الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ١٤
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق : محمد تقي الإيرواني
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات: نهض بمشروعه الشيخ علي الآخوندي

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
حققه وعلق عليه
محمد تقي الإيرواني
الجزء الرابع عشر
نهض بمشروعه الشيخ علي الآخوندي
منشورات
جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه محمد وعترته الطيبين الطاهرين.
كتاب الحج
وهو يطلق في اللغة على معان كما يستفاد من القاموس، وهي: القصد
والكف والقدوم والغلبة بالحجة وكثرة الاختلاف والتردد وقصد مكة للنسك،
وقال الخليل: الحج كثرة الاختلاف إلى من يعظمه، وسمي الحج حجا لأن الحاج
يأتي قبل الوقوف بعرفة إلى البيت ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم ينصرف إلى منى
ثم يعود إليه لطواف الوداع.
والأصحاب (رضوان الله عليهم) قد نقلوه عن المعنى اللغوي إلى قصد
البيت لأداء المناسك المخصوصة عنده كما عرفه به الشيخ ومن تبعه، أو أنه اسم
لمجموع المناسك المؤداة في المشاعر المخصوصة. وقد أورد على كل من التعريفين
إيرادات ليس للتعرض لها مزيد فائدة.
2

إلا أنه ينبغي أن يعلم أن النقل عن المعنى اللغوي - كما ذكرنا - إنما يتم لو لم
يكن ما ذكره في القاموس من أنه قصد مكة للنسك معنى لغويا وإلا كان حقيقة
لغوية في المعنى المصطلح عليه، والمشهور في كلام أهل اللغة إنما هو أنه بمعنى
القصد فيكون النقل متجها، وأنه على تقدير تعريف الشيخ يكون النقل لمناسبة
وعلى تقدير التعريف الآخر لغير مناسبة.
وكيف كان فالبحث في هذا الكتاب يقع في أبواب أربعة وخاتمة:
الباب الأول في المقدمات
المقدمة الأولى وفيها فصول:
الفصل الأول
في جملة من الأخبار الدالة على جملة من الفوائد العظام المناسبة للمقام:
منها - ما رواه ثقة الاسلام في الكافي بسنده عن أبي حسان عن أبي جعفر
عليه السلام (1) ورواه في الفقيه (2) مرسلا عن أبي جعفر عليه السلام قال: " لما أراد الله أن
يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا
واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحا الأرض من تحته
وهو قول الله عز وجل: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا " (3)
وزاد في الفقيه (4) " وأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها "
وما رواه في الكافي (5) عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه السلام قال

(1) الوسائل الباب 18 من مقدمات الطواف.
(2) ج 2 ص 156
(3) سورة آل عمران الآية 96
(4) ج 2 ص 156
(5) ج 4 ص 225
3

" إن قريشا لما هدموا الكعبة وجدوا في قواعده حجرا فيه كتاب لم يحسنوا
قراءته حتى دعوا رجلا فقرأه فإذا فيه: أنا الله ذو بكة حرمتها يوم خلقت
السماوات والأرض ووضعتها بين هذين الجبلين وحففتها بسبعة أملاك حفا ".
وما رواه في الكافي (1) في الصحيح عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " لما ولد إسماعيل حمله إبراهيم عليه السلام وأمه على حمار وأقبل معه جبرئيل عليه السلام
حتى وضعه في موضع الحجر ومعه شئ من زاد وسقاء فيه شئ من ماء والبيت
يومئذ ربوة حمراء من مدر، فقال إبراهيم عليه السلام لجبرئيل ههنا أمرت؟ قال نعم
ومكة يومئذ سلم وسمر وحول مكة يومئذ ناس من العماليق ".
وما رواه ابن بابويه في كتاب علل الشرايع والأحكام (2) في الصحيح
عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إن إبراهيم لما خلف إسماعيل
بمكة عطش الصي وكان في ما بين الصفا والمروة شجر فخرجت أمه حتى قامت على
الصفا فقالت هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد فمضت حتى انتهت إلى المروة
فقالت هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد ثم رجعت إلى الصفا فقالت كذلك
حتى صنعت ذلك سبعا فأجرى الله ذلك سنة، فأتاها جبرئيل عليه السلام فقال لها من أنت؟
فقالت أنا أم ولد إبراهيم عليه السلام فقال إلى من وكلكم؟ فقالت أما إذا قلت ذلك
فقد قلت له حيث أراد الذهاب يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ فقال إلى الله (عز
وجل) فقال جبرئيل عليه السلام لقد وكلكم إلى كاف. قال وكان الناس يتجنبون
المرور بمكة لمكان الماء ففحص الصبي برجله فنبعت زمزم فرجعت من المروة إلى
الصبي وقد نبع الماء فأقبلت تجمع التراب حوله مخافة أن يسيح الماء ولو تركته

(1) ج 4 ص 201
(2) ص 432 وفي الوسائل الباب 1 من السعي. وفي الكافي ج 4 ص 202
4

لكان سيحا، قال فلما رأت الطير الماء حلقت عليه، قال فمر ركب من اليمن
فلما رأوا الطير حلقت عليه قالوا ما حلقت إلا على ماء فأتوهم فسقوهم من الماء
وأطعموهم الركب من الطعام، وأجرى الله (عز وجل) لهم بذلك رزقا فكانت
الركب تمر فيطعمونهم من الطعام ويسقونهم من الماء ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمد (1) قال: " سألت
أبا الحسن عليه السلام عن الحرم واعلامه فقال إن آدم عليه السلام لما هبط على أبي قبيس شكى
إلى ربه الوحشة وأنه لا يسمع ما كان يسمع في الجنة فأنزل الله تعالى عليه ياقوتة
حمراء فوضعها في موضع البيت فكان يطوف بها وكان يبلغ ضوؤها موضع
الأعلام فعلمت الأعلام على ضوئها فجعله الله حرما ".
وما رواه الكليني في الصحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام (2)
قال: " لما أقبل صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة مروا بابل لعبد المطلب
فاستاقوها فتوجه عبد المطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه فاستأذن عليه فأذن له
وقيل له إن هذا شريف قريش أو عظيم قريش وهو رجل له عقل ومروة فأكرمه وأدناه
ثم قال لترجمانه سله ما حاجتك؟ فقال له إن أصحابك مروا بابل لي فاستاقوها
وأردت أن تردها علي. قال فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل وقال هذا الذي
زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله يدع أن يسألني أن أنصرف عن بيته الذي
يعبده أما لو سألني أن أنصرف عن هدمه لانصرفت له عنه، فأخبره الترجمان
بمقالة الملك فقال له عبد المطلب إن لذلك البيت ربا يمنعه وإنما سألتك رد إبلي
لحاجتي إليها فأمر بردها عليه ومضى عبد المطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم

(1) الوسائل الباب 13 من مقدمات الطواف.
(2) الوسائل الباب 18 من مقدمات الطواف.
5

فقال له يا محمود فحرك رأسه فقال له أتدري لما جيئ بك؟ فقال برأسه: لا.
فقال جاءوا بك لتهدم بيت ربك فتفعل؟ فقال برأسه لا فانصرف عنه عبد المطلب
وجاءوا بالفيل ليدخل الحرم فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه
فامتنع من الدخول فصرفوه فأسرع فأداروا به نواحي الحرم كلها كل ذلك يمتنع
عليهم فلم يدخل، وبعث الله عليهم الطير كالخطا طيف في مناقيرها حجر كالعدسة
ونحوها فكانت تحاذي برأس الرجل ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره
حتى لم يبق منهم أحد إلا رجل هرب فجعل يحدث الناس بما رأى إذ طلع عليه
طائر منها فرفع رأسه فقال هذا الطائر منها وجاء الطير حتى حاذى برأسه ثم ألقاها
عليه فخرجت من دبره فمات ".
ومنها - ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " إن قريشا في الجاهلية هدموا البيت فلما أرادوا
بناءه حيل بينهم وبينه وألقى في روعهم الرعب حتى قال قائل منهم: ليأت كل
رجل منكم بأطيب ماله ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحم أو حرام ففعلوا
فخلى بينهم وبين بنائه فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود فتشاجروا فيه
أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه حتى كاد أن يكون بينهم شر فحكموا أول
من يدخل من باب المسجد فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله فلما أتاهم أمر بثوب فبسط
ثم وضع الحجر في وسطه ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه ثم تناوله
صلى الله عليه وآله فوضعه في موضعه فخصه الله تعالى به ".
أقول: وتفصيل مجمل هذا الخبر ما ذكره الكليني (قدس سره) ونقله عن علي بن إبراهيم وغيره بأسانيد مختلفة رفعوه (2) قال: إنما هدمت قريش الكعبة

(1) الوسائل الباب 11 من مقدمات الطواف.
(2) الوسائل الباب 11 من مقدمات الطواف.
6

لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت وسرق من الكعبة غزال
من ذهب رجلاه من جوهر وكان حائطها قصيرا وكان ذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله
بثلاثين سنة، فأرادت قريش أن يهدموا الكعبة ويبنوها ويزيدوا في عرضها
ثم اشفقوا من ذلك وخافوا إن وضعوا فيها المعاول أن تنزل عليهم عقوبة، فقال
الوليد بن المغيرة دعوني أبدأ فإن كان لله رضى لم يصبني شئ وإن كان غير ذلك
كففت فصعد على الكعبة وحرك منها حجرا فخرجت عليه حية وانكسفت الشمس
فلما رأوا ذلك بكوا وتضرعوا وقالوا: اللهم إنا لا نريد إلا الصلاح فغابت عنهم
الحية فهدموه ونحوا حجارته حوله حتى بلغوا القواعد التي وضعها إبراهيم عليه السلام
فلما أرادوا أن يزيدوا في عرضه وحركوا القواعد التي وضعها إبراهيم عليه السلام
أصابتهم زلزلة شديدة وظلمة فكفوا عنه. وكان بنيان إبراهيم عليه السلام الطول
ثلاثون ذراعا والعرض اثنان وعشرون ذراعا والسمك تسعة أذرع فقالت قريش
نزيد في سمكها فبنوها فلما بلغ البنيان إلى موضع الحجر الأسود تشاجرت
قريش في وضعه فقال كل قبيلة: نحن أولى به ونحن نضعه، فلما كثر بينهم
تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة فطلع رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا هذا
الأمين قد جاء فحكموه فبسط رداءه - وقال بعضهم كساء طاروني كان له - ووضع
الحجر فيه ثم قال: يأتي من كل ربع من قريش رجل فكانوا عتبة بن ربيعة
ابن عبد شمس والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى وأبو حذيفة بن
المغيرة من بني مخزوم وقيس بن عدي من بني سهم فرفعوه ووضعه النبي صلى الله عليه وآله
في موضعه، وقد كان بعث ملك الروم بسفينة فيها سقوف وآلات وخشب وقوم
من الفعلة إلى الحبشة ليبني له هناك بيعة فطرحتها الريح إلى ساحل الشريعة فنطحت
فبلغ قريشا خبرها فخرجوا إلى الساحل فوجدوا ما يصلح للكعبة من خشب وزينة
وغير ذلك فابتاعوه وصاروا به إلى مكة فوافق ذرع ذلك الخشب البناء ما خلا
7

الحجر فلما بنوها كسوها الوصائد وهي الأردية.
وما رواه الشيخان المذكوران في الصحيح عن البزنطي عن داود بن سرحان
عن أبي عبد الله عليه السلام (1) " أن رسول الله صلى الله عليه وآله ساهم قريشا في بناء البيت فصار
لرسول الله صلى الله عليه وآله من باب الكعبة إلى النصف ما بين الركن اليماني إلى الحجر
الأسود " (2) قالا: وفي رواية أخرى " كان لبني هاشم من الحجر الأسود إلى
الركن الشامي ".
وما رواه في الكافي عن أبان بن تغلب (3) قال: " لما هدم الحجاج
الكعبة فرق الناس ترابها فلما صاروا إلى بنائها فأرادوا أن يبنوها خرجت عليهم
حية فمنعت الناس البناء حتى هربوا فأتوا الحجاج فأخبروه فخاف أن يكون قد
منع بناءها فصعد المنبر ثم نشد الناس وقال: رحم الله عبدا عنده من ما ابتلينا
به علم لما أخبرنا به. قال فقام إليه شيخ فقال إن يكن عند أحد علم فعند رجل رأيته
جاء إلى الكعبة فأخذ مقدارها ثم مضى. فقال الحجاج من هو؟ قال علي بن
الحسين عليه السلام فقال: معدن ذلك. فبعث إلى علي بن الحسين عليه السلام فأتاه فأخبره بما
كان من منع الله إياه من البناء فقال له علي بن الحسين عليه السلام يا حجاج عمدت إلى
بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته كأنك ترى أنه تراث لك اصعد
المنبر فانشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئا إلا رده. قال ففعل فنشد
الناس أن لا يبقى منهم أحد عنده شئ إلا رده قال فردوه فلما رأى جمع التراب
أتى علي بن الحسين عليه السلام فوضع الأساس فأمرهم أن يحفروا، قال فتغيبت عنهم
الحية وحفروا حتى انتهوا إلى موضع القواعد قال لهم علي بن الحسين (عليه السلام)

(1) الوسائل الباب 11 من مقدمات الطواف
(2) الوسائل الباب 11 من مقدمات الطواف
(3) الوسائل الباب 12 من مقدمات الطواف
8

تنحوا فتنحوا فدنا منها فغطاها بثوبه ثم بكى ثم غطاها بالتراب بيد نفسه ثم دعا
الفعلة فقال ضعوا بناءكم، قال فوضعوا البناء فلما ارتفعت حيطانها أمر بالتراب
فألقي في جوفه فلذلك صار البيت مرتفعا يصعد إليه بالدرج ".
قال في الفقيه (1) " روي أن الحجاج لما فرغ من بناء الكعبة سأل علي
ابن الحسين (عليه السلام) أن يضع الحجر في موضعه فأخذه ووضعه في موضعه "
وقال في الفقيه (2) بعد ذكر أصحاب الفيل: وإنما لم يجر على الحجاج
ما جرى على تبع وأصحاب الفيل لأن قصد الحجاج لم يكن إلى هدم الكعبة إنما
كان قصده إلى ابن الزبير وكان ضدا للحق - وفي بعض النسخ ضدا لصاحب
الحق يعني الإمام (عليه السلام) وهو أظهر - فلما استجار بالكعبة أراد الله أن
يبين للناس أنه لم يجره فأمهل من هدمها عليه. انتهى.
وما رواه في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) قال: " كانت الكعبة على عهد إبراهيم (عليه السلام) تسعة أذرع
وكان لها بابان فبناها عبد الله بن الزبير فرفعها ثمانية عشر ذراعا فهدمها الحجاج
وبناها سبعة وعشرين ذراعا ".
وما رواه في الفقيه (4) مرسلا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان
طول الكعبة تسعة أذرع ولم يكن لها سقف فسقفها قريش ثمانية عشر ذراعا
ثم كسرها الحجاج على ابن الزبير فبناها وجعلها سبعة وعشرين ذراعا ".

(1) الوسائل الباب 11 من مقدمات الطواف
(2) ج 2 ص 162
(3) الوسائل الباب 11 من مقدمات الطواف
(4) ج 2 ص 160 وفي الوسائل الباب 11 من مقدمات الطواف
9

وما رواه في الكافي (1) والفقيه (2) - في الصحيح في الثاني والموثق في
الأول - عن زرارة قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قد أدركت الحسين
(عليه السلام)؟ قال: نعم أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السيل
والناس يقومون على المقام يخرج الخارج فيقول قد ذهب به السيل ويخرج
منه الخارج ويقول هو مكانه. قال فقال لي يا فلان ما صنع هؤلاء؟ فقلت أصلحك
الله تعالى يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام فقال ناد أن الله تعالى قد جعله
علما لم يكن ليذهب به فاستقروا. وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم
(عليه السلام) عند جدار البيت فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية إلى المكان
الذي هو فيه اليوم فلما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة رده إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم
(عليه السلام) فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس من منكم
يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال رجل أنا قد كنت أخذت مقداره
بنسع (3) فهو عندي، فقال ائتني به فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان ".
وقال في الفقيه (4): روي أنه قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) ولأبي
جعفر الباقر (عليه السلام) أربع سنين.
ومنها - ما رواه في الكافي (5) بسنده عن بكير قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) لأي علة وضع الله الحجر في الركن الذي هو فيه ولم يوضع في
غيره؟ ولأي علة يقبل؟ ولأي علة أخرج من الجنة؟ ولأي علة وضع ميثاق

(1) ج 4 ص 223
(2) ج 2 ص 158
(3) في المنجد: أنه سير أو حبل عريض طويل تشد به الرحال.
(4) ج 2 ص 158.
(5) ج 4 ص 184 وفي الوسائل الباب 13 من الطواف والباب 4 من السعي
10

العباد والعهد فيه ولم يوضع في غيره وكيف السبب في ذلك؟ تخبرني جعلني الله
فداك فإن تفكري فيه لعجب. قال فقال سألت وأعضلت في المسألة واستقصيت
فافهم الجواب وفرغ قلبك واصغ بسمعك أخبرك إن شاء الله تعالى، إن الله
تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود وهي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم (عليه
السلام) فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق، وذلك أنه لما أخذ من بني آدم
من ظهورهم ذرياتهم حين أخذ الله تعالى عليهم الميثاق في ذلك المكان (1) وفي
ذلك المكان تراءى لهم، ومن ذلك المكان يهبط الطير على القائم (عليه السلام)
فأول من يبايعه ذلك الطير وهو والله جبرئيل (عليه السلام) وإلى ذلك المقام يسند
القائم (عليه السلام) ظهره وهو الحجة والدليل على القائم (عليه السلام) وهو
الشاهد لمن وافى ذلك المكان والشاهد على من أدى إليه الميثاق والعهد الذي أخذ
الله (عز وجل) على العباد. وأما القبلة والالتماس فلعلة العهد تجديدا
لذلك العهد والميثاق وتجديدا للبيعة وليؤدوا إليه العهد الذي أخذ الله تعالى عليهم
في الميثاق فيأتوه في كل سنة ويؤدوا إليه ذلك العهد والأمانة اللذين أخذا عليهم،
ألا ترى أنك تقول أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة، ووالله
ما يؤدي ذلك أحد غير شيعتنا ولا حفظ ذلك العهد والميثاق أحد غير شيعتنا،
وأنهم ليأتوه فيعرفهم ويصدقهم ويأتيه غيرهم فينكرهم ويكذبهم، وذلك أنه لم
يحفظ ذلك غيركم فلكم والله يشهد وعليهم والله يشهد بالخفر والجحود والكفر
وهو الحجة البالغة من الله عليهم يوم القيامة، يجيئ وله لسان ناطق وعينان في
صورته الأولى يعرفه الخلق ولا ينكره، يشهد لمن وافاه وجدد العهد والميثاق
عنده بحفظ العهد والميثاق وأداء الأمانة، ويشهد على كل من أنكر وجحد ونسي

(1) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأعراف الآية 172: " وإذ أخذ
ربك من بني آدم... الآية ".
11

الميثاق بالكفر والانكار. فأما علة ما أخرجه الله تعالى من الجنة فهل تدري
ما كان الحجر؟ قلت لا. قال كان ملكا عظيما من عظماء الملائكة عند الله تعالى
فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك فاتخذه الله
تعالى أمينا على جميع خلقه وألقمه الميثاق وأودعه عنده واستعبد الخلق أن يجددوا
عنده في كل سنة الاقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله تعالى عليهم، ثم جعله
الله مع آدم (عليه السلام) في الجنة يذكره الميثاق ويجدد عنده الاقرار في كل
سنة، فلما عصى آدم (عليه السلام) وأخرج من الجنة أنساه الله العهد والميثاق
الذي أخذ الله عليه وعلى ولده لمحمد صلى الله عليه وآله ولوصيه وجعله تائها حيران، فلما تاب
على آدم عليه السلام حول ذلك الملك في صورة درة بيضاء فرماه من الجنة إلى آدم عليه السلام
وهو بأرض الهند، فلما نظر إليه أنس إليه وهو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة،
فأنطقه الله تعالى فقال له يا آدم أتعرفني؟ قال لا. قال أجل استحوذ عليك
الشيطان فأنساك ذكر ربك. ثم تحول إلى صورته التي كان مع آدم (عليه
السلام) في الجنة فقال لآدم أين العهد والميثاق؟ فوثب إليه آدم (عليه السلام)
وذكر الميثاق وبكى وخضع له وقبله وجدد الاقرار بالعهد والميثاق، ثم حوله الله
(عز وجل) إلى جوهرة الحجر درة بيضاء صافية تضيئ فحمله آدم (عليه السلام)
على عاتقه اجلالا له وتعظيما فكان إذا أعيا حمله عنه جبرئيل حتى وافى به مكة
فما زال يأنس به بمكة ويجدد الاقرار له كل يوم وليلة. ثم إن الله تبارك وتعالى
لما بنى الكعبة وضع الحجر في ذلك المكان لأنه تبارك وتعالى حين أخذ الميثاق
من ولد آدم أخذه في ذلك المكان وفي ذلك المكان ألقم الملك الميثاق ولذلك وضع
في ذلك الركن، ونحى آدم عليه السلام من مكان البيت إلى الصفا وحواء إلى المروة ووضع
الحجر في ذلك الركن، فلما نظر آدم (عليه السلام) من الصفا وقد وضع الحجر
في ذلك الركن كبر الله (عز وجل) وهلله ومجده ولذلك جرت السنة بالتكبير
12

واستقبال الركن الذي فيه الحجر من الصفا، فإن الله أودعه الميثاق والعهد دون غيره
من الملائكة، لأن الله (عز وجل) لما أخذ الميثاق له بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وآله بالرسالة
والنبوة ولعلي عليه السلام بالوصية اصطكت فرائص الملائكة فأول من أسرع
إلى الاقرار ذلك الملك، ولم يكن فيهم أشد حبا لمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله منه فلذلك
اختاره الله تعالى من بينهم وألقمه الميثاق، وهو يجيئ يوم القيامة وله لسان
ناطق وعين ناظرة يشهد لكل من وافاه إلى ذلك المكان وحفظ الميثاق ".
ومنها - ما رواه ابن بابويه (1) في الصحيح عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق
وأعتق الحرم معه وكف عنه الماء ".
وما رواه أيضا (2) في الصحيح عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال: " إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء، والمرأة تصلي بين يديك
وعن يمينك وعن شمالك ومعك، ولا بأس بذلك وإنما يكره في سائر البلدان ".
وما رواه (3) في الصحيح عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: " كان الحجر الأسود أشد بياضا من اللبن فلولا ما مسه من أرجاس
الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا وبرئ بإذن الله تعالى ".
وما رواه الكليني في الحسن عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (4) قال: " لما أفاض آدم (عليه السلام) من منى تلقته الملائكة فقالوا

(1) العلل ص 399 الطبع الحديث في النجف الأشرف
(2) العلل ص 397 الطبع الحديث وفي الوسائل الباب 5 من مكان المصلي
(3) العلل ص 427 الطبع الحديث وفي الوسائل الباب 13 من الطواف
عن الفقيه.
(4) الوسائل الباب 1 و 38 من وجوب الحج وشرائطه.
13

يا آدم بر حجك أما إنا قد حججنا هذا البيت قبل أن تحجه بألفي عام ".
وما رواه ابن بابويه (1) في الصحيح عن عبد الله بن سنان " أنه سأل
أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عز وجل): ومن دخله كان آمنا (2)
قال: من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط الله (عز وجل) وما دخل
في الحرم من الطير والوحش كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج
من الحرم ".
وما رواه الكليني في الحسن عن ابن سنان (3) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن قول الله (عز وجل): إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة
مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات (4) ما هذه الآيات البينات؟ قال مقام
إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه والحجر الأسود ومنزل إسماعيل ".
وما رواه في الفقيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (5) قال: " إن
آدم (عليه السلام) هو الذي بنى البيت ووضع أساسه وأول من كساه الشعر
وأول من حج إليه ثم كساه تبع بعد آدم عليه السلام الأنطاع ثم كساه إبراهيم (عليه
السلام) الخصف، وأول من كساه الثياب سليمان بن داود (عليه السلام) كساه
القباطي ".

(1) الفقيه ج 2 ص 163 وفي الوسائل الباب 88 من تروك الاحرام
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) الوسائل الباب 18 من مقدمات الطواف.
(4) سورة آل عمران الآية 96 و 97.
(5) الوسائل الباب 10 من مقدمات الطواف.
14

الفصل الثاني
في جملة من الأخبار الدالة على فضل الحج وما فيه من الثواب:
ومنها - ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن سعد الإسكاف - ورواه في
التهذيب أيضا بسنده عنه (1) - قال: " سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول إن الحاج
إذا أخذ في جهازه لم يخط خطوة في شئ من جهازه إلا كتب الله له عشر
حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات حتى يفرغ من جهازه متى
ما فرغ، فإذا استقلت به راحلته لم تضع خفا ولم ترفعه إلا كتب الله (عز وجل)
له مثل ذلك حتى يقضي نسكه فإذا قضى نسكه غفر الله له ذنوبه، وكان ذا الحجة
والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول أربعة أشهر يكتب الله له الحسنات ولا يكتب
عليه السيئات إلا أن يأتي بموجبة فإذا مضت الأربعة الأشهر خلط بالناس ".
وفي رواية التهذيب (2) هكذا: " غفر الله له ذنوبه بقية ذي الحجة والمحرم
وصفر وشهر ربيع الأول فإذا مضت... إلى آخره ".
ولعل المراد ب‍ " موجبة " على رواية الكافي يعني بما يوجب النار من
الكبائر، وعلى هذا فتكون السيئات التي لا تكتب مخصوصة بالصغائر، وعلى
ما ذكرنا يدل الخبر الآتي صريحا:
ومنها - ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم السلام (3) " أن رسول الله صلى الله عليه وآله لقيه

(1) الوسائل الباب 38 من وجوب الحج وشرائطه
(2) ج 5 ص 19
(3) الوسائل الباب 42 من وجوب الحج وشرائطه
15

أعرابي فقال له يا رسول الله صلى الله عليه وآله إني خرجت أريد الحج ففاتني وأنا رجل
مميل فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج. قال فالتفت إليه
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له أنظر إلى أبي قبيس فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته
في سبيل الله ما بلغت به ما يبلغ الحاج. ثم قال إن الحاج إذا أخذ في جهازه
لم يرفع شيئا ولم يضعه إلا كتب الله (عز وجل) له عشر حسنات ومحا عنه
عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفا ولم يضعه
إلا كتب الله له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين
الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف
بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، قال فعدد
رسول الله صلى الله عليه وآله كذا وكذا موقفا إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه. ثم قال
أنى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج. قال أبو عبد الله عليه السلام ولا تكتب عليه الذنوب أربعة
أشهر وتكتب له الحسنات إلا أن يأتي بكبيرة ".
قال في الوافي بعد نقل الخبر: للذنوب أنواع مختلفة في التأثير والتكدير
ومراتب متفاوتة في الصغر والكبر فلعله بكل فعل وموقف يخرج من نوع
أو مرتبة منها إلى أن يطهر منها جميعا، وفي الحديث: إن من الذنوب ذنوبا
لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة. انتهى.
أقول: ومن المحتمل قريبا - بل لعله أقرب مما ذكره (قدس سره) - أن الغرض
من ذلك هو بيان فضل هذه المواقف وأن كل موقف منها مكفر للذنوب كملا
بمعنى أنه لو كان ذا ذنوب لكفرت به لا حصول التكفير بالفعل لتحصل المنافاة
بينها ويحتاج إلى الجمع بما ذكره، وهذا مبني على الموازنة في الأعمال والتكفير
وحينئذ فإذا كان ثواب الموقف الأول كفر جميع ذنوبه وأسقطها بقي له ثواب
المواقف التي بعده سالمة من المقابلة بالذنوب فتكتب له كملا. والله العالم.
16

ومنها - ما رواه الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن
محمد بن قيس (1) قال: " سمعت أبا جعفر عليه السلام وهو يحدث الناس بمكة فقال إن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله إن
شئت فاسأل وإن شئت أخبرتك عن ما جئت تسألني عنه. فقال أخبرني يا رسول الله
صلى الله عليه وآله فقال جئت تسألني ما لك في حجتك وعمرتك؟ فإن لك إذا توجهت إلى
سبيل الحج ثم ركبت راحلتك ثم قلت بسم الله والحمد لله ثم مضت راحلتك لم
تضع خفا ولم ترفع خفا إلا كتب الله لك حسنة ومحا عنك سيئة، فإذا أحرمت
ولبيت كان لك بكل تلبية لبيتها عشر حسنات ومحي عنك عشر سيئات، فإذا طفت
بالبيت الحرام أسبوعا كان لك بذلك عند الله (عز وجل) عهد وذخر يستحي أن
يعذبك بعده أبدا، فإذا صليت الركعتين خلف المقام كان لك بهما ألفا حجة
متقبلة، فإذا سعيت بين الصفا والمروة كان لك مثل أجر من حج ماشيا من بلده
ومثل أجر من أعتق سبعين رقبة مؤمنة، فإذا وقفت بعرفات إلى غروب الشمس
فإن كان عليك من الذنوب مثل رمل عالج أو بعدد نجوم السماء أو قطر المطر يغفرها
الله تعالى لك، فإذا رميت الجمار كان لك بكل حصاة عشر حسنات تكتب لك فيما
يستقبل من عمرك، فإذا حلقت رأسك كان لك بكل شعرة حسنة تكتب لك فيما
يستقبل من عمرك، فإذا ذبحت هديك أو نحرت بدنتك كان لك بكل قطرة من
دمها حسنة تكتب لك فيما يستقبل من عمرك، فإذا زرت البيت وطفت به أسبوعا
وصليت الركعتين خلف المقام ضرب ملك على كتفيك ثم قال لك: قد غفر الله
لك ما مضى وفيما يستقبل ما بينك وبين مائة وعشرين يوما ".
وما رواه في الكافي عن خالد القلانسي عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال:

(1) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 1 من وجوب الحج وشرائطه.
17

" قال علي بن الحسين عليه السلام حجوا واعتمروا تصح أبدانكم وتتسع أرزاقكم
وتكفون مؤنات عيالاتكم. وقال: الحاج مغفور له وموجوب له الجنة ومستأنف
له العمل ومحفوظ في أهله وماله ".
وما رواه في الكافي والفقيه عن إسحاق بن عمار (1) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام إني قد وطنت نفسي على لزوم الحج كل عام بنفسي أو برجل
من أهل بيتي بمالي. فقال: وقد عزمت على ذلك؟ قال قلت نعم. قال إن
فعلت فأيقن بكثرة المال والبنين أو أبشر بكثرة المال ".
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار (2) قال:
" قال أبو عبد الله عليه السلام الحجاج يصدرون على ثلاثة أصناف: صنف يعتق من النار
وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله
فذلك أدنى ما يرجع به الحاج ".
وما رواه في الكافي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام (3) قال: " قال
رسول الله صلى الله عليه وآله الحاج ثلاثة: فأفضلهم نصيبا رجل غفر له ذنبه ما تقدم منه
وما تأخر ووقاه الله عذاب القبر، وأما الذي يليه فرجل غفر له ذنبه ما تقدم منه
ويستأنف العمل في ما بقي من عمره، وأما الذي يليه فرجل حفظ في أهله وماله ".
وما رواه في الكتاب المذكور في الصحيح عن العلاء عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام (4) قال: " إن أدنى ما يرجع به الحاج الذي لا يقبل منه أن
يحفظ في أهله وماله. قال قلت بأي شئ يحفظ فيهم؟ قال: لا يحدث فيهم إلا
ما كان يحدث فيهم وهو مقيم معهم ".

(1) الوسائل الباب 46 من وجوب الحج وشرائطه
(2) الوسائل الباب 38 من وجوب الحج وشرائطه
(3) الوسائل الباب 38 من وجوب الحج وشرائطه
(4) الوسائل الباب 38 من وجوب الحج وشرائطه
18

وما رواه في الفقيه مرسلا (1) قال: " قال الصادق عليه السلام لما حج موسى
عليه السلام نزل عليه جبرئيل عليه السلام فقال له موسى يا جبرئيل ما لمن حج هذا البيت بلا
نية صادقة ولا نفقة طيبة؟ قال أدري حتى أرجع إلى ربي (عز وجل) فلما رجع
قال الله (عز وجل) يا جبرئيل ما قال لك موسى عليه السلام؟ - وهو أعلم بما قال - قال يا رب
قال لي ما لمن حج هذا البيت بلا نية صادقة ولا نفقة طيبة؟ قال الله (عز
وجل) ارجع إليه وقل له أهب له حقي وأرضي عنه خلقي. فقال يا جبرئيل ما لمن
حج هذا البيت بنية صادقة ونفقة طيبة؟ قال فرجع إلى الله (عز وجل) فأوحى
الله تعالى إليه قل له أجعله في الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقا ".
إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن نقلها المقام.
الفصل الثالث
في ما يدل على فرض الحج والعمرة وعقاب تاركهما:
ومنها - ما رواه في الكافي في الصحيح عن ابن أذينة (2) قال: " كتبت
إلى أبي عبد الله عليه السلام بمسائل بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس فجاء الجواب
باملائه: سألت عن قول الله (عز وجل): ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا (3) يعني به الحج والعمرة جميعا لأنهما مفروضان. وسألته عن قول الله
(عز وجل): وأتموا الحج والعمرة لله (4) قال: يعني بتمامهما أداءهما واتقاء ما يتقي

(1) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه
(2) الوسائل الباب 1 من وجوب الحج وشرائطه
(3) سورة آل عمران الآية 97
(4) سورة البقرة الآية 195
19

المحرم فيهما. وسألته عن قول الله (عز وجل): الحج الأكبر (1) ما يعني بالحج
الأكبر؟ فقال: الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والحج الأصغر
العمرة ".
وما رواه في الكافي في الصحيح عن عبد الرحمان بن الحجاج (2) قال:
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام الحج على الغني والفقير؟ فقال: الحج على الناس جميعا
كبارهم وصغارهم فمن كان له عذر عذره الله ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام (3)
قال: " إن الله (عز وجل) فرض الحج على أهل الجدة في كل عام وذلك قول الله
(عز وجل): ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله
غني عن العالمين (4) قال قلت: فمن لم يحج منا فقد كفر؟ قال: لا ولكن من
قال ليس هذا هكذا فقد كفر ".
أقول: الظاهر أن المعنى في قوله: " ولكن... إلى آخره " أن التارك
له لا عن اعتقاد حل تركه ليس بكافر وإنما الكافر من لم يعتقد وجوبه، فمعنى
" ومن كفر " من لم يعتقد فرضه أو لم يبال بتركه فإن عدم المبالاة يرجع إلى
عدم اعتقاد فرضه، وكان السؤال والجواب مبنيان على الكفر بالمعنى الحقيقي
والمشهور أن الكفر في أمثال هذا المقام ليس المراد به الكفر الحقيقي وإنما المراد
به كفر الترك، فإن تارك الواجبات التي هي من كبائر الطاعات كالصلاة والزكاة
والحج ينسب إلى الكفر وإن لم يكن معتقدا حل الترك الذي به يصير كافرا
كفرا حقيقيا بل يطلق على الترك بقول مطلق كما في قوله (عز وجل): إنا هديناه

(1) سورة التوبة الآية 3
(2) الوسائل الباب 2 من وجوب الحج وشرائطه
(3) الوسائل الباب 2 من وجوب الحج وشرائطه
(4) سورة آل عمران الآية 97
20

السبيل إما شاكرا وإما كفورا (1).
ومنها - ما رواه في الكافي عن حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله
عليه السلام (2) قال: " إن الله تعالى فرض الحج والعمرة على أهل الجدة في كل عام ".
وما رواه فيه أيضا عن أبي جرير القمي عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال:
" الحج فرض على أهل الجدة في كل عام ".
وما رواه الصدوق في كتاب العلل عن عبد الله بن الحسين الميثمي رفعه
إلى أبي عبد الله عليه السلام (4) قال: " إن في كتاب الله (عز وجل) في ما أنزل الله:
ولله علي الناس حج البيت في كل عام من استطاع إليه سبيلا " (5).
وحمل هذه الأخبار الشيخ في كتابيه على أن المراد بكل عام يعني علي البدل
وزاد في الإستبصار الحمل على الاستحباب، والأظهر الحمل على تأكيد الاستحباب
كما صرح به جملة من الأصحاب.
إلا أن ظاهر الصدوق في كتاب العلل العمل بها على ظاهرها حيث إنه روى
فيه (6) في علل الفضل بن شاذان المروية عن الرضا عليه السلام وكذا في علل محمد بن
سنان المروية عنه عليه السلام في علة فرض الحج مرة واحدة: لأن الله تعالى وضع
الفرائض على أدنى القوم قوة، فمن تلك الفرائض الحج المفروض واحد ثم رغب
أهل القوة على قدر طاقتهم.
قال الصدوق بعد نقل ذلك (7): جاء هذا الحديث هكذا والذي أعتمده

(1) سورة الانسان الآية 3
(2) الوسائل الباب 2 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 2 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 2 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) سورة آل عمران الآية 97
(6) ص 273 و 405 وفي الوسائل الباب 3 من وجوب الحج وشرائطه.
(7) الوسائل الباب 3 من وجوب الحج وشرائطه
21

وأفتي به أن الحج على أهل الجدة في كل عام فريضة. ثم استدل بالأحاديث المذكورة
واحتمل بعض الأصحاب أن يكون المراد بالوجوب في هذه الأخبار الوجوب
الكفائي على أهل الجدة من المسلمين في كل عام، وتؤيده الأخبار الدالة على أنه
لو اجتمع الناس على ترك الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم ولاستحقوا العذاب (1)
وسيأتي بعضها في المقام.
ومنها - ما رواه في الكافي عن ذريح عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال:
" من مات ولم يحج حجة الاسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض
لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهوديا أو نصرانيا ".
وما رواه الشيخ في التهذيب (3) في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " قال الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا (4) قال هذه لمن كان عنده مال وصحة، وإن كان سوفه للتجارة فلا يسعه
فإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الاسلام إذا هو يجد ما يحج به،
وإن كان دعاه قوم أن يحجوه فاستحيا فلم يفعله فإنه لا يسعه إلا الخروج ولو على
حمار أجدع أبتر. وعن قول الله (عز وجل): ومن كفر (5) قال يعني من ترك ".
أقول: تفسيره هنا الكفر بالترك مؤيد لما قلناه آنفا.
وما رواه في الكافي عن أبي بصير (6) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن قول الله (عز وجل): ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى

(1) الوسائل الباب 4 و 5 من وجوب الحج وشرائطه
(2) الوسائل الباب 7 من وجوب الحج وشرائطه
(3) ج 5 ص 18 وفي الوسائل الباب 6 و 7 و 10 من وجوب الحج وشرائطه
(4) سورة آل عمران الآية 97
(5) سورة آل عمران الآية 97
(6) الوسائل الباب 6 من وجوب الحج وشرائطه
22

وأضل سبيلا (1) فقال: ذلك الذي يسوف نفسه الحج يعني حجة الاسلام حتى
يأتيه الموت ".
وما رواه أيضا عن أبي بصير (2) قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله (عز وجل): ونحشره يوم
القيامة أعمى (3) قال قلت سبحان الله أعمى؟ قال: نعم إن الله (عز وجل)
أعماه عن طريق الحق ".
وفي صحيحة معاوية بن عمار (4) مثله إلا أنه قال: " أعماه الله عن طريق
الجنة " (5).
وما رواه في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (6) قال: " لو عطل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج
إن شاءوا وإن أبوا فإن هذا البيت إنما وضع للحج ".
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن حفص بن البختري وهشام
ابن سالم ومعاوية بن عمار وغيرهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (7) قال:
" لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام
عنده، ولو تركوا زيارة النبي صلى الله عليه وآله لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك

(1) سورة بني إسرائيل الآية 72
(2) الوسائل الباب 6 من وجوب الحج وشرائطه
(3) سورة طه الآية 124
(4) الوسائل الباب 6 من وجوب الحج وشرائطه
(5) التهذيب ج 5 ص 18 وفي الوافي باب فرض الحج والعمرة. وقد نقله
في الوسائل الباب 6 من وجوب الحج وشرائطه عن تفسير القمي.
(6) الوسائل الباب 5 من وجوب الحج وشرائطه
(7) الوسائل الباب 5 من وجوب الحج وشرائطه
23

وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين ".
وما رواه ثقة الاسلام والشيخ (قدس سرهما) عن ذريح عن أبي عبد الله
(عليه السلام) (1) قال: " من مضت له خمس سنين فلم يفد إلى ربه وهو موسر
إنه لمحروم " وبهذا المضمون روايات ثلاث (2).
وما رواه في الكافي عن حسين الأحمسي عن أبي عبد الله عليه السلام (3)
قال: " لو ترك الناس الحج لما نوظروا العذاب. أو قال: أنزل عليهم العذاب "
والمراد لما أهملوا من العذاب من النظرة بمعنى الاهمال.
وما رواه فيه عن سدير (4) قال: " ذكرت لأبي جعفر (عليه السلام)
البيت فقال لو عطلوه سنة واحدة لم يناظروا " ورواه في الفقيه مثله (5) وقال:
في خبر آخر (6) " لينزل عليهم العذاب ".
وما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (7): " في قول الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا (8) ما السبيل؟ قال أن يكون له ما يحج به. قال قلت من عرض عليه
ما يحج به فاستحيا من ذلك أهو ممن يستطيع إليه سبيلا؟ قال نعم ما شأنه
يستحي ولو يحج على حمار أجدع أبتر، فإن كان يطيق أن يمشي بعضا
ويركب بعضا فليحج ".

(1) الوسائل الباب 49 من وجوب الحج وشرائطه
(2) الوسائل الباب 49 من وجوب الحج وشرائطه
(3) الوسائل الباب 4 من وجوب الحج وشرائطه
(4) الوسائل الباب 4 من وجوب الحج وشرائطه
(5) الوسائل الباب 4 من وجوب الحج وشرائطه
(6) الوسائل الباب 4 من وجوب الحج وشرائطه
(7) الوسائل الباب 8 و 10 من وجوب الحج وشرائطه
(8) سورة آل عمران الآية 97
24

المقدمة الثانية
في السفر وآدابه وما يستحب فيه وفيه فصول:
فصل
روى الصدوق (عطر الله مرقده) في الفقيه عن عمرو بن أبي المقدام
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال " في حكمة آل داود (ع) إن على العاقل
أن لا يكون ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم "
وروى في الفقيه في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام بإسناده عن حماد بن عمرو
وأنس بن محمد عن أبيه جميعا عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عنه صلى الله عليه وآله (2)
قال: " يا علي لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعنا إلا في ثلاث: مرمة لمعاش أو تزود
لمعاد أو لذة في غير محرم... إلى أن قال: يا علي سر سنتين بر والديك، سر سنة
صل رحمك، سر ميلا عد مريضا، سر ميلين شيع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب
دعوة، سر أربعة أميال زر أخا في الله، سر خمسة أميال أجب الملهوف، سر
ستة أميال أنصر المظلوم، وعليك بالاستغفار ".
وروى فيه أيضا باسناده إلى السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم
السلام) (3) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله سافروا تصحوا وجاهدوا تغنموا
وحجوا تستغنوا ".

(1) الوسائل الباب 1 من آداب السفر.
(2) الوسائل الباب 1 من آداب السفر.
(3) الوسائل الباب 2 من آداب السفر
25

فصل
في ما يستحب لاختيار السفر من أيام الأسبوع
ومنها - السبت لما رواه الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب الخصال
بسنده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " من كان
مسافرا فليسافر يوم السبت فلو أن حجرا زال عن جبل يوم السبت لرده الله تعالى
إلى مكانه، ومن تعذرت عليه الحوائج فليلتمس طلبها يوم الثلاثاء فإنه اليوم الذي
ألان الله فيه الحديد لداود عليه السلام ".
وما رواه في كتاب العيون بأسانيد ثلاثة عن الرضا عن آبائه (عليهم
السلام) (2) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم
سبتها وخميسها ".
وما رواه في كتاب المكارم (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" لا تخرج يوم الجمعة في حاجة فإذا كان يوم السبت وطلعت الشمس فاخرج
في حاجتك ".
وما رواه في الخصال في الصحيح عن أبي أيوب الخزاز (4) قال: " سألت

(1) الوسائل الباب 3 و 4 من آداب السفر عن الفقيه والخصال وغيرهما.
(2) مستدرك الوسائل الباب 3 من آداب السفر، وفي الوسائل الباب 7 من
آداب السفر عن الخصال، ونقله عن العيون بلفظ " بورك لأمتي... " وفي الباب
3 منه عن الفقيه عن النبي صلى الله عليه وآله مرسلا.
(3) ص 276 ونقله في الوسائل الباب 3 من آداب السفر عن الفقيه.
(4) الوسائل الباب 3 من آداب السفر عن الفقيه والخصال
26

أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عز وجل): فإذا قضيت الصلاة فانتشروا
في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (1) قال:
الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت ".
ومثله في كتاب المحاسن عنه عليه السلام (2) وزاد فيه: " السبت لنا والأحد
لبني أمية ".
ومنها - يوم الثلاثاء لما تقدم في حديث حفص بن غياث.
ومثله - ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره (3) قال: " قال الصادق
عليه السلام اطلبوا الحوائج يوم الثلاثاء فإنه اليوم الذي ألان الله فيه الحديد لداود عليه السلام ".
وما رواه الصدوق في كتاب الخصال في الصحيح عن علي بن جعفر (4) قال:
" جاء رجل إلى أخي موسى بن جعفر عليه السلام فقال له جعلت فداك إني أريد الخروج
فادع لي فقال ومتى تخرج؟ قال يوم الاثنين. فقال له ولم تخرج يوم الاثنين؟
قال اطلب فيه البركة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله ولد يوم الاثنين (5) فقال كذبوا ولد
رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الجمعة، وما من يوم أعظم شؤما من يوم الاثنين يوم مات
فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وانقطع فيه وحي السماء وظلمنا فيه حقنا، ألا أدلك على
يوم سهل ألان الله لداود (عليه السلام) فيه الحديد؟ فقال الرجل بلى جعلت
فداك. فقال اخرج يوم الثلاثاء ".

(1) سورة الجمعة الآية 10
(2) الوسائل الباب 3 من آداب السفر
(3) الوسائل الباب 4 من آداب السفر
(4) الوسائل الباب 4 من آداب السفر
(5) تاريخ الطبري ج 2 ص 203 الطبع الأول والإمتاع للمقريزي ج 1
ص 3 وأسد الغابة ج 1 ص 14 والبداية لابن كثير ج 1 ص 260 وسائر كتب
التاريخ، وصحيح مسلم وسنن البيهقي باب صوم الاثنين.
27

وما رواه البرقي في كتاب المحاسن عن عثمان بن عيسى عن أبي أيوب الخزاز (1)
قال: " أردنا أن نخرج فجئنا نسلم على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال كأنكم
طلبتم بركة يوم الاثنين، فقلنا نعم قال وأي يوم أعظم شؤما من يوم الاثنين يوم فقدنا
فيه نبينا صلى الله عليه وآله وارتفع فيه الوحي عنا لا تخرجوا واخرجوا يوم الثلاثاء ".
ورواه في الفقيه بإسناده عن الخزاز مثله (2) وفي الكافي مثله (3).
ومنها - يوم الخميس لما تقدم في حديث العيون عن الرضا (عليه السلام)
وما رواه البرقي في كتاب المحاسن عن محمد بن أبي الكرام (4) قال:
" تهيأت للخروج إلى العراق فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) لأسلم عليه وأودعه
فقال أين تريد؟ قلت أريد الخروج إلى العراق فقال لي في هذا اليوم؟ - وكان
يوم الاثنين - فقلت إن هذا اليوم يقول الناس إنه يوم مبارك فيه ولد النبي صلى الله عليه وآله (5)
فقال والله ما يعلمون أي يوم ولد فيه النبي صلى الله عليه وآله إنه ليوم مشوم فيه قبض النبي
صلى الله عليه وآله وانقطع الوحي ولكن أحب لك أن تخرج يوم الخميس وهو اليوم الذي
كان يخرج فيه إذا غزا ".
وما رواه في كتاب قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن
علوان عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (6) قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله
يسافر يوم الاثنين والخميس ويعقد فيهما الألوية ".
ومنه أيضا بالاسناد المذكور (7) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الخميس
يوم يحبه الله ورسوله، وفيه ألان الله الحديد لداود عليه السلام ".
وقال (8): " قال رسول الله صلى الله عليه وآله اللهم بارك لأمتي في بكورها واجعله
يوم الخميس ".

(1) الوسائل الباب 4 من آداب السفر (5) التعليقة
(2) الوسائل الباب 4 من آداب السفر (5) التعليقة
(3) الوسائل الباب 4 من آداب السفر (5) التعليقة
(4) الوسائل الباب 7 من آداب السفر
(5) ص 27
(6) الوسائل الباب 7 من آداب السفر
(7) الوسائل الباب 7 من آداب السفر
(8) الوسائل الباب 7 من آداب السفر
28

أقول: قد تقدم أن اليوم الذي ألان الله فيه الحديد إنما هو يوم الثلاثاء
ويمكن حمل هذا الخبر على التقية (1) لأن رواته من العامة، أو يقال إنه وقع
فيهما. والأول أقرب.
وما رواه في كتاب العيون بأسانيد ثلاثة عن الرضا عن آبائه (عليهم
السلام) (2 قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله يسافر يوم الخميس ويقول فيه
ترفع الأعمال إلى الله (عز وجل) وتعقد فيه الألوية ".
وما في صحيفة الرضا عن آبائه (عليهم السلام) (3) قال: " كان رسول الله
صلى الله عليه وآله يسافر يوم الاثنين والخميس ويقول فيهما ترفع الأعمال إلى الله (عز وجل)
وتعقد فيهما الألوية ".
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الأخبار قد اختلفت في يوم الاثنين وأكثرها من ما
ذكرناه وما لم نذكره يدل على المنع من السفر فيه، والظاهر حمل ما دل على
الأمر بالسفر فيه على التقية (4) ويفهم من بعض الأخبار جواز السفر فيه لمن
قرأ في صبحه سورة " هل أتى " كما رواه الشيخ أبو علي الحسن ابن الشيخ الطوسي
في كتاب المجالس بسنده عن علي بن عمر العطار (5) قال: " دخلت على أبي الحسن

(1) لم أقف على هذا المضمون في ما حضرني من كتبهم في كتاب الصوم،
والذي يروونه في صوم الاثنين والخميس أنه تعرض الأعمال فيهما أو أنه يغفر الله
فيهما لكل مسلم كما في الترغيب والترهيب للمنذري ج 2 ص 36
(2) الوسائل الباب 7 من آداب السفر
(3) الوسائل الباب 7 من آداب السفر رقم 10 وراجع التعليقة رقم 10 هناك
(4) راجع الحديث (4) ص 27 والتعليقة (5) هناك والحديث (4) ص 28
(5) الوسائل الباب 4 من آداب السفر
29

العسكري (عليه السلام) يوم الثلاثاء فقال لم أرك أمس؟ قلت كرهت الخروج
في يوم الاثنين. قال يا علي من أحب أن يقيه الله شر يوم الاثنين فليقرأ في أول
ركعة من صلاة الغداة " هل أتى على الانسان... " (1) ثم قرأ أبو الحسن (عليه
السلام): فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا " (2).
وأما يوم الجمعة فقد ورد النهي عن السفر فيه ووردت الرخصة بعد الصلاة
وفي ليلته.
ومن ما يدل على النهي عن الخروج فيه حديث المكارم المتقدم وقريب منه
صحيحة أبي أيوب الخزاز (3).
وأما ما دل على الرخصة بعد الصلاة فهو ما رواه الصدوق في كتاب
الخصال في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (4) قال: " يكره
السفر والسعي في الحوائج يوم الجمعة يكره من أجل الصلاة، فأما بعد الصلاة
فجائز يتبرك به ".
وأما ما يدل على الخروج ليلة الجمعة فهو ما رواه في كتاب المحاسن عن
إبراهيم بن يحيى المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام (5) قال: " لا بأس بالخروج في
السفر ليلة الجمعة ".
وأما الأربعاء فقد وردت الأخبار (6) بشؤمه ولا سيما أربعاء آخر الشهر.

(1) وهي سورة الانسان
(2) سورة الانسان الآية 11
(3) ص 26.
(4) الوسائل الباب 7 من آداب السفر والباب 43 من صلاة الجمعة
(5) الوسائل الباب 7 من آداب السفر عن المحاسن والفقيه
(6) الوسائل الباب 5 من آداب السفر
30

قال الصدوق (قدس سره) (1) من اضطر إلى الخروج في سفر يوم
الأربعاء أو تبيغ به الدم في يوم الأربعاء فجائز له أن يسافر أو يحتجم فيه ولا
يكون شؤما عليه لا سيما إذا فعل خلافا على أهل الطيرة، ومن استغنى عن الخروج
فيه أو عن اخراج الدم فالأولى أن يتوقى ولا يسافر فيه ولا يحتجم.
فصل
وينبغي أن يتقى السفر في الأيام المنحوسة من الشهر:
روى في كتاب المكارم (2) عن الصادق عليه السلام قال: " اتق الخروج إلى
السفر في اليوم الثالث من الشهر والرابع منه والحادي والعشرين منه والخامس
والعشرين منه فإنها أيام منحوسة " " وكان أمير المؤمنين عليه السلام يكره أن يسافر
الرجل أو يتزوج والقمر في المحاق " (3).
ومنها - السبعة المشهورة وهي اليوم الثالث والخامس والثالث عشر
والسادس عشر والحادي والعشرون والرابع والعشرون والخامس والعشرون.
وقد نظمها بعضهم فقال:
توق من الأيام سبعا كواملا * فلا تتخذ فيهن عرسا ولا سفر
ولبسك للثوب الجديد فضمه * ونكحك للنسوان فالحذر الحذر (4)

(1) الخصال ج 2 ص 30.
(2) ص 276
(3) المكارم ص 277
(4) هذا البيت ليس في البحار ج 14 ص 198 وفي ما وقفنا عليه من
النسخة الخطية بعد البيت الأول هكذا:
ولا تحفرن بئرا ولا دار تشتري * ولا تقرب السلطان فالحذر الحذر
ولبسك للثوب الجديد فخله * ونكحك للنسوان والغرس للشجر
ثلاثا وخمسا ثم ثالث عشرها * ومن بعدها يا صاح فالسادس العشر
وحادي والعشرين حاذر شرها * ورابع والعشرين والخمس في الأثر
وكل أربعاء لا تعود فإنها * كأيام عاد لا تبقي ولا تذر
رويناه عن بحر العلوم بهمة * علي ابن عم المصطفى سيد البشر
31

ثلاثا وخمسا ثم ثالث عشرها * وسادس عشر هكذا جاء في الخبر
وواحد والعشرون قد شاع ذكره * ورابع والعشرون والخمس في الأثر
فتوقها مهما استطعت فإنها * كأيام عاد لا تبقي ولا تذر
رويناه عن بحر العلوم بهمة * علي ابن عم المصطفى سيد البشر
أقول: وقد نظمها بعضهم بما هو أخصر من ذلك فقال:
محبك يرعى هواك فهل * تعود ليال بضد الأمل
فمنقوطها نحس كله * ومهملها فعليه العمل
أقول: لا بأس بالإشارة إلى الأخبار الواردة في الأيام النحسة من الشهر
اجمالا على ما نقله شيخنا المجلسي (عطر الله تعالى مرقده) في كتاب البحار (1)
والكتب التي نقلها منها هي كتاب الدروع الواقية للسيد رضي الدين ابن
طاوس (2) وكتاب مكارم الأخلاق (3) للشيخ أبي نصر الحسن بن الفضل بن
الحسن بن الفضل الطبرسي وربما نسب إلى الشيخ أبي علي ابن الشيخ الطوسي وهو
غلط كما نبه عليه شيخنا المجلسي في مقدمة البحار، وكتاب زوائد الفوائد (4)

(1) ذكر كل ما أورده هنا في المجلد الرابع عشر من ص 198 إلى ص 206
(2) أورد في الوسائل الباب 27 من آداب السفر كل ما نقل منه
في هذا الكتاب من ما يتعلق بالمقام.
(3) أورد في الوسائل الباب 27 من آداب السفر كل ما نقل منه
في هذا الكتاب من ما يتعلق بالمقام.
(4) أورد في مستدرك الوسائل الباب 21 من آداب السفر كل ما نقل منه
في هذا الكتاب من ما يتعلق بالمقام.
32

ونسبه في كتاب البحار إلى ابن السيد رضي الدين علي بن طاووس وقال إنه
لم يعرف اسمه، ونحن نقتصر هنا من النقل من هذه الكتب على ما يختص بما
نحن فيه وما يناسب من ذلك ومن أراد الزيادة فليرجع إلى كتاب البحار:
اليوم الأول - الدروع الواقية: اليوم الأول من الشهر عن الصادق عليه السلام يوم
مبارك لطلب الحوائج وطلب العلم والتزويج والسفر والبيع والشراء.
المكارم: عن الصادق (عليه السلام) سعد يصلح لطلب الحوائج والشراء
والبيع والزراعة والسفر.
زوائد الفوائد: عن الصادق (عليه السلام) هو يوم مبارك محمود سعيد
يصلح لطلب الحوائج والبيع والشراء.
اليوم الثاني - الدروع: عن الصادق (عليه السلام) يصلح للتزويج والسفر
وطلب الحوائج.
المكارم: عنه (عليه السلام) يصلح للسفر وطلب الحوائج.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم محمود يصلح للتزويج والتحويل والشراء
والبيع وطلب الحوائج.
اليوم الثالث - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم نحس مستمر فاتق فيه
البيع والشراء وطلب الحوائج والمعاملة.
المكارم: عنه (عليه السلام) ردئ لا يصلح لشئ جملة.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم نحس فيه قتل قابيل هابيل لا تسافر فيه
ولا تعمل عملا ولا تلق فيه أحدا.
اليوم الرابع - الدروع: عنه (عليه السلام) يوم صالح للزرع والصيد والبناء
ويكره فيه السفر فمن سافر فيه خيف عليه القتل والسلب أو بلاء يصيبه.
المكارم: عنه (عليه السلام) يوم صالح للتزويج ويكره السفر فيه.
33

الزوائد: عنه (عليه السلام) هو يوم متوسط صالح لقضاء الحوائج، ولا
تسافر فيه فإنه مكروه.
اليوم الخامس - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم نحس مستمر فلا
تعمل فيه عملا ولا تخرج من منزلك.
المكارم: عنه (عليه السلام) ردئ نحس.
الزوائد: هو يوم نحس وهو يوم نكد عسير لا خير فيه فاستعذ بالله من شره.
اليوم السادس - الدروع: عنه (عليه السلام) يوم صالح للتزويج، ومن
سافر فيه في بر أو بحر رجع إلى أهله بما يحبه.
المكارم: عنه (عليه السلام) مبارك يصلح للتزويج وطلب الحوائج.
الزوائد: عنه عليه السلام يوم صالح يصلح للحوائج والسفر والبيع والشراء.
اليوم السابع - الدروع: عنه (عليه السلام) يوم صالح لجميع الأمور.
المكارم: عنه (عليه السلام) مبارك مختار يصلح لكل ما يراد ويسعى فيه.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم سعيد مبارك فيه ركب نوح (عليه السلام)
السفينة فاركب البحر وسافر في البر، واعمل ما شئت فإنه يوم عظيم البركة محمود
لطلب الحوائج والسعي فيها.
اليوم الثامن - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم صالح لكل حاجة من
بيع أو شراء، ويكره فيه ركوب البحر والسفر في البر.
المكارم: عنه (عليه السلام) يصلح لكل حاجة سوى السفر فإنه يكره فيه
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم صالح للشراء والبيع، ولا تعرض للسفر
فإنه يكره فيه سفر البر والبحر.
اليوم التاسع - الدروع: عنه (عليه السلام) يوم خفيف صالح لكل أمر
تريده فابدأ فيه بالعمل، ومن سافر فيه رزق مالا ورأي خيرا.
المكارم: عنه عليه السلام مبارك يصلح لكل ما يريده الانسان، ومن سافر فيه
34

رزق مالا ويرى في سفره كل خير.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم صالح محمود مبارك يصلح للحوائج وجميع
الأعمال. وفي رواية أخرى: من سافر فيه رزق ولقى خيرا.
اليوم العاشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه ولد فيه نوح (عليه
السلام) يصلح للبيع والشراء والسفر.
المكارم: عنه (عليه السلام) صالح لكل حاجة سوى الدخول على السلطان
وهو جيد للشراء والبيع.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم محمود رفع الله فيه إدريس (عليه السلام)
مكانا عليا. وفي رواية أخرى: يصلح للبيع والشراء.
الحادي عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه صالح لابتداء العمل والبيع
والشراء والسفر.
المكارم: عنه (عليه السلام) يصلح للشراء والبيع ولجميع الحوائج وللسفر
ما خلا الدخول على السلطان.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم صالح للشراء والبيع والمعاملة والقرض.
الثاني عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم صالح للتزويج وفتح
الحوانيت وركوب البحر.
المكارم: عنه عليه السلام يوم صالح مبارك فاطلبوا فيه حوائجكم واسعوا لها
فإنها تقضى.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم مبارك فيه قضى موسى عليه السلام الأجل،
وهو يوم التزويج والبيع والشراء.
الثالث عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) أنه يوم نحس فاتق فيه المنازعة
والحكومة وكل أمر. وفي رواية أخرى: يوم نحس لا تطلب فيه حاجة.
35

المكارم: عنه (عليه السلام) يوم نحس فاتق فيه جميع الأعمال.
الزوائد: عنه عليه السلام يوم نحس مذموم في كل حال فاستعذ بالله من شره.
الرابع عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم صالح لكل شئ، وهو
جيد لطلب العلم والبيع والشراء والسفر وركوب البحر.
المكارم: عنه (عليه السلام) جيد للحوائج ولكل عمل.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم صالح لما تريد من قضاء الحوائج وطلب
العلم. وفي رواية أخرى: ويصلح للبيع والشراء وركوب البحر.
الخامس عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم صالح لكل الأمور
إلا من أراد أن يستقرض أو يقرض.
المكارم: عنه (عليه السلام) يوم صالح لكل حاجة تريدها فاطلبوا فيه
حوائجكم فإنها تقضى.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم صالح لكل عمل وحاجة فاعمل ما بدا لك
فإنه يوم سعيد.
السادس عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم نحس لا يصلح لشئ
سوى الأبنية، ومن سافر فيه هلك.
المكارم: عنه (عليه السلام) ردئ مذموم لكل شئ.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم نحس ردي مذموم لا خير فيه فلا
تسافر فيه ولا تطلب حاجة، وتوق ما استطعت وتعوذ بالله من شره.
السابع عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم متوسط، واحذر فيه
المنازعة وهو يوم ثقيل فلا تلتمس فيه حاجة. وفي رواية أخرى: إنه يوم صالح.
المكارم: عنه (عليه السلام) صالح مختار فاطلبوا فيه ما شئتم وتزوجوا
وبيعوا واشتروا وازرعوا.
36

الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم صالح مختار محمود لكل عمل وحاجة فاطلب
فيه الحوائج واشتر وبع. وفي رواية أخرى: متوسط تحذر فيه المنازعة والقرض
الثامن عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم سعيد صالح لكل شئ
من بيع وشراء أو زرع أو سفر.
المكارم: عنه (عليه السلام) مختار صالح للسفر وطلب الحوائج.
الزوائد: عنه عليه السلام يوم مختار للسفر والتزويج ولطلب الحوائج.
التاسع عشر - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم سعيد، وهو صالح
للسفر والمعاش والحوائج.
المكارم: عنه (عليه السلام) مختار صالح لكل عمل
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم مختار مبارك صالح لكل عمل تريد.
وفي رواية أخرى: يصلح للسفر والمعاش وطلب العلم.
العشرون - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم متوسط صالح للسفر
وقضاء الحوائج.
المكارم: عنه (عليه السلام) جيد مختار للحوائج والسفر.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم جيد صالح مسعود مبارك لما يؤتى. وفي
رواية أخرى: يوم متوسط يصلح للسفر والحوائج.
الحادي والعشرون - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم نحس ردئ فلا
تطلب فيه حاجة، ومن سافر فيه خيف عليه.
المكارم: عنه (عليه السلام) يوم نحس مستمر.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم نحس مذموم فاحذره ولا تطلب فيه حاجة
ولا تعمل عملا واقعد في منزلك واستعذ بالله من شره.
الثاني والعشرون - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم صالح لقضاء الحوائج
37

والبيع والشراء، والمريض فيه يبرأ سريعا، والمسافر فيه يرجع معافى.
المكارم: عنه (عليه السلام) مختار صالح للشراء والبيع والسفر والصدقة
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم سعيد مبارك مختار لكل ما تريد من
الأعمال فاعمل ما شئت فإنه مبارك.
الثالث والعشرون - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم صالح لطلب
الحوائج والتجارة والتزويج، ومن سافر فيه غنم وأصاب خيرا.
المكارم: عنه (عليه السلام) مختار جيد خاصة للتزويج والتجارات كلها.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم سعيد مبارك لكل ما تريد: للسفر
والتحويل من مكان إلى مكان، وهو جيد للحوائج.
الرابع والعشرون - الدروع: عنه عليه السلام إنه يوم ردئ نحس فيه ولد فرعون
فلا تطلب فيه أمرا من الأمور.
المكارم: عنه (عليه السلام) يوم مشوم.
الزوائد: عنه عليه السلام يوم نحس مستمر مكروه لكل حال وعمل فاحذره ولا
تعمل فيه عملا ولا تلق أحدا واقعد في منزلك واستعذ بالله من شر.
الخامس والعشرون - الدروع: عنه عليه السلام إنه يوم نحس ردي فاحفظ نفسك
فيه ولا تطلب فيه حاجة فإنه يوم شديد البلاء.
المكارم: عنه عليه السلام ردئ مذموم يحذر فيه من كل شئ.
الزوائد: عنه عليه السلام يوم نحس مكروه ثقيل نكد فلا تطلب فيه حاجة ولا
تسافر فيه واقعد في منزلك واستعذ بالله من شره.
السادس والعشرون - الدروع: عنه عليه السلام إنه يوم صالح للسفر ولكل أمر
يراد إلا التزويج.
38

المكارم: عنه عليه السلام صالح لكل حاجة سوى التزويج والسفر، وعليكم
بالصدقة فيه.
الزوائد: عنه عليه السلام يوم صالح متوسط للشراء والبيع والسفر وقضاء الحوائج
السابع والعشرون - الدروع: عنه عليه السلام إنه يوم صالح لكل أمر.
المكارم: عنه (عليه السلام) جيد مختار للحوائج وكل ما يراد.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم صاف مبارك من النحوس صالح للحوائج
إلى السلطان وإلى الإخوان والسفر إلى البلدان فالق فيه من شئت وسافر إلى حيث أردت.
الثامن والعشرون - الدروع: عنه عليه السلام إنه يوم صالح لكل أمر.
المكارم: عنه (عليه السلام) ممزوج.
الزوائد: يوم مبارك سعيد.
التاسع والعشرون - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم صالح لكل أمر
ومن سافر فيه أصاب مالا جزيلا.
المكارم: عنه (عليه السلام) مختار جيد لكل حاجة.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم مبارك سعيد قريب الأمر يصلح للحوائج
والتصرف فيها. وفي رواية أخرى: المسافر فيه يصيب مالا كثيرا.
اليوم الثلاثون - الدروع: عنه (عليه السلام) إنه يوم جيد للبيع والشراء
والتزويج. وفي رواية أخرى: يوم سعيد مبارك يصلح لكل حاجة تلتمس.
المكارم: عنه (عليه السلام) مختار جيد لكل شئ ولكل حاجة.
الزوائد: عنه (عليه السلام) يوم مبارك ميمون مسعود مفلح منجح مفرح
فاعمل فيه ما شئت والق من أردت وخذ واعط وسافر وانتقل وبع واشتر فإنه
صالح لكل ما تريد موافق لكل ما يعمل.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي صرح به شيخنا المجلسي (قدس سره) في
39

كتاب البحار هو أن هذه الأيام المعدودة إنما هي من شهور العربية حيث قال:
باب سعادة أيام الشهور العربية ونحوستها. ثم نقل الأخبار المذكورة. وظاهر المحدث
الكاشاني في رسالة تقويم المحسنين أنها من الشهور الفارسية. والظاهر هو الأول
لعدم التصريح في الأخبار بكونها من الفارسية فالحمل على ذلك خلاف ظاهر ما هو
المعروف من قاعدتهم (عليهم السلام) من بناء خطاباتهم على العربية.
ثم إن المحدث المشار إليه نقل في رسالته المذكورة أنه روي عن أمير المؤمنين
(عليه السلام) أن في السنة أربعة وعشرين يوما نحسات في كل شهر منها يومان:
ففي المحرم الحادي عشر والرابع عشر، وفي صفر الأول منه والعشرون
وفي ربيع الأول العاشر والعشرون، وفي ربيع الثاني الأول والحادي عشر،
وفي جمادى الأولى العاشر والحادي عشر، وفي جمادى الثانية الأول والحادي
عشر، وفي رجب الحادي عشر والثالث عشر، وفي شعبان الرابع والعشرون
وفي شهر رمضان الثالث والعشرون، وفي شوال السادس والثامن، وفي
ذي القعدة السادس والعاشر، وفي ذي الحجة الثامن والعشرون.
ونقل أيضا في الرسالة المذكورة عن الصادق (عليه السلام) أن في السنة اثني
عشر يوما من اجتنبها نجا ومن وقع فيها هوى فاحفظوها، وفي كل شهر منها يوم
ففي المحرم الثاني والعشرون، وفي صفر العاشر، وفي ربيع الأول الرابع، وفي
ربيع الثاني الثامن والعشرون، وفي جمادى الأولى الثامن والعشرون، وفي جمادى
الثانية الثاني عشر، وفي رجب الثاني عشر، وفي شعبان السادس والعشرون،
وفي رمضان الرابع والعشرون، وفي شوال الثاني، وفي ذي القعدة الثامن
والعشرون، وفي ذي الحجة الثامن.
أقول: وقد نظم بعضهم هذه الأيام في بيت بإزاء كل شهر ما يخصه من
العدد فقال:
40

بك حب جاحك كح بي * بي كودك ءاكح هج
وقال أيضا بعضهم في ذلك:
محرم ثاني عشريه اجتنب * واجتنب العاشر من شهر صفر
ومن ربيع رابعا وثامن * عشري أخيه وجمادى في الأثر
ومن جمادى وكذا من رجب * كلاهما فاجتنب الثاني عشر
والسادس العشرين من شعبان مع * رابع عشري رمضان الأغر
وثانيا من شهر شوال ومن * ذي القعدة الثامن والعشرين ذر
وثامنا من شهر ذي الحجة لا * يشكر بالأعمال فيها من شكر
فصل
ويكره السفر والقمر في العقرب لما رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن حمران
عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " من سافر أو تزوج والقمر في
العقرب لم ير الحسنى ".
ورواه الكليني عن محمد بن حمران عن أبيه عنه (عليه السلام) مثله (2)
ورواه البرقي في المحاسن مثله (3).
فصل
ويستحب الوصية عند إرادة السفر لما رواه ثقة الاسلام في الصحيح
عن ابن أبي عمير عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام (4) قال: " من ركب
راحلة فليوص ".

(1) الوسائل الباب 11 من آداب السفر
(2) الوسائل الباب 11 من آداب السفر
(3) الوسائل الباب 11 من آداب السفر
(4) الوسائل الباب 13 من آداب السفر
41

ورواه الشيخ مسندا والصدوق مرسلا (1) إلا أنه قال " من ركب زاملة "
قال الصدوق والشيخ (رحمهما الله تعالى): ليس هذا نهيا عن ركوب
الزاملة بل ترغيب في الوصية لما لم يؤمن من الخطر.
ويستحب الغسل للسفر والدعاء على ما رواه السيد الزاهد العابد رضي الدين
ابن طاووس في كتاب الأمان من أخطار الأسفار والأزمان (2) وهو أن يقول:
بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله والصادقين
عن الله صلوات الله عليهم أجمعين، اللهم طهر به قلبي واشرح به صدري ونور به
قبري، اللهم اجعله لي نورا وطهورا وحرزا وشفاء من كل داء وآفة وعاهة وسوء
ومن ما أخاف واحذر، وطهر قلبي وجوارحي وعظامي ودمي وشعري وبشري ومخي
وعصبي وما أقلت الأرض مني، اللهم اجعله لي شاهدا يوم حاجتي وفقري وفاقتي
إليك يا رب العالمين إنك على كل شئ قدير.
فصل
ويستحب أيضا توديع العيال بأن يصلي ركعتين ويدعو بعدهما:
روى الكليني في الكافي بسنده عن السكوني عن أبي عبد الله عن آبائه
(عليهم السلام) (3) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله ما استخلف رجل على أهله
بخلافة أفضل من ركعتين يركعهما إذا أراد الخروج إلى سفر يقول: اللهم إني
أستودعك نفسي وأهلي ومالي وذريتي ودنياي وآخرتي وأمانتي وخاتمة عملي. إلا
أعطاه الله (عز وجل) ما سأل " ورواه الصدوق (قدس سره) مرسلا (4).

(1) الوسائل الباب 13 من آداب السفر.
(2) ص 20 وفي الوسائل الباب 13 من آداب السفر
(3) الوسائل الباب 18 من آداب السفر
(4) الوسائل الباب 18 من آداب السفر
42

وروى في الكافي أيضا بسنده إلى بريد بن معاوية العجلي (1) قال: " كان
أبو جعفر عليه السلام إذا أراد سفرا جمع عياله في بيت ثم قال: اللهم إني أستودعك
الغداة نفسي ومالي وأهلي وولدي الشاهد منا والغائب اللهم احفظنا واحفظ علينا
اللهم اجعلنا في جوارك اللهم لا تسلبنا نعمتك ولا تغير ما بنا من عافيتك
وفضلك " ورواه البرقي في المحاسن مثله (2).
وروى السيد رضي الدين ابن طاووس في كتاب الأمان (3) عن النبي صلى الله عليه وآله
قال: " ما استخلف العبد في أهله من خليفة إذا هو شد ثياب سفره خيرا من
أربع ركعات يصليهن في بيته، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو الله
أحد، يقول اللهم إني أتقرب إليك بهن فاجعلهن خليفتي في أهلي ومالي " وروى
أيضا (4) أنه يقرأ في الركعتين في الأولى بالحمد وقل هو الله أحد وفي الثانية بعد
الحمد إنا أنزلناه في ليلة القدر.
فصل
ويستحب أمام التوجه الصدقة وفي جملة من الأخبار أنها دافعة لشر الأيام
النحسة التي نهى عن السفر فيها متى اضطر إلى السفر فيها:
كصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج (5) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: تصدق
واخرج أي يوم شئت ".
وصحيحة حماد بن عثمان (6) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام أيكره السفر

(1) الوسائل الباب 18 من آداب السفر
(2) الوسائل الباب 18 من آداب السفر
(3) الوسائل الباب 18 من آداب السفر
(4) الأمان ص 27.
(5) الوسائل الباب 15 من آداب السفر
(6) الوسائل الباب 15 من آداب السفر
43

في شئ من الأيام المكروهة مثل الأربعاء وغيره؟ فقال: افتتح سفرك بالصدقة
وأخرج إذا بدا لك، واقرأ آية الكرسي واحتجم إذا بدا لك ".
وصحيحة ابن أبي عمير (1) قال: " كنت أنظر في النجوم وأعرفها وأعرف
الطالع فيدخلني من ذلك شئ فشكوت ذلك إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام فقال
إذا وقع في نفسك شئ فتصدق على أول مسكين ثم امض فإن الله تعالى يدفع عنك ".
ورواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (2) قال: " كان علي بن الحسين
عليه السلام إذا أراد الخروج إلى بعض أمواله اشترى السلامة من الله (عز وجل) بما
تيسر له ويكون ذلك إذا وضع رجله في الركاب ".
ورواية عبد الله بن سليمان عن أحدهما (عليهما السلام) (3) قال: " كان
أبي إذا خرج يوم الأربعاء من آخر الشهر وفي يوم يكرهه الناس من محاق أو غيره
تصدق بصدقة ثم خرج ".
ويستحب أن يقال عند الصدقة (4): اللهم إني اشتريت بهذه الصدقة سلامتي
وسلامة سفري وما معي اللهم احفظني واحفظ ما معي وسلمني وسلم ما معي
وبلغني وبلغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل.
فصل
ويستحب أن يصحب معه في سفره عصا من اللوز المر:
روى الصدوق (عطر الله مرقده) في الفقيه مرسلا (5) قال: " قال
أمير المؤمنين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من خرج في سفر ومعه عصا

(1) الوسائل الباب 15 من آداب السفر.
(2) الوسائل الباب 15 من آداب السفر.
(3) الوسائل الباب 15 من آداب السفر.
(4) الأمان ص 25
(5) الوسائل الباب 16 من آداب السفر.
44

لوز مر وتلا هذه الآية: ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء
السبيل... إلى قوله والله على ما نقول وكيل (1) آمنه الله تعالى من كل سبع ضار
ومن كل لص عاد ومن كل ذات حمة حتى يرجع إلى أهله ومنزله وكان معه سبعة
وسبعون من المعقبات يستغفرون له حتى يرجع ويضعها ".
قال (2) وقال عليه السلام: من أراد أن تطوى له الأرض فليتخذ النقد من العصا.
والنقد عصا لوز مر.
ورواه في كتاب ثواب الأعمال (3) مسندا وزاد فيه قال: " وقال
رسول الله صلى الله عليه وآله إنه ينفي الفقر ولا يجاوره شيطان " (4).
قال (5) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: مرض آدم عليه السلام مرضا شديدا وأصابته
وحشة فشكى ذلك إلى جبرئيل عليه السلام فقال: اقطع واحدة منه وضمها إلى صدرك
ففعل ذلك فأذهب عنه الوحشة.
بل روى استحباب صحبتها في الحضر أيضا كما يظهر من حديث مرض آدم
عليه السلام وحديث أن صحبتها تنقي الفقر ولا يجاوره شيطان.
ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله (6) على ما رواه في الفقيه: " تعصوا فإنها من سنن
إخواني النبيين وكانت بنو إسرائيل الصغار والكبار يمشون على العصا حتى
لا يختالوا في مشيهم ".

(1) سورة القصص الآية 22 إلى 28.
(2) الوسائل الباب 16 من آداب السفر.
(3) الوسائل الباب 16 من آداب السفر.
(4) هذه الزيادة رواها أيضا في الفقيه ج 2 ص 176 ونقلها في الوسائل
الباب 17 من آداب السفر. إلا أن ظاهرها عدم الاختصاص بالسفر.
(5) الوسائل الباب 16 من آداب السفر.
(6) الوسائل الباب 17 من آداب السفر.
45

فصل
ويستحب التحنك أيضا لما روي عن الكاظم عليه السلام (1) قال: " أنا ضامن
لمن خرج يريد سفرا معتما تحت حنكه ثلاثا: أن لا يصيبه السرق والغرق
والحرق ".
وعن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام (2) أنه قال: " من خرج في
سفر فلم يدر العمامة تحت حنكه فأصابه ألم لا دواء له فلا يلومن إلا نفسه ".
وفي الفقيه (3) قال الصادق عليه السلام: " ضمنت لمن خرج من بيته معتما أن
يرجع إليه سالما ".
وروى الكليني (قدس سره) عن علي بن الحكم رفعه إلى أبي عبد الله
عليه السلام (4) قال: " من خرج من منزله معتما تحت حنكه يريد سفرا لم يصبه في
سفره سرق ولا حرق ولا مكروه ".
وفي خبر آخر عن الرضا عليه السلام (5) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله لو أن
رجلا خرج من منزله يوم السبت معتما بعمامة بيضاء قد حنكها تحت حنكه ثم
أتى إلى جبل ليزيله عن مكانه لأزاله عن مكانه ".
فصل
في ما يفعله المسافر على باب داره إذا توجه إلى السفر:
روى ثقة الاسلام في الكافي بسنده عن صباح الحذاء عن أبي الحسن

(1) الوسائل الباب 59 من آداب السفر
(2) الوسائل الباب 26 من لباس المصلي
(3) الوسائل الباب 26 من لباس المصلي
(4) الوسائل الباب 26 من لباس المصلي
(5) الوسائل الباب 59 من آداب السفر
46

(عليه السلام) (1) قال: " لو كان الرجل منكم إذا أراد سفرا قام على باب داره
تلقاء وجهه الذي يتوجه له فقرأ الحمد أمامه وعن يمينه وعن شماله والمعوذتين أمامه
وعن يمينه وعن شماله، وقل هو الله أحد أمامه وعن يمينه وعن شماله، وآية
الكرسي أمامه وعن يمينه وعن شماله ثم قال: " اللهم احفظني واحفظ ما معي
وسلمني وسلم ما معي وبلغني وبلغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل " لحفظه الله
وحفظ ما معه وبلغه وبلغ ما معه وسلمه وسلم ما معه، أما رأيت الرجل يحفظ
ولا يحفظ ما معه ويسلم ولا يسلم ما معه ويبلغ ولا يبلغ ما معه ".
وروى في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
قال: " إذا خرجت من منزلك فقل: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا
قوة إلا بالله اللهم إني أسألك خير ما خرجت له وأعوذ بك من شر ما خرجت له،
اللهم أوسع علي من فضلك وأتمم علي نعمتك واستعملني في طاعتك واجعل رغبتي
في ما عندك وتوفني على ملتك وملة رسولك صلى الله عليه وآله ".
وروى فيه في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) قال: " إذا خرجت من بيتك تريد الحج والعمرة إن شاء الله تعالى
فادع دعاء الفرج وهو: لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم
سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ورب العرش العظيم والحمد
لله رب العالمين. ثم قل: اللهم كن لي جارا من كل جبار عنيد ومن كل شيطان
رجيم. ثم قل: بسم الله دخلت وبسم الله خرجت وفي سبيل الله، اللهم إني أقدم
بين يدي نسياني وعجلتي بسم الله وما شاء الله في سفري هذا ذكرته أو نسيته،
اللهم أنت المستعان على الأمور كلها وأنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل،

(1) الوسائل الباب 19 من آداب السفر.
(2) الوسائل الباب 19 من آداب السفر.
(3) الوسائل الباب 19 من آداب السفر.
47

اللهم هون علينا سفرنا واطو لنا الأرض وسيرنا فيها بطاعتك وطاعة رسولك صلى الله عليه وآله
اللهم أصلح لنا ظهرنا وبارك لنا في ما رزقتنا وقنا عذاب النار، اللهم إني أعوذ
بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال والولد، اللهم
أنت عضدي وناصري بك أحل وبك أسير، اللهم إني أسألك في سفري هذا
السرور والعمل لما يرضيك عني، اللهم اقطع عني بعده ومشقته واصحبني فيه
واخلفني في أهلي بخير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اللهم إني عبدك
وهذا حملانك والوجه وجهك والسفر إليك وقد اطلعت على ما لم يطلع عليه أحد
غيرك فاجعل سفري هذا كفارة لما قبله من ذنوبي وكن عونا لي عليه واكفني
وعثه ومشقته ولقني من القول والعمل رضاك فإنما أنا عبدك وبك ولك... الحديث "
وروى الصدوق بإسناده عن علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا (عليه
السلام) (1) قال قال لي " إذا خرجت من منزلك في سفر أو حضر فقل " بسم
الله آمنت بالله توكلت على الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله " (2) فتلقاه
الشياطين فتضرب الملائكة وجوهها وتقول ما سبيلكم عليه وقد سمى الله وآمن
به وتوكل على الله وقال: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ".
وروى أيضا بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) قال:
" من قال حين يخرج من باب داره - أعوذ بالله من ما عاذت منه ملائكة الله من
شر هذا اليوم ومن شر الشياطين ومن شر نصب من لأولياء الله ومن شر الجن والإنس

(1) الوسائل الباب 19 من آداب السفر
(2) قال في الوافي بعد نقل الخبر في باب (القول عند الخروج) من كتاب
الحج والعمرة: فتلقاه أي تلقى من قال هذا القول. وفي الكلام التفات أو حذف
وتقدير فإن من قال ذلك تلقاه. انتهى.
(3) الوسائل الباب 19 من آداب السفر
48

ومن شر السباع والهوام ومن شر ركوب المحارم كلها، أجير نفسي بالله من كل
شر - غفر الله له وتاب عليه وكفاه المهم وحجزه عن السوء وعصمه من الشر ".
فصل
في ما يقوله عند الركوب
روى ثقة الاسلام في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) في حديث قال: " فإذا جعلت رجلك في الركاب
فقل: بسم الله الرحمان الرحيم بسم الله والله أكبر. فإذا استويت على راحلتك
واستوى بك محملك فقل: الحمد لله الذي هدانا للاسلام وعلمنا القرآن ومن علينا
بمحمد صلى الله عليه وآله سبحان الله " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى
ربنا لمنقلبون " (2) والحمد لله رب العالمين اللهم أنت الحامل على الظهر والمستعان
على الأمر، اللهم بلغنا بلاغا يبلغ إلى خير بلاغا يبلغ إلى رضوانك ومغفرتك،
اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا حافظ غيرك ".
وروى فيه عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السلام (3) قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا ركب الرجل الدابة فسمى ردفه ملك يحفظه حتى
ينزل، وإن ركب ولم يسم ردفه شيطان فيقول له تغن فإن قال لا أحسن قال له تمن
فلا يتمنى حتى ينزل. وقال: من قال إذا ركب الدابة -: بسم الله لا حول ولا
قوة إلا بالله " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا

(1) الوسائل الباب 20 من آداب السفر. وهو تتمة الحديث
(2) الزخرف الآية 13 و 14
(3) الوسائل الباب 20 من آداب السفر.
49

الله... الآية " (1) سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (2) - حفظت
له نفسه ودابته حتى ينزل ".
وروى الصدوق (رحمه الله تعالى) في الفقيه بإسناده عن الأصبغ بن نباتة (3)
قال: " أمسكت لأمير المؤمنين عليه السلام الركاب وهو يريد أن يركب فرفع رأسه ثم
تبسم فقلت: يا أمير المؤمنين عليه السلام رأيتك رفعت رأسك وتبسمت؟ فقال: نعم
يا أصبغ أمسكت لرسول الله صلى الله عليه وآله كما أمسكت لي فرفع رأسه وتبسم فسألته كما
سألتني وسأخبرك كما أخبرني: أمسكت لرسول الله صلى الله عليه وآله الشهباء فرفع رأسه
إلى السماء وتبسم فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله رفعت رأسك إلى السماء وتبسمت؟
فقال: يا علي عليه السلام إنه ليس من أحد يركب الدابة فيذكر ما أنعم الله به عليه ثم
يقرأ آية السخرة (4) ثم يقول: " أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم
وأتوب إليه، اللهم اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " إلا قال السيد
الكريم يا ملائكتي عبدي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري اشهدوا أني قد غفرت
له ذنوبه ".
وقال الصدوق (قدس سره) (5): وكان الصادق عليه السلام إذا وضع رجله في
الركاب يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (6) ويسبح الله
(سبعا) ويحمد الله (سبعا) ويهلل الله (سبعا).
وروى الشيخ أبو علي في كتاب المجالس بسنده عن علي بن ربيعة الأسدي (7)
قال: " ركب علي بن أبي طالب عليه السلام فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم

(1) سورة الأعراف الآية 43.
(2) سورة الزخرف الآية 13.
(3) الوسائل الباب 20 من آداب السفر.
(4) سورة الزخرف الآية 13.
(5) الوسائل الباب 20 من آداب السفر.
(6) سورة الزخرف الآية 13.
(7) الوسائل الباب 20 من آداب السفر.
50

الله. فلما استوى على الدابة قال: الحمد لله الذي أكرمنا وحملنا في البر والبحر
ورزقنا من الطيبات وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا " سبحان الذي سخر لنا
هذا وما كنا له مقرنين " (1) ثم سبح الله تعالى (ثلاثا) وحمد الله تعالى (ثلاثا)
ثم قال: رب اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم قال: كذا فعل رسول الله
صلى الله عليه وآله وأنا رديفه ".
وروى الطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق عن زين العابدين عليه السلام (2)
قال: " لو حج رجل ماشيا وقرأ " إنا أنزلناه " ما وجد ألم المشي. وقال: ما قرأ
أحد " إنا أنزلناه " حين يركب دابته إلا نزل منها سالما مغفورا له، ولقارؤها
أثقل على الدواب من الحديد " قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: " لو كان شئ يسبق
القدر لقلت قارئ " إنا أنزلناه " حين يسافر أو يخرج من منزله سيرجع ".
فصل
في ما يستحب صحبته من الزاد في السفر ولا سيما سفر الحج:
روى الصدوق (عطر الله مرقده) مرسلا (3) قال: " قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: من شرف الرجل أن يطيب زاده إذا خرج في سفر ".
ورواه في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه (عليهم
السلام) عنه صلى الله عليه وآله مثله (4).
وروى في الفقيه (5) قال: " قال الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

(1) سورة الزخرف الآية 13
(2) الوسائل الباب 24 من آداب السفر
(3) الوسائل الباب 42 من آداب السفر
(4) الوسائل الباب 42 من آداب السفر
(5) الوسائل الباب 40 من آداب السفر
51

إذا سافرتم فاتخذوا سفرة وتنوقوا فيها ".
أقول: السفرة لغة: طعام المسافر كما ذكره في القاموس، ومنه سميت
السفرة، والمراد بالتنوق المبالغة في تجويده وحسنه.
وروى في الفقيه (1) قال: " كان علي بن الحسين عليه السلام إذا سافر إلى مكة
إلى الحج أو العمرة تزود من أطيب الزاد من اللوز والسكر والسويق المحمص
والمحلى " والمحمص يعني المشوي على النار، والمحلى الذي يجعل فيه الحلو.
وروى الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله
عليه السلام (2) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما من نفقة أحب إلى الله (عز وجل) من
نفقة قصد، ويبغض الاسراف إلا في حج أو عمرة " ورواه في كتاب
المحاسن مثله (3).
قال بعض المحدثين: لعل المراد بالاسراف الزيادة في التوسع لا ما يوجب اتلافا
وروى مرسلا (4) قال: " قال الصادق عليه السلام في حديث: أن من المروة
في السفر كثرة الزاد وطيبه وبذله لمن كان معك ".
نعم روى كراهة ذلك في سفر زيارة الحسين عليه السلام:
فروى في الفقيه (5) قال: " قال الصادق عليه السلام لبعض أصحابه: تأتون قبر
أبي عبد الله عليه السلام؟ فقال له نعم. قال تتخذون لذلك سفرة؟ قال نعم. قال أما لو أتيتم
قبور آبائكم وأمهاتكم لم تفعلوا ذلك. قال قلت فأي شئ نأكل؟ قال الخبز باللبن "
قال (6) وفي خبر آخر: " قال الصادق عليه السلام: بلغني أن قوما إذا زاروا

(1) الوسائل الباب 42 من آداب السفر
(2) الوسائل الباب 35 من آداب السفر
(3) الوسائل الباب 35 من آداب السفر
(4) الوسائل الباب 42 من آداب السفر
(5) ج 2 ص 184 وفي الوسائل الباب 77 من المزار.
(6) الوسائل الباب 41 من آداب السفر
52

الحسين عليه السلام حملوا معهم السفرة فيها الجداء والأخبصة وأشباهه، لو زاروا قبور
أحبائهم ما حملوا معهم هذا ".
أقول: الجداء جمع جدي وهو الذكر من أولاد المعز إذا بلغ ستة أشهر.
أقول: لا يبعد أن يقال إن الظاهر أن خطابهم (عليهم السلام) في هذه الأخبار إنما هو لأهل العراق، وحينئذ فيكون الحكم مختصا بمن كان مثل أهل
الحلة وبغداد والمشهد ونحوها من البلدان القريبة فإنه يكره لهم التنوق في الزاد
وحمل الأخبصة واتخاذ اللحوم ونحو ذلك وأنهم يقتصرون على الخبز واللبن،
وأما أصحاب البلدان البعيدة من أصفهان وخراسان وما بينهما ونحوهما فيشكل
ذلك، ولم أسمع عن أحد من علمائنا من أصحاب هذه البلدان أنه كره ذلك
واستعمل الخبز واللبن خاصة، والظاهر هو بقاء حكمهم على حكم السفر المطلق
سيما إن قصد سفرهم ليس لخصوص زيارة الحسين عليه السلام التي هي مورد هذه الأخبار بل لقصد زيارة أئمة العراق (عليهم السلام) كملا، فالظاهر أن الخطاب
في هذه الأخبار لا يتوجه إليهم.
فصل
ويستحب اتخاذ الرفقة في السفر وتكره الوحدة:
روى ثقة الاسلام في الكافي والصدوق في الفقيه مسندا في الأول مرسلا
في الثاني عن السكوني عن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) (1) قال: " قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: الرفيق ثم الطريق ".

(1) الوسائل الباب 30 من آداب السفر. واللفظ: " الرفيق ثم السفر " كما
في الخطية. وما في المتن يوافق رواية المحاسن كما في الوسائل في نفس الباب.
53

وروى في الفقيه عن السندي بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا أنبئكم بشر الناس؟ قالوا بلى يا رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: من سافر وحده ومنع رفده وضرب عبده ".
وروى الشيخان المتقدمان في كتابيهما مسندا في الكافي مرسلا في الفقيه
عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده (عليهم السلام) في وصية
رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام (2): " لا تخرج في سفر وحدك فإن الشيطان مع
الواحد وهو من الاثنين أبعد، يا علي إن الرجل إذا سافر وحده فهو غاو والاثنان
غاويان والثلاثة نفر " وروى بعضهم: " سفر ".
وروى في الفقيه عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسى عليه السلام (3)
قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثة: الآكل زاده وحده والنائم في بيت
وحده والراكب في الفلاة وحده ".
وروى فيه عن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه السلام (4) قال: " البائت في
البيت وحده شيطان والاثنان لمة والثلاثة أنس " قيل: اللمة بالضم والتشديد
الصاحب أو الأصحاب في السفر، قال في النهاية: ومنه الحديث: " لا تسافروا
حتى تصيبوا لمة " أي رفقة.
وروى الشيخان المتقدمان في كتابيهما (5) عن إسماعيل بن جابر قال:

(1) الوسائل الباب 30 من آداب السفر
(2) الروضة ص 303 والفقيه ج 2 ص 181 وفي الوسائل الباب 30
من آداب السفر.
(3) الوسائل الباب 30 من آداب السفر
(4) الوسائل الباب 20 من أحكام المساكن.
(5) الروضة 302 والفقيه ج 2 ص 182، وفي الوسائل الباب 30
من آداب السفر.
54

" كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بمكة إذ جاءه رجل من المدينة فقال له: من صحبت؟
فقال: ما صحبت أحدا. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: أما لو كنت تقدمت إليك لأحسنت
أدبك. ثم قال: واحد شيطان واثنان شيطانان وثلاثة صحب وأربعة رفقاء ".
قيل: يعني أن الانفراد والذهاب في الأرض على سبيل الوحدة فعل الشيطان
أو شئ يحمله عليه الشيطان، وكذلك الاثنان.
وروى في الفقيه (1) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أحب الصحابة إلى
الله (عز وجل) أربعة، وما زاد قوم على سبعة إلا كثر لغطهم " قيل: اللغط
بالغين المعجمة والطاء المهملة محركة: أصوات مبهمة لا تفهم.
أقول: والظاهر أن المراد من الخبر إنما هو اللغو الذي لا يترتب عليه
فائدة، وهو قريب من المعنى الأصلي باعتبار عدم ترتب الفائدة عليه.
وروى في الفقيه (2) عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن موسى بن
جعفر عليه السلام قال: " من خرج وحده في سفر فليقل: ما شاء الله لا حول ولا
قوة إلا بالله اللهم آنس وحشتي وأعني على وحدتي وأد غيبتي ".
فصل
ويستحب توديع المسافر وتشييعه وإعانته:
قال في الفقيه (3): " كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا ودع المؤمنين قال: زودكم
الله التقوى ووجهكم إلى كل خير وقضى لكم كل حاجة وسلم لكم دينكم ودنياكم

(1) الوسائل الباب 34 من آداب السفر.
(2) ج 2 ص 181 وفي الوسائل الباب 25 من آداب السفر
(3) الوسائل الباب 29 من آداب السفر
55

وردكم سالمين إلى سالمين ".
قال (1) وفي خبر آخر عن أبي جعفر عليه السلام قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله
إذا ودع مسافرا أخذ بيده ثم قال: أحسن الله لك الصحابة وأكمل لك المعونة وسهل
لك الحزونة وقرب لك البعيد وكفاك المهم وحفظ لك دينك وأمانتك وخواتيم
عملك ووجهك لكل خير، عليك بتقوى الله، استودع الله نفسك، سر علي
بركة الله عز وجل ".
وقال في الفقيه (2): لما شيع أمير المؤمنين عليه السلام أبا ذر (رحمة الله عليه)
وشيعه الحسن والحسين (عليهما السلام) وعقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر
وعمار بن ياسر قال أمير المؤمنين عليه السلام: ودعوا أخاكم فإنه لا بد للشاخص أن يمضي
وللمشيع من أن يرجع. فتكلم كل رجل منهم على حياله... الحديث.
وروى في الفقيه (3) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أعان مؤمنا
مسافرا نفس الله عنه ثلاثا وسبعين كربة، وأجاره في الدنيا والآخرة من الغم
والهم، ونفس عنه كربه العظيم يوم يغص الناس بأنفاسهم ".
وروى في الفقيه (4) قال: " قال الباقر عليه السلام: من خلف حاجا في أهله
بخير كان له كأجره حتى كأنه يستلم الأحجار ".

(1) الوسائل الباب 29 من آداب السفر
(2) ج 2 ص 180 وفي الوسائل الباب 28 من آداب السفر
(3) ج 2 ص 192 وفي الوسائل الباب 46 من آداب السفر.
(4) ج 2 ص 146 و 147 في ذيل الحديث 96، وفي الوافي باب توديع
المسافر وإعانته من كتاب الحج.
56

فصل
في ما ينبغي للمسافر حال سفره من الأخلاق
روى ثقة الاسلام في الكافي والصدوق في الفقيه عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " كان أبي يقول: ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا
لم يكن فيه ثلاث خصال: خلق يخالق به من صحبه، وحلم يملك به غضبه،
وورع يحجزه عن محارم الله عز وجل ".
وروى في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (2)
قال: " ما يعبأ من يسلك هذا الطريق إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورع
يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الصحابة لمن صحبه ".
وروى في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار (3) قال: " قال أبو عبد الله
عليه السلام: وطن نفسك على حسن الصحابة لمن صحبت في حسن خلقك، وكف
لسانك واكظم غيظك وأقل لغوك وتفرش عفوك وتسخر نفسك ".
وروى الشيخان المتقدمان بسنديهما عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله
عليه السلام (4) قال: " قال لقمان لابنه: يا بني إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم
في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسم في وجوههم، وكن كريما على زادك بينهم
وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعنهم. واستعمل طول الصمت وكثرة
الصلاة وسخاء النفس بما معك من دابة أو ماء أو زاد. وإذا استشهدوك على

(1) الوسائل الباب 2 من أحكام العشرة.
(2) الوسائل الباب 2 من أحكام العشرة.
(3) الوسائل الباب 2 من أحكام العشرة.
(4) الروضة ص 348 والفقيه ج 2 ص 194، وفي الوسائل الباب 52
من آداب السفر.
57

الحق فاشهد لهم. واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر
ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل
فكرتك وحكمتك في مشورتك، فإن من لم يمحض النصيحة لمن استشاره سلبه الله
رأيه ونزع عنه الأمانة. وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، وإذا
رأيتهم يعملون فاعمل معهم، وإذا تصدقوا وأعطوا قرضا فاعط معهم. واسمع لمن
هو أكبر منك سنا. وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئا فقل " نعم " ولا تقل
" لا " فإن " لا " عي ولؤم. وإذا تحيرتم في الطريق فانزلوا، وإذا شككتم
في القصد فقفوا وتآمروا. وإذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم ولا
تسترشدوه، فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون
هو الشيطان الذي حيركم، واحذروا الشخصين أيضا إلا أن تروا ما لا أرى، فإن
العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحق منه، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب. يا بني
إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشئ صلها واسترح منها فإنها دين. وصل في
جماعة ولو على رأس زج. ولا تنامن على دابتك فإن ذلك سريع في دبرها، وليس
ذلك من فعل الحكماء، إلا أن تكون في محمل يمكنك التمدد لاسترخاء المفاصل.
وإذا قربت من المنزل فأنزل عن دابتك وابدأ بعلفها قبل نفسك فإنها نفسك. وإذا
أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لونا وألينها تربة وأكثرها عشبا،
فإذا نزلت فصل ركعتين قبل أن تجلس. وإذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في
الأرض. وإذا ارتحلت فصل ركعتين ثم ودع الأرض التي حللت بها وسلم عليها
وعلى أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة. وإن استطعت أن لا تأمل طعاما حتى
تبدأ فتصدق منه فافعل. وعليك بقراءة كتاب الله (عز وجل) ما دمت راكبا،
وعليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا، وعليك بالدعاء ما دمت خاليا. وإياك
والسير من أول الليل وسر في آخره. وإياك ورفع الصوت في مسيرك ".
58

أقول: وما يتعلق بالسفر من الأحكام كثير من أراد الزيادة على
ما ذكرناه فليطلبه من مظانه وفي ما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى.
المقدمة الثالثة في الشرائط
وحيث كان الحج من ما ينقسم باعتبار من يقع منه - إلى حجة الاسلام
وما يجب بالنذر وشبهه وما يقع على جهة النيابة، ولكل منها شرائط وأحكام -
فالكلام في هذه المقدمة يقع في مقاصد ثلاثة:
المقصد الأول في حج الاسلام
وشرائط وجوبه - على ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) - خمسة:
الأول - كمال العقل فلا يجب على الصبي ولا على المجنون وهو قول كافة
العلماء، ويدل عليه حديث: " رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون
حتى يفيق " (1).
ولو حجا أو حج عنهما لم يجزئهما بعد الكمال، وهو من ما لا خلاف
فيه أيضا كما نقله العلامة في المنتهى.
ويدل عليه أخبار كثيرة: منها - ما رواه الصدوق في الصحيح عن
صفوان عن إسحاق بن عمار (2) قال: " سألت أبا الحسن عليه السلام عن ابن عشر
سنين يحج؟ قال: عليه حجة الاسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها
الحج إذا طمثت ".
وما رواه الكليني والشيخ عنه عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله

(1) الوسائل الباب 4 من مقدمة العبادات، وسنن البيهقي ج 8 ص 264.
(2) الوسائل الباب 12 من وجوب الحج وشرائطه.
59

عليه السلام (1) قال: " ولو أن غلاما حج عشر حجج ثم احتلم كانت عليه فريضة الاسلام ".
وما رواه في الكافي والفقيه عن شهاب (2) قال: " سألته عن ابن عشر
سنين يحج؟ قال: عليه حجة الاسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها الحج
إذا طمثت ".
بقي الكلام هنا في مسائل:
الأولى - لو دخل الصبي أو المجنون في الحج تطوعا ثم كمل في أثناء الحج
فإن كان في أثناء الوقوف بالمشعر (3) أتم تطوعا ولم يجزئه عن حجة الاسلام
قولا واحدا كما نقله في التذكرة.
قالوا: لأن الأصل عدم اجزاء المندوب عن الواجب. وفيه ما فيه. بل
لعدم الدليل على ذلك، والأصل بقاؤه تحت عهدة التكليف متى حصلت الاستطاعة
حتى يقوم الدليل على الاسقاط.
وإن كان قبل الوقوف بالمشعر فالمشهور أنه يدرك الحج بذلك ويجزئه
عن حجة الاسلام، ذكره الشيخ وأكثر الأصحاب، ونقل فيه العلامة في
التذكرة الاجماع.
واستدل عليه بالروايات الآتية في العبد الدالة على اجزاء حجه إذا أدرك
المشعر معتقا (4).
واستدل عليه أيضا في المنتهى - بعد التردد - بأنه زمان يصح انشاء الحج فيه

(1) الوسائل الباب 13 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 12 من وجوب الحج وشرائطه. ولم نجده في الفقيه
(3) في النسخة الخطية هكذا: " فإن كان بعد الوقوف بالمشعر أتم
تطوعا... "
(4) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج وشرائطه.
60

فكان مجزئا أن يجدد فيه نية الوجوب.
وأورد على الأول أنه قياس مع الفارق. وعلى الثاني بأن جواز انشاء الحج
في ذلك الزمان على بعض الوجوه بنص خاص لا يقتضي إلحاق غيره به، خصوصا
مع مصادمته بمقتضى الأصل من عدم اجزاء المندوب عن الواجب.
ولعله لذلك تردد المحقق في المعتبر والشرائع في الحكم المذكور، وهو
في محله.
وبالجملة فإني لم أقف لهم على دليل في المسألة إلا ما يدعى من الاجماع،
وعليه أعتمد شيخنا الشهيد الثاني في المسالك فقال - بعد أن نقل عن التذكرة
دعوى الاجماع وعن المنتهى أنه توقف وعن التحرير أنه تنظر في ذلك -
ما صورته: والمعتمد الاجزاء تعويلا على الاجماع المنقول وعدم العلم بالمخالف
على وجه يقدح فيه. انتهى. وفيه أنه قد طعن في مسالكه في هذا الاجماع
في غير موضع كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وحينئذ فالظاهر هو عدم الاجزاء
ثم إنه على تقدير القول بالاجزاء فههنا فروع:
الأول (1) - أنه قد ذكر الشهيد في الدروس أنهما يجددان نية الوجوب.
وهل المراد به أنه ينوي بباقي الأفعال الوجوب حينئذ لوجود المقتضي له،
أو للوقوف الذي حصل الكمال في أثنائه، أو يكون المراد به تجديد نية
الاحرام على وجه الوجوب لأنه مستمر إلى أن يأتي بالمحلل فتكون النية في أثنائه
واجبة لما بقي منه؟ احتمالات أظهرها الأول. إلا أن الأمر عندنا في النية سهل
كما قدمنا بيانه في غير موضع.
الثاني - هل يعتبر على تقدير القول المذكور كون الصبي والمجنون مستطيعين

(1) أوردنا عدد الفروع بالحروف تبعا للنسخة الخطية.
61

قبل ذلك من حيث الزاد والراحلة؟ قيل: نعم، وبه قطع الشهيدان، لأن البلوغ
والعقل أحد الشرائط الموجبة كما أن الاستطاعة كذلك فوجود أحدهما دون
الآخر غير كاف في الوجوب. وقيل: لا، وهو ظاهر المشهور كما نقله في المدارك
حيث لم يتعرضوا لاشتراط ذلك، تمسكا بالاطلاق. وهو الأظهر لما سيأتي إن
شاء الله تعالى تحقيقه في معنى الاستطاعة، وأنها عبارة عن ماذا؟ ويعضده
أيضا النصوص الصحيحة المتضمنة للاجزاء في العبد إذا أدرك المشعر معتقا (1)
مع تعذر الاستطاعة السابقة في حقه ولا سيما عند من قال بإحالة ملكه.
الثالث - أنه على تقدير القول باعتبار الاستطاعة كما ذهب إليه الشهيدان
فظاهرهما اشتراط حصول الاستطاعة في البلد، وظاهر السيد السند (قدس
سره) في كتاب المدارك بناء على القول المذكور الاكتفاء بحصولها في الميقات
قال: بل لا يبعد الاكتفاء بحصولها من حين التكليف. وهو جيد لو قيل بذلك.
الرابع - أنه على تقدير القول بالاجزاء فهل يفرق في الحكم المذكور بين
حج التمتع وبين الحجين الآخرين؟ حيث إن عمرة هذين الحجين متأخرة فتقع
بعد ذلك بنية الوجوب، أما في التمتع فيقوى الاشكال كما ذكره في المسالك:
قال: لوقوع جميع عمرته مندوبة مضافة إلى بعض أفعال الحج أيضا
فيبعد إجزاؤها عن الواجب مع عدم النص عليه... إلى أن قال: والفتوى
مطلقة وكذلك الاجماع المنقول، فينبغي استصحابهما في الجميع. ومال إليه في
الدروس حيث قال: ويعتد بالعمرة المتقدمة لو كان الحج تمتعا في ظاهر الفتوى.
وقوى شارح ترددات الكتاب العدم. انتهى.
وإلى ما نقله هنا عن شارح ترددات الكتاب - من القول بالاختصاص

(1) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج وشرائطه
62

بالقارن والمفرد - مال السيد السند في المدارك استبعادا لاجزاء العمرة الواقعة
بتمامها على وجه الندب عن الواجب، قال: ولا بأس به قصرا لما خالف الأصل
على موضع الوفاق إن تم وإلا اتجه عدم الاجزاء مطلقا. انتهى.
أقول: لا ريب أنه على ما اخترناه من عدم الاجزاء لعدم الدليل على
ذلك فلا أثر لهذه الاحتمالات ولا ورود لهذه الاشكالات، وأما على القول
المذكور فالحكم محل اشكال، لعدم النص، وعدم صحة بناء الأحكام على هذه
التعليلات الني يتعاطونها في كلامهم ويتداولونها على رؤوس أقلامهم.
الثانية (1) - الصبي إذا كان مميزا صح احرامه إذا كان بإذن وليه
وإلا أحرم به الولي، وكذا المجنون، بمعنى جعلهما محرمين سواء كان هو
محلا أو محرما.
ومن الأخبار في ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن زرارة
عن أحدهما (عليهما السلام) (2) قال: " إذا حج الرجل بابنه وهو صغير فإنه
يأمره أن يلبي ويفرض الحج، فإن لم يحسن أن يلبي لبوا عنه، ويطاف به
ويصلي عنه. قلت: ليس لهم ما يذبحون؟ قال: يذبح عن الصغار ويصوم الكبار.
ويتقي عليهم ما يتقي على المحرم من الثياب والطيب. فإن قتل صيدا فعلى أبيه ".
وما رواه الشيخ عن معاوية بن عمار في الصحيح (3) قال: " سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: قدموا من كان معكم من الصبيان إلى الجحفة أو إلى
بطن مر ثم يصنع بهم ما يصنع بالمحرم، يطاف بهم ويسعى بهم ويرمي عنهم. ومن

(1) هذه هي المسألة الثانية، وقد أوردنا العبارة هنا على طبق النسخة الخطية
(2) الوسائل الباب 17 من أقسام الحج
(3) التهذيب ج 5 ص 409 وفي الوسائل الباب 17 من أقسام الحج.
63

لم يجد منهم هديا فليصم عنه وليه ".
وفي الصحيح عن عبد الرحمان بن الحجاج (1) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام - وكنا تلك السنة مجاورين وأردنا الاحرام يوم التروية - فقلت: إن معنا
مولودا صبيا؟ فقال: مروا أمه فلتلق حميدة فلتسألها كيف تفعل بصبيانها؟ قال
فاتتها فسألتها فقالت لها: إذا كان يوم التروية فجردوه وغسلوه كما يجرد المحرم
ثم أحرموا عنه ثم قفوا به في المواقف، فإذا كان يوم النحر فارموا عنه واحلقوا
رأسه ثم زوروا به البيت ثم مروا الخادم أن يطوف به البيت وبين الصفا والمروة "
وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال: " انظروا من
كان معكم من الصبيان... الحديث الأول إلى قوله: فليصم عنه وليه، وزاد:
وكان علي بن الحسين عليه السلام يضع السكين في يد الصبي ثم يقبض على يده الرجل
فيذبح ".
ويستفاد من هذه الأخبار أن الولي يأمر الصبي بالتلبية ونحوها من
الأفعال كالطواف والرمي والذبح ونحو ذلك، فإن لم يحسن ناب عنه الولي أو
من يأمره، ويلبسه ثوبي الاحرام ويجنبه ما يجب اجتنابه على المحرم. والجميع
من ما لا خلاف فيه. وأما الصلاة فإنه يصلي عنه كما تضمنته صحيحة زرارة، واحتمل
في الدروس أمره بالاتيان بصورة الصلاة أيضا كالطواف. وهو ضعيف وإن نفى
عنه البأس السيد في المدارك. وإذا طاف به فالأحوط أن يكونا متطهرين، واكتفى
الشهيد في الدروس بطهارة الولي.

(1) التهذيب ج 5 ص 410 وفي الوسائل الباب 17 من أقسام الحج
(2) هذه الصحيحة مع الزيادة هي رواية الكافي والفقيه والمتقدمة هي رواية
التهذيب، وقد أورد الزيادة في الوسائل عن الفقيه في الباب 17 من أقسام
الحج برقم 4 وعن الكافي في الباب 36 من الذبح برقم 2.
64

وهذه الروايات ونحوها وإن اختصت بالصبيان إلا أن الأصحاب (رضوان
الله عليهم) لم يفرقوا في هذه الأحكام بين الصبي والصبية. وهو جيد، فإن أكثر
الأحكام في جميع أبواب الفقه إنما خرجت في الرجال مع أنه لا خلاف في اجرائها
في النساء ولا اشكال.
وألحق الأصحاب المجنون، واستدل عليه في المنتهى بأنه ليس أخفض
حالا من الصبي. وهو ضعيف فإنه لا يخرج عن القياس، مع أنه قياس مع
الفارق.
فائدة
اختلف الأصحاب في توقف الحج المندوب من الولد البالغ على إذن الأب
أو الأبوين وعدمه، فنقل عن الشيخ أنه أطلق عدم استئذانهما وهو ظاهر اختيار
الشهيد في الدروس، واعتبر العلامة في القواعد إذن الأب خاصة، وقوى شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك توقفه على إذنهما، وفصل في الروضة فقال: إن عدم
اعتبار إذنهما حسن إذا لم يكن الحج مستلزما للسفر المشتمل على الخطر وإلا
فالاشتراط أحسن.
ومال في المدارك - بعد اعترافه بعدم الوقوف على نص في خصوص هذه
المسألة - إلى القول الأول فقال: ومقتضى الأصل عدم الاشتراط والواجب المصير
إليه إلى أن يثبت المخرج عنه. انتهى.
وقال في الذخيرة بعد نقل هذه الأقوال: ولا أعلم في هذه المسألة نصا
متعلقا بها على الخصوص فالاشكال فيها ثابت. انتهى.
65

أقول: روى الصدوق (طاب ثراه) في كتاب العلل (1) عن أبيه عن أحمد بن إدريس عن محمد بن أحمد عن أحمد بن هلال عن مروك بن عبيد عن
نشيط بن صالح عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: من فقه الضيف أن لا يصوم تطوعا إلا بإذن صاحبه. ومن طاعة
المرأة لزوجها أن لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها. ومن صلاح العبد وطاعته
ونصحه لمولاه أن لا يصوم تطوعا إلا بإذن مولاه وأمره. ومن بر الولد أن لا يصوم
تطوعا ولا يحج تطوعا ولا يصلي تطوعا إلا بإذن أبويه وأمرهما. وإلا كان الضيف
جاهلا، وكانت المرأة عاصية، وكان العبد فاسقا عاصيا، وكان الولد عاقا قاطعا
للرحم " وهي - كما ترى - صريحة الدلالة على توقف الحج على إذن الأبوين معا.
إلا أن شيخنا الصدوق بعد نقلها قال في الكتاب المذكور ما صورته:
قال محمد بن علي مؤلف هذا الكتاب: جاء هذا الخبر هكذا، لكن ليس للوالدين
على الولد طاعة في ترك الحج تطوعا كان أو فريضة، ولا في ترك الصلاة، ولا في
ترك الصوم تطوعا كان أو فريضة، ولا في شئ من ترك الطاعات. انتهى.
وهذا الخبر قد رواه الصدوق في الفقيه (2) والكليني في الكافي (3) في
كتاب الصوم خاليا من ذكر الحج والصلاة كما قدمناه في كتاب الصوم.
وشيخنا الصدوق قد رد الخبر - كما ترى - ولم ينقل له معارضا، مع أن
ما تضمنه مؤيد بجملة من الأخبار الدالة على وجوب طاعتهما على الولد وإن كان
في الخروج من أهله وماله:

(1) ص 385 الطبع الحديث، وفي الوسائل الباب 10 من الصوم المحرم
والمكروه. وبين ألفاظ الحديث في المتن وفي العلل بعض الفروق البسيطة.
(2) ج 2 ص 99، وفي الوسائل الباب 10 من الصوم المحرم والمكروه.
(3) ج 4 ص 151، وفي الوسائل الباب 10 من الصوم المحرم والمكروه
66

روى في الكافي بسنده فيه عن محمد بن مروان (1) قال: " سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله
أوصني. فقال: لا تشرك بالله شيئا وإن حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن
بالايمان. ووالديك فاطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج
من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الايمان ".
وروى فيه (2) أيضا بسنده عن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " أتى
رجل رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إني راغب في الجهاد ونشيط؟
فقال له النبي صلى الله عليه وآله: فجاهد في سبيل الله، فإنك إن تقتل تكن حيا عند الله
ترزق، وإن تمت فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت رجعت من الذنوب كما
ولدت. فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان
بي ويكرهان خروجي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فقر مع والديك فوالذي نفسي
بيده لأنسهما بك يوما وليلة خير من جهاد سنة ".
وروى فيه أيضا عن جابر (3) قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وآله رجل فقال:
أنا رجل شاب نشيط وأحب الجهاد ولي والدة تكره ذلك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله:
ارجع فكن مع والدتك فوالذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهادك في
سبيل الله سنة ".
وفي حديث (4) في معنى قوله (عز وجل): وقل لهما قولا كريما (5)

(1) الوسائل الباب 92 من أحكام الأولاد
(2) ج 2 ص 160 الطبع الحديث، وفي الوسائل الباب 2 من جهاد العدو.
(3) الوسائل الباب 2 من جهاد العدو
(4) الوسائل الباب 92 من أحكام الأولاد. وهو حديث أبي ولاد الحناط
(5) سورة بني إسرائيل الآية 23.
67

قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما. فذلك منك قول كريم. قال: " واخفض
لهما جناح الذل من الرحمة " (1)؟ قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة
ورقة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدم قدامهما.
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على مزيد الحث على برهما والانقياد لأمرهما
وهي - كما ترى - ظاهرة في تأييد الخبر المذكور فالخروج عنه وترك العمل
به من غير معارض مشكل.
الثالثة - قد صرح جمع من الأصحاب بأن الولي هنا من له ولاية المال
كالأب والجد للأب والوصي.
والأولان من ما ادعى في التذكرة عليهما الاجماع فقال: إنه قول علمائنا أجمع.
قال (2) وأما ولاية الوصي فمقطوع به في كلام الأصحاب، واستدل عليه
بأن له ولاية المال على الطفل فكان له ولاية الإذن في الحج. قال في المدارك: وهو
حسن، وفي النصوص باطلاقها دلالة عليه.
أقول: وعندي فيه توقف إذ المتبادر من الولي في هذا المقام إنما هو
الأب والجد له، ومجرد كون الوصي له ولاية المال لا يلزم انسحابه في ولاية
البدن، لأن الحج يستلزم التصرف في المال والبدن.
وربما يظهر من كلامهم ثبوت الولاية في هذا المقام للحاكم أيضا بالنظر إلى

(1) سورة بني إسرائيل الآية 24.
(2) هكذا وردت العبارة في النسخة المطبوعة والخطية، ويحتمل أن
تكون كلمة " قال " زيادة من قلم النساخ. كما يحتمل سقوط كلمة " في المدارك "
من القلم، لأن العبارة المذكورة من قوله " وأما " إلى قوله " في الحج " عين
عبارة المدارك.
68

أن له ولاية المال، قال في المدارك: ونقل عن الشيخ (قدس سره) في بعض
كتبه التصريح بذلك. ثم قال: ولا بأس به لأنه كالوصي. انتهى.
وفيه ما عرفت، بل هو أبعد من الدخول في هذا المقام. ولا ريب أن
الاحتياط يقتضي الاقتصار على الأولين.
واختلف الأصحاب في ثبوت الولاية للأم في هذا المقام، والمشهور ذلك
وإليه ذهب الشيخ وأكثر الأصحاب.
واستدلوا عليه بما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " سمعته يقول: مر رسول الله صلى الله عليه وآله برويثة (2)
وهو حاج فقامت إليه امرأة ومعها صبي لها فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله أيحج
عن مثل هذا؟ قال: نعم ولك أجره ".
والتقريب فيه أنه لا يثبت لها الأجر إلا من حيث صحة الحج به وأن جميع
ما فعلته به أو عنه من أفعال الحج موافق للشرع.
ويعضدها أيضا ظاهر صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة (3).
وقال ابن إدريس: لا ولاية لها في ذلك لانتفاء ولايتها في المال والنكاح
فتنتفى هنا. ونقل عن فخر المحققين أنه قواه. وهما محجوجان بالخبر المذكور. إلا أن ابن إدريس بناء على أصله الغير الأصيل لا يتوجه عليه ذلك.
الرابعة - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يلزم الولي متى
حج بالصبي نفقته الزائدة على نفقة الحضر، بمعنى أنه يغرم ما يحتاج إليه من حيث
السفر من نفسه لا من مال الطفل، كأجرة الدابة وآلات السفر ونحو ذلك، لأنه
غرم أدخله على نفسه بسبب اخراجه الصبي والسفر به فلزمه بالتسبيب. ولأن

(1) الوسائل الباب 20 من وجوب الحج وشرائطه
(2) موضع بين الحرمين
(3) ص 64
69

الولي تلزمه كفارة الصيد كما تضمنته صحيحة زرارة المتقدمة (1) في المسألة
الثانية فالنفقة أولى.
وألحق الأكثر بالنفقة الزائدة الفدية التي تلزم المكلف في حالتي العمد
والخطأ وهي كفارة الصيد، وجزم في التذكرة بلزومها للصبي لوجوبها بجنايته
فكان كما لو أتلف مال غيره. قال في المدارك: وتدفعه صحيحة زرارة (2).
أقول: لا يخفى أن اطلاق الحكم بما ذكروه هنا - ولا سيما على ما قدمنا
نقله عنهم من عموم الولي للوصي والحاكم الشرعي - لا يخلو من الاشكال، لأنه
متى توقف حفظ الصبي وكفالته وتربيته على السفر به وكانت مصلحته في ذلك
فلا معنى لهذا التعليل في وجوب النفقة علي الولي، بل ينبغي أن يكون كل ما يغرمه
في السفر من الأشياء المذكورة من مال الطفل إن كان له مال وإلا فهو من مال
الولي تبعا لوجوب النفقة عليه في الحضر والقيام بما يحتاج إليه. هذا بالنسبة إلى
الولي الجبري، وأما الوصي والحاكم الشرعي فقد عرفت أنه لا دليل على عموم
تصرفهما في الصبي بحيث يسافرون به من بلد إلى بلد أخرى وإنما قصارى ولايتهم
على ما يتعلق بماله، فحينئذ لو سافروا به والحال كذلك فينبغي أن يغرموا
جميع ما يتعلق به، وإن ثبت أن لهم التصرف على وجه العموم واقتضت المصلحة
ذلك فالذي ينبغي أن يكون جميع ما يغرمونه من مال الطفل.
وبالجملة فإن المسألة لخلوها من النص الواضح لا تخلو من الاشكال، وكلامهم
هنا على اطلاقه لا يخلو من شوب الاختلال.
ثم إنهم أيضا اختلفوا في ما يختلف حكم عمده وسهوه في البالغ كالوطء
واللبس إذا تعمده الصبي:
فنقل عن الشيخ (رحمه الله) أنه قال: الظاهر أنه تتعلق به الكفارة على

(1) ص 63
(2) ص 63
70

وليه. وإن قلنا لا يتعلق به شئ - لما روي عنهم (عليهم السلام) (1): أن
" عمد الصبي وخطأه واحد " والخطأ في هذه الأشياء لا يتعلق به كفارة من
البالغين - كان قويا.
قال في المدارك: وهو جيد لو ثبت اتحاد عمد الصبي وخطأه على وجه
العموم، لكنه غير واضح، لأن ذلك إنما ثبت في الديات خاصة. انتهى وهو جيد
وقيل بالوجوب تمسكا بالاطلاق، ونظرا إلى أن الولي يجب عليه منع الصبي
عن هذه المحظورات، ولو كان عمده خطأ لما وجب عليه المنع لأن الخطأ لا يتعلق
به حكم ولا يجب المنع منه.
قال في المدارك بعد نقل ذلك: والمسألة محل تردد، وإن كان الأقرب
عدم الوجوب اقتصارا في ما خالف الأصل على موضع النص وهو الصيد.
ونقل عن الشيخ أنه يتفرع على الوجهين ما لو وطأ قبل أحد الموقفين
متعمدا، فإن قلنا إن عمده وخطأه سواء لم يتعلق به فساد الحج، وإن قلنا
أن عمده عمد فسد حجه ولزمه القضاء. ثم قال: والأقوى الأول، لأن ايجاب
القضاء يتوجه إلي المكلف وهو ليس بمكلف.
أقول: والمسألة لا تخلو من اشكال لعدم النص في المقام، فإنا لم نقف
في ذلك إلا على صحيحة زرارة المتقدمة (2) الدالة على الصيد وأنه تجب كفارته
على الأب. والاحتياط واضح.
الثاني من الشروط المتقدمة - الحرية، فلا يجب على المملوك وإن أذن له
سيده، ولو أذن له صح إلا أنه لا يجزئه عن حج الاسلام لو أعتق.

(1) الوسائل الباب 36 من قصاص النفس، والباب 11 من العاقلة.
(2) ص 63
71

أما أنه لا يجب عليه وإن أذن له سيده فقال في المعتبر: إن عليه
اجماع العلماء.
ويدل عليه ما رواه ثقة الاسلام في الكافي بسندين أحدهما صحيح
عن ابن محبوب عن الفضل بن يونس - وهو ثقة واقفي - عن أبي الحسن موسى
عليه السلام (1) قال: " ليس على المملوك حج ولا عمرة حتى يعتق ".
واستدل في المدارك على ذلك برواية آدم بن علي عن أبي الحسن
عليه السلام (2) قال: " ليس على المملوك حج ولا عمرة حتى يعتق " وهو سهو من
قلمه (قدس سره) فإن هذا المتن إنما هو في رواية الفضل التي ذكرناها، وأما
رواية آدم بن علي فهي ما رواه الشيخ عنه عن أبي الحسن عليه السلام (3) قال: " ليس
على المملوك حج ولا جهاد ولا يسافر إلا بإذن مالكه " وهي أيضا دالة على
الحكم المذكور.
وأما أنه إذا حج بإذن مولاه فإنه يصح حجه ولكن لا يجزئه عن حجة
الاسلام لو أعتق فقال في المنتهى: إنه قول كل من يحفظ عنه العلم.
وتدل عليه الأخبار المتكاثرة، ومنها - صحيحة علي بن جعفر عن أخيه
موسى عليه السلام (4) قال: " المملوك إذا حج ثم أعتق فإن عليه إعادة الحج ".
وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام (5) قال: " إن المملوك

(1) الوسائل الباب 15 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 15 من وجوب الحج وشرائطه. ومتنها كما ذكره
المصنف (قدس سره).
(3) الوسائل الباب 15 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه رقم (1) وهي رواية
الصدوق في الفقيه ج 2 ص 264.
72

إن حج وهو مملوك أجزأه إذا مات قبل أن يعتق، وإن أعتق فعليه الحج ".
وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " المملوك إذا
حج وهو مملوك ثم مات قبل أن يعتق أجرأه ذلك الحج، فإن أعتق أعاد الحج ".
ورواية مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال: " لو أن عبدا
حج عشر حجج ثم أعتق كانت عليه حجة الاسلام إذا استطاع إلى ذلك سبيلا "
ورواية إسحاق بن عمار (3) قال: " سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن
أم الولد تكون للرجل ويكون قد أحجها أيجزي ذلك عنها من حجة الاسلام؟
قال: لا. قلت: لها أجر في حجها؟ قال: نعم " ومثلها رواية شهاب (4).
وروى في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن
أخيه موسى بن جعفر عليه السلام (5) قال: " سألته عن المملوك الموسر أذن له مولاه
في الحج هل له أجر؟ قال: نعم، فإن أعتق أعاد الحج ".
وأما ما رواه الشيخ عن حكم بن حكيم الصيرفي (6) - قال: " سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: أيما عبد حج به مواليه فقد أدرك حجة الاسلام " -
فقد حمله الشيخ وغيره على من أدرك الموقفين معتقا. والظاهر بعده، بل الأقرب

(1) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه رقم (4) وهي رواية
الشيخ في التهذيب ج 5 ص 4.
(2) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه. واللفظ هكذا: هل
عليه أن يذبح وهل له أجر؟...
(6) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه. واللفظ: " فقد قضى
حجة الاسلام ".
73

حمله على ادراك ثواب حجة الاسلام ما دام مملوكا.
وإليه يشير قوله عليه السلام في صحيحة عبد الله بن سنان الأولى: " أجزأه إذا
مات قبل أن يعتق " أي أجزأه عن حجة الاسلام، بمعنى أنه يكتب له ثواب حجة
الاسلام. ومثله في صحيحته الثانية.
وأصرح من ذلك في هذا المعنى ما رواه في الفقيه عن أبان بن الحكم (1)
قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الصبي إذا حج به فقد قضى حجة الاسلام
حتى يكبر، والعبد إذا حج به فقد قضى حجة الاسلام حتى يعتق ".
وتنقيح الكلام في هذا المقام يتوقف على رسم مسائل:
(الأولى) - لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) في أنه
لو أدرك العبد الموقفين أو الثاني منهما معتقا أجزأه عن حجة الاسلام، حكاه
العلامة في المنتهى.
وعليه تدل الأخبار، ومنها ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن
عمار (2) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: مملوك أعتق يوم عرفة؟ قال: إذا
أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحج ".
وعن شهاب في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام (3) " في رجل أعتق عشية
عرفة عبدا له؟ قال: يجزي عن العبد حجة الاسلام، ويكتب لسيده أجران:
ثواب العتق وثواب الحج ".
وروايته الأخرى عن أبي عبد الله عليه السلام (4) " في رجل أعتق عشية عرفة عبدا
له أيجزي عن العبد حجة الاسلام؟ قال: نعم ".

(1) الوسائل الباب 16 من وجوب الحج وشرائطه
(2) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج وشرائطه.
74

وما رواه المحقق في المعتبر عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) " في مملوك أعتق يوم عرفة؟ قال: إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك
الحج وإن فاته الموقفان فقد فاته الحج، ويتم حجه ويستأنف حجة الاسلام
في ما بعد ".
الثانية - لو أذن السيد لعبده في الحج لم يجب عليه، لكن لو تلبس به بعد
الإذن وجب كغيره من أفراد الحج المندوب.
وهل يجوز للسيد الرجوع في الإذن بعد التلبس؟ ظاهر الأصحاب العدم
وإنما يجوز له قبل التلبس أما بعده فحيث تعلق الوجوب بالعبد فليس له ذلك.
بقي الكلام في أنه لو رجع قبل التلبس ولكن لم يعلم العبد إلا بعده،
فقيل بأنه يجب الاستمرار، لدخوله دخولا مشروعا، فكان رجوع المولى كرجوع
الموكل قبل التصرف ولم يعلم الوكيل، وقال الشيخ إنه يصح احرامه وللسيد
أن يحلله.
قال في المدارك: وضعفه ظاهر، لأن صحة الاحرام إنما هو لبطلان رجوع
المولى فكان كما لو لم يرجع، والاحرام ليس من العبادات الجائزة وإنما يجوز
الخروج منه في مواضع مخصوصة ولم يثبت أن هذا منها.
أقول: والمسألة وإن كانت خالية من النص على الخصوص إلا أن
ما ذكره السيد السند (قدس سره) في المدارك هو الأوفق بالأصول الشرعية
والقواعد المرعية.
(الثالثة) - اختلف الأصحاب في ما لو جنى العبد في احرامه بما يلزمه به
الدم كاللباس والطيب وحلق الشعر وقتل الصيد، فقال الشيخ (قدس سره) في

(1) الوسائل الباب 17 من وجوب الحج وشرائطه
75

المبسوط: يلزم العبد لأنه فعل ذلك بدون إذن مولاه، ويسقط الدم إلى الصوم
لأنه عاجز ففرضه الصيام، ولسيده منعه منه لأنه فعل موجبه بدون إذن مولاه.
ونقل عن الشيخ المفيد: على السيد الفداء في الصيد.
وقال المحقق في المعتبر بعد نقل كلام الشيخ المذكور: وليس ما ذكره
الشيخ بجيد، لأنه وإن جنى بغير إذنه فإن جنايته من توابع إذنه في الحج فتلزمه
جنايته. ثم استدل على ذلك بما رواه حريز عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال:
" المملوك كلما أصاب الصيد وهو محرم في احرامه فهو على السيد إذا أذن له
في الاحرام ".
أقول: وهذه الرواية قد رواها الصدوق في الفقيه (2) في الصحيح
بسنده إلى حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " كل ما أصاب العبد المحرم في
احرامه فهو على السيد إذا أذن له في الاحرام " ورواها الشيخ في التهذيب (3)
في الصحيح أيضا عن حريز، والكليني (4) في الحسن على المشهور عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " كل ما أصاب العبد وهو محرم في احرامه... الحديث "
ورواه في الإستبصار (5) قال: " المملوك كلما أصاب الصيد وهو محرم في
احرامه " وهو مطابق لما نقله في المعتبر. والظاهر أن الشيخ المفيد إنما خص
الصيد بالذكر اعتمادا على هذه الرواية.
وظاهر الشيخ في التهذيب القول بما ذكره في المعتبر حيث إنه - بعد أن

(1) الوسائل الباب 56 من كفارات الصيد وتوابعها
(2) ج 2 ص 264، وفي الوسائل الباب 56 من كفارات الصيد وتوابعها
(3) ج 5 ص 382
(4) الكافي ج 4 ص 304.
(5) ج 2 ص 216
76

نقل صحيحة حريز المذكورة بالمتن المتقدم - قال: ولا يعارض هذا الحديث
ما رواه سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسن عن محمد بن الحسين عن عبد الرحمان
ابن أبي نجران (1) قال: " سألت أبا الحسن عليه السلام عن عبد أصاب صيدا وهو
محرم هل على مولاه شئ من الفداء؟ فقال: لا شئ على مولاه " لأن هذا
الخبر ليس فيه أنه كان قد أذن له في الاحرام أو لم يأذن له، وإذا لم يكن ذلك في
ظاهره حملناه على من أحرم من غير إذن مولاه، فلا يلزمه حينئذ شئ على ما تضمنه
الخبر. وهذا القول منه رجوع عن ما تقدم عنه في المبسوط.
واعترضه المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بأنه يرد عليه أن إذن المولى
شرط في صحة الاحرام فمع عدمه لا ينعقد ولا يترتب عليه الحكم. وقول السائل:
" وهو محرم " يدل - بمعونة تقريره عليه في الجواب - على كونه متحققا واقعا.
ثم أجاب بامكان الحمل على إرادة الخصوص والعموم في الإذن، فمتى أذن
السيد لعبده في الاحرام بخصوصه كان ما يصيبه فيه على السيد، وإذا كان
العبد مأذونا على العموم بحيث يفعل ما يشاء من غير تعرض في الإذن لخصوص
الاحرام لم يكن على السيد شئ. قال: ولا بعد في هذا الحمل، فإن في الخبر
الأول اشعارا به حيث علق الحكم فيه بالإذن في الاحرام ولم يطلق الإذن،
وذلك قرينة إرادة الخصوص. انتهى.
واستوجه العلامة في المنتهى سقوط الدم ولزوم الصوم إلا أن يأذن له
السيد في الجناية فيلزمه الفداء.
وربما حملت الصحيحة الأولى على الاستحباب والثانية على نفي الوجوب.
أقول: لا يخفى ما في هذه المحامل من البعد مع تدافعها. والمسألة

(1) الوسائل الباب 56 من كفارات الصيد وتوابعها
77

لا تخلو من شوب التردد والاشكال.
(الرابعة) - إذا أفسد العبد حجه المأذون فيه وجب عليه اتمامه ثم القضاء
والبدنة كما في الحر، للأدلة الدالة بعمومها أو اطلاقها على ذلك (1) وتناولها
العبد كالحر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة افساد الحج، وحينئذ فتترتب
عليه أحكامه.
بقي أنه هل يجب على السيد تمكينه من القضاء أم لا؟ قيل بالأول، لأن
إذنه في الحج إذن في مقتضياته، ومن جملتها القضاء لما أفسده. وقيل بالثاني
لأنه إنما أذن له في الحج لا في افساده، والافساد ليس من لوازم الحج ليلزم
من الإذن في الحج الإذن فيه، بل الأمر إنما هو على العكس، لأنه من
منافياته، لأن المأذون فيه أمر موجب للثواب والافساد أمر موجب للعقاب.
قيل: وربما بنى الوجهان على أن القضاء هل هو الفرض والفاسد عقوبة
أم بالعكس؟ فعلى الثاني لا يجب التمكين لعدم تناول الإذن له، وعلى الأول
يجب لأن الإذن بمقتضى الافساد انصرفت إلى القضاء وقد لزم بالشروع
فلزمه التمكين.
واستشكله في المدارك بأن الإذن لم يتناول الحج ثانيا وإن قلنا إنه الفرض،
لأنها إنما تعلقت بالأول خاصة. ثم قال: والمسألة محل تردد وإن كان القول
بعدم وجوب التمكين لا يخلو من قوة. انتهى.
أقول: وأنت خبير بأنه يمكن أن يستدل للقول الأول بظاهر صحيحة
حريز المتقدمة (2) في سابق هذه المسألة، وذلك أنها قد دلت على أن كل

(1) الوسائل الباب 3 من كفارات الاستمتاع
(2) ص 76
78

ما أصاب العبد المحرم في احرامه فهو على سيده إذا أذن له، سواء جعل العبد
فاعلا أو مفعولا، ولا ريب أن القضاء من ما أصابه ولزمه كما لزمه وجوب البدنة
فإن الواجب بالافساد البدنة والقضاء، فكما تجب على السيد بمقتضى الخبر
المذكور البدنة كذا يجب عليه القضاء، غاية الأمر أن كيفية الوجوب في
الموضعين مختلفة، فإن السيد لا يجب عليه الحج قضاء بل الواجب عليه التمكين.
إلا أن الرواية المذكورة - كما عرفت - معارضة بتلك الأخرى، وقد عرفت ما
في المقام من الاشكال.
وكيف كان فالمسألة هنا أيضا لخلوها من الدليل الواضح محل توقف.
ثم إنه لو أعتقه المولى في الحج الفاسد، فإن كان قبل الوقوف بالمشعر
أتم حجه وقضى في القابل وأجزأه عن حجة الاسلام كما في الحر، سواء قلنا
إن الاكمال عقوبة وإن حجة الاسلام هي الثانية أم قلنا بالعكس، وإن كان
بعد فوات الموقفين كان عليه اتمام الحج والقضاء، ولا يجزئه عن حجة الاسلام
بل تجب عليه مع الاستطاعة.
قالوا: ويجب تقديمها على حجة القضاء، للنص والاجماع على فوريتها،
فلو بدأ بالقضاء قال الشيخ: انعقد عن حجة الاسلام وكان القضاء في ذمته،
وإن قلنا لا يجزئ عن واحدة منهما كان قويا. هذا كلامه (قدس سره) وهو
متجه بناء على القول بأن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن ضده الخاص، وإلا
فالمتجه صحة القضاء وإن أثم بتأخير حجة الاسلام.
(الخامسة) - قالوا: لو أحرم العبد بإذن مولاه ثم باعه صح البيع اجماعا،
لأن الاحرام لا يمنع التسليم فلا يمنع صحة البيع. ثم إن كان المشتري عالما بذلك
فلا خيار وإلا ثبت الخيار على الفور إلا مع قصر الزمان بحيث لا يفوته شئ
من المنافع.
79

(السادسة) - قالوا: لا فرق في المملوك بين القن والمكاتب المطلق الذي
لم يؤد والمشروط وأم الولد والمبعض. نعم لو تهايا المبعض مع المولى ووسعت نوبته
الحج وانتفى الخطر والضرر كان له الحج ندبا بغير إذن السيد، كما يجوز له غيره
من الأعمال.
(الثالث) من الشروط المتقدمة - الاستطاعة اجماعا نصا وفتوى، وفسرها
الأصحاب بالزاد والراحلة في من يفتقر إلى قطع المسافة.
قال العلامة (قدس سره) في المنتهى: اتفق علماؤنا على أن الزاد
والراحلة شرطان في الوجوب، فمن فقدهما أو أحدهما مع بعد مسافته لم يجب عليه
الحج وإن تمكن من المشي، وبه قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والشافعي
وأبو حنيفة (1).
قالوا: ويدل على اعتبارهما - مضافا إلى عدم تحقق الاستطاعة عرفا
بدونهما غالبا - صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (2) قال: " سأل حفص الكناسي
أبا عبد الله عليه السلام وأنا عنده عن قول الله (عز وجل): ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا (3) ما يعني بذلك؟ قال: من كان صحيحا في
بدنه مخلي سربه له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع الحج، أو قال: ممن كان له
مال. فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد
وراحلة فلم يحج فهو ممن يستطيع الحج؟ قال: نعم ".

(1) المغني لابن قدامة الحنبلي ج 3 ص 219 وبدائع الصنائع للسكاساني
الحنفي ج 2 ص 122.
(2) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج وشرائطه
(3) سورة آل عمران الآية 97.
80

ثم إنه في المنتهى صرح بأنه إنما يشترطان في حق المحتاج إليهما لبعد المسافة
أما القريب فيكفيه اليسير من الأجرة بنسبة حاجته، والمكي لا يعتبر في حقه وجود
الراحلة إذا لم يكن محتاجا إليها. ثم قال في فروع المسألة: الثالث - لو فقدهما
وتمكن من الحج ماشيا فقد بينا أنه لا يجب عليه الحج، فلو حج ماشيا لم يجزئه
عن حجة الاسلام عندنا ووجب عليه الإعادة مع استكمال الشرائط، ذهب إليه
علماؤنا وبه قال الجمهور (1). انتهى.
وقال المحقق في المعتبر: الشرط الرابع والخامس - الزاد والراحلة وهما شرط
لمن يحتاج إليهما لبعد مسافته... إلى أن قال: ومن ليس له راحلة ولا زاد أوليس
له أحدهما لا يجب عليه الحج، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد، وقال مالك من
قدر على المشي وجب عليه (2) لنا - أن النبي صلى الله عليه وآله فسر السبيل بالزاد والراحلة (3)
ولأنه صلى الله عليه وآله سئل ما يوجب الحج، فقال: الزاد والراحلة (4) فيقف الوجوب
عليه. ولو حج ماشيا لم يجزئه عن حجة الاسلام، وقال الباقون يجزئه (5)
لنا - أن الوجوب لم يتحقق لأنه مشروط بالاستطاعة فمع عدمها يكون مؤديا ما لم
يجب عليه فلا يجزئه عن ما يجب عليه في ما بعد، وينبه على ذلك روايات عن
أهل البيت (عليهم السلام): منها - رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (6)
قال: " لو أن رجلا معسرا أحجه رجل كانت له حجة، فإن أيسر بعد ذلك كان
عليه الحج ". انتهى.

(1) عبارة المنتهى ج 2 ص 652 هكذا: وقال الجمهور يجزئه. انتهى.
وفي المغني ج 3 ص 221. والمهذب ج 1 ص 197 كذلك
(2) بداية المجتهد ج 1 ص 293.
(3) بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص 84
(4) صحيح الترمذي باب ما جاء في ايجاب الحج بالزاد والراحلة.
(5) ارجع إلى التعليقة (1)
(6) الوسائل الباب 21 من وجوب الحج وشرائطه
81

أقول: وعلى هذه المقالة اتفقت كلمتهم (رضوان الله عليهم) كما سمعته
من كلام العلامة، ومقتضى ذلك - كما صرحوا به - أنه لا يجزئ الحج ماشيا مع
الامكان لو لم يملك الراحلة. وعندي فيه اشكال، حيث إن الآية قد دلت على أن شرط الوجوب الاستطاعة، والاستطاعة لغة وعرفا القدرة، وتخصيصها بالزاد
والراحلة يحتاج إلى دليل واضح.
والروايات في المسألة متصادمة تحتاج إلى الجمع على وجه يزول به
الاختلاف بينها:
فمن ما يدل على ما ذكره الأصحاب من تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة
صحيحة الخثعمي المتقدمة.
وما رواه في الكافي بسنده عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال:
" سأله رجل من أهل القدر فقال: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرني عن قول
الله (عز وجل): ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (2) أليس
قد جعل الله لهم الاستطاعة؟ فقال: ويحك إنما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة
ليس استطاعة البدن... الحديث ".
وما رواه الصدوق في كتاب عيون الأخبار بإسناده عن الفضل بن شاذان
عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون (3) قال: " وحج البيت فريضة على من
استطاع إليه سبيلا، والسبيل الزاد والراحلة مع الصحة ".
وما رواه في كتاب التوحيد في الصحيح أو الحسن على المشهور عن هشام
ابن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام (4) في قول الله (عز وجل): ولله على

(1) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
(3) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج وشرائطه.
82

الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (1): ما يعني بذلك؟ قال: من كان
صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة.
وما رواه في كتاب الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما
السلام) في حديث شرائع الدين (2) قال: " وحج البيت واجب على من استطاع إليه سبيلا
وهو الزاد والراحلة مع صحة البدن... الحديث " وسيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى
ومن ما يدل على ما دل عليه ظاهر الآية جملة من الأخبار أيضا:
منها - صحيحة معاوية بن عمار (3) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
رجل عليه دين أعليه أن يحج؟ قال: نعم إن حجة الاسلام واجبة على من
أطاق المشي من المسلمين، ولقد كان أكثر من حج مع النبي صلى الله عليه وآله مشاة، ولقد
مر رسول الله صلى الله عليه وآله بكراع الغميم (4) فشكوا إليه الجهد والعناء فقال: شدوا
أزركم واستبطنوا. ففعلوا ذلك فذهب عنهم ".
ورواية أبي بصير (5) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله (عز
وجل): ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (6)؟ قال: يخرج
ويمشي إن لم يكن عنده. قلت: لا يقدر على المشي؟ قال: يمشي ويركب.
قلت: لا يقدر على ذلك - أعني المشي؟ - قال: يخدم القوم ويخرج معهم "
وحملها الشيخ على الاستحباب المؤكد، وقد عرفت في غير موضع
من ما تقدم ما في الجمع بين الأخبار بالحمل على الاستحباب وإن اشتهر ذلك
بين الأصحاب.

(1) سورة آل عمران الآية 97.
(2) الوسائل الباب 9 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 11 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) موضع بين مكة والمدينة.
(5) الوسائل الباب 11 من وجوب الحج وشرائطه.
(6) سورة آل عمران الآية 97.
83

ومنها - صحيحة محمد بن مسلم (1) قال: " قلت لأبي جعفر عليه السلام: قوله
تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (2)؟ قال: يكون
له ما يحج به. قلت: فإن عرض عليه الحج فاستحى؟ قال: هو ممن يستطيع
الحج، ولم يستحي؟ ولو على حمار أجدع أبتر، قال: فإن كان يستطيع أن يمشي
بعضا ويركب بعضا فليفعل ".
وصحيحة الحلبي أو حسنته على المشهور عن أبي عبد الله عليه السلام (3) في قول
الله (عز وجل): ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (4) ما السبيل؟
قال: أن يكون له ما يحج به. قال: قلت: من عرض عليه ما يحج به فاستحى
من ذلك أهو ممن يستطيع إليه سبيلا؟ قال: نعم ما شأنه أن يستحي ولو يحج
على حمار أجدع أبتر، فإن كان يطيق أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج ".
والتقريب في هاتين الصحيحتين أنه عليه السلام فسر الاستطاعة بأن يكون له
ما يحج به وهو أعم من الزاد والراحلة، ومرجعه إلى ما يحصل به القدرة والتمكن
من الحج، ويؤيده قوله عليه السلام في آخر الروايتين المذكورتين: " وإن كان
يستطيع أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج " ومن الظاهر البين أن هذا لا يلائم
التخصيص بالزاد والراحلة.
ومقتضى هذه الأخبار أنه لو أمكنه المشي فحج ماشيا أو الركوب بعضا
والمشي بعضا أدى به حج الاسلام، مع تصريحهم بعدم الاجزاء لعدم حصول
شرط الاستطاعة الذي هو الزاد والراحلة.
ولم أقف لهم على جواب شاف عن هذه الأخبار. هذا. ومن المحتمل

(1) الوسائل الباب 8 و 10 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
(3) الوسائل الباب 8 و 10 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) سورة آل عمران الآية 97.
84

قريبا خروج الأخبار المتقدمة مخرج التقية فإن ذلك مذهب الجمهور (1) كما قدمنا
نقله عن المعتبر والمنتهى. ومن ذلك يظهر أن هذه الأخبار ترجح بمطابقة ظاهر
الآية ومخالفة الجمهور، وهذان الطريقان من أظهر طرق الترجيح المنصوصة في مقام
اختلاف الأخبار. ولا أعرف لذلك معارضا سوى ما يدعونه من الاجماع على
ما ذكروه.
وبالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الاشكال، فإن الخروج عن ما ظاهرهم
الاجماع عليه مشكل وموافقتهم مع ما عرفت أشكل.
وأما ما استند إليه المحقق (رضي الله عنه) من رواية أبي بصير فسيجيئ
- إن شاء الله تعالى - تحقيق القول فيها.
وفي هذا المقام مسائل:
الأولى - قال العلامة (قدس سره) في المنتهى: الخامس - لو كان وحيدا
اعتبر نفقة لذهابه وعودته، وللشافعي في اعتبار نفقة العود هنا وجهان: اعتبارها
للمشقة الحاصلة بالمقام في غير وطنه وهو الذي اخترناه، والثاني عدمه لتساوي
البلاد بالنسبة إليه (2). والأول أصح. انتهى.
وظاهره اعتبار نفقة الإياب وإن كان وحيدا ليس له أهل ولا عشيرة يأوي
إليها. وعلى هذا النحو اطلاق كلام جملة من الأصحاب. وعلله بعضهم بما علله به
الشافعي هنا في أحد قوليه من المشقة الحاصلة بالمقام في غير وطنه.

(1) تقدم في التعليقة (1) ص (81) أن مذهب الجمهور هو الاجزاء.
(2) المهذب للشيرازي الشافعي ج 1 ص 197.
85

وظاهر السيد السند في المدارك - ومثله الفاضل الخراساني في الذخيرة -
المناقشة في ذلك بأن الحجة المذكورة مقصورة على صورة المشقة، فعند عدمها - كما
إذا كان وحيدا غير متعلق ببعض البلاد دون بعض أو كان له وطن لا يريد العود
إليه - لم يبعد عدم اعتبار العود في حقه، نظرا إلى عموم الآية والأخبار، فلا
تعتبر نفقة العود في حقه حينئذ.
أقول: والمسألة لا تخلو من توقف، فإنه وإن كان الظاهر من اطلاق الآية
والأخبار هو حصول ما يوجب الوصول من الزاد والراحلة، إلا أن الاطلاق
إنما يحمل على الأفراد الغالبة المتكثرة، ولا ريب أن الغالب على الناس في جميع
الأدوار والأمصار أنهم متى سافروا لغرض من الأغراض رجعوا بعد قضائه إلى أوطانهم
أو غيرها لأغراض تتجدد، سواء كان لهم أهل وعشيرة أم لا أو مسكن أم لا،
وحينئذ فمجرد كونه وحيدا لا عشيرة له ولا أهل لا يوجب خروجه من هذا
الحكم، بأن يجب عليه الحج بمجرد حصول نفقة الذهاب خاصة وكذا راحلة
الذهاب خاصة، ويكلف الإقامة بمكة إن لم يكن عليه مشقة. نعم لو كان في نيته
وقصده من خروجه هو التوطن في تلك البلاد فما ذكروه من عدم اعتبار نفقة
الإياب متجه وإلا فلا جريا علي ما هو الغالب الشائع المتكرر. وقد صرح غير واحد
منهم بأن الأحكام المودعة في الأخبار إنما تحمل على ما هو المتكرر الشائع الغالب
الوقوع. على أن ما ذكروه لو تم لم يختص بالوحيد الذي لا أهل له ولا عشيرة
ولا مسكن بل يشمل ذلك من له عشيرة ومسكن، فإن مجرد وجود هذه الأشياء
لا بكون موجبا لتخصيص اطلاق الأدلة المشار إليها. نعم لو كان له عيال يجب
الانفاق عليهم أو أبوان أو أحدهما لا يرضون بانقطاعه عنهما فإنه من حيث قيام
الأدلة على وجوب هذه الأشياء يجب أن يخص بها اطلاق الأدلة المذكورة وأما
غيرها فلا دليل عليه، مع أنهم لا يقولون بذلك في غير الوحيد من صاحب المسكن
86

ومن له عشيرة وأهل.
وبالجملة فإن الظاهر هو القول المشهور وأن هذه المناقشة لا مجال لها في
هذا المقام.
الثانية - الظاهر أنه يكفي في الاستطاعة حصولها حيثما اتفق، فلو كان
المكلف في غير بلده وحصلت له الاستطاعة على وجه يسافر للحج ويرجع إلى بلده
وجب عليه، ولا يشترط حصولها من البلد.
وحينئذ فما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (قده سره) - من أن من أقام في
غير بلده إنما يجب عليه الحج إذا كان مستطيعا من بلده، إلا أن تكون إقامته
في الثانية على وجه الدوام أو مع انتقال الفرض كالمجاور بمكة بعد السنتين - من ما
لم نقف له على دليل.
بل ظاهر ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار - (1) قال:
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يمر مجتازا يريد اليمن أو غيرها من البلدان
وطريقه بمكة فيدرك الناس وهم يخرجون إلى الحج فيخرج معهم إلى المشاهد
أيجزئه ذلك عن حجة الاسلام؟ قال: نعم " - ينافي ما ذكره.
ويؤيده عموم النصوص وصدق الاستطاعة بذلك.
الثالثة - المشهور في كلام الأصحاب أنه لو لم يكن له زاد ولا راحلة
لكنه واجد للثمن فإنه يجب عليه شراؤهما وإن زاد عن ثمن المثل، وقيل إنه متى
زادت قيمة الزاد والراحلة عن ثمن المثل لم يجب الحج، ونقله في المدارك - وكذا
الفاضل الخراساني - عن الشيخ في المبسوط.
أقول: لا ريب أن الشيخ في المبسوط وإن صرح بذلك لكنه إنما صرح به

(1) الوسائل الباب 22 من وجوب الحج وشرائطه
87

بالنسبة إلى الزاد خاصة دون الراحلة ولكن حيث كان ذلك لازما له في الراحلة
أيضا ألزموه به فنقلوا خلافه فيهما.
قال في المبسوط: وأما الزاد فهو عبارة عن المأكول والمشروب، فالمأكول
هو الزاد فإن لم يجده بحال أو وجده بثمن يضربه وهو أن يكون في الرخص بأكثر
من ثمن مثله وفي الغلاء مثل ذلك لم يجب عليه، وهكذا حكم المشروب. وأما المكان
الذي يعتبر وجوده فيه فإنه يختلف، أما الزاد إن وجده في أقرب البلدان إلى البر
فهو واجد، وكذلك أن لم يجده إلا في بلده فيجب عليه حمله معه ما يكفيه لطول طريقه
إذا كان معه ما يحمل عليه. وأما الماء فإن كان يجده في كل منزل أو في كل منزلين
فهو واجد، وإن لم يجده إلا في أقرب البلدان إلى البر أو في بلده فهو غير واجد.
والمعتبر في جميع ذلك العادة فما جرت العادة بحمل مثله وجب حمله وما لم تجر سقط
وجوب حمله. وأما علف البهائم ومشروبها فهو كما للرجل سواء إن وجده في كل منزل
أو منزلين لزمه وإن لم يجد إلا في أقرب البلاد إلى البر أو في بلده سقط الفرض لاعتبار
العادة. هذا كله إذا كانت المسافة بعيدة... إلى آخر كلامه زيد في مقامه.
والمفهوم من هذا الكلام ظاهرا أن حكمه بسقوط الحج مع زيادة قيمة
الزاد إنما هو من حيث التضرر بالزيادة. وربما يفهم أيضا من سياق الكلام إلى
آخره التعليل بالرجوع إلى العادة، وأن اطلاق الشراء إنما ينصرف إلى
القيمة المعتادة.
والأول منهما هو الذي فهمه العلامة في المختلف، حيث قال بعد نقل صدر
العبارة: وهذا التفسير يشعر بأنه إذا زاد الثمن عن ثمن المثل في المأكول
والمشروب لا يجب شراؤهما، والوجه وجوب ذلك مع القدرة، لنا - أنه مستطيع
فوجب عليه الحج. احتج بأنه قد زاد الثمن عن ثمن المثل فلا يجب لاشتماله على
الضرر. والجواب المنع من الضرر مع القدرة. انتهى.
88

والثاني منهما ذكره شيخنا الشهيد في نكت الإرشاد فقال - بعد نقل
القول بذلك عنه في الزاد وأن ذلك لازم له في الراحلة - ما لفظه: لأنه احتج بأن
اطلاق الشراء ينصرف إلى المعتاد كالتوكيل في الشراء حتى قال: لا يجب حمل
الماء من بلده ولا من أقرب مكان إلى البر بل إن كان في كل منزل أو منزلين
وجب الحج وإلا فلا، وكذا علف الدواب، حوالة على العرف، ولأن الحج
يسقط لو خاف على المال التلف فلا يناسبه إضاعته هنا. ورد بما مر في شراء الماء
من وجوب الثواب هنا على الله تعالى الذي هو أعظم من العوض الواجب على
الآدمي. ثم قال: ويمكن أنه إن كثر الثمن كثرة فاحشة بحيث يستوعب المال
العظيم قرب قول الشيخ للاضرار المنفي (1) وإلا فهو بعيد لصدق الاستطاعة التي
هي مناط الوجوب. انتهى.
والأصح ما عليه جمهور الأصحاب من وجوب الشراء وإن زاد عن ثمن
المثل، إلا أن يبلغ إلى الحال التي أشار إليها شيخنا المتقدم ذكره في آخر كلامه
فاشكال. وبمثل ذلك صرح العلامة في التذكرة فقال - على ما نقله عنه في الذخيرة -:
وإن كانت القيمة تجحف بماله لم يلزمه شراؤه وإن تمكن، على اشكال.
وسيجيئ إن شاء الله تعالى ما فيه مزيد بيان لهذا المقام.
وأنت خبير بأن ما نقلناه عن المبسوط بالنسبة إلى عدم وجوب حمل الماء وعلف
الدواب هو عين ما نقلوه عن العلامة (قدس سره) في التذكرة والمنتهى، كما
قدمنا ذكره في المسألة الأولى، مع أنهم لم ينقلوا الخلاف ثمة إلا عن العلامة،
وكلام المبسوط - كما ترى - أصرح من كلام العلامة في ذلك.

(1) وهو قوله صلى الله عليه وآله: " لا ضرر ولا ضرار " وقد أورده في الوسائل في
الباب 5 من الشفعة، والباب 12 من احياء الموات.
89

الرابعة - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو كان له مال
وعليه دين فإنه لا يجب عليه الحج، إلا أن يزيد على دينه ما يحصل به الاستطاعة.
واطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق بين أن يكون الدين حالا أو مؤجلا.
وبهذا التعميم صرح في المنتهى فقال: لو كان له مال وعليه دين بقدره
لم يجب عليه الحج سواء كان الدين حالا أو مؤجلا، لأنه غير مستطيع مع الحلول
والضرر متوجه عليه مع التأجيل، فسقط فرض الحج. انتهى.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه: ولمانع أن يمنع توجه الضرر في بعض
الموارد، كما إذا كان مؤجلا أو حالا غير مطالب به وكان للمديون وجه للوفاء
بعد الحج، ومتى انتفى الضرر وحصل التمكن من الحج تحققت الاستطاعة
المقتضية للوجوب.
أقول: يمكن أن يقال عليه إن مراد العلامة (رضوان الله عليه) أن في
صورة الحلول فالواجب أداء الدين، وعدم المطالبة به في ذلك الوقت لا يوجب
حصول الاستطاعة به والفرض أنه لا مال له سواه، لجواز رجوعه عليه بعد
ذلك ومطالبته وقد فات من يده، والمتبادر من مال الاستطاعة ما يكون لصاحبه
التصرف فيه بلا معارض في ذلك. وأما في صورة التأجيل فمع فرض أنه لا مال
له لا معنى لقوله في الإيراد: " وكان للمديون وجه للوفاء بعد الحج " فإنه خلاف
المفروض في كلام العلامة.
وبالجملة فإنه لا اعتماد على هذه التعليلات ابراما أو نقضا بل الواجب الرجوع
إلى النصوص.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن
معاوية بن عمار (1) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل عليه دين أعليه

(1) الوسائل الباب 11 من وجوب الحج وشرائطه
90

أن يحج؟ قال: نعم إن حجة الاسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين "
وما رواه عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله البصري (1) قال: " قال
أبو عبد الله عليه السلام: الحج واجب على الرجل وإن كان عليه دين ".
وظاهر الخبرين المذكورين وجوب الحج عليه وإن كان عليه دين مستوعب
للاستطاعة، وهو على اطلاقه لا يخلو من الاشكال، فإنه متى كان حالا مطالبا به
لا يجوز صرفه في الحج اجماعا.
والذي يقرب من الرواية الأولى بقرينة التعليل أن المراد أن حج الاسلام
- بناء على ما قدمناه في معنى الاستطاعة - يجب ولو بالمشي لمن أطاقه، فمجرد
وجود الدين لا يكون مانعا منه في جميع الحالات وإن منع في بعض الأوقات.
وبالجملة فإنه يجب تقييد الخبرين المذكورين بما إذا لم تحصل المطالبة
بالدين إما بأن يكون حالا ولكن صاحبه يسمح بتأخيره أو يكون مؤجلا.
وفي المقام أيضا أخبار أخر عديدة إلا أنها غير ظاهرة في حج الاسلام،
والظاهر - كما استظهره جملة من الأصحاب - حملها على الحج المندوب إلا أنها أيضا
لا تخلو من معارض:
ومنها - ما رواه الشيخ عن موسى بن بكر الواسطي (2) قال: " سألت
أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يستقرض ويحج؟ فقال: إن كان خلف ظهره ما إن
حدث به حدث أدى عنه فلا بأس " ورواه الكليني أيضا عن موسى بن بكر

(1) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه
(2) التهذيب ج 5 ص 442، وفي الوسائل الباب 50 من وجوب الحج
وشرائطه.
91

قريبا منه (1) وكذا الصدوق (2).
وما رواه المشايخ الثلاثة عن عبد الملك بن عتبة (3) قال: " سألت
أبا الحسن عليه السلام عن الرجل عليه دين يستقرض ويحج؟ قال: إن كان له وجه
في مال فلا بأس ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب عن غير واحد (4)
قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني رجل ذو دين أفأتدين وأحج؟ فقال:
نعم هو أقضى للدين ".
وعن محمد بن أبي عمير في الصحيح عن عقبة (5) قال: " جاءني سدير
الصيرفي فقال: إن أبا عبد الله عليه السلام يقرأ عليك السلام ويقول لك: ما لك لا
تحج؟ استقرض وحج ".
وما رواه الكليني في الحسن عن معاوية بن وهب عن غير واحد (6) قال:
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يكون على الدين فتقع في يدي الدراهم فإن وزعتها
بينهم لم يبق شئ، أفأحج بها أو أوزعها بين الغرام؟ فقال: تحج بها، وادع الله
(عز وجل) أن يقضي عنك دينك ".
وعن يعقوب بن شعيب (7) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
يحج بدين وقد حج حجة الاسلام؟ قال: نعم إن الله سيقضي عنه إن شاء الله "
ورواه الصدوق عن يعقوب في الحسن (8).

(1) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه رقم 7 و 9
(2) الفقيه ج 2 ص 267، وفي الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه
(3) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
(6) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
(7) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
(8) الوسائل الباب 50 من وجوب الحج وشرائطه.
92

وما رواه الصدوق في الصحيح عن الحسن بن زياد العطار (1) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: يكون علي الدين فتقع في يدي الدراهم فإن وزعتها بينهم لم يبق
شئ، أفأحج بها أو أوزعها بين الغرماء؟ قال: حج بها وادع الله أن يقضي
عنك دينك ".
وروى عن الصادق عليه السلام مرسلا (2) أنه " سأله رجل فقال: إني رجل ذو
دين فأتدين وأحج؟ قال: نعم هو أقضى للدين ".
والشيخ (قدس سره) بعد أن ذكر بعض هذه الأخبار حملها على ما إذا
كان له وجه يقضي به دينه مستندا إلى الخبرين الأولين. والظاهر بعده، ولعل
الأقرب في الجمع هو الحمل على تفاوت درجات الناس في قوة التوكل وعدمها.
الخامسة - ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على أنه يستثنى
من مال الاستطاعة دار سكناه وخادمه وثياب بدنه.
قال في المنتهى: وعليه اتفاق العلماء، لأن ذلك مما تمس الحاجة إليه
وتدعو إليه الضرورة فلا يكلف بيعه. ونحوه في المعتبر والتذكرة.
وقال في المسالك: لا خلاف في استثناء هذه الأربعة كما ذكره العلامة في
التذكرة وإن كانت النصوص غير مصرحة بها. وزاد في التذكرة استثناء
فرس الركوب.
وظاهر عبارة الشرائع تخصيص الثياب المستثناة بثياب الخدمة دون ثياب

(1) الفقيه ج 2 ص 268، وفي الوسائل الباب 50 من وجوب الحج
وشرائطه رقم 10.
(2) الفقيه ج 2 ص 267، وفي الوسائل الباب 50 من وجوب الحج
وشرائطه رقم (1).
93

التجمل، وفي كلام الأكثر مطلق الثياب.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك استثناء حلي المرأة المعتاد لها بحسب
حالها وزمانها ومكانها وأن ذلك في حكم الثياب.
وجزم شيخنا المشار إليه بأن من لم يكن له هذه المستثنيات يستثنى له أثمانها.
وألحق بعض الأصحاب كتب العلم مع عدم الغنى عنها، ولو كان للكتاب
نسختان بيع الزائد.
ونقل أيضا استثناء أثاث البيت من بساط وفراش وآنية ونحو ذلك.
أقول: إن مقتضى الآية والأخبار الكثيرة هو وجوب الحج على كل
من استطاع، بمعنى: قدر على الاتيان به، واستثناء هذه الأشياء أو بعضها يحتاج
إلى دليل متى حصلت الاستطاعة بها. نعم قام الدليل العام على نفي الحرج في
الدين (1) وعدم تحمل الضرر (2) وسهولة الحنيفية (3) والتوسعة في التكليف (4)
فيجب بمقتضى ذلك الاقتصار من هذه الأشياء على ما يلزم من التكليف
بصرفها وفقدها ذلك عينا أو قيمة.

(1) ارجع إلى الحدائق ج 1 ص 151
(2) الوسائل الباب 5 من الشفعة والباب 12 من احياء الموات، والحدائق
ج 1 ص 153.
(3) الوسائل الباب 48 من مقدمات النكاح وآدابه، والجامع الصغير
للسيوطي ج 1 ص 125 باب الباء، والمقاصد الحسنة للسخاوي ص 109 حرف الهمزة
رقم 214 وتاريخ بغداد للخطيب ج 7 ص 209.
(4) ارجع إلى الحدائق ج 1 ص 43، والشهاب في الحكم والآداب حرف
الألف: " الناس في سعة ما لم يعلموا ".
94

وقال السيد السند في المدارك بعد الكلام في المسألة - ونعم ما قال -:
وبالجملة فمقتضى الآية الشريفة والأخبار المستفيضة وجوب الحج على كل من
تمكن من تحصيل الزاد والراحلة، بل قد عرفت أن مقتضى كثير من الأخبار
الوجوب على من أطاق المشي، فيجب الاقتصار في تخصيصها أو تقييدها على
قدر الضرورة.
السادسة - قال السيد السند (قدس سره) في المدارك: المعتبر في القوت
والمشروب تمكنه من تحصيلهما إما بالشراء في المنازل أو بالقدرة على حملهما من
بلده أو غيره. وقال العلامة في التذكرة والمنتهى: إن الزاد إذا لم يجده في
كل منزل وجب حمله، بخلاف الماء وعلف البهائم فإنهما إذا فقدا من الموضع المعتاد
لهما لم يجب حملهما من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام، ويسقط
إذا توقف على ذلك. وهو مشكل. والمتجه عدم الفرق في وجوب حمل الجميع مع
الامكان وسقوطه مع المشقة الشديدة. انتهى.
أقول: الظاهر من كلام العلامة في الكتابين المذكورين هو الفرق بين الزاد
وبين الماء، ومثله علف الدواب، فيجب حمل الأول دون الأخيرين باعتبار عدم
المشقة في الأول ووجود المشقة في الأخيرين، فهو راجع في الحقيقة إلى
ما استوجهه (قدس سره) بقوله: " والمتجه... إلى آخره ".
وها أنا أسوق كلامه (قدس سره) في الكتابين: أما في التذكرة فإنه قال: وإن كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله، وإن لم يجده كذلك
لزمه حمله. وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على
حسب العادة فلا كلام، وإن لم يوجد لم يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب
البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها، لما فيه من عظم المشقة وعدم جريان
95

العادة به، ولا يتمكن من حمل الماء لدوابه في جميع الطريق، والطعام بخلاف
ذلك. انتهى.
وهو - كما ترى - صريح في أن عدم وجوب حمل الماء له ولدوابه وكذا
العلف إنما هو من حيث لزوم المشقة العظيمة. وهو كذلك، فإنه متى كان الطريق
- مثلا - عشرين يوما أو شهرا أو نحو ذلك والحال أنه ليس فيها ماء فحمل الماء
له ولدوابه في تلك المدة في غاية الاشكال كما هو ظاهر، ومثله علف الدواب.
وأما في المنتهى فإنه ذكر هذه المسألة في موضعين: أحدهما صريح في ما
ذكره هنا، وثانيهما ظاهر في ذلك، قال في الكتاب المذكور: الرابع - الزاد
الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة، فإن
كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله، وإن لم يجده كذلك لزمه حمله.
وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة
لم يجب حملهما، وإلا وجب مع المكنة ومع عدمها يسقط الفرض. انتهى وهو
- كما ترى - موافق لما استوجهه.
وقال في موضع آخر: قد بينا أن الزاد من شرط وجوب الحج، فإذا كانت
سنة جدب لا يقدر فيها على الزاد في البلدان التي جرت العادة بحمل الزاد منها
كبغداد والبصرة لم يجب الحج، وإن كان يقدر عليه في البلدان التي جرت العادة
بحمل الزاد منها لم يعتبر وجوده في المراحل التي بين ذلك، لأن الزاد من ما
جرت العادة بحمله وهو ممكن وتقل الحاجة إليه. وأما الماء فإن كان موجودا في
المواضع التي جرت العادة بكونه فيها - كعبد (1) وعلبية (2) وغيرهما - وجب

(1) في القاموس: العبد: عين ببلاد طي.
(2) في مراصد الاطلاع ج 2 ص 956: علبية بكسر أوله وسكون
ثانيه على وزن فعلية: مويهة بالدآث. وكذا في القاموس. والدآث - كما
في مراصد الاطلاع ج 2 ص 503 - موضع بتهامة. هذا. وما ورد في الطبعة
الأولى من الحدائق - وكذا في المنتهى - الظاهر أنه تحريف من النساخ.
96

الحج مع باقي الشرائط، وإن كان لا يوجد في مواضعه لم يجب الحج وإن
وجد في البلدان التي يوجد فيها الزاد، والفرق بينهما قلة الحاجة في الزاد وكثرتها
في الماء، وحصول المشقة بحمل الماء دون الزاد. انتهى.
وهو ظاهر - كما ترى - في أن عدم وجوب حمل الماء وسقوط الحج بذلك
إنما هو من حيث المشقة في حمله بخلاف الزاد. وهو متجه فإن الزاد يكفيه منه
قليل لا يحتاج إلى مزيد مؤنة في حمله، بخلاف الماء له ولدوابه فإنه يحتاج إليه
كثيرا لشربه وطهارته وإزالة نجاساته وسقي دوابه ونحو ذلك، فالمشقة في حمله
من مثل بغداد والبصرة إلى مكة ظاهر لاخفاء فيه.
نعم ظاهر كلام الشيخ في المبسوط الذي قدمنا نقله في المسألة الثالثة - حيث
ناط وجوب الحمل وعدمه بالعادة دون المشقة - المنافاة لما ذكروه، ولهذا إن
شيخنا الشهيد في الدروس إنما أسند الخلاف في المسألة إلى الشيخ دون العلامة،
قال: ويجب حمل الزاد والعلف ولو كان طويل الطريق، ولم يوجب الشيخ حمل
الماء زيادة عن مناهله المعتادة.
بقي الكلام في صدر عبارة العلامة الأخيرة فإنه لا يخلو من مناقشة، فإن
ظاهرها أنه إذا لم يقدر على تحصيل الزاد من البلد من حيث الجدب سقط الحج.
وظاهره أن ذلك أعم من أن يمكن وجوده في الطريق أم لا، بل يجب تقييده بعدم
وجوده في الطريق وإلا لوجب شراؤه.
السابعة - قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يشترط
في الراحلة أن تكون مناسبة لحاله في القوة والضعف، فمن كان يمكنه الركوب
97

على القتب لا يعتبر في حقه أزيد من ذلك، ومن شق عليه ذلك بحيث يحتاج
إلى محمل توقف حصول الاستطاعة عليه، وهكذا لو شق عليه المحمل واحتاج
إلى الكنيسة.
قال العلامة في التذكرة: ويعتبر راحلة مثله، فإن كان يستمسك على الراحلة
من غير محمل ولا يلحقه ضرر ولا مشقة شديدة فلا يعتبر في حقه إلا وجدان
الراحلة لحصول الاستطاعة معها، وإن كان لا يستمسك على الراحلة بدون المحمل
أو يجد مشقة عظيمة اعتبر مع وجود الراحلة وجود المحمل، ولو كان يجد مشقة
عظيمة في ركوب المحمل اعتبر في حقه الكنيسة. ولا فرق بين الرجل والمرأة في
ذلك. انتهى. وعلى هذا النحو كلامهم وإن تفاوت اجمالا وتفصيلا.
والسيد السند في المدارك وتبعه الفاضل الخراساني في الذخيرة قد نسبا
إلى العلامة في التذكرة الخلاف في هذه المسألة، فنقلا عنه أن المراد بكون
الراحلة مناسبة لحاله أن المراد المناسبة باعتبار الشرف والعزة، فيعتبر في استطاعته
المحمل أو الكنيسة عند علو منصبه. ثم رداه بالأخبار الدالة على الحج على حمار
أجدع أبتر (1) واعتضدا بما ذكره الشهيد في الدروس حيث قال: والمعتبر في
الراحلة ما يناسبه ولو محملا إذا عجز عن القتب، ولا يكفي علو منصبه في اعتبار
المحمل والكنيسة، فإن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة (عليهم السلام) حجوا على الزوامل.
والعجب منهما في هذه الغفلة وعبارة التذكرة - كما تلوناها عليك - صريحة
في كون المراد بمناسبة حاله إنما هو في القوة والضعف لا في الشرف والضعة،
فينبغي التأمل في ذلك وعدم الاعتماد على مثل هذه النقول ولو من مثل هؤلاء
الفحول، فإن المعصوم من عصمه الله، والجواد قد يكبو، والسيف قد ينبو.

(1) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
98

ثم إنه لا يخفى أن في حكم الزاد والراحلة ما يحتاج إليه من الخدم واحدا
أو أكثر، وما يحتاج إليه من الفراش وأوعية الماء من القرب وغيرها،
ونحو ذلك.
الثامنة - ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاجماع على أنه لو بذل
له باذل الزاد والراحلة ونفقة له ولعياله وجب عليه الحج وكان بذلك مستطيعا.
وتدل عليه جملة من الأخبار المتقدمة في صدر البحث مثل صحيحة محمد بن
مسلم وحسنة الحلبي أو صحيحته (1).
وموثقة أبي بصير أو صحيحته (2) قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
من عرض عليه الحج ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع للحج ".
وصحيحة معاوية بن عمار (3) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجل لم يكن
له مال فحج به رجل من إخوانه هل يجزئ ذلك عنه من حجة الاسلام أم هي
ناقصة؟ قال: بل هي حجة تامة ".
وبهذا الاسناد عن أبي عبد الله عليه السلام (4) في حديث قال: " وإن كان دعاه قوم
أن يحجوه فاستحى فلم يفعل فإنه لا يسعه إلا الخروج ولو على حمار أجدع أبتر ".
وروى شيخنا المفيد في المقنعة مرسلا (5) قال: " قال عليه السلام: من عرضت
عليه نفقة الحج فاستحى فهو ممن ترك الحج مستطيعا إليه السبيل ".
وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن أبي بصير (6) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: رجل كان له مال فذهب ثم عرض عليه الحج فاستحى؟ فقال:
من عرض عليه الحج فاستحى ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فهو ممن يستطيع
الحج ".

(1) ص 84
(2) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
(6) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
99

واطلاق هذه الروايات يقتضي عدم الفرق بين أن يكون البذل على وجه
التمليك أم لا، ولا بين أن يكون واجبا بنذر أو شبهه أم لا، ولا بين أن
يكون الباذل موثوقا به أم لا، ولا بين بذل عين الزاد والراحلة أو أثمانهما.
ونقل عن ابن إدريس أنه اعتبر في وجوب الحج بالبذل تمليك المبذول،
ونقله في الدروس عن العلامة أيضا. وفرق العلامة في التذكرة - ومثله شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك - بين العين والثمن فحكما بالاستطاعة ببذل الأول دون
الثاني. واشترط في الدروس التمليك أو الوثوق به، ونقل عن جمع من الأصحاب
اشتراط التمليك أو الوجوب بنذر أو شبهه.
وقال العلامة في التذكرة: هل يجب على الباذل بالبذل الشئ المبذول
أم لا؟ فإن قلنا بالوجوب أمكن وجوب الحج على المبذول له، لكن في ايجاب
المبذول بالبذل اشكال أقربه عدم الوجوب، وإن قلنا بعدم وجوبه ففي ايجاب
الحج اشكال أقربه العدم، لما فيه من تعليق الواجب بغير الواجب. انتهى.
أقول: لا يخفى أن هذا الكلام مخالف لما صرح (قدس سره) به في
صدر المسألة حيث قال: مسألة: لو لم يكن له زاد وراحلة أو كان ولا مؤنة
لسفره أو لعياله وبذل له باذل الزاد والراحلة ومؤنته ذاهبا وعائدا ومؤنة عياله
مدة غيبته وجب عليه الحج عند علمائنا سواء كان الباذل قريبا أو بعيدا، لأنه
مستطيع للحج، ولأن الباقر والصادق (عليهما السلام) (1) سئلا عن من عرض
عليه الحج فاستحى من ذلك أهو ممن يستطيع إلى ذلك سبيلا؟ قالا: نعم.
وهو ظاهر - كما ترى - في حكمه بالوجوب بمجرد البذل ودعواه الاجماع عليه،

(1) هذا مضمون الأخبار الواردة في الوسائل الباب 10 من وجوب
الحج وشرائطه.
100

وحينئذ فالظاهر أن هذا الكلام عدول عن ما ذكره أولا.
وكيف كان فجميع ما ذكروه هنا تقييد للنص من غير دليل، وتخيل
بطلان تعلق الواجب بغير الواجب - كما ذكره في التذكرة - مدفوع بأن يقال
إنه يشترط في استمرار الوجوب استمرار البذل، فإن من شرائط الوجوب
استمرار الاستطاعة والاستطاعة هنا إنما هي البذل. نعم لا يبعد - كما ذكر في
المدارك - اعتبار الوثوق بالباذل، لما في التكليف بالحج بمجرد البذل مع عدم
الوثوق بالباذل من التعرض للخطر على النفس المستلزم للحرج العظيم والمشقة الزائدة
فكان منفيا. والظاهر أن الاطلاق في الأخبار بالنسبة إلى هذا القيد الذي ذكرناه
إنما وقع بناء على ما هو المعروف المعهود يومئذ من وفاء الناس بذلك فلا يقاس
على مثل أزماننا هذه.
بقي هنا شئ وهو أن السيد السند (قدس سره) قال: واعتبر في التذكرة
وجوب البذل بنذر وشبهه حذرا من استلزام تعليق الواجب بغير الواجب. ثم
رده بأنه ضعيف. وما ذكره ليس في التذكرة منه عين ولا أثر وإنما الذي فيها
هو ما قدمنا نقله عنه أولا، ولعله أراد أن اللازم من العبارة المتقدمة ذلك.
ثم إنه ينبغي التنبيه هنا على أمور:
الأول - قال السيد السند في المدارك: اطلاق النص وكلام الأصحاب
يقتضي عدم الفرق بين بذل عين الزاد والراحلة وأثمانهما، وبه صرح في التذكرة
واعتبر الشارح (قدس سره) بذل عين الزاد والراحلة، قال: فلو بذل أثمانهما
لم يجب القبول... إلى آخر كلامه الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.
أقول: أما ما ذكره من اطلاق النص فصحيح كما أشرنا إليه آنفا، وأما
ما ذكره من اطلاق كلام الأصحاب فلم أقف عليه في كلام أحد منهم إلا في عبارة
الشيخ في المبسوط حيث قال: إذا بذل له الاستطاعة قدر ما يكفيه ذاهبا وجائيا
101

ويخلف لمن تجب عليه نفقته لزمه فرض الحج لأنه مستطيع. فإن قوله: " إذا
بذل له الاستطاعة " صادق باطلاقه على بذل العين أو الثمن. ونحو ذلك في النهاية
وأما غيره فهم ما بين مصرح بخصوص بذل الزاد والراحلة ولم يتعرض لحكم الثمن
- كالمحقق في المعتبر والشرائع والعلامة في المنتهى والارشاد - ومن لم يتعرض
لحكم البذل مطلقا كالعلامة في القواعد - ومن ذكرهما معا وفرق بينهما كالعلامة
في التذكرة وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
وأما ما نقله عن العلامة في التذكرة - من أنه صرح بعدم الفرق بين الزاد
والراحلة وبين أثمانهما في حصول الاستطاعة ببذل العين والثمن - فهو عجب
عجيب، كيف؟ وهذه صورة عبارة العلامة في الكتاب المذكور، فإنه قال أولا:
مسألة: لو لم يكن له زاد وراحلة... إلى آخر العبارة التي قدمناها آنفا. ثم
قال: فروع: الأول - لو بذل له مال يتمكن به من الحج ويكفيه؟ في مؤنته
ومؤنة عياله لم يجب عليه القبول... لاشتماله على المنة. ولأن في قبول المال
وتملكه ايجاب سبب يلزم به الفرض وهو القبول، وربما حدثت عليه حقوق
كانت ساقطة فيلزمه صرف المال إليها من وجوب نفقة وقضاء دين. ولأن تحصيل
شرط الوجوب غير واجب كما في تحصيل مال الزكاة. انتهى. وهو صريح
- كما ترى - في الفرق بين بذل العين - كما ذكره في صدر المسألة من أنه يجب
عليه الحج - وبين بذل الثمن فلا يجب عليه القبول، كما ذكره في الفرع المذكور
نعم قال في الفرع الرابع: قال ابن إدريس من علمائنا: أن من يعرض عليه
بعض إخوانه ما يحتاج إليه من مؤنة الطريق يجب عليه الحج بشرط أن يملكه
ما يبذل له ويعرض عليه لا وعدا بالقول دون الفعل... والتحقيق أن نقول: إن
البحث هنا في أمرين: الأول - هل يجب على الباذل... إلى آخر ما قدمناه
من العبارة المذكورة. ثم قال: الثاني - هل بين بذل المال وبذل الزاد والراحلة
102

ومؤنته ومؤنة عياله فرق أم لا؟ الأقرب عدم الفرق لعدم جريان العادة بالمسامحة
في بذل الزاد والراحلة والمؤن بغير منة كالمال. انتهى.
وهو - كما ترى - ظاهر في أن المراد إنما هو عدم الفرق بينهما في أنه
لا تحصل الاستطاعة بهما، لأنه ذكر في الفرع الأول - كما نقلناه - عدم وجوب
قبول المال إذا بذل له لاشتماله على المنة... إلى آخر ما تقدم، وهنا قد ألحق
به عين الزاد والراحلة لو بذل له وجعل حكمه حكم المال في عدم وجوب قبوله،
لاشتماله على المنة لأنه لم تجر العادة بالمسامحة به. والسيد (قدس سره) قد توهم
العكس في وجوب القبول في الموضعين وحصول الاستطاعة، وهي غفلة فاحشة.
وبالجملة فإن مرجع كلام العلامة هنا إلى موافقة ابن إدريس في أنه لا يكفي
مجرد البذل - للعين كان أو للثمن - بل لا بد من التمليك. وفيه رجوع عن ما
يدل عليه أول كلامه في المسألة كما أشرنا إليه آنفا. والظاهر أن شيخنا الشهيد
في الدروس إنما نسب إليه القول بما ذهب إليه ابن إدريس من كلامه هنا وإلا
فكلامه في سائر كتبه خال من ذلك.
بقي الكلام في ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني - وقبله العلامة في التذكرة -
من دعوى حصول الفرق بين بذل عين الزاد والراحلة وبذل أثمانهما في وجوب
الحج، وحصول الاستطاعة على الأول دون الثاني، فإن اطلاق النصوص
المتقدمة شامل للأمرين. وتعليلهما المنع في الثاني - باعتبار اشتماله على المنة،
وأنه موقوف على القبول وهو شرط للواجب المشروط فلا يجب تحصيله - وارد
عليهما في بذل العين أيضا.
وبالجملة فالنصوص المتقدمة - كما عرفت - شاملة باطلاقها لعين الزاد
والراحلة وأثمانهما، فإن عمل بها على اطلاقها ففي الموضعين، وإلا فلا فيهما.
وظاهرها أنه بمجرد بذل ما يحج به وعرض ذلك عليه يكون مستطيعا،
103

ومتى تحققت الاستطاعة بذلك كان الحج واجبا مطلقا، لأن كونه واجبا مشروطا
إنما هو بالنسبة إلى الاستطاعة، فمتى لم تتحقق الاستطاعة لم يجب تحصيلها، لأن
شرط الواجب المشروط لا يجب تحصيله، ومتى تحققت الاستطاعة صار الوجوب
مطلقا فيجب تحصيل ما يتوقف عليه من المقدمات، ومنها في ما نحن فيه قبول ذلك
لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذا بحمد الله واضح لا سترة عليه.
الثاني - الظاهر أنه لا فرق بين بذل الزاد والراحلة وبين هبتهما في حصول
الاستطاعة، لاطلاق النصوص المتقدمة. وظاهر كلام جملة من الأصحاب - بل
الظاهر أنه المشهور بين المتأخرين - هو الفرق، معللين عدم وجوب قبول الهبة بأن
فيه تحصيلا لشرط الوجوب وهو غير لازم، ولاشتماله على المنة. وقد عرفت
آنفا ما في التعليلين من الوهن والقصور، ولهذا أن الشهيد في الدروس - بعد أن
ذكر أنه لا يجب قبول هبتهما جريا علي ما هو المشهور بينهم - تنظر في الفرق بين
الهبة والبذل، ووجه النظر ظاهر بما قدمناه.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد قول المصنف -: ولو وهب له
مال لم يجب قبوله - ما لفظه: لأن قبول الهبة نوع من الاكتساب وهو غير
واجب للحج، لأن وجوبه مشروط بالاستطاعة، فلا يجب تحصيل شرطه بخلاف
الواجب المطلق. ومن هنا ظهر الفرق بين البذل والهبة، فإن البذل يكفي فيه
نفس الايقاع في حصول القدرة والتمكن فيجب بمجرده. انتهى.
أقول: لا يخفى أن قولهم (عليهم السلام) (1) - في ما تقدم من الأخبار:
" من عرض عليه الحج أو من عرض عليه ما يحج به فهو مستطيع " - صادق على
من وهب له مال، فإنه متى قال له: " وهبتك هذا المال للحج " فقد صدق عليه

(1) الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه
104

أنه عرضه عليه كما في قوله: " خذ هذا المال وحج به " وحينئذ فتثبت الاستطاعة
بمجرد الهبة، وإذا ثبتت الاستطاعة بمجرد ذلك كان الحج واجبا مطلقا، ووجب
عليه القبول من حيث توقف الواجب عليه، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب، فيصير القبول من جملة مقدمات الواجب. وحصول الاستطاعة بالهبة
لا يتوقف على القبول ليكون الحج قبل القبول واجبا مشروطا ولا يجب تحصيل
شرطه، بل الحج بمجرد العرض عليه - بقوله: " وهبتك " أو قوله: " خذ هذا
المال " - قد صار واجبا مطلقا لحصول الاستطاعة بمجرد ذلك. اللهم إلا أن يناقش
في أن قول القائل: " وهبتك هذا المال للحج " لا يصدق عليه أنه عرض عليه.
وهو في غاية البعد، قال في القاموس: " عرض الشئ له أظهره له، وعليه أراه
إياه " وحينئذ فمعنى: " عرض عليه ما يحج به " لغة: أراه ما يحج به. والعبارة
في الأخبار خرجت مخرج التجوز باعتبار أخباره واعلامه بذلك. ومن ذلك
يعلم صدق العبارة المذكورة على الهبة كالبذل بغير هبة.
ولم أر من خرج عن كلام الأصحاب في هذا المقام وألحق الهبة بمجرد
البذل سوى السيد السند في المدارك، واقتفاه الفاضل الخراساني في الذخيرة، وقبلهما
المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، وهو الحق الحقيق بالاتباع وإن كان
قليل الاتباع.
الثالث - قال في المسالك: ولا يشترط في الوجوب بالبذل عدم الدين أو
ملك ما يوفيه به بل يجب الحج وإن بقي الدين. أقول: وهو كذلك لاطلاق
النصوص.
ثم قال: نعم لو بذل له ما تكمل به الاستطاعة اشترط في ماله الوفاء بالدين
وكذا لو وهبه مالا مطلقا، ولو شرط عليه الحج به فكالمبذول.
الرابع - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا يجب على
105

المبذول له إعادة الحج بعد اليسار، وذهب الشيخ في الإستبصار إلى وجوب
الإعادة.
ويدل على الأول صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (1) في صدر المسألة.
احتج الشيخ بما رواه الكليني في الموثق عن الفضل بن عبد الملك (2) قال:
" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل لم يكن له مال فحج به أناس من أصحابه
أقضى حجة الاسلام؟ قال: نعم، فإن أيسر بعد ذلك فعليه أن يحج. قلت:
هل تكون حجته تلك تامة أو ناقصة إذا لم يكن حج من ماله؟ قال: نعم قضى
عنه حجة الاسلام وتكون تامة وليست بناقصة، وإن أيسر فليحج ".
ولا يخفى أن هذا الخبر بالدلالة على خلاف ما يدعيه أنسب، فإنه صريح
في كونه قضى حجة الاسلام، وحينئذ فالأمر بالحج ثانيا محمول على الاستحباب
وبذلك صرح في التهذيب فقال بعد حمل الرواية على الاستحباب: يدل على
ما ذكرنا من الاستحباب أنه إذا قضى حجة الاسلام فليس بعد ذلك إلا الندب
والاستحباب.
وبذلك يظهر لك ما في قوله في الإستبصار: وأما قوله في الخبر الأول:
" ويكون قد قضى حجة الاسلام " المعنى فيه: الحجة التي ندب إليها في حال اعساره
فإن ذلك يعبر عنها بحجة الاسلام من حيث كانت أول الحجة. انتهى. وهو في
الضعف أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
وبما ذكرنا يجاب أيضا عن رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (3)

(1) ص 99
(2) التهذيب ج 5 ص 7 وفي الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه
(3) الوسائل الباب 21 و 23 من وجوب الحج وشرائطه
106

قال: " لو أن رجلا معسرا أحجه رجل كانت له حجة، فإن أيسر بعد ذلك
كان عليه الحج. وكذلك الناصب إذا عرف فعليه الحج وإن كان قد حج ".
ويؤكد الاستحباب في هذا الخبر إضافة الناصب، فإن الأخبار تكاثرت
بأنه لا إعادة على الناصب بعد ايمانه في شئ من عباداته التي عملها حال نصبه
إلا الزكاة (1).
أقول: ومن ما يوضح ذلك بأوضح وجه دلالة الأخبار المتقدمة على
حصول الاستطاعة الشرعية بالبذل وأنه يجب عليه الحج بذلك، وهي حجة الاسلام
البتة، وليس بعدها إلا الاستحباب.
التاسعة - قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو كان
ذا مال تحصل به الاستطاعة فنازعته نفسه إلى النكاح لم يجز صرفه في النكاح
وإن شق عليه وحصل له العنت بل الواجب صرفه في الحج، لأن الحج مع
الاستطاعة واجب والنكاح مندوب، والمندوب لا يعارض الواجب.
قال العلامة في التذكرة: لو احتاج إلى النكاح وخاف على نفسه العنت
قدم الحج، لأنه واجب والنكاح تطوع، ويلزمه الصبر. وبنحو ذلك صرح المحقق
في الشرائع والعلامة في الإرشاد، فإنهما صرحا بوجوب تقديم الحج وإن شق
عليه ترك النكاح.
وصرح العلامة في المنتهى بتقديم النكاح لو خاف من تركه المشقة العظيمة
لحصول الضرر. ونحوه الشهيد في الدروس أيضا. ولا يبعد تقييد كلام الموجبين
لتقديم الحج بذلك أيضا، وإن صرحوا بوجوب تقديمه وإن حصلت المشقة بترك

(1) الوسائل الباب 31 من مقدمة العبادات، والباب 3 من المستحقين
للزكاة، والباب 23 من وجوب الحج وشرائطه.
107

النكاح، بحمل ذلك على مشقة لا يترتب عليها الضرر.
ولم أقف في المسألة على خبر على الخصوص، إلا أن ما ذكرناه من ما يستفاد
من القواعد الشرعية.
العاشرة - لو طلب من فاقد الاستطاعة أن يؤجر نفسه للمساعدة في السفر
بما تحصل به الاستطاعة لم يجب عليه القبول، لما تقرر من أن تحصيل شرط
الوجوب ليس بواجب. نعم لو آجر نفسه بمال تحصل به الاستطاعة - أو ببعضه
إذا كان مالكا للباقي - وجب عليه الحج، لحصول الاستطاعة التي هي
شرط الوجوب.
وأورد هنا اشكال وهو أن الوصول إلى مكة والمشاعر قد صار واجبا على
الأجير بالإجارة فكيف يكون مجزئا عن حجة الاسلام؟ وما الفرق بينه وبين
ناذر الحج في سنة معينة إذا استطاع في تلك السنة لحجة الاسلام؟ حيث حكموا
بعدم تداخل الحجتين.
وأجيب بأن الحج الذي هو عبارة عن مجموع الأفعال المخصوصة لم تتعلق
به الإجارة وإنما تعلقت بالسفر خاصة، وهو غير داخل في أفعال الحج وإنما
الغرض منه مجرد انتقال البدن إلى تلك الأمكنة ليقع الفعل، حتى لو تحققت
الاستطاعة فانتقل ساهيا أو مكرها أو على وجه محرم ثم أتى بتلك الأفعال صح
الحج، ولا يعتبر وقوعه لأجل الحج قطعا، وهذا بخلاف نذر الحج في السنة
المعينة، فإن الحج نفسه يصير واجبا بالنذر فلا يكون مجزئا عن حج الاسلام
لاختلاف السببين، مع احتمال التداخل. وسيجئ تحقيق المسألة في محلها
إن شاء الله تعالى.
الحادية عشرة - اختلف الأصحاب في ما لو لم يكن الرجل مستطيعا وكان
108

له ولد ذو مال، فهل يجب على الأب الأخذ من مال ابنه ما يحج به ويحج
أم لا؟ قولان:
قال الشيخ في النهاية: ومن لم يملك الاستطاعة وكان له ولد له مال وجب عليه
أن يأخذ من مال ولده قدر ما يحج به على الاقتصاد ويحج. وبه قال ابن البراج. وقال
في المبسوط والخلاف: روى أصحابنا إذا كان له ولد له مال وجب عليه أن يأخذ
من مال ولده قدر ما يحج به ويجب عليه اعطاؤه. ثم قال في الخلاف: ولم يرو
أصحابنا في ذلك خلاف هذه الرواية فدل على اجماعهم عليها.
وقال الشيخ المفيد في المقنعة: وإن كان الرجل لا مال له ولولده مال
فإنه يأخذ من مال ولده ما يحج به من غير إسراف وتقتير.
واستدل له الشيخ في التهذيب (1) بما رواه في الصحيح عن سعيد بن يسار
قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يحج من مال ابنه وهو صغير؟ قال:
نعم يحج منه حجة الاسلام. قلت: وينفق منه؟ قال: نعم. ثم قال: إن
الولد لوالده، إن رجلا اختصم هو ووالده إلى النبي صلى الله عليه وآله فقضى أن المال
والولد للوالد ".
ونقل عن ابن إدريس أنه منع من ذلك، قال: لأن مال الولد ليس مالا
للوالد. وتبعه من تأخر عنه. وأجاب العلامة في المختلف عن الرواية بالحمل على
الاستدانة بعد تحقق الاستطاعة، أو على من وجب عليه الحج أولا واستقر في
ذمته وفرط فيه ثم تمكن من الاقتراض من مال الولد فإنه يلزمه ذلك.
واعترضه في المدارك بأن هذا الحمل بعيد جدا، لمنافاته لما تضمنته الرواية
من قضاء النبي صلى الله عليه وآله. ثم قال: وكيف كان فالأصح ما ذهب إليه المتأخرون،

(1) ج 5 ص 15 وفي الوسائل الباب 36 من وجوب الحج وشرائطه.
109

لأن هذه الرواية لا تبلغ حجة في اثبات هذا الحكم المخالف للأدلة القطعية. انتهى
والفاضل الخراساني في الذخيرة بعد أن ذكر جواب العلامة عن الرواية
استبعده، ثم قال: والعدول عن ظاهر الرواية الصحيحة لا يخلو من
اشكال. انتهى.
أقول: لا يخفى أن الروايات قد اختلفت في جواز أخذ الوالد من مال
ابنه بغير إذنه، وكذا وطء جاريته بغير إذنه، وهذه الرواية إنما خرجت ذلك
المخرج الذي خرجت عليه روايات الجواز، والكلام فيها يترتب على الكلام
في تلك الروايات، والأصحاب (رضوان الله عليهم) اقتصروا على الكلام في هذه
الرواية استدلالا وجوابا، والتحقيق أن هذه الرواية لا خصوصية لها بالبحث
عنها بل الواجب هو النظر في جملة روايات المسألة والجمع بينها.
وها أنا أنقل ما وقفت عليه من الأخبار في ذلك وأبين ما ظهر لي من
الوجه فيها:
فمنها - ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي
عبد الله عليه السلام (1) قال: " سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج إليه الأب؟ قال:
يأكل منه. فأما الأم فلا تأكل منه إلا قرضا على نفسها ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام (2)
قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله لرجل: أنت ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر
عليه السلام: ما أحب له أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه من ما لا بد منه، إن
الله (عز وجل) لا يحب الفساد ".
وما رواه الكليني عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام (3) " في

(1) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به.
(2) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به.
(3) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به.
110

الرجل يكون لولده مال فأحب أن يأخذ منه؟ قال: فليأخذ. وإن كانت
أمه حية فما أحب أن تأخذ منه شيئا إلا قرضا على نفسها ".
وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) في الصحيح في التهذيب
والفقيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (1) قال: " سألته عن الرجل يحتاج
إلى مال ابنه؟ قال: يأكل منه ما شاء من غير سرف. وقال: في كتاب علي عليه السلام:
إن الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلا بإذنه، والوالد يأخذ من مال ابنه
ما شاء. وله أن يقع على جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها. وذكر أن
رسول الله صلى الله عليه وآله قال لرجل: أنت ومالك لأبيك ".
أقول: وصورة رواية الفقيه (2) لهذا الخبر من قوله: " عن أبي جعفر
عليه السلام قال: في كتاب علي عليه السلام... إلى قوله: وقع عليها " وما زاد أولا وآخرا
من الكتابين الآخرين.
وما رواه في التهذيب عن الحسين بن علوان عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهم السلام) (3) قال: " أتى النبي صلى الله عليه وآله رجل فقال: يا رسول الله
صلى الله عليه وآله إن أبي عمد إلى مملوك لي فأعتقه كهيئة المضرة لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
أنت ومالك من هبة الله لأبيك، أنت سهم من كنانته " يهب لمن يشاء إناثا ويهب
لمن يشاء الذكور... ويجعل من يشاء عقيما " (4) جازت عتاقة أبيك، يتناول

(1) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به، وفي التهذيب ج 6 ص 343
عن أبي عبد الله عليه السلام كما في الوسائل عنه.
(2) ج 3 ص 286. وفي الوسائل الباب 40 من نكاح العبيد والإماء
(3) الوسائل الباب 67 من العتق.
(4) سورة الشورى الآية 49 و 50
111

والدك من مالك وبدنك، وليس لك أن تتناول من ماله ولا من بدنه شيئا إلا بإذنه "
وما رواه الصدوق في كتابي العيون والعلل بسنده فيهما عن محمد بن
سنان (1): " أن الرضا عليه السلام كتب إليه في ما كتب من جواب مسائله: وعلة
تحليل مال الولد لوالده بغير أنه وليس ذلك للولد، لأن الولد موهوب للوالد في
قوله (عز وجل): يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (2) مع أنه
المأخوذ بمؤنته صغيرا وكبيرا، والمنسوب إليه والمدعو له، لقوله عز وجل: ادعوهم
لآبائهم هو أقسط عند الله (3) ولقول النبي صلى الله عليه وآله: أنت ومالك لأبيك. وليس
للوالدة مثل ذلك، لا تأخذ شيئا من ماله إلا بإذنه أو بإذن الأب، لأن الوالد
مأخوذ بنفقة الولد ولا تؤخذ المرأة بنفقة ولدها ".
وما رواه الثقة الجليل علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر
عليه السلام (4) قال: " سألته عن الرجل تكون لولده الجارية أيطأها؟ قال: إن
أحب. وإن كان لولده مال وأحب أن يأخذ منه فليأخذ. وإن كانت الأم
حية فلا أحب أن تأخذ منه شيئا إلا قرضا ".
فهذه الأخبار كلها - كما ترى على تكاثرها وصحة أسانيد بعضها - ظاهرة
في موافقة الخبر المتقدم. وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك وقوله:
" لأن هذه الرواية لا تبلغ حجة... إلى آخره " فإنها متى اعتضدت بهذه الأخبار
الدالة على ما دلت عليه كانت معها في أعلى مراتب الحجية.
إلا أن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على عدم القول بها، وقد تأولوها
بحمل أخذ الوالد على جهة النفقة، والأخبار المذكورة تنبو عن ذلك، فإنها قد

(1) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به.
(2) سورة الشورى الآية 49.
(3) سورة الأحزاب الآية 4.
(4) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به.
112

اشتملت على منع الأم من الأخذ من ماله إلا قرضا، والابن إلا بإذن الأب. وهذا
من ما يدافع الحمل المذكور، لاشتراك الجميع في وجوب الانفاق على الغني منهم،
فيجوز للأم الأخذ نفقة، والابن الأخذ نفقة، بلا خلاف ولا اشكال.
ومن الأخبار المدافعة لهذه الأخبار ما تقدم في صحيحة الثمالي (1) من قول
أبي جعفر عليه السلام: " ما أحب له أن يأخذ من مال ابنه... إلى آخره " فإنه ظاهر
في العدم إلا مع الضرورة.
ومنها - ما رواه في الكافي والفقيه عن الحسين بن أبي العلاء (2) قال:
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال: قوته بغير
سرف إذا اضطر إليه. قال: فقلت له: فقول رسول الله صلى الله عليه وآله للرجل الذي أتاه
فقدم أباه فقال له: أنت ومالك لأبيك؟ فقال: إنما جاء بأبيه إلى النبي صلى الله عليه وآله
فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أمي. فأخبره الأب أنه
قد أنفقه عليه وعلى نفسه. فقال صلى الله عليه وآله: أنت ومالك لأبيك. ولم يكن عند
الرجل شئ، أو كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحبس الأب للابن ".
وهذا الخبر وإن كان سنده ضعيفا في الكتابين المذكورين، إلا أن الصدوق
رواه أيضا في كتاب معاني الأخبار (3) عن أبيه عن أحمد بن إدريس قال:
حدثنا محمد بن أحمد عن محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء.
وهو ظاهر الصحة إلى الحسين، وحسن به.
وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح إلى ابن سنان (4) قال: " سألته
- يعني أبا عبد الله عليه السلام - ماذا يحل للوالد من مال ولده؟ قال: أما إذا أنفق

(1) ص 110
(2) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به.
(3) ص 155 الطبع الحديث، وفي الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به
(4) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به.
113

عليه ولده بأحسن النفقة فليس له أن يأخذ من ماله شيئا. فإن كان لوالده جارية
للولد فيها نصيب فليس له أن يطأها إلا أن يقومها قيمة تصير لولده قيمتها عليه.
قال: ويعلن ذلك. قال: وسألته عن الوالد أيرزأ من مال ولده شيئا؟
قال: نعم، ولا يرزأ الولد من مال والده شيئا إلا بإذنه. فإن كان للرجل ولد صغار
لهم جارية فأحب أن يفتضها فليقومها على نفسه قيمة ثم ليصنع بها ما شاء، إن
شاء وطئ وإن شاء باع ".
قوله: " يرزأ من مال ولده " أي يصيب منه وينتفع به مع بقاء عينه.
وما رواه ثقة الاسلام في الكافي في الموثق عن علي بن جعفر عن أبي إبراهيم
عليه السلام (1) قال: " سألته عن الرجل يأكل من مال ولده؟ قال: لا، إلا أن
يضطر إليه فيأكل منه بالمعروف. ولا يصلح للولد أن يأخذ من مال والده شيئا
إلا بإذن والده ".
ورواه الحميري في قرب الإسناد (2) إلا أن فيه: " قال: لا إلا بإذنه، أو
يضطر فيأكل بالمعروف، أو يستقرض منه حتى يعطيه إذا أيسر ".
وفي موثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (3): " وإن كانت له
جارية فأراد أن ينكحها قومها على نفسه، ويعلن ذلك ".
أقول: وبهذه الأخبار أخذ الأصحاب وعليها عملهم، ولم يحصل الخلاف
بينهم إلا في مسألة الحج كما عرفت.
وأنت خبير بأن المخالف في هذه المسألة لا معنى لقوله بذلك في خصوص
الحج، بل اللازم عليه أما العمل بهذه الأخبار الدالة على الجواز مطلقا أو تركها

(1) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به
(2) الوسائل الباب 78 من ما يكتسب به
(3) الوسائل الباب 79 من ما يكتسب به
114

جميعا، لأن رواية الحج من جملة هذه الروايات وليس لها خصوصية بالحج، بل
ذكر الحج فيها إنما خرج مخرج التمثيل كخبر الجارية وخبر العتق (1) ومرجع
الجميع إلى جواز تصرف الوالد في مال ولده كتصرفه في مال نفسه.
بقي الكلام في الجمع بين هذه الأخبار، فإنك قد عرفت أن ما جمع به
الأصحاب بينها - من حمل أخذ الأب على كونه على جهة النفقة - غير تام. والذي
يقرب عندي - باعتبار اتفاق الطائفة المحقة قديما وحديثا على عدم العمل بأخبار
جواز الأخذ، مضافا إلى مخالفتها لمقتضى القواعد الشرعية - هو أن هذه الأخبار
إنما خرجت مخرج التقية، ولا سيما ما دل عليه خبر الحسين بن علوان من مزيد
التأكيد في هذا الحكم، فإن رجال هذا الخبر كلهم من العامة، ومستندهم في ذلك
يدور على الخبر النبوي (2) وقد كثر الاحتجاج به في هذه الأخبار على هذا
الحكم. مع أن حسنة الحسين بن أبي العلاء صريحة في تأويله وأنه لا حجة فيه
على ذلك. ويشير إلى ذلك أيضا صحيحة الثمالي (3) فإنه عليه السلام بعد أن نقل
الحديث النبوي الدال على الحكم المذكور أضرب عنه تنبيها وإشارة إلى عدم صحته
وإلا فكيف ينقله ويفتي بخلافه؟ وبذلك يظهر قوة القول المشهور في
المقامين. والله العالم.
الثانية عشرة - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن من كان غير مستطيع للحج ثم استؤجر للحج عن غيره فإن حجه ذلك لا يسقط

(1) ص 111 و 112
(2) وهو قوله صلى الله عليه وآله: " أنت ومالك لأبيك " المتقدم، ورواه ابن ماجة
في سننه ج 2 ص 44 باب (ما للرجل من مال ولده) وأبو داود في سننه ج 3
ص 289 رقم 3530.
(3) ص 110.
115

عنه حجة الاسلام بعد الاستطاعة.
ويدل على ما قالوه خبر آدم بن علي عن أبي الحسن عليه السلام (1) قال:
" من حج عن انسان ولم يكن له مال يحج به أجزأت عنه حتى يرزقه الله تعالى
ما يحج به ويجب عليه الحج ".
واستدل بعضهم على ذلك بروايتي الفضل بن عبد الملك وأبي بصير
المتقدمتين (2) في الفرع الرابع من المسألة الثامنة، والظاهر أنهما ليستا من
أدلة هذه المسألة في شئ، وإنما موردهما من بذل له مال يحج به كما هو موضوع
تلك المسألة. نعم ربما أمكن احتمال ذلك في رواية أبي بصير بالنظر إلى قوله
فيها: " أحجه رجل " فإنه يحتمل أنه أعطاه ما لا يحج به عن نفسه، ويحتمل
أنه أنابه عنه في الحج.
وقد ورد هنا جملة من الأخبار دالة بظاهرها على الاجزاء عن حجة الاسلام
وإن استطاع بعده:
ومنها - صحيحة معاوية بن عمار (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن رجل حج عن غيره، أيجزئه ذلك عن حجة الاسلام؟ قال: نعم ".
وصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) " في رجل
ليس له مال حج عن رجل أو أحجه غيره ثم أصاب مالا، هل عليه الحج؟ قال:
يجزئ عنهما ".
وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (5) قال:
" حج الصرورة يجزئ عنه وعن من حج عنه ".

(1) الوسائل الباب 21 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) ص 106
(3) الوسائل الباب 21 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 21 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 21 من وجوب الحج وشرائطه.
116

ورواية عمرو بن الياس (1) قال: " حج بي أبي وأنا صرورة، وماتت أمي
وهي صرورة، فقلت لأبي: إني أجعل حجتي عن أمي. قال: كيف يكون هذا
وأنت صرورة وأمك صرورة؟ قال: فدخل أبي على أبي عبد الله (عليه السلام)
وأنا معه، فقال: أصلحك الله تعالى، إني حججت بابني هذا وهو صرورة وماتت
أمه وهي صرورة، فزعم أنه يجعل حجته عن أمه؟ فقال: أحسن، هي عن أمه
أفضل، وهي له حجة ".
وقد ورد بإزاء هذا الخبر ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار
عن بكر بن صالح (2) قال: " كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام): إن ابني
معي وقد أمرته أن يحج عن أمي، أيجزئ عنهما حجة الاسلام؟ فكتب: لا.
وكان ابنه صرورة وكانت أمه صرورة ".
وحمله الشيخ على ما إذا كان للابن مال. وهو مؤذن بقوله بالاجزاء لو لم
يكن له مال. وأنت خبير بأنه لولا صحيحة جميل المذكورة لأمكن حمل هذه الأخبار على ما دلت عليه رواية آدم بن علي من حمل الاجزاء على الاجزاء إلى
اليسار، إلا أن صحيحة جميل صريحة في الاجزاء ولو استطاع بعد ذلك.
وأجاب المحقق الشيخ حسن عنها في المنتقى بالطعن في متنها، قال بعد نقل
الخبر المذكور: وربما تطرق إليه الشك لقصور متنه حيث تضمن السؤال أمرين
والجواب إنما ينتظم مع أحدهما، فإن قوله: " يجزئ عنهما " يناسب مسألة
الحج عن الغير، وأما حكم من أحجه غيره فيبقى مسكوتا عنه، مع أن إصابة المال

(1) التهذيب ج 5 ص 8، وفي الوسائل الباب 21 من وجوب الحج
وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 6 من النيابة في الحج
117

إنما ذكرت معه، وذلك مظنة الريب أو عدم الضبط في حكاية الجواب، فيشكل
الالتفات إليه في حكم مخالف لما عليه الأصحاب. انتهى.
أقول: لقائل أن يقول: إن المسؤول عنه وإن كان رجلا واحدا حج عن
غيره أو أحجه رجل ثم أصاب بعد الحج - على أحد الوجهين - مالا، إلا أنه يرجع
في المعنى إلى فردين: رجل حج عن غيره، ورجل أحجه غيره، وعلى هذا
بنى الجواب، فأجاب عليه السلام بأن من حج عن غيره فأصاب مالا، ومن أحجه غيره
ثم أصاب مالا: فإن حج كل منهما مجزئ عنهما ولا يجب عليهما الإعادة بعد
حصول المال. وهذا الوجه - بحمد الله تعالى - واضح الظهور لا يعتريه القصور
وعلى هذا تبقى المسألة في قالب الاشكال.
والسيد السند في المدارك - بعد نقل صحيحة معاوية بن عمار الأولى ثم
صحيحة جميل - قال: وأجاب الشيخ في الإستبصار عن الرواية الأولى بالحمل على أن
المراد بحجة الاسلام الحجة المندوب إليها في حال الاعسار دون التي تجب في حال
اليسار. وهو تأويل بعيد، مع أنه لا يجري في الرواية الثانية. إلا أنه
لا خروج عن ما عليه الأصحاب. انتهى.
وفيه أنه قد خالف الأصحاب في غير موضع من شرحه هذا، وإن لم يبلغ الدليل
الذي في خلافهم إلى ما بلغت إليه هذه الأخبار، كما نبهنا عليه في غير موضع
من شرحنا على هذا الكتاب.
والفاضل الخراساني - بعد البحث في المسألة ونقل كلام الشيخ حسن
المتقدم - قال: والمسألة عندي محل اشكال. وهو كذلك لما عرفت.
ولولا ما يظهر من اتفاق الأصحاب قديما وحديثا على الحكم المذكور.
لكان القول بما دلت عليه هذه الأخبار في غاية القوة. والله العالم.
118

المسألة الثالثة عشرة (1) - قال الشيخ في النهاية: من غصب غيره مالا
لا يجوز أن يحج به، فإن حج به لم يجزئ عن حجة الاسلام.
وقال ابن إدريس بعد نقل ذلك عنه وكلام في البين: فأما الحج بهذا المال
فإن كانت حجة الاسلام لم تجب عليه قبل ذلك ولا استقرت في ذمته ثم حج بهذا
المال الحرام ووجد بعد ذلك القدرة على الحج بالمال الحلال وحصلت له شرائط
وجوب الحج، فإن حجته الأولى بالمال الحرام لم تجزئه والواجب عليه الحج ثانيا،
وإن كان قد وجب عليه واستقر في ذمته قبل غصب المال ثم حج بذلك المال
فالحجة مجزئة عنه، لأنه قد حصل بالمواضع وفعل أفعال الحج بنفسه، إلا الهدي
إن كان اشتراه بعين المال المغصوب فلا يجزئه عن هديه الواجب عليه، ووجب عليه
شراء هدي أو الصوم بدلا منه، إلا أنه لا يفسد حجه لأن الهدي ليس
بركن. انتهى.
وقال العلامة في المختلف بعد نقل القولين المذكورين وكلام في البين: وأما
الحج فمراد الشيخ أنه حج حجة الاسلام بذلك المال من غير أن يسبق وجوبها
عملا بالأصل، ولو كان قد سبق الوجوب احتمل عدم الاجزاء أيضا، لأنه
لا يجوز له أداء المناسك قبل دفع المال إلى مالكه، فالزمان الذي صرفه في
الحج قد كان يجب فيه صرف المال إلى ربه، فيكون الحج حينئذ باطلا إذا
لم يمكن الجمع بين الحج ودفع المال. انتهى.
أقول: ظاهر كلام العلامة (رحمه الله) موافقة ابن إدريس في ما ذكره
من التفصيل ولذا حمل كلام الشيخ على ذلك، وأما ما ذكره من الاحتمال لو سبق

(1) هذه المسألة شطب عليها في النسخة المطبوعة، وهي موجودة في بعض
النسخ الخطية بالترتيب الذي أوردناه.
119

الوجوب فهو مبني على مذهبه (قدس سره) من القول بأن الأمر بالشئ يستلزم
النهي عن ضده الخاص. وقد أوضحنا في غير موضع من ما تقدم ضعف العمل
بهذه القاعدة.
والوجه في ما ذكروه من التفصيل، أما صحة الحج مع تقدم استقراره في
الذمة، فلما تقدم في كلام ابن إدريس، وأما عدم الصحة مع عدم ذلك فالظاهر أنه من حيث عدم حصول الاستطاعة للحج، فهو ليس بمستطيع له ولا مخاطب به
فيكون من قبيل تكلف الحج من غير أن يجب عليه، وقد تقدم عنهم أنه غير
مجزئ عن حجة الاسلام بل تجب عليه الإعادة متى حصلت له الاستطاعة.
وقد أوضحنا في صدر البحث ما ظهر لنا من الآية والأخبار في هذا
المقام، وبمقتضى ما حققنا ثمة أنه لا فرق بين الصورتين في الاجزاء.
إلا أن ظواهر الأخبار الواردة في هذا المقام هو بطلان الحج بالمال
الحرام مطلقا:
ومنها - ما رواه في الفقيه مرسلا (1) قال: روي عن الأئمة (عليهم
السلام) أنهم قالوا: " من حج بمال حرام نودي عند التلبية: لا لبيك عبدي
ولا سعديك ".
وما رواه في كتاب الخصال عن أبان - والظاهر أنه ابن عثمان الأحمر - عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال: " أربع لا يجزن في أربع: الخيانة والغلول والسرقة
والربا: لا يجزن في حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة " ورواه في الفقيه عن
أبان بن عثمان مثله (3).
وما رواه في كتاب المجالس في الصحيح عن محمد بن مسلم ومنهال القصاب

(1) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه.
120

جميعا عن أبي جعفر عليه السلام (1) قال: " من أصاب مالا من أربع لم يقبل في أربع:
من أصاب مالا من غلول أو رباء أو خيانة أو سرقة، لم يقبل منه في زكاة ولا صدقة
ولا حج ولا عمرة ".
وما رواه في كتاب عقاب الأعمال (2) بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال في آخر خطبة خطبها: " من اكتسب مالا حراما لم يقبل الله منه صدقة
ولا عتقا ولا حجا ولا اعتمارا، وكتب الله له بعدد أجزاء ذلك أو زارا، وما
بقي منه بعد موته كان زاده إلى النار ".
وما رواه فيه أيضا بسند صحيح إلى حديد المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام (3)
قال: " صونوا دينكم بالورع، وقووه بالتقية والاستغناء بالله عن طلب الحوائج من
السلطان، واعلموا أنه أيما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو لمن يخالفه على دينه
طلبا لما في يده، خمله الله ومقته عليه ووكله الله إليه، فإن هو غلب على شئ من
دنياه وصار في يده منه شئ، نزع الله البركة منه ولم يأجره على شئ ينفقه في
حج ولا عمرة ولا عتق ".
وما رواه البرقي في المحاسن عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام (4):
" أن النبي صلى الله عليه وآله حمل جهازه على راحلته وقال: هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة.
ثم قال: من تجهز وفي جهازه علم حرام لم يقبل الله منه الحج ".
وما رواه ثقة الاسلام في الكافي في الموثق عن زرعة (5) قال: " سأل
أبا عبد الله عليه السلام رجل من أهل الجبال عن رجل أصاب مالا من أعمال السلطان فهو
يتصدق منه ويصل قرابته ويحج ليغفر له ما اكتسب، وهو يقول: إن الحسنات

(1) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه
(2) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه
(3) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه
(4) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه
(5) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه
121

يذهبن السيئات (1). قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة
ولكن الحسنة تحط الخطيئة... الحديث ".
وأما ما رواه في الفقيه مرسلا (2) - قال: " وقال الصادق عليه السلام: لما حج
موسى عليه السلام نزل عليه جبرئيل عليه السلام فقال له موسى: يا جبرئيل ما لمن حج هذا
البيت بلا نية صادقة ولا نفقة طيبة؟ فقال: لا أدري حتى أرجع إلى ربي...
الحديث " وقد تقدم في المقدمة الأولى من المقدمات المذكورة في صدر هذا
الكتاب (3) وفيه: " أن الله سبحانه قال لمن حج كذلك: أهب له حقي وأرضي
عليه خلقي " - فيجب حمله على ما لو كان المال حلالا ظاهرا وكان في نفس الأمر حراما
أو أنه من ما فيه شبهة كجوائز السلطان ونحوها، جمعا بين الأخبار المذكورة.
ويمكن بناء على الفرق بين الصحة والقبول - كما عليه جملة من الأصحاب -
أن يقال بصحة الحج كما صرح به الأصحاب هنا، وإن كان غير مقبول كما هو
ظاهر الأخبار المذكورة. إلا أن الذي حققناه في غير موضع من زبرنا أن الأظهر
عدم الفرق بينهما. ويمكن بناء على هذا حمل الأخبار المذكورة على عدم القبول
الكامل، كما ورد عدم قبول الصلاة في مواضع، وأنه ربما يقبل منها نصفها
أو ثلثها أو نحو ذلك (4) فإنه محمول على القبول الكامل، بناء على ما هو المشهور
بين الأصحاب من اتحاد الصحة والقبول.
وبالجملة فإن المسألة غير خالية من شوب الاشكال. والله سبحانه وأولياؤه
العالمون بحقيقة الحال.

(1) سورة هود الآية 114.
(2) الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) ص 19
(4) ج 6 ص 10
122

الرابع من الشروط المتقدمة - أن يكون له ما يمون عياله الواجبي النفقة
عليه من مأكول وملبوس ونحو ذلك، قالوا: لأنه حق سابق على وجوب الحج
فيكون مقدما عليه.
ويدل على ذلك رواية أبي الربيع الشامي (1) قال: " سئل أبو عبد الله عليه السلام عن
قول الله (عز وجل): ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (2) فقال:
ما يقول الناس؟ قال: فقيل له: الزاد والراحلة (3) قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام:
قد سئل أبو جعفر عليه السلام عن هذا فقال: هلك الناس إذا، لئن كان من كان له زاد وراحلة
قدر ما يقوت به عياله ويستغني به عن الناس ينطلق إليه فيسلبهم إياه لقد هلكوا.
فقيل له: فما السبيل؟ فقال: السعة في المال إذا كان يحج ببعض ويبقى بعضا
يقوت به عياله، أليس قد فرض الله الزكاة فلم يجعلها إلا على من يملك مائتي درهم "
ويؤيد ذلك صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (4) " في
رجل مات ولم يحج حجة الاسلام، ولم يترك إلا قدر نفقة الحج، وله ورثة؟

(1) الكافي ج 4 ص 267، والتهذيب ج 5 ص 2، والفقيه ج 2 ص 258
وفي الوسائل الباب 9 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
(3) المغني ج 3 ص 219، وبداية المجتهد ج 1 ص 293، وبدائع
الصنائع ج 2 ص 122.
(4) الكافي ج 4 ص 305، والتهذيب ج 5 ص 405، إلا أن اللفظ فيهما
يختلف عن ما أورده ويتفق مع ما أورده في الفقيه ج 2 ص 270 عن هارون بن
حمزة الغنوي. وقد أورده في الوسائل عنه وعن الكافي والتهذيب في الباب 14
من وجوب الحج وشرائطه.
123

قال: هم أحق بميراثه، إن شاءوا أكلوا وإن شاءوا حجوا عنه ".
والحكم اتفاقي لا خلاف فيه.
وإنما الخلاف في أنه هل يشترط في الوجوب الرجوع إلى كفاية من مال
أو صناعة أو حرفة أم لا؟ ذهب الأكثر - ومنهم المرتضى وابن أبي عقيل وابن
الجنيد وابن إدريس وجملة من المتأخرين - إلي الثاني، وذهب الشيخان إلى الأول
ونسبه المرتضى (رضي الله عنه) إلى كثير من أصحابنا، وبه قال أبو الصلاح وابن
البراج وابن حمزة، على ما نقله في المختلف، قال: ورواه أبو جعفر ابن بابويه
في كتاب من لا يحضره الفقيه.
وهو ظاهر شيخنا علي بن سليمان البحراني (قدس سره) في حاشيته على كتاب
المختصر، حيث قال: مقتضى قوله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج (1)
اشتراط الرجوع إلى عمل أو ضيعة أو صناعة أو حرفة لمن ليس له سبيل في المعيشة
غير ما ذكر عادة... إلى أن قال: أما لو كان بيت مال يعطي منه، أو كان ممن
تتيسر له الزكاة والعطايا عادة ممن لم يتحرج من ذلك، فلا يشترط في حقه. انتهى
وادعى ابن إدريس رجوع الشيخ عن القول المذكور في الإستبصار
والخلاف، ورده العلامة في المختلف، ونقل كلام الشيخ في الكتابين المذكورين.
ولا ريب أن ما ذكره الشيخ لا يتضمن الرجوع كما توهمه ابن إدريس.
ويدل على القول المشهور عموم قوله (عز وجل): من استطاع إليه
سبيلا (2) وهذا مستطيع.
ولو قيل: إن مقتضى عموم الآية أيضا حصول الاستطاعة بالزاد والراحلة

(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة آل عمران الآية 97.
124

وإن لم يجد النفقة إلى عياله مدة غيبته.
قلنا: نعم الأمر كذلك ولكن قام الدليل - كما تقدم - على وجوب
ذلك فيخص به عموم الآية، وأما هنا فلم يقم دليل على ذلك كما سيتضح لك
إن شاء الله تعالى.
وتدل عليه أيضا الروايات المتقدمة في الشرط الثالث، مثل صحيحة محمد
بن يحيى الخثعمي (1) المشتملة على أن كل من كان صحيحا في بدنه مخلي سربه
له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع الحج، وحسنة الحلبي المشتملة على أن من عرض
عليه ما يحج به فاستحى من ذلك فهو ممن يستطيع الحج (2) ونحوهما من ما تقدم.
احتج الشيخ - على ما نقله في المختلف - بأصالة البراءة، والاجماع، ورواية
أبي الربيع الشامي المتقدمة (3).
ورد بأن أصالة البراءة إنما يصار إليها إذا لم يدل على خلافها دليل.
والاجماع غير ثابت. والخبر غير دال على ما ادعاه، بل ظاهره إنما هو الدلالة على
نفقة عياله مدة ذهابه وإيابه لا الرجوع إلى كفاية.
نعم قد روى هذه الرواية الشيخ المفيد في المقنعة (4) بزيادة ربما توهم
ما ذهبا إليه، فإنه روى الرواية هكذا: " قد قيل لأبي جعفر عليه السلام ذلك فقال:
هلك الناس، إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غير هما ومقدار ذلك ما يقوت به
عياله ويستغني به عن الناس فقد وجب عليه أن يحج بذلك ثم يرجع فيسأل الناس
بكفه، لقد هلك الناس إذن. فقيل له: فما السبيل؟ قال: السعة في المال وهو
أن يكون معه ما يحج ببعضه ويبقى البعض يقوت به نفسه وعياله ".

(1) ص 80 و 129
(2) ص 84.
(3) ص 123
(4) ص 60، وفي الوسائل الباب 9 من وجوب الحج وشرائطه
125

وأجيب عنها بعدم الدلالة على ما ادعياه من اشتراط الرجوع إلى تلك الأشياء
المعدودة التي فسروا بها الرجوع إلى كفاية، فإن غاية ما تدل عليه اعتبار بقاء
شئ من المال حتى لا يكون بعد رجوعه يحتاج إلى سؤال الناس، وبه يصدق
قوله: " يبقى البعض يقوت به نفسه وعياله " فيحمل ذلك على قوت السنة له
ولهم. وهذا لا يستلزم ما ذكراه (نور الله تعالى مرقديهما).
وبذلك أيضا يجاب عن ما نقله الصدوق في الخصال (1) عن الأعمش عن
جعفر بن محمد (عليهما السلام) في حديث طويل قال فيه: " وحج البيت واجب
على من استطاع إليه سبيلا، وهو الزاد والراحلة مع صحة البدن، وأن يكون
للانسان ما يخلفه على عياله وما يرجع إليه بعد حجه " فإن اشتراط بقاء شئ إلى
بعد رجوعه يكفي فيه مؤنة بعض السنة أو مؤنة السنة، ولا يستلزم ما ذكراه.
وبالجملة فإن الخروج عن ظاهر الآية والروايات العديدة الصحيحة الصريحة
بمثل هذين الخبرين المجملين مشكل.
الخامس من الشروط - إمكان السفر، وهو يشتمل على الصحة، وتخلية
السرب، والاستمساك على الراحلة، وسعة الوقت لقطع المسافة.
وحينئذ فالكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة: الأول - لا خلاف نصا
وفتوى في أن المريض الذي يتضرر بالركوب على القتب أو في المحمل إن وسعته
الاستطاعة لا يجب عليه الحج.
ويدل على ذلك - مضافا إلى ما دل على نفي المشقة والحرج في التكليف
آية ورواية (2) - صحيحة ذريح عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " من مات ولم

(1) الوسائل الباب 9 من وجوب الحج وشرائطه
(2) راجع الحدائق ج 1 ص 151
(3) الوسائل الباب 7 من وجوب الحج وشرائطه.
126

يحج حجة الاسلام - لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق به الحج
أو سلطان يمنعه - فليمت يهوديا أو نصرانيا ".
وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " قال الله
تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (2)؟ قال: هذه لمن
كان عنده مال وصحة... الحديث ".
وصحيحة هشام بن الحكم (3) وفيها: " ومن كان صحيحا في بدنه، مخلى
سربه، له زاد وراحلة ".
وأما المريض مرضا لا يتضرر بالسفر فإنه كالصحيح في الوجوب عليه، ولو
احتاج في سفره إلى الدواء فهو كالزاد.
وكذا يسقط التكليف مع عدم الاستمساك على الراحلة كالمعضوب ومقطوع
اليدين والرجلين غالبا، لعين ما تقدم من الأدلة.
بقي الكلام في أنه هل تجب الاستنابة متى حصلت الاستطاعة وعرض
المانع من مرض ونحوه من الأعذار أم لا؟ قولان، أولهما للشيخ وأبي الصلاح
وابن البراج وابن الجنيد وغيرهم، والثاني لابن إدريس، واختاره العلامة
في المختلف.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة روايات:
منها - صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (4) قال: " إن كان موسرا

(1) الوسائل الباب 6 من وجوب الحج وشرائطه
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج وشرائطه
(4) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه
127

حال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله تعالى فيه، فإن عليه أن يحج
عنه من ماله صرورة لا مال له ".
وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) قال: " كان
علي (عليه السلام) يقول: لو أن رجلا أراد الحج فعرض له مرض أو خالطه
سقم فلم يستطع الخروج، فليجهز رجلا من ماله ثم ليبعثه مكانه ".
وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر شيخا كبيرا لم يحج قط ولم يطق الحج
لكبره أن يجهز رجلا يحج عنه ".
ورواية علي بن أبي حمزة (3) قال: " سألته عن رجل مسلم حال بينه
وبين الحج مرض أو أمر يعذره الله تعالى فيه. فقال: عليه أن يحج من ماله
صرورة لا مال له ".
ورواية عبد الله بن ميمون القداح عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (4)
" أن عليا (عليه السلام) قال لرجل كبير لم يحج قط: إن شئت أن تجهز رجلا
ثم أبعثه أن يحج عنك ".
ورواية سلمة أبي حفص عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام) (5)
" أن رجلا أتى عليا (عليه السلام) ولم يحج قط فقال: إني كنت رجلا كثير
المال وفرطت في الحج حتى كبرت سني؟ قال: فتستطيع الحج؟ قال: لا. فقال
علي (عليه السلام): إن شئت فجهز رجلا ثم أبعثه يحج عنك ".
وروى الشيخ المفيد في المقنعة عن الفضل بن عباس (6) قال: " أتت

(1) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) التهذيب ج 5 ص 460، وفي الوسائل الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه.
(6) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه.
128

امرأة من خثعم رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: إن أبي أدركته فريضة الحج وهو
شيخ كبير لا يستطيع أن يلبث على دابته؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله:
فحجي عن أبيك ".
وهذه الروايات - كما ترى - كلها ظاهرة الدلالة على القول المشهور فيكون
هو المعتمد المنصور. ومن ذلك يظهر أن هذا الشرط إنما هو شرط في وجوب
الحج البدني لا الوجوب المالي، لوجوبه بهذه الأخبار مع عدم التمكن من
الحج بنفسه.
احتج العلامة (قدس سره) في المختلف بأصالة البراءة، وبأن الاستطاعة
شرط وهي مفقودة، فيسقط الوجوب قضية للشرط.
وبصحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (1) قال: " سأل حفص الكناسي
أبا عبد الله عليه السلام وأنا عنده عن قول الله (عز وجل): ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا (2) ما يعني بذلك؟ قال: من كان صحيحا في بدنه، مخلي
سربه، له زاد وراحلة، فهو ممن يستطيع الحج " قال: دل بمفهومه على أن فاقد
الصحة ليس بمستطيع.
وأجيب عن ذلك بأن الأصل يرتفع بالدليل وقد تقدم. والاستطاعة شرط
في وجوب الحج مباشرة.
وظاهر اطلاق هذه الأخبار هو وجوب الاستنابة مطلقا سواء كان
المرض والعذر مرجو الزوال أم لا، وظاهر الأصحاب الاتفاق - كما نقله في المنتهى -
على أنه لو رجا البرء لم تجب الاستنابة. فيختص وجوب الاستنابة عندهم بالمرض

(1) الوسائل الباب 8 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) سورة آل عمران الآية 97.
129

الغير المرجو الزوال، وأما ما كان مرجو الزوال فقالوا فيه بالاستحباب.
قال في المدارك: وإنما تجب الاستنابة مع اليأس من البرء، فلو رجا البرء
لم تجب عليه الاستنابة اجماعا - قاله في المنتهى - تمسكا بمقتضى الأصل السالم
من معارضة الأخبار المتقدمة، إذ المتبادر منها تعلق الوجوب بمن حصل له اليأس
من زوال المانع. والتفاتا إلى أنه لو وجبت الاستنابة مع المرض مطلقا لم يتحقق
اعتبار التمكن من المسير في حق أحد من المكلفين. إلا أن يقال: إن اعتبار ذلك
إنما هو في الوجوب البدني خاصة. انتهى.
أقول: لا يخفى أن اطلاق أكثر الأخبار المتقدمة ظاهر في مطلق المرض
مأيوسا من برئه أم لا، فإن قوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي -: " إن
كان موسرا حال بينه وبين الحج مرض أو أمر يعذره الله فيه " - شامل لما هو
أعم من ما ذكروه، ومثلها رواية علي بن أبي حمزة، وأظهر منها صحيحة محمد
بن مسلم من قوله (عليه السلام): " لو أن رجلا أراد الحج فعرض له
مرض... الحديث " نعم الأخبار المتضمنة للشيخ الكبير ظاهرة في ما ذكروه،
إلا أنها لا دلالة فيها على الاختصاص بما ادعوه. وخصوص السؤال لا يخصص
الجواب.
وبذلك يظهر لك ما في قوله في المدارك من أن المتبادر من الأخبار
المذكورة تعلق الوجوب بمن حصل له اليأس من زوال المانع، فادعى لذلك سلامة
الأصل من المعارض. وفيه ما عرفت، فإن الأخبار التي أشرنا إليها ظاهرة في العموم
فيجب الخروج عن ما ادعوه من الأصل بها. على أنه لا مانع من العمل بهذه الأخبار على اطلاقها مع وجوب الإعادة مع البرء، كما صرحوا به بالنسبة إلى
غير المرجو الزوال.
130

وبالجملة فإني لا أعرف لهم حجة واضحة على التخصيص سوى الاجماع
المدعى في المقام.
ولعله لما ذكرنا ذهب في الدروس إلى وجوب الاستنابة مطلقا، وإن وجبت
الفورية بالنسبة إلى المأيوس من البرء والعدم بالنسبة إلى مرجو الزوال، فإن
ظاهر كلامه مشعر بذلك، حيث قال بعد ذكر المعضوب: والأقرب أن وجوب
الاستنابة فوري إن يئس من البرء وإلا استحب الفور. وفي حكم المعضوب المريض
والهرم والممنوع بعدو، سواء كان قد استقر عليه الوجوب أم لا، خلافا لابن
إدريس. فإن ظاهر كلامه ظاهر في ما قلناه، وكذلك فهمه الأصحاب.
قال في المسالك: وإنما تجب الاستنابة مع اليأس من البرء، ومعه فالوجوب
فوري كأصل الحج، ومتى لم يحصل اليأس لم يجب وإن استحب، ويظهر من الدروس
وجوب الاستنابة على التقديرين وإن لم تجب الفورية مع عدم اليأس. انتهى.
وقول الشهيد (رحمه الله) - عندي هنا لا يخلو من قوة وإن نسبه في
المدارك إلى الضعف، لدلالة ظاهر الأخبار المتقدمة عليه، مع تأيد ذلك بالاحتياط
المطلوب في الدين.
على أن ما ادعوه من الاستحباب لا أعرف له دليلا في المقام، إذ ليس في
المسألة سوى ما قدمناه من الأخبار، وهي عندهم محمولة على العذر الغير المرجو
الزوال، وقد صرحوا بأن النيابة فيها على جهة الوجوب. ومن ذلك يعلم أنه
لا دليل لهذا الاستحباب وإن نقلوه عن الشيخ (رحمه الله تعالى) وتبعوه فيه، كما
هي قاعدتهم غالبا.
بقي الكلام هنا في فوائد تتعلق بالمقام: الأولى - ظاهر الأصحاب
(رضوان الله عليهم) الاتفاق على أنه لو تقدمت الاستطاعة على حصول العذر
وجبت الاستنابة قولا واحدا، وقد صرح بذلك جملة منهم، ويدل عليه
131

صريحا رواية سلمة أبي حفص المتقدمة (1).
ولا ينافي ذلك قوله عليه السلام: " إن شئت فجهز رجلا " فإنه ليس
المراد هنا التخيير له بين التجهيز وعدمه، بل هذه العبارة - كثيرا ما يرمى بها في
أمثال هذه المقامات - المراد منها الوجوب، كما وقعت أيضا في رواية القداح
المتقدمة (2) وكأن المراد منها: إن شئت أداء ما وجب عليك وخلاص ذمتك.
وبذلك يظهر ما في كلام صاحب الذخيرة حيث إنه توهم من هذه الكلمة
التخيير وعدم الوجوب، فقال بعد نقل الخبر المشار إليه: وفيه اشعار بعدم
الوجوب. فإنه لا يخفى على من أحاط خبرا بالأخبار أنه كثيرا ما يؤتى بهذه
الكلمة في مقام الوجوب، ويؤيد ذلك استدلال الأصحاب بهذين الخبرين
المذكورين على الوجوب في المسألة، وما ذاك إلا من حيث فهمهم من هذه الكلمة
الحمل على غير المعنى المتبادر منها.
وبالجملة فموضع الخلاف في المسألة عندهم ما إذا عرض المانع قبل استقرار
الوجوب.
الثانية - حيث إن الأصحاب صرحوا باستحباب الاستنابة لمن يرجو زوال
العذر، فرعوا عليه أنه لو حصل اليأس بعد رجاء البرء وقد استناب أولا، فإنه
تجب عليه الاستنابة ثانيا مع بقاء الاستطاعة.
قال العلامة في التذكرة - بعد أن صرح في صدر المسألة بأن المريض إذا
كان مرضه يرجي زواله ونحوه غيره من ذوي الأعذار يستحب له الاستنابة -
ما لفظه: فلو استناب من يرجو القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من
برئه فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى، لأنه استناب في حال لا تجوز

(1) ص 128
(2) ص 128
132

الاستنابة فيها فأشبه الصحيح. قال الشيخ (قدس سره): ولأن تلك الحجة
كانت عن ماله وهذه عن بدنه. انتهى.
أقول: فيه إنه قد صرح باستحباب الاستنابة في صدر المسألة، فكيف
يتم هنا قوله: " إنه استناب في حال لا تجوز "؟ بل كان الأظهر في التعبير أن
يقال: " في حال لا تجب " لأن المستحب لا يكفي عن الواجب كما في الصحيح
الذي حج استحبابا.
وأما ما نقله عن الشيخ من التعليل فقد نقله عنه سابقا. وكذا صرح به
في المنتهى بالنسبة إلى من حصل له البرء بعد أن استناب في حال المرض، وهو
الأوفق بلفظ العبارة المذكورة.
وبالجملة فإن كلامه (قدس سره) هنا لا يخلو من مسامحة نشأت من الاستعجال
وكيف كان فههنا أحوال ثلاثة: أحدها - أن يبرأ من ذلك المرض،
ولا خلاف ولا اشكال في وجوب الإعادة والحج بنفسه. الثانية - أن يموت،
ولا خلاف ولا اشكال أيضا عندهم - كما صرحوا به - في أنه لا شئ عليه، استناب
أو لم يستنب. الثالثة - أن يصير مرضه إلى ما لا يرجى برؤه، وظاهرهم - كما
عرفت - وجوب الاستنابة عليه ثانيا لما تقدم من التعليل. ويأتي على ما قدمنا
ذكره - من أن ظاهر الأخبار وجوب الاستنابة مطلقا - أنه لو استناب أولا
فقد أدى الواجب ولا يجب ثانيا. ومثل ذلك يأتي في حالة الموت فإنه إذا
استناب أولا فلا شئ عليه وإلا وجب القضاء عنه. وأما على ما ذكروه من
الاستحباب فلا شئ مطلقا.
الثالثة - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن الممنوع لعذر
لا يرجى زواله لو استناب، فإن استمر المانع حتى مات فلا قضاء، وإن زال ذلك
133

المانع وجب الحج عليه بنفسه مع بقاء الاستطاعة، ولا خلاف بينهم في شئ
من ذلك في ما أعلم.
ونقل عن الشيخ في تعليل الحكم الثاني بأن ما فعله كان واجبا في ماله
وهذا يلزمه في نفسه. قيل: ومرجعه إلى الاستدلال باطلاق الأمر بالحج
المتناول لجميع المكلفين ممن لم يحج، ومن استناب في الحج لا يصدق عليه أنه
حج حقيقة فيتناوله الاطلاق.
ولا يخفى ما فيه من الاشكال، فإن دخول هذا الفرد تحت اطلاق الأمر
بعد تكليف الشارع له بالحج في تلك الحال لا يخلو من غموض، وإن كان
الاحتياط في ما ذكروه.
ونقل عن بعض الأصحاب أنه احتمل عدم الوجوب كما لو لم يبرأ، للأصل
ولأنه أدى حج الاسلام بأمر الشارع فلا يلزمه حج ثان، كما لو حج بنفسه.
قال في المدارك بعد نقله: وهذا الاحتمال غير بعيد، إلا أن الأول أقرب
تمسكا باطلاق الأمر. انتهى.
أقول: قد عرفت ما في التمسك باطلاق الأمر من البعد، سيما مع ما عرفت
في غير موضع - وبه صرحوا (رضوان الله تعالى عليهم) - من أن الاطلاق إنما
ينصرف إلى الأفراد الغالبة الشائعة المتكررة دون الفروض النادرة الوقوع.
وبالجملة فهذا الاحتمال جيد إلا أن المسألة لما كانت عارية عن النص الصريح
فالاحتياط فيها لازم، وهو في جانب القول الذي عليه الأصحاب.
ومتى وجب عليه الحج بعد البرء كما ذكروه فإن مات قبل أن يأتي به وجب
قضاؤه كغيره.
الرابعة - قالوا: لو لم يجد الممنوع مالا لم تجب عليه الاستنابة قطعا.
وكذا لو وجد المال ولم يجد من يستأجره فإنه يسقط إلى العام المقبل. ولو
134

وجد من يستأجره بأكثر من أجرة المثل وجب مع المكنة. ولو لم يكن له مال
ووجد من يعطيه المال لأداء الحج لم يجب عليه قبوله، لأن الاستنابة إنما تجب
على الموسر على ما تضمنته الأخبار المتقدمة. ولا يقاس على الصحيح إذا بذل
له الزاد والراحلة حيث وجب عليه الحج بذلك، لاختصاصه بالنص وبطلان
القياس. وهو جيد موافق للقواعد الشرعية.
الخامسة - قال في الدروس: ولو وجب عليه الحج بافساد أو نذر فهو كحجة
الاسلام بل أقوى. وكتب في الحاشية في بيان وجه القوة، قال: لأن سبب
الحج هنا المكلف ولما امتنع فعله بنفسه صرف إلى ماله، بخلاف حجة الاسلام فإن
سببها من الله. انتهى.
أقول: ما ذكره في الدروس قد نقله في التذكرة عن الشيخ (قدس
سره) حيث قال: قال الشيخ: المعضوب إذا وجب عليه حجة بالنذر أو بافساد
حجه وجب عليه أن يحج غيره عن نفسه، وإن برئ في ما بعد وجب عليه
الإعادة. ثم قال: وفيه نظر.
وفي المنتهى قال: وعندي في ذلك تردد. والظاهر أن وجه النظر والتردد
هو أن مورد نصوص الاستنابة حجة الاسلام، والتعدي إلى غيرها قياس محض.
وأما ما ذكره في الدروس فلا يخفى ما فيه، فإن العبادات توقيفية لا بد في
ثبوتها من النصوص، وهذه التعليلات العليلة لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية
ولهذا قال السيد في المدارك بعد نقل ذلك عنه: وهو غير واضح في النذر، بل
ولا الافساد أيضا إن قلنا إن الثانية عقوبة، لأن الحكم بوجوب الاستنابة على
خلاف الأصل، فيقتصر فيه على مورد النص وهو حج الاسلام، والنذر والافساد
إنما اقتضيا وجوب الحج مباشرة وقد سقط بالتعذر. انتهى. وهو جيد.
السادسة - ظاهر صحيحة الحلبي المتقدمة ومثلها رواية علي بن أبي حمزة
135

تناول المانع الموجب للاستنابة لما لو كان خلقيا أو عارضا، وإن كان أكثر أخبار
المسألة إنما تضمن ذكر العارض خاصة، وعلى هذا فلو كان لا يستمسك خلقة فإنه
تجب عليه الاستنابة.
وظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة العموم أيضا
بل صرح العلامة في المنتهى بذلك فقال: ولو كان المرض لا يرجى برؤه - أو
كان العذر لا يزول كالاقعاد وضعف البدن خلقة وغير ذلك من الأعذار اللازمة
أو كبر السن وما أشبهه - قال الشيخ: وجب عليه أن يحج عنه رجلا، لما تقدم
من الأحاديث... إلى آخره.
وظاهر المحقق في الشرائع الخلاف في ذلك، حيث اختار أن من لا يستمسك
خلقة يسقط الفرض عن نفسه وماله.
والظاهر أن الحامل للمحقق (قدس سره) هنا على هذا القول هو أنهم
قد اتفقوا - كما عرفت في الفائدة الأولى - على أنه لو تقدمت الاستطاعة علي
حصول العذر وجبت الاستنابة قولا واحدا، وأن محل الخلاف إنما هو إذا عرض
المانع قبل استقرار الوجوب، وظاهر أكثر النصوص إنما دل على من عرض له
العجز، لفرضها في شيخ كبير أو من عرض له المرض، ولهذا لم يذكر في المعتبر إلا
ما دل على ذلك دون ما دل بظاهره على الخلقي منه، كرواية الحلبي ورواية علي بن أبي حمزة، فالعجز الأصلي بعيد عن الدخول تحت تلك الروايات، لامكان حمل تلك
النصوص على ما لو سبق الوجوب على العجز، بخلاف العاجز الأصلي فإنه
لا يتصور فيه سبق الاستقرار.
وبالجملة فإن التفصيل الذي ذكروه - من أنه إن تقدمت الاستطاعة وجبت
الاستنابة قولا واحدا، وإلا فهو محل الخلاف - إنما يجري في المانع العارضي
الذي هو مورد تلك الأخبار، وأما الخلقي فيكون خارجا عنها، ومتى كان
136

خارجا عنها فإنه يبقى على حكم الأصل من عدم الوجوب، لعدم الدليل بناء على أنه
ليس سوى تلك الأخبار. وقد عرفت ما فيه.
وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك لما اختار القول المشهور احتج على ذلك
بعدم العلم بالقائل بالفرق بين الخلقي والعارضي. ثم ذكر رواية علي بن أبي حمزة.
واعترضه سبطه في المدارك فقال بعد نقل ذلك: وهو احتجاج ضعيف
فإن احداث القول في المسألة لا يتوقف على وجود القائل إذا لم ينعقد الاجماع
على خلافه، كما بيناه مرارا. والرواية لا تنهض حجة لأن راويها علي بن أبي حمزة
وقال النجاشي: إنه كان أحد عمد الواقفية. انتهى. وهو جيد بناء على أصولهم
المشتركة بين المورد والمورد عليه.
السابعة - المستفاد من ظاهر عبائرهم أنه لو تكلف الممنوع بأحد الأعذار
المتقدمة الحج لم يجزئه عن حجة الاسلام، لعدم تحقق الاستطاعة التي هي
شرط الوجوب، فكان كما لو تكلفه الفقير.
وبذلك صرح في التذكرة حيث قال بعد ذكر الشرائط المشار إليها آنفا:
هذه الشرائط التي ذكرناها منها ما هو شرط في الصحة والوجوب وهو العقل،
لعدم الوجوب على المجنون وعدم الصحة منه، ومنها ما هو شرط في الصحة دون
الوجوب وهو الاسلام... إلى أن قال: ومنها ما هو شرط في الوجوب دون
الصحة وهو البلوغ والحرية والاستطاعة وامكان السير، لأن الصبي والمملوك
ومن ليس معه زاد ولا راحلة وليس بمخلى السرب ولا يمكنه المسير، لو تكلفوا
الحج لصح منهم وإن لم يكن واجبا عليهم، ولا يجزئهم عن حجة الاسلام. انتهى.
وظاهر الشهيد في الدروس الفرق هنا بين الفقير وغيره، حيث قال - بعد أن
ذكر أنه لو حج فاقد الشرائط لم يجزئه - ما لفظه: وعندي لو تكلف المريض
والمعضوب والممنوع بالعدو وضيق الوقت أجزأ، إلا أن ذلك من باب تحصيل
137

الشرط، فإنه لا يجب ولو حصله وجب وأجزأ. نعم لو أدى ذلك إلى اضرار
بالنفس يحرم إنزاله وقارن بعض المناسك احتمل عدم الاجزاء
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه: وفي الفرق نظر. والمتجه أنه إن
حصلت الاستطاعة الشرعية قبل التلبس بالاحرام ثبت الوجوب والاجزاء، لما بيناه
من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد، وإن حصل التلبس قبل تحقق الاستطاعة
انتفى الأمران معا، سواء كان عدم الاستطاعة بعدم القدرة على تحصيل الزاد
والراحلة أو بالمرض المقتضي لسقوط الحج أو بخوف الطريق أو غير ذلك، لأن
ما فعله لم يكن واجبا فلا يجزئ عن الواجب، كما لا يجزئ فعل الواجب الموقت
قبل دخول وقته. انتهى.
أقول: لا يخفى أن شيخنا الشهيد قد أشار في كلامه إلى وجه الفرق
بقوله: " إلا أن ذلك من باب تحصيل الشرط... إلى آخره " وتوضيحه أن
شرطية إمكان السير التي هي عبارة عن الصحة وتخلية السرب ونحوهما كشرطية
الزاد والراحلة فلا يجب الحج بدون حصول ذلك، ولا يجب تحصيل شئ من
ذلك، لما تقدم من عدم وجوب تحصيل شرط الواجب المشروط، لكن
لو تكلف المكلف تحصيله وحصله وجب عليه الحج، كما صرحوا به في الزاد
والراحلة من أنهما لا يجب تحصيلهما أما لو تكلفهما فحصلهما وجب الحج، فكذلك
شرط إمكان السير فإنه لا يجب عليه تحصيله فلو تكلفه وخاطر بنفسه وحصلت له
السلامة وتمكن من الحج وجب عليه وأجزأه. وهو جيد.
ثم استثنى من ذلك ما لو أدى إلى اضرار بالنفس وقارن بعض المناسك،
على احتمال، كما لو كان في أثناء الاحرام فتحمل المريض أو مدافع العدو بما
لا يجوز تحمله كما لو غلب على ظنه العطب، فإن ذلك يبنى على قاعدة اجتماع
الأمر والنهي في شئ واحد، أما لو لم يكن كذلك فالاجزاء ثابت وإن تحمل
138

تلك المشاق التي لا يجب عليه تحملها.
وإنما ذكر ذلك احتمالا ولم يجزم به، لامكان أن يقال: إن النهي هنا إنما
هو عن وصف خارج عن النسك، فلا يلزم اتحاد متعلق الأمر والنهي الذي هو
محل الاشكال.
وحينئذ فقول السيد (قدس سره) - بعد تنظره في الفرق: " والمتجه أنه
إن حصلت الاستطاعة الشرعية... إلى آخره " - خروج عن محل البحث، فإن
محل البحث إنما هو بالنسبة إلى وجوب الحج على هذا البعيد من بلده وهذه
الشروط إنما بنيت على ذلك، وكلمات الأصحاب والأخبار قد اتفقت على أن
وجوب الحج عليه مشروط بهذه الشروط التي نحن في البحث عنها، ومنها الزاد
والراحلة والسلامة من المرض والأمن في الطريق من العدو ونحوها، وقد صرح
الأصحاب - كما عرفت من كلام التذكرة - بأنه لو تكلف الحج وخاطر بنفسه
وتحمل المشقة التي لم يكلف بها، فإنه وإن صح حجه إلا أنه لا يجزئه عن حج
الاسلام، من حيث عدم حصول شرط الوجوب، بعين ما قالوه في المتسكع
الذي لا يملك زادا ولا راحلة. وشيخنا الشهيد يقول بصحة الحج واجزائه
ويجعله من قبيل تكلف تحصيل الزاد والراحلة الغير الواجبين عليه لا من قبيل
المتسكع الغير المالك لهما.
بل ظاهر كلامه في المدارك يرجع إلى ما ذكره شيخنا الشهيد (قدس
سره) فإنه متى كان اعتبار الاستطاعة إنما هو من الميقات فعلى هذا لو تحمل
المشقة وارتكب الخطر الذي لم يكلف به بل نهى عنه حتى وصل الميقات، فإنه
يجب عليه الحج ويجزئ عنه، مع أن الأصحاب لا يقولون بذلك كما عرفت
من كلام التذكرة، وهو ظاهر كلام غيره أيضا، لما صرحوا به في الزاد والراحلة
اللذين هما من جملة الشرائط.
139

وما ذكره من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد فإنما هو في صورة ما لو
اتفق له الوصول إلى الميقات بأي نحو كان، فإنه لا يشترط في حقه ملك الزاد
والراحلة في بلده كما ذكره الأصحاب، لا بمعنى أن من كان بعيدا لا يمكنه المسير
إلا بهذه الشروط المذكورة فإن استطاعته إنما تحصل باعتبار الميقات، فإنه باطل
قطعا، بل الاستطاعة في هذه الصورة مشترطة من البلد، فإن استطاع بحصول
هذه الشرائط الخمسة المعدودة وجب عليه الحج والمسير إليه وإلا فلا. نعم
يحصل الشك هنا في أن المتكلف للحج بالمشقة الموضوعة عنه في عدم إمكان
المسير، هل هو من قبيل المتسكع الذي لم يملك زادا ولا راحلة فلا يجزئ
عنه، كما هو المفهوم من كلام الأصحاب، أو من قبيل تكلف تحصيل الزاد
والراحلة وإن لم يجب عليه تحصيلهما، فحجه يكون صحيحا مجزئا عن حجة
الاسلام، كما هو ظاهر شيخنا الشهيد؟ اشكال.
المقام الثاني - لا خلاف - نصا وفتوى - في أن أمن الطريق من الخوف على
النفس والبضع والمال شرط في وجوب الحج، فلو خاف على نفسه من سبع أو
لص أو عدو لم يلزمه الحج في ذلك العام. ولهذا جاز التحلل من الاحرام بمثل ذلك،
كما يأتي - إن شاء الله تعالى - في باب الاحصار والصد. وقد تقدم في الأخبار
ما يدل على هذا الحكم كما في صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي المتقدمة (1) وغيرها
والكلام في المقام يقع في مواضع: الأول - لو كان في الطريق عدو لا
يندفع إلا بالمال فهل يسقط الحج وإن أمكن تحمله أم يجب بذل المال مع المكنة؟
قولان: أولهما للشيخ وجماعة، وثانيهما للمحقق والعلامة ومن تأخر عنهما.
ونقل عن الشيخ الاحتجاج على ذلك بوجوه: منها - أن تخلية السرب
شرط في الوجوب، وهو هنا منتف فينتفي المشروط.

(1) ص 80 و 129
140

ومنها - أن المأخوذ على هذا الوجه ظلم فلا ينبغي الإعانة عليه، لتحريم
الإعانة على الإثم.
ومنها - أن من خاف من أخذ المال قهرا لا يجب عليه الحج وإن قل المال،
وهذا في معناه.
والجواب عن الأول بمنع توقف الحج على تخلية السرب بهذا المعنى، بل
القدر المعلوم من ظاهر الأخبار اشتراط تخليته بحيث يتمكن من المسير بوجه
لا يفضي إلى شدة ومشقة شديدة عادة، وهو حاصل هنا إذ المفروض اندفاع
العدو بالمال المقدور عليه، وبعد تحقق الشرط يصير الوجوب مطلقا فتجب
مقدماته كلها
وعن الثاني إنا لا نسلم أن المدفوع على هذا الوجه يصدق عليه الإعانة
على الإثم، إذ لم يقصد بذلك سوى التوصل إلى الطاعة والتخلص من العدو.
ولانتقاضه بدفع المال إلى الظالم لاستنقاذ المسلم من الهلكة. ولو تم ذلك
لاستلزم القول بتحريم الأسفار إلى التجارات وجملة الطاعات في كثير من الأعصار
والأمصار، والجلوس في الأسواق، والصناعات، والزراعات، ونحوها من ما جرت
عادة حكام الجور بأخذ شئ من المال على ذلك بدون استحقاق شرعي كالعشار
ونحوه، واللازم باطل اتفاقا نصا وفتوى، فالملزوم مثله.
وعن الثالث بمنع سقوط الحج (أولا) لعدم الدليل عليه. ومنع
المساواة (ثانيا) لوجود الفرق بين الأمرين، فإن بذل المال بالاختيار على هذا
الوجه ليس فيه غضاضة ولا مشقة على النفس، بخلاف أخذه قهرا فإن فيه غضاضة
زائدة على أهل المروة.
وربما فرق بينهما بأن الثابت في بذل المال اختيارا الثواب الدائم وفي
الأخذ قهرا العوض المنقطع. وفيه أن هذا لا يطرد كليا، فإن ترك المال للص
141

وتعريضه له طلبا للتوصل إلى فعل الواجب يقتضي الثواب أيضا.
وبذلك يظهر أن الأظهر ما عليه جمهور أصحابنا المتأخرين من وجوب
دفع المال مع المكنة.
ولو بذل المال باذل فكشف العدو فلا اشكال في الوجوب لتحقق
الاستطاعة، أما لو دفع المال إليه ليدفعه إلى العدو فظاهر الأصحاب أنه لا يجب
عليه القبول، لأن فيه تحصيلا لشرط الواجب المشروط، وقد تقرر أن تحصيل
شرط الواجب المشروط غير واجب.
واستشكله في المدارك بأن الشرط التمكن من الحج وهو حاصل بمجرد البذل.
وبأن قوله عليه السلام (1) -: " من عرض عليه ما يحج به فاستحى فهو ممن يستطيع
الحج " - يتناول من عرض عليه ذلك، قال: فلو قيل بوجوب القبول والدفع لم
يكن بعيدا. انتهى. وهو جيد.
الثاني - طريق البحر كطريق البر فيعتبر فيه ما يعتبر في طريق البر من ظن
السلامة، فلو استويا في ذلك تخير أيهما شاء، وإن اختص أحدهما بظن السلامة
دون الآخر تعين السفر فيه، ولو تساويا في رجحان العطب وظن عدم السلامة
سقط الحج في ذلك العام. وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ومثله سبطه
في المدارك الاكتفاء بمجرد عدم ترجيح العطب.
وبما قدمنا صرح المحقق في المعتبر والشرائع فقال: طريق البحر كطريق
البر يجب مع غلبة ظن السلامة. وبنحو ذلك عبر العلامة في المنتهي، وهو
ظاهر كلام جملة من الأصحاب، حيث إنهم يشترطون أمن الطريق، ومرجعه إلى ظن
الأمن. وظاهر النص يساعده، فإن مرجع تخلية السرب المذكور في الأخبار

(1) هذا مضمون ما ورد في الوسائل الباب 10 من وجوب الحج وشرائطه.
142

إلى ظن ذلك، وإلا فلو علم أو ظن عدم التخلية فإنه لا يجب عليه الحج. ويظهر
الخلاف في صورة الاشتباه وتساوي الأمرين، فيجب الحج على القول الثاني
دون الأول.
قالوا: وإنما يسقط الحج مع الخوف إذا حصل في ابتداء السير أو في
أثنائه وكان الرجوع غير مخوف، أما لو تساويا مع المقام في الخوف، احتمل
ترجيح الذهاب لحصول المرجح فيه بالحج، والسقوط كما لو حصل ابتداء لفقد
الشرط. قال السيد (قدس سره) في المدارك بعد ذكر ذلك: ولعل
الأول أقرب.
الثالث - لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أن المرأة كالرجل
متى خافت على النفس أو البضع سقط الفرض عنها. ولو احتاجت إلى محرم وتعذر
سقط الفرض أيضا، لعدم حصول الاستطاعة بدونه.
وليس هو شرطا في وجوب الحج عليها مع الاستغناء عنه، اتفاقا نصا وفتوى
ومن الأخبار في ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن صفوان
الجمال (1) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قد عرفتني بعملي، تأتيني المرأة
أعرفها باسلامها وحبها إياكم وولايتها لكم ليس لها محرم؟ قال: إذا جاءت
المرأة المسلمة فأحملها، فإن المؤمن محرم المؤمنة. ثم تلا هذه الآية: والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (2) ".
وما رواه ثقة الاسلام في الكافي في الصحيح عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام (3) " في المرأة تريد الحج ليس معها محرم هل يصلح لها الحج؟

(1) الوسائل الباب 58 من وجوب الحج وشرائطه
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) الوسائل الباب 58 من وجوب الحج وشرائطه
143

فقال: نعم إذا كانت مأمونة ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (1) قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن المرأة تحج بغير ولي؟ فقال: لا بأس تخرج مع قوم ثقات "
وعن معاوية بن عمار بالسند المتقدم (2) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن المرأة تحج بغير ولي؟ قال: لا بأس، وإن كان لها زوج أو أخ أو ابن
أخ فأبوا أن يحجوا بها وليس لهم سعة فلا ينبغي لها أن تقعد، ولا ينبغي
لهم أن يمنعوها " والمراد هنا ب‍ " لا ينبغي " أي لا يجوز، كما هو شائع في الأخبار
إلى غير ذلك من الأخبار.
ثم إنه لو توقف حجها على المحرم اعتبر في استطاعتها ملك الزاد والراحلة
لها ولمحرمها إذا أجابها إلى ذلك، ولا تجب عليه الإجابة عندنا (3).
والمراد بالمحرم عنا الزوج ومن يحرم نكاحه مؤبدا بنسب أو رضاع
أو مصاهرة.

(1) الوسائل الباب 58 من وجوب الحج وشرائطه. إلا أنا لم نجده في
التهذيب، نعم رواه في الكافي ج 4 ص 282، والفقيه ج 2 ص 268، وفي
الوافي باب (حج المرأة بدون إذن زوجها أو ذي محرم) نقله منهما فقط.
(2) الوسائل الباب 58 من وجوب الحج وشرائطه عن التهذيب ج 5
ص 401، والكافي ج 4 ص 282. وما أورده (قدس سره) موافق لما في
الوسائل عن التهذيب في اللفظ، إلا أنه يختلف قليلا عن لفظ التهذيب كما أنه
يختلف عن لفظ الكافي.
(3) قال في المغني ج 3 ص 240: وهل يلزمه إجابتها إلى ذلك؟ فيه
روايتان نص عليهما، والصحيح أنه لا يلزمه الحج معها، لأن فيه مشقة. وفي بدائع
الصنائع ج 2 ص 123: فإن امتنع الزوج أو المحرم عن الخروج لا يجبران.
144

ولو طلب الأجرة والحال هذه وجب دفعها مع القدرة، لكونها جزء
من الاستطاعة.
وليس لزوجها المنع من ذلك في الواجب، لما تقدم في صحيحة معاوية
ابن عمار.
ولما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (1)
قال: " سألته عن امرأة لم تحج، ولها زوج وأبى أن يأذن لها في الحج، فغاب
زوجها، فهل لها أن تحج؟ فقال: لا طاعة له عليها في حجة الاسلام ".
ونحوها ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن وهب (2) وفيها:
" لا طاعة له عليها في حجة الاسلام ولا كرامة، لتحج إن شاءت ".
نعم له المنع في المستحب، لما رواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار
عن أبي الحسن عليه السلام (3) قال: " سألته عن المرأة الموسرة قد حجت حجة
الاسلام، تقول لزوجها: أحجني من مالي. أله أن يمنعها من ذلك؟ قال: نعم،
ويقول لها: حقي عليك أعظم من حقك علي في هذا ".
ولو ادعى الزوج الخوف عليها أو عدم أمانتها وأنكرت ذلك، قالوا: عمل
بشاهد الحال مع انتفاء البينة، ومع فقدهما يقدم قولها.
وفي اعتبار اليمين وجهان، من أصالة عدم سلطنته عليها في ذلك، ومن أنها لو اعترفت لنفعه اعترافها. وقرب الشهيد في الدروس انتفاء اليمين، قال في

(1) الوسائل الباب 59 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 59 من وجوب الحج وشرائطه. والرواية للشيخ في
التهذيب ج 5 ص 474، ولم يروها الصدوق، وروى نحوها في الكافي ج 4
ص 282 عن علي بن أبي حمزة، كما في الوسائل في نفس الباب.
(3) الوسائل الباب 59 من وجوب الحج وشرائطه.
145

المدارك بعد نقل ذلك عنه: وهو أقرب.
وهل يملك الزوج والحال هذه منعها باطنا؟ قيل: نعم، لأنه محق عند
نفسه. واختاره في المسالك. وقيل: لا، لتوجه الوجوب إليها ومخاطبتها
بالسفر شرعا لظنها السلامة. وقربه في المدارك.
أقول: لا اشكال في العمل بالبينة إن وجدت، وكذا العمل بشاهد
الحال، وتقديم قولها مع فقدهما، لتوجه الخطاب إليها وظنها السلامة وهي
أعرف بحال نفسها، وارتفاع سلطنة الزوج عنها. ومن هنا يظهر عدم توجه
اليمين إليها.
وأما ما احتج به على توجه اليمين عليها - من أنها لو اعترفت لنفعه اعترافها -
فتقريره أنه لو اعترفت بالخوف على البضع لنفع هذا الاعتراف الزوج، وكل ما
لو اعترف به المنكر نفع المدعى تجب اليمين على عدمه على تقدير الانكار.
هكذا قالوا. وفيه منع الكلية وأن ذلك إنما هو في الحقوق المالية لا في
مطلق الدعاوى.
ويؤيد أيضا وجه عدم اليمين عليها أنه لا يدعي عليها هنا حقا حتى تتوجه
اليمين عليها، ومورد نصوص اليمين إنما هو ذلك.
وأما الخلاف في أنه هل له منعها باطنا أم لا؟ فالظاهر هو ما اختاره
في المدارك لما تقدم.
والمعتدة عدة رجعية في حكم الزوجة، لأن للزوج الرجوع في طلاقها
والاستمتاع بها والحج يمنعه من ذلك، وحينئذ فيجري فيها التفصيل المتقدم
في الزوجة.
146

ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن منصور بن
حازم (1) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المطلقة تحج في عدتها؟ قال: إن كانت
صرورة حجت في عدتها، وإن كانت قد حجت فلا تحج حتى تقضي عدتها ".
وأما ما رواه في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (2)
- قال: " لا تحج المطلقة في عدتها " - فهو محمول على الحج المندوب إلا
بإذن الزوج.
وأما المعتدة عدة بائنة فإنها في حكم الأجنبية، فتحج ندبا متى شاءت بغير
خلاف في ما أعلم، ولم أقف على رواية في ذلك، إلا أن الظاهر أنه لا اشكال
في الحكم المذكور، لانقطاع سلطنته عليها وانقطاع العصمة بينهما وصيرورته
أجنبيا منها، فيكون كسائر الأجانب.
وقد ورد في جواز الحج في عدة الوفاة روايات:
منها - موثقة داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " سألته
عن المتوفى عنها زوجها؟ قال: تحج وإن كانت في عدتها ".
وموثقة زرارة (4) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المرأة التي يتوفى
عنها زوجها أتحج؟ فقال: نعم ".
المقام الثالث - لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في اشتراط

(1) الوسائل الباب 60 من وجوب الحج وشرائطه. والرواية للشيخ في
التهذيب ج 5 ص 402، ولم يروها الصدوق.
(2) الوسائل الباب 60 من وجوب الحج وشرائطه. والرواية للشيخ
في التهذيب ج 5 ص 401.
(3) الوسائل الباب 61 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 61 من وجوب الحج وشرائطه.
147

سعة الوقت في الوجوب، وهو أن يتسع لتحصيل الشروط والخروج ولحوق المناسك
فلو حصلت الشرائط وقد ضاق الوقت عن لحوق المناسك - بحيث لو شرع في المسير
إلى مكة بالسير المعتاد الذي لا ضرر فيه ولا مشقة لم يصل إلى مكة ولم يدرك
فيها المناسك - سقط الحج في ذلك العام وكان الوجوب مراعى ببقاء الاستطاعة
إلى العام القابل.
تنبيه
هل الاختتان شرط في صحة الحج؟ ظاهر بعض الأصحاب ذلك، قال
الشيخ المفيد على ما نقله في المختلف: ومن أسلم فأراد الحج فلا يجوز له ذلك
حتى يختتن.
وقال أبو الصلاح على ما نقله عنه في الكتاب المذكور: صحة الحج
موقوفة على ثبوت الاسلام، والعلم بتفصيل أحكام الحج وشروطه، وتأديته لوجهه
الذي شرع له مخلصا لربه، مع كون مؤديه مطهرا بالختانة. ثم بين الاشتراط...
إلى أن قال: وكون الحاج أغلف لا يصح حجه باجماع آل محمد صلى الله عليه وآله.
وقال في المختلف بعد نقل ذلك عنه: وفي هذا الكلام اشكال، فإن
المروي أنه لا يجوز أن يطوف الرجل وهو غير مختتن (1) فإن أخذه من هذه
الرواية من حيث إن بطلان طوافه يستلزم بطلان حجه أمكن، لكن كلامه
يوهم بطلان حجه مطلقا، ونحن نمنع ذلك، فإنه لو لم يتمكن من التطهير صح
حجه وطوافه، فقوله على الاطلاق ليس بجيد. مع أن ابن إدريس قال:
لا يجوز للرجل أن يطوف بالبيت وهو غير مختتن، على ما روى أصحابنا في
الأخبار. وهو يعطي توقفه في ذلك. انتهى.

(1) الوسائل الباب 33 من مقدمات الطواف، والباب 39 من الطواف
148

أقول: قد روى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن إبراهيم بن ميمون
- وهو غير موثق - عن أبي عبد الله عليه السلام (1) " في رجل يسلم فيريد أن يختتن
وقد حضر الحج، أيحج أم يختتن؟ قال: لا يحج حتى يختتن ".
وهي صريحة في ما تقدم نقله عن الشيخ المفيد وأبي الصلاح من عدم
صحة الحج بدون الاختتان وإن ضاق وقت الحج، والظاهر أن شيخنا العلامة
لم يقف عليها وظن انحصار الدليل في روايات المنع من الطواف بدون الاختتان
ومثل هذه الرواية ما رواه في قرب الإسناد عن محمد بن عبد الحميد
وعبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير (2) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن نصراني أسلم وحضر الحج ولم يكن اختتن، أيحج قبل أن يختتن؟
قال: لا ولكن يبدأ بالسنة ".
وينبغي أن يلحق بما تقدم من أبحاث هذا المقصد مسائل:
الأولى - لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ما أعلم في أن من
مات بعد الاحرام ودخول الحرم برئت ذمته.
ويدل عليه ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن بريد العجلي (3)
قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل خرج حاجا ومعه جمل له ونفقة وزاد
فمات في الطريق؟ قال: إن كان صرورة ثم مات في الحرم فقد أجزأت عنه

(1) الكافي ج 4 ص 281، والتهذيب ج 5 ص 125 و 469، والفقيه
ج 2 ص 251، وفي الوسائل الباب 33 من مقدمات الطواف.
(2) الوسائل الباب 33 من مقدمات الطواف.
(3) الكافي ج 4 ص 276، والتهذيب ج 5 ص 407، والفقيه ج 2 ص
269، وفي الوسائل الباب 26 من وجوب الحج وشرائطه. والمروي عنه في
الكافي والفقيه أبو جعفر عليه السلام.
149

حجة الاسلام، وإن كان مات وهو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله وزاده
ونفقته في حجة الاسلام، فإن فضل من ذلك شئ فهو للورثة إن لم يكن عليه
دين. قلت: أرأيت إن كانت الحجة تطوعا ثم مات في الطريق قبل أن يحرم
لمن يكون جمله ونفقته وما معه؟ قال: يكون جميع ما معه وما ترك للورثة، إلا
أن يكون عليه دين فيقضي عنه، أو يكون أوصى بوصية فينفذ ذلك لمن أوصى له
ويجعل ذلك من ثلثه ".
وفي الصحيح عن ضريس عن أبي جعفر عليه السلام (1) " في رجل خرج حاجا
حجة الاسلام فمات في الطريق؟ فقال: إن مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة
الاسلام، وإن كان مات دون الحرم فليقض عنه وليه حجة الاسلام ".
وصحيحة زرارة الآتية إن شاء الله تعالى في المحصور عن أبي جعفر
عليه السلام (2) قال فيها: " قلت: فإن مات وهو محرم قبل أن ينتهي إلى مكة؟ قال:
يحج عنه إن كانت حجة الاسلام ويعتمر، إنما هو شئ عليه ".
وروى الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة مرسلا (3) قال: قال
الصادق عليه السلام: من خرج حاجا فمات في الطريق، فإن كان مات في الحرم فقد
سقطت عنه الحجة، وإن مات قبل دخول الحرم لم يسقط عنه الحج، وليقض
عنه وليه.
واطلاق الأخبار وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في ذلك بين أن
يقع التلبس بإحرام الحج أو العمرة، ولا بين أن يموت في الحل أو الحرم، محرما
أو محلا كما لو مات بين الاحرامين.

(1) الوسائل الباب 26 من وجوب الحج وشرائطه
(2) الوسائل الباب 26 من وجوب الحج وشرائطه، والباب 3 من
الاحصار والصد.
(3) الوسائل الباب 26 من وجوب الحج وشرائطه
150

أما لو مات بعد الاحرام وقبل دخول الحرم فالمشهور بين الأصحاب وجوب
القضاء عنه، ونقل عن الشيخ في الخلاف وابن إدريس الاجتزاء به لمجرد
الاحرام. ولا أعرف لهذا القول دليلا.
قال في المختلف: احتج بأن القصد التلبس وقد حصل بالاحرام. ثم أجاب عنه
بالمنع، قال: بل المطلوب قصد البيت الحرام وإنما يحصل بالدخول في الحرم.
وقال في المدارك: وربما أشعر به مفهوم قوله عليه السلام في صحيحة بريد (1):
" وإن كان مات وهو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله وزاده ونفقته في حجة
الاسلام " لكنه معارض بمنطوق قوله عليه السلام (2): " وإن كان مات دون الحرم
فليقض عنه وليه حجة الاسلام " انتهى.
أقول: وتعارضه أيضا صحيحة زرارة المذكورة والمرسلة المنقولة
من المقنعة.
وأما ما احتمله في الذخيرة - من الجمع بين المفهوم المذكور وبين منطوق
صحيحة ضريس بالحمل على استحباب القضاء في الصورة المذكورة، حتى أنه حمل
الأمر بالحج عنه في صحيحة زرارة على الاستحباب أيضا - فبعيد لا يلتفت إليه
وهو من جملة تخريجاته البعيدة. والظاهر أنه مبني على ما يذهب إليه من عدم
صراحة الأوامر في الأخبار في الوجوب. وهو توهم ساقط.
وبالجملة فإن الأصح هو القول المشهور، لأن الواجب هو الحج الذي هو
عبارة عن جميع تلك المناسك، فلا يخرج المكلف عن العهدة إلا بالاتيان به
كذلك، قام الدليل على خروج هذه الصورة المتفق عليها بين الأصحاب للأخبار
المذكورة، بقي ما عداها على حكم الأصل.
والعجب من ابن إدريس في اجتزائه بالاحرام هنا خاصة، فإن القول

(1) ص 149 و 150
(2) في صحيح ضريس ص 150
151

بالاجتزاء بالاحرام ودخول الحرم إنما ثبت من طريق الآحاد فهو غير جار على
أصوله، فكيف ما لم يرد به دليل بالكلية، ولم يقل به إلا الشيخ خاصة في
الخلاف دون غيره من كتبه.
الثانية - لا خلاف بين الأصحاب في أن من استقر الحج في ذمته فإنه
يجب القضاء عنه لو مات ولم يحج.
والأخبار بذلك متكاثرة، ومنها - صحيحة معاوية بن عمار (1) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يموت ولم يحج حجة الاسلام
ويترك مالا؟ قال: عليه أن يحج من ماله رجلا صرورة لا مال له ".
وصحيحة محمد بن مسلم (2) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن
رجل مات ولم يحج حجة الاسلام، يحج عنه؟ قال: نعم ".
وصحيحة رفاعة (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
يموت ولم يحج حجة الاسلام ولم يوص بها، أيقضى عنه؟ قال: نعم ".
وموثقة سماعة بن مهران (4) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يموت ولم يحج حجة الاسلام ولم يوص بها، وهو موسر؟ فقال: يحج عنه من
صلب ماله، لا يجوز غير ذلك ".
إلى غير ذلك من الأخبار التي من هذا القبيل.
وإنما وقع الخلاف في هذه المسألة في مقامين: الأول - ما به يتحقق
الاستقرار، فالأكثر على أنه يتحقق بمضي زمان يمكن فيه الاتيان بجميع أفعال
الحج مستجمعا للشرائط.
قال العلامة في التذكرة: استقرار الحج في الذمة يحصل بالاهمال بعد
حصول الشرائط بأسرها ومضى زمان جميع أفعال الحج، ويحتمل مضي زمان
ويتمكن فيه من الاحرام ودخول الحرم.

(1) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه
(2) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه
(3) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه
(4) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه
152

وأطلق المحقق في المعتبر والشرائع القول بتحققها بالاهمال مع تحقق الشرائط.
واعترضه في المسالك بأنه لا بد من تقييد الاهمال بكونه واقعا في جميع المدة التي
يمكن فيها استيفاء جميع أفعال الحج بأقل الواجب فلم يفعل. وظاهر كلام الأكثر
اعتبار مضي زمان يسع جميع الأفعال وإن لم يكن ركنا كالمبيت بمنى والرمي.
قال شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: ويمكن اعتبار زمان
يمكن فيه تأدي الأركان خاصة، وهو مضي جزء من يوم النحر يمكن فيه الطوافان
والسعي. واختاره في التذكرة والمهذب. ولو قلنا باستحباب أفعال منى المتأخرة
لم يعتبر قطعا. انتهى.
أقول: قد نقل هذا القول عن التذكرة أيضا سبطه في المدارك ومثله
الفاضل الخراساني في الذخيرة، والظاهر أنه وهم من شيخنا المذكور وتبعه عليه
من تبعه من غير مراجعة الكتاب المشار إليه، فإن الموجود فيه ما حكيناه أولا
من ما هو موافق للقول المشهور. نعم هو ظاهر المهذب.
قال السيد السند في المدارك: وما وقفت عليه في هذه المسألة من الأخبار
خال من لفظ الاستقرار فضلا عن ما يتحقق به، وإنما اعتبر الأصحاب ذلك بناء
على أن وجوب القضاء تابع لوجوب الأداء، وإنما يتحقق وجوبه بمضي زمان
يمكن فيه الحج مستجمعا للشرائط. ويشكل بما بيناه مرارا من أن وجوب القضاء
ليس تابعا لوجوب الأداء. وبأن المستفاد من كثير من الأخبار ترتب القضاء
على عدم الاتيان بالأداء مع توجه الخطاب به ظاهرا، كما في صحيحتي بريد
وضريس المتقدمتين (1) انتهى.
أقول: قد روى ثقة الاسلام في الكافي والشيخ في كتابيه في الموثق
عن أبي بصير (2) قال: " سألته عن امرأة مرضت في شهر رمضان وماتت في شوال

(1) ص 149 و 150
(2) الوسائل الباب 23 من أحكام شهر رمضان
153

فأوصتني أن أقضي عنها؟ قال: هل برئت من مرضها؟ قلت: لا، ماتت
فيه. فقال: لا تقض عنها فإن الله لم يجعله عليها. قلت: فإني أشتهي أن أقضي
عنها وقد أوصتني بذلك؟ قال: كيف تقضي عنها شيئا لم يجعله الله تعالى
عليها؟... الحديث ".
والمستفاد من هذا الخبر أنه لا يجب القضاء إلا مع استقرار الأداء واشتغال
الذمة به. وفيه تأييد لما ذكره الأصحاب هنا من عدم وجوب قضاء الحج إذا
لم يمض زمان يمكن فيه الحج مستجمعا للشرائط.
ولا يلزم منه كون القضاء تابعا لوجوب الأداء، بمعنى أنه غير متوقف
على أمر جديد، كما ذكره (قدس سره) لأن مجرد الأمر بالأداء لا يستلزم
الأمر بالقضاء.
بل الوجه فيه إنما هو متى ورد الأمر بالقضاء - كالأحاديث المتقدمة في
وجوب قضاء الحج، والأحاديث الواردة في وجوب قضاء الصلاة، وهكذا في قضاء
الصوم - يجب أن يعتبر فيها حال فوات الأداء، فإن فات على وجه استقر في الذمة
واشتغلت به وجب قضاؤه وإلا فلا، فإن هذه المرأة لما فاتها الصوم ولكن على
وجه لم يستقر في ذمتها لم يوجب (عليه السلام) القضاء عنها. وهكذا من فاتته
الصلاة باغماء أو جنون. وبعين ذلك يقال في الحج، فإنه إذا فات على وجه لم تشتغل
الذمة به فإنه لا يجب قضاؤه، ولا ريب أن من بادر إلى الحج في عام الاستطاعة ثم
مات قبل الاحرام أو ذهبت استطاعته أو نحو ذلك، فإنه لم تشتغل ذمته بالحج
وإلا للزم مثل ذلك في من مات في بلده قبل الخروج أيضا في أشهر الحج في
عام الاستطاعة.
وما ذكره - من أن المستفاد من الأخبار ترتب القضاء بمجرد توجه
154

الخطاب كالروايتين المذكورتين - ففيه أنه عين النزاع في المسألة، ولهذا أن
الأصحاب (رضوان الله عليهم) تأولوهما، وقد عرفت معارضة رواية أبي بصير
لهما في ذلك. اللهم إلا أن يدعى اشتغال الذمة بالحج في تلك الحال ليدخل تحت
موثقة أبي بصير. ولا أظنه يلتزمه.
وبالجملة فإن القضاء عندنا مرتب على اشتغال الذمة بالأداء، فمتى لم تشتغل
ذمته به لم يجب قضاؤه، لقوله (عليه السلام) في هذا الخبر: " لا نقض
عنها فإن الله لم يجعله عليها " وقوله ثانيا: " كيف تقضي عنها شيئا لم يجعله الله
عليها؟ " وهو صريح في أن القضاء لا يكون إلا عن شئ استقر في الذمة.
وحينئذ فيجب تخصيص اطلاق الأخبار المتقدمة - وكذا خبري بريد وضريس -
بهذا الخبر.
ثم قال في المدارك: وقد قطع الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن من
حصل له الشرائط فتخلف عن الرفقة ثم مات قبل حج الناس لا يجب القضاء عنه،
لتبين عدم استقرار الحج في ذمته بظهور عدم الاستطاعة. وهو جيد إن ثبت
أن وجوب القضاء تابع لوجوب الأداء.
أقول: هذا موضع شك حيث إن ترك الحج لم يقع بعذر شرعي، فيمكن
أن يكون بتعمده التأخير مع وجوب ذلك عليه يستقر الحج في ذمته وإن لم
يمض الزمان الذي تقع فيه المناسك، كما لو أفطر عمدا في شهر رمضان ثم سافر
لاسقاط الكفارة ورفع الإثم، فإنه لا يوجب رفع الإثم ولا سقوط الكفارة.
وبالجملة فقياس هذه المسألة على مسائل حصول العذر الشرعي - كالموت
وفوات الاستطاعة بمجرد الاشتراك في أنه ظهر بذلك عدم الاستطاعة واقعا -
قياس مع الفارق. والمسألة خالية من النص بجميع شقوقها فيجب الاحتياط فيها
الثاني - قد قطع المتأخرون بسقوط القضاء إذا لم تكن الحجة مستقرة في
155

ذمته، كما إذا كان خروجه في عام الاستطاعة. وأطلق المفيد في المقنعة والشيخ
في جملة من كتبه وجوب القضاء إذا مات قبل دخول الحرم.
ولم أقف على من قال بهذا القول من المتأخرين سوى المحدث الشيخ علي
ابن سليمان البحراني (نور الله تعالى مرقده) فإنه قال في حاشيته على النافع:
ولا يحتاج في الاستقرار الذي يجب معه القضاء إلى مضي زمان يمكن اتيان
أفعال الحج فيه كامل الشروط كما اعتبره بعضهم، أو قدر ما يحرم فيه ويدخل
الحرم كما اعتبره بعض أصحابنا، بناء منهم على أن القضاء فرع الأداء. ونحن
لا نقول به بل القضاء واجب على حدة. والروايات ليس فيها أكثر من وجوبه
على من مات ولم يحج حج الاسلام. هذا إذا تيسر الحج للرفقة تلك السنة،
أما إذا لم يتيسر لهم بل صدهم العدو أو ضاق الوقت ففات الحج فيحتمل ما قلناه
أيضا، لأنه مات وهو مخاطب بحج ظاهر. ولدخوله في اطلاق الروايات.
ويحتمل عدم الاستقرار، لظهور أن هذه السنة لم تكن سنة حج. والأول
لا يخلو من قوة، والذي قطع به الأصحاب الثاني. والله أعلم. انتهى كلامه
(زيد اكرامه).
أقول: وهو جيد لولا ورود موثقة أبي بصير التي قدمنا ذكرها في
المقام الأول (1) بالتقريب الذي ذكرناه ذيلها.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عن الشيخين (طاب ثراهما): ولعلهما نظرا
إلى اطلاق الأمر بالقضاء في الروايتين المتقدمتين. وأجيب عنهما بالحمل على
من استقر الحج في ذمته، لأن من خرج في عام الاستطاعة ثم مات في الطريق
تبين بموته عدم وجوب الحج عليه، ومتى انتفى وجوب الأداء انتفى القضاء.

(1) ص 153
156

وهو غير بعيد وإن كان الاطلاق متجها أيضا، لما بيناه مرارا من أن القضاء
قد يجب مع سقوط الأداء، لأنه فرض مستأنف فيتوقف على الدلالة
خاصة. انتهى.
أقول: ظاهر كلامه هنا التردد في المسألة المذكورة، مع أنه في الكلام
الذي قدمنا نقله عنه في المقام الأول استشكل في كلام الأصحاب، وقولهم: إن
وجوب القضاء تابع لوجوب الأداء. ورده بما ذكره من أن وجوب القضاء ليس
تابعا لوجوب الأداء.
وبالجملة فالتحقيق عندي في المسألة هو ما قدمنا بيانه.
المسألة الثالثة - المشهور بين الأصحاب أنه لو حج المسلم ثم ارتد ثم عاد
إلى الاسلام لم تجب عليه الإعادة. وكذا المخالف إذا استبصر لا تجب عليه الإعادة.
وقد وقع الخلاف هنا في الموضعين، أما في المرتد فنقل عن الشيخ القول
بوجوب الإعادة بعد التردد في المسألة، مستندا إلى أن ارتداده يدل على أن
اسلامه أولا لم يكن اسلاما فلا يصح حجه.
قال في المعتبر بعد نقل ذلك عنه: وما ذكره (رحمه الله) بناء على
قاعدة باطلة قد بينا فسادها في الأصول.
ويدفعه صريحا قوله (عز وجل): إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا (1)
حيث أثبت الكفر بعد الايمان.
وربما استدل على وجوب الإعادة أيضا بقوله تعالى: ومن يكفر بالايمان
فقد حبط عمله (2).
ورد بأن الاحباط مشروط بالموافاة على الكفر، كما يدل عليه قوله (عز

(1) سورة النساء الآية 137.
(2) سورة المائدة الآية 5.
157

وجل): ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم (1).
وبالجملة فإنه قد أتى بالحج على الوجه المأمور به فيكون مجزئا، والقول
بالابطال والإعادة يحتاج إلى دليل، وليس فليس.
ويزيد ذلك بيانا ما رواه ثقة الاسلام في الكافي في الصحيح عن محمد
ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (2) أنه قال: " من كان مؤمنا فعمل خيرا في
ايمانه ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره، كتب له وحوسب بكل شئ
كان عمله في ايمانه، ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره ".
وما رواه الشيخ في التهذيب عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (3) قال:
" من كان مؤمنا فحج وعمل في ايمانه ثم أصابته في ايمانه فتنة فكفر ثم تاب
وآمن؟ قال: يحسب له كل عمل صالح عمله في ايمانه ولا يبطل منه شئ ".
ثم إن الشيخ في المبسوط فرع على ما ذكره مسألة أخرى أيضا، فقال:
وإن أحرم ثم ارتد ثم عاد إلى الاسلام جاز أن يبني عليه، إلا على ما استخرجناه
في المسألة المتقدمة في قضاء الحج. وأشار بذلك إلى ما قدمه من أن ارتداده
كاشف عن عدم الاسلام وأن اسلامه ليس اسلاما. والذي عليه الأصحاب
(رضوان الله عليهم) هو صحة الاحرام هنا.
ثم إنه (قدس سره) أورد على نفسه أنه يلزم على هذا القول أن المرتد
لا يلزمه قضاء العبادات التي فاتته في حال الارتداد، لأنا إذا لم نحكم باسلامه
يكون كفره أصليا، والكافر الأصلي لا يلزمه قضاء ما فاته في الكفر.

(1) سورة البقرة الآية 216
(2) الوسائل الباب 99 من جهاد النفس.
(3) الوسائل الباب 30 من مقدمة العبادات
158

أقول: جزاه الله (تعالى) عن المنازع له في هذه المسألة أفضل الأجر والثواب
حيث كفاه مؤنة الجواب في هذا الباب.
وأما في المخالف فنقل عن ابن الجنيد وابن البراج أنهما حكما بوجوب
الإعادة وإن لم يخل بشئ، والمشهور عند أصحابنا عدم الإعادة إلا أن يخل
بركن من أركان الحج.
والروايات بذلك متظافرة، ومنها - صحيحة بريد بن معاوية العجلي (1)
قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل حج وهو لا يعرف هذا الأمر ثم من
الله (تعالى) عليه بمعرفته والدينونة به، عليه حجة الاسلام أو قد قضى فريضته؟
فقال: قد قضى فريضته ولو حج لكان أحب إلي. قال: وسألته عن رجل
حج وهو في بعض هذه الأصناف من أهل القبلة ناصب متدين ثم من الله عليه
فعرف هذا الأمر، يقضي حجة الاسلام؟ فقال: يقضي أحب إلي. وقال: كل
عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته ثم من الله عليه وعرفه الولاية فإنه يؤجر
عليه، إلا الزكاة فإنه يعيدها. لأنه وضعها في غير مواضعها، لأنها لأهل الولاية.
وأما الصلاة والحج والصيام فليس عليه قضاء ".
وصحيحة الفضلاء - أو حسنتهم على المشهور - عن أبي جعفر وأبي عبد الله
(عليهما السلام) (2) أنهما قالا " في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء: الحرورية
والمرجئة والعثمانية والقدرية، ثم يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه، أيعيد
كل صلاة صلاها أو صوم صامه أو زكاة أو حج، أوليس عليه إعادة شئ من
ذلك؟ قال: ليس عليه إعادة شئ من ذلك غير الزكاة لا بد أن يؤديها... الحديث "

(1) الوسائل الباب 23 من وجوب الحج وشرائطه، والباب 31 من مقدمة
العبادات، والباب 3 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 3 من المستحقين للزكاة.
159

وصحيحة ابن أذينة أو حسنته (1) قال: " كتب إلى أبو عبد الله عليه السلام:
أن كل عمل عمله الناصب في حال ضلاله أو حال نصبه ثم من الله عليه وعرفه هذا
الأمر فإنه يؤجر عليه ويكتب له إلا الزكاة... الحديث ".
وصحيحته الأخرى أو حسنته (2) قال: " كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام
أسأله عن رجل حج ولا يدري ولا يعرف هذا الأمر ثم من الله عليه بمعرفته
والدينونة به، أعليه حجة الاسلام أو قد قضى فريضة الله؟ قال: قد قضى فريضة الله
والحج أحب إلي. وعن رجل وهو في بعض هذه الأصناف من أهل القبلة ناصب
متدين ثم من الله عليه فعرف هذا الأمر، أيقضى عنه حجة الاسلام، أو عليه
أن يحج من قابل؟ قال: يحج أحب إلي " هكذا رواه ثقة الاسلام في الكافي (3)
ورواه الصدوق (4) إلى قوله: " والحج أحب إلي ".
ورواية أبي عبد الله الخراساني عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) (5):
قال: " قلت له: إني حججت وأنا مخالف، وحججت حجتي هذه وقد من الله
(تعالى) على بمعرفتكم وعلمت أن الذي كنت فيه كان باطلا، فما ترى في حجتي؟
قال: اجعل هذه حجة الاسلام وتلك نافلة ".
ووجه استثناء الزكاة في هذه الأخبار أن الزكاة حق مالي للفقراء، ومثلها

(1) الوسائل الباب 31 من مقدمة العبادات، والباب 3 من المستحقين للزكاة
(2) التهذيب ج 5 ص 10، وفي الوسائل الباب 23 من وجوب الحج
وشرائطه.
(3) ج 4 ص 275
(4) في الفقيه ج 2 ص 263.
(5) الوسائل الباب 23 من وجوب الحج وشرائطه.
160

الخمس، فلا يحصل العفو به، بخلاف غيرهما من العبادات فإنه حق لله (عز وجل)
وقد تفضل الله به عليهم لما دانوا بالولاية.
قيل: وربما كان مستند ابن الجنيد وابن البراج الأخبار الدالة على
بطلان عبادة المخالف (1) كما سيأتي بعض منها في المقام إن شاء الله تعالى.
وما رواه الشيخ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال: " لو أن
رجلا معسرا أحجه رجل كانت له حجة، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحج.
وكذلك الناصب إذا عرف فعليه الحج وإن كان قد حج ".
أقول: ومثلها رواية علي بن مهزيار (3) قال: " كتب إبراهيم بن محمد
ابن عمران الهمداني إلى أبي جعفر عليه السلام: إني حججت وأنا مخالف وكنت صرورة
فدخلت متمتعا بالعمرة إلى الحج؟ قال: فكتب إليه: أعد حجك ".
والجواب عن ذلك ظاهر من الأخبار المتقدمة، أما الأخبار الدالة على
بطلان عبادة المخالف فهي مسلمة، ولكن هذه الأخبار قد دلت على تفضل الله
(تعالى) عليه بقبول ذلك كالصلاة والصيام، لدخوله في الايمان. وأما الروايتان
المذكورتان فإنك قد عرفت تكرر الأمر بالإعادة في تلك الأخبار وأنه الأحب
إليهم (عليهم السلام) حتى أنه عليه السلام في الرواية الأخيرة أمر بأن يجعل الأخيرة
حجة الاسلام والأولى نافلة، تأكيدا لاستحبابها والحث عليها.
وينبغي التنبيه في هذه المسألة على أمور:
الأول - قال السيد السند (قدس سره) في المدارك: اعتبر الشيخ وأكثر

(1) الوسائل الباب 29 من مقدمة العبادات
(2) الوسائل الباب 31 من مقدمة العبادات، والباب 21 و 23 من وجوب
الحج وشرائطه. (3) الوسائل الباب 31 من مقدمة العبادات، والباب
23 من وجوب الحج وشرائطه
161

الأصحاب في عدم إعادة المخالف الحج أن لا يكون قد أخل بركن منه، والنصوص
خالية من هذا القيد، ونص المصنف في المعتبر - والعلامة في المنتهى والشهيد في
الدروس - على أن المراد بالركن ما يعتقده أهل الحق ركنا لا ما يعتقده الضال
تدينا، مع أنهم صرحوا في قضاء الصلاة بأن المخالف يسقط عنه قضاء
ما صلاه صحيحا عنده وإن كان فاسدا عندنا. وفي الجمع بين الحكمين اشكال.
ولو فسر الركن بما كان ركنا عندهم كان أقرب إلى الصواب، لأن مقتضى
النصوص أن من حج من أهل الخلاف لا تجب عليه الإعادة، ومن أتى منهم
بحج فاسد عندهم كان كمن لم يأت بالحج. ومن هنا يظهر أنه لا فرق في الاجزاء
بين أن يوافق فعله النوع الواجب عندنا كالتمتع وقسيميه أولا. انتهى. وهو جيد.
إلا أن مقتضى صدر كلامه أن تقييد الشيخ وأكثر الأصحاب - عدم الإعادة
بأن لا يكون قد أخل بركن - ليس في محله، بل الأظهر العمل باطلاق الأخبار
وهو عدم الإعادة وإن أخل بركن. وهو باطل كما صرح به في آخر كلامه من أن من أتى بحج فاسد عندهم كان كمن لم يأت بالحج. وحينئذ فلا بد من تقييد
الأخبار المذكورة كما ذكره الشيخ والأكثر. نعم ما نقله عن المعتبر والمنتهي
والدروس - من أن المراد بالركن ما يعتقده أهل الحق ركنا - ليس بجيد لما
ذكره، واطلاق الأخبار المذكورة أعم منه.
الثاني - قال (قدس سره): اطلاق العبارة وغيرها يقتضي عدم الفرق
في المخالف بين من حكم بكفره - كالناصب - وغيره. وهو كذلك، وقد وقع
التصريح في صحيحة بريد (1) بعدم إعادة الناصب، وفي صحيحة الفضلاء (2)
بعدم إعادة الحرورية، وهم كفار لأنهم خوارج. انتهى.
أقول: لما كان الناصب عند متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم)
عبارة عن من أظهر العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) وهو محكوم بكفره

(1) ص 159
(2) ص 159
162

عندهم - فهو أخص من مطلق المخالف، والمخالف الغير الناصب عندهم من المسلمين
المحكوم باجراء أحكام الاسلام عليهم - أشار (قدس سره) إلى أن الأخبار
الواردة بعدم الإعادة شاملة للفردين المذكورين، وأن المراد بالناصب في رواية
بريد هو هذا الفرد المذكور.
أقول: والتحقيق المستفاد من أخبار أهل البيت (عليهم السلام) - كما
أوضحناه بما لا مزيد عليه في كتاب الشهاب الثاقب - أن جميع المخالفين العارفين
بالإمامة والمنكرين القول بها كلهم نصاب وكفار ومشركون ليس لهم في الاسلام
ولا في أحكامه حظ ولا نصيب، وإنما المسلم منهم هو الغير العارف بالإمامة، وهم
في الصدر الأول من زمان الأئمة (عليهم السلام) أكثر كثير، ويعبر عنهم في
الأخبار بأهل الضلال وغير العارف والمستضعف. ومن الأخبار الواردة بهذا
الفرد توهم متأخرو أصحابنا الحكم باسلام المخالف الغير المعلن بالعداوة. والحكم
بعدم الإعادة هنا شامل لهذين الفردين، وإلى الفرد الأول يشير في صحيحة
بريد السؤال الأول وهو قوله: " رجل حج وهو لا يعرف هذا الأمر " وإلى
الفرد الثاني السؤال الثاني وهو قوله: " قال: وسألته عن رجل وهو في بعض هذه
الأصناف... إلى آخره " ومثلها صحيحة ابن أذينة الثانية برواية الكليني (1)
ومن أحب الوقوف على صحة ما ذكرناه فليرجع إلى كتابنا المذكور.
ويأتي على ما ذكروه خلو الأخبار عن المخالف الغير الناصب، لأنها - كما
قدمناها - إنما اشتملت على فردين: الناصب ومن لا يعرف، والمراد بمن لا يعرف
إنما هو المعبر عنه بالمستضعف في الأخبار وأهل الضلال، وهو غير مراد في كلامهم،
وحينئذ فلو حمل الناصب على المخالف المظهر للعداوة - كما يدعونه - للزم ما ذكرناه.
وبالجملة فإن المستفاد من الأخبار - كما أوضحناه في الكتاب المتقدم - أن

(1) ص 160
163

الناس في زمنهم (عليهم السلام) ثلاثة أقسام: مؤمن وهو من أقر بالإمامة،
وناصب كافر وهو من أنكرها، ومن لم يعرف ولم ينكر وهم أكثر الناس في ذلك
الزمان، ويعبر عنه بالمستضعف والضال.
الثالث - الظاهر - كما استظهره في المدارك - أن الحكم بعدم وجوب
الإعادة في الروايات المتقدمة إنما وقع تفضلا من الله تعالى، لقيام الأخبار
الصحيحة الصريحة على بطلان أعمال المخالفين وإن كانت مستكملة لشرائط الصحة
واقعا فضلا عن شرائط مذهبهم.
ومن الأخبار في ذلك صحيحة أبي حمزة (1) قال: " قال لنا علي بن
الحسين عليه السلام: أي البقاع أفضل؟ فقلنا: الله ورسوله وابن رسوله أعلم
فقال لنا: إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح
عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان
ثم لقي الله (تعالى) بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا ".
وصحيحة محمد بن مسلم (2) قال: " سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كل
من دان الله (عز وجل) بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير
مقبول، وهو ضال متحير، والله شانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلت عن
راعيها وقطيعها فهجمت ذاهبة وجائية يومها، فلما جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع
راعيها فحنت إليها واغترت بها فباتت معها في مربضها، فلما أن ساق
الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها،
فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها، فصاح بها الراعي الحقي

(1) الوسائل الباب 29 من مقدمة العبادات
(2) الكافي ج 1 ص 183، وفي الوسائل الباب 29 من مقدمة العبادات.
164

براعيك وقطيعك فإنك تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيرة
تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب
ضيعتها فأكلها وكذلك - والله يا محمد - من أصبح من هذه الأمة لا إمام له
من الله (تعالى) ظاهر عادل أصبح ضالا تائها، وإن مات على هذه الحال مات ميتة
كفر ونفاق. واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد
ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف
لا يقدرون من ما كسبوا على شئ، ذلك هو الضلال البعيد (1) ".
ورواية أبي إسحاق الليثي المروية في أمالي الشيخ وفي كتاب العلل عن
الباقر عليه السلام (2) وفيها: " قد سألتني عن المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين
عليه السلام وعن زهاد الناصبة وعبادهم. من ههنا قال الله (عز وجل): وقدمنا إلى
ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (3) ومن هنا قال الله (عز وجل): عاملة
ناصبة، تصلى نارا حامية، تسقى من عين آنية (4) ثم ساق الكلام إلى أن قال

(1) اقتباس من الآية 18 في سورة إبراهيم: " مثل الذين كفروا بربهم
أعمالهم كرماد... ".
(2) لم أجده في أمالي الشيخ، وأورده في العلل ص 606 الطبع الحديث،
إلا أن اللفظ يوافق ما أورده في البحار كتاب الايمان والكفر ج 1 ص 28 من
الطبع القديم و ج 67 ص 102 إلى 108 من الطبع الحديث، حيث قال: وجدت
في بعض الكتب مرويا... ثم أورد الحديث بتمامه، ثم قال: بيان - قد مر هذا
الخبر نقلا من العلل مع اختلاف ما وزيادة ونقص.
(3) سورة الفرقان الآية 23.
(4) سورة الغاشية الآية 3 و 4 و 5
165

عليه السلام: قال الله (تعالى): إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (1) ما رضي الله
أن يشبههم بالحمير والبقر والكلاب والدواب حتى زادهم فقال: " بل هم أضل
سبيلا " يا إبراهيم قال الله (عز وجل) في أعدائنا الناصبة: وقدمنا إلى ما عملوا
من عمل فجعلناه هباء منثورا (2) وقال (عز وجل): يحسبون أنهم يحسنون
صنعا (3) وقال (عز وجل): يحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم
الكاذبون (4) وقال (عز وجل): أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء
حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (5)... الحديث " وهو صريح في أن جميع المخالفين
نصاب كفار مبغضون لأهل البيت (عليهم السلام).
وروى في الكافي عن الصادق عليه السلام (6) قال: " لا يبالي الناصب
صلى أم زنى ".
وروى النجاشي في كتاب الرجال (7) في ترجمة محمد بن الحسن بن شمون
بسنده إليه قال: ورد داود الرقي البصرة بعقب اجتياز أبي الحسن موسى عليه السلام
في سنة تسع وسبعين ومائة فصار بي أبي إليه وسأله عنهما فقال: سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: سواء على الناصب صلى أم زنى.
وقد نظم ذلك جملة من أصحابنا: منهم - شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان
ابن عبد الله البحراني (قدس الله تعالى سره) فقال:
خلع النواصب ربقة الايمان * فصلاتهم وزناؤهم سيان
قد جاء ذا في واضح الآثار عن * آل النبي الصفوة الأعيان

(1) سورة الفرقان الآية 44
(2) سورة الفرقان الآية 23
(3) سورة الكهف الآية 104.
(4) سورة المجادلة الآية 18
(5) سورة النور الآية 39.
(6) الروضة ص 160
(7) ص 258 و 159 طبع مطبعة المصطفوي
166

وقال الخليفة الناصر العباسي (1):
قسما ببكة والحطيم وزمزم * والراقصات وسعيهن إلى منى
بغض الوصي علامة مكتوبة * كتبت على جبهات أولاد الزنى
من لم يوال في البرية حيدرا * سيان عند الله صلى أو زنى
إلى غير ذلك من الأخبار التي يطول بنقلها الكلام.
وبذلك يظهر ضعف ما ذكره العلامة في المختلف على ما نقله عنه في المدارك
حيث قال: وقال العلامة في المختلف: إن سقوط الإعادة إنما هو لتحقق الامتثال
بالفعل المتقدم، إذ المفروض عدم الاخلال بركن منه، والايمان ليس شرطا في
صحة العبادة. ثم اعترض عليه بأنه فاسد، ورده بالأخبار التي قدمناها.

(1) نسب الأبيات - في النصائح الكافية ص 99 طبع النجف - إليه بنحو
القطع كما في المتن، وفي أعيان الشيعة ج 8 ص 33 والكنى والألقاب ج 3
ص 202 هكذا: ومن ما ينسب إلى الناصر... إلى آخره. وذكر ابن شهرآشوب
في المناقب ج 3 ص 11 البيتين الأخيرين بتغيير يسير ولم ينسبهما إلى أحد.
ومن المعلوم أن ابن شهرآشوب كان من معاصري الناصر فإنه توفي سنة 588 وقد
بويع للناصر سنة 575 ودامت خلافته سبعا وأربعين سنة وتوفي 622. وقد
نسب إليه - في النصائح الكافية عقيب هذه الأبيات - الأبيات التالية: لو أن عبدا أتى بالصالحات غدا * وود كل نبي مرسل وولي
وعاش ما عاش آلافا مؤلفة * خلوا من الذنب معصوما من الزلل
وقام ما قام قواما بلا كسل * وصام ما صام صواما بلا ملل
وطار في الجو لا يأوي إلى حلل * وغاص في البحر لا يخشى من البلل
فليس ذلك يوم البعث ينفعه * إلا بحب أمير المؤمنين علي
167

أقول: لم أقف على هذه العبارة التي نقلها في المدارك في المختلف في
هذه المسألة، نعم - بعد أن نقل احتجاج ابن الجنيد وابن البراج بأن
الايمان شرط العبادة ولم يحصل -: أجاب عن ذلك بالمنع من كون الايمان
شرطا في العبادة. فلعل السيد نظر إلى ما يلزم من هذه العبارة وهو ما ذكره.
وفيه بعد. ويحتمل أن يكون في موضع آخر غير موضع المسألة.
وكيف كان فينبغي أن يعلم أن القول بصحة أعمال المخالفين ليس مختصا
بالعلامة في هذا الكتاب، كما ربما يوهمه ظاهر تخصيص النقل عنه بذلك. بل
هذا القول هو المشهور بين المتأخرين، كما صرح به الشهيد في الدروس حيث قال:
واختلف في اشتراط الايمان في الصحة والمشهور عدم اشتراطه.
ويرد عليه - زيادة على ما ذكرنا - أن الواجب عليهم أن يحكموا بدخول
المخالفين الجنة، لأنهم متفقون على وجوب الجزاء على الله (تعالى) كما دلت
عليه ظواهر الآيات القرآنية، وحينئذ فمتى كانت أعمالهم صحيحة وجب الجزاء
عليها في الآخرة، فيلزم دخولهم الجنة. مع أن جملة منهم صرحوا بأن الحكم
باسلامهم إنما هو باعتبار اجراء أحكام الاسلام عليهم في الدنيا من الطهارة
والمناكحة والموارثة وحقن المال والدم، وأما في الآخرة فإنهم من المخلدين
في النار.
وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام لا يخلو عن مجازفة ناشئة عن عدم تتبع
الأدلة والتأمل فيها كما هو حقها.
الرابع - قال شيخنا الشهيد (قدس سره) في الدروس: ولو حج المحق
حج غيره ففي الاجزاء تردد، من التفريط، وامتناع تكليف الغافل. مع
مساواته المخالف في الشبهة.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه: أقول: لا يخفى ضعف الوجه
168

الثاني من وجهي التردد، لأن ايجاب الإعادة بعد العلم لا يستلزم تكليف الغافل.
والحاقه بالمخالف قياس مع الفارق. والأصح اختصاص الحكم بالمخالف، واعتبار
استجماع الشرائط المعتبرة في غيره، لعدم تحقق الامتثال بدونه. انتهى.
أقول: لا يخفى أن مراد شيخنا المذكور (قدس سره) من هذا الكلام
إنما هو بالنسبة إلى أصل الحج الواقع من المكلف، بأن يكون من أهل الحق
وقد حج حج المخالفين جاهلا بحج الشيعة وكيفيته، فهل يحكم ببطلانه بناء على
عدم معذورية الجاهل، لتفريطه بالاخلال بعدم تعلم الأحكام الشرعية، أو
يحكم بصحته بناء على أنه غافل ويمتنع تكليف الغافل، لأن الأوامر والنواهي
الشرعية إنما تتوجه إلى العالم؟ ومرجع ذلك إلى معذورية الجاهل - كما وقع
الحكم به في جملة من أحكام الحج - وعدمها. وحينئذ فقول السيد (قدس
سره) - إنه لا يخفى ضعف الوجه الثاني. ثم ذكر في بيان ضعفه: أن ايجاب
الإعادة بعد العلم لا يستلزم تكليف الغافل - خروج عن محل المسألة، إذ الكلام
إنما هو بالنسبة إلى أصل الحج لا الإعادة، ولا ريب أنه متى كان الفعل صحيحا
- بناء على معذورية الجاهل كما ذكره شيخنا المذكور - فإنه لا إعادة البتة.
نعم يبقى الكلام في أنه لو كان حج المخالفين مستلزما لترك شئ من الأركان
عند أهل الحق - وهذا المحق قد حج حجهم وترك بعض الأركان، والحال أنه
لا عذر في ترك الركن، كما هو ظاهر الأصحاب من الحكم ببطلان الحج بترك
بعض أركانه عمدا وجهلا - فالحكم بالصحة مشكل.
وكيف كان فتفريع هذه المسألة على ما نحن فيه - بناء على ما عرفت من
بطلان عبادة المخالف، وأن عدم الإعادة عليه بعد دخوله في الايمان إنما هو
تفضل من الله (عز وجل) لا لصحة عبادته، وأن المحق يجب عليه الاتيان
بالعبادة على وجهها فمتى أخل بذلك عمدا وجب عليه الإعادة - ليس في محله.
169

نعم يفرق بين ما يعذر فيه وبين ما لا يعذر فيه.
وأما ما أشار إليه شيخنا المتقدم في آخر كلامه - من مساواته للمخالف في
الشبهة، إشارة إلى الوجه في صحة أعمال المخالفين كما قدمنا نقله عنه، وبيانا
للعذر لهم في الخروج عن الدين المبين، وبذلك أيضا صرح المحدث الكاشاني
في المفاتيح في مسألة العدالة تبعا لشيخنا الشهيد الثاني في المسالك - فقد أشبعنا
الكلام في رده وابطاله في باب صلاة الجمعة من شرحنا على كتاب المدارك.
وليت شعري إذا كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قد اتفقت على
وجوب الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) وأخذ الأحكام منهم - ولا سيما
قوله صلى الله عليه وآله (1): " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي - وفي
بعض طرق هذا الخبر (2) خليفتين - لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، لن يفترقا
حتى يردا علي الحوض " وقوله صلى الله عليه وآله (3): " أهل بيتي كسفينة نوح عليه السلام من
ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق " وهما مرويان من طريق الجمهور بطرق عديدة
وقد اعترف جملة من علمائهم بمضمونهما، كما أوضحنا ذلك في سلاسل الحديد في
تقييد ابن أبي الحديد، وحديث الغدير المروي متواترا من طرق القوم (4)
وأمثال ذلك - فأي شبهة بعد هذه الأخبار وأمثالها؟

(1) ارجع إلى كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 43
إلى 52 فإنه ذكر الحديث بألفاظه ومصادره.
(2) ارجع إلى كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 43
إلى 52 فإنه ذكر الحديث بألفاظه ومصادره.
(3) ارجع إلى كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 56 إلى 58
فإنه ذكر الحديث بألفاظه ومصادره.
(4) ارجع إلى كتاب الغدير ج 1 ص 14 إلى 151 و ص 294 إلى 313
الطبعة الثانية.
170

ولكن القوم إنما قابلوا بالعناد وتمسكوا بالعصبية واللداد، كما يوضحه
تصريح جملة من أساطين علمائهم - منهم الغزالي والزمخشري وغيرهما - بمخالفتهم
السنن النبوية لكون الشيعة يعملون بها، كمسألة تسنيم القبور - قال الغزالي (1):
" إن السنة هو التسطيح ولكن عدلنا عنه إلى التسنيم مراغمة للرافضة " - والتختم
باليمين، وإضافة آل النبي صلى الله عليه وآله إليه في الصلاة عليه (صلى الله عليه وعليهم) والتكبير
على الجنازة، ونحو ذلك من ما أوضحناه في كتابنا المشار إليه، فإذا كان هذا
اعتراف علمائهم فأي شبهة لهم في الخروج عن الدين حتى يعتذر به أصحابنا عنهم
وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام وقع غفلة عن تدبر الأخبار والنظر
فيها بعين الاعتبار، كما أوضحناه في شرحنا على المدارك في البحث مع
المحدث الكاشاني.
المسألة الرابعة - قد اختلقت الأخبار في أفضلية المشي على الركوب
وبالعكس.
فمن ما يدل على الأول صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام (2)
قال: " ما عبد الله (تعالى) بشئ أشد من المشي ولا أفضل ".
وصحيحة الحلبي (3) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن فضل المشي فقال:

(1) الوجيز ج 1 ص 47 باختلاف في اللفظ، ومثله في كتاب رحمة الأمة
علي هامش الميزان للشعراني ج 1 ص 88، وقد قدمنا كلامهم في ذلك في التعليقة
(1) ص 124 ج 4 من الحدائق. وقد ذكر الحجة المقرم في مقتل الحسين عليه السلام
ص 443 من الطبعة الثانية الموارد التي صرح القوم بمخالفة السنة فيها لأنها
أصبحت شعارا للرافضة.
(2) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه
(3) الوسائل الباب 52 من الصدقة، والباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
171

إن الحسن بن علي (عليهما السلام) قاسم ربه ثلاث مرات، حتى نعلا ونعلا وثوبا
وثوبا ودينارا ودينارا، وحج عشرين حجة ماشيا علي قدميه ".
وعن محمد بن إسماعيل بن رجاء الزبيدي عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال:
" ما عبد الله بشئ أفضل من المشي ".
وقال في الفقيه (2): روي أنه ما تقرب العبد إلى الله (عز وجل) بشئ
أحب إليه من المشي إلى بيته الحرام على القدمين، وأن الحجة الواحدة تعدل
سبعين حجة... الحديث.
وروى في ثواب الأعمال (3) بسنده عن الربيع بن محمد المسلي عن
رجل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ما عبد الله بشئ مثل الصمت والمشي إلى بيته "
ومثله في الخصال (4) عن أبي الربيع الشامي عنه عليه السلام.
وروى في الكافي عن أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه السلام (5) قال: " خرج
الحسن بن علي (عليهما السلام) إلى مكة سنة ماشيا فورمت قدماه، فقال له بعض
مواليه: لو ركبت لسكن عنك هذا الورم. فقال: كلا إذا أتينا هذا المنزل فإنه
يستقبلك أسود ومعه دهن فاشتر منه ولا تماكسه... الحديث " وفيه: أنه وجد
الأسود واشترى منه.
وروى البرقي في المحاسن (6) عن أبي المنكدر عن أبي جعفر عليه السلام قال:
قال ابن عباس: ما ندمت على شئ صنعت ندمي على أن لم أحج ماشيا، لأني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من حج بيت الله ماشيا كتب الله له سبعة
آلاف حسنة من حسنات الحرم. قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وما حسنات الحرم؟

(1) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
(6) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
172

قال: الحسنة بألف ألف حسنة. وقال: فضل المشاة في الحج كفضل القمر ليلة
البدر على سائر النجوم. وكان الحسين بن علي (عليهما السلام) يمشي إلى الحج
ودابته تقاد وراءه.
وأما ما يدل على الثاني فصحيحة رفاعة وابن بكير عن أبي عبد الله
عليه السلام (1) " أنه سئل عن الحج ماشيا أفضل أو راكبا؟ قال: بل راكبا، فإن
رسول الله صلى الله عليه وآله حج راكبا ".
وروى الكليني عن رفاعة في الصحيح (2) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن مشي الحسن عليه السلام من مكة أو من المدينة؟ قال: من مكة. وسألته:
إذا زرت البيت أركب أو أمشي؟ فقال: كان الحسن عليه السلام يزور راكبا.
وسألته عن الركوب أفضل أو المشي؟ فقال: الركوب. قلت: الركوب أفضل
من المشي؟ فقال: نعم، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله ركب ".
وظاهر هذا الخبر أن مشي الحسن (عليه السلام) المذكور في الأخبار
إنما كان من مكة إلى منى وعرفات، فإن معنى سؤال السائل: أن مشيه (عليه
السلام) هل كان من خروجه من المدينة قاصدا إلى مكة، أو من مكة في قصده
إلى عرفات ومنى؟ فأجاب بأن ذلك أنما هو من مكة. إلا أن حديث أبي أسامة
المتقدم ظاهر المنافاة لذلك، ومثله موثقة عبد الله بن بكير الآتية (3). وقوله:
" إذا زرت البيت أركب أو أمشي؟ " يعني: من منى إلى مكة لطواف الزيارة.
وروى الشيخ في الموثق أو الحسن عن رفاعة (4) قال: " سأل أبا عبد الله

(1) الوسائل الباب 33 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الكافي ج 4 ص 456، وفي الوسائل الباب 33 من وجوب الحج
وشرائطه.
(3) ص 174
(4) الوسائل الباب 33 من وجوب الحج وشرائطه.
173

(عليه السلام) رجل: الركوب أفضل أم المشي؟ فقال: الركوب أفضل من المشي
لأن رسول الله صلى الله عليه وآله ركب ".
وروى في الكافي في الموثق عن عبد الله بن بكير (1) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: إنا نريد أن نخرج إلى مكة مشاة؟ فقال لنا: لا تمشوا
واخرجوا ركبانا. قلت: أصلحك الله (تعالى) أنه بلغنا عن الحسن بن علي
(صلوات الله عليهما) أنه كان يحج ماشيا؟ فقال: كان الحسن بن علي (عليهما
السلام) يحج ماشيا وتساق معه المحامل والرحال ".
أقول: ظاهر قول السائل: - " بلغنا عن الحسن بن علي (عليهما السلام) "
بعد سؤاله عن الخروج إلى مكة مشاة، ونهيه عليه السلام عن المشي - أن مشي الحسن
عليه السلام كان إلى مكة، ومثله رواية أبي أسامة المتقدمة. والجمع بينهما وبين ظاهر
صحيحة رفاعة لا يخلو عن اشكال.
وروى الكليني والشيخ في الصحيح عن سيف التمار (2) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: إنا كنا نحج مشاة فبلغنا عنك شئ فما ترى؟ قال: إن
الناس ليحجون مشاة ويركبون. قلت: ليس عن هذا أسألك. قال: فعن
أي شئ سألت؟ قلت: أيهما أحب إليك أن نصنع؟ قال: تركبون أحب
إلي، فإن ذلك أقوى لكم على الدعاء والعبادة ".
وللأصحاب في الجمع بين هذه الأخبار طرق: أحدها - وهو المشهور -
أن المشي أفضل إن لم يضعفه عن الدعاء وإلا فالركوب أفضل. ويشهد لهذا لجمع
صحيحة سيف المذكورة.
وثانيها - أن المشي أفضل لمن ساق معه ما إذا أعيا ركبه. ذكره الشيخ

(1) الكافي ج 4 ص 455 و 456، والتهذيب ج 5 ص 12، وفي
الوسائل الباب 33 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الكافي ج 4 ص 455 و 456، والتهذيب ج 5 ص 12، وفي
الوسائل الباب 33 من وجوب الحج وشرائطه.
174

في كتابي الأخبار، واستدل عليه بموثقة عبد الله بن بكير المتقدمة.
وثالثها - أن الركوب أفضل لمن كان الحامل له على المشي توفير المال مع
استغنائه عنه، دون ما إذا كان الحامل له على المشي كسر النفس ومشقة العبادة.
وهذا الوجه نقله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وسبطه في المدارك عن
العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني في شرح النهج، قال في المدارك: وهو جيد
لأن الشح جامع لمساوئ العيوب، كما ورد في الخبر (1) فيكون دفعه أولى
من العبادة بالمشي.
ويدل على هذا الوجه ما رواه ثقة الاسلام (عطر الله تعالى مرقده) عن أبي بصير (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المشي أفضل أو الركوب؟
فقال: إذا كان الرجل موسرا فمشى ليكون أقل لنفقته فالركوب أفضل ".
ورابعها - أن الركوب أفضل لمن يضعف بالمشي عن التقدم للعبادة.
احتمله الشيخ في كتابي الأخبار، واختاره شيخنا الشهيد في الدروس.
واحتج عليه الشيخ بما رواه عن هشام بن سالم في الحسن أو الموثق (3)
قال: " دخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) أنا وعنبسة بن مصعب وبضعة
عشر رجلا من أصحابنا، فقلنا: جعلنا الله فداك أيهما أفضل المشي أو الركوب؟
فقال: ما عبد الله بشئ أفضل من المشي. فقلنا: أيما أفضل نركب إلى مكة
فنعجل فنقيم بها إلى أن يقدم الماشي أو نمشي؟ فقال: الركوب أفضل ".

(1) نهج البلاغة ج 3 ص 245 مطبعة الاستقامة بمصر في الكلمات القصار
" البخيل جامع لمساوئ العيوب ".
(2) الكافي ج 4 ص 456، وفي الوسائل الباب 33 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) التهذيب ج 5 ص 13، وفي الوسائل الباب 32 و 33 من وجوب الحج وشرائطه.
175

وسيأتي اتمام الكلام في ذلك - إن شاء الله تعالى - في حج النذر.
المسألة الخامسة - لا خلاف بين الأصحاب في أنه إذا استقر الحج في ذمته
ثم مات فإنه يقضى عنه من أصل تركته. نقل الاجماع على ذلك العلامة في المنتهى
والتذكرة. وقد تقدمت جملة من الأخبار الدالة على ذلك في صدر المسألة الثانية.
إنما الخلاف في المكان الذي يجب الاستئجار منه، والمتداول في كتب
أكثر الأصحاب أن الخلاف هنا منحصر في قولين:
أحدهما - أنه من أقرب الأماكن إلى مكة، وهو الذي عليه الأكثر.
قالوا: والمراد بأقرب الأماكن أقرب المواقيت إلى مكة إن أمكن الاستئجار منه
وإلا فمن غيره مراعيا الأقرب فالأقرب، فإن تعذر الاستئجار من أحد
المواقيت وجب الاستئجار من أقرب ما يمكن الحج منه إلى الميقات.
وثانيهما - أنه من بلده، وهو قول الشيخ في النهاية، وبه قال ابن إدريس
والمفهوم من عبارة المحقق في الشرائع أن في المسألة قولا ثالثا، وهو
التفصيل بين ما إذا وسع المال فمن بلده وإلا فمن حيث يمكن.
وهذا القول وإن لم نظفر به في كلام المتقدمين إلا أنه صريح الشهيد في
الدروس، حيث قال: يقضي من أصل تركته من منزله، ولو ضاق المال فمن
حيث يمكن ولو من الميقات على الأقوى. انتهى.
استدل أصحاب القول المشهور على ذلك بأن الواجب قضاء الحج وهو
عبارة عن المناسك المخصوصة، وقطع المسافة ليس جزء منه ولا واجبا لذاته،
وإنما وجب لتوقف الواجب عليه، فإذا انتفى التوقف انتفى الوجوب. على أنا لو
سلمنا وجوبه لم يلزم من ذلك وجوب قضائه، لأن القضاء إنما يجب بدليل من
خارج، وهو إنما قام على وجوب قضاء الحج خاصة. كذا في المدارك.
واستدل المحقق في المعتبر على هذا القول أيضا بأن الواجب في الذمة
176

ليس إلا الحج فلا يكون قطع المسافة معتبرا. وبأن الميت لو اتفق حضوره
بعض المواقيت لا بقصد الحج أجزأه الحج من الميقات، فكذا لو قضى عنه.
وزاد العلامة في المختلف: إن المسافر لو اتفق قربه من الميقات فحصلت له
الشرائط وجب عليه أن يحج من ذلك الموضع، وكذا لو استطاع من غير بلده
لم يجب عليه قصد بلده وانشاء الحج منه بلا خلاف، فعلم أن قطع المسافة ليس
واجبا هنا، فلا يجب الاستئجار منه.
أقول: وهذه الوجوه بحسب ما يتراءى منها في بادئ الرأي مؤيدة لما
ادعوه، إلا أن في صلاحها لتأسيس الأحكام الشرعية وبنائها عليها اشكالا،
كما سيظهر لك إن شاء الله (تعالى) فإنه من الجائز أن يكون حكم القضاء عن الميت
غير مترتب على هذه الوجوه التي ذكروها، فلا بد فيه من دليل صريح يدل
على ما ادعوه.
احتج ابن إدريس - على ما نقلوا عنه - بتواتر الأخبار بذلك. وبأن المحجوج
عنه كان يجب عليه الحج من بلده ونفقة طريقه، فمع الموت لا تسقط النفقة.
ورده المحقق في المعتبر بالمنع من تواتر الأخبار بذلك، قال: ودعوى المتأخر
تواتر الأخبار غلط، فإنا لم نقف في ذلك على خبر شاذ فكيف يدعى التواتر؟
وبانا لا نسلم وجوب الحج من البلد، بل لو أفاق المجنون عند بعض المواقيت أو
استغنى الفقير وجب أن يحج من موضعه. على أنه لم يذهب محصل إلى أن
الانسان يجب عليه أن ينشئ حجة من بلده. فدعواه هذه غلط وما رتبه عليها
أشد غلطا. انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المسألة خالية من النصوص كما سمعت من كلام
المحقق، والنصوص الواردة باعتبار الميقات أو البلد أو ما بينهما إنما وردت في
الوصية بالحج، مع أنها بحسب ظاهرها لا تخلو من تدافع وتعارض. والأصحاب
177

قد تعلقوا بجملة منها في الدلالة على ما ادعوه في هذه المسألة من تخصيص الوجوب
بالميقات، وأجابوا عن ما دل بظاهره على خلاف ذلك. وظاهرهم أن المسألتين
في التحقيق من باب واحد. وهو كذلك. إلا أن في دلالة ما أوردوه من الأخبار
على ما ادعوه منها تأملا.
وها أنا أسوق إليك جملة ما وقفت عليه من الأخبار المذكورة، مذيلا كلا
منها بما أدى إليه فهمي القاصر وذهني الفاتر، واسأل الله (عز وجل) العصمة
من طغيان القلم وزلة القدم، فأقول:
من الأخبار المشار إليها صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال:
" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أعطى رجلا حجة يحج بها عنه من الكوفة
فحج عنه من البصرة؟ قال: لا بأس، إذا قضى جميع المناسك فقد تم حجه ".
أقول: وهذه الرواية وإن لم تكن من عداد الروايات المشار إليها إلا أنها من جملة ما اعتضد به أصحاب القول المشهور فذكرناها أولا لذلك.
والتقريب فيها أنها دلت بظاهرها على أن المخالفة في الحج من الكوفة إلى
الحج من البصرة غير موجب لفساد الحج، وما ذاك إلا من حيث إن الغرض
من اعطاء الحجة الاتيان بالمناسك المذكورة وأن الطريق لا مدخل لها في الحج.
وفيه ما سيأتي إن شاء الله (تعالى) في مسألة من استؤجر على طريق فحج على
غيره من الخلاف في ذلك.
وصاحب المدارك الذي هو ممن اعتضد بهذه الرواية في هذه المسألة، حيث
اختار في تلك المسألة عدم صحة الحج كذلك أجاب عن هذه الرواية - حيث إن
الشيخين استدلا بها على الجواز - فقال بأنها لا تدل صريحا على جواز المخالفة،

(1) الوسائل الباب 11 من النيابة في الحج.
178

لاحتمال أن يكون قوله: " من الكوفة " صفة ل‍ " رجل " لا صلة
ل‍ " يحج ". انتهى. ولا يخفى أنه بناء على هذا الاحتمال الذي ذكره يبطل
تعلقه بها هنا فكيف يحتج بها؟
ومنها - ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن رئاب (1) قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى أن يحج عنه حجة الاسلام فلم يبلغ جميع
ما ترك إلا خمسين درهما؟ قال: يحج عنه من بعض المواقيت التي وقت
رسول الله صلى الله عليه وآله من قرب ".
قالوا: وهذه الرواية مؤيدة للقول المشهور باعتبار أنه عليه السلام أطلق الحج
عنه من بعض المواقيت ولم يستفصل عن إمكان الحج بذلك من البلد أو غيره
من ما هو أبعد من الميقات، فدل على عدم وجوبه.
وفيه بعد، فإنه من المحتمل قريبا - بل الظاهر أنه الأقرب - أنه عليه السلام إنما أمر
من بعض المواقيت لعلمه أن الخمسين بحسب العادة والعرف ليس فيها وفور لما
يسع من ما قبل الميقات من نفقة الحج وكراية الدابة تلك المدة كما هو ظاهر.
وما ذكرناه إن لم يكن أظهر فلا أقل أن يكون مساويا لما ذكروه من الاحتمال،
وبذلك يبطل الاستدلال.
ومنها - رواية زكريا بن آدم (2) قال: " سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل
مات وأوصى بحجة له، أيجوز أن يحج عنه من غير البلد الذي مات فيه؟ فقال:
ما كان دون الميقات فلا بأس ".
أقول: إن ظاهر هذه الرواية أنه لا يتعين الحج من البلد، بل الواجب
أن يستأجر عنه من قبل الميقات كائنا ما كان بما تسعه الأجرة، والأظهر حملها على

(1) الوسائل الباب 2 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 2 من النيابة في الحج.
179

عدم سعة المال للحج من البلد. ومفهومها أنه لا يصار إلى الميقات مع سعة المال
لما زاد على ذلك. وهي بالتقريب المذكور منافية للقول المشهور، والاعتضاد بها
- كما ذكره في المدارك - لا يخلو من القصور.
ومنها - ما رواه الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن أبي سعيد عن من
سأل أبا عبد الله عليه السلام (1) عن رجل أوصى بعشرين درهما في حجة؟ قال:
يحج بها عنه رجل من حيث يبلغه.
أقول: ظاهر هذا الخبر أن العشرين لو لم تبلغ الحج من أحد المواقيت
المشهورة يحج من ما بعد الميقات إلى مكة، كأدنى الحل والحديبية والجعرانة.
ويصير هذا من قبيل من لم يتمكن من وصول الميقات والخروج إليه، فإنه يحرم
من هذه الأماكن ولو من مكة. هذا ما يفهم من الخبر.
ومنها - ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم عن معاوية بن
عمار (2) قال: " قلت له: رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه
حجة الاسلام، وترك ثلاثمائة درهم، وأوصى بحجة الاسلام وأن يقضى عنه
دين الزكاة؟ قال: يحج عنه من أقرب ما يكون ويخرج البقية في الزكاة ".
أقول: ظاهر الخبر هنا أن الحج من مكة لأنها أقرب ما يكون بالتقريب
الذي ذكرناه.
ومنها - ما رواه في الكافي عن عمر بن يزيد (3) قال: " قال أبو عبد الله

(1) رواه في التهذيب ج 9 ص 229، وفي الفقيه ج 2 ص 272، إلا أنه
عن أبي بصير مضمرا، ورواه في الكافي ج 4 ص 308، وفي الوسائل الباب 2
من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 21 من المستحقين للزكاة
(3) الوسائل الباب 2 من النيابة في الحج
180

(عليه السلام) في رجل أوصى بحجة فلم تكفه من الكوفة أنها تجزئ حجته
من دون الوقت ".
وما رواه فيه أيضا عن عمر بن يزيد (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): رجل أوصى بحجة فلم تكفه؟ قال: فيقدمها حتى يحج دون الوقت "
وظاهر الخبرين المذكورين أن الرجل أوصى بمال للحج فلم يكف
للاستئجار عنه من البلد، كما هو صريح الأول وظاهر الثاني. وأجاب (عليه
السلام) بأنه يستأجر بها من أي موضع يسعه المال بعد البلد. وفيه إيماء إلى أنه
لو كفى من البلد لوجب وإن لم يعين البلد في الوصية.
ومنها - ما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن محمد بن
عبد الله (2) قال: " سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الرجل يموت
فيوصي بالحج، من أين يحج عنه؟ قال: على قدر ماله، إن وسعه ماله فمن منزله
وإن لم يسعه ماله من منزله فمن الكوفة، فإن لم يسعه من الكوفة فمن المدينة ".
أقول: ظاهر الخبر المذكور أنه إن كان في مال الموصي سعة الحج من
المنزل فهو الواجب أولا، وإلا فيبنى على ما يسعه من البلدان المتوسطة. وظاهر
الخبر أن السؤال عن رجل من خراسان. وبهذا التقريب ينطبق على ما قدمناه
من الأخبار.
ومنها - صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) أنه قال: " وإن

(1) الوسائل الباب 2 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 2 من النيابة في الحج.
(3) لم أقف على هذه الصحيحة في الوسائل في مظانها، ولم يذكرها في
الوافي باب (الوصية بالحج) من كتاب الوصية. نعم ذكرها صاحب المدارك
في نفس المسألة، وهي المسألة الثانية من المسائل الأربع في المقدمة الثانية
ونسبها إلى الشيخ (قدس سره) وكذا نسبها صاحب الذخيرة إلى الشيخ في
نفس المسألة، ومن قبلهما العلامة في المنتهى ج 2 ص 871. ولم أجدها في
التهذيب في مظانها. إلا أن الشيخ (قدس سره) - بعد أن أورد في التهذيب
ج 5 ص 405 من الطبع الحديث صحيح الحلبي المتضمن للوصية بالحج وأن حجة
الاسلام تخرج من أصل المال والحج المستحب يخرج من الثلث، وأن النائب
يتعين بتعيين الموصي، وأورده في الوسائل في الباب 25 من وجوب الحج
وشرائطه برقم (2) - قال: " فإن أوصى أن يحج عنه حجة الاسلام ولم يبلغ
ماله ذلك فليحج عنه من بعض المواقيت، روى ذلك... " ثم ذكر صحيح
علي بن رئاب المتقدم. وهذه العبارة بقرينة قوله: " روى ذلك " من كلام
الشيخ (قدس سره) لا من لفظ الحديث. وعدم نقل صاحبي الوسائل والوافي
لهذه الصحيحة شاهد قطعي على ذلك.
181

أوصى أن يحج عنه حجة الاسلام ولم يبلغ ماله ذلك فليحج عنه من بعض
المواقيت " والتقريب فيها ما تقدم.
والسيد السند في المدارك لما اعتضد بروايتي علي بن رئاب وزكريا بن
آدم المتقدمتين على ما اختاره من القول المشهور - وهو وجوب الحج من الميقات
مطلقا، وكان هذان الخبران ظاهري المنافاة لذلك - أجاب عنهما بعد ذكرهما
بأنهما إنما تضمنا الحج من البلد مع الوصية، ولعل القرائن الحالية كانت دالة على
إرادة الحج من البلد، كما هو الظاهر من الوصية عند الاطلاق في زماننا، فلا
يلزم مثله مع انتفاء الوصية. انتهى.
وفيه: أن بعده ظاهر، وما ذكره تكلف لا ضرورة تلجئ إليه، فإن
ما ذكرناه هو المعنى الذي تنطبق جملة أخبار المسألة عليه. وتوهم الدلالة على
182

اعتبار الميقات من الخبرين اللذين اعتضد بهما قد بينا ضعفه.
وزاد بعضهم في الجواب عن الخبر المذكور: أن يراد بماله ما عينه أجرة
للحج بالوصية، قال: فإنه يتعين الوفاء به مع خروج ما زاد عن أجرته من الميقات
من الثلث اتفاقا، وهو أبعد وأبعد.
وبالجملة فإن الظاهر عندي من هذه الروايات - باعتبار ضم بعضها إلى بعض
وحمل مجملها على مفصلها ومطلقها على مقيدها - هو أنه متى أوصى بالحج فإنه ينظر في
ماله، فإن وسع الحج من بلده ومنزله وجب، وإلا فيترتب باعتبار ما يسع المال ولو
من مكة. وهذا هو قول شيخنا الشهيد في الدروس. مثلا: لو كان الموصي
في بلد خراسان، فإن وسع ماله للحج من خراسان وجب، وإلا فينظر في البلدان
والأماكن المتوسطة من خراسان إلى مكة فأيها وسع الحج منه وجب. وعلى هذا
فلا حجة في شئ من هذه الأخبار للقول المشهور، بل هي ظاهرة في خلافه.
نعم يبقى الكلام في أن مورد هذه الروايات الوصية فحمل ما نحن فيه
عليها يحتاج إلى دليل. إلا أن لقائل أن يقول: إنه إذا دلت هذه الأخبار - كما
أوضحناه - على أن الواجب مع الوصية هو النظر إلى سعة المال، فإن وسع من بلده
وجب الحج من البلد وإلا فمن حيث يسع، فينبغي القول بذلك في من لم يوص
مع معلومية اشتغال ذمته، لأن الواجب الاخراج عنه أوصى أو لم يوص. ولهذا
تكلف الأصحاب ارجاع بعض هذه الروايات إلى ما ذهبوا إليه واستدلوا بها عليه
وإن كان خلاف ما يستفاد منها كما عرفت.
وإن أردت مزيد تحقيق للمقام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر
(عليهم السلام) فاستمع لما يتلى عليك من الكلام:
فنقول: لا يخفى أن هذه الأخبار بالتقريب الذي ذكرناه فيها دافعة لما
ذكروه من الدليل المتقدم على القول المشهور، لأن مرجع كلامهم - وإن أكثروا
183

من العبارات - إلى أن أخبار القضاء الواردة بقضاء الحج لم تشتمل على الطريق
بل على قضاء الحج خاصة، والحج إنما هو عبارة عن المناسك المخصوصة،
ووجوب قطع الطريق على الحي إنما هو من حيث عدم تمكنه من الحج إلا
بذلك، ومتى مات سقط هذا التكليف عنه ووجب الحج خاصة.
وفيه أولا - أنه لو كانت الطريق لا مدخل لها في القضاء عنه، وأن الواجب
إنما هو الحج من الميقات مطلقا، فكيف تخرج هذه الأخبار مصرحة بالترتيب
مع الوصية بالقضاء من البلد وإلا فمن حيث وسعه المال كما أوضحناه آنفا؟ لأن
قاعدتهم هذه جارية في المقامين وكلامهم شامل للمسألتين.
وثانيا - الأخبار الدالة على وجوب استنابة الممنوع من الحج بمرض
أو شيخوخة أو عضب، وأنه يجهز رجلا من ماله ليحج عنه (1) ومن الظاهر أن التجهيز إنما هو من البلد، فإنه لا يقال لمن كان في بغداد - مثلا - ثم أمر رجلا
أن يستأجر له رجلا من الميقات أنه جهز رجلا يحج عنه، فإن التجهيز إنما هو
أن يعطيه أسباب السفر وما يتوقف عليه إلى ذلك المكان بل ورجوعه. وهو
ظاهر الأصحاب أيضا حيث إنه لم يطعن أحد في دلالة هذه الأخبار مع أنها ظاهرة
في ما ذكرناه. ومقتضى ما ذكروه - من الدليل المتقدم الذي اعتمدوا عليه في هذه
المسألة - أن الواجب إنما هو الحج من الميقات والطريق لا مدخل لها. وبعين
ذلك نلزمهم في المسألة المذكورة، فإن هذا الممنوع بسبب العذر قد سقط عنه
وجوب السعي ببدنه وتعلق الحج بماله، والحج إنما هو عبارة عن المناسك
المخصوصة والطريق لا مدخل لها، فمن أين يجب عليه أن يجهز رجلا من بلده؟
مع أن الأخبار قد دلت على خلاف ذلك. وهو مؤذن ببطلان قاعدتهم
التي اعتمدوها.

(1) الوسائل الباب 24 من وجوب الحج وشرائطه.
184

وثالثا - ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب مسائل
الرجال (1) رواية عبد الله بن جعفر الحميري وأحمد بن محمد الجوهري عن أحمد بن
محمد عن عدة من أصحابنا قالوا: " قلنا لأبي الحسن - يعني علي بن محمد (عليهما
السلام) -: إن رجلا مات في الطريق وأوصى بحجة وما بقي فهو لك، فاختلف
أصحابنا، فقال بعضهم: يحج عنه من الوقت فهو أوفر للشئ أن يبقى عليه.
وقال بعضهم: يحج عنه من حيث مات؟ فقال عليه السلام: يحج عنه من حيث مات ".
والتقريب فيها أنه لو كان الطريق لا مدخل له في الحج عن الميت بالتقريب
الذي ذكروه لأمر عليه السلام بالحج من الميقات ولم يأمر بالحج من الموضع الذي مات فيه
ولعل الرجل كان من خراسان - مثلا - فمات بعد خروجه بفرسخين أو ثلاثة،
وأنه عليه السلام أوجب الحج من ذلك الموضع.
فأي دليل في بطلان ما اعتمدوه أظهر من هذه الأدلة؟
(فإن قيل): إن الأخبار قد وردت في هذه المواضع بما ذكرتم فوجب
المصير إليها، ولا يلزم من ذلك المصير إلى ما ذكرتم في هذه المسألة.
(قلنا): نعم الأمر كما ذكرت ولكن الغرض من ايراد هذه الأخبار
إنما هو بيان بطلان هذا الدليل الذي اعتمدوه، وفساد هذه القاعدة التي اتفقوا
عليها، فإنه لو كان ذلك حكما كليا وضابطا جليا - كما ظنوه - لم تخرج هذه الأخبار بخلافها مع أن ما تضمنته من جزئياتها، فهو دليل على فسادها.
ورابعا - إنا نقول: إن ظاهر الأخبار الدالة على شرطية الاستطاعة في
وجوب الحج شمولها باطلاقها للحي والميت، بمعنى أن الواجب عليه في حال
الحياة الحج متى استطاع الاتيان به بزاد وراحلة وغيرهما من ما يتوقف عليه الحج

(1) الوسائل الباب 2 من النيابة في الحج.
185

أولا وإن قل في بعض الفروض، كما إذا حصلت الاستطاعة في الميقات مثلا، لأن
الاستطاعة عندنا - كما حققناه آنفا - عبارة عن القدرة على الاتيان بالحج كيف
اتفق من غير مشقة، وكذلك بعد الموت يجب الحج عنه على الوجه الذي استقر
في الذمة. والتمسك باطلاق قولهم (عليهم السلام) في أخبار القضاء: " من
مات مستطيعا يقضي عنه الحج " (1) يراد به على الوجه الذي فات عليه. وتشهد
بذلك الأخبار التي ذكرناها في الوجوه الثلاثة المتقدمة. على أن اللازم من ما
ذكروه - من عدم شرطية الاستطاعة في القضاء عن الميت - أنه لو مات مستطيعا
للحج من الميقات وجب أن يقضي عنه من الميقات. وهو باطل اجماعا. وقولهم -:
إنه لو أفاق المجنون عند الميقات، أو استطاع في ذلك المكان، أو اتفق حضوره
الميقات، لم يجب عليه قصد البلد - صحيح، لأنا لا نوجب في القضاء عنه الحج
من البلد مطلقا، وإنما ترتبه على أنه بعد حصول الاستطاعة كائنا ما كان لو
مات وجب القضاء عنه من محل الموت، فلو مات أحد من هذه الأفراد المعدودة
- أعني المجنون وما بعده - لم نوجب القضاء عنه إلا من ذلك المكان، كما سمعت
من حديث السرائر. والأخبار الخارجة بالبلد في الوصية - كما قدمناها - إنما خرجت
مخرج الغالب والأكثر من حصول ذلك في بلد الاستيطان، فلا ينافي ذلك
ما اتفق على غير هذا الوجه.
فعليك بالفكر الدقيق في هذا التحقيق الرشيق، فإنه حقيق أن يكتب
بالتبر على الأحداق لا بالحبر على الأوراق، إلا أن الألف بالمشهورات - سيما إذا
زخرفت بالاجماعات - شنشنة أخزمية وطريقة لا تخلو من عصبية.
وكيف كان فإنا في المسألة من المتوقفين لعدم النص الصريح، والاحتياط

(1) هذا مضمون ما أورده في الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه
186

عندي واجب بنحو ما ذكره شيخنا في الدروس، فإن كلامه هو الأظهر لصوقا
بالأخبار كما عرفت. والله العالم بحقائق أحكامه، وحملة شريعته القوامون بمعالم
حلاله وحرامه.
ويجب أن يلحق بهذه المسألة فوائد: الأولى - قد صرح الأصحاب بأنه
إنما يقضي الحج من أصل التركة متى استقر في الذمة بشرط أن لا يكون عليه دين
وتضيق التركة عن قسمتها على الدين وأجرة المثل.
قال في المدارك بعد ذكر المصنف ذلك: وأما أنه مع ضيق التركة يجب
قسمتها على الدين وأجرة المثل بالحصص فواضح، لاشتراك الجميع في الثبوت
وانتفاء الأولوية. ثم إن قامت حصة الحج من التوزيع أو من جميع التركة مع انتفاء الدين بأجرة الحج فواضح، ولو قصرت عن الحج والعمرة من أقرب
المواقيت ووسعت لأحدهما فقد أطلق جمع من الأصحاب وجوبه. ولو تعارضا
احتمل التخيير لعدم الأولوية، وتقديم الحج لأنه أهم في نظر الشرع. ويحتمل
قويا سقوط الفرض مع القصور عن الحج والعمرة إن كان الفرض التمتع، لدخول
العمرة في الحج على ما سيجئ بيانه. ولو قصر نصيب الحج عن أحد الأمرين
وجب صرفه في الدين إن كان معه وإلا عاد ميراثا. انتهى.
أقول: لا يخفى أنه قد تقدمت (1) صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته دالة
على أن من عليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجة الاسلام ولم يترك إلا ثلاثمائة
درهم، فإنه يقدم الحج أولا من أقرب الأماكن ويصرف الباقي في الزكاة.
ومثلها - ما رواه الشيخ في التهذيب عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام (2)
" في رجل مات وترك ثلاثمائة درهم، وعليه من الزكاة سبعمائة درهم، وأوصى أن

(1) ص 180
(2) الوسائل الباب 42 من الوصايا.
187

يحج عنه؟ قال: يحج عنه من أقرب المواضع ويجعل ما بقي في الزكاة ".
وظاهر الخبرين المذكورين بل صريحهما أنه يجب أولا الحج عنه من أقرب
الأماكن ثم يصرف الباقي في الزكاة كائنا ما كان، وأنه لا تحاص بينهما.
ولا يخفى ما في ذلك من الدلالة على بطلان ما ذكروه من التفصيل.
وبيان ذلك من وجوه: منها - أنهم اعتبروا توزيع التركة بالحصص كما
في الديون المجتمعة، وجعلوا حصة الحج أجرة المثل، والنص (1) يدل على
وجوب البدأة بالحج وأنه لا يصرف في الزكاة شئ إلا بعد الحج، فيصرف
فيها ما فضل.
ومنها - أن ظاهرهم أن أجرة المثل باعتبار الميقات، والنص (2) يدل على أنه
من أقرب الأماكن، والمراد مكة بالتقريب الذي أوضحناه آنفا.
ومنها - أن ظاهر النص (3) تقديم الحج مطلقا تمتعا كان فرضه أو غيره.
ومنها - قوله: " ثم إن قامت حصة الحج من التوزيع... إلى آخره "
فإن ظاهر النص (4) أنه لا توزيع بل يقدم الحج أولا ويصرف الفاضل في الزكاة.
ومن ذلك أيضا يظهر بطلان قوله: " ويحتمل قويا سقوط الفرض مع
القصور " وقوله: " لو قصر نصيب الحج عن أحد الأمرين ".
وبالجملة فإن جميع هذه الأحكام وقعت تفريعا على وجوب التوزيع بالحصص
كما في سائر الديون، والنص (5) قد دل على وجوب تقديم الحج - كما عرفت -
واختصاص الفاضل بالزكاة.
ولا ريب أنهم بنوا في هذه المسألة على مسألة تزاحم الديون وأن الحكم
فبها التوزيع بالحصص والحج دين، والنص (6) ظاهر في اخراج دين الحج من

(1) وهما خبرا معاوية بن عمار المذكوران.
(2) وهما خبرا معاوية بن عمار المذكوران.
(3) وهما خبرا معاوية بن عمار المذكوران.
(4) وهما خبرا معاوية بن عمار المذكوران.
(5) وهما خبرا معاوية بن عمار المذكوران.
(6) وهما خبرا معاوية بن عمار المذكوران.
188

هذه القاعدة التي بنوا عليها.
وهذا من ما يؤيد ما قدمناه في أصل المسألة من أنه لا يكفي في اثبات الحكم
الشرعي مثل هذه الأدلة، لجواز خروج موضع البحث عنها. وهو مؤيد لما حققناه
في غير موضع من توقف الفتوى في المسألة والحكم على النص الصريح الواضح
الدلالة، فإن الناظر في كلامهم هنا في الموضعين لا يكاد يختلجه الريب في صحة
ما ذكروه بناء على القاعدتين المذكورتين، والنصوص - كما ترى - في الموضعين
على خلاف ذلك.
الثانية - هل المراد بالبلد على تقدير القول بالاستئجار من البلد بلد موته
أو بلد استيطانه، أو بلد يساره التي حصل وجوب الحج عليه فيها؟ أوجه:
اختار في المدارك الأول، حيث قال: الظاهر أن المراد بالبلد الذي يجب
الحج منه على القول به محل الموت حيث كان، كما صرح به ابن إدريس ودل عليه
دليله. انتهى.
أقول: في استفادة ذلك من دليل ابن إدريس - وهو ما قدمنا نقله
عنه - اشكال، لأنه احتج بأنه كان يجب عليه الحج من بلده. وظاهر ذلك
إنما هو بلد استيطانه، إذ لا يصدق عرفا على من كان من أهل الكوفة فاتفق
موته في البصرة إن البصرة بلده وإنما يصدق على الكوفة. بل دعواه (قدس
سره): أن ابن إدريس صرح ببلد الموت أيضا غريب، فإنا لم نقف عليه في
كلامه ولا نقله عنه غيره ومن تبع أثره كالفاضل الخراساني وغيره.
وهذه صورة عبارته في كتاب السرائر من أولها إلى آخرها، قال (قدس
سره): فإن كان متمكنا من الحج والخروج فلم يخرج وأدركه الموت وكان
الحج قد استقر عليه، وجب أن يخرج عنه من صلب ماله ما يحج به من بلده،
وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا، فإن لم يخلف إلا قدر ما يحج به من بلده
189

وكانت الحجة قد وجبت عليه قبل ذلك واستقرت، وجب أن يحج به عنه من بلده
وقال بعض أصحابنا بل من بعض المواقيت، ولا يلزم الورثة الإجارة من بلده
بل من بعض المواقيت. والصحيح الأول، لأنه كان يجب عليه نفقة الطريق
من بلده فلما مات سقط الحج عن بدنه وبقي في ماله بقدر ما كان يجب عليه لو كان
حيا من مؤنة الطريق من بلده، فإذا لم يخلف إلا قدر ما يحج به من بعض
المواقيت وجب أيضا أن يحج عنه من ذلك الموضع. وما اخترناه مذهب شيخنا
أبي جعفر في نهايته، وبه تواترت أخبارنا ورواية أصحابنا. والمقالة الأخرى
ذكرها في مبسوطه، وأظنها مذهب المخالفين (1) انتهى.
وهذه العبارة على طولها وتكرار لفظ " بلده " فيها ليس فيها تعرض
لذكر بلد الموت، فأين التصريح الذي ذكره (قدس سره)؟ والمتبادر - كما
عرفت - من بلده إنما هو بلد الاستيطان والإقامة مدى الزمان لا بلد الموت،
كأن يموت عابر سبيل في بلد من البلدان. وبذلك يظهر عدم الاعتماد على النقول
وإن كان من أجلاء الفحول.
ثم إنه في المدارك لم يذكر لما استظهره دليلا يدل عليه ولا مستندا
يرجع إليه.
ثم قال في المدارك على أثر العبارة التي قدمناها عنه: وقال في التذكرة:
ولو كان له موطنان قال الموجبون للاستنابة من البلد: يستناب من أقربهما.
وهو غير واضح، لأن دليل الموجبين إنما يدل على ما ذكرناه. انتهى.
أقول: أشار بدليل الموجبين إلى ما تقدم في صدر عبارته من دعوى
كون دليل ابن إدريس الذي هو القائل بهذا القول دل على محل الموت. وقد
عرفت ما فيه.

(1) نسبه في المغني ج 3 ص 243 إلى الشافعي.
190

بقي الكلام في ما نقله هنا عن التذكرة، فإنه وإن كان كذلك إلا أنه
لا يخلو من نوع مدافعة لما قدمه في التذكرة في صدر المسألة، حيث قال: مسألة:
وفي وجوب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحج فيه - إما من بلده
أو من الموضع الذي أيسر فيه - قولان: أحدهما هذا، وبه قال الحسن البصري
وإسحاق ومالك في النذر (1) والثاني أنه يجب من أقرب الأماكن إلى مكة وهو
الميقات، وبه قال الشافعي (2) وهو الأقوى عندي. ثم استدل بنحو ما قدمنا
نقله عنهم، ونقل رواية حريز ورواية علي بن رئاب بالتقريب الذي قدمنا نقله
عنهم في ذيلها... إلى أن قال: احتج الآخرون بأن الحج وجب على الميت من
بلده فوجب أن ينوب عنه منه، لأن القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء
الصلاة والصيام. ثم قال: ونحن نمنع الوجوب من البلد وإنما ثبت اتفاقا،
ولهذا لو اتفق له اليسار في الميقات لم يجب عليه الرجوع إلى بلده لإنشاء الاحرام
منه، فدل على أن قطع المسافة ليس مرادا للشارع. ثم قال: تذنيبات:
لو كان له موطنان قال الموجبون للاستنابة من بلده: يستناب من أقربهما، فإن
وجب عليه الحج بخراسان ومات ببغداد، أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان
قال أحمد يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته (3) ويحتمل أن يحج عنه
من أقرب المكانين، لأنه لو كان حيا في أقرب المكانين لم يجب عليه من أبعد
منه، فكذا نائبه. انتهى.
أقول: لا يخفى أن ظاهر كلامه في صدر المسألة أن الخلاف في المسألة على
قولين، أحدهما وجوب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحج فيه

(1) المغني ج 3 ص 243.
(2) المغني ج 3 ص 243.
(3) المغني ج 3 ص 243.
191

سواء كان بلده أو غيره من الموضع الذي أيسر فيه، والثاني من الميقات. وهذا
الكلام يشعر بأن مراد القائلين بالبلد إنما هو بلد الاستطاعة، كما هو أحد الوجوه
التي قدمنا نقلها عنهم. وهو ظاهر الحجة التي نقلها عن أصحاب هذا القول.
وحينئذ فقوله في التذنيب الأول -: لو كان له موطنان قال الموجبون للاستنابة
من بلده: يستناب من أقربهما - لا ينطبق على القول الأول وإنما ينطبق
على القول ببلد الاستيطان مطلقا استطاع فيها أو لا، كما هو أحد الوجوه
المتقدمة، لأنه لا معنى لحصول الاستطاعة في بلدين متعددين. وهذا القول
لم يذكره ولم يتعرض له كما عرفت من عبارته. فكيف يفرع عليه هذا الفرع؟
ويؤيد ما ذكرناه تمثيله بمن وجب عليه الحج بخراسان فمات ببغداد وبالعكس،
فإن هذا إنما يجري على ما ذكرناه من البلد مطلقا. وما نقله عن أحمد هنا هو
الموافق لما نقله آنفا عن الحسن البصري وإسحاق ومالك، وإن خصه بعضهم
بالنذر كما أشار إليه.
وكيف كان فظاهر بحثه هنا إنما هو مع المخالفين، بل الظاهر أن
الاحتمالات الثلاثة في البلد - كما قدمنا نقله عنهم - إنما هو عند المخالفين (1) لأن
القائلين بالبلد من أصحابنا ظاهر كلامهم إنما هو بلد الاستيطان، كما عرفت من
كلام ابن إدريس.
الثالثة - قال في المدارك: الموجود في ما وقفت عليه من كتب الأصحاب
حتى في كلام المصنف في المعتبر أن في المسألة قولين كما نقلناه، وقد جعل

(1) قال في المغني: ويستناب من يحج عنه من حيث وجب عليه، أما من
بلده أو من الموضع الذي أحصر فيه... إلى أن قال: وقال الشافعي: يستأجر
من يحج عنه من الميقات.
192

المصنف هنا الأقوال ثلاثة، ولا يتحقق الفرق بين القولين الأخيرين إلا على
تقدير القول بسقوط الحج مع عدم سعة المال للحج من البلد على القول الثاني.
ولا نعرف بذلك قائلا، مع أنه مخالف للروايات كلها. انتهى.
أقول: هذا القول وإن لم ينقل صريحا عن أحد من المتقدمين كما ذكره
إلا أنه صريح شيخنا الشهيد في الدروس، كما عرفت من عبارته التي قدمناها في
صدر المسألة.
والتحقيق في ذلك أن يقال: إن أصل مطرح الخلاف في المسألة بين الخاصة
والعامة - كما سمعته من كلام التذكرة - إنما هو بالنسبة إلى من في ماله سعة الحج من
البلد، هل يجب عليه أن يحج عنه من بلده بالتقريب الذي ذكره أصحاب هذا
القول كما تقدم، أو إنما يجب الحج عنه من الميقات خاصة بالتقريب المتقدم في
كلامهم؟ ومقتضى ذلك أن من لم يخلف سعة من المال يحج به من البلد يسقط الحج
عنه على تقدير القول بالبلد، كما ذكره (قدس سره) وهو ظاهر المنقول عن العامة
القائلين بهذا القول، كما يشعر به كلام التذكرة المتقدم، والخلاف في هذه
المسألة ليس مختصا بالخاصة حتى يدعي أنه لم يعرف بذلك قائلا. إلا أن ابن
إدريس الذي هو الفائل بالبلد من أصحابنا وافق الأصحاب في الاستئجار من
الميقات في ما إذا لم يخلف إلا قدر ما يحج به من الميقات، كما تقدم في عبارته.
وأما مع وجود السعة للحج من الأماكن المتوسطة بين البلد وبين الميقات فلم
يتعرض له في كلامه بالمرة، وهذا القائل قد تعرض له وأوجب الاستئجار من كل
مكان وسعه المال من البلد فصاعدا إلى الميقات. وحينئذ فالظاهر تخصيص كلام
ابن إدريس، إما بحمل كلامه على ما يرجع به إلى القول الثالث، وهذا هو ظاهر
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، حيث قال بعد نقل القولين - الوجوب من الميقات
والثاني من البلد -: " ومراد صاحب هذا القول أن ذلك مع سعة المال وإلا فمن
193

حيث يمكن " والظاهر بعده عن ظاهر عبارته المتقدمة، وأما بأن يحمل المراد
من قوله: " لم يخلف إلا قدر ما يحج به من الميقات " على ما إذا لم يخلف من
المال ما فيه سعة الحج من البلد تجوزا، فعلى هذا ليس عنده إلا الحج من
البلد إن وسعه المال أو الميقات إن لم يسعه، فعلى هذا لو وسع من الأماكن
المتوسطة فالحج من الميقات. وأمثال هذا التجوز في عبارات المتقدمين كثير.
ومرجع ذلك إلى ما عرفت آنفا من أن محل الخلاف في المسألة إنما هو الاستطاعة
من البلد، فالأصحاب ألغوا ذلك وأوجبوا من الميقات خاصة، وابن إدريس
أوجب الحج من البلد في الصورة المذكورة ووافق الأصحاب في ما عدا ذلك.
وكيف كان فقول الدروس هو الأوفق بالأخبار التي قدمناها بالتقريب
الذي ذكرناه في ذيلها.
والظاهر أن مراد السيد السند (قدس سره) بقوله: " مع أنه مخالف
للروايات كلها " إنما هي روايات الوصية، لما عرفت من أن أصل هذه المسألة
خالية من الروايات بالكلية.
الرابعة - قال في المدارك: لو أوصى بالحج من البلد، فإن قلنا بوجوبه
كذلك بدون الوصية كانت أجرة المثل لذلك خارجة من أصل المال، وإن قلنا الواجب
الحج من الميقات كان ما زاد على أجرة ذلك محسوبا من الثلث إن أمكن
الاستئجار من الميقات، وإلا وجب الاخراج من حيث يمكن وكانت أجرة الجميع
خارجة من الأصل، كما هو واضح. انتهى.
أقول: أما ما ذكره من كون الأجرة من الأصل على القول الأول
فواضح، وكذا كون ما زاد على أجرة الميقات من الثلث على القول الثاني فهو
ظاهر. وأما تقييد ذلك بناء على القول الثاني بامكان الاستئجار من الميقات -
وإلا وجب الاخراج من حيث يمكن وكانت أجرة الجميع من الأصل - فلا أعرف له
194

معنى مستقيما، فإنه متى كان الواجب عليه إنما هو الحج من الميقات فالذي يتعلق
بالذمة من المال إنما هو مثل أجرة هذه المسافة، وهذا لا يتفاوت بين إمكان
الاستئجار منه وعدمه، بل فرض الحج هنا من الميقات أو ما أمكن غير ممكن،
لأن الوصية تعلقت بالحج من البلد، فالواجب حينئذ هو الاستئجار من البلد
ولا يجزئ غيره.
وإنما الكلام في قدر الأجرة التي يجب اخراجها، فعلى هذا القول يجب
أن يخرج أجرة الميقات من الأصل وما زاد عليه من الثلث. وحينئذ فقوله -:
" وإلا فمن حيث أمكن وكانت أجرة الجميع خارجة من الأصل " - لا أعرف له
معنى مع فرضه أصل المسألة في من أوصى بالحج من البلد، إذ لا معنى للحج من
البلد إلا الاستئجار للسعي منه.
ويشير إلى ما ذكرناه ما هو المصرح به في كلام أكثر الأصحاب في فرض
هذه المسألة، فإنهم يجعلون ما قابل أجرة المثل من الأصل والزائد من الثلث.
قال العلامة (قدس سره) في المنتهى: إذا أوصى بحجة الاسلام ولم يعين
المقدار انصرف إلى أجرة المثل من جميع المال. ثم استدل على كل من الأمرين
إلى أن قال: أما لو عين المقدار، فإن كان بقدر أجرة المثل فلا بحث يخرج من
صلب المال، وإن كان أكثر من أجرة المثل أخرج مقدار أجرة المثل من صلب المال
والزائد من الثلث، لأنه ضمن وصيته شيئين أحدهما واجب والآخر تطوع،
فيخرج الواجب من الأصل والتطوع من الثلث. انتهى.
وكلامه (قدس سره) مبني على ما هو المشهور عندهم من الحج من الميقات
فلو أوصى للحج من الميقات بما يسع الحج من البلد فإنه يخرج الزائد عن أجرة
المثل من الثلث. وهو صحيح بناء على هذا القول. ولم يتعرض لشئ من هذا
التفصيل الذي ذكره، وهو آت في ما نحن فيه، فإنه متى أوصى بالحج من البلد فهو
195

في قوة الوصية بمال من البلد، فيجب إنفاذه، ويخرج أجرة ما زاد على
الميقات من الثلث، لما ذكره من التعليل.
وبالجملة فإني لا أعرف لكلامه (قدس سره) معنى صحيحا يحمل عليه،
ولعله لقصور فهمي العليل وجمود ذهني الكليل.
المقصد الثاني
في حج النذر وشبهه وشرائطه، وفيه مسائل:
الأولى - لا خلاف في أنه يشترط في انعقاد النذر وشبهه - من اليمين
والعهد - التكليف، فلا يصح من الصبي وإن كان مراهقا، ولا المجنون المطبق
أو في حال الجنون لو كان غير مطبق، لحديث رفع القلم (1) ونحو ذلك السكران
والمغمى عليه والساهي والغافل.
ولا خلاف أيضا في اشتراط الحرية أو إذن المولى، فلا ينعقد نذر العبد
بدون الإذن اتفاقا.
قال في المدارك: ويدل عليه مضافا إلى عموم ما دل على الحجر عليه
صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال: " قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: لا يمين لولد مع والده، ولا لمملوك مع مولاه، ولا لمرأة مع زوجها "
وغير ذلك من الأخبار.
أقول: ومن ما ورد بهذا المضمون أيضا ما رواه ثقة الاسلام في الكافي
عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " لا يمين للولد
مع والده، ولا للمرأة مع زوجها، ولا للمملوك مع سيده ".

(1) الوسائل الباب 4 من مقدمة العبادات، وسنن البيهقي ج 8 ص 264.
(2) الوسائل الباب 10 من كتاب الايمان.
(3) الوسائل الباب 10 من كتاب الايمان.
196

وما رواه في الفقيه (1) عن منصور بن حازم في الصحيح عن أبي جعفر
عليه السلام قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا رضاع بعد فطام. ولا وصال في
صيام. ولا يتم بعد احتلام. ولا صمت يوما إلى الليل. ولا تعرب بعد الهجرة.
ولا هجرة بعد الفتح. ولا طلاق قبل نكاح. ولا عتق قبل ملك. ولا يمين لولد مع
والده، ولا لمملوك مع مولاه، ولا للمرأة مع زوجها. ولا نذر في معصية. ولا
يمين في قطيعة ".
وقال في كتاب الفقه الرضوي (2): واعلم أنه لا يمين في قطيعة رحم. ولا
نذر في معصية الله. ولا يمين لولد مع الوالدين، ولا للمرأة مع زوجها، ولا للمملوك
مع مولاه.
أقول: ومورد هذه الأخبار كلها إنما هو اليمين، وظاهر الأصحاب
- كما عرفت من كلام المدارك - الاستدلال بهذه الروايات على حكم النذر أيضا.
وفيه ما لا يخفى.
نعم قد روى الحميري في كتاب قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن
الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) (3): " أن عليا عليه السلام كان
يقول: ليس على المملوك نذر إلا أن يأذن له سيده " وبذلك يتم الاستدلال
على الحكم المذكور.
وظاهر الأصحاب أيضا الاتفاق على أنه لا يصح نذر المرأة إلا بإذن بعلها.

(1) الوسائل الباب 5 من ما يحرم بالرضاع من كتاب النكاح، والباب 11
من كتاب الايمان.
(2) ص 37.
(3) الوسائل الباب 15 من كتاب النذر والعهد.
197

قال في المدارك بعد أن نقل نحو ذلك: يمكن المناقشة في توقف نذر
الزوجة على إذن الزوج، لأن الروايات إنما تضمنت توقف اليمين على ذلك
والنذر خلاف اليمين.
أقول: فيه أن هذا يرد عليه في نذر العبد أيضا، فإنه لم يعتمد في ذلك
إلا على حديث اليمين كما عرفت، والنذر غير اليمين.
وتحقيق البحث في المقام يقتضي بسطا من الكلام تنكشف به غياهب
الابهام وتزول به الشكوك والأوهام.
فنقول: المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) اشتراط إذن
الزوج والمولى في انعقاد نذر الزوجة والمملوك، وألحق بهما العلامة في بعض كتبه
والشهيد في الدروس الولد وأنه يتوقف نذره على إذن الأب أيضا.
وقد صرح جملة من متأخري المتأخرين بأنهم لم يقفوا لهم على نص يدل
على ذلك. وربما علل ذلك بوجود النص في اليمين وانسحاب الحكم في النذر
لمشاركته اليمين في بعض الأحكام. وهو ضعيف لا يلتفت إليه، فإنه وإن كان
قد ورد في اليمين من النصوص المتقدمة أنه لا يمين لأحد من الثلاثة المذكورين
إلا بإذن الوالد والزوج والمولى، إلا أن إلحاق النذر به قياس لا يجري
على مذهبنا.
ثم إنه لا يخفى أن هذا الإيراد الذي أوردوه على من قال بتوقف نذر الولد
على إذن والده وارد عليهم أيضا في توقف نذر الزوجة والمملوك بدون إذن الزوج
والسيد، لأنه ليس عندهم إلا أحاديث اليمين المتقدمة ولم يوردوا في المقام
غيرها، والنذر غير اليمين، فإن صح الاستناد إلى هذه الأخبار ففي المواضع
الثلاثة، فلا معنى لاعتراضهم هنا وايرادهم بعدم الوقوف على نص بهذا القول،
وإلا فلا وجه لحكمهم بذلك في الفردين المتقدمين.
198

وأما ما نقل عن الدروس - من الاستدلال على ما قدمنا نقله عنه باطلاق
اليمين على النذر في الخبر المروي عن الكاظم عليه السلام (1): " لما سئل عن جارية
حلف عليها سيدها بيمين أن لا يبيعها فقال: لله على أن لا أبيعها. فقال عليه السلام:
ف لله بنذرك " فإن اطلاق اليمين على النذر وإن كان في كلام الراوي إلا أن تقرير
الإمام عليه السلام على ذلك حجة، ومتى ثبت ذلك جرى الحكم المذكور في اليمين
في باب النذر -
فهو ضعيف سخيف، أما أولا - فلما ذكره بعض الأجلاء من أن الظاهر
من قوله: " ف لله بنذرك " دون أن يقول " بيمينك " إنما هو الرد عليه في
تسمية النذر يمينا لا التقرير. ولو سلم فالتقرير على هذا الاطلاق لا يوجب
كونه حقيقة فيه بل هما حقيقتان متمايزتان، لنص أهل اللغة على أن اليمين:
القسم، والنذر وعد بشرط. وحينئذ لا يتم ما ذكروه.
أقول: ومن ما يدل على اطلاق اليمين على النذر ما في موثقة سماعة (2)
من قوله عليه السلام: " إنما اليمين الواجبة التي ينبغي لصاحبها أن يفي بها ما جعل لله
عليه في الشكر إن هو عافاه من مرضه أو عافاه الله من أمر يخافه أو رد عليه ماله
أو رده من سفر أو رزقه رزقا، فقال: لله علي كذا وكذا شكرا. فهذا الواجب
على صاحبه ينبغي له أن يفي به " وكان الأولى لشيخنا المشار إليه الاستدلال
بهذا الخبر في اطلاق اليمين على النذر.
إلا أنه بمجرد هذا الاطلاق - مع معلومية كونهما حقيقتين متمايزتين

(1) وهو خبر الحسن بن علي الوارد في الوسائل الباب 17 من كتاب
النذر والعهد. وسيأتي منه (قدس سره) أن اللفظ فيه: " ف لله بقولك له ".
(2) الوسائل الباب 17 من كتاب النذر والعهد.
199

لغة وشرعا كما عرفت - لا يلزم انسحاب حكم أحدهما في الآخر.
وما أحسن ما قال شيخنا البهائي (قدس سره) في كتاب الأربعين، حيث
قال: وأمثال هذه الدلائل الضعيفة لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.
وأما ثانيا - فإن الذي وقفت عليه في التهذيب في موضعين أو ثلاثة (1) -
وهو الذي نقله عنه المحدث الكاشاني في الوافي من متن الخبر المذكور - إنما هو
بهذه العبارة: " ف لله بقولك له " وكذلك نقله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
بهذه العبارة، فما ذكره في الدروس - وإن تبعه عليه شيخنا البهائي في كتاب
الأربعين - لا أعرف له سندا، إلا أن يكون سهوا من شيخنا المشار إليه، أو نقل
الخبر من موضع آخر.
نعم قد وقفت في حكم نذر المرأة على خبر لم يتعرض له الأصحاب في
هذه المسألة، وهو ما رواه الصدوق في الفقيه (2) في الصحيح عن عبد الله بن
سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا
صدقة ولا تدبير ولا هبة ولا نذر في مالها إلا بإذن زوجها، إلا في حج أو
زكاة أو بر والديها أو صلة قرابتها ".
وربما تطرق الطعن إلى هذا الخبر بأن ما تضمنه - من توقف تصرف المرأة
في مالها وصرفه في هذه الوجوه المذكورة في الخبر على إذن الزوج - لا قائل
به من الأصحاب، مع خروجه عن مقتضى الأدلة المتعلقة بهذه الأبواب.
اللهم إلا أن يقال: إن ترك الخبر لمعارض أقوى لا يستلزم ترك ما لا معارض
له، كما صرحوا به في غير المقام وجعلوا ذلك من قبيل العام المخصص. وحينئذ

(1) ج 8 ص 301 و 310
(2) الوسائل الباب 15 من كتاب النذر والعهد.
200

فيمكن العمل بالرواية بالنسبة إلى المرأة في صورة نذرها بمالها وقوفا على مورد
الخبر، ويبقى ما عداه من نذر غيرها وغير العبد - كما تقدم - أو نذرها بغير مالها
باقيا علي الاطلاق وصحة انعقاد النذر من غير توقف على إذن، عملا باطلاق
الأدلة الواردة في النذور (1).
وبما ذكرناه من التحقيق يعلم الدليل على الحكمين المتقدمين وصحة ما ذكره
الأصحاب (رضوان الله عليهم).
وتلحق بهذه المسألة فوائد: الأولى - هل المراد من قولهم (عليهم السلام)
في الأخبار المتقدمة: " لا يمين لولد مع والده... إلى آخره " هو بطلان اليمين
بدون الإذن، لنفي اليمين على أحد الوجوه الثلاثة المحمول على نفي الصحة، لأنه
أقرب المجازات إلى نفي الماهية، أو أن الإذن ليس شرطا في الصحة بل النهي مانع
منها؟ قولان، المشهور الثاني، وبالأول صرح شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره)
والظاهر أنه الأقرب.
وتظهر فائدة القولين في ما لو زالت ولاية الثلاثة قبل الحل، كما إذا وقع فراق
الزوج أو موت الأب أو عتق العبد، فعلى القول المشهور تنعقد اليمين وأما على
على ما تقدم عن شيخنا المذكور فتبطل.
الثانية - حيث ثبت بما ذكرناه وجوب الحج على العبد والمرأة بالنذر مع
إذن المولى والزوج، فلو أتيا به كان صحيحا، ولو نهياهما عنه لم يجب إطاعتهما
لوجوب تقديم حق الله (عز وجل) على حقهما.
ونقل عن العلامة في المنتهى أنه يجب على المولى إعانة المملوك على أداء
الحج بالحمولة إن احتاج إليها، لأنه السبب في شغل ذمته، ورد بأن سببيته في
شغل الذمة لا يقتضي ذلك.

(1) كقوله تعالى في سورة الحج، الآية 29: وليوفوا نذورهم.
201

قال في المدارك بعد نقل ذلك: نعم لو قيل بوجوب تمكينه من تحصيل
ما يتوقف عليه الحج لتوقف الواجب عليه كان وجها قويا. انتهى.
أقول: فيه أن هذا الدليل الذي ذكره إن صلح لتأسيس حكم شرعي عليه
وجب القول به وإن لم يقل به أحد، والحكم الشرعي تابع للدليل لا للقائل.
على أنهم بناء على أصولهم وقواعدهم إنما منعوا من احداث القول في المسألة في
مقابلة الاجماع، ولم يدعه أحد منهم في المقام. وإن لم يصلح - وهو الظاهر - فلا
يجب تمكينه من تحصيل ما يتوقف عليه الحج، إذ لا يخفى أن المتبادر من
وجوب مقدمة الواجب إنما هو بالنسبة إلى من خوطب بذلك الواجب - مثلا:
متى وجب عليه الحج بحصول الاستطاعة وجب عليه السعي في تحصيل مقدماته
من السفر وأسباب السفر ونحو ذلك، ومن وجبت عليه الصلاة وجب عليه السعي
في ما يتوقف عليها صحتها من الشرائط ونحو ذلك - لا بالنسبة إلى شخص آخر
كما في ما نحن فيه، فإن الحج هنا إنما وجب على العبد بالنذر والتمكين إنما هو من
السيد، فكيف يجب عليه بناء على وجوب مقدمة الواجب؟ وبالجملة فإن
وجوب المقدمة تابع لوجوب ذي المقدمة، فكل من خوطب بالواجب صريحا
خوطب بمقدماته ضمنا، كما ذكرنا من الأمثلة.
والتحقيق أنه إن أمكن العبد الاتيان بما نذره وجب عليه الاتيان به
وإلا توقع المكنة، وأما خطاب السيد والايجاب عليه فلا وجه له ولا دليل عليه
وبالجملة فلا أعرف لكلامه (قدس سره) هنا وجه استقامة.
الثالثة - قد صرح الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) من غير خلاف
يعرف بأنه لا يشترط في الحج بالنذر وأخويه شرائط حجة الاسلام بل يكفي في
وجوبه التمكن منه من غير مشقة شديدة. وهو كذلك، لأن الاستطاعة التي
202

هي المدار في وجوب حج الاسلام إنما وقعت في الآية (1) شرطا لحج الاسلام
خاصة فلا يتقيد بها غيره، ويبقى الحج على حكم غيره من النذور التي المدار في
وجوب الاتيان بها على القدرة والامكان.
المسألة الثانية - إذا نذر الحج فإما أن ينذره مطلقا غير مقيد بسنة أو مقيدا
فإن نذره مطلقا فالمقطوع به في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يجوز
له التأخير إلى أن يتضيق وقته بظن الوفاة وإن استحب له المبادرة والتعجيل، فإن
مضى زمان يمكنه الاتيان به فيه ولم يفعله حتى مات وجب أن يقضي عنه، لأنه
قد وجب عليه بالنذر واستقر بمضي زمان التمكن. أما لو منعه مانع عن
الفورية فإنه يصبر حتى يزول المانع، فإن مات قبل زوال المانع لم يجب القضاء
عنه، لفوات شرط الوجوب وهو القدرة والتمكن. وإن نذره مقيدا بسنة
مخصوصة فأخل مع القدرة وجب القضاء والكفارة في ما قطع به الأصحاب أيضا
وإن منعه مانع من مرض أو عدو لم يجب القضاء، لعدم الاستقرار في الذمة،
وتمسكا بأصالة العدم حتى يقوم دليل الوجوب.
قيل: ولا يخفى أن طروء المانع من فعل المنذور في وقته لا يقتضي بطلان
النذر، لوقوعه صحيحا ابتداء وإن سقط الواجب بالعجز عنه. وهذا بخلاف
نذر غير المقدور ابتداء كالطيران ونحوه، فإن النذر يقع فاسدا من أصله
كما هو واضح.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الخلاف هنا قد وقع في القضاء في الصورتين
المذكورتين هل يجب أم لا؟ المقطوع به في كلام الأصحاب الأول وظاهر السيد
السند في المدارك الثاني.

(1) وهو قوله تعالى في سورة آل عمران، الآية 97: ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا.
203

ثم إنه على تقدير الوجوب هل هو من الأصل أو من الثلث؟ المشهور الأول
وقيل بالثاني.
قال السيد السند في المدارك - بعد قول المصنف (قدس سره): ولو تمكن
من أدائه ثم مات قضى عنه من أصل تركته - ما هذا لفظه: وأما وجوب قضائه
من أصل التركة إذا مات بعد التمكن من الحج فمقطوع به في كلام أكثر
الأصحاب، واستدلوا عليه بأنه واجب مالي ثابت في الذمة فيجب قضاؤه من
أصل ماله كحج الاسلام. وهو استدلال ضعيف (أما أولا) - فلأن النذر إنما
اقتضى وجوب الأداء، والقضاء يحتاج إلى أمر جديد كما في حج الاسلام،
وبدونه يكون منفيا بالأصل السالم من المعارض. (وأما ثانيا) - فلمنع كون
الحج واجبا ماليا، لأنه عبارة عن المناسك المخصوصة وليس بذل المال داخلا في
ماهيته ولا من ضرورياته. وتوقفه عليه في بعض الصور كتوقف الصلاة عليه في
بعض الوجوه، كما إذا احتاج إلى شراء الماء أو استئجار المكان أو الساتر ونحو ذلك
مع القطع بعدم وجوب قضائها من التركة. وذهب جمع من الأصحاب إلى وجوب
قضاء الحج المنذور من الثلث، ومستنده غير واضح أيضا. وبالجملة فالنذر إنما
تعلق بفعل الحج مباشرة وايجاب قضائه من الأصل أو الثلث يتوقف على
الدليل. انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول: أما ما ذكره (قدس سره) من ضعف الوجه الأول فيمكن
المناقشة فيه بأن قوله -: إن النذر إنما اقتضى وجوب الأداء، والقضاء يحتاج إلى
أمر جديد - مردود بأنه لا ريب أن النذر قد اقتضى شغل الذمة اليقيني بالمنذور
واستقرار وجوبه بعد مضي زمان التمكن منه، والظاهر بقاء الاشتغال والتعلق
بالذمة حتى يحصل الاتيان بالفعل من المكلف أو نائبه، وتخرج الأخبار الواردة
في حج الاسلام شاهدا على ذلك، فإنه بعد استقرار حج الاسلام في الذمة
204

واشتغالها به لا يزول ذلك إلا بالاتيان به في الحياة أو بعد الموت.
وقولهم -: إن القضاء يحتاج إلى أمر جديد - الظاهر أنه ليس على اطلاقه
بل ذلك مخصوص بالواجبات الموقتة، فإن توجه الأمر بالاتيان بالفعل في ذلك
الوقت لا يتناول ما بعده من ما خرج عنه الذي هو القضاء، بل لا بد في ايجاب
القضاء في الصورة المذكورة من أمر على حدة، وما نحن فيه ليس كذلك، فإن
مقتضى النذر اشتغال الذمة بالمنذور مطلقا، وليس في الأخبار ما يدل على
اختصاص الخطاب حال الحياة ليكون القضاء بعد الموت يحتاج إلى أمر جديد،
وإنما اطلاق الاستقرار واشتغال الذمة اقتضى بقاء ذلك إلى أن تحصل البراءة
بالاتيان بالفعل.
وأما ما ذكره أخيرا - من أن النذر إنما تعلق بفعل الحج مباشرة - فيمكن
الجواب عنه أيضا بأن النذر اقتضى هنا شيئين: أحدهما - اشتغال الذمة بذلك
الفعل المنذور كما قدمنا، والآخر - مباشرة الناذر للاتيان بالفعل، والثاني قد
امتنع بالموت فيبقى الأول على حاله حتى يحصل موجب البراءة منه. وهذا الحكم
عام في جميع أفراد النذور، ولا ريب أنه الأوفق بالاحتياط في الدين.
ومن ما يؤيد ما قلناه ما سيأتي (1) - إن شاء الله تعالى - من نقل جملة من
الروايات الصحيحة في وجوب قضاء حجة النذر في ما إذا نذر أن يحج رجلا (2)
وهو كما يحتمل أن يكون المراد يعني: يعطيه مالا يحج به، كما ذكره السيد في ما سيأتي
إن شاء الله تعالى - في مسألة من مات وعليه حجة الاسلام وحجة منذورة - من
جوابه عن صحيحة ضريس، كذلك يحتمل أن يكون المراد إنما هو أن يمضي
بذلك الرجل حتى يوصله المناسك ويأتي بجميع أفعال الحج وهو قائم بمؤنته، بل هذا
هو الظاهر من اللفظ، إذ المتبادر من مادة الأفعال هو المباشرة لا السببية،

(1) ص 209
(2) الوسائل الباب 29 من وجوب الحج وشرائطه.
205

فإذا قلت: " أخرجته أو أدخلته " يعني: توليت إدخاله واخراجه وباشرت ذلك
لا بمعنى: أمرت بذلك من يفعل به. وحينئذ فتكون هذه الأخبار - باعتبار
الاحتمال الذي استظهرناه - دالة على وجوب قضاء حجة النذر في الجملة.
بقي الكلام في أن موردها القضاء في من نذر أن يحج رجلا، وهو
خارج عن ما نحن فيه من نذر الرجل أن يحج بنفسه. ويمكن أن يقال: إنها
لما دلت على وجوب قضاء الحج المنذور فقد ثبت بها أن نذر الحج يجب قضاؤه
بعد الموت. وبه يظهر بطلان قول المانع: إن النذر إنما اقتضى وجوب
الأداء، والقضاء يحتاج إلى أمر جديد. وكون متعلق ذلك النذر حجه بنفسه
أو أن يحج غيره لا مدخل له في تغير الحكم، فإن الموجب للقضاء هو النذر
وتمكنه من الفعل وتفريطه حتى مات. والظاهر أنه لهذا الوجه استدل الشيخ
بصحيحة ضريس في ما يأتي إن شاء الله (تعالى) (1) على مسألة من نذر الحج
بنفسه فمات، مع أن موردها من نذر أن يحج غيره.
وما ذكرناه من التوجيه لا يخلو من قوة، وبه تكون الأخبار الآتية
قابلة للاستدلال على محل النزاع. وسيأتي تحقيق الكلام زيادة على ما ذكرنا
هنا إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذكره (قدس سره) من الوجه الثاني - وهو منع كون الحج واجبا
ماليا - فتحقيق الكلام فيه أن يقال: إنه لا ريب أن ما ذكروه - من الفرق بين
الواجب المالي والواجب البدني من اخراج الأول من الأصل والثاني مع الوصية به
من الثلث - فلم أقف فيه على مستند من النصوص وإن كان مشهورا في كلامهم
ومتداولا على رؤوس أقلامهم.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في هذه المسألة: وتعتبر الأجرة من

(1) في المسألة الخامسة من مسائل المقام.
206

أصل التركة كحج الاسلام، لأنه واجب مالي وإن كان مشوبا بالبدني.
وقال أيضا في كتاب الوصايا - بعد قول المصنف: إنه لو أوصى بواجب
وغيره بدئ بالواجب من الأصل - ما صورته: إنما يخرج الواجب من أصل
المال إذا كان واجبا ماليا حتى يكون متعلقا بالمال حال الحياة، سواء كان ماليا
محضا كالزكاة والخمس والكفارات ونذر المال أم ماليا مشوبا بالبدن كالحج،
فإن جانب المالية متغلب من حيث تعلقه به في الجملة، أما لو كان الواجب بدنيا
محضا كالصلاة والصوم فإنه يخرج من الثلث مطلقا، لأنه لا يجب اخراجه عن
الميت إلا إذا أوصى به، فيكون حكمه حكم التبرعات الخارجة من الثلث مع
الوصية بها وإلا فلا. انتهى.
وعلى هذه المقالة جرت كلمتهم وبنيت قاعدتهم.
والذي يستفاد من النصوص بالنسبة إلى الواجب المالي المحض هو ما ذكروه
من التعلق بالأصل، كما في رواية عباد بن صهيب عن أبي عبد الله عليه السلام (1): " في
رجل فرط في اخراج زكاته في حياته فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما كان فرط فيه
من ما لزمه من الزكاة ثم أوصى به أن يخرج ذلك فيدفع إلى من تجب له؟ قال:
فقال: جائز يخرج ذلك من جميع المال، إنما هو بمنزلة الدين لو كان عليه
ليس للورثة شئ حتى يؤدي ما أوصى به من الزكاة. قيل له: فإن كان أوصى
بحجة الاسلام؟ قال: جائز يحج عنه من جميع المال " فإن ظاهر الخبر
المذكور بل صريحه أن جملة الديون المتعلقة بالذمة من الأموال على اختلاف
أسبابها تخرج من الأصل.
وأما بالنسبة إلى المالي المشوب بالبدن كالحج فاشكال، إلا أن ظاهر اتفاق
كلمة الأصحاب أنه كالسابق. والمفهوم من الأخبار الآتية التفرقة بين حج

(1) الوسائل الباب 21 من المستحقين للزكاة، والباب 40 من الوصايا.
207

الاسلام فمن الأصل وحج النذر فمن الثلث.
وأما بالنسبة إلى الواجب البدني محضا مثل الصوم والصلاة فالمستفاد
من النصوص أنها بعد الموت تتعلق بالولي، كما في صحيحة حفص بن البختري (1):
" في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال: يقضي عنه أولى الناس بميراثه "
وفي مرسلة حماد (2): " أولى الناس به ".
وفي مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام (3): " في الرجل يموت وعليه
صلاة أو صيام؟ قال: يقضيه أولى الناس به ".
وأما أنه لو لم يكن له ولي وأوصى الميت بقضائه عنه، فهل تكون
مخرجة من الثلث - كما عليه الأصحاب بناء على القاعدة المتقدمة - أو من الأصل؟
لم أقف فيه على نص يدل على شئ من الأمرين، وشيخنا الشهيد الثاني في ما
تقدم من كلامه إنما علله بما عرفت.
ويمكن أن يستدل على ما ذكره الأصحاب من أن مخرج قضاء حجة النذر
من الأصل بما ذكرناه، وحاصله أن الحج - اسلاميا أو نذرا - واجب مالي وإن
كان مشوبا بالبدن، وكل ما كان واجبا ماليا فمخرجه من الأصل، فيكون
مخرج الحج من الأصل. أما الصغرى فلأن الحج وإن كان عبارة عن المناسك
المخصوصة لكن الاتيان به متوقف على المال وإن تفاوت قلة وكثرة باعتبار
مراتب البعد والقرب، ولهذا أنه متى مات بعد استقراره انتقل الحكم إلى ماله
اجماعا نصا وفتوى، فوجب القضاء عنه من ماله وأما الكبرى فللنصوص المتقدمة
الدالة على أن كل ما كان دينا فمخرجه من الأصل (4) وهي مسلمة عند الخصم.

(1) الوسائل الباب 23 من أحكام شهر رمضان.
(2) الوسائل الباب 23 من أحكام شهر رمضان.
(3) الوسائل الباب 12 من قضاء الصلوات عن كتاب غياث سلطان الورى
(4) ص 207 وأورد ما يدل على ذلك في الوسائل في الباب 28 من الوصايا.
208

وأما ما ذكره من المعارضة بالصلاة فهي مناقشة واهية، فإن ما عدده من
الصور في توقف الصلاة على المال أمور نادرة وقد لا تقع بالكلية وإن كان
فرضها ممكنا، بخلاف الحج فإن توقفه على المال ولا سيما من الآفاقي أمر ضروري
اتفاقي، والأحكام الشرعية إنما تبنى على الأفراد المتكثرة الشائعة المتكررة،
فوصف الحج بكونه واجبا ماليا باعتبار توقفه على المال صحيح لا ريب فيه،
والصلاة لا توصف بذلك باعتبار هذه الفروض النادرة وإنما توصف بكونها واجبا
بدنيا كما هو الشائع المتكرر في ايقاعها، وتوقفها نادرا على ذلك لا يقدح في
كونها واجبا بدنيا.
وبالجملة فإنه لما كان الواجب في حال الحياة - على المكلف بالحج من أهل
الآقاق والبلدان الذين هم الفرد الغالب المتكثر بل وغيرهم من حاضري مكة -
أمرين: صرف المال والمباشرة بالبدن، وبعد الموت تعذرت المباشرة بقي
الوجوب المتعلق بالمال على حاله. والمكلف بالصلاة لما كان الواجب عليه فيها إنما هو
المباشرة بالبدن، والمال لا مدخل له فيها في حال الحياة، فبعد الموت سقط الخطاب
عن ماله وتوقف وجوب الاتيان بها على الوصية. إلا أنه سيأتي في المقام ما يظهر
منه المنافاة لما قررناه من هذا الكلام.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد روى ثقة الاسلام في الكافي والشيخ في
التهذيب في الصحيح عن مسمع بن عبد الملك (1) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
كانت لي جارية حبلى فنذرت لله (تعالى) إن ولدت غلاما أن أحجه أو أحج عنه؟
فقال: إن رجلا نذر لله في ابن له إن هو أدرك أن يحجه أو يحج عنه، فمات
الأب وأدرك الغلام بعد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله الغلام فسأله عن ذلك، فأمر

(1) الوسائل الباب 16 من كتاب النذر والعهد.
209

رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحج عنه من ما ترك أبوه ".
وروى الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن أبي يعفور (1) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: رجل نذر لله لأن عافى الله ابنه من وجعه ليحجنه إلى بيت
الله الحرام، فعافى الله الابن ومات الأب؟ فقال: الحجة على الأب يؤديها
عنه بعض ولده. قلت: هي واجبة على ابنه الذي نذر فيه؟ فقال: هي واجبة
على الأب من ثلثه، أو يتطوع ابنه فيحج عن أبيه ".
قال في الوافي بعد نقل هذه الرواية: إنما كان على الأب لأنه هو الذي
أوجب على نفسه. انتهى.
وروى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن ضريس
الكناسي (2) قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل عليه حجة الاسلام نذر
نذرا في شكر ليحجن رجلا إلى مكة، فمات الذي نذر قبل أن يحج حجة
الاسلام، ومن قبل أن يفي لله بنذره الذي نذر؟ قال: إن كان ترك مالا
يحج عنه حجة الاسلام من جميع المال وأخرج من ثلثه ما يحج به رجل لنذره،
وقد وفي بالنذر، وإن لم يكن ترك مالا إلا بقدر ما يحج به حجة الاسلام حج
عنه بما ترك ويحج عنه وليه حجة النذر، إنما هو مثل دين عليه ".
وظاهر هذه الأخبار أنه متى نذر ليحجن رجلا ثم مات قبل أن يحجه
فإنه يجب القضاء عنه، وأن ذلك من الثلث لا من الأصل. وحينئذ فإن حملنا العبارة

(1) الوسائل الباب 29 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) التهذيب ج 5 ص 406، والفقيه ج 2 ص 263، وفي الوسائل الباب
29 من وجوب الحج. وقد أورد موارد الاختلاف بينهما في اللفظ بعضها على
طبق التهذيب وبعضها على طبق الفقيه. والراوي في التهذيب هو ضريس بن أعين.
210

المذكورة على أن المراد أن يعطي رجلا مالا يحج به، كما تأول به السيد
صحيحة ضريس في ما سيأتي إن شاء الله (تعالى) في كلامه، أشكل ذلك بأن
الواجب على هذا التقدير يكون ماليا محضا، وقد عرفت من كلامهم - بل من
ظاهر الأخبار التي قدمناها - أن الواجب المالي مخرجه من الأصل. وبذلك يظهر
أن تأويل السيد (رحمه الله) للرواية غير تام. وإن حملناها على ما قدمنا ذكره
من تنفيذ ذلك بنفسه - وهو الأظهر كما عرفت - كان ذلك من قبيل الواجب
البدني وإن توقف على المال كحج الاسلام، وينبغي على قياس حج الاسلام
بالتقريب الذي قدمنا ذكره - كما عليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب - أن يكون
مخرجه من الأصل، مع أن هاتين الصحيحتين المذكورتين صريحتان في أن
مخرجه من الثلث.
ولعل القول الفصل والمذهب الجزل في جميع الأحكام هو التوقف على
ورود النص الصريح أو الظاهر في ذلك الحكم، فإن وجد وجب الحكم بمقتضاه
وإلا فالتوقف عن الحكم وعدم الاعتماد على هذه التقريبات والقواعد المستنبطة
والتخريجات التي لم ترد بها النصوص، وإن أمكن التقريب فيها كما قدمناه سابقا.
وقد سبق نظير ذلك في المسألة الخامسة من المقصد السابق في مسألة قضاء الحج
من البلد أو الميقات، وفي مسألة تزاحم دين الحج مع غيره من الديون كما
أوضحناه ثمة. وحينئذ فالواجب هو الوقوف على ما دلت عليه الأخبار في كل
جزئي جزئي إن وجدت وإلا فالتوقف.
وبذلك يظهر ما في كلام المحقق المدقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني
(نور الله مرقديهما) في كتاب منتقى الجمان، حيث قال بعد نقل صحيحة ضريس
وصحيحة ابن أبي يعفور: قلت: لا يخفى ما في هذين الخبرين من المخالفة
للأصول المقررة عند الأصحاب، وليس لهم في تأويلهما كلام يعتد به، والوجه
211

عندي في ذلك فرض الحكم في ما إذا قصد الناذران يتعاطى تنفيذ الحج المنذور
بنفسه فلم يتفق له. ولا ريب أن هذا القصد يفوت بالموت، فلا يتعلق بماله حج
واجب بالنذر بل يكون الأمر باخراج الحج المنذور واردا على وجه الاستحباب
للوارث. وكونه من الثلث رعاية لجانبه واحترازا من وقوع الحيف عليه،
كما هو الشأن في التصرف المالي الواقع للميت من دون أن يكون مستحقا عليه.
وحج الولي أيضا محمول في الخبر الأول على الاستحباب، وفي الثاني تصريح
بذلك، وقد جعله الشيخ شاهدا على إرادة التطوع من الأول أيضا. وفيه
نظر، لأن الحج في الثاني مذكور على وجه التخيير بينه وبين الاخراج من
الثلث، وهو يستدعي وجود المال، وفي الأول مفروض في حال عدم وجوده.
وقوله: " فإنما هو دين عليه " ينبغي أن يكون راجعا إلى حج الاسلام وإن كان
حج النذر أقرب إليه، فإن الظاهر كونه تعليلا لتقديم حج الاسلام حيث يكون
المتروك بقدره فحسب. وبقي الكلام في قوله: " هي واجبة على الأب من
ثلثه " وإرادة الاستحباب المتأكد منه غير بعيدة، وقد بينا في ما سلف أن
استعمال الوجوب في هذا المعنى موافق لأصل الوضع، ولم يثبت تقدم المعنى
العرفي له الآن بحيث يكون موجودا في عصر الأئمة (عليهم السلام) ليقدم على
المعنى اللغوي. وذكرنا أن الشيخ (قدس سره) يكرر القول في أن المتأكد
من السنن يعبر عنه بالوجوب، وله في خصوص كتاب الحج كلام في هذا المعنى
لا بأس بايراده وهو مذكور في الكتابين، وهذه صورة ما في التهذيب: قد
بينا في غير موضع من هذا الكتاب أن ما الأولى فعله قد يطلق عليه اسم الوجوب
وإن لم يكن يستحق بتركه العقاب. وأنت خبير بأن اعتراف الشيخ بهذا يأبى
تقدم العرف واستقراره في ذلك العصر، فيحتاج اثباته إلى حجة وبدونها
212

لا أقل من الشك المنافي للخروج من الأصل. وبما حررناه يعلم ضعف ما اختاره
الشيخ هنا من وجوب اخراج الحجة المنذورة من الثلث. هذا كله على تقدير
نهوض الحديثين باثبات الحكم، وإلا استغنى عن تكلف البحث في معناهما
وكان التعويل في المسألة على ما تقتضيه الأصول. انتهى كلامه زيد اكرامه.
أقول: لا يخفى أن السبب الموجب لارتكابه (قدس سره) ما ارتكبه من
هذه التأويلات البعيدة في هاتين الصحيحتين إنما هو المخالفة لما زعمه من القواعد
المقررة بين الأصحاب، وذلك هو أنه متى حمل قوله عليه السلام في الخبرين: " ليحجنه ":
بمعنى أن يعطي رجلا مالا يحج به، كان ذلك من قبيل الواجب المالي الذي
يكون خروجه من الأصل مع أن الخبرين دلا على كون مخرجه من الثلث. ومتى
حمل على المعنى الذي ذكره من تنفيذ الحج المذكور بنفسه، فالواجب هو اخراجه
من الثلث حيث إنه واجب بدني، إلا أن اخراج الواجب البدني يتوقف على
الوصية بمقتضى قواعدهم مع أن الخبرين دلا على الاخراج وإن لم تكن وصية،
فلا علاج أنه تأول الخبرين بهذه التأويلات المتعسفة والتخريجات المتكلفة،
وبعدها أظهر من أن يخفى على ذي مسكة.
والحق أن ارتكاب ما ذكره يتوقف على المعارض سيما مع إضافة الصحيحة
الثالثة إلى الصحيحتين المذكورتين.
على أن ما ذكره - من أنه قصد أن يتعاطى تنفيذ الحج بنفسه، وأن هذا
القصد يفوت بعد الموت، فلا يتعلق بماله حج واجب بالنذر - ممنوع، فإنه
لا ريب أن قصده هذا تضمن شيئين: أحدهما - مباشرة التنفيذ بنفسه.
وثانيهما - القيام بما يحتاج إليه الرجل من الزاد والراحلة مدة الحج، وبالموت
إنما فاتت المباشرة، وأما ما تعلق بالمال فيبقى على حاله، فكيف يتم ما ذكره
أنه لم يتعلق بماله حج واجب؟ وهذا بعينه جار في حج الاسلام، فإن الواجب
213

عليه السفر إليه بنفسه ومباشرته ولكن السفر يتوقف على المال، ومن أجل
ذلك تعلق الحج بالمال بعد الموت.
وما ذكره من مخالفة قواعد الأصحاب إنما يتم لو كانت تلك القواعد
مستندة إلى دليل من سنة أو كتاب. ومع تسليم الدليل لها فالتخصيص باب
مفتوح في كلامهم، فيجوز خروج هذا الحكم بهذه الأخبار الصحيحة الصريحة
في وجوب القضاء، وأي مانع منه؟
وبالجملة فإن حمل القضاء في الأخبار المذكورة على الاستحباب بعيد غاية
البعد عن مناطيقها.
وأما حمل قوله عليه السلام -: " هي واجبة على الأب من ثلثه " على الاستحباب
المؤكد، وسجل عليه بما ذكره -
ففيه أولا - أنه لو لم يكن منشأ الوجوب إلا من التعبير بلفظ الوجوب
في هذا المكان لربما تم ما ذكره، كيف؟ وظواهر الأخبار الثلاثة كلها متفقة
علي ذلك، فإن قوله عليه السلام في صحيحة مسمع: " فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن
يحج عنه من ما ترك أبوه " صريح في الوجوب، فإن أوامره صلى الله عليه وآله كأوامر
الله (سبحانه) مراد بها الوجوب إلا مع قيام قرينة عدمه، ولا ريب أن هذا
اللفظ عند كل سامع أنما يتبادر منه الوجوب، فلو أراد الإمام عليه السلام به الاستحباب
من غير قرينة في المقام لكان في ذلك تعمية على السائل وايهام عليه، حيث
يجيبه عن حكم مستحب بما هو ظاهر في الوجوب. وقوله في صحيحة ضريس:
" إن كان ترك مالا يحج عنه حجة الاسلام من جميع المال وأخرج من ثلثه ما يحج به
رجل لنذره " ظاهر في الوجوب. وقوله في صحيحة ابن أبي يعفور: " الحجة
على الأب " ظاهر أيضا في ذلك. وبالجملة ظهور الوجوب من هذه الأخبار
أظهر من أن يقابل بالانكار.
214

وثانيا - إن ظاهر كلامه هو انكار استعمال لفظ الوجوب في كلامهم
(عليهم السلام) وعرفهم بالمعنى الأصولي وإنما المستعمل في عرفهم هو المعنى
اللغوي. وهي دعوى عجيبة. وما أبعد ما بين هذه الدعوى وبين من يدعى
حمل الوجوب في كلامهم (عليهم السلام) على المعنى الأصولي كما هو ظاهر
المشهور في كلام الأصحاب. وكل من الدعويين وقعا في التفريط والافراط.
والحق في ذلك ما قدمناه من لزوم الأوساط، وهو أن هذا اللفظ من ما
استعمل في كلامهم (عليهم السلام) في كل من المعنيين المذكورين. وقد حققنا
أيضا أن جملة من الألفاظ جرت هذا المجرى، وأنه بسبب الاشتراك والشيوع في
كلامهم كذلك لا يجوز أن يحمل على أحدهما إلا مع القرينة، والقرينة على
ما ندعيه هنا من المعنى الأصولي موجودة بما أشرنا إليه من تلك المواضع
المذكورة في الروايات.
وثالثا - إن قوله: " هذا كله على تقدير نهوض الحديثين باثبات
الحكم... إلى آخره " فإني لا أعرف له معنى واضحا، فإنه بعد بحثه في متن
الخبرين وتأويله لهما لم يبق إلا السند والسند صحيح باصطلاحهم، فكيف
لا ينهضان بالحجة من جهة السند؟ وبماذا يطعن به عليهما حتى أنه يستغني عن
تكلف تأويلهما والبحث في معناهما ويكون المرجع في حكم المسألة إلى ما ذكره.
وصاحب الذخيرة قد نقل كلام المحقق المذكور وجمد عليه، وقال بعد نقله:
وهو حسن.
وبالجملة فالواجب الوقوف على ظاهر الأخبار حيثما كان إذا لم تعارض بما
هو أرجح منها. والاحتياط من ما لا ينبغي تركه سيما في أمثال هذه المقامات.
والله العالم.
المسألة الثالثة - قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن ناذر الحج
215

متى كان مستطيعا إما أن ينذره مطلقا بأن لا يقصد حج الاسلام ولا غيره، أو
ينذره بنية حج الاسلام أو بنية غيره، فالكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة:
الأول - أن يطلق النذر، وقد اختلف الأصحاب في هذه الصورة،
فذهب الأكثر - ومنهم الشيخ في الخلاف والجمل وابن البراج وابن إدريس
والعلامة في جملة من كتبه - إلى عدم التداخل، التفاتا إلى أن اختلاف السبب
يقتضي اختلاف المسبب.
ورد بأن هذا الاقتضاء إنما هو في الأسباب الحقيقة دون المعرفات
الشرعية، ولهذا حكم كل من قال بانعقاد نذر الواجب بالتداخل إذا تعلق النذر
بحج الاسلام من غير التفات إلى اختلاف الأسباب.
أقول: الظاهر أن مراده أن كون ذلك قاعدة كلية إنما هو في الأسباب
الحقيقية دون الأسباب الشرعية، فإنها لا يطرد فيها ذلك بل قد تكون كذلك
وقد لا تكون، فهي منوطة بالدليل الوارد في كل حكم، فقد يتفق فيه التداخل
إذا اقتضاه الدليل وقد يتفق التعدد كذلك.
وقال الشيخ في النهاية: إن نوى حج النذر أجزأه عن حج الاسلام،
وإن نوى حج الاسلام لم يجزئ عن النذر.
احتج الشيخ على هذا القول بما رواه في الصحيح عن رفاعة بن موسى (1)
قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام فمشى
هل يجزئه ذلك عن حجة الاسلام؟ قال: نعم. قلت: أرأيت إن حج عن غيره
ولم يكن له مال وقد نذر أن يحج ماشيا، أيجزئ عنه ذلك من مشيه؟
قال: نعم ".

(1) التهذيب ج 5 ص 406 و 407، وفي الوسائل الباب 27 من وجوب
الحج وشرائطه.
216

وما رواه الشيخ والكليني في الحسن أو الصحيح عن رفاعة (1)... الحديث
الأول إلى قوله: " قال: نعم ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال: " سألت أبا جعفر
عليه السلام عن رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله فمشى، أيجزئه عن حجة الاسلام؟
قال: نعم ".
أقول: والتقريب في هذه الروايات أن الظاهر أن المراد من قوله:
" رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله... إلى آخره " إنما هو بمعنى نذر الحج ماشيا
والغرض من السؤال أن هذا الحج المنذور بهذه الكيفية بعد الاتيان به هل يكفي
عن حجة الاسلام أم لا؟ فأجابوا (عليهم السلام) ب‍ " نعم ". ولا معنى للسؤال
عن نذر المشي خاصة، إذ لا وجه لترتب السؤال على ذلك، إذ ترتب حج
الاسلام على مجرد نذر المشي لا يعقل له وجه حتى يجوز أن يسأل عنه، بل المعنى
الصحيح إنما هو الأول، ويدل عليه صريح السؤال الثاني في الرواية الأولى.
وهذا المعنى هو الذي فهمه الأصحاب من الرواية ممن استدل بها ومن
ردها، ولهذا أن العلامة في التذكرة والمختلف إنما أجاب عن صحيحة رفاعة

(1) هذا الحديث رواه الشيخ بسند واحد صحيح في التهذيب ج 5 مرتين:
مرة ص 13 واقتصر فيه على السؤال الأول، ومرة ص 406 و 407 وجمع فيه
بين السؤالين. ورواه في الكافي ج 4 ص 277 بسند فيه إبراهيم بن هاشم وجمع
فيه بين السؤالين. وأورد الحديث - على نحو ما ذكرناه - في الوسائل في الباب 27
من وجوب الحج وشرائطه.
(2) التهذيب ج 5 ص 459، وفي الوسائل الباب 27 من وجوب
الحج وشرائطه.
217

الأولى - حيث لم ينقل سواها - بالحمل على ما إذا قصد بالنذر حجة الاسلام.
والعجب منهم (رضوان الله عليهم) في ارتكاب مثل هذا التأويل البعيد
عن ظاهر الخبر مع عدم المعارض سوى تعليلهم العليل الذي قدمنا نقله عنهم، فإني
لم أقف لهم على دليل سواه، وقد عرفت ضعفه.
ثم العجب من صاحب الوسائل في اقتفائه القول المشهور ومتابعة
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تأويل هذه الأخبار، مع أنه لا مستند لهم
على أصل الحكم - كما ادعوه - سوى ما عرفت. وهذا من جملة غفلاته وخطراته
فإنه لا ريب أن ارتكاب التأويل في الأخبار واخراجها عن ظاهرها إنما يصار إليه
عند المعارض الأقوى في المسألة لا بمجرد الشهرة وإن لم تستند إلى دليل. والحكم
بالتداخل على الوجه المذكور في الأخبار ليس فيه مخالفة للأصول والقواعد، بل
أخبار تداخل الأغسال (1) - كما عرفت - مؤيدة له، فما الموجب إلى رده؟
وأجاب العلامة في المنتهى عن الرواية باحتمال أن يكون النذر إنما
تعلق بكيفية الحج لا به نفسه، فيكون النذر إنما تعلق بالمشي وهو طاعة هنا، كما
يدل عليه صحيحة عبد الله بن سنان (2) من قوله عليه السلام: " ما عبد الله بشئ أشد
من المشي ولا أفضل " وفيه ما عرفت. وبذلك يظهر أن الأظهر ما ذكره
في النهاية.
قال في المدارك: ويدل على هذا القول أيضا صدق الامتثال بالفعل
الواحد، على حد ما قيل في تداخل الاغتسال، فإن من أتى بالحج بعد الاستطاعة
يصدق عليه أنه امتثل الأوامر الواردة بحج الاسلام، ووفى بنذره.

(1) الوسائل الباب 43 من الجنابة.
(2) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
218

أقول: الأظهر أن يجعل هذا الوجه مؤيدا لا دليلا، فإنه قاصر عن
الدلالة كما لا يخفى، والأحكام الشرعية موقوفة على النصوص في كل حكم.
وورود ذلك في تداخل الأغسال لا يستلزم القول به هنا لو لم يقم عليه بخصوصه دليل
بقي الكلام في أن مورد الأخبار المذكورة بالتقريب الذي ذكرناه هو
الدلالة على الحكم الأول من الحكمين المنقولين عن النهاية، وأما الحكم الثاني -
وهو ما إذا نوى حج الاسلام وأنه لا يجزئ عن المنذور - فعلله في المدارك بأن
الحج إنما ينصرف إلى النذر بالقصد، بخلاف حج الاسلام فإنه يكفي فيه الاتيان
بالحج ولا يعتبر فيه ملاحظة كونه حج الاسلام. انتهى، ولا يخفى ما فيه من
عدم الصلوح لتأسيس حكم شرعي وبنائه عليه.
ولعل الأظهر أن يقال: إن العبادات أمور توقيفية يتوقف الحكم فيها على
ظهور الأدلة الشرعية والأخبار النبوية، قام الدليل على التداخل في الصورة
الأولى، وكذا دلت صحيحة رفاعة (1) على أنه إذا حج عن غيره وقد كان
عليه حج النذر ماشيا أنه يجزئه عن حج النذر. وهي صريحة في التداخل في
هذه الصورة أيضا. وحينئذ فيجب القول بالتداخل في هاتين الصورتين.
وفي هذه الرواية ما يشير إلى ضعف ما ذكره في المدارك من أن الحج إنما
ينصرف إلى النذر بالقصد، فإنه هنا نوى الحج عن غيره ولم يقصد حج النذر
مع أنه حكم عليه السلام باجزائه عن حج النذر. وبقي الباقي على مقتضى الأصل من
التعدد وعدم التداخل.
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب الذخيرة هنا حيث إنه - بعد أن نقل
عبارة الشيخ في النهاية الدالة على التفصيل - قال ما صورته: وحكى عن الشيخ
أيضا القول بالتداخل من غير تفصيل. والأقرب التداخل، لحصول امتثال

(1) ص 216.
219

الأمرين بفعل واحد، وعدم دليل دال على لزوم التعدد. انتهى.
أقول: أما ما نقله عن الشيخ من القول بالتداخل مطلقا فلم أقف عليه
في كتب الأصحاب. والظاهر أن ما علل به القول بالتداخل مطلقا - واختاره
لذلك - مأخوذ من كلام المدارك المتقدم وهو قوله: " ويدل على هذا القول...
إلى آخره " مع أن صاحب المدارك إنما أراد به بالنسبة إلى الصورة التي اختار
الشيخ التداخل فيها، وإلا فظاهر كلامه في الصورة الثانية إنما هو عدم التداخل
كما يؤذن به تعليله من اندراج حج الاسلام تحت قصد حج النذر وعدم اندراج
حج النذر تحت قصد حج الاسلام لاحتياجه إلى القصد.
وكيف كان فما اختاره من القول بالتداخل مطلقا قياسا على الأغسال
ضعيف جدا، بل لا يخرج عن القياس. والاستدلال بحصول الامتثال بفعل
واحد مصادرة، فإنه عين الدعوى. وبذلك يظهر ما في قوله: " وعدم دليل
دال على لزوم التعدد " فإنه كما لم يوجد ما يدل على لزوم التعدد لم يوجد أيضا
ما يدل على التداخل.
ولقائل أن يقول: إن ما ذكره الأصحاب في تعليل التعدد باعتبار تعدد
الأسباب جيد لا بأس به، وذلك لأن استطاعة الحج أوجبت اشتغال الذمة بحج
الاسلام، ثم إنه لما نذر الحج مطلقا فقد علم أن النذر أوجب حجا زائدا
على الحج الواجب أولا، لكن لما قام الدليل الشرعي على التداخل في الصورة
المفروضة وجب القول بذلك، وبقي ما عداها على حكم التعدد.
وبالجملة فما ذكره الفاضل المذكور من القول بالتداخل مطلقا بعيد عندي
غاية البعد.
الموضع الثاني - أن ينذر حج الاسلام، والأشهر الأظهر انعقاد نذره
220

لعموم الأدلة (1) وفائدة النذر زيادة انبعاث النفس على الفعل، ووجوب الكفارة
مع التأخير عن الوقت المعين. ولا خلاف هنا في التداخل والاكتفاء بحج الاسلام
عن حج النذر. ولا بد من وجود الاستطاعة في وجوب الحج في الصورة
المذكورة، لأن النذر إنما أفاد زيادة التأكيد في الوجوب السابق.
ولو نذر مع عدم وجود الاستطاعة كان الوجوب مراعى بوجود الاستطاعة
ولا يجب عليه تحصيلها، لعدم وجوب تحصيل شرط الواجب المشروط كما تقدم والمنذور
هنا ليس أمرا زائدا على حج الاسلام، إلا أن ينذر تحصيلها أيضا فيجب.
ولو قيد النذر بسنة معينة فتخلفت الاستطاعة بطل النذر.
الموضع الثالث - أن ينذر حجا غير حج الاسلام، وقد اتفقوا هنا على
عدم التداخل.
ولهم في المسألة تفصيل وصور ملخصها: أنه لا يخلو إما أن يكون
مستطيعا حال النذر أم لا.
وعلى الأول فإن كانت حجة النذر مطلقة أو مقيدة بزمان متأخر عن عام
الاستطاعة فإن الواجب تقديم حجة الاسلام، لفوريتها واتساع زمان النذر.
وهو ظاهر لا اشكال فيه.
وإن كانت حجة النذر مقيدة بعام الاستطاعة، فإن قصد الحج عن النذر
مع بقاء الاستطاعة بطل النذر من أصله، لأنه نذر ما لا يصح فعله. وإن
قصد الحج مع فقد الاستطاعة، بمعنى أنه يحج للنذر لو زالت الاستطاعة في
ذلك العام، قالوا: فالظاهر الانعقاد، فتجب عند زوال الاستطاعة. وإن
خلا نذره من القصد بأحد وجهيه، احتمل البطلان - لأنه نذر في عام الاستطاعة

(1) كقوله تعالى في سورة الحج، الآية 29: وليوفوا نذورهم.
221

غير حج الاسلام - والصحة حملا للنذر على الوجه الصحيح وهو ما إذا
فقدت الاستطاعة.
وعلى الثاني - وهو ما إذا تقدم النذر على الاستطاعة - فالظاهر أنه
لا اشكال في انعقاد النذر ووجوب الاتيان به مع القدرة والتمكن كسائر أفراد
النذور. ولا يشترط فيه حصول الاستطاعة الشرعية التي هي الزاد والراحلة
عندهم، خلافا للدروس فإنه اعتبر في الحجة المنذورة الاستطاعة الشرعية.
ولو حصلت الاستطاعة الشرعية قبل الاتيان بالمنذورة، فإن كان النذر
مطلقا أو مقيدا بعام متأخر عن عام الاستطاعة أو بزمان يشمل ذلك العام، فإنه
يجب تقديم حجة الاسلام، لفوريتها واتساع زمان المنذورة، وإلا وجب
تقديم حج النذر، قالوا: لعدم تحقق الاستطاعة في ذلك العام، فإن المانع
الشرعي كالمانع العقلي.
وفي هذه الصورة ما يؤيد ما قدمنا ذكره من أن النذر سبب كلي في
الوجوب، فإن هذا الناذر لما نذر في حال عدم الاستطاعة الحج في السنة الفلانية
من السنين القابلة انعقد وجوبها عليه بالنذر، ثم لما تجددت الاستطاعة الشرعية
في تلك السنة لم تؤثر في المنع من حج النذر في ذلك العام لانعقاده سابقا،
وصار منع النذر هنا من حج الاسلام كسائر الموانع التي تقدمت. وهو أظهر
ظاهر في تأثير الأسباب الشرعية واختلاف مسبباتها باختلافها إلا ما خرج بالدليل
وحينئذ فمتى كان الواجب عليه في هذا العام إنما هو حج النذر، فإن كانت
الاستطاعة موجودة فإنه يراعى في وجوب حج الاسلام بقاؤها إلى العام القابل.
وقال الفاضل الخراساني (قدس سره) في الذخيرة: وإن كان النذر مقيدا
بالسنة التي حصلت الاستطاعة فيها ففي تقديم الحجة المنذورة أو حج الاسلام وجهان
يلتفتان إلى عدم تحقق الاستطاعة الشرعية - لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي -
222

وإلى حصول الاستطاعة المعتبرة في حجة الاسلام مع عدم النذر. وانعقاد
النذر فرع الشرعية والرجحان، وهو غير متحقق. انتهى.
أقول: لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه، فإن فرض المسألة في كلام الأصحاب
على الوجه الذي فصلناه إنما هو في ما إذا نذر وهو غير مستطيع ثم تجددت
الاستطاعة بعد ذلك، فمن جملة صورها ما إذا نذر أن يحج في سنة مسماة
من السنين المستقبلة واتفق أنه حصلت له الاستطاعة في تلك السنة، فإن مقتضى
انعقاد النذر سابقا وجوب تقديم حج النذر هنا وأن النذر مانع عن حجة
الاسلام. وحينئذ فقوله في تعليل الوجه الثاني: " وإلى حصول الاستطاعة
المعتبرة في حجة الاسلام... إلى آخره " لا وجه له، فإن وجود الاستطاعة بعد
انعقاد النذر بالحج في هذه السنة واشتغال الذمة به في حكم العدم. والعجب من
قوله: " وانعقاد النذر فرع الشرعية والرجحان، وهو غير متحقق " فإنه كيف
لا يكون النذر منعقدا والحال أنه في وقت النذر عادم الاستطاعة، فأي مانع
من انعقاد نذره وشرعيته ورجحانه؟ وبالجملة فإن جميع ما ذكره في الوجه
الثاني فهو غير موجه. والله العالم.
المسألة الرابعة - لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن
من نذر الحج ماشيا انعقد نذره ووجب عليه الوفاء به، وتدل عليه العمومات
المقتضية لانعقاد النذور (1) وهو عبادة راجحة، وقد ورد في جملة من
الأخبار (2): " ما عبد الله بشئ أشد ولا أفضل من المشي إلى بيته " وقد مضى
وسيأتي في تضاعيف المسائل الآتية ما يدل على مشروعيته وانعقاده.

(1) كقوله تعالى في سورة الحج، الآية 29: وليوفوا نذورهم.
(2) الوسائل الباب 32 من وجوب الحج وشرائطه.
223

ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام (1): " أنه سئل عن رجل نذر أن يمشي إلى مكة حافيا؟ فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج حاجا فنظر إلى امرأة تمشي بين الإبل فقال: من
هذه؟ فقالوا: أخت عقبة بن عامر، نذرت أن تمشي إلى مكة حافية. فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عقبة انطلق إلى أختك فمرها فلتركب، فإن الله غني عن
مشيها وحفائها. قال: فركبت " فإنها محمولة على عدم جواز نذر الحفاء
مضافا إلى المشي، لما فيه من المشقة الظاهرة. ولا يلزم من ذلك عدم انعقاد
نذر المشي.
وقال العلامة في القواعد: لو نذر الحج ماشيا وقلنا المشي أفضل انعقد
الوصف وإلا فلا.
وقال ولده في الإيضاح: إذا نذر الحج ماشيا انعقد أصل النذر اجماعا
وهل يلزم القيد مع القدرة؟ فيه قولان مبنيان على أن المشي أفضل من الركوب
أو الركوب أفضل من المشي.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهما: وهذا غير سديد، فإن المنذور وهو
الحج على هذا الوجه لا ريب في رجحانه وإن كان غيره أرجح منه، وذلك
كاف في انعقاد نذره، إذ لا يعتبر في المنذور كونه أفضل من جميع ما عداه.
وهو جيد.
ثم قال في المدارك: واختلف الأصحاب في مبدأ المشي ومنتهاه،
والذي يقتضيه الوقوف مع المعني المستفاد من اللفظ وجوبه من حين الشروع في
أفعال الحج وانتهاؤه بآخر أفعاله وهي رمي الجمار، لأن " ماشيا " وقع حالا

(1) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه. واللفظ هكذا: " سألت
أبا جعفر عليه السلام... " وفي التهذيب ج 5 ص 13 و 14: " سألت أبا عبد الله "
224

من فاعل " أحج " فيكون وصفا لو وإنما يصدق حقيقة بتلبسه به.
أقول: ما ذكره جيد لو لم يرد في الأخبار التعبير عن نذر المشي إلا
بهذا اللفظ مع أنه ليس كذلك، وهذه العبارة إنما وقعت في كلام الأصحاب
وقليل من الأخبار.
والمفهوم من الأخبار الكثيرة أن المشي المنذور إنما هو من البلد إلى البيت
فمن ذلك صحيحة أبي عبيدة المتقدمة وقول السائل فيها: " سئل عن رجل نذر
أن يمشي إلى مكة حافيا... إلى آخر الخبر ".
ومنها - صحيحة رفاعة (1) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نذر
أن يمشي إلى بيت الله (تعالى) حافيا؟ قال: فليمش فإذا تعب فليركب ".
وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (2) قال: " سألته
عن رجل جعل لله عليه مشيا إلى بيت الله فلم يستطع؟ قال: يحج راكبا ".
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المشتملة على هذه العبارة، وهي أن

(1) التهذيب ج 5 ص 403 والفروع ج 2 ص 373، وفي الوسائل الباب
34 من وجوب الحج وشرائطه رقم (1) عن الأول، والباب 8 من كتاب النذر
والعهد عن الثاني، إلا أن الوارد فيه عن رفاعة وحفص. واللفظ في المتن يوافق
لفظ الفروع.
(2) الوسائل الباب 8 من كتاب النذر والعهد، مضمرا كما في فروع الكافي
ج 2 ص 373، إلا أنه في التهذيب ج 8 ص 304: " عن الكليني عن أحدهما ع "
كما في المتن، وكذا في الوافي باب (سائر النذور من أبواب النذور والايمان) من
الجزء السابع. ولفظ " لله " ليس في الوسائل ولا في الفروع ولا في التهذيب. نعم
في الإستبصار ج 4 ص 50 موجود.
225

غاية المشي ونهايته بيت الله (عز وجل) وقد تقدم جملة من الأخبار الدالة على
ذلك في المسألة الرابعة من المسائل الملحقة بالشروط.
وبالجملة فإن الظاهر من أكثر الأخبار هو ما ذكرناه، والظاهر هو الرجوع
في ذلك إلى نية الناذر.
بقي أن السيد أشار في صدر العبارة إلى الخلاف في منتهاه أيضا واختار
أنه رمي الجمار، ولم ينقل القول الآخر ولا الدليل على ما اختاره من القول المذكور،
والقول الآخر المنقول في المسألة هو أن آخره طواف النساء، وهو ظاهر شيخنا
الشهيد في الدروس، ونسبه في المسالك إلى المشهور ثم اختار القول الآخر.
والظاهر هو ما اختاره السيد السند (قدس سره) وتدل عليه صحيحة
جميل (1) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا حججت ماشيا ورميت الجمرة
فقد انقطع المشي ".
وصحيحة إسماعيل بن همام عن أبي الحسن الرضا عليه السلام (2) قال: " قال
أبو عبد الله عليه السلام في الذي عليه المشي في الحج إذا رمى الجمرة زار البيت راكبا
وليس عليه شئ ".
وروى هذا الخبر في الفقيه في الصحيح عن إسماعيل بن همام عن أبي الحسن
الرضا عن أبيه (عليهما السلام) (3) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام في الذي عليه
المشي إذا رمى الجمرة زار البيت راكبا ".
وروى في الفقيه عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام (4) قال:

(1) الوسائل الباب 35 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 35 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 35 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 35 من وجوب الحج وشرائطه، والرواية للكليني
في الكافي ج 4 ص 456.
226

" سألته متى ينقطع مشي الماشي؟ قال: إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه فقد
انقطع مشيه فليزر راكبا ".
وتنقيح الكلام في المقام يتوقف على رسم فوائد (1):
الأولى - لو اتفق له في طريقه الاحتياج إلى السفينة فالمشهور في كلامهم
من غير خلاف ينقل أنه يقوم في السفينة إن اضطر إلى العبور فيها.
والمستند في ذلك رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم
السلام (2): " أن عليا (صلوات الله عليه) سئل عن رجل نذر أن يمشي إلى
البيت فمر في المعبر؟ قال: فليقم في المعبر قائما حتى يجوز ".
قال في المدارك نقلا عن المعتبر: وهل هو على الوجوب؟ فيه وجهان
أحدهما نعم، لأن المشي يجمع بين القيام والحركة فإذا فات أحدهما تعين الآخر.
والأقرب أنه على الاستحباب، لأن نذر المشي ينصرف إلى ما يصلح المشي فيه
فيكون موضع العبور مستثنى بالعادة. ثم قال: وما قربه (رحمه الله) جيد. بل يمكن
المناقشة في استحباب القيام أيضا لضعف مستنده. انتهى.
أقول: لا ريب أن الحامل لهم على هذا الكلام إنما هو ضعف سند هذه
الرواية وليس في المقام غيرها، ولهذا قال في المدارك بعد نقل كلام المعتبر: بل
يمكن المناقشة في الاستحباب أيضا لضعف مستنده. انتهى.
ثم أقول: إن ما حكم به في المعتبر من الاستحباب لا أعرف له وجها بعد طرحه
الرواية، لأنه متى اعتمد على أن نذر المشي إنما ينصرف إلى ما يصلح المشي فيه

(1) أبدلنا كلمة " مسائل " ب‍ " فوائد " تبعا للنسخة الخطية. ويساعده
الاعتبار أيضا.
(2) الوسائل الباب 37 من وجوب الحج وشرائطه.
227

عملا بالعادة فتكون مواضع العبور غير داخلة في النذر، وهذا موجب لطرح
الرواية الدالة على الأمر بالوقوف الذي هو حقيقة في الوجوب، كما عليه أكثر
الأصحاب. وكأنه أراد حملها على الاستحباب تفاديا من طرحها. وفيه ما عرفت
في غير مقام من ما تقدم وإن اشتهر ذلك بينهم.
ثم إنه لا يخفى أن رواية السكوني المذكورة ظاهرة في كون نذر المشي
إنما هو في الطريق إلى مكة، لقوله فيها: " نذر أن يمشي إلى البيت " وقوله:
" فمر في المعبر " فإن هذا إنما يكون في الطرق الآتية من الآفاق لا في مكة
فإنه ليس فيها شط ولا نهر يحتاج في عبوره إلى سفينة.
الثانية - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو ركب طريقه
وجب عليه القضاء، ومرادهم بالقضاء الإعادة أعم من أن يكون بمعناه المتعارف
أم لا، وذلك أنه إن كانت سنة النذر معينة فالقضاء بمعناه المتعارف، ويلزمه مع
ذلك كفارة خلف النذر، وإن كانت سنة النذر مطلقة فالقضاء بمعنى الفعل ثانيا
ولا كفارة لبقاء الوقت.
قالوا: وأنا وجب عليه إعادة الحج ثانيا لاخلاله بالصفة المشروطة وتوقف
الامتثال على الاتيان بها.
ويستفاد من حكمهم بوجوب الإعادة كون الحج المأتي به فاسدا، والظاهر أن وجهه من حيث عدم مطابقته للمنذور، فلا يقع عن النذر لعدم المطابقة،
ولا عن غيره لانتفاء النية كما هو المفروض.
واحتمل المحقق في المعتبر الصحة واجزاءه عن المنذور وإن وجبت الكفارة
بالاخلال بالمشي، قال: لأن الاخلال بالمشي ليس مؤثرا في الحج ولا هو من
صفاته بحيث يبطل بفواته، بل غايته أنه أخل بالمشي المنذور، فإن كان مع
القدرة وجبت عليه كفارة خلف النذر.
228

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه: وهو إنما يتوجه إذا كان المنذور
الحج والمشي غير مقيد أحدهما بالآخر، والمفهوم من نذر الحج ماشيا خلاف
ذلك. انتهى. وهو جيد.
ويؤيده أنه لو تم ما ذكره للزم جريانه في جميع النذور المقيدة بزمان
أو مكان، كأن يصلي ركعتين في زمان مخصوص أو مكان مخصوص، فإنه
تصح الصلاة على غير الوجه المذكور وإن لزمت الكفارة، وهو لا يقول به.
ولم أقف في هذه المسألة على نص يدل على أحكامها المذكورة، إلا أن
ما نقلناه عنهم مطابق لمقتضى قواعد النذر مع أوفقيته بالاحتياط.
الثالثة - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو ركب بعضا
ومشى بعضا، فقيل: إنه إن كان مشروطا بوقت معين وجب عليه القضاء
والكفارة، وإلا وجب عليه الاستئناف ماشيا.
أما الأول فلأنه أخل بالصفة المنذورة فيجب عليه القضاء لتحصيل تلك
الصفة، والكفارة لاخلاله بايقاع تلك الصفة في الوقت المعين الواجب بالنذر.
وأما الثاني فلأن الواجب عليه الحج ماشيا ولم يأت به فيبقى في
عهدة التكليف.
ونقل عن الشيخ وجماعة أنه تجب عليه الإعادة بأن يمشي ما ركب ويركب
ما مشى، لأن الواجب عليه قطع المسافة ماشيا وقد حصل مع التلفيق فيخرج
عن العهدة. هكذا احتج له في المختلف، ثم أجاب عنه بالمنع من حصوله مع
التلفيق، إذ لا يصدق عليه أنه قد حج ماشيا.
قال في المدارك بعد نقل هذا الجواب: وهو جيد إن وقع الركوب بعد
التلبس بالحج، إذ لا يصدق على من ركب في جزء من الطريق بعد التلبس
بالحج أنه حج ماشيا، وهذا بخلاف ما إذا وقع الركوب قبل التلبس بالحج مع
229

تعلق النذر بالمشي من البلد، لأن الواجب قطع تلك المسافة في حال المشي وإن
فعل في أوقات متعددة، وهو يحصل بالتلفيق، إلا أن يكون المقصود قطعها
كذلك في عام الحج. انتهى.
أقول: قد عرفت أن المستفاد من الأخبار على وجه لا يكاد يعتريه
الانكار - كما عرفت وستعرف إن شاء الله تعالى - أن المراد بنذر الحج ماشيا
إنما هو المشي من البلد قاصدا إلى البيت منتهيا إلى رمي الجمرة، فالمكلف لما
أوجب على نفسه الحج ماشيا مدة طريقه وأيام حجه إلى الوقت المذكور تعين
عليه، والاخلال بالمشي كلا أو بعضا موجب لعدم الاتيان بالفعل على الوجه
المنذور، فيبقى في عهدة التكليف إلى أن يأتي به كذلك قضاء إن كان النذر
معينا وأداء إن كان مطلقا. هذا ما تقتضيه قواعد النذر، والمسألة خالية من
النص على الخصوص فيجب الوقوف فيها على قواعد النذر المتفق عليها بينهم.
وبذلك يظهر ما في كلام العلامة في المختلف حيث قال - على أثر الكلام
الذي قدمنا نقله عنه - ما لفظه: ويحتمل أن يقال بصحة الحج وإن كان الزمان
معينا وتجب الكفارة، لأن المشي ليس جزء من الحج ولا صفة من صفاته،
فإن الحج مع المشي كالحج مع الركوب، فيكون قد امتثل نذر الحج وأخل
بنذر المشي، فتجب الكفارة ويصح حجه. انتهى.
وهو راجع إلى ما قدمنا نقله عن المعتبر، وقد عرفت أنه إنما يتم لو كان
المنذور هنا شيئين: أحدهما الحج والثاني المشي، والظاهر من الأخبار وكلام
الأصحاب أن النذر إنما تعلق بالحج مقيدا بالمشي، فالمنذور شئ واحد وعليه
فلا يتم ما ذكره.
وبالجملة فإن الاحتياط في أمثال هذه المقامات الخالية من النصوص من ما
يجب المحافظة عليه.
230

الرابعة - لو عجز عن المشي فلا خلاف في جواز الركوب، لأن الوجوب
يسقط بالعجز، لإناطة التكليف بالوسع ورفع الحرج والمشقة في الدين (1).
وإنما الخلاف في وجوب السياق وعدمه، فذهب الشيخ وجمع من
الأصحاب إلى الوجوب.
واستدلوا على ذلك بصحيحة الحلبي (2) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله وعجز عن المشي؟ قال: فليركب وليسق بدنة،
فإن ذلك يجزئ عنه إذا عرف الله منه الجهد ".
وصحيحة ذريح المحاربي (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل حلف ليحجن ماشيا، فعجز عن ذلك فلم يطقه؟ قال: فليركب
وليسق الهدي ".
وقال الشيخ المفيد (نور الله تعالى مرقده) في المقنعة: وإذا جعل الرجل
على نفسه المشي إلى بيت الله فعجز عنه فليركب ولا شئ عليه. وهو ظاهر في
عدم وجوب السياق.
وهو اختيار ابن الجنيد على ما نقل عنه، وابن إدريس على ما ذكره
في المختلف، والمحقق.
واستدلوا عليه بأصالة البراءة، وصحيحة رفاعة بن موسى (4) قال:
" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله؟ قال:
فليمش. قلت: فإنه تعب؟ قال: فإذا تعب ركب ".
ورواية عنبسة بن مصعب (5) قال: " نذرت في ابن لي إن عافاه الله

(1) ارجع إلى الحدائق ج 1 ص 151 و 152.
(2) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
(5) الوسائل الباب 8 من كتاب النذر والعهد.
231

أن أحج ماشيا، فمشيت حتى بلغت العقبة، فاشتكيت فركبت، ثم وجدت
راحة فمشيت، فسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك، فقال: إني أحب أن
كنت موسرا أن تذبح بقرة. فقلت: معي نفقة ولو شئت أن أذبح لفعلت،
وعلي دين؟ فقال: إني أحب إن كنت موسرا أن تذبح بقرة. فقلت:
أشئ واجب أفعله؟ قال: لا، من جعل لله شيئا فبلغ جهده فليس عليه شئ ".
قال في المدارك بعد نقل ذلك: ويتوجه عليه أن الرواية الأولى لا تنافي
وجوب السياق، لأن عدم ذكره لا يعارض ما دل على الوجوب، والرواية الثانية
ضعيفة السند لأن راويها واقفي ناووسي. ثم نقل عن ابن إدريس القول بأنه
إن كان النذر مطلقا وجب على الناذر توقع المكنة من الصفة، وإن كان مقيدا
بسنة معينة سقط الفرض لعجزه عنه. وهذا قول ثالث في المسألة.
والعلامة في المختلف نقل عن ابن إدريس موافقة الشيخ المفيد، ثم اختار
فيه أنه إن كان النذر معينا بسنة فعجز عن المشي ركب ولا شئ عليه، وإن
كان مطلقا توقع المكنة.
واحتج على الأول بأنه عجز عن الصفة فسقط اعتبارها، للاجماع. الدال
على سقوط ما عجز عنه الناذر من غير تفريط. ثم قال: (لا يقال): فيسقط
الحج للعجز، كما نقل عن بعض علمائنا ذلك (لأنا نقول): العجز إنما حصل
عن الصفة لا عن أصل الحج، والنذر تعلق بأمرين، ولا يلزم من سقوط أحد
الأمرين سقوط الآخر إذا افترقا في العلة.
أقول: فيه ما تقدم من أن المنذور إنما هو شئ واحد لا شيئان، فعلى
هذا فالموافق للعجز هو سقوط الحج من أصله كما نقله في المدارك عن ابن إدريس
وصرح به شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.
بقي الكلام في أن ما نقله في المدارك عن ابن إدريس غير موجود في
232

سرائره، وإنما الموجود فيه ما قدمنا نقله عن المختلف من موافقة الشيخ المفيد
وهذه عبارته في كتاب السرائر: ومن نذر أن يحج ماشيا ثم عجز عنه فليركب
ولا كفارة عليه ولا يلزمه شئ على الصحيح من المذهب. وهذا مذهب شيخنا
المفيد في مقنعته. ثم نقل عبارة الشيخ في النهاية الدالة على وجوب سوق البدنة.
وظاهره في المدارك أنه اعتمد في هذا النقل على غيره، حيث قال بعد
نقل ذلك عن ابن إدريس: وقال الشهيد في الشرح: وكأنه نظر إلى أن الحج
ماشيا مغاير له راكبا. وفيه نظر، لأن الحج راكبا وماشيا واحد وإن اختلفا
بصفة واحدة، فإذا نذر الحج ماشيا استلزم نذر الحج المطلق وأن يكون ماشيا،
فإذا تعذر أحد الجزئين لا يلزم سقوط الآخر. ثم قال (قدس سره): هذا
كلامه (قدس سره) وهو غير جيد، لأن المفهوم من نذر الحج ماشيا ايجاب الحج
على الوجه المخصوص، بمعنى كون المشي شرطا في الحج، وذلك لا يستلزم نذر مطلق
الحج، كما أن من نذر صلاة في موضع معين لا يكون ناذرا لمطلق الصلاة. انتهى.
وهو جيد. إلا أن هذا الكلام ليس في المسالك إن أريد بالشهيد جده
(قدس سره) وبالشرح المسالك، ولا في شرح الشهيد على الإرشاد إن أريد
بالشهيد الشهيد الأول وبالشرح الكتاب المذكور. ولا أعرف لهذه العبارة
محلا غير ذلك، ولا أدري كيف هذا النقل ولا من أين حصل؟
وكيف كان فقد ظهر بما شرحناه أن في المسألة أقوالا أربعة: أحدها -
وجوب الكفارة مطلقا. وثانيها - سقوطها مطلقا. وثالثها - هو التفصيل
بكون النذر مطلقا فيتوقع المكنة، وإن كان معينا سقط الفرض. ورابعها - مثل
سابقه في صورة الاطلاق، إلا أنه يفارقه في صورة التعيين فيقول بوجوب
الركوب ولا شئ عليه.
وقال في المدارك بعد نقل ما نقله عن ابن إدريس وكلام الشهيد وكلامه
عليه حسبما قدمناه: والمعتمد ما ذهب إليه ابن إدريس إن كان العجز قبل التلبس
233

بالاحرام، وإن كان بعده اتجه القول بوجوب اكماله وسياق البدنة وسقوط الفرض
بذلك، عملا بظاهر النصوص المتقدمة. والتفاتا إلى اطلاق الأمر بوجوب
اكمال الحج والعمرة مع التلبس بهما، واستلزام إعادتهما المشقة الشديدة. انتهى.
أقول: وهذا قول خامس في المسألة.
ثم أقول: ومن الأخبار التي وقفت عليها في هذه المسألة زيادة على ما تقدم
صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " سألته عن رجل
جعل لله عليه مشيا إلى بيت الله فلم يستطع؟ قال: يحج راكبا ".
وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن نوادر أحمد بن محمد
ابن أبي نصر البزنطي عن عنبسة بن مصعب (2) قال: " قلت له - يعني أبا عبد الله
عليه السلام - اشتكى ابن لي فجعلت لله علي إن هو برئ أن أخرج إلى مكة ماشيا.
وخرجت أمشي حتى انتهيت إلى العقبة فلم أستطع أن أخطو، فركبت تلك الليلة
حتى إذا أصبحت مشيت حتى بلغت، فهل على شئ؟ قال: فقال لي: اذبح
فهو أحب إلي. قال: قلت له: أي شئ هو إلي لازم أم ليس لي بلازم؟ قال:
من جعل لله على نفسه شيئا فبلغ فيه مجهوده فلا شئ عليه وكان الله أعذر لعبده "
وعن أبي بصير (3) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك (4) فقال: من
جعل لله على نفسه شيئا فبلغ فيه مجهوده فلا شئ عليه ".
وما رواه أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن محمد بن مسلم عن أحدهما
(عليهما السلام) (5) قال: " سألته عن رجل جعل عليه مشيا إلى بيت الله فلم
يستطع؟ قال: يحج راكبا ".

(1) ارجع إلى التعليقة 2 ص 225.
(2) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) اللفظ في السرائر والوسائل هكذا: " سئل عليه السلام عن ذلك ".
(5) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
234

وعن سماعة وحفص (1) قال: " سألنا أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نذر أن
يمشي إلى بيت الله حافيا؟ قال: فليمش فإذا تعب فليركب ".
وعن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام (2) مثل ذلك.
وعن محمد بن مسلم (3) قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل عليه
المشي إلى بيت الله فلم يستطع؟ قال: فليحج راكبا ".
وعن حريز عن من أخبره عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (4)
قال: " إذا حلف الرجل أن لا يركب أو نذر أن لا يركب، فإذا بلغ مجهوده
ركب. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحمل المشاة على بدنة ".
وأنت خبير بأن هذه الأخبار متى ضمت بعضها إلى بعض فالذي يتضح منها
هو أن العاجز في صورة نذر الحج ماشيا الذي هو - كما عرفت - عبارة عن
وجوب المشي فيه من البلد إلى رمي الجمرة، متى بلغ مجهوده فإن الله (عز وجل)
أعذر له، ولكن يستحب له السياق، وأنه لا فرق في ذلك بين كون النذر
مطلقا أو مقيدا، ولا كون الركوب قبل الحج ولا بعده.
وصاحب المدارك بنى في هذا الكلام على ما قدمه من أن النذر إنما تعلق
بالمشي حال الاشتغال بالحج. وهو غلط بالنظر إلى ما سردناه من الأخبار أولا
وآخرا، ولا سيما روايتا عنبسة بن مصعب، فإنهما صريحتان في كون النذر تعلق
بالمشي من البلد وأن العجز حصل له في الطريق قبل الوصول إلى مكة. وبذلك
يعلم قوة قول شيخنا المفيد ومن اقتفاه، ويعلم الجواب عن أدلة الأقوال الأخر.
ويمكن حمل القول بالتفصيل بما تضمنه من القولين على ما إذا وقع العجز
في البلد، فإنه إن كان نذره مطلقا توقع المكنة إلى العام القابل، وإن كان

(1) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
(2) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
(4) الوسائل الباب 34 من وجوب الحج وشرائطه.
235

معينا بتلك السنة سقط الفرض من أصله أو الصفة بخصوصها ووجب الحج راكبا
على القولين. والأخبار الواردة في المسألة غير منافية لذلك، لأن ظاهر أكثرها
وصريح بعضها هو أن العذر إنما تجدد في الطريق، وبعضها وإن كان مطلقا يجب
حمله علي المقيد منها. إلا أن ظاهر القائلين بهذا القول ما هو أعم من ما ذكرنا
حيث جعلوه مقابلا للقولين الآخرين.
المسألة الخامسة - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) - في أن من
مات وعليه حجة الاسلام وأخرى منذورة قد استقرتا في ذمته، بعد الاتفاق
على أن مخرج حجة الاسلام من أصل التركة - في أن مخرج حجة النذر هل هو من
الأصل أيضا أو من الثلث؟ قولان، أولهما لابن إدريس وعليه أكثر المتأخرين
والثاني للشيخ في النهاية والمبسوط والتهذيب، ونقله في المختلف عن ابن الجنيد
قال: ورواه الصدوق في كتابه (1).
أقول: بل الظاهر أنه قائل بذلك، فإنه لم يقتصر على مجرد نقل الرواية
بل قال أولا: باب الرجل (2) يموت وعليه حجة الاسلام وحجة في نذر عليه. ثم
قال: روى الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن ضريس الكناسي...
وساق الرواية (3) وهو ظاهر في الفتوى بمضمون الرواية. وظاهر قوله: " وحجة
في نذر عليه " أن الحجة الثانية منشأ سببها النذر، أعم من أن يكون نذر أن يحج
بنفسه أو يحج غيره، وأنه لا فرق بين الأمرين في وجوب القضاء من الثلث
كما في الرواية.

(1) الفقيه ج 2 ص 263.
(2) في الفقيه هكذا: " باب من يموت... ".
(3) الوسائل الباب 29 من وجوب الحج وشرائطه، وقد تقدمت ص 210
236

احتج الأصحاب على ما ذهبوا إليه من وجوب القضاء من الأصل بأنها
كحجة الاسلام من جملة الديون التي مخرجها من الأصل.
قال في المدارك: وهو إنما يتم بعد قيام الدليل على وجوب قضائها من
التركة. ولم نقف في ذلك على رواية سوى رواية ضريس التي أوردها المصنف،
وقد بينا في ما سبق أن الحج ليس واجبا ماليا بل هو واجب بدني وإن توقف
على المال مع الحاجة إليه كما تتوقف الصلاة عليه كذلك. ثم نقل احتجاج
الشيخ برواية ضريس وأورد الرواية، ثم قال: وأجاب عنها في المختلف بالحمل
على من نذر في مرض الموت. ثم رده بأنه يتوقف على وجود المعارض. ثم قال:
نعم يمكن المناقشة في هذا الاستدلال بأن مورد الرواية خلاف محل النزاع، لأن
موردها من نذر أن يحج رجلا، أي يبذل له مالا يحج به. وهو خلاف نذر الحج.
ولعل ذلك هو السر في ايراد المصنف الرواية بعد حكاية القولين من دون أن
يجعلها مستندا لأحدهما. انتهى.
أقول: قد تقدم البحث مستوفى في المسألة وأوضحنا ما في هذا الكلام،
وإنما أطلنا الكلام بنقله هنا لأنا قد وعدنا سابقا بنقله وأشرنا سابقا إليه.
ثم أقول: قال الفاضل المحقق محمد تقي المجلسي في شرحه على الفقيه - بعد
نقل صحيحة ضريس - ما هذه ترجمته: المشهور بين العلماء أن كل واجب تعلق
بالمال وتركه ذو المال حتى مات، فإن ترك مالا قضى عنه من أصل ماله، وإلا
فلا يجب على الولي قضاؤه، فقضاء الولي محمول على الاستحباب على المشهور.
ويمكن حمل اخراج المنذور من الثلث على أنه بسبب اشتغال ذمته بحج واجب
فلا يصح نذره لكن يستحب له الوفاء به لتلفظه بصيغة النذر، فلهذا يخرج من
الثلث. وأجيب بأنه لا ينعقد النذر إلا مع رجحان متعلقه وأقله الاستحباب،
ومع اشتغال الذمة بالواجب لا يجوز له أن يحج مستحبا فلا ينعقد نذره. انتهى.
237

أقول: فيه أولا - إن منع صحة النذر لاشتغال الذمة بالحج الواجب على
اطلاقه ممنوع وإنما يتم لو نذر الحج في عام الاستطاعة، وأما إذا كان النذر
مطلقا فأي مانع؟ وقد تقدم تحقيق ذلك في المسألة الثالثة (1).
وثانيا - أنه متى لم يكن حج النذر واجبا عليه بالنذر، وإنما هو مستحب
من حيث التلفظ بالصيغة فكيف يسوغ اخراجه من غير الوصية؟ والحال أن
الواجب يتوقف على الوصية فكيف المستحب؟ على أن اثبات الاستحباب بمجرد
التلفظ بالصيغة ممنوع، فإن الاستحباب حكم شرعي لا بد له من الدليل.
وأما ما ذكره من الجواب فضعيف، لأنه مبني على أن مجرد اشتغال الذمة
موجب لبطلان النذر.
وبالجملة فإن كلامه (قدس سره) هنا كلام عليل لا ثمرة له عند ذوي
التحصيل. والله العالم.
المقصد الثالث
في حج النيابة وشرائطه
لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه يشترط في النائب
شروط:
منها - كمال العقل فلا تجوز نيابة المجنون لانغمار عقله بالمرض المانع من
النية والقصد. ولو كان ممن يعتريه الجنون أدوارا فلا مانع من نيابته إذا حصل
الوثوق بتمكنه من العمل المستأجر عليه وإلا فلا.
ومثله الصبي غير المميز.
وفي المميز قولان، ظاهر الأكثر المنع.

(1) ص 215
238

وعلله في المعتبر بأن حج الصبي إنما هو تمريني، والحكم بصحته بالنسبة إلى
ما يراد من تمرينه لا لأنه يقع مؤثرا في الثواب.
وهو غير جيد، لما قدمنا في كتاب الصوم من أن عبادة الصبي شرعية
يستحق عليها الثواب لأنها مرادة للشارع.
نعم الوجه في المنع من نيابته أولا - إنما هو عدم الدليل في المقام، لأن
العبادات بأي كيفية وعلى أي نحو موقوفة على التوقيف، ولم يرد في المقام
نص بجواز نيابته.
وثانيا - إنه لعلمه برفع القلم عنه (1) وعدم مؤاخذته بما يصدر منه فلا
يمكن الوثوق بأخباره.
وقيل بالجواز، لأنه قادر على الاستقلال بالحج. وهو ضعيف لما عرفت.
ونقل في المدارك عن بعض مشايخه المعاصرين - ولعله المولى المحقق
الأردبيلي كما يشير إليه كثيرا بذلك - جواز نيابته مع الوثوق بأخباره، ثم قال:
وليس ببعيد من الصواب. انتهى. وفيه توقف.
ومنها - الاسلام فلا تصح نيابة الكافر، لأنه عاجز عن نية القربة التي هي
شرط في صحة العمل المستأجر عليه.
قالوا: وكذا هذا الشرط في المنوب عنه، فليس للمسلم أن يحج عن الكافر
لقوله (عز وجل): ما كان للنبي صلى الله عليه وآله والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين
ولو كانوا أولى قربي (2) ولأنه في الآخرة مستحق للخزي والعقاب لا للأجر
والثواب، وهما من لوازم صحة الفعل.

(1) الوسائل الباب 4 من مقدمة العبادات، وسنن البيهقي ج 8 ص 264.
(2) سورة التوبة الآية 113
239

وفي اشتراط الايمان في النائب قولان، ظاهر أكثر المتأخرين - حيث
حكموا باسلام المخالفين - صحة نيابتهم فلا يشترط الايمان عندهم.
قال العلامة في التذكرة: أما المخالف فيجوز أن ينوب عن المؤمن
ويجزئ عن المنوب إذا لم يخل بركن، لأنها تجرئ عنه ولا تجب عليه الإعادة لو
استبصر، فدل ذلك على أن عبادته معتبرة في نظر الشرع يستحق بها الثواب
إذا رجع إلى الايمان إلا الزكاة، لأنه دفعها إلى غير مستحقها. ويدل على ذلك
ما رواه بريد بن معاوية العجلي (1)... ثم ساق الرواية.
وقيل بالعدم، وهو الحق، وإليه مال في المدارك.
وقد تقدم تحقيق المسألة ودلالة جملة من الأخبار على بطلان عبادة المخالف
وإن أتى بها على الوجه المشترط عند أهل الايمان فضلا عن أهل نحلته، وأن
سقوط القضاء عنه بعد الرجوع إلى الايمان إنما هو تفضل من الله (عز وجل)
لا لصحة عبادته كما توهمه (قدس سره).
ومنها - خلو ذمته عن حج واجب عليه بالأصالة أو بالنذر أو الاستئجار
أو الافساد، فلو وجب عليه الحج بسبب أحد هذه الأمور لم يجز له أن ينوب
عن غيره إلا بعد أداء ما في ذمته. كذا صرح به العلامة في التذكرة، ومثله
في غيرها.
والأظهر أن يقال: إنه إنما يجب خلو ذمة النائب من الحج الواجب إذا كان
مخاطبا في ذلك العام على الفور وحصل التمكن منه، أما لو كان واجبا موسعا
أو في عام بعد ذلك - كمن نذره كذلك أو استؤجر له - فإنه لا مانع من صحة نيابته
قبله. وكذا لو وجب عليه في ذلك العام وعجز عنه ولو مشيا حيث لا يشترط
فيه الاستطاعة، كالمستقر من حج الاسلام، فإنه يجوز له الاستنابة في ذلك

(1) ص 159
240

العام، لسقوط الوجوب فيه بالعجز وإن كان ثابتا في الذمة. ولكن ينبغي أن
يراعى في جواز الاستنابة ضيق الوقت بحيث لا يحتمل تجدد الاستطاعة أو القدرة
عادة. وبالجملة فإن المنافاة لا تحصل بمجرد الوجوب كيف اتفق كما هو مقتضى
كلامهم، بل بالفورية في ذلك العام، فما لم يكن كذلك فإنه لا مانع يمنع الاستنابة.
ومن الأخبار الواردة في المقام ما رواه ثقة الاسلام في الكافي في الصحيح
عن سعد بن أبي خلف (1) قال: " سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن الرجل
الصرورة يحج عن الميت؟ قال: نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه،
فإن كان له ما يحج به عن نفسه فليس يجزئ عنه حتى يحج من ماله... الحديث ".
وما رواه في الصحيح أو الحسن على المشهور عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (2): " في رجل صرورة مات ولم يحج حجة الاسلام وله مال؟
قال: يحج عنه صرورة لا مال له ".
وما رواه في الفقيه في الصحيح عن سعيد الأعرج (3): " أنه سأل
أبا عبد الله عليه السلام عن الصرورة أيحج عن الميت؟ فقال: نعم إذا لم يجد الصرورة
ما يحج به، فإن كان له مال فليس له ذلك حتى يحج من ماله... الخبر ".
والمراد بالصرورة هو من لم يحج بالمرة.
وهل العدالة شرط في صحة النيابة أم لا؟ ظاهر جملة من المتأخرين اعتبارها
في الحج الواجب، لا من حيث الحكم ببطلان عبادة الفاسق، بل من حيث إن
الاتيان بالحج إنما يعلم بخبره، والفاسق لا يقبل خبره، للآية (4) والرواية (5).

(1) الوسائل الباب 5 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 5 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 5 من النيابة في الحج.
(4) وهو قوله تعالى في سورة الحجرات، الآية 6: " إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا ".
(5) الظاهر أن المراد بها الروايات الواردة في رد شهادته،
وقد أوردها في الوسائل في الباب 30 و 32 و 33 و 34 و 41 من كتاب الشهادات.
241

قال في المدارك واكتفى بعض الأصحاب فيه بكونه ممن يظن صدقه
ويحصل الوثوق بأخباره. وهو حسن. انتهى.
أقول: التحقيق هنا أن يقال: إن الناس على أقسام ثلاثة: ظاهر العدالة
وظاهر الفسق ومجهول الحال، أما الأول فلا ريب في جواز نيابته، وأما الثاني
فالظاهر عدم جواز نيابته، لما ذكرناه من أن الحكم بالصحة مبني على خبره، وخبره
غير مقبول، للآية (1) والرواية (2) وأما الثالث فهذا هو الذي ينبغي أن يجعل
محل الخلاف، وهذا هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام بعض الأصحاب الذي
نقله واستحسنه، من أنه متى كان ممن يظن صدقه ويحصل الوثوق بأخباره
جازت نيابته.
أقول: وهذا هو الذي جرى عليه من شاهدناه وسمعناه من مشايخنا
(رضوان الله عليهم) في الاستئجار للحج في جميع الأعصار والأمصار.
وبما ذكرناه من التفصيل يظهر لك ما في كلام شيخنا الشهيد في الدروس
حيث قال: العدالة شرط في الاستنابة عن الميت وليست شرطا في صحة النيابة،
فلو حج الفاسق عن غيره أجزأ. وفي قبول أخباره بذلك تردد أظهره القبول،
لظاهر حال المسلم، ومن عموم قوله تعالى فتبينوا (3).
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه - ونعم ما قال - ويتوجه عليه أولا - إن

(1) وهو قوله تعالى في سورة الحجرات، الآية 6: " إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا ".
(2) الظاهر أن المراد بها الروايات الواردة في رد شهادته، وقد أوردها
في الوسائل في الباب 30 و 32 و 33 و 34 و 41 من كتاب الشهادات
(3) سورة الحجرات، الآية 6.
242

ما استدل به على القبول من ظاهر حال المسلم لا يعارض الآية الشريفة المتضمنة
لوجوب التثبت عند خبر الفاسق. وثانيا - أنه لا وجه للمنع من استنابة الفاسق
إلا عدم قبول أخباره، فمتى حكم بقبول أخباره انتفى المانع من جواز الاستنابة.
وذكر بعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن من جملة الشروط أيضا قدرة
الأجير على العمل وفقهه في الحج. واكتفى الشهيد في الدروس بحجه مع مرشد عدل.
ومن شرائط النيابة في الواجب أيضا موت المنوب عنه أو عجزه كما سبق
بيانه. أما الحج المستحب فلا يشترط فيه ذلك اجماعا بل تجوز النيابة عن الحي،
وفيه فضل كثير.
قال شيخنا الشهيد في الدروس: وقد أحصى في عام واحد خمسمائة وخمسون
رجلا يحجون عن علي بن يقطين صاحب الكاظم عليه السلام وأقلهم تسعمائة دينار
وأكثرهم عشرة آلاف دينار.
تنبيهات
الأول - قد عرفت في ما تقدم الخلاف في اشتراط الايمان في النائب وأن
الأصح ذلك. وكذا وقع الخلاف المذكور في المنوب عنه، والمنقول عن
الشيخين وأتباعهما أنه لا تجوز النيابة عن غير المؤمن
قال في المعتبر: وربما كان التفاتهم إلى تكفير من خالف الحق، ولا تصح
النيابة عن من اتصف بذلك. ونحن نقول: ليس كل مخالف للحق لا تصح منه
العبادة ونطالبهم بالدليل عليه. ونقول: اتفقوا على أنه لا يعيد عباداته التي
فعلها مع استقامته سوى الزكاة. ثم قرب اختصاص المنع بالناصب خاصة.
أقول: لا يخفى ما في كلام هذا المحقق من الغفلة عن ملاحظة الأخبار
الواردة في هذا الباب عن أهل العصمة (عليهم السلام) الدالة على بطلان عبادة
243

المخالفين، كما قدمنا جملة منها في المسألة الثالثة (1) من المسائل الملحقة بالشروط
المتقدمة في المقصد الأول.
وأما ما ذكره - من أنه ربما كان التفاتهم إلى تكفير من خالف الحق -
فالأمر كذلك، وهو الحق الظاهر من الأخبار على وجه لا يقبل الانكار، إلا ممن
لم يعط النظر حقه في تتبع الأخبار والوقوف عليها من مظانها، كما أوضحنا ذلك
- بحمد الله (سبحانه) ومنه - في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب على
تفصيل أودعناه الكتاب المشار إليه.
وما توهمه - من الاتفاق على أنه لا يعيد عبادته التي فعلها في حال ضلاله
متى دخل في الايمان، من أن ذلك أنما هو لصحتها في نفس الأمر - غلط محض
وتوهم صرف، بل إنما ذلك تفضل من الله (عز وجل) عليه، كما تفضل على الكافر
المشرك بعد دخوله في الايمان بعدم وجوب إعادة شئ من عباداته.
نعم قد ذكر الشيخان (رضوان الله عليهما) وأتباعهما جواز النيابة عن
الأب خاصة متى كان مخالفا، لصحيحة وهب بن عبد ربه المروية في الكافي (2)
قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيحج الرجل عن النصاب؟ فقال: لا. قلت:
فإن كان أبي؟ قال: إن كان أباك فنعم " ورواه الصدوق مثله (3) إلا أن فيه:
" إن كان أباك فحج عنه ".
ومنع ابن إدريس من جواز النيابة عن الأب أيضا. ومال العلامة في المختلف
إلى جواز النيابة عن المخالف مطلقا قريبا كان أو بعيدا، ومنع من النيابة عن
الناصب مطلقا، قال: ونعني بالناصب من يظهر العداوة لأهل البيت (عليهم

(1) ص 164.
(2) الوسائل الباب 20 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 20 من النيابة في الحج.
244

السلام) كالخوارج ومن ماثلهم، أبا كان أو غير أب. وتقدم كلام المحقق الدال
على ذلك، ونحوه ما قدمنا نقله عن التذكرة. وقال في الدروس: الأقرب
اختصاص المنع بالناصب، ويستثنى الأب.
وقال العلامة في المختلف بعد اختياره القول الذي ذكرناه: لنا على
الحكم الأول: إن المنوب ممن تصح منه العبادة مباشرة فتصح منه تسبيبا، لأن
الفعل من ما تدخله النيابة. ولأن عباداته نقع صحيحة، ولهذا لا تجب عليه إعادتها
إلا الزكاة مع استقامته، فيصح الحج عنه. وأما الناصب فلأنه لما جحد ما علم
ثبوته من الدين ضرورة حكم بكفره، فلا تصح النيابة عنه كما لم تصح مباشرته.
ثم قال: احتج الشيخ بأن من خالف الحق كافر فلا تصح النيابة عنه. وبما رواه
وهب بن عبد ربه في الصحيح... ثم ساق الرواية. والجواب عن الأول بالمنع
من الصغرى. وعن الرواية بالقول بالموجب، فإن الناصب عندنا لا تجوز النيابة
عنه. ثم قال: بقي هنا اشكال يرد علينا خاصة حيث سوغنا النيابة عن المخالف
مطلقا ومنعنا من النيابة عن الناصب مطلقا، فإن هذه الرواية فصلت بين الأب
وغيره، فنقول: المراد بالناصب إن كان هو المخالف مطلقا ثبت ما قاله
الشيخ، وإن كان هو المعلن بالعدواة والشنآن لم يبق فرق بين الأب وغيره.
ولو قيل بقول الشيخ كان قويا. انتهى.
أقول: إنما أطلنا بنقل كلامه (زيد في مقامه) ليظهر لك وجه بطلانه
بما أبطلنا به كلام المحقق قبله. وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام نفخ في غير ضرام
والمستفاد من الأخبار الواردة عن العترة الأطهار - على وجه لا يقبل الاستتار
عند من اطلع عليها ونظرها بعين التدبر والاعتبار - أن المراد بالناصب حيثما أطلق
إنما هو المخالف العارف بالإمامة والمنكر لها، وما ذكروه من هذا المعنى للناصب
فهو مجرد اختراع منهم لا مستند له ولا دليل عليه، بل الأدلة واضحة في رده
245

وعدم الميل إليه. ومن أراد تحقيق ما قلناه فليرجع إلى كتابنا المشار إليه آنفا
فإنه قد أحاط في هذه المسألة بأطراف الكلام وإبرام النقض ونقض الابرام بما
لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام. والله الهادي لمن يشاء.
الثاني - ظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف - كما قدمنا التنبيه عليه -
أنه من وجب عليه حجة الاسلام فلا يجوز له أن يحج تطوعا ولا عن غيره.
وعللوا المنع من التطوع لمنافاته الواجب الفوري المقدور عليه بالتمكن من
التطوع. وأما المنع من الحج عن الغير فيبنى على التفصيل المتقدم.
والمقطوع به في كلامهم أنه لو خالف والحال هذه فإنه يحكم بفساد التطوع
والحج عن الغير.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهم: وهو إنما يتم إذا ورد فيه نهي
بالخصوص، أو قلنا باقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده الخاص، وربما ظهر
من صحيحة سعد بن أبي خلف (1) خلاف ذلك، فإنه قال: " سألت أبا الحسن
موسى (عليه السلام) عن الرجل الصرورة يحج عن الميت؟ قال: نعم إذا
لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه، فإن كان له ما يحج به عن نفسه فليس يجزئ
عنه حتى يحج من ماله. وهي تجزئ عن الميت إن كان للصرورة مال وإن لم يكن
له مال " والمسألة محل تردد. انتهى.
وقال بعد ذلك - في شرح قول المصنف: وكذا لا يصح حجه تطوعا،
ولو تطوع قيل يجزئ عن حجة الاسلام، وهو تحكم - ما صورته: أما المنع من
التطوع لمن في ذمته واجب فقد تقدم الكلام فيه. ولا يخفى أن الحكم بفساد
التطوع إنما يتم إذا ثبت تعلق النهي به نطقا أو التزاما، والقول بوقوع التطوع

(1) الوسائل الباب 5 من النيابة في الحج.
246

عن حج الاسلام للشيخ في المبسوط. وهو مشكل، لأن ما فعله قد قصد به
خلاف حج الاسلام فكيف ينصرف إليه؟ ونقل عنه في الخلاف أنه حكم بصحة
التطوع وبقاء حج الاسلام في ذمته. وهو جيد إن لم يثبت تعلق النهي به
المقتضي للفساد. انتهى.
وظاهر كلامه (قدس سره) - كما ترى - في الموضعين صحة حج التطوع وحج
النيابة لمن كان مخاطبا بحج الاسلام، حيث إنه لم يرد عنده دليل يدل على النهي
عن ذلك في حال وجوب حج الاسلام، والأمر بالحج لا يقتضي النهي عن
الأضداد الخاصة عنده، فيقع الحج على كل من الوجهين صحيحا وإن أثم،
وظاهر صحيحة ابن أبي خلف التي ذكرها موهم لما ذكره، حيث إن ظاهر سياق
الخبر أن الصرورة لا يحج عن الميت إلا إذا لم يجد ما يحج به عن نفسه، فإن
وجد ما يحج به فليس يجزئ عنه إلا الحج من ماله. وحجه عن الميت لو فعل
مجزئ عن الميت سواء كان له مال أو لم يكن له مال، وإن أثم باعتبار عدم الحج
عن نفسه أولا. وربما دل الخبر بالإشارة إلى أن الصرورة لو لم يكن له مال فهي
تجزئ عنه وعن الميت كما تقدم في الأخبار المذكورة في المسألة الثانية عشرة (1)
من المسائل الملحقة بالشرط الثالث من شروط حج الاسلام.
ومثل هذه الصحيحة ما رواه الصدوق في الفقيه عن سعيد الأعرج (2).
" أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الصرورة أيحج عن الميت؟ فقال: نعم إذا لم يجد
الصرورة ما يحج به، فإن كان له مال فليس له ذلك حتى يحج من ماله. وهو
يجزئ عن الميت كان له مال أو لم يكن له مال ".

(1) ص 116
(2) الوسائل الباب 5 من النيابة في الحج.
247

أقول: والذي يقرب عندي أن ظاهر هذين الخبرين - سيما الثاني - هو النهي
عن الحج نيابة حتى يحج عن نفسه، لقوله في رواية سعيد الأعرج - بعد تقييد
الجواب عن جواز حج الصرورة عن الميت بما إذا لم يجد الصرورة ما يحج به
الدال بمفهومه على عدم الجواز لو وجد ما يحج به: " فإن كان له مال فليس له
ذلك حتى يحج عن نفسه (1) " وهو تصريح بالمفهوم المتقدم، وصريح في عدم جواز
النيابة حتى يحج حجة الاسلام من ماله. ونحو ذلك سياق صدر صحيحة سعد بن أبي خلف المتقدمة، وقوله فيها: " فليس يجزئ عنه حتى يحج من ماله "
بمنزلة قوله في الرواية الثانية: " فليس له ذلك " وإن كانت العبارة الثانية أوضح
في الدلالة على ما ذكرناه، فكأنه أريد بمعنى " فليس يجزئ عنه " أي ليس
يجوز له ذلك، وباب التجوز في الكلام واسع. ويعضد ذلك ما تقدم (2)
في صحيحة معاوية بن عمار: " يحج عنه صرورة لا مال له " ومثلها صحيحة
أخرى له (3).
وبذلك يظهر أن ما ذكره في المدارك - من أنه إنما يتم ذلك لو ورد النهي
نطقا أو التزاما عن النيابة في الصورة المذكورة - ليس في محله، فإن النهي
ظاهر بالتقريب الذي ذكرناه وليس النهي مخصوصا ب‍ " لا وليس " ونحوهما، بل
قول الشارع: " لا يجوز " أصرح في الدلالة.
بقي الكلام في قوله عليه السلام في آخر رواية سعد بن أبي خلف: " وهي
تجزئ عن الميت إن كان للصرورة مال وإن لم يكن له مال " وقوله في الثانية:
" وهو يجزئ عن الميت كان له مال أو لم يكن له مال " فإنه ربما أوهم تعلقه
بأصل السؤال، بأن يكون حاصل المعنى: أنه لا تجوز له النيابة إذا كان له مال

(1) اللفظ: " حتى يحج من ماله "
(2) ص 241.
(3) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه.
248

حتى يحج حجة الاسلام، لكن لو حج عن الميت أجزأ عن الميت وإن أثم بتركه
الحج عن نفسه. وفيه أنه متى كان صدر الحديث دالا على أنه لا تجوز النيابة
في الصورة المذكورة، فكيف يحكم بالجواز بعد ذلك؟ وهل هو إلا تناقض
ظاهر وتدافع؟ إذ مقتضى عدم الجواز هو البطلان لو وقع لا الصحة.
وبعض مشايخنا المحدثين - بعد ذكر صحيحة سعد والكلام فيها - أجاب عن
قوله في هذه الزيادة في آخر الرواية بتأويلين: الأول - أن الضمير يرجع إلى الجزء
الأول من الحديث دفعا لتوهم الراوي أن نيابة الصرورة غير جائزة، والضميرين
المجرورين في آخر الحديث إلى الميت، يعني سواء كان على الميت حج واجب أو لم يكن
وحج عنه ندبا. الثاني - أن المراد دفع توهم من توهم أنه إذا لم يكن على أحدهما
حجة الاسلام فليس لهما ثواب حجة الاسلام، فدفع هذا التوهم بأن كليهما
مثابان ثواب حجة الاسلام، فإن استطاع النائب بعد وحج حجة الاسلام كتب الله له
ثواب حجة الاسلام ثانيا. وثواب الأولى تفضلي والثانية استحقاقي، كما دل
على مضمونه الأحاديث الصحيحة. انتهى. ولا يخفى ما فيه.
والذي يقرب عندي أن هذه الجملة الأخيرة غير متعلقة بالكلام المتقدم
لما عرفت من المناقضة، بل هي مبنية على مقدمة مطوية في البين مفهومة من
سياق الكلام المتقدم، وهي أنه لما منع في صدر الخبر جواز النيابة متى كان
صرورة ذا مال جوز له النيابة بعد الحج من ماله سواء كان ذا مال أو لم يكن،
فإنه لما قال في الرواية الثانية -: " فإن كان له مال فليس له ذلك حتى يحج من
ماله " الدال على عدم جواز النيابة حتى يحج أولا من ماله - قال: " وهو يجزئ
عن الميت " يعني متى حج من ماله سواء كان له مال يومئذ أو لم يكن، فإن
الأجزاء حاصل على كلا الوجهين. وبعين ذلك نقول في صحيحة سعد. ولا ينافي
ذلك التعبير بالصرورة فيها فإنه تجوز باعتبار ما كان عليه. وهذا التقدير في
249

مقام الجمع غير بعيد بل شائع في الأخبار، وليس هو إلا من تقييد المطلق
وتخصيص العام، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
الثالث - المقطوع به في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا بد من
تعيين المنوب عنه قصدا في موضع يفتقر إلى النية، لتوقف حقيقة النيابة على ذلك
ولا يجب التلفظ باللسان، لخروجه عن معنى النية وإن اعتقده الجهال نية.
ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الصحيح عن البزنطي (1) قال: " سأل
رجل أبا الحسن الأول عليه السلام عن الرجل يحج عن الرجل، يسميه باسمه؟ قال: الله
(عز وجل) لا تخفى عليه خافية ".
وما رواه الصدوق والشيخ عن مثنى بن عبد السلام في القوي عن أبي عبد الله
عليه السلام (2): " في الرجل يحج عن الانسان، يذكره في جميع المواطن كلها؟ قال:
إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، الله يعلم أنه قد حج عنه، ولكن يذكره
عند الأضحية إذا ذبحها ".
وقد ورد أيضا ما يدل على استحباب ذكره في المواطن، لما رواه الكليني
والشيخ عنه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (3) قال: " قلت
له: ما الذي يجب على الذي يحج عن الرجل؟ قال: يسميه في المواطن
والمواقف ".
وما رواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (4) قال:
" سألته عن الرجل يقضي - عن أخيه أو عن أبيه أو رجل من الناس - الحج، هل

(1) الوسائل الباب 16 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 16 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 16 من النيابة في الحج.
(4) الفقيه ج 2 ص 278، وفيه هكذا: " يقول عند احرامه بعد ما يحرم "
وفي الوسائل الباب 16 من النيابة في الحج.
250

ينبغي له أن يتكلم بشئ؟ قال: نعم يقول بعد ما يحرم: اللهم ما أصابني في
سفري هذا من نصب أو شدة أو بلاء أو شعث فأجر فلانا فيه وأجرني في
قضائي عنه ".
وروى في الصحيح أو الحسن على المشهور عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " قيل له: أرأيت الذي يقضي عن أبيه أو أمه
أو أخيه أو غيرهم، أيتكلم بشئ؟ قال: نعم يقول عند احرامه: اللهم ما أصابني
من نصب أو شعث أو شدة فأجر فلانا فيه وأجرني في قضائي عنه ".
الرابع - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) جواز حج المرأة
عن الرجل وعن المرأة، صرورة كانت أو قد حجت. ونقل عن الشيخ في الإستبصار
المنع من نيابة المرأة الصرورة عن الرجل. وفي النهاية أطلق المنع من نيابة المرأة
الصرورة، وهو ظاهر اختياره في التهذيب.
يدل على المشهور ما رواه الشيخ في الصحيح عن رفاعة عن أبي عبد الله
عليه السلام (2) أنه قال: " تحج المرأة عن أختها وعن أخيها. وقال: تحج المرأة
عن أبيها ".
قال في الوافي بعد أن نقل الحديث بلفظ: " ابنها " بالنون بعد الباء عن
الكافي والتهذيب: ونقل عن التهذيبين أنه فيهما بالمثناة التحتانية بعد الباء.
وفي الحسن عن معاوية بن عمار (3) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
الرجل يحج عن المرأة والمرأة تحج عن الرجل؟ قال: لا بأس ".

(1) الوسائل الباب 16 من النيابة في الحج. والرواية للكليني في الكافي
ج 4 ص 311.
(2) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.
251

وما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن أبي أيوب (1) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: امرأة من أهلنا مات أخوها فأوصى بحجة وقد حجت المرأة
فقالت: إن صلح حججت أنا عن أخي وكنت أنا أحق بها من غيري؟ فقال
أبو عبد الله عليه السلام: لا بأس أن تحج عن أخيها، وإن كان لها مال فلتحج من
مالها فإنه أعظم لأجرها ". وما رواه الصدوق عن بشير النبال (2) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
إن والدتي توفيت ولم تحج؟ قال: يحج عنها رجل أو امرأة. قال: قلت:
أيهما أحب إليك؟ قال: رجل أحب إلي ".
احتج الشيخ على ما نقلوه عنه بما رواه زيد الشحام عن أبي عبد الله
عليه السلام (3) قال: " سمعته يقول: يحج الرجل الصرورة عن الرجل الصرورة
ولا تحج المرأة الصرورة عن الرجل الصرورة ".
وما رواه عن مصادف (4) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام: أتحج المرأة
عن الرجل؟ قال: نعم إذا كانت فقيهة مسلمة وكانت قد حجت، رب امرأة
خير من رجل ".
وأجاب عنهما في المدارك أولا - بالطعن في السند. وثانيا - بالحمل على الكراهة
واستدل على ذلك برواية سليمان بن جعفر (5) قال: " سألت الرضا عليه السلام عن
امرأة صرورة حجت عن امرأة صرورة؟ قال: لا ينبغي " قال: ولفظ
" لا ينبغي " صريح في الكراهة. انتهى.
أقول: ورواية مصادف هذه قد روى مثلها الكليني أيضا بسنده فيه

(1) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 9 من النيابة في الحج.
(4) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.
(5) الوسائل الباب 9 من النيابة في الحج.
252

عن مصادف عن أبي عبد الله عليه السلام (1): " في المرأة تحج عن الرجل الصرورة؟
فقال: إن كانت قد حجت وكانت مسلمة فقيهة، فرب امرأة أفقه من رجل ".
ومن الأخبار المؤيدة لما ذكره الشيخ أيضا ما رواه في التهذيب في الموثق
عن عبيد بن زرارة (2) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل الصرورة يوصي
أن يحج عنه، هل تجزئ عنه امرأة؟ قال: لا، كيف تجزئ امرأة وشهادته
شهادتان؟ قال: إنما ينبغي أن تحج المرأة عن المرأة والرجل عن الرجل وقال:
لا بأس أن يحج الرجل عن المرأة ".
أقول: ومرجع كلام الشيخ إلى حمل اطلاق الأخبار المتقدمة على هذه الأخبار المتأخرة، وهو أن المرأة إنما تنوب عن غيرها إذا كانت قد حجت، سيما
إذا كانت فقيهة عارفة. ولا يخفى أنه هو الأوفق بقواعد الجمع بين الأخبار
ولكن أصحاب هذا الاصطلاح المحدث - حيث إنهم يطرحون الأخبار الضعيفة
في المقام إذا لم تبد لهم الحاجة إليها - كان الأوفق باصطلاحهم ما ذكروه، ومن
يحكم بصحة الأخبار كلا فالوجه عنده ما ذهب إليه الشيخ، ولهذا أن ظاهر المحدث
الكاشاني في الوافي الميل إلى ما ذكره الشيخ (قدس سره).
وأما قوله في المدارك -: ولفظ: " لا ينبغي " صريح في الكراهة - فهو
مسلم بالنسبة إلى عرف الناس الآن، وأما استعمال هذا اللفظ في الأخبار بمعنى
التحريم فأكثر من أن يحصى. وقد نبهنا في ما سبق على أن هذا اللفظ بالنسبة
إلى وروده في الأخبار من الألفاظ المتشابهة، لوروده فيها بالمعنى العرفي تارة
وبمعنى التحريم أخرى. ومثله لفظ: " ينبغي " في الوجوب أو بمعنى الأولى

(1) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 9 من النيابة في الحج
253

وظاهر موثقة عبيد بن زرارة هو استعمال لفظ: " ينبغي " فيها في الوجوب،
فإنه منع أولا من اجزاء حج المرأة عن الرجل الصرورة، ثم قال: " إنما ينبغي
أن تحج المرأة عن المرأة... إلى آخره " فإن ما تقدم قرينة على ذلك.
وكيف كان فما ذكره الشيخ هو الأوفق بالاحتياط، ولا سيما في باب الحج
الذي قد عثرت فيه أقدام جملة من صرورة العلماء فضلا عن غيرهم، فالواجب
تقييد نيابة المرأة بكونها قد حجت أولا، سيما مع كونها فقيهة عارفة. والله العالم.
مسائل
الأولى - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن من استؤجر
ومات في الطريق، فإن أحرم ودخل الحرم فقد أجزأت عن من حج عنه واستحق
الأجرة كملا، ولو مات قبل ذلك ولو بعد الاحرام لم يجزئ عند الأكثر،
قالوا: ويجب على الأجير إعادة ما قابل المتخلف من الطريق ذاهبا وآئبا.
وهذا الكلام ينحل إلى مسألتين يجب تحقيق كل منهما على حدة:
الأولى - إن النائب إذا مات بعد الاحرام ودخول الحرم فقد أجزأت
حجته عن من حج عنه بلا خلاف.
وإنما الخلاف في ما إذا مات بعد الاحرام وقبل دخول الحرم، فذهب الشيخ
في الخلاف وابن إدريس إلى أن حكمه كالأول من غير فرق. ولم نقف لهم على
دليل، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في المسألة الأولى من المسائل الملحقة
بالشروط (1).
وأما ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) فاحتج عليه في المدارك
بالاجماع، وبرواية بريد ورواية ضريس المتقدمتين (2) في المسألة المشار إليها. ثم قال:

(1) ص 151.
(2) ص 149 و 150
254

لا يقال: إن الروايتين مختصتان بمن حج عن نفسه فلا يتناولان حج النائب، لأنه
إذا ثبت ذلك في حق الحاج ثبت في نائبه، لأن فعله كفعل المنوب عنه. انتهى.
ولا يخفى ما فيه من الوهن، وهل هو إلا مجرد مصادرة؟ مع أنه لا يخرج
عن القياس.
ويأتي على مقتضى كلامه هنا - من أنه يجب أن يكون فعله كفعله - أن الحاج
متى استطاع في بلده ووجب عليه الحج من بلده، فإذا مات يجب أن يحج عنه النائب
من البلد لأن فعله كفعله. وهو لا يقول به بل يوجب الاستئجار من الميقات.
وبالجملة فكلامه هنا في البطلان أوضح من أن يحتاج إلى البيان. والظاهر أن الحامل له على ذلك هو عدم وجود نص صحيح صريح في هذه المسألة كما
سيظهر لك إن شاء الله تعالى، فالتجأ إلى ما ذكره.
ثم قال بعد الكلام المتقدم: ويدل على حكم النائب صريحا الاجماع المنقول،
وما رواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال:
" سألته عن الرجل يموت فيوصي بحجة فيعطي رجل دراهم يحج بها عنه فيموت
قبل أن يحج؟ قال: إن مات في الطريق أو بمكة قبل أن يقضي مناسكه فإنه يجزئ
عن الأول " قال: وهي مخصوصة بما إذا حصل الموت بعد الاحرام ودخول الحرم
لعدم ثبوت الاكتفاء بما دون ذلك. انتهى.
أقول: لا يخفى أنه لا دليل في هذه المسألة سوى الاجماع، لأن الرواية
(أولا) من قسم الموثق الذي عادته - كما عرفت - جعله في قسم الضعيف.
و (ثانيا) ما في دلالتها من عدم الوضوح في ما ادعاه، ولهذا أردفها بما ذكره
من أنها مخصوصة بما إذا حصل الموت بعد الاحرام ودخول الحرم. وهذا المعنى

(1) الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج. واللفظ هكذا: " فيموت قبل أن يحج ثم أعطى الدراهم غيره؟ فقال ".
255

إنما استفيد هنا من الاجماع، إذ لا دليل من الأخبار غير هذه الرواية، لما
عرفت من عدم دلالة صحيحتي بريد وضريس المتقدمتين.
مع أن ما تضمنته هذه الرواية من الاكتفاء بالموت في الطريق مطلقا معتضد
بجملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار:
ومنها - ما رواه في الكافي عن الحسين بن عثمان عن من ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1): " في رجل أعطى رجلا ما يحجه فحدث بالرجل
حدث؟ فقال: إن كان خرج فأصابه في بعض الطريق فقد أجزأت عن الأول
وإلا فلا ".
وما رواه في التهذيب عن ابن أبي حمزة والحسين بن يحيى عن من ذكره
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2): " في رجل أعطى رجلا مالا يحج عنه فمات؟
قال: إن مات في منزله قبل أن يخرج فلا يجزئ عنه، وإن مات في الطريق فقد
أجزأ عنه ".
والشيخ (رحمه الله) قد حمل موثقة إسحاق بن عمار ورواية الحسين بن
عثمان على من أصابه حدث بعد دخول الحرم. وهذا المعنى وإن أمكن في موثقة
إسحاق بن عمار إلا أنه بعيد في رواية الحسين المذكورة، وأبعد منه في الرواية
التي بعدها، لمقابلة الموت في الطريق الموجب للاجزاء بالموت في المنزل الموجب
لعدم الاجزاء.
ومن روايات المسألة ما رواه في التهذيب مرفوعا عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3): " في رجل حج عن آخر ومات في الطريق؟

(1) الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 15 و 35 من النيابة في الحج.
256

قال: قد وقع أجره على الله، ولكن يوصي، فإن قدر على رجل يركب في
رحله ويأكل زاده فعل ".
أقول: والذي يقرب عندي في الجمع بين هذه الأخبار هو أنه متى مات
الأجير بعد الاحرام ودخول الحرم فلا اشكال، ولو مات في الطريق قبل الاحرام
فإن أمكن استعادة الأجرة وجب الاستئجار بها ثانيا، وإلى ذلك تشير رواية
عمار المذكورة، وإن لم يمكن فإنها تجزئ عن الميت، وعليه يحمل الاجزاء بالموت
في الطريق في الأخبار المتقدمة.
وهذا الوجه الأخير وإن لم يوافق قواعد الأصحاب إلا أنه مدلول جملة
من الأخبار:
مثل ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير عن بعض
رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام (1): " في رجل أخذ من رجل مالا ولم يحج عنه ومات
ولم يخلف شيئا؟ قال: إن كان حج الأجير أخذت حجته ودفعت إلى صاحب
المال، وإن لم يكن حج كتب لصاحب المال ثواب الحج " ورواه في الفقيه (2)
مرسلا مقطوعا.
وروى في الفقيه مرسلا (3) قال: " قيل لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل
يأخذ الحجة من الرجل فيموت فلا يترك شيئا؟ فقال: أجزأت عن الميت، وإن
كان له عند الله حجة أثبتت لصاحبه ".

(1) الوسائل الباب 23 من النيابة في الحج.
(2) ج 2 ص 144، وفي الوافي باب (من يحج عن غيره فيخالف الشرط أو
اجترح شيئا أو مات) ولم ينقله في الوسائل، ولعله لظهوره في كونه من كلام
الصدوق (قدس سره).
(3) الوسائل الباب 23 من النيابة في الحج.
257

وروى في التهذيب (1) عن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: " في رجل أخذ
دراهم رجل ليحج عنه فأنفقها فلما حضر أوان الحج لم يقدر الرجل على شئ؟
قال: يحتال ويحج عن صاحبه كما ضمن. سئل: إن لم يقدر؟ قال: إن
كانت له عند الله حجة أخذها منه فجعلها للذي أخذ منه الحجة ".
وظاهر اطلاق هذه الأخبار أن الحج فيها أعم من أن يكون حج الاسلام
أو غيره، للميت مال بحيث يمكن الاستئجار عنه مرة أخرى أم لا.
ولعل الوجه فيه هو أنه لما أوصى الميت بما في ذمته من الحج انتقل الخطاب
إلى الوصي، والوصي لما نفذ الوصية واستأجر فقد قضى ما عليه وبقي الخطاب
على المستأجر، وحيث إنه لا مال له سقط الاستئجار مرة أخرى.
بقي أنه مع التفريط فإن كان له حجة عند الله (تعالى) نقلها إلى صاحب
الدراهم وإلا تفضل الله (تعالى) عليه بكرمه وكتب له ثواب الحج بما بذله من ماله
والنية تقوم مقام العمل.
ومن ما يعضد ذلك ما رواه في التهذيب - وفي الفقيه مرسلا - عن أبي عبد الله
عليه السلام (2): " في رجل أعطاه رجل مالا يحج عنه فحج عن نفسه؟ فقال: هي عن
صاحب المال ".
ورواه في الكافي عن محمد بن يحيى مرفوعا (3) قال: " سئل أبو عبد الله
عليه السلام... الحديث ".
ولعل الوجه فيه ما عرفت في الأخبار الأولة من أن من أخذ مالا ليحج به

(1) ج 5 ص 461، وفي الوسائل الباب 23 من النيابة في الحج.
(2) التهذيب ج 5 ص 461، وفي الوسائل الباب 22 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 22 من النيابة في الحج
258

عن غيره وفرط فيه، فإنه متى كانت له عند الله حجة جعلها لصاحب المال، وهذا
من جملة ذلك، فإن هذا الحج الذي حج به عن نفسه ولم يكن له مال يحج به مرة
أخرى عن المنوب عنه يكتبه الله (تعالى) لصاحب المال.
ولم أقف على من تعرض للكلام في هذه الأخبار من أصحابنا، بل ظاهرهم
ردها لمخالفتها لمقتضى قواعدهم، وهو مشكل مع كثرتها وصراحتها، فالظاهر أن الوجه فيها هو ما ذكرناه.
قال السيد السند في المدارك: ومتى مات الأجير قبل اكمال العمل المستأجر
عليه أو ما يقوم مقامه بطلت الإجارة إن كان المطلوب عمل الأجير بنفسه - كما هو
المتعارف في أجير الحج والصلاة - ورجع الحال إلى ما كان عليه، فإن كانت الحجة
عن ميت تعلق بماله وكلف بها وصيه أو الحاكم أو بعض ثقات المؤمنين،
وإن كانت عن حي عاجز تعلق الوجوب به. ولو كانت الإجارة مطلقة بأن كان
المطلوب تحصيل العمل المستأجر عليه بنفسه أو بغيره لم تبطل بالموت ووجب على
وصيه أن يستأجر من ماله من يحج عن المستأجر من موضع الموت خاصة، إلا أن
يكون بعد الاحرام فيجب من الميقات. انتهى.
أقول: وهو جيد على قواعدهم التي بنوا عليها، ولكن ظاهر الأخبار
المتقدمة - كما عرفت - يدفعه، واطراحها مع كثرتها وصراحتها - من غير معارض
ظاهر سوى هذه القواعد التي بنوا عليها - مشكل. وهذا من قبيل ما قدمنا لك
قريبا من أنهم يبنون على أصول مسلمة بينهم ويردون الأخبار في مقابلتها، والواجب
هو العمل بالأخبار وتخصيص تلك القواعد بها لو ثبتت بالنصوص.
وسيأتي قريبا - إن شاء الله تعالى - ما يؤيد ذلك في مسألة من استؤجر على
حج الافراد أو القران فعدل إلى التمتع، أو استؤجر على طريق فعدل إلى أخرى
فإن القول بصحة الفعل مع هذه المخالفة وورود الأخبار بذلك دليل على ما ذكرناه
259

من أن الواجب هو العمل بالدليل لا بتلك القواعد.
وما ذكره - من توجه الخطاب في الصورة المفروضة إلى الوصي وهو قد
نفذ الوصية أولا - يحتاج إلى دليل.
قولكم: - إن التنفيذ المبرئ للذمة مراعى باتيان الأجير بالعمل فلو لم يأت
به لم يخرج الوصي عن عهدة الخطاب -.
قلنا: هذه الأخبار قد دلت على أنه في هذه الصورة يكتب الله حجة الأجير
إن حج سابقا لصاحب المال، وإن لم يكن له حج فإن الله (عز وجل) بسعة فضله
يكتب له ثواب الحج، وحينئذ فإذا دلت الأخبار على براءة ذمة الميت الأول
- وأن ثواب الحج يكتب له وأنه قد سقط الخطاب عنه - فلماذا يجب تكليف
الوصي بالاستئجار ثانيا؟
وبالجملة فإن كلامهم مبني إما على عدم الاطلاع على هذه الأخبار أو على
طرحها، والأول عذر ظاهر لهم، والثاني مشكل لما عرفت.
وكيف كان فإن تكليف الوصي والورثة بعد تنفيذ ما أوصى به الميت يحتاج
إلى دليل، وليس فليس.
المسألة الثانية - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن النائب إذا
مات قبل الاحرام ودخول الحرم وجب أن يعاد من الأجرة ما قابل المتخلف من
الطريق ذاهبا وعائدا. وقد صرح العلامة وغيره بأن النائب إذا مات بعد
الاحرام ودخول الحرم استحق جميع الأجرة، لأنه فعل ما أبرأ ذمة المنوب عنه
فكان كما لو أكمل الحج.
قال في المدارك بعد نقل ذلك: وكلا الحكمين يحتاج إلى التقييد، أما
الثاني فلأنه إنما يتم إذا تعلق الاستئجار بالحج المبرئ للذمة، أما لو تعلق بالأفعال
المخصوصة لم يتوجه استحقاقه لجميع الأجرة وإن كان ما أتى به مبرئا للذمة، لعدم
260

الاتيان بالفعل المستأجر عليه. وأما الأول فلأنه إنما يستقيم إذا تعلق الاستئجار
بمجموع الحج مع الذهاب والاياب، وهو غير متعين، لأن الحج اسم للمناسك
المخصوصة والذهاب والعود خارجان عن حقيقته وإن كان الاتيان به متوقفا
على الذهاب، لكن يجوز الاستئجار عليهما وعلى أحدهما لأنهما عملان محللان
مقصودان. انتهى.
أقول: لا ريب أن المسألة هنا عارية عن النصوص والأصحاب إنما بنوا
الكلام فيها على قواعد الإجارة، فلهذا استدرك عليهم السيد اطلاقهم في
المسألتين المذكورتين بما ذكره، وقبله جده في المسالك. وهو حق بناء على
القواعد المذكورة. إلا أنك قد عرفت في ما تقدم أنه ربما خرجت أحكام لبعض
المسائل على خلاف ما تقتضيه تلك القواعد التي يبنون عليها. ولهذا قلنا إن
الواجب في كل جزئي جزئي من الأحكام النظر إلى الدليل الدال عليه فإن وجد
وإلا فالتوقف، والأمر هنا كذلك.
إلا أن ما ذكره (قدس سره) من المناقشة الظاهر أنه يمكن خدشه:
أما المناقشة الأولى (1) فإن ما ذكره وإن كان متجها بالنسبة إلى قواعد
الإجارة إلا أنهم إنما عولوا في هذا الحكم على الاجماع والاتفاق، وقد عرفت أن
أصل المسألة لا دليل عليه من الأخبار وليس إلا الاجماع. وحينئذ فيكون هذا
الحكم مستثنى من تلك القواعد بالاجماع المذكور.
قال جده (قدس سره) في المسالك - بعد أن ذكر أن الطريق لا مدخل لها
في الاستئجار للحج - ما صورته: وإن كان قد أحرم ودخل الحرم فمقتضى
الأصل أن لا يستحق إلا بالنسبة، لكن وردت النصوص باجزاء الحج عن المنوب

(1) وهو الاشكال على الاطلاق في الحكم الثاني.
261

وبراءة ذمة الأجير، واتفق الأصحاب على استحقاقه جميع الأجرة. فهذا الحكم
ثبت على خلاف الأصل، فلا مجال للطعن فيه بعد الاتفاق عليه. انتهى.
واما المناقشة الثانية (1) ففيها أولا - ان كلامه مبني على عدم مدخلية
الطريق في الحج مطلقا، وقد عرفت من ما حققناه سابقا والأخبار التي أوردنا ثمة
خلاف ذلك.
واما ثانيا - فإن الظاهر أن الاستئجار على الحج من الآفاق يلاحظ فيه
الطريق سواء ادخلها في الإجارة أم لا، لأنه من الظاهر البين لكل ذي عقل
وروية انه لا يستأجر رجل من خراسان بأجرة الحج من الميقات ويتكلف الزاد
والراحلة وجميع أسباب الطريق من ماله في هذه المسافة، هذا لا يكون ابدا.
ومجرد كونه يصح الاستئجار من الميقات لا يمكن اعتباره هنا. وبالجملة فالأحكام
إنما تبنى على الافراد المتكررة المتكثرة لا الفروض النادرة.
والأصحاب إنما فرضوا المسألة كما ذكروه بناء على ما ذكرناه، إلا أنه
ينقدح عليهم الاشكال من وجه آخر، وهو انهم قد صرحوا بان الواجب في
الاستئجار عن من مات مشغول الذمة بالحج إنما هو من الميقات، والحكم الشرعي
فيه إنما هو ذلك لما عرفت من كلامهم. وحينئذ لا يتجه هذا الكلام في الطريق
إلا أن يكون الاستئجار وقع عليها مضافة إلى الحج، وكلامهم أعم من ذلك.
قال في المدارك بعد الكلام المتقدم: وكيف كان فمتى أتى الأجير ببعض
ما استؤجر عليه استحق من الأجرة بتلك النسبة إلى المجموع، وعلى هذا فإن
تعلق الاستئجار بالحج خاصة لم يستحق الأجير مع موته قبل الاحرام شيئا من
الأجرة، لخروجه عن العمل المستأجر عليه وإن كان من مقدماته، لأن الأجرة إنما

(1) وهو الاشكال على الاطلاق في الحكم الأول.
262

توزع على اجزاء العمل المستأجر عليه لا على ما يتوقف عليه من الأفعال الخارجة
عنه. ولو مات بعد الاحرام استحق بنسبة ما فعل إلى الجملة. ولو تعلق
الاستئجار بقطع المسافة ذاهبا وعائدا والحج وزعت الأجرة على الجميع واستحق
الأجير مع الاتيان بالبعض بنسبة ما عمل. ولو استؤجر على قطع المسافة ذاهبا
والحج وزعت الأجرة عليهما خاصة. وذلك كله واضح موافق للقواعد المقررة.
انتهى. وهو ملخص من ما ذكره جده (قدس سره) في المسالك.
وفيه انه لا ريب أن مقتضى قواعد الإجارة ذلك، إلا أن الكلام هنا إنما
هو في ما ادعوه من عدم مدخلية الطريق في الحج، بناء على ما ذكروه من أن الحج
إنما هو عبارة عن المناسك المخصوصة... إلى آخر ما عرفت من كلامهم، فإن
النصوص التي قدمناها تدل على مدخليتها، فالاستئجار وان وقع على الحج
خاصة إلا أن الطريق ملحوظة ومراعاة في الإجارة، ولهذا ان الأجير لا يقبل
الإجارة إلا إذا بذل له من الأجرة ما يقوم بمؤنة طريقه ذاهبا وعائدا، وعلى
هذا جرت الناس من زمن الأئمة (عليهم السلام) إلى يومنا هذا، وحينئذ فلابد
ان يوزع للطريق بنسبة ما مضى منها مطلقا.
ومن ما يعضد ما ذكرناه هنا رواية عمار المتقدم نقلها (1) من التهذيب
في الرجل الذي حج عن آخر ومات في الطريق، حيث قال عليه السلام: " فإن قدر على
رجل يركب في رحله ويأكل زاده فعل " فإن ظاهر الخبر - كما ترى - ان
الاستئجار وقع على الحج من البلد مع أنهم يقولون إن الواجب إنما هو من الميقات
وان ما مضى من مؤنة الطريق كان مستحقا للميت، فلم يأمر باستعادته منه بناء
على ما يقولونه من أنه لا يستحق على الطريق أجرة، والحديث مطلق شامل

(1) ص 256.
263

باطلاقه لما لو كان الاستئجار واقعا على الحج مع الطريق أو الحج خاصة
ثم إن كلامهم هنا مبني على أن الطريق مقدمة للحج والمقدمة خارجة عن
ذي المقدمة، وان الأجرة إنما توزع على اجزاء العمل المستأجر عليه دون
مقدماته التي يتوقف عليها.
وللمناقشة فيه مجال، فلم لا يجوز - باعتبار التوقف عليها وانه لا يمكن
الاتيان بالفعل إلا بها - ان يجعل لها قسط من الأجرة؟ فنفيه يحتاج إلى دليل،
ومقتضى الاستئجار على عمل من الأعمال أن تكون الأجرة في مقابلة ما يأتي به
المكلف من الأمور والأفعال التي بها يحصل ذلك الشئ المستأجر عليه - دخلت في
حقيقة ذلك اللفظ أو لم تدخل - إذا كان لا يمكن إلا بها.
ومن ما يعضد ذلك دخول الطريق ذهابا وايابا في الاستطاعة وانه لا يجب
عليه الحج حتى يكون له ما يقوم بمؤنته ذهابا وايابا زيادة على افعال الحج، وإن كان
الواجب عليه إنما هو الحج الذي هو عبارة عن المناسك المخصوصة، إلا أنه
لما كان هذا الفعل لا يمكن الوصول إليه إلا بقطع هذه المسافة اعتبر ذلك في
الاستطاعة وجعل لها جزء من المال بإزائها، فمجرد كونها مقدمة لا يمنع من أن
يجعل لها جزء من الأجرة بحيث إنه مع الموت يوزع عليها وعلى الحج. والله العالم.
تنبيه
قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو صد الأجير استعيد من
الأجرة ما قابل المتخلف ذاهبا وآئبا، وربما ظهر من بعض العبارات كعبارة
الشرائع انه لو كان الصد بعد الاحرام ودخول الحرم فإن الأجير يستحق جميع
الأجرة كما في الموت، إلا أن السيد السند في المدارك وقبله جده في المسالك
صرحا بعدم قائل بذلك.
264

قال في المدارك - بعد ان صرح بتوزيع الأجرة على ما أتى به من العمل
المستأجر عليه وما بقي - ما صورته: ولا فرق بين ان يقع الصد قبل الاحرام
ودخول الحرم أو بعدهما أو بينهما وان أشعرت العبارة بخلاف ذلك، لأن عدم
الاستعادة مع الموت - لو وقع بعد الاحرام ودخول الحرم - إنما ثبت بدليل
من خارج فلا وجه لالحاق غيره به.
وأطلق المحقق في النافع انه مع الصد قبل الا كمال يستعاد من الأجرة
بنسبة المتخلف.
وكيف كان فالظاهر أن الاستعادة إنما تثبت إذا كانت الإجارة لسنة معينة
بان تكون مقيدة بتلك السنة، اما المطلقة فإنها لا تنفسخ بالصد ويجب على الأجير
الاتيان بالحج بعد ذلك.
قال في التذكرة: إن كانت الإجارة في الذمة وجب على الأجير الاتيان بها
مرة ثانية، ولم يكن للمستأجر فسخ الإجارة، وكانت الأجرة بكمالها للأجير. وان
كانت معينة فله ان يرجع عليه بالمتخلف. ونسب اطلاق الرجوع بالمتخلف إلى
الشيخين، يعني من غير تفصيل بين الإجارة المعينة والمطلقة، فيرجع عليه مطلقا.
المسألة الثانية - مقتضى القواعد المقررة عندهم في باب الإجارة انه متى
استؤجر على عمل معين، أو شرط عليه في ذلك العمل شرط غير مخالف للكتاب
والسنة، فإنه يجب عليه الاتيان بذلك الفعل المعين ولا يجوز له التجاوز إلى غيره
والاتيان بذلك الشرط، وإلا للزم بطلان الإجارة في الموضعين.
وقد وقع الخلاف في هذه المسألة في باب الإجارة للحج في موضعين:
أحدهما - في جواز العدول إلى التمتع لمن شرط عليه الافراد أو القران، فهل
يجوز له العدول في الصورة المذكورة، ويصح حجه، ويستحق الأجرة أم لا؟
وينبغي ان يعلم أولا انه لا ريب أن أنواع الحج ثلاثة: تمتع وقران وافراد
265

ومقتضى قواعد الإجارة انه يعتبر في صحة الإجارة على الحج تعيين النوع الذي
يريده المستأجر، لاختلاف الأنواع المذكورة في الكيفية والاحكام، وان الأجير
متى عين له نوع من هذه الأنواع فلا يكون الآتي بغيره آتيا بما استؤجر عليه.
وينبغي ان يعلم أيضا ان جواز العدول على القول به إنما يكون في الموضع
الذي يكون المستأجر مخيرا بين الأنواع الثلاثة، كالمتطوع، وذي المنزلين المتساويين
في الإقامة، وناذر الحج مطلقا، لأن التمتع لا يجزئ مع تعين الافراد فضلا عن
أن يكون أفضل منه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الشيخ (رضوان الله عليه) في جملة من كتبه قد
صرح بأنه لو استأجره للتمتع فقرن أو افرد لم يجزئ عنه، ولو استأجره للافراد
فتمتع أجزأه. وفي المبسوط: ولو استأجره للقران فتمتع أجزأه.
وقال ابن إدريس: هكذا رواية أصحابنا وفتياهم، وتحقيق ذلك أن من
كان فرضه التمتع فحج عنه قارنا أو مفردا فإنه لا يجزئه، ومن كان فرضه القران
أو الافراد فحج عنه متمتعا فإنه لا يجزئه، إلا أن يكون المستنيب قد حج حجة
الاسلام، فحينئذ يصح اطلاق القول والعمل بالرواية. ويدل على هذا التحرير
قولهم: " لأنه يعدل إلى الأفضل " فلو لم يكن المستنيب قد حج حجة الاسلام
بحسب حاله وفرضه وتكليفه لما كان التمتع أفضل. إلى آخره. وهو يرجع إلى
ما ذكرناه أولا، لكنه خص موضع جواز العدول بصورة الاستحباب، وقد
عرفت انه يجزئ في الواجب على أحد الوجهين المتقدمين.
وظاهر صاحب المدارك هنا تضعيف هذا القول واختيار القول بعدم جواز
العدول، قال: لأن الإجارة إنما تعلقت بذلك المعين فلا يكون الآتي بغيره
آتيا بما استؤجر عليه، سواء كان أفضل من ما استؤجر عليه أم لا، قال: ويؤيده
ما رواه الشيخ (قدس سره) في الحسن عن الحسن بن محبوب عن علي - والظاهر
266

انه ابن رئاب (1) - في رجل أعطى رجلا دراهم يحج بها عنه حجة مفردة؟
قال: ليس له ان يتمتع بالعمرة إلى الحج، لا يخالف صاحب الدراهم " ثم نقل رواية
أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) (2): " في رجل أعطى رجلا دراهم يحج
عنه حجة مفردة، أيجوز له ان يتمتع بالعمرة إلى الحج؟ قال: نعم إنما خالف إلى
الفضل " قال: وهي ضعيفة السند باشتراك الراوي بين الثقة والضعيف، وبمضمونها
أفتى الشيخ وجماعة. انتهى.
أقول: والعجب منه (قدس سره) مع تصلبه في هذا الاصطلاح المحدث
زيادة على غيره من أرباب هذا الاصطلاح - كما لا يخفى على من راجع كلامه وعرف
طريقته في الكتاب - كيف يغض النظر ويبني على المجازفة متى احتاج إلى
الرواية الضعيفة.
ولا يخفى على المتأمل بعين الانصاف ان رواية أبي بصير في هذه المسألة
أقوى وأثبت من رواية علي بن رئاب:
اما أولا - فلان في طريق رواية علي الهيثم بن أبي مسروق النهدي، والمنقول
عن النجاشي في وصفه انه قريب الامر. وعن الكشي عن حمدويه أنه قال:
لأبي مسروق ابن يقال له الهيثم، سمعت أصحابي يذكرونهما، كلاهما فاضلان. وهو
قد طعن في مواضع من شرحه في رواية النهدي المذكور، وكتب في حواشيه
على الخلاصة ما صورته: هذا مدح لا يعتد به حتى يدخله في الحسن.
واما ثانيا - فلان الرواية مقطوعة غير مسندة إلى إمام. مع ما في علي

(1) الوسائل الباب 12 من النيابة في الحج.
(2) التهذيب ج 5 ص 415 و 416، والكافي ج 4 ص 307، وفي
الوسائل الباب 12 من النيابة في الحج.
267

المروي عنه هذا الحكم من تعدد الاحتمال وان استظهر كونه ابن رئاب إلا أنه
غير متعين ولا متيقن، فكيف يعتمدها ويعدها في الحسن مع ما علم من تصلبه
في هذا الاصطلاح؟ ما هذه إلا مجازفة ظاهرة.
واما ثالثا - فإن رواية علي هذه لم يروها إلا الشيخ في التهذيب، ورواية
أبي بصير قد رواها المشايخ الثلاثة بأسانيدهم الصحيحة إلى أبي بصير، وفي رواية
الصدوق: " إنما خالفه إلى الفضل والخير " وهو في احدى روايتي الشيخ أيضا.
ولا يخفى أن تكررها في الأصول من أقوى المرجحات لها. على أن عد حديث
أبي بصير ب‍ " يحيى بن القاسم " في الضعيف - كما هو المشهور بينهم - محل بحث ليس
هذا محله، والمستفاد من تتبع الأخبار جلالة الرجل المذكور عند الأئمة (عليهم
السلام) ولهذا ان الفاضل الخراساني يعد حديثه في الصحيح حيثما ذكره.
وبالجملة فإن الظاهر هو العمل برواية أبي بصير، وحمل خبر علي - على ما ذكره
الشيخ بعد طعنه فيه أولا بالقطع - على ما إذا كان المعطى من سكان الحرم. وجوز
في الإستبصار حمله على التخيير أيضا. ويرده قوله عليه السلام: " ليس له " ومقتضى
التعليل في الرواية المذكورة وقوله: " إنما خالفه إلى الفضل " اختصاص الحكم بما
إذا كان المستأجر مخيرا بين الأنواع، كما قدمنا ذكره.
قال في المدارك: ومتى جاز العدول استحق الأجير تمام الأجرة، ومع
عدمه يقع الفعل عن المنوب عنه ولا يستحق الأجير شيئا. وقد صرح بذلك
جماعة: منهم - المصنف في المعتبر فقال: والذي يناسب مذهبنا ان المستأجر
إذا لم يعلم منه التخيير وعلم منه إرادة التعيين يكون الأجير متبرعا بفعل ذلك النوع
ويكون للمنوب عنه بنية النائب ولا يستحق اجرا، كما لو عمل في ماله عملا
بغير اذنه. اما في الحال التي يعلم أن قصد المستأجر تحصيل الاجر لا حجا معينا
فإنه يستحق الاجر، لأنه معلوم من قصده فكان كالمنطوق. انتهى.
268

أقول: الاستدلال بكلام المحقق في المعتبر على ما ذكره لا يخلو من نظر،
لأن الظاهر من صدر العبارة ان استحقاق الأجرة وعدمه يدور مدار جواز
العدول وعدمه، فعلى تقدير القول بالجواز - كما هو أحد القولين في المسألة -
يستحق الأجير الأجرة كلا، وعلى تقدير القول الثاني وهو عدم الجواز - بناء
على العمل برواية على وطرح رواية أبي بصير - فإنه لا يستحق شيئا لعدم الاتيان بما
استؤجر عليه. والظاهر من كلام المحقق في المعتبر هو حمل رواية أبي بصير على
ما إذا علم أن قصد المستأجر إنما هو تحصيل الاجر لا حجا معينا وتخصيص
اطلاقها بهذا الفرد. وهذا امر آخر غير محل الخلاف في المسألة الذي بنى عليه
استحقاق الأجرة وعدمه. نعم ظاهر كلامه انه في صورة ما إذا علم من حال
المستأجر التعيين وعدم التخيير، فإن هذه الصورة تكون ملحقة بالقول بعدم جواز
العدول في التبرع بالحج الذي أوقعه وعدم استحقاقه الأجرة.
وكيف كان فما ذكره في المعتبر من تخصيص الرواية المذكورة بالصورة
التي ذكرها محل نظر بل الظاهر منها الاطلاق، بل هي بالدلالة على الفرد الذي
ذكره أولا أشبه، فإنه لا يخفى أن الظاهر من تعيين حج الافراد للنائب كما
تضمنته الرواية هو إرادة التعيين لذلك الفرد وعدم التخيير، مع أنه عليه السلام حكم
بالاجزاء وعلله بأنه إنما خالفه إلى ما فيه الفضل وزيادة الثواب له.
والحمل على المعنى الثاني - وهو تخصيص الاجزاء بصورة ما إذا علم أن قصد
المستأجر تحصيل الاجر لا حجا معينا - لا دليل عليه ولا إشارة إليه في الرواية
المذكورة. والظاهر أن الحامل لهم على حمل الرواية على ما ذكروه هو تطبيقها
على قواعد الإجارة. وقد عرفت ما فيه. والظاهر هو العمل بالخبر على اطلاقه.
والله العالم.
وثانيهما - ما لو شرط عليه الحج على طريق مخصوص، فهل يجوز له المخالفة
أم لا؟ أقوال: أحدها - جواز العدول مطلقا، وهو المنقول عن الشيخ والمفيد
269

في المقنعة، وهو ظاهر الصدوق في من لا يحضره الفقيه، والعلامة في الارشاد
وثانيها - انه لا يجوز له العدول مع تعلق الغرض بتلك الطريق المعينة. وهو
اختيار المحقق في الشرائع، بل الظاهر أنه المشهور بين المتأخرين. وثالثها - انه
لا يجوز العدول إلا مع العلم بانتفاء الغرض.
قال في المدارك بعد نقل القول الأول عن الشيخ في جملة من كتبه والمفيد
في المقنعة: والأصح ما ذهب إليه المصنف من عدم جواز العدول مع تعلق
الغرض بذلك الطريق المعين، بل الأظهر عدم جواز العدول إلا مع العلم بانتفاء
الغرض في ذلك الطريق وانه هو وغيره سواء عند المستأجر، ومع ذلك فالأولى
وجوب الوفاء بالشرط مطلقا.
استدل الشيخ على ما ذهب إليه بما رواه في الصحيح عن حريز بن عبد الله (1)
قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أعطى رجلا حجة يحج عنه من الكوفة
فحج عنه من البصرة؟ قال: لا بأس إذا قضى جميع المناسك فقد تم حجه ".
وروى الصدوق هذه الرواية في الصحيح عن الحسن بن محبوب عن علي
ابن رئاب عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام (2)... الحديث وفيه: " لا بأس إذا
قضى جميع مناسكه فقد تم حجه ".
والرواية - كما ترى - صحيحة ظاهرة بل صريحة في ما ادعاه، ولا معارض
لها في الباب إلا مخالفة قواعد الإجارة، فلهذا اضطربوا في الجواب عنها.
قال في المدارك بعد نقلها دليلا للشيخ: وهي لا تدل صريحا على جواز
المخالفة، لاحتمال أن يكون قوله: " من الكوفة " صفة ل‍ " رجل " لا صلة

(1) الوسائل الباب 11 من النيابة في الحج. وليست في النسخ جملة
" فقد تم حجه ".
(2) الفقيه ج 2 ص 261، وفي الوسائل الباب 11 من النيابة في الحج.
270

ل‍ " يحج ". ولا يخفى ما فيه من التعسف والبعد الذي لا يخفى على المنصف.
وقال في الذخيرة: والرواية غير مصرحة بالدلالة على مدعاه، لجواز
أن يكون قوله: " من الكوفة " متعلقا بقوله: " أعطى " لا بقوله:
" يحج عنه ". وهو أشد تعسفا وبعدا. وبذلك اعترف قائله فقال على اثر
كلامه المذكور: لكن الأظهر تعلقه به. ثم نقل احتمال صاحب المدارك
واعترف بأنه بعيد.
وقال المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بعد نقله: ثم إن الحديث
محمول على عدم تعلق غرض المعطي بخصوص الطريق وان التعيين وقع عن مجرد
اتفاق. وهو راجع إلى ما ذكره المحقق من ما تقدم نقله عنه. ثم زاد احتمالا
آخر وهو كون المدفوع إليه على وجه الرزق لا الإجارة.
أقول: حمل الرواية على الوجه الأول الذي ذكره في المنتقى غير بعيد،
وبه تنطبق على قواعد الإجارة والعمل بها على ظاهرها كما هو ظاهر المشايخ
المتقدم ذكرهم. واستثناء هذا الحكم من قواعد الإجارة أيضا ممكن لا بعد فيه
وقال في المدارك: وقد قطع المصنف وغيره بصحة الحج مع المخالفة
وان تعلق الغرض بالطريق المعين، لأنه بعض العمل المستأجر عليه وقد امتثل بفعله.
ويشكل بان المستأجر عليه الحج المخصوص وهو الواقع عقيب قطع المسافة المعينة
ولم يحصل الاتيان به. نعم لو تعلق الاستئجار بمجموع الامرين من
غير ارتباط لأحدهما بالآخر اتجه ما ذكروه. انتهى.
المسألة الثالثة - قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه
إذا استؤجر لحجة لم يجز له ان يؤجر نفسه لأخرى حتى يأتي بالأولى.
وفصل آخرون بأنه إذا استؤجر الأجير للحج عن غيره فاما ان يعين له
السنة أم لا، فمع التعيين لا يصح له ان يؤجر نفسه للحج عن آخر في تلك
271

السنة قطعا، لاستحقاق الأول منافعه في تلك السنة لأجل الحج فلا يجوز صرفها
إلى غيره. ويجوز ان يستأجر لسنة أخرى غيرها، لعدم المنافاة بين الاجارتين
لكن يعتبر في صحة الإجارة الثانية إذا تعلقت بسنة متأخرة عن السنة الأولى
كون الحج غير واجب فوري أو تعذر التعجيل.
والذي وقفت عليه من ما يدل على ذلك ما رواه ثقة الاسلام في الكافي
والصدوق في الفقيه في الصحيح عن محمد بن إسماعيل (1) قال: " أمرت رجلا يسال
أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يأخذ من رجل حجة فلا تكفيه، أله ان يأخذ
من رجل أخرى ويتسع بها وتجزئ عنهما جميعا، أو يتركهما جميعا ان لم تكفه
إحداهما؟ فذكر أنه قال: أحب إلي أن تكون خالصة لواحد فإن كانت
لا تكفيه فلا يأخذها ".
وإن كانت الإجارة الأولى مطلقة فقد اطلق جمع: منهم - الشيخ (قدس
سره) المنع من استئجاره ثانيا، بل الظاهر أنه هو المشهور بناء على القول باقتضاء
الاطلاق التعجيل.
قال في المدارك: وإن كانت الإجارة الأولى مطلقة فقد اطلق الشيخ المنع
من استئجاره ثانيا، واحتمل المصنف الجواز إن كان الاستئجار لسنة غير الأولى.
وهو حسن، بل يحتمل قويا جواز الاستئجار للسنة الأولى إذا كانت الإجارة
الأولى موسعة، اما مع تنصيص المؤجر على ذلك أو على القول بعدم اقتضاء
الاطلاق التعجيل. ونقل عن شيخنا الشهيد (قدس سره) في بعض تحقيقاته انه

(1) الكافي ج 4 ص 309، والفقيه ج 2 ص 271 و 272، وفي الوسائل
الباب 19 من النيابة في الحج. والمصدران يختلفان في اللفظ بعض الاختلاف
وفي الكافي " أو يشركهما " بدل " أو يتركهما ".
272

حكم باقتضاء الاطلاق في كل الإجارات التعجيل، فتجب المبادرة بالعمل بحسب
الامكان. ومستنده غير واضح. نعم لو كان المستأجر عليه حج الاسلام أو صرح
المستأجر بإرادة الفورية ووقعت الإجارة على هذا الوجه اتجه ما ذكره. انتهى.
أقول: نسبة اطلاق المنع إلى الشيخ وحده مع أن ظاهر الأصحاب ذلك
لا يخلو من نظر.
قال العلامة في المنتهى - بعد ان نقل عن الشيخ انه إذا أخذ الأجير حجة
عن غيره لم يكن له ان يأخذ حجة أخرى حتى يقضي التي اخذها - ما هذا لفظه:
ونحن نقول: ان استأجره الأول لسنة معينة لم يكن له ان يؤجر نفسه لغيره
تلك السنة بعينها، وان استأجره الأول مطلقا، فإن استأجره الثاني للسنة الأولى ففي
صحة الإجارة نظر أقربه عدم الجواز، لأنه وإن كانت الإجارة الأولى غير معينة
بزمان لكن يجب اتيانها في السنة الأولى، فلا يجوز حينئذ صرف العمل فيها إلى
غيره، وان استأجره للثانية أو مطلقا جاز. انتهى. وهو ظاهر في اختياره
اقتضاء الاطلاق التعجيل.
وقال في الارشاد في هذا البحث: والاطلاق يقتضي التعجيل. وفي
الشرائع في هذا المقام أيضا: فإن اطلق الإجارة اقتضى التعجيل ما لم يشترط
الأجل. وعلى هذا النحو عبارات جملة منهم، واليه يشير قول المحقق هنا:
" إن كان الاستئجار لسنة غير الأولى " فإنه مثل عبارة المنتهى المذكورة.
والعجب من السيد السند انه استحسن ذلك مع أن آخر كلامه ينادي بأنه
يتم ذلك في حجة الاسلام من حيث اشتراط الفورية فيها أو صرح المستأجر
بإرادة الفورية وإلا فلا.
وأنت خبير بان ما بنوا عليه المسألة هنا من اقتضاء الاطلاق للتعجيل غير
واضح المستند.
273

وقد احتج المحقق الأردبيلي في شرح الارشاد على صحة هذه الدعوى
بان الحج فوري، وان مطلق الإجارة يقتضي اتصال زمان مدة يستأجر له بزمان
العقد، وهذا يقتضي عدم التأخير عن العام الأول. ثم قال: ولعله لا خلاف
فيه، انتهى.
ولا يخفى عليك ان دليله الأول مدخول بمنع فورية الحج بجميع افراده
إذ المندوب والمنذور مطلقا لا فورية فيهما. ومع تسليم ذلك فإن الاستئجار هنا
عن حج الاسلام، والأخبار الدالة على الفورية إنما دلت بالنسبة إلى من وجب عليه
الحج - فإنه تجب عليه المبادرة به ولا يجوز له التأخير - لا بالنسبة إلى نائبه، وفوريتها
على الأول لا تستلزم الفورية على الثاني كمالا يخفى. ودليله الثاني مجرد مصادرة
على المطلوب. ودعوى ذلك في مطلق الإجارة لم يقم عليه برهان كما ذكره السيد
السند (قدس سره) وقد رد بذلك القول المنقول عن الشهيد، ومثله جده في
المسالك. وحينئذ فلم يبق إلا ما يشير إليه آخر كلامه من دعوى الاجماع، والاعتماد
عليه في أمثال هذه المقامات لا يخلو عن مجازفة.
وقال الشهيد في الدروس: ولو اطلق اقتضى التعجيل، فلو خالف الأجير
فلا أجرة له، ولو أهمل لعذر فلكل منهما الفسخ في المطلقة في وجه قوي،
ولو كان لا لعذر تخير المستأجر خاصة.
وظاهر هذا الكلام لا يخلو من تدافع، لأن ظاهر صدر الكلام انه على
تقدير اقتضاء الاطلاق التعجيل، فلو أخر الأجير عن السنة الأولى إلى الثانية
اختيارا ثم حج في الثانية، فإنه وان صح حجه وأجزأ عن المنوب - كما صرح به
الأصحاب - واثم بالتأخير فإنه لا يستحق أجرة، مع أن آخر كلامه - باعتبار حكمه
بان الأجير المطلق لو أهمل لغير عذر تخير المستأجر بين الفسخ والامضاء - دال على أنه يستحق الأجرة في الصورة المذكورة، حيث إن المستأجر رضى بالتأخير ولم يفسخ
274

وبالجملة فإن الظاهر تفريعا على القول المذكور هو صحة حج الأجير
واجزائه عن المنوب واستحقاقه الأجرة وان اثم بالتأخير، كما ذكره شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك، وجنح إليه سبطه السيد السند في المدارك.
ولو أنعكس الفرض بان قدم الحج عن السنة المعينة فاشكال ينشأ، من أنه
زاد خيرا ولم يخالف إلا إلى الفضل كما تقدم في رواية أبي بصير (1) ومن مخالفة
الشرط وامكان تعلق الغرض بالتأخير، فإن مراتب الاغراض لا تنحصر. وقرب
في التذكرة الاجزاء مطلقا. وظاهر المسالك والمدارك اختيار الصحة مع العلم
بانتفاء الغرض في التعيين. والمسألة محل توقف لعدم النص.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو استأجره اثنان لايقاع الحج في عام واحد
صح السابق منهما دون الآخر، لاستحقاق الأول منافعه في تلك السنة للحج كما
قدمنا بيانه. وان لم يتحقق سابق بان اقترنا في عقد واحد واشتبه السابق بطلا
معا، لامتناع وقوعها عنهما، لأن الحجة الواحدة لا تكون عن اثنين، ولا
عن أحدهما لامتناع الترجيح من غير مرجح. هذا في الحج الواجب.
اما المندوب فقد دلت الأخبار على أنه يجوز الاشتراك فيه، وإذا جاز ذلك
جازت الاستنابة فيه على هذا الوجه. كذا ذكره جمع من الأصحاب. والأظهر
تخصيص جواز الاستنابة في المستحب على وجه التشريك بما إذا أريد ايقاع
الفعل عنهما معا ليشتركا في ثوابه، اما لو أريد من النيابة فعل الحج عن كل واحد
منهما فهو كالحج الواجب، كما نبه عليه في المسالك.
ومن الأخبار الدالة على جواز التشريك في الحج المستحب صحيحة معاوية
ابن عمار أو حسنته عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال: " قلت له: اشرك أبوي في حجتي؟

(1) ص 267
(2) الوسائل الباب 28 من النيابة في الحج.
275

قال: نعم. قلت: اشرك اخوتي في حجتي؟ قال: نعم ان الله (عز وجل) جاعل
لك حجا ولهم حجا، ولك اجر لصلتك إياهم ".
وعن هشام بن الحكم باسنادين. أحدهما - صحيح أو حسن عن أبي عبد الله عليه السلام (1): " في الرجل يشرك أباه واخاه وقرابته في حجة؟ فقال:
إذا يكتب لك حج مثل حجهم وتزداد اجرا بما وصلت ".
وفي صحيحة محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن عليه السلام (2): " كم اشرك في
حجتي؟ قال: كم شئت ".
وفي رواية محمد بن الحسن عن أبي الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " لو
أشركت ألفا في حجتك لكان لكل واحد حجة من غير أن تنقص حجتك شيئا "
إلى غير ذلك من الأخبار.
وقد يتفق ذلك في الواجب أيضا، كما إذا نذر جماعة الاستنابة بالاشتراك
في حج يستنيبوا فيه كذلك. والله العالم.
فائدة
روى الصدوق (عطر الله تعالى مرقده) في الفقيه في الصحيح عن البزنطي
عن أبي الحسن عليه السلام (4) قال: " سألته عن رجل اخذ حجة من رجل فقطع عليه
الطريق، فأعطاه رجل حجة أخرى، أيجوز له ذلك؟ فقال: جائز له ذلك محسوب
للأول والآخر، وما كان يسعه غير الذي فعل إذا وجد من يعطيه الحجة ".
قال المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بعد ذكر الخبر: قلت: هذا
الخبر لا يلائم مضمونه ما هو المعروف بين الأصحاب في طريق اخراج الحجة، وهو

(1) الوسائل الباب 28 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 28 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 28 من النيابة في الحج.
(4) الوسائل الباب 19 من النيابة في الحج.
276

دفعها إلى من يحج على وجه الاستئجار، وإنما يناسب القول بان الدفع يكون
على سبيل الرزق، وليس بمعروف عندنا وإنما يحكى عن بعض العامة (1)
واخبارنا خالية من بيان كيفية الدفع رأسا على حسب ما وصل الينا منها وبلغه
تتبعنا. والظاهر أنه لا مانع من الدفع على وجه الرزق، وإنما الكلام في صحة
وقوعه بطريق الإجارة، لما يتراءى من منافرته للاخلاص في العمل باعتبار لزوم
القيام به في مقابلة العوض وكونه مستحقا به، كما هو مقتضى عقد المعاوضة،
بخلاف الرزق فإنه بذل أو تمليك مراعى بحصول العمل، والعامل فيه لا يخرج
عن التخيير بين القيام به فيسقط عنه الحق للزوم وفاء الدافع بالشرط وبين تركه
فيرد المدفوع أو عوضه. ولعل الاجماع منعقد بين الأصحاب على قضية الإجارة
فلا يلتفت إلى ما ينافيه. وإذا كان الدفع على غير وجه الإجارة سائغا أمكن
تنزيل هذا الحديث عليه مع زيادة كون الحجتين تطوعا. وإنما جاز اخذ الثانية
والحال هذه لفوات التمكن من الأولى وعدم تعلق الحج بالذمة على وجه يمنع من
غيره كما يفرض في صورة الاستئجار. ومعنى كونه محسوبا لهما حصول الثواب
لكل منهما بما بذل ونوى. ويستفاد من هذا انه لا يكلف برد شئ على
الأول. والوجه فيه ظاهر، فإن ما يدفع على سبيل الرزق غير مضمون على الآخذ
إلا مع تعدي شرط الدافع ولم يحصل في الفرض الذي ذكر. وينبغي ان يعلم أنه
ليس المراد بقطع الطريق في الحديث منعه من الحج وإنما المراد اخذ قطاع
الطريق ما معه بحيث تعذر عليه الوصول إلى الحج. انتهى.
أقول: لما كان هذا الخبر بحسب ظاهره يدل على جواز نيابة واحد
عن شخصين في عام واحد - وقد عرفت في صدر المسألة امتناعه للصحيحة المتقدمة

(1) المغني ج 3 ص 207.
277

المؤيدة بقواعد الإجارة المتفق عليها نصا وفتوى - فلا مندوحة عن سلوك جادة
التأويل فيه، وهو حمل الحجتين على الاستحباب، وان احدى الحجتين لا على
وجه الإجارة سواء كانت الأولى أو الثانية، فإن هذا المعطي لا على وجه الإجارة
يكتب له ثواب الحج بنيته واعانته.
واحتمل بعض مشايخنا في الخبر وجوها اخر: منها - ان المعطي الأول إنما أعطاه
مالا ليحج به نفسه لا عن المعطي، ولما ذهب ذلك من يده جاز له ان يستأجر.
وفيه بعد. ومنها - انه على تقدير وجوب الحج على المعطيين كليهما وفرض
استنابتهما إياه فينبغي حمل الاستئجار الثاني على الحج في سنة أخرى بعدها، وان
الغرض من الاستئجار الثاني التوصل إلى قطع الطريق بالمال الثاني ليحج عنهما في
سنتين. والظاهر أيضا بعده، لأن ظاهر الخبر ان تلك الحجة الأولى مجزئة عنهما معا
المسألة الرابعة - قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو كان عند
أحد وديعة لشخص ومات صاحب الوديعة وعليه حجة الاسلام، وعلم أن الورثة
لا يؤدون، جاز ان يقتطع أجرة الحج فيستأجر به من يحج عنه، لأنه خارج
عن ملك الورثة.
والسند في ذلك ما رواه الصدوق والشيخ (طاب ثراهما) في الصحيح عن
بريد العجلي عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " سألته عن رجل استودعني مالا
فهلك وليس لولده شئ ولم يحج حجة الاسلام؟ قال: حج عنه وما فضل فاعطهم "
واطلاق الرواية المذكورة يقتضي عدم الفرق بين أن يكون المستودع عالما
بعدم أداء الورثة أم لا، متمكنا من الحاكم أيضا أم لا.

(1) الوسائل الباب 13 من النيابة في الحج. ورواه في الكافي ج 4
ص 306 في الصحيح أيضا.
278

وقد صرح جملة من الأصحاب: منهم - المحقق والعلامة وغيرهما بتقييد
جواز الاخراج بعلم المستودع أن الورثة لا يؤدون وإلا وجب استئذانهم،
نظرا إلى تخيير الورثة في جهات القضاء، لأن مقدار أجرة الحج وإن كان خارجا
عن ملك الوارث إلا أنه مخير في جهات القضاء، وله الحج بنفسه والاستقلال
بالتركة، والاستئجار بدون أجرة المثل، فيقتصر في منعه من التركة على
موضع الوفاق. وأنت خبير بأنه ليس تخصيص الخبر بهذه الأمور المتفق عليها
بينهم أولى من تخصيصها به.
واعتبر في التذكرة مع ذلك أمن الضرر فلو خاف على نفسه أو ماله لم يجز
له ذلك. وهو ظاهر، فإن الضرورات تبيح المحظورات.
واعتبر أيضا عدم التمكن من الحاكم واثبات الحق عنده وإلا وجب
الاستئذان. وهو تقييد للنص بغير دليل.
وحكى الشهيد في اللمعة قولا باعتبار إذن الحاكم مطلقا واستبعده. وعلل
الشارح وجه البعد باطلاق النص الوارد بذلك وافضائه إلى مخالفته حيث يتعذر.
ووجهه أن الأمر في الرواية وإن كان إنما وقع لبريد بذلك إلا أن خصوصية
السائل غير ملحوظة في الأحكام، فكأنه عليه السلام قال: " فليحج عنه من بيده
الوديعة " وحينئذ فيكون الخبر مطلقا شاملا لكل من بيده وديعة على الوجه
المذكور، تمكن من استئذان الحاكم أم لا. مع ما يلزم زيادة على ذلك من أنه
لو لم يمكنه اثبات الحق عند الحاكم لزم سقوطه بناء على هذا الشرط والرواية دالة
على وجوب الاخراج.
وأما ما أورده السيد السند في المدارك على جده هنا - حيث نقل عن
جده في تعليل البعد الذي ذكره في اللمعة أنه قال: وجه البعد اطلاق النص
الوارد بذلك. ثم رده بأنه غير جيد، فإن الرواية إنما تضمنت أمر الصادق
279

عليه السلام لبريد بالحج عن من له عنده الوديعة، وهو إذن وزيادة -
ففيه أن الظاهر من الخبر المذكور بل وسائر الأخبار الواردة في الأحكام
إنما هو إفادة قانون كلي وحكم عام، وهو هنا بيان حكم حج الودعي مطلقا
- بريد أو غيره - بالقيود التي تضمنها الخبر، ولو خصت الجوابات الخارجة
عنهم (عليهم السلام) بأشخاص السائلين لم يمكن أن يستنبط من أخبارهم حكم
عام إلا نادرا.
وبذلك يظهر كون النص مطلقا - ويكون المراد منه أن كل من بيده وديعة
لغيره وعلم بالحج في ذمته فإنه يحج عنه - لا خاصا بناء على ما توهمه من خصوصية
أمر الصادق عليه السلام لبريد هنا، فإنها غير ملحوظة ولا مرادة، لما عرفت.
ثم قال في المدارك بعد الكلام السابق، ولا ريب أن استئذان الحاكم
مع إمكانه أولى.
أقول: لا ريب في الأولوية بناء على ما ذكره، وأما على ما ذكرناه
- من اطلاق الخبر وأن محصل معناه ما أشرنا إليه - فلا أعرف لهذه الأولوية وجها،
أمكن اثبات الحق عنده أو لم يمكن، بل العمل بالخبر على اطلاقه هو الوجه،
لصحته وصراحته وعدم ما ينافيه.
ثم إنه لا يخفى أن مورد الخبر الوديعة وألحق بها غيرها من الحقوق المالية
حتى الغصب والدين، بمعنى أنه لو كان له دين عند شخص أو مال مغصوب
عند شخص فإنه يجيب عليهما اخراج الحج على الوجه الوارد في الخبر.
وقوى في المدارك اعتبار استئذان الحاكم في الدين فإنه لا يتعين إلا بقبض
المالك أو ما في معناه. وهو محل توقف.
ومقتضى الخبر أن المستودع يحج، والأصحاب قد ذكروا أنه يستأجر،
قال في المدارك - بعد أن اعترف بأن مقتضى الرواية أن المستودع يحج - ما لفظه:
280

لكن جواز الاستئجار ربما كان أولى، خصوصا إذا كان الأجير أنسب بذلك
من الودعي.
وهل الأمر له بالحج - كما في الخبر - رخصة أو للوجوب؟ ظاهر شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك الثاني، حيث صرح بأن اخراج الحج واجب على المستودع
لظاهر الأمر، فلو دفعه إلى الوارث اختيارا ضمن أن لم يتفق منه الأداء. قال
في المدارك: وهو حسن.
أقول: الأحوط الوقوف على ظاهر الخبر، لكن يجب تقييده بما إذا كان
صاحب الوديعة له أهلية النيابة.
وهل يتعدى الحكم إلى غير حجة الاسلام من الدين والخمس والزكاة؟
قيل: نعم، لاشتراك الجميع في المعنى المجوز. وقيل: لا، قصرا للرواية المخالفة
للأصل على موردها.
قال في المدارك بعد نقل القولين المذكورين: والجواز بشرط العلم بامتناع
الوارث من الأداء في الجميع حسن إن شاء الله تعالى.
والمسألة عندي محل توقف. ولعل مبني كلام الأصحاب - في الالحاق بالوديعة
كما تقدم، والالحاق بالحج هنا - هو أن ذلك من باب تنقيح المناط القطعي، لعدم
ظهور خصوصية للوديعة دون غيرها من الدين والمال المغصوب، وعدم ظهور
خصوصية للحج دون الدين والخمس ونحوهما. إلا أن فيه أن عدم ظهور
الخصوصية لا يدل على العدم، إذ يجوز أن يكون للحج خصوصية في ذلك ليست
لغيره، كما تقدم نظيره في تزاحم دين الحج مع غيره من الديون.
ويمكن أن يرجح ما ذهب إليه الأصحاب بما رواه الشيخ في التهذيب عن
محمد بن عيسى بن عبيد عن سليمان بن حفص المروزي (1): " أنه كتب إلى

(1) الوسائل الباب 20 من كتاب الرهن.
281

أبي الحسن عليه السلام في رجل مات وله ورثة، فجاء رجل فادعى عليه مالا وأن عنده
رهنا؟ فكتب عليه السلام: إن كان له على الميت مال ولا بينة له عليه فليأخذ ماله من ما في
يده وليرد الباقي على ورثته، ومتى أقر بما عنده أخذ به وطولب بالبينة على
دعواه وأوفى حقه بعد اليمين، ومتى لم تقم البينة والورثة ينكرون فله عليهم
يمين علم: يحلفون بالله ما يعلمون أن له على ميتهم حقا " ورواه الصدوق أيضا عن
محمد بن عيسى (1).
والتقريب فيه أنه جعل حكم الرهن كالوديعة والدين كالحج في وجوب
تقديمه على حق الورثة، أما بشرط عدم إمكان اثبات الحق عند الحاكم الشرعي
وللمحقق الشيخ حسن (قدس سره) كلام في المنتقى في هذه الرواية
لا بأس بايراده:
قال (قدس سره): ولبعض متأخري الأصحاب في تحقيق معنى هذا
الحديث كلام لا أراه سديدا، لابتنائه على توهم مخالفته للأصول من حيث قبول
دعوى المقر بالوديعة أن في ذمة الميت حجة الاسلام، وهو مقتض لتضييع المال على
الوارث بغير بينة، ومآله إلى نفوذ اقرار المقر في حق غيره ممن ليس له عليه
سبيل، ومخالفته للأصل المعروف في باب الاقرار واضحة. والتحقيق أنه ليس
الحال هنا على ما يتوهم، فإن الاقرار الذي لا يسمع في حق غير المقر والدعوى التي
لا تقبل بغير البينة إنما يتصوران إذا كان متعلقهما المال المحكوم بملكه لغير المقر والمدعي
شرعا ولو باقرار آخر سابق عليهما منفصل بحسب القوانين العربية عنهما، وأما مع انتفاء ذلك كله - كما في موضع البحث - فإن الاقرار بالوديعة إذا وقع متصلا بذكر
اشتغال ذمة الميت المستودع بالحج أو غيره لم يكن اقرارا للوارث مطلقا، بل هو

(1) الوسائل الباب 20 من كتاب الرهن
282

في الحقيقة اعتراف بمال مستحق للاخراج في الوجه الذي يذكره من حج أو غيره
إما بأجمعه وذلك على تقدير مساواته للحق، أو بعض منه بتقدير الفضلة عنه أو على
تقدير التخيير بينه وبين غيره إذا كان للميت مال آخر، إلى غير ذلك من الأحكام
المقررة في مواضعها. وكيف يعقل أن يكون مثل هذا اقرارا للوارث مع كون
الكلام المتصل جملة واحدة لا يتم معناه ولا يتحصل الغرض منه إلا باستيفائه على
ما هو محقق في محله. وخلاصة الأمر أن المتجه في نحو هذا الفرض أن يكون
المقر به هو ما يتحصل من مجموع هذا الكلام لا ما يقع في ابتدائه بحيث يجعل
أوله اقرارا وآخره دعوى. وتمام تنقيح هذا المقام بمباحث الاقرار أليق. إذا
تقرر ذلك فاعلم أن المستفاد من الحديث بعد ملاحظة هذا التحقيق وجوب اخراج
الحجة من الوديعة حيث لا مال سواها بحسب فرض السائل وكون ما يفضل عنها
للوارث. وأمره عليه السلام بالحج إذن له في تعاطيه بنفسه لا في استنابة غيره، فلا بد
في غير صورة السؤال والجواب من استئذان من له الولاية العامة في مثله إذا
لم يكن الودعي ممن له ذلك. وكذا القول في ما لو تضمن الاقرار نوعا آخر
من الحق، فإن القدر الذي يحكم به حينئذ إنما هو تقديم الحق على الوارث، وأما
طريق تنفيذه فيرجع فيه إلى القواعد. ولا يقاس على أمره عليه السلام في الخبر للسائل
بالحج فإنه مختص بتلك الصورة الخاصة فلا يتعداها. انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو جيد نفيس، إلا أن قوله في آخر الكلام: " وأمره عليه السلام بالحج إذن له
في تعاطيه بنفسه لا في استنابة غيره، فلا بد في غير صورة السؤال والجواب من
استئذان من له الولاية العامة في مثله " فإن فيه من الاجمال وسعة دائرة الاحتمال
ما ربما أوجب الاختلال، وذلك أنه ليس في المسألة - كما عرفت - إلا هذا الخبر
خاصة، وحينئذ فقوله: " إن أمره عليه السلام بالحج إذن له في تعاطيه بنفسه لا في
استنابة غيره " أما أن يحمل على خصوصية السائل ويكون قوله: " فلا بد في غير
283

صورة السؤال والجواب من استئذان الحاكم " محمولا على ما عدا السائل المخصوص
ممن يكون مثله في هذه المسألة. وفيه أولا - ما عرفت آنفا في الكلام على صاحب
المدارك حيث ادعى الخصوص وعدم الاطلاق في الخبر. وثانيا - أنه متى خص
الخبر بذلك السائل فمورد الخبر مقصور عليه، فقوله -: " لا بد في غير صورة
السؤال والجواب من استئذان الحاكم " - لا وجه له لعدم دخوله تحت الخبر
وليس سواه. وإن أراد بكلامه الأول ما قدمنا بيانه وشددنا أركانه - من أن
المراد من الخبر بيان قاعدة كلية لكل من كانت عنده وديعة لغيره مع الشروط
المذكورة لا خصوصية السائل - فهو صحيح لكن قوله: " فلا بد في غير صورة
السؤال والجواب... إلى آخره " لا معنى له ظاهرا إلا أن يحمل على غير الحج من
الدين والخمس والزكاة مثلا، بأن يكون حكمها حكم الحج في التقديم على الوارث
لكن لا بد من استئذان الحاكم. وفيه أنه قد صرح بذلك بعد هذا الكلام
بقوله: " وكذا القول في ما لو تضمن الاقرار نوعا آخر... إلى آخره "
وحينئذ فلا يمكن حمل الكلام المذكور عليه. وبالجملة فإن ظاهر الكلام المذكور
لا يخلو من القصور، ولعله لقصور ذهني الكليل وفتور فهمي العليل. والله العالم
المسألة الخامسة - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما إذا أفسد
الأجير حجه المستأجر عليه، فقال في المبسوط والخلاف: إذا أحرم الأجير بالحج عن
المستأجر ثم أفسد حجه انقلب عن المستأجر إليه وصار محرما بحجة عن نفسه
فاسدة فعليه قضاؤها عن نفسه، والحج باق عليه للمستأجر يلزمه أن يحج عنه
في ما بعد إن كانت الحجة في الذمة ولم يكن له فسخ هذه الإجارة، وإن كانت
معينة انفسخت الإجارة وكان على المستأجر أن يستأجر من ينوب عنه. وهو
اختيار ابن إدريس والعلامة في جملة من كتبه. وهو صريح في وجوب حج ثالث
عن المنوب عنه في الإجارة المطلقة واستحقاقه الأجرة، وأما المعينة فإنه تنفسخ
284

الإجارة وتسترد الأجرة.
واستدل العلامة في المنتهى بأن من أتى بالحج الفاسد فقد أوقع الحج على
غير وجهه المأذون فيه، لأنه إنما أذن له في حج صحيح فأتى بفاسد فيقع عن
الفاعل، كما لو أذن له في شراء عين بصفة فاشتراها بغير تلك الصفة فإن الشراء
يقع له دون الآمر، وإذا ثبت أنه ينقلب إليه فنقول: إنه قد أفسد حجا وقع منه
فلزمه قضاؤه عن نفسه وكان عليه الحج عن المستأجر بعد حجة القضاء، لأنها تجب
على الفور. انتهى. وضعفه أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
واختار المحقق في المعتبر والعلامة في المختلف اجزاء القضاء عن المستأجر،
لأنها قضاء عن الحجة الفاسدة، والقضاء كما يجزئ الحاج عن نفسه فكذا عن من
حج عن غيره. ولأن اتمام الفاسدة إذا كان عقوبة تكون الثانية هي الفرض
فلا مقتضى لوجوب حج آخر.
وقال في الدروس: ولو جامع قبل الوقوف أعاد الحج وأجزأ عنهما، سواء
كانت الإجارة معينة أو مطلقة على الأقوى. وهو ظاهر في موافقة هذا القول
وهو الأقوى.
ويدل عليه من الأخبار ما رواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار
عن أبي عبد الله عليه السلام (1): " في رجل حج عن رجل فاجترح في حجه شيئا يلزمه
فيه الحج من قابل أو كفارة؟ قال: هي للأول تامة وعلى هذا ما اجترح ".
وعن إسحاق بن عمار (2) في خبر تقدم صدره (3): " قال: قلت: فإن ابتلى
بشئ يفسد عليه حجه حتى يصير عليه الحج من قابل، أيجزئ عن الأول؟ قال:

(1) التهذيب ج 5 ص 461، وفي الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج
(3) ص 255
285

نعم. قلت: لأن الأجير ضامن للحج؟ قال: نعم ".
وظاهر الخبرين المذكورين أن الحجة الأولى مجزئة عن المنوب عنه، وبموجب
ذلك يكون الأجير مستحقا للأجرة على هذا القول سواء كانت الإجارة مطلقة
أو معينة، وقد عرفت على القول الأول استحقاقه الأجرة متى كانت الإجارة
مطلقة، لوجوب الاتيان بالحج عليه، وأما مع التعيين فتنفسخ الإجارة فلا
يستحق أجرة.
وبما ذكرناه يتضح ما في بناء المحقق ومن تبعه استعادة الأجرة وعدمها
على القولين في من حج عن نفسه وأفسد حجه، من أنه هل تكون الأولى هي
الفرض وتسميتها فاسدة مجاز والثانية عقوبة أو بالعكس؟ فإن قلنا: إن الأولى فرضه
والثانية عقوبة - كما اختاره الشيخ ودلت عليه حسنة زرارة (1) التي هي مستند
تلك المسألة - فقد برئت ذمة المستأجر باتمامه واستحق الأجير الأجرة، وإن قلنا
الأولى فاسدة والاتمام عقوبة والثانية فرضه كان الجميع لازما للنائب، وتستعاد منه
الأجرة إن كانت الأجرة متعلقة بزمان معين، وذلك فإنه متى كانت حسنة زرارة
الواردة في من حج عن نفسه دلت على أن الفريضة هي الأولى، وروايتا إسحاق
ابن عمار المختصتان بالنائب دلتا على أن الفرض هي الأولى كما قدمنا ذكره، فإن
الواجب هو القول بذلك وعدم الالتفات إلى القول الآخر، لخلوه من الدليل فلا
يصلح لأن يفرع عليه بل ولا يلتفت إليه. ومن ذهب إلى كون الفرض هي الثانية
في من حج عن نفسه إنما بنى على الطعن في حسنة زرارة من حيث الاضمار.
وهو مع قطع النظر عن ضعفه وعدم الاضرار بصحة الرواية أو حسنها لا يجري
في النائب، لدلالة الروايتين المتقدمتين الواردتين في خصوص النائب على أن
الأولى هي الفرض.

(1) الوسائل الباب 3 من كفارات الاستمتاع
286

وبالجملة فإن الظاهر هو صحة الحج - مطلقا كان الاستئجار أو مقيدا بالسنة
الأولى - وأنه قد قضى ما عليه بالحجة الأولى واستحق الأجرة. وما أطالوا به
من الاحتمالات والمناقشات والتفريعات كله تطويل بغير طائل، فإن ما ذكرناه
هو مدلول الأخبار التي هي المعتمد في الإيراد والاصدار. والله العالم.
المسألة السادسة - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في أنه لو تبرع انسان بالحج عن غيره بعد موته فإنه يكون مجزئا عنه وتبرأ ذمته
به. وظاهرهم أنه لا فرق في ذلك بين أن يخلف الميت ما يحج به عنه أم لا، ولا
في المتبرع بين أن يكون وليا أو غيره.
ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن
عبد الله بن مسكان عن عمار بن عمير (1) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
بلغني عنك أنك قلت: لو أن رجلا مات ولم يحج حجة الاسلام فحج عنه
بعض أهله أجزأ ذلك عنه؟ فقال: نعم أشهد بها على أبي أنه حدثني أن رسول الله
صلى الله عليه وآله أتاه رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن أبي مات ولم يحج؟ فقال له
رسول الله صلى الله عليه وآله: حج عنه فإن ذلك يجزئ عنه ".
وما رواه في الكافي في الموثق عن حكم بن حكيم (2) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: انسان هلك ولم يحج ولم يوص بالحج، فأحج عنه بعض أهله
رجلا أو امرأة، هل يجزئ ذلك ويكون قضاء عنه، أو يكون الحج لمن حج

(1) الوسائل الباب 31 من وجوب الحج وشرائطه. ورواه في الكافي
ج 4 ص 277 في الصحيح عن ابن مسكان عن عامر بن عميرة.
(2) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه. والظاهر أن الحديث
من الصحيح، لأن الكليني يرويه عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار
عن صفوان عن حكم، وكلهم ثقات صحيحو المذهب.
287

ويؤجر من أحج عنه؟ فقال: إن كان الحاج غير صرورة أجزأ عنهما جميعا
وأجزأ الذي أحجه " قال في الوافي ذيل هذا الخبر: وأما إذا كان صرورة فإنما أجزأ عنه
إلى أن أيسر كما في أخبار أخر
أقول: والأقرب أن لفظ: " غير " هنا وقع مقحما سهوا من بعض
الرواة، لتكاثر الروايات بالأمر بحج الصرورة الذي لا مال له.
وما رواه في الكافي مرفوعا وفي الفقيه مضمرا عن أبي عبد الله عليه السلام (1)
قال: " سئل عن رجل مات وله ابن لم يدر أحج أبوه أم لا؟ قال: يحج عنه
فإن كان أبوه قد حج كتب لأبيه نافلة وللابن فريضة، وإن كان أبوه لم يحج
كتب لأبيه فريضة وللابن نافلة ".
أقول: لما كان من يحج عن غيره لله (عز وجل) يتفضل الله عليه بثواب
مثل حجه الذي ناب فيه عن غيره، فهذا الذي قد حج عن أبيه في هذا الخبر
إن كان أبوه لم يحج حجة الاسلام كانت هذه الحجة سادة مسدها ويكتب له
ثواب حجة مستحبة، وإلا كتب له ثواب الفريضة ووقعت عن الأب نافلة.
واستدل على ذلك أيضا بصحيحة رفاعة (2) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل يموت ولم يحج حجة الاسلام ولم يوص بها، أتقضى عنه؟ قال:
نعم " ومثلها رواية أخرى له أيضا (3) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الرجل والمرأة يموتان ولم يحجا، أيقضى عنهما حجة الاسلام؟ قال: نعم ".
والظاهر عندي منهما إنما هو القضاء من ماله، كما ورد في جملة من الأخبار

(1) الوسائل الباب 31 من النيابة في الحج. والظاهر أن يقول: " مرسلا "
بدل " مضمرا " ولعله من تحريف النساخ.
(2) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه.
(3) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه.
288

إن من مات وفي ذمته حجة الاسلام ولم يوص بها فإنها تخرج من أصل ماله (1) وإن
لم يكن ما ذكرناه هو الأقرب فلا أقل من أن يكون مساويا لاحتمال تبرع الأجنبي
عنه، فلا يمكن الاستدلال لما ذكرناه من الاحتمال.
وربما ظهر من تخصيص الاجزاء بالتبرع عن الميت عدم اجزاء التبرع عن
الحي. وهو كذلك متى كان متمكنا من الاتيان بالحج، أما مع العجز عنه
المسوغ للاستنابة - كما تقدم - فاشكال ينشأ، من أنه كالميت، لأن الذمة تبرأ
بالعوض فكذا بدونه، ولأن الواجب الحج عنه وقد حصل فيمكن الاجزاء،
ومن أن براءة ذمة المكلف بفعل الغير تتوقف على الدليل وهو منتف هنا
فيرجح العدم.
هذا كله في الحج الواجب، وأما في الحج المندوب فيجوز التبرع عن الحي
والميت اجماعا نصا (2) وفتوى.
ومن الأخبار في ذلك صحيحة حماد بن عثمان (3) قال: " قال أبو عبد الله
عليه السلام: إن الصلاة والصوم والصدقة والحج والعمرة وكل عمل صالح ينفع الميت
حتى أن الميت ليكون في ضيق فيوسع عليه ويقال: هذا بعمل ابنك فلان أو بعمل
أخيك فلان. أخوه في الدين ".
وموثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه السلام (4) قال: " سألته عن

(1) الوسائل الباب 28 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 28 من الاحتضار، والباب 12 من قضاء الصلوات،
والباب 25 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 12 من قضاء الصلوات.
(4) الوسائل الباب 25 من النيابة في الحج.
289

الرجل يحج فيجعل حجته وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله وهو عنه غائب ببلد
آخر، قال: قلت: فينقص ذلك من أجره؟ قال: لا هي له ولصاحبه، وله أجر
سوى ذلك بما وصل. قلت: وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟ قال: نعم حتى يكون
مسخوطا عليه فيغفر له أو يكون مضيقا عليه فيوسع عليه. قلت: فيعلم هو في
مكانه أن عمل ذلك لحقه؟ قال: نعم. قلت: وإن كان ناصبا ينفعه ذلك؟
قال: نعم يخفف عنه ".
وصحيحة موسى بن القاسم البجلي (1) قال: " قلت لأبي جعفر الثاني
عليه السلام: يا سيدي إني أرجو أن أصوم بالمدينة شهر رمضان؟ قال: تصوم بها إن
شاء الله. قلت: وأرجو أن يكون خروجنا في عشر من شوال، وقد عود الله
زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته وزيارتك، فربما حججت عن أبيك، وربما
حججت عن أبي، وربما حججت عن الرجل من إخواني، وربما حججت عن
نفسي، فكيف أصنع؟ فقال: تمتع. فقلت: إني مقيم بمكة منذ عشر سنين؟
فقال: تمتع ".
ورواية صفوان الجمال (2) قال: " دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فدخل
عليه الحارث بن المغيرة، فقال: بأبي أنت وأمي لي ابنة قيمة لي على كل شئ وهي
عاتق فاجعل لها حجتي؟ فقال: أما أنه يكون لها أجرها ويكون لك مثل ذلك ولا
ينقص من أجرها شئ " أقول: العاتق: البكر الشابة تكون في بيت أبيها.
وروى في الفقيه مرسلا (3) قال: " قال رجل للصادق عليه السلام: جعلت فداك

(1) الكافي ج 4 ص 314، وفي الوسائل الباب 25 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 25 من النيابة في الحج.
(3) الوسائل الباب 29 من النيابة في الحج.
290

إني كنت نويت أن أدخل في حجتي العام أمي أو بعض أهلي فنسيت؟ فقال
عليه السلام: الآن فأشركهما ".
وحسنة الحارث بن المغيرة (1) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام وأنا
بالمدينة بعد ما رجعت من مكة: إني أردت أن أحج عن ابنتي؟ قال: فاجعل
ذلك لها الآن ".
وقد ورد أيضا في جملة من الأخبار النيابة في الطواف عن الميت وعن الحي
ما لم يكن حاضر مكة إلا مع العذر كالاغماء والبطن ونحوهما.
فمن الأخبار الدالة على جواز النيابة فيه رواية داود الرقي (2) قال:
" دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) ولي على رجل مال قد خفت تواه
فشكوت ذلك إليه، فقال لي إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب طوافا وصل
ركعتين عنه، وطف عن أبي طالب طوافا وصل عنه ركعتين، وطف عن عبد الله
طوافا وصل عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافا وصل عنها ركعتين، وطف عن
فاطمة بنت أسد طوافا وصل عنها ركعتين، ثم ادع الله أن يرد عليك مالك. قال:
ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفا فإذا غريمي واقف يقول: يا داود حبستني
تعال فاقبض مالك ".
وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) في
حديث قال فيه: " فأطوف عن الرجل والمرأة وهم بالكوفة؟ فقال: نعم تقول

(1) الوسائل الباب 29 من النيابة في الحج.
(2) الكافي ج 4 ص 544، والفقيه ج 2 ص 307، وفي الوسائل الباب 51
من الطواف.
(3) الوسائل الباب 18 من النيابة في الحج.
291

حين تفتتح الطواف: اللهم تقبل من فلان، الذي تطوف عنه ".
ورواية أبي بصير (1) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): من وصل
أباه أو ذا قرابة له فطاف عنه كان له أجره كاملا، وللذي طاف عنه مثل أجره
ويفضل هو بصلته إياه بطواف آخر ".
وأما ما يدل على عدم النيابة مع الحضور فهو ما رواه في التهذيب عن
عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن من حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)
قال: " قلت له: الرجل يطوف عن الرجل وهما مقيمان بمكة؟ قال: لا ولكن
يطوف عن الرجل وهو غائب عن مكة. قلت: وكم مقدار الغيبة؟ قال:
عشرة أميال ".
وغاية ما استدل به في المدارك على هذا الحكم - حيث صرح به المصنف في
المتن - هو أنها عبادة تتعلق بالبدن فلا تصح النيابة فيه مع التمكن. وفيه ما لا يخفى
والظاهر أنه لم يقف على الخبر المذكور.
وأما جواز النيابة مع الحضور والعذر فتدل عليه أخبار عديدة:
منها - صحيحة حبيب الخثعمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال:
" أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يطاف عن المبطون والكسير ".
وتمام تحقيق المسألة يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
المسألة السابعة - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن الأجير

(1) الوسائل الباب 18 من النيابة في الحج، والباب 51 من الطواف.
(2) الوسائل الباب 18 من النيابة في الحج. والراوي عبد الرحمان بن أبي نجران.
(3) الوسائل الباب 49 من الطواف.
292

يستحق الأجرة بالعقد ويملكها، لأن ذلك مقتضى صحة المعاوضة، فلو كانت عينا
فزادت بعد العقد أو نمت فهما للأجير، إلا أنه لا يجب تسليمها إلا بعد العمل كما
هو المقرر في باب الإجارة، وعلى هذا فليس للوصي التسليم قبله ولو سلم كان
ضامنا، إلا مع الإذن من الموصي المستفاد من نصه على ذلك، أو اطراد العادة لأن
ما جرت به العادة يكون كالمنطوق به. ولو توقف عمل الأجير واتيانه بالفعل
على دفع الأجرة إليه ولم يدفعها الوصي فقد استقرب الشهيد في الدروس جواز
فسخه، للضرر اللازم من اشتغال الذمة بما استؤجر عليه مع عدم تمكنه منه.
ويحتمل عدمه فينتظر وقت الامكان، لأن التسلط على فسخ العقد اللازم يتوقف
على الدليل، ومثل هذا الضرر لم يثبت كونه مسوغا. نعم لو علم عدم التمكن
مطلقا تعين القول بجواز الفسخ.
أقول: ما ذكروه - من أنه ليس للوصي التسليم قبل العمل ولو سلم كان
ضامنا - لا يخلو عندي هنا من اشكال وإن كان هذا من جملة القواعد المسلمة بينهم
في باب الإجارة مطلقا، وذلك فإنه قد تقدم في المسألة الأولى (1) من مسائل
هذا المقصد نقل جملة من الأخبار الدالة على أن من أخذ حجة عن ميت فمات
ولم يحج ولم يخلف شيئا، أو لم يمت ولكن أنفقها وحضر أوان الحج ولم
يمكنه الحج أنه إن كان له حج عند الله أثبته الله للميت وإلا كتب للميت بفضله
وكرمه (عز وجل) ثواب الحج. وهذا لا يجامع الحكم بضمان الوصي
بتسليم الأجرة.
ويعضد ذلك أيضا ما رواه في الكافي في الموثق عن عمار بن موسى
الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " سألته عن الرجل يأخذ

(1) ص 257
(2) الوسائل الباب 10 من النيابة في الحج.
293

الدراهم ليحج بها عن رجل، هل يجوز له أن ينفق منها في غير الحج؟ قال: إذا
ضمن الحجة فالدراهم له يصنع بها ما أحب وعليه حجة ".
وظاهر هذا الخبر أنه متى استقرت الحجة في ذمته بطريق الإجارة وكان
ضامنا لها بسبب ذلك استحق الأجرة وجاز تسليمها إليه وصارت ملكه كسائر
أمواله من غير أن يتعقب ذلك ضمان على الوصي، ويصير الأجير مطلوبا بالحج خاصة
فإن حج فقد برئت ذمته، وإلا فالحكم فيه ما جرى في الأخبار المشار إليها.
وبالجملة فإن الرجوع على الوصي بعد ما عرفت لا يخلو من نظر. إلا أن يقال:
إن عدم الرجوع هنا إنما هو بما ذكروه من حيث جريان العادة بدفع الأجرة أولا
وهو في حكم المنطوق. وفيه بعد، فإن ظاهر الأخبار المشار إليها أن هذا حكم كلي
في المسألة، جرت العادة بما ذكر أو لم تجر.
وكيف كان فقد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) هنا أنه يستحب
للأجير رد فاضل الأجرة بعد الحج، وللمستأجر إعانته إن نقصت الأجرة عن
الوفاء بالحج.
وعلل الحكم الأول في المعتبر بأنه مع الإعادة يكون قصده بالنيابة القربة
لا العوض.
قال في المدارك: وكأن مراده أنه مع قصد الإعادة ابتداء يكون قصده
بالنيابة القربة لا العوض. وهو حسن.
أقول: لا يخفى أن ما تأول به عبارة المعتبر بعيد عن ظاهرها وكذا ظاهر
غيرها، والظاهر أن مرادهم أن إعادة الزائد بعد الفراغ من الحج يكون كاشفا
عن أن قصده بالإجارة والنيابة القربة لا العوض. واثبات الاستحباب الذي هو
حكم شرعي بمثل هذه التخرصات والتخريجات مشكل.
نعم قال شيخنا المفيد في المقنعة - بعد أن حكم بأن الرجل إذا أخذ حجة
294

ففضل منها شئ فهو له وإن عجزت فعليه - ما لفظه: وقد جاءت رواية بأنه إن
فضل من ما أخذه فإنه يرده إن كان نفقته واسعة وإن كان قتر على نفسه لم يرده.
وعلى الأول العمل. انتهى. وهذه الرواية على تقدير صحتها أخص من المدعى.
وعلل الحكم الثاني بما في ذلك من المساعدة للمؤمن والرفق به والتعاون
على البر والتقوى. ولا بأس به.
وقد وردت الأخبار بأن ما فضل من الأجرة فهو للأجير، وظاهرها أن
ذلك غير مؤثر في صحة الحج وقصد القربة به وإن قصد العوض. وفيه رد لما عللوا
به الحكم الأول.
فروى الشيخ في الصحيح عن مسمع (1) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): أعطيت الرجل دراهم يحج بها عني ففضل منها شئ فلم يرده على؟
فقال: هو له لعله ضيق على نفسه في النفقة لحاجته إلى النفقة ".
وروى ثقة الاسلام في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن محمد بن
عبد الله القمي (2) قال: " سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الرجل
يعطى الحجة يحج بها ويوسع على نفسه فيفضل منها، أيردها عليه؟ قال: لا هي له ".
ثم إنه لو خالف ما استؤجر عليه فظاهر الأكثر أنه لا أجرة له، لأنه متبرع
بما أتى به. وقيل إن له أجرة المثل، حكاه العلامة في المنتهى عن الشيخ، قال في
المدارك: وهو بعيد جدا، قال: بل الظاهر أنه (رحمه الله) لا يقول بثبوتها
في جميع الموارد، فإن من استؤجر على الحج فاعتمر وعلى الاعتمار فحج لا يعقل
استحقاقه بما فعل أجرة لأنه متبرع محض، وإنما يتخيل ثبوتها مع المخالفة في
وصف من أوصاف العمل الذي تعلقت به الإجارة، كما إذا استؤجر على الحج

(1) الوسائل الباب 10 من النيابة في الحج.
(2) الوسائل الباب 10 من النيابة في الحج.
295

ماشيا فركب، أو على الاحرام من ميقات معين فأحرم من غيره. مع أن المتجه مع
صحة الفعل استحقاقه من الأجرة بنسبة ما عمل إلى المسمى لا أجرة المثل... إلى أن قال: والأجود ما أطلقه المصنف من سقوط الأجرة مع المخالفة. انتهى.
وهو جيد، إلا أنه ينبغي أن يستثنى من ذلك ما تقدم من الخلاف في
مسألتي الطريق والنوع، كما قدمنا بيانه في المسألة الثانية من مسائل هذا المقصد.
والله العالم.
المسألة الثامنة - لو أوصى أن يحج عنه سنين متعددة وأوصى لكل سنة
منها بمال معين - أما مفصلا كمائة درهم أو مجملا كغلة بستان - فقصر ذلك عن أجرة
الحج، فظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه يجمع ما زاد على سنة بما تكمل
به الأجرة التي يحج بها ثم يحج عنه لسنة، وهكذا.
واستدلوا عليه بأن القدر المعين قد انتقل بالوصية عن ملك الورثة ووجب
صرفه في ما عينه الموصى بقدر الامكان، ولا طريق إلى اخراجه إلا بهذا
الوجه فيتعين.
أقول: والأظهر هو الاستدلال بالنصوص، فإن الاعتماد على مثل هذه
التخريجات سيما مع وجود النص مجازفة ظاهرة، وإن كانت هذه طريقتهم زعما منهم
أن هذا دليل عقلي وهو مقدم على النقلي. وفيه ما حققناه في غير موضع من
مؤلفاتنا ولا سيما في مقدمات الكتاب.
واستدل في المدارك على ذلك بما رواه الكليني (رضوان الله عليه) عن
إبراهيم بن مهزيار (1) قال: " كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام): إن مولاك
علي بن مهزيار أوصى أن يحج عنه من ضيعة صير ربعها لك في كل سنة حجة

(1) الكافي ج 4 ص 310، وفي الوسائل الباب 3 من النيابة في الحج.
296

بعشرين دينارا، وأنه منذ انقطع طريق البصرة تضاعفت المؤن على الناس فليس
يكتفون بعشرين دينارا. وكذلك أوصى عدة من مواليك في حجهم؟ فكتب
عليه السلام: تجعل ثلاث حجج حجتين إن شاء الله تعالى ".
وعن إبراهيم (1) قال: " كتب إليه علي بن محمد الحضيني: إن ابن عمي
أوصى أن يحج عنه بخمسة عشر دينارا في كل سنة فليس يكفي، فما تأمر في ذلك؟
فكتب عليه السلام: تجعل حجتين حجة، إن الله (تعالى) عالم بذلك ".
ثم قال: وفي الروايتين ضعف من حيث السند. أما الوجه الأول فلا
بأس به، وإن أمكن المناقشة فيه بأن انتقال القدر المعين بالوصية إنما يتحقق مع
إمكان صرفه فيها، ولهذا وقع الخلاف في أنه إذا قصر المال الموصى به عن
الحج هل يصرف في وجوه البر أو يعود ميراثا؟ فيمكن اجراء مثل ذلك هنا
لتعذر صرف القدر الموصى به في الوصية. والمسألة محل تردد، وإن كان المصير
إلى ما ذكره الأصحاب لا يخلو من قوة. انتهى.
أقول: فيه أولا - إن الروايتين وإن كانتا ضعيفتين إلا أن الحكم اتفاقي
بين الأصحاب كما صرح به في صدر كلامه، حيث قال: وهذا الحكم مقطوع
به في كلام الأصحاب. وهو في غير موضع من شرحه قد وافقهم على جبر الخبر
الضعيف بالاتفاق على العمل بمضمونه.
وثانيا - إن الخبرين وإن كانا ضعيفين بناء على نقله لهما من الكافي إلا أنهما
في من لا يحضره الفقيه (2) صحيحان، فإنه رواهما فيه عن إبراهيم بن مهزيار،
وطريقه إليه في المشيخة (3): أبوه عن الحميري عنه. وهو في أعلى مراتب الصحة.
وثالثا - إن ما ذكره - من أنه يمكن المناقشة في الوجه الأول بأن انتقال

(1) الكافي ج 4 ص 310، وفي الوسائل الباب 3 من النيابة في الحج.
(2) ج 2 ص 272.
(3) ص 44 ملحق الجزء الرابع
297

القدر المعين بالوصية إنما يتحقق مع إمكان صرفه فيها - وهم محض نشأ من عدم
اعطاء التأمل حقه في الأخبار المتعلقة بهذه المسألة، فإن المفهوم منها على وجه
لا يعتريه الشك والانكار هو ما ذكره جل علمائنا الأبرار (رفع الله أقدارهم
في دار القرار) من أنه بالوصية ينتقل عن الموصى ولا يعود إلى ورثته، ومع عدم
إمكان صرفه في المصرف الموصى به يرجع إلى المصرف في أبواب البر، كما سيأتي
تحقيق ذلك قريبا عند ذكر المسألة المشار إليها.
وبذلك يظهر لك ما في كلامه (قدس سره) من قوله: " ولهذا وقع
الخلاف في أنه إذا قصر المال الموصى به... إلى آخره " فإن هذا الخلاف بعد
دلالة النصوص على التصدق - كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى - مساهلة وجزاف،
فإن الخلاف مع عدم الدليل بل قيام الدليل على العدم إنما هو اعتساف
وأي اعتساف.
قالوا: ولو أوصى أن يحج عنه، فإن لم يعلم منه إرادة التكرار اقتصر على
المرة، وإن علم منه إرادة التكرار حج عنه ما دام شئ من ثلثه.
وعللوا الحكم الأول بحصول الامتثال بالمرة. والثاني بأنه وصية ومنفذها
الثلث خاصة مع عدم إجازة الوارث.
والذي وقفت عليه من ما يتعلق بهذه المسألة ما رواه الشيخ في التهذيب (1)
عن محمد بن الحسن الأشعري قال: " قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك
إني سألت أصحابنا عن ما أريد أن أسألك فلم أجد عندهم جوابا وقد اضطررت
إلى مسألتك، وأن سعد بن سعد أوصى إلي فأوصى في وصيته: حجوا عني. مبهما
ولم يفسر، فكيف أصنع؟ قال: يأتيك جوابي في كتابك. فكتب إلي: يحج
ما دام له مال يحمله ".

(1) ج 9 ص 226، وفي الوسائل الباب 4 من النيابة في الحج.
298

وما رواه أيضا في الكتاب المذكور (1) بسند آخر عن محمد بن الحسين
" أنه قال لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك قد اضطررت إلى مسألتك. فقال:
هات. فقلت: سعد بن سعد أوصى: حجوا عني. مبهما ولم يسم شيئا، ولا
ندري كيف ذلك؟ فقال: يحج عنه ما دام له مال ".
ورواه أيضا في موضع آخر (2) بسند غير الأولين عن محمد بن الحسن بن أبي خالد قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل أوصى أن يحج عنه (مبهما)؟
فقال: يحج عنه ما بقي من ثلثه شئ ".
وهذه الأخبار متفقة في أنه يحج عنه من ثلثه، وهو المشار إليه بماله في
الخبرين الأولين، لأن الميت ليس له من ماله إلا الثلث.
والظاهر من قول السائل: " مبهما " يعني: أنه لم يعين المرات. فكان
إرادة التكرار معلومة عند الوصي وإنما استشكل في المقدار.
قال في المدارك - بعد أن ذكر وجوب الحج عنه إلى أن يستوفى الثلث
إذا علم منه إرادة التكرار، ثم أيده بالرواية الثالثة - ما صورته: ولا يخفى أن
ذلك أنما يتم إذا علم منه إرادة التكرار على هذا الوجه وإلا اكتفى بالمرتين،
لتحقق التكرار بذلك، كما يكتفي بالمرة مع الاطلاق.
أقول: لا يبعد أن يقال: إن الظاهر من اطلاق هذه الأخبار أنه بمجرد
هذا القول المحتمل لأن يراد منه حجة واحدة أو اثنتان أو عشر أو نحو ذلك
يجب الحج عنه حتى يفنى ثلثه. ولأن يقين البراءة من تنفيذ الوصية لا يحصل إلا بذلك

(1) ج 5 ص 408، وفي الوسائل الباب 4 من النيابة في الحج. وارجع
إلي الاستدراكات
(2) ج 5 ص 408، و ج 9 ص 226، وفي الوسائل الباب 4 من
النيابة في الحج.
299

وهذا هو الأنسب بقول السائل: " مبهما " وحينئذ فلا معنى لقولهم: فإن
لم يعلم منه إرادة التكرار اقتصر على المرة. بل الأظهر أن يقال: فإن علم منه عدم
إرادة التكرار اقتصر على المرة. وبالجملة فإن جميع ما ذكروه تقييد للنص المذكور
واطلاقه أعم من ذلك كما عرفت. والله العالم.
المسألة التاسعة - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو عقد
الأجير الاحرام عن المنوب عنه ثم نقل النية إلى نفسه، فقيل بوقوعها عن المنوب
عنه، وهو منقول عن الشيخ في المبسوط واختاره المحقق في المعتبر.
قال في المبسوط: إذا أحرم عن من استأجره - سواء كانت في حجة الفرض
أو التطوع - ثم نقل الاحرام إلى نفسه لم يصح نقله، ولا فرق بين أن يكون
الاحرام بالحج أو بالعمرة، فإن مضى على هذه النية وقعت الحجة عن من بدأ
بنيته، لأن النقل ما يصح ويستحق الأجرة على من وقعت عنه. انتهى.
وقيل بعدم اجزائها عن واحد منهما، وهو اختيار المحقق في الشرائع والعلامة
في جملة من كتبه، والظاهر أنه هو المشهور بين المتأخرين.
واستدل في المعتبر على القول الأول بأن ما فعله وقع عن المستأجر فلا
يصح العدول بها ايقاعها. ولأن أفعال الحج استحقت لغيره فلا يصح نقلها
وإذا لم يصح النقل فقد تمت الحجة لمن بدأ بالنية له وله الأجرة لقيامه بما
شرط عليه.
حجة القول المشهور، أما على عدم الاجزاء عن النائب فلعدم صحة النقل
اتفاقا، وأما عن المنوب عنه فلعدم النية عنه في باقي الأفعال حيث إنه إنما نواها
الأجير عن نفسه. وبالجملة فإنهم متفقون على عدم صحة النقل بعد الاحرام عن
المستأجر، وإنما الاشكال بالنسبة إلى هذه الأفعال التي نواها الأجير عن نفسه
فإنها لا تصح عنه لعدم صحة النقل فلا تقع عنه، ولا تقع عن المستأجر لأنه لم ينوها
300

عنه، والعبادات تابعة للنيات والقصود.
ومن ما يعضد القول الأول هنا ما تقدم (1) من الأخبار في المسألة الأولى
من مسائل هذا المقصد الدالة على أن من أعطى رجلا مالا يحج عنه فحج عن نفسه
فإنها تقع عن صاحب المال. فإنه متى صح كونها عن صاحب المال بدون نية
الاحرام عنه فمعها أولى.
وبذلك صرح شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد فقال: ويمكن أن يحتج
للشيخ برواية ابن أبي حمزة عن الصادق عليه السلام... ثم ساق الرواية كما قدمناه (2)
ثم قال (قدس سره): فإذا كان يجزئ عن المنوب لا مع نية الاحرام فلأن
يجزئ بنيته أولى.
ورد ذلك في المدارك بضعف الرواية. وفيه أنك قد عرفت من ما قدمنا
ثمة أن بعض هذه الروايات من مرويات صاحب الفقيه، وهو كثيرا ما يعتضد بها
بناء على ما ذكره في ديباجة كتابه.
وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال وإن كان قول الشيخ - لما عرفت
- لا يخلو من قوة. والله العالم.
المسألة العاشرة - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو أوصى
للحج بقدر معين، فإن كان الحج واجبا أخرج أجرة المثل من الأصل، وما زاد
- إن كان في ذلك المقدار زيادة - من الثلث كما هو شأن الوصايا، وإن كان الحج
ندبا فالجميع من الثلث.
وما ذكروه في الواجب، أما في حجة الاسلام فلا اشكال فيه، وأما في غيره
من النذر وشبهه فهو مبني على الخلاف المتقدم، وإن كان المشهور عندهم أنه كحج
الاسلام من الأصل.

(1) ص 258.
(2) ص 258.
301

ومن ما يدل على أن حج الاسلام من الأصل والمندوب من الثلث
ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: (1) " في
رجل مات وأوصى أن يحج عنه؟ فقال: إن كان صرورة حج عنه من وسط المال
وإن كان غير صرورة فمن الثلث ".
وما رواه الصدوق أيضا عن الحارث بياع الأنماط (2): " أنه سمع أبا عبد الله
عليه السلام وسئل عن رجل أوصى بحجة؟ فقال: إن كان صرورة فمن صلب ماله،
إنما هي دين عليه، فإن كان قد حج فمن الثلث ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (3) قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن رجل مات وأوصى أن يحج عنه؟ قال: إن كان صرورة فمن
جميع المال، وإن كان تطوعا فمن ثلثه ".
وروى نحوه في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (4) وزاد: " فإن
أوصى أن يحج عنه رجل فليحج ذلك الرجل ".

(1) الفقيه ج 4 ص 158، وفي الوسائل الباب 25 من وجوب الحج
وشرائطه، والباب 41 من الوصايا. واللفظ هكذا: " سألته عن رجل مات... "
(2) الفقيه ج 2 ص 270، وفي الوسائل الباب 25 و 29 من وجوب الحج
وشرائطه. واللفظ في الراوي هكذا: " حارث بياع الأنماط " وفي المتن هكذا:
" أنه سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل " وما ذكر من اللفظ في الراوي والمتن
إنما هو في التهذيب ج 9 ص 229.
(3) الوسائل الباب 25 من وجوب الحج وشرائطه، والباب 41 من
الوصايا.
(4) الوسائل الباب 25 من وجوب الحج وشرائطه.
302

وهذه الأخبار وما جرى مجراها إنما دلت على الوصية بالحج من غير الوصية
بقدر معين له، والظاهر أن التعيين يرجع فيه إلى أجرة المثل كما فهمه الأصحاب
فيكون المخرج من الأصل والثلث هو أجرة المثل، وحينئذ فيكون الزائد عليها
مع التعيين يخرج من الثلث كما تقدم.
ولبعض الأصحاب في المسألة تفصيل حسن لا بأس بذكره قال: من
أوصى بالحج، فإما أن يعين الأجير والأجرة معا أو لا يعينهما أو يعين الأجير
دون الأجرة أو بالعكس، ثم إما أن يكون الحج واجبا أو مندوبا، فالصور ثمان:
الأولى - أن يعين الأجير والأجرة معا ويكون الحج واجبا، فيجب اتباع
ما عينه الموصي، ثم إن كانت الأجرة المعينة مقدار أجرة المثل أو أقل نفذت
من الأصل، وإن زادت كانت أجرة المثل من الأصل والزيادة من الثلث إن لم يجز
الورثة. ولو امتنع الموصى له من الحج بطلت للوصية واستؤجر غيره بأقل
ما يوجد من يحج به عنه.
أقول: الحكم ببطلان الوصية هنا مطلقا بامتناع الموصى له - حتى أنه يصير
في حكم ما لو لم يوص بالكلية، فيستأجر غيره بأقل ما يوجد من يحج به عنه -
لا أعرف له وجها ظاهرا، لأنه قد أوصى بأمرين الأجير والأجرة والحج واجب
لا بد من اخراجه، وتعذر الأجير لامتناعه لا يوجب بطلان تعيين الأجرة، إلا أن يعلم أن التعيين إنما وقع من حيث خصوصية ذلك الأجير الموصى له وهو هنا
غير معلوم. وسيأتي في كلامه ما يشير إلى ما ذكرناه.
قال العلامة في المنتهى في هذه الصورة: فإن رضي الموصى له فلا بحث
وإلا استؤجر غيره بالمعين إن ساوى أجرة المثل أو كان أقل، وإن زاد فالوجه أن
الزيادة للوارث لأنه أوصى بها لشخص معين بشرط الحج ولم يفعل الموصى له فتكون
للوارث، ولا شئ للموصى له، لأنه إنما أوصى له بشرط قيامه بالحج. انتهى.
303

وبذلك يظهر أن حكمه بالاستئجار بأقل ما يوجد من يحج بها عنه محل نظر.
ثم قال: الثانية - الصورة بحالها والحج مندوب، فيجب اخراج الوصية
من الثلث إلا مع الإجازة فتنفذ من الأصل. ولو امتنع الموصى له من الحج
فالظاهر سقوطه، لأن الوصية إنما تعلقت بذلك المعين فلا تتناول غيره. نعم
لو علم تعلق غرض الموصي بالحج مطلقا وجب اخراجه، لأن الوصية على هذا
التقدير في قوة شيئين فلا يبطل أحدهما بفوات الآخر.
أقول: هذا من ما يؤيد ما ذكرناه آنفا، لأنه متى ثبت ذلك في التعدد
الضمني ففي التعدد المصرح به أظهر.
ثم قال: الثالثة - أن يعين الأجير خاصة والحج واجب، فيجب استئجاره
بأقل أجرة يوجد من يحج بها عنه. واحتمل الشهيد في الدروس وجوب اعطائه
أجرة مثله إن اتسع الثلث. وهو حسن، بل لا يبعد وجوب إجابته إلى ما طلب
مطلقا مع اتساع الثلث تنفيذا للوصية بحسب الامكان، فيكون الزائد عن الأقل
محسوبا من الثلث إلا مع الإجازة. ولو امتنع الموصى له من الحج وجب
استئجار غيره بمهما أمكن.
أقول: ما ذكره هنا - من وجوب استئجاره بأقل أجرة يوجد من يحج
بها عنه - قد نقله في الدروس عن المبسوط. ونحوه قال العلامة في المنتهى
حيث قال: وإن عين الأجير دون الأجرة فقال: أحجوا عني فلانا. ولم يذكر
مبلغ الأجرة فإنه يحج عنه بأقل ما يوجد من يحج عنه.
إلا أن الظاهر من عبارة التذكرة هنا هو أن الواجب الاستئجار بأجرة المثل
حيث قال: إذا أوصى أن يحج عنه، فأما أن يكون الحج واجبا أو مندوبا، فإن كان
واجبا فلا يخلو إما أن يعين قدرا أو لا، فإن عين فإن كان بقدر أجرة المثل
أخرجت من الأصل وإن زادت عن أجرة المثل أخرجت أجرة المثل من الأصل والباقي
304

من الثلث، وإن لم يعين أخرجت أجرة المثل من أصل المال. وهو ظاهر في كون
المخرج في هذه الصورة هو أجرة المثل لا أقل أجرة يوجد من يحج بها.
وعلى هذا فإنما يرجع إلى الثلث في ما زاد على أجرة المثل لا ما زاد عن
الأقل كما ذكروه.
وما ذكروه من التخصيص بهذا الأقل لم يوردوا عليه دليلا ولم يذكروا
له وجها، وكأنهم لحظوا في ذلك رعاية جانب الوارث، مع أن المستفاد من
الأخبار التي قدمناها في الوصية بالحج هو البناء على سعة المال من البلد فنازلا
إلى الميقات، وهو لا يلائم هذا التقييد بل إنما ينطبق على أجرة المثل كما لا يخفى.
على أنهم قد صرحوا بأنه إذا أوصى أن يحج عنه ولم يعين الأجرة انصرف ذلك
إلى أجرة المثل وتخرج من الأصل. والفرق بين المسألتين غير واضح.
ثم قال: الرابعة - الصورة بحالها والحج مندوب، والكلام فيه كما
سبق من احتساب الأجرة كلها من الثلث. فلو امتنع الموصى له من القبول
سقطت الوصية، إلا إذا علم تعلق غرض الموصي بالحج مطلقا كما بيناه.
الخامسة - أن يعين الأجرة خاصة والحج واجب، فإن كانت مساوية
لأجرة المثل صرفها الوارث إلى من شاء ممن يقوم بالحج، وكذا إن نقصت، وإن
كان أزيد كان ما يساوي أجرة المثل من الأصل والزائد من الثلث.
السادسة - الصورة بحالها والحج مندوب، وحكمها معلوم من ما سبق من
احتساب الأجرة كلها من الثلث إلا مع الإجازة.
السابعة - أن لا يعين الأجير ولا الأجرة والحج واجب، فالحج عنه من أصل
المال بأقل ما يجد من يحج به عنه.
أقول: قد عرفت ما في ذلك من الاشكال، ومقتضى اطلاق كلام التذكرة
الذي قدمناه هو أجرة المثل.
305

الثامنة - الصورة بحالها والحج مندوب، والأجرة من الثلث إلا مع الإجازة
كما تقدم. انتهى.
المسألة الحادية عشرة - المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لو
قصر ما عينه أجرة للحج عن ذلك بحيث لا يرغب فيه أجير أصلا فإنه يصرف في
وجوه البر، وقيل يعود ميراثا.
واستدل في المنتهى على القول المشهور - بعد أن قطع به - بأن هذا القدر من
المال قد خرج عن ملك الورثة بالوصية النافذة، ولا يمكن صرفه في الطاعة التي عينها
الموصي، فيصرف إلى غيرها من الطاعات لدخولها في الوصية ضمنا.
واعترضه في المدارك بأنه يتوجه عليه أولا - منع خروجه عن ملك الوارث
بالوصية، لأن ذلك أنما يتحقق مع إمكان صرفه فيها والمفروض امتناعه، ومتى ثبت
الامتناع المذكور كشف عن عدم خروجه عن ملك الوارث.
وثانيا - أن الوصية إنما تعلقت بطاعة مخصوصة وقد تعذرت، وغيرها لم
يدل عليه لفظ الموصي نطقا ولا فحوى، فلا معنى لوجوب صرف الوصية
إليه... إلى أن قال: ومن هنا يظهر قوة القول بعوده ميراثا.
وفصل المحقق الشيخ علي (قدس سره) في هذه المسألة فقال: إن كان
قصوره حصل ابتداء بحيث لم يمكن صرفه في الحج في وقت ما كان ميراثا،
وإن كان ممكنا ثم طرأ القصور بعد ذلك لطروء زيادة الأجرة ونحوه فإنه لا يعود
ميراثا، لصحة الوصية ابتداء فخرج بالموت عن الوارث، فلا يعود إليه إلا بدليل
ولم يثبت، غاية الأمر أنه قد تعذر صرفه في الوجه المعين فيصرف في وجوه البر
كما في المجهول المالك. واستوجهه الشارح (قدس سره) ولعل الحكم بعوده
ميراثا مطلقا أقرب. انتهى.
306

أقول: والقول بالعود ميراثا منقول عن ابن إدريس والشيخ في أجوبة
المسائل الحائريات.
ثم لا يخفى أن كلامهم (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة - وخلافهم فيها وتعليل
كل منهم ما اختاره بهذه التعليلات الواهية - إنما نشأ عن عدم الوقوف على الأخبار
التي وردت في هذه المسألة، وإلا فهي مكشوفة القناع واجبة الاتباع لا يعتريها
مناقشة ولا نزاع، وهي متفقة الدلالة على القول المشهور متعاضدة المقالة على
ذلك لا يعتريها قصور ولا فتور.
ومنها - ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) عن علي بن مزيد
صاحب السابري (1) قال: " أوصى إلي رجل بتركته وأمرني أن أحج بها عنه
فنظرت في ذلك فإذا شئ يسير لا يكفي للحج. فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل
الكوفة، فقالوا: تصدق بها عنه. فلما حججت لقيت عبد الله بن الحسن في
الطواف فسألته وقلت له: إن رجلا من مواليكم من أهل الكوفة مات وأوصى
بتركته إلي وأمرني أن أحج بها عنه، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج، فسألت
من قبلنا من الفقهاء فقالوا: تصدق بها. فتصدقت بها، فما تقول؟ فقال لي:
هذا جعفر بن محمد في الحجر فأته واسأله. قال: فدخلت الحجر فإذا أبو عبد الله
عليه السلام تحت الميزاب مقبل بوجهه إلى البيت يدعو، ثم التفت إلي فرآني فقال:
ما حاجتك؟ فقلت: جعلت فداك أني رجل من أهل الكوفة من مواليكم
فقال: دع ذا عنك، حاجتك. قلت: رجل مات وأوصى إلي بتركته أن أحج بها

(1) الفروع ج 2 ص 239 الطبع القديم، والتهذيب ج 9 ص 228،
والفقيه ج 4 ص 154، وفي الوسائل الباب 37 و 87 من الوصايا. واسم الراوي
في الفروع هكذا: " علي بن فرقد صاحب السابري ".
307

عنه، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج، فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا:
تصدق بها. فقال: ما صنعت؟ قلت: تصدقت بها، فقال: ضمنت إلا أن
لا يكون يبلغ أن يحج به من مكة، فإن كان لا يبلغ أن يحج به من مكة فليس
عليك ضمان، وإن كان يبلغ أن يحج به من مكة فأنت ضامن ".
والشيخ في التهذيب (1) رواه بحذف حكاية لقاء عبد الله بن الحسن هكذا:
" فلما حججت جئت إلى أبي عبد الله عليه السلام فقلت: جعلني الله فداك مات رجل
وأوصى... الحديث " وهو - كما ترى - صريح في المدعى.
ومن ما يدل على أن المال بالوصية ينتقل عن الورثة - وأنه مع تعذر صرفه
في ما أوصى به يجب صرفه في أبواب البر - ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله
عليهم) بأسانيدهم عن محمد بن الريان (2) قال: " كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام
- وفي الفقيه (3) يعني: علي بن محمد - أسأله عن انسان أوصى بوصية فلم يحفظ
الوصي إلا بابا واحدا منها، كيف يصنع بالباقي؟ فوقع (عليه السلام): الأبواب
الباقية اجعلها في البر ".
ومن ما ينتظم في سلك هذا النظام ويلج في حيز هذا المقام ما رواه ثقة
الاسلام في الكافي (4) والشيخ في التهذيب (5) عن ياسين الضرير عن أبي جعفر
عليه السلام (6) في حديث يتضمن أن رجلا أوصى بألف درهم للكعبة فسأل أبا جعفر

(1) ج 9 ص 228.
(2) الوسائل الباب 61 من الوصايا.
(3) ج 4 ص 162، واللفظ هكذا: " كتبت إليه - يعني: علي بن محمد
عليهما السلام - أسأله... ".
(4) ج 4 ص 241
(5) ج 9 ص 212.
(6) الوسائل الباب 22 من مقدمات الطواف.
308

عليه السلام فقال: إن الكعبة غنية عن هذا انظر إلى من أم هذا البيت فقطع به أو ذهبت
نفقته أو ضلت راحلته، وعجز أن يرجع إلى أهله، فادفعها إلى هؤلاء ".
وهذه الأخبار كلها - كما ترى - متفقة الدلالة واضحة المقالة في أنه متى تعذر
إنفاذ الوصية في الوجوه الموصى بها فإنها لا ترجع ميراثا كما توهموه، بل يجب
صرفها في أبواب البر، وإن دل هذا الخبر الأخير على هذا المصرف الخاص.
وبذلك يظهر لك ما في قول صاحب المدارك بعد جوابه عن كلام العلامة:
ومن هنا يظهر قوة القول بعوده ميراثا. وكذا ما في تفصيل الشيخ علي (قدس
سره) بل استدلال العلامة (رفع الله مقامهم ومقامه) ولكن العذر لهم ظاهر في
عدم الوقوف على هذه الأخبار. وهذا من ما يؤيد ما قدمناه في غير مقام من أن بناء الأحكام على هذه التخريجات - وإن كان ربما يتراءى منه الموافقة للقواعد -
غير جيد، بل لا بد من النص القاطع في المسألة وإلا فالوقوف عن الحكم.
والظاهر أن المتقدمين إنما ذكروا هذه المسألة استنادا إلى هذه الأخبار
ولكن حيث لم تصل للمتأخرين تكلفوا هذه التعليلات العليلة. والله العالم.
المسألة الثانية عشرة - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن
الحج كما يصح بالاستئجار يصح أيضا بالارتزاق بأن يقول: حج عني وأعطيك
نفقتك أو أعطيك كذا وكذا. ولو استأجره بالنفقة لم يصح للجهالة. كذا صرح
به في التذكرة.
ثم إن الاستئجار ضربان: أحدهما - استئجار عين الشخص بأن يقول
المؤجر: آجرتك نفسي لا حج عنك أو عن ميتك بنفسي بكذا وكذا. وثانيهما -
إلزام ذمته بالعمل بأن يستأجره ليحصل له الحج إما بنفسه أو بغيره.
وقال العلامة في المنتهى: الإجارة على الحج على ضربين: معينة وفي الذمة
فالمعينة أن يقول له استأجرتك لتحج عني هكذا بكذا. فههنا يتعين علي الأجير
309

فعلها مباشرة ولا بجوز له أن يستنيب غيره، لأن الإجارة وقعت على فعله بنفسه.
ولو قال: على أن تحج عني بنفسك. كان تأكيدا، لأن إضافة الفعل إليه في
الصورة الأولى تكفي في ذلك. فلو استأجر النائب غيره لم تنعقد الأجرة. وأما
التي في الذمة بأن يستأجره ليحصل له حجة فيقول: استأجرتك لتحصل لي حجة
ويكون قصده تحصيل النيابة مطلقا، سواء كانت الحجة الصادرة عنه من الأجير
أو من غيره، فإن هذا صحيح ويجوز للأجير أن يستنيب فيها، لأنه كالمأذون
له في فعل ما استؤجر فيه لغيره، وكان كما لو صرح له بالاستنابة.
أقول: وينبغي أن يحمل على هذا القسم الثاني ما رواه الشيخ عن
عثمان بن عيسى عن الصادق عليه السلام (1) قال: " قلت له: ما تقول في رجل يعطى
الحجة فيدفعها إلى غيره؟ قال: لا بأس " وما رواه في موضع آخر (2) عن عيثم
ابن عيسى.
وبعض الأصحاب حمله على الإذن لفهمه منه الحمل على الصورة الأولى
والأظهر ما ذكرناه. والله العالم.

(1) التهذيب ج 5 ص 417، وفي الوسائل الباب 14 من النيابة في الحج.
والمروي عنه هو الرضا (عليه السلام) واللفظ هكذا: " قلت لأبي الحسن الرضا
(عليه السلام): ما تقول في الرجل... ".
(2) التهذيب ج 1 ص 579 الطبع القديم، وفي الطبع الحديث ج 5
ص 462 عن " عثمان بن عيسى " أيضا كما هو إحدى النسختين في الطبع
القديم.
310

المقدمة الرابعة
في أقسام الحج
ولا خلاف بين العلماء في أنها ثلاثة: تمتع وقران وافراد، وعلى ذلك
تدل الأخبار:
ومنها - ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (1) قال:
" سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الحج ثلاثة أصناف: حج مفرد، وقران، وتمتع
بالعمرة إلى الحج. وبها أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والفضل فيها. ولا
نأمر الناس إلا بها ".
وما رواه في الكافي والفقيه عن منصور الصيقل (2) قال: " قال أبو عبد الله
عليه السلام: الحج عندنا على ثلاثة أوجه: حاج متمتع، وحاج مقرن سائق الهدي،
وحاج مفرد للحج ".
وروي الصدوق (رحمه الله) في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر
البزنطي عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير وزرارة بن أعين عن أبي جعفر
عليه السلام (3) قال: " الحاج على ثلاثة وجوه: رجل أفرد الحج وساق الهدي
ورجل أفرد الحج ولم يسق الهدي، ورجل تمتع بالعمرة إلى الحج ".
وينبغي أن يعلم أن حج التمتع إنما نزل في حجة الوداع وأن الحج قبل
ذلك أنما هو حج قران أو افراد لحاضري مكة والبعيد عنها، وتخصيص هذين

(1) الوسائل الباب 1 من أقسام الحج. والشيخ يرويه عن الكليني.
(2) الوسائل الباب 1 من أقسام الحج.
(3) الخصال ج 1 ص 71، وفي الوسائل الباب 1 من أقسام الحج
311

الفردين بحاضري مكة والتمتع بالبعيد - كما دلت عليه الآية (1) والرواية (2) - إنما
وقع بعد نزول حج التمتع يومئذ:
روى الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عن آبائه
(عليهم السلام) (3) قال: " لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من سعيه بين الصفا
والمروة أتاه جبرئيل عليه السلام عند فراغه من السعي وهو على المروة، فقال: إن الله
(تعالى) يأمرك أن تأمر الناس أن يحلوا إلا من ساق الهدي. فأقبل رسول الله
صلى الله عليه وآله على الناس بوجهه، فقال: يا أيها الناس هذا جبرئيل - وأشار بيده إلى
خلفه - يأمرني عن الله (عز وجل) أن آمر الناس أن يحلوا إلا من ساق الهدي
فأمرهم بما أمر الله به. فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله نخرج إلى
منى ورؤوسنا تقطر من النساء. وقال آخرون: يأمرنا بشئ ويصنع هو غيره.
فقال: يا أيها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما صنع الناس
ولكني سقت الهدي ولا يحل من ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محله. فقصر
الناس وأحلوا وجعلوها عمرة. فقام إليه سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فقال
يا رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد
إلى يوم القيامة وشبك بين أصابعه. وأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا: فمن
تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " (4).
وقد استفاضت الأخبار بأن أفضل الثلاثة للبعيد بعد الاتيان بالفرض هو

(1) وهي قوله تعالى في سورة البقرة الآية 196: " ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام ".
(2) الوسائل الباب 3 من أقسام الحج
(3) التهذيب ج 5 ص 25، وفي الوسائل الباب 3 من أقسام الحج
(4) سورة البقرة، الآية 196.
312

حج التمتع وإن جاز له القران والافراد إلا أنه خلاف الأفضل، وربما ورد في
بعض الأخبار تعيينه وأنه لا يجوز غيره. وهو محمول على الفرض دون النافلة. ومن
ذلك ما تقدم في صحيحة معاوية بن عمار.
ومن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (1)
قال: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لأن الله (تعالى) يقول: فمن
تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي (2) فليس لأحد إلا أن يتمتع، لأن
الله (تعالى) أنزل ذلك في كتابه وجرت به السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله " وهذا
الخبر محمول على الفرض.
وما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) في الصحيح عن إبراهيم بن
أيوب الخزاز (3) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام أي أنواع الحج أفضل؟
فقال: التمتع، وكيف يكون شئ أفضل منه ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لو
استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت مثل ما فعل الناس ".
وما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن أبي جعفر
الثاني (عليه السلام) (4) قال: " كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: المتمتع

(1) الوسائل الباب 3 من أقسام الحج.
(2) سورة البقرة الآية 195.
(3) الكافي ج 4 ص 291، والتهذيب ج 5 ص 29، والفقيه ج 2 ص
204 وفي الوسائل الباب 3 من أقسام الحج. واسم الراوي في الكافي " أبو أيوب
الخزاز " وفي التهذيب " أبو أيوب إبراهيم بن عيسى " وفي الفقيه " أبو أيوب
إبراهيم بن عثمان الخزاز ".
(4) الوسائل الباب 4 من أقسام الحج.
313

بالعمرة إلى الحج أفضل من المفرد السائق للهدي ".
وصحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " المتعة والله
أفضل، وبها نزل القرآن وجرت السنة ".
وصحيحة عبد الله بن سنان (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
إني قرنت العام وسقت الهدي؟ فقال: ولم فعلت ذلك؟ التمتع والله أفضل
لا تعودن "
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
قيل: ووجه التسمية، أما في الافراد فلانفصاله عن العمرة وعدم ارتباطه
بها، وأما القران فلاقتران الاحرام بسياق الهدي، وأما التمتع فهو لغة: التلذذ
والانتفاع، وإنما سمي هذا النوع بذلك لما يتخلل بين عمرته وحجه من التحلل
المقتضي لجواز الانتفاع والتلذذ بما كان حرمه الاحرام قبله، مع الارتباط بينهما
وكونهما كالشئ الواحد، فيكون التمتع الواقع بينهما كأنه حاصل في أثناء الحج
أو لأنه يربح ميقاتا، لأنه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه
من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه، وإذا تمتع استغنى عن
الخروج، لأنه يحرم بالحج من جوف مكة، قال الله تعالى: فمن تمتع بالعمرة
إلى الحج فما استيسر من الهدي (3) ومعنى التمتع بها إلى الحج الانتفاع بثوابها
والتقرب بها إلى الله (تعالى) قبل الانتفاع بالحج إلى وقت الحج، فيجتمع حينئذ
التقربان أو المنتفع بها إذا فرغ منها باستباحة ما كان محرما إلى وقت التلبس بالحج،
فالباء سببية. وهذان المعنيان ذكرهما الزمخشري في الكشاف والنيشابوري في
تفسيره على ما نقله في المدارك.

(1) الوسائل الباب 4 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 4 من أقسام الحج.
(3) سورة البقرة الآية 195.
314

وكيف كان فالكلام هنا يقع في مطلبين:
المطلب الأول في حج التمتع
وصورته: أن يحرم من الميقات بالعمرة المتمتع بها ثم يدخل مكة فيطوف
بالبيت سبعا ويصلي ركعتين بالمقام ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا ويقصر،
ومتى فعل ذلك أحل، ثم ينشئ احراما آخر للحج من مكة يوم التروية على
الأفضل وإلا فبقدر ما يعلم أنه يدرك الموقف بعرفات، ثم يأتي عرفات فيقف
بها إلى غروب الشمس ثم يفيض إلى المشعر ويبيت ليلة العاشر به ويقف به بعد
طلوع الفجر ثم يفيض إلى منى فيحلق بها يوم النحر ويذبح هديه ويأكل منه
ويرمي جمرة العقبة، ثم يأتي مكة في يومه لطواف الحج وصلاة ركعتيه والسعي
بين الصفا والمروة وطواف النساء، ثم يعود إلى مني ليرمي بها ما تخلف من الجمار
وإن شاء أقام بمنى حتى يرمي جماره الثلاث يوم الحادي عشر، ومثله يوم الثاني
عشر، ثم ينفر بعد الزوال، وإن أقام إلى النفر الثاني جاز.
وتفاصيل هذه المسائل كما هو حقها يأتي - إن شاء الله تعالى - عند ذكرها
مفصلة.
وإن أحببت الوقوف على صورة حج النبي صلى الله عليه وآله في ذلك العام الذي
نزل فيه حج التمتع فهو ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار - ورواه في
الكافي عنه أيضا - عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) " أن رسول الله صلى الله عليه وآله أقام
بالمدينة عشر سنين لم يحج، ثم أنزل الله (تعالى) عليه: وأذن في الناس بالحج يأتوك
رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (2) فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى

(1) التهذيب ج 5 ص 454، والكافي ج 4 ص 245، وفي الوسائل الباب
2 من أقسام الحج.
(2) سورة الحج الآية 27.
315

أصواتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله يحج في عامه هذا، فعلم به من حضر المدينة
وأهل العوالي والأعراب فاجتمعوا لحج رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما كانوا تابعين
ينظرون ما يؤمرون به فيتبعونه أو يصنع شيئا فيصنعونه، فخرج رسول الله
صلى الله عليه وآله في أربع بقين من ذي القعدة فلما انتهى إلى ذي الحليفة فزالت الشمس
اغتسل ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر وعزم بالحج
مفردا، وخرج حتى انتهى إلى البيداء عند الميل الأول فصف الناس له سماطين،
فلبى بالحج مفردا وساق الهدي ستا وستين أو أربعا وستين حتى انتهى إلى مكة في
سلخ أربع من ذي الحجة، فطاف بالبيت سبعة أشواط ثم صلى ركعتين خلف مقام
إبراهيم عليه السلام ثم عاد إلى الحجر فاستلمه وقد كان استلمه في أول طوافه، ثم قال: إن
الصفا والمروة من شعائر الله (1) فابدأوا بما بدأ الله (تعالى) به. وإن المسلمين
كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شئ صنعه المشركون فأنزل الله (عز
وجل): إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه
أن يطوف بهما (2) ثم أتى الصفا فصعد عليه واستقبل الركن اليماني فحمد الله وأثنى عليه ودعا مقدار ما يقرأ سورة البقرة مترسلا ثم انحدر إلى المروة فوقف
عليها كما وقف على الصفا ثم انحدر وعاد إلى الصفا فوقف عليها ثم انحدر
إلى المروة حتى فرغ من سعيه، فلما فرغ من سعيه وهو على المروة أقبل
على الناس بوجهه فحمد الله (تعالى) وأثنى عليه ثم قال: إن هذا جبرئيل
- وأومأ بيده إلى خلفه - يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحل ولو استقبلت
من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ولكني سقت الهدي
ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحل حتى يبلغ الهدي محله. قال: فقال له رجل من

(1) سورة البقرة الآية 158.
(2) سورة البقرة الآية 158.
316

القوم: لنخرجن حجاجا وشعورنا تقطر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أما إنك لن
تؤمن بهذا أبدا. فقال له سراقة بن مالك بن جشعم الكناني: يا رسول الله
صلى الله عليه وآله علمنا ديننا كأننا خلقنا اليوم، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما
يستقبل؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: بل هو للأبد إلى يوم القيامة، ثم شبك
أصابعه، وقال: دخلت العمرة في الحج هكذا (1) إلى يوم القيامة. قال: وقدم
علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو بمكة فدخل عليه السلام على فاطمة (عليها
السلام) وهي قد أحلت، فوجد ريحا طيبة ووجد عليها ثيابا مصبوغة، فقال:
ما هذا يا فاطمة؟ فقالت: أمرنا بهذا رسول الله صلى الله عليه وآله فخرج علي عليه السلام إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله مستفتيا فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله: إني رأيت فاطمة قد أحلت وعليها ثياب
مصبوغة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني أمرت الناس بذلك فأنت يا علي بما أهللت
قال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله اهلالا كاهلال النبي صلى الله عليه وآله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
قر على احرامك مثلي وأنت شريكي في هديي. قال: ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة
بالبطحاء هو وأصحابه ولم ينزل الدور، فلما كان يوم التروية عند زوال الشمس
أمر الناس أن يغتسلوا ويهلوا بالحج، وهو قول الله (عز وجل) الذي أنزله على
نبيه صلى الله عليه وآله: فاتبعوا ملة أبيكم إبراهيم (2) فخرج النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه مهلين
بالحج حتى أتى منى فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر، ثم غدا
والناس معه، وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ويمنعون الناس أن
يفيضوا منها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث
كانوا يفيضون، فأنزل الله (عز وجل) عليه: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس

(1) لفظ " هكذا " في الوافي باب (حج نبينا صلى الله عليه وآله).
(2) سورة آل عمران الآية 95: " فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا "
317

واستغفروا الله (1) يعني: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان
بعدهم، فلما رأت قريش أن قبة رسول الله صلى الله عليه وآله قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شئ للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم، حتى انتهى إلى نمرة وهي
بطن عرنة بحيال الأراك، فضربت قبته وضرب الناس أخبيتهم عندها، فلما زالت
الشمس خرج رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف
بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم، ثم صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين،
ثم مضى إلى الموقف فوقف به، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى
جانبها فنحاها ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيها الناس ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف
ولكن هذا كله، وأومأ بيده إلى الموقف، فتفرق الناس، وفعل مثل ذلك بالمزدلفة،
فوقف الناس حتى وقع القرص قرص الشمس، ثم أفاض وأمر الناس بالدعة حتى انتهى
إلى المزدلفة - وهو المشعر الحرام - فصلى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين
ثم أقام حتى صلى فيها الفجر، وعجل ضعفاء بني هاشم بليل، وأمرهم أن لا يرموا
الجمرة جمرة العقبة حتى تطلع الشمس، فلما أضاء له النهار أفاض حتى انتهى إلى
منى فرمى جمرة العقبة، وكان الهدي الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أربعا وستين، أو ستا وستين، وجاء علي عليه السلام بأربع وثلاثين، أو ست وثلاثين
فنحر رسول الله صلى الله عليه وآله ستا وستين، ونحر علي عليه السلام أربعا وثلاثين بدنة، وأمر
رسول الله صلى الله عليه وآله أن يؤخذ من كل بدنة منها حذوة من لحم ثم تطرح في
برمة ثم تطبخ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام وحسيا من مرقها، ولم يعطيا
الجزارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وتصدق به، وحلق وزار البيت
ورجع إلى منى وأقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيام التشريق، ثم رمى

(1) سورة البقرة الآية 198.
318

الجمار ونفر حتى انتهى إلى الأبطح، فقالت له عائشة: يا رسول الله صلى الله عليه وآله
ترجع نساؤك بحجة وعمرة معا وأرجع بحجة؟ فأقام بالأبطح وبعث معها
عبد الرحمان بن أبي بكر إلى التنعيم فأهلت بعمرة، ثم جاءت فطافت بالبيت وصلت
ركعتين عند مقام إبراهيم وسعت بين الصفا والمروة، ثم أتت النبي صلى الله عليه وآله
فارتحل من يومه، ولم يدخل المسجد الحرام ولم يطف بالبيت. ودخل من أعلى
مكة من عقبة المدنيين وخرج من أسفل مكة من ذي طوى ".
أقول: عندي في هذا الخبر اشكال، لأنه تضمن أن عليا عليه السلام لم يعين في
اهلاله حجا ولا عمرة، وإنما قال: " اهلالا كاهلال النبي صلى الله عليه وآله " فأقره النبي صلى الله عليه وآله
على ذلك وجعله شريكه في هديه الذي ساقه فكان حجه حينئذ حج قران مثله.
ثم إن الخبر تضمن أن الهدي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله أربعة وستون أو ستة
وستون وجاء علي عليه السلام بأربعة وثلاثين أو ستة وثلاثين. وهذا لا يخلو من نوع مدافعة
لما تقدم، لأن عليا عليه السلام لم يهل بالقران الذي يقتضي سياق هذه البدن المذكورة
وإنما قال: " اهلالا كاهلال النبي صلى الله عليه وآله " مع أنه قال له: " أنت شريكي في هديي "
فكيف يتم أن عليا عليه السلام أتى بهذه البدن معه وعقد بها احرامه.؟
والصدوق ابن بابويه في الفقيه (1) قد نقل مضمون الخبر وإن لم يسنده
بما هو أوضح من هذا النقل وأسلم من هذا الاشكال، حيث إنه ذكر بعد قوله
صلى الله عليه وآله: " وأنت شريكي في هديي " قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله ساق معه مائة
بدنة، فجعل لعلي عليه السلام منها أربعا وثلاثين ولنفسه ستا وستين ونحرها كلها بيده...
إلى أن قال: وكان علي عليه السلام يفتخر على الصحابة ويقول: من فيكم مثلي وأنا
شريك رسول الله صلى الله عليه وآله في هديه؟ من فيكم مثلي وأنا الذي ذبح رسول الله
صلى الله عليه وآله هديي بيده؟ انتهى.

(1) ج 2 ص 153، وفي الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
319

ومن الظاهر أن الصدوق لا يذكره إلا بعد وصول الخبر له به، وإن
لم يسنده في الكتاب المذكور. وهذا هو الصواب الذي لا يعتريه الاشكال
والارتياب. ويشير إلى بعض ما ذكرناه ما في صحيحة الحلبي أو حسنته المروية
في الكافي. (1) والله العالم.
وتحقيق البحث في هذا المطلب ينتظم في مسائل: الأولى - أجمع العلماء
(رضوان الله عليهم) على أن فرض من نأى عن مكة هو التمتع لا يجوز لهم غيره
إلا مع الضرورة. قاله في التذكرة.
وفي المنتهى: قال علماؤنا أجمع: فرض الله على المكلفين - ممن نأى
عن المسجد الحرام وليس من حاضريه - التمتع مع الاختيار لا يجزئهم غيره،
وهو مذهب فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) قال: وأطبق الجمهور كافة
على جواز النسك بأي الأنواع الثلاثة شاء وإنما اختلفوا في الأفضل. ثم نقل
اختلافهم في ذلك (2).
قيل: والأصل في وجوب التمتع على النائي قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة
إلى الحج فما استيسر من الهدي... إلى قوله: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام (3) والظاهر عود الإشارة إلى جميع ما تقدم. وحكى المحقق في
المعتبر عن بعض فضلاء العربية أنهم قالوا: تقديره ذلك التمتع. وهو جيد لما نص
عليه أهل العربية من أن " ذلك " للبعيد.
واستدل على ذلك بصحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (4) في صدر المقدمة
وصحيحة الحلبي المتقدمة ثمة (5).

(1) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
(2) المغني ج 3 ص 276.
(3) سورة البقرة الآية 195.
(4) ص 312.
(5) ص 313
320

وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الحج، فقال: تمتع. ثم قال: إنا إذا وقفنا بين يدي الله (تعالى) قلنا:
يا ربنا أخذنا بكتابك. وقال الناس: رأينا رأينا. ويفعل الله بنا وبهم ما أراد "
ورواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال: " من حج
فليتمتع، إنا لا نعدل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ".
وروايته (3) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: ما نعلم حجا لله غير المتعة،
إنا إذا لقينا ربنا قلنا: ربنا عملنا بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله ويقول القوم: عملنا
برأينا. فيجعلنا الله وإياهم حيث يشاء ".
والظاهر أن التقريب فيها من جهة أن الخطاب فيها مع أهل الآفاق الخارجين
عن حاضري مكة، وإلا فإن غاية ما تدل عليه هو أفضلية التمتع أو تعينه، ولا تعرض
فيها لذكر التأني ولا غيره، والأظهر هو الاستدلال بالأخبار الآتية كما سنشير
إليه إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الأصحاب قد اختلفوا في حد البعد المقتضي لتعين
التمتع على البعيد على قولين:
أحدهما - وهو المشهور - أنه عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا من كل ناحية،
ذهب إليه الشيخ في النهاية والتهذيب، وابنا بابويه وأكثر الأصحاب (رضوان
الله عليهم) وربما ظهر من كلام الشيخ أن البعد إنما يتحقق بالزيادة عن الثمانية
والأربعين. والظاهر أن الأمر في ذلك هين، لأن الحصول على رأس المسافة
المذكورة من غير زيادة ولا نقصان نادر.
وثانيهما - أنه عبارة عن اثني عشر ميلا فما زاد من كل جانب، ذهب إليه

(1) الوسائل الباب 3 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 3 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 3 من أقسام الحج.
321

الشيخ في المبسوط، وابن إدريس، والمحقق في الشرائع، مع أنه رجع عنه في المعتبر
وقال: إنه قول نادر لا عبرة به. وبه قال العلامة في الإرشاد.
ومن أصحاب هذا القول من اعتبر هذا التقدير بالنسبة إلى مكة، ومنهم
من اعتبره بالنسبة إلى المسجد الحرام، وهو قول الشيخ في بعض كتبه كما نقله
العلامة في التذكرة.
ولم نقف للقائلين بهذا القول على دليل، وقد اعترف بذلك جملة من الأصحاب:
منهم - المحقق في المعتبر والشهيد في الدروس وغيرهما، وقال في المختلف: وكأن
الشيخ نظر إلى توزيع الثمانية والأربعين من الأربع جوانب فكان قسط كل جانب
ما ذكرناه. ثم قال: وليس بجيد. قال في المدارك: لأن دخول ذات عرق
وعسفان في حاضري مكة ينافي ذلك.
والمعتمد هو القول الأول، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة
عن أبي جعفر عليه السلام (1) قال: " قلت لأبي جعفر عليه السلام: قول الله (تعالى) في كتابه: ذلك
لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام (2)؟ قال: يعني أهل مكة ليس عليهم متعة
كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا، ذات عرق وعسفان، كما يدور حول مكة
فهو ممن دخل في هذه الآية، وكل من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة ".
وذكر في القاموس: أن عسفان كعثمان: موضع على مرحلتين من مكة. وذات
عرق بالبادية ميقات أهل العراق.
ومن ما يعضد ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبيد الله الحلبي وسليمان
ابن خالد وأبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " ليس لأهل مكة - ولا لأهل
مر، ولا لأهل سرف - متعة، وذلك لقول الله عز وجل: ذلك لمن لم يكن أهله

(1) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(2) سورة البقرة، الآية 195.
(3) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
322

حاضري المسجد الحرام " (1) وبهذا المضمون رواية سعيد الأعرج (2).
قال في المعتبر: ومعلوم أن هذه المواضع أكثر من اثني عشر ميلا. ويؤيده
ما ذكره في القاموس: أن بطن " مر " موضع من مكة على مرحلة، و " سرف "
ككتف موضع قرب التنعيم.
وروى في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال:
" قلت: لأهل مكة متعة؟ قال: لا، ولا لأهل البستان، ولا لأهل ذات عرق
ولا لأهل عسفان ونحوها ".
قال في الوافي: البستان بستان ابن عامر قرب مكة مجتمع النخلتين: اليمانية
والشامية.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (4)
قال: " سألته عن قول الله عز وجل: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد
الحرام (5)؟ قال: ذلك أهل مكة ليس لهم متعة ولا عليهم عمرة، قال: قلت:
فما حد ذلك؟ قال: ثمانية وأربعون ميلا من جميع نواحي مكة دون عسفان
وذات عرق ".
وعن علي بن جعفر (6) قال: " قلت لأخي موسى بن جعفر (عليه
السلام): لأهل مكة أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج؟ فقال: لا يصلح أن يتمتعوا
لقول الله عز وجل: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " (7).
أقول وبهذه الأخبار ينبغي أن يستدل على تعين التمتع على النائي
والفردين الآخرين على الحاضر، لا بتلك الأخبار المتقدمة، فإنها مجملة كما عرفت
وإن كان ما وقفت عليه في كلام أصحابنا إنما اشتمل على الاستدلال بتلك الأخبار

(1) سورة البقرة، الآية 195.
(2) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(4) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(5) سورة البقرة، الآية 195.
(6) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(7) سورة البقرة، الآية 195.
323

بقي الكلام في أنه قد روى ثقة الاسلام في الكافي في الحسن عن
حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1): " في قول الله عز وجل: ذلك
لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام (2)؟ قال: من كان منزله على ثمانية
عشر ميلا من بين يديها وثمانية عشر ميلا من خلفها وثمانية عشر ميلا عن يمينها
وثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له، مثل " مر " وأشباهه ".
قال في المدارك بعد ذكر الخبر المذكور: ويمكن الجمع بينه وبين صحيحة
زرارة المتقدمة بالحمل على أن من بعد ثمانية عشر ميلا كان مخيرا بين الأفراد
والتمتع، ومن بعد بالثمانية والأربعين تعين عليه التمتع.
وروى الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام (3)
" في حاضري المسجد الحرام؟ قال: ما دون الأوقات إلى مكة ".
وعن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (4) قال: " في حاضري المسجد الحرام؟
قال: ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد وليس لهم متعة ".
وهذان الخبران بحسب ظاهرهما لا يخلوان من الاشكال، لأن ما دون
الأوقات أعم من أن يكون ثمانية وأربعين ميلا أو أزيد. ولا قائل بذلك. مع ظهور
مخالفتهما لصحيحة زرارة المتقدمة وروايته الأخرى. وحينئذ فيجب تقييدهما
بعدم الزيادة على الثمانية وأربعين ميلا.
وأما ما ذكره في الذخيرة بعد ذكر الاحتمال الذي ذكرناه - من أنه يحتمل
الحمل على التقية لموافقته المحكي عن أبي حنيفة - فلا أعرف له وجها، لأن المحكي عن أبي حنيفة - كما نقله في التذكرة، قال: وقال أبو حنيفة: وحاضرو المسجد الحرام

(1) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(2) سورة البقرة، الآية 195
(3) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(4) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
324

أهل المواقيت والحرم وما بينهما (1) - مخالف لما دل عليه ظاهر الخبرين المذكورين
من تفسير الحاضرين بمن دون المواقيت، المؤذن بخروج أصحاب المواقيت،
فكيف يمكن حمل الخبرين على مذهبه؟
نعم يمكن أن يقال: إن أقرب المواقيت إلى مكة - كما ذكره في التذكرة - ذات
عرق، وهي مرحلتان من مكة، والمرحلتان - كما سيأتي بيانه إن شاء الله (تعالى) -
عبارة عن مسافة يومين. وقال في موضع آخر من التذكرة أيضا: إن قرن المنازل
ويلملم والعقيق على مسافة واحدة، بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان.
وعلى هذا فتكون هذه المواقيت من مكة مسافة ثمانية وأربعين ميلا
التي هي الحد الشرعي في أن من كان دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد
الحرام، وإلا فلا.
وتوضيح ذلك أنهم قد ذكروا في مسافة التقصير أنها عبارة عن أربعة وعشرين
ميلا، وهو بياض يوم باتفاق الأخبار والأصحاب، وثمانية وأربعون ميلا عبارة
عن يومين، وإذا ثبت أن هذه المواقيت على مسافة ثمانية وأربعين ميلا فكل
من كان دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وبه يصح معنى الخبرين
من غير اشكال.
ويظهر هذا المعنى أيضا من رواية زرارة، حيث إنه جعل فيها الحد لحاضري
مكة هو ما دخل في مسافة ثمانية وأربعين ميلا من جميع نواحي مكة، ثم قال: دون
عسفان وذات عرق. فإنه ظاهر في كونهما على مسافة ثمانية وأربعين ميلا من مكة.
إلا أنه ينقدح هنا اشكال آخر في المقام، وهو أن ظاهر صحيحة زرارة
ورواية أبي بصير أن عسفان وذات عرق من جملة حاضري مكة، وأنهما داخلان

(1) في بدائع الصنائع ج 2 ص 169: حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة
وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة.
325

في مسافة الثمانية والأربعين إلى مكة، مع أنه في القاموس صرح بأن عسفان على
مرحلتين، والعلامة في التذكرة صرح بأن ذات عرق على مرحلتين، وصاحب
المدارك وغيره نقلوا ذلك، ولم يذكروا معنى المرحلة وأنها عبارة عن ماذا،
والذي وقفت عليه في تفسيرها ما ذكره الفيومي في المصباح، فإنه قال: والمرحلة
المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم، والجمع مراحل. وظاهر هذه العبارة
كونها عبارة عن مسافة يوم، بأن يكون " نحو " في كلامه بمعنى " مثل " كما هو
الظاهر. وعلى هذا فتكون المرحلتان عبارة عن مسافة يومين. وفي كتاب شمس العلوم
قال: يقال: بينهما مرحلة، أي مسيرة يوم. وهو صريح في ما ذكرناه.
ومن هنا ينقدح الاشكال المشار إليه، لأن الثمانية والأربعين ميلا التي جعلت
مناطا للفرق بين حاضري مكة وغيرهم عبارة عن يومين أيضا، لما عرفت من ما
صرحوا به في مسافة التقصير من ما قدمنا ذكره آنفا. وبذلك يلزم الاشكال في
صحيحة زرارة، ورواية أبي بصير، وكذا كلام الأصحاب الذين صرحوا
بأن عسفان وذات عرق من توابع مكة، بمعنى أنها داخلة في مسافة الثمانية والأربعين
ميلا، والحال أن عسفان - كما ذكره في القاموس - على مرحلتين من مكة، وذات
عرق كذلك، كما تقدم في كلام العلامة في التذكرة، وبموجب كون المرحلتين عبارة
عن مسافة يومين كما نقلناه عن أهل اللغة - واليومان عبارة عن ثمانية وأربعين
ميلا - يكون الموضعان المذكوران خارجين عن حدود مكة وملتحقين بالآفاق
الموجبة لحج التمتع. ولم أقف على من تنبه لذلك من أصحابنا (رضوان الله عليهم).
وقد عرفت من ظاهر روايتي حماد بن عثمان والحلبي ما يؤيد ما ذكره في
القاموس والتذكرة من خروج هذين الموضعين عن حدود مكة وعدم الدخول
في حاضري المسجد.
واحتمال حمل صحيحة زرارة ورواية أبي بصير على التقية - لما عرفت من أن
326

مذهب أبي حنيفة تفسير حاضري مكة بأهل المواقيت وأهل الحرم وما بينهما - وإن
أمكن إلا أن ظاهر صحيحة زرارة يشعر بأن ذات عرق وعسفان داخلان في
حدود المسافة المذكورة لا خارجان عنها.
وبالجملة فالمسألة محل توقف واشكال، ولا مناص للخروج من الاشكال إلا
بالطعن في عبارتي القاموس والتذكرة بأن الموضعين المذكورين على مرحلتين،
بأن يقال: أنهما أقل من ذلك وقوفا على الصحيحة المذكورة، أو بأن يقال: إن
المرحلة ليست عبارة عن ما ذكر في المصباح وكتاب شمس العلوم بل أقل من
ذلك. والكل مشكل. والله العالم.
المسألة الثانية - لا خلاف ولا اشكال في أن من كان فرضه التمتع فإنه
لا يجوز له العدول اختيارا إلى غيره وإنما يجوز له مع الاضطرار بلا خلاف
كضيق الوقت عن الاتيان بأفعال العمرة قبل الوقوف، أو حصول الحيض المانع
من الاتيان بطواف العمرة وصلاة ركعتيه.
ومن ما يدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام (1) في حديث قال: " أضمر في نفسك المتعة فإن أدركت
متمتعا وإلا كنت حاجا ".
وما رواه في الصحيح عن جميل بن دراج (2) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن المرأة الحائض إذا قدمت مكة يوم التروية؟ قال: تمضي كما هي إلى عرفات
فتجعلها حجة، ثم تقيم حتى تطهر فتخرج إلي التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة " قال ابن أبي عمير: كما صنعت عائشة.
والأخبار في ذلك تأتي إن شاء الله تعالى.

(1) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج، والباب 21 من الاحرام.
(2) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
327

نعم إنه وقع الخلاف في حد الضيق الموجب للعدول، وكذا وقع الخلاف
في الحائض.
والكلام هنا يقع في مقامين: الأول - في تحقيق حد الضيق الموجب للعدول:
فقال الشيخ المفيد (قدس سره): من دخل مكة يوم التروية وطاف
بالبيت وسمى بين الصفا والمروة فأدرك ذلك قبل مغيب الشمس أدرك المتعة، فإذا
غابت الشمس قبل أن يفعل ذلك فلا متعة له، فليقم على احرامه ويجعلها حجة مفردة
وقال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه (قدس سره): الحائض إذا
طهرت يوم التروية قبل زوال الشمس فقد أدركت متعتها، وإن طهرت بعد الزوال
يوم التروية فقد بطلت متعتها، فتجعلها حجة مفردة. قيل: وهو منقول عن
المفيد أيضا.
وقال الصدوق (قدس سره) في المقنع: فإن قدم المتمتع يوم التروية فله
أن يتمتع ما بينه وبين الليل، فإن قدم ليلة عرفة فليس له أن يجعلها متعة بل يجعلها
حجة مفردة، فإن دخل المتمتع مكة فنسى أن يطوف بالبيت وبالصفا والمروة حتى
كان ليلة عرفة فقد بطلت متعته ويجعلها حجة مفردة.
ونقل الشهيد في الدروس عن الحلبي من قدماء أصحابنا أنه قال: وقت
طواف العمرة إلى غروب الشمس يوم التروية للمختار، وللمضطر إلى أن يبقى ما يدرك
عرفة في آخر وقتها.
وقال الشيخ في النهاية: فإذا دخل مكة يوم عرفة جاز له أن يتحلل أيضا
ما بينه وبين زوال الشمس، فإذا زالت الشمس فقد فاتته العمرة وكانت حجة مفردة.
وإلى هذا القول ذهب ابن الجنيد وابن حمزة وابن البراج والسيد السند في المدارك
وقال ابن إدريس: تبقى المتعة ما لم يفت اضطراري عرفة. واستقرب
العلامة في المختلف اعتبار اختياري عرفة، وقواه في الدروس.
328

هذا ما حضرني في المسألة من أقوال أصحابنا (رضوان الله عليهم).
وأما الأخبار فهي مختلفة غاية الاختلاف، فمنها ما يدل على ما ذكره الشيخ
في النهاية من فوات المتعة بزوال الشمس من يوم عرفة، وبه استدل في المدارك:
كرواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " المتمتع له المتعة
إلى زوال الشمس من يوم عرفة، وله الحج إلى زوال الشمس من يوم النحر " قال
في المدارك: وهو نص في المطلوب.
ووصفها في المدارك بالصحة تبعا للشهيد في الدروس، مع أن في طريقها محمد
ابن عيسى وهو مشترك، ولا قرينة على أنه الأشعري. وهو كثيرا ما يرد هذا
السند بالاشتراك، لاحتمال العبيدي وحديثه عنده في الضعيف. فوصفه بالصحة
هنا سهو ظاهر نشأ من الاستعجال.
ومثل هذه الرواية ما رواه في الكافي عن العدة عن سهل، رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام (2): " في متمتع دخل يوم عرفة؟ قال: متعته تامة إلى أن يقطع
التلبية " وقطع التلبية هنا كناية عن الزوال من يوم عرفة، لأنه وقت قطع التلبية
وكيف كان فالخبران ضعيفان لا يصلحان للاستدلال على قاعدته.
ومنها - ما يدل على العدول إذا خاف فوت الموقف، نحو حسنة الحلبي (3)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أهل بالحج والعمرة جميعا،
ثم قدم مكة والناس بعرفات، فخشى إن هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أن
يفوته الموقف؟ قال: يدع العمرة، فإذا أتم حجه صنع كما صنعت عائشة
ولا هدي عليه ".

(1) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج
(2) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج
(3) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
329

وما رواه الكليني والشيخ عنه عن يعقوب بن شعيب الميثمي (1) قال:
" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس للمتمتع إن لم يحرم من ليلة
التروية متى ما تيسر له ما لم يخف فوت الموقفين ".
قال في الوافي: في بعض النسخ: " أن يحرم من ليلة عرفة " مكان " أن
لم يحرم من ليلة التروية ".
أقول: الظاهر من الخبرين المذكورين أن المراد بالموقف فيهما الموقف
الاختياري، بمعنى أنه متى قدم مكة والناس في عرفات، وخشي أنه إن اشتغل بأفعال
العمرة - وبينه وبين عرفات أربعة فراسخ - لم يلحق الموقف الاختياري، فإنه يدع
العمرة وينقل حجه إلى الافراد ويبادر إلى عرفات ليدرك الموقف الاختياري. والحمل
على الاضطراري - كما رجحه في الذخيرة - الظاهر بعده بل عدم استقامته. ولهذا
أن صاحب المدارك اعتضد بحسنة الحلبي المذكورة بعد استدلاله برواية جميل.
ومن الظاهر أن رواية جميل إنما أريد منها ذلك، فإن المراد من قوله: " المتمتع
له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة " أنه إن عرف أنه يأتي بأفعال العمرة
من الصبح على وجه يدرك الناس بعرفات بقي على متعته وأدرك الموقف، وإن عرف
أنه لا يفرغ منها إلا إلى الزوال فإنه ينقل حجه إلى الافراد ويمضي إلى عرفة
ويدرك الموقف.
وبهذا التقريب يرجع كلام الشيخ والأخبار المذكورة إلى أن المدار في ذلك
على أنه إن عرف أدراك الموقف بقي على ما اعتمر وبقي على متعته، وإن عرف فواته
نقل نيته إلى الافراد وبادر إلى عرفات. وهو ما صرح به العلامة في المختلف
والشهيد في الدروس. وهو صريح عبارة الشيخ الآتي نقلها (2) عن التهذيب.

(1) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج
(2) ص 337
330

وعلى هذا القول يدل صحيح زرارة (1) قال: " سألت أبا جعفر (عليه
السلام) عن الرجل يكون في يوم عرفة وبينه وبين مكة ثلاثة أميال وهو متمتع
بالعمرة إلى الحج؟ فقال: يقطع التلبية تلبية المتعة، ويهل بالحج بالتلبية إذا
صلى الفجر، ويمضي إلى عرفات فيقف مع الناس ويقضي جميع المناسك، ويقيم بمكة
حتى يعتمر عمرة المحرم، ولا شئ عليه " وهو ظاهر في العدول متى لم يدرك
اختياري عرفة، وإلا فإن الاضطراري في الصورة المذكورة يمكن ادراكه.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن سرو - (2) - وهو مجهول، إلا أن المحقق الشيخ حسن قال في كتاب المنتقى: محمد بن سرو، وهو ابن
جزك، والغلط وقع في اسم أبيه من الناسخين. وحينئذ فالخبر صحيح، لأن
محمد بن جزك ثقة - قال: " كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) ما تقول
في رجل متمتع بالعمرة إلى الحج وافى غداة عرفة وخرج الناس من منى إلى
عرفات، أعمرته قائمة أو قد ذهبت منه؟ إلى أي وقت عمرته قائمة إذا كان متمتعا
بالعمرة إلى الحج فلم يواف يوم التروية ولا ليلة التروية، فكيف يصنع؟ فوقع
(عليه السلام): ساعة يدخل مكة - إن شاء الله تعالى - يطوف ويصلي ركعتين
ويسعى ويقصر ويخرج بحجته ويمضي إلى الموقف ويفيض مع الإمام ".
وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن محمد بن أبي حمزة عن بعض
أصحابه عن أبي بصير - ورواه في الفقيه عن أبي بصير (3) - قال: " قلت

(1) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج. وفي الإستبصار ج 2 ص 247
" ويحرم بحجته ".
(3) الكافي ج 4 ص 447، والتهذيب ج 5 ص 475، والفقيه ج 2 ص 242، وفي
الوسائل الباب 20 من أقسام الحج. وفي غير الكافي: " وتلحق الناس بمنى فلتفعل ".
331

لأبي عبد الله (عليه السلام): المرأة تجئ متمتعة فتطمث قبل أن تطوف بالبيت
فيكون طهرها ليلة عرفة؟ فقال: إن كانت تعلم أنها تطهر وتطوف بالبيت
وتحل من احرامها وتلحق الناس فلتفعل ".
وهو ظاهر - كما ترى - في اشتراط لحوق الناس في عرفات الذي هو
عبارة عن الموقف الاختياري، كما أشار إليه في الخبر الأول بقوله: " ويفيض
مع الإمام ".
ومن ما يدخل في سلك نظام هذه الأخبار أيضا ما رواه ثقة الاسلام في
الكافي والصدوق في الفقيه في الصحيح عن محمد بن ميمون (1) قال: " قدم
أبو الحسن (عليه السلام) متمتعا ليلة عرفة فطاف وأحل وأتى بعض جواريه، ثم
أهل بالحج وخرج ".
ومنها - ما يدل على أن الاعتبار بادراك الناس بمنى، بمعنى أنه إن أمكنه
الاتيان بالعمرة وادراك الناس بمنى أدرك التمتع وإلا فلا.
ومن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (2) قال: " المتمتع يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ما أدرك
الناس بمنى ".
وفي الصحيح عن مرازم بن حكيم (3) قال " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): المتمتع يدخل ليلة عرفة مكة، أو المرأة الحائض، متى يكون لهما
المتعة؟ قال: ما أدركوا الناس بمنى ".

(1) الكافي ج 4 ص 443، والفقيه ج 2 ص 242، وفي الوسائل الباب
20 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
332

وفي الموثق عن ابن بكير عن بعض أصحابنا (1) " أنه سأل أبا عبد الله
(عليه السلام) عن المتعة متى تكون؟ قال: يتمتع ما ظن أنه يدرك الناس بمنى ".
وفي الصحيح عن هشام ومرازم وشعيب عن أبي عبد الله عليه السلام (2): " في
الرجل المتمتع يدخل ليلة عرفة فيطوف ويسعى ثم يحل ثم يحرم ويأتي منى؟
قال: لا بأس ".
وعن أبي بصير (3) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: المرأة تجئ متمتعة
فتطمث قبل أن تطوف بالبيت فيكون طهرها ليلة عرفة؟ فقال: إن كانت تعلم أنها
تطهر وتطوف بالبيت وتحل من احرامها وتلحق الناس بمنى فلتفعل ".
ورواية شعيب العقرقوفي (4) قال: " خرجت أنا وحديد فانتهينا إلى
البستان يوم التروية، فتقدمت على حمار فقدمت مكة، فطفت وسعيت وأحللت من
تمتعي، ثم أحرمت بالحج، وقدم حديد من الليل، فكتبت إلى أبي الحسن عليه السلام
استفتيه في أمره؟ فكتب إلي: مره يطوف ويسعى ويحل من متعته، ويحرم
بالحج ويلحق الناس بمنى، ولا يبيتن بمكة ".
ومنها - ما يدل على توقيت التمتع بآخر نهار التروية:
ومنه - ما رواه الشيخ في الصحيح عن عيص بن القاسم (5) قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن المتمتع يقدم مكة يوم التروية صلاة العصر تفوته المتعة؟

(1) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
(2) التهذيب ج 5 ص 171، وفي الوسائل الباب 20 من أقسام الحج
(3) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج. وقد نقل الحديث ص 331 عن
المشايخ الثلاثة، ولم يذكر فيه لفظ " بمنى " كما هي رواية الكليني (قدس سره)
(4) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
(5) التهذيب ج 5 ص 172، وفي الوسائل الباب 20 من أقسام الحج
333

فقال: لا، له ما بينه وبين غروب الشمس. وقال: قد صنع ذلك رسول الله
صلى الله عليه وآله ".
وما رواه عن إسحاق بن عبد الله (1) قال: " سألت أبا الحسن موسى عليه السلام
عن المتمتع يدخل مكة يوم التروية؟ فقال: للمتمتع ما بينه وبين الليل ".
وما رواه في الصحيح عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال:
" إذا قدمت مكة يوم التروية وأنت متمتع فلك ما بينك وبين الليل أن تطوف
بالبيت وتسعى وتجعلها متعة ".
وما رواه عن عمر بن يزيد أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " إذا
قدمت مكة يوم التروية، وقد غربت الشمس فليس لك متعة، امض كما أنت بحجك ".
وما رواه عن زكريا بن عمران (4) قال: " سألت أبا الحسن عليه السلام عن
المتمتع إذا دخل يوم عرفة؟ قال: لا متعة له، يجعلها عمرة مفردة ".
وما رواه عن إسحاق بن عبد الله عن أبي الحسن عليه السلام (5) قال: " المتمتع
إذا قدم ليلة عرفة فليست له متعة، يجعلها حجة مفردة، إنما المتعة إلى يوم التروية ".
وما رواه عن موسى بن عبد الله (6) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
المتمتع يقدم مكة ليلة عرفة؟ قال: لا متعة له، يجعلها حجة مفردة ويطوف بالبيت
ويسعى بين الصفا والمروة ويخرج إلى منى، ولا هدي عليه، إنما الهدي على المتمتع "

(1) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج
(4) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج. وقد أورد اسم الراوي كما جاء
في الإستبصار ج 2 ص 249. وفي التهذيب ج 5 ص 173 " زكريا بن آدم ".
(5) التهذيب ج 5 ص 173، وفي الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
(6) التهذيب ج 5 ص 173، وفي الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
334

وما رواه عن علي بن يقطين (1) قال: " سألت أبا الحسن موسى (عليه
السلام) عن الرجل والمرأة يتمتعان بالعمرة إلى الحج، ثم يدخلان مكة يوم
عرفة، كيف يصنعان؟ قال: يجعلانها حجة مفردة، وحد المتعة إلى يوم التروية "
ومنها - ما يدل على التوقيت بزوال الشمس من يوم التروية، كصحيحة
محمد بن إسماعيل بن بزيع (2) قال: " سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام)
عن المرأة تدخل مكة متمتعة فتحيض قبل أن تحل، متى تذهب متعتها؟ قال:
كان جعفر (عليه السلام) يقول: زوال الشمس من يوم التروية. وكان موسى
(عليه السلام) يقول: صلاة الصبح من يوم التروية. فقلت: جعلت فداك
عامة مواليك يدخلون يوم التروية ويطوفون ويسعون ثم يحرمون بالحج؟ فقال:
زوال الشمس. فذكرت له رواية عجلان أبي صالح فقال: لا، إذا زالت الشمس
ذهبت المتعة. فقلت: فهي على احرامها أو تجدد احرامها للحج؟ فقال: لا هي
على احرامها. فقلت فعليها هدي؟ فقال: لا، إلا أن تحب أن تطوع... الحديث "
أقول: ورواية عجلان أبي صالح هي ما رواه ثقة الاسلام في الكافي
عن درست عن عجلان أبي صالح (3) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)

(1) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج
(2) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج
(3) روى الكليني هذا الحديث في الكافي ج 4 ص 446 بطريقين،
ونقل في الوسائل الحديثين في الباب 84 من الطواف برقم 2 و 6. وقوله (عليه
السلام): " فإذا قدمت مكة طافت بالبيت طوافين ثم سعت بين الصفا والمروة "
يختص به أحد الطريقين وينتهي بقوله: " ما خلا فراش زوجها " والطريق
الثاني يفقد الفقرة المتقدمة ويشتمل على تتمة، وهي قول الراوي: وكنت أنا
وعبيد الله بن صالح... إلى آخره. والمصنف (قدس سره) جمع بين ألفاظ الطريقين
ونقل الحديث بالصورة المذكورة.
335

متمتعة قدمت مكة فرأت الدم، كيف تصنع؟ قال: تسعى بين الصفا والمروة وتجلس
في بيتها، فإن طهرت طافت بالبيت، وإن لم تطهر فإذا كان يوم التروية أفاضت عليها
الماء وأهلت بالحج وخرجت إلى منى فقضت المناسك كلها، فإذا قدمت مكة طافت
بالبيت طوافين ثم سعت بين الصفا والمروة، فإذا فعلت ذلك فقد حل لها كل شئ
ما عدا فراش زوجها. قال: وكنت أنا وعبيد الله بن صالح سمعنا هذا
الحديث في المسجد، فدخل عبيد الله علي أبي الحسن (عليه السلام) فخرج إلي
فقال: قد سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رواية عجلان فحدثني بنحو
ما سمعنا من عجلان ".
أقول: ظاهر هذا الحديث - كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في المقام
الثاني - هو البقاء على المتعة من غير عدول، وقضاء طواف العمرة بعد الاتيان بالمناسك
وروى في الكتاب المذكور (1) في الصحيح عن عبد الرحمان بن الحجاج
في حديث طويل قال: " أرسلت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن بعض من
معنا من صرورة النساء قد اعتللن، فكيف تصنع؟ قال: فلتنظر ما بينها وبين
التروية قان طهرت فلتهل بالحج، وإلا فلا يدخل عليها يوم التروية إلا وهي محرمة ".
وروى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن جميل بن
دراج (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحائض إذا
قدمت مكة يوم التروية؟ قال: تمضي كما هي إلى عرفات فتجعلها حجة، ثم تقيم
حتى تطهر، وتخرج إلى التنعيم فتحرم وتجعلها عمرة " وزاد في التهذيب (3): قال
ابن أبي عمير: " كما صنعت عائشة ".

(1) ج 4 ص 300 و 301، وفي الوسائل الباب 9 و 21 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
(3) ج 5 ص 390
336

وقد تقدم في رواية علي بن يقطين: " وحد المتعة إلى يوم التروية ".
وقال في كتاب الفقه الرضوي (1): وإذا حاضت المرأة من قبل أن تحرم
فعليها أن تحتشي إذا بلغت الميقات وتغتسل وتلبس ثياب احرامها وتدخل مكة
وهي محرمة، ولا تقرب المسجد الحرام، فإن طهرت ما بينها وبين يوم التروية قبل
الزوال فقد أدركت متعتها، فعليها أن تغتسل وتطوف بالبيت وتسعى بين الصفا
والمروة وتقضي ما عليها من المناسك، وإن طهرت بعد الزوال يوم التروية فقد
بطلت متعتها، فتجعلها حجة مفردة.
ولا يخفى أن عبارة الشيخ علي بن بابويه المتقدمة إنما أخذت من هذه
العبارة، على عادته التي أشرنا إليها في غير موضع من ما تقدم.
ومنها - ما يدل على التحديد بسحر عرفة، كما رواه الشيخ في الصحيح عن
محمد بن مسلم (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إلى متى يكون
للحاج عمرة؟ قال: إلى السحر من ليلة عرفة ".
أقول: لا يخفى ما في هذه الأخبار من الاشكال والداء العضال والتدافع
بينها في هذا المجال.
قال الشيخ (قدس سره) في التهذيب: المتمتع بالعمرة إلى الحج تكون
عمرته تامة ما أدرك الموقفين، سواء كان ذلك يوم التروية أو ليلة عرفة أو يوم
عرفة إلى بعد زوال الشمس، فإذا زالت الشمس من يوم عرفة فقد فاتت المتعة، لأنه
لا يمكنه أن يلحق الناس بعرفات والحال على ما وصفناه. إلا أن مراتب الناس
تتفاضل في الفضل والثواب، فمن أدرك يوم التروية عند زوال الشمس يكون ثوابه

(1) ص 30.
(2) الوسائل الباب 20 من أقسام الحج.
337

أكثر ومتعته أكمل ممن لحق بالليل، ومن أدرك بالليل يكون ثوابه دون ذلك وفوق
من يلحق يوم عرفة إلى بعد الزوال. والأخبار التي وردت - في أن من لم يدرك
يوم التروية فقد فاتته المتعة - المراد بها فوت الكمال الذي يرجوه بلحوقه يوم
التروية. وما تضمنت من قولهم (عليهم السلام): " ويجعلها حجة مفردة " فالانسان
بالخيار في ذلك بين أن يمضي المتعة وبين أن يجعلها حجة مفردة إذا لم يخف فوت
الموقفين وكانت حجته غير حجة الاسلام التي لا يجوز فيها الافراد مع الامكان حسبما
بيناه، وإنما يتوجه وجوبها والحتم على أن تجعل حجة مفردة لمن غلب على ظنه أنه إن
اشتغل بالطواف والسعي والاحلال ثم الاحرام بالحج يفوته الموقفان. ومهما
حملنا هذه الأخبار على ما ذكرناه لم يكن قد دفعنا شيئا منها. انتهى كلامه
زيد مقامه.
أقول: وهذا الكلام جيد في حد ذاته إلا أن انطباق الأخبار عليه في
غاية الاشكال، وإن كان أصحابنا قد تلقوه بالقبول في هذا المجال، فإن
الأخبار الدالة على التوقيت بيوم التروية قد دلت جملة منها على أنه بعد انقضاء
يوم التروية فلا متعة له بل يجعلها حجة مفردة، فقوله -: إن المراد بفوات
المتعة يوم التروية فوات الكمال - لا يلائم الأمر بالعدول إلي الافراد الذي هو
حقيقة في الوجوب.
وأما قوله في الجواب عن ذلك -: إنه محمول على غير حجة الاسلام، وإنه
مخير في ذلك بين أن يمضي المتعة وبين أن يجعلها حجة مفردة -
ففيه أولا - مع عدم ظهور قرينة على الحمل على غير حجة الاسلام، وكذا
على التخيير الذي ادعاه - أن ظاهر الأمر بالعدول إلي حجة الافراد - بناء على
تسليم ما ذكره - يقتضي أن الأفضل هو الافراد إن جاز المضي على التمتع، مع أن
الروايات قد استفاضت بأفضلية حج التمتع في مثل هذه الصورة، وعاضدها اتفاق
338

كلمة الأصحاب على ذلك أيضا، فكيف يجعل الأفضل هنا حج الافراد، وتتفق
هذه الأخبار على أن الأفضل حج الافراد في صورة الاستحباب كما زعمه؟
والعلامة في المنتهى حمل الأخبار المشار إليها على من خاف فوت الموقفين
للجمع بين الروايات.
ولا يخفى ما فيه، فإن من جملة الأخبار المشار إليها صحيحة جميل بن دراج
المتقدمة، وهي قد اشتملت على القدوم يوم التروية الذي يخرج الناس فيه بالحج،
مع أنه أمر المرأة بالمضي إلى عرفات وأن تجعلها حجة مفردة. ونحوها الأخبار الأخر
فإنها ظاهرة في ادراك الموقف الاختياري كما لا يخفى.
وثانيا - أن صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج ظاهرة بل صريحة في حج
الاسلام، لقوله فيها: " إن بعض من معنا من صرورة النساء " والمراد بالصرورة
إنما هو من لم يحج كما عرفت آنفا، فهو ظاهر في كون حج المرأة المذكورة إنما
هو حج الاسلام، ومع ذلك جعل المناط فيها يوم التروية، فإن طهرت أحلت في
يوم التروية وإلا مضت في احرامها تنقله إلى الافراد.
وثالثا - قول الرضا (عليه السلام) في كتاب الفقه (1): " وإن طهرت
بعد الزوال يوم التروية فقد بطلت متعتها فتجعلها حجة مفردة " وهي صريحة
في المدعى. وقد عرفت من ما قدمنا في غير موضع أن الكتاب معتمد، ومنه
أخذ علي بن الحسين بن بابويه عبارته المتقدمة، كما نبهنا عليه مرارا في ما سلف.
ومن ما يعضد كلامه في الكتاب المذكور صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع عنه
(عليه السلام) (2).
وبالجملة فإن الأخبار المذكورة ظاهرة تمام الظهور في ما قلناه، ولهذا

(1) ص 30.
(2) ص 335
339

ذهب المشايخ المتقدم ذكرهم إلى القول بمضمونها. وتأويل الشيخ (رضوان الله
عليه) لها بما ذكره بعيد غاية البعد، لكن أصحابنا المتأخرين حيث رأوا الأخبار
بهذا الاختلاف الزائد ولم يهتدوا إلى وجه يجمعون به بينها جمدوا على كلام
الشيخ المذكور.
والأظهر عندي في اختلاف هذه الأخبار إنما هو الحمل على التقية، على الوجه
الذي قدمنا ذكره في المقدمة الأولى من مقدمات الكتاب، من أنهم (عليهم
السلام) كثيرا ما يلقون الاختلاف بين الشيعة في الأحكام لما يرونه من المصلحة
التي تقدمت الإشارة إليها في المقدمة المذكورة وإن لم يكن شئ منها مذهبا للعامة.
وأنت خبير بأن روايات التحديد بادراك منى، وكذا روايات التحديد بآخر
نهار التروية، وروايات التحديد بيوم التروية، كلها متقاربة يمكن حمل بعضها على
بعض، والمخالفة التامة إنما تحصل بين هذه الأخبار والأخبار الأولة الدالة على أن المدار
في ذلك على ادراك الموقفين. والجمع بينهما - كما عرفت - مشكل. ويمكن ترجيح
الأخبار الأولة بأنها أوفق بقواعد الأخبار والأصحاب، والثانية بأنها أكثر عددا.
وظاهر الفاضل الخراساني في الذخيرة الميل إلى ما ذهب إليه الشيخ المفيد
وابن بابويه، حيث قال: ولا يخفى أن مقتضى صحيحة جميل تعين العدول يوم
التروية، ومقتضى صحيحة محمد بن إسماعيل توقيت متعتها بزوال الشمس يوم
التروية. والأولى العمل بذلك كما هو محكي عن علي بن بابويه والمفيد، وقد سبق
حكايته. انتهى.
والمسألة لا تخلو من شوب الاشكال. ولعل الترجيح للقول المشهور. والله العالم
المقام الثاني - المشهور بين الأصحاب أن الحائض والنفساء إذا منعهما
عذرهما عن التحلل وانشاء الاحرام بالحج لضيق الوقت فإنهما تبقيان على احرامهما
وتنقلان حجهما إلى الافراد.
340

وظاهر العلامة في المنتهى دعوى الاجماع على ذلك، حيث قال: إذا دخلت
المرأة مكة متمتعة طافت وسعت وقصرت ثم أحرمت بالحج كما يفعل الرجل سواء
فإن حاضت قبل الطواف لم يكن لها أن تطوف بالبيت اجماعا، لأن الطواف
صلاة (1) ولأنها ممنوعة من الدخول إلى المسجد. وتنتظر إلى وقت الوقوف
بالموقفين، فإن طهرت وتمكنت من الطواف والسعي والتقصير وانشاء الاحرام
بالحج وادراك عرفة صح لها التمتع، وإن لم تدرك ذلك وضاق عليها الوقت
واستمر بها الحيض إلى وقت الوقوف بطلت متعتها وصارت حجتها مفردة، ذهب
إليه علماؤنا أجمع.
ونقل في المدارك عن الشهيد في الدروس أنه حكى عن علي بن بابويه
وأبي الصلاح وابن الجنيد قولا بأنها مع ضيق الوقت تسعى ثم تحرم بالحج
وتقضي طواف العمرة مع طواف الحج.
قال في المدارك بعد نقل القولين المذكورين: والمعتمد الأول، لنا ما رواه
الشيخ عن الحسين بن سعيد... ثم أورد صحيحة جميل المتقدمة (2) ثم أردفها
بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المتقدمة أيضا. وقال بعدها: قال في المنتهى:
وهذا الحديث كما يدل على سقوط وجوب الدم يدل على الاجتزاء بالاحرام
الأول. وأما اختلاف الإمامين (عليهما السلام) في فوات المتعة فالضابط فيه
ما تقدم من أنه إذا أدركت أحد الموقفين صحت متعتها إذا كانت قد طافت وسعت
وإلا فلا. وقد تقدم البحث فيه. ثم قال في المدارك: هذا كلامه وهو جيد.

(1) في حديث أبي حمزة في الوسائل الباب 38 من الطواف: "... إلا
الطواف فإن فيه صلاة " وفي سنن الدارمي ج 1 ص 374 عن النبي صلى الله عليه وآله:
" الطواف بالبيت صلاة ".
(2) ص 336
341

أقول: لا ريب أن البناء على هذا الضابط موجب لرد هذه الأخبار البتة
إذ من المعلوم عند كل ذي سمع ودراية أن الداخل إلى مكة يوم التروية في أوله أو
آخره لا يفوته الموقف بعد الاتيان بأفعال العمرة، مع أنهم (عليهم السلام)
حكموا بفوات المتعة في الصحيحين المذكورين بزوال الشمس من يوم التروية أو
من أول صبحه. وهكذا في الروايات المتقدمة. ولكنهم (رضوان الله عليهم)
لعدم ظهور الجواب لديهم عن هذه الأخبار يرمون بهذا الكلام الذي لا يخرج
عن الجزاف بل ارتكاب التمحل والاعتساف.
وبالجملة فإن الاستدلال بهاتين الصحيحتين وأمثالهما يتوقف على القول
بمضمونهما وهم لا يقولون بذلك، وتأويلهم لا ينطبق عليهما، فكيف يصح منهم
الاستدلال بهما؟ نعم يصح الاستدلال بهما في الجملة أعم من أن يكون الاعتبار
في العدول بما دلتا عليه أو ما دلت عليه الأخبار الأولة.
ويدل على ذلك ما رواه ابن بابويه في الموثق عن إسحاق بن عمار (1)
قال: " سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن المرأة تجئ متمتعة فتطمث قبل أن تطوف
بالبيت حتى تخرج إلى عرفات؟ فقال: تصير حجة مفردة، وعليها دم أضحيتها "
وأما ما يدل على القول الثاني فروايات: منها - رواية عجلان أبي صالح
المتقدمة (2).
ومنها - ما رواه ثقة الاسلام في الكافي (3) في الصحيح عن العلاء بن
صبيح، وعبد الرحمان بن الحجاج، وعلي بن رئاب، وعبد الله بن صالح، كلهم

(1) الفقيه ج 2 ص 240 وفي الوسائل الباب 21 من أقسام الحج.
(2) ص 335 و 336.
(3) ج 4 ص 445، وفي الوسائل الباب 84 من الطواف.
342

يروونه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " المرأة المتمتعة إذا قدمت مكة
ثم حاضت تقيم ما بينها وبين التروية، فإن طهرت طافت بالبيت وسعت بين الصفا
والمروة، وإن لم تطهر إلى يوم التروية اغتسلت واحتشت ثم سعت بين الصفا
والمروة ثم خرجت إلى منى، فإذا قضت المناسك وزارت البيت طافت بالبيت
طوافا لعمرتها ثم طافت طوافا للحج ثم خرجت فسعت، فإذا فعلت ذلك فقد
أحلت من كل شئ يحل منه المحرم إلا فراش زوجها، فإذا طافت أسبوعا آخر
حل لها فراش زوجها ".
وما رواه في الكافي عن عجلان أيضا (1) " أنه سمع أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول: إذا اعتمرت المرأة ثم اعتلت قبل أن تطوف قدمت السعي وشهدت
المناسك، فإذا طهرت وانصرفت من الحج قضت طواف العمرة وطواف الحج
وطواف النساء، ثم أحلت من كل شئ ".
وما رواه في الكافي في الموثق عن يونس بن يعقوب عن رجل (2) " أنه
سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول، وسئل عن امرأة متمتعة طمثت قبل أن تطوف فخرجت مع الناس إلى منى. فقال: أوليس هي على عمرتها وحجتها
فلتطف طوافا للعمرة وطوافا للحج ".
وهو ظاهر في بقائها على عمرتها وحجتها، وأنها تطوف بعد قضاء المناسك
وتسعى أيضا، وإنما سكت عنه لظهوره ومعلوميته.
قال في المدارك بعد نقل صحيحة العلاء بن صبيح وعبد الرحمان بن
الحجاج وعلي بن رئاب المتقدمة: والجواب أنه بعد تسليم السند والدلالة
يجب الجمع بينها وبين الروايات السابقة المتضمنة للعدول إلى الافراد بالتخيير
بين الأمرين.

(1) الوسائل الباب 84 من الطواف.
(2) الوسائل الباب 84 من الطواف.
343

أقول: لا أعرف في مناقشته في سند الرواية ودلالتها هنا وجها غير
مجرد التسجيل، وهو قد نقل في كتابه السند بهذه الصورة: الكليني عن عدة
من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن أبي عمير عن حفص بن
البختري عن الجماعة المتقدم ذكرهم. وليس في السند من يتوقف في شأنه إلا
العلاء بن صبيح وعبد الله بن صالح، وهما مشتركان في النقل مع علي بن رئاب
وعبد الرحمان بن الحجاج المتفق على توثيقهما. وأما الدلالة فهي أظهر من أن تنكر.
أقول: والأظهر في الجمع بين روايات المسألة هو ما دل عليه ما رواه في
الكافي عن أبي بصير (1) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في
المرأة المتمتعة: إذا أحرمت وهي طاهر، ثم حاضت قبل أن تقضي متعتها، سعت
ولم تطف حتى تطهر ثم تقضي طوافها وقد تمت عمرتها، وإن هي أحرمت وهي
حائض لم تسع ولم تطف حتى تطهر ".
وعلى هذا فتحمل أخبار البقاء على المتعة وقضاء طواف العمرة بعد المناسك
على ما إذا أحرمت وهي طاهر. وهذا هو ظاهر الأخبار المشار إليها، كصحيحة
الجماعة المتقدمة، حيث قال فيها: " المرأة المتمتعة إذا قدمت مكة ثم حاضت "
وهو ظاهر في كون احرامها من الميقات وهي طاهر. وكذا رواية عجلان (2)
وقوله فيها: " قدمت مكة فرأت الدم " وهكذا الروايات الباقية. وأما روايات
العدول إلى الافراد فبعضها ما هو ظاهر في ذلك وبعضها يحتاج إلى تأويل.
وهذا التفصيل الذي تضمنته هذه الرواية هو ظاهر عبارة كتاب الفقه

(1) الوسائل الباب 84 من الطواف.
(2) ص 335 و 336.
344

الرضوي، حيث قال عليه السلام (1) على أثر العبارة التي قدمناها: وإن حاضت
بعدما أحرمت سعت بين الصفا والمروة وفرغت من المناسك كلها إلا الطواف
بالبيت، فإذا طهرت قضت الطواف بالبيت وهي متمتعة بالعمرة إلى الحج، وعليها
ثلاثة أطواف: طواف للمتعة وطواف للحج وطواف للنساء.
أقول: ومن هذه العبارة أخذ علي بن الحسين مذهبه المنقول عنه.
وصدر العبارة الذي قدمناه صريح في فرض تقدم الحيض على الاحرام، والحكم
مع ضيق الوقت بالعدول إلى حج الافراد. وهذه العبارة صريحة في تقدم
الاحرام على الحيض، وأن الحكم البقاء على متعتها وتقديم السعي وقضاء طواف
العمرة بعد الاتيان بأفعال الحج.
وإلى هذا المعنى أشار الصدوق في الفقيه (2) حيث قال: وإنما لا تسعى
الحائض التي حاضت قبل الاحرام بين الصفا والمروة وتقضي المناسك كلها، لأنها
لا تقدر أن تقف بعرفة إلا عشية عرفة، ولا بالمشعر إلا يوم النحر، ولا ترمي
الجمار إلا بمنى، وهذا إذا طهرت قضته. انتهى.
وهو (رحمه الله) قد قدم رواية عجلان أبي صالح (3) المتضمنة للأمر بالسعي
للمرأة المتمتعة التي دخلت مكة فحاضت، فجعل هذا الكلام في مقابلة ما دلت
عليه الرواية. وفيه إشارة إلى التفصيل المذكور.
ولعل مراده (طاب ثراه) أنه إنما تعدل في صورة تقدم الحيض على
الاحرام إلى الافراد لأنها لم تدرك شيئا من عمرتها طاهرة، وقد ضاق عليها
وقت الحج، وأفعاله مخصوصة بأوقات معينة لا يمكن التقديم فيها ولا التأخير،

(1) ص 30.
(2) ج 2 ص 242
(3) الفقيه ج 2 ص 239.
345

بخلاف العمرة، فإنه إذا لم يتمكن من الاتيان بها أولا جاز العدول إلى الحج
والاتيان بأفعاله المذكورة في أوقاتها المعينة، ثم الاتيان بالعمرة مفردة بعد
ذلك. وأما في صورة تقدم الاحرام على الحيض فإنها أدركت احرام العمرة
طاهرة، فجاز لها البناء عليه والبقاء على حجها تمتعا ثم السعي بين الصفا
والمروة، وتأخير الطواف وركعتيه إلى بعد الفراغ من أفعال الحج وطهرها، ثم
تأتي به مع طواف الحج وطواف النساء.
قال شيخنا المولى محمد تقي المجلسي - في شرحه على الفقيه بعد ذكر العبارة
المذكورة - ما هذه ترجمته: والحائض التي حاضت قبل الاحرام إنما لا تسعى
بين الصفا والمروة لتأتي بجميع المناسك مع حج التمتع، لأنه لا تقدر على نية
عمرة التمتع، لأنها تعلم أن لأفعال الحج أوقاتا مخصوصة لو لم تفعلها في تلك
الأوقات لم تصح حجتها، مثل الوقوف بعرفات فإنه لا يصح إلا عشية عرفة،
وبالمشعر فلا يصح إلا يوم النحر، ورمي الجمار. وإذا كانت في حال احرامها
حائضا فظنت عدم النقاء إلى يوم العاشر لا تقدر أن تنوي عمرة التمتع فيتعين
عليها نية حج الافراد. فأما إذا لم تكن عند الاحرام حائضا تقدر أن تنوي
عمرة التمتع، بل يجب عليها لاحتمال عدم طروء الدم، فإذا نوتها أتمتها ولو حاضت
بعد ذلك ولكن لا تطوف، فإذا طهرت طافت طواف العمرة ثم تطوف طواف
الحج... إلى آخر أفعاله. وهذا وجه في الجمع بين الأخبار الواردة في هذا
الباب. والاختلاف هنا وقع في أمرين: أحدهما - أن الحائض تأتي بالتمتع
أو الافراد. الثاني - في ادراك عرفة. وأكثر الفضلاء خلطوا بين الأخبار
وجعلوها متفقة غير مختلفة. أما الخلاف في الأمر الأول ففيه ثلاثة أقوال:
الأول - أن الحائض والنفساء إذا دخلتا مكة واتسع وقتهما صبرتا إلى اليوم الثامن
بل إلي زوال اليوم التاسع، فإن طهرتا واتسع وقتهما للاغتسال والاتيان بأقل
346

واجب من الطواف وركعتيه والسعي وتجديد الاحرام للحج وادراك الوقوف
بعرفات تمتعا، وإن فاتهما الحج بالاشتغال بأفعال العمرة بعدم اتساع الوقت
أو عدم الرفقة إلى عرفات وخوفهما على أنفسهما أو بضعهما نقلتا نيتهما من العمرة
إلى الحج وحجتا حج الافراد. وليس في هاتين الصورتين خلاف يعتد به،
إنما معظم الخلاف في أنهما لو أمكنهما الاتيان بأفعال العمرة والحج كليهما،
بأن تأتيا بأفعال العمرة مع عدم النقاء إلا الطواف، وتجددا الاحرام للحج،
وتؤخرا طواف العمرة إلى النقاء فتأتيان به مع طواف الزيارة وطواف النساء،
هل تتمتعان أو تنتقلان إلى الافراد؟ ذهب إلى الأول جماعة من القدماء وجمع
من المتأخرين، وأكثر الأصحاب أوجبوا النقل إلى حج الافراد وتأتي بعد
ذلك بعمرة مفردة. وذهب جمع من الأصحاب إلى القول بالتخيير. ولا يخلو
من قوة. وظني رجحان هذا القول مع أفضلية التمتع. وفيه قول آخر
بالتفصيل - كما ذكره الصدوق (رحمه الله) - بأنهما متى كانتا عند الاحرام طاهرتين
تمتعتا وإلا أفردتا. انتهى كلامه. وإنما نقلناه بطوله لاشتماله على تحقيق المسألة
بجميع أقوالها، وإن كان ما حمل عليه عبارة الصدوق وفسرها به في صدر كلامه
لا يخلو من شئ.
تتميم
هذا كله في ما لو تجدد العذر قبل الشروع في الطواف، أما لو تجدد في
أثنائه فللأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) هنا أقوال: المشهور أنها إن طافت
أربعة أشواط تامة صحت متعتها وأتت بالسعي وبقية المناسك وقضت بعد طهرها
ما بقي من طوافها. وثانيها - ما ذهب إليه ابن إدريس واختاره في المدارك من أنه لا تصح العمرة إلا بعد اتمام الطواف، قال ابن إدريس: والذي تقتضيه
347

الأدلة أنها إذا جاءها الحيض قبل جميع الطواف فلا متعة لها، وإنما ورد بما قاله
شيخنا أبو جعفر خبران مرسلان فعمل عليهما، وقد بينا أنه لا يعمل بأخبار
الآحاد وإن كانت مسندة فكيف بالمراسيل. انتهى. وثالثها - ما ذهب إليه
الصدوق في الفقيه من أنه تصح متعتها وإن حصل الحيض قبل اكمال الأربعة.
ويدل على القول المشهور ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن مسكان
وثقة الاسلام في الصحيح أيضا عن صفوان عن إسحاق بياع اللؤلؤ - وهو مجهول -
عن من سمع أبا عبد الله عليه السلام (1) يقول: " المرأة المتمتعة إذا طافت بالبيت أربعة
أشواط، ثم رأت الدم فمتعتها تامة " وزاد في التهذيب: " وتقضي ما فاتها من
الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وتخرج إلى منى قبل أن تطوف الطواف الآخر ".
أقول: ولعل المراد بالطواف الآخر الطواف المقضي.
وما رواه الشيخ عن إبراهيم بن أبي إسحاق عن سعيد الأعرج (2) قال:
" سئل أبو عبد الله عليه السلام عن امرأة طافت بالبيت أربعة أشواط وهي معتمرة
ثم طمثت؟ قال: تتم طوافها فليس عليها غيره، ومتعتها تامة، فلها أن تسعى
بين الصفا والمروة، وذلك لأنها زادت على النصف، وقد مضت متعتها
ولتستأنف بعد الحج ".
وروى في الفقيه عن ابن مسكان عن إبراهيم بن إسحاق (3) عن من

(1) التهذيب ج 5 ص 393، والكافي ج 4 ص 449، وفي الوسائل
الباب 86 من الطواف. والكليني يرويه عن صفوان عن عبد الله بن مسكان
عن إسحاق. وفي التهذيب عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي إسحاق.
(2) الوسائل الباب 86 من الطواف.
(3) الوسائل الباب 85 من الطواف.
348

سأل أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة طافت... الحديث. وزاد فيه: وإن هي
لم تطف إلا ثلاثة أشواط فلتستأنف الحج، فإن أقام بها جمالها بعد الحج فلتخرج
إلى الجعرانة أو إلى التنعيم فلتعتمر.
أقول: ومن ما يدل على ذلك ما رواه ثقة الاسلام في الكافي (1) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إذا حاضت المرأة وهي في الطواف بالبيت
أو بين الصفا والمروة فجازت النصف فعلمت ذلك الموضع، فإذا طهرت رجعت فأتمت
بقية طوافها من الموضع الذي علمته، وإن هي قطعت طوافها في أقل من النصف
فعليها أن تستأنف الطواف من أوله ".
وما رواه أيضا في الكتاب المذكور عن أحمد بن عمر الحلال عن أبي الحسن عليه السلام (2) قال: " سألته عن امرأة طافت خمسة أشواط ثم اعتلت؟
قال: إذا حاضت المرأة وهي في الطواف بالبيت أو بالصفا والمروة وجاوزت
النصف علمت ذلك الموضع الذي بلغت، فإذا هي قطعت طوافها في أقل من النصف
فعليها أن تستأنف الطواف من أوله ".
وقال في كتاب الفقه الرضوي (3): ومتى حاضت المرأة في الطواف
خرجت من المسجد، فإن كانت طافت ثلاثة أشواط فعليها أن تعيد، وإن
كانت طافت أربعة أقامت على مكانها فإذا طهرت بنت وقضت ما عليها. ولا تجوز
على المسجد حتى تتيمم وتخرج منه. وكذلك الرجل إذا أصابه علة وهو في
الطواف لم يقدر على اتمامه خرج وأعاد بعد ذلك طوافه ما لم يجز نصفه، فإن جاز نصفه

(1) ج 4 ص 448، وفي الوسائل الباب 85 من الطواف.
(2) الوسائل الباب 85 من الطواف.
(3) ص 30.
349

فعليه أن يبني على ما طاف. انتهى.
وقال في المدارك بعد أن نقل روايتي أبي إسحاق صاحب اللؤلؤ
وإبراهيم: وفي الروايتين قصور من حيث السند بالارسال وجهالة المرسل. ثم
نقل كلام ابن إدريس المتقدم نقله، وقال بعده: وهذا القول لا يخلو من قوة
لامتناع اتمام العمرة المقتضي لعدم وقوع التحلل، ويشهد له صحيحة محمد بن
إسماعيل المتقدمة (1) حيث قال فيها: " سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن المرأة
تدخل مكة متمتعة فتحيض قبل أن تحل، متى تذهب متعتها؟... " انتهى.
أقول: قد عرفت ما دل على هذا الحكم عموما وخصوصا من الأخبار
المتقدمة، وما طعن به عليها من ضعف الاسناد بناء على هذا الاصطلاح المحدث
فجوابه جبر ضعفها بعمل الأصحاب كافة. وخلاف ابن إدريس - بناء على
أصوله الغير الأصيلة وأدلته العليلة - من ما لا يلتفت إليه ولا يعرج في مقام
التحقيق عليه. وهو قد سلم هذه المقدمة في غير موضع من شرحه هذا وإن
خالف نفسه في آخر كما هنا.
وأما ما احتج به - من عدم اتمام العمرة المانع من التحلل - ففيه أن المفهوم
من الأخبار المذكورة أن الشارع قد جعل مجاوزة النصف هنا موجبا للتحليل في
مقام الضرورة وقائما مقام الاتمام في ذلك. وبه يظهر الجواب عن اطلاق
الصحيحة التي احتج بها.
وأما ما ذكره الصدوق فإنه قد احتج عليه بصحيحة محمد بن مسلم (2)
قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة طافت ثلاثة أطواف أو أقل من ذلك،

(1) ص 335.
(2) الفقيه ج 2 ص 241، وفي الوسائل الباب 85 من الطواف.
350

ثم رأت دما؟ قال: تحفظ مكانها فإذا طهرت طافت منه واعتدت بما مضى ".
قال في الفقيه بعد نقلها: قال مصنف هذا الكتاب (رضوان الله عليه):
وبهذا الحديث أفتى دون الحديث الذي رواه ابن مسكان عن إبراهيم بن إسحاق
عن من سأل أبا عبد الله عليه السلام... ثم ساق الرواية المتقدمة حسبما قدمنا نقله عنه، ثم
قال: لأن هذا الحديث اسناده منقطع والحديث الأول رخصة ورحمة،
واسناده متصل. انتهى.
أقول: فيه أولا - إن اسناد هذا الخبر وإن كان منقطعا بناء على ما نقله
إلا أنه بناء على رواية الشيخ متصل. و (ثانيا) - اعتضاد هذا الخبر بالأخبار
المتقدمة، وبالأخبار الكثيرة الآتية - إن شاء الله تعالى - في باب الطواف، من أن
طواف الفريضة إنما يبنى فيه على ما زاد على النصف بخلاف طواف النافلة فإنه يبنى
فيه على الأقل (1) ولهذا حمل الشيخ صحيحة محمد بن مسلم على طواف النافلة. وهو
جيد. وبما ذكرناه يظهر قوة القول المشهور. والله العالم.
المسألة الثالثة - قد صرح جمع من الأصحاب بأنه يشترط في حج التمتع
شروط أربعة: الأول - النية، إلا أنه قد اضطرب كلامهم في المعنى المراد من
هذه النية هنا:
قال شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: قد تكرر ذكر النية هنا
في كلامهم وظاهرهم أن المراد بها نية الحج بجملته. وفي وجوبها كذلك نظر.
ويمكن أن يريدوا بها نية الاحرام. وهو حسن إلا أنه كالمستغنى عنه، فإنه من جملة
الأفعال وكما تجب النية له تجب لغيره، ولم يتعرضوا لها في غيره على الخصوص
ولعل للاحرام مزية على غيره باستمراره وكثرة أحكامه وشدة التكليف به. وقد
صرح في الدروس بأن المراد بها نية الاحرام. ويظهر من سلار في الرسالة أن

(1) الوسائل الباب 40 و 41 و 45 من الطواف.
351

المراد بها نية الخروج. انتهى.
ومن غفلات صاحب المدارك أنه - بعد أن نقل عن جده أنه ذكر عن
ظاهر أصحابنا أن المراد بهذه النية نية الحج بجملته - قال: ونقل عن سلار
التصريح به. ويمكن أن يكون في النسخة التي عنده من المسالك الحج عوض
الخروج، فإن المنقول عن سلار قول آخر غير القولين المتقدمين، وهو أنه فسر
النية بنية الخروج إلى مكة، كما أفصح بنقله عنه الشهيد في الدروس.
ونقل في المختلف عن الشيخ في المبسوط أنه قال: شروط التمتع ستة...
إلى أن قال: السادس النية وهي شرط في التمتع، والأفضل أن تكون مقارنة
للاحرام، فإن فاتت جاز تجديدها إلى وقت التحلل. ثم قال في المختلف:
وفيه نظر، فإن الأولى ابطال ما لم يقع بنية لفوات الشرط.
واعتذر عنه في الدروس فقال: ولعله أراد نية التمتع في احرامه لا مطلق
نية الاحرام، ويكون هذا التجديد بناء على جواز نية الاحرام المطلق كما هو
مذهب الشيخ، أو على جواز العدول إلى التمتع من احرام الحج والعمرة المفردة.
وهذا يشعر بأن النية المعدودة هي نية النوع المخصوص. انتهى.
وكيف كان فإن هذا البحث مفروغ عنه عندنا، لما عرفت في مقدمات
الكتاب، فإن النية من الأمور الجبلية في كل فعل يأتي به العاقل المكلف،
عبادة كان أو غيرها. وإنما ذكرنا هذه الكلمات حكاية لما جرى لهم في المقام.
الثاني - وقوعه في أشهر الحج، ويدل عليه من الأخبار صحيحة عمر بن
يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام (1) في حديث قال في آخره: " وقال: ليس تكون
متعة إلا في أشهر الحج ".

(1) الوسائل الباب 15 من أقسام الحج. والباب 7 من العمرة.
352

وصحيحة زرارة (1) قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن الذي يلي المفرد
للحج في الفضل؟ فقال: المتعة. فقلت: وما المتعة؟ فقال: يهل بالحج في
أشهر الحج، فإذا طاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام وسعى بين الصفا
والمروة قصر وأحل، فإذا كان يوم التروية أهل بالحج ونسك المناسك، وعليه
الهدي... الحديث ".
ورواية سعيد الأعرج (2) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: من تمتع في
أشهر الحج ثم أقام بمكة حتى يحضر الحج فعليه شاة، ومن تمتع في غير أشهر
الحج ثم جاور حتى يحضر الحج فليس عليه دم، إنما هي حجة مفردة ".
وروى الصدوق في القوي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام (3)
أنه قال: " من حج معتمرا في شوال ومن نيته أن يعتمر ويرجع إلى بلاده فلا
بأس بذلك، وإن هو أقام إلى الحج فهو متمتع، لأن أشهر الحج شوال
وذو القعدة وذو الحجة، فمن اعتمر فيهن وأقام إلى الحج فهي متعة، ومن
رجع إلى بلاده ولم يقم إلى الحج فهي عمرة، وإن اعتمر في شهر رمضان أو قبله
وأقام إلى الحج فليس بمتمتع وإنما هو مجاور أفرد العمرة، فإن هو أحب أن
يتمتع في أشهر الحج بالعمرة إلى الحج فليخرج منها حتى يجاوز ذات عرق أو

(1) الوسائل الباب 5 من أقسام الحج
(2) الوسائل الباب 10 من أقسام الحج، والباب 1 من الذبح. وتتمة
الرواية: " وإنما الأضحى على أهل الأمصار " وفي الكافي ج 4 ص 487 " حتى
يحضر الحج من قابل فعليه شاة " وكذا في الإستبصار ج 2 ص 259. وفي
التهذيب كما في المتن.
(3) الفقيه ج 2 ص 274، وفي الوسائل الباب 10 من أقسام الحج
353

يجاوز عسفان فيدخل متمتعا بعمرة إلى الحج، فإن هو أحب أن يفرد الحج
فليخرج إلى الجعرانة فيلبي منها ".
ثم إنه قد اختلف الأصحاب وغيرهم في أشهر الحج، فقال الشيخ في النهاية:
هي شوال وذو القعدة وذو الحجة. وبه قال ابن الجنيد. ورواه الصدوق في
كتاب من لا يحضره الفقيه (1) ونقل عن المرتضى وسلار وابن أبي عقيل (رضوان
الله عليهم) أنها شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة. وعن الشيخ في
الجمل وابن البراج: وتسعة من ذي الحجة. وعن الشيخ في الخلاف والمبسوط
إلى طلوع الفجر من يوم النحر. وقال ابن إدريس إلى طلوع الشمس من
يوم النحر.
قال العلامة في المنتهى: وليس يتعلق بهذا الاختلاف حكم. وقال في
المختلف: التحقيق أن هذا نزاع لفظي، فإنهم إن أرادوا بأشهر الحج ما يفوت
الحج بفواته فليس كمال ذي الحجة من أشهره، لما يأتي من فوات الحج دونه
على ما يأتي تحقيقه، وإن أرادوا بها ما يقع فيه أفعال الحج فهي الثلاثة كملا
لأن باقي المناسك تقع في كمال ذي الحجة. فقد ظهر أن النزاع لفظي. وقريب
منه ما قال في التذكرة وولده في الإيضاح.
واستحسنه من تأخر عنه. وهو كذلك، إذ لا خلاف في فوات وقت
الانشاء بعدم التمكن من ادراك المشعر قبل زوال الشمس من يوم النحر، كما أنه لا خلاف في وقوع بعض أفعال الحج كالطوافين والسعي والرمي في ذي الحجة
بأسره. وبذلك يظهر أن هذا الخلاف لا يترتب عليه حكم، وأن النزاع في

(1) ج 2 ص 277 و 278، وفي الوسائل الباب 11 من أقسام الحج.
وفيه رواية ذلك من الكافي والتهذيب أيضا، كما سيأتي قريبا.
354

هذه المسألة يرجع إلى تفسير هذا اللفظ الوارد في الآية، وهو قوله عز وجل:
" الحج أشهر معلومات " (1).
والأظهر بالنظر إلى القواعد اطلاقه على الثلاثة التي هي أقل الجمع، وهو
يرجع إلى القول الأول.
ولما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (2)
قال: " إن الله (تعالى) يقول: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا
رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (3) وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة ".
وعن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (4) قال: " الحج أشهر معلومات: شوال
وذو القعدة وذو الحجة، ليس لأحد أن يحرم بالحج في سواهن... الحديث "
وروى الصدوق عن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام (5) " في قول
الله عز وجل: الحج أشهر معلومات (6) قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة
ليس لأحد أن يحرم بالحج في ما سواهن ".
وعن معاوية بن عمار - باسنادين أحدهما حسن والآخر قوي - عن أبي عبد الله عليه السلام (7) " في قول الله عز وجل: الحج أشهر معلومات فمن فرض
فيهن الحج (8) والفرض: التلبية والاشعار والتقليد، فأي ذلك فعل فقد
فرض الحج. ولا يفرض الحج إلا في هذه الشهور التي قال الله عز وجل:
" الحج أشهر معلومات " وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة ".

(1) سورة البقرة، الآية 196.
(2) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج.
(3) سورة البقرة، الآية 196.
(4) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج.
(5) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج. وفي بعض النسخ " أبان "
بدل " زرارة " راجع الفقيه ج 2 ص 277.
(6) سورة البقرة، الآية 196.
(7) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج.
(8) سورة البقرة، الآية 196.
355

واستدل على التحديد بطلوع الفجر بقوله تعالى: فمن فرض فيهن
الحج (1) ولا يمكن فرضه بعد طلوع الفجر من يوم النحر. ولقوله تعالى فلا
رفث ولا فسوق (2) وهو سائغ يوم النحر متى تحلل في أوله.
ويؤيده ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم باسناده (3) قال: " أشهر
الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ".
الثالث - أن يأتي بالحج والعمرة في عام واحد، وهو من ما لا خلاف
فيه بينهم.
وتدل عليه جملة من الأخبار: منها - ما تكاثر نقله من قوله صلى الله عليه وآله (4):
" دخلت العمرة في الحج هكذا. وشبك بين أصابعه ".
وما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن على المشهور عن حماد بن عيسى
عن أبي عبد الله عليه السلام (5) قال: " من دخل مكة متمتعا في أشهر الحج لم يكن
له أن يخرج حتى يقضي الحج، فإن عرضت له حاجة إلى عسفان أو إلى الطائف أو إلى
ذات عرق خرج محرما ودخل ملبيا بالحج، فلا يزال على احرامه، فإن رجع إلى
مكة رجع محرما ولم يقرب البيت حتى يخرج مع الناس إلى منى... الحديث ".

(1) سورة البقرة، الآية 196.
(2) سورة البقرة، الآية 196.
(3) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج
(4) الوسائل الباب 2 رقم 4 و 27 و 33، والباب 5 رقم 10 من أقسام
الحج. واللفظ المذكور هنا يوافق ما ورد في الحديث 33 بإضافة: " إلى يوم
القيامة ". وارجع في تشخيص لفظ الفقرة الواردة في صحيح معاوية بن عمار
إلى الصفحة 317 والتعليقة (1).
(5) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
356

وما رواه الشيخ عن معاوية بن عمار (1) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
من أين افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال: إن المتمتع مرتبط بالحج، والمعتمر
إذا فرغ منها ذهب حيث شاء. وقد اعتمر الحسين عليه السلام في ذي الحجة ثم راح
يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى ".
وعن صفوان في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام (2) قال: " إذا دخل
المعتمر مكة غير متمتع فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وصلى الركعتين
خلف مقام إبراهيم عليه السلام فليلحق بأهله إن شاء. وقال: إنما أنزلت العمرة
المفردة والمتعة لأن المتعة دخلت في الحج ولم تدخل العمرة المفردة في الحج ".
وعن أبان عن من أخبره عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " المتمتع محتبس
لا يخرج من مكة حتى يخرج إلى الحج، إلا أن يأبق غلامه أو تضل راحلته،
فيخرج محرما، ولا يجاوز إلا على قدر ما لا تفوته عرفة ".
وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (4) قال: " قلت له: كيف
أتمتع؟ قال: تأتي الوقت فتلبي... إلى أن قال: وليس لك أن تخرج من مكة
حتى تحج ".
وصحيحته الأخرى عنه عليه السلام (5) قال: " قلت لأبي جعفر عليه السلام: كيف

(1) الوسائل الباب 7 من العمرة.
(2) الوسائل الباب 5 من العمرة. وصفوان يرويه عن نجية عن أبي جعفر
(عليه السلام).
(3) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج
(4) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج، والباب 22 من الاحرام.
(5) الوسائل الباب 5 و 22 من أقسام الحج. وارجع إلى الاستدراكات
357

أتمتع؟ فقال: يأتي الوقت فيلبي بالحج، فإذا أتى مكة طاف وسعى وأحل من
كل شئ. وهو محتبس ليس له أن يخرج من مكة حتى يحج ".
وما رواه الكليني في الحسن عن معاوية (1) قال: " قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: إنهم يقولون في حجة المتمتع حجته مكية وعمرته عراقية (2)؟ فقال:
كذبوا، أوليس هو مرتبطا بحجته لا يخرج منها حتى يقضي حجه ".
أقول: تحقيق الكلام في معنى هذا الخبر هو أنه لما كان المخالفون في
ذلك الوقت ينفون حج التمتع - ويقولون بالافراد والقران خاصة، تبعا لإمامهم الذي
حرم حج التمتع - زعموا أن ما يأتي به الشيعة من حج التمتع المشتمل على العمرة
والحج يرجع بالآخرة إلى العمرة المفردة وحج الافراد، فإن العمرة بالاحلال
تصير مفردة، ويصير الحج حينئذ بعدها حجا مفردا وإن كانت العمرة فيه
متقدمة على الحج. وتسميتهم لها عمرة عراقية لكون شيعة العراق الذين هم
من اتباع أهل البيت (عليهم السلام) يومئذ يفعلون ذلك. وحاصل كلامهم أن
هذه العمرة وإن تقدمت على الحج فإنما هي مفردة (3) والحج افراد، وهو معنى
قولهم: " حجته مكية " فرد عليهم وكذبهم في ما ادعوه من افراد العمرة بالاحلال
بعدها، بأن ارتباط العمرة بالحج إنما هو من حيث إنه لا يجوز للمعتمر بهذه
العمرة الخروج من مكة حتى يأتي بالحج.

(1) الكافي ج 4 ص 294، وفي الوسائل الباب 4 من أقسام الحج.
(2) في فتح الباري لابن حجر ج 3 ص 278: تفسير الحجة المكية بأنها
قليلة الثواب لقلة مشقتها. وحكى عن ابن بطال أن معنى ذلك انشاء الحج من
مكة كما ينشئ أهل مكة منها فيفوت فضل الاحرام من الميقات.
(3) المغني ج 3 ص 276.
358

وما ربما يقال من أن علماء العامة لا يحرمون حج التمتع فمسلم (1) لكن
المعلوم من أقوال عمر وأخبارهم المروية عنه هو التحريم (2) ولكن من تأخر
من علمائهم - لشناعة الأمر بمخالفة الكتاب العزيز - خصوا تحريمه بالعدول من
الأفراد إلى التمتع (3) والأخبار المشار إليها لا تساعده، بل هي ما بين صريح
أو ظاهر في التحريم مطلقا، كما حققناه في كتابنا سلاسل الحديد في تقييد
ابن أبي الحديد.
الرابع - أن يحرم بالحج من بطن مكة، وأفضله المسجد، وأفضله المقام
أو الحجر. وقد أجمع علماؤنا كافة على أن ميقات حج التمتع مكة. وستأتي
الأخبار الدالة على ذلك عند ذكر المسألة.
ومنها - صحيحة عمرو بن حريث الصيرفي (4) قال: " قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: من أين أهل بالحج؟ قال: إن شئت من رحلك، وإن شئت من الكعبة
وإن شئت من الطريق ".
وأفضل مكة المسجد اتفاقا، وأفضل المسجد مقام إبراهيم أو الحجر، كما
يدل عليه قوله عليه السلام في صحيحة معاوية بن عمار (5): " إذا كان يوم التروية - إن

(1) المغني ج 3 ص 276.
(2) صحيح البخاري باب التمتع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وعمدة
القارئ ج 4 ص 568، والمحلى ج 7 ص 107.
(3) عمدة القارئ ج 4 ص 551، وشرح النووي لصحيح مسلم على
هامش ارشاد الساري ج 5 ص 292.
(4) الوسائل الباب 21 من المواقيت
(5) الوسائل الباب 52 من الاحرام، والباب 1 من احرام الحج.
359

شاء الله تعالى - فاغتسل ثم البس ثوبيك، وادخل المسجد حافيا وعليك السكينة
والوقار، ثم صل ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام أو في الحجر، ثم اقعد حتى
تزول الشمس، فصل المكتوبة، ثم قل في دبر صلاتك كما قلت حين أحرمت
من الشجرة، فاحرم بالحج ".
وعلى هذا فلا يجزئ الاحرام بحج التمتع من غير مكة ولو دخل مكة
باحرامه، بل لا بد من استئنافه منها، كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، وبه
قطع في المعتبر من غير نقل خلاف، وأسنده العلامة في التذكرة والمنتهى إلى
علمائنا مؤذنا بدعوى الاجماع عليه. وربما أشعرت عبارة الشرائع بوقوع
الخلاف في ذلك، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك نقل
عن شارح ترددات الكتاب أنه أنكر ذلك، ونقل عن شيخه أن المحقق قد
يشير في كتابه إلى خلاف الجمهور، أو إلى ما يختاره من غير أن يكون خلافه
مذهبا لأحد من الأصحاب، فيظن أن فيه خلافا.
وكيف كان فالخلاف في هذه المسألة أن تحقق فهو ضعيف لا يلتفت إليه
لأن الاحرام بحج التمتع من غير مكة خلاف ما دلت عليه الأخبار فيكون فاسدا،
إذ مجرد المرور على الميقات لا يكفي ما لم يجدد الاحرام منه، لأن الاحرام غير
منعقد، فيكون مروره من الميقات جاريا مجرى مرور المحل به.
بقي الكلام في ما لو تعذر الاستئناف من مكة، فقد صرح جملة من الأصحاب
بأنه يستأنف حيث أمكن ولو بعرفة إن لم يتعمد ذلك، بمعنى أنه إن تعمد الاحرام
من غير مكة مع إمكان الاحرام منها فإنه يبطل احرامه، وإن أحرم من غيرها جهلا أو
نسيانا فإنه يجب عليه أن يستأنفه حيث أمكن ولو بعرفة.
أما الحكم الأول وهو بطلان الاحرام مع تعمد ذلك فلعدم تحقق الامتثال
المقتضي لبقاء المكلف تحت العهدة.
360

وأما الثاني وهو التجديد مع الجهل والنسيان فلصحيحة علي بن جعفر عن
أخيه موسى عليه السلام (1) قال: " سألته عن رجل نسي الاحرام بالحج فذكر
وهو بعرفات، ما حاله؟ قال: يقول: اللهم على كتابك وسنة نبيك. فقد
تم احرامه ".
ونقل في المختلف عن الشيخ في المبسوط والخلاف أنه أجزأه احرامه وصح
حجه، ولا دم عليه، سواء أحرم من الحل أو الحرم.
ولو اتفق التجديد بناء على المشهور من الميقات أو المرور على الميقات بعد
التجديد في غيره، فهل يسقط عنه دم المتعة أم لا؟ قولان مبنيان على أن دم
المتعة نسك كغيره من أفعال الحج فلا يسقط، وهو المشهور بين الأصحاب،
أو جبران لما فات في احرام الحج من وقوعه من غير الميقات حيث إنه إنما يقع
من مكة، فجعل هذا الدم جبرانا لذلك. وهو قول لبعض العامة (2) وإليه
ذهب الشيخ في المبسوط. وعلى هذا فيسقط الدم هنا لو أحرم من الميقات
أو مر عليه محرما.
قال شيخنا الشهيد في الدروس: ولو تعذر احرامه من مكة بحجه أحرم
من حيث يمكن ولو من عرفة إن لم يتعمد وإلا بطل حجه، ولا يسقط عنه دم
التمتع ولو أحرم من ميقات المتعة. وفي المبسوط: إذا أحرم المتمتع من مكة
ومضى إلى الميقات ومنه إلى عرفات صح واعتد بالاحرام من الميقات، ولا يلزمه
دم. وعنى به دم التمتع. وهو يشعر بأنه لو أنشأ الاحرام من الميقات لا دم

(1) الوسائل الباب 14 و 20 من المواقيت.
(2) المهذب للشيرازي الشافعي ج 1 ص 201، ونسبه في بدائع الصنائع
ج 2 ص 173 إلى الشافعي.
361

عليه بطريق الأولى. وهذا بناء على أن دم التمتع جبران لا نسك، وقد قطع
في المبسوط بأنه نسك. ولاجماعنا على جواز الأكل منه. وفي الخلاف قطع بذلك
أيضا، وبعدم سقوط الدم بالاحرام من الميقات. وهو الأصح. انتهى.
أقول: والمراد بالاحرام من الميقات في هذا المقام الاحرام منه اضطرارا
للقطع بأن الاحرام منه اختيارا غير جائز، لأن موضعه الشرعي إنما هو مكة
كما عرفت.
المسألة الرابعة - الأشهر الأظهر أنه لا يجوز للمتمتع بعد الاتيان بعمرته
الخروج من مكة على وجه يفتقر إلى استئناف احرام، بل إما أن يخرج محرما
بالحج وإما أن يعود قبل شهر، فإن انتفى الأمران جدد عمرة، وهي عمرة التمتع.
وحكى الشهيد في الدروس عن الشيخ في النهاية وجماعة أنهم أطلقوا المنع
من الخروج من مكة للمتمتع، لارتباط عمرة التمتع بالحج، فلو خرج صارت
مفردة. ثم قال: ولعلهم أرادوا الخروج المحوج إلى عمرة أخرى - كما قال في
المبسوط - أو الخروج لا بنية العود.
ونقل عن ابن إدريس أنه لا يحرم ذلك بل يكره، لأنه لا دليل على حظر
الخروج من مكة بعد الاحلال من العمرة. وهو ظاهر العلامة في المنتهى، حيث
قال: يكره للمتمتع بالعمرة أن يخرج من مكة قبل أن يقضي مناسكه كلها إلا
لضرورة... إلى آخره. وبمثل ذلك صرح في التذكرة أيضا.
ومن ما يدل على القول الأول الأخبار الكثيرة، ومنها - صحيحة حماد
ابن عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " من دخل مكة متمتعا في أشهر
الحج لم يكن له أن يخرج حتى يقضي الحج، فإن عرضت له حاجة إلى عسفان

(1) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
362

أو إلى الطائف أو إلى ذات عرق خرج محرما ودخل ملبيا بالحج، فلا يزال على
احرامه، فإن رجع إلى مكة رجع محرما ولم يقرب البيت حتى يخرج مع الناس
إلى منى على احرامه. وإن شاء كان وجهه ذلك إلى منى. قلت: فإن جهل فخرج
إلى المدينة أو إلى نحوها بغير احرام ثم رجع في أبان الحج في أشهر الحج يريد
الحج، أيدخلها محرما أو بغير احرام؟ فقال: إن رجع في شهره دخل بغير احرام
وإن دخل في غير الشهر دخل محرما. قلت: فأي الاحرامين والمتعتين متعته: الأولى
أو الأخيرة؟ قال: الأخيرة هي عمرته، وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته ".
وفي الحسن عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام (1): " في رجل
قضى متعته وعرضت له حاجة أراد أن يمضي إليها؟ قال: فقال: فليغتسل للاحرام
وليهل بالحج وليمض في حاجته، فإن لم يقدر على الرجوع إلى مكة مضى
إلى عرفات ".
وفي الحسن عن الحلبي (2) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الرجل يتمتع بالعمرة إلى الحج، يريد الخروج إلى الطائف؟ قال: يهل بالحج من
مكة، وما أحب أن يخرج منها إلا محرما، ولا يتجاوز الطائف أنها قريبة من مكة "
وقال في كتاب الفقه الرضوي (3): فإن أراد المتمتع الخروج من مكة
إلى بعض المواضع فليس له ذلك، لأنه مرتبط بالحج حتى يقضيه، إلا أن يعلم أنه
لا يفوته الحج، فإن علم وخرج ثم رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل مكة
محلا، وإن رجع في غير ذلك الشهر دخلها محرما.
بقي الكلام في الشهر وتحديده، فقيل: المراد بالشهر من وقت احلاله من

(1) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج
(2) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج
(3) ص 30.
363

الاحرام المتقدم. اختاره شيخنا الشهيد الثاني وجماعة.
قال في المسالك: ولو وقع الاحرام في أثناء الشهر اعتبر بالعدد، وهل
المعتبر كون الشهر من حين الاهلال أم من حين الاحلال؟ اشكال، منشأه اطلاق
النصوص واحتمالها للأمرين معا. واعتبار الثاني أقوى. انتهى.
ونقل عن العلامة في القواعد أنه استشكل احتساب الشهر من حين
الاحرام أو الاحلال.
وقال المحقق في النافع: ولو خرج بعد احرامه ثم عاد في شهر خروجه أجزأه
وإن عاد في غيره أحرم ثانيا.
قال في المدارك بعد نقل العبارة: ومقتضى ذلك عدم اعتبار مضى الشهر
من حين الاحرام أو الاحلال بل الاكتفاء في سقوط الاحرام بعوده في شهر
خروجه إذا وقع بعد احرام متقدم. قال: وقريب من ذلك عبارة الشيخ في
النهاية، فإنه قال في المتمتع: فإن خرج من مكة بغير احرام ثم عاد، فإن كان عوده
في الشهر الذي خرج فيه لم يضره أن يدخل مكة بغير احرام، وإن دخل في غير
الشهر الذي خرج فيه دخلها محرما بالعمرة إلى الحج، وتكون عمرته الأخيرة.
ونحوه قال في المقنعة.
وقال العلامة في المنتهى: ولو خرج بغير احرام ثم عاد، فإن كان في الشهر
الذي خرج فيه لم يضره أن يدخل بغير احرام، وإن دخل في غير الشهر الذي خرج
فيه دخل محرما بالعمرة إلى الحج، وتكون عمرته الأخيرة هي التي يتمتع بها إلى
الحج. ونحوه عبارته في التذكرة.
وهذه العبارات كلها متفقة الدلالة على أن المراد بالشهر هو الذي خرج فيه
ولا تعرض فيها لكونه من حين الاحرام أو الاحلال بوجه.
نعم لا بد من كون ذلك بعد احرام متقدم، وعلى هذا تدل ظواهر
364

الأخبار أيضا، كصحيحة حماد بن عيسى المتقدمة، فإن الظاهر من قوله -: " إن
رجع في شهره " بعد قول الراوي: " فإن جهل فخرج إلى المدينة " - أن المراد
شهر خروجه، ولهذا استدل بها الشيخ في التهذيب للشيخ المفيد على ما ذكره في
عبارة المقنعة الدالة على أن الاعتبار بشهر الخروج.
وأظهر منها في ما قلناه ما رواه الشيخ في الصحيح عن حفص بن البختري
وأبان بن عثمان عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام (1): " في الرجل يخرج في الحاجة
من الحرم؟ قال: إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير احرام، وإن دخل
في غيره دخل بإحرام ".
وروى الصدوق في الفقيه (2) مرسلا عن الصادق (عليه السلام) أنه قال:
" إذا أراد المتمتع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك، لأنه مرتبط
بالحج حتى يقضيه، إلا أن يعلم أنه لا يفوته الحج، فإذا علم وخرج ثم رجع
وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكة محلا، وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخلها
محرما " وهي صريحة في ما ذكرناه. ومثلها عبارة كتاب الفقه الرضوي
التي قدمناها.
وهذه الرواية - كما ترى - عين عبارة كتاب الفقه الرضوي التي قدمناها إلا
في ألفاظ يسيرة.
وأما ما رواه الكليني والشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار (3) - قال:
" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتمتع يجئ فيقضي متعته ثم تبدو له الحاجة

(1) الوسائل الباب 51 من الاحرام.
(2) ج 2 ص 238، وفي الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
365

فيخرج إلى المدينة أو إلى ذات عرق أو إلى بعض المعادن؟ قال: يرجع إلى مكة
بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتع فيه، لأن لكل شهر عمرة، وهو مرتهن
بالحج. قلت: فإنه دخل في الشهر الذي خرج فيه؟ قال: كان أبي مجاورا ههنا
فخرج يتلقى بعض هؤلاء، فلما رجع فبلغ ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحج
ودخل وهو محرم بالحج " -
فهي لا تخلو من اشكال من وجهين: أحدهما - أن ظاهر التعليل المذكور
فيها اعتبار مضى الشهر من حين الاحلال ليتحقق تخلل الشهر بين العمرتين، وهو
خلاف ما صرحت به الأخبار المتقدمة من أنه إن رجع في شهر خروجه دخل محلا
وإلا دخل محرما. وثانيهما - أنها دلت على جواز الاحرام بالحج من غير مكة
وهو خلاف ما استفاضت به الأخبار واتفقت عليه كلمة الأصحاب.
وظاهر جملة من الأصحاب القول بهذه الرواية هنا مع ما عرفت.
قال في الدروس: ولو رجع في شهره دخلها محلا، فإن أحرم فيه من الميقات
بالحج فالمروي عن الصادق (عليه السلام) (1) أنه فعله من ذات عرق وكان قد
خرج من مكة إليها.
وقال العلامة في التذكرة بعد البحث في المسألة: إذا عرفت هذا فلو
خرج من مكة بغير احرام وعاد في الشهر الذي خرج فيه استحب له أن يدخلها محرما
بالحج، ويجوز له أن يدخلها بغير احرام، على ما تقدم. انتهى.
ولم أر من تنبه لما ذكرناه سوى العلامة في المنتهى، حيث قال: لو خرج
من مكة بغير احرام وعاد في الشهر الذي خرج فيه استحب له أن يدخلها محرما
بالحج، ويجوز له أن يدخلها بغير احرام على ما تقدم، روى الشيخ في الصحيح

(1) في حديث إسحاق بن عمار المتقدم.
366

عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)... ثم ساق الرواية
إلى آخرها كما قدمناه. ثم قال: هذا قول الشيخ (رحمه الله) واستدلاله، وفيه
اشكال، إذ قد بينا أنه لا يجوز احرام الحج للمتمتع إلا من مكة. انتهى.
وكيف كان فهذه الرواية لا تبلغ قوة في معارضة الأخبار المتقدمة
المعتضدة بعمل الأصحاب، سيما مع ما عرفت من الاشكال المذكور، وهي مرجأة
إلى قائلها.
وأما ما رواه الشيخ في الصحيح عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (1) -: " في الرجل يخرج إلى جدة في الحاجة؟ فقال: يدخل مكة بغير
احرام " - فحمله الشيخ على من خرج من مكة وعاد في الشهر الذي خرج فيه.
أقول: وعلى ذلك يحمل أيضا ما رواه الشيخ في الموثق عن ابن بكير عن
غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2): " أنه خرج إلى الربذة
يشيع أبا جعفر (عليه السلام) ثم دخل مكة حلالا ".
فروع
الأول - الظاهر من كلام الأصحاب أن سقوط الاحرام في من عاد في الشهر
المذكور إنما هو بالنسبة إلى من خرج بعد احرام، كما صرحت به جملة من عبائرهم،
أما من لم يكن كذلك كقاطني مكة - مثلا - فإنه لو خرج منهم أحد إلى خارج الحرم
فإنه يجب عليه الاحرام متى أراد الدخول، وصحيحة حماد المتقدمة وكذا رواية
كتاب الفقه ومرسلة الصدوق (3) صريحة في من خرج بعد احرام. أما صحيحة
حفص (4) فهي مطلقة، والظاهر حملها على الروايات المذكورة وتقييد اطلاقها بما دلت

(1) الوسائل الباب 51 من الاحرام.
(2) الوسائل الباب 51 من الاحرام.
(3) ص 362 و 363 و 365
(4) ص 363
367

عليه من تقدم الاحرام. وأما صحيحة جميل ومثلها موثقة ابن بكير فيمكن
حملها على تلك الأخبار أيضا كما قدمنا، وإن كان اطلاقها من جهتين: من جهة
تقدم الاحرام، ومن جهة اعتبار الشهر. ويمكن حملها على من لم يتقدم منه
احرام، إلا أنه في موثقة ابن بكير لا يخلو من بعد، إذ من الظاهر أن الصادق
(عليه السلام) قد تقدم منه احرام في دخول مكة. والحمل على من لم يتقدم منه
احرام إنما يظهر بالنسبة إلى قاطني مكة.
الثاني - الظاهر من اطلاق الروايات المتقدمة الدالة على أنه لا يجوز للمتمتع
الخروج من مكة بعد الاتيان بعمرة التمتع أنه متى أكمل العمرة المندوبة وجب عليه
الحج. وعلى ذلك نص الشيخ (قدس سره) وجملة من الأصحاب (رضوان
الله عليهم) ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وآله (1): " دخلت العمرة في الحج هكذا.
وشبك بين أصابعه " قيل: ويحتمل عدم الوجوب لأنهما نسكان متغايران. وهو
ضعيف. وهذا الاحتمال متجه على قول من يقول بكراهة الخروج، كما قدمنا
نقله عن ابن إدريس والعلامة في الكتابين المتقدمين. والأخبار المذكورة ترده.
الثالث - قد عرفت أن مقتضى صحيحة حماد المتقدمة أن عمرته هي الثانية
وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته، وعلى هذا فالعمرة الأولى صارت عمرة مفردة،
والأشهر الأظهر وجوب طواف النساء فيها، ومقتضى افرادها هو وجوب ذلك
فيها، إلا أني لم أقف على قائل بذلك، قال في الدروس: وفي استدراك طواف
النساء في الأولى احتمال. وقال في المدارك: وهل تفتقر الأولى إلى استدراك
طواف النساء؟ وجهان، من أن مقتضى افرادها ذلك، ومن تحقق الخروج
من أفعال العمرة سابقا وحل النساء منها بالتقصير فلا يعود التحريم. ولعل الثاني
أرجح. انتهى. والمسألة محل توقف. والله العالم.

(1) ارجع إلى الصفحة 356 والتعليقة (4) فيها.
368

المطلب الثاني
في حج الافراد والقران وفيه مباحث:
الأول - صورة حج الافراد أن يحرم من الميقات أو من حيث يصح له
الاحرام منه بالحج، ثم يمضي إلى عرفات فيقف بها ثم إلى المشعر فيقف به ثم إلى
منى فيقضي مناسكه بها، ثم يطوف بالبيت ويصلي ركعتيه، ويسعى بين الصفا
والمروة، ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتيه.
وعليه عمرة مفردة بعد الحج والاحلال منه متى كان حج الاسلام وكانت
الاستطاعة لهما، فلو كان الحج مندوبا، أو منذورا ولم تدخل في النذر، أو لم
يستطع لها وإنما استطاع لحج الاسلام خاصة، فلا عمرة كما تدل عليه الأخبار
الواردة بكيفية حج الافراد. وقد صرح العلامة وغيره بأن من استطاع للحج
مفردا دون العمرة وجب عليه الحج دونها ثم يراعي الاستطاعة لها. وصرح
شيخنا الشهيد الثاني بوجوب العمرة خاصة لو استطاع لها دون الحج.
وشروطه ثلاثة: النية، وإن يقع في أشهر الحج، وإن يعقد احرامه من
ميقاته أو من دويرة أهله.
وأفعال القارن وشروطه كالمفرد غير أنه يتميز عنه بسياق الهدي عند احرامه
ومن أخبار المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) أنه قال في القارن: " لا يكون قران إلا بسياق
الهدي، وعليه طواف بالبيت وركعتان عند مقام إبراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة
وطواف بعد الحج وهو طواف النساء... وأما المفرد للحج فعليه طواف بالبيت

(1) التهذيب ج 5 ص 41، وفي الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
369

وركعتان عند مقام إبراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة، وطواف الزيارة وهو
طواف النساء... ".
وما رواه في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" إنما نسك الذي يقرن بين الصفا والمروة مثل نسك المفرد ليس بأفضل منه إلا
بسياق الهدى، وعليه طواف بالبيت وصلاة ركعتين خلف المقام، وسعى
واحد بين الصفا والمروة، وطواف بالبيت بعد الحج. وقال: أيما رجل قرن بين
الحج والعمرة فلا يصلح إلا إن يسوق الهدي قد أشعره وقلده. والاشعار أن
يطعن في سنامها بحديدة حتى يدميها. وإن لم يسق الهدي فليجعلها متعة ".
قال في الوافي بعد نقل هذا الخبر: " يقرن بين الصفا والمروة " هكذا
وجدناه في النسخ التي رأيناها، ويشبه أن يكون وهما من الراوي، إذ لا معنى
للقران بين الصفا والمروة. ولعل الصواب: " يقرن بين الحج والعمرة " كما قاله
في آخر الحديث، ويكون معناه أن يكون في نيته الاتيان بهما جميعا مقدما
للحج، لا بأحدهما مفردا دون الآخر. وليس المراد أن يجمعهما في نية واحدة
ويتمتع بالعمرة إلى الحج، فإنه التمتع وليس فيه سياق هدي. وفي التهذيب
فسر القران بينهما في قوله: " أيما رجل قرن بين الحج والعمرة " بأن يشترط
في نية الحج إن لم يتم له الحج يجعله عمرة مبتولة، كما يشعر به الحديث الآتي.
وما رواه في الصحيح عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال:
" القارن الذي يسوق الهدي عليه طوافان بالبيت وسعى واحد بين الصفا والمروة
وينبغي له أن يشترط على ربه إن لم يكن حجة فعمرة ".

(1) التهذيب ج 5 ص 42، وفي الوسائل الباب 2 و 5 و 12 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج
370

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " المفرد للحج عليه طواف بالبيت وركعتان عند
مقام إبراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة، وطواف الزيارة وهو طواف النساء
وليس عليه هدي ولا أضحية ".
وقد تقدم أن هذين القسمين فرض حاضري المسجد الحرام، وهم من كان
في نواحي مكة في مسافة ثمانية وأربعين ميلا على الأشهر الأظهر.
وهل يجوز لهم العدول في حج الاسلام إلى التمتع؟ إما للضرورة - كخوف
الحيض المتأخر عن النفر مع عدم إمكان التأخير إلى أن تطهر، أو خوف عدو،
أو فوات الرفقة، فلا يمكنها الاتيان بالعمرة المفردة - فالظاهر أنه لا خلاف فيه.
واستدل عليه - مضافا إلى العمومات - بفحوى ما دل على جواز عدول
المتمتع إلى حج الافراد مع الضرورة، فإن الضرورة إذا كانت مسوغة للعدول
عن الأفضل إلى المفضول فلأن تكون مسوغة للعكس أولى.
وأما العدول اختيارا فالأشهر الأظهر عدمه، وللشيخ قول بجواز ذلك
محتجا - على ما نقل عنه - بأن المتمتع أتى بصورة الافراد وزيادة غير منافية
فوجب أن يجزئه.
ورده في المعتبر بأنا لا نسلم أنه أتى بصورة الافراد، وذلك لأنه أخل
بالاحرام للحج من ميقاته وأوقع مكانه العمرة وليس مأمورا بها فوجب أن لا يجزئه
أقول: والأظهر في رد هذا القول هو الآية والأخبار الصحيحة
الصريحة، أما الآية فقوله عز وجل: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد
الحرام (2) فإنه يدل بمفهومه على أن الحاضر ليس له ذلك.

(1) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
(2) سورة البقرة، الآية 195
371

وتعضدها الأخبار الواردة بتفسيرها، كصحيحة علي بن جعفر (1) قال:
" قلت لأخي موسى بن جعفر عليه السلام: لأهل مكة أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج؟
فقال: لا يصلح أن يتمتعوا، لقول الله عز وجل: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام " (2).
إلى غير ذلك من الأخبار المتقدمة في المسألة الأولى من مسائل المطلب الأول
وينبغي أن يعلم - كما أشرنا إليه في أول الكلام - أن محل الخلاف إنما هو في
حج الاسلام، وأما المتطوع بالحج والناذر له مطلقا فيتخير بين الأنواع الثلاثة
وإن كان التمتع أفضل كما تقدم.
البحث الثاني - قد عرفت من ما قدمنا أن القارن كالمفرد لا يتميز عنه إلا
بسياق الهدي، وسمي قارنا لسياقه الهدي في احرامه وأنه قرنه به.
وذهب ابن أبي عقيل إلى أن القارن يلزمه قران الحج مع العمرة لا يحل
من عمرته حتى يحل من حجه، ولا يجوز قران العمرة مع الحج إلا لمن ساق الهدي
ونحوه نقل عن الجعفي.
وحكى في المعتبر عن الشيخ في الخلاف أنه قال: إذا أتم المتمتع أفعال عمرته
وقصر فقد صار محلا، فإن كان ساق هديا لم يجز له التحلل وكان قارنا. ثم قال:
وبه قال ابن أبي عقيل. ومقتضى ذلك أن القارن هو المتمتع إذا ساق هديا.
وعبارة ابن أبي عقيل المتقدمة وإن كانت قاصرة عن هذا المعنى لكن
ينبغي حملها عليه، لأنه لو أريد بقران الحج مع العمرة في كلامه أن يقرن
بينهما في احرام واحد فالظاهر أنه لا ريب في بطلانه، إلا أن العلامة في التذكرة
نقل عن ابن أبي عقيل ذلك، حيث قال: قد بينا أن القارن هو الذي يسوق عند

(1) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(2) سورة البقرة، الآية 195.
372

احرامه بالحج هديا، عند علمائنا أجمع إلا ابن أبي عقيل، فإنه جعله عبارة عن من
قرن بين الحج والعمرة في احرام واحد. وهو مذهب العامة بأسرهم (1) انتهى.
وقال شيخنا الشهيد في الدروس - بعد أن ذكر أن سياق الهدي يتميز به
القارن عن المفرد على المشهور -: وقال الحسن: القارن من ساق وجمع بين الحج
والعمرة فلا يتحلل منها حتى يحل من الحج. فهو عنده بمثابة المتمتع إلا في
سوق الهدي وتأخير التحلل وتعدد السعي، فإن القارن عنده يكفيه سعيه الأول
عن سعيه في طواف الزيارة. وظاهره وظاهر الصدوقين الجمع بين النسكين بنية واحدة.
وصرح ابن الجنيد بأنه يجمع بينهما، قان ساق وجب عليه الطواف والسعي قبل
الخروج إلى عرفات ولا يتحلل، وإن لم يسق جدد الاحرام بعد الطواف ولا تحل له
النساء وإن قصر. وقال الجعفي: القارن كالمتمتع غير أنه لا يحل حتى يأتي بالحج للسياق
وفي الخلاف: إنما يتحلل من أتم أفعال العمرة إذا لم يكن ساق، فإن كان قد
ساق لم يصح له التمتع ويكون قارنا عندنا. وظاهره أن المتمتع السائق قارن وحكاه
الفاضلان عنه ساكتين عليه. انتهى كلام شيخنا المذكور أفاض الله عليه السرور.
وظاهر هذا الكلام موافقة جملة من الأصحاب لابن أبي عقيل في هذه
المقالة في الجملة وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، مع أنه لم يتعرض أحد منهم لذكر
دليل في المقام.
وكيف كان فهذا القول مرغوب عنه للأخبار المتقدمة في البحث الأول.
احتج ابن أبي عقيل على ما نقل عنه بما روى (2): " أن عليا عليه السلام حيث أنكر

(1) المغني ج 3 ص 276 و 284، وبدائع الصنائع ج 2 ص 167،
والمهذب ج 1 ص 200، وبداية المجتهد ج 1 ص 308.
(2) الوسائل الباب 21 من الاحرام.
373

عليه عثمان قرن بين الحج والعمرة فقال: لبيك بحجة وعمرة معا " وبقوله عليه السلام
في صحيحة الحلبي المتقدمة (1): " أيما رجل قرن بين الحج والعمرة فلا يصلح
إلا أن يسوق الهدي... إلى آخر الخبر ".
وأجاب في المختلف عن الأول بأنه مروي من طرق الجمهور (2) فلا يكون
حجة علينا. وعن الثاني بما ذكره الشيخ في التهذيب من أن قوله عليه السلام: " أيما
رجل قرن بين الحج والعمرة " يريد به في تلبية الاحرام، لأنه يحتاج أن يقول إن
لم تكن حجة فعمرة، ويكون الفرق بينه وبين المتمتع أن المتمتع يقول هذا القول
وينوي العمرة قبل الحج ثم يحل بعد ذلك ويحرم بالحج فيكون متمتعا، والسائق
يقول هذا القول وينوي الحج فإن لم يتم له الحج فيجعله عمرة مبتولة. ثم استدل
عليه بصحيحة الفضيل المتقدمة (3).
أقول: لا ريب أن صحيحة الحلبي المذكورة قد صرحت بأن نسك القارن
بهذا المعنى (4) كنسك المفرد ليس أفضل منه إلا بسياق الهدي، وحينئذ فبأي معنى
فسر قوله: " أيما رجل قرن بين الحج والعمرة " فإنه لا ينطبق على مذهب ابن أبي عقيل من وجوب تقديم العمرة على الحج وعدم التحلل منها إلا بالتحلل من
الحج، فإنه ليس شئ من هذا في حج الافراد. وبالجملة فإن هذه الرواية كسائر
الروايات المتقدمة صريحة الدلالة في أن حج القارن كالمفرد لا يتميز عنه إلا

(1) ص 370.
(2) صحيح البخاري باب (التمتع والقران والافراد بالحج) وصحيح مسلم
باب (جواز التمتع) وتقدم بيان مصدره من طرقنا في التعليقة (2) ص 373
وسيأتي منه (قدس سره) ص 375 أنه مروي من طرقنا
(3) ص 370.
(4) ليس في الخطية كلمة: " بهذا المعنى ".
374

بالسياق. ثم لو سلمنا دلالتها على ما ادعى أو فرض وجود دليل ظاهر على ذلك
لكان سبيله الحمل على التقية، لما عرفت من عبارة التذكرة أن ذلك مذهب العامة
بأسرهم (1).
وقال المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بعد ذكر الخبر ما صورته: قلت:
كذا صورة متن الحديث في نسخ التهذيب التي رأيناها، ولا يظهر لقوله: " يقرن بين
الصفا والمروة " معنى، ولعله إشارة على سبيل التهكم إلى ما يراه أهل الخلاف من
الجمع في القران بين الحج والعمرة (2) وأن ذلك بمثابة الجمع بين الصفا والمروة في
الامتناع، وإنما ينعقد له من النسك مثل نسك المفرد، وصيرورته قرانا إنما هو
بسياق الهدي. وعلى هذا ينبغي أن ينزل قوله أخيرا: " أيما رجل قرن بين
الحج والعمرة فلا يصلح إلا أن يسوق الهدي " يعني: من أراد القران لم يتحصل
له معناه إلا بسياق الهدي، ولا ينعقد له بنية الجمع إلا مثل نسك المفرد، لامتناع
اجتماع النسكين، وهو قاصد إلى التلبس بالحج أولا كالمفرد فيتم له ويلغو ما سواه.
وبهذا التقريب ينبغي النظر إلى الحديث في الاحتجاج لما صار إليه بعض قدمائنا
من تفسير القران بنحو ما ذكره العامة. وللشيخ وغيره في تأويله - باعتبار
منافاته للأخبار الكثيرة الواردة من طرق الأصحاب بتفسير القران - كلام غير
سديد. انتهى.
وأما ما ذكره في المختلف - في الجواب عن أول دليلي ابن أبي عقيل، من أن
الحديث من طريق الجمهور - ففيه أن الحديث موجود من طرقنا (3) كما سيأتي إن
شاء الله (تعالى) في موضعه، إلا أنه لا دلالة فيه على ما ذكره ابن أبي عقيل بوجه

(1) المغني ج 3 ص 276 و 284، وبدائع الصنائع ج 2 ص 167
والمهذب ج 1 ص 200، وبداية المجتهد ج 1 ص 308.
(2) المغني ج 3 ص 276 و 284، وبدائع الصنائع ج 2 ص 167
والمهذب ج 1 ص 200، وبداية المجتهد ج 1 ص 308.
(3) تقدم ذلك في التعليقة (2) ص 373
375

لأن الجمع بينهما في التلبية مندوب إليه في أخبارنا في عمرة التمتع لدخولها في
الحج، كما سيأتي (1) بيان ذلك أن شاء الله تعالى.
البحث الثالث - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
أنه يجوز للمفرد والقارن بعد دخولهما مكة الطواف مستحبا، واحتج عليه في
المدارك بأنه مقتضى الأصل ولا معارض له.
أقول: وتدل عليه حسنة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (2)
قال: " سألته عن المفرد للحج، هل يطوف بالبيت بعد طواف الفريضة؟ قال:
نعم ما شاء، ويجدد التلبية بعد الركعتين، والقارن بتلك المنزلة، يعقدان ما أحلا
من الطواف بالتلبية ".
وأما تقديم الطواف الواجب فهو قول الأكثر، وعزاه في المعتبر إلى فتوى
الأصحاب، ونقل عن ابن إدريس المنع من التقديم محتجا باجماع علمائنا على
وجوب الترتيب. وأجاب عنه العلامة في المنتهى بأن الشيخ ادعى الاجماع على
جواز التقديم، فكيف يصح له دعوى الاجماع على خلافه؟ قال: والشيخ
أعرف بمواضع الوفاق والخلاف.
ويدل على القول المشهور الأخبار الكثيرة، ومنها - ما رواه الكليني
والشيخ عنه عن حماد بن عثمان في الصحيح (3) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن مفرد الحج، أيعجل طوافه أو يؤخره؟ قال: هو والله سواء عجله أو أخره "
وعن زرارة في الموثق (4) قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن المفرد للحج

(1) في مندوبات الاحرام في استحباب التلفظ بما عزم عليه.
(2) الوسائل الباب 2 و 16 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 14 من أقسام الحج
(4) الوسائل الباب 14 من أقسام الحج
376

يدخل مكة، يقدم طوافه أو يؤخره؟ قال: سواء ".
وما رواه الكليني في الموثق عن زرارة (1) قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام
عن مفرد الحج، يقدم طوافه أو يؤخره؟ قال: يقدمه. فقال رجل إلى جنبه:
لكن شيخي لم يفعل ذلك، كان إذا قدم أقام بفخ حتى إذا راح الناس إلى منى
راح معهم. فقلت له: من شيخك؟ قال: علي بن الحسين عليه السلام. فسألت عن
الرجل فإذا هو أخو علي بن الحسين (عليهما السلام) لأمه (2) ".
وعن إسحاق بن عمار معلقا عن أبي الحسن عليه السلام (3) قال: " هما سواء
عجل أو أخر ".
وروى الكليني في الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (4)

(1) الوسائل الباب 14 من أقسام الحج. وقوله: " حتى إذا راح الناس
إلى منى " موافق لما ورد في التهذيب ج 5 ص 45 عن الكليني، كما هو موافق
لما رواه في التهذيب ج 5 ص 477 باسناد آخر، إلا أنه في الكافي ج 4 ص 459
هكذا: " حتى إذا رجع الناس إلى منى ".
(2) قال في الوافي بعد نقل الحديث في باب (ترتيب المناسك والإقامة
على الحائض): بيان - قد ثبت أن أم علي بن الحسين (صلوات الله عليهما)
كانت بكرا حين تزوجها الحسين (صلوات الله عليهما) إلا أنه كانت للحسين (عليه
السلام) أم ولد قد ربت علي بن الحسين عليه السلام واشتهرت بأنها أمه إذ لم يعرف
أما غيرها، فتزوجت بعد الحسين (عليه السلام) وولدت هذا الرجل واشتهر بأنه
أخوه لأمه.
(3) الوسائل الباب 14 من أقسام الحج.
(4) الكافي ج 4 ص 457، وفي الوسائل الباب 14 من أقسام الحج.
والحديث يتضمن أسئلة هذا ثالثها، واللفظ هكذا: " قلت: المفرد بالحج... ".
377

قال: " سألته عن المفرد للحج إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة، أيعجل طواف
النساء؟ فقال: لا، إنما طواف النساء بعد ما يأتي منى ".
وقد قطع الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه لا يجوز للمتمتع تقديم
طواف الحج والسعي اختيارا، وربما ادعوا عليه الاجماع.
واستدلوا على ذلك برواية أبي بصير (1) قال: " قلت: رجل كان متمتعا
وأهل بالحج؟ قال: لا يطوف بالبيت حتى يأتي عرفات، فإن هو طاف قبل أن
يأتي منى من غير علة فلا يعتد بذلك الطواف ".
وبإزاء هذه الرواية جملة من الروايات الصحيحة الصريحة في جواز
التقديم اختيارا:
كصحيحة علي بن يقطين (2) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام)
عن الرجل المتمتع يهل بالحج ثم يطوف ويسعى بين الصفا والمروة قبل خروجه إلى
منى؟ قال: لا بأس به ".
وصحيحة جميل (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتمتع
يقدم طوافه وسعيه في الحج؟ فقال: هما سيان قدمت أو أخرت ".

(1) الوسائل الباب 13 من أقسام الحج
(2) الوسائل الباب 13 من أقسام الحج
(3) هذه الرواية وردت في التهذيب ج 5 ص 477 عن ابن بكير وجميل
عن أبي عبد الله عليه السلام ووردت في الفقيه ج 2 ص 244 عن ابن بكير عن زرارة
عن أبي جعفر عليه السلام وعن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام " أنهما سألاهما عن المتمتع... "
وقد أورد في الوسائل الرواية من التهذيب في الباب 13 من أقسام الحج، ومن
الفقيه في الباب 64 من الطواف. وقد فصل المصنف (قدس سره) سؤال جميل
وأورده مستقلا.
378

وصحيحة حفص بن البختري عن أبي الحسن (عليه السلام) (1): " في
تعجيل الطواف قبل الخروج إلى منى؟ فقال: هما سواء أخر ذلك أو قدمه
يعني: للمتمتع ".
وصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج (2) قال: " سألت أبا إبراهيم (عليه
السلام) عن الرجل يتمتع ثم يهل بالحج ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة
قبل خروجه إلى منى؟ فقال: لا بأس ".
قال في المدارك بعد طعنه في رواية أبي بصير بضعف السند: وأجاب الشيخ
عن هذه الروايات بالحمل على حال الضرورة. وهو بعيد، مع أنه لا ضرورة إلى
ارتكابه لانتفاء ما يصلح للمعارضة. والمتجه جواز التقديم مطلقا إن لم ينعقد
الاجماع القطعي على خلافه. انتهى.
وهو حسن جيد على أصوله وقواعده، إلا أنه ربما خالف ذلك وخرج عنه
في مواضع أخر، لما أوضحناه في شرحنا على الكتاب من عدم وقوفه (قدس
سره) على قاعدة له في هذه الأبواب.
وكيف كان فكلامه هذا لا يرد على الشيخ وأمثاله ممن لا يرى العمل على
هذا الاصطلاح، كما أوضحناه في غير موضع، لأن الصحة والضعف عندهم
ليست باعتبار الأسانيد وإنما هي باعتبار متون الأخبار.
على أن المستفاد من جملة من الأخبار اختصاص ذلك بالمضطر وأصحاب
الأعذار (3) فتحمل هذه الأخبار عليها، كما اتفقت عليه كلمة الأصحاب.

(1) الوسائل الباب 64 من الطواف.
(2) الوسائل الباب 13 من أقسام الحج
(3) الوسائل الباب 13 من أقسام الحج، والباب 64 من الطواف
379

وقال المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى - بعد نقل صحيحة علي بن
يقطين - ما صورته: قلت: ذكر الشيخ أن هذا الحديث ورد رخصة للشيخ
الكبير والمرأة التي تخاف الحيض. وحاول بذلك الجمع بينه وبين عدة أخبار
تضمن بعضها عدم الاعتداد بما يقع من الطواف قبل اتيان منى، وفي جملة منها
نفي البأس عن التقديم والإذن فيه للشيخ ومن في معناه (1) وطرقها غير نقية،
ولولا مصير جمهور الأصحاب إلى منع التقديم مع الاختيار واقتضاء الاحتياط
للدين تركه لكان الوجه في الجمع - إن احتيج إليه - حمل ما تضمن المنع على التقية، لما
يحكي من اطباق العامة عليه، وكثرة الأخبار الواردة بالإذن مطلقا. انتهى.
وهو جيد. إلا أن ما ذكره من اطباق العامة على المنع وإن أوهمه ظاهر
كلام المعتبر، حيث إنه أسند المنع من التقديم اختيارا إلى اتفاق العلماء المؤذن باتفاق
علماء الخاصة والعامة، كما هو المعهود منه في الكتاب المذكور، إلا أن العلامة
في التذكرة أسند المنع اختيارا والجواز اضطرارا إلى ابن عباس وعطاء ومالك
وإسحاق وأحمد، ثم نقل عن الشافعي أخيرا الجواز مطلقا (2).
وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال، والاحتياط فيها لازم على
كل حال، وهو في جانب القول الذي عليه الأصحاب.
وفي جواز الطواف المندوب للمتمتع قبل الخروج إلى منى قولان
أشهرهما المنع.
لحسنة الحلبي (3) قال: " سألته عن الرجل يأتي المسجد الحرام يطوف بالبيت؟

(1) الوسائل الباب 13 من أقسام الحج، والباب 64 من الطواف.
(2) المغني ج 3 ص 405.
(3) الكافي ج 4 ص 455، وفي التهذيب ج 5 ص 169، وفي الوسائل
الباب 83 من الطواف. واللفظ هكذا: " يأتي المسجد الحرام وقد أزمع بالحج... "
380

قال: نعم ما لم يحرم ".
ويمكن أن يستدل على ذلك أيضا بموثقة إسحاق بن عمار (1) قال:
" سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يحرم بالحج من مكة ثم يرى البيت خاليا
فيطوف به قبل أن يخرج، عليه شئ؟ فقال: لا " بناء على أن قوله عليه السلام: " لا "
راجع إلى الطواف قبل الخروج.
ومن المحتمل - بل ربما كان أظهر - إنما هو تعلقه بقوله: " عليه شئ "
فيكون فيه دلالة على جواز الطواف. وظاهر اطلاقه شامل للواجب والمندوب،
إلا أنه يكون في الواجب مخالفا لما تقدم نقله عن الأصحاب، فالاحتمال فيها قائم،
وإن كان الأقرب حمل الطواف على الطواف المستحب وأنه يجوز ذلك، بناء
على رجوع " لا " إلى قوله: " عليه شئ ".
وتؤيده رواية عبد الحميد بن سعيد عن أبي الحسن الأول عليه السلام (2) قال:
" سألته عن رجل أحرم يوم التروية من عند المقام بالحج ثم طاف بالبيت بعد احرامه
وهو لا يرى أن ذلك لا ينبغي، أينقض طوافه بالبيت احرامه؟ فقال: لا ولكن
يمضي على احرامه ".
هذا. وأما ما يدل من الأخبار على جواز التقديم مع الضرورة - مضافا
إلى الاتفاق عليه -
فمنه - ما رواه الشيخ عن إسماعيل بن عبد الخالق (3) قال: " سمعت

(1) الكافي ج 4 ص 457، والفقيه ج 2 ص 244، وفي الوسائل الباب
13 من أقسام الحج رقم 7، وهو جزء من حديث يتضمن فروعا ثلاثة
(2) الوسائل الباب 83 من الطواف
(3) التهذيب ج 5 ص 131، وفي الوسائل الباب 13 من أقسام الحج.
381

أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا بأس أن يعجل الشيخ الكبير والمريض والمرأة والمعلول
طواف الحج قبل أن يخرجوا إلى منى ".
وما رواه عن يحيى الأزرق عن أبي الحسن عليه السلام (1) قال: " سألته عن
امرأة تمتعت بالعمرة إلى الحج ففرغت من طواف العمرة، وخافت الطمث قبل يوم
النحر، أيصلح لها أن تعجل طوافها طواف الحج قبل أن تأتي منى؟ قال: إذا
خافت أن تضطر إلى ذلك فعلت ".
والمعنى فيها: إذا خافت أن تضطر إلى عدم التمكن من الطواف - كما لو لم يقم
عليها جمالها ورفقتها - قدمت الطواف.
وما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله
عليه السلام (2) قال: " لا بأس بتعجيل الطواف للشيخ الكبير والمرأة تخاف الحيض
قبل أن تخرج إلى منى ".
وما رواه في الموثق عن إسحاق بن عمار (3) قال: " سألت أبا الحسن
عليه السلام عن المتمتع إذا كان شيخا كبيرا أو امرأة تخاف الحيض، تعجل طواف الحج
قبل أن تأتي منى؟ فقال: نعم من كان هكذا يعجل ".
وما رواه أيضا عن علي بن أبي حمزة (4) قال: " سألت أبا الحسن عليه السلام

(1) التهذيب ج 5 ص 398، وفي الوسائل الباب 64 و 84 من الطواف،
وفيهما " صفوان بن يحيى الأزرق " نعم في الطبع القديم من التهذيب ج 1
ص 561 في نسخة " صفوان عن يحيى الأزرق " وفي الوافي أيضا باب (ترتيب
المناسك والإقامة على الحائض) " صفوان عن يحيى الأزرق ".
(2) الوسائل الباب 13 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 13 من أقسام الحج.
(4) الكافي ج 4 ص 457، والتهذيب ج 5 ص 132، وفي الوسائل الباب
64 من الطواف.
382

عن رجل يدخل مكة ومعه نساء قد أمرهن فتمتعن قبل التروية بيوم أو يومين
أو ثلاثة، فخشى على بعضهن الحيض؟ فقال: إذا فرغن من متعتهن وأحللن
فلينظر إلى التي يخاف عليها الحيض فيأمرها فتغتسل وتهل بالحج من مكانها ثم
تطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فإن حدث بها شئ قضت بقية المناسك وهي
طامث. فقلت: أليس قد بقي طواف النساء؟ قال: بلى. قلت: فهي مرتهنة
حتى تفرغ منه؟ قال: نعم. قلت: فلم لا يتركها حتى تقضي مناسكها؟ قال:
يبقى عليها منسك واحد أهون عليها من أن تبقى عليها المناسك كلها مخافة الحدثان.
قلت: أبى الجمال أن يقيم عليها والرفقة؟ قال: ليس لهم ذلك تستعدي عليهم حتى
يقيم عليها حتى تطهر وتقضي مناسكها ".
وربما أشعر هذا الخبر بعدم جواز تقديم طواف النساء وإن كان في مقام
الضرورة، مع أن ظاهر فتوى الأصحاب على خلافه، لأن ظاهرهم الاتفاق على
عدم جواز التقديم اختيارا - وقد تقدم ذلك في موثقة إسحاق بن عمار قريبا -
وجواز ذلك مع الضرورة،
لما رواه الشيخ عن الحسن بن علي عن أبيه (1) قال: " سمعت أبا الحسن
الأول عليه السلام يقول: لا بأس بتعجيل طواف الحج وطواف النساء قبل الحج يوم
التروية قبل خروجه إلى منى. وكذلك لا بأس لمن خاف أمرا لا يتهيأ له
الانصراف إلى مكة أن يطوف ويودع البيت ثم يمر كما هو من منى إذا كان خائفا "
وظاهر هذا الخبر - كما ترى - إنما هو جواز التقديم اختيارا، فهو غير دال
على ما ادعوه، بل هو إلى الدلالة على خلاف ما ادعوه أقرب. والظاهر أنهم حملوا
اطلاق الخبر على العذر والضرورة جمعا بينه وبين موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة

(1) التهذيب ج 5 ص 133، وفي الوسائل الباب 64 من الطواف.
383

الصريحة في أنه لا يجوز تقديمه على الخروج إلى منى.
ثم إن هذا الخبر قد دل على أنه مع عدم إقامة الجمال والرفقة تستعدي
عليهم، مع أنه قد روى ثقة الاسلام في الكافي (1) في الصحيح أو الحسن عن
إبراهيم عن عيسى الخزاز قال: " كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدخل عليه رجل
ليلا فقال: أصلحك الله (تعالى) امرأة معنا حاضت ولم تطف طواف النساء؟
فقال: لقد سئلت عن هذه المسألة اليوم. فقال: أصلحك الله أنا زوجها وقد
أحببت أن أسمع ذلك منك. فأطرق كأنه يناجي نفسه وهو يقول: لا يقيم عليها
جمالها ولا تستطيع أن تتخلف عن أصحابها، تمضي وقد تم حجها ".
وفي رواية الصدوق في الفقيه (2) مثله بزيادة ونقصان لا يضر بالمعنى، وفي
آخره: " ثم رفع رأسه وقال: تمضي وقد تم حجها ".
ويمكن أن تقيد هذه الرواية بالرواية الأولى.
البحث الرابع - قد عرفت من ما تقدم أنه يجوز للمفرد والقارن تقديم
الطواف الواجب والمستحب، وأن المتمتع يجوز له ذلك مع الضرورة، إلا أن
المشهور بين الأصحاب أنه لا بد من تجديد التلبية بعد كل طواف لئلا يحل من
احرامه، وقد صرح جمع منهم بفورية الاتيان بها بعد الطواف وصلاته أو
السعي. وقيل: إنما يحل المفرد دون السائق. وقيل: إنما يحل بالنية. قال الشيخ

(1) ج 4 ص 451، وفي الوسائل الباب 59 من الطواف. وفيهما هكذا:
" عن أبي أيوب الخزاز " وفي الفقيه ج 2 ص 245 هكذا: " عن أبي أيوب
إبراهيم بن عثمان الخزاز ".
(2) ج 2 ص 245، وفيه هكذا: " ثم رفع رأسه إليه وقال تمضي فقد تم
حجها " وفي الوسائل الباب 84 من الطواف. وليس فيه: " ثم رفع رأسه ".
384

في النهاية وموضع من المبسوط: إن القارن إذا دخل مكة وأراد الطواف تطوعا فعل
إلا أنه كلما طاف بالبيت لبى عند فراغه من الطواف ليعقد احرامه بالتلبية، لأنه لو لم
يفعل ذلك دخل في كونه محلا وبطلت حجته وصارت عمرة. وقال في التهذيب:
إن المفرد يحل بترك التلبية دون القارن. وعن الشيخ المفيد والمرتضى أن التلبية
بعد الطواف تلزم القارن لا المفرد. ولم يتعرضا للتحلل بترك التلبية وعدمه. وعن
ابن إدريس انكار ذلك كله وأن التحليل إنما يحصل بالنية لا بالطواف والسعي،
وليس تجديد التلبية بواجب ولا تركها مؤثرا في انقلاب الحج عمرة. وإليه ذهب
المحقق، والعلامة في المختلف والارشاد، والشيخ في موضع من المبسوط والجمل.
وأما الأخبار المتعلقة بهذه المسألة فمنها - ما رواه الشيخ في الصحيح عن
عبد الرحمان بن الحجاج (1) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني أريد الجوار
بمكة فكيف أصنع؟ قال: إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجة فاخرج إلى
الجعرانة فاحرم منها بالحج. فقلت له: كيف أصنع إذا دخلت مكة؟ أقيم بها إلى
يوم التروية ولا أطوف بالبيت؟ قال: تقيم عشرا لا تأتي الكعبة، إن عشرا
لكثير، إن البيت ليس بمهجور، ولكن إذا دخلت فطف بالبيت واسع بين الصفا
والمروة. فقلت: أليس كل من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد
أحل؟ قال: إنك تعقد بالتلبية. ثم قال: كلما طفت طوافا وصليت ركعتين
فاعقد بالتلبية ".
ومنها - صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال:

(1) التهذيب ج 5 ص 45 و 46، وفي الوسائل الباب 16 من أقسام الحج.
والشيخ يرويه عن الكليني.
(2) الوسائل الباب 16 من أقسام الحج.
385

" سألته عن المفرد للحج، هل يطوف بالبيت بعد طواف الفريضة؟ قال: نعم
ما شاء، ويجدد التلبية بعد الركعتين، والقارن بتلك المنزلة، يعقدان ما أحلا
من الطواف بالتلبية ".
قال الشيخ: وفقه هذا الحديث أنه قد رخص للقارن والمفرد أن يقدما
طواف الزيارة قبل الوقوف بالموقفين، فمتى فعلا ذلك فإن لم يجددا التلبية يصيرا
محلين ولا يجوز ذلك، فلأجله أمر المفرد والسائق بتجديد التلبية بعد الطواف
مع أن السائق لا يحل وإن كان قد طاف، لسياقه الهدي.
ومنها - ما رواه في الفقيه بسنده عن إسحاق بن عمار، وفي التهذيب عن
إسحاق المذكور عن أبي بصير (1) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل يفرد
الحج فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يبدو له أن يجعلها عمرة؟
قال: إن كان لبى بعد ما سعى قبل أن يقصر فلا متعة له "
ومنها - ما رواه في الفقيه في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله
عليه السلام (2) قال: " سألته عن رجل أفرد الحج فلما دخل مكة طاف بالبيت، ثم أتى
أصحابه وهم يقصرون فقصر، ثم ذكر بعد ما قصر أنه مفرد للحج؟ فقال: ليس
عليه شئ، إذا صلى فليجدد التلبية ".
ومنها - ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح إلى إبراهيم بن ميمون (3)

(1) الفقيه ج 2 ص 204، والتهذيب ج 5 ص 90، وفي الوسائل الباب
5 و 19 من أقسام الحج. وفي كليهما يرويه إسحاق عن أبي بصير. نعم في الوسائل
الباب 19 من أقسام الحج نقله من الفقيه عن إسحاق بن عمار قال " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام)... ".
(2) الوسائل الباب 11 من التقصير.
(3) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
386

قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن أصحابنا مجاورون بمكة وهم يسألوني لو
قدمت عليهم: كيف يصنعون؟ قال: قل لهم: إذا كان هلال ذي الحجة
فليخرجوا إلى التنعيم فليحرموا، وليطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يطوفوا
فيعقدوا بالتلبية عند كل طواف... الحديث ".
ومنها - ما رواه الشيخ والكليني عن زرارة في الموثق (1) قال: " سمعت
أبا جعفر عليه السلام يقول: من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحل، أحب أو كره ".
ومنها - ما رواه عن يونس بن يعقوب في الموثق عن من أخبره عن أبي الحسن عليه السلام (2) قال: " ما طاف بين هذين الحجرين - الصفا والمروة - أحد
إلا أحل، إلا سائق الهدي ".
ومنها - ما رواه الشيخ وابن بابويه عن زرارة في الصحيح (3) قال:
" جاء رجل إلى أبي جعفر عليه السلام وهو خلف المقام، فقال: إني قرنت بين حجة
وعمرة؟ فقال له: هل طفت بالبيت؟ فقال: نعم. قال: هل سقت الهدي؟
قال: لا. قال: فأخذ أبو جعفر عليه السلام بشعره ثم قال: أحللت والله " قال في
الوافي: أريد بالأخذ بشعره التقصير، أو تعليمه إياه.
ومنها - ما رواه الكليني عن معاوية بن عمار في الصحيح أو الحسن (4)
قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل لبي بالحج مفردا، فقدم مكة وطاف
بالبيت وصلى ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة؟ قال:
فليحل وليجعلها متعة، إلا أن يكون ساق الهدى ".

(1) الوسائل الباب 5 من أقسام الحج. والشيخ يرويه عن الكليني
(2) الوسائل الباب 5 من أقسام الحج. والشيخ يرويه عن الكليني
(3) الوسائل الباب 5 و 18 من أقسام الحج. ولم نقف على رواية الشيخ له
(4) الوسائل الباب 5 من أقسام الحج.
387

ومنها - ما رواه الصدوق عن زرارة في الموثق (1) قال: " سمعت
أبا جعفر عليه السلام يقول: من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحل، أحب أو كره، إلا من
اعتمر في عامه ذلك، أو ساق الهدي وأشعره أو قلده ".
والمستفاد من هذه الأخبار حصول التحلل بمجرد الطواف والسعي وإن
لم يقصر، وهو خلاف ما عليه الأصحاب ودلت عليه الأخبار من توقف الاحلال
على التقصير، ولا يبعد تخصيص هذا الحكم بهذه الصورة فيحصل التحلل هنا
بدون تقصير، ويؤيد ذلك أخبار أمر النبي صلى الله عليه وآله في حج الوداع من لم يسق
الهدي بالاحلال وأن يجعلها عمرة (2) مع أنه لم يشتمل شئ منها على الأمر
بالتقصير، وقضية البيان وتعليم الأحكام ذكره لو كان واجبا.
ولم أقف في كلام أحد من الأصحاب على طعن في هذه الأخبار بذلك بل
ظاهرهم تلقيها بالقبول على اطلاقها.
ويمكن أن يقال: إنه يجب تقييد اطلاقها بالأخبار الدالة على وجوب
التقصير وأنه لا يتحلل إلا به (3) ولعله الأقرب. والاحتياط لا يخفى.
ومن هذه الأخبار يظهر ضعف قول ابن إدريس ومن تبعه، والجواب
عن ما احتج به العلامة في المختلف من أنه دخل في الحج دخولا مشروعا فلا يجوز
الخروج عنه إلا بدليل. وبقوله صلى الله عليه وآله: (4) " إنما الأعمال بالنيات " فإن الدليل

(1) الفقيه ج 2 ص 203، وفي الوسائل الباب 5 من أقسام الحج. واللفظ
موافق لنقل الوافي باب (أصناف الحج والعمرة وأفضلهما) وفي الفقيه والوسائل
" وأشعره وقلده ".
(2) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج
(3) الوسائل الباب 1 و 3 من التقصير
(4) الوسائل الباب 5 من مقدمة العبادات
388

على المدعى واضح من هذه الأخبار. وتوقف العمل على النية هنا لا معنى له
بعد اتفاق الأخبار أنه بالطواف والسعي أحل أحب أو كره، وإذا كان الشارع
قد حكم بالاحلال قهرا وإن كره فأي مجال لاعتبار النية؟ وليس هذا الكلام
إلا مجرد اجتهاد في مقابلة النصوص. وما نقلوه من الخبر مخصوص بغير موضع
النزاع كما لا يخفى.
تنبيهات
الأول - قال السيد السند (قدس سره) في المدارك بعد أن نقل بعض
هذه الروايات: قال الشهيد في الشرح بعد أن أورد هذه الروايات: وبالجملة فدليل
التحلل ظاهر، والفتوى مشهورة، والمعارض منتف. وهو كذلك، لكن ليس
في الروايات دلالة على صيرورة الحجة مع التحلل عمرة، كما ذكره الشيخ وأتباعه.
نعم ورد في روايات العامة التصريح بذلك، فإنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله (1) أنه قال: إذا أهل الرجل بالحج ثم قدم مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة
فقد أحل، وهي عمرة. انتهى.
أقول: ممن صرح بما ذكره الشيخ أيضا جده (قدس سرهما) في المسالك قال:
ولو أخلا بالتلبية صار حجهما عمرة وانقلب تمتعا، كما صرح به جماعة. انتهى.
وما ذكره - من المناقشة في صيرورة الحج عمرة - قد سبقه فيه شيخه
المحقق الأردبيلي (قدس سره) في شرح الإرشاد.

(1) الظاهر أنه نقل بالمعنى، والمراد ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في حجة
الوداع من أنه أمر أصحابه ممن لم يسق الهدي بأن يحلوا بالطواف بالبيت وبين
الصفا والمروة، ويجعلوا الذي قدموا به عمرة تمتع. راجع المغني ج 3 ص 277
و ص 398. وسنن أبي داود ج 2 ص 154 و ص 160.
389

وفيه أنه لا يخفى أن صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته المتقدمة (1) - وهي
الثانية من روايتيه المتضمنة للسؤال عن رجل لبى بالحج مفردا، فقدم مكة وطاف
بالبيت وصلى ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السلام) وسعى بين الصفا والمروة
فقال (عليه السلام): فليحل وليجعلها متعة - عين ما دل عليه الخبر العامي الذي
نقله، غير أنه ذكر في الخبر العامي لفظ: " وهي عمرة " وهو يرجع إلى قوله في هذا
الخبر: " وليجعلها متعة " فإن حاصل الخبر الأمر له بالاحلال وأنه يجعلها عمرة
يتمتع بها إلى الحج، بمعنى أنه يعدل من حج الافراد إلى التمتع إن لم يكن ساق
الهدي، فقد دل الخبر على أنه مع الطواف والسعي وعدم العقد بالتلبية يبطل
حجه ويصير ما أتى به من أفعال عمرة التمتع. اللهم إلا أن يكون قد فهم من
كلام الشيخ أن مراده بالعمرة هنا يعني: العمرة المفردة إلا أن كلام الشيخ
لا قرينة فيه على التخصيص بذلك. وأيضا فكلامه في التنبيه الثاني من التنبيهات
التي ذكرها صريح في أن المراد عمرة التمتع.
وبالجملة فإن ظاهر الخبر المذكور - كما عرفت - هو أنه مع عدم العقد بالتلبية
فالواجب عليه الاحلال - للأمر بذلك في الخبر الذي هو حقيقة في الوجوب -
والعدول إلى التمتع. والوجه في الوجوب ما تقدم من أن المتمتع متى أتى بالعمرة وإن
كان في حج مستحب فإنه يجب الاتيان بالحج بعدها، لدخولها في الحج، والحج
من ما يجب بالشروع فيه وإن كان في الأصل مستحبا.
ومن ما يؤيد ما ذكرناه الأخبار الواردة في حج الوداع المتضمنة لأمر الله
(عز وجل) له صلى الله عليه وآله أن يأمر الناس ممن لم يسق الهدي بالعدول إلى التمتع بعد
الطواف والسعي (2).

(1) ص 387.
(2) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
390

والتقريب فيها أن أوامر الله (عز وجل) للوجوب اتفاقا إلا مع قيام قرينة
عدمه، وحينئذ فتدل هذه الأخبار بانضمام أخبار هذه المسألة إليها على أن كل
من أحرم مفردا وطاف وسعى ولم يسق الهدي ولم يعقد احرامه بالتلبية، فإنه يصير
محلا ويجب عليه أن يجعل ما أتى به عمرة يتمتع بها إلى الحج. وهو عين ما دلت
عليه صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة.
ولا ينافي ذلك الأخبار المتقدمة الدالة على أن كل من طاف بالبيت وسعى
أحل أحب أو كره، حيث إنها ربما دلت على بطلان الحج خاصة، وأما انقلابه
عمرة فلا، لأنا نقول: غاية هذه الأخبار أن تكون مطلقة بالنسبة إلى صيرورة
حجه بعد الاحلال عمرة، ومقتضى القاعدة حملها على الأخبار التي ذكرناها وتقييد
اطلاقها بها، فلا منافاة.
الثاني - قال السيد السند (طاب ثراه) في المدارك: الظاهر أن المراد
بالنية - في قول المصنف ومن قال بمقالته: إن المفرد لا يحل إلا بالنية - نية العدول
إلى العمرة، والمعنى أن المفرد لا يتحلل قبل اكمال أفعال الحج إلا بنية العدول
إلى العمرة فيتحلل مع العدول باتمام أفعالها. وعلى هذا فلا يتحقق التحلل بالنية
إلا في موضع يسوغ فيه العدول إلى العمرة. وذكر المحقق الشيخ علي (قدس
سره) في حواشيه أن المراد بالنية نية التحلل بالطواف. ثم قال: إن اعتبار النية
لا يكاد يتحقق، لأن الطواف منهي عنه إذا قصد به التحلل، فيكون فاسدا، فلا
يعتد به في كونه محللا، لعدم صدق الطواف الشرعي حينئذ. ويتوجه عليه أيضا أن
اعتبار النية لا دليل عليه أصلا، بل العمل بالروايات المتضمنة للتحلل بترك التلبية
يقتضي حصول التحلل بمجرد الترك، واطراحها يقتضي عدم التحلل بالطواف وإن
نوى به التحلل مع انتفاء نية العدول كما هو واضح.
ثم قال (قدس سره): الثاني - حيث قلنا بانقلاب الحج عمرة فيجب الاتيان
391

بأفعالها، قال المحقق الشيخ على (قدس سره) في حواشي القواعد: وهل يحتاج
إلى طواف العمرة أم لا؟ وجهان كل منهما مشكل، أما الأول فلأنه لو احتيج إليه
لم يكن لهذا الطواف أثر في الاحلال. وهو باطل. وأما الثاني فلأن اجزاءه عن
طواف العمرة بغير نية أيضا معلوم البطلان. وهذا الاشكال إنما يتوجه على المعنى
الذي ذكره، أما على ما ذكرناه فلا ورود له. انتهى.
أقول: الظاهر هو ما استظهره (قدس سره) في معنى النية، لأن هذا هو
الذي يقع في مقام العدول الذي جوزه الأصحاب ودلت عليه الأخبار، كما سيأتي
ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما ما نقله عن المحقق الشيخ علي (نور الله تعالى مرقده) فهذه صورة عبارته
في شرحه على القواعد، حيث قال بعد نقله القولين واختياره القول المشهور وطعنه
في دليل القول الآخر: على أن اعتبار النية من ما لا يكاد يتحقق، لأن الطواف
منهي عنه إذا قصد به التحلل، فيكون فاسدا، فلا يعتد به في كونه محللا، لعدم
صدق حصول الطواف حينئذ. والرواية بالفرق بين القارن والمفرد ضعيفة. فالأصح
عدم الفرق. لكن على هذا القول لو تركا التلبية فالذي يلزمهما في الرواية وعبارة
الشيخ أن حجهما يصير عمرة فينقلب تمتعا. وفي رواية أبي بصير (1) أن المفرد
إذا نقل حجه إلى التمتع فطاف ثم لبي بطلت متعته. وهي مبنية على أن بين
الطواف والتلبية منافاة كما أن بين الطواف والاحرام منافاة، فكما لا يبقى هذا
مع الآخر كذا العكس، وكما يصير هناك الحج افرادا كذا يصير في مسألتنا
هذه تمتعا. فعلى هذا هل يحتاج إلى طواف آخر للعمرة أم لا؟ كل منهما مشكل
أما الأول فلأنه لو احتيج إليه لم يكن لهذا الطواف أثر في الاحلال وهو باطل.

(1) الوسائل الباب 5 و 19 من أقسام الحج
392

وأما الثاني فلأن اجزاءه عن طواف العمرة بغير نية أيضا معلوم البطلان. انتهى.
وحاصل كلام المحقق المذكور أنه حيث فسر النية التي لا يحل إلا بها بناء
على ذلك القول بأنها نية التحلل بالطواف - وأورد عليه بأنه لا يكاد يتحقق على
هذا التقدير، لأن الطواف منهي عنه إذا قصد به التحلل - حصل له الاشكال في
صورة انقلاب حجه إلى التمتع في أنه هل يحتاج إلى طواف آخر أم لا؟ أما في صورة
احتياجه إلى الطواف فلأنه يجب أن لا يكون له أثر في هذا الاحلال - بمعنى أنه
لا يقع هذا الطواف إلا بعد حصول الاحلال من الاحرام المتقدم - ليكون هذا
الطواف ابتداء للعمرة التي يريد التمتع بها، والحال أنه لم يحصل الاحلال بذلك
الطواف السابق، لبطلانه متى قصد به التحلل كما ذكره أولا، فلا بد أن يكون
لهذا الطواف أثر في ذلك، هذا خلف. وأما في صورة عدم الاحتياج إليه
والاكتفاء بالطواف الأول فإنه يلزم منه الاجزاء عن طواف العمرة من غير نية
كونه طواف العمرة، لأنه إنما أتى به أولا بنية كونه للحج.
وحاصل كلام السيد (عطر الله تعالى مرقده) هو أنه لما قدم أن غاية
ما يستفاد من النصوص بطلان ما فعله بترك التلبية ولزوم كونه محلا، وأما أنه
يصير حجه عمرة فلا لعدم الدليل عليه، فعلى هذا إذا قلنا بانقلاب حجه عمرة
فإنه يجب عليه الاتيان بأفعال العمرة.
وإلى ما ذكرناه وأوضحناه من التفصيل أشار السيد في آخر كلامه
بقوله: وهذا الاشكال إنما يتوجه على المعنى الذي ذكره، أما على ما ذكرناه
فلا ورود له.
وأنت خبير بما في الكلامين معا من النظر الظاهر كما لا يخفى على الخبير
الماهر، لما قدمنا بيانه من دلالة صحيحة معاوية بن عمار (1) على انقلاب الحج

(1) ص 387.
393

عمرة وأنه يتمتع بها إلى الحج، واعتضادها بأخبار حج الوداع.
وبه يظهر أن ما ذكره المحقق المذكور في صورة عدم الاحتياج إلى
الطواف - من أنه يلزم اجزاؤه عن طواف العمرة بغير نية وأنه معلوم البطلان -
ليس في محله، فإن أخبار حج الوداع التي أشرنا إليها قد دلت على اجزاء الطواف
الأول الذي أوقعه بنية الحج عن الطواف للعمرة، فإنه لم يذكر في شئ من تلك الأخبار أنهم أعادوا الطواف بعد أمر الرسول صلى الله عليه وآله لهم بالاحلال من حجهم
وجعله عمرة. على أن نظائر هذا الموضع في العبادات غير عزيز، ومنه من
صام يوم الشك بنية كونه من شعبان ثم ظهر كونه من رمضان، فإنه يجزئ عنه مع أن النية إنما وقعت عن صوم شعبان. ومن ذكر في أثناء صلاة لاحقة فوت
سابقة، فإنه يعدل إليها ولو قبل التسليم بل بعده. ونحو ذلك من ما أوجب الشارع
نقله إلى خلاف ما افتتح عليه.
الثالث - قال السيد السند في المدارك: المستفاد من الروايات المتقدمة
توقف البقاء على الاحرام على التلبية بعد ركعتي الطواف، وعلى هذا فتكون
التلبية مقتضية لعدم التحلل، لا أن التحلل يتحقق بالطواف ثم ينعقد الاحرام
بالتلبية كما توهمه بعض المتأخرين. وذكر الشارح أن محل التلبية بعد الطواف
ولم نقف له على مستند. انتهى.
أقول: لا يخفى أن المستفاد من الروايات إنما هو القول الثاني الذي نسب
صاحبه إلى التوهم دون ما ذكره (طاب ثراه):
ومنها - حسنة معاوية بن عمار التي قدمها في كلامه وهي الأولى من روايتيه
المتقدمتين في كلامنا (1) لقوله فيها: " يعقدان ما أحلا من الطواف بالتلبية " فإنه
ظاهر في كونهما قد أحلا بالطواف ولكن يعقدان ما أحلاه بالتلبية.

(1) ص 385 و 386.
394

وكذا قوله في صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج التي قدمها في كلامه
أيضا (1) لما قال له السائل: " أليس كل من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة
فقد أحل؟ فقال عليه السلام: إنك تعقد بالتلبية " فإنه في معنى التقرير له على ما ذكره من
الاحلال، لكن أخبره بأنك تعقد ذلك بعد الاحلال بالتلبية. ثم قال له:
" كلما طفت طوافا وصليت ركعتين فاعقد بالتلبية " وقضية العقد حصول التحلل
قبل ذلك، إذ لا معنى لعقد شئ معقود.
وسيأتي قريبا (2) إن شاء الله (تعالى) في صحيحتي عمر بن أذينة وزرارة
ما هو صريح في ما قلناه.
ومن ما يعضد ذلك أيضا الأخبار المتقدمة (3) الدالة على أنه ما طاف
بالبيت والصفا والمروة أحد إلا أحل أحب أو كره، فإنها صريحة في حصول
الاحلال بذلك، أتى بالتلبية أم لم يأت، غاية الأمر أنه إذا أتى بها عقد ما أحله
كما دلت عليه الأخبار المتقدمة.
وبمثل ما ذكره في المدارك صرح المحقق المولي الأردبيلي في شرح الإرشاد
حيث قال: ويفهم من قوله: " ولا يفتقر... إلى آخره " أنه حصل التحلل فلا بد من
التلبية لعقد الاحرام، وذلك غير واضح وإن كان ظاهر الأخبار ذلك كما أشرنا
إليه، لأن الظاهر أن المراد أنه يحصل التحلل بترك التلبية وهي مانعة عنه، وهو
المراد بالعقد بالتلبية ولو كان مجازا، لا أنه يحصل احرام مجدد كما هو الظاهر من
كلام الأصحاب، وليس مرادهم، لأنه ليس بإحرام بالحج ولا بالعمرة، لسبق بعض
عمل الحج وعدم فعل العمرة، وهو ظاهر مع حصر الاحرام في احرامهما. ولأنه
ما ذكر له وقت ولا ميقات. ولأنه ما ذكر له نية، بل وما قال به أحد على

(1) ص 385
(2) 396 و 397
(3) ص 387 و 388
395

الظاهر. مع أنه لا بد في العبادات كلها من النية على ما قرروه، ولا نية هنا، لأن
النية الأولى قد ارتفعت، فإنها كانت للاحرام وقد أحل وخرج منه... إلى آخر
كلامه (زيد في اكرامه).
أقول: لا مانع من أنه يكون بالطواف قد أحل - كما دلت عليه ظواهر
الأخبار - وأن هذه التلبية إنما هي لتجديد الاحرام الأول لا لإنشاء احرام جديد
كما توهمه وسجل به، ولا استبعاد في ذلك بعد دلالة النصوص عليه وقول
معظم الأصحاب به كما اعترف به، فلا يحتاج إلى تجوز في الأخبار ولا تأويل
لكلام الأصحاب.
الرابع - قد عرفت من ما تقدم اتفاق الأخبار وكلمة جمهور الأصحاب
على العقد بالتلبية بعد الطواف والسعي وأن الحج صحيح.
إلا أنه روى ثقة الاسلام في الكافي في الصحيح أو الحسن على المشهور
عن عمر بن أذينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1): " أنه قال في هؤلاء الذين
يفردون الحج: إذا قدموا مكة وطافوا بالبيت أحلوا، وإذا لبوا أحرموا،
فلا يزال يحل ويعقد حتى يخرج إلى منى بلا حج ولا عمرة ".
وظاهر هذا الحديث بل صريحه هو بطلان الحج بذلك، وأن تلك الأخبار الواردة بذلك أنما خرجت مخرج التقية وإن اشتهر الحكم بها بين الأصحاب
قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل هذا الخبر: بيان - كانوا
يقدمون الطواف والسعي على مناسك منى (2) وربما يكررون، فحكم ببطلان

(1) الوسائل الباب 3 من أقسام الحج، والباب 44 من الاحرام.
(2) في المغني لابن قدامة الحنبلي ج 3 ص 405 قال في احرام الحج:
ولا يسن أن يطوف بعد احرامه. قال ابن عباس: لا أرى لأهل مكة أن
يطوفوا بعد أن يحرموا بالحج ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا
وهذا مذهب عطاء ومالك وإسحاق. وإن طاف بعد احرامه ثم سعى لم يجزئه
عن السعي الواجب. وهو قول مالك. وقال الشافعي: يجزئه. وفعله ابن
الزبير، وأجازه القاسم بن محمد وابن المنذر، لأنه سعى في الحج مرة فأجزأه
كما لو سعى بعد رجوعه من منى. ثم استدل لما اختاره من عدم المشروعية بما
ورد في حديث حجة الوداع من أمر النبي صلى الله عليه وآله أصحابه أن يهلوا بالحج إذا
خرجوا إلى منى. وبحديث عن عائشة. ثم قال: ولو شرع لهم الطواف قبل
الخروج لم يتفقوا على تركه.
396

حجهم بذلك، وذلك لأن طواف البيت للحاج وسعيه موجب للاحلال لأنهما آخر
الأفعال، فإذا طاف قبل الاتيان بمناسك منى فقد أحل من حجه قبل تمامه،
فإذا جدد التلبية فقد أحرم احراما آخر، فإن لم يطف بعد ذلك فقد بقي حجه
بلا طواف، فلا حج ولا عمرة له أيضا، لعدم نيته لها وعدم اتمامه إياها،
لأنه لم يأت بالتقصير بعد، فقد خرج منها قبل كمالها فبطلت، ثم إذا كرر
الطواف والتلبية فقد كرر الحل والعقد. انتهى كلامه.
وقال أيضا بعد نقل كلام الشيخ المتقدم في فقه حسنة معاوية بن عمار:
أقول: قد مضى أن من يفعل ذلك فلا حج له ولا عمرة، فالصواب أن يحمل هذا
الحديث على التقية.
أقول: ومن ما يؤيد ما ذكره من الحمل على التقية ما رواه الشيخ في
التهذيب (1) في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قلت
له: ما أفضل ما حج الناس؟ فقال: عمرة في رجب وحجة مفردة في عامها.

(1) ج 5 ص 31، وفي الوسائل الباب 4 و 5 و 22 من أقسام الحج،
والباب 3 من العمرة. واللفظ: " قلت لأبي جعفر عليه السلام... "
397

فقلت: فما الذي يلي هذا؟ قال: المتعة. قلت: فكيف يتمتع؟ قال: يأتي
الوقت فيلبي بالحج، فإذا أتى مكة طاف وسعى وأحل من كل شئ، وهو محتبس
وليس له أن يخرج من مكة حتى يحج. قلت: فما الذي يلي هذا؟ قال القران،
والقرآن أن يسوق الهدي. قلت: فما الذي يلي هذا؟ قال: عمرة مفردة
ويذهب حيث شاء، فإن أقام بمكة إلى الحج فعمرته تامة وحجته ناقصة مكية.
قلت: فما الذي يلي هذا؟ قال: ما يفعل الناس اليوم، يفردون الحج،
فإذا قدموا مكة وطافوا بالبيت أحلوا، وإذا لبوا أحرموا، فلا يزال يحل ويعقد
حتى يخرج إلى منى بلا حج ولا عمرة ".
وسياق الخبر - كما ترى - إنما هو في ما يفعله العامة، والسؤال إنما هو عن
أفضل ما هو المعروف بينهم، وهذا الترتيب لا يوافق أخبارنا ولا يجري على مذهبنا
وبالجملة فالصحيحان المذكوران صريحان في كون تقديم الطواف وعقده
بالتلبية إنما هو مذهب العامة (1) وأنه موجب لبطلان الحج، لقوله عليه السلام فيهما:
" فيخرجون إلى منى بلا حج ولا عمرة ".
وأنت خبير بما فيه من الاشكال والداء العضال، ومقتضاهما حمل صحيحة
عبد الرحمان بن الحجاج المتقدمة إن حمل الطواف المقدم فيها على الطواف الواجب
- وحسنة معاوية بن عمار المتضمنتين لعقد الاحرام بالتلبية ونحوهما من ما في معناهما -
على التقية مع فتوى معظم الأصحاب بذلك، بل الأخبار الدالة على جواز تقديم
الطواف للمفرد والقارن وقد تقدمت في أول البحث الثالث، فإنه متى كان من طاف

(1) في المغني ج 3 ص 430: وممن قال يلبي حتى يرمي الجمرة ابن مسعود
وابن عباس وميمونة... إلى أن قال: وروي عن سعد بن أبي وقاص وعائشة:
يقطع التلبية إذا راح إلى الموقف... إلى آخر كلامه في نقل الأقوال.
398

وسعى أحل وبطل حجه وأن العقد بالتلبية لا يفيد فائدة، فكيف خرجت هذه الأخبار عنهم (عليهم السلام) مصرحة بالجواز، وأن تقديمه وتأخيره سواء في
صحة الحج؟ وحملها على التقية كما هو ظاهر الصحيحين المتقدمين مشكل.
والعجب من المحدث الكاشاني أنه ظن انحصار المنافاة في صحيحتي
عبد الرحمان ومعاوية ولم يتنبه للمنافاة أيضا للأخبار المذكورة حيث أنه قال
بمضونها في كتبه، ووجه المنافاة فيها ظاهر، لأن صحيحتي عمر بن أذينة وزرارة
صريحتان في حصول الاحلال بالطواف وتؤيدهما الأخبار المتقدمة، وحينئذ فإذا
قدم طواف الحج وسعيه كما تضمنته هذه الأخبار، فإن لبى بعده كما يقول
الأصحاب لزم ما ذكره عليه السلام في الصحيحتين المشار إليهما، وإن لم يلب فكيف يجوز
أن يعتد بهما في حجه والحال أنه أحل بعدهما.
على أن المفهوم من الأخبار المتقدمة أن العقد بالتلبية إنما هو لبقاء الاحرام
الأول على حاله، ولهذا ذهب في المدارك وقبله شيخه الأردبيلي - كما تقدم - إلى أن
الغرض من التلبية هو البقاء على الاحرام الأول فتكون التلبية مقتضية لعدم التحلل
والمفهوم من هاتين الصحيحتين هو أنه بالطواف يصير محلا ويخرج عن احرامه
السابق وبالتلبية يعقد احراما جديدا، ولهذا سجل عليهم أنهم يخرجون إلى مني
بعير حج ولا عمرة، بالتقريب الذي قدمنا نقله عن المحدث الكاشاني. وهذان
الخبران لا ينطبقان إلا على مذهب ابن إدريس المانع من تقديم الطواف
كما تقدم.
وبالجملة فالمسألة عندي محل اشكال، عجل الله (تعالى) بالفرج لمن على يديه
حل هذه الرتج.
الخامس - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن
المفرد متى قدم مكة جاز له العدول إلى التمتع دون القارن.
399

ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان بن يحيى (1) قال:
" قلت لأبي الحسن علي بن موسى عليه السلام: إن ابن السراج روى عنك أنه سألك عن
الرجل يهل بالحج ثم يدخل مكة فطاف بالبيت سبعا وسعى بين الصفا والمروة،
فيفسخ ذلك ويجعلها متعة. فقلت له: لا؟ فقال: قد سألني عن ذلك فقلت
له: لا، وله أن يحل ويجعلها متعة وآخر عهدي بأبي أنه دخل على الفضل
ابن الربيع وعليه ثوبان وساج، فقال له الفضل بن الربيع. يا أبا الحسن لنا بك
أسوة، أنت مفرد للحج وأنا مفرد للحج. فقال له أبي: لا ما أنا مفرد أنا
متمتع. فقال له الفضل بن الربيع: فلي الآن أن أتمتع وقد طفت بالبيت؟
فقال له أبي: نعم. فذهب بها محمد بن جعفر إلى سفيان بن عيينة وأصحابه
فقال لهم: إن موسى بن جعفر عليه السلام قال للفضل بن الربيع: كذا وكذا،
يشنع بها على أبي ".
وروى الصدوق عن أبي بصير في الموثق (2) قال: " قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: رجل يفرد الحج فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم يبدو له أن
يجعلها عمرة؟ فقال: إن كان لبى بعد ما سعى قبل أن يقصر فلا متعة له ".
وروى الكليني والشيخ عنه عن إسحاق بن عمار في الموثق (3) قال:
" قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: إن أصحابنا يختلفون في وجهين من الحج، يقول بعضهم:
أحرم بالحج مفردا فإذا طفت بالبيت وسعيت بين الصفا والمروة فأحل وأجعلها عمرة.
وبعضهم يقول: أحرم وانو المتعة بالعمرة إلى الحج. أي هذين أحب إليك؟
قال: انو المتعة ".

(1) الوسائل الباب 22 من الاحرام.
(2) الوسائل الباب 5 و 19 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 4 من أقسام الحج، والباب 21 من الاحرام
400

وروى الكشي في كتاب الرجال (1) بأسانيد فيها الصحيح وغيره عن
عبد الله بن زرارة قال: " قال لي أبو عبد الله عليه السلام: اقرأ مني على والدك السلام
وقل له: إنما أعيبك دفاعا مني عنك، فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من
قربناه وحمدنا مكانه بادخال الأذى في من نحبه ونقربه... إلى أن قال: وعليك
بالصلاة الستة والأربعين، وعليك بالحج أن تهل بالافراد وتنوي الفسخ، إذا
قدمت مكة وطفت وسعيت فسخت ما أهللت به وقلبت الحج عمرة وأحللت إلى
يوم التروية، ثم استأنف الاهلال بالحج مفردا إلى منى وأشهد المنافع بعرفات
والمزدلفة، فكذلك حج رسول الله صلى الله عليه وآله وهكذا أمر أصحابه أن يفعلوا
أن يفسخوا ما أهلوا به ويقلبوا الحج عمرة... إلى أن قال: هذا الذي أمرناك
به حج التمتع، فألزم ذلك ولا يضيقن صدرك. والذي أتاك به أبو بصير من
صلاة إحدى وخمسين، والاهلال بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وما أمرناه به
من أن يهل بالتمتع، فلذلك عندنا معان وتصاريف لذلك ما يسعنا ويسعكم،
ولا يخالف شئ من ذلك الحق ولا يضاره. والحمد لله رب العالمين ".
وروى الشيخ في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (2) قال: " سألت

(1) ص 125 و 126، وفي الوسائل الباب 14 من أعداد الفرائض من
كتاب الصلاة، والباب 5 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 22 من الاحرام. والشيخ يرويه عن موسى بن القاسم
عن صفوان بن يحيى عن معاوية بن عمار. راجع التهذيب ج 5 ص 79، فالسند
صحيح ولا وجه ظاهرا للترديد بين الصحيح والحسن. نعم روى الكليني في
الكافي ج 4 ص 298 شطرا من الحديث عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار، ونقله في الوسائل في الباب 5 من أقسام الحج
رقم (4) ثم قال بعد الحديث رقم (6): ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن
يعقوب وكذا كل ما قبله.
401

أبا عبد الله عليه السلام عن رجل لبى بالحج مفردا ثم دخل مكة وطاف بالبيت وسعى
بين الصفا والمروة؟ قال: فليحل وليجعلها متعة إلا أن يكون ساق الهدى فلا
يستطيع أن يحل حتى يبلغ الهدي محله ".
واستدل في المدارك على ذلك أيضا بالأخبار الدالة على أمر النبي صلى الله عليه وآله
أصحابه بالعدول بعد الطواف والسعي ممن لم يسق الهدي (1) وظني أن هذه الأخبار ليست من محل البحث في شئ، وذلك فإن الظاهر من تلك الأخبار أن
هذا العدول على سبيل الوجوب، حيث إنه نزل عليه جبرئيل عليه السلام بوجوب التمتع
على أهل الآفاق، ومبدأ النزول كان بعد فراغه من السعي، ونزلت الآية في ذلك
المقام بذلك، فأمرهم بجعل ما طافوا وسعوا عمرة - حيث إن جملة من كان معه من
أهل الآفاق - وأن يحلوا ويتمتعوا بها إلى الحج. فهو ليس من ما نحن فيه من
جواز العدول وعدمه في شئ.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المسألة صورا:
إحداها - أن يحرم بالحج مفردا ولا يخطر بباله العدول بالكلية إلا أنه
بعد أن طاف وسعى عرض له العدول إلى التمتع. وهذا يقصر ثم يحل ما لم
يلب بعد طوافه وسعيه. وعلى هذه الصورة تدل موثقة أبي بصير المتقدمة هنا
وصحيحة صفوان بن يحيى المتقدمة هنا أيضا. وفي حكمه ما لو عرض له العدول
بعد دخول مكة قبل الطواف والسعي، فإنه يطوف ويسعى بنية الحج الذي أحرم
به ثم يقصر ويحل ويجعلها عمرة.

(1) الوسائل الباب 2 من أقسام الحج.
402

وثانيها - أن ينوي العدول في نفسه من أول الاحرام بالحج، ومع ذلك
أحرم بالحج وقدم طوافه وسعيه، فإنه يقصر ويحل ويجعلها عمرة، وعلى ذلك
تدل صحيحة عبد الله بن زرارة وأمر الإمام عليه السلام أباه زرارة بأن يهل بالحج
وينوي الفسخ. ونحوها موثقة إسحاق بن عمار.
وأما ما ذكره في المدارك - حيث قال: ولا يخفى أن العدول إنما يتحقق
إذا لم يكن ذلك في نية المفرد ابتداء وإلا لم يقع الحج من أصله صحيحا، لعدم
تعلق النية بحج الافراد، فلا يتحقق العدول عنه كما هو واضح. انتهى -
فليس بشئ بعد تصريح الأخبار بجواز ذلك، لما عرفت من الخبرين
المذكورين، ولما سيأتي من الأخبار الدالة على ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى (1)
ومنها - صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر (2) قال: " قلت لأبي الحسن
علي بن موسى الرضا عليه السلام: كيف أصنع إذا أردت أن أتمتع؟ فقال: لب
بالحج وانو المتعة، فإذا دخلت مكة طفت بالبيت وصليت الركعتين خلف المقام
وسعيت بين الصفا والمروة وقصرت، فنسختها وجعلتها متعة ".
وأما ما تأوله في المدارك - من أن المراد بقوله: " لب بالحج وانو المتعة "
يعني: يهل بحج التمتع وينوي الاتيان بعمرة التمتع قبله - فتعسف ظاهر فإن الحج
هنا بل حيث يطلق مع عدم القرينة إنما يراد به حج الافراد كما لا يخفى على من له
أنس بالأخبار، وقوله هنا في آخر الخبر: " فنسختها وجعلتها متعة " ظاهر
كالصريح في ما ذكرناه.
وبالجملة فإن ظهور هذا النوع من الأخبار أشهر من أن ينكر، نعم يجب أن يكون مخصوصا بحال التقية كما ذكرنا.

(1) في الفائدة الرابعة من الفوائد الملحقة بنية الاحرام
(2) الوسائل الباب 22 من الاحرام
403

وثالثها - أن يقصد البقاء على حجه، وحينئذ فيجب عليه الاتيان بالتلبية
بعد ركعتي الطواف أو السعي، وعلى هذه الصورة تدل صحيحة عبد الرحمان
ابن الحجاج وصحيحة معاوية بن عمار المتقدمتان (1).
ورابعها - أن يقصد البقاء على حجه ولكنه لم يأت بالتلبية عمدا أو جهلا
أو نسيانا، وهذا هو محل الخلاف المتقدم في أصل المسألة، والأشهر الأظهر
انقلاب حجه عمرة يتمتع بها إلى الحج، لدلالة الأخبار المتقدمة (2) على حصول
الاحلال بذلك أحب أو كره. ودلالة صحيحة معاوية بن عمار بالتقريب الذي
قدمناه على صيرورة ما أتى به عمرة.
وكيف كان فينبغي أن يعلم أن جواز العدول للمفرد إنما هو في ما إذا
لم يتعين عليه الافراد بأصل الشرع أو بنذر وشبهه، لاستفاضة الأخبار (3) - كما
تقدم - بأن أهل مكة وحاضري المسجد الحرام لا يجزئهم التمتع عن فرضهم،
وعموم ما دل على وجوب الوفاء بالنذر وشبهه (4) وما ربما يتوهم من العموم في
بعض الروايات المتقدمة أو الاطلاق على وجه يتناول المعين وغيره فيجب تخصيصه
بما ذكرنا من الأدلة.
وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني من أن تخصيص الحكم بمن
لم يتعين عليه الافراد بعيد عن ظاهر النص

(1) ص 385 و 386
(2) ص 387 و 388.
(3) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج.
(4) كقوله تعالى في سورة الحج، الآية 29: وليوفوا نذورهم.
وقوله تعالى في سورة المائدة الآية 89: لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان. وقوله تعالى في سورة النحل الآية 91:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم.
404

ثم إن شيخنا المشار إليه ذكر أن هذه المتعة التي أنكرها الثاني. وقال في
المعتبر: زعم فقهاء الجمهور أن نقل حج الافراد إلى التمتع منسوخ (1).
أقول: الظاهر أن ما ذكروه هنا من النسخ - وتبعهم عليه أصحابنا
فجعلوا التحريم الذي أحدثه عمر إنما هو بالنسبة إلى هذه المادة - تستر بالراح
واخماد لضوء المصباح لدفع الشنعة والافتضاح، فإن المفهوم من أخبارهم (2) - كما
نقلنا جملة منها في كتاب سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد - أن تحريم
عمر إنما هو لأصل حج التمتع لا لهذه الصورة، ولكن علماءهم لما رأوا شناعة
ذلك لتصريح القرآن العزيز بالمشروعية (3) حاولوا تخصيص تحريمه بهذه الصورة
وادعوا النسخ ليكون دليلا له، مع أن كلمات عمر وتعليلاته للتحريم لا تلائم
هذه الدعوى ولا أدلتها وكفاك قوله على المنبر كما استفاض وانتشر واشتهر (4):
" متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله حلالا وأنا محرمهما ومعاقب عليهما:
متعة الحج ومتعة النساء " ولولا أن البحث في ذلك خارج عن موضوع الكتاب
لكنا أوردنا شطرا من تلك الأخبار لتعلم صدق ما قلناه وصحة ما ادعيناه
ولكن من أحب ذلك فليرجع إلى المجلد الثاني من الكتاب المذكور في الجزء
الثاني عشر منه (5).

(1) ارجع إلى التعليقة 3 ص 359.
(2) ارجع إلى التعليقة 2 ص 359.
(3) بقوله تعالى في سورة البقرة، الآية 195: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج... "
(4) المحلى لابن حزم ج 7 ص 107، وأحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 342 و 345
(5) ومن أراد استيفاء البحث في هذا الموضوع بنحو يوافق تحقيق
المصنف (قدس سره) فليرجع إلى كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي ج 3 ص 276
إلى 281 و ص 398 إلى 401
405

البحث الخامس - لو بعد المكي عن أهله وحج حج الاسلام على ميقات
أحرم منه وجوبا
والكلام هنا في موضعين: الأول - في وجوب الاحرام عليه من الميقات،
وهذا من ما لا خلاف فيه ولا اشكال، لأنه لا يجوز لقاصد مكة مجاوزة
الميقات إلا محرما عدا ما استثني، وقد صار هذا ميقاتا له باعتبار مروره عليه
للأخبار الكثيرة:
ومنها - صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا عليه السلام (1) " أنه
كتب إليه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وقت المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها،
وفيها رخصة لمن كانت به علة، فلا يجاوز الميقات إلا من علة ".
الثاني - في النوع الذي يحرم به، فالمشهور أنه يجوز له التمتع، ذهب إليه
الشيخ في جملة من كتبه والمحقق في المعتبر، والعلامة في المنتهى والتذكرة، وغيرهم
ونقل عن الحسن بن أبي عقيل عدم جواز التمتع له، لأنه لا متعة لأهل مكة لقول
الله عز وجل: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام (2) والأخبار المتقدمة
الصريحة في أنه ليس لأهل مكة متعة (3) والعلامة في المختلف اقتصر على نقل
القولين ولم يرجح شيئا منهما في البين.
احتج الشيخ ومن تبعه بما رواه في الصحيح عن عبد الرحمان بن الحجاج
وعبد الرحمان بن أعين (4) قالا: " سألنا أبا الحسن موسى عليه السلام عن رجل من
أهل مكة خرج إلى بعض الأمصار ثم رجع فمر ببعض المواقيت التي وقت

(1) الوسائل الباب 15 من المواقيت
(2) سورة البقرة، الآية 195.
(3) ص 322 إلى 324.
(4) الوسائل الباب 7 من أقسام الحج.
406

رسول الله صلى الله عليه وآله له أن يتمتع؟ قال: ما أزعم أن ذلك ليس له، والاهلال بالحج
أحب إلي. ورأيت من سأل أبا جعفر عليه السلام وذلك أول ليلة من شهر رمضان
فقال له: جعلت فداك أني قد نويت أن أصوم بالمدينة، قال: تصوم إن شاء الله
تعالى. قال له: وأرجو أن يكون خروجي في عشر من شوال. فقال: تخرج
إن شاء الله تعالى. فقال له: إني قد نويت أن أحج عنك أو عن أبيك فكيف
أصنع؟ فقال له: تمتع. فقال له: إن الله ربما من علي بزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله
وزيارتك والسلام عليك، وربما حججت عنك، وربما حججت عن أبيك، وربما
حججت عن بعض إخواني أو عن نفسي، فكيف أصنع؟ فقال له: تمتع. فرد
عليه القول ثلاث مرات يقول: إني مقيم بمكة وأهلي بها، فيقول: تمتع. فسأله
بعد ذلك رجل من أصحابنا فقال: إني أريد أن أفرد عمرة هذا الشهر، يعني:
شوال؟ فقال له: أنت مرتهن بالحج. فقال له الرجل: إن أهلي ومنزلي
بالمدينة ولي بمكة أهل ومنزل وبينهما أهل ومنازل؟ فقال له: أنت مرتهن بالحج.
فقال له الرجل: إن لي ضياعا حول مكة وأريد أن أخرج حلالا فإن كان أبان
الحج حججت ".
وللمحقق الشيخ حسن (طاب ثراه) في كتاب المنتقى كلام جيد على أثر
هذا الحديث لا بأس بايراده، قال (قدس سره) بعد ذكره: قلت: لا يخفى
أن قوله: " ورأيت من سأل أبا جعفر عليه السلام... إلى قوله: وسأله بعد ذلك... "
من كلام موسى بن القاسم، فهو حديث ثان عن أبي جعفر الثاني عليه السلام وأورده
موسى على أثر حديث أبي الحسن موسى عليه السلام وقد تمسك جماعة من الأصحاب -
منهم العلامة - بالخبر الأول في الحكم بجواز التمتع للمكي إذا بعد عن أهله ثم
رجع ومر ببعض المواقيت، وفهموا من الخبر إرادة التمتع في حج الاسلام
واللازم من ذلك أن يكون الخروج موجبا لانتقال الفرض كالمجاورة، لكنه هنا
407

على وجه التخيير، لقوله عليه السلام في الخبر: " والاهلال بالحج أحب إلى " وكلام
الشيخ في الإستبصار يعطي ذلك أيضا، فإنه قال: ما يتضمن أول الخبر من حكم
من يكون من أهل مكة وقد خرج منها ثم يريد الرجوع إليها وأنه يجوز أن
يتمتع فإن هذا حكم يختص بمن هذه صفته لأنه أجراه مجرى من كان من غير الحرم
ويجري ذلك مجرى من أقام بمكة من غير أهل الحرم سنتين فإن فرضه يصير الافراد
والاقران وينتقل عنه فرض التمتع. وأضاف العلامة في المنتهى إلى الخبر الأول
شطرا من الثاني بتلخيص غير سديد واستدل بالمجموع على الحكم. وعندي في
ذلك كله نظر للتصريح في حديث أبي جعفر عليه السلام أن مورد الحكم هو حج التطوع
والخبر الأول وإن كان مطلقا إلا أن في ايراد الثاني على أثره بصورة ما رأيت
اشعارا بأن موسى بن القاسم فهم منهما اتحاد الموضوع، مع معونة دلالة القرينة
الحالية على ذلك، فإن بقاء المكي بغير حج إلى أن يخرج ويرجع من ما يستبعد
عادة. والعجب أن العلامة جرد ما لخصه من الخبر الثاني عن موضع الدلالة على
إرادة التطوع. وبما حررناه يظهر أنه لا دلالة للحديثين على الجواز في حج
الاسلام وإنما يدلان عليه في التطوع. ولعل قوله في الأول: " والاهلال
بالحج أحب إلي " ناظر إلى مراعاة التقية لئلا ينافي ما وقع من التأكيد في الأمر
بالتمتع في الخبر الثاني. انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو حسن رشيق قد طبق فيه
مفصل التحقيق.
وللمحقق المولى الأردبيلي أيضا هنا تفصيل حسن يجب أن نذكره، قال
(عطر الله مرقده) بعد كلام في المقام: وأما أنه بأي شئ يحرم وأنه بحج
التمتع أو غيره ففيه التأمل، والظاهر أنه يفعل ما يجب عليه، فلو كان الحج واجبا
عليه قبل أن يخرج من مكة يحرم بالافراد أو القران بناء على تعينهما عليه، وأما
لو لم يكن واجبا عليه فوجب عليه بأن صار نائبا فيحتمل أنه مثل الأول، لما مر
408

من ما يدل على وجوبهما على أهل مكة وأن التمتع لمن لم يكن أهله حاضريها
والفرض أن أهل هذا من حاضريها. وهو ظاهر. ويحتمل اعتبار المجاورة في غيرها
مثل ما اعتبر في مجاورة مكة كما سيجئ. والظاهر العدم، لعدم النص، وعدم
صحة القياس، وجواز التمتع له مطلقا مع أولوية الافراد، لصيرورته بالخروج
من غير أهل مكة، ولكون احرامه من موضع احرام التمتع، ولصحيحة
عبد الرحمان بن الحجاج وعبد الرحمان بن أعين... ثم ساق الرواية الأولى وملخص
الثانية المروية عن أبي جعفر عليه السلام وقال: ولكن يحتمل كونها في غير حجة
الاسلام... إلى أن قال: فحكم بعض الأصحاب بجواز التمتع له مطلقا محل التأمل.
أقول: ظاهر كلام المحقق الأول هو رد القول المشهور ومنع دلالة الرواية
عليه، وظاهر كلام المحقق الثاني هو التوقف.
وكيف كان فينبغي أن يعلم أن هذه الرواية لما هي عليه من الاجمال وتطرق
الاحتمال لا تصلح لأن تخصص بها الآية (1) والروايات المتقدمة الدال جميعه على أنه لا يجوز لأهل مكة التمتع (2) فالقول بما عليه ابن أبي عقيل هو المعتمد.
وبذلك يظهر لك ضعف ما ذكره السيد في المدارك، حيث قال بعد نقل
مذهب ابن أبي عقيل والاستدلال له بالآية: وهو جيد لولا ورود الرواية
الصحيحة بالجواز. فإن فيه أن الرواية وإن كانت صحيحة كما هو مطمح نظره
ومدار فكره إلا أنها غير صريحة في حج الاسلام، بل لو ادعى عدم الظهور
أيضا لكان متجها، فإن بقاء المكي بغير حج الاسلام مدة كونه في مكة أبعد بعيد

(1) وهو قوله تعالى في سورة البقرة، الآية 195: ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام.
(2) الوسائل الباب 6 من أقسام الحج
409

فكيف تصلح لأن تخصص بها الآية والأخبار الواردة بمعناها.
بقي الكلام في حكمه عليه السلام بالتمتع في الخبر الثالث وهو قوله: " فسأله
بعد ذلك رجل من أصحابنا... إلى آخره " وتأكيده بذلك، وهو يحتمل
وجهين: أحدهما - أن يكون الكلام في الحج المندوب ويكون الحكم بالتمتع
على سبيل الاستحباب، وثانيهما - أن يكون الغالب في حال السائل الإقامة
بالمدينة فيكون فرضه التمتع، ولعل في قوله: " إن أهلي ومنزلي بالمدينة ولي
بمكة أهل ومنزل " اشعارا بذلك.
والشيخ أورده في موضع آخر مستقلا معلقا عن موسى بن القاسم، وفي
المتن زيادة يختلف بها المعنى، قال (1): " أخبرني بعض أصحابنا أنه سأل أبا جعفر
(عليه السلام) في عشر من شوال، فقال: إني أريد أن أفرد عمرة هذا الشهر؟
فقال له: أنت مرتهن بالحج. فقال له الرجل: إن المدينة منزلي ومكة منزلي ولي بينهما
أهل وبينهما أموال؟ فقال له: أنت مرتهن بالحج. فقال له الرجل: فإن لي ضياعا حول
مكة واحتاج إلى الخروج إليها؟ فقال: تخرج حلالا وترجع حلالا إلى الحج "
ووجه الاختلاف في المعنى بين الخبرين أن المستفاد من هذا المتن كون السؤال
عن افراد العمرة في أشهر الحج للحاجة إلى الخروج قبل وقت الحج، فأجابه عليه السلام
بالمنع من افراد العمرة وأن ما يريده ممكن متى قصد التمتع بها، وهو أن يخرج
بعد عمرة التمتع بغير احرام ويرجع إلى الحج قبل الشهر. وقد تقدمت الأخبار
الدالة عليه (2).
بقي الكلام في المنع من افراد العمرة في الصورة المذكورة، فإنه خلاف ما دلت

(1) التهذيب ج 5 ص 436 وفي الوسائل الباب 22 من أقسام الحج.
(2) ص 362 و 363 و 365
410

عليه جملة من الأخبار، وإن كان قد ورد فيها أيضا ما يوافقه كما سيجئ بيانه
إن شاء الله (تعالى) في محله.
والشيخ في التهذيب حمل هذا الخبر على من أراد افراد العمرة بعد أن
دخل فيها بقصد التمتع، وجوز في الإستبصار الحمل على الاستحباب أيضا.
والمستفاد من الخبر الأول أن السؤال عن افراد العمرة في شوال فلما لم
يأذن له ذكر احتياجه إلى الخروج من مكة، وقال: إنه يؤخر الأمر إلى أبان
الحج فيأتي بهما معا في ذلك الوقت، حذرا عن محذور الامتناع من الخروج مع
الحاجة إليه بتقدير تقديم العمرة.
قال بعض أصحابنا: وكأنه وقع في هذا المتن اسقاط أوجب اختلاف
لمعنى بين الخبرين.
هذا. وقد روى ثقة الاسلام في الكافي عن موسى بن القاسم في الصحيح (1)
قال: " قلت لأبي جعفر عليه السلام: يا سيدي إني أرجو أن أصوم بالمدينة شهر
رمضان. فقال: تصوم بها إن شاء الله تعالى. قلت: وأرجو أن يكون خروجنا
في عشر من شوال، وقد عود الله زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وزيارتك، فربما حججت
عن أبيك وربما حججت عن أبي وربما حججت عن الرجل من إخواني وربما
حججت عن نفسي، فكيف أصنع؟ فقال: تمتع. فقلت: إني مقيم بمكة منذ عشر
سنين؟ فقال: تمتع ".
وهذا الخبر من ما يدل على أفضلية تمتع المكي الخارج عن بلده في غير
حج الاسلام.
البحث السادس - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
أن من فرضه التمتع إذا أقام بمكة إقامة لا تقتضي تغير فرضه فإنه يجب عليه التمتع

(1) الوسائل الباب 25 من النيابة في الحج، والباب 4 من أقسام الحج
411

وأنه يخرج إلى الميقات مع الامكان فيحرم منه بعمرة التمتع، فإن تعذر خرج إلى
أدنى الحل، وإن تعذر أحرم من مكة.
أقول: إنه قد وقع لي تحقيق سابق في هذه المسألة لسؤال بعض الطلبة
عنها، وأنا مثبته هنا لإحاطته بأطراف الكلام بابرام النقض ونقض الابرام بما لم
يسبق إليه سابق من الأعلام:
وهذه صورته: قد قطع الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن المجاور في
مكة (شرفها الله تعالى) مدة لم ينتقل حكمه وفرضه عن حكم الآفاقي لو أراد حج
الاسلام، فإنه يجب عليه الخروج إلى الميقات والاحرام بعمرة التمتع منه، فإن تعذر
خرج إلى أدنى الحل، فإن تعذر أحرم من مكة. وظاهر كلامهم أن الحكم اجماعي
لم يظهر فيه مخالف.
وهل الميقات الذي يجب الخروج إليه هو ميقات أهل أفقه أو أي ميقات
كان؟ قد صرح بعضهم بالأول، ونقل عن المحقق في المعتبر والنافع، والعلامة في
المنتهى والتذكرة، وبه صرح الشيخ المفيد في المقنعة، وهو ظاهر الشيخ في التهذيب
حيث استدل له برواية سماعة الآتية قريبا، ومنهم من صرح بالثاني كالشهيد
الأول في الدروس، والثاني في المسالك والروضة، قال في المسالك: لا يتعين
عليه الخروج إلى ميقات بلده بل يجوز له الخروج إلى أي ميقات. ونحوه كلامه في
الروضة. وبعضهم أطلق كالمحقق في الشرائع، والعلامة في القواعد والارشاد.
واحتمل السيد السند (قدس سره) في المدارك الاكتفاء بالخروج إلى أدنى
الحل مطلقا، واستحسنه في الكفاية، ونقل عن المحقق الأردبيلي أنه استظهره
أيضا، ونقل بعض فضلاء متأخري المتأخرين أنه قول الحلبي.
وحينئذ فقد تلخص أن في المسألة أقوالا ثلاثة: الأول - القول بوجوب
الخروج إلى ميقات أهل بلده، الثاني - الخروج إلى أي ميقات أراد من غير
412

تعيين، الثالث - الاكتفاء بالخروج إلى أدنى الحل
واستدل للقول الأول برواية سماعة عن أبي الحسن عليه السلام (1) قال:
" سألته عن المجاور أله أن يتمتع بالعمرة إلى الحج؟ قال: نعم يخرج إلى مهل
أرضه فيلبي إن شاء ".
أقول: ويمكن الاستدلال عليه بالأخبار الدالة على أن من دخل مكة
ناسيا للاحرام أو جاهلا به فإنه يجب عليه الخروج إلى ميقات أهل أرضه:
مثل صحيحة الحلبي (2) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل ترك
الاحرام حتى دخل الحرم؟ فقال: يرجع إلى ميقات أهل بلاده الذي يحرمون منه
فإن خشي أن يفوته الحج فليحرم من مكانه، فإن استطاع أن يخرج من الحرم
فليخرج ".
وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله عليه السلام (3) " في رجل نسي أن يحرم
حتى دخل الحرم؟ قال: قال أبي عليه السلام: عليه أن يخرج إلى ميقات أهل أرضه
فإن خشي أن يفوته الحج أحرم من مكانه، فإن استطاع أن يخرج من الحرم
فليخرج ثم ليحرم ".
وصحيحة معاوية بن عمار (4) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة
كانت مع قوم فطمثت، فأرسلت إليهم فسألتهم، فقالوا: ما ندري أعليك احرام
أم لا وأنت حائض؟ فتركوها حتى دخلت الحرم. قال: إن كان عليها مهلة فلترجع إلى
الوقت فلتحرم منه، وإن لم يكن عليها وقت فلترجع إلى ما قدرت عليه بعدما
تخرج من الحرم... ".

(1) الوسائل الباب 8 من أقسام الحج، والباب 19 من المواقيت
(2) الوسائل الباب 14 من المواقيت
(3) الوسائل الباب 14 من المواقيت
(4) الوسائل الباب 14 من المواقيت
413

وجه التقريب فيها أنها قد اشتركت في الدلالة على أن هؤلاء يجب عليهم
الرجوع إلى ميقات أهل بلادهم، وما ذاك إلا من حيث إن الواجب على الآفاقي
الخروج إلى مهل أهله أفقه، والظاهر أن خصوصية الجهل والنسيان غير معتبرة
وإن وقع السؤال عن ذلك.
ويدل على ذلك أيضا الأخبار الدالة على تقسيم المواقيت وتخصيص كل أفق
بميقات على حدة (1) فإنه يجب بمقتضى ذلك على أهل كل أرض الاحرام من
الميقات المعين لهم والمخصوص بهم، سواء كان بالمرور عليه أو الرجوع إليه، خرج
منه من توطن مكة المدة الموجبة لانتقال حكمه ومن مر على غير ميقاته وبقي الباقي
وأما ما استدل به للقول الثالث وهو الاكتفاء بأدنى الحل - من صحيحة
الحلبي (2) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام: لأهل مكة أن يتمتعوا؟ فقال: لا
ليس لأهل مكة أن يتمتعوا. قال: قلت: فالقاطنون بها؟ قال: إذا أقاموا سنة
أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكة، فإذا أقاموا شهرا فإن لهم أن يتمتعوا. قلت:
من أين؟ قال: يخرجون من الحرم. قلت: من أين يهلون بالحج؟ فقال:
من مكة نحوا من ما يقول الناس ".
ورواية حماد (3) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أهل مكة أيتمتعون؟
قال: ليس لهم متعة. قلت: فالقاطن بها؟ قال: إذا أقام بها سنة أو
سنتين صنع صنع أهل مكة. قلت: فإن مكث أشهرا؟ قال: يتمتع. قلت:
من أين؟ قال: يخرج من الحرم. قلت: من أين يهل بالحج؟ قال: من

(1) الوسائل الباب 1 من المواقيت
(2) التهذيب ج 5 ص 35 وفي الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج
414

مكة نحوا من ما يقول الناس " -
فيجب حمله على تعذر الرجوع إلى الميقات هنا.
ونظيره أيضا ما ورد في الناسي والجاهل اللذين لا خلاف بينهم في وجوب
رجوعهما إلى الميقات، كما دلت عليه الأخبار المتقدمة - من أنهما يحرمان من
موضعهما أو من أدنى الحل:
كما رواه في الكافي بسنده عن الكناني (1) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل جهل أن يحرم حتى دخل الحرم، كيف يصنع؟ قال: يخرج من
الحرم ثم يهل بالحج ".
وما رواه فيه أيضا عن سورة بن كليب (2) " أنه قال لأبي جعفر عليه السلام:
خرجت معنا امرأة من أهلنا فجهلت الاحرام فلم تحرم حتى دخلنا مكة ونسينا
أن نأمرها بذلك؟ قال: فمروها فلتحرم من مكانها من مكة أو من المسجد ".
ولا ريب أن اطلاق هذين الخبرين غير معمول عليه عندهم بل يجب تقييده
بتعذر الخروج إلى الميقات، وحينئذ فيجب أيضا تقييد ذينك الخبرين بما ذكرنا
من الأخبار الدالة على وجوب الرجوع إلى الميقات.
وأما ما استدل به في المدارك لهذا القول أيضا - من صحيحة عمر بن يزيد
عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " من أراد أن يخرج من مكة ليعتمر أحرم من
الجعرانة أو من الحديبية أو ما أشبههما " -
فلا دلالة فيها، لوجوب حملها على العمرة المفردة كما استفاضت به الأخبار،
وقد صرح بذلك هو نفسه، فقال - في شرح قول المصنف (قدس سره): والحج

(1) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
(2) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
(3) الوسائل الباب 22 من المواقيت
415

والعمرة متساويان في ذلك - ما لفظه: ولو أراد المفرد أو القارن الاعتمار بعد الحج
لزمهما الخروج إلى أدنى الحل فيحرمان منه ثم يعودان إلى مكة للطواف والسعي
وتدل عليه روايات: منها - ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن عمر بن يزيد
عن أبي عبد الله عليه السلام... ثم ساق الرواية المذكورة إلى آخرها.
وأما ما ربما يتوهم - من اطلاق العمرة فيها وشمولها لعمرة التمتع - فهو توهم
ناشئ من قصور التتبع للأخبار والتأمل فيها بعين الفكر والاعتبار، إذ لا يخفى
على من راجعها كملا وقلبها بطن الظهر وظهر البطن أن الحديبية والتنعيم والجعرانة
ونحوها من المواضع التي في خارج الحرم إنما جعلت مواقيت للعمرة المفردة ولحج
الافراد من المجاورين، وأما حج التمتع وعمرته فلا تعلق لهما بهذه المواضع
بالكلية، وإنما هذه شبهة استولت على هؤلاء الأفاضل من هذين الخبرين المتقدمين
وما فيهما من الاجمال في هذا المجال فأحدثوا هذا القول في المسألة أو الاحتمال.
وأما الاستدلال على ذلك بموثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام - (1) قال:
" المجاور بمكة إذا دخلها بعمرة في غير أشهر الحج في رجب أو شعبان أو شهر
رمضان أو غير ذلك من الشهور إلا أشهر الحج، فإن أشهر الحج شوال وذو القعدة
وذو الحجة، من دخلها بعمرة في غير أشهر الحج ثم أراد أن يحرم فليخرج إلى
الجعرانة فيحرم منها ثم يأتي مكة، ولا يقطع التلبية حتى ينظر إلى البيت، ثم يطوف
بالبيت ويصلي الركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السلام) ثم يخرج إلى الصفا
والمروة فيطوف بينهما، ثم يقصر ويحل، ثم يعقد التلبية يوم التروية " -
فالجواب عنه ما ذكره المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقله الرواية، حيث
قال: بيان: " ثم أراد أن يحرم " يعني: بعمرة أخرى مفردة، وذلك لأن

(1) الوسائل الباب 8 من أقسام الحج.
416

المعتمر بعمرة التمتع لا بد له أن يخرج إلى أحد المواقيت البعيدة كما سبق. انتهى
ولا ينافي ذلك كون هذه العمرة في أشهر الحج، لتكاثر الأخبار بجواز العمرة
المفردة في أشهر الحج وإن لم يحج (1).
والتحقيق في المقام أن الأصل في هذه المسألة أخبار المواقيت (2) فإن
المستفاد من جعله صلى الله عليه وآله لكل أناس ميقاتا مخصوصا هو وجوب الاحرام من
ذلك الميقات بعينه، فقضية جعله لأهل مكة ومن حولهم ميقاتا مخصوصا - وللبعيد
الخارج عن ذلك مواقيت مخصوصة، وتقسيم تلك المواقيت على أهل الآفاق
وتخصيص أهل كل أفق بما يليهم - هو وجوب الاحرام على أهل كل قطر بما خصهم
به وعينه لهم كيف كان وعلى أي نحو كان إلا ما استثنى، وتخرج الأخبار
الدالة على وجوب الرجوع على الناسي والجاهل والمقيم في مكة دون المدة المعينة (3)
شاهدة على ذلك، فإن الظاهر أن وجوب الرجوع في الجميع إنما هو لما ذكرنا لا
من حيث خصوصية الجهل أو النسيان أو الإقامة.
فإن قيل: أن الخصم يدعي أيضا تخصيص هذا العموم بالروايتين
المتقدمتين (4) الدالتين على الاحرام من أدنى الحل للمقيم بمكة، كما خصصتموه
بالصورتين المذكورتين.
قلنا: إنا إنما صرنا إلى التخصيص بالصورتين المذكورتين لصراحة الأخبار
الدالة عليهما، مضافا إلى اتفاق الأصحاب على ذلك، وهذا مفقود في الموضع المدعى

(1) الوسائل الباب 7 من العمرة
(2) الوسائل الباب 1 من المواقيت.
(3) الوسائل الباب 14 و 19 من المواقيت، والباب 9 من أقسام الحج.
(4) ص 414
417

من كلا الوجهين، فأما من جهة قول الأصحاب فظاهر، إذ لا قائل بذلك صريحا
لا قديما ولا حديثا غير مجرد الاحتمال الذي ذكره هؤلاء المشار إليهم وجعلوا
المسألة من أجله مشكلة وإن استحسنه بعض واستظهره آخر. وأما دلالة الأخبار
فقد عرفت ما فيه من جواز الحمل على العذر عن الوصول إلى الميقات، بعين ما يقال
في الخبرين الواردين في الناسي والجاهل وأنهما يحرمان من أدنى الحل أو محلهما،
مع أنه لا قائل بالعمل بهما على اطلاقهما بل لا بد من تخصيصهما بالعذر، فكذا
في ما نحن فيه.
وبالجملة فالخصم إن سلم دلالة أخبار المواقيت على ما قلناه فلا مندوحة له،
أما عن الرجوع إلى ما ذكرنا والموافقة على ما سطرنا، وأما عن القول بجواز
الاحرام من أدنى الحل في المقيم والناسي والجاهل وإن لم يكن عن عذر، عملا
باطلاق الروايات المذكورة، ولا أراه يقوله، وأما قوله بذلك في المقيم خاصة
دون الفردين الآخرين فهو تحكم محض. وإن لم يسلم دلالة أخبار المواقيت
على ما ذكرنا من الاختصاص فالبحث معه ثمة، ولا أراه أيضا يتجشمه، إذ
لا خلاف في ذلك نصا وفتوى في ما عدا الصورتين المشار إليهما آنفا.
وبما ذكرنا يظهر أن هذا القول ساقط عن درجة الاعتبار مخالف لصحاح
الأخبار، وإن أوهمه الخبران المذكوران عند من لم يعط التأمل حقه في المقام،
وكفاك أنه مخالف لما عليه كافة العلماء الأعلام قديما وحديثا، وما نقل أنه قول
الحلبي فغير ثابت.
ومن الظاهر أن اتفاق الأصحاب - ولا سيما أصحاب الصدر الأول - من ما
يؤذن بكون ذلك مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فإن مذهب كل إمام إنما
يعلم بنقل شيعته وأتباعه، وأقوال أصحاب الصدر الأول وإن لم تصل إلينا سوى
عبارة الشيخ المفيد في المقنعة إلا أن من تقدمنا من الأصحاب الذين وصلت إليهم
418

الأقوال ممن تقدمهم ووقعت بأيديهم مصنفاتهم - ولا سيما من تصدى منهم لضبط
الأقوال والخلاف في المسائل - لو اطلعوا على ما خالف هذا القول الذي اتفقت
كلمتهم عليه لنقلوه، كما هي العادة الجارية والطريقة المستمرة في نقل الأقوال والتنبيه
على الخلاف والوفاق في كل مسألة.
وأما ما طول به بعض من مال إلى هذا الاحتمال ممن قدمنا الإشارة إليه
- من نقل أخبار أخر زعم دلالتها عليه - فليس فيه إلا تكثير السواد وإضاعة
المداد، وليس في التعرض لنقله ورده كثير قائدة.
وأما من أطلق من أصحابنا الرجوع إلى الميقات فالظاهر أن مراده ميقات
أهل تلك البلاد، فإنه المتبادر واللام فيه للعهد، ولا سيما أن هؤلاء الذين قدمنا
نقل الاطلاق عنهم في بعض كتبهم قد صرحوا بالتخصيص في الكتب الأخر، وهي
قرينة واضحة في حمل اطلاقهم في تلك الكتب على ما خصصوه في الكتب الأخر.
وربما استدل لهم بأن كل واحد من المواقيت ميقات لمن أتى عليه بالنص
الصحيح والاجماع، وعند وصول المجاور إلى المقيات يصدق عليه أنه أتى عليه
فيكون ميقاتا له بالعموم.
وبما رواه الكليني عن حريز عن من أخبره عن أبي جعفر (عليه السلام) (1)
قال: " من دخل مكة بحجة عن غيره ثم أقام سنة فهو مكي، فإذا أراد أن
يحج عن نفسه أو أراد أن يعتمر بعد ما انصرف من عرفة فليس له أن يحرم
بمكة ولكن يخرج إلى الوقت، وكلما حول رجع إلى الوقت ".
أقول: لا يخفى عليك ما في هذين الدليلين العليلين من الضعف والقصور
أما الأول فلأن محل البحث في المسألة ومطرح النزاع أن المجاور بمكة

(1) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
419

دون المدة الموجبة لانتقال حكمه متى أراد الاحرام بعمرة التمتع، فهل الواجب عليه
الخروج إلى مهل أرضه وميقات بلاده، أو الخروج إلى أدنى الحل، أو إلى أي
ميقات اتفق؟ فلا بد من قيام الدليل على أحد الثلاثة في تلك الحال، وتعيين
الفرض الواجب عليه حتى تجب المبادرة إليه، ومقتضى كلام هذا القائل أنه إنما
يجب عليه الاحرام بعد الوصول إلى ذلك الميقات حتى يدخل في العموم الذي زعمه
وهذا ليس من محل البحث في شئ. وعلى أي تقدير فهو غير مجزئ ما لم يقم
الدليل قبل الخروج على أن الواجب في تلك الحال هو الخروج إلى أي ميقات كان.
وأما ما أجاب به بعض الأفاضل عن ذلك - من أن المتبادر من الاتيان عليه
هو المرور به، وهو لا يصدق على الواصل إلى أحد المواقيت - فظني أنه لا يحسم
مادة النزاع، لأن ما ذكره وإن كان كذلك إلا أن باب المجاز واسع، والمنع
من الصدق على تقدير ذلك ممنوع، بل الحق في الجواب هو ما ذكرناه.
وأما الرواية المذكورة فهي لما عليه من الاجمال بل الاختلال لا تصلح
للاستدلال.
وهذه الرواية قد استدل بها الشيخ في التهذيب (1) للشيخ المفيد في ما
ذهب إليه من وجوب الاحرام من ميقات أهل بلاده، فإنه أورد موثقة سماعة
المتقدمة وثنى بهذه الرواية بعدها.
والحق أنه لا دلالة فيها على شئ من هذين القولين بل ولا غيرهما في البين
لعدم وضوح معناها، إلا أنه يمكن حملها على حج الافراد وعمرته، لأنه حكم
فيها بأن من أقام سنة فهو مكي، ثم قال: " فإذا أراد أن يحج عن نفسه " يعني:
بعد أن حج عن غيره في السنة التي دخل فيها بالحجة عن الغير، وحينئذ يكون

(1) ج 5 ص 60.
420

هذا الحج بعد مضي سنة عليه بمكة، فيجب أن ينتقل حكمه إلى حكم أهل مكة
فيكون حجه افرادا، وحينئذ فقوله: " ولكن يخرج إلى الوقت " يجب أن
يحمل على خارج الحرم الذي هو وقت لحج الافراد من المجاورين، كما دل عليه
جملة من الأخبار. وعلى ذلك أيضا يجب حمل قوله: " وكلما حول " أي
مضى عليه حول آخر، فإنه يخرج إلى ذلك الوقت الذي هو خارج الحرم من
الجعرانة ونحوها. وكذا قوله: " أو أراد أن يعتمر " أي عمرة مفردة " بعد
ما انصرف من عرفة " أي أكمل حجه، فإنه يخرج إلى ذلك الوقت أي خارج
الحرم. هذا غاية ما يمكن من التكلف في تصحيح معناها المراد منها، وهو
خارج عن محل البحث وموضع المسألة.
نعم يمكن أن يستدل لهذا القول بما رواه الصدوق في الفقيه في الموثق عن
سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " من حج معتمرا في شوال وفي نيته أن يعتمر
ويرجع إلى بلاده فلا بأس بذلك، وإن هو أقام إلى الحج فهو متمتع، لأن أشهر
الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن اعتمر فيهن وأقام إلى الحج فهي متعة
ومن رجع إلى بلاده ولم يقم إلى الحج فهي عمرة، وإن اعتمر في شهر رمضان
أو قبله وأقام إلى الحج فليس بمتمتع وإنما هو مجاور أفرد العمرة، فإن هو أحب
أن يتمتع في أشهر الحج بالعمرة إلى الحج فليخرج منها حتى يجاوز ذات عرق أو
يجاوز عسفان فيدخل متمتعا بالعمرة إلى الحج، فإن هو أحب أن يفرد الحج
فليخرج إلى الجعرانة فيلبي منها ".
وهذا الخبر مع دلالته ظاهرا على هذا القول - حيث خيره في الخروج إلى
أحد هذين الميقاتين ونحوهما، فإن الظاهر أن ذكر هذين الميقاتين إنما خرج

(1) الوسائل الباب 10 من أقسام الحج، والباب 7 من العمرة.
421

مخرج التمثيل - فهو صريح في رد القول بالاكتفاء بأدنى الحل، فإنه جعل ميقات
التمتع في الصورة المذكورة هو أحد المواقيت البعيدة المعينة لأهل الآفاق، وأدنى
الحل إنما هو ميقات مفرد الحج والعمرة المفردة.
ويمكن حمل الخبر المذكور على وجه لا ينافي ما اخترناه من ميقات أهل
بلاد ذلك المتمتع، بأن يقال: إن الغرض من سوق هذا الكلام إنما هو بيان
الفرق بين ميقات المجاور المريد لحج الافراد والمجاور المريد لحج التمتع، فكأنه
قيل: إن المجاور متى قصد الحج افرادا فميقاته الجعرانة وإذا قصد التمتع
فالمواقيت الآفاقية. وهو وإن تضمن نوع اطلاق في الميقات - من حيث إن
سوق الكلام ليس لبيان ميقات التمتع وإنما هو لغرض آخر كما ذكرنا - غير
مضر، فيجب تقييد اطلاقه بما قدمنا من الأخبار.
ثم إن في ايراد الصدوق (قدس سره) هذا الخبر في كتابه (1) دلالة على أن
مذهبه موافق لما اخترناه من القول المشهور والمؤيد المنصور، بناء على قاعدته المقررة
في صدر كتابه من أن كل ما يرويه في كتابه فهو من ما يفتي به ويعتقد صحته.
لا يقال: إن الخبر قد دل على أنه يتجاوز عسفان، وليس ثمة ميقات من
المواقيت المنصوصة.
لأنا نقول: قد ذكرنا آنفا أن هذا الكلام إنما خرج مخرج التمثيل في أن المتمتع يخرج إلى المواقيت البعيدة دون أدنى الحل، بخلاف المفرد فإنه يخرج
إلى أدنى الحل خاصة، وليس الغرض من الكلام بيان ميقات التمتع، وحاصل
الكلام أنه يخرج إلى ما زاد على هذه المسافة.
وبما قررنا يظهر أن هذا الخبر من أوضح الأخبار في رد هذا القول

(1) ج 2 ص 274
422

المحدث من هؤلاء الأعلام، الناشئ عن عدم اعطاء التأمل حقه في أخبارهم
(عليهم السلام).
ونظير هذا الخبر أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عبد الله (1)
قال: " سألت أبا الحسن عليه السلام عن المقيم بمكة - وفي نسخة: المعتمر - يجرد الحج
أو يتمتع مرة أخرى؟ فقال: يتمتع أحب إلى، وليكن احرامه من مسيرة
ليلة أو ليلتين ".
ثم إن بعضا ممن مال إلى هذا القول المحدث وجه الطعن إلى رواية سماعة
المتقدمة في صدر المسألة دليلا للقول المشهور - ظنا منه انحصار الدلالة فيها -
من وجوه:
أحدها - ضعف السند بأن في الطريق معلى بن محمد وهو ضعيف.
والجواب عنه (أو لا) - إن هذا الإيراد مفروغ منه عندنا، فإنا لا نرى
الاعتماد على هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من الصلاح، كما أوضحنا
ذلك في جملة من كتبنا وزبرنا.
وثانيا - أنه من المقرر بين أرباب هذا الاصطلاح هو العمل بالخبر الضعيف
متى كان عمل الأصحاب قديما وحديثا على القول بمضمونه، فضعفه مجبور
عندهم بشهرة القول به والاتفاق عليه، والأمر في ما نحن فيه كذلك. والأمران
اصطلاحيان، ولا معنى للعمل بأحدهما ورد الآخر.
وثانيها - إن مهل أرضه مجمل فيمكن أن يراد به أدنى الحل ليوافق
الأخبار الباقية.
والجواب عنه أن هذا الكلام من ما يقضى منه العجب العجاب عند من
له أدنى مسكة بالعربية من ذوي الألباب، إذ لا ريب أن المراد بالمهل يعني

(1) الوسائل الباب 4 من أقسام الحج
423

موضع الاهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية الذي محله الميقات، وإضافة المهل إلى
الأرض بتقدير مضاف، أي مهل أهل أرضه كما في قوله عز وجل: " واسأل
القرية " (1) وإضافة الأرض إلى ضمير ذلك الشخص يعين كون ذلك الميقات
هو الميقات المخصوص بأهل تلك الأرض. وحينئذ فأي اجمال في هذا البيان الواضح
البرهان لولا حب التعصب للمذاهب الغير اللائق بالعلماء الأعيان.
على أن للخصم أن يقلب عليه هذا الطعن في الخبرين المتقدمين اللذين هما
عمدة ما استندوا إليه، بأن غاية ما دلا عليه أنه بعد ما سأل السائل: " من أين
يتمتعون " بأنهم يخرجون من الحرم، ولا ريب أنه لا صراحة فيه ولا ظاهرية بأنهم
يحرمون من أدنى الحل كما ادعوه، ومجرد الخروج من الحرم لا يستلزم ذلك
إذ من الجائز أن يكون المراد يخرجون من الحرم إلى الميقات المعين لهم وهو
ميقات أهل بلادهم، وبالجملة فهو مطلق فيمكن تقييده بتلك الأخبار الدالة على
وجوب الاحرام من ميقات أهل بلادهم، ولا سيما موثقة سماعة المتقدمة قريبا،
حيث تضمنت أنه يخرج من مكة حتى يجاوز ذات عرق، ورواية إسحاق
ابن عبد الله المتضمنة لمسير ليلة أو ليلتين، فقد بين فيهما غاية الخروج وهذه
مطلقة في بيان الغاية، والواجب بمقتضى القاعدة المسلمة عندهم الحكم بالمقيد على
المطلق. وهذا بحمد الله - سبحانه - ظاهر لا سترة عليه.
فالتأويل في جانب أخباره التي اعتمدها أقرب منه في جانب هذا الخبر،
ولكن الأمر كما قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدي المساويا
ونحن قد تجاوزنا عن هذا الاحتمال سابقا ولم نذكره مع إمكانه واحتماله،
مماشاة ومجاراة بأنه مع تسليم ما يدعونه فحمله على ما قدمناه من العذر - كما في

(1) سورة يوسف، الآية 82.
424

ذينك الخبرين الأخيرين - ممكن وجائز، فيجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة، وإلا
فهذا الاحتمال أقرب قريب كما أوضحناه.
وثالثها - أن الرواية مقيدة بقوله: " إن شاء " فلا تدل على وجوب
الخروج إلى مهل أرضه.
والجواب أنه لو تم ما ذكره للزم منه فساد الكلام واختلال النظام، وهو
من ما يجل عنه كلام الإمام عليه السلام الذي هو إمام الكلام، وذلك فإنه متى جعل
قوله: " إن شاء " قيدا للخروج إلى مهل أرضه يكون المعنى: إن له أن
يتمتع فإن شاء أن يخرج إلى مهل أرضه خرج وإن لم يشأ فلا، ومفهومه دال
على أن له أن يتمتع وإن لم يخرج إلى مهل أرضه. وهذا في البطلان أوضح من
أن يحتاج إلى بيان، للزومه أن له أن يتمتع ولو من موضعه، فإن اطلاق هذا
المفهوم يقتضي ذلك. وتقييده بأنه يخرج إلى مهل آخر من ما لا اشعار في الكلام
به بوجه ولا إشارة فلينظر المنصف أنه هل الأولى الحمل على هذا المعنى المتعسف
أو أن المراد يتمتع إن شاء أن يتمتع؟ كما هو المعنى الصحيح بل الصريح الذي
لا يحتاج إلى تكلف وتصحيح.
ولا ريب أنه لو جاز فتح هذا الباب في الأخبار - من العدول عن المعاني
الظاهرة السالمة عن التقدير والتكلف إلى الاحتمالات البعيدة والتكلفات الغير
السديدة - لا نسد باب الاستدلال واتسعت دائرة الخصام والجدال، إذ لا قول
إلا وللقائل فيه مقال، ولا دليل إلا وللمنازع فيه مجال.
وبالجملة فكلام هذا القائل لا وجه له عند الناظر بعين التحقيق والمتأمل في
المسألة بعين الفكر الصائب الدقيق. والله العالم.
البحث السابع - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المدة التي
ينتقل بها فرض المقيم بمكة إلى فرض أهل مكة، فالمشهور أنه بعد مضي سنتين
425

عليه في البلد المذكورة، ونقله في المختلف عن الشيخ في كتابي الأخبار واختاره
ونقل عنه في النهاية والمبسوط أنه قال: من أقام سنة أو سنتين جاز له أن يتمتع
فإن جاوز ثلاث سنين لم يكن له ذلك. ثم قال: وبه قال ابن الجنيد وابن إدريس
أقول: وبهذا القول صرح العلامة في الإرشاد، حيث قال، وينتقل فرض
المقيم ثلاث سنين إلى فرض المكي.
وفي عبارة الدروس هنا نوع اشكال، فإنه قال: ولو أقام النائي بمكة
سنتين انتقل فرضه إليها في الثالثة كما في المبسوط والنهاية، ويظهر من أكثر
الروايات أنه في الثانية، وروى محمد بن مسلم (1): " من أقام بمكة سنة فهو
بمنزلة أهل مكة " وروى حفص بن البختري (2): " أنه من أقام أكثر من ستة
أشهر لم يتمتع ". انتهى.
وظاهر صدر كلامه أنه بإقامة سنتين ينتقل فرضه في الثالثة، وهذا هو
القول المشهور لا قول النهاية والمبسوط كما ذكره، لما عرفت من عبارة العلامة
- وهو المنقول في عبارات الأصحاب (رضوان الله عليهم) - من أن الانتقال إنما
هو بعد اكمال الثالثة. وقوله: - ويظهر من أكثر الروايات أنه في الثانية - ظاهر
في أن أكثر الروايات إنما تدل على السنة خاصة وأن الفرض ينتقل في الثانية.
وهو وإن كان كذلك كما سيظهر لك إن شاء الله (تعالى) إلا أنه يلزم على هذا
عدم تعرضه لروايات السنتين إلا بحمل صدر العبارة على ذلك، فيكون الغلط
في نسبة هذا القول إلى النهاية والمبسوط.
وبالجملة فعبارته هنا لا تخلو من نوع غفلة أو مساهلة، ويقرب عندي أن
السهو وقع في الاتيان بلفظ " في " في قوله: " في الثالثة " وإنما هو

(1) الوسائل الباب 8 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 8 من أقسام الحج.
426

" بعد الثالثة " وكذلك قوله: " ويظهر من أكثر الروايات أنه في الثانية "
وإنما هو " بعد الثانية " فوقوع لفظ " في " عوض لفظ " بعد " في الموضعين
سهوا من قلم المصنف (قدس سره) أوجب الاشكال.
وكيف كان فظاهر كلامه التردد والتوقف في المسألة.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة صحيحة زرارة عن أبي جعفر
عليه السلام (1) قال: " من أقام بمكة سنتين فهو من أهل مكة لا متعة له. فقلت
لأبي جعفر عليه السلام: أرأيت إن كان له أهل بالعراق وأهل بمكة؟ قال: فلينظر
أيهما الغالب عليه فهو من أهله ".
وصحيحة عمر بن يزيد (2) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: المجاور بمكة
يتمتع بالعمرة إلى الحج إلى سنتين، فإذا جاوز سنتين كان قاطنا وليس له أن يتمتع ".
وهذان الخبران الصحيحان صريحان - كما ترى - في القول المشهور.
وهنا أخبار أخر قد دلت على الاكتفاء بما دون ذلك:
منها - صحيحة الحلبي (3) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام: لأهل مكة أن
يتمتعوا؟ فقال: لا ليس لأهل مكة أن يتمتعوا. قال: قلت: فالقاطنون
بها؟ قال: إذا أقاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكة، فإذا أقاموا شهرا
فإن لهم أن يتمتعوا. قلت: من أين؟ قال: يخرجون من الحرم. قلت:
من أين يهلون بالحج؟ فقال: من مكة نحوا من ما يقول الناس " ونحوها رواية
حماد، وقد تقدمت مع رواية الحلبي المذكورة في سابق هذا المقام (4).
ومنها - رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام (5) قال: " سمعته

(1) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
(4) ص 414.
(5) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
427

يقول المجاور بمكة سنة يعمل عمل أهل مكة - يعني: يفرد الحج مع أهل
مكة - وما كان دون السنة فله أن يتمتع ".
ورواية محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (1) قال: " من أقام
بمكة سنة فهو بمنزلة أهل مكة ".
وصحيحة حفص - وهو ابن البختري - عن أبي عبد الله عليه السلام (2): " في
المجاور بمكة يخرج إلى أهله ثم يرجع إلى مكة، بأي شئ يدخل؟ فقال: إن
كان مقامه بمكة أكثر من ستة أشهر فلا يتمتع، وإن كان أقل من ستة أشهر
فله أن يتمتع ".
وما رواه في التهذيب عن الحسين بن عثمان وغيره عن من ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " من أقام بمكة خمسة أشهر فليس له أن يتمتع ".
وصاحب المدارك حيث اقتصر في نقل الروايات المخالفة على الصحاح - كما
هي عادته - جمع بين الأخبار بالتخيير بعد السنة والستة أشهر والتحتم بعد السنتين.
وسائر الأصحاب لم يتعرضوا لنقل هذه الروايات المخالفة سوى ما تقدم من
عبارة الدروس.
ولا يحضرني الآن وجه وجيه تحمل عليه هذه الأخبار إلا التقية وإن لم
ينقل ذلك عن العامة، لما حققناه في مقدمات الكتاب وأشرنا إليه في مطاوي
الأبحاث المتقدمة، وكفى باعراض الأصحاب قديما وحديثا عنها ضعفا لها.
وأما ما نقل عن الشيخ من الثلاث فلم نقف له على مستند.
هذا كله في حج الاسلام كما صرح به علماؤنا الأعلام.

(1) الوسائل الباب 8 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 8 من أقسام الحج.
(3) الوسائل الباب 8 من أقسام الحج.
428

تنبيهات
الأول - اطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في الإقامة
الموجبة لانتقال الفرض بين كونها بنية الدوام أو المفارقة، فإن الحكم تعلق في
النصوص في بعض على الإقامة وفي بعض على المجاورة وفي بعض على القطون، وهي
حاصلة على جميع التقادير. وربما قيل: إن الحكم مخصوص بالمجاورة بغير نية
الإقامة، أما لو كان بنيتها انتقل فرضه من أول سنة. واطلاق النص يدفعه.
الثاني - قال في المدارك: ذكر الشارح وغيره أن انتقال الفرض إنما
يتحقق إذا تجددت الاستطاعة بعد الإقامة المقتضية للانتقال، فلو كانت سابقة
لم ينتقل الفرض وإن طالت المدة، لاستقرار الأول. ثم قال: وفي استفادته من
الأخبار نظر. وهو جيد، فإن المفهوم من الأخبار المتقدمة هو انتقال حكمه
من التمتع إلى قسيميه بعد السنتين مطلقا، تجددت الاستطاعة أو كانت سابقة.
ولو انعكس الفرض بأن أقام المكي في الآفاق لم ينتقل فرضه بذلك إلا مع
نية الدوام وصدق خروجه عن حاضري مكة عرفا. واحتمل بعض الأصحاب
الحاقه بالمقيم في مكة في انتقال الفرض بإقامة السنتين. وهو قياس محض.
الثالث - لو كان له منزلان بمكة وغيرها من البلدان البعيدة، فإن تساوت
الإقامة فيهما تخير وإلا أخذ بفرض الأغلب.
واحتجوا على الحكم الأول بأنه مع التساوي لا يكون حكم أحدهما أرجح
من الآخر فيتحقق التخيير. وعلى الثاني بأنه إنما لزمه فرض أغلبهما، لأن مع
غلبة أحدهما يضعف جانب الآخر فيسقط اعتباره.
ولا يخفى ما في هذه التعليلات العليلة من الوهن وعدم الصلوح لتأسيس
الأحكام الشرعية.
429

ولم أقف في هذه المسألة إلا على صحيحة زرارة المتقدمة (1) الدالة على أن
من له أهل بمكة وأهل بالعراق فإنه ينظر إلى ما هو الغالب عليه من الإقامة في أيهما
فهو من أهله.
وأما التخيير بالنسبة إلى متساوي الإقامة فالظاهر أنه لا اشكال فيه، لأنه
لا جائز أن يأخذ أحدهما بخصوصه بغير دليل ولا مرجح، ولا يجوز الغاؤهما
معا الموجب لسقوط الفرضين، فلم يبق إلا الأخذ بهما معا على جهة التخيير.
وفي الترجيح بالغلبة ما يشير إلى ذلك.
ثم إن ظاهر الصحيحة المذكورة اعتبار الأهل لا مجرد المنزل كما هو
المفروض في كلامهم والدائر على ألسنة أقلامهم.
قال في المدارك: يجب تقييد هذا الحكم بما إذا لم تكن إقامته في مكة
سنتين متواليتين، فإنه حينئذ يلزمه حكم أهل مكة وإن كانت إقامته في النائي
أكثر، لما تقدم من أن إقامة السنتين توجب انتقال حكم النائي الذي ليس له بمكة
مسكن أصلا، فمن له مسكن أولى.
أقول: ولقائل أن يقول: إن ههنا عمومين تعارضا: أحدهما - ما دل
على أن ذا المنزلين متى غلبت عليه الإقامة في أحدهما وجب عليه الأخذ بفرضه، أعم
من أن يكون أقام بمكة سنتين أو لم يقم، فلو فرضنا أنه في كل مرة يقيم في المنزل
الآفاقي خمس سنين وفي المنزل المكي سنتين أو ثلاثا، فإنه يجب عليه فرض الآفاقي
بمقتضى الخبر المذكور وإن كان قد أقام بمكة سنتين، وثانيهما - ما دل على أن
المقيم بمكة سنتين ينتقل فرضه إلى أهل مكة، أعم من أن يكون له منزل ناء
أم لا، زادت إقامته فيه أم لا. وتخصيص أحد العمومين بالآخر يحتاج إلى

(1) ص 427.
430

دليل. وما ادعاه هذا القائل من الأولوية في حيز المنع.
الرابع - المفهوم من الأخبار - وبه صرح الأصحاب - أن المجاور بمكة
متى انتقل حكمه إليهم أو أراد الحج مستحبا مفردا من مكة وإن كان من أهل
الآفاق أنه يخرج إلى خارج الحرم - مثل الجعرانة والحديبية ونحوهما - فيهل منه
بالحج، وأن الصرورة منهم يهل بالحج من أول الشهر، وهذا الميقات أيضا
ميقات لمن أراد الاعتمار عمرة مفردة:
فروى ثقة الاسلام في الصحيح عن عبد الرحمان بن الحجاج (1) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: إني أريد الجوار فكيف أصنع؟ فقال: إذا رأيت الهلال
هلال ذي الحجة فاخرج إلى الجعرانة فاحرم منها بالحج... إلى أن قال: ثم
قال: إن سفيان فقيهكم أتاني فقال: ما يحملك على أن تأمر أصحابك يأتون
الجعرانة فيحرمون منها؟ فقلت له: هو وقت من مواقيت رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: وأي وقت من مواقيت رسول الله صلى الله عليه وآله هو؟ فقلت: أحرم منها
حين قسم غنائم حنين ومرجعه من الطائف. فقال: إنما هذا شئ أخذته من
عبد الله بن عمر، كان إذا رأى الهلال صاح بالحج. فقلت: أليس قد كان عندكم
مرضيا؟ قال: بلى، ولكن أما علمت أن أصحاب رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) إنما أحرموا من المسجد؟ فقلت: إن أولئك كانوا متمتعين
في أعناقهم الدماء وإن هؤلاء قطنوا بمكة فصاروا كأنهم من أهل مكة، وأهل
مكة لا متعة لهم، فأحببت أن يخرجوا من مكة إلى بعض المواقيت فيشعثوا (2)
به أياما... الحديث ".
وروى أيضا في الصحيح عن صفوان عن أبي الفضل (3) قال: " كنت

(1) الكافي ج 4 ص 300 وفي الوسائل الباب 7 و 9 و 16 و 17 من أقسام الحج
(2) ارجع إلى الاستدراكات
(3) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج
431

مجاورا بمكة فسألت أبا عبد الله عليه السلام من أين أحرم بالحج؟ فقال: من حيث أحرم
رسول الله صلى الله عليه وآله من الجعرانة، أتاه في ذلك المكان فتوح: فتح الطائف
وفتح حنين والفتح فقلت: متى أخرج؟ قال: إن كنت صرورة فإذا مضي
من ذي الحجة يوم، وإن كنت قد حججت قبل ذلك فإذا مضى من الشهر خمس "
وهذان الخبران وإن كانا مجملين في الإقامة الموجبة لانتقال الفرض إلا
أنهما محمولان على الأخبار المتقدمة.
واحرام رسول الله صلى الله عليه وآله من هذا المكان كان بالعمرة المفردة كما يشير إليه
الخبر السابق.
وأصرح منه في ذلك ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1)
وفيها: " واعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث عمر متفرقات كلها في ذي القعدة:
عمرة أهل فيها من عسفان وهي عمرة الحديبية، وعمرة القضاء أحرم فيها من
الجحفة، وعمرة أهل فيها من الجعرانة، وهي بعد أن رجع من الطائف
من غزاة حنين ".

(1) لم أجد حديثا لعبد الله بن سنان بهذا المضمون، والذي رواه الصدوق
في الفقيه ج 2 ص 275 عن عبد الله بن سنان هو حديث اعتمار المملوك الذي أورده
صاحب الوسائل في الباب 7 من العمرة رقم (11) وأورده صاحب الوافي في باب
(جواز افراد العمرة في أشهر الحج) ثم قال الصدوق بعد الحديث المذكور: " واعتمر
رسول الله صلى الله عليه وآله... " وظاهره أنه حديث مرسل منه لا يرتبط بحديث عبد الله
ابن سنان المتقدم، وقد أورده صاحب الوسائل كذلك في الباب 22 من المواقيت
رقم (2) وفي الباب 2 من العمرة، حيث قال بعد نقله من الكافي برقم (2):
ورواه الصدوق مرسلا. وأورده أيضا صاحب الوافي في الباب المذكور بعد
الحديث المتقدم بما يظهر منه الارسال.
432

وقوله عليه السلام: " أتاه في ذلك المكان فتوح " أي رزقه الله (تعالى)
تلك الفتوح في ذلك المكان، وهي فتح الطائف لما توجه إليها بعد فتح مكة،
وفتح حنين، والفتح، أي فتح مكة، إشارة إلى الآية: إذا جاء نصر الله والفتح
ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا (1).
وقد تقدم (2) في موثقة سماعة الثانية في سابق هذا البحث أن المجاور إن
أحب أن يتمتع في أشهر الحج بالعمرة إلى الحج فليخرج منها حتى يجاوز ذات
عرق... إلى أن قال: فإن هو أحب أن يفرد الحج فليخرج إلى الجعرانة فيلبي منها.
وقد تقدم (3) - في صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة في صدر المطلب الأول
المتضمنة لسياق حجة رسول الله صلى الله عليه وآله - أنه لما قالت له عائشة: يا رسول الله
صلى الله عليه وآله أترجع نساؤك بحجة وعمرة معا وأرجع بحجة؟ أنه أقام بالأبطح وبعث
بها عبد الرحمان بن أبي بكر إلى التنعيم وأهلت بعمرة... الحديث.
المقدمة الخامسة
في المواقيت
وهي جمع ميقات، قال الجوهري: الميقات: الوقت المضروب للفعل،
والموضع، يقال: " هذا ميقات أهل الشام " للموضع الذي يحرمون منه.
ونحوه عبارة القاموس. وظاهر هذا الكلام أن اطلاقه على المعنيين المذكورين
على جهة الحقيقة، وهو خلاف ما صرح به غيره، قال في النهاية الأثيرية: قد
تكرر ذكر التوقيت والميقات في الحديث، والتوقيت والتأقيت أن يجعل للشئ

(1) سورة النصر، الآية 2 و 3.
(2) ص 421.
(3) ص 315 إلى 319
433

وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة، يقال: " وقت الشئ يوقته، ووقته
يقته " إذا بين حده، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان فقيل للموضع ميقات، وهو
مفعال منه، وأصله موقات فقلبت الواو ياء لكسرة الميم. وقال الفيومي في
كتاب المصباح المنير أيضا: الوقت مقدار من الزمان مفروض لأمر ما، وكل
شئ قدرت له حينا فقد وقته توقيتا، وكذلك ما قدرت له غاية، والجمع
أوقات، والميقات: الوقت، والجمع مواقيت، وقد استعير الوقت للمكان، ومنه
مواقيت الحج لمواضع الاحرام. انتهى.
وكيف كان فالكلام هنا يقع في مقامين: المقام الأول في أقسامها،
والمشهور في كلام الأصحاب أنها ستة كما سيأتي ذكرها في الأخبار، وذكر
الشهيد في الدروس أنها عشرة، فأضاف إلى الستة المشار إليها مكة لحج التمتع،
ومحاذاة الميقات لمن لم يمر به وحاذاه، وأدنى الحل أو مساواة أقرب المواقيت
إلى مكة لمن لم يحاذ ميقاتا، وفخ لاحرام الصبيان. وهذه الأربعة مذكورة
في تضاعيف كلام الأصحاب. وربما كان الوجه في تخصيص هذه الستة بالذكر في
كلامهم أنها هي الأصل وغيرها ربما يرجع إليها، وربما لم يبلغ الاعتماد عليه كليا
كالاعتماد عليها. والأمر في ذلك هين.
ومن الأخبار الدالة على المواقيت الستة المشار إليها ما رواه الشيخ في
الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " من تمام الحج
والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وآله لا تجاوزها إلا وأنت محرم
فإنه وقت لأهل العراق - ولم يكن يومئذ عراق - بطن العقيق من قبل أهل العراق،
ووقت لأهل اليمن يلملم، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقت لأهل

(1) الوسائل الباب 1 من المواقيت. والشيخ يرويه عن الكليني
434

المغرب الجحفة وهي مهيعة، ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة. ومن كان منزله
خلف هذه المواقيت من ما يلي مكة فوقته منزله ".
أقول: في القاموس: ويلملم أو الملم أو يرمرم: ميقات اليمن جبل على مرحلتين
من مكة. وقال فيه أيضا: وقرن المنازل بفتح القاف وسكون الراء: قرية عند
الطائف أو اسم الوادي كله. قال: وغلط الجوهري في تحريكه، وفي نسبة
أويس القرني إليه، لأنه منسوب إلى قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد.
والجحفة بتقديم الجيم كانت مدينة فخربت، سميت بها لاجحاف السيل
بها أي ذهابه بها. وسميت مهيعة بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء المثناة
التحتانية، ومعناها المكان الواسع، وهي أدنى إلى مكة من ذي الحليفة كما
يستفاد من الأخبار. وفي القاموس: كانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا
من مكة وكانت تسمى مهيعة، فنزل بها بنو عبيد وهم إخوة عاد، وكان أخرجهم
العماليق من يثرب فجاءهم سيل جحاف فاجتحفهم فسميت الجحفة.
وذو الحليفة بالحاء المهملة والفاء على ستة أميال من المدينة، وقال شيخنا
الشهيد الثاني في الروضة إنها بضم الحاء وفتح اللام والفاء بعد الياء بغير فصل
تصغير الحلفة بفتح الحاء واللام واحد الحلفاء وهي النبات المعروف. قاله
الجوهري. أو تصغير الحلفة وهي اليمين، لتحالف قوم من العرب به. وهو
ماء على ستة أميال من المدينة. انتهى.
ومنها - ما رواه ثقة الاسلام في الصحيح أو الحسن على المشهور عن
الحلبي (1) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: الاحرام من مواقيت خمسة وقتها
رسول الله صلى الله عليه وآله لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها: وقت

(1) الوسائل الباب 1 و 11 من المواقيت
435

لأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة، يصلي فيه ويفرض الحج، ووقت
لأهل الشام الجحفة، ووقت لأهل نجد العقيق، ووقت لأهل الطائف قرن
المنازل، ووقت لأهل اليمن يلملم. ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت
رسول الله صلى الله عليه وآله ".
قال الفيومي في كتاب المصباح المنير: النجد ما ارتفع من الأرض والجمع
نجود مثل فلس وفلوس، وبالواحد سمي بلاد معروفة من جزيرة العرب، وأولها
من ناحية الحجاز ذات عرق وآخرها سواد العراق، ولهذا قيل ليست من
العراق. انتهى (1).
وقال في القاموس: أنها اسم لما دون الحجاز من ما يلي العراق، أعلاه
تهامة واليمن وأسفله العراق والشام، وأوله من جهة الحجاز ذات عرق (2). وهو
مؤذن بدخول العراق كما هو ظاهر الخبر.
ومنها - ما رواه أيضا في الصحيح عن أبي أيوب الخزاز (3) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: حدثني عن العقيق أوقت وقته رسول الله صلى الله عليه وآله أو شئ
صنعه الناس؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة،
ووقت لأهل المغرب الجحفة، وهي عندنا مكتوبة مهيعة، ووقت لأهل اليمن
يلملم، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقت لأهل نجد العقيق
وما أنجدت ".
قوله: " وما أنجدت " إشارة إلي وجوب الاحرام من هذا الميقات على من
مر به وإن لم يكن من أهل نجد، لأن الانجاد الدخول في أرض نجد التي قد
تقدم تحديدها، وتأنيث الضمير باعتبار الأرض المفهومة من السياق.

(1) ارجع إلى الاستدراكات.
(2) ارجع إلى الاستدراكات.
(3) الوسائل الباب 1 من المواقيت
436

ويوضحه ما رواه في الفقيه عن رفاعة عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال:
" وقت رسول الله صلى الله عليه وآله العقيق لأهل نجد، وقال: هو وقت لما أنجدت الأرض
وأنتم منهم. ووقت لأهل الشام الجحفة، ويقال لها المهيعة ".
وما رواه الحميري في كتاب قرب الإسناد في الصحيح عن علي بن رئاب (2)
قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الأوقات التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وآله للناس.
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة وهي الشجرة، ووقت
لأهل الشام الجحفة، ووقت لأهل اليمن قرن المنازل، ووقت لأهل نجد العقيق "
وفي كتاب الفقه الرضوي (3): فإذا بلغت أحد المواقيت التي وقتها
رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه وقت لأهل العراق العقيق، وأوله المسلخ ووسطه غمرة
وآخره ذات عرق. وأوله أفضل، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقت
لأهل المدينة ذا الحليفة وهي مسجد الشجرة، ووقت لأهل اليمن يلملم، ووقت
لأهل الشام المهيعة وهي الجحفة. ومن كان منزله دون هذه المواقيت ما بينها
وبين مكة فعليه أن يحرم من منزله. ولا يجوز الاحرام قبل بلوغ الميقات. ولا
يجوز تأخيره عن الميقات إلا لعلة أو تقية (4) فإذا كان الرجل عليلا أو اتقى
فلا بأس بأن يؤخر الاحرام إلى ذات عرق. انتهى.
إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن نشرها المقام.
وأما الأخبار الدالة على بقية المواقيت فستأتي في أثناء الأبحاث الآتية إن
شاء الله تعالى.

(1) الوسائل الباب 1 من المواقيت.
(2) الوسائل الباب 1 من المواقيت.
(3) ص 26.
(4) ارجع إلى الصفحة 442 والتعليقة (1) فيها
437

مسائل
الأولى - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن العقيق المتقدم في
الأخبار أوله المسلخ ووسطه غمرة وآخره ذات عرق، وإن الأفضل الاحرام من
أوله ثم وسطه، وحكى الشهيد في الذكرى عن ظاهر علي بن بابويه والشيخ في النهاية
أن التأخير إلى ذات عرق للتقية (1) أو المرض. وقال العلامة في المختلف: المشهور
أن الاحرام من ذات عرق مختارا سائغ، والأفضل المسلخ، وأدون منه غمرة وكلام
الشيخ علي بن بابويه يشعر بأنه لا يجوز التأخير إلى ذات عرق إلا لعلة أو تقية (2).
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام ما رواه الصدوق
في الفقيه مرسلا عن الصادق عليه السلام (3) أنه قال: " وقت رسول الله صلى الله عليه وآله لأهل
العراق العقيق، وأوله المسلخ، ووسطه غمرة، وآخره ذات عرق. وأوله أفضل ".
وما رواه الشيخ عن أبي بصير (4) قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
حد العقيق: أوله المسلخ وآخره ذات عرق ".
وهذان الخبران صريحان في كون ذات عرق داخلة في العقيق وأنها آخره
ومثلهما عبارة الفقه الرضوي المتقدمة.
وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله
عليه السلام (5) قال: " وقت رسول الله صلى الله عليه وآله لأهل المشرق العقيق نحوا من بريدين
ما بين بريد البعث إلى غمرة، ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل نجد

(1) ارجع إلى الصفحة 442 والتعليقة (1) فيها
(2) ارجع إلى الصفحة 442 والتعليقة (1) فيها
(3) الوسائل الباب 2 و 3 من المواقيت
(4) الوسائل الباب 2 من المواقيت
(5) الوسائل الباب 1 من المواقيت
438

قرن المنازل، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم ".
قال في الوافي: والبعث بالموحدة ثم المهملة ثم المثلثة: أول العقيق، وهو
بمعنى الجيش، كأنه بعث الجيش من هناك. ولم نجده في اللغة اسما لموضع، وكذلك
ضبطه من يعتمد عليه من أصحابنا، فما يوجد في بعض النسخ على غير ذلك
لعله مصحف. انتهى.
أقول: وقد اشتمل هذا الخبر على أن قرن المنازل ميقات أهل نجد،
والموجود في أكثر الأخبار أنه ميقات أهل الطائف، وأما ميقات أهل نجد فإنما
هو العقيق.
ويمكن الجواب بأن لأهل نجد طريقين: أحدهما يمر بالعقيق والآخر
يمر بقرن المنازل.
ويمكن حمل ذلك على التقية، فإنه موجود في روايات العامة كما نقله في
المعتبر أنهم رووا عن ابن عمر (1): " إنه لما فتح المصران أتوا عمر فقالوا:
يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وآله حد لأهل نجد قرن المنازل وإنا إذا أردنا
قرن المنازل شق علينا. قال: فانظروا حذوها. فحد لهم ذات عرق ".
وهذا الخبر من ما استدل به جملة من العامة على أن ميقات العراق إنما ثبت
قياسا لا نصا عن رسول الله صلى الله عليه وآله (2).
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " أول العقيق بريد البعث وهو دون المسلخ بستة

(1) المغني ج 3 ص 233 مطبعة العاصمة، وبلوغ المرام لابن حجر
العسقلاني ص 86. وارجع إلى التعليق (1) على كنز العرفان ج 1 ص 277 إلى 281
(2) المغني ج 3 ص 232 و 233 مطبعة العاصمة، وبلوغ المرام لابن حجر
العسقلاني ص 86
(3) الوسائل في الباب 2 من المواقيت
439

أميال من ما يلي العراق، وبينه وبين غمرة أربعة وعشرون ميلا بريدان ".
وما رواه في الكافي بهذا الاسناد عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال:
" آخر العقيق بريد أوطاس. وقال: بريد البعث دون غمرة ببريدين ".
وما رواه في الكافي عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) (2) قال:
" حد العقيق ما بين المسلخ إلى عقبة غمرة ".
أقول: ظاهر هذه الأخبار بضم بعضها إلى بعض هو خروج ذات عرق
عن العقيق، فإن صحيحة عمر بن يزيد ظاهرة في أن مسافة العقيق بريدان
وأنه ما بين بريد البعث إلى غمرة، وصحيحة معاوية بن عمار أو حسنته ظاهرة
في المسافة المذكورة، وكذا الرواية التي بعدها، ورواية أبي بصير صريحة
في كون حد العقيق إلى عقبة غمرة. وهذا كله ظاهر في خروج ذات عرق كما
ذكرنا. إلا أن هذه الروايات قد اشتركت في الدلالة - وإن تفاوتت في ذلك
ظهورا وخفاء - على أن المسلخ ليس هو أول العقيق بل أوله بريد البعث، وهو
قبل المسلخ بستة أميال من ما يلي العراق، كما صرحت به صحيحة معاوية بن
عمار أو حسنته، مع دلالة الأخبار الثلاثة الأول أن أول العقيق المسلخ، وهو الذي
صرح به الأصحاب كما عرفت، وهو أيضا ظاهر صحيحة عمر بن يزيد، لأن
ظاهرها أن مسافة العقيق بريدان وأن ذلك ما بين بريد البعث إلى غمرة.
والسيد السند في المدارك - بعد أن استدل للقول المشهور برواية أبي بصير
الأولى ومرسلة الصدوق، واستدل للقول الآخر بصحيحة عمر بن يزيد وحسنة
معاوية بن عمار التي هي عندنا من الصحيح - رد الروايتين الأولتين بضعف السند.
ولا يبعد عندي حمل الخبرين المشار إليهما على التقية وإن اشتهر العمل

(1) الوسائل الباب 2 من المواقيت
(2) الوسائل الباب 2 من المواقيت
440

بهما بين الأصحاب (رضوان الله عليهم):
لما رواه الثقة الجليل أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج
عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في جملة ما كتبه إلى صاحب الزمان (عجل
الله تعالى فرجه) (1): " إنه كتب إليه يسأله عن الرجل يكون مع بعض هؤلاء
ويكون متصلا بهم، يحج ويأخذ عن الجادة، ولا يحرم هؤلاء من المسلخ، فهل
يجوز لهذا الرجل أن يؤخر احرامه إلى ذات عرق فيحرم معهم (2) لما يخاف من
الشهرة أم لا يجوز أن يحرم إلا من المسلخ؟ فكتب إليه في الجواب: يحرم من
ميقاته ثم يلبس الثياب ويلبي في نفسه فإذا بلغ إلى ميقاتهم أظهره " ورواه الشيخ
في كتاب الغيبة باسناده فيه إليه (3).
والظاهر أن مستند الشيخ علي بن بابويه في ما نقل عنه إنما هو كتاب
الفقه الرضوي على عادته التي تقدم ذكرها في غير موضع، فإنه عليه السلام في آخر
كلامه الذي قدمنا نقله قد صرح بذلك، إلا أن صدر الكلام صريح في أن
آخر العقيق ذات عرق. وهو تناقض ظاهر.
وبهذه العبارة التي في آخر كتاب الفقه عبر الصدوق في الفقيه (4) كما نقله
في الذخيرة، فقال: وإذا كان الرجل عليلا أو اتقى فلا بأس بأن يؤخر الاحرام
إلى ذات عرق.
ويمكن أن يقال في دفع هذا التناقض بين الأخبار، وكذا صدر عبارة
كتاب الفقه وعجزها أن ذات عرق وإن كانت من العقيق إلا أنها لما كانت

(1) الوسائل الباب 2 من المواقيت.
(2) ارجع إلى الصفحة 442 والتعليقة (1) فيها.
(3) الوسائل الباب 2 من المواقيت.
(4) ج 2 ص 199
441

ميقات العامة (1) وكان الفضل إنما هو في ما قبلها فالتأخير إليها وترك الفضل إنما
يكون لعذر من علة أو تقية.
وإلى ما ذكرناه يشير كلام ابن إدريس في سرائره، حيث قال: ووقت
رسول الله صلى الله عليه وآله لأهل كل صقع ولمن حج على طريقهم ميقاتا، فوقت لأهل
العراق العقيق، فمن أي جهاته وبقاعه أحرم ينعقد الاحرام منها، إلا أن له
ثلاثة أوقات: أولها المسلخ، يقال بفتح الميم وبكسرها، وهو أوله، وهو أفضلها
عند ارتفاع التقية، وأوسطها غمرة، وهي تلي المسلخ في الفضل مع ارتفاع التقية
وآخرها ذات عرق، وهي أدونها في الفضل إلا عند التقية والشناعة والخوف،
فذات عرق هي أفضلها في هذه الحال. ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما على
حال. انتهى.
وحينئذ فتحمل الأخبار الدالة على تحديد العقيق إلى غمرة على الأفضل منه،
وكذا رواية الاحتجاج. وهذا التأويل وإن كان لا يخلو من شئ إلا أنه في
مقام الجمع لا بأس به.
بقي الاشكال في تحديد أول العقيق، لما عرفت من الأخبار المتقدمة، فإن
بعضها دل على أن أوله المسلخ وبعضها دل على أن أوله بريد البعث الذي هو قيل
من ما يلي العراق بستة أميال. ولا يحضرني الآن وجه يمكن جمعها عليه.
ثم اعلم أن صاحب التنقيح ضبط المسلح بالسين والحاء المهملتين، قال: وهو
واحد المسالح وهو المواضح العالية. ونقل شيخنا الشهيد الثاني عن بعض الفقهاء
أنه ضبطه بالخاء المعجمة من السلخ وهو النزع، لأنه تنزع فيه الثياب للاحرام.

(1) المغني ج 3 ص 233 مطبعة العاصمة، وبلوغ المرام لابن حجر
العسقلاني ص 86
442

ومقتضى ذلك تأخر التسمية عن وضعة ميقاتا.
وأما ذات عرق فقيل: إنها كانت قرية فخربت. ونقل العلامة عن سعيد
ابن جبير (1) أنه رأى رجلا يريد أن يحرم بذات عرق فأخذ بيده حتى أخرجه
من البيوت وقطع به الوادي فأتى به المقابر فقال: هذه ذات عرق الأولى.
والظاهر الاكتفاء في معرفة ذلك بسؤال الناس الخبيرين بذلك، لما رواه
الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (2) قال: " يجزئك
إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك ".
الثانية - قد عرفت في ما تقدم من الأخبار أن ميقات أهل المدينة من
ذي الحليفة، وعلى ذلك اتفاق كلمة الأصحاب، إلا أنهم اختلفوا في أن
ذا الحليفة هل هو عبارة عن ذلك الموضع أو عن المسجد الواقع فيه؟ وبالأول
صرح الشهيد في اللمعة والدروس، واختاره المحقق الشيخ علي، قال: إن
جواز الاحرام من الموضع المسمى بذي الحليفة وإن كان خارجا من المسجد
لا يكاد يدفع. وبالثاني صرح جملة من الأصحاب: منهم - العلامة في جملة من
كتبه والمحقق وغيرهما.
ويدل على الأول اطلاق جملة من الروايات المتقدمة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله
وقت لأهل المدينة ذا الحليفة. لكن مقتضى جملة أخرى - كما تقدم أيضا -
تفسير ذي الحليفة بمسجد الشجرة. وحينئذ فيجب تقييد اطلاق تلك الأخبار
بهذه. وبذلك يظهر ضعف القول الأول.
وقد ذكر الأصحاب أنه لو كان المحرم جنبا أو حائضا أحرما به مجتازين،

(1) المنتهى ج 2 ص 671 والمغني ج 3 ص 233 مطبعة العاصمة
(2) الوسائل الباب 5 من المواقيت.
443

فإن تعذر الاحرام بالاجتياز أحرما من خارج.
الثالثة - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب - كما صرح به غير واحد
منهم - في جواز تأخير الاحرام من مسجد الشجرة إلى الجحفة للضرورة، وهي
المشقة التي يعسر تحملها. وربما نقل عن ظاهر الجعفي جوار التأخير اختيارا.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام ما رواه الشيخ في الصحيح
عن الحلبي (1) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام من أين يحرم الرجل إذا جاوز
الشجرة؟ فقال: من الجحفة، ولا يجاور الجحفة إلا محرما ".
وما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار (2) " أنه سأل
أبا عبد الله عليه السلام عن رجل من أهل المدينة أحرم من الجحفة. فقال: لا بأس ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام (3) قال:
" سألته عن احرام أهل الكوفة وأهل خراسان وما يليهم، وأهل الشام ومصر، من
أين هو؟ قال: أما أهل الكوفة وخراسان وما يليهم فمن العقيق، وأهل المدينة
من ذي الحليفة والجحفة، وأهل الشام ومصر من الجحفة، وأهل اليمن من يلملم،
وأهل السند من البصرة، يعني: من ميقات أهل البصرة ".
وظاهر هذه الأخبار جواز الاحرام اختيارا من الجحفة كما هو المنقول
عن ظاهر الجعفي.
ومنها - ما رواه الشيخ عن أبي بصير (4) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
خصال عابها عليك أهل مكة. قال: وما هي؟ قلت: قالوا: أحرم من الجحفة
ورسول الله صلى الله عليه وآله أحرم من الشجرة. فقال: الجحفة أحد الوقتين فأخذت
بأدناهما وكنت عليلا ".

(1) الوسائل الباب 6 من المواقيت
(2) الوسائل الباب 6 من المواقيت
(3) الوسائل الباب 1 من المواقيت
(4) الوسائل الباب 6 من المواقيت
444

وما رواه في الكافي في الصحيح إلى أبي بكر الحضرمي (1) قال: " - قال
أبو عبد الله عليه السلام: إني خرجت باهلي ماشيا فلم أهل حتى أتيت الجحفة وقد كنت
شاكيا، فجعل أهل المدينة يسألون عني فيقولون: لقيناه وعليه ثيابه. وهم لا
يعلمون، وقد رخص رسول الله صلى الله عليه وآله لمن كان مريضا أو ضعيفا أن
يحرم من الجحفة ".
وروى الصدوق في كتاب العلل في الصحيح عن معاوية (2) قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: إن معي والدتي وهي وجعة؟ قال: قل لها فلتحرم من
آخر الوقت، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقت لأهل المدينة
ذا الحليفة، ولأهل المغرب الجحفة. قال: فأحرمت من الجحفة ".
قال: والظاهر أن المراد بآخر الوقت يعني: الوقت الآخر، فيكون من
باب إضافة الصفة إلى الموصوف، كاخلاق ثياب، أو بمعنى الوقت الأخير.
وما رواه الشيخ عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسى عليه السلام (3)
قال: " سألته عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد وكثرة الأيام، يعني:
الاحرام من الشجرة، فأرادوا أن يأخذوا منها إلى ذات عرق فيحرموا منها.
فقال: لا - وهو مغضب - من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلا من المدينة ".
أقول: قوله عليه السلام: " إلا من المدينة " أي من ميقات أهل المدينة،
كقوله عز وجل: " واسأل القرية " (4).
وبهذه الأخبار أخذ الأصحاب وقيدوا بها الأخبار الأولة، وهي وإن

(1) الوسائل الباب 6 من المواقيت.
(2) الوسائل الباب 6 من المواقيت.
(3) الوسائل الباب 8 من المواقيت
(4) سورة يوسف، الآية 82
445

كانت غير صريحة في التخصيص إلا أن الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذهبوا إليه.
قال في المدارك بعد نقل بعض أخبار الطرفين: وكيف كان فينبغي القطع
بصحة الاحرام من الجحفة وإن حصل الإثم بتأخيره عن ذي الحليفة.
أقول: وبذلك صرح الشهيد في الدروس أيضا. ولا يخلو من اشكال،
لأن المتبادر من الروايات الدالة على أن من مر على ميقات غير بلده جاز له الاحرام
منه إنما هو من لم يمر على ميقات بلده. وحينئذ فمتى قلنا بأن الجحفة ليست
ميقاتا للمدني اختيارا وإنما ميقاته مسجد ذي الحليفة - وقد مر على ميقاته،
مع استفاضة الأخبار بأنه يجب عليه الاحرام منه ولا يجوز تجاوزه إلا محرما، وقد
مر به ولم يحرم منه - فانعقاد احرامه من الجحفة يحتاج إلى دليل، لعدم دخوله
تحت الأخبار المشار إليها آنفا كما بيناه.
ومن ما يؤيد ما ذكرناه صحيحة الحلبي (1) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل ترك الاحرام حتى دخل الحرم؟ فقال: يرجع إلى ميقات أهل
بلاده الذي يحرمون منه فيحرم، وإن خشي أن يفوته الحج فليحرم من مكانه "
ولا ريب في صدق الخبر المذكور على المدعى وانطباقه عليه.
ثم قال في المدارك أيضا: وإنما يتوقف التأخير على الضرورة على القول
به مع مروره على ذي الحليفة، فلو عدل ابتداء عن ذلك الطريق جاز وكان
الاحرام من الجحفة اختياريا.
وأورد عليه بأن كلامه هذا لا ينطبق على شئ من الأخبار المتقدمة، لأن
بعضها يقتضي المنع من العدول الاختياري مطلقا وبعضها يقتضي جواز العدول
مطلقا، فالتفصيل لا يوافق شيئا من النصوص.

(1) الوسائل الباب 14 من المواقيت
446

ويمكن الجواب عنه بأن كلامه هذا مبني على تخصيص اطلاق أخبار جواز
العدول مطلقا - اختيارا أو اضطرارا - بالأخبار الأخر الدالة على عدم جواز
التأخير إلا مع الضرورة، كما هو قول الأصحاب (رضوان الله عليهم). وأما
الرواية الدالة على المنع من العدول الاختياري مطلقا - وهي رواية إبراهيم بن
عبد الحميد المتقدمة - فقد أجاب عنها بضعف السند أولا، ثم بالحمل على الكراهة
جمعا بينها وبين ما دل على جواز العدول مطلقا.
الرابعة - قد صرح أكثر الأصحاب بأن من كان منزله أقرب إلى مكة من
المواقيت فميقاته منزله، قال في المنتهى: إنه قول أهل العلم كافة إلا مجاهد (1)
ويدل على ذلك الأخبار المتكاثرة: منها - صحيحة معاوية بن عمار
المتقدمة في أول البحث (2) ونحوها ما تقدم أيضا من كتاب الفقه الرضوي (3).
وقال الشيخ بعد ايراد صحيحة معاوية بن عمار المذكورة: وفي حديث
آخر: إذا كان منزله دون الميقات إلى مكة فليحرم من دويرة أهله (4).
وفي الحسن عن مسمع عن أبي عبد الله عليه السلام (5) قال: " إذا كان منزل
الرجل دون ذات عرق إلى مكة فليحرم من منزله ".
وفي الصحيح عن عبد الله بن مسكان قال: حدثني أبو سعيد (6) قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن من كان منزله دون الجحفة إلى مكة. قال:
يحرم منه ".
وعن رباح بن أبي نصر (7) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

(1) المغني ج 3 ص 236 مطبعة العاصمة
(2) ص 434.
(3) ص 437
(4) الوسائل الباب 17 من المواقيت. وارجع إلى الاستدراكات
(5) الوسائل الباب 17 من المواقيت.
(6) الوسائل الباب 17 من المواقيت.
(7) الوسائل الباب 17 من المواقيت.
447

يروون أن عليا (صلوات الله عليه) قال: إن من تمام حجك احرامك من دويرة
أهلك (1)؟ فقال: سبحان الله لو كان كما يقولون لم يتمتع رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) بثيابه إلى الشجرة، وإنما معنى دويرة أهله من كان أهله
وراء الميقات إلى مكة ".
وروى الكليني عن رباح (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
إنا نروي بالكوفة أن عليا عليه السلام قال: إن من تمام الحج والعمرة أن يحرم الرجل
من دويرة أهله (3) فهل قال هذا علي (عليه السلام)؟ فقال: قد قال ذلك
أمير المؤمنين (عليه السلام) لمن كان منزله خلف المواقيت، ولو كان كما يقولون
ما كان يمنع رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا يخرج بثيابه إلى الشجرة ".
وروى الصدوق عن أبي بصير (4) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): إنا نروي بالكوفة أن عليا (عليه السلام) قال: إن من تمام حجك
احرامك من دويرة أهلك (5) فقال: سبحان الله، لو كان كما يقولون لما تمتع
رسول الله صلى الله عليه وآله بثيابه إلى الشجرة ".
قال الصدوق (قدس سره) (6): " وسئل الصادق عليه السلام عن رجل منزله
خلف الجحفة من أين يحرم؟ قال: من منزله ".
وفي خبر آخر (7): " من كان منزله دون المواقيت ما بينها وبين مكة
فعليه أن يحرم من منزله ".

(1) المغني ج 3 ص 239 مطبعة العاصمة
(2) الوسائل الباب 11 و 17 من المواقيت.
(3) المغني ج 3 ص 239 مطبعة العاصمة
(4) الوسائل الباب 11 و 17 من المواقيت.
(5) المغني ج 3 ص 239 مطبعة العاصمة
(6) الوسائل الباب 17 من المواقيت
(7) الوسائل الباب 17 من المواقيت
448

وروى الصدوق في معاني الأخبار (1) بإسناده عن عبد الله بن عطاء
قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن الناس يقولون: إن علي بن أبي طالب
(عليه السلام) قال: إن أفضل الاحرام أن تحرم من دويرة أهلك (2) قال:
فأنكر ذلك أبو جعفر (عليه السلام) فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان من أهل
المدينة ووقته من ذي الحليفة وإنما كان بينهما ستة أميال، ولو كان فضلا لأحرم
رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة، ولكن عليا عليه السلام كأن يقول: تمتعوا من
ثيابكم إلى وقتكم ".
وهذا الخبر وإن لم يكن من أخبار المسألة إلا أنا ذكرناه في سياق تكذيب
خبر أهل الكوفة المفترى عليه عليه السلام.
قال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل جملة من هذه الأخبار:
واعلم أن المشهور بين الأصحاب شمول الحكم المذكور لأهل مكة فيكون احرامهم
بالحج من منازلهم، والأخبار المذكورة غير شاملة لهم، وفي حديثين صحيحين
ما يخالف ذلك: أحدهما - ما رواه الكليني عن أبي الفضل سالم الحناط في
الصحيح (3) قال: " كنت مجاورا بمكة فسألت أبا عبد الله (عليه السلام) من
أين أحرم بالحج؟ فقال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وآله من الجعرانة، أتاه
في ذلك المكان فتوح: فتح الطائف وفتح حنين والفتح. فقلت: متى أخرج؟
فقال: إن كنت صرورة فإذا مضى من ذي الحجة يوم، وإن كنت حججت
قبل ذلك فإذا مضى من الشهر خمس ". وثانيهما - ما رواه الكليني عن عبد الرحمان

(1) نوادر المعاني ص 382 وفي الوسائل الباب 9 من المواقيت.
(2) المغني ج 3 ص 239 مطبعة العاصمة
(3) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج
449

ابن الحجاج في الصحيح (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
إني أريد الجوار فكيف أصنع؟ فقال: إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجة
فاخرج إلى الجعرانة فاحرم منها بالحج... ثم ساق الخبر " وقد تقدم الجميع قريبا
في التنبيه الرابع من البحث السابع (2) ثم نقل رواية إبراهيم بن ميمون، وقد
تقدمت في البحث الرابع (3).
وأنت خبير بأن مورد هذه الروايات إنما هو المجاور بمكة، أعم من أن
يكون انتقل حكمه إليهم بمضي المدة المعلومة أو لم ينتقل وأراد الحج مستحبا،
فإنه يخرج إلى المواضع المذكورة، وهذا لا يستلزم أن يكون أهل مكة كذلك
وانتقال حكمه إلى أهل مكة بعد مضي المدة المعلومة إنما هو باعتبار وجوب حج
الافراد والقران دون التمتع، وهو لا يستلزم اشتراكهما في ميقات الاحرام،
فيجوز أن يكون هذا حكما مختصا بالمجاورين دون أهل البلد.
ويمكن أن يكون بناء كلام الأصحاب في الاستدلال بالأخبار المتقدمة على أن ظواهرها تعطي إلحاق من كان منزله دون الميقات إلى مكة بأهل مكة، فهو يدل
على كون أهل مكة كذلك، فإن التخصيص بجهة مكة إنما هو من حيث كونه من
توابعها وإلا فدخوله في الأقربية لا يخلو من الاشكال، لاقتضائها المغايرة بينهما،
وبالجملة فإن ما ذكره من الاستدلال بالأخبار المذكورة على أن أهل مكة يخرجون
إلى المواضع المشار إليها لا تدل عليه الأخبار التي ذكرها بوجه.
وكيف كان فالتحقيق أنه لا مستند لهم في هذا الحكم سوى الاجماع على
الحكم المذكور، لاتفاق كلمتهم عليه قديما وحديثا من غير نقل خلاف، كما
لا يخفى على من راجع كتبهم ومؤلفاتهم.

(1) الكافي ج 4 ص 300 وفي الوسائل الباب 7 و 9 و 16 و 17 من أقسام الحج
(2) ص 431.
(3) ص 386
450

ثم إنه لا يخفى أن كلام الأصحاب هنا لا يخلو من اختلاف، فإن منهم
من أطلق القرب كالشهيد في الدروس، والمحقق في الشرائع، والعلامة في
الإرشاد والتذكرة، ومنهم من أطلق القرب واستدل ببعض الأخبار المتقدمة،
وهو ظاهر في كون مراده القرب إلي مكة، ومنهم من اعتبر القرب إلى مكة، ومنهم
من اعتبر القرب إلى عرفات، وبه صرح الشهيد في اللمعة ونقله في المدارك عن
المحقق في المعتبر أيضا، ولم أجده فيه، بل الظاهر من كلامه إنما هو القرب إلى مكة
فإنه وإن أطلق في صدر كلامه لكنه استدل ببعض الأخبار المتقدمة المصرحة
بالقرب إلى مكة. نعم عبارة شيخنا الشهيد في اللمعة صريحة في ذلك، حيث قال:
ويشترط في حج الافراد النية، واحرامه به من الميقات أو من دويرة أهله إن كانت
أقرب إلى عرفات. والأخبار المتقدمة صريحة في دفعه كما عرفت.
الخامسة - قد صرح جملة من الأصحاب بأن من حج على طريق لا يفضي
إلى أحد المواقيت المتقدمة فإنه يحرم إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى
مكة. وصرح آخرون بأنه يحرم عند محاذاة أحد المواقيت. وهو ظاهر في
التخيير بين الاحرام من محاذاة أيها شاء. وظاهر العلامة في المنتهى اعتبار
الميقات الذي هو أقرب إلى طريقه. ثم قال: والأولى أن يكون احرامه بحذو
الأبعد من المواقيت من مكة، وحكم بأنه إذا كان بين ميقاتين متساويين في القرب
إليه تخير في الاحرام من أيهما شاء. ونحو ذلك في التذكرة أيضا.
وكيف كان فاعلم أني لم أقف في هذه المسألة إلا على صحيحة عبد الله بن سنان
المشار إليها آنفا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " من أقام بالمدينة
شهرا وهو يريد الحج، ثم بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة التي يأخذونه

(1) الوسائل الباب 7 من المواقيت.
451

فليكن احرامه من مسيرة ستة أميال، فيكون حذاء الشجرة من البيداء " وفي
التهذيب (1) أسقط قوله: " فيكون حذاء الشجرة من البيداء " وقال في
الكافي (2) بعد نقل الرواية: وفي رواية: " يحرم من الشجرة ثم يأخذ أي
طريق شاء ".
ورواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) قال: " من أقام بالمدينة وهو يريد الحج شهرا أو نحوه، ثم بدا له
أن يخرج في غير طريق المدينة، فإذا كان حذاء الشجرة والبيداء مسيرة ستة أميال
فليحرم منها ".
وأنت خبير بأن مورد الرواية مسجد الشجرة فحمل سائر المواقيت عليها
لا يخلو من الاشكال، سيما مع معارضتها برواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة (4)
الدالة على أن من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلا من ميقات أهل المدينة،
المتأيدة بمرسلة الكليني المذكورة. وكأنهم بنوا على عدم ظهور الخصوصية لهذا
الميقات، الذي هو عبارة عن تنقيح المناط. وهو محتمل، إلا أن الاحتياط يقتضي
المرور على الميقات وعدم التجاوز عنه على حال.
ثم إنهم (رضوان الله عليهم) ذكروا أيضا أنه لو سلك طريقا لا يفضي
إلى محاذاة شئ من المواقيت، فقيل أنه يحرم من مساواة أقرب المواقيت إلى
مكة، أي من محل يكون بينه وبين مكة بقدر ما بين مكة وبين أقرب المواقيت

(1) ج 5 ص 57
(2) ج 4 ص 321 وفي الوسائل الباب 7 من المواقيت.
(3) الوسائل الباب 7 من المواقيت
(4) ص 445
452

إليها، وهو مرحلتان كما تقدم، عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا (1). قالوا: لأن
هذه المسافة لا يجوز لأحد قطعها إلا محرما من أي جهة دخل وإنما الاختلاف
في ما زاد عليها. ورد بأن ذلك أنما ثبت مع المرور على الميقات لا مطلقا. وقيل
بأنه يحرم من أدنى الحل، ونقله في المدارك عن العلامة في القواعد وولده في
الشرح، ثم قال: وهو حسن، لأصالة البراءة من وجوب الزائد. ورد بأن
ثبوت التكليف يقتضي اليقين بتحصيل البراءة. والمسألة عندي محل توقف لعدم
النص الكاشف عن حكمها.
فروع
الأول - قال العلامة في المنتهى: لو لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه
احتاط وأحرم من بعد، بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرما.
واستشكله في المدارك بأنه كما يمتنع تأخير الاحرام عن الميقات كذا يمتنع
تقديمه عليه. وتجديد الاحرام في كل موضع يحتمل فيه المحاذاة مشكل، لأنه
تكليف شاق لا يمكن ايجابه بغير دليل.
أقول: لا ريب أن ما ذكره من تجديد الاحرام في كل موضع يحتمل
المحاذاة جيد لو ثبت أصل الحكم، فإن يقين البراءة متوقف عليه، والاحتياط
بالاتيان بما يتوقف عليه يقين البراءة في مقام اشتباه الحكم واجب، كما تقدم
تحقيقه في مقدمات الكتاب. ودعوى المشقة غير مسلم ولا مسموع.

(1) العبارة الواردة هنا مطابقة للنسخة الخطية. وفي المطبوعة استظهر
الناسخ أن تكون العبارة هكذا: " وهو مرحلتان كما تقدم، والمرحلتان كما تقدم
أيضا عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا ".
453

الثاني - قال في المنتهى أيضا: لا يلزمه الاحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه أو
يغلب على ظنه ذلك، لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
أقول: لا يخفى أن ظاهر هذا الكلام لا يلائم ما ذهبوا إليه من وجوب
الاحرام بظن المحاذاة، لأن أصالة عدم الوجوب كما تنفي الوجوب مع الشك
تنفيه مع الظن أيضا.
الثالث - قال في المدارك: لو أحرم كذلك بالظن ثم تبينت الموافقة أو
استمر الاشتباه أجزأ، ولو تبين تقدمه قبل تجاوز محل المحاذاة أعاده، ولو كان بعد
التجاوز أو تبين تأخره عن محاذاة الميقات ففي الإعادة وجهان، من المخالفة،
ومن تعبده بظنه المقتضي للاجزاء. انتهى.
أقول: وهو جيد لو ثبت أصل دليل المسألة، إلا أنه لا يلائم ما اختاره
سابقا من الاحرام من أدنى الحل، فإن هذا إنما يتفرع على المحاذاة كما لا يخفى.
ثم لا يخفى أن ما علل به الإعادة في الصورة الأخيرة - من المخالفة - الظاهر ضعفه،
لما ذكر من أنه متعبد بظنه. والمخالفة واقعا غير معتبرة، إذ التكليف إنما هو
بما يظهر في نظر المكلف فلا تضر المخالفة الواقعية. إلا أن أصل المسألة - كما
عرفت آنفا - خال من الدليل.
الرابع - المشهور بين الأصحاب أن من حج من البحر يلزمه الاحرام إذا
غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة، وقال ابن إدريس: وميقات
أهل مصر ومن صعد البحر جدة. ورده جملة من تأخر عنه بعدم الوقوف له على
دليل. نعم إن كانت محاذية لأقرب المواقيت صح الاحرام منها لذلك
لا لخصوصيتها. وأما أهل مصر ومن سلك طريقهم فميقاتهم الجحفة كما يشير إليه
بعض الأخبار السابقة (1) فخلافه غير ملتفت إليه.

(1) ص 444.
454

السادسة - قد صرح الأصحاب بأن كل من حج على ميقات لزمه الاحرام
منه، بمعنى أن هذه المواقيت المتقدمة لأهلها ولمن يمر بها من غير أهلها مريدا للحج
أو العمرة، فلو حج الشامي على طريق المدينة أو العراقي وجب عليه الاحرام من
ذي الحليفة. وهذا الحكم مجمع عليه بينهم كما يفهم من المنتهى.
ويدل عليه من الأخبار ما رواه الكليني في الصحيح عن صفوان بن يحيى
عن أبي الحسن الرضا عليه السلام (1) في حديث: " أنه كتب إليه: أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) وقت المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها،
وفيها رخصة لمن كانت به علة، فلا يجاوز الميقات إلا من علة ".
وقد تقدم (2) في رواية إبراهيم بن عبد الحميد: " أن من دخل المدينة فليس
له أن يحرم إلا من المدينة ".
ولا فرق في وجوب الاحرام من هذه المواقيت المذكورة على الداخل إلى
مكة بين أن يكون حاجا أو معتمرا، حج افراد أو قران أو عمرة تمتع أو افراد،
أما حج التمتع فميقاته مكة.
وأما العمرة المفردة بعد حجي القران والافراد فميقاتها أدنى الحل كما تقدم
ويدل عليه أخبار: منها - ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن عمر بن
يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام (3) قال: " من أراد أن يخرج من مكة ليعتمر
أحرم من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبههما ".
قال ابن إدريس في السرائر: الحديبية اسم بئر وهو خارج الحرم، يقال:

(1) الوسائل الباب 15 من المواقيت
(2) ص 445
(3) الوسائل الباب 22 من المواقيت
455

الحديبية بالتخفيف والتشديد. وسألت ابن العصار الفوهي فقال: أهل اللغة
يقولونها بالتخفيف وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد. وخطه عندي بذلك
وكان إمام اللغة ببغداد. انتهى.
وقال بعض الفضلاء بعد ذكر الجعرانة ما صورته: بفتح الجيم وكسر
العين وفتح الراء المشددة، هكذا سمعنا من بعض مشايخنا، والصحيح ما قاله
نفطويه في تأريخه، قال: كان الشافعي يقول: الحديبية بالتخفيف ويقول أيضا:
الجعرانة بكسر الجيم وسكون العين. وهو أعلم بهذين الموضعين. وقال ابن
إدريس: وجدتهما كذلك بخط من أثق به. وقال ابن دريد في الجمهرة: الجعرانة
بكسر الجيم والعين وفتح الراء وتشديدها. انتهى.
وفي كتاب مجمع البحرين: وفي الحديث: إنه نزل الجعرانة. هي بتسكين
العين والتخفيف وقد تكسر وتشدد الراء: موضع بين مكة والطائف على سبعة
أميال من مكة، وهي أحد حدود الحرم، وميقات للاحرام، سميت باسم
ريطة بنت سعد وكانت تلقب بالجعرانة، وهي التي أشار إليها بقوله تعالى:
" كالتي نقضت غزلها " (1) وعن ابن المدائني: العراقيون يثقلون الجعرانة
والحديبية، والحجازيون يخففونهما. انتهى
وقال فيه أيضا: وقد تكرر في الحديث ذكر الحديبية بالتخفيف عند
الأكثر، وهي بئر بقرب مكة على طريق جدة دون مرحلة ثم أطلق على الموضع،
ويقال: نصفه في الحل ونصفه في الحرم. انتهى.
وبالجملة فإن الميقات هو أدنى الحل. والأفضل أن يكون من هذه المواضع:
الحديبية أو الجعرانة أو التنعيم، وهو - على ما في كتاب مجمع البحرين - موضع

(1) سورة النحل، الآية 92.
456

قريب من مكة، وهو أقرب أطراف الحل إلى مكة، ويقال: بينه وبين مكة
أربعة أميال، ويعرف بمسجد عائشة. انتهى.
وفي بعض الحواشي: أن التنعيم مسجد زين العابدين عليه السلام ومسجد
أمير المؤمنين عليه السلام ومسجد عائشة.
السابعة - قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجرد الصبيان من
فخ، وعلى ذلك دلت صحيحة أيوب بن الحر (1) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الصبيان من أين نجردهم؟ فقال: كان أبي يجردهم من فخ " وفي الصحيح
عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام (2) مثل ذلك.
وظاهر الأكثر - وبه صرح المحقق في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه -
أن المراد بالتجريد هو الاحرام بهم، وقد نص الشيخ وغيره على أن الأفضل
الاحرام بهم من الميقات لكن رخص في تأخير الاحرام بهم حتى يصيروا إلي فخ.
ومن ما يدل على الاحرام بهم من الميقات روايات: منها - صحيحة معاوية
ابن عمار (3) قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قدموا من كان معكم من
الصبيان إلى الجحفة أو إلى بطن " مر " ثم يصنع بهم ما يصنع بالمحرم، ويطاف بهم
ويسعى بهم... الحديث ".
وفي الموثق عن يونس بن يعقوب عن أبيه (4) قال: " قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: إن معي صبية صغارا وأنا أخاف عليهم البرد، فمن أين يحرمون؟ فقال:

(1) التهذيب ج 5 ص 409 وفي الوسائل الباب 17 من أقسام الحج،
والباب 18 من المواقيت، والباب 47 من الاحرام.
(2) التهذيب ج 5 ص 409 وفي الوسائل الباب 17 من أقسام الحج،
والباب 18 من المواقيت، والباب 47 من الاحرام.
(3) التهذيب ج 5 ص 409 وفي الوسائل الباب 17 من أقسام الحج.
(4) الوسائل الباب 17 من أقسام الحج.
457

ائت بهم العرج فليحرموا منها، فإنك إذا أتيت العرج وقعت في تهامة. ثم قال:
فإن خفت عليهم فائت بهم الجحفة ".
ونقل عن المحقق الشيخ على: أن المراد بالتجريد التجريد عن المخيط خاصة
فيكون الاحرام بهم من الميقات كغيرهم، لأن الميقات موضع الاحرام فلا يتجاوزه
أحد إلا محرما.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه: وهو ضعيف، لمنع ما ادعاه من
العموم بحيث يتناول غير المكلف، وظهور التجريد في المعنى الذي ذكرناه. انتهى
أقول: لا يخفى أن ما ذكره الشيخ على (قدس سره) لا يخلو من قرب،
فإن ظاهر لفظ التجريد يساعده. وما ادعاه (قدس سره) - من ظهور التجريد في
معنى الاحرام - لا يخفى ما فيه، فإن التجريد لغة إنما هو نزع شئ من شئ،
كما يقال: جردته عن ثيابه أي نزعتها عنه. والمعتبر في الاحرام أمور عديدة
لا يدخل منها شئ تحت هذا اللفظ سوى نزع المخيط. وما ادعاه من منع
العموم لا يخلو من شئ أيضا. ويؤيد ما ذكرناه تخصيص التأخير إلى فخ بمن
كان على طريق المدينة، فلو حج بهم على غيرها وجب الاحرام بهم من الميقات
البتة. وبذلك صرح العلامة في القواعد فقال: ويجرد الصبيان من فخ إن
حجوا على طريق المدينة وإلا فمن موضع الاحرام. قالوا: وفخ: بئر على نحو
فرسخ من مكة.
المقام الثاني في الأحكام
وفيه أيضا مسائل:
الأولى - المشهور بين الأصحاب أنه لا يجوز الاحرام قبل هذه المواقيت
إلا في صورتين سيأتي التنبيه عليهما في المقام. أما عدم جواز الاحرام قبل
458

الميقات في غير الصورتين المشار إليهما فهو من ما عليه الاتفاق نصا وفتوى.
ومن الأخبار الدالة على ذلك قوله عليه السلام في صحيحة الحلبي أو حسنته
المتقدمة في أول المقام الأول (1): " الاحرام من مواقيت خمسة وقتها رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها "
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أذينة (2) قال: " قال
أبو عبد الله (عليه السلام): من أحرم بالحج في غير أشهر الحج فلا حج له، ومن
أحرم دون الوقت فلا احرام له ".
وما رواه فيه أيضا عن ميسرة (3) قال: " دخلت على أبي عبد الله
(عليه السلام) وأنا متغير اللون، فقال لي: من أين أحرمت؟ فقلت: من
موضع كذا وكذا. فقال: رب طالب خير تزل قدمه. ثم قال: يسرك إن
صليت الظهر في السفر أربعا؟ قلت: لا. قال: فهو والله ذاك ".
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن ميسر (4) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): رجل أحرم من العقيق وآخر من الكوفة، أيهما أفضل؟ فقال:
يا ميسر أتصلي العصر أربعا أفضل أم تصليها ستا؟ فقلت: أصليها أربعا أفضل.
فقال: فكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من غيرها ".
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن موسى بن القاسم عن حنان بن
سدير (5) قال: " كنت أنا وأبي وأبو حمزة الثمالي وعبد الرحيم القصير وزياد
الأحلام حجاجا فدخلنا على أبي جعفر (عليه السلام) فرأى زيادا - وقد تسلخ

(1) ص 435
(2) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج، والباب 9 من المواقيت
(3) الوسائل الباب 11 من المواقيت
(4) الوسائل الباب 11 من المواقيت
(5) الوسائل الباب 11 من المواقيت
459

جلده - فقال: من أين أحرمت؟ قال: من الكوفة. قال: ولم أحرمت من
الكوفة؟ فقال: بلغني عن بعضكم أنه قال: ما بعد من الاحرام فهو
أعظم للأجر. فقال: ما بلغك هذا إلا كذاب. ثم قال لأبي حمزة: من أين
أحرمت؟ قال: من الربذة. فقال: ولم؟ لأنك سمعت أن قبر أبي ذر بها فأحببت
أن لا تجوزه؟ ثم قال لأبي ولعبد الرحيم، من أين أحرمتما؟ فقالا: من العقيق.
فقال: أصبتما الرخصة واتبعتما السنة. ولا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلا أخذت
باليسير، وذلك أن الله يسير يحب اليسير ويعطى على اليسير ما لا يعطى على العنف "
وما رواه في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) في
حديث قال: " ليس لأحد أن يحرم قبل الوقت الذي وقته رسول الله صلى الله عليه وآله
وإنما مثل ذلك مثل من صلى في السفر أربعا وترك الثنتين ".
إلى غير ذلك من الأخبار.
وأما الصورتان المشار إلى استثنائهما آنفا فإحداهما - من أراد الاحرام بعمرة
مفردة في رجب وخشي تقضيه إن هو أخر الاحرام حتى يصل الميقات، وقد
اتفقت الأخبار على جواز الاحرام له قبل الميقات لتقع عمرته في رجب، وأنه
يدرك فضلها بذلك وإن وقعت الأفعال في غيره، وقد نقل في المعتبر والمنتهى
اتفاق علمائنا على ذلك مع أن عبارة ابن إدريس الآتية ظاهرة في الخلاف،
ولعله إما مبني على الغفلة عن ملاحظة كلامه أو عدم الاعتداد بخلافه، والظاهر
الأول لنقلهم خلافه في مسألة النذر.
ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه الشيخ في الصحيح وثقة الاسلام في
الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (2) قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه

(1) الوسائل الباب 11 من المواقيت
(2) الوسائل الباب 12 من المواقيت
460

السلام) يقول: ليس ينبغي لأحد أن يحرم دون المواقيت التي وقتها رسول الله
صلى الله عليه وآله إلا أن يخاف فوت الشهر في العمرة ".
وما رواه أيضا في الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه السلام (1) قال:
" سألته عن الرجل يجئ معتمرا ينوي عمرة رجب فيدخل عليه هلال شعبان
قبل أن يبلغ الوقت، أيحرم قبل الوقت ويجعلها لرجب أو يؤخر الاحرام إلى العقيق
ويجعلها لشعبان؟ قال: يحرم قبل الوقت ويكون لرجب، لأن لرجب فضله وهو
الذي نوى ".
ثانيهما - من نذر الاحرام من موضع معين قبل الميقات، والمشهور
انعقاد نذره ووجوب الاحرام من ذلك الموضع في أشهر الحج إن كان لعمرة
تمتع أو حج وإن كان لعمرة مفردة فمطلقا، ومنع ذلك ابن إدريس في السرائر
فقال: والأظهر الذي تقتضيه الأدلة وأصول المذهب أن الاحرام لا ينعقد إلا
من المواقيت، سواء كان منذورا أو غيره، ولا يصح النذر بذلك لأنه
خلاف المشروع، ولو أنعقد بالنذر كان ضرب المواقيت لغوا. ثم قال: والذي
اخترناه مذهب السيد المرتضى وابن أبي عقيل من علمائنا وشيخنا أبي جعفر في
مسائل خلافه. ثم نقل عبارته. وخطأه العلامة في نقله ذلك عن الخلاف، فإنه
وإن أطلق في هذه العبارة التي نقلها عنه إلا أنه صرح بذلك في عبارة أخرى، حيث
قال - على ما نقله في المختلف -: فإن أحرم قبل الميقات لم ينعقد إلا أن يكون نذر
ذلك. وأما السيد المرتضى وابن أبي عقيل فإنهما أطلقا المنع من الاحرام قبل
الميقات ولم يستثنيا النذر. وكذا ابن الجنيد والصدوق كما نقله في المختلف
أيضا. انتهى. واختاره العلامة في المختلف.

(1) التهذيب ج 5 ص 53 والكافي ج 4 ص 323 وفي الوسائل الباب 12
من المواقيت.
461

ويدل على القول المشهور جملة من الأخبار: منها - ما رواه الشيخ في
الصحيح عن الحلبي (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل جعل
لله عليه شكرا أن يحرم من الكوفة؟ فقال: فليحرم من الكوفة وليف
لله بما قال ".
أقول: لصاحب المنتقى هنا كلام في صحة الخبر المذكور بعد أن حكى
حكم الأصحاب بصحته، فليرجع إليه (2) من أحب الوقوف عليه.
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: " سمعته
يقول: لو أن عبدا أنعم الله عليه نعمة أو ابتلاه ببلية فعافاه من تلك البلية فجعل
على نفسه أن يحرم بخراسان كان عليه أن يتم ".
وفي الصحيح عن صفوان عن علي بن أبي حمزة (4) قال: " كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن رجل جعل لله عليه أن يحرم من الكوفة؟
قال: يحرم من الكوفة ".
ومن هذه الأخبار يعلم الجواب عن ما احتجوا به من أن النذر غير مشروع
فإنه بعد ورود الأخبار بذلك لا وجه لدفع مشروعيته. وبالجملة فإن قول ابن
إدريس هنا جيد لولا ورود هذه الأخبار المذكورة. وأما قوله -: ولو أنعقد
بالنذر كان ضرب المواقيت لغوا - فقد أجاب عنه في المنتهى بأن الفائدة غير
منحصرة في ذلك بل ههنا فوائد أخرى: منها - منع تجاوزها من غير احرام،
ومنها - وجوب الاحرام منها لأهلها لغير الناذر. ثم قال: وبالجملة فالكلام
ضعيف من الجانبين فنحن في هذا من المتوقفين، والأقرب ما ذهب إليه الشيخان
عملا برواية الحلبي فإنها صحيحة. انتهى.

(1) الوسائل الباب 13 من المواقيت
(2) المنتقى ج 2 ص 355
(3) الوسائل الباب 13 من المواقيت
(4) الوسائل الباب 13 من المواقيت
462

ولا يكفي مروره على الميقات بعد احرامه قبله، لوقوع الاحرام السابق
عليها فاسدا فيكون بمنزلة من لم يحرم.
المسألة الثانية - قد ذكر جملة من الأصحاب أنه لو تعذر الاحرام من
الميقات لمانع من مرض ونحوه أخره، ومتى زال المانع وجب عليه الرجوع
إلى الميقات إن أمكن، وإلا جدد الاحرام من موضعه.
والكلام هنا يقع في مقامين: أحدهما - في التأخير، المفهوم من كلام
الشيخ في النهاية ذلك، قال في الكتاب المذكور: ومن عرض له مانع من
الاحرام جاز له أن يؤخره أيضا عن الميقات، فإذا زال المانع أحرم من الموضع
الذي انتهى إليه.
ويدل على ما ذكره ما رواه في التهذيب (1) عن أبي شعيب المحاملي عن
بعض أصحابنا عن أحدهم (عليهم السلام): " إذا خاف الرجل على نفسه أخر
احرامه إلى الحرم ".
وقال ابن إدريس بعد نقل ذلك عن الشيخ: قوله: " جاز له أن يؤخره "
مقصوده كيفية الاحرام الظاهرة، وهو التعري وكشف الرأس والارتداء والتوشح
والاتزار، فأما النية والتلبية مع القدرة عليها فلا يجوز له ذلك، لأنه لا مانع
له يمنع ذلك ولا ضرورة فيه ولا تقية، وإن أراد وقصد شيخنا غير ذلك فهذا
يكون قد ترك الاحرام متعمدا من موضعه فيؤدي إلى ابطال حجه بغير خلاف.
واستجوده العلامة في المنتهى.
أقول: ويؤيده ما قدمناه من رواية الحميري المنقولة من الإحتجاج
المتقدمة (2) في المسألة الأولى من المسائل الملحقة بالمقام الأول، حيث ذكر

(1) ج 5 ص 58 وفي الوسائل الباب 16 من المواقيت
(2) ص 441
463

عليه السلام - في من مر مع العامة على المسلخ ولم يمكنه إظهار الاحرام تقية - أنه يحرم
من ميقاته ثم يلبس الثياب ويلبي في نفسه، وإذا بلغ ميقاتهم أظهره.
وإلى ما ذكره ابن إدريس يميل كلام المحقق في المعتبر، حيث قال: من
منعه مانع عند الميقات فإن كان عقله ثابتا عقد الاحرام بقلبه، ولو زال عقله
باغماء وشبهه سقط عنه الحج، ولو أحرم عنه رجل جاز، ولو أخر وزال المانع
عاد إلى الميقات إن تمكن وإلا أحرم من موضعه. ودل على جواز الاحرام عنه
ما رواه جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام) (1): " في مريض
أغمي عليه فلم يعقل حتى أتى الموقف؟ قال: يحرم عنه رجل " والذي يقتضيه
الأصل أن احرام الولي جائز لكن لا يجزئ عن حجة الاسلام، لسقوط الفرض
بزوال عقله. نعم إذا زال العارض قبل الوقوف أجزأه. انتهى.
وقال في الدروس: ولو منعه مانع من الاحرام من الميقات جاز تأخيره
عنه، قاله الشيخ. وحمل على تأخير ما يتعذر منه كلبس الثوبين وكشف الرأس
دون الممكن من النية والتلبية. انتهى.
وبالجملة فإن ما ذكره ابن إدريس هنا متجه، ويمكن حمل الرواية التي
استند إليها الشيخ على ذلك. وأما ما ذكره في المختلف - من أن كلام ابن إدريس
مؤاخذة لفظية، إذ الاحرام ماهية مركبة من النية والتلبية ولبس الثوبين،
ونحن نسلم ايجاب ما يتمكن منه لكن لا يكون قد أتى بماهية الاحرام. انتهى -
ففيه أن الظاهر من عبارة الشيخ ومن روايته التي استند إليها إنما هو تأخير
الاحرام بجميع ما يتوقف عليه وتلتئم منه ماهيته.
وثانيهما - في وجوب الرجوع متى أخره، قال في المدارك - بعد قول

(1) الوسائل الباب 20 من المواقيت، والباب 55 من الاحرام
464

المصنف: ولو أخره عن الميقات لمانع ثم زال المانع عاد إلى الميقات، فإن تعذر
جدد الاحرام حيث زال - ما صورته: أما وجوب العود إلى الميقات مع المكنة
فلا ريب فيه لتوقف الواجب عليه. وأما الاكتفاء بتجديد الاحرام من محل زوال
العذر مع تعذر العود إلى الميقات، فلأن تأخيره لم يكن محرما فكان كالناسي، وسيأتي
أن الناسي يحرم من موضع الذكر مع تعذر العود إلى الميقات. انتهى.
أقول: لا يخفى أنه قد تقدم في المقام الأول أن ظاهر عبارة الشيخ في
النهاية هو التعدي عن الميقات للعذر بغير احرام بالكلية، وظاهر الجماعة أنه
قد أحرم وعقد النية وأتى بما يمكن من تلبية ونحوها وإنما أخر بعض الأفعال مثل
لبس الثوبين مثلا ونحوهما. وحينئذ فوجوب الرجوع الذي ذكروه هنا، إن بنى
على ظاهر كلام الشيخ وروايته فلا ريب فيه، لأنه قد ترك الاحرام متعمدا من
موضعه كما ذكره ابن إدريس، فيجب عليه الرجوع البتة كما صرحوا به. إلا أن قوله - في تعليل الاكتفاء
بتجديد الاحرام من موضع الذكر مع تعذر
العود إلى الميقات: فلأن تأخيره لم يكن محرما فكان كالناسي - غير صحيح كما
لا يخفى. وإن بنى على ما ذكره الجماعة من عقد الاحرام من الميقات والاتيان
بالتلبية وما يمكن من أفعاله فايجاب العود عليه بعد زوال العذر لا وجه له ولا
دليل عليه. وما ذكره من توقف الواجب عليه إنما يتم لو ترك الاحرام بالكلية.
وترك بعض تلك الأمور المشترطة فيه - كنزع المخيط ولبس ثوبي الاحرام - مع
العذر لا يوجب الرجوع إلى الميقات اتفاقا، وغايته هو وجوب نزع المخيط
ولبس ثوبي الاحرام متى زال العذر. وقياس ذلك - في وجوب الرجوع أو
الاحرام من موضعه مع عدم إمكان الرجوع - على الناسي قياس مع الفارق،
لأن الناسي قد ترك الاحرام بالكلية وهذا قد أحرم وعقد حجه بالنية ولبى ولو
سرا وإنما ترك نزع المخيط للعذر، فكيف يحمل عليه؟ مع ما في الحمل - لو لم
465

يكن كذلك أيضا - من أنه محض القياس.
وبذلك يظهر ما في عبارة المعتبر المتقدمة وإن استحسنها في المدارك، حيث
قال: وفصل المصنف في المعتبر تفصيلا حسنا... ثم ساق عبارته المتقدمة، فإن
قوله: " ولو أخر وزال المانع " إن أراد به التأخير حتى عن النية وعقد الاحرام
بها ففيه ما عرفت أولا، وإن أراد التأخير لما لم يمكن مع الاتيان بما أمكن من
نية وتلبية ففيه ما عرفت ثانيا.
وبالجملة فإن كلامهم هنا عندي غير منقح ولا ظاهر.
ثم إن صريح عبارة الشيخ المتقدمة أنه يحرم بعد زوال المانع من موضعه.
وهو على اطلاقه أيضا مشكل، لأنه إن حمل على ظاهر عبارته - كما قدمنا
الإشارة إليه - فهو غير صحيح، لأنه قد أخل بالاحرام بعد المرور على الميقات
عمدا فلا يجزئه الاحرام من موضعه، وإن حمل على ظاهر كلام الجماعة - من عقد
نية الاحرام عند الميقات وإنما ترك بعض الأشياء لعذر - فهو صحيح لا ريب فيه
المسألة الثالثة - لو ترك الاحرام بعد مروره على الميقات ناسيا أو جاهلا
وجب عليه العود إليه مع الامكان، وإلا أحرم من مكانه إن لم يدخل الحرم،
ومع دخوله فيجب الخروج إلى خارجه إن أمكن، وإلا أحرم من موضعه أيضا.
وزاد بعضهم من لا يريد النسك ثم تجدد له عزم على ذلك.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الاسلام
(عطر الله تعالى مرقده) في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (1) قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نسي أن يحرم حتى دخل الحرم؟ قال: قال أبي:
يخرج إلى ميقات أهل أرضه، فإن خشي أن يفوته الحج أحرم من مكانه، فإن

(1) الوسائل الباب 14 من المواقيت
466

استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج ثم ليحرم ".
وما رواه أيضا في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن رجل مر على الوقت الذي يحرم الناس منه، فنسي أو جهل
فلم يحرم حتى أتى مكة، فخاف إن رجع إلى الوقت أن يفوته الحج؟ فقال:
يخرج من الحرم ويحرم ويجزئه ذلك ".
وما رواه أيضا في الصحيح عن معاوية بن عمار (2) قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة كانت مع قوم، فطمثت فأرسلت إليهم فسألتهم،
فقالوا: ما ندري أعليك احرام أم لا وأنت حائض؟ فتركوها حتى دخلت
الحرم. فقال: إن كان عليها مهلة فلترجع إلى الوقت فلتحرم منه، وإن
لم يكن عليها وقت فلترجع إلى ما قدرت عليه بعد ما تخرج من الحرم بقدر
ما لا يفوتها ".
ورواه الشيخ في الصحيح أيضا مثله (3) إلا أنه زاد بعد: " بقدر ما لا
يفوتها ": " الحج فتحرم ".
وما رواه في الكافي أيضا في الموثق عن زرارة (4): " عن أناس من
أصحابنا حجوا بامرأة معهم، فقدموا إلى الوقت وهي لا تصلي، فجهلوا أن
مثلها ينبغي أن يحرم، فمضوا بها كما هي حتى قدموا مكة وهي طامث حلال،
فسألوا الناس فقالوا: تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه. وكانت إذا
فعلت لم تدرك الحج. فسألوا أبا جعفر عليه السلام فقال: تحرم من مكانها، قد
علم الله - تعالى - نيتها ".
وعن جميل عن سورة بن كليب (5) قال: " قلت لأبي جعفر عليه السلام:

(1) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
(2) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
(3) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
(4) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
(5) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
467

خرجت معنا امرأة من أهلنا، فجهلت الاحرام فلم تحرم حتى دخلنا مكة،
ونسينا أن نأمرها بذلك؟ قال: فمروها فلتحرم من مكانها من مكة أو
من المسجد ".
وما رواه الحميري في كتاب قرب الإسناد بسنده عن علي بن جعفر عن
أخيه موسى بن جعفر عليه السلام (1) قال: " سألته عن رجل ترك الاحرام حتى
انتهى إلى الحرم، كيف يصنع؟ قال: يرجع إلى ميقات أهل بلاده الذي
يحرمون منه فيحرم ".
وعن أبي الصباح الكناني (2) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
جهل أن يحرم حتى دخل الحرم، كيف يصنع؟ قال: يخرج من الحرم
ثم يهل بالحج ".
واطلاق بعض هذه الأخبار يحمل على مقيدها، وبه تكون متفقة الدلالة
على الأحكام المذكورة.
وقد ذكر العلامة في التذكرة والمنتهى أن من نسي الاحرام بالحج يوم
التروية حتى حصل بعرفات فليحرم من هناك.
والظاهر أن مستنده ما رواه علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى
ابن جعفر عليه السلام (3) قال: " سألته عن رجل نسي الاحرام بالحج فذكره وهو
بعرفات، ما حاله؟ قال: يقول: اللهم على كتابك وسنة نبيك. فقد
تم احرامه ".
وربما أشعر تخصيص الحكم بعرفات بعدم جواز تجديد الاحرام بالمشعر، وبه

(1) الوسائل الباب 14 من المواقيت
(2) الوسائل الباب 14 من المواقيت
(3) الوسائل الباب 14 و 20 من المواقيت
468

يشعر أيضا بعض عبائرهم. إلا أن الشهيدين قد حكما بالجواز.
ويمكن أن يستدل عليه بما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن جميل
ابن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام) (1) " في رجل نسي
أن يحرم أو جهل وقد شهد المناسك كلها وطاف وسعى؟ قال: تجزئه نيته
إذا كان قد نوى ذلك، فقد تم حجه وإن لم يهل ".
قيل: والظاهر أن المراد بقوله: " إذا كان قد نوى ذلك " أنه نوى
الحج بجميع أجزائه جملة لا نوي الاحرام، لأن نيته من الجاهل به غير معقول
وكذا من الناسي أيضا. وربما ظهر من كلام الشيخ في النهاية حمله على العزم
المتقدم على محل الاحرام، فإنه قال: إذا لم ينو فإن لم يذكر أصلا حتى فرغ
من جميع مناسكه فقد تم حجه ولا شئ عليه إذا كان قد سبق في عزمه
الاحرام. انتهى.
وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام (2) قال: " سألته عن
رجل كان متمتعا خرج إلى عرفات وجهل أن يحرم يوم التروية بالحج حتى رجع إلى
بلده، ما حاله؟ قال: إذا قضى المناسك كلها فقد تم حجه ".
والتقريب فيهما أنه إذا تم الحج مع قضاء المناسك كلها بغير احرام
فالبعض أولى.
ويندرج في من لا يريد النسك ثم تجدد له ذلك من يكون قاصدا دخول
مكة وكان ممن يلزمه الاحرام لدخولها لكنه لم يرد النسك، فهو في معنى متعمد
ترك الاحرام.
وقد نقل اجماعهم على أن من مر على الميقات وهو لا يريد دخول مكة بل

(1) الوسائل الباب 20 من المواقيت.
(2) الوسائل الباب 20 من المواقيت.
469

يريد حاجة في ما سواها فإنه لا يجب عليه الاحرام، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله على
ذي الحليفة لما أتى بدرا وهو محل (1).
ومن قصد دخولها وكان ممن لا يلزمه الاحرام - كالحطاب والحشاش ومن
دخلها لقتال - فإنه متى تجدد لكل من هؤلاء إرادة النسك بعد تجاوزه الميقات
فالحكم فيه كما تقدم في الناسي والجاهل.
قالوا: أما أنه لا يجب عليه العود مع التعذر فلا ريب فيه، لأن من
هذا شأنه أعذر من الناسي وأنسب بالتخفيف.
وأما وجوب العود مع الامكان فاستدل عليه في المعتبر بأنه يتمكن من
الاتيان بالنسك على الوجه المأمور به فيكون واجبا.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (2) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل ترك الاحرام حتى دخل الحرم؟ قال: يرجع إلى ميقات أهل
بلاده الذي يحرمون منه فيحرم، وإن خشي أن يفوته الحج فليحرم من مكانه،
فإن استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج ثم ليحرم ".
أقول: والأولى هو الاستدلال بالصحيحة المذكورة على كل من شقى
المسألة وإلغاء هذه التعليلات العليلة، فإنها مشتملة على حكم كل من الشقين.
والتقريب فيها أن الرواية اشتملت على السؤال عن رجل ترك الاحرام حتى دخل
الحرم، وهو شامل لمحل البحث. ونحو هذه الصحيحة بالنسبة إلى الشق الثاني
رواية الحميري المتقدم نقلها عن قرب الإسناد (3).

(1) المغني ج 3 ص 241 مطبعة العاصمة
(2) الوسائل الباب 14 من المواقيت. وقوله: " ثم ليحرم " وارد في
رواية الكافي ج 4 ص 323 وليس في رواية التهذيب ج 5 ص 58.
(3) ص 468.
470

قالوا: وفي حكم من لا يريد النسك غير المكلف به، كالصبي والعبد
والكافر إذا بلغ بعد تجاوزه الميقات أو أعتق أو أسلم.
فوائد
الأولى - لا يخفى أن ما تقدم كله مخصوص بما لو تجاوز الميقات على
أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة، أما لو تجاوزه مريدا للنسك وتعمد ترك الاحرام
منه فإنه يجب عليه الرجوع إليه والاحرام منه، فإن تعذر العود لمرض أو خوف
أو ضيق الوقت فقد قطع الأصحاب (رضوان الله عليهم) بعدم صحة الاحرام
من غيره، لعدم الامتثال، فيحرم عليه دخول مكة، لتوقفه على الاحرام.
وكأن منشأ ذلك المؤاخذة له بسوء ما عمله من اخلاله بالاحرام عمدا مع ايجاب
الشارع له عليه. واحتمل بعض الأصحاب الاكتفاء بالاحرام من أدنى الحل إذا
خشي أن يفوته الحج، لاطلاق صحيحة الحلبي المتقدمة (1). وهو غير بعيد.
الثانية - المفهوم من صحيحة الحلبي المتقدمة هنا، وصحيحته الثانية المتقدمة
في صدر هذه المسألة برواية ثقة الاسلام - وهو ظاهر صحيحة معاوية بن عمار
المتقدمة ثمة أيضا - إن الواجب الرجوع إلى ميقات أهل بلده في جميع هذه الصور
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك: وفي بعض الأخبار أنه يرجع إلي ميقاته
في جميع هذه الصور، والظاهر أنه غير متعين بل يجزئ رجوعه إلى أي ميقات
شاء، لأنها مواقيت لمن مر بها، وهو عند وصوله كذلك. وقال سبطه
السيد السند في المدارك - في مسألة ما لو أخر عن الميقات لمانع ثم زال المانع فإنه
يعود إلى الميقات - ما صورته: لكن لا يخفى أنه إنما يجب العود إذا لم يكن
في طريقه ميقات آخر وإلا لم يجب كما مر.

(1) ص 466 و 470
471

أقول: والظاهر هو وجوب العود إلى ميقاته، وقد تقدم تحقيق
الجواب عن ما ذكروه في البحث السادس من المطلب الثاني من مطلبي المقدمة
الرابعة (1).
الثالثة - قال شيخنا المشار إليه في المسالك أيضا: وحيث يتعذر رجوعه
مع التعمد يبطل نسكه، ويجب عليه قضاؤه وإن لم يكن مستطيعا للنسك بل كان
وجوبه بسبب إرادة دخول الحرم، فإن ذلك موجب للاحرام، فإذا لم يأت به
وجب قضاؤه كالمنذور. نعم لو رجع بعد تجاوز الميقات ولما يدخل الحرم فلا
قضاء عليه وإن إثم بتأخير الاحرام. وادعى العلامة (قدس سره) في التذكرة
الاجماع عليه. انتهى.
واعترضه سبطه السيد السند في المدارك بأنه غير جيد، قال: لأن القضاء
فرض مستأنف فيتوقف على الدليل، وهو منتف هنا. والأصح سقوط القضاء
كما اختاره في المنتهى، واستدل عليه بأصالة البراءة من الفضاء، وبأن الاحرام
مشروع لتحية البقعة، فإذا لم يأت به سقط كتحية المسجد. وهو حسن. انتهى
الرابعة - قد صرحوا أيضا بأن من كان منزله دون الميقات فحكمه في
مجاوزة منزله إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في الأحوال السابقة، لأن منزله
ميقاته، فهو في حقه كأحد المواقيت الخمسة في حق الآفاقي.
المسألة الرابعة - اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو نسي
الاحرام بالكلية حتى أكمل مناسكه، فهل يقضي لو كان واجبا أم يجزئ عنه؟
قولان: ثانيهما للشيخ في المبسوط والنهاية وجمع من الأصحاب (رضوان الله
عليهم) والأول لابن إدريس.

(1) ص 411.
472

واستدل في المعتبر للقول الثاني - حيث اختاره - بأنه فات نسيانا فلا يفسد
به الحج، كما لو نسي الطواف. وبقوله صلى الله عليه وآله (1): " رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان " وبأنه مع استمرار النسيان يكون مأمورا بايقاع بقية الأركان،
والأمر يقتضي الاجزاء.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام (2)
قال: " سألته عن رجل كان متمتعا خرج إلى عرفات وجهل أن يحرم يوم التروية
بالحج حتى رجع إلى بلده... الخبر " وقد تقدم في سابق هذه المسألة.
وفي الحسن عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما
السلام) " في رجل نسي... الخبر " وقد تقدم في المسألة المذكورة (3).
واعترض هذه الأدلة السيد السند في المدارك فقال: وفي جميع هذه الأدلة
نظر: أما الأول فلأن الناسي للاحرام غير آت بالمأمور به على وجهه، فيبقى
في عهدة التكليف إلى أن يثبت صحة الحج مع الاخلال به بدليل من خارج،
كما في نسيان الطواف. وأما الثاني فلأن المرتفع في الخطأ والنسيان المؤاخذة خاصة
لا جميع الأحكام. وأما الثالث فلعدم تحقق الامتثال بالنسبة إلى ذلك الجزء المنسي
والكل يعدم بعدم جزئه. وأما الرواية الأولى فبأنها إنما تدل على صحة حج تارك
الاحرام مع الجهل، وهو خلاف محل النزاع. وما قيل - من أن الناسي أعذر من
الجاهل - فغير واضح، كما بيناه غير مرة. مع أنها مخصوصة بإحرام الحج،
فالحاق احرام العمرة به لا يخرج عن القياس. وأما الرواية الثانية فواضحة الدلالة
لكن إرسالها يمنع من العمل بها. انتهى كلامه (زيد اكرامه).

(1) الوسائل الباب 37 من قواطع الصلاة، والباب 30 من الخلل في الصلاة
والباب 56 من جهاد النفس
(2) ص 469
(3) ص 469
473

وهو جيد إلا في رد الرواية الثانية بالارسال عند من لا يعمل على هذا
الاصطلاح المحدث، فإنه غير مسموع. وبه يظهر وجه قوة القول المذكور.
وأشار بقوله -: وما قيل من أن الناسي... إلى آخره - إلى ما ذكره شيخنا
الشهيد في نكت الإرشاد في بيان وجه الاستدلال بالرواية المذكورة، حيث
قال: واعلم أن الرواية الأولى تدل على الصحة بواسطة أن النسيان أدخل في
العذر من الجهل. وهو غير جيد، فإنه قد استفاضت الأخبار بوجوب الإعادة
على من صلى في النجاسة ناسيا (1) وعلل في بعضها بأنه عقوبة لاهماله إزالة النجاسة
حتى أدى إلى نسيانها. مع استفاضتها بصحة الصلاة فيها جاهلا (2) نعم قد
ورد في بعض الأحكام معذورية الناسي أيضا.
احتج ابن إدريس على ما ذهب إليه بقوله صلى الله عليه وآله (3): " إنما الأعمال
بالنيات " حيث قال - بعد ذكر القول المشهور واسناده إلى ما روي في أخبارنا -
ما صورته: والذي تقتضيه أصول المذهب أنه لا يجزئه وتجب عليه الإعادة،
لقوله صلى الله عليه وآله (4): " إنما الأعمال بالنيات " وهذا عمل بلا نية، فلا يرجع
عن الأدلة بأخبار الآحاد. ولم يورد هذا ولم يقل به أحد من أصحابنا سوى
شيخنا أبي جعفر (رحمه الله) فالرجوع إلى الأدلة أولى من تقليد الرجال. انتهى.
واعترضه المحقق في المعتبر فقال بعد نقل استدلاله بالخبر: ولست أدري كيف
تخيل له هذا الاستدلال ولا كيف توجيهه؟ فإن كأن يقول إن الاخلال بالاحرام
اخلال بالنية في بقية المناسك فنحن نتكلم على تقدير ايقاع نية كل منسك على

(1) الوسائل الباب 20 و 40 و 42 من النجاسات من كتاب الطهارة
(2) الوسائل الباب 40 و 41 و 47 من النجاسات من كتاب الطهارة
(3) الوسائل الباب 5 من مقدمة العبادات.
(4) الوسائل الباب 5 من مقدمة العبادات.
474

وجهه ظانا أنه أحرم أو جاهلا بالاحرام، فالنية حاصلة مع ايقاع كل منسك، فلا
وجه لما قاله.
وأجاب عنه شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد بأن مراد ابن إدريس إن
فقد نية الاحرام يجعل باقي الأفعال في حكم العدل، لعدم صحة نيتها محلا،
فتبطل، إذ العمل بغير نية باطل.
وفيه أن ما ادعاه - من أن فقد نية الاحرام يجعل باقي الأفعال في حكم العدم -
ممنوع. قوله -: لعدم صحة نيتها محلا - قلنا: إن أريد بكونه محلا يعني:
عالما حين الاتيان بتلك الأفعال أنه محل، فهو مسلم ولكنه ليس من محل البحث
في شئ، وإن أريد في الواقع ونفس الأمر - حيث إنه ظن الاتيان بالاحرام
أو جهله - فهو ممنوع، لأن التكاليف إنما نيطت بالظاهر في نظر المكلف لا
بنفس الأمر والواقع. وحينئذ فما ذكره من بطلان تلك الأفعال باطل. على
أن المتبادر من العمل بغير نية إنما هو ترك النية بالكلية لا الاتيان بنية وإن
ظهر بطلانها، وإن كان الجميع مشتركا في البطلان لكن لا لهذا الخبر.
وقال العلامة في المنتهى: الظاهر أن ابن إدريس وهم في هذا الاستدلال
فإن الشيخ اكتفى بالنية عن الفعل، فتوهم أنه اجتزأ بالفعل بغير نية.
أقول: فيه أنه إن أراد بالنية التي اكتفى بها الشيخ يعني: النية المقارنة
للاحرام، فهو غير متجه، إذ ليس في كلام الشيخ دلالة على اعتبارها بوجه،
كما صرح به في المدارك أيضا، وإن أراد اجتزاءه بالعزم المتقدم - كما أسلفناه
من عبارة الشيخ في النهاية ذيل صحيحة جميل المتقدمة (7) في سابق هذه
المسألة - ففيه أنه وإن احتمل إلا أنه بعيد عن ظاهر العبارة.

(1) ص 469
475

وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور، لما عرفت من دلالة صحيحة جميل على
ذلك وإن كانت مرسلة، لعدم المعارض لها، فيتجه العمل بها.
وربما بنى الكلام هنا على الاختلاف في معنى الاحرام وما المراد منه وأنه
عبارة عن ماذا؟ فذكر العلامة في المختلف - في مسألة تأخير الاحرام عن الميقات -
أن الاحرام ماهية مركبة من النية والتلبية ولبس الثوبين. ومقتضاه أنه ينعدم
بانعدام أحد أجزائه. وحكى الشهيد (رحمه الله) في شرح الإرشاد عن ابن
إدريس أنه جعل الاحرام عبارة عن النية والتلبية، ولا مدخل للتجرد ولبس
الثوبين فيه. وعن ظاهر المبسوط والجمل أنه جعله أمرا بسيطا وهو النية، قال:
فيتحقق الاخلال بالاحرام بالاخلال بها... إلى أن قال (رحمه الله) في الكتاب
المذكور: وقد كنت ذكرت في رسالة أن الاحرام هو توطين النفس على ترك
المنهيات المعهودة إلى أن يأتي بالمناسك، والتلبية - وهي الرابطة لذلك التوطين -
نسبتها إليه كنسبة التحريمة إلى الصلاة، والأفعال هي المزيلة لذلك الرابط، ويتحقق
زواله بالكلية بآخرها أعني التقصير وطواف النساء بالنسبة إلى النسكين، فحينئذ
اطلاق الاحرام بالحقيقة ليس إلا على ذلك التوطين، ولكن لما كان موقوفا على
التلبية وكان لها مدخل تام في تحققه جاز اطلاقه عليها أيضا، أما وحدها لأنها
أظهر ما فيه، تسمية للشئ باسم أشهر أجزائه وشروطه، وأما مع ذلك التوطين
النفساني الذي ربما عبر عنه بالنية. وبالجملة فكلام ابن إدريس أمثل هذه
الأقوال، لقيام الدليل وهو قول الصادق عليه السلام (1) الصحيح الاسناد: " فإذا
فعل شيئا من الثلاثة - يعني: التلبية والاشعار والتقليد - فقد أحرم " فعلى
هذا يتحقق نسيان الاحرام بنسيان النية وبنسيان التلبية. انتهى كلامه
(زيد مقامه).

(1) الوسائل الباب 12 من أقسام الحج
476

أقول: الظاهر أنه أشار بالدليل المذكور إلى ما رواه الشيخ في الصحيح
عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (1) قال: " يوجب الاحرام ثلاثة
أشياء: التلبية والاشعار والتقليد، فإذا فعل شيئا من هذه الثلاثة فقد أحرم "
ونحوه ما رواه في الكافي عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام (2)
قال: " إذا كانت البدن كثيرة قام في ما بين ثنتين ثم أشعر اليمنى ثم اليسرى
ولا يشعر أبدا حتى يتهيأ للاحرام، لأنه إذا أشعر وقلد وجلل وجب عليه
الاحرام وهي بمنزلة التلبية " والمراد بوجوبه عليه يعني: تحققه وثبوته
بذلك ولزومه
وفي حديث طويل يرويه الشيخ عن صفوان في الصحيح عن معاوية بن
عمار وغير معاوية - ممن روى صفوان عنه الأحاديث المتقدمة المذكورة، وقال:
- يعني صفوان - وهي عندنا مستفيضة - عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما
السلام) (3)... إلى أن قال: " وإذا فرض على نفسه الحج ثم أتم بالتلبية فقد
حرم عليه الصيد وغيره، ووجب عليه في فعله ما يجب على المحرم، لأنه قد يوجب
الاحرام أشياء ثلاثة: الاشعار والتقليد والتلبية، فإذا فعل شيئا من هذه
الثلاثة فقد أحرم ".
وما رواه الشيخ عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام (4) قال: " من
أشعر بدنته فقد أحرم وإن لم يتكلم بقليل ولا كثير ".
ومن أوضح الأخبار في ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن
وهب (5) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التهيؤ للاحرام، فقال: في مسجد

(1) الوسائل الباب 12 من أقسام الحج.
(2) الوسائل الباب 12 من أقسام الحج.
(3) التهذيب ج 5 ص 83 وفي الوسائل الباب 14 من الاحرام
(4) الوسائل الباب 12 من أقسام الحج.
(5) التهذيب ج 5 ص 84 وفي الوسائل الباب 34 و 40 من الاحرام
477

الشجرة فقد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وقد ترى أناسا يحرمون فلا تفعل حتى
تنتهي إلى البيداء حيث الميل فتحرمون كما أنتم في محاملكم، تقول:
لبيك اللهم لبيك... الحديث ".
ومعنى الخبر المذكور أنه سأله عن التهيؤ للاحرام الذي هو عبارة عن التلبية
- كما يدل عليه سياق الخبر - فقال: في مسجد الشجرة، بأن يصلي فيه بعد
الغسل ولبس ثوبي الاحرام والدعاء بعد الصلاة، ونحو ذلك. ثم قال له: قد
ترى أناسا يحرمون، يعني: يلبون في المسجد بعد الصلاة فلا تفعل حتى
تنتهي إلى البيداء فتحرمون في محاملكم، يعني: تلبون وتعقدون الاحرام
بالتلبية وأنتم في محاملكم، تقول في عقد الاحرام: لبيك... إلى آخره.
وقد اشتبه معنى الخبر على كثير من الفضلاء حتى اطرحوه لذلك وأعرضوا عنه،
والمعنى فيه ما ذكرناه.
وظاهر المحدث الأمين الاسترآبادي (قدس سره) في بعض فوائده أن
الاحرام عنده عبارة عن الحالة المترتبة على نية الحج أو العمرة والاتيان بأول جزء
منه وهو التلبية، قال: وهو الظاهر عندي من الروايات. قال: وهو من
الأحكام المترتبة على مجموع النية والاتيان بجزء من المنوي، نظير حرمة منافيات
الصلاة على المصلي بسبب نية الصلاة وتكبيرة الاحرام.
أقول: لا يخفى أنه يمكن تطبيق الخبرين الأولين على ما ذكره (قدس
سره) بأن يكون معنى قوله في الخبر الأول: " فإذا فعل شيئا من هذه الثلاثة
فقد أحرم " يعني: حصلت له تلك الحالة المذكورة. إلا أنه لا يخلو من
تمحل وبعد.
هذا ما وقفت عليه من أقوالهم في معنى الاحرام. وحينئذ فيترتب حكم
478

النسيان باعتبار كل قول على ما يناسبه، فعلى القول الأول أحد الثلاثة، وعلى
الثاني أحد الأمرين، وعلى الثالث النية، وعلى الرابع التوطين المذكور الذي
هو عبارة عن العزم، على أن لا يتعمد شيئا من الأمور المعينة إلي وقت الحلق
والتقصير بعد التلبية وما في معناها.
وكيف كان فالظاهر من الأقوال المتقدمة هو قول ابن إدريس، لما عرفته
من الدليل. وأما ما ذكره المحدث الأمين (قدس سره) فالظاهر بعده، لما
عرفته من الأخبار التي ذكرناها. ولأن أخبار نسيان الاحرام أو جهله لا تنطبق
على هذا المعنى الذي ذكره، إذ النسيان إنما يتعلق بالأفعال الوجودية لا بالأحكام
والحالات التي يتصف بها المكلف بعد نية الحج أو العمرة والاتيان بأول جزء منه
أو منها. والله العالم.
هذا آخر الجزء الرابع عشر من كتاب الحدائق الناضرة ويليه الجزء
الخامس عشر - إن شاء الله - في الاحرام. والحمد لله أولا وآخرا.
479