 - من أبواب المتعة من كتاب النكاح.
(2) هذا قول أبي جعفر (عليه السلام) فإن الرواية هكذا: قال قال أبو جعفر
(عليه السلام): " اجعلوهن من الأربع "
(3) المروية في الوسائل في باب - 156 - من أبواب مقدمات النكاح وآدابه
من كتاب النكاح.
75

الأصحاب في إلزامه بما ألزم به نفسه من صحة الطلاق، وبه استفاضت جملة من الأخبار
أيضا، وحينئذ فيحمل الاحتياط هنا على الاستحباب، إلا أن الأقرب عندي هو أن
يقال: إن الأصحاب (رضوان الله عليهم) وإن اتفقوا على الحكم المذكور، إلا أن
الروايات فيه مختلفة، فإن جملة من الأخبار كما دلت على ما ذهب إليه الأصحاب،
كذلك جملة منها أيضا قد دلت على أنه " إياكم وذوات الأزواج المطلقات على غير السنة "
وحمل - بعض الأصحاب لها على غير المخالف - يرده ما اشتمل عليه بعضها من ذكر المخالف.
والحكم لا يخلو من نوع اشتباه، لتعارض الأخبار، والاحتياط فيه مطلوب. والأمر
بالاحتياط هنا مما قوى الشبهة وأكدها، وحينئذ فلا يبعد وجوب الاحتياط هنا.
ويحتمل أن يكون هذا الخبر من جملة الأخبار المانعة وإن عبر عن ذلك بالاحتياط
وجعله في قالبه، فيتحتم كون الاحتياط فيه على جهة الوجوب. والله سبحانه وقائله
أعلم بحقيقة الحال.
وأما الأخبار الدالة على رجحان العمل بالاحتياط على الاطلاق في هذا
الشأن فهي أكثر من أن يحويها نطاق البيان في هذا المكان (1) ومنها قول
أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد كما رواه الشيخ (رحمه الله) في كتاب
الأمالي مسندا عن الرضا (عليه السلام): " يا كميل أخوك دينك فاحتط لدينك ".
وما رواه الشهيد عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل قال فيه: " وخذ
بالاحتياط لدينك في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا " وما رواه الفريقان عنه (صلى الله
عليه وآله) من قوله: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وما روى عنهم (عليهم السلام):
" ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط " إلى غير ذلك من الأخبار،
وحينئذ فما ذهب إليه ذلك البعض - من عدم مشروعية الاحتياط - خروج عن سواء

(1) روى هذه الأخبار في الوسائل في باب - 12 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به من كتاب القضاء.
76

ذلك الصراط، حيث قال: " إن الاحتياط ليس بحكم شرعي فلا يجوز العمل
بمقتضاه، بل الواجب أن ما يعمل به هو ما ساق إليه الدليل ورجحه. وكلما ترجح
عنده تعين عليه وعلى مقلده العمل به، والعمل بالاحتياط عمل بما لم يؤد إليه الدليل "
غفلة عما فصلته تلك الأخبار التي ذكرناها وأجملته هذه الأخبار التي تلوناها، والدليل -
كما رجح العمل بما ترجح في نظر الفقيه - رجح أيضا العمل بما فيه الاحتياط، وقوله -:
" إنه ليس بدليل شرعي " على اطلاقه - ممنوع كما عرفت مما تلوناه. نعم لو كان ذلك
الاحتياط إنما نشأ من الوساوس الشيطانية والأوهام النفسانية كما يقع من بعض الناس
المبتلين بالوسواس، فالظاهر من الأخبار تحريمه كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله)
من قوله: " إن الوضوء مد والغسل صاع، وسيأتي أقوام يستقلون ذلك، فأولئك
على غير سنتي، والثابت على سنتي في حظيرة القدس (1) ولأنه مع اعتقاد شرعيته
تشريع في الدين، والله يهدي من يشاء إلى صراطه المبين.
المقدمة الخامسة
في حكم الجاهل بالأحكام
وقد اختلف في ذلك كلام علمائنا الأعلام (أسكنهم الله تعالى أعلى درجة
في دار السلام) فالمشهور بينهم عدم المعذورية إلا في أحكام يسيرة كحكمي الجهر
والاخفات والقصر والاتمام، وفرعوا على ذلك بطلان عبادة الجاهل - وهو عندهم من
لم يكن مجتهدا ولا مقلدا - وإن طابقت الواقع، حيث أوجبوا معرفة واجبها وندبها
وايقاع كل منهما على وجهه. وأن تلك المعرفة لا بد أن تكون عن اجتهاد أو تقليد،
فصلاة المكلف - بدون أحد الوجهين - باطلة عندهم وإن طابقت الواقع وطابق اعتقاده

(1) رواه في الوسائل في باب - 50 - من أبواب الوضوء.
77

- وايقاعه الواجب والندب - ما هو المطلوب شرعا.
وذهب جمع من المتأخرين ومتأخريهم إلى معذورية الجاهل مطلقا إلا في مواضع
يسيرة، حتى حكم بعض متأخري المتأخرين (1) بصحة صلاة العوام كيف كانت،
واقتصر بعض ما طابق الواقع من ذلك.
وظواهر الأخبار في المسألة لا تخلو عن تناقض يحتاج إلى مزيد كشف وبيان
لترتفع به غشاوة الشبهة عن جملة الأذهان.
فمن الأخبار الدالة - على القول المشهور - قول أبي الحسن (عليه السلام) في مرسلة
يونس بعد أن سأله السائل " هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا " (2)
وقول الصادق (عليه السلام) لحمران بن أعين في شئ سأله عنه: " إنما يهلك الناس
لأنهم لا يسألون " (3) وقوله (عليه السلام): " لا يسع الناس حتى يسألوا
ويتفقهوا " (4) وكذا يدل على ذلك الأخبار المستفيضة بالأمر بطلب العلم (5) والأمر
بالتفقه في الدين.
ومما يدل على القول الآخر أخبار مستفيضة متفرقة في جزئيات الأحكام،

(1) البعض الأول هو المحدث السيد نعمة الله الجزائري، والثاني هو المحقق المولى
الأردبيلي (قدس سره) وقد نقلنا كلامهما بلفظه في كتاب الدرر النجفية. وذكرنا ما يتعلق
به نفيا واثباتا، وأشبعنا الكلام في المسألة في الكتاب المشار إليه حسبما يراد (منه قدس سره)
(2) المروي في الوسائل في باب - 7 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به من كتاب القضاء.
(3) المروي في الكافي في باب (سؤال العالم وتذاكره) من كتاب فضل العلم.
(4) في حديث أبي جعفر الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام) المروي في الوسائل
في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به من كتاب القضاء.
(5) المروية في الوسائل في باب - 4 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به من كتاب القضاء.
78

فمن ذلك ما ورد في باب الحج وهو أخبار كثيرة.
(منها) - صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال: " من لبس
ثوبا له لبسه وهو محرم ففعل ذلك ناسيا أو جاهلا فلا شئ عليه ".
ومرسلة جميل (2) عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام): " في رجل
نسي أن يحرم أو جهل وقد شهد المناسك كلها وطاف وسعى؟ قال: تجزيه نيته إذا
كان قد نوى ذلك فقد تم حجه وإن لم يهل ".
ورواية عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " جاء
رجل يلبي حتى دخل المسجد الحرام وهو يلبي وعليه قميصه، فوثب عليه الناس
من أصحاب أبي حنيفة فقالوا: شق قميصك وأخرجه من رجليك. فإن عليك بدنة
وعليك الحج من قابل وحجك فاسد. فطلع أبو عبد الله (عليه السلام) فقام على الباب
المسجد فكبر واستقبل الكعبة، فدنا الرجل من أبي عبد الله (عليه السلام) وهو ينتف
شعره ويضرب وجهه، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): اسكن يا عبد الله، فلما
كلمه وكان الرجل أعجميا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما تقول؟ قال: كنت رجلا
أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحدا عن شئ فأفتوني هؤلاء أن
أشق قميصي وأنزعه من قبل رجلي وأن حجي فاسد وأن علي بدنة. فقال له: متى
لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال: قبل أن ألبي. قال: فأخرجه من رأسك
فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل، أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا
شئ عليه. طف بالبيت أسبوعا وصل ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السلام) واسع

(1) المروية في الوسائل في باب - 8 - من أبواب بقية كفارات الاحرام من كتاب الحج
(2) المروية في الوسائل في باب - 20 - من بواب المواقيت من كتاب الحج.
(3) المروية في الوسائل في باب - 45 - من أبواب تروك الاحرام من كتاب الحج.
79

بين الصفا والمروة وقصر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهل بالحج واصنع
كما يصنع الناس ".
ومن ذلك - ما ورد في النكاح في العدة. ومنه صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج
المتقدمة في سابق هذه المقدمة (1) وبمضمونها روايات عديدة (2).
ومن ذلك - ما ورد في الحدود كموثقة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (3): " في رجل شرب الخمر على عهد أبي بكر وعمر. واعتذر بجهله
بالتحريم، فسألا أمير المؤمنين (عليه السلام) فأمر (عليه السلام) بأن يدار على مجالس
المهاجرين والأنصار، وقال: من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه. ففعلوا
ذلك فلم يشهد عليه أحد فخلي سبيله " وبمضمون ذلك في الحدود روايات عديدة.
ومن ذلك - ما ورد في الصلاة في السفر تماما كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (4)
وهذا من جملة ما استثناه من قال بعدم معذورية الجاهل. وما ورد في من أقام عشرة
أيام وصلى قصرا جاهلا كصحيحة منصور بن حازم (5) وكذا ما ورد في جهر في موضع
الاخفات وأخفت في موضع الجهر (6) وهذا أيضا أحد ما استثنوه.

(1) في صحيفة 73 سطر 11.
(2) رواها في الوسائل في باب - 17 - من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها
من كتاب النكاح.
(3) المروية في الوسائل في باب - 10 - من أبواب حد المسكر من كتاب الحدود
والتعزيرات.
(4) المروية في الوسائل في باب - 17 - من أبواب صلاة المسافر من كتاب الصلاة.
(5) المروية في باب - 17 - من أبواب صلاة المسافر من كتاب الصلاة.
(6) رواه في الوسائل في باب - 26 - من أبواب القراءة في كتاب الصلاة من كتاب الصلاة.
80

ومن ذلك أيضا - ما رواه الصدوق (قدس سره) في كتاب التوحيد (1)
بسنده عن عبد الأعلى بن أعين: قال: " سألت أبا عبد الله (ع) عمن لا يعرف
شيئا هل عليه شئ؟ قال: لا " وما رواه في الفقيه والتوحيد (2) في الصحيح
عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
رفع عن أمتي تسع، وعد منها ما لا يعلمون ".
ومما يؤكد ذلك ما روي أيضا: " أنه ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا
حتى أخذ على العلماء أن يعلموا " رواه في الكافي (3) وقوله: " ما حجب الله
علمه عن العباد فهو موضوع عنهم " (4) وقوله: " إن الله يحتج على العباد بما آتاهم

(1) في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية) وفي الكافي في باب (حجج الله
على خلقه) من كتاب التوحيد
(2) رواه في الفقيه في باب - 14 - (من ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه)
من الجزء الأول وفي التوحيد في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية).
وفي الكافي في باب (ما رفع عن الأمة) من كتاب الايمان والكفر. وفي الوسائل
في باب - 30 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة عن الفقيه والخصال،
وفي باب - 56 - من أبواب جهاد النفس وما يناسبه من كتاب الجهاد عن التوحيد والخصال
والكافي.
(3) في باب (بذل العلم) من كتاب فضل العلم، وهو حديث طلحة بن زيد
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قرأت في كتاب على (عليه السلام) أن الله لم يأخذ
على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال، لأن العلم كان
قبل الجهل ".
(4) وهو حديث أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام) رواه
الصدوق في كتاب التوحيد في باب (التعريف البيان والحجة والهداية) ورواه الكليني
في الكافي في باب (حجج الله على خلقه) من كتاب التوحيد، إلا أن رواية الكليني
ليس فيها كلمة (علمه).
81

وعرفهم " (1) إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع.
ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بوجوه: (أظهرها) أن يقال: إن الجاهل - كما
يطلق على الغافل عن الحكم بالكلية - يطلق أيضا على غير العالم بالحكم وإن كان شاكا
أو ظانا، والمفهوم من الأخبار أن الجاهل بالحكم الشرعي على المعنى الثاني غير معذور
بل الواجب عليه الفحص والتفتيش عن الأدلة أو السؤال، ومع تعذر الوقوف على الحكم
ففرضه التوقف عن الحكم والفتوى والوقوف على جادة الاحتياط في العمل، وأن
الحكم بالنسبة إليه من الشبهات المشار إليها في قولهم (عليهم السلام): " حلال بين
وحرام بين وشبهات بين ذلك " (2) وعلى هذا الفرد تحمل الأخبار الدالة على عدم
معذورية الجاهل ووجوب التفقه والعلم والسؤال.
ومما يدل - على أن حكم الجاهل بهذا المعنى ما ذكرنا - صحيحة عبد الرحمن
ابن الحجاج المتقدمة في سابق هذه المقدمة (3) الواردة في جزاء الصيد كما أشرنا إليه ثمة.
وحسنة بريد (4) الكناسي في من تزوجت في العدة جاهلة، حيث قال

(1) وهو من حديث حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) الذي رواه
الكليني في الكافي في باب (حجج الله على خلقه) من كتاب التوحيد ورواه الصدوق
في كتاب التوحيد في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية).
(2) الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة المروية في الوسائل في باب - 9 - من أبواب
صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به من كتاب القضاء، وغيرها من الروايات في باب
- 12 - من تلك الأبواب.
(3) في صحيفة 73 سطر 2.
(4) بالباء الموحدة والراء المهملة كما عليه نسخ الحدائق المطبوعة والمخطوطة التي وفقنا
عليها، وهو من أصحاب الصادق (عليه السلام) على ما نقله صاحب جامع الرواة عن رجال
الميرزا، ويحتمل أن يكون باليا. المثناة والزاي المعجمة، وهو المكنى بأبي خالد، وهو
من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) على ما نقله صاحب جامع الرواة عن رجال
الميرزا محمد. ونقل عن بعضهم أنه مال إلى البناء على اتحادهما وأن أبا خالد الكناسي اسمه
(بريد) بالباء الموحدة والراء المهملة لا (يزيد) بالياء المثناة والزاي المعجمة، وأنه
من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) ومال صاحب جامع الرواة إلى اتحادهما مع
بريد بن معاوية العجلي، لما ذكره في باب الياء من كتابه.
82

الراوي فيها: " قلت: فإن كانت تعلم أن عليها عدة ولا تدري كم هي؟ فقال:
إذا علمت أن عليها العدة لزمتها الحجة، فتسأل حتى تعلم " (1) وهما ظاهرتا الدلالة
على ذلك وإن كان موردهما جزئيات الحكم الشرعي.
وأما الجاهل بالمعنى الأول فلا ريب في معذوريته، لأن تكليف الغافل الذاهل
مما منعت منه الأدلة العقلية وأيدتها الأدلة النقلية، وإلى ذلك يشير قوله (عليه السلام)
في صحيحة عبد الرحمن المتقدمة في سابق هذه المقدمة (2) الواردة في التزويج في العدة
في تعليل أن الجاهل بالتحريم أعذر من الجاهل بكونها في عدة: " وذلك بأنه لا يقدر
على الاحتياط معها " بمعنى أنه مع جهله بأن الله حرم عليه التزويج في العدة لا يقدر
على الاحتياط بالترك، لعدم تصور الحكم بالكلية، بخلاف الظان أو الشاك فإنه يقدر
على ذلك لو تعذر عليه العلم وعلى هذا تحمل الأخبار الأخيرة الدالة على المعذورية.
وأما ما يفهم من كلام ذلك البعض المشار إليه آنفا (3) من الحكم بصحة صلاة العوام
كيف كانت وإن اشتملت على الاخلال بالواجبات، فظني أنه على اطلاقه غير تام،
فإنه متى قام العذر للجاهل بمجرد جهله وصحت صلاته كصلاة الفقيه بجميع شروطها وواجباتها
ووسعه البقاء على جهله، لزم سقوط التكليف. فما الغرض من أمر الشارع بهذه الأحكام
والفصل فيها بين الحلال والحرام؟ وإلى من تتوجه هذه الأوامر؟ وإلى من أرسلت

(1) رواها صاحب الوسائل في باب - 27 - من أبواب حد الزنا من كتاب
الحدود والتعزيرات.
(2) في صحيفة 73 سطر 11.
(3) في صحيفة 78 سطر 2.
83

الرسل وأنزلت الكتب؟ إذا وسع الجاهل البقاء على جهله وصحت جميع أفعاله وأعماله
الواقعة كذلك، وفي هذا من الشناعة ما لا يلتزمه من له أدنى قدم في التحصيل،
وأخبار - " لا يسع الناس البقاء على الجهالة " (1) وحديث تفسير قوله سبحانه:
" قل فلله الحجة البالغة " (2) وما روي في حسنة زرارة (3) عنه (صلى الله عليه وآله)
حين رأى من يصلي ولم يحسن ركوعه ولا سجوده، من أنه قال: " نقر كنقر الغراب،
لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني " وما استفاض عنهم (صلوت الله
عليهم): " ليس منا من استخف بصلاته " وفي جملة منها " لا ينال شفاعتنا من استخف
بصلاته " (4) الشامل ذلك باطلاقه للعالم والجاهل - مما يرد هذا القول ويبطله.
والقول الفصل في ذلك أن يقال: إن الظاهر أن الحكم في ذلك يختلف باختلاف
الناس في أنسهم بالأحكام والتمييز بين الحلال والحرام وعدمه، وقوة عقولهم وأفهامهم
وعدمها. ولكل تكليف يناسب حاله، ويرجع ذلك بالآخرة إلى الجاهل بمعنييه

(1) تقدم بعضها في صحيفة 78 سطر (7). وقد روى في الوسائل في باب - 7 -
من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به من كتاب القضاء. كما قد روى حديث الأحول
وهو قوله (عليه السلام): " لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا " في باب - 9 -
من الأبواب المذكورة.
(2) في سورة الأنعام. آية 151. وهو الحديث الذي روى في أمالي الشيخ
عن المفيد عن ابن قولويه عن الحميري عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد قال:
" سمعت جعفر بن محمد (علهما السلام) وقد سئل عن قوله تعالى " قل فلله الحجة البالغة "
فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالما؟ فإن قال: نعم.
قال له: أفلا علمت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلا. قال: أفلا تعلمت حتى
تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجة البالغة ".
(3) المروية في الوسائل في باب - 3 - من أبواب الركوع من كتاب الصلاة.
(4) روى في الوسائل الأخبار المتضمنة لذلك في باب - 6 - من أبواب أعداد
الفرائض ونوافلها وما يناسبها من كتاب الصلاة.
84

المتقدمين (1). وذلك فإن من المعلوم أن سكان الصحارى والرساتيق ليسوا في الإنس بالأحكام
والشرائع، كسكان المدن والأمصار المشتملة على العلماء والوعاظ والجمعات والجماعات
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. ولهذا نهى الشارع عن سكون تلك
وندب إلى سكون هذه، لأنه بمجرد ذلك يحصل التأدب بالآداب الشرعية، والتخلق
بالأخلاق المرضية، والاطلاع على الأحكام النبوية بمداخلة أبناء النوع ومعاشرتهم، بل
مجرد رؤيتهم، كما لا يخفى على من تأمل ذلك، وحينئذ فالعامي من سكان الصحارى
- مثلا - إذا أخذ العبادة من آبائه وتلقاها من أسلافه على أي وجه كان، معتقدا
أنها هي العبادة التي أمر بها الشارع ولم يعلم زيادة على ذلك. فالظاهر صحتها.
(أما أولا) - فلأنه جاهل بما سوى ذلك جيلا ساذجا، وتوجه الخطاب
إلى مثله كما قدمنا (2) ممتنع عقلا ونقلا.
و (أما ثانيا) - فلأنه قد ورد في الأخبار بالنسبة إلى جاهل الإمامة من المخالفين
أنهم ممن يرجى لهم الفوز بالنجاة في الآخرة، فإذا كان ذلك حال المخالفين في الإمامة
التي هي من أصول الدين فكيف بعوام مذهبنا في الفروع؟ وكذا القول بالنسبة
إلى قوة العقل والفهم وعدمها، فإن خطاب كاملي العقول وثاقبي الأذهان ليس كخطاب
غيرهم من البله والصبيان والنسوان، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): " إنما يداق
الله العباد على ما وهبهم من العقول " (3) و " أنه سبحانه يحتج على العباد بما آتاهم

(1) في صحيفة 82 سطر 3.
(2) في صحيفة 83 سطر 4.
(3) وهو حديث أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) المروي في الكافي
في كتاب العقل والجهل بالنص الآتي:
" إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول
في الدنيا. "
85

وعرفهم " (1) " وأن الايمان درجات فلا ينبغي لصاحب الدرجة العالية أن يبرأ
من صاحب الدرجة السافلة ولا يوبخه عليها " (2) وحينئذ فتكليف ضعفة العقول ليس
كتكليف كامليها، ومما يؤكد ذلك أنه قد ورد في أخبارنا أن المستضعفين من المخالفين
ممن يرجى لهم الفوز بالجنة، وإن دل ظاهر الآية الشريفة على أنهم من المرجئين لأمر
الله، إلا أن ظاهر جملة من الأخبار أن عاقبة أمرهم إلى الجنة، بل قال شيخنا المجلسي
(عطر الله مرقده) على ما نقله عنه السيد نعمة الله الجزائري (رحمه الله) في بعض
فوائده: " أن المستضعفين - من الكفار ممن لم تقم عليه الحجة من عوامهم ومن بعد
عن بلاد الاسلام - ممن يرجى لهم النجاة " قال السيد نعمة الله بعد نقل ذلك عنه:
" وهذا القول وإن لم يوافقه عليه الأكثر إلا أنه غير بعيد من تتبع موارد الأخبار "
انتهى. وحينئذ فلو أوقع أحد هؤلاء العبادة التي أخذها من آبائه وأسلافه، معتقدا أن
هذا هو أقصى ما هو مكلف به. فالظاهر صحتها بالتقريب المتقدم. وأما بالنسبة
إلى من عدا من ذكرنا فالظاهر أن جهلهم ليس كجهل أولئك حتى يكون موجبا للعذر
لهم ومصححا لعبادتهم، فإنه لا أقل أن يكونوا - بمن يصحبونه من المصلين الآتين
بالصلاة على وجهها وبجملة حدودها، ويشاهدونه من الملازمين على ذلك في جميع
الأوقات والحالات سيما في المساجد والجماعات - يحصل لهم الظن الغالب - إن تنزلنا
عن دعوى العلم - بأن هذه هي الصلاة المأمور بها شرعا، وإن ما نقص عنها وخالفها
إن لم يكن معلوم البطلان فلا أقل أن يكون مظنونه أو مشكوكه، وحينئذ فيرجع

(1) وهو من حديث حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) المروي في الكافي
في باب (حجج الله على خلقه) من كتاب التوحيد، وفي كتاب التوحيد للصدوق في باب
(التعريف والبيان والحجة والهداية).
(2) روى الكليني الأخبار المتضمنة لذلك في الكافي في باب (درجات الايمان) والباب
الذي يليه من كتاب الايمان والكفر.
86

إلى الجهل بالمعنى الآخر الموجب للفحص والسؤال والعلم والتفقه، واستحقاق العقوبة
على ترك ذلك، وبطلان العمل مع الاخلال بما هنالك، كما يدل عليه قوله (عليه
السلام): " إذا علمت أن عليها العدة لزمتها الحجة فتسأل حتى تعلم " (1) وربما
يستأنس أيضا بقول الصادق (عليه السلام) في آخر حديث عبد الصمد بن بشير (2):
" واصنع كما يصنع الناس " وفي هذا المقام مباحث شريفة وفوائد لطيفة قد وشحنا بها
هذه المسألة في كتاب الدرر النجفية مع بسط في أصل المسألة تشتاقه الطباع وتلذه الأسماع.
المقدمة السادسة
في التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية
والبحث هنا يقع في موارد:
(أحدها) - تعارض الآيتين من الكتاب العزيز، والواجب - أولا -
الفحص والتفتيش من الأخبار في نسخ إحداهما للأخرى وعدمه، فإن علم فذاك،
وإلا فإن علم التأريخ فالمتأخر ناسخ للسابق، وإلا فإن اشتملت إحداهما على اطلاق
أو عموم بحيث يمكن التقييد أو التخصيص حكم به أيضا، وإلا فالواجب التوقف
والاحتياط إن أمكن. وإلا فاختيار إحداهما من باب التسليم.
و (ثانيها) - تعارض الآية والرواية. والذي ذكره بعض أصحابنا أنه إن
كانت إحداهما مطلقة أو عامة، وجب تقييدها بالأخرى، وإلا فالاحتياط إن لم يمكن
الجمع بينهما بحيث يحصل الظن القوي بالمراد ولو بحسب القرائن الخارجة. ونقل

(1) في حسنة بريد الكناسي المتقدمة في صحيفة 82 سطر 12
(2) المتقدم في صحيفة 79 سطر 7.
87

- عن جملة من أصحابنا: منهم - السيد المرتضى والشيخ (عطر الله مرقديهما) - المنع
من تخصيص القرآن بخبر الواحد.
ونقل الاحتجاج على ذلك بأن القرآن قطعي وخبر الواحد ظني، والظني
لا يعارض القطعي.
ورد (أولا) - بأن التخصيص إنما هو في الدلالة، وقطعية المتن غير مجدية،
لأن الدلالة ظنية. و (ثانيا) - بمنع ظنية خبر الواحد، بل هو أيضا قطعي من جهة الدلالة.
والأظهر الاستدلال على ذلك بالأخبار المستفيضة الدالة على أن " كل خبر لا يوافق
القرآن فهو زخرف، وأن كل شئ مردود إلى الكتاب والسنة، وأنه إذا ورد
عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من قول الله عز وجل أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلا فالذي جاءكم أولى به " (1) إلى غير ذلك مما يدل على طرح ما خالف
القرآن، إلا أن هذه الأخبار معارضة بما هو أكثر عددا وأوضح سندا وأظهر دلالة
من الأخبار الدالة على تخصيص عمومات الآيات القرآنية وتقييد مطلقاتها في غير موضع
من أبواب الفقه، وقول كافة الأصحاب أو جمهورهم بذلك، مع اعتضاد تلك الآيات
في جملة من المواضع المذكورة بأخبار أخر أيضا دالة على ما دلت عليه تلك الآيات
من اطلاق أو عموم.
والتحقيق في المقام أن يقال: ينبغي أن يحمل كلام السيد والشيخ (قدس سرهما)
على خبر الواحد الذي يمنعان حجيته في الأحكام الشرعية، وهو ما لم يكن من طريقنا
أو لم تشتمل عليه أصولنا كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في المقدمة الخامسة (2)، لتصريحهما

(1) روى صاحب الوسائل هذه الأخبار في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي
وما يجوز أن يقضى به من كتاب القضاء.
(2) كذا فيما وفقنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك
في المقدمة الرابعة في صحيفة 67 سطر 7
88

بصحة أخبارنا المذكورة وثبوت تواترها عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
وأما الاختلاف الواقع بين الأخبار المذكورة فيمكن دفعه بالجمع بينها بأحد وجوه:
(أحدها) - حمل الأخبار الدالة على المنع من التخصيص على التخصيص بما ورد
من طريق العامة، أو كان خارجا عن أخبار الأصول التي عليها المدار بين الشيعة
الأبرار، أو كان مخالفا لعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا، ونحو ذلك.
(الثاني) - حمل المخالفة في تلك الأخبار على ما إذا كان مضمون الخبر مبطلا
لحكم القرآن بالكلية. والتقييد والتخصيص بيان لا مخالفة.
(الثالث) - حمل المخالفة على مخالفة محكم الكتاب ونصوصه.
(الرابع) - أن المراد بطلان الخبر المخالف للقرآن إذا علم تفسير القرآن بالأثر
عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم) إذ لا شك في بطلان المخصص إذا كان إرادة
العموم من القرآن معلوما بالنص. نعم ربما ورد في الأخبار ما يطابق تلك الآيات
في الاطلاق أو العموم إلا أنه ليس مما نحن فيه في شئ (1).
و (ثالثها) - تعارض الخبرين المعلومي الورود عنهم (عليهم السلام) وقد
ذكر جملة من الأصحاب أنه إن أمكن الجمع بين الدليلين ولو بتأويل بعيد فهو أولى
من طرح أحدهما. ويرد على ذلك أن هذا مما لا يتمشى في أخبارنا. لورود الكثير
منها على جهة التقية التي هي على خلاف الحكم الشرعي واقعا، إذ التقية كما قد عرفت

(1) لان الكلام فيما إذا وردت تلك الأخبار مفسرة للآية فيما دل عليه ظاهرها
من العموم أو الاطلاق أو نحوهما، واما ورودها موافقة لها في الجملة من غير أن تكون
على جهة التفسير لها فيرتكب في الجمع بين الآية والاخبار أو بين الاخبار بعضها مع بعض
كما أشرنا اليه سابقا من أن أكثر علمائنا بل كلهم في جملة من المواضع عملوا على ذلك كما
سيتضح لك إن شاء الله تعالى في جملة من المسائل الآتية من أبواب الكتاب (منه قدس سره).
89

في المقدمة الأولى أصل الاختلاف في أخبارنا، فكيف يتمحل الجمع بيننا وبين ما هو
خلافها واقعا؟ نعم إنما ذلك على قواعد العامة، لعدم ورود حديث عندهم على جهة
التقية. والظاهر أن من صرح بذلك من أصحابنا إنما أخذه من كلامهم غفلة عن تحقيق
الحال وما يلزمه من الاشكال.
(لا يقال): إن الشيخ (رحمه الله) في كتابي الأخبار هو أصل هذه
الطريقة ومحقق هذه الحقيقة، حيث إنه جمع بين الأخبار لقصد رفع التنافي بينها بوجوه
عديدة، وإن كانت بعيدة بل جملة منها غير سديدة، رعاية لهذه القاعدة وطلبا
لهذه الفائدة.
(لأنا نقول): نعم قد فعل الشيخ ذلك لكن ليس لرعاية هذه القاعدة - كما
يتوهم - بل السبب الحامل له على ذلك هو ما أشار إليه (قد) في أول كتاب
التهذيب، من أن بعض من الشيعة قد رجع عن مذهب الحق لما وجد الاختلاف
في الأخبار، فقصد (قد) إزاحة هذه الشبهة عن ضعفة العقول ومن ليس له
قدم راسخ في المعقول والمنقول، وارتكب الجمع ولو بالوجوه البعيدة وأكثر
من الاحتمالات. كل ذلك لدفع تلك الشبهة. وبهذا يندفع عنه ما أورده المتأخرون
في جمل من مواضع الجمع بين الأخبار بالعبد أو الفساد، فإن مثله (قد) - ممن
لا يشق غباره ولا يدفع اشتهاره - لا يخفى عليه ما اهتدى إليه أولئك الأقوام
وما أوردوه عليه في كل مقام، لكنهم من قبيل ما يقال: " أساء سمعا فأساء أجابه "
وقد ذكر علماء الأصول ممن وجوه الترجيحات في هذا المقام بما لا يرجع أكثره
إلى محصول، والمعتمد عندنا على ما ورد من أهل بيت الرسول، من الأخبار المشتملة
على وجوه الترجيحات، إلا أنها بعد لا تخلو من شوب الاشكال، فلا بد من بسط
جملة منها في هذا المجال، والكلام فيها بما يكشف نقاب الاجمال وينجلي به
غياهب الاشكال.
90

فنقول: مما ورد في ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (1) (عطر الله تعالى مراقدهم)
بأسانيدهم عن عمر بن حنظلة عن الصادق (عليه السلام) وفيها: " فإن كان كل
رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما،
وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما
في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر، قال: قلت: فإنهما عدلان
مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر. قال: فقال: ينظر إلى ما كان
- من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به - المجمع عليه من أصحابك، فيؤخذ به
من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب
فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر
مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات،
ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم، قلت: فإن كان
الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم
الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة
ووافق العامة، قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب
والسنة ووجدا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم، بأي الخبرين يؤخذ؟
قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. قلت: جعلت فداك فإن وافقهم الخبران

(1) رواه الكليني في الكافي في باب (اختلاف الحديث) من كتاب فضل العلم
ورواه الصدوق في الفقيه في باب - 9 - (الاتفاق على عدلين في الحكومة) من الجزء الثالث.
ورواه الشيخ في التهذيب في باب (الزيادات في القضاء والاحكام) من كتاب القضاء.
ورواه صاحب الوسائل في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به
من كتاب القضاء.
91

جميعا؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالآخر.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى
إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ".
ومن ذلك - ما رواه الأئمة الثلاثة (1) (نور الله مراقدهم) بأسانيدهم عن داود
ابن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في رجلين اتفقا على عدلين
جعلاهم بينهما في حكم وقع بينها فيه خلاف فرضيا بالعدلين، واختلف العدلان بينهما،
عن قول أيهما يمضي الحكم؟ فقال ينظر إلى أفقههما وا علمهما بأحاديثنا وأورعهما
فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر ".
ومنه - ما رواه الثقة الجليل أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (قد)
في كتاب الاحتجاج (2) عن سماعة بن مهران قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالعمل به والآخر ينهانا عن العمل به؟
قال: لا تعمل بواحد منهما حتى يأتي صاحبك فتسأله عنه. قال: قلت: لا بد أن
يعمل بأحدهما. قال: اعمل بما فيه خلاف العامة ".
ومنه - ما رواه في الكتاب المذكور (3) عن الحسن بن الجهم عن الرضا

(1) رواه الصدوق في الفقيه في باب - 9 - (الاتفاق على عدلين في الحكومة)
من الجزء الثالث. ورواه الشيخ في التهذيب في باب (الزيادات في القضاء والاحكام)
من كتاب القضاء. ولم نجده في الكافي في الموضع المناسب له. ورواه صاحب الوسائل
في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء عن الفقيه
والتهذيب فقط. ورواه صاحب الوافي عنهما فقط أيضا في باب (من لا يجوز التحاكم
اليه ومن يجوز) من أبواب القضاء والشهادات من الجزء التاسع.
(2) في احتجاج أبي عبد الله الصادق في الصحيفة 185 طبع إيران سنة 1302. ورواه
في الوسائل في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء
(3) في الموضع المتقدم، وفي الوسائل أيضا كذلك.
92

(عليه السلام) قال: " قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال ما جاءك عنا
فقسه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا. فإن كان يشبههما فهو منا، وإن لم يكن
يشبههما فليس منا. قلت: يجيئنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين فلا نعم أيهما
الحق؟ فقال: إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت ".
ومنه - ما رواه الشيخ محمد بن علي بن أبي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي
اللئالي (1) عن العلامة مرفوعا عن زرارة ين أعين. قال: " سألت الباقر (عليه السلام)
فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال:
يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت: يا سيدي أنهما معا
مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال (عليه السلام): خذ بما يقول أعدلهما عندك
وأوثقهما في نفسك. فقلت: أنهما معا عدلان مرضيا موثقان؟ فقال: انظر
ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ ما خالفه، فإن الحق فيما خالفهم. فقلت: ربما كانا
موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال: إذن فخذ ما فيها الحائطة لدينك واترك
الآخر. فقلت: إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال
إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر " قال في الكتاب المذكور بعد نقل هذه
الرواية: وفي رواية أنها (عليه السلام) قال: " إذن فارجئه حتى تلقى إمامك فتسأله "
ومنه - ما رواه في الكافي (2) فالموثق عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: " سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما
يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى

(1) ورواه صاحب المستدرك في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان
يقضى به من كتاب القضاء.
(2) في باب (اختلاف الحديث) من كتاب فضل العلم، ورواه صاحب الوسائل
في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.
93

من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه " قال في الكافي بعد نقل هذه الرواية: وفي رواية
أخرى: " بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك ".
ومنه - ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه
السلام) (1) بسنده عن أحمد بن الحسن الميثمي: أنه " سئل الرضا (عليه السلام) يوما
وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين عن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) في الشئ الواحد. فقال (عليه السلام): ما ورد عليكم
من خبرين مختلفين فاعرضهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا
أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب. وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن
النبي (صلى الله عليه وآله) فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام أو مأمورا به
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر إلزام، فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأمره، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الآخر
خلافه، فذلك رخصة فيما عافه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكرهه ولم يحرمه،
فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا، أو بأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم
والاتباع والرد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما لم تجدوه في شئ من هذه
الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكف
والتثبت والوقوف - وأنتم طالبون باحثون - حتى يأتيكم البيان من عندنا ".
ومنه - ما رواه الشيخ السعيد قطب الدين بن هبة الله الراوندي
في رسالته المعمولة في بيان أحوال أحاديث أصحابنا وصحتها (2) بإسناده عن الصدوق
أبي جعفر محمد بن بابويه في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: " قال

(1) في الاخبار المنثورة عن الرضا (عليه السلام) في الصحيفة 191 طبع إيران
سنة 1318، ورواه صاحب الوسائل في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان
يقضى به من كتاب القضاء.
(2) وفي الوسائل في الموضع المتقدم.
94

الصادق (عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله،
فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله
فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه ".
ومنه - ما رواه في الرسالة المذكورة عن ابن بابويه بسنده عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) قال: " إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف القوم "
وروى فيها بهذا النحو أخبارا عديدة متفقة المضمون على الترجيح بالعرض على مذهب
العامة والأخذ بخلافه.
ومنه - ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار (2) قال: " قرأت
في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم
عن أبي عبد الله (عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر: فروي بعضهم أن صلهما
في المحمل وروى بعضهم أن لا تصلهما إلا على الأرض فاعلمني كيف تصنع أنت
لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع (عليه السلام): موسع عليك بأيهما عملت ".
ومنه - ما رواه في كتاب الاحتجاج في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري
إلى صاحب الزمان (عليه السلام) (3) " يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام
من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة، هل يجب عليه أن يكبر؟ فإن بعض أصحابنا
قال: لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول بحول الله وقوته أقوم وأقعد. الجواب:

(1) ورواه صاحب الوسائل في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان
يقضى به من كتاب القضاء.
(2) في صلاة المسافر من كتاب القضاء من التهذيب، ورواه صاحب الوسائل في باب
- 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.
(3) في الصحيفة (247) طبع إيران سنة 1302. ورواه صاحب الوسائل في باب
- 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.
95

في ذلك حديثان، أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلي أخرى فعليه التكبير.
وأما الحديث الآخر فإنه روي أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس
ثم قال فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى،
وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا ".
ومنه - ما رواه في الكتاب المذكور عن الحرث بن المغيرة عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) قال: " إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك
حتى ترى القائم فترد إليه ".
ومنه - ما رواه ثقة الاسلام في الكافي (2) بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: " أرأيتك لو حدثتك بحديث - العام - ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه، بأيهما
كنت تأخذ؟ قال: قلت: كنت آخذ بالأخير. فقال لي: رحمك الله ".
ومنه - ما رواه في الكتاب المذكور أيضا (3) بسنده عن المعلي بن خنيس
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا جاء
حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ قال: خذوا به حتى يبلغكم
عن الحي فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام):
إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم " قال في الكافي بعد نقل هذا الخبر: وفي حديث
آخر: " خذوا بالأحدث ".

(1) في احتجاج أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في الصحيفة 185 طبع إيران
سنة 1302. ورواه صاحب الوسائل في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان
يقضى به من كتاب القضاء.
(2) في باب (اختلاف الحديث) من كتاب فضل العلم، ورواه صاحب الوسائل
في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.
(3) في الموضع المتقدم وفي الوسائل أيضا كذلك.
96

إذا عرفت ذلك فتحقيق الكلام في هذه الأخبار يقع في مواضع:
(الأول) - لا يخفى أن مقبولة عمر بن حنظلة (1) ومرفوعة زرارة (2) قد اشتملتا
على الترجيح بأعدلية الراوي وأفقهيته، وهذا الطريق من طرق الترجيح لم يتعرض
له ثقة الاسلام في ديباجة الكافي في ضمن نقله طرق الترجيحات، وإنما ذكر الترجيح
بموافقة الكتاب ومخالفة العامة والأخذ بالمجمع عليه، ولعل الوجه فيه ما ذكره بعض
مشايخنا (رضوان الله عليهم) من أنه لما كانت أحاديث كتابه كلها صحيحة عنده
- كما صرح به في غير موضع من ديباجة كتابه - فلا وجه للترجيح بعدالة الراوي.
ويحتمل أيضا أن يقال: إن في الترجيح بأحد تلك الوجوه الثلاثة غنية عن الترجيح
بعدالة الرواي كما سيأتي تحقيقه. ويؤيد ذلك خلو ما عدا الخبرين المذكورين ورواية داود
ابن الحصين (3) من الأخبار الواردة في هذا المضمار عن عد ذلك في جملة المرجحات.
ويؤيده أيضا ما رواه في الكافي (4) عن ابن أبي يعفور قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث: يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق
به قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وإلا فالذي جاءكم به أولى به " فإنه (عليه السلام) لم يرجح
بالوثاقة ولم يقل اعمل بما تثق به دون ما لا تثق به مع كون السؤال عن الاختلاف
الناشي عن رواية الثقة وغير الثقة.
(الثاني) - إنه قد اشتملت مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة على جملة
الطرق الواردة في الترجيح، لكنهما قد اختلفتا في الترتيب بين تلك الطرق،
فاشتملت الأولى منهما على الترجيح بالأعدلية والأفقهية ثم بالمجمع عليه ثم بموافقة الكتاب

(1) المتقدمة في الصحيفة 91.
(2) المتقدمة في الصحيفة 93 السطر 5.
(3) المتقدمة في الصحيفة 92 السطر 4.
(4) في باب (الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب) من كتاب فضل العلم.
97

ثم بمخالفة العامة، والثانية منهما قد اشتملت على الترجيح بالشهرة أولا ثم بالأعدلية
والأوثقية ثم بمخالفة العامة ثم بالأحوطية، ولم يذكر فيها الترجيح بموافقة القرآن،
كما لم يذكر في الأولى الترجيح بالأحوطية.
ويمكن الجواب (أولا) بأن يقال: إن الترتيب غير منظور فيهما، لأنه
في الحقيقة إنما وقع في كلام السائل لا في كلامه (عليه السلام) وغاية ما يفهم من كلامه
(عليه السلام) هو الترتيب الذكري، وهو لا يستدعي الترتيب في وقوع الترجيح،
وحينئذ فأي طريق اتفق من هذه الطرق عمل عليه، وبذلك يندفع ما قيل: إن مقتضى
مقبولة عمر بن حنظلة (1) - حيث قدم فيها الترجيح بالأعدلية والأوثقية - إنه لا يصار
إلى غير الطريق المذكور إلا مع تعذر الترجيح به، وهكذا باقي الطرق.
(لا يقال): يلزم الاشكال لو تعارضت الطرق المذكورة: بأن كان أحد
الخبرين مجمعا عليه مع موافقته للعامة والآخر غير مجمع عليه مع مخالفته لهم، أو أحدهما
موافقا للكتاب مع موافقته والآخر مخالفا للعامة وللكتاب.
(لأنا نقول): غاية ما يلزم من ذلك خلو الروايتين المذكورتين عن حكم
ذلك، والمدعي إنما هو عدم دلالتهما على الترتيب في هذه الطرق لا الدلالة على عدم
الترتيب واقعا أو الدلالة عليه، على أنا نقول: إنه مع القول بعدم المخالفة بين الأخبار
والقرآن إذا كانت مخصصة له كما أسلفنا بيانه (2)، فلا نسلم وجود هذه الفروض المذكورة
في أخبارنا المعمول عليها عندنا، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار وتصفح
الأخبار بعين الاعتبار، ومع إمكان وجود ذلك فيمكن أيضا القول بأنه متى تعارض
طريقان من الطرق المذكورة، يصار إلى الترجيح بغيرهما إن أمكن، أو بهما مع اعتضاد
أحدهما بمرجح آخر من تلك الطرق إن وجد، وإلا صير إلى التوقف والارجاء أو التخيير.

(1) المتقدمة في الصحيفة 91.
(2) في الصحيفة 89 السطر 7.
98

ويمكن أن يقال أيضا في الجواب (ثانيا) عن اختلاف الخبرين المذكورين في الترتيب
بين الطرق: بأنه لا يبعد ترجيح العمل بما تضمنته مقبولة عمر بن حنظلة (1)، لاعتضادها
بنقل الأئمة الثلاثة (رضوان الله عليهم) وتلقي الأصحاب لها بالقبول حتى أنه اتفقت
كلمتهم على التعبير عنها بهذا اللفظ الذي كررنا ذكره، واطباقهم على العمل بما تضمنته
من الأحكام، بخلاف الرواية الأخرى، فإنا لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللئالي،
مع ما هي عليه من الرفع والارسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه
إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى
على من وقف على الكتاب المذكور.
(الثالث) - أنه قد دلت مقبولة عمر بن حنظلة على الارجاء والتوقف بعد
التساوي في طرق الترجيحات المذكورة. ومرفوعة زرارة (2) على التخيير في العمل
بأحدهما بعد ذلك، وبعض الأخبار قد دل على التوقف والارجاء من غير ذكر شئ
من الطرق قبل ذلك، وبعض آخر قد دل على التخيير كذلك، ولعل الأخيرين (3)
محمولان على عدم إمكان الترجيح بتلك الطرق، لاستفاضة الأخبار بالترجيح سيما
بالقرآن ومخالفة العامة أولا، بل العمل بهما وإن لم يكن ثمة مخالف من الأخبار، إلا أن
خبر سماعة - المنقول عن كتاب الاحتجاج (4) - ينافي ذلك، ولعله محمول على إمكان الوصول
إلى الإمام (عليه السلام) وامكان التأخير، إذ الترجيح بهذه الطرق فرع تعذر
الوصول إليه (عليه السلام) بغير مشقة (5) وقد اختلفت كلمة أصحابنا (رضوان الله عليهم)

(1) المتقدمة في الصحيفة 91.
(2) المتقدمة في الصحيفة 93 السطر 5.
(3) وهو البعض الدال على التوقف والارجاء من غير ذكر شئ من الطرق قبل ذلك
والبعض الدال على التخيير كذلك (منه قدس سره).
(4) في الصحيفة 92 السطر 9.
(5) والا فلو كان في بلده (عليه السلام) أو قريبا بحيث يمكنه الاخذ منه فالظاهر أنه
لا يسوغ له الترجيح بتلك الطرق، وكذا لو لم يكن في بلده وأمكن التأخير
إلى مراجعته ورؤيته فالظاهر أنه لا يسوغ الترجيح بها أيضا (منه رحمه الله).
99

عليهم) في وجه الجمع بين خبري الارجاء والتسليم على وجوه:
(فمنها) - حمل خبر الارجاء على الفتوى وحمل خبر التخيير على العمل،
بمعنى أنه لا يجوز للفقيه - والحال كذلك - الفتوى والحكم وإن جاز له العمل بأيهما شاء
من باب التسليم، وبه صرح جملة من مشايخنا المتأخرين، واستدل بعضهم على ذلك
بصحيحة علي بن مهزيار ومكاتبة الحميري المتقدمتين (1) وظني أنهما ليستا من ذلك الباب،
إذ الظاهر من الأخبار أن التخيير في العمل من باب الرد والتسليم إنما هو مع تعذر رد
الحكم لهم (عليهم السلام) وتساوي الخبرين في طرق الترجيح، فالحكم حينئذ فيه
التخيير في العمل خروجا من الحيرة ودفعا للحرج والضرورة، كما ينادي به كلام
ثقة الاسلام الآتي نقله (2)، فهو من قبيل الرخص الواردة عنهم (عليهم السلام) في مقام
الضرورة كالعمل بالتقية ونحوه، وأما مع رد الحكم للإمام (عليه السلام) وأمره
بالتخيير فالظاهر أن الحكم الشرعي في ذلك هو التخيير، وهو أحد الوجوه التي يجمع
بها بين الأخبار إذا ظهر له مستند منها، والأمر هنا كذلك.
و (منها) - حمل الارجاء على زمن وجوده (عليه السلام) وامكان الرد إليه،
وحمل التخيير على زمان الغيبة وعدم إمكان الوصول إليه. وبه صرح الثقة الجليل
أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج (3) وفيه أن ذلك يتم بالنسبة

(1) في الصحيفة 95 السطر 8 و 13.
(2) في هذه المقدمة في الموضع الخامس.
(3) قال (قدس سره) في الكتاب المذكور بعد نقل مقبوله عمر بن حنظلة: (واما
قوله (عليه السلام) للسائل: ارجه وقف عنده حتى تلقى امامك - امر بذلك عند تمكنه
من الوصول إلى الامام، فاما إذا كان غائبا ولا يتمكن من الوصول اليه والأصحاب كلهم
مجمعون على الخبرين ولم يكن هناك رجحان لرواة أحدهما على رواة الاخر بالكثرة
والعدالة، كان الحكم بهما من باب التخيير) ثم استدل برواية الحسن بن الجهم ورواية
الحرث بن المغيرة المتقدمتين (منه رحمه الله).
100

إلى الأخبار المشتملة على الارجاء والتخيير الخالية عم طرق الترجيح. وأما الأخبار
المشتملة عليها - كمقبولة عمر بن حنظلة (1) ومرفوعة زرارة (2) المجعول فيهما الارجاء
والتخيير بعد تعذر الترجيح بتلك الطرق - فيشكل بأن الظاهر أن الترجيح بتلك الطرق إنما
يصار إليه عند تعذر الوصول إليهم (عليهم السلام) فكيف يحمل الارجاء في هذه الحال
على إمكان الوصول؟ إلا أن يحمل على ذوي الأطراف البعيدة المستلزم الوصول فيها
المشقة فيعمل على تلك المرجحات، ومع عدم إمكان الترجيح بها يقف عن الحكم
والعمل حتى يصل للإمام (عليه السلام)، وربما يفهم ذلك من مرفوعة زرارة،
لأمره (عليه السلام) له بذلك. فإنه دال باطلاقه على ما هنالك.
(ومنها) - حمل أخبار التخير على العبادات المحضة كالصلاة، وحمل أخبار
الارجاء على غيرها من حقوق الآدميين من دين أو ميراث على جماعة مخصوصين
أو فرج أو زكاة أو خمس، فيجب التوقف عن الأفعال الوجودية المبنية على تعيين
أحد الطرفين بعينه، ذهب إليه المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره) في كتاب
الفوائد المدنية، والظاهر أن وجهه اشتمال مقبولة عمر بن حنظلة الدالة على الارجاء
على كون متعلق الاختلاف حقوق الناس، وفيه أن تقييد اطلاق جملة الأخبار الواردة
بذلك لا يخلو من اشكال، فإنها ليست نصا في التخصيص بل ولا ظاهرة فيه حتى
يمكن ارتكاب التخصيص بها.
و (منها) - حمل خبر الارجاء على ما لم يضطر إلى العمل بأحدهما، والتخيير
على حال الاضطرار والحاجة إلى العمل بأحدهما، ذهب إليه الفاضل بأن أبي الجهم ورواية

(1) المتقدمة في الصحيفة 91.
(2) المتقدمة في الصحيفة 93 السطر - 5.
101

في كتاب عوالي اللئالي، وظاهره حمل كل من خبري الارجاء والتخيير على العمل
خاصة أعم من أن يكون في زمن الغيبة أو عدم إمكان الوصول أولا. وهذا الاطلاق
مشكل، لأن الظاهر أنه مع الحضور وامكان الوصول لا يسوغ التخيير بل يجب الارجاء
حتى يسأل.
و (منها) - حمل الارجاء على الاستحباب، والتخيير على الجواز. نقله المحدث
السيد نعمة الله عن شيخه المجلسي (قدس سرهما) (1) وظني بعده.
و (منها) - ما يفهم من خبر الميثمي المتقدم نقله عن كتاب عيون الأخبار (2)
من تخصيص التخيير في العمل بما كان النهي فيه نهي إعافة لا نهي تحريم ثم كان الخبر
الآخر خلافه فإنه رخصة، والأرجاء والتوقف على غير ذلك. والظاهر أنه لا يطرد
كليا، لما عرفت من عموم خبري (3) عمر بن حنظلة وزرارة ونحوهما من الأخبار.
و (منها) - حمل الارجاء على النهي عن الترجيح والعمل بالرأي، وحمل
التخيير على الأخذ من باب التسليم والرد إليهم (عليهم السلام) لا إلى الرأي والترجيح
بما يوافق الهوى كما هو قول أبي حنيفة وأضرابه، وهذا الوجه نقله بعض مشايخنا
(رضوان الله عليهم) احتمالا أيضا، والظاهر بعده.
و (منها) - حمل خبر الارجاء على حكم غير المتناقضين وحمل خبر التخيير
على المتناقضين، نقله بعض شراح الأصول عن بعض الأفاضل، وفيه أن موثقة
سماعة المتقدمة (4) عن الكافي موردها في المتناقضين مع أنه حكم فيها بالارجاء، وحكم

(1) الذي وقفت عليه - من كلام شيخنا المجلسي في كتاب البحار - انه ذكر هذا الوجه
احتمالا لا اختيارا كما يشعر به كلام السيد المذكور، وقد استظهر في كتاب البحار الوجه
المنقول عن الاحتجاج، ولعل السيد (قدس سره) سمع ذلك منه مشافهة (منه قدس سره).
(2) في الصحيفة 94 السطر 3.
(3) المتقدمتين في الصحيفة 91 والصحيفة 93 السطر - 5 -.
(4) في الصحيفة 93 السطر 16.
102

في الرواية المرسلة التي بعدها (1) بالتخيير، والمورد واحد، ورواياته المنقولة
عن الاحتجاج (2) أيضا موردها المتناقضان مع أنه حكم فيها بالارجاء.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه يمكن ترجيح الوجه الأول بقوله (عليه السلام)
في حديث الميثمي (3): " فردوا علمه إلينا ولا تقولوا فيه بآرائكم " فإن ظاهره المنع
عن الافتاء والحكم خاصة، ولا ينافيه التخيير في الفعل تسليما لهم (عليهم السلام)
وعليه يدل ظاهر رواية الحرث بن المغيرة (4) فإن ظاهرها أنه متى كان نقلة الحديث
كلهم ثقات فموسع عليك في العمل بقول كل منهم حتى ترى القائم فترد إليه الحكم
والفتوى في ذلك، وإلا فلا معنى للسعة المذكورة سيما لو كان الفرض الجاء الحاجة
إلى العمل بأحدهما بل هو ضيق، ومثلها موثقة سماعة (5) فإن ظاهر قوله: " فهو في سعة
حتى يلقاه " مفرعا على الارجاء المشعر ذلك باختلاف متعلقيهما أن السعة إنما هي باعتبار
التخيير بين العفل وعدمه والارجاء باعتبار الحكم خاصة، إلا أن هذه الرواية محتملة
لاحتمال آخر أيضا.
وعندي أن مرجع كل من الوجه الأول والثاني عند التأمل والتحقيق بالنظر
الدقيق إلى أمر واحد، وذلك فإن حمل الارجاء على الفتوى والتخيير على العمل (6) -

(1) المتقدمة في الصحيفة 94 السطر 1.
(2) المتقدمة في الصحيفة 92 السطر 9.
(3) المتقدمة في الصحيفة 94 السطر 3.
(4) المتقدمة في الصحيفة 96 السطر 5.
(5) المتقدمة في الصحيفة 93 السطر 16.
(6) إذ الفرض ان الخبرين متناقضان، أحدهما يأمر والاخر ينهى، ومتعلق الأمر والنهي
شئ واحد، فارجاء العمل بكل منهما مما لا سبيل اليه كما تقتضيه قضية التناقض
بل لا بد من وقوع أحدهما فلا يمكن حينئذ تعلق الارجاء بالنسبة إلى العمل بهما معا
وما الاحتمال المذكور في موثقة سماة فهو ان الارجاء بترك الفعل لا بترك الخبرين معا بناء
على أن المستفاد من بعض الأخبار - كما تقدم - انه متى تردد الفعل بين الوجوب والتحريم
فالاحتياط في الترك وان كان الواجب واقعا هو الفعل، ورواية سماعة الأولى ظاهرة
في هذا المعنى (منه رحمه الله).
103

كما هو الوجه الأول - لا يكون إلا مع غيبة الإمام (عليه السلام) أو عدم إمكان الوصول
إليه، إذ الظاهر أنه متى أمكن الوصول إليه واستعلام الحكم منه فإنه يتحتم الارجاء
في الفتوى والعمل تحصيلا للحكم بطريق العلم واليقين كما هو الطريق الواضح المستبين،
أما مع عدم إمكان الترجيح بما تقدمهما من الطرق أو مع الامكان على التفصيل المتقدم
آنفا (1) وإلى ذلك يشير خبر سماعة المنقول عن الاحتجاج (2) وحمل الارجاء
على زمن وجود الإمام (عليه السلام) وامكان الرد والتخيير على ما عدا ذلك
- كما هو الوجه الثاني - مراد به الارجاء في الفتوى والفعل لما عرفت، والتخيير
على الوجه المذكور (3) مراد به التخيير في الفعل خاصة، إذ لا مجال لاعتبار التخيير
في الحكم الشرعي والفتوى به، لاستفاضة الآيات والأخبار بالمنع من الحكم والفتوى
بغير علم، وإن الحكم الشرعي في كل مسألة واحد يصيبه من يصيبه ويخطيه من يخطيه
لا تعدد فيه، وهذا مما ينافي التخيير في الفتوى، وحينئذ فيرجع إلى التخيير في الفعل

(1) وهو قوله في صدر الموضع الثالث: ولعله محمول... الخ فإنه يدل على أنه مع امكان
الوصول يجب التوقف في الفتوى والعمل ان أمكن التأخير، والا فلو لم يمكن بان ألجأت
الضرورة إلى العمل بأحدهما من غير احتمال للتأخير إلى مراجعته (عليه السلام) فإنه يسوغ
الترجيح بتلك المرجحات المنصوصة (منه رحمه الله).
(2) حيث نهى (عليه السلام) عن العمل بواحد منهما حتى يلقى صاحبه يعني الإمام (عليه
السلام) فما قال له السائل: لا بد من العمل بأحدهما. امره بما فيه خلاف العامة مع
استفاضة الاخبار بالعرض على مذهب العامة أولا قبل الارجاء فإنه ظاهر في أنه مع امكان
الرجوع أولا اليه (عليه السلام) لا مرجح بمخالفة مذهب العامة ولا غيره، ويؤيده انه
لعل الحكم هو العمل بما عليه العامة يومئذ (منه رحمه الله).
(3) مع عدم امكان الوصول اما لغيبة أو لمانع من الوصول اليه (منه رحمه الله).
104

خاصة، وبذلك يجتمع الوجهان المذكوران على أحسن التئام وانتظام وإن غفلت عنه
جملة مشايخنا العظام، ولعل هذا الوجه حينئذ هو أقرب الوجوه المذكورة (1).
وكيف كان فتعدد هذه الاحتمالات مما يدخل الحكم المذكور في حيز المتشابهات
التي يجب الوقوف فيها على جادة الاحتياط، فإنه أحد مواضعه كما قدمنا تحقيقه
وأوضحنا طريقه (2).
(الرابع) - يستفاد من الروايات الأخيرة (3) أن من جملة الطرق المرجحة
عند التعارض الأخذ بالأخير، ولم أقف على من عد ذلك في طرق الترجيحان فضلا
عمن عمل عليه غير الصدوق (ط) في الفقيه في باب (الرجل يوصي

(1) ويؤيد ما ذكرنا في هذا المقام ما وقفت عليه من كلام بعض الاعلام من متأخري
مشايخنا الكرام، حيث قال - بعد تقديم كلام يتعلق بالبحث المذكور - ما لفظه: (وبالجملة
فإنه ربما كان في الجمع بين الارجاء والتوسعة - كما في موثقة سماعة، وبينها وبين الرد كما
في رواية الحرث، مفرعا أحدهما على الاخر ومعقبا به حتى كأنه تفصيل وبيان لاجماله -
اشعار باختلاف متعلقهما، كما يؤمى اليه أيضا قوله في خبر ابن الجهم: (إذا لم تعلم فموسع عليك
بأيهما اخذت) من أن متعلق التوسعة العمل بأيهما على وجه الإباحة والمردود هو العلم،
إذ مع العلم لا توسعة، لوجوب العمل بالمعلوم، وفيه مع الايماء إلى ذلك بيان ان التوسعة
معلقة على عدم العلم مطلقا كما أشير اليه بقوله (عليه السلام): (الناس في سعة ما لم يعلموا)
وانه لا فرق بين عدمه لخلو الذهن من الطرفين والنسبة، أو الشك في النسبة سواء كان منشأه
فقد الدليل أو تعارض الدليلين) انتهى كلامه زيد مقامه، وهو جيد رشيق
(منه رحمه الله).
(2) الظاهر أن مراده ما تقدم في المقدمة الرابعة في الصحيفة 7.
(3) المتقدمة في الصحيفة 96 السطر 8 و 11 و 15. وهي: ما رواه ثقة الاسلام
في الكافي بسنده عن أبي عبد الله وخبر المعلى بن خنيس ومرسل الكافي.
105

للرجلين) (1) حيث نقل خبرين مختلفين ثم قال: " ولو صح الخبران جميعا لكان
الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق (عليه السلام)، وذلك لأن الأخبار
لها وجوه ومعان، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس " انتهى.
أقول: والعمل بهذا الوجه بالنسبة إلى زمانهم (عليهم السلام) لا اشكال فيه.
وذلك لأن الظاهر أن الاختلاف المذكور ناشئ عن التقية لقصد الدفع عن الشيعة،
كما يشير إليه قوله (عليه السلام) في الخبر الثاني من الأخبار المشار إليها (2): " إنا
والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم وحينئذ فالوجه في الأمر بالأخذ بالأخير أنه لو كانت
التقية في الأول من الخبرين فالثاني رافع لها فيجب الأخذ به، وإن كانت التقية
في الثاني وجب الأخذ به لذلك، وأما بالنسبة إلى مثل زماننا هذا فالظاهر أنه لا يتجه
العمل بذلك على الاطلاق، لجواز أن يحصل العلم بأن الثاني إنما ورد على سبيل التقية
والحال أن المكلف ليس في تقية، فإنه يتحتم عليه العمل بالأول ولو لم يعلم كون الثاني
بخصوصه تقية بل صار احتمالها قائما بالنسبة إليهما، فالواجب حينئذ هو التخيير
أو الوقوف بناء على ظواهر الأخبار، أو الاحتياط كما ذكرناه (3).
(الخامس) - المستفاد - من كلام ثقة الاسلام وعلم الأعلام (قدس سره)
في ديباجة كتاب الكافي - أن مذهبه فيما اختلفت فيه الأخبار هو القول بالتخيير.
ولم أعثر على من نقل ذلك مذهبا له مع أن عبارته (طاب ثراه) ظاهرة الدلالة طافحة
المقالة، وشراح كلامه قد زيفوا عبارته وأغفلوا مقالته.
قال (قدس سره) (4): فاعلم يا أخي - أرشدك الله - أنه لا يسع أحدا تمييز شئ

(1) من الجزء الرابع، وعنوانه (الرجلان يوصى اليهما فينفرد كل منهما بنصف
التركة).
(2) وهو خبر المعلى بن خنيس المتقدم في الصحيفة 96 السطر 11.
(3) في الصحيفة 105 السطر 3.
(4) في الصحيفة 8 السطر 16 من النسخة المطبوعة بمطبعة الحيدري بطهران سنة 1375.
106

مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام) برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله
(عليه السلام): " اعرضوها على كتاب الله، فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه
وما خالف كتاب الله فردوه وقوله (عليه السلام): " دعوا ما وافق القوم، فإن
الرشد في خلافهم " وقوله (عليه السلام): خذوا بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه
لا ريب فيه " ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع
من رد علم ذلك كله إلى العالم، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله: " بأيما أخذتم
من باب التسليم وسعكم انتهى.
وقوله (قدس سره): " ونحن لا نعرف.. إلى آخره) الظاهر أن معناه أنا
لا نعرف من كل من الضوابط الثلاث إلا الأقل.
ويمكن توجيهه بأن يقال: أما الكتاب العزيز فلاستفاضة الأخبار - كما قدمنا
لك شطرا منها (1) - بأنه لا يعلمه على التحقيق سواهم (عليهم السلام)، وقد علمت
مما حققناه سابقا أن القدر الذي يمكن الاستناد إليه من الكتاب العزيز في الأحكام الشرعية أقل قليل.
وأما مذهب العامة فلا يخفى - على الواقف على كتب السير والآثار والمتتبع
للقصص والأخبار، وبه صرح أيضا جملة من علمائنا الأبرار بل وعلماؤهم في ذلك
المضمار ما عليه مذاهب العامة في الصدر السابق من الكثرة والانتشار، واستقرار
مذهبهم على هذه الأربعة إنما وقع في حدود سنة خمس وستين وستمائة، كما نقله المحدث
الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية عن بعض علماء العامة، على أن المستفاد
من الأخبار كما قدمنا تحقيقه في المقدمة الأولى وقوع التقية وإن لم يكن على وفق شئ
من أقوالهم.

(1) في المقام الأول من المقدمة الثالثة.
107

وأما المجمع عليه، فإن أريد في الفتوى فهو ظاهر التعسر، لأن كتب
المتقدمين كلها مقصورة على نقل الأخبار كما لا يخفى على من راجع الموجود منها الآن،
ككتاب قرب الإسناد وكتاب علي بن جعفر ومحاسن الرقي وبصائر الدرجات ونحوها
ولتفرق الأصحاب وانزوائهم في زاوية التقية في أكثر البلدان، وإن أريد في الرواية
بمعنى أن يكون مجمعا عليه في الأصول المكتوبة عنهم، ففيه أنها قد اشتملت على الأخبار
المتخالفة والأحاديث المتضادة فهي مشتركة في الوصف المذكور، وحينئذ فمتى لم تعلم
هذه الأمور على الحقيقة فالمعتمد عليها ربما يقع في المخالفة من حيث لا يشعر وتزل قدمه
من حيث لا يبصر، فلا شئ أسلم من الأخذ بما وسعوا فيه من باب التسليم لهم دون
الجزم والحكم بكون ذلك هو الحكم الواقعي، فإن فيه تحرزا عن القول على الله
(سبحانه) بغير علم، وتخلصا من التهجم على الأحكام بغير بصيرة وفهم.
وما أذكره بعض مشايخنا المعاصرين (نور الله مراقدهم) (1) - من أنه
ليس الأمر كذلك، قال: " فإن الحق لا يشتبه بالباطل، والمطوق ليس كالعاطل،
والشمس لا تستر بالنقاب، والشراب لا يلتبس بالسراب، وما ورد من التقية لا يكاد
يخفى " انتهى - فالعبارة قشرية وتسجيعات من التحقيق عرية، كما لا يخفى على
من عض على العلم بالأخبار بضرس قاطع، وأعطى التأمل حقه فيما أودعناه في هذه
المواضع، كيف؟ وهو (قدس سره) في جملة مصنفاته وفتاويه يدور مدار الاحتياط
خوفا من الوقوع في شبهت الاحتياط، قائلا في بعض مصنفاته: " إن مناط أكثر
الأحكام لا يخلو من شوب وريب وتردد، لكثرة الاختلافات في تعارض الأدلة
وتدافع الأمارات، فلا ينبغي ترك الاحتياط للمجتهد فضلا عمن دونه " انتهى
(السادس) - قد اشتهر - بين أكثر أصحابنا سيما المتأخرين - عد الاستحباب

(1) هو شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني (قدس
سره) في بعض مصنفاته (منه رحمه الله).
108

والكراهة من جملة وجوه الجمع بين الأخبار، بل الاقتصار عليهما في الجمع دون تلك
القواعد المنصوصة والضوابط المخصوصة، كما لا يخفى على من لاحظ كتب المتأخرين
ومتأخريهم، حتى تحذلق بعض متأخري المتأخرين - كما نقله بعض مشايخنا المعاصرين -
فقال: " إذا أمكن التوفيق بين الأخبار بحمل بعضها على المجاز كحمل النهي
على الكراهة والأمر على الاستحباب وغير ذلك من ضروب التأويلات، فهو أولى
من حمل بعضها على التقية وإن اتفق المخالفون على موافقته " ولعمري إنه محض اجتهاد
في مقابلة النصوص وجرأة على رد كلام أهل الخصوص، وقد قدمنا لك في المقدمة
السابقة (1) ما فيه مزيد تحقيق ودفع لهذه الأوهام.
(السابع) - الذي ظهر لي من الأخبار - مما تقدم نقله وغيره، وعليه أعتمد
وبه أعمل - أنه متى تعارض الخبران على وجه لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر.
فالواجب - أولا - العرض على الكتاب العزيز، وذلك لاستفاضة الأخبار
بالعرض عليه وإن لم يكن في مقام اختلاف الأخبار، وأن ما خالفه فهو زخرف (2) ولعدم
جواز مخالفة أحكامهم (عليهم السلام) للكتاب العزيز، لأنه آيتهم وحجتهم وأخبارهم
تابعة له ومقتبسة منه، وأما ما ورد مخصصا أو مقيدا له فليس من المخالفة في شئ كما
قدمنا بيانا وأوضحنا برهانه (3). والمراد العرض على محكماته ونصوصه بعد معرفة
الناسخ منها من المنسوخ، وأما غيرها فيشترط ورود التفسير له عن أهل البيت
(عليهم السلام)، وإلا فالتوقف عن الترجيح بهذه القاعدة.
ثم الترجيح بالعرض على مذهب القوم والأخذ بخلافهم، لاستفاضة

(1) الظاهر أن مراده ما تقدم في المقدمة الرابعة في الصحيفة 70 وفي النسختين الخطيتين
اللتين وقفنا عليهما (الأولى) بدل (السابقة) ويحتمل ان يكون من غلط النساخ.
(2) روى صاحب الوسائل هذه الأخبار في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي
وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.
(3) في الصحيفة 89 السطر 7.
109

الأخبار بالأخذ بخلافهم وإن لم يكن في مقام التعارض أيضا (1) كما تدل عليه جملة
من الأخبار.
(منها) رواية علي بن أسباط المروية في التهذيب (2) وعيون الأخبار (3)،
وفيها ما يدل على " أنهم متى أفتوا بشئ فالحق في خلافه " وفي صحيحة محمد بن إسماعيل
ابن بزيع عن الرضا (عليه السلام): " إذا رأيت الناس يقبلون على شئ فاجتنبه "
وفي صحيحة أبي بصير المروية فرسالة الراوندي المتقدم ذكرها (4) عن أبي عبد الله
(عليه السلام): " ما أنتم والله على شئ ولا هم على شئ مما أنتم فيه،
فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شئ " (5) وفي بعض الأخبار: " والله لم يبق في أيديهم
إلا استقبال القبلة " وحينئذ ففي مقام التعارض بطريق أولى.
ثم مع عدم إمكان العرض على مذهبهم فالأخذ بالمجمع عليه، ومما يدل على الأخذ
به ما تقدم نقله عن ثقة الاسلام (6) من الخبر المرسل الذي أشار إليه بقوله: وقوله
(عليه السلام): خذوا بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه "، إلا أن في تيسر
هذا الاجماع لنا في هذه الأزمان نوع اشكال كما عرفت آنفا.
وكيف كان فهذه القواعد الثلاث لا يمكن الاختلاف فيها بعد اعطاء التأمل حقه
في الأخبار في مقام الاختلاف، واعطاء النظر حقه من التحقيق والانصاف،
ومع عدم إمكان الترجيح بالقواعد الثلاث فالأرجح الوقوف على ساحل الاحتياط،

(1) روى صاحب الوسائل هذه الأخبار في باب - 9 - من أبواب صفات القاضي
وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.
(2) في باب (الزيادات في القضايا والاحكام) من كتاب القضاء.
(3) في باب - 28 - الصحيفة 152، وفي الوسائل في باب - 9 - من أبواب صفات
القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.
(4) في الصحيفة 94 السطر 18.
(5) رواها صاحب الوسائل في باب - 19 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان
يقضى به من كتاب القضاء.
(6) في الصحيفة 107 السطر 4.
110

وإن كان ما اختاره شيخنا ثقة الاسلام من التخيير لا يخلو من قوة، إلا أن أخبار الاحتياط
عموما وخصوصا أكثر عددا وأوضح سندا وأظهر دلالة.
وأما الترجيح بالأوثقية والأعدلية فالظاهر أنه لا ثمرة له بعد الحكم بصحة
أخبارنا التي عليها مدار ديننا وشريعتنا كما قدمنا بيانه (1) ولعل ما ورد في مقبولة
عمر بن حنظلة (2) من الترجيح بذلك محمول على الحكم والفتوى كما هو موردها،
ومثلها رواية داود بن الحصين (3)، وأما مرفوعة زرارة (4) فلما عرفت من الكلام
فيها لا تبلغ حجة، أو يقال باختصاص ذلك بزمانهم (عليهم السلام) قبل وقوع التنقية
في الأخبار وتخليصها من شوب الأكدار، والله سبحانه ورسوله وأوليائه أعلم.
(الثامن) إنه قد وقع التعبير عن المجمع عليه في مقبولة عمر بن حنظلة
بالمشهور، وهو لا يخلو من نوع تدافع. ويمكن الجواب عن ذلك إما بتجوز اطلاق
المجمع عليه على المشهور، أو بأن يقال: يمكن أن يكون الراوي لما هو خلاف المجمع
عليه قد روى ما هو مجمع عليه أيضا فأحد الخبرين مجمع عليه بلا اشكال والآخر الذي
تفرد بروايته شاذ غير مجمع عليه، وحينئذ فيصير التجوز في جانب الشهرة، وأما
بحمل الشاذ المخالف على ما وافق روايات العامة وأخبارهم وإن رواه أصحابنا، بمعنى
وجوب طرح الخبر الموافق لهم إذا عارضه خبر مشهور معروف بين الأصحاب، وذلك
لا ريب فيه كما تدل عليه الأخبار الدالة على حكم الترجيح بين الأخبار.

(1) في المقدمة الأولى والثانية.
(2) المتقدمة في الصحيفة 91.
(3) المتقدمة في الصحيفة 92 السطر 4.
(4) المتقدمة في الصحيفة 93 السطر 5.
111

المقدمة السابعة
في أن مدلول الأمر والنهي حقيقة هو الوجوب والتحريم
وقد طال التشاجر بين علماء الأصول في هذه المقالة، وتعددت الأقوال فيها
وزيف كل منهم ما أورده الآخر من الاستدلال وقال، مع أن الكتاب العزيز وأخبار
أهل الذكر (عليهم السلام) مملوءة من الدلالة على ذلك، وهي أولى بالاتباع والاعتماد
وأظهر في الدلالة على المراد.
فمنها قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم.. " (1) وليس الطاعة إلا الانقياد لما يقوله الآمر من الأمر والنهي كما
صرح به أرباب اللغة. وترك الطاعة عصيان، لنص أهل اللغة على ذلك. والعصيان
حرام، لقوله سبحانه: " ومن يعص الله ورسوله فإنه له نار جهنم.. " (2).
و (منها) قوله تعالى: " من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى
فما أرسلناك عليهم حفيظا " (3) والتقريب ما تقدم.
و (منها) قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة
أو يصيبهم عذاب أليم " (4).
و (منها) قوله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا.. " (5).

(1) سورة النساء. آية 63.
(2) سورة الجن. آية 25.
(3) سورة النساء. آية 83.
(4) سورة النور. آية 64.
(5) سورة الحشر. آية 8.
112

ومن الأخبار الدالة على ذلك ما استفاض من وجوب طاعة الأئمة (عليهم السلام)
وأن طاعتهم كطاعة الله ورسوله، وقد عقد له في الكافي (1) بابا عنونه بباب (فرض
طاعة الأئمة عليهم السلام).
ومن أخباره: حسنة الحسين بن أبي العلاء قال: " قلت لأبي عبد الله (ع
) الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ قال:. عم هو الذين قال الله تعالى: (أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم..).. (2) الحديث ".
وصحيحة الكناني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " نحن قول
فرض الله طاعتنا.. الحديث ".
ورواية الحسين بن المختار عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تعالى
(وآتيناهم ملكا عظيما) (3) قال: الطاعة للإمام " (4) إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة
في ذلك الباب وغيره.
ومن الأخبار الدالة على أصل المدعى صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (5) قالا:
" قلنا لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في الصلاة في السفر، كيف هي وكم هي؟
فقال: إن الله عز وجل يقول: " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جنا أن تقصروا
من الصلاة.. " (6) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا:
قلنا: إنما قال الله عز وجل: فليس عليكم جناح. ولم يقل: افعلوا. فكيف أوجب

(1) في كتاب الحجة.
(2) سورة النساء. آية 63.
(3) سورة النساء. آية 58.
(4) الموجود في الكافي هكذا: الطاعة المفروضة، وليس فيه ذكر للامام.
(5) المروية في الوسائل في باب - 22 - من أبواب صلاة المسافر من كتاب الصلاة.
(6) سورة النساء. آية 102.
113

ذلك كما وجب التمام في الحضر؟ فقال (عليه السلام): أوليس قد قال الله
عز وجل في الصفا والمروة: (إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر
فلا جناح عليه أن يطوف بهما...) (1) ألا ترون أن الطواف بهم واجب
مفروض؟.. الحديث " وجه الدلالة أن زرارة ومحمد بن مسلم علقا استفادة الوجوب
على صيغة افعل مجردة، وسألا عن وجوب القصر مع عدم الصيغة المذكورة، وهما
من أهل اللسان وخواص الأئمة (عليهم السلام) والإمام قررهما على ذلك.
و (منها) صحيحة عمر بن يزيد (2) قال: " اشتريت إبلا وأنا بالمدينة مقيم
فأعجبتني إعجابا شديدا، فدخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) فذكرتها،
فقال: ما لك وللإبل؟ أما علمت أنها كثيرة المصائب؟ قال: فمن اعجابي بها أكريتها
وبعثتها مع غلمان لي إلى الكوفة فسقطت كلها، قال: فدخلت عليه فأخبرته. فقال:
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (3).
و (منها) ما ورد في رسالة الصادق (عليه السلام) إلى أصحابه المروية في كتاب
روضة الكافي (4) حيث قال فيها: " اعلموا أن ما أمر الله أن تجتنبوه فقد حرمه،
إلى أن قال في أثنائها أيضا: واعلموا أنه إنما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهي عما نهى
عنه، فمن اتبع أمره فقد أطاعه ومن لم ينته عما نهى عنه فقد عصاه، فإن مات
على معصيته أكبه الله على وجهه في النار ".
و (منها) صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (5): قال: " العمرة

(1) سورة البقرة. آية 154.
(2) المروية في الوسائل في باب - 24 - من أبواب احكام الدواب في السفر وغيره
من كتاب الحج.
(3) سورة النور. آية 64.
(4) في أول الكتاب.
(5) المروية في الوسائل في باب - 1 - من أبواب العمرة من كتاب الحج.
114

واجبة على الخلق بمنزلة الحج، لأن الله تعالى يقول: (وأتموا الحج والعمرة
لله (.. الحديث ".
و (منها) قول الصادق (عليه السلام) لهشام بن الحكم لما سأله " ألا تخبرني
كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ فاعتذر له هشام بأني أجلك واستحييك. فقال
الصادق (عليه السلام): إذا أمرتكم بشئ فافعلوا رواه في الكافي في أول باب
الاضطرار إلى الحجة، وهو ظاهر كالصريح في وجوب امتثال أوامرهم (عليهم السلام).
وذهب جمع من المتأخرين ومتأخريهم منهم. الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد
الثاني بل ربما كان أولهم فيما أعلم إلى منع دلالة صيغة الأمر والنهي على الوجوب
والتحريم في كلام الأئمة (عليهم السلام) وإن كانت كذلك في كلام الله تعالى وكلام
الرسول (صلى الله عليه وآله) مستندين إلى كثرة الأوامر والنواهي عنهم
(عليهم السلام) للاستحباب والكراهة وشيوعها في ذلك، قال في كتاب المعالم:
" قائدة، يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة (عليهم السلام) أن استعمال
صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي
احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي، فيشكل التعلق في اثبات
وجوب أمر بمجرد ورود الأمر به منهم (عليهم السلام). وبمثل هذه المقالة صرح السيد
السند في مواضع من المدارك، ونسج على منوالهما جمع ممن تأخر عنهما (1).
وعندي فيه نظر من وجوه: (أحدها) ا ن تلك الأوامر والنواهي
هي في الحقيقة أوامر الله سبحانه ورسوله، ولا فرق بين صدروها من الله تعالى ورسوله
ولا منهم، لكونهم (عليه السلام) حملة ونقلة، لقولهم (صلوات الله عليهم):

(1) منهم الفاضل ملا محمد باقر الخراساني صاحب الكفاية والذخيرة، ومنهم المحقق
الخوانساري شارح الدروس، ومنهم شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله
البحراني طيب الله مراقدهم (منه قدس سره).
115

" إنا إذا حدثنا عن الله ورسوله ولا نقول من أنفسنا " (1) وحينئذ فكما أن هذا
القائل يسلم أن أوامر الله سبحانه ورسوله ونواهيهما الصادرة عنهما لا بواسطة واجبة
الاتباع، فيجب عليه القول بذلك فيما كان بواسطتهم (عليهم السلام)، وهل يجوز
أو يتوهم نقلهم (عليهم السلام) ذلك اللفظ عن معناه الحقيقي الذي هو الوجوب
أو التحريم واستعماله في معنى مجازي من غير نصب قرينة أو تنبيه على ذلك؟ وهل هو
إلا من قبيل التعمية والألغاز؟ وشفقتهم على شيعتهم وحرصهم على هدايتهم بل
علو شأنهم وعصمتهم تمنع من ذلك.
و (ثانيها) أن ما استند إليه هذا القائل من كثرة ورود الأوامر والنواهي
في أخبارهم للاستحباب والكراهة مردود ة بأنه إن كان دلالة تلك الأوامر والنواهي
باعتبار قرائن قد اشتملت عليها تلك الأخبار حتى دلت بسببها على الاستحباب والكراهة
فهو لا يقتضي حمل ما لا قرينة فيه على ذلك، وهل هو إلا قياس مع وجود الفارق؟ وإلا
فهو عين المتنازع فلا يتم الاستدلال وهذا بحمد الله سبحانه واضح المجال لمن عرف
الرجال بالحق لا الحق بالرجال.
و (ثالثها) أن ما قدمنا من الآيات والأخبار الدالة على فرض طاعتهم
ووجوب متابعتهم عامة شاملة لجميع الأوامر والنواهي إلا ما دلت القرائن
على خروجه، فحينئذ لو حمل الأمر والنهي الوارد في كلامهم بدون القرينة الصارفة
على الاستحباب والكراهة المؤذن بجواز الترك في الأول والفعل في الثاني، لم يحصل
العلم بطاعتهم ولا اليقين بمتابعتهم، وكان المرتكب لذلك في معرض الخوف والخطر
والتعرض لحر سقر، لاحتمال كون ما أمروا به إنما هو على وجه الوجوب والحتم
وما نهوا عنه إنما هو على جهة التحريم والزجر، بل هو ظاهر تلك الأوامر والنواهي
بالنظر إلى ما قلنا إلا مع الصارف، بخلاف ما إذا حملا على الوجوب والتحريم فإن

(1) روى المجلسي في البحار الروايات المتضمنة لهذا المعنى في باب - 33 - من كتاب
العلم في الصحيفة 172 من الجزء الثاني المطبوع بمطبعة الحيدري بطهران.
116

المكلف حينئذ متيقن البراءة والخروج من العهدة.
(ولو قيل) بأن الحمل على الاستحباب والكراهة معتضد بالبراءة الأصلية،
إذ الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل قاطع على ما يوجب اشتغالها.
(قلنا) فيها (أولا) ما عرفت من مسألة البراءة الأصلية من عدم قيام الدليل
عليها بل قيامه على خلافها.
و (ثانيا) أنه بعد ورود الأمر والنهي مطلقا لا مجال للتمسك بها، إذ المراد
بها، أما أصالة البراءة قبل تعلق التكاليف، وحينئذ فبعد التكليف لا مجال لاعتبارها،
وأما أصالة البراءة لعدم الاطلاع على الدليل، والحال أن الدليل في الجملة موجود. نعم يبقى
الشك في الدليل وتردده بين الوجوب والاستحباب، والتحريم والكراهة، وهذا
أمر آخر، فالخروج عن قضية البراءة الأصلية معلوم، وبالجملة فأصالة البراءة عبارة
عن خلو الذمة من تعلق التكليف مطلقا ايجابيا أو ندبيا، وهو هنا ممتنع بعد وجود الدليل.
و (رابعها) أنه لا أقل أن يكون الحكم بالنظر إلى ما ذكرنا من الآيات
والروايات من المتشابهات التي استفاضت الأخبار بالوقوف فيها على ساحل الاحتياط:
" حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن تجنب الشبهات نجا من الهلكات " (1)
ومن الظاهر البين أن الاحتياط في جانب الوجوب والتحريم.
هذا وما اعتضد به شيخنا أبو الحسن (قد) في كتاب العشرة الكاملة
حيث اقتفى أثر أولئك القوم في هذا المقالة، من أن الصدوق (ره) في كتاب
من لا يحضره الفقيه قد حمل كثيرا من الأوامر على الندب وجما غفيرا من النواهي
على الكراهة والتنزيه ففيه أنه إن كان ذلك كذلك فيمكن حمله على ظهور قرائن

(1) هذا من مقبوله عمر بن حنظلة المتقدمة في الصحيفة 91 الا ان المتقدم هناك
هكذا: (فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات).
117

المجاز له، إذ هي بالنسبة إلى مثله من أرباب الصدر الأول غير عزيزة، ويمكن أيضا
أن يكون ذلك في مقام الجمع بين الأخبار بأن يكون في الأخبار المعارضة ما يدل على نفي
الوجوب في الأول والجواز في الثاني مع قوته ورجحانه، وهذا من جملة القرائن
الموجبة للخروج عن ذينك المعنيين الحقيقيين.
المقدمة الثامنة
اختلف الأصوليون في ثبوت الحقائق الشرعية
وتحقيق المقام من غير إطالة بابرام النقض ولا نقض الابرام هو أن
اللفظ إن استعمل فيما وضع له فهو حقيقة وإلا فهو مجاز، والواضع أن كان هو الشارع
أي الله سبحانه أو الرسول فحقيقة شرعية، وإن كان غيره فلغوية أو عرفية خاصة أو عامة.
ولا نزاع في أن الألفاظ المتداولة في لسان أهل الشرع المستعملة في خلاف
معانيها اللغوية قد صارت حقائق في تلك المعاني عندهم، كاستعمال الصلاة الموضوعة
لغة الدعاء في ذات الأركان الخمسة ونحوها.
إنما النزاع في أن هذا الاستعمال هل هو بطريق النقل عن الشارع فتكون حقائق
شرعية، أو بطريق المجاز بمعنى أن الشارع إنما استعملها في تلك المعاني مجازا بمعونة
القرينة ولكن غلب في ألسنة أهل الشارع استعمالها كذلك حتى أفادت من غير قرينة
فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية؟
فقيل بالأول بل هو المشهور بينهم محتجين بوجوه: (أظهرها) القطع بتبادر
هذه المعاني من تلك الألفاظ إلى الفهم عند اطلاقها، وهو علامة الحقيقة.
وذهب بعض إلى الثاني، طاعنا في الحجة المذكورة ومحتجا بما هو مذكور في مطولات
الأصول مما لا يرجع عند التحقيق إلى ثمرة ولا محصول.
118

وتوقف ثالث، قائلا إن الحق أنه لم يعلم من حال الشارع غير أصل الاستعمال.
وأما طريقه فغير معلوم، لأن أدلة الطرفين في غاية الضعف، وتبادر هذه المعاني لنا غير
مفيد، إذ يحتمل أن يكون ذلك لأجل الاشتهار عندنا.
هذا. والأظهر عندي هو القول الأول وعليه من بين تلك الأقوال المعول، ولنا
عليه دليل التبادر الذي هو عندهم أمارة الحقيقة ومعيارها وعليه في جميع الأحوال مدارها.
وما قيل في الجواب عن ذلك، من أن التبادر المذكور عند سماع هذه الألفاظ، إن
كان بالنظر إلى اطلاق الشارع فهو ممنوع بل هو أول المسألة، وإن كان بالنظر
إلى اطلاق المتشرعة فهو غير مفيد قطعا، لأن اللازم حينئذ كونها حقائق عرفية
لا شرعية مردود بأن من صفا ذهنه من شوب الشبهة والعناد وكان له أنس بكلام
الشارع ولو في أكثر المواد، يعلم قطعا أن الصدر الأول من الصحابة والتابعين وجملة
السلف المتقدمين كانوا متى حكى النبي (صلى الله عليه وآله) عن الله سبحانه وصف
أحد بالايمان أو الكفر أو الشرك أو حصل منه (صلى الله عليه وآله) الأمر بصلاة
أو زكاة أو حج طهارة أو المنع عن النجاسة أو نحو ذلك، يفهمون بمجرد اطلاق
هذه الألفاظ المعنى الشرعي منها متى تقدم لهم العلم بالوضع، ومن أنكر ذلك نسأل الله
سبحانه أن يصلح وجدانه ويثبت جنانه.
ومن الأخبار الدالة على ذلك موثقة سماعة (1) قال: " سألته عن الركوع
والسجود هل نزل في القرآن؟ فقال: نعم. قول الله عز وجل: (يا أيها الذين
آمنوا اركعوا واسجدوا..) (2).. الحديث ".
إلا أن الظاهر أن الخلاف في هذه المسألة قليل الجدوى، لاتفاقهم على أن

(1) المروية في الوسائل في باب - 5 - من أبواب الركوع من كتاب الصلاة.
(2) سورة الحج. آية 78.
119

استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني الشرعية في كلام الأئمة (عليه السلام) حقيقة
وإن كانت عرفية خاصة لا شرعية، وهو كاف في صحة الاستدلال بها والاعتماد
عليها وإنما يظهر الخلاف فيما وقع منها في كلام الشارع من القرآن العزيز أو السنة
النبوية، واستقلال القرآن سيما على ما فصلناه آنفا (1) والسنة النبوية من غير جهة نقل
الأئمة (عليهم السلام) مما لا يكاد يتحقق في الأحكام، كما لا يخفى على من سرح
يريد النظر في المقام. وبهذا يظهر لك ما في إيراد شيخنا أبي الحسن (قد)
في بعض مؤلفاته على شيخنا البهائي وصاحب المعالم، حيث إنه قائل بثبوت الحقيقة
الشرعية وهما مانعان منه بالأخبار الدالة على الطهارة والنجاسة والحل والتحريم
والوجوب والاستحباب مع خلوها من القرائن، حيث قال بعد تقديم الكلام في ذلك:
" على أنا نقول: لو تم ما ذكروه من التشكيك الركيك للزم أن كل ما ادعينا أنه حقيقة
شرعية فهو مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة، وحينئذ ينسد باب الاحتجاج بأكثر الأخبار
المشتملة على هذه الألفاظ العارية عن القرائن المعينة للمراد، وهم لا يلتزمونه، بل
هذان الشيخان وغيرهما قد أكثروا من الاحتجاج بأمثال هذه الأخبار على مطالبهم
غافلين عما يرد عليهم، وتراهم أكثروا من الاحتجاج على النجاسة والطهارة والحل
والتحريم والوجوب والاستحباب بهذه الألفاظ، فهم يأتون في ذلك على المثل السائر:
" الشعير يؤكل ويذم " انتهى. فإن فيه كما عرفت أنه لا خلاف في أن استعمال تلك
الألفاظ في المعاني الشرعية في كلام الأئمة (عليهم السلام) حقائق يجب الاعتماد عليها
والاستناد إليها وإن كانت عرفية خاصة، وإنما محل الخلاف ومظهره وقوعها في كلام
الشارع، أما مجردة عن القرينة فعند من يقول بثبوت الحقائق الشرعية بحملها على ذلك

(1) الظاهر أنه يريد المقام الأول من المقدمة الثانية.
120

وعند من ينفيها بحملها على المعاني اللغوية، وأما مع القرينة الدالة على المعنى الشرعي
فهي حقيقة شرعية على الأول أيضا ومجاز على الثاني.
هذا. وما اشتهر في كلام جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) من أن الواجب
حمل الخطابات الواقعة في الشريعة على الحقيقة الشرعية إن ثبتت، وإلا فعلى عرفهم
(عليهم السلام) إن علم، وإلا فعلى الحقيقة اللغوية إن وجدت، وإلا فعلى العرف العام مما
لم يعثر له على مستند ولم يقم عليه دليل معتمد، وإنما المستفاد من أخبارهم كما مر (1) أنه مع
عدم العلم بما هو المراد من الخطاب الشرعي يجب الفحص والتفتيش ومع العجز عن الظفر
بالمراد يجب رعاية الاحتياط والوقوف على سواء ذلك الصراط. على أنه لا يخفى
ما في بناء الأحكام على العرف العام من العسر والحرج المنفيين بالآية والرواية (2) فإنه
يوجب استعلام ما عليه كافة الناس في أقطار الأرض. وأما البناء على العرف الخاص مع تعذر
العام كما صار إليه بعضهم، ففيه أنه يوجب الاختلاف في الأحكام الشرعية، والمستفاد
من الأخبار أن كل شئ يؤدي إلى الاختلاف فيها فلا يجوز البناء عليه. والله العالم.
المقدمة التاسعة
اختلف كلام الأصوليين من أصحابنا (رضوان الله عليهم) وغيرهم في أن صدق
المشتق على ذات حقيقة، هل يشترط فيه بقاء مأخذ الاشتقاق فبعد قيام المبدأ بالذات
وانقضائه يكون مجازا، أم لا يشترط فيكون حقيقة مطلقا؟ على أقوال متعددة
وآراء متبددة بعد الاتفاق على أنه حين القيام حقيقة وقبله مجاز، فالضارب، لمن هو

(1) في الصحيفة 82 السطر 4.
(2) سيأتي - في قاعدة نفي الحرج وهي القاعدة السابعة مما تضمنته المقدمة
الحادية عشرة من القواعد - بيان ما يدل من الآيات والروايات على نفي العسر والحرج.
121

مشتغل به الآن، حقيقة بلا خلاف، ولمن يريد ايقاعه ولما يقع منه مجاز كذلك،
وأما من ضرب وهو الآن غير ضارب فهل هو حقيقة أو مجاز؟ قولان، إلا أنه بسبب
الاشكال في تعين محل الخلاف انتشرت الأقوال واتسع المجال.
فقيل بعدم اشتراط بقاء المأخذ مطلقا فيكون حقيقة. وعليه كثير من المعتزلة
وأكثر الإمامية بل قيل كلهم.
وقيل بالاشتراط مطلقا فيكون مجازا. ونقل عن أكثر الأشاعرة والفخري
في المحصول والبيضاوي في المنهاج، وإليه مال من أصحابنا المحدث الأمين الأسترآبادي
في تعليقاته على شرح المدارك.
وقيل بالتفصيل بأنه إن كان المبدأ مما يمكن بقاؤه كالقيام والقعود فالمشتق مجاز،
وإن كان مما لا يمكن بقاؤه كالمصادر السيالة الغير القارة نحو التكلم والأخبار فالمشتق
حقيقة وإن لم يبق المبدأ.
وقيل بالتوقف في المسألة، لتصادم الأدلة من الطرفين وتعارض الاحتمالات
من الجانبين، ونقل عن الآمدي والحاجبي.
وقيل بتخصيص محل النزاع بما إذا كان المشتق محكوما به، كقولك: زيد مشرك
أو قاتل أو متكلم. وأما إذا كان محكوما عليه كقوله تعالى: " الزانية والزاني
فاجلدوا.. الآية " (1) " والسارق والسارقة فاقطعوا.. " (2) " فاقتلوا
المشركين.. " (3) ونحوه، فإنه حقيقة مطلقا سواء كان للحال أم لم يكن، وهو المنقول
عن شيخنا الشهيد الثاني في تمهيد القواعد.
وقيل: إنه إذا كان اتصاف الذات بالمبدأ أكثريا بحيث يكون عدم الاتصاف

(1) سورة النور. آية 3.
(2) سورة المائدة. آية 38.
(3) سورة التوبة. آية 5.
122

بالمبدأ في جنب الاتصاف مضمحلا ولم يكن الذات معرضا عن المبدأ وراغبا عنه سواء كان
المشتق محكوما عليه أو محكوما به وسواء طرأ الضد أم لا، فالاطلاق حقيقة، لأنهم يطلقون
المشتقات على المعنى المذكور من دون نصب قرينة، كالكاتب والخياط والمعلم والمتعلم
ونحوها ولو كان المحل متصفا بالضد الوجودي كالنوم ونحوه، وصرح به بعض أصحابنا
المحققين من متأخري المتأخرين.
وقيل بتخصيص محل النزاع بما إذا لم يطرأ على المحل وصف وجودي ينافي
الأول، إذ لو طرأ من الموجودات ما ينافيه أو يضاده فإنه يكون مجازا اتفاقا، وهو
منقول عن الفخري في المحصول، نقله عنه في كتاب القواعد، وأنكر شيخنا البهائي
(ره) في حواشي الزبدة نسبة هذا القول إلى المحصول، قال: " فإنا لم نجده فيه "
وشيخنا أبو الحسن (ره) نقله في حواشي المدارك عن التبريزي في التنقيح
اختصار المحصول، قال: " وربما كان في المحصول إشعار به ومن ثم نسبه الأشنوي
في التمهيد والشهيد الثاني في تمهيده إليه ". انتهى.
وقيل بتخصيص محل النزاع بما قصد به الحدوث من المشتقات لا الدوام.
ونقل ذلك عن المحقق التفتازاني في مقام الجواب عن الاستدلال على عدم الاشتراط
بصدق المؤمن على النائم والغافل، والمفهوم من كلامه على ما نقله عنه بعض الأفاضل
تقييد محل النزاع بكل ما قصد الحدوث وعدم طرو الضد الوجودي، حيث قال:
" والتحقيق أن النزاع في اسم الفاعل الذي بمعنى الحدوث لا في المؤمن والكافر والنائم
واليقظان والحلو والحامض والحر والعبد ونحو ذلك مما يعتبر في بعضه الاتصاف به مع
عدم طريان المنافي وفي بعضه الاتصاف البتة ". انتهى.
والظاهر أن السبب في انتشار هذه الخلاف واتساع دائرة هذا الاختلاف
هو وجود بعض الموارد مما يقطع بتوقف الصدق فيها حقيقة على وجود المبدأ وما يحذو
123

حذوه، كالبارد والحار والهابط والصاعد والساكن والمتحرك والحلو والحامض والأبيض
والأسود والمملوك والموجود والنائم واليقظان، وبعض ما يقطع فيها بالصدق حقيقة
مع عدمه، كالمخبر والمتكلم ونحوهما من المصادر السيالة، وبعض مما يشكل فيه ذلك
مثل المؤمن والكافر، فإنه لو اعتبر في صدقهما حقيقة وجود المبدأ لم يصدقا على من كان
نائما أو غافلا، للخلو عن التصديق والانكار الذين هما مناط الايمان والكفر مع أن
الاتفاق قائم على الصدق في الحالين المذكورين، ولو اعتبر العدم، صدق المؤمن على
من كان كافرا الآن لو كان مؤمنا سابقا، والكافر على من كان بالعكس، ونحو ذلك
من الأمثلة المندرجة تحت تلك الأقسام، ومن أجل ذلك اختلفت أفهامهم وتصادمت
أوهامهم وطال نقضهم وابرامهم، وزيف كل ما اختاره بأدلة لا تسلم من المناقشة
والايراد، وأجاب كل منهم عن أدلة الآخر بما لا يكاد يقي بالمراد، ومن ثم توقف
من توقف من أولئك الأقوام وأحجم عن الدخول والاقدام.
والحق أن البناء لما كان على غير أساس كثر الشك فيه والالتباس، والأدلة
العقلية لا تكاد تقف في مقام، بل لا تزال قابلة للنقض والابرام، لاختلاف العقول
في الاستعداد قوة وضعفا وصفاء الأذهان والأفهام، كما لا يخفى على من خاض لجج
بحور علم المعقول ورأي ثمة تصادم الأفهام والعقول.
والأظهر عندي أن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه القواعد الغير المنضبطة
والأصول الغير المرتبطة مما لم يقم عليه دليل، بل الدليل على خلافه واضح النهج والسبيل.
(أما الأول) فلدلالة أخبار أهل الذكر (سلام الله عليهم) على وجوب البناء
في الأحكام الشرعية على العلم واليقين ومع عدمه فالوقوف على جادة الاحتياط. وقد مر
بك شطر منها (1) وقد عرفت من تعدد أقوالهم واختلاف آرائهم في أصل القاعدة

(1) كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في الصحيفة 73 السطر 2 وحسنة بريد
الكناسي المتقدمة في الصحيفة 82 السطر 12) وغيرهما مما تعرض له في المقدمة الخامسة.
124

لاختلاف أفرادها ما يبلغ إلى ثمانية أقوال.
و (أما ثانيا) فلأن من لاحظ أخبار الخلاء تحت الأشجار المثمرة
والأخبار الواردة في أحكام الحائض ونحوها، لا يخفى عليه مدافعتها لهذه القاعدة.
ومن أراد تحقيق المقام حسبما يرام وظهور ما أجملناه هنا من الكلام فليرجع
إلى كتابنا الدرر النجفية، فإنه قد اشتمل على ذلك وأحاط بما هنالك.
المقدمة العاشرة
في بيان حجية الدليل العقلي وعدمها
قد اشتهر بين أكثر أصحابنا (رضوان الله عليهم) الاعتماد على الأدلة العقلية
في الأصول والفروع وترجيحها على الأدلة النقلية، ولذا تراهم في الأصولين أصول
الدين وأصول الفقه متى تعارض الدليل العقلي والسمعي قدموا الأول واعتمدوا عليه
وتأولوا الثاني بما يرجع إليه وإلا طرحوه بالكلية، وفي كتبهم الاستدلالية في الفروع
الفقهية أول ما يبدأون في الاستدلال بالدليل العقلي ثم ينقلون الدليل السمعي مؤيدا
له، ومن ثم قدم أكثرهم العمل بالبراءة الأصلية والاستصحاب ونحوهما من الأدلة
العقلية على الأخبار الضعيفة باصطلاحهم بل الموثقة.
قال المحقق (رضوان الله عليه) في بعض مصنفاته في مسألة جواز إزالة الخبث
بالمائع وعدمه، حيث إن السيد المرتضى (رضي الله عنه) اختار الطهارة من الخبث به
ونسب ذلك إلى مذهبنا مؤذنا بدعوى الاجماع عليه ما صورته: " أما علم الهدى
فإنه ذكر في الخلاف أنه إنما أضاف ذلك إلى المذهب لأن من أصلنا العمل بدليل العقل
ما لم يثبت الناقل، وليس في الأدلة النقلية ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة
ولا ما يوجبها، ونحن نعلم أنه لا فرق بين الماء والخل في الإزالة بل ربما كان غير الماء
125

أبلغ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل " ثم قال المحقق (قدس سره) بعد كلام في البين:
" أما نحن فقد فرقنا بين الماء والخل فلم يرد علينا ما ذكره علم الهدى ".
فانظر إلى موافقته لعلم الهدى فيما نقله عنه من أصالة العمل بدليل العقل
في الفروع الشرعية وإنما نازعه في هذا الجزئي وحصول الفرق فيه بين الفردين
المذكورين، وستأتيك هذه المسألة في مبحث الماء المضاف إن شاء الله تعالى.
وبالجملة، فكلامهم تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى متفق الدلالة
على ما نقلنا.
ولم أر من رد ذلك وطعن فيه سوى المحدث المدقق السيد نعمة الله الجزائري
(طيب الله مرقده) في مواضع من مصنفاته: منها كتاب الأنوار النعمانية، وهو كتاب
جليل يشهد بسعة دائرته وكثرة اطلاعه على الأخبار وجودة تبحره في العلوم والآثار.
حيث قال فيه ونعم ما قال، فإنه الحق الذي لا تعتريه غياهب الاشكال:
" إن أكثر أصحابنا قد تبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل
الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها، وطرحوا
ما جاءت به الأنبياء (عليهم السلام) حيث لم يأت على وفق عقولهم، حتى نقل أن
عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) لما دعا أفلاطون إلى التصديق بما جاء به أجاب
بأن عيسى رسول إلى ضعفة العقول، وأما أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلى إرسال
الأنبياء. والحاصل أنهم اعتمدوا في شئ من أمورهم إلا على العقل، فتابعهم بعض أصحابنا
وإن لم يعترفوا بالمتابعة، فقالوا: إنه إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي طرحنا النقلي
أو تأولناه بما يرجع إلى العقل. ومن هنا تراهم في مسائل الأصول يذهبون إلى أشياء
كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها. لوجود ما تخيلوا أنه دليل عقلي،
كقولهم بنفي الاحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محله من مقدمات لا تفيد ظنا
126

فضلا عن العلم، وسنذكرها إن شاء الله تعالى في أنوار القيامة. مع وجود الدلائل
من الكتاب والسنة على أن الاحباط الذي هو الموازنة بين الأعمال واسقاط المتقابلين
وابقاء الرجحان حق لا شك فيه ولا ريب يعتريه، ومثل قولهم: إن النبي
(صلى الله عليه وآله) لم يحصل له الاسهاء من الله تعالى في صلاة قط، تعويلا على ما قالوه
من أنه لو جاز السهو عليه في الصلاة لجاز عليه في الأحكام، مع وجود الدلائل الكثيرة
من الأحاديث الصحاح والحسان والموثقات والضعفاء والمجاهيل (1) على حصول مثل هذا
الاسهاء، وعلل في تلك الروايات بأنه رحمة للأمة، لئلا يعير الناس بعضهم بعضا بالسهو.
وسنحقق هذه المسألة في نور من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، إلى غير ذلك
من مسائل الأصول.
وأما مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدلائل النقلية والقول بما أدت إليه
الاستحسانات العقلية، وإذا عملوا بالدلائل النقلية يذكرون أولا الدلائل
العقلية ثم يجعلون دليل النقل مؤيدا لها وعاضدا إياها، فيكون المدار والأصل إنما هو
العقل. وهذا منظور فيه، لأنا نسألهم عن معنى الدليل العقلي الذي جعلوه أصلا
في الأصولين والفروع، فنقول: إن أردتم ما كان مقبولا عند عامة العقول، فلا
يثبت ولا يبقى لكن دليل عقلي، وذلك كما تحققت أن العقول مختلفة في مراتب
الادراك وليس لها حد تقف عنده، فمن ثم ترى كلا من اللاحقين يتكلم على دلائل
السابقين وينقضه ويأتي بدلائل أخرى على ما ذهب إليه، ولذلك لا ترى دليلا واحدا
مقبولا عند عامة العقلاء والأفاضل وإن كان المطلوب متحدا، فإن جماعة من المحققين
قد اعترفوا بأنه مل يتم دليل من الدلائل على اثبات الواجب. وذلك أن الدلائل التي
ذكروها مبنية على ابطال التسلسل ولم يتم برهان على بطلانه، فإذا لم يتم دليل على هذا
المطلب الجليل الذي توجهت إلى الاستدلال عليه كافة الخلائق، فكيف يتم على غيره

(1) روى صاحب الوافي الأحاديث المذكورة في باب - 21 - من الفصل الخامس
من كتاب الصلاة، وروى حديثا منها في باب - 29 - من الفصل المذكور.
127

مما توجهت إليه آحاد المحققين؟ وإن كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به
واعتقاده، فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ولا تفسيق المعتزلة والأشاعرة
ولا الطعن على من يذهب إلى مذهب يخالف ما نحن عليه، وذلك أن أهل كل مذهب
استندوا في تقوية ذلك المذهب إلى دلائل كثيرة من العقل، وكانت مقبولة في عقولهم
معلومة لهم، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر أو دلائل النقل،
وكلاهما لا يصلح للمعارضة لما قلتم، لأن دليل النقل يجب تأويله ودليل العقل لهذا
الشخص لا يكون حجة على غيره، لأن عنده مثله ويجب عليه العمل بذلك، مع أن
الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذهبوا إلى تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم وتفسيق
أكثر طوائف المسلمين، وما ذاك إلا لأنهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدوها
من دلائل العقل " انتهى كلامه زيد في الخلد اكرامه.
أقول: وقد سبقه إلى هذه المقالة الإمام الرازي، حيث قال: " هذه الأشياء
المسماة بالبراهين لو كانت في أنفسها براهين لكان كل من سمعها ووقف عليها وجب
أن يقبلها وأن لا ينكرها أصلا، وحيث نرى أن الذي يسميه أحد الخصمين برهانا فإن
الخصم الثاني يسمعه ويعرفه ولا يفيد له ظنا ضعيفا، علمنا أن هذه الأشياء ليست
في أنفسها براهين، بل هي مقدمات ضعيفة انضافت إلى العصبية والمحبة إليها فتخيل بعضهم
كونها برهانا مع أن الأمر في نفسه ليس كذلك. وأيضا فالمشبه يحتج على القول بالتشبيه
بحجة وبزعم أن تلك الحجة أفادته الجزم واليقين، فإما أن يقال: إن كل واحدة
من هاتين الحجتين صحيحة يقينية فحينئذ يلزم صدق النقيضين وهو باطل، وإما أن
يقال: إحداهما صحيحة والأخرى فاسدة إلا أنه متى كان الأمر كذلك كانت مقدمة
واحدة من مقدمات تلك الحجة باطلة في نفسها. مع أن الذي تمسك بتلك الحجة جزم
بصحة تلك المقدمة ابتداء. فهذا يدل على أن العقل يجزم بصحة الفاسد جزما ابتداء،
128

فإذا كان كذلك كان العقل غير مقبول القول في البديهيات، وإذا كان كذلك
فحينئذ تفسد جميع الدلائل. فإن قالوا: العقل إنما جزم بصحة ذلك الفاسد لشبهة
متقدمة، فنقول: قد حصل في تلك الشبهة المتقدمة مقدمة فاسدة، فإن كان ذلك
لشبهة أخرى لزم التسلسل، وإن كان ابتداء فقد توجه الطعن. وأيضا فإنا نرى
الدلائل القوية في بعض المسائل العقلية متعارضة، مثل مسألة الجوهر الفرد، فإنا
نقول: كل متحيز فإن يمينه غير يساره، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، ينتج أن
كل متحيز منقسم، ثم نقول: الآن لم يكن حاضرا بل بعضه، وإذا كان غير
منقسم كان أول عدمه في آن آخر متصل بآن وجوده، فلزم تتالي الآنات، ويلزم منه
كون الجسم مركبا من أجزاء لا تتجزأ. فهذان الدليلان متعارضان ولا نعمل جوابا
شافيا عن أحدهما، ونعلم أن أحد الكلامين مشتمل على مقدمة باطلة وقد جزم العقل
بصحتها ابتداء، فصار العقل مطعونا فيه " ثم أخذ في تفصيل هذه الوجوه بكلام
طويل الذيل.
(فإن قلت): فعلى ما ذكر من عدم الاعتماد على الدليل العقلي يلزم أن لا يكون
العقل معتبرا بوجه من الوجوه، مع أنه قد استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية
بالاعتماد على العقل والعمل على ما يرجحه، وأنه حجة من حجج الله سبحانه، كقوله تعالى:
(إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (1) في غير موضع من الكتاب العزيز أي يعملون
بمقتضى عقولهم (لآيات لقوم يتفكرون) (2). (لآيات لأولي الألباب) (3).

(1) سورة الرعد. آية 5. سورة النحل. آية 13. سورة الروم. آية 24.
(2) سورة الرعد. آية 4. سورة الروم. آية 21. سورة الزمر. آية 44.
سورة الجاثية. آية 13.
(3) سورة آل عمران. آية 188.
129

(لآيات لأولي النهى) (1). (إنما يتذكر أولو الألباب) (2). (لذكرى لأولي
الألباب) (3). وذم قوما ما لم يعملوا بمقتضى عقولهم فقال سبحانه: (أفلا يعقلون) (4)
(وأكثرهم لا يعقلون) (5). (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) (6). (أفلا يتدبرون
القرآن أم على قلوب أقفالها) (7) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مدح العمل
بمقتضى العقل وذم عكسه. وفي الحديث عن أبي الحسن (عليه السلام) حين سئل:
فما الحجة على الخلق اليوم قال: " فقال (عليه السلام): العقل، يعرف به الصادق
على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه " (8) وفي آخر عن الصادق (عليه السلام)
قال: " حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل " (9) وفي آخر
عن الكاظم (عليه السلام): " يا هشام إن الله على الناس حجتين: حجة ظاهرة
وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول " (10).

(1) سورة طه. آية 57. 129.
(2) سورة الزمر آية 13.
(3) سورة الزمر. آية 23.
(4) سورة يس. آية 69.
(5) سورة المائدة. آية 103.
(6) سورة المائدة. آية 64.
(7) سورة محمد. آية 27
(8) هذا من حديث أبي يعقوب البغدادي عن أبي الحسن (عليه السلام) الذي رواه
في الكافي في كتاب العقل والجهل، وهو الحديث - 20 - منه.
(9) وهو حديث عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) الذي رواه في الكافي
في الكتاب العقل والجهل، وهو الحديث - 22 - منه.
(10) هذا من حديث هشام بن الحكم عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)
الذي رواه في الكافي في كتاب العقل والجهل، وهو الحديث - 12 - منه.
130

(قلت): لا ريب أن العقل الصحيح الفطري حجة من حجج الله سبحانه
وسراج منير من جهته جل شأنه، وهو موافق للشرع، بل هو شرع من داخل كما أن ذلك
شرع من خارجه، لكن ما لم تغيره غلبة الأوهام الفاسدة، وتتصرف فيه العصبية
أو حب الجاه أو نحوهما من الأغراض الكاسدة، وهو قد يدرك الأشياء قبل ورود
الشرع بها فيأتي الشرع مؤيدا له، وقد لا يدركها قبله ويخفى عليه الوجه فيها فيأتي
الشرع كاشفا له ومبينا، وغاية ما تدل عليه هذه الأدلة مدح العقل الفطري الصحيح
الخالي من شوائب الأوهام العاري من كدورات العصبية، وأنه بهذا المعنى حجة
إلهية، لادراكه بصفاء نورانيته وأصل فطرته بعض الأمور التكليفية، وقبوله لما
يجهل منها متى ورد عليه الشرع بها، وهو أعم من أن يكون بادراكه ذلك أولا
أو قبوله لها ثانيا كما عرفت.
ولا ريب أن الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها كلها توقيفية تحتاج إلى السماع
من حافظ الشريعة، ولهذا قد استفاضت الأخبار كما قد مر بك الإشارة إلى شطر
منها في المقدمة الثالثة (1) بالنهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم
(عليهم السلام) وعلم صادر عنهم (صلوات الله عليهم) ووجوب التوقف والاحتياط مع
عدم تيسر طريق العلم ووجوب الرد إليهم في جملة منها، وما ذاك إلا لقصور العقل
المذكور عن الاطلاق على أغوارها واحجامه عن التلجج في لجج بحارها، بل لو تم للعقل
الاستقلال بذلك لبطل إرسال الرسل وانزال الكتب، ومن ثم تواترت الأخبار
ناعية على أصحاب القياس بذلك.
ومن الأخبار المؤكدة لما ذكرنا رواية أبي حمزة عن أبي عبد جعفر (عليه السلام)

(1) في الصحيفة 27 و 28 و 29 و 30.
131

في حديث طويل، قال: " إن الله لم يكل أمره إلى خلقه لا إلى ملك مقرب ولا
إلى نبي مرسل، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته فقال له: قل: كذا وكذا،
فأمرهم بما يجب ونهاهم عما يكره.. الحديث " (1).
و (منها) رواية أبي بصير، قال: " قلت: ترد علينا أشياء ليس نعرفها
في كتاب الله ولا سنته فننظر فيها. فقال: لا، أما أنك إن أصبت لم تؤجر وإن
أخطأت كذبت على الله " (1).
و (منها) حديث يونس عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: " من نظر
برأيه هلك ومن ترك أهل بيت نبيه ضل " (1).
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن المؤمن لم يأخذ دينه
عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذ به " (1).
وفي آخر لما قال السائل له (عليه السلام). ما رأيك في كذا؟ قال (عليه السلام):
" وأي محل للرأي هنا؟ إنا إذا قلنا حدثنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عن جبرائيل عن الله " (2) إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة معنى الدالة على كون الشريعة
توقيفية لا مدخل للعقل في استنباط شئ من أحكامها بوجه. نعم عليه القبول والانقياد
والتسليم لما يراد، وهو أحد فردي ما دلت عليه تلك الأدلة التي أوردها المعترض،
إلا أنه يبقى الكلام بالنسبة إلى ما يتوقف على التوقيف.
فنقول: إن كان الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم:
الواحد نصف الاثنين، فلا ريب في صحة العمل به، وإلا فإن لم يعارضه دليل عقلي

(1) رواه صاحب الوسائل في باب - 6 - من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن
يقضى به من كتاب القضاء.
(2) روى (صاحب البحار) الأخبار المتضمنة لما اشتمل عليه هذا الخبر في باب - 23 -
من أبواب كتاب العلم في الصحيفة 172 من الجزء الثاني المطبوع بمطبعة الحيدري بطهران.
132

ولا نقلي فكذلك، وإن عارضه دليل عقلي آخر، فإن تأيد أحدهما بنقلي كان الترجيح
للمؤيد بالدليل النقلي وإلا فاشكال، وإن عارضه دليل نقلي، فإن تأيد ذلك العقلي أيضا
بنقلي كان الترجيح للعقلي إلا أن هذا في الحقيقة تعارض في النقليات، وإلا فالترجيح
للنقلي وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره وخلافا للأكثر، هذا بالنسبة إلى العقلي
بقول مطلق، أما لو أريد به المعنى الأخص وهو الفطري الخالي من شوائب الأوهام
الذي هو حجة من حجج الملك العلام وإن شذ وجوده بين الأنام ففي ترجيح النقلي
على إشكال، والله العالم.
المقدمة الحادية عشرة
في جملة من القواعد الشرعية والضوابط المرعية التي تبتني على جملة من الأحكام
الفقهية، مما يستفاد من الكتاب العزيز والسنة النبوية على الصادع بها أشرف سلام
وتحة، وهي المشار إليها في كلامهم (عليه السلام) بالأصول على ما نقله ابن إدريس
في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي مما رواه عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله:
(عليه السلام): قال: " إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا " (1)
وروى عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بلا واسطة: قال: " علينا القاء الأصول
وعليكم التفريع " (1).
ولا يخفى ما في الخبرين المذكورين من حيث تقديم الظرف المؤذن بحصر ذلك
فيهم، من الدلالة على بطلان الأصول الخارجة من غيرهم، بمعنى حصر إلقاء الأصول
فيهم (عليهم السلام) فكأنه قال: تأصيل الأصول الشرعية للأحكام علينا لا عليكم

(1) ورواه صاحب الوسائل في آخر باب - 6 - من أبواب صفات القاضي وما
يجوز أن يقضى به من كتاب القضاء.
133

وإنما عليكم التفريع عليها، فكل أصل لم يوجد له مستند ولا دليل من كلامهم
(عليهم السلام) فهو بمقتضى الخبرين المذكورين مما لا يجوز الاعتماد عليه ولا الركون إليه.
فلنورد ههنا جملة مما جرى في الخاطر الفاتر، ونذيل ما يحتاج إلى البحث
والتحقيق بما هو جدير به وحقيق على جهة الإيجاز والاختصار من غير تطويل ولا
اكثار، وإن سمحت الأقضية والأقدار بالتوفيق ونامت عيون الدهر الغدار
عن التعويق، أبرزنا لهذه الأصول رسالة شافية وأودعناها أبحاثا بحقها وافية.
فمن تلك الأصول طهارة كل ما لم تعلم نجاسته حتى تعلم النجاسة.
ويدل على ذلك قول الصادق (عليه السلام) في موثقة عمار: " كل شئ
طاهر حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر " (1) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام)
فيما رواه في الفقيه (2): " لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم " ويدل على ذلك
أخبار عديدة في جزئيات المسائل، وأصل الحكم المذكور مما لا خلاف فيه ولا شبهة
تعتريه وإنما الخلاف في مواضع:
(الأول) في عموم هذا الحكم للجهل بالحكم الشرعي وعدمه، وتوضيح
ذلك أن لا خلاف في العمل بهذا الحكم على عمومه بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة
وإن كان مع ظن الملاقاة، بمعنى أنه لو شك أو ظن الملاقاة فالواجب البناء على أصالة
الطهارة حتى تعلم النجاسة، وكذا لا خلاف في ذلك بالنسبة إلى الشك أو الظن بنجاسة
شئ له أفراد متعددة غير محصورة، بعضها معلوم الطهارة وبعضها معلوم النجاسة وقد اشتبه
بعضها ببعض، كالبول الذي منه طاهر ومنه نجس والدم ونحوهما، فالجهل هنا ليس

(1) تقدم الكلام في هذه الموثقة في التعليقة (1) في الصحيفة (42).
(2) في باب (ما ينجس الثوب والبدن) من الجزء الأول، ورواه صاحب الوسائل
في باب - 37 - من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.
134

في الحكم الشرعي، إذ هو معلوم في تلك الأفراد في حد ذاتها، وإنما الجهل
في موضوعه ومتعلقه وهو ذلك الفرد المشكوك في اندراجه تحت أحد الطرفين. أما بالنسبة
إلى الجهل بالحكم الشرعي كالجهل بحكم نطفة الغنم هل هي نجسة أو طاهرة؟ فهل يحكم
بطهارتها بالخبر المذكور (1) أم لا؟ قولان، وبالثاني صرح المحدث الأمين
الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية، وبالأول صرح جملة من متأخري المتأخرين.
وأنت خبير بأن القدر المتيقن فهمه من الخبر المذكور (1) هو ما وقع الاتفاق
عليه، إذ الظاهر والله سبحانه وقائله أعلم أن المراد من هذا الخبر وأمثاله إنما
هو دفع الوساوس الشيطانية والشكوك النفسانية بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة، وبيان
سعة الحنيفية السمحة السهلة بالنسبة إلى اشتباه بعض الأفراد الغير المحصورة ببعض، فيحكم
بطهارة الجميع حتى يعلم الفرد النجس بعينه، وأما اجراء ذلك في الجهل بالحكم
الشرعي فلا يخلو من الاشكال المانع من الجرأة على الحكم به في هذا المجال.
وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين من أن الجهل بوصول النجاسة
يستلزم الجهل بالحكم الشرعي، قال: " فإن المسلم إذا أعار ثوبه الذمي وهو يشرب
الخمر ويأكل لحم الخنزير ثم رده عليه، فهو جاهل بأن مثل هذا الثوب الذي هو مظنة
النجاسة هل هو مما يجب التنزه عنه في الصلاة وغيرها مما يشترط فيه الطهارة أولا؟ فهو
جاهل بالحكم الشرعي مع أنه (عليه السلام) قرر في الجواب قاعدة كلية بأنه ما لم تعلم
نجاسته فهو طاهر " مردود بأن الجهل بالحكم الشرعي في المثال المذكور ونحوه تابع
للجهل بوصول النجاسة، ولما دل الخبر المذكور (1) وغيره على البناء على أصالة الطهارة
وعدم الالتفات إلى احتمال ملاقاة النجاسة أو ظنها بإعارة الثوب مثلا. علم منه قطعا
جواز الصلاة فيه تحقيقا للتبعية، ومحل الاشكال والنزاع أنما هو الدلالة على الحكم
الشرعي ابتداء كما لا يخفى.

(1) وهو موثق عمار المتقدم في الصحيفة 134 السطر 8.
135

(الثاني) أن ظاهر الخبر المذكور (1) أنه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتصف بها
إلا بالنظر إلى علم المكلف، لقوله (عليه السلام): " فإذا علمت فقد قذر " (1)
بمعنى أنه ليس التنجيس عبارة عما لاقته عين النجاسة واقعا خاصة بل ما كان كذلك
وعلم به المكلف، وكذلك ثبوت النجاسة لشئ إنما هو عبارة عن حكم الشرع بأنه
نجس وعلم المكلف بذلك، وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا (رضوان الله عليهم)
فإنهم حكموا بأن النجس إنما هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا وإن لم يعلم به المكلف،
وفرعوا عليه بطلان صلاة المصلي في النجاسة جاهلا وإن سقط الخطاب عنه ظاهرا كما
نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية.
وأنت خبير بما فيه من العسر والحرج ومخالفة ظواهر الأخبار الواردة
عن العترة الأبرار.
(أما أولا) فلأن المعهود من الشارع عدم إناطة الأحكام بالواقع ونفس
الأمر، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق، وحينئذ فالمكلف إذا صلى في ثوب طاهر
في علمه. والطاهر شرعا إنما هو ما لم يعلم المكلف بنجاسته لا ما علم بعدمها،
فما الموجب لبطلان صلاته بعد امتثاله للأمر الذي هو مناط الصحة ومعيارها؟
و (أما ثانيا) فلما أورده شيخنا الشهيد الثاني عليهم في الكتاب المشار إليه
حيث قال بعد نقل ذلك عنهم: " ولا يخفى ما فيه من البلوى، فإن ذلك يكاد يوجب
فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة، لكثرة النجاسات في نفس الأمر وإن لم
حكم الشارع ظاهرا بفسادها، فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة وإن استحق
أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته إن لم يتفضل الله تعالى بجوده ". انتهى.
و (أما ثالثا) فلمخالفته ظواهر الأخبار ومنها الخبر المذكور (1).

(1) وهو موثق عمار المتقدم في الصحيفة 134 السطر 8.
136

و (منها) رواية محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " سألته
عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟ قال: لا يؤذنه حتى ينصرف ".
ورواية عبد الله بن بكير المروية في كتاب قرب الإسناد (2) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا يصلي فيه وهو لا يصلي
فيه؟ قال: لا يعلمه. قلت: فإن أعلمه؟ قال: يعيد ".
وحينئذ فلو كان الأمر كما يدعونه من كون وصف النجاسة إنما هو باعتبار
الواقع ونفس الأمر، وإن صلاة المصلي والحال كذلك باطلة واقعا. فكيف يحسن
من الإمام (عليه السلام) المنع من الايذان والأخبار بالنجاسة في الصلاة كما في خبر
محمد بن مسلم أو قبلها كما في خبر ابن بكير؟ وهل هو بناء على ما ذكروا إلا من قبيل
التقرير له على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في بطلانه. وسيأتي
مزيد تحقيق لهذه المسألة في محلها (3) إن شاء الله تعالى.
(الثالث) أنه لا خلاف في أنه مع الحكم بأصالة الطهارة فلا يجوز الخروج
عنها إلا بالعلم بالنجاسة، لكن العلم المذكور هل هو عبارة عن القطع واليقين.
أو عبارة عما هو أعم من اليقين والظن مطلقا فيشملهما معا. أو اليقين والظن
المستند إلى سبب شرعي؟ أقوال، أولها منقول عن ابن البراج وثانيهما عن أبي الصلاح،

(1) المروية في الوسائل في باب - 40 - و - 47 - من أبواب النجاسات والأواني
والجلود من كتاب الطهارة.
(2) في الصحيفة 103 السطر 11 من المطبوع بالنجف سنة 1369، وفي الوسائل
في باب - 47 - من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة، إلا أن الرواية
فيهما هكذا: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه. الخ
(3) وقد أوردناها في المسألة السابعة من المطلب الرابع في أحكام الوضوء
(منه رحمه الله).
137

وثالثها عن العلامة في المنتهى والتذكرة.
احتج الأول بأن الطهارة معلومة بالأصل، وشهادة الشاهدين لا تفيد إلا الظن
فلا يترك لأجله المعلوم.
واحتج الثاني بأن الشرعيات كلها ظنية، فإن العمل بالمرجوح مع قيام
الراجح باطل.
ومن هذين الاحتجاجين يعلم وجه القول الثالث.
ويرد على الأول (أولا) إن اشتراط اليقين إن كان مخصوصا بحكم النجاسة
دون ما عداها من حكم الطهارة والحلية والحرمة فهو تحكم محض، وإن كان الحكم
في الجميع واحدا فيقين الطهارة ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة، وهو أعم
من العلم بالعدم، ومثله يقين الحلية.
و (ثانيا) أنه قد ورد في الأخبار كما ستأتيك إن شاء الله تعالى (1)
أن مما ينتقل به عن يقين الحلية شهادة الشاهدين بالحرمة، وأن العلم المعتبر ثمة يحصل بذلك.
ومن الظاهر البين أن الحكم في الجميع من باب واحد.
و (ثالثا) أن الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في أنه لو كان الماء مبيعا فادعى
المشتري فيه العيب بكونه نجسا وأقام شاهدين عدلين بذلك. فإنه يتسلط على الرد،
وما ذاك إلا لثبوت النجاسة والحكم بها.
ويتوجه على الثاني أن المفهوم من الأخبار أنه لا ينتقل عن يقين الطهارة ويقين
الحلية إلا بيقين مثله. وأن مجرد الظن لا يوجب الخروج عن ذلك.
ومما هو صريح في المقام ما ورد في حسنة الحلبي (2) من أنه " إذا احتلم الرجل

(1) في الصحيفة 140 السطر 15.
(2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) المروية في الوسائل في باب - 16 - من أبواب
النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.
138

فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه، وإن ظن أنه أصابه مني ولم يستقين ولم ير
مكانه فلينضحه بالماء " والنضح هنا للاستحباب بلا خلاف.
وقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1)
قال: " قلت فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلام أر شيئا ثم صليت فرأيته
فيه بعد الصلاة؟ قال: تغسله ولا تعيد. قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لأنك
كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك
أبدا " إلى غير ذلك من الأخبار.
والتحقيق عندي في هذا المقام بما لا يحوم حوله للناظر المنصف نقض
ولا ابرام هو ما أوضحناه في جملة من كتبنا، وملخصه أن كلا من الطهارة والنجاسة
والحلية والحرمة ونحوها أحكام شرعية متلقاة من الشارع يجب الوقوف فيها على الأسباب التي
عينها لها وناطها بها، وليست أمورا عقلية تناط بمجرد الظن العقلي، وحينئذ فكلما وجد
سبب من تلك الأسباب وعلم به المكلف رتب عليه مسببه من الحكم بأحد تلك الأحكام
وكما أن من جملة الأسباب المتلقاة من الشارع ملاقاة النجاسة فيحكم بالنجاسة عندها،
كذلك من جملتها اخبار المالك بنجاسة ثوبه وشهادة العدلين بنجاسة شئ، وكذا يأتي أيضا
في ثبوت الطهارة والحلية والحرمة بالنسبة إلى الأسباب التي عينت لها، وليس ثبوت
النجاسة لشئ واتصافه بها عبارة عن مجرد ملاقاة عين النجاسة له في الواقع ونفس الأمر
خاصة، حتى أنه يقال بالنسبة إلى الجاهل بالملاقاة: إن هذا نجس في الواقع وطاهر بحسب

(1) رواها الشيخ في التهذيب مضمرة في باب (تطهير البدن والثياب من النجاسات)
من كتاب الطهارة، ورواها صاحب الوسائل عنه كذلك في باب - 7 و 37 و 41 و 42
و 44 - من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة بنحو التقطيع، ورواها الصدوق في العلل في باب (علة غسل المني إذا أصاب الثوب) في الصحيفة 127
مسندة عن أبي جعفر (عليه السلام).
139

الظاهر، بل هو نجس بالنسبة إلى العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المذكورة وطاهر
بالنسبة إلى الغير العالم بشئ من ذلك، فإن الشارع كما عرفت آنفا (1) لم يجعل الحكم
بذلك منوطا بالواقع، وغاية ما يلزم اتصاف شئ بالطهارة والنجاسة باعتبار شخصين،
ولا ريب فيه، فإن ذلك جار في الحل والحرمة بالنسبة إلى من علم بعدم تذكية اللحم
الموضوع في أسواق المسلمين ومن لم يعلم، وحينئذ فلا يقال: إن اخبار العدلين أو المالك
لا يفيد إلا الظن، لاحتمال أن لا يكون كذلك واقعا، كيف؟ وهما من جملة الأسباب
التي رتب الشارع الحكم عليها بالنجاسة.
وبالجملة فيحث حكم الشارع بقبول شهادة العدلين واخبار المالك في أمثال ذلك فقد
حكم بثبوت الحكم بهما، فيصير الحكم حينئذ معلوما من الشارع، ولا معنى للنجس
ونحوه كما عرفت (1) - إلا ذلك، وإن فرض عدم الملاقاة في الواقع فإن الشارع لم
يلتفت إليه، ألا ترى أنه قد وردت الأخبار بأن الأشياء كلها على يقين الطهارة ويقين الحلية
حتى يعلم النجس والحرام بعينه، مع أن هذا اليقين كما عرفت (2) ليس إلا عبارة عن عدم
علم المكلف بالنجاسة والحرمة، وعدم العلم لا يدل على العدم كما لا يخفى.
ومنها حلية ما لم تعلم حرمته.
ويدل عليه الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان (3) قال: قال أبو عبد الله
(عليه السلام): " كل شئ يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف
الحرام بعينه فتدعه ".

(1) في الوضع الثاني المتقدم في الصحيفة 136
(2) في الصحيفة 138 السطر 9.
(3) المروية في الوسائل في باب - 4 - من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة،
وفي باب (حكم السمن والجبن وغيرهما إذا علم أنه خلطه حرام) من أبواب الأطعمة المحرمة
من كتاب الأطعمة والأشربة.
140

وصحيحة ضريس (1) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السمن
والجبن نجده في أرض المشركين والروم أنأكله؟ فقال: ما علمت أنه خلطه الحرام
فلا تأكل، وما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام ".
وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " كل شئ
هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب
يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، ومملوك عندك وهو حر قد باع نفسه أو خدع
فبيع قهرا، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى
يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة ".
ورواية عبد الله بن سليمان (3) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن
فقال: لقد سألتني عن طعام يعجبني، إلى أن قال: قلت: ما تقول في الجبن؟
فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره: كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك
حلال حتى تعرف الحرام بعينه " إلى غير ذلك من الأخبار (4).
وظاهر هذه الأخبار بل صريح جملة منها اختصاص الحكم المذكور بما فيه أفراد
بعضها معلوم الحل وبعضها معلوم الحرمة ولم يميز الشارع بينها بعلامة، واشتبه بعضها ببعض

(1) المروية في الوسائل في باب (حكم السمن والجبن وغيرهما إذا علم أنه خلطه حرام)
من أبواب الأطعمة المحرمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.
(2) المروية في الوسائل في باب - 4 - من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.
(3) المروية في الوسائل في باب - 61 - من أبواب الأطعمة المباحة من كتاب الأطعمة
والأشربة.
(4) و (منها) - رواية أبي الجارود المروية في كتاب المحاسن قال: " سألت أبا جعفر
(عليه السلام) عن الجبن فقلت له أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة؟ فقال أمن أجل
مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض، فما علمت أنه ميتة فلا تأكله، وما لم
تعلم فاشتر وبع وكل.. الحديث " (منه رحمة الله عليه).
141

مع كونها غير محصورة، فالجميع حلال حتى يعرف الحرام بعينه على الخصوص، فمورد
الحكم حينئذ هو موضوع الحكم الشرعي دون الحكم الشرعي نفسه، وبهذا التخصيص
جزم المحدث الأمين الأسترآبادي.
وظاهر جمع ممن قدمنا نقل الخلاف عنهم (1) في القاعدة المتقدمة، اجراء ذلك
أيضا في نفس الحكم الشرعي، ومقتضى ذلك أنه لو وجد حيوان مجهول مغاير للأنواع
المعلوم حلها وحرمتها من الحيوانات، فإنه يحكم بحله بناء على عموم القاعدة المذكورة،
وكذا بطهارته بناء على عموم القاعدة المتقدمة، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني في تمهيد
القواعد صرح في مثل ذلك بالطهارة والتحريم محتجا بالأصل فيهما، قال: " أما أصالة
الطهارة فظاهر، وأما أصالة التحريم فلأن المحرم غير منحصر، لكثرته على وجه
لا ينضبط " وفيه ما لا يخفى.
وأنت خبير بأن مقتضى العمل بأخبار التثليث التي تقدمت الإشارة إليها في بحث
البراءة الأصلية (2) التوقف في مثل ذلك، إذ شمول هذه الأخبار التي ذكرناها لمثل
ذلك مما يكاد يقطع بعدمه، فإنها متشاركة الدلالة تصريحا في بعض وتلويحا في آخر
على أن موردها إنما هو موضوع الحكم الشرعي والأفراد المعلومة الحكم مع اشتباهها.
والله ورسوله وأولياؤه (عليهم السلام) أعلم بحقائق الأحكام.
ومنها عدم نقض اليقين بالشك، والمراد بالشك ما هو أعلم من الظن
كما سلف في القاعدة المتقدمة (3) من دلالة حسنة الحلبي وصحيحة زرارة على ذلك.
والأخبار الدالة على هذه القاعدة الشريفة مستفيضة، ومنها الروايتان
المشار إليهما.

(1) في المواضع الأول في الصحيفة 134 السطر 13.
(2) في الصحيفة 46 السطر 8.
(3) في الصحيفة 138 السطر 17 و 19 والصحيفة 139 السطر 3.
142

و (منها) صحيحة زرارة عن الباقر (عليه السلام) قال: " قلت له
الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال يا زرارة
قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء
قلت: فإن حرك إلى جنبه شئ وهو لا يعلم به؟ قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام
حيت يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فهو على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا
بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر "
وصحيحة أخرى له أيضا عن أحدهما (عليه السلام) (2) قال: " قلت
له من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال يركع ركعتين،
إلى أن قال: ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما
بالآخر، ولكن ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد بالشك
في حال من الحالات ".
والعمل بهذه القاعدة الشريفة بالنسبة إلى الشك في حصول الرافع وعدمه
مما لا خلاف فيه ولا شك يعتريه.
إنما الخلاف في شمولها للشك في فردية بعض الأشياء لذلك الرافع، كما لو حصل
الشك في فردية الخارج من غير الموضع الطبيعي للناقض. بمعنى أنه هل يكون من جملة
نواقض الوضوء أم لا؟ فهل يدخل تحت هذه القاعدة أم لا؟ ومرجعه إلى جريانها
في نفس أحكامه تعالى واختصاصها بموضوعاتها خاصة.

(1) رواها الشيخ في التهذيب مضمرة في باب (الأحداث الموجبة للطهارة) من كتاب
الطهارة ورواها صاحب الوسائل عنه في باب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء من كتاب
الطهارة كذلك.
(2) المروية في الوسائل بنحو التقطيع في باب - 10 و 11 - من أبواب الخلل
الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة.
143

الذي اختاره المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره) الثاني، وإليه يميل
كلام بعض فضلاء متأخري المتأخرين (1)، حيث قال (قدس سره) بعد ايراد
صحيحة زرارة المتقدمة (2) الواردة في النوم: " الشك في رفع اليقين على أقسام:
(الأول) إذا ثبت أن الشئ الفلاني رافع لحكم لكن وقع الشك في وجود الرافع
(الثاني) أن الشئ الفلاني رافع للحكم لكن معناه مجمل، فوقع الشك في كون بعض
الأشياء هل هو فرد له أم لا؟ (الثالث) أن معناه معلوم ليس بمجمل لكن وقع
الشك في اتصاف بعض الأشياء به وكونه فردا له لعارض، كتوقفه على اعتبار متعذر
أو غير ذلك (الرابع) وقع الشك في كون الشئ الفلاني هل هو رافع للحكم المذكور
أم لا؟ والخبر المذكور إنما يدل على النهي عن النقض بالشك، وإنما يعقل ذلك
في الصورة الأولى من تلك الصور الأربع دون غيرها من الصور، لأن في غيرها
من الصور لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا لم يكن النقض
بالشك، بل إنما حصل النقض باليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا، وباليقين
بوجود ما يشك في استمرار الحكم معه لا بالشك، فإن الشك في تلك الصور كان
حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض، وإنما حصل النقض حين اليقين بوجود ما يشك
في كونه رافعا للحكم بسببه، لأن الشئ إنما يستند إلى العلة التامة أو الجزء الأخير
منها، فلا يكون في تلك الصور نقض للحكم اليقيني بالشك، وإنما يكون ذلك في صورة
خاصة غيرها، فلا عموم في الخبر، ومما يؤيد ذلك أن السابق على هذا الكلام في الرواية
والذي جعل هذه الكلام دليلا عليه من قبيل الصورة الأولى، فيمكن حمل
المفرد المعرف باللام عليه. إذ لا عموم له بحسب الوضع بل هو موضوع للعهد كما
صرح به بعض المحققين من علماء العربية، وإنما دلالته على العموم بسبب أن الاجمال

(1) هو الفاضل الخراساني في الذخيرة شرح الإرشاد في مبحث الماء المضاف
(منه رحمه الله).
(2) في الصحيفة 143 السطر 1.
144

في مثل هذه الموضع ينافي الحكمة، وتخصيصه بالبعض ترجيح من غير مرجح
وظاهر أن الفساد المذكور إنما يكون حيث ينتفي ما يصلح بسببه الحمل على العهد، وسبق
الكلام في بعض أنواع الماهية سبب ظاهر لصحة الحمل على العهد من غير لزوم فساد.
نعم يتجه ثبوت العموم في جميع أفراد النوع المعهود. وليس هذا من قبيل تخصيص
العام ببنائه على سبب خاص كما لا يخفى " انتهى كلامه زيد اكرامه.
(أقول): ويمكن تطرق المناقشة إلى هذا الكلام، بأن يقال: إنه لا يخفى
على المتأمل بعين التحقيق والاعتبار فيما أوردناه من الأخبار أن عدم نقض اليقين
بالشك قاعدة كلية وضابطة جلية لا اختصاص لها بمادة دون مادة ولا فرد دون فرد،
وهو الذي اتفقت عليه كلمة الأصحاب كما لا يخفى على من تتبع كلماتهم في هذا الباب.
والوجه فيه أن لامي اليقين والشك فيها لام التحلية، وهي وإن كانت لا تفيد العموم
بحسب الوضع بناء على ما صرح به جمع من علماء الأصول وإن أشعر كلام البعض
بخلافه، لكنهم اتفقوا أنها في المقامات الخطابية للعموم، إذ هو الأوفق
بمقتضى الحكمة.
وأما ما ذكره (قدس سره) بالنسبة إلى الرواية التي أوردها من أن
اللام ثمة إنما تحمل على العموم مع عدم القرينة، وقرينة العهدية حاصلة بالنسبة إلى الفرد
المسؤول عنه.
ففيه (أولا) أن ظاهر قوله (عليه السلام) في تلك الرواية: " ولا تنقض
اليقين بالشك " إنما هو العموم، فإنه (عليه السلام) استدل على أن الوضوء اليقيني
لا ينتقض بحدث النوم بقوله: " لا، حتى يستيقن أنه قد نام، إلى قوله: وإلا
فهو على يقين من وضوئه " ثم أردفه بتلك القاعدة تأكيدا للاستدلال وايذانا بعموم

(1) المذكور في الصحيفة 143 السطر 1.
145

الحكم في جميع الأحوال، ولو كان مراده بها إنما هو عدم نقض الوضوء بالنوم
على تلك الحال لكان إعادة للأول بعينه، وهو خارج عن قانون الاستدلال.
و (ثانيا) ما ذكرنا من دلالة غير هذه الرواية صريحا على كون ذلك قاعدة
كلية كصحيحة زرارة الأخيرة (1) فإنها كما ترى صريحة الدلالة واضحة المقالة على المراد
غير قابلة للتأويل والايراد، وحينئذ فللقائل أن يقول: إن الشك الذي لا ينتقض
به اليقين أعم من أن يكون شكا في وجود الناقض أو شكا بأحد المعاني الثلاثة الأخيرة
فإنها ترجع بالآخرة إلى الشك في وجود الناقض، إذ متى شك في كون هذا الفرد
من أفراد ذلك الكلي المتيقن نقضه، فقد شك في وجود الكلي في ضمنه. وقوله:
" إن الناقض في هذه الصور إنما هو اليقين " ممنوع، بل الشك الحاصل في ضمن اليقين
بوجود ذلك الفرد المشكوك في فرديته أو المشكوك في اتصافه بالعنوان أو في رفعه.
وقوله: " إن الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل " إن أراد به حصوله واقعا
فممنوع ولكن لا يترتب عليه حكم، وإن أراد بحسب الوجود فممنوع، إذ هو
لا يحصل إلا في ضمن وجود ما يشك في كونه فردا للناقض أو نحو ذلك من الأقسام
الباقية. هذا ما يقتضيه النظر في المقام إلا أن المسألة لا تخلو من شوب الاشكال
والاحتياط مما ينبغي المحافظة عليه على كل حال.
ومنها أن كل ذي عمل مؤتمن في عمله ما لم يظهر خلافه ويدل على ذلك
جملة من الأخبار المتفرقة في جزئيات المسائل.
ففي صحيحة الفضلاء (2) " أنهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحم
من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون. قال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين
ولا تسأل عنه "،

(1) المتقدمة في الصحيفة 143 السطر 7.
(2) المروية في الوسائل في باب - 29 - من أبواب الذبائح من كتاب الصيد والذبائح.
146

وفي رواية سماعة (1) قال: " سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه
الكميخت والغراء؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة ".
وفي صحيحة إبراهيم بن أبي محمود (2) أنه قال للرضا (عليه السلام):
" الخياط والقصار يكون يهوديا أو نصرانيا، وأنت تعلم أن يبول ولا يتوضأ، ما تقول
في عمله؟ قال: لا بأس ".
ورواية ميسر (3) قال: " قلت لأبي عبد الله: آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني
فلا تبالغ في غسله فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ فقال: أعد صلاتك، أما أنك لو كنت
غسلت أنت لم يكن عليك شئ ".
وربما توهم من هذا الخبر الدلالة على خلاف المراد. وليس بذاك. وذلك لأن
ظاهره أن أمره (عليه السلام) بإعادة الصلاة إنما هو لوجود عين النجاسة لا لكون
الجارية إزالتها عن الثوب، حتى لو فرض أنها أزالتها عن الثوب ولم يجدها فيه كان
يجب عليه غسل الثوب وإعادة الصلاة.
ومن ذلك أيضا الحديث الدال على أن الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة (4)
إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع.
وقد نقل المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية والمحدث

(1) وهي مضمرته التي رواها صاحب الوسائل في باب - 39 - من أبواب الذبائح
من كتاب الصيد والذبائح.
(2) المروية في الوافي في باب (التطهير من مس الحيوانات) من أبواب الطهارة
عن الخبث من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في باب 18 - من أبواب النجاسات والأواني والجلود
من كتاب الطهارة.
(4) وهو حديث عبد الأعلى عن أبي عبد الله المروي في الوسائل في باب - 56 -
من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.
147

السيد نعمة الله (قدس سرهما) عن جملة ممن عاصراهم أنهم كانوا لأجل هذه الشبهة
يهبون ثيابهم للقصارين أو يبيعونها عليهم، ثم يشترونها منهم، مستندين إلى أن
الثوب متيقن النجاسة ولا يرتفع حكم يقين النجاسة إلا بيقين الطهارة أو ما قام مقامه
من شهادة العدلين أو إخبار ذي اليد. وفيه زيادة على ما تقدم أنه لا ريب أن الحكم
المذكور مما تعم به البلوى، فلو كان مضيقا كما زعموا لظهر فيه أثر عنهم (عليهم السلام)
وقد ذكر غير واحد من محققي أصحابنا النافين للبراءة الأصلية أنها في مثل هذا الموضع
مما يعتمد عليها في الاستدلال، وقد تقدمت الإشارة إليه أيضا آنفا (1) بل الظاهر
من أخبارهم (عليهم السلام) ما يدل على التوسعة كما عرفت.
ومنها الحكم بطهارة ما اشتبه بنجس وحلية ما اشتبه بمحرم مع عدم الحصر
والتمييز، ونجاسة الجميع أو حرمته إذا كان في محصور. وهذا هو المشهور بين أصحابنا
(رضوان الله عليهم).
وقيل باجراء حكم الصورة الأولى في الثانية، وإليه يشير كلام السيد السند
في كتاب المدارك بالنسبة إلى النجاسة والطهارة، صرح بذلك في مسألة الإناءين
ومسألة طهارة ما يسجد عليه كما سيأتي كل منهما في محله إن شاء الله تعالى. ولا يخفى أن
ذلك لازم له في مسألة الحلال والحرام المشتبه أحدهما بالآخر وإن لم نقف له على كلام فيه
إلا أن المسألتين من باب واحد.
وكذا كلام المحدث الكاشاني بالنسبة إلى الحل والحرمة، حيث قال في كتاب
المفاتيح بأنه إذا اختلط الحلال بالحرام فهو له حلال حتى يعرف الحرام بعينه. ولم يفرق
بين المحصور وغيره.
ويرد على الأول منهما أنه وإن كان ما صرحنا به من القاعدة المذكورة لم يرد

(1) أشار إلى ذلك الصحيفة 46 السطر 4.
148

بها الأخبار على الوجه المدعى، إلا أن المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب
في خصوصيات المسائل التي تصلح للجزئية والاندراج تحت كل من كليتي المحصور
وغير المحصور أن الحكم فيها كذلك، ولا يخفى أن القواعد الكلية كما تكون
بورود الحكم كليا وباشتمال القضية على سور الكلية، كذلك تحصل بتتبع الجزئيات
كما في القواعد النحوية، بل في بعض الأخبار الواردة في هذا المقام تصريح بكلية
الحكم أيضا، ولنشر هنا إلى بعض الأخبار اجمالا، لأن التفصيل في ذلك
والأبحاث المتعلقة بما هنالك قد وكلناها إلى مواضعها الآتية إن شاء الله تعالى.
فمما يدل على حكم المحصور وأنه يحكم بنجاسة الجميع موثقة عمار (1) الواردة
في الإناءين النجس أحدهما مع اشتباهه بالآخر، فإنها دلت على وجوب اجتنابهما.
وحسنة صفوان (2) في الثوبين النجس أحدهما مع اشتباهه بالآخر، حيث
أمر (عليه السلام) بالصلاة في كل منهما على حدة.
والأخبار الدالة على غسل الثوب النجس بعضه مع اشتباهه بالباقي (3).
ومما يدل على حكم غير المحصور وأنه يحكم بالطهارة في الجميع ما قدمنا
في القاعدة الأولى من موثقة عمار (4) الدالة على أن كل شئ طاهر حتى يعلم أنه

(1) المروية في الوسائل في باب - 8 - من أبواب الماء المطلق، وفي باب - 4 -
من أبواب التيمم، وفي باب 64 من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب
الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في باب - 64 - من أبواب النجاسات والأواني والجلود
من كتاب الطهارة
(3) المروية في الوسائل في باب - 7 - من أبواب النجاسات والجلود من كتاب الطهارة
(4) في الصحيفة 134 السطر 8. وقد تقدم الكلام في هذه الموثقة في التعليقة (1)
في الصحيفة 42 ويأتي منه (قده) التصريح بما ذكرناه هناك في التنبيه الثاني من تنبيهات
المسألة الثانية من البحث الأول من أحكام النجاسات.
149

قذر كما قدمنا تحقيقه وأوسعنا مضيقه، وهي متضمنة للحكم المذكور بوجه كلي
كما أشرنا إليه.
ويرد أيضا عليه وعلى القائل الآخر الأخبار الدالة على حكم اللحم المختلط ذكيه
بميتته وأنه يباع ممن يستحل الميتة كحسنتي الحلبي (1).
ويدل عليه خصوص صحيحة ضريس الكناسي المتقدمة في القاعدة الثانية (2)
وكذا رواية عبد الله بن سليمان المذكورة ثمة (3). والأولى منهما متضمنة لحكم المحصور
وغير المحصور على وجه كلي ونمط جلي، وهي صريحة الدلالة في الرد على هذين
الفاضلين. والثانية قد تضمنت حكم غير المحصور بوجه كلي أيضا.
ويؤيده (4) بالنسبة إلى المحصور الذي هو محل النزاع ما روي عنه (صلى الله
عليه وآله) أنه " ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال " (5) وما ذكره
جملة من أصحابنا من أن اجتناب الحرام واجب، ولا يتم هنا إلا باجتناب الجميع.
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومنها الشك في شئ بعد الخروج عنه، لقوله (عليه السلام) في صحيحة
زرارة (6): " إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشئ " وقوله

(1) المرويتين في الوسائل في باب - 35 - من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب
الأطعمة والأشربة.
(2) في الصحيفة 141 السطر 1 و 9.
(3) في الصحيفة 141 السطر 1 و 9.
(4) إنما جعلنا هذا الخبر مع صراحته في المدعى من المؤيدات لعدم الوقوف على سنده
من كتب أصولنا، إنما وقفت عليه في عوالي اللئالي (منه رحمه الله).
(5) رواه المجلسي في البحار في باب - 23 - من كتاب العلم في الصحيفة (272)
رقم 6 من المطبوع بمطبعة الحيدري بطهران.
(6) المروية في الوسائل في باب - 23 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة
من كتاب الصلاة.
150

(عليه السلام) في موثقة محمد بن مسلم (1): " كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه
كما هو " وقوله (عليه السلام) في رواية أبي بصير (2): " كل شئ شك فيه مما قد
جازوه ودخل في غيره فليمض عليه " وفي هذه القاعدة الشريفة أبحاث منيفة تأتي
إن شاء الله تعالى في أحكام الوضوء.
ومنها رفع الحرج. لقوله سبحانه: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (3)
(يريد الله بكم اليسير ولا يريد بكم العسر) (4).
ويدل عليه من الأخبار حسنة عبد الأعلى (5) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري على إصبعي مرارة فكيف أصنع
بالوضوء؟ فقال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى: (ما جعل
عليكم في الدين من حرج) (6) امسح عليه ".
وفي رواية أبي بصير (7): " في الجنب يدخل يده في التور أو الركوة؟
قال: إن كانت يده قذره فليهرقه، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا
مما قاله الله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج " (8) وفي صحيحة الفضيل (9)

(1) المروية في الوسائل في باب - 23 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة
من كتاب الصلاة.
(2) المروية في الوافي في باب (الشك في أجزاء الصلاة) من أبواب الفصل الخامس
من كتاب الصلاة.
(3) سورة الحج آية 78.
(4) سورة الحج آية 78.
(5) المروية في الوسائل في باب - 39 - من أبواب الوضوء من كتاب الطهارة.
(6) سورة الحج آية 78.
(7) المروية في الوسائل في باب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(8) سورة الحج آية 78.
(9) المروية في الوسائل في باب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل
من كتاب الطهارة.
151

" في الجنب يغتسل فينضح الماء من الأرض في الإناء؟ فقال: لا بأس، هذا مما قال
الله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج " (1).
ومنها العذر فيما غلب الله عليه، لحسنة حفص بن البختري عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (2) قال: " سمعته يقول في المغمى عليه: ما غلب الله عليه فالله
أولى بالعذر ".
وبمضمونها في حكم المغمى عليه أخبار عديدة (3) وفي بعضها " كل ما غلب الله
عليه فالله أولى بالعذر " وزاد في بعض الأخبار المروية في ذلك أيضا من كتاب قرب الإسناد وبصائر الدرجات: " وهذا من الأبواب التي يفتح الله منها ألف باب "
وفي رواية مرازم في المريض الذي لا يقدر على الصلاة (4) " كل ما غلب الله عليه
فالله أولى بالعذر ".
ومنها الترجيح بالمرجحات المنصوصة عند اختلاف الأخبار. وقد تقدم
الكلام عليها مفصلا (5).
ومنها الاحتياط في مواضعه على التفصيل المتقدم (6).
ومنها معذورية الجاهل على الوجه المتقدم تفصيله (7).

(1) سورة الحج. آية 78.
(2) رواها في الوسائل في باب - 3 - من أبواب قضاء الصلاة من كتاب الصلاة.
(3) رواها في الوسائل في باب - 3 - من أبواب قضاء الصلاة من كتاب الصلاة.
(4) المروية في الوافي في باب (صلاة المريض والهرم) من أبواب الفصل الخامس
من كتاب الصلاة.
(5) في المقدمة السادسة في الصحيفة 87.
(6) في المقدمة الرابعة في الصحيفة 65.
(7) في المقدمة الخامسة في الصحيفة 77.
152

ومنها العمومات القطعية المقررة عن صاحب الشريعة، مثل قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (1) وأخبار " لا ضرر ولا ضرار " (2).
ومنع المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية من الاستدلال
بأمثال ذلك، لظنية الدلالة، والنهي عن اتباع الظن وهو مع تسليمه إنما يتم فيما لم تكن
دلالته محكمة. وأما ما كان كذلك فلا مانع من الاستدلال به. على أنه قد استدل
في كتابه المذكور بأمثال ذلك في غير موضع كما لا يخفى على من راجعه.
ومنها أخبار " المؤمنون عند شروطهم إلا ما خالف كتاب الله " (3)
وفي بعضها " إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا " وأخبار " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " (4)
" وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام " (5) " والبينة على المدعي واليمين
على المنكر " (6) إلا ما استثنى مما سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.
ومنها في البيض المجهول أن يؤكل منه ما اختلف طرفاه دون ما استويا،
لصحيحة زرارة وغيرها (7).
وفي الطير ما دف دون ما صف، وما كان دفيفه أكثر. ولو أتي به مذبوحا

(1) سورة المائدة. آية 2.
(2) المروية في الوسائل في باب - 5 - من كتاب الشفعة وفي باب - 12 - من كتاب
احياء الموات.
(3) المروية في الوسائل في باب - 6 و 1 و 3 - من أبواب الخيار من كتاب التجارة.
(4) المروية في الوسائل في باب - 6 و 1 و 3 - من أبواب الخيار من كتاب التجارة.
(5) المروية في الوسائل في باب - 6 و 1 و 3 - من أبواب الخيار من كتاب التجارة.
(6) المروية في الوسائل في باب - 3 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء.
(7) المروية في الوسائل في باب - 19 - من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب
الأطعمة والأشربة.
153

فيؤكل ما كان له قانصة دون ما لم يكن كذلك، لرواية ابن أبي يعفور وغيرها (1).
وفي السمك يؤكل ما كان له فلس دون ما ليس كذلك (2) كما استفاضت
به الأخبار (3).
ومنها رفع الخطأ والنسيان وما استكره عليه وما لا يطاق وما لا يعلم
وما اضطر إليه والحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة، لما رواه
الصدوق في الفقيه (4) عن أبي عبد الله (عليه السلام).
والرفع في هذا الموضع أعم من أن يكون برفع الإثم والمؤاخذة كما في بعض
الأفراد المعدودة، أو رفع الفعل وانتفاء التكليف به كما في البعض الآخر.
ومنها العمل بالتقية إذا ألجأت الضرورة إليها. والأخبار بذلك أكثر

(1) المروية في الوسائل في باب - 17 و 18 - من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب
الأطعمة والأشربة.
(2) ومن لطيف الحكايات في هذا المقام ما رواه الكشي في كتاب الرجال بسنده
عن حريز قال: " دخلت على أبي حنيفة وعنده كتب كادت تحول بيننا وبينه، فقال لي:
هذه الكتب كلها في الطلاق. قال: قلت: نحن نجمع هذا كله في حرف. قال: ما هو؟
قلت: قوله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة. وساق
الخبر، إلى أن قال: فقال لي: لأسألك عن مسألة لا يكون عندك فيها شئ، فما تقول في جمل
أخرج من البحر؟ قلت: إن شاء فليكن جملا وإن شاء فليكن بقرة، إن كانت عليه فلوس
أكلناه وإلا فلا.. الحديث " (منه رحمه الله)
(3) المروية في الوسائل في باب - 8 - من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب
الأطمعة والأشربة.
(4) في باب (من ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه) من الجزء الأول، وقد
تقدم في التعليقة 1 في الصحيفة 44 والتعليقة 2 في الصحيفة 81 ما يتعلق بالحديث
المذكور.
154

وأشهر من أن يتعرض لنقلها (1) بل ربما كان ذلك من ضروريات المذهب. وفي هذه
القاعدة تفصيل حسن سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في أحكام الوضوء.
ومنها العلم بالبراءة الأصلية في الأحكام التي تعم بها البلوى كما تقدمت
الإشارة إلى ذلك (2).
والوجه فيها ما ذكره بعض مشايخنا المحدثين من أن المحدث الماهر إذا تتبع
الأخبار الواردة حق التتبع في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم
البلوى بها، ولم يظفر بذلك الحكم يحصل له الجزم أو الظن المتاخم للعلم بعدم
الحكم، لأن جما غفيرا من أصحابهم (عليهم السلام) ومنهم. الأربعة آلاف رجل
الذين من أصحاب الصادق (عليه السلام) وتلامذته كانوا ملازمين لهم في مدة تزيد
على ثلاثمائة سنة، وكان همتهم وهمة الأئمة (عليهم السلام) إظهار الدين وترويج
الشريعة، وكانوا لحرصهم على ذلك يكتبون كل ما يسمعونه خوفا من عروض
النسيان له، وكان الأئمة (عليهم السلام) يحثونهم على ذلك، وليس الغرض
منه إلا العمل به بعدهم. ففي مثل ذلك يجوز التمسك بالبراءة الأصلية، إذ لو كان
ثمة دليل والحال كذلك لظهر.
وما اعترض به بعض متأخري المتأخرين من أن ذلك لا يخلو من نوع اشكال
لتطرق الضياع والتلف إلى جملة من الأصول فالظاهر سقوطه، لأن الظاهر أن التلف
إنما عرض لتلك الأصول أخيرا بالاستغناء عنها بهذه الكتب المتداولة، لكونها أحسن
منها ترتيبا وأظهر تبويبا، وإلا فقد بقي من تلك الأصول إلى عصر السيد رضي الدين
ابن طاوس (رضي الله عنه) جملة وافرة، وقد نقل منها في مصنفاته كما نبه عليه، وكذا

(1) رواها صاحب الوسائل في باب - 24 و 25 - من أبواب الأمر والنهي
من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلحق به.
(2) في الصحيفة 46 السطر 4.
155

ابن إدريس كما ذكره في مستطرفات السرائر، وعد من هذا القبيل وجوب القصد
إلى السورة، ووجوب قصد الخروج بالتسليم، ونجاسة أرض الحمام، ونجاسة الغسالة.
ومنها البناء في الشك الأخيرتين من الرباعية على الأكثر ما لم يكن مبطلا.
وتدل عليه موثقة عمار الساباطي (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن شئ من السهو في الصلاة. فقال: ألا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك
أتممت أو نقصت لم يكن عليك شئ؟ قلت: بلى. قال: إذا سهوت فابن
على الأكثر، فإذا فرغت وسلمت فقم فصل ما ظننت أنك نقصت.. الحديث "
وفي موثقة إسحاق بن عمار (2) أنه قال: " قال لي أبو الحسن (عليه السلام):
إذا شككت فابن علي اليقين. قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم ".
وأكثر الأصحاب فهموا من هذا الخبر أن المراد به البناء على الأقل، فيكون
ذلك قاعدة مخالفة لتلك القاعدة، وقد تكلفوا للجمع بينهما بالتخيير.
والأظهر عندي كما سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى أما حمل اليقين
في الخبر المذكور على البناء على الأكثر على أن يكون المراد به يقين البراءة، إذ به
يحصل يقين البراءة على الاحتمالين دون البناء على ما تيقن فعله وهو الأقل، لوجوب
الإعادة مع ظهور التمام للزيادة، وأما حمله على التقية، لكون ذلك مذهب جمهور الجمهور (3)
مع اعتضاد القاعدة الأولى بالأخبار المستفيضة الصحيحة الصريحة في جزئيات الشكوك.
ومنها الابهام لما أبهم الله والسكوت عما سكت الله.
ويدل عليه ما رواه في كتاب اللئالي عن إسحاق بن عمار عن الصادق
(عليه السلام) " أن عليا (عليه السلام) كأن يقول: أبهموا ما أبهم الله " (4).

(1) المروية في الوسائل في باب - 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة
من كتاب الصلاة.
(2) المروية في الوسائل في باب - 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة
من كتاب الصلاة.
(3) كما يظهر من المغني لابن قدامة ج 2 ص 15. ومن المحلى لابن حزم ج 4 ص 170
(4) ورواه المجلسي في البحار في باب - 33 - من أبواب كتاب العلم.
156

وما رواه الشيخ المفيد (رحمه الله) في كتاب المجالس بسنده عن أمير المؤمنين
(عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى حد
لكم حدودا فلا تعتدوها. وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وسن لكم سننا
فاتبعوها، وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها، وعفى لكم عن أشياء رحمة منه من غير
نسيان فلا تتكلفوها " (1).
وما رواه في الفقيه من خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد مر في آخر بحث
البراءة الأصلية (2).
ومنها ثبوت العيب بما زاد أو نقص عن أصل الخلقة.
ويدل عليه ما رواه في الكافي (3) عن السياري قال: " سأل ابن أبي ليلى محمد
ابن مسلم فقال له: أي شئ تروون عن أبي جعفر (عليه السلام) في المرأة لا يكون
على ركبها شعر، أيكون ذلك عيبا؟ فقال له محمد: أما هذا نصا فلا أعرفه، لكن
حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب ". فقال له ابن أبي ليلى:
حسبك ".
ومنها أن كل شئ يجتر فسؤره حلال ولعابه حلال. للخبر عنه (صلى الله

(1) ورواه المجلسي في البحار في باب - 22 - من كتاب العلم برقم 11 في الصحيفة
263 من الجزء الثاني من المطبوع بمطبعة الحيدري بطهران.
(2) في الصحيفة 50 السطر 17.
(3) في باب - 95 - من كتاب المعيشة. ورواه صاحب الوسائل في باب - 1 -
من أبواب أحكام العيوب من كتاب التجارة.
157

عليه وآله) رواه الصدوق (رحمه الله) في الفقيه (1) مرسلا ورواه في التهذيب أيضا (2)
عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن آبائه عنه (صلى الله عليه وآله).
ومنها قبول قول من لا منازع له، كما لو ادعى مالا ولا منازع له فيه. وقبول
قول المرأة لو ادعت الحيض أو الخروج من العدة أو عدم الزوج أو موته.
وهذه القاعدة وإن لم ترد الأخبار بها بالعنوان المذكور إلا أن اتفاقها فيما وقفنا
عليه من جزئيات هذه القاعدة مما يؤذن بكلية الحكم المذكور، كما هو المفهوم أيضا
من كلام الأصحاب، ومما يوضح ذلك أن الأخبار الواردة في اثبات الدعاوى
بالبينة واليمين لا عموم فيها على وجه يشمل مثل هذه المسألة، إذ موردها إنما هو النزاع
بين الخصمين وحصول مدع ومنكر في البين، كما لا يخفى على من أحاط بها خبرا.
ومما حضرني من الأخبار في بعض جزئيات هذه القاعدة رواية منصور بن حازم
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " قلت له: عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم
كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم: لا.
وقال واحد منهم: هو لي. فلمن هو؟ قال: للذي ادعاه ".
وحسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (4) قال: " العدة والحيض
للنساء إذا ادعت صدقت ".

(1) في باب (المياه وطهرها ونجاستها) من الجزء الأول.
(2) في باب (المياه وأحكامها) من كتاب الطهارة في الصحيفة 64، ورواه
صاحب الوسائل في باب 5 من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في باب - 17 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
من كتاب القضاء.
(4) المروية في الوسائل في باب - 47 - من أبواب الحيض من كتاب الطهارة،
وفي باب - 24 - من أبواب العدد من كتاب الطلاق.
158

ورواية ميسر (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألقى المرأة في الفلاة
التي ليس فيها أحد، فأقول لها: ألك زوج؟ فتقول: لا. فأتزوجها؟ قال: نعم
هي المصدقة على نفسها ".
وفي رواية أبان بن تغلب الواردة في مثل ذلك (2) قال (عليه السلام):
" ليس هذا عليك، إنما عليك أن تصدقها في نفسها " ولا يخفى عليك ما في عموم
الجواب من الدلالة على قبول قولها فيما يتعلق بها نفسها.
واستشكل صاحب الكفاية في قبول قولها في موت الزوج. وجمع من المعاصرين
في قبول قولها بعدم الزوج بعد معلوميته سابقا. وهو ضعيف. والأخبار ترده. ومنها:
الخبر المذكور، ومنها أيضا: صحيحة حماد ورواية أحمد بن محمد بن أبي نصر (3) نعم
ربما ظهر من بعض الأخبار التقييد بكونها غير متهمة، إلا أن الأظهر حمله على الاستحباب

(1) المروية في الوسائل في باب - 25 - من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد
من كتاب النكاح، وفي باب - 10 - من أبواب المتعة من كتاب النكاح.
(2) المروية في الوسائل في باب 10 - من أبواب المتعة من كتاب النكاح.
(3) وهو ما رواه حماد في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في رجل طلق
امرأته ثلاثا فبانت منه فأراد مراجعتها، فقال لها: أني أريد مراجعتك فتزوجي زوجا
غيري فقالت له: أني قد تزوجت زوجا غيرك وحللت لك نفسي. أيصدق قولها
ويراجعها وكيف يصنع؟ قال: إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها " ورواية أحمد بن محمد
ابن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) قال: " قلت له: الرجل يتزوج المرأة فيقع في قلبه
أن لها زوجا؟ قال: ما عليه، أرأيت لو سألها البينة كانت تجد من يشهد أن ليس لها زوج "
ولا يخفى عليك ما في الثانية من الصراحة في المراد. والظاهر أن المراد بكونها ثقة
في الرواية الأولى أي مما يوثق باخبارها وتسكن النفس إلى كلامها، وهي التي ربما عبر عنها
بالمأمونة، لا الوثاقة بمعنى العدالة. ومع ذلك فالظاهر حملها على الاستحباب، لاستفاضة
الأخبار بأنها مصدقة على نفسها، ومنها: الرواية المنقولة في المتن (منه رحمه الله).
159

الأحوطية جمعا بين الأخبار، لتصريح جملة منها بقبول قولها في مقام التهمة أيضا.
والله العالم.
تتمة مهمة
قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) قواعد أخر بنوا
عليها الأحكام. مع كون جملة منها مما يخالف ما هو الوارد عنهم (عليهم السلام)،
وجملة أخرى مما لم يوجد له مستند في المقام.
فمنها قولهم: إنه لا يجور تأخير البيان عن وقت الحاجة. مع أنه قد استفاضت
النصوص عنهم (عليهم السلام) في مواضع منها: في تفسير قوله تعالى: (فاسألوا
أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (1) بما يدفع هذه القاعدة، حيث قالوا (صلوات
الله عليهم): " إن الله قد فرض عليكم السؤال ولم يفرض علينا الجواب، بل ذلك
إلينا، إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا " (2) نعم هذه القاعدة إنما تتجه على مذهب
العامة، لعدم التقية في أخبارهم، وقد تبعهم من أصحابنا من تبعهم فيها غفلة.
(ولو قيل): إنه مع عدم جوابهم (عليهم السلام) يلزم الحرج.
(قلنا): إنما يلزم ذلك لو لم يكن ثمة مخرج آخر، كيف؟ وقد تقرر عنهم (عليهم
السلام) قاعدة جلية في أمثال ذلك. وهو سلوك جادة الاحتياط. كما أسلفنا بيانه
وأوضحنا برهانه (3).
ونقل شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح عن شيخه العلامة الشيخ

(1) سورة النحل. آية 46. سورة الأنبياء. آية 8.
(2) روى صاحب الوسائل شطرا من الأخبار المتضمنة لهذا المعنى في باب 7
من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به من كتاب القضاء.
(3) في المقدمة الرابعة في ضمن التحقيق الواقع في الصحيفة 68.
160

سليمان البحراني (قدس سرهما) أنه كان يقول: " لو ورد علينا في مثل هذه المسألة ألف
حديث لما عملنا به، لأنه معارض لما قام عليه الدليل العقلي والنقلي من عدم جواز
تأخير البيان عن وقت الحاجة ".
وهو كما ترى اجتهاد صرف وتعصب بحت، فإن الدليل النقلي المطابق
للدليل العقلي الذي هو عبارة عما دل من الأخبار على وجوب بذل العلم، كقوله
(عليه السلام): " إن الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء
عهدا ببذل العلم " (1) وما اشتهر من قوله (صلى الله عليه وآله): " من كتم علما
ألجمه الله بلجام من نار " إلى غير ذلك مخصوص بما رواه ثقة الاسلام في الكافي (2)
بسنده إلى عبد الله بن سليمان قال: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول، وعنده
رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى وهو يقول: إن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم تؤذي ريح بطونهم أهل النار. فقال أبو جعفر (عليه السلام):
فهلك إذن مؤمن آل فرعون، ما زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحا، فليذهب
الحسن يمينا وشمالا فوالله ما يوجد العلم إلا ههنا " ونحوه روى في كتاب بصائر الدرجات
ولعل الحسن البصري حيث إنه من جملة النصاب ورؤوس ذوي الأذناب - كان يعرض
بهم (عليهم السلام) في عدم جوابهم عن بعض الأسئلة كما تدل عليه الأخبار السابقة (3).
وفي هذين الخبرين دلالة على جواز تأخير البيان مع التقية حتى بالنسبة إلى غيرهم
أيضا، وحينئذ فتلك القاعدة وما يطابقها من الأخبار مخصصة بما ذكرناه من الأخبار.
وكأن شيخنا العلامة المشار إليه قصر النظر على عموم الأخبار المتقدمة من حيث

(1) تقدم الكلام في هذا الحديث في التعليقة 3 في الصحيفة 81.
(2) في باب النوادر من كتاب فضل العلم وهو الحديث 15 منه.
(3) المشار إليها في الصحيفة 160 السطر 6.
161

دلالتها على عدم وجوب الجواب عليهم (عليهم السلام) سواء كان لتقية أم لا، وبذلك
تحصل المنافاة للقاعدة المذكورة (1).
وبما ذكرنا لك من الخبرين المذكورين (2) تنكشف عن تلك الأخبار غشاوة
العموم وتختص بمقام التقية كما لا يخفى.
ومنها حمل اللفظ الوارد في أخبارهم (عليهم السلام) على الحقيقة الشرعية إن
ثبتت وإلا المعنى العرفي الخاص، ومع عدمه فالمعنى اللغوي وإلا العرفي العام (3) وقد
عرفت ما فيه في المقدمة الثامنة.
ومنها قولهم: عدم وجود المدرك للحكم الشرعي مدرك شرعي، وبعبارة
أخرى، عدم وجود الدليل دليل على العدم. وقد عرفت ما فيه في المقدمة الثالثة
في مسألة البراءة الأصلية (4).

(1) بمعنى أنه (ره) فهم من الأخبار الدالة على عدم وجوب الجواب عليهم (عليهم
السلام) عدم الجواب مطلقا لتقية كان أولا. وبذلك تحصل المنافاة بين تلك الأخبار
وبين هذه القاعدة، فلذا رد تلك الأخبار ولم يعمل بها في مقابلة القاعدة المذكورة،
ولو أنه يخصصها بمقام التقية، بمعنى أن عدم وجوب التعرض عليهم إنما هو من حيث التقية
وأما مع عدمها فيجب عليهم الجواب، لظهر وجه الجمع بينها وبين القاعدة المذكورة
بتخصيص المنع عن جواز تأخير الجواب عن وقت الحاجة بغير وقت التقية. وكذلك
الأخبار - التي استند إليها في تأييد القاعدة المذكورة، من وجوب بذل العلم وعدم جواز
كتمانه - مخصوصة بغير مقام التقية كما دريته من الخبرين المنقولين. وبالجملة فمن المعلوم
أن شرعية التقية مما ينتج جواز تأخير الجواب لهم (عليهم السلام) ولغيرهم وبذلك يرتفع
الاشكال. ولكن الظاهر أنه لم يخطر ذلك لشيخنا المشار إليه بالبال (منه رحمه الله).
(2) في الصحيفة 161 السطر 8 و 13.
(3) تعرض له في الصحيفة 121 السطر 3.
(4) تعرض له في الوجه الثاني من ووجوه دفع البراءة في الشبهة التحريمية في الصحيفة
45 السطر 3.
162

ومنها قولهم: الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من طرح أحدهما. وقد
تقدم ما فيه في المقدمة السادسة (1).
ومنها أنه إذا تعارضت الأخبار في وجوب فعل واستحبابه أو تحريم شئ
وكراهته، يرجحون جانب الاستحباب أو الكراهة بالبراءة الأصلية. وفيه ما تقدم
في المقدمة الرابعة (2).
ومنها ما صار إليه جمع من متأخري المتأخرين من حمل أوامر السنة ونواهيها
على الاستحباب والكراهة ما لم تقم قرينة الوجوب أو التحريم (3) وقد عرفت ما فيه
في المقدمة السابعة.
ومنها ما صاروا إليه أيضا من أنه متى ورد الحكم في خبر ضعيف باصطلاحهم
المتأخر، حملوه على الاستحباب أو الكراهة تفاديا من طرحه. وفيه أن ضعف السند
ليس من القرائن الموجبة للحمل على المجاز.
ومنها قولهم: إنه إذا تعلق الطلب بالماهية الكلية يتحقق الامتثال بفرد منها
لأن الأصل عدم تعلق الطلب بقيد زائد. وفيه ما أفاده بعض مشايخنا المحدثين من أن
بعض الماهيات الكلية تحتها أفراد تصلح عند العقلاء لأن يتعلق غرض ببعضها دون
بعض، كحج البيت وغسل الوجه في الوضوء ومسح مخرج الغائط بالأحجار
ويستهجن عندهم الاقدام على فرد من أفرادها من غير سؤال. وهذا نوع من الاجمال
منشأه نفس المعنى لا اللفظ.
ومنها أنهم جعلوا من جملة وجوه الجمع بين الأخبار بل أظهرها حمل الأمر

(1) في الصحيفة 89 سطر 13.
(2) في الصحيفة 69 السطر 16.
(3) تعرض له في الصحيفة 115 السطر 7.
163

على الاستحباب والنهي على الكراهة، وقد عرفت ما فيه في الموضع السادس (1)
من الأبحاث المتعلقة بأخبار التعارض من المقدمة السادسة.
ومنها قولهم: إنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق. وقد
عرفت ما فيه من المقدمة التاسعة (2).
ومنها ما ذهب إليه جمع من أن كل عقد اشتمل على شرط فاسد فإنه يبطل به
أصل العقد. لأن المقصود بالعقد هو المجموع. وأصل العقد مجردا عن الشرط غير
مقصود فيكون باطلا، لأن العقود تابعة للقصود، فما كان مقصودا غير صحيح
وما كان صحيحا غير مقصود. وذهب جمع إلى بطلان الشرط خاصة.
والأخبار فيها ما يدل على الثاني وفيها ما يدل على الأول، فالواجب حينئذ
هو الوقوف على الدليل كيف كان أن وجد، وإلا فالاحتياط.
ومما يدل على الثاني صحيحتا محمد بن قيس المتضمنة إحداهما (3) اشتراط المرأة
في عقد النكاح أن بيدها الجماع والطلاق. والأخرى (4) اشتراط أن يجئ الزوج بالصداق
إلى أجل مسمى، وإلا فليس له عليها سبيل. وقد حكم (عليه السلام) فيها بصحة العقد
وأبطل الشرط.
ومرسلة جميل بن دراج (5) " في الرجل يشتري الجارية ويشترط لأهلها أن
لا يبيع ولا يهب ولا يورث؟ قال (عليه السلام): يفي بذلك إذا شرط لهم
إلا الميراث ".

(1) في الصحيفة 108 السطر 20.
(2) في الصحيفة 121.
(3) المروية في الوسائل في باب - 29 - من أبواب المهور من كتاب النكاح.
(4) المروية في الوسائل في باب - 10 - من أبواب المهور من كتاب النكاح.
(5) المروية في الوسائل في باب - 15 - من أبواب بيع الحيوان من كتاب التجارة.
164

وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) الواردة في بريرة وأنها كانت
مملوكة لقوم فباعوها على عائشة واشترطوا أن لهم ولاءها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
: " الولاء لمن أعتق " (2).
وبذلك يظهر لك ما في كلام السيد السند صاحب المدارك (قدس سره)
في شرح المختصر في مسألة ما لو شرط في عقد النكاح ما يخالف المشروع، حيث
اختار العمل بالقاعدة المتقدم نقلها (3) للعلة التي تقدم ذكرها (4) وقال بعد نقل
صحيحتي محمد بن قيس المشار إليهما (5) وكلام في المقام ما صورته: " لكن مرجع
الروايتين إلى رواية واحدة وهو خبر محمد بن قيس. وفي صلاحيته بمجرده لاثبات الحكم
نظر، ولو ثبت العمل به لوجب قصر الحكم بالصحة على مورد الرواية، والحكم في غيره
بالبطلان، لما ذكر من الدليل " انتهى. فإن فيه كما عرفت أن الحكم بالصحة ليس
مقصورا على صحيحتي محمد بن قيس (6) اللتين قد تمحل بارجاعهما إلى خبر واحد. بل
غيرهما من الأخبار أيضا دال عليه كما دريت.
ومما يدل على الأول مرسلة مروان بن مسلم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله

(1) المروية في الوسائل في باب - 37 - من أبواب كتاب العتق.
(2) ومن ذلك ما رواه الكليني عن الوشا عن الرضا (عليه السلام) قال: " سمعته
يقول: لو أن رجلا تزوج امرأته وجعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف،
كان المهر جايزا والذي جعله لأبيها فاسدا " قال السيد السند في شرح المختصر بعد ذكر هذا
الخبر: ويستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا الشرط الفاسد. انتهى
وفيه رد على ما ذكره في الموضع المشار إليه في الأصل ومؤيد لما قلناه (منه رحمه الله).
(3) وهي قاعدة فساد العقد بفساد الشرط.
(4) في الصحيفة 164 السطر 6.
(5) في الصحيفة 164 السطر 11.
(6) في الصحيفة 164 السطر 11.
165

(عليه السلام) (1) قال: " قلت: ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها؟ قال:
فقال: ولي الأمر من ليس أهله وخالف السنة ولم يجز النكاح " ولا تخلو من اجمال
في الدلالة كما سيأتي التنبيه عليه في محله إن شاء الله تعالى.
ومنها ما ذهب إليه جملة منهم من أن الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده
الخاص. وقد مرت الإشارة إلى ما فيه في المقدمة الثالثة (2) ومثله القول في مقدمة
الواجب (3) إلى غير ذلك من القواعد التي تضمنها كتاب القواعد لشيخنا الشهيد وكتاب
تمهيد القواعد لشيخنا الشهيد الثاني (عطر الله مرقديهما) وما ذكرناه من القسمين إنما
هو أنموذج يتذكر به اللبيب ويحذو حذوه الموفق المصيب، ولئلا يجمد على مجرد التقليد
لظاهر المشهورات وأن زخرف بضم الاجماع في العبارات، وإلا فالقواعد من الجانبين
أكثر من أن يأتي عليها قلم الاحصاء في البين.

(1) رواها صاحب الوافي في باب (الشرط في النكاح وما يجوز وما لا يجوز)
من الجزء الثاني عشر.
(2) في الصحيفة 59 السطر 16.
(3) ومما يدخل في حيز هذا الباب ما ذكره جملة منهم من التوقف في الحكم
ولفتوى على وجود القائل وإن وجد النص الدال على ذلك. وفيه ما أورده بعض
مشايخنا المحدثين من أنه (أولا) يلزم التسلسل. و (ثانيا) أنه يكون قول المعصوم أقل درجة
من قول سائر المجتهدين.
و (أقول): لا يخفى على من تأمل كلام المتأخرين انتشار أقوالهم في المسائل الشرعية
مع أن كلام المتقدمين سيما على عصر الشيخ أقل قليل في الفتاوى، حيث إنه لم تعرف لهم
كتب فتاوى يعمل عليها ويستند إليها، وفتاوى الشيخ ومن عاصره لم تبلغ في الكثرة
والانتشار إلى ما صاروا إليه في هذه الأعصار، فقد خالفوا قاعدتهم من حيث لا يشعرون
(منه رحمه الله).
166

المقدمة الثانية عشرة
وبها نختتم ما أردنا إيراده من المقدمات وقصدنا احرازه من المتممات، تيمنا بهذا
العدد الشريف وتبركا بهذا العقد المنيف.
في الإشارة إلى نبذة من الكلام في أحوال المجتهدين من أصحابنا والأخباريين.
اعلم أنه قد كثرت الأسئلة من جملة من الطلبة عن الفرق بين المجتهد والأخباري
وأكثر المسؤولون من وجوه الفروق، حتى أنهاها شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله
ابن صالح البحراني (نور الله مرقده) في كتاب منية الممارسين في أجوبة مسائل الشيخ
ياسين إلى ثلاثة وأربعين.
وقد كنت في أول الأمر ممن ينتصر لمذهب الأخباريين، وقد أكثرت
البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، وأودعت كتابي الموسوم
بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية
تدل على ذلك وتؤيد ما هنالك.
إلا أن الذي ظهر لي بعد اعطاء التأمل حقه في المقام وامعان النظر في كلام
علمائنا الأعلام هو اغماض النظر عن هذا الباب وارخاء الستر دونه والحجاب، وإن
كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والابرام.
(أما أولا) فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين والازراء بفضلاء الجانبين
كما قد طعن به كل من علماء الطرفين على الآخر، بل ربما انجر القدح في الدين
سيما من الخصوم المعاندين، كما شنع به عليهم الشيعة من انقسام مذهبهم إلى المذاهب
الأربعة، بل شنع به كل منهم على الآخر أيضا.
(وأما ثانيا) فلأن ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جله بل كله عند التأمل
لا يثمر فرقا في المقام، فإن من أظهر ما اعتمدوه فرقا في المقام هو كون الأدلة عند
167

المجتهدين أربعة: (الكتاب والسنة والاجماع ودليل العقل) الذي هو عبارة
عن البراءة الأصلية والاستصحاب. وأما عند الأخباريين فالأولان خاصة. وفي هذا
الفرق نظر ظاهر، فإن الاجماع وإن ذكره المجتهدون في الكتب الأصولية وعدوه
في جملة الأدلة وربما استسلفوه في الكتب الاستدلالية، إلا أنك تراهم في مقام
التحقيق في الكتب الاستدلالية يناقشون في ثبوته وحصوله وينازعون في تحققه ووجود
مدلوله حتى يضمحل أثره بالكلية، كما لا يخفى على من تصفح الكتب الاستدلالية
كالمعتبر والمسالك والمدارك ونحوها، وقد تقدم لك في المقدمة الثالثة (1) نبذة
من الإشارة إلى ذلك. وأما دليل العقل فالخلاف في حجيته بين المجتهدين موجود
في غير موضع، والمحققون منهم على منعه. وقد فصل المحقق في أول كتاب المعتبر
والمحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم وغيرهما في غيرهما الكلام في البراءة الأصلية
والاستصحاب على وجه يدفع تمسك الخصم به في هذا الباب، فليراجع ذلك من أحب
الوقوف عليه. وقد حققنا ذلك في كتاب الدرر النجفية، وتقدم لك في هذا الكتاب (2)
إشارة إلى ذلك.
ومن الفروق التي ذكروها أن الأشياء عند الأخباريين على التثليث: (حلال
بين وحرام بين وشبهات بين ذلك) وأما عند المجتهدين فليس إلا الأولان خاصة.
وفي هذا الوجه أيضا نظر، فإن الشيخ في العدة وقبله شيخه المفيد قد ذهبا إلى القول
بالتثليث كما نقلوه عن الأخباريين مع أنهما من أساطين المجتهدين، وكلام الصدوق
(قدس سره) في كتاب الاعتقادات صريحا وفي كتاب من لا يحضره الفقيه ظاهرا
مما ينادي بالقول بالتثنية كما عليه المجتهدون، قال في كتاب الاعتقادات: " باب الاعتقاد

(1) في المقام الثاني منها الواقع في الصحيفة 35.
(2) في المطلب الأول من المقام الثالث من المقدمة الثالثة الواقع في الصحيفة 41
والمطلب الثاني منه الواقع في الصحيفة 51.
168

في الحظر والإباحة، قال الشيخ (رحمه الله): اعتقادنا في ذلك أن الأشياء
كلها مطلقة حتى يرد في شئ منها نهي " انتهى. فالأشياء عنده إما حلال أو حرام كما
هو عند المجتهدين مع أنه رئيس الأخباريين.
ومنها أنهم ذكروا أن الاستدلال بالكتاب والسنة خاصة مخصوص
بالإخباريين، مع أن الخلاف بين الأخباريين واقع فيه، فمنهم المحدث الأسترآبادي
الذي هو المجدد لمذهب الأخباريين في الزمان الأخير. فإنه قد صرح في كتاب الفوائد
المدنية بعدم جواز العمل بشئ منه إلا ما ورد تفسيره عن أهل العصمة (سلام الله
عليهم) واقتصر آخرون على العمل بمحكماته، وتعدى آخرون حتى كادوا أن يشاركوا
الأئمة (عليهم السلام) في تأويل متشابهاته كما تقدمت الإشارة إليه (1).
و (أما ثالثا) فلأن العصر الأول كان مملوءا من المحدثين والمجتهدين، مع أنه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه
الأوصاف، وإن ناقش بعضهم بعضا في جزئيات المسائل واختلفوا في تطبيق
تلك الدلائل.
وحينئذ فالأولى والأليق بذوي الايمان، والأحرى والأنسب في هذا الشأن
هو أن يقال: إن عمل علماء الفرقة المحقة والشريعة الحقة أيدهم الله تعالى بالنصر والتمكين
ورفع درجاتهم في أعلى عليين سلفا وخلفا إنما هو على مذهب أئمتهم (صلوات الله
عليهم) وطريقهم الذي أوضحوه لديهم، فإن جلالة شأنهم وسطوع برهانهم وورعهم
وتقواهم المشهور بل المتواتر على مر الأيام والدهور يمنعهم من الخروج عن تلك الجادة
القويمة والطريقة المستقيمة، ولكن ربما حاد بعضهم أخباريا كان أو مجتهدا عن الطريق
غفلة أو توهما أو لقصور اطلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل، فهو

(1) في المقام الأول من المقدمة الثالثة في الصحيفة 47.
169

لا يوجب تشنيعا ولا قدحا، وجميع تلك المسائل التي جعلوها مناط الفرق من هذا
القبيل كما لا يخفى على من خاض بحار التحصيل، فإنا نرى كلا من المجتهدين
والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل بل ربما خالف أحدهم نفسه، مع أنه لا يوجب
تشنيعا ولا قدحا. وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق (رحمه الله تعالى) إلى مذاهب
غريبة لم يوافقه عليها مجتهد ولا أخباري، مع أنه لم يقدح ذلك في علمه وفضله.
ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الاعتساف إلا من زمن صاحب
الفوائد المدنية سامحه الله تعالى برحمته المرضية، فإنه قد جرد لسان التشنيع على الأصحاب
وأسهب في ذلك أي إسهاب، وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء
الأطياب. وهو وإن أصاب الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك
الكتاب، إلا أنها لا تخرج عما ذكرنا من سائر الاختلافات ودخولها فيما ذكرنا
من التوجيهات. وكان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد إن لم يجد
ما يدفع به عن كلامهم الفساد، فإنهم (رضوان الله عليهم) لم يألوا جهدا في إقامة
الدين واحياء سنة سيد المرسلين، ولا سيما آية الله (العلامة) الذي قد أكثر
من الطعن عليه والملامة، فإنه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة
والبراهين، حتى آمن بسببه الجم الغفير، ودخل في هذا الدين الكبير والصغير والشريف
والحقير، وصنف من الكتب المشتملة على غوامض التحقيقات ودقائق التدقيقات،
حتى أن من تأخر عنه لم يلتقط إلا من درر نثاره ولم يغترف إلا من زاخر بحاره قد
صار له من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحق به الثناء الجميل
ومزيد التعظيم والتبجيل، لا الذم والنسبة إلى تخريب الدين كما اجترأ به قلمه عليه
(قدس سره) وعلى غيره من المجتهدين.
ولنشرع الآن في المقصود متوكلين على الملك المعبود ومفيض الخير والجود،
فنقول وبه سبحانه الثقة لادراك كل مأمول:
170

كتاب الطهارة وفيه أبواب أربعة
الباب الأول في المياه
وينقسم الماء إلى مطلق ومضاف. والأول منهما إلى جار وراكد. والجاري
إلى ماء بئر وغيره. والراكد إلى كر وأقل منه. والأقل إلى ماء سؤر وغيره.
وحيث جرت عادة فقهائنا (نور الله مراقدهم) بافراد البحث لكل
من هذه الأقسام لاختلافها بالنسبة إلى ملاقاة النجاسة في الأحكام، كان الواجب
بسط الكلام هنا في فصول ستة وختام.
الفصل الأول
في الماء المطلق الجاري، والقول فيه ينتظم في مقالات:
(المقالة الأولى) المراد بالجاري هو النابع وإن لم يتعد محله. والنبع
على ما في كتب اللغة عبارة عن خروج الماء من العين، قال في الصحاح: " نبع
الماء ينبع نبوعا: خرج، والينبوع عين الماء، ومنه: قوله تعالى: (حتى تفجر لنا
من الأرض ينبوعا) (1) والجمع ينابيع " انتهى. وقال في القاموس: " نبع الماء ينبع
مثلثة نبعا ونبوعا: خرج من العين، والينبوع العين " وقال في مادة عين:
" العين: الباصرة، إلى أن قال: وينبوع الماء " انتهى. وعلى هذا فالعين إنما
هو اسم للينبوع الذي يخرج منه الماء وإن اشتهر اطلاقها على مجمع الماء، وحينئذ فما

(1) سورة الإسراء. آية 93.
171

يوجد في بعض البلدان كبلادنا البحرين حرسها الله من طوارق الملوين، من الآبار
التي يخرج ماؤها بطريق الترشيح من الأرض لا تدخل في الجاري، ولعلها مما
تدخل تحت الثمد بالثاء المثلثة ثم الميم ثم الدال المهملة، وهو على ما صرح به
في القاموس الماء القليل لا مادة له، إذ الظاهر أن المراد بالمادة هو الينبوع الذي
يخرج منه الماء بقوة وثوران دون ما يخرج بطريق الترشيح من جميع سطح الأرض، ولهذا
إن الوالد (عطر الله مرقده) كان يطهر - بتلك الآبار المشار إليها حيث كانت في قريته
متى تنجست بالقاء الكر عليها دون مجرد النزح منها، إلا أن تطهيره لها بالقاء
الكر عليها كان يجعل الكر في ظروف متعددة، وفيه عندي اشكال سيأتي التنبيه عليه
في الكلام على تطهير الماء القليل إن شاء الله تعالى.
(المقالة الثانية) الماء المطلق من حيث هو سواء نزل من السماء أو نبع
من الأرض أو أذيب من الثلج والبرد أو كان ماء بحر أو نحوه طاهر في نفسه مطهر
لغيره اجماعا، فتوى ودليلا، آية ورواية.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله سبحانه: (وأنزلنا من السماء ماءا طهورا) (1)
وقوله عز شأنه: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به..) (2).
وقد أورد على الاستدلال بهذه الآيات سؤالات: (أحدها) إن أقصى
ما تدل عليه طهورية ماء السماء لا مطلق الماء، فالدليل أخص من الدعوى.
(ثانيها) إن (ماء) في الآيتين نكرة في سياق الاثبات، وهي لا تفيد
العموم كما صرحوا به في الأصول.
(ثالثها) إن (طهورا) هنا لا يجوز أن يكون على بابه من المبالغة في أمثاله
لأن المبالغة في (فعول) إنما هي بزيادة المعنى المصدري وشدته فيه، كأكول وضروب،

(1) سورة الفرقان. آية 51.
(2) سورة الأنفال. آية 12.
172

وكون الماء مطهرا لغيره أمر خارج عن أصل الطهارة التي هي المعنى المصدري، فيكف
تراد منه؟ بل هو حينئذ بمعنى الطاهر.
والجواب عن الأول أن المستفاد من الآيات القرآنية أن الماء أصله كله
من السماء، وبذلك صرح شيخنا الصدوق في أول كتاب من لا يحضره الفقيه،
وما ذكره المتخرصون، من أن مواد المياه ليست إلا الأبخرة المحتبسة، وإن حصل لها
الغزارة والنزازة بكثرة مياه الأمطار والثلوج وقلتها فكلام عار عن التحصيل، فضلا
عن مخالفته لصريح التنزيل، وما ورد عن معادن التأويل.
ومن الآيات الدالة على ما قلنا قوله سبحانه: " وأنزلنا من السماء ماء بقدر
فأسكناه في الأرض، وإنا على ذهاب به لقادرون " (1) وروى الثقة الجليل علي
ابن إبراهيم القمي في تفسير هذه الآية عن الباقر (عليه السلام) قال: " هي الأنهار
والعيون والآبار ".
وقوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل ممن السماء ماء فسلكه في الأرض
ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه.. " (2).
وقوله تعالى: " هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر
إلى قوله: ينبت لكم به الزرع.. " (3).
فهذه الآيات دالة على أن أصل ماء الأرض كله من السماء.
والجواب عن الثاني أنه وإن كان كذلك مع عدم قرينة تفيد العموم إلا أن
قرينة المقام في هذه الآيات التي نقلناها تفيد العموم، فإن الظاهر أن هذه الآيات
كلها واردة في معرض التفضل واظهار الامتنان وبيان الأنعام، وحينئذ فلو كان هناك

(1) سورة المؤمنون. آية 19.
(2) سورة الزمر. آية 23.
(3) سورة النحل. آية 11 و 12.
173

فرد آخر لذكره (عز شأنه) سيما مع ما يدل عليه قوله سبحانه: " وإنا على ذهاب به
لقادرون " (1) من التهديد بأنه إن أذهب ذلك الماء النازل من السماء لم يبق لنا غيره.
وبما ذكرنا صرح جمع من الأصوليين، حيث قالوا بأن النكرة في سياق الاثبات إذا
كانت للامتنان عمت، وفرعوا عليه قوله سبحانه: " فيهما فاكهة ونخل ورمان " (2).
والجواب عن الثالث أن الطهور في اللغة لمعان:
(أحدها) أنه وصف بمعنى طاهر، ومنه انقدحت الشبهة على المعترض
المذكور.
و (ثانيها) ما هو مشهور بين أهل اللغة على ما نقله جمع من الخاصة
والعامة من أنه اسم لما يتطهر به، كالسحور والوقود والغسول ونحوها. وحمله
في تلك الآيات على هذا المعنى ممكن، وإن احتاج وصف الماء به إلى نوع تجريد،
لأن أسماء الآلة كأسماء الزمان والمكان لا يوصف بها مثل المشتقات، وحينئذ فلا أثر
لذلك الإيراد.
و (ثالثها) بمعنى الطاهر المطهر كما هو المدعى، وبذلك صرح الفاضل
الفيومي في كتاب المصباح المنير، حيث قال: " وطهور قيل مبالغة وأنه بمعنى
طاهر، والأكثر أنه لوصف زائد، قال ابن فارس: قال ثعلب: الطهور هو
الطاهر في نفسه المطهر لغيره. وقال الأزهري أيضا: الطهور في اللغة هو الطاهر
المطهر، قال: وفعول في كلام العرب لمعان: (منها) فعول لما يفعل به، مثل الطهور
لما يتطهر به، والوضوء لما يتوضأ به، والفطور لما يفطر عليه والغسول لما يغتسل به
ويغسل به الشئ، وقوله عليه الصلاة والسلام: " هو الطهور ماؤه " (3) أي هو الطاهر المطهر

(1) سورة المؤمنون. آية 19.
(2) سورة الرحمن. آية 69.
(3) هذا من حديث روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) في ماء البحر بالنص
الآتي: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " كما في الجزء الأول من المنتقى لابن تيمية
في الصحيفة 4، وكما في الجزء الثالث من تيسير الوصول للشيباني في الصحيفة 54 وغيرهما.
ورواه صاحب الوسائل في باب - 2 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
عن المحقق في المعتبر.
174

قاله ابن الأثير، قال: وما لم يكن مطهرا فليس بطهور. وقال الزمخشري:
الطهور البليغ في الطهارة. وقال بعض العلماء: ويفهم من قوله تعالى: (وأنزلنا
من السماء ماء طهورا) (1) أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره، لأن قوله: (ماء) يفهم منه
أنه طاهر. لأنه ذكر في معرض الامتنان. ولا يكون ذلك إلا بما ينتفع به، فيكون
طاهرا في نفسه. وقوله: (طهورا) يفهم منه صفة زائدة على الطهارة وهي الطهورية
(فإن قيل): قد ورد طهور بمعنى طاهر كما في قوله: " ريقهن طهور " (فالجواب) أن
وروده كذلك غير مطرد بل هو سماعي، وهو في البيت مبالغة في الوصف أو واقع
موقع طاهر لإقامة الوزن، ولو كان طهور بمعنى طاهر مطلقا لقيل: ثوب طهور وخشب
طهور ونحو ذلك. وهو ممتنع " انتهى كلام صاحب المصباح.
وإلى ذلك أيضا يشير كلام الشيخ في التهذيب حيث قال: " الطهور هو المطهر
في لغة العرب، ثم قال: وليس لأحد أن يقول: إن الطهور لا يفيد في لغة العرب كونه
مطهرا، لأن هذا خلاف على أهل اللغة، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل: هذا
ماء طهور. وهذا ماء مطهر. ثم قال ما ملخصه: أنه لو قيل: إن الطهور لا يكون
بمعنى المطهر، لأن اسم الفاعل منه غير متعد، وكل فعول ورد في كلام العرب
متعديا لم يكن إلا وفاعله متعد. قيل له: إنه لا خلاف بين أهل النحو أن فعولا موضوع
للمبالغة وتكرر الصفة. وعدم حصول المبالغة على ذلك الوجه لا يستلزم عدم حصولها
بوجه آخر. والمراد هنا باعتبار كونه مطهرا " انتهى.

(1) سورة الفرقان. آية 51.
175

واعترضه جمع من متأخري المتأخرين منهم: المحققان المدققان الشيخ حسن
في المعالم والسيد السند في المدارك بما حاصله: أن الطهور لم يرد في اللغة بمعنى المطهر،
بل هو إما صفة كقولك: ماء طهور أي طاهر، أو اسم غير صفة ومعناه ما يطهر
به. والشيخ قد استدل على كونه بمعنى المطهر بأنه لا خلاف بين أهل النحو. واللغة
لا تثبت بالاستدلال.
وفيه أن الشيخ (رحمه الله) لم يستدل على كون طهور بمعنى مطهر، وإنما نقل
ذلك عن العرب وأسنده إليهم، ثم استشعر اعتراضا قد أورد في البين وأجاب عنه
بما ذكر. وكلامه من قبيل ما يقال: إنه تعليل بعد الورود، وبيان ذلك أن
أبا حنيفة قد خالف في المسألة وقال: إن طهور بمعنى طاهر، وأنكر كونه
بذلك المعنى، وأورد على من ادعى أنه كذلك هذا السؤال الذي ذكره الشيخ
(رحمه الله تعالى) وأجاب عنه. والسؤال المذكور وجوابه مذكوران في كتب الشافعية
كينابيع الأسفرايني وغيره، فإنهم نقلوا عن أبي حنيفة ذلك وأجابوا عنه بما ذكر.
وبذلك ظهر أن الشيخ لم يكن غرضه الاحتجاج على ذلك وإنما استند في ثبوته إلى ما نقله
عن العرب، وغرضه من ذلك الكلام الآخر إنما هو دفع السؤال وبيان حكمة الواضع
وتصحيح لغرضه لا الاحتجاج على ذلك المطلب واثباته.
والعجب من إنكار جملة من فضلاء متأخري المتأخرين كهذين الفاضلين
وغيرهما ورود طهور بمعنى الطاهر المطهر لغة. وكلام صاحب المصباح كما عرفت
على غاية من الصراحة والايضاح، وقد نقله عن جملة من أئمة اللغة، بل ظاهر كلامه
أنه قول الأكثر، وأن المعنى الوصفي للفظ الطهور إنما هو عبارة عن هذا المعنى. وأما كونه
بمعنى طاهر فظاهر آخر كلامه كما عرفت أنه غير مطرد بل موقوف على السماع كما
في البيت الذي أورده. وعبارة القاموس أيضا دالة على ذلك، حيث قال: " الطهور
176

المصدر واسم ما يتطهر به والطاهر المطهر " انتهى. ونقل بعض مشايخنا (رضوان
الله عليهم) أن الشافعية نقلت ذلك عن أهل اللغة، ونقل هو (قدس سره) عن الترمذي
وهو من أئمة اللغة أنه قال: " الطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو المطهر
غيره " انتهى. ونقله المحقق في المعتبر عن بعض أهل اللغة أيضا.
ومن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم)
بأسانيدهم عن الصادق (عليه السلام) قال: " الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر " (1)
وفي هذا الحديث الشريف بحث نفيس حررناه في كتاب الدرر النجفية من الملتقطات
اليوسفية، وقد تقدم جملة من الكلام فيه في صدر المقدمة الحادية عشرة (2).
وصحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " كان
بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع
الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا، فانظروا كيف
تكونون؟ ".
ورواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله) الماء يطهر ولا يطهر ".
وهذا الحديث بناء على القول بنجاسة القليل بالملاقاة لا يخلو من اشكال، فإن

(1) رواه الكليني في الكافي في باب - 1 - من كتاب الطهارة، والشيخ في التهذيب
في باب (المياه وأحكامها) في الصحيفة 61 بالنص المذكور في كتاب، ورواه الصدوق
في الفقيه في باب (المياه وطهرها ونجاستها) من الجزء الأول بالنص الآتي:
" كل ماء طاهر إلا ما علمت أنه قذر "
(2) في الصحيفة 134.
(3) المروية في الوسائل في باب - 1 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
(4) المروية في الوسائل في باب - 1 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
177

قليل الماء إذا تنجس كان طهره بالكثير من الجاري أو الراكد.
وأجيب بأن المراد يطهر غيره ولا يطهر غيره.
ويرد عليه أيضا بأنه على اطلاقه غير مستقيم، لانتقاضه بالبئر، فإن تطهيرها
بالنزح، والماء النجس يطهر باستحالته ملحا، والماء القليل إذا كان نجسا وتمم كرا
بمضاف لم يسلبه الاطلاق، فإنه في جميع هذه الصور قد طهر الماء غيره.
وأجيب عن ذلك (أما عن الأول) فبانا لا نسلم أن مطهر البئر حقيقة هو النزح
بل هو في الحقيقة الماء النابع منها شيئا فشيئا بعد اخراج الماء المنزوح. ولا يخلو
من ضعف. بل التحقيق الجواب بعدم نجاسة البئر بالملاقاة، وحينئذ فأصل الاعتراض
بالبئر ساقط.
و (أما عن الثاني) فبان الماء قد عدم بالكلية فلم يبق هناك ماء مطهر بغيره. ومثله
أيضا الماء النجس إذا شربه حيوان مأكول اللحم واستحال بولا، فإنه يخرج عن الحقيقة
الأولى إلى حقيقة أخرى.
و (أما عن الثالث) فبعد تسلم ذلك يمكن أن يقال: المطهر هنا هو مجموع الماء
البالغ كرا لا المضاف وحده.
ويمكن الجواب عن أصل الاشكال بأن الماء متى تنجس فطهره بممازجة الكثير له
على وجه يستهلك النجس فيه، وهذا لا يسمى في العرف تطهيرا، لاضمحلال النجس
حينئذ، وحينئذ يصدق أن الماء لا يطهر، وفي الحديث حينئذ دلالة على اعتبار
الممازجة في المطهر دون مجرد الاتصال كما هو أحد القولين، ولعل هذا المعنى أقرب
من الأول، لسلامته من التكلفات.
(المقالة الثالثة) لا خلاف ولا إشكال في أن الماء الجاري بل كل ماء
ينجس باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه الثلاثة أعني اللون أو الطعم أو الريح.
178

وتدل عليه الأخبار المستفيضة كصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
قال: " كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ منه واشرب، فإذا تغير الماء وتغير
الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب ".
وصحيحة زرارة (2): " إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شئ إلا أن
تجئ ريح تغلب على ريح الماء ".
ورواية عبد الله بن سنان (3) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام)
على غدير أتوه وفيه جيفة. فقال: إن كان الماء قاهرا ولا توجد فيه الريح فتوضأ ".
وصحيحة أبي خالد القماط (4) أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول " في الماء
يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن كان
الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه، وإن لم يتغير ريحه وطعمه
فاشرب منه وتوضأ ".
ورواية العلاء بن الفضيل (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الحياض يبال فيها؟ قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول ".
ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) أنه " سئل عن الماء
النقيع تبول فيه الدواب. فقال: إن تغير الماء فلا تتوضأ منه، وإن لم تغيره أبوالها
فتوضأ منه. وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه ".

(1) المروية في الوسائل في باب - 3 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في باب - 3 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
بالنص الآتي:
قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): " إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجسه
شئ - تفسخ فيه أو لم يتفسخ - إلا أن تجئ له ريح تغلب على ريح الماء ".
(3) المروية في الوسائل في باب - 3 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(4) المروية في الوسائل في باب - 3 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(5) المروية في الوسائل في باب - 3 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(6) المروية في الوسائل في باب - 3 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
179

واستدل جمع من متأخري المتأخرين على الحكم المذكور بقوله (صلى الله عليه وآله)
: " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ إلا ما غير لونه أو طعمه
أو ريحه " (1) بل ادعى السيد السند في المدارك أنه من الأخبار المستفيضة.
والعجب منه (قدس سره) أنه بعد ذلك في بحث نجاسة البئر بالملاقاة، حيث أنكر ورود نجاسة الماء بتغير لونه في أخبارنا طعن في الخبر المذكور بأنه عامي مرسل
والحق كونه كذلك (2) فإنا لم نقف عليه في شئ من كتب أخبارنا بعد الفحص التام،
وبذلك صرح أيضا جماع ممن تقدمنا.
وممن صرح بكونه عاميا شيخنا البهائي (قدس سره) في كتاب الحبل المتين،
ذكر ذلك أيضا في مقام انكار ورود التغير اللوني في أخبارنا، والظاهر أنه اقتفى
في هذه المقالة أثر السيد المذكور.
والعجب منهما (قدس سرهما) في ذلك ورواية العلاء بن الفضيل المتقدمة
تنادي بالدلالة عليه.
ومثلها صحيحة شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد الله (عليه السلام) المروية
في كتاب البصائر (4) حيث قال في آخرها: " وجئت تسأل عن الماء الراكد، فما

(1) رواه صاحب الوسائل في باب - 1 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
عن المعتبر والسرائر.
(2) الذي عثرنا عليه في روايات العامة بهذا المضمون هي النصوص الآتية:
" الماء لا ينجسه شئ إلا ما غلب عليه طعمه أو ريحه " كما في الجزء الأول من سنن البيهقي
في الصحيفة 259. " أن الماء طاهر إلا أن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيها " كما في الصحيفة 260 منه. الماء لا ينجس إلا ما غير ريحه أو طعمه " كما في الصحيفة 260
منه أيضا وقد رواها عن النبي صلى الله عليه وآله مسندة. " الماء طهور إلا ما غلب على ريحه
أو طعمه " كما في كنز العمال ج 5 ص 94.
(3) في الصحيفة 179 السطر 12.
(4) ج 5. باب (أن الأئمة يعرفون الاضمار) وفي الوسائل في باب - 9 - من أبواب
الماء المطلق من كتاب الطهارة.
180

لم يكن فيه تغير أو ريح غالبة. قلت: فما التغير؟ قال: الصفرة، فتوضأ
منه.. الحديث ".
ويدل على ذلك ما ذكره في كتاب الفقه الرضوي (1) حيث قال (عليه السلام):
" كل غدير فيه من الماء أكثر من كر لا ينجسه ما يقع فيه من النجاسات إلا أن تكون
فيه الجيف فتغير لونه وطعمه ورائحته، فإذا غيرته لم يشرب منه ولم يتطهر
منه.. الحديث ".
وهذا الكتاب وإن لم يشتهر بين الأصحاب النقل عنه ولا الاعتماد عليه بل
ربما طعن بعضهم في ثبوته عنه (عليه السلام) إلا أن الأظهر كما قدمنا ذكره (2)
هو الاعتماد عليه.
ولعل السر في اشتمال أكثر الأخبار على التغير الطعمي والريحي دون اللوني
إن تغير الطعم والريح أسرع من تغير اللون أو لا ينفك تغير اللون من تغيرهما فلا ثمرة
في التعرض له حينئذ.
وهل يعتبر التغير الحسي، فلو كان الماء على صفاته الأصلية وكانت النجاسة مسلوبة
الأوصاف لم تؤثر في نجاسة الماء وإن كثرت. أو يجب تقدير الأوصاف للنجاسة، فلو كانت
مما يتغير بها الماء على تقدير وجود الأوصاف نجس وإلا فلا؟ قولان.
المشهور الأول نظرا إلى أن التغير حقيقة في الحسي، لصدق السلب بدونه،
واللفظ إنما يحمل على حقيقته، واعتبار التقدير يتوقف على دليل، والأصل عدمه.
ويمكن أن يقال: إن التغير حقيقة في النفس الأمري لا فيما كان محسوسا
ظاهرا، فقد يمنع من ظهوره مانع، كما اعترفوا به فيما سيأتي مما إذا خالفت النجاسة
الجاري في الأوصاف لكن منع من ظهورها مانع، فإنهم قطعوا هناك بوجوب التقدير،

(1) في الصحيفة 5 السطر 18. وقد أسقط (قده) منه ما لا يرتبط بمورد البحث.
(2) في الصحيفة 25 السطر 12.
181

استنادا إلى أن التغير حصل واقعا وإن منع من ظهوره مانع، والمناط التغير في الواقع
لا الحسي، والفرق بين الموضعين لا يخلو من خفاء.
ويؤيد ذلك أن الظاهر أن الشارع إنما ناط النجاسة بالتغير في هذه الأوصاف
لدلالته على غلبة النجاسة وكثرتها على الماء واقعا، وإلا فالتغير بها من حيث هو
لا مدخل له في التنجيس، فالمنجس حقيقة هو غلبة النجاسة وزيادتها وإن كان مظهره
التغير المذكور، وحينئذ فلو كانت هذه النجاسة المسلوبة الأوصاف بلغت في الكثرة
إلى حد يقطع بتغير الماء بها لو كانت ذات أوصاف، فقد حصل موجب التنجيس
حقيقة الذي هو غلبة النجاسة وزيادتها على الماء.
وبالجملة فإنا نقول: كما أن الموجب لنجاسة القليل على المشهور مجرد ملاقاة
النجاسة وإن قلت، فالمنجس للكثير كثرتها وغلبتها. وإناطة ذلك بالتغير في تلك
الأوصاف إنما هو لكونه مظهرا لها غالبا، فمع حصولها بدونه تكون موجبة
للتنجيس (1).
ويؤيد ذلك أيضا ما صرح به المحقق الثاني من أن عدم التقدير يفضي إلى جواز
الاستعمال وإن زادت النجاسة أضعافا، وهو كالمعلوم البطلان.
والجواب بأنه مع استهلاك النجاسة الماء لكثرتها يثبت التنجيس قولا واحدا
مما يؤيد ما حققناه آنفا من أن الاعتبار بغلبة النجاسة وكثرتها على الماء وإن تفاوت ذلك

(1) وممن جنح إلى ما ذكرناه في هذا المقام الفاضل السيد نور الدين بن أبي الحسن
في شرح المختصر، حيث قال - بعد نقل كلام أخيه السيد السند في المدارك - ما صورته:
" ويشكل ذلك إذا فسر التغير بالاستيلاء ولم يكتف بمطلق التغير كما تشعر به عبارة المصنف
وهو الأوفق بالحكمة، إذ الظاهر أن علة النجاسة غلبة النجس على الظاهر حتى صار مقهورا
معه فيضعف حكمه، وصدق التغير عليه بهذا المعنى حاصل على التقديرين، فكيف يدعى
صحة سلبه عنه إذا لم يكن حسيا؟ " انتهى كلامه زيد مقامه (منه رحمه الله).
182

شدة وضعفا، وكأن التزام المجيب بالتنجيس في هذه الصورة ودعواه الاجماع ودفع للشناعة
اللازمة من القول بالطهارة على هذا التقدير، وإلا فمقتضى ما قرروه يقتضي كون الحكم
كليا مع الاستهلاك وعدمه، وظاهر عبائر جملة منهم العموم. واستدلال المحقق
المذكور بذلك مبني على ما قلنا من فهمه العموم من كلامهم، وإلا لم يتجه دليله. والظاهر أن العلة في دعوى الاجماع المذكور إنما هو ما ذكرنا، ولهذا أن جملة ممن تعرض للجواب
عن هذا الكلام ومنهم: شيخنا الشهيد الثاني في الروض إنما ردوه بأنه مجرد استبعاد
بل صرح بعض متأخري المتأخرين بالتزامه مع عدم ثبوت الاجماع على خلافه.
ويؤيد ذلك أيضا (1) ما صرحوا به في المضاف المسلوب الأوصاف إذا وقع في
الماء، من وجوب اعتباره إما بقلة الأجزاء وكثرتها أو بتقديره مخالفا في الأوصاف
على اختلاف القولين، وإذا وجب الاعتبار في المضاف ففي النجاسة أولى.
ونقل عن العلامة في أكثر كتبه القول بالثاني، وتبعه ابن فهد في موجزه،
ورجحه المحقق الثاني في شرح القواعد، ونفى عنه البعد شيخنا البهائي في كتاب
الحبل المتين.
واحتج عليه في المختلف بأن التغير الذي هو مناط النجاسة دائر مع الأوصاف
فإذا فقدت وجب تقديرها. ورد بأنه إعادة للمدعى.
ويمكن الجواب بما قدمنا تحقيقه من أن المدار لما كان على التغير في نفس الأمر

(1) إنما ذكرنا ذلك على جهة التأييد لكسر سورة الاستبعاد فيما قلناه دون أن يكون دليلا كما ذكره المحقق الثاني (ره) لتطرق القدح إليه بكونه قياسا وإن كان قياس
أولوية. ومنع بعض المتأخرين الأولوية هنا محض مكابرة، فإنه إذا وجب التقدير في المضاف
ليترتب عليه الاجتناب فيما يشترط بالماء المطلق من الطهارة مثلا فبالطريق الأولى في النحس
ليترتب عليه الاجتناب فيما يشترط بالطاهر من طهارة وأكل وشرب ونحوها، إذ دائرة المنع
في النجس أوسع منها في المضاف كما لا يخفى (منه قدس سره).
183

لا الظاهر الحسي، لأنه ربما منع منه مانع من فقد الأوصاف في النجاسة أو فقد
الأوصاف في الماء، وجب تقديره مع وجود المانع المذكور. وبذلك أيضا يظهر وجه
الجواب عما أورد على الدليل الذي نقله عنه ابنه فخر المحققين من استدلاله بأن الماء مقهور
بالنجاسة، لأنه كلما لم يصر مقهورا لم يتغير بها على تقدير المخالفة، وينعكس بعكس
النقيض إلى قولنا: كلما تغير على تقدير المخالفة كان مقهورا. انتهى.
فإنه أورد عليه منع الكلية الأولى، فإن المخالف بقول بعدم صيرورة الماء
مقهورا مع تغيره بالنجاسة على تقدير المخالفة، وعلى ما حققناه يمكن أن يكون مراده
أنه كلما لم يكن الماء مقهورا في نفس الأمر لم يتغير على تقدير المخالفة، لا أنه كلما
لم يكن مقهورا شرعا ليتوجه عليه أن المخالف يقول بعدم صيرورة الماء مقهورا مع تغيره
بالنجاسة على تقدير المخالفة. وبذلك يظهر سقوط منع كليته الأولى.
وبالجملة فالمسألة لما ذكرنا لا تخلو من الاشكال، والاحتياط في التقدير إن لم
يكن متعينا كما لا يخفى على الناقد البصير، إلا أن تتوقف عليه عبادة مشروطة بالطهارة
أو بإزالة النجاسة، فيعود الاشكال بحذافيره.
فوائد
(الأولى) - لو اشتمل على صفة تمنع من ظهور التغير فيه كما لو
تغير بجسم طاهر يوافق لونه لون النجاسة كتغيره بطاهر أحمر، ثم وقع فيه دم فالذي
قطع به متأخروا الأصحاب من غير خلاف معروف في الباب هو وجوب تقدير خلو
الماء من ذلك الوصف كما عرفت آنفا، وكأنهم لحظوا في الفرق بين هذا الموضع
وبين كانت النجاسة مسلوبة الأوصاف، حيث أوجبوا التقدير هنا دون هناك
أن المراد بالتغير هو التغير الحسي كما تقدم. والتغير هنا ظاهر حسا لو خلينا وذات الماء
وذات النجاسة، بخلاف ما هناك، لكون النجاسة عارية عن الأوصاف. وفيه أن خلو
184

النجاسة عن الأوصاف لا يخرجها عن تنجيس ما تلاقيه، والمنجس ليس هو أوصافها وإنما
المنجس عينها. على أن الخلو عن الأوصاف غالبا إنما يكون بعارض من خارج
لا من أصل الخلقة، كما هو المشاهد في جميع المطعومات والمرئيات، وحينئذ فكما يقدر
خلو الماء عن ذلك الوصف الموافق للون النجاسة لكونه عارضا، ينبغي أن يقدر خلو
النجاسة عن هذا العارض الذي أزال وصفها.
(الثانية) هل المعتبر على تقدير القول بالتقدير هو الوصف الأشد للنجاسة
كحدة الخل وذكاء المسك وسواد الحبر، لمناسبة النجاسة تغليظ الحكم. أو الوسط
لأنه الأغلب؟ ظاهر العلامة في النهاية والشهيد في الذكرى الأول، وبعض المتأخرين
الثاني، واستظهره المحقق الثاني ورجحه في المعالم، واحتمل بعض فضلاء متأخري
المتأخرين اعتبار الأقل تغليبا لجانب الطهارة. والظاهر أن الأوسط أوسط.
واحتمل المحقق الثاني (قدس سره) أيضا اعتبار أوصاف الماء وسطا، نظرا إلى شدة
اختلافها كالعذوبة والملوحة والرقة والغلظة والصفاء والكدرة، قال: " ولا يبعد
اعتبارها، لأن له فيها أثرا بينا في قبول التغير وعدمه " انتهى قال في المعالم بعد نقل ذلك
عنه: " وهو محتمل حيث لا يكون الماء على الوصف القوي، إذ لا معنى لتقديره
حينئذ بما هو دونه " انتهى. واستشكله أيضا بعضهم بما إذا لم يكن الماء خارجا
عن أوصافه الأصلية.
(الثالثة) لو لم يكن الماء على الصفات الأصلية كسائر المياه كالمياه الزاجية
والكبريتية وكانت النجاسة على صفاتها ولم تغيره باعتبار ما هو عليه من الصفات، لكن
لو فرض خلوه منها لغيرته، فهل يجب التقدير هنا أم لا؟ لم أقف لأحد من الأصحاب
(رضوان الله عليهم) على كلام في ذلك. ومقتضى النظر أن الكلام هنا كالكلام فيما
لو تغير الماء بجسم طاهر يوافق لونه لون النجاسة، ومقتضى حكمهم بوجوب التقدير،
هناك هو وجوبه هنا أيضا.
185

إذ لا فرق بين المقامين إلا باعتبار أن خروج الماء عن صفته الأصلية هناك
باعتبار وقوع هذا الجسم فيه أخيرا، وخروجه هنا باعتبار كون الأرض كبريتية أو زاجية
فاتفق تكيفه برائحتها، أو باعتبار موافقة لون ذلك الجسم الطاهر الذي تغير به الماء
للون النجاسة في إحدى الصورتين، ومخالفته لها على وجه يستر رائحتها في الصورة الأخرى.
وكل منهما لا يصلح وجها للفرق الموجب لتغاير الحكم، إلا أن بعض محققي متأخري
المتأخرين استظهر أن الكلام هنا كالكلام في النجاسة المسلوبة الأوصاف دليلا وجوابا
وظاهره أن النجاسة في هذه الصورة باعتبار ما عليه الماء من الصفات لم تغيره واقعا،
بخلاف الصورة التي تغير فيها بجسم طاهر، فإنه تغير واقعا وإن لم يظهر للحس بسبب
الوصف العارضي. ولا يخفى ما فيه، فإن الواقع المعتبر القياس إليه، إن لوحظ مع
قطع النظر عن العارض فالتغير ثابت في الصورتين، وإلا فلا فيهما. وقد عرفت أن
الوجه الفارق لا يوجب تغايرا يترتب عليه ما ذكره (1).

(1) ثم إني وقفت بعد ذلك على كلام لشيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في كتاب الحبل
المتين يؤيد ما رجحناه، حيث قال: " وقد يستفاد - من قوله (عليه السلام) في الحديث
الثاني: " كل ما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب " - إنه لو كان للماء رائحة
كالمياه الزاجية والكبريتية مثلا فسترت رائحة الجيفة، لم ينجس وإن كان بحيث لو خلا
الماء من تلك الرائحة لظهرت، لصدق غلبة الماء على ريح الجيفة. والحديث السابع
من الفصل الثاني كالصريح في ذلك. لكن الحق صرفهما عن ظاهرهما. وتقدير الماء خاليا
من رائحته الأصلية. انتهى " وأشار بالحديث السابع إلى حسنة زرارة، قال: " إذا كان
الماء أكثر من راوية لم ينجسه شئ تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلا أن تجئ له ريح تغلب
على ريح الماء " وكأن ذلك الفاضل لم يقف أيضا على كلام شيخنا المذكور، حيث إنه ذكر
أيضا إنه لم يقف على كلام لأحد من الأصحاب في ذلك.
أقول: ومما يؤيد ما ذكرنا أيضا أن الأحكام المودعة في الأخبار إنما تحمل
على الأفراد الغالبة الشائعة كما صرحوا به، وحينئذ فالمعتبر في الغلبة وعدمها هو المياه
العارية عن هذه العوارض. وأما هذه فتحمل على تلك وتقدر فيها الغلبة وعدمها
(منه رحمه الله).
186

(الرابعة) لو تغيرت رائحة الماء بمرور رائحة النجاسة القريبة لم ينجس الماء
قولا واحدا، لأن الرائحة ليست بنجاسة فلا تؤثر تنجيسا.
(الخامسة) لو حصل التغير بالمتنجس لا بالنجاسة على وجه لا يسلبه الاطلاق
فالأظهر الأشهر عدم التنجيس، وللشيخ (رحمه الله تعالى) خلاف ضعيف يأتي الكلام
عليه في بحث المضاف إن شاء الله تعالى.
(المقالة الرابعة) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل ادعى
في المعتبر عليه الاجماع أن الجاري مطلقا وإن نقص عن الكر لا ينجس بمجرد
الملاقاة، وذهب العلامة في جملة من كتبه إلى اشتراط الكرية فيه كالراكد، ويظهر
من شيخنا الشهيد الثاني في الروض الميل إليه، بل صرح ابنه المحقق الشيخ حسن في المعالم
بأنه ذهب إليه في جملة من كتبه، قال: " إلا أن الذي استقر عليه رأيه بعد ذلك
هو المذهب المشهور " (1) ونقل في الروض عن جملة من المتأخرين أيضا موافقة العلامة
على هذه المقالة.
احتج القائلون بالأول بأصالة الطهارة، فإن الأشياء كلها على الطهارة إلا ما نص
الشارع على نجاسته، لأنها مخلوقة لمنافع العباد، ولا يتم النفع إلا بطهارتها.
وبالأخبار المتقدمة في سابق هذه المقالة (2) لدلالتها على طهارة كل ماء ما لم
يتغير، خرج عنه القليل الراكد بالدليل، فيبقى ما عداه داخلا تحت العموم.

(1) وممن جنح إلى هذا القول من متأخري المتأخرين الشارح الجواد في شرح
الجعفرية (منه رحمه الله).
(2) في الصحيفة 179.
187

وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) (2) قال: " ماء
البئر واسع لا يفسده شئ إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب
طعمه، لأن له مادة ".
وجه الدلالة أنه علل فيه نفي الانفعال بوجود المادة، والعلة المنصوصة يتعدى
بها الحكم إلى كل موضع توجد فيه إذا شهدت الحال بأن خصوص متعلقها الأول
لا مدخل له فيها. والأمر ههنا كذلك، فإن خصوصية البئر من ذلك القبيل.
وشهادة الحال بذلك ظاهرة لمن أحاط خبرا بأحكام البئر، وحينئذ ينحصر المقتضي
لنفي الانفعال في وجود المادة، وهي موجودة في مطلق النابع.
وقول الصادق (عليه السلام) فيما روي عنه بعدة طرق، وقد تقدم الإشارة
إلى بعضها (2): " الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر ".
وحسنة محمد بن ميسر (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به
ويداه قذرتان. قال: يضع يده ويتوضأ ويغتسل، هذا مما قال الله عز وجل:
ما جعل عليكم في الدين من حرج " (4).
ويتوجه على الأول (5) أن الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان يتوقف الحكم بهما
على الدليل الشرعي، ولا مدخل للدليل العقلي فيهما كما لا مدخل له في غيرهما

(1) المروية في الوسائل في الباب - 3 و 14 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) في الصحيفة 177. السطر 5. ورواه صاحب الوسائل في الباب - 1 من أبواب
الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة،
(4) سورة الحج. آية 78.
(5) وهو أصالة الطهارة.
188

من أحكام الشرع. وما ذكر هنا في بيانه ضعيف، لحصول المنافع في النجس بل
في عين النجاسة أيضا كما لا يخفى (1).
وعلى الثاني (2) ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في الكلام في نجاسة الماء القليل
بالملاقاة، من أن ظاهر هذه الأخبار بواسطة القرائن الحالية والمقالية كون ذلك
الماء أكثر من كر بل كرور، فلا تدل على ما ذكروه، ولا يحتاج إلى تخصيصها بما
دل على نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة.
وعلى الثالث (3) (أولا) ما عرفت في المقدمة الثالثة (4) من الكلام في حجية
منصوص العلة وإن الحجة منه هو ما يرجع إلى تنقيح المناط القطعي، وكأنه لهذا قيد
المستدل في بيان الاستدلال الحجية بشهادة الحال بأن خصوص متعلقها الأول لا مدخل
له، فمرجعها إلى تنقيح المناط المذكور، إلا أن فيه أن شهادة الحال بذلك في هذا
المقام لا تخلو من اشكال، وبدونه لا يتم الاستدلال.
و (ثانيا) ما ذكره شيخنا البهائي (قدس سره) في كتاب الحبل المتين
من احتمال أن يكون قوله (عليه السلام): " لأن له مادة " تعليلا لترتب ذهاب
الريح وطيب الطعم على النزح، كما يقال: لازم غريمك حتى يعطيك حقك، لأنه
يكره ملازمتك. وكما يقال: ألزم الحمية حتى يذهب مرضك، فإن الحمية رأس
الدواء. قال: ومثل ذلك كثير. ومع قيام الاحتمال يسقط الاستدلال.
والظاهر أنه لا يخلو من بعد، فإن ذهاب الريح وطيب الطعم بالنزح أمر
بديهي محسوس لا يحتاج إلى علة، فحمل الكلام عليه مما يخرجه عن الفائدة، ولا يليق

(1) فإنه قد تكون المصلحة في خلقه دفع الأذى كفضلة الانسان أو ابتلاء الخلق
كخلق المسكرات ونحو ذلك (منه رحمه الله).
(2) وهي الأخبار المتقدمة في الصحيفة 179.
(3) وهي صحيحة ابن بزيغ المتقدمة في الصحيفة 188 السطر 1.
(4) في الصحيفة 60.
189

حينئذ نسبته بكلام الإمام الذي هو إمام الكلام.
وعلى الرابع (1) ما تقدم تحقيقه في المقدمة الحادية عشرة (2) من أن ظاهر الخبر
المذكور وهو القدر المتيقن فهمه منه أن الماء كله طاهر حتى يعلم عروض النجاسة له
فأفراد هذه الكلية إنما هي المياه الطاهرة شرعا والمقطوع بطهارتها، فإنه يستصحب
الحكم فيها بذلك حتى تعلم النجاسة. والغرض منها عدم معارضة الشك بعروض
النجاسة ليقين الطهارة التي هي عليه شرعا، لا أن أفرادها ما شك في كونه سببا للنجاسة،
كنقصان الجاري عن الكر مثلا هل يكون موجبا لانفعاله بالملاقاة أم لا؟ فيحكم
بطهارته بهذا الخبر. والفرق بين المقامين ظاهر.
ونظيره ما ورد مفسرا في موثقة مسعدة بن صدقة (3) من قوله (عليه السلام):
" كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه من قبل نفسك، وذلك مثل
الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، ومملوك عندك وهو حر قد باع نفسه
أو خدع فبيع قهرا، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا
حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة ".
وحينئذ فأفراد هذه الكلية كما ذكره (عليه السلام) هي الأشياء المحكوم بحلها
شرعا والمعلوم حليتها قطعا. فإنه يستصحب الحكم فيها بذلك حتى يظهر دليل الحرمة
وإن كانت مما حرمه الشارع بالنسبة إلى العالم بذلك، ولا تخرج عن أصل الحلية المقطوعة
بمجرد الشك في حرمتها، لا أن أفرادها ما شك في حليته كالمتولد من نجس العين
وطاهرها مع عدم المماثل مثلا، فيقال: أن مقتضى هذا الخبر حله ومقتضى قوله
(عليه السلام): " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " (4) طهارته.

(1) وهو الحديث المتقدم في الصحيفة 188 السطر 9.
(2) في الصحيفة 124 السطر 13.
(3) تقدم الكلام فيها في التعليقة (2) في الصحيفة 141.
(4) تقدم الكلام فيه في التعليقة 1 في الصحيفة 42.
190

وبالجملة فمورد الخبرين الأشياء المعلومة الطهارة والنجاسة، وأنه لا يدخل أحد
أفراد الأول في الثاني إلا مع العلم واليقين، والأشياء المعلومة الحل والحرمة وأنه لا يدخل
أحد أفراد أولهما في الثاني إلا مع العلم أيضا.
وعلى الخامس (1) أن الماء القليل في الخبر المذكور وإن شمل بعمومه الجاري
والراكد، إلا أن وصفه بالقلة أن أخذ على ظاهره كما هو ظاهر الاستدلال كان
الخبر من أقوى أدلة عدم نجاسة القليل بالملاقاة. وتخصيصه بالجاري خاصة بناء
على قيام الدليل على نجاسة القليل بالملاقاة بعيد من سياق اللفظ، فالأظهر حمل القلة
فيه على المعنى العرفي دون الشرعي، أو حمله على التقية كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (2).
احتج العلامة (رحمه الله) بعموم الأخبار الدالة على اشتراط الكرية في الماء
بقولهم (عليهم السلام) (3): " إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شئ " فإن تقييد عدم انفعال
الماء ببلوغ الكرية يقتضي انفعال الماء بدونه، وهو شامل للجاري والراكد.
وتدل على ذلك صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (4) قال:
" سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء. يتوضأ منه
للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من الماء " وهي بظاهرها
شاملة لما كان جاريا أو راكدا (5).

(1) وهي حسنة محمد بن ميسر المتقدمة في الصحيفة 188 السطر 11.
(2) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد دلالة الأخبار المستدل بها
على عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
والنص الوارد: " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ "
(4) المروية في الوسائل في الباب - 8 و 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(5) وأجاب المحقق الشيخ حسن (قدس سره) في المعالم عن عموم المفهوم. قال:
" والجواب - على تقدير تسليم العموم بحيث يتناول محل النزاع - أنه مخصوص بصحيح
ابن بزيع لدلالته على أن وجود المادة سبب في نفي الانفعال بالملاقاة، فلو كانت الكرية
معتبرة في ذي المادة لكانت هي السبب في عدم الانفعال، فلا يبقى للتعليل بالمادة معنى " انتهى
وفيه ما عرفت من الصحيحة المذكورة آنفا (منه رحمه الله).
191

وأجيب بمنع العموم. لفقد اللفظ الدال عليه، ومع تسليمه فيقال: عامان
تعارضا من وجه فيجب الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر، والترجيح في جانب
الطهارة بالأصل والاجماع وقوة دلالة المنطوق على المفهوم. هكذا أجاب السيد
في المدارك.
ولا يخلو من نظر (أما أولا) فلأن منع العموم هنا مع تصريحه هو
(قدس سره) وغيره من محققي الأصحاب بل وغيرهم بأن المعرف بلام الجنس في كلام
الشارع عند عدم قرينة العهد للعموم قضية للحكمة ليس في محله، كيف؟ ولو تم المنع
المذكور لم يتم له الاستدلال بصحيحة حريز المتقدمة (1) وأمثالها في الطرف الآخر،
لجواز أن يراد بلفظ الماء فيها بعض أفراده وهو غير الجاري، بل قد استدل هو
نفسه (قدس سره) على مساواة مياه الحياض والأواني لغيرها في عدم انفعال الكر
منها بالعمومات الدالة على عدم انفعال الكر بالملاقاة مطلقا، ردا على ما ذهب
إليه المفيد في المقنعة وسلار، فيكف يمنع العموم هنا؟
وما ذكره المولى الأردبيلي (طاب ثراه) في المقام من أن القول بالمفهوم لا يستلزم
القول بعمومه هنا، لأن الخروج من العبث واللغو يحصل بعدم الحكم في بعض المسكوت عنه،
وذلك كاف وفيما نحن فيه يصدق أنه إذا لم يكن الماء كرا ينجسه شئ من النجاسات بالملاقاة
في الجملة، وذلك يكون في الراكد، وكفى ذلك لصحة المفهوم لو تم لبطل الاستدلال بهذا
المفهوم على نجاسة الماء القليل بالملاقاة، مع أنه عمدة أدلتهم على ذلك المطلب، وذلك
فإن مقتضى منطوق " إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شئ " (2) عدم تنجيس شئ من النجاسات

(1) في الصحيفة 179 السطر 1.
(2) تقدم الكلام في التعليقة 3 في الصحيفة 191
192

للماء بعد بلوغه كرا، ومفهومه تنجيس شئ له مع عدم البلوغ. ويكفي للخروج ممن العبث
واللغو كما ذكره (قدس سره) حصول الحكم في بعض المسكوت عنه، وهو تنجيسه
بالنجاسة المغيرة للماء، سيما مع كون (شئ) نكرة في سياق الاثبات، وهو خلاف
ما صرحوا به في المقام من إرادة العموم من لفظ (شئ) كما سيأتيك تحقيقه إن شاء
الله تعالى في بيان نجاسة الماء القليل بالملاقاة.
وبالجملة فكما أن لفظ (الماء) في المنطوق للعموم فكذا في المفهوم، ومثله لفظ
(شئ) فيهما، ودلالته على العموم بتقريب ما ذكرنا آنفا مما لا مجال لإنكاره.
و (أما ثانيا) فلأن ما ذكره من تعارض العمومين بناء على دلالة صحيحة
حريز وأمثالها (1) على أن كل ماء طاهر ما لم يتغير محل نظر، لعدم تسليم العموم
من تلك الأخبار كما أشرنا إليه (2) وسيأتيك إن شاء الله تعالى (3) ما فيه زيادة تنبيه
عليه، وحينئذ فلا عموم في ذلك الطرف ويبقى عموم المفهوم سالما من المعارض.
ثم إنه على تقدير تسليم العموم كما يدعونه فالأظهر تخصيصه بعموم المفهوم المؤيد
بمنطوق صحيحة علي بن جعفر المتقدمة (4)، وإلا فبالصحيحة المذكورة إن نوقش
في تخصيص العام بالمفهوم، بناء على منع بعض الأصوليين ذلك مطلقا أو إلا أن تكون
دلالته أقوى من دلالة العام على الفرد الذي يخصص به، فإنه يخصص به العام حينئذ،
وإلا فلا.

(1) المتقدمة في الصحيفة 179.
(2) في الصحيفة 189 السطر 3.
(3) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد دلالة الأخبار المستدل بها
على عدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة.
(4) في الصحيفة 191 السطر 12.
193

على أن التحقيق عندي كما سيأتيك بيانه إن شاء الله تعالى (1) أن دلالة
هذه الأخبار على نجاسة القليل بالملاقاة لا تنحصر في مفهوم مخالفتها، بل المتبادر منها
بقرينة المقام أن مقصودهم (عليهم السلام) بيان المعيار الفارق بين ما ينجس بملاقاة
النجاسة وبين ما لا ينجس، فههنا في التحقيق دلالتان كما سيتضح لك في محله
إن شاء الله تعالى.
و (أما ثالثا) فلأن ما ذكره من تعارض العمومين من وجه، فيه أن
الظاهر أن مراده من العمومين عموم المفهوم القائل: إن كل ماء قليل ينجس
بالملاقاة وعموم المنطوق الذي نطقت به الروايات الدالة على أن كل ماء لا ينجس ما لم
يتغير، القائل بأن كل ماء لا ينجس بمجرد الملاقاة.
وأنت خبير بأن النسبة بين هذين العمومين هو العموم والخصوص المطلق
لا من وجه. وعموم المفهوم أخص مطلقا. ومقتضى القاعدة المقررة تقديم العمل به
وتخصيص العام به، وحينئذ فالدليل عليه لا له.
و (أما رابعا) فلأن ترجيحه (قدس سره) جانب الطهارة بالاجماع مع أن الاجماع عندهم دليل قطعي فلا يحتاج معه إلى الترجيح محل نظر لا يخفى، فكان
الأولى أن يقول: ونقل الاجماع. هذا ما اقتضاه النظر العليل وخطر بالفكر الكليل
والاحتياط حيثما توجه أوضح سبيل.
(المقالة الخامسة) اشترط شيخنا الشهيد في الدروس في الجاري دوام النبع،
وتبعه في هذا الشرط الشيخ جمال الدين أحمد بن فهد في موجزه.
قال في الدروس: " ولا يشترط فيه الكرية على الأصح. نعم يشترط فيه

(1) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد الوجه الخامس من الوجوه
التي استدل بها المحدث الكاشاني على عدم انفعال الماء القليل بمجرد الملاقاة.
194

دوام النبع " فعنده الشرط فيه أحد الأمرين: أما الكرية أو دوام النبع.
واختلف كلام من تأخر عنه في فهم معنى هذا الكلام وما المراد منه.
فقيل: إن المراد بدوام النبع عدم الانقطاع في أثناء الزمان ككثير من المياه التي
تخرج زمن الشتاء وتجف في الصيف، وهو الذي صرح به شيخنا الشهيد الثاني في كتاب
روض الجنان، ولذلك اعترض عليه وطالبه بالدليل. ولا ريب أن هذا المعنى هو الأربط
باللفظ والأقرب إليه، لكونه المتبادر منه عرفا، ولكنه مما يقطع بفساده.
(أما الأول) فلأنه لا شاهد له في الأخبار، ولا يساعد عليه الاعتبار، فهو
تخصيص لعموم الأدلة بمجرد التشهي.
و (أما ثانيا) فلأن الدوام بالمعنى المذكور، إن أريد به ما يعم الزمان كله
فلا ريب في بطلانه، إذ لا سبيل إلى العلم به، وإن خص ببعضها فهو مجرد تحكم.
وبالجملة فالظاهر أن فساده مما لا يخفى على ذلك المحقق النحرير، فساحة شأنه أجل
من أن يجري منه به قلم التحرير.
وقيل: إن المراد بدوام النبع استمراره حال ملاقاة النجاسة، وهذا هو الذي
ذكره المحقق الشيخ علي بعد أن أطال في التشنيع على من فسر تلك العبارة بالمعنى الأول
واستحسن هذا المعنى جملة ممن تأخر عنه، وهو وإن كان خلاف ظاهر اللفظ إلا أنه
في حد ذاته مستقيم، إذ متى كان حال ملاقاة النجاسة غير مستمر النبع كان بمنزلة
القليل. وأنت خبير بأن مرجعه إلى اعتبار المادة، وحينئذ فلا يزيد على اشتراط الجريان
إذ الجاري كما عرفت هو النابع، فزيادة هذا القيد حينئذ ليس بمحل من الفائدة.
وبعض محققي متأخري المتأخرين وجه كلام المحقق المذكور فقال بعد نقله
واستحسانه: " وتقريبه أن عدم الانفعال بالملاقاة في قليل الجاري معلق بوجود المادة كما
علمت، فلا بد في الحكم بعدم الانفعال فيه من العلم بوجودها حال ملاقاة النجاسة،
195

وربما يتخلف ذلك في بعض أفراد النابع كالقليل الذي يخرج بطريق الترشح (1) فإن
العلم بوجود المادة فيه عند ملاقاة النجاسة مشكل، لأنه يترشح آنا فآنا، فليس له فيما
بين الزمانين مادة، وهذا يقتضي الشك في وجودها عند الملاقاة فلا يعلم حصول الشرط
واللازم من ذلك الحكم بالانفعال بها عملا بعموم ما دل على انفعال القليل، لسلامته
حينئذ عن معارضة وجود المادة، ولا يخفى أن اشتراط استمرار النبع يخرج مثل هذا
ولولاه لكان داخلا في عموم النابع، لصدق اسمه عليه. وهذا التقريب وإن اقتضى
تصحيح الاشتراط المذكور في الجملة إلا أنه ليس بحاسم لمادة الاشكال، من حيث إن
ما هذا شأنه في عدم العلم بوجود المادة له عند الملاقاة ربما حصل له في بعض الأوقات قوة
بحيث يظهر فيه أثر وجود المادة، واللازم حينئذ عدم انفعاله، مع أن ظاهر الشرط يقتضي
نجاسته. ويمكن أن يقال: إن الشرط منزل على الغالب من عدم العلم بوجود المادة
في مثله وقت الملاقاة، ويكون حكم ذلك الفرض النادر محالا على الاعتبار، وهو شاهد
بمساواته للمستمر " انتهى كلامه زيد مقامه.
وفسر بعض الفضلاء المحدثين من متأخري المتأخرين النابع على وجوه:
(أحدها) أن ينبغ الماء حتى يبلغ حدا معينا ثم يقف ولا ينبغ ثانيا إلا بعد
اخراج بعض الماء.
و (ثانيها) أن لا ينبع ثانيا إلا بعد حفر جديد كما هو المشاهد في بعض
الأراضي.
و (ثالثها) أن ينبع الماء ولا يقف إلى حد كما في العيون الجارية، قال:
" وشمول الأخبار المستفاد منها حكم الجاري للوجه الثاني غير واضح، فيبقى تحت

(1) هذا الكلام مما يدل على كون الماء الخارج بطريق الرشح من جملة النابع كما
صرحنا به في المقالة الأولى (منه قدس سره).
196

ما يدل على اعتبار الكرية، وكأن مراد شيخنا الشهيد (رحمه الله) ما ذكرنا، وبذلك
اندفع عنه ما أورد عليه " انتهى.
(المقالة السادسة) قد عرفت مما تقدم (1) أنه لا خلاف ولا اشكال في أن
الجاري ينجس مع استيلاء النجاسة وغلبتها على أحد أوصافه الثلاثة، وحينئذ فإن تغير
بعضه اختص بالتنجيس إلا أن يكون الماء ممتدا وينقص ما تحت المتغير عن الكر
ويستوعب التغير عمود الماء وهو خط ما بين حافيته عرضا وعمقا فينجس ما تحت
المتغير أيضا، لتحقق الانفصال.
وناقش بعض محققي متأخري المتأخرين في الحكم بنجاسة ما تحت المتغير
في الصورة المذكورة، حيث قال بعد نقل الحكم المذكور: " وهذا الحكم وإن
كان مشهورا فيما بين المتأخرين لكن ليس له وجه ظاهر، إذ يتخيل حينئذ أنه ينقطع
اتصاله بما فوق فيصير في حكم القليل. وليس بمسلم، إذ الانقطاع إنما يحصل بانقطاع
الماء وعدم جريانه إليه بالاتصال. وفيما نحن فيه ليس كذلك، إذ الماء يجري
إلى ما تحت، غايته في البين ماء نجس. والحاصل أن الأصل الطهارة وعموم دلائل
انفعال القليل قد عرفت حاله، فلا بد في نجاسة هذا الماء من دليل، ولا دليل عليه إلا أن يتمسك بالشهرة أو عدم القول بالفصل. وفي الكل نظر لكن الاحتياط
فيه " انتهى.
وهو غريب، فإنه إن سلم نجاسة القليل بالملاقاة كما يعطيه صدر كلامه
فلا ريب أنه يصدق على هذا الماء كونه كذلك. واتصاله بالجاري بواسطة الماء المتغير
بالنجاسة على الوجه المذكور ليس باتصال. وإن منعها أو منع عموم أدلتها على وجه
يشمل موضع البحث فهي مسألة أخرى يأتي تحقيقها إن شاء الله تعالى (2).

(1) في المقالة الثالثة في الصحيفة 178.
(2) يأتي تحقيق نجاسة القليل بالملاقاة وعدمها في المقام الأول من الفصل الثالث
ويأتي الكلام في عموم أدلة النجاسة بالملاقاة لموضع البحث وعدمه في المقام الرابع
من الفصل الثالث.
197

ثم إن للحكم المذكور زيادة على ما ذكرنا صورا تختلف باختلاف الأصحاب
(رضوان الله عليهم) في اعتبار استواء السطوح وعدمه كما سيأتي تفصيله إن شاء
الله تعالى (1).
وجملة صور المسألة أن يقال: إذا تغير بعض الجاري فإما أن يكون متساوي
السطوح أو لا، وعلى التقديرين إما أن يقطع التغير عمود الماء على ما قدمنا (2) أو لا
وعلى الأول إما أن يبلغ ما ينحدر عن المتغير مقدار الكر أو لا. فهذه صور ست:
(الأولى) كون السطوح متساوية ولا يقطع التغير عمود الماء. ولا
اشكال في اختصاص المتغير بالتنجيس إذا بلغ الباقي كرا، ومع عدمه فيبنى على الخلاف
المتقدم (3) من اشتراط كرية الجاري في عدم الانفعال وعدمه.
(الثانية) الصورة بحالها ولكن استوعبت النجاسة عمود الماء وكان المنحدر
عن المتغير كرا، وحينئذ فما فوق المتغير مما يلي المادة إن كان أكثر من كر فالحكم
كما في الصورة الأولى، وإلا بني على الخلاف المتقدم (4) أيضا.
وربما قيل هنا بعدم انفعاله لو كان قليلا وإن اعتبرت الكرية، معللا بأن جهة
المادة في الجاري أعلى سطحا من المتنجس فلا ينفعل به. ورد بأنه ليس بشئ، لأن
الجريان يتحقق مع مساواة السطوح كما يشهد به العيان.
(الثالثة) الصورة الثانية بحالها إلا أن ما ينحدر عن المتغير دون الكر،

(1) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.
(2) في الصحيفة 197 السطر 6.
(3) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
(4) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
198

ولا ريب في نجاسته مع المتغير، لقلته وانفعاله، وحكم ما فوق المتغير كما في سابقتها.
واحتمل بعض المحدثين (1) عدم تنجس ما تحت المتغير، قال: " لأنه هارب عن المتغير
واستلزام مجرد الاتصال التنجيس غير ثابت " انتهى.
(الرابعة) أن تختلف السطوح ولم تستوعب النجاسة عمود الماء، وحكمها
كما في الصورة الأولى.
(الخامسة) الصورة بحالها ولكن استوعب النجاسة عمود الماء وكان ما بعد
المتغير مما يبلغ الكر، والكلام في هذه الصورة مبني على الخلاف الآتي بيانه إن شاء
الله تعالى (2) في اشتراط استواء سطوح مقدار الكر من الواقف وعدمه، فعلى
الاشتراط ينجس ما تحت المتغير أيضا، وعلى تقدير عدمه يختص التنجيس بالمتغير.
وأما فوق المتغير فإن كان فوقيته محسوسة فهو طاهر قطعا وإن اعتبرنا الكرية
في الجاري وكان أقل من كر، لأنه أعلى من النجس فلا يؤثر فيه، وإن كان أنزل
فيبنى على الخلاف المتقدم (3).
(السادسة) الصورة بحالها ولكن المنحدر عن المتغير أقل من كر، ولا ريب
في نجاسته. وحكم ما فوق المتغير كما في سابقتها. والاحتمال المتقدم (4) جار هنا أيضا
هذا كله لو كان الماء ممتدا في قناة ونحوها. أما لو كان مجتمعا في مكانه الذي يخرج منه
كمياه العيون الغير الممتدة فإنه يختص التنجيس بالموضع المتغير أن كان الباقي كرا
وإلا بني على الخلاف المتقدم (5) وربما أمكن أيضا فرض الصور الثلاث الأول لو اتسع

(1) هو المحدث الأمين الأسترآبادي (قده) وسيجئ في كلامه (منه قدس سره).
(2) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.
(3) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
(4) في الصحيفة الثالثة.
(5) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
199

المكان الذي فيه الماء على الينابيع التي تخرج من الأرض.
ثم أعلم أنه لا وجه هنا بناء على المشهور لاعتبار استواء السطوح في عدم الانفعال
بالملاقاة كما سيأتي في الكثير من الراكد، لكن يتجه على قول العلامة باعتبار ذلك
في كثير الراكد عند ملاقاة النجاسة، بناء على ما صرح به في التذكرة كما سيأتي
ذكره إن شاء الله تعالى اعتبار ذلك هنا أيضا في مقدار الكر من الجاري، لقوله
بانفعاله بالملاقاة. لكنه (رحمه الله) في جملة من كتبه أطلق القول عند تغير البعض
من الجاري باختصاص النجاسة بالمتغير دون ما فوقه وما تحته تساوت سطوحه أو اختلفت
وهو لا يخلو من تدافع. إلا أن يقال: إن اجماله في الكلام هنا إحالة على ما علم
تفصيله بالتأمل في مقتضى قواعده المقررة في تلك المسألة (1).
واعتذر عنه بعض محققي متأخري المتأخرين بأن عدم تعرضه هنا لذلك كأنه
يرى للجاري خصوصية عن الواقف في الجملة وإن شاركه في انفعال قليله بالملاقاة،
ولعل الخصوصية كون الغالب فيه عدم الاستواء، فلو اعتبرت المساواة على حد
ما ذكره في الواقف، للزم الحكم بتنجيس الأنهار العظيمة بملاقاة النجاسة أوائلها التي
تبلغ مقدار الكر ولو بضميمة ما فوقها، وذلك معلوم الانتفاء.

(1) قال في القواعد: " ولو تغير بعضه بها نجس دون ما قبله وما بعده ". وقال الشيخ
علي (ره) في شرحه بعد كلام في المقام: " واطلاق عبارة المصنف تخرج على المذهب
الأصحاب لا على اشتراط الكرية في الجاري، وهكذا صنع في غير ذلك من مسائل
الجاري " انتهى. وقال في التذكرة: " لو تغير الجاري اختص المتغير منه بالتنجيس وكان
غيره طاهرا، ثم قال: الثاني - لو كان الجاري أقل من كر نجس بالملاقاة للملاقى وما تحته
وفي أحد قولي الشافعي أنه لا ينجس إلا بالتغير " انتهى. فانظر إلى هذا الاختلاف. ويحتمل
أن يكون اطلاقه في جميع هذه الموارد محمولا على الجاري الذي هو كر فصاعدا وأن الباقي
بعد التغير لو تغير بعضه كر فصاعدا. والله العالم (منه رحمه الله). (25)
200

(المقالة السابعة) قد عرفت (1) أن الجاري مطلقا بناء على المشهور لا
ينجس إلا بتغيره، وحينئذ فطهره، على ما صرح به الأصحاب من غير خلاف فيه
بينهم بتدافع الماء من المادة وكثرته عليه حتى يستهلكه ويزول التغير، هذا إن
اشترطنا في تطهير الماء الامتزاج كما هو أحد القولين، وإن اكتفي بمجرد الاتصال كما
هو القول الآخر اكتفي بمجرد زوال التغير، لمكان المادة، وبذلك صرح جمع
من متأخري المتأخرين منهم: السيد في المدارك.
ونقل عن بعض الأصحاب أنه بناء على القول الأخير يتوقف طهره هنا على التدافع
والكثرة، نظرا إلى أن الاتصال المعتبر في التطهير هو الحاصل بطريق العلو أو المساواة
وذلك بالنسبة إلى المادة غير متحقق، لأنها باعتبار خروجها من الأرض لا تكون
إلا أسفل منه (2) وفي التعليل منع ظاهر.
واعلم أنا لم نقف في شئ من الأخبار على تطهير الماء النجس سوى ما ورد
في البئر وفي باب الحمام.
ويمكن الاستدلال هنا على الطهارة بالوجه المذكور بما رواه ثقة الاسلام
في الكافي (3) عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن ماء الحمام

(1) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
(2) والظاهر أنه إلى هذا القول يميل كلام المحقق الشيخ حسن (قدس سره) في كتاب
المعالم، حيث قال - بعد نقل القول المذكور ونقل القول بالاكتفاء بمجرد زوال التغير -
ما صورته: " والتحقيق أنه إن كان للمادة نوع علو على الماء النجس أو مساواة فالمتجه الحكم
بالطهارة عند زوال التغير بناء على الاكتفاء بالاتصال، وإلا فاشتراط التكاثر والتدافع
متعين " انتهى. وهو ذلك القول بعينه إلا أن فيه استدراكا على ذلك القائل، حيث إن
ظاهر كلامه أن المادة لا تكون إلا أسفل وأوجب التدافع والتكاثر، مع أن المادة قد تكون
أعلى أو مساوية بأن تكون في أرض مرتفعة كما ذكر المحقق المذكور (منه رحمه الله).
(3) في الباب - 10 - من كتاب الطهارة وفي الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الماء
المطلق من كتاب الطهارة.
201

كماء النهر يطهر بعضه بعضا ".
هذا على تقدير القول المشهور، وأما على ما مذهب إليه العلامة من اشتراط
الكرية في عدم الانفعال، ففيه اشكال، لأنه متى تغير الجاري على وجه لا يبلغ الباقي
كرا فلا يطهر إلا بمطهر من خارج، لأن ما يخرج بالنبع لا يكون إلا قليلا فينفعل
بالملاقاة بعد خروجه، وهكذا فيما يخرج دفعة ثانية وثالثة وهكذا، فلا يتصور
حصول الطهارة به وإن استهلك المتغير، لأن الاستهلاك بماء محكوم بنجاسته كما عرفت.
وقد أطلق (قدس سره) في كتبه طهارة الجاري المتغير بتكاثر الماء وتدافعه حتى يزول
التغير، وعلله في المنتهى والتذكرة بأن الطارئ لا يقبل النجاسة لجريانه، والمتغير
مستهلك فيه (1) وأنت خبير بما فيه، قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين بعد
ايراد ذلك على قوله " ويمكن أن يجعل هذا من جملة الأدلة على بطلان تلك
الدعوى " انتهى.
(المقالة الثامنة) قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن حكم ماء
الحمام كالجاري إذا كان له مادة، قالوا: والمراد بماء الحمال يعني ما في حياضه
الصغار. ثم اختلفوا في اشتراط الكرية في المادة وعدمه، وحينئذ فالبحث هنا يقع
في مواضع ثلاثة:

(1) ويظهر - من كلام العلامة (ره) في حكم تغير البئر - أنه يرى تعين النزح وإن أمكن
إزالة التغير بغيره، وحمله بعضهم على أنه ناظر إلى اشتراط الكرية في عدم انفعاله بكونه
من جملة أنواع الجاري الذي يعتبر فيه الكرية، فلا تصلح المادة بمجردها للتطهير حيث
يزول التغير، قال في المعالم بعد نقل ذلك: " ولا يذهب عليك أن حكمه - بحصول الطهارة
بمثل النزح في مطلق الجاري الذي هو العنوان في الاشتراط - يباين هذا الحمل وينافيه،
ولو نظر إلى ذلك في حكم البئر لكان مورد الشرط أعني مطلق الجاري أحق بهذا النظر " انتهى
(منه رحمه الله).
202

(الأول) في بيان كونه كالحاري، والظاهر أن المراد من التشبيه عدم
نجاسة ما في حياضه الصغار بالملاقاة عند الاتصال بالمادة.
ويدل على أصل الحكم صحيحة داود بن سرحان (1) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري ".
ورواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) " قلت: أخبرني عن ماء
الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال: إن ماء
الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا ".
ورواية بكر بن حبيب عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) قال: " ماء الحمام
لا بأس به إذا كانت له مادة ".
وما رواه في كتاب قرب الإسناد (4) عن إسماعيل بن جابر عن أبي الحسن
الأول (عليه السلام) قال: ابتدأني فقال: " ماء الحمام لا ينجسه شئ ".
وما في كتاب الفقه الرضوي (5) قال (عليه السلام): " وماء الحمام سبيله
سبيل الجاري إذا كانت له مادة ".
وربما أمكن تطرق الاشكال إلى هذا الاستدلال بأن ذلك لا يتم إلا بعد معرفة
الحيضان التي كانت في زمنهم (عليهم السلام) على أي كيفية كانت؟ إذ الظاهر أن
الأسئلة كانت عن ماء الحمام المعهود عندهم، سيما أن أصل الإضافة للعهد، لكن
لا يخفى أن ضم الأخبار المشتملة على اشتراط المادة إلى الأخبار الباقية يعطي بظاهره

(1) المروية في الوسائل في باب - 7 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في باب - 7 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في باب - 7 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(4) في الصحيفة 128 السطر 9 من المطبوع بطهران سنة 1370، وفي الوسائل
في الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(5) في الصحيفة 4 السطر 32.
203

ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) من أن المراد بماء الحمام ما في حياضه الصغار
التي لا تبلغ الكر، والمادة عبارة عن الحوض الكبير الذي يجري منه الماء إلى الحياض
الصغار، ولهذا تضمن الخبر الأخير (1) اشتراط مشابهة الجاري بوجود المادة له،
ورواية بكر بن حبيب (2) نفي البأس عنه بشرط المادة. والمراد في الخبرين اتصالها به
إذ مع عدمه يلحقه حكم القليل حينئذ.
ومما ذكرنا علم الكلام في الموضع الثاني أيضا.
وأما الموضع الثالث فالمشهور بين الأصحاب اشتراط الكرية في المادة استنادا
إلى أنه مع عدم الكرية يدخل تحت القليل فينفعل بالملاقاة.
وذهب المحقق في المعتبر إلى عدم اعتبار كثرة المادة وقلتها، لكن لو تنجس
ما في الحياض لم يطهر بمجرد جريانها (3) إليه.
ويدل عليه اطلاق صحيحة داود بن سرحان (4) فإن جعله بمنزلة الجاري
كالصريح في عدم اشتراط الكرية، واطلاق رواية بكر بن حبيب (5) فإن المادة
فيها أعم من كونها كرا أو دونه.
وأجيب عن الأولى بعدم التعرض فيها للمادة ولا للقلة والكثرة. وأما الثانية

(1) وهو حديث الفقه الرضوي المتقدم في الصحيفة 203 السطر 12.
(2) المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 8.
(3) ظاهر كلام المحقق (ره) أن عدم اعتبار قلة المادة وكثرتها مع اتصالها بالحوض
الصغير إنما هو لعدم انفعال المجموع بما يلاقيه من النجاسة، وأنه كالجاري لذلك وإن
قل الجميع عن الكر. أما لو انفصلت المادة عن الحوض فتنجس ماء الحوض، لم يطهر
بمجرد اجراء تلك المادة إليه بل لا بد من كريتها حينئذ، ويكون حكم الحمام حينئذ حكم غيره
من الماء القليل إذا أريد تطهير، فإنه لا بد من القاء الكر عليه دفعة على ما في ذلك من التفاصيل
الآتية (منه قدس سره).
(4) المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 3.
(5) المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 8.
204

فبضعف السند أولا، وحمل اطلاق المادة فيها على ما هو الغالب من أكثرية المادة كما
هو الآن موجود، أو إرادة الكثرة من لفظ المادة لاشعارها بذلك. ولئن سلمنا
العموم في كلا الخبرين فلا ريب أن عموم اشتراط الكرية أقوى دلالة فيجب تخصيص
هذا العموم به.
ويرد على ذلك أن عدم التعرض للمادة والقلة والكثرة لا ينفي صحة الاستدلال
بالخبر باعتبار عمومه، وتنزيله منزلة الجاري في الخبر المذكور أخرجه عن حكم القليل،
فلا يلزم من الحكم بانفعال القليل بالملاقاة الحكم بانفعاله، فإنه كما خرج ماء الاستنجاء
وماء المطر عن قاعدة الماء القليل بنص خاص، فكذا ماء الحمام ينبغي خروجه بمقتضى
النص المذكور. نعم يخرج منه القليل الذي لم يتصل بالمادة أصلا بناء على القول بنجاسة
القليل بالملاقاة باجماع القائلين بذلك عليه، ويبقى غيره داخلا في عموم الخبر.
وبالجملة فهذه الروايات أخص موضوعا من الروايات الدالة على انفعال القليل
بالملاقاة، ومقتضى القاعدة تخصيص تلك بهذه لا العكس.
وأما ضعف السند في الرواية الثانية (1) فيدفعه جبر ذلك بعمل الأصحاب كما
هو مقرر بينهم، وكلا الأمرين اصطلاحيان. والحمل على الغالب خلاف الظاهر
وخلاف مدلول تلك الصحيحة المذكورة (2).
وإلى هذا القول (3) مال جملة من المتأخرين ومتأخريهم (4).

(1) وهي رواية بكر بن حبيب المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 8.
(2) وهي صحيحة داود بن سرحان المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 3.
(3) وأيد هذا القول بعضهم بالعمومات الدالة على طهارة مطلق الماء، والعمومات
الدالة على طهارة مطلق الماء ما لم يتغير (منه رحمه الله).
(4) منهم: شيخنا البهائي (قدس سره) في كتاب الحبل المتين، فإنه نفى عند البعد
وأيده بنحو ما ذكرنا. والمحدث الكاشاني في الوافي، والمحدث الأسترآبادي في تعليقاته
على المدارك، والفاضل الخراساني في الذخيرة والكفاية (منه قدس سره).
205

وربما بنى ذلك بعضهم على قاعدة الفرق في نجاسة الماء القليل بين ورود النجاسة عليه
ووروده على النجاسة، فحكم هنا بعدم النجاسة من حيث ورود الماء على النجاسة،
وجعل ذلك هو السر في عدم تنجس ماء الحمام بمجرد الملاقاة وفي طهارة ماء الاستنجاء،
قال: " فلا حاجة حينئذ إلى اعتبار كرية المادة بل ولا كرية المجموع من المادة وما
في الحوض والماء النازل " ثم اعترض على نفسه بأن النجاسة ههنا واردة على ماء الحوض
وأجاب بأن المفروض ورود الماء من المادة على ماء الحوض وتسلطه على ماء الحوض
وعلى ما يصيبه من القذر، فلم تكن النجاسة واردة على ما هو حافظ لطهارة ماء الحوض
بل الأمر بالعكس، ثم قال: " وقد اتضح مما ذكرناه أن على مذهب من يخص
تنجيس القليل بصورة ورود النجاسة عليه يتجه القول بعدم اشتراط الكرية في مادة
الحمام " انتهى.
و (فيه أولا) أنه إن استند في استثناء ماء الحمام من قاعدة تنجس القليل
بالملاقاة إلى هذه الأخبار فهي لا اشعار فيها بهذا التخصيص، بل مقتضى ظاهر
التشبيه بالجاري هو عدم الانفعال مطلقا، وكذا ظاهر نفي البأس مع وجود المادة،
وكذا ظاهر قوله في رواية قرب الإسناد (1): " لا ينجسه شئ " فإن ذلك كله يدل
بظاهره على عدم انفعاله بالملاقاة كيف كانت.
و (ثانيا) أم ما ذكره إنما يتم لو كان الماء الجاري من المادة إلى الحوض
الصغير آتيا عليه من أعلاه. أما لو كان آتيا من أسفله كما هو معمول في كثر
من الحياض فلا يتم ما ذكره. مع أن ورود المادة على الحوض الصغير أعم من أن
يكون من جهة العلو أو السفل.
و (ثالثا) أنه لا يظهر حينئذ التشبيه بالجاري هنا مزية، إذ متى كان

(1) المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 10.
206

حكمه حكم الماء القليل في تنجسه بورود النجاسة عليه دون وروده عليها كما هو مختاره
في الماء القليل مطلقا فأي ثمرة لهذا التشبيه؟ فإن ما ذكره حكم عام للماء القليل
بجميع أفراده وهذا أحدها، بل الظاهر والله سبحانه وأولياؤه أعلم من تلك
الأخبار المتقدمة (1) الدال بعضها على أنه كالجاري مطلقا، وبعضها أنه كماء النهر
يطهر بعضه بعضا، وبعضها أنه لا ينجسه شئ مطلقا وأن دل دليل من الخارج
على تخصيصه بالتغير بالنجاسة، وبعضها على نفي البأس عنه بشرط المادة أن لماء الحمام
خصوصية يمتاز بها عن مطلق الماء القليل، وليس ذلك إلا باعتبار عدم انفعاله بالملاقاة
وإن قل، بخلاف مطلق الماء القليل، وإن خص انفعال مطلق القليل بورود النجاسة
عليه دون العكس، كما اختاره القائل المذكور وفاقا لمن سبقه في ذلك أيضا، فلا بد
هنا من اعتبار عدم الانفعال مطلقا مع القلة ورد على النجاسة أو وردت عليه تحقيقا
للخصوصية المميزة المستفاد من تلك الأخبار.
وينبغي التنبيه هنا على أمور:
(الأول) هل يشترط بناء على القول بكرية المادة بلوغ المادة وحدها كرا
لتعصم ما في الحياض عن الانفعال بالنجاسة بعد الاتصال، أو يكفي بلوغ المجموع منها
ومما في الحياض كرا مع تواصلهما مطلقا؟
ظاهر أكثر المتأخرين حيث أطلقوا القول بكرية المادة الأول، مع أنهم
أطلقوا القول بأن الغديرين إذا وصل بينهما بساقية وكان مجموعهما مع الساقية كرا، لم
ينفعلا بملاقاة النجاسة. وذلك يقتضي أن يكون حكم الحمام أغلظ، مع أنه ليس
كذلك، لما عرفت من الأخبار المتقدمة (2).

(1) في الصحيفة 203.
(2) في الصحيفة 203.
207

وربما أجيب بأن اطلاق القول بكرية المادة في الحمام محمول على ما إذا لم يكونا
متساويين بناء على الغالب من علو المادة. فأما مع التساوي فيكفي بلوغ المجموع كرا
ونقل في المعالم عن بعض الأصحاب التصريح بالتفصيل المذكور، ثم قال: " وهو
الأجود " واطلاق القول في الغديرين محمول على المتساويين.
ورد بأن العلامة أيضا قد صرح في الغديرين المختلفين بتقوي الأسفل بالأعلى.
وأجيب عنه بحمل الاختلاف في الصورة المذكورة على ما إذا كان بطريق
الانحدار دون التسنم من ميزاب ونحوه. والغالب في الحمام هو الثاني، وحينئذ
فاطلاق القول في الغديرين محمول أما على التساوي أو على الاختلاف الحاصل بالانحدار،
فإنه متى كان كذلك لم ينفعل شئ منهما، واطلاق القول في الحمام محمول على الاختلاف
الحاصل بالتسنم من ميزاب ونحوه (1).
ولا يخفى ما في هذه التقييدات من التكلف والتمحل، وكأن محصل الفرق
المذكور على هذا التقرير دخول الماء المتساوي السطوح والمختلف على وجه الانحدار
في الأخبار الدالة على عدم نجاسة الكر بالملاقاة، ومرجعه إلى حصول الوحدة في الماء
على وجه يكون داخلا تحت تلك الأخبار. وأما إذا كان متسنما من ميزاب ونحوه
فإنه ليس كذلك فلا يدخل تحت تلك الأخبار. فاعتبرت كرية المادة في الحمام لكون اتيانها

(1) وأجاب بعض متأخري الأصحاب بأن اطلاق الأصحاب اشتراط كرية المادة
مبني على الغالب من كثرة الأخذ من ماء الحوض، فلو لم تكن المادة وحدها كرا لنقص
بالأخذ وانفعل، وإلا فالاجماع قائم على أنه يكفي بلوغ المجموع كرا وإن اختلفت السطوح
ولا يخفى ما فيه حق أن صاحب المعالم عده من المجازفات العجيبة. وبعض آخر عد اطلاق
اشتراط الكرية في المادة قولا مغايرا للتفصيل باستواء السطوح وعدمه، ومقتضى ذلك
وجود القائل باشتراط كرية المادة وحدها وإن استوت السطوح. ولا يخفى ما بين القولين
المذكورين من التباعد (منه رحمه الله).
208

على الحياض على ذلك الوجه المقتضي لعدم اتحادها مع ما في الحياض. ولا يخفى ما في
هذا التقييد من المخالفة لاطلاق النص واطلاق كلام الأصحاب.
فالتحقيق هو ما قدمنا (1) من عدم اعتبار كرية المادة، وأن هذا الحكم خارج
بالنص، فلا يحتاج إلى ارتكاب هذه التمحلات. على أنه قد صرح المحدث الأمين
الأسترآبادي (قدس سره) بأن المستفاد من روايات باب الكر تقوي كل جزء منه
بالباقي، قال: " وهذا المعنى موجود في الساكن دون غيره. لعدم تقوي الأعلى بالأسفل
في غير الساكن، بل اعتبر الشيخ المحقق ابن العالم الرباني الشهيد الثاني (رحمهما الله تعالى)
في كتاب المعالم تقارب أجزاء الماء كما تشعر به روايات هذا الباب ليحصل التقوى
المذكور، فإن مع تقارب أجزاء الماء النجاسة الواردة عليه تنتشر وتتوزع عليها ". انتهى
كلامه (زيد مقامه).
وأجاب بعض فضلاء متأخري المتأخرين بأن الغرض من اشتراط الكرية
في المادة وحدها لتطهير الحوض الصغير لا لمجرد عدم انفعالها.
ونقل السيد في المدارك عن جده في فوائد القواعد الثاني، لعموم قوله
(عليه السلام) في عدة أخبار صحيحة (2): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ "
قال: " وهو متجه، وعلى هذا فلا فرق بين ماء الحمام وغيره " انتهى.
أقول: وهذا القول من شيخنا الشهيد الثاني (رحمه الله) متجه على ما اختاره
مما سيأتي ذكره (3) من الحكم بالوحدة بمجرد الاتصال، وأن استواء سطح الماء غير
معتبر في الكر، فلو بلغ الماء المتواصل المختلف السطوح كرا لم ينفعل شئ منه بالملاقاة

(1) في الموضع الثالث في الصحيفة 204.
(2) رواها صاحب الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.
209

سواء في ذلك الأعلى والأسفل، وسيأتي تحقيق القول في ذلك أن شاء الله تعالى.
هذا. وظاهر العلامة في التحرير اعتبار زيادة المادة عن الكر، حيث قال
بعد الكلام في الجاري: " وحكم ماء الحمام حكمه إذا كان له مادة تزيد على الكر " انتهى
وهو غريب (1).
(الثاني) لو انفصل ماء المادة عن الحوض وتنجس ماؤه، فهل يطهر بمجرد
اتصال المادة به أم يشترط فيه الامتزاج والغلبة؟ وجهان بل قولان مبنيان على الكلام
في تطهير القليل بالقاء الكر عليه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (2).
واختار العلامة في التذكرة والمنتهى هنا الثاني، واحتج عليه في المنتهى
بأن الصادق (عليه السلام) حكم بأنه بمنزلة الجاري (3)، ولو تنجس الجاري لم يطهر
إلا باستيلاء الماء عليه بحيث يزيل انفعاله. مع أنه (قد) في التحرير والمنتهى
والنهاية في مسألة الغديرين حكم بطهارة النجس منهما باتصاله بالبالغ كرا، وهو مناقض
لما حكم به في هذه المسألة، لأن المسألتين من باب واحد. كذا أورده عليه جمع
من المتأخرين.

(1) وقد تلخص مما ذكرنا من البحث أن الأقوال في المادة خمسة: (أحدها) - ما هو
المشهور من اعتبار الكرية فيها وحدها حملا لها على التسنم كما اعتبروه وحكموا عليه بالاطلاق
(الثاني) - الاكتفاء ببلوغها مع ما في الحوض كرا أيضا، وهو قول الشيخ الشهيد الثاني
(الثالث) - عدم اعتبار الكرية ولو نقصت هي مع ما في الحوض عن الكر، وهو ظاهر
المحقق والمؤيد بظواهر الأخبار (الرابع) - هو الثالث بعينه لكنه بشرط ورود الماء
على النجاسة، وهو اختيار المحدث الأمين الأسترآبادي. و (خامسها) - ما في التحرير من
الزيادة على الكر (منه رحمه الله).
(2) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.
(3) في صحيحة دارد بن سرحان المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 3.
210

ويمكن الجواب عنه (أولا) - بأن ظاهر استدلاله في المنتهى بالخبر
المذكور على الممازجة في ماء الحمام اختصاص الحكم المذكور بالحمام، لما ذكره الخبر،
فكأن حكم الحمام عنده في المسألة المذكورة مستثنى من مواضع تطهير القليل.
و (ثانيا) أنك قد عرفت أيضا (1) تقييد اطلاق القول في الغديرين بالحمل
على المتساويين أو المختلفين بطريق الانحدار دون التسنم، فيمكن حمل كلامه هنا
في تلك الكتب بالاكتفاء بمجرد الاتصال على ذلك، بخلاف الحمام، لما عرفت
سابقا (2) من كون جريان المادة في الأغلب بطريق التسنم، فلا بد فيه من الممازجة.
واختار جماعة منهم: شيخنا الشهيد الثاني الأول، بناء على أصله المشار إليه
آنفا (3) ونقل أيضا عن المحقق الشيخ علي (رحمه الله) وإليه مال في المدارك أيضا،
واستدلوا على ذلك بما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في مسألة تطهير القليل (4).
ولعل الأظهر هنا الثاني، لأن يقين النجاسة لا يحكم بارتفاعه إلا بدلالة معتبرة،
والارتفاع بالممازجة مجمع عليه، مع اشعار جملة من النصوص به كما سيأتي ذكره إن شاء
الله تعالى (5) مع تحقيق في المقام يكشف عن هذه المسألة وأمثالها نقاب الابهام.
(الثالث) هل يشترط في تطهير الحوض زيادة المادة على الكر بمقدار
ما تحصل به الممازجة والغلبة (6) بناء على اشتراط الممازجة. أو بمقدار الماء المنحدر

(1) في الأمر الأول في الصحيفة 207.
(2) في الأمر الأول في الصحيفة 207.
(3) في الصحيفة 209 السطر 16.
(4) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.
(5) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.
(6) فلو اتصل بها على وجه لم تحصل الممازجة ونقص الباقي عن الكر، تنجس حينئذ
وحينئذ فما لم تحصل الممازجة والحوض باق على النجاسة لا بد من كون الباقي على قدر يعصمه
من النجاسة وبالجملة فإنه يشترط الزيادة على الكرية ما دام الحوض باقيا على النجاسة. فماذا
حصلت الممازجة كفى كون الباقي كرا (منه رحمه الله).
211

للحوض المتصل به (1) بناء على مجدر الاتصال أم لا؟ قولان.
صرح بالأول المحقق الشيخ علي والشهيد الثاني، وعللاه بأنها لو كانت كرا
فقط لكان ورود شئ منها على الحياض موجبا لخروجها عن الكرية، إذ المعتبر
كرية المادة بعد الملاقاة، فتقبل الانفعال حينئذ، وهو صريح التحرير كما تقدم (2).
وبالثاني صرح السيد السند في المدارك، قال (قدس سره): " الظاهر
الاكتفاء في تطهير ما في الحياض بكيرة المادة، ولا يشترط زيادتها على الكر، وبه
صرح في المنتهى في مسألة الغديرين، ويلوح من اشتراطهم في تطهير القليل القاء
كر عليه دفعة اعتبار زيادة المادة على الكر هنا " انتهى.
وفيه أنك قد عرفت سابقا (3) من مقتضى الجمع بين اطلاقي القول بكرية المادة
والقول بالاكتفاء في الغديرين بحصول الكرية من مجموعهما ومن الساقية تقييد المادة
بالتسنم، ومن ثم اعتبر فيها الكرية على حدة، وتقييد الغديرين بالتساوي أو الاختلاف
على جهة الانحدار، ومن ثم اكتفي بكرية المجموع. وبذلك يظهر لك ما في كلامه
من الاستناد إلى ما صرح به في المنتهى في مسألة الغديرين.
نعم لقائل أن يقول: إن هذه الزيادة المعتبرة سواء اعتبرت في التطهير
بمجرد الاتصال أو المزج لا دليل عليها. قولكم: أنها بعد الملاقاة بأول جزء منها
ينجس الملاقي مع كون الباقي أقل من كر قلنا نجاسة أول المادة باتصالها بالحوض النجس
ليس أولى من طهارة النجس باتصالها به، فلا بد لترجيح الأول من دليل. على أن

(1) وذلك لأن الأجزاء التي تتصل بالحوض منها تنفصل في الحكم عن المادة لكونها
أسفل منها، فيعتبر في عدم انفعالها بملاقاة ماء الحوض اتصالها بمادة كثيرة عالية
(منه قدس سره).
(2) في الصحيفة 210 السطر 2.
(3) في الأمر الأول في الصحيفة 207.
212

التحقيق كما سيأتي إن شاء الله تعالى (1) أن شرط الطهارة في المطهر وعدم النجاسة إنما
هو قبل التطهير. وأما نجاسته حال التطهير فلا دليل على المنع منها.
والمحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره) بناء على ما يختاره من تخصيص
نجاسة القليل بالملاقاة بورود النجاسة على الماء دون العكس صرح هنا بأنه يتجه أن
يقال: إنه لا حاجة إلى كرية المادة بل يكفي جريان الماء الطاهر بقوة بحيث يستهلك
الماء فيه، واستند إلى ظواهر جملة من الأخبار ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.
هذا كله مع علو المادة على الحوض. أما مع المساواة كما يتفق في بعض الحياض
من جعل موضع الاتصال أسفل الحوض فلا يشترط الزيادة، بل يكفي مجرد الاتصال
على أحد القولين أو جريانها إليه بقوة إلى أن يحصل الامتزاج على القول الآخر.
(الرابع) لو شك في كرية المادة فظاهر كلام جملة من الأصحاب وبه
صرح بعضهم أنه يبنى على الأصل وهو عدم البلوغ.
واستضعفه بعض محققي متأخري المتأخرين، واستظهر البناء على طهارتها وعدم
الحكم بنجاستها بملاقاة النجاسة.
واحتج بالروايات الدالة على أن " كل ماء طاهر حتى يعلم أنه قذر " (2)
واستصحاب الطهارة الوارد فيه النص بخصوصه كما ورد في تطهير الثياب.
وفيه نظر، لتطرق القدح إلى ما أورده من الأدلة.
(أما الأول) فلما مضى بيانه في المقالة الرابعة (3).

(1) في رد الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها المحدث الكاشاني على عدم انفعال
الماء القليل بمجرد الملاقاة، وفي المسألة الرابعة من المقام الأول من تتمة باب المياه.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
وقد تقدم الكلام فيما يرجع إلى هذا المضمون في التعليقة 1 في الصحيفة 177.
(3) في الصحيفة 190 السطر 3.
213

و (أما الثاني) فلأن استصحاب الطهارة الذي ورد به النص في الثوب هو ما إذا
كان الثوب متيقن الطهارة وشك في عروض النجاسة له، كما تضمنته صحيحة زرارة
المضمرة (1) وغيرها، فإنه لا يخرج عن يقين الطهارة إلا بيقين النجاسة. ووجه الفرق
بين هذه وبين ما نحن فيه ظاهر، فإن صحيحة زرارة المذكورة وظاهر غيرها أن الغرض
المترتب على التمسك بيقين الطهارة في هذه المواضع هو دفع الشك بعروض النجاسة حتى
يحصل اليقين بها، فالتمسك بيقين الطهارة إنما هو في مقابلة الشك في عروض النجاسة،
وأفراد هذه الكليات إنما هي الأمور المقطوع بعدم العلم بملاقاة النجاسة لها. فتستصحب
طهارتها إلى أن يظهر خلافها. وما نحن فيه ليس كذلك، إذ هو مما تحقق ملاقاة
النجاسة له لكن حصل الشك في بلوغه القدر العاصم من النجاسة وعدمه، وليس
الشك هنا في ملاقاة النجاسة كما هو مساق تلك الأخبار، ومثل ذلك لو حصل في ثوب
دم محكوم بنجاسته شرعا لكن حصل الشك في زيادته على الدرهم وعدمها. فإنه ليس للقائل
أن يستند إلى هذه الأخبار بأن الأصل طهارة الثوب لقوله (عليه السلام): " كل
شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " (2).
وبالجملة فالمراد بالشك الذي لا يعارض اليقين هو الشك في عروض النجاسة
وملاقاة النجس لا الشك في السبب الموجب للتنجيس.
(المقالة التاسعة) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في أن ماء المطر في الجملة حال تقاطره كالجاري. ونقل عن ظاهر الشيخ اشتراط

(1) المتقدمة في الصحيفة 139 السطر 3، وقد تقدم الكلام فيها في التعليقة 1 من نفس
الصحيفة، وقد أسندها هناك إلى أبي جعفر (عليه السلام).
(2) تقدم الكلام فيه في التعليقة 1 في الصحيفة 42 وسيأتي منه (قدس سره)
- في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة الثانية من مسائل البحث الأول من أبحاث أحكام
النجاسات - التصريح بما ذكرناه هناك.
214

الجريان من ميزاب، واطلاق تشبيهه بالجاري يقتضي عدم انفعاله بملاقاة النجاسة،
وتطهيره لما يقع عليه من ماء نجس أو أرض أو ثياب أو ظروف أو نحو ذلك.
وتحقيق القول في ذلك يتوقف على النظر في الأخبار الواردة في المقام، فلنورد
ما عثرنا عليه منها ثم نردفه بما يكشف عنه نقاب الابهام بتوفيق الملك العلام وبركة
أهل الذكر (عليهم أفضل الصلاة السلام).
فمن الأخبار صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
" في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل. لم
يضره ذلك ".
ورواية محمد بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " لو أن
ميزابين سالا أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء فاختلطا ثم أصابك، ما كان
به بأس ".
وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) (3) قال: " سألته عن البيت
يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟
فقال: إذا جرى فلا بأس به. وسألته عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر
فأصاب ثوبه. هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي
فيه ولا بأس ".
وصحيحة هشام بن سالم (4) أنه: سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن السطح
يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب. فقال لا بأس به، ما أصابه من الماء
أكثر منه ".

(1) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق من
كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق من
كتاب الطهارة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق من
كتاب الطهارة.
215

ومرسلة الكاهلي عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " قلت
أمر في الطريق فيسيل علي الميزاب في أوقات أعلم أن الناس يتوضؤون؟ قال: ليس
به بأس لا تسأل عنه. قلت: يسيل علي من ماء المطر أرى فيه التغير وارى فيه آثار
القذر فتقطر القطرات علي وينتضح علي منه؟ والبيت يتوضأ على سطحه فيكف
على ثيابنا؟ قال: ما بذا بأس لا تغسله، كل شئ يراه ماء المطر فقد طهر ".
ورواية أبي بصير (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكنيف
يكون خارجا فتمطر السماء فتقطر علي القطرة؟ قال: ليس به بأس ".
ومرسلة محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن موس بن جعفر
(عليهما السلام) (3) " في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام إلا أن
يعلم أنه قد نجسه شئ بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة فاغسله، وإن كان الطريق
نظيفا فلا تغسله ".
وروى في الفقيه (4) مرسلا قال: " وسئل (عليه السلام) عن طين المطر
يصيب الثوب فيه البول والعذرة والدم. فقال طين المطر لا ينجس ".
وروى علي بن جعفر في كتاب المسائل والحميري في قرب الإسناد (5) عنه
عن أخيه (عليه السلام) قال: " سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر

(1) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق وفي الباب - 75 -
من أبواب النجاسات.
(4) في باب " المياه وطهرها ونجاستها " ورواه صاحب الوسائل في الباب - 6 -
من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(5) في الصحيفة 89 من المطبوع بإيران، وفي الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة من الوسائل.
216

فيكف فيصيب الثياب، أيصلى فيها قبل أن تغسل؟ قال: إذا جرى من ماء
المطر فلا بأس ".
وروى في كتاب المسائل أيضا عن أخيه (عليه السلام) (1) قال: " سألته
عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب، أيصلى فيه قبل أن يغسل؟
قال: إذا جرى به المطر فلا بأس ".
وروى في كتاب الفقه الرضوي (2) قال (عليه السلام): " إذا بقي ماء المطر
في الطرقات ثلاثة أيام، نجس واحتيج إلى غسل الثوب منه. وماء المطر في الصحاري
لا ينجس. وروي طين المطر في الصحاري يجوز الصلاة فيه طول الشتاء ".
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمقام.
ويدل على اعتبار الجريان منها صحيحة هشام بن الحكم (3) ورواية محمد
ابن مروان (4) وصحيحة علي بن جعفر (5) وروايتاه المنقولتان من كتابه (6) ولكن
اعتبار الجريان من الميزاب إنما وقع في الأولتين، وليس فيهما دلالة على تخصيص الحكم
بذلك، فلا تنهضان حجة للمستدل (7) ولعل ذكر الميزاب في كلام الشيخ على جهة التمثيل
كما احتمله جمع من المحققين.
وأنت خبير بأن هذه الأخبار لا تصريح فيها بكون ماء المطر كالجاري مطلقا
أو مقيدا بحالة مخصوصة إلا من حيث أجوبة المسائل المسؤول عنها فيها. فإن بعضها

(1) ورواه صاحب الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) في الصحيفة 5 السطر 26
(3) المتقدمة في الصحيفة 215.
(4) المتقدمة في الصحيفة 215.
(5) المتقدمة في الصحيفة 215.
(6) إحداهما في الصحيفة 216 والأخرى في هذه الصحيفة.
(7) إذ غاية ما يستفاد منهما هو عدم ضرر ذلك ونفى البأس عنه لو اتفق كذلك،
وهذا لا يدل على انحصار الحكم فيه والاقتصار عليه كما لا يخفى (منه قدس سره).
217

لا ينطبق على تقدير جعله كالماء القليل المنفعل بالملاقاة على المشهور، وحينئذ فغاية
ما يستفاد منها كون ماء المطر قسما ثالثا بين الجاري والراكد، وله أحكام قد يشارك
في بعضها الجاري وفي البعض الآخر الراكد، فأما مشاركته للجاري ففي صورة
الجريان قطعا والكثرة على الظاهر، كما يدل عليه ما تضمن اشتراط الجريان من الأخبار
المتقدمة، وما تضمن اعتبار الكثرة، وهو صحيحة هشام (1)، لجعله (عليه السلام)
الجريان في تلك الأخبار والكثرة في الخبر المذكور علة لحصول الطهارة (2) وخصوص

(1) المتقدمة في الصحيفة 215 السطر 17.
(2) وما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة - من أن صحة الاستدلال بهذا الخبر
مبنية على تعين ارجاع الضمير في قوله (عليه السلام): " ما أصابه " إلى السطح. وهو ممنوع
بل يمكن ارجاعه إلى الثوب. فكأنه قال (عليه السلام): " القطرة الواصلة إلى الثوب
غالب على البول الذي لاقاه " ثم قال: " وأيضا ما ذكره من الدليل على تعدية الحكم
على تقدير تمامه إنما يصح إذا رجع ضمير (منه) إلى مطلق النجاسة. وليس كذلك، بل
الظاهر رجوع الضمير إلى البول، فلا يلزم الانسحاب في كل نجاسة " انتهى - مدفوع
(أولا) - بأن ظاهر الرواية قد تضمن السؤال عن ظهر البيت الذي يبال عليه متى أصابه
المطر، وعما يقطر منه فيصيب الثوب، والأول منهما هو المقصود بالذات. لأن الثاني متفرع
عليه كما لا يخفى، فلو جعل ضمير (ما أصابه) راجعا إلى الثوب لزم كون التعليل المذكور
مخصوصا بالسؤال الثاني، ولزم عدم الجواب عن السؤال الأول الذي هو المقصود الذاتي،
لأن مرجع ضمير (أصابه) هو مرجع ضمير (به) في (لا بأس به) ومتى جعل مرجع
الجميع إلى الثوب لزم خلو السؤال الأول من الجواب. و (ثانيا) - أن البول إنما هو
على ظهر البيت لا في الثوب حتى تكون القطرة الواصلة إليه غالبا على البول الذي لاقاه،
والرواية إنما تضمنت كون القطرة النازلة من السطح النجس بالبول حال المطر هل تنجس الثوب
أم لا؟ لا أن الثوب فيه بول ووقع عليه من ماء المطر أكثر منه كما توهمه. وهو غفلة عجيب
منه. و (ثالثا) - أن ضمير (منه) إنما يرجع إلى البول، لكن لما كانت خصوصية البول لا مدخل
لها في العلية حكم بالانسحاب إلى أي نجاسة كانت كما أوضحناه في المتن (منه رحمه الله).
218

مورد السؤال لا يصلح لتخصيص الجواب إلا إذا كان لخصوصية السؤال مدخل في العلية
وشاهد الحال في المقام دال على عدم المدخلية، ومتى كان التعليل يدل على التعدية
إلى كل ما توجد فيه العلة وشاهد الحال يدل على عدم المدخلية، وجب التعدية إلى كل
ما توجد فيه العلة.
وما قيل في الجواب عن صحيحة علي بن جعفر (1) الدالة على اشتراط الجريان
في تطهير البين الذي يبال على ظهره، من أنه يمكن أن يكون الاشتراط هنا لنفوذ
النجاسة في السطح، وأن السؤال لما كان يتضمن الجريان أجاب (عليه السلام)
على وفق السؤال، فاشترط الجريان حتى يستولي على النجاسة، فهو لا يدل على نفي
البأس إلا في هذه الحالة، فمورد السؤال حينئذ مخصص للجواب.
مدفوع (أولا) بأن صحيحة هشام بن سالم (2) قد تضمنت هذا السؤال بعينه
ووقع الجواب فيها بما يدل على الطهارة مع الكثرة دون الجريان، ومن الظاهر أن
الكثرة لا تستلزم الجريان، إلا أن يراد الجريان ولو بالقوة دون أن يكون بالفعل
بخصوصه، فوجه الاستلزام ظاهر، ولعله الأظهر.
و (ثانيا) بما تضمنته روايتا علي بن جعفر (3) المنقولتان من كتابه. فإنه
لا مجال فيهما لتخصيص الجواب، فالظاهر حمل تلك الرواية أيضا عليهما. لكن
أصحابنا لاقتصارهم في الاستدلال على ما في الكتب الأربعة لم يتعرضوا لهاتين الروايتين
في المقام ولا غيرهما مما خرج عن الكتب المشار إليها، وما عدا الصورة المذكورة فلا
دلالة في شئ من تلك الأجوبة المذكورة على كونه كالجاري. وأقرب ما يتوهم منه
الدلالة على كونه كالجاري وإن لم يدخل في تلك الصورة مرسلة الكاهلي (4) لقوله

(1) المتقدمة في الصحيفة 215.
(2) المتقدمة في الصحيفة 215.
(3) المتقدمتان في الصحيفة 216 و 217.
(4) المتقدمة في الصحيفة 216 السطر 1.
219

(عليه السلام): " كل شئ يراه ماء المطر فقد طهر " وتقييد اطلاقها بتلك الأخبار
غير بعيد، فتحمل عليها حمل المطلق على المقيد. وأما ما دل على النهي عن غسل
الثوب والرجل من إصابة ماء المطر الذي قد صب فيه خمر وأنه يصلى فيه (1) وكذلك
طهارة ما يقطر من ظهر البيت النجس بالبول والكنيف (2) فمع احتمال تقييده أيضا
كما هو مصرح بالقيد في بعض تلك الأخبار لا دلالة فيه، لذهاب جملة من الأصحاب
إلى عدم انفعال القليل بوقوعه على النجاسة، وتخصيص نجاسته بالملاقاة بورود النجاسة عليه
دون العكس. وهو الظاهر من الأخبار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (3).
وتنقيح المقام يتوقف على ذكر فروع:
(الأول) لو وقع المطر على ماء نجس بدون التغير بعد زوال عين النجاسة
منه، فإن وقع عليه بطريق الجريان أو الكثرة فالظاهر أنه لا اشكال في تطهيره له.
نعم يبقى الكلام في الاكتفاء بمجرد الاتصال أو اعتبار التداخل والامتزاج، فعلى
الأول يطهر بمجرد الاتصال، وعلى الثاني يتوقف على الامتزاج. وسيأتي تحقيق القول
في ذلك أن شاء الله تعالى (4) وإن وقع لا بأحد الطريقين المذكورين فالمشهور بين الأصحاب
التطهير بناء على حكمهم بكون ماء المطر كالجاري مطلقا. وقد عرفت ما فيه، فإنه لا دليل
على هذا الاطلاق في الأخبار، وحديث " كل شئ يراه ماء المطر فقد طهر " (5)

(1) وهي صحيحة علي بن جعفر المتقدمة في الصحيفة 215.
(2) وهي صحيحة هشام بن سالم المتقدمة في الصحفية 215. وروايتا أبي بصير
وعلي بن جعفر المتقدمان في الصحيفة 216.
(3) في المقام الثاني من الفصل الثالث.
(4) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.
(5) المتقدم في الصحيفة 216 السطر 1.
220

قد عرفت ما فيه (1)، ومع عدم تقييده بما ذكرنا فقد أورد أيضا على الاستدلال به أن
ماء المطر في الصورة المفروضة لا يمكن أن يرى جميع الماء النجس، لامتناع التداخل،
ومع إمكانه أيضا فالظاهر أن عند التقاطر كما هو مذهبهم لا يمكن أن يصل إلى جميع
أجزاء الماء. ويمكن الجواب بأن الرواية لما دلت على طهارة ماء المطر المقتضي لطهارة
الموضع الذي يصل إليه، فاللازم طهارة ما عداه، إذ لو لم يطهر للزم عدم طهارة
ذلك الموضع بالكلية، أو عود النجاسة إلى ما وصل إليه المطر بالمجاورة، وكلاهما خلاف
ظاهر النص.
ولقد بالغ بعض المتأخرين (2) فحكم بتطهير القطرة الواحدة من المطر إذا وقعت
على الماء النجس، قال في الروض بعد نقله: " وليس ببعيد ولكن العمل
على خلافه " انتهى.
واعترض هذا القول المحقق الشيخ حسن في المعالم بأنه غلط. قال: " لأن
المقتضي لذلك أما كونه في حكم الجاري أو النظر إلى ظاهر الآية، حيث دلت
على كونه مطهرا بقول مطلق، وكلاهما فاسد (أما الأول) فإنا وإن تنزلنا إلى القول
بثبوت أحكام الجاري له مطلقا، إلا أنك قد علمت أن المقتضي لطهارة الماء بمجرد
الاتصال على القول به هو كون الجزء الملاقي للكثير يطهر بملاقاته له، عملا بعموم ما دل
على كون الماء مطهرا، وبعد الحكم بطهارته يتصل بالجزء الثاني وهو متقو بالكثير
الذي منه طهره فيطهر الجزء الثاني، وهكذا. ولا يذهب عليك أن هذا التوجيه

(1) في الصحيفة 219 السطر 18.
(2) هو السيد حسن بن السيد جعفر المعاصر لشيخنا الشهيد الثاني، قال في الروض:
وكان بعض من عاصرناه من السادة الفضلاء يكتفي في تطهير الماء النجس بوقوع قطرة
واحدة عليه، إلى آخر ما نقلناه في المتن (منه رحمه الله).
221

لا يتوجه هنا، إذ أقصى ما يقال في القطرة الواقعة أنها تطهر ما تلاقيه. ولا ريب
أن الانقطاع لا ينفك عن ملاقيها، وهي بعده في حكم القليل كما علمت، فليس للجزء
الذي طهر بها مقو حينئذ ليستعين به على تطهير ما يليه، بل هو معها حين الانقطاع
ماء قليل، فيعود بها إلى الانفعال بملاقاة النجاسة. و (أما الثاني) فقد مر الكلام
فيه وبينا أنه ليس له عموم " انتهى.
ويرد عليه أن اتصال هذه الأجزاء بعضها ببعض إنما يكون في زمان واحد،
لا أن الجزء الأول يتصل بالثاني في زمان ثم الثاني بالثالث في زمان آخر وهكذا،
فإن باتصال الجزء الأول من النجس بالجاري أو الكثير صدق اتصال الأجزاء كملا
بعضها ببعض، فمتى سلم أن ماء المطر ولو قطرة حكمه حكم الجاري مطلقا وأنه يطهر
الجزء الملاقي له حال وقوعه عليه، فلا ريب في اجراء التقريب المذكور في الجاري فيه
حينئذ. وصدق الانقطاع عليه في الآن الثاني غير ضائر، لحصول الطهارة في الآن
الأول بالتقريب المذكور.
(الثاني) إذا وقع على أرض متنجسة ونحوها واستوعب موضع النجاسة وأزال
العين إن كانت فعلى المشهور لا ريب في حصول التطهير به، وعلى اعتبار الجريان
فالظاهر أنه لا يناط هنا بحصوله، لأن الشيخ القائل بذلك صرح كما نقل عنه
بالاكتفاء في تطهير الأرض بالماء القليل، إلا أن مقتضى صحيحة هشام (1) اعتبار
كثرة ماء المطر في مثل الصورة المذكورة. وقد عرفت (2) أنه لا مدخل لخصوصية
السؤال في التعليل المذكور.
وبذلك صرح المحقق الشيخ حسن في المعالم، قال: " ولا بد من كون الماء
الواقع أكثر من النجاسة، لجعله في الحديث علة لحصول الطهارة. وكون مورد السؤال

(1) المتقدمة في الصحيفة 215 السطر 17.
(2) في الصحيفة 218 السطر 6.
222

فيه السطح لا يقتضي اختصاص الحكم به، لأن التعليل يدل على التعدية إلى كل
ما توجد فيه العلة، إذ الحال شهادة بعدم مدخلية الخصوصية فيها، وقد بينا
وجوب التعدية حينئذ " انتهى.
واعترضه في الذخيرة بأن حصة الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكره مبنية على تعين
ارجاع الضمير في قوله (عليه السلام): " ما أصابه " إلى السطح. وهو ممنوع، بل
يمكن ارجاعه إلى الثوب، فكأنه (عليه السلام) قال: " القطرة الواصلة إلى الثوب
غالب على البول الذي لاقاه " وأيضا ما ذكره من الدليل على تعدية الحكم على تقدير
تمامه إنما يصح إذا رجع ضمير (منه) إلى مطلق النجاسة. وليس كذلك، بل الظاهر
رجوع الضمير إلى البول، فلا يلزم الانسحاب في كل نجاسة. انتهى.
ولا يخفى ما في كلامه (قدس سره) من التكلف التام والبعد عن ظاهر الكلام
كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
(أما أولا) فلأن المقصود بالذات من السؤال هو ظهر البيت وتطهير المطر
له، والسؤال عما يقطر على الثوب إنما هو فرع على الأول، فالأنسب كون الجواب
وما علل به راجعا إلى الأول.
و (أما ثانيا) فلأنه على تقدير رجوع الضمير إلى الثوب فالتقريب الذي
ذكره ذلك المحقق حاصل به، بكون المعنى حينئذ ما أصاب الثوب من ماء المطر الملاقي
للبول أكثر من البول، بمعنى أن المتقاطر على الثوب مجتمع من الماء والبول ولكن
الماء أكثر، فبسبب الكثرة صار قاهرا للبول وغالبا عليه. ومنه يظهر أن مناط
التطهير هو الكثرة الموجبة للقهر والغلبة.
و (أما ثالثا) فلأن ما ذكره من أن تعدية الحكم مع رجوع ضمير (منه)
إلى النجاسة دون البول ومعه لا يصح ففيه أن ضمير (منه) إنما يرجع في الخبر إلى البول
223

لكن لما كان خصوصية البول لا مدخل له في العلية حكم بالانسحاب إلى أي نجاسة
كانت كما ذكره المحقق المذكور وقد قدمنا التنبيه عليه (1).
وربما استدل على حصول التطهير في الفرع المذكور بمرسلة الكاهلي (2) لقوله.
(عليه السلام): " كل شئ يراه ماء المطر فقد طهر " وفيه ما عرفت آنفا (3) وبمرسلة
محمد بن إسماعيل (4) الواردة في طين المطر، لتصريحها بنفي البأس عن إصابته الثوب
ثلاثة أيام إلا أن يعلم أنه قد نجسه شئ بعد المطر، وهو دال على حصر البأس فيما إذا
نجسه شئ بعد المطر، فما عداه لا بأس به، وهو شامل لما إذا كانت الأرض نجسة
قبل المطر. فيستفاد منه تطهير المطر الأرض حينئذ. وفي الدلالة تأمل.
(الثالث) الظاهر أنه لا خلاف في أن ما يبقى من ماء المطر بعد انقطاع
المطر حكمه حكم القليل وإن كان جاريا. وحكمه مع اختلاف سطوح واستوائها كحكمه
كما سيأتي إن شاء الله تعالى (5).
(الرابع) هل يتقوى الماء الطاهر القليل بماء المطر حال تقاطره ويعصمه
من الانفعال بالملاقاة؟ لا ريب في ذلك على المشهور من جعل ماء المطر كالجاري مطلقا
وأما على اعتبار الجريان أو الكثرة فيناط بحصول أحدهما. ورجح بعض متأخري
المتأخرين التقوي مع عدم الجريان والكثرة لا من حيث إن ماء المطر كالجاري مطلقا
بل من حيث عدم العموم في أدلة انفعال القليل بالملاقاة على وجه يشمل الفرع المذكور.
(الخامس) صرح العلامة (قدس سره) في جملة من كتبه بأن ماء المطر كالجاري،

(1) في الصحيفة 218 السطر 6.
(2) المتقدمة في الصحيفة 216 السطر 1.
(3) في الصحيفة 219 السطر 18.
(4) المتقدمة في الصحيفة 216.
(5) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.
224

مع أنه شرط في الجاري الكرية، فليزمه اشتراطها هنا أيضا. واعتذر عنه بأن مراده أنه
كالجاري إذا كان كرا. وأورد عليه أن سؤال الفرق متجه، فلم اشترط الكرية في الجاري
دونه. وأجيب بأن الفرق ظاهر، فإن أدلة انفعال القليل بالملاقاة لا معارض لها
على وجه يصلح للمعارضة من أخبار الجاري بخلاف أخبار ماء المطر، فإنها صريحة
في المعارضة، وهي أخص من تلك الأخبار، فوجب تقييدها بها، ومن ثم اشترطت
الكرية ثمة دون ما نحن فيه.
وبعض محققي متأخري المتأخرين صرح بأن الظاهر من كلام العلامة (رحمه الله)
اشتراط الكرية في ماء المطر. ولم نقف على ما يقتضي ذلك في كلامه، بل صريح
كلامه في التذكرة يقتضي عدم الاشتراط، حيث قال: " لو أنقطع تقاطر المطر
وفيه نجاسة عينية اعتبرت الكرية، ولا تعتبر حال التقاطر، ولو استحالت عينها قبل
انقطاعه ثم انقطع كان طاهرا وإن قصر عن كر " انتهى.
(السادس) استشكل بعض فضلاء متأخري المتأخرين في روايتي
الميزابين (1) بأن ميزاب البول إن سلم عدم تغييره ميزاب الماء فلا أقل من عدم استهلاكه
بميزاب الماء، فكيف يحكم بطهارة الماء المختلط منهما؟ ثم احتمل حمل الاختلاط
على ترشح ميزاب البول إلى ميزاب الماء، فإذا أصاب الثوب لم يكن به بأس، إذ الماء
لم ينجس بذلك، والترشيح من البول لم يعلم إصابته. وأيضا قد استهلك في الماء
الطاهر فصار طاهرا. ثم استبعده واحتمل القول بأن البول يطهر باختلاط ماء المطر وإن لم
يستهلك، ثم قال: " وفيه أيضا اشكال " ثم احتمل أيضا رد الروايتين لعدم
صحة سندهما.
أقول: لا يخفى أن ما ذكره من الاشكال وإن كان في بادئ النظر ظاهر

(1) وهما صحيحة هشام بن الحكم ورواية محمد بن مروان المتقدمان في الصحيفة 215.
225

الاحتمال إلا أنه بالتأمل في قرائن الأحوال التي كثيرا ما يبتنى عليها الاستدلال لا تطرق
له في هذا المجال، فإن الظاهر من سيلان ماء المطر من الميزاب كون ذلك عن قوة
وكثرة، ومن سيلان البول الذي هو غالبا إنما يقع ببول شخص كون ذلك قليلا
مستهلكا في ماء المطر مع اختلاطه به، والحمل على بول يقاوم المطر في القوة والكثرة
أو يكون أقل منه على وجه لا يستهلكه المطر نادر بل مجرد فرض غير واقع. والأحكام الشرعية إنما تبنى على ما هو المتكرر المتعارف دون الفروض الشاذة النادرة.
الفصل الثاني
في الراكد البالغ كرا فما زاد. وتحقيق القول فيه يقتضي بسطه في مسائل:
(المسألة الأولى) المشهور بين الأصحاب (قدس الله تعالى أرواحهم) أن
ما بلغ الكر من الراكد لا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة كما تقدم (1)
وصريح الشيخ المفيد في المقنعة وهو المنقول عن سلار اختصاص الحكم المذكور
بغير الحياض والأواني. والشيخ رضوان الله عليه في التهذيب بعد نقل عبارة المقنعة
المتضمنة للحكم المذكور طوى البحث عن التعرض له فضلا عن الاستدلال عليه،
وحمله بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين على أنه إنما فهم من عبارة المفيد
(قدس سره) أن مراده إذا نقصت عن كر كما هو الأغلب، قال: " وهو الظاهر،
لكن المتأخرين فهموا من عبارة المقنعة وكلام سلار أن الأواني والحياض ملحقان
مطلقا بالماء القليل كما حكاه العلامة في المختلف " انتهى.
أقول: لا يخفى بعد ما استظهره (قدس سره) كما يظهر لمن لاحظ عبارة
المقنعة، حيث إنه إنما ذكر التفصيل بالكرية وعدمها في ماء الغدران والقلبان، سيما

(1) في المقالة الثالثة في الصحيفة 178.
226

وقد قرن الحياض والأواني في تلك العبارة بالبئر، مع أن مذهبه فيها النجاسة وإن
بلغت كرا، إلا أنه ربما ظهر ذلك من كلام الشيخ أخيرا عند شرح قوله في المقنعة:
" والمياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة، لم يتوضأ منها ووجب اهراقها "
فقال الشيخ (رحمه الله): " يدل على ذلك ما قدمنا ذكره من أن الماء متى نقص عن الكر
فإنه ينجس بما يحله من النجاسات، وإذا ثبت نجاسته فلا يجوز استعماله بلا خلاف " فإنه
يدل بظاهره على أنه فهم من عبارة المقنعة في الموضعين التخصيص بما نقص عن الكر،
ولعله فهم ذلك من خارج، وإلا ففهم هذا المعنى من العبارة الأولى في غاية البعد،
لما عرفت. والظاهر أن هذا الكلام هو الحامل لشيخنا المشار إليه على الحمل الذي قدمنا
نقله عنه إلا أنه لم يشر إليه.
هذا. وظاهر عبارة النهاية أيضا موافقة الشيخ المفيد في الأواني، حيث قال:
" والماء الراكد على ثلاثة أقسام: مياه الغدران والقلبان والمصانع. ومياه الأواني
المحصورة، ومياه الآبار. فأما مياه الغدران والقلبان، فإن كان مقدارها الكر فإنه
لا ينجسها شئ إلا ما غير لونها أو طعمها أو ريحها، وإن كان مقدارها أقل من الكر
فإنه ينجسها كل ما يقع فيها من النجاسة. وأما مياه الأواني المحصورة فإن وقع فيها شئ
من النجاسة أفسدها ولم يجز استعمالها " انتهى ملخصا. ثم ذكر بعد ذلك أحكام البئر.
وأنت خبير بأن التفصيل بالكرية وعدمها في القسم الأول وطي الكشح عنه
في الثاني ظاهر في الحكم بالنجاسة في الثاني مطلقا، ولم يتعرض الأصحاب لنقل ذلك عنه
في أقوال المسألة.
وحكى جملة من الأصحاب عن الشيخ المفيد وسلار في الاحتجاج على ذلك التمسك
بعموم النهي عن استعمال مياه الأواني مع ملاقاة النجاسة. وردوه بأن العموم على تقدير
ثبوته مخصوص بصورة القلة، جمعا بين الأخبار والعمومات وإن تعارضت من الطرفين،
227

إلا أن الترجيح في تخصيص هذا بذاك (أولا) بقوة دلالة تلك الأخبار الدالة
على عدم انفعال مقدار الكر. و (ثانيا) باحتمال البناء في هذا العموم على ما هو الغالب
من عدم بلوغ ماء الأواني كرا. ومع ذلك فالحجة المذكورة لا تشمل الحياض، فتبقى
خالية من الدليل.
وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور، إلا أنه روى أبو بصير في الموثق،
قال: " سألته عن كر من ماء - مررت به وأنا في سفر قد بال فيه حمار أو بغل
أو انسان. قال: لا تتوضأ منه ولا تشرب " (1) والظاهر حمله على تغير موضع البول
فينقص الباقي عن الكر فينجس. وربما حمل على الكراهة. والظاهر بعده.
ثم إن جملة من الأصحاب (2) ادعوا الاجماع على أن الكثير الواقف لا ينجس
بملاقاة النجاسة، فإن أرادوا بالواقف هو الساكن، ففيه ما عرفت من خلاف هؤلاء
الفضلاء، وإن أريد ما هو أعم منه ومن الجاري لا عن نبع، ففيه زيادة على ما ذكر
ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الجاري لا عن نبع (3) من ذهاب جمع من الأصحاب
إلى عدم تقوي الأعلى بالأسفل، حتى أورد عليهم لزوم نجاسة النهر العظيم بملاقاة
النجاسة إذا لم يكن فوقها ما يبلغ الكر، ولهذا ذهب بعض المحدثين من متأخري
المتأخرين (4) إلى أن هذا الفرد من الماء يوافق الجاري في بعض الأحكام والراكد
في بعض كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (5).
(المسألة الثانية) هل يشترط في عدم انفعال الكر بالملاقاة مساواة سطحه
الظاهر أم لا؟ قد اضطرب كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا المقام، لعدم

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) منهم: السيد السند صاحب المدارك في الكتاب المذكور (منه رحمه الله).
(3) في المسألة الثانية من هذا الفصل.
(4) هو المحدث الأمين الأسترآبادي قدس سره (منه رحمه الله).
(5) في المسألة الثانية من هذا الفصل.
228

النصوص الصريحة في ذلك عنهم (عليهم السلام).
وبالثاني صرح شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في الروض وسبطه السيد السند
في المدارك، قال في الروض بعد كلام في المقام: " وتحرير المقام أن النصوص الدالة
على اعتبار الكثرة مثل قوله (عليه السلام): " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (1)
وكلام أكثر الأصحاب ليس فيه تقييد الكر المجتمع بكون سطوحه مستوية، بل هو
أعم منه ومن المختلفة كيف اتفق " ثم قال بعد كلام طويناه على غره: " والذي يظهر
لي في المسألة ودل عليه اطلاق النص أن الماء متى كان قدر كر متصلا ثم عرضت له
النجاسة لم تؤثر فيه إلا مع التغير، سواء كان متساوي السطوح أم مختلفها..
إلى آخر ما ذكره ".
وما نقله (قدس سره) عن كلام أكثر الأصحاب فهو ظاهر كلام العلامة
في جملة من كتبه، حيث صرح في مسألة الغديرين الموصل بينهما بساقية بالاتحاد
واعتبار الكرية فيهما مع الساقية، وهو أعم من المستوي والمختلف، وكذا أطلق
القول في الواقف المتصل بالجاري وحكم باتحادهما من غير تقييد، إلا أنه في التذكرة
قيده، حيث قال في مسألة الغديرين: " لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا إن اعتدل
الماء وإلا في حق السافل، فلو نقص الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة " انتهى.
والمحقق في المعتبر صرح في مسألة الغديرين بما نقلناه عن العلامة (2) إلا أنه قال
بعد ذلك بلا فصل: " لو نقص الغدير عن كر فنجس فوصل بغدير فيه كر، ففي طهارته

(1) تقدم فيه في التعليقة 3 في الصحيفة 191.
(2) حيث قال: " الفرع الثاني، الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا
كالماء الواحد، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس ولو نقص كل واحد منهما عن الكر
إذا كان مجموعهما مع الساقية كرا فصاعدا، ثم قال: (الثالث) - لو نقص الغدير عن كر..
إلى آخر ما هو منقول في الأصل " (منه قدس سره).
229

تردد، والأشبه بقاؤه على النجاسة، لأنه ممتاز عن الطاهر " انتهى. وهو بظاهره
مدافع لما ذكره أولا، إلا أن يحمل كلامه الأول على استواء سطحي الغديرين والثاني
على اختلافهما (1).
والشهيد في الدروس قال: " لو كان الجاري لا عن مادة ولاقته النجاسة. لم
ينجس ما فوقها مطلقا، ولا ما تحتها إن كان جميعه كرا فصاعدا إلا مع التغير " فأطلق
الحكم بعدم نجاسة ما تحت موضع ملاقاة النجاسة إذا كان مجموع الماء يبلغ كرا ولم يشترط
استواء السطوح، ثم قال بعد ذلك بقليل: " لو اتصل الواقف بالجاري اتحدا مع
مساواة سطحهما أو كون الجاري أعلى لا بالعكس " فاعتبر في صدق الاتحاد مساواة
السطحين أو علو الكثير.
وقال في الذكرى بعد حكمه بأن اتصال القليل النجس بالكثير مماسة لا يطهره (2)
ما صورته: " ولو كانت الملاقاة يعني ملاقاة النجاسة للقليل بعد الاتصال ولو بساقية لم
ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير ".
وفي البيان: " لو اتصل الواقف القليل بالجاري واتحد سطحهما أو كان الجاري

(1) العلامة في المنتهى والتحرير - بعد أن صرح في الغديرين بما نقلناه عنه من الاتحاد
- ذكر أنه لو نقص الغدير عن كر فوصل بغدير يبلغ الكر طهر به. وفي التذكرة - بعد أن صرح
بما نقلناه عنه في المتن - ذكر هذا الفرع الثاني واختار البقاء على النجاسة مع مجرد الاتصال
واشترط في الطهارة الممازجة. وأما المحقق في المعتبر، فإنه كما نقلناه عنه - اختار في الفرع
الأول الاتحاد، وفي الفرع الثاني العدم. فانقدح الاختلاف بين كلامية إلا أن يحمل على
ما ذكرنا في الأصل (منه رحمه الله).
(2) حيث قال: " وطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا، فلو وصل بكر مماسة لم يطهر
للتمييز المقتضي لاختصاص كل بحكمه، ولو كان الملاقاة بعد الاتصال.. إلى آخر ما هو مذكور
في المتن " ولا يخفى عليك ما في هذه الفتاوي من الاضطراب والمخالفة بعضها لبعض
(منه رحمه الله).
230

أعلى اتحدا، ولو كان الواقف أعلى فلا ".
وقال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد قول المصنف: " لو اتصل
الواقف القليل بالجاري لم ينجس بالملاقاة " ما لفظه: " يشترط في هذا الحكم علو
الجاري أو مساواة السطوح أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل،
لانتفاء تقويه به بدون ذلك " انتهى. وهو صريح في تقييده اطلاقات العلامة في الوحدة
في المسألة بالمساواة أو علو الكثير.
وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم بعد تقدم كلام في المسألة: " هذا، وليس
اعتبار المساواة في الجملة بالبعيد، لأن ظاهر أكثر الأخبار المتضمنة لحكم الكر
اشتراطا وكمية اعتبار الاجتماع في الماء وصدق الوحدة والكثرة عليه. وفي تحقق
ذلك مع عدم المساواة في كثير من الصور نظر. والتمسك في عدم اعتبارها
بعموم ما دل على عدم انفعال مقدار الكر بملاقاة النجاسة مدخول، لأنه
من باب المفرد المحلى، وقد بينا في المباحث الأصولية أن عمومه ليس من حيث كونه
موضوعا لذلك على حد صيغ العموم، وإنما هو باعتبار منافاة عدم إرادته للحكمة، فيصان
كلام الحكيم عنه. وظاهر أن منافاة الحكمة إنما يتصور حيث ينتفي احتمال العهد،
ولا ريب أن تقدم السؤال عن بعض أنواع الماهية عهد ظاهر. وهو في محل النزاع واقع
إذ النص يتضمن السؤال عن الماء المجتمع، وحينئذ لا يبقى لاثبات الشمول لغير المعهود
وجه. نعم يتجه ثبوت العموم في ذلك المعهود بأقل ما يندفع به محذور منافاة الحكمة.
وربما يتوهم أن هذا من قبيل تخصيص العام بناء على سبب خاص. وهو مرغوب عنه
في الأول. وبما حققناه يعلم أنه لا عموم في أمثال موضع النزاع على وجه يتطرق
إليه التخصيص " انتهى.
واعترض عليه بأن الظاهر في أمثال هذه المواضع التي في مقام تعيين القوانين
وتبيين الأحكام هو العموم، وقد اعترف به أيضا من حيث منافاة عدم إرادته الحكمة
231

وما ذكره من احتمال العهد باعتبار تقدم السؤال عن بعض أنواع الماهية لا وجه له،
لأن السؤال إنما هو موجود في بعض الروايات، وكثير من الروايات لا سؤال فيها،
وبعض ما فيه سؤال أيضا لا ظهور له في أن السؤال عن الماء المجتمع الذي لا اختلاف
في سطوحه. سلمنا عدم الظهور في العموم. فلا شك في عدم ظهوره في عدمه أيضا،
وعند الشك يبقى الحكم على أصل الطهارة واستصحابها.
أقول: والحكم في المسألة لا يخلو من اشكال، ينشأ من أن المستفاد من أخبار
الكر تقارب أجزاء الماء بعضها من بعض.
كقوله (عليه السلام) في صحيحة إسماعيل بن جابر (1) حين سأله عن الماء
الذي لا ينجسه شئ فقال: " ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته " ونحوها من الأخبار
الدالة على التقدير بالمساحة.
وصحيحة صفوان (2) المتضمنة السؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة،
حيث سأل (عليه السلام) فقال: " وكم قدر الماء؟ قال: قلت: إلى نصف الساق
وإلى الركبة وأقل. قال: توضأ ".
ويؤيده أيضا أن الكر الذي وقع تحديد الماء الذي لا ينفعل به عبارة في
الأصل عن مكيال مخصوص يكال به الطعام، جعلوه (عليهم السلام) معيارا لما لا ينفعل
من الماء بالملاقاة.
ويؤيده أيضا أن مع تقارب أجزاء الماء تتوزع النجاسة عليه وتنتشر فتضعف
بذلك، وأنه بتقارب أجزائه يتقوى بعضها ببعض.
ويؤيده أيضا أن ذلك متفق عليه ومعلوم قطعا من الأخبار، وما عداه في محل
الشك. لعدم ظهور الدليل عليه من الأخبار، وذهاب بعض الأصحاب إليه.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
232

والتمسك بأصالة الطهارة هنا ضعيف، لما حققناه سابقا (1) من أن أفراد الكلية
القائلة: " الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر " إنما هي الأشياء المقطوع بطهارتها شرعا
والمعلومة كذلك بالنسبة إلى الأشياء المقطوع بنجاستها شرعا والمعلومة كذلك، فإنه
لا يحكم بخروج بعض أفراد الأول إلى الثاني إلا بعلم ويقين. والغرض منه كما عرفت
هو دفع الوساوس الشيطانية والشكوك. وعدم معارضتها للعلم واليقين الثابت أولا.
وإن الماء من أفراده ما هو طاهر يقينا وهو ظاهر، ومنه ما هو نجس يقينا وهو القليل
المعلوم ملاقاة النجاسة له، فالكلية المذكورة قد أفادت أنه لا يخرج عن الحكم الأول
إلى الثاني إلا بعلم ويقين. وهذا الماء المختلف السطوح إذا كان قدر كر ولاقت
النجاسة بعض أجزائه ليس بمقطوع على طهارته ولا على نجاسته بل هو مشكوك فيه.
وبالجملة فالشك المنفي في مقابلة يقين الطهارة هو ما كان شكا في عروض النجاسة
لا شكا في سببية النجاسة.
والتمسك بالاستصحاب إنما هو فيما إذا دل الدليل على الحكم مطلقا كما هو التحقيق
في المسألة. وهو في موضع البحث ممنوع، لما عرفت. ودلالته عليه قبل عروض
النجاسة لا تقتضي انسحاب ذلك إلى ما بعده إلا بدليل آخر، لتغاير الحالين.
وينشأ من اطلاق الأخبار بأن بلوغ الماء كرا عاصم له عن الانفعال بالملاقاة.
والأخبار الدالة على التحديد بالمساحة وإن أفهمت بحسب الظاهر اعتبار الاجتماع فيه
إلا أنه، إن أخذ الاجتماع فيها على الهيئة التي دلت عليها فلا قائل به اجماعا، وإن
أخذ الاجتماع الذي هو عبارة عن مجرد تساوي السطوح فلا دلالة لها عليه صريحا.
مع معارضته بظهور احتمال محض التقدير كما تضمنته أخبار التقدير بالوزن. وباقي الوجوه
المذكورة وإن تضمنت نوع مناسبة لذلك إلا أن الظاهر أنها لا تصلح لتأسيس
حكم شرعي.

(1) في الصحيفة 190 السطر 2.
233

فمجال التوقف في الحكم المذكور لما ذكرنا بين الظهور، والاحتياط لا يخفى.
إذا عرفت ذلك فعلى تقدير عدم اشتراط المساواة والاكتفاء بمجرد الاتصال
فهل يكفي الاتصال مطلقا وإن كان بالتسنم من ميزاب ونحوه، أو يشترط في الاختلاف
التخصيص بالانحدار لا التسنم؟
ظاهر السيد السند في المدارك الأول، ونقله أيضا عن جده (قدس سرهما) في فوائد
القواعد (1) وتبعه بعض فضلاء متأخري المتأخرين، واطلاق عبائر جملة من لم يشترط
التساوي ربما يشمله. لكن قد عرفت فيما تقدم في المقالة الثامنة (2) في حكم ماء
الحمام أنهم جمعوا بين اطلاق القول بكرية المادة واطلاق القول في الغديرين بحمل
الاطلاق الأول على ما إذا كان اتصال الماء بطريق التسنم والثاني على ما إذا كان
الغديران متساويين أو مختلفين بطريق الانحدار. وهو كما ترى يؤذن بكون الاتصال
بطريق التسنم ينافي الوحدة كما حققناه ثمة. والجواب بأن اعتبار الكرية في المادة
لا لأجل عدم انفعال الحوض الصغير بالملاقاة، بل ليكون حكم المادة حكم الماء الجاري
أو لتطهير الحوض الصغير بعد نجاسته باجراء المادة إليه واستيلائها عليه مردود بما وقع
التصريح به من اشتراط الزيادة على الكرية في تطهير الحياض كما تقدم بيانه (3) مع

(1) قال (قدس سره) بعد نقله عن المعتبر والمنتهى اطلاق الحكم في الغديرين - كما
قدمنا نقله عنهما المقتضي لعدم الفرق بين متساوي السطوح ومختلفها ما لفظه: " وينبغي
القطع بذلك إذا كان جريان الماء في أرض منحدرة، لاندراجه تحت عموم قوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " فإنه شامل لمتساوي السطوح ومختلفها،
وإنما يحصل التردد فيما إذا كان الأعلى متسنما على الأسفل بميزاب ونحوه، لعدم صدق
الوحدة عرفا. ولا يبعد التقوى في ذلك أيضا كما اختاره جدي (قدس سره) في فوائد
القواعد عملا بالعموم. انتهى. (منه رحمه الله).
(2) في الأمر الأول في الصحيفة 207.
(3) في الأمر الثالث في الصحيفة 211.
234

اتفاقهم أولا على اشتراط الكرية في المادة، ومن الظاهر حينئذ أن هذا الاشتراط
الأول إنما هو لعصمة الحياض الصغار عن الانفعال بالملاقاة (1).
ثم إنه على تقدير جواز الاختلاف فلا اشكال في تقوي كل من الأعلى والأسفل
بالآخر لو اختلفت السطوح كما صرحوا به، إذ مقتضى الوحدة ذلك.
وعلى تقدير اشتراط التساوي فقد صرح جملة من القائلين به بأنه لو اتصل
القليل بالكثير وكان الكثير أعلى فإن الأسفل يتقوى به دون العكس، كما سلف
في كلام المحقق الشيخ علي (2) والشهيد في الذكرى والدروس والبيان (3) وكذلك
كلام العلامة في التذكرة (4) وظاهر كلام المحقق أيضا كما حكيناه (5).
وعلل المحقق الشيخ علي عدم تقوي الأعلى بالأسفل بأنهما لو اتحدا في الحكم
للزم تنجيس كل أعلى متصل بأسفل مع القلة. وهو معلوم البطلان. وحيث لم ينجس
بنجاسته لم يطهر بطهارته.
وأجاب في المدارك بأن الحكم بعدم نجاسة الأعلى بوقوع النجاسة فيه مع بلوغ
المجموع منه ومن الأسفل الكر إنما كان لاندراجه تحت عموم الخبر، وليس في هذا
ما يستلزم نجاسة الأعلى بنجاسة الأسفل بوجه. مع أن الاجماع منعقد على أن النجاسة

(1) وملخص ما ذكروه أن عدم انفعال الواقف بالملاقاة مشروط ببلوغ مقدار الكر
مع تساوي سطح الماء بحيث تصدق عليه الوحدة عرفا، أو باتصاله بمادة هي كر فصاعدا
بشرط علوها، قالوا: ولا يعتبر استواء السطوح في المادة بالنظر إلى عدم انفعال ما تحتها
لصدق المادة الكثير مع الاختلاف. نعم يعتبر الاستواء في عدم انفعال المادة بعينها
(منه رحمه الله).
(2) في الصحيفة 231.
(3) في الصحيفة 230.
(4) المتقدم في الصحيفة 229.
(5) المتقدم في الصحيفة 229.
235

لا تسري إلى الأعلى مطلقا. ثم ألزمهم أن ينجس كل ما كان تحت النجاسة من الماء
المنحدر إذا لم يكن فوقه كر وإن كان نهرا عظيما. وهو معلوم البطلان. أقول: الظاهر أن مقصود المستدل أن تقوي الأعلى بالأسفل لا دليل عليه
إلا الاندراج تحت روايات الكر. والاندراج ليس بمسلم، وإلا لزم تنجس الأعلى
بنجاسة الأسفل (1) وحينئذ ففيه دلالة على أن حكمه بتقوي الأسفل بالأعلى ليس مبنيا
على الاندراج المذكور. وبذلك يتضح أن الجواب المذكور غير متوجه. إلا أنه قد أورد
على ما ذكروه من تقوي الأسفل بالأعلى دون العكس (2) بأنه إن كان مبنيا
على الاندراج تحت العموم، فالمستفاد من روايات الكر تساوي أجزائه في حكمي الطهارة
والنجاسة، فأجزاؤه متقوية بعضها ببعض (3) وإن كان مبنيا على اطلاق المادة في باب
البئر، وكذا المادة الواردة في حياض الحمام، وإنها يحصل بها التقوي وإن كانت
أقل من كر، فكذلك الأعلى ههنا، فإنه مادة لما سفل عنه، فيتقوى الأسفل به دون
العكس، ففيه (أولا) أنه لا حاجة حينئذ إلى اعتبار كرية المجموع. و (ثانيا) أنه
مناف لما مر من اعتبارهم الكرية في مادة الحياض. وإن كان مبنيا على تقوي أجزاء
الماء الساكن بعضها ببعض، فيلزمه من باب مفهوم الموافقة تقوي الأسفل بالأعلى دون
العكس، فيتوجه عليه أن العلة في تقوي أجزاء الساكن بعضها ببعض هو توزع النجاسة
وانتشارها على أجزائه لسكونها وتقاربها، فتكون النجاسة مضمحلة فيه. والنجاسة

(1) لأن الأعلى والأسفل متى كانا واحدا المقتضي دخولهما تحت عموم روايات الكر
فلو نقصا جميعا عن الكر لزم تنجس الأعلى بنجاسة الأسفل تحقيقا للوحدة، كما أن الماء
القليل المجتمع إذا لاقته نجاسة نجس جميعه، وهو باطل قطعا، وإلا لتعذر التطهير بالصب
من الأواني القليلة الماء كالإبريق ونحوه (منه رحمه الله).
(2) هذا الإيراد للمحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره) في تعليقاته على المدارك
(منه قدس سره).
(3) فلا ينجس بعض منه دون بعض (منه رحمه الله).
236

الواقعة في الصورة المفروضة لم تتوزع على المجموع كما في الساكن، فلا يتم كون تقوي
الأسفل بالأعلى من باب الموافقة وإن كان مبنيا على وجه آخر فلا بد من ايراده لننظر
في صحته وفساده.
أقول: بل الظاهر أنه مبني على ما ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم (1)
من أن الوجه فيه أن المقتضي لعدم انفعال النابع بالملاقاة هو وجود المادة له، ولا ريب
أن تأثير المادة إنما هو باعتبار إفادتها الاتصال بالكثرة، وليس الزائد منها على الكر
بمعتبر في نظر الشارع، فيرجع حاصل المقتضي إلى كونه متصلا بالكر على جهة
جريانه إليه واستيلائه عليه، وهذا المعنى بعينه موجود فيما نحن فيه، فيجب أن يحصل
مقتضاه. ويؤيد ذلك حكم ماء الحمام، فإنا لا نعلم من الأصحاب مخالفا في عدم انفعاله
بالملاقاة مع بلوغ المادة كرا، والأخبار الواردة فيه شاهدة بذلك أيضا، وليس
لخصوصية الحمام عند التحقيق مدخل في ذلك. انتهى.
وأنت خبير بما فيه (أما أولا) فلأن ما ذكره من أن المقتضي لعدم انفعال
النابع بالملاقاة هو وجود المادة له إشارة إلى التعليل الذي تضمنته صحيحة محمد
ابن إسماعيل بن بزيع (2) ولا يخفى ما فيه كما تقدم التنبيه عليه في المقالة الرابعة
من الفصل الأول (3).

(1) قال (قدس سره) في الكتاب المذكور - بعد الكلام في الاستدلال على اعتبار
المساواة بما قدمنا نقله عنه في متن الكتاب -: " فإن قلت هذا الاعتبار يقتضي انفعال غير
المستوى مطلقا، مع أن الذاهبين إلى اعتبار المساواة مصرحون بعدم انفعال القليل المتصل
بالكثير إذا كان الكثير أعلى - وقد سبق نقله عن البيان والذكرى - فما الوجه في ذلك؟ وكيف
حكموا بالاتحاد مع علو الكثير ونفوه في عكسه؟ والمقتضي للنفي على ما ذكرت موجود فيهما
قلت: لعل الوجه " ثم ساق الكلام كما نقلناه في متن الكتاب (منه رحمه الله) و
(2) المتقدمة في الصحيفة 188.
(3) في الصحيفة 189 السطر 7.
237

و (أما ثانيا) فلأن قوله: " ليس لخصوصية الحمام عند التحقيق مدخل "
إنما يتم على القول المشهور من اشتراط الكرية في المادة. وأما على القول بعدم الاشتراط
كما هو الظاهر من الأخبار على ما حققناه سابقا (1) يكون الحكم مقصورا حينئذ
على موضع النص.
و (أما ثالثا) فلأن العلامة مع اشتراطه في المنتهى والتذكرة وغيرهما كرية
المادة توقف في الكتابين المذكورين في إلحاق الحوض الصغير ذي المادة في غير الحمام
به، وبذلك يظهر أن ما ذكره أولئك الفضلاء من الفرق (2) لا يخلو من المناقشة.
ثم لا يخفى عليك أيضا أنه بعد تسليم عموم انفعال القليل بالملاقاة واشتراط التساوي
في أجزاء الكر فاخراج هذا الفرد من البين تحكم محض. وتعليل صاحب المعالم قد
عرفت ما فيه. اللهم إلا أن يخص منع تقوي الأعلى بالأسفل بما إذا كان الأعلى متسنما
على الأسفل بميزاب ونحوه، فإن ثبوت الاتحاد وشمول العموم في المسألة لمثل ذلك
في غاية البعد.
وأما الالزام الذي ذكره في المدارك بنجاسة كل ما كان تحت النجاسة من الماء
المنحدر إذا لم يكن فوقه كر وإن كان نهرا عظيما (3) وهو معلوم البطلان فيمكن

(1) في الموضع الثالث في الصحيفة 204.
(2) بين الأعلى والأسفل فيتقوى الأسفل بالأعلى دون العكس (منه رحمه الله).
(3) لأن الأعلى متى كان أقل من كر لم يفد ما تحته تقوية فينجس الموضع، وما تحته
أيضا لكونه أسفل لا يفيد تقوية، لعدم تقوي الأعلى بالأسفل كما هو مفروض. ويلزم
أيضا نجاسة ما تحته، لعدم تقوية ما سفل عنه، فينجس ما سفل بالسراية شيئا فشيئا، لعدم
تقوى شئ من تلك الأجزاء المتنجسة بالسراية بما انحدر عنه، فلو لم يتقو الأعلى
بالأسفل لزم نجاسة جميع ما جاور النجاسة لا المنتهى السفلى وإن كان نهرا عظيما، مع حكمهم
بعدم النجاسة (منه رحمه الله).
238

الجواب عنه بما ذكره في المعالم من التزام عدم انفعال ما بعد عن موضع الملاقاة بمجردها
قال: " لعدم الدليل عليه، إذ الأدلة الدالة على انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة
مختصة بالمجتمع والمتقارب، وليس مجرد الاتصال بالنجس موجبا للانفعال في نظر
الشارع، وإلا لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل، لصدق الاتصال حينئذ، وهو منفي
قطعا، وإذا لم يكن الاتصال بمجرده موجبا لسريان الانفعال فلا بد في الحكم بنجاسة البعيد
من دليل. نعم جريان الماء النجس يقتضي نجاسة ما يصل إليه، فإذا استوعب الأجزاء المتجددة
ينجسها وإن كثرت. ولا بعد في ذلك، فإنها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل،
فكما أنه ينجس بملاقاة النجاسة له وإن قلت وكان مجموعه في نهاية الكثرة فكذا
هذه " انتهى. وأورد عليه (1) أنه بعد تسليم انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة
مع الاجتماع والتقارب لا شك أنه يلزم نجاسة جميع ماء النهر المذكور، لأن النجاسة
ملاقية لبعضه وذلك البعض ملاق للبعض الآخر القريب منه وهكذا، فينجس الجميع
إذ الظاهر أن القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لا يفرقون بين النجاسة والمتنجس.
وما ذكره من أن مجرد الاتصال بالنجس لو كان موجبا للانفعال في نظر الشارع لنجس
الأعلى بنجاسة الأسفل، ففيه أنه مخصص عن العموم بالاجماع، فالحاق ما عداه به
مما لا دليل عليه بل قياس لا نقول به. على أن الفارق أيضا موجود كما ذكره بعض
من عدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى.
وأنت خبير بأن المفهوم من كلام المجيب المذكور اختصاص كل جزء من أجزاء
الماء الجاري لا عن نبع بحكم نفسه، وأنه في حكم المياه القليلة المنفصل بعضها عن بعض
لهرب السابق عن اللاحق، كما ينادي به قوله: " فإنها لعدم استواء سطحها بمنزلة
المنفصل " وحينئذ فلا تقوي بين أجزائه ولا سراية، ومجرد الاتصال لا يوجب

(1) المورد هو الفاضل الخراساني (رحمه الله) في شرح الدروس (منه رحمه الله).
239

السراية، وإلا لسرت النجاسة من الأسفل إلى الأعلى، لحصول الاتصال. ودعوى
الاجماع على التخصيص مجازفة في أمثال هذه المقامات كما لا يخفى على من تتبع موارد
الاجماعات. وعدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى كما ذكره المورد مؤيد لما ذكرنا
من كون كل سابق بالنسبة إلى لاحقه بمنزلة المنفصل عنه، ومن هنا ذهب المحدث
الأمين الأسترآبادي (قدس سره) إلى أن الماء الجاري لا عن مادة غير ملحق بالراكد
مطلقا كما ذكره جمع من الأصحاب، بل يلحق في بعض أحكامه بالجاري وفي بعض
آخر بالراكد، قال (قدس سره) بعد كلام في المقام، وملخصه تقوي الأسفل
بالأعلى وإن لم يكن المجموع كرا وعدم السراية أصلا، لعدم الدلالة عليها كما سبق
نقلا عن المحقق المذكور: " وعلى هذا الاحتمال حكم الجاري لا عن نبع حكم الجاري
عن نبع في تقوي الأسفل بالأعلى وإن لم يكن المجموع كرا. وحكم الماء الساكن القليل
في نجاسة أول جزء منه بملاقاة النجاسة وإن كان المجموع كرا فصاعدا. ومما يؤيد الاحتمال
الذي ذكرناه ما روي عن الصادق (عليه السلام): " ماء الحمام بمنزلة الجاري " (1)
وما روي عنهم (عليهم السلام) أيضا: " ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا " (2)
وجه التأييد عدم تقييد الجاري والنهر بالنابع، وعدم تقييد ماء الحمام بكرية مادته
أو كرية المجموع. ومما يؤيده أيضا اطلاق المادة الواردة في ماء البئر والواردة في ماء
الحمام. والله أعلم " انتهى. وللمناقشة في بعض ما ذكره (قدس سره) مجال.
هذا. وينبغي أن يعلم أن الحكم بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر وعدم انفعال
الماء بعروض النجاسة سواء عرضت للأعلى أو الأسفل إنما هو فيما إذا كان عروض
النجاسة بعد الاتصال. أما قبله فالظاهر أنه لا شك في النجاسة إذا كان ما لاقته أقل

(1) المتقدم في الصحيفة 203 السطر 4 و 6.
(2) المتقدم في الصحيفة 203 السطر 4 و 6.
240

من كر عند من يقول بنجاسة القليل بالملاقاة، فالماء القليل الواقف المتصل بالكثير
أو الجاري إن عرضت له النجاسة قبل الاتصال تنجس بها. ويطهر بالاتصال بالكثير
على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال وإلا فبالممازجة، وبعد الاتصال لا ينجس.
وهذا ماء المطر الجاري في الطرق بالقياس إلى حال التقاطر وبعده. ومثل ذلك عندهم
أيضا ما لو صب الماء من آنية حتى اتصل بالكثير أو الجاري، فإنه إن عرضت له
النجاسة بعد الاتصال لم تؤثر فيه، وإن عرضت له قبل الاتصال ينجس الماء والإناء
ولا يطهر بمجرد اتصاله بعد ذلك. ويأتي على مذهب من منع تقوي الأعلى بالأسفل
ثبوت النجاسة في الحالين.
وقال في كتاب الروض: " وعلى ما يظهر من اطلاق النص والفتوى يلزم
طهارة الماء النجس عند صب بعضه في الكثير بحيث يطهر الإناء المماس للماء النجس
وما فيه من الماء عند وصول أوله إلى الكثير. وهو بعيد بل هو على طرف النقيض
لتفصيل المتأخرين. والمسألة من المشكلات، ولم نقف فيها على ما يزيل عنها
الالتباس. والله أعلم " انتهى.
والعجب منه (قدس سره) أنه قبل هذا الكلام بعد نقل جملة من كلمات
القوم قال: " والذي يظهر لي من المسألة ودل عليه اطلاق النص أن الماء متى كان
قدر كر متصلا ثم عرضت له النجاسة لم تؤثر فيه إلا مع التغير سواء كان متساوي
السطوح أو مختلفها، وإن كان أقل من كر نجس الماء بالملاقاة مع تساوي سطوحه
وإلا الأسفل خاصة. ثم إن اتصل بالكثير بعد الحكم بنجاسته اعتبر في الحكم
بطهره مساواة سطوحه لسطوح الكثير أو علو الكثير عليه، فلو كان النجس أعلى لم
يطهر. والفرق بين الموضعين أن المتنجس يشترط ورود المطهر عليه ولا يكفي وروده
على المطهر خلافا للمرتضى (رحمه الله) فإذا كان سطحه أعلى من سطح الكثير لم يكن
241

الكثير واردا عليه " انتهى. ولا يخفى ما بينهما من التدافع.
(المسألة الثالثة) إذا تغير بعض الكثير فلا يخلو إما أن يكون الباقي كرا
أم لا، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون ساكنا أو جاريا، فههنا صور أربع:
(الأولى) أن يكون الباقي كر والماء ساكنا، ولا خلاف هنا في اختصاص
النجاسة بالموضع المتغير وطهارة الباقي.
(الثانية) كون الباقي أقل من كر مع كون الماء ساكنا، ولا خلاف
في نجاسته عند من قال بنجاسة القليل بالملاقاة.
(الثالثة) كون الباقي كرا والماء جاريا، فلا يخلو إما أن تقطع النجاسة عمود
الماء أم لا، وعلى التقديرين فإما أن يكون الأعلى كرا أم لا، وعلى التقادير
الأربعة فأما أن يكون الأسفل عن النجاسة كرا أيضا أم لا.
وتفصيل ذلك. إن قطعت النجاسة عمود الماء وكان الأعلى كرا والأسفل كرا،
فلا اشكال ولا خلاف في اختصاص التنجيس بالمتغير حال الملاقاة، إلا أنه يأتي على
ما ذكره المحقق الشيخ حسن فيما قدمنا نقله عنه (1) نجاسة ما سفل عن النجاسة بعد
مرور ذلك الماء على الأجزاء السافلة.
وإن قطعت النجاسة عمود الماء وكان كل من الأعلى والأسفل أقل من كر،
فظاهر كلامهم أنه لا خلاف في نجاسة الأسفل عند من قال بالنجاسة بمجرد الملاقاة،
لكونه أقل من كر، ويظهر من كلام المحدث الأمين (قدس سره) العدم، لعدم
استواء سطح الماء، فأجزاؤه في حكم الماء المنفصل بعضه عن بعض، لهرب السابق
عن اللاحق، إلا بعد السيلان على الأجزاء السافلة كما ذكروه. وأما الأعلى فظاهر
كلامهم الاتفاق على عدم نجاسته، لعدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى.

(1) في الصحيفة 239.
242

ومن هذا الكلام يعلم حكم صورتي ما لو قطعت النجاسة عمود الماء وكان الأعلى
كرا والأسفل أقل من كر وبالعكس.
وإن لم تقطع النجاسة عمود الماء وكان كل من الأعلى والأسفل يبلغ الكر،
فلا اشكال ولا خلاف في اختصاص التنجيس بالمتغير إلا بعد سيلان ذلك الماء على الأجزاء
السافلة بناء على ما ذكره ذلك المحقق المشار إليه.
وإن كان كذلك (1) وكان كل من الأعلى والأسفل أقل من كر لكن
المجموع يبلغ الكر، فعلى تقدير القول بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر
لا اشكال في الطهارة، وعلى تقدير القول بتقوي الأسفل بالأعلى دون العكس يلزم
نجاسة الأسفل، لأن الأعلى لقلته لا يقوي ما سفل عنه فليزم نجاسته لقلته، وبذلك
صرح في المعالم (2).
وإن كان كذلك أيضا وكان الأعلى قدر كر والأسفل أقل من كر، فلا
خلاف في تقوي الأسفل به وطهارة الجميع واختصاص التنجيس بموضع التغير.
وبالعكس فالحكم كذلك أيضا، لأن الأعلى لا تسري إليه النجاسة اجماعا،
والأسفل قد عصم نفسه عن الانفعال بالكرية، فيختص التنجيس بموضع التغير.
(الرابعة) كون الباقي بعد التغير أقل من كر والماء جاريا وحكمها يعلم
بالتأمل في تلك الشقوق، إلا أنه يظهر من كلام المحدث الأمين (قدس سره) كما

(1) أي لم تقطع النجاسة عمود الماء (منه رحمه الله).
(2) قال (قدس سره) - بعد أن صرح بأن القليل المتصل بمادة هي كر فصاعدا
في حكم الكر المتساوي السطوح، وأنه لا يعتبر استواء في المادة بالنظر إلى عدم انفعال
ما تحتها - ما لفظه: " نعم يعتبر الاستواء في عدم انفعال المادة بعينها، فلو لاقتها نجاسة
وهي غير مستوية، نجس موضع الملاقاة، ويلزم منه نجاسة ما تحتها أيضا ما لم يكن فيه كر
مجتمع " ثم أشار إلى الاشكال المورد في المقام وأجاب عنه بما قدمنا نقله عنه (منه رحمه الله)
243

قدمنا نقله (1) اختصاص التنجيس بموضع النجاسة، لمنعه السراية وحكمه بتقوي الأسفل
بالأعلى وإن لم يكن المجموع كرا فيختص التنجيس بموضع التغير.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في كتاب الروض
قد أورد ههنا تناقضا على من منع من تقوي الأعلى بالأسفل بأنهم قد حكموا في صورة
ما إذا تغير بعض الجاري لا عن نبع بالنجاسة بعدم نجاسة الأعلى مطلقا وعدم نجاسة
الأسفل إذا بلغ الباقي كرا إلا أن تستوعب النجاسة عمود الماء فيشترط كرية الأسفل،
وهذا القول يستلزم تقوي الأعلى بالأسفل وإلا لزم نجاسة الأسفل مطلقا إلا إذا كان
الأعلى كرا ولم يستوعب التغير عمود الماء، لأن الجزء الأعلى الملاقي للنجاسة على هذا
يصير نجسا والفرض أنه لا يتقوى بما تحته فينجس حينئذ وينجس ما تحته لذلك
أيضا وهكذا.
ووجه الجواب عن ذلك ما قدمنا نقله عن المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم
ويمكن الجواب أيضا باحتمال قصر الحكم المذكور على الواقف المتصل بالكثير
أو الجاري دون الجاري نفسه، فكأنهم يشترطون في التقوي وحدة الماءين في العرف
أو يكون القوي أعلى، فالماء الجاري في العرف عندهم ماء واحد وإن كان بعضه أعلى
وبعضه أسفل. وأما الماء الواقف المتصل بالكثير أو الجاري فمتى كان أسفل ينتفي فيه
الأمران فلا يتقوى بهما.
ويمكن الجواب بما أشرنا إليه آنفا من تخصيص الحكم المذكور بما إذا لم تكن
أجزاؤه منحدرة بل يكون العلو بطريق التسنم كالميزاب ونحوه.
(المسألة الرابعة) طريق تطهير الماء المذكور إذا تغير بالنجاسة أن يقال:
لا يخلو إما أن يتغير جميعه أو بعضه، وعلى الثاني فأما أن يبقى قدر الكر أم لا،
فههنا أقسام ثلاثة:

(1) في الصحيفة 240.
244

(الأول) أن يتغير بعضه مع كون الباقي كرا، والظاهر أنه لا خلاف
في طهارته بتموجه بعضه في بعض مع زوال التغير بذلك أو قبله. هذا على القول
باشتراط الامتزاج. وأما على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال فيكفي مجرد زوال
التغير.
(الثاني والثالث) أن يكون الباقي أقل من كر أو يتغير الجميع، وقد ذكر
جملة من الأصحاب أن تطهيره بالقاء كر عليه دفعة، فإن زال التغير وإلا فكر آخر
وهكذا حتى يزول التغير، وأنه لا يطهر بزوال التغير من قبل نفسه ولا بتصفيق
الرياح ولا بوقوع أجسام طاهرة تزيل عنه التغير. وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع:
(الأول) أن ما ذكروه من القاء كر فكر حتى يزول التغير إنما يلزم لو لم
يزل التغير أما من قبل نفسه أو بعلاج أو بماء قليل وإلا أجزأ كر واحد، وكذا إنما
يلزم لو تغير الكر الملقى على وجه لم يبق من المجموع قدر كر وإلا كان حكمه ما تقدم
في القسم الأول.
(الثاني) أنه لا يختص التطهير بما ذكروه، بل يطهر بالمطر أيضا على التفصيل
المتقدم، وبالجاري عن نبع أولا عن نبع مع كريته، لكن مع زوال التغير بكل
من هذه الأشياء أو قبله، واشتراط علو الجاري مطلقا أو مساواته أو نبع الماء من تحته
بقوة وفوران بحيث يستهلك الماء النجس لا بمثل الترشيح. واعتبار علو الجاري هنا
أو مساواته متفق عليه حتى من القائلين بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر،
لأنهم يخصون ذلك كما عرفت مما قدمنا نقله عن شيخنا الشهيد الثاني (1) بملاقاة
النجاسة بعد الاتصال، ووجه الفرق بين المقامين قد تقدم في كلامه، لكن ينقدح
على الفرق المذكور الاشكال بتساوي السطوح، إذ لا يتحقق فيه ورود الطاهر حينئذ

(1) في الصحيفة 241.
245

مع اتفاقهم على القول بالطهارة كما عرفت. وأجاب في الروض بأن جماعة من الأصحاب
منهم: المنصف (رحمه الله) في التذكرة والشهيد في الذكرى شرطوا في طهر المتنجس
في هذا الحالة امتزاج الطاهر به ولم يكتفوا بمجرد المماسة، وهذا الشرط في الحقيقة
يرجع إلى علو الجاري، إذ لا يتحقق الامتزاج بدونه، وحينئذ يتحقق الشرط وهو
ورود الطاهر على النجس ويزول الاشكال، وهذا الشرط حسن في موضعه. انتهى.
ولا يخفى عليك أن التزامه اشتراط الامتزاج في الصورة المذكورة لضرورة دفع الاشكال
وإلا فهو خلاف مقتضى مذهبه كما سيأتي من الاكتفاء بمجرد الاتصال، ويشير
إلى ذلك قوله أخيرا: " وهذا الشرط حسن في موضعه ".
(الثالث) ما ذكروا من اعتبار الدفعة في الكر الملقى هو أحد القولين
في المسألة، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في الكلام في بيان تطهير الماء القليل إن شاء
الله تعالى.
(الرابع) ما ذكروا من عدم طهره بمجرد زوال التغير من قبل نفسه
إلى آخر ما تقدم وهو أشهر القولين في المسألة وأظهرهما.
وقيل بطهره بمجرد ذلك، وهو منقول عن الفاضل يحيى بن سعيد في الجامع،
واحتمله العلامة في النهاية.
وصرح جمع من الأصحاب بأن القول بطهارة المتغير بزوال التغير لازم لكل
من قال بالطهارة بالاتمام.
وتنظر فيه بعض أفاضل متأخري المتأخرين بما حاصله: أن القول بالطهارة
بالاتمام، إما لخبر " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا " (1) أي يطهره، أو لغيره

(1) هذا مرسل السيد والشيخ (قدس سرهما) وسيأتي التعرض منه (قده) له
في تطهير القليل النجس باتمامه كرا. وقال ابن الأثير في النهاية في مادة كر: في حديث
ابن سيرين " إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر " وفي رواية " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا "
وفي تاج العروس في الجزء الثالث في الصحيفة (519) الكر بالضم مكيال لأهل العراق،
ومنه: حديث ابن سيرين " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا ".
246

من الوجوه المذكورة في أدلتهم. فإن كان المستند غير الخبر المذكور فوجه عدم اللزوم
ظاهر، وإن كان الخبر المذكور فكذلك أيضا، لأنه وإن دل بعمومه على أن الماء
إذا بلغ كرا لم يظهر فيه خبث، إلا أن ذلك العموم مخصوص نصا واجماعا بالخبث الذي
لا يكون متغيرا للماء، وإلا لكان منجسا للماء البتة، فإذا ثبتت النجاسة بالتغير كان
حكمها مستصحبا إلى أن يعلم المزيل كما ذكره القائلون بعدم الطهارة بالاتمام، ولو قيل:
إن القدر الثابت من المخصص هو التخصيص بالمتغير ما دام متغيرا، وأما ما بعد زوال
التغير فهو داخل في العموم. لقيل: إن هذا بعينه يرد على من تمسك بالرواية المشهورة (1)
وهي " إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شئ " كما لا يخفى (2).
حجة القول المشهور إن النجاسة وزوالها حكمان شرعيان متوقفان على النص
من الشارع، فكما حكم بالنجاسة بالتغير لثبوت ذلك عنه. فلا يحكم بالطهارة
بالزوال إلا مع ثبوت ذلك عنه أيضا، وإلا فيكون حكم النجاسة مستصحبا إلى أن
تحصل الطهارة بما جعله مطهرا. وليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع
فيه بل مرجعه هنا إلى العمل بعموم الدليل.
أقول: وتحقيق القول في الاستصحاب وجملة أقسامه قد تقدم في المقدمة
الثالثة (3).

(1) تقدم الكلام فيها في التعليقة 3 في الصحيفة 191.
(2) وذلك لأنها مخصوصة بغير المتغير نصا واجماعا، فالكر المتغير كلا أو بعضا
نجس، وبعد زوال التغير بمقتضى الإيراد الذكور يندرج في العموم، مع أنهم لا يقولون
به بل يستصحبون حكم النجاسة إلى أن تحصل الطهارة بأحد المطهرات الشرعية (منه
رحمه الله).
(3) في الصحيفة 51.
247

وظاهر كلام المستدل هنا أن الاستصحاب المذكور من قبيل القسم الثالث
المذكور هناك الذي هو عبارة عن اطلاق النص، دون القسم الرابع الذي هو محل النزاع،
وهذا الموضع أحد المواضع التي أشرنا هناك إلى الشك والتردد في اندراجها تحت القسم
الثالث أو الرابع من تلك الأقسام.
وتحقيق القول في ذلك أن يقال: إذا تعلق حكم بذات لأجل صفة كالماء
المتغير بالنجاسة والماء المسخن بالشمس والحائض أي ذات دم الحيض فهل يحكم
بمجرد زوال التغير وزوال السخونة وانقطاع الدم بخلاف الأحكام السابقة، أو يحكم
باجراء الأحكام السابقة إلى ظهور نص جديد؟ اشكال، ينشأ من أن الحكم في هذه
النصوص - الواردة في هذه الأفراد المعدودة ونحوها محتمل لقصره على زمان وجود
الوصف، بناء على أن التعليق على الوصف مشعر بالعلية. وأن المحكوم عليه هو العنوان
لا الفرد وقد انتفى، وبانتفائه ينتفي الحكم - ومحتمل للاطلاق، بناء على أن المحكوم
عليه إنما هو الفرد لا العنوان، والعنوان إنما جعل آلة لملاحظة الفرد، فمورد الحكم
حقيقة هو الفرد، فعلى الاحتمال الأول يكون من القسم الرابع، فإن تغير الماء هنا
بالنجاسة نظير فقد الماء في مسألة المتيمم الداخل في الصلاة ثم يجد الماء. وكما أن وجود
الماء هناك حالة أخرى مغايرة للأولى، فتعلق النص بالأولى لا يجوب استصحابه
في الثانية لمكان المخالفة. فكذا هنا زوال الوصف حالة ثانية مغايرة للأولى لا يتناولها
النص المتعلق بالأولى. وعلى الاحتمال الثاني يكون من قبيل القسم الثالث وهو الذي
ذكره السيد (قدس سره) في المدارك، وإليه جنح أيضا المحدث الأمين الأسترآبادي
(قدس سره) في تعليقاته على المدارك. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.
(المسألة الخامسة) لو جمد الكثير ثم أصابته نجاسة بعد الجمود فالظاهر
كما استظهره بعض المحققين النجاسة في خصوص الملاقاة كسائر الجامدات،
248

لخروجه بالجمود عن اسم الماء عرفا ولغة، ويظهر بالقاء النجاسة وما يكتنفها إن كان
لها عين وإلا فالموضع الملاقي لها، ويطهر باتصال الكثير به بعد زوال العين.
ونقل عن العلامة في المنتهى أنه قال: " لو لاقت النجاسة ما زاد على الكر
من الماء الجامد فالأقرب عدم التنجيس ما لم تغيره " واحتج لذلك بأن الجمود لم يخرجه
عن حقيقته بل هو مؤكد لثبوتها، فإن الآثار الصادرة عن الحقيقة كلما قويت كانت
آكد في ثبوتها، والبرودة من معلولات طبيعة الماء وهي تقتضي الجمود، وإذا لم يكن
ذلك مخرجا له عن الحقيقة كان داخلا في عموم قوله (عليه السلام): " إذا كان الماء
قدر كر لم ينجسه شئ " (1) وفيه ما عرفت من أن الجمود يخرجه عن الاسم الذي
هو المدار في الحفظ عن انفعال القليل لغة وعرفا فيزول بزواله. ولعله (قدس سره)
قاس ذلك على مثل الدبس والدهن ونحوهما، فإنها بالجمود لا تخرج عن الحقيقة،
إلا أنه قياس مع الفارق، فإن الظاهر في الماء الجامد أن أحدا لا يطلق عليه اسم الماء.
والموجود في الأخبار اطلاق اسم الثلج عليه. وبالجملة فإنه لا ريب في ضعفه. واستشكل
الحكم في التحرير، ونقل عنه في النهاية القول بالمشهور.
(المسألة السادسة) في القدر الذي لا ينفعل بالملاقاة من الراكد، وتنقيح
الكلام فيه يستدعي بسطه في مواضع:
(الموضع الأول) اعلم أنه قد ورد بتقدير ما لا ينفعل من الماء روايات بغير
لفظ الكر لا يخلو ظاهر تقديراتها من تدافع.
(فمنها) رواية عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (2) قال: " إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شئ، والقلتان جرتان ".
و (منها) رواية عبد الله بن المغيرة أيضا عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه

(1) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
249

السلام) (1) قال: " الكر من الماء نحو حبي هذا. وأشار إلى حب من تلك الحباب
التي تكون بالمدينة ".
و (منها) رواية زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " قلت له:
رواية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة؟ قال: إذا تفسخ فيها فلا
تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها، وإن كان غير متفسخ فاشرب منه وتوضأ، واطراح
الميتة إذا أخرجتها طرية، وكذا الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الشرب "
هذه جملة ما وقفت عليه من ذلك، وهي مشتملة على التحديد بالقلتين تارة
وبكونه نحو ذلك الحب المشار إليه أخرى، وبكونه قدر رواية أو حب أو قربة أو شبه
ذلك، فلا بد من بيان انطباق مصاديق هذه الألفاظ على ما يصدق عليه الكر الذي
بني عليه الأصحاب وجعلوه المعيار في هذا الباب، ليزول التنافي من البين وتجتمع الأدلة
من الطرفين. ويكون ذلك ضابطا كليا وقانونا جليا:
فنقول: أما الرواية الأولى فحملها الشيخ (رحمه الله) في الإستبصار (3)
بعد الطعن فيها أولا بالارسال على التقية. قال: " لأنه مذهب كثير من العامة "
ثم قال: " ويحتمل أن يكون مقدار القلتين مقدار الكر، لأن ذلك ليس بمنكر
لأن القلة هي الجرة الكبيرة في اللغة " انتهى.
أقول: ويؤيد الحمل على التقية أن المدار عندهم على القلتين كما أن المدار عندنا
على الكر، كما ورد في الخبر المتفق على صحته عندهم (4): " إذا كان الماء قلتين
لم يحمل خبثا ".

(1) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) في الصحيفة 7 من طبع النجف.
(4) قال ابن تيمية في الجزء الأول من المنتقى في الصحيفة 24 بعد أن ذكر هذا
الحديث: رواه الخمسة. وهم باصطلاحه - كما ذكر ذلك في أول الكتاب -: أحمد بن
حنبل في مسنده وأبو عيسى الترمذي في جامعه. وأبو عبد الرحمن النسائي في كتاب السنن.
وأبو داود السجستاني في كتاب السنن. وابن ماجة القزويني في كتاب السنن. إلا أن
النص الذي ذكره: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " وقال: وفي لفظ ابن ماجة ورواية
لأحمد " لم ينجسه شئ " وفي كنز العمال في الجزء الخامس في الصحيفة 95 " إذا بلغ الماء
قلتين لم يحمل الخبث ". وروى البيهقي في الجزء الأول من سننه في الصحيفة 260 و 261
الحديث بالنص المتقدم وفي الصحيفة 261 منه أيضا بالنص المذكور في الكتاب.
وفي مصابيح السنة للبغوي في الجزء الأول في الصحيفة 33 " إذا كان الماء قلتين لم يحمل
نجسا ".
وقد ورد الكر أيضا في رواياتهم، ويحكى عن بعضهم أنه هو المعيار في هذا الباب،
قال الجصاص في أحكام القرآن في الجزء الثالث في الصحيفة 491 في قوله تعالى: " وأنزلنا
من السماء ماء طهورا " بعد أن نقل المذاهب في الماء الكثير: " وقال مسروق والنخعي
وابن سيرين: إذا كان الماء كرا لم ينجسه شئ ". وقال ابن الأثير في النهاية في مادة كر:
في حديث ابن سيرين " إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر " وفي رواية " إذا بلغ الماء
كرا لم يحمل نجسا " وفي تاج العروس في الجزء الثالث في الصحيفة 519 في مادة كر:
الكر بالضم مكيال لأهل العراق ومنه: حديث ابن سيرين " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل
نجسا " وفي رواية " إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر ".
250

وحمل أيضا في الإستبصار الرواية الثانية على أن الحب لا يمتنع أن يسع من الماء
مقدار الكر، وعلى ذلك حمل الجرة والراوية والحب والقربة.
وجملة متأخري الأصحاب (رضوان الله عليهم) أعرضوا عن النظر في هذه الأخبار وأطبقوا على أخبار الكر، والظاهر أن ذلك إما بناء على ما اعتمدوه
من الاصطلاح في تقسيم الحديث، وأن هذا الروايات ضعيفة الأسانيد، فلا تبلغ قوة
المعارضة لتلك الأخبار الصحيحة أو الضعيفة المجبورة عندهم بعمل الطائفة. أو أنها
عندهم غير منافية بناء على ما ذكره الشيخ (قدس سره).
251

هذا. والذي وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك، أما بالنسبة إلى القلتين
فقال في كتاب المصباح المنير: " والقلة إناء للعرب كالجرة الكبيرة شبه الحب،
قال الأزهري: ورأيت القلة من قلال هجر والأحساء تسع ملء مزادة، والمزادة
شطر الراوية، وكأنها سميت قلة لأن الرجل القوي يقلها أي يحملها، وعن ابن جريح
قال: أخبرني من رأي قلال هجر: أن القلة تسع فرقا، قال عبد الرزاق: والفرق
يسع أربع أصواع بصاع النبي صلى الله عليه وآله، إلى أن قال: ويجوز أن يعتبر قلال هجر البحرين،
فإن ذلك أقرب عرف لهم، ويقال: كل قلة تسع قربتين " انتهى. وقال في كتاب مجمع
البحرين: " القلة بضم القاف وتشديد اللام إناء للعرب كالجرة الكبيرة تسع قربتين
أو أكثر، ومنه قلال هجر، وهي شبه الحباب " وقال في القاموس: " القلة الحب
العظيم أو الجرة العظيمة " انتهى. وقال المحقق في المعتبر: " أن أبا علي ابن الجنيد
قال في المختصر: الكر قلتان مبلغ وزنه ألف ومائتا رطل، وقال ابن دريد: القلة
في الحديث من قلال هجر وهي عظيمة، وزعموا أن الواحدة تسع خمس قرب " انتهى.
ونقل العلامة المنتهى أيضا عن ابن دريد أنه قال: " القلة من هجر عظيمة تسع
خمس قرب " انتهى.
وأنت خبير بأن المستفاد من كلام هؤلاء أن القلة والجرة والحب متقاربة المقادير
وأن كلا منها مما يختلف صغرا وكبرا، وأن القلة منها: ما تسع قربتين ومنها: ما تسع خمس
قرب، فلا بعد حينئذ في حمل تلك الظروف المروية في الأخبار على ما يسع الكر.
وأما الحب فقال في المصباح: " والحب بالضم الخابية فارسي معرب " وقال
في المجمع: " والحب بالضم الجرة الضخمة " وقال في القاموس: " والحب الجرة
أو الضخمة منها ".
وأنت خبير بأن تفسير الحب بالخابية التي تختلف أفرادها صغرا وكبرا، وتفسير
252

القلة به وهي كما عرفت سابقا يعطي أيضا أنه مما يختلف مقاديره، فلا يمتنع أن يكون ذلك الحب المشار إليه من الحباب الكبار التي تسع كرا من ماء.
ويؤيد ذلك صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن حب ماء فيه ألف رطل وقع فيه أوقية بول، هل يصلح شربه أو الوضوء
منه؟ قال: لا يصلح " وحينئذ فلا بعد في الحمل على ذلك، ومثل ذلك الجرة
والقربة، فإنها مما يتفاوت أفرادها أيضا صغرا وكبرا.
وأما الراوية فهي في الأصل تقال على الدابة التي يستقى عليها الماء ثم استعملت
في المزادة كما يعطيه كلام صاحب المغرب، أو أنها حقيقة فيهما كما يفهم من غيره،
وعلى أيهما فالمراد به في الحديث المزادة، قال في القاموس: " ولا تكون إلا
من جلدين تفأم بثالث بينهما لتتسع " انتهى. وقال في كتاب مجمع البحرين: " المزادة
الراوية، وسميت ذلك لأنها يزاد فيها جلد آخر من غيرها، ولهذا أنها أكبر
من القربة " انتهى. ومتى كان كذلك فبلوغها الكر لا خفاء فيه. ومع المناقشة
في ذلك فالحمل على التقية التي هي الأصل في اختلاف الأخبار عندنا كما تقدم بيانه
واشتد بنيانه في المقدمة الأولى من مقدمات الكتاب وإن لم يكن بمضمونها قائل
من العامة كما علمته مبرهنا. وأخبار الكر معتضدة بعمل الطائفة عليها قديما وحديثا فهي
مجمع عليها، ومخالفة للعامة قطعا (2) فيتعين القول بها. والله سبحانه وأولياؤه أعلم.
(الموضع الثاني) للأصحاب (رضوان الله عليهم) في معرفة الكر طريقان
وبكل منهما وردت الأخبار، وإن كان على وجه يحتاج إلى التطبيق بينها
في ذلك المضمار.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) تقدم في التعليقة 4 في الصحيفة 250 ما يوضح ذلك.
253

(الطريق الأول) معرفة ذلك بالوزن وهو ألف ومائتا رطل، ولا خلاف بينهم في هذا المقدار.
وعليه تدل صحيحة محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) قال: " الكر من الماء الذي لا ينجسه شئ ألف رطل ومائتا رطل ".
وإنما اختلفوا في المراد من الرطل في هذا الخبر، هل هو الرطل العراقي
أو المدني؟ فالمشهور حمله على الأول، وهو مائة وثلاثون درهما على المشهور، وقيل إنه مائة
وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، ذكره العلامة في نصاب الغلات من
التحرير والمنتهى (2) والظاهر أنه غفلة. وقيل بحمله على الثاني وهو مائة وخمسة وتسعون
درهما، وبه قال المرتضى في المصباح والصدوق في الفقيه.
واستدل على الأول بوجوه: (أحدها) عموم قوله (عليه السلام): " كل
ماء طاهر حتى يعلم أنه قذر " (3) والعلم لا يتحقق مع الاحتمال.
و (ثانيها) أن الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل.
و (ثالثها) أن ذلك هو المناسب لرواية الأشبار الثلاثة (4).

(1) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) ما ذهب إليه (قدس سره) في ذلك منقول عن العامة ومخالف لما صرح به
في باقي كتبه، قال بعض المتأخرين: " والظاهر أن هذا سهو منه، وكأنه كان (ره) عند
وصوله إلى هذا الموضع ناظرا في كتبهم وتبعهم فيه ذاهلا عن مخالفة نفسه في المواضع
الآخر ومخالفة الأخبار وأقوال سائر الأصحاب " انتهى. وهو في محله (منه رحمه الله).
(3) المروي في الوسائل في الباب 1 و 4 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(4) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الباب 9 و 10 - ورواية المجالس
المروية في الباب 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة من الوسائل، وسيأتي
منه (قده) ذكرهما في الطريق الثاني.
254

و (رابعها) ما فيه من الجمع بين الرواية المذكورة (1) وبين صحيحة محمد
ابن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " والكر ستمائة رطل " بحملها
على أرطال مكة، إذ لم يذهب أحد إلى حملها على الأرطال العراقية أو المدنية، والرطل
المكي رطلان بالعراقي.
و (خامسها) أن الأصل طهارة الماء خرج ما نقص عن الأرطال العراقية
بالاجماع، فيبقى الباقي.
ويرد على الأول ما تقدم في المقدمة الحادية عشرة (3) في معنى الحديث المذكور
ومرت إليه الإشارة أيضا في المقالة الرابعة من الفصل الأول (4) ونزيده هنا بيانا وتأكيدا
فنقول: إن الجهل هنا الذي هو عبارة عن عدم العلم بالقذارة الموجب للتمسك
بأصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة إما أن يكون متعلقا بإصابة النجاسة للماء، بمعنى أن
المكلف يجهل إصابة النجاسة للماء ولا يعلمها، وإما أن يكون متعلقا بالنجاسة، بمعنى
أنه يجهل كون هذا الشئ موجبا للتنجيس. وإما يجهل الحكم بالتنجيس بأن يعلم ملاقاة
النجاسة لكن يشك في تأثيرها كموضع البحث. ومقتضى الدليل العقلي الدال
على امتناع تكليف الغافل عن الخطاب بلزوم تكليف ما لا يطاق، والنقلي الدال
على ذلك كنفي الحرج إنما يقوم على العذر بالنسبة إلى القسم الأول دون الأخيرين.
وأخبار معذورية الجاهل خاصها وعامها إنما تدل على الأول وهو الجاهل المحض، دون
العالم بالنجاسات وأفرادها وما يترتب على الملاقاة من الحكم، فربما علم بالملاقاة لكن

(1) وهي صحيحة محمد بن أبي عمير المتقدمة في الصحيفة 254
(2) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) في الموضع الأول في الصحيفة 134.
(4) في الصحيفة 190.
255

جهل الحكم بالتنجيس في بعض الموارد، للشك في بعض الشروط كموضع البحث،
أو للشك في بعض الأشياء بكونها موجبة للتنجيس كنطفة غير الانسان مثلا، بل دلت
الأخبار على أن الحكم في الفردين الأخيرين وجوب الفحص والسؤال، ومع العجز
فالوقوف على جادة الاحتياط.
كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج " في رجلين أصابا صيدا وهما محرمان، الجزاء
بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ فقال: لا بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما
الصيد. قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال: إذا
أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط " (1).
ومثلها حسنة بريد الكناسي الواردة فيمن علمت أن عليها العدة ولم تدر كم هي؟
حيث قال (عليه السلام): " إذا علمت أن عليها العدة لزمتها الحجة، فتسأل
حتى تعلم " (2).
وبالجملة فمورد الخبر المذكور هو العالم بموجبات تنجيس الماء وشرائطه، فإنه متى
جهل إصابة النجاسة حكم بالطهارة إلى أن يعلم الإصابة، وما عدا هذا الفرد ففرضه
التوقف في الحكم والاحتياط في العمل.
ومما ذكرنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني أيضا، فإن الوجه في أصالة البراءة
التي اعتمدوا عليها هو ما قدمناه من الدليل العقلي والنقلي، ولزوم الحرج وتكليف
الغافل في صورة بلغنا فيها حكم شرعي ولكن اشتبه علينا المراد منه هل هو الزائد
أو الناقص؟ ممنوع، لما عرفت من الروايتين المتقدمتين.
وأورد على الثالث أنه وإن ناسب رواية الأشبار الثلاثة (3) لكن المشهور

(1) تقدم الكلام فيها في التعليقة 2 في الصحيفة 73.
(2) تقدم الكلام فيها في التعليقة 4 في الصحيفة 82 والتعليقة 1 في الصحيفة 83.
(3) تقدم بيانها في التعليقة 4 في الصحيفة 254.
256

على تقدير المساحة إنما هو العمل على رواية أبي بصير (1) البالغ تكسير ما اشتملت
عليه إلى اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر، وليس تباعد المدني عنها أبعد من تباعد
العراقي.
وعلى الرابع أيضا ما ذكره الشهيد الثاني (رحمه الله) من أنه يجوز أن يحمل
الستمائة على الأرطال المدنية ليوافق قول القميين برواية الأشبار الثلاثة (2) بناء على أن
الألف والمائتين العراقية توافق رواية الأشبار بزيادة النصف كما ذكره جماعة: منهم
الشهيد في الذكرى. ومن ثم عدل بعض متأخري المتأخرين عن كيفية الاستدلال بالرواية
إلى نحو آخر، فقال: " لو لم يحمل على العراقي لم يمكن الجمع بين روايات الأرطال،
بخلاف ما لو حمل عليه، فإنها تجتمع على ذلك ".
ويرد على الخامس أيضا (أولا) أن الأصل المذكور أما عبارة عن الدليل،
وليس إلا الخبر المتقدم في الوجه الأول وأمثاله. وقد عرفت ما فيه. وأما عبارة
عن الحالة السابقة أو الحالة الراجحة التي إذا خلي الشئ ونفسه، وكل منهما قد أخرج
عنه معلومية ملاقاة النجاسة، فاستصحابها في موضع النزاع فرع صحة الاستدلال
بالاستصحاب في مثل ذلك، وقد حققنا لك في المقدمة الثالثة (3) بطلانه وهدمنا
أركانه، فإنه بتجدد الحالة الثانية أعني ملاقاة النجاسة هنا لا يمكن الجزم بالبقاء
على الحكم الأول.
و (ثانيا) أيضا أن المستفاد من قوله (عليه السلام): " إذا بلغ الماء

(1) الآتي ذكرها في الصحيفة 261.
(2) وسيأتي بيانها في الصحيفة 262.
(3) في الصحيفة 51.
257

كرا لم ينجسه شئ " وأمثاله أن حصول الكرية موجب لعدم الانفعال وانتفائها
موجب للانفعال، فإذا حصل الشك في الكرية كان حكمها في الانفعال وعدمه
مشكوكا فيه، وتعيين أحدهما يحتاج إلى دليل (فإن قيل): الدليل هو العمومات الدالة
على طهارة الماء (قلنا): العمومات على تقدير تسليمها مخصوصة بالخبر المذكور، والشك
إنما حصل في كون محل النزاع فردا للمخصص أم لا، فتعين أحدهما يحتاج إلى دليل.
احتج الآخرون بأن الحمل على المدني يقتضي الاحتياط، حيث إن الأقل
مندرج تحته. وبأنه (عليه السلام) كان من أهل المدينة. فالظاهر أنه (عليه السلام)
أجاب بما هو المعهود عنده.
وأجيب عن الأول بأن الاحتياط ليس بدليل شرعي. مع أنه معارض بمثله،
فإن المكلف مع تمكنه من الطهارة المائية لا يسوغ له العدول إلى الترابية، ولا يحكم
بنجاسة الماء إلا بدليل شرعي، فإذا لم يقم على النجاسة فيما نحن فيه دليل كان
الاحتياط في استعمال الماء لا في تركه. وعن الثاني بأن المهم في نظر الحكيم هو رعاية
ما يفهمه السائل، وذلك إنما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاحه، ولم يعلم أن
السائل كان مدنيا، وغالب الرواة عنه (عليه السلام) كانوا من أهل العراق، فلعل
السائل كان منهم حملا على الغالب.
(قلت): ويؤيد بأن المرسل وهو ابن أبي عمير كان عراقيا، وبجوابه (عليه
السلام) لمحمد بن مسلم الذي هو من الطائف توابع مكة بستمائة رطل المتعين أو الظاهر
حملها على الأرطال المكية. لما تقدم، وبقوله (عليه السلام) في حديث الكلبي
النسابة (2) لما سأله عن الشن الذي ينبذ فيه التمر للشرب والوضوء: " وكم كان يسع

(1) تقدم الكلام فيه في التعليقة 3 في الصحيفة 191.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل
من كتاب الطهارة.
258

من الماء؟ فقال ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك. فقلت: بأي الأرطال؟
قال: أرطال مكيال العراق ".
وأجاب المحقق الشيخ حسن في المعالم عن المعارضة الموردة على الجواب الأول
بأن الأخبار الدالة على اعتبار الكرية اقتضت كونها شرطا لعدم انفعال الماء بالملاقاة، فما
لم يدل دليل شرعي على حصول الشرط يجب الحكم بالانفعال، ثم قال: " وبهذا يظهر
ضعف احتجاجهم بالأصل على الوجه الذي قرروه، لأن اعتبار الشرط مخرج
عن حكم الأصل ".
وفيه نظر، لأن كون الكرية شرطا لعدم الانفعال لا يقتضي الحكم بالانفعال
في صورة عدم العلم بالشرط، إذ عند عدم الشرط في الواقع ينتفي المشروط لا عند عدم
العلم به. على أنه معارض بأن الأخبار المذكورة كما تدل على كون الكرية شرطا لعدم
الانفعال كذلك تدل على كون القلة شرطا للانفعال، فما لم يدل دليل على حصول
الشرط يجب الحكم بعدم الانفعال.
والظاهر أن ابتناء ما ذكره في المعالم على ما اشتهر بينهم، وبه صرح والده (قدس
سرهما) في تمهيد القواعد في مبحث تعارض الأصلين، حيث قال: " إذا وقع في الماء
نجاسة وشك في بلوغه الكرية فهل يحكم بنجاسته أو طهارته؟ فيه وجهان (أحدهما)
الحكم بنجاسته، وهو المرجح، لأن الأصل عدم بلوغه الكرية. و (الثاني) أنه
طاهر، لأن الأصل في الماء الطهارة. ويضعف بأن ملاقاة النجاسة رفعت هذا الأصل
لأن ملاقاتها سبب في تنجيس ما تلاقيه " ثم ذكر ما يدل على أن هذا هو القول الشائع
بين الفقهاء. انتهى. وفيه بمعونة ما قررناه سابقا توجه المنع إلى قوله: " بأن ملاقاة
النجاسة رفعت هذا الأصل " فإن مجرد ملاقاة النجاسة لا يوجب التنجيس كما ذكره،
بل مع القلة. وهي غير متحققة.
259

والتحقيق في هذا المقام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم
السلام) أن يقال: إن مقتضى الأخبار الواردة في الكر القائلة بأنه إذا بلغ الماء
كرا لم ينجسه شئ، الدالة بمنطوقها على أنه مع العلم ببلوغ الكرية لا ينجسه شئ،
وبمفهومها الذي هو حجة صريحة صحيحة على أنه مع العلم بعدم بلوغه كرا ينجس بالملاقاة
تعليق الحكم بنجاسة ذلك الماء على العلم بعدم بلوغه كرا، وتعليق الحكم بطهارته
على العلم ببلوغه كرا (1) ومقتضى هذين التعليقين ومقتضى الأخبار الدالة على
وجوب التوقف في كل ما لم يعلم حكمه على التعيين هو وجوب التوقف عن الحكمين
والوقوف على جادة الاحتياط في العمل. وقولهم: الاحتياط ليس بدليل شرعي
على اطلاقه ممنوع، لما عرفت في المقدمة الرابعة من أن الاحتياط في مثل هذه
الصورة من الأدلة الشرعية كما صرحت به الأخبار، ومنها: الخبران المتقدمان (2)
والمعارضة التي ذكرها المجيب مندفعة بأنه قد ظهرت الدلالة على وجوب الاحتياط،
وأنه دليل شرعي على وجوب الاجتناب عن هذا الماء فالاحتياط الذي ذكره المعارض
غير متجه. وإن أردت مزيد ايضاح للفرق بين الاحتياط الواجب الذي هو أحد
الأدلة الشرعية والمستحب الذي توهموا حمل ذلك الفرد الآخر عليه، فارجع
إلى ما حققناه في المقدمة المذكورة. على أن قول القائل: الأصل عدم بلوغ الكرية
لا ينطبق على شئ من معاني الأصل التي صرحوا بها كما تقدم في المقدمة الثالثة في بحث

(1) ووجه أخذ العلم من جانب المنطوق والمفهوم ما تقدم لك بيانه في المقدمة الحادية
عشرة من أن مناط الحكم بالطهارة والنجاسة هو علم المكلف بذلك لا مجرد كونه كذلك
واقعا كما تقدم بيانه ثمة مبرهنا مشروحا (منه رحمه الله).
(2) وهما صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة بريد الكناسي المتقدمان
في الصحيفة 256.
260

البراءة الأصلية (1) وحينئذ فمقتضى الاحتياط الواجب في هذا الماء متى لاقته النجاسة هو التوقف في الحكم بالطهارة أو النجاسة وترك استعماله والانتقال إلى التيمم، ومقتضى
الاحتياط المستحب الوضوء بعد ذلك والقضاء. وأما الوضوء به وضم التيمم ثم يتطهر
بعد حصول الماء ويطهر ما لاقى الأول كما ذكره البعض بدون القضاء بعد ذلك
فلا يخفى ما فيه.
(الطريق الثاني) هو معرفة الكر بالمساحة، وقد اختلف فيه الأصحاب
(رضوان الله عليهم).
فالمشهور أنه ما كان كل واحد من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار ونصف، ومبلغ
تكسيره اثنان وأربعون شبرا وسبعة أثمان شبر. وقيل: ما كان كل واحد من أبعاده
ثلاثة أشبار، ومبلغ تكسيره سبعة وعشرون شبرا، وهو مذهب القميين، واختاره جملة
من المتأخرين منهم: العلامة في المختلف والشهيد الثاني في الروضة والروض والمولى
الأردبيلي والمحقق الشيخ علي في حواشي المختلف، ونفى عنه البعد في كتاب الحبل المتين
وقيل: ما بلغ تكسيره نحو مائة شبر، ونقل عن ابن الجنيد. وقيل: ما بلغت
أبعاده الثلاثة عشرة ونصفا، ونقل عن القطب الراوندي. وقيل: ما بلغ تكسيره
ستة وثلاثين شبرا، وهو ظاهر المحقق في المعتبر، وإليه مال السيد في المدارك كما
سيأتي ايضاحه إن شاء الله تعالى. وقيل بالاكتفاء بكل ما روي، وعزي إلى السيد
جمال الدين ابن طاووس (قدس سره).
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة رواية أبي بصير (2) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال: إذا
كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه. فذلك الكر من الماء ".

(1) في الصحيفة 41.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
261

ورواية الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" الكر ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها ".
وصحيحة إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " قلت
له: الماء الذي لا ينجسه شئ؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته "
وصحيحته الأخرى عنه (عليه السلام) (3) قال: " الكر ثلاثة أشبار
في ثلاثة أشبار ".
وقال الصدوق (طاب ثراه) في كتاب المجالس (4): " روي أن الكر هو
ما يكون ثلاثة أشبار طولا في ثلاثة أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا ".
وقال في كتاب المقنع (5): " روي أن الكر ذراعان وشبر في ذراعين
وشبر ".
وتنقيح البحث في هذه الأخبار مع ما يتعلق بها من كلام علمائنا الأبرار يتم
برسم فوائد:

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 و 10 - من أبواب الماء المطلق والنص
المذكور في الكتاب هو نص الكافي والتهذيب. وفي الإستبصار في الصحيفة 33
من طبع النجف رواها هكذا: " ثلاثة أشبار ونصف طولها في ثلاثة أشبار ونصف
عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها " وفي التعليقة 4 من الصحيفة المذكورة أن هذه
الزيادة لم ترد في النسخة المخطوطة بيد والد الشيخ محمد بن المشهدي صاحب المزار المصححة
على نسخة المصنف.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 9 و 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
(4) في الصحيفة 383، وفي الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق.
(5) في الصحيفة 4، وفي الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق.
262

(الأولى) قد اتفقت هذه الأخبار ما عدا رواية المجالس في عدم ذكر البعد
الثالث (1) وظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروض أن رواية أبي بصير (2) قد
اشتملت على الأبعاد الثلاثة ولكن أحدها وهو العمق لم يذكر تقديره. وقد تكلف
شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين لبيان اشتمالها على مقادير الأبعاد الثلاثة بإعادة الضمير
في قوله: " مثله " إلى ما دل عليه قوله (عليه السلام): " ثلاثة أشبار ونصفا " أي
في مثل ذلك المقدار لا في مثل الماء، إذ لا محصل له، وكذا الضمير في قوله (عليه السلام):
" في عمقه " أي في عمق ذلك المقدار في الأرض. وفيه أنه يؤذن بكون قوله:
" في عمقه من الأرض " كلاما منقطعا، وبه يكون الكلام متهافتا معزولا عن الملاحة
لا يليق نسبته بتلك الساحة البالغة أعلى درجات البلاغة والفصاحة، بل الظاهر من قوله:
" في عمقه " أنه إما حال من " مثله " أو نعت " لثلاثة أشبار " الذي هو بدل من " مثله "
وعلى هذا تكون الرواية مشتملة على بيان مقدار العمق مع أحد البعدين الأخيرين،
والبعد الثالث متروك.
وبالجملة فهذه الأخبار كلها مشتركة في عدم عد الأبعاد الثلاثة (3) ولم أجد لها
رادا من هذه الجهة، بل ظاهر الأصحاب قديما وحديثا الاتفاق على قبولها وتقدير
البعد الثالث فيها، لدلالة سوق الكلام عليه، وكان ذلك شائعا كثيرا في استعمالاتهم
وجاريا دائما في محاوراتهم، ومنه: قول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثالثهم من العبيد وثلث من مواليها
وعد بعضهم من ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): " حبب إلي من دنياكم ثلاث:

(1) قد تقدم في التعليقة 1 في الصحيفة 262 اشتمال رواية الحسن بن صالح
الثوري في النسخ المتداولة من الإستبصار على ذكر الأبعاد الثلاثة.
(2) المتقدمة في الصحيفة 261.
(3) قد تقدم في التعليقة 1 في الصحيفة 262 اشتمال رواية الحسن بن صالح
الثوري في النسخ المتداولة من الإستبصار على ذكر الأبعاد الثلاثة.
263

الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة " (1) قال: " فإن الصلاة ليست من لذة الدنيا
فهو (صلى الله عليه وآله) لما عد من ملاذ الدنيا اثنتين عزفت نفسه المقدسة عن ذكر الثالثة،
فكأنه يقول: ما لي ولملاذ الدنيا؟ قرة عيني في الصلاة، فالواو الثانية استينافية.
(أقول): وهو معنى لطيف مناسب لذلك المقام المنيف (2) ويؤيده أيضا

(1) هذا الحديث رواه الصدوق في الخصال عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله
بطريقين في الصحيفة 79 ولم ترد كلمة (ثلاث) في شئ منهما في النسخة المطبوعة.
ورواهما صاحب الوسائل عنه في الباب 89 - من أبواب آداب الحمام والتنظيف. وقد
أورد كلمة (ثلاث) في أحدهما، وإليك نصهما كما في الوسائل: " حبب إلي من الدنيا ثلاث:
النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ". " حبب إلي من دنياكم النساء والطيب
وجعل قرة عيني في الصلاة ".
وفي سنن البيهقي ج 7 ص 78 عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
" إنما حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " ورواه بهذا اللفظ السيوطي في الجامع الصغير. وفي سنن النسائي ج 2 ص 156 " حبب إلي من الدنيا
النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ".
وقال المناوي في فيض القدير ج 3 ص 370: " لم يرد في الحديث لفظ ثلاث كما
قال الحافظ العراقي والزركشى وابن حجر في تخرج الكشاف، ومن زادها كالزمخشري
والقاضي فقد وهم، فإنها مفسدة للمعنى، إذ لم يذكر بعدها إلا النساء والطيب.
(2) قال الصدوق في الخصال في الصحيفة 79 بعد ذكر الحديثين: " قال مصنف
هذا الكتاب: إن الملحدين يتعلقون بهذا الخبر ويقولون إن النبي صلى الله عليه وآله قال: حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وأراد أن يقول الثالث فندم وقال: قرة عيني في الصلاة.
وكذبوا، لأنه لم يكن مراده بهذا الخبر إلا الصلاة وحدها، لأنه قال: " ركعتان
يصليهما متزوج أفضل عند الله من سبعين ركعة يصليها غير متزوج " وإنما حبب الله إليه
النساء لأجل الصلاة. وهكذا قال: " ركعتان يصليهما متعطر أفضل من سبعين ركعة يصليهما
غير متعطر " وإنما حبب إليه الطيب أيضا لأجل الصلاة. ثم قال: " وجعل قرة عيني في الصلاة "
لأن الرجل لو تطيب وتزوج ثم لم يصل لم يكن له في التزويج والطيب فضل ولا ثواب " انتهى
264

جملة من الأخبار (1) ومما يدخل في حيز هذا المقام قوله تعالى: " فيه آيات بينات مقام
إبراهيم " (2) ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية " أنها
ثلاث آيات: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثر فيه قدماه، والحجر الأسود،
ومنزل إسماعيل " (3).
وللمحدث الأمين في كتاب الفوائد المدنية هنا كلام في توجيه عدم ذكر البعد
الثالث في هذه الأخبار، قال: " ومن أغلاط جمع منهم أنهم يقولون في كثير
من الأحاديث الواردة في كمية الكر: أنها خالية عن ذكر أحد الأبعاد الثلاثة، لكنه
محذوف ليقاس المحذوف على المذكور، والحذف مع القرينة شائع ذائع. وفي هذا دلالة
على إسراعهم في تفسير الأحاديث وفي تعيين ما هو المراد منها، والدلالة على ذلك كله
إن أصح أحاديث هذا الباب هكذا: " ذراعان عمقه في ذراع ونصف سعته " (4) وجه
الدلالة أنه يفهم اعتبار أربعة أشبار في العمق وثلاثة في الأخيرين. فلم تبق دلالة على أن
حكم المحذوف حكم المذكور مع وجود هذا الاحتمال، وأنه يفهم من هذا الحديث
الشريف أن المراد من أحد المذكورين في الأحاديث العمق ومن الآخر السعة، ومن
المعلوم عند كل لبيب غير غافل أن معنى السعة مجموع الطول والعرض، فلا حاجة إلى القول
بالحذف، ومن له أدنى معرفة بأساليب كلام العرب يعرف أنهم يقصدون بقولهم:

(1) فروى في الكافي في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) قال: " قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): ما أحب من دنياكم إلا النساء والطيب " وروى فيه عنه (عليه
السلام) عنه (صلى الله عليه وآله) قال: " جعل قرة عيني في الصلاة ولذتي في الدنيا
النساء وريحانتي الحسن والحسين " وجه التأييد أنه (صلى الله عليه وآله) لم يعد في هذه الأخبار الصلاة في الدنيا كما لا يخفى (منه قدس سره).
(2) سورة آل عمران. آية 92.
(3) رواه الكليني في الكافي في الباب - 10 - من كتاب الحج.
(4) وهو صحيح إسماعيل بن جابر المتقدم في الصحيفة 262.
265

ثلاثة في ثلاثة في الثوب وشبهه أن كل واحد من طوله وعرضة ثلاثة، ويقصدون
في الحياض والآبار وشبههما أن كل واحد من سعته وعمقه ثلاثة. وتوضيح المقام أن
الكر في الأصل مكيال أهل العراق، وإنما جرت عادة الأئمة (عليهم السلام) بذكر
لفظ الكر في معرض بيان الفرق بين مقدار الماء الذي ينجس بمجرد ورود النجاسة
عليه، وبين مقدار الماء الذي ليس كذلك، لأن مخاطبهم (عليهم السلام) كان
من أهل العراق، ومن المعلوم أن الكر مدور مثل البئر، ومن المعلوم أن المناسب
بمساحة المدور أن يذكر قطره وإن يذكر عمقه، وغير مناسب أن يذكر طوله وعرضه
وعمقه " انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو كلام جيد منطبق على تلك الروايات سالم من تلك التقديرات سيما الصحيحة
التي أشار إليها. فإنها ظاهرة فيه بعيدة الحمل جدا على ما ينافيه، إلا أن الأصحاب
(رضوان الله عليهم) قديما وحديثا، أخباريهم ومجتهدهم كلهم على اعتبار الأبعاد
الثلاثة في تقدير الكر وحمل الروايات على ذلك، وليس ذلك خاصا بالمجتهدين كما
زعمه (قدس سره) وجعله من جملة أغلاطهم، بل هذا الصدوق (قدس سره) في الفقيه
والمقنع صرح باعتبار الأبعاد الثلاثة. فقال في الفقيه (1): " والكر ثلاثة أشبار طولا
في عرض ثلاثة أشبار في عمق ثلاثة أشبار " ونحوه في المقنع (2) والمجالس (3) استنادا
إلى صحيحة إسماعيل بن جابر الثانية (4) الناطقة بأن الكر ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.
وما ذاك إلا بتقدير البعد الثالث فيها، وتبعه على ذلك القميون الذين هم أساطين
الأخباريين، ولكنه (طاب ثراه) حيث كان مولعا بتتبع عثرات المجتهدين عثر

(1) في باب (المياه وطهرها ونجاستها)
(2) في الصحيفة 4.
(3) في الصحيفة 383.
(4) المتقدمة في الصحيفة 262
266

من حيث لا يشعر فخص ذلك بالمجتهدين، بل نسبه إلى جمع منهم مؤذنا بزيادة ضعفه وتمريضه.
ولا يخفى أنه على تقدير ما ذكره لا يبلغ تكسير الكر إلى القدر الذي اعتبروه
على تقدير اعتبار البعد الثالث في كل الروايات. ولكنه (طاب ثراه) قد بنى
ذلك على ما تقدمت الإشارة إليه آنفا (1) من اعتبار الاجتماع في ماء الكر، وبذلك
صرح في تعليقاته على شرح المدارك، فقال بعد أن نقل أن المشهور بين الأصحاب
حمل لفظ (في) الواقع في روايات هذا الباب على ضرب الحساب، وأنهم استفادوا
من التكسير، وفرعوا على ذلك أنه لو كان قدر الكر من الماء منبسطا على وجه الأرض
لا ينفعل بالملاقاة - ما لفظه: " وفيه اشكال، وذلك لأن المتبادر من سياق الروايات
اعتبار اجتماع أجزاء الماء، وكون عمقه قدرا يعتد به، والاعتبار العقلي مساعد
على ذلك، لأنه حينئذ يتقوى بعضها ببعض، وتتوزع النجاسة الواقعة فيه على أجزائه
ويؤيده أن الكر في الأصل مكيل معروف لأهل العراق، والعادة في هيئات المكاييل
أن يكون لها عمق يعتد به، وبعد التنزل نقول: مع قيام الاحتمال لا مجال للاستدلال
على أن اجمال الخطاب يوجب رعاية الاحتياط كما مر تحقيقه " ثم أورد صحيحة محمد
ابن مسلم (2) الدالة على السؤال عن غدير ماء مجتمع تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب
ويغتسل فيه الجنب، قال: " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " وصحيحة صفوان ابن مهران الجمال (3) المتضمنة للسؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع
وتلغ فيها الكلاب وتشرب منها الحمير ويغتسل فيها الجنب ويتوضأ منها. قال:
" وكل قدر الماء؟ قال: إلى نصف الساق وإلى الركبة. فقال: توضأ منه " وصحيحة
إسماعيل بن جابر المذكورة في كلامه آنفا (4).

(1) في الصحيفة 232.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(4) في الصحيفة 265.
267

ولا يخفى أن ما ذكره (قدس سره) وإن احتمل احتمالا قريبا إلا أنه لا دليل
عليه صريحا، فكما أنه بهذا الاحتمال لا يتعين القول المشهور، فكذلك ما ذكره
لا يتعين، لعدم الدلالة الصريحة أو الظهور، بل الظاهر أن العمل على اطلاقات
الأخبار أظهر، والأسئلة عن المياه المجتمعة مع الاغماض عن المناقشة في كيفية هذا
الاجتماع وإن ظهر في بعضها ما يؤيد ما ذكره لا يدل على التخصيص في الجواب كما
تقرر في محله.
(الثانية) قد طعن جملة من المتأخرين منهم: السيد في المدارك في سند
رواية أبي بصير (1) بضعف الطريق باشتماله على أحمد بن محمد بن يحيى، فإنه مجهول،
وعثمان بن عيسى، فإنه واقفي، وأبي بصير، فإنه مشترك بين الثقة والضعف (2)
وفيه أن لفظ أحمد بن محمد بن يحيى وإن وقع في التهذيب لكن الموجود في الكافي
محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد، ولا ريب أنه أحمد بن محمد بن عيسى، لرواية محمد
ابن يحيى العطار عنه، وروايته هو عن عثمان بن عيسى مكررا. والظاهر أن
ما في التهذيب تصحيف، ولهذا أن جملة من متأخري المتأخرين لم يطعنوا في السند
إلا بعثمان بن عيسى وأبي بصير، وكأنهم لاحظوا الرواية من الكافي. لكن
الراوي عن أبي بصير هنا هو ابن مسكان، ولا يخفى على الممارس أنه عبد الله، وهو
قرينة ليث المرادي، لتكرر روايته عنه في غير موضع، والمدار في تعيين الرواة
عندهم إنما هو على القرائن التي من جملتها قرينة القبلية والبعدية ونحوهما. إلا أن الفاضل
الشيخ محمد ابن المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني ذكر في بعض حواشيه
على التهذيب أو الاستبصار، قال: " نقل بعض مشايخنا أن رواية ابن مسكان

(1) المتقدمة في الصحيفة 261.
(2) وقد أورد الرواية شيخنا البهائي في الحبل المتين أيضا على ما في التهذيب وطعن فيها
بما طعن به في المدارك أيضا (منه قدس سره)
268

عن أبي بصير تعين كونه ليث المرادي، ولا يخلو من تأمل، لما قاله الوالد (رحمه الله)
من أنه اطلع على رواية فيها ابن مسكان عن يحيى بن القاسم، وأظن أني وقفت
على ذلك أيضا " انتهى.
(أقول): لم نقف بعد الفحص والتتبع الزائد في كتب الأخبار على ذلك
إلا أنهم ذكروا أيضا أن رواية عاصم بن حميد عن أبي بصير مما يعين كونه ليث المرادي
وقد وقفت في كتاب الإستبصار في باب وقت صلاة الفجر على رواية عاصم بن حميد
عن أبي بصير المكفوف، ومثله في التهذيب أيضا، لكن الموجود في الفقيه والكافي
في هذا السند بعينه عن أبي بصير ليث المرادي والمتن بحاله، لكن فيه زيادة في رواية
الشيخ في آخر الحديث ليست في رواية ذينك الشيخين.
وكيف كان، ولو مع تقدير صحة رواية الشيخ وعدم تطرق احتمال الغلط
أو السهو فيما نقله، فلا شك أن الحمل على الأكثر المتكرر قرينة مرجحة كما صرحوا به
في أمثال ذلك.
هذا، وقد ذهب الفاضل ملا محمد باقر السبزواري الخراساني صاحب
الكفاية وذخيرة المعاد في شرح الإرشاد في الشرح المذكور إلى أن أبا بصير الذي
هو يحيى بن القاسم أو ابن أبي القاسم ثقة، وأن المطعون فيه بالوقف والضعف إنما هو
يحيى بن القاسم وغيره، وأبو بصير إنما هي كنية الأول خاصة، وإنما نشأ الاشتباه
من العلامة في الخلاصة، وإلا فكتب علماء الرجال المتقدمين صريحة في التعدد.
واستدل على ذلك بوجوه: (منها) أن أبا بصير أسدي كما يظهر من رجال النجاشي
والكشي واختيار الرجال والخلاصة ورجال العقيقي، والآخر أزدي كما يفهم من
رجال الكشي. و (منها) أنه ذكر الشيخ في (قر) (1) يحيى بن أبي القاسم يكنى أبا بصير
مكفوف، واسم أبي القاسم إسحاق. وقال بعده بلا فصل: يحيى بن أبي القاسم

(1) إشارة إلى أصحاب الباقر (عليه السلام).
269

الحذاء. وهذا يشهد بالمغايرة، وفي (ظم) (1) يحيى بن القاسم الحذاء واقفي، ثم قال:
يحيى بن أبي القاسم يكنى أبا بصير. وهو أيضا يعطي المغايرة. و (منها) أنه ذكر
النجاشي والشيخ في اختيار الرجال: أن أبا بصير مات سنة خمسين ومائة، وهذا
ينافي كونه واقفيا، لأن وفاة الكاظم (عليه السلام) في سنة ثلاثة وثمانين ومائة.
وكلامه (قدس سره) وإن كان للمناقشة فيه مجال إلا أنه لا يخلو من قرب.
وكيف كان فالمفهوم من تتبع الأخبار الواردة وخطاب الأئمة (عليهم السلام)
معه زيادة على ما قد روي في مدحه جلالة شأنه. والأخبار الواردة بذمه قد ورد
مثلها بل أشنع منها في من هو أجل قدرا وأشهر ذكرا منه. والجواب في الموضعين
واحد. على أنا لا نرى الاعتماد في صحة الأخبار على هذا الاصطلاح، بل عملنا
إنما هو على اصطلاح متقدمي علمائنا (رضوان الله عليهم) كما قدمنا (2) ايضاحه بأتم
ايضاح وأفصحنا عنه أي افصاح.
ومن ذلك يعلم الكلام أيضا في عثمان بن عيسى، فإنه وإن كان مما لا خلاف
في كونه واقفيا إلا أن الكشي نقل فيه قولا بأنه ممن اجتمعت العصابة على تصحيح
ما يصح عنه. مضافا إلى ما نقله الشيخ في كتاب العدة مما يؤذن بالاتفاق على العمل
بروايته ورواية أمثاله من ثقات الواقفية والفطحية. وهذا مع أن جملة منهم صرحوا بأن
ضعفها منجبر بالشهرة، والأمران اصطلاحيان، وحينئذ فالرواية معتمدة.
وقد طعن جماعة من متأخري المتأخرين منهم: المحقق الشيخ حسن
في المنتقى، والسيد في المدارك، وتبعهما جمع ممن تأخر عنهما (3) في صحيحة

(1) إشارة إلى أصحاب الكاظم (عليه السلام).
(2) في المقدمة الثانية في الصحيفة 14.
(3) منهم: الشيخ علي بن سليمان البحراني والعلامة السيد ماجد البحراني (قدس سرهما) (منه قدس سره).
270

إسماعيل بن جابر الثانية (1) التي هي مستند القميين، قال في كتاب المنتقى بعد ذكر
الحديث المشار إليه: " وهذا الحديث قد نص جمهور المتأخرين من الأصحاب على
صحته. وليس بصحيح، لأن الشيخ رواه في موضع آخر من التهذيب عن الشيخ
المفيد (رحمه الله) عن أحمد بن محمد عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد عن محمد
ابن خالد عن محمد بن سنان عن إسماعيل بن جابر، فأبدل عبد الله بمحمد، والراويان
قبل وبعد متحدان كما ترى، فاحتمال روايتهما له منتف قطعا، لاختلافهما في الطبقة،
وقد ذكرنا في فوائد المقدمة أن الذي يقتضيه حكم الممارسة تعين كونه محمدا، وفي الكافي
رواه عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن البرقي عن ابن سنان، والظاهر أن هذا
صورة ما وقع في رواية البرقي له، والتعيين من تصرف الراوي عنه، فأخطأ فيه المخطئ
وأصاب فيه المصيب " انتهى.
وأجاب عن ذلك شيخنا البهائي (قدس سره) في كتاب مشرق الشمسين بعد
أن ذكر الخبر المذكور بما لفظه: " وأما هذا السند فقد أطبق علماؤنا من زمن
العلامة (طاب ثراه) إلى زماننا هذا على صحته ولم يطعن أحد فيه، حتى انتهت النوبة
إلى بعض الفضلاء الذين عاصرناهم (قدس الله أرواحهم) فحكموا بخطأ العلامة واتباعه
في قولهم بصحته، وزعموا أن ملاحظة طبقات الرواة في التقدم والتأخر يقتضي أن
ابن سنان المتوسط بين البرقي وبين إسماعيل بن جابر محمد لا عبد الله، وأن تبديل
شيخ الطائفة له بعبد الله في سند الحديث توهم فاحش. لأن البرقي ومحمد بن سنان
في طبقة واحدة. فإنهما من أصحاب الرضا (عليه السلام). وأما عبد الله بن سنان
فليس من طبقة البرقي. لأنه من أصحاب الصادق (عليه السلام) فرواية البرقي عنه بغير
واسطة مستنكرة. وأيضا فوجود الواسطة في هذه الرواية بين ابن سنان وبين الصادق
(عليه السلام) تدل على أنه محمد لا عبد الله، لأن زمان محمد متأخر عن زمانه (عليه

(1) المتقدمة في الصحيفة 262.
271

السلام) بكثير، فهو لا يروي عن بالمشافهة، بل لا بد من تخلل الواسطة. وأما عبد الله
ابن سنان فهو من أصحاب الصادق (عليه السلام) والظاهر أنه يأخذ عنه بالمشافهة
لا بالواسطة. هذا حاصل كلامهم. وظني أن الخطأ في هذا المقام إنما هو منهم لا من
العلامة وأتباعه (قدس الله أرواحهم) ولا من شيخ الطائفة (نور الله مرقده) قال البرقي
وإن لم يدرك زمان الصادق (عليه السلام) لكنه قد أدرك بعض أصحابه ونقل عنه بلا
واسطة، ألا ترى إلى روايته عن داود بن أبي يزيد العطار حديث من قتل أسدا
في الحرم (1) وعن ثعلبة بن ميمون حديث الاستمناء باليد (2) وعن زرعة حديث صلاة
الأسير في باب صلاة الخوف (3) وهؤلاء كلهم من أصحاب الصادق (عليه السلام)
فكيف لا تنكر روايته عنهم بلا واسطة وتنكر الواسطة عن عبد الله بن سنان؟ وأيضا
فالشيخ قد عد البرقي في أصحاب الكاظم (عليه السلام) وأما تخلل الواسطة بين
ابن سنان وبين الصادق (عليه السلام) فإنما يدل على أنه محمد لو لم توجد بين عبد الله وبينه
(عليه السلام) واسطة في شئ من الأسانيد، لكنها توجد بينهما كتوسط عمر بن يزيد
في دعاء آخر سجدة من نافلة المغرب (4) وتوسط حفص الأعور في تكبيرات الافتتاح

(1) وهو حديث أبي سعيد المكاري المروي في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب
كفارات الصيد وتوابعها من كتاب الحج.
(2) وهو حديث ثعلبة بن ميمون والحسين بن زرارة الذي رواه صاحب الوسائل
في الباب - 3 - من أبواب نكاح البهائم ووطئ الأموات والاستمناء من كتاب الحدود
والتعزيرات.
(3) وهو حديث سماعة المروي في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب صلاة الخوف
والمطاردة من كتاب الصلاة.
(4) في حديث عمر بن يزيد الذي رواه صاحب الوسائل في الباب - 46 - من أبواب
صلاة الجمعة وآدابها من كتاب الصلاة.
(5) في حديث حفص المروي في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب تكبيرة
الاحرام من كتاب الصلاة. إلا أن في الوسائل بعد كلمة حفص " يعني ابن البختري ".
272

وقد يتوسط شخص واحد بعينه بين كل منهما وبين الصادق (عليه السلام) كإسحاق ابن عمار، فإنه متوسط بين محمد وبينه (عليه السلام) في سجدة الشكر (1)
وهو بعينه أيضا متوسط بين عبد الله وبينه (عليه السلام) في طواف الوداع (2) وتوسط
إسماعيل بن جابر في سندي الحديثين الذين نحن فيهما من هذا القبيل. والله الهادي
إلى سواء السبيل " انتهى.
(الثالثة) لا ريب بعد ما عرفت في دلالة رواية أبي بصير (3) على القول
المشهور، ودلالة صحيحة إسماعيل بن جابر (4) على قول القميين.
وأما قول ابن الجنيد فلم نقف له على مستند.
وكذلك قول القطب الراوندي، إلا أن بعض متأخري المتأخرين حمله على إرادة
معنى الجمع والمعية من لفظ (في) دون الضرب كما هو المشهور. ولا يخفى ما فيه
من البعد، لما في التحديد بذلك من التفاوت في التقديرات كما نبه عليه جملة
من مشايخنا (طيب الله تعالى مضاجعهم)، فإن الماء الذي مجموع أبعاده الثلاثة عشرة
أشبار ونصف كما تكون مساحته مساوية لمساحة الكر على القول المشهور، كما لو كان
كل من الأبعاد الثلاثة ثلاثة أشبار ونصفا، فقد تكون ناقصة عنها قريبة منها، كما لو
فرض طوله ثلاثة أشبار وعرضة ثلاثة وعمقه أربعة أشبار ونصف شبر، فإن مساحته حينئذ
أربعون شبرا ونصف، وقد تكون بعيدة عنها جدا، كما لو فرض طوله ستة وعرضه

(1) في حديث إسحاق بن عمار الذي رواه الشيخ في التهذيب ج 1 ص 165، ورواه
صاحب الوسائل في الباب - 3 - من أبواب سجدتي الشكر من كتاب الصلاة.
(2) في حديث إسحاق بن عمار الذي رواه الشيخ في التهذيب في باب (زيارة البيت)
من كتاب الحج.
(3) المتقدمة في الصحيفة 261.
(4) المتقدمة في الصحيفة 262 السطر 5.
273

أربعة وعمقه نصف شبر، فإن مساحته اثنا عشر شبرا. وجعل شيخنا الشهيد الثاني
في الروض أبعد الفروض منها ما لو كان كل من عرضه وعمقه شبرا وطوله عشرة
أشبار ونصفا. قال شيخنا البهائي (رحمه الله) بعد نقل ذلك عنه: " وهو محل كلام،
لوجود ما هو أبعد منه، كما لو كان طوله تسعة أشبار وعرضه شبرا واحدا وعمقه
نصف شبر، فإن مساحته أربعة أشبار ونصف (1). وأيضا ففي كلامه (قدس سره)
مناقشة أخرى، إذ الأبعاد الثلاثة في الفرض الذي ذكره إنما هو اثنا عشر شبرا ونصف
لا عشرة ونصف، ثم قال: هذا. وأنت خبير بأن صدور مثل هذا التحديد العظيم
الاختلاف الشديد التفاوت من القطب الراوندي (رحمه الله) لا يخلو من غرابة، كما أن صدور مثل هذا الكلام من شيخنا الشهيد الثاني غير خال من الغرابة أيضا. ثم
الذي يظهر أن مراد القطب الراوندي (رحمه الله) أن الكر هو الذي لو تساوت
أبعاده الثلاثة لكان مجموعها عشرة أشبار ونصفا، وحينئذ ينطبق كلامه على المذهب
المشهور والله أعلم بحقائق الأمور " انتهى كلامه (زيد مقامه) ولا يخفى أن ما ذكره
أخيرا من الحمل لكلام الراوندي جيد لو أمكن تطبيق كلامه عليه.
وأما ما نقل عن السيد جمال الدين ابن طاووس من العمل بكل ما روي فهو
يرجع في التحقيق إلى مذهب القميين، فكأنه يحمل ما زاد على الاستحباب.
بقي الكلام في صحيحة إسماعيل بن جابر الدالة على التحديد بذراعين
في العمق في ذراع وشبر في السعة (2) ويظهر من المحقق في المعتبر الميل إلى العمل بها،

(1) ثم كتب (قدس سره) في حاشية الكتاب ما صورته: " وقد يوجد ما هو أبعد
من هذا، كما لو كان طوله عشرة أشبار وعرضه ربع شبر وعمقه كعرضه، فإن مجموع إبعاده
عشرة ونصف ومساحته خمسة أثمان شبر. (منه رحمه الله).
(2) المتقدمة في الصحيفة 262.
274

حيث قال: بعد أن ذكر صحيحة إسماعيل التي هي مستند القميين (1) وطعن فيها
بقصور الدلالة، ثم رواية أبي بصير (2) وطعن فيها بعثمان بن عيسى، ثم هذه الصحيحة -
ما لفظه: " فهذه حسنة، ويحتمل أن يكون قدر ذلك كرا " انتهى. وربما اعترض
عليه بوصفها بالحسن مع أنها في أعلى مراتب الصحة. والجواب عن ذلك أن اصطلاح
تقسيم الأخبار إلى هذه الأقسام متأخر عنه، فهو لم يرد بالحسن المعنى الذي تقرر بينهم
وإنما أراد الوصف بما يوجب قبولها والعمل عليها. ويظهر من السيد في المدارك الميل
أيضا إلى ذلك، حيث قال بعد أن ذكر روايتي أبي بصير (3) وإسماعيل الأخرى (4)
وطعن فيهما بضعف الاسناد ما صورته: " وأصح ما وقفت عليه في هذا المسألة
من الأخبار متنا وسندا ما رواه الشيخ " وساق الرواية (5) ثم نقل عن المحقق الميل
إلى العمل بها، وقال: " وهو متجه " وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا البهائي
في الحبل المتين، حيث قال بأنه لم يطلع على قائل بها من الأصحاب. ثم إنه (قدس سره)
ذكر أن الخبر المذكور غير شديد البعد عن التقدير المشهور، فإن المراد بالذراع ذراع اليد
وهو شبران تقريبا، وأن المراد بكون سعته ذراعا وشبرا كون كل من طوله وعرضه
ذلك المقدار، فيبلغ تكسيره على هذا التقدير ستة وثلاثين شبرا.
هذا. ويأتي على ما نقلنا آنفا (6) عن المحدث الأمين (قدس سره) من تفسيره
السعة في الخبر وكذا في جملة الأخبار بمجموع الطول والعرض الذي هو عبارة عن قطر
الدائرة لا كل من الطول والعرض أنه لا يخلو إما أن يخص الكر الذي لا ينفعل بما

(1) المتقدمة في الصحيفة 262.
(2) المتقدمة في الصحيفة 261.
(3) المتقدمة في الصحيفة 261.
(4) المتقدمة في الصحيفة 261.
(5) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة في الصحيفة 262 السطر 3.
(6) في الصحيفة 265.
275

كان على تلك الهيئة، كما يعطيه ظاهر كلامه من الرد على القول المشهور في حمل لفظ
(في) الواقع في روايات هذا الباب على ضرب الحساب، وأن المتبادر من الروايات
اعتبار اجتماع أجزاء الماء، وكون عمقه قدرا يعتد به. وفيه تضييق زائد بل لا يكاد
يتفق كر على هذه الهيئة، وإما أن يعتبر الضرب فيه وتحصيل قدر المساحة. وطريق
معرفة ذلك كما هو مذكور في علم المساحة أن يضرب نصف القطر المعبر عنه
في الحديث بالسعة وهو واحد ونصف في نصف المحيط الذي هو تسعة تقريبا، لما
ثبت هناك أن القطر ثلث المحيط تقريبا، فيكون نصف المحيط على هذا أربعة ونصفا،
وعند ضرب واحد ونصف في أربعة ونصف يحصل منه ستة وثلاثة أرباع، وإذا ضربنا
هذا في العمق الذي هو أربعة يكون الحاصل سبعة وعشرين شبرا، فيكون موافقا
لمذهب القميين. وفيه أنه وإن حصل به انطباق صحيحتي إسماعيل بن جابر (1) كل
منهما على الأخرى، إلا أنه مع مخالفته لما نقلناه من ظاهر كلامه، بعيد غاية البعد،
وإن قصر تقدير الكر، على شكل الأسطوانة المستديرة التي لا يعلم تقديرها حقيقة بل
تقريبا، ومع ذلك فمعرفتها بالتقريب المذكور يتوقف على المهارة في فن علم المساحة
والحذاقة في فن علم الهندسة التي تتعذر على أكثر الناس غير معهود وقوع مثله عن أهل
العصمة (صلوات الله عليهم) بل ربما يقال غير جائز الوقوع، فيتعين حينئذ حمل
الرواية على ما ذكره شيخنا البهائي من الستة والثلاثين شبرا. وقال المحدث الأمين
في تعليقاته على شرح المدارك: " قد اعتبرنا الكر وزنا ومساحة في المدينة المنورة
فوجدنا رواية ألف ومائتا رطل (2) مع الحمل على العراقي قريبة غاية القرب من هذه
الصحيحة (3) " انتهى. والظاهر أن اعتباره بناء على ما ذكره مما يرجع إلى سبعة
وعشرين شبرا.

(1) المتقدمتين في الصحيفة 262.
(2) وهي صحيحة ابن أبي عمير المتقدمة في الصحيفة 254
(3) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة في الصحيفة 262 السطر 3.
276

(الموضع الثالث) في بيان ضبط الكر بالأوزان المتعارفة في زماننا من المن
المتعارف في بلادنا البحرين (حرسها الله من طوارق الشين) والمن التبريزي المتعارف
في جملة من ولايات العجم (صانها الله تعالى عن العدم).
فنقول: إعلم أن المتعارف في بلادنا المذكورة أن المن عندهم بالمثقال السوقية
الموسومة عندهم بمثاقيل بار خمسمائة مثقال واثنا عشر مثقالا، وربع المن عندهم أربعة
آلاف، كل ألف بالحساب المتقدم عبارة عن اثنين وثلاثين مثقالا، والمن ستة عشر
ألفا (1)، ونصف الألف باصطلاحهم قياس، وهي ستة عشر مثقالا، وفي حدود
السنة السابعة والثلاثين بعد المائة والألف قد اعتبرنا الصاع بالصنج المذكور لأجل زكاة
الفطرة بالشعير كما ذكره الأصحاب فوجدناه مشتملا على نقصان فاحش، ثم اعتبرناه
بحساب المثاقيل الشرعية المتفق بين الخاصة والعامة على عدم تغيرها في جاهلية
ولا اسلام ونسبناها إلى مثاقيل البحرين، فكان مبلغ الصاع الشرعي عبارة عن ثلاثة
آلاف بالألف المتقدم في اصطلاحهم، واثني عشر مثقالا بالمثاقيل المذكورة عندهم.
وأما المن التبريزي فهو الآن في شيراز وما والاها عبارة عن تسع عباسيات
بالفلوس السود، وكل عباسية عبارة عن عشرين مرضوفا، وكل مرضوف غازيان،
وهو عبارة عن أربعة مثاقيل صيرفية كما اعتبرناه، فتكون العباسية التي هي عبارة
عن عشرين مرضوفا عبارة عن ثمانين مثقالا صيرفيا، ويكن المن التبريزي الذي
هو عبارة عن تسع عباسيات سبعمائة مثقال وعشرين مثقالا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الرطل يقال بالاشتراك كما تقدمت الإشارة إليه
على ثلاثة أوزان: العراقي والمدني والمكي.

(1) وليست الألف كما يتوهم في بادئ الرأي عبارة عن عدد وإنما هي اسم للصنج
المعروف عندهم (منه رحمه الله).
277

فأما العراقي فهو مائة وثلاثون درهما كما عليه الأصحاب، ولا يلتفت إلى ما ذكره
العلامة مما قدمنا نقله عنه (1) فإنه غفلة بغير ريبة. وعلى ما ذكره الأصحاب تدل
رواية جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني عن أبي الحسن (عليه السلام) (2) وفيها " أن
الصاع ستة أرطال بالمدني وتسعة بالعراقي، ثم قال: وأخبرني أنه يكون بالوزن ألفا
ومائة وسبعين وزنة " والمراد بالوزنة الدرهم. وهي مطابقة لما ذكرناه في تقدير العراقي
فإنه تسع هذا المقدار المذكور مائة وثلاثون كما لا يخفى.
وأما الرطل المدني فإنه مائة وخمسة وتسعون درهما، وعليه يدل من الأخبار رواية
إبراهيم بن محمد الهمداني عن أبي الحسن (عليه السلام) (3) المتضمنة أن الصاع ستة أرطال
بالرطل المدني، وأن الرطل مائة وخمسة وتسعون درهما.
وأما الرطل المكي فهو رطلان بالعراقي عند الأصحاب، ولم أقف في الأخبار
على تحديد له، وحينئذ فيكون الرطل العراقي ثلثي الرطل المدني ونصف الرطل المكي.
والرطل العراقي بالمثاقيل الشرعية عبارة عن أحد وتسعين مثقالا شرعيا، لأن
كل عشرة دراهم تعدل سبعة مثاقيل شرعية كما ذكره غير واحد من أصحابنا وغيرهم
وبالمثاقيل الصيرفية ثمانية وستون مثقالا وربع مثقال، لأن المثقال الصيرفي مثقال وثلث
من الشرعي، والمثقال الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي، فكل أربعة مثاقيل شرعية
ثلاثة مثاقيل صيرفية.
والرطل المدني بالمثاقيل الشرعية عبارة عن مائة مثقال وستة وثلاثين مثقالا ونصف.

(1) في الصحيفة 254.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب زكاة الفطرة من كتاب الزكاة.
(3) صاحب العسكر كما في التهذيب في باب (تمييز فطرة أهل الأمصار) وفي الوسائل
في الباب - 7 - من أبواب زكاة الفطرة من كتاب الزكاة.
278

مثقال بالتقريب المتقدم، وبالمثاقيل الصيرفية عبارة عن مائة مثقال ومثقالين وثلاثة أثمان
مثقال كما يظهر بالمقايسة.
ولما كان الصاع على ما ذكروه وورد به النص أيضا تسعة أرطال بالعراقي
وستة بالمدني، فإذا نسب إلى الرطل العراقي الذي هو أحد وتسعون مثقالا شرعيا
يكون مقداره بالمثاقيل الشرعية ثمانمائة مثقال وتسعة عشر مثقالا، وإذا نسب إليه
بالمثاقيل الصيرفية يكون قدره ستمائة مثقال وأربعة عشر مثقالا وربع مثقال، ومن
ذلك يعلم حساب نسبته إلى الرطل المدني بالمثاقيل الشرعية والصيرفية بزيادة نصف
ما ذكر في العراقي على مقداره.
وحينئذ فإذا كان المن التبريزي سبعمائة مثقال وعشرين مثقالا صيرفيا، والرطل
العراقي بالمثاقيل الصيرفية كما تقدم ثمانية وستون مثقالا وربع مثقال فكل من
تبريزي عشرة أرطال عراقية ونصف رطل وثلاثة مثاقيل صيرفية وثلاثة أثمان مثقال.
وأنت إذا قسمت عدد أرطال الكر الذي هو ألف ومائتا رطل على عدد المن
التبريزي المذكور، ظهر لك أن مقدار الكر بالمن التبريزي مائة من وثلاثة عشر منا
وثلاثة أرباع من وأربعة وثلاثون مثقالا صيرفيا وخمسة أجزاء من ستة عشر جزء
من مثقال.
ونقل المحدث الكاشاني (قدس سره) في كتاب الوافي أن المن التبريزي كان
كان في عصره ستمائة مثقال صيرفي، فيكون الصاع بالمثقال الصيرفي يزيد عليه بأربعة عشر
مثقالا وربع مثقال، ثم قال: " ومنه يعلم مقدار الكر بالأرطال وهو مائة من وستة
وثلاثون ونصف بالتبريزي " ولعل منشأ التفاوت بين ما ذكرنا وذكره بزيادة الصنج
في هذه الأوقات.
وأما الكر بوزن البحرين فهو عبارة عن ثمانية وعشرين منا وثمن من، لأن
279

الكر بالأصوع العراقية كما يعلم بالحساب والمقايسة مائة صاع وثلاثة وثلاثون صاعا
وثلث صاع، والصاع بوزن البحرين كما عرفت (1) عبارة عن ثلاث آلاف بالصنج
المتقدم في اصطلاحهم، واثني عشر مثقالا بمثاقيلهم المتقدمة، وهو ربع منهم إلا
عشرين مثقالا من مثاقيلهم، ومتى كررت هذا المقدار بعدد أصوع الكر يظهر لك
ما قلناه من كمية الكر بوزنهم (2) وقد وجدت بخط الوالد (طيب الله تعالى مرقده) أنه
وجد بخط بعض الفضلاء ما صورته: " وزن الصاع في شهر رمضان من السنة السادسة
والثلاثين بعد الألف ربع وألف وأربع مثاقيل وربع مثقال شيرازي " انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التفاوت الزائد بالنسبة إلى ما ضبطناه، وذلك بزيادة الصنج أخيرا
كما أشرنا إليه.
الفصل الثالث
في القليل الراكد. وتفصيل القول فيه يتم برسم مقامات:
(المقام الأول) الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم)
نصا وفتوى في نجاسة الماء القليل بتغيره بالنجاسة في أحد الأوصاف الثلاثة.
إنما الخلاف في النجاسة بمجرد الملاقاة.
فالمشهور بل كاد يكون اجماعا بل ادعى عليه في الخلاف في غير موضع
الاجماع هو النجاسة.

(1) في الصحيفة 277،
(2) لأن ضرب ثلاثة آلاف واثنى عشر مثقالا في مائة صاع يبلغ أحدا وعشرين
منا وألف وقياس، فتزيد عليها وهو ثلاث وثلاثون وثلث يبلغ ما ذكرنا (منه
رحمه الله). (35)
280

وعزي إلى الحسن بن أبي عقيل (رحمه الله) القول بعدم النجاسة إلا بالتغير،
واختار هذا القول جمع من متأخري المتأخرين.
ولا بد من نقل الأخبار هنا من الطرفين، والكلام بما يرفع التناقض من البين
فنقول: أما ما يدل من الأخبار على القول المشهور الذي هو عندنا المؤيد المنصور.
(فمنها) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) وسئل
عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب، قال: " إذا
كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ ".
و (منها) صحيحة زرارة (2) قال: " إذا كان الماء أكثر من راوية لم
ينجسه شئ تفسخ أو لم يتفسخ إلا أن تجئ له ريح تغلب على ريح الماء ".
و (منها) صحيحة إسماعيل بن جابر (3) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): الماء الذي لا ينجسه شئ؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته "
و (منها) صحيحة عبد الله بن سنان (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الكافي ج 1 ص 2، ورواها الشيخ في التهذيب ج 1 ص 117 مسندة
عن أبي جعفر (عليه السلام) بسند ضعيف، ورواهما صاحب الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في باب - 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(4) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة، مع أن هذا المتن هو صدر
صحيحة إسماعيل بن جابر كما في الكافي ج 1 ص 2، والتهذيب ج 1 ص 11 و 12
والوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق، وقد تقدم منه (قده) نقل ذيلها ونسبه
إلى إسماعيل بن جابر في الصحيفة 262 السطر 5 كما تقدم منه الكلام في سندها وأن الراوي عن
إسماعيل بن جابر هو عبد الله بن سنان أو محمد بن سنان في الصحيفة 270، ولم نجد في كتب
الحديث رواية لعبد الله بن سنان بهذا المتن عن الإمام مباشرة.
281

عن قدر الماء الذي لا ينجسه شئ. فقال: كر.. الحديث.
و (منها) رواية عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) قال: " إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شئ، والقلتان
جرتان ".
و (منها) رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" ولا تشرب من سؤر الكلب إلا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه ".
و (منها) صحيحة علي بن جعفر عن أخي موسى (عليه السلام) (3) قال:
" سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء، يتوضأ منه
للصلاة؟ قال: لا إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء ".
و (منها) صحيحته أيضا عن أخيه (عليه السلام) (4) قال: " سألته
عن رجل رعف وهو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه، هل يصلح الوضوء منه؟
قال: لا ".
و (منها) موثقة عمار الساباطي (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل معه إناء أن فيهما ماء وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيهما هو؟ وليس يقدر
على ماء غيره. قال: يهريقهما جميعا ويتمم " وهذا الحديث رواه الشيخ في موضعين

(1) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق وفي الباب - 1 -
من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 8 و 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 8 و 13 - من أبواب الماء المطلق من كتاب
الطهارة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 8 و 12 - من أبواب الماء المطلق وفي الباب - 4 -
من أبواب التيمم وفي الباب - 64 - من أبواب النجاسات.
282

من التهذيب (1) ورواه ثقة الاسلام والصدوق أيضا في الموثق عن سماعة (2).
و (منها) رواية أبي بصير عنه (عليه السلام) (3) قال: " إذا أدخلت
يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة، فإذا أدخلت
يدك في الماء وفيها شئ من ذلك فأهرق ذلك الماء ".
و (منها) صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر (4) قال: " سألت أبا الحسن
(عليه السلام) عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة. قال: يكفئ الإناء ".
و (منها) موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) قال: " إذا
أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شئ من المني ".
و (منها) موثقته أيضا (6) قال: " سألته عن رجل يمس الطست
أو الركوة ثم يدخل يده في الإناء قبل أن يفرغ على كفيه، إلى أن قال (عليه السلام):
وإن كان أصابه جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إذا لم يكن أصاب يده شئ

(1) رواه في آخر باب (تطهير المياه من النجاسات) عن عمار وعن سماعة، ورواه
في آخر باب (التيمم وأحكامه) عن عمار، ورواه في باب (المياه وأحكامها) عن سماعة.
(2) رواه ثقة الاسلام عن سماعة في الباب - 6 - من كتاب الطهارة، ورواه
صاحب الوسائل عن سماعة في الباب - 8 و 12 - من أبواب الماء المطلق وفي الباب - 4 - من
أبواب التيمم وفي الباب - 64 - من من أبواب النجاسات. ولم نجده في الفقيه بعد الفحص عنه
في مظانه، كما أن صاحب الوسائل لم يروه عن الفقيه وكذا صاحب الوافي بمقتضى الطبعة
الثانية. نعم في الطبعة الأول قد أثبت عن الفقيه أيضا.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق وفي الباب - 28 -
من أبواب الوضوء.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
283

من المني، وإن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفيه فليهرق
الماء كله ".
و (منها) رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه. فقال: إن كانت يده
قذرة فأهرقه، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه.. الحديث ".
و (منها) حسنة شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
" في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ أنه لا بأس إذا لم
يكن أصاب يده شئ ".
و (منها) موثقة عمار الساباطي عنه (عليه السلام) (3) قال: " سئل عن ماء
شرب منه باز أو صقر أو عقاب. فقال: كل شئ من الطير يتوضأ مما يشرب منه
إلا أن ترى في منقاره دما، فإذا رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب ".
و (منها) موثقة عمار أيضا عنه (عليه السلام) (4) أنه " سئل عن ماء
شربت منه الدجاجة. فقال: إن كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب،
وإن لم تعلم أن في منقارها قذرا فتوضأ منه واشرب ".
و (منها) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) قال:
" سألته عن الكلب يشرب من الإناء. قال: اغسل الإناء ".

(1) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق وفي الباب - 7 -
من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 4 من أبواب الأسئار، ورواه عن الصدوق
مرسلا في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 1 و 2 - من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
284

و (منها) رواية حريز عمن أخبره عنه (عليه السلام) (1) قال: " إذا
ولغ الكلب في الإناء فصبه ".
و (منها) صحيحة الفضل بن عبد الملك البقباق (2) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة، إلى أن قال: فلم أترك
شيئا إلا سألته عنه. فقال: لا بأس به، حتى انتهيت إلى الكلب. فقال:
رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء ".
و (منها) رواية معاوية بن شريح (3) قال: " سأل عذافر أبا عبد الله
(عليه السلام) وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقر والبعير والحمار والفرس
والبغل والسباع، يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال: نعم اشرب منه وتوضأ
قال: قلت له: الكلب؟ قال: لا. قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا
والله إنه نجس لا والله إنه نجس ".
و (منها) حسنة المعلي بن خنيس (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء، أمر عليه حافيا، فقال
أليس وراءه شئ جاف؟ قلت: بلى. فقال: لا بأس، أن الأرض يطهر بعضها بعضا ".
و (منها) ما رواه الشهيد في الذكرى (5) وغيره في غيره عن العيص

(1) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الأسئار. ورواها بنحو التقطيع
في الباب - 11 و 70 - من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 32 - من أبواب النجاسات والأواني والجلود
من كتاب الطهارة.
(5) في الصحيفة 9 ورواه صاحب الوسائل عن الذكرى والمعتبر في الباب - 9 -
من أبواب الماء المضاف والمستعمل من كتاب الطهارة.
285

ابن القاسم قال: " سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء. قال: إن كان
من بول أو قذر فليغسل ما أصابه ".
و (منها) رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام، فإن فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر
إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب وهو شرهما، إن الله لم يخلق خلقا شرا من الكلب
وإن الناصب أهون على الله من الكلب ".
و (منها) رواية علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن (عليه السلام) (2)
قال: " لا تغتسل من غسالة ماء الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، ويغتسل فيه ولد
الزنا والناصب لنا أهل البيت، وهو شرهم ".
و (منها) رواية حمزة بن أحمد عن الكاظم (عليه السلام) (3) قال:
" لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب
وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت، وهو شرهم ".
و (منها) موثقة ابن أبي يعفور المروية في كتاب العلل (4) عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: " إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها تجتمع غسالة اليهودي
والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم.. الحديث ".
و (منها) صحيحة علي بن جعفر عن أخي موسى (عليه السلام) (5) أنه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل من كتاب الطهارة.
(4) في الصحيفة 106 وفي الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
المستعمل من كتاب الطهارة.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب النجاسات والأواني والجلود
كتاب الطهارة.
286

" سأله عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام. قال: إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير
ماء الحمام، إلا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل ".
و (منها) صحيحته أيضا عن أخيه (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن خنزير
شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات ".
و (منها) ما رواه في كتاب قرب الإسناد (2) عن علي بن جعفر عن أخيه
(عليه السلام) قال: " سألته عن حب ماء فيه ألف رطل وقع فيه أوقية من بول، هل
يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال: لا يصلح ".
و (منها) رواية سعيد الأعرج (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الجرة تسع مائة رطل من ماء يقع فيها أوقية من دم، اشرب منه وأتوضأ؟ قال: لا ".
و (منها) رواية حفص بن غياث عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) (4)
قال: " لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة ".
و (منها) رواية أبي بصير (5) قال: " دخلت أم معبد (6) العبدية على

(1) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب النجاسات وفي الباب - 1 - من
أبواب الأسئار.
(2) هذه الرواية رواها صاحب الوسائل عن كتاب علي بن جعفر في الباب - 8 -
من أبواب الماء المطلق وقد ذكرها المجلسي في المجلد الرابع من البحار في الصحيفة 158
في ضمن مسائل علي بن جعفر الواردة من غير طريق عبد الله بن جعفر الحميري، ولم نجدها
في كتاب قرب الإسناد.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 8 و 13 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب النجاسات وفي الباب - 10 -
من أبواب الأسئار.
(5) هذه الرواية والتي بعدها مروية في الكافي في باب الاضطرار إلى الخمر الدواء
(منه رحمه الله).
(6) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة، وفي الكافي والوسائل
والوافي (أم خالد) وسيأتي منه (قده) ذلك أيضا في نجاسة الخمر.
287

أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده، فقالت: جعلت فداك أنه يعتريني قراقر
في بطني، إلى أن قالت (1): وقد وصف لي أطباء العراق النبيذ بالسويق وقد وقفت
وعرفت كراهتك له، فأحببت أن أسألك عن ذلك. فقال: وما يمنعك من شربه؟
قالت: قد قلدتك ديني فألقى الله حين ألقاه فأخبره أن جعفر بن محمد أمرني ونهاني
فقال: يا أبا محمد ألا تسمع إلى هذه المرأة وهذه المسائل؟ لا والله لا آذن لك في قطرة
منه، فلا تذوقي منه قطرة، إلى أن قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يبل
الميل ينجس حبا من ماء، يقولها ثلاثا " (2).
و (منها) رواية عمر بن حنظلة (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره؟ فقال:
لا والله ولا قطرة تقطر في حب إلا أهريق ذلك الحب ".
و (منها) صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (4) قال:
" سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه،

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة، وفي الكافي والوسائل
ليس بين قولها: إنه يعتر بنى قراقر في بطني. وقولها: وقد وصف لي أطباء العراق.. الخ
كلام فاصل. نعم في الوافي بينهما العبارة الآتية: فسألته عن اعلال النساء وقالت.
(2) رواها صاحب الوسائل في الباب 20 من أبواب الأشربة المحرمة من كتاب
الأطعمة والأشربة، وروى قوله (عليه السلام): ما يبل الميل.. الخ في الباب - 38 -
من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب الأشربة المحرمة من كتاب
الأطعمة والأشربة ورواها الكليني في الكافي في باب (أن رسول الله - ص - حرم كل مسكر
قليله وكثيره) من كتاب الأشربة. لا كما ذكره (قده) في التعليقة 5 ص 287.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
288

يصلح الوضوء منه؟ قال: إن لم يكن شئ يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئا بينا فلا يتوضأ منه ".
و (منها) صحيحة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه (1) قال: وما أحسبه
إلا حفص بن البختري، قال: " قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): العجين يعجن
من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة " وفي رواية
أخرى (2) أنه " يدفن ولا يباع " والظاهر أن العجن بالماء إنما وقع قبل العلم بنجاسة
الماء حملا لتصرف المسلم على الصحة، فلا يحمل على كون النجاسة بالتغير، إذ التغير
لا يشتبه حاله.
و (منها) رواية علي بن حديد عن بعض أصحابنا (3) قال: " كنت مع
أبي عبد الله (عليه السلام) في طريق مكة فصرنا إلى بئر فاستقى غلام أبي عبد الله (عليه السلام)
دلوا فخرج فيه فأرتان، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أرقه، فاستقى
آخر فخرجت فيه فأرة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أرقه، قال: فاستقى الثالث
فلم يخرج فيه شئ، فقال: صبه في الإناء، فصب في الإناء ".
هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار التي تصلح لأن تكون مستندا للقول
المشهور، وهي كما ترى على ذلك المطلب واضحة الظهور عارية عن القصور.
وبيان الاستدلال بها أن جملة منها قد دلت على أن ما نقص عن الكر أو الرواية
أو نحوها من تلك المقادير ينفعل بالنجاسة، ودلالتها بمفهوم الشرط الذي هو حجة عند

(1) ورواها صاحب الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
وفي الباب - 7 - من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة
(2) ورواها صاحب الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
وفي الباب - 7 - من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة
(3) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق من كتاب كتاب الطهارة.
289

المحققين. وعليه دلت جملة من الأخبار كما قدمنا في المقدمة الثالثة (1).
وجملة منها قد تضمنت النهي عن الوضوء والشرب من الإناء بوقوع قطرة من دم فيه أو خمر أو شرب طير على منقاره دم أو قذر. والنهي حقيقة في التحريم
عند محققي الأصوليين. وقد تقدم ما يدل على ذلك من الآيات والأخبار في المقدمة
السابعة (2) بل وقع التصريح في بعض هذه الأخبار بالتنجيس.
وجملة منها قد دلت على اهراق ماء الإناء بادخال القذرة من نجاسة البول
أو المني أو غيرهما. وفي بعضها بعد الأمر بالاهراق الأمر بالتيمم. وما ذلك جميعه
إلا للنجاسة.
وجملة منها قد دلت على الأمر بغسل الأواني التي شرب منها نجس العين
أو وقع فيها ميتة. ومن الظاهر أن الأمر بالغسل إنما هو للاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة
من عبادة أو أكل أو نحوهما. والأمر للوجوب كما عليه المحققون، وقد تقدم ما يدل
على ذلك أيضا في المقدمة السابعة (3) وما ذاك إلا للنجاسة.
وجملة منها قد دلت على النهي عن الغسل بملاقاة العين معللا في جملة منها بالنجاسة.
وقد أورد على هذه الاستدلالات جملة من المناقشات، وسيأتي الكلام فيها
على وجه يوضح الحال ويقلع مادة الاشكال بتوفيق ذي الجلال.
وأما ما استدل به على القول الثاني (فمنها) صحيحة حريز عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (4) أنه قال: " كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب.
وإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضأ ولا منه ولا تشرب ".

(1) في الصحيفة 57.
(2) في الصحيفة 112.
(3) في الصحيفة 112.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
290

ورواية عبد الله بن سنان (1) قال: " سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام)
وأنا حاضر عن غدير أتوه وفيه جيفة. فقال: إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد
فيه الريح فتوضأ ".
ورواية سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الرجل يمر
بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت. قال: إن كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضأ
ولا يشرب ".
وحسنة محمد بن ميسر (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، ويريد أن يغتسل منه، وليس معه إناء
يغرف به، ويداه قذرتان. قال: يضع يده ويتوضأ ثم يغتسل. هذا مما قال الله تعالى:
ما جعل عليكم في الدين من حرج " (4).
ورواية عثمان بن زياد (5) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون
في السفر، فآتي الماء النقيع ويدي قذرة. فاغمسها في الماء؟ قال: لا بأس ".
ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (6) أنه " سأل عن الماء النقيع
تبول فيه الدواب. فقال: إن تغير الماء فلا تتوضأ منه. وإن لم تغيره أبوالها فتوضأ
منه. وكذلك الدم إذا سال وأشباهه ".
ورواية أبي خالد القماط (7) أنه " سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في الماء يمر به
الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن كان الماء قد تغير
ريحة أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه، وإن لم يتغير ريحه وطعمه فاشرب وتوضأ ".

(1) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق
(3) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(4) سورة الحج آية 78.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق
(7) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق
291

ورواية العلاء بن الفضيل (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الحياض يبال فيها. قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول ".
ورواية عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سألته
عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه والسنور أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك.
أيتوضأ أو يغتسل منه؟ قال: نعم إلا أن تجد غيره فتنزه عنه ".
وروى في الفقيه (3) " أن النبي (صلى الله عليه وآله) أتى الماء، فأتاه أهل
البادية فقالوا: يا رسول الله إن حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم؟ فقال
لهم: لها ما أخذت أفواهها ولكم سائر ذلك ".
ورواية أبي بصير (4) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نسافر
فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جنب القرية. فتكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي
وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال إن عرض في قلبك منه شئ فقل هكذا، يعني
أفرج الماء بيدك. ثم توضأ، فإن الدين ليس بمضيق.. ".
وروى العلامة في المختلف (5) عن ابن أبي عقيل أنه قال: تواتر عن الصادق
(عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن " الماء طاهر لا ينجسه إلا ما غير لونه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.
(3) في باب (المياه وطهرها ونجاستها) ورواه صاحب الوسائل في الباب - 9 -
من أبواب الماء المطلق. وما ذكره (قده) يوافق رواية الشيخ (قده) في التهذيب لهذا الحديث
في الجزء الأول في الصحيفة 117 وأما رواية الفقيه فليس فيها أن رسول الله صلى الله عليه وآله أتى
الماء، وإنما أولها " وأتى أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا.. الخ ".
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(5) في الصحيفة 2.
292

أو طعمه أو رائحته. وأنه سئل (عليه السلام) عن الماء النقيع والغدير وأشباههما فيه
الجيف والعذرة وولوغ الكلب وتشرب منه الدواب وتبول فيه. أيتوضأ منه؟ فقال
لسائله: إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضأ منه، وإن كان الماء غالبا
على النجاسة فتوضأ واغتسل ".
وروى الصفار في كتاب بصائر الدرجات (1) في الصحيح عن شهاب بن عبد ربه
قال: " أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) أسأله، فابتدأني فقال: إن شئت فسل يا شهاب
وإن شئت أخبرناك بما جئت له، فقلت: أخبرني. قال: جئت تسألني عن الغدير
يكون إلى جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قلت: نعم. قال: توضأ من الجانب الآخر إلا أن
يغلب الماء الريح فينتن ".
ورواية أبي مريم الأنصاري (2) قال: " كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام)
في حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من ركي له فخرج عليه قطعة من عذرة
يابسه فأكفأ رأسه وتوضأ بالباقي ".
هذه جملة ما اطلعت عليه من الأخبار مما يصلح لأن يكون مستندا لذلك القول.
ووجه الاستدلال بها أن بعضا منها قد دل على جواز الوضوء والشرب من الماء
الذي لاقته النجاسة إلا مع غلبة أوصاف النجاسة، وبعضا منها على جواز وضع اليد
القذرة في الماء والوضوء والغسل منه. ولفظ الماء في تلك الأخبار شامل باطلاقه للقليل
والكثير. بل في حسنة محمد بن ميسر (3) تصريح بالقليل بخصوصه.
وأنت خبير بأنه لو ثبتت المنافاة بين هذه الأخبار لكان الترجيح للأخبار

(1) في الجزء الخامس باب (أن الأئمة يعرفون الاضمار) ورواه صاحب الوسائل
في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) المتقدمة في الصحيفة 291.
293

المتقدمة، لاعتضادها بعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا، فإنه لم ينقل الخلاف في هذه
المسألة قديما إلا عن ابن أبي عقيل، فشهرة العمل بمضمون الأخبار الأولة بين قدماء
الأصحاب مما يلحقها بالمجمع عليه في الرواية، الذي هو أحد المرجحات الشرعية كما
تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثالثة (1) وبذلك صرح جملة من أصحابنا منهم: السيد
المحقق صاحب الغنية (قدس سره) وغيره، وحينئذ فحيث كان معظم الفرقة الناجية
سابقا ولاحقا قائلين بالنجاسة، فهو دليل على أن ذلك مذهب أهل البيت (عليهم
السلام)
فإن مذهبهم إنما يعلم بنقل شيعتهم عنهم، كما أن مذهب أبي حنيفة وأمثاله
من المذاهب إنما يعلم بنقل أتباعهم وتلامذتهم، وحينئذ فما خالف ذلك مما صح وروده
عنهم (عليهم السلام) يتحتم حمله على التقية (2) وإن كانت العامة في المسألة أيضا على قولين،
إلا أن حمل الخبر على التقية لا يتوقف على اتفاق العامة على القول بمضمونه بل ولا
على قول البعض كما عرفته في المقدمة الأولى.
على أن الذي نقوله وهو التحقيق الحقيق بالاتباع في المقام وإن غفلت عنه
أقوام إن جل الأخبار التي استند إليها الخصم لا دلالة لها على ما يدعيه ولا صراحة
لها فيما يعيه. بل الظاهر منها عن التأمل الصادق في مضامينها والنظر في قرائن أحوالها
ومفاهيمها أنها منطبقة مع تلك الأخبار على معنى صحيح المعيار واضح المنار، وإن
اختلفت في ذلك الدلالات في بعضها قربا وبعدا بسبب الأنس بالقرائن الحالية والمقالية

(1) في الصحيفة 38.
(2) ويؤيد ذلك أيضا ما صرح به علم الهدى (رضي الله عنه) في أجوبة المسائل
الناصرية، حيث نسب القول بنجاسة الماء القليل إلى مذهب الشيعة الإمامية وجميع الفقهاء،
قال: " وإنما خالف في ذلك مالك والأوزاعي وأهل الظاهر " ثم قال: " والحجة في صحة
مذهبنا اجماع الشيعة الإمامية، وفي اجتماعهم عندنا حجة وقد دللنا على ذلك في غير
موضع " انتهى (منه قدس سره).
294

وعدمه. ومن ذلك تطرقت إليها الاحتمالات، ولكن الناظر البصير والناقد الخبير
إذ ضم بعضها إلى بعض وأمعن النظر في عباراتها وما تفيده بصريحها وإشاراتها ظهر له
صحة ما ندعيه.
وتوضيح هذه الجملة أن نقول: الذي ظهر لنا بعد إمعان النظر في الأدلة
المتوهم منها المخالفة أن جلها إنما ورد في السؤال عن مياه الحياض ومياه الغدران ومياه
الطرق، من حيث عموم الحاجة إليها سيما في الأسفار، وعموم البلوى بها وإلجاء
الضرورة للانتفاع بها، وأنها حيث كانت معرضا لتلك الأشياء المصرح بها في تلك الأخبار
من رمي الجيف فيها وشرب الكلاب والسباع منها وبول الدواب والناس فيها ونحو ذلك
فمن أجل ذلك كثر السؤال عنها، وفي بعض تلك الأخبار قد صرح بالماء المسؤول
عنه بأنه ماء غدير أو ماء حوض أو نحوهما، وفي بعض وإن لم يصرح إلا أنه علم من
الرواية بالقرائن أنه من ذلك القبيل، كصحيحة حريز (1) " كلما غلب الماء على ريح
الجيفة.. " وصحيحة محمد بن مسلم (2) " سأل عن ماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه
الكلاب.. الخ ". فإن ماء يكون معرضا لهذه الأشياء لا يكون إلا في مياه الطرق
لكونها مشاعة غير محروزة كما لا يخفى على المتأمل المنصف دون المكابر المتعسف.
وسوق تلك الروايات الباقية على ذلك المنوال مؤيد لذلك.
إذا عرفت ذلك فنقول: من الغالب والوجدان يقضي به أيضا أن تلك
المياه لا تنفك عن بلوغ الكرور المتعددة فضلا عن كر واحد. وربما كان لهم
(عليهم السلام) علم ببعض تلك الأماكن المسؤول عنها وأنها كذلك. فأجابوا باعتبار
التغير وعدمه، وربما أجابوا عن ذلك ببلوغ الكرية وعدمه. كما في صحيحة محمد

(1) المتقدمة في الصحيفة 290.
(2) المتقدمة في الصحيفة 281.
295

ابن مسلم (1) حين " سأل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه
الجنب. فقال: إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شئ " وهذه الرواية مقيدة بتلك
الروايات الدالة على اعتبار التغير، فكأنه قيل: " لم ينجسه شئ إلا التغير " يدل
على ذلك صحيحة زرارة (2) قال " إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شئ
تفسخ فيه أو لم يتفسخ فيه إلا أن يجئ له ريح يغلب على ريح الماء ".
ويؤيد ما أشرنا إليه ما رواه صفوان الجمال في الصحيح قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع وتلغ فيها الكلاب
وتشرب منها الحمير ويغتسل فيها الجنب، أيتوضأ منها؟ قال: وكم قدر الماء؟ قلت:
إلى نصف السلق وإلى الركبة وأقل. قال: توضأ " (3) فانظر إلى سؤاله (عليه السلام)
عن قدر عمق الماء، ولم يسأل عن مساحته، لعلمه بتلك الحياض وما هي عليه
من السعة، فلما عرف (عليه السلام) بلوغه الكثرة التي لا ينفعل معها الماء بمجرد
الملاقاة أمره بالوضوء.
ويدل على ذلك أيضا جعلهم (عليهم السلام) مناط النجاسة والطهارة هو التغير
وعدمه في تلك الأحاديث المسؤول فيها عن مثل وقوع الميتة والجيفة وأبوال الدواب
ونحوها مما يكون مغيرا للماء وإن كثر غالبا، دون جعله مناطا لهما في مثل قطرة من بول
أو دم أو منقار طير فيه دم أو إصبع فيها قذر أو نحو ذلك إذا لاقت تلك المياه القليلة.
فإن من الجائز بلوغ الماء في القلة في بعض الأحيان إلى أن يكون متغيرا بأحد تلك
النجاسات إذا لاقته، فينبغي أن يجعل ذلك أيضا مناطا في مثل هذه النجاسات اليسيرة

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
ونص الحديث هكذا: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ).
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
296

إذا لاقت هذا الماء اليسير ولو في حديث واحد ليتمشى لنا حمل الباقي عليه وإن كثر
وبالجملة فلو كان التغير وعدمه مناطا كليا ومعيارا مطردا لم ينحصر وروده
في مثل تلك الأحاديث خاصة دون هذه الأحاديث، مع كثرتها وتعددها وزيادة
عموم البلوى بما تضمنته سفرا وحضرا، فلما رأينا أن هذه الأخبار الواردة في الماء
القليل المحقق القلة كماء التور وماء الركوة ونحوهما كلها منطبقة الدلالة على النجاسة،
للنهي عن استعماله والأمر بإهراقه، وأن التغير وعدمه إنما جعل مناطا في مثل الماء الذي
يكون معرضا لنجاسة الجيف وأبوال الدواب ونحوهما مما يغير الماء وإن كثر غالبا،
كمياه الغدران والحيضان ونحوهما مما لا ينفك عن كرور فضلا عن كر غالبا علمنا أن
جعل التغير مناطا هناك إنما هو من حيث الكثرة المانعة من الانفعال بمجرد الملاقاة الغير
القابلة للنجاسة إلا بالتغير، دون تلك المياه القليلة التي تنفعل بمجرد الملاقاة. فلا يحتاج
فيها إلى ذلك المناط المذكور لانفعالها بما دونه.
ومما يزيدك تأييدا وبيانا أنك بالتأمل في السؤالات الواقعة في تلك الأخبار
التي جعل مناطها التغير وعدمه يظهر لك صحة ما قلناه، حيث إن في بعضها " تبول
فيه الدواب " بلفظ الجمع أعم من أن يكون ذلك دفعة أو دفعات، وفي بعضها " تردها
السباع والكلاب والبهائم " ومن المعلوم أن ذلك الورود إنما هو للشرب منها دفعة
أو دفعات، كما يشعر به قوله (صلى عليه وآله وسلم) في بعضها (1): " لها ما أخذت
أفواهها " ومن الظاهر البين أن بول الدابة في الماء إنما هو بعد دخولها فيه للشرب
أو لغيره، ورمي الجيف فيه التي هي في الغالب في تلك الطرق إما جيفة حمار أو جمل
أو فرس أو غنم أو كلب أو غيره من السباع الكثيرة التردد في تلك الطرق، ويظهر
لك أن ما يكون معرضا لهذه الأشياء لا تنقص مساحته عن كرور عديدة فضلا عن كر،

(1) وهي رواية الفقيه المتقدمة في الصحيفة 292.
297

وما قدر كر من ماء وما قدر مساحته؟ حتى يحتمل أنه يقول بشئ واحد من تلك الأشياء
المعدودة.
ويزيد ذلك أيضا تأييدا أن الظاهر أن هذه المياه المسؤول عنها كلها من مياه
الطرق الواقعة بين مكة والمدينة، وبينهما وبين العراقات ونحوهما من الأمكنة التي
لا وجود للمياه الجارية فيها غالبا. ومن المنقول أنهم كانوا يعمدون تلك الأيام إلى بعض
الأمكنة فيجعلون فيها حياضا تسقى من آبار هناك، وأمكنة يعدونها لاجتماع السيول
فيها. كل ذلك لأجل المسافرين والمترددين في تلك الطرق، وهي بين الحرمين
إلى الآن موجودة. وقد أشير إليها في الروايات بالسقايات وماء السبيل. وهذا
بحمد الله كله ظاهر لمن تأمل بعين الانصاف في مضامين تلك الأخبار. وسيأتيك
ما فيه زيادة ايضاح للمقام في الكلام على كلام بعض الأعلام.
نعم يبقى الكلام في حسنة محمد بن ميسر (1) المسؤول فيها عن الرجل الجنب
ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، حيث إنها صريحة في كون ذلك الماء قليلا، مع أنه
(عليه السلام) أمره أن يضع يده فيه ويتوضأ ثم يغتسل. وكذا ما روي عنه (صلى الله
عليه وآله) من قوله: " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ إلا ما غير لونه..
الحديث " (2) وكذا رواية أبي مريم الأنصاري (3).
والجواب (أما عن الأول) (4) فباحتماله لوجوه نبه عليها أصحابنا (رضوان
الله عليهم):

(1) المتقدمة في الصحيفة 291.
(2) رواه صاحب الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق عن المعتبر
والسرائر. وتقدم في التعليقة 2 في الصحيفة 180 ما يفيد في المقام.
(3) المتقدمة في الصحيفة 293.
(4) وهي حسنة محمد بن ميسر المتقدمة في الصحيفة 291.
298

(الأول) أن يكون المراد بالقليل هو القليل العرفي دون الشرعي.
(أقول): وهذا الجواب غير بعيد عن جادة الصواب، وذلك من حيث إن هذا الماء المشار إليه في الرواية لما كان من مياه الطرق وقد أوضحنا سابقا أنها تبلغ
في الكثرة إلى حد يزيد على الكر أضعافا مضاعفة كان قدر الكر وما زاد عليه يسيرا
بالنسبة إلى ذلك قليلا.
(الثاني) أن يكون المراد بالقذر في اليد هو الوسخ. وفيه بعد. حيث إن المتبادر في الأخبار من هذا اللفظ هو النجاسة.
(الثالث) ما ذكره شيخنا البهائي (قدس سره) من أن المراد بالقليل
الشرعي لكن مع الجريان. وفيه ما فيه.
(الرابع) ما احتمله شيخنا المذكور أيضا في كتاب الحبل المتين، وهو أن يكون الضمير في (يتوضأ) عائدا إلى الرجل بتجريده عن وصف الجنابة. وفيه
بعد أيضا.
(الخامس) ما يفهم من كلام شيخنا الصدوق (رحمه الله) في الفقيه من حمل ذلك
على الرخصة دفعا للحرج والمشقة (1). حيث قال (2): " فإن دخل رجل الحمام ولم يكن
مع ما يغرف به ويداه قذرتان. ضرب يده في الماء وقال: بسم الله. وهذا مما قال

(1) أقول: ما ذكرنا شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) هنا من الحمل لا يخلو من القرب
بل ربما كان هو الأظهر، فإن الاستشهاد بالآية المذكورة يعطي كون ذلك رخصة وتخفيفا،
وهو إنما يتم على تقدير القول بنجاسة القليل بالملاقاة، فيكون هذا الموضع مستثنى من ذلك
دفعا للحرج، وإلا فلو كان الماء لا ينجس بالملاقاة كما يدعيه الخصم فإنه لا خصوصية لهذا الموضع بدفع الحرج، فإن كل ماء قليل على هذا القول يجوز استعماله ولو مع النجاسة
والغسل أو الوضوء به، فأي وجه لا يراد هذه الآية؟ وأي نكتة فيها؟ كما لا يخفى على
العارف بأساليب الكلام، سيما في كلام الإمام الذي هو إمام الكلام (منه قدس الله سره)
(2) في باب (المياه وطهرها ونجاستها)
299

الله عز وجل: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " (1) وكذلك الجنب إذا انتهى إلى الماء القليل في الطريق ولم يكن معه إناء يغرف به ويداه قذرتان، يفعل مثل
ذلك " انتهى (2).
(السادس) الحمل على التقية، لأن ذلك مذهب كثير من العامة كما ذكره
الشيخ (رحمه الله) في الإستبصار (3)، وأيد بعضهم هذا الحمل بذكر الوضوء مع الغسل
ولعل هذا الحمل أقرب المحامل المذكورة بعد الحمل الأول.

(1) سورة الحج. الآية 78.
(2) قال في كتاب الفقه الرضوي: " إن اغتسلت من ماء الحمام ولم يكن معك ما نغرف
به ويداك قذرتان، فاضرب يدك في الماء وقل: بسم الله. هذا مما قال الله تبارك وتعالى:
" ما جعل عليكم في الدين من حرج " انتهى. وهو مصداق ما قدامنا آنفا من أن كثيرا
من عبارات شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) مأخوذ من هذا الكتاب (منه رحمه الله).
(3) لم نجد في الإستبصار نسبة القول بعدم انفعال القليل بالملاقاة إلى كثير من العامة
ولعله يشير إلى ما ذكره الشيخ في الصحيفة 7 من طبع النجف - عند حمل خبر عبد الله بن
المغيرة المتضمن للتقدير بالقلتين على التقية - من أنه مذهب كثير من العامة، وقد تقدم
منه (قده) حكاية ذلك عن الشيخ في الصحيفة 250 فتكون نسبته (قده) عدم انفعال القليل
بالملاقاة إلى كثير من العامة بمقتضى كلام الشيخ (قده) بلحاظ أن مقدار القلتين أقل من
مقدار الكر. وقد تقدم في التعليقة 4 في الصحيفة 250 ما يوضح أنه مذهب كثير من العامة
وقد رجح الفخر الرازي في ج 6 من تفسيره ص 346 عند الكلام في قوله تعالى:
" وأنزلنا من السماء ماء طهورا " ما حكاه عن مالك والحسن البصري والنخعي وداود،
وحكى ميل الغزالي إليه في الأحياء، من عدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة إلا إذا تغير اعتمادا
على هذه الآية، ثم قال: نقلنا تقديرات مختلفة للفرق بين القليل والكثير، وليس بعضها
أولى من بعض، فوجب التساقط عند التعارض. وتقدير أبي حنيفة - عشر في عشر - تحكم
وتقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله صلى الله عليه وآله: " إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل خبثا "
ضعيف، ثم أخذ في الخدش في السند، إلى أن قال: سلنا صحة الرواية لكن إحالة مجهول
على مجهول، لأن القلة غير معلومة، فإنها تصلح للكوز والجرة ولكل ما يقال باليد.
سلمنا كونها معلومة لكن متن الخبر مضطرب، فقد روي قلتين أو ثلاث أو أربعين قلة،
وروى إذا بلغ كوزين. إلى آخر ما ذكره في تفنيد الاستدلال بهذا الحديث.
300

وبالجملة فبعد ثبوت الحكم بتلك الأخبار الصحيحة الصريحة المستفيضة. وانطباق جملة
أخبار المسألة بعضها على بعض على ذلك. فهذا الخبر لا ينهض بالمعارضة ولا ينوء بالمناقضة.
وأما عن الحديث الثاني (1) فإنا لم نعثر عليه مسندا ولا مرسلا في شئ من كتب
الأخبار التي عليها المدار، وقد صرح بذلك أيضا جملة ممن تقدم من مشايخنا (عطر
الله تعالى مراقدهم) بل صرح جملة منهم بكونه عاميا (2) وما هذا حاله فلا يصح
الاستناد إليه فضلا عن معارضة الأخبار به. على أنا نقول: إنه لو ثبت صحته لكان
حمله على التقية متعينا، لما عرفت آنفا (3).
هذا. وممن اختار القول بعدم انفعال القليل بمجرد الملاقاة المحدث
الكاشاني، وقد بالغ في اعلائه وتشييده، وتكلف جمع الأخبار عليه وتأييده،
وأكثر من الطعن في أدلة القول الآخر، حتى اغتر به بعض من لم يعض على المسألة
بضرس قاطع ممن تأخر، ولأجل ذلك كتبنا في المسألة المذكورة رسالة تشفي العليل.
وتبرد الغليل، موسومة بقاطعة القال والقيل في نجاسة الماء القليل، فقد نقلنا فيها جميع
كلامه وما أطال به من نقضه وإبرامه، وأردفناه بما يكشف عنه نقاب إبهامه ويقشع
غياهب ظلامه.
ولنذكر هنا جملة أدلته على سبيل الاختصار، وأجوبته عما يرد عليه من أدلة
القول المقابل له في هذا المضمار، ونبين ما فيه من القصور عن درجة الاعتبار.
(أحدها) قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث السكوني عن أبي عبد الله

(1) وهو حديث " خلق الله الماء.. الخ " المتقدم في الصحيفة 298.
(2) تقدم في التعليقة 2 في الصحيفة 180 ما يفيد في المقام.
(3) في الصحيفة 294 ولا يخفى أنه (قده) لم يجب عن رواية أبي مريم المشار إليها
في ص 298.
301

(عليه السلام): " الماء يطهر ولا يطهر " (1) حيث قال بعد نقله: " إنما لا يطهر لأنه إن
غلب على النجاسة حتى استهلكت فيه طهرها ولم ينجس حتى يحتاج إلى التطهير. وإن
غلبت عليه النجاسة حتى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ولم يقبل التطهير إلا
بالاستهلاك في الماء الطاهر، وحينئذ لم يبق منه شئ ".
و (ثانيها) الأخبار المتقدمة (2) وعد منها حديث " خلق الله الماء طهورا.. " (3)
مدعيا استفاضته عنه (صلى الله عليه وآله).
و (ثالثها) أنه لو كان معيار نجاسة الماء وطهارته نقصانه عن الكر وبلوغه
إليه. لما جاز إزالة الخبث بالقليل منه بوجه من الوجوه، مع أنه جائز بالاتفاق،
وذلك لأن كل جزء من أجزاء الماء الوارد على المحل النجس، إذا لاقاه كان متنجسا
بالملاقاة خارجا عن الطهورية في أول آنات اللقاء، وما لم يلاقه لا يعقل أن يكون مطهرا
والفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه مع أنه مخالف للنصوص لا يجدي.
إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي ولزوم تنجسه، والقدر المستعلي لكونه دون مبلغ
الكر لا يقوى على أن يعصمه بالاتصال عن الانفعال، فلو كانت الملاقاة مناط
التنجيس لزم تنجس القدر الملاقي لا محالة، فلا يحصل التطهير أصلا. وأما ما تكلفه
بعضهم من ارتكاب القول بالانفعال هناك من بعد الانفصال عن محل النجاسة فمن
أبعد التكلفات. ومن ذا الذي يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة بعد مفارقته عنها
وطهارته حال ملاقاته لها بل طهوريته؟ نعم يمكن لأحد أن يتكلف هناك بالفرق بين
ملاقاة الماء لعين النجاسة وبين ملاقاته للمتنجس. وتخصيص الانفعال بالأول. والتزام
وجوب تعدد الغسل في جميع النجاسات كما ورد في بعضها. إلا أن هذا محاكمة من غير

(1) المروي في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق.
(2) في الصحيفة 290 التي استدل بها للقول بعدم الانفعال بالملاقاة.
(3) تقدم الكلام فيه في التعليقة 2 في الصحيفة 298.
302

تراضي الخصمين، فإن القائلين بانفعال القليل لا يقولون به، والقائلون بعدم الانفعال
لا يحتاجون إليه، وإن أمكن الاستدلال عليه بما ورد في إزالة البول من الأمر بغسله
مرتين إذا غسل في أجانة كما يأتي.
و (رابعها) أن اشتراط الكر مثار الوسواس، ولأجله شق الأمر على
الناس، يعرفه من يجربه ويتأمله، ومما لا شك فيه أن ذلك لو كان شرطا لكان
أولى المواضع بتعذر الطهارة مكة والمدينة المشرفتين، إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية
ولا الراكدة الكثيرة، ومن أول عصر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى آخر عصر
الصحابة لم تنقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء من النجاسات، وكانت
أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء والذين لا يتحرزون عن النجاسات بل الكفار، كما
هو معلوم لمن تتبع.
و (خامسها) أن ما يدل على المشهور إنما يدل بالمفهوم، والمفهوم لا يعارض
المنطوق (1) ولا الظاهر النص. مع أن أقصى ما يدل عليه هذا المفهوم تنجس ما دون الكر
بملاقاة شطئ ما لا كل نجاسة، فيحمل على المستولية جمعا، فيكون المراد لم يستول عليه شئ
حتى ينجس أي لم تظهر فيه النجاسة، فيكون تحديدا للقدر الذي لا يتغير بها في الأغلب.
و (سادسها) حمل تلك الأخبار الدالة على النهي عن الشرب والوضوء
مما لاقته النجاسة على التنزه والاستحباب، حيث قال في كتاب الوافي: " باب ما يستحب
التنزه عنه في رفع الحدث والشرب وما لا بأس به " ثم أورد فيه الأخبار التي قدمناها
مما دل على النهي عن الوضوء من الأواني التي وقع فيها قطرة من بول أو دم والأواني
المأمور باهراقها لوقوع نحو ذلك فيها.

(1) قوله هنا -: والمفهوم لا يعارض المنطوق. إلى آخر العبارة - من كلام صاحب
المفاتيح فيه، وباقي ما نقلناه عنه كله من كتاب الوافي لكن على الاختصار والتقدم والتأخير
(منه قدس سره).
303

و (سابعها) الاختلاف في تقدير الكر، قال: " والاختلاف في تقدير
الكر يؤيد ما قلناه من أنه تخمين ومقايسة بين قدري الماء والنجاسة، إذ لو كان أمرا
مضبوطا وحدا محدودا لم يقع الاختلاف الشديد في تقديره ولا مساحة ولا وزنا، وقد
وقع الاختلاف فيهما جميعا ".
و (ثامنها) ما ذكره في تأويل الروايات الدالة على اشتراط الكرية، بحملها
على أنها مناط ومعيار للمقدار الذي لا يتغير من الماء بما يعتاد وروده من النجاسات حيث
قال في كتاب الوافي: " باب قدر الماء الذي لا يتغير بما يعتاد وروده من النجاسات "
ثم أورد أخبار الكر.
هذا خلاصة ما اعتمد عليه في كتاب الوافي والمفاتيح من الاستدلال. ودفع
ما يقابله من الأقوال. وللنظر فيه مجال وأي مجال.
(أما الأول) (1) فلأن ما ذكره في معنى الخبر لا يتحتم الحمل عليه ليكون
دليلا يجب المصير إليه، فإنه من المحتمل قريبا ما صرحنا به في آخر المقالة الأولى (2)
من الفصل الأول من أن معنى قوله (عليه السلام): " الماء لا يطهر " أنه متى تنجس
ولو بالملاقاة فطهره إنما يكون بممازجة الكثير له على وجه يستهلك الماء النجس كما
هو أحد القولين في المسألة كما تقدم. وهذا لا يسمى في العرف تطهيرا، لاضمحلال
الماء النجس حينئذ. وعلى هذا ففي الخبر دلالة على اعتبار الممازجة دون مجرد الملاقاة كما
هو القول الآخر. ويمكن أيضا الحمل على المعنى الأول الذي قدمنا ذكره ثمة (3).

(1) المتقدم في الصحيفة 301 السطر 17.
(2) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة، والصحيح (الثانية) وذلك
في الصحيفة 178.
(3) في الصحيفة 178 السطر 2.
304

و (أما الثاني) (1) فقد عرفت ما فيه مما قدمناه (2) والعجب منه (قدس سره)
في دعوى استفاضة حديث " خلق الله الماء طهورا.. " مع ما عرفت من أنه لم يثبت
من طرقنا لا مسندا ولا مرسلا، وكأنه اغتر بكلام صاحب المدارك هنا، حيث إنه
صرح باستفاضته أيضا في مقالة تنجس الماء بتغير أحد أوصافه الثلاثة، حيث قال بعد
الحكم المذكور: " والأصل فيه الأخبار المستفيضة كقوله (صلى الله عليه وآله):
" خلق الله الماء طهورا.. الخ " إلا أن فيه أنه وإن وصفه هنا بذلك لكنه بعد
ذلك في مقالة نجاسة البئر بالملاقاة، حيث أنكر ورود نجاسة الماء بالتغير اللوني طعن
في الخبر المذكور بأنه عامي مرسل، كما قدمنا الإشارة إليه عن جملة من الأصحاب (3).
و (أما الثالث) (4) ففيه أنه لا منافاة بين تنجسه وحصول التطهير به
في حال واحد، ولا استبعاد في ذلك إذا اقتضته الأدلة الشرعية.
وتحقيق ذلك أن أقصى ما يستفاد من الأخبار هو عدم جواز التطهير بما تنجس قبل
إرادة التطهير به لا بما تنجس بسبب التطهير به. وبهذه المقالة صرح جمع من فحول المحققين
منهم: المولى الأردبيلي والمحقق الخوانساري وشيخنا صاحب رياض المسائل وحياض
الدلائل والفاضل المتأخر الخراساني، ومنهم: والدي (نور الله مراقدهم وأعلى في الفردوس
مقاعدهم) واستبعاد ذلك مدفوع بوجود النظير، فإنهم صرحوا بوجوب طهارة
أحجار الاستنجاء وأن النجس منها لا يطهر، مع أنها حين الاستعمال تنجس بمجرد
ملاقاة النجاسة، ولا يكون ذلك مانعا من حصول التطهير بها. وأيضا خروج الماء
المستعمل في الطهارة الكبرى عن الطهورية على تقدير القول به إنما هو بسبب

(1) المتقدم في الصحيفة 302.
(2) في الصحيفة 293 السطر 18.
(3) في الصحيفة 180 وقد تقدم في التعليقة 2 من هذه الصحيفة ما يفيد في المقام.
(4) المتقدم في الصحيفة 302.
305

استعماله وملاقاته لبدن الجنب وقت الغسل، مع أن ذلك لا يمنع من حصول التطهير
بهذا المستعمل.
وبالجملة فأقصى ما يستفاد من الدليل بالنسبة إلى اشتراط الطهارة في الماء الذي
تزال به النجاسة هو طهارته قبل ملاقاة النجاسة. وأما طهارته حال الملاقاة فلا دليل عليه.
وعدم الدليل على ذلك دليل على العدم، إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا حكم إلا بعد البرهان
كما تمسك به هذا القائل في جملة من المواضع، وحينئذ فهو حال الملاقاة يفيد التطهير
وإن تنجس بذلك، فقوله حينئذ: " إذا لاقاه كان متنجسا بالملاقاة خارجا عن الطهورية "
في محل المنع.
ومن أقوى الشبه في المقام كما تمسك به بعض الأعلام بعد وقوعه في شبك
الالزام أنه لو وضع شئ نجس في ماء قليل على هذا القول، فبعد طهارة المحل حال
الملاقاة وانتقال النجاسة إلى الماء إما أن ينجس ذلك الشئ بالماء أم لا. لا سبيل إلى الثاني
لأن الماء قد صار نجسا بملاقاة النجاسة له أولا، فتتعدى نجاسته إلى ذلك الشئ ويعود
الاشكال بحذافيره.
وإلى ذلك أيضا أشار المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره)، حيث إنه
ممن اختار تخصيص نجاسة القليل بالملاقاة بورود النجاسة دون العكس، كما هو مذهب
المرتضى (رضي الله عنه)، فعنده أن تطهير النجاسة بالقليل مخصوص بورود الماء
على النجاسة دون العكس، فإنه يصير الماء نجسا ولا يطهر به المحل، ولهذا قال بعد
نقل القول بالتطهير بالقليل في صورة ورود النجاسة على الماء مع نجاسة الغسالة ما صورته:
" قلت: في هذا القول التزام تنجس الماء بالمحل وتطهير المحل به. والتزامه مشكل.
وأيضا فيه التزام عدم تنجس المحل بالماء النجس. وهو بعيد غاية البعد " انتهى.
وفيه أن ما استبعده من ذلك مردود بأنه بعد قيام الدليل على نجاسة القليل
306

بالملاقاة مطلقا أو في صورة ورود النجاسة على الماء فلا مجال لهذا الاستبعاد، إذ
الطهارة والنجاسة ونحوهما أحكام تعبدية لا مسرح فيها للاستبعادات العقلية.
(ولو قيل): مقتضى القاعدة الكلية القائلة بأن كل ماء قليل أو مائع لاقى
نجاسة فهو نجس ينافي ما ذكرتم.
(قلنا): لا عام إلا وقد خص، فإن اللبن في ضرع الميتة طاهر عند جملة
من الأصحاب، وعليه تدل صحاح الأخبار، وكذا الإنفحة من الميتة، والصيد
المجروح لو وجد في ماء قليل، وما لا يدركه الطرف من الدم عند الشيخ، وماء
الاستنجاء بالاجماع والأخبار، وغسالة النجاسة عند من قال بطهارتها. ووجود النظير
يدفع الاستبعاد.
ويمكن الجواب أيضا باختيار طهارة ماء الغسالة كما هو اختيار جمع منهم: الشهيد
في الذكرى، وهو ظاهر الصدوق في من لا يحضره الفقيه، حيث ساوى بينه وبين
رافع الحدث الأكبر، وبه صرح المحدث الأمين الأسترآبادي، وسيأتي تحقيقه في محله
إن شاء الله تعالى، وحينئذ يكون الحكم بطهارته مستثنى من كلية نجاسة القليل بالملاقاة
وتطهيره. كما استثنى كذلك ماء الاستنجاء، وما لا يدركه الطرف من الدم على قول
الشيخ. ويمكن الجواب أيضا بالفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه، كما سيأتي
تحقيقه في هذا الفصل (1) إن شاء الله تعالى.
و (أما الرابع) (2) ففيه أنه أيضا قد اشترط الكر كما سيأتيك بيانه (3) وإن كان الفرق بين الاشتراطين أن الأصحاب جعلوا اشتراطه معيار الطهارة والنجاسة،
وهو قد جعل اشتراطه معيار معرفة التغير بالنجاسات المعتادة وعدمه مع عدم ظهورها

(1) في المقام الثاني.
(2) المتقدم في الصحيفة 303.
(3) في الجواب عن الوجه الثامن.
307

حسا، ثم زاد على كلام الأصحاب باشتراطه المقايسة والنسبة في ذلك المقام، حيث
ألجأته إليها ضرورة الالزام كما سيأتي توضيحه وينكشف صريحه (1).
مع أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأبرار بأصالة الطهارة ووجوب العمل
على اليقين، فما لم يعلم ويتيقن وقوع النجاسة في الماء على وجه يظهر أثرها ويقطع
بغلبة أجزاء تلك النجاسة على الماء إذا منع من ظهورها مانع لا يحكم بالتغير في ذلك
الماء، فمجرد الأخبار بولوغ كلب من إناء مع عدم العلم بقدر ماء ذلك الإناء
وعدم العلم بكثرة الولوغ وقلته لا يحكم بوقوع التغير في ذلك الماء بلعاب الكلب،
وقس عليه غيره من النجاسات. وهو قد حكم بالتغير في أمثال ذلك كما سيأتيك
بيانه (2).
وأما قوله: " ومما لا شك فيه أن ذلك لو كان شرطا لكان أولى
المواضع.. الخ " فإنه مجرد دعوى عارية عن الدليل، ومحض استبعاد ليس له محصل
عند ذوي التحصيل، إذ عدم كثرة المياه الجارية والراكدة في تلك الأماكن
على القول بنجاسة القليل بالملاقاة لا يستلزم حصول وقائع في الطهارات ولا السؤال
عن حفظ المياه من النجاسات. ولا أمثالها من هذه التسجيلات، لأنه مع معلومية
الحكم عنده بنجاسة الماء القليل بالملاقاة يتحرزون عن تطرق النجاسة إليه بكل وجه وبعد
العلم بحصول النجاسة فيه يجتنبونه، بل ربما يهرقونه وما الذي يترتب على ذلك من الوقائع
المستحقة للنقل؟ ومن الذي اشترط أنه لا بد في كل حكم شرعي من واقعة في عصره
(صلى الله عليه وآله) تدل عليه؟ حتى يشترط هنا. على أنه لو نقلت هناك واقعة
تدل على النجاسة لأرتكب التأويل فيها كما ارتكبه في تلك الأخبار الصريحة المتعددة،
إذ غاية ما يراد أن يعبر به عن النجاسة أو يكنى به عنها هو التصريح بإراقة الماء الدال
على عدم الانتفاع به بوجه. وقد مرت لك أخبار مستفيضة بهذا المضمون قد أخرجها

(1) في الجواب عن الوجه الثامن.
(2) في الجواب عن الوجه الثامن.
308

عن صريحها وارتكب فيها جادة التأويل. فلو ورد هنا شئ عنه (صلى الله عليه وآله)
لجعله من ذلك القبيل. وما الاشكال في حفظ المياه حتى يحتاج إلى السؤال عنه؟
وهل تعاطي الصبيان والإماء والذين لا يتحرزون عن النجاسات لأوانيهم يكون موجبا
للنجاسة بالملاقاة من غير علم بوصول النجاسة، وأين أصالة الطهارة؟ وأين الحنيفية
السمحة ودين محمد (صلى الله عليه وآله) الذي هو أوسع ما بين السماء والأرض؟
ما هذه إلا احتمالات باردة وتعسفات زائدة، ولقد روي أنه " دخل أعرابي المسجد
فما لبث أن بال في ناحية المسجد، فكأنهم عجلوا عليه، فنهاهم النبي (صلى الله
عليه وآله)
ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم قال: علموا ويسروا ولا
تعسروا " (1) وأمثال ذلك مما يدل على سعة الحنيفية السمحة السهلة كثير.
و (أما الخامس) (2) ففيه (أولا) أن الدليل مقصورا على تلك

(1) هذه القصة قد وردت من طريق العامة كما في البخاري ج 1 ص 45 وسنن النسائي
ج 1 ص 63 وصحيح مسلم ج 1 ص 125 وسنن أبي داود ج 1 ص 103 وجامع الترمذي
مع شرحه لابن العربي ج 1 ص 243 وسنن ابن ماجة ج 1 ص 189 ومسند أحمد ج 2
ص 239 و 282 و 503 و ج 3 ص 110 و 114 و 167 و 191 و 226 ومجمع الزوائد
لابن حجر ج 1 ص 286. إلا أن هذا النص أعني قوله صلى الله عليه وآله: " علموا ويسروا ولا
تعسروا " قد ورد في عمدة القاري شرح البخاري للعيني ج 1 ص 884، وفي غيره من
كتب الحديث قد ورد هذا المضمون بالتعبير الآتي: " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين "
وفي بعضها لم يرد هذا المضمون أصلا. وقد ورد فيها التعبير بالدلو والذنوب والسجل
وفي بعضها التعبير بالماء من دون ذكر الكمية. والذنوب - كما في القاموس - بالفتح: الدلو
أو التي فيها ماء أو الملأى أو دون الملأى. والسجل - كما فيه أيضا -: الدلو العظيمة مملوءة
مذكر، وملء الدلو. هذا. ويأتي منه (قده) التعرض لهذا الحديث في المقام الرابع
من المسألة الثالثة من مسائل تطهير الماء وإزالة النجاسة به.
(2) المتقدم في الصحيفة 303.
309

المفهومات، بل هو منطوق جملة من الأخبار التي قدمناها (1) كالأخبار الدالة على النهي
عن استعمال تلك المياه القليلة بعد وقوع شئ فيها. والنهي حقيقة في التحريم كما تقدم
تحقيقه (2) والأمر بإراقتها وغسل الأواني منها، فإنه لا يخفى على الناظر في الأخبار
والمعتبر لها حق الاعتبار أن الحكم بالنجاسة في جل المواضع إنما استفيد من المنع
من استعمال ذلك الملاقي لها أو الحكم بغسله أو نحو ذلك، كما صرح به السيد السند
في المدارك في الاستدلال على نجاسة البول بعد ايراد الروايات الدالة على الأمر بغسل
الثوب منه، حيث قال: " ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي
له، بل سائر الأعيان النجسة إنما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن
من ملاقاتها " انتهى. بل ربما ورد التصريح بالنجاسة في بعض الموارد فتأولوه بالحمل
على المعنى اللغوي وناقشوا فيه بذلك، بخلاف ورود الأوامر بالغسل والإراقة والنواهي
عن الاستعمال، فإنها أصرح في الدلالة على ذلك.
و (ثانيا) إن دلالة مفهوم الشرط بعد ما عرفت من دلالة الأخبار
عليه كما قدمناها في المقدمة الثالثة (3) مما لا ريب في صحة الاعتماد عليها والاستناد
في الأحكام الشرعية إليها. والمناقشة إنما تتطرق إليها مع ظهور فائدة غير مجرد التعليق
على الشرط والانتفاء بانتفائه. وههنا ليس كذلك اتفاقا.
و (ثالثا) إن قوله: " فإن أقصى ما يدل عليه هذا المفهوم تنجس ما دون
الكر بملاقاة شئ.. الخ " فيه أنه قد أجيب عن ذلك بأن لفظ (شئ) نكرة وقعت
في سياق النفي فيستفاد منها العموم. ومقتضى التقييد بالشرط أن حكم المسكوت مخالف
للمذكور، ويكفي للمخالفة تنجسه ببعض ما لم ينجس به الكر وإن لم ينجس ببعض

(1) للقول المشهور في الصحيفة 281.
(2) في المقدمة السابعة في الصحيفة 112.
(3) في المطلب الثالث في الصحيفة 57.
310

آخر، ويضم إلى ذلك الاجماع على عدم الفصل في النجاسات إلا فيما استثني
فيعم حينئذ.
والتحقيق عندي في الجواب أن المقصود بالإفادة بمثل هذا الكلام أمران:
(أحدهما) عموم المنطوق و (الثاني) عموم المفهوم، والرواة قد فهموا حكم المفهوم
من ذلك كذلك، ولذلك سكتوا عن الاستفسار، وإلا فمثل هؤلاء الأجلاء كزرارة
ومحمد بن مسلم وأضرابهما من فضلاء الرواة ومحققيهم كيف يسكتون ويرضون بفهم بعض
المقصود مع توفر حاجة الأمة إلى ذلك؟ ولا سيما زرارة الذي من عادته تنقيح الأسئلة
والفحص عن جملة فروع المسألة، ويقنعون باستفادة أنه إذا نقص عن كر نجسه شئ ما.
ويرشدك إلى ما ذكرنا جوابه (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم الأولى
من تلك الروايات المتقدمة (1) لما سأل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب
ويغتسل فيه الجنب. قال: " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ " فإنه من
الظاهر البين أن السائل أراد السؤال عن حالة هذا الماء بعد وقوع هذه الأشياء
أو أحدها فيه، وأنه هل ينجس بمجرد ملاقاتها أم لا؟ فأجابه (عليه السلام) بوجه عام
وقاعدة كلية في كل ماء وكل نجاسة وهو التحديد ببلوغ الكرية وعدمه، وأنه لا ينجس
مع الأول وينجس مع الثاني. ولو لم يفهم السائل عموم المفهوم من جوابه (عليه السلام)
بذلك، وأنه إذا نقص عن الكرية ينجس بملاقاة تلك النجاسات المسؤول عن ملاقاتها،
لاستفسر منه البتة، لأنه أد طرفي الترديد في جوابه (عليه السلام) إذ حاصل
جوابه أنه " إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شئ، وإذا لم يبلغ نجسه شئ " فلو لم يفهم
السائل عموم لفظ (شئ) الذي في جانب المفهوم على وجه يشمل النجاسات المسؤول
عنها وغيرها بقرينة المقام، ولا سيما السؤال هنا عن وقوع تلك الأشياء المخصوصة،

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق والنص الوارد (كان)
لا (بلغ).
311

لراجع في السؤال عن تنجسه بتلك الأشياء المخصوصة، إذ بناء على ما يقولونه من عدم
العموم لم يحصل الجواب عن السؤال، ومع غفلة السائل كيف يرضى الإمام (عليه السلام)
بعدم إفادته ذلك مع أنه مناط السؤال والبلوى به عام في جميع الأحوال؟
وبالجملة فالمتسارع إلى الفهم السليم والمنساق إلى الذوق المستقيم من حاق
اللفظ في أمثال هذه المقامات هو العموم، وهو عند التأمل والانصاف أمر ظاهر
معلوم. وما يتمسك به من أن (شيئا) نكرة في سياق الاثبات فلا يعم مع تسليمه
فقد خرجوا عنه في مواضع لاقتضاء المقام العموم فيها، كما صرحوا به في المعرف بلام
التحلية إذا استعمل في المقامات الخطابية. وقد تقدم تحقيقه في المقالة الأولى (1)
من الفصل الأول.
و (رابعا) أن ما ذكره من الحمل على المستولية جمعا فيه أنه لم يبق على هذا
فرق بين الكر وغيره لأن الكر أيضا إنما ينجس بالتغير خاصة، فأين المخالفة بين
المفهوم والمنطوق التي لا خلاف في ثبوتها؟ بل لا بد من الحمل على التنجيس بمجرد الملاقاة
كما ذكرنا تحقيقا لذلك.
و (أما السادس) (2) ففيه (أولا) أن الواجب حمل النهي عن الاستعمال
في تلك الأخبار المذكورة على حقيقته من التحريم، كما هو المشهور بين محققي علماء الأصول،
والمؤيد بالآيات وأخبار آل الرسول، كما قدمنا لك بيانه وشددنا أركانه (3).
و (ثانيا) أن من جملة تلك الأحاديث التي أوردها في ذلك الباب
الأحاديث الدالة على اهراق مياه الأواني عند ملاقاة شئ من القذر لها، وليس ذلك
عند التأمل والانصاف إلا لنجاستها وعدم الانتفاع بها بالمرة، إذ استحباب التنزه عنه

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ، والصحيح (الثانية) وذلك في الصحيحة 172.
(2) المتقدم في الصحيفة 303.
(3) في المقدمة السابعة في الصحيفة 112.
312

في الطهارة والشرب لا يستلزم الاهراق، كيف؟ ووجوه الانتفاعات به كثيرة
بل ربما تلجئ إليه الضرورة سيما في الأسفار ونحوها، بل ذلك داخل في الاسراف
المنهي عنه كما صرحت به بعض الرويات.
و (ثالثا) أن موثقة سماعة (1) المروية أيضا بطريق آخر موثق عن عمار
الساباطي قد دلت على الأمر بالتيمم بعد الأمر بالاهراق. وكيف يسوغ التيمم مع
طهارة ذلك الماء وطهوريته؟
ولو قيل: إنه يجوز أن يكون الأمر بالاهراق كناية عن عدم الاستعمال لا أن
المراد الاهراق بالفعل.
قلنا: مع تسليمه فذلك كاف لنا في الاستدلال، لأن ما يكنى عن المنع
عن استعماله بإهراقه بمعنى أن وجوده كعدمه على حال فهو لا شك مقطوع بنجاسته
كما أشار إليه في المعتبر، حيث قال: " وقد يكنى عن النجاسة بالإراقة تفخيما للمنع "
و (رابعا) أن الحمل على الاستحباب والتنزيه وإن تم له بالنسبة إلى الوضوء.
لما دلت عليه بعض الأخبار من خارج بأن ماء الوضوء ينبغي أن يكون له مزية ما على مياه
سائر الاستعمالات، فلا ينبغي أن يكون بالآجن ولا بالمشمس ولا بما لاقى سؤر المتهم
بالنجاسة. فلا يتم له ذلك في الشرب.
(أما أولا) فلعدم قيام دليل من الخارج على أن ماء الشرب ينبغي أن يكون
ذا مزية، وأنه يكره الشرب من بعض المياه لخلوها من المزية حسبما ورد في الوضوء،
ولم يدع أحد ذلك بالكلية، حيت يتم له هنا حمل المنع عن الشرب على التنزيه
والاستحباب.
و (أما ثانيا) فبان من جملة المواضع التي صرحت الأخبار بكراهة الوضوء

(1) المتقدمة في الصحيفة 282.
313

من ذلك الماء الخالي من المزية سؤر الحائض، مع أنها صرحت بجواز الشرب منه،
فلو كان ما يدعيه من الخصوصية والمزية مشتركة بين ماء الوضوء وماء الشرب، لورد
النهي عنه أيضا في مقام النهي عن الآخر.
فمن تلك الأخبار رواية عنبسة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" اشرب من سؤر الحائض ولا تتوضأ منه " مثلها موثقة الحسين بن أبي العلاء (2)
ورواية أبي هلال (3) وغيرهما.
وحينئذ فالحق الحقيق بالاتباع هو أن النهي عن الوضوء والشرب معا في تلك
الأخبار ليس إلا لنجاسة الماء.
و (أما السابع) (4) ففيه (أولا) أنه أي مسألة من مسائل الفقه وأي حكم
من أحكام الفروع لم تختلف فيه الأخبار؟ حتى يستبعد اختلافها في هذا المكان بخصوصه
ويكون ذلك موجبا لما قاله ومؤيدا لما زعمه.
و (ثانيا) أن الواجب في كل موضع اختلفت فيه الأخبار على وجه
لا يمكن ارجاع بعضها إلى بعض من هذا الموضع وغيره الرجوع إلى الضوابط المقررة
والقواعد المعتبرة. ومجرد خروجها عنهم (عليهم السلام) مختلفة لا يدل على ما توهمه
من التخمين والمقايسة، وإلا لجرى في غير هذا الموضع أيضا، وهو لا يلتزمه.
و (ثالثا) أنه مع تسليم صحة ما ذكره فالايراد لا يختص بنا، بل يرد
عليه أيضا. حيث إنه قائل في التحقيق بمضمون تلك الأخبار منطوقا ومفهوما كما
تقدمت الإشارة إليه (5) وسيأتي تحقيقه، لأنا نقول: إن التحديد بالكر معيار لعدم

(1) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الأسئار.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الأسئار.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الأسئار.
(4) المتقدم في الصحيفة 304.
(5) في الجواب عن الوجه الرابع ويأتي تحقيقه في الجواب عن الوجه الثامن.
314

الانفعال بالملاقاة لهذا المقدار وانفعال ما دونه. وهو يقول: إن التحديد المذكور معيار
للقدر الذي لا يتغير بالنجاسات المعتادة.
ويؤيد ما قلناه ما كتبه بعض تلامذته الناسجين على منواله على حاشية كتاب
الوافي على آخر الباب الثالث من أول كتاب الطهارة، حيث قال: " لما دلت هذه
الأبواب الثلاثة على أن الماء ما لم ينفعل لم ينجس، علم أن النجاسة دائرة مع الانفعال
وعدمه، ولكن لما كان الانفعال في بعض الأوقات خفيا لتوافقهما لونا وطعما وريحا،
أو لورود النجاسة على الماء قبل أن يتعفن، كتفسخ الفأرة في الماء أول مرة لا يوجد
لها ريحها أو طعمها أو لونها مع أنه اختلطت أجزاء النجاسة بأجزاء الماء. أو لورودها
عليه قليلا قليلا، كولوغ الكلب وغيره في الحوض مرة بعد مرة، فإنه لا يدرك
شئ من أثرها مع أن لعاب الكلب اختلط بأجزاء الماء، فتحصل الحيرة والاشتباه،
بينوا (عليهم السلام) أنه إذا كان الأمر كذلك، إن كان الماء أقل من كر ينفعل
أي يختلط وينجس، وإذا كان أكثر منه لا ينفعل ولا ينجس، كما إذا كان
الحوض في طريق ونحن نعلم أن الكلاب تشرب منه والنساء والصبيان يباشرونه
بنجاستهم العينية، فلاحظنا أن كان أقل من كر يحترز عنه وإن كان أكثر منه
نستعمله، فكل ماء أمره كذلك يحتاج إلى مادة تحفظه من الانفعال، والمادة التي
تحفظه أما ستمائة رطل مكي، أو ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته، أعني عرضه وطوله،
وهذه الرواية أجود ما ورد في تقدير الكر، لأن غيرها لا يخلو من اضطراب أو طعن
في سنده أو متنه " انتهى. فانظر إلى ما ذكره من اعتباره الكر في بنائه عليه،
واعتماده على تلك الرواية من بين رواياته لصحتها عنده.
و (أما الثامن) (1) ففيه دلالة على ما قدمنا لك من قوله باعتبار الكر والبناء

المتقدم في الصحيفة 304.
315

عليه. وحمله مفهومات تلك الأخبار الدالة على النجاسة فيما نقص عن ذلك المقدار
على أنها قد تغيرت بالنجاسة وإن لم يظهر ذلك للحس.
وقد مهد في كلامه في أول الكتاب المذكور قاعدة لذلك، فقال ثمة:
" وعلى هذا فنسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء كنسبة مقدار أقل من تلك النجاسة
إلى مقدار أقل من ذلك الماء ومقدار أكثر منها إلى مقدار أكثر منه، فكلما
غلب الماء على النجاسة فهو مطهر لها بالاستحالة، وكلما غلبت النجاسة عليه لغلبة أحد
أوصافها فهو منفعل عنها خارج عن الطهورية بها " انتهى. وحينئذ فيصير معنى قوله (عليه السلام) (1)
: " إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شئ " أي لم يغيره شئ من النجاسات المعتادة،
لأن الماء عنده لا ينجس إلا بالتغير. فنجاسته في الحديث بمعنى تغيره بها، ومفهومه حينئذ
أنه إذا لم يبلغ كرا غيره شئ من تلك النجاسات المعتادة.
وقال أيضا في الباب الثاني بعد أن أورد في صدره صحيحة صفوان المتضمنة
للسؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة، وقد تقدمت (2) ما صورته: " لما كانت
الحياض التي بين الحرمين الشريفين معهودة معروفة في ذلك الزمان، اقتصر (عليه
السلام) السلام على السؤال عن مقدار الماء في عمقها ولم يسأل عن الطول والعرض، وإنما
سأل عن ذلك ليعلم نسبة الماء إلى تلك النجاسات المذكورة حتى يتبين انفعاله منها وعدمه
فإن نسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء في التأثير والتغيير كنسبة ضعفه إلى ضعفه
مثلا، وعلى هذا القياس. (فإن قيل): تغير أوصاف الماء أمر محسوس لا حاجة فيه
إلى الاستدلال عليه بنسبة قدره إلى قدر النجاسة (قلنا): ربما يشتبه التغير مع أن الماء
قد تتغير أوصافه الثلاثة بغير النجاسة فيحصل الاشتباه. يؤيد ما قلناه ما في النهاية

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق. والنص في كتب
الحديث " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ ".
(2) في الصحيفة 296.
316

الأثيرية (1). قال: وفي حديث الطهارة " إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا " أي لم
يظهره ولم يغلب الخبث عليه من قولهم: فلأن يحمل غضبه أي يظهره. وقيل: معنى
لم يحمل خبثا أنه يدفعه عن نفسه، كما يقال: فلأن لا يحمل الضيم إذا كان يأباه ويدفعه
عن نفسه " انتهى كلامه (فإن قيل): القلتان يحمل الخبث إذا كثر الخبث وغلب عليه
(قلنا): أريد به أنه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتاد ورودها عليه. وذلك
لأن الناس قد يستنجون في المياه التي تكون في الغدران ويغمسون الأواني النجسة فيها ثم
يترددون في أنها تغيرت تغيرا مؤثرا أم لا، فبين أنه إن كان قلتين لا يتغير بهذه
النجاسات. وبما ذكرناه يتبين معنى الأخبار الآتية ومفهوماتها " انتهى كلامه
(زيد اكرامه) وأشار بالأخبار الآتية إلى الروايات الدالة على التحديد بالكر، وما
تدل عليه بمفهوماتها من النجاسة بمجرد الملاقاة كما ادعاه الأصحاب (رضوان الله
عليهم) منها.
وأنت خبير بما في جميع هذا الكلام من التكلف الذي لا يخفى على ذوي
الأفهام بل عدم الاستقامة والانتظام.
(أما أولا) فلأن (شيئا) الواقع في لفظ تلك الروايات نكرة في سياق النفي،
ولا خلاف في إفادتها العموم، وتخصيصها بالمعتاد من النجاسات كما ادعاه يحتاج إلى دليل
معلوم، وليس فليس. نعم قام الدليل على النجاسة المغيرة فيكون مخوصا بغيرها
لقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة (2): " إذا كان الماء أكثر من راوية لم
ينجسه شئ إلا أن تجئ له ريح تغلب على ريح الماء ".
وما ادعاه من أن نجاسة الماء هو تغيره بالنجاسة. فمعنى لم ينجسه شئ أي لم

(1) في مادة (حمل).
(2) المروي في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق. ونصه كما تقدم
في الصحيفة 296.
317

يغيره شئ بالنجاسة، فالنكرة لا يمكن أخذها على عمومها، للقطع بالتغير ببعض
أفراد النجاسات، فلا بد من التخصيص بالمعتاد حينئذ ففيه أن تلك الدعوى غير
مسلمة عند الخصم، إذ هي أول المسألة. وأيضا فهي غير ظاهرة من اللفظ، بل الظاهر
منه هو ما يدعيه الخصم، إذ المتبادر من قول القائل: نجس هذا هذا. يعني جعله
نجسا أعم من أن يكون بمجرد الملاقاة كسائر المائعات أو بالتغير كما يدعيه هنا، فلا
تقوم تلك الدعوى حجة على الخصم. على أن المتبادر فيما نحن فيه هو المعنى الأول
بقرينة صحيح زرارة المذكورة، وقوله فيه: " لم ينجسه شئ إلا أن تجئ له
ريح.. الخ " أي لم يجعله نجسا بمجرد الملاقاة إلا أن يتغير في ريحه، فالتنجيس
في الأخبار بمعنى الانفعال بمجرد الملاقاة لا بمعنى التغير بالنجاسة كما تمحله.
و (أما ثانيا) فلأن مقتضى ما ذكره من أن الشارع إنما جعل الكر معيارا
لما لم يتغير بالنجاسات المعتادة. كما هو منطوق ذلك اللفظ عنده. اللازم منه بمقتضى
مفهومه أن ما نقص عن الكر يتغير بها أنه لو وقعت نجاسة من تلك النجاسات المعتادة
في قدر كر من ماء إلا درهما، فإنه يحكم بتغيره بها وإن لم يظهر أثرها فيه، ولو تمم
بدرهم ووقع قدرها من تلك النجاسات بعنيها في كر تام، لم يحكم بتغيره (1) وهو
من البعد على حال لا يحتاج إلى البيان، ومن البطلان بمقام يستغنى عن إقامة البرهان.
و (أما ثالثا) فلأن ما ذكره في بيان صحيحة صفوان 2) من أنه (عليه السلام)

(1) ومن هنا يعلم أن الماء في تلك الأخبار التي استند إليها الخصم مراد به الكثير
خاصة، لأنه إذا كان شئ من تلك النجاسات المعتادة تغير ما دون الكر بهذا المقدار اليسير
الذي فرضناه فما بالك بمثل الجيف ونحوها؟ وجوابهم (عليهم السلام) - بالتردد بين التغير
وعدمه مع معلومية ذلك عندهم - دليل على أن الماء أكثر من كر وإن تنزلنا، لأن الأقل
منه معلوم التغير بما هو أدون من تلك النجاسات بمراتب فكيف بهذه النجاسات؟ فلا معنى
للتردد بالنسبة إليه، فتأمل وأنصف (منه قدس سره)
(2) المتقدم في الصحيفة 316.
318

إنما سأل عن عمق الماء ليعلم نسبة الماء إلى تلك النجاسات المذكورة إنما هو من قبيل
المعميات والألغاز، كما لا يخفى على من أنصف وجانب التعسفات، إذ مقتضى المقايسة
التي التجأ إليها وعول في المقام عليها هو معلومية كل من الماء والنجاسة ليمكن نسبة كل
منهما إلى الآخر، وهب أن الماء هنا بسؤاله (عليه السلام) صار معلوما، فمن أين
حصل العلم بالنجاسة الحاصلة من ورود تلك السباع والكلاب وأمثالها على وجه تكون
مغيرة للماء مع عدم ظهوره حسا؟ فإن ذلك يتفاوت بتفاوت أفراد الواردة وأفراد
ورودها قلة وكثرة فيهما، وليس ذلك أمرا مضبوطا ولا حدا معلوما حتى يصح ابتناء
الأحكام الشرعية عليه وجعله قاعدة ممهدة لذلك. والعادة التي ادعاها (طاب ثراه)
وعنون بها الباب قصارى معرفتها والاعتماد عليها إن سلمنا ذلك في مثل مياه البيوت
ونحوها مما يمكن ملاحظتها واستعلامها. وأما في مثل مياه الطرق والصحاري ومنها
ما تضمنه الخبر، فغير ممكن (1) على أنا نقول من أين يلزم في كل نجاسة لاقت الماء
أن يكون لها عين بحيث ينفصل منها أجزاء تداخل الماء؟ حتى يحصل ذلك قانون كلي
وضابط جلي وهو التحديد بالكرية في تلك الأخبار. وعلى تقدير احتمال مداخلة
أجزاء النجاسة في الماء مع عدم ظهورها حسا، فما الدليل على الحكم بالنجاسة بهذه
المقايسة والنسبة؟ وكيف يتيسر لنا العلم بذلك؟ اللهم إلا أن نعمد إلى كل نوع
من أنواع النجاسة فنضعه في فرد من أفراد المياه بشرط معلومية كل منهما كيلا أو وزنا
أو تخمينا، ونعتبر تغيره وعدمه، ثم نقيس عليه بعد ذلك ما قل أو كثر. فلينظر
المنصف إلى ذلك فأي حرج أعظم منه؟ مع ادعائه سابقا لزوم الحرج في اشتراط

(1) فإن من الظاهر - كما عرفت - أن كون تلك الحياض موردا للسباع والكلاب أعم
من أن يكون تلك الكلاب مائة أو عشرة أو أقل أو أكثر تردها كل يوم مرة أو مرارا
وليس هناك عدد معلوم ولا عادة معلومة حتى تتيسر المقايسة عليها والنسبة إليها (منه
قدس سره).
319

الكرية وأنه مثار الوسواس، وهو بخروجه عنه كما ترى قد وقع في شباك الالتباس
ومع هذا فأين أصالة الطهارة التي هي قاعدة كلية في الأخبار وكلام الأصحاب؟ حتى أنه بما ذكره من الاحتمال يحتاج إلى ما ذكره من الاختبار.
و (أما رابعا) فلأن ما ذكره من قوله: " قلنا ربما يشتبه التغير.. الخ "
وتأييده ذلك بما نقله عن النهاية الأثيرية. حاصلة أن التغير قد يحصل في الماء واقعا، حاصلة أن التغير قد يحصل في الماء واقعا،
لوقوع النجاسة فيه مع عدم ظهورها في جانب كثرة الماء، وقد لا يحصل بالكلية،
فاعتبار تلك النسبة والمقايسة لأجل استعلام ذلك الحصول الواقعي الغير الظاهر حسا.
وفيه حينئذ (أولا) أن الحكم بأصالة الطهارة كما هو أحد القواعد الكلية
المتفق على ثبوتها نصا وفتوى يوجب استصحابها والبقاء عليها تعلم النجاسة.
ومجرد الشك واحتمال التغير واقعا غير كاف في الخروج عن مقتضى الأصل المذكور.
و (ثانيا) أن المعتبر من التغير في تلك الأخبار الدالة على نجاسة الماء
بتغير أحد أوصافها الثلاثة بالنجاسة هو التغير الحسي كما صرح به جمهور الأصحاب،
ولم ينقل الخلاف في ذلك كما عرفته آنفا (1) إلا عن العلامة، حيث اعتبر التقدير فيما
إذا اتفق الماء والنجاسة في الصفات، وإنما يعتبر التقدير فيما إذا تغير الماء بجسم طاهر
من لون النجاسة، وعلى تقدير وجوب التقدير في هذه المادة اليسيرة النادرة الاتفاق
كما لا يخفى، فهل يوجب ذلك اخراج تلك الأخبار المستفيضة المتواترة عن ظواهرها
وحملها على هذا الفرد الشاذ القليل الوقوع، ويكون التحديد بالكر إنما هو لأجل ما إذا
تغير الماء بجسم طاهر موافق للنجاسة المعتادة؟ ما هذا إلا تمحل بارد وخيال كأسد.
و (أما خامسا) فما استند إليه من حديث النهاية وهو قوله: " إذا بلغ

(1) في الصحيفة 181.
320

الماء قلتين لم يحمل خبثا " (1) وكون الحمل فيه محتملا لأن يكون بمعنى الظهور، فمعنى عدم
حمله الخبث عدم إظهاره له المستلزم لوجوده فيه واقعا، وإن لم يظهر حسا فهو حديث
عامي (2) لا يقوم به حجة علينا. نعم هو موافق لمقتضى ما ذهب إليه وعول عليه، فلذا
أطال في الجواب عما عسى يرد عليه بقوله: " فإن قيل القلتان.. الخ " وأما أخبارنا فالذي
فيها أنه " إذا بلغ كرا لم ينجسه شئ " (3) ولا مجال في لفظ التنجيس لذلك المعنى
الذي ذكره، بل هو عبارة عن جعل شئ شيئا أخر نجسا بسبب ملاقاته له برطوبة،
كما هو معلوم بالنسبة إلى ملاقاة النجاسة لجميع المائعات ونحوها. نعم قد تستلزم الملاقاة
التغير، كما إذا غلبت أوصاف النجاسة أوصاف الماء، إلا أن هذا الفرد غير مراد هنا،
كما أشعرت به صحيحة زرارة السالفة (4) الدالة على استثنائه من النجاسة بالملاقاة.
ومع الاغماض عن ذلك الحكم أعم. ولا دليل على التخصيص والتقييد إلا مجرد
خيالات لا تعتبر ولا تفيد.
و (أما سادسا) فما ذكره من أن الناس قد يستنجون في المياه التي تكون
في الغدران.. الخ فهو مجرد دعوى خالية من الدليل، وخيال ليس فيه إلا مجرد
التسجيل والتطويل، لأن التغير الذي قام الدليل على التنجيس به هو المحسوس، فإن
وجد في الماء حكم عليه بالنجاسة، وإلا فهو على يقين الطهارة وأصالتها، وسعة
الحنيفية وسهولتها.

(1) أورده في النهاية في مادة (حمل).
(2) تقدم في التعليقة 4 في الصحيفة 250 ما يفيد في المقام.
(3) روى صاحب الوسائل هذه الأخبار في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق
والنص الوارد فيها " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ "
(4) في الصحيفة 296.
321

تتمة مهمة
قد ارتبك بعض متأخري المتأخرين وجملة من المعاصرين والتابعين لهذا
الفاضل في هذه المقالة، والمغترين بما ذكره وقاله في الأخبار التي حملها ذلك الفاضل
على الاستحباب والتنزيه. وهي ما أشرنا إليها في الدليل السادس من كلامه (1) حيث
ظهر لهم بعد ما ذكر من التأويل، فلم يجدوا سبيلا إلى الاعتماد عليه والتعويل. فبين
من حمل النهي في ظاهر تلك الأخبار على حقيقته من التحريم، لكن زعم أن ذلك
لا يستلزم النجاسة. وبين من قصر القول بنجاسة الماء القليل على النجاسات الواردة
في هذه الأخبار. وبين من اعترف بدلالتها على النجاسة، لكن رجع فيها إلى القاعدة
التي مهدها الفاضل المذكور فيما قدمنا من كلامه (2) وهي اعتبار المقايسة والنسبة، فأثبت
النجاسة مدعيا حصول التغير الخفي على الحس.
ولا يخفى على الفطن المتمسك بذيل الانصاف ما في هذه التأويلات من التكلف
والاعتساف.
(أما الأول) ففيه ما ذكرنا آنفا (3) في الرد على الوجه الخامس من كلام
ذلك الفاضل. على أنه لو تم ما ذكره لأمكن التعلق به في جملة من موارد النهي ولو
في غير مقام التعارض. ولا أراه يلتزمه.
و (أما الثاني) ففيه (أولا) أن الأحكام المودعة في الأخبار لا يجب
ورودها عنهم (عليهم السلام) بقواعد كلية وإن وردت كذلك في بعض الأحكام،

(1) في الصحيفة 303.
(2) في الصحيفة 316.
(3) في الصحيفة 309.
322

كما نبهنا على شطر منها في المقدمة العاشرة (1) بل أكثر ما ترد في ضمن الجزئيات
المتفرقة، فيحكم بكلية الحكم، لتوافق أفراده الواردة عنهم (عليهم السلام) في ذلك
وهذا هو الأغلب في الأحكام عن طريق القواعد النحوية المبنية على تتبع آحاد
كلام العرب.
و (ثانيا) أن هذه الأفراد إنما خرجت مخرج التمثيل في الأخبار، لا أنها
قضايا واقعة حتى يجب قصر الحكم عليها.
و (ثالثا) أن جملة منها قد تضمنت التعبير بالقذر، كما في موثقتي عمار
ورواية أبي بصير (2) وفي جملة من الأخبار المتقدمة التعبير بالشئ. وهو دليل على أن
المراد من النجاسات كما لا يخفى.
و (أما الثالث) ففيه (أولا) ما قدمنا لك بيانه وأوضحنا برهانه (3)
ونزيده هنا ونقول: أي ناظر من ذوي العقول وإن لم يكن له روية في معقول
أو منقول يذهب إلى أن الطير الذي في منقاره دم أو الدجاجة التي في رجلها العذرة
أو الإصبع فيها قذر. إذا لاقى شئ منها كرا إلا درهما بل نصف كر فإنها تغيره
وإن خفي على الحس، بأن ينفصل من أجزاء تلك النجاسات بمجرد الملاقاة ما يختلط
بذلك الماء ويشيع فيه على وجه يكون المستعمل له مستعملا للنجاسة؟ ما هذا إلا سد
للشمس بالراح، واخفاء لضوء الصباح بالمصباح.
و (ثانيا) أن أخبار نجاسة الماء القليل ليست مقصورة على هذه الأخبار التي
زعم تطرق الاحتمال إليها والتأويل، وإن كان لا اعتماد عليه ولا تعويل، بل فيها

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة، والصحيح (الحادية عشرة)
وقد تقدمت في الصحيفة 133.
(2) المتقدمات في الصحيفة 282 و 284.
(3) في الصحيفة 317.
323

بحمد الله ما هو ساطع النور في الظهور، مثل خبر العبدية (1) الدال على أن
ما يبل الميل من الخمر ينجس حبا من ماء، وخبر عمر بن حنظلة (2) الدال على اهراق
الحب لو قطرت فيه قطرة من مسكر. فهل يعقل هنا مجال لاحتمال التغير أو اجراء لما
تمحله من المقايسة والتقدير؟ وقد خرجنا إلى حد الاسهاب في هذا الباب، لما رأينا
من جملة من الأصحاب في جمودهم على هذه المقالة اغترارا بما ذكره هذا الفاضل
من الاستدلال وأطاله.
(المقام الثاني) المشهور بين الأصحاب القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة
نجاسة بذلك وردت عليه النجاسة أو ورد عليها.
وذهب السيد المرتضى (رضي الله عنه) في المسائل الناصرية إلى تخصيص ذلك بورود
النجاسة دون العكس، قال في الكتاب المذكور بعد قول جده الناصر: ولا فرق
بين ورود الماء على النجاسة وبين ورود النجاسة على الماء ما لفظه: " هذه المسألة
لا أعرف فيها لأصحابنا قولا صريحا " ثم نقل عن الشافعي الفرق بين ورود الماء على
النجاسة وورودها عليه، واعتبار القلتين في الثاني دون الأول (3)، وقال بعده:
" ويقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمل صحة ما ذهب إليه الشافعي. والوجه فيه
إنا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد على النجاسة، لأدى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر
من النجاسة إلا بايراد كر من الماء عليه، وذلك يشق، فدل على أن الماء الوارد

(1) المتقدم في الصحيفة 287.
(2) المتقدم في الصحيفة 288.
(3) نسب الفرق المذكور إلى الشافعي ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق ج 1 ص 222
وشيخ زاده الحنفي في مجمع الأنهر ج 1 ص 63، وابن قدامة الحنبلي في المغني ج 1 ص 58،
ويظهر ذلك من الغزالي الشافعي في الوجيز ج 1 ص 5، وابن حجر الشافعي في شرح
المنهاج ج 1 ص 38. وقد تقدم في التعليقة 4 في الصحيفة 250 ما يرجع إلى القلتين.
324

على النجاسة لا يعتبر فيها القلة والكثرة كما يعتبر فيما ترد النجاسة عليه " انتهى.
ومرجعه إلى أن الملاقي للثوب ماء قليل فلو نجس حال الملاقاة لم يطهر الثوب، لأن
النجس لا يطهر غيره. وأجاب عن ذلك في المختلف بالمنع من الملازمة، قال: " فإنا
نحكم بتطهير الثوب والنجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحل " وضعفه السيد السند
في المدارك تبعا لجده (قدس سرهما) بأن ذلك يقتضي انفكاك المعلول عن علته التامة
ووجوده بدونها، وهو معلوم البطلان.
(أقول): ويرد على ما ذكره السيد المرتضى (رضي الله عنه):
(أولا) ما قدمنا تحقيقه (1) من عدم المنافاة بين حصول الطهارة بالماء القليل
ونجاسته بتلك الملاقاة، إذ غاية ما يستفاد من الدليل المانع من التطهير بالنجس هو
ما كان نجسا قبل التطهير لا ما كان نجسا بذلك التطهير كما عرفت ثمة.
و (ثانيا) أن مقتضى ما ذكره نجاسة الماء القليل بورود النجاسة عليه،
وحينئذ فلا يجوز التطهير به، مع أنه قد روى محمد بن مسلم في الصحيح قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله في المركن مرتين،
فإن غلسته في ماء جار فمرة واحدة " (2) والمركن على ما نص عليه الجوهري
الإجانة التي يغسل فيها الثياب. ومن الظاهر البين أن الغسل فيها لا يكاد يتحقق
بدون ورود النجاسة على الماء كما لا يخفى.
ويرد على ما ذكره في المدارك في تضيفه جواب العلامة أن الظاهر أن مراد العلامة (قدس سره) أن دليل نجاسة الماء القليل بالملاقاة يقتضي نجاسة
الغسالة مطلقا، سواء كان قبل الانفصال أو بعده، بل يقتضي عدم صحة
التطهير به، لكن لما قام الدليل على صحة التطهير به وتوقف طهارة المحل على عدم نجاسة

(1) في الصحيفة 305.
(2) رواه صاحب الوسائل في الباب - 2 - من أبواب النجاسات.
325

الماء بناء على أن النجس لا يطهر غيره اقتصر فيه على موضع الضرورة ومحل الحاجة
وهو ما قبل الانفصال لا ما بعده، فإن الطهارة والنجاسة من الأحكام التعبدية،
فيخص الحكم بالنجاسة حينئذ بما بعد الانفصال اقتصارا على محل الضرورة. وليس
ذلك بأبعد مما حكم به شيخنا الشهيد الثاني الذي هو الأصل في الإيراد المذكور
من نجاسة البئر ببدن الجنب الخالي من النجاسة لمجرد التعبد، وإن كان الدليل عندنا
لا ينهض به، ولا بأبعد مما حكموا به من طهارة الدلو والرشا وحافة البئر بعد تمام
النزح مع تقاطر ماء النزح على حافة البئر وجوانبها وعود الدلو أخيرا إلى الماء، وكذلك
طهارة آلات الخمر ومزاولة بعد الانقلاب خلا، بل في الرويات الواردة في تطهير
الأواني بصب الماء فيها وإدارته ثم إهراقه ما يعضد ذلك، فإن الماء بصبه في الآنية
بمقتضى القول بنجاسة القليل بالملاقاة يجب الحكم بنجاسته، فتحريكه في الزمان
الثاني ليستوعب جوانب الإناء لا يفيد المحل طهارة، فلا بد للقائل بنجاسة القليل
بالملاقاة ونجاسة الغسالة من القول ببقائه على الطهارة حتى ينفصل دفعا للضرورة،
وحينئذ فما أورده من لزوم انفكاك المعلول عن علته التامة ووجوده بدونها يدفع
بجواز أن يقال: إن الشارع لم يجعل مجرد ملاقاة النجاسة موجبا للتنجيس مطلقا، وإلا
لما صح التطهير بالماء القليل مطلقا، لحصول العلة المذكورة، إلا على القول بعدم انفعال
القليل بالملاقاة، وهم لا يقولون به. وحينئذ لا يصير مجرد الملاقاة سببا للنجاسة دفعا
للحرج والضرورة، فيكون ذلك بمنزلة المستثنى من كلية نجاسة القليل بالملاقاة.
ثم لا يخفى أن هذا كله مبني على تلك المقدمة القائلة: إن النجس لا يطهر
غيره. وقد عرفت ما فيها (1) (2).

(1) من أنه يجب تخصيص ذلك بما إذا كان نجسا قبل التطهير لا حال التطهير ما تقدم
بيانه (منه رحمه الله).
(2) في الصحيفة 305.
326

ثم إنه (قدس سره) قال في المدارك بعد الكلام المتقدم: " نعم يمكن أن يقال
إنه لا منافاة بين الحكم بطهارة الثوب المغسول وما يتصل به من البلل، ونجاسة المنفصل
خاصة إذا اقتضته الأدلة. لكن يبقى الكلام في اثبات ذلك " انتهى. والظاهر أنه
إشارة إلى ما ذكرنا. وقال المحدث الأمين (قدس سره) في تعليقاته على الكتاب
المذكور: " ولعل وجه هذا الاحتمال أن الماء المغسول به لا يحمل النجاسة إلا بنقله لها
عن المحل المتنجس، والنقل إنما يتحقق بالانفصال " انتهى. ولا يخفى بعده (1).
هذا. وظاهر السيد السند (قدس سره) في المدارك الميل إلى ما ذهب إليه
السيد المرتضى (رضي الله عنه) حيث قال بعد الجواب عن أدلة ابن أبي عقيل على عدم
انفعال الماء القليل ما صورته: " لكن لا يخفى أنه ليس في شئ من تلك الروايات
دليل على انفعال القليل بوروده على النجاسة، بل ولا على انفعاله بكل ما يرد عليه
من النجاسات، ومن ثم ذهب السيد المرتضى (رضي الله عنه) في جواب المسائل
الناصرية إلى عدم نجاسة القليل بوروده على النجاسة. وهو متجه " انتهى. واختار
ذلك أيضا المحدث الأمين (طاب ثراه) في تعليقاته على الكتاب المذكور.
وفيه (أولا) أنه وإن كانت جملة من الأخبار الدالة على نجاسة القليل بالملاقاة
قد اشتملت على ورود النجاسة على القليل، كأخبار الركوة والتور ونحوهما، إلا أن
ذلك لا يقتضي قصر النجاسة عليه دون عكسه، فإن الظاهر أن السبب في الانفعال
إنما هو ملاقاة النجاسة كيف اتفق، وقابلية القليل من حيث القلة والمائعية للانفعال
أعم من وروده على النجاسة أو ورودها عليه. والحكم بالنجاسة في تلك الأخبار قد

(1) فإن الأخبار الدالة على نجاسة القليل لا يختص في شئ منها بما ذكره، بل الظاهر
بعضها وصريح بعض هو الانفعال بمجرد الملاقاة. ودعوى ذلك في خصوصية ماء الغسالة
تحتاج إلى دليل (منه رحمه الله).
327

وقع في جواب الأسئلة المتضمنة لورود النجاسة على الماء. وخصوص السؤال لا يخصص
كما تقرر عندهم.
و (ثانيا) أن من فروع هذا القول صحة التطهير بالقليل مع وروده
على النجاسة دون العكس فلا يصح التطهير به، مع أن صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (1)
ترده كما عرفت. إلا أن يرتكبوا مخالفة ذلك القائل المذكور هنا.
و (ثالثا) أن جملة من الأخبار الدالة بمفهوم الشرط على النجاسة تدل
باطلاقها على الانفعال بالملاقاة أعم من ورود النجاسة أو عكسه. ومن الظاهر أن جعلهم
(عليهم السلام) الكر معيارا ومدارا للانفعال وعدمه أنه كذلك مطلقا، وإلا لوقع
التقييد أو الإشارة إلى ذلك في بعض تلك الأخبار.
ويمكن أن يقال: إن الأصل في الماء الطهارة بمقتضى القاعدة المنصوص المتفق
عليها. ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل قاطع. والمعلوم من الأخبار تحقق
الانفعال بورود النجاسة خاصة حملا لمطلق الأخبار على مقيدها. والقول بأن
خصوص السؤال لا يخصص مدفوع بأن مثل خبر العبدية وخبر عمر بن حنظلة وخبر
حفص بن غياث المتقدم ذلك كله (2) قد دل على ذلك ابتداء من غير تقدم سؤال.
وأما الفرع المذكور فيجاب عنه بما قدمنا تحقيقه (3) من عدم المنافاة بين التطهير
بالقليل ونجاسته بذلك التطهير. وحينئذ فيقوى القول بالفرق بين ورود النجاسة وعكسه.
ويمكن تأييده أيضا بأخبار ماء الاستنجاء (4)، حيث حكم فيها بطهارته، فإنه
يمكن أن يكون ذلك أنما هو لورود الماء على النجاسة.

(1) في الصحيفة 325.
(2) في الصحيفة 287 و 288.
(3) في الصحيفة 305.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
328

إلا أنه بعد لا يخلو من شوب الاشكال، لأن تلك الأخبار المشتملة
على الانفعال بورود النجاسة لا صراحة لها بل ولا ظهور في التخصيص بصورة الورود
حتى تقيد بها تلك الأخبار المطلقة، وبدونه يشكل الحكم بالتقييد، والمسألة
لذلك محل تردد.
وأما ما ذكره السيد السند (قدس سره) من أنه ليس في الروايات ما يدل
على انفعال القليل بكل ما يرد عليه من النجاسات، حتى تبعه في هذه المقالة جمع ممن تأخر
عنه ففيه أنه وإن كان جملة من تلك الأخبار قد اشتملت على نجاسات مخصوصة إلا أن
جملة منها قد اشتملت على ألفاظ تؤذن بالعموم، كلفظ القذر الوارد في موثقتي عمار
ورواية أبي بصير، ولفظ الشئ في الأخبار الدالة على النجاسة بالمفهوم الشرطي، وكذا
في حسنة شهاب بن عبد ربه، المتقدم جميع ذلك في أدلة القول باالنجاسة (1) وسيأتي مزيد
تحقيق للمقام في مسألة الغسالة إن شاء الله تعالى.
(المقام الثالث) جمهور القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لم يفرقوا في النجاسة
الملاقية بين قليلها وكثيرها.
ونقل عن الشيخ (قدس سره) في المبسوط القول بعدم نجاسة الماء بما لا يمكن
التحرز منه، مثل رؤوس الإبر من الدم وغيره، فإنه معفو عنه، لأنه لا يمكن التحرز منه.
ونقل عنه في الإستبصار التخصيص بالدم القليل الذي لا يدركه الطرف
كرؤوس الإبر.
واستدل على ذلك بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (2)
قال: " سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه،

(1) في الصحيفة 281 و 282 و 284.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة
329

هل يصلح الوضوء منه؟ قال: إن لم يكن شئ يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئا بينا فلا يتوضأ منه ".
وأورد عليه أنه ليس في الرواية تصريح بإصابة الدم الماء، وإنما المتحقق منها
إصابة الإناء، وهو لا يستلزم إصابة الماء، فيكون باقيا على أصل الطهارة.
وأجيب بأن السائل أجل قدرا من أن يسأل عن مثل ذلك، بل المراد إنما
هو السؤال عن الماء. وذكر الإناء إنما هو على حذف مضاف.
وفيه (أولا) أن هذا الاستبعاد إنما نشأ الآن بعد المعرفة بالأحكام وشيوع
مثل هذا الحكم بين الأنام، وإلا فكتاب علي بن جعفر المذكور قد اشتمل على جملة
من الأسئلة العارية الآن عن الالتباس. بحيث يعرف أحكامها الآن جهال الناس.
و (ثانيا) أن من المحتمل قريبا بل هو الظاهر من الخبر المذكور أنه مع
تحقق إصابة الإناء حصل الشك في إصابة الماء أو الظن بذلك، فحسن السؤال حينئذ
عن ذلك. وأجاب (عليه السلام) بالبناء على يقين الطهارة إلا أن يعلم ذلك باستبانة
الدم في الماء.
نعم لقائل أن يقول: إنه من المقرر في كلامهم أنه متى اشتمل الكلام على قيد
فمورد الاثبات والنفي هو القيد. وحينئذ يكون النفي في قوله: " إن لم يكن شئ
يستبين " راجعا إلى الاستبانة التي هي صفة الشئ. والظاهر أن بناء الاستدلال
على ذلك.
وأجيب عن ذلك بأنه إنما يحسن لو كان في السؤال تصريح بإصابة الدم الماء. وفيه
أنه متى كان تقدير السؤال هو أن الدم قد أصاب الإناء ولكن أظن أو أشك في إصابته
الماء، فإنه يحسن في الجواب بناء على لك التقدير المذكور أن يقال: إنه وإن أصاب الماء
حقيقة فضلا عن ظن ذلك أو الشك فيه إلا أن مجرد إصابة الماء مع عدم ظهوره واستبانته
330

غير موجب للنجاسة، وأما الجواب بكون (يستبين) خبر لكان وأن اسمها (شئ)
فظني بعده، بل الظاهر أن (كان) هنا تامة. ومع تسليمه فهو إنما يتم على تقدير
نقل الخبر كذلك كما هو في التهذيب، وأما على ما هو المحكي عن الكافي من أن لفظ
الرواية فيه " إن لم يكن شيئا يستبين في الماء " فلا مجال لهذا الجواب. وبذلك تبقى
المسألة في قالب الاشكال.
هذا. وبعض محققي متأخري المتأخرين صار إلى العمل بالخبر المذكور. استنادا
إلى أن ما دل على انفعال القليل بالملاقاة لا يدل على العموم، إذ الروايات الدالة بمنطوقها
على ذلك مختصة بموارد مخصوصة. والدالة بمفهومها لا عموم لمفهومها، وإنما يتم ذلك
بالاجماع على عدم الفصل بين النجاسات، وهو غير جار في محل الخلاف، فلا جرم
كان ما نحن فيه داخلا في عموم أدلة الطهارة. وفيه ما عرفته في المقام الأول في الجواب
عن الوجه الخامس (1) من كلام الفاضل المتقدم ذكره من ثبوت العموم في المفهوم
على وجه معلوم غير موهوم.
واعترض بعض محققي متأخري المتأخرين على الشيخ (قدس سره) بأن مورد
الرواية دم الأنف، فالتعميم لا يخلو من اشكال. وفيه أنه لو خصت الأحكام
بخصوص الوقائع المخصوصة ومشخصاتها الخارجية، لم يكد يتفق وجود حكم كلي
في أحكام الفقه إلا القليل. والظاهر أن خصوصية الأنف هنا غير ملحوظة، فيتعدى
الحكم إلى سائر أفراد الدم من باب تنقيح المناط القطعي كما تقدم بيانه في المقدمة
الثالثة (2) فلا اشكال.
نعم تعميم الشيخ الحكم المذكور في المبسوط للدم وغيره لا يخلو من الاشكال
لاختصاص مورد الخبر المذكور بالدم، وظهور التغاير في الأحكام بين أفراد النجاسات

(1) في الصحيفة 309.
(2) في الصحيفة 56 و 64.
331

في العفو وعدمه وتعدد الغسل وعدمه ونحو ذلك، فلا يمكن دخول ذلك في تنقيح المناط
القطعي. وصار البعض المتقدم ذكره إلى تقوية ما في المبسوط بناء على ما نقلناه عنه.
وفيه ما عرفته. وما ذكره الشيخ (قدس سره) من عدم إمكان التحرز ممنوع سواء
أريد به ما يدل عليه ظاهر اللفظ أو الكناية عن المشقة.
(المقام الرابع) المفهوم من كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره)
في تعليقاته على كتاب المدارك تخصيص القول بنجاسة القليل بالملاقاة بالماء الساكن
دون الجاري لا عن نبع، حيث قال بعد قول السيد (قدس سرهما) في الكتاب
المذكور: " أطبق علماؤنا إلا ابن أبي عقيل على أن الماء.. الخ " ما صورته:
" قلت: الاطباق ثابت في الماء القليل الساكن دون الجاري لا عن نبع كما سيجئ
إن شاء الله تعالى " انتهى. وأشار بقوله: " كما سيجئ " إلى ما قدمنا نقله عنه في آخر
المسألة الثانية من الفصل الثاني (1).
وقد سبقه إلى ذلك أيضا المحقق الشيخ حسن (طاب ثراه) في المعالم كما قدمنا
نقله في المسألة المذكورة (2) حيث قال ثمة: " إذ الأدلة الدالة على انفعال ما نقص
عن الكر بالملاقاة مختصة بالمجتمع والمتقارب.. إلى آخر ما تقدم " ومبنى ما ذكروه
على أن المستفاد من أخبار الكر كمية واشتراطا اعتبار الاجتماع في الماء، وصدق
الوحدة على ذلك الماء إنما هو باعتبار ذلك، فمورد جعل الكر وعدمه مناطا للعصمة
عن الانفعال وعدمها إنما هو المجتمع الساكن دون الجاري المذكور. والمسألة محل اشكال
كما قدمنا بيانه في المسألة المشار إليها (3).
(المقام الخامس) صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف

(1) في الصحيفة 240.
(2) في الصحيفة 239.
(3) في الصحيفة 232.
332

يعرف بينهم أن مما يطهر القليل النجس القاء كر عليه دفعة، فإن كان متغيرا وزال
تغيره بذلك وإلا فكر آخر حتى يزول التغير.
وقد وقع الخلاف بينهم في اشتراط الدفعة وعدمه، واشتراط الامتزاج وعدمه
والظاهر أن منشأ ذلك عدم ورود حكم تطهير المياه في النصوص لا بطريق العموم
ولا الخصوص سوى ما ورد في ماء الحمام مما لا يحسم مادة الاشكال في المقام.
فحينئذ حاول جملة من الأصحاب للحكم بالطهارة هنا وجها يدخل به تحت عموم الأخبار
وهو حصول الوحدة بانضمام الماء الطاهر إلى الماء النجس ليدخل تحت عموم قوله
(عليه السلام) (1): " إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شئ " وقد صرحوا أيضا بأنه كما
يطهر بالقاء الكر يطهر بمطهرات أخر سنشير إليها إن شاء الله تعالى (2).
وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع:
(الأول) قد اختلفت كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط الامتزاج
وعدمه، واضطربت فتاوى جملة منهم، فممن صرح بذلك المحقق في المعتبر في مسألة
الغديرين، حيث قال: " الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد،
فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس ولو نقص كل واحد منهما عن الكر إذا كان مجموعهما مع
الساقية كرا فصاعدا " ثم قال بعد هذا الكلام بلا فصل: " الثالث لو نقص الغدير
عن كر فنجس فوصل بغدير فيه كر ففي طهارته تردد. والأشبه بقاؤه على النجاسة، لأنه
ممتاز عن الطاهر " ولا يخفى عليك ما في ظاهر هذا الكلام من التدافع، إلا أن يحمل كلامه
الأول على استواء سطحي الغديرين والثاني على اختلافهما كما أشرنا إليه في المسألة الثانية

(1) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق. والنص - كما
في الوسائل وغيره - " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ ".
(2) في الموضع الثامن من المواضع الآتية.
333

من الفصل الثاني، وقال العلامة في التذكرة: " لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا
إن اعتدل الماء وإلا في حق السافل، فلو نقص الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة، ولو
كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال وانتقاله إلى الطهارة بالممازجة،
لأن النجس لو غلب الطاهر نجسه مع الممازجة فمع التمييز يبقى على حاله " انتهى. وقال
الشهيد في الذكرى: " وطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا، فلو وصل بكر مماسة لم
يطهر، للتميز المقتضي لاختصاص كل بحكمه، ولو كان الملاقاة بعد الاتصال ولو
بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير " انتهى.
ولا يخفى عليك ما في عبائر هؤلاء الأفاضل من المناقشة، فإنه متى كان الاتصال
بين الغديرين بساقية مع تساوي السطوح موجبا للاتحاد في صورة عدم النجاسة، فلم
لا يكون موجبا له أيضا بعد تنجس أحدهما حتى أنه يشترط الممازجة؟ إذ من الظاهر أن
عروض النجاسة وعدمه لا مدخل له في الاتحاد وعدمه، فإن وصف النجاسة لا يخرج
الماء عن حقيقة المائية، والحكم بالاتحاد إنما ابتني على ذلك، وإلا فلو تغير الماء
بلون طاهر ثم وصل بماء خال من اللون اقتضى ذلك تعدد الماءين، ولا أظنهم يلتزمونه
وحينئذ فإن كان مجرد الاتصال كافيا فينبغي أن يكون في الموضعين وإلا فلا، والقائلون
بالاكتفاء بمجرد الاتصال وحصول الاتحاد به وإن أوجبوا المساواة أو علو الكثير
بعد عروض النجاسة كما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني في كتاب الروض، إلا أن ذلك
ليس من حيث عدم الاتحاد بل من حيث إن يشترط في المطهر علوه وامتزاجه، وإلا فهو
قد صرح بحصول الاتحاد بمجرد المساواة، واحتمل أيضا فيه الاكتفاء بذلك بناء
على حصول الاتحاد به في الصورة المذكورة، بخلاف كلامهم هنا، لتصريحهم بامتياز
النجس عن الطاهر.
احتج ثاني المحققين وثاني الشهيدين على الاكتفاء بمجرد الاتصال بما يرجع
إلى وجوه ثلاثة:
334

(أحدها) الأصل.
و (ثانيها) عدم تحقق الامتزاج، لأنه إن أريد به امتزاج مجموع الأجزاء
بالمجموع لم يتحقق الحكم بالطهارة، لعدم العلم بذلك بل ربما علم عدمه، وإن أريد به
البعض لم يكن المطهر للبعض الآخر الامتزاج بل مجرد الاتصال. وحينئذ فيلزم إما القول
بعدم طهارته، وهو باطل قطعا، للاجماع على أنه ليس وراء الامتزاج المذكور شرط
آخر لطهر الجميع، أو القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال، وحينئذ فيلزم القول
به مطلقا (1).
و (ثالثها) أن الأجزاء الملاقية للطاهر تطهر بمجرد الاتصال قطعا فتطهر
الأجزاء التي تليها، لاتصالها بالكثير الطاهر. وكذا القول في بقية الأجزاء.
وأورد على الأول بأن التمسك بالأصل هنا لا معنى له بالكلية. فإن يقين
النجاسة الموجب لأصالة بقائها حتى يثبت المزيل معارض ومخرج عن ذلك الأصل
و (على الثاني) إنا نختار (أولا) امتزاج المجموع بالمجموع. لكن لا بالمعنى
الذي ذكره، بل بمعنى اختلاطهما على وجه يستهلك الماء النجس ولا يظهر له أثر
بالكلية. لكن لا يخفى أن عدم ظهور أثر النجس بالكلية كما يحصل بالاستهلاك
والاضمحلال في الماء الطاهر، كذلك قد يكون سببه تشابه الماءين وإن لم يحصل ثمة
استهلاك. وحينئذ فالقول به مطلقا مشكل إلا بدعوى الاجماع على الطهارة بذلك.
وفيه ما لا يخفى. نعم لو كان سطح الماء أوسع من سطح القليل والقي عليه. فإنه يحصل
العلم بالاستهلاك والمداخلة. وسيأتي ما فيه مزيد بيان لذلك أن شاء الله تعالى.
و (ثانيا) نختار امتزاج البعض وأن الباقي يطهر حينئذ. قوله: إنه متى
كان طهر الباقي بمجرد الاتصال يلزم القول به مطلقا ممنوع. ووجه الفرق ظاهر،

(1) إذ الفرق بين الأبعاض غير معقول، فيكون اعتبار الامتزاج على هذا التقدير
مستلزما لعدم اعتبار. وهو فاسد قطعا (منه رحمه الله).
335

فإن الحكم بالطهارة والنجاسة تابع للدلالة الشرعية، وليس للعقل فيه مدخل بوجه،
ونحن إنما حكمنا بطهارة الأجزاء الباقية بعد الامتزاج لما ذكرتموه من الاجماع على حصول
الطهارة للمجموع بذلك، وهذا لا يستلزم الحكم بطهارة ما لم يحصل فيه امتزاج أصلا
بمجرد الاتصال. لعدم شمول الدليل المذكور له. ولأنه ربما كان لممازجة البعض
مدخل في التطهير فلا يتم الاكتفاء بمجرد الاتصال.
و (على الثالث) أنه موقوف على وجود دليل على أن الماء يطهر نفسه،
والأدلة العامة الدالة على كونه طهورا (1) غاية ما تدل عليه كونه مطهرا في الجملة.
وضم الاجماع في تتمة الاستدلال بها لا يتم في مقام النزاع (2) والخاصة الواردة في جزئيات
الأحكام إنما تدل على كونه مطهرا لغيره، بل ربما دل حديث " أنه يطهر ولا يطهر " (3)
بظاهرة على عدم وقوع التطهير هنا.
والقول الفصل في المقام أن يقال: لما كان الحكم المذكور غير منصوص
فالواجب فيه رعاية الاحتياط الذي به يحصل يقين البراءة. لما عرفت في المقدمة
الرابعة (4) من أن الاحتياط في مثل هذا الموضع واجب. وهو لا يحصل إلا بالقول
بالامتزاج على وجه يستهلك الماء النجس في جنب الماء الطاهر.
ويؤيد ذلك ما قدمنا (5) من معنى حديث " الماء يطهر ولا يطهر " يحمل كونه
لا يقبل التطهير على الممازجة لاضمحلاله واستهلاكه.

(1) المتقدمة في المقالة الثانية في الصحيفة 172.
(2) بأن يقال: إن الأدلة المذكورة دلت على كونه مطهرا في الجملة، والاجماع قائم
على عدم الفصل والفرق بين أفراد المتنجس (منه قدس سره).
(3) وهو حديث السكوني المروي في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق
(4) في الصحيفة 68.
(5) في الصحيفة 177.
336

ويؤيده أيضا ما حققه الشيخ حسن (قدس سره) في كتاب المعالم،
من أنه لما دل النص والاجماع على أن وقوع النجاسة في الكثير أو وقوعها عليه لا يمنع
من استعماله ولا يؤثر فيه تنجيسا وإن كثرت ما لم تتغير بها، لاستهلاكها فيه
واضمحلالها في جنبه، فيدل بمفهوم الموافقة على أن الماء النجس بهذه المثابة، فإذا وقع
في الماء أو وقع الماء عليه وصار مستهلكا فيه بحيث شاعت أجزاؤه ولم تتميز وجب الحكم
بطهارته. نعم فيه ما تقدم من أن العلم بذلك يقينا إنما يحصل فيما لو كان سطح الماء
الكثير أوسع من سطح القليل النجس، أو كان الماء النجس ذا طعم أو لون أو رائحة
وانعدمت بوضعه في الماء الكثير.
(الموضع الثاني) أنه مع اعتبار الامتزاج وعدم الاكتفاء بمجرد الاتصال. فهل
يشترط الدفعة العرفية، بمعنى وقوع جميع أجزاء الماء الكثير في زمان قصير بحيث
يصدق عليه الدفعة عرفا (1) حيث إن اعتبار الدفعة الحقيقة محال، أم لا يشترط،
بل يكفي وقوعه تدريجا لكن بشرط عدم الانقطاع؟
قد اختلفت عباراتهم أيضا في ذلك، فممن صرح بالدفعة جمع منهم: المحقق
في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه وكذا الشهيد، بل الظاهر أنه المشهور بين
المتأخرين. ومنهم من أطلق كالمحقق في المعتبر، وهو المنقول أيضا عن الشيخ
في الخلاف والمبسوط. ومنهم من صرح بالاكتفاء بوقوعه تدريجا كالشهيد في الذكرى

(1) قال المحقق حسن (ره) في كتاب المعالم: " اعلم أن المعتبر في الدفعة
ما لا يخرج به الماء عن كونه متساوي السطح، ومآله إلى أن يبقى به صدق الاجتماع والوحدة
عرفا، لما عرفت من أن الموجب لاعتبارها هو التحرز من انفعال بعض أجزاء الماء،
وهو إنما يكون بخروجه عن الوحدة المعتبرة " انتهى. ولا يخفى أن القاء الماء - بحيث لا يخرج
عن المساواة - متعذر أو متعسر في أكثر الأحيان، فلعل المراد باشتراط المساواة الاكتفاء
هنا بصدق الوحدة العرفية والاجتماع وإن اختلفت السطوح في الجملة (منه رحمه الله).
337

واعترضه المحقق الثاني بأن فيه تسامحا، لأن وصول أول جزء منه إلى النجس يقتضي
نقصانه عن الكر فلا يطهر، ولورود النص بالدفعة وتصريح الأصحاب بها. ورده السيد
السند في المدارك بأنه غير جيد، فإنه يكتفى في الطهارة ببلوغ المطهر الكر حال الاتصال
إذا لم يتغير بعضه بالنجاسة وإن نقص بعد ذلك، مع أن مجرد الاتصال بالماء النجس
لا يقتضي النقصان كما هو واضح. وما ادعاه من ورود النص بالدفعة منظور فيه،
فإنا لم نقف عليه في كتب الحديث ولا نقله ناقل في كتب الاستدلال. وتصريح
الأصحاب بالدفعة ليس حجة، مع أن العلامة في المنتهى والتحرير اكتفى في تطهير
الغدير القليل النجس باتصاله بالغدير البالغ كرا. ومقتضى ذلك الاكتفاء في طهارة
القليل باتصال الكر به وإن لم يلق كله فضلا عن كونه دفعة انتهى. وفيه أن ما ذكره
من أنه يكتفي في الطهارة ببلوغ الكر حال الاتصال محل نظر، لما عرفت آنفا
من عدم الدليل على ذلك، إلا أن يكون ذلك إلزاما للمعترض، حيث إنه من القائلين
بالاكتفاء بمجرد الاتصال.
وفصل المحقق الشيخ حسن (قدس سره) في المعالم، فقال: " والتحقيق في ذلك أنه لا يخلو، إما أن يعتبر في عدم انفعال مقدار الكر استواء سطحه أو لا، وعلى الثاني
إما أن يشترط في التطهير حصول الامتزاج أو لا، وعلى تقدير عدم الاشتراط إما أن
يكون حصول النجاسة عن مجرد الملاقاة أو مع التغير. فههنا صور أربع:
(الأولى) أن يعتبر في عدم انفعال الكر استواء السطح. والمتجه حينئذ
اشتراط الدفعة والالقاء. لأن وقوعه تدريجا يقتضي خروجه عن المساواة، فتنفعل
الأجزاء التي يصيبها الماء النجس، وينقص الطاهر عن الكر فلا يصلح لإفادة الطهارة
ولا فرق في ذلك بين المتغير وغيره، لاشتراك الكل في التأثير في القليل، والمفروض
صيرورة الأجزاء بعدم المساواة في معنى القليل.
338

(الثانية) أن يهمل اعتبار المساواة ولكن يشترط الامتزاج. والوجه عدم
اعتبار الدفعة حينئذ بل ما يحصل به ممازجة الطاهر بالنجس واستهلاكه له، حتى لو فرض
حصول ذلك قبل اتمام القاء الكر لم يحتج إلى الباقي. ولا يفرق هنا أيضا بين المتغير
وغيره، لكن يعتبر في المتغير مع الممازجة زوال تغيره، فيجب أن يلقى عليه
من مقدار الكر ما يحصل به الأمران، ولو قدر قوة المتغير بحيث يلزم منه تغير شئ
من أجزاء الكر حال وقوعها عليه، وجب مراعاة ما يؤمن معه ذلك إما بتكثير
الأجزاء أو بالقاء الجميع دفعة.
(الثالثة) أن لا يشترط الممازجة ولا يعتبر المساواة وتكون نجاسة الماء بمجرد
الملاقاة. والمتجه حينئذ الاكتفاء بمجرد الاتصال، فإذا حصل بأقل مسماه كفى ولم
يحتج إلى الزيادة عنه.
(الرابعة) الصورة بحالها ولكن كان الماء متغيرا. والمعتبر حينئذ اندفاع
التغير كما في صورة اشتراط الامتزاج، وحينئذ لو فرض تأثير التغير في بعض الأجزاء
تتعين الدفعة أو ما جرى مجراها كما ذكر. وحيث قد تقدم منا الميل إلى اعتبار المساواة
فاعتبار الدفعة متعين " انتهى كلامه (زيد مقامه).
ويرد على ما ذكره في الصورة الأولى أنه قد صرح سابقا بأن الذاهبين إلى اعتبار
المساواة مصرحون بعدم انفعال القليل المتصل بالكثير إذا كان الكثير أعلى، كما
قدمنا لك عبائر جملة منهم في المسألة الثانية من الفصل الثاني (1) وقال (قدس سره)
هناك بعد البحث في ذلك: " وقد تحرر من هذا أن عدم انفعال الواقف بالملاقاة مشروط
ببلوغ مقدار الكر مع تساوي السطوح، أو باتصاله بمادة هي كر فصاعدا، ولا يعتبر
استواء السطوح في المادة بالنظر إلى عدم انفعال ما تحتها.. الخ " ومفهوم هذا الكلام

(1) في الصحيفة 228.
339

أن الشرط في عدم انفعال الكثير الواقف إما تساوي سطوحه أو كون الأعلى منه كرا
فصاعدا، لعدم تقوي الأعلى بالأسفل عندهم، وحينئذ فالوحدة والاجتماع اللذان هما
مدار العصمة عن الانفعال حاصلان على تقدير التساوي والاختلاف على الوجه المذكور،
فلا يتجه اعتبار الدفعة بل يجزي الوقوع تدريجا، ويرجع إلى ما ذكره في الصورة الثانية
وبذلك يظهر لك ما في آخر كلامه من قوله: " وحيث قد تقدم منا الميل.. الخ "
فإنه قد تقدم منه كما حكينا عنه (1) الميل إلى اعتبار المساواة أو علو الكثير لا اعتبار
المساواة خاصة كما يوهمه كلامه هنا.
ويرد على ما ذكره في الصورة الثانية أنه مع إهمال اعتبار المساواة وإن اشترط
الامتزاج، فالاكتفاء بامتزاج البعض ممنوع، لما عرفت آنفا (2) من عدم النص
في تطهير المياه، والأصل بقاء النجاسة. وغاية ما يمكن التشبث به في هذا الباب
الاجماع. وهو إنما يثبت بالالقاء دفعة على وجه يستلزم دخول جميع الأجزاء بعضها
في بعض. وبالجملة فإن وجوب الدفعة كما يترتب على اعتبار المساواة كذلك يترتب
على اشتراط الامتزاج، إذ امتزاج البعض وإن أوجب استهلاك النجس، إلا أنه
لا دليل على حصول التطهير به. وأيضا فإن القائلين باعتبار الممازجة لم يظهر منهم التصريح
بالاكتفاء بممازجة البعض، بل ربما ظهر من كلامهم اعتبار ورود جميع الكر عليه،
وبذلك يظهر لك ما في تتمة كلامه في الصورة المذكورة.
ويرد على ما ذكره في الصورة الثالثة أن ما ذكر فيها من عدم اشتراط الممازجة
وعدم اعتبار المساواة أعم من الاكتفاء بالاتصال مطلقا أو حصول الممازجة في بعض.
وعدم اشتراط الدفعة هنا إنما يتم على الأول دون الثاني، لما عرفت آنفا (3).

(1) في الصحيفة 239.
(2) في الصحيفة 333.
(3) في الصحيفة 333.
340

وبالجملة فطريق الاحتياط اعتبار الدفعة على الوجه الذي ذكرنا سابقا في الممازجة
والله أعلم.
(الموضع الثالث) ينبغي أن يعلم أنه على جميع التقادير من القول بالدفعة والممازجة
أو الاكتفاء بمجرد الاتصال، لو كان الماء متغيرا بالنجاسة فالواجب أن يزال التغير
أولا، إلا أن يحصل زواله بالالقاء دفعة بحيث لا يتغير شئ من ماء الكر، أو يزاد
في مقدار الماء المطهر على وجه يسلم مقدار الكر عن التغير. وعبائر جملة من الأصحاب
وإن دلت باطلاقها في صورة التغير على أنه يجب القاء كر يزيل تغيره وإن تغير بعض
الكر في ابتداء الوصول، إلا أن الظاهر أنه ليس بمراد لهم.
(الموضع الرابع) أنه قد ذكر جملة من الأصحاب أنه متى كان الماء القليل
متغيرا فطهره بالقاء كر عليه، فإن زال به التغير وإلا فكر آخر وهكذا، وقيده
جملة من المتأخرين بأن القاء الكر الآخر مع عدم زوال التغير بالكر السابق إنما هو
على تقدير أن لا يتميز كر طاهر غير متغير عن الماء المتغير، وإلا فيكفي حينئذ في تطهير
النجس المتصل به التموج حتى يزول التغير كما تقدم في تغير بعض الكثير، ولا يخفى ما فيه
على اطلاقه من الاشكال، لأنه متى فرض أن القليل قد تغير بعضه، وأنه بالقاء الكر
عليه دفعة فالقدر الذي وقع على ذلك البعض المتغير قد تغير أيضا، والواقع على غير
المتغير حينئذ أقل من كر، فإنه يلزم أن ينجس الواقع على غير المتغير في أول آن
الملاقاة بوقوعه على النجس وإن بلغ معه بعد الوقوع كرا. واعتبار الدفعة الواحدة
الموجبة لاتحاد الماءين مقيدة بعدم تغير شئ من الكر الملقى كما عرفت آنفا. نعم لو
قلنا بالاكتفاء بمجرد الاتصال أو الامتزاج في الجملة، وكان وقوع الكر المذكور
في غير الناحية التي فيها التغير، اتجه أن يكون ما وقع عليه الكر أو اتصل به طاهرا
البتة، وتختص النجاسة بالمتغير، فيصير من قبيل مسألة الكثير المتغير بعضه. ولعل
341

إلى ذلك لحظ السيد السند في المدارك، حيث إنه قيد وجوب القاء الكر مرة أخرى
بتغير الكر الأول أو بعضه بالنجاسة، وخص الطهارة بالتموج والامتزاج بما إذا بقي
الكر الملقى على حاله، ولم يكتف بحصول كر في الجملة ولو من الماء السابق واللاحق،
كما يعطيه ظاهر الكلام الذي نقلناه (1).
(الموضع الخامس) أنه على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال كما هو أحد
القولين المتقدمين هل يكفي الاتصال كيف كان أم لا بد من المساواة أو علو المطهر؟
قد عرفت مما تقدم في الفصل الثاني (2) وقوع الخلاف في اشتراط المساواة والاختلاف
في مقدار الكر، وأن جملة من الأصحاب كشيخنا الشهيد الثاني وغيره قائلون
بعد انفعاله وأن اختلفت سطوحه كيف كان، وأن جملة منهم كالشهيد والشيخ
علي والعلامة في أحد قوليه يقيدون ذلك بالمساواة أو علو الكثير. هذا قبل عروض
النجاسة. أما لو عرضت للقليل ثم وصل بالكثير، فظاهر شيخنا الشهيد الثاني الذي
هو أحد القائلين بالاتحاد مع اختلاف السطوح في الشق الأول عدم القول بالاتحاد
هنا. بل يشترط المساواة أو علو الكثير، وحينئذ فظاهرهم الاتفاق هنا على علو المطهر
أو مساواته.
(الموضع السادس) لو كان لماء القليل النجس في كوز ونحوه، توقف
طهره على دخول المطهر إليه وممازجته له على القول بالممازجة. ولو كان الإناء مملوء
فالظاهر عدم طهارته. لعدم إمكان التداخل. إلا أن يكون للمطهر قوة وانصباب بحيث
يدافع ما في الكوز. ومما يعلم به عدم الممازجة بقاء ماء الكوز على وصفه المباين إن
كان كذلك، كعذوبته مع ملوحة المطهر، وحرارته مع برودة المطهر، أو بالعكس فيهما،
ويكفي مجرد اتصال المطهر به على القول الآخر على الوجه المذكور.

(1) في الصحيفة 338.
(2) في المسألة الثانية في الصحيفة 228.
342

(الموضع السابع) لو فرق ماء الكر في ظروف عديدة والقي ماء كل منها
على حياله على الماء النجس مع اتصال الانصباب إلى الفراغ، فالظاهر أنه لا يفيد طهارة.
(أما أولا) فلأن المفهوم من الأخبار وكلام الأصحاب اختصاص اسم
الكر بالماء المجمتع، بل قد عرفت آنفا (1) من كلام المحققين الشيخ حسن في المعالم
والمحدث الأمين (قدس سرهما) المناقشة في ثبوت صدق الكرية مع اختلاف السطوح،
لكون المفهوم عندهما من الأخبار اعتبار تساوي أجزاء الماء في صدق الكر عليه،
فكيف مع تفرقه في ظروف عديدة؟
و (أما ثانيا) فلأن الدفعة العرفية التي هي عبارة عن الوقوع في أقرب
زمان إنما تحصل مع الاجتماع لا مع التفرق.
و (أما ثالثا) فلأن الشارع قد جعل الكر معيارا لعدم الانفعال بالملاقاة،
ولا ريب أن هذا الماء بتفريقه قابل للانفعال، لقلة كل ظرف منه. فلا تصدق
عليه الكرية، ومتى لم تصدق عليه لم يحصل به التطهير.
و (أما رابعا) فلأنه بوصول أول كل ماء من مياه تلك الظروف إلى الماء
النجس، يجب الحكم بنجاسته، لكونه ماء قليلا لاقى نجاسة، فلو اجتمعت منه
كرور والحال هذه كان حكمها كذلك. والعجب من جمع ممن رأيناهم من فضلاء
بلادنا البحرين أنهم يحكمون بالتطهير بذلك بل يفعلونه. وقد حضرت ذلك غير
مرة وكنت يومئذ أبان الخوض في تحقيق هذه المسائل والبحث عن هذه الدلائل.
ولم أعمل ما الوجه فيه عندهم.
(الموضع الثامن) أنه كما أن من الطرق لتطهير القليل ما ذكرنا من ورد
الكر عليه أو اتصاله به على التفصيل المتقدم، كذلك:

(1) في المسألة الثانية في الصحيفة 228.
343

(منها) وقوعه في الكر أيضا، وحينئذ فإن كان القليل متغيرا اشترط
في طهره امتزاجه بما وقع عليه ليرفع التغير، فإن ارتفع بذلك وإلا جرى فيه ما ذكرنا
في الموضع الرابع. وإن لم يكن متغيرا بني على الخلاف في اعتبار الممازجة أو الاكتفاء
بمجرد الاتصال على الوجه المتقدم من اعتبار المساواة أو علو المطهر.
و (منها) وقوع ماء المطر عليه، وقد تقدم الكلام فيه في الفرع الأول
من فروع المقالة التاسعة من الفصل الأول (1).
و (منها) اتصاله بالنابع لكن مع علو النابع أو مساواته. وفي حكمه
الجاري عن مادة كثيرة. والكلام في اشتراط الممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال
على ما تقدم (2) ويبنى الكلام أيضا في النابع على الخلاف في اشتراط الكرية وعدمه
كما تقدم (3).
(الموضع التاسع) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تطهير القليل
النجس باتمامه كرا.
فالمنقول عن الشيخ في الخلاف وابن الجنيد وإليه ذهب أكثر المتأخرين
القول بالبقاء على النجاسة.
ونقل عن المرتضى في المسائل الرسية القول بالطهارة. واقتفاه في ذلك
ابن إدريس، ويحيى بن سعيد صاحب الجامع وابن حمزة والمحقق الشيخ علي. وهم
بين مصرح بعدم الفرق بين اتمامه بطاهر أو نجس، وبين مقيد له بالطاهر، وبين

(1) في الصحيفة 220.
(2) في الصحيفة 333.
(3) في الصحيفة 187.
344

مطلق يتناول بظاهره الأمرين (1).
احتج الأولون بأنه ماء محكوم بنجاسته شرعا، فتوقف الحكم بارتفاعها على الدليل.
وليس فليس، لما سيظهر بعد ابطال أدلة الخصم.
(لا يقال): إن هذا تمسك بالاستصحاب، وأنتم قد نفيتم التمسك به آنفا (2).
(لأنا نقول): إن الاستصحاب في مثل هذه الصورة ليس من القسم المتنازع
فيه، بل من قبيل ما يدخل تحت عموم الدليل أو اطلاقه، لأن ما دل على نجاسة
القليل بالملاقاة لا تقييد فيه بوقت دون آخر ولا بحالة دون أخرى، ولأن من جملة
أدلة نجاسة القليل الأخبار الدالة على النهي عن الوضوء والشرب منه متى لاقته نجاسة،
والنهي عندهم للتكرار والدوام. ولأن الأخبار الدالة على عدم الخروج عن يقين
الطهارة أو النجاسة إلا بيقين مثله شاملة لمحل النزاع.
وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين من منع هذه الأدلة هنا من غير أن
يبين وجهه بتفصيل ولا اجمال لا أعرف له وجها إلا مجرد حب المناقشة في أمثال
هذا المجال.
احتج المرتضى (رضي الله عنه) على ما نقل عنه بوجهين:
(أحدهما) أن بلوغ قدر الكر موجب لاستهلاكه للنجاسة، فيستوي وقوعها
قبل البلوغ وبعده.
و (ثانيهما) أن الاجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة
ولم يعلم هل كان وقوعها قبل بلوغ الكرية أو بعده؟ وما ذاك إلا لتساوي الحالين،

(1) ممن صرح بالأول ابن إدريس على ما نقل عنه، وممن صرح بالثاني ابن حمزة
على ما نقله عنه، والباقون أطلقوا (منه رحمه الله).
(2) في المطلب الثاني في الصحيفة 51.
345

إذ لو اختص الحكم ببعدية الوقوع لم يكن للحكم بالطهارة وجه، لأنه كما يحتمل تأخره
عن البلوغ يحتمل تقدمه عليه.
واحتج ابن إدريس بالاجماع، وبقوله (عليه السلام): " إذا بلغ الماء كرا
لم يحمل خبثا " (1) وهو عام. وزعم أن هذه الرواية مجمع عليها عند المخالف والمؤالف
وبالعمومات الدالة على طهارة الماء وجواز استعماله كقوله سبحانه: " وينزل عليكم
من السماء ماءا ليطهركم به.. " (2) وقوله: " وإن كنتم جنبا فاطهروا.. " (3) وقوله
(عليه السلام) لأبي ذر: " إذا وجدت الماء فأمسه جسدك " (4) وقوله (عليه السلام):
" أما أنا فلا أزيد على أن أحثو على رأسي ثلاث حثيات. فإذا أنى قد طهرت " (5)

(1) تقدم الكلام في هذا الحديث في التعليقة 1 في الصحيفة 246.
(2) سورة الأنفال. الآية 12.
(3) سورة المائدة. الآية 10.
(4) هذا من حديث رواه أحمد في مسنده ج 5 ص 146. وأبو داود في السنن ج 1
ص 91، وروى الترمذي في جامعه ج 1 ص 193 القطعة الأخيرة منه المتعلقة بالتيمم
والغسل. وروى ابن العربي في شرحه على جامع الترمذي الحديث بتمامه. ورواه أيضا
البيهقي في السنن ج 1 ص 179. والحديث 12 من الباب - 14 - من أبواب الجناية
من الوسائل يوافق ما رواه هؤلاء إلا أنه خال من الذيل المذكور.
(5) هذا الحديث رواه الشوكاني في نيل الأوطار عن أحمد ج 1 ص 215 هكذا.
" أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات ثم أفيض فإذا أنا قد طهرت " ثم قال: وقال الحافظ
قوله: " فإذا أنا قد طهرت " إلا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف. ولكنه وقع
من حديث أم سلمة، قال لها: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين
الماء عليك فإذا أنت قد طهرت " وأصله في صحيح مسلم. انتهى ما في نيل الأوطار.
وروى البخاري في صحيحة ج 1 (باب من أفاض على رأسه ثلاثا) قوله صلى الله عليه وآله: " أما
أنا فأفيض على رأسي ثلاثا " وأشار بيديه كلتيهما. وهكذا رواه مسلم في صحيحه ج 1
ص 136 والنسائي في السنن ج 1 ص 49. وابن ماجة في السنن ج 1 ص 290.
وأبو داود في السنن ج 1 ص 62، وابن حجر في مجمع الزوائد ج 1 ص 271،
ورواه أيضا ابن ماجة في السنن ج 1 ص 203 هكذا " أما أنا فأحثو على رأسي ثلاثا ".
346

وأجيب عن ذلك، أما عن أول دليلي المرتضى (رضي الله عنه) فبأنه محض قياس
لا يعمل به. إذ استهلاك النجاسة الذي دل النص عليه إنما هو بعد البلوغ، فالحق
استهلاك النجاسة الواقعة قبل البلوغ بذلك قياس محض. على أن الفارق موجود، وهو
أن الماء بعد البلوغ له قوة في قهر النجاسة إذا وردت عليه بخلافه قبل. لانقهاره
بالنجاسة فلا يصير قاهرا لها.
وأما عن ثانيهما فبأن الحكم بالطهارة في صورة دعوى الاجماع إنما هو
بناء على أصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة. والنجاسة هنا غير معلومة، لاحتمال تأخرها
عن البلوغ، إذ عدم العلم بتقدم الوقوع وتأخره يقتضي الشك في التقدم الذي هو
سبب النجاسة، فلا جرم تكون النجاسة مشكوكا فيها.
وأما عن أدلة ابن إدريس فبما ذكره المحقق في المعتبر، حيث قال ونعم
ما قال وتنازعني نفسي إلا أن أذكره بتمامه، فإنه جيد رشيق، وبالاثبات وإن
طال به زمان الكلام حقيق وأي حقيق، قال (قدس سره) بعد نقل الأدلة
المذكورة: " فالجواب دفع الخبر، فإنا لم نروه مسندا، والذي رواه مرسلا
المرتضى (رضي الله عنه) والشيخ أبو جعفر (رحمه الله) وآحاد ممن جاء بعده. والخبر
المرسل لا يعمل به. وكتب الحديث عن الأئمة (عليهم السلام) خالية منه أصلا.
وأما المخالفون فلم أعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حي. وهو زيدي منقطع
المذهب وما رأيت أعجب ممن يدعي اجماع المخالف والمؤالف فيما لا يوجد إلا نادرا،
فإذن الرواية ساقطة. وأما أصحابنا فرووا عن الأئمة (عليهم السلام) " إذا كان الماء قدر
كر لم ينجسه شئ " (1) وهذا صريح في أن بلوغه كرا هو المانع لتأثره بالنجاسة. ولا

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
347

يلزم من كونه لا ينجسه شئ بعد البلوغ رفع ما كان ثابتا فيه ومنجسا قبله. والشيخ
(رحمه الله) قال بقولهم (عليهم السلام) ونحن قد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا اللفظ، وإنما رأينا ما ذكرناه، وهو قول الصادق (عليه السلام):
" إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (1) ولعل غلط من غلط في هذه المسألة لتوهمه
أن معنى اللفظين واحد. وأما الآيات والخبر البواقي فالاستدلال بها ضعيف لا يفتقر
إلى جواب، لأننا لا ننازع في استعمال الطاهر المطلق، بل بحثنا في هذا النجس إذا
بلغ كرا يطهر، فإن ثبتت طهارته تناولته الأحاديث الآمرة بالاغتسال وغيره. وإن لم
تثبت طهارته فالاجماع على المنع منه، فلا تعلق له إذن فيما ذكره. وهل يستجيز محصل
أن يقول النبي (صلى الله عليه وآله): " أحثو على رأسي ثلاث حثيات مما يجتمع من غسالة
البول والدم وميلغة الكلب " واحتج أيضا لذلك بالاجماع، وهو أضعف من الأول
لأنا لم نقف على هذا في شئ من كتب الأصحاب، ولو وجد كان نادرا، بل ذكره
المرتضى (رحمه الله) في مسائل منفردة وبعده اثنان أو ثلاثة ممن تابعه. ودعوى
مثل هذا اجماعا غلط، إذ لسنا بدعوى المائة نعلم دخول الإمام فيهم، فكيف بدعوى
الثلاثة والأربعة " انتهى كلامه (زيد مقامه) ومن المستطرف قوله: " وهل يستجيز
محصل.. الخ ".
الفصل الرابع
في حكم البئر، وفيه مباحث:
(البحث الأول) قد عرف شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد البئر بأنها مجمع
ماء نابع من الأرض لا يتعداها غالبا ولا يخرج عن مسماها عرفا. واعترضه المحقق

(1) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
348

الشيخ علي بأن القيد الأخير موجب لاجمال التعريف، لأن العرف الواقع في العبارة لا يظهر
أي عرف هو؟ أهو عرف زمانه أم عرف غيره؟ وعلى الثاني فيراد العام أو الأعم
منه ومن الخاص؟ مع أنه يشكل إرادة عرف غيره (صلى الله عليه وآله) وإلا لزم
تغير الحكم بتغير التسمية، فيثبت في العين حكم البئر لو سميت باسمه. وبطلانه ظاهر
والذي يقتضيه النظر أن ما يثبت اطلاق البئر عليه في زمنه (صلى الله عليه وآله)
أو زمن أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كالتي في العراق والحجاز فثبوت
الأحكام له واضح، وموقع فيه الشك فالأصل عدم تعلق أحكام البئر به، وإن كان
العمل بالاحتياط أولى. انتهى. وأجاب السيد السند في المدارك بأنه قد ثبت في الأصول
أن الواجب حمل الخطاب على الحقيقة الشرعية إن ثبتت، وإلا فعلى عرف زمانهم
(عليهم السلام) خاصة إن علم، وإلا فعلى الحقيقة اللغوية إن ثبتت، وإلا فعلى
العرف العام. إذ الأصل عدم تقدم وضع سابق عليه وعدم النقل عنه. ولما لم يثبت
في هذا المسألة شئ من الحقائق الثلاث المتقدمة، وجب الحمل على الحقيقة العرفية
العامة في غير ما علم اطلاق ذلك اللفظ عليه في عرفهم (عليهم السلام) ومنه يعلم عدم
تعلق الأحكام بالآبار الغير النابعة كما في بلاد الشام، والجارية تحت الأرض كما
في المشهد الغروي على ساكنه السلام، وعدم تغير الحكم بتغير التسمية. انتهى.
وفيه ما عرفته في المقدمة الثامنة (1) من عدم الدليل على هذا التفصيل الذي ذكره
والقاعدة التي بنوا عليها، مع أن ما ذكره من أن مع عدم ثبوت شئ من الحقائق
الثلاث يجب الحمل على العرف العام مما لا دليل عليه أيضا. والتمسك بأصالة عدم
تقدم وضع سابق عليه وعدم النقل بمحل من الضعف. على أنه لا يخفى ما في بناء
الأحكام على العرف العام من العسر والحرج المنفيين بالآية والوراية كما قدمناه ثمة (2).

(1) في الصحيفة 121.
(2) في الصحيفة 121.
349

أقول: والتحقيق أن القدر المعلوم من الأخبار وكلام الأصحاب هو أن
ما علم تسميته بئرا في زمنهم (عليهم السلام) فلا ريب في اجراء أحكام البئر عليه.
وما لم يعلم فإنه لا بد فيه من النبع، كما دل عليه بعض صحاح الأخبار من أن له مادة.
يعني الينبوع الذي يخرج منه الماء بقوة. فعلى هذا لو كان مما يخرج رشحا فإنه يكون
من قبيل الماء المحقون في بلوغ الكرية وعدمه، وقيل إنه يسمى بالثمد. كما تقدمت
الإشارة إليه في أول الباب. ولا بد فيها أيضا من التسمية بئرا. لأن الأحكام في الأخبار
إنما علقت على صدق هذا العنوان. وبذلك يظهر صحة ما ذكره شيخنا الشهيد (قدس
سره) والله العالم.
(البحث الثاني) اختلق الأصحاب (رضوان الله عليهم) في نجاسة البئر
بالملاقاة وعدمها بعد الاتفاق على نجاستها بالتغير، على أقوال:
أشهرها على ما نقله جمع من المتأخرين القول بالنجاسة.
وقيل بالطهارة واستحباب النزح، ونقل عن الحسن بن أبي عقيل، ونسب
أيضا إلى الشيخ (1) في بعض أقواله، وأسنده جمع أيضا إلى شيخه الحسين بن عبد الله
الغضائري، وإليه ذهب العلامة في أكثر كتبه وشيخه مفيد الدين بن جهم.
وقيل بالطهارة مع وجوب النزح، ذهب إليه العلامة في المنتهى. ونقل أيضا
عن الشيخ في التهذيب. وفيه اشكال، فإن كلام التهذيب هنا لا يخلو من تشويش
واضطراب، ولهذا نسب إليه بعضهم القول بالنجاسة.
وفصل بعض ببلوغ الكر وعدمه، فينجس على الثاني دون الأول ونسب إلى الشيخ
أبي محمد الحسن بن محمد البصروي من المتقدمين. وألزم بعضهم (2) العلامة بذلك، حيث إنه

(1) أنكر بعضهم نسبة هذا القول إلى الشيخ (ره) لعدم وجوده في كتبه المعروفة
اللهم إلا أن يكون في بعض أجوبة المسائل المنسوبة إليه (منه رحمه الله).
(2) هو السيد السند في المدارك (منه رحمه الله).
350

قائل باشتراط الكرية في الجاري، والبئر من أنواعه. وأنت خبير بما فيه (1) وأنه
لو ترتب حكم البئر على الجاري لورد الالزام على القول المشهور أيضا كما لا يخفى.
ونقل الشهيد في الذكرى عن الجعفي أنه يعتبر فيه ذراعين في الأبعاد الثلاثة
حتى لا ينجس.
وقد تلخص من ذلك أن الأقوال في المسألة خمسة.
والظاهر من الأخبار هو القول بالطهارة واستحباب النزح. ولنا عليه وجوه
من الأدلة:
(أحدها) أصالة الطهارة عموما وخصوصا.
و (ثانيها) عموم الآيات كقوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (2)
ونحوها. والماء كله من السماء بنص القرآن والأخبار كما تقدم بيانه في صدر الفصل
الأول (3) فيجب الحكم بطهارته حتى يقوم دليل النجاسة.
و (ثالثها) الأخبار الصريحة الصحيحة كما سيأتيك ذكرها.
و (رابعها) اختلاف الأخبار في مقادير النزح في النجاسة الواحدة، مع
صحتها وصراحتها على وجه لا يقبل الحمل ولا الترجيح كما سيأتيك إن شاء الله تعالى
والعمل ببعض دون بعض ترجيح بلا مرجح، فيلزم اطراحها رأسا، للزوم التناقض
وانسداد باب الحمل والترجيح.

(1) للاتفاق على عدم نجاسة الجاري بالملاقاة، والبئر بعض أفراد الجاري أيضا،
وحينئذ فالوجه أن يقال: إن البئر قد خرجت من أحكام الجاري وإن كانت بعض أفراده
واختصت بأحكام على حدة، ولهذا أفردت بالبحث في الكتب الفقهية، فلا ملازمة بينهما
(منه قدس سره).
(2) سورة الفرقان. الآية 51.
(3) في الصحيفة 173 السطر 3.
351

و (خامسها) رجحان أخبار الطهارة لو ثبت التعارض بموافقة القرآن
كما عرفت (1)، ومخالفة العامة، فإن جمهورهم كما نقله العلامة في المنتهى على القول
بالنجاسة، ونقل بعض أفاضل المحدثين أن علماء الحنفية الذين هو العمدة عند سلاطين
العامة قديما وحديثا كما تشهد به كتب التواريخ والسير بالغوا في الحكم بانفعال البئر
بملاقاة النجاسة، وزادوا على كثير من المقدرات الواردة في صحاح أخبارنا (2)

(1) من الوجه الثاني المتقدم في
(2) قال الشيخ الاسلام في الهداية ج 1 ص 11: " إذا وقعت في البئر نجاسة نزحت
ونزح جميع ما فيها من الماء طهارة لها باجماع السلف. ومسائل الآبار مبنية على الآثار دون
القياس. ولا يفسد ماء البئر خرء الحمام والعصفور والبعرة والبعرتان من الإبل والغنم،
وينزح ماء البئر كله لبول الشاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف وينزح ما بين عشرين دلوا
إلى ثلاثين لموت الفأرة والعصفور والصعوة وسام أبرص. وينزح ما بين أربعين دلوا
إلى ستين لموت الحمامة والدجاجة والسنور. وينزح جميع ما فيها من الماء لموت الشاة
والكلب والآدمي. وينزح جميع ما فيها لموت الحيوان إذا انتفخ أو تفسخ سواء كان
الحيوان كبيرا أو صغيرا " انتهى. وفي بدائع الصنائع ج 1 ص 74 الخنزير ينجس
البئر وإن خرج حيا، لأنه نجس العين. والكلب لا ينجس البئر بوقوعه فيه. والمروي عن
أبي حنيفة في الكلب والسنور إذا وقعا في الماء القليل ثم خرجا يعجن به. والآدمي إذا لم
تكن على بدنه نجاسة حقيقة ولا حكمية وقد استنجى فلا ينزح شئ. والمروي عن
أبي حنيفة ينزح عشرون دلوا. وإذا كانت عليه نجاسة حقيقة أو لم يكن مستنجيا ينزح
جميع الماء. وإذا كانت على بدنه نجاسة حكمية بأن كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء
فمن لم يجعل هذا الماء. مستعملا أو جعله مستعملا وأنه طاهر وكان غير المستعمل أكثر
من المستعمل لا ينزح من البئر شئ، ومن يجعله مستعملا وأنه نجس ينزح البئر كله،
وفصل أبو حنيفة في الآدمي الواقع في البئر، إن كان محدثا ينزح أربعون، وإن كان جنبا
ينزح كله، وإن كان كافرا نزح كله إلا إذا تيقنت طهارته بأن اغتسل ووقع من ساعته
فلا ينزح شئ. وفي ص 75 عند أبي حنيفة ينزح للإبل والبقر عشرون دلوا وعند
أبي يوسف ينزح كله. والمروي عن أبي حنيفة في الحلمة ونحوها عشرة دلاء والفأرة ونحوها
عشرون، والحمام ونحوه ثلاثون، والدجاج ونحوه أربعون، والآدمي ونحوه البئر كله.
وإذا تعدد الحيوان الواقع في البئر، فإلى الأربع ينزح عشرون، ومن الخمس إلى التسع ينزح
أربعون، وللعشرة ينزح كله. وعند محمد في الفأرتين ينزح عشرون، وفي الثلاث أربعون.
وفي ص 76 في البول والدم والخمر ينزح كله، والعذرة وخر. الدجاج الرخو ينزح كله قليلا
أو كثيرا رطبا أو يابسا. وأما الصلب كبعر الإبل والغنم، في القياس - ينجس الماء قل
أو كثر، وفي الاستحسان - القليل لا ينجس والكثير ينجس، سواء كان رطبا أو يابسا
منكسرا أو صحيحا. والصحصح أن الكثير ما استكثره الناظر. وفي ص 77 إذا ماتت فأرة
في حب فيه ماء وصب الماء في بئر. فعند أبي يوسف ينزح المصبوب وعشرون دلوا، وعند
محمد أن كان المصبوب عشرين دلوا نزح هذا المقدار وإن كان أقل نزح عشرون. انتهى.
352

وحينئذ فيتعين حمل ما ثبت دلالته على النجاسة على التقية.
و (سادسها) أنه مع العمل بأخبار الطهارة يمكن حمل أخبار النجاسة على التقية
أو الاستحباب. وأما مع العمل بأخبار النجاسة فلا محمل لأخبار الطهارة، مع صحتها
وصراحتها واستفاضتها كما ستطلع عليه، بل يلزم طرحها، والعمل بالدليلين مهما أمكن
أولى من طرح أحدهما كما قرره في غير موضع، بل هو من القواعد المسلمة بينهم.
إذا عرفت ذلك فمن الأخبار الدالة على ما اخترناه صحيحة محمد بن إسماعيل
ابن بزيع عن الرضا (عليه السلام) (1) قال: " ماء البئر واسع لا يفسده شئ
إلا أن يتغير ".
وصحيحته الأخرى عنه (عليه السلام) (2) قال: " ماء البئر واسع لا يفسده
شئ إلا أن يتغير ريحه أو طعمه. فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه. لأن له مادة "
ولا يخفى ما هما عليه من الصراحة بعد صحة السند. وبيان ذلك من وجوه:
(أحدها) وصفه بالسعة المفسرة بعدم افساد شئ له إلا في مادة التغير
خاصة. والافساد وإن كان كناية عن عدم جواز استعماله، وهو كاف في المطلوب، إلا

(1) المروية في الوسائل في الباب - 3 و 14 - من أبواب الماء المطلق.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 و 14 - من أبواب الماء المطلق.
353

أن الظاهر أن المراد به هنا النجاسة بقرائن المقام التي من جملتها الاستثناء.
و (ثانيها) التعليل بكون البئر له مادة.
و (ثالثها) الحصر في التغير.
و (رابعها) الدلالة على الاكتفاء في طهارته مع التغير بنزح ما يزيله، أعم
من أن يزيد مقدر تلك النجاسة على ذلك أو مما يجب له نزح الجميع. ولولا أنه طاهر
لوجب استيفاء المقدر ونزح الجميع في الموضعين.
و (منها) صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) (1) قال:
" سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذره رطبة أو يابسة أو زنبيل من سرقين،
أيصلح الوضوء منها؟ قال: لا بأس ".
وما أجيب به عنه من حمل العذرة على عذرة غير الانسان، وأن وصول
الزنبيل إلى الماء لا يستلزم وصول العذرة. وأن المراد نفي البأس بعد نزح المقدار
لا يخفى ما فيه من التكلف والبعد.
(أما الأول) فلأن العذرة على ما صرح به بعض الأصحاب، ونقله
عن أهل اللغة مخصوصة بغائط الانسان، ومع تسليم عدم الاختصاص فالأظهر إرادته
هنا بقرينة المقابلة بذكر السرقين بعدها.
و (أما الثاني) فإنه بعيد، بل يستحيل بحسب العادة وقوع الزنبيل في الماء
وعدم اتصال الماء بما فيه، بل لا معنى للسؤال عند التأمل بالكلية، لأن الظاهر أن
مراد السائل إنما هو السؤال عن وصول العذرة أو السرقين إلى الماء، وأنه هل ينجس
بذلك أم لا؟ لا وصول الزنبيل خاصة مع عدم تعدي ما فيه إلى الماء. فإنه في قوة
السؤال عن وصول زنبيل خال كما لا يخفى.
و (أما الثالث) فهو من قبيل الألغاز المنافي للحكمة.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق.
354

و (منها) صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" سمعته يقول: لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن، فإن أنتن
غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر " وما أجاب به عنه في المعتبر فضعيف غير
معتبر، فلا ينبغي أن يصغى إليه ولا يعرج عليه.
و (منها) صحيحته الأخرى عن الصادق (عليه السلام) (2) في الفأرة
تقع في البئر فيتوضأ الرجل منها ويصلي وهو لا يعلم، أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ فقال:
لا يعيد الصلاة ولا يغسل ثوبه " والجواب باحتمال حمل عدم الإعادة وعدم غسل الثوب
على عدم العلم بتقدم النجاسة، لاحتمال وقوعها بعد منظور فيه بعطف " يتوضأ الرجل "
على قوله: " تقع " بالفاء الدالة على تأخر الوضوء عن الوقوع، وإن كان إنما حصل العلم
بالوقوع أخيرا. وهو ظاهر.
و (منها) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) " في البئر
تقع فيها الميتة؟ فقال: إن كان لها ريح نزح منها عشرون دلوا " والجواب عنها بأنه
لا دلالة لها على أنه إذا لم يكن لها ريح لم ينزح شئ لا يخفى ضعفه (4) فإنه لو لم يكن
المراد ذلك لكان حكم المفهوم مسكوتا عنه بالكلية، وكيف قنع السائل بفهم حكم
المنطوق خاصة ولم يفحص عن حكم المفهوم مع أنه أحد سقي السؤال؟ ويكف رضي
الإمام (عليه السلام) بعدم إفادته ذلك مع غفلة السائل عنه ودعاء الحاجة إليه.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق.
(4) فإن مقتضى مفهوم الشرط هنا أنه إذا لم يكن لها ريح لم ينزح لها العشرون، وهو
أعم من أن لا ينزح لها شئ بالمرة أو ينزح لها أقل، وذلك الأقل غير متيقن (منه
رحمه الله).
355

و (منها) موثقة أبان بن عثمان أو صحيحته عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
قال: " سل عن الفأرة تقع في البئر لا يعلم بها إلا بعد ما يتوضأ منها، أيعاد الوضوء؟
فقال: لا " والاحتمال المتقدم في صحيحة معاوية بن عمار الأخيرة هنا ممكن.
و (منها) موثقة أبي أسامة وأبي يوسف يعقوب بن عثيم عن أبي عبد الله
(عليه السلام ((2) قال: " إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع
دلاء. قلنا: فما تقول في صلاتنا ووضوئنا وما أصاب ثيابنا؟ فقال: لا بأس به "
والاحتمال المذكور آنفا هنا بعيد عن ظاهر اللفظ، إذ لا تصريح في الرواية بعدم العلم
بالنجاسة حال الوضوء. وإنما الظاهر من سياق الخبر أنه لما أخبر (عليه السلام) بنزح
هذا المقدار لموت هذه الأشياء المذكورة، سألوا عن الوضوء والصلاة ونحوهما قبل نزح
المقدر. فأجاب (عليه السلام) بنفي البأس.
ومنها موثقة أبي بصير (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
بئر يستقى منها ويتوضأ به وغسل منه الثياب وعجن به ثم علم أنه كان فيها ميت؟ قال:
لا بأس ولا يغسل الثوب ولا تعاد منه الصلاة " وجريان الاحتمال المتقدم هنا أبعد.
و (منها) رواية محمد بن أبي القاسم عن أبي الحسن (عليه السلام) (4):
" في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة أذرع أو أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال:
ليس يكر من قرب ولا من بعد، يتوضأ منها ويغتسل ما لم يتغير الماء " (5).

(1) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 14 و 24 - من أبواب الماء المطلق. واسم
الرواي في كتب الحديث والرجال (محمد بن القاسم).
(5) قال بعض فضلاء متأخرين: " أنه لا دلالة في هذا الخبر على نجاسة
البئر بالملاقاة، لجواز أن يكون جعله (عليه السلام) مناط النجاسة التغير، بناء على أن
المتعارف أنه لا يحصل العلم بوصول ماء البالوعة إلى البئر ما لم يتغير " أقول: يمكن في الاستدلال
دلالة الرواية باطلاقها على جواز الوضوء والغسل منها ما لم تتغير، أعم من أن يكون التغير
مستندا إلى الكنيف أو غيره، وتقييد التغير بالاستناد إلى الكنيف بقرينة السؤال
فيه أنهم كثيرا ما يجيبون بالعموم في أمثال ذلك، كما لا يخفى على من مارس الأخبار وجاس
خلال تلك الديار (منه قدس سره).
356

و (منها) ما رواه في الفقيه (1) مرسلا عن الصادق (عليه السلام) قال:
" كانت في المدينة بئر وسط مزبلة، فكانت الريح تهب فتلقي فيها القذر، وكان
النبي (صلى الله عليه وآله) يتوضأ منها " وهو ظاهر الدلالة. إلى غير ذلك من الأخبار
الدالة بظاهرها على ذلك.
احتج القائلون بالنجاسة بوجوه:
(أحدها) الأخبار، ومنها صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (2) قال:
" كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن البئر تكون
في المنزل للوضوء، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شئ من عذرة
كالبعرة ونحوها، ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟ فوقع (عليه السلام)
بخطه في كتابي: ينزح منها دلاء ".
وصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) (3) قال:
" سألته عن البئر تقع فيها الحمامة والدجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرة. فقال:
يجزيك أن تنزح منها دلاء، فإن ذلك يطهرها إن شاء الله تعالى ".
وصحيحة عبد الله بن أبي يعفور وعنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (4) قال: " إذا أتيت البئر وأنت جنب، ولا تجد دلوا ولا شيئا تغرف به

(1) في باب (المياه وطهرها ونجاستها) وفي الوسائل في الباب - 14 - من أبواب
الماء المطلق.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق
(3) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق
357

فتيمم بالصعيد، فإن رب الماء رب الصعيد، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم "
فإن الافساد كناية عن النجاسة كما اعترفوا به في أخبار الطهارة. والتيمم لا يسوغ مع
وجود الماء الطاهر.
وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير (1) قالوا: " قلنا له: بئر يتوضأ منها
يجري البول قريبا منها. أينجسها؟ قالوا: فقال: إن كانت البئر في أعلى الوادي والوادي
يجري فيه البول من تحتها وكان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك
شئ وإن كان أقل من ذلك نجسها، وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمر الماء عليها
وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجسها، وما كان أقل من ذلك فلا يتوضأ منه ".
و (ثانيها) أنه لو كان طاهرا بعد ملاقاة النجاسة لما ساغ التيمم، لكن
التالي باطل فالمقدم مثله. أما الملازمة فظاهرة (2) وأما بطلان التالي فلما مر في صحيحة
ابن أبي يعفور. ولأنه لو لم يجز التيمم للزم، أما جواز استعمال الماء قبل النزح.
وهو خلاف مدلول الأخبار المستفيضة، أو ترك الصلاة. وهو خلاف الاجماع.
و (ثالثها) استفاضة الأخبار بالأمر بالنزح للنجاسات. وعمل الطائفة بها
قديما وحديثا.
والجواب عن هذه الأدلة، أما عن الأخبار (فأولا) بالاجمال بما عرفت
آنفا (3) من أن أخبار الطهارة معتضدة بموافقة الأصل وظاهر القرآن ومخالفة العامة.
وقد عرفت في المقدمة السادسة (4) أن الأخيرين من المرجحات المنصوصة في مقام

(1) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق.
(2) لأن جواز التيمم مشروط بفقدان الماء الطاهر (منه رحمه الله).
(3) في الصحيفة 352.
(4) في الصحيفة 109.
358

التعارض، وأنه مع العمل بأخبار النجاسة فلا محمل لأخبار الطهارة بخلاف العكس،
فيتعين العمل بأخبار الطهارة والتأويل في أخبار النجاسة.
و (ثانيا) بالتفصيل، فأما الخبر الأول فالظاهر حمل الطهارة فيه على المعنى
اللغوي، والحل بمعنى تساوي الطرفين، فإنه قبل إزالة المقدر مكروه، فإذا نزح أبيح
استعماله بلا كراهة. ويؤيد ذلك أنه في الكافي بعد نقل هذه الرواية أردفها بما قدمنا نقله
في أخبار الطهارة (1) بالسند المذكور، فقال: وبهذا الاسناد قال: " ماء البئر واسع لا يفسده
شئ إلا أن يتغير " فرواية الراوي بعينه لهذين الحكمين ما يبعد اختلاف الحكمين فيهما،
وإلا لفحص وسأل عن ذلك، سيما مع صراحة الرواية الثانية في الطهارة. ويعضد
ذلك أن الراوي بعينه قد روى ما يدل على الطهارة بوجه أصرح، كما تقدم من روايته
الأخرى، فيتعين التأويل في هذه الرواية جمعا بينهما. على أن ما يتمسك به الخصم
من اللفظين المذكورين إنما هو في كلام السائل. وهو ليس حجة. ودعوى الاستدلال
بتقرير الإمام (عليه السلام) وإلا لزم الاغراء بالجهل لا تخلو من مناقشة (2).
ومثل ذلك في الخبر الثاني، ويؤيده أنه قال: " يجزيك أن تنزح منها دلاء "
وهو جمع أقله الثلاثة، مع أن من جملة تلك النجاسات الكلب والهرة. والفتوى عندهم
في ذلك بأربعين دلوا.
وأما الخبر الثالث فيجاب عنه بأن الافساد أعم من النجاسة، فلعله هنا باعتبار
تغير الماء واختلاطه بالحمأة والطين. وما يقال من أن الافساد في أخبار الطهارة في صحيحة
ابن بزيع (2) قد حملتموه على عدم الانتفاع بالكلية بل على النجاسة، فكذا

(1) في الصحيفة 353.
(2) فإنه كثيرا ما يسكت (عليه السلام) عن خطأ السائل ويجيبه بما هو الواقع
(منه رحمه الله).
359

ينبغي هنا فجوابه أن وجه الفرق بين المقامين ظاهر، فإن القرائن على ما هو المراد ثمة
قائمة كما عرفت، بخلاف ما هنا. ولأن الافساد ثمة نكرة وقع في سياق النفي فيعم (1).
وأما الأمر بالتيمم في هذه الرواية فيمكن أن يكون هذا من جملة الأعذار المسوغة
للتيمم، فإن أعذاره لا تنحصر في عدم وجود الماء، بل من جملتها ما يؤدي إلى مشقة
استعماله أو تحصيله أو تضرر الغير باستعماله. وهذه الوجوه كلمه ممكنة الاحتمال في المقام
ولعل الأخير أقرب. لقوله: " فتفسد على القوم ماءهم " فإن الإضافة تؤذن
باختصاص البئر بالغير. ولعله إنما كان يبيح منها الاغتراف دون النزول فيها. ومما
يدل على مشروعية التيمم في مثل ذلك رواية الحسين بن أبي العلاء (2) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو. قال: ليس عليه أن
ينزل الركية، إن رب الماء هو رب الأرض، فليتمم " حيث جوز التيمم للرجل
مع أنه ليس في الخبر أنه جنب أو نجس بالكلية. ومن ذلك يعلم الجواب عن
الدليل الثاني.
وأما الخبر الرابع فالجواب عنه (أولا) أن القائلين بالتنجيس متفقون
على عدم حصول التنجيس بمجرد التقارب بين البئر والبالوعة ولو كان كثيرا، فلا بد
من تأويل هذا الخبر عندهم.
و (ثانيا) أنه يقصر عن معارضة الأخبار المتقدمة المعتضدة بالأصل ومطابقة
ظاهر القرآن ومخالفة جمهور العامة كما عرفت، فيتعين التأويل فيه بحمل النجاسة على مجرد

(1) فيتناول الافساد بالنجاسة إن لم يكن مرادا بخصوصه بقرينة المقام، وعلى التقديرين
يكون معينا بدون التغير، وهو المدعى. وأما النهي عنه في هذا الخبر فإنما يصلح دليلا لو كان
المقتضي للافساد حينئذ منحصرا في النجاسة. ولا انحصار بعد ما ذكرنا من الوجوه المحتملة
في المقام (منه رحمه الله).
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب التيمم.
360

الاستقذار، والنهي عن التوضؤ على الكراهة جمعا.
و (ثالثا) أن المفهوم من سوق الخبر المذكور فرض الحكم في محل يتكثر
ورود النجاسة على البئر ويظن نفوذها فيه، وما هذا شأنه لا يبعد افضاؤه مع القرب
إلى تغير الماء خصوصا مع طول الزمان. ويؤيد ذلك تتمة الخبر المذكور، حيث قال
زرارة: " فقلت له: فإن كان مجرى البول بلزقها وكان لا يلبث على الأرض؟
فقال: ما لم يكن له قرار فليس به بأس وإن استقر منه قليل، فإنه لا يثقب الأرض
ولا يغوله حتى يبلغ البر. وليس على البئر منه بأس، فتوضأ منه، إنما ذلك إذا
استنقع كله " وحينئذ فلعل الحكم بالتنجيس ناظر إلى شهادة القرائن بأن تكرر جريان
البول في مثله يفضي إلى حصول تغير. أو يقال إن كثرة ورود النجاسة على المحل مع
القرب يثمر ظن الوصول إلى الماء. بل ربما حصل العلم بقرينة الحال.
وأما الدليل الثالث فجوابه أن الأمر بذلك أعم من أن يكون للنجاسة أو لغيرها
من الأسباب التي ذكرها القائل بالاستحباب. وهي زوال النفرة وطيب الماء.
ويختلف ذلك باختلاف الآبار غزارة ونزارة وسعة وضيقا، ولعله السر في اختلاف
الأخبار في المقدرات في النجاسة الواحدة.
وأما القول بالتفصيل باشتراط الكرية وعدمه، فاستدل له بعموم ما دل من الأخبار
على اشتراط الكرية في عدم الانفعال.
وبرواية الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" إذا كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شئ ".
ويدل عليه أيضا ما في كتاب الفقه الرضوي (2) حيث قال (عليه السلام):

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
(2) في الصحيفة 5.
361

" وكل بئر عمق مائها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها، فسبيلها سبيل الجاري إلا أن
يتغير لونها أو طعمها أو رائحتها " انتهى.
ويمكن أيضا الاستدلال عليه بموثقة أبي بصير (1) قال: " سئل أبو عبد الله
(عليه السلام) عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة. قال: لا بأس به إذا
كان فيها ماء كثير ".
والجواب عن الأول بتخصيص العموم بما قدمنا من الأخبار (2).
وعن الروايات المذكورة بضعف السند (أولا) فلا تنهض بمعارضة ما قدمناه
من الأخبار، سيما صحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة في صدر أخبار الطهارة (3) الدالة
بأوضح دلالة على عدم النجاسة مطلقا سيما لمكان المادة.
و (ثانيا) بالحمل على أن اشتراط الكرية لعله لعدم الاحتياج إلى النزح
بالكلية. كما يشعر به قوله في كتاب الفقه الرضوي: " فسبيلها سبيل الجاري " وأما
إذا نقصت عن كر احتاجت إلى النزح وإن كان استحبابا. ولفظ النجاسة في رواية
الثوري محمول على المعنى اللغوي.
وأما القول بالطهارة ووجوب النزح، فوجهه بالنسبة إلى الجزء الأول ما قدمنا (4)
وبالنسبة إلى الثاني الأوامر الدالة على النزح، والأمر حقيقة في الوجوب.
والجواب عن الثاني بوجوب النزح مع شدة هذا الاختلاف في الأخبار

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة. ولم نجد موثقة لأبي بصير
بهذا المتن في كتب الحديث. وإنما الموجود فيها نسبة هذا المتن إلى عمار ولعل ذلك
من اشتباه النساخ. وقد رواها صاحب الوسائل في الباب - 14 و 20 - من أبواب
الماء المطلق.
(2) في الصحيفة 353.
(3) في الصحيفة 353.
(4) في الصحيفة 353.
362

في تقديره بالنسبة إلى النجاسة الواحدة مما لا يكاد يقبله الذوق السليم، وحينئذ
فيجب حمل الأمر على الاستحباب كما قدمنا. ويؤيد ذلك أيضا الأمر بالنزح مع
الاتفاق على عدم النجاسة في جملة من الموارد.
وأما ما نقل عن الجعفي (1) فلم نعثر له على دليل.
(البحث الثالث) اعلم أنه حيث كان القول الراجح عندنا من تلك الأقوال
هو القول بالطهارة واستحباب النزح كما أوضحناه، أغمضنا النظر عن الاشتغال بالبحث
عن بيان المقدرات لكل من النجاسات وما وقع فيها من الاختلافات، لعدم مزيد
فائدة في البحث عن ذلك. واعتمادا على ما ذكره أصحابنا (شكر الله سعيهم) فيما هنالك
ومسارعة إلى الاشتغال بما هو أهم وفي النفع والإفادة أتم. لكنا نقتصر هنا على نقل
أنموذج من تلك الاختلافات الواقعة في الأخبار في جملة من المقدرات مع وحدة النجاسة.
(فمنها) الفأرة، ففي صحيح زيد الشحام (2) " ما لم تتفسخ يكفيك خمس دلاء "
وفي رواية أبي بصير (3) " سبع دلاء " ومثله في رواية عمرو بن سعيد بن هلال (4)
ورواية علي بن أبي حمزة (5) ورواية سماعة (6) وفي صحيح علي بن يقطين (7) " يجزيك
أن تنزح منها دلاء " وكذا في صحيح الفضلاء (8) ورواية الفضل البقباق (9) وفي صحيح

(1) وهو اعتبار ذراعين في الأبعاد الثلاثة حتى لا ينجس.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 17 و 18 و 19 - من أبواب الماء المطلق. ولم
يصرح في كتب الحديث بكون الراوي ابن أبي حمزة، ولكنه استظهر ذلك كما سيأتي في
الكلب والسنور.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 17 و 18 - من أبواب الماء المطلق.
(7) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب
الماء المطلق.
(8) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب
الماء المطلق.
(9) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب
الماء المطلق.
363

معاوية بن عمار (1) " ثلاث دلاء " وفي رواية أبي خديجة (2) " أربعون دلوا "
وفي موثقة عمار الساباطي (3) " تنزح كلها ".
و (منها) الكلب، ففي صحيح الشحام المتقدم (4) " خمس دلاء " وفي
رواية أبي بصير الآنفة (5) أيضا " سبع دلاء " وفي رواية أبي مريم (6) " نزح الجميع "
وكذا في موثقة عمار (7) وفي صحيح علي بن يقطين المتقدم (8) أيضا " دلاء " وكذا
في صحيح الفضلاء المتقدم (9) وكذا في رواية الفضل البقباق (10) وفي رواية علي (11)
والظاهر أنه ابن أبي حمزة " عشرون أو ثلاثون أو أربعون ".
و (منها) بول الصبي، ففي رواية علي بن أبي حمزة (12) " دلو واحد " وفي
رواية منصور بن حازم عن عدة من أصحابنا (13) " سبع دلاء " وفي صحيح معاوية
ابن عمار (14) " كله " مع أن غاية ما ينزح لبول الرجل أربعون دلوا، وكذا في موثق
عمار الساباطي (15).
و (منها) السنور، ففي صحيحة علي بن يقطين (16) " يجزيك أن تنزح منها دلاء "
وفي رواية علي (17) والظاهر كونه ابن أبي حمزة " عشرون أو ثلاثون أو أربعون " وفي

(1) المروي في الوسائل في الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 17 و 23 - من أبواب الماء المطلق.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق. والنص هكذا
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما يقع في الآبار. فقال: أما الفأرة وأشباهها فينزح
منها سبع دلاء إلا أن يتغير، فينزح حتى يطيب. فإن سقط فيها كلب فقدرت أن ينزح
ماءها فافعل.. الحديث ".
(6) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(7) المروية في الوسائل في الباب - 17 و 23 - من أبواب الماء المطلق.
(8) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(9) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(10) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(11) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(12) المروية في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق.
(13) المروية في الوسائل في الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق.
(14) المروي في الوسائل في الباب - 15 و 16 - من أبواب الماء المطلق.
(15) لم نجده في كتب الحديث موثقا لعمار يدل على ذلك، ولعل هذا من اشتباه النساخ.
(16) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(17) المروية في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
364

موثقة سماعة " ثلاثون أو أربعون " وفي صحيح زيد الشحام المتقدم (2) "
خمس
دلاء " وفي رواية عمرو بن سعيد المتقدمة (3) " سبع دلاء ".
و (منها) الخنزير، ففي صحيح الفضلاء المتقدم (4) " دلاء " وفي موثقة عمار
المتقدمة (5) " تنزح البئر كلها " إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المضمار.
وقد اضطربت آراء القائلين بالنجاسة في الجمع بينها، وتمييز غثها من سمينها
والشيخ (رحمه الله تعالى) في كتابي الأخبار قد جمع بينها بوجوه بعيدة ومحامل غير
سديدة. والمتأخرون بناء على الاصطلاح المحدث في تنويع الأخبار إلى الأنواع
الأربعة هان الخطب عند القائل منهم بالنجاسة في جملة من الموارد برد الأخبار
بضعف الاسناد. وأما القائلون بالطهارة فقد حملوا الاختلاف الواقع في هذه الأخبار
على الاختلاف في أفراد الآبار بالغزارة والنزارة، واختلاف النجاسة كثرة وقلة
ومكثا وعدمه ونحو ذلك، إلا أن فيه أن الأخبار قد وردت مطلقة، ففي كون الاختلاف
لذلك نوع بعد.
ولعل الأقرب أن ذلك إنما خرج مخرج التقية، لما قدمنا لك في المقدمة الأولى
من تعمدهم (عليهم السلام) المخالفة في الفتاوى وإن لم يكن بذلك قائل من المخالفين.
واحتمل بعض محققي المحدثين من المتأخرين كون هذا الاختلاف من باب تفويض
الخصوصيات لهم (عليهم السلام) لتضمن كثير من الأخبار أن خصوصيات كثير
من الأحكام مفوضة إليهم (عليهم السلام) كما كانت مفوضة إليه (صلى الله عليه وآله)
ليعلم المسلم لأمرهم من غيره، أو من باب الافتاء تارة بما لا بد منه في تحقيق القدر
المستحب وتارة بما هو الأفضل، وتارة بما هو متوسط بينهما.

(1) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق.
(4) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 17 و 23 - من أبواب الماء المطلق.
365

(البحث الرابع) لو تغير ماء البئر بالنجاسة فعلى ما اخترناه من عدم
انفعالها بالملاقاة، فالظاهر حينئذ وجوب النزح حتى يزول التغير، ويدل عليه قول
الرضا (عليه السلام) في صحيح ابن بزيع المتقدم (1) " ماء البئر واسع لا يفسده شئ
إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه، لأن له مادة "
وفي صحيح الشحام عن الصادق (عليه السلام) (2): " فإن تغير الماء فخذ منه حتى
يذهب الريح " وفي رواية أبي بصير عنه (عليه السلام) (3) " إلا أن يتغير الماء،
فينزح حتى يطيب " وفي موثقة سماعة (4) " وإن أنتن حتى يوجد ريح النتن في الماء نزحت
البئر حتى يذهب النتن من الماء " وفي رواية زرارة (5) " وإن غلبت الريح نزحت حتى تطيب "
ولا ينافي ذلك ما في صحيحة معاوية بن عمار (6) من قوله (عليه السلام): " ولا
تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب، وأعاد الصلاة،
ونزحت البئر " ورواية منهال (7) من قوله (عليه السلام): " وإن كانت جيفة قد
أجيفت فاستق منها مائة دلو، فإن غلب عليها الريح بعد مائة دلو فانزحها كلها " ورواية
أبي خديجة (8) في الفأرة من قوله (عليه السلام): " وإن انتفخت فيه ونتنت نزح
الماء كله " لامكان حمل هذه الأخبار على ما لا يزول التغير إلا بنزح الجميع كما يشير
إليه الخبر الثاني، ويحتمل في الخبر الأول الحمل على أن اسناد النزح إلى البئر مجاز، وإنما
المراد أن يذهب به التغير كما تضمنته موثقة سماعة، ويحتمل الحمل الاستحباب أيضا جمعا.

(1) المروي في الوسائل في الباب - 3 و 14 - من أبواب الماء المطلق.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(4) المروي في الوسائل في الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق.
(7) المروية في الوسائل في الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق.
(8) المروية في الوسائل في الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق.
366

هذا. ولم أقف على موافق للصدوق (طاب ثراه) من الأصحاب إلا ما يظهر
من كلام المحدث الكاشاني في مفاتيحه ووافيه، حيث قال في الأول بعد الكلام
في المسألة ما لفظه: " ويحتمل قويا الجواز، لصدق الماء على ماء الورد، لأن
الإضافة ليست إلا مجرد اللفظ كماء السماء، دون المعنى كماء الزعفران والحناء والخليط
بغيره. مع تأيد الخبر بعمل الصدوق، وضمانه صحة ما رواه في الفقيه، وعدم
المعارض الناص " انتهى. وقال في الثاني بعد نقل خبر يونس المتقدم (1) ما لفظه:
" وأفتى بمضمونه في الفقيه، ونسبه في التهذيبين إلى الشذوذ، ثم حمله على التحسين
والتطيب للصلاة دون رفع الحدث، مستدلا بما في الخبر الآتي " إنما هو الماء والصعيد " (2)
أقول " هذا الاستدلال غير صحيح، إذ لا منافاة بين الحديثين، فإن ماء الورد ماء
استخرج من الورد " انتهى.
وحاصل هذا الكلام يرجع إلى أن الماء المضاف الذي يخرج بالإضافة عن كونه
مطلقا إنما هو ما إذا أضيف المطلق إلى جسم من الأجسام على وجه يغيره ويسلبه. الاطلاق
وأما ما اتخذ من الورد فهو ماء مطلق قد تصاعد حتى تكونت منه تلك الأجسام ثم
استخرج منها، فإضافته للورد لفظية كماء السماء وماء البئر ونحوهما وإن كان قد اكتسب
بسبب ذلك تغيرا في الأوصاف. فإن ذلك لا يخرجه عما كان عليه من الاطلاق.
وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور:
(أما أولا) فلأنه بمقتضى ذلك لا ينحصر ما ذكره في ماء الورد بخصوصه،
بل يجري في ماء العنب والرمان ونحوهما من الثمار التي يعتصر منها من حيث تصاعده إليها
بالسقي، بل مثل أوراق الشجر ونحوها كما لا يخفى، فالواجب بمقتضى ما ذكره جواز
الوضوء بالماء المتخذ من جميع ذلك. ولا أظنه يقوله.

(1) في الصحيفة 394.
(2) وهو خبر أبي بصير المتقدم في الصحيفة 395.
367

فلو كان الحكم فيما له مقدر منصوص أكثر الأمرين مع التغير، لأمروا به (عليهم
السلام)
ولو في بعض تلك الأخبار. وأنت خبير أيضا بأن القول الثاني عند التأمل
لا يصح أن يكون قولا على حدة كما سيظهر لك.
و (ثالثها) التفصيل بكون النجاسة منصوصة القدر فيجب نزح أكثر
الأمرين من المقدر وما به يزول التغير، أو غير منصوصة فيجب نزح الجميع ومع التعذر
فالتراوح، ذهب إليه ابن إدريس واختاره في المختلف وقواه في الروض.
وحجته في وجوب أكثر الأمرين فيما له مقدر ما قد عرفت في القول الثاني.
وفيه ما قدمنا ثمة. وأما في وجوب نزح الجميع أو التراوح فالظاهر أنه من جهة كونه
لا نص فيه، وما لا نص فيه مع عدم التغير حكمه كذلك. فمع التغير بطريق أولى. وفيه أن
المبني عليه لا نص فيه أيضا، مع أن عموم الأخبار المتقدمة شامل لمثل هذه الصورة
المذكورة. لتضمنها النزح بما يزول به التغير أعم من أن تكون النجاسة المغيرة منصوصة
المقدر أم لا.
و (رابعها) هو الثالث بعينه بالنسبة إلى الشق الأول، والاكتفاء بزوال
التغير بالنسبة إلى الشق الثاني. اختاره المحقق الشيخ حسن في المعالم بناء على القول
بالانفعال. واستظهره أيضا جملة ممن تأخر عنه.
وحجته بالنسبة إلى الشق الأول ما عرفت في حجتي القول الثاني والثالث.
وفيها ما ذكرنا ثمة. وبالنسبة إلى الشق الثاني عموم الأخبار المتقدمة (1) الدالة على
الطهارة بزوال التغير. ولا معارض لها بالنسبة إلى ما لا مقدر له، فيجب العمل بها.
وهو حسن. ولا يخفى عليك أن القول الثاني لا يخرج عن أحد هذين القولين. فعده
في المسألة قولا على حدة لا يخفى ما فيه كما أشرنا إليه آنفا.

(1) في الصحيفة 366.
368

و (خامسها) نزح ما يزيل التغير أولا ثم نزح المقدر بعده إن كان لتلك
النجاسة مقدر، وإلا فالجميع، وإن تعذر فالتراوح.
وحجة هذا القول بالنسبة إلى الشق الأول اعطاء كل من الأسباب حقه من
السببية (1) وبالنسبة إلى الشق الثاني ما عرفت في القول الثالث. ويرد على الحجة
الأولى ما قدمنا (2) من الأخبار الدالة على الاكتفاء بزوال التغير مطلقا. ومع تسليم
تخصيصها بناء على ما زعموا من الجمع بينها وبين روايات التقدير فيكفي في ذلك
الاكتفاء بأكثر الأمرين كما ذكروا ثمة، فلا موجب حينئذ للتعدد. مع أن الأظهر
هو التداخل مع تعدد النجاسات كما هو أحد الأقوال في المسألة. وعلى الحجة الثانية
ما عرفته في القول الثالث.
و (سادسها) وجوب نزح الجميع، فإن تعذر فالتراوح، ونقل عن
الصدوقين والمرتضى وسلار.
والحجة، أما على وجوب نزح الجميع مع عدم التعذر ما تقدم (3) من رواية
أبي خديجة وصحيحة معاوية بن عمار ورواية منهال.
وأما على التراوح مع التعذر فموثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4)
في حديث طويل، قال: " وسئل عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير. قال:
تنزف كلها. ثم قال: فإن غلب الماء فلتنزف يوما إلى الليل ثم يقام عليها قوم
يتراوحون اثنين اثنين، فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت ".

(1) لأن وقوع النجاسة ذات المقدر موجب لنزح المقدر لها. فإذا انضم إليه التغير
الموجب لنزح ما يزول به صارا سببين، ولا منافاة بينهما، فيعمل كل منهما عمله،
ويقدم مزيل التغير، لكون الجمع بين الأمرين لا يتم إلا به (منه قدس سره).
(2) في الصحيفة 366.
(3) في الصحيفة 366.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 23 - من أبواب الماء المطلق.
369

واحتجوا أيضا بأنه ماء محكوم بنجاسته فيجب اخراجه أجمع.
والجميع منظور فيه، أما الروايات المشار إليها فيجب تأويلها بما عرفت آنفا (1)
جمعا بينها وبين ما قدمناه من الأخبار. وأما الخبر المذكور فالعمل به فرع وجوب نزح
الجميع، متى لم يثبت بطل ما ترتب عليه. على أن مورد الخبر التراوح مع تعذر
نزح الجميع لمجرد النجاسة لا للتغير، وأحدهما غير الآخر كما عرفت آنفا. وأما الحجة
الأخيرة فأضعف، لأنه بعد ورود النصوص بالطهارة مع زوال التغير لا مجال لايجاب
نزح الجميع.
و (سابعها) وجوب نزحها أجمع، فإن تعذر فيما به يزول التغير. ونقل
عن الشيخ في المبسوط. ونقل عن المحقق نسبته إلى المفيد أيضا. وظاهر هذا القول إنه
في صورة التعذر يكتفى بمزيل التغير، أعم من أن يكون في نجاسة ذات مقدر أم لا،
ووجهه بالنسبة إلى نزح الجميع الأخبار الدالة على ذلك، كصحيحة معاوية بن عمار
وروايتي أبي خديجة ومنهال المتقدمات (2) بحملها على صورة الامكان. وبالنسبة إلى ما به
يزول التغير الأخبار التي قدمناها (3) بحملها على صورة تعذر نزح الجميع. وهذا الجمع
بين الأخبار وإن كان محتملا إلا أن الظاهر هو رجحان ما قدمنا من المحامل عليه سيما
الأول، لدلالة رواية منهال (4) عليه، ولأنه مما تجتمع عليه الأخبار من غير ارتكاب
تخصيص (5) إلا في أخبار نزح الجميع، فإنها مخصوصة بما إذا لم يزل التغير بدونه.

(1) في الصحيفة 366.
(2) في الصحيفة 366.
(3) في الصحيفة 366.
(4) في الصحيفة 366.
(5) فإن حاصل أخبار الاكتفاء بمزيل التغير حينئذ أنه يجب النزح حتى يزول التغير
ولو أدى إلى نزح الجميع إذا توقف زوال التغير عليه، فنزح الجميع الذي هو مدلول تلك
الأخبار الأخر أحد أفراد ما دلت عليه الأخبار الأولى، وهو مخصوص بما إذا لم يزل التغير
إلا به، وعلى القول المذكور يلزم تخصيصان: أحدهما في أخبار الجمع لحملها على الامكان
وثانيهما في أخبار مزيل التغير لحملها على عدم إمكان نزح الجميع (منه قدس سره).
370

وعلى تقدير هذا القول يلزم التخصيص في أخبار الطرفين، ومهما أمكن العمل بالخبر
من غير تخصيص بالكلية أو تعدده فهو أولى.
و (ثامنها) وجوب نزحها أجمع، فإن تعذر بغلبة الماء يعتبر أكثر الأمرين
واختاره الشهيد في الدروس، واستظهره بعض المتأخرين من كلام المعتبر أيضا.
وحجة هذا القول مركبة من الوجوه المتقدمة. وضعفها يعلم من ضعفها.
فروع:
(الأول) لو زال تغير البئر بغير النزح، فعلى المختار من الطهارة وعدم
النجاسة بمجرد الملاقاة لا اشكال في طهارتها بذلك. لمكان المادة. وعلى القول بالنجاسة
فهل يجب نزح الجميع، نظرا إلى أنه ماء محكوم بنجاسته وقد تعذر ضابطة تطهيره، فيتوقف
الحكم بطهارته على نزح الجميع، أو يكتفى بنزح ما يزول به التغير لو كان، نظرا
إلى أنه مع بقاء التغير يكفي نزح القدر الذي به يزول، فلأن يكتفى به مع الزوال أولى؟
قولان، اختار أولهما العلامة في التذكرة وابنه فخر المحققين، وقواه في الذكرى. وثانيهما
ظاهر الشهيد في البيان، وبه جزم في المعالم وقبله والده (قدس سرهما) وقواه جملة من
متأخري المتأخرين. وأجابوا عن دليل القول الأول بمنع تعذر الضابط مطلقا، فإنه ممكن
في كثير من صور العلم بالمقدار الذي يزول به التغير ولو تقريبا. نعم مع فرض عدم العلم
في بعض الصور يتوقف الحكم بالطهارة على نزح الجميع، إذ لا سبيل إلى العلم بنزح
المقدار إلا به.
(الثاني) لو غار ماء البئر بعد النجاسة ثم عاد، فعلى المختار من عدم الانفعال
بالملاقاة لا اشكال في الطهارة. وعلى القول الآخر فالذي صرح به جملة من الأصحاب
أنه كذلك أيضا، قالوا: لأن المقتضي للطهارة ذهاب الماء، وهو كما يحصل بالنزح
371

يحصل الغور، ولا يعلم كون العائد هو الغائر، فالأصل فيه الطهارة. وبأن النزح لم
يتعلق بالبئر بل بمائها المحكوم بنجاسته، ولا يعلم وجوده والحال هذه، فلا يجب النزح.
واعترض عليه بأن الوجهين المذكورين ضعيفان (أما الأول) فلأنا لا نسلم أن
المقتضي للطهارة ذهاب الماء، لجواز أن يكون المقتضي النزح باعتبار أنه يوجب جريان
الماء فتطهر أرض البئر وماؤها. وهذا المعنى مفقود في الغور، فلا تطهر أرض البئر،
وكل ما ينبغ من الماء يصير نجسا، لملاقاته النجاسة بناء على القول المذكور.
و (أما الثاني) فلأن عدم تعلق النزح بمائها لا دخل له في المقام، إذ الكلام
في أن أرض البئر كانت نجسة ولم يعلم لنجاستها مزيل، إذ ما علم من الشرع أنه مزيل
إنما هو النزح، وقياس الغور عليه قياس مع الفارق كما ذكرنا، فتستصحب نجاستها،
وكل ما ينبع يصير نجسا كما عرفت.
(أقول): ويؤيده أنه يلزم على ما ذكروه من الوجه الأول أنه لو غار منه
القدر الذي يجب نزحه فإنه يحكم بطهارة الباقي، مع أن الظاهر أنهم لا يلتزمونه.
(الثالث) قد صرح جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه كما يطهر
البئر بالنزح يطهر الدلو والمباشر والرشا. والأخبار خالية من التصريح بذلك،
إلا أن
المحقق في المعتبر ذكر في حكم الدلو أنه لو كان نجسا بعد انتهاء النزح لم يسكت عنه
الشرع. ولأن الاستحباب في النزح يدل على عدم نجاستها، وإلا لوجب نجاسة ماء
البئر عند الزيادة عليه قبل غسلها. والمعلوم من عادة الشرع خلافه.
وتبعه في هذه المقالة جمع ممن تأخر عنه منهم: العلامة في المنتهى والشهيد
في الذكرى. وغيرهم في غيرهما.
ولا يخفى أن هذا الوجه جار أيضا في الرشا والمباشر إلا أنه في الأخير أضعف.
372

مرجع الدليل الأول إلى ما قدمنا الإشارة إليه في المقدمة العاشرة (1) من أن
التمسك بالبراءة الأصلية فيما لم يعثر فيه على نص بعد الفحص والتفتيش مما يعم به
البلوى من الأحكام حجة واضحة. والأصل هنا براءة الذمة من التكليف بتطهير هذه
الأشياء بعد تمام النزح. إلا أن الاحتياط في تطهير المباشر ثيابه وبدنه خروجا من احتمال
المحذور، وتطهير الباقي أيضا نور على نور.
وأظهر من ذلك اجراء الوجه المذكور في جوانب البئر بالنسبة إلى ما يتساقط
حال النزح، فإنه يحكم بطهارته لعين ما ذكر. وربما يظهر من بعض العبارات
الحكم بالعفو عنه حال تساقطه، معللا ذلك بالمشقة المنفية. وهو بعيد. والتعليل
ممنوع بالحكم بالطهارة بعد تمام النزح كما قلنا. ولعل ذلك كله من مؤيدات القول
بعدم انفعال البئر بالملاقاة، للسلامة من هذه التكلفات.
(الرابع) صرح جملة من الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) بأنه لا يعتبر
الدلو في النزح لإزالة التغير ولا في نزح الجميع. إذ الغرض في الموضعين اخراج الماء
وهو يصدق بأي وجه اتفق، ومثله في نزح الكر. أما في نزح المقدرات فهل يتعين
نزحه بالدلو، أو تكفي آلة تسع العدد دفعة أو دفعات؟ قولان: اختار أولهما المحقق
في المعتبر، والعلامة في المنتهى والتحرير، والشهيد في الدروس والبيان، والشهيد الثاني
أيضا. وثانيهما العلامة في أكثر كتبه، والشهيد في الذكرى، والمحقق الشيخ حسن
في المعالم، وغيرهم.
احتج القائلون بالثاني بأن الأمر بالنزح وارد على الماء والدلاء مقدار، ض فيكون

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة، والصحيح (الحادية عشرة)
وذلك في الصحيفة 155.
373

القدر هو المراد، وتقييده بالعدد لانضباطه وظهوره بخلاف غيره. وبأن الغرض
من النزح اخراج الماء من حد الواقف إلى كونه جاريا جريانا يزيل التأثير الحاصل
من النجاسة ويفيده التطهير، ولذلك اختلف فيه التقدير، لاختلاف النجاسات بقوة
التأثير وضعفه، وتفاوت الآبار بسعة المجاري وضيقها. ولا يخفى أن هذا الغرض يحصل
باخراج القدر المعين بأي وجه اتفق.
وأجيب عن الأول بأنا لا نمنع كون النزح واردا على الماء وأن الدلاء مقدار،
ولكن نمنع كون المراد اخراج القدر مطلقا، لأن الأوامر وردت بطريق خاص
واتباعها لازم.
وعن الثاني بأنه وإن كان الغرض من النزح الاجراء إلا أن طرقه مختلفة،
والأدلة إنما وردت ببعض معين منها. والحاق غيره به قياس. مع أن الفارق ربما
كان موجودا، من حيث إن تكرار النزح موجب لكثرة واضطراب الماء وتموجه. وهو
مقتض لاستهلاك أجزاء النجاسة الشائعة فيه، فيكون سببا لطيبه ولعله الحكمة في الأمر
به. ومن البين أن ذلك لا يحصل مع الاخراج دفعة أو ما في معناها.
ومن الجواب عن دليلي القول الثاني علم دليل القول الأول، ومرجعه
إلى ما ذكره المحقق في المعتبر من عدم الاتيان بالمأمور به على وجهه. ولأن الحكمة
تعلقت بالعدد ولا يعلم حصولها مع عدمه.
قال بعض فضلاء المحدثين من متأخري المتأخرين: " هذا هو الصحيح، ومن يدعي
العلم بحصول الغرض فنقول له: علمك أما من باب مفهوم الموافقة أو تنقيح المناط،
وهما مفقودان هنا، لأن لتعدد النزح مدخلا عظيما في ميل أجزاء النجاسة وآثارها
عن جوانب البئر إلى موضع النزح وخروجها بالنزح " انتهى.
374

وفي التعليلات من الجانبين خدش (1) إلا أن الوقوف في مثل ذلك على حادة
الاحتياط طريق السلامة.
(الخامس) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن الدلو التي ينزح
بها ما جرت العادة باستعمالها، إذ لم يثبت للشرع فيها حقيقة على القول بالحقائق الشرعية
ولا عرف لزمانهم (عليهم السلام) ليحمل عليه. والقاعدة في مثله عند انتفاء الأمرين الرجوع
إلى العرف الموجود إن لم يخالف وضع اللغة الثابت، وإلا كان هو المقدم. وكل ذلك
منتف فيما نحن فيه، فيرجع إلى ما يصدق عليه الاسم في العرف صغيرا كان أو كبيرا.
وأنت خبير بما في البناء على القاعدة المذكورة وإن اشتهر البناء عليها بينهم
لما قدمنا لك في المقدمة العاشرة (2) وغيرها. لكن الظاهر أن الأمر هنا هين،
للقطع بأن لفظ الدلو ليس من الألفاظ التي اختلفت معانيها بحسب اختلاف الأزمنة

(1) وأما تعليل القول الأول فلما عرفت في الأصل. وأما تعليل القول الثاني فلاحتمال
أن تكون الأوامر الواردة بالدلاء المعينة إنما هي من حيث كون المتعارف في النزح ذلك،
لا من حيث مدخلية خصوص النزح بالدلو في التطهير وأن ذلك لوجه حكمة تبنى عليه. وكما أنهم صرحوا في غير موضع بأن الأحكام في مقام الدلالة الاجمالية تحمل على ما هو الغالب
الشائع، كذلك في حال ورودها عنهم (عليهم السلام) مفصلة تحمل التفصيل عنهم على ذلك،
إذ لو ورد النزح مجملا فإنهم يحملونه على الفرد الشائع المتعارف عادة، فكذا إذا ورد بخصوصية
فرد تكون الخصوصية لذلك لا لوجه حكمة اقتضته، ولأنهم صرحوا في الأصول بأن
التخصيص بالذكر لا ينحصر بالحكم، كما ذكره السيد السند في المدارك في أول بحث الماء
المضاف، ولاحتمال كون ذلك أحد أفراد الكلي، على قياس ما ذكروه في عدم وجوب
الابتداء في غسل الوجه في الوضوء واليدين بالأعلى والمرفقين في كون البيان الوارد بذلك
محمولا على كونه أحد أفراد الكلي لا لتعينه بخصوصه، فتدبر (منه رحمه الله).
(2) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة، والصحيح (الحادية
عشرة) وذلك في الصحيفة 121 وتقدم أيضا في الصحيفة 162.
375

والأمكنة، كالرطل والمن والمد والصاع ونحوها. وبأن أفراده مختلفة في كل مكان وزمان.
وأما ما يظهر من كلام بعضهم من الاكتفاء بما يعتاد على تلك البئر وأن
كان نحو آنية الفخار إذا كان مما يستقى به في البلد غالبا فضعيف جدا، لأن تعليق الحكم
في الأخبار على الدلو يقتضي الوقوف مع مسماه، ولا ريب في عدم صدقه على الآنية.
ونقل عن بعض الأصحاب أن المراد بالدلو ما كانت هجرية، وهي ثلاثون رطلا
وعن الجعفي أربعون رطلا. ورد بعدم وجود المستند.
(أقول): وهو مروي في كتاب الفقه الرضوي (1) حيث قال (عليه السلام):
" وإذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنور وما أشبه ذلك فمات فيها ولم يتفسخ،
نزح منها سبعة أدل من دلاء هجر. والدلو أربعون رطلا " إلا أن جل الأصحاب
(رضوان الله عليهم) لما كان اعتمادهم على الكتب الأربعة خاصة، أو ما قاربها في الشهرة
عند آخرين، كان هذا الكتاب وأمثاله غير معمول على ما تضمنه من الأخبار، إلا أن
المفهوم من شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب بحار الأنوار الاعتماد عليه كما
أشرنا سابقا إليه (2).
(السادس) يجب اخراج النجاسة قبل الشروع في النزح على القول بالانفعال
بالملاقاة، وظاهرهم الاتفاق عليه بل صرح بذلك في المنتهى، وظاهر اطلاق كلامهم
عدم الفرق في ذلك بين ما له مقدر ما ليس كذلك، إلا أن المحقق الشيخ حسن
في كتاب المعالم صرح بالفرق بينهما، قال: " فإن الملاقاة الموجبة لنزح المقدر تبقى
ما بقيت العين فلا يظهر للنزح فائدة، ولا يعتبر ذلك في غير المقدر لفقد العلة " انتهى.
ولعل ذلك مبني على القول بوجوب نزح الجميع لما لا نص فيه كما اختاره (قدس سره)

(1) في الصحيفة 5.
(2) في الصحيفة 25.
376

في الكتاب المذكور بناء على القول بالانفعال، وإلا فعلى القولين الآخرين من الثلاثين
أو الأربعين فلا ريب في كون الحكم فيهما كالمقدر بعينه، والعلة الموجبة فيهما واحدة.
(البحث الخامس) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في طهر البئر
بغير النزح من المطهرات المتقدمة (1) فظاهر الأكثر طهرها بذلك، والنزح الوارد
في الأخبار وإن اختص بها إلا أنها تشارك غيرها في تلك المطهرات. وكلام المحقق
في المعتبر يدل على انحصار تطهيرها في النزح، حيث قال: " وإذا جرى إليها يعني
البئر الماء المتصل بالجاري لم نظهر، لأن الحكم متعلق بالنزح ولم يحصل " واختاره
بعض محققي متأخري المتأخرين، قال: " لأن التطهير أمر شرعي لا بد له من دليل
ولا دليل ظاهرا على ما عدا النزح " واختلف فتوى الشهيد (رحمه الله) في هذه المسألة، فقال
في الدروس: " لو اتصلت بالجاري طهرت، وكذا بالكثير مع الامتزاج. أما لو تسنما
عليها من أعلى فالأولى عدم التطهير، لعدم الاتحاد في المسمى " ومثله أيضا في الذكرى.
وقال في البيان: " ينجس ماء البئر بالتغير، ويطهر بمطهر غيره، وبالنزح " ثم قال:
والأصح نجاسته بالملاقاة أيضا، وطهره بما مر ونزح كذا، ثم ذكر المقادير.
ولا يخفى أن اشتراطه عدم علو المطهر على جهة التسنم في الكتابين يخالف
ما أطلقه في الثالث من طهارته بمطهر غيره مطلقا.
وممن اختار القول المشهور صاحب المعالم، حيث قال بعد نقل الأقوال
في المسألة: " والتحقيق عندي مساواته لغيره من المياه في الطهارة بما يمكن تحققه فيه
من الطرق التي ذكرناها سابقا. ووجهه على ما اخترناه من اشتراط الامتزاج بالمعنى
الذي حققناه واضح، فإن ماء البئر والحال هذه يصير مستهلكا مع المطهر،
فلو كان عين النجاسة لم يكن له حكم، فيكف؟ وهو متنجس، ولا ريب أنه أخف.

(1) كالقاء الكر دفعة، ونزول الغيث، ووصول الجاري إليها (منه رحمه الله).
377

وأما على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال فلأن دليلهم على تقدير تماميته لا يختص
بشئ دون شئ، إذ مرجعه إلى عموم مطهرية الماء. فيدخل ماء البئر تحت ذلك العموم
والأمر بالنزح لا ينافيه، لكونه مبنيا على الغالب من عدم التمكن من التطهير بغيره،
ولو أمكن في بعض الموارد فلا ريب أن النزح أسهل منه في الأغلب أيضا، فلذلك
اقتصروا عليه. ثم إن يجاب النزح على القول بالانفعال أو مع حصول التغير ليس
إلا لإفادة الطهارة، فإذا صار الماء طاهرا بمقتضى ذلك العموم والفرض عدم الدليل
على التخصيص لا يبقى للنزح وجه. نعم لو قلنا بوجوب النزح تعبدا لم يتم القول
بسقوطه بمجرد الاتصال وإن قلنا بالطهارة. وأما مع الامتزاج فالظاهر السقوط، لأن
الاستهلاك يصيره بمنزلة المعدوم. ووجوب النزح إنما تعلق به في حال البقاء
على حقيقته. وبما ذكرنا ظهر ضعف تفصيل الشهيد (رحمه الله) لا سيما بعد اشتراط
الامتزاج كما صرح به، فإن اعتبار الاتحاد مع ذلك مما لا وجه له. وأما ما تمسك به
المحقق فدفعه ظاهر بعد ما قررناه " انتهى.
ويرد عليه (أولا) أن الاستهلاك الذي ذكره ممنوع. كيف؟ ويكتفى
في تطهير البئر على هذا القول القاء الكر مثلا وإن كان ماء البئر أضعاف أضعافه
على أنه يمكن منع التطهير في حال الاستهلاك أيضا. ما ذكره من طهارة النجاسة عند
استهلاكها لا يصلح دليلا، لأنه قياس، مع وجود الفارق، إذ النجاسة إذا
استهلكت في الماء وسلب عنها اسمها لم تبق نجاستها التابعة للاسم، بخلاف الماء إذا لم يسلب
عنه اسمه وإن اختلط بغيره بحيث لا يميزه الحس.
و (ثانيا) أنه يمكن أن يكون لخصوصية النزح مدخل في التطهير لا يوجد
في غيره، ولعل اقتصار الشارع عليه لذلك، لعين ما ذكروه في مسألة تعدد النزح
بالدلو فيما له مقدر من وجوب الاقتصار على النزح بالدلو لذلك، ويؤيده اختصاص
378

البئر دون سائر المياه بأحكام خاصة وبنائها على جمع المختلفات وتفريق المؤتلفات
كما ذكروه.
وبالجملة فالمسألة محل تردد. والاحتياط في الوقوف على التطهير بالمنصوص.
ولا يخفى أن ما أورده على الشهيد متجه. وأما ما أورده على المحقق فقد عرفت ما فيه.
ثم إنه قد اختلف كلام القائلين بطهرها بغير النزح في وجه العلة في ذلك،
فظاهر كلام المحقق الشيخ حسن كما تقدم أن العلة هي الاستهلاك بسبب الامتزاج.
وقد عرفت ما فيه. وظاهر العلامة في المنتهى حيث قال في تعليل ذلك: " لأن
المتصل بالجاري كأحد أجزائه فخرج عن البئر " أن العلة في ذلك هو الخروج عن كونه
بئرا ولحوق أحكام الجاري له. ولا يخفى ما فيه. وظاهر الشهيد في الذكرى حيث
قال: " وامتزاجه بالجاري مطهر. لأنه أقوى من جريان النزح باعتبار دخول
مائها في اسمه " أن العلة فيه هي الامتزاج، حيث إنه أقوى من جريان النزح. وفيه
منع أن العلة في النزح حصول الجريان، لعدم الدليل عليه، ولجواز أن يكون أمر
آخر لا نعلمه.
(البحث السادس) المشهور بين الأصحاب بل نقل الاجماع عليه من
القائلين بالتنجس أنه مع تعذر نزح البئر جميعا لكثرة الماء فيما يجب له ذلك يجب
تراوح أربعة رجال عليها يوما إلى الليل، استنادا إلى موثقة عمار الساباطي. وقد تقدمت
في البحث الرابع (1).
واعترض في المعالم على الاستدلال بالخبر المذكور بوجوه:
(أحدها) كون رواته فطحية.
و (ثانيها) تضمن متنه نزح الماء كله لتلك الأشياء المذكورة فيه، ولا قائل
به من الأصحاب.

(1) في الصحيفة 369.
379

و (ثالثها) أن ظاهره يدل على وجوب النزح يومين. ولم يذهب إليه أحد.
والجواب عن الأول، أما على مذاقنا فمعلوم، وأما على مذاق القوم فعند
من يعمل بالموثق منهم كذلك أيضا، وأما ما يجعله من قسم الضعيف فيجاب بأن
ضعفه مجبور بعمل الأصحاب وشهرته بينهم في هذا الباب.
وأما عن الثاني، فيمكن بحمل نزح الجميع على الاستحباب أو على التغير كما ذكره
في التهذيب (1) وحينئذ فتكون الرواية معمولا بها عن الأصحاب.
وأما عن الثالث. فيجوز أن لا تكون (ثم) هنا للترتيب الخارجي، فإنها كثيرا
ما تكون كذلك، كقوله سبحانه: " كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون " (2) والجواب
باحتمال كونها من كلام الراوي بعيد.
ثم إن الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذكروا لذلك أحكاما ربما يستفاد أكثرها
من النص المذكور.
(منها) كون النزح نهارا، للفظ اليوم في الرواية، فلا يجزئ الليل
ولا الملفق منهما وإن زاد عن مقدار يوم. وقوفا على ظاهر النص.
و (منها) أنه لا فرق في اليوم بين القصير والطويل. عملا بالاطلاق. ولهم
في تحديد اليوم المذكور عبارات مختلفة. ففي كلام الشيخ المفيد من أول النهار إلى آخره
وتبعه على ذلك جماعة. وفي عبارة الصدوقين من الغدوة إلى الليل. وفي نهاية الشيخ
من الغدوة إلى العشية. قال في المعتبر بعد نقل هذه الأقوال: " ومعاني هذه الألفاظ
متقاربة. فيكون النزح من طلوع الفجر إلى غروب الشمس أحوط، لأنه يأتي على
الأقوال " انتهى. وقال الشهيد في الذكرى بعد ذكر اختلاف العبارات في ذلك:
" الظاهر أنهم أرادوا به يوم الصوم فليكن من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. لأنه

(1) في الصحيفة 69.
(2) سورة النبأ. الآية 5 و 6.
380

المفهوم من اليوم مع تحديده بالليل " واعترضه في المعالم بعد أن استحسن ما ذكره
المحقق من الأحوطية بأن الحمل على يوم الصوم يقتضي عدم الاجتزاء باليوم الذي
يفوت من أوله جزء وإن قل، وعباراتهم لا تدل عليه بل ظاهرها ما هو أوسع من ذلك،
ولفظ الرواية أيضا محتمل لصدق اسم اليوم وإن فات منه بعض الأجزاء إن كانت
قليلة. انتهى. وهو حسن.
و (منها) أن جملة من المتأخرين أوجبوا تفريعا على القول بوجوب كون
النزح يوم الصوم إدخال جزء من الليل أولا وآخرا من باب مقدمة الواجب. وربما
أوجب بعضهم تقديم التأهب بتهيئة الآلات قبل الجزء المجعول مقدمة. والظاهر أن
هذه التدقيقات الناشئة من اعتباره كيوم الصوم غير واضحة.
و (منها) كون طريق تراوح الأربعة بأن ينزح كل اثنين وقتا، بأن يكون
أحدهما فوق البئر يمتح بالدلو والآخر فيها يملأها، ثم يستريحان فيقوم الآخران كذلك
كذا ذكره جملة منهم. وتخصيص النزح بالكيفية المخصوصة لا دليل في النص عليه.
بل يكفي أن يكونا معا في أعلى البئر يمتحان الدلو. بل الظاهر أنه الأولى (1)، لأنه هو
المتعارف، إلا أن يبلغ الماء في القلة إلى أن الدلو بمجرد وضعه لا يمتلئ ماء بل يحتاج
إلى وضع الماء فيه. فيتم ما ذكروه. إلا أن كلامهم أعم من ذلك.
و (منها) أنه يستثنى لهم من الاشتغال بالنزح الصلاة جماعة والأكل جميعا
صرح به الشهيدان وجماعة. وعللوه باقتضاء العرف له، واقتصر بعض على الأول.
فارقا بينهما بأن الثاني يمكن حصوله حال الراحة بخلاف الأول، فإن الفضيلة الخاصة
للجماعة لا تحصل إلا به. وربما نفى بعضهم الاستثناء من أصله.

(1) وبما استظهرناه صرح بعض علمائنا المتأخرين. قال: لأنه الأقرب المتعارف
ونقل (قدس سره) عن ابن إدريس أنه صرح بأن كيفية التراوح أن يستقي اثنان بدلو واحد
يتجاذبانه إلى أن يتعبا، فإذا تعبا قعدا وقام هذان واستراح الآخران (منه قدس سره).
381

و (منها) أنه يشترط كون الأربعة رجالا، صرح به الأكثر، لمفهوم
لفظ القوم على ما نص عليه جملة من أهل اللغة من الاختصاص بالرجال (1) وقال المحقق
في المعتبر: " إن عملنا بالخبر المتضمن لتراوح القوم اجتزأنا بالنساء والصبيان " ورد بما
تقدم. وفيه أن صاحب القاموس قد ذكر من أحد معاني القوم ما يدخل فيه النساء،
حيث قال: " القوم الجماعة: من الرجال والنساء معا أو الرجال خاصة أو تدخله النساء
على التبعية " انتهى. ونقل في كتاب مجمع البحرين عن الصنعاني أنه ربما دخل
النساء تبعا، لأن قوم كل نبي رجال ونساء. وعلى هذا يزول الاشكال بالنسبة
إلى النساء وإنما يبقى الكلام في الصبيان. وشرط بعضهم في الاجتزاء بالنساء عدم قصور
نزحهن عن نزح الرجال. والأحوط بل الأظهر الاقتصار على الرجال، ويدل على ذلك
ما في كتاب الفقه الرضوي. حيث قال (عليه السلام) (2): " فإن كان كثيرا
وصعب نزحه فالواجب عليه أن يكتري أربعة رجال يستقون منها على التراوح من الغدوة
إلى الليل ".
و (منها) عدم اجزاء ما دون الأربعة وإن نهض بعملهم، وقوفا على ظاهر
الخبر من قوله: " يتراوحون اثنين اثنين " واستقرب في التذكرة الاجتزاء بالاثنين
القويين اللذين ينهضان بعمل الأربعة. وأما الزيادة عليها فأجازوها من باب مفهوم
الموافقة إلا أن يفضي التكثير إلى الابطاء وتضييع الوقت.

(1) قال الجوهري: " القوم: الرجال دون النساء " وقال ابن الأثير في نهايته: " القوم
في الأصل مصدر قام فوصف به ثم غلب على الرجال دون النساء، ولذلك قابلهن به " يعني
في قوله تعالى: " لا يسخر قوم من قوم ولا النساء من نساء.. " قال زهير:
" وما أدري وسوف أخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء "
(منه رحمه الله)
(2) في الصحيفة 5.
382

(البحث السابع) لا خلاف بين الأصحاب في أن البئر لا ينجس بالبالوعة
وإن قربت منه، إلا أن يعلم تعدي ما فيها إلى البئر بناء على القول بانفعالها بالملاقاة
أو بتغير ماء البئر بها على ما اخترناه.
ويدل على ذلك مضافا إلى ما دل على أصالة الطهارة عموما وخصوصا رواية
محمد بن أبي القاسم عن أبي الحسن (عليه السلام) المتقدمة في أدلة القول بعدم نجاسة البئر
بالملاقاة (1) وأما ما يوهم خلاف ذلك كحسنة الفضلاء المتقدمة في أدلة القول بنجاسة
البئر بالملاقاة (2) فقد عرفت الجواب عنها ثمة. ويزيده تأكيدا أن العمل بظاهرها
من الحكم بالنجاسة بمجرد ظن السريان مما تدفعه الأخبار المستفيضة بعدم نقض
اليقين إلا بمثله، وأن الشك لا يعارض اليقين، فلا بد من تأويله بما ذكرنا آنفا.
ثم إن المشهور بين الأصحاب أنه يستحب التباعد بين البئر والبالوعة بخسمة أذرع
في الأرض الصلبة أو مع فوقية قرار البئر، وبسبعة فيما عدا ذلك. والصور على هذا
القدر ست، وذلك لأن الأرض أما أن تكون صلبة أو رخوة. وعلى كل منهما
أما أن تكون البئر أعلى قرارا أو أنزل أو مساوية. ففي أربع صور منها وهي الصلبة
بأقسامها الثلاثة وعلو قرار البئر في الرخوة يستحب التباعد بخمسة أذرع، وما عدا
ذلك بسبعة أذرع.
وضم جمع من المتأخرين إلى الفوقية الحسية الفوقية بالجهة في صورة تساوي
القرارين، بناء على أن جهة الشمال أعلى وأن مجاري العيون منها. وحينئذ يحصل
من ذلك الفوقية والتحتية والتساوي بحسب الجهة أيضا. وبذلك تصير صور المسألة أربعا
وعشرين وإن لم يكن لبعضها تأثير في اختلاف الحكم في المسألة، وتفصيلها أنه باعتبار

(1) في الصحيفة 356 وقد تقدم أن اسم الراوي في كتب الحديث والرجال
(محمد بن القاسم).
(2) في الصحيفة 358.
383

الجهة تحصل أربع صور. لأن البئر إما أن تكون في جهة الشمال والبالوعة في الجنوب
أو بالعكس، أو تكون البئر في جهة المغرب والبالوعة في جهة المشرق أو بالعكس
وعلى كل من هذه الصور الأربع تجري الست المتقدمة، ومن ضرب أربع في ست
تحصل أربع وعشرون. ففي سبع عشرة منها يكون التباعد بخمسة أذرع، وفي سبع
منها بسبع أذرع (1).
وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين بعد أن نقل عنهم أولا أن في صورة
التعارض بين الفوقيتين يجعلونه بمنزلة التساوي ما صورته: " وفي كلام جمع من
الأصحاب هنا تأمل ظاهر، إذ ذكروا أن التباعد بسبع في سبع وبخمس في الباقي
والاعتبار يقتضي أن يكون التباعد بسبع في ثمان أو ست، لأن فوقية القرار إما أن
تعارض فوقية الجهة وتصير بمنزلة التساوي أو لا، فعلى الأول الأول وعلى الثاني الثاني
وأما اعتبار الجهة في البئر دون البالوعة فتحكم " انتهى.
(أقول): ما نقله عنهم من أنه مع تعارض الفوقيتين يجعلونه بمنزلة التساوي
ثم اعترض عليهم بسببه لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم، بل صرح غير واحد
منهم بأن الفوقية بالجهة إنما تعتبر في الرخاوة مع تساوي القرارين، ومقتضى ذلك

(1) لأنك قد عرفت أن التباعد بخمسة أذرع في أربع صور من الست المتقدمة
والست هنا قد فرضناها في كل من هذه الصور الأربع، وحينئذ فتؤخذ الأربع المذكورة
من كل واحدة من هذه الأربع هنا فتحصل ست عشرة، وتزيد واحدة وهي فوقية الجهة
في صورة كون البئر في جهة الشمال مع رخاوة الأرض وتساوى القرارين، فتحصل سبع
عشرة حينئذ، وقد عرفت أيضا أن التباعد بسبعة أذرع في صورتين من الست المذكورة،
وهما صورتا الرخوة الباقيتان، لخروج صورة علو قرار البئر من صورها، فتؤخذ الاثنتان
من كل من الأربع وتزيد واحدة وهي تساوي القرارين في الأرض الرخوة مع كون
البالوعة في جهة الشمال وهي عكس الصورة المزيدة سابقا (منه رحمه الله).
384

اختصاص اعتبارها بالبئر دون البالوعة. ولهذا صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض
في صورة كون البئر في جهة الجنوب مع رخاوة الأرض وعلو قرار البئر بأنه يستحب
التباعد بخمسة أذرع نظرا إلى علو قرار البئر. وبمقتضى ما ذكره من تعارض القرارين
مطلقا ينبغي أن يكون بسبعة.
ونقل عن ابن الجنيد في هذه المسألة ما يخالف المشهور. إلا أن النقل عنه
مختلف. فنقل الأكثر عنه أنه قال: " إن كانت الأرض رخوة والبئر تحت البالوعة
فليكن بينهما اثنا عشر ذراعا، وإن كانت صلبة أو كانت البئر فوق فليكن
بينهما سبعة أذرع " وخطأ هذا النقل في المعالم. ونقل عنه أنه قال في المختصر
ما صورته: " لا استحب الطهارة من بئر تكون بئر النجاسة التي تستقر فيها من أعلاها
في مجرى الوادي، إلا إذا كان بينهما في الأرض الرخوة اثنى عشر ذراعا وفي الأرض
الصلبة سبعة أذرع، فإن كانت تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس، وإن كانت محاذيتها
في سمت القبلة فإذا كان بينهما سبعة أذرع فلا بأس. تسليما لما رواه ابن يحيى عن سليمان
الديلمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) " انتهى. ثم قال في المعالم: " والذي
يستفاد من هذه العبارة أنه يرى التقدير بالاثني عشر بشرطين: رخاوة الأرض وتحتية
البئر. ومع انتفاء الشرط الأول بسبع، وكذا مع استواء القرار إذا كانت المحاذاة
في سمت القبلة، يعني أن أحدهما كانت في جهة المشرق والأخرى في محاذاتها من جهة
المغرب. وهذا الاعتبار يلتفت إلى اعتبار الفوقية في الجهة كما حكيناه عن البعض، فحيث
تكون المحاذاة في غير جهة القبلة تكون إحداهما في جهة الشمال فتصير أعلى. وقوله:
فإن كانت تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ظاهر في نفي التقدير حينئذ " انتهى.

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق. والسند
هكذا: " محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن يحيى عن إبراهيم بن إسحاق عن محمد
ابن سليمان الديلمي عن أبيه قال سألت أبا عبد الله.. الحديث " وسيأتي الخبر في الصحيفة 388.
385

واستدل على المشهور برواية الحسن بن رباط عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
قال: " سألته عن البالوعة تكون فوق البئر. قال: إذا كانت فوق البئر فسبعة
أذرع، وإن كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع من كل ناحية، وذلك كثير " (2).
ورواية قدامة بن أبي يزيد الحمار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) قال: " سألته كم أدنى ما يكون بين البئر والبالوعة؟ فقال: إن كان
سهلا فسبعة أذرع وإن كان جبلا فخمسة أذرع، ثم قال: يجري الماء إلى القبلة
إلى يمين، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة، ويجري عن يسار القبلة إلى يمين
القبلة، ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة ".
وجه الاستدلال بهما أن في كل من الروايتين اطلاقا وتقييدا فيجب الجمع بينهما
بحمل المطلق من كل منهما على المقيد من الأخرى، وذلك بالنسبة إلى التقدير بالسبعة،
فإنه في الرواية الأولى مطلق بالنسبة إلى صلابة الأرض ورخاوتها، والثانية قد اشتملت
مع الصلابة على خمسة. فتحمل السبعة في الأولى على الرخاوة خاصة جمعا (4). والسبعة
في الرواية الثانية أيضا مطلق بالنسبة إلى فوقية البالوعة على البئر وعكسه، وفي الأولى

(1) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق.
(2) ما ذكره مطابق لما في الكافي، وأما رواية التهذيب فهي هكذا: " قال: إذا
كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع، وإذا كانت فوق البئر فسبعة أذرع من كل ناحية،
وذلك كثير ".
(3) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق. والراوي لهذه
الرواية قد أهمل في كتب الرجال. وفي حاشية الوافي أن كنية أبيه (أبو يزيد) كما في الكافي
لا (أبو زيد) واسقاط الياء - كما في عامة نسخ التهذيبين - من تحريف النساخ، وإن
(الحمار) بالحاء المهملة وتشديد الميم. انتهى. ويؤيد ذلك أنه قد ذكر في باب الكنى
من كتب الرجال (أبو يزيد الحمار) فإن من المحتمل أن يكون أبا قدامة هذا.
(4) وحينئذ يكون معنى الرواية الأولى أنه إذا كانت البالوعة فوق البئر فسبعة ما لم
تكن الأرض صلبة فإنه تكفي الخمسة (منه قدس سره).
386

قد خص السبعة بفوقية البالوعة والخمسة بعكسه، وحينئذ فتحمل السبعة المطلقة
على فوقية البالوعة (1). ويتخلص من ذلك أن السبعة حينئذ مقيدة برخاوة الأرض
مع عدم كون قرار البئر أعلى، وهو أعم من أن يكون مساويا أو يكون قرار
البالوعة أعلى.
وأورد عليه أن الجمع بين الخبرين المذكورين لا ينحصر في الطريق المذكورة،
إذ كما يقيد الحكم بالسبعة في الموضعين يمكن أن يقيد الحكم بالخمسة فيهما (2). وفيه
أنه لا يخفى أن الغرض من التحديد في هذه الأخبار والشروط المذكورة فيها إنما هو منع
تعدي ماء البالوعة إلى البئر، فمع السهولة فيما عدا صورة علو قرار البئر لما كان مظنة
التعدي كان اعتبار البعد بالسبعة أليق، ومع الصلابية وكذا مع علو قرار البئر في السهلة
لما كان مظنة عدم التعدي حسن الاقتصار على الخمسة، فلا يحتاج إلى قيد آخر، ومن
ذلك يعلم حكم المساواة في صورة الرخاوة وأنه يستحب أن يكون بسبعة. وبذلك
يظهر ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني من إنكار المستند في ذلك، حيث قال في كتاب
الروض: " والرواية التي هي مستند الحكم ليس فيها ما يدل على حكم التساوي، لأنه جعل
السبع مع فوقية البالوعة والخمس مع فوقية البئر. والتساوي مسكوت عنه " انتهى.
فإنه وإن لم تدل عليه الرواية الأولى لكنه داخل تحت الرواية الثانية، حيث حكم فيها
بأنه إن كان سهلا فسبع، خرج عنه بالتقييد بالرواية الأولى صورة ارتفاع البئر قرارا
أو جهة على القول الآخر كما عرفت. فيبقى الباقي.

(1) ويكون معنى الرواية الثانية: إن كان سهلا فسبعة أذرع ما لم يكن قرار البئر أعلى
فإنه تكفي الخمسة (منه قدس سره).
(2) فيقال: التقدير بالخمسة في الخبر الأول مقيد بالصلابة لدلالة الثانية على السبعة في
صورة الرخاوة. وتقيد في الثانية بعدم فوقية البالوعة، لدلالة الأولى على السبعة
في صورة فوقية البالوعة (منه قدس سره).
387

ثم إن بعض الأصحاب عبر في هذا المقام بأنه إذا كانت البئر فوق البالوعة جهة
أو قرارا أو كانت الأرض صلبة فخمس وإلا فسبع، وعلى هذا يكون حكم المساواة
في صورة الرخاوة ما ذكرنا من السبع، وبعضهم كالعلامة في الإرشاد قال:
إنه إذا كانت البئر تحت البالوعة أو كانت الأرض سهلة فسبع وإلا فخمس. وعلى هذا
فحكم المساواة في الصورة المذكورة خمس. وهو غير جيد، لما عرفت.
وقد تلخص من هذا أنه يستحب التباعد بخمس في صور الصلبة جميعا وصورة
علو البئر قرارا أو جهة، وما عداه فبسبع.
واستدل ابن الجنيد كما أشرنا إليه فيما قدمنا من كلامه، وبذلك أيضا استدل
له في المختلف برواية محمد بن سليمان الدليمي عن أبيه (1) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن البئر يكون إلى جنبها الكنيف. فقال لي: إن مجرى العيون
كلها من مهب الشمال. فإذا كانت البئر النظيفة فوق الشمال والكنيف أسفل منها لم
يضرها إذا كانت بينهما أذرع. وإن كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقل من اثني عشر
ذراعا، وإن كان تجاها (2) بحذاء القبلة وهما مستويان في مهب الشمال فسبعة أذرع ".
ولا يخفى عليك أن الرواية المذكورة غير منطبقة على مذهب ابن الجنيد على كلا
النقلين.
(أما على الأول) فلأنهم نقلوا عنه التباعد بسبع أذرع في صورة فوقية البئر،
مع أنه ليس في الرواية المذكورة لذلك أثر.
و (أما على الثاني) فلأنه نقل عنه التفصيل في صورة علو البالوعة بالرخاوة
والصلابة، والرواية كما ترى لا تفصيل فيها لشئ من ذلك.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق.
(2) كذا في التهذيب والمقنع، وفي المختلف تجاهها (منه قدس سره).
388

ونقل عنه أيضا القول بأنه إن كانت البالوعة تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس،
مع أنه صرح في الرواية في هذه الصورة باشتراط أن يكون بينهما أذرع. وتكلف في المعالم
للجواب هنا بأنه لعل الوجه في عدم تعرض ابن الجنيد لهذا الشرط مع كونه مصرحا
به في الرواية هو عدم الانفكاك عنه عادة حيث يحمل لفظ الأذرع على أقل الجمع، فإنه
من المستبعد جدا أن توضع بالوعة في جنب بئر بأقل من ثلاثة أذرع. ولا يخلو من بعد.
وقد جمع بعض الأصحاب بين هذه الرواية وروايتي المشهور (1) بحمل اطلاق
الأذرع في صورة فوقية البئر على الخمس، وتقييد التقدير بالسبع في صورة المحاذاة
برخاوة الأرض وتحتية البئر وحمل الزائد على السبع في صورة فوقية الكنيف على المبالغة
في القدر المستحب. واعترضه في المعالم بأن في الحمل الأول تكلفا. وأما التقييد ففاسد
لأن فرض المحاذاة كما هو صريح لفظ الحديث، ومقتضى المقابلة لصورتي علو كل
منهما كيف يجامع الحمل على تحتية البئر؟ نعم حمل الزيادة في الاثني عشر على المبالغة
ممكن. وأجيب بأن رواية ابن رباط قرينة على الحمل بلا تكلف. وما ذكره من فساد
التقييد فاسد، لأن المحاذاة التي في الحديث إنما هي المحاذاة بالنسبة إلى جهة الشمال.
وكذا علو كل منهما إنما هو بالنسبة إليها، وهو ظاهر. فحينئذ لا ينافيان تحتية البئر
بالنظر إلى القرار كما هو مراد (2). وهو جيد.
هذا. والموجود في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) نسبة الخلاف في هذه
المسألة إلى ابن الجنيد خاصة، مع أن ظاهر الصدوق في المقنع ذلك أيضا، حيث نقل

(1) المتقدمين في الصحيفة 386.
(2) لا يخفى أنه لا حاجة في الجمع إلى اعتبار تحتية البئر، لما عرفت من استحباب السبع
في صور التساوي كما أوضحناه آنفا. نعم لا بد من اعتبار عدم فوقية قرارها، وكذا لا بد
في الصورة الأولى من عدم فوقية قرار البالوعة لينطبق على المشهور. والخبران اللذان هما
مستند المشهور قرينة هذا التقييد (منه رحمه الله)
389

مضمون الرواية المذكورة من غير اشعار بكونها رواية، وهو يعطي افتاءه بذلك
والقول به. ثم إنه (قدس سره) في الكتاب المذكور قال بعيد ذلك: " وإن أردت أن
تجعل إلى جنب البالوعة بئرا، فإن كانت الأرض صلبة فاجعل بينهما خمسة أذرع،
وإن كانت رخوة فسبعة أذرع " وظاهر كلاميه يشعر بالفرق بين البالوعة والكنيف.
إلا أنه في كتاب من لا يحضره الفقيه فرض المسألة في الكنيف، وذكر التباعد بالسبع
والخمس في صورتي الرخوة والصلبة.
هذا. وقد تقدم في حسن الفضلاء (1) التقدير بالسبع في صورة علو البالوعة،
وبالثلاث أو الأربع في عكسه، قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين: " والأولى
الوقوف على ما تضمنته حسنة الفضلاء، لأنها أحسن سندا وأقرب إلى الاحتياط لولا
شهرة خلافه بين الأصحاب، مع أنه على المشهور يمكن الجمع بين الروايات الثلاث
بحمل الحسنة على شدة الاستحباب. وهو أولى من الطرح " انتهى.
واستند القائلون بالحاق العلو جهة بالعلو قرارا برواية محمد بن سليمان الديلمي
المذكورة (2) ويشكل بأنهم لم يعملوا بها فيما دلت عليه من الأحكام، فيكف يتم لهم
الاستناد إليها في خصوصية هذا الحكم؟ فإن أجيب بأنه قد عارضها في تلك الأحكام
الروايتان المتقدمتان (3) وهذا الحكم لم يعارضها فيه شئ. قلنا: إن تلك الروايتين
قد عارضتهما أيضا حسنة الفضلاء (4) مع كونها أرجح سندا منهما. فيجب عليهم القول
بمضمونها.
ثم إنه قد روى الحميري في كتاب قرب الإسناد (5) عن محمد بن خالد الطيالسي

(1) المتقدمة في الصحيفة 358.
(2) في الصحيفة 388.
(3) في الصحيفة 386.
(4) المتقدمة في الصحيفة 358.
(5) في الصحيفة 16 وفي الوسائل في الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق. وفيهما
بدل " تلي الوادي " هنا " مما يلي الوادي ".
390

عن العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن البئر يتوضأ منها القوم
وإلى جانبها بالوعة. قال: إن كان بينهما عشرة أذرع وكانت البئر التي يستقون
منها تلي الوادي فلا بأس " والظاهر أن المراد بكونها تلي الوادي يعني كونها في جهة
الشمال، بناء على أن مجرى العيون منها. ولم أقف على قائل بمضمون هذا الخبر بل
ولا على ناقل له في كتب الاستدلال.
ولا يخفى ما في ظاهر هذا الخبر مضافا إلى خبر الديلمي (1) وكذا حسنة
الفضلاء (2) من الدلالة على الفوقية بالجهة، وبذلك أيضا يشعر خبر قدامة المتقدم (3).
أقول: ولعل اختلاف التقديرات في هذه الأخبار مفصلا بالفوقية والتحية
تارة وأخرى بالصلابة والرخاوة بالزيادة والنقصان، ومطلقا في بعض كله قرينة
الاستحباب بزيادة ونقصان في مراتبه. والله أعلم.
الفصل الخامس
في المضاف، وفيه مسائل:
(الأولى) المضاف هو ما لا ينصرف إليه لفظ الماء على الاطلاق عرفا بل
يحتاج في صدقه إلى القيد، كالمصعد من الأنوار والمعتصر من الثمار والممتزج بما
يسلبه الاطلاق.
ولا خلاف في طهارته باعتبار أصله، ويدل على ذلك أيضا قول الصادق (عليه
السلام) في موثقة عمار (4): " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر ".

(1) المتقدم في الصحيفة 388.
(2) المتقدم في الصحيفة 358.
(3) في الصحيفة 386.
(4) راجع التعليقة 1 في الصحيفة 42 والتعليقة 4 في الصحيفة 149.
391

ولا خلاف أيضا في انفعاله بملاقاة النجاسة وإن كثر، نقل الاجماع على ذلك
جملة من معتمدي الأصحاب.
ويدل عليه أيضا ما رواه السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن
أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة. فقال: يهراق
مرقها ويغسل اللحم ويؤكل " (1).
واعترض على الرواية بضعف السند أولا، وورودها في مورد خاص ثانيا،
وعدم ظهورها في النجاسة ثالثا.
ولا يخفى ما في هذه المناقشات من التعسف.
(أما الأولى) فبما عرفت في المقدمة الثانية من مقدمات الكتاب.
و (أما الثانية) فلما عرفت في المقام الخامس من المقدمة الثالثة (2) من أن
تعدية الحكم في مثل هذا المقام من قبيل تنقيح المناط القطعي، إذ لا يعلم هنا مدخل
لخصوصية السؤال.
و (أما الثالثة) فلأن الأمر بإهراق المرق المذكور وغسل اللحم أظهر دلالة
على النجاسة من أن يحوم حوله الانكار.
ويدل على ذلك أيضا رواية زكريا بن آدم المروية بطرق ثلاث (3) قال:
" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة نبيذ أو خمر مسكر قطرت في قدر فيه لحم

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل،
وفي الباب - 44 - من أبواب الأطعمة المحرمة.
(2) في الصحيفة 56.
(3) ورواها صاحب الوسائل في الباب - 38 - من أبواب النجاسات، وفي الباب
- 26 - من أبواب الأشربة المحرمة.
392

كثير ومرق كثير. قال: يهراق المرق أو يطعم أهل الذمة أو الكلب، واللحم
اغسله وكله.. الحديث ".
واستدل أيضا على الحكم المذكور بصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه
السلام) (1) قال: " إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامدا فألقها
وما يليها وكل ما بقي، وإن كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به، والزيت
مثل ذلك ".
وهذا الاستدلال بمكان من الضعف، إذ مورد الرواية ليس مما نحن فيه،
فإن المضاف في اصطلاحهم لا يشمل مثل الدهن والزيت. وقياسه عليهما باعتبار
الاشتراك في الميعان باطل عندنا (أما أولا) فلعدم بناء الأحكام على القياس.
و (أما ثانيا) فلعدم ثبوت كون مطلق الميعان علة حتى يلزم من الاشتراك فيها ذلك.
واستدل أيضا بأن المائع قابل للنجاسة، والنجاسة موجبة لتنجيس ما لاقته،
فيظهر حكمها عند الملاقاة، ثم تسري النجاسة بممازجة المائع بعضه بعضا.
واعترض عليه بأن قبول المائع النجاسة، إن كان باعتبار الرطوبة المقتضية للتأثير عند
ملاقاة النجاسة فمن البين أنها موجودة في كثير من أفراد الجامد الذي من شأنه الميعان
كالسمن، ولا ريب في عدم تأثره بنجاسة ما يتصل به من أجزائه المحكوم بنجاستها مع
تحقق الملاقاة بينهما. وقد صرح بهذا في الحديث الذي احتجوا به. وإن كان باعتبار
الدليل الدال فكان الأولى الاحتجاج به على تقدير وجوده.
وكيف كان فكون الحكم اجماعيا مما يهون الخطب، وجملة من متأخري
المتأخرين إنما عولوا في هذه المسألة عليه. لما نقلنا عنهم من الطعن في الأدلة.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل، وفي الباب
- 6 - من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة. وفي الباب - 43 - من أبواب
الأطعمة المحرمة.
393

(المسألة الثانية) المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه الاجماع غير و
منهم (1) عدم جواز رفع الحدث بالمضاف.
وخالف في ذلك الصدوق في الفقيه، فقال (2): " ولا بأس بالوضوء والغسل
من الجنابة والاستياك بماء الورد " وأصرح منه كلامه في الأمالي (3).
ونقل الشيخ في الخلاف عن قوم من أصحاب الحديث جواز الوضوء بماء الورد.
حجة الصدوق على ما نقل رواية محمد بن عيسى عن يونس عن أبي الحسن
(عليه السلام) (4) قال: " قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة؟
قال: لا بأس بذلك ".
وأجاب الشيخ (قدس سره) في التهذيب (5) عنه بأنه خبر شاذ شديد الشذوذ
وإن تكرر في الكتب والأصول، فإنما أصله يونس عن أبي الحسن (عليه السلام) ولم يروه
غيره. وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره، وما يكون هذه حكمه لا يعمل
به، ولو سلم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء الذي هو التحسين، وقد بينا فيما تقدم
أن ذلك يسمى وضوء، ثم قال: " وليس لأحد أن يقول: إن في الخبر أنه سأله
عن ماء الورد يتوضأ به للصلاة. لأن ذلك لا ينافي ما قلناه، لأنه يجوز أن يستعمل
للتحسين ومع هذا يقصد به الدخول في الصلاة، من حيث إنه متى استعمل الرائحة
الطيبة لدخوله في الصلاة ولمناجاة ربه كان أفضل من أن يقصد به التلذذ حسب دون وجه
الله. ثم قال: ويحتمل أيضا أن يكون أراد بقوله: " ماء الورد " الماء الذي وقع فيه الورد.
لأن ذلك يسمى ماء ورد وإن لم يكن معتصرا منه، لأن كل شئ جاور غيره فإنه

(1) منهم: المحقق في الشرايع، والعلامة في النهاية والمنتهى، والشهيد في الذكرى،
والشيخ في كتابي الأخبار (منه رحمه الله).
(2) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).
(3) في الصحيفة 383.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(5) في الصحيفة 62.
394

يكسبه اسم الإضافة إليه " انتهى كلامه زيد مقامه. وأشار بقوله: " وقد بينا فيما تقدم
أن ذلك يسمى وضوء " إلى موثقة عبيد بن زرارة (1) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الدقيق يتوضأ به. قال: لا بأس بأن يتوضأ به وينتفع به " حيث
قال بعد ايراد الخبر المذكور: " معناه أنه يجوز التمسح به والتوضؤ الذي هو التحسين
دون الوضوء للصلاة " انتهى.
ونقل عن ظاهر ابن أبي عقيل (2) أنه جور الوضوء به حال الضرورة فيقدم
على التيمم. وهو مع عدم الدليل عليه محجوج بما سيأتي ذكره.
حجة الأكثر على انحصار رفع الحدث في المطلق وجوه:
(منها) قوله سبحانه: " فلم تجدوا ماء فتيمموا.. " (3) حيث أوجب
التيمم عند فقد الماء، ولا خلاف في أن اطلاق الماء لا ينصرف إلى المضاف. ومنه علم
سقوط الواسطة. فإنه لو كان الوضوء جائزا بغيره لم يجب التيمم، وهو ظاهر.
و (منها) رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال:
" سألته عن الرجل يكون معه اللبن يتوضأ منه للصلاة؟ فقال: لا، إنما هو الماء والصعيد
ورواية عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين (5) قال: " إذا كان الرجل
لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضأ باللبن، إنما هو الماء أو التيمم.. ".

(1) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب التيمم.
(2) إنما أسند النقل إلى ظاهره لأنه صرح بجواز استعماله مع الضرورة، وهو شامل
باطلاقه للاستعمال في رفع الحدث والخبث، وأكثر الأصحاب إنما نقلوا خلافه في رفع
الخبث خاصة، والشهيد في الدروس نقله عنه في رفع الحدث أيضا، حيث قال: " فلو
اضطر إليه تيمم خلافا لابن أبي عقيل " وكأنه نظر إلى ما ذكره (منه رحمه الله).
(3) سورة النساء. الآية 46 وسورة المائدة. الآية 8.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 1 و 2 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل
395

وجه الاستدلال حصر طهارة الوضوء في الماء والصعيد الدال على نفي غيرهما. وما
يوهم خلاف ذلك من قوله في ذيل الخبر الثاني: " فإن لم يقدر على الماء وكان نبيذا.
فإني سمعت حريزا يذكر في حديث: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد توضأ بالنبيذ ولم
يقدر على الماء " فمحمول على التقية، وفي الاستشهاد بنقل حريز إيناس بذلك.
ويحتمل أيضا حمل النبيذ على ما ينبذ فيه تمر لكسر مرارة الماء كما كان يستعمل سابقا
لكن على وجه لا يخرج به الماء عن الاطلاق، كما تضمنه حديث الكلبي النسابة (1)
إلا أن الظاهر بعده (2) ويحتمل أيضا أن تكون هذه التتمة من كلام عبد الله بن المغيرة.
و (منها) أن الحدث المانع من الدخول في الصلاة معنى مستفاد من الشرع
فيجب استمراره بعد وجود سببه إلى أن يثبت له رافع شرعي. والذي ثبت رافعيته
من الشرع هو الماء المطلق. والقول بأنه يمكن المناقشة هنا بمنع حجية الاستصحاب
مردود بأن هذا الاستصحاب ليس من القسم المتنازع فيه. وهو القسم الرابع من
الأقسام المتقدمة في المقدمة الثالثة. بل هو من القسم الثاني أو الثالث من الأقسام المتقدمة
الذي هو عبارة عن عموم الدليل أو اطلاقه، كما تقدم ايضاحه (3).
و (منها) قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (4) فإنه تعالى
ذكر الماء هنا في معرض الامتنان على العباد. فلو حصلت الطهارة بغيره لكان
الامتنان بالأعم أولى. واعترض على هذا الوجه بأنه يجوز أن يخص أحد الشيئين الممتن
بهما بالذكر لكونه أبلغ وأكثر وجودا وأعم نفعا. وقد تقرر أن التخصيص بالذكر
لا ينحصر في التخصيص بالحكم.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) وجه البعد أن المفروض أن النبيذ ماء مطلق أيضا ويتناوله باطلاقه، فيدخل
في عموم المقدورية على الماء في عبارة الخبر، فكيف صح جعله قسيما ومقابلا له؟ (منه
رحمه الله).
(3) في المطلب الثاني في الصحيفة 51.
(4) سورة الفرقان. الآية 51.
396

هذا. ولم أقف على موافق للصدوق (طاب ثراه) من الأصحاب إلا ما يظهر
من كلام المحدث الكاشاني في مفاتيحه ووافية، حيث قال في الأول بعد الكلام
في المسألة ما لفظه: " ويحتمل قويا الجواز، لصدق الماء على ماء الورد، لأن
الإضافة ليست إلا لمجرد اللفظ كماء السماء، دون المعنى كماء الزعفران والحناء والخليط
بغيره، مع تأيد الخبر بعمل الصدوق، وضمانه صحة ما رواه في الفقيه، وعدم
المعارض الناص " انتهى. وقال في الثاني بعد نقل خبر يونس المتقدم (1) ما لفظه:
" وأفتى بمضمونه في الفقيه، ونسبه في التهذيبين إلى الشذوذ، ثم حمله على التحسين
والتطيب للصلاة دون رفع الحدث. مستدلا بما في الخبر الآتي " إنما هو الماء والصعيد " (2)
أقول: هذا الاستدلال غير صحيح، إذ لا منافاة بين الحديثين، فإن ماء الورد ماء
استخرج من الورد " انتهى.
وحاصل هذا الكلام يرجع إلى أن الماء المضاف الذي يخرج بالإضافة عن كونه
مطلقا إنما هو ما إذا أضيف المطلق إلى جسم من الأجسام على وجه يغيره ويسلبه الاطلاق.
وأما ما اتخذ من الورد فهو ماء مطلق قد تصاعد حتى تكونت منه تلك الأجسام ثم
استخرج منها، فإضافته للورد لفظية كماء السماء وماء البئر ونحوهما وإن كان قد اكتسب
بسبب ذلك تغيرا في الأوصاف، فإن ذلك لا يخرجه عما كان عليه من الاطلاق.
وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور:
(أما أولا) فلأنه بمقتضى ذلك لا ينحصر ما ذكره في ماء الورد بخصوصه
بل يجري في ماء العنب والرمان ونحوهما من الثمار التي يعتصر منها من حيث تصاعده إليها
بالسقي، بل مثل أوراق الشجر ونحوها كما لا يخفى، فالواجب بمقتضى ما ذكره جواز
الوضوء بالماء المتخذ من جميع ذلك. ولا أظنه يقوله.

(1) في الصحيفة 394.
(2) وهو خبر أبي بصير المتقدم في الصحيفة 395.
397

و (أما ثانيا) فلأنه لا خلاف بين كافة الناس في أن اطلاق الماء لا يشمل
هذه المياه، بخلاف ماء البئر وماء السماء ونحوهما. وما ذاك إلا لخروج تلك المياه عن
الاطلاق دون هذه.
و (أما ثالثا) فلأنه كما أن الماء بإضافته إلى مثل الزعفران يخرج
عن الاطلاق لاكتسابه أجزاء منه، كذلك ما تكونت منه تلك الثمار قد استحال
عن حقيقته الأولى وخرج عنها إلى حقيقة أخرى، وإلا لكان البول أولى بعدم الخروج
عن اطلاق الماء، لأنه لم يكتسب بعد شربه إلا المرور على تلك المجاري الباطنة وإن
اكتسب عفونة ونتنا باللبث فيها آنا، مع أنه لا يسمى ماء بالكلية فضلا عن أن يكون
مطلقا. وما ذاك إلا لخروجه عن حقيقة الماء بالكلية بسبب تغير طبعه وانقلاب
حقيقته إلى حقيقة أخرى، مع أن أصله الماء بل بقاء المائية فيه أظهر. وما نحن فيه
كذلك أيضا.
و (أما رابعا) فلأن الصدوق (رضوان الله عليه) ليس معصوما يجب
الاقتداء به، ومخالفة هذا القائل (قدس سره) له وكذا غيره من الأخباريين
في جملة من المسائل أكثر من أن يحصى. على أن كلامه في الفقيه نقل لمتن الخبر،
فهو قابل للاحتمال أيضا. وضمانه صحة ما يرويه في الكتاب المذكور لا تأييد فيه،
لأنه يكفينا في المقام تأويل الخبر بأحد الوجوه التي ذكرها شيخنا الطوسي (طيب الله
مرقده) من غير ضرورة إلى رده وطرحه رأسا لينافي ضمانه المذكور.
و (أما خامسا) فلما ذكره في كتاب الفقه الرضوي، حيث قال (عليه
السلام) (1): " كل ماء مضاف أو مضاف إليه فلا يجوز التطهير به ويجوز شربه،
مثل ماء الورد وماء القرع وماء الزعفران وماء الخلوق وغيره مما يشبهها، وكل ذلك
لا يجوز استعماله إلا الماء القراح والتراب " انتهى. وقد قدمنا لك في تتمة المقدمة الثانية (2)

(1) في الصحيفة 5.
(2) في الصحيفة 25.
398

أن الكتاب المذكور معتمد عليه عندنا وعند جملة من مشايخنا (قدس الله تعالى أرواحهم).
(المسألة الثالثة) المشهور بين الأصحاب (طيب الله مضاجعهم) أن المضاف
لا يرفع خبثا، وذهب السيد المرتضى ونقل أيضا عن الشيخ المفيد إلى جواز رفع
الخبث به، ونقل عن أبي عقيل أيضا القول بذلك. إلا أنه خص جواز استعماله
بالضرورة. وعبارته المنقولة عنه شاملة باطلاقها للاستعمال في رفع الحديث والخبث،
كما أشرنا إليه آنفا (1). وظاهر كلام جملة من الأصحاب تخصيص خلاف السيد هنا
بالمضاف، والذي وقفت عليه في كلامه في المسائل الناصرية وكذا نقله عنه الشيخ
في الخلاف والمحقق في المعتبر هو جواز إزالة الخبث بالمائعات مطلقا (2).
استدل الجمهور من أصحابنا على ما ذهبوا إليه بوجوه:
(أحدها) ورود الأوامر بالغسل بالماء، وهي كثيرة ستأتي إن شاء الله
تعالى في أحكام النجاسات، والمتبادر عند الاطلاق هو المطلق. ولو كان الغسل
بغيره جايزا لكل تعيينه في هذه الأخبار لا يخلو من حرج وضيق، وهو ممتنع.
وأورد عليه أن الأوامر المذكورة مخصوصة بنجاسات معينة، والمدعى عام.
وأجاب المحقق في بعض مسائله بأنه لا قائل منا بالفرق.
أقول: ويمكن الجواب بالتعدية إلى غير ما هو مذكور في تلك الأخبار بطريق
تنقيح المناط القطعي الذي تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثالثة (3) ويمكن أيضا أن
يدعى أن الغسل حقيقة فيما يقع بالماء المطلق خاصة.

(1) في التعليقة 2 في الصحيفة 395.
(2) قال في المسائل الناصرية - بعد قول جده الناصر: لا يجوز إزالة النجاسة بشئ
من المائعات سوى الماء المطلق - ما لفظه: " عندنا إزالة النجاسة بالمائع الطاهر
وإن لم يكن ماء، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف (منه قدس سره).
(3) في الصحيفة 56.
399

(ثانيها) أن ملاقاة النجاسة للمائع تقتضي نجاسته، والنجس لا يزول به النجاسة.
واعترض عليه بأن مثله وارد في الماء المطلق القليل. فإن النجاسة تزول به مع
تنجسه بالملاقاة.
وأجاب المحقق (رحمه الله) بالمنع من نجاسة المطلق عند وروده على النجاسة.
كما هو مذهب المرتضى في بعض مصنفاته. وبأن مقتضى الدليل التسوية بينهما،
لكن ترك العمل به في المطلق للاجماع ولضرورة الحاجة إلى الإزالة، والضرورة تندفع
بالمطلق فلا يسوى به غيره، لما في ذلك من تكثير المخالفة للدليل.
(ثالثها) - أن منع الشرع من استصحاب الثوب النجس مثلا في الصلاة
ثابت قبل غسله بالماء، فيثبت بعد غسله بغير الماء عملا بالاستصحاب.
وأرود عليه (1) أن الاستصحاب المقبول هو ما يكون دليل الحكم فيه غير مقيد
بوقت. وفي تحقق ذلك هنا نظر، إذ العمدة في اثبات المنع المذكور بطريق العموم
هو الاجماع. ومن البين أن الاتفاق إنما وقع على منع استصحاب النجس قبل الغسل
مطلقا لا قبل الغسل بالماء.
وفيه نظر (أما أولا) فلأن العمدة في منع الصلاة في الثوب النجس إنما هي
الأخبار الدالة على النهي عن ذلك، ولا شك أن النهي ظاهر في العموم لجميع الأزمنة
كما صرحوا به في الأصول إلى أن يظهر الرافع له.
و (أما ثانيا) فلأنه مع تسليم اختصاص الدليل بالاجماع فلا منافاة، فإن
الاجماع متى قام على المنع من الصلاة في الثوب النجس والنهي عن ذلك. فالنهي أيضا
عام بالتقريب المذكور إلى أن يثبت الرافع، فإن المراد بكون دليل الحكم غير مقيد
بوقت يعني أن التقييد غير مفهوم من نفس اللفظ الدال على ذلك الحكم. بل هو مطلق.

(1) هذا الإيراد ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم. وتبعه عليه الفاضل الخوانساري
في شرح الدروس وفيه ما ذكرناه (منه قدس سره).
400

أو عام إلى غاية يعلم بها ارتفاع ذلك الحكم. ووقوع الخلاف في الرافع لا يوجب
تقييدا في الحكم حتى يقال أن الحكم هنا مقيد. وبالجملة فإن الشارع نهى عن الصلاة
في الثوب النجس حتى تزال النجاسة، سواء كان مستند هذا النهي الاجماع أو الخبر.
والنهي كما ذكرنا ظاهر في العموم إلى وجود الرافع، فلو وقع الخلاف في بعض
الأشياء بأنها هل تكون رافعة أم لا فللمانع أن يتمسك بالاستصحاب الذي هو عبارة
عن عموم الدليل أو اطلاقه حتى يثبت المدعي كون ذلك رافعا شرعا. وهذا بحمد الله
ظاهر لا سترة عليه.
(رابعها) قوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به.. " (1).
وجه الاستدلال أنه خص التطهير بالماء فلا يقع بغيره. أما المقدمة الأولى فلأنه تعالى
ذكر الآية في معرض الامتنان، فلو حصلت الطهارة بغيره كان الامتنان بالأعم أولى
ولم يكن للتخصيص فائدة. واعترض عليه بما ذكره في المسألة الثانية في الاستدلال
بقوله سبحانه: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (2).
أقول: ومن الأدلة أيضا أن يقال: إن الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان لا مدخل
للعقل فيهما بوجه كسائر أحكام الشرع، فما علم من الشرع كونه منجسا يجب قصر الحكم
بالنجاسة على ملاقاته، وما علم من الشرع كونه رافعا للنجاسة وموجبا للتطهير يجب قصر
الحكم بالطهارة عليه. ولعل هذا أقوى دليل في المقام.
احتج السيد على ما نقل عنه بوجوه:
(الأول) اجماع الفرقة، حكاه عنه العلامة في المختلف، ونقل عن المحقق
في بعض مصنفاته أن المفيد والمرتضى أضافا ذلك إلى مذهبنا.
أقول: وهو ظاهر كلام السيد (رضي الله عنه) في المسائل الناصرية.

(1) سورة الأنفال. الآية 12.
(2) سورة الفرقان. الآية 51.
401

وأجاب العلامة في المختلف عن ذلك بأنه لو قيل إن الاجماع على خلاف دعواه
أمكن أن أريد به أكثر الفقهاء، إذ لم يوافقه على ما ذهب إليه من وصلنا خلافة.
وفيه أن خلاف المفيد كما حكيناه محكي في غير موضع من كتب الأصحاب.
وقال المحقق (طاب ثراه) بعد ما قدمنا نقله عنه من أن المفيد والمرتضى أضافا
القول بذلك إلى مذهبنا ما صورته: " أما علم الهدى فإنه ذكر في الخلاف أنه إنما
أضاف ذلك إلى المذهب لأنه من أصلنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل، وليس
في الأدلة النقلية ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ولا ما يوجبها، ونحن نعلم أنه
لا فرق بين الماء والخل في الإزالة، بل ربما كان غير الماء أبلغ، فحكمنا حينئذ بدليل
العقل. وأما المفيد فإنه ادعى في مسائل الخلاف أن ذلك مروي عن الأئمة (عليهم
السلام) ثم قال: أما نحن فقد فرقنا بين الماء والخل، فلم يرد علينا ما ذكره علم
الهدى، وأما المفيد فنمنع دعواه ونطالبه بنقل ما ادعاه " انتهى. وأشار بقوله:
" وأما نحن فقد فرقنا.. الخ " إلى ما يأتي من كلامه في جواب الاحتجاج بالآية.
أقول: ربما عرفت في المقام الثاني من المقدمة الثالثة (1)، من أمر الاجماع
وما فيه من النزاع وكذا في المقدمة العاشرة في الكلام على دليل العقل يظهر لك
ما في هذا الدليل وأنه غير واضح السبيل، فإنه لا مجال للعقل في الأحكام الشرعية. لبنائها
على التوقيف من المبلغ للشريعة " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (2).
(الثاني) قوله تعالى: " وثيابك فطهر " (3) حيث أمر بتطهير الثوب ولم
يفصل بين الماء وغيره. حكى ذلك عنه في المختلف، وحكى عنه أيضا أنه اعترض
على نفسه فيه بالمنع من تناول الطهارة للغسل بغير الماء، ثم أجاب بأن تطهير الثوب ليس
بأكثر من إزالة النجاسة عنه. وقد زالت بغير الماء مشاهدة، لأن الثوب
لا يلحقه عبادة.

(1) في الصحيفة 35.
(2) سورة الحشر. الآية 8.
(3) سورة المدثر. الآية 5.
402

وأجاب العلامة في المختلف بأن المراد بالآية على ما ورد به التفسير لا تلبسها
على معصية ولا على غدر، فإن الغادر الفاجر يسمى دنس الثياب. سلمنا أن المراد
بالطهارة المتعارف شرعا، لكن لا دلالة فيه على الطهارة بأي شئ تحصل، بل
دلالتها على ما قلناه من أن الطهارة إنما تخصل بالماء أولى، لأن مع الغسل بالماء يحصل
الامتثال قطعا، وليس كذلك لو غسلت بغيره. وقوله: النجاسة قد زالت حسا. قلنا:
لا يلزم من زوالها في الحس زوالها شرعا، فإن الثوب لو يبس بلله بالماء النجس أو البول
لم يطهر وإن زالت النجاسة عنه، مع أنه (رحمه الله) أجاب حين سئل عن معنى نجس العين
ونجس الحكم بأن الأعيان ليس نجسة، لأنها عبارة عن جواهر مركبة وهي متماثلة
فلو نجس بعضها لنجس سائرها وانتفى الفرق بين الخنزير وغيره، وقد علم خلافه،
وإنما التنجيس حكم شرعي، ولا يقال نجس العين إلا على المجاز دون الحقيقة، وإذا
كانت النجاسة حكما شرعيا لم تزل عن المحل إلا بحكم شرعي، فحكمه (رحمه الله) بزوالها
عن المحل بزوالها حسا ممنوع. انتهى.
وأجاب المحقق (رحمه الله) عن الآية (1) بمنع دلالتها على موضع النزاع، لأنها
دالة على وجوب التطهير. والبحث ليس فيه بل في كيفية الإزالة. ثم اعترض على نفسه
أولا بأن الطهارة إزالة النجاسة كيف كان. وأجاب بأن هذا أول المسألة. واعترض
ثانيا بأن الغسل بغير الماء يزيل عين النجاسة فيكون طهارة. وأجاب أولا بالمنع
فإن النجاسة إذا مازجت المائع شاعت فيه. والباقي في الثوب منه تعلق به حصة
من النجاسة، ولأن النجاسة ربما سرت في الثوب فسدت مسامه فتمنع غير الماء من الولوج
حيث هي، وتبقى مرتكبة في محلها. ثم سلم زوال عين النجاسة ثانيا وقال: لكن
لا نسلم زوال نجاسة تخلفها، فإن المائع بملاقاة النجاسة يصير عين نجاسة، فالبلة المتخلفة

(1) وهذا الجواب نقله عنه في المعالم، والظاهر أنه منقول من بعض أجوبته
في المسائل وإلا فهو ليس في كتاب المعتبر مما حضرني من نسخته (منه رحمه الله).
403

منه في الثوب بعض المنفصل النجس فيكون نجسا، أو نقول: للنجاسة الرطبة أثر
في تعدي حكمها إلى المحل، كما أن النجاسة عند ملاقاة المائع تتعدى نجاستها إليه، فعند
وقوع النجاسة الرطبة تعود أجزاء الثوب الملاقية لها نجسة شرعا، وتلك العين المنفعلة
لا تزول بالغسل. انتهى.
أقول: لا يخفى عليك ما في هذه الأجوبة من التكلف. والصواب في الجواب
هو ما استفاضت به أخبار أهل الذكر (صلوات الله عليهم) في تفسير الآية المشار إليها
من أن المراد بالتطهير فيها إنما هو رفع الثياب وتشميرها، ففي الكافي (1) عن الصادق
(عليه السلام) قال: " أي فشمر " وفي رواية " يقول: ارفعها ولا تجرها " وفي أخرى
عن الكاظم (عليه السلام) " إن الله عز وجل قال لنبيه (صلى الله عليه وآله):
وثيابك فطهر. وكانت ثيابه طاهرة وإنما أمره بالتشمير " وفي المجمع عن الصادق (عليه
السلام) " معناه وثيابك فقصر " وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) " قال الله تعالى:
وثيابك فطهر. أي فشمر " والقمي في تفسيره " وتطهيرها تشميرها ". وحينئذ فإذا
اتفقت أخبارهم (عليهم السلام) بتفسيرها بهذا المعنى، واللفظ مجمل يحتاج في تعيين
المراد منه إلى التوقيف منهم (عليهم السلام) ولا يجوز القطع على مراده (سبحانه) بدون
ذلك كما عرفته في المقدمة الثالثة (2) فلا يجوز تجاوزه إلى غيره، لأن القرآن عليهم
أنزل، وهم أعرف بما أبهم منه وأجمل.
وأما ما ذكره العلامة (رحمه الله) من التفسير فلم نقف له في الأخبار على خبر،
ولعله من كلام سائر المفسرين. إلا أنه ينافي ظاهر عبارته (3).
(الثالث) اطلاق الأمر بالغسل من النجاسة من غير تقييد، وقد وقع

(1) ج 2 ص 207.
(2) في المقام الأول في الصحيفة 27.
(3) فإن نسبته إلى الورود يشعر بكونه على سبيل الرواية اللهم إلا أن تكون من
طرق العامة (منه رحمه الله).
404

ذلك في عدة أخبار (1) كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث النجاسات، ونقل عنه
في المختلف أنه اعترض على نفسه هنا أيضا بأن اطلاق الأمر بالغسل ينصرف إلى ما يغسل
به في العادة، ولم تقض العادة بالغسل بغير الماء. ثم أجاب بالمنع من اختصاص
الغسل بما يسمى الغاسل به غاسلا عادة، إذ لو كان كذلك لوجب المنع من غسل الثوب
بماء الكبريت والنفط وغيرهما مما لم تجر العادة بالغسل به، ولما جاز ذلك وإن لم
يكن معتادا اجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة وأن المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة
من غير اعتبار العادة.
وأجيب عنه (أولا) بأن الغسل حقيقة في استعمال الماء، وبعض أطلق
لفظ الحقيقة وبعض قيدها بالشرعية، والمطلقون احتجوا لذلك بسبقه إلى الذهن
وتبادره عند الاطلاق كما يعلم مراد الآمر بقوله: أسقني.
و (ثانيا) بأن اطلاق الأوامر الواردة في الأخبار محمول على المقيد من
الأوامر المذكورة مما قدمنا الإشارة إليه.
أقول: ما ادعاه المرتضى (رضي الله عنه) من نقض الحمل على العادة
بالغسل بماء الكبريت مردود بأن الحمل على العادة لا يوجب اشتراط العادة في كل
فرد فرد من أفراد المياه المطلقة، وإلا لما جاز التطهير بماء مطلق لم يوجد إلا تلك الساعة
بل النظر في ذلك إلى نوع الكلي، فما أجاب به (قدس سره) من المنع ممنوع.
(الرابع) أن الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة، كما تشهد به رواية

(1) منها: قول الصادق (عليه السلام) في خبر ابن أبي يعفور - وقد سأله عن المني
يصيب الثوب -: " إن عرفت مكانه فاغسله، وإن خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله " وقوله
في خبر الحلبي: " وإذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه المني فليغسل الذي أصاب ثوبه " إلى غير ذلك
من الأخبار (منه قدس سره).
405

حكم حكيم الصيرفي (1)، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أبول فلا
أصيب الماء، وقد أصاب يدي شئ من البول، فامسحه بالحائط والتراب، ثم تعرق
يدي فامسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال لا بأس به " ورواية غياث
ابن إبراهيم عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي (عليهم السلام) (2) قال: " لا بأس أن
يغسل الدم بالبصاق ".
وأجاب المحقق في المعتبر بأن خبر حكم بن حكيم مطرح، لأن البول لا يزول
عن الجسد بالتراب باتفاق منا ومن الخصم. وأما خبر غياث فمتروك، لأن غياثا
بتري ضعيف الرواية ولا يعمل على ما ينفرد به، قال: ولو صحت نزلت على جواز
الاستعانة في غسله بالبصاق لا ليطهر المحل به منفردا، فإن جوار غسله به لا يقتضي طهارة
المحل، ولم يتضمن الخبر ذلك، والبحث ليس إلا فيه.
(أقول): وسيأتي لك الكلام في رواية حكم بن حكيم وتحقيق الحال فيها بما
تندفع به شبهة المستند إليها من غير ضرورة إلى طرحها (3).
تذنيب
قال المحدث الكاشاني (قدس سره) في كتاب المفاتيح: " يشترط في الإزالة
اطلاق الماء على المشهور، خلافا للسيد والمفيد، وجوزا بالمضاف، بل جوز السيد
تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث تزول العين، لزوال العلة. ولا يخلو من قوة،
إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، أما وجوب غسلها
بالماء عن كل جسم فلا، فكل ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره إلا ما خرج

(1) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(3) في المسألة الثالثة من مسائل البحث الأول من أحكام النجاسات.
406

بدليل، حيث اقتضى فيه اشتراط الماء كالثوب والبدن، ومن هنا يظهر طهارة البواطن كلها بزوال العين. مضافا إلى نفي الحرج، ويدل عليه الموثق (1) وكذا
أعضاء الحيوان المتنجسة غير الآدمي كما يستفاد من الصحاح " انتهى.
وهذا الكلام يدل صريحا على موافقته للسيد فيما ذكره من تطهير الأجسام
الصقيلة بالمسح على الوجه المذكور، وظاهرا على موافقته له أيضا في رفع الخبث بالمضاف
لكن في غير الثوب والجسد.
وهو منظور فيه من وجوه: (أحدها) أن الطهارة والنجاسة كما عرفت
حكمان شرعيان متوقفان على التوقيف والرسم من صاحب الشريعة في تعيين ما يجعله نجسا
أو طاهرا أو منجسا أو مطهرا، ولم يعلم منه أن مجرد الإزالة أحد المطهرات الشرعية
مطلقا. وقوله: إنه لم يعلم من الشرع وجوب غسل النجاسة بالماء عن كل جسم،
بل كل ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره إلا الثوب والبدن مردود بأن المعلوم
من الشرع خلافه، وإلا لكان الأمر بتطهير الأواني من ولوغ الكلب والخنزير والخمر
وموت الفأرة ونحو ذلك عبثا محضا، لامكان زوال العين بدونه من تمسيح ونحوه، مع أنه
في إناء الولوغ ورد الأمر بغسله بالماء بعد تعفيره. ولا ريب أنه مع فرض وصول لعاب
من الكلب في الإناء فإنه يزول بالتعفير، فما الحاجة إلى الماء حينئذ؟ سيما على القول
بوجوب المرتين كما هو المشهور، مع أنه أيضا مروي كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى
وكذا المواضع المأمور فيها بالتعدد ثلاثا أو سبعا، فإن زوال العين لو كان ثمة عين
يحصل بأول مرة، فما الموجب للتعدد لو لم يكن المحل باقيا على النجاسة؟ مع بناء
الشريعة على السهولة والتخفيف في الأحكام. ما هذا إلا رمي في الظلام من هذا الإمام.

(1) الظاهر أنه يريد موثق عمار " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر.. الحديث
المروي في الوسائل في الباب - 37 - من أبواب النجاسات.
407

(ثانيها) أن ما ادعاه من كلية طهارة ما علم زوال النجاسة عنه
في غير الفردين المذكورين دعوى لا دليل عليها، بل للخصم أن يقلب ذلك عليه
ويقول: إن كل متنجس يجب تطهيره بالماء إلا ما خرج بدليل، ولا شك أن
هذه الكلية أكثر أفرادا وأشمل أعدادا من الكلية التي ادعاها، لما عرفت من
الأوامر الواردة بغسل الأواني وإزالة النجاسات عن الثوب والبدن وغسل الفرش
والبسط ونحو ذلك. ونحن لم نجد من أفراد الكلية التي ادعاها في النصوص سوى
الفردين المذكورين، وهما طهارة البواطن وطهارة أعضاء الحيوان بالغيبة. وهل يصح
في الأذهان السليمة والطباع المستقيمة أن يدعى في الأحكام الشرعية المبنية على التوقيف
والسماع من صاحب الشرع حكم كلي وقاعدة مطردة ولم يرد لها في الخارج عنهم
(عليهم السلام) إلا فردان أو ثلاثة؟ ما هذا إلا نوع من الاجتهاد الصرف والتخريج
البحت، بل لم يبلغ المجتهدون الذين قد بسط عليهم لسان التشنيع في جملة مصنفاته،
سيما رسالته المسماة بسفينة النجاة إلى مثل هذا، لأن قصارى ما ربما يرتكبه بعضهم
الحاق بعض الأفراد الغير المنصوصة بما هو منصوص واثبات الحكم في مادة جزئية،
لا اثبات حكم كلي وقانون أصلي مع كونه خاليا من الدليل بمجرد وجود فرد أو فردين
ولو كان هذا الحكم كما يدعيه كليا مع مطابقته للسهولة والتخفيف الذين عليهما بناء
الشريعة المحمدية، لتكثرت في الخارج أفراده واستفاضت عنهم (عليهم السلام)
جزئياته إن لم يصرحوا بكليته.
(ثالثها) أنه قد اختار في مسألة الأرض والبواري ونحوها إذا جففتها
الشمس بعد زوال عين النجاسة عدم الطهارة، بل حكم بالعفو خاصة مع بقاء النجاسة
وعدم طهرها إلا بالماء. مع أن هذا مما يدخل تحت هذه القاعدة التي ادعاها هنا. إذ
هو مما علم زوال النجاسة عنه قطعا. فلم لم يحكم بطهره؟ بل حكم بالنجاسة، مستدلا
408

على ذلك بالروايات الواردة هناك التي من جملتها صحيحة ابن بزيع (1) قال: " سألته
عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه، هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال:
كيف يطهر من غير ماء " فانظر أيدك الله تعالى إلى قوله: (عليه السلام) على جهة
التعجب: " كيف يطهر من غير ماء " وما فيه من الصراحة في التطهير مطلقا
لا يكون إلا بالماء.
(رابعها) أنه قد تفرد بأن المتنجس لا ينجس، بمعنى أن النجاسة لا تتعدى
إلا من عين النجاسة دون محلها بعد زوال العين، مع حكمه هناك ببقاء المحل على النجاسة
واحتياجه إلى التطهير. وظاهر كلامه كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (2) أعم
من أن يكون في البدن أو غيره. وهنا قد حكم بالطهارة بمجرد زوال العين في غير الموضعين
المشار إليهما في كلامه. ولا يخفى عليك ما بينهما من التدافع. وسيأتي الكلام معه
أيضا في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
(المسألة الرابعة) الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في أنه لو خالط المطلق مضاف مخالف له في الصفات ولم يسلبه الاطلاق لم يخرجه عن الطهورية
وقد نقل الاجماع عليه غير واحد منهم. أما لو كان ذلك المضاف مسلوب الأوصاف
كماء الورد العديم الرائحة فعن الشيخ (رحمه الله) أنه جعل الحكم منوطا بالأكثرية،
ثم قال: " فإن تساويا ينبغي القول بجواز استعماله، لأن الأصل الإباحة. وإن قلنا
يستعمل ذلك ويتيمم كان أحوط " وعن ابن البراج أنه لا يجوز استعماله في رفع الحدث
ولا إزالة النجاسة، ويجوز في غير ذلك. حكى ذلك عنهما العلامة في المختلف. ونقل
فيه عن ابن البراج أنه نقل مباحثه جرت بينه وبين الشيخ في ذلك، وخلاصتها تمسك

(1) المروية في الوسائل في الباب - 29 - من أبواب النجاسات.
(2) في المسألة الثالثة من مسائل البحث الأول من أحكام النجاسات.
409

الشيخ بالأصل الدال على الإباحة، وتمسكه هو بالاحتياط. ثم قال في المختلف: " والحق
عندي خلاف القولين معا وأن جواز التطهير به تابع لاطلاق الاسم، فإن كانت الممازجة
أخرجته عن الاطلاق لم تجز الطهارة به، وإلا جازت، ولا اعتبر في ذلك المساواة والتفاضل
ولو كان ماء الورد أكثر وبقي اطلاق اسم الماء أجزأت الطهارة به، لأنه امتثل المأمور به
وهو الطهارة بالماء المطلق. وطريق معرفة ذلك أن يقدر ماء الورد باقيا على أوصافه.
ثم يعتبر ممازجته حينئذ فيحمل عليه منقطع الرائحة " انتهى. وما ذكره من التقدير
لم يتعرض لوجهه هنا، إلا أنه وجهه في النهاية بأن الاخراج عن الاسم سالب للطهورية،
وهذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف، فيعتبر بغيره، كما يفعل
في حكومات الجراح.
وأنت خبير بأن ما ذكره في المختلف من تبعية التطهير لاطلاق الاسم حق لا اشكال
فيه، لأن اجراء الأحكام تابع للتسمية. وأما ما ذكره من التقدير فلا دليل عليه
شرعا ولا عرفا. وما علله به في النهاية محل نظر، فإنه إذا سلم أن هذا الممازج لا يخرج
عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف لزم حينئذ جواز الطهارة به، لابتنائها كما
عرفت على وجود الاسم. إلا أنه يمكن أن يقال: إنه مع تقدير انتفاء الأوصاف
في المضاف واتفاقه مع المطلق، لا يظهر سلب الاطلاق ولا يتميز عن المطلق في مادة
بالكلية ولو فرض أنه خالطه من المضاف المفروض أضعافا مضاعفة، فلو بني الكلام
على ملاحظة الاطلاق وعدم تميز المضاف عن الماء المطلق لأشكل الأمر في ذلك،
فلا بد من تقدير الأوصاف حينئذ. ويمكن الجواب ببناء الأمر على استهلاك أحدهما في جنب
الآخر، ويدعى حينئذ أن حصول الاسم لأحدهما تابع لأكثريته وغلبته على الآخر
بحيث يستهلكه.
وإلى القول باعتبار تقدير المخالفة كما ذكره العلامة ذهب الشهيد في الدروس
410

والشيخ علي في بعض فوائده. ووجهه بأن الحكم لما كان دائرا مع بقاء اسم الماء
مطلقا وهو إنما يعلم بالأوصاف وجب تقدير بقائها قطعا، كما يقدر الحر عبدا
في الحكومة. والتقريب بهذا التقدير أجود مما ذكره العلامة (1) إلا أن فيه كما
ذكرنا أن الاستعلام ممكن بدون اعتبار تقدير الأوصاف. كما إذا علم مقدار الماءين
في الجملة قبل المزج، ولا يحتاج إلى التقدير.
ثم اعلم أن العلامة (رحمه الله) ذكر اعتبار تقدير الوصف في كثير من كتبه،
ولم يعترض فيها لبيان الوصف المقدر. وقد حكى عنه المحقق الشيخ علي أنه قال في بعض
كتبه: " يجب التقدير على وجه تكون المخالفة وسطا، ولا تقدر الأوصاف التي كانت قبل
ذلك " واستوجهه الشيخ علي أيضا، وقربه بأنه بعد زوال تلك الأوصاف صارت
هي وغيرها على حد سواء، فيجب رعاية الوسط، لأنه الأغلب والمتبادر عند الاطلاق
قال: " وإنما قلنا إن الزائد هنا لا ينظر إليه بعد الزوال لأنه لو كان المضاف في غاية
المخالفة في أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك القدر الناقص، فكذا لو زالت أصلا
ورأسا " انتهى. واعترض عليه بأن النظر إلى كلامه الأخير يقتضي كون المقدر هو
أقل ما يتحقق معه الوصف لا الوسط. وتحقيقه أن نقصان المخالفة كما فرضه لو
انتهى إلى حد لم يبق معه إلا أقل ما يصدق به المسمى، لم يؤثر ذلك النقصان، ولا
اعتبر مع الوصف الباقي أمر آخر، فكذا مع زوال الوصف من أصله، واعتبار
الأغلبية والتبادر هنا مما لا وجه له كما لا يخفى، فظهر أن المتجه على القول بتقدير
الوصف هو اعتبار الأقل.

(1) لأنه جعل المدار على اطلاق الماء، والعلم بالأوصاف إنما هو لأجل العلم ببقاء
الاطلاق وعدمه، فيجب تقدير بقائها ليمكن العلم ببقاء الاطلاق وعدمه. إلا أن فيه
ما عرفت من أن الطريق إلى استعلام بقاء الاطلاق وعدمه لا ينحصر في ذلك (منه
قدس سره).
411

فرع
لو كان مع المكلف ما لا يكفيه للطهارة من المطلق وأمكن إتمامه بمضاف
على وجه لا يسلبه الاطلاق. فنقل عن الشيخ أنه قال: " ينبغي أن يجوز استعماله
وليس واجبا، بل يكون فرضه التيمم، لأنه ليس معه من الماء ما يكفيه لطهارته ".
واستضعفه العلامة في المختلف باستلزامه التنافي بين الحكمين، فإن جواز
الاستعمال يستلزم وجوب المزج، لأن الاستعمال إنما يجوز بالمطلق، فإن كان هذا
الاسم صادقا عليه بعد المزج وجب المزج، لأن الطهارة بالمطلق واجبة ولا تتم إلا
بالمزج، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإن كذب الاطلاق عليه لم يجز
استعماله في الطهارة ويكون خلاف الفرض، فظهر التنافي بين الحكمين ثم قال:
" والحق عندي وجوب المزج إن بقي الاطلاق، والمنع من استعماله إن لم يبق " انتهى.
وأجاب ابنه فخر المحققين في الشرح بأن الطهارة واجب مشروط بوجود الماء
والتمكن منه، فلا يجب ايجاده، لأن شرط الواجب المشروط غير واجب، أما مع
وجوده فيتعين استعماله.
وأورد عليه المحقق الشيخ علي في شرح القواعد أنه إن أراد بايجاد الماء ما لا يدخل
تحت قدرة المكلف فاشتراط الأمر بالطهارة حق ولا يضرنا، وإن أراد به
الأعم فليس بجيد، إذ لا دليل يدل على ذلك، والايجاد المتنازع فيه معلوم كونه

(1) الظاهر أن مراد الشيخ (ره) من هذه العبارة أن المزج فيه غير واجب، لكن
لو مزج فلا شك في وجوب الطهارة به بعد المزج، معللا بأن وجوب الطهارة المائية مشروط
بوجود الماء، وقيل المزج الماء غير موجود ففرضه التيمم. وربما قيل: إن معنى كلامه
(رحمه الله) أنه لا يجب المزج، ولو مزج لا يجب التطهير به بل يتخير بعد المزج أيضا بين
الطهارة به والتيمم، معللا بأن الاشتباه في الحس لا يستلزم اتحاد الحقيقة، والوجوب
تابع لاتحاد الحقيقة، فلا يجب الطهارة به، وأما جوازها فلصدق الاسم ولا يخفى بعده من كلام
الشيخ الأجل " قده " (منه رحمه الله).
412

مقدرا للمكلف، والأمر بالطهارة خال من الاشتراط. فلا يجوز تقييده إلا بدليل
ثم قال: " والأصح مختار المصنف ".
أقول: أنت خبير بأنه لا خلاف في أن الطهارة المائية مشروطة بوجدان الماء كما
يدل عليه قوله سبحانه (1): ".. فلم تجدوا ماء فتيمموا.. " (2) وحينئذ فلا
معنى لقوله: " إن الأمر بالطهارة خال من الاشتراط ".
وبعض فضلاء متأخري المتأخرين (3) دفع كلام فخر المحققين بأن وجدان الماء
صادق عرفا على ما نحن فيه قبل المزج، فشرط الطهارة المائية وهو وجدان الماء موجود،
قال: " وهو ليس بأبعد من الوجدان فيما إذا أمكن حفر بئر مثلا، والظاهر أنه لا نزاع
في أنه إذا أمكن حفر بئر مثلا لتحصيل الماء وجب، فلم لم يحكم بالوجوب هنا،

(1) في سورة النساء. الآية 46. وسورة المائدة. الآية 8.
(2) فإنه يدل على أن الفرض عند عدم وجدان الماء هو التيمم. ومنه يعلم أن
وجوب الطهارة بالماء مشروط بوجدانه (منه رحمه الله).
(3) هو الفاضل الخوانساري في شرح الدروس. وقال أيضا في موضع آخر - بعد أن
ادعى صدق وجدان الماء عرفا على ما نحن فيه وأنه في العرف يقولون إنه واجد للماء - ما لفظه:
" وهذا نظير ما إذا فرض أن شرط الحج هو الزاد والراحلة وكان لأحد مال غير الزاد
والراحلة ولكن أمكنه أن يشتريهما به، فإنه في العرف يقولون إنه واجد للزاد والراحلة
وإن شرط وجوب الحج متحقق، بخلاف ما إذا لم يكن له مال أصلا ولكنه يقدر على
الاكتساب، إذ حينئذ لا يقولون إن شرط الحج متحقق " انتهى. وفيه أن الظاهر أن
التنظير المذكور ليس في محله، إذ لا يخفى أن وجدان الماء الذي لا يقوم بالطهارة في حكم العدم
لوجوب الانتقال إلى التيمم بالنظر إليه، فمزجه بالماء المضاف ليحصل به ايجاد الماء المطلق
الموجب للطهارة أشبه شئ بالاكتساب بتقريب ما قالوه في قبول هبة ما يستطيع به الحج
من أنه نوع اكتساب فلا يجب عليه. ولا ريب أن ما نحن فيه أدخل في الاكتساب
في الاحتمال فيكون حينئذ من قبيل ما إذا لم يكن له مال للاستطاعة ولكنه يقدر على الاكتساب لا من قبيل ما ذكره. ونظير ما ذكره إنما هو من له مال يمكنه أن يشتري به
ماء كما لا يخفى (منه رحمه الله).
413

والتفرقة خلاف ما يحكم به الوجدان " وإلى هذا يشير كلام السيد السند في المدارك أيضا
وفيه أن الظاهر الفرق بين الوصول إلى الماء الموجود بحفر ونحوه وتحصيله بعد
وجوده في حد ذاته وبين ايجاده، لأنك تعلم أن هذا الماء المطلق الموجود قبل المزج
في حكم العدم، لوجوب التيمم معه لو لم يكن المضاف موجودا اجماعا، فالمزج حينئذ
نوع ايجاد لما تجب به الطهارة المائية. وبذلك يظهر لك رجحان كلام الشيخ (رضوان
الله عليه) وأن بناء كلامه إنما هو على عدم صدق وجدان الماء في الصورة المفروضة.
(المسألة الخامسة) اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) في طريق
تطهير المضاف بعد نجاسته على أقوال:
(أحدها) ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط حيث قال: " لا يطهر إلا بأن
يختلط بما زاد على الكر من المطلق. ثم ينظر. فإن سلبه اطلاق اسم الماء لم يجز استعماله
بحال، وإن لم يسلبه اطلاق اسم الماء وغير أحد أوصافه: أو لونه أو طعمه أو ريحه،
لم يجز استعماله أيضا بحال " وربما كان الظاهر من المعتبر أيضا اختيار هذا القول،
حيث نقل هذا الكلام ولم يتعرض لرده. وإلى هذا ذهب العلامة في التحرير إلا أنه
لم يعتبر الزيادة على الكر. وبعضهم عده لذلك قولا رابعا في المسألة، إلا أن الظاهر
كما ذكره البعض أن ذكر الزيادة في كلام الشيخ إنما خرج مخرج التساهل في التعبير.
واعترض على هذا القول بأن الدليل إنما دل على نجاسة الكثير من المطلق
بتغير أحد أوصافه الثلاثة إذا كان التغير بالنجاسة لا المتنجس، والتغير هنا إنما هو
بالمتنجس. وبينهما فرق واضح.
وأجيب بأن المضاف صار بعد تنجيسه في حكم النجاسة، فكما ينجس الملاقي له
ينجس المتغير به.
وفيه أنه إن أريد بصيرورته في حكم النجاسة يعني في جميع الأحكام فهو ممنوع،
وإن أريد في بعضها فهو غير مجد في المقام.
414

قيل: ويمكن أن يحتج عليه باستصحاب النجاسة حتى يثبت المزيل.
وأجيب بأن التمسك بالاستصحاب هنا مشكل، إذ ثبوت أصل النجاسة
للمضاف إنما ثبت بالاجماع، وهو مفقود في هذه الصورة، فيصير بمنزلة المتيمم
الواجد للماء في أثناء الصلاة.
وفيه نظر، فإن بعض الأخبار التي قدمناها في المسألة الأولى ظاهر بل صريح
في النجاسة، والدليل غير منحصر في الاجماع كما توهموه. ولا ريب أن الأخبار الدالة
على المنع من استعمال المتنجس عامة لجميع الأحوال إلى أن يظهر الرافع.
والحق في الجواب أن من شروط العمل بالاستصحاب عدم معارضة استصحاب
آخر له، ولا ريب أن استصحاب الطهارة في الماء المطلق هنا معارض. ولا ترجيح
لأحد الاستصحابين على الآخر فتساقطا، ويرجع إلى أصالة الطهارة العامة في جميع الأشياء
وأصالة الحل. بل التحقيق في المقام أن يقال: إنه لما كانت الأخبار دالة على أن
الكر لا ينفعل بمجرد الملاقاة وإنما ينفعل بتغير أوصافه بالنجاسة، وقد اتفق الأصحاب
على أنه مطهر لما مازجه واستهلك فيه من النجاسة أو المتنجس ماء كان أو غيره، وجب
القول بطهارة ما نحن فيه، لاندارجه تحت عموم تلك الأخبار، واتفاق الأصحاب،
وتحقق الرافع لاستصحاب النجاسة (1) وخلاف ما خالف في هذه المادة لا يثمر نقضا.
(أما أولا) فلعدم الدليل بل الدليل على خلافه واضح السبيل.
و (أما ثانيا) فلكون المخالف نفسه هنا أحد القائلين هناك، فلا تقدح
مخالفته هنا في الاجماع المدعى. وبالجملة فالظاهر أن الطهارة في الصورة المذكورة مما
لا يحوم حولها الشك.

(1) فيه إشارة إلى أنه لو تمسك الخصم بالاستصحاب فجوابه أنه قد تحقق رافعة كما
تقدم بيانه (منه رحمه الله).
415

(الثاني) ما ذهب إليه العلامة في المنتهى والقواعد (1) من الاكتفاء بممازجة
الكر له من غير اشتراط للزيادة عليه، ولا لعدم تغير أحد أوصافه بالمضاف، بل
ولا لعدم سلبه الاطلاق وإن خرج المطلق بذلك عن كونه مطهرا، فأما الطهارة
فتثبت للجميع (2).
وعلل بأن بلوغ الكرية سبب لعدم الانفعال إلا مع التغير بالنجاسة، فلا يؤثر
المضاف في تنجيسه باستهلاكه إياه، لقيام السبب المانع. وليس ثمة عين نجسة يشار
إليها تقتضي التنجيس.
وأجيب بأن بلوغ الكرية وصف للماء المطلق، وإنما يكون سببا لعدم الانفعال
مع وجود موصوفه، ومع استهلاك المضاف للمطلق وقهره إياه يخرج عن الاسم،
فيزول الوصف الذي هو السبب لعدم الانفعال، فينفعل حينئذ ولو بالمتنجس كسائر
أقسام المضاف.
قيل: ولا يخفى أن هذا الجواب إنما يتم لو تمسك باستصحاب نجاسة المضاف،
وقد عرفت من عدم تماميته، إذ الاجماع فيما نحن فيه مفقود. وفيه نظر قد تقدم بيانه.
(الثالث) ما ذهب إليه العلامة أيضا في النهاية والتذكرة واقتفاه جملة
من المتأخرين، وهو الاكتفاء بممازجة الكر له من غير زيادة، لكن بشرط بقاء
الاطلاق بعد الامتزاج، ولا أثر لتغير أحد الأوصاف. والوجه فيه، أما بالنسبة

(1) وإلى هذا القول جنح الفاضل الخوانساري في شرح الدروس بناء على توقف
ابطال دليله على الاستصحاب، وهو غير مسلم، فإن الدليل على نجاسة المضاف بالملاقاة
إنما هو الاجماع، والخلاف في موضع النزاع يدفعه. وأنت خبير بأن الدليل غير منحصر
في الاجماع كما توهمه هو وغيره. بل الأخبار التي قدمناها صريحة في ذلك (منه رحمه الله).
(2) قال في القواعد: " لو نجس المضاف ثم امتزج بالمطلق الكثير فغير أحد أوصافه
فالمطلق على طهارته. فإن سلبه الاطلاق خرج عن كونه مطهرا لا طاهر " انتهى. (منه
رحمه الله).
416

إلى الاكتفاء بالكر فلأن الغرض من الكثرة عدم قبول المطلق للنجاسة، وبلوغ
الكرية كاف فيه، فلا وجه فيه لاعتبار الزائد، وأما بالنسبة إلى اشتراط بقاء الاطلاق
فلأن المضاف يتوقف طهره على شيوعه في المطلق بحيث يستهلك فيه. وهذا لا يتم
بدون بقاء المطلق على اطلاقه، وإذا لم تحصل الطهارة للمضاف وصار المطلق بخروجه
عن الاسم قابلا للانفعال فلا جرم ينجس الجميع، وبالنسبة إلى عدم تأثير تغير أحد
الأوصاف به أن الأصل في الماء الطهارة، والدليل إنما دل على نجاسته مع التغير بالنجاسة
ولم يحصل كما عرفت.
واعلم أن المحقق الشيخ علي (قدس سره) في شرح القواعد صرح بالنسبة
إلى القول الثاني بأن موضع النزاع ما إذا أخذ المضاف النجس وألقى في المطلق الكثير
فسلبه الاطلاق، فلو انعكس الفرض وجب الحكم بعدم الطهارة جزما، لأن موضع
المضاف النجس نجس لا محالة، فيبقى على نجاسته، لأن المضاف لا يطهره والمطلق
لم يصل إليه، فينجس المضاف به على تقدير طهارته. انتهى. وبذلك صرح جمع
ممن تأخر عنه.
الفصل السادس
في الأسئار. والبحث فيها يقع في مواضع:
(الأول) السؤر لغة: البقية والفضلة كما في القاموس، أو البقية بعد
الشرب كما نقله في المعالم عن الجوهري، وقيل عليه أن ما نسبه إلى الجوهري
لم نجده في الصحاح، ولعله أراد أنه بهذه العبارة ليس فيه، وإلا فقد ذكر فيه أن
سؤر الفأرة وغيرها ما يبقى بعد شربها. ونقل في كتاب مجمع البحرين عن المغرب
وغيره أن السؤر هو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض ثم استعير لبقية
417

الطعام. ونقل فيه أيضا عن الأزهري أن السؤر هو ما يبقى بعد الشراب. وقال
الفيومي في كتاب المصباح المنير: " والسؤر بالهمزة من الفأرة وغيرها كالريق من
الانسان " وهو كما ترى مخالف لما تقدم. ومنه يظهر أن كلام أهل اللغة غير
متفق في المقام (1).
وفي اصطلاح أصحابنا على ما ذكره الشهيد (رحمه الله) وجملة ممن تأخر عنه
أنه ماء قليل باشره جسم حيوان، واستظهر في المدارك تعريفه في هذا المقام بأنه ماء
قليل باشره فم حيوان. ثم اعترض على التعريف الأول، قال: " أما أولا فلأنه
مخالف لما نص عليه أهل اللغة ودل عليه العرف العام بل والخاص، كما يظهر من تتبع
الأخبار وكلام الأصحاب، وإن ذكر بعضهم في باب السؤر غيره استطرادا. وكون
الغرض هنا بيان الطهارة والنجاسة لا يقتضي هذا التعميم، لأن حكم ما عدا السؤر
يستفاد من مباحث النجاسات. و (أما ثانيا) فلأن الوجه الذي لأجله جعل السؤر
قسيما للمطلق مع كونه قسما منه بحسب الحقيقة وقوع الخلاف في نجاسة بعضه من طاهر
العين وكراهة بعض آخر. وليس في كلام القائلين بذلك دلالة على اعتبار مطلق
المباشرة، بل كلامهم ودليلهم كالصريح في أن مرادهم بالسؤر المعنى الذي ذكرناه
خاصة " انتهى. وأنت خبير بما فيه من المناقشات التي ليس في التعرض لها
كثير فائدة (2).

(1) فإن كلام القاموس ظاهر الدلالة في العموم للماء وغيره مع الملاقاة بالفم وغيره
وما نقله في المجمع صريح في التخصيص بالماء المباشر بالفم، وكلام المصباح ظاهر أيضا
في المغايرة لكل من المعنيين المتقدمين (منه رحمه الله)
(2) (أما أولا) - فلما عرفت من اختلاف كلام أهل اللغة كما قدمنا ذكره. وأما
الأخبار فكذلك كما ذكرناه، وبه يظهر بطلان الاستناد إلى اللغة والعرف الخاص. وأما العام
فقد عرفت الكلام فيه في غير مقام و (أما ثانيا) - فلأن التعريف المقصود به إفادة حكم
شرعي كلي وجعله قاعدة كلية لا يبتنى على كلام الأصحاب واختلافهم أو اتفاقهم، وإنما
يبتنى على الأدلة الواردة في المقام (منه قدس سره).
418

والتحقيق أن يقال: إنه لما كان الغرض من التعريف حيث كان هو بيان
حكم كلي وقاعدة تبتني عليها الأحكام الشرعية، فلا بد من ابتنائه على الدليل الشرعي
ولا تعلق له بالخلاف الوفاق، وحينئذ فإن أريد بالتعريف هنا بالنظر إلى ما أطلق فيه
لفظ السؤر من الأخبار، ففيه أنه لا دلالة في الأخبار على الانحصار في خصوصية
الشرب بالفم، إذ غاية ما فيها كما ستمر بك إن شاء الله تعالى السؤال عن سؤر
ذلك الحيوان هل يتوضأ منه ويشرب أم لا؟ بل فيها ما يدل على اطلاق السؤر
على الفضلة من الجوامد، كأخبار الهرة التي منها قول علي (عليه السلام) في صحيحة
زرارة (1): " أن الهر سبع ولا بأس بسؤره، وإني لأستحيي من الله أن أدع طعاما
لأن الهر أكل منه " وإن أريد بالنظر إلى ما دل عليه بعض الأخبار من المغايرة
بين السؤر وذي السؤر في الحكم أو الاتفاق، فالمفهوم منها أيضا ما هو أعم من
المباشرة بالفم أو غيره، كما في صحيحة عيص بن القاسم (2) حيث قال (عليه السلام):
" وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل أن تدخلها الإناء "
وبالجملة فالأظهر في التعريف بالنظر إلى ظواهر الأخبار تعميم الحكم في المباشرة بالفم
وغيره ماء كان أو غيره. نعم متى أريد السؤر من الماء خاصة اختص بالتعميم الأول.
على أن الحق أن يقال: إن أفراد السؤر بالبحث على حدة وجعله قسيما
للمطلق مع كونه قسما منه مما لم يقم عليه دليل، وإن جرت الأصحاب (رضوان
الله عليهم) على ذلك جيلا بعد جيل، فإن الذي يظهر من الأخبار أن الأمر لا يبلغ
إلى هذا المقدار الموجب لاستقلاله وامتيازه عن المطلق على حياله، وتوضيحه أن

(1) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب الأسئار.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الأسئار.
419

ما حكموا فيه من الأسئار بالطهارة والنجاسة ليس لخصوصية كونه سؤرا، وإنما هو
من حيث التبعية لذي السؤر في الطهارة والنجاسة، وهذا حكم عام، ومحله مبحث
النجاسات والمطهرات. وما اختلفوا فيه منها طهارة ونجاسة فإنما نشأ من اختلافهم
في حيوانه بذلك أيضا، ومحل هذا أيضا هناك. وأما خلاف من خالف فحكم
بنجاسة أسئار بعض الحيوانات مع حكمه بطهارة ذلك الحيوان فلا دليل عليه كما
سيظهر لديك إن شاء الله تعالى. وما حكموا فيه بالكراهة من تلك الأسئار فهو أيضا
خال من الدليل كما سنتلوه عليك إن شاء الله تعالى، عدا موضع واحد وهو سؤر
الحائض المتهمة، فإن الأخبار قد دلت على النهي عنه، إلا أن غاية ما تدل عليه
هو النهي بالنسبة إلى الوضوء خاصة دون الشرب وغيره، والظاهر أن الوجه فيه هو
اختصاص ماء الطهارة بالمزية زيادة على غيره من سائر المياه المستعملة كما ورد من كراهة
الوضوء بالماء الآجن والمشمس ونحوهما، وهذا بمجرده لا يوجب افراد بعض أجزاء
الماء المطلق بعنوان على حدة وجعله قسسيما له، وإلا لكان الفردان المذكوران كذلك
ولأن اختصاص الكراهة بالوضوء دون غيره يخرج ذلك عن كونه حكما كليا في السؤر
كما يدعونه.
(الموضع الثاني) أن ذا السؤر أما أن يكون آدميا أو غيره، والأول أما مسلم
ومن بحكمه أو كافر ومن بحكمه، والثاني أما مأكول اللحم أو غيره، وغير مأكول
اللحم أما طاهر العين أو لا، فالأقسام خمسة. والسؤر عندهم أما طاهر أو نجس
أو مكروه. ولا يخفى أن أكثر مباحث هذا الفصل وما يتعلق بها من التحقيق
وبسط الأدلة التي بها تليق قد وكلناها إلى مبحث النجاسات، فإنها بذلك أنسب
كما أشرنا إليه آنفا، ولنشر هنا اجمالا إلى ما يخص هذا المقام جريا على وتيرة من تقدمنا
من علمائنا الأعلام جزاهم الله تعالى عنا أفضل جزاء في دار الاكرام.
420

فنقول: حيث كانت الأقسام التي أشرنا إليها خمسة فالبحث يقع ههنا
في موارد خمسة:
(الأول) سؤر الآدمي المسلم، والمراد به ما هو أعم من منتحل الاسلام
كما أطلق عليه في كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) وحينئذ فينقسم السؤر بالنسبة
إلى ذلك إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة، فالقسم الأول والثاني الطاهر والنجس.
وتحقيق القول فيهما هنا أن نقول: إن بعض أفراد ذي السؤر هنا مما اتفق
على طهارته وبعض مما اتفق على نجاسته وبعض مما اختلف فيه.
(فالأول) المؤمن عدا من يأتي ذكره في القسم الثالث، ولا خلاف ولا
إشكال في طهارة سؤره بل أفضليته، لما روي من استحباب الشرب من سؤره
والوضوء من فضل وضوئه.
و (الثاني) الخوارج والنواصب والغلاة، ولا خلاف بين أصحابنا في نجاستهم
ونجاسة سؤرهم.
و (الثالث) منه المجسمة والمجبرة، وقد نقل عن الشيخ في المبسوط القول
بنجاستهم، وتبعه في المجسمة العلامة في المنتهى، والمشهور الطهارة. والكلام
في السؤر تابع للقولين. إلا أن جملة من القائلين بالطهارة ذهبوا هنا إلى الكراهة
كما سيأتي ذكره تفصيا من خلاف الشيخ (رحمه الله).
ومنه ولد الزنا، فالمنقول عن المرتضى القول بنجاسته، لأنه كافر،
ويعزى القول بكفره إلى ابن إدريس أيضا. وربما ظهر ذلك أيضا من كلام الصدوق
(رحمه الله) في الفقيه، حيث قال (1): " ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني
وولد الزنا والمشرك وكل من خالف الاسلام " وما قيل من أن عدم جواز الوضوء به

(1) في باب (المياه وطرها ونجاستها).
421

أعم من النجاسة، فكلامه ليس بصريح في النجاسة مردود بأن ذكره مع المشرك
ونحوه قرينة واضحة على إرادة النجاسة، والمشهور الطهارة. والكلام في السؤر
تابع للقولين.
ومنه المخالف، فقد نقل عن ابن إدريس القول بنجاسته عدا المستضعف،
وعن المرتضى القول بنجاسة غير المؤمن، وأكثر متأخري الأصحاب على الطهارة.
وحكم السؤر تابع لذلك.
(القسم الثالث) المكروه، ومنه سؤر الحائض على الاطلاق عند جملة
من أصحابنا، ومقيدا بالمتهمة عند آخرين.
احتج الأولون بجملة من الأخبار، كرواية عنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) قال: " سؤر الحائض يشرب منه ولا يتوضأ " ومثلها رواية
الحسين بن أبي العلاء (2) ورواية أبي بصير (3).
ويدل على الثاني موثقة علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) (4)
" في الرجل يتوضأ بفضل الحائض؟ قال: إذا كانت مأمونة فلا بأس "
وموثقة عيص بن القاسم (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن سؤر الحائض قال: توضأ منه، وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل
يدها قبل أن تدخلها الإناء " هكذا رواها في التهذيب (6) وأما في الكافي (7) فرواها
في الصحيح، وفيها حكاية جوابه (عليه السلام) قال: " لا توضأ منه وتوضأ من سؤر
الجنب.. الحديث " وحينئذ فيكون منتظما في سلك الأخبار المتقدمة، وقضية حمل
المطلق على المقيد كما هي القاعدة المعمول عليها بينهم تقتضي رجحان القول الثاني.

(1) المروية في الوسائل في باب - 8 - من أبواب الأسئار.
(2) المروية في الوسائل في باب - 8 - من أبواب الأسئار.
(3) المروية في الوسائل في باب - 8 - من أبواب الأسئار.
(4) المروية في الوسائل في باب - 8 - من أبواب الأسئار.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الأسئار.
(6) في الصحيفة 63.
(7) ج 1 ص 4.
422

إلا أنه لا يخفى أن الأخبار كلها إنما اتفقت في النهي عن الوضوء خاصة، وأما الشرب
ففي بعضها تصريح بجوازه وفي بعضها قد طوي ذكره، ولعل الوجه في ذلك ما أشرنا
إليه آنفا (1) من اختصاص ماء الوضوء بالمزية كما في غير هذا الموضع، لا من حيث
كونه سؤرا، وإلا لعم.
بقي هنا شئ وهو أن أكثر الأصحاب خصوا الكراهة بسؤر المتهمة، وهي
التي لا تتحفظ من النجاسة، والروايات المقيدة إنما دلت على جواز الوضوء من سؤر
المأمونة، وهي المتحفظة من الدم، ولا ريب أن غير المأمونة أعم من أن تكون متهمة
أو مجهولة، والظاهر أنه لذلك عدل المحقق في الشرائع عن العبارة المشهورة فعبر بغير
المأمونة، وبه صرح السيد السند في شرحه، حيث قال مشيرا إلى عبارة المصنف:
أن ذلك أولى من إناطتها بالتهمة كما ذكره غيره. قال: " لأن النهي إنما يقتضي انتفاء
المرجوحية إذا كانت مأمونة، وهو أخص من كونها غير متهمة، لتحقق الثاني
في ضمن من لا يعلم حالها دون الأول. وما ذكره بعض المحققين من أن المأمونة هي
غير المتهمة، إذ لا واسطة بين المأمونة ومن لا أمانة لها، والتي لا أمانة لها هي المتهمة
غير جيد، فإن المتبادر من المأمونة من ظن تحفظها من النجاسة وتقيضها من لم يظن بها
ذلك، وهو أعم ممن المتهمة والمجهولة " انتهى. ويمكن أن يقال: إنه وإن كان
نقيض المأمونة ما ذكره من الأعم من المتهمة والمجهولة، لكن المراد هنا هو المتهمة
خاصة، لأن تعلق الحكم الذي هو الكراهة بانتفاء المأمونية يقتضي حصول العلم أو الظن
بمتعلقه الذي هو عدم المأمونية، وهو لا يحصل مع الجهل بحالها، لاحتمال كونها
مأمونة واقعا.

(1) في الصحيفة 420.
423

فرع
ألحق الشهيد في البيان بالحائض المتهمة بناء على ما اختاره من التقييد بالمتهمة
كل متهم، واستحسنه جملة ممن تأخر عنه منهم: الشهيد الثاني في الروضة. ورده
المحقق الشيخ علي بأنه تصرف في النص. ونقل بعض فضلاء المتأخرين عبارة الشيخ
علي بما صورته بأنه تصرف في التصرف. وقال في توجيهها: " وكأنه أراد بذلك
أن قصر الكراهة في سؤر الحائض على المتهمة للجمع بين الأخبار تصرف أول، ثم
تعدية الحكم إلى كل متهم إنما حصل بهذا التصرف، فهو تصرف ثان في التصرف
الأول " وفيه أن مرمى هذا العبارة يؤذن بعدم قوله بالتقييد واختياره له، مع أنه صرح
في صدر هذا الكلام بأنه الأصح عنده، حيث قال بعد قول المصنف: والحائض المتهمة
ما لفظه: " أي بعدم التحفظ من النجاسة والمبالاة بها على الأصح، جمعا بين روايتي
النهي عن الوضوء بفضلها ونفي البأس إذا كانت مأمونة " والظاهر أن ما نقله الفاضل
المذكور ناشئ عن غلط في نسخته وتصحيف النص بالتصرف، والمعنى على ما نقلنا
ظاهر لا سترة عليه.
ومن هذا القسم أيضا ما اختلف فيه بالطهارة والنجاسة عند من اختار الطهارة
خروجا من خلاف من قال بالنجاسة وإن كان من غير الآدمي كما سيأتي، قال في المعالم
بعد ذكر جملة من الأفراد المختلف في طهارتها ونجاستها، ونقل القول بالكراهة
في بعضها عن المحقق خروجا من خلاف من قال بالنجاسة، واعتراضه عليه بأنه لا وجه
للتخصيص بالبعض، لأن دليله آت في الكل ما صورته: " وبالجملة فكراهة
المذكورات لا ينبغي التوقف فيها حيث يقال بالطهارة، فإن رعاية الخروج من الخلاف
كافية في مثله " انتهى. وفيه نظر، فإن الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل
ومجرد ذهاب البعض وخلافه في الحكم ليس بدليل شرعي حتى تبنى عليه الأحكام
424

الشرعية، فإن أجيب بأن الوجه فيه الاحتياط، قلنا: فيه (أولا) أن الاحتياط
عندهم ليس بدليل شرعي. و (ثانيا) أنه مع جعله دليلا شرعيا كما هو الأظهر
عندنا كما قدمنا تحقيقه في المقدمة الرابعة فهو يدور مدار الاختلاف بين الأدلة كما هو
أحد موارده لا مدار الاختلاف بين العلماء وإن كان لا عن دليل، وحينئذ فالحكم
بالكراهة فيما تعارضت فيه أدلة الطهارة والنجاسة مع رجحان الأول متجه.
ويلحق بالمسلم في الطهارة والنجاسة عند الأصحاب من بحكمه من الطفل المتولد
منه، ومسبيه والمجنون، ولقيط دار الاسلام، ومثله لقيط دار الكفر إذا أمكن
تولده من مسلم على قول.
(المورد الثاني) سؤر الكافر ومن بحكمه. ولا خلاف بين الأصحاب
(رضوان الله عليهم) في نجاسة من عدا اليهود والنصارى من أصناف الكفار، سواء
كان كفرا أصليا أو ارتداديا، ونجاسة سؤرهم حينئذ تابع لهم. وأما اليهود والنصارى
فمحل خلاف بين الأصحاب والأخبار، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في محله.
والحكم في سؤرهم تابع للمترجح من الطرفين. وظاهر القائلين بالطهارة الحكم
بكراهة أسئارهم على ما نص عليه في المعالم وغيره. ولا بأس به، لا لما ذكروه
من التفصي من خلاف من ذهب إلى القول بالنجاسة، بل من حيث إن الأخبار
متعارضة فيهم طهارة ونجاسة، فمتى ترجح القول بالطهارة منها فلا بأس بالاحتياط بالنجاسة
بحمل ما دل على النجاسة على الاستحباب.
وبحكم الكافر طفله عند الأصحاب، معللين ذلك بنجاسة أصله، واستشكله
في المدارك بأن الدليل إن تم فإنما يدل على نجاسة الكافر المشرك واليهود والنصارى،
والولد قبل بلوغه لا يصدق عليه شئ من ذلك. وهو جيد في الظاهر، ويؤيده الخبر
المشهور عنه (صلى الله عليه وآله) " أن كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه
425

يهودانه أو ينصرانه " (1) فإن من الظاهر أن التهويد والتنصير إنما يثبت له مع البلوغ
أو بعده، لما يحصل له من طول المعاشرة والممارسة معهما والأنس بهما قبل ذلك،
فيؤثر فيه ويورثه الميل إلى مذهبهما واختياره، وتحقيق المسألة كما هو حقه يأتي إن شاء الله
تعالى في باب التطهير من النجاسات.
(المورد الثالث) سؤر غير الآدمي من الحيوان المأكول اللحم. ولا خلاف
في طهارته لطهارة حيوانه، إلا أن الأصحاب (رضوان الله عليهم) حكموا بالكراهة
في جملة من أفراده.
فمن ذلك سؤر الحيوانات الثلاثة: الخيل والبغال والحمير الأهلية (2) ولم
نقف له على مستند، وربما علل بأن فضلات الفم التي لا تنفك عنها تابعة للجسم. وهو
مجرد دعوى خالية من الدليل.

(1) رواه المجلسي في الحار ج 2 ص 88 عن غوالي اللئالي عن النبي (صلى الله
عليه وآله) وفي ج 15 ص 36 قال: وقال (صلى الله عليه وآله): " كل مولود.. الخ "
وفي أصول الكافي باب (فطرة الخلق على التوحيد) في حديث عن أبي جعفر (عليه السلام)
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل مولود يولد على فطرة، يعني على المعرفة بأن الله
تعالى خالقه " ورواه صاحب الوسائل في الباب 48 من كتاب الجهاد عن الصادق (عليه السلام)
هكذا: " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه ".
ورواه أحمد في مسنده ج 2 ص 275 عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ورواه عنه أيضا مسلم في الصحيح ج 2 ص 412 ورواه البخاري في آخر كتاب
الجنائز باب (أولاد المشركين) وفي كتاب القدر باب (الله أعلم بما كانوا عاملين) عن
أبي هريرة بلفظ " ما من مولود.. الخ " ورواه ابن حجر في مجمع الزوائد ج 7 ص 218.
(2) في التقييد بالأهلية إشارة إلى خروج الوحشية من هذه الحيوانات، لما نقله بعض
الأصحاب من الاتفاق على انتفاء الكراهة في الوحشية، وهو الذي يظهر من الدليل كما
سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى (منه رحمه الله).
426

ويمكن الاستدلال على ذلك بمفهوم رواية سماعة (1) قال: " سألته هل يشرب
سؤر شئ من الدواب ويتوضأ منه؟ فقال: أما الإبل والبقر والغنم فلا بأس ".
وثبوت البأس بالمفهوم وإن كان أعم من التحريم، إلا أن جملة من الأخبار
لما دل على جواز الشرب والوضوء من سؤرها، حمل البأس هنا على الكراهة.
ومما دل على الجواز خصوص صحيحة أبي العباس (2) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش
والسباع، فلم أترك شيئا إلا سألته عنه، فقال: لا بأس به، حتى انتهيت إلى الكلب،
فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء.. ".
ورواية معاوية بن شريح (3) قال: " سأل عذافر أبا عبد الله (عليه السلام)
وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع
يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال: نعم اشرب منه وتوضأ. قال: قلت له:
الكلب؟ قال: لا. قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا والله إنه نجس، لا والله
إنه نجس ".
وصحيحة جميل بن دراج (4) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن سؤر الدواب والغنم والبقر أيتوضأ منه ويشرب؟ فقال: لا بأس ".
وعموم صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) قال:
" لا بأس بأن يتوضأ مما يشرب منه ما يؤكل لحمه " ومثلها موثقة عمار (6) وفيها " كل ما

(1) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الأسئار.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الأسئار، وفي الباب - 11 -
من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب الأسئار.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الأسئار.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الأسئار.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الأسئار.
427

أكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب ".
والحق تقديم العمل بهذه الأخبار، لاستفاضتها وصراحتها وصحة أكثرها،
وضعف ما عارضها سندا ودلالة.
ومنها سؤر الدجاج. وقد أطلق العلامة وغيره كراهة سؤرها، وعلل بعدم
انفكاك منقارها عن النجاسة غالبا، وحكى في المعتبر عن الشيخ (رحمه الله) أنه قال:
" يكره سؤر الدجاج على كل حال " ثم قال بعده: وهو حسن إن قصد المهملة، لأنها
لا تنفك عن الاغتذاء بالنجاسة. وبه جزم في المعالم أيضا.
وأنت خبير بأن الأخبار الواردة هنا عموما وخصوصا متفقة في نفي البأس عن ذلك
وجواز الوضوء والشرب منه.
فمن الأول صحيحة عبد الله بن سنان وموثقة عمار المتقدمتان.
ومن الثاني رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " فضل
الحمامة والدجاجة لا بأس به والطير ".
وموثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) أنه: " سئل عن ماء شربت منه
الدجاجة. قال: إن كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب، وإن لم تعلم أن
في منقارها قذرا توضأ منه واشرب، وقال: كل ما يؤكل لحمه فليتوضأ
منه وليشربه ".
ولا يخفى أن الخروج عن مدلول هذه الروايات عموما وخصوصا وحملها على
مجرد نفي الحرمة بمجرد ما ذكروا من التعليل لا يخلو من مجازفة، سيما أن الكراهة
كما عرفت آنفا حكم شرعي، فيتوقف ثبوته على الدليل.
وما ربما يقال من أن الأمر بالاحتياط في الدين الوارد في جملة من الأخبار

(1) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الأسئار.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الأسئار.
428

يشمل مثل هذا ففيه (أولا) ما قدمنا من أن الاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي،
و (ثانيا) أن المستفاد من الأخبار الدالة على عدم السؤال والفحص عما يشترى من أسواق
المسلمين ويؤخذ من أيديهم والنهي عن ذلك وإن كان احتمال التحريم أو النجاسة فيه
قائما، والبناء في ذلك على ظاهر الحل والطهارة، عملا بسعة الحنيفية السمحة
السهلة عدم الاحتياط هنا.
(المورد الرابع) سؤر غير الآدمي من الحيوان الغير المأكول اللحم عدا
الكلب والخنزير، وقد اختلف الأصحاب في ذلك، فذهب الفاضلان وجمهور
المتأخرين إلى طهارة سؤر كل حيوان طاهر، ونقل أيضا عن النهاية والخلاف، إلا أنه
استثنى في النهاية سؤر آكل الجيف من الطير، ونقل عن المرتضى وابن الجنيد استثناء
الجلال، ونقل عن ظاهر الشيخ (رحمه الله) في كتابي الأخبار المنع من سؤر
ما لا يؤكل لحمه، لكنه في الاستبصار استثنى من ذلك سؤر الفأرة والبازي والصقر
ونحوهما من الطيور، ونقل عن المبسوط أنه ذهب إلى عدم جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه
من الحيوان الأنسي عدا ما لا يمكن التحرز منه كالفأرة والحية والهرة، وجواز استعمال
سؤر الطاهر من الحيوان الوحشي طيرا كان أو غيره، حكاه عنه المحقق في المعتبر.
ونقل في المختلف عن ابن إدريس أنه حكم بنجاسة سؤر ما لا يؤكل لحمه من حيوان
الحضر من غير الطير مما يمكن التحرز عنه. والأظهر من هذه الأقوال هو القول الأول
ومحل الخلاف هنا في مواضع أربعة:
(أحدها) الجلال، وقد عرفت أن المرتضى وابن الجنيد استثنياه من السؤر
المباح، وكذا نقل عن الشيخ في المبسوط. ومقتضى كلامهم الحكم بنجاسة السؤر مع
طهارة حيوانه. وقد اعترف جمع ممن تقدمنا أنهم لم يقفوا له على دليل.
وربما استدل عليه بأن رطوبة أفواهها ينشأ من غذاء نجس فيجب الحكم بالنجاسة.
429

ورد بمنع الملازمة، وبالنقض ببصاق شارب الخمر إذا لم يتغير به، وبما لو
أكل غير العذرة مما هو نجس.
أقول: ومن المحتمل قريبا أن حكم الشيخ (رحمه الله) بنجاسة اللعاب هنا
لحكمه بنجاسة العرق. إلا أن فيه أن مورد الدليل العرق خاصة، والتعدية قياس.
ويدل على المشهور أصالة الطهارة، وعموم صحيحة الفضل المتقدمة (1) وكذا
رواية أبي بصير السالفة (2) وموثقة عمار (3) حيث قال فيها: " وسئل عن ماء
شرب منه باز أو صقر أو عقاب. فقال: كل شئ من الطير يتوضأ مما يشرب
منه إلا أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب ".
وحكم جمهور الأصحاب هنا بالكراهة أيضا خروجا من خلاف أولئك الجماعة.
وفيه ما عرفت آنفا (4) نعم يمكن الاستدلال على ذلك برواية الوشاء عمن ذكره
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) " أنه كان يكره سؤر كل شئ لا يؤكل لحمه "
ومفهوم موثقة عمار المتقدمة (6) الدالة على أن كل ما يؤكل يتوضأ من سؤره ويشرب
فإن الظاهر أن المقام هنا قرينة على التقييد بالوصف، لكونه مناط الحكم. إلا أنه
لا يخلو أيضا من خدش.
(ثانيها) آكل الجيف، وقد عرفت أن الشيخ في النهاية استثناه
من طهارة سؤر كل حيوان طاهر وحكم بنجاسته، والمشهور الطهارة كما تقدم. ولم
نقف للشيخ على دليل، وبذلك اعترف جمع من الأصحاب أيضا، وظواهر الأخبار
المتقدمة وغيرها ظاهر في العدم.

(1) في الصحيفة 427.
(2) في الصحيفة 328.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الأسئار.
(4) في الصحيفة 424.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الأسئار.
(6) في الصحيفة 428.
430

وقد صرح الأصحاب هنا بالكراهة أيضا لعين ما تقدم. وفيه ما عرفت
غير مرة.
وصار المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره) إلى الكراهة هنا تمسكا بما
قدمنا ذكره في الجلال من التمسك برواية الوشاء وموثقة عمار.
وفيه (أولا) أنه لا يقوم دليلا على العموم، لعدم جريانه فيما يؤكل لحمه.
و (ثانيا) أن الحكم معلق على عدم كونه مأكول اللحم، ولا مدخل فيه
لأكل الجيف، وهو ظاهر.
(ثالثها) ما لا يؤكل لحمه عدا ما استثني، وقد تقدم الإشارة إلى الخلاف
فيه. ونقل عن الشيخ في الإستبصار الاستدلال عليه بقوله (عليه السلام) في موثقة
عمار المتقدمة (1): " كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب " (2) حيث قال
(قدس سره): " هذا يدل على أن ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضؤ به والشرب
منه، لأنه إذا شرط في استباحة سؤره أن يؤكل لحمه دل على أن ما عداه بخلافه،
وهذا يجري مجرى قول النبي (صلى الله عليه وآله) في سائمة الغنم الزكاة. في أنه
يدل على أن المعلوفة ليس فيها زكاة ".
أقول ويدل على الاستثناء الذي ذكره (طاب ثراه) موثقة عمار بن موسى
الأخيرة (3) الدالة على حكم الطير، ورواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4)
" أن أبا جعفر (عليه السلام) كأن يقول: لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء

(1) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الأسئار.
(2) الاستدلال بهذه الموثقة على ذلك موجود في التهذيب أيضا، والعبارة التي
ينقلها هي عبارة التهذيب ص 63، وليست هذه العبارة في الإستبصار عند تعرضه للموثقة
ص 25 من طع النجف.
(3) المتقدمة في الصحيفة 430.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الأسئار.
431

أن يشرب منه ويتوضأ منه " وغيرهما مما تضمن نفي البأس عن تلك الأشياء التي استثناها
عموما أو خصوصا.
ورد هذا القول (أولا) بابتنائه على حجية مفهوم الوصف. والأصح عدم حجيته
و (ثانيا) باشتمال سند الرواية على جملة من الفطحية.
و (ثالثا) بالمعارضة بما هو أكثر عددا وأصح سندا، وقد تقدم من ذلك
شطر فيما قدمنا من الأخبار.
ومن أظهر الأدلة التمسك بأصالة الطهارة عموما وخصوصا، فإنها أقوى دليل
في الباب وإن غفل عن الاستدلال بذلك الأصحاب.
وقد حكم جمهور الأصحاب هنا بالكراهة أيضا تفصيا من الخلاف. ولا بأس
به. لكن لا لما ذكروا، بل لما عرفت من دلالة رواية الوشاء المتقدمة (1)
(رابعها) المسوخ. وقد حكي عن ابن الجنيد أنه استثنى المسوخ
من الحكم بطهارة سؤر ما لا يؤكل لحمه، وذكر في المعالم أن كلامه محتمل لنجاستها،
أو نجاسة لعابها وحده، كما نقل التصريح به عن بعض الأصحاب. ونقل المحقق
في المعتبر عن الشيخ القول بنجاستها، ونسب هذا القول في المختلف إلى سلار
وابن حمزة أيضا. وكلام سلار في رسالته كالصريح في نجاسة اللعاب ومحتمل لنجاسة العين
والمشهور بين الأصحاب الطهارة على كراهية. والحكم بالكراهة عندهم جار على نحو
ما تقدم ومما يدل على الطهارة عموم الأخبار المتقدمة كصحيحة الفضل (2) ونحوها.
(المورد الخامس) سؤر نجس العين من الحيوان غير المأكول اللحم وغير
الآدمي، وهو الكلب والخنزير. ولا خلاف نصا وفتوى في نجاسته لنجاسة أصله.

(1) في الصحيفة 430.
(2) المتقدمة في الصحيفة 427.
432

فذلك (1)
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) طهارة فم الهرة بمجرد زوال عين
النجاسة سواء غابت عن العين أم لا، صرح بذلك الشيخ والمحقق والعلامة وغيرهم،
وألحق جملة من المتأخرين بها كل حيوان غير الآدمي، واستحسنه السيد السند
في المدارك. وقيل بالنجاسة، لأصالة البقاء عليها. وقيل بالطهارة بالغيبة، ذهب
إليه العلامة في النهاية، قال: " لو نجس فم الهرة بسبب كأكل الفأرة وشبهه، ثم
ولغت في ماء قليل ونحن نتيقن نجاسة فمها، فالأقوى النجاسة، لأنه ماء قليل لاقى
نجاسة، والاحتراز يعسر عن مطلق الولوغ لا عن الولوغ بعد تيقن نجاسة الفم، ولو
غابت عن العين واحتمل ولوغها في ماء كثير أو جار، لم ينجس، لأن الإناء
معلوم الطهارة فلا يحكم بنجاسته بالشك " انتهى.
وتمسك الأولون بالأخبار الواردة بنفي البأس عن سؤر الهرة، وجواز الوضوء
والشرب منه، بناء على أن الهرة لا ينفك فمها عن النجاسة غالبا.
ومن الأخبار في ذلك صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" في كتاب علي: أن الهر سبع ولا بأس بسؤره، وإني لأستحيي من الله أن أدع طعاما
لأن الهر أكل منه ".
ورواية أبي الصباح عنه (عليه السلام) (3) قال: " كان علي (عليه السلام)
يقول: لا تدع فضل السنور أن تتوضأ منه، إنما هي سبع " وغيرهما.
قال في كتاب المعالم بعد الاستدلال على ذلك بنحو ما ذكرنا: " ولو فرضنا

(1) في القاموس فذلك حسابه أنهاه وفرغ منه. وهذه اللفظة كثيرا ما يستعملها
المصنفون في مثل هذا الموضع، وكان المراد بها الإشارة إلى أن من يذكر فيها نهاية وآخر
البحث المتقدم (منه رحمه الله).
(2) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب الأسئار.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب الأسئار.
433

عدم دلالة الأخبار على العموم فلا ريب أن الحكم بتوقف الطهارة في مثلها على التطهير
المعهود شرعا منفي قطعا، والواسطة بين ذلك وبين زوال العين يتوقف على الدليل.
ولا دليل " أنتهي. وحاصله يرجع إلى ما أشرنا إليه غير مرة وحققناه في المقدمة
الحادية عشرة (1) من جواز التمسك بالبراءة الأصلية فيما تعم به البلوى من الأحكام
بعد الفحص عن الدليل وعدم الوقوف عليه. وهو هنا كذلك، فإن عدم وجود دليل
على التكليف بإزالة النجاسة في مثل ذلك مع عموم البلوى بذلك دليل على عدم التكليف
بذلك وحصول البراءة منه، وليس بعد ذلك إلا الحكم بالطهارة بمجرد زوال
عين النجاسة.
وأما القول بالتوقف على الغيبة فلا دليل عليه، كما أشار إليه بقوله:
" والواسطة بين ذلك. الخ " (2).
واستدل في المدارك على الحاق غير الهرة من الحيوانات بها بالأصل وعدم ثبوت
التعبد بغسل النجاسة عنه.
(أقول): والاحتجاج بالأصل هنا لا يخلو من ضعف، فإن عروض النجاسة
أوجب الخروج عن حكمه، فلا يسوغ التمسك به. وأما الثاني فجيد كما أشرنا إليه
هذا بالنسبة إلى غير الآدمي.
وأما الآدمي فهل يحكم بطهارته بمجرد غيبته زمانا يمكن فيه إزالة النجاسة أو مع
تلبسه بما هو مشروط بالطهارة عنده، أو حتى يعلم إزالة النجاسة؟ أقوال، ظاهر

(1) في الصحيفة 155.
(2) وتوضيحه أنه إما أن يكتفى في طهر فيها بمجرد زوال العين كالبواطن
أو يعتبر فيها ما يعتبر في تطهير المتنجسات من الطرق المعهودة شرعا، فعلى الأول لا حاجة
إلى غيبتها، وعلى الثاني فلا يكتفى بمجرد الاحتمال لا سيما مع بعده، لأن يقين النجاسة
لا يزيله إلا يقين الطهارة، والواسطة غير معقولة (منه رحمه الله).
434

المشهور الأخير، وبالأول صرح جملة من المتأخرين، لكنهم بين مطلق لذلك كما
تقدم، وبين مقيد بشرط علمه بالنجاسة وأهليته للإزالة بكونه مكلفا عالما بوجوب
الإزالة عليه، وإلى الثاني مال السيد السند في المدارك على تردد فيه بعد أن نقل القول
الأول واستشكله. والعجب منه (قدس سره) في ذلك، فإن دليله على طهارة
الحيوان غير الآدمي جار هنا بعينه، فإنه لم يثبت أيضا التعبد بالعلم بزوال النجاسة
عن ثوب الغير وبدنه. وأما ما اختاره (طاب ثراه) من اشتراط التلبس بمشروط
بالطهارة عنده، فيشكل الأمر فيه أيضا بجواز نسيانه، ولعل ذلك هو وجه التردد
الذي ذكره.
ولعل أرجح هذه الأقوال هو الأول، تمسكا بأصالة البراءة التي أشرنا إليها،
فإن الحكم مما تعم به البلوى، ولو لم يكن مجرد الغيبة كافيا في الطهارة، لورد فيه
أثر عنهم (عليهم السلام) ولبلغنا ذلك، ولامتنع الاقتداء بإمام الجماعة حتى يسأله،
لأن عروض النجاسة له بالبول والغائط أمر متيقن، وعروض النسيان له ممكن.
وبطلانه أظهر من أن يحتاج إلى البيان، ولأشكل الحال في الحكم بطهارة سائر الناس
ممن لم تعلم عدالته مع معلومية الحدث منهم كما ذكرنا، فلا يحكم بطهارتهم وإن أخبروا
بذلك، مع أن المعلوم من الشرع خلافه، لدلالة الأخبار واتفاق الأصحاب على قبول
قول المسلم في ذلك.
ختام مستطاب يشتمل على مقامين تتمة للباب
المقام الأول في الماء المستعمل
والمراد منه هنا ما يكون مستعملا في إزالة حدث أو خبث أو مطلقا، والأول
إما في حدث أصغر أو أكبر، والثاني إما في الاستنجاء أو غيره من الأخباث، والثالث
غسالة ماء الحمام، فالكلام هنا يقع في مسائل خمس:
435

(المسألة الأولى) في مستعمل الحدث الأصغر. بين أصحابنا
(قدس الله أرواحهم ونور أشباحهم) في طهارته وطهوريته، حكاه غير واحد منهم.
ويدل أيضا على الأول أصالة الطهارة عموما وخصوصا.
وعلى الثاني عموم الأخبار الدالة على استعمال الماء المطلق في رفع الحدث.
وهذا ماء مطلق.
وخصوص رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل. وقال: الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به
الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضأ به وأشباهه. وأما الماء الذي يتوضأ به الرجل
فيغسل به وجهه ويده في شئ نظيف، فلا بأس أن يأخذه غيره ويتوضأ به ".
ورواية زرارة عن أحدهما (عليه السلام) (2) قال: " كان النبي (صلى الله
عليه وآله
إذا توضأ أخذ ما يسقط من وضوئه فيتوضؤون به ".
ونقل عن أبي حنيفة الحكم بنجاسته نجاسة مغلظة، حتى أنه إذا أصاب الثوب
أكثر من درهم منع أداء الصلاة (3) ولعله حق في حقه. نعم نقل شيخنا الشهيد

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(3) قال ابن حزم في المحل ج 1 ص 185: " عند أبي حنيفة لا يجوز الغسل ولا
الوضوء بما قد توضأ به أو اغتسل به ويكره شربه، وروي أنه طاهر، والأظهر عنه
أنه نجس وأنه لا ينجس الثوب إذا أصابه الماء المستعمل إلا أن يكون كثيرا فاحشا، إلى أن
قال: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا توضأ الرجل وهو طاهر من بئر فقد تنجس ماؤها
وتنزح كلها، ولا يجزيه ذلك الوضوء إن كان غير متوضئ، وكذلك إن اغتسل فيها نجسا
كلها ولو اغتسل في سبعة آبار نجسها كلها " وقال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق ج 1 ص 94
تحت عنوان " الماء المستعمل في رفع الحدث ": " اختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروى
محمد عنه أنه طاهر غير مطهر، وروى أبو يوسف عنه أنه نجس نجاسة خفيفة، وروى
الحسن بن زياد عنه أنه نجس نجاسة غليظة، والمشهور عنه عدم التفصيل بين المحدث
والجنب، وفي التجنيس استثنى الجنب لعموم البلوى في المحدث لعدم صون الثياب في
الوضوء وامكان صونها في الجنب " وقال ابن قدامة في المغني ج 1 ص 18: " المستعمل
في رفع الحدث طاهر غير مطهر لا يرفع حدثا ولا يزيل خبثا، قال به الليث والأوزاعي
والمشهور عن أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وظاهر مذهب الشافعي، وعن أحمد
في رواية أنه طاهر مطهر، وقال به الحسن وعطاء والنخعي والزهري ومكحول وأهل
الظاهر، والرواية الثانية لمالك، والقول الثاني للشافعي ".
436

في الدروس عن الشيخ المفيد أنه استحب التنزه عنه، وظاهر كلامه في المقنعة ربما أشعر
أيضا باستحباب التنزه عن ماء الأغسال المستحبة بل والغسل المستحب كغسل اليد للأكل.
ولم نقف له على دليل من الأخبار بل ولا من الاعتبار، بل ربما دلت رواية زرارة المتقدمة
على خلافه. إلا أنه يحتمل قريبا الاختصاص به صلى الله عليه وآله) للتبرك والشرف.
والمفهوم من كلام شيخنا البهائي (طاب ثراه) في كتاب الحبل المتين الاستدلال
له بما رواه في الكافي (1) عن محمد بن علي بن جعفر عن الرضا (عليه السلام) قال:
" من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومن إلا نفسه " حيث
قال (قدس سره) بعد ايراد الخبر المذكور: " واطلاق الغسل في هذا يشمل الغسل
الواجب والمندوب. وفي كلام المفيد (طاب ثراه) في المقنعة تصريح بأفضلية اجتناب
الغسل والوضوء بما استعمل في طهارة مندوبة، ولعل مستنده هذا الحديث، وأكثرهم
لم ينتبهوا له " انتهى. وفيه أنه وإن سلم ذلك ظاهرا بالنسبة إلى ما نقله من الخبر إلا أن عجز الرواية المذكورة يدل على أن مورد الخبر المشار إليه إنما هو ماء الحمام، حيث
قال في تتمة الرواية: " فقلت: إن أهل المدينة يقولون: إن فيه شفاء من العين.
فقال: كذبوا، يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما

(1) في ج 2 ص 220، ورواه صاحب الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء
المضاف والمستعمل.
437

وكل من خلق الله ثم يكون فيه شفاء من العين " وهذا هو أحد العيوب المترتبة
على تقطيع الحديث وفصل بعضه عن بعض، فإنه بذلك ربما تخفى القرائن المفيدة
للحكم كما هنا، وسيأتي لك كثير من نظائره إن شاء الله تعالى. وحينئذ فظاهر الخبر
كراهة الاغتسال من ذلك الماء من حيث كونه ماء الحمام الذي يغتسل منه هؤلاء
المعدودون، وهو لا يقتضي كراهة مستعمل الأغسال مطلقا. وكيف كان فهو مقصور
على الغسل ولا دلالة له على كراهة مستعمل الوضوء، والمدعى أعم من ذلك كما عرفت.
(المسألة الثانية) في مستعمل الحدث الأكبر. والظاهر أنه لا خلاف
بينهم (رضوان الله عليهم) في طهارة المستعمل في الأغسال المسنونة وطهوريته، كما
سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقد تقدم النقل عن الشيخ المفيد (رضي الله عنه)
بالكراهة.
وأما مستعمل الأغسال الواجبة فلا خلاف في طهارته أيضا، ويدل عليه أصالة
الطهارة عموما وخصوصا، وأن التنجيس حكم شرعي، وهو موقوف على الدليل،
وليس فليس. وتدل على ذلك أخبار مستفيضة:
(منها) صحيحة الفضيل بن يسار (1) قال: " سئل أبو عبد الله (عليه
السلام)
عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء. فقال: لا بأس، هذا
مما قال الله: ما جعل عليكم في الدين من حرج (2) ".
وخلاف أيضا في تطهيره من الخبث كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وإنما الخلاف في التطهير به من الحدث ثانيا، فالمشهور بين المتأخرين هو الجواز
ونقل عن الشيخين والصدوقين المنع، وأسنده في الخلاف إلى أكثر أصحابنا، وهو

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) سورة الحج الآية 78.
438

مؤذن بشهرته في الصدر الأول، ويظهر من المحقق في كتبه الثلاثة التوقف في ذلك،
حيث نسب المنع في المعتبر إلى الأولوية، وجعل وجهه التفصي من الخلاف والأخذ
بالأحوط، وفي الشرائع علله أيضا بالاحتياط. وفي المختصر اقتصر على نقل القولين
ناسبا المنع إلى الرواية.
والذي يدل على المنع أخبار عديدة: منها رواية عبد الله بن سنان السالفة (1)
وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (2) قال: " سألته عن ماء
الحمام. فقال: ادخله بإزار، ولا تغتسل من ماء آخر إلا أن يكون فيه جنب،
أو يكثر أهله فلا تدري فيهم جنب أم لا ".
ورواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن (عليه السلام) (3) قال: سألته أو
سأله غيري عن الحمام. قال: ادخله بمئزر، وغض بصرك، ولا تغتسل من البئر
التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا
أهل البيت، وهو شرهم ".
وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) " وسئل عن الماء تبول فيه
الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب. قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ "
هذا ما حضرني من الأخبار التي تصلح أن تكون مستندا لهذا القول.
واحتج المانع أيضا بأن الماء المستعمل في غسل الجنابة مشكوك فيه، فلا يحصل
باستعماله يقين البراءة.
والذي يدل على الجواز ما تقدم في المسألة الأولى من عموم الأدلة الدالة على استعمال

(1) في الصحيفة 436.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
439

المطلق في رفع الحدث من الآيات (1) والروايات، وهذا ماء مطلق.
وخصوص صحيحة علي بن جعفر عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) (1)
قال: " سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع، أيغتسل منه للجنابة
أو يتوضأ منه للصلاة؟ إذا كان لا يجد غيره، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا
للوضوء، وهو متفرق، إلى أن قال (عليه السلام): فإن كان في مكان واحد
وهو قليل لا يكفيه لغسله، فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه، فإن ذلك يجزيه ".
ويدل على ذلك أيضا الأخبار المشار إليها آنفا في الاستلال على أصل الطهارة،
فإنها قد اشتركت في الدلالة على نفي البأس عما ينتضح من جسد الجنب في الإناء
حال غسله.
وتفصيل القول في هذه المسألة أن يقال: إن دلالة صحيحة علي بن جعفر
على الجواز لا تخلو من اشكال، لامكان حملها على الضرورة كما يقتضيه سياق الخبر،
وعلى ذلك حملها الشيخ (رضي الله عنه) في كتابي الأخبار. وهو جيد، لما قلنا
وربما يفهم منه أن مذهبه حينئذ جواز الاستعمال في الضرورة، إلا أنه لم ينقل ذلك
قولا عنه في المسألة. والتحقيق أن مجرد جمعه بين الأخبار بالوجوه القريبة أو البعيدة
لا يوجب كون ذلك مذهبا له، كما قدمنا الإشارة إليه في مقدمات الكتاب (3) إذ
ليس غرضه ثمة إلا مجرد دفع التنافي بينها ردا على من زعمه، حتى أوجب خروجه
عن المذهب كما أشار إليه في التهذيب (4) وأما الأخبار الدالة على نفي البأس عما ينتضح

(1) ومنها قوله تعالى: " فلم تجدوا ماء فتيمموا " حيث علق التيمم على عدم وجود
الماء، فينتفى مع وجوده، وهو صادق على ما نحن فيه، فلا يسوغ التيمم مع وجود هذا
الماء، ونحو ذلك من العمومات (منه رحمه الله).
(2) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(3) في الصحيفة 90. (4) في الصحيفة 2 من الجزء الأول. (55)
440

من بدن الجنب فسيأتي ما فيها. وحينئذ لم يبق إلا الدليل الأول، فالقائل أن يقول: إن عموم تلك الأدلة مخصوص بالأخبار المذكورة كما هو القاعدة المطردة. إلا أن ذلك فرع سلامة هذه الأخبار من الطعن، وهي غير سالمة.
أما الخبر الأول (1) فضعيف السند باشتماله على أحمد بن هلال الذي حاله
في الضعف أشهر من أن يذكر، واحتمال الحمل على وجود النجاسة في بدن الجنب، بل
الظاهر رجحانه كما سيأتي بيانه.
وأما الثاني (2) ففيه (أولا) أنه معارض بصحيحة محمد بن مسلم أيضا
الأخرى (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الحمام يغتسل فيه الجنب
وغيره، اغتسل من مائه؟ قال: نعم لا بأس أن يغتسل منه الجنب ".
ورواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " قلت:
أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال:
إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا ".
إلا أنه يمكن حمل هذين الخبرين على ما له مادة أو كان كثيرا، ويخص الأول
بما ليس كذلك كما نقل عن الشيخ الجمع به بين صحيحتي محمد بن مسلم، وحينئذ تبقى
الصحيحة الأولى سالمة من المعارض.
و (ثانيا) تضمنه للتعويل على الشك والاحتمال في المنع في مقابلة يقين

(1) وهو خبر عبد الله بن سنان المتقدم في الصحيفة 436.
(2) وهو صحيح محمد بن مسلم المتقدم في الصحيفة 439.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق، والباب - 9 -
من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق.
441

الطهارة الثابت بالأصل، وهو خلاف القواعد الشرعية المتفق عليها (1) فلا بد من الخروج
عن ظاهره إلى الحمل على الكراهة ومرجوحية الاستعمال. إلا أنه يمكن تطرق النظر
إلى هذا الوجه أيضا بأن يقال: إن هذا مخصوص بصورة الشك بوجود الجنب، والخروج
فيه عن الظاهر باعتبار ما ذكر من المعارض متجه. لكن يبقى الكلام في صورة العلم
بوجود الجنب، كما هو أحد الأمرين المذكورين في الخبر، والخروج عن الظاهر ثمة
لمعارض لا يستلزم الخروج عنه فيما لا معارض فيه، غاية الأمر أنه يراد من الخبر
الحقيقة والمجاز باعتبارين، ولا نكير فيه.
وما أجاب به في المعالم عن ذلك حيث قال: " إن هذا تكلف، والتعلق
بهذا التكلف إنما يتوجه لو كانت الرواية ظاهرة في المدعى من غير هذا الوجه.
والأمر على خلاف ذلك.
(أما أولا) فلأن عدم الاغتسال من ماء الحمام مع مباشرة الجنب له إنما
أفاده فيها استثناؤه من النهي عن الاغتسال بماء آخر، وهو أعم من الأمر به، إذ
يكفي في رفع النهي الإباحة.
و (أما ثانيا) فلأن الاغتسال فيها مطلق بحيث يصلح لإرادة رفع الحدث
وإزالة الخبث، وستعلم أن المانعين من رفع الحدث به قائلون بجواز استعماله في إزالة
الخبث، فلا بد من التأويل بالنظر إليه، فتضعف الدلالة، ويشكل الخروج عن
ظواهر العمومات بمجرد ذلك " انتهى مخدوش بوجهيه.

(1) فإنه تضمن المنع من استعمال ماء الحمام إذا كثر الناس فيه واحتمل وجود
الجنب فيهم، والاتفاق واقع على أن الشك في حصول المقتضي واحتماله غير موجب للمنع
فلا بد من صرفه عن ظاهر. ومما يدل أيضا من الأخبار على ما ذكرنا في خصوص هذا
المقام مضمرة أبي الحسن الهاشمي قال سئل عن الرجال يقومون على الحوض في الحمام
لا أعرف اليهودي من النصراني ولا الجنب من غير الجنب؟ قال: تغتسل منه ولا تغتسل
من ماء آخر، فإنه طهور (منه قدس سره).
442

(أما أولهما) فلما تقرر من أن الاستثناء يقتضي ثبوت الحكم للمستثنى اثباتا
ونفيا على عكس ما ثبت للمستثنى منه، ولذا عرف نجم الأئمة في شرح الكافية المستثنى
بأنه المذكور بعد (إلا) وأخواتها مخالفا لما قبلها نفيا واثباتا، وحينئذ فإذا قيل:
لا تضرب أحدا إلا زيدا. فهم منه أنه مريد لضرب زيد وآمر به لا أنه أعم
من الأمر بضربه وعدمه، وكذا قوله (عليه السلام) (1): " اقتلوا المشركين إلا
أهل الذمة " مفيد للنهي عن قتل أهل الذمة لا أنه للأعم منه ومن عدمه، ولو تم
ما ذكره لا طرد في جميع صور الاستثناء، فلا يثبت للمستثنى بمجرد الاستثناء حكم
على الخصوص، بل لا بد معه من التصريح، فلو قال: لزيد علي عشرة إلا ثلاثة.
لم يفد نفي الثلاثة عنه بطريق اليقين، بل لا بد في نفيها جزما من أمر زائد على الاستثناء
وهو ظاهر البطلان. وبذلك يظهر لك أن قوله (عليه السلام) في الخبر المذكور:
" ولا تغتسل من ماء آخر إلا أن يكون فيه جنب.. " دال على الأمر بالاغتسال
من الماء الآخر مع وجود الجنب لا لمجرد إباحة الآخر وعدم النهي عنه.
و (أما ثانيهما) فلأن الاغتسال شرعا وعرفا مخصوص بغير إزالة الخبث،
إذ إنما يطلق عليها الغسل لا الاغتسال (2).

(1) لم نعثر على هذا الحديث بعد الفحص عنه في مظانه، والذي وجدناه في الوسائل
في الباب 18 من كتاب الجهاد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " اقتلوا المشركين
واستحيوا شيوخهم وصبيانهم ".
(2) وحاصل كلامه أن الاستثناء عبارة عن رفع الحكم السابق، والحكم السابق
هنا هو النهى عن الاغتسال بماء آخر، ورفعه هو عدم النهي عن ذلك، وعدم النهي
أعم من الأمر، فيرجع إلى الإباحة. وفيه أن الاستثناء إنما هو اثبات نقيض ما ثبت
للمستثنى منه من الحكم، كما عرفته من تعريف نجم الأئمة. وأيضا على تقدير ما ذكره فرفع
الحكم السابق لا يتحقق إلا بوجود نقيضه واثباته للمستثنى، لأنه مع إرادة العموم كما
زعمه المحتمل لجواز أن يثبت للمستثنى ما ثبت أولا للمستثنى منه لا يحصل رفع الحكم السابق
كما لا يخفى (منه قدس سره).
443

والتحقيق أن الأظهر في الجواب هو الحمل على وجود النجاسة في بدن الجنب،
حملا على الغالب المتكرر من تأخيرها إلى وقت الغسل. وعلى ذلك يحمل الخبر
الثالث والرابع (1) وإلى ذلك أشار أيضا في المعالم، حيث قال: " ولعل الأخبار
الواردة بالنهي عن استعمال ما يغتسل به الجنب ناظرة إلى ما هو الغالب من عدم انفكاكه
من بقايا آثار المني " انتهى.
بل نقول: إن المستفاد من الأخبار الواردة في بيان كيفية غسل الجنابة حمل
الجنب في الأخبار حيث يطلق على من كان ذلك، وإن لم يكن كليا فلا أقل
أن يكون غالبا.
ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) (2) قال: " سألته
عن غسل الجنابة. قال: تبدأ بكفيك فتغسلهما، ثم تغسل فرجك، ثم تصب الماء
على رأسك.. الحديث ".
وصحيحة زرارة (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل
الجنابة. فقال: تبدأ فتغسل كفيك. ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل
فرجك. الحديث ".
وصحيحة ابن أبي نصر (4) قال: " سألت الرضا (عليه السلام) عن غسل
الجنابة. فقال: تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك. وتبول إن قدرت على البول
ثم تدخل يدك في الإناء، ثم اغسل ما أصابك منه.. الحديث " إلى غير ذلك من
الأخبار المستفيضة بذلك، فمن أحب الوقوف عليها فليرجع إلى مظانها.

(1) وهما رواية حمزة بن أحمد وصحيحة محمد بن مسلم المتضمنة لعدم نجاسة الكر
المتقدمان في الصحيفة 439.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 26 - من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 26 و 34 من أبواب الجنابة.
444

وجه الدلالة أن اشتمال أجوبتهم (عليهم السلام) عن بيان كيفية غسل الجنابة
على إزالة المني يشعر بأن له مدخلا في الكيفية، وما ذلك إلا بناء على ما قلنا من أنه
لما كان الغالب تأخير إزالة المني إلى حين إرادة الاغتسال أدرجه في الكيفية. والأحكام
في الأخبار كما ذكرنا في غير المقام إنما تبنى على ما هو الغالب المتكرر، ألا ترى
أن أحد سببي الجنابة الموجب للغسل أيضا الايلاج خاصة، مع أن الأخبار الواردة
في بيان الكيفية إنما خرجت بناء على السبب الآخر الذي هو الإنزال، وما ذاك إلا بناء
على ما ذكرنا، وحينئذ فحيث يطلق الجنب في أخبارهم (عليهم السلام) يحمل على من
كان كذلك إلا مع قيام القرينة المخرجة. وبهذا التحقيق في المقام يحصل المخرج
من المضيق في جملة من الأحكام: منها أخبار هذا الموضع، ومنها الأخبار الواردة
بنزح سبع دلاء لاغتسال الجنب في البئر، فإنه مع عدم النجاسة في بدنه لا يظهر للنزح واجبا
أو مستحبا وجه حسن في ذلك المجال. وما تكلفه جملة من أصحابنا لدفع ذلك لا يخلو
من تمحل واشكال، إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع للأخبار.
وعلى هذا فتكون الأخبار التي أشرنا إليها آنفا مما دل على نفي البأس عما
ينتضح من الجنب حال اغتساله محمولة على الاستثناء من نجاسة القليل دفعا للحرج،
كما يشير إليه الاستشهاد بالآية في صحيحة الفضيل (1) المتقدمة (2).

(1) فإن ظاهر الاستشهاد بالآية المذكورة حصول الحرج لو منع من استعمال ذلك الماء
الذي انتضح فيه من غسل الجنب، ومن المعلوم أنه لو كان طاهرا فلا منع ولا حرج في ذلك
فإنه متى كان بدن الجنب طاهرا والأرض التي يغتسل عليها طاهرة فالمنتضح منها باق على أصله
الطهارة كسائر المواضع الملاقية للماء الطاهر، فأي نكتة تترتب على ايراد الآية هنا؟ بل
إنما يتجه ايرادها على تقدير نجاسة الأرض أو بدن الجنب، إذ موردها كون ذلك رخصة
وتخفيفا، من شأن الرخص ورودها في المقامات المقتضية للمنع. ويؤيد ذلك ويوضحه
رواية عمر بن يزيد المذكور، فإن نفى البأس عما ينزو من الأرض التي يبال عليها صريح
فيما ذكرناه. والله العالم (منه رحمه الله).
(2) في الصحيفة 438.
445

وأصرح منها دلالة على الاستثناء المذكور رواية عمر بن يزيد (1) قال: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): اغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة، فيقع
في الإناء ما ينزو من الأرض؟ فقال: لا بأس به ".
وينبغي التنبيه على فوائد:
(الأولى) إن الماء المستعمل الذي يتعلق به البحث هل هو عبارة عن البقية
بعد الاستعمال سوء كان بعد تمام الاستعمال أو في أثنائه أو عبارة عما ينفصل عن البدن
ولو تقاطر وترشح، أو يخص بما كان له قدر يعتد به فلا يدخل فيه التقاطر ونحوه.
الظاهر أنه لا خلاف في خروج الأول وجواز رفع الحدث به، ويدل عليه
الأخبار المتضمنة لاغتساله (صلى الله عليه وآله) مع عائشة من إناء واحد، ومنها
صحيحة زرارة (2) وفيها " فضرب بيده في الماء قبلها فأنقى فرجه، ثم ضربت هي
فأنقت فرجها. ثم أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا.. الحديث " قال
في الفقيه (3). " ولا بأس بأن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد، ولكن تغتسل
بفضله ولا يغتسل بفضلها ".
وأما الثاني فالذي يظهر من المنتهى أنه محل البحث، إلا أن الظاهر من كلام
الصدوق (رحمه الله) خلافه. لأنه مع منعه التطهير بغسالة الجنب قال (4): " وإن
اغتسل الجنب فنزا الماء من الأرض فوقع في الإناء أو سال من بدنه في الإناء،
فلا بأس به " انتهى. وعلى ذلك تدل الأخبار المستفيضة التي أشرنا إليها آنفا (5) ومما يؤيد

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 32 - من أبواب الجنابة.
(3) في باب (المياه وطهرها ونجاستها)
(4) في باب (المياه وطهرها ونجاستها)
(5) وهي الأخبار الدالة على نفي البأس عما ينتضح من الجنب حال اغتساله. المروية
في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
446

ذلك أن الشيخ (رضوان الله عليه) قد روى أكثر تلك الروايات ولم يتعرض لردها
ولا تأويلها بوجه، مع كونها مخالفة لمذهبه لو كان ذلك من محل النزاع، وفيه ايذان
بأنه ليس من محل النزاع في شئ. ومع فرض دخوله في محل البحث فهو مردود بالأخبار
المشار إليها، لدلالتها على جواز الاستعمال مع تساقط ماء الغسل في الإناء.
وأما الثالث فالظاهر أنه هو محل البحث على الخصوص.
(الثانية) ينبغي أن يعلم أن موضع البحث هو الماء الذي يغتسل به المحدث
الخالي بدنه من نجاسة خبثية، وإلا كان حكم الماء المتساقط عن الموضع النجس حكم
غسالة النجاسة، وبذلك صرح أيضا جمع من الأصحاب. والظاهر أنه بهذا خرجت
الأخبار التي استند إليها الخصم كما أشرنا إليه آنفا.
(الثالثة) الظاهر أنه لا خلاف في إزالة الخبث بهذا الماء كما مرت الإشارة
إليه، وممن نقل الاجماع على ذلك العلامة في المنتهى وابنه فخر المحققين في الشرح.
واحتج له مع ذلك في المنتهى فقال ما لفظه: " الثالث المستعمل في غسل الجنابة
يجوز إزالة النجاسة به اجماعا منا، لاطلاقه. والمنع من رفع الحدث به عند بعض الأصحاب
لا يوجب المنع من إزالة النجاسة، لأنهم إنما قالوه ثم لعلة لم توجد في إزالة الخبث،
فإن صحت تلك العلة ظهر الفرق وبطل الالحاق، وإلا حكموا بالتساوي في الماءين
كما قلناه " انتهى.
وعبارة الذكرى هنا ظاهرة في الخلاف، حيث قال: " جوز الشيخ والمحقق
إزالة النجاسة به، لطهارته ولبقاء قوة إزالته الخبث وإن ذهب قوة رفعه الحدث،
وقيل: لا، لأن قوته استوفيت فالتحق بالمضاف " انتهى، ومن ثم اعترض به بعض
المتأخرين على مدعي الاجماع. وأجاب في المعالم باحتمال أن يكون المنقول عنه في عبارة
الذكرى بعض المخالفين، كما يشعر به تعليله الواهي المنقول ثمة. وفيه أن المعهود
447

من كلامه التصريح بذلك لو كان، ثم احتمل أيضا أن يكون هذا القول مستحدثا بعد
دعوى الاجماع فلا يقدح. وفيه ما فيه. إلا أن فيه أن الخطب هين بعد الإحاطة بما
أسلفنا من ضعف أدلة المنع من رفع الحدث، وحينئذ فلا تكون في شك من ضعف
هذا القول في هذا المكان من أي قائل كان.
(الرابعة) المنقول في كتب الأصحاب (رضوان الله عليهم) جعل محل
الخلاف هو غسالة الحدث الأكبر، حتى أن المحقق الشيخ حسن في المعالم بعد أن
نقل عن المنتهى الاقتصار في جواز إزالة النجاسة بالمستعمل على ما استعمل في غسل
الجنابة كما قدمنا من عبارته حمل ذكر غسل الجنابة على التمثيل دون الحصر. وأنت
خبير بأن كلام الصدوق في الفقيه صريح في التخصيص بغسالة الجنابة، وكذا الأخبار
المنقولة دليلا للقول المذكور كما أسلفناها، ومثله أيضا ما نقله في المختلف عن الشيخ
(رحمه الله) من الدليل، حيث قال: احتج الشيخ (رحمه الله) بأن الانسان مكلف
بالطهارة بالمتيقن طهارته المقطوع على استباحة الصلاة باستعماله، والمستعمل في غسل
الجنابة ليس كذلك، لأنه مشكوك فيه، فلا يخرج عن العهدة باستعماله، ولا معنى
لعدم الاجزاء إلا ذلك. وبما رواه عبد الله بن سنان ثم ساق الرواية كما قدمنا (1).
ولم يحضرني من كتب أولئك القائلين زيادة على ما ذكرت لا حقق منه الحال، وينبغي
التنبيه لمثل ذلك. وعلى تقدير كون محل البحث على ما نقله الأصحاب من العموم
فلا يخفى أن الدليل حينئذ أخص من المدعى لما عرفت. نعم ربما يتمسك بقوله (عليه
السلام) في رواية عبد الله بن سنان (2) التي هي أحد أدلة ذلك القول: " وأشباهه "
بعطفه على " الماء الذي يغتسل به من الجنابة ". إلا أن فيه احتمال عطفه على فاعل " يجوز "
أعني قوله: " أن يتوضأ به " بمعنى أنه لا يجوز الوضوء به ولا أشباه الوضوء من سائر
الاستعمالات في رفع حدث أو خبث.

(1) في الصحيفة 436.
(2) في الصحيفة 436.
448

(الخامسة) نفي جملة من المتأخرين الخلاف عن المستعمل في الأغسال المندوبة
ونقل ذلك أيضا عن الشيخ في الخلاف، وهو ظاهره في الإستبصار أيضا. والظاهر أنه بناء منهم على عدم رفعه الحدث، كما هو المشهور من عدم التداخل بين الأغسال
المستحبة والواجبة وعدم رفع المستحب للحدث، وإلا فإنه يأتي الكلام فيه أيضا كما
لا يخفى. وسيأتي ما يوضح هذه الجملة في بحث نية الوضوء إن شاء الله تعالى.
(السادسة) إذا وجب الغسل من حدث مشكوك فيه كمن تيقن الجنابة
والغسل وشك في المتأخر منهما، وواجه المني في ثوبه المختص به، ونحوهما فهل يكون
الماء مستعملا أم لا؟ اشكال نبه عليه في المنتهى، قال: " لأنه ماء طاهر في الأصل
لم تعلم إزالة الجنابة به، فلا يلحقه حكم المستعمل. ويمكن أن يقال إنه مستعمل،
لأنه قد اغتسل به من الجنابة وإن لم تكن معلومة، إلا أن الاغتسال معلوم فيلحقه
حكمه، لأنه ماء أزال مانعا من الصلاة، فانتقل إليه المنع كالمتيقن " انتهى.
واستظهر بعض (1) الاحتمال الأول، ووجهه غير ظاهر.
والأظهر عندي الثاني، لأنه متى حكم بكونه محدثا شرعا وممنوعا من الصلاة
بدون الغسل، ترتب على غسله ما يترتب على غسل متيقن الحدث. وأما كونه كذلك
واقعا أم لا فلا يؤثر في المقام، إذ الأحكام الشرعية كما عرفت في غير موضع
إنما ترتبت على الظاهر لا على نفس الأمر والواقع.
(السابعة) هل يشترط في صدق الاستعمال الانفصال عن البدن أم لا؟
المفهوم من كلام العلامة (قدس سره) في النهاية والمنتهى الثاني، قال
في المنتهى: " لو اغتسل من الجنابة وبقيت في العضو لمعة لم يصبها الماء فصرف البلل
الذي على العضو إلى تلك اللمعة جاز، أما على ما اخترناه نحن فظاهر، وأما على قول

(1) هو المحقق الشيخ حسن في المعالم، والفاضل الخراساني في الذخيرة (منه رحمه الله)
449

الحنفية فكذلك (1) لأنه إنما يكون مستعملا بانفصاله عن البدن، إلى أن قال: وليس
للشيخ فيه نص، والذي ينبغي أن يقال على مذهبه عدم الجواز في الجنابة، فإنه
لم يشترط في المستعمل الانفصال " انتهى.
وأنكر هذه النسبة إلى الشيخ (رحمه الله) جمع ممن تأخر عنه، لعدم تصريحه
بذلك في كتبه المشهورة، مع استلزام ذلك عدم الاجتزاء باجراء الماء في الغسل من
محل إلى آخر بعد تحقق مسماه. وهو بمحل من البعد بل البطلان، كما لا يخفى على
من لاحظ الأخبار الواردة في كيفية الغسل من الجنابة (2).
(الثامنة) لو اجتمع كر فصاعدا من الماء المستعمل، فهل يزول عنه حكم
الاستعمال بذلك أم لا؟ قولان، اختار أولهما الشيخ في المبسوط والعلامة في المنتهى،
وثانيهما المحقق في المعتبر، وتردد الشيخ في الخلاف.
احتج في المنتهى بما حاصله أن بلوغ الكر مانع من الانفعال بالنجاسة. فمنعه
من الانفعال بارتفاع الحدث أولى، إذ لو كانت نجاسة لكانت تقديرية. وبأنه لو
اغتسل في كر لما انفعل فكذا المجتمع. ثم قال: " لا يقال: يرد ذلك في النجاسة
العينية. لأنا نقول: هناك إنما حكمنا بعدم الزوال لارتفاع قوة الطهارة بخلاف
المتنازع " انتهى.
احتج المحقق في المعتبر بأن ثبوت المنع معلوم شرعا فيقف ارتفاعه على وجود
الدلالة، قال: " وما يدعى من قول الأئمة (عليهم السلام): " إذا بلغ الماء كرا

(1) تقدم الكلام في قول الحنفية في التعليقة 3 في الصحيفة 436.
(2) لتصريح جملة منها " أنه يصب على منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه الأيسر
مرتين، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه " وفي بعض " إن كان يغتسل في مكان يسيل الماء على
رجليه بعد الغسل فلا عليه أن لا يغسلهما، وإن كان يغتسل في مكان يستنقع رجلاه في الماء
فليغسلهما " (منه رحمه الله).
450

لم يحمل خبثا " (1) لم نعرفه ولا نقلناه عنهم، ونحن نطالب المدعي هذا اللفظ
بالاسناد إليهم. أما قولهم (عليهم السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (2)
فإنه لا يتناول موضع النزاع، لأن هذا الماء عندنا ليس بنجس، ولو بلغ كرا ثم
وقعت فيه نجاسة لم تنجسه. نعم لا يرتفع ما كان فيه من المنع " انتهى.
ونقل عن الشيخ في الخلاف أن منشأ التردد عنده، من أنه ثبت فيه المنع قبل
أن يبلغ كرا فيحتاج في جواز استعماله بعد بلوغه إلى دليل، ومن دلالة ظاهر الآيات
والأخبار على طهارة الماء، خرج منه الناقص عن الكر بدليل فيبقى ما عداه، وقولهم
(عليهم السلام): " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا " (3).
ولا يخفى على المصنف الخبير أن ما ذهب إليه المحقق هو الحري بالتخيير،
قال في المعالم بعد نقل كلمات القوم في هذا المجال، ونعم ما قال: " والعجب أن الشيخ
احتج في الخلاف على عدم زوال النجاسة في المجتمع من الطاهر والنجس بأنه ماء
محكوم بنجاسته، فمن ادعى زوال حكم النجاسة عنه بالاجتماع، فعليه الدليل، وليس
هناك دليل فيبقى على الأصل. ولو صح الحديث الذي جعله في موضع النزاع منشأ
لاحتمال زوال المنع، لكان دليلا على زوال النجاسة هناك، وليس بين الحكمين
في الخلاف إلا أوراق يسيرة. والحق بناء الحكم هنا على الخلاف الواقع في زوال
النجاسة بالاتمام، فمن حكم بالزوال هناك تأتي له الحكم هنا بطريق أولى، ومن لا
فلا. وأما التفرقة التي صار إليها الشيخ والعلامة فلا وجه لها " انتهى.
(التاسعة) قال في المنتهى: " لو غسل رأسه خارجا ثم أدخل يده في القليل

(1) تقدم الكلام فيه في التعليقة 1 في الصحيفة 346.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
(3) تقدم الكلام فيه في التعليقة 1 في الصحيفة 346.
451

ليأخذ ما يغسل به جانبه، فالأقرب أن الماء لا يصير مستعملا، ولو نوى غسل يده
صار مستعملا " انتهى.
وتوقف في النهاية في صورة وضع اليد ليأخذ ما يغسل به.
قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين (1): " وكأن وجه التوقف أنه لا دخل
للقصد في غسل اليد، بل إدخاله يده في الإناء يحسب من الغسل وإن لم يقصده، فيصير
به مستعملا. ولا يخفى أن لهذا الوجه قوة سيما إذا كان عند إدخال اليد ذاهلا عن أنه
يقصد الغسل والأخذ، وحينئذ يقوى الاشكال. وما ذكره بعضهم من أنه لا وجه
لهذا التوقف لا وجه له " انتهى. وأشار بقوله: " وما ذكره بعضهم.. الخ "
إلى صاحب المعالم، حيث قال بعد نقل التوقف عن النهاية: " ولا وجه له ".
أقول: وما ذكره هذا الفاضل مردود من وجوه:
(أحدها) ما تقدم في الفائدة الأولى من الاتفاق على خروج مثل ذلك
عن المستعمل، كما يدل عليه أخبار غسله (صلى الله عليه وآله) مع عائشة.
و (ثانيها) ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في بحث النية من أن المدار
في تميز الأفعال بعضها عن بعض من عبادات وغيرها على القصود والنيات.
و (ثالثها) أنه يأتي على قوله أنه لو ارتمس في الماء وكان جنبا ذاهلا عن قصد
الغسل فضلا عن أن يكون ناويا لآخذ شئ من داخل الماء، فإنه يحصل له الطهارة من حدث
الجنابة. ولا أظنه يلتزمه.
وبالجملة فكلامه هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعرج في مقام التحقيق عليه.
(العاشرة) لا يخفى أنه كما يصدق المستعمل بالنسبة إلى ما يسيل ويتقاطر
من الاغتسال ترتيبا، كذلك يصدق بالنسبة إلى ما يغتسل فيه ارتماسا من الماء القليل

(1) هو الفاضل الخوانساري في شرح الدروس (منه رحمه الله).
452

من غير خلاف يعرف بينهم. إلا أن الخلاف هنا وقع في موضعين:
(أحدهما) أن المرتمس إذا نوى خارج الماء سواء كان بجميع بدنه أم لا،
فهل يحكم بصحة غسله وإن كان الماء يصير مستعملا بعد اتمام غسله، أو يصير الماء بمجرد
إدخال عضو فيه بعد النية مستعملا ويكون غسله حينئذ باطلا، بناء على المنع من استعمال
المستعمل ثانيا.
قرب في المنتهى الأول وجعله في النهاية احتمالا، حيث قال فيها: " لو نوى
قبل تمام الانغماس أما في أول الملاقاة أو بعد غمس بعض البدن، احتمل أن لا يصير
مستعملا، كما لو ورد الماء على البدن، فإنه لا يحكم بكونه مستعملا بأول الملاقاة،
لاختصاصه بقوة الورود، والحاجة إلى رفع الحدث، وعسر افراد كل موضع بماء
جديد. وهذا المعنى موجود سواء كان الماء واردا أو هو " انتهى.
أقول: وربما كان وجه الاحتمال الآخر هو الفرق بين الغسل الترتيبي
والارتماسي، بأن يقال: إن عدم الحكم بكونه مستعملا في الترتيبي بأول الملاقاة لما ذكر
من الضرورة ولزوم الحرج لا يستلزم الحكم بذلك في الارتماسي، لانتفائهما فيه،
بأن ينوي بعد تمام الانغماس لئلا يلزم المحذور المذكور. إلا أن فيه أن ما دل على جواز
الارتماس من الأخبار مطلق لا تقييد فيه بكونه في الكثير أو كون النية بعد تمام الانغماس
في الماء. وما دل من الأخبار على منع استعمال المستعمل ثانيا بعد تسليمه لا شمول له
للصورة المذكورة حتى تقيد به تلك الأخبار، فيجب العمل باطلاق تلك الأخبار،
والحكم باجزاء الارتماس على أي نحو كان.
و (ثانيهما) إذا نوى بعد تمام انغماسه في الماء فإنه يصح غسله اجماعا
ويكون الماء مستعملا، لكن هل يكون مستعملا بالنسبة إليه وإلى غيره وإن
لم يخرج من الماء، أو لا يكون مستعملا بالنسبة إليه حتى يخرج من الماء
أو ينتقل إلى محل آخر وإن كان مستعملا بالنسبة إلى غيره بدون ذلك، أو يكون
453

مستعملا بالنسبة إليه بدون ذلك ولا يكون مستعملا بالنسبة إلى غيره إلا بذلك؟ قوال:
(أولها) صريح العلامة في المنتهى، حيث قال: " لو انغمس الجنب
في ماء قليل، فإن نوى بعد تمام انغماسه واتصال الماء بجميع البدن ارتفع حدثه، لوصول
الماء الطهور إلى محل الحدث مع النية. ويكون مستعملا، وهل يحكم بالاستعمال في حق
غيره قبل انفصاله عنه؟ الوجه ذلك " انتهى.
و (ثانيها) ظاهر الشهيد في الذكرى، حيث قال: " يصير الماء مستعملا
بانفصاله عن البدن، فلو نوى المرتمس في القليل بعد تمام الارتماس ارتفع حدثه وصار
مستعملا بالنسبة إلى غيره وإن لم يخرج ".
وأورد عليه فإن حكمه بصيرورته مستعملا بالنسبة إلى غيره قبل الخروج
مشكل بعد قوله أولا: إن الاستعمال يتحقق بانفصاله عن البدن، إذ مقتضاه توقف صيرورته
مستعملا حينئذ على خروجه أو انتقاله تحت الماء إلى محل آخر غير ما ارتمس فيه.
وأجيب بأنه كان مراده اعتبار الانفصال عن البدن بالنسبة إلى نفس المغتسل
وأن كان ظاهر عبارته العموم. ولا يخلو من بعد، لعدم صحة تفريع " فلو نوى "
على ما قبله (1).
ولعل الأظهر في الجواب أنه (قدس سره) جعل تمام الارتماس المترتب عليه
ارتفاع الحدث وصيرورة الماء مستعملا في حكم انفصال الماء عن البدن، فيكون مراده
بانفصال الماء عن البدن المترتب عليه صيرورته مستعملا ما هو أعم من ذلك. وبهذا المعنى

(1) لأنه متى فسر قوله: " يصير الماء مستعملا.. الخ " بالمغتسل نفسه وخص به
يصير اعتبار الانفصال عن البدن بالنسبة إليه خاصة، مع أن ما فرع عليه من صيرورة الماء
مستعملا بعد نية المرتمس بعد تمام الارتماس إنما هو بالنسبة إلى الغير، ولا وجه للتفريع
المذكور، لتغاير محل الحكم المذكور (منه رحمه الله).
454

صرح شيخنا الشهيد الثاني في شرح الإرشاد (1) والظاهر أن تحقق الاستعمال وصدقه
على الماء متفرع على رفع الحدث به في صورة الارتماس وإن لم يخرج، إذ يصدق عليه
أنه ماء اغتسل به من الجنابة، فتشمله رواية ابن سنان (2) القائلة بأن ما يغتسل به الرجل
من الجنابة لا يجوز أن يتوضأ به. ويجب بناء على العمل بها التجنب عنه. وأما
التوقف على الخروج أو الانتقال فمما لا دليل عليه في حقه ولا في حق غيره.
لما ذكرناه.
و (ثالثها) ظاهر العلامة في النهاية، حيث قال: " لو انغمس الجنب
في ماء قليل ونوى، فإن نوى بعد تمام انغماسه فيه واتصال الماء بجميع البدن ارتفع
حدثه وصار مستعملا للماء، وهل يحكم باستعماله في حق غيره قبل انفصاله؟ يحتمل
ذلك، لأنه مستعمل في حقه فكذا في حق غيره. وعدمه، لأن الماء ما دام مترددا
على أعضاء المتطهر لا يحكم باستعماله. فعلى الأول لا يجوز لغيره رفع الحدث به عند
الشيخ ويجوز على الثاني " انتهى. ولا يخفى عليك ما في تعليله العدم من الوهن بما حققناه
قال في المعالم بعد نقل كلام الذكرى وكلام النهاية: " والتحقيق أن الانفصال
إنما يعتبر في صدق الاستعمال بالنظر إلى المغتسل، فما دام الماء مترددا على العضو
لا يحكم باستعماله بالنسبة إليه. وإلا لوجب عليه افراد كل موضع من البدن بماء جديد.
ولا ريب في بطلانه، إذ الأخبار ناطقة بخلافه، والبدن كله في الارتماس كالعضو
الواحد. وأما بالنظر إلى غير المغتسل فيصدق الاستعمال بمجرد إصابة الماء المحل المغسول
بقصد الغسل، وحينئذ فالمتجه هنا صيرورة الماء مستعملا بالنسبة إلى غير المغتسل
بمجرد النية والارتماس، وتوقفه بالنظر إليه على الخروج أو الانتقال. وقد حكم

(1) حيث قال: " لو ارتمس في القليل ارتفع حدثه بعد تمام الارتماس. لأنه في حكم
الانفصال، وصار مستعملا بالنسبة إلى غيره وإن لم يخرج منه " انتهى. (منه رحمه الله).
(2) المتقدمة في الصحيفة 436.
455

في المنتهى بصيرورته مستعملا بالنسبة إليهما قبل الانفصال، والوجه ما ذكرناه " انتهى.
وفيه نظر من وجوه:
(أما أولا) فلأن الفرق الذي ذكره بين المغتسل وغيره إما مستفاد
من كلام المانعين أو من الأدلة الواردة لهم، وكلاهما ممنوع (أما الأول) فلعدم
تصريح أحد منهم بذلك. و (أما الثاني) فلأن المستفاد من رواية ابن سنان (1) التي
هي أصرح أدلتهم صدق الاستعمال على هذا الماء بعد حصول رفع الحدث به، انفصل أو لم
ينفصل. وأما ما علل به عدم الاستعمال بالنسبة إلى المغتسل نفسه من أنه ما دام الماء
مترددا على العضو لا يحكم.. الخ ففيه أن هذا إنما يلزم بالنسبة إلى المغتسل ترتيبا
أو ارتماسا إذا نوى خارج الماء مثلا كما تقدمت الإشارة إليه آنفا، لا فيما إذا نوى بعد
تمام الارتماس كما هو المفروض. وعدم الحكم بكونه مستعملا ثمة للحرج الذي ذكره
لا يستلزم ذلك في محل البحث، لعدم العلة المذكورة.
و (أما ثانيا) فلأنه يرد عليه أنه لو لم يخرج من الماء مدة يوم مثلا لا يحكم
باستعمال الماء بالنسبة إليه فيجور له الوضوء أو الاغتسال منه، بل ولو خرج بعض بدنه
ولم يخرج بتمامه. والتزامه لا يخلو من بعد.
و (أما ثالثا) فلأن حكمه بأن الانتقال بمنزلة الخروج في صدق الاستعمال به
فيه أن جميع هذا الماء إما في حكم الماء الواحد أو المياه المتعددة، فعلى الأول فما لم ينفصل
عنه بتمامه فإنه يجري فيه الدليل الذي ذكره. وعلى الثاني فإنه يلزم جواز أن يتطهر به
شخص آخر في موضع آخر منه وإن انتقل أو خرج أيضا، وهو لا يقول به. نعم
اعتبار الانتقال أو الخروج إنما يعتبر بعد النية داخل الماء في صدق الغسل الذي هو
عبارة عن جري جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو بمعاون لو كان الماء
ساكنا، وهو غير محل البحث.

(1) المتقدمة في الصحيفة 436.
456

(الحادية عشرة) هل يختص البحث في هذه المسألة والخلاف فيها بما كان
قليلا فقط، أو يشمل الكثير أيضا؟
الظاهر من كلمات جمع من الأصحاب تصريحا تارة وتلويحا أخرى
هو الاختصاص بالقليل.
ونقل بعض فضلاء متأخري المتأخرين عن شيخنا المفيد في المقنعة أنه حكم
بكراهة الارتماس في الماء الكثير الراكد. والظاهر أنه ليس الوجه فيه إلا صيرورته
مستعملا يمتنع لطهارة به من الحدث ثانيا بناء على مذهبه. والكراهة في كلام
المتقدمين كما هو في الأخبار أعم من المعنى المصطلح.
قال شيخنا البهائي (قدس سره) في حواشي كتاب الحبل المتين بعد أن نقل
في الأصل صحيحة صفوان بن مهران الجمال الدالة على السؤال عن الحياض التي بين مكة
والمدينة، وقد تقدمت في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة (1) وصحيحة محمد بن إسماعيل
ابن بزيع (2) قال: " كتبت إلى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء أو يستقى فيه
من بئر، فسيتنجي فيه الانسان من البول أو يغتسل فيه الجنب، ما حده الذي لا يجوز؟
فكتب: لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه " ما صورته: " استدلال العلامة
في المختلف الحديث السابع والثامن يعطي أن الخلاف ليس في الماء المنفصل عن أعضاء
الغسل فقط. بل هو جار في الكر الذي يغتسل فيه أيضا فتدبر " انتهى.
أقول: فيه أن الظاهر أن استدلال العلامة بصحيحة صفوان إنما هو من حيث
الاطلاق الشامل للأقل من كر. ولهذا أنه نقل ثمة عن الشيخ (رحمه الله) الجواب
عن الصحيحة المذكورة بالحمل على بلوغ الكر ولم يتعرض لرده. وهو ظاهر في أن
الكر ليس محل خلاف كما لا يخفى.

(1) في الصحيفة 296.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
457

وأما صحيحة محمد بن إسماعيل فلا يخفى ما فيها من الاجمال، لأن الماء المسؤول
عنه وإن كان السائل قد سأل عن بيان حده الذي يجوز معه لكن الإمام (عليه
السلام) لم يبينه له، إلا أنه بالنظر إلى قيام الدليل على نجاسة الماء القليل وأنه بالنسبة
إلى الطهارة حينئذ في حكم العدم، فلا بد من الحمل على الكرية وحمل النهي عنه إلا مع
الضرورة على التنزيه، بناء على أنه يشترط في ماء الطهارة ما لا يشترط في غيره
من المزية، وحينئذ يتم ما ذكره شيخنا البهائي (رحمه الله) بالنسبة إلى هذا الخبر.
نعم يبقى الكلام في استدلال العلامة به على الجواز، فإن للخصم الاستدلال
به على المنع وحمل الجوار هنا على الضرورة كما ينطق به لفظه، بعين ما تقدم (1) من حمل
الشيخ صحيحة علي بن جعفر على ذلك. وقول العلامة في المختلف في بيان وجه
الاستدلال بهذه الرواية: " أنه لو كان هذا الماء غير مطهر لما جاز الوضوء منه
من ضرورة وغيرها " مردود بحصول الرخص في الشريعة في مواضع لا تحصى،
وليس الرخصة إلا بتجويز ما منع منه تخفيفا وتسهيلا في بعض الموارد كما لا يخفى، إلا أن
كلام الشيخ في التهذيب (2) ظاهر الإباء لذلك، حيث إنه بعد أن نقل عبارة المقنعة
الدالة على أنه بالاغتسال في الكثير يخالف السنة استدل عليه بالصحيحة المذكورة،
قائلا بعد نقلها: " قوله (عليه السلام): لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه
يدل على كراهة النزول فيه، لأنه لو لم يكن مكروها لما قيد الوضوء والغسل منه بحال
الضرورة. ثم قال: وأما الذي يدل على أنه لا يفسد الماء إذا زاد على الكر بنزول
الجنب فيه ما تقدم من الأخبار وأنه إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شئ " انتهى. وهو
كما ترى صريح في عدم دخول قدر الكر في محل الخلاف، وعبارة المقنعة المنقولة
أيضا ظاهرة الانطباق على هذا الكلام، فحينئذ فما توهم من نسبة الخلاف إليهما في قدر

(1) في الصحيفة 440.
(2) في الصحيفة 42.
458

الكر أيضا ظاهر البطلان إلا أن يعلم تصريحهما بذلك في محل آخر. والله أعلم.
(الثانية عشرة) روى الشيخ في التهذيب (1) في الصحيح عن علي بن جعفر
عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: " سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية
أو مستنقع، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة، إذا كان لا يجد غيره، والماء
لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء، وهو متفرق، فيكف يصنع به وهو يتخوف
أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال: إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفا من الماء
بيد واحدة فلينضحه خلفه وكفا أمامه وكفا عن يمينه وكفا عن شماله. فإن خشي أن
لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ثم مسح جلده بيده. فإن ذلك يجزيه. وإن كان
الوضوء غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه. وإن كان الماء متفرقا فقدر
أن يجمعه وإلا اغتسل من هذا وهذا. فإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه
لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه، فإن ذلك يجزيه ".
أقول: وهذا الخبر من مشكلات الأخبار ومعضلات الآثار، وقد تكلم فيه
جملة من علمائنا الأبرار رفع الله تعالى أقدارهم في دار القرار، وحيث كان مما يتعلق
بهذا المقام ويدخل في سلك هذا النظام رأينا بسط الكلام فيه واردافه بما يكشف
عن باطنه وخافيه.
فنقول: إن الكلام فيه يقع في مواضع:
(الأول) اختلف أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أن النضح للجوانب
الأربعة في الخبر المذكور هل هو للأرض أم البدن. وعلى أي منهما فما الغرض منه
وما الحكمة فيه؟
فقيل بأن محل النضح هو الأرض، وقد اختلف في وجه الحكمة على هذ القول.

(1) في الصحيفة 118، وفي الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
459

فظاهر الخبر المشار إليه وبه صرح البعض أن ذلك لدفع النجاسة الوهمية
الناشئة من تخوف شرب السباع التي من جملتها الكلاب ونحوها مع قلة الماء. ولكن فيه
أن تعدد النضح في الجهات الأربع لا يظهر له وجه ترتب على ذلك، إذ يكفي النضح
في جهة واحدة. ولعل الأقرب كون ذلك لما ذكر مع منع رجوع الغسالة إلى الماء، كما
يشير إلى قوله (عليه السلام) في آخر الخبر: " فإن كان في مكان واحد وهو قليل
لا يكفيه لغسله، فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه " فإنه يشعر بكون النضح أولا
لمنع رجوع الغسالة، لكن مع قلة الماء على الوجه المذكور لا عليه أن يغتسل ويرجع
إلى مكانه.
ويؤيد ذلك ويوضحه أن الذي صرح به غير هذا الخبر من الأخبار الواردة
في هذا المضمار هو أن العلة منع رجوع الغسالة.
ومنها رواية ابن مسكان (1) قال: " حدثني صاحب لي ثقة أنه سأل
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد أن يغتسل
وليس معه إناء والماء في وهدة، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء، كيف يصنع؟ قال:
ينضح بكف بين يديه وكفا من خلفه وكفا عن يمينه وكفا عن شماله، ثم يغتسل ".
وما رواه في المعتبر (2) والمنتهى عن جامع البزنطي عن عبد الكريم عن محمد
ابن ميسر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال " سئل عن الجنب ينتهي إلى الماء
القليل والماء في وهدة، فإن هو اغتسل رجع غسله الماء، كيف يصنع؟ قال: ينضح
بكف بين يديه وكف خلفه وكف عن يمينه وكف عن شماله، ويغتسل ".
وبذلك أيضا صرح شيخنا الصدوق (عطره الله مرقده) في كتاب من لا يحضره
الفقيه (3) حيث قال: " فإن اغتسل الرجل في وهدة وخشي أن يرجع ما ينصب عنه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) في الصحيفة 22.
(3) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).
460

إلى الماء الذي يغتسل منه، أخذ كفا وصبه أمامه وكفا عن يمينه وكفا عن يساره وكفا
من خلفه، واغتسل منه ".
وقال أيضا والده (قدس سره) في رسالته إليه: " وإن اغتسلت من ماء
في وهدة وخشيت أن يرجع ما ينصب عنك إلى المكان الذي تغتسل فيه، أخذت له
كفا وصببته عن يمينك وكفا عن يسارك وكفا خلفك وكفا أمامك، واغتسلت ".
والخبران المنقولان مع العبارتين المذكورتين وإن اشتركا في كون العلة منع
رجوع الغسالة لكنها مجملة بالنسبة إلى كون المنضوح الأرض أو البدن.
وما ذكره في المعالم من أن العبارة المحكية عن رسالة ابن بابويه ظاهرة في الأول
حيث قال فيها: أخذت له كفا.. إلى آخره. والضمير في قوله: " له " عائد
إلى المكان الذي يغتسل فيه، لأنه المذكور قبله في العبارة، وليس المراد به محل
الماء كما وقع في عبارة ابنه، حيث صرح بالعود إلى الماء الذي يغتسل منه، وكان
تركه للتصريح بذلك اتكالا على دلالة لفظ الرجوع عليه، فالجار في قوله: " إلى المكان "
متعلق ب‍ " ينصب " وصله " يرجع " غير مذكورة. لدلالة المقام عليها. انتهى. فظني
بعده، لاحتمال كون الضمير في " له " عائدا إلى ما يفهمه سوق الكلام من خوف رجوع
ما ينصب عنه، بمعنى أنك إذا خشيت ذلك أخذت لأجل دفع ما تخشاه كفا، ويؤيده
السلامة من تقدير صلة ل‍ " يرجع " بل صلته هو قوله: " إلى المكان " غاية الأمر
أنه عبر هنا عن الماء الذي يغترف منه كما وقع في عبارة ابنه بالمكان الذي يغتسل
فيه. وهو سهل.
وقيل بأن الحكمة فيه اجتماع اجزاء الأرض، فيمتنع سرعة انحدار ما ينفصل
عن البدن إلى الماء، وروده ابن إدريس وبالغ في رده بأن استعداد الأرض برش الجهات
المذكورة موجب لسرعة نزول ماء الغسل. والظاهر أن لكل من القولين وجها
461

باعتبار اختلاف الأراضي، فإن بعضها بالابتلال يكون قبولها لابتلاع الماء أكثر
وبعضها بالعكس.
وقيل بأن الحكمة هي عدم عود ماء الغسل، لكن لا من جهة كونه غسالة بل
من جهة النجاسة الوهمية التي في الأرض، فالنضح إنما هو لإزالة النجاسة الوهمية
منها. والظاهر بعده، فإنه لا إيناس في الخبر المذكور ولا في غيره من الأخبار التي
قدمناها بذلك.
وقيل بأن الحكمة إنما هي رفع ما يستقذر منه الطبع من الكثافات بأن يأخذ
من وجه الماء أربع أكف وينضح على الأرض.
صرح بذلك السيد السند صاحب المدارك في حواشي الإستبصار.
وأيده بحسنة الكاهلي (1) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
إذا أتيت ماء وفيه قلة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك، وتوضأ ".
ورواية أبي بصير (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نسافر،
فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فتكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي
وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال: إن عرض في قلبك منه شئ فقل هكذا، يعني
أفرج الماء بيدك، ثم توضأ.. ".
وفيه (أولا) أنه يكفي على هذا مطلق النضح وإن كان إلى جهة واحدة،
مع أن الخبر قد تضمن تفريقه في الجهات الأربع، ومثله الخبران الآخران، وأما
النضح إلى الجهات الثلاث في خبر الكاهلي فالظاهر أنه عبارة عن تفريج الماء كما في خبر
أبي بصير.
و (ثانيا) أن ظاهر الخبرين الذين قدمناهما وكذا كلام الصدوقين كون

(1) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
462

العلة منع رجوع الغسالة. وهذا الخبر وإن كان مجملا بالنسبة إلى ذلك إلا أن الظاهر
كما قدمنا لك أن ذلك مما استشعره الإمام (عليه السلام) من سؤال السائل كما يشعر
به آخر الخبر، ولا ينافي ذلك ظهور ما ادعاه في حسنة الكاهلي ورواية أبي بصير،
فإن الظاهر أن هذا حكم آخر مرتب على علة أخرى غير ما تضمنته هذه الأخبار.
و (ثالثا) أن ظاهر الخبر كما أشرنا إليه آنفا إنما هو إزالة النجاسة
الوهمية من الماء. وربما احتمل بعضهم بناء على ذلك أن المنضوح هو الماء، وأيده أيضا
بحسنة الكاهلي ورواية أبي بصير. ولا يخفى بعده وإن قرب احتماله في الخبرين
المذكورين.
وقيل بأن محل النضح هو البدن، وقد اختلف أيضا في وجه الحكمة على هذا
القول على أقوال:
(منها) - أن الحكمة في ذلك هو ترطيب البدن قبل الغسل لئلا ينفصل عنه ماء
الغسل كثيرا فلا يفي بغسله لقلة الماء.
وفيه (أولا) أن ذلك وإن احتمل بالنسبة إلى الخبر المذكور لكنه لا يجري
في خبر ابن مسكان والخبر المنقول عن جامع البزنطي (1) لظهورهما في كون العلة إنما هي
خوف رجوع الغسالة. والظاهر كما قدمنا الإشارة إليه كون مورد الأخبار الثلاثة
أمرا واحدا.
و (ثانيا) أنه يلزم من ذلك عدم جواب الإمام (عليه السلام) في الخبر
المبحوث عنه عن استشكال السائل المتخوف من ورود السباع.
و (منها) أن الحكمة إزالة توهم ورود الغسالة، أما بحمل ما يرد على الماء
على وروده مما نضح على البدن قبل الغسل الذي ليس من الغسالة، وإما أنه مع الاكتفاء

(1) المتقدمين في الصحيفة 460.
463

بالمسح بعد النضح لا يرجع إلى الماء شئ. ولا يخلو أيضا من المناقشة (1).
و (منها) أن الحكمة في ذلك ليجري ماء الغسل على البدن بسرعة،
ويكمل الغسل قبل وصول الغسالة إلى ذلك الماء.
واعترض عليه بأن سرعة جريان ماء الغسل على البدن مقتض لسرعة تلاحق
أجزاء الغسالة وتواصلها، وهو يعين على سرعة الوصول إلى الماء.
وأجيب بأن انحدار الماء عن أعالي البدن إلى أسافله أسرع من انحداره إلى الأرض
المائلة إلى الانخفاض. لأنه طالب للمركز على أقرب الطرق، فيكون انفصاله
عن البدن أسرع من اتصاله بالماء الذي يغترف منه، هذا إذا لم تكن المسافة بين مكان
الغسل وبين الماء الذي يغترف منه قليلة جدا، فلعله كان في كلام السائل ما يدل
على ذلك، كذا نقل عن شيخنا البهائي (قدس سره).
(الثاني) أن هذا الخبر قد اشتمل على جملة من الأحكام المخالفة لما عليه
علمائنا الأعلام.
(منها) أمره (عليه السلام) بغسل رأسه ثلاث مرات ومسح بقية بدنه،
فإنه يدل على اجزاء المسح عن الغسل عند قلة الماء. وهو غير معمول عليه عند جمهور
الأصحاب عدا ابن الجنيد، فإن المنقول عنه وجوب غسل الرأس ثلاثا والاجتزاء
بالدهن في بقية البدن. إلا أن أخبار الدهن الآتية إن شاء الله تعالى في بحث
الوضوء تساعده.

(1) أما التعليل الأول فلأن الوارد على الماءان علم ورثى حال وروده فلا مجال للحمل
المذكور، وإلا فأصالة العدم كافية. وأما الثاني فلأن المسح إنما ذكر في الخبر على سبيل
الفرض بناء على عدم كفاية الماء للغسل بعد النضح المذكور، كما يشير إليه قوله: " فإن
خشي أن لا يكون.. الخ " وحينئذ فلا يتم ذلك (منه قدس سره).
464

و (منها) قوله (عليه السلام): " وإن كان الوضوء.. الخ " فإنه صريح
في الاجتزاء بمسح اليدين عن غسلهما في الوضوء عند عوز الماء.
و (منها) قوله (عليه السلام): " فإن كان في مكان واحد.. الخ " فإنه
يدل على أن الجنب إذا لم يجد من الماء إلا ما يكفيه لبعض أعضائه غسل ذلك البعض به
وغسل الآخر بغسالته، وأنه لا يجوز ذلك إلا مع قلة الماء، كما يفيده مفهوم الشرط
وهو مؤيد لما ذهب إليه المانعون من استعمال الغسالة ثانيا. ومؤذن بما أشرنا إليه سابقا
من أن النضح المأمور به في صدر الخبر إنما هو للمنع من رجوع الغسالة. إلا أن
الأكثر يحملون ذلك على الفضل والكمال.
(الثالث) أنه على تقدير جعل متعلق النضح في الخبر المذكور الأرض
وأن وجه الحكمة فيه هو عدم رجوع ماء الغسل إلى الماء الذي يغتسل منه، كما هو
أظهر الاحتمالات المتقدمة، مع اعتضاده بخبري ابن مسكان ومحمد بن ميسر
المتقدمين (1) يكون ظاهر الدلالة على ما ذهب إليه المانعون من استعمال المستعمل
ثانيا. وظاهر الأكثر حمل ذلك على الاستحباب. كما صرح به العلامة في المنتهى
مقربا له بحسنة الكاهلي المتقدمة (2)، ووجه التقريب أن الاتفاق واقع على عدم المنع
من المستعمل في الوضوء، فالأمر بالنضح له في الحديث محمول على الاستحباب عند
الكل، فلا يبعد أن تكون تلك الأوامر الواردة في تلك الأخبار كذلك. وأنت
خبير بأنه يأتي بناء على ما حققناه سابقا احتمال ابتناء ذلك على ما هو الغالب من بقاء
النجاسة إلى آن الغسل. إلا أنه يدفعه في الخبر المبحوث عنه قوله في آخر في صورة
فرض قلة الماء: " فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه، فإنه يجزيه ".
(الرابع) روى في كتاب الفقه الرضوي (3) قال (عليه السلام): " وإن

(1) في الصحيفة 460.
(2) في الصحيفة 462.
(3) في الصحيفة 4.
465

اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت أن يرجع ما تصب عليك، أخذت كفا فصبت على
رأسك وعلى جانبيك كفا كفا، ثم تمسح بيدك وتدلك بدنك ".
أقول: وهذا الخبر قد ورد بنوع آخر في منع رجوع الغسالة. وهو أن
يغتسل على الكيفية المذكورة في الخبر. والظاهر تقييد ذلك بقلة الماء كما دل عليه الخبر
المبحوث عنه، إذ الاجتزاء بالغسل المذكور مع كثرة الماء واتيانه على الغسل
الكامل لا يخلو من الاشكال إلا على مذهب المانعين من استعمال الغسالة.
(الخامس) قال الشيخ في النهاية: " متى حصل الانسان عند غدير
أو قليب ولم يكن معه ما يغترف به الماء لوضوئه، فليدخل يده فيه ويأخذ منه ما يحتاج إليه
وليس عليه شئ. وإن أراد الغسل للجنابة وخاف أن نزل إليها فساد الماء، فليرش
عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه، ثم ليأخذ كفا كفا من الماء فليغتسل به " انتهى.
قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه: " وهو لا يخلو من اشكال، فإن ظاهره
كون المحذور في الفرض المذكور هو فساد الماء بنزول الجنب إليه واغتساله فيه،
ولا ريب أن هذا يزول بالأخذ من الماء والاغتسال خارجه. وفرض إمكان الرش يقتضي
إمكان الأخذ فلا يظهر لحكمه بالرش حينئذ وجه " ثم نقل عن المحقق في المعتبر أنه
تأوله فقال: " إن عبارة الشيخ لا تنطبق على الرش إلا أن يجعل في " نزل " ضمير
ماء الغسل، ويكون التقدير " وخشي - إن نزل ماء الغسل - فساد الماء " وإلا فبتقدير
أن يكون في " نزل " ضمير المريد لا ينتظم المعنى، لأنه إن أمكنه الرش لا مع النزول
أمكنه الاغتسال من غير نزول " ثم قال بعده: " وهذا الكلام حسن وإن اقتضى
كون المرجع غير مذكور صريحا، فإن محذوره هين بالنظر إلى ما يلزم على التقدير
الآخر، خصوصا بعد ملاحظة كون الغرض بيان الحكم الذي وردت به النصوص،
فإنه لا ربط للعبارة به على ذلك التقدير، وفي بعض نسخ النهاية " وخاف أن ينزل
إليها فساد الماء " على صيغة المضارع، فالاشكال حينئذ مرتفع، لأنه مبني على كون
466

العبارة عن النزول بصيغة الماضي، وجعل " أن " مكسورة الهمزة شرطية، وفساد الماء
مفعول " خشي "، وفاعل " نزل " الضمير العائد إلى المريد. وعلى النسخة التي ذكرناها
يجعل " أن " مفتوحة الهمزة مصدرية، وفساد الماء فاعل " ينزل " والمصدر المأول من
" أن ينزل " مفعول " خشي " وفاعله ضمير المريد. وحاصل المعنى أنه مع خشية نزول الماء
المنفصل عن بدن المغتسل إلى المياه التي يريد الاغتسال منها وذلك بعود الماء الذي اغتسل
به إليها فإن المنع المتعلق به يتعدى إليها بعدوه فيها، وهو معنى نزول الفساد إليها،
فيجب الرش حينئذ حذرا من ذلك الفساد. وهذا عين كلام باقي الجماعة ومدلول الأخبار
فلعل الوهم في النسخة التي وقع فيها لفظ الماضي، فإن حصول الاشتباه في مثله وقت
الكتابة ليس بمستبعد " انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول: ما نقله عن بعض نسخ النهاية من التعبير في تلك اللفظة بلفظ المضارع
هو الموجود في أصل النسخة التي عندي وهي معتمدة، إلا أن الياء قد حكت، وعلى الهامش
مكتوب بخط شيخنا العلامة أبي الحسن الشيخ سليمان البحراني (قدس سره) " نزل "
بيانا لذلك. ولا ريب أنه على تقدير النسخة المذكورة يضعف الاشكال كما ذكره
(قدس سره). إلا أنه من المحتمل بل الظاهر أنه على تقدير نسخة الماضي أن المعنى
إنه إذا أراد الغسل للجنابة وخاف بنزوله في الماء للغسل ارتماسا فساد الماء. إما باعتبار
نجاسة بدنه أو باعتبار إثارة الحمأة أو نحو ذلك، فإنه يغتسل ترتيبا خارج الماء، ولكن
يرش الأرض لأحد الوجوه المتقدمة التي أظهرها وأوفقها بمذهبه منع رجوع الغسالة.
ولا ريب أنه معنى صحيح لا غبار عليه ولا اشكال يتطرق إليه.
(المسألة الثالثة) في الماء المستعمل في الاستنجاء، والبحث فيها يقع
في مواضع:
(الأول) اتفق الأصحاب (رضوان الله عليهم) على مما نقله غير واحد
467

منهم على عدم وجوب إزالة ماء الاستنجاء عن الثوب والبدن لما هو مشروط بالطهارة
من صلاة وغيرها، وعلى ذلك تدل الأخبار أيضا.
(فمنها) صحيحة محمد بن النعمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" قلت له: استنجي ثم يقع ثوبي فيه وأنا جنب؟ فقال: لا بأس به ".
واستظهر بعض محدثي المتأخرين كون الاستنجاء هنا من المني بقرينة قوله:
" وأنا جنب " قال: " فينبغي استثناء الاستنجاء من المني أيضا ".
واحتمل آخر كون الاستنجاء مختصا بغير المني وذكر الجنابة لتوهم سراية النجاسة
المعنوية الحدثية إلى الماء.
و (منها) صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (2) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به، أينجس
ذلك ثوبه؟ قال: لا ".
و (منها) حسنة محمد بن النعمان الأحول (3) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): أخرج من الخلاء فاستنجي بالماء، فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي
استنجيت به؟ فقال: لا بأس به " وزاد في الفقيه " ليس عليك شئ ".
و (منها) ما رواه الصدوق عطر الله مرقده في كتاب العلل (4) عن الأحوال
أيضا قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي: سل عما شئت فارتجت علي
المسائل، فقال لي: سل ما بدا لك فقلت: جعلت فداك الرجل يستنجي فيقع ثوبه في
الماء الذي استنجى به؟ فقال: لا بأس به. فسكت فقال: أو تدري لم صار لا بأس به؟

(1) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(4) في الصحيفة 105 وفي الوسائل في الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
468

قلت: لا والله جعلت فداك. فقال: إن الماء أكثر من القذر ".
وهذه الأخبار وإن اشتركت في نفي البأس عن ملاقاته الثوب كما في أكثرها
وعدم التنجيس كما في بعضها، إلا أن الظاهر كما عليه الأصحاب أنه لا مدخل
لخصوصية الثوب في ذلك، فيتعدى الحكم إلى غيره من باب تنقيح المناط القطعي
الذي تقدمت الإشارة إليه غير مرة، وإلا للزم أيضا اختصاص الحكم بالرجل دون
المرأة كما هو مورد تلك الأخبار، وهو خلاف ما عليه كافة علمائنا الأبرار. وربما
أشعر التعليل الذي في آخر رواية العلل بعدم نجاسة غسالة الخبث مطلقا مع عدم التغيير.
وسيأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى. واطلاق هذه الأخبار يقتضي عدم
الفرق بين المخرجين، لصدق الاستنجاء بالنسبة إلى كل منهما، وبذلك صرح
الأصحاب (رضوان الله عليهم) أيضا.
(الثاني) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) بعد الاتفاق كما
عرفت على عدم وجوب إزالته في أن ذلك لطهارته أو لكونه معفوا عنه. وربما
أشعر ذلك (1) بكون العفو عبارة عن الحكم بنجاسته مع الرخصة في مباشرته. والذي
يظهر من كلام شيخنا الشهيد في الذكرى وتبعه عليه جمع ممن تأخر عنه كون العفو
هنا إنما هو بمعنى سلب الطهورية، حيث قال بعد نقل القولين: " وتظهر الفائدة
في استعماله " وحينئذ فيصير محط الخلاف في رفع الحدث أو الخبث به وعدمه،
وكذا تناوله وعدمه، إلا أنهم نقلوا الاجماع أيضا على عدم جواز رفع الحديث بما تزال به
النجاسة مطلقا كما سيأتي في تالي هذه المسألة، وحينئذ فينحصر الخلاف في الآخرين.
والظاهر كما هو المشهور الجواز تمسكا بأصالة الطهارة عموما وخصوصا، وصدق

(1) أي مقابلة العفو بالطهارة وجعل القول بالعفو مقابلا للقول بالطهارة، وقد نقل
السيد في المدارك عن المحقق الثاني في حواشي الشرائع أنه نقل عن المحقق في المعتبر أنه
اختار كونه نجسا معفوا عنه (منه قدس سره).
469

الماء المطلق عليه، فيجوز شربه وإزالة الخبث به.
وجملة من متأخري المتأخرين (1) أيدوا ذلك أيضا بأن أدلة نجاسة القليل بالملاقاة
عموم لها بحيث تشمل ما نحن فيه، وإنما كان التعدي عن الموارد المخصوصة التي
وردت فيها الروايات إلى بعض الصور لأجل الشهرة وعدم القول بالفصل، وكلاهما
مفقودان فيما نحن فيه، فيبنى على الأصل، فيثبت جواز الطهارة والتناول.
وأنت خبير بما فيه، بل الحق أن هذا الموضع مما خرج بالأخبار المتقدمة
عن قاعدة نجاسة القليل بالملاقاة.
واستدل جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) على الطهارة بلزوم الحرج
والمشقة لو لم يكن كذلك، والظاهر أن مرادهم الاستدلال على خروجه عن قاعدة
نجاسة القليل بالملاقاة، بمعنى أنه لو حكم بنجاسته كغيره من أفراد الماء القليل للزم
الحرج من ذلك والمشقة، لتكرره وعدم إمكان التحرز عنه، لا أن مرادهم الاستدلال
على الطهارة بالمعنى المقابل للعفو، وحينئذ فلا يرد ما أورده الفاضل الخوانساري
في شرح الدروس على شيخنا الشهيد الثاني في الروض، حيث قال بعد نقل الاستدلال
عنه على الطهارة بأن في الحكم بالنجاسة حرجا ومشقة، لعموم البلوى، وكثرة
تكرره ودورانه، بخلاف باقي النجاسات ما لفظه: " وفيه أن الحرج على تقدير
تسليمه إنما يرتفع بالعفو ولا يتوقف على طهارته، إذ لا حرج في عدم جواز استعماله
في رفع الخبث والتناول، وهو ظاهر " انتهى.
وبالجملة فههنا مطلبان: (أحدهما) الحكم بطهارته واستثنائه من عموم نجاسة
القليل بالملاقاة. و (ثانيهما) أنه هل يثبت له حكم الطاهر بجميع موارده، أم يخص
بما دون التناول ورفع الخبث والحدث؟ واستدلال شيخنا الشهيد الثاني إنما هو

(1) منهم: المحقق الشيخ حسن في المعالم والفاضل الخوانساري في شرح الدروس
وغيرهما (منه رحمه الله).
470

على الأول دون الثاني، ويدلك على ذلك إناطتهم الحرج والمشقة بالنجاسة، مع أن
العفو عندهم هنا كما عرفت ليس المراد به النجاسة مع جواز الاستعمال، بل المراد
به سلب الطهورية.
نعم ناقش المحدث الأمين الأسترآبادي (عطر الله مرقده) في الاستدلال بهذا
الوجه قائلا: " لا يخفى أن هذا الوجه غير سديد، لأن المقدار الذي اعتبره الشارع
من الحرج والعسر غير منضبط في أذهاننا فكيف يتمسك بهما؟ نعم يمكن التمسك
بهما من باب مفهوم الموافقة مع وجود نص في فرد أخف، فتأمل " انتهى. وهو متجه.
وما ذكره من التمسك بهما من باب مفهوم الموافقة متجهة باعتبار ورود النص
بالعفو عما ينزو من غسالة الجنب في إنائه، وما ينزو من الأرض المتنجسة بالبول،
وما يتساقط من غسالته كما تقدم في المسألة الثانية. إلا أن في العمل بمفهوم الموافقة ما عرفت
في المقدمة الثالثة (1) وإن كان المحدث المذكور ممن يعتمد عليه في غير موضع من تحقيقاته
(الثالث) اعلم أن ممن رجح القول بالعفو شيخنا الشهيد الأول في الذكرى،
حيث قال: " وفي المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة وإنما هو بالعفو،
وتظهر الفائدة في استعماله. ولعله أقرب، لتيقن البراءة بغيره " انتهى. ويظهر ذلك
من المنتهى أيضا.
وأما كلام المعتبر في هذا الباب فلا يخلو من اجمال بل اضطراب، ولهذا
اختلفت في نقل مذهبه كلمة من تأخر عنه من الأصحاب، قال (عطر الله مرقده): " وأما
طهارة ماء الاستنجاء فهو مذهب الشيخين. وقال علم الهدى في المصباح. لا بأس
بما ينتضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن. وكلامه صريح في العفو وليس
بصريح في الطهارة. ويدل على الطهارة ما رواه الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام)
ثم ساق حسنته المتقدمة (2) وأردفها برواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي المتقدمة أيضا (3)

(1) في الصحيفة 57.
(2) في الصحيفة 468.
(3) في الصحيفة 468.
471

ثم قال: ولأن في التفصي عنه عسرا فشرع العفو دفعا للعسر " انتهى.
وأنت خبير بأن مقتضى قوله: " ويدل على الطهارة.. الخ " بعد نقله القولين
أولا هو اختيار الطهارة التي هي أحد ذينك القولين. وقوله في الدليل الثاني: " ولأن
في التفصي عنه عسرا فشرع العفو.. الخ " ظاهر في اختيار العفو الذي هو القول الآخر
أيضا (1) وأيضا ففي حكمه على كلام المرتضى بالصراحة في القول بالعفو مع حكمه
على رواية الأحول بالدلالة على الطهارة نوع تدافع، فإن العبارة فيهما واحدة،
إذ نفي البأس إن كان صريحا في العفو ففي الموضعين، وإن كان في الطهارة فكذلك،
وحينئذ فنسبة القول بالطهارة إلى المعتبر كما فهمه السيد السند في المدارك وجمع ممن
تأخر عنه كما ترى، وأعجب من ذلك نقل شيخنا الشهيد في الذكرى كما تقدم
في عبارته القول بالعفو عن المعتبر بتلك العبارة. وتبعه على ذلك المحقق الشيخ
علي (رحمه الله) في شرح القواعد وشيخنا الشهيد الثاني في الروض فقال في شرح

(1) أقول: الذي يظهر من كلام المحقق (رحمه الله) هنا هو أن مراده بالعفو هو
الطهارة، بمعنى أنه وإن كان مقتضى كلية نجاسة القليل بالملاقاة هو النجاسة هنا إلا أنه لما
كان في التفصي عنه عسر وحرج. استثناه الشارع من تلك الكلية فحكم بطهارته عفوا عنه
ورحمة للعباد، كما هو شأن الرخص الواردة في الشريعة، والتعبير بالعفو إشارة إلى أن الطهارة
هنا من قبيل الرخص تخفيفا، إذ مقتضى تلك الكلية هو النجاسة كما عرفت، ويبعد
من مثل المحقق (ره) - على تقدير إرادة المعنى الذي فهموه - التعبير بمثل هذه العبارة المضطربة
كما عرفته في الأصل، ويؤيد ما قلناه قوله - بعد هذه المسألة في الفرع الذي ذكره في حكم
غسالة إناء الولوغ، بعد أن نقل عن الشيخ الاستدلال على طهارة هذه الغسالة مطلقا بأنه
لو كان المنفصل نجسا لما طهر الإناء، لأنه كان يلزم نجاسة البلة الباقية بعد المنفصل ثم
ينجس الماء الثاني بنجاسة البلة وكذا ما بعده - ما صورته " والجواب أن ثبوت الطهارة بعد
الثانية ثابت بالاجماع فلا يقدح ما ذكره، ولأنه معفو عنه دفعا للحرج " انتهى. فإن
حكمه بطهارة البلة بالاجماع أولا واستدلاله بالعفو ثانيا لا يجتمع إلا على ما ذكرناه
وحينئذ فالظاهر من عبارته في ماء الاستنجاء هو الطهارة والله العالم (منه رحمه الله).
472

القواعد: " واعلم أن قول المصنف: فإنه طاهر مقتضاه أنه كغيره من المياه
الطاهرة في ثبوت الطهارة له. ونقل في المنتهى على ذلك الاجماع. وقال المحقق في المعتبر:
ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة وإنما هو بالعفو. وتظهر الفائدة في استعماله. قال
شيخنا في الذكرى: ولعله أقرب، لتيقن البراءة بغيره " انتهى. وقال في الروض:
" وفي المعتبر هو عفو، وقربه في الذكرى ".
والظاهر أن أصل السهو من شيخنا الشهيد في الذكرى. وتبعه من تبعه من غير
ملاحظة لكتاب المعتبر (1) وعبارة المعتبر كما مرت بك خالية عما ذكروه.
وما اعتذر به الفاضل الخوانساري في شرح الدروس بعد أن ناقش في دلالة الأخبار
على الطهارة، من أن مراد الذكرى من أن في المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة،
أنه ليس في الروايات لا في كلام الأصحاب، وهو كذلك كما قررنا.. إلى آخر
كلامه غير مستقيم، إذ تفسير العبارة المذكورة بما ذكره فرع وجودها أو وجود
ما يؤدي معناها، وليس فليس.
بقي هنا شئ وهو أن ما ذهب إليه في الذكرى وتبعه عليه جمع من المتأخرين
من أن العفو مراد به سلب الطهورية دون النجاسة مع سلب حكمها (2) مما لا يساعد
عليه كلام المعتبر، فإن نقله عن المرتضى (رضي الله عنه) القول بالعفو ونفيه عنه

(1) ومما يؤيد ذلك نقل المحقق الشيخ على (قدس سره) قوله: " وتظهر
الفائدة.. الخ " من تتمة كلام المعتبر ظنا منه أن هذا من جملة المنقول عن المعتبر، حيث
آخر نقل كلام الذكرى عن هذه العبارة، مع أنها من كلام الذكرى قطعا، كما لا يخفى على من
راجع عبارته (منه رحمه الله).
(2) أي أن نفي البأس أعم من الطهارة، إذ قد يكون نجسا ويجوز مباشرته والصلاة
فيه كما في غيره من النجاسات المعفو عنها، وحينئذ فنفي البأس غايته العفو خاصة (منه
رحمه الله).
473

صراحة القول بالطهارة بمجرد نفيه البأس عما ينتضح على الثوب والبدن من ماء
الاستنجاء يؤذن بأن محل النزاع في ملاقاة هذا الماء للثوب والبدن وأنه هل ينجس به
وإن انتفى البأس عن الصلاة فيه كما هو مذهب المرتضى، أو يحكم بالطهارة كما هو
القول الآخر؟ (1)، لا أن مظهر النزاع استعماله ثانيا وأن الملاقي للثوب والبدن منه
طاهر اجماعا. وهذا بحمد الله ظاهر غاية الظهور، وحينئذ فلا استبعاد في حمل العفو
في عبارة المعتبر على المعنى المعهود. نعم يبقى الاشكال في نسبة ذلك إليه كما عرفت.
وكيف كان فالتحقيق في المقام أن يقال: إن أكثر الأخبار المتقدمة قد
اشتركت في نفي البأس عن ملاقاته للثوب والبدن، ونفي البأس وإن كان أعم
من الطهارة إلا أن تصريح صحيحة عبد الكريم (2) بعدم التنجيس يقتضي حمل نفي
البأس في تلك الأخبار على الكناية عن الطهارة. وأيضا فإنه من الظاهر البين الظهور
أنه متى عفي عن ملاقاته لما هو مذكور في الأخبار، وقد عرفت أنه لا خصوصية لها
بذلك، فيتعدى الحكم إلى غيرها، وأنه لا تتعدى النجاسة من تلك الأشياء
إلى ما تلاقيه برطوبة من ماء قليل وغيره، فإنه يلزم أن يكون طاهرا البتة، إذ لا معنى
للطاهر شرعا إلا ذلك.
قال المحقق الشيخ علي (رحمه الله) في شرح القواعد على أثر الكلام المتقدم

(1) وبالجملة فالعفو إن أخذ بالمعنى الذي ذكره شيخنا الشهيد - وهو عبارة عن سلب
الطهورية - كان مقابلته بالطهارة بمعنى المطهرية، وإن أخذ بالمعنى المشهور، كانت الطهارة
المقابلة له بمعنى عدم النجاسة، وحينئذ فنسبة صاحب المعتبر إلى السيد (رحمه الله) القول
بالعفو دون الطهارة من حيث نفيه البأس عن ملاقاة ماء الاستنجاء للثوب والبدن للترجيح
له على المعنى الأول، إذ لا معنى لأخذ الطهورية وعدمها في ملاقاة الماء للثوب والبدن،
بل يتعين المعنى الثاني البتة. وحينئذ لا يستقيم ما ذكره في الذكرى (منه قدس سره).
(2) المتقدمة في الصحيفة 468.
474

نقله ما صورته " قلت: اللازم أحد الأمرين: إما عدم اطلاق العفو عنه أو القول
بطهارته، لأنه إن جاز مباشرته من كل الوجوه لزم الثاني، لأنه إذا باشره بيده ثم باشر
به ماء قليلا ولم يمنع من الوضوء به، كان طاهرا لا محالة، وإلا وجب المنع من مباشرة
نحو ماء الوضوء به إذا كان قليلا، فلا يكون العفو مطلقا، هو خلاف ما يظهر
من الخبر ومن كلام الأصحاب، فلعل ما ذكره المصنف أقوى وإن كان ذلك
أحوط " انتهى. وهو جيد. وفيه دلالة على ما ذكرنا من أن معنى العفو في هذا
المقام إنما هو عبارة عن النجاسة مع سلب حكمها لا ما ذكره شيخنا الشهيد (رحمه الله).
(الرابع) قد اشترط الأصحاب في ثبوت ما تقدم من أي الحكمين لهذا
الماء شروطا:
(منها) عدم تغيره بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة. ولا بأس به. إلا
أن بعض فضلاء متأخري المتأخرين إنما اعتمد في ذلك على كون الحكم به اجماعيا،
قال: " والظاهر أن الحكم به اجماعي، وإلا لأمكن المناقشة، إذ الروايات الدالة
على نجاسة المتغير عامة، وهذه الروايات خاصة ".
و (منها) عدم ملاقاته لنجاسة أخرى خارجة معه كالدم المصاحب للخارج
ونحوه، أو خارجة عنه كالأرض النجسة لو وقع عليها. واشتراطه واضح، لأن
ظاهر الأخبار الواردة في المسألة نفي البأس باعتبار إزالة النجاسة المخصوصة لا باعتبار
غيرها، ولا يخفى أن ماء الاستنجاء لا يزيد قوة على المياه الآخر مما لم يستنج به،
فحيث تنجس تلك بمجرد الملاقاة فهو ينجس أيضا. وما ناقش به بعض فضلاء متأخري
المتأخرين بالنسبة إلى النجاسة المصاحبة للخارج، مستندا إلى اطلاق اللفظ في تلك
الأخبار مردود بجريان ذلك في النجاسة الغير المصاحبة، وهو لا يقول به. وما
ادعاه من أن الغالب عدم انفكاك الغائط من شئ آخر من الدم أو الأجزاء الغير
المنهضمة من الغذاء أو الدواء ممنوع بل الغالب خلافه كما لا يخفى، إذ حصول شئ
475

مما ذكره إنما يكون لعلة أو مرض، ومن كان صحيح الطبيعة فلا يحصل له شئ
من ذلك نعم في صحيحة محمد بن النعمان المتقدمة (1) اشعار بدخول نجاسة الجنابة
على أحد الاحتمالين المتقدمين.
و (منها) كون الخارج غائطا أو بولا، فلو كان غيرهما لم يلحقه الحكم
المذكور، لعدم صدق الاستنجاء على إزالة غير ذينك الحدثين. وهو جيد.
و (منها) عدم انفصال أجزاء من النجاسة متميزة معه، وإلا كان حكمها
حكم النجاسة الخارجة، فينجس بها الماء مع مفارقة المحل. وفيه اشكال، لاطلاق
أخبار المسألة، إلا أن الاحتياط يقتضيه.
و (منها) أن لا يتفاحش بحيث يخرج عن صدق الاستنجاء عليه.
وهو كذلك.
و (منها) ما نقل عن بعض المتأخرين من سبق الماء اليد، فلو سبقت اليد
تنجست وكانت كالنجاسة الخارجة. ورد بأن وصول النجاسة إليها لازم على كل حال.
والظاهر كما ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم أن نجاسة اليد إنما تستثنى من حيث
جعلها آلة للغسل، فلو اتفق لغرض آخر كان في معنى النجاسة الخارجية.
و (منها) ما صرح به شيخنا الشهيد في الذكرى من عدم زيادة وزنه،
والمنقول عن العلامة في النهاية جعل زيادة الوزن في مطلق الغسالة كالتغير. ولا ريب
في ضعف الجميع.
وربما استدل على هذا الشرط هنا بالتعليل المذكور في آخر رواية العلل
المتقدمة (2) حيث إنه يعطي أن نفي البأس عنه لأكثريته واضمحلال النجاسة فيه وحينئذ
فلو زاد في وزنه لدل على وجود شئ من النجاسة فيه وعدم اضمحلالها.

(1) في الصحيفة 468.
(2) في الصحيفة 468.
476

وفيه أن الأقرب أن غرضه (عليه السلام) إنما هو بيان اشتراط غلبة المطهر
على قياس ما تقدم في صحيحة هشام بن سالم المتقدمة في المقالة التاسعة من الفصل الأول (1)،
الواردة في السطح يبال عليه، فتصيبه السماء، فيكف فيصيب الثوب. فقال
(عليه السلام): " لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه ".
(الخامس) لا ريب أن ما ادعوه من الاجماع على عدم جواز رفع الحدث
بماء الاستنجاء إنما يتم عند من يعول على هذه الاجماعات المتناقلة في كلامهم والمتكررة
على ألسن أقلامهم، وإلا فمقتضى الأخبار المذكورة الدالة على استثنائه من كلية
نجاسة القليل بالملاقاة هو الطهورية مطلقا من حدث كان أو من خبث، وبذلك أيضا
يشعر كلام المولى المحقق الأردبيلي (نور الله تعالى تربته) في شرح الإرشاد، حيث
قال: " والظاهر هو بقاء الطهارة والطهورية، للاستصحاب، وعدم الخروج
بالاستعمال الموجب للنجاسة بأدلة نجاسة القليل، للخبر بل الاجماع فيبقى على حاله، ولأن
النجاسة إذا لم تخرجه عن الطهارة للأدلة فكذا عن الطهورية بالطريق الأولى " انتهى.
(المسألة الرابعة) في الماء المستعمل في إزالة النجاسة عدا ما تقدم. ولا خلاف
في نجاسته مع التغير في أحد أوصافه الثلاثة. أما مع عدمه فقد اختلف الأصحاب
(رضوان الله عليهم) في ذلك على أقوال:
(أحدها) النجاسة مطلقا وأن حكمها حكم المحل قبل الغسل، وحينئذ
فيجب غسل ما لاقته العدد المعتبر في المحل، اختاره المحقق والعلامة، بل الظاهر أنه
المشهور بين المتأخرين.
احتج المحقق في المعتبر بأنه ماء قليل لاقى النجاسة فيجب أن ينجس.
وما رواه العيص بن القاسم (2) قال: " سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت

(1) في الصحيفة 215.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
477

فيه وضوء. قال: إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه " وزاد بعضهم في آخر
هذه الرواية " وإن كان وضوء صلاة فلا يضره ".
واحتج العلامة في المختلف برواية عبد الله بن سنان المتقدمة في المسألة الثانية (1)
الدالة على أن الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجنابة لا يتوضأ به وأشباهه.
واحتج بعضهم أيضا بايجاب تعدد الغسل واهراق ماء الغسلة الأولى بالكلية
من الظروف، ووجوب العصر فيما يجب فيه العصر، وعدم تطهير ما لا يخرج منه
الماء إلا بالكثير، والاجماع المدعى من العلامة في المنتهى، حيث قال: " ومتى
كان على جسد الجنب أو المغتسل من حيض وشبهة نجاسة، فالمستعمل إن قل عن الكر
نجس اجماعا " فإنه يعطي الاجماع على نجاسة الغسالة هنا، ويضم إلى ذلك عدم القائل
بالفرق بين الاستعمال في الغسل وغيره.
وأجيب عن هذه الأدلة، أما عن الأول فبمنع كلية كبراه، لأنها عين
المتنازع، فأخذها في الدليل مصادرة.
وفيه أن الدليل على كلية الكبرى المذكورة الأخبار الدالة بمفهوم الشرط
على نجاسة الماء القليل بالملاقاة كما تقدم تحقيقه في تلك المسألة. وما شاع في كلام جملة
من فضلاء متأخري المتأخرين من عدم العموم في هذا المفهوم مدفوع بما أسلفنا
تحقيقه في المسألة المذكورة. والعجب من شيخنا الشهيد الثاني وأمثاله من القائلين
بنجاسة القليل بالملاقاة، حيث احتجوا على ذلك بهذا المفهوم ثم يعترضون هنا بمنع
الكلية المذكورة.
وأما عن الثاني فبضعف السند، لعدم وجود الخبر المذكور في شئ من كتب
الأخبار، وإنما نقله الشيخ في الخلاف وجمع ممن تأخر عنه مع كونه مضمرا. ومنع

(1) في الصحيفة 436.
478

الدلالة، إذ الجملة الخبرية لا ظهور لها في الوجوب.
ويمكن الجواب عن الأول بأن الظاهر أن الشيخ (رحمه الله) إنما أخذ
الرواية المذكورة من كتاب العيص. فإنه نقل في الفهرست أن له كتابا، وطريقه
في الفهرست إلى الكتاب المذكور حسن على المشهور بإبراهيم بن هاشم، وصحيح
عندنا وفاقا لجملة من متأخري مشايخنا. وقد صرح أيضا في كتابي الأخبار بأنه إذا
ترك بعض اسناد الحديث يبدأ في أول السند باسم الرجل الذي أخذ الحديث من كتابه
فلعل نقله لها في الخلاف جار على تلك القاعدة. وبالجملة فرواية الشيخ (رضوان الله
عليه) له في كتب الفروع لا تقصر عن روايته في كتب الأخبار.
وأما الاضمار في أخبارنا فقد حقق غير واحد من أصحابنا أنه غير قادح
في الاعتماد على الخبر، فإن الظاهر أن منشأ ذلك هو أن أصحاب الأصول لما كان
من عادتهم أن يقول أحدهم في أول الكلام: " سألت فلانا " ويسمي الإمام الذي روى
عنه، ثم يقول: وسألته أو نحو ذلك، حتى تنتهي الأخبار التي رواها. كما يشهد به
ملاحظة بعض الأصول الموجودة الآن ككتاب علي بن جعفر وكتاب قرب الإسناد
وغيرهما، وكان ما رواه عن ذلك الإمام (عليه السلام) أحكاما مختلفة، فبعضها يتعلق
بالطهارة وبعض بالصلاة وبعض بالنكاح وهكذا، والمشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) لما
بوبوا الأخبار ورتبوها، اقتطعوا كل حكم من تلك الأحكام ووضعوه في بابه بصورة
ما هو مذكور في الأصل المنتزع منه، وقع الاشتباه على الناظر فظن كون المسؤول
غير الإمام (عليه السلام) وجعل هذا من جملة ما يطعن به في الاعتماد على الخبر.
وأما منع دلالة الجملة الخبرية على الوجوب، ففيه أنه لا خلاف ولا اشكال
في كون الجملة الخبرية في مثل هذا الموضع إنما أريد بها الانشاء دون الخبر، فيكون
بمعنى الأمر. والأدلة الدالة على كون الأمر للوجوب من الآيات والأخبار التي
479

قدمناها في المقدمة السابعة (1) لا اختصاص لها بلفظ الأمر وإن جعلوه في الأصول
مطرح البحث والنزاع، وحينئذ فيقرب الاعتماد على الرواية المذكورة.
وأجاب المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس سره) عنها حيث إنه اختار
في الغسالة الطهارة بالحمل على كون الاستنجاء في الطشت إنما وقع بعد التغوط أو البول
فيه، مدعيا أن ذلك مقتضى العادة.
وهو بعيد (أما أولا) فإنه لا تصريح في الخبر بكون ذلك الوضوء ماء
استنجاء، إذ الوضوء بفتح الواو وهو اسم لما يتوضأ به أي يغسل به كما يطلق
في الأخبار على ماء الاستنجاء، كذلك يطلق على ما يغسل به الوجه واليدان بل سائر
الجسد من نجاسة أو بدونها.
و (أما ثانيا) فلأنه لا ملازمة بين التغوط أو البول في الإناء وبين
الاستنجاء فيه.
وأجاب عنها في الذكرى بالحمل على التغير أو الاستحباب. وفيه أن الحمل
على خلاف الظاهر فرع وجود المعارض.
وأما عن الثالث فبضعف السند أولا، وكونه أعم من المدعى ثانيا. فإن المنع من
الوضوء أعم من النجاسة فلا يستلزمها، بل ربما كان عطف الجنابة يؤذن برفع الطهورية
لا الطهارة. والثاني منهما متجه.
وأما عن الرابع والخامس فيجوز أن يكون تعبدا. وكذا عن السادس
وفيه ما فيه.
وأما عن كلام المنتهى فبعد تسليم الاعتماد على هذ الاجماع المتناقل فالظاهر أن
كلامه إنما هو في الاستعمال بطريق الارتماس، كما يشعر به قوله بعد هذا الكلام:
" فإذا ارتمس فيه ناويا للغسل.. الخ ".

(1) في الصحيفة 112. وفي النسخ المطبوعة والمخطوطة (الرابعة) (60)
480

(الثاني) القول بالنجاسة لكن حكمه حكم المحل قبل الغسلة، فيجب غسل
ما أصابه ماء الغسلة الأولى مرتين والثانية مرة فيما يجب فيه المرتان، وهكذا. ونقل
هذا القول عن شيخنا الشهيد ومن تأخر عنه، وإليه مال المحقق المولى الأردبيلي (عطر
الله مرقده) في شرح الإرشاد. والوجه في الفرق بين الغسلتين باعتبار التعدد
في الأولى دون الثانية فيما يجب غسله مرتين مثلا هو أن المحل المغسول تضعف نجاسته
بعد كل غسلة وإن لم يطهر، ولهذا يكفيه من العدد بعده ما لا يكفي قبلها، فيكون
حكم ماء الغسلة كذلك، لأن نجاسته مسببة عنه، فلا يزيد حكمه عليه. لأن الفرع لا يزيد
على الأصل. وهذا هو المقيد لتلك الأدلة الدالة على النجاسة على الاطلاق. قال والدي
(نور الله تعالى مرقده) بعد نقل هذا الكلام: " أقول: هذا التفصيل بالفرق بين
المنفصل من الغسلتين وإن كان لا يفهم من الأخبار، لكنه قريب من جهة الاعتبار "
انتهى. وهو كذلك إلا أنه بمجرده لا يمكن الاعتماد عليه في تأسيس حكم شرعي.
(الثالث) القول بالنجاسة إن كان من الغسلة الأولى والطهارة إن كان
من الثانية فيما يغسل مرتين مثلا، ومرجعه إلى أن حكمه كالمحل بعد الغسلة. وهذا القول
منقول عن الشيخ في الخلاف، ونقل عنه أيضا تخصيص ذلك بتطهير الثوب. وأما
المستعمل في تطهير الآنية فلا ينجس عنده مطلقا سواء كان من الأولى أو من غيرها.
احتج في الخلاف على ما نقل عنه على الأول بأنه ماء قليل معلوم حصول
النجاسة فيه فيجب أن يحكم بنجاسته. وبرواية العيص المتقدمة (1). وعلى الثاني بأن الماء على أصل الطهارة، والنجاسة تحتاج إلى دليل. وبالروايات
المتقدمة في مسألة الاستنجاء (2).
وعلى الثالث بأن الحكم بالنجاسة يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل
عليه. وبأنه لو حكم بالنجاسة لما طهر الإناء أبدا، لأنه كلما غسل فما يبقى فيه من النداوة

(1) في الصحيفة 477.
(2) في الصحيفة 468.
481

يكون نجسا، فإذا طرح فيه ماء آخر نجس أيضا، وذلك يؤدي إلى أن لا يطهر أبدا.
وأورد عليه من التوجيه الذي ذكره لنجاسة الغسلة الأولى في غسل الثوب
على تقدير تمامه يقتضي نجاسة الثانية، لأن المحل لم يطهر بعد، وإلا لم يحتج
إليها، وإذا كان الحكم بنجاسته باقيا فالماء الملاقي له والحال هذه ينجس أيضا، لعين
ما ذكره في الأولى. والرواية التي تمسك بها ليس فيها تقييد بالأولى، فإن كانت صالحة
للاحتجاج فهي متناولة للصورتين. وما ذكره من التعليل لطهارة غسالة الإناء جار
بعينه في غسالة الثوب كما لا يخفى.
ونقل شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في الروض عن الشيخ في الخلاف أنه
احتج على طهارة الغسلة الأخيرة بأن المحل بعدها طاهر مع بقاء مائها فيه، والماء
الواحد لا تختلف أجزاؤه في الطهارة والنجاسة، ثم أجاب عنه باختصاص المتصل
بالعفو للحرج والضرورة بخلاف المنفصل. وأنه يعارض بماء الأولى، للقطع ببقاء
شئ منه. وبالجملة فكلام الشيخ (رحمه الله) في هذا المجال لا يخلو من الاشكال،
وتعليلاته لا تخلو من الاختلال.
والتحقيق أن يقال: إنه لما قام الدليل على طهارة المحل بعد الغسل في ثوب كان
أو إناء مع العصر فيما ورد فيه، وكان من المعلوم عادة تخلف شئ في المحل المغسول،
فإنه يجب الحكم بطهارة المحل مع ما تخلف فيه، فإن ثبت الدليل على نجاسة الغسالة
وجب الحكم بها، ولا ينافيه اتصالها سابقا بذلك الماء المتخلف، وأي بعد في أن
يوجب الشارع اجتناب ما ينفصل من الغسالة عن الثوب والبدن ولا يوجبه في المتخلف
والباقي منها؟ فإن أحكام الشرع تعبدية لا مجال للعقل فيها بوجه.
(الرابع) القول بالطهارة مطلقا وأن حكمها كالمحل بعد الغسل. وهو على
طرف النقيض من القول الأول، وقواه الشيخ في المبسوط، وجعل الأحوط في تطهير
الثياب النجاسة مطلقا، والأحوط في تطهير الأواني النجاسة في الغسلة الأولى.
وإلى القول بالطهارة مطلقا يميل ظاهر كلام الشهيد في الذكرى، وربما كان الظاهر
482

من كلام ابن بابويه في الفقيه اختياره، حيث ساوى بينه وبين رافع الحدث الأكبر
ورافع الحدث الأكبر طاهر اجماعا، ونقل عن المحقق الشيخ علي في بعض فوائده
اختياره، ويعزى إلى جماعة من متقدمي الأصحاب اختياره أيضا كما نقله في المعالم.
ومقتضى مذهب السيد المرتضى (رضي الله عنه) الطهارة بشرط ورود الماء على النجاسة،
واقتفاه ابن إدريس في ذلك، وإليه يميل كلام السيد السند في كتاب المدارك، والمحدث الأمين الأسترآبادي في تعليقاته عليه.
ونقل عن المبسوط الاستدلال عليه بأن ما يبقي في الثوب جزء منه، وهو
طاهر اجماعا، فيكون المنفصل أيضا كذلك.
وفيه زيادة على ما سلف أن ما يبقى في الثوب إن أريد به ما هو أعم من الغسلة
الأولى فالاجماع على طهارته ممنوع. وإن كان من الأخيرة فلا يثبت به المدعى بتمامه.
ونقل السيد في المدارك عن جماعة من الأصحاب أن من قال بطهارة الغسالة
اعتبر فيها ورود الماء على النجاسة، قال: " وهو الذي صرح به المرتضى (رضي الله
عنه)
في المسائل الناصرية. ولا بأس به، لأن أقصى ما يستفاد من الروايات انفعال
القليل بورود النجاسة عليه. فيكون غيره باقيا على حكم الأصل " انتهى.
أقول: ومن ثم احتجوا على هذا القول على ما نقله شيخنا الشهيد الثاني
(قدس سره) في الروض بأنه لو حكم بنجاسة القليل الوارد لم يكن لوروده أثر،
ومتى لم يكن له أثر لم يشترط الورود، فيطهر النجس وإن ورد على القليل، ولأنه لو حكم
بنجاسته لم يطهر المحل بالغسل العددي. والتالي باطل بالاجماع. والملازمة واضحة.
وأنت خبير بما في الحجة الأولى كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في الكلام
في المطهرات، من أن جملة من علمائنا القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة اشترطوا في التطهير
بالقليل وروده على النجاسة وإن نجس بعد حصول التطهير به، وحينئذ فالأثر المترتب
على وروده حصول التطهير به وإن تنجس بعد ذلك.
483

وأما الثانية فقد تقدم نقل جواب العلامة عن ذلك وما أورده عليه،
وما أجبنا به عن الإيراد المشار إليه، وما هو الحق في الجواب عن ذلك في المقام الثاني
من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد.
وتنظر والدي (نور الله تعالى ضريحه) فيما نقله في المدارك من اشتراط القائلين
بطهارة الغسالة ورود الماء على النجاسة دون العكس، قائلا بعد نقله ذلك عنه: " لا يخفى
ما فيه، لأن من جملة القائلين بطهارة الغسالة من قال بعدم نجاسة القليل مطلقا بالملاقاة
ومن المعلوم أنه لا يظهر للشرط وجه عندهم. ومنهم من قال بنجاسة القليل بالملاقاة
مطلقا كالشيخ (قدس سره) وابن إدريس ومن وافقهما من المتأخرين، فكيف
يتم اشتراط ورود الماء على النجاسة دون عكسه في صحة التطهير بالقليل وطهارة الغسالة؟
بناء على أن الماء حينئذ لا ينجس بالملاقاة، مع قولهم بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا
من غير فرق بين الأمرين، ومن ثم استوجه في الذكرى عدم اعتبار الورود مع ميله
إلى طهارة الغسالة مطلقا، لأنه لو اقتضى ورود النجاسة على الماء نجاسة الغسالة وعدم
صحة التطهير به، لاقتضى ذلك أيضا ورود الماء على النجاسة، لأن الامتزاج بالنجاسة
حاصل على كل تقدير. وبهذا يعلم ما في الاستدلال على طهارة الغسالة أيضا، لابتنائه
على هذا الاشتراط. وبالجملة فهذا الاشتراط وكذا الاستدلال المبني عليه لا يتم
على القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا، ولا على القول بطهارته مطلقا. نعم يتجه
على مذهب السيد المرتضى (عطر الله مرقده) حيث حكم بعدم نجاسة القليل في مادة ورود الماء
على النجاسة دون عكسه، فيتجه هنا اشتراط الورود في صحة التطهير وطهارة الغسالة، لأنه
مع ورود النجاسة على الماء ينجس، فلا يفيد المحل عنده طهارة فضلا عن طهارة غسالته.
نعم يبقى الاشكال في الحكم بطهارة الغسالة مع القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا،
لحصول المنافاة بين الأمرين. وربما يجاب عنه حينئذ باختيار أن الغسالة قد خرجت
بالدليل عن قاعدة نجاسة القليل بالملاقاة مطلقا، كما خرج ماء الاستنجاء منها.
484

ولا استبعاد بعد قيام الدليل عليه، مع ما في النجاسة من العسر والحرج، وكون النجاسة
والطهارة من التعبديات المحضة، مع ضعف أدلة النجاسة. وفيه نظر " انتهى كلامه
زيد في الخلد مقامه. وهو وجيه.
(الخامس) القول بالنجاسة مطلقا وإن كان بعد طهارة المحل، بمعنى أن
ماء كل غسلة كمغسولها قبل الغسل وإن ترامت الغسلات إلى غير النهاية، حكاه الشهيد
(رحمه الله) في حاشية الألفية عن بعض الأصحاب، قال في المدارك بعد حكاية القول
المذكور: " وربما نسب إلى المصنف والعلامة، وهو خطأ، فإن المسألة في كلامهما
مفروضة فيما تزال به النجاسة، وهو لا يصدق على الماء المنفصل بعد الحكم
بالطهارة " انتهى.
أقول: نقل الشيخ مفلح الصيمري في شرح كتاب موجز الشيخ ابن فهد
عن مصنفه أنه نقل هذا القول في كتاب المهذب والمقتصر عن المحقق العلامة وابنه
فخر المحققين، ثم نسبه في ذلك إلى الغلط الفاحش والسهو الواضح وأطال في بيان ذلك
ونقل شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في الروض بعد نقله القول المذكور أن
قائله احتج بأنه ماء قليل لاقى نجاسة، قال: " وبيانه أن طهارة المحل بالقليل
على خلاف الأصل المقرر ممن نجاسة القليل بالملاقاة. فيقتصر فيه على موضع الحاجة،
وهو المحل دون الماء " ثم رده بحكم الشارع بالطهارة عند تمام الغسلات، فلا اعتبار بما
حصل بعد ذلك، وبلزوم الحرج المنفي. وناقش بعض أفاضل متأخري المتأخرين في كلام
شيخنا الشهيد الثاني هنا بما لا ينبغي أن يصغى إليه ولا يعرج في المقام عليه. وكيف
كان فهذا القول بمحل سحيق عن جادة التحقيق فهو بالاعراض عنه حقيق.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لم نعثر في الأخبار على ما يقتضي الحكم في الغسالة
إلا على رواية العيص ورواية عبد الله بن سنان السالفتين (1) والأولى منهما ظاهرة

(1) في الصحيفة 477 و 436.
485

في النجاسة وإن أجيب عنها بما تقدم، إلا أنك قد عرفت ما فيه. وأما الثانية فهي
مجملة في ذلك، إذ غاية ما يستفاد منها المنع من الوضوء به، وهو أعم من لنجاسة كما
عرفت آنفا.
نعم ربما يستفاد من جملة من الأخبار المتفرقة في أحكام متعددة الطهارة،
إلا أنه أيضا ربما يستفاد من جملة أخرى النجاسة.
فما يستفاد من ظاهره الطهارة الأخبار الدالة على نفي البأس عما ينتضح من غسالة
الجنب في إنائه حال الغسل (1) بناء على ما قدمنا بيانه من أن الغالب في المغتسل من الجنابة
بقاء النجاسة إلى آن الغسل، كما تشعر به الأخبار الواردة في صفة غسل الجنابة (2).
ومنه صحيحة هشام بن سالم (3) الواردة في السطح يبال عليه فتصيبه السماء
فيكف فيصيب الثوب، قال: " لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه ".
وجه الدلالة التعليل بالمستفاد منها مع ضم تنقيح المناط إليه. وقريب منها ظاهر
التعليل المتقدم في رواية العلل المتقدمة في المسألة الثالثة (4) كما أشرنا إليه ثمة.
ومنه الأخبار الدالة على الأمر بالرش أو النضح فيما يظن فيه النجاسة من ثوب
أو أرض أو نحوهما وهي كثيرة، ومنها صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (5) قال: " سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس. فقال: رش
وصل " وجه الدلالة أنه لو تنجس الماء الوارد بالملاقاة لكان الرش سببا لزيادة المحذور.
ومنه صحيحة إبراهيم بن عبد الحميد (6) قال: " سألت أبا الحسن (عليه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 36 - من أبواب الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق.
(4) في الصحيفة 468.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب مكان المصلي.
(6) المروية في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب النجاسات.
486

السلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر، وعن الفرو وما فيه
من الحشو. قال اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر، فإن أصبت مس شئ
منه فاغسله وإلا فانضحه " والتقريب ما تقدم.
ومما يؤيد ذلك اطلاق الأخبار الواردة بتطهير البدن من البول من غير تقييد
الأعضاء السافلة.
كصحيحة الحسين بن أبي العلاء (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن البول يصيب الجسد. قال: صب عليه الماء مرتين، فإنما هو ماء ".
ومما يؤيده أيضا نفي البأس عما ينزو من الأرض النجسة في إناء المغتسل كما
في رواية عمر بن يزيد (2) وعد التجنب عن ذلك من الحرج كما في رواية الفضيل (3)
فإنه يدل بمفهوم الموافقة على أن ما يترشح من الغسالة حال الغسل لا بأس به وأن اجتنابه
حرج أيضا.
وأنت خبير بأن المستفاد من هذه الأدلة مع ضم رواية عبد الله بن سنان (4) هو
الطهارة مع عدم الطهورية من الحدث. وأما الطهورية من الخبث فيبقى على حكم الأصل،
إذ لا مخرج له من الأدلة.
وإلى هذا القول مال المحدث الأمين (قدس سره) حيث قال بعد الكلام
في المسألة: " ملاحظة الروايات الواردة في أبواب متفرقة تفيد ظاهرا طهارة غسالة
الأخباث وسلب طهوريتها بمعنى رفع الحدث، ولم أقف على دلالة على سلب طهوريتها
بمعنى إزالة الخبث، والأصل المستصحب بمعنى الحالة السابقة وأصالة الطهورية بمعنى
القاعدة الكلية، والبراءة الأصلية بمعنى الحالة الراجحة، والعمومات تقتضي

(1) المروية في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب النجاسات.
(2) المتقدمة في الصحيفة 446.
(3) المتقدمة في الصحيفة 438.
(4) التقدمة في الصحيفة 436.
487

اجراء حكم الطهورية بهذا المعنى إلى ظهور مخرج. والله أعلم ".
ومما يستفاد منه النجاسة ما تقدم في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة
من الأخبار الدالة على اهراق ماء الركوة والتور ونحوهما متى وقع فيها إصبع أو يد فيها
قذر، فإن اطلاق تلك الأخبار شامل لما لو كان بقصد الغسل أم لا بل ولو لم يكن بقصد
الغسل، فإنه يجب الحكم بالطهارة متى زالت العين ولم يتغير الماء بمجرد ذلك الوضع
أو لم يكن ثمة عين، إذ لا يشترط في إزالة الخبث وتطهير النجاسة القصد إلى ذلك كما
لا يخفى. نعم هذا إنما يتمشى على تقدير القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا، وأما
من خص ذلك بورود النجاسة على الماء دون العكس كالسيد المرتضى والمحدث الأمين
وغيرهما ممن اختار هذه المقالة، كما أسلفنا نقله في المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء
القليل الراكد فلا يتجه ذلك عنده، لأنه يحكم بنجاسة الماء بمجرد ملاقاته النجاسة،
ولا يفيدها تطهيرا عنده فضلا عن أن يكون طاهرا بعد الانفصال عنها. وقد تقدم البحث
معهم في اعتبار الورود وعدمه في المقام المشار إليه وحصول الاشكال في ذلك، ومنه
ينقدح الاشكال هنا أيضا.
ومما يدل بظاهره أيضا على نجاسة الغسالة ما تقدم ذكره في أدلة القول بالنجاسة
من ايجاب تعدد الغسل فيما ورد فيه ذلك، واهراق الغسلة الأولى من الظروف،
ووجوب العصر فيما ورد فيه، وعدم تطهير ما لا يخرج منه الماء إلا بالكثير، فإنه
لا وجه لهذه الأشياء على تقدير القول بطهارة الغسالة. وما أجيب به عن ذلك من
كون ذلك تعبدا بعيد جدا.
ومنه رواية العيص المتقدمة (1) وما أجيب به عنها مما قدمنا نقله قد
عرفت ما فيه. وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف والاحتياط فيها لازم. والله العالم.

(1) في الصحيفة 477.
488

تنبيهات
(الأول) اعلم أن ما ذكره جملة من المتأخرين ومتأخريهم بالنسبة إلى القول
بالنجاسة مطلقا وهو القول الأول من الأقوال التي قدمنا ذكرها من أن حكم الغسالة
كالمحل قبل الغسل فيعتبر التعدد فيما تلاقيه متى كان معتبرا في المحل لم أجد له أثرا
في كلام القائلين بهذا القول كالمحقق والعلامة، بل يحتمل أن يكون مرادهم أنه في حكم
المحل قبل الغسلة، إذ غاية ما يدل عليه كلامهم هو النجاسة، وأما أنه يجب فيما يلاقيه
العدد المعتبر في المحل فلا، بل ظاهر كلام شيخنا الشهيد في الذكرى أن القول المنسوب
إليه وهو القول الثاني من الأقوال المتقدمة هو بعينه القول الأول، وأن القول
بالنجاسة مطلقا عبارة عن كون حكم الغسالة حكم قبل الغسلة، فإنه نقل أولا القول
بالطهارة عن المبسوط، ثم نقل مذهب الشيخ في الخلاف، ثم نقل مذهب المحقق والعلامة
وهو القول بالنجاسة مطلقا ونقل أدلته وطعن فيها. ثم قال: " ولم يبق دليل سوى
الاحتياط ولا ريب فيه. فعلى هذا ماء الغسلة كمغسولها قبلها وعلى الأول كمغسولها بعدها
أو كمغسولها بعد الغسل " انتهى. ومثله كلام المحقق الشيخ علي (قدس سره) في شرح
القواعد. وحينئذ فما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) وغيره من المغايرة بين
القولين كما ترى. والجواب بأنه لا منافاة لجواز اختيار الشيخين المشار إليهما كون
الحكم في الغسالة على تقدير النجاسة أنها كالمحل قبل الغسلة، واختيار أولئك على هذا
التقدير كونها في حكم المحل قبل الغسل
فيه (أولا) أن ذلك فرع تصريح القائلين بالنجاسة مطلقا بكونها كالمحل
قبل الغسل.
و (ثانيا) أن التفريع في عبارة الذكرى إنما جرى على مقتضى الأقوال
المتقدمة، فإن قوله " فعلى هذا " أي فعلى القول بالنجاسة، وهو المنقول عن
489

المحقق والعلامة، وقوله: " وعلى الأول.. الخ " إشارة إلى مذهبي المبسوط
والخلاف وإن كان على سبيل اللف والنشر المشوش، وعلى تقدير ما ذكر في الجواب
يلزم عدم التفريع على مذهب المحقق والعلامة.
(الثاني) الظاهر على تقدير القول بنجاسة الغسالة الاكتفاء في تطهير
ما لاقته بالمرة الواحدة، وفاقا للمحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم، ونقله أيضا في
الكتاب المذكور عن بعض مشايخه المعاصرين.
لنا أصالة البراءة من التكليف به، إذ مورد التعدد في الأخبار نجاسات
مخصوصة، وهذا ليس منها، فلا مقتضى للتعدد فيه سواء كان من الغسلة الأولى أو غيرها.
وما ذكره الأصحاب من الأقوال المتقدمة في ذلك لم نقف له على دليل معتمد.
(الثالث) ادعى المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى الاجماع على أن ما تزال
به النجاسة مطلقا لا يجوز رفع الحدث به. واحتجا لذلك مع الاجماع برواية عبد الله
بن سنان المتقدمة (1) الدالة على أن ما يغسل به الثوب لا يجوز أن يتوضأ به. ويرد
على الأول ما سيأتي من ظاهر عبارتي الدروس والذكرى، مضافا إلى ما عرفت
في المقدمة الثالثة (2) من المجازفة في دعوى الاجماعات في كلامهم (رضوان الله عليهم)
وقد تقدم في المسألة الثالثة (3) من النقل عن المولى الأردبيلي ما يوهن هذه الدعوى أيضا
وعلى الثاني أن الرواية أخص من المدعى، إلا أن يضم إلى ذلك تنقيح المناط.
(الرابع) قال شيخنا الشهيد في الدروس: " وفي إزالة النجاسة نجس
إن تغير بالاجماع، وإلا فنجس في الأولى على قول، ومطلقا على قول، وكرافع
الأكبر على قول، وطاهر إذا ورد على النجاسة على قول. والأولى أن ماء الغسلة
كمغسولها قبلها " انتهى.

(1) في الصحيفة 436.
(2) في الصحيفة 35.
(3) في الصحيفة 477.
490

ولا ريب أن القول الأول هو ما ذهب إليه الشيخ في الخلاف. وأما القول
الثاني فالظاهر أنه هو المنقول عن المحقق والعلامة، وهو أول الأقوال التي قدمناها.
وربما ظهر من كلام المحقق الشيخ علي في فوائد التحرير أن ذلك إشارة إلى القول الخامس
الذي قدمناه. وهو بعيد. وأما القول الثالث فنقله في الذكرى عن ابن حمزة
والبصروي، حيث قال: " وابن حمزة والبصروي سويا بين رافع الأكبر ومزيل
النجاسة " انتهى. والظاهر أنهما قائلان مع طهارته برفعه الحدث حينئذ، ويكون
هذا هو الفرق بين هذا القول وبين ما بعده بلا فصل. ويحتمل أن يكون وجه الفرق
باعتبار ورود الماء في الثاني دون هذا القول. وشيخنا الشهيد الثاني في الروض مع
استقصائه نقل الأقوال في هذه المسألة لم ينقل هذا القول معها، مع أن صريح العبارة
المذكورة وظاهر عبارة الذكرى أنه قول آخر في المسألة. ونسب هذا القول المحقق
الشيخ علي (رحمه الله) في شرح القواعد إلى الأشهر بين المتقدمين. ثم نقل بعده
قول المرتضى وابن إدريس، مع أن شيخنا الشهيد في الذكرى قال: " والعجب
خلو أكثر المتقدمين عن الحكم في الغسالة مع عموم البلوى بها " انتهى.
بقي الكلام في قوله: " والأولى إن ماء الغسلة كمغسولها قبلها " هل هو قول
آخر خارج عن الأقوال المتقدمة أم لا؟ الذي يظهر لي من كلام الذكرى كما قدمنا
بيانه أن هذا إشارة إلى اختيار القول المتقدم بالنجاسة لكن لا على سبيل الجزم،
ونسبته إلى الأولوية هنا مثل نسبته إلى الاحتياط في عبارة الذكرى، وقد عرفت أن
مقتضى كلام شيخنا الشهيد الثاني عد ذلك قولا مغايرا.
(الخامس) قال السيد السند في المدارك: " اختلف القائلون بعدم نجاسة
الغسالة في أن ذلك هل هو على سبيل العفو بمعنى الطهارة دون الطهورية، أو تكون
باقية على ما كانت عليه من الطهورية، أو يكون حكمها حكم رافع الحدث الأكبر؟
491

فقال بكل قائل " وقال في المعتبر: " إن ما تزال به النجاسة لا يرفع به الحدث
اجماعا " انتهى.
وأنت خبير بأن مقتضى القول الأول من هذه الأقوال التي نقلها هو الطهارة
خاصة دون الطهورية من حدث كان أو من خبث حسبما تقدم في معنى العفو
عندهم في ماء الاستنجاء، مقتضى القول الثاني هو الطهورية من الخبث والحدث،
كما يشعر به التعبير ببقائه على ما كان عليه من الطهورية، وحينئذ فلا معنى للقول الثالث
وجعله ثالثا إلا باعتبار الطهارة والطهورية من الخبث خاصة دون الحدث لتتم مقابلته
بالقولين الآخرين. وفي فهم هذا المعنى من التشبيه نوع اشكال، اللهم إلا أن يعلم
أن مذهب القائل بهذا القول كون رافع الحدث مطهرا من الخبث دون الحدث كما هو
مذهب الشيخين. وقد عرفت أن هذا القول منسوب إلى ابن حمزة والبصروي،
إلا أنه لم ينقل مذهبهما في تلك المسألة. والذي يقرب إلى الفهم وبه صرح أيضا
المحقق الشيخ حسن في المعالم وغيره في غيره أن المراد من التشبيه هو كونه طاهرا مطهرا
من الحدث والخبث كما هو المشهور، إلا أنه لا يخلو أيضا من شئ. وبالجملة فإن فهم
المراد من هذه العبارة يتوقف على معرفة مذهب هذا القائل في مسألة غسالة الحدث
الأكبر ليمكن تمشية التشبيه. ويحتمل أن يكون مراد القائل المذكور بالتشبيه لحوق
حكم الغسالة من سائر الأخباث لغسالة الحدث الأكبر وترتبها عليها، فإن قيل بالرفع
من الحدث في تلك قيل به في هذه وإلا فلا. والظاهر بعده.
(السادس) قال في المدارك أيضا بعد نقل اشتراط القائلين بطهارة الغسالة
ورود الماء على النجاسة دون العكس ما صورته: " وربما ظهر من كلام الشهيد
(رحمه الله) في الذكرى عدم اعتبار ذلك، فإنه مال إلى الطهارة مطلقا واستوجه عدم
اعتبار الورود في التطهير. وهو مشكل، لنجاسة الماء بورود النجاسة عليه عنده،
اللهم إلا أن يقول: إن الروايات إنما تضمنت المنع من استعمال القليل بعد ورود النجاسة
492

عليه، وذلك لا ينافي الحكم بطهارة المحل المغسول فيه، لصدق الغسل مع الورود
وعدمه " انتهى.
وفيه (أولا) أن ظاهر الشهيد (رحمه الله) أيضا القول بنجاسة القليل مع ورود
الماء على النجاسة، لتصريحه بأن الامتزاج بالنجاسة حاصل على التقديرين، والورود
لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة، وحينئذ فلا وجه لاختصاص الاشكال بمادة ورود
النجاسة على القليل دون عكسه.
و (ثانيا) أن ما ذكره في الاعتذار عنه من أن الروايات إنما تضمنت
المنع من استعمال الماء بعد ورود النجاسة عليه، وهو لا ينافي طهارة المحل المغسول،
لصدق الغسل في حال الورود وعدمه لا يكاد يحسم مادة الاشكال، بل ربما يزيد
في الاختلال، إذ غاية ما يعطيه هو صحة التطهير به مع نجاسة الغسالة، فلا يدفع
الاشكال بالنسبة إلى حكمه بطهارة الغسالة بل يؤكده. نعم لو كان المعلوم من مذهبه
القول بصحة التطهير وطهارة الغسالة مع ورود الماء على النجاسة، والقول بالتطهير دون
الطهارة مع ورود النجاسة على الماء، لاتجه ما ذكره. إلا أن الظاهر من مذهبه هو
الميل إلى طهارة الغسالة مطلقا من غير اعتبار الورود كما نقله عنه فيما تقدم من عبارته،
وحينئذ فالظاهر أن وجه الاشكال هو ما سبق التنبيه عليه في مسألة نجاسة القليل بالملاقاة
من أن القول بنجاسة القليل بالملاقاة يقتضي عدم صحة التطهير به فضلا عن طهارة
الغسالة، فكيف يتم مع ذلك القول بصحة التطهير وطهارة الغسالة؟ والجواب عنه
ما عرفته في آخر الكلام المتقدم نقله من الوالد (قدس سره) من خروج غسالة
النجاسة من كلية نجاسة القليل بالملاقاة بالدليل كما خرج ماء الاستنجاء. إلا أن فيه
ما عرفته آنفا من الاشكال وعدم وضوح الدليل في هذا المجال.
(السابع) هل الباقي في المحل بعد العصر فيما يجب فيه ذلك أو الإراقة
493

في الأواني ونحوها طاهر مطلقا، أو نجس مطلقا، أو معفو عنه، أو طاهر ما دام
في المحل ونجس بعد الانفصال؟ أقوال:
ظاهر المشهور الأول، وهو الظاهر من الأدلة كما قدمنا ذكره.
ومقتضى القول الخامس هو الثاني. وقد عرفت ما فيه.
ونقل عن ظاهر المحقق في المعتبر الثالث. وفيه اشكال، فإن عبارته في هذا
المقام لا تخلو من الابهام، وذلك فإنه بعد أن اختار النجاسة في غسالة إناء الولوغ
ونقل عن الشيخ الحكم بالطهارة، واحتجاجه بأنه لو كان المنفصل نجسا لما طهر الإناء،
لأنه كان يلزم نجاسة البلة الباقية بعد المنفصل ثم ينجس الماء الثاني بنجاسة البلة وكذا
ما بعده قال: " والجواب أن ثبوت الطهارة بعد الثانية ثابت بالاجماع فلا يقدح
ما ذكره، ولأنه معفو عنه دفعا للحرج " انتهى. ولا ريب أن حكمه بالطهارة التي
ادعى عليها الاجماع مناف للعفو الذي هو عبارة عن النجاسة وإن سلب حكمها. ولا مجال
لحمل العفو هنا على المعنى الذي ذكروه في الاستنجاء، إذ الكلام في تأثر الملاقي
لهذه البلة بالنجاسة وعدمه، لا في رفع الحدث والخبث ونحوهما وعدمه.
والذي يظهر لي أن مراده بالعفو هنا ليس هو المعنى المصطلح بل التنبيه على بيان
أن الحكم بالطهارة إنما هو من قبيل الرخص الواردة في الشريعة، إذ مقتضى كلية
نجاسة الماء القليل بالملاقاة هو النجاسة، لكنه لما كان اللازم من النجاسة هنا الحرج
عفى الشارع عن النجاسة وحكم بالطهارة دفعا للعسر والحرج، ولا يبعد أيضا حمل
عبارته المتقدمة في الاستنجاء على ذلك، وبه يرتفع التناقض الذي أوردناه عليها ثمة.
وبالجملة فالظاهر عندي من عبارته هنا هو الحكم بطهارة البلة الباقية وإن كانت العلة هو العفو،
وإلا لتناقض طرفا كلاميه. نعم ذكر المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) العفو
في هذا المقام احتمالا، حيث قال: " وإذا خرج منه ما يمكن الاخراج عادة بقي المحل
مع ما فيه طاهرا أو عفوا، للضرورة والحرج والسهلة " انتهى.
494

وبالقول الرابع صرح العلامة في القواعد، والظاهر أنه مبني على ما اختاره
من عدم نجاسة القليل الذي تزال به النجاسة إلا بعد الانفصال عن المحل، قال في
الكتاب المذكور: " والمتخلف في الثوب بعد عصره طاهر، فإن انفصل فهو
نجس " انتهى. فعنده أنه إذا عصر الثوب من الغسل المعتبر في تطهيره حكم بطهارته
قطعا، والمتخلف فيه على حكم الطهارة، فلو بالغ أحد في عصره فانفصل منه شئ
كان نجسا، لأن أثر ملاقاته للمحل النجس عنده إنما يظهر بعد الانفصال. ولعل هذا
منشؤهم من نقل عنه القول بالنجاسة وإن حكم بطهر المحل كما تقدم في القول الخامس،
قال المحقق الشيخ علي (قدس سره) في شرح الكتاب: " والظاهر أن هذا الحكم
عنده مختص بالغسل المقتضي لحصول الطهارة، فلو غسل زيادة على الموظف كان ماء
الغسل الزائد طاهرا، لعدم ملاقاته للمحل في حال نجاسته، مع إمكان أن يقول بنجاسته
أيضا، لانفصال شئ من الماء المتخلف في المحل معه والتنجيس فيه بعد انفصاله. وهو
بعيد، مع أن الأصل العدم " انتهى. وكيف كان فالقول المذكور وما يبتنى عليه
بمحل من البعد عن ساحة الأخبار المعصومية.
(الثامن) قال العلامة في المنتهى: " إذا غسل الثوب من البول في أجانة
بأن يصب عليه الماء. فسد الماء وخرج من الثانية طاهرا، اتحدت الآنية أو تعددت ".
ثم احتج على ذلك بوجهين: (أحدهما) أنه قد حصل الامتثال بغسله مرتين
فيكون طاهرا.
و (ثانيهما) صحيحة محمد بن مسلم (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله في المركن مرتين، فإن غسلته في ماء
جار فمرة واحدة ".
وأورد عليه بأنه يشكل حكمه بطهارة الثوب مع نجاسة الماء المجمتع تحته في الإجانة

(1) المروية في الوسائل في الباب - 2 - من أبواب النجاسات.
495

سيما على مذهبه المتقدم من عدم نجاسة الغسالة إلا بعد الانفصال عن المحل المغسول،
ومن المعلوم أن الماء هنا بعد انفصاله عن الثوب المغسول يلاقيه في الإناء، واللازم
مما ذكر تنجسه به.
وقد يتكلف في دفع الإيراد المذكور بأن المراد من الانفصال خروج الغسالة
عن الثوب أو الإناء المغسول فيه، تنزيلا للاتصال الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون
في نفس المغسول، للحديث المذكور.
قيل: ولا يخفى أن هذا التكلف إنما يحسن ارتكابه مع قيام الدليل الواضح
على نجاسة الغسالة، وإلا فظاهر الرواية يدل على طهارة الغسالة.
وفيه (أولا) إن هذا التكلف إنما ارتكب لدفع المنافاة بين كلامي العلامة
(قدس سره) من حكمه بنجاسة الغسالة بعد الانفصال وحكمه بطهارة الثوب في الصورة
المفروضة، فنزل الإناء في الصورة المفروضة منزلة الثوب لتندفع به المنافاة بين كلاميه
وأما الكلام في نجاسة الغسالة وطهارتها فهو بحث آخر.
و (ثانيا) أن دعوى دلالة الرواية على طهارة الغسلة مع تضمنها وجوب
التعدد في الغسل محل اشكال كما عرفت، إلا أن يدعى حمل التعدد على محض التعبد
وفيه ما تقدم. على إنه ربما يقال: أن أصل الاشكال مما لا ورود له في هذا المجال
وإن ذكره بعض علمائنا الأبدال، وذلك فإن الثوب بعد وضعه في الإجانة وصب
الماء عليه يغمره ويأتي عليه، فإن الماء يدخل في جميع أجزائه وإن انفصل بأسفل
الإجانة، ولكن مثل هذا لا يعد انفصالا عرفا، بل الانفصال في مثل هذا إنما
يصدق بعد رفع الثوب من الإجانة وخروج الماء بنفسه أو بالعصر.
(التاسع) قد عرفت أن محل الخلاف في الغسالة طهارة ونجاسة إنما هو
مع عدم التغير، وإلا فلو تغيرت بالاستعمال تنجست اجماعا، والمشهور أن التغير المعتبر
هنا هو التغير في أحد الأوصاف الثلاثة خاصة كما تقدم. ونقل عن العلامة في النهاية
496

أنه استقرب اجراء زيادة الوزن مجرى التغير، فلو غسلت النجاسة بماء فزاد وزنه
بعد الغسل كان حكمه كالمتغير. وهو مع الوقوف له على دليل عديم الرفيق
في ذلك السبيل.
(المسألة الخامسة) في غسالة الحمام. وقد اختلف كلام الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في حكمها، فقال الصدوق عطر الله مرقده (1): " ولا يجوز التطهير بغسالة
الحمام، لأنه تجتمع فيه غسالة اليهودي والمجوسي والنصراني والمبغض لآل محمد (صلى الله عليه
وآله) وهو شرهم " وقريب منه كلام أبيه في رسالته إليه. وقال الشيخ في النهاية: " غسالة
الحمام لا يجوز استعماله على حال " وجرى عليه ابن إدريس، فقال: " غسالة الحمام
لا يجوز استعمالها على حال، وهذا اجماع، وقد وردت به عن الأئمة (عليهم السلام)
آثار معتمدة قد أجمع الأصحاب عليها لا أحد خالف فيها " وقال المحقق في المعتبر:
" ولا يغتسل بغسالة الحمام إلا أن يعلم خلوها من النجاسة " ونحوه قال العلامة
في القواعد.
وظاهر ما عدا عبارتي النهاية وابن إدريس هو الطهارة، إذ مقتضاها عدم جواز
الاستعمال، وهو أعم من النجاسة، ويؤيده نقل الصدوق الرواية الدالة على نفي البأس
عن ملاقاتها الثوب (2) وربما حمل كلام النهاية على ما تقضي به العادة من عدم انفكاك
غسالة الحمام عن ملاقاة النجاسة، كما اعتذر به المحقق عنه في نكت النهاية، إذ لم نقف
له على حجة في تعميم المنع من استعمالها.
وبالطهارة صرح العلامة في المنتهى. فقال بعد نقل بعض الأقوال المتقدمة:
" والأقوى عندي أنه على أصل الطهارة " ثم استدل بمرسلة الواسطي الآتية. وبالنجاسة
صرح في الإرشاد فقال: " غسالة الحمام نجسة ما لم يعلم خلوها من النجاسة "

(1) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).
(2) وهي رواية أبي يحيى الواسطي الآتية في الصحيفة 498.
497

وفي التحرير عبر بعدم جواز الاستعمال كما هو عبارة النهاية.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة روايات.
(منها) - رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) (1)
قال: " سألته أو سأله غيري عن الحمام. قال: ادخله بمئزر، وغض بصرك،
ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب
وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت، وهو شرهم ".
و (منها) رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام، فإن فيها غسالة ولد الزنا، وهو
لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب، وهو شرهما ".
و (منها) رواية علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن (عليه السلام) (3)
قال: " لا تغتسل من غسالة ماء الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، ويغتسل فيه
ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت، وهو شرهم ".
و (منها) رواية أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن الماضي
(عليه السلام) (4) قال: " سئل عن مجتمع الماء في الحمام من غسالة الناس يصيب
الثوب. قال: لا بأس ".
و (منها) ما رواه الصدوق (قدس سره) في كتاب العلل (5) في الموثق
عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: " وإياك

(1) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(5) في الصحيفة 106 وفي الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
498

أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا
أهل البيت، وهو شرهم ".
وأنت خبير بأن الظاهر أن مطرح النزاع في هذا المسألة إنما هو حال الشك
في عروض شئ من النجاسات، وإلا فمع العلم بملاقاة شئ منها فلا خلاف في الحكم
بالنجاسة ممن قال بنجاسة القليل بالملاقاة. ومع العلم بالخلو عنها فالظاهر أنه لا اشكال
في الحكم بالطهارة، ولا خلاف في ذلك إلا ما يظهر من عبارة الصدوق، إلا أن
الظاهر صرفها إلى ما ذكره المحقق من التفصيل، حيث استثنى من المنع من الغسل
بالغسالة صورة العلم بخلوها من النجاسة، وكذا ظاهر عبارتي النهاية وابن إدريس،
إلا أنه لا يبعد صرفهما إلى ما ذكرنا آنفا.
وقال المحقق في المعتبر بعد نقل ما تقدم من كلام ابن إدريس وإن عبر عنه
ببعض المتأخرين إلا أنه هو المراد على التعيين ما صورته: " وهو خلاف الرواية،
وخلاف ما ذكره ابن بابويه، ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية
ورواية مرسلة ذكرها الكليني، قال: بعض أصحابنا عن ابن جمهور، وهذا
مرسلة وابن جمهور ضعيف جدا، ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال، فأين
الاجماع وأين الأخبار المعتمدة؟ ونحن نطالبه بما ادعاه وأفرط في دعواه " انتهى.
وأشار بقوله: وهو خلاف الرواية. إلى رواية الواسطي. حيث قدمها أولا،
وبالرواية التي رواها الكليني إلى رواية ابن أبي يعفور.
ثم إنه مع الشك في ملاقاة النجاسة الذي هو محل النزاع كما ذكرنا، فهل يحكم بالطهارة
أو النجاسة أو المنع من الاستعمال خاصة؟ الأول صريح العلامة في المنتهى كما عرفت،
وإليه مال جملة من المتأخرين ومتأخريهم، منهم: المحقق الشيخ علي في شرح القواعد،
حيث قال: " والذي يقتضيه النظر أنه مع الشك في النجاسة تكون على حكمها الثابت
لها قبل الاستعمال وإن كان اجتنابها أحوط " وإلى ذلك مال المحقق الشيخ حسن
499

في المعالم، وقبله والده في الروض وغيرهم. والثاني صريح العلامة في الإرشاد، وربما
تبعه فيه بعض من تأخر عنه، قال في المعالم: " وربما قيل إن حجته النهي عن استعمالها
وسقوطها ظاهر " انتهى. والثالث ظاهر الصدوقين والمحقق. إلا أنهم خصوا المنع
بالغسل، والذي فهمه من تأخر عنهم من كلامهم هو الحكم بالطاهرة وإن امتنع
الغسل بها.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لقائل أن يقول: إن جل الأخبار المتقدمة قد دلت
على المنع من الغسل، والظاهر أنه لا خصوصية لذكر الغسل إلا من حيث إن الحمام
غالبا إنما اتخذ لذلك، والأحكام في الأخبار كما نبهنا عليه غير مرة إنما تخرج بناء
على الأفراد المتكررة الغالبة، وحينئذ فلا فرق في المنع من الاستعمال بين الغسل وغيره
ومما يوضح ذلك أن الحكم بالنجاسة في أكثر المواضع إنما استفيد من نهي الشارع
عن استعمال ما لاقته أو الأمر بغسله أو نحو ذلك، حتى أنه لو ورد شئ بلفظ النجاسة
في مقام النزاع لسارعوا إلى تأويله بالحمل على المعنى اللغوي، ويؤيد ذلك ما ذكره
السيد السند في المدارك، حيث قال بعد الاستدلال على نجاسة البول من غير
المأكول بحسنة عبد الله بن سنان المتضمنة للأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه (1)
وكلام في البين ما صورته: " ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له،
بل سائر الأعيان النجسة إنما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن
من ملاقاتها " انتهى. والأمر فيما نحن فيه كذلك.
فإن قيل: إن القاعدة الكلية الدالة على طهارة ما لا يعلم ملاقاته النجاسة
ترد ما ذكرتم.
قلنا: ما ذكرنا من الأخبار بالتقريب المذكور خاص، وهو مقدم على العام
كما تقرر بين العلماء الأعلام.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب النجاسات.
500

إلا أنه يبقى الكلام في مرسلة الواسطي، حيث دلت على نفي البأس
عن ملاقاته للثوب، ولا ريب أن الترجيح لما عارضها بالكثرة.
نعم استدل المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) في شرح الإرشاد
على الطهارة بصحيحة محمد بن مسلم (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
الحمام يغتسل فيه الجنب وغيره، أغتسل من مائه؟ قال: نعم لا بأس أن يغتسل
منه الجنب، ولقد اغتسلت فيه ثم جئت فغسلت رجلي، وما غسلتهما إلا مما لزق
بهما من التراب " ومثلها صحيحته الأخرى (2) وموثقة زرارة (3) قال: " رأيت
أبا جعفر (عليه السلام) يخرج من الحمام فيمضي كما هو لا يغسل رجليه حتى يصلي ".
وفيه أن مورد الروايات في هذه المسألة هو البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام،
وإلحاق المياه المنحدرة في سطح الحمام بها مما لا دليل عليه، سيما مع ورود هذه الروايات
دالة على الطهارة، وحينئذ فمحل الخلاف في المسألة مختص بالبئر خاصة، فالاستدلال
بهذه الأخبار هنا مما لا وجه له. إلا أن الأقرب إلى النظر هو ما ذكره المحقق المشار
إليه، فإن الظاهر أن وصول الماء إلى البئر المشار إليها إنما يكون بعد المرور في سطح
الحمام، لأن تلك البئر إنما أعدت للمياه التي تجري من الحياض التي يغتسل عليها،
ومن الظاهر مرورها على سطح الحمام، فالكلام في سطح الحمام كالكلام في الآبار
نعم لو كان لوصول الماء إلى تلك الآبار طريق على حدة لا يتعلق بالسطح فالاستدلال
بتلك الأخبار في غير محله، وعلى تقدير فرض محل النزاع ما يشمل السطح فالاستدلال
على الطهارة بتلك الأخبار، فتحمل الأخبار الأول على الكراهة المغلظة، ولعل في عد

(1) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق وفي الباب - 9 -
من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
501

الاغتسال من الزنا وغسالة ولد الزنا اشعارا بذلك، سيما مع ارداف الثاني بقوله:
" وهو لا يطهر إلى سبعة آباء " فإنه لم يقل بنجاسة ابن الزنا على هذا الوجه قائل
من الأصحاب، ولا دليل عليه من سنة أو كتاب.
المقام الثاني
في الماء المشتبه، وفيه صور:
(الأول) اشتباه الطاهر بالنجس، والظاهر أنه لا خلاف بين، الأصحاب
(رضوان الله عليهم) في أن الماء إذا كان طاهرا وهو في إناء واشتبه بماء نجس في إناء
آخر فإنه يجب اجتنابهما معا، نقل الاجماع على ذلك جماعة من أجلاء الأصحاب منهم:
الشيخ في الخلاف والمحقق في المعتبر والعلامة في المختلف.
واحتج في المعتبر بعد نقل الاتفاق بأن يقين الطهارة في كل منهما معارض
بيقين النجاسة، ولا رجحان، فيتحقق المنع.
وأورد عليه في المعالم بأن يقين الطهارة في كل واحد بانفراده إنما يعارضه الشك
في النجاسة لا اليقين،
ونقل السيد السند في المدارك عن العلامة أنه احتج في المختلف أيضا على ذلك
بأن اجتناب النجس واجب قطعا، وهو لا يتم إلا باجتنابهما معا، وما لا يتم الواجب
إلا به، فهو واجب.
واعترضه بأن اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلا مع تحققه بعينه لا مع الشك
فيه. واستبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا إذا لم تحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه
الاشتباه غير ملتفت إليه، وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني في الثوب المشترك،
واعترف به الأصحاب في غير المحصور أيضا. والفرق بينه وبين المحصور غير واضح
عند التأمل. انتهى. وقد تقدمه في هذا الكلام شيخه المولى الأردبيلي. وقد جرى
502

على هذا المنوال جملة ممن تأخر عنه من علمائنا الأبدال. وما نقله (قدس سره) عن المختلف
لم نجده فيه في المسألة المذكورة ولعله في موضع آخر منه.
والتحقيق في هذا المقام على ما يستفاد من أخبار أهل الذكر (عليهم السلام)
أنه لا يخفى على من خلع عنقه من ربقة التقليد للرجال وأعطى النظر حقه فيما ورد عن
الآل في هذا المجال أن الشارع كما حكم بالنجاسة والحرمة فيما تحقق كونه نجسا
أو حراما، كذلك أعطى المشتبه بكل منهما في الأفراد المحصورة حكم ما اشتبه به من
النجاسة أو التحريم، أيضا بخلاف غير المحصورة، فإنه حكم بطهر الجميع وحله دفعا
للحرج والمشقة والتكليف بما لا يطاق.
وحيث إن المسألة المذكورة مما لم يعطها حقها من التحقيق أحد من الأصحاب،
ولم يميز القشر منها من اللباب، مع تكثر أفرادها في الأحكام، فحري بنا أن نطيل
فيها الكلام بما يقشع عنها غياهب الظلام، ونبين ما في كلام هؤلاء الأعلام من سقوط
ما اعترضوا به في المقام.
فنقول (أولا) لا يخفى أن القواعد الكلية الواردة عنهم (عليهم السلام)
في الأحكام الشرعية، كما تكون باشتمال القضية على سور الكلية، كذلك تحصل
بتتبع الجزئيات الواردة عليهم (عليهم السلام) كما في القواعد النحوية. وما صرح به
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكم المحصور وغير المحصور مما اشتبه بالنجس
أو الحرام حيث حكموا بالنجاسة والتحريم في الأول دون الثاني وإن كان لم يرد
في الأخبار بقاعدة كلية إلا أن المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب في خصوصيات
الأفراد التي تصلح للاندارج تحت كل من قاعدتي المحصور وغير المحصور هو
ما ذكروه، بل في بعض تلك الأخبار كما سيأتيك إن شاء الله تعالى تصريح
بكلية الحكم في بعض تلك الموارد.
وها أنا أذكر لك ما وقفت عليه من المواضع المتعلقة بكل من تلك القاعدتين
503

ومما دل على حكم المحصور وأنه يلحق المشتبه فيه حكم ما اشتبه به من نجاسة
أو تحريم ما نحن فيه من مسألة الإناءين، فقد روى عمار في الموثق عن أبي عبد الله
(عليه السلام) أنه " سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري
أيهما هو وليس يقدر على ماء غيره. قال: يهريقهما ويتيمم " (1) ومثله روى سماعة
في الموثق عنه (عليه السلام) (2) فإنهما كما ترى صريحان في الحكم المذكور.
وطعن جملة من متأخري المتأخرين في الخبرين بضعف السند بناء على الاصطلاح
المحدث بينهم. وقد عرفت ما في هذا الاصطلاح في المقدمة الثانية من مقدمات
الكتاب. وبعض منهم جبر ذلك بقول الأصحاب للروايتين المذكورتين. وجملة
منهم إنما اعتمدوا في هذا الباب على الاجماع المنقول في المسألة. والكل بمكان
من الضعف
ومن ذلك الثوب الطاهر المشتبه بثوب آخر نجس، فإنه لا خلاف بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) ممن منع الصلاة عاريا في أنه يجب الصلاة فيهما
على جهة البدلية، حتى من أولئك الفضلاء المنازعين في هذه المسألة، ولم يجوز أحد منهم
الصلاة في واحد خاصة، مع أن مقتضى ما قالوه في هذه المسألة جواز ذلك.
ويدل على الحكم المذكور من النصوص حسنة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن
(عليه السلام) (3) أنه " كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما
بول ولم يدر أيهما هو، وحضرت الصلاة وخاف فوتها، وليس عنده ماء، كيف

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب - 8 و 12 - من أبواب الماء المطلق،
وفي الباب - 4 - من أبواب التيمم، وفي الباب - 64 - من أبواب النجاسات
(2) رواه صاحب الوسائل في الباب - 8 و 12 - من أبواب الماء المطلق،
وفي الباب - 4 - من أبواب التيمم، وفي الباب - 64 - من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 64 - من أبواب النجاسات. والرواية - كما
في الفقيه ص 161 والتهذيب ص 199 عن أبي الحسن (عليه السلام)، ولكن ما وفقنا
عليه من نسخ الحدائق تنص على أنها عن أبي عبد الله (عليه السلام).
504

يصنع؟ قال: يصلي فيهما جميعا " قال شيخنا الصدوق (رضي الله عنه) في الفقيه بعد
نقل الرواية: " يعني على الانفراد ".
قال في المدارك بعد أن نقل القول بذلك عن الشيخ وأكثر الأصحاب
وقال: إنه المعتمد. ونقل عن بعض الأصحاب أنه يطرحهما ويصلي عريانا ما صورته:
" ومتى امتنع الصلاة عاريا ثبت وجوب الصلاة في أحدهما أو في كل منهما، إذ
المفروض انتفاء غيرهما. والأول منتف، إذ لا قائل به، فيثبت الثاني، ويدل
عليه ما رواه صفوان.. " ثم ساق الرواية.
وأقول: أنت خبير بما فيه، فإن مقتضى ما ذكره في مسألة الإناءين واختاره
فيها وما ذكره أيضا في مسألة السجود مع حصول النجاسة في المواضع المتسعة، حيث
قال بعد البحث في المسألة: " والذي يقتضيه النظر عدم الفرق بين المحصور وغيره، وأنه
لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة بجميع ما وقع
فيه الاشتباه " انتهى أنه يجزي هنا الصلاة في ثوب واحد. وتوقف القول به
على وجود القائل جار في الموضعين الآخرين. فإنه لم يخالف في تلك المسألتين أحد
سواه، ومن حذا حذوه واقتفاه.
والجواب عنه بوجود النص المعتمد في الثوب النجس المشتبه وعدم وجوده
هناك، لضعف النص في مسألة الإناءين، وعدم النص في مسألة السجود ضعيف:
(أولا) بأنه بالتأمل في النصوص الواردة في الأحكام المتفرقة وضم بعضها
إلى بعض كما سنوضحه إن شاء الله تعالى يعلم أن ذلك حكم كلي.
و (ثانيا) أن ما ذكره من التعليل في الموضعين يعطي كون الحكم عنده
كليا في مسألة الطاهر المشتبه بالنجس مطلقا لا بخصوص تلك المسألتين.
ومن ذلك الثوب النجس بعضه مع وقوع الاشتباه في جميع أجزاء الثوب، فإنه
لا خلاف بين الأصحاب حتى من هذا الفاضل ومن تبعه في أنه لا يحكم بطهارة
505

الثوب إلا بغسله كملا، وبه استفاضت الأخبار.
ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) أنه قال في المني
يصيب الثوب: " فإن عرفت مكانه فاغسله. وإن خفي عليك فاغسله كله " ومثلها
صحيحة زرارة (2) وحسنة محمد بن مسلم (3) ورواية ابن أبي يعفور (4) وغيرها
قال السيد في المدارك بعد نقل عبارة المصنف في ذلك: " هذا قول علمائنا
وأكثر العامة (5) قاله في المعتبر، واستدل عليه بأن النجاسة موجودة على اليقين، ولا
يحصل اليقين بزوالها إلا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه، ويشكل بأن يقين النجاسة
يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة وإن لم يحصل القطع بغسل
ذلك المحل بعينه " انتهى.
وفيه (أولا) أن الظاهر أن ما ذكره المحقق (قدس سره) من التعليل

(1) المروية في الوسائل في الباب - 7 و 16 - من أبواب النجاسات.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 7 - من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 7 و 9 - من أبواب النجاسات.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 7 و 16 - من أبواب النجاسات.
(5) في بدائع الصنائع في الفقه الحنفي ج 1 ص 81 " لو أن ثوبا أصابته النجاسة وهي
كثيرة، فجفت وخفى مكانها وذهب أثرها غسل جميع الثوب، ولو أصابت أحد الكمين
ولا يدرى أيهما هو، غسل جميعهما. والقول بغسل موضع من الثوب والحكم بطهارة
الباقي غير سديد، لأن موضع النجاسة غير معلوم، وليس البعض بأولى من البعض "
وفي مجمع الأنهر لشيخ زاده الحنفي ج 1 ص 64 " لو تنجس طرف من الثوب فنسي المحل
المصاب بالنجاسة وغسل طرفا بلا تحر حكم بطهارته، وفي متفرقات ركن الاسلام لا يطهر
وإن تحرى، وفي شرح الطحاوي إذا خفي موضع النجاسة يغسل جميع الثوب " وفي فتح
القدير لابن همام الحنفي ج 1 ص 132 عن الظهيرية " الثوب تكون فيه النجاسة فلا يدرى
مكانها، يغسل الثوب كله " وفي الأم للشافعي ج 1 ص 47 " كل ما أصاب الثوب
من غائط رطب أو بول أو دم أو خمر فاستيقنه صاحبه فعليه غسله، وإن أشكل عليه
موضعه لم يجزه إلا غسل الثوب كله ".
506

هنا وفي مسألة الإناءين بل في سائر المواضع إنما هو على جهة التوجيه للنص وبيان
حكمة الأمر فيه، لأنه مع وجود النص فلا ضرورة تلجئ إلى التعليل بالوجوه العقلية.
على أن أحكام الشرع توقيفية لا تعلل بالعقول، كما أطال به المحقق الكلام في أول
كتاب المعتبر وغيره في غيره، وحينئذ فلا اشكال. نعم هذا الاشكال موافق لما اختاره
في ذينك الموضعين المتقدمين، ولكنه وارد عليه في هذا الموضع، حيث إن مقتضى
ما اختاره ثمة الاكتفاء بغسل جزء من الثوب كما ذكره، ولكن النصوص تدفعه،
وهو دليل على ما ادعيناه وصريح فيما قلناه.
و (ثانيا) أنه متى كان يقين النجاسة هنا يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه
الاشتباه بمعنى إنا لا نقطع حينئذ ببقاء النجاسة، لجواز كونها في ذلك الجزء الذي
قد غسل فإنا نقول أيضا مثله في مسألة الإناءين: إنه بعد وقوع النجاسة في واحد
منهما لا على التعيين فقد زال يقين الطهارة الحاصل أولا عن كل من ذينك الإناءين،
وهكذا في الثوب والمكان المحصورين، فإنه قد تساوى احتمال الملاقاة وعدم الملاقاة
في كل جزء جزء من تلك الأجزاء المشكوك فيها، وهذا القدر يكفي في زوال ذلك
اليقين الحاصل قبل الملاقاة والخروج عن مقتضاه.
ومن ذلك اللحم المختلط ذكية بميته، فقد ذهب الأصحاب إلى تحريم الجميع
من غير خلاف، وعليه دلت الأخبار:
و (منها) حسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) أنه " سئل
عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة، ثم إن الميتة
والذكي اختلطا فكيف يصنع؟ قال: يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه " ومثلها

(1) المروية في الوسائل في باب (أن الميتة إذا اختلطت بالذكي جاز بيع الجميع ممن
يستحل الميتة وأكل ثمنه) من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.
507

حسنته الأخرى (1) أيضا. ويأتي بمقتضى ما ذكره السيد ومن تبعه أن كل قطعة
لاحظناها من هذا اللحم فهي حلال لا يحكم بنجاستها ولا تحريم أكلها، لأن الواجب
إنما هو اجتناب ما تحقق تحريمه بعينه لا ما اشتبه بالحرام، والنصوص تدفعه. ولو
قيل: إنه يتمسك هنا بأصالة عدم التذكية. قلنا: يعارضه التمسك بأصالة الطهارة
وأصالة الحلية.
ومما ورد في حكم غير المحصور جملة من الأخبار في مواضع:
(منها) الأخبار الدالة على أن كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر (2) فإن
القدر المعلوم منها كما مر تحقيقه في المقدمة الحادية عشرة أن كل صنف يكون فيه
طاهر ونجس كالدم والبول وأمثالهما مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة فهو طاهر
حتى يعلم أنه من الفرد النجس، وفيه كما ترى دلالة على حكم غير المحصور بوجه كلي.
و (منها) الأخبار الدالة على أن كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال
حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه (3).
ومنها صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) أنه

(1) المروية في الوسائل في باب (أن الميتة إذا اختلطت بالمذكى جاز بيع الجميع ممن
يستحل الميتة وأكل ثمنه) من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.
(2) تقدم بعضها في الصحيفة 134، وسيذكرها (قدس سره) في التنبيه الثاني من تنبيهات
المسألة الثانية من البحث الأول من أحكام النجاسات.
(3) تقدم ذكرها في قاعدة الحل في الصحيفة 140.
(4) كذا فيما وفقنا عليه من النسخ. ولكن هذه الرواية - كما في كتب الحدث - هي
رواية عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر (عليه السلام) المتقدمة في قاعدة الحل في الصحيفة 141
وقد رواها الكليني في الكافي ج 2 ص 175. نعم الراوي عن عبد الله بن سليمان هو عبد الله
بن سنان. كما في المحاسن أيضا ج 2 ص 495 وقد رواها صاحب الوسائل في الباب - 61 - من
أبواب الأطمعة المباحة من كتاب الأطعمة والأشربة. ولم نجد في كتب الحديث - بعد التتبع
في المظان صحيحة لعبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) بهذا المتن. نعم
لعبد الله بن سنان صحيحة تتضمن الكلية المتقدمة في رواية عبد الله بن سليمان فقط، وقد
تقدمت في الصحيفة 140.
508

" سأل عن الجبن. فقال: سألتني عن طعام يعجبني، ثم أعطى الغلام درهما فقال:
يا غلام ابتع لنا جبنا، ثم دعى بالغداء فتغدينا معه، فأتى بالجبن فأكل وأكلنا، فلما
فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أو لم ترني أكلته؟ قلت: بلى ولكني
أحب أن أسمعه منك. فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما كان فيه حلال وحرام
فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه ".
وما رواه في كتاب المحاسن (1) عن أبي الجارود، قال: " سألت أبا جعفر
(عليه السلام) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة. فقال:
أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنه ميتة فلا
تأكل، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، والله إني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم
والسمن والجبن، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان " إلى غير
ذلك من الأخبار التي لا يأتي عليها قلم الاحصاء في هذا المضمار.
وأنت خبير بأن الحكم الوارد في هذه الأخبار على وجه كلي، فكل شئ
من الأشياء متى كان له أفراد بعضها معلوم الحل وبعضها معلوم الحرمة. ولم يميز
الشارع أحدهما بعلامة. وتلك الأفراد مما يتعسر أو يتعذر ضبطها كما أشار إليه
في رواية المحاسن بقوله: " أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع
الأرضين " فالجميع حلال حتى يعرف الحرام بعينه فيجتنبه. وهذا من التوسعات
والرخص الواقعة في الشريعة المبنية على السهولة، لرفع الحرج والمشقة اللازمين بوجوب
التكليف باجتناب ذلك، بخلاف الأفراد المحصورة، فإنه لا حرج في التكليف

(1) في الصحيفة 495، وفي الوسائل في الباب - 61 - من أبواب الأطعمة المباحة
من كتاب الأطعمة والأشربة.
509

باجتنابها كما لا يخفى، وهذه الأخبار كما أنها تدل على حكم غير المحصور بالنسبة إلى اشتباه
الحلال والحرام كذلك تدل عليه بالنسبة إلى اشتباه الطاهر بالنجس، فإن التحريم الذي
حصل الاشتباه به إنما نشأ من حيث النجاسة كما لا يخفى.
و (منها) جوائز الظالم، فإنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في حلها وجواز أكلها، مع العلم واليقين بكون أكثرها حراما، وبه استفاضت
الأخبار:
ومنها صحيحة أبي ولاد (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان، ليس له مكسب إلا من أعمالهم، وأنا أمر به
فأنزل عليه فيضيفني ويحسن إلي، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة، وقد ضاق
صدري من ذلك؟ فقال لي: كل وخذ منه فلك المهنا وعليه الوزر ".
هذا ما خطر بالبال مما يدخل في هذا المجال.
وبذلك يتضح لك ما في كلام المحدث الكاشاني في المفاتيح والفاضل الخراساني
في الكفاية، حيث ذهبا إلى حل ما اختلط بالحرام وإن كان محصورا، استنادا إلى
صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (2).
وفيه (أولا) أنك قد عرفت بمعونة ما قدمناه أن مورد الرواية كما هو
أيضا مقتضى سياقها إنما هو الأفراد الغير المحصورة، وأن ذلك قاعدة كلية في الطهارة
والنجاسة والحل والحرمة.
و (ثانيا) أن الأخبار الدالة على وجوب الاجتناب للحرام عموما وخصوصا
متناولة لما نحن فيه، وهو لا يتم هنا إلا باجتناب الجميع.
و (ثالثا) أن جملة من الأخبار قد صرحت بالتحريم في خصوص المحصور،

(1) المروية في الوسائل في باب (أن جوائز الظالم وطعامه حلال.. الخ) من أبواب
ما يكتسب به من كتاب التجارة.
(2) راجع التعليقة 4 في الصحيفة 508.
510

كروايتي الحلبي المتقدمتين في اللحم المختلط ذكيه بميته كما تقدم (1).
وما رواه الشيخ في التهذيب (2) بسنده عن ضريس الكناسي قال: " سألت
أبا جعفر (عليه السلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنا كله؟
فقال: أما ما علمت أنه قد خلطه الحرام فلا تأكل، وأما ما لم تعلم فكله حتى
تعلم أنه حرام ".
وما رواه عبد الله بن سنان (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كل
شئ لك حلال حتى يجيئك شاهدان أن فيه ميتة ".
والجميع كما ترى صريح في الحكم بالتحريم. ولا ريب أن طريق الجمع بينها
وبين صحيحة عبد الله بن سنان (4) وما في معناها إنما يتم بالحمل على الفرق بين المحصور
وغير المحصور، كما يقتضيه سياق كل من تلك الأخبار، وسيجئ تحقيق هذه المسألة
إن شاء الله تعالى واعطاء البحث حقه مع هذين الفاضلين في محله.
وبالجملة فإنك إذا أعطيت التأمل حقه فيما نقلنا من الأخبار خاصها وعامها
وضممت بعضها إلى بعض، فلا أراك تستريب فيما ذكرنا من حصة تلك الكليتين
وظهور تلك القاعدتين، أعني كليتي المحصور وغير المحصور، وأن الأخبار الدالة
بعمومها على طهارة كل شئ حتى تعلم نجاسته وحلية كل شئ حتى تعلم حرمته مقيدة بأخبار

(1) في الصحيفة 507.
(2) في ج 2 ص 302 وفي الوسائل في باب (حكم السمن والجبن وغيرهما إذا علم أنه خلطه حرام) من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.
(3) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة. والذي وجدناه في كتب
الحديث بهذا المضمون هي رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الجبن
قال: " كل شئ لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة ". وقد رواها
في الوسائل في الباب - 61 - من أبواب الأطعمة المباحة.
(4) راجع التعليقة 4 في الصحيفة 508.
511

المحصور طهارة ونجاسة وحلية وحرمة. ومن القواعد المتفق عليها عندهم تقديم العمل
بالخاص، وحينئذ فتخصيص أخبار أصالة يقين الطهارة وأصالة يقين الحلية بغير موضع
الاشتباه في الأشياء المعلومة بشخصها، فتأمله بعين البصيرة وتناوله بيد غير قصيرة،
ليظهر لك ما في الزوايا من خبايا.
هذا. وما أورده في المعالم على المحقق فيندفع بما أشرنا إليه آنفا من أنه قد حصل
لنا اليقين بنجاسة بعض تلك الأشياء المعلومة بشخصها، وهذا اليقين أوجب حدوث
حالة متوسطة بين الطهارة والنجاسة. وحينئذ فهو من باب نقض اليقين بيقين مثله.
وأما ما ذكره السيد السند من أن اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلا مع
تحققه بعينه فمردود بأن الأخبار كما دلت على وجوب الاجتناب مع اليقين دلت
على وجوب الاجتناب مع الاشتباه بمحصور. وقياسه هذه المسألة ونحوها على مسألة
واجدي المني في الثوب المشترك قياس مع الفارق، لوجود النصوص الدالة على الاجتناب
في هذه المسألة ونظائره، وعدم النص في تلك المسألة على ما ذكروه فيها من الأحكام.
وسيأتي إن شاء الله ما فيه تحقيق الحال ودفع الاشكال في المسألة المذكورة.
وينبغي التنبيه هنا على فوائد:
(الأولى) لو لاقى هذا الماء شيئا طاهرا فهل يحكم بنجاسته أم لا؟ قولان
مبنيان على أن هذا الماء هل يكون حكمه حكم النجس من كل وجه أو بالنسبة إلى عدم
الاستعمال في الطهارة خاصة؟
وبالأول صرح العلامة في المنتهى، فقال: " لو استعمل أحد الإناءين
وصلى به لم تصح صلاته، ووجب عليه غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقن الطهارة
كالنجس " ثم نقل عن بعض العامة أنه نفى وجوب الغسل عنه، معللا بأن المحل طاهر
بيقين فلا يزول بالشك في النجاسة. وأجاب عنه بأنه لا فرق في المنع بين يقين
النجاسة وشكها هنا وإن فرق بينهما في غيره.
512

وبالثاني صرح جملة من المتأخرين ومتأخريهم: منهم السيد السند في المدارك
وجده في الروض.
واحتج عليه في المدارك بأن احتمال ملاقاة النجاسة لا يرفع يقين الطهارة، فقال
في رد كلام العلامة بأن المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس ما صورته: " وضعفه
ظاهر، للقطع بأن موضع الملاقاة كان طاهرا في الأصل، ولم يعرض له ما يقتضي ظن
ملاقاته للنجاسة فضلا عن اليقين. وقولهم بأن المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس
لا يريدون به من جميع الوجوه، بل المراد صيرورته بحيث يمنع استعماله في الطهارة
خاصة. ولو صرحوا بإرادة المساواة من كل وجه كانت دعوى خالية من الدليل " انتهى
وأنت خبير بأنه بمقتضى ما نقلنا من الأخبار المتعلقة بحكم المشتبه في الأفراد
المحصورة مما ورد في هذه المسألة ونظائرها، وأن ذلك قاعدة كلية. اعطاء المشتبه
بالنجس حكم النجس على التفصيل الآتي، والمشتبه بالحرام حكم الحرام كذلك،
ألا ترى أن ملاقاة النجاسة لبعض الثوب مع الاشتباه بباقي أجزائه موجب لغسله كملا
كما تقدم في الأخبار. ومن الظاهر أنه لا وجه لذلك إلا توقف يقين طهارته الموجب
لاجراء حكم الطاهر عليه من صحة الصلاة فيه ومنع تعدي حكم النجاسة منه إلى
ما يلاقيه برطوبة على ذلك. وبمقتضى ما ذهب إليه من حكمه في هذه المسألة بعدم
وجوب تطهير الملاقي لهذا الماء أنه لا يجب تطهير ما لاقى بعض أجزاء هذا الثوب
برطوبة، مع أن ظاهر النصوص الواردة بوجوب تطهيره كملا يدفع، لأن ايجاب
الشارع تطهيره كملا دال على ترتب حكم النجس عليه قبل التطهير. إلا أن هؤلاء
الفضلاء لما كان نظرهم في المسألة مقصور على الموثقتين الواردتين فيها (1) وهما إنما
تضمنتا المنع من الاستعمال في الطهارة خاصة، مع كون الحكم فيهما جاريا على خلاف

(1) وهما موثقتا عمار وسماعة المتقدمان في الصحيفة 504.
513

القوانين المقررة اقتصروا على موردهما على تقدير العمل بهما. وحينئذ فما ذكره
العلامة في المنتهى من أن المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس، إن أراد به من جميع
الوجوه فهو مردود بحسنة صفوان (1) الواردة في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما،
إذ لا تكرر الصلاة في الثوبين النجسين ولا الطاهرين، وإن أراد من بعض الوجوه
التي من جملتها ملاقاته برطوبة فصحيح.
وبالجملة فإن للمشتبه في هذه المسألة وأمثالها حالة متوسطة، فمن بعض الجهات
كالأكل والشرب والملاقاة برطوبة حكمه حكم النجس، ومن بعض الجهات
كالصلاة في الثوبين المشتبهين باعتبار تكرارها فيهما له حالة ثالثة. وإلى ذلك يميل
كلام المحدث الأسترآبادي (قدس سره) في كتاب الفوائد المدنية في مسألة ما لو تنجس
الماء مع الشك في بلوغه الكرية، حيث قال بعد أن اختار فيه التوقف عن الحكم
بالطهارة والنجاسة ما صورته: " ثم اعلم أن هنا أقساما ثلاثة: المحكوم عليه بالطهارة
والمحكوم عليه بالنجاسة والمحكوم عليه بوجوب التوقف عن الحكمين وبوجوب الاجتناب
ومن المعلوم أن الملاقي لأحد الثلاثة حكمه حكم أحد الثلاثة " انتهى.
والعجب منهم (نور الله تعالى مراقدهم) فيما ذهبوا إليه هنا من الحكم بطهارة
ما تعدى إليه هذا الماء. مع اتفاقهم ظاهرا في مسألة البلل المشتبه الخارج بعد البول
وقبل الاستبراء على نجاسة ذلك البلل ووجوب غسله. كما سيأتي إن شاء الله تعالى
الكلام فيه في المسألة المذكورة. والمسألتان من باب واحد كما لا يخفى.
(الثانية) لو اشتبه ماء إناء طاهر بأحد الإناءين، فهل يكون الحكم
فيه كالحكم فيما اشتبه به من وجوب الاجتناب. أو يحكم بطهارتهما معا، بناء على أن
مورد النص إنما هو اشتباه الطاهر يقينا بالنجس يقينا؟

(1) المتقدمة في الصحيفة 504.
514

لا ريب أن مقتضى كلام القائلين بتخصيص حكم الاشتباه بالنجس بالطهارة
خاصة دون سائر الاستعمالات هو الثاني. وأما على تقدير القول باجراء حكم النجس
على المشتبه به مطلقا فيحتمل الحكم بوجوب الاجتناب، لأن هذا بعض الأحكام
المترتبة على النجس، وبذلك صرح العلامة في المنتهى أيضا. واعترضه في المعالم بأن
ذلك خارج عن مورد النص محل الوفاق، فلا بد له من دليل. ويحتمل العدم وقوفا
على مورد النص كما عرفت. والاحتياط لا يخفى.
(الثالثة) نص كثير من الأصحاب (رضوان الله عليهم) كالشيخين
والفاضلين وغيرهما على عدم الفرق في وجوب الاجتناب مع الاشتباه بين ما لو كان
الماء في إناءين أو أكثر. بل نبه بعضهم على عدم الفرق بين كون ذلك إناءين أو غديرين.
قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهم، والاعتراض بأن الحديثين اللذين احتجوا
بهما للحكم (1) إنما وردا في الإناءين ما صورته: " ولو تم الاحتجاج بالاعتبارات التي
ذكروها لكانت دليلا في الجميع، وأما النص فخاض كما علم، فتتوقف التسوية التي
ذكروها على الدليل، ولعله الاتفاق مضافا إلى الاعتبار " انتهى. وعلى هذا
الكلام جرى جملة ممن تأخر عنه.
وفيه ما قد عرفت من أن نظرهم لما كان مقصورا على الخبرين المذكورين مع
ما عرفت من طعنهم فيهما ومناقشتهم في أصل المسألة كان التعدي عن موردهما
يحتاج إلى دليل.
ومن سرح بريد نظره فيما حققناه وتأمل ما شرحناه عرف أن الحكم في ذلك
أمر كلي وقاعدة مطردة لا يداخله شوب الاشكال في تعدي الحكم إلى ما ذكره أولئك
الفضلاء. على أن التخصيص بالإناءين إنما وقع في كلام السائل، وخصوص السؤال
لا يخصص كما تقرر عندهم.

(1) وهما موثقا عمار وسماعة المتقدمان في الصحيفة 504.
515

(الرابعة) هل الأمر بالإراقة في النص (1) على جهة الوجوب أم لمجرد الإباحة؟
ظاهر كلام الشيخين والصدوقين (عطر الله مراقدهم) الأول، إلا أن كلام
الصدوقين ربما أشعر باختصاص الحكم بحال إرادة التيمم، حيث قالا في الرسالة
والفقيه: " فإن كان معك إناءان فوقع في أحدهما ما ينجس الماء ولم تعلم في أيهما وقع
فأهرقهما جميعا وتيمم " وأما كلام الشيخين سيما المفيد في المقنعة فظاهر في عدم
التقييد بذلك، حيث ذكر أنه بعد الاهراق يتوضأ بماء سواهما.
وصريح كلام ابن إدريس ومن تأخر عنه الثاني، وربما يؤيد بورود الأمر
بالإراقة في جملة من الأخبار، كما تقدم في أدلة نجاسة الماء القليل بالملاقاة، مع أنه لم
يقل أحد بوجوب الإراقة ثمة، قال في المعتبر: " وقد يكنى عن النجاسة بالإراقة
في كثير من الأخبار تفخيما للمنع " وهو جيد.
ونقل في المعتبر عن بعض الأصحاب أن علة الأمر بالإراقة ليصح التيمم،
لأنه مشروط بعدم الماء.
ورده بأن وجود الماء الممنوع من استعماله لا يمنع التيمم، كالمغصوب وما يمنع
من استعماله مرض أو عدو، ومنع الشارع أقوى الموانع. وهو متجه.
وكيف كان فلا يخفى عليك ما في الأمر بالإراقة من الدلالة على عدم الانتفاع
بالماء المذكور وأن وجوده في حكم العدم، وبه يظهر لحوقه للنجس في جملة أحكامه
لا بخصوص الطهارة من الحدث كما ذكره أولئك الفضلاء (رضوان الله عليهم) لأنه
متى جاز الانتفاع به في غير الطهارة من أكل وشرب ونحوهما فإراقته مما يدخل في باب
الاسراف المنهي عنه عموما وخصوصا. والحق أن التعبير بإراقته هنا دليل ظاهر
في لحوق أحكام النجس كملا كما لا يخفى.
(الخامسة) قال السيد السند في المدارك بعد الكلام الذي نقلناه في صدر

(1) وهو موثق عمار وموثق سماعة المتقدمان في الصحيفة 504.
516

المسألة: " ويستفاد من قواعد الأصحاب أنه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الماء
وخارجه لم ينجس الماء بذلك ولم يمنع من استعماله، وهو مؤيد لما ذكرناه " انتهى.
أقول: وجه الفرق بين ما نحن فيه وبين ما فرضه (قدس سره) ممكن، فإن
مقتضى القاعدة المستفادة من الأخبار بالنسبة إلى الاشتباه في المحصور أن تكون أفراد
الاشتباه أمورا معلومة معينة بشخصها وبالنسبة إلى غير المحصور أن لا تكون كذلك،
وما ذكره من الصور المشار إليها إنما هو من الثاني لا الأول. على أن القاعدة المذكورة
إنما تتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة، والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة
إن اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها، فيفرق فيها بين المحصور وغير المحصور
بما تضمنته تلك الأخبار لا وقوع الاشتباه كيف اتفق.
(السادسة) الظاهر أنه لا فرق في ترتب حكم الاشتباه المذكور بين أن يكون الماءان طاهرين ثم يقع في أحدهما قذر ولا يعلم على التعيين، أو يكون أحدهما
طاهرا والآخر نجسا ثم يشتبه أحدهما بالآخر، أو يكونا كذلك ثم ينقلب أحدهما
ويشتبه الباقي بكونه هو الطاهر أو النجس.
(السابعة) لو أمكن الصلاة بطهارة متيقنة من هذين الماءين بأن يتطهر
بأحدهما ثم يصلي ثم يغسل أعضاءه مما لاقاه ماء الوضوء ثم يتوضأ بالآخر، فهل تصح
الصلاة أم لا؟
الذي صرح به جمع من الأصحاب المنع، وهو الظاهر، قال في المعتبر
في توجيهه: " لأنه ماء محكوم بالمنع منه فجرى استعماله مجرى النجس " انتهى.
وعلله بعضهم بأنه يصدق عليه بعد الطهارة الأولى أنه متيقن الحدث شاك في الطهارة
ومن هذا شأنه لا يسوغ له الدخول في الصلاة نصا واجماعا، ووضوؤه الثاني يجوز أن يكون بالنجس فيكون قد صلى بنجاسة.
وعلله في المدارك بأن هذين الماءين قد صارا محكوما بنجاستهما شرعا، واستعمال
517

النجس في الطهارة مما لا يمكن التقرب به، لأنه بدعة. ثم قال: " وفيه ما فيه ".
والحق ما علله به في المعتبر. وكيف كان فالظاهر أنه لا خلاف في الحكم المذكور.
(الثامنة) قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا يجوز
التحري في الاجتهاد بتحصيل الأمارات المرجحة لطهارة أحدهما. وهو كذلك، لثبوت
النهي عن استعمال هذا الماء. والقرينة التي لا تثمر اليقين غير كافية في الخروج
عن عهدة النهي الشرعي.
(الصورة الثانية) الاشتباه بالمغصوب، وقد صرح جمع من الأصحاب
بأن الحكم فيها كالاشتباه بالنجس
واستشكله بعض أفاضل متأخري المتأخرين نظرا إلى صحيحة عبد الله بن سنان (1)
الدالة على أن " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه "
وما في معناها.
وفيه نظر، فإن مورد هذه الرواية وما في معناها، كما عرفت آنفا إنما هو
الأفراد الغير المحصورة.
وحينئذ فما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو الظاهر، وقوفا
على القاعدة الواردة في المحصور إذا اشتبه حلاله بحرامه كما عرفت، فتحريم الاستعمال
مما لا ينبغي أن يستراب فيه.
لكن لو توضأ بهما وارتكب المحرم، فهل تحصل له طهارة صحيحة يجوز له
الدخول بها في الصلاة أم لا؟
صرح بعض محققي متأخري المتأخرين بالأول، قال: " لأن أحدهما ماء

(1) المروية في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب ما يكتسب به، وفي باب (حكم
السمن والجبن وغيرها إذا علم أنه خلط حرام) من أبواب الأطعمة المحرمة. وقد تقدمت
في الصحيفة (140).
518

مباح ولا شك أنه قد وقعت الطهارة به، فيلزم أن تكون صحيحة " ثم إنه اعترض
على نفسه بأن استعمال كل منهما حرام منهي عنه والنهي في العبادة موجب للفساد.
وأجاب بمنع كون النهي موجبا للفساد في العبادة.
ولم أقف لغيره على كلام في المقام إلا أن الموافق لمذاق الأصحاب بمقتضى القاعدة
التي منعها لاتفاقهم على العمل بها هو البطلان.
أقول: ومع الاغماض عن ذلك فيمكن أن يقال:
(أولا) أن التقرب بما نهى الشارع عنه نهي تحريم غير معقول، ولعل
ذلك هو الوجه في القاعدة التي بنى عليها الأصحاب، من أن النهي في العبادة
موجب لفسادها.
و (ثانيا) أن هذه المسألة نظير المسألة التي مرت في الفائدة السابعة. وقد
عرفت أنه لا خلاف في البطلان ثمة.
و (ثالثا) أن هذا الماء باعتبار تحريم الشارع استعماله يصير في حكم العدم،
وحينئذ ينتقل الفرض إلى التيمم لو لم يوجد غيره، ولا ريب أنه مع انتقال الفرض
إلى التيمم فلا يجزي الوضوء، كما في سائر المواضع التي ينتقل الفرض فيها إلى التيمم
وإن كان الماء موجودا.
(الصورة الثالثة) الاشتباه بالمضاف. وقد صرح الأصحاب (رضوان
الله عليهم) بأنه يجب الوضوء بكل منهما. وهو كذلك، فإن المسألة هنا من قبيل
الصلاة في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما.
وما يتوهم في مثل هذه المسألة من أنه لا بد من الجزم بالنية فلا دليل عليه. بل
الدليل قائم على خلافه، لما ورد (1) من صحة صلاة من نسي فريضة من الخمس ثنائية.

(1) في روايتي علي بن أسباط والحسين بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام)
المرويتين في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب قضاء الصلوات.
519

وثلاثية ورباعية مرددة. ومع تسليم ما ذكروه فهو مخصوص بصورة يتيسر فيها الجزم.
ثم إنه هل تصح الطهارة بهذين الماءين المشتبهين مع وجود ماء غير مشتبه أم لا؟
ظاهر الأصحاب الثاني كما صرح به جملة منهم، وعلله شيخنا الشهيد الثاني
في الروض بالقدرة على الجزم التام في النية مع استعمال الآخر فلا يصح بدونه.
ولو أنقلب أحدهما فذهب ماؤه، فالذي صرحوا به أنه يجب الوضوء بالآخر
والتيمم مقدما للأول على الثاني.
واعترضه في المدارك بأن الماء الذي يجب استعماله في الطهارة إن كان هو ما علم
كونه ماء مطلقا، فالمتجه الاجتزاء بالتيمم وعدم وجوب الوضوء به كما هو الظاهر، وإن
كان هو ما لا يعلم كونه مضافا اكتفي بالوضوء، فالجمع بين الطهارتين غير واضح ومع
ذلك فوجوب التيمم إنما هو لاحتمال كون المنقلب هو المطلق، فلا يكون الوضوء بالآخر
مجزيا، وهذا لا يتفاوت الحال فيه بين تقديم التيمم وتأخيره كما هو واضح. انتهى.
وأجيب بأنه لما كان الحكم بالوضوء متعلقا بوجدان الماء والحكم بالتيمم متعلق
بعدم وجدانه. فإذا وجد ما يشك في كونه ماء كان كل من وجوب الوضوء والتيمم
مشكوكا. إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر. فيجب الوضوء والتيمم معا حتى
يحصل اليقين بالبراءة. وهو جيد.
ويوضحه أنه لما كان هذا الماء بالاشتباه بين ذينك الفردين تعرض له حالة ثالثة
يخرج بها عنهما كالمشتبه بالنجس على ما عرفت تحقيقه آنفا. فلا يحكم بكونه مضافا
ولا مطلقا بل محتمل لهما احتمالا متساوي الطرفين، فيترتب عليه ما يترتب على كل
منهما من الوضوء والتيمم، وحينئذ فلا معنى لترتب الحكم فيه على فرض كون ما يتطهر
به ماء مطلقا أو هو ما لا يعلم كونه مضافا كما ذكره المعترض. نعم ما ذكره من ايجابهم
تقديم الوضوء على التيمم لا يظهر له وجه.
520

(الصورة الرابعة) الاشتباه المستند إلى الشك في وقوع النجاسة أو ظنه،
ولا خلاف في عدم البناء عليه في الأول، وأولى منه الوهم.
نعم وقع الخلاف في الظن، فلو ظن وقوع النجاسة في الماء فهل يعمل عليه
مطلقا أو لا مطلقا أو يفصل بين ما يستند إلى سبب شرعي أم لا، فعلى الأول يكون
كالأول وعلى الثاني كالثاني؟ أقوال:
وقد تقدم تحقيق البحث في المقدمة الحادية عشرة (1) وأشبعنا
الكلام فيه في كتاب الدرر النجفية. نسأل الله تعالى التوفيق لاتمامه.
نعم يبقى الكلام هنا فيما لو تعارضت البينتان في الماء بالطهارة والنجاسة،
وله صورتان:
(الأولى) أن يقع التعارض في إناء واحد، فإن تشهد إحدى البينتين
بعروض النجاسة له في وقت معين وتشهد الأخرى بعدمه في ذلك الوقت، لادعائها
ملاحظته في ذلك الوقت والقطع بعدم حصول النجاسة. وقد اختلفت فيه أقوالهم:
فقيل بالحاقه بالمشتبه بالنجس، وهو قول العلامة في التذكرة والقواعد، وجعله
فخر المحققين في الشرح أولى، ونقل في المعالم عن والده أنه قواه في بعض فوائده،
وعلله المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بتكافؤ البينتين.
وقيل بالطهارة، إلا أنه اختلف التعليل لذلك، فبين من عللها بالعمل ببينة
الطهارة لاعتضادها بالأصل، حكاه فخر المحققين عن بعض الأصحاب. وبين من عللها
بتساقط البينتين والرجوع إلى حكم الأصل وهو الطهارة، ذكره الشهيد في البيان،
وقال إنه قوي بعد أن قرب القول الأول، ونسبه فخر المحققين إلى الشيخ.
وقيل بالعمل ببينة النجاسة، لأنها ناقلة عن حكم الأصل وبينة الطهارة مقررة
والناقل أولى من المقرر عند التعارض، كما قرروه في الأصول في البحث عن تعادل

(1) في الصحيفة 137.
521

الأدلة، ولموافقتها للاحتياط، ولأنها في معنى الاثبات والطهارة في معنى النفي،
ويعزى هذا القول إلى ابن إدريس، ونقل في المعالم عن بعض المتأخرين الميل إليه،
قال: " وهو أحوط غير أن القول بالطهارة للتساقط أقرب " انتهى.
وما قربه (قدس سره) هو الأنسب بقواعد الأصحاب، لتطرق القدح
إلى ما عداه من الأقوال المذكورة.
(أما الأول) فيرد عليه أنه لا دليل عليه، لأن الاشتباه الملحق به دليله
أما النص المتقدم كما حققناه أو الاجماع كما استند إليه آخرون، وكل منهما لا يتناول
موضع النزاع. وشمول القاعدة المستفادة من النصوص لذلك محل اشكال، إذ ظاهر
تلك النصوص هو استناد الاشتباه الموجب لاشتباه الحكم إلى امتزاج تلك الأفراد
واختلاطها على وجه لا يتميز طاهرها من نجسها ولا حلالها من حرامها، لا مجرد
الاشتباه كيف اتفق. وتكافؤ البينتين كما ذكره المحقق الشيخ علي إنما يكون
موجبا لطرحهما، لعدم إمكان الترجيح بغير مرجح. لا موجبا للعمل بهما.
و (أما الثاني) ففيه أن ما ذكر من المقدمات المبني عليها دليله والتعليلات
المذكورة وإن ذكرها علماء الأصول إلا أنها مما لم يقم على الاعتماد عليها دليل معتمد،
فلا يخرج عن مجرد التطويل الذي لا يهدي إلى سبيل ولا يشفى العليل ولا يبرد الغليل،
فلا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس حكم شرعي. وأما الاحتياط فليس بدليل
شرعي عندهم بل غايته ثبوت الأولوية به.
هذا. والتحقيق في المقام أن المسألة لما كانت عارية عن نصوص أهل الذكر
(عليه السلام) فالحكم فيها الوقوف على ساحل الاحتياط، وهو العمل بالنجاسة،
وإن كان القول الثاني ليس بذلك البعيد باعتبار التعليل الثاني دون الأول، لتطرق
القدح إليه بأنه لا بد في المرجح من أن يكون مما اعتبره الشارع مرجحا، ولم يثبت هنا
كونه كذلك.
522

(الصورة الثانية) أن يتعارضا في إناءين، بأن تشهد إحدى البينتين،
أنه هذا وتشهد الأخرى بأنه الآخر.
وقد اختلفت فيها كلمتهم أيضا، فذهب جمع، منهم: المحقق في المعتبر والعلامة
في التحرير والشهيد في الذكرى والشخ علي في شرح القواعد والشهيد الثاني في بعض
فوائده على ما نقله ابنه عنه في المعالم إلى أنهما كالمشتبه بالنجس. ونقل عن الشيخ
في الخلاف القول بسقوط الشهادتين والرجوع إلى أصل الطهارة.
وقال في المبسوط على ما نقل عنه في المختلف: " لا يجب القبول سواء أمكن
الجمع أو لم يمكن، والماء على أصل الطهارة أو النجاسة، فأيهما كان معلوما عمل عليه.
وإن قلنا: إذا أمكن الجمع بينهما قبل شهادتهما وحكم بنجاسة الإناءين، كان قويا، لأن
وجوب قبول شهادة الشاهدين معلوم في الشرع، وليسا متنافيين " انتهى.
وقال العلامة في المختلف: " لو شهد عدلان بأن النجس أحد الإناءين وشهد
عدلان بأن النجس الآخر، فإن أمكن العمل بشهادتهما وجب، وإن تنافيا أطرح
الجميع وحكم بأصل الطهارة " ثم إنه مال في آخر كلامه إلى كونهما بمنزلة الإناءين
المشتبهين.
احتج الذاهبون إلى القول الأول بأن الاتفاق حاصل من البينتين على نجاسة أحد
الإناءين، والتعارض إنما هو في التعيين، فيحكم بما لا تعارض فيه، ويتوقف
في موضع التعارض.
واحتج الشيخ في الخلاف بأن الماء على أصل الطهارة، وليس على وجوب
القبول من الفريقين ولا من واحد منهما دليل، فوجب طرحهما وبقي الماء على حكم الأصل.
واحتج العلامة في المختلف بأنه مع إمكان الجمع يحصل المقتضي لنجاسة الإناءين
فيثبت الحكم، ومع امتناع الجمع تكون كل واحدة من الشهادتين منافية للأخرى،
523

ويعلم قطعا كذب إحداهما، وليس تكذيب واحدة منهما بعينها أولى من تكذيب
الأخرى. فيجب طرح الجميع والرجوع إلى الأصل وهو الطهارة.
وأنت خبير بأن سياق حجة القول الأول ينادي بالاختصاص بصورة عدم
إمكان الجمع، ولعلهم في صورة إمكان الجمع يحكمون بنجاسة الإناءين باعتبار قبول
الشهادتين كما هو ظاهر، لأن فرض قبول البينة في كل من الإناءين مع الانفراد
يقتضي القبول مع الاجتماع، للقطع بعدم تأثير الاجتماع في اختلاف الحكم حيث
لا تنافي كما هو المفروض، ولعله لظهوره لم يتعرضوا له. وظاهر كلام الشيخ في الخلاف
عدم الفرق بين صورتي إمكان الجمع وعدمه، كما هو صريح صدر عبارته في المبسوط.
وأورد على كلامه في الخلاف أنه لا مقتضي للطرح إلا التعارض، وهو منفي
بالنظر إلى أحد الإناءين من غير تعيين، وإنما وقع التعارض في التعيين، والاطراح
فيه لا يقتضي الاطراح مطلقا فيبقى معنى الاشتباه موجودا. هذا بالنظر إلى صورة عدم
إمكان الجمع. وأما بالنظر إلى صورة إمكانه فقد عرفت أن مقتضاه هو الحكم بالنجاسة.
وأما كلام العلامة في المختلف فما يتعلق منه بصورة إمكان الجمع متجه كما تقدم
وجهه، وأما ما يتعلق بصورة عدم الامكان فيرد عليه ما يرد على كلام الخلاف،
لاتفاقهما في الحكم بذلك. وكأنه (قدس سره) في المختلف تنبه لورود المناقشة بذلك
فقال بعد الكلام المتقدم: " لا يقال: يحكم بنجاسة أحد الإناءين وصحة إحدى
الشهادتين. فيكون بمنزلة الإناءين المشتبهين. لأنا نقول: نمنع حصول العلم بنجاسة
أحد الإناءين وصحة إحدى الشهادتين، لأن صحة الشهادة إنما تثبت مع انتفاء
الكذب، أما مع وجوه فلا " وضعفه في المعالم بأن التكذيب إنما وقع في التعيين
لا مطلقا. وكأنه لما كان مجال المناقشة مع هذا الجواب باقيا بحاله استدرك في آخر كلامه،
فقال: " على أنه لو قيل بذلك يعني بمنزلة الإناءين المشتبهين كان وجها،
ولهذا يردهما المشتري سواء تعدد أو اتحد " انتهى. وحينئذ فيرجع كلامه إلى ما ذكره
524

الشيخ في المبسوط كما تقدم من عبارته، وهو مؤذن بالتردد.
وكيف كان فالاحتياط في مثل هذه المسائل الغير المنصوصة مما لا ينبغي تركه.
(الصورة الخامسة) الاشتباه المستند إلى اشتباه ما وقع في الماء بكونه
طاهرا أو نجسا.
والذي صرح به جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو الحكم بطهارة
الماء والبناء على يقين الطهارة حتى يثبت يقين النجاسة. إلا أنك قد عرفت في المقدمة
الحادية عشرة (1) أن بعض الأصحاب قد منع جريان هذه القاعدة في مثل هذا الموضع
مدعيا أن المنع عن نقض اليقين بالشك مراد به الشك في وجود الرافع، يعني لا بد
من ثبوت الرافعية له أولا، فإذا شك في وجوده وعدمه فإن هذا الشك لا يعارض اليقين
الثابت له أولا لا الشك في ثبوت الرافعية له. وتحقيق القول في ذلك تقدم في المقدمة
المشار إليها.
وبالجملة فالكلام من وقفنا على كلامه من الأصحاب متفق هنا في البناء على يقين
الطهارة في الصورة المذكورة.
ولكن نقلوا الخلاف هنا في صورة واحدة، وهي ما إذا وقع صيد مجروح
حلال اللحم نجس الميتة في ماء قليل، وكان المحل الملاقي للماء منه خاليا من النجاسة،
فمات فيه ولم يعلم استناد موته إلى الجرح أو الماء، فهل يحكم بطهارة الماء حينئذ
أو نجاسته؟ قولان:
نقل أولهما عن العلامة في بعض كتبه، وبه صرح المحقق الشيخ علي في شرح
القواعد، واختاره جملة ممن تأخر عنه.
واختار الثاني من الأصحاب: منهم العلامة في أكثر كتبه وابنه

(1) في الصحيفة 143.
525

فخر المحققين في الشرح، ونقل عن الشهيدين أيضا. وتوقف المحقق في المعتبر.
وجه القول الأول التمسك بأصالة طهارة الماء السالمة عن معارضة يقين الرافع لها
شرعا، فإن الشك في استناد الموت إلى الجرح أو الماء يقتضي الشك في عروض النجاسة
فلم يعلم حصول الرافع، فتبقى العمومات الدالة على طهارة الماء سالمة عن المعارض،
كذا قرره في المعالم بعد أن اختار فيه القول بالطهارة. ووجهه فخر المحققين في شرح
القواعد، فقال بعد نقل كلام والده (قدس سرهما) باحتمال العمل بالأصلين،
يعني أصالة الطهارة في الماء وأصالة التحريم في الصيد ما لفظه: " أقول: لأصل الطهارة
حكمان: (الأول) الحكم بها. (الثاني) حل الصيد، ولأصالة الموت
حكمان: (الأول) لحوق أحكام الميت للصيد. (الثاني) نجاسة الماء، فيعمل
كل منهما في نفسه لأصالته فيه، دون الآخر لفرعيته فيه، ولعدم العلم بحصول سبب
كل منهما، والأصل عدمه. ولا تضاد، لعدم تضاد سببيهما، لأن سبب الحكم
بالطهارة هو عدم العلم بموت الصيد حتف أنفه، وسبب تحريم الصيد عدم العلم بذكاته،
وهما لا يتضادان، لصدقهما هنا لأنه التقدير. وكلما لم تتضاد الأسباب لم تتضاد
المسببات. ثم قال: والأقوى الحكم بنجاسة الماء، لامتناع الخلو عن الملزومين،
أعني موت الصيد بالجرح المستلزمين لحل الصيد، فإنه لازم للأول، ونجاسة
الماء فإنه لازم للثاني. وامتناع الخلو عن الملزومين مستلزم لامتناع الجمع بين نقيضي
اللازمين. وتحريم الصيد ثابت بالاجماع، ولما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله
(عليه السلام) أنه " سئل عن رجل رمى صيدا وهو على جبل أو حائط، فيخرق فيه
السهم فيموت؟ قال: كل منه، وإن وقع في الماء من رميتك فمات فلا تأكل منه " (1)
فيثبت الحكم بالنجاسة " انتهى.
وصاحب المعالم قرر دليل النجاسة بما لفظه احتجوا بأن تحريم الصيد ثابت

(1) رواه في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الصيد.
526

بالاجماع وجملة من الأخبار: منها صحيحة الحلبي، وساق الخبر كما تقدم. ثم
قال: والحكم بتحريم اللحم على عدم تحقق الذكاة، وذلك يقتضي الحكم بموته
حتف أنفه، والنجاسة لازمة له. ثم أجاب بالمنع من دلالة حرمة اللحم على عدم تحقق
الذكاة. وإنما يدل على ذلك لو كان الحكم بالتحريم موقوفا عليه، وهو في حيز
المنع أيضا، لجواز استناده إلى جهالة الحال وحصول الاشتباه، فإن التحريم حينئذ هو
مقتضى الأصل، لاشتراط الحل بأمر وجودي، ولا ريب أن الأصل في مثله العدم،
فيعمل بكل من أصلي طهارة الماء وحرمة اللحم. ثم قال: وما يقال من أن العمل
بالأصلين إنما يصح مع إمكانه، وهو منتف، لأنه كما يستحيل اجتماع الشئ مع نقيضه
كذلك يستحيل اجتماعه مع نقيض لازمه فجوابه أن عدم الامكان إنما يتحقق إذا جعل
التحريم مستندا إلى العلم بعدم التذكية الذي هو عبارة عن موته حتف أنفه، لا إذا جعل
مسببا عن عدم العلم بالتذكية. والحكم بطهارة الماء إنما يتوقف على عدم العلم بوجود
النجاسة لا على العلم بعدمها، إذ الشك في نجاسة الرافع لا يقتضي نجاسة الماء
قطعا. انتهى.
وعلى هذا المنوال جرى جمع ممن تقدمه وتأخر عنه في الاستدلال، وملخصه
أن تحريم الصيد الذي ثبت بالاجماع والنصوص في الصورة المفروضة إنما يستلزم نجاسة
الماء لو كان العلة فيه عدم تذكية الصيد وموته حتف أنفه، أما لو كان العلة فيه عدم
العلم بالتذكية فلا، إذ النجاسة إنما تلزم العلة الأولى دون الثانية، فإن طهارة الماء
عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة، وههنا كذلك. للشك في نجاسة الصيد باحتمال
موته حتف أنفه واحتمال تذكيته.
أقول: والذي يظهر لي أن كلام الجميع في هذا المجال غير خال من الاجمال
بل الاختلال، إذ لا يخفى أن ثبوت النجاسة للماء وعدمها إنما نشأ من الصيد والحكم
بطهارته أو نجاسته، فالواجب أولا بيان الحكم فيه بالطهارة أو النجاسة، ولا ريب
527

أن مقتضى أصالة عدم التذكية عندهم كما تكون موجبة للتحريم كذلك تكون موجبة
للنجاسة، كما صرحوا به في جملة من المواضع: منها مسألة اللحم والجلد المطروحين،
حيث حكموا بالتحريم والنجاسة بناء على الأصل المشار إليه، وحينئذ فكما يكون العلم
بعدم التذكية موجبا للتحريم والنجاسة كذلك حال الاشتباه وعدم العلم بالتذكية موجب
لهما. ولا ريب أن الصيد في الصورة المفروضة مما اشتبه فيه الحال بالتذكية وعدمها،
والتمسك بأصالة عدم التذكية يوجب الحكم بتحريمه ونجاسته، ومتى ثبت نجاسته فوقوعه
في الماء القليل موجب لتنجيسه عند القائل بنجاسة القليل بالملاقاة، فالنجاسة لا تختص
بالترتب على العلم بتذكية خاصة الذي هو الموت حتف الأنف، حتى يتم لهم
أن النجاسة هنا مشكوك فيها لاحتمال التذكية، بل كما تترتب على ذلك تترتب على الشك
أيضا في التذكية كما عرفت، فإنه لما كان كل من حل الصيد وطهارته مترتبا على العلم
بالتذكية، كان انتفاؤهما بانتفاء ذلك تحقيقا للسببية. وعدم العلم بالتذكية كما عرفت
أعم من العلم بالعدم.
وبالجملة فإن نجاسة الماء وطهارته في الصورة المفروضة دائرة مدار طهارة الصيد
ونجاسته، وقد عرفت أن عدم العلم بالتذكية كما يكون سببا في التحريم يكون سببا في
النجاسة، وحينئذ فقول المستدل: إن الشك في استناد الموت إلى الجرح أو الماء يقتضي
الشك في عروض النجاسة مسلم لو كانت النجاسة مرتبة على الموت حتف الأنف خاصة
كما ذكروه. فأما إذا قلنا بترتبها أيضا على الشك في التذكية وعدم العلم بها فلا. وحينئذ
فالظاهر هو القول بالنجاسة. وأصالة الطهارة التي استندوا إليها ممنوعة بوجود النجاسة
يقينا. وبما ذكرناه تخرج هذه الصورة المذكورة عن فرض المسألة، إذ موضوع المسألة
وقوع شئ مشكوك في نجاسته أو طهارته في الماء القليل، والصيد في الصورة المفروضة
محكوم بنجاستها قطعا، لعدم العلم بالتذكية، فإنه موجب لتحريمه ونجاسته كما عرفت.
نعم لو كان موجب النجاسة هو العلم بعدم التذكية خاصة اتجه ما ذكروه، إلا أنه ليس كذلك.
528