الكتاب: الحدائق الناضرة
المؤلف: المحقق البحراني
الجزء: ٢٠
الوفاة: ١١٨٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

الحدائق الناضرة
في
أحكام العترة الطاهرة
تأليف
العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني قدس سره
المتوفى سنة 1186 هجرية
الجزء العشرون
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الفصل العاشر في السلم
ويقال له السلف، وعرفوه بأنه بيع مضمون في الذمة مضبوط بمال
معلوم مقبوض في المجلس إلى أجل معلوم بصيغة خاصة، فالكلام في هذا الفصل
يقع في مقامين.
الأول في الشرائط، وهي الإيجاب والقبول، وذكر الجنس، وذكر الوصف
وقبض الثمن قبل التفرق، وتقدير المبيع والثمن بالكيل والوزن، واعتبار الأجل
بما لا يحتمل الزيادة والنقصان، وغلبة وجوده وقت الحلول.
وتفصيل الكلام في هذه الشروط يقع في مواضع، الأول الإيجاب والقبول،
ودليل وجوبهما ظاهر، لأن السلم قسم من أقسام البيع المتوقف على ذلك، وينعقد
الإيجاب بلفظ بعت، وكذا ينعقد بلفظ التمليك على ما ذكره بعض الأصحاب،
واستلمت منك كذا، وأما أسلفتك وأسلمت إليك، فهما من المشتري وكذا سلفتك
بالتضعيف.
قال في التذكرة: ويجئ سلمت إلا أن الفقهاء لم يستعملوه، وينبغي القول
2

بجوازه لدلالته صريحا على المقصود، ووروده لغة فيه، والايجاب بأحد هذه
العبارات من السلم وهو المشتري، والقبول حينئذ من السلم إليه، وهو
البايع، وهذا الحكم من خواص السلم بالنسبة إلى أقسام البيع، ومثله في
صحة الإيجاب من كل من المتعاقدين الصلح، وهل ينعقد البيع بلفظ السلم كما
ينعقد السلم به؟ بأن يقول أسلمت إليك هذا الدرهم في هذا الشئ قولان:
المشهور الجواز، ومثله على ما ذكره في القواعد ما لو قال البايع: أسلمت
إليك هذا الثوب في هذا الدينار، قالوا: ووجه الصحة إن البيع يصح بكل
ما أدى ذلك المعنى المخصوص، والسلم نوع من البيع، اعتبره الشارع في نقل
الملك، فجاز استعماله في الجنس مجازا تابعا للقصد، ولأنه إذا جاز استعماله لما
في الذمة المحتمل للغرر كان مع المشاهدة أدخل، لأنه أبعد من الغرر، إذ مع
المشاهدة يحصل العلم أكثر من الوصف، والحلول يتيقن معه إمكان التسليم والانتفاع
بخلاف الأجل، فكان أولى بالصحة، ووجه العدم أن لفظ السلم موضوع حقيقة
للنوع الخاص من البيع، فاستعماله في غير ذلك النوع مجاز، والعقود اللازمة
لا تثبت بالمجازات، ولأن الملك إنما ينتقل بما وضعه الشارع ناقلا، ولم يثبت جعل
الشارع هذا ناقلا في موضع النزاع، وفصل ثالث فقال: الحق أنا إن قلنا باختصاص
البيع بما يثبت شرعا من الألفاظ، لم يصح هنا، وإن جوزناه بكل لفظ دل صريحا
على المراد صح، لأن هذا اللفظ مع قصد البيع صريح في المطلوب، وكلام
الأصحاب في تحقيق ألفاظ البيع مختلف، والقول بعدم انعقاد البيع بلفظ السلم لا يخلو
من قوة.
أقول: وهذا التفصيل جيد إلا أنك قد عرفت مما حققناه آنفا في صدر الفصل
الأول في البيع في البحث عن الصيغة أنه لم يقم دليل على هذه الألفاظ التي اعتبروها
وعينوها وزعموا أن الشارع حصر النقل فيها على الكيفية التي ادعوها، بل المفهوم
من الأخبار أن كل ما دل من الألفاظ على التراضي من الطرفين فهو كاف في الصحة،
3

حتى تخطأ بعض المحدثين إلى الحكم بالجواز بمجرد الرضا وإن لم يقع
بالألفاظ، وظاهر هذا القائل الرجوع إلى ما ذكره من الوجه الأول وهو مردود بما قلناه والله العالم.
الثاني والثالث الجنس والوصف والمراد بالجنس هنا الفظ الدال على
الحقيقة النوعية، كالحنطة والشعير ونحوهما، والوصف هو الفارق بين أصناف ذلك
النوع، فلو أخل بهما أو بأحد هما بطل العقد، والوجه في ذلك مضافا إلى الأخبار
الآتية لزوم الغرر المنفي لو لم يذكر ويشير إلى ذلك جملة من الأخبار.
منها ما رواه في الكافي والتهذيب عن معاوية بن عمار (1) عن أبي عبد الله
عليه السلام " قال: قال رسول صلى الله عليه وآله: لا بأس بالسلم في المتاع
إذا سميت الطول والعرض ".
وما رواه في الكافي عن جميل بن دراج (2) في الصحيح أو الحسن
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول
والعرض ".
وفي موثقة سماعة (3) " قال: وسألته عن السلم في الحيوان إذا وصفته إلى
أجل معلوم فقال: لا بأس به ".
وفي صحيحة زرارة (4) المروية في الفقيه والتهذيب عن الباقر عليه السلام
" قال: لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض، وفي الحيوان إذا
وصفت أسنانه " وفي حسنة زرارة (5) وصحيحه المروية في الكافي عن أبي عبد الله
(عليه السلام) " قال: لا بأس بالسلم في الحيوان إذا وصفت أسنانها ".

(1) الكافي ج 5 ص 199.
(2) الكافي ج 5 ص 199.
(3) الوسائل الباب - 3 - من أبواب السلف الرقم 8
(4) الفقيه ج 3 ص 168 التهذيب ج 7 ص 41.
(5) الكافي ج 5 220.
4

وفي موثقة لزرارة (1) أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: لا بأس بالسلم في
في الحيوان إذا سميت سنا معلوما ".
وفي موثقة سماعة (2) المروية في الكافي " قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن
السلم في الحيوان قال: أسنان معلومة وأسنان معدودة إلى أجل معلوم لا بأس به ".
وقول أبي عبد الله عليه السلام في رواية ابن الحجاج الكرخي (3) " ومن اشترى
من طعام موصوف ولم يسم فيه قرية ولا موضعا فعلى صاحبه أن يؤديه ".
وفي صحيحة الحلبي (4) " قال سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الرجل يسلم في وصفاء
بأسنان معلومة ولون معلوم الحديث " إلى غير ذلك من الأخبار المتفرقة الآتي انشاء الله
تعالى جملة منها.
والضابط في الوصف أن كل ما يختلف لأجله الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله
عادة فإنه يجب ذكره، قالوا: والمرجع في هذه الأوصاف إلى العرف، فإنه ربما
كان العامي أعرف بها من الفقيه وحظ الفقيه فيها البيان الاجمالي، ثم إنه متى وصفه
فلا يبالغ في الوصف ويستقصي فيه، إذ ربما تعذر وجوده، فيبطل السلم، بل ينبغي
الاقتصار على ما يتناوله اسم الموصوف بالوصف الذي يزيل اختلاف أثمان الأفراد
الداخلة في ذلك المعين، فإن استقصى ذلك ووجد الموصوف صح السلم، وإلا بطل
كما ذكرناه.
قالوا: ولو شرط الأجود لم يصح لتعذره، إذ ما من فرد جيد إلا ويمكن أن
يكون فرد أجود منه فلا يتحقق حينئذ كون المدفوع من أفراد الحق، وكذا لو شرط
الأردأ لعين ما تقدم، وقيل هنا بامكان التخلص من ذلك بأن الأردأ وإن لم يمكن
الوقوف عليه لما عرفت من أنه لا فرد كذلك إلا ويمكن أن يكون فوقه ما هو أردأ

(1) الكافي ج 5 ص 1 - 22 عن عبيد بن زرارة و ص 222.
(2) الكافي ج 5 ص 1 - 22 عن عبيد بن زرارة و ص 222.
(3) الفقيه ج 3 ص 131
(4) الكافي ج 5 ص 221.
5

منه،
إلا أنه يمكن التخلص من الحق بدونه، وطريقه أن يدفع فردا من الأفراد، فإن
كان هو الأردأ فهو الحق وإن لم يكن كذلك كان قد دفع الجيد عن الردئ.
وهو جائز كما سيأتي انشاء الله تعالى ذكره، فيحصل التخلص، ولا يبطل العقد، بخلاف
ما لو شرط الأجود.
وأورد عليه بأنه وإن أمكن التخلص بالوجه المذكور، لكنه غير كاف في صحة
العقد، إذ الواجب تعيين المسلم فيه بالضبط بحيث يمكن الرجوع إليه، عند الحاجة
ويمكن تسليمه ولو بالقهر بأن يدفعه الحاكم الشرعي من مال المسلم إليه لو فرض
امتناعه من تسليمه، ومن الظاهر أن هذين الأمرين منتفيان عن الأردأ لأنه غير
متعين، فلا يمكن تسليمه، والجيد غير مستحق عليه، فلا يجوز للحاكم ونحوه دفعه من
ماله، وكذا لا يجب عليه مع المماكسة وحينئذ فيتعذر التخلص، وبه يظهران الأقوى
عدم الصحة في هذا الفرد أيضا كسابقه.
ولشيخنا الشهيد (عطر الله مرقده) في الدروس هنا كلام في ذكر أوصاف
جملة من المبيعات سلما لا بأس بذكره وإن طال به زمام الكلام في المقام، قال (قدس
سره) ولنذكر مما يعم به البلوى ثلاثة عشر، أحدها الرقيق، وليذكر فيه الذكورة
والأنوثة والنوع، واللون، والسن والقد كالطويل والقصير والربعة، ولو قدره بالأشبار
كالخمسة والستة احتمل المنع، لا فضائه إلى العزة ويحتمل وجوب ذكر الكحل
(1) والدعج (2) والزجج (3) وتكلثم الوجه في الجارية وكونها خميصة ريانة
اللمس، ثقيلة الردف، أو أضداد ذلك لتفاوت الثمن به وعدم عزته، والأقرب
تعيين البكارة والثيوبة في الأمة، فلو أطلق بطل، ولا يشترط ذكر الملاحة فلو ذكرها
روعي العرف ويحمل على أقل درجة، ويحتمل البطلان لعدم انضباطها، فإن مرجعها

(1) وكحلت العين كحلا من باب تعب وهو سواد يعلو جفونها خلقة.
(2) الدعج والدعجة: السواد في العين.
(3) الزجج: وهو تقويس في الحاجب مع طول في طرفه
6

إلى الاستحسان والشهوة المختلفين باختلاف الطبايع، ولا يجب التعرض لا حاد
الأعضاء لعدم تفاوت الثمن فيه بينا، وربما أدى إلى عزة الوجود، وكذا لو شرط
الولد مع الأم المقصود بها التسري، ولو قصدها الخدمة كالزنجية جاز لقلة التفاوت
وأولى بالجواز اشتراط كونها حاملا سواء كانت حسناء أو شوهاء، ومنع في المبسوط
منه لعدم إمكان ضبطه، ومنع ابن الجنيد من اشتراط الحمل في الحيوان كله،
والوجه الجواز ولا يجب وصف الحمل لأنه تابع.
وثانيهما الإبل فيذكر السن كالثني والذكورة والأنوثة واللون كالأسود و
الأحمر، والصنف كالعرابي والبخاتي، والنتاج إذا كان معروفا عام الوجوه كالعبادي.
وثالثها الخيل فيذكر الذكورة والأنوثة والسن والنوع والعربي والتركي.
واللون، ولو ذكر الشباب والهيئات كالأغر والمحجل واللطبم جاز وإن
لم يجب ذكرها.
ورابعها البقر والحمير، ويتعرض فيه للسن والنوع والذكورة والأنوثة
واللون والبلد.
وخامسها الطير ويتعرض فيه للنوع واللون وكبر الجثة أو صغرها، لأن سنها
غير معلوم، وكلما لم يعلم سنه يرجع فيه إلى البينة فإن فقدت، فإلى السيد إن كان
رقيقا صغيرا أو إلى الرقيق إن كان بالغا فإن فقد فإلى ظن أهل الخبرة:
وسادسها زوائد الحيوان كاللبن واللبأ والسمن والزبد والرايب (1) والصوف
والشعر والوبر فيتعرض في اللبن للنوع كالماغر والمرعى فإن قصد به الجبن أو
الكشك احتمل ذكر الزمان في الصفا والغيم، فإن لهما أثرا بينا في ذلك عند أهله
ويلزم عند الاطلاق حليب يومه، وفي اللبا ذلك ويزيد في اللون والطبخ أو عدمه
وفي السمن النوع كالبقري، واللون والحداثة والعتاقة وفي الجبن ذلك، والرطوبة
أو اليبوسة وكذا القريش والأقط، وربما وجب في القريش ذكر اليومي أو غيره

(1) الرايب: لبن الخاثر.
7

لتفاوته بذلك، وفي الزبد جميع ما تقدم ويتعرض في الصوف والشعر والوبر للنوع
والزمان والطول والقصر والنعومة والخشونة والذكورة والأنوثة إن ظهر لهما تأثير
في الثمن.
وسابعها الثياب ويذكر فيه النوع والبلد والعرض والصفافة والغلظ والنعومة
أو أضدادها ولا يجب ذكر الوزن لعسر ه، وله الخام عند الاطلاق وإن ذكر
المقصور جاز، فإن اختلف البلدان ذكر بلد القصارة كالبعلبكي والقبطي (1)
والروسي ويجوز اشتراط المصبوغ فيذكر لونه واشباعه أو عدمه ولا فرق بين
المصبوغ بعد نسجه أو قبله على الأقوى ومنع الشيخ إذا صبغ بعد غزله، لأن
الصبغ مجهول، ولأنه يمنع من معرفة الخشونة والنعومة وفي وجوب ذكر عدد
الخيوط نظر أقربه ذلك لاشتهاره بين أهله وتأثير في الثمن.
ثامنها الحرير والكرسف والكتان: ويذكر فيهما البلد واللون والنعومة
والخشونة ويختص الحرير بالغلظ أو الرقة، ويجوز السلف في جوز القز، فيذكر
اللون والطراوة أو اليبس والبلدة وأبطله الشيخ إذا كان فيه دود، لأن الحي يفسد
بالخروج، والميت لا يصح بيعة، قلنا هو كنوى التمر في بلد لا قيمة له فيه، والكرسف
بوجوب ذكر حلجه أو عدمه وقيل يحمل الاطلاق على عدمه وهو بعيد إلا مع
القرينة، ولو سلف في الغزل وجب ذكر ما سلف، واشتراط الغلظ ولدقة ولو أسنده
إلى غزل امرأة بعينها بطل.
تاسعها الحبوب والفواكه والثمار فيذكر في الحنطة البلد والحداثة والعتق
واللون والكبر والصغر والصرابة أو ضدها، ولا يشترط ذكر حصاد عام أو عامين،
وإن ذكره جاز وفي الشعير والقطنية (2) ذلك كله وفي التمر البلد والنوع والكبير

(1) القبطية: ثياب بيض من كتان يتخذ بمصر.
(2) القطنية بكسر القاف وسكون الطاء اسم جامع للحبوب التي تطبخ مثل العدس
والباقلا واللوبيا والحمص وغيرها.
8

والصغير والحداثة والعتاقة واللون إن اختلف النوع، وفي الرطب ذلك كله إلا العتاقة
ويجب المتعارف، ولو شرط المنصف أو المذنب لزم وفي الزبيب البلد والنوع
والكبر والصغر واللون إن اختلف نوعه، والمزيت أو غيره، وله الجاف من
التمر والزبيب الخالي من التفالة، ولا يجب تناهى الجفاف.
وفي الفواكه البلد والنوع والطراوة أو ضدها، واللون إن اختلف.
وفي الجوز الصنف والكبر والصغر والبلد والحديث أو العتيق، وله منزوع
القشرة العليا وكذا اللوز.
وفي الطلاء البلد والنوع والحديث والعتيق واللون والصفا والقوام، ويجب
كونه مما ذهب ثلثاه فصاعدا خاليا من التفل غير المعتاد، وإن ضم إليه ظروفه،
ويشترط كونها مما يصح فيه السلم فلو كانت من أديم احتمل المنع، لعسر وصفه،
والأقرب الجواز لعدم تعلق الغرض بجميع أوصافه.
وفي السيلان والمعصر البلد والنوع والقوام واللون، وفي الدبس كذلك
ولا يمنع منه سليس النار، ويجوز السلم في المصفر من الرطب والتمر ويوصف
بوصفهما.
وعاشرها العسل ويذكر فيه البلد والزمان واللون ويحمل الاطلاق على
المصفى لا الشهد، ويحمل المصفى على ما لم تمسه النار إلا أن يشترط ذلك.
وحادي عاشرها الخشب والحطب فيذكر النوع واليبس والرطوبة والطول
والثخن، ولا يجيئان في الحطب، نعم يذكر فيه الغلظ والدقة والوزن وفي خشب
العريش ذلك ويزيد السمع أو المعقد.
وثاني عاشرها الحجر واللبن والآجر، ففي الحجر النوع واللون والقدر
والوزن، وللطحن يزيد الرقة أو الثخن والبلد، وفي اللبن القالب المشهور،
والمكان الذي يضرب فيه وكذا في الآجر ويزيد فيه اللون
وثالث عشرها الآنية فيذكر النوع والشكل والقدر والطول والسمك والسعة
9

وكونه مصبوبا أو مضروبا والوزن، خلافا للشيخ ومدار الباب أبناء على الأمور
العرفية، وربما كان العوام أعرف بها من الفقهاء وحظ الفقيه البيان الاجمالي،
انتهى.
وأنت خبير بأن الظاهر من الأخبار المتقدمة ونحوها هو الاكتفاء بالوصف
في الجملة فإنها دلت في الحيوان على الاكتفاء بوصف الأسنان، وفي المتاع بوصف
الطول والعرض دون الاستقصاء في جميع الأوصاف كما هو ظاهر كلامهم، وإن
كان ما ذكروه أحوط.
إذا عرفت ذلك فهنا فوائد يجب التنبيه عليها الأولى المشهور جواز اسلاف
الأعراض في الأعراض إذا اختلفت، بل ادعي عليه المرتضى الاجماع، وكون الثمن
نقدا أو عرضا ما لم يؤد إلى الربا، وعن ابن الجنيد أنه منع من اسلاف عرض في
عرض إذا كانا مكيلين أو موزونين أو معدودين كالسمن بالزيت.
أقول: ويدل على ما ذهب إليه ابن الجنيد هنا ما رواه في الكافي والتهذيب
عن عبد الله بن سنان (1) في الصحيح " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أسلف
رجلا زيتا على أن يأخذ منه سمنا قال: لا يصلح ".
وما ورآه في الفقيه والتهذيب عن عبد الله سنان (2) في الحسن " قال:
سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول: لا ينبغي اسلاف السمن بالزيت ولا الزيت
بالسمن ".
ويدل على المشهور ما رواه في الفقيه والتهذيب عن وهب (3) " عن جعفر
عن أبيه عن علي عليه السلام قال: لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال، وما يكال
فيما يوزن " والشيخ جمع بين الخبرين الأولين والثالث، بحمل الخبرين الأولين
المذكورين أما على المنع من حيث كونهما متفاضلين، قال: لأن التفاضل بين الجنسين

(1) الكافي ج 5 ص 189 و 190 وروى الثاني الفقيه ج 3 ص 167.
(2) الكافي ج 5 ص 189 و 190 وروى الثاني الفقيه ج 3 ص 167.
(3) الفقيه ج 3 ص 167.
10

المختلفين إنما يجوز إذا كان نقدا، وإذا كان نسيئة فلا يجوز، وأما أن يكون على
الكراهة قال: ولأجل ذلك قال: " لا يصلح ولا ينبغي " ولم يقل أنه لا يجوز أو ذلك
حرام والأصحاب حملوها على الثاني لمنع ما ذكره الشيخ من التحريم في المتفاضلين
نسيئة كما تقدم في تحقيق المسألة المذكورة.
وأنت خبير بأن استعمال لا يصلح ولا ينبغي في التحريم في الأخبار أكثر
كثير. نعم هما في العرف الآن بمعنى الكراهة، ونقل عن ابن أبي عقيل أنه منع من
اسلاف غير النقدين، ولم نقف له على دليل، بل ظاهر جملة من الأخبار يرده
وأما اسلاف الأثمان في العروض فهو متفق عليه نصا وفتوى، وأما اسلاف الأثمان
وإن اختلفا فالظاهر أنه لا خلاف في عدم جوازه لدخوله في باب الصرف المشترط
فيه التقابض في المجلس.
نعم يأتي على ما تقدم نقله عن الصدوق في باب الصرف من عدم اشتراط ذلك
الصحة هنا إلا أنك قد عرفت ضعف القول المذكور، وفيه أيضا مع تماثل العوضين
مانع آخر، وهو الزيادة الحكمية في الثمن المؤجل باعتبار الأجل، فإن له حظأ
من الثمن، فيلزم الربا حينئذ.
الثانية قد ذكر جملة من الأصحاب للسلم ضابطة، وهي أن كلما ينضبط
وصفه يصح السلم منه، كالأشياء المعدودة في كلام صاحب الدروس، ومنعوا
من السلم في اللحم والخبر والجلود والنبل المعمول، والجواهر واللئالي، والعقار
والأرض، لتعذر الضبط، وناقش بعض محققي متأخر المتأخرين في هذا الضابط
قال هذا الضابط ظاهر، ولكن العلم بتحققه في بعض الجزئيات غير ظاهر،
والفرق مشكل.
نعم قد يوجد في بعض الأفراد، ولكن غير معلوم، لنا كليته، فإن الفرق
بين الحيوان ولحومه مشكل، وكذا بين اللحم والشحم حتى لا يصح في الأول
منهما ويصح في الثاني، وإن تخيل الفرق بينهما، ويمكن أن يقال بالصحة فيما
11

ينضبط في الجملة إلا ما ورد النهي عن مثله، وما علم التفاوت العظيم بين أفراده مثل
اللحم، فإنه ورد النهي عنه، ومثل اللؤلؤ الكبير فإن التفاوت بين أفراده باللون
والوضع كثير جدا بحيث يشكل ضبطه في العبارة، وكذا أكثر ما يباع عددا
مشاهدة كالبطيخ والباذنجان والقثاء والنارنج وغير ذلك. انتهى وهو جيد
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي
عن جابر (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال: سألته عن السلف في اللحم قال: لا تقربنه
فإنه يعطيك مرة السمين، ومرة التساوي ومرة المهزول واشتره معاينة يدا بيد،
قال: وسألته عن السلف في روايا الماء فقال: لا تقربنها فإنه يعطيك مرة ناقصة ومرة
كاملة، ولكن اشتره معاينة وهو أسلم لك وله " والظاهر من هذا الخبر أن النهي عن
السلم في هذين الجنسين المذكورين إنما هو من حيث عدم وفاء السلم إليه بما
اشترط عليه لا من حيث عدم الانضباط، ولهذا أن ظاهر بعض مشايخنا (رضوان الله
عليهم) جعل الخبر المذكور على الكراهة (2) وهو جيد.
وما رواه المشايخ الثلاثة عطر الله مراقدهم عن حديد بن حكيم (2) " قال: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: رجل اشترى الجلود من القصاب فيعطيه كل يوم شيئا معلوما قال:
لا بأس به " والخبر وإن كان مطلقا إلا أنه محمول على تعيين الأجل، وأما احتمال أن يكون المراد بقوله يعطيه في كل يوم شيئا يعني من الثمن، فيكون من باب النسية،
فالظاهر بعده، نعم يحتمل حمله على وقوع البيع حالا وإن تأخر التسليم، وأنه إنما
يعطيه آنا فآنا ويوما فيوما مع حصول التراضي، فإنه لا ينافي الحلول: وبعض الأصحاب

(1) الكافي ج 5 ص 222 الفقيه ج 3 ص 165
(2) قال (قدس سره) المشهور بين الأصحاب والمقطوع به في كلامهم عدم جواز
السلم في اللحم والخبز، والخبر مع ضعفه يمكن حمله على الكراهة بقرينة آخر الخبر،
مع أنه أضبط من كثير مما جوزوا السلم فيه انتهى. منه رحمه الله.
(3) الكافي ج 5 ص 322 مع اختلاف يسير الفقيه ج 3 ص 165.
12

استدل بهذا الخبر لما ذهب إليه الشيخ من جواز السلم في الجلود مع المشاهدة.
وفيه ما عرفت من الاحتمال الذي ذكرناه، إلا أنه قد روى في الكافي والتهذيب
عن أبي مخلد السراج (1) " قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام، فدخل عليه معتب فقال:
بالباب رجلان، فقال أدخلهما فدخلا فقال أحدهما: إني رجل قصاب وأني أبيع
المسوك (2) قبل أن أذبح الغنم؟ قال: ليس به بأس، ولكن أنسبها غنم أرض كذا
وكذا " وهذا الخبر كما ترى ظاهر في جواز السلم في الجلود، والمشهور في كلام
الأصحاب العدم، تمسكا بحصول الجهالة واختلاف الخلقة، وتعذر الضبط حتى
بالوزن، لا القيمة لئلا ترتبط به.
وعن الشيخ القول بالجواز مع المشاهدة (3) وأورد عليه أنه مع المشاهدة يخرج
عن السلم، لأن المبيع في السلم أمر في الذمة مؤجل إلى مدة، وأجيب بأن المراد
مشاهدة جملة كثيرة يكون المسلم فيه داخلا فيها، ولهذا لا يخرج عن السلم، لأن
المبيع غير معين، وإنما يخرج عن السلم مع تعيين المبيع، وكلام الشيخ أعم منه
فيمكن حمله على ما ذكرناه، أنت خبير بأن النص المذكور ظاهر في الجواز كما
عرفت فلا تسمع هذه المناقشات في مقابلته، وهو أيضا أحد الاحتمالين في الخبر

(1) الكافي ج 5 ص 201 التهذيب ج 7 ص 27.
(2) أي الجلود.
(3) قال في الخلاف: اختلفت روايات أصحابنا في السلم في الجلود
فروي أنه لا بأس به إذا شاهد الغنم، وروي أنه لا يجوز، ثم استدل على الجواز بآية البيع
وبأخبار المروية في ذلك وبالأصل الدال على الجواز مع انتفاء المانع، وقال في المبسوط
بجواز السلم في جلود الغنم إذا شاهدها وروي أنه لا يجوز وهو أحوط لأنه مختلف الخلقة
واللون ولا يمكن ضبطه بالصفة لاختلاف خلقته، ولا يمكن ذرعه ولا يجوز وزنه لأنه يكون
ثقيلا وثمنه أقل من ثمن الخفيف، وتبعه في الجواز ابن البراج في الكامل، ورجع
عنه في كتابه الآخر وابن إدريس ومن تأخر عنه عدا القول بالمنع. منه رحمه الله.
13

الأول كما عرفت، ولذلك عده في الوسائل في جملة أخبار السلم.
والعلامة قد نقل في المختلف الخبرين المذكورين حجة للشيخ، وأجاب عن
خبر مخلد السراج بضعف السند الذي قد عرفت في غير موضع أنه غير مرضي ولا متعمد
وعن الآخر بأنه لا دلالة فيه على بيع السلم، والظاهر أنه إشارة إلى ما ذكرناه من الاحتمال
في الخبر المذكور.
وأما الجواهر واللئالي فظاهر جملة من الأصحاب عدم الفرق فيها بين الكبار
والصغار، لاشتراك الجميع في علة المنع، وهو تعذر ضبطها على وجه يرتفع بسببه
اختلاف الثمن، وفرق آخرون فخصوا المنع بالكبار، لما ذكر من تفاوتها باعتبارات
لا تحصل بدون المشاهدة أما الصغار التي تستعمل في الأدوية والكحل ونحوها فهي
لا تشتمل على أوصاف كثيرة بحيث يختلف القيمة باختلافها، فيجوز السلم فيها وما ذكرناه
من التفصيل مثل المعاجين خيرة الشهيدين رحمهما الله وهو جيد.
وأما ما ذكروه من العقار والأرض فلم أقف فيه على خبر، إلا أن الحميري روى
فيقرب الإسناد عن علي بن جعفر (1) عن أخيه موسى عليه السلام قال: سألته عن السلم في
النخل قبل أن يطلع قال: لا يصلح السلم في النخل وفي موضع آخر قال " سألته عن الرجل
يسلم في النخل قبل أن يطلع قال: لا يصلح السلم في النخل " والظاهر أن المراد منه
ما هو ظاهره من كون السؤال عن السلم في العقار لا في الثمرة، إذ لا اشكال ولا خلاف
جوازه، فيكون الخبران المذكوران مستند لعدم جواز السلم في العقار، إلا أن
موردهما النخل كما ترى.
الثالثة شرط الشيخ في جواز السلم في البيض والجوز ضبطهما بالوزن
لاختلافهما، والأظهر الاكتفاء بالعد مع ذكر النوع الذي يقل الاختلاف فيه بحيث
يختلف الثمن باختلافه، ومنع الشيخ من السلم في جوز القز محتجا بأن في جوفه
دودا ليس مقصودا ولا فيه مصلحة، فإنه إذا ترك فيه أفسده، لأنه يقرضه ويخرج منه،

الوسائل الباب 1 - من أبواب بيع الثمار الرقم - 18 و 20.
14

وإن مات فيه لم يجز من حيث إنه ميتة، والأشهر الأظهر الجواز، لأن المقصود بالبيع
خال من هذه الموانع، والدود غير مقصود، وإنما هو بمنزلة النوى الذي
لا فائدة فيه.
ومنع الشيخ أيضا من السلم في الشاة معها ولدها، محتجا بأنه لا يوجد إلا نادر،
وكذا في الجارية الحامل لجهالة الحمل، وعدم إمكان وصفه، ورد الأول بامكان
الوصف بالصفات المعتبرة في السلم من غير أداء إلى عزة الوجود، والثاني باغتفار
الجهالة في الحمل، لأنه تابع، ووافقه العلامة في الجارية الحسناء مع والدها لعزة
وجودها، قبل وفي الفرق نظر.
وبالجملة فضابط المنع وعدمه عزة الوجود وعدمه، ويجوز الأسلاف في شاة
لبون، والمراد بها ما من شأنها ذلك، بأن يكون لها لبن، وإن لم يكن موجودا بالفعل حال
البيع، بل لو كان موجودا حال البيع لم يجب تسليمه، بل له أن يحلبه ويسلمها
بعد ذلك، وبالجملة فضابط اللبون ما يكون لها لبن يحلب في اليوم أو الليلة.
وأما الحامل فالمراد بها ما كان الحمل موجود فيها بالفعل، لا ما يمكن أن تحمل
فإن الحامل لا يطلق عرفا إلا على الأول، بخلاف اللبون، فإنه يطلق على ما يحلب في
اليوم أو الليلة لا ما كان موجودا بالفعل خاصة.
الشرط الرابع: قبض الثمن قبل التفرق فيبطل بدونه على الأشهر، بل نقل
في التذكرة عليه الاجماع، قال: فلا يجوز التفرقة قبله، وإن تفارقا قبل القبض
بطل السلم عند علمائنا أجمع، وظاهره أنه مع البطلان يحصل الإثم أيضا
وقد تقدم.
قولهم في الصرف أيضا بنحو ذلك. وقد بينا ما فيه ثمة ونقل عن ابن الجنيد
جواز تأخير القبض ثلاثة أيام، ولم أقف في الحكم المذكور على نص، والظاهر أن
دليل الأصحاب إنما الاجماع المدعى مع ما عرفت من خلاف ابن الجنيد، وكأنه
غير ملتفت إليه عندهم بناء على قاعدتهم من عدم الاعتداد بمخالفة معلوم النسب.
15

ولعله لعدم وجود النص هنا توقف صاحب البشرى (1) في الحكم المذكور كما
نقل عنه وهو في محله.
قالوا ولو قبض بعض الثمن خاصة، صح فيما يخصه من المبيع وبطل في
الباقي، ثم إنه لو كان عدم الاقباض بتفريط المسلم إليه وهو البائع فلا خيار له،
وإلا تخير لتبعيض الصفقة، ولو شرط تأجيل الثمن قالوا: بطل في الجميع، لجهالة
ما يوازي المقبوض واحتمل (2) في الدروس الصحة وأنه يقسط فيما بعد البيع سلعتين
فيستحق إحديهما.
ولو كان للمشتري دين في ذمة البايع فأراد جعله ثمنا فهنا صورتان إحديهما
أن يشترط ذلك في العقد بمعنى أن يجعل الثمن ما في الذمة بأن يقرنه بالباء، و
المشهور بين الأصحاب بطلان العقد لأنه بيع دين بدين، قالوا: أما كون المسلم
فيه دينا فواضح، وأما، الثمن الذي في الذمة فلأنه دين في ذمة المسلم إليه،
فإذا جعل عوضا للمسلم فيه الذي هو دين كما عرفت صدق بيع الدين بالدين،
وقيل بالجواز على كراهة وهو اختيار المحقق في الشرائع والعلامة في التحرير (3)
ووجهه أن ما في الذمة بمنزلة المقبوض.
الثانية المحاسبة به قبل التفرق، بمعنى أن يتقابضا في المجلس من غير أن يعينه

(1) هو السيد الفاضل أبو الفضائل أحمد بن طاوس أخ السيد رضي الدين علي بن طاوس
منه رحمه الله.
(2) ووجهه أنه بتأجيل البعض كما هو المفروض يبطل البيع في المؤجل لاشتراط
قبض الثمن قبل التفرق المنافي له، وإذا بطل البيع في المؤجل بطل في الحال لجهالة قسطه
من الثمن وإن جعل كلا منهما قسطا معلوما عين للمأجل خمسين من مائة لأن المعجل يقابل قسطا من
المبيع أكثر مما يقابله المؤجل بتعيين الثمن على الآجل والنسبة عند العقد غير معلوم منه رحمه الله
(3) حيث قال في التحرير ول شرط أن يكون الثمن بأجمعه من دين عليه فالوجه الكراهة
وقيل بالمنع، انتهى منه رحمه الله.
16

ثمنا لأنه استيفاء دين قبل التفرق، مع عدم ورود العقد عليه فلا يقصر عما لو أطلقا الثمن،
ثم أحضره في المجلس، وينبغي أن يعلم أنه إنما يفتقر إلى المحاسبة مع تخالفهما
جنسا أو وصفا أو هما معا، أما لو اتفق ما في الذمة وما عينه ثمنا فيهما وقع التهاتر قهريا
ولزم العقد، وظاهر شيخنا الشهيد في الدروس (1) الاستشكال في صحة العقد على
هذا التقديرين من حيث إن مورد العقد ين بدين، ورد بأن بيع الدين بالدين المنهي عنه
إنما يتحقق إذا جعلا جميعا في نفس العقد متقابلين في المعاوضة بمقتضى الباء و
هي هنا منتفية، لأن الثمن هنا أمر كلي، وتعيينه بعد العقد في شخص لا يقتضي كونه
هو الثمن الذي جرى عليه العقد، ومثل هذا التقابض والتحاسب استيفاء لا معاوضة،
ولو أثر مثل ذلك للزم مثله فيما لو أطلق ثم أحضره في المجلس، لصدق بيع الدين
بالدين ابتداء مع أنه لا يقول به.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا الفرع ما رواه الشيخ عن
إسماعيل بن عمر (2) " أنه كان لو على رجل دراهم فعرض عليه الرجل أن يبيعه
بها طعاما إلى أجل مسمى فأمر إسماعيل من يسأله، فقال: لا بأس بذلك قال: ثم
عاد إليه إسماعيل فسأله عن ذلك وقال: إني كنت أمرت فلا نا فسألك عنها فقلت:
لا بأس، فقال: ما يقول فيها من عند كم؟ قلت: يقولون: فاسد، قال: لا تفعله فإني
أوهمت ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن طلحة بن زيد (3) عن أبي عبد الله عليه السلام
" قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يباع الدين بالدين ".

(1) قان في الدروس: ولو أطلقا ثم تقابضا في المجلس فالظاهر الجواز ويقع التقابض
قهرا إن كان الجنس والوصف واحدا، ويلزم منه كون مورد العقد دينا بدين فيشكل انتهى
منه رحمه الله.
(2) الوسائل الباب - 8 - من أبواب السلف الرقم - 1.
(3) الكافي ج 5 ص 100 التهذيب ج 8 ص 189.
17

وما رواه عبد الله الجعفر الحميري في كتاب قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن
عن جده علي بن جعفر (1) عن أخيه موسى عليه السلام " قال: سألته عن السلم في الدين
قال: إذا قال اشتريت منك كذا وكذا بكذا وكذا فلا بأس ".
والكلام في هذه الأخبار مع أصل المسألة بتوقف على بيان مقدمة، هي أن
بيع الدين بالدين الممنوع منه كما دل عليه خبر طلحة هل هو عبارة عما كان دينا قبل
العقد كأن يكون العوضان دينا قبل العقد كما لو باعه الذي في ذمته بدين آخر له في
ذمته أيضا أو في ذمة ثالث أو تبايعا دينا في ذمة غريم لأحدهما بدين في ذمة غريم آخر
للآخر فيخص المنع بهذه الصورة، أو يشمل ما صار دينا بسبب العقد وإن لم يكن دينا قبله
كما إذا بيع بمؤجل في العقد، ويدخل ذلك في بيع الدين بالدين بناء على أن
الثمن مؤجل غير حال. المشهور الثاني، وقيل بالأول وهو اختيار شيخنا الشهيد
الثاني في كتاب الدين من الروضة إلا أنه ناقض نفسه في باب السلم من الروضة أيضا
في مسألة اشتراط قبض الثمن قبل التفرق أو المحاسبة به من دين عليه فقال بعد ذكر
المصنف " لو جعل الثمن نفس ما في الذمة بطل لأنه بيع الدين بالدين " ما لفظه أما كون
المسلم فيه فينا فواضح وأما الثمن الذي في الذمة فلأنه دين في ذمة المسلم إليه انتهى.
وفيه إنما صار دينا بالعقد لا قبله وهو في كتاب الدين قد منع من كون ذلك
من باب بيع الدين بالدين، حيث قال بعد قول المصنف " ويصح بيعه أي الدين
بحال لا بمؤجل ما صورته لأنه بيع الدين بالدين، وفيه نظر لأن الدين الممنوع
منه ما كان عوضا حال كونه دينا بمقتضى تعلق الباء به، والمضمون عند العقد ليس
بدين وإنما يصير دينا بعد، فلم يتحقق بيع الدين بالدين إلى آخر كلامه زيد في
اكرامه.

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب السلف الرقم - 3.
(2) أما المسلم فيه فظاهر وأما الثمن فلأنه أمر كلي ثابت في الذمة فهو دين وإن كان
غير مؤجل منه رحمه الله.
18

وسؤال الفرق متجه فإن المسلم فيه أيضا كذلك أنما يصير دينا بعد العقد
لا قبله، وبذلك يظهر أن الحكم بالبطلان في الصورة الأولى من الصورتين
المتقدمتين إنما يتجه على القول بالعموم، كما هو المشهور، وأما على القول
الآخر فلا، وحينئذ فموافقة الأصحاب في البطلان هنا غفلة عما اختاره، وخالفهم فيه
في تلك المسألة وعلى هذا فيمكن أن يقال: إن نفي البأس في خبر إسماعيل بن
عمر المتقدم إنما وقع بناء على القول الثاني الذي اختاره شيخنا المتقدم ذكره
من عدم دخول بيع الطعام سلما في الدين وإن صار دينا بعد العقد فلا يدخل
في بيع الدين بالدين، وحينئذ يصح البيع سواء كان الدارهم التي. جعلت ثمنا
حالة أو مؤجلة، ويحتمل على بعد، في الخبر المذكور أن وجه الصحة ونفي البأس
إنما هو من حيث الثمن، وأن تلك الدراهم التي في الذمة كانت حالة، والبيع إنما وقع
بعد حلولها، وأن بيع الطعام سلما داخل في الدين كما هو المشهور والصحة إنما
اتجهت من جهة كون الثمن حالا والمبيع وإن كان دينا لكن الثمن حال فلا يدخل
في بيع الدين بالدين، وإلى هذا الاحتمال جنح صاحب الوافي فذكر الخبر المشار
إليه في باب بيع الدين بالدين، وأما على ما ذكرناه فالأنسب به باب السلف كما
أوضحناه في حواشينا على الكتاب المذكور.
وأما خبر قرب الإسناد فالظاهر أن المراد بقوله وسألته عن السلم في الدين
في حال كون الثمن دينا وجوابه عليه السلام بنفي البأس " فيما إذا قال: اشتريت منك
كذا وكذا بكذا وكذا " فالظاهر أن مراده كون الثمن كليا في الذمة، لا عين ما في
الذمة وإلا لقال: بما في ذمتك وحينئذ يصير من قبيل الصورة الثانية المتقدمة، وتحصل
المقاصة والمحاسبة بعد العقد أو التهاتر والتساقط على الوجهين المتقدمين.
وأما رجوعه عليه السلام عما أفتى به أولا في رواية إسماعيل بن عمر ونسبة نفسه
إلى الوهم فإنما خرج مخرج التقية كما ينادي به سياق الكلام، وكيف كان فقد
عرفت أن أصل المسألة خال من النص، وبه ينقدح الاشكال في بعض فروع
19

المسألة، وإن كان الاحتياط في الوقوف على ما ذكروه والله العالم.
الشرط الخامس تقدير المبيع والثمن بالكيل والوزن، ولا خلاف فيه نصا
وفتوى لما تقدم في أحكام البيع المطلق وهذا أحد أقسامه.
ومن الأخبار هنا ما رواه المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم عن غياث بن
إبراهيم (1) عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عليه السلام " قال: قال أمير
المؤمنين عليه السلام لا بأس
بالسلف بكيل معلوم إلى أجل معلوم لا يسلم إلى دياس ولا إلى حصاد " والدياس
دق السنبل يخرج منه الحب.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد الحلبي (2) في الصحيح " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السلف في الطعام بكيل معلوم قال: لا بأس به ".
وما رواه في الفقيه عق صفوان بن يحيى عن عبد الله بن سنان (3) في الصحيح
والحسن بإبراهيم بن هاشم عن أبي عبد الله عليه السلام " قال سألته عن الرجل يسلم في غير زرع
ولا نخل قال: يسمى كيلا معلوما إلى أجل معلوم " الحديث.
وما رواه الشيخ عن الشحام (4) عن أبي عبد الله عليه السلام " في رجل اشترى من
رجل مئة من صفرا وليس عند الرجل شئ منه قال: لا بأس به إذا وفي بالوزن
الذي اشترط له " ورواه الصدوق بإسناده عن أبي الصباح الكناني (5) عن الكناني
عن أبي عبد الله عليه السلام مثله.
وفي صحيحة الحلبي (6) عن أبي عبد الله عليه السلام " والزعفران يسلم فيه الرجل
الدرهم في عشرين مثقالا أو أقل أو أكثر من ذلك قال: لا بأس " الحديث.

(1) الكافي ج 5 ص 184 الفقيه ج 3 ص 167 التهذيب ج 7 ص 27 و 28.
(2) الكافي ج 5 ص 184 الفقيه ج 3 ص 167 التهذيب ج 7 ص 27 و 28.
(3) الفقيه ج 3 ص 165.
(4) التهذيب ج 7 ص 44، بتفاوت الفقيه ج 3 ص 175.
(5) الفقيه ج 3 ص 179.
(6) الكافي ج 5 ص 186 الفقيه ص 166.
20

ولا بد في الكيل والوزن من المعلومية فيما يكال به ويوزن كما صرح به في رواية
غياث المتقدمة، وصحيحة محمد الحلبي، فلا يجزي ما كان مجهولا من مكيال أو
ضنج وإن تراضيا عليه، وقد تقدم الكلام في ذلك في البيع، وظاهر الأصحاب هنا
أنه لا فرق في ذلك بين ما يعتاد كيله ووزنه وما يعتاد بيعه جزافا كالحطب والقصب
والحجارة ونحوها، لأن المشاهدة ترفع الضرر، وفي السلم حيث كان ما سلم فيه
غايبا أو معدوما فلا بد من معلوميته بأحد الوجهين ليصح العقد عليه، فعلى هذا لا يجوز
السلم في القصب أطنابا ولا في الحطب حزما ولا في المجزور جزا لما عرفت من
اختلاف المذكورات الموجب للغرر في عقد السلف، بخلاف ما لو بيع مشاهدا
فإن المشاهدة ترفع الغرر عنه، ويجوز السلم في الثوب أذرعا وإن قلنا بجواز
بيعه مع المشاهدة بدون الذرع، لما عرفت من أن المشاهدة ترفع الغرر بخلاف
ما لم يشاهد، وهل يجوز الأسلاف في المعدود عددا قيل لا، لعدم انضباط المعدود
فلا يحصل العلم بقدره بدون الوزن، وقيل بالتفصيل عدم جواز ذلك في مثل الرمان
لحصول التفاوت في أفراده، وجواز ذلك في مثل الجوز واللوز والبيض لعدم التفاوت
في بعض وقلته في آخر بحيث يتسامح به.
وفي الدروس الحق البيض بالرمان الممتنع فيه، وعلى كل تقدير لا بد في البيض
من تعيين الصنف، ولا بد في الثمن أيضا أن يكون مقدرا بالكيل أو الوزن، فلا يكفي
مجهولا كقبضة من دراهم وصبرة من طعام، ولا يجوز الاقتصار على مشادته إذا
كان مما يكال أو يوزن أو يعد، أما لو كان مما يباع جزافا جاز الاقتصاد على مشاهدته
كما لو بيع، ولو كان الثمن من المذروعات كالثوب فهل يكتفي بمشاهدته عن ذرعه
كما لو بيع حسبما تقدم، فكذا إذا كان ثمنا أم لا بد من ذرعه، قطع الشيخ باشتراط ذرعه
وتوقف العلامة في المختلف واختار في المسالك بناءه على جواز بيعه كذلك فإن
قلنا به في البيع أجزناه هنا، وخالف المرتضى رضي الله عنه في ذلك كله فاكتفى
بالمشاهدة في الثمن مطلقا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا قال في المسائل
21

الناصرية حيث ذكر المسألة أن معرفة مقدار رأس المال شرط في صحة السلم، ما أعرف
لأصحابنا إلى الآن نصا في هذه المسألة، إلا أنه يقوى في نفسي أنه رأس مال السلم
إذا كان معلوما بالمشاهدة مضبوطا بالمعاينة لم يفتقر إلى ذكر صفاته ومبلغ وزنه و
عدده، هو المعمول عليه من قول الشافعي، ثم نقل عن أبي حنيفة القول بما عليه
الأصحاب من الاشتراط إذا كان مكيلا أو موزونا أو معدودا، والمشهور الأول وبه
صرح الشيخ في المبسوط والخلاف.
احتج العلامة في المختلف للقول المشهور قال: لنا إنه غرر فيكون منهيا
عنه، لأن النبي صلى الله عليه وآله (1) " نهى عن الغرر " ولأنه عقد لا يمكن اتمامه في الحال ولا تسليم
المعقود عليه، ولا يؤمن انفساخه فوجب معرفة مقدار رأس المال ليرد بدله، ولأنه
لولاه لأفضى إلى التنازع والشارع أرشد إلى المصالح النافية للتنازع، كالشهادة
وغيرها، ومعلوم أن الضرر الناشئ من تجهيل الثمن أشد من ضرر ترك الشهادة
ولأنه لا يؤمن أن يظهر بعض الثمن مستحقا فيفسخ العقد في قدره، فلا يدري كم بقي
وكم انفسخ.
ونقل عن المرتضى أنه احتج بما روي عن النبي (2) (صلى الله عليه وآله) " أنه قال: من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " فأذن النبي صلى الله عليه وآله
في السلم على هذه الصفات ولم يشترط سواها " ثم أجاب عنه بأنه بين أولا النهي
عن الغرر، ومن جملته جهالة الثمن، فالإذن في السلم بعدما بين أولا غير دال على ما ادعاه
انتهى. وحاصله أن الخبر مطلق يجب تقييده بما دل على النهي عن الغرر.
وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور لأنه الأنسب بالقواعد الشرعية و
الضوابط المرعية مع موافقته للاحتياط المطلوب في الدين كما لا يخفى على الحاذق
المكين.

(1) الوسائل الباب 40 من أبواب آداب التجارة الرقم 4.
(2) المستدرك ج 2 ص 478.
22

ويمكن أن يستدل على ذلك زيادة على ما ذكر بما رواه في الكافي عن أبي
مريم الأنصاري (1) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام " أن أباه لم تكن يرى بأسا بالسلم
في الحيوان بشئ معلوم إلى أجل معلوم " فإن الظاهر أن الشئ المعلوم عبارة عن
الثمن بمعنى أنه يشتريه سلما بشئ معلوم، ومن الظاهر أن المعلومية في المكيل
لا يتحقق إلا بكيله والموزون إلا بوزنه وهكذا في المعدود والله العالم.
الشرط السادس اعتبار الأجل بما الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلو ذكر أجلا
مجهولا كأن يقول: حتى أردت أو ما يحتمل الزيادة والنقصان كقدوم
الحاج أو ادراك الثمن كان كان باطلا، وقد تقدم ما دل عليه في رواية غياث بن
إبراهيم وصحيحة الحلبي وصحيحة عبد الله بن سنان أو حسنته ونحوها قوله عليه السلام
في رواية أبي مريم الأنصاري المتقدمة بشئ معلوم إلى أجل معلوم وفر له عليه السلام في
رواية قتيبة الأعشى (2) " أليس يسلم في أسنان معلومة إلى أجل معلوم قلت: بلى
قال: لا بأس " إلى غير ذلك من الأخبار المؤيدة باتفاق الأصحاب.
وتحقيق الكلام في هذا المقام يقع في مواضع الأول قال في الشرايع ولو
اشتراه حالا قيل يبطل، وقيل يصح، وهو المروي، لكن يشترط أن يكون عام الوجود في وقت
العقد أقول قال الشيخ في النهاية لو أخل بالأجل كان البيع غير صحيح، وفي الخلاف
السلم لا يكون إلا مؤجلا، ولا يصح أن يكون حالا وتبعه ابن إدريس وهو قول ابن أبي عقيل.
قال في المختلف بعد نقل ذلك والتحقيق أن نقول إن قصد السلم وجب
الأجل، وأما لو قصد الحال مثل أن يقول أسلمت إليك هذا الدينار في هذا الكتاب أو
في قفيز حنطة فالأقرب الصحة، وينعقد بيعا مطلقا، لا سلما، لنا أن البيع جزء من
السلم ويصح اطلاق اسم الكل على جزئه فإذا قصداه وجب انعقاده عملا بالقصد،
ولأنه عقد يصح مؤجلا فيصح حالا لبيوع الأعيان، ولأنه إذا جاز موجلا كان الحال

(1) الكافي ج 5 ص 220.
(2) الكافي ج 5 ص 220.
23

أولى بالجواز، لأنه من الغرر أبعد، ثم نقل عن الشيخ أنه احتج باجماع الفرقة،
وبالإجماع على الصحة مع الأجل، وما عداه لا دليل عليه، وبما رواه ابن عباس (1)
عن النبي صلى الله عليه وآله " أنه قال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم وأجل معلوم " والأمر
يقتضي الوجوب، ولأنه أمر بهذه الأمور تثبيتا للسلم، ولهذا لا يصح إذا انتفى الكيل
أو الوزن، فكذا الأجل، ثم أجاب بالقول بموجب هذه الأدلة قال: لأنا نسلم أن مع
قصد السلام يجب ذكر الأجل، وليس صورة النزاع، بل البحث فيما لو تبايعا حالا
بحال بلفظ السلم انتهى.
وظاهر كلامه (قدس سره) أن محل الخلاف في هذه المسألة صحة وبطلانا
إنما هو فيما إذا تبايعا بقصد الحلول، سواء صرح به في العقد أم لم يصرح به، فإنه هل
يكون بيعا كساير أفراد البيوع وإن وقع بلفظ السلم كما اختاره، أو يكون باطلا
بناء على أن وضع السلم على التأجيل، وأنت خبير بأنه على هذا التقدير يرجع إلى
الخلاف المتقدم في صدر البحث في أن البيع المطلق هل ينعقد باللفظ السلم أم لا،
فعلى القول بالانعقاد كما هو المشهور تثبت الصحة هنا، وعلى العدم العدم.
وظاهر عبارة المحقق المتقدمة أن موضع الخلاف إنما هو فيما إذا قصد السلم
لا البيع المطلق، وأخل بذكر الأجل على ذلك التقدير وأظهر منها عبارة الشهيد في
الدروس حيث قال: الثالث أن يكون المسلم فيه دينا (1) لأنه موضوع لفظ السلم لغة و
شرعا، فلو أسلم في عين كان بيعا، ولو باع موصوفا كان سلما نظرا إلى المعنى في الموضعين

(1) المستدرك ج 2 ص 487.
(2) قال المحقق الشيخ على في شرح القواعد - بعد قول المصنف الخامس كون المسلم
فيه دينا إلى آخره - ما لفظه وذلك لأن السلم لا يكون إلا مؤجلا، فإذا وقع حالا امتنع كونه
من أفراد السلم، وكون العين موصوفة لا يصيره سلما لانتفاء الأجل، ولكن سيأتي أنه لا بد
من التصريح بالحلول. انتهى وهو ظاهر في خلاف ما اختاره في الدروس من كون ذلك سلما
وأنه ليس الأجل شرطا في السلم مطلقا. منه رحمه الله.
24

وليس المانع من السلف في العين اشتراط الأجل الذي لا يحتمله العين، لأن الأصح
أنه لا يشترط الأجل، نعم يشترط التصريح بالحلول وعموم الوجود عند العقد، ولو
قصد الحلول ولم يتلفظا به صح أيضا، ولو قصد الأجل اشترط ذكره، فيبطل العقد
بدونه ولو أطلقا العقد حمل على الحلول انتهى.
وظاهره أن الأصح أنه لا يشترط الأجل في السلم بقول لجواز السلم
في العين حالا بالشرطين المذكورين، وإنما يشترط ذكر الأجل فيه فيما إذا قصد
التأجيل وخلاف الأصح هو اشتراط الأجل في السلم مطلقا، كما هو ظاهر كلام
الشيخ المتقدم ومن تبعه، واستجود في المسالك أن هذا هو محل الخلاف دون
الأول.
والظاهر أن الرواية التي أشار إليها في عبارة الشرايع هي ما رواه الصدوق في
الفقيه عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يشتري الطعام من الرجل ليس عنده، فيشترى منه حالا قال: ليس به بأس قلت:
إنهم يفسدونه عندنا، قال: وأي شئ يقولون في السلم؟ قلت: لا يرون به بأسا،
يقولون هذا إلى أجل، وإذا كان إلى غير أجل وليس عند صاحبه فلا يصلح، فقال:
إذا لم يكن أجل كان أجود، ثم قال: لا بأس بأن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه
إلى أجل، وحالا (2) لا يسمي له أجلا، إلا أن يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ
وشبهه في غير زمانه. فلا ينبغي شراء ذلك حالا ".

(1) الفقيه ج 3 ص 179 التهذيب ج 7 ص 49.
(2) الذي في التهذيب في هذه الرواية " قال: لا بأس بأن يشتري الطعام وليس هو
عند صاحبه إلى أجل، فقال لا يسمي له أجلا " فأبدل لفظ " وحالا " كما في الفقيه بلفظ
" فقال " ولا ريب أنه غلط من قلمه، والعجب أنه في الوافي نقل الرواية عن الكتابين
بلفظ (فقال) مع ما عرفت فيه من الاختلال، ولم ينبه على ما في الفقيه، وكذا في بعض نسخ
التهذيب أيضا وهو الأصح - منه رحمه الله.
25

أقول: والذي يقرب عندي أنه لا ثمرة في هذا الخلاف على كل من التقديرين
المذكورين، وملخص الكلام في المقام أنه أما إن قلنا بوقوع البيع بلفظ السلم
كما هو المشهور فلا مانع من (البيع) حالا بهذا اللفظ، وإلا فلا، وعلى هذا لو تبايعا
بهذا اللفظ بشرط الحلول بني في الصحة والبطلان على الخلاف المذكور، وأما لو
قصد السلم الذي هو عبارة عن شراء ما في الذمة فلا بد من الأجل ولا يصح بدونه كما
صرح به الشيخ وأتباعه، وإليه أشار في الدروس في صدر العبارة المنقولة، وأما قوله
في الدروس " وليس المانع من السلف في العين اشتراط الأجل " إلى آخره فإنه لا يخرج
عما ذكر ناه من جواز البيع والاشتراء بلفظ السلم كما هو المشهور، والرواية المذكورة
لا دلالة فيها على أزيد من جواز بيع الانسان ما ليس عنده بشرط أن يكون عام الوجود
وقت العقد، ومثلها في هذا المعنى أخبار عديدة ولا إشارة في شئ منها فضلا عن
التصريح بكون ذلك سلما.
نعم المفهوم من الأخبار أن البيع قد يقع على ما في الذمة من غير اشتراط
التأجيل بل قصد الحلول كما دلت عليه الأحاديث المذكورة، وقد يقع مع اشتراط
التأجيل وهو السلم المشهور وقد يقع على العين المشخصة الموجودة، فإن أريد
أن الأول من حيث كونه في الذمة يطلق عليه السلام كالثاني ويسمى سلما فلا مشاحة
في ذلك.
والثاني قالوا: ولا بد أن يكون الأجل معلوما للمتعاقدين على وجه يكون
مضبوطا في نفسه بما لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلا يكفي تعينه في نفسه بحيث يحتاج
إلى مراجعة غير هما في معرفته كالنيروز الذي هو عبارة عن انتهاء الشمس إلى أول
برج الحمل، وهو الاعتدال الربيعي، والمهرجان الذي هو عبارة عن انتهائها
إلى أول برج الميزان وهو الاعتدال الخريفي ولو قال: إلى جمادي فهل يحمل
على أقربهما ويكون العقد صحيحا أم لا لكون اللفظ مشتركا واحتمال الأمرين
متساويا فلا يمكن حمل الاطلاق على أحدهما وجهان بل قولان: للأول أنه قد
26

علق العقد على هذا الاسم وبدخول الأول من الشهرين يصدق الاسم فلا يعتبر غيره
فيكون الاطلاق دالا عليه بالتقريب المذكور فيحمل عليه ويصح العقد.
وللثاني ما تقدم من أن اللفظ مشترك ومحتمل لهما معا فلا يمكن حمل الاطلاق
على أحدهما، وهل يكون الحكم كذلك فيما لو شرط التأجيل إلى يوم معين من
أيام الأسبوع كالخميس والجمعة أم لا، فرق في التذكرة فحكم في اليوم بحمله على
الأول، لدلالة العرف عليه، وتردد في الأول، واحتمل في المسالك التساوي بينهما
في الحمل على الأول.
والتحقيق أن يقال: أنه إن كان فهم المتعاقدين متفقا على إرادة الأول فلا
اشكال في الصحة، وحمل اطلاقهما عليه، لأن قصد ذلك في قوة ذكره في اللفظ
وإلا كان باطلا، سواء اعتقد نقيضه أم لا لأن ما جعلا، من الأجل محتمل للزيادة
والنقصان فلا يمكن حمل الاطلاق على أحدهما.
الثالث يحمل الشهر على الهلالي إن اتفق التأجيل في أوله سواء كان ثلاثين
يوما أو أقل، وعلى ثلاثين يوما إن اتفق في الأثناء، ويعتبر في الأولية والأثناء
العرف لا الحقيقة لانتفائها غالبا أو دائما، إذ لا يتفق المقارنة المحضة لغروب الشمس
ليلة الهلال، فعلى هذا لا يقدح فيه نحو اللحظة، والظاهر أن الساعة غير قادحة
أيضا، أما نصف الليل فقد صرحوا بأنه قادح، فيرجع حينئذ إلى العدد.
ولو قال: إلى شهر كذا حل بأول جزء منه ليلة الهلال، والغاية وإن اختلفت
دخولا وخروجا (1) إلا أن العرف هنا قاض بالخروج فيحكم به لأنه المرجع حيث
لا حقيقة شرعية، كما أنه قاض بالدخول لو قال: إلى شهر وأطلق، فإنه يتمه بآخره
ويكون الغاية داخلة، والوجه فيه أنه لولا ذلك للزم خلو السلم عن الأجل.

(1) فإنها قد تكون داخلة، كما إذا قلت قرأت القرآن إلى آخره، وقد تكون
خارجة، كقوله سبحانه " فأتموا الصيام إلى الليل " وقد تكون محتملة لكل من الأمرين
كغسل اليد إلى المرفق منه رحمه الله.
27

ولو قال: إلى شهرين فإن كان في أول شهر فلا اشكال ولا خلاف في أنه يعد
شهرين هلاليين، لأن الأصل في الشهر عند الاطلاق هو الهلالي، وإنما يعدل عنه
إلى العددي عند تعذر حمله على الهلالي.
وإن كان في الأثناء فأقوال أحدها اعتبار الشهرين المذكورين بالهلالي،
أما الثاني فظاهر لوقوعه بأجمعه هلاليا، وأما الأول فلصدق معنى القدر الحاصل
منه عرفا كنصفه وثلثه مثلا، فيتم من الثالث قدر ما فات منه حتى لو كان ناقصا كفى
اكمال ما يتم تسعة وعشرين يوما، لأن النقص جاء في آخره، وهو من جملة الأجل
والثابت من الأول لا يختلف بالزيادة والنقصان، وهذا القول نقله المحقق في
الشرايع.
وثانيها اعتبار ما عدا الأول هلاليا وأنه يتمم الأول ثلاثين يوما، والوجه فيه
أما بالنسبة إلا ما عدا الأول فلصدق الهلالي، وقد عرفت أن الأصل في الشهر ذلك
وأما بالنسبة إلى أشهر الأول المكسور فلأنه باهلال الثاني لا يصدق عليه أنه شهر
هلالي فيكون عدديا، ولا يمكن اعتبار الجميع بالهلالي لئلا يلزم اطراح المنكسر
وتأخر الأجل عن العقد مع الاطلاق، وحينئذ فيكمل الأول ثلاثين يوما بعد انقضاء
المقصود من الهلالي من شهر أو كثر قال في المسالك وهو قول الأكثر.
أقول: وهو اختيار المحقق في الشرايع وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك
ونقله في المختلف عن الشيخ أيضا وهو الأوفق بالقواعد المقررة.
وثالثها انكسار الجميع بكسر الأول فيقدر الكل بالعدد ذهب إليه الشيخ في أحد
قوليه، ونفى عند البعد في المختلف قال: ولا أستبعد بكونها كلها عددية بناء على المتعارف
من الحمل عليه عند قرب الهلال، وفيه ما يأتي ذكره انشاء الله (تعالى)، والوجه في
هذا القول أن الشهر الثاني لا يعقل دخوله إلا بعد انقضاء الأول، فالأيام الباقية إما أن
لا تحتسب من أحدهما أو من الثاني وكلاهما محال، أو من الأول فلا يعقل دخول
الثاني حتى يتم الأول بعدد ما فات منه من الثاني فينكسر الثاني وهكذا، وفيه زيادة
28

على ما تقدم أن الأشهر الباقية يمكن اجراؤها على حكم الأصل، وهو الاعتبار بالهلال
إذ لا مانع منه فيتعين الحمل عليه، ولا يلزم اكمال الشهر الأول المنكسر من الذي يليه
بلا فاصلة لصدق الاكمال مما بعده سواء كان مما يليه أو يتأخر عنه، إذ لا محذور لازم
من الاكمال من غيره، بخلاف ما لو أكمل من الذي يليه فإنه يلزم اختلال الشهر
الهلالي مع إمكان اعتباره بالهلالي، ولأن الأجل إذا كان ثلاثة أشهر مثلا فبعد مضي
شهرين هلاليين وثلاثين يوما ملفقة من الأول والرابع يصدق أنه قد مضى ثلاثة
أشهر عرفا فيحل الأجل، وإلا كان أزيد من المشترط، ولأنه إذا وقع العقد في نصف
الشهر مثلا ومضى بعده شهران هلاليان يصدق أنه مضى من الأجل شهران ونصف،
فيكفي اكمالها خمسة عشر يوما لصدق الثلاثة معها، وهذا أمر ثابت في العرف حقيقة
والله العالم.
الشرط السابع غلبة الوجود وقت الحلول إذا اشترط الأجل كما هو الأشهر
الأظهر، والمراد غلبة الوجود في البلد الذي شرط تسليمه فيه، أو بلد العقد حين يطلق
على أحد الأقوال الآتية. أو فيما قاربه بحيث ينتقل إليه عادة، وظاهر الأكثر أنه
لا يكفي وجوده نادرا، وفي القواعد جعل الشرط إمكان وجوده (1) في ذلك
الوقت وهو يشعر بدخول النادر وتأولوه بما يرجع إلى قول الأكثر، ولم نقف
في أصل هذا الشرط على دليل واضح، بل ربما الظاهر من الأخبار ما ذكره القواعد
ولم أقف على مخالف لما ذكروه في هذا المقام سوى المحقق الأردبيلي طاب ثراه
حيث قال بعد قول المصنف " وغلبة وجوده وقت الحلول " ما لفظه هذا هو الثامن من
الشروط ودليله غير واضح بل الظاهر عدم ذلك والاكتفاء بامكان وجوده كما هو ظاهر

(1) قال المحقق الشيخ على في شرح القواعد: المراد بامكان وجوده كونه بحيث
يوجد كثيرا عادة بحيث لا يندر تحصيله، فالمراد بامكان وجوده عادة هو الذي لا يعز وجوده
انتهى، ولا يخفى ما فيه من التكلف والخروج عن ظاهر العبارة. منه رحمه الله.
29

عبارة القواعد والتذكرة على ما نقل في شرح الشرايع (1) بمعنى القدرة على تسليم
المبيع حين الأجل بناء على ظنه، كما تشعر به عبارة الدروس حيث جعل الشرط القدرة
على التسليم عند الأجل ويؤيده ما في موثقة عبد الرحمان بن الحجاج (2) عن أبي
عبد الله (عليه السلام) " قال: لا بأس بأن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل،
وحالا لا يسمى أجلا إلا أن يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبه في غير زمانه
فلا ينبغي شراء ذلك حالا ".
وصحيحة زرارة (3) " قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل اشترى طعام قرية
بعينها؟ فقال: لا بأس إن خرج فهو له وإن لم يخرج كان دينا عليه.
ورواية خالد بن الحجاج (4) عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يشتري طعام
قرية بعينها، وإن لم يسم له قرية بعينها أعطاه من حيث شاء ".
وهما يدلان على جواز اشتراط القرية المعينة، والمشترطون غلبة وجود
المسلم فيه لا يقولون به، بل صرحوا بأنه لو شرطت بطل السلم، ويظهر أن ظن الوجود
وإمكانه حين الأجل في الجملة يكفي، ولا شك في حصول الظن بحصول غلة
قرية وإن كانت صغيرة، بل ولو أرضا معينة قليلة، ولهذا يتكل صاحبها على غلة
تلك الأرض، ولا يزرع غيرها ظنا بأنه يحصل له منها غلة، ويبيع ويشتري رجاء
للوفاء منها، وكذا غزل امرأة معينة، ولا اعتبار بامكان موتها لحصول الظن بالحياة
للاستصحاب، ولهذا يكتب إليها كتابة ويبعث إليها هدايا بعد الغيبة بمدة طويلة

(1) أقول الموجود في شرح الشرايع إنما هو النقل عن القواعد، وأما
عن التذكرة فليس فيما حضرني من نسخ المسالك له أثر ولعله كان في النسخ
التي كانت عنده (قدس سره) والله العالم: منه رحمه الله.
(2) الفقيه ج 3 ص 179 التهذيب ج 7 ص 49.
(3) الوسائل الباب - 12 - من أبواب السلف الرقم - 1 الفقيه ج 3 ص 132.
(4) الكافي ج 5 ص 187 التهذيب ج 7 ص 39.
30

وبمثل هذا جعل الاستصحاب دليلا فعدم صحة مثله على ما قالوه محل التأمل انتهى
وهو جيد وجيه.
المقام الثاني في الأحكام
وفيه مسائل الأولى اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط
ذكر موضع التسليم في العقد مع اعتراف جملة منهم بأنه لا نص فيه على أقوال: أحدها
اشتراطه مطلقا، وهو مذهب الشيخ في الخلاف، وتبعه عليه جمع ممن تأخر
عنه، واستقر به الشهيد (رحمة الله عليه) وعللوه بأن مكان التسليم مما يختلف فيه
الأغراض، ويختلف باختلافه الثمن والرغبات، فإنه قد يكون بعيدا من المشتري
ولا يرغب في تكثير الثمن، ولا في الشراء على بعض الوجوه، وقد يكون قريبا
فينعكس الحكم، وكذا القول في البايع.
أقول فيه ما أشرنا إليه في غير مقام مما تقدم من أن مثل هذه التعليلات لا تصلح لتأسيس
الأحكام الشرعية، على أنه لو صلح كون ذلك علة كما ذكروه لما خفي على الأئمة
(صلوات الله عليهم) فكيف لم ينبهوا عليه، ولم يذكروا في شروط السلم موضع
التسليم، كما ذكروا غيره مما تقدم ذكره، أرأيت أنهم (رضوان الله عليهم) اهتدوا
إلى ما لم يهتد إليه الأئمة (صلوات الله عليهم) على تطاول مدتهم وأزمانهم، ولم
يهتد إليه أحد من نقلة أخبارهم، بل الحق أن ذلك أنما هو من باب اسكتوا عما
سكت الله عنه، كما في جملة من الأخبار (1).

(1) وهكذا ما ذكروه أيضا من أن المطالبة بالمبيح فرع ثبوته في الذمة واستحقاق
المطالبة وذلك في السلم المؤجل غير معلوم، لأنه إنما يكون عند الحلول، ولا يعلم
في أي مكان يتحقق الحلول على البايع، ولهذا يفرق بينه وبين القرض حيث الصرف
إلى مكان العقد وكذا البيع لا يلزم مثله في بيع النسيئة لخروجه بالاجماع على عدم
اشتراط تعيين محله. وإلا لكان الدليل قائما فيه فلا يلحق به المختلف فيه انتهى
وفيه أن ما ذكروه كله مبني على ما اصطلحوا عليه وذكروه في التعليلات التي من
هذا القبيل وإلا فلا نص في شئ من ذلك والواجب مع الحلول ما حل عليه في أي
مكان كان وفي سلف أو بيع أو قرض، والفرق بين بعضها وبعض في الأمكنة لا أعرف
عليه دليلا واضحا والله العالم منه رحمه الله.
31

وثانيها عدمه مطلقا وهو ظاهر الشيخ في النهاية واختاره العلامة في التحرير
والارشاد والمحقق في الشرايع وجمع آخرون وهو ظاهر ابن أبي عقيل على ما نقله
في المختلف ووجهه مضافا إلى أصالة العدم اطلاق الأوامر بالوفاء بالعقود " وحل
البيع " والاجماع على عدم اشتراطه في باقي أنواع البيع وإن كان مؤجلا وهذا
هو الأظهر عندي.
واختار هذا القول ابن إدريس وادعى عليه الاجماع؟ قال: وليس من شرط
صحة السلم ذكر موضع التسليم بغير خلاف بين أصحابنا والأصل براءة الذمة وقوله
تعالى " وأحل الله البيع " وهذا بيع وقوله " أوفوا بالعقود " وما ذكره الشيخ
في الخلاف لم يذهب إليه أحد من أصحابنا ولا ورد به خبر عن أئمتنا (عليهم السلام)
وإنما هو أحد قولي الشافعي اختاره شيخنا أبو جعفر (رحمة الله عليه) ألا تراه في
استدلاله لم يتعرض باجماع الفرقة ولا أورد خبرا في ذلك لا من طريقنا ولا من طريق
المخالفين.
واعترضه العلامة في المختلف فقال: ومن العجب قول ابن إدريس أنه
لا يشترط بغير خلاف بين أصحابنا، مع وجود ما نقلناه من الخلاف بين أصحابنا
وقوله الأصل براءة الذمة يعارضه أصالة بقاء المال على صاحبه، " وأحل الله البيع "
مصروف إلى البيع الصحيح دون الفاسد، ونحن نمنع من صحة المتنازع فيه.
وكذا قوله تعالى " أوفوا بالعقود " ونسبة ما ذكره الشيخ في الخلاف إلى
أحد قولي الشافعي وليس قولا لا حد من أصحابنا يدل على قلة معرفته بمواضع
الخلاف، وقوله لم يوجد في أحاديث أصحابنا ولا غيرهم ممنوع، لأنهم عليهم السلام نصوا
32

على اشتراط الوصف، وهو يتناول المكان، لأن الأين من جملة الأوصاف اللاحقة
بالماهية، فكون الشيخ لم يستدل بالاجماع ولا بالأخبار لا يدل على بطلان الحكم،
لامكان الاستدلال عليه بغيرها انتهى.
أقول: لا يخفى عليك ما فيه من الوهن الظاهر لكل ناظر، ولا سيما معارضته
لا صالة براءة الذمة بأصالة بقاء المال على صاحبه، فإن هذه الأصالة يجب الخروج
عنها بالأدلة العامة والخاصة بالسلف، من الآيات والروايات الدالة على حل البيوع،
وصحتها بجميع أنواعها وخصوصا أخبار بيوع السلف حيث أنها خالية عن ذلك إلا
ما قام الدليل الواضح على فساده، وكان الواجب عليه إقامة الدليل على فساد البيع في
موضع البحث، ليتجه له تخصيص تلك الأدلة، وإلا فتخصيصها بمجرد الدعوى
مصادرة محضة، ومجازفة ظاهرة، وأضعف من ذلك دعواه دلالة الأخبار على
ذلك، بتقريب أنها دلت على اشتراط الوصف، والمكان من جملة الأوصاف، فإن
الوصف عندهم إنما هو عبارة عما يفرق به بين أصناف النوع كما تقدم ذكره في
كلام الدروس.
ولهذا أنهم عدوا من الشروط الوصف على حدة، وعدوا ذكر موضع التسليم
على حدة، على أنك قد عرفت مما أشرنا إليه آنفا أنه ليس في الأخبار ما يدل على
استقصاء الأوصاف على الوجه الذي ذكروه، حتى أنه يتعدى إلى ما يحمله
هنا، وادعى أنه من جملة الأوصاف، وبالجملة فإن كلامه (قدس سره) إنما هو
محض تعصب على ابن إدريس كما هو عادته، وقبله المحقق " عطر الله مرقديهما "،
من الرد عليه غالبا بما هو حق تارة وباطل أخرى.
وثالثها التفصيل بأنه إن كان في حمله مؤنة وجب تعيين محل حمله، وإلا فلا،
وذهب إليه الشيخ في المبسوط وابن حمزة، ووجهه ظاهر مما تقدم في القول الأول،
فإن الأغراض إنما تختلف في محل يفتقر إلى المؤنة، وأما غيره فلا، وفيه ما أوردناه
على القول الأول.
33

ورابعها التفصيل أيضا لكن بنحو آخر، وهو أنه إن كانا في برية أو بلد غربة
قصدهما مفارقته اشترط تعيينه، وإلا فلا، اختاره العلامة في القواعد والمختلف،
والوجه فيه ما ذكره في المختلف قال: لنا إنهما متى كانا في برية أو بلد لا يجتمعان
فيه لم يمكن التسليم في مكان العقد، ويتعين غيره، وليس أحد الأمكنة أولى من
الآخر، وذلك يفضي إلى التنازع لجهالته، وأما إذا كانا في بلد يجتمعان فيه فإن
اطلاق العقد يقتضي التسليم في بلده، ولأن في تعيين المكان غرضا ومصلحة لهما
فالأشبه تعيين الزمان.
أقول: وفيه ما تقدم في القول الأول، ويزيد هنا بأن مبنى الاشكال الذي أوجب له
القول بالتفصيل المذكور هو ما ذكروه من أن اطلاق العقد يقتضي وجوب التسليم
في مكان العقد، وهذا مما لم نقف له على دليل من النصوص، لا بالعموم ولا
الخصوص، بل الواجب مع حلول الدين هو الأداء في أي مكان كان، وسيأتي
انشاء الله تعالى ما فيه مزيد ايضاح لما ذكرنا وبيان.
وخامسها أنه إن كان لحمله مؤنة أو لم يكن المحل صالحا كالقرية اشترط
تعيينه وإلا فلا، وهو خيرة العلامة في التذكرة، ووجهه مركب من القولين السابقين
عليه.
قال في المسالك بعد نقل الأقوال المذكورة (1): ولكل من الأقوال وجه، إلا
أن الأخير يضعف السابقين عليه، ويبقى الاشكال في ترجيح أحد الثلاثة، فأصالة
البراءة وحمل الاطلاق في نظائره على موضع العقد يرجح الأول، واختلاف
الأغراض وعدم الدليل الدال على تعيين موضع العقد في المتنازع يؤيد الثاني،
ووجه الأخير ظاهر ولا ريب أن التعيين مطلقا أولى، وأنا في ترجيح أحدهما من

(1) أقول صورة نقل شيخنا المذكور للأقوال حسبما ذكرنا إلا أنه جعل الأول
هو الثاني والثاني أولا وباقي الأقوال الثلاثة حسبما أوردناه من الترتيب وبه ينكشف
غشاوة الاجمال عن عبارته التي نقلناها في الأصل. منه رحمه الله.
34

المترددين انتهى.
أقول والتحقيق أن ما ذكروه من هذه التعليلات فيما عدا القول الأول غاية
ما تفيده الأولوية دون الوجوب كما يدعونه، فإن الأحكام الشرعية من الوجوب
والتحريم ونحوهما لا تثبت بمثل هذه التخريجات، بل لا بد فيها من التعليل الشرعي
الواضح من آية أو رواية، وإلا كان قولا على الله بغير علم، وقد استفاضت الآيات
والروايات بالمنع منه والزجر عنه، والتحقيق عندي في هذا المقام هو ما ذكره
المحقق الأردبيلي (قدس سره) وإن كان قد هجس بفكري قبل الوقوف على كلامه
(قدس سره) حيث قال بعد قول المصنف " وليس ذكر موضع التسليم شرطا " ما صورته:
دليل عدم الاشتراط هو عموم أدلة جواز هذا البيع وخصوصها مع خلوها عن
سبب اشتراط ذكر موضع التسليم مع عدم المانع، والجهالة واحتمال النزاع و
اختلاف الأغراض يندفع بانصرافه إلى موضع يقتضيه العرف، كما في ساير البيوع
والعقود خصوصا النسيئة.
نعم الأحوط ذلك خصوصا مع وقوعه في موضع يعلمان مفارقته قبل حلول
الأجل، أو يحتاج نقله إلى مؤنة ولم تكن عادة، فإن كان مقتضى العادة والقرينة
شيئا وإلا انصرف إلى موضع الحلول، لأن مقتضى العد وجوب تسليم المبيع عند
الحلول في أي مكان كان مع وجود المسلم فيه عادة، وعدم قرينة إرادة خلافه،
ولكن ظاهر كلام الأصحاب أن موضع التسليم موضع العقد، فإن كان لهم دليل من
الاجماع وإلا فالظاهر ما مر لما مر. انتهى وهو جيد نفيس.
المسألة الثانية لو أراد بيع ما أسلف فيه فهنا صور، إحديها بيعه قبل حلول
الأجل حالا، والظاهر أنه لا خلاف في عدم الجواز لعدم استحقاقه له (1).

(1) أقول عبائر جملة الأصحاب حتى الأصحاب المتون أنه لا يجوز بيعه
قبل حلوله وهو أعم من أن يكون المبيع حالا أو مؤجلا، والثمن أيضا حالا أو
مؤجلا، وقال في المهذب: الدين المؤجل منع ابن إدريس من بيعه مطلقا
وادعى عليه الاجماع، وأجاز العلامة بيعه على من هو عليه، فيباع بالحال لا بالمؤجل
انتهى، وتعليل المحقق المشار إليه في الأصل في الصورة الثانية بلزوم منع من الدين
إنما يتجه فيما إذا كان الثمن مؤجلا وأما لو كان نقدا فلا، والمدعى في كلامهم
أعم من ذلك كما عرفت - منه رحمه الله.
35

وثانيها الصورة المذكورة إلا أنه يبيعه مؤجلا، وظاهر الأصحاب العدم أيضا،
قال بعض المحققين بعد نقل ذلك عنهم: وكان دليله الاجماع، واحتمال دخوله
تحت بيع الدين بالدين، ثم قال: فتأمل خصوصا على من هو عليه، لأنه مقبوض
له انتهى.
وثالثها بيعه بعد الحلول وبعد القبض، ولا خلاف في صحة البيع.
ورابعها بعد الحلول وقبل القبض، والمشهور أنه يجوز بيعه من البايع بزيادة
ونقصان، سواء كان من جنس الثمن أم لا، ومنع الشيخ في التهذيب من بيعه بعد
الأجل بجنس الثمن مع الزيادة، وبه قال ابن الجنيد وابن أبي عقيل وابن البراج
وابن حمزة، والروايات في هذه الصورة لا يخلو من اختلاف، فالواجب أولا نقل
ما وصل إلينا منها ثم الكلام فيما يحصل به الجمع بينها.
الأولى ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام من اشترى طعاما أو علفا
إلى أجل فلم يجد صاحبه وليس شرطه إلا الورق، فإن قال: خذ مني بسعر اليوم
ورقا فلا يأخذ إلا شرطه، طعامه أو علفه، فإن لم يجد شرطه وأخذ ورقا لا محالة قبل أن
يأخذ شرطه فلا يأخذ إلا رأس ماله، لا تظلمون ولا تظلمون " وروى هذه الرواية في الإستبصار
باسقاط قوله فلم يجد إلى قوله فإن لم يجد وهو أوضح.
الثانية ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (2)

(1) التهذيب ج 7 - ص 32 الإستبصار ج 3 ص 75.
(2) الكافي ج 5 ص 220 التهذيب ج 7 ص 32.
36

عن أبي جعفر عليه السلام " قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أعطى رجلا
ورقا في وصيف إلى أجل مسمى فقال له صاحبه: لا أجد لك وصيفا خذ مني قيمة
وصيفك اليوم ورقا قال: لا يأخذ إلا وصيفه أو ورقه الذي أعطاه أول مرة لا يزاد
عليه شيئا ".
الثالثة ما رواه في التهذيب عن الحلبي (1) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام
" قال: لا بأس بالسلم في الحيوان إذا سميت الذي تسلم فيه فوصفته، فإن وفيته وإلا
فأنت أحق بدراهمك ".
الرابعة ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن الحلبي (2) عن أبي عبد الله
عليه السلام " أنه سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلى أجل
مسمى قال: لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه، أن يأخذ صاحب
الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم ".
الخامسة ما رواه الشيخ عن علي بن جعفر (3) " قال: سألته عن رجل له على آخر
تمر أو شعير أو حنطة أيأخذ بقيمته دراهم؟ قال: إذا قومه دراهم فسد، لأن الأصل
الذي يشتري به دراهم، فلا تصلح دراهم بدراهم ".
السادسة ما رواه في التهذيب عن يعقوب بن شعيب (4) في الصحيح " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل يسلف في الحنطة والتمر بمئة درهم فيأتي
صاحبه حين يحل له الذي له فيقول: والله ما عندي إلا نصف الذي لك فخذ مني إن
شئت بنصف الذي لك حنطة، وبنصفه ورقا فقال: لا بأس إذا أخذ منه الورق كما
أعطاه "

(1) التهذيب ج 7 ص 41.
(2) الكافي ج 5 ص 221.
(3) التهذيب ج 7 ص 30 و 32.
(4) التهذيب ج 7 ص 30 و 32.
37

السابعة ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبان (1) عن بعض،
أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام، " في الرجل يسلف الدارهم في الطعام إلى أجل
فيحل الطعام فيقول: ليس عندي طعام، ولكن انظر ما قيمته فخذ مني ثمنه قال:
لا بأس بذلك ".
الثامنة ما رواه الشيخ عن الحسن بن علي بن فضال (2) " قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام الرجل يسلفني في الطعام فيجئ الوقت وليس عندي طعام أعطيه
بقيمته دراهم؟ قال: نعم ".
التاسعة ما رواه عن علي بن محمد (3) " قال: كتبت إليه رجل له على رجل
تمر أو حنطة أو شعير أو قطن فلما تقاضاه قال: خذ بما لك عندي دراهم يجوز ذلك
له أم لا؟ فكتب عليه السلام: يجوز ذلك عن تراض منهما انشاء الله تعالى ".
العاشرة ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن
سنان (4) " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام، إلى أن قال: أرأيت إن أوفاني بعضا وعجز عن
بعض أيجوز أن آخذ بالباقي رأس مالي؟ قال: نعم ما أحسن ذلك ".
الحادي عشر ما رواه أيضا عن سليمان بن خالد (5) في الصحيح " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يسلم في الزرع فيأخذ بعض طعامه ويبقى
بعض، لا يجد وفاء فيعرض عليه صاحبه رأس ماله؟ قال: يأخذه فإنه حلال "
الحديث.
الثانية عشر ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (6) عن أبي عبد الله عليه السلام
" فإن: سألته عن رجل أسلفته دراهم في طعام فلما حل طعامي عليه بعث إلي بدارهم فقال:

(1) التهذيب ج 7 ص 30 والكافي ج 5 ص 185 و 187.
(2) التهذيب ج 7 ص 30 والكافي ج 5 ص 185 و 187.
(3) التهذيب ج 7 ص 44.
(4) الكافي ج 5 ص 185 التهذيب ج 7 ص 41.
(5) الكافي ج 5 ص 185 و 186 التهذيب ج 7 ص 29 و 30.
(6) الكافي ج 5 ص 185 و 186 التهذيب ج 7 ص 29 و 30.
38

اشتر لنفسك طعاما فاستوف حقك، قال: أرى أن يولي، ذلك غيرك وتقوم معه
حتى تقبض الذي لك ولا تتولى أنت شراءه ".
الثالثة عشر ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله (1)
في الموثق " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أسلف دراهم في طعام فحل الذي
له فأرسل إليه بدارهم فقال: اشتر طعاما واستوف حقك، هل ترى به بأسا؟ قال:
يكون معه غيره يوفيه ذلك ".
الرابعة عشر ما رواه في التهذيب عن يعقوب بن شعيب (2) في الصحيح
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن الرجل يكون له على الرجل أحمال من رطب
أو تمر فيبعث إليه بدنانير فيقول: اشتر بهذه واستوف منه الذي لك قال لا بأس إذا
ائتمنه " ورواه في الفقيه عن صفوان عن يعقوب بن شعيب، قال سألت أبا جعفر
عليه السلام، مثله.
الخامس عشر ما رواه في التهذيب والفقيه عن ابن بكير (3) في الموثق
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن رجل أسلف في شئ يسلف الناس فيه من الثمار
فذهب زمانها ولم يستوف سلفه قال: فليأخذ رأس ماله أو لينظره ".
السادس عشر ما رواه في التهذيب عن ابن حجاج الكرخي (4) عن أبي
عبد الله عليه السلام، " قال: كل طعام اشتريته في بيدر أو طسوج فأتى الله عليه فليس
للمشتري إلا رأس ماله، ومن اشترى من طعام موصوف ولم يسم فيه قرية ولا موضعا
فعلى صاحبه أن يؤديه " ورواه في الفقيه مرسلا.

(1) الكافي ج 5 ص 186 والتهذيب ج 7 ص 30.
(2) التهذيب ج 7 ص 42 مع اختلاف يسير الفقيه ج 3 ص 164.
(3) التهذيب ج 7 ص 31 الفقيه ج 3 ص 165.
(4) التهذيب ج 7 ص 39 الفقيه ج 3 ص 131.
39

السابع عشر: ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي (1) في الصحيح " قال:
سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل يسلف دراهم في خمسة مخاتيم حنطة أو شعير
إلى أجل مسمى وكان الذي عليه الحنطة والشعير لا يقدر على أن يقضيه جميع الذي
له إذا حل فشاء صاحب الحق أن يأخذ نصف الطعام أو ثلثه أو أقل أو أكثر ويأخذ رأس ماله
ما بقي من الطعام دراهم؟ قال: لا بأس به وسئل عن الزعفران يسلم فيه الرجل دراهم
في عشرين مثقالا أو أقل من ذلك أو أكثر قال: لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الزعفران
أن يعطيه جميع ماله أن يأخذ نصف حقه أو ثلثه أو ثلثيه ويأخذ رأس مال ما بقي من
حقه دراهم " ولفظ دراهم في آخر الخبر في الفقيه دون الكتابين الآخرين.
الثامن عشر ما رواه في الكافي والفقيه عن العيص بن القاسم (2) عن أبي عبد الله
عليه السلام " قال: سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل
لم يكن عنده طعام ووجد عنده دوابا ودقيقا ومتاعا أيحل له أن يأخذ من عروضه تلك
بطعامه، قال: نعم يسمى كذا وكذا بكذا وكذا صاعا " هذا جملة ما حضرني من
الأخبار، والمشهور بين الأصحاب في هذه المسألة هو جواز البيع على من عليه الحق
وغيره بزيادة أو نقيصة، وإن كان على كراهية في المكيل والموزون، لأن هذه المسألة
عندهم أحد جزئيات مسألة بيع الشئ قبل قبضه، وقد تقدم الكلام عليها في
فصل بيع النقد والنسية والمشهور بينهم ثمة هو الجواز على كراهية في المكيل
والموزون فجروا هنا على ذلك، وقد عرفت آنفا أن المختار في تلك المسألة هو
التحريم، وفاقا لجمع من المتقدمين ولشيخنا الشهيد الثاني من المتأخرين.
ولكن أخبار هذه المسألة كما سيظهر لك انشاء الله مما يؤذن بمغايرة المسألتين،
ويعضده أن مورد أخبار هذه المسألة كلها على كثرتها واختلافها مخصوصة بالبيع
على من عليه الدين، بخلاف أخبار تلك المسألة فإنها بعد ضم مطلقها إلى مقيدها ومجملها

(1) الكافي ج 5 ص 186 التهذيب ج 7 ص 29 الفقيه ج 3 ص 166.
(2) الكافي ج 5 ص 186 الفقيه ج 3 ص 165.
40

إلى مفصلها ظاهرة في البيع على الغير، ويدل على القول المشهور الخبر السابع
والثامن والتاسع، فإنها ظاهرة في الجواز بزيادة أو نقيصة.
ويؤيده أيضا أنه كساير أمواله له الاختيار في بيعها بزيادة عما اشترى أو نقيصة،
إلا أن جل الأخبار المتقدمة قد منعت من الزيادة على رأس المال صريحا في بعض
وظاهرا في آخر، وهذا مما يؤذن بالمغايرة بين المسألتين أيضا، والأصحاب
رضوان الله عليهم لم ينقلوا إلا صحيحتي محمد بن قيس، وحملوهما على كراهة
البيع قبل القبض، أو الاستحباب:
والأقرب في الجمع بين الأخبار المذكورة إنما هو حمل ما دل على أخذ رأس
المال خاصة - والمنع من الزايد على ما إذا فسخ العقد الأول (1) لتعذر المبيع كلا أو
بالنسبة إلى ما تعذر منه من نصفه أو ثلثه، فإنه في هذه الحال لا يجوز أخذ الزايد على
رأس المال، لاستلزامه الربا، والأخبار الدالة على القول المشهور على ظاهرها من
بقاء المبيع من غير فسخ، فله بيعه بما شاء زيادة ونقيصة.
وأما ما دل عليه الخبر الثاني عشر والثالث عشر من النهي عن الشراء بالدراهم
المرسلة إليه إلا أن يكون معه آخر يشتري ويوفيه فهي محمولة على خوف التهمة،
بدليل الخبر الرابع عشر، لا ما حمله عليه في الوافي من فسخ البيع والوقوع في
الربا، فإن ظاهر الأخبار الثلاثة أنه أرسل إليه الدراهم وجعله وكيلا عنه في الاشتراء
والاقباض، ولكن حصل النهي في بعضها للعلة التي ذكرناها، كما أفصح به

(1) وإنما حملت الأخبار المذكورة على فسخ العقد لأن الحق الثابت في
الذمة إنما هو الجنس الذي أسلم فيه، فالواجب دفعه أو قيمته إن كان قيميا أو مثله
إن كان مثليا، فإن هذا هو مقتضى القواعد الشرعية، لكن لما دلت هذه الأخبار
على خلاف ذلك من أخذ رأس المال خاصة فلا بد من حملها على فسخ العقد،
لتعين أخذ رأس المال خاصة، ولا يجوز الزيادة حينئذ لوقوع الربا بذلك.
منه رحمه الله.
41

البعض الآخر.
واستند الشيخ فيما تقدم نقله عنه إلى الخبر الخامس، قال في التهذيب بعد ايراد
الخبر السابع والثامن ثم الخبر الخامس قال محمد بن الحسن: الذي أفتى به ما تضمنه
الخبر الأخير من أنه إذا كان الذي أسلف فيه دارهم لم يجزله أن يبيع عليه بدراهم، لأنه
يكون قد باع دراهم بدارهم.
وربما كان فيه زيادة ونقصان، وذلك ربا، ولا تنافي بين هذا الخبر والخبرين
الأولين، لأن الخبر الأول مرسل غير مسند، ولو كان مسندا لكان قوله " انظر ما قيمته
على السعر الذي أخذت مني " فإنا قد بينا أنه يجوز له أن يأخذ القيمة برأس ماله من غير
زيادة ولا نقصان، والخبر الثاني أيضا مثل ذلك، وليس في واحد من الخبرين أنه
يعطيه القيمة بسعر الوقت وإذا احتمل ما ذكرناه فلا تنافي بينهما على حال، على أن
الخبرين يحتملان وجها آخر وهو أن يكون إنما جاز له أن يأخذ الدراهم بقيمته إذا
كان قد أعطاه في وقت السلف غير الدراهم، ولا يؤدي ذلك إلى الربا لاختلاف
الجنسين انتهى.
ولا يخفى بعد ما ذكره، سيما الاحتمال الأخير فإن أحد الخبرين المذكورين
في كلامه وهو مرسلة أبان صريح في كونه أسلف دراهم، وقد اعترضه في هذا
الاستدلال بعض من تأخر عنه، بأن الخبر الذي استند إليه يدل على خلاف ما ذهب
إليه، فلا يصح له الاعتماد عليه، لأنه عليه السلام منع من التقويم بالدراهم مطلقا
سواء كان بقدر الثمن أو أقل أو أزيد، والشيخ قد جوز بالمساوي فما يدل عليه
الحديث باطلاقه لا يقول به، وما يقول به لا يدل عليه الخبر، إذ لا دلالة للعام على الخاص
فلا يمكنه الاحتجاج به وهو جيد.
وكيف كان فإن روايات المسألة كلها متفقة على الجمع الذي قدمنا ذكره (1)

(1) أقول وملخص الكلام في أخبار هذا الباب بعد الجمع بينها كما ذكرناه
في الأصل أن جملة منها قد دل على أنه الفسخ يرجع إلى رأس ماله ومع عدم
الفسخ فإن بعضها دل بأنه يبيعه عليه بما شاء كما هو القول المشهور، وبعضها دل على أنه يعطيه دراهم يشتري بها وكالة عنه ويقبض جنسه الذي اشتراه من وجه طلبه،
وبعضها دل على أنه مع قبض بعض له الفسخ في الباقي وأخذ رأس ماله، وبعضها
دل على أنه يجوز عوض سلفه عروضه يكون قيمة سلفه، والجميع موافق لمقتضى
الأصول والقواعد ولم يخرج من تحت رواية علي بن جعفر لما عرفت في الأصل
منه رحمه الله.
42

وأما هذه الرواية فهي مخالفة للقواعد الفقهية المتفق عليها نصا وفتوى، فإنه بالبيع
قد استحق المال المسلم فيه وصار ماله، يتصرف فيه كيف شاء، سواء اشتراه بدراهم
أو عروض، وله بيعه بما شاء من الدراهم والعروض، إلا أن يفسخ البيع، فيلزم رأس
المال خاصة.
وأما مع عدم الفسخ فلا وجه للمنع من تقويمه بالدراهم، وكون المدفوع في
قيمته دراهم وبيعه الآن بدراهم لا يوجب ذلك الربا، لأنه أنما باع المتاع الذي أسلم
فيه لا الثمن الذي دفعه قيمة، وأما ما دل عليه الخبر الخامس عشر فسيأتي الكلام فيه في
محله انشاء الله تعالى.
وبالجملة فالظاهر من الأخبار المذكورة بمعونة الجمع الذي قدمنا ذكره
أنه مع عدم فسخ البيع الأول فله أن يبيع ما في ذمة المسلم إليه بما أراد من
زيادة ونقيصة عليه أو على غيره، لأنه ماله يتصرف فيه كيف شاء ولا مانع من ذلك شرعا
إلا ما ربما يتخيل مما تقدم في مسألة البيع قبل القبض، وأن المختار ثمة هو التحريم
كما دل عليه جل روايات تلك المسألة.
والجواب عن ذلك أن الظاهر عندي هذه المسألة غير مترتبة على تلك،
بل هي مسألة على حيالها كما لا يخفى على المتأمل في أخبار المسألتين وموضوع
أخبار هذه المسألة إنما هو بيع مال السلم على من هو عليه، وأخبار تلك المسألة إنما هو
الشراء على غير وجه السلم وبيعه على الغير قبل قبضه كما لا يخفى على المتأمل
43

فيها وإن اشترك الجميع في كونه بيعا قبل القبض، والمختار عندنا هنا هو الجواز
كما عرفت من الأخبار التي أشرنا إليها، وهي الخبر السابع والثامن والتاسع
بالتقريب المتقدم، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني اختيار التحريم هنا بناء على اختياره
التحريم في تلك المسألة كما قدمنا نقله عنه (1) وهو غفلة عن ملاحظة روايات
هذه المسألة المذكورة فإنها صريحة في الجواز كلا وإنما اختلفت في الزيادة عن
رأس المال منعا وتجويزا وإلا فأصل البيع لا خلاف فيه لا في الأخبار ولا في كلام
الأصحاب بخلاف روايات تلك المسألة، فإنها مختلفة في جواز البيع و
عدمه، وجل الأخبار على العدم، كما رجحناه ثمة، والظاهر أن الكراهة التي

(1) حيث قال بعد قول المصنف " ويجوز بيعه على من هو عليه وعلى
غيره وإن لم يقبضه على كراهية: ما صورته هذا إذا كان بما يكال أو يوزن " أما لو كان
مما يعد ففي الكراهية نظرا، لعدم الدليل، وقد تقدم في ذلك وأن الأقوى التحريم
إذا كان طعاما أو إذا كان مما يكال أو يوزن على ما فصل انتهى.
وهو ظاهر في بناء هذه المسألة على تلك المسألة فإن قوله وقد تقدم الكلام
إشارة إلى ما قدمه في تلك المسألة وأن عنده التحريم هنا وأن من اختار في تلك
المسألة الكراهية اختار الكراهية هنا أيضا وأنت خبير في الجميع فإن الكراهية التي
جمعوا بها بين أخبار تلك المسألة راجعة إلى أصل البيع حيث إن أخبار تلك المسألة
اختلفت في صحة البيع وبطلانه.
وأما أخبار هذه المسألة فلم يختلف في أصل البيع وإنما اختلفت في الثمن
فالكراهة إنما ترجع إلى الثمن وزيادته على رأس المال لا إلى أصل البيع، فإنه
لا دلالة في شئ من هذه الأخبار على بطلان البيع وإنما قيد المنع من الزيادة على
رأس المال وفي رواية علي بن جعفر المنع من خصوص الدراهم وهم حملوا
على الكراهة وعلى ما ذكرناه من الجمع باعتبار الفسخ العقد وعدمه فلا يحتاج إلى
ما ذكروه وبالجملة فإن كلامه هنا مبني على تلك المسألة وغفلته عن روايات هذه
المسألة والله العالم - منه رحمه الله.
44

ذكرها القائلون بالجواز في هذه المسألة حيث إنهم صرحوا بجواز بيع
السلم على من هو عليه على كراهية، إنما استندوا فيها إلى أخبار تلك المسألة
لاختلافها في جواز البيع قبل القبض وعدمه، فجمعوا بينها بالكراهة، وإلا فأخبار
هذه المسألة على كثرتها متفقة على الجواز، وإنما اختلفت في الزيادة على رأس
المال.
والظاهر أن السبب في ذلك كله هو ادراجهم هذه المسألة تحت تلك المسألة
والغفلة عن ملاحظة أخبار هذه المسألة مع كثرتها وتعددها، والتحقيق بالنظر إلى
أخبار كل من المسألتين هو تغاير الحكمين، وأن الأظهر في هذه المسألة هو الجواز
للأخبار المتقدم ذكرها بلا كراهة بناء على ما جمعنا به بين أخبارها، في تلك
المسألة هو التحريم لما قدمناه فيها والله العالم.
تذنيبان: الأول المشهور بين الأصحاب أنه إذا حل الأجل وتأخر التسليم
لعارض.
ثم طالب المشتري بعد انقطاعه كان بالخيار بين الفسخ والصبر ونقل عن
ابن إدريس انكار الخيار في هذه المسألة، تمسكا بأن العقد ثابت بالاجماع، وآية
" أوفوا بالعقود " وأنه لا دليل على فسخه، ويدل على القول المشهور الخبر الخامس
عشر من الأخبار المتقدمة، وهو نص في الباب.
ويؤيده الأخبار المذكورة ثمة الدالة على جواز أخذ رأس المال، فإنك
قد عرفت أنها محموله على فسخ العقد، مع أن ظاهرها أن المسلم فيه غير معدوم
يومئذ وإن لم يوجد عند البايع فإذا جاز الفسخ مع وجوده، فمع تعذره بطريق
أولى، وبه يظهر بطلان ما ذهب إليه ابن إدريس، وقيل في المسألة قول ثالث،
وهو أنه لا يفسخ ولا يصبر بل يأخذ قيمته الآن، قال في المسالك: وهو حسن لأن
الحق هو العين، فإذا تعذرت رجع إلى القيمة حيث يتعذر المثل.
أقول لا ريب أن هذا القول هو الموافق للأصول الشرعية، والقواعد المرعية
45

ويؤيده الأخبار المتقدمة الدالة على القول المشهور، وهو بيعه على من هو عليه،
وأخذ قيمته يومئذ، إلا أن موثقة ابن بكير المذكور ظاهرة الدلالة على القول
المشهور هنا والمسألة لا تخلو عن شوب الاشكال، قالوا: لو كان العارض
الموجب لتأخر التسليم من جهة المشتري مع بذل البايع، فإنه لا فسخ لاستناد الفوات
إلى تقصير، قالوا: والخيار ليس على الفور، وحينئذ لا يسقط بالتأخير بل قيل إنه لو صرح بالامهال لم يسقط وتوقف في الدروس.
ولو قبض البعض قالوا: تخير بين الصبر به وبين فسخ العقد من أصله
لتبعيض الصفقة التي هي عيب عندهم، وإن لم نقف لها على دليلا إذ المسلم فيه
إنما هو المجموع، وقد تعذر، فتبعيضه ضرر عليه، وبين الفسخ في المختلف خاصة
لأنه الذي تعذر فله الرجوع إلى ثمنه، لأن الصبر ضرر لا يلتزم به، ويدل على هذا
الوجه الثالث - من الأخبار المتقدمة - الخبر الرابع، والخبر العاشر، والحادي عشر
والسابع عشر.
الثاني قد عرفت في صدر المسألة أن من جملة صورها بيع السلف على من هو
عليه، أو على غيره قبل حلوله، يعني حال كونه دينا وأنه لا خلاف بينهم في عدم
الجواز، لعدم استحقاقه له يومئذ، وظاهرهم أن ذلك أعم من أن يبيعه حالا أو مؤجلا
للعلة المذكورة، وظاهر المحقق ذكره ثمة أن دليلهم الاجماع، مع أنه
في المسالك نقل عن العلامة في التذكرة القول بالجواز، وإليه يميل أيضا كلامه في
المسالك مستندا إلى أنه حق مالي إلى آخر ما يعتبر في البيع فينبغي أن يصح بيعه
على حالته التي هو عليها، وإن لم يجز المطالبة قبل الأجل. ثم اعترض على نفسه بأنه ربما
أشكل بعدم إمكان قبضه الذي هو شرط في الصحة، ثم أجاب بمنع اشتراط إمكان
القبض حين العقد، بل إمكانه مطلقا ويمكن تحققه بعد الحلول، كما لو باعه عينا
غائبة منقولة لا يمكن قبضها إلا بعد مضي زمان يمكن فيه الوصول إليها.
أقول والاشكال المذكور إنما يتوجه إذا كان البيع على غير من عليه الحق،
46

وإلا فلو كان على من هو عليه فإنه مقبوض، لكونه في ذمته، وإلى ذلك يميل أيضا
كلام المحقق الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني في حواشيه على شرح اللمعة على
ما نقله عنه ابنه الشيخ محمد، حيث أن شيخنا المشار إليه جرى في الكتاب المذكور
على القول المشهور، فقال: وأما بيعه قبل حلوله فلا، لعدم استحقاقه حينئذ، فكتب
عليه ابنه المحقق المذكور إن أريد بالاستحقاق استحقاق أصل الملك على أن المراد
أنه لا يملك أصل المسلم فيه إلا بعد الأجل فتوجه المنع إليه ظاهر، وإن أريد به عدم
استحقاقه المطالبة، فمنع ذلك البيع غير واضح انتهى: ثم إن ابنه الشيخ محمد كتب
على ما ذكره أبوه الجواب نختار أشق الثاني ومنعه البيع واضح، لاشتراط القدرة
على التسليم انتهى.
أقول وكأنه غفل عما ذكره جده في المسالك، ولم يقف عليه من الجواب
عما ذكره، وإليه يميل أيضا كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد وهو الذي عبرنا
عنه ببعض المحققين في صدر المسألة، وقد تقدم كلامه في صدر المسألة، وبالجملة
فالمسألة لخلوها عن النص لا يخلو عن اشكال، وإن كان ما ذكره هؤلاء المحققون
ظاهر القوة خصوصا في البيع على من هو عليه، وكذا في صورة ما لو كان البيع مع
تأجيل المبيع إلى المدة المضروبة أولا، وإن كان على غير من هو عليه، لحصول الاستحقاق
بعد المدة.
ثم إن ظاهر القول المشهور من المنع من بيعه قبل حلوله أنه لا فرق بين أن يكون الثمن حالا أو مؤجلا، لما عرفت من التعليل المذكور في كلامهم، وهو عدم
الاستحقاق، وأما على القول بالجواز فلا اشكال في صحته بالحال، مشخصا كان
أو مضمونا، ولا اشكال أيضا في عدم الصحة لو كان الثمن دينا قبل العقد، للزوم بيع الدين
بالدين المنهي عنه، وإنما الكلام فيما لو شرط تأجيله في العقد بمعنى أنه إنما يكون
دينا بعد العقد لا قبله، فظاهر جملة من الأصحاب دخوله في بيع الدين بالدين،
والظاهر أنه المشهور.
47

وظاهر جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة العدم، قال في المسالك
بعد قول المصنف في مسألة بيع الدين بعد حلوله بما شرط تأجيله قيل يبطل، لأنه بيع
دين بدين، وقيل يكره، وهو الأشبه ما لفظه:
وأما بيعه بمؤجل فقد ذهب جماعة إلى المنع منه، اعتمادا على أن
المؤجل يقع عليه اسم الدين، وفيه أنهم إن أرادوا اطلاق اسم الدين عليه قبل العقد،
وحالته فظاهر منعه، لأنه لا يعد دينا حتى يثبت في الذمة، ولا يثبت إلا بعد العقد، فلم
يتحقق بيع الدين بالدين، وإن أرادوا أنه دين بعد ذلك لزم مثله في المضمون
الحال، ولا يقولون ببطلانه، وأما دعوى اطلاق اسم الدين على المؤجل قبل ثبوته
في الذمة دون الحال فهو تحكم.
والحق أن اسم بيع الدين بالدين لا يتحقق إلا إذا كان العوضان معا
دينا قبل المعاوضة، كما لو باعه الدين الذي في ذمته بدين آخر له في ذمته، أو في ذمة
ثالث أو تبايعا دينا في ذمة غريم لأحدهما بدين في ذمة غريم آخر للآخر، ونحو
ذلك لاقتضاء الباء كون الدين نفسه عوضا، والمضمون الذي لم يكن ثابتا في الذمة
قبل ذلك لا يعد جعله عوضا بيع دين بدين، وأما ما يقال: اشترى فلان كذا بالدين،
مريدين به أن الثمن في ذمته لم يدفعه، فهو مجاز يريدون به أن الثمن بقي في ذمته دينا
بعد البيع، ولولا ذلك لزم مثله في الحال لا طلاقهم فيه ذلك نعم. الدين المبيع يطلق
عليه اسم الدين قبل حلوله وبعده، فلا بد في المنع من دين آخر يقابله، فظهر أن ما اختاره
المصنف من جواز ذلك على كراهية أوضح. انتهى وهو جيد، إلا أن ما ذكره من أن الدين
المبيع كالسلم مثلا يطلق عليه اسم الدين بعد الحلول أيضا وإن كان هو الظاهر من كلام
غيره من الأصحاب أيضا، إلا أن الدين لغة كما صرح به جملة من أرباب اللغة مخصوص
بالمؤجل دون الحال، قال في القاموس: الدين ماله أجل، وما لا أجل له فقرض.
وقال في النهاية الأثيرية فيه أنه نهى عن الكالئ أي النسية، بالنسيئة وذلك أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول بعينه
48

إلى أجل آخر بزيادة شئ فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض.
وقال في كتاب الغريبين قوله تعال " إذا تداينتم بدين) الدين ما له أجل،
والقرض ما لا أجل له، وهو عين ما ذكره في القاموس، إلا أن الظاهر من كلام الفيومي
في المصباح المنير خلاف ذلك، قال بعد ذكر كلمات جملة من أهل اللغة في مادة
الاشتقاق: تشتمل على اطلاق الدين على القرض، ثم ذكر قوله سبحانه " إذا تداينتم
بدين " أي تعاملتم بدين من سلم وغيره: ما لفظه فثبت بالآية وبما تقدم أن الدين لغة
هو القرض، وثمن البيع إلى آخره، وربما ظهر منه الاختصاص بما ذكره،
والحال كما ترى لا يخلو من الاشكال، ومثله يأتي فيما ألزمهم به من اطلاق الدين
على المضمون الحال، فإنه يمكن الجواب عنه بأنه بناء على ما ذكره من تخصيص
الدين بالمؤجل لغة لا يرد ما أورده، إلا أن يكون مراده الاطلاق عرفا كما هو ظاهر
سياق الكلام، وكيف كان فالمسألة لا تخلو عن شوب الاشكال كما تقدمت الإشارة
إليه والله العالم.
المسألة الثالثة إذا دفع دون الصفة ورضي المشتري فلا اشكال في الجواز،
وبراءة ذمة البايع، وإن دفع فوق الصفة فظاهر الأصحاب وجوب قبوله، أما لو دفع
أكثر لم يجب قبول الزيادة.
قال في المسالك: الفرق بين العين والصفة أن زيادة الصفة لا تنافي عين الحق،
بل تؤكده، إذا المفروض كونه مساويا للحق في النوع وغيره، ويزيد الصفة، أما
العين فهي خارجة عن الحق زائدة عليه، فلا يجب قبولها، لأنها عطية جديدة،
ويمكن تخليصها والحق معها غير متعين انتهى.
ولا يخفى ما فيه فإن ما ذكره في العين يمكن اجراءه في زيادة الصفة، فإن الحق
الذي له موصوف بصفة خاصة، والمدفوع موصوف بصفة أخرى، وبه يحصل التغاير،
فكيف لا تنافي عين الحق، وأما قوله في الزيادة فلا يجب قبولها لأنها عطية، فإنه يجري في
زيادة الوصف، فإنها مشتملة على المنة، ولا يجب قبولها أيضا كما صرحوا به في غير موضع،
49

ومنه قبول ما يوهب مما يستطيع به الحج، والمنقول عن ابن الجنيد التسوية بين
الأمرين في عدم وجوب القبول، ويدل عليه بعض الأخبار الآتية، وبالجملة فإنه مع
التراضي من الطرفين لا اشكال ولا خلاف في جواز الأخذ ناقصا وزايدا في العين
أو الصفة، وإنما الكلام في وجوب القبول وتحتمه شرعا.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام ما رواه في الكافي عن قتيبة الأعشى
(1) " قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام وأنا عنده فقال رجل: إن أخي يختلف إلى الجبل
فيجلب الغنم فيسلم في الغنم في أسنان معلومة إلى أجل معلوم، فيعطي الرباع
جذاعا مكان الثني فقال له: أبطيبة من نفس صاحبه؟ قال: نعم قال: لا بأس ".
وما رواه المشايخ الثلاثة نور الله تعال مراقدهم، عن أبي بصير (2) " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السلم في الحيوان؟ قال: ليس به بأس، قلت: أرأيت
أن أسلم في أسنان معلومة أو شئ معلوم من الرقيق فأعطاه دون شرطه أو فوقه بطيبة
النفس منهم؟ قال: لا بأس ".
وما رواه في الكافي عن الحلبي (3) في الصحيح " قال: سئل أبو عبد الله
عليه السلام، عن الرجل يسلم في وصفاء أسنان معلومة ولون معلوم ثم يعطى دون شرطه
أو فوقه فقال: إذا كان عن طيبة نفس منك ومنه فلا بأس " ورواه الشيخ عن سليمان
بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام مثله.
وعن معاوية بن عمار (4) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته عن الرجل
أسلف في وصفاء أسنان معلومة وغير معلومة ثم يعطى دون شرطه؟ قال: إذا كان
بطيبة النفس منك ومنه فلا بأس، إلى أن قال: ولا يأخذ دون شرطه إلا بطيبة نفس
صاحبه ".
وعن الحلبي (5) في الصحيح ورواه في الفقيه أيضا عن الحلبي في الصحيح

(1) الكافي ج 5 ص 222 و 220 التهذيب ج 7 ص 46.
(2) الكافي ج 5 ص 222 و 220 التهذيب ج 7 ص 46.
(3) الكافي ج 5 ص 221 التهذيب ج 7 ص 46 و 41.
(4) الكافي ج 5 ص 221 الفقيه ج 3 ص 167.
(5) الكافي ج 5 ص 221 الفقيه ج 3 ص 167.
50

عن أبي عبد الله عليه السلام، في حديث قد تقدم قال: " ويأخذون دون شرطهم ولا يأخذون
فوق شرطهم، "
ورواه الشيخ في الصحيح أيضا عن سليمان بن خالد (1) عن أبي عبد الله عليه السلام مثله،
ويمكن الاستدلال بهذا الخبر لما نقل آنفا عن ابن الجنيد من عدم وجوب أخذ ما زاد على
الوصف، والمراد أنه لا يجب عليهم قبول ما زاد على الوصف، ولا ينافيه ما تقدم
في صحيحة الحلبي من نفي البأس مع طيبة النفس منهما إذا كان فوقه، لأن الكلام
كما عرفت في وجوب الأخذ عليه لا في الجواز، بل هذه الرواية أيضا ظاهرة فيما
ذكره ابن الجنيد حيث شرط فيها أخذ ما فوق الشرط بطيبة نفسي الآخذ، فلا يجبر
عليه، كما هو ظاهر كلامهم من وجوب القبول.
وبالجملة فإن الظاهر هو قوة ما ذهب إليه ابن الجنيد لم عرفت من ضعف التعليل
الذي ذكره في المسالك، مع اعتضاد قول ابن الجنيد بظاهر الصحيحة المذكورة،
ولو دفع إليه ما هو على الصفة المشروطة وجب القبول أو الابراء من حقه، ولو امتنع
من الأمرين جبره الحاكم، وإلا قبضه له إذا سأل المسلم إليه ذلك، والظاهر أنه يبرئ
لو عزله له، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام في المسألة الثالثة (2) من المطلب
الأول في النقد والنسيئة من الفصل الرابع في أحكام العقود ومتى قبضه برئت ذمة
المسلم إليه.
المسألة الرابعة لو وجد في المبيع أو الثمن عيب بعد القبض فهنا مقامان الأول
لو وجد بالمبيع عيبا بعد القبض فإنه يتخير بين الرضاء به مجانا وبين رده، فيرجع
الحق إلى ذمة المسلم إليه، بمعنى أن المدفوع لا يتعين بمجرد الدفع، وإن كان من
الجنس وعلى الوصف، للعيب المذكور، لأنه إنما أسلفه في صحيح، ولا أرش هنا،
لأنه لم يتعين الحق حتى يجب قبوله ويجبر بالأرش، بل الحق في الذمة أمر كلي،
ودفع هذا المعيب عنه بعد ظهور العيب يكون ملكا متزلزلا يتخير فيه بين الرضاء به

(1) التهذيب ج 7 ص 32 -
(2) ح 19 ص 131.
51

مجانا فيستقر ملكه عليه، وبين أن يرده، فيرجع الحق إلى الذمة سليما بعد أن خرج
خروجا متزلزلا.
بقي الكلام في النماء المنفصل المتجدد زمن الخيار بعد القبض وقبل الرد
متى اختار الرد، والظاهر من كلامهم أنه للقابض، فإنه متجدد في ملكه وإن كان
متزلزلا، كنظائره من النماء المتجدد زمن الخيار، وأما المتصل كالسمن فإنه
تابع للعين.
الثاني: قالوا: إذا ظهر في الثمن بعد قبضه عيب فإن كان من غير الجنس كأن يكون نحاسا والثمن فضة، بطل العقد، وإن كان من جنسه رجع بالأرش إن اختار
البيع، وإن اختار الرد كان له ذلك، وهو لا يخلو من اجمال، وتفصيل الكلام في ذلك
بمعونة ما تقدم في باب الصرف أن يقال هنا إن العيب إما أن يكون من الجنس أو من
غيره، وعلى كل من التقديرين فإما أن يكون في جملة الثمن أو بعضه، وعلى كل من
هذه التقادير إما أن يظهر قبل التفرق أو بعده، وعلى كل من هذه التقادير إما أن يكون
الثمن معينا أو كليا.
وجملة الأقسام تنتهي إلى ستة عشر، أحدها أن يكون العيب من غير الجنس،
ويكون في جملة الثمن بعد التفرق، وكان معينا ولا اشكال في البطلان هنا، لانتفاء
شرط السلم، وهو القبض قبل التفرق، كما تقدم.
ثانيها: الصورة بحالها ولكن قبل التفرق، والحكم هو المطالبة بالبدل قبل
التفرق.
ثالثها: الصورة الأولى بحالها ولكن كان العيب في بعض الثمن، والحكم
فيها صحة البيع فيما هو من الجنس، والبطلان في غيره.
رابعها: الصورة بحالها ولكن قبل التفرق والحكم فيها الصحة فيما هو من
الجنس، والمطالبة بالبدل قبل التفرق.
خامسها: العيب من غير الجنس في جملة الثمن بعد التفرق، ولكن الثمن كلي في
52

الذمة وحكمها كالصورة الأولى لعدم العيب للعلة المذكورة ثمة.
سادسها: الصورة بحالها ولكن قبل التفرق والحكم فيها كما في الصورة الثانية
سابعها: العيب من غير الجنس بعد التفرق وكون الثمن كليا لكن العيب في
بعض الثمن، والحكم فيها كما في الصورة الثالثة.
ثامنها: الصورة كسابقها ولكن قبل التفرق والحكم فيها كما في الرابعة، فهذه
ثمان صور فيما لو كان من غير الجنس.
تاسعها: العيب من الجنس كخشونة الجوهر واضطراب السكة ونحوهما وكون
ذلك في جملة الثمن بعد التفرق، مع كون الثمن معينا والحكم فيها التخيير بين
الرد والرضاع مع الأرش، كما تقدم في كلامهم
عاشرها: الصورة بحالها لكن مع كون الثمن كليا في الذمة، فهل يكون العقد
صحيحا لحصول التقابض سابقا ولو في الجملة أو يكون باطلا لعدم التقابض حقيقة
قبل التفرق؟ اشكال تقدم بيانه في المسألة الحادية عشر من مسائل الصرف.
الحادي عشر: الصورة كسابقتها لكن ظهور العيب قبل التفرق، والحكم هنا
وجوب الابدال، لأن الثمن أمر كلي في الذمة محمول على الصحيح السالم من
العيب، فمتى كان المدفوع معيبا وجب رده قبل التفرق، لأن المقبوض في حكم
العدم، ويرجع الحق إلى الذمة، فيجب الابدال ولا خيار هنا ولا أرش، لاختصاص
ذلك بما إذا كان الثمن معينا.
الثانية عشر: الصورة الأولى من صور العيب الجنسي لكن مع ظهور العيب
قبل التفرق، والحكم فيها كما في تلك الصورة من التخيير، وهذا الصور الأربع
في العيب الجنسي مبنية على ما إذا كان العيب في جملة الثمن، وقس عليها ما إذا كان
العيب في بعض الثمن، فإنه يأتي فيه الصور الأربع المذكورة، والحكم فيما قابل
الصحيح صحة البيع، وفيما قابل المعيب ما تقدم في كل من الصور الأربع من
الخيار في الأولى، والاشكال في الثانية، ووجوب الابدال في الثالثة، والتخيير في
الرابعة.
53

المسألة الخامسة لو اختلفا في قبض الثمن هل كان قبل التفرق أو بعده؟ أو ادعى
البايع أنه قبضه ثم رده قبل التفرق.
والكلام هنا في موضعين: الأول ما إذا اختلفا في القبض هل هو قبل التفرق أو
بعده؟ ومقتضى هذا الكلام أنهما قد اتفقا على القبض، إلا أن أحدهما ادعى أن القبض
وقع قبل التفرق، فيصح العقد حينئذ لوجود شرطه.
والآخر ادعى أنه بعده فيبطل، ومقتضى قواعد الأصحاب أن القول قول مدعي
الصحة، وبه أفتوا في المسألة، أما لو اختلفا في أصل قبض الثمن، فإن القول قول
منكر القبض وإن تفرقا واستلزم البطلان، والنزاع في الحقيقة في كل من المسألتين يرجع
إلى طرو المفسد، وإلا فهما متفقان على أصل الصحة، ولا نزاع بينهما فيها، لاتفاقهما
على وقوع العقد.
ولكن في المسألة الأولى ادعى أحدهما أن القبض إنما وقع بعد التفرق، وهو
موجب لبطلان العقد، وفي الثانية ادعى البايع عدم القبض، وحصول التفرق
الموجب للبطلان، وفي الأولى قدم قول مدعي الصحة المتفق عليها، لأن الأصل
عدم طرو المفسد، وفي الثانية المقتضي للفساد قائم وهو التفرق، ويترتب على ما هو
الأصل من عدم قبض الثمن، فإن مقتضى الأصل ذلك، فمن أجل ذلك حكم بالبطلان.
هذا مع عدم البينة، ولو أقام كل منهما بينة بالنسبة إلى المسألة الأولى، بنى
على تقدم بينة الداخل - وهو هنا مدعي الصحة - أو الخارج، واختار في المسالك الثاني،
ونقل عن العلامة تقديم بينة الأول لقوة جانبه بدعوى أصالة عدم طرو المفسد،
ولكون دعواه مثبتة، والأخرى نافيه، وبينة الاثبات مقدمة.
الثاني لو قال البايع: قبضت الثمن ثم رددته إليك، وأنكر المشتري القبض،
وظاهرهم أن القول قول البايع مع يمينه، مراعاة لجانب الصحة، وتفصيل ذلك
أنهما الآن متفقان على أن الثمن عند المشتري، إما في ذمته، أو أمانة عنده (1) وإنما

(1) أقول كون الثمن في ذمته بناء على انكار المشتري الاقباض، وكونه عنده
يعني أمانة بناء على دعوى البايع أنه رده - منه رحمه الله.
54

اختلفا في كون ذلك على وجه مفسد للعقد بأن لا يكون البايع قبضه بل بقي في
ذمة المشتري، فلم يحصل التقابض، أو على وجه مصحح بأن يكون قبضه البايع ثم رده
إليه، والأصحاب قدموا قول البايع رعاية لصحة العقد.
وقد يقال: إن أصالة صحة العقد معارضة بأن الأصل عدم حصول القبض،
إلا أنه يمكن أن يقال أيضا أنه مع تعارض الأصلين المذكورين يحصل الشك في
طرو المفسد، والأصل عدمه، أو يقال المقتضي للفساد مشكوك فيه، إذ لا يعلم أن التفرق
كان قبل القبض، والأصل عدمه، فيتمسك بأصل الصحة.
وكيف كان فإنه يبقى هنا اشكال في المقام، وهو أن دعوى البايع مشتملة على
شيئين، قبض الثمن ورده، وإنما قدم قوله في القبض مراعاة لصحة العقد، أما في الرد
فمقتضى القواعد الشرعية أنه غير مقبول كنظائره، إذ لا مدخل له في الصحة وحينئذ
فمع قبوله في القبض هل له مطالبة المشتري بالثمن أم لا؟ اشكال ينشأ من عدم قبوله
في الرد مع اعترافه بحصول القبض، فليس له المطالبة، ومن اتفاق المتبايعين على
أن الثمن عند المشتري، أما على دعوى البايع فظاهر، وأما على دعوى المشتري
فلاعترافه بعدم الاقباض، فإذا قدم قول البايع في صحة العقد ألزم المشتري بالثمن،
فيجوز الطالبة حينئذ، إلا أنه يشكل أيضا بأن المشتري بناء على فرض المسألة لا يدعي
شيئا في ذمة البايع، لاعترافه بفساد البيع، وأنه لم يقبضه الثمن قبل التفرق، فلا تبقى
إلا دعوى البايع، وهي مشتملة على الاعتراف بالقبض، ودعوى الرد، والثانية غير
مقبول بمقتضى القواعد الشرعية فكيف تجوز له المطالبة.
وبالجملة فأمثال هذه الفروع الخالية من النصوص على العموم والخصوص سيما
مع تعارض الاحتمالات العقلية فيها محل الاشكال، وإن كان الأقرب بالنظر إلى هذه
التعليلات هو عدم المطالبة، إلزاما له بالاعتراف بالقبض الذي بنوا عليه صحة العقد،
وعدم سماع دعوى الرد، والله العالم.
55

الفصل الحادي عشر في بيع الغرر والمجازفة
وفيه مسائل: الأولى قال الشيخ في النهاية من اشترى شيئا بحكم نفسه ولم
يذكر الثمن بعينه كان البيع باطلا، فإن هلك في يد المبتاع كان عليه قيمته يوم ابتياعه،
إلا أن يحكم على نفسه بأكثر من ذلك، فليزمه ما حكم به دون القيمة، وإن كان الشئ
قائما بعينه كان لصاحبه انتزاعه من يد المبتاع، فإن أحدث المبتاع فيه حدثا نقص
به ثمنه كان له انتزاعه منه وأرش ما أحدث فيه، فإن كان الحدث يزيد في قيمته أراد
انتزاعه من يده كان عليه أن يرد على المبتاع قيمة الزيادة لحدثه فيه، فإن ابتاعه
بحكم البايع فحكم بأقل من قيمته كان ذلك ماضيا، ولم يكن له أكثر من ذلك وإن
حكم بأكثر من قيمته لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع، إلا أن يتبرع المبتاع
بالتزام ذلك على نفسه، فإن لم يفعل لم يكن عليه شئ وكذا قال الشيخ المفيد وابن
البراج وأبو الصلاح على ما نقله في المختلف.
وقال سلار: من لم يسم ثمنا بطل بيعه وشراؤه فإن هلك المبيع في يد من ابتاع
ولم يسم الثمن كان عليه قيمته يوم أخذه، فإن كان باقيا فللبايع أخذه، فإن كان قد أحدث
فيه حدثا فإن نقصت به قيمته فللبايع أرش النقصان، وإن زادت فالأرش للمبتاع.
وقال العلامة في المختلف: لا يجوز البيع بحكم أحدهما في الثمن، فإن بيع
كذلك بطل البيع، ولو حكم الحاكم منهما بأي شئ كان لم يلزم بل يبطل البيع،
فإن كانت السلعة قائمة استردها البايع، وإن كانت تالفة وجب على المشتري قيمتها
ولا اعتبار بما يحكم به أحدهما، هذا إذا كانت من ذوات القيم، وإن كانت من ذوات
الأمثال وجب عليه مثلها، فإن تعذر المثل فقيمة المثل يوم الاعواز ثم قال: وقال ابن
إدريس كما قلناه إلا في موضعين.
أحدهما أن مع التلف ولا مثل يجب عليه أكثر القيم من وقت القبض إلى
وقت التلف كالغصب.
56

والثاني أن الحدث الذي أبره المشتري إن كان عين مال له أخذه، وإن
كان فعلا لم يكن له الرجوع على البايع بشئ، ثم إنه احتج في المختلف على
البطلان، قال: لنا على بطلان البيع مع الجهالة الاجماع عليه، والنهي عن الغرر
والحكم غير لازم، إذ ذلك لا يصير ما ليس بثابت في الذمة ثابتا
أقول: الظاهر من كلام الشيخ ومن تبعه ممن تقدم ذكره هو التفصيل في
البيع بحكم أحدهما، وأنه إن كان الحكم هو المشتري فالبيع عندهم باطل،
وإن كان الحاكم هو البايع، فإن حكم بأقل من قيمته كان البيع ماضيا، ولم يكن
له أكثر من ذلك، وإن حكم بأكثر فالبيع أيضا صحيح ولكن ليس له أكثر من القيمة
في حال البيع، إلا أن يرضى المشتري بتلك الزيادة، وظاهر ابن إدريس ومن تأخر
عنه كالمحقق والعلامة وغير هما من المتأخرين هو البطلان مطلقا.
وابن إدريس قد خالف الشيخ في مواضع، ومنها في قوله فإن هلك في يد المبتاع
كان عليه قيمة يوم ابتاعه، فقال: هكذا قال شيخنا أبو جعفر في نهايته، والذي يقتضيه
أصول المذهب أن الشئ إن كان له مثل فعليه مثله لا قيمته، وإن أعوز المثل فعليه
ثمن المثل يوم الاعواز، وإن كان المبيع مما لا مثل له فإنه يجب عليه قيمة أكثر ما كانت
إلى يوم الهلاك، لأن هذا بيع فاسد، والبيع الفاسد عند المحصلين يجري مجرى
الغصب في الضمان.
أقول: ما ذكره من التفصيل بالمثلي والقيمي جيد كما هو المتكرر في
كلامهم، وأما تعيين وقت القيمة فقد تقدم الكلام فيه، ومنها في قول الشيخ فإن
كان الحدث يزيد في قيمته وأراد انتزاعه من يده كان عليه أن يرد على المبتاع
قيمة الزيادة لحدثه.
فقال: هكذا قال شيخنا في نهايته، والأولى أن يقسم الحدث فيقول:
إن كان آثار أفعال لا أعيان أموال، فلا يرد على المبتاع شئ، وإن كان الحدث أعيان
أموال فهو على ما قاله رحمه الله.
57

أقول: وبما أطلقه الشيخ هنا أفتى المحقق في الشرايع، ووافقه في المسالك
لكن قيده بصورة الجهل، والظاهر أن مراده الجهل بصحة البيع ثم قال: أما مع
علمه فليس له إلا الزيادة العينية التي يمكن فصلها، فالوصفية كالصنعة لا يستحق
بسببها شئ، وبالجملة حكمه حكم الغاصب، وهذا هو أصح الأقوال في المسألة
انتهى: وحينئذ يصير هذا قولا ثالثا في المسألة.
ومنها في قوله " فإن ابتاعه بحكم البايع فحكم بأقل من قيمته " إلى آخر
الكلام فقال: هكذا أورده في نهايته والأولى أن يقال البيع باطل، لأن كل مبيع
لم يذكر فيه الثمن يكون باطلا بغير خلاف بين المسلمين، فإذا كان كذلك
فإن كان باقيا بعينه فللبايع انتزاعه من يد المشتري، وإن كان تالفا وتحاكما
فلصاحبه مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له فله قيمته أكثر القيم إلى
يوم الهلاك، لا قيمته في حال البيع، فإن أقر البايع بشئ لزمه اقراره على نفسه،
إلا أن يقربا زيد من قيمته التي يوجبها الشارع، وإنما هذه أخبار آحاد أوردها في
نهايته ايرادا لا اعتقادا انتهى.
وأنت خبير بأنه قد تقدم في المسألة السابعة من مسائل المقام الثالث
من الفصل الأول نقل صحيحة رفاعة الدالة على بيع الجارية بحكم المشتري وعدم
قبول البايع لما حكم به بعد أن دفع الجارية إلى المشتري، ووطأها المشتري،
وحكمه عليه السلام في الصورة المذكورة بأن يقوم الجارية قيمة عادلة، فإن كان قيمتها
أكثر مما بعث إليه كان عليه أن يرد عليه ما نقص من القيمة، وإن كان قيمتها أقل مما
بعث فهو له، ولا يسترد منه شيئا، ولكن الأصحاب لم يذكروها، وقد تقدم تحقيق
الكلام في ذلك بما خطر بالبال العليل، والفكر الكليل.
وأما ما ذكره الشيخ هنا من الصحة في صورة حكم البايع على الوجه الذي
ذكره فلم أقف فيه على دليل، وأما ما ذكروه من الضمان على المشتري للقاعدة
المقررة عندهم " من أن كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده " فقد تقدم الكلام
58

فيه أيضا في بعض المواضع المشار إليها آنفا.
الثانية قال في المختلف: لا خلاف بيننا في أن الثمن إذا كان مجهولا بطل
البيع إلا عن ابن الجنيد فإنه قال: لو وقع على مقدار معلوم بينهما، والثمن مجهول
لا حدهما جاز إذا لم يكن بواجبه، وكان للمشتري الخيار إذا علم، وذلك كقول
الرجل بعني كر طعام بسعر ما بعت، فأما إن جهلا جميعا قدر الثمن وقت
العقد لم يجز، وكان البيع منفسخا وإلا من السيد المرتضى في المسائل الناصرية،
فإنه قال: لا يشترط العلم برأس مال السلم إذا كان معلوما بالمشاهدة مضبوطا بالمعاينة
وإلا من الشيخ في المبسوط في كتاب الإجارة فإنه قال: إذا باع شيئا بثمن جزاف جاز
إذا كان معلوما مشاهدا وإن لم يعلم وزنه، وكذا مال السلم، لنا أنه غرر فيكون منهيا عنه
انتهى.
أقول ونحو هذا الكلام ذكر في الدروس، وقد تقدم نقل عبارته، والكلام
في حكم هذه المسألة صحة وبطلانا تقدم في المسألة السابعة المشار إليها في سابق
هذه المسألة.
الثالثة قال في المختلف: بيع الصبرة باطل إلا أن يعلما قدرها أو يعلمه
أحدهما ويخبر الآخر حالة العقد، ولو جهلاها وقت العقد أو أحدهما بطل،
سواء شاهداها أم لا، وسواء كالاها بعد ذلك أو لا، ذهب إليه علماؤنا أجمع، إلا
ابن الجنيد فإنه جوز ذلك، والشيخ قال في المبسوط: إذا قال: بعتك هذه الصبرة
بعشرة دراهم صح البيع، لأن الصبرة مشاهدة، ومشاهدة المبيع تغني عن معرفة
مقداره، وقد روي أن ما يباع كيلا لا يباع جزافا وهو الأقوى عندي، ثم فرع على
الوجهين بعض الفروع وهو مشعر بتردده وإن قوى أحدهما، وروده المختلف بأنه
غرر منهي عنه بالاجماع، وجزم في الخلاف بالبطلان.
أقول وقد تقدم الكلام فيذلك في المسألة المشار إليها آنفا فيما يصح بيعه من صور
بيع الصبرة وما يبطل.
59

الرابعة قال الشيخ في النهاية: لا بأس أن يعطي الانسان الغنم والبقر بالضريبة
مدة من الزمان بشئ من الدراهم والدنانير والسمن، واعطاء ذلك بالذهب والفضة
أجود في الاحتياط، ونقل عن المختلف عن ابن إدريس أنه لا يجوز ذلك، وقال في
المختلف بعد نقل ذلك: والتحقيق أن هذا ليس ببيع، وإنما هو نوع معاوضة ومراضاة
غير لازمة، بل سائغة ولا منع في ذلك.
أقول: والذي حضرني من الأخبار الواردة في هذا المقام ما رواه في الكافي
والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يكون
له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة من كل شاة كذا وكذا قال:
لا بأس بالدراهم، ولست أحب أن يكون بالسمن ".
وما رواه في الكافي عن إبراهيم بن ميمون (2) " أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام فقال:
نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها وله أصوافها وألبانها ويعطينا الراعي لكل شاة درهما
قال: ليس بذلك بأس، فقلت: إن أهل المسجد يقولون لا يجوز لأن منها ما ليس له
صوف ولا لبن، فقال أبو عبد الله عليه السلام: وهل يطيبه إلا ذاك يذهب بعضه ويبقى
بعض " ورواه في التهذيب مثله.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن مدرك بن الهزهاز (3) عن أبي عبد الله عليه السلام
في الرجل يكون له الغنم فيعطيها بضريبة شيئا معلوما من الصوف أو السمن أو الدراهم
فقال: لا بأس بالدراهم وكره السمن ".
وما روياه في الكتابين أيضا عن عبد الله بن سنان (4) في الصحيح " قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام، عن رجل دفع إلى رجل غنمه بسمن ودراهم معلومة لكل شاة
كذا وكذا في كل شهر قال: لا بأس بالدراهم، وأما السمن فما أحب ذلك إلا
أن تكون حوالب فلا بأس بذلك ".

(1) الكافي ج ص 223 - 224 التهذيب ج 7 ص 127.
(2) الكافي ج ص 223 - 224 التهذيب ج 7 ص 127.
(3) الكافي ج 5 ص 224 التهذيب ج 7 ص 127.
(4) الكافي ج 5 ص 224 التهذيب ج 7 ص 127.
60

وما رواه في التهذيب عن إسماعيل بن الفضل (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يدفع إلى الرجل بقرا وغنما على أن يدفع إليه كل سنة من ألبانها وأولادها
كذا وكذا قال: ذلك مكروه ".
أقول: الظاهر تقيد ما أطلق من الأخبار في كراهة أخذ الثمن بصحيحة عبد الله
بن سنان الدالة على الجواز إذا كانت حوالب، ويستفاد من الجميع أن المراد
السمن من تلك الغنم التي يدفعها للراعي، والمستفاد من هذه الأخبار بعد ضم
بعضها إلى بعض هو أنه يجوز أن يعطي الغنم ونحوها إلى من يرعاها بضريبة يضربها
المالك على الراعي من نقد أو سمن بالشرط المتقدم، وأن ما عدا ما شرطه مما حصل
من الغنم من لبن ودهن وصوف ونحو ذلك فهو للراعي في مقابلة قيامه بها وحفظها
ودورانه بها في مواضع القطر والعلف، وحينئذ يكون ذلك أجرة عمله
لكن يشكل ذلك على قواعد الأصحاب من وجوب معلومية الأجرة وتعيينها،
والمفهوم من كلام ابن إدريس أن منعه لذلك، لأن دفعها على هذا الوجه من قبيل
الإجارة، وأن الإجارة هنا باطلة لأن ثمرة الإجارة تمليك المنفعة، دون العين والذي
أخذه الراعي إنما هو من الأعيان لا المنافع.
قال في السرائر: وقد روي " أنه لا بأس أن يعطي الانسان الغنم والبقر بالضريبة
مدة من الزمان بشئ من الدراهم والدنانير والسمن " واعطاء ذلك بالذهب الفضة
أجود في الاحتياط ويمكن أن يعلم بهذه الرواية على بعض الوجوه وهو أن يحلب
بعض اللبن ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان على ما وردت به الأخبار،
أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان، لأن
الإجارة لا تصح هيهنا، لأن الإجارة استحقاق منافع السلعة المستأجرة دون الأعيان
منها، والأقوى عندي المنع من ذلك كله، لأنه غرر وبيع مجهول والرسول عليه السلام نهى
عن بيع الغرر، فمن أثبت ذلك عقدا يحتاج إلى دليل شرعي والذي ورد فيه أخبار

التهذيب ج 7 ص 121
61

آحاد شذاذ، وقد بينا أن أخبار الآحاد عند أصحابنا لا توجب علما ولا عملا، والواجب
على المفتي الرجوع في صحة الفتوى إلى الأدلة القاطعة انتهى.
والمراد من قوله " ويمكن أن يعمل بهذه الرواية إلى آخره، إن المالك يبيع
الراعي ما في ضروع الغنم من الألبان مدة من الزمان بضميمة يضمها إلى ذلك من لبن
يحلبه منها أو عرض، فتصير الألبان أو ما يخرج منها من سمن ونحوه للراعي بالبيع
ويشترط عليه المالك بما يريد من سمن أو لبن أو دراهم، فيكون ما يأخذه الراعي من السمن والألبان حلا لا خاليا من الشبهة، بخلاف ما لو لم يعمل كذلك، فإنه لا وجه
لاستحقاقه شيئا منها حتى أنه يشترط عليه المالك بعضا ويترك له بعضا، لأن أخذه للغنم
بطريق الإجارة لها أو لا لبانها غير صحيح، لما ذكر من أن الإجارة إنما تفيد تمليك
المنفعة لا العين، ولهذا إن العلامة إنما تفصى عن ذلك بأن هذه المعاملة ليست من قبيل
البيع، ولا الإجارة، وإنما هي نوع معاوضة وتراض من الطرفين، وإن كان غير
لازم شرعا لو أريد فسخه وابطاله، وهو جيد وقوفا على ظواهر الأخبار المذكورة
والله العالم.
الخامسة قال الشيخ في النهاية: لا يجوز بيع اللبن في الضرع، فيم أراد بيع
ذلك حلب منه شيئا واشتراه مع ما بقي منه في الضرع في الحال أو مدة من الزمان، وإن
جعل معه عرضا آخر كان أحوط، وبه قال ابن البراج وابن حمزة وابن الجنيد، وقال
الشيخ المفيد: لا يجوز بيع اللبن من الغنم إلى وقت انقطاعه، لأن ذلك جزاف
ومجهول، ولا بأس ببيعه أرطالا مسماة، وبه قال أبو الصلاح، نقل جميع ذلك العلامة
في المختلف.
ثم قال: وقال ابن إدريس لا يجوز ذلك، وهو المعتمد، لنا أنه بيع مجهول
ضم إلى معلوم، وكان المجهول أصلا في البيع، فلم يصح لتطرق الجهالة، إلى
المبيع، إذ انضمام المعلوم إليه لا يصير جملة المبيع بل المقصود الذاتي معلوما،
فيكون غررا انتهى.
62

أقول أما نقله عن ابن إدريس ففيه أن الذي وقفت عليه في كتابه ظاهر
بل صريح في موافقة كلام الشيخ المتقدم، حيث قال في باب بيع الغرر والمجازفة
ما لفظه: ولا يجوز أن يباع اللبن في الضروع، فمن أراد بيع ذلك حلب منه شيئا
واشتراه مع ما بقي في الضروع في الحال أو مدة من الزمان على ما رواه أصحابنا،
وإن جعل معه عرضا آخرا كان أحوط انتهى.
وأنت خبير بأن ظاهر الجميع الاتفاق على المنع من بيعه في الضروع
حالا من غير ضم شئ إلا أن الشيخ ومن تبعه جوزوه مع الضميمة، سواء كان
بالنسبة إلى الموجود في الضروع وقت العقد، أو ما يتجدد في الزمان المستقبلة،
والشيخ المفيد جوز ذلك أرطالا معينة، ولم يتعرض لبيعه مع الضميمة، نفيا ولا
اثباتا، والعلامة على الجواز مع الضميمة لكن بشرط أن يكون الضميمة هي المقصودة
بالبيع، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.
قال: في المسالك في مسألة بيع السمك في الآجام مع القصب: والقول
بالجواز مع الضميمة مذهب الشيخ وجماعة، استنادا إلى أخبار ضعيفة، والذي
أجازه المتأخرون أن المقصود بالبيع إن كان هو القصب، وجعل السمك تابعا
له صح البيع، وإن انعكس أو كانا مقصودين لم يصح، وهو الأقوى، وكذا
القول في كل مجهول ضم إلى معلوم كالحمل واللبن في الضرع وغيرهما انتهى.
ثم إن الذي وقفت عليه من الأخبار هنا أما بالنسبة إلى ما ذكره الشيخ المفيد
(نور الله تعالى مرقده) فهو ما رواه في الكافي والفقيه عن أبي ولاد الحناط (1) في الصحيح
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له الغنم يحلبها لها ألبان كثيرة في
كل يوم ما تقول فيمن يشتري منه الخمسمئة وطل أو أكثر من ذلك، المأة رطل
بكذا وكذا درهما فيأخذ منه في كل يوم أرطالا حتى يستوفي ما يشتري منه؟ قال: لا بأس
بهذا ونحوه " ورواه الشيخ في التهذيب عن أبي ولاد في الموثق مثله على اختلاف

الكافي ج 5 ص 222، الفقيه ج 3 ص 145 التهذيب ج 7 ص 126.
63

في ألفاظه:
وهذا الخبر يحتمل أن يكون البيع حالا وإن كان يأخذ منه في كل يوم ما
يريده ويحتمل أن يكون مؤجلا بآجال مختلفة فيكون من باب السلم، ولعل الأظهر
الأول كما هو ظاهر عبارة الشيخ المفيد، والرواية ظاهر الدلالة على ما ذكره
(قدس سره).
وأما ما يدل ما ذكره الشيخ فهو ما رواه في الموثق ومثله الصدوق في
الفقيه عن سماعة (1) " قال: سألته عن اللبن يشتري وهو في الضرع فقال: لا، إلا
أن يحلب لك منه سكرجة فتقول: أشتري منك هذا الذي في السكرجة وما بقي
في ضروعها بثمن مسمى وإن لم يكن في الضرع شئ كان ما في السكرجة " و
السكرجة بضم السين والكاف والراء المشددة إناء صغير فارسي معرب، وأجاب
العلامة في المختلف ومثله غيره ممن تأخر عن هذه الرواية بضعف السند،
وأنها غير مسندة إلى إمام، وفيه ما لا يخفى على المتأمل المنصف، فإنهم قد صرحوا
بالاعتماد على مضمرات سماعة وغيره، استدلوا بها في غير موضع، ثم قال في
المختلف ويحمل على ما إذا كان المحلوب يقارب الثمن، ويصير أصلا.
وأما ما ذكروه في اشتراط صحة البيع بالضميمة بأن يكون الضميمة هي
المقصودة بالبيع دون المضموم إليه فلا اشعار في شئ من روايات الضمايم على
تعددها وكثرتها بذلك، بل الظاهر منها إنما هو العكس، وهو أن المقصود بالبيع
إنما هو المضموم إليه، وإنما جعلت الضميمة تفاديا من ذهاب الثمن مجانا، على
تقدير عدم التمكن من البيع المقصود بالذات، ولذا اعتبروا في الضميمة بأن يكون
مما يتمول في الجملة وإن قل، وكان الثمن في غاية الكثرة كما لا يخفى على من نظر
في تلك الأخبار بعين التأمل والاعتبار.

(1) التهذيب ج 7 ص 123 الفقيه ج 3 ص 141.
64

ومنها أخبار بيع الآبق وغيرها، وقد تقدم في المسألة السابعة من المقام
الثالث من مقامات الفصل الأول ما يوضح ما ذكرناه، ومن أخبار المسألة أيضا ما
رواه في الكافي عن عيص بن القاسم (1) في الصحيح " قال: سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل له نعم يبيع ألبانها بغير كيل قال: نعم حتى ينقطع أو شئ
منها " وفيه اجمال موجب لتعدد الاحتمال وقد تقدم الكلام في المسألة المشار إليها
آنفا والله العالم.
السادسة اختلف الأصحاب في بيع الصوف على ظهر الغنم مع المشاهدة،
فجوزه الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) ومنعه الشيخ إلا أن يضم إليه غيره، وتبعه
أبو الصلاح وابن البراج، واختار العلامة في المختلف مذهب الشيخ المفيد،
وكذلك ابن إدريس نظرا إلى أنه مشاهد، والوزن فيه حال كونه على ظهور الغنم
غير معتبر، وإلا لما جاز بيع الثمر على رؤوس الأشجار، وإن كانت موزونة أو مكيلة
بعد القطع، وصرح المحقق في الشرايع بالمنع وإن ضم إليه غيره، وحينئذ ففي
المسألة أقوال ثلاثة وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة أيضا في الموضع
الثاني عشر من المسألة المتقدم ذكرها قريبا.
السابعة قال الشيخ في النهاية: لا يجوز بيع ما في بطون الأنعام والأغنام وغير هما من
الحيوان، فإن أراد بيع ذلك جعل معه شيئا آخر، فإن لم يكن ما في البطون حاصلا
كان الثمن في مقابل الآخر، وتبعه ابن البراج وابن حمزة، وقال ابن إدريس لا يجوز
بيع ما في بطون الأنعام والأغنام من الحيوان، فإن أراد بيع ذلك جعل معه شيئا آخر ليسلم
من الغرر، وإن لم يكن ما في البطون حاصلا كان الثمن في الآخر على ما روي في
الأخبار من طريق الآحاد، والأولى عندي ترك العمل بذلك أجمع لأنه غرر وجزاف
منهي عنهما، وقد روي أن من اشترى أصواف الغنم مع ما في بطونها في عقد واحد كان
البيع صحيحا ماضيا، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية، لأنها زيادة غرر إلى

(1) الكافي ج 5 ص 193 التهذيب ج 7 ص 123.
65

غرر انتهى.
أقول: ما ذكره أخيرا من زيادة غرر إلى غرر في الصورة المذكورة إنما يتم
بناء على المنع من بيع الصوف على ظهور الغنم، كما هو أحد الأقوال في المسألة
وأما على ما اختاره من الجواز كما قدمنا نقله عنه فليس إلا غرر واحد، كما لا يخفى.
والرواية التي أشار إليها أخيرا هي رواية إبراهيم الكرخي (1) " قال: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل اشترى من رجل أصواف مئة نعجة وما في بطونها
من حمل بكذا وكذا درهما؟ فقال: لا بأس إن لم يكن في بطونها حمل كان رأس
ماله في الصوف ".
وأما الأخبار التي أشار إليها وطعن فيها بأنها من طريق الآحاد فلم نقف على
شئ منها سوى الرواية المذكورة، وبالجملة فإن ما ذكره جيد على أصله الغير
الأصيل، وهذه الرواية المذكورة مما يؤيد مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه في جواز
بيع الصوف على ظهور الأنعام بمجرد المشاهدة، لأن جعله ضميمة لما لا يجوز بيعه
لولا ذلك أظهر ظاهر في جواز بيعه وحده خاصة كما هو شأن ساير الضمايم، فلا يتوهم
من الرواية الدالة على مذهب الشيخ في تلك المسألة، بمعنى جعل الحمل ضميمة
إلى جواز بيع الصوف كما يشعر به كلام العلامة في المختلف، لأن الحمل لا يجوز
بيعه وحده، ومن شأن الضميمة صحة بيعها وحدها، لتكون مصححة لبيع ذلك
المجهول.
ثم إنه لا يخفى أن ما ذكره ابن إدريس من عدم جواز البيع بالضميمة في هذا
الموضع يجري في جمع ما ورد جواز بيعه بالضمايم، لعدم جواز بيعه منفردا مع
تكاثر الأخبار بذلك في جملة من المواضع.
وفي ارتكاب ردها من الشناعة ما لا يرتكبه محصل ولا متدين، لأن مقتضى كلامه
أن العلة المانعة من جواز بيعه منفردا وهو الغرر هنا باقية مع الضميمة، فكذلك العلة

(1) الكافي ج 5 ص 194 التهذيب ج 7 ص 123 الفقيه ج 3 ص 146.
66

المانعة من بيع الآبق مثلا وهو عدم التسليم إلى المشتري باقية، وهكذا في كل موضع
ورد صحة بيعه بالضميمة، كما تقدم في فصل بيع الثمار أيضا وغيره، مع أنه في بيع الآبق جوزه مع الضميمة (1) وهو ترجيح بغير مرجح، وسؤال الفرق متجه.
الثامنة قال الشيخ في النهاية: لا بأس أن يشتري الانسان أو يتقبل بشئ معلوم جزية
رؤس أهل الذمة، وخراج الأرضين وثمرة الأشجار، وما في الآجام من السموك إذا
كان قد أدرك شئ من هذا الأجناس، وكان البيع في عقد واحد ولا يجوز ذلك ما لم
يدرك منه شئ على حال، ومنع ابن إدريس من ذلك، قال: لأن هذا بيع مجهول،
ولا يرجع في مثل هذا إلى أخبار الآحاد، وظاهر العلامة في المختلف موافقة ابن
إدريس هنا.
أقول والذي يدل على ما ذكره الشيخ ما رواه الشيخ والكليني عن إسماعيل
بن الفضل الهاشمي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " في الرجل يتقبل بجزية رؤس
الرجال وبخراج النخل والآجام والطير، وهو لا يدري لعله لا يكون من هذا شئ أبدا
أو يكون؟ قال: إذا علم من ذلك شيئا واحدا أنه قد أدرك اشتراه وتقبل به ".
وما رواه في الفقيه عن أبان بن عثمان عن إسماعيل بن الفضل (3) عن أبي
عبد الله (ع) " قال: سألته عن الرجل يتقبل خراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج
النخل والشجر والآجام والمصايد والسمك والطير ولا يدري هذا لا يكون أبدا أو
يكون أيشتريه وفي أي زمان يشتريه ويتقبل به منه، فقال: إذا كان علمت أن من ذلك
شيئا واحدا قد أدرك فاشتره وتقبل به " وطريق الصدوق إلى أبان بن عثمان هنا صحيح

(1) قال: ولا يجوز أن يشتري الانسان عبدا آبقا على الانفراد فإن اشتراه لم
ينعقد البيع إلا إذا اشتراه مع شئ آخر من متاع أو غيره منضم إلى العقد، ويكون
العقد ماضيا انتهى منه رحمه الله.
(2) الكافي ج 5 ص 195 التهذيب ج 7 ص 125.
(3) الفقيه ج 3 ص 141.
67

والعلامة في المختلف طعن في رواية إسماعيل بن الفضل بعد أن نقل استدلال
الشيخ بها، فقال: والرواية ضعيفة السند ومقطوعة، مع أنها محمولة على أنه يجوز
شراء ما أدرك، ومقتضى اللفظ ذلك من حيث عود الضمير إلى الأقرب، على أنا
نقول: إن هذا ليس بيعا في الحقيقة، وإنما هو نوع مراضاة غير لازمة، لا محرمة
انتهى.
أقول: أما الطعن بضعف السند فإنما يتجه على روايتي الشيخين الأولين، والطعن
بالقطع إنما يتجه على رواية الشيخ في التهذيب حيث أن في السند ابن سماعة
عن غير واحد، وإلا فرواية الكليني ليست كذلك، إلا أن في طريقها عبد الله بن
محمد، وهو مجهول أو مشترك، وبالجملة فالرواية بطريق الصدوق صحيحة، فينتفي
الطعن بالضعف، هذا مع تسليم صحة هذا الاصطلاح، وإلا فإن العين بالضعف
لا يرد على الشيخ ونحوه من المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح المحدث عندهم،
بل الأخبار عندهم كلها صحيحة، كما اعترف به جملة من متأخري أصحاب هذا
الاصطلاح، وأما الحمل على شراء ما أدرك خاصة دون الباقي فهو تعسف محض،
والظاهر من الخبرين المذكورين إنما هو المجموع، وأن هذا الذي أدرك إنما
هو بمنزلة الضميمة المتقدم ذكرها، بمعنى أنه لو لم يحصل شئ من هذه الأشياء
كان وجه القبالة بإزاء هذا الذي أدرك.
وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) للخبرين المذكورين
بالتقريب الذي قلناه من كون ذلك ضميمة للصحة، سواء كان المعالمة المذكورة
بيعا أو صلحا أو قبالة.
بقي هنا شئ وهو أن القبالة هل هي من قبيل الصلح، أو عقد برأسها
قال شيخنا الشهيد الثاني (قدس سر): ظاهر الأصحاب أن للقبالة حكما خاصا
زائدا على البيع والصلح، لكون الثمن والمثمن واحدا وعدم ثبوت الربا، وظاهر
الشهيد (رحمة الله عليه) في الدروس أنها نوع من الصلح، وقال في كتاب مجمع
البحرين: والقبالة بالفتح الكفالة. وهي في الأصل مصدر قبل إذا كفل، وقبالة
68

الأرض أن يتقبلها الانسان من الإمام بأن يعطيها إياه مزارعة أو مساقاة وذلك في أرض
الموات وأرض الصلح انتهى.
والظاهر أن ما هنا من قبيل الكفالة، فإنه تكفل بهذا المبلغ المعلوم الذي
تراضيا به من هذه الأشياء المعدودة في الخبرين، سواء حصل منها ما هو أزيد أو
أنقص والله العالم.
التاسعة قال الشيخ في النهاية لا بأس أن يشتري الانسان تبن البيدر لكل كر من
طعام تبنة بشئ معلوم وإن لم يكل بعد الطعام، وبه قال ابن حمزة، وقال ابن إدريس
لا يجوز بيعه، لأنه مجهول وقت العقد غير معلوم، ولا بدأن يكون معلوم القدر وقت العقد
عليه، وهذا غير معلوم ولا محصل، فالبيع باطل، لأنه لا فرق بين ذلك وبين من
قال: بعتك هذه الصبرة من الطعام كل قفيز بدينار، ولم يختبركم فيها وقت العقد
ولا كالها ذلك الوقت، ويكون العقد والصحة موقوفا على كيلها فإذا كالها صح
البيع المتقدم، وهذا باطل بالاجماع انتهى.
واختار في المختلف قول الشيخ (رحمة الله عليه) قال: لنا أنه مشاهد
فيصح بيعه لانتفاء الغرر فيه، وما رواه زرارة (1) في الصحيح " قال: سألت
أبا جعفر عليه السلام، عن رجل اشترى تبن بيدر قبل أن يداس تبن كل بيدر بشئ
معلوم يأخذ التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام؟ قال: لا بأس " والجهالة ممنوعة
إذ من عادة الزرعة قد يعلم مقدار ما يخرج من الكر غالبا ولا يشترط الإحاطة بجميع
المبيع بحيث ينتفي الجهالة من كل أحواله، بل يبني في ذلك على المتعارف
انتهى.
أقول: هذه الرواية قد رواها الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن
جميل عن زرارة في الصحيح، إلا أن الذي في الفقيه كل كر بشئ معلوم، وهو
أظهر.

(1) التهذيب ج 7 ص 125 الفقيه ج 3 ص 142.
69

ورواها أيضا المشايخ الثلاثة في الصحيح عن جميل (1) " قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: اشترى رجل تبن بيدر كل كر بشئ معلوم فيقبض التبن ويبيعه قبل أن
يكال الطعام قال: لا بأس به ".
قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) بعد نقل خبر جميل المذكور:
هذا مخالف القواعد الأصحاب من وجهين الأول من جهة جهل المبيع، لأن المراد
به إما كل كر من التبن، أو تبن كل كر من الطعام، كما هو ظاهر من قوله قبل أن يكال
الطعام، وعلى التقديرين فيه جهالة.
الثاني من جهة البيع قبل القبض، ثم أجاب عن الأول بما ذكره في المختلف
وقال في الجواب عن الثاني: فعل القول بالكراهة لا اشكال، وعلى التحريم فلعله
لكونه غير موزون، أو لكونه غير طعام، أو لأنه مقبوض وإن لم يكتل الطعام يعد،
كما هو مصرح به في الخبر، انتهى.
أقول: لا يخفى على من أحاط خبرا بما قدمناه في المسألة التي تقدم مكررا
الإشارة إليها من سهولة الأمر في معرفة المبيع الموجبة للخروج من الجهالة والغرر،
وأنها تكفي ولو بوجه ما أن الأمر في هذه المسألة إنما خرج ذلك المخرج، فإن
التبن لا اشتباه ولا تعدد في أفراده بحيث يحتاج إلى وصفه، وليس بمعدود ولا مكيل
ولا موزون حتى يحتاج إلى شئ من ذلك، فيكفي في قصد بيعه تخصيصه ببيدر
مخصوص، واشتراط تبن كل كر من الطعام بكذا وكذا كما تضمنته الرواية فإن
بذلك تحصل المعلومية في الجملة، وبالجملة، فالواجب الوقوف على النص المذكور
وعدم الالتفات إلى هذه التعليلات العليلة، سيما مع تأيده بما قدمناه من النصوص
التي من هذا القبيل والله العالم.
العاشرة قد روى الشيخ في التهذيب عن غياث بن إبراهيم (2) عن جعفر

(1) الكافي ج 5 ص 180 عن جميل التهذيب ج 7 ص 125 مع اختلاف
يسير الفقيه ج ص 142.
(2) الوسائل الباب 16 من أبواب أحكام العقود الرقم - 20.
70

عن أبيه عن علي عليهم السلام " أنه كره بيع صك الورق حتى يقبض " قال في النهاية الأثيرية
في حديث أبي هريرة قال المروان: أحللت بيع الصكاك، هي جمع صك وهو
الكتاب، وذلك أن الأمراء كانوا يكتبون الناس بأرزاقهم وعطياتهم كتبا فيبيعون
ما فيها قبل أن يقبضوها معجلا، ويعطون المشتري الصك ليمضي ويقبضه فنهوا عن
ذلك لأنه بيع ما لم يملك ولم يقبض، انتهى.
وقال ابن إدريس في السرائر: ولا يجوز أن يبيع الانسان رزقه على السلطان
قبل قبضة له، لأن ذلك بيع غرر، وبيع ما ليس يملك له، لأنه لا يملكها لا بعد قبضه
إياه، ولا يتعين ملكه إلا بعد قبضه إياه، وكذلك بيع أهل مستحق الزكوات والأخماس
قبل قبضها، لأنه لا يتعين ملكها لهم إلا بعد قبضها، فجميع ذلك غير مضمون، وبيعه
غير جائز ولا صحيح، انتهى.
وقد تقدم كثير من مسائل هذا الفصل في الفصول المتقدمة.
الفصل الثاني عشر
في نكت متفرقة وهي بمنزلة النوادر لكتاب البيع، الأولى: لو أمر العبد
آمر أن يبتاع له نفسه من مولاه فظاهر كثير منهم الجواز، وقيل: بالعدم، وعلل
العدم بأمرين، أحدهما اعتبار التغاير بين المتعاقدين، وعبارة العبد كعبارة سيده،
وثانيهما اشتراط إذن المولى في تصرف العبد، ولم يسبق له منه إذن، ورد الأول
بأن المغايرة الاعتبارية كافية، ومن ثم اجتزئنا بكون الواحد الحقيقي موجبا قابلا
وهنا أولى، والثاني بأن مخاطبة السيد له بالبيع في معنى التوكيل له في تولي
القبول، ويظهر من بعض محققي متأخري المتأخرين المناقشة في الثاني قال: إذ ينبغي ثبوت
الوكالة قبل العقد، ويمكن القول بأنه حاصل هنا لأن خطابه بأن يبيعه من موكله
يدل على تجويز الوكالة سابقا والرضا، إلا أن يقال: لا بد من التصريح حتى يعلم
العبد الذي هو الوكيل، وذلك غير معلوم، وقد يناقش في القبلية أيضا، إذ قد يكفي
المعية وحين العقد، بحيث لا يقع جزء من العقد قبل الوكالة، انتهى.
71

أقول: والمسألة لخلوها عن النص موضع اشكال، فإن مقتضى قواعدهم
وهو ظاهر الأخبار أيضا أن المملوك محجور عليه، لا يصح شئ من أفعاله من بيع
وغيره إلا بإذن مولاه، وظاهر تفرع الصحة على تقدم الإذن والوكالة، والذي هنا
ليس كذلك والله العالم.
الثانية: قد صرح جملة من الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه بأنه يجوز
للحاكم الشرعي أن يبيع على السفيه والمفلس والغائب مع المصلحة، وظاهر أخبار
نيابته عن الإمام عليه السلام يقتضي ذلك، فإن للإمام عليه السلام ذلك لأنه أولى بالمؤمنين من
أنفسهم.
وكما ورد في خصوص المفلس مثل رواية عمار (1) عن أبي عبد الله عليه السلام
" قال كان أمير المؤمنين عليه السلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم يأمر فيقسم
ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فيقسم بينهم يعني ماله "
ومثلها رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السلام وفي مرسلة جميل (2)
عن جماعة من أصحابنا عنهما عليهما السلام قالا الغايب يقضى عنه إذا قامت عليه
البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غايب ويكون الغايب على حجته إذا قدم "
الحديث وهو ظاهر في بيع الحاكم الشرعي الذي قد ثبت الدين عنده بالبينة،
ويتعدى ذلك إلى عدول المؤمنين مع فقد الحاكم الشرعي كما يدل عليه بعض الأخبار
من جواز تولي عدول المؤمنين لبعض الحسبيات مع فقد الحاكم، ولأنه احسان
محض، ولا سبيل على المحسنين.
الثالثة: قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجوز الجمع في عقد واحد بين
لمختلفات كبيع، وإجارة، ونكاح، وسلف، بعوض واحد، ويقسط عن ثمن المثل،

(1) الكافي ج 5 ص 102 الوسائل الباب - 6 من أبواب أحكام الحجر
الرقم - 1.
(2) الكافي ج 5 ص 102
72

وأجرة المثل ومهره، كأن يقول: بعتك هذا الثوب، وآجرتك هذا الدار سنة،
وأنكحتك ابنتي، وبعتك مئة من حنطة إلى شهر، بمئة دينار، فيقول: قبلت، فإنه
صحيح عندهم، واعترضهم في هذا المقام المحقق الأردبيلي (عطر الله مرقده) فقال:
بعد نقل ذلك عنهم، دليله عموم أدلة جواز العقود، وعدم ظهور المانع، ويمكن
عدم الجواز، لجهالة ثمن المبيع، وأجرة السكنى، ومهر الابنة حال البيع، وهو
ليس أقل في الجهل مما إذا قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بكذا، هو غير جايز
عندهم للجهالة، ولهذا نقل في التذكرة عن الشيخ عدم جواز بيع عبدين يكون
كل واحد منهما لشخص وباعاهما صفقة لجهالة ثمن كل واحد، ويمكن الفرق بأن
هذا الكل لشخص واحد، والظاهر أنه لا ينفع على أن المهر للبنت، وأنهم ما يفرقون
ويؤيد عدم الجواز ما روي من طرقهم وطرقنا المنع من جواز بيع وشرط
مثل رواية عمار (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله رجلا من أصحابه
واليا فقال له: إني بعثتك إلى أهل الله يعني إلى أهل مكة فانهاهم عن بيع ما لم يقبض
وعن شرطين في بيع وعن ربح ما لم يضمن " ويطلق الشرط على البيع كثيرا.
ورواية سليمان بن صالح (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله
عن سلف وبيع، وعن بيعين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم
يضمن " والمصنف في التذكرة رد دليل الشيخ بأنه يكفي معلومية الثمن الكل، ولا
يحتاج إلى معرفة ثمن الأجزاء لأن الصفقة الواحدة يكفي معلومية الثمن الذي فيها
وقال: ليس المراد بالشرط كل الشرط كل الشرط لجواز البعض بالاتفاق فكأنه محمول على
الشرط المخالف للكتاب والسنة فحمل الشرط على معناه، والظاهر ما قلناه كما يفهم من
هذه الرواية، ويمكن أن يقال: الروايتان غير صحيحتي السند، فلا يصلحان لمعارضة
عموم أدلة الكتاب والسنة والأصل، ويمكن حملها على بعض الشرايط المخالفة للكتاب
والسنة، والبيوع الغير الحايزة فتأمل والاحتياط واضح، انتهى كلامه زيد مقامه.

(1) التهذيب ج 7 ص 231 و 230.
(2) التهذيب ج 7 ص 231 و 230.
73

أقول: ويمكن تطرق النظر إليه في مقامين: أحدهما ما ذكره من جهالة ثمن المبيع
وأجرة السكنى، فإن فيه ما ذكره العلامة هنا، وهو المفهوم من قواعد في أمثال هذا
المقام، وحاصله أن اعتبار معلومية القيمة إنما هو باعتبار العقد الواقع والصفقة التي
انعقد عليها البيع، سواء كان ما وقع عليه متحدا أو متعددا وإن احتيج بعد ذلك إلى
التقسيط في المتعدد، كما لو باع ملكه وملك غيره، والجهالة بالنسبة إلى قسط كل واحد
مما وقع عليه العقد غير مؤثر.
قال في المسالك: لا خلاف عندنا في صحة ذلك كله، لأن الجميع بمنزلة عقد
واحد، والعوض فيه معلوم بالإضافة إلى الجملة، وهو كاف في انتفاء الغرر والجهالة،
وإن كان عوض كل منها بخصوصه غير معلوم، وكون كل واحد بخصوصه بيعا
في المعنى، وبعضه إجارة أو غيرها الموجب لعوض معلوم لا يقدح، لأن لهذا العقد
جهتين، فبحسب الصورة هو عقد واحد، فيكفي العلم بالنسية إليه، ثم إن احتيج
إلى التقسيط قسط على ما ذكر، وهو نص فيما قلنا، إلا أن يحمل كلامه (قدس سره)
على منع ذلك، وأنه حيث كان مرجع هذا العقد في المعنى إلى عقود متعددة فإنه
يشترط في كل من تلك العقود، وهذا التفريع الذي ذكره في المسالك إنما يتجه
لو قام الدليل على صحة مثل هذا العقد، وقد عرفت أنه لا دليل عليه، زيادة على ما يدعونه
من الاجماع بينهم.
وثانيها ما استند إليه من الخبرين المذكورين، فإني لا أعرف لذلك وجها
ظاهرا وإن سلمنا اطلاق الشر ط على البيع، فإنه ليس في العقد المفروض أولا بيعان
في بيع، ليدخل تحت هذين الخبرين، وبيان معنى الخبرين المذكورين أن
معنى بيعين في بيع على ما ذكره بعضهم هو أن يقول بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة، نسيئة
بخمسة عشر، قال: وإنما نهى عنه لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه
العقد.
أقول فيه أن ما ذكره، وإن كان هو المصرح به في كلام الأصحاب لكنه مردود
بما صرحت به الأخبار من صحة البيع، وأنه ليس له إلا أقلهما نظرة، وقيل: إن
74

معناه هو أن يقول: بعتك هذا بعشرين على أن تبعني ذلك بعشرة، وأما معنى بيع
وسلف فهو أن يقول: بعتك منا من طعام حالا بعشرة، وسلفا بخمسة.
وأما النهي عن بيع ما ليس عنده فيجب تخصيصه بما إذا كان البيع حالا،
والمبيع غير موجود في ذلك الوقت، كالبطيخ ونحوه في غير أوانه، وإلا فلا مانع
من الصحة اتفاقا نصا وفتوى.
وأما النهي عن ربح ما لم يضمن فالمراد أن يبيع المتاع الذي اشتراه مرابحة
قبل أن يوجب البيع، فإنه قد ورد النهي عنه في عدة أخبار.
وأما بيع ما لم يقبض، فقد تقدم الكلام والخلاف فيه تحريما وكراهة بالنسبة
إلى المكيل والموزون، أو الطعام بخصوصه، وبالجملة فإني لا أعرف لاستناده إلى
هذين الخبرين وجها ظاهرا.
نعم يمكن أن يقال: إن الأصل بقاء كل شئ على أصله حتى يثبت الناقل
شرعا، لم يثبت كون مثل هذا العقد المشتمل على هذه الأشياء المختلفة ناقلا،
والذي علم من الأخبار وهو الذي استمر عليه عمل الناس وعادتهم إنما هو استقلال
البيع بعقد على حدة، والنكاح بعقد على حدة، والسلف كذلك، والإجارة ونحو
ذلك، والأحكام التي بحثوا عنها في هذه العقود إنما تترتب على ذلك، ثبوت
ذلك في بيع أمتعة متعددة في عقد واحد وتقسيط الثمن على الجميع لو سلم الدليل
على صحته، لا يقتضي قياس هذا العقد عليه كلية، لظهور الفارق ولا سيما بالنسبة
إلى عقد النكاح، فإنهم إنما حكموا هنا بمهر المثل، مع أن الظاهر أن هذه من
قبيل المفوضة، وهي التي لم يعين لها مهر، وقد صرحوا بأنها ترجع إلى مهر
السنة لو زاد مهر المثل عنه، فلا يتم اطلاق مهر المثل هنا، وبالجملة فالمسألة محل
توقف واشكال.
وأما كيفية التقسيط بناء على ما ذكروه من صحة العقد المذكور فهو أن يقوم
كل من تلك الأشياء منفرد أو تنسب قيمته إلى المجموع، ثم يؤخذ من ذلك
75

العوض الذي وقع عليه العقد بتلك النسبة (1).
الرابعة: لو تضمن عقد البيع شرطا فاسدا قال الشيخ يبطل الشرط خاصة دون
البيع، وبه قال ابن الجنيد وابن البراج، وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك:
والمعتمد عندي بطلان العقد والشرط معا، قال لنا أن للشرط قسطا من الثمن، فإنه قد
يزيد باعتباره، وقد ينقص، وإذا بطل الشرط بطل ما بإزائه من الثمن وهو غير معلوم
فتطرقت الجهالة إلى الثمن، ويبطل البيع، وأيضا البايع إنما رض بنقل سلعته
بهذا الثمن المعين على تقدير سلامة الشرط له وكذا المشتري إنما رضي ببذل هذا
الثمن في مقابلة العين على تقدير سلامة الشرط، فإذا لم يسلم لكل منهما ما شرطه،
كان البيع باطلا، لأنه يكون تجارة عن غير تراض ثم نقل عن الشيخ أنه احتج بقوله
تعالى (2) " وأحل الله البيع " وهذا بيع فيكون صحيحا، والشرط باطلا، لأنه
مخالف للكتاب والسنة.
وبما روي عن عايشة (3) " أنها اشترت بريرة بشرط العتق، ويكون ولائها
لمولاها فأجاز النبي صلى الله عليه وآله البيع وأبطل الشرط، وصعد المنبر، وقال: ما بال
أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل
وكتاب الله أحق، وشرطه أوثق " ثم قال مجيبا عن ذلك: والجواب عن الأول أن
المبيع إنما يكون حلالا لو وقع على الوجه المشروع، ونحن نمنع من شرعيته،

(1) وتوضيحه أن يقال: قيمة الثوب يومئذ بخمسة دنانير، وأجرة الدلال
ديناران، ومهر المثل عشرون دينارا وقيمة الحنطة إلى المدة المذكورة ثلاثة دنانير،
مجموع هذه الدنانير ثلاثون دينارا، ونسبة قيمة الثوب وهي الخمسة إلى الثلاثين
السدس، فيؤخذ من العوض المذكور في العقد سدسه، وهكذا باقي تلك الأشياء
المذكورة في العقد، منه رحمه الله.
(2) سورة البقرة الآية - 275.
(3) المستدرك ج 2 ص 473.
76

وعن الثاني من وجوه الأول الطعن في السند، الثاني الحديث ورد هكذا (1).
" قالت عايشة: جائتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسمع أواق في كل
عام أوقية فأعينيني فقالت لها عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك
لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم: ذلك فأبوا عليها، فجائت من عند أهلها
ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس، فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا
أن يكون الولاء لهم، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وآله فسألها فأخبرت عايشة النبي صلى الله عليه وآله فقال:
خذيها واشترطي لهم الولاء لمن أعتق، ففعلت عايشة، ثم قام:
رسول الله صلى الله عليه وآله فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا
ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو بالطل وإن كان
مئة شرط، فقضاء الله أحق وشرط الله أو ثق، وإنما الولاء لمن أعتق ".
وهذا ينافي ما ذكره الشيخ واستدل به عليه، لأن بريرة أخبرت بأنها كوتبت
وطلبت الإعانة من عايشة، فسقط الاستدلال به بالكلية.
الثالث المراد بقوله عليه السلام " اشترطي لهم الولاء " أي عليهم لأنه عليه السلام أمرها به،
ولا يأمرها بفاسد، وكيف يتأتى عن الرسول مع تحريم خائنة الأعين وهو الغمز وضع
حيلة لا تتم انتهى كلامه زيد اكرامه.
ولا يخفى ما فيه على الفطن النبيه الذي قد جاس خلال ديار الأخبار وما جرت
به في هذا المضمار وإن كان قد تبعه على هذا القول جل المتأخرين بل كلهم على ما
يظهر من كلام من وقفنا على كلامه، ومنهم شيخنا الشهيد الثاني وسبطه السيد السند
في شرح النافع وغيرهم.
وما ذكره (قدس سره) من التعليل لبطلان العقد بالعلل الاعتبارية المذكورة
وإن كان مما يتسارع إلى الذهن قبوله، وإلا أن الأخبار ترده وتدفعه، وما ذكره من
خبر بريرة هنا من كلام الشيخ الذي نقله عنه وفي كلامه هو " قدس سره " الظاهر أنه
من طرق العامة.

(1) سنن البيهقي ج - 10. 295.
77

والذي وقفت عليه من طرقنا هو ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن
الحلبي (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه ذكر أن بريرة كانت عند زوج لها وهي
مملوكة فاشترتها عايشة فأعتقتها، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: إن شاءت تقر عند
زوجها وإن شاءت فارقته، وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عايشة أن لهم
ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الولاء لمن أعتق ".
وما رواه في الكافي في الصحيح عن عيص بن القسم (2) عن أبي عبد الله
عليه السلام " قال: قالت عايشة لرسول الله صلى الله عليه وآله: إن أهل بريرة اشترطوا ولاءها
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الولاء لمن أعتق ".
والحديثان كما ترى صحيحان صريحان في صحة البيع مع فساد الشرط،
وبه يظهر أن خبر الشيخ وإن كان عاميا إلا أنه هو الأصح لموافقته لأخبار أهل البيت
عليهم السلام بخلاف خبره، وبذلك أيضا يظهر بطلان ما ذكره من تلك التعليلات
العليلة.
ومن الأخبار الواردة في المسألة المذكورة بالنسبة إلى النكاح ما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن قيس (3) " عن أبي جعفر عليه السلام في رجل يتزوج
المرأة إلى أجل مسمى، فإن جاء بصداقها إلى أجل مسمى فهي امرأته وإن لم يأت
بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل، وذلك شرطهم بينهم حين انكحوا، فقضى
للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم ". ونحوها صحيحة ثانية له أيضا.
وما رواه في الكافي عن الوشا (4) عن الرضا عليه السلام " قال: سمعته يقول
لو أن رجلا تزوج امرأة جعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان
المهر جايزا والذي جعله لأبيها فاسدا ".

(1) الفقيه ج 3 ص 79.
(2) الكافي ج 6 ص 198 التهذيب ج 6 ص 250.
(3) الوسائل الباب - 10 من أبواب المهور الرقم - 2.
(4) الوسائل الباب - 9 - من أبواب المهور الرقم - 1.
78

قال السيد السند في شرح مختصر النافع يستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد
باشتماله على هذا الشرط الفاسد انتهى، وقدم تقدم الكلام في هذه المسألة مرارا عديدا
سيما في مقدمات الكتاب في جلد كتاب الطهارة، وقد ذكرنا ثمة ورود بعض الأخبار
دالة أيضا على القول المشهور (1) وأن الأولى هو الوقوف على الأخبار في كل جزئي
من الأحكام من غير أن يكون ذلك قاعدة كما ادعوه.
ثم أنه لا يخفى أن ما أجاب به عن حجة الشيخ الأولى محض مصادرة، وأن حديثه
الثاني الذي أورده على الشيخ دال على ما دل عليه خبر الشيخ، فإن قوله صلى الله عليه وآله لعايشة:
خذيها اشترطي لهم الولاء، ثم خط بعد ذلك بما يدل بطلان الشرط خاصة، أظهر
ظاهر في المدعى، والعجب منه " قد سره " اعتذاره عما دل عليه الخبر المذكور
من الغمز وخيانة الأعين، مع كون الخبر عاميا، وأعجب من ذلك جعل الاعتذار
المذكور وجها ثالثا من وجوه الجواب عن حديث الشيخ، مع أن ذلك أنما هو في
حديثه، وبالجملة فإن الاستعجال، عدم التدبر في المقال مما يوجب مزيد الاختلال.
الخامسة: قال العلامة في المختلف: المشهور بين علمائنا الماضين ومن عاصرناه
إلا من شذ أنه يجوز بيع الشئ اليسير بأضعاف قيمته بشرط أن يقرض البايع المشتري
شيئا، لأنهم نصوا على جواز أن يبيع الانسان شيئا ويشترط الاقراض أو الاستقراض،
أو الإجارة أو السلف أو غير ذلك من الشروط السابقة، وقد كان بعض من عاصرناه
يتوقف في ذلك، لنا وجوه.

(1) أقول: ومن الأخبار الظاهرة في القول المشهور ما رواه المشايخ الثلاثة
(عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن الحلبي " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ثم رده على صاحبه فأبا أن يقبله
إلا بوضيعة، قال لا يصلح أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباع بأكثر من ثمنه
رد على صاحبه الأول ما زاد " وهو كما ترى ظاهر في بطلان الإقامة لبطلان اشتراط
الوضيعة وأن الثوب باق على ملك الأول فله زيادة الثمن إذا باعه بأكثر من ثمنه.
منه رحمه الله.
79

الوجه الأول: قوله تعالى (1) " وأحل الله البيع " وهذا أحد جزئياته.
الثاني: قوله تعالى (2) " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " دل الاستثناء
على تسويغ التجارة المقترنة بالرضا، وصورة النزاع داخل تحته.
الثالث: أنه لا خلاف بين علماء الأمصار في جواز بيع الشئ بأضعاف قيمته،
فنقول انضمام الشرط إليه لا يغير حكمه، لأنه شرط سايغ يجوز اشتراطه في البيع
بثمن الثمل، أو في الإجارة أو غيرهما من العقود اجماعا فيجوز في صورة النزاع،
إذ الحكمة الداعية إلى شرعيته في تلك الصور موجودة هنا، ولقولهم عليهم السلام (3)
" المؤمنون عند شروطهم ".
الرابع: اتفاق علماء الإمامية السابقين، فإنهم قالوا لا بأس أن يبتاع الانسان من
غيره متاعا أو حيوانا أو غير ذلك بالنقد والنسية، ويشترط أن يسلفه البايع شيئا في
مبيع أو يقرضه شيئا معلوما إلى أجل. أو يستقرض منه، فيكون حجة، لما ثبت من
أن اجماع الإمامية حجة.
قال المفيد: لا بأس أن يبتاع الانسان من غيره متاعا أو حيوانا أو عقارا بالنقد
والنسيئة معا على أن سلف البايع شيئا في مبيع أو يستسلف منه في مبيع، أو يقرضه
مئة درهم إلى أجل أو يستقرض منه.
قال: وقد أنكر ذلك جماعة من أهل الخلاف ولسنا نعرف لهم حجة في الانكار
وذلك أن البيع وقع على وجه حلال، والسلف والقرض جايزان، واشتراطهما في
عقد البيع غير مفسد له بحال، قال: وقد سئل الباقر عليه السلام عن القرض يجر النفع
" فقال: خير القرض ما جر المنفعة "
الخامس: تظاهر الروايات عليه وتطابقها من غير معارض، فيتعين العمل
عليه، روى سليمان بن محمد الديلمي (4) عن أبيه عن رجل " كتب إلى العبد

(1) سورة البقرة الآية - 275
(2) سورة النساء الآية - 29.
(3) الكافي ج 5 ص 196 التهذيب ج 7 ص 22.
(4) التهذيب ج 7 ص 33 لكن فيه عن محمد بن سليمان الديلمي.
80

الصالح (عليه السلام): يسأله أني أعامل قوما أبيعهم الدقيق أربح عليهم في القفيز
درهمين إلى أجل معلوم، وهم يسألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم، فهل
من حيلة لا أدخل في الحرام؟ فكتب إليه أقرضهم الدراهم قرضا وازدد عليهم في نصف
القفيز ما كنت تربح عليهم "
وفي الصحيح عن عبد الملك بن عتبة (1) " قال: سألته عن الرجل يريد أن
أعينه المال ويكون لي عليه مال قبل ذلك فيطلب مني مالا أزيده على مالي الذي
عليه أيستقيم أن أزيده مالا وأبيعه لؤلؤة تسوى مئة درهم بألف درهم، فأقول له: أبيعك
هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن أؤخرك بثمنها وبمالي عليك كذا وكذا شهرا؟
قال: لا بأس ".
وعن محمد بن إسحاق بن عمار (2) " قال: قلت للرضا عليه السلام:
الرجل يكون له المال قد حل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تسوى مئة درهم بألف درهم
ويؤخر عنه المال إلى يوقت؟ قال: لا بأس، قد أمرني أبي ففعلت ذلك وزعم أنه
سأل أبا الحسن عليه السلام: عنها فقال له: مثل ذلك " ثم أطال في الاستدلال إلى أن
بلغ خمسة وعشرين دليلا وأوضحها ما ذكرناه
ثم نقل حجة المانعين فقال: احتج المانعون بما رواه يعقوب بن شعيب (3)
في الصحيح عن الصادق عليه السلام: " قال: سألته عن رجل يسلم في بيع أو تمر
عشرين دينارا ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينارا قال: لا يصلح،
إذا كان قرضها يجر نفعا فلا يصلح ".
وعن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام " قال: من أقرض رجلا ورقا

(1) الكافي ج 5 ص 206 التهذيب ج 7 ص 52
(2) الكافي ج 5 ص 205 التهذيب ج 7 ص 53
(3) الوسائل الباب 19 من أبواب الدين رقم - 9
(4) الوسائل الباب - 19 - من أبواب الدين رقم 11
81

فلا يشترط إلا مثلها، فإن جوزي بأجود منها فليقبل، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة
أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه ".
وما رواه خالد بن الحجاج (1) " قال: جاء الربا من قبل الشروط ".
وما رواه الوليد بن صبيح (2) عن الصادق عليه السلام " قال: الذهب بالذهب والفضة
بالفضة والفضل بينهما هو الربا المنكر " ولأن البيع بالمحاباة نفع وهو مشترط
في القرض، فيجب أن يكون حراما
ثم أجاب عن ذلك قال: والجواب عن الروايات بعد سلامة سندها أنها دالة
على الكراهة لا التحريم، على أنا نقول الرواية الأولى وهي الصحيحة معارضة
برواية محمد بن مسلم، ونقول بموجب الرواية الثانية، فإن اشتراط النفع في القرض
حرام بالاجماع، وهو غير صورة النزاع، وكذا عن الرواية الثالثة، فإن كل شرط
لو تضمن الربا لكان باطلا بالاجماع، مع أنا نصحح أكثر الشروط بالاجماع، فإذا
لا محل لها إلا مع اشتراط الزيادة في المتساوي جنسا مع عقد البيع، وهذا هو
الربا بعينه، وهو غير محل النزاع.
وكذا الرابعة فإنها صريحة في تناول الربا إذ لا قائل بإباحة الفضة بالفضة مع
الزيادة، ولا الذهب مع الزيادة.
وعن الثاني بوجهين الأول المعارضة بما روي من قولهم عليهم السلام (3) " خير
القرض ما جر نفعا " ولأن المتنازع إباحة البيع بالمحاباة مع اشتراط القرض، لا
العكس انتهى ملخصا.
أقول منشأ شبهة القائل المذكور هو أنه لما كان السبب في هذا القرض من

(1) التهذيب ج 7 ص 112.
(2) التهذيب ج 7 ص 98.
(3) الوسائل الباب - 19 - من أبواب الدين الرقم 5.
82

البايع للمشتري هو كون المشتري أخذ سلعته بأضعاف قيمتها، فيصير الحامل للبايع
على القرض هو ذلك، والقرض إذا جر المنفعة كان باطلا، فالواجب الحكم ببطلان
البيع المذكور، وهو توهم فاسد، لأن المستفاد من الأخبار كما سيأتي ذكرها
انشاء الله تعالى جميعا في كتاب الديون والجمع بينهما هو أن المحرم إنما هو القرض
الذي يشترط فيه النفع، لا ما يجر النفع بقول مطلق، والمستفاد من بعضها أن
تحريم ما يجر النفع مطلقا مذهب العامة، كما تقدم ذكره في كلام شيخنا المفيد
رحمه الله.
وحينئذ فما دل على خلاف ما ذكرناه من الأخبار كصحيحة يعقوب بن شعيب
المذكورة فهو محمول على الاشتراط أو التقية، والعلامة إنما أجاب عنها بالمعارضة
لصحيحة محمد بن مسلم، والظاهر أنها ما رواه المشايخ الثلاثة عنه (1) وعن غيره
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضا ويعطيه الرهن
أما خادما وأما آنية وأما ثيابا، فيحتاج إلى شئ من منفعته، فيستأذنه فيه فيأذن له؟
قال: إذا طابت نفسه فلا بأس به، فقلت: إن من عندنا يرون أن كل قرض يجر منفعة
فهو فاسد، فقال: أوليس خير القرض ما جر منفعة ".
وهذه الرواية هي التي أشرنا إليها في الدلالة على أن ذلك مذهب العامة و
نحوها في الدلالة على أن خير القرض ما جر منفعة غيرها أيضا.
والعجب أنه سكت عن الجواب عن رواية محمد بن قيس، مع أنها ظاهرة
في الدلالة على أن التحريم إنما هو من حيث الشرط لا مطلقا، لقوله أولا فلا يشترط
إلا مثلها، وإن جوزي بأجود منها فيقبل، وقوله ثانيا " يشترط من أجل قرض ورقه "
يعني لا يجعل عارية المتاع أو ركوب الدابة شرطا في القرض، وهو ظاهر.
ومما ذكرنا يعلم أن ما أطال به (قدس سره) من الوجوه التي ذكرها غير
محتاج إليه، لأن بيع الشئ بأضعاف ثمنه مما لا نزاع فيه، وكذا وقوع الشروط

(1) الوسائل الباب - 19 - أبواب الدين الرقم 4.
83

في العقود في الجملة، وإنما منشأ الشبهة هو ما ذكرناه.
والجواب عنها هو ما عرفت، على أن النهي في الصورة المفروضة إنما هو
كون القرض شرطا في البيع، والممنوع منه شرعا إنما هو شرط النفع في القرض،
وإليه أشار العلامة آنفا، وبالجملة فالاشكال إنما يقع فيما لو أقرضه بشرط أن
يشتري ماله بأضعافه (1) بأنه موجب لاشتراط النفع في القرض المنهي عنه في
الأخبار، وإن كانت الصورة المفروضة راجعة إلى هذا في المعنى، إلا أنه إنما يحلل
ويحرم الكلام، كما ورد في بعض الأخبار (2) لا مجرد القصد بأي وجه اتفق والله
العالم.
السادسة: قال الشيخ المفيد (عطر الله مرقده): إذا قوم التاجر على الواسطة
المتاع بدراهم معلومة ثم قال له: بعه فيما تيسر لك فوق هذه القيمة فهو لك والقيمة لي
جاز ولم يكن بين التاجر والواسطة بيع مقطوع، فإن باعه الواسطة بزيادة على
القيمة كانت له، وإن باعه بها لم يكن على التاجر شئ، وإن باعه بدونها كان عليه
تمام القيمة لصاحبه، وإن لم يبعه كان له رده، ولم يكن للتاجر الامتناع من قبوله
ولو هلك المتاع في يد الواسطة من غير تفريط منه كان من مال التاجر، ولم يكن
على الواسطة ضمان، وإذا قبض الواسطة المتاع من التاجر على ما وصفناه لم يجز
أن يبيعه مرابحة، ولا يذكر الفضيلة على القيمة في الشراء، وإذا قال الواسطة للتاجر
خبرني بثمن هذا الثوب واربح علي فيه شيئا لا بيعه، ففعل التاجر ذلك وباعه الواسطة
بزيادة على رأس المال وا لربح كان ذلك للتاجر، دون الواسطة، إلا أن يضمنه

(1) ومن ثم ورد في موثقة إسحاق بن عمار " قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام:
الرجل يكون له عند الرجل المال قرضا فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على
صاحبه منفعة، فينيله الرجل الشئ بعد الشئ كراهية أن يأخذ ماله حيث لا يصيب
منه منفعة، أيحل ذلك؟ قال: سألت إذا لم يكن بشرط " ونحوها رواية الحسين
بن أبي العلا منه رحمه الله.
(2) الكافي ج 5 ص 201.
84

الواسطة، وأوجبه على نفسه، فإن فعل ذلك جاز له أخذ الفضل على الربح، لم يكن
للتاجر إلا ما تقرر بينه وبينه انتهى، ونحوه قال الشيخ في النهاية وابن البراج.
وقال ابن إدريس بعد ايراد كلام الشيخ في النهاية: ما أورده الشيخ غير
واضح، وأشار به إلى ما ذكره أولا من أنه إذا قوم التاجر متاعا على الواسطة بشئ
معلوم، وقال له بعه فما زادت على رأس المال فهو لك والقيمة لي، ثم زاد كانت
الزيادة للواسطة، ولا يجوز له أن يبيعه مرابحة قال: لأن هذا جميعه لا بيع مرابحة
ولا إجارة، ولا جعالة محققة، وإذا باع الواسطة بزيادة على ما قوم عليه لم يكن للواسطة
في الزيادة شئ، لأنها من جملة ثمن المتاع، والمتاع للتاجر لم ينتقل عن ملكه بحال
وللواسطة أجرة المثل، لأنه لم يسلم له العوض، فيرجع إلى المعوض، وكذلك
إن باعه برأس المال، وإن باعه بأقل كان البيع باطلا، وإن تلف المبيع كان
الواسطة هنا ضامنا، ثم أي شراء بين التاجر والواسطة حتى يخبر بالثمن، وليس
هذا موضع بيع المرابحة في الشريعة بغير خلاف، وإنما أورد أخبار الآحاد في
هذا الكتاب ايرادا لا اعتقادا، وقول الشيخ ثانيا وإذا قال الواسطة خبرني بثمن هذا
المتاع واربح علي فيه كذا ففعل كانت الزيادة للتاجر، وله أجرة المثل يوضح
ما نبهنا عليه انتهى.
أقول: والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الاسلام
في الكافي والشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) عن أبي عبد الله عليه السلام
" أنه قال في رجل قال لرجل: بع ثوبي بعشرة دراهم فما فضل فهو لك، قال ليس
به بأس "
وما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن سماعة (2) في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام " في الرجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوموا عليه قيمة، فيقولون
بع فما ازددت فلك، قال: لا بأس بذلك، ولكن لا يبيعهم مرابحة ".

(1) الكافي ج 5 ص 195 التهذيب ج 7 ص 54.
(2) الكافي ج 5 ص 195 التهذيب ج 7 ص 54.
85

وما رواه الشيخ في التهذيب عن زرارة (1) في الصحيح " قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: الرجل يعطي المتاع فيقال: ما ازددت على كذا وكذا فهو
لك، فقال: لا بأس " ورواه بسند آخر في الموثق عن زرارة عن أبي جعفر
عليه السلام مثله.
وهذه الأخبار كما ترى متفقة الدلالة على ما قاله الشيخان، وردها بأنها أخبار
آحاد خارج عن جادة السداد.
بقي الكلام في أن الظاهر أن هذا من باب الجعالة، ومال الجعالة يجب
أن يكون معلوما، وهنا ليس كذلك، وهذا هو السبب في منع ابن إدريس هنا من
صحة ما ذكره الشيخ، وفيه ما ذكره جمع من الأصحاب من أن وجوب معلومية الجعالة
إنما هو في موضع يؤدي الجهل بها إلى التنازع، وهو منفي هنا، إذ الزيادة للواسطة
متى زاد على ما قومه عليه التاجر مهما كانت الزيادة قليلة أو كثيرة، وإلا فلا شئ له
لحصول التراضي على ذلك، بخلاف الجعالة المجهولة المؤدية إلى التنازع، وبذلك
يظهر الفرق بين ذلك، وبين ما إذا قال الواسطة: خبرني بثمن المتاع واربح علي فيه
ففعل، فإن الزيادة للتاجر وللواسطة أجرة المثل، فإنه على هذه الصورة لا بيع ولا جعالة،
فمن أجل ذلك حكم بالزيادة للتاجر، وللواسطة بأجرة المثل، فاعتضاد ابن إدريس
هذه الصورة في الرد على الشيخ حيث قال: وقول الشيخ ثانيا إلى آخره ليس في
محله، لظهور الفرق، وقد تقدم تحقيق القول في هذا المقام في الفصل الخامس في
المرابحة والمواضعة والتولية هذا.
والنهي عن البيع مرابحة في موثق سماعة أما من حيث أنه لم ينتقل المبيع إليه
بهذا الكلام الذي وقع بينهما، لعدم تحقق البيع بمجرد التقويم عليه هذا إن كان باع
لنفسه، وإن كان للتاجر وكالة فرأس المال غير معلوم، لأن تقويمه على الدلال بقيمة
أعم من أن يكون برأس المال أو بزيادة فيه، بل الغالب هو الثاني، والواجب في بيع
المرابحة معلومية رأس المال والربح، وأما ما حكم به الشيخان من صحة البيع لو باعه

(1) التهذيب ج 7 ص 54.
86

بأقل مما قومه عليه، وأن على الدلال تمام القيمة، وقول ابن إدريس إن البيع
هنا باطل فالظاهر أنه متفرع على الكلام في صحة البيع الفضولي وبطلانه
وظاهر ابن إدريس الثاني، وأما على تقدير القول بصحته فينبغي التفصيل في
المقام بأنه إن رضي المالك، وأجاز البيع المذكور فليس له المطالبة بما زاد على
القيمة التي باع بها الواسطة، وإن لم يجز البيع فإن له المطالبة بعين ماله إن كانت
العين قائمة، فيلزم الدلال بتخليصها وارجاعها، وإن تعذر ذلك كان له الرجوع على
الدلال بالقيمة، وعلى هذا فينبغي أن يحمل كلام الشيخين هنا على ما إذا لم يجز البيع،
وتعذر الرجوع إلى العين.
السابعة: قد صرح الأصحاب بأن أجرة الكيال والوزان على البايع، وأجرة
الناقد ووزان الثمن على المشتري، وأجرة الدلال على الآمر، ولو باع واشترى
فأجرة البيع على الآمر به، وأجرة الشراء على الآمر به.
أقول: والوجه في الأولين ظاهر، لأنه يجب على البايع توفية المشتري
المبيع وتسليمه بعد معلوميته بالكيل والوزن، وحينئذ فأجرة هذا العمل عليه لو لم
يفعله بنفسه، ونقد الثمن ووزنه، واجب على المشتري، لأنه يجب عليه توفية الثمن وتسليمه
فيجب عليه أجرة هذا العمل لو لم يفعله بنفسه.
وأما الثالث فكذلك، لأن لدلال بمنزلة الأجير، فإن كان وكيلا في البيع
فأجرته على البايع، وإن كان في الشراء فأجرته على المشتري.
بقي هنا شئ وهو أن الشيخ رحمه الله، قال في النهاية: لو نصب نفسه لبيع
الأمتعة كان له أجر البيع على البايع، ولو نصب نفسه للشراء كان له أجرة على
المبتاع، فإن كان ممن يبيع ويشتري كان له أجرة على ما يبيع من جهة البايع،
وأجرة على ما يشترى من جهة المبتاع انتهى.
وقال ابن إدريس: في قوله فإن كان ممن يبيع ويشتري إلى آخره ولا يظن
ظان أن المراد بذلك في سعلة واحدة يستحق أجرين، وإنما المراد بذلك أن من
كان صنعته يبيع تارة للناس، ويشتري لهم تارة، فيكون له أجرة على من يبيع له
87

في السلعة المبتاعة، فإن اشترى للناس سلعة غيرها كان له أجرة على من اشترى له تلك
السلعة، لا أنه يشتري سلعة واحدة ويبيعها في عقد واحد، لأن المشتري غير البايع
والبايع غير المشتري، وإنما مقصود شيخنا ما نبهنا عليه فليتأمل ذلك انتهى.
واعترضه العلامة في المختلف بأنه ليس بجيد، لأنا يجوز كون الشخص الواحد
وكيلا للمتعاقدين كالأب يبيع على ولده من ولده الآخر، وحينئذ يستحق أجرة
البيع على آمره، وأجرة الشراء على آمره،، وقوله العقد لا يكون إلا بين اثنين مسلم
وهو هنا كذلك لتعدد المنتسب إليه كالأب العاقد عن ولديه. انتهى.
وهو جيد إلا أن المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروضة - حيث
قال: المصنف وأجرة الدلال على أمر ولو أمراه فالسابق (1) ولو أمراه بتولي الطرفين
فعليهما - أن الذي عليهما متى أمراه بتولي الطرفين الإيجاب والقبول إنما هو أجرة واحدة
بالتنصيف، حيث قال بعد قول لمصنف في آخر العبارة المذكورة فعليهما: ما صورته
أجرة واحدة بالتنصيف اقترنا أم تلاحقا، ثم قال: ولو منعنا من تولي الطرفين من
الواحد امتنع أخذ أجرتين، لكن لا يتجه حمل كلام الأصحاب أنه لا يجتمع بينهما
لواحد عليه، لأنه قد عبر به من يرى جوازه، بل المراد أنه لا يجمع بينهما لعمل واحد،
وإن أمره البايع بالبيع، والمشتري بالشراء، بل له أجرة واحد عليهما، أو على أحدهما
كما فصلناه انتهى. وهو ظاهر في أنه مع تولي الطرفين ليس إلا أجرة واحدة بالتنصيف،
ومن الظاهر أنه لا فرق في تولي الطرفين بين الولي الشرعي كما تقدم في كلام العلامة،

(1) أقول: قوله ولو أمره في السابق حاصل معنى هده العبارة على ما يفهم
من الشرح أنه لو أمراه يعني كل من البايع والمشتري فالأجرة على الآمر أولا إن
كان مراد كل منهما المماكسة فقط من غير تولي طرفي العقد، وإن كان مرادهما
الأمر بتولي طرفي العقد فالأجرة عليهما معا بالمناصفة، سواء اقترنا أو تلاحقا
لكن بقيت هنا صورة ثالثة وهي ما لو أمراه بالمماكسة ولكن اقترنا من غير تقدم
أحدهما الآخر، وربما ظهر من فحوى كلام الشارح أنها ملحقة بالصورة الثانية و
هو الأمر بالعقد منه رحمه الله.
88

ولا بين الوكيل فيهما من جهة البايع والمشتري.
وكيف كان فهو ظاهر المنافاة لما تقدم في كلام العلامة، وقوله ولو منعناه
إلى آخره خرج مخرج الرد على المصنف في الدروس حيث قال: ولو منعنا من
تولية الطرفين امتنع أخذ أجرتين، وعليه يحمل كلام الأصحاب أنه لا يجمع
بينهما لواحد، وحاصله أنه فسر كلامهم بأن معناه أنه لا يجمع بين الأجرتين لشخص
واحد، وأن ذلك مبني على المنع من تولية الطرفين لشخص واحد بأن يتولى الإيجاب
والقبول، فقولهم ذلك إشارة إلى المنع في هذه الصورة تقدير القول به.
والشارح رده بأنه قد صرح بهذا الكلام من جوز تولي الطرفين لشخص
واحد، وحينئذ فلا يصح تفسير كلامهم بما ذكره، بل مرادهم بذلك الكلام إنما
هو أنه لا يجمع بين الأجرتين لعمل واحد، وإن كان هنا أمران أحدهما البيع،
والآخر الشراء، فإنه عمل واحد يستحق عليه أجرة واحدة منهما أو من أحدهما على
التفصيل الذي قدمه، ولا مدخل لبنائه على تولي الطرفين وعدمه.
وبالجملة فإن كلامه هنا ظاهر في أنه مع تولي الطرفين ليس له إلا أجرة واحدة
وهو ظاهر في خلاف ما قدمنا نقله عن العلامة.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام ما رواه في الكافي والتهذيب
في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) " قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام، وأنا أستمع
فقال له: ربما أمرتا الرجل فيشترى لنا الأرض والغلام والدار والخادم والجارية
ونجعل له جعلا قال: لا بأس بذلك " ورواه الشيخ بسندين آخرين مثله.
وما رواه في الكتابين المذكورين عن ابن أبي عمير (2) في الصحيح عن
بعض أصحابنا من أصحاب الرقيق " قال: اشتريت لا بي، عبد الله عليه السلام،
جارية فناولني أربعة دنانير فأبيت قال: لتأخذنها فأخذتها فقال: لا تأخذ من البايع ".
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن أبي ولاد (3) عن أبي عبد الله عليه السلام

(1) الكافي ج 5 ص 285 التهذيب ج 7 ص 156.
(2) الكافي ج 5 ص 285 التهذيب ج 7 ص 156.
(3) الكافي ج 5 ص 285 التهذيب ج 7 ص 156.
89

وغيره عن أبي جعفر عليه السلام " قالوا: قالا: لا بأس بأجر السمار إنما هو يشتري للناس
يوما بعد يوم بشئ معلوم، وأنا هو مثل الأجير " والسمار بالكسر المتوسط
بين البايع والمشتري، ومرسل ابن أبي عمير ظاهر في النهي عن أخذ الأجرة
من البايع بعد أخذها من المشتري، والظاهر أن الوجه في ذلك أن الآمر له إنما
هو المشتري، والبايع لم يأمره بالبيع له، فلا يستحق عليه شيئا، بل لو فرضنا أن
المشتري لم يدفع إليه أجرة فإنه لا رجوع له، على البايع متى كان لم يأمره،
وهو ظاهر.
الثامنة: قد تكاثرت الأخبار باستحباب الإقالة، وقدمنا طرفا منها في المقدمة
الثانية من مقدمات هذا الكتاب.
ومنها زيادة على ما تقدم ما رواه الصدوق (1) (قدس الله روحه) في المفتح
مرسلا عن أبي عبد الله عليه السلام، " قال: أيما مسلم أقال مسلما بيع ندامة أقاله الله عثرته
يوم القيمة ".
والكلام فيها يقع في مواضع: الأول الإقالة الأصحاب (رضوان الله
عليهم) من غير خلاف يعرف فسخ لا بيع، سواء كان في حق المتعاقدين أو
غيرهما، وسواء وقعت بلفظ الفسخ أو الإقالة، وأشير بهذه القيود إلى خلاف
العامة في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أنها بيع مطلقا، وبعض آخر إلى
أنها بيع إن وقعت بلفظ الإقالة، وفسخ إن وقعت بلفظ الفسخ ويلحقها أحكامه
وذهب بعض إلى أنها بيع بالنسبة إلى الشفيع خاصة؟ فيستحق الشفعة بها
وإن كانت فسخا في حق المتعاقدين، (2) وبطلان الجميع ظاهر، إذ لا يطلق

(1) الوسائل الباب - 3 - من أبواب آداب التجارة الرقم 4.
(2) القائل بأنها بيع في حق غير المتبايعين أبو حنيفة، والقائل بالتفصيل
بالفسخ وغيره بعض الشافعية، والقائل بأنها بيع مطلقا جماعية منهم المالك والشافعي
في القديم، كذا نقله بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) منه رحمه الله.
90

عليها اسم البيع في شئ من هذه الصور، وللبيع ألفاظ خاصة ليست هذه منها (1)
وصيغتها أن يقول كل منهما تقايلنا أو تفاسخنا، أو يقول أحدهما أقلتك العقد الواقع
بيننا فيقبل الآخر، أو يقول تفاسخنا، ولا فرق في ذلك بين النادم وغيره، ولا يكفي
التماس أحدهما عن قبوله أو ايجابه، بل لا بد فيها من الإيجاب والقبول بالألفاظ
المذكورة، ولا يعتبر فيها سبق الالتماس، بل لو ابتدء أحدهما بالصيغة فقبل
الآخر صح.
الثاني قالوا: لا تصح بزيادة في الثمن الذي وقع عليه العقد ولا نقيصة لأنها
فسخ، ومقتضاه رجوع كل عوض إلى مالكه، فلو شرط فيها ما يخالف مقتضاها
فسد الشرط، ويترتب عليه فسادها كما في كل شرط فاسد، لأنهما لم يتراضيا على
الفسخ الأعلى ذلك الوجه، ولم يحصل لبطلانه، فما تراضيا عليه لم يحصل، وما
حصل لم يتراضيا عليه.
أقول ويشير إلى ما ذكروه من عدم الزيادة والنقيصة بعض الأخبار التي
لا يحضرني الآن موضعها، وأما ما ذكروه من بطلان العقد هنا لاشتماله على شرط
فاسد بناء على ما اشتهر بين المتأخرين من جعل ذلك قاعدة كلية، فقد عرفت ما فيه
آنفا في بعض نكت هذا الفصل.
إلا أن ما يؤيد كلامهم هنا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم)، عن
الحلبي (2) في الصحيح " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل اشترى ثوبا
ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه، ثم رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة
قال: لا يصلح أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباع بأكثر من ثمنه رد على الأول
ما زاد ".

(1) أقول: قال الشيخ في المبسوط: الإقالة فسخ سواء كان قبل القبض أو
بعده في حق المتعاقدين وفي غيرهما، بدلالة أنه لا يجوز الزيادة في الثمن ولا
لنقصان اجماعا. انتهى. منه رحمه الله.
(2) الكافي ج 5 ص 195 التهذيب ج 7 ص 56 الفقيه ج 3 ص 137.
91

وبه يظهر ما قدمنا ذكره من أن الأولى الوقوف في كل حكم حكم على ما يرد
به الأخبار فيه من غير أن يكون ذلك قاعدة كلية كما ادعوه، فإن الأخبار في بعض
العقود توافق ما ذكروه، كهذا الخبر ونحوه غيره أيضا، وبعض كالأخبار التي
قدمناها تخالف ما ذكروه، فكيف يمكن جعل ذلك قاعدة كلية.
ثم إنهم قالوا بناء على هذه القاعدة أيضا: أنه لا فرق في المنع من الزيادة والنقيصة
بين العينية والحكمية، فلو أقاله على أن ينظره بالثمن أو يأخذ الصحاح عوض
المكسور ونحو ذلك لم يصح.
الثالث الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنها تصح في العقد وفي بعضه، سلما
كان أو غيره، خلافا لبعض العامة حيث منع من الإقالة في بعض السلم، محتجا
بأنه يصير حينئذ سلما وبيعا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله عنه، وفيه مع تسليم الخبر أنه
مبني على كون الإقالة بيعا كما تقدم نقله عن بعضهم، وهو ممنوع على أنه قد تقدم
في النكتة الثالثة ذكر معنى لهذا اللفظ، فلا يتعين الحمل على ما ذكروه، والأخبار
الواردة باستحباب الإقالة شاملة باطلاقها للكل والبعض، بل هو صريح جملة من
الأخبار المتقدمة في المسألة الثانية من المقام الثاني من الفصل العاشر في السلم
كما أوضحناه ذيل تلك الأخبار، وعلى هذا فمتى وقع التقابل في البعض خاصة
اقتضى تقسيط الثمن على المثمن، فيرتجع في نصف المبيع نصف الثمن، وفي ربعه
ربعه وهكذا.
الرابع قالوا: ولا تسقط أجرة الدلال لسبق استحقاقه الأجرة، فإنه كان
على السعي المتقدم وقد حصل ومثله أجرة الكيال والوزان والناقد وهو جيد.
الخامس قد عرفت أنه بالإقالة يرجع كل عوض إلى مالكه وحينئذ فإن كان
باقيا أخذه ونماءه المتصل به فإنه تابع للعين، وأما المنفصل فلا رجوع به وإن كان
حملا لم تضعه يومئذ ولم ينفصل، أما اللبن في الضرع فهل يكون كالولد منفصلا أو
يكون متصلا كالسمن؟ اشكال وإن كان الأقرب الأول.
وأما الصوف والشعر قبل الجز، فأشد اشكالا واستظهر في المسالك أنه من
92

المتصل مع احتمال العدم، وإن كان تالفا رجع بمثله إن كان مثليا وقيمته إن كان قيميا
وكذا يرجع بالقيمة في المثلي لو تعذر المثل، وفي تعيين وقت القيمة الخلاف المتقدم
في الأبحاث السابقة من أنه يوم تلف العين، أو يوم القبض، أو يوم الإقالة، أو الأعلى
من هذه القيم، ولو وجده معيبا فله أرش العيب، لأن الجزء الفائت بالعيب بمنزلة
التالف فيضمنه كما يضمن الجميع.
التاسعة: قد تكاثرت الروايات بذكر العينة ولم أقف في الكتب الفقهية على
من تعرض لذكرها بهذا العنوان إلا ما سيأتي من نقل كلام لابن إدريس في السرائر قال ابن
الأثير في النهاية وفي حديث ابن عباس أنه كره العينة، وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن
معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به، فإن اشترى بحضرة
طالب العينة سعلة من آخر بثمن معلوم وقبضها فباعها من طالب العينة إلى أجل،
فقبضها ثم باعها المشتري من البايع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى، وسميت عينة لحصول النقد الذي لصاحب العينة، لأن العين هي
المال الحاضر من النقد، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة يصل إليه
معجلة انتهى.
وقال ابن إدريس في كتاب السرائر على ما نقله عنه بعض الأصحاب وذكر
شيخنا في الإستبصار في كتاب المكاسب باب العينة وهي بالعين غير المعجمة
المكسورة والياء الساكنة والنون المفتوحة مخففة والهاء المنقلبة عن تاء، ومعناها
في الشريعة هو أن يشتري السلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها بدون ذلك نقدا ليقضي
دينا عليه ممن قد حل له عليه ويكون الدين الثاني وهو العينة من صاحب الدين الأول
روى ذلك أبو بكر الحضرمي، مأخوذ ذلك من العين: وهو النقد الحاضر انتهى
وهو يرجع إلى المعنى الأول، الذي ذكره في النهاية، والواجب نقل ما وقفت عليه

قوله بدون ذلك: يعني بأدون وأنقص، لا أن الدون بمعنى الغير.
93

من الأخبار الواردة بذلك في المقام. والكلام ذيل كل منها بما يكشف عن معناه
نقاب الابهام.
الأول: ما رواه في الكافي عن إسماعيل ابن عبد الخالق (1) في الصحيح " قال:
سألت أبا الحسن عليه السلام، عن العينة وذلك أن عامة تجارنا اليوم يعطون العينة فأقص عليك
كيف نعمل قال: هات قلت: يأتينا الرجل المساوم يريد المال فيساومنا وليس عندنا
متاع فيقول: أربحك ده يازده وأقول أنا: ده دوازده، فلا نزال نتراوض حتى نتراوض
على أمر، فإذا فرغنا قلت له: أي متاع أحب إليك أن أشتري لك؟ فيقول: الحرير
لأنه لا يجد شيئا وضيعة منه، فأذهب وقد قاولته من غير مبايعة فقال: أليس إن شئت
لم تعطه وإن شاء لم يأخذ منك؟ قلت: بلى، قلت فأذهب فأشتري له ذلك الحرير
وأماكس بقدر جهدي ثم أجئ به إلى بيتي فأبايعه فربما ازددت عليه القليل على
المقاولة، وربما أعطيته على ما قاولته، وربما تعاسرنا ولم يكن شئ، فإذا اشترى مني لم يجد أحدا أغلى به من الذي اشتريته منه، فيبيعه منه، فيجيئني ذلك فيأخذ
الدراهم، فيدفعها إليه وربما جاء فيحيله على، فقال: لا تدفعها إلا إلى صاحب
الحرير، قلت: وربما لم يتفق بيني وبينه البيع به، فأطلب إليه ليقيله مني فقال: أوليس
لو شاء لم يفعل وإن شئت أنت لم تردد، فقلت: بلى لو أنه هلك فمن مالي قال: لا بأس
بهذا إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس ".
أقول: ما اشتمل عليه هذا الخبر هو المعنى الثاني من المعينين اللذين ذكرهما
في النهاية، واطلاق كلام ابن إدريس، شامل لهذه الصورة أيضا، لأن قوله ثم يبيعها
بدون ذلك أعم من أن يكون البيع على من اشترى منه أو على غيره.
وفي الخبر أيضا دلالة على أنه لا يختص العينة بما إذا كان الغرض منها قضاء
دين عليه كما يشعر به كلام ابن إدريس، وإن كان قد ورد ذلك في جملة من أخبار المسألة
لأن ظاهر الخبر المذكور إنما هو أخذ المال لينتفع به.
وظاهر هذا الخبر وغيره من أخبار العينة أن الغرض من ذلك هو الحيلة في

(1) الكافي ج 5 ص 203.
94

الخروج من الربا، بأن يجئ الرجل محتاجا إلى مبلغ من النقد يريده إلى مدة بنفع
يكون لصاحب النقد في ذلك المال ضمن المدة المذكورة، فيشترى منه متاعا بقيمة
زائدة على القيمة الواقعية مؤجلة عليه إلى مدة معلومة بينهما، فإذا اشتراه واستقر
الثمن في ذمة المشتري وهو طالب العينة باعه من صاحبه الأول أو غيره بثمن أنقص مما
اشتراه وقبض ثمنه، وبقي ذلك المبلغ الأول عليه إلى حلول الأجل، فربما تعذر عليه
بعد حلول الأجل فيتعين أيضا من ذلك الشخص أو غيره ليوفي دينه، السابق.
فقوله في الخبر يأتينا الرجل المساوم يريد المال، أي المال النقد، وإنما
يريد اقتراضه إلى مدة بنفع يكون فيه، وهذه المساومة بده دوازده ونحوها
إلى آخر ما ذكر إنما هو حيلة في التخلص من الوقوع في الربا، قوله لم يجد
أحدا أغلى به، أي لم يجد أحدا يشتري منه بثمن غال كثير، وأما منعه عليه السلام لقبول
الحوالة ومعه من الدفع إلا إلى صاحب الحرير فلا أعرف له وجها، ولهذا حمله
بعض مشايخنا على الكراهة.
قوله وربما لم يتفق بيني وبينه البيع إلى آخر الخبر معناه أنه ربما لم يتفق
بيني وبين طالب العينة البيع، فالتمس من الذي باعني المتاع أن يفسخ البيع الذي
بيتي وبينه، ويقبل متاعه، فقال عليه السلام أوليس البيع الأول الذي وقع بينك وبينه
لازما بحيث أنه لو شاء لم يفسخ البيع، ولو شئت أنت عدم الرد لم يجب عليك
الرد، فقال: بلى الأمر كذلك، ولو هلك المتاع قبل الفسخ كان من مالي فقال
عليه السلام إذا لم تعد هذا الشرط أي انشاء لم يقبل، وإن شئت لم ترد فلا بأس،
فهو من عدا يعدو أي تجاوز.
الثاني: ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن المنذر. (1) " قال: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: يجيئني الرجل فيطلب العينة فاشترى له المتاع من أجله ثم أبيعه
إياه ثم اشتريه منه مكاني قال: فقال: إذا كان بالخيار انشاء باع، وإن شاء لم
يبع، وكنت أيضا بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس، قال:

(1) الكافي ج 5 ص 202 التهذيب ج 7 ص 51.
95

فإن أهل المسجد يزعمون أن هذا فاسد ويقولون: إن جاء به بعد أشهر صلح فقال
إنما هذا تقديم وتأخير فلا بأس به ".
أقول ما ذكره في هذا الخبر هو المعنى الأول من المعنيين المذكورين في
النهاية، ومن هذا الخبر يظهر أن مذهب العامة تحريم العينة، لأن المراد بأهل المسجد
علماء العامة الذين كانوا يجلسون في مسجد النبي صلى الله عليه وآله، لأجل نشر العلوم، وتعليم
الناس وإلى ذلك يشير كلام صاحب النهاية المتقدم، وقوله عليه السلام " إذا كان بالخيار "
إلى آخره كناية عن تحقق البيع ولزومه واقعا، بمعنى أنه إذا تحقق البيع الأول
وجميع شروط الصحة فلا بأس بشرائك منه، وكان العامة كانوا يشترطون الفصل
بين البيعين بمدة مديدة، فقال عليه السلام: إنما هذا تقديم وتأخير، فلا مدخل له في الجواز
ثم لا يخفى أن الخبر المذكور وإن كان مطلقا بالنسبة إلى التأجيل وعدمه، وحصول
النفع وعدمه، إلا أنه يجب حمله على غيره من أخبار المسألة كالخبر المتقدم و
غيره، وكان ذلك لمعلومية الحكم من لفظ العينة كما عرفت من معناها آنفا.
الثالث: ما رواه في الكافي والتهذيب عن منصور بن حازم (1) في الصحيح
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل طلب من رجل ثوبا بعينة، فقال: ليس عندي
وهذه دراهم فخذها واشتر بها فأخذها، واشترى ثوبا كما يريد، ثم جاء به ليشتريه
منه؟ فقال: أليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ فقلت: بلى،
فقال: إن شاء اشترى وإن شاء لم يشتر قال: فقال: لا بأس به ".
أقول: الاشتراء هنا قد وقع وكالة عن صاحب الدراهم، والغرض هنا إنما
تعلق بالسؤال عن الشراء على هذه الكيفية، وقوله عليه السلام، " أليس إن ذهب الثوب "
إلى آخره بمعنى أن ضمان الثوب على الذي أعطى الدراهم: وأن الذي اشتراه
بالخيار بين أن يشتريه من صاحب الدراهم، وأن لا يشتريه، مما يوضح أن الشراء
الأول إنما كان وكالة عن صاحب الدراهم، لا أنه أقرضه الدراهم فشرى بها لنفسه

(1) الكافي ج 5 ص 203 التهذيب ج 7 ص 52.
96

لأنه لو كان كذلك لكان الزيادة التي يوقعها صاحب العينة ربا، ولا معنى لقوله في
الخبر ثم جاء به ليشتريه منه، والظاهر كما استظهره بعض مشايخنا عطر الله مراقدهم
أنه قد سقط لفظ " قلت: بلى " بعد قوله " وإن شاء لم يشتر " من قلم النساخ، فإن
المعنى لا يستقيم إلا بذلك، وحاصله أنه عليه السلام قال للسائل أولا: أليس إن ذهب الثوب
فمن مال الذي أعطاه الدراهم، فأجاب بلى، فقال له ثانيا: " أليس إن شاء اشترى
وإن شاء لم يشتر " فأجاب بلى، قال: " فقال: لا بأس " والخبر لم يذكر فيه بقية أحكام
العينة، لأن الغرض إنما تعلق بالسؤال عن هذا الأمر الخاص.
الرابع: ما رواه في التهذيب عن منصور بن حازم (1) في الصحيح " قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يريد أن يتعين من الرجل عينة، فيقول له الرجل
أنا أبصر بحاجتي منك، فأعطني حتى اشترى فيأخذ الدراهم فيشترى حاجته ثم يجئ
بها إلى الرجل الذي له المال فيدفعها إليه، فقال: أليس انشاء اشترى وإن شاء ترك، وإن
شاء البايع باعه وإن شاء لم يبع؟ قلت: نعم، قال: لا بأس " والتقريب في هذا الخبر كما
في سابقه وهو أوضح دلالة لما عرفت في الأول (2).
الخامس: ما رواه المشايخ الثلاثة برد الله مضاجعهم، عن بشار بن يسار (3)
" قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يبيع المتاع بنسأ ويشتريه من صاحبه الذي

(1) التهذيب ج 7 ص 52.
(2) قال ابن إدريس في كتاب السرائر: وإذا أخذ الانسان من تاجر مالا
واشترى به متاعا يصلح له ثم جاء به إلى التاجر ثم اشتراه منه لم يكن بذلك بأس،
لأنه وكيل التاجر نائب عنه في الشراء، ويكون التاجر مخيرا بين أن يبيعه، وأن
لا يبيعه، فإن كان الانسان الذي هو الوكيل اشتراه لنفسه في ذمته لا بعين مال موكله
ثم نقد الثمن على أنه ضامن له لم يكن للتاجر عليه سبيل، وإن اختلفا في ذلك فالقول
قول الوكيل دون الموكل، وإن كان الوكيل شراه بعين مال موكله فإن الملك
يقع للتاجر الذي هو الموكل دون الوكيل انتهى منه رحمه الله.
(3) الكافي ج 5 ص 208 التهذيب ج 7 ص 47 الفقيه ج 3 ص 134.
97

يبيعه منه؟ قال: نعم لا بأس، فقلت: أشتري متاعي؟ قال: ليس هو متاعك ولا بقرك
ولا غنمك " أقول هذه هي العينة على ما عرفت، وأنه يدفع له قيمة ما اشتراه منه
ويجعل الأول دينا عليه إلى الأجل المعلوم بينهما، والسائل توهم المنع، لأنه يشتري متاع
نفسه، وأجابه عليه السلام بأنه قد انتقل عنك بالبيع الأول الذي جعلت ثمنه نسيئة، فليس هو
متاعك، وإنما هو متاع المشتري وأنت تريد شراءه منه ".
السادس: ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بكر الحضرمي (1) في الحسن
" قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل تعين ثم حل دينه فلم يجد ما يقضي أيتعين من
صاحبه الذي عينه ويعطيه؟ قال: نعم ".
السابع: ما روياه أيضا عن الحضرمي (2) " قال: قلت لا بي عبد الله عليه السلام:
يكون لي على الرجل الدراهم فيقول لي: بعني شيئا أقضيك فأبيعه المتاع ثم أشتريه
منه فأقبض مالي؟ قال لا بأس به ".
الثامن: ما رواه في الكافي عن هارون بن خارجة (3) " قال قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: عينت رجل عينة فقلت له: اقضني فقال: ليس عندي تعيني حتى
أقضيك قال: عينه حتى يقضيك ".
ورواه في الفقيه عن صفوان الجمال (4) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام، عينت رجلا
عينة فحلت عليه فقلت: أقضني " الحديث دلت هذه الأخبار على التعين ثانيا من صاحب
العينة الأولى كما ذكره ابن إدريس، وكأنه لم يطلع إلا على خبر الحضرمي ولا
اختصاص لها بهذه الصورة، لما عرفت في ما تقدم وهو أن يشتري طالب العينة من صاحب
الطلب متاعا بما يزيد على قيمته السوقية مؤجلا عليه، ثم يشتريه البايع بأنقص
ويدفع الثمن إلى صاحب العينة، ثم إن طالب العينة يدفعه لصاحب الطلب عن طلبه

(1) الكافي ج 5 ص 204 التهذيب ج 7 ص 48.
(2) الكافي ج 5 ص 204 التهذيب ج 7 ص 48.
(3) الكافي ج 5 ص 205.
(4) الفقيه ج 3 ص 83.
98

السابق، ويبقى قيمة ما باعه عليه أو لا في ذمته دينا عليه.
العاشرة قال ابن الجنيد: العربون من جملة الثمن، ولو شرط المشتري للبايع
أنه إن جاء بالثمن، وإلا فالعربون له كان عوضا عما منعه من البيع، وهو التصرف
في سلعته، قال في المختلف بعد نقل ذلك عن ابن الجنيد: والمعتمد أن يكون من
جملة الثمن، فإن امتنع المشتري من دفع الثمن وفسخ البايع العقد وجب عليه رد
العربون.
لنا الأصل بقاء الملك على المشتري، فلا ينتقل عنه إلا بوجه شرعي، وما ورآه
وهب (1) عن الصادق عليه السلام " قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام، يقول: لا يجوز بيع
العربون إلا أن يكون هذا من الثمن " ثم نقل عن ابن الجنيد أنه احتج بقوله عليه السلام (2)
" المؤمنون عند شروطهم " ثم أجاب عنه بأن المراد الشروط السائغة.
أقول: ما نقله من الرواية بلفظ هذا من الثمن هو الموجود في التهذيب، وفي
غيره، " إلا أن يكون نقدا من الثمن " والظاهر على هذا أن يكون من الثمن بدلا
من نقد.
وكيف كان فالظاهر ضعف ما ذكره ابن الجنيد إن لم يكن ذلك الشرط في عقد
صحيح لازم، لوجوب الوفاء بالشرط ومنع كونه سايغا كما ذكره العلامة. لا أعرف
له وجها، نعم لو وقع ذلك من غير أن يكون في عقد لم يلزم، إلا أن قال: بوجوب
الوفاء بالوعد كما دل عليه ظاهر القرآن، ويدل عليه أيضا بعض الأخبار، وإليه جنح
بعض مشايخنا المتأخرين وهو قوي.
الحادية عشر: روى الشيخ في التهذيب عن حكم بن حكيم الصيرفي (3)
" قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام، وسأله حفص الأعور فقال: إن السلطان يشرون منا
القرب والإداوة فيوكلون الوكيل حتى يستوفيه منا، فنرشوه حتى لا يظلمان، فقال:

(1) الكافي ج 5 ص 233 التهذيب ج 7 ص 234.
(2) الكافي ج 5 ص 169.
(3) التهذيب ج 7 ص 235.
99

لا بأس ما تصلح به مالك، ثم سكت ساعة ثم قال: إذا أنت رشوته يأخذ أقل من الشرط؟
قلت: نعم قال: فسدت رشوتك ".
أقول: فيه دلالة على جواز الرشوة لدفع الظلم المتعدي، والظاهر أن الجواز
إنما هو بالنسبة إلى المعطي لا إلى القابض، فإنها محرمة عليه البتة، لأنه إنما أعطى
لأجل دفع ظلمه، وهذا إنما يوجب زيادة في التحريم.
وأما عطاء الوكيل هنا لأجل أن يقبل أقل من الحق الواجب أداؤه، فإنه محرم
البتة، ولهذا قال عليه السلام لما سأله أنه بعد أخذ الرشوة يأخذ أقل من الشرط يعني الحق
الذي شرط عليه فقال نعم: " فسدت رشوتك " فإن ذلك خيانة وظلم، وهو ظاهر.
والله العالم بحقايق أحكامه وأولياؤه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.
كتاب الدين
ولنقدم هنا جملة من الأخبار الواردة في الاستدانة فإن كتابنا هذا كتاب أحكام
وأخبار كما لا يخفى على من تأمله بعين الفكر والاعتبار، فروى سماعة (1) في
الموثق " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل منا يكون عنده الشئ يتبلغ به وعليه
دين أيطعمه عياله حتى يأتي الله عز وجل بميسرة، فيقضي دينه؟ أو يستقرض على
ظهره في خبث الزمان وشدة المكاسب، أو يقبل الصدقة، قال: يقضي بما عنده
دينه، ولا يأكل من أموال الناس إلا وعنده ما يؤدي إليهم حقوقهم، إن الله عز وجل
يقول (2) " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم "
ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده وفاء، ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة
واللقمتين والتمرة والتمرتين، إلا أن يكون له ولي يقضي دينه من بعده، ليس منا
من يموت إلا جعل الله له وليا يقوم في عدته ودينه فيقضي عدته ودينه ".

(1) الكافي ج 5 ص 95 التهذيب ج 8 ص 185 الوسائل الباب - 2 - من أبواب
الديون.
(2) سورة النساء الآية 29.
100

وروى عبد الرحمان بن الحجاج (1) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام " قال:
تعوذوا بالله من غلبة الدين، وغلبة الرجال وبوار الأيم " أقول الأيم التي لا زوج لها
وبوارها كسادها، وفي التهذيب " نعوذ بالله ".
وفي كتاب معاني الأخبار روى عن الكاهلي " أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام أكان علي عليه السلام يتعوذ من بوار الأيم؟ فقال: نعم، وليس حيث تذهب إنما كان يتعوذ من
العاهات، والعامة يقولون بوار الأيم وليس كما يقولون " قيل: لعل المراد أن
التعوذ منه إنما هو البوار الذي يكون من جهة العاهة بها لا مطلق البوار، وإن كانت
صحيحة ليس بها بأس.
وعن مسعدة بن صدقة (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: لا وجع
إلا وجع العين، ولا هم إلا هم الدين.
وبهذا الاسناد (3) " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الدين ربقة الله عز وجل في
الأرض، فإذا أراد الله جل اسمه أن يذل عبدا وضعه في عنقه.
وعن عبد الله بن ميمون القداح (4) عن أبي عبد الله عليه السلام، عن آبائه
عن علي عليهما السلام " قال: إياكم والدين فإنه مذلة بالنهار مهمة بالليل، وقضاء في الدنيا
وقضاء في الآخرة ".
وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب المشيخة لابن محبوب
عن أبي أيوب عن سماعة (5) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن الرجل منا يكون
عنده الشئ يتبلغ به وعليه دين، أيطعمه عياله حتى يأتي الله بميسرة فيقضي دينه؟ أو
يستقر ض على ظهره في جدب الزمان وشدة المكاسب أو يقضي بما عنده دينه ويقبل

(1) الكافي ج 5 ص 92 التهذيب ج 8 ص 183.
(2) الكافي ج 5 ص 101.
(3) الكافي ج 5 ص 101.
(4) الكافي ج 5 ص 95 التهذيب ج 8 ص 183.
(5) الوسائل الباب - 4 - من أبواب الدين.
101

الصدقة قال: يقضي بما عنده دينه ويقبل الصدقة، وقال: لا يأكل أموال الناس إلا
وعنده ما يؤدي إليهم حقوقهم، إن الله تعالى يقول (1) " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل " وقال ما أحب له أن يستقرض إلا وعنده وفاء بذلك، إما
في عقدة أو تجارة، ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة واللقمتين، إلا أن
يكون له ولي يقضي دينه عنه من بعده، ثم قال: إنه ليس منا من يموت إلا جعل الله
له وليا يقوم في دينه فيقضي عنه ".
وعن حنان بن سدير (2) عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام " قال: كل ذنب يكفره
القتل في سبيل الله إلا الدين، فإنه لا كفارة له إلا أداؤه أو يقضي صاحبه، أو يغفر الذي
له الحق ".
وعن معاوية بن وهب (3) في الصحيح " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنه
ذكر لنا أن رجلا من الأنصار مات وعليه ديناران دينا فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله
وقال: صلوا على صاحبكم حتى ضمنها عنه بعض قرابته، فقال: أبو عبد الله عليه السلام
ذلك الحق ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله إنما فعل ذلك ليتعظوا وليرد بعضهم على بعض، ولئلا يستخفوا بالدين، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وعليه دين، وقتل أمير المؤمنين
عليه السلام، وعليه دين، ومات الحسن عليه السلام وعليه دين، وقتل الحسين عليه السلام
وعليه دين " (4).

(1) سورة النساء الآية - 27.
(2) الكافي ج 5 ص 94 و 93.
(3) الكافي ج 5 ص 94 و 93.
(4) وروى في كتاب قرب الإسناد عن الحسن بن طريف عن الحسين بن
علوان " عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: لقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن
درعه لمرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعا من شعير استلفها نفقة
لعياله " وبالسند المذكور عن جعفر عن أبيه عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
من طلب رزقا حلالا فأغفل فليستدن على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله "
منه رحمه الله.
102

وفي كتاب كشف المحجة لا بن طاوس (1) " قال: رأيت في كتاب إبراهيم
بن محمد الأشعري الثقة بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام، " قال: قبض علي عليه لسلام وعليه
دين ثمان مئة ألف درهم، فباع الحسن عليه السلام ضيعة له بخمسمائة ألف درهم، وقضاه
عنه وباع ضيعة له بثلاثمأة ألف فقضاها عنه وذلك أنه لم يكن يرزأ من الخمس
شيئا وكانت تنوبه نوائب ".
قال: ورأيت في كتاب عبد الله بن بكير (2) بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام " أن
الحسين عليه السلام قتل وعليه دين، وأن علي بن الحسين عليهما السلام، باع ضيعة له بثلاثمأة
ألف فقضى دين الحسين عليه السلام وعدات كانت عليه "
وعن موسى بن بكر (3) " قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: من طلب هذا
الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله عز وجل، وإن
غلب عليه فليستدن على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وآله ما يقوت به عياله، فإن مات
ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه، وإن لم يقضه كان عليه وزره، فإن الله عز وجل
" يقول إنما الصدقات للفقراء والمساكين إلى قوله والغارمين فهو فقير مسكين مغرم ".
وعن العباس بن عيسى (4) " قال: ضاق على علي بن الحسين عليهما
السلام ضيقة فأتى مولى له فقال له: أقرضني عشرة آلاف درهم إلى ميسرة،
فقال: لا لأنه ليس عندي، ولكني أريد وثيقة، قال: فنتف له من ردائه هدبة،
فقال: هذه الوثيقة قال: فكان مولاه كره ذلك، فغضب عليه السلام فقال: أنا أولى بالوفاء
أم حاجب بن زرارة، فقال: أنت أولى بذلك منه، قال فكيف صار حاجب بن
زرارة يرهن قوسا وهي خشبة على مئة حمالة، وهو كافر فيفي وأنا لا أفي بهدبة
ردائي؟ قال: فأخذها الرجل منه وأعطاه الدراهم، جعل الهدبة في حق، فسهل
الله، عز وجل له المال فحمله إلى الرجل، ثم قال: له أحضرت مالك فهات وثيقتي،

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب الدين رقم 11 - 12 - 2.
(2) الوسائل الباب - 2 - من أبواب الدين رقم 11 - 12 - 2.
(3) الوسائل الباب - 2 - من أبواب الدين رقم 11 - 12 - 2.
(4) الكافي ج 5 ص 96.
103

فقال له: جعلت فداك ضيعتها فقال: إذا لا تأخذ مالك مني، ليس مثلي من يستخف
بذمته، فقال: فأخرج الرجل الحق فإذا فيه الهدبة، فأعطاها علي بن الحسين عليهما السلام
الدراهم، فأخذ الهدبة فرمى بها ثم انصرف ".
وعن موسى بن بكر (1) " قال: ما أحصي ما سمعت أبا الحسن عليه السلام ينشد:
فإن يك يا أميم على دين فعمران بن موسى يستدين " قيل: المراد موسى بن عمران
وإنما قلب محافظة على الوزن.
وعن موسى بن بكر (2) " قال: من طلب الرزق من حله فغلب فليستقرض
على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وآله ".
وعن أيوب بن عطية الحذا (3) " قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا أولى من كل مؤمن بنفسه، ومن ترك مالا فللوارث،
ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي " والضياع بالفتح العيال.
وعن أبي موسى (4) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك يستقرض
الرجل ويحج؟ قال: نعم قلت: يستقرض ويتزوج؟ قال: نعم إنه ينتظر رزق
الله غدوة وعشية ".
أقول: الوجه في الجمع بين هذه الأخبار هو جواز الاستدانة على كراهة،
وروايتا سماعة المتقدمتان محمولتان على شدة الكراهة وتأكيدها، لما عرفت أولا
من استدانة الأئمة عليهم السلام، وثانيا بما دلت عليه رواية موسى بن بكر ورواية أبي موسى
من أنه يستقرض على الله وأنه ينتظر رزق الله.
ويؤكده ما رواه الشيخ عن صفوان بن يحيى عن علي بن إسماعيل عن رجل

(1) الكافي ج 5 ص 95.
(2) الفقيه ج 3 ص 111.
(3) الوسائل الباب - 3 - من أبواب كتاب الفرائض والمواريث إلى قم 14.
(4) الفقيه ج 3 ص 111.
104

من أهل الشام (1) " أنه سأل أبا الحسن الرضا عليه السلام عن رجل عليه دين قد قدحه (2)
وهو يخالط الناس، وهو يؤتمن يسعه شراء الفضول من الطعام والشراب فهل يحل
له أم لا وهل يحل له أن يتضلع من الطعام أم لا يحل له إلا قدر ما يمسك به نفسه و
يبلغه؟ قال لا بأس بما أكل ".
والظاهر أنه تزول الكراهة مع الحاجة، وعلى هذا يحمل استدانة الأئمة
عليهم السلام كما تشير إليه خبر استدانة علي بن الحسين عليهما السلام قال: في الدروس ولا كراهة
مع الضرورة، فقد مات رسول الله عليه وعلى آله الصلوات والسلام والحسنان
وعليهم دين، قال: ولو كان له مال بإزائه خفت الكراهة، وكذا لو كان له ولي يقضيه
وإن لم يجب عليه قضاؤه، فزالت مناقضة ابن إدريس (3) لأن عدم وجوب القضاء
وكان مراده عدم القدرة على الأداء حالا ومؤجلا لعدم شئ عنده.
ويرده ما تقدم من قوله عليهم السلام في ما تقدم " يستقرض على الله وعلى رسوله، وأنه
ينتظر رزق الله " وكذا ظواهر أخبار الجواز لا طلاقها في ذلك.

(1) التهذيب ج 6 ص 194.
(2) يقال قدحه الدين: أي أثقله، ويتضلع: أي امتلى شبعا، ويبلغه من البلغة
بالضم وهي ما يكتفي به من العيش. منه رحمه الله.
(3) وصورة مناقشة بأن إدريس هو أن الشيخ ذكر في النهاية أن الأولى أن
لا يستدين إلا إذا كان له ما يرجع إليه، أو يكون له ولي يعلم أنه إن مات قضى عنه،
فاعترضه ابن إدريس بأن هذا غير واضح لأن الولي لا يجب عليه قضاء دين من هو
ولي له، وخطأته العلامة في المختلف بأن الشيخ لم يدع وجوب القضاء على الولي، بل قال: إذا علم بأن له وليا يقضي عنه زالت الكراهة، وهو الذي أشار إليه في
الدروس. وأنت خبير بأن الشيخ قد عول في ذلك على روايتي سماعة المذكورتين
في الأصل. منه رحمه الله.
105

ثم إنه حيث كان الدين عبارة عما يوجب شغل الذمة، فالظاهر شمول الكراهة
هنا للبيع سلفا ونسيئة، بل ربما أمكن شموله للحال مع عدم احضار النقد، بل
تأخيره إلى وقت آخر إلا أن يخص الدين بالمؤجل، كما قيل: إن الدين ماله
أجل، والقرض مالا أجل له.
وحيث إن الدين الذي عنونا به الكتاب أعم من القرض، فالكلام هنا يقع
في مقصدين.
الأول في القرض
وثوابه جسيم وأجره عظيم، ومنعه من الطالب محتاج إليه ذميم، فروى
الصدوق في كتاب ثواب الأعمال عن محمد بن حباب القماط (1) عن شيخ كان
عندنا " قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لأن أقرض قرضا أحب إلى من أن أتصدق
بمثله، وكأن يقول: من أقرض قرضا وضرب له أجلا ولم يؤت به عند ذلك الأجل
كان له من الثواب في كل يوم يتأخر عن ذلك الأجل مثل صدقة دينار واحد في
كل يوم ".
وعن الفضيل (2) " قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ما من مسلم أقرض مسلما قرضا
حسنا يريد به وجه الله إلا حسب له أجره كحساب الصدقة حتى يرجع إليه ".
وعن جابر (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أقرض مؤمنا
قرضا ينظر به ميسوره، كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى
يؤديه إليه ".
وعن هيثم بن الصيرفي (4) وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: القرض الواحد
بثمانية عشر وإن مات حسبه من الزكاة " وروى في كتاب الهداية (5) " قال: قال

(1) الوسائل الباب - 6 - من أبواب الدين القرض.
(2) الوسائل الباب - 6 - من أبواب الدين القرض.
(3) الوسائل الباب - 6 - من أبواب الدين القرض.
(4) الوسائل الباب - 6 - من أبواب الدين القرض.
(5) المستدرك ج 2 ص 398.
106

الصادق عليه السلام: مكتوب على باب الجنة الصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر " وإنما صار
القرض أفضل من الصدقة لأن المستقرض لا يستقرض إلا من حاجة، وقد يطلب الصدقة
من غير الاحتياج إليها.
وروى في كتاب عقاب الأعمال في حديث (1) عن رسول الله صلى الله عليه وآله " قال
من شكى إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرم الله عليه الجنة يوم يجزي المحسنين ".
وروى الراوندي في نوادره (2) بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام
" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله الصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر، وصلة الإخوان بعشرين،
وصلة الرحم بأربع وعشرين ".
وروى في الأمالي في خبر المناهي (3) " قال: قال النبي صلى الله عليه وآله، من احتاج إليه
أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه ولم يفعل حرم الله عليه ريح الجنة ".
وروى الشيخ وجملة ممن تأخر عنه في الكتب الفقهية منهم العلامة في جملة
من كتبه أن القرض أفضل من الصدقة بمثله من الثواب، والظاهر كما استظهره
بعض مشايخنا المتأخرين أن الضمير في مثله متعلق بأفضل، بمعنى أن فضل القرض
أكثر من الصدقة في الثواب بقدر المثل، أي أن ثواب القرض ضعف ثواب الصدقة،
وربما أشكل الجمع بينه وبين ما تقدم من أن الصدقة الواحدة بعشرة، والقرض
بثمانية عشرة، حيث إن ظاهر الخبر أن درهم الصدقة بعشرة، ودرهم القرض بعشرين،
وعند التأمل في ذلك لا اشكال، لأن المفاضلة والمضاعفة إنما هي في الثواب، ولا ريب
أنه إذا تصدق بدرهم، فإنه إنما يصير عشرة باعتبار ضم الدرهم المتصدق به حيث
أنه لا يرجع، والحاصل من الثواب الذي اكتسبه بالصدقة في الحقيقة مع قطع
النظر عن ذلك الدرهم إنما هو تسعة، وعلى هذا فثواب القرض وهو ثمانية عشر
ضعف التسعة، لأن المفاضلة والمضاعفة إنما هي في الثواب المكتسب.

(1) الوسائل الباب - 6 - من أبواب الدين والقرض.
(2) الوسائل الباب - 11 من أبواب المعروف.
(3) الفقيه ج 4 ص 9.
107

ولك أن تقول إن درهم الصدقة لما لم يكن بعشرة إلا من حيث عدم رجوع الدرهم
فدرهم القرض، لما كان يرجع بعينه، ويرجع ما قابله من الثواب المخصوص بتلك
العين، يكون الباقي ثمانية عشر، وعلى كل من التقديرين فالمضاعفة حاصلة.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أن تحقق أصل الثواب في القرض فضلا عن أفضليته على
الصدقة إنما يكون مع قصد القربة لله سبحانه، كما في نظائره من الطاعات، فلو قصد
به الأغراض الدنيوية لم يترتب عليه ذلك.
ويدل عليه ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره بسنده فيه عن
حفص (1) " قال: قال: أبو عبد الله عليه السلام: الرباء ربا آن أحدهما حلال، والآخر
حرام، فأما الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضا طمعا أن يزيده، ويعوضه بأكبر مما
يأخذه من غير شرط بينهما، فإن أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له، وليس
له عند الله ثواب فيما أقرضه، وهو قوله " فلا يربو عند الله " وأما الحرام فالرجل يقرض
قرضا يشترط أن يرد أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام ".
وكيف كان فالكلام في هذا المقصد يقع في مواضع الأول قد صرح الأصحاب
رضوان الله عليهم، بأن القرض عقد يتوقف على الإيجاب والقبول مثل ساير العقود،
إلا أنه عقد جائز لا لازم، مثل البيع ونحوه، وهو ظاهر فيتحقق الملك على المشهور
من تملكه بالايجاب والقبول والقبض (2)
وأما على القول بأنه لا يملك إلا بالتصرف فمقتضى ذلك أنه قبل التصرف إنما
هو بمنزلة الإباحة، وعلى هذا فينبغي أن لا يتوقف على العقد، إلا أن يقال: بأن الآثار

(1) الوسائل الباب 18 من أبواب الربا وفيه عن المنقري عن جعفر بن غياث.
(2) ومن أظهرها في وجوب الزكاة على المقترض بعد قبضه مال القرض
ودخول الحول عليه عنده، ولو كان إباحة لكان باقيا على ملك المقترض، وكانت
الزكاة عليه، وبالجملة فإن الظاهر الأخبار يدل على حصول الملك بذلك لا على مجرد
الإباحة، ومن الظاهران حصول الملك يحتاج إلى ناقل شرعي عما كان عليه سابقا
فتأمل. منه رحمه الله.
108

المترتبة على التصرف في هذا الباب المغايرة للتصرف على وجه الإباحة تتوقف على
ما يدل على جواز التصرف، وليس إلا العقد والقبض، قالوا: وايجابه أن يقول أقرضتك
أو أسلفتك أو ملكتك وعليك عوضه، أو خذه أو تصرف فيه أو انتفع به ونحو ذلك.
وبالجملة فإن صيغته لا تنحصر في لفظ كالعقود الجايزة، بل كل لفظ دل عليه
كفى، إلا أن أقرضتك صريح في معناه، فلا يحتاج إلى ضميمة عليك رد عوضه،
ونحوه وغيره من الألفاظ يحتاج إليها، فلو تركها وكان بلفظ التمليك أفاد الهبة إن
لم يكن ثمة ما يدل على الفرض من قراين المقام، ولم يعلم قصده، لأن اللفظ المذكور
صريح في ذلك، ولو كان بلفظ السلف كان فاسدا، لأنه حقيقة في السلم، ولم يوجد
ما يصرف عنه كما هو المفروض، ولم يجتمع شرائطه، ولو كان بغيرهما من الألفاظ
الدالة على الإباحة فهو على ما يقتضيه ظاهر اللفظ، إلا مع القصد إلى الهبة فيدخل فيها،
ولو اختلفا في القصد فالقول قول الموجب، لأنه أبصر بما قاله.
ولو اختلفا في الهبة بأن ادعى القابض كونه هبة، وادعى المعطي كونه قرضا
فقد قطع في التذكرة بتقديم قول صاحب المال محتجا بأنه أعرف بلفظه، وأن الأصل
عصمة ماله وعدم التبرع، ووجوب الرد على الأخذ لقوله (1) صلى الله عليه وآله " على اليد ما أخذت
حتى تؤدي " ثم احتمل تقديم دعوى الهبة.
واستشكل في القواعد وأورد على ما احتج به في التذكرة بأن لفظ التمليك
حقيقة في الهبة، لأنه تمام مفهومه الشرعي، وأما كونه بمعنى القرض فيفتقر إلى ضميمة
أخرى، لأنه معنى مجازي يتوقف الحمل عليه على القرينة، والفرض انتفاؤها، ولا خلاف
ولا شبهة في أن دعوى خلاف الظاهر والحقيقة في ساير العقود ولا يلتفت إليها، والقصد
وإن كان معتبرا إلا أن الظاهر في الألفاظ الصريحة اقترانها بالقصد، وأنه لو أريد
غيره لذكرت القرينة معه، ومن هنا أجمعوا على أنه لو ادعى عدم القصد إلى البيع
ونحوه مع تصريحه بلفظه لم يلتفت إليه.
ومن ذلك يعلم أن أصالة العصمة قد انقطعت باللفظ الصريح الدال على الانتقال،

(1) المستدرك ج 2 ص 504.
109

ومثله القول في الخبر فإنه مع وجود اللفظ الصريح في الدلالة على النقل عن الملك
الرافع للضمان يخرج موضع النزاع من ذلك،
والكلام في القبول كما تقدم في الإيجاب من أنه لا ينحصر في لفظ، بل كلما دل
على الرضا بالايجاب.
وهل يكفي القبول الفعلي ويترتب عليه ما يترتب على القولي من تمام الملك أو
إنما يكفي بالنسبة إلى إباحة التصرف خاصة؟ قطع جمع من الأصحاب بالأول،
وتنظر فيه بعضهم، واستظهر الثاني إذا عرفت ذلك فالذي يظهر عندي من تتبع الأخبار
أن الأمر هنا كما قدمنا شرحه في كتاب التجارة (1) من سعة الدائرة في العقود، والاكتفاء
فيها بما دل على الرضا، وعدم اشتراط شئ زائد على ذلك.
والاكتفاء هنا بمجرد الطلب والاعطاء وأخذ ذلك بالألفاظ الدالة على إرادة
القرض، كما عرفت من حديث استقراض علي بن الحسين عليهما السلام المتقدم، فإنه ليس
فيه بعد طلبه القرض من مولاه بقوله أقرضني والمحاورة بينهما في الوثيقة، إلا أنه أعطاه
المال بعد قبض الوثيقة، فأخذ عليه السلام المال وانصرف، وليس هنا صيغة ولا عقد زائد على
ما ذكر في الخبر.
الثاني في حكم النفع المترتب على القرض، والكلام في ذلك يقتضي
بسطه في موارد أحدها: الاخلاف بين الأصحاب رضوان الله عليهم، في تحريم
اشتراط النفع في القرض، بل نقل بعض محققي متأخرين المتأخرين اجماع المسلمين
على ذلك، وربما ظهر من بعض الأخبار تحريم حصول النفع، وإن كان لا بشرط،
والواجب نقل ما وصل إلينا من الأخبار في ذلك، ثم الجمع بين مختلفاتها و تأليف
متشتتاتها.
فمنهما ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن محمد بن

(1) ج 18 ص 355.
110

مسلم (1) وغيره " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يستقرض من الرجل
قرضا ويعطيه الرهن أما خادما وأما آنية وأما ثيابا فيحتاج إلى شئ من منفعته
فيستأذنه فيه فيأذن له، قال: إذا طابت نفسه فلا بأس، فقلت: إن من عندنا يرون أن
كل قرض يجر منفعة فهو فاسد؟ قال: أوليس خير القرض ماجر منفعة ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن عبده (2) " قال: سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن القرض يجر المنفعة؟ قال: خير القرض الذي يجر المنفعة ".
وما رواه في الكافي عن بشر بن مسلمة (3) وغير واحد عمن أخبره عن أبي
جعفر عليه السلام " قال: خبر القرض ماجر المنفعة " ورواه الشيخ في التهذيب عن
بشرين مسلمة عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال أبو جعفر عليه السلام " الحديث.
وما رواه الصدوق والشيخ عن إسحاق بن عمار (4) في الموثق " قال: قلت
لأبي إبراهيم عليه السلام: الرجل يكون له عند الرجل المال قرضا فيطول مكثه
عند الرجل، لا يدخل على صاحبه منه منفعة، فينيله الرجل الشئ كراهة أن يأخذ
ماله حيث لا يصيب منه منفعة أيحل ذلك له؟ قال: لا بأس إذا لم يكونا شرطاه ".
وما رواه في الكافي عن إسحاق بن عمار (5) عن أبي الحسن عليه السلام
" قال: سألته عن الرجل يكون فله مع الرجل مال قرضا فيعطيه الشئ من ربحه
مخافة أن يقطع ذلك عنه، فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه قال: لا بأس ".
وما رواه في التهذيب عن محمد بن قيس (6) في الصحيح عن أبي جعفر
عليه السلام " قال: من أقرض رجلا ورقا فلا يشترط إلا مثلها، فإن جوزي بأجود منها فليقبل
ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترطه من أجل قرض ورقه ".
وما رواه في التهذيب عن أبي بصير (7) في الموثق عن أبي جعفر عليه السلام،

(1) الكافي ج 5 ص 255 التهذيب ج 6 ص 201 و 202.
(2) الكافي ج 5 ص 255 التهذيب ج 6 ص 201 و 202.
(3) الكافي ج 5 ص 255 التهذيب ج 6 ص 201 و 202.
(4) التهذيب ج 6 ص 205 الفقيه ج 3 ص 181.
(5) الكافي ج 5 ص 103.
(6) التهذيب ج 6 ص 203.
(7) التهذيب ج 6 ص 203.
111

" قال: قلت له: الرجل يأتيه النبط بأحمالهم فيبيعها لهم بالأجر فيقولون:
له أقرضنا دنانير فإنا نجد من يبيع لنا غيرك، ولكنا نخصك بأحمالنا من أجل أنك
تقرضنا قال: لا بأس به، إنما يأخذ دنانير مثل دنانيره، وليس بثوب إن لبسه كسر
ثمنه، ولا دابة إن ركبها كسرها وإنما هو معروف يصنعه إليهم ".
وما رواه في الفقيه وفي التهذيب عن جميل بن دراج (1) عن رجل عن أبي
عبد الله عليه السلام (قال: قلت: أصلحك الله إنا نخالط نفرا من أهل السواد فنقرضهم
القرض، ويصرفون إلينا غلاتهم فنبيعها لهم بأجر، ولنا في ذلك منفعة؟ قال: فقال
لا بأس، ولا أعلمه، إلا وقال لولا ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم، فقال:
لا بأس ".
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: إذا
أقرضت الدراهم ثم جائك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط ".
وعن خالد بن الحجاج (3) " قال: سألته عن رجل كانت لي عليه مئة درهم
عددا فقضاها مئة ورقا قال لا بأس ما لم يشترط، قال: وقال: جاء الربا من قبل
الشروط إنما يفسده الشروط ".
وعن الحلبي (4) في الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته عن الرجل
يستقرض الدراهم البيض عددا ثم يعطى وزنا وقد عرف أنها أثقل مما أخذ ويطيب
نفسه أن يجعل له فضلها؟: فقال: لا بأس به إذا لم يكن فيه شرط، ولو وهبها له كملا
كان أصلح ".
وعن أبي الربيع (5) " قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل أقرض رجلا

(1) الفقيه ح 3 ص 180 التهذيب ج 6 ص 204.
(2) التهذيب ج 6 ص 201.
(3) التهذيب ج 7 ص 112 و 109.
(4) التهذيب ج 7 ص 112 و 109.
(5) التهذيب ج 6 ص 200.
112

دراهم فرد عليه أجود منها بطيب نفسه، وقد علم المستقرض والقارض أنه إنما أقرضه
ليعطيه أجود منها قال: لا بأس إذا طابت نفس المستقرض ".
وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (1) في الموثق عن العبد الصالح
عليه السلام " قال: سألته عن الرجل يرهن الثوب أو العبد أو الحلي أو المتاع من متاع
البيت، فيقول صاحب الرهن للمرتهن: أنت في حل من لبس هذا الثوب فالبس
الثوب وانتفع بالمتاع، واستخدم الخادم؟ قال: هوله حلال إذا أحله وما أحب له
أن يفعل ".
وعن علي بن محمد (2) " قال: كتبت إليه القرض يجر المنفعة هل يجوز
أم لا؟ فكتب عليه السلام، يجوز ذلك عن تراض منهما إن شاء الله ".
وعن يعقوب بن شعيب (3) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته
عن الرجل يسلم في بيع أو تمر عشرين دينارا ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير
أو عشرين دينارا؟ قال: لا يصلح إذا كان قرضا يجر شيئا، فلا يصلح، قال: وسألته
عن الرجل يأتي حريفه وخليطه فيستقرضه الدنانير فيقرضه، ولولا أن يخالطه و
يحارفه ويصيب عليه لم يقرضه؟ فقال: إن كان معروفا بينهما فلا بأس، وإن كان
إنما يقرضه من أجل أنه يصيب عليه فلا يصلح ".
وما رواه في الكافي عن غياث بن إبراهيم (4) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: إن
رجلا أتى عليا عليه السلام فقال له: إن لي على رجل دينا فأهدى إلي هدية قال: احسبه
من دينك عليه ".
وعن هذيل بن حيان أخي جعفر بن حيان الصيرفي (5) " قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: إني دفعت إلى أخي جعفر مالا يعطيني ما أنفقه وأحج به وأتصدق،
وقد سألت من قبلنا فذكروا أن ذلك فاسد لا يحل، وأن أحب أن أنتهي إلى قولك،

(1) التهذيب ج 6 ص 200 و 204 و 205.
(2) التهذيب ج 6 ص 200 و 204 و 205.
(3) التهذيب ج 6 ص 200 و 204 و 205.
(4) الكافي ج 5 ص 103
(5) الكافي ج 5 ص 103
113

فقال لي: أكان يصلك قبل أن تدفع إليه مالك؟ قلت: نعم، قال: خذما يعطيك فكل
منه واشرب وحج وتصدق، فإذا قدمت العراق فقل جعفر بن محمد أفتاني بهذا ".
وما رواه الحميري في كتاب قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن
جعفر (1) عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام " قال: سألته عن رجل أعطى رجلا مئة درهم
على أن يعطيه خمسة دراهم، أو أقل أو أكثر قال: هذا الربا المحض ".
هذا ما حضرني من أخبار المسألة وجلها كما ترى متفق الدلالة واضح المقالة
على حل الانتفاع بما يحصل في القرض، ويترتب عليه من المنافع إلا مع الشرط
وأما ما دل عليه صحيح يعقوب بن شعيب مما ينافي ما ذكرناه فقد حمله الشيخ
على الكراهة تارة، وعلى الشرط أخرى، والأقرب عندي حمله على التقية لما يفهم من
الخبر الأول وخبر هذيل بن حيان، فإن ظاهرهما أن مذهب العامة تحريم القرض
الذي يجر المنفعة مطلقا.
وقد رووا عن النبي صلى الله عليه وآله " أن كل قرض يجر المنفعة فهو حرام " (2) ولهذا
تكاثرت الأخبار ردا عليهم، بأن خير القرض ماجر المنفعة، وإنما منعت في صورة
الشرط خاصة، كما تقدم في الأخبار خصوصا رواية خالد بن الحجاج من قوله عليه السلام
" جاء الربا من قبل الشروط، إنما يفسده الشروط ".
وأما ما دل عليه خبر غياث بن إبراهيم من حساب الهدية من الدين، فحمله
الشيخ على الهدية الغير المعتادة أو المشترطة جمعا بين الأخبار، وحمله بعضهم
على الاستحباب، ولا بأس به، ويشير إلى ذلك قول عليه السلام في موثق إسحاق بن عمار
" وما أحب له أن يفعل " بعد أن صرح بالجواز، ولا منافاة في ذلك لباقي الأخبار،
فإن غاية ما يدل عليه الجواز، وهو لا ينافي الكراهة.

(1) الوسائل الباب 19 - من أبواب الدين الرقم 8.
(2) المستدرك - ج 2 ص 492 الجامع الصغير - ج 2 ص 94 ط أحمد حنفي
لكن فيهما " فهو ربا ".
114

وعلى هذا ينبغي أن يحمل مفهوم رواية هذيل بن حيان، فإن ظاهر ها تخصيص
جواز القول بما إذا كان يصله سابقا قبل دفع ماله إليه، ومفهومه عدم الجواز لو كان
بعد دفع المال، وما ذلك إلا من حيث ترتب النفع على دفع المال، فيحمل حينئذ
على الكراهة جمعا (1) ويشير إلى ذلك أيضا قوله في آخر حسنة الحلبي المتقدمة
" ولو وهبها له كان أصلح " فكأنها بالهبة تزول الكراهة، وحينئذ فيمكن القول
بالجواز على كراهة إلا أن ظاهر قولهم عليهم السلام " خير القرض ما جر المنفعة " ربما نافى
ذلك، فإنه لا تثبت الخيرية مع الكراهة.
وبعدم الكراهة صرح أيضا شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، فقال بعد
قول المصنف " لو تبرع المقترض بزيادة في العين أو الصفة جاز ": لا فرق في الجواز
بين كون ذلك من نيتهما أو عدمه، ولا بين كونه معتادا أو عدمه بل لا يكره قبوله، للأصل
واطلاق النصوص بذلك، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله (2) " اقترض بكرا فرد باذلا (3)
رباعيا، وقال: إن خير الناس أحسنهم قضاء " وروي مثله كثيرا عن الصادق عليه السلام
انتهى.

(1) ويحتمل أيضا الحمل على التقية بل الظاهر أنه الأقرب كما يشير إليه
قوله في آخر الخبر إذا قدمت العراق فقل: جعفر بن محمد أفتاني بهذا، فإنه حيث
كانت هذا الفتوى موافقا لما عليه العامة تحريم النفع أمر بإضاعتها وعدم كتمانها
منه رحمه الله.
(2) أقول: هذا الخبر من طريق العامة كما ذكره بعض المحققين، وصورة
الخبر هكذا أن النبي صلى الله عليه وآله اقترض قرضا من رجل بكرا فقدمت عليه بابل الصدقة،
فأمر أبا رافع أن يقبض الرجل بكره فرجع أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا جملا
جبارا فقال أعطها إياه، إن خير الناس أحسنهم قضاء " منه رحمه الله - سنن البيهقي
ج 5 ص 351 و ج 6 ص 21.
(3) الباذل الذي تم له ثمان سنين ثم يقال له باذل عام وباذل عامين وهكذا
كل سنة. منه رحمه الله.
115

ويؤيده ما ذكره أيضا صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج (1) " قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام، عن الرجل يستقرض من الرجل الدراهم فيرد عليه المثقال أو
يستقرض المثقال فيرد عليه الدراهم؟ فقال: إذا لم يكن شرط فلا بأس، وذلك هو
الفضل كان أبي عليه السلام يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد، فيقول:
يا بني ردها على الذي استقرضتها منه فأقول: يا أبت إن دراهمه فسولة وهذه خير
منها فيقول: يا بني إن هذا الفضل فاعطه إياها ".
أقول: الظاهر أن قوله عليه السلام، " إن هذا هو الفضل " إشارة إلى قوله
عز وجل (2) " ولا تنسوا الفضل بينكم " ويمكن الجمع - بأن هذه الأخبار حيث
أنك قد عرفت ظهور الكراهة من الأخبار التي أشرنا إليها بأن يقال: لا منافاة
بين استحباب اعطاء الفضل من المقترض وإن كره على المقارض أخذه، إلا أن
اجراء هذه الحمل في أخبار " خير القرض ما جر المنفعة " لا يخلو من تعسف
وتكلف.
وثانيها الظاهر أن لا خلاف بين الأصحاب في بطلان القرض وعدم إفادته
الملك متى اشتمل على اشتراط النفع.
بل نقل في المسالك الاجماع على ذلك، قال: ومستنده " ما روي عن
النبي صلى الله عليه وآله (3) " أنه قال: كل قرض بجر منفعة فهو حرام " والمراد مع الشرط،
إذ لا خلاف في جواز التبرع. انتهى. وحينئذ فمع شرط الزيادة تصير الزيادة
والاقراض والاقتراض حراما، وكذا التصرف في المال المقترض مع العلم، و
يكون مضمونا كالمغصوب، لأن المفروض بطلان العقد بذلك، فيترتب الأحكام
المذكورة، فلو قبضه كان مضمونا عليه، كالبيع الفاسد للقاعدة المشهورة " من أن

(1) الكافي ج 5 ص 253 التهذيب ج 7 ص 115 الفقيه ج 3 ص 181.
(2) سورة البقرة، الآية 237.
(3) المستدرك ج 2 ص 492 الجامع الصغير ج 2 ص 94 ط أحمد حنفي لكن فهما " فهو ربا ".
116

كل عقد يضمن بصحيحه، يضمن بفاسده " ونقل عن ابن حمزة أنه ذهب إلى كونه
أمانة وهو ضعيف، لما عرفت
أقول: إما ما ذكروه من تحريم الشرط المذكور فهو مما لا اشكال فيه، وما
ذكروه من بطلان أصل العقد فإن كان من حيث اشتماله على الشرط الفاسد،
وكل عقد كان كذلك فهو باطل، فقد عرفت الخلاف في ذلك فيما تقدم، إلا أن
الظاهر أنه ليس البطلان هنا عندهم مبنيا على ذلك، ولهذا إنما استند شيخنا المتقدم
ذكره بعد دعوى الاجماع إلى الخبر النبوي المذكور، وهو صريح فيما ذكره، إلا أن
الظاهر أن الخبر المذكور إنما هو من طريق العامة، فإني لم أقف عليه بعد التتبع
في شئ من كتب أخبارنا، وأخبار المسألة المتقدمة على كثرتها وتعددها ليس فيها
اشعار فضلا عن الدلالة الصريحة ببطلان أصل العقد، بل الظاهر منها إنما هو بطلان
الشرط، فإن مفهوم نفي البأس مع عدم الشرط في كثير مما تقدم من الأخبار إنما
توجه إلى الزيادة، كما لا يخفى على المتأمل فيها.
فمنها موثقة إسحاق بن عمار (1) المشتملة على أنه ينيله الشئ بعد الشئ كراهة
أن يأخذ ماله أيحل ذلك؟ " قال: لا بأس إذا لم يكونا شرطاه " وهو ظاهر في أن
السؤال إنما هو عن حل الزيادة، فأجاب عليه السلام بالحل مع عدم الشرط، ومفهومه
أنه مع الشرط لا تحل، وأما أصل العقد فلا تعرض في الخبر له بوجه
وقس على ذلك عيره من الأخبار التي مثله في هذه العبارة مثل خبر إسحاق الثاني
وحسنة الحلبي ونحو ذلك قوله عليه السلام في صحيحة محمد بن قيس: " ولا يأخذ أحدكم ركوب
دابة أو عارية متاع يشترطه من أجل قرض ورقه " فإنه نهى عليه السلام عن أخذ الزيادة
بالشرط.
وبالجملة فإن الأخبار المتقدم لا دلالة فيها ولو بنوع إشارة على بطلان العقد
من أصله، ولا أعرف لهم دليلا إلا الاجماع المدعى كما عرفت، والمسألة لذلك محل

(1) الكافي ج 5 ص 103.
117

اشكال (1).
وثالثا لا يخفى أن الزيادة التي يحرم اشتراطها في القرض ويجوز أخذها
مع عدم الشرط إما أن يكون عينية وهو ظاهر، أو حكمية كدفع الجيد بدل الردئ
والصحيح بدل المكسور، والكبير بدل الصغير، ولا اشكال في صورة عدم الاشتراط
في أن المقرض يملك الزيادة المذكورة ملكا مستقرا بقبضه ذلك، لأنه تابعة
للعين، كان ذلك استيفاء لحقه.
وإنما الاشكال في الزيادة العينية كما لو دفع اثنا عشر من عليه عشرة، فهل
يكون الحكم في هذه الزيادة كالزيادة الحكمية؟ بناء على أنها معاوضة عما في
الذمة، غايته كونه متفاضلا، وهو مع عدم الشرط جايزا أو أنه يكون الزايد بمنزلة
الهبة فيترتب عليه أحكامها التي من جملتها الرجوع في العين ما دامت موجودة
على بعض الوجوه، نظرا إلى أن الثابت في الذمة إنما هو مقدار الحق، فالزائد
تبرع خالص، واحسان محض، وعطية منفردة اشكال.
قال في المسالك بعد ذكر نحوه ذلك وبعد أن اعترف بأنه لم يقف فيه على
شئ ما صورته: ولعل الثاني أوجه، خصوصا مع حصول الشك في انتقال الملك عن
مالكه على وجه اللزوم انتهى وهو جيد.
ويؤيده أن غاية ما يفهم من الأخبار المتقدمة هو حل ذلك له، وإن كان على
كراهية كما قدمنا ذكره، وهولا ينافي جواز الرجوع مع وجود العين، وأما ما ذكره
المحقق الأردبيلي (قدس سره) في هذا المقام حيث قال بعد نقل حسنة الحلبي
المتقدمة الدالة على أن الرجل يستقرض الدراهم البيض عددا ثم يعطي وزنا إلى
آخره: وفيها دلالة على أن الزيادة هبة مستأنفة يجري فيها أحكامها، ولا يحتاج إلى
صيغة على حدة، بل يكفي الاعطاء بطيب النفس عوضا، فيجري فيه أحكام المعوضات،

(1) وبموجب ما ذكرناه أنه لو أقرضه بشرط شئ من النفع عينيا أو حكميا
فإن القرض صحيح يملكه المقترض، وأنما يحرم ا اشترطه من النفع خاصة - منه رحمه الله.
118

كما هو مقتضى الأصل والقواعد، وقد تردد فيه في شرح الشرايع، ثم رجح ما
رجحناه، وقال: ولم أقف ثم نقل باقي العبارة كما قدمناه.
ففيه أولا أنه لا يخفى أن كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم إنما هو في الزيادة
العينية، والذي تضمنه الخبر إنما هو الزيادة الحكمية، فإن الثقل الحاصل في الدرهم
إنما هو من قبيل الحكمية، كما تقدم في دفع الكبير بدل الصغير، وقد عرفت
أنه لا اشكال في انتقالها وملك المقرض لها.
وثانيا أن عبارة الخبر " ولو وهبها له كان أصلح " ظاهرة في أن ما تضمنه السؤال
والجواب أولا إنما يعطي مجرد الإباحة التي قد بنينا سابقا على دخول الكراهة فيها،
وقد ذكرنا أن قوله " ولو وهبا " إلى آخره إنما أريد به الإشارة إلى دفع الكراهة،
بأن يهبه الزيادة بصيغة شرعية، ليخرج بذلك من الكراهة، فظاهر الخبر إنما هو أن
الدفع إنما كان على جهة الإباحة والعطية المطلقة، وأن الإمام عليه السلام، استدرك ذلك بقوله
" ولو دفع ذلك على وجه الهبة لكان أصلح ".
وفيه إشارة إلى أن الذي ذكر في الخبر أولا على غير الوجه الأصلح لا أن
الرواية دلت على كون الزيادة هبة كما فهمه، وفرع عليه ما ذكره، فإن توسط (لو) في المقام
ظاهر في تغاير ما قبلهما، وما بعد ها وأن بعدها، فرض آخر، بمعنى أن الأصلح أن يكون
كذلك، وما ذكرناه بحمد الله سبحانه ظاهر للناظر.
ورابعها: قد عرفت تحريم اشتراط النفع في القرض مطلقا عينيا كان أو حكميا،
وقال الشيخ في النهاية: وإن أعطاه الغلة وأخذ منه الصحاح شرط ذلك أو لم يشترط لم يكن
به بأس، وقال أبو الصلاح يجوز القرض بشرط أن يعطيه عوض العلة صحاحا، وعوض
المصوغ من الذهب عينا، ومن الفضة ورقا، وعوض نقد مخصوص من خالص
الذهب والفضة العتيق من نقد غيره، ويلزم ذلك مع الشرط، ومع عدمه ليس له
إلا مثل ما أقرض إلا أن يتبرع أحدهما.
وقال ابن حمزة يصح اشتراط الصحيح عن الغلة، وكذا قال ابن البراج،
وظاهر كلام أكثر هؤلاء هو استثناء اشتراط أخذ الصحاح عن الغلة من القاعدة
119

المتقدمة، وزاد أبو الصلاح على ذلك ما هو مذكور في عبارته.
وقال ابن إدريس لا يجوز أن يشترط رد الصحاح عوضا عن المكسرة، وبه
أفتى جملة من تأخر عنه، وهو كذلك.
ونقل عن الشيخ ومن معه الاستناد فيما ذكروه إلى ما رواه عن يعقوب بن
شعيب (1) في الصحيح " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقرض الرجل
الدراهم الغلة ويأخذ منه الدراهم الطازجية (2) طيبة بها نفسه قال: لا بأس " وذكر
ذلك عن علي عليه السلام.
ورده الأصحاب بأنه لا دلالة فيه ما ادعاه، إذ لم يذكر فيه الشرط، وغايته
أنه مطلق، فيجب تقييده بعدم الشرط، جمعا بينه وبين ماد ل من الأخبار المتقدمة
على تحريم الاشتراط، ولا سيما صحيح محمد بن قيس (3) فإنه نص في المطلوب
حيث قال فيه: " من أقرض رجلا ورقا فلا يشترط إلا مثلها "
وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه) هنا الميل إلى ما ذكره الشيخ
ومن تبعه، وتعميم الحكم في المنفعة الحكمية لا بخصوص ما في عبارة النهاية،
بل نقل عن الشيخ والجماعة المذكورين العموم أيضا، قال " قدس سره ": وأما
اشتراط الزيادة وصفا مثل أن يشترط الصحيح عوضا عن المكسور فتقل عن الشيخ
وجماعة جوازه، ولأنه مثل اشتراط الجيد عوض الردئ، وللأصل، وعدم ظهور
دخوله تحت الربا، وعدم دليل آخر من اجماع ونحوه، وخبر العامة ليس بصحيح،
ومعارض بخبر محمد بن مسلم ثم ذكر جملة من الأخبار المتقدمة المطلقة في جواز

(1) التهذيب ج 6 ص 201.
(2) قال في المختلف ويريد بالطازجية الدراهم البيض الجيدة، وهي بالطاء
غير المعجمة والزاي والجيم انتهى وقال في المسالك: والمراد بالطازج الخالص
وبالغلة غيره وقال في السرائر الطازجية: بالطاء غير المعجمة والزاء المعجمة والجيم:
الدراهم البيض الجيد، والغلة مكسرة الدراهم منه رحمه الله.
(3) التهذيب ج 6 ص 203.
120

أخذ نفع القرض، إلى أن قال: نعم يمكن حملها على ما إذا لم يشترط جمعا بين
الأدلة.
ثم أورد جملة من الروايات الدالة على نفي البأس ما لم يشترط، ثم ذكر صحيحة
محمد بل قيس، وقال: هذه صريحة في المنع والتحريم عن الزيادة الوصفية، إلى
أن قال: فلولا الحمل، بل ولولا هذه الرواية لكان قول الشيخ والجماعة قويا بما
تقدم، مع عدم نص صحيح في المنع في الوصف، لأن الأخبار المتقدمة إنما دلت
بالمفهوم على البأس مع الشرط، وهو أعم من الكراهة والتحريم، فكان الحمل
على الكراهة أولى فتأمل.
وفيه أولا أن ما نقله عن الشيخ والجماعة من عموم الجواز في الزيادة الوصفية
مطلقا لا أعرف له وجها، وقد قدمنا لك عبايرهم، وكيف لا والشيخ في النهاية مصرح
في غير موضع بتحريم الزيادة وصفية أو عينية مع الشرط (1) وإنما استثنى هذا الفرد
الذي قدمنا نقله عنه، وهو مدلول روايته التي نقل عنه الاستناد إليها.
وثانيا أنه قد تقدم في رواية خالد بن الحجا ج " إنما يفسده الشروط " وهو أعم
من أن يكون الزيادة المشروطة عينية أو وصفية، ولكن له الجواب هنا بأن الخبر
غير صحيح، كما يشير إليه قوله " مع عدم نص صحيح في المنع في الوصف ".
وثالثا قوله " فكان الحمل على الكراهة أولى " فإن فيه أن الأولى إنما هو العكس،
لأن ثبوت البأس المدلول عليه بالمفهوم في تلك الأخبار وإن كان أعم من الكراهة
والتحريم كما ذكره، إلا أن صحيحة محمد بن قيس لما صرحت بالتحريم كما
اعترف به فالمناسب حمل هذا الاطلاق في هذه الأخبار عليها، وتقييده بها، كما

(1) فمن ذلك قوله فإذا أقرض الانسان مالا، قرد عليه ما هو الأجود منه من
غاير شرط كان ذلك جائزا، وإن أقرض وزنا فرد على عددا أو أقرض عددا ورد عليه
وزنا من غير شرط زاد أو نقص بطيبة نفسه منها لم يكن بذلك بأس، ثم قال: " وإن
أعطاه الغلة: العبارة المتقدم نقلها عنه في الأصل، وهو كما ترى ظاهر في تخصيص
الجواز بهذه الصورة. منه رحمه الله.
121

هو القاعدة المشهورة والله العالم.
وخامسها: قال قال المحقق الأردبيلي (قدس سره) بعد البحث في المسألة وتقديم
جملة من الأخبار التي قدمناها: ثم إن ظاهر الأخبار المتقدمة وجوب أخذ الأجود،
ذكره في التذكرة، وليس ببعيد، وعدم الأخذ بعيد، وتكليف المقترض بغير
الأجود منفي بالأصل، وبأنه فضل ماله وزيادة بلا مانع، فيجب القبول، ولدخوله
تحت مثل المال. نعم يمكن المنع في الزيادة العينية، وهنا أيضا لا ينبغي مع عدم المنة،
بل قد يكون المنة له لو قبل، إلى آخر كلامه (زيد في اكرامه).
وفيه نظر أما أولا فإن ما نقله عن التذكرة ونفى عنه البعد من ظهور الأخبار في
وجوب أخذ الأجود لا أعرف له وجها، فإن غاية ما تدل عليه الأخبار المشار إليها
هو نفي البأس عن أخذ الأجود، كما تضمنته صحيحة الحلبي (1) ورواية خالد بن
الحجاج (2)، وحسنة الحلبي، (3) ورواية أبي الربيع، (4) وهو إن لم يدل على
البأس كما قيل إن نفي البأس، يشير إلى البأس لم يدل على الوجوب، على أن الوجوب
حكم شرعي يحتاج إلى دليل صريح واضح.
وأما ثانيا فلما عرفت تقدم في المورد الأول من أنه يكره للمقرض قبول
الزيادة عينية أو وصفية، فكيف يتم الوجوب عليه، وقد أوضحنا ذلك من جملة من
الأخبار، وبذلك أيضا صرح الشيخ في النهاية حيث أنه بعد أن عد جملة من
المواضع التي يجوز قبول الزيادة فيها عينية أو وصفية مع عدم الشرط، قال:
" والأولى تجنب ذلك أجمع، وهو مؤيد لما ذكرناه حيث فهم من الأخبار ما فهمناه.
وأما ثالثا فإن ما ذكره من الوجوه التخريجية زاعما دلالتها على الوجوب
حيث قال بعد ها: فيجب القبول عجيب من مثله (قدس سره) فإن مثل هذه العلل
التخريجية لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية، إذا الأدلة عندنا منحصرة في الكتاب
والسنة، وعلى تقدير زيادتهم الاجماع ودليل العقل فلا اجماع في المقام، ولا دليل
عقليا، لانحصار ذلك عندهم في الاستصحاب والبراءة الأصلية.

(1) التهذيب ج 6 ص 200 - 201.
(2) التهذيب ج 6 ص 200 - 201.
(3) التهذيب ج 6 ص 200 - 201.
(4) التهذيب ج 6 ص 200 - 201.
122

على أن قوله وتكليف المقترض بغير الأجود منفي بالأصل، معارض بأن
مقتضى القواعد أن التكليف إنما يقع بما استقر في الذمة، وجواز الزايد على ذلك أنما
خرج هنا مخرج الرخصة، فالأصل إن أريد به بمعنى القاعدة، فالدليل مقلوب عليه،
كما عرفت، وغير هذا المعنى لا وجه لاحتماله هنا، وبالجملة فإن الكلام المذكور
لا يخلو عن مجازفة وقصور والله العالم.
الموضع الثالث
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن القرض يملك بالقبض،
وكثير منهم لم يذكر خلافا في ذلك، وقيل: بأنه يملك بالتصرف، ونقل عن الشهيد
(رحمة الله عليه) في بعض حواشيه أنه نسب هذا القول إلى الشيخ، وفي الدروس نسب
القول المشهور إلى الشيخ، وحكى الآخر بلفظ قيل.
احتجوا للقول المشهور بأن التصرف فرع الملك وتابع له، فيمتنع كونه
شرطا فيه، وإلا لزم الدور. وتوجيهه أن التصرف فيه لا يجوز حتى يصير ملكا، لقبح
التصرف في مال الغير، فلو كان لا يصير ملكا حتى يتصرف فيه للزم توقف التصرف
على الملك، والملك على التصرف وهو دور.
ورد بمنع تبعية التصرف للملك، وعدم تسليم قولكم أن التصرف
لا يجوز حتى يصير ملكا، فإنه يكفي في جواز التصرف إذن المالك، كما في غيره
من المأذونات، ولا شك في حصول الإذن بالايجاب والقبول، فيكون ذلك سببا
تاما في جواز التصرف، وناقصا بالنسبة إلى إفادة الملك، فإذا تصرف حصل تمام
الملك، كذا ذكره في المسالك.
وأورد عليه المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه) بأن الإذن إنما حصل من المالك
بأن يكون مالكا ويكون عليه العوض لا مطلقا، كما في ساير المعاوضات فإنها على
تقدير بطلانها لا يجوز التصرف بأن الإذن قد حصل، ولأنه يشكل جميع التصرفات،
لأن الوطي مثلا لا يمكن إلا بالملك أو التحليل، ومعلوم عدم الثاني، فإذا لم يكن
123

الأول لم يجز، وكذا البيع ونحوه، فإنه لا يجوز لغير مالكه إلا بالوكالة، أو فضولا
إن جوز، ومعلوم انتفاؤهما انتهى (1) وهو جيد.
ثم إنه في المسالك أيضا قال على أثر الكلام المتقدم: ثم إنه إن كان التصرف
غير ناقل للملك واكتفينا به، فالأمر واضح، وإن كان ناقلا أفاد الملك الضمني قبل
التصرف بلحظة يسيرة، كما في العبد المأمور بعتقه عن الآمر غير المالك: ونقل
في الدروس أن هذا القائل يجعل التصرف كاشفا عن الملك مطلقا، وعلى هذا فلا
اشكال من هذا الوجه بالنسبة إلى التصرف الناقل انتهى.
واعترضه أيضا المحقق المتقدم ذكره هنا فقال: على أثر الكلام المتقدم
ولا يجعل حصول الملك قبل التصرف بلحظة كما في العبد المأمور بعتقه للضرورة،
إذ لا ضرورة هنا، مع أن فيه ما فيه، لأنه ليس بواضح، ولا موجب له، ولهذا ترك
المحقق الثاني ذلك التأويل.
وفيه أيضا وقال: نقول: إن هذا العبد ملك للمأمور بالدليل الشرعي وبما
نصرف فيه وموجبه ولا يضر ذلك انتهى.
ثم إنه قال في المسالك أيضا: ويؤيد هذا القول أصالة بقاء الملك على أصله
إلى أن يثبت المزيل، وأن هذا العقد ليس تبرعا محضا، إذ يجب فيه البدل، وليس
على طريق المعاوضات، فيكون كالإباحة بشرط العوض، ولا يتحقق الملك معه إلا
مع استقرار بدله، وكالمعاطات، ومع ذلك كله فالعمل على المشهور، بل لا يكاد
يتحقق الخلاف انتهى.

(1) أقول: معنى كلامه (قدس سره) حيث أن عبارته لا يخلو من تعقيد أن الإذن
إنما حصل من المالك الذي هو المقرض بأن يكون القرض ملكا للمقترض، وعليه
عوضه، فالإذن إنما حصل بهذا النحو كما في سائر المعاوضات، ولا ريب أن هذا
القائل يدعي بطلان المعاوضة ما لم يتصرف المقترض في القرض، وحينئذ فإذا
كانت المعاوضة باطلة لا يمكن أن يقال بأنه يجوز التصرف بأصل الإذن بأنه قد حصل،
وإلا لزم مثله في غير من المعاوضات الباطلة، وهو معلوم البطلان منه رحمه الله.
124

وظاهر كلامه (قدس سره) هو أن الأقوى بحسب القواعد المقررة بينهم هو
هذا القول، لعدم تمامية الدليل الذي احتج به للقول المشهور بناء على ما قرره، وتأيد
هذا القول بما ذكره من هذه الأمور، وأنه إنما صار إلى القول المشهور من حيث
الشهرة، بل عدم تحقق المخالف في ذلك.
أقول وعلى هذا النهج كلام غيره في هذا المقام من علمائنا الأعلام، والعجب
منهم (قدس الله أرواحهم ونور أشباحهم) في الركون إلى هذه التعليلات. وما أكثروا
فيها من التطويلات، وأخبار أهل البيت عليهم السلام ظاهرة في القول المشهور أتم الظهور،
بل هي كالنور على الطور.
ومنها صحيحة زرارة (1) " قال: قلت لأبي جعفر (ع): رجل دفع إلى رجل
مالا قرضا على من زكاته على المقرض أو على المقترض؟ قال: لا بل زكاتها إن
كانت موضوعة عنده حولا على المقترض، قال: قلت: فليس على المقرض زكاتها
قال: لا يزكى المال من وجهين في عام واحد، وليس على الدافع شئ، لأنه
ليس في يده شئ، إنما المال في يد الآخذ، فمن كان المال في يده زكاه، قال:
قلت: أفيزكي مال غيره من ماله؟ قال: إنه ماله ما دام في يده، وليس ذلك المال
لا حد غيره، ثم قال: يا زرارة أرأيت وضيعة ذلك المال أو ربحه لمن هو وعلى من
هو؟ قلت: للمقترض، قال، قال: فله الفضل وعليه النقصان، وله أن ينكح ويلبس منه
ويأكل منه، ولا ينبغي له أن يزكيه فإنه عليه جميعا ".
فانظر إلى صراحة هذا الخبر المذكور في الدلالة على القول المشهر بأوضح
دلالة، لا يقترنها شائبة القصور، ويؤيده غيره من الأخبار الدالة على وجوب الزكاة
على المقترض، وإن لم تكن بهذه الصراحة.
وبذلك يظهر لك أن ما قدمنا نقله عنهم كله من قبيل التطويل بغير طايل،
والترديد الذي لا يرجع إلى حاصل، ولا سيما دعوى قوة هذا القول النادر، وإنما

(1) الكافي ج 3 ص 520 وليس في الكافي كلمة جميعا.
125

أطلنا الكلام بنقله لتحيط علما بالحال، وأنه لا ينبغي الاقتصار على مراجعة كلامهم
بدون الرجوع إلى كتب الأخبار، فكم لهم من غفلة مثل ما عرفت في هذا المضمار،
ولما في ذلك أيضا من مزيد الفايدة في تشحيذ الذهن بممارسة هذا التحقيقات،
وما يترتب عليها من الفوائد في أمثال هذه المقامات.
ثم إنه بناء على ما ذكروه من الخلاف فرعوا عليه بأن يظهر فائدة الخلاف
في مواضع، منها جواز الرجوع في العين ما دامت باقية، ووجوب قبولها لوردها
المقترض، وفي النماء قبل التصرف، وفي نفقته لو كان حيوانا، وفي وقت انعتاقه
لو كان ممن ينعتق على المقترض.
أقول: ومن أظهر ذلك أيضا الزكاة إلا أنهم لم يذكروها، ثم إنه على تقدير
القول المذكور فالمراد بالتصرف الذي يوجب الملك هل هو التلف للعين أو الناقل
للملك، أو مطلق التصرف وإن لم يزل الملك، أو كل تصرف يستدعي الملك؟ فلا يكفي
الرهن احتمالات، وحيث قد عرفت ضعف القول المذكور بما ذكرنا من الصحيحة
الصريحة الدالة على القول المشهور، فلا فائدة في التطويل بما يتعلق به زيادة على ما
ذكرنا للفرض المتقدم ذكره.
الموضع الرابع
قد عرفت فيما نقدم أن من جملة ما جعلوه مظهرا للخلاف المتقدم هو جواز
الرجوع في العين ما دامت باقية على القول الغير المشهور، لأنها لم يخرج عن ملك
المقرض، وعدم الجواز بناء على المشهور، حيث أن المستقرض ملكها بالعقد والقبض،
ولم يبق للمقرض إلا عوضها من القيمة أو المثل، فليس له الرجوع فيها، إلا أنه يظهر
من جملة منهم تفرع ذلك أيضا على القول المشهور من الملك بمجرد القبض، فإن
القائلين بهذا القول اختلفوا في ذلك، فقال الشيخ في المبسوط والخلاف: يجوز
للمقرض أن يرجع في عين القرض.
126

وقال ابن إدريس: ليس له ذلك إلا برضا المقرض، وهو مذهب العلامة
والمحقق ومن تأخر عنهما، واستدلوا عليه بأنه ملكه بالقرض والقبض، فلا يتسلط
المالك على أخذه منه لانتقال حقه إلى المثل أو القيمة.
احتج الشيخ (رحمة الله عليه) بأنه كالهبة في جواز الرجوع فيها، وأجيب
بالمنع من المساواة بين المسألتين، وتوضيحه أنه قد ثبت ملك المستقرض للعين
بالقرض والقبض، وأن اللازم للمقرض في الذمة إنما هو المثل أو القيمة، وثبوت التخيير
في الرجوع في الهبة بدليل خارج لا يستلزم انسحابه إلى ما لا دليل فيه.
وعندي فيه اشكال، فإن المفهوم من كلامهم وقواعدهم أن الفسخ موجب
لرجوع كل شئ إلى أصله، لأن معناه أبطال أثر العقد السابق الذي رتبه الشارع عليه
قبل العقد، وهو هنا كونه ملكا للمقترض، فإذا لم تخرج العين الموجودة بالفسخ
عن ملك المقترض وأن الذي للمقرض إنما هو المثل أو القيمة فهذا مقتضى العقد
أولا؟ فأي أثر لهذا الفسخ يترتب عليه.
وبما ذكرناه يشكل ما ذكره المتأخرون من ابن إدريس ومن تبعه من أن
القرض عقد جائز يجوز فسخه من الطرفين، ثم يدعون بعد الفسخ أنه ليس له
الرجوع إلى العين، وإنما يرجع بالمثل أو القيمة، وكذا عدم وجوب قبوله مع رد
المقترض له على مالكه، مع أن هذا هو مقتضى أصل العقد كما عرفت، فأي أثر
ظهر هنا للفسخ.
وبما ذكرنا يظهر لك أيضا ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني في الاستدلال
للقول المشهور حيث قال: ويمكن الاحتجاج للمشهور بناء على الملك بالقبض
بأن الأصل في ملك الانسان أن لا يتسلط عليه غيره إلا برضاه، والثابت بالعقد والقبض
للمقرض إنما هو البدل، فيستصحب الحكم إلى أن يثبت المزيل، ولا سند له يعتد به
إلا كون العقد جايزا يوجب فسخه ذلك.
وفيه منع ثبوت جوازه بالمعنى الذي يدعيه، إذ لا دليل عليه، وما أطلقوه
من كونه جايز ألا يعنون ذلك، لأنه قد عبر به من ينكر هذا المعنى وهو الأكثر، وإنما
127

يريدون بجوازه تسلط المقرض على أخذ البدل إذا طالب به متى شاء، وإذا
أرادوا بالجواز هذا المعنى فلا مشاحة في الاصطلاح، وإن كان مغايرا لغيره
من العقود الجايزة من هذا الوجه، وحينئذ فلا اتفاق على جوازه بمعنى يثبت به
المدعى، إذ لا دليل صالحا على ثبوت الجواز له بذلك المعنى المشهور، فيبقى للملك
وما ثبت في الذمة حكمها إلى أن ثبت خلافه وهذا هو الوجه انتهى (1).
وفيه أنك قد عرفت بما ذكرنا أن الاستصحاب الذي أعتمده في بقاء الحكم
الأول وهو الذي أشار إليه في آخر كلامه فيبقى للملك إلى آخره قد ارتفع وزال
بالفسخ، سواء فسر به الجواز أم لا والألم يكن لهذا الفسخ أثر بالكلية، والمعلوم
من القواعد الشرعية خلافه.

(1) أقول: والتحقيق أن يقال إن قلنا بأن القرض من العقود الجائزة - كما
هو المشهور بينهم - فإنه برجوع المالك في العين مع وجوده له أخذها، لأنها وإن
كانت قد صارت ملكا للمقترض، إلا أنه ملك متزلزل مراعى بعدم مطالبة المالك
بالعين ما دامت موجود، وحينئذ فيكون مثل الهبة على بعض الوجوه، وكالبيع
في زمن الخيار، لأن الفرض أن العقد جائز غير لازم وقضية جوازه ذلك.
وأما حكم الأكثر بجوازه مع المنع من الرجوع في العين، وإنما يرجع
بالعوض الذي في الذمة، فإنه يرد عليهم أن هذا مما يوجب كون العقد لازما لا جائزا،
وإن قلنا بلزومه كما هو ظاهر الأدلة التي ذكرناها في الأصل، فإنه برجوعه ليس
له إلا العوض الذي في الذمة، لأن العين قد انتقلت منه بالعقد إلى المقترض وخرجت
عن ملكه، فصار حقه العوض، فلو طالبت حقه بالعوض.
وفسخه العقد على هذه الكيفية إنما يوجب العوض، أما لو حصل التفاسخ
من الطرفين والإقالة من الجانبين فآلوا جب دفع العين مع وجودها، وإلا فالعوض،
لأنه لا فرق بينه وبين سائر العقود اللازمة من بيع وغيره، فكما أنه متى تفاسخ
المتبايعان وحصلت الإقالة من عقد البيع فإنه يرجع كل عوض إلى مالكه مع وجوده
وإلا فعوضه من مثل أو قيمة، فكذلك هنا والله العالم منه رحمه الله.
128

فالتحقيق أن كلامه (قدس سره) في هذا المقام يرجع إلى القول باللزوم،
وإن تستر عنه بما هو أوهن من من بيت العنكبوب، وذلك فإن مظهر الجواز واللزوم
هنا إنما هو بالنسبة إلى مال المقرض، فإن قلنا بكون عقد القرض من العقود الجايزة،
ترتب عليه صحة الرجوع مع وجود العين، وإن قلنا أنه من العقود اللازمة فليس له
إلا العوض المستقر في الذمة وإن كانت العين موجودة.
وما تستر به من تسميته جايزا باعتبار استحقاق العوض الذي في الذمة فيرجع
إليه كلام قشري، فإن ذلك ثابت بأصل العقد، سواء سمي جايزا أو لازما، ومجرد
التسمية بذلك من غير ثمرة ترتب عليها لا معنى له، وبالجملة فإن المستفاد من الصحيحة
المتقدمة في سابق هذا الموضع هو حصول الملك بالقبض، ومقتضاه أن الثابت في
الذمة إنما هو العوض من قيمة أو مثل، وأما أنه بعد رجوع المالك فيما دفعه من وجود
عينه هل له العين أو العوض؟ فلم أقف فيه على نص.
والموافق لقواعدهم من أن القرض عقد جايز وأنه ينفسخ بالفسخ من الطرفين،
أو أحدهما، وأن الفسخ يوجب رد كل شئ إلى أصله، لأنه يرجع إلى ابطال العقد
السابق هو ما ذكره الشيخ من الرجوع إلى العين مع وجودها، وإلا فالعوض (1)
إلا أن أكثرهم كما عرفت على خلافه، من أنه إنما يرجع إلى العوض وإن كانت
العين موجودة، ولا مخرج من ذلك إلا بالقول بأن العقد لازم، وأنه بالفسخ يرجع
إلى العوض الذي في الذمة، كما نبه عليه شيخنا المشار إليه آنفا، مع أنهم لا يقولون

(1) حيث قال في الاحتجاج للشيخ (رحمة الله عليه) ويمكن تعليله أيضا بالاتفاق
على أن عقد القرض جائز، ومن شأن العقد الجائر أن من اختار فسخه رجع إلى
عين ماله، لا إلى عوضه، كالهبة والبيع بالخيار، فلو جاز فسخ القرض من دون
أخذ العين لأدى إلى لزومه، ومقتضى فسخ العقد الجائز أن يرجع كل منهما إلى
عوصه من بقائه، وإلى بدله مع تلفه، وخروج هذا العقد عن هذا الحكم مع جوازه
لا وجه له، وأما رجوعه بالعوض الذي ثبت في ذمة المقترض بالقبض فالحق فيه
أنه إنما يناسب لزوم المعوضة لا جوازها أيضا انتهى منه رحمه الله.
129

باللزوم.
وكيف كان فإن المسألة لعدم النص مع تدافع كلامهم في المقام محل اشكال
والله العالم.
الموضوع الخامس: قد عرفت أن المشهور أن القرض من العقود الجائزة التي
يجوز الرجوع فيها من الطرفين بل ادعى عليه الاجماع، وعلى هذا فلو شرط التأجيل
فيه لم يلزم، وبذلك صرحوا أيضا، وكذا كل شرط سايغ، وإن كان يستحب
الوفاء بذلك، وعللوا الأول بأن القرض تبرع، والمتبرع به ينبغي له الخيار في
تبرعه متى أراد الرجوع إليه في المجلس أو غيره، إلا أن يشترط التأجيل في عقد
آخر لازم، أما في نفس عقد القرض فلا، لأنه جائز فلا يلزم ما شرط فيه، حيث أن الشرط جزء من العقد يتبعه في لزومه وجوازه.
ويظهر من المحدث الكاشاني في المفاتيح القول بلزوم العقد المذكور،
ولزوم التأجيل متى اشترط في العقد، وهو الظاهر من الأدلة الشرعية كما ستقف
عليه.
وإلى ذلك أيضا يميل كلام المحقق الأردبيلي (رحمه الله) وظاهر الفاضل
الخراساني الميل إلى ذلك أيضا.
والذي وقفت عليه من الأدلة الشرعية في المقام مما يدخل في سلك هذا
النظام قوله عز وجل (1) " وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " وهي شاملة
للسلم والنسية والقرض، ونحوها من الديون ورواية الحسين بن سعيد (2) " قال:
عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى ثم مات المستقرض أيحل مال القارض
بعد موت المستقرض منه؟ أم لورثته من الأجل ما للمستقرض في حياته فقال: إذا
مات فقد حل مال القارض ".

(1) سورة البقرة الآية - 289.
(2) الوسائل الباب - 12 - من أبواب الدين الرقم - 2.
130

والتقريب فيها من وجهين أحدهما تقريره عليه السلام للسائل في أن الأجل لازم
في القرض مطلقا (1) بل ظاهره كون ذلك في عقد القرض، وثانيهما دلالته بمفهوم
الشرط الذي هو حجة المحققين، وعليه دلت الأخبار أيضا على صحة التأجيل
ورواية ثواب الأعمال المتقدمة في صدر المقصد (2) وقوله عليه السلام " من أقرض قرضا
وضرب له أجلا " الحديث.
وما ذكره الرضا عليه السلام في كتاب الفقه الرضوي (3) حيث قال " وروي من أقرض
قرضا ولم يرد عليه عند انقضاء الأجل كان له من الثواب في كل يوم صدقة دينار ".
وهذان الخبران كما ترى كالآية والخبر المتقدم صريحان في صحة التأجيل
في عقد القرض، وارتكاب التأويل فيها بأن الأجل قد وقع في عقد آخر لازم لما
يتجشمه من له أدنى فهم وروية بمعرفة سياق الكلام، ومتى ثبت صحة الشرط ولزومه
ثبت لزوم أصل العقد لاتفاقهم على أن لزوم الشرط تابع للزوم العقد، وهم إنما
منعوا من لزوم التأجيل في عقد القرض بناء على اتفاقهم على جوازه، وحملوا
رواية الحسين بن سعيد على الاستحباب تفاديا من طرحها.
وفيه أن الحمل على الاستحباب فرع وجود المعارض، وليس إلا مجرد
اتفاقهم المدعى في المقام مع تأيد الرواية المذكورة بما ذكرنا من عموم الآية
وخبري ثواب الأعمال وكتاب الفقه وغير هما مما ستعرف انشاء الله تعالى.
قال المحدث الكاشاني (قدس سره) بعد نقل نحو ما قدمنا عنهم: " وفيه نظر "
مع أنه ينفيه عمومات الوفاء بالعقود، والتزام الشروط، وخصوص (4) " من
مات وقد أقرض إلى أجل يحل "، وأيضا ينافيه قول الأكثر بعدم جواز الارتجاع

(1) قوله مطلقا أي سواء كان في عقد آخر لازم أو في نفس عقد القرض - منه
رحمه الله.
(2) ص 109.
(3) المستدرك ج 2 ص 490.
(4) التهذيب ج 6 ص 190.
131

كما مر، إلا أن (1) يقال المراد بالجواز تسلط المقرض على أخذ البدل متى شاء
وفيه أنه لا فرق بين اللازم حينئذ، غير أنه لا يقع مؤجلا، وفيه كما
ترى، مع أن قوله إلى أجل والحديث المذكور يناديان بخلافه، مضاف إلى العمومات
فإن كان اجماعا وإلا فالعمل على الظواهر انتهى.
وهو جيد وأيده المحقق الأردبيلي (عطر الله مرقده) أيضا بما دل على
وجوب الوفاء بالوعد، قال في شرح الإرشاد بعد أن نقل عنهم الاستدلال على
بطلان اشتراط التأجيل في العقد بالأصل مع عدم موجبه، إذ القول ليس بموجب
عندهم والاجماع: ما ملخصه ولكن منهم وجوب الوفاء بالوعد من العقل والنقل،
إلا أن عدم العلم بالقول به يمنع عن ذلك، وإلا كان القول به جيدا كما نقل عن
بعض العامة (2) إلى أن قال بعد نقل كلام لهم في البين: والظاهر أن دليله الاجماع،
والأصل مع عدم الموجب، كما مر، إلا أن ما قلناه مما يدل على وجوب الوفاء
بالوعد والعقد مثل " أوفوا " " ولم تقولون ما لا تفعلون " " والمسلمون عند
شروطهم " وغير ذلك يدل على اللزوم، ولو وجد القائل به لكان القول به جيد جدا،
وإن لم يكن بعدم الخروج عن قولهم أيضا دليل واضح، إذ الاجماع غير واضح

(1) إشارة إلى ما تقدم عن اعتذار شيخنا الشهيد الثاني عن الأكثر تحمل
الجواز على هذا المعنى، وفيه ما ذكره مع ما سيأتي في البحث أيضا انشاء الله تعالى
منه - رحمه الله.
(2) نقل العلامة في التذكرة عن مالك أن القرض يثبت له الأجل ابتداء وانتهاء
بأن يقرضه مؤجلا ويقرضه حالا ثم يؤجله، ثم أجاب عن دليله بأن المؤمنين عند شروطهم
لا يدل على الوجوب، فتحمل على الاستحباب.
أقول: لا يخفى أنهم في غير موضع قد استدلوا على وجوب الوفاء بالشرط لهذا الخبر وأفتوا به، وقد عرفت من الأخبار المذكورة في الأصل، وظاهر الآية
ما فيه الكفاية الدالة على المراد، ولا سيما رواية الحسين بن سعيد - منه - رحمه الله.
132

ولا دليل غيره، إلا أنه يحتاج إلى جرأة انتهى ملخصا.
أقول: لا يخفى أن ما ذكره هنا وكرره من توقف القول بعد وجود الدليل عليه
على قائل بذلك من المتقدمين ضعيف واه، بل أوهن من بيت العنكبوت وأنه
لا وهن البيوت، إذ لا يخفى على الخائض في الفن والمتدبر لما وقع للأصحاب سيما
المتأخرين من الاختلاف، وكثرة الأقوال في المسائل الشرعية أنهم لم يجروا على
هذه القاعدة التي ذكرها.
وتوضيح ذلك هو أنه لا يخفى أن أول من فتح هذا الباب من التفريع في
الأحكام وكثرة الأقوال هو الشيخ والمرتضى (رضي الله عنهما)، وقد نقل بعض
الأصحاب انحصار الفتوى في زمن الشيخ وبرهة من الزمان بعد فيه (قدس سره)
ولم يبق إلا حاك عنه وناقل حتى انتهت النوبة إلى ابن إدريس، ففتح باب الطعن
على الشيخ، ثم انتشر الخلاف في المسائل الشرعية، وتعددت الأقوال فيها على
ما هي عليه الآن، حتى أنك لا تجد حكما من الأحكام إلا وقد تعددت فيه أقوالهم
بل من الواحد منهم في كتبه إلا الشاذ النادر منها ولو أنهم اتفقوا على كلام الشيخ
والمرتضى اللذين هما أول من فتح هذا الباب لما اتسعت الدائرة إلى هذا التعدد
في الأقوال الموجودة الآن، فيكف استجاز هذا المحقق المنع من الفتوى بما قام
عليه الدليل، لعدم قائل به من المتقدمين، مع أن من تقدمه من المتأخرين لم يلتزموا به،
ولم يقفوا عليه.
ولله در شيخنا الشهيد الثاني (طيب الله مرقده) حيث قال في المسالك في
مسألة " ما لو أرضى له بأبيه فقبل الوصية "، بعد الطعن في الاجماع ونعم ما قال:
وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل.
التي ادعوا فيه الاجماع، إذا قام الدليل على ما يقتضي خلافهم، وقد اتفق ذلك لهم
كثيرا، لكن زل، المتقدم متسامحة بين الناس دون المتأخر انتهى وهو جيد رشيق
كما لا يخفى على من نظر بعين التحقيق.
133

وبالجملة فإن مقتضى ما ذكرنا من الآية والأخبار المؤيدات المذكورة هو
صحة التأجيل في القرض ولزوم عقده، وليس لها مقابل يمنع من العمل بها،
ويوجب ارتكاب التأويل فيها سوى مجرد دعويهم الاتفاق على الجواز، وعدم
صحة التأجيل حيث أنه لا يصح تأجيل الحال.
قال في الشرايع: " ولو شرط التأجيل في القرض لم يلزم، كذا لو أجل
الحال لم يتأجل، وفيه رواية مهجورة يحمل على الاستحباب "، وأشار بها إلى رواية
الحسين بن سعيد المتقدمة.
وفيه زيادة على ما عرفت أن ثبوت الحلول له مع اطلاق العقد لا ينافي
التأجيل مع اشتراطه، فإن اطلاق عقد البيع يقتضي حلول الثمن إلا أن يشترط
تأجيله، وبعين ذلك يقال في القرض، فإنه عقد أوجب انتقال العين المقترضة إلى
المقترض وثبوت عوضها في ذمته حالا، ولا مانع من اشتراط تأجيله إذا حصل التراضي
عليه، وبالجملة أن مجرد كونه حالا لا ينافي التأجيل إذا اشترط.
ثم إن الذي يظهر من شيخنا الشهيد الثاني في المسالك هو لزوم العقد،
ولزوم شرط التأجيل، حيث قال في شرح قول المصنف: " ولو شرط التأجيل في
القر ض " إلى آخره: ويجيئ على ما قررناه من لزومه على ذلك الوجه احتمال لزوم
هذا الشرط، مضافا إلى عموم قوله صلى الله عليه وآله (1) " المؤمنون عند شروطهم " وغير
ذلك مما دل على لزوم ما شرط في العقد اللازم، إذ ليس هذا العقد على حد العقود
الجايزة ليقطع فيه بعدم لزوم الشرط، ولا على حد اللازمة ليلحقه حكمها، ويمكن
على هذا أن يرجع إلى عموم الأدلة الدالة على لزوم الالتزام بالشرط، والوفاء
بالعقود انتهى
أقول: أشار بقوله ما قررناه إلى ما قدمنا نقله عنه في سابق هذا الموضع
من قوله " ويمكن الاحتجاج للمشهور " إلى آخره وقد عرفت ما فيه، وأنه يرجع

(1) الكافي ج 5 ص 159.
134

في الحقيقة إلى القول بلزوم عقد القر ض كما اخترناه، وفاقا لمن ذكرناه، وتسميته
له جايزا باعتبار ما ذكره من الرجوع إلى العوض الذي في الذمة كلام شعري لا ثمرة
له لما عرفت آنفا.
ثم إن قوله " إنه ليس على حد العقود الجائزة ولا اللازمة " لا أعرف له معنى
بالنسبة إلى سلب اللزوم عنه، أما سلب الجواز فقد عرفته مما قدمناه من الأخبار،
ومما ذكره أيضا، وأما سلب اللزوم فلا أعرف له مستندا إلا مجرد دعواهم
ذلك، وإلا فظواهر الأدلة التي قدمناها والمؤيدات التي ذكرناها كلها شاهدة
باللزوم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المشهور أنه متى وقع اشتراط تأجيل القرض في
عقد لازم فإنه يصح الشرط المذكور، وإنما منعوا من ذلك في عقد القرض من
حيث أن عقد القرض من العقود الجائزة، فلا يلزم الشرط، لأنه يتبع في اللزوم
وعدمه، العقد في لزومه وجوازه، حيث كان العقد عندهم غير لازم فكذا ما اشتمل
عليه، بخلاف العقد المتفق على لزومه، كالبيع بأن يبيعه شيئا ويشترط في متن
العقد تأجيل ما يستحقه عنده من القرض أو الدين، وقيل: بالعدم، بل إن اشتراطه
في العقد اللازم يقلب اللازم جايزا.
قال في الدروس: ولو شرط تأجيله لم يلزم، ولو شرط تأجيله في عقد لازم
قال الفاضل: يلزم تبعا لللازم، ويشكل بأن الشرط في اللازم يجعله جايزا، فكيف
ينعكس، وفي رواية الحسين بن سعيد " في من أقترض إلى أجل فمات يحل " وفيها
اشعار بجواز التأجيل، فيمكن حملها على الندب انتهى.
أقول: الحمل على الندب فرع وجود المعارض، مع أنك عرفت تأيد الرواية
المذكورة بالآية والروايتين المتقدمتين، وغيرهما من المؤيدات المتقدمة الظاهر
جميعه في جواز التأجيل، فلا التفات إلى ما ذكره، والمراد من قولهم أن الشرط الجائز في
العقد اللازم يقلب اللازم جايزا، جعلوا ذلك قاعدة كلية يعني أن المشروط عليه لو أخل
بالشرط تسلط الآخر على فسخ العقد المشروط فيه، وفيه أن ذلك هو أحد القولين
135

في المسألة كما تقدم ذكره في المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام الخيار (1)
من الفصل الثاني الخيار، والذي اخترناه ثمة وبه صرح جملة من الأصحاب هو أنه
يجب الوفاء بالشرط، ويأثم بتركه، ويجبر على الوفاء ولو امتنع، ولو برفع
الأمر إلى الحاكم الشرعي، فإن تعذر تحصيل الشرط من جميع الوجوه تسلط على
الفسخ إن شاء، وهذا الأمر العارض للعقد لا ينافي لزومه في أصله، وبذلك يحصل
الجمع بين الحقين، والأدلة التي في البين من الجانبين.
الموضع السادس: قد قرروا لما يصح اقراضه ضابطة، وهي كلما يضبط وصفه
وقدره، فإنه يجوز اقراضه، فيجوز اقراضه، فيجوز اقراض الذهب والفضة وزنا، والحنطة والشعير
كيلا ووزنا فلو اقترض شيئا من ذلك من غير الاعتبار بما يعتبر به لم يفد الملك، ولم
يجزله التصرف فيه وإن اعتبره بعد ذلك، ولو تصرف فيه قبل الاعتبار ضمنه، ولا
طريق إلى التخلص منه إلا بالصلح، لكونه مجهولا، ويجوز اقتراض الخبز وزنا
بلا اشكال، وكذا يجوز عددا ولا يضر التفاوت اليسير المتسامح به عادة بين
أفراده.
ويظهر من التذكرة أنه اجماعي عندنا، ونحوه البيض والجوز، وشرط
في الدروس في قرض الخبز عددا عدم التفاوت، وإلا اعتبر وزنا، لعله محمول
على التفاوت الذي لا يتسامح به عادة وعرفا، مع أنه قد روى الصدوق (عطر الله مرقده)
في الفقيه عن الصباح بن سيابة (2) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن عبد الله بن أبي يعفور أمرني أن أسألك قال: إنا نستقرض الخبز من الجيران فنرد أصغر منه،
أو أكبر فقال عليه السلام نحن نستقرض الجوز الستين والسبعين عددا فيه الصغيرة والكبيرة
فلا بأس "
روى الشيخ عن إسحاق بن عمار (3) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: استقرض

(1) ج 19 ص 66.
(2) الفقيه ج 3 ص 116.
(3) التهذيب ج 7 ص 162.
136

الرغيف من الجيران ونأخذ كبيرا ونعطي صغيرا أو نأخذ صغيرا ونعطي كبيرا؟ قال
لا بأس ".
وعن غياث (1) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام " قال: لا بأس باستقراض الخبز ".
والروايتان الأولتان مصرحتان بالجواز مع التفاوت، فيجب حمل كلامه
(قدس سره) على التفاوت الزايد على المعتاد، ثم إن الثابت في الذمة في المثلي
هو المثل، وفي القيمي هو القيمة.
وضابط الأول هو ما يتساوى أجزاؤه في القيمة والمنفعة وإن تفاوتت بعض
صفاته، بمعنى أن قيمة نصفه تساوي قيمة النصف الآخر، ويقوم مقامها في المنفعة،
وهكذا كل جزء بالنسبة إلى نظيره كالحبوب والأدهان، والظاهر أن ذلك بناء على
الغالب، وإلا فإن الحنطة مثلا قد يتفاوت أفرادها وأوصافها، فإنا نرى بعض أفراد
الحنطة ليس قيمته كقيمة غيره وهكذا الأدهان.
وضابط الثاني هو ما يختلف أجزاؤه في القيمة والمنفعة كالحيوان، فالمثلي
يجب قبول مثله، والظاهر أنه يجب قبول عين ماله بالطريق الأولى، لأنه مخير في
جهات القضاء بين العين والمثل، وإن كان الثابت في الذمة إنما هو المثل، ولو تعذر
وجود المثل رجع إلى القيمة، وهل هي عبارة عن قيمته يوم القرض، أو التعذر،
أو المطالبة؟ أوجه: اختار في المسالك منها الأخير، قال: لأنه وقت الانتقال إلى
القيمة، لأن الثابت في الذمة أنما هو المثل إلى أن يطالب به.
أقول: الظاهر أنه ينبغي تقييد هذا القول باقتران المطالبة بالتسليم بمعنى أنه
لما طالبه بالمثل وتعذر وسلم إليه القيمة في ذلك الوقت، لانحصار الحق فيها،
وإلا فلو فرضنا أنه طالب ولم يسلم إليه ثم اتفق وجود المثل فالظاهر انحصار الحق
فيه، لا في القيمة، والظاهر أن مراد هذا القائل ما ذكرناه.
ونقل في المختلف عن ابن إدريس أنه مع التعذر فالواجب القيمة يوم المطالبة

(3) التهذيب ج 7 ص 238.
137

ثم قال: والأجود يوم الدفع، ثم احتج على ذلك بأن الثابت في الذمة المثل، ولا
يبرئ إلا بالمعاوضة عليه انتهى. وفيه تأييد لما ذكرناه من أن مجرد المطالبة لا يوجب
الانتقال إلى القيمة استصحابا لبقاء ما كان ثابتا قبلها إلى وقت التسليم، فإنه هو الذي
يوجب الانتقال إلى القيمة كما عرفت.
وعلل الوجه الأول بسبق علم الله تعالى بتعذر المثل وقت الأداء، فيكون
الواجب حينئذ إنما هو القيمة يومئذ، ورد بأنه لا منافاة بين وجوب المثل وقت القرض
طردا للقاعدة الاجماعية، والانتقال إلى القيمة عند المطالبة لتعذره.
أقول ويؤيده أن الأحكام الشرعية لا يناط بعلم الله سبحانه، ولا بالواقع ونفس
الأمر، وإنما تبتنى على الظاهر من حال المكلف ويسره وعسره وقدرته وعدم قدرته
وعلمه وجهله، ونحو ذلك.
وعلل الوجه الثاني بأنه وقت الانتقال إلى البدل الذي هو القيمة، ورد بأن
التعذر بمجرده لا يوجب الانتقال إلى القيمة لعدم وجوب الدفع، وحينئذ فيستصحب
الواجب إلى أن يجب دفعه بالمطالبة، فحيث لم يوجد وقت المطالبة ينتقل إلى
القيمة، وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم الصلاحية لتأسيس الأحكام الشرعية مع فرض سلامتها من المناقشات، وإن كان القول بالقيمة وقت المطالبة
والتسليم أقرب إلى الاعتبار، وقد تقدم الكلام في نظير هذه المسألة، هذا بالنسبة
إلى المثلي
وأما القيمي فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في بيان ما هو الواجب في
عوضه وفيه أقوال: أحدها وهو المشهور قيمته مطلقا، لعدم تساوي أجزائه واختلاف
صفاته، فالقيمة فيه أعدل.
وثانيها ما أشار إليه في الشرايع بعد ذكر القول الأول بقوله: " ولو قيل يثبت
مثله أيضا كان حسنا " وظاهره عدم وجود القائل به، وإن كان ظاهر كلامه اختياره،
واعترف في المسالك بأنه لا قائل به من أصحابنا.
والمراد من هذا القول ضمانه بالمثل مطلقا، لأن المثل أقرب إلى الحقيقة،
138

وربما احتج عليه بأن النبي صلى الله عليه وآله (1) " أخذ قصعة امرأة كسرت
قصعة أخرى " وحكم بضمان عايشة إناء حفصة وطعامها لما كسرته، وذهب الطعام
بمثلهما " قال في المسالك: والخبران عاميان، ومع ذلك فهما حكاية حال لا
تعم، فلعل الغريم رضي بذلك، ومورد هما مطلق الضمان، وعورضا بحكمه صلى الله عليه وآله
بالقيمة في المعتق الشقص انتهى.
وثالثها المثل الصوري فيما يضبطه الوصف، وهو ما يصح السلم فيه كالحيوان
والثياب، وضمان ما ليس كذلك بالقيمة كالجواهر والقسي، اختاره العلامة في
التذكرة محتجا على الأول بأن النبي صلى الله عليه وآله (3) " اقترض بكرا ورد بازلا " وأنه استقرض
بكرا وأمر برد مثله.
وأجيب بأن فيه على تقدير صحة السند أن مطلق الدفع أعم من الوجوب،
ولا شبهة في جواز ذلك مع التراضي كيف وقد زاده خيرا فيما دفع.
أقول ما ذكره من الخبرين المذكورين لا وجود له في أخبارنا، بل الظاهر أن
ذلك من طريق العامة، وهم كثيرا ما يحتجون إلى مثل هذه الأخبار في موضع
الضرورة، مع ردهم الأخبار المروية في الأصول المعتمدة، بزعم أنها ضعيفة باصطلاحهم
المحدث، وصورة الرواية العامية على ما نقله بعض المحققين أن النبي صلى الله عليه وآله (4)
" اقترض قرضا من رجل بكرا فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقتضي
الرجل بكره، فرجع أبو رافع وقال: لم أجد فيها إلا جملا جبارا رباعيا، فقال:
اعطه إياه إن خير الناس أحسنهم قضاء " ومما ذكرنا يظهر أن أظهر الأقوال هو الأول.
الموضع الثاني: أنه على اعتبار القيمة مطلقا كما هو الأول من الأقوال المتقدمة
أو على بعض الوجوه كما تضمنه القول الثالث، فهل المعتبر قيمته وقت القبض
أو وقت القرض؟ قولان: اختار أولهما المحقق في الشرايع، وثانيهما العلامة في
القواعد.

(1) سنن البيهقي ج 6 ص 96.
(2) سنن البيهقي ج 6 ص 96.
(3) سنن البيهقي ج 6 ص 21 و 96
(4) سنن البيهقي ج 6 ص 21 و 96
139

وعلل الأول بأنه وقت الثبوت في الذمة، بناء على ما هو المشهور من أن
القرض يملك بالقبض، وعلل الثاني في شرح القواعد بذلك أيضا.
ورد بأنه غير واضح، إذ لا انتقال إليها قبل القبض، ويمكن الجمع بين القولين
بناء على ما هو الغالب من القبض بعد صيغة القرض من غير فاصل، أو جعل القبض
قبولا بناء على الاكتفاء بالقبول الفعلي كما هو الغالب أيضا، فيحمل القرض في
القول الثاني على القبض لعدم تخلفه عنه، بناء على ما هو الغالب من كون القرض
مستلزما للقبض.
وإلا فلو أريد به مجرد الصيغة وأن تأخر القبض فبطلانه أظهر من أن يذكر،
لأن الملك لا يترتب على مجرد الصيغة من دون قبض اتفاقا نصا وفتوى، ومتى لم
يحصل الملك لم يستقر القيمة في الذمة، ويأتي على القول بأنه إنما يملك بالتصرف
الانتقال إلى القيمة وقت التصرف، حيث إن الملك لا ينتقل إلا به، ولا اعتبار بالقيمة
يوم المطالبة هنا قولا واحدا، الأعلى القول بضمان المثل وتعذره، فيعتبر يوم
المطالبة على الوجه الذي قدمنا بيانه والله العالم.
تذنيبان
الأول: قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بجواز اقراض الجواري،
قال في المسالك لا خلاف فيه، للأصل والضبط، جواز السلف فيهن فجاز قرضهن
كالعبيد، وخالف في ذلك بعض العامة مع اطباقهم على جواز اقتراض العبيد،
والجارية التي لا يحل وطؤها بنسب أو رضاع أو مصاهرة: انتهى. مع أن الشهيد في
الدروس نقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط أنه قال: لا نص لنا ولا فتيا في اقراض
الجواري وقضية الأصل الجواز انتهى.
والذي وقفت عليه في نسخة كتاب المبسوط وهي نسخة صحيحة ما هذه
عبارته لا أعرف نصا لأصحابنا في جواز اقراض الجواري ولا في المنع، والأصل
جوازه، وعموم الأخبار في جواز القرض يقتضي جوازه، فلعل العبارة المنقولة
140

في الدروس صورة ما في الخلاف أو نقل بالمعنى.
وكيف كان فإن كلامه (قدس سره) ظاهر في أن هذه الشهرة التي ادعى في
المسالك أنها اجماع إنما هي من الشيخ ومن تأخر عنه، وأما ما ذكره في المبسوط
من أن عموم الأخبار في جواز القرض يقتضي الجواز، فلا يخلو من اشكال، إذ غاية
ما تدل عليه ترتب تلك الأحكام المذكورة فيها على القرض، فلا بد أولا من معرفة
ما يجوز قرضه وما لا يجوز، ليحمل عليه ذلك الاطلاق، وترتب تلك الأحكام
ويقضى عنه.
وبالجملة فالمسألة لخلو ها عن النص الواضح غير خالية عندي من الاشكال
سيما مع ما ورد عنهم عليهم السلام في تأكيد الاحتياط في الفروج.
ثم إن مقتضى ما ذكروه من جواز اقتراض الجواري أنه يملكها بالقبض، كما هو
المشهور، فإنه يحل له وطؤها كما يباح له غيره من المنافع، وعلى القول الآخر من توقف
الملك على التصرف لا يحل، ولو كان ممن ينعتق عليه أيضا بالملك انعتقت عليه
بناء على ذلك.
ثم إنه لو طالب المقرض بحقه بني الكلام في ذلك على ما تقدم من الواجب في
عوض القيمي هل هو القيمة مطلقا، أو ضمان مثله، أو التفصيل.
قال: في المسالك: وأولى بالجواز لورد العين، لأن الانتقال إلى القيمة إنما
وضع بدلا عن العين، فإذا أمكنت ببذل المقترض كانت أقرب إلى الحق من القيمة انتهى.
ولو حملت من المقترض امتنع ردها، وتعينت القيمة أو المثل على الخلاف
المتقدم، ولو ظهر النقص فيها تعينت القيمة أيضا إلا أن يتراضيا بالأرش.
الثاني قال في الدروس لو ظهر في العين المقترضة عيب فله ردها ولا أرش،
وإن أمسكها فعليه مثلها أو قيمتها معيبة، وهل يجب اعلام المقترض الجاهل بالعيب؟
عندي فيه نظر، من اختلاف الأغراض وحسم مادة النزاع، ومن قضية الأصل.
نعم لو اختلفا في العيب حلف المقرض مع عدم البينة، ولو تجدد عنده
عيب آخر منع من الرد، إلا أن يرضى المقرض به مجانا بالأرش، انتهى.
141

الموضع السابع: قال الشيخ في النهاية: من أقرض غيره الدراهم ثم سقطت
تلك الدراهم وجازت غيرها لم يكن له عليه إلا الدراهم التي أقرضها إياه أو سعرها
بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه، وكذا قال ابن البراج، وابن إدريس.
وقال الصدوق في المقنع: وإن استقرضت من رجل دراهم ثم سقطت تلك
الدراهم وتغيرت فلا يباع بها شئ فلصاحب الدراهم، الدراهم التي تجوز بين
الناس.
وقال في كتاب من لا يحضره الفقيه: كان شيخنا محمد بن الحسن يروي
حديثا " في أن له الدراهم التي تجوز بين الناس "، عقيب رواية يونس عن
الرضا (1) عليه السلام " أن له الدراهم الأولى " ثم قال الصدوق: والحديثان متفقان غير مختلفين
فمتى كان للرجل على الرجل دراهم بنقد معروف فليس له إلا ذلك النقد، ومتى
كان له على رجل دراهم بوزن معلوم بنقد غير معروف فإنما له الدراهم التي تجوز
بين الناس.
وقال ابن الجنيد: من أعطى رجلا له عليه دنانير عروضا من فلوس، وغيرها أو دراهم
في وقت ثم تغيرت الأسعار حسب المعطى على الآخر سعر يوم أخذه، لأن ذلك من ماله،
فإن كان ما أعطاه قرضا فارتفعت الفلوس كان على المستقرض ردما أخذه على من
أقرضه لا برأس ماله، ولا قيمته يوم القرض ولا يختار المستقرض إلا أن يعطي ما ينفق
بين الناس كما أخذ ما ينفق بين الناس.
وقال ابن إدريس في موضع آخر: من كان له على انسان دراهم أو دنانير
أو غيرهما من السلع جاز له أن يأخذ مكان ماله من غير الجنس الذي له عليه بسعر
الوقت، فإن كانت دراهم وتعامل الناس بغيرها، وأسقط الأولى السلطان فليس له
الأمثل دراهمه الأولى، ولا يلزمه غيرها مما يتعامل الآن به إلا بقيمتها من غير الجنس،
لأنه لا يجوز بيع الجنس بالجنس متفاضلا.

(1) الفقيه ج 3 ص 118.
142

وقال العلامة في المختلف بعد نقل هذه الأقوال: والمعتمد أن نقول: لصاحب
الدراهم من النقد الأول، فإن تعذر فقيمته الآن من غير الجنس، لنا أنها من ذوات
الأمثال وحكم المثل ما قلنا.
أقول: ومنشأ اختلاف هذه الأقوال اختلاف ظواهر الأخبار المتعلقة بهذا المسألة:
ومنها ما رواه الكليني والشيخ (نور الله مرقديهما) عن يونس (1) " قال: كتبت
إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام، أن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك
الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيام، وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم
بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ فكتب عليه السلام لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس،
كما أعطيته ما ينفق بين الناس ".
وما رواه في التهذيب والفقيه عن يونس (2) " قال: كتبت إلى أبي الحسن
الرضا عليه السلام، أنه كان لي على رجل دراهم وأن السلطان أسقط تلك الدراهم، وجائت
دراهم على تلك الدراهم الأولى ولها اليوم وضيعة، فأي شئ لي عليه؟ الأولى
التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان فكتب عليه السلام الدراهم الأولى ".
وما رواه الشيخ في التهذيب عن صفوان (1) في الصحيح قال ": سأله معاوية
بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت ولا يباع
بها شئ، الصاحب الدراهم الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟
قال: فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الأولى ".
والشيخ رحمه الله قد جمع بين هذه الأخبار بحمل ما ينفق بين الناس في الخبر
الأول على معنى قيمة ما كان ينفق أولا وكذلك أول الدراهم الأولى في الخبرين
الأخيرين بقيمة الدراهم الأولى دفعا للتنافي. قال: لأنه يجوز أن تسقط الدراهم
الأولة حتى لا يكاد يؤخذ، فلا يلزم أخذها وهو لا ينتفع بها وإنما له قيمة الدراهم الأولة
وليس له المطالبة بالدراهم التي تكون في الحال: انتهى.

" 1 " الكافي ج 5 ص 252 التهذيب ج 7 ص 116.
(2) التهذيب ج 7 ص 117 وأخرج الأول في الفقيه ج 3 ص 118.
(3) التهذيب ج 7 ص 117 وأخرج الأول في الفقيه ج 3 ص 118.
143

ولا يخلو من بعد، لعدم قرينة يؤنسه بهذا المضاف الذي قدره في الكلام،
بل السياق ظاهر في أن الجواب وقع على حسب السؤال المتعلق بعين كل من النقد
الأول أو الثاني، وإن أجيب في الخبر الأول بالنقد الثاني، وفي الأخيرين بالنقد
الأول.
وأما ما جمع به الصدوق فأبعد، لعدم القرينة المؤنسة بهذا التفصيل في شئ من
أخبار المسألة، مع أنه يرد عليه لزوم الربا في صورة ما إن كان له عليه بوزن معلوم
ونقد غير معروف، فإنه حكم بأخذ الدراهم التي تجوز بين الناس وربما أمكن
التفاوت بالزيادة والنقصان بينها وبين ما في ذمته، فإنه متى كان له في ذمته ألف درهم
بوزن معلوم من تلك الدراهم الأولة وأخذ عوضها ألف درهم من هذه الأخيرة
فربما حصل الزيادة والنقصان بين الأولى والثانية، فيلزم الربا إلا أن يحمل كلامه
على أخذ الثانية وزنا أيضا، لكنه خلاف ظاهر كلامه.
والموافق للقواعد وهو ظاهر كلام من عد الصدوق في المقنع والفقيه وابن
الجنيد هو أنه ليس له إلا الأولى إن وجدت، وإلا فقيمتها، لكن من غير ذلك الجنس
أو منه مع التساوي حذرا من الربا، لأن ذلك حكم المثلي كما تقدم، وتخرج الروايتان
الأخيرتان شاهدا على ذلك ويبقى الكلام في الرواية الأولى وقد عرفت ما في جمع
الشيخ والصدوق من البعد
والعلامة في المختلف بعد أن احتج بما قدمنا نقله احتج بالخبرين الأخيرين
ثم نقل عن الصدوق الاحتجاج بالرواية الأولى وأجاب عنها بضعف السند وأطال
في الطعن به ثم ذكر جواب الشيخ عنها بالحمل على أخذ ما ينفق بين الناس على جهة
القيمة عن الدراهم الأولى.
وفيه أن قوله عليه السلام كما أعطيته ما ينفق بين الناس لا يخلو من المنافرة لذلك (1)

" 1 " فإن ظاهره إنما هو أنك أعطيته ما ينفق بين الناس، فإن لك أن تأخذ منه
ما ينفق بين الناس، بمعنى أن الاعتبار ليس بذات النقد من حيث هو، وإنما اعتباريته
من حيث رواجه، والمعاملة بين الناس، وبه يحصل الاشكال والمخالفة الظاهرة بين
الروايتين الأخيرتين كما عرفت منه رحمه الله.
144

وبعض محدثي متأخري المتأخرين (1) حمل الروايتين الأخيرتين على القرض، كما صرح به في رواية صفوان، قال: لئلا يحصل الربا، وحمل الأولى على مهر الزوجة
أو ثمن المبيع، قال: لأن المطلق ينصرف إلى الرايج (2).
وفيه أو لا أن ظاهر الرواية الأولى أن ذلك كان قرضا أيضا، حيث قال عليه السلام
" كما أعطيته ما ينفق بين الناس " فحملها على ما ذكره من ثمن المبيع ومهر الزوجة
خروج عن حاق لفظها وظاهر سياقها.
وثانيا بأن المبلغ الذي استقر في الذمة حال البيع إنما هو رايج ذلك الوقت
لأن الاطلاق ينصرف إليه كما تقدم بيانه، فإذا سقط ولم يتعامل به وظهرت دراهم

(1) هو المحدث المولى محمد تقي المجلسي في حواشيه على كتب الأخبار
منه رحمه الله.
(2) أقول: أقل شيخنا الشهيد (قدس سره) في الدروس: لو سقطت المعاملة
بالدراهم المقترضة فليس على المقترض إلا مثلها فإن تعذر قيمتها من غير الجنس -
حذرا من الربا - وقت الدفع لا وقت التعذر ولا وقت القرض خلافا للنهاية.
وقال ابن الجنيد والصدوق: عليه ما ينفق بين الناس، والقولان مرويان،
إلا أن الأول أشهر، ولو سقطت المعاملة بعد الشراء فليس على المشتري إلا الأولى،
ولو تبايعا بعد السقوط وقبل العلم فالأولى.
نعم يتخير المغبون في فسخ البيع وامضائه، وهو مؤيد لما قلناه في الأصل
بالنسبة إلى القرض، وإلى ثمن المبيع، ولم نقف عليه إلا بعد ما جرى القلم بما أثبتناه
في الأصل.
وأثبتناه في الحاشية لتأييده لما ذكرناه، وما ذكره (قدس سره) في الرجوع
إلى القيمة، وأنها قيمة وقت الدفع، لا وقت العقد، هو ظاهر عبارة العلامة المنقولة في
الأصل أيضا - منه رحمه الله.
145

آخر في المعاملة رجع حكمه إلى حكم القرض، ولم أقف لهم على كلام هنا في
ثمن البيع ومهر الزوجة لو كسرت سكة المعاملة الأولى التي انصرف العقد إليها،
وظهرت سكة أخرى في أن له الأولى أو الأخيرة؟ إلا أن مقتضى قواعدهم هو
ما ذكرناه، من رجوعه بالآخرة إلى حكم القرض
وبالجملة فإن العمل بمقتضى الخبرين الأخيرين هو الأوفق بالقواعد الشرعية،
ويبقى الكلام في الرواية الأولى ولا يبعد خروجها مخرج التقية التي في اختلاف الأحكام
الشرعية أصل كل بلية، فإن جميع ما ذكر من المحامل المتقدمة لا يخلو من تعسف
وبعد عن ظواهر الأخبار المذكورة كما عرفت، والاحتياط في المسألة يقتضي
الرجوع إلى الصلح من الطرفين، وأحوط منه الابراء بعد ذلك من الجانبين والله
العالم بحقايق أحكامه.
المقصد الثاني في الدين
والبحث فيه يقع في مقامين: الأول في الدين المطلق، وفيه مسائل.
الأولى قد صرح جملة من الأصحاب بأنه لو غاب المدين وجب نية القضاء
والعزل عند أمارة الموت، ولو آيس منه تصدق به عنه، وإن قطع بموته وانتفاء
الوارث كان للإمام عليه السلام.
أقول: وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع: أحدها ما ذكروه من وجوب
نية القضاء هو ظاهر جملة من الأخبار من غير تقييد بالغيبة.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك: وجوب نية القضاء ثابت على كل
من عليه حق، سواء كان ذو الحق غايبا أم حاضرا، لأن ذلك من أحكام الايمان
انتهى.
ومقتضى كونه من أحكام الايمان كما ذكره الخروج عنه لو لم ينو، وهو
مشكل لعدم الوقوف على دليله، إلا أن يراد الايمان الكامل، وكان تخصيصهم
وجوب النية بالغائب أنه في المدين الحاضر يجب الدفع إليه عند الطلب، وأما
146

الغايب فإن النية تقوم مقام ذلك، إلا أن فيه أن مع الحضور قد لا يتمكن من الدفع،
فتجب النية حينئذ متى أمكنه ذلك.
وأما الأخبار التي أشرنا إليها فمنها ما رواه في الكافي عن عبد الغفار المجازي (1)
عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته عن رجل مات وعليه دين قال: إن كان أتى على
يديه من غير فساد لم يؤاخذه الله عز وجل إذا علم بنيته إلا من كان لا يريد أن يؤدي
عن أمانته فهو بمنزلة السارق، وكذلك الزكاة أيضا وكذلك من استحل أن يذهب
بمهور النساء ".
وما رواه في الفقيه عن أبي خديجة (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال:
أيما رجل أتى رجلا فاستقرض منه مالا وفي نيته أن لا يؤديه فذلك اللص العادي ".
وما رواه في الكافي عن ابن فضال عن بعض أصحابه (3) عن أبي عبد الله
عليه السلام " قال: من استدان دينا فلم بنو قضاءه كان بمنزلة السارق ".
وما ذكره الرضا عليه السلام في كتاب الفقه الرضوي (4) في كلام له عليه السلام
في الدين " قال: فإن لم ينو قضاءه فهو سارق، فاتق الله وأد إلي من له عليك،
وأرفق بمن لك عليه " الخبر.
ويدل على خصوص الغائب رواية زرارة بن أعين (5) في الصحيح " قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر على صاحبه، ولا
على ولي له، ولا يدري بأي أرض هو، قال: لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء ".

(1) الكافي ج 5 ص 99.
(2) الفقيه ج 3 ص 112.
(3) الكافي ج 5 ص 99.
(4) المستدرك ح 2 ص 489.
(5) التهذيب ج 6 ص 188.
147

ويؤكد هذه الأخبار ما رواه في الكافي عن حمدان بن إبراهيم الهمداني (1)
رفعه إلى بعض الصادقين عليهم السلام " قال: إني لأحب للرجل أن يكون عليه دين ينوي
قضاءه "،
وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن رباط (2) " قال: سمعت أبا عبد الله
عليه السلام، يقول: من كان عليه دين ينوي قضائه كان معه من الله عز وجل حافظان
يعينانه على الأداء عن أمانته فإن قصرت نيته عن الأداء قصرا عنه من المعونة بقدر ما
قصر من نيته ".
وثانيها: ما ذكروه من وجوب العزل عند أمارة الموت، والذي صرح به الشيخ
رحمه الله هو الوجوب مطلقا، وابن إدريس قد منع ذلك.
قال في السرائر: وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ومن وجب عليه دين وغاب
عنه صاحبه غيبة لم يقدر عليها معها وجب عليه أن ينوي قضاءه، ويعزل ماله عن ملكه،
وهذا غير واجب، أعني عزل المال بغير خلاف من المسلمين، فضلا عن طائفتنا
انتهى.
وقال في المسالك: وأما لعزل عند الوفاة فظاهر كلامهم خصوصا على ما يظهر
من المختلف أنه لا خلاف فيه وإلا لأمكن تطرق القول بعدم الوجوب، لا صالة
البراءة مع عدم النص انتهى.
أقول: الذي وقفت عليه في المختلف هو أنه بعد أن نقل عبارة النهاية المتقدمة
وكلام ابن إدريس قال: ليس عندي بعيدا من الصواب حمل قول الشيخ على
من حضرته الوفاة، أو حمل العزل على استبقاء ما يساوي الدين بمعنى أنه يجوز له
التصرف في جميع أمواله بالصدقة وغيرها إلا ما يساوي الدين، فإنه يجب عليه
ابقاءه للايفاء انتهى.
وفي فهم عدم الخلاف من هذه العبارة نظر، إذ لعل ذلك بالنسبة إلى ما يرجحه

(1) الكافي ج 5 ص 93.
(2) الكافي ج 5 ص 95 التهذيب ج 6 ص 185.
148

ويختاره في المسألة. وكيف كان فأصالة العدم مع عدم ورود نص في المقام أقوى مستمسك،
قال: المحقق الأردبيلي (قدس سره): وأما وجوب العزل فذكروه أيضا، ودليله
غير ظاهر، إلا ما يتخيل أنه غاية ما يمكن وأنه أقرب إلى الوفاء، وبعيد عن تصرف
الغير، ولكن تمسك الأصحاب بمثل هذا مشكل، إلا أن يكون اجماع ونحوه،
ويشكل أيضا تعينه بذلك بحيث لو تلف يكون من مال الغريم من غير ضمان إلا مع التفريط
والتقصير، والقول به بعيد انتهى وهو جيد
نعم يمكن القول بوجوب الوصية به كما ذكره بعض الأصحاب أيضا لأنه مع
ترك الوصية ربما أدى إلى فواته، وبقاء ذمته مشغولة بالدين، لعدم علم الورثة،
بل ظاهر جملة من الأصحاب أقول بوجوب الوصية مطلقا بماله وعليه، ويدل عليه
جملة من الأخبار الآتية في محلها انشاء الله تعالى والله العالم.
وثالثها: الصدقة به عنه، قال العلامة في المختلف: إذا غاب المالك غيبة منقطعة
ومات ولم يعرف له وارث قال الشيخ في النهاية: يجتهد المديون في طلب الوارث،
وإن لم يظفر به تصدق عنه، وتبعه ابن البراج، وقال ابن إدريس: يدفعه إلى الحاكم
إذا لم يعلم له وارثا، فإن قطع أنه لا وارث له كان لإمام المسلمين لأن إمام يستحق
ميراث من لا وارث له.
والمعتمد أن نقول: إن لم يعلم انتفاء الوارث وجب حفظه، فإن آيس من وجوده
والظفر به أمكن أن يتصدى به، وينوي القضاء عند الظفر بالوارث، وإن علم انتفاء
الوارث كان للإمام.
أما الأول فلأنه مال معصوم يجب حفظه على مالكه، كغيره من الأموال ومع
اليأس من الظفر بالوارث، وعدم العلم به يمكن التصدق به، لئلا يعطل المال إذ
لا يجوز له التصرف فيه، ولا يمكن ايصاله إلى مستحقه فأشبه اللقطة فحكمه، أن الحكم
المنوط بها حكم اللقطة موجود هنا، فيثبت الحكم عملا بوجود المقتضي.
وأما الثاني فلأن له ميراث من لا وارث له، فيكون للإمام (عليه السلام)
149

انتهى.
وقال شيخنا الشهيد الثاني (نور الله تعالى مرقده) في المسالك بعد أن ذكر
الاجتهاد في طلبه: فإن آيس منه قال الشيخ " رحمة الله عليه ": يتصدق عنه، وتبعه
عليه جماعة من الأصحاب وتوقف المصنف هنا، والعلامة في كثير من كتبه لعدم
النص على الصدقة ومن ثم ذهب ابن إدريس إلى عدم جوازها، لأنها تصرف في
مال الغير غير مأذون فيه شرعا، لا شبهة في جوازه، إنما الكلام في تعينه، ووجه
الصدقة أنها احسان محض بالنسبة إلى المالك، لأنه إن ظهر ضمن له عوضها أن لم
يرض بها، وإلا فالصدقة أنفع له من بقائها المعرض لتلفها بغير تفريط، المؤدي إلى
سقوط حقه، وقد قال الله تعالى (1) " ما على المحسنين من سبيل ".
خصوصا ورود الأمر بالصدقة في نظائره كثيرة، وحينئذ فالعمل بهذا القول
أجود، خصوصا مع تعذر قبض الحاكم لها، أما معه فهو أحوط، وحيث يمكن
مراجعته فهو أولى من الصدقة بغير إذنه، وإن كان جايزا لأنه أبصر بمواقعها ومصرفها
انتهى.
أقول: هذه جملة من كلماتهم في المقام أطلنا بنقلها لتحيط خبرا بالأقوال
في المسألة والتعليلات التي اعتمدوها أدلة لما صار كل منهم إليه، وظاهرهم بل
صريح عبارة المسالك عدم وجود نص في المسألة، مع أن النصوص موجودة،
وإن كانت لا تخلو عن تناف بحسب الظاهر.
والذي وقفت عليه منها ما تقدم من صحيح زرارة (2) " الدال على أنه لا جناح
عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء ".
قال العلامة في التذكرة بعد نقله أنه يدل من حيث المفهوم على منع التصدق
ووجوب الطلب دائما: ولا يخفى ما فيه لأن الطلب مع اليأس وعدم إمكان الوجدان
عبث لا يحسن أن يأمر به عليه السلام فيمكن حمله على عدم اليأس، والأظهر عندي أن الغرض

(1) سورة التوبة الآية - 91.
(2) التهذيب ج 6 ص 188.
150

من السؤال إنما هو أنه هل يؤاخذ لشغل الذمة على هذه الحال أم لا؟ فأخبره بأنه لا جناح
عليه إذا علم الله سبحانه من نيته الأداء.
ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) بأسانيدهم وفيها
الصحيح عن معاوية بن وهب (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل كان له على رجل حق
ففقده ولا يدري أين يطلبه، ولا يدري أحي هو أم ميت، لا يعرف له وارثا ولا نسبا ولا
ولدا، قال: أطلب قال: إن ذلك قد طال، فأتصدق به؟ قال: أطلبه " قال: في
الفقيه وقد روى في هذا خبر آخر " إن لم تجد له وارثا وعلم الله منك الجهد فتصدق به ".
أقول: ربما أشعر ظاهر هذا الخبر أيضا بوجوب الطلب دائما، ولو مع
اليأس، وفيه ما عرفت آنفا، والواجب حمله على إمكان الوجود وعدم اليأس، أو
الاستحباب والتخيير جمعا بينه وبين ما يأتي، ومنه المرسلة المذكورة، وهذا
المرسلة ظاهرة فيما ذهب إلى الشيخ، ومن تبعه من وجوب الصدقة.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن (نصر بن) حبيب (2) صاحب الخان
" قال: كتبت إلى عبد صالح عليه السلام قال: قد وقعت عندي مائتا درهم (وأربعة دراهم)،
وأنا صاحب فندق فمات صاحبها، لم أعرف له ورثة فرأيك في اعلامي حالها،
وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعا؟ فكتب أعمل فيها وأخرجها صدقة قليلا قليلا حتى تخرج "
قال في الإستبصار (3): " إنما له أن يتصدق بها إذا ضمن لصاحبها أو أنها للإمام، فأمره أن
يتصدق عنه ".
أقول: الظاهر بعد الاحتمال الثاني، لأن عدم معرفته الورثة لا يدل على العدم،
سيما أنه لم يطلب ولم يفحص، وكون ذلك للإمام مشروط بالعلم بدم الوارث كما
لا يخفى، وبه يظهر أن هذا الخبر دليل على قول الشيخ ومن تبعه، وأن ما ذكره

الفقيه ج 4 ص 241 التهذيب ج 6 ص 188.
(2) التهذيب ج 9 ص 389 وفيه عن فيض بن حبيب.
(3) الإستبصار ج 4 ص 197.
151

الأصحاب من عدم النص على ذلك غفلة عن الوقوف عليه وعلى أمثاله.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الهيثم ابن أبي روح صاحب الخان. (1)
" قال: كتبت إلى عبد صالح عليه السلام أني أتقبل الفنادق فينزل عندي الرجل فيموت فجأة
ولا أعرفه ولا أعرف بلاده، ولا ورثته فيبقى المال عندي كيف أصنع به؟ ولمن
ذلك المال؟ فقال: اتركه على حاله " وظاهر هذا الخبر بقاؤه أمانة عنده حتى
يظهر له طالب.
وعن هشام بن سالم (2) " قال: سأل " خطاب الأعور " أبا إبراهيم عليه السلام وأنا
جالس، فقال: إنه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالأجر ففقدناه، وبقي من أجره
شئ ولا نعرف له وارثا قال: فاطلبوه قال: قد طلبناه ولم نجد ه، فقال: مساكين
وحرك يديه، قال: فأعد عليه قال: اطلب واجهد فإن قدرت عليه، وإلا هو كسبيل
مالك حتى يجيئ له طالب، فإن حدث بك حدث فأوص به إن جاء له أن يدفع
إليه ".
قال المحدث الكاشاني: في ذيل الحديث " مساكين " يعني أنتم مساكين
حيث ابتليتم بهذا، أو حيث لم تعرفوا أنه لمن هو فإنه للإمام عليه السلام، فكأنه عليه السلام، لم
ير المصلحة في الافصاح بذلك، ويؤيد هذا المعنى ما يأتي في باب من مات وليس له
وارث، أو فقد وارثه من كتاب الجنائز من الأخبار، ويحتمل أن يكون المراد بقوله
" مساكين " يدفع إلى المساكين أو رأيك أن تدفع إلى المساكين على سبيل الأخبار أو
الاستفهام كما يدل عليه الخبران الاتيان انتهى.
أقول: الظاهر عندي بعد ما ذكره من الاحتمالين، فإن عجز الخبر ينادي بصريحه
أنه بعد مراجعة السائل أمره أنه يكون عنده في ذمته حتى يجيئ طالبه، وهو أحد
الوجوه في المسألة كما سيأتي ايضاحه أنشأ الله تعالى، وحينئذ فالمراد بقوله مساكين
إنما هو الترحم لهم لأجل ابتلائهم بذلك كما هو المعنى الأول الذي ذكره.

(1) الكافي ج 7 ص 154 التهذيب ج 9 ص 389.
(2) التهذيب ج 9 ص 389 وفيه (حفص الأعور).
152

وما رواه في التهذيب عن هشام بن سالم (1) في الموثق " قال: سأل حفص
الأعور أبا عبد الله عليه السلام، وأنا عنده جالس، فقال: أنه كان لأبي أجير كان يقوم في
رحاه وله عندنا دراهم، وليس له وارث، فقل أبو عبد الله عليه السلام: تدفع إلى المساكين،
ثم قال: رأيك فيها، ثم أعاد عليه المسألة فقال له: مثل ذلك فأعاد عليه المسألة ثالثة،
فقال أبو عبد الله عليه السلام: تطلب له وارثا، فإن وجدت له وارثا، وإلا فهو كسبيل
مالك، ثم قال: ما عسى أن نصنع بها، ثم قال: توصي بها فإن جاء طالبها وإلا فهي
كسبيل مالك ".
أقول: قوله " وليس له وارث " يعني باعتبار علمنا، وإلا فلو كان عدم الوارث
معلوما كان من الأنفال، ولم يتجه الجواب هنا بما ذكره عليه السلام، ثم إن الخبر قد تضمن
أولا جوابه عليه السلام بالدفع إلى المساكين، يعني الصدقة به كما دل عليه الخبران المتقدمان،
فيكون مؤيدا لقول الشيخ ومن تبعه، ثم إنه بعد مراجعة السائل ثانيا أجابه بذلك
أيضا، وبعد المراجعة ثالثا أجابه بأنه بعد طلب الوارث وعدم وجوده يكون
كسبيل ماله.
والظاهر أن المراد بذلك الكناية عن جواز التصرف فيه، والتملك له بشرط
الرد إن ظهر طالب، والوصية بذلك عند الموت، كما دل عليه هذا الخبر، وخبر
خطاب الأعور المتقدم، حينئذ فيجب حمل الخبر على التخيير بين الأمرين المذكورين
كما يجمع به بين الأخبار المتقدمة، فإن بعضا منها دل على الصدقة، وبعضا على أنه
كسبيل ماله، وربما أشعر هذا الخبر بأن الأفضل هو الصدقة، وإن جاز التملك مع
الضمان، حيث أنه عليه السلام، أما سوغ له الثاني بعد المراجعة ثلاثا، ولعل قصد السائل
في هذه المراجعات مع أمره له بالصدقة أولا وثانيا هو أنه قد سمع جواز التملك مع
الضمان وكان رغبته في ذلك فجوزه عليه السلام له أخيرا.
وما رواه في الفقيه في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن ابن جنيد عن هشام

(1) التهذيب ج 7 ص 177.
153

بن سالم (1) " قال: سأل حفص الأعور أبا عبد الله عليه السلام، وأنا حاضر فقال: كان
لأبي أجير وكان له عنده شئ، فهلك الأجير ولم يدع وارثا ولا قرابة، وقد ضقت
بذلك فكيف أصنع؟ فقال: رأيك المساكين، فقلت: جعلت فداك أني ضقت بذلك،
فكيف أصنع؟ فقال: هو كسبيل مالك، فإن جاء طالب أعطيته ".
وهذا الخبر موافق لعجز سابقه، ولخبر خطاب الأعور وأنت خبير بما ذيلنا
به هذه الأخبار، أن بعضا منها دل على الصدقة، وبعضا على الأمانة في يده، وبعضا
دل على التملك، وأنه كسبيل ماله يتصرف فيه كما شاء مثل سائر أمواله مع الضمان
والوصية به، والجمع بينهما بالحمل على التخيير بين الأمور الثلاثة.
والأصحاب القائلون بالصدقة قيدوها بأنه يتصدق به عن المالك، ومتى ظهر
المالك ورضى بذلك فلا اشكال: ومع عدم رضاه فيغرم للمتصدق له، ويكون
ثواب الصدقة للمتصدق، لا بأس به، وإن كانت الأخبار مطلقة إذ الصدق بمال
الغير بغير إذنه والتصرف فيه كذلك ممنوع عقلا ونقلا، وأما التصدق به على الوجه
المذكور فاحسان محض، " وما على المحسنين من سبيل " لأنه قد نوى التصدق به
على المالك، فإن اتفق موته قبل الصدقة أو بعدها فقد وصل إليه ثواب الصدقة، وإن
اتفق حياته ورجوعه إلى ماله، فهو مخير بين قبول ثواب الصدقة، وغرامة ماله،
ورجوعه عليه، فالاحسان ظاهر، وفي بقائه أمانة من خطر التلف بغير تفريط الموجب
لعدم الضمان ما هو ممكن، وكذا في جواز التصرف فيه وتملكه مع الوصية من
حيث احتمال عدم رجوعه وظهوره، فالتصدق على كل حال أرجح (2).

(1) الفقيه ج 4 ص 241.
(2) ومن جملة الفروع على ذلك قالوا لو دفعها إلى الحاكم فلا ضمان وإن تلف
في يده بغير تفريط ولم يرض المالك، أما مع بقاء عينها معزولا في يده أو يد وارثه فينبغي
أن يكون حكمها حكم ما لو كانت في يد الحاكم، لأن الإذن الشرعي في عزلها يصيرها
أمانة في يده، فلا يتبعه الضمان مع احتماله، لأن الأمانة هنا شرعية لا مالكية والأمانة
الشرعية قد يتبعها الضمان انتهى.
وظاهر الشهيد في الدروس التخيير بين الدفع للحاكم وبين ابقائه في يده أمانة
وبين الصدقة مع الضمان - منه رحمه الله.
154

ثم إن ما ذكره الأصحاب من الرجوع للحاكم الشرعي وأطالوا به، وفرعوا
عليه لا وجود له في أخبار المسألة كما سمعت، إلا أن العذر لهم ظاهر من جهة عدم
ذكرهم لما نقلناه من هذه الأخبار، بل عدم وقوفهم عليها، وإن كانوا غير معذورين
من جهة التتبع للأدلة من مظانها، والاستعجال في التصنيف وجمود من اللاحق
على ما ذكره السابق، نسأل الله سبحانه لنا ولهم المسامحة في زلات الأقدام، والعفو
عن هفوات الأقلام، وزيغ الأفهام في الأحكام.
قال: في المسالك: ومصرف هذه الصدقة مصرف المندوبة، وإن وجبت على
المديون أو وارثه بالعارض، فإنه بمنزلة الوكيل والوصي الذي يجب عليه الصدقة
وإن كانت في أصلها مندوبة انتهى.
ورابعها: ما ذكروه من أنه مع القطع بموته وعدم وجود الوارث فهو للإمام
عليه السلام وهو مما لا خلاف فيه بين علمائنا الأعلام، وبه استفاضت الأخبار كما
تقدمت الإشارة إليه في كتاب الخمس في بحث الأنفال، وحيث أنا لم نعط المسألة
حقها ثمة من التحقيق ونقل جملة الأخبار المتعلقة بها، حيث أن هذا الخاطر إنما خطر
لنا في الكتب الأخيرة فتنقل هنا جملة أخبار المسألة وما يتعلق بها من البحث والتحقيق.
فمنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) " عن أبي جعفر عليه السلام
قال: من مات وليس له وارث من قرابته، ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فما له
من الأنفال ".
وفي رواية حماد بن عيسى (2) الطويلة المتقدمة في الكتاب المشار إليه آنفا
قال: " فيه وهو وارث من لا وارث له ".

(1) التهذيب ج 9 ص 387 الفقيه ج 4 ص 242.
(2) الكافي ج 7 ص 169.
155

وما رواه الصدوق في الفقيه عن أبان بن تغلب (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام
في رجل يموت لا وارث له ولا مولى له؟ قال: هو من أهل هذه الآية " يسئلونك عن
الأنفال ".
وما رواه في الكافي عن الحلبي (2) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله
عليه السلام " قال: من مات وترك دينا فعلينا دينه وإلينا عياله، ومن مات وترك مالا
فلورثته، ومن مات وليس له موالي فماله من الأنفال ".
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن والشيخ في الموثق عن محمد الحلبي (3)
عن أبي عبد الله عليه السلام " في قول الله عز وجل (4) " يسئلونك عن الأنفال " قال: من
مات وليس له مولى فماله من الأنفال ".
وأما ما رواه في الكافي والتهذيب عن داود عمن ذكره (5) عن أبي عبد الله
عليه السلام " قال: مات رجل على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن له وارث
فدفع أمير المؤمنين عليه السلام ميراثه إلى همشهريجه ".
وما رواه الكافي عن خلاد السندي (6) " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان
علي عليه السلام يقول في الرجل يموت ويترك مالا وليس أحد: اعط الميراث
همشاريجه ".
وما رواه في التهذيب عن خلاد عن السري (7) رفعه إلى أمير المؤمنين
عليه السلام، " في الرجل يموت ويترك مالا ليس له وارث قال: فقال أمير المؤمنين
عليه السلام: اعط همشاريجه " فقد أجاب الشيخ عن هذه الروايات بعد الطعن

(1) الفقيه ج 2 ص 23 التهذيب ج 9 ص 387.
(2) الكافي ج 7 ص 168.
(3) الكافي ج 7 ص 169 التهذيب ج 9 ص 386.
(4) سورة الأنفال الآية - 1.
(5) الكافي ج 7 ص 169 التهذيب ج 9 ص 387.
(6) الكافي ج 7 ص 169 التهذيب ج 9 ص 387.
(7) التهذيب ج 9 ص 387
156

في الأسانيد بالحمل على تبرعه بحقه، لا إن هذا حكم كل مال لا وارث له،
وهو جيد.
وقال الصدوق في الفقيه: متى كان الإمام ظاهرا فماله للإمام عليه السلام
ومتى كان الإمام غايبا فماله لأهل بلده متى لم يكن له وارث، ولا قرابة أقرب إليه
بالبلدية.
أقول: أنت خبير بما فيه فإن قصد بذلك الجمع بين هذه الأخبار بما ذكره
ففيه أن أخبار الدفع إلى أهل البلد صريحة في وجود الإمام عليه السلام، فإن الدافع
هو أمير المؤمنين عليه السلام فكيف يصح حملها على زمن الغيبة، والأخبار الأولى
وإن كانت مطلقة إلا أن هذه الأخبار ظاهرة في زمن الحضور، وإن كان ذلك حكما
كليا لا بالنظر إلى هذه الأخبار فلا دليل عليه والله العالم.
المسألة الثانية: لو كان لأحد في ذمة آخر دين فباعه بأقل منه عينا أو قيمة
على وجه لا يحصل فيه الربا، ولا الاخلال بشروط الصرف لو كان العوضان من
الأثمان، فالمشهور بين الأصحاب أنه يجب على الذي عليه الدين دفع ذلك الدين
كملا إلى المشتري، لأنه قد انتقل إليه بالعقد الصحيح كما أنتقل الثمن بأجمعه
إلى البايع.
وقال الشيخ وجماعة: إنه لا يلزم المدين أكثر مما دفعه المشتري من الثمن.
ولا ريب في مخالفة هذا القول للقواعد الشرعية، والضوابط المرعية، إلا أنه قد وردت
به الأخبار وعليها اعتمد الشيخ (رحمة الله عليه) فيما أفتى به هنا.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة
(1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل كان لرجل عليه دين، فجاء رجل
فاشترى منه بعوض،، ثم انطلق إلى الذي عليه الدين، فقال له: أعطني مال فلان
عليك، فإني قد اشتريته منه، كيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام
يرد عليه الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل الذي له الدين "

(1) الكافي ج 5 ص 100 التهذيب ج 6 ص 189.
157

وعن محمد بن الفضيل (1) " قال: قلت للرضا عليه السلام: رجل اشترى
دينا على رجل، ثم ذهب إلى صاحب الدين، فقال له ادفع إلى ما لفلان عليك
فقد اشتريته منه؟ قال: يدفع إليه ما دفع إلى صاحب الدين، وبرئ الذي عليه المال
من جميع ما بقي عليه ".
والمشهور بين المتأخرين رد الخبرين بضعف الاسناد، ومخالفة القواعد
الشرعية كما ذكرناه آنفا، خصوصا الرواية الثانية المتضمنة لبرائة المدين عليه
المال من جميع ما بقي عليه، فإنه لا يعقل هيهنا وجه للبراءة لأنه قبل البيع ملك البايع
وبعد البيع فإما أن ينتقل بالبيع إلى المشتري أم لا؟ فإن انتقل فالواجب دفع الجميع
إلى المشتري، وإلا فلا موجب لخروجه عن ملك الأول.
وأما الرواية الأولى فيمكن حملها على مساواة ما اشترى به الدين الذي اشتراه
فإنها وإن كانت مطلقة، لكن تنزيلها على ما ذكرناه ممكن لئلا يخرج عن مقتضى
القواعد الصحيحة والضوابط الصريحة.
وبالجملة فالمسألة بمحل من الاشكال، إذ الخروج عن مقتضى القواعد المذكورة
مشكل، وطرح الخبرين من غير معارض في المقام أشكل، ولو وقع بطريق الصلح صح ولا
اشكال، ولا يراعى فيه شروط الصرف، لاختصاصه بالبيع، أما الربا فينبغي مراعاته للقول
بعدم اختصاصه بالبيع، كما تقدم في بابه (2).

(1) الكافي ج 5 ص 100. التهذيب ج 6 ص 191.
(2) ومما يؤيد الخبرين المذكورين، رواه في الكافي والتهذيب عن عمر
بن يزيد " 5 " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن رجل ضمن على رجل ضمانا ثم صالح عليه قال: ليس له إلا الذي صالح عليه " فإنه ظاهر في براءة ذمة المضمون
عنه فيما زاد عن مال الصلح، وبذلك صرح الأصحاب أيضا في هذه المسألة والفرق
بين المسألتين لا يخلو من خفاء واشكال، وإن أمكن تكلفه إلا أن الخبر المذكور
لا يخلو من تأييد لما نحن فيه. منه رحمه الله.
" 5 " الكافي ج 5 ص 259.
158

وللعلامة في المختلف هنا مع ابن إدريس كلام قد بسط فيه لسان الطعن علي
ابن إدريس والتشنيع لنسبته إلى التجهيل مع التأويل للخبرين المذكورين لا بأس
بنقله في المقام، وإن طال به زمام الكلام، لما فيه من الفوائد الظاهرة لذوي الأفهام
قال (قدس سره) في الكتاب المذكور: لو باع الدين بأقل مما له على المديون،
قال الشيخ: لم يلزم المدين أكثر مما وزن المشتري من المال، وتبعه ابن البراج
على ذلك، وقال ابن إدريس: قول الشيخ طريف عجيب يضحك الثكلى، وهو
أنه إذا كان الداين، ذهبا كيف يجوز أن يبيعه بذهب أقل منه، وإن كان فضة كيف
يجوز بيعه بفضة أقل منه، أو إن كان ذهبا فباعه بفضة، أو فضة فباعه بذهب، كيف
يجوز انفصالهما من مجلس البيع إلا بعد أن يتقابضا الثمن والمثمن، يقبض البايع
الثمن، والمشتري المثمن، فإن هذا لا خلاف فيه بين طائفتنا، بل لا خلاف فيه
بين المسلمين، قوله لم يلزم المدين أكثر مما وزن المشتري من المال إن كان
البيع صحيحا لزم المدين تسليم ما عليه جميعه إلى المشتري، لأنه صار مالا من أمواله
بالشراء وقد يشتري الانسان ما يساوي خمسين قنطارا بدينار واحد، إذا كان
البايع من أهل الخبرة، وإنما هذه أخبار آحاد أوردها على ما وجدها ايرادا
لا اعتقادا.
ثم قال العلامة: واعلم أن كلام الشيخ قد اشتمل على حكمين، الأول جواز بيع الدين بأقل منه. ولا ريب في جوازه، ونسبة ابن إدريس كلام الشيخ فيه إلى أنه
طريف عجيب يضحك به الثكلى جهل منه، وقلة تأمل وسوء فهم، وعدم بصيرة
وانتفاء التحصيل لكلام العلماء، وعدم معرفة بمدلول أقوالهم، فإن الشيخ لم يحصر
هو ولا غيره من المحصلين الدين في النقود، بل يجوز أن يكون ذهبا أو فضة أو
غيرهما من الأقمشة والأمتعة، ثم لم يحصروا بيع الدين بالنقود، ولا أوجبوا أن يكون
الثمن من الذهب، أو الفضة حتى يتعجب من ذلك، ويظهر للعامة قلة ادراكه
وعدم تحصيل وسوء أدبه ومواجهة مثل هذا الشيخ المعظم الذي هو رأس المذهب
والمعلم له، والمستخرج للمعاني من كلام الأئمة (عليهم السلام)، بمثل هذه السفه
159

والقول الردئ، وهل منع أحد من المسلمين بيع قفيز حنطة في الذمة يساوي دينارا
بربع دينار، أو بيع الدينار الدين بربع القفيز، فإن أداه سوء فهمه وقلة تحصيله
إلى اشتراط المساواة في الجنس باعتبار لفظة أقل كان ذلك غلطا ظاهرا، وجعل
المال ما لا يدخل فيه الربا فيه، لظهور مثل هذه القواعد الممهدة والقوانين الموطدة
من تحريم الربا، على أنه في باقي كلامه صرح بجواز ذلك حيث تعجب من عدم
التزام المديون بجميع الدين، وسوغ بيع ما يساوي خمسين قنطارا بدينار، لكن
هذا الرجل لقلة تحصيله لا يفهم وقوع التناقض في كلامه، وتعجبه بنفسه لا يبالي
أين يذهب.
الحكم الثاني عدم إلزام المديون بأكثر مما وزنه المشتري والشيخ عول
في ذلك على رواية محمد بن الفضيل، ثم ذكر الرواية كما قدمناه، ثم ذكر رواية
أبي حمزة، ثم قال: ولا ريب في صحة البيع ولزومه ووجوب ايفاء المشتري ما
على المديون.
ولا بد حينئذ من محمل للروايتين وليس بعيدا من الصواب أن يحملا على أحد الأمرين، الأول الضمان ويكون اطلاق البيع عليه والشراء بنوع من المجاز،
إذ الضامن إذا أدى عن المضمون بإذنه عرضا عوضا عن الدين كان له المطالبة بالقيمة،
وهو نوع من المعاوضة يشبه البيع، بل هي هو في الحقيقة، وإنما ينفصل عنه بمجرد
اللفظ لا غير.
المحمل الثاني أن يكون البيع وقع فاسدا فإنه يجب على المديون دفع ما
ساوى مال المشتري إليه بالإذن الصادر من صاحب الدين، ويبرئ من جميع ما
بقي عليه من المشتري، لا من البايع، ويجب عليه دفع الباقي إلى البايع لبرائته
من المشتري، وهذان المحملان قريبان، يمكن صرف الروايتين إليهما، وكلام
الشيخ أيضا يحمل عليهما من غير أن ينسب الشيخ إلى ما نسبه ابن إدريس انتهى
كلامه زيد مقامه.
ولا يخفى ما في كل من محمليه للخبرين التكلف والتعسف، الذي يقطع
160

بعدمه، وربما يفهم من مثل هذا التشنيع من العلامة هنا ومثله ما وقع في كلام شيخنا
المفيد في مقام الرد على الصدوق في مسألة نفي السهو عن المعصوم، وفي شرح
الاعتقادات ومثلهما غيرهما أيضا من المتأخرين جواز الغيبة واستثنائها من التحريم
المتفق عليه في مثل هذه المواضع، وإلا فالأمر مشكل، فإن جلالة مثل هؤلاء
المشايخ وعدالتهم وورعهم وتقواهم الظاهر كالشمس في رابعة النهار، يمنع من
قدومهم على هذا الأمر المتفق على تحريمه نصا وفتوى، وإن كانوا لم يصرحوا بذلك
في مستثنيات الغيبة، والله سبحانه العالم.
تذنيب: قال في المختلف: قال ابن إدريس: الدين المؤجل لا يجوز بيعه على
غير من هو عليه بلا خلاف، والوجه عندي الكراهة، للأصل الدال على الجواز
والاجماع ممنوع، وأما إن كان حالا لم يجز بيعه بدين آخر مثله، وهل يجوز بيعه
نسيئة؟ قال في النهاية: يكره ذلك مع أنه منع من بيعه بدين آخر مثله وقال
ابن إدريس: لا يجوز بيعه نسيئة، بل هو حرام محظور، لأنه بعينه بيع الدين
بالدين، وهو حسن انتهى.
أقول: قد تقدم في مباحث الفصل الثاني في السلف ما يتعلق بهذا المقام و
يأتي انشاء الله تعالى في بعض مسائل هذا الكتاب ما فيه كفاية لذوي الأفهام.
المسألة الثالثة قال الشيخ في النهاية: إذا رأى صاحب الدين المديون
في الحرم لم يجز له مطالبته فيه ولا ملازمته، بل ينبغي أن يتركه حتى يخرج من
الحرم، ثم يطالبه كيف شاء.
وقال علي بن بابويه على ما نقله عنه العلامة في المختلف والشهيد في الدروس
: إذا كان ذلك على رجل حق فوجدته بمكة أو في الحرم فلا تطالبه، ولا تسلم عليه،
فتفزعه إلا أن يكون أعطيته حقك في الحرم، فلا بأس بأن تطالبه به في الحرم.
وقال ابن إدريس: قول الشيخ محمول على أن صاحب الدين طالب المديون
خارج الحرم، ثم هرب منه فالتجئ إلى الحرم، فلا يجوز لصاحب الدين مطالبته
ولا افزاعه، فأما إذا لم يهرب إلى الحرم ولا التجاء إليه خوفا من المطالبة بل وجده
161

في الحرم وهو ملئ بماله موسر بدينه، فله مطالبته وملازمته، وقول ابن بابويه
إلا أن يكون أعطيته حقك في الحرم فلك أن تطالبه في الحرم يلوح ما ذكرناه، و
لو كان ما روى صحيحا لورد ورود أمثاله متواترا، والصحابة والتابعون والمسلمون
في جميع الأمصار يتحاكمون إلى الحكام في الحرم، ويطالبون الغرماء بالديون،
ويحبس الحاكم على الامتناع من الأداء إلى عصرنا هذا من غير تناكر منهم في
ذلك، والانسان مسلط على أخذ ماله، والمطالبة عقلا وشرعا.
وقال العلامة في المختلف: والأقرب عندي كراهة ذلك على تقدير الإدانة
خارج الحرم، دون التحريم، عملا بالأصل والإباحة مطلقا على تقدير الإدانة
في الحرم، وبما ذهب إليه الشيخ في النهاية من التحريم صرح ابن إدريس وأبو الصلاح،
إلا أنهما أضافا إلى الحرم مسجد النبي صلى الله عليه وآله ومشاهد الأئمة عليهم السلام.
أقول: أما ما ذهب إليه الشيخ من التحريم في الحرم فيدل عليه موثق سماعة (1)
عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته عن رجل لي عليه مال فغاب عن زمانا فرأيته
يطوف حول الكعبة، فأتقاضاه؟ قال: فقال: لا تسلم عليه ولا تروعه حتى يخرج من
الحرم " وظاهر العلامة الاستدلال بهذه الرواية على الكراهة كما اختاره.
وفيه أن النهي حقيقة في التحريم كما صرح به هو وغيره في الأصول، والحمل على خلافه يحتاج إلى قرينة، وأما ما نقل عن الشيخ علي بن بابويه فهو
مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي على النهج الذي كررنا ذكره في كتب العبادات
حيث إنه قال (عليه السلام) " إن كان لك على رجل حق فوجدته بمكة أو في الحرم
فلا تطالبه، ولا تسلم عليه فتفزعه، إلا أن تكون أعطيته حقك في الحرم، فلا بأس أن
تطالبه في الحرم ".
وهي عين عبارة الشيخ المذكور، كما قدمنا ذكره في جملة من المواضع،
سيما في كتب العبادات في افتاء الشيخ المذكور في رسالة إلى ابنه بعبارات الكتاب،

التهذيب ج 6 ص 194.
(2) المستدرك ج 2 ص 493.
162

ونحوه ابنه الصدوق في الفقيه، كما تقدم التنبيه عليه في الكتب المذكورة، ومن
ثم اعتمدنا على الكتاب المذكور لاعتماد هذين العمدتين عليه.
وأنت خبير بأنه لا منافاة بين الخبرين، فإن الخبرين متفقان على أن تحريم
المطالبة إنما هو في صورة ما إذا كان الدين خارج الحرم، ثم إنه وجده في الحرم،
وأما لو كانت الاستدانة في الحرم فحكمها في موثق سماعة غير مذكور، إذ مورده
ظاهرا إنما هو ما قلناه، فاشتمال رواية الكتاب المذكور على حكم الاستدانة في
الحرم لا معارض لها. فيجب العمل بها كما عمل بها الشيخ المذكور.
وقال المحدث الكاشاني (رحمة الله عليه) في المفاتيح في ضمن عد جملة
من المستحبات: وأن لا يطالبه في الحرم، بل لا يسلم عليه، ولا يروعه حتى يخرج،
كذا في الخبر، أما لو التجأ المديون إليه لم يجز مطالبته فيه، بل يضيق عليه
في المطعم والمشرب، إلى أن يخرج، لقوله تعالى (1) " ومن دخله كان آمنا " كذا
قالوه انتهى.
أقول: ما نقله عنهم من الكلام الأخير لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم
في الدين، نعم ذلك في الجناية كما وردت به الأخبار، وصرح به الأصحاب.
وأما ما ذكره ابن إدريس وطول به من الكلام فهو نفخ في غير ضرام، وأي
موجب لتأويل كلام الشيخ مع وجود الرواية به، وأي منافاة في الخبر المذكور
مع ما علم من اختصاص الحرم بأحكام عديدة لا يشاركه غيره فيها، فتخصص به
العمومات، وهذا من جملتها. ثم من الذي اشترط في الأخبار الواردة في الأحكام
ورودها متواترة في كل حكم حكم، وجزئي جزئي حتى أنه يرد هذه الرواية لعدم
كونها كذلك.
ثم أي دليل فيما احتج به من فعل الصحابة والتابعين ومن بعد هم إلى يومه،
والجميع إنما هم من قضاة المخالفين، وعلمائهم الذين نسبهم إلى الاسلام هنا

(1) سورة آل عمران الآية - 98.
163

مع قوله بكفرهم ونجاستهم ونحو ذلك مما تقدم في كتب العبادات، وهل يدعي
أحد أنه منذ وقت موت النبي صلى الله عليه وآله إلى يومنا هذا صار للشيعة حكم وقضاة، يحكمون
ويقضون في الحرم أو غيره، يحبسون ونحو ذلك مما ذكره حتى أنه يمكنه الاحتجاج
بما ذكره، ما هذا إلا تحكمات باردة، وتمحلات شاردة.
والعجب منه عفى الله تعالى عنه في رده هذا الأخبار وأمثالها، وتكذيبه بها
مع ما استفاض عنهم عليهم السلام من النهي عن التكذيب بما جاء عنهم ولو جاء به خارجي
أو قدري، وأن ما رانت له قلوبكم فاقبلوه، وما اشمأزت منه فردوه إلينا، ما هذه إلا
جرأة زائدة من هذا الفاضل النحرير، وخروج عن الدين من حيث لا يشعر صاحبه
نسأل الله تعالى المسامحة لنا وله من هفوات الأقلام، وزلات الأقدام.
وأما ما ذكره العلامة من التفصيل تبعا لابن بابويه لكنه حكم بالكراهة فيما
حكم به ابن بابويه بالتحريم ففيه ما عرفت من أن ظاهر الرواية هو التحريم، وحمله
لها على الكراهة يحتاج إلى دليل.
والاستناد إلى الأصل في مقابلة الخبر الذي ظاهره التحريم غير مسموع، هذا
بالنسبة إلى الاستدانة خارج الحرم، وأما مع وقوعها في الحرم فجيد، لما عرفت من
كلام الرضا عليه السلام في الكتاب المتقدم، والأنسب له هنا الاستناد إلى الأصل،
فإنه في محله، وتخرج الرواية المذكورة شاهدة على ذلك.
وأما إضافة مسجد النبي صلى الله عليه وآله والمشاهد المقدسة إلى الحرم كما ذكره الفاضلان
المتقدمان فلم نقف له على مستند، وكأنهما لاحظا اشتراك الجميع في شرف المكان،
وهو قياس محض والله العالم.
المسألة الرابعة الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه بموت المديون
تحل ديونه المؤجلة، وإنما الخلاف في الحل بموت الغريم، فذهب جماعة منهم
الشيخ في النهاية وأبو الصلاح وابن البراج والطبرسي إلى ذلك.
والمشهور وهو قول الشيخ في الخلاف، والمبسوط خلافه، وعلل الأول
بأن بقاء الدين على الميت بعد موته لا معنى له، ومعلوم أنه لم ينتقل إلى ذمة الورثة،
164

للأصل (1)، ولعدم تكليف أحد بفعل غيره، وعلل الثاني بأن المال كان مؤجلا
وانتقل إلى الوارث، وينبغي أن يكون كما كان، لعدم لزوم شئ على أحد بموت
غيره، وللاستصحاب.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام ما رواه في الكافي مسندا عن أبي
بصير (2) " قال: قال أبو عبد الله عليه السلام والصدوق في الفقيه مرسلا "
قال: قال أبو عبد الله
(عليه السلام): إذا مات الرجل حل ماله، وما عليه من الدين ".
وما رواه في التهذيب والفقيه عن السكوني (3) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام "
أنه قال: إذا كان على رجل دين إلى أجل، ومات الرجل حل الدين ".
وما رواه في التهذيب عن الحسين بن سعيد (4) في الصحيح " قال: سألته عن
رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى، ثم مات المستقرض أيحل مال القارض
عند موت المستقرض منه، أو للورثة من الأجل ما للمستقرض في حياته؟ فقال: إذا
مات فقد حل مال القارض ". والقائلون بالحلول بموت الغريم استندوا إلى رواية أبي بصير المذكورة،
وظاهر الصدوق بناء على قاعدته المذكورة في صدر كتابه القول بذلك أيضا، ولكن
لم أطلع على من نقله عنه، إلا أنه لازم مما ذكرناه، حيث أنهم يستندون المذهب
إليه في هذا الكتاب بما ذكرناه، وغاية ما أجاب به المتأخرون عن الخبر المذكور

(1) أقول: والأظهر تعليله بأن الحق لا ينتقل من شخص إلى آخر إلا برضاء
صاحب الحق فلا ينتقل إلى ذمة الوارث بمجرد موت المورث وأظهر في الدلالة
قوله سبحانه " من بعد وصية يوصي بها أو دين " تمنع الورثة من التصرف في
التركة إلا بعد أداء الدين ومحل المسألة داخل تحت اطلاق الآية كما لا يخفى والعمدة
مع ذلك - الأخبار المذكورة مضافا إلى الاتفاق على الحكم. منه رحمه الله.
(2) الكافي ج 5 ص 99 الفقيه ج 3 ص 116.
(3) التهذيب ج 6 ص 190 الفقيه ج 3 ص 116.
(4) التهذيب ج 6 ص 190.
165

هو رده بضعف السند، كما ذكره جملة منهم، وهو مشكل عند من لا يرى العمل بهذا
الاصطلاح المحدث، سيما أن الخبر من مرويات الفقيه التي يعتمدونها في غير مقام.
وحمله بعض الأفاضل (1) في حواشيه على كتاب الفقيه على ساير الحقوق
غير الدين، مثل العمرى الموقت بحياته، والإجارة، والعارية، والشركة، والقراض،
والأمانات، قال: ومعنى حلولها انتهاء العقد، فيلزم تسليمها إلى الورثة، أو تسليم
العقد انتهى.
ولا يخفى ما فيه من البعد عن الظاهر، فإن الخبر مصرح بالدين، فكيف يحمل
على غير الدين، ومع قطع النظر عن ذلك فهو ظاهر في مساواة ماله لما عليه، مع
اتفاقهم على الحلول فيما عليه من الدين، فيكون ماله كذلك.
وبالجملة فإن الخبر لا معارض له إلا ما تقدم من التعليلات العقلية الراجعة إلى
الاستصحاب، وفيها مالا يخفى على ذوي الأفهام والألباب، والحكم لذلك موضع
اشكال والله العالم.
تذنيب: قال المرتضى رضي الله عنه في المسائل الناصرية: هذه المسألة وأشار
بها إلى أن الدين المؤجل لا يصير حالا بموت من عليه الدين لا أعرف إلى الآن
لا صحابنا فيها نصا معينا فأحكيه، وفقهاء الأمصار كلهم يذهبون إلى أن الدين المؤجل
يصير حالا بموت من عليه، ويقوى في نفسي ما ذهب إليه الفقهاء، ويمكن أن يستدل
عليه بقوله تعالى (2) " من بعد وصية يوصى بها أو دين " علق القسمة بقضاء الدين
فلو أخرت تضررت الورثة، ولأنه يلزم انتقال الحق من ذمة الميت إلى ذمة الورثة،
والحق لا ينتقل إلا برضاء من له انتهى.
وليت شعري كيف غفل عن الروايات الواردة في المسألة، ولكنه قليل

(1) هو الفاضل الشيخ محمد بن الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني " قدس
الله أرواحهم " منه رحمه الله.
(2) سورة النساء الآية - 11.
166

المراجعة للأخبار، كما لا يخفى على من له أنس بطريقته (رضي الله عنه) وقاعدته.
المسألة الخامسة: قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجوز اقتضاء
الدين من أثمان المحرمات على المسلم، إذا كان المديون البايع ذميا مستترا،
والتقييد بالذمي لا خراج الحربي، إذ لا يجوز أخذ ثمن ذلك منه، لعدم اقرار الشريعة
له على ذلك، والمسلم لعدم جواز بيعه وبطلانه، وبالاستتار الاحتراز عما لو تظاهر
به، فإنه لا يجوز أخذ ذلك لما ذكر، فإن من شرائط الذمة عدم التظاهر بأمثال ذلك.
والواجب أولا ذكر ما وصل إلينا من أخبار المسألة، ثم الكلام فيها بما يسر الله
سبحانه فهمه منها.
ومن الأخبار المذكورة ما رواه ثقة الاسلام والشيخ (عطر الله مرقديهما) عن محمد
بن مسلم (1) في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام ورواه الشيخ أيضا في التهذيب بسند آخر
عن داود بن سرحان (2) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام " في رجل كان له على
رجل دراهم فباع خمرا أو خنازير وهو ينظر إليه فقضاه؟ قال: لا بأس به، أما للمقتضي
فحلال وأما للبايع فحرام "
وما رواه في الكافي عن زرارة (3) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا أو خنزيرا ثم يقضي عنها فقال:
لا بأس أو قال: خذها ".
وما رواه الشيخ عن محمد بن يحيى الخثعمي (4) " قال: سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر والخنازير فيقضينا فقال:
لا بأس به ليس عليك من ذلك بأس.
وعن أبي بصير (5) " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يكون له على
الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا أو خنازير يأخذ ثمنه قال لا بأس ".

(1) الكافي ج 5 ص 231.
(2) التهذيب ج 6 ص 195.
(3) الكافي ج 5 ص 232.
(4) التهذيب ج 7 ص 137.
(5) التهذيب ج 7 ص 137.
167

وما رواه في الكافي عن منصور (1) " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لي
على رجل ذمي دراهم فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر فهل لي أن آخذها؟ فقال: إنما
عليه دراهم فقضاك دراهمك ".
وأنت خبير بأن اطلاق الروايات الأربع المتقدمة ظاهر في حل آخذ ذلك ولو
من المسلم، إذ لا تقييد فيها بالذمي، ولا قائل به فيما أعلم إلا ما يظهر عن صاحب
الكفاية، حيث قال: قال بعضهم: ولو كان البايع مسلما لم يجز، وهو مناف
لاطلاق أخبار كثيرة، فالحكم به مشكل، إلا أن يكون المقصود المنع بالنسبة إلى
البايع انتهى ملخصا.
أقول: ويمكن تأيد ما ذكره من حمل المنع على البايع خاصة، وإن جاز
لصاحب الطلب أخذه بقوله عليه السلام أما للمقتضي فحلال، وأما للبايع فحرام، إلا أنه
لا يخلو من الاشكال أيضا، فإن تحريمه على البايع يوجب رده على مالكه، لبطلان
البيع فكيف يكون حلالا على المقتضي.
ومما يؤيد ما دل عليه ظاهر اطلاق الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في التهذيب
في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) عن أبي جعفر عليه السلام " في رجل ترك غلاما له في
كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصره خمرا ثم باعه قال: لا يصلح ثمنه،
ثم قال: إن رجلا من ثقيف أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله راويتين من خمر بعد
ما حرمت فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله فأهريقتا وقال: إن الذي حرم شربها قد حرم
ثمنها، ثم قال: أبو عبد الله عليه السلام إن أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن
يتصدق بثمنها ".
وما رواه في الكافي عن أبي أيوب الخراز (3) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام

(1) الكافي ج 5 ص 232.
(2) التهذيب ج 7 ص 136.
(3) الكافي ج 5 ص 231.
168

: رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيرا فباعه خمرا ثم أتاه بثمنه؟ فقال: إن أحب
الأشياء إلى أن يتصدق بثمنه ".
والأمر بالتصدق في هذين الخبر ين مع بطلان البيع وتحريم الثمن الموجب لرده
على صاحبه لا يجتمعان، إلا أن يحمل على عدم معرفة المشتري، أو عدم إمكان تحصيله،
وهو غاية البعد.
وبالجملة فإن ظاهر الخبرين مشعر بالحل في هذه الصورة وإليه يميل كلام
بعض مشايخنا من متأخري المتأخرين (2) حيث قال: ولا يبعد القول بكون البايع
مالكا للثمن، لأنه أعطاه المشتري باختياره وإن كان فعل فعلا حراما، ثم قال: المقطوع
به في كلام الأصحاب وجوب الرد انتهى.
ويمكن تأييده أيضا بما رواه في الكافي عن يونس (3) " في مجوسي باع
خمرا أو خنازير إلى أجل مسمى ثم أسلم قبل أن يحل المال؟ قال: له دراهمه،
وقال: إن أسلم رجل وله خمر وخنازير ثم مات وهي في ملكه وعليه دين قال:
يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم خمره وخنازيره ويقضي دينه، وليس له أن يبيعه وهو
حي ولا يمسكه " إلا أن الأخبار متظافرة بتحريم بيع الخمر والخنازير كما تقدم
شطر منها في المقدمة الثالثة، وأن ذلك من السحت، ومن الممكن وإن كان لا يخلو
عن بعد تقييد هذه الأخبار بالذمي كما اشتمل عليه الخبر الأخير.
لكن يبقى الاشكال أيضا عن وجهين أحدهما ما اشتمل عليه بعضها صريحا وبعضها
ظاهرا من حضور المسلم البيع، ومع أن الأصحاب قيدوا الجواز بالتستر كما عرفت،
وصرحوا بالعدم مع عدمه، والحمل على أن الذمي يبيع في بيته أو نحوه من الأماكن
المستورة، وإن اطلع عليه صاحب الطلب من حيث لا يشعر به بعيد غاية العبد، أو
يقال: بعدم كون التستر مشروطا عليهم في الذمة، ولعله الأقرب وإن كان خلاف ما

(1) هو شيخنا المجلسي (قدس سره) في حواشيه على كتب الأخبار - منه رحمه الله
(2) الكافي ج 5 ص 232.
169

عليه ظاهر الأصحاب فإن الذي وقفت عليه في الأخبار بالنسبة إلى شرايط الذمة خال من
ذلك، بل من أكثر الشروط التي ذكرها الأصحاب رضوان الله عليهم (1).
وثانيا ما اشتمل عليه الخبر الأول من قوله " أما للمقتضي فحلال، وأما للبايع
فحرام " والظاهر أنه لا اشكال فيه بعد حمل الخبر على أهل الذمة، لما ورد في أخبار
أخذ الجزية مع التصريح بحل أخذها من ثمن خمورهم وخنازيرهم، كما في
صحيحة محمد بن مسلم (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " حيث قال: فيها عليهم الجزية
في أموالهم، تؤخذ منهم من ثمن لحم الخنزير أو الخمر، فكل ما أخذوا منهم من
ذلك فوزر ذلك عليهم، وثمنه للمسلمين حلال، ويأخذونه في جزيتهم " ونحوه روى
شيخنا المفيد في المقنعة عن محمد بن مسلم (3) عن أبي عبد الله عليه السلام.
وظاهر هذين الخبرين هو عدم التستر أيضا، احتمال كون المراد ذلك بحسب
الواقع مع عدم علم المسلمين الظاهر بعده، وبذلك يظهر ما في توقف بعض (4)

(1) ومنه ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله، قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا ولا يأكلوا لحم
الخنزير ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات الأخت، فمن فعل ذلك منهم
برئت منه ذمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: وليست لهم اليوم ذمة، وزاد في خبر
آخر على أن لا يهودوا أولادهم ولا ينصروا، ولم أقف على غير هذين الخبر بعد التتبع
والله العالم - منه رحمه الله.
(2) الوسائل الباب - 70 - من أبواب كتاب الجهاد.
(3) الوسائل الباب - 70 - من أبواب كتاب الجهاد.
(4) وهو المحقق الأردبيلي قدس سره حيث قال بعد ذكر رواية المشار إليها
أن فيها تأملا لأنه إن حملت على كون البايع مسلما، فظاهر الأصحاب وبعض الأخبار
عدم جواز الأخذ، وإن حملت على الذمي فقوله للبايع حرام محل التأمل، إذ
يجوز له ذلك خاصة إلا أن يحمل على الاظهار كما هو الظاهر، ولو سلم تحريمه
للبايع حينئذ فكونه حراما للقابض مشكل، وبالجملة هذا لا يخلو عن اشكال انتهى
أقول: وبما ذكرناه وأوضحناه فلا اشكال بحمد الله سبحانه في هذا المجال - منه
رحمه الله.
170

المحققين في تحريمه على البايع وحله للقابض مع تسليمه حمل الخبر على الذمي
فإنه لا وجه له بعد تصريح هذه الأخبار بذلك، والفرق بين الجزية وقضاء الدين
غير ظاهر.
وكيف كان فإن القول المشهور هو الأوفق بالاحتياط المطلوب في الدين،
كما لا يخفى على الحاذق المكين، فيتعين حمل اطلاق الأخبار المتقدمة على أهل
الذمة وارتكاب جواز ذلك للمسلم مع استفاضة الأخبار بتحريم ذلك عليه، وبطلان
بيعه مضافا إلى اتفاق الأصحاب على ذلك لا يخلو من شناعة، وحينئذ فلا يلتفت إلى
ما ذكره أولئك الفضلاء المشار إليهم آنفا والله العالم.
المسألة السادسة المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه إذا
كان لاثنين فصاعدا مال في ذمم غيرهم وأرادوا قسمته، فإنه لا تصح ما لم يقبض،
ولو اقتسموا والحال كذلك لم يصح، بل يكون كل ما خرج فهو على الشركة،
وماتوى على الجميع.
ويدل على ذلك جملة من الأخبار منها ما رواه الشيخ في الصحيح عن سليمان
بن خالد (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين كان لهما مال بأيديهما ومنه
متفرق عنهما، فاقتسما بالسوية ما كان في أيديهما، وما كان غائبا عنهما، فهلك نصيب
أحدهما مما كان غائبا، واستوفى الآخر عليه أن يرد على صاحبه؟ قال: نعم ما
يذهب بماله " ورواه الصدوق بإسناده عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد (2)
مثله.
وعن عبد الله بن سنان (3) في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته عن
رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين، فاقتسما العين والدين، فتوى الذي كان
لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي للآخر أيرد على صاحبه، قال: نعم ما
يذهب بماله ".

(1) التهذيب ج 6 ص 207 الفقيه ج 3 ص 23.
(2) التهذيب ج 6 ص 207 الفقيه ج 3 ص 23.
(3) التهذيب ج 7 ص 186.
171

وعن أبي حمزة (1) قال: سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجلين بينهما مال منه
بأيديهما، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما وأحال كل واحد منهما بنصيبه من الغائب،
فاقتضى أحدهما ولم يقتض الآخر، قال: ما اقتضى أحدهما فهو بينهما، وما يذهب
بينهما ".
نعم روى الحميري في كتاب قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن (2) عن
جده علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام " قال: سألته عن رجلين اشتركا
في السلم أيصلح لهما أن يقتسما قبل أن يقبضا قال: لا بأس ": وحمل على الجواز
دون اللزوم.
وبما ذكرنا من الأخبار الصريحة الدلالة على القول المذكور يظهر لك ما
في كلام المحقق الأردبيلي (رحمة الله عليه) هنا من القصور، حيث إنه لم يقف في
المقام الأعلى رواية غياث المذكورة، فقال بعد ذكر كلام الأصحاب: ما لفظه الحكم
مشهور بينهم، ومستندهم رواية غياث ثم ساق الرواية إلى أن قال: والشهرة ليست
بحجة، وابن إدريس مخالف، ونقل عنه أن لكل واحد ما اقتضى كما هو مقتضى
القسمة، والمستند غير معتبر لوجود غياث كأنه ابن إبراهيم البتري، وأدلة
لزوم الشرط تقتضيه، وكذا التسلط على مال نفسه، وجواز الأكل مع التراضي
والتعيين التام ليس بمعتبر في القسمة، بل يكفي في الجملة كما في المعاوضات،
فإنه يجوز البيع ونحوه، ولأن الدين المشترك بمنزلة دينين لشخصين، وللمالك
أن يخص أحدهما دون الآخر، فلو كان قابل بتخصيص كل واحد قبل القسمة بحصة
لأمكن ذلك أيضا، فإن الثابت في الذمة أمر كلي قابل للقسمة، وإنما يتعين بتعيين
المالك فله أن يعين، ولكن الظاهر أنه لا قائل به قبل القسمة، وبعدها القول
به نادر من غير دليل، والشهرة مع الخبر المجبور بها يمنع ذلك، ويؤيد بالاستصحاب

(1) التهذيب ج 7 ص 185.
(2) الوسائل الباب - 29 - من أبواب الدين الرقم - 2.
172

والاحتياط فتأمل انتهى.
وليت شعري كيف ذهب عليه الوقوف على هذه الأخبار مع تعددها وروايتها
في الأصول متكثر الطرق حتى ارتكب ما ارتكب من هذه التمحلات التي
لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية وتجاوز ذلك إلى احتمال القول بتخصيص كل
واحد قبل القسمة بحصة، ولم يمنعه منه إلا عدم وجود القائل، والكل كما عرفت
نفخ في غير ضرام، كما لا يخفى على من وقف على ما نقلناه من أخبارهم عليهم السلام.
وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك: والحيلة في تصحيح ذلك أن يحيل
كل منهما صاحبه بحصته التي يريد اعطائها صاحبه، ويقبل الآخر بناء على صحة
الحوالة ممن ليس في ذمته دين، فلو فرض سبق دين له عليه فلا اشكال في الصحة،
ولو اصطلحا على ما في الذمم بعضها ببعض فقد قرب في الدروس صحته، وهو حسن
بناء على أصالته انتهى.
أقول: ما ذكره من الحيلة في تصحيح ذلك بالحوالة فيه أن رواية أبي
حمزة ورواية غياث ظاهرتان في عدم صحتها، وأنها لا تفيد فائدة، بل الواجب هو
اقتسام ما خرج وما ذهب فهو على الجميع، ويمكن بناؤه على ما ذكره من عدم صحة
الحوالة ممن ليس في ذمته دين، فيكون الخبران المذكوران حجة لذلك، وأما
ما ذكره من الصلح فالظاهر صحته لعموم أدلة الصلح.
ويؤيده ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (1) في الصحيح أو الحسن
عن أحدهما عليهما السلام " أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدري
كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كل واحد منهما: لك ما عندك ولي ما عندي
قال: لا بأس إذا تراضيا، وطابت أنفسهما ".
ومن هذه الرواية وأمثالها يظهر أن الصلح عقد برأسه، لا متفرع على البيع
كما أشار إليه، لعدم صحة البيع في الصورة المذكورة، والرواية المذكورة
وإن لم تكن من محل البحث، إلا أن صحة الصلح على هذه الكيفية مستلزمة للصحة

(1) الكافي ج 5 ص 258.
173

فيما نحن فيه، فإنه إذا جاز مع هذه الجهالة التامة ففيما نحن فيه أولى، والجميع
مشترك في كون المال في الذمم والله العالم:
المسألة السابعة الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو دفع المديون عروضا عما
في ذمته من غير مساعرة، فإنه يحتسب بقيمتها يوم القبض، لأنه إنما دفعها
عوضا عما في ذمته، والظاهر أنها تدخل في ملك الغريم بمجرد القبض، وإن لم
تحصل المساعرة.
ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (1)
" قال: كتبت إليه في رجل كان له على رجل مال فلما حل عليه المال أعطاه بها
طعاما أو قطنا أو زعفرانا ولم يقاطعه على السعر، فلما كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع
الزعفران والطعام والقطن أو نقص بأي السعرين يحسبه؟ قال: لصاحب الدين (2)
سعر يومه الذي أعطاه وحل ماله عليه، أو يوم حاسبه؟ فوقع عليه السلام ليس له إلا على
حسب سعر وقت ما دفع إليه الطعام انشاء الله، قال: وكتبت إليه الرجل استأجر
أجيرا ليعمل له بناء أو غيره من الأعمال وجعل يعطيه طعاما وقطنا أو غيرهما ثم يتغير
الطعام والقطن عن سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة، أفيحتسب له بسعره يوم
أعطاه أو بسعر يوم شارطه؟ فوقع عليه السلام يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه إن شاء الله ".
وروى في الكافي عن محمد بن يحيى (3) في الصحيح " قال: كتب محمد بن
الحسن إلى أبي محمد عليه السلام رجل استأجر أجيرا يعمل له بناء وغيره وجعل
يعطيه طعاما وقطنا أو غير ذلك ثم تغير الطعام والقطن من سعره الذي كان أعطاه
إلى نقصان أو زيادة أفيحتسب له بسعره يوم أعطاه أو سعر يوم شارطه؟ فوقع
عليه السلام: يحسب له بسعر يوم شارطه فيه انشاء الله، وأجاب عليه السلام في المال

(1) التهذيب ج 6 ص 196.
(2) الظاهر زيادة لفظة قال.
(3) الكافي ج 5 ص 181 مع اختلاف يسير.
174

يحل على الرجل فيعطى به طعاما عند محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر، فوقع
عليه السلام: له سعر يوم أعطاه الطعام " والخبران صريحان في المدعى بالنسبة إلى
محل المسألة.
وأما بالنسبة إلى الأجرة وقوله عليه السلام بسعر يوم شارطه فلا يخلو من
اشتباه وخفاء والأظهر عندي رجوعه إلى يوم القبض أيضا، كما في السؤال الآخر
وتوضيحه أنه لا ريب أنه بالاستيجار يستحق الأجرة وإن توقف وجوب
الدفع على العمل، وحينئذ فإذا دفع عروضا في ذلك الوقت انتقل إليه بالملك
، وصار عوضا عن أجرته كما أنه بالحلول في السؤال الآخر يستحق المال، وكل
ما يدفع إليه من العروض فإنه يملكه عوضا عما في ذمة المستدين، وحينئذ فيعتبر في كلا
المسألتين قيمة ذلك الوقت الذي دخل فيه في ملك القابض، فكأنه بمنزلة نقد دفعه
إليه في ذلك الوقت، ولا ينافيه حصول مدة مثلا لو فرض بين يوم الإجارة ويوم القبض،
لأن ظاهر الخبر أن السعر واحد في ذلك المدة، وإنما تغير بعد تمام القبض، كما
يشير إليه قوله في أحد الخبرين " بعد شهرين أو ثلاثة " يعني من وقت القبض.
وحينئذ فلا منافاة في اطلاق سعر يوم الشرط على يوم القبض، فإنه مبني على
عدم الفاصلة المعتد بها على استمرار القيمة وامتدادها، وأنه لم يحصل التغير إلا
بعد مدة مديدة، وباب التجوز في الكلام أوسع من ذلك.
والظاهر أيضا انسحاب الحكم في النقدين لو كان أحدهما في ذمته وأعطاه
الآخر قضاء عن دينه من غير محاسبة ثم تغير السعر بعد مدة، فإنه يحتسب يوم القبض.
ويدل عليه جملة من الأخبار منها ما رواه المشايخ الثلاثة نور الله مراقدهم
عن إسحاق بن عمار (1) في الموثق " قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يكون
لي عليه المال فيقضيني بعضا دنانير وبعضا دراهم، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد
تغير سعر الدنانير، أي السعرين أحسب له؟ الذي يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي الذي

(1) الكافي ج 5 ص 248 التهذيب ج 7 ص 107 الفقيه ج 3 ص 185.
175

أحاسبه؟ فقال: سعر يوم أعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها عنه " (1)
والظاهر أن قوله " حبست منفعتها عنه " كناية عن انتقالها إلى القابض بالملك،
وبزوال ملك الدافع عنها، فلا انتفاع له بها بالكلية، لخروجها عن ملكه، وبه
يحصل حبس منفعتها عنه، وإذا انتقلت إلى ملك القابض سقط بإزائها من تلك
الدراهم ما قابلها بصرف ذلك اليوم، لأنها لم ينتقل إليه مجانا، وإنما انتقلت عوضا
فلا بد من سقوط عوضها ذلك اليوم بذلك الصرف الأول.
ومنها ما رواه في التهذيب عن يوسف بن أيوب (2) شريك إبراهيم بن ميمون
عن أبي عبد الله عليه السلام " قال في الرجل يكون له على الرجل دراهم فيعطيه دنانير ولا
يصارفه، فتغير الدنانير بزيادة أو نقصان قال: له سعر يوم أعطاه. "
وما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الملك بن عتبة الهاشمي (3) " قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فيأخذ
مكانها ورقا في حوائجه وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار، وقد
يطلب صاحب المال بعض الورق، وليست حاضرة فيبتاعها له من الصيرفي بهذا
السعر، ثم يتغير السعر قبل أن يحتسبا حتى صار الورق اثني عشر درهما بدينار،
فهل يصلح له ذلك وإنما هي بالسعر الأول من يوم قبضت كانت سبعة؟ وسبعة ونصف بدينار،
قال: إذا دفع إليه الورق بقدر الدينار فلا يضره كيف كان الصرف، ولا بأس ".

(1) وأما حمل حبس المنفعة على ظاهره - من أنه كان يمكن صاحب الدنانير
أن يبيعها بقيمة أزيد من ذلك الوقت - فلا يطرد كليا، لأن الكلام في تغيير السعر
مطلقا زيادة ونقيصة، فإنها قد ينقص صرفها بعد ذلك عن يوم القبض فالنفع حاصل
لصاحب الدنانير كما لا يخفى، بل المراد إنما هو حبس الانتفاع بها لصيرورتها
ملكا للقابض وخروجها عن ملك الدافع كما ذكرناه في الأصل - منه رحمه الله.
(2) التهذيب ج 7 ص 180
(3) التهذيب ج 7 ص 106 الكافي ج 5 ص 245.
176

أقول: لعل المعنى في قوله عليه السلام " إذا دفع إليه الورق " إلى آخره أنه إذا
كان دفع الورق على جهة العوض عن الدنانير، وأداء لها فإنه ينصرف مقدار قيمة
الدينار في ذلك الوقت إلى ما يقابلها من تلك الدنانير، لأن الفرض أن دفع تلك
الورق إنما هو لتفريغ ذمته من الدنانير التي عليه، لا لغرض آخر. حينئذ فلا يضره
زيادة الصرف أو نقصانه بعد وقوع التهاتر والتساقط بين تلك الورق والدنانير،
فإنه قد برئت الذمة وخلت العهدة بما دفعه عن قدر ما دفعه كلا أو بعضا.
ومنها ما رواه الشيخ في الموثق عن إبراهيم بن عبد الحميد عن (1) عبد صالح
عليه السلام، " قال: سألته عن الرجل يكون له عند الرجل يكون له عند الرجل دنانير أو خليط له، يأخذ
مكانها ورقا في حوائجه وهي يوم قبضها سبعة وسبعة ونصف بدينار، وقد يطلبها
الصيرفي وليس الورق حاضرا فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر سبعة وسبعة نصف
ثم يجئ يحاسبه وقد ارتفع سعر الدنانير فصار باثني عشر كل دينار، هل يصلح
ذلك له؟ أو إنما هي له بالسعر الأول يوم قبض منه الدراهم فلا يضره كيف كان السعر؟
قال: يحسبها بالسعر الأول فلا بأس به ".
ومنها ما رواه الصدوق والشيخ عن إسحاق بن عمار (2) في الموثق
" قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: الرجل يكون له على الرجل الدنانير فيأخذ منه
دراهم ثم يتغير السعر؟ قال: فهي له على السعر الذي أخذها منه يومئذ، وإن أخذ
دنانير فليس له دراهم عنده، فدنانيره عليه يأخذها برؤوسها متى شاء " كذا في رواية
الشيخ، وفي رواية الصدوق " وليس له دراهم عنده " إلى آخره.
قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل الخبر برواية التهذيب ما
صورته: بيان: يعني وقع الفضل بينهما بأخذه الدراهم أو لامكان دنانيره ثم إن
أخذ دنانير ثانيا بعد ذلك، فليس للمعطي أن يجعلها في مقابلة دنانيره التي كانت

(1) التهذيب ج 7 ص 107.
(2) التهذيب ج 7 ص 107 الفقيه ج 3 ص 184.
177

له عليه أولا، ويطلب منه دراهمه، إذ لا دراهم له عليه له عليه حينئذ بل ليس له إلا دراهمه التي
أعطاه ثانيا يأخذها متى شاء انتهى.
أقول: ما ذكره جيد بالنظر إلى ما نقله من رواية الشيخ، وأما على تقدير
رواية الصدوق بالواو فالظاهر أن المعنى أن صاحب الطلب إذا أخذ دنانير عوض
دنانيره، والحال أنه لم يقبض دراهم عوض طلبه كما في الفرض الأول، فهذه
الدنانير عوض دنانيره التي في ذمة المديون يأخذها برؤوسها متى شاء.
والحق أن الخبر لا يخلو من اجمال بالنسبة إلى قوله ثم " تغير السعر " إلى
آخره، وأنه هل أراد سعر الدراهم أو سعر الدنانير؟ فيحتمل أن يكون المراد سعر
الدنانير، ويكون حاصل المعنى أنه إذا أقرض رجل رجلا دنانير ثم أخذ المقرض
عوض دنانيره دراهم من غير مساعرة، ثم تغير سعر الدنانير بالزيادة أو النقصان، فما
الذي يعمل عليه يوم المحاسبة؟ فأجاب عليه السلام بقوله " فهي له " أي الدنانير للمقرض،
بسعر اليوم اقترضها فيه للمستدين، فعليه أداء قيمتها بسعر ذلك اليوم، وحينئذ فيحسب له قيمة الدنانير من تلك الدراهم التي دفعها إليه بالسعر المذكور، وإن
أخذ المقرض من المستدين دنانير بجنسها لا بالتبديل، والحال أنه ليس له دراهم
عنده بالتبديل، فهذه الدنانير عوض دنانيره حسبما قدمناه في كلامنا على صاحب
الوافي.
وأنت خبير بأن هذا المعنى مبني على نسخة (الواو) كما في الفقيه، ويحتمل
أن المراد سعر الدراهم وضمير هي راجع إليها، بمعنى أنه إذا تغير سعر الدراهم
من وقت دفعها إلى سعر آخر يوم المحاسبة، فتلك الدراهم للمقرض يأخذها بسعر
يوم أخذها، لا يوم المحاسبة، ثم ذكر صورة أخرى بقوله " وإن أخذ " يعني المقرض
دنانير والحال أنه لم يكن دراهم سابقة في ذمة معطي الدنانير ليكون أخذه عوضا
عنها، فليس له ذلك، بل هي عليه يأخذها صاحبها برؤوسها هذا على نسخة الواو،
وعلى نسخة الفاء يكون المعنى ما قدمنا نقله عن الوافي والله العالم.
المسألة الثامنة إذا قتل المديون عمدا ولا مال له قال الشيخ في النهاية: لم
178

يكن لأوليائه القود إلا بعد تضمين الدين عن صاحبهم، فإن لم يفعلوا ذلك لم
يكن لهم القود، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم، وبه قال أبو الصلاح
وابن البراج ونسب هذا القول في الدروس إلى المشهور، وقال أبو منصور
الطبرسي (1): إذا بذل القاتل الدية لم يكن للأولياء القود إلا بعد ضمان الدين،
وإن لم يبذل جاز لهم القود من غير ضمان، وقال ابن إدريس والمحقق، والعلامة:
إن للورثة استيفاء القصاص، وإن بذل الجاني الدية من غير ضمان للدين، واحتجوا
على ذلك بأن موجب العمد القصاص، وأخذ الدية اكتساب، وهو غير واجب
على الوارث في دين مورثه، ولعموم قوله تعالى (2) " وقد جعلنا لوليه سلطانا "
وقوله تعالى (3) " النفس بالنفس ".
ونقل العلامة في المختلف عن الشيخ أنه احتج بما رواه عبد الحميد بن
سعيد (4) " قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن رجل قتل وعليه دين ولم
يترك مالا، فأخذ أهله الدية من قاتله، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال: نعم، قال:
قلت: وهو لم يترك شيئا، قال: إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا عنه الدين ".
ثم أجاب عن الرواية المذكورة بالمنع من الدلالة على محل النزاع، قال:
أما أولا فلاحتمال أن يكون القتل خطأ أو شبهة، أما ثانيا فلأن السؤال وقع عن أولياء
أخذوا الدية، ونحن نقول بموجبه، فإن الورثة لو صالحوا القاتل على الدية وجب
قضاء الدين منها انتهى.

(1) الظاهر أن المراد بالطبرسي هنا هو الشيخ أبو منصور أحمد بن أبي طالب
الطبرسي صاحب الاحتجاج، فإنه صاحب هذه الكنية، ولم أقف على نقل قوله في الفقه إلا
هذا المكان وسيأتي جملة من المواضع لفظ الطبرسي خاصة، وهو يحتمل للمذكور
هنا وللشيخ أبي على صاحب مجمع البيان - منه.
(2) سورة الإسراء الآية 33.
(3) سورة المائدة الآية 45.
(4) التهذيب ج 6 ص 192.
179

أقول: ما أجاب به عن الرواية المذكورة جيد، إلا أن ايراده هذه الرواية
دليلا للشيخ رحمة الله عليه ليس في محله، بل هنا رواية أخرى صريحة فيما ذهب
إليه الشيخ، والظاهر أنها هي المستند له فيما ذهب إليه في نهايته.
والذي وقفت عليه مما يتعلق بهذا المقام من الروايات منها ما رواه في التهذيب
والصدوق في الفقيه عن أبي بصير (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل قتل
وعليه دين وليس له مال، فهل لأوليائه أن يهبوا دمه لقاتله وعليه دين؟ فقال: أن أصحاب
الدين (هم الخصماء) للقاتل، وإن وهب أولياؤه دمه للقاتل ضمنوا الدية للغرماء،
وإلا فلا ".
ورواه الشيخ أيضا بطريق آخر عن أبي بصير (2) أيضا مثله، إلا أنه " قال:
فإن وهبوا أولياؤه دية القاتل فهو جايز، وإن أرادوا القود ليس لهم ذلك، حتى
يضمنوا الدين للغرماء، وإلا فلا " وهذه الرواية هي التي أشرنا إليه بأنها دليل لما ذهب
إليه الشيخ، قال في الوافي في ذيل هذا الخبر: إنما جاز لهم الهبة ولم يجز القود حتى
يضمنوا، لأنه مع الهبة يتمكن الغرماء من الرجوع إلى القاتل بحقهم، بخلاف ما
إذا قيد منه.
أقول: إن الخبر الأول قد دل على أنهم يضمنون الدين مع الهبة أيضا، ويدل
على ذلك أيضا الخبر الآتي، ومقتضاهما أن الورثة بالهبة يضمنون دين الغرماء، وأنه
ليس لهم العفو بدون ذلك، وهو أحد الأقوال في المسألة أيضا على ما نقله في المسالك،
فكيف يتم الحكم بجواز الهبة لهم، ورجوع الغرماء على القائل بالدين، كما يظهر
من كلامه.
والعجب أنه نقل هذه الأخبار كلها في باب واحد، ولم يتفطن لما ذكرناه، ولا يحضرني
وجه للجواب عن ذلك إلا بأن تحمل الرواية على جواز الهبة فيما يخصهم من الدية،

(1) الفقيه ج 4 ص 119 التهذيب ج 10 ص 180 وفيه (هم الغرماء).
(2) التهذيب ج 6 ص 312.
180

إذا كان فيها زيادة على الدين، كما يشير إليه كلام الشيخ فيما تقدم من عبارته، وقوله
" وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم " فإن حاصل كلامه أنهم إن لم يفعلوا ذلك أي إن
لم يضمنوا الدين لم يكن لهم القود، بل تعين عليهم أخذ الدية، جاز لهم العفو
بمقدار ما يصيبهم من الدية بعد الدين، بحمل ذلك على زيادة الدية على الدين.
ومنها ما رواه في الفقيه عن محمد بن أسلم عن علي بن أبي حمزة (1) عن أبي
الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، " قال: قلت له: جعلت فداك رجل قتل رجلا متعمدا
أو خطأ وعليه دين ومال فأراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ فقال: إن وهبوا دمه ضمنوا
الدين، قلت: فإنهم أرادوا قتله فقال: إن قتل عمدا قتل قاتله، وأدى عنه الإمام الدين
من سهم الغارمين، قلت: فإن هو قتل عمدا وصالح أولياؤه قاتله على الدية فعلى
من الدين؟ على أوليائه من الدية أو على إمام المسلمين؟ فقال: بل يؤدوا دينه من ديته
التي صالحوا عليها أولياؤه فإنه أحق بديته من غيره ".
وأجاب الشهيد (قدس سره) في كتاب نكت الإرشاد عن رواية أبي بصير التي
برواية الشيخ خاصة، لأنها هي المتضمنة لمحل البحث، بضعف السند وندورها،
فلا تعارض الأصول، وحملها الطبرسي المتقدم ذكره على ما إذا بذل القاتل الدية، فإنه
يجب على الأولياء قبولها، ولا يجوز للأولياء القصاص إلا بعد الضمان، حسبما قدمنا
من نقل كلامه.
وأنت خبير بأن رد الخبر بضعف السند غير مرضي على رأينا ولا متعمد، وكذا
ارتكاب تأويله من غير معارض، ولا معارض له إلا ما نقلناه عنهم آنفا من العمومات،
والواجب تخصيصها به، إذ لا منافاة بين المطلق والمقيد والخاص والعام، وهذا مقتضى
قواعدهم في غير مقام.
ويؤيد الخبير المذكور ما دل من الخبرين المذكورين، على أنه ليس لأولياء
الدم هبته حتى يضمنوا الدين أيضا (2).

(1) الفقيه ج 4 ص 83.
(2) وجه التأييد هو أن ظاهر هذه الأخبار مراعاة تقديم أداء الدين وبراءة
ذمة الميت، فليس لهم عفو عن الدم أو قصاص حتى يضمنوا الدية، ايثارا لبراءة ذمته
وخلو عهدته من الدين، فلعل استيفاء القصاص وإن كان حقا لهم كما دلت عليه الآيات
والروايات، لكنه ينبغي تقييدها بغير صورة الدين مع انحصار المال في الدية، كما هو
فرض المسألة، فيجب أخذ الدية البتة ومع عدم أخذها باختيار القصاص أو العفو عن الدم
فيجب عليهم ضمانها كما ذكرناه منه - رحمه الله.
181

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الأشهر الأظهر أن الدية في حكم المال المقتول يقضي
منها دينه وقضى منه وصاياه وترثها ورثته، قيل إنها لا تصرف في الدين لتأخر استحقاقها
عن الحياة التي هي شرط الملك، والدين كان متعلقا بالذمة حال الحياة، وبالمال
بعدها، والميت لا يملك بعد وفائه.
ولا يخفى ما فيه، فإنه اجتهاد في مقابلة النصوص، وجرأة على أهل الخصوص،
وقد عرفت دلالة الروايات المتقدمة على وجوب أداء الدين منها.
ونحوها ما رواه في الكافي في الصحيح عن يحيى الأزرق (1) وهو مجهول
عن أبي الحسن عليه السلام " في رجل قتل وعليه دين ولم يترك ما لا فأخذ أهله الدين من قاتله
أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال: نعم قال: قلت: وهو لم يترك شيئا، قال: قال: إنما
أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه ".
ونحوها رواية أخرى له، وأصرح من ذلك ما ورد من الأخبار الدالة على أنه يرثها
الورثة على كتاب الله وسنة نبيه (2) صلى الله عليه وآله مثل صحيحة سليمان بن خالد وصحيحة
عبد الله بن سنان وصحيحة محمد بن قيس وفي بعضها عدم الإرث الأخوات من الأم
من الدية.
وبالجملة فإن القول المذكور ظاهر القصور، وقيل: أيضا بالفرق بين دية
الخطأ ودية العمد، إذا رضي الوارث بها معللا بأن العمد إنما يوجب القصاص،
وهو حق للوارث فإذا رضي بالدية كانت عوضا عنه، فكانت أبعد من استحقاق الميت

(1) التهذيب ج 9 ص 167 و ص 245 الفقيه ج 4 ص 167.
(2) التهذيب ج 9 ص 375.
182

من دية الخطأ وفيه ما في سابقه من الضعف والقصور، لعموم جملة من الأخبار المتقدمة
وخصوص روايات أبي بصير الثلاثة ولا سيما الأخيرة لقوله فيها " بل يؤدوا دينه من
ديته التي صالح عليها أولياؤه فإنه أحق بديته من غيره ".
بقي الكلام في أن خبر أبي بصير الثالث ظاهر في أنه مع اختيار الورثة القتل
في العمد فالدين على الإمام يؤديه عن الميت من سهم الغارمين، وخبره الثاني
يدل على أنه على الورثة كما هو قول الشيخ رحمه الله، وأنه لا يجوز لهم اختيار القتل إلا بعد
ضمان الدين، ويمكن الجمع بينهما بحمل الخبر الثالث على وجود الإمام وتمكنه
من القيام بذلك وحمل الآخر على عدم ذلك والله العالم.
المسألة التاسعة: إذا جحد المديون المال ولا بينة للمدعي فهنا صورتان: الأولى
أن يحلف المديون، والأشهر الأظهر عدم جواز مطالبته، وإن أقام البينة بذلك، لأن
اليمين قد ذهب بحقه، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في المسألة الخامسة (1)
من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع وأركانه.
وقد ورد بإزائها من الأخبار ما يدل على خلاف ذلك. وقد تقدم وجه الجمع
بينها ثمة، وفي المسألة أقوال آخر شاذة (2) يأتي ذكره انشاء الله تعالى في بابها،
نعم لو رجع الحالف بعد ذلك وأتى بالمال من قبل نفسه من غير طلب،
وأكذب نفسه فإنه يجوز قوله، صرح بذلك الشيخ في النهاية، فقال: إذا جحد
المديون المال ولا بينة فحلفه المدعي عند الحاكم لم يجزله بعد ذلك مطالبته بشئ،
فإن جاء الحالف ثانيا ورد عليه ماله جاز له أخذه، فإن أعطاه مع رأس المال ربحا
أخذ رأس المال ونصف الربح انتهى. وبه صرح ابن البراج.

(1) ج 18 ص 409.
(2) منها قول الشيخ بسماع البينة مطلقا، وقول آخر له في موضع آخر
بسماعها مع عدم علمه بها أو نسيانها، وإليه ذهب ابن إدريس، وقول آخر للشيخ
المفيد وهو أنها تسمع إلا مع اشتراط سقوطها - منه رحمه الله.
183

وقال ابن إدريس: إن كان المال دينا أو قرضا أو غصبا واشترى الغاصب في
الذمة، ونقد المغصوب فالربح كله له دون المالك، وإن اشترى بالعين المغصوبة
فالصحيح بطلان البيع، والأمتعة لأصحابها، والأرباح والأثمان لا صحابها، وإن
كان مضاربة شرط له من الربح النصف صح قول الشيخ وحمل عليه، وخص ما ورد من
الأخبار بذلك، فإن العموم قد يخص، للدلالة، وقال العلامة في المختلف بعد نقل
القولين المذكورين: أقول: الشيخ رحمه الله لم يتعرض لبيان مستحق الربح، و
إنما قال: إذا دفع الحالف المال والربح أخذ المالك المال لاستحقاقه إياه، و
أخذ نصف الربح من حيث إن الحالف أباحه الأخذ، وكان ينبغي أن يأخذ نصفه
على عادات العاملين في التجارات انتهى.
أقول: الذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك ما رواه الصدوق والشيخ في
كتابيهما عن مسمع (1) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني كنت استودعت رجلا
مالا فجحدنيه فحلف لي، ثم إنه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي كنت استودعته
إياه، فقال: هذا مالك فخذه، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك
مع مالك، واجعلني في حل فأخذت المال منه، وأبيت أن آخذ الربح منه، و
وقفت المال الذي كنت استودعته، وأتيت حتى استطلع رأيك فما ترى؟ قال: فقال:
خذ نصف الربح، واعطه النصف، وحلله إن هذا رجل تائب والله يحب التوابين "
وبمضمونه أفتى الصدوق في باب بطلان حق المدعي بالتحليف، وإن كان له بينة
من كتاب الفقيه، فقال: متى جاء الرجل الذي حلف على حق ثانيا وحمل ما عليه
ما ربح فيه فعلى صاحب الحق أن يأخذ منه رأس المال ونصف الربح ويرد عليه
نصف الربح، فإن هذا رجل تائب انتهى.
وما في كتاب الفقه الرضوي حيث قال عليه السلام، وإذا أعطيت رجلا مالا فجحدك
وحلف عليه ثم أتاك بالمال بعد مدة وبما ربح فيه وندم على ما كان منه فخذ منه رأس

(1) التهذيب ج 7 ص 180 الفقيه ج 4 ص 194.
184

مالك ونصف الربح، ورد عليه نصف الربع هذا رجل تائب انتهى (1).
ثم إن الظاهر أن مناقشة ابن إدريس هنا واهية، وتخصيصه جواز الأخذ
بالمضاربة وشرط نصف الربح أبعد بعيد، فإنه لا يخفى أن المتعارف بين التجار
كما هو الآن المعمول عليه بينهم فكذا في الأزمنة السابقة أن الاشتراء إنما يقع في
الذمة، فالبيع صحيح بلا اشكال، والربح للمشتري بلا خلاف، ولكن الرجل لما
قصد التوبة وندم على ما وقع منه ظن أن ما حصله من الربح بواسطة هذا المال إنما
هو لصاحب المال فأتى به ليطلب طيب نفسه، وأن يحلله ويبرئ ذمته، والإمام عليه السلام
أمره بأخذ رأس المال لأنه حقه في ذمته، وإن لم يجز له المطالبة به بعد الرضا
باليمين، فلما بذله الرجل واعترف به جاز له أخذه وأمره بأخذ نصف الربح في
مقابلة تحليله وابراء ذمته ورضاء نفسه لا تكون ذلك حقا شرعيا، فهو من قبيل الصلح
على ذلك، وإنما خصه بالنصف ايثارا للرجل المديون من حيث توبته، وأن الله
تعالى يحبه من هذه الجهة، فينبغي أن يسامحه له نصف الربح، وإن كان هو قد
سمح بالربح، هذا هو الظاهر من سياق الخبرين (2) المذكورين.
ثم إن الظاهر من كلام الأصحاب أنه لو أكذب نفسه وإن لم يأت بالمال فإنه
يجوز مطالبته، وتحل مقاصته مما يجده الغريم من أمواله متى امتنع من التسليم،
ولم أقف فيه على نص: ومورد الروايتين المتقدمتين إنما هو بذل المديون المال،
والاتيان به، بل ربما ظهر من رواية المسألة الدالة على أنه إذا استحلفه فليس

(1) أقول: قال عليه السلام في كتاب الفقه بعد هذا الكلام بيسير فإن أتاك الرجل
بحقك بعد ما حالفته من غير أن تطالبه، فإن كنت مؤسرا أخذته فتصدقت به، وإن
كنت محتاجا أخذت لنفسك، والظاهر حمله على الاستحباب جمعا بينه وبين كلامه
المذكور في الأصل - منه رحمه الله.
(2) هذا الأمر هنا مفهوم من سياق الكلام وإن لم يقع التصريح به في الخبر
إلا أنه ظاهر بغير اشكال منه رحمه الله.
185

له أن يأخذ منه شيئا، وإن لم يستحلفه فهو على حقه هو عدم الجواز، لأنها شاملة
باطلاقها لما لو أكذب نفسه، أو بقي على انكاره، نعم خرج منها مورد النص المذكور
من إعطائه المال من قبل نفسه، ويبقى ما عداه وإلى ما ذكرنا يشير كلام صاحب
الكفاية (1).
الثانية أن يجحد نفسه ويتعذر استيفائه منه، ولا اشكال في جواز الأخذ منه
مقاصة، وإن أمكن إقامة البينة بالحق عند الحاكم، وقيل: بعدم الجواز مع إمكان
الاثبات عند الحاكم الشرعي، وقد تقدم تحقيق في هذا المقام في المسألة المشار
إليها في صدر هذا الكلام مفصلا جليا والله العالم.
المسألة العاشرة من المستحبات في هذا الباب هو أنه يستحب للغريم
الارفاق بالمديون في الاقتضاء والمسامحة في الحساب وعدم الاستقضاء، ويدل على
ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن حماد بن عثمان (1) " قال: دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام فشكى إليه رجلا من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو فقال له:
أبو عبد الله عليه السلام ما لأخيك فلان يشكوك؟ فقال له: يشكوني أني استقضيت منه حقي
قال: فجلس مغضبا فقال: كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ أرأيت ما حكى الله
تعالى في كتابه فقال: " ويخافون سوء الحساب " (2) أترى أنهم خافوا الله أن يجور عليهم، لا والله ما خافوا إلا الاستقضاء فسماه الله عز وجل سوء الحساب، فمن استقضى

(1) حيث قال: قالوا ولو أكذب نفسه جاز مطالبته، وحل مقاصته مما يجده
له مع امتناعه من التسليم، لتصادقها على بقاء الحق في ذمة الخصم، لكن ظاهر
الروايات المذكورة على خلافه انتهى، وممن صرح بالحكم المنقول عنهم (رضوان
الله عليهم) المحقق في الشرايع، فقال: أما لوا كذب الحالف نفسه جاز مطالبته،
وحل مقاصته مما يجد له مع امتناعه من التسليم - منه رحمه الله.
(1) التهذيب يب ج 6 ص 194 الكافي ج 5 ص 101.
(8) سورة الرعد الآية - 23.
186

فقد أساء " وروى العياشي في تفسيره عن حماد بن عثمان (1) مثله وروى الصدوق
في كتاب معاني الأخبار عن حماد بن عثمان (2) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: لرجل
يا فلان مالك ولأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه شئ فاستقضيت عليه حقي
فقال أبو عبد الله عليه السلام: أخبرني عن قول الله عز وجل " يخافون سوء الحساب " أتراهم
يخافون أن يحيف الله عليهم أو يظلمهم ولكن خافوا الاستقضاء والمداقة ".
وما رواه في الكافي (3) عن محمد بن يحيى رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: قال له رجل: إن لي على بعض الحسنيين مالا وقد أعياني أخذه وقد جرى
بيني وبينه كلام، ولا آمن أن يجري بيني وبينه ما اغتم له، فقال له أبو عبد الله
عليه السلام ليس هذا طريق التقاضي، لكن إذا أتيته فأطل الجلوس، والزم السكوت
قال: الرجل: فما فعلت ذلك إلا يسيرا حتى أخذت مالي ".
ومنها الانظار والتحليل ويدل على الأول بعد الآية أعني قوله عز وجل (4)
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " الأخبار فروى في الكافي عن معاوية بن عمار (5)
في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: من أراد أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، قالها
ثلاثا وهابه الناس أن يسألوه فقال: فلينظر معسرا أو يدع له من حقه " وبهذا المضمون
أخبار عديدة في كتاب ثواب الأعمال.
وروى في التهذيب عن إبراهيم بن عبد الحميد (6) في الصحيح " قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن لعبد الرحمان بن سيابة دينا على رجل قد مات، وكلمناه
أن يحلله فأبى، قال: ويحه أما يعلم أن له بكل درهم عشرة دراهم إذا حلله، فإن لم يحلله
فإنما له درهم بدرهم ".

(1) الوسائل الباب 16 - من أبواب الدين والقرض.
(2) الوسائل الباب 16 - من أبواب الدين والقرض.
(3) الكافي ج 5 ص 101.
(4) سورة البقرة الآية 280.
(5) الكافي ج 4 ص 35.
(6) التهذيب ج 6 ص 195 الفقيه ج 3 ص 117.
187

وأما ما رواه في التهذيب عن هيثم الصيرفي (1) عن رجل عن أبي عبد الله
عليه السلام " في رجل كان له على رجل دين وعليه دين، فمات الذي عليه فسأل أن يحلله
منه أيهما أفضل يحلله منه أولا يحلله قال: دعه ذا بذا " فقيل: إنه محمول على ما إذا كان
صاحب الدين معسرا عن أداء ما عليه من الدين، فإنه لعل الله أن يتيح له من يقضي دين ذلك
الميت فيقضي به الحي دينه.
ومنها حسن القضاء، فروى في الفقيه مرسلا (2) " قال النبي صلى الله عليه وآله: ليس من
غريم ينطلق من عند غريمه راضيا إلا صلت عليه دواب الأرض، ونون البحور،
وليس من غريم ينطلق صاحبه غضبان وهو ملئ إلا كتب الله له بكل يوم يحسبه وليلة
ظلما ".
وروى في الكافي عن أبي بصير (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: المدين ثلاثة، رجل كان له فأنظر، وإذا كان عليه أعطى ولم يمطل، فذاك له
ولا عليه، ورجل إذا كان له أستوفي، وإذا كان عليه أوفى فذاك لا له ولا عليه، ورجل
إذا كان له أستوفي، وإذا كان عليه مطل فذاك عليه ولا له ".
ومنها أن لا ينزل على غريمه، ولا يأكل طعامه وشرابه، فإن فعل فلا يزيد على
ثلاثة أيام، وأن يحتسب ما يهديه إليه من دينه.
فروى في الكافي والتهذيب عن جراح المدائني (4) عن أبي عبد الله عليه السلام
أنه كره أن ينزل الرجل على الرجل وله عليه دين، وإن كان قد صرها له إلا ثلاثة أيام "
وروى المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم، عن ساعة (5) في الموثق " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل ينزل على الرجل وله عليه دين أياكل من طعامه فقال:
نعم يأكل من طعامه ثلاثة أيام، ثم لا يأكل بعد ذلك شيئا ".

(1) التهذيب ج 6 ص 189.
(2) الفقيه ج 3 ص 113.
(3) الكافي ج 5 ص 97.
(4) الكافي ج 5 ص 102 التهذيب ج 6 ص 204.
(5) الكافي ج 5 ص 102 التهذيب ج 6 ص 204.
188

وروى في التهذيب عن جميل بن دراج (1) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام " في
الرجل يأكل عند غريمه أو يشرب من شرابه أو يهدي له الهدية؟ قال: لا بأس به "
وروى في التهذيب عن الحلبي (2) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام " أنه كره
للرجل أن ينزل على غريمه، قال: لا يأكل من طعامه، ولا يشرب من شرابه، ولا يعتلف
من علفه ".
وروى في الفقيه (3) مرسلا " قال: وسئل أبو جعفر عليه السلام عن الرجل
يكون له على الرجل الدراهم والمال، فيدعوه إلى طعامه أو يهدي له الهدية قال:
لا بأس ".
وروى في الكافي والتهذيب عن غياث بن إبراهيم (4) عن أبي عبد الله عليه السلام
" أن رجلا أتى عليا فقال له: إن لي على رجل دينا فأهدى إلي هدية فقال عليه السلام: احسبه
من دينك عليه ".
أقول: المستفاد من هذه الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض بحمل مطلقها
على مقيدها ومجملها على مبينها وبه صرح الأصحاب أيضا هو كراهة النزول على
الغريم مطلقا، وإن كانت الثلاثة أخف كراهة وهي وإن كانت سنة بالنسبة إلى
الضعيف النازل على أهل البلد، لكن في غير صورة الدين، والمنقول عن الحلي
التحريم فيما زاد على الثلاثة، يحتمل خروج الثلاثة من الكراهة بالنظر إلى ما
قلناه، وتخصيصها بما عدا الثلاثة، وأنه يستحب احتساب الهدية من الدين، كما قدمنا
ذكره في صدر الكلام.
ومثل رواية غيث في الدلالة على ذلك مفهوم رواية هذيل بن حيان الصيرفي
المتقدمة في الموضع الأول من المقصد الأول في القرض، وقوله فيها " إن كان يصلك

(1) التهذيب ج 6 ص 204.
(2) التهذيب ج 6 ص 204.
(3) الفقيه ج 3 ص 181.
(4) الكافي ج 5 ص 103.
189

قبل أن تدفع إليه مالك فخذ ما يعطيك " فإن مفهومه المنع من قبول ذلك لو لم يكن
كذلك، وقد قدمنا ثمة بيان حمله على الكراهة، والاستحباب أن يحسبه من الدين
قال: في الدروس: ويستحب احتساب هدية الغريم من دينه، للرواية غن علي عليه السلام ويتأكد فيما لم يجر عادته به انتهى. والظاهر أنه أشار بقوله ويتأكد إلى آخره
إلى ما ذكرنا من رواية هذيل بن حيان، فإنها هي المتضمنة لذلك مما وصل إلينا
من الأخبار.
وكيف كان فما ذكرناه من كراهة النزول ينبغي حمله على ما لم يظهر من المديون
كراهة النزول عليه، والتأذي بالجلوس عنده وأكل طعامه، وإلا فلا يبعد التحريم،
والاحتياط لا يخفى.
ومنها ترك التعرض للمديون في الحرم وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام
في المسألة الثالثة من هذا المقصد.
ومنها استحباب التقصير على نفسه لأجل التوصل إلى أداء دينه، وبه يجمع
بين ما دل من الأخبار على وجوب ذلك، كروايتي سماعة المتقدمين في صدر هذا الكتاب،
وبين ما دل على العدم، كرواية أبي موسى ورواية موسى بن بكر ومرسلة علي بن إسماعيل
المتقدم جميعه ثمة (1).
قال في الدروس: ويجب على المديون الاقتصاد في النفقة، ويحرم الاسراف،
ولا يجب التقتير، وهل يستحب؟ الأقرب ذلك إذا رضي عياله.
ومنها استحباب الاشهاد على الدين فروى في الكافي عن جعفر بن إبراهيم (2)
عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: أربعة لا يستجاب لهم دعوة، الرجل جالس في بيته يقول
اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب، ورجل كانت له امرأة فدعا عليها،
فيقال: له: ألم أجعل أمرها إليك، ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني،
فيقال: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالاصلاح، ثم قال: " والدين إذا أنفقوا

(1) ص 200
(2) أصول الكافي ج 2 ص 511.
190

لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة،
فيقال له: ألم آمرك بالشهادة " وعن عمران بن أبي عاصم (1) " قال: قال أبو عبد الله
عليه السلام أربعة لا يستجاب لهم دعوة، أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بينة، يقول:
الله عز وجل ألم آمرك بالشهادة " وعن عبد الله بن سنان (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال:
من ذهب حقه على غير بينة لم يؤجر ".
ومنها استحباب ترك الاستدانة مع الاستغناء وقد تقدمت الأخبار الدالة على
ذلك في صدر هذا الكتاب.
ومنها أنه يستحب أداء الدين على الأبوين ويتأكد بعد الموت، فروى الحسين
بن سعيد في كتاب الزهد عن محمد بن مسلم (3) في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام
" قال: إن العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما الدين
ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقا، وإنه ليكون غير بار لهما في حياتهما فإذا ماتا قضى عنهما
الدين، واستغفر لهما، فيكتبه الله بارا، قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام إن أحببت
أن يزيد الله في عمرك فبر أبويك، وقال: البر يزيد في الرزق ".
وعن سالم الحناط (4) عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: أيجزي الولد
الوالد؟ قال: لا إلا في خصلتين يجده مملوكا فيشترى فيعتقه، أو يكون عليه دين
فيقضيه عنه " ورواه الكليني وكذا الذي قبله.
المسألة الحادية عشر لو ضمن أحد عن الميت دينه، فالظاهر أنه لا خلاف
في أنه تبرء ذمته وينتقل المال إلى ذمة الضامن، سواء كان في مرض الموت أو
قبله أو بعده، واستدل عليه بأن الضمان ناقل فهو بمنزلة الأداء، والمتعمد في ذلك
إنما هو الأخبار المتفقة على الحكم المذكور.
ومنها ما رواه ثقة الاسلام في الكافي والشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله

(1) الوسائل الباب - 10 من أبواب الدين.
(2) الوسائل الباب - 10 من أبواب الدين.
(3) الوسائل الباب - 30 - من أبواب الدين.
(4) الوسائل الباب - 30 - من أبواب الدين.
191

بن سنان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن
للغرماء، فقال: إذا رضي به الغرماء فقد برئت ذمة الميت ".
وما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار (2) في الموثق عن أبي عبد الله
عليه السلام " في الرجل يكون عليه دين فحضره الموت فيقول وليه: على دينك قال:
يبرؤه ذلك وإن لم يوفه وليه من بعده، وقال: أرجو أن لا يأثم وإنما إثمه على الذي
يحبسه ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسن بن الجهم (3) في الموثق " قال:
سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل مات وله على دين وخلف ولدا رجالا ونساء وصبيانا فجاء
رجل منهم فقال: أنت في حل مما لأبي عليك من حصتي، وأنت في حل مما لإخوتي
وأخواتي وأنا ضامن لرضاهم عنك، قال: تكون في سعة من ذلك وحل، قلت:
فإن لم يعطهم؟ قال: ذلك في عنقه، قلت: فإن رجع الورثة على؟ فقالوا أعطنا حقنا
فقال: لهم ذلك في الحكم الظاهر، فأما ما بينك وبين الله عز وجل فأنت في حل
إذا كان الرجل الذي أحل لك يضمن لك عنهم رضاهم فيحتمل لما ضمن لك، قلت:
فما تقول في الصبي لأمه أن تحلل؟ قال: نعم إذا كان لها ما ترضيه أو تعطيه، قلت: وإن
لم يكن لها، قال: فلا، قلت: فقد سمعتك تقول: أنه يجوز تحليلها، فقال: أنما أعني بذلك إذا
كان لها، قلت: فالأب يجوز تحليله على ابنه فقال له: ما كان لنا مع أبي الحسن عليه السلام
أمر يفعل في ذلك ما شاء، قلت: فإن الرجل ضمن لي عن ذلك الصبي، وأنا من
حصته في حل فإن مات الرجل قبل أن يبلغ الصبي فلا شئ عليه قال الأمر جائز
على ما شرط لك ".
وأنت خبير بأنه بالنظر إلى هذه الأخبار لا اشكال فيما ذكرنا من الحكم
المذكور، إنما الاشكال في أن المشهور اشتراط صحة الضمان برضا المضمون

(1) الكافي ج 5 ص 99 التهذيب ج 6 ص 187.
(2) التهذيب ج 6 ص 188.
(3) التهذيب ج 9 ص 167.
192

له، ونقل عن الشيخ العدم، وهذه الأخبار قد اختلفت في ذلك، فظاهر صحيحة
عبد الله بن سنان المذكورة بل صريحها الدلالة على القول المشهور.
وظاهر الخبرين الأخيرين الدلالة على القول الآخر، ومثلهما أيضا في الدلالة
على ذلك، ما رواه الشيخ عن حبيب الخثعمي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قلت
له: الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه بغير إذن صاحبه؟ قال: لا يأخذ إلا أن
يكون له وفاء؟ قال: قلت: أرأيت إن وجد من يضمنه ولم يكن له وفاء وأشهد على
نفسه الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال: نعم ".
قال في الوافي يعني وأشهد الضامن على نفسه بأنه ضامن، وينبغي حمله على
ما إذا كان الضامن مليا، لما تقدم في موثقة الحسين بن الجهم، والمسألة لذلك محل
اشكال، حيث أنه لا يحضرني الآن وجه يجمع به بين هذه الأخبار ثم إنه لا يخفى
أن موثقة الحسين بن الجهم قد اشتملت على فوايد لطيفة، ونكت شريفة يحسن
التنبيه عليها في المقام.
الفايدة الأولى يفهم من الخبر المذكور أن الأحكام الشرعية إنما تبنى على
ما هو الظاهر دون الواقع ونفس الأمر، كما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم،
سيما في كتب العبادات، فإنه حكم بجواز رجوع الورثة عليه في الحكم الظاهر،
وإن كان في الواقع صار برئ الذمة بضمان الولي.
الفائدة الثانية فيه دلالة على القاعدة المشهورة من تقييد المطلق وتخصيص
العام، حيث أنه بعد أن أفتى بأن تحليل الإمام مشروط بأن يكون لها مال، قال له
السائل: إني سمعت تقول أنه يجوز تحليلها مطلقا، أجاب عليه السلام بأني إنما أردت بذلك
أن يكون لها مال، فصار فتواه في هذا الخبر مخصصا لما أطلقه أولا مما سمعه
الراوي قبل هذه المسألة.
الثالثة ما ذكره عليه السلام من جواز تحليل الأب على ابنه، لعله محمول على
الاستحباب، بمعنى أنه يستحب للابن الرضا بذلك، كما يشير حكايته عن أبيه عليه السلام

(1) التهذيب ج 7 ص 180 الفقيه ج 3 ص 194.
193

وأنه ليس لهم معه أمر، وأنه يفعل في أموالهم ما يشاء، وقد تقدم تحقيق المسألة
وأن الحق أنه ليس للأب التصرف في مال ابنه زيادة على النفقة الواجبة الأعلى
جهة القرض، وإن دل جملة من الأخبار على الجواز مطلقا، مثل ظاهر هذا الخبر،
وقد ذكرنا أن الأظهر حملها على التقية، وأما هذا الخبر فالظاهر حمله على الاستحباب
كما ذكرناه.
الرابعة فيه دلالة على اشتراط أن يكون الضامن مليا لأنه عليه السلام شرط في تحليل
الأم أن يكون لها مال وبه صرح الأصحاب أيضا إلا مع رضاء المستحق بضمان
المعسر، فإنه يلزم أيضا، ويدل عليه حديث ضمان علي بن الحسين عليه السلام لدين عبد الله
بن الحسن (1).
الخامسة ظاهر الخبر المذكور وكذا خبر إسحاق بن عمار صحة الضمان
بغير الصيغة التي اشترطها الأصحاب، حتى أن بعضهم صرح بأنه لو قال: على دينه
أو ما عليه على، فإنه لا يوجب الضمان، لجواز إرادته أن للغريم تحت يده مال،
أو أنه قادر على تخليصه، مع أن موثقة إسحاق صريح في براءة ذمته، لقوله على
دينك، وهو مما يؤيد ما قدمناه من سعة الدائرة في العقود الشرعية.
المسألة الثانية عشر المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يجب
على المديون دفع جميع ما يملكه في الدين مع حلول الدين وطلب صاحبه، و
لا يجوز تأخيره والحال هذه، فإن أخره كان عاصيا، ووجب على الحاكم حبسه.

(1) وهو ما رواه في الفقيه والتهذيب عن عيسى بن عبد الله أنه احتضر عبد الله
بن الحسن عليه السلام فاحتج عليه غرماؤه وطالبوه بديونهم فقال: لا مال عندي فأعطيكم
لكن ارضوا بمن شئتم من بني عمي علي بن الحسين عليهما السلام أو عبد الله بن جعفر (رضي الله عنه) فقال الغرماء: أما عبد الله بن جعفر فملي مطول، وعلي بن الحسين رجل
لا مال له صدوق، وهو أحبها إلينا فأرسل إليه آخره بالخبر فقال: أضمن لكم المال
إلى غلة ولم يكن له غلة، فقال القوم: قد رضينا وضمنه، فلما أتت الغلة أتاح الله
عز وجل - له بالمال فأداه منه - رحمه الله - التهذيب ج 6 ص 211 الفقيه ج 3 ص 55.
194

ويستثنى له من مال يملكه دار السكنى، وعبد الخدمة وفرس الركوب إن كان
من أهلهما، وقوت يوم وليلة له ولعياله، وثياب تجمله، وكذا ثياب عياله، وزاد
بعض استثناء كتب العلم.
ولعل مستندهم في الحكم الأول عموم أدلة وجوب أداء الدين وابراء الذمة
من أموال الناس مع القدرة والتمكن، وكأنه مجمع عليه بينهم، بل قيل: بين
المسلمين وحينئذ فلا بد لكل ما استثنى من دليل، فأما دار السكنى فنقل في التذكرة
اجماع علمائنا على عدم جواز بيعها، خلافا للعامة.
ويدل على ذلك جملة من الأخبار، منها ما رواه في الكافي عن عثمان بن زياد (1)
" قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن لي على رجل دينا وقد أراد أن يبيع داره فيقضيني
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه، أعيذك بالله أن تخرجه
من ظل رأسه، أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه ".
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن إبراهيم بن هاشم (2) " أن محمد بن أبي
عمير كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم
فباع دارا له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه فخرج إليه
محمد بن أبي عمير فقال: ما هذا فقال: هذا مالك الذي لك على قال: ورثته؟ قال:
لا، قال: وهب لك؟ قال: لا، قال: فهل هو ثمن ضيعة بعتها؟ قال: لا، قال: فما هو؟ قال: بعت
داري التي أسكنها لأقضي ديني؟ فقال: محمد بن أبي عمير حدثني ذريح المحاربي عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: لا يخرج الرجل عن مسقط رأسه بالدين، ارفعها فلا حاجة لي فيها،
والله إني لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم واحد، وما يدخل ملكي منها درهم
واحد ".
وما رواه في الكافي عن الحلبي (3) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله

(1) الكافي ج 5 ص 97 لكن فيه مرة واحدة (أعيذك بالله) إلى آخره.
(2) التهذيب ج 6 ص 198 الفقيه ج 3 ص 117.
(3) الكافي ج 5 ص 98.
195

عليه السلام لا قال: لا تباع الدار ولا الجارية في الدين، وذلك أنه لا بد للرجل من ظل يسكنه
وخادم يخدمه ".
وما رواه الشيخ عن مسعدة بن صدقة (1) " قال: سمعت جعفر بن محمد عليهما السلام
يقول ووسائل عن رجل عليه دين وله نصيب في دار وهي تغل غلة فربما بلغت غلتها
فوته، وربما لم تبلغ حتى يستدين، وإن هو باع الدار وقضى دينه بقي لا دار له؟
فقال: إن كان في داره ما يقضي به دينه ويفضل منها ما يكفيه وعياله فليبع الدار
وإلا فلا ".
وعن ذريح المحاربي (2) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: لا يخرج
الرجل من مسقط رأسه بالدين.
وقال الصدوق: كان شيخنا محمد بن الحسن رضي الله عنه (3) " يروي أنه إن
كانت الدار واسعة يكتفي صاحبها ببعضها فعليه أن يسكن منها ما يحتاج ويقضي
ببقيتها دينه، وكذا إن كفته دار بدون ثمنها باعها واشترى بثمنه دارا ليسكنها ويقضي
بباقي الثمن دينه ".
وهذه الروايات كما ترى ظاهرة في استثناء الدار كما ذكره الأصحاب،
ودلت صحيحة الحلبي أو حسنته على استثناء الجارية أيضا، وفي معناها العبد أيضا،
ولعل ذكر الجارية إنما خرج مخرج التمثيل.
والظاهر أن الاستثناء إنما هو بالنسبة إلى ما يجب عليه من وجوه الأداء، بمعنى
أنه لا يجب عليه بيع داره لوفاء دينه، ولا يجبره الحاكم على ذلك، أو يبيع عليه
قهرا، أما لو اختار هو قضاء دينه ببيع داره فالظاهر أنه لا مانع منه، وأما حديث
ابن أبي عمير وامتناعه من القبول، فالظاهر أنه لمزيد ورعه وتقواه، فعلى هذا
ينبغي أن يحمل كلام الأصحاب بقولهم لا يجوز بيع الدار ونحوها على ما ذكرناه
بمعنى أنه لا يقهر على ذلك ويلزم به.

(1) التهذيب ج 6 ص 198.
(2) الفقيه ج 2 ص 118.
(3) الفقيه ج 2 ص 118.
196

وأما ما رواه الشيخ بسنده عن سلمة بن كهيل (1) " قال: سمعت عليا عليه السلام يقول
لشريح: انظر إلى أهل المعك والمطل ورفع حقوق الناس من أهل القدرة واليسار
ممن يدلي بأموال المسلمين إلى الحكام فخذ للناس بحقوقهم منهم، وبع فيها
العقار والديار، فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم،
ومن لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه " الحديث.
ورواه الصدوق عن الحسن بن محبوب عن عمر بن أبي المقدام عن أبيه
عن سملة بن كهيل (2) مثله، فقيل إنه مخصوص بالغني إذا أمطل وأخفى ماله، و
احتمل فيه أيضا الحمل على ما يزيد على قدر الحاجة، والأقرب عندي الحمل على
التقية كما يفهم من عبارة التذكرة المتقدمة، وممن نقل عنه ذلك الشريح المذكور
في هذا الخبر، والشافعي ومالك في تتمة الخبر مما لم نذكره ما يساعد على هذا
الاحتمال أيضا (3).
وما نقله الصدوق عن شيخه المذكور يدل عليه خبر مسعدة بن صدقة (4) و
العمل به متجه، ولا منافاة فيه، لباقي أخبار المسألة لأن الظاهر منها كما يشير إليه
قوله عليه السلام في خبر عثمان بن زياد " أعيذك بالله أن تخرجه " إلى آخره إنما كونه مع
بيع الدار يبقى بلا دار بالكلية " وإليه يشير أيضا قوله في رواية الحلبي لا بد للرجل
من ظل يسكنه.
وأما ما يدل على استثناء الخادم فالظاهر أنه الاجماع، مضافا إلى رواية الحلبي

(1) التهذيب ج 6 ص 225 الفقيه ج 3 ص 8.
(2) التهذيب ج 6 ص 225 الفقيه ج 3 ص 8.
(3) حيث قال فيه " ورد اليمين على المدعي مع بينته، فإن ذلك أجلى للعمى
وأثبت في القضاء " فإن اليمين لا محل لها هنا عندنا، لأن وظيفة المدعي البينة،
فإذا أقام البينة ثبت حقه، ولا يكلف اليمين معها، وإنما هو مذهب جملة من العامة،
واحتمل بعض مشايخنا الاختصاص بشريح المخاطب بهذا الكلام حيث إنه ليس
أهل القضاء - منه رحمه الله.
(4) التهذيب ج 6 ص 198.
197

المتقدمة، وأما غيرهما فلم أقف عليه في شئ من الأخبار، والظاهر أنه من أجل ذلك
اقتصر المحدث الكاشاني في المفاتيح عليهما، مع أن عادته غالبا اقتفاء أثر المشهور
في هذا الكتاب، ولعل المستند فيه هو الضرورة والحاجة مع أنه قد روى في الكافي
عن عمر بن يزيد (1) " قال: أتى رجل أبا عبد الله عليه السلام يقتضيه وأنا حاضر فقال له:
ليس عندنا اليوم شئ ولكن يأتينا خطر ووسمة فتباع ونعطيك انشاء الله تعالى فقال
له الرجل: عدني فقال له: كيف أعدك وأنا لما لا أرجو أرجى مني لما أرجو ".
وأنت خبير بما في هذا الخبر من الدلالة على التوسعة وعدم ما ذكروه من
التضييق، فإنه يبعد كل العبد أن لا يكون له (عليه السلام) مال بالكلية سوى المستثنيات
المذكورة، إذ المستفاد من الأخبار أنه كان ذا ثروة وأملاك وإن تعذر عليه النقد في
ذلك الوقت.
ويؤيده أيضا ما رواه في الكافي والتهذيب والفقيه عن بريد العجلي (2) في
الصحيح في بعضها " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن علي دينار وأظنه قال:
لا يتام وأخاف إن بعت ضيعتي بقيت ومالي شئ، فقال: لا تبع ضيعتك ولكن أعطه
بعضا وأمسك بعضا " واحتمال انظار الولي له، أو أنه عليه السلام رخص له لولايته العامة
كما قيل الظاهر بعده، سيما إنا لم نقف لهم لما ذكروه من التضييق هنا على الوجه
المذكور في كلامهم على دليل واضح من كتاب وسنة، ونحو صحيحة بريد المذكور
فيما دلت عليه قوله عليه السلام في كتاب فقه الرضوي (3) " وإن كان له ضيعة أخذ منه
بعضها، وترك البعض إلى ميسرة " على أنه مما يبعد كل البعد استثناء مثل الخادم
والفرس ونحوهما مما تقدم مع عدم جواز أزيد من قوت يوم وليلة، مع أن القوت
أضر، وبالجملة فالمسألة لا يخلو من شوب الاشكال (4).

(1) الكافي ج 5 ص 98 التهذيب ج 6 ص 186 و 187.
(2) الكافي ج 5 ص 98 التهذيب ج 6 ص 186 و 187.
(3) المستدرك ج 2 ص 491.
(4) أقول وملخص ما ذكر أنه مع ثبوت المنع من بيع هذه الأشياء في الدين
واستثنائها لأجل الضرورة، أو لورود النص في بعضها لا يدل على وجوب بيع
ما سواها في الدين، كما ادعوه، لما عرفت من حديث الصادق عليه السلام مع غريمه،
ونحوه الذي بعده، فإنه لو كان الأمر كما ذكروه لم يتجه لما دل لما عليه هذان الخبران
من حمل يحملان عليه منه رحمه الله.
198

وأما ما تقدم من أنه مع القدرة على الوفاء والمقابلة بالمطل فإنه يحبس، فيدل
عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن عمار بن موسى (1) في الموثق عن أبي
عبد الله عليه السلام " قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يحبس الرجل إذا التوى
على غرمائه ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فيقسمه بينهم يعني
ماله ".
وعن غياث (2) " عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام، أنه كان يحبس بالدين
فإذا تبين له افلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا " وفي معناهما أخبار أخر.
وما رواه في التهذيب عن السكوني (3) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أن
عليا عليه السلام، كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء، وإن
لم يكن له المال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم اصنعوا به ما شئتم، إن شئتم آجروه وإن
شئتم استعملوه " الحديث هذا ولا يخفى ما فيه.
أما ما دل عليه خبر السكوني من أنه دفعه إلى الغرماء ليؤجروه أو يستعملوه
مع ظهور افلاسه، ظاهر المنافاة لما دل عليه خبر غياث، وما في معناه من أنه يخلى
سبيله حتى يستفيد مالا،
وظاهر جملة من الأصحاب حمل خبر السكوني على من يمكنه التكسب
وأنه مع إمكان ذلك يجب عليه، وهو أحد القولين في المسألة، وبه قال ابن حمزة
والعلامة في المختلف والشهيد في الدروس (4) ومنع ذلك الشيخ في الخلاف

(1) الكافي ج 5 ص 102 التهذيب ج 6 ص 191.
(2) التهذيب ج 6 ص 299 و 300.
(3) التهذيب ج 6 ص 299 و 300.
(4) قال في الدروس: ويجب التكسب لقضاء الدين على الأقوى بما يليق
بما لديون ولو كان بإجارة نفسه، وعليه تحمل الرواية عن علي عليه السلام وهذا
القول ظاهرة أيضا في اللمعة، وظاهرة شيخنا الشهيد الثاني في شرحها، إلا أن ظاهره في المسالك خلاف ذلك، حيث إنه نسب العمل بالرواية إلى ابن حمزة، والعلامة
في المختلف، والشهيد خاصة، لكنه قال: قيل ذلك بعد أن نقل عن جماعة من
الأصحاب أنهم أطلقوا عدم وجوب التكسب عليه، وعدم قبول الهبة، ولا الصدقة
ولا الوصية، نحوها ما لفظه: ولو قيل بوجوب ما يليق بحاله كان حسنا، وأنت خبير
بأن هذا قول الشهيد في الدروس كما قدمناه نقله عنه، وعليه حمل الرواية المذكورة
ومقتضى ما استحسنه موافقته لهم على ذلك، وهو لا يخلو من منافرة لتخصيصه العمل
بالرواية إلى أولئك خاصة كما لا يخفى، فإنه موافق لهم في العمل بها على
الوجه الذي ذكره في الدروس منه رحمه الله.
199

وابن إدريس لأصالة البراءة، وللآية وهي قوله عز وجل (1) " فإن كان ذو عسرة
فنظرة إلى ميسرة " أقول: ويدل عليه أيضا خبر غياث المذكور.
ونحوه ما رواه الصدوق والشيخ مرسلا عن الأصبغ بن نباتة (2) عن أمير
المؤمنين (عليه السلام) في خبر قال فيه: " وقضى (عليه السلام) في الدين أنه يحبس
صاحبه، وإن تبين افلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا ".
ويؤيد أيضا ما رواه الشيخ عن السكوني (3) " عن جعفر عن أبيه عن علي
عليه السلام أن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا فأبى
أن يحبسه، وقال: إن مع العسر يسرا " والتقريب فيه أنه لو وجب الاكتساب لأمره
به، وحيث إن الشيخ في الخلاف (4) إنما احتج بالآية أجاب في المختلف عنها

(1) سورة البقرة الآية - 280.
(2) التهذيب ج 6 ص 232 الفقيه ج 3 ص 19.
(3) التهذيب ج 6 ص 299.
(4) أقول ظاهر العلامة في التذكرة اختيار ما ذهب إليه الشيخ وابن إدريس
حيث، قال: إذا ثبت اعسار المديون لم يجز حبسه، ولا ملازمته، ووجب انظاره
بقوله تعالى " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ثم استدل بخبر من طريق العامة،
وخبر غياث المذكور في الأصل منه رحمه الله.
200

ذ نمنع من اعسار المكتسب، ولهذا تحرم عليه الزكاة، والظاهر أن له أن يجيب عن
هذه الأخبار بالحمل على من لا يمكنه التكسب جمعا بينها وبين خبر السكوني
المذكور إلا أن الظاهر بعده، والمسألة لا تخلو من الاشكال ولا يحضرني الآن
مذهب العامة في هذه المسألة، ولعل رواية السكوني إنما خرجت مخرج التقية.
المسألة الثالثة عشر الظاهر أنه لا خلاف بينهم في تحريم بيع الدين
بالدين، ويدل، على ذلك من طريق الخاصة رواية طلحة ابن زيد (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يباع الدين
بالدين ".
ومن طريق العامة (2) ما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله " لا يجوز بيع الكالئ بالكالئ "
قال في النهاية الأثيرية: أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ أي النسيئة بالنسيئة وذلك
أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول بعنيه
إلى آخر بزيادة شئ فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض انتهى.
والحكم مما لا اشكال فيه في الجملة إلا أن الاشكال هنا في موضعين أحدهما
أن المفهوم من كلام أكثر أهل اللغة اختصاص اسم الدين بالمؤجل، وبه صرح
في القاموس والغريبين إلا أن المفهوم من كتاب المصباح للفيومي على الحال، وقد
تقدم ذلك في آخر المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام السلم من الفصل العاشر
في السلم لا أن الظاهر من كلام الأصحاب هو ما صرح به في القاموس.
وثانيهما أن المشهور اطلاق الدين على ما يقع تأجيله في العقد، وقيل: وهو

(1) الكافي ج 5 ص 100.
(2) المستدرك ج 2 ص 491.
201

اختيار شيخنا الشهيد الثاني بأنه مخصوص بما كان كذلك قبل العقد، وأما ما يقع
فيه التأجيل بالعقد، فإنه لا يصدق عليه بيع الدين بالدين، وقد تقدم نقل ذلك في
الموضع المشار إليه آنفا، وكذا قبله في الشرط السابع من شروط السلم.
ومنه ابن إدريس من بيع الدين على غير المديون، استنادا إلى دليل
قاصر، وتقسيم غير حاصر، كما أوضحه شيخنا العلامة في المختلف، والمشهور
الصحة لعموم الأدلة.
وقال في الدروس: ولو كان الدين مؤجلا لم يجز بيعه مطلقا، وقال ابن إدريس:
لا خلاف في تحريمه على من هو عليه، ويلزم بطريق أولى تحريمه على غيره،
وجوز الفاضل بيعه على من هو عليه، فيباع بالحال لا بالمؤجل، ولو كان حالا
جاز بيعه بالعين والدين، والحال لا بالمؤجل أيضا انتهى.
أقول: أما ما ذكره من عدم جواز بيع الدين المؤجل مطلقا، يعني لا بحال ولا مؤجل
فهو المشهور بينهم، لأنه لا يستحقه قبل حلول الأجل وهو مذهب العلامة في التذكرة
ووافقه في المسالك الجواز وقد تقدم تحقيق ذلك في المسألة الثانية من المقام الثاني
في أحكام السلم.
وأما ما ذكره من أولوية التحريم على غير من هو عليه، بناء على ما ذكره
ابن إدريس، فلأنه إذا امتنع فيمن عليه المال معا أنه مقبوض بالنسبة إليه فإن يمتنع
في غيره لعدم المقبوضية أولى، إلا أنه قد أجاب في المسالك بأنه لا يشترط المقبوضية
حين العقد، بل يكفي إمكانه وتحققه بعد الحلول، وقد تقدم ذكر ذلك في الموضع
المشار إليه.
وأما اشتراط العلامة مع الجواز البيع بالحال لا بالمؤجل، فلأنه بالمؤجل
يدخل تحت بيع الدين بالدين، وأما البيع بالحال فلا مانع منه، إلا ما يدعونه
من عدم استحقاقه يومئذ، واشتراط القبض وقت العقد، وفيهما ما عرفت كما
أوضحه في المسالك.
وأما أنه مع الحلول فإنما يجوز الحال فإنما يجوز بالحال دون المؤجل، فالظاهر أنه مبني على
202

ما قد قدمنا نقله عن المسالك من صدق اسم الدين على المبيع قبل حلوله وبعده،
كما تقدم نقله عنه في الموضع المشار إليه، فإنه يلزم على ذلك بيع الدين بالدين
المنهي عنه، ولم نقف لهم في هذه الدعوى على مستند، سيما مع تصريح أكثر
أهل اللغة بأن الدين اسم للمؤجل خاصة، موافقتهم على ذلك في الأثمان فليتأمل
المقام، فإنه حري بالتدبر التام والله العالم.
المسألة الرابعة عشر: ظاهر الأخبار وهو ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب أنه لا يؤدي
عن المديون من سهم الغارمين إلا مع انفاق الدين في غير معصية، وأنه لا يعطى
منه، وإنما الخلاف فيما إذا جهل حاله، فقال الشيخ: إنه كالثاني، وقال بأن إدريس:
بالأول، وبه صرح الأكثر.
ونقل عن الشيخ أنه احتج بما رواه في الكافي عن محمد بن سليمان (1)
" عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا (نجاد) قال: سأل الرضا عليه السلام رجل وأنا
أسمع، فقال له: جعلت فداك إن الله عز وجل يقول: " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
مسيرة " أخبرني عن هذه النظرة التي ذكره الله عز وجل في كتابه لها حد يعرف
إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من أن ينظر؟ وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله،
وليس له غلة ينتظر ادراكها، ولا دين ينتظر محله، ولا مال غايب ينتظر قدومه، قال:
نعم فينظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام، فيقضى عنه ما عليه من الدين من سهم
الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عز وجل، وإن كان أنفقه في معصية الله فلا شئ
على الإمام له، قلت: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم فيما أنفقه في طاعة
الله عز وجل أم في معصيته؟ قال: يسعى له في ماله فيرده عليه وهو صاغر ".
وردها الأكثر بضعف الاسناد فلا يمكن التعويل عليها في اثبات حكم مخالف
للأصل، لأن الأصل في تصرفات المسلمين وقوعها على وجه الصحة والمشروع،

(1) الكافي ج 5 ص 93 التهذيب ج 6 ص 185 في الكافي والتهذيب يكنى
أبا محمد.
203

ولأن تتبع مصارف الأموال عسير.
أقول: قد سبق البحث في هذه المسألة في كتاب الزكاة من كتب العبادات
وأوضحنا ثمة أن الرواية لا دلالة فيها على ما ادعوه، من أنه لو جهل حال انفاقه لم
يدفع له من سهم الغارمين، فليرجع إليه من أراد تحقيق الحال.
فروع: الأول والثاني مما فرعوه على وجوب أداء الدين مع الحول وطلب
صاحب وامكان دفعه حبسه، كما تقدم، وبطلان صلاته ما لم يتضيق الوقت، قال في التذكرة
إذا ثبت هذا فلو أصر على الالتواء كان فاسقا لا تقبل شهادته، ولا تصح صلاته في أول
الوقت، بل إذا تضيق، ولا يصح شئ من الواجبات الموسعة المنافية للقضاء في
أول وقتها، وكذا غير الدين من الحقوق الواجبة كالزكاة والخمس، وإن لم يطالب
به الحاكم، لأن أربابها في العادة يطالبون، وأيضا الحق ليس لشخص معين حتى
يتوقف على الطلب.
أقول لا يخفى أن ما ذكروه هنا مبني على ثبوت أن الأمر بالشئ يستلزم النهي
عن ضده الخاص، وهو مما لم يقم عليه دليل شرعي إن لم تكن الأدلة قائمة على
عدمه، وقد تقدم الكلام في ذلك في مواضع من كتب العبادات، وبالعدم صرح
جملة من المحققين، منهم شيخنا الشهيد الثاني عطر الله مرقده.
الثالث الظاهر من جملة الأخبار أنه لو مات المديون ولم يتمكن من
القضاء أو تمكن ولكن لم يطالب بالحق، سواء خلف ما يقضى به عنه أو لم يخلف،
وسواء قضى عنه أو لم يقض، الحال أن عزمه ونيته كانت على القضاء في جميع هذه
الصور وكان مصرف الدين الذي عليه في الأمور المباحة، فإنه لا يؤاخذ ولا يعاقب
وأما مع عدم شئ من هذه القيود، فالظاهر الإثم والمؤاخذة والملخص أنه في جميع
ما ذكرنا أولا لا يجب الأداء، وعليه ترتب عدم المؤاخذة.
ومما يدل على ما قلناه رواية عبد الغفار الجازى (1) المتقدمة في صدر هذا المقصد

(1) الكافي ج 5 ص 99 التهذيب ج 6 ص 191.
204

فيمن مات وعليه دين حيث قال عليه السلام: " إن كان أتى على يديه من غير فساد لم يؤاخذه
الله عز وجل إذا علم نيته " الخبر.
وفي صحيحة (1) زرارة المتقدمة ثمة أيضا " في الرجل عليه الدين لا يقدر على
صاحبه، ولا على ولي له، قال: لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء "، ونحو ذلك
رواية نضر بن سويد (2) ومجمل ذلك أنه متى كان من نيته الأداء واتفق موته على أحد
الوجوه المذكورة فإنه غير مؤاخذ.
الرابع: المفهوم من جملة من الأخبار أنه متى لم يتمكن المديون من أداء الدين
وجب على الإمام أن يؤدي عنه من سهم الغارمين إذا كان قد أنفق ما استدانه في طاعة أو
في مباح، فلو أنفقه في معصية لم يكن له ذلك.
ومنها رواية " أبي نجاد " المتقدمة (3) ومنها رواية موسى بن بكر (4) وقد
تقدمت في صدر هذا الكتاب.
ورواية صباح بن سيابة (5) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أيما
مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه، وإن
لم يقضه فعليه إثم ذلك، إن الله تبارك وتعالى يقول: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين "
الآية فهو من الغارمين، وله سهم عند الإمام، فإن حبسه عنه فإثمه عليه ".
ورواية أيوب بن عطية الحذاء (6) " قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان

(1) التهذيب ج 6 ص 188 وقد قدمنا أن المراد من صحيحة زرارة إنما هو
السؤال عن المؤاخذة لثبوت الذمة على هذه الحال وعدمها، وأجاب عليه السلام بما يدل
على عدم المؤاخذة والحال هذه منه رحمه الله.
(2) الكافي ج 5 ص 93 التهذيب ج 6 ص 183.
(3) الكافي ج 5 ص 93 وفي الكافي (أبا محمد).
(4) الكافي ج 5 ص 93 وفي الكافي (أبا محمد).
(5) المستدرك ج 1 ص 525.
(6) الوسائل الباب - 3 - مق أبواب ضمان الجريرة الرقم - 14.
205

رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، ومن ترك مالا فللوارث، ومن
ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي " أقول الضياع بالفتح العيال.
ورواية عطا (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال: قلت له: جعلت فداك إن علي دينا
إذا ذكرته فسد على ما أنا فيه، فقال: سبحان الله أما بلغك أن رسول الله عليهما السلام كأن يقول في
خطبته من ترك ضياعا فعلي ضياعه، ومن ترك دينا فعلي دينه، ومن ترك مالا (فأكله)
فكفالة رسول الله صلى الله عليه وآله ميتا ككفالته حيا فقال الرجل: نفست عني جعلني الله فداك "
قيل إنما كان له صلى الله عليه وآله يأكله لأنه وارث من لا وارث له، وأن معنى قوله نفست
عني لأنه علم به أنه يقضي دينه بضمان النبي صلى الله عليه وآله على يد من شاء الله.
أقول: وينبغي أن يزاد على ما ذكره أنه إن لم يتفق الأداء في الدنيا، فإنه
صلى الله عليه وآله في الآخرة يقضيه عنه، ولو بارضاء غريمه، وتعويضه كما يستفاد من بعض الأخبار.
وقال في كتاب الفقه الرضوي (2) " فإن كان غريمك معسرا وكان أنفق ما
أخذ منك في طاعة الله فانظر إلى ميسرة، وهو أن يبلغ خبره إلى الإمام فيقضي
عنه، أو يجد الرجل طولا فيقضي دينه وإن كان أنفق ما أخذه منك في معصية الله
فطالبه بحقك، فليس هو من أهل هذه الآية ".
أقول: ويحتمل بالنظر إلى هذا الكلام منه عليه السلام في هذا المقام حمل رواية
السكوني الدالة على دفعه إلى الغرماء على ما إذا كان ما أخذه قد صرفه في معصية
الله وأنه لا يسامح ولا يترك مؤاخذه له بسوء عمله، وإن كان معسرا فإنه غير داخل
تحت الآية على الانظار إلى ميسرة، وتحمل تلك الروايات الدالة على أنه يخلى
سبيله على ما إذا كان مصرف الدين في طاعة أو مباح، وهو بمقتضى كلامه عليه السلام
في هذا الكتاب وجه حسن في الجمع بين هذه الأخبار، إلا أن الذي صرح به في

(1) الوسائل الباب - 9 - من أبواب الدين (فلأهله) نسخة.
(2) المستدرك ج 2 ص 493.
206

الدروس هو عموم وجوب الانظار، وهو ظاهر أكثر عباراتهم.
قال في الكتاب المذكور ولا فرق في وجوب انظار المعسر بين من أنفق
بالمعروف وغيره، وقال الصدوق ولو أنفق في المعصية طولب وإن كان معسرا وفيه
بعد، مع أن المنفق في المعروف أوسع مخرجا بحل الزكاة له انتهى.
أقول الظاهر أن مستند الصدوق هنا فيما ذكره هو ما ذكره عليه السلام في هذا
الكتاب، كما أوضحناه عما يكشف عن وجهه نقاب الارتياب في مواضع عديدة
من كتب العبادات، وقبله والده في رسالته إليه.
ويمكن تأييده أيضا بما يشير إليه قوله عليه السلام في رواية أبي نجاد المتقدمة،
فيرد عليه ماله وهو صاغر، فإن المراد بذلك كما يعطيه سياق الخبر أنه مع
الفقر والاستحقاق، فإن الإمام يؤدي عنه من سهم الغارمين إن أنفق ما استدانه في
طاعة، وإن أنفق في معصية فلا شئ له على الإمام، بل عليه أن يرد عليه ماله وهو
صاغر، وهو كناية عن عدم انظاره كما لا يخفى، وأنه يطالب وإن كان معسرا كما ذكره
الصدوق.
وأما قوله في الدروس مع أن المنفق في المعروف أوسع مخرجا مشيرا به
إلى أنه متى كان يجب انظاره في صورة تحل له الزكاة ففي الصورة التي لا تحل
له بطريق أولى.
ففيه أنه يمكن أن يقال إن وجوب المطالبة في الصورة المذكورة، وعدم
انظاره إنما وقع عقوبة له، ومؤاخذة بما فعله من الأمر الغير المشروع، كما قدمنا
الإشارة إليه، فلا تثبت الأولوية بظهور الفارق.
الخامس: الظاهر أنه لا خلاف في أنه يقضي على الغايب إذا قامت البينة،
ولكن بالكفلاء ويكون الغايب على حجته.
ويدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم (1) عن أبي جعفر
عليه السلام " قال: الغائب يقضي عنه إذا قامت البينة عليه ويباع ماله ويقضي عنه وهو

(1) الكافي ج 5 ص 102 التهذيب ج 6 ص 191.
207

غائب، ويكون الغائب على حجته إذا قدم، ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا
بكفلاء إذا لم يكن مليا.
وذهب جمع من الأصحاب إلى ضم اليمين هنا إلى البينة، كما في الدعوى
على الميت، والخبر كما ترى خال من ذلك، وليس في المسألة غيره فيما أعلم،
وتعليلهم بما ذكروه من الوجوه التخريجية. عليل.
السادس: المعروف من كلام جل الأصحاب (رضوان الله عليهم) وبه صرح جملة
منهم أنه لا يبطل الحق بتأخير المطالبة، وإن طالت المدة، وقال الصدوق من ترك دارا
أو عقارا أو أرضا في يد غيره فلم يتكلم ولم يطالب، ولم يخاصم في ذلك عشر سنين
فلا حق له.
ويدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن يونس (1) عن العبد الصالح عليه السلام
" قال: قال: إن الأرض لله عز وجل جعلها وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث
سنين متوالية بغير سبب، أو علة أخرجت من يده، ودفعت إلى غيره، ومن ترك
مطالبة حق له عشر سنين فلا حق له " وروى الشيخان المذكوران عن يونس (2) أيضا
عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: من أخذت منه أرض ثم مكث ثلاث سنين
لا يطلبها لا يحل له بعد ثلاث سنين أن يطلبها " ومن ذكر هذه المسألة من الأصحاب رد
هذه الأخبار بضعف الاسناد حتى صاحب المفاتيح.
أقول: أما الكلام في الأرض فهو محمول على أنها من أرض الخراج وقد
تقدم البحث فيها في المقدمة الرابعة من مقدمات كتاب البيع، وبيان هذه المسألة
ثمة فليراجع.
وأما بالنسبة إلى ترك الحق عشر سنين كما دل عليه عجز الخبر الأول فإن
مما يؤيده أيضا ما رواه الشيخان المتقدمان عن علي بن مهزيار (3) " قال: سألت أبا جعفر
عليه السلام عن دار كانت لامرأة وكان لها ابن وابنة، فغاب الابن في البحر، وماتت

(1) الكافي ج 5 ص 297 التهذيب ح 7 ص 233.
(2) الكافي ج 5 ص 297 التهذيب ح 7 ص 233.
(3) التهذيب ج 9 ص 390 الكافي ج 7 ص 154.
208

المرأة فادعت ابنتها أن أمها كان صيرت هذه الدار لها، فباعت أشقاصا منها، وبقيت
في الدار قطعة إلى جنب دار الرجل من أصحابنا وهو يكره أن يشتريها لغيبة الابن،
ويتخوف من أن لا تحل له شراؤها، وليس يعرف للابن خبر، فقال لي: ومنذ كم
غاب؟ فقلت: منذ سنين كثيرة، فقال: ينتظر به غيبته عشر سنين ثم يشتري، فقلت
فإذا انتظرته غيبة عشر سنين حل شراؤها؟ قال: نعم ".
وطريق هذه الرواية وإن كان ضعيفا في الكافي حيث أن فيه سهل بن زياد،
إلا أنه في التهذيب صحيح، لروايته لها عن علي بن مهزيار، وطريقه إليه في المشيخة
صحيح، وهي ظاهرة الدلالة فيما ذكره الصدوق من زوال حقه بعد عشر سنين،
وهي وإن كان موردها الغائب إلا أن ظاهر هم عدم الفرق في ذلك بين الغائب
والحاضر، فإن من ملك مالا لم يزل ملكه عنه بغير ناقل شرعي ولم يعد هذا عندهم
منها، ولم يفرقوا بين الغائب والحاضر.
وبه يظهر أن قول الصدوق قريب سيما مع ما عرفت، من أن الطعن بضعف
الاسناد ليس عندنا بمحل من الاعتماد، إلا أن ظاهر الشيخ المفيد تخصيص هذا
الخبر بالمفقود، حيث أن الأصحاب اختلفوا في مال المفقود على أقوال.
منها قول الشيخ المذكور بأنه بالنسبة إلى عقاره ينتظر به عشر سنين، ومع
ذلك يكون البايع ضامنا درك الثمن، فإن رجع المفقود خرج إليه من حقه،
وبالسنة إلى ساير أمواله جوز اقتسام الورثة لها بشرط الملاءة والضمان على تقدير
ظهوره، واستدل على الأول بصحيحة علي بن مهزيار المذكورة، وعلى الثاني
بموثقة إسحاق بن عمار، وفي ما ذكره رحمه الله من الاستدلال في كلا الموضعين بحث
ليس هنا موضع ذكره، وسيأتي انشاء الله تعالى في محله.
وبالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الاشكال لما عرفت والله العالم:
السابع: يجوز تعجيل بعض الديون المؤجلة بنقصان منها بابراء أو صلح أو بمد
الأجل في الباقي، ولا يجوز تأجيل منها بزيادة.
209

ويدل على ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبان (1) في الصحيح عمن
حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدين
فيقول له قبل أن يحل الأجل: عجل النصف من حقي على أن أضع عنك الصنف، أيحل
ذلك لو أحد منهما؟ قال: نعم ".
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (2) عن أبي عبد الله
(عليه السلام) " قال: سئل عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول
له: أنقدني كذا وكذا وأضع عنك بقيته، أو يقول: أنقدني بعضه وأمد لك في الأجل
فيما بقي عليك؟ قال: لا أرى به بأسا أنه لم يزدد على رأس ماله، قال الله جل ثناؤه
" لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " وفي التهذيب " الرجل يكون عليه الدين " وهو
أظهر وعلى تقدير هذه النسخة كان اللام بمعنى على، وقد تقدما ما يتعلق بهذا المقام
أيضا في المسألة العاشرة من الفصل السادس.
الثامن: الظاهر أنه لا خلاف في أن الكفن مقدم على الدين، ويدل عليه أيضا
ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن زرارة (3) " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل مات وعليه دين بقدر كفنه قال: يكفن بقدر ما ترك،
إلا أن يتجر عليه انسان فيكفنه، ويقضي ما ترك دينه ".
وما رواه الشيخ عن إسماعيل بن أبي زياد (4) " عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: قال:
رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أول ما يبد به من المال الكفن، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث ".
وقال الرضا عليه السلام (5) في كتاب الفقه الرضوي: " وإذا مات رجل عليه دين
ولم يكن له إلا قدر ما يكفن به كفن به، فإن تفضل عليه رجل بكفن، كفن به ويقضي
ما ترك دينه، وإذا مات رجل وعليه دين ولم يخلف شيئا فكفنه رجل من زكاة ماله،

(1) الكافي ج 5 ص 258 و 259 التهذيب ج 6 ص 206 و 207.
(2) الكافي ج 5 ص 258 و 259 التهذيب ج 6 ص 206 و 207.
(3) التهذيب ج 6 ص 187 و 188 الفقيه ج 4 ص 143.
(4) التهذيب ج 6 ص 187 و 188 الفقيه ج 4 ص 143.
(5) المستدرك ج 1 ص 108 مع اختلاف يسير.
210

فهو جايز له، فإن اتجر عليه رجل آخر بكفن كفن من الزكاة وجعل الذي اتجر
عليه لورثته يصلحون به حالهم لأن هذا ليس بتركة الميت إنما هو شئ صار إليهم
بعد موته وبالله الاعتصام ".
أقول: فيه دلالة على أن ما يصير إلى الميت بعد الموت ويوهب له لا يجب
صرفه في الدين، ويحل للورثة أكله، سيما مع الاعسار والحاجة. التاسع:
يجوز القرض في بلد مع شرط أن يقضيه في بلد آخر، وادعى عليه
في التذكرة الاجماع.
وعليه تدل جملة من الأخبار منها صحيحة أبي الصباح (1) عن أبي عبد الله
عليه السلام " في الرجل يبعث ما لا إلى أرض، فقال الذي يريد أن يبعث به: أقرضنيه، وأنا
أوفيك إذا قدمت الأرض قال: لا بأس بهذا " وفي التهذيب " يريد أن يبعث به معه "
وهو أظهر.
وعن زرارة (2) في الصحيح عن أحدهما عليه السلام، ويعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قلت: يسلف الرجل الرجل الورق على أن ينقده إياه بأرض
أخرى، ويشترط عليه يشترط عليه ذلك؟ قال: لا بأس ".
وروى السكوني (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال أمير المؤمنين
عليه السلام: لا بأس أن يأخذ الرجل الدراهم بمكة، ويكتب سفاتج أن يعطوها
بالكوفة ".
أقول: السفاتج جمع سفتجة بالضم (4) والمراد أنه يدفع ماله لأحد في

(1) التهذيب ج 6 ص 187 و 188 الفقيه ج 4 ص 143.
(2) التهذيب ج 6 ص 203.
(3) الكافي ج 5 ص 256.
(4) قال في مجمع البحرين في حديث محمد بن صالح الأرجل واحد كانت عليه سفتجة بأربعمائة دينار: السفتجة قيل بضم السين وقيل بفتحها وأما التاء فمفتوحة
فيها فارسي معرب، وفسرها بعضهم فقال: هي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع
مالا قرضا يأمن به خطر الطريق، وفي الدار السفتجة كقرطبة أن تعطي مالا لأحد
والآخذ مال في بلد فيوفيه إياها ثم، فيستفيدا من الطريق وفعله السفتجة بالفتح والجمع
" السفاتج " انتهى. منه
211

بعض البلدان فيكتب ذلك المدفوع إليه كتابا بأن يدفع إليه ذلك المال في بلد
أخرى، وأن الكتاب بهذه الصورة يسمى سفتجة.
وصحيحة إسماعيل بن جابر (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال: قلت له،
ندفع إلى الرجل الدراهم فأشترط عليه أن يدفعها بأرض أخرى سودا بوزنها،
وأشترط ذلك؟ قال: لا بأس ".
قال بعض المحققين بعد ذكر الحكم المذكور وايراد صحيحة يعقوب بن
شعيب: هذا ظاهر، إنما البحث في أنه يلزم ذلك أم لا؟ بل يجوز له أن يطلب أينما
يريد، ظاهر كلامهم في عدم لزوم الأجل في القرض وأن القرض جائز دائما
إلا أن يشترط في عقد لازم الجواز، ومقتضى أدلة لزوم الشرط عدمه، وكذا
نفي الضرر إذا فرض، إذ قد يتعسر أو يكون قليلا في بلد المطالبة دون بلد الشرط، ونحو
ذلك من الضرر، وأما العكس فالظاهر أنه ليس بلازم، بل كان للمقترض دفع ذلك
ويجب القبول، تأمل في الفرق انتهى.
أقول: الظاهر من لزوم العقد بناء على القول به هو اللزوم من الطرفين، فكما
أنه لا يجوز للمقرض المطالبة في غير ذلك المكان كما ذكره، كذلك لا يجوز للمقترض
الدفع في غيره، وحديث الضرر الذي ذكره جار أيضا في الجانب الآخر، بل ربما كان
أظهر فإن ظاهر هذه الأخبار أن الغرض من هذه المعاملة المذكورة هو خوف المقرض
على ما له بالسفر به إلى تلك البلد، وهو مضطر إلى نقله إلى تلك البلاد على
وجه لا يحصل عليه، فدفعه إلى ذلك الرجل ليدفعه له في تلك البلد بنفسه أو وكيله
أو سفاتج تكتب بينهم، فلو جوزنا للمقترض أن يدفع ذلك في بلد القرض مثلا
أو بلد أخرى غير البلد التي وقع الاشتراط عليها، لربما تضرر المقرض بايصاله إلى

(1) التهذيب ج 7 ص 110
212

تلك البلد باحتمال الخطر، وخوف الطريق في السفر.
وبالجملة فلزوم العقد يقتضي تعلقه بالطرفين كما في البيع وغيره، وما ذكره
من الفرق غير ظاهر، بل الظاهر، إنما هو عدمه، فإنه قضية اللزوم كما عرفت والله
العالم.
العاشر: قد اشتهر بين جملة من الأصحاب وجود القول بأنه متى قتل أحد أحدا
ظلما، فإنه ينتقل جميع ما في ذمة المقتول من الحقوق المالية وغيرها الآدمية
الإلهية إلى ذمة القاتل، وربما نسب إلى شيخنا الشهيد (عطر الله مرقده) وردوه
بالضعف وعدم الدليل، وقد وقفت في بعض الأجوبة المنسوبة إلى السيد العلامة
السيد ماجد البحراني المدفون بشيراز في تحت قبة السيد أحمد بن مولانا الكاظم
عليه السلام المشهور بشاه چراغ الجواب عن هذه المسألة بما هذه صورته حيث قال
السائل: سيدنا ما قولكم فيمن قتل شخصا هل ينتقل كلما على ذمة المقتول إلى القاتل
من الإلهية والآدمية مالية وغيرها؟ فأجاب السيد المشار إليه (قدس سره) بما لفظه
أما انتقال ما على المقتول إلى ذمة القاتل من الحقوق المالية والإلهية فلا نعرف له
وجها، وأنه وجد في بعض الفوائد منقولا عن بعض الأعيان انتهى.
أقول: وقد وقفت في بعض الأخبار على ما يدل بظاهره على القول المذكور
وهو ما رواه شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب عقاب الأعمال بسنده عن
الباقر عليه السلام قال: من قتل مؤمنا أثبت الله على قاتله جميع الذنوب، وبرئ المقتول منها، وذلك قول الله عز وجل (2) " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون
من أصحاب النار ".
وهو كما ترى صريح الدلالة في انتقال الحقوق الإلهية من ذمة المقتول
إلى ذمة القاتل وبه يظهر أن ما ذكره المفسرون في معنى الآية المذكورة نفخ في

(1) ثواب الأعمال ص 328 ط طهران.
(2) سورة المائدة الآية - 29.
213

غير ضرام، المعتمد عندنا في تفسير القرآن إنما هو ما ورد عنهم عليهم السلام حيث تأولوا
الآية بتقدير مضاف، في قوله " بإثمي " أي بإثم قتلي إن قتلتني، وإثمك الذي كان
منك قبل قتلي " أو المراد إثمي لو بسطت يدي إليك، وإثمك ببسط يدك إلى.
ومما يؤيد القول المذكور أيضا بالنسبة إلى الحقوق المالية ما رواه في الكافي بسند
حسن عن الوليد بن صبيح (2) " قال: جاء رجل إلى أبي عبد الله عليه السلام يدعي على
المعلي بن خنيس دينا فقال: ذهب بحقي فقال أبو عبد الله عليه السلام: ذهب بحقك
الذي قتله، ثم قال للوليد: قم إلى الرجل فاقضه من حقه، فإني أريد أن أبرد عليه
جلده وإن كان باردا ".
فإن ظاهر قوله " ذهب بحقك الذي قتله " يعطي أن القاتل هو المؤاخذ بذلك،
وهو الذي ذهب بحقه دون المقتول، واحتمال التجوز باعتبار حيلولة القاتل بينه
وبين أداء الدين بسبب قتله إياه، فكأنه ذهب به إن أمكن لكن ينافيه قوله عليه السلام
أريد أبرد جلده وإن كان باردا فإنه إنما يكون باردا ببراءة الذمة من الدين،
الحال أنه ليس هنا شئ موجب للبراءة سوى ما يدعيه من القتل، وإنما أراد الإمام
بدفعه ذلك زيادة تبريده، وإن لم يستحق عنده شيئا.
وبالجملة فإن ظاهر الخبر هو ما قلناه وارتكاب التأويلات وإن بعدت و
التكلفات وإن غمضت غير عسير إلا أن الاستدلال إنما بني على الظواهر، و
ارتكاب التأويل إنما يلجأ إليه وجود معارض أقوى، والحال أنه ليس هنا ما
يعارض ذلك، بل الموجود إنما هو ما يؤيده، ولا سيما الاعتضاد بظاهر الآية، والخبر
المتقدم، وبما ذكرنا يظهر أن المسألة لا يخلو عن شوب الاشكال، والله سبحانه
وأولياؤه أعلم بحقيقة الحال.

(1) الكافي ج 5 ص 94.
214

المقام الثاني في دين العبد
والواجب أولا نقل الأخبار الواردة في هذا لمقام، ثم الكلام فيما ذكره
الأصحاب من الأحكام وما يستفاد من كلامهم عليهم السلام الأول:
ما رواه في الكافي والتهذيب
عن ظريف الأكفاني (1) " قال: كان أذن لغلام له في الشراء والبيع فأفلس ولزمه دين،
فأخذ بذلك الدين الذي عليه، وليس يساوي ثمنه ما عليه من الدين، فسأل أبا عبد الله
عليه السلام، فقال: إن بعته لزمك الدين وإن أعتقت لم يلزمك الدين، فأعتقه
ولم يلزمه شئ "
الثاني: ما رواه الشيخان المذكوران عن زرارة (2) في الموثق " قال: سألت
أبا جعفر عليه السلام عن رجل مات وترك عليه دينا وترك عبد له مال في التجارة وولدا،
وفي يد العبد مال ومتاع، وعليه دين استدانه العبد في حياة سيده في تجارته، فإن
الورثة وغرماء الميت اختصموا في ما في يد العبد من المال والمتاع وفي رقبة العبد،
فقال: أرى أن ليس للورثة سبيل على رقبة العبد، ولا على ما في يده من المتاع و
المال إلا أن يضمنوا دين الغرماء جميعا فيكون العبد وما في يده من المال للورثة،
فإن أبوا كان العبد وما في يده للغرماء، يقوم العبد وما في يده من المال، ثم يقسم
ذلك بينهم بالحصص فإن عجز قيمة العبد وما في يده عن أموال الغرماء رجعوا على
الورثة فيما بقي لهم إن كان الميت ترك شيئا، وإن فضل من قيمة العبد وما كان في يديه
عن دين الغرماء رد على الورثة ".
الثالث: ما رويا عن أبي بصير (3) والظاهر أنه ليث المرادي بقرينة رواية
عاصم وحميد عنه في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام، " قال: قلت له: رجل يأذن
لمملوكه في التجارة فيصير دين عليه؟ قال: إن كان أذن له أن يستدين؟ فالدين على

(1) الكافي ج 5 ص 303 التهذيب ج 6 ص 199.
(2) الكافي ج 5 ص 303 التهذيب ج 6 ص 199.
(3) الكافي ج 5 ص 303 التهذيب ج 6 ص 200.
215

مولاه، وإن لم يكن أذن له أن يستدين؟ فلا شئ على المولى، ويستسعى العبد
في الدين.
الرابع: ما رواه الشيخ في الموثق عن وهب بن حفص (1) عن أبي جعفر
عليه السلام، " قال: سألته عن مملوك يشتري ويبيع قد علم بذلك مولاه حتى صار عليه
مثل ثمنه؟ قال: يستسعى فيما عليه ".
الخامس ما رواه الشيخ أيضا عن شريح (2) " قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام
في عبد بيع وعليه دين قال: دينه على من أذن له في التجارة، وأكل ثمنه ".
السادس ما رواه بهذا الاسناد عن أشعث (3) " عن الحسن عليه السلام في
رجل يموت وعليه دين قد أذن لعبده في التجارة، وعلى العبد دين قال: يبدأ بدين
السيد ".
السابع ما رواه عن روح بن عبد الرحيم (4) " عن أبي عبد الله عليه السلام، في
رجل مملوك استأجره مولاه فاستهلك مالا كثيرا، قال: ليس على مولاه شئ ولكنه
على العبد، وليس لهم أن يبيعوه، ولكن يستسعى وإن حجر عليه مولاه فليس على
مولاه شئ ولا على العبد ".
الثامن ما رواه عن أبي بصير (5) والظاهر أنه المرادي بقرينة الراوي في
الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام " في رجل يستأجر مملوكا فيستهلك مالا كثيرا فقال:
ليس على مولاه شئ وليس لهم أن يبيعوه، ولكن يستسعى وإن عجز عنه فليس
على مولاه شئ ولا على العبد شئ ".
التاسع ما رواه أيضا عن ظريف (6) بياع الأكفان " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام

(1) التهذيب ج 6 ص 200.
(2) التهذيب ج 8 ص 248.
(3) التهذيب ج 8 ص 248.
(4) التهذيب ج 7 ص 229.
(5) الوسائل الباب 11 - من أبواب كتاب الإجارة.
(6) التهذيب ج 6 ص 196.
216

عن غلام لي كنت أذنت له في الشراء والبيع فوقع عليه مال للناس، وقد أعطيت
به مالا كثيرا فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن بعته لزمك ما عليه، وإن أعتقته فالمال على
الغلام وهو مولاك ".
إذا عرفت ذلك فتحقيق القول في هذا المقام يقع في مواضع: الأول قد تقدم
أن الأصح هو أن المملوك يصح تملكه وإن كان محجورا عليه التصرف فيما يملكه
بدون إذن السيد، وبطريق الأولى تصرفه في نفسه بإجارة أو استدانة أو نحو ذلك من
الحقوق، فإنه لا يجوز بدون إذن السيد (1).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو أذن السيد لعبده في الاستدانة لنفسه، أي لنفس
العبد، كان الدين لازما للمولى إن استبقاه أو باعه، وأما لو أعتقه فقيل: إنه يستقر
الدين في ذمة العبد، وقيل: يكون باقيا في ذمة المولى، والقولان للشيخ (رحمه الله)
أولهما في النهاية، وتبعه عليه جماعة منهم العلامة في المختلف، وهو ظاهر الشهيد
في اللمعة، والثاني في الإستبصار، وبه قال ابن إدريس، وهو اختيار شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك، والروضة، وهو الأظهر.
وأما لو كانت الاستدانة للسيد، فلا خلاف في كونه عليه دون العبد، كما
ذكره في المسالك، احتج القائلون بالقول الأول بالرواية الأولى والتاسعة، وأنت
خبير بأن غاية ما يدل عليه الخبران المذكوران هو الإذن في التجارة، وهو لا يستلزم
الإذن في الاستدانة، كما دل عليه الخبر الثالث.

(1) قال في كتاب النهاية إذا استدان العبد بإذن مولاه، فإن باعه أو مات لزم
المولى قضاءه وإن أعتقه كان المال في ذمة العبد، ولا يلزم المولى شيئا مما عليه انتهى.
وأنت خبير بأنه قد فرض المسألة في استدانة العبد بإذن المولى، والروايتان
اللتان استند إليهما خاليتان من ذلك، وإنما تضمنت الإذن في التجارة، وبه يظهر
ضعف الاستدلال بهما في المقام، مضاف إلى مخالفة الأصول الشرعية، فإنه متى
كان مأذونا له في الاستدانة، فأي فرق بين حال العتق وعدمه - منه رحمه الله.
217

وحينئذ فالخبران ليسا من محل البحث في شئ، فلا يحتاج إلى ردهما بمخالفة
القواعد الشرعية كما ذكره في المسالك، بل ما تضمناه بناء على ما قلناه موافق
للقواعد، إلا أنهما ليسا من محل البحث في شئ، ومقتضاهما بناء على ما ذكرناه
أن الدين إنما هو على العبد حيث أنه لم يؤذن له في الاستدانة كما صرح به في الخبر
الثالث.
وأنه إنما يلزم المالك إذا باعه من حيث حيلولته بين أصحاب الدين وبين
العبد ببيعه، لا من حيث أن المال لازم له بأصل الإذن في التجارة، والحال أنه لم
يحصل الإذن في الاستدانة كما عرفت.
ومما يدل على لزوم ذلك للمولى في الصورة البيع خبر شريح، مع قضية
الإذن في التجارة خاصة، وليس ذلك إلا لما قلناه، لما عرفت من أن الإذن في
التجارة لا يستلزم الإذن في الاستدانة، فلا وجه لكونه على المولى إلا من هذه الجهة
المذكورة.
وأما الاستدلال على هذا القول برواية عجلان (1) عن الصادق عليه السلام
" في رجل أعتق عبدا وعليه دين، قال: دينه عليه، لم يزده العتق إلا خيرا " واستدل
به العلامة في المختلف فلا دلالة فيه، لامكان حمله على الاستدانة بغير إذن المولى
كما ذكرنا في ذينك الخبرين.
وبالجملة فإن الاستدانة إن وقعت بإذن المولى سواء كانت للمولى أو للعبد
فالغرم على المولى، وإلا فهو على المملوك، ويعضده ما ذكره في المسالك من أن
العبد هنا بمنزلة الوكيل، وانفاقه المال على نفسه في المعروف بإذن المولى انفاق
لمال المولى، فيلزمه كما لو لم ينعتق.
وبذلك يظهر أن ما ذهب إليه الشيخ ومن تبعه هنا من تخصيص كون الدين
على العبد في صورة العتق دون صورة الاستبقاء لا وجه له.
واحتج القائلون بالقول الثاني بالرواية الثانية، وهي ظاهرة بل صريحة،

ج 8 ص 248.
218

فيما ذكروه، مع صحة السند هذا خلاصة تحريم الكلام في المقام.
وأما ما ذكره في المختلف احتجاجا لما ذهب إليه فهو لا يخلو من تهافت بمنع
التعويل عليه.
الثاني: لو أذن في التجارة دون الاستدانة، وحصل عليه ديون، قال الشيخ في
النهاية: ما يحصل عليه من الدين يستسعى فيه، ولا يلزم مولاه من ذلك شئ، وقال في
المبسوط: إذا أذن لعبده في التجارة فركبه دين، فإن كان أذن له في الاستدانة،
فإن كان في يده مال قضى عنه، وإن لم يكن في يده مال كان على السيد القضاء عنه،
وإن لم يكن أذن له في الاستدانة كان ذلك في ذمة العبد يطالبه به إذا أعتق، وقد روي
أنه يستسعى العبد في ذلك، وكذا قال في الخلاف، إلا أنه أسقط ذكر الرواية.
وقال ابن حمزة: إن كان المدين علم أنه غير مأذون في الاستدانة بقي في ذمته
إلى أن يعتق، وإن لم يعلم استسعى فيه إذا تلف المال، وأبو الصلاح لم يفصل إلى
المأذون له في التجارة وغيره، بل إلى المأذون له في الاستدانة وغيره، وقال عن
الثاني: أنه لا ضمان على المولى، ولا على العبد إلا أن يعتق فيلزمه الخروج إلى مدينه
مما عليه.
وقال ابن إدريس: لا يستسعى بل يتبع بعد العتق، وقال في المختلف:
والمعتمد أن يقول: إن استدان لمصلحة التجارة لزم المولى أداءه كالأجنبي، و
إن لم يكن لمصلحته لم يلزم مولاه شئ وتبع به بعد العتق عملا بأصالة براءة ذمة
المولى، ولأنه فعل غير مأذون فيه، والحديث الذي رواه أبو بصير في المسألة
السابقة يعطي وجوب الاستسعاء، وليس ببعيد، فإن المولى عاد بالإذن في التجارة
فوجب عليه التمكين من السعي انتهى.
أقول الظاهر من الأخبار المتقدمة بعد ضم بعضها إلى بعض وحمل مطلقها
على مقيدها ومجملها على مفصلها أنه متى استدان العبد بغير إذن مولاه فالدين لازم
للعبد وأنه يستسعى في الدين، لكن بشرط إذن المولى، فإن لم يأذن المولى
حيث إن المولى غر صاحب الدين بالإذن للعبد في التجارة مردود بما تضمنه رواية
219

روح " من أنه متى حجر عليه مولاه فليس على مولاه شئ، ولا على العبد شئ "
وحينئذ فالواجب تقييد اطلاق الصحيحة المذكور بهذه الرواية، وحمل ما تضمنته
من الاستسعاء على رضى المولى، جمعا بين الخبرين، ولكنه معذور بعدم اطلاعه
على الخبر المذكور حيث لم يورده في المقام.
وأما استثناء ما استدانه لمصلحة التجارة مع عدم الإذن له في الاستدانة وأنه
يكون على المالك، فالظاهر أن وجهه عندهم أنه حيث كان مأذونا في التجارة فهو
مأذون فيما يتعلق بمصالحها التي من جملتها ذلك، وهو وإن احتمل، إلا أن اطلاق
صحيحة أبي بصير يرده، وتخصيصها بمجرد ما ذكروه بعيد.
الثالث: قد صرح الأصحاب بأنه لو مات المولى الدين في تركته ولو كان
له غرماء كان غريم العبد من جملتهم، والوجه فيه ظاهر بعد الحكم بلزوم دينه
للمولى، وعليه يدل الخبر الثاني، وحينئذ فيسقط الدين على الغرماء أجمع، إلا أن
ظاهر الخبر السادس بل صريحه تقديم غرماء المولى، فعلى هذا لو لم يبق شئ
سقط غرماء العبد مع أن الجميع لازم لذمة المولى، وهو مشكل، ولم أر من
تعرض لنقل الرواية المذكورة، فضلا عن الجواب عما اشتملت عليه من الحكم
المذكور، ومقتضى اصطلاح المتأخرين طرح الرواية المذكورة لضعفها،
ويعضده مخالفتها للقواعد الشرعية والله العالم.
الرابع قال الشيخ في النهاية لو لم يأذن له في التجارة ولا في الاستدانة لا يلزم
المولى منه شئ، ولا يستسعى المملوك بل كان ضايعا، وقال ابن حمزة يكون ضايعا
إلا إذا بقي المال في يده، أو كان قد دفع إلى سيده.
وقال ابن إدريس: يتبع به بعد العتق وبه فسر قول الشيخ كان ضايعا، وهو اختيار
أبي الصلاح أيضا قال في المختلف: وهو المعتمد.
أقول: ظاهر الرواية الرابعة أنها من هذا القبيل، فإن قوله يشتري ويبيع
قد علم بذلك مولاه يشعر بأنه غير مأذون منه في شئ من الأمرين، وإنما رآه يشتري
ويبيع، ولم ينكر ذلك عليه، مع أنه حكم بأنه يستسعى فيما عليه، وظاهره الاستسعاء
220

في حياة المالك، وهو مشكل، لأن منافع العبد مملوكة للمالك، وكسبه له
فاستسعاؤه متفرع على ضمان المالك، مع أنه لا ضمان عليه، لعدم الإذن بالكلية،
فلا بد من حمل الاستسعاء على كونه بعد العتق، وحينئذ يكون الرواية دالة على
قول ابن إدريس، وهو الأوفق بالقواعد الشرعية.
الخامس: إذا اقترض المملوك مالا فأخذه المولى وتلف في يده تخير
المقرض في المطالبة للعبد أو المولى، وعلل بأن كلا منهما قد ثبت يده على المال،
فيتخير في الرجوع على من شاء منهما، فإن رجع على المولى قبل أن يعتق العبد لم
يرجع المولى على العبد وإن عتق، لاستقرار التلف في يده، ولأن المولى لا يثبت
له مال في ذمة عبده، وإن كان الرجوع على المولى بعد عتق العبد، فإن كان عنده
المال عالما بأنه قرض فلا رجوع له على العبد أيضا، وإن كان قد غره العبد بأن المال
له، ومن جملة أمواله وليس بقرض اتجه رجوعه على العبد، للغرور.
ولو رجع المقرض على العبد بعد عتقه ويساره فله الرجوع على المولى
لاستقرار التلف في يده، إلا أن يكون قد غر المولى، فلا رجوع عليه كما تقدم، كذا
قيل، وفي بعض المواضع منه تأمل، ومنها قوله لا يثبت له مال في ذمة عبده، فإن
الظاهر أنه مبني على أن العبد لا يملك، وإلا فمع القول بملكه وإن كان محجورا عليه
كما هو الأظهر، فإنه لا مانع من رجوعه عليه.
ومنها أنه إذا كان العبد مأذونا في الاقتراض وقلنا بملكه فإنه يكون المال
للعبد. قد ملكه بالاقتراض والقبض، فلا يجوز للمالك أخذه، ومقتضى ذلك رجوع
المقرض على العبد. لاستقرار المال في ذمته وملكه له، ورجوع العبد على سيده
لأنه غاصب.
ومنها إذا كان الاقتراض للمولى وكان عن إذنه فإنه لا رجوع للمولى على
العبد، وبالجملة فإن كلامهم هذا إنما يتم فيما إذا كمان القرض بغير إذن المولى،
سواء اقترضه لنفسه أو للمولى، فإن القرض يكون حينئذ باطلا فيلزمه لوازم القبض
بالعقد الفاسد والله العالم.
221

كتاب الرهن
والرهن لغة الثبوت والدوام، يقال: رهن الشئ رهونا: كقعد قعودا
إذا ثبت ودام، ومنه نعمة راهنة: أي دائمة ثابتة، قال في كتاب المصباح المنير:
ويتعدى بالألف فيقال أرهنته: إذا جعلته ثابتا، وإذا وجدته كذلك، ورهنته المتاع بالدين
رهنا حبسته به، فهو مرهون، والأصل مرهون بالدين، فحذف للعلم به، وأرهنته
بالدين بالألف لغة قليلة ومنعها الأكثرون. انتهى.
وبه يظهر ما في قوله في المسالك بعد نسبة المعنى الأول إلى اللغة، ويطلق
على الحبس بأي سبب كان، قال الله تعالى (1) " كل نفس بما كسبت رهينة " أي
محبوسة بما كسبته من خير وشر، وأخذ الرهن الشرعي من هذا المعنى أنسب،
فإن ظاهره أن المعنى اللغوي للفظ إنما هو الأول، وبه صرح غيره أيضا، وأن
الثاني إنما هو معنى مجازي يطلق عليه، ويستعمل فيه مع أن مقتضى كلام المصباح
أن الثاني أيضا معنى لغوي، فاستعماله شرعا في هذا المعنى هو أحد معنييه لغة.
والكلام في هذا الكتاب يجب بسطه في فصول: الفصل الأول في الرهن
وفيه مسائل، الأولى في الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول، ظاهر كلام
بعض الأصحاب الاكتفاء في الإيجاب بكل لفظ دل على الارتهان، كقوله رهنتك
أو هذا وثيقة عندك، وهذا رهن عندك زاد في الدروس أنه لو قال: خذه على مالك
أو بما لك فهو رهن.
أقول: في قوله خذه بمالك ما يوهم المعاوضة، ودخوله في قسم البيع، بناء
على عدم اشتراط الصيغة الخاصة، ووقوعه لكل ما دل على التراضي من الطرفين، فلا
ينبغي عده في سايق هذه الألفاظ.
وبالجملة فإنه يستفاد منه أنه أن الرهن لا يختص بلفظ. وربما ظهر من عباير جملة
منهم في التعبير عنه بأنه عقد، أنه يشترط فيه ما يشترط في العقود اللازمة من الإيجاب

(1) سورة المدثر الآية - 38.
222

والقبول باللفظ العربي على صيغة الماضي والمقارنة، وتقديم الإيجاب كما في غيره
من العقود اللازمة، لأنه المتبادر من لفظ العقد.
قيل: لعل دليله أن الأصل عدم الانعقاد وترتب أحكام الرهن الأعلى ما ثبت
كونه رهنا بالاجماع ونحوه والاجماع هنا غير ثابت، وكذا غيره
أقول: فيه ما عرفت مما تقدم في صدر الفصل الأول من كتاب البيع (1) من
عدم الدليل على ما ذكروه، واستفاضة الأخبار في العقود بخلاف ما اعتبروه، مضافا
إلى أصالة العدم، ويؤيده ما ذكره بعض المحققين من أن الرهن ليس على حد
العقود اللازمة، لأنه جايز من طرف المرتهن، فترجيح جانب اللزوم ولزوم
ما يعتبر في اللازم ترجيح من غير مرجح، وأما القبول فهو عبارة عن الرضا بذلك
الإيجاب، والقبول فيه كما تقدم في الإيجاب.
وقال في التذكرة: الخلاف في الاكتفاء بالمعاطاة والاستيجاب والايجاب
المذكور في البيع آت هنا، واعلم أن الرهن أما أن يكون مبتدأ متبرعا به، وهو الذي
لا يقع شرطا في عقد لازم، بل يقول الراهن: رهنت هذا الشئ عندك على الدين
الذي على، فيقول المرتهن: قبلت، وأما أن يقع شرطا في عقد لازم كبيع أو إجارة
أو نكاح أو غير ذلك، فيقول: بعتك هذا الشئ بشرط أن ترهنني عبدك، فيقول: اشتريت
ورهنت، أو زوجتك ابنتي على مهر قدره كذا، بشرط أن ترهنني دارك على المهر.
فيقول الزوج: قبلت ورهنت.
والقسم الأول لا بد فيه من الإيجاب والقبول عند من اشتراطهما ولم يكتف
بالمعاطاة.
وأما القسم الثاني فقد اختلفوا فيه؟ فقال بعض الشافعية: إذا قال البايع: بعتك
كذا بشرط أن ترهنني كذا، فقال المشتري: شريت ورهنت، لا بد وأن يقول البايع
بعد ذلك: قبلت الرهن، وكذا إذا قالت المرأة:، زوجتك نفسي بكذا بشرط أن

(1) ج 18 ص 355.
223

ترهنني كذا، فقال الزوج: قبلت النكاح ورهنتك كذا، فلا بد وأن تقول المرأة
بعد ذلك: قبلت الرهن. لأنه لم يوجد في الرهن سوى مجرد الإيجاب، وهو بمجرده
غير كاف في اتمام العقد.
وقال آخرون: إن وجود الشرط من البايع والزوجة، يقوم مقام القبول
لدلالته عليه انتهى. وظاهر نقله الخلاف في القسم الثاني من غير ترجيح شئ يؤذن
بالتوقف في ذلك، واحتمال الاكتفاء بالايجاب هنا.
وفيه اشكال كما أشار إليه بعض المحققين من أن مقتضى الشرط أنه
لا يقع البيع والتزويج إلا بعد الرهن، مع أن الرهن متأخر. ولأنه يلزم أن يرهن
على الثمن قبل اتمام الشراء ولزومه، ويتحقق الشراء قبل الرهن، مع أنه قد جوز
المعاطاة في البيع، فيجوز هنا أيضا بل بالطريق الأولى، فيحتمل الاكتفاء بها، وعدم
اشتراط الإيجاب والقبول انتهى وهو جيد.
قالوا ولو عجز من النطق كفت الإشارة، ولو كتبه والحال هذه وعرف ذلك
من قصده جاز، وقيد بعضهم الإشارة أيضا بأنه لا بد أن تكون مفهمة للمقصود،
وهو كذلك.
وبالجملة فإنه كما يعتبر في اللفظ افهام المقصود، كذلك يعتبر فيما قام مقامه
مع تعذره، ولهذا مال بعض المحققين إلى الاكتفاء بالإشارة والكتابة المفهمين،
وإن كان مع القدرة على اللفظ، لأن الغرض فهم ذلك، فحيثما وجد كفى.
المسألة الثانية اختلف الأصحاب في أن قبض الرهن شرط في الرهن أم لا؟
وبالأول قال الشيخ في النهاية، والشيخ المفيد، وابن الجنيد، وأبو الصلاح، وابن
البراج، وسلار وأبو منصور الطبرسي، وابن حمزة، والمحقق في الشرايع،
والشهيد في الدروس، وكتاب النكت واللمعة.
وبالثاني قال في الخلاف، فإنه صرح بأنه يلزم بالايجاب والقبول
خاصة، وبه قال ابن إدريس، والعلامة في المختلف، وهو ظاهر شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك، واختلف كلامه في المبسوط، ففي كتاب الرهن كما في النهاية
224

وقال فيه أيضا كما قال في الخلاف في فصل بيع الخيار: الأحوط أن نقول إن الرهن
من قبل الرهن بالقول، ويلزمه اقباضه.
احتج الأولون بقوله عز وجل (1) " فرهان مقبوضة " والتقريب فيها أنه سبحانه
أمر بالرهن المقبوض فلا يتحقق المطلوب شرعا بدونه، كما اشترط التراضي في
التجارة، والعدالة في الشهادة، حيث قرنا بهما وبما رواه الشيخ في الموثق عن محمد
بن قيس (2) عن أبي جعفر عليه السلام، " قال: لا رهن إلا مقبوضا " (3).
أقول: وروى العياشي في تفسيره أيضا عن محمد بن عيسى (4) عن أبي جعفر
عليه السلام: " قال: لا رهن إلا مقبوضا ".
أجاب العلامة في المختلف أما عن الآية فبأنها إنما تدل من حيث دليل الخطاب
وليس حجة عند المحققين، ثم قال: على أنا نقول: دليلنا، أما أولا فلأن القبض
لو كان شرطا كالايجاب والقبول لكان قوله تعالى " مقبوضة " تكرارا لا فايدة تحته،
وكما لا يحسن أن يقول: مقبولة، كذا كان يحسن أن لا يقول: مقبوضة وأما ثانيا
فلأن الآية سيقت لبيان الإرشاد إلى حفظ المال، وذلك إنما يتم بالاقباض كما أنه
لا يتم إلا بالارتهان (5) فالاحتياط يقتضي القبض كما يقتضي الرهن، وكما أن الرهن
ليس شرطا في الدين، فكذا القبض ليس شرطا في الرهن، ثم أجاب عن الرواية
بضعف السند مع أنها مشتملة على اضمار، فلا تبقى حجة انتهى.

(1) سورة البقرة الآية - 283.
(2) التهذيب ج 7 ص 176.
(3) هذه الرواية رواها في المسالك ونقله العلامة في التذكرة عن الصادق عليه السلام
والذي في التهذيب إنما هو عن باقر عليه السلام كما نقلناه في الأصل - منه رحمه الله
(4) الوسائل الباب 3 من أبواب الرهن الرقم - 2.
(5) ويعضده أن الآية قد اشتملت أيضا على السفر وعلى عدم وجود الكتاب
وهما غير شرط في الرهن اتفاقا، فيكون القبض كذلك كما هو ظاهر - منه رحمه الله.
225

وأجاب الشهيد في نكت الإرشاد عن ذلك، قال: والجواب إن الآية دلت
على شرعية الرهن مع القبض، فإذا لم يقبض كان منفيا بالأصل، لا بدليل الخطاب،
وحفظ المال واجب فيجب مقدمة، والحديث متلقى بالقبول، فلا يضره ضعف
سنده والاضمار بالصحة أولى، ولا تكرار في قوله " مقبوضة " لأن اللغوي صادق فيصير
شرعيا بالقبض انتهى.
ويمكن تطرق المناقشة إليه يخرجه عن الاعتماد عليه، أما قوله إن الآية
دلت على شرعية الرهن مع القبض إلى آخر دليله ففيه أن صدق الرهن
وتحقق عقد بدون القبض الموجب لدخوله تحت قوله " أوفوا بالعقود " " والمؤمنون
عند شروطهم " مما يمنع ذلك، ويعضده اطلاق الأخبار الواردة في جملة من
أحكام الرهن التي لا تكاد تحصى كثرة، كما ستمر بك انشاء الله تعالى فإنها كلها
اشتملت على ذكر الرهن من غير تقييد بالقبض، فلو كان شرطا كما هو المدعى
لم يحسن ذلك، بل يجب التفصيل، وقد تقرر في كلامهم أن عدم التفصيل دليل
على العموم.
وأما قوله إن حفظ المال واجب فيجب مقدمة، ففيه أنه لا قائل بوجوب أخذ
الرهن، فالوجوب هنا غير ظاهر.
وأما قوله: إن الحديث متلقى بالقبول، ففيه أنه وإن كان كذلك إلا أن
الدلالة غير صريحة، بل ولا ظاهرة، ودعوى أولوية ترجيح اضمار الصحة
لا دليل عليها.
وأما قوله لا تكرار في قوله " مقبوضة " إلى آخره ففيه أنه متى وجد المعنى
الشرعي فمقتضى القاعدة الحمل عليه، وانصراف معنى اللفظ إليه، على أن الوصف
بالقبض لا يناسب المعنى اللغوي عندهم الذي هو الثبوت والدوام، إلا أن يكون
بمعنى المرهون.
وأما ما أجاب به هنا في المسالك من أن الصفة قد يكون للكشف، ففيه
أن الأصل في الوصف عدم كونه كذلك، لما تقرر من " أن التأسيس خير من
226

التأكيد " كما هو مشهور في كلامهم، وبالجملة فالمسألة لما عرفت محل اشكال
والله العالم.
بقي الكلام هنا في شيئين: أحدهما في تعيين محل الخلاف في المسألة، وأن
شرطية القبض هل هي في الصحة، أو اللزوم؟ قد اضطرب في ذلك كلامهم، فظاهر
جملة منهم أن محل الخلاف نفيا واثباتا إنما هو في كونه شرطا في الصحة، فالقائل بشرطيته يحكم بكون الرهن بدونه باطلا، القائل بكونه شرطا في اللزوم
يحكم بالجواز
فمن ظاهره الأول العلامة في الإرشاد والقواعد، الشهيد في نكت الإرشاد
والمحقق الثاني في شرح القواعد، والشهيد في الدروس، وفرع عليه فروعا كثيرة
قال: في كتاب نكت الإرشاد بعد قول المصنف ولا يفتقر إلى القبض: هذا
قول الشيخ في الخلاف إلى أن قال: وذهب الشيخ في النهاية وموضع من المبسوط
إلى أن القبض شرط في صحته، وهو مذهب المفيد وابن الجنيد إلى آخره وهو كما
ترى ظاهر فيما قلناه.
وممن ظاهره الثاني العلامة في التذكرة حيث قال: اختلف علماؤنا في القبض
هل هو شرط في لزوم الرهن أولا على قولين: إلى آخره، ثم ذكر جملة من الفروع
المرتبة على ذلك.
ومنهم الشهيد الثاني في المسالك حيث قال: اختلف أصحابنا في اشتراط
القبض في الرهن بمعنى كونه جزء لسبب لزومه من قبل الرهن، كالقبض في الهبة
في كونه كذلك بالنسبة إلى ملك المتهب وعدمه، وهو أيضا كالأول، ظاهر فيما
قلناه.
ومن هنا قال بعض المحققين: إنه يمكن أن تكون المذاهب ثلاثة، أحدها.
عدم اشتراط القبض بوجه، وثانيها اشتراطه في الصحة، وثالثها اشتراطه في
اللزوم فقط، كما في الهبة، فإنه نقل فيها في الدروس ثلاثة أقوال، مثل ما قلناه
هنا، وإن قال في شرح الشرايع بعد تقرير الخلاف في لزوم الرهن من جانب
227

الراهن، كالقبض في الهبة، وهو مشعر بكون الخلاف في الهبة أيضا في اللزوم وعدمه
والظاهر أنه ليس كذلك، ولهذا قال في القواعد وغيره: لو مات الواهب بطلت
الهبة، ولهذا يحصل الجمع بين كلام القوم انتهى وهو جيد.
وثانيهما أنه قد صرح في المسالك بأن اطلاق الشرطية على القبض إنما
هو بطريق المجاز، لأن الشرط مقدم على المشروط في الوجود، وهنا لا يعتبر تقدمه
اجماعا، فكونه جزء من السبب أنسب، وقيل عليه: إن الظاهر أن المراد بالشرط
هنا إنما هو الأمر الذي لا بد من حصوله، لحصول المشروط، لا الخارج المقدم على
المشروط الذي يجب حصوله قبله، وهو اطلاق شايع خصوصا عند الفقهاء في
مثل هذا الباب وهو جيد.
فروع
الأول لو قبض المرتهن الرهن بغير إذن الراهن، فإن قلنا: بأن القبض شرط
في الصحة كان عقد الرهن باطلا، لأن القبض على هذا الوجه كلا قبض، وإن قلنا: أنه
شرط في اللزوم كان العقد صحيحا غير لازم.
ويمكن التفصيل بناء على الأول بأنه إن كان قبضه بغير إذنه من حيث امتناع
الراهن من الاقباض، فالظاهر أنه لا وجه للبطلان، لأنه من قبيل الحقوق المستحقة
عليه، فإذا أخل بدفعها جاز لصاحب الحق التوصل إلى أخذ حقه وإن كان لا كذلك
فما ذكروه صحيح والله العالم.
الثاني لو عرض للراهن الجنون أو الاغماء أو الموت بعد العقد وقبل القبض،
وقلنا: باشتراط القبض كما هو المشهور، فإن قلنا: بكون القبض شرطا في
الصحة فإنه يبطل العقد من أصله، وبذلك صرح في القواعد والدروس تفريعا
على ما اختاراه من كون القبض شرطا في الصحة كما تقدم نقله عنهما.
وإن قلنا بكونه شرطا في اللزوم كان العقد صحيحا، وبه قطع في التذكرة
تفريعا على ما اختاره فيما من كون القبض شرطا في اللزوم، كما تقدم نقله عنه، فعلى
228

الثاني يقوم الولي مقام الراهن في استحقاق الاقباض، لكن ولي المجنون يراعي
مصلحته في ذلك، فإن رأى أن المصلحة في الاقباض كما إذا كان في بيع يتضرر بفسخه
أو نحو ذلك من المصالح التي يقتضيها الحال أقبضه، وإلا فلا.
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المسالك في هذا المقام، حيث أنه
فرع البطلان وعدمه على القول بكون القبض شرطا في اللزوم، كما اختاره وغفل
عن الخلاف الذي قدمنا ذكره من أن جملة منهم إنما جعله شرطا في الصحة، وآخرين
في اللزوم، والصحة والبطلان هنا إنما تفرعا على ذلك كما أوضحناه، ولو كان
عروض أحد هذه الأشياء المتقدمة للمرتهن قبل قبضه.
فالظاهر أن العقد صحيح على كل من القولين المتقدمين، وينتقل حق القبض
إلى الولي، ولهذا أنه في الدروس مع قوله بالبطلان بموت الراهن أو جنونه قال: بالصحة
هنا (1) ووجه ذلك هو الفرق بين المقامين، فإنه في صورة موت الراهن قبل الاقباض
تعلق حقا لورثة والديان به، فلا يستأثر به أحد، بخلاف موت المرتهن فإن الدين باق
فتبقى وثيقة لعدم المنافي، هذا كله على تقدير القول باشتراط القبض (2) وأما على القول

(1) قال في الدروس: لو مات الراهن أو جن بطل، وفي المبسوط إذا جن الراهن
أو أغمي عليه أو رجع قبل القبض، قبض المرتهن لأن العقد أو جب القبض، وهذا
يشعر بأن القبض ليس بشرط، وإن كان للمرتهن طلبه ليتوثق به، ولو مات المرتهن انتقل
حق القبض إلى وارثه، والفرق تعلق حق الورثة والديان بعد موت الراهن به فلا
يستأثر به أحد، بخلاف موت المرتهن فإن الدين باق فتبقى وثيقته، ويحتمل البطلان
فيها لأنه من العقود الجائزة قبل القبض والصحة فيهما وفاقا للقاضي والمبسوط
والفاضل إلى آخره كلامه منه رحمه الله.
(2) أما على القول بالصحة بناء على أن القبض شرط في اللزوم فظاهر وأما
على القول بالبطلان بناء على أن القبض شرط في الصحة فللفرق المذكور في الأصل،
وتوضيحه أنه بموت الراهن قبل الاقباض مع كون القبض شرطا في الصحة يتعلق
حق الورثة والديان بالرهن، ولا ترجيح لأحدهما بعد الحكم بالبطلان، أما على
تقدير موت المرتهن فإن دينه باق، ووثيقته تقتضي عقد الرهن باقية على مقتضاه
ولم يبق إلا حق قبضه، حيت مات قبة، فلذا الحق ينتقل إلى وليه ويقوم مقام الميت
في القبض ولا يبطل الرهن بذلك وهو ظاهر منه رحمه الله.
229

الآخر فلا أثر لهذا البحث ولا لما قبله لحكم هذا القائل بصحة العقد ولزومه قبل
القبض فلا تؤثر فيه هذه العوارض والله العالم.
الثالث قد صرحوا بأنه ليس استدامة القبض شرطا، فلو عاد إلى الراهن
أو تصرف فيه لم يخرج عن الرهانة، وظاهرهم أنه موضع وفاق، بل نقل عن
التذكرة دعوى الاجماع عليه (1).
الرابع لو رهن ما في يد المرتهن قبل الرهن، فإن كان بعارية أو وديعة أو إجارة
ونحو ذلك مما كان قبضا مأذونا فيه شرعا، فالظاهر أنه لا خلاف في الصحة، لأن المعتبر
تحقق القبض وهو حاصل، ولو بالاستصحاب، فإن استدامة القبض قبض حقيقة،
فيصدق عليه أنه رهن مقبوض، وأما أنه يشترط كون القبض واقعا ابتداء بعد الرهانة،
فلا دليل عليه، وحينئذ فلا فرق بين السابق والمقارن.
وإن كان قبضا غير مأذون فيه شرعا كقبض الغاصب، والمستام، والمشتري
فاسدا، فقد أطلق الأكثر الاكتفاء به أيضا، لما تقدم من الدليل، ولأنه متى اشترط
القبض في الرهن كان مستحقا على الراهن، فإذا كان في يد المرتهن وصل إلى حقه
وعلى تقدير كون القبض منهيا عنه لا يقدح هنا، لأن النهي في غير العبادة لا يقتضي
الفساد.
وقيل: بعدم الاكتفاء به، ولأن القبض على تقدير اشتراطه ركن من أركان
العقد من الجهة التي تعتبر لأجلها وهو اللزوم، ولهذا أوجبوا عليه الاقباض لو كان
الرهن مشروطا عليه، وإذا وقع منهيا عنه لا يعتد به شرعا، وإنما لا يقتضي النهي

(1) أي كونه في يده يأخذ هذه الأشياء منه رحمه الله.
230

الفساد في مثل ذلك حيث تكمل أركان العقد، مع أنهم قطعوا بأنه لو قبض بلا إذن
الراهن لم يعتد به، فلو كان مطلق القبض كافيا، لزم مثله في ذلك القبض المبتدأ بغير
إذن الراهن، ونمنع استحقاقه على الراهن بمجرد الصيغة.
أقول: والمسألة لما كانت عارية عن النص تطرق إليها الاشكال، إلا أنه يمكن
أن يقال: إن المقبوض بيد أحد هؤلاء المذكورين وإن كان قبل الرهن غير
مأذون فيه شرعا وهو منهي عنه، إلا أنه بعد عقد الرهن وحصول الرضا من الراهن
ببقائه في يد المرتهن من أحد هؤلاء لا مانع من ذلك، وأما القياس على القبض بغير
إذن الراهن فهو قياس معا الفارق إذ المفروض هنا كما ذكرنا هو رضا الراهن ببقائه رهنا
عند أحد هؤلاء وإذنه في ذلك، وكونه سابقا مقبوضا بغير وجه شرعي لا يمنع من
ذلك مع تجدد الرضا والإذن أخيرا، بخلاف المقبوض بعد الرهن بغير إذن على
ما تقدم من التفصيل فيه.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قطع باشتراط الإذن ومضى زمان يمكن
فيه تجدد القبض هنا، قال في المسالك: وهو متجه، بل ربما قيل: باشتراطهما في
المقبوض صحيحا ثم أطال في بيان تعليل ذلك بعلل عليلة.
أقول: أما اشتراط الإذن فلا ريب أن قرينة المقام شاهدة به، لأنه مع
جعله رهنا، والعلم باشتراط القبض في الرهن لا يتجه ولا يتم إلا مع الرضا والإذن
في القبض، وإلا فكيف يجعله رهنا يجب عليه اقباضه للمرتهن، مع عدم الرضا والإذن
في قبضه، ولا ريب أنه وإن كان مقبوضا سابقا على غير وجه شرعي، إلا أنه بعد جعله
رهنا صار الأمر على خلاف ما كان سابقا، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا خفاء عليه.
وأما اشتراط مضي زمان يمكن فيه تجدد القبض فلا وجه له وما علل به مما
طوينا نقله لا يخفى ما فيه على من راجعه.
الخامس لو رهن ما هو غائب وقنا باشتراط القبض، فلا بد من حضور المرتهن
أو وكيله عند الرهن وقبضه، وأنه لا يصير هنا صحيحا أو لازما بناء على القولين
المتقدمين إلا بذلك.
231

والمعتبر في القبض ما تقدم في كتاب البيع من اعتباره في كل بما يناسبه من
النقل في المنقولات، والكيل والوزن في المكيلات والموزونات، والتخلية
فيما لا يكون كذلك حسبما تقدم تحقيقه.
وبالجملة فإن القبض هنا كالقبض في البيع، فيجمع ما تقدم آت هنا، ولو قلنا
بعد اشتراط القبض سقط البحث.
السادس قالوا: لو أقر الراهن بالاقباض قضى عليه به، إذا لم يعلم كذبه
ولو رجع لم يقبل رجوعه وتسمع دعواه لو ادعى المواطاة على الاشهاد، فيتوجه
اليمين على المرتهن على الأشبه.
أقول: أما القضاء عليه باقراره فظاهر، لما ورد من أن " اقرار العقلاء على
أنفسهم جائز (1) " وأما عدم ذلك مع علم كذبه فظاهر أيضا، كما لو قال: رهنته
اليوم داري التي بالحجاز وأقبضته إياها مع كونهما في الشام مثلا فإنه لا يسمع، لأنه
محال عادة، وقد عرفت أن شرطه وصول المرتهن أو وكيله إلى موضع الرهن
وقبضه.
وأما أنه لو رجع عن اقراره بالاقباض لم يقبل رجوعه، فلأنه باقراره أولا
دخل تحت مضمون الخبر المتقدم فيجب إلزامه والحكم عليه، ولا تسمع دعواه، بحيث
تتوجه على المرتهن اليمين.
نعم لو ادعى الغلط في اقراره وأظهر تأويلا ممكنا في حقه كما لو قال استندت
فيه إلى كتاب كتبه وكيلي فظهر مزورا ونحو ذلك فإن الظاهر سماع دعواه، بمعنى
توجيه اليمين على المرتهن بأن القبض حقيقي، أو على نفي ما يدعيه الراهن، لأن
الأصل صحة الاقرار ومطابقته للواقع.
واستقرب العلامة في التذكرة توجه اليمين له على المرتهن وإن لم يظهر
تأويلا، محتجا بأن الغالب في الوثائق كون الشهادة قبل تحقق ما فيها، فلا حاجة

(1) الوسائل الباب 3 - من أبواب الاقرار - الرقم 2.
232

إلى تلفظه به.
وأما لو ادعى المواطات في الاشهاد إقامة لرسم الوثيقة أي لأجل كتابتها
والشهادة عليه حذرا من تعذر ذلك إذا تأخر إلى أن يتحقق القبض، فالأقوى أنها
مسموعة، بمعنى توجه اليمين بها كما على المرتهن أيضا، حسبما تقدم، لجريان
العادة بوقوع مثل ذلك، وقيل: إنه يحتمل عدم السماع لأنه مكذب لإقراره الأول.
وينبغي أن يعلم أن سماع دعواه إنما يتم لو شهد الشاهدان على اقراره، فادعى
الغلط أو المواطاة كما تقدم، أما لو شهدا على نفس الاقباض وفعله لم تسمع دعواه،
لتضمنها تكذيب الشاهدين، بخلاف الشهادة على الاقرار، فإنها لا تنافي دعواه
بأحد الوجهين المذكورين، وعلى هذا فلا يثبت على المرتهن باليمين لو وقعت الشهادة
على نفس الاقباض، وكذا لو شهدا على اقراره بالاقباض فأنكر الاقرار، فإنه لا يلتفت
إلى انكاره، لما تقدم من استلزامه تكذيب الشاهدين.
السابع لو رهن ما هو مشترك بينه وبين غيره على سبيل الإشاعة. فإن كان
مما ينقل ويحول فإنه لا يجوز الاقباض إلا بإذن الشريك، لاستلزامه التصرف في مال
الغير بغير إذنه، فلو أقبضه والحال هذه فعل محرما.
وهل يحصل الاقباض بذلك ويتم شرط الرهن أم لا قولان: ثانيهما للشهيد
(رحمة الله عليه) لأنه كما لو قبضه بدون إذن المرتهن، وأولهما للعلامة وجماعة
ووجهه أن النهي إنما هو من حيث حق الشريك فقط، وإلا فالإذن حاصل من الراهن
بالنسبة إلى حقه، واشتمال المقبوض على حق الراهن وغيره لا يمنع من تحقق القبض
لحق الراهن الذي هو شرط في صحة الرهن على القول به، وإن فعل محرما بالتصرف
في حق الغير، وهذا القول بحسب الاعتبار أقوى.
وإن كان مما لا ينقل ولا يحول فإن ظاهر المحقق في الشرايع الحاق ذلك
بالصورة الأولى في اشتراط الإذن، حيث قال: ولا يجوز تسليم المشاع إلا برضاء
شريكه، سواء كان مما ينقل أو لا ينقل على الأشبه.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك العدم، حيث قال: وأما ما يكفي
233

فيه مجرد التخلية ففي اشتراط إذنه نظر، أقربه العدم، لأن الغرض مجرد رفع يد
الراهن وتمكين المرتهن من قبضه، وهو لا يستدعي تصرفا في ملك الغير انتهى
وهو جيد.
المسألة الثالثة المشهور بل ادعى عليه الشيخ الاجماع أن الرهن أمانة
في يد المرتهن، لا يضمن إلا مع التفريط، فلا يسقط بتلفه شئ مع عدم التفريط.
ويدل عليه جملة من الأخبار منها ما رواه في الفقيه في الصحيح عن جميل
بن دراج (1) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام في رجل رهن عند رجل رهنا فضاع الرهن
قال: هو من مال الراهن، ويرجع المرتهن عليه بماله ".
وعن أبان بن عثمان (2) " عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل رهن عند رجل
دارا فاحترقت أو انهدمت؟ قال: يكون ماله في تربة الأرض، وقال في رجل رهن
عنده مملوك فجذم أو رهن عنده متاع فلم ينشر المتاع، ولم يتعاهده ولم يتحركه
فتأكل هل ينقص من ماله بقدر ذلك؟ فقال: لا ".
وفي الصحيح أو الحسن عن الحلبي (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " في الرجل يرهن
الرهن عند الرجل فيصيبه شئ أو يضيع قال: رجع بماله عليه ".
وعن عبيد بن زرارة (4) " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل رهن سوارين
فهلك أحدهما قال: يرجع عليه بحقه فيما بقي، وقال في رجل رهن عند رجل دارا
فاحترقت " الحديث كما تقدم في مرسلة أبان بأدنى تفاوت، وفيه " فأكل " يعني
أكله السوس.
وفي الصحيح عن الفضيل بن عبد الملك (5) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته عن
رجل رهن عنده آخر عبدين فهلك أحدهما أيكون حقه في الآخر؟ قال: نعم،

(1) الفقيه ج 3 ص 195.
(2) التهذيب ج 7 ص 171 و 170.
(3) التهذيب ج 7 ص 171 و 170.
(4) التهذيب ج 7 ص 170.
(5) الفقيه ج 3 ص 199.
234

قلت: أو دارا فاحترقت أيكون حقه في التربة؟ قال: نعم، أو دابتين فهلكت إحداهما
أيكون حقه في الأخرى؟ قال: نعم، قلت: أو متاعا فهلك من طول ما تركه، أو طعاما
ففسد أو غلاما فأصابه جدري فعمي أو ثيابا تركها مطوية لم يتعاهد ها ولم ينشرها حتى
هلكت؟ قال: هذا نحو واحد يكون حقه عليه ".
وعن أبان (1) عن رجل " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته كيف يكون الرهن بما
فيه إن كان حيوانا أو دابة أو ذهبا أو فضة أو متاعا فأصابته جايحة حريق أو لص فهلك
ماله أو نقص متاعه، وليس له على مصيبته بينة، قال: إذا ذهب متاعه كله فلم يوجد
له شئ فلا شئ عليه، وإن قال: ذهب من بيتي مالي وله مال فلا يصدق ".
وعن إسحاق بن عمار (2) في الموثق " عن أبي إبراهيم عليه السلام،
قال: قلت له: الرجل يرتهن العبد فيصيبه عور أو ينقص من جسده شئ على من
يكون نقصان ذلك؟ قال: على مولاه، قال: قلت: أن الناس يقولون إن رهنت
العبد فمرض أو انفقأت عينه فأصابه نقصان في جسده ينقص من مال الرجل بقدر ما
ينقص من العبد، قال أرأيت لو أن العبد قتل قتيلا على من يكون جنايته؟ قال:
جنايته في عنقه ".
وعن إسحاق بن عمار (3) أيضا في الموثق " قال: قلت: لأبي إبراهيم
عليه السلام الرجل يرهن الغلام أو الدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال: على
مولاه، ثم قال: أرأيت لو قتل هذا قتيلا على من يكون؟ قلت: هو في عنق العبد،
قال: ألا ترى فلم يذهب من مال هذا؟ ثم قال: أرأيت لو كان ثمنه مئة دينار فزاد
وبلغ مأتي دينار لمن كأن يكون؟ قلت: لمولاه، قال: وكذلك يكون عليه
ما يكون له ".

(1) التهذيب ج 7 ص 173 الفقيه ج 3 ص 198.
(2) الفقيه ج 3 ص 195.
(3) الكافي ج 5 ص 234 التهذيب ج 7 ص 172.
235

إلا أن بإزاء هذه الأخبار أيضا ما يدل على خلاف ما دلت عليه وهو وجوب
الضمان على المرتهن.
ومنها ما رواه في الفقيه عن محمد بن قيس (1) في الصحيح عن أبي جعفر
عليه السلام " قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام إذا كان الرهن أكثر من مال
المرتهن فهلك أن يؤدى الفضل إلى صاحب الرهن، وإن كان أقل من ماله فهلك
الرهن أدى إلى صاحبه فضل ماله، وإن كان الرهن يسوى ما رهنه فليس عليه
شئ ".
وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن بكير (2) في الموثق " قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن الرهن؟ فقال: إن كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن
يؤدى الفضل إلى صاحب الرهن، وإن كان أقل من ماله فهلك الرهن أدى إليه صاحبه
فضل ماله، وإن كان سواء فليس عليه شئ ".
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي حمزه " قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول علي عليه السلام في الرهن يترادان الفضل؟ قال: كان علي عليه السلام يقول: ذلك، قلت: كيف يترادان الفضل؟ فقال: إن كان الرهن أفضل مما
رهن به ثم عطب رد المرتهن على صاحبه، وإن كان لا يساوي رد الراهن ما نقص
من حق المرتهن، قال: وكذلك كان قول علي عليه السلام في الحيوان وغير
ذلك ".
وما رواه المشايخ الثلاثة عن إسحاق (4) " قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام
عن الرجل يرهن بمئة درهم وهو يساوي ثلاثمائة درهم فهلك، أعلى الرجل أن
يرد على صاحبه مائتي درهم؟ قال: نعم لأنه أخذ رهنا فيه فضل وضيعه، قلت:

الفقيه ج 3 ص 199.
(2) الكافي ج 5 ص 234 التهذيب ج 7 ص 171
(3) الكافي ج 5 ص 234.
(4) التهذيب ج 7 ص 182 الكافي ج 5 ص 234 الفقيه ج 3 ص 199.
236

فهلك نصف الرهن فقال: على حساب ذلك " وزاد في الكافي والفقيه " قلت:
فيترادان الفضل قال: نعم ".
وما رواه في الفقيه عن محمد بن حسان عن أبي حمران الأرمني (1) عن أبي
عليه السلام عليه السلام " قال: سألته عن رجل رهن عند رجل على ألف درهم، والرهن يساوي
ألفين فضاع فقال: يرجع عليه بفضل ما رهنه، وإن كان أنقص مما رهنه عليه رجع
على الراهن بالفضل، وإن كان الرهن يساوي ما رهنه عليه فالرهن بما فيه " قيل:
ويعني قوله " والرهن بما فيه " أنه يحسب الرهن من دينه ويرجع بالباقي.
أقول: وهو معنى صحيح في حد ذاته، إلا أنه بعيد عن ظاهر اللفظ المذكور
وجمع الشيخ (رحمة الله عليه) بين هذا الأخبار بحمل الأخبار الأولة على عدم
التفريط، والأخيرة على التفريط استنادا إلى ما رواه في الكافي عن أبان (2) عمن
أخبره عن أبي عبد الله عليه السلام وفي الفقيه والتهذيب عن أبان عن أبي عبد الله
عليه السلام " أنه قال في الرهن إذا ضاع عند المرتهن من غير أن يستهلكه: رجع في حقه
على الراهن فأخذه فإن استهلكه ترادا الفضل فيما بينهما ".
أقول: ويشير إلى ذلك أيضا قوله عليه السلام، في رواية إسحاق الأخيرة " لأنه
أخذ رهنا فيه فضل وضيعة ".
وعلى ذلك أيضا يحمل ما رواه الشيخ في التهذيب عن سليمان بن خالد (3)
عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: إذا ارتهنت عبدا أو دابة فماتا فلا شئ عليك، وإن هلكت
الدابة أو أبق الغلام فأنت ضامن ".
فإنه لا بد من حمل هلاك الدابة وإباق الغلام على التفريط، وإلا يحصل
التنافي بين صدر الخبر وعجزه.

(1) الفقيه ج 3 ص 196.
(2) الكافي ج 5 ص 234 التهذيب ج 7 ص 172 الفقيه ج 3 ص 196.
(3) التهذيب ج 7 ص 173 الكافي ج 5 ص 236.
237

قال الشيخ بعد نقل الخبر المذكور المعنى فيه أن يكون سبب هلاكها
أو سبب إباق الغلام شيئا من جهة المرتهن، فأما إذا لم يكن كذلك فلا يلزمه شئ،
وكان حكمه حكم الموت سواء انتهى.
واحتمل بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين حمل الأخبار
الأخيرة على التقية، قال: فقد روى العامة عن الشعبي وشريح والحسن (1) ذهبت
الرهانة بما فيها ويدل عليه خبر أبان أيضا انتهى.
أقول نقل العلامة في التذكرة القول بما عليه الأصحاب عن عطا، والزهري،
والأوزاعي والشافعي، وأبي ثور وأحمد وابن المنذر، ونقل عن شريح والنخعي،
والحسن البصري، أن الرهن يضمن بجميع الدين، وإن كان أكثر من قيمته،
ونقل عن الثوري وأصحاب الرأي أنه يضمنه المرتهن بأقل الأمرين من قيمته أو
قدر الدين، فإن كانت قيمته أقل سقط بتلفه من الدين قدر قيمته، وإلا سقط الدين،
فلا يضمن الزيادة انتهى.
وأنت خبير بأن ثبوت التقية إنما يتم على قول شريح ومن معه، وهو أشد
الأقوال الثلاثة فإن ظاهر المشهور عندهم موافق لما عليه الأصحاب، وقول أبي حنيفة وأتباعه وهم المشار إليهم بأصحاب الرأي لا ينطبق عليه الأخبار المذكورة،
لأنها دلت على أن المرتهن يضمن الزيادة لو كان الرهن أكثر، وهم ينفون ذلك،
والحمل على التقية باعتبار هؤلاء الثلاثة بعيد.
إلا أنه ربما يمكن تأييده بما تقدم في موثقة إسحاق بن عمار من قوله، " قال:
قلت: أن الناس يقولون: إن رهنت العبد فمرض أو انفقأ عينه فأصابه نقصان في
جسده ينقص من مال الرجل بقد ما ينقص من العبد ".
ويؤيده أن جل الاختلاف في الأخبار إنما نشأ من التقية، ولا ينافيه التفصيل
الذي دلت عليه مرسلة أبان المتقدمة ونحوها، فإنه يجوز أن يكون الحكم الشرعي
هو التفصيل الذي دلت، وإن كان اطلاق هذه الأخبار إنما خرج مخرج التقية.

(1) سنن البيهقي ج 6 ص 39.
238

وأما قول شيخنا المشار إليه ويدل عليه خبر أبان أيضا فلا أعرف له وجها، فإن
خبر أبان دل على التفصيل بالتفريط وعدمه، كما هو المعمول عليه بين الأصحاب،
ولا دلالة فيه على أزيد من ذلك.
بقي الاشكال فيما قدمنا من الأخبار في مقامين، أحدهما: ما دل عليه جملة منها
كصحيحة الفضل بن عبد الملك ورواية عبيد بن زرارة، ومرسلة أبان من عدم ضمان
المتاع إذا لم ينشره ولم يتعاهده، لم يتحركه حتى تأكل وهلك، وإن كان بذلك
أفتى الصدوق في المقنع، فقال: إن رهن عنده متاعا فلم ينشر المتاع، ولم يخرجه
ولم يتعهده، ففسد فإن ذلك لا ينقص من ماله شيئا انتهى وهو مشكل.
فإنك قد عرفت أن الرهن في يده أمانة مضمونة مع التفريط، ومن الظاهر أن
ترك المتاع الذي يتوقف حفظه وسلامته على النشر والتعاهد بغير نشر ولا تعاهد تفريط
، ولهذا قال العلامة في المختلف بعد نقل عبارة المقنع: والأقرب أن على المرتهن
الضمان، لأن ترك نشر الثوب المفتقر إلى نشره يكون تفريطا، والمفرط ضامن انتهى.
وكأنه (قدس سره) لم يخطر بباله الأخبار المذكورة التي هي مستند الصدوق
في هذه الفتوى، وإلا لكان الواجب عليه الجواب عنها، ويمكن وإن بعد حملها
على عدم علمه بوصول الضرر إلى المتاع مع بقائه على تلك الحال.
وثانيهما: ما دلت عليه مرسلة أبان الثانية من عدم تصديق المرتهن إذا ادعى
ذهاب الرهن وحده، فإنه مخالف لمقتضى القواعد المعمول عليه بين الأصحاب
أيضا، حيث أن المرتهن أمين كما عرفت، والأمين مصدق بيمينه.
وبمضمون هذه الرواية أفتى ابن الجنيد، فقال: والمرتهن يصدق في ضياع
الرهن إذا كانت جايحة ظاهرة، أو إذا ذهب متاعه، والمرهون فإن ادعى ذهاب
الرهن وحده لم يصدق.
ورده العلامة في المختلف بما ذكرناه، فقال: لنا إنه أمين والقول قوله مع
اليمين، ونقل عنه الاحتجاج بأن دعواه ذهاب الرهن بخصوصه خلاف الظاهر
وبالرواية، ثم رد الأول بالمنع، والرواية بالارسال، وأن في أبان قولا، وهذا الجواب
239

عندنا غير حاسم لمادة الاشكال، ولا يحضرني الآن وجه تحمل الرواية عليه، إلا
أن يكون للتقية، ويمكن تأييده بذهاب ابن الجنيد الموافق للعامة غالبا في كثير من
فتاويه إلى ذلك، والله العالم.
المسألة الرابعة: المشهور بين الأصحاب أن فوايد الرهن وزوايده المتجددة
بعد الرهن إن كانت منفصلة كالولد والثمرة بعد الجذاذ أو يقبل الانفصال كالشعر
والصوف والثمرة قبل الجذاذ، فإنها تدخل في الرهن، وبه قال الشيخ في النهاية
والشيخ المفيد وابن الجنيد وأبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس
مدعيا عليه الاجماع، وقبله المرتضى على ما نقله عنه في الكفاية.
وأما المتصلة اتصالا لا يقبل الانفصال كالسمن والطول فإنه لا خلاف بينهم
في دخولها، وإنما الخلاف فيما عداه مما ذكرناه، فإنه قد ذهب الشيخ في الخلاف
والمبسوط إلى عدم الدخول، واختاره العلامة وولده فخر المحققين والمحقق
الشيخ على.
احتج الأولون بالاجماع المنقول بخبر الواحد، وأن النماء من شأنه تبعية
الأصل في الحكم كما يتبع ولد المدبرة لها فيه، واحتج الآخرون بأصالة العدم
وبأن الأصل في الملك أن يتصرف فيه مالكه كيف شاء خرج منه الأصل بوقوع
الرهن عليه،
واحتج العلامة في المختلف بما رواه السكوني (1) في الموثق " عن جعفر
عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الظهر يركب إذا كان
مرهونا وعلى الذي يركب نفقته، والدر يشرب إذا كان مرهونا، وعلى الذي
يشرب نفقته " قال: فأثبت عليه السلام منفعة الحلب والركوب، وليس ذلك للمرتهن اجماعا
ولانتفاء ملكه ويبقى أن يكون للراهن.
وعن إسحاق بن عمار (2) في الصحيح عن أبي إبراهيم عليه السلام " قال فإن رهن

(1) التهذيب ج 7 ص 176.
(2) الكافي ج 5 ص 235 التهذيب ج 7 ص 173
240

دارا لها غلة لمن الغلة؟ قال: لصاحب الدار " وادعاء ابن إدريس أن قوله: مذهب
أهل البيت، وأن اجماعهم عليه، وأن ما ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط مذهب
المخالفين خطأ لا برهان عليه، ولا شبهة له انتهى كلامه في المختلف.
أقول: لا يخفى ما في حجج الأولين، أما ما احتجوا به من الاجماع فقد عرفت
ما فيه في غير مقام، وأنه لا يحسم مادة النزاع، وأما دعوى التبعية والاستناد إلى
تبعية الولد المدبر لأمه في التدبير، ففيه ما ذكره شيخنا في المسالك حيث قال
بعد نقل احتجاجهم بما ذكرناه والاجماع ممنوع، والتبعية في الملك مسلمة لا في
مطلق الحكم، وتبعية ولد المدبرة لتغليب جانب العتق.
وأما ما احتج به على القول الثاني من التمسك بالأصل فهو قوي، ويعضده ما
عللوا به عدم التبعية في مسألة بيع الحامل من أن العقد إنما وقع على الأم، واللفظ
لا يتناول سواها، فكذلك هنا.
وأما ما احتج به العلامة في المختلف، ففيه أن محل الخلاف على ما قرره هو
وغيره إنما هو الزيادات المنفصلة، أو القابلة الانفصال كما ينادي به التمثيل بالولد
والثمرة والشعر والصوف، لا أنه مطلق المنافع كغلة الدار ونحوها، فإنه لا خلاف
ولا اشكال في كونها للراهن، كما استفاضت به الأخبار، وستأتي انشاء الله تعالى
في الفصل الثالث.
وحينئذ فلا وجه لاستدلاله بموثقة إسحاق بن عمار التي وصفها بكونها
صحيحة، لاعتضاده بما تنويها بشأنها، مع أنه وغيره إنما يعدونها في الموثق.
وأما رواية السكوني وإن وصفها بكونها موثقة، لاتفاقهم على عدها في
الضعيف فغاية ما تدل عليه كون النفقة في مقابلة النفقة في كل من الركوب وشرب
اللبن وسيأتي الكلام في ذلك،
وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص الواضح لا تخلو من الاشكال، وإن كان
القول الثاني لا يخلو من قوة لما عرفت، ويظهر من المسالك اختياره أيضا، وربما
اعترض على القول بعدم التبعية بأنه يلزم جواز انتفاع الراهن بالرهن، لأن المنفعة
241

إذا لم تكن رهنا لا وجه لمنعه من التصرف فيها، مع أن الاجماع على منعه.
والجواب عن ذلك أولا: بمنع هذه الدعوى ومنع الاجماع، كما سيأتي
إن شاء الله تعالى تحقيقه في بعض مواضع الفصل الثالث.
وثانيا: أنه مع تسليم ذلك يمكن أن يقال: إن منعه من التصرف لا من حيث
المنفعة، بل من حيث استلزامه التصرف في المرهون، ولهذا لو انفصلت المنفعة
كالثمرة والولد لم يمنع من التصرف فيها وينبغي أن يعلم أن لو شرط المرتهن
دخولها أو الراهن خروجها زال الاشكال، لوجوب الوفاء بالشرط، هذا كله بالنسبة
إلى النماء المتجدد بعد الرهن.
وأما الموجود حال الرهن فالمشهور بينهم عدم الدخول، ونقل في المختلف
عن ابن الجنيد الخلاف في ذلك، قال في المختلف: النماء الموجود حالة الارتهان
إذا كان منفصلا كالولد واللبن أو متصلا اتصالا لا يقبل الانفصال كالصوف والشعر
خارج عن الرهن، ذهب إليه أكثر علمائنا. وقال ابن الجنيد: إن جميع ذلك
يدخل في الرهن، لنا أن العقد تناول الأصل وليس النماء جزء من المسمى، فلا
يدخل في الرهن، احتج بأن النماء تابع في الملك، فكذا في الرهن، والجواب
المنع من الملازمة انتهى.
أقول: لا يبعد التفصيل بالفرق بين مثل الولد والثمرة، وبين مثل الشعر
والصوف على ظهر الحيوان، بخروج الأول، ودخول الثاني، فإن من الظاهر عدم
دخول الولد والثمرة في مسمى الأم والنخل، ودخول الشعر والصوف في الحيوان
اللذين هما على ظهره، فإنه كالمتبادر عرفا، فإنه متى باعه حيوانا كذلك أو وهبه أو
نقله له بأحد النواقل الشرعية، فإن ظاهر العرف الحكم بدخول ذلك فيه.
ولهذا أنه في التذكرة استقرب دخول الصوف والشعر على ظهر الحيوان، محتجا
بأنه كالجزء، واستحسنه المحدث الكاشاني في المفاتيح، وتردد في التذكرة في دخول
اللبن في الضرع، وفي القواعد تردد في الأمرين، وكيف كان فالمسألة لا تخلو من
شوب الاشكال والله العالم.
242

المسألة الخامسة: لا خلاف في أن الرهن لازم من جهة الراهن حتى يخرج
من الحق الموجب للرهن، إما بأدائه ولو من متبرع عنه، أو ضمان الغير له مع قبول
المرتهن أو الحوالة أو إبراء المرتهن له، قالوا: وفي حكمه الإقالة المسقطة للثمن
المرهون به، أو الثمن المسلم فيه المرهون به.
وبالجملة فالضابط براءة ذمة الراهن من جميع الدين، وإذا خرج من بعضه
دون بعض فهل يخرج الرهن بأجمعه عن الرهانة، أو يبقى كذلك أو بالنسبة، أوجه:
صرح في الدروس بالثاني، وهو ظاهره في الروضة أيضا، ولو شرط كونه رهنا
على المجموع خاصة تعين الأول، كما أنه لو جعله رهنا على كل جزء جزء تعين الثاني.
السادسة: قال الشيخ في المبسوط: إذا وجد المرتهن بالرهن عيبا سابقا
كان له الرد بالعيب، فيتخير معه في فسخ البيع، وإجازته بلا رهن إذا كان الرهن
باقيا بالصفة التي قبضه، فأما إذا مات أو حدث في يده عيب فليس له رده في فسخ
البيع، لأن رد الميت لا يصح، ورد المعيب مع عيب حدث في يده لا يجوز، لأنه لا دلالة
عليه كما نقوله في البيع، ولا يرجع في ذلك بأرش العيب، بخلاف البيع.
قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه: والأقوى عندي أنه له الفسخ، لفقدان
الشرط، سواء مات العبد أورده، لأن العبد في يده أمانة فليس للراهن الامتناع
من قبضه بالعيب السابق، فكذا الموت انتهى. ومرجع مناقشته للشيخ إلى عدم
الفرق بين الموت، وظهور العيب السابق في جواز الفسخ، وهو لا يخلو من قوة.
وأما العيب الحادث في يد المرتهن فالحكم فيه كما ذكره الشيخ (رحمة الله
عليه) لما ورد من الأخبار الدالة على بقاء الرهانة وعدم انفساخها بذلك، والرد
إنما يتجه مع الفسخ.
ومن الأخبار المشار إليها ما تقدم في المسألة الخامسة من الأخبار الدالة على
أن العبد إذا أصابه الجذام أو العمى أو نحو ذلك فإنه باق على الرهانة، وإن نقص ذلك على الراهن، والأخبار ثمة إنما اختلفت في الضمان وعدمه، وإلا فصحة الرهانة
لا خلاف فيها ولا اشكال والله العالم.
243

السابعة: قد صرح جملة من الأصحاب بأنه إذا رهن عصيرا فصار خمرا بطل
الرهن، وبالغ أبو الصلاح فقال: فإن صار خمرا بطلت وثيقة الرهن، ووجبت
إراقته، والشيخ في الخلاف قال: يجوز إمساكه للتخلل والتخليل، ولا يجب عليه
الإراقة، لأنه لا خلاف بين الطايفة في جواز التخلل والتخليل
وقال: في الشرايع: ولو رهن عصيرا فصار خمرا بطل الرهن، فلو عاد خلا
عاد إلى ملك الراهن، وظاهر هذه العبارات بطلان الرهن رأسا بعد صيرورته
خمرا.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حمل البطلان في كلامهم على
كونه بطلانا مراعى ببقائه على الخمرية، لأنه متى صار خمرا خرج عن ملك صاحبه
فيبطل الرهانة لذلك، لأنها مشروطة بالملكية، ومتى صار خلا وصلح أن يكون
ملكا عادت الملكية والرهانة.
ولهذا استدرك على المصنف في عبارته المذكورة، من حيث حكمه بالبطلان،
وأنه بصيرورته خلا يعود إلى الملك، ولم يصرح بكونه يعود إلى الرهانة، قال:
والحاصل أنهم لا يعنون ببطلان الرهن هنا اضمحلال أثره بالكلية، بل ارتفاع حكمه
ما دامت الخمرية باقية، وتبقى علاقة الرهن لبقاء أولوية المالك على الخمر المتجدد
للتخليل، فكأن الملك والرهن موجودات فيه بالقوة القريبة، لأن تخلله متوقع،
والزايل المعبر عنه بالبطلان الملك والرهن، لو جود الخمرية المنافية، ونظير
ذلك أن زوجة الكافر إذا أسلمت خرجت بذلك من حكم العقد، وحرم وطؤها عليه
فإذا أسلم قبل انقضاء العدة عاد حكم العقد، وكذلك إذا ارتد أحد الزوجين
انتهى.
أقول: لقائل أن يقول: إن ما ذكره (قدس سره) من التوجيه لعود الرهن
بعد بطلانه وأن حكم الأصحاب بالبطلان مراعى ببقاء الخمرية إنما يصلح
وجها للنص، وبيان الحكمة فيه لو كان هنا نص، لا أنه يصلح لتأسيس الحكم
المذكور، وبنائه عليه، فإن قضية الحكم بالبطلان بصيرورته خمرا وعدم صحة
244

تملك الخمر، هو بقاء البطلان واستمراره وإن انقلب خلا، والعود إلى كونه رهنا
يتوقف على الدليل.
وهذا هو الظاهر من اطلاقهم، سيما عبارة الشيخ أبي الصلاح وحكمه
بوجوب الإراقة، فإنه لا ينطبق الأعلى ما ذكرناه، ومجرد عوده في الملك بعد انقلابه
خلا لا يستلزم عوده رهنا للفرق بين الأمرين، فإن الرهن متوقف على الصيغة
والعقد الشرعي وقد بطل، فعوده يحتاج إلى عقد آخر بخلاف الملك، ولأنه قد قام
الدليل على ذلك في الملك فيجب القول به، ولم يقم دليل عليه في الرهن إلا مجرد
هذا التخريج المذكور الذي لا يصلح لتأسيس حكم شرعي عليه.
وما ذكرناه هو الظاهر من اطلاقهم، سيما عبارة الشرايع، وحكمه فيها بالملك
بعد العود دون الرهانة، واستدراكه عليها ليس في محله، لعدم الدليل كما عرفت،
والتنظر بما ذكره لا يفيد فايدة، فإن الأحكام الشرعية لا تبنى على النظاير والمشابهات
كما يقوله أهل القياس، وإنما يعمل فيها على النصوص الواضحة.
وبالجملة فإن كلامه (قدس سره) غير خال عندي من النظر، وإن اقتفاه
فيه المحقق الأردبيلي أيضا حيث قال: وسبب عودها بعد صيرورته خلا عود الملكية
فيما كان رهنا، وزوال المانع عن الرهانة، فيعود ما كان ثابتا تابعا للملكية، وما كان
سبب الزوال إلا زوال الملكية. فتأمل فيه انتهى.
وفيه أن، زوال المانع غير كاف في الصحة، بل لا بد من وجود المقتضي
أولا، والمقتضي قد حكم ببطلانه، والكلام في محل البحث في عوده، ومجرد عود
الملكية لا يستلزمه كما عرفت.
ونحن ولو خلينا وظاهر الحكم بالبطلان ثم لا يحكم بعود الملكية ولا
الرهن، لكن لما قام الدليل من خارج ودلت الأخبار على عود الخمر بصيرورته
خلا إلى ملك صاحبه حكمنا بذلك، وأما عوده رهنا فيحتاج أيضا إلى الدليل
كما احتاج إليه عوده في الملك، ولعل في قوله فتأمل فيه إشارة إلى ما ذكرناه
والله العالم.
245

الفصل الثاني في شرائط الرهن
وفيه مسائل: الأولى المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يشترط
كون الرهن عينا مملوكة، فلا يصح رهن ما في الذمة من الديون، ولا المنافع،
مثل سكنى الدار وخدمة العبد، والوجه في الثاني ظاهر، وهو أنه ليس هنا شئ
موجود يمكن استيفاء الدين منه الذي هو الغرض من الرهن، لأن هذه المنافع
تستوي شيئا فشيئا، وكل ما حصل منها شئ عدم ما قبله، والمطلوب من الرهن أنه
متى تعذر استيفاء الدين أستوفي من الرهن.
وبالجملة فإن المنافع لا يصح اقباضها إلا باتلافها، ومع ذلك فالمنع من
رهنها موضع وفاق، كما صرحوا به، وأما الوجه في الأول فهو مبني على أمرين
أحدهما عدم صحة بيع ما في الذمة، وثانيهما اشتراط القبض في الرهن، والدين
لا يمكن قبضه، لأنه أمر كلي لا وجود له في الخارج.
وفي كل من الأمرين نظر، أما عدم صحة بيع ما في الذمة فهو على اطلاقه
ممنوع، وإنما ذلك في صورة خاصة كما تقدم تحقيقه، وأما اشتراط القبض فقد
تقدم ما فيه من البحث، وأنه لم يقم دليل واضح عليه، ومع تسليمه فإنه يجتزئ
بقبض ما يعينه المديون، ويحصل الشرط المذكور، والأصل والعمومات يقتضي
الجواز.
وإلى ما ذكرنا يميل كلام جملة من محققي متأخري المتأخرين كالمحقق
الأردبيلي والفاضل الخراساني، وقد صرح العلامة في التذكرة ببناء المنع على
اشتراط القبض، فقال: لا يصح رهن الدين إن شرطنا في الرهن القبض، لأنه لا يمكن
قبضه لعدم تعينه حالة الرهن.
لكنه في القواعد جمع بين الحكم بعدم اشتراط القبض، وعدم جواز رهن
الدين، فتعجب منه الشهيد في الدروس.
واعتذر له المحقق الشيخ على في شرحه بأن عدم اشتراط القبض لا ينافي
246

اشتراط كون الرهن مما يقبض مثله، نظرا إلى أن مقصوده لا يحصل إلا بكونه مما
يقبض، كما أرشدت إليه الآية الكريمة، فأحدهما غير الآخر.
واعترضه في المسالك بأن فيه مع ما أشرنا إليه من تصريح العلامة ببناء الحكم
على القبض، مع اعتبار كون الرهن مما يقبض مثله معجلا، إذ لا دليل عليه، والآية قد
تقدم عدم دلالتها على اعتبار القبض بل الإرشاد إليه.
والمعتذر (رحمه الله) قد بالغ في تحقيق دلالتها على ذلك، ومنع دلالتها على
اعتبار القبض، ولو سلم اعتبار صلاحية الرهن للقبض فالدين صالح لذلك بتعيين
المديون له في فرد من أفراد ماله، فالمنع من رهنه على القول بعدم اشتراط القبض غير
متوجه انتهى.
أقول: وقد تلخص من ذلك أنه لا مانع من رهن الدين حتى ولو قلنا باشتراط
القبض كهبة ما في الذمم ويجتزئ بقبض ما يعينه هنا.
والمراد باشتراط كون الرهن مملوكا ما هو أعم من ملك الأصل أو المنفعة، كما
لو أذن له المالك في رهن ماله، فلا يصح رهن ما لا يملكه ولا يؤذن فيه، وعلى هذا فالمملوكية
بمعنييها من شروط الصحة، كما في الشروط الآتية، إلا أنه قد صرح بعضهم بجواز رهن
غير المملوك ولا المأذون وصحته ويكون موقوفا على إجازة المالك، كالبيع الفضولي
وعلى هذا يكون هذا لشرط من شروط اللزوم، ومقتضى ما قدمناه من البحث عن عدم صحة
بيع الفضولي عدم جواز رهن ما كان كذلك، لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، وهو
قبيح عقلا ونقلا.
الثانية اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في رهن المدبر، فالأكثر على أنه
يوجب ابطال تدبيره، بمعنى أنه يصح الرهن ولكن يبطل التدبير، وقيل بصحتها فإن
رهنه لا يوجب ابطال تدبيره، ونقل ذلك عن الشيخ.
وعلل الأول بأن التدبير من الصيغ الجائزة التي يصح الرجوع فيها كالوصية،
فإذا تعقبه الرهن أبطله، كما لو تعقبه غيره من العقود كالبيع والهبة، لكون ذلك
رجوعا عنه، لأن الغرض من العقود المملكة ملك من انتقل إليه، ولا يتم إلا بالرجوع،
247

والغرض من الرهن استيفاء الدين من قيمته، فهو مناف لتدبيره.
وعلل الثاني بأن الرهن لا يستلزم نقل المرهون عن ملك الراهن، ويجوز فكه،
فلا يثبت التنافي بين الرهن والتدبير بمجرد الرهن، بل التصرف فيه.
ونقل عن الشيخ (رحمة الله عليه) الاحتجاج عليه بعدم الدليل على بطلان
كل واحد منهما، وعلى هذا فيكون التدبير مراعى بفكه، فإن فكه استقر وثبت، وإلا
أخذ في الدين، فيبطل التدبير (1)
ونقل عن الشهيد في الدروس أنه استحسن هذا القول، والمسألة لا يخلو من
شوب الاشكال، لعدم النص الواضح في هذا المجال، وإن كان القول الثاني لا يخلو
من قرب، لما ذكر في بيان وجهه.
قال في الكفاية: وفي جواز رهن المدبر خلاف، فقيل يصح وأن رهن رقبته
ابطال لتدبيره، وقيل: لا يصح، وقيل: إن التدبير يراعى بفكه، فيستقر أو يأخذه
في الديل فيبطل.
أقول: ما نقله هنا من القول بعدم صحة الرهن لم أقف على من نقله سواه،
والمنقول في المسألة هو ما قدمنا ذكره من القولين، وهو الذي صرح به شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك والروضة، وتعبيره عن القول الثاني الذي قدمناه بما ذكره
من أن التدبير يراعى إلى آخره غير جيد، فإن القول المنقول عن الشيخ إنما
هو صحة الرهن والتدبير كما قدمنا ذكره، إلا أن اللازم منه أن صحة التدبير هنا
ليست صحة مستقرة، بل هي مراعاة بفكه، وتعبيره عن القول بلازمه ليس بجيد

(1) أقول: وإلى ذلك أيضا يميل كلام العلامة المحقق الأردبيلي (عطر الله
مرقده) حيث قال ما ملخصه: إذ الظاهر صحة الرهن مع عدم بطلان التدبير لعموم أدلة
الرهن وجواز التصرف في المدبر، ولكن لما لم يكن بينه وبين الرهن منافاة فالظاهر
بقاؤه موقوفا فإن بيع في الرهن بطل تدبيره، وإن لم يبع بقي مدبرا، ويؤيده أنه
لو كان بينهما منافاة لزم عدم صحة الرهن بوجود التدبير قبله انتهى منه رحمه الله.
248

في التعبير.
ثم إنهم اختلفوا في صحة رهن خدمة المدبر، مع أن ظاهرهم الاتفاق كما
تقدم في المسألة المتقدمة على عدم صحة رهن المنافع، فقيل: بالصحة هنا،
للرواية الواردة بجواز بيع خدمته، وقد تقرر عندهم أن ما جاز بيعه جاز رهنه، والرواية
المذكورة لم أقف عليها بعد التتبع، والموجود في كلام جملة منهم إنما هو بهذا
العنوان من غير نقل مضمونها.
ومنه يظهر قوة القول بالعدم، لما عرفت فيما تقدم في تعليل عدم صحة
بيع المنفعة، مع عدم وجود ما يعارضه، ويوجب الخروج عنه، والرواية المذكورة
غير معلومة، ولعلها من روايات العامة.
الثالثة قالوا: لا يجوز رهن المسلم الخمر ولو كان عند ذمي، وكذا
لو رهنها الذمي عند مسلم لم يصح وإن وضعها على يد ذمي.
وللشيخ في الخلاف هنا قول بأنه يجوز للذمي أن يرهن عند المسلم خمرا
إذا وضعها عند ذمي، لأن الحق في وفاء الدين للذمي، فيصح الرهن، كما لو باعها
ووفاه ثمنها، لأن الرهن لا يملك للمرتهن، وإنما يصير محبوسا عن تصرف
الراهن.
ورده الأكثر بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم، وله تسلط على الرهن بالبيع
والاستيفاء، وهو هنا ممتنع.
ومنعوا أيضامن رهن الأرض الخراجية إلا أن تكون بعنوان التبع لآثار
التصرف من بناء وشجر ونحوهما، وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة بالنسبة إلى
البيع.
ومنعوا أيضامن رهن ما لا يصح اقباضه، كالطير في الهواء، والسمك في الماء
إلا أن يكون الطير مما يعتاد عوده، والسمك في ماء محصور، فيصح.
واختلفوا فيما لو رهن عند الكافر عبدا مسلما أو مصحفا، فقيل بعدم الجواز، لأن
ارتهانه لهما يقتضي الاستيلاء عليهما من بعض الوجوه ببيع ونحوه، وإن كان في
249

يد غيره، وهو سبيل عليهما منفي بالآية، ويؤيده القول بعد جواز بيعهما على
الكافر.
وقيل بالجواز إذا وضعا على يد مسلم، لمنع تحقق السبيل بذلك، لأنه إذا لم
يكن تحت يده لم يستحق الاستيفاء من قيمته إلا ببيع المالك، أو من يأمره بذلك، ومع
التعذر رفع أمره إلى الحاكم ليبيع ويوفيه، ومثل هذا لا يعد سبيلا.
أقول: قد قدمنا في المسألة السادسة من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع وأركانه
من كتاب البيع ما في الاستناد إلى هذه الآية في مثل هذا الموضع ونحوه، من النظر الذي
شرحناه ثمة، وأن المراد بالسبيل المنفي في الآية إنما هو من جهة الحجة والدليل،
كما ورد به الخبر في تفسير الآية المذكورة، وحينئذ فتبقى المسألة خالية من الدليل
نفيا واثباتا كساير فروعهم التي من هذا القبيل.
وأما ما ذكره القائل بالجواز إذا وضع على يد مسلم وأنه بذلك يتحقق منع
السبيل، ففيه ما تقدم من ايرادهم على الشيخ في جواز رهن الخمر عند المسلم إذا
وضع على يد ذمي، حيث أوردوا عليه بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم، وله تسلط
على الرهن بالبيع، فإنه بعينه جار فيما ذكروه هنا، لأن يد السلم هنا يقام مقام الكافر.
ونيابته عنه كيد الكافر، وما أطالوا به من التعليل لا يشفي العليل، ولا يبرد الغليل.
وبالجملة فإن الحكم في أمثال هذه الفروع مع خلوها عن النصوص اعتمادا
على هذه التعليلات لا يخلو من مجازفة، ولهم في هذ المقام جملة من الفروع التي
من هذا القبيل، طوينا عن نقلها لما ذكرنا والله العالم.
الفصل الثالث في الحق والراهن والمرتهن
فههنا مقامان: المقام الأول في الحق الذي يؤخذ عليه الرهن، والمشهور
أنه الدين الثابت في الذمة، وظاهر اشتراط كونه دينا عدم جواز الرهن على العين،
سواء كانت أمانة في يده كالوديعة، والعارية الغير المضمونة والمستأجرة،
أو مضمونة عليه كالمغصوبة، والعارية المضمونة، والمقبوض بالسوم، وعدم جواز
250

الرهن في الأول موضع وفاق، كما ذكره غير واحد منهم، وإن احتمل طرو الضمان
بالتعدي في الوديعة ونحوها مما ذكر.
وأما في الثاني فهو أحد القولين، حيث أطلقوا المنع عن أخذ الرهن في
الأعيان، نظرا إلى أن مقتضى الرهن استيفاء المرهون به من الرهن، وفي الأعيان
يمتنع ذلك، لامتناع استيفاء العين الموجودة من شئ آخر.
وقيل: بجواز الرهن عليها، وبه صرح العلامة في التذكرة، فقال: فالأقوى
جواز الرهن عليها، أي على الأعيان المضمونة (1) وأجابوا عما علل به وجه
المنع، بأن الأمر لا ينحصر في الاستيفاء عند وجود العين، بل يمكن التوثق بالرهن،
لأجل أخذ عوضها عند تلفها، قالوا: ولا يرد مثله في الأعيان التي ليست مضمونة،
حيث يحتمل تجدد سبب الضمان، لعدم كونها وقت الرهن مضمونة، فإن الرهن
إنما يصح عند وجود سبب الضمان أما بدين أو ما في حكمه، كالعين المضمونة،
بخلاف ما يمكن تجدد سبب ضمانه، كما سيتجدد من الدين، واطلاق الأدلة الدلة
على جواز الرهن على الحقوق يتناول محل النزاع، والمراد بالثابت على الذمة
في العبارة المتقدمة ما كان مستحقا فيها، أعم من أن يكون ثبوته مستقرا كساير الديون
أو غير مستقر كالثمن في زمن الخيار، وظاهر الأكثر أنه لا بد من ثبوته واستقراره
في الذمة قبل الرهن.
قال في التذكرة: يصح عقد الرهن بعد ثبوت الحق وتقرره في الذمة، وفي
جوازه مع المقارنة وجه، مال إليه في التذكرة حيث قال بعد الكلام المتقدم نقله
عنه: أما لو قارنه وامتزج الرهن بسبب ثبوت الدين مثل أن يقول: بعتك هذا
العبد بألف، وارتهنت هذا الثوب به، فقال المشتري: اشتريت ورهنت، أو قال:
أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها دارك فالأقرب الجواز انتهى.

(1) قال في المسالك: حيث جوز الرهن على الأعيان المضمونة فمعناه
الاستيفاء منه إذا تلف أو نقصت أو تعذر الرد، وإلا فلا انتهى - منه رحمه الله.
251

وأيده المحقق الأردبيلي (قدس سره) بعموم الأدلة وعدم ظهور مانع إلا
اشتراطهم ذلك وهو غير ثابت بالدليل في النزاع، قال: ولذا نجد تجويزهم
في الدرك على الثمن في المبيع وغير ذلك فتأمل انتهى.
أقول: والمسألة لخلوها من النص الصريح لا يخلو من الاشكال، وإن كان
ما ذكره المحقق المشار إليه لا يخلو من قرب.
ثم إنهم قد صرحوا بأنه لا يجوز الرهن على الحق الذي لا يمكن استيفاؤه من
من الرهن كالحق المتعلق بعين مخصوصة، كما لو آجره نفسه شهرا أو دابته المعينة، أو داره
ونحو ذلك، فإن تلك المنفعة لا يمكن استيفاؤها إلا من تلك العين المخصوصة، حتى
لو تعذر الاستيفاء منها لموت أو خراب أو نحوهما بطلت الإجارة، بخلاف الإجارة
المطلقة المتعلقة بالذمة، كما لو استأجره على تحصيل عمل كخياطة ثوب أو كتابة
كتاب أو نحو ذلك بنفسه أو غيره، فإن الواجب عليه تحصيل تلك المنفعة بأي وجه
اتفق، ومن أي عين كانت، فيصح الرهن عليها، لكونها حقا ثابتا في الذمة يمكن
استيفاؤه من الرهن.
فروع: الأول هل يلحق بالأعيان المضمونة على تقدير القول بجواز أخذ
الرهن عليها أخذ الرهن على المبيع وثمنه؟ لاحتمال فساد البيع باستحقاقهما أو
نقصان قدرهما كيلا أو وزنا، ونحو ذلك مما يوجب الضرر على أحد المتبايعين،
قولان:
اختار أولهما الشهيد (رحمة الله عليه) وجماعة، لتحقق الفايدة، وهي التوثق
والارفاق، وقيل: بالعدم، لعدم تحقق المقتضي الآن.
وأما ما يتجدد فلو جاز بالنسبة إليه لجاز أيضا في الأمانات باعتبار ما يتجدد من
موجبات الضمان، مع أن ظاهر هم الاجماع على عدم جواز الرهن عليها.
وأجيب بالفرق بين ما نحن فيه وبين الأمانات، بأن ما يتجدد من الأسباب للموجبة
للضمان فيما نحن فيه كاشف عن حصوله من حين العقد، كما هو واضح في نقصان المبيع
252

أو الثمن، أو ظهور اسحقاقهما، فيكون عقد الرهن مضمونا في نفس الأمر على
تقدير الحاجة إليه، بخلاف الأمانات، فإن سبب الضمان متجدد ظاهرا وفي نفس
الأمر، فلا يتحقق المقتضي حين العقد، هو جيد، إلا أن المسألة لخلوها من النصوص
محل التوقف.
الثاني: المشهور أنه لا يصح الرهن على مال الجعالة لعدم استحقاق المجعول
له المال قبل تمام العمل وإن شرع فيه، وقيل بجوازه بعد الشروع وإن لم يتم،
لانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم، كالثمن في مدة الخيار ونقل عن العلامة في التذكرة.
ورد بعدم استحقاقه الآن شيئا وإن عمل أكثره، والفرق بينه وبين المبيع في زمن
الخيار طاهر، لأن المبيع متى أبقى على حاله انقضت مدة الخيار، وثبت له اللزوم،
والأصل فيه عدم الفسخ، بخلاف الجعالة، فإن العمل فيها لو ترك على حالة لم يستحق
بسببه شئ، والأصل عدم الاكمال.
الثالث: المشهور جواز الرهن على مال الكتابة مطلقا، لأنه لازم للمكاتب بكلا
معنييه، ونقل عن الشيخ رحمة الله عليه وجماعة التفصيل في ذلك، بأنها إن كانت
مطلقة فهي لازمة اجماعا فيجوز الرهن على مالها بغير خلاف، وإن كانت مشروطة
فهي جائزة من قبل العبد، فيجوز له تعجيز نفسه فلا يصح الرهن على مالها، لانتفاء
فائدة الرهن، وهي التوثق، إذ للعبد اسقاط المال متى شاء. ولأنه لا يمكن استيفاء
الدين من الرهن، لأنه إن عجز صار الرهن للسيد، لأنه من جملة مال المكاتب.
أقول: ومنشأ الخلاف من أن مال المكاتبة المشروطة هل هو لازم مطلقا كما
هو المشهور، أو أنه جائز من قبل العبد، كما يدعيه الشيخ ومن تبعه.
وقد احتج الأصحاب على لزومه مطلقا بالأدلة العامة، مثل قوله عز وجل
(1) " أوفوا بالعقود " ونحوه ومتى كان لازما تحققت الفائدة، وصح الرهن عليه،
قالوا: ومع تسليم ما ادعاه الشيخ من جوازها لا يمتنع الرهن، كالثمن في مدة الخيار

(1) سورة المائدة الآية - 1.
253

فإنه يجوز الرهن عليه مع كونه في معرض السقوط بانقضاء الخيار ولزوم البيع.
ونقل عن شيخنا الشهيد الثاني في الروضة قولا ثالثا، وهو أن المشروطة
جائزة من الطرفين، والمطلقة لازمة من طرف السيد خاصة، قال: ويتوجه عدم صحة
الرهن أيضا كالسابق، ونقل هذا القول في باب المكاتبة من الكتاب المذكور عن ابن
حمزة، ثم قال: وهو غريب.
أقول: لعل وجه غرابته من حيث الاجماع المدعى عندهم على لزوم المطلقة،
وإنما الخلاف في المشروطة.
الرابع قالوا: لو رهن على مال رهنا ثم استدان مالا آخر وجعل ذلك الرهن
عليهما معا جاز، لعدم المانع منه مع وجود المقتضي، فإن التوثيق بشئ لشئ
آخر لا ينافي التوثق لا خربه، خصوصا مع زيادة قيمته على الأول، ولا يشترط فسخ
الرهن الأول ثم تجديده لهما، بل يضم الثاني بعقد جديد، ويجوز العكس أيضا،
بأن يرهن على المال رهنا آخر فصاعدا، وإن كانت قيمة الأول تفي بالدين الأول،
لجواز عروض ما يمنع من استيفائه منه، ولزيادة الارتفاق، وأنت خبير بأنه إن كان
الدين الآخر الذي يريد جعل الرهن الأول عليه لصاحب الدين الأولى فيمكن ما ذكروه،
وإن كان لغيره فإن وقع بإذنه ورضاه فكذلك، وإلا فاشكال.
قال في التذكرة في مقام الرد على أبي حنيفة حيث نقل عنه أنه لا يجوز
الرهن عند غير المرهون وإن وفى بالدينين جميعا بعد كلام في المقام ما صورته:
فإنه لا استبعاد في صحة الرهن عند غير المرتهن، ويكون موقوفا على إجازة المرتهن
وإن أجاز المرتهن الأول صح الثاني وهو مؤذن بتوقف صحة ذلك على إذن المرتهن
الأول وسيأتي انشاء الله تعالى تحقيق المسألة في محلها.
المقام الثاني في الراهن والمرتهن
ويشترط فيهما كما ل العقد، وجواز التصرف برفع الحجر عنهما في التصرف
المالي والاختيار، فلو أكرها أو أحدهما لم ينعقد، والمراد أنه لم ينعقد انعقادا تاما
254

على حسب ما يقع من المختار، لأنه لو أجازه بعد ذلك مختارا صح، فهو كعقد
الفضولي، لا أنه يقع باطلا كعقد الغير الكامل العقل، إلا أن يبلغ الاكراه إلى كونه
رافعا للقصد، فإنه يصير كعقد غير الكامل.
والكلام في هذا المقام يقع في مواضع: الأول يجوز لولي الطفل رهن ماله
إذا ألجأته الحاجة إلى الاستدانة له، مع مراعاة المصلحة في ذلك، ولو كانت المصلحة
في بيع شئ من ماله دون الاستدانة فهو أولى إن أمكن البيع، وحيث يجوز
الرهن يجب كونه في يد أمين يكون وديعة عنده.
وفي المسالك أن هذا الحكم لا خلاف فيه عندنا، وإنما خالف فيه بعض
الشافعية، فمنع من رهن ماله مطلقا، ولو لي اليتيم أخذ الرهن له وجوبا كما هو
ظاهر كلام الأصحاب فيما لو أدان ماله أو باعه نسيئة.
قالوا: ويعتبر كون الرهن مساويا للحق، أو زايدا عليه، ليمكن استيفاؤه
منه، وكونه بيد الولي أو بيد عدل ليتم التوثق والاشهاد على الحق لمن يثبت به
عند الحالة إليه عادة، فلو أخل ببعض هذه الشروط ضمن مع الامكان، وهو جيد
لما فيه من الاحتياط لمال اليتيم المبني جواز التصرف فيه على المصلحة والغبطة،
فضلا عن عدم دخول نقص عليه.
الثاني قالوا: لا يجوز اقراض مال اليتيم: لعدم ظهور الغبطة والمصلحة
إلا أن يخشى عليه من التلف بحرق أو غرق أو نحوهما، فإذا أقرضه فليكن من ثقة
ملي، ويأخذ رهنا عليه، ويشهد كما تقدم، هذا إذا أقرضه غيره.
وأما اقتراضه لنفسه، فيحتمل كونه كذلك، لأنه تصرف في مال اليتيم وهو منوط بالمصلحة، ويحتمل جواز الاقتراض وإن لم يظهر وجه للغبطة والمصلحة
من غير رهن متى كان ثقة مليا، ويدل على هذا الوجه الأخير جملة من الأخبار
الدالة على جواز الاستدانة في الصورة المذكور.
منها ما رواه في الكافي بسندين أحدهما صحيح عن منصور بن حازم (1)

(1) الكافي ج 5 ص 131 التهذيب ج 6 ص 341.
255

" عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل ولي مال اليتيم أيستقرض منه؟ قال: علي بن الحسين
عليهما السلام كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره " وزاد في الرواية الصحيحة
" ولا بأس بذلك ".
وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في بعض المسائل المقدمة الرابعة من
كتاب التجارة، وظاهر الخبر المذكور جواز الاستقراض من غير رهن، ولا ظهور
وجه للغبطة والمصلحة كما ادعوه.
قال: في المسالك: ويحتمل جواز اقتراضه مع عدم الضرر على الطفل،
وإن لم يكن له مصلحة، لاطلاق رواية أبي الربيع (1) عن الصادق عليه لسلام " أنه سئل
عن رجل ولي لليتيم فاستقرض منه؟ فقال: إن علي بن الحسين عليه السلام " ثم ساق
الرواية كما قدمنا، ثم قال: والرواية مع تسليم سندها مطلقة، يمكن تقييدها
بالمصلحة، ثم نقل عن التذكرة أنه شرط في جواز اقتراضه الولاية والملائة و
مصلحة الطفل، واحتج عليه بالرواية المذكورة.
أقول: ما ذكره من السند المشتمل على أبي الربيع مذكور في التهذيب،
والذي في الكافي أنما هو عن منصور بن حازم بسندين، أحدهما صحيح، فلا مجال
حينئذ للطعن بالسند، وأما تقييدها بالمصلحة فالظاهر بعده،
ويعضد هذه الرواية أيضا رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر (2) " قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج إليه فيمد يده
فيأخذه وينوي أن يرده؟ فقال: لا ينبغي له أن يأكل إلا القصد، ولا يسرف وإن كان من نيته
أن لا يرده عليهم فهو بالمنزل الذي قال الله تعالى عز وجل: إن الذين يأكلون أموال
اليتامى ظلما ".
وهذه الرواية أظهر في عدم المصلحة لأن ظاهرها أن المسوغ للاقتراض هو مجرد

(1) الكافي ج 5 ص 132 التهذيب ج 6 ص 341.
(2) الكافي ج 5 ص 128 التهذيب ج 6 ص 339.
256

الاحتياج وإن لم يكن ثمة مصلحة، نعم يجب تقييده بعدم الضرر كما يشير إليه قوله
وإن كان من نيته أن لا يرده إلى آخره.
ومن العجب استدلاله في التذكرة على اعتبار المصلحة بالرواية الأولى،
مع أنها مطلقة، ثم ظاهر جملة منهم العلامة في التذكرة أنة يشترط في اقراضه غيره
الوثاقة والملائة والرهن جميعا مع الامكان، وأسقط اعتبار الرهن مع عدم إمكانه.
وظاهر بعضهم أنه مع إمكان الرهن لا يعتبر كونه ثقة ولا مليا، لانضباط الدين
بالرهن، والظاهر أنه الأقرب، وإن كان الأحوط، وظاهرهم أنه مع تعذر الرهن
والوثاقة لا يجوز الاقراض، واستشكله بعضهم حيث يؤدي تركه إلى تلف المال،
كالحنطة تتلف بالسوس ونحوها، فإنه لا يزيد على أكل المقترض له، قال: بل
الظاهر أن المقبوض كذلك أولى، لامكان حصوله منه بخلاف ما لو ترك، وعلى تقدير
تحقق عدم الوفاء وتحقق التلف بدون الاقراض، يمكن أو لوية الاقراض لثبوته
في ذمته، فيحتمل تخلصه أو وارثه منه، أو أخذه في الآخرة، بخلاف التلف من الله إلا
أن يقال: بثبوت العوض عليه تعالى، فيحتمل ترجحه لأنه أكثر.
الموضع الثالث: لا يخفى أن مجرد اطلاق الرهن لا يقتضي كون المرتهن
وكيلا في بيع الرهن لو تعذر الأداء نعم يجوز له أن يشترط كونه وكيلا في البيع عند
الحلول وتعذر الوفاء، لأنه من الشروط السابغة، وكذا يجوز اشتراطها لوارثه من
بعده أو وصيه بعد موته، وكذا يجوز اشتراطها لأجنبي غيره وارثه ووصيه ودليل لزوم الشرط المذكور ما تقدم من أدلة وجوب الوفاء بالشروط الواقعة
في العقود اللازمة، ولما كان الرهن لازما من جهة الراهن فقط، كانت الوكالة لازمة من
جهته، وأما من جانب المرتهن فلا: وله عزل نفسه وكذا الغير فإنه لمصلحته، وهل
للراهن فسخها بعد ذلك؟ قولان، أظهر هما العدم، لما عرفت من أن عقد الرهن لازم
من جهته، فيلزم ما شرط فيه كذلك.
احتج القائلون بالجواز بوجوه: أحدها أن الوكالة من العقود الجايزة
ومن شأنها تسلط كل منهما على الفسخ، وثانيها إن الشروط لا يجب الوفاء بها
257

وإن كانت في عقد لازم، بل غايتها تسلط المشروط له على فسخ العقد المشروط
فيه، وثالثها أن لزوم الشرط إنما يكون مع ذكره في عقد لازم كالبيع ونحوه،
والرهن ليس كذلك، فإن ترجيح أحد طرفيه على الآخر ترجيح من غير مرجح.
والجواب عن الأول أن الوكالة وإن كانت في نفسها ومن حيث هي كذلك،
إلا أنه لا ينافي حصول اللزوم لها بعارض، كجعلها شرطا في عقد لازم وهو
هنا كذلك.
وعن الثاني بمنع ما ذكره، وقد تقدم تحقيق المسألة في المسألة الثانية من
المقام الثاني في أحكام الخيار من كتاب البيع، وأن الأظهر هو وجوب الوفاء
بالشرط الواقع في العقد اللازم.
وعن الثالث بما قدمنا من أن عقد الرهن لما كان لازما من طرف الراهن كان ما
يلتزمه الراهن لازما من قبله، عملا بمقتضى اللزوم، والشروط وقع من الراهن على
نفسه فيلزم، ولما كان من طرف المرتهن جائزا كان ما يلتزمه كذلك، فيجوز له
فسخ الوكالة، لأنها حقه، فيجوز له تركه.
وتبطل الوكالة بموت المشروط له، لا من حيث كونه من العقود الجائزة
ومن شأنها أن تبطل بالموت، بل من حيث أن الغرض من الوكالة الإذن في التصرف،
فيقتصر فيها على من أذن له، فإذا مات بطلت من هذه الجهة. كما تبطل العقود اللازمة
الجارية على نحو ذلك، كالإجارة المشروطة فيها العمل بنفسه، فإنها بموته تبطل
وأما أصل عقد الرهن فدلا يبطل بموت أحدهما، لأنه وثيقة على الدين، فيبقى ببقائه
فعلى هذا لو كانت الوكالة للمرتهن فإنه بموته ينتقل الرهانة إلى وارثه، دون الوكالة،
إلا أن يكون مشترطة للوارث.
ولو كان المرتهن وكيلا في بيع الرهن، فهل يجوز له ابتياعه وتولي طرفي
العقد أم لا؟ قولان: وعلل الأول بأن الغرض وهو البيع بثمن المثل حاصل، وخصوصية
المشتري ملغاة، حيث لم يتعرض لها.
وعلل الثاني بأن ظاهر الوكالة لا يتناوله، قال في المسالك بعد نقل ذلك: و
258

الأقوى الجواز في كل وكالة انتهى.
والمشهور جواز البيع على ولده بطريق أولى. ونقل عن ابن الجنيد المنع
من البيع على نفسه وولده وشريكه ومن يجري مجراهما للتهمة.
أقول: ومرجع المسألة الأولى إلى جواز بيع الوكيل من نفسه وعدمه،
وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في المقدمة الثانية في آداب التجارة من كتاب
التجارة، وكذا في بعض مواضع المسألة الرابعة من المقام الثاني من الفصل الأول في
البيع من الكتاب المذكور، وأما ما نقل عن ابن الجنيد من التعميم المذكور فلم نقف له
على مستند معتمد.
الموضع الرابع: المشهور أن الراهن إذا مات وعليه ديون يقصر ماله عنها،
فالمرتهن أحق باستيفاء دينه من الرهن، دون غرماء الميت وعلل بأن ذلك مقتضى
الرهانة، وأنه استحق الاستيفاء من المرتهن قبل تعلق ساير الديون بالأموال و
التركة، فلا يشاركه أحد، وهو جيد إلا أن ما وصل إلينا من الأخبار المتعلقة بذلك
على خلافه.
ومنها ما رواه الشيخ عن عبد الله بن الحكم (1) " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
رجل أفلس وعليه دين لقوم، وعند بعضهم رهون، وليس عند بعضهم فمات، ولا يحيط
ماله بما عليه من الدين، قال: يقسم جميع ما خلف من الرهون وغيرها على أرباب
الدين بالحصص " ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن حسان عن أبي عمران
الأرمني عن عبد الله بن الحكم مثله.
وما رواه الشيخ والصدوق جميعا عن محمد بن عيسى بن عبيد عن سليمان بن
حفص المروزي (2) " قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام في رجل مات وعليه دين،
ولم يخلف شيئا إلا رهنا في يد بعضهم فلا يبلغ ثمنه أكثر من مال المرتهن، أيأخذه
بما له أو هو وساير الديان فيه شركاء؟ فكتب عليه السلام جميع الديان في ذلك سواء،

(1) التهذيب ج 7 ص 178 الفقيه ج 3 ص 196 و 198.
(2) التهذيب ج 7 ص 178 الفقيه ج 3 ص 196 و 198.
259

يوزعونه منهم بالحصص " الحديث ولم أر من تعرض للجواب عن الخبرين المذكورين
من القائلين بالقول المشهور.
والمشهور وجوب تقديم صاحب الرهن أيضا فيما لو كان الراهن حيا، بل
صرح بعض محققي متأخري المتأخرين بأن ذلك اجماع، قال: ومستنده كون ذلك
من خصايص الرهن، فإن الدين المتعلق بالرهن لا محالة له تعلق بالاستيفاء، وأن ذلك من
فوائده التي شرع لها.
أقول: ولم أقف هنا على نص ينافي ذلك، فلا بأس بالقول به، وإنما الاشكال
في الميت، فإن ظاهرهم القول بالاختصاص، بل لم أقل على مخالف صريح في
الحكم المذكور، وصريح الخبرين المذكورين التشريك، واطراحهما، والخروج
عنهما بغير معارض مشكل، فالظاهر هو القول بما دلا عليه من التشريك، ويكون
الحكم هنا مستثنى من قاعدة الرهن التي أشاروا إليها وتمسكوا بها.
ونقل عن بعض الفضلاء المعاصرين (1) (قدس الله روحه) القول بذلك، بعد
أن اختاره عن ظاهر الصدوق في الفقيه، ولعله لذكره خبر المروزي في الكتاب
المذكور، بناء على ما ذكره في صدر كتابه، ونقله عن المحدث الشيخ محمد بن
الحسن الحر، وعن جده العلامة المحدث السيد نعمة الله الجزائري طالب ثراهما،
ثم قال: وهو لازم على جميع أهل الأخبار، لصراحتهما في المطلوب، وسلامتهما
من المعارض.
ثم نقل عن الفاضل المشهور بخليفة سلطان في حواشيه على كتاب الفقيه تأويل
الخبرين بأن المراد ما رهنه بعد الحكم بافلاسه، ثم رده بأنه مع يعده غير محتاج
إليه لتوقفه على وجود المعارض، ثم قال: وما استندوا إليه في التسوية بين الحي والميت
من سبق تعلق حق المرتهن بالرهن يمكن منعه، بما أورده ابن فهد في المهذب

(1) هو الفاضل الآغا السيد عبد الله بن المقدس السيد نور الدين بن العلامة السيد
نعمة الجزائري (نور الله تعالى مراقدهم) في بعض أجوبة مسائل له - منه رحمه الله.
260

من أن الحي له ذمة يتعلق بها ديون الباقين، ويمكن وفاءهم مع حياته وبعد الموت
يتعلق حقوق الديان بأعيان التركة، فيتساوى الجميع في ذلك، نظير ما قالوه في
غريم الميت الذي يجد عين ماله، أنه ليس له أخذها، لأن دينه ودين غيره متعلق بذمة
الميت، وهم مشتر كون فيه، وإن كان في ذلك كلام بيناه في محله انتهى كلامه (قدس
سره) وهو جيد.
الموضع الخامس المشهور أنه ليس للمرتهن التصرف في الرهن مطلقا
إلا بإذن الراهن، فإن تصرف لزمته الأجرة في ماله أجرة، كركوب الدابة وسكنى
الدار، لأنه انتفاع بمال الغير بغير إذنه، فيضمن أجرته المثلية في المثل، أو القيمة
فيما يضمن كذلك، كاللبن ونحوه، ولو أنفق على الدابة فإن كان بأمر المرتهن
رجع بها عليه، وإلا استأذنه، فإذا امتنع أو غاب رجع إلى الحاكم الشرعي، وإن
تعذر أنفق بنية الرجوع، وأشهد على ذلك، ليثبت له به الحق.
وقال: الشيخ في النهاية: وإذا كان الرهن دابة فركبها المرتهن كانت نفقتها عليه،
وكذلك أن كانت شاة شرب لبنها كانت عليه نفقتها، وإذا كان عند الانسان دابة أو
حيوان رهنا فإن نفقتها على الراهن دون المرتهن، فإن أنفق المرتهن عليها كان له
ركوبها والانتفاع بها، أو الرجوع على الراهن بما أنفق.
وقال ابن إدريس بعد كلام في المقام: والأولى عندي أنه لا يجوز له التصرف
في الرهن على حال، للاجماع على أن الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف
في الرهن.
وقال أبو الصلاح: يجوز للمرتهن إذا كان الرهن حيوانا، فيكفل مؤنته
أن ينتفع بظهره أو خدمته أو صوفه أو لبنه وإن لم يتراضيا، ولا يحل شئ من ذلك من
غير تكفل مؤنة ولا مرضاة، والأولى أن تصرف قيمة منافعه في مؤنته.
أقول: والذي وقفت عليه في هذا المقام من الأخبار ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن أبي ولاد (1) في الصحيح " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يأخذ الدابة والبعير

(1) الكافي ج 5 ص 236 الفقيه ج 3 ص 196.
261

رهنا بماله أله أن يركبه؟ قال: فقال: إن كان يعلفه فله أن يركبه، وإن كان الذي
رهنه عنده يعلفه، فليس له أن يركبه " ورواه الصدوق في الفقيه عن ابن محبوب
عن أبي ولاد مثله، إلا أنه عبر بضمير التثنية في المواضع الخمسة، ورواه الشيخ في
الصحيح أيضا مثله.
وما رواه الشيخ عن السكوني (1) " عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي
عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله الظهر يركب إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركبه
نفقته، والدر يشرب إذا كان مرهونا وعلى الذي يشرب نفقته " ورواه الصدوق عن
إسماعيل بن مسلم عن جعفر بن محمد عليه السلام.
والخبران كما ترى دالان بظاهر هما على ما ذكره الشيخ في النهاية، والأصحاب
حملوهما على ما إذا أذن له الراهن في الانفاق مع تساوي الحقين.
وأنت خبير بما فيه من البعد عن سياق الخبرين، سيما الأول، لأن السائل
سأله عن الرجل يأخذ الدابة أو البعير أله أن يركبه يعني من غير إذن الراهن، وإلا
فمع الإذن لا معنى للسؤال بالكلية، فأجاب عليه السلام بأن له ذلك أن كان يعلفه، واعتبار
مساواة الحقين مع عدم انضباط الركوب واحتماله القلة والكثرة، وإن أمكن انضباط
العلف بعيد جدا، وتخصيص القواعد التي ألجأتهم إلى هذا التأويل بهذين الخبرين
سيما الأول لصحته وصراحته غير بعيد.
ويظهر من الفاضل الخراساني في الكفاية الميل إلى ما ذهب إليه الشيخ،
حيث قال بعد نقل الصحيحة المذكورة: وقول الشيخ قوي، ويؤيده رواية السكوني
انتهى وهو جيد.
ولو كان للرهن غلة وفوائد وتصرف فيها المرتهن وجب عليه أن يحتسبها
من دينه، وبذلك تكاثرت الأخبار مضافا إلى اتفاق الأصحاب.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن ابن

(1) التهذيب ج 7 ص 175 الفقيه ج 3 ص 195.
262

سنان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في كل رهن له
غلة أن غلته تحتسب لصاحب الرهن مما عليه ".
وعن محمد بن قيس (2) في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام " أن أمير المؤمنين
عليه السلام قال: في الأرض البور يزرعها الرجل ليس فيها ثمرة فزرعها وأنفق عليها
من ماله: أنه تحتسب له نفقته وعمله خالصا، ثم ينظر نصيب الأرض فيحتسب من
ماله الذي ارتهن به الأرض حتى يستوفي ماله، فليدفع الأرض إلى صاحبها ".
وما رواه في الفقيه عن الحسن بن محبوب عن الكرخي (3) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل رهن بما له أرضا أو دار ألهما غلة كثيرة، فقال: على الذي
ارتهن الأرض والدار بما له أن يحسب لصاحب الأرض والدار ما أخذ من الغلة ويطرحه
عنه من الدين الذي له ".
وعن محمد بن قيس (4) في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام " قال: إن رهن رجل
أرضا فيها ثمرة فإن ثمرتها من حساب ماله، وله حساب ما عمل فيها وأنفق منها،
وإذا أستوفي ماله فليدفع الأرض إلى صاحبها ".
واطلاق هذه الأخبار شامل لما لو كان التصرف بإذن الراهن أو بغير إذن،
ولا فرق بينهما في الحكم المذكور إلا باعتبار الإثم وعدمه.
قال الصدوق في كتاب المقنع: إذا كان الرهن دار إلها غلة فالغلة لصاحب
الدار، فإن سكنها المرتهن لم تكن عليه غلتها لصاحبها، إلا أن يكون استأجرها منه،
فإن آجرها فعليه أن يحسب كراها من رأس ماله.
قال في المختلف: وهذا الاطلاق ليس بجيد، بل ينبغي التقييد بالسكنى
بإذن الراهن، والظاهر أن مراده ذلك.
أقول من العجب أن الصدوق لا يفتي في هذا الكتاب إلا بمتون الأخبار، مع أن

(1) الكافي ج 5 ص 235.
(2) الكافي ج 5 ص 235.
(3) الفقيه ج 3 ص 196 و 197.
(4) الفقيه ج 3 ص 196 و 197.
263

كلامه هنا مما يخالف ما نقلناه من الأخبار، مع عدم وجود خبر به فيما وصل إلينا من
الأخبار والله العالم.
الموضع السادس قد صرحوا بأنه إذا لم يكن المرتهن وكيلا في البيع إما
لعدم الوكالة، أو لبطلانها بموت الراهن كما تقدم (1) فإنه يجوز له مات الراهن
وخاف جحود الورثة للدين أن يبيع بنفسه، ويستوفي حقه، ويرجع الباقي إن كان
على الورثة، وكذا يجوز له لو خاف جحود الرهن أيضا ولم يكن وكيلا، وينبغي
أن يعلم أن ذلك مع البينة التي يمكن بها اثبات الحق عند الحاكم الشرعي، وإلا وجب
أن يثبت عنده الدين والرهن، ويستأذنه في البيع، كذا قالوا:
ويدل على أصل الحكم المذكور ما رواه الصدوق والشيخ عن سليمان بن
حفص المروزي (2) " أنه كتب إلى أبي الحسن عليه السلام في رجل مات وله ورثة،
فجاء رجل وادعى عليه مالا وأن عنده رهنا فكتب عليه السلام إن كان له على الميت مال،
ولا بينة له فليأخذ ماله عما في يده، ليرد الباقي على الورثة، ومتى أقر بما عنده
أخذ به، وطولب بالبينة على دعواه وأوفى حقه بعد اليمين، ومتى لم يقم البينة
والورثة ينكرون، فله عليهم يمين علم، يحلفون بالله ما يعلمون له على ميتهم
حقا ".
وظاهر الخبر أن أخذه مما في يده مشروطة بعدم البينة، كما ذكره الأصحاب،
وفي معناه عدم إمكان الاثبات عند الحاكم لآمر آخر غير عدم البينة، ويؤيده قبح
التصرف في مال الغير إلا بإذنه، خرج صورة عدم إمكان الاثبات للضرورة والاجماع،
فبقي ما عداه وينبغي أن يراعى في الخوف الموجب للتصرف ما كان مستندا إلى
القرائن المفيدة للظن الغالب بجحود الورثة أو الراهن، فلا يكفي مجرد توهم ذلك
والله العالم.

(1) في الموضع الثالث أن الوكالة من العقود الجائزة ومن شأنها أن يبطل
بالموت كما صرح به الأصحاب - منه رحمه الله.
(2) التهذيب ج 7 ص 178 الفقيه ج 3 ص 198.
264

السابع: الظاهر أنه لا خلاف في تحريم التصرف لكل من الراهن والمرتهن
في الرهن إلا بإذن الآخر، أما المرتهن فظاهر، لأنه غير مالك، ومجرد الرهن
لا يستلزم جواز التصرف.
ويدل عليه أيضا جملة من الأخبار، منها ما رواه الشيخ في التهذيب عن ابن
بكير (1) في الموثق " قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن الرجل رهن رهنا ثم
انطلق، فلا يقدر عليه أيباع الرهن؟ قال: لا حتى يجئ صاحبه ".
وما رواه المشايخ الثلاثة " عطر الله مراقدهم، عن، عبيد بن زرارة (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في رجل رهن رهنا إلى وقت غير موقت، ثم غاب هل له
وقت يباع فيه رهنه؟ قال: لا حتى يجئ " وفيهما دلالة لا سيما الثانية على جواز
الرهن من غير تعيين وقت، ولا وكالة في البيع، وعلى المنع من البيع على تقدير
التعذر.
وما رواه في الكافي والتهذيب والفقيه عن إسحاق بن عمار (3) في الموثق برواية
الثالث " قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يكون عنده الرهن، فلا يدري
لمن هو من الناس، فقال: لا أحب أن يبيعه حتى يجئ صاحبه، قلت: لا يدري لمن
هو من الناس؟ فقال: فيه فضل أو نقصان؟ فقلت: فإن كان فيه فضل أو نقصان فقال:
إن كان فيه نقصان فهو أهون يبيعه فيؤجر فيما نقص من ماله، وإن كان فيه فضل فهو
أشدهما عليه يبيعه ويمسك فضله حتى يجئ صاحبه " (4) وفي رواية الفقيه قد

(1) التهذيب ج 7 ص 169.
(2) الكافي ج 5 ص 234 التهذيب ج 7 ص 169 الفقيه ج 3 ص 197.
(3) الكافي ج 5 ص 233 التهذيب ج 7 ص 168 الفقيه ج 3 ص 197.
(4) أقول: احتمل بعض مشايخنا المحدثين من متأخر المتأخرين أن يكون
قوله يبيعه ويمسك فضله بأن يكون المبيع مجموع الرهن، وعلى هذا المراد
لفضله الباقي من الثمن زائدا على الدين، وأن يكون المبيع قدر حقه، ويكون المراد
بالفضل باقي الرهن والأشدية على هذا الوجه لعلها باعتبار الضمان، أو باعتبار عدم
تيسر مشتر لهذا الباقي، أقول لا يخفى بعد الحمل الثاني وسياق الخبر إنما يقتضي
معنى الأول كما يشير إليه كلامه عليه السلام في صورة النقصان ومرجع الضمائر
في سياق الخبر إنما هو إلى الرهن، والحمل على قدر الحق تقتضي تفكيك الضمائر وهو
معيب - منه رحمه الله.
265

سقط بعد الناس الأولى، إلى الناس الثانية، وحمل البيع هنا على كونه وكيلا أو بإذن
الحاكم الشرعي.
قال في المختلف: إذا حل الدين لم يجز بيعه إلا أن يكون وكيلا، أو يأذن له
الحاكم، قاله ابن إدريس وهو جيد، وأطلق أبو الصلاح جواز البيع مع عدم التمكن
من استيدان الراهن، ولا يبعد عندي العمل بظاهر الخبر في الصورة المذكورة من
بيع المرتهن من غير أحد الأمرين، بناء على ظاهر الإذن منه (عليه السلام) هنا، ولعل
وجه الأشدية في صورة الفضل من حيث أنه يلزمه حفظ الفضل إلى أن يظهر
صاحبه.
بقي الكلام في أن هذا الخبر دل على جواز البيع مع التعذر، وما قبله دل
على المنع، كما قدمنا الإشارة إليه، ويمكن الجمع بالفرق بن الموقت وغيره
والمؤجل، فإنه متى حل الأجل جاز البيع على النحو المتقدم، ويحتمل حمل الخبر
الأول على الكراهة المؤكدة، كما يشير إليه قوله عليه السلام في الخبر الثاني " لا أحب أن
يبيعه حتى يجئ صاحبه ".
وأما الراهن فظاهر الأصحاب كما عرفت أنه كذلك، وهو بالنسبة إلى ما
يخرجه عن كونه رهنا كبيع وعتق ونحوهما، أو يوجب نقصانه، كإجارة ونحوها
مما لا اشكال فيه، وأما التصرف بما لا يوجب شيئا من ذلك، كتزويج العبد وتقبيل
الأمة وتعليمها الصنعة ونحو ذلك فلا دليل عليه، إلا أن يدعي الاجماع في المقام
ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه، في الكافي في الصحيح أو الحسن عن
266

الحلبي (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل رهن جارية عنه قوم أيحل له
أن يطأها؟ قال: إن الذين ارتهنوها يحولون بينه وبينها، قلت أرأيت إن قدر عليها
خاليا قال: نعم لا أرى هذا عليه حراما ".
وعن محمد بن مسلم (2) في الصحيح عن أبي جعفر عليه السلام " في رجل رهن جاريته قوما أيحل له أن يطأها قال: فقال إن الذين ارتهنوها يحولون بينه وبينها،
قلت أرأيت إن قدر عليها خاليا، قال نعم لا أرى به بأسا " ورواهما الشيخ (رحمه الله)
أيضا والصدوق روى الثاني بإسناده عن العلا عن محمد بن مسلم مثله، إلا أنه قال
" إن قدر عليها خاليا ولم يعلم به الذين ارتهنوها ".
ومن العجب ما نقل عن بعضهم من عدم جواز الوطئ وإن أذن المرتهن،
والأخبار الصحيحة كما ترى تنادي بالجواز مع عدم الإذن.
وقال: في الدروس وفي رواية الحلبي يجوز وطؤها سرا وهي متروكة،
ونقل في المبسوط الاجماع عليه، وأنت خبير بما فيه، فإن ترك الرواية سيما مع
صحة سندها وتأيدها بالصحيحة الأخرى مع عدم المعارض لا يخلو من مجازفة.
وبالجملة فإني لا أعرف لهم دليلا على ما يدعونه من العموم، إلا دعوى الاجماع،
كما سمعت من نقله عن المبسوط، ونحوه ما تقدم في كلام ابن إدريس في الموضع
الخامس، وفيه ما عرفت في غير موضع.
قال في المسالك: لما كان الرهن وثيقة لدين المرتهن لم يتم الوثيقة إلا بالحجر
على الراهن، وقطع سلطنته، فيتحرك إلى الأداء، فمن ثم منع الراهن من التصرف
في الرهن، سواء أزال الملك كالبيع أم النفقة كالإجارة أم انتقض المرهون وقل الرغبة
فيه، كالتزويج، أم زاحم المرتهن في مقصوده كالرهن لغيره، أم أوجب انتفاعا
وإن لم يضر بالرهن كالاستخدام والسكنى، ولا يمنع من تصرف يعود نفعه على الرهن

(1) الكافي ج 5 ص 235 التهذيب ج 7 ص 169.
(2) الكافي ج 5 ص 237 التهذيب ج 7 ص 169 الفقيه ج 3 ص 201.
267

كمداواة المريض، ورعي الحيوان، وتأبير النخل، وختن العبد، وخفض الجارية
إن لم يؤد إلى النقص انتهى.
وهو ظاهر في تخصيص جواز تصرف الراهن يما يعود به النفع على الرهن،
وأما ما عداه فهو محرم، وحينئذ فمحل البحث معهم في ما عدا هذا الموضع،
وما عدا ما أشرنا إليه آنفا مما يخرجه عن كونه رهنا أو يوجب نقصا، فإنه لا بحث
بينهم فيه.
وظاهر كلامه هنا أن الموجب للتحريم في محل البحث هو التحرك إلى أداء
الدين، فإنه لو جاز له التصرف فيه، والانتفاع به في الوجوه المذكورة مما عدا
ما استثنى لم يتحرك إلى الأداء.
وفيه مع الاغماض عما عرفت في غير مقام من عدم صلاحية أمثال هذه
التعليلات لتأسيس الأحكام الشرعية أن ذلك يمكن استدراكه ببيع الرهن بعد
حلول الأجل، واستيفاء الدين كما هو قضية الرهن انتفع به أو لم ينتفع به، ونحن
إنما وافقناهم في صورة التصرف بما يزيل الملك أو يوجب النقصان لما في الأول
من فوات الرهن، وفي الثاني من دخول الضرر على المرتهن، وأما ما عدا ذلك
فلا وجه للمنع منه مع عدم النص، ويخرج ما ذكرنا من الخبرين الصحيحين
شاهدا.
وإلى ما اخترناه يميل كلام المحقق الأردبيلي (قدس سره) في شرح الإرشاد
حيث قال بعد البحث في المقام وذكر الخبرين المتقدمين ما لفظه: وبالجملة المنع
مطلقا غير ظاهر الوجه، كما هو ظاهر أكثر العبارات، خصوصا عن الوطئ ومثله،
أو أقل ضررا منه، أو ما لا ضرر على الرهن مثل الاستخدام، ولبس الثوب إذا لم
ينقص ولا يضر، وسكنى الدار وركوب الدابة واستكتاب المملوك إلى آخر كلامه
زيد في اكرامه وهو جيد.
ونحوه أيضا الفاضل الخراساني في الكفاية وهو ظاهر الصدوق بناء على
نقله صحيحة محمد بن مسلم وما ذكره في صدر كتابه والله العالم.
268

الثامن: إذا وطأ الراهن الأمة المرهونة بإذن المرتهن أو بدونه وأحبلها صارت
أم ولد، لأنها لم تخرج من ملكه بالرهن، وإن منع من التصرف فيها كما هو
المشهور بينهم، وعلى تقديره يأثم ويستحق التعزير مع عدم الإذن، وعلى ما قدمناه
في سابق هذا الموضع من دلالة الخبرين الصحيحين على صحة الوطئ مع عدم
الإذن فلا إثم، ولا تعزير.
ثم إنه مع الاحبال وصيرورتها أم ولد فهل تباع في دين المرتهن؟ كما هو
قضية الرهن أقوال: أحدها: جواز البيع مطلقا، عملا بما دل على بيع الرهن عند حلول
الأجل وعدم أداء الراهن، ولأن حق المرتهن قد سبق الاستيلاد المانع، وهذا القول
مختار الشهيدين.
وثانيها: المنع مطلقا عملا بما دل على المنع من بيع أمهات الأولاد و
هذا منها.
وثالثها: التفصيل باعسار الراهن فتباع، ويساره فلا تباع، ويلزمه القيمة
من غيرها يكون رهنا، وهذا القول نقل عن الشيخ في الخلاف، والعلامة في
التذكرة.
ورابعها: التفصيل بجواز البيع مع وطئها بغير إذن المرتهن، والعدم مع
وقوعه بإذنه، ونقل عن الشهيد (رحمة الله) في بعض حواشيه.
ومرجع الأقوال المذكورة إلى تعارض دليلي جواز بيع الرهن، ومنع بيع أم
الولد، فمن الأصحاب من جمع بينهما بالتفصيل المذكور في القولين الأخيرين،
ومنهم من عمل بالترجيح، كما في القولين الأولين، فبعض رجح أدلة جواز بيع
الرهن، والآخر رجح أدلة منع بيع أم الولد، والحق في المسألة أن ما ذكر من
التفصيل في كل من القولين الأخيرين لا دليل عليه إلا مجرد أمور اعتبارية، وإنما
يبقى التعارض بين أدلة جواز بيع الرهن وأدلة منع بيع أم الولد.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني الاستناد في ترجيحه أدلة جواز بيع الرهن إلى
سبق سببه، قال في المسالك: وأقوى ترجيح جانب الرهن بسبق سببه، فتجويز
269

البيع مطلقا أقوى وفيه ما لا يخفى.
وبالجملة فإنه قد تعارض اطلاق أدلة جواز بيع الرهن واطلاق أدلة المنع
من بيع أم الولد، وتخصيص أحد الاطلاقين بالآخر يحتاج إلى دليل، إلا أني لم
أقف بعد التتبع للأخبار على ما يدل منها على ما ذكروه، وإن اشتهر بينهم، بل
ادعى الاجماع عليه من اختصاص الرهن بحق المرتهن، فيطلب من الرهن بيعه
إذا لم يكن وكيلا عنه في البيع، أو الإذن فيه، فإن فعل وإلا رفع الأمر إلى الحاكم
الشرعي كما ذكروه (رضوان الله عليهم)
بل ظاهر الأخبار المتقدمة في الموضع الرابع (1) من هذا المقام إنما هو العدم،
فيما إذا مات الراهن، واستغرقت ديونه التركة، حيث حكم عليه السلام فيها بالتشريك
بيع جميع هذه الغرماء، وإن كان الأصحاب لم يقولوا بمضمونها، لخروجها عن
قاعدتهم المذكورة، ولم أقف في الأخبار على ما ذكروه إلا في صورة ما لو خاف
المرتهن جحود الورثة، كما مر في الموضع السادس (2) فإن الرواية قد صرحت
في هذه الصورة بأنه يأخذ ماله مما في يده، وأما ما عدا ذلك فلا، وحينئذ فيقوى
بناء على ما ذكرناه القول بالمنع من البيع عملا بالأخبار الدالة على عدم جواز
بيع أم الولد من غير معارض في هذا المقام سوى صورة خوف الجحود.
لكن ربما نافى ذلك ما ورد في جملة من أخبار الرهن من قولهم عليهم السلام استوثق
من مالك، إذ لا معنى للاستيثاق إلا باعتبار أخذ الدين من الرهن بعد تعذر الأداء من
الراهن.
ومن الأخبار الدالة على ذلك صحيحة عبد الله بن سنان (3) " قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن السلم في الحيوان والطعام ويرتهن الرجل بماله رهنا؟ قال: نعم
استوثق من مالك ".

(1) ص 259.
(2) ص 264.
(3) الفقيه ص 3 ص 165.
270

وفي موثقة سماعة (1) الواردة في أخذ الرهن على مال المسلم أيضا " قال
عليه السلام: لا بأس أن تستوثق من مالك " ونحوهما غيرهما ولعل هذه الأخبار ونحوها هي مستند
الأصحاب فيما ذكروه هنا، وإن كانت غير صريحة فيما ادعوه من القاعدة المذكورة،
فإن مجرد الاستيثاق لا يدل على جواز البيع، ولعله باعتبار الحجر عن الانتفاع به.
وكيف كان فالمسألة لا يخلو من الاشكال، ثم إنه ينبغي أن يعلم أنها بالوطئ
بل بالحمل لا تخرج عن كونها رهنا، إذ لا منافاة بينهما، وإن منعنا من بيع أم الولد لامكان
موت الولد، فإنه مانع، وإذا مات عمل السبب السابق عمله.
التاسع: لو وطأها المرتهن بغير إذن الراهن مكرها لها، فالذي ذكره جملة
من الأصحاب أن عليه عشر قيمتها إن كانت بكرا، ونصف العشران كانت ثيبا، وقيل:
مهر أمثالها مطلقا لأنه عوض الوطئ شرعا.
ونقل عن الشهيد (رحمه الله) في بعض حواشيه القول بتخير المالك بين الأمرين
وهل يجب على كل من التقديرين المذكورين أرش البكارة زايدا على المهر، أو
العشر؟ جعله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمالا، وجزم به في الروضة، قال:
لأنه حق جناية، وعوض جزء فائت، والمهر على التقديرين عوض الوطئ.
ثم اعترض على نفسه بأنه إذا وجب أرش البكارة صارت ثيبا فيجب عليه مهر
الثيب خاصة، وأجاب بأنه إذا وطأها بكرا فقد أستوفي منفعتها على تلك الحال،
وفوت جزء منها، فيجب عوض كل منهما، فلا يتداخلان، ولأن أحدهما عوض جزء
والآخر عوض منفعة.
وربما قيل: بدخوله في العشر وعدم دخوله في مهر المثل، وأكثر عبارات
الأصحاب هنا مطلقة، ولو طاوعته فالمشهور أنه لا شئ عليه، استنادا إلى قوله صلى الله عليه وآله (2)
" لا مهر لبغي " وهو نكرة في سياق النفي فيعم، ورد بمنع دلالته على موضع النزاع،

(1) التهذيب ج 7 ص 42 الفقيه ج 3 ص 166.
(2) التهذيب ج 10 ص 36 لكن عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السلام مع اختلاف يسير.
271

لأن الأمة لا تستحق المهر ولا تملكه، وإنما هو لمولاها فلا ينافي استحقاق مولاها،
مع كون التصرف وقع في ملكه بغير إذنه، مع أن المهر شرعا إنما يطلق على عوض
بضع الحرة، حتى سميت بسببه مهيرة، بخلاف الأمة فالنفي في النص محمول عليها،
قالوا: وبذلك يظهر أن ثبوت المهر أقوى، والمراد به أحد الأمرين السابقين فيما
تقدم من القولين، قيل: وعلى تقدير نفيه كما هو المشهور لا شبهة في ثبوت أرش
البكارة، لأنها جناية على مال الغير، فثبت أرشها.
أقول: لم أقف في هذا المقام على نص يتعلق بما ذكروه من هذه الأحكام
بالنسبة إلى الزاني بأمة غيره، رهنا كانت أم لا، وإن كان ظاهر كلامهم الاتفاق على جل
هذه الأحكام في الجملة.
والذي وقفت عليه مما ربما يناسبه، ويمكن أن يكون هو المستند لهم بالنسبة
إلى العشر ونصف العشر، ما رواه الكليني في الصحيح عن الفضيل بن يسار (1)
" قال: قلت: لأبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: قلت له: فما تقول في رجل عنده
جارية نفيسة، وهي بكر أحل لأخيه ما دون فرجها أله أن يفتضها؟ قال: لا ليس له
إلا ما أحل منها، ولو أحل له قبلة منها لم يحل له ما سوى ذلك، قلت: أرأيت إن أحل
له ما دون الفرج، فغلبته الشهوة فافتضها، قال: لا ينبغي له ذلك، قلت: فإن فعل
أيكون زانيا قال: لا، ولكن يكون خائنا، ويغرم لصاحبها عشر قيمتها إن كانت
بكرا، وإن لم تكن بكرا فنصف عشر قيمتها " وصريحها أن الواطئ في هذه الصورة
ليس بزان، وكذا صحيحة الوليد بن صبيح المتقدمة في المسألة التاسعة من المقصد
الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان من كتاب البيع (2) وموردها تدليس
المزوج للجارية، وهي أخص من المدعى أيضا، فإن ظاهر كلامهم أن هذا حكم
الزاني بأمة غيره، وإن كان لشبهة شراء أو تدليس أو نحو ذلك، ولعل مستندهم

(1) الكافي ج 5 ص 468.
(2) ج 19 ص 452.
272

أنه إذا ثبت ذلك في التزويج بتدليس الولي، وكذا في صورتي التحليل لغير الفرج
وإن لم يكن زانيا ففي صورة الزنا بطريق أولى، سيما مع قوله في صحيحة الوليد المشار
إليها بعد ذكر العشر ونصف العشر، بما استحل من فرجها " فإنه ظاهر في أن وجوب
ذلك مترتب على استحلاله ما ليس له شرعا " ولا ريب أنه في صورة الزنا أشد وأفضع، ولا أعرف هنا دليلا غير هاتين الروايتين، فإني بعد الفحص والتتبع لم أقف على
غيرهما، ومع تسليم اجراءهما في مطلق الزاني وأنه يجب أن يكون الحكم فيه
كذلك، يبقى القول الثاني والثالث عاريين عن الدليل، ونحو ذلك القول في
أرش البكارة، سيما مع القول بزيادته على أحد الأمرين المذكورين، كما ذكره
ذلك القائل.
وقد تقدم في المسألة الرابعة عشر في الجارية المشتركة يطأها أحد الشركاء
من المقصد الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان (1) تحقيق البحث في هذه المسألة،
وأن جملة من الأصحاب قد منعوا وجوب الأرش في الصورة المذكورة لعدم الدليل
عليه، والاكتفاء بوجوب المهر على القول به، أو العشر أو نصفه على القول الآخر
والله العالم.
العاشر: الظاهر من كلام جملة من الأصحاب " رضوان الله عليهم " أنه لو مات
المرتهن ولم يعلم الرهن كان كسبيل ماله، بمعنى أنه لم يعلم وجود الرهن في التركة
ولا عدمه، فإنه يكون كسبيل مال المرتهن في الحكم بكونه ميراثا، ولا يحكم للراهن
هنا بشئ، لأن الأصل براءة الذمة من حقه، إذ الرهن لم يتعلق بالذمة حيث أنه أمانة،
ولا يتعلق أيضا بماله، لأصالة بقاء ماله على ما كان عليه، من عدم استحقاق أحد
فيه شيئا.
هذا بالنظر إلى ظاهر الأمر وإن احتمل بحسب الواقع كون الرهن في التركة
ومن جملتها، فإن الأحكام الشرعية إنما تبنى على الظاهر، لا على الواقع، سيما أن
احتمال التلف بغير تفريط قائم.

(1) ج 19 ص 474.
273

والعجب أنهم " رضوان الله عليهم " ذكروا المسألة هنا كما نقلها عنهم جازمين
بالحكم المذكور، مع أنه في باب القراض والوديعة قد استشكل جملة منهم في
الحكم بذلك، نظرا إلى ما ذكرناه هنا، وإلى أن الأصل أيضا بقاء المال، لأن
المفروض أنه في يد المرتهن، وللخبر عنه (1) صلى الله عليه وآله " على اليد ما أخذت حتى تودي "
بل صرح جملة منهم في الوديعة، وربما كان هو المشهور بأن الوديعة، في الصورة
المذكورة تخرج من أصل التركة، مع تصريحهم هنا بكون الرهن كسبيل مال
المرتهن، والمسألة في المواضع الثلاثة من باب واحد، بل الحكم في كل أمانة،
وسيأتي مزيد تحقيق لذلك انشاء الله تعالى في كتاب الوديعة
الحادي عشر: إذا حل الأجل وتعذر الأداء فإن كان المرتهن وكيلا فلا اشكال
في جواز بيعه، واستيفاء حقه، والألم يكن له البيع بنفسه، لأنه تصرف في مال الغير
بغير إذنه.
ويؤيده ما تقدم في الموضع السابع (2) من روايتي ابن بكير وعبيد بن زرارة
وحينئذ فعليه أن يرجع إلى الراهن، ويلزمه بالبيع أو الإذن فيه، فإن امتنع رفع
الأمر إلى الحاكم الشرعي، فيلزمه الحاكم بالبيع أو يبع عليه كما يفعل ذلك في
ساير الحقوق، على ما رواه سماعة (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال كان
أمير المؤمنين يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم يأمر يقسم ماله بالحصص،
فإن أبى باعه فقسمه فيهم يعني ماله.
بقي الكلام هنا في موضعين أحدهما لو غاب الراهن الراهن ولم يقدر عليه، والظاهر
رفع الأمر إلى الحاكم ليبيع عليه، فإن تعذر فليبعه المرتهن، وقد تقدم في موثقة
إسحاق بن عمار في الموضع السابع ما يدل على جواز بيع المرتهن، وظاهرها

(1) المستدرك ج 2 ص 503.
(2) ص 265.
(3) الكافي ج 5 ص 102 لكن عن عمار.
274

عدم التوقف على الرجوع إلى الحاكم، إلا أنه الأولى، والأحوط ذلك.
وثانيهما: لو استلزم رفع الأمر إلى الحاكم اثبات الدين مع عجزه عن
الاثبات لعدم البينة أو تقدم حضورها أو عدم كونها مقبولة فالظاهر أيضا جواز
مباشرة المرتهن لذلك، واستيفاء حقه ‍ لخبر (1) " لا ضرر ولا ضرار ".
ويؤيده جواز المقاصة في صورة جحود الدين وعدم البينة كما ورد في الأخبار
وخبر المروزي المتقدم في الموضع السادس (2) الدال على جواز أخذ ماله مما في يده
مع خوف جحود الورثة.
ونقل في المسالك القول بجواز مباشرة المرتهن وتوليه البيع بنفسه في
صورة عدم إمكان الاثبات وعدم إمكان الوصول للحاكم، أما لعدمه أو لكونه في
بلد بعيد يشق التوصل إليه عن العلامة في التذكرة، وهو ظاهر اختياره أيضا في
الكتاب المذكور.
وقد عرفت ما يؤيده ويدل عليه، ولو أمكن الاثبات عند الحاكم بالبينة لكن
افتقر لي اليمين معها، لكون المدعى عليه ميتا أو غائبا، بناء على المشهور، فيمكن
أن يقال: إنه غير مانع من الرجوع إلى الحاكم، فلا يجوز له الاستقلال بالأخذ
بل يحلف، وهو ظاهر اختياره في المسالك مع احتماله فيه الجواز أيضا، دفعا
لمشقة الحلف بالله تعالى، ولو أذن المرتهن في البيع بعد الحلول جاز البيع بقي، الكلام
في التصرف في الثمن، وقد أطلق جواز التصرف بناء على الإذن المذكور، وفصل
آخرون وهو الظاهر بأنه إن كان الحق موافقا للثمن جنسا ووصفا جاز التصرف،
كما قيل مثله فيما إذا كان ما في ذمة المديون، مثل الدين جنسا ووصفا، فإنه
يجوز له الأخذ مقاصة من غير توقف على التراضي، ولو لم يكن موافقا له لم يجز
إلا بإذن الراهن، لأنها معاوضة أخرى، كما أنه لا يجوز له التصرف في الرهن لذلك
وربما كان وجه الاطلاق هو أن جواز التصرف مفهوم من الإذن في البيع

(1) الكافي ج 5 ص 293.
(2) ص 264.
275

والتوكيل، لأن فائدته جواز التصرف في الثمن وهو جيدان دل عليه شئ من قرائن
المقام، وإلا فالتفصيل أجود.
وأما لو أذن له في البيع قبل حلول الأجل جاز البيع، ولكن ليس له التصرف في
الثمن إلا بعد حلول الأجل، لعدم الاستحقاق قبله، والإذن في البيع لا يقتضي تعجيل
الاستيفاء، وهل يكون الثمن في هذه الصورة رهنا فلا يجوز للراهن طلبة أم لا؟ اشكال،
ولم يحضرني الآن تصريح أحدهم بالحكم المذكور، ويمكن ترجيح العدم،
بأن حق المرتهن إنما تعلق بالعين، فلا يتعدى إلى الثمن إلا بدليل، وليس، فليس.
والله العالم.
الفصل الرابع في جملة من المسائل المتعلقة بالنزاع
الأولى: لو اختلف الراهن والمرتهن في الدين الذي على الراهن مع عدم
البينة، فقيل: بأن القول قول الراهن بيمينه، وهو المشهور، ذهب إليه الشيخ في
النهاية والخلاف والمبسوط، والصدوق، وأبو الصلاح، وابن البراج، وابن حمزة،
وابن إدريس، والمحقق، والعلامة، والمتأخرون.
وقيل: بأن القول قول المرتهن ما لم يستغرق دعواه ثمن الرهن، وإليه ذهب
ابن الجنيد حيث قال: والمرتهن يصدق في دعواه حتى يحيط بالثمن ما لم يكن
بينة، فإن زادت دعوى المرتهن على القيمة لا يقبل إلا ببينة، وله أن يستحلف الراهن
على ما يقوله والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المسألة ما رواه في الكافي عن
محمد بن مسلم (1) في الصحيح عن أبي جعفر " عليه السلام " " في رجل رهن عند صاحبه
رهنا لا بينة بينهما فيه، فادعى الذي عنده الرهن أنه بألف، فقال صاحب الرهن:
إنه بمئة، قال البينة على الذي عنده الرهن إنه بألف وإن لم يكن له بينة فعلى
الراهن اليمين " ورواه الشيخ في الصحيح أيضا مثله.
وما رواه الشيخان المذكوران عن ابن أبي يعفور (2) في الموثق عن أبي

(1) الكافي ج 5 ص 237 التهذيب ج 7 ص 174.
(2) الكافي ج 5 ص 237 التهذيب ج 7 ص 174.
276

عبد الله عليه السلام " قال: إذا اختلفا في الرهن فقال أحدهما: رهنته بألف درهم،
وقال الآخر: بمئة درهم، فقال يسأل صاحب الألف البينة فإن لم يكن بينة حلف
صاحب المأة " الحديث وسيأتي تمامه انشاء الله تعالى في المسألة الآتية ورواه الصدوق
بإسناده عن أبان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام مثله.
وما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (2) في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام " في
رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بينة بينهما فادعى الذي عنده الرهن أنه بألف وقال
صاحب الرهن: بمئة فقال: البينة على الذي عنده الرهن أنه بألف فإن لم يكن
عنده بينة فعلى الذي له الرهن اليمين أنه بمئة ".
وهذه الأخبار كلها كما ترى ظاهرة في القول المشهور، ويعضدها أن ما
دلت عليه هو مقتضى القواعد الشرعية، ولأن المرتهن يدعي الزيادة والراهن منكر،
وقد تظافرت الأخبار (3) " بأن البينة على المدعي، واليمين على المنكر ".
ومن أخبار المسألة أيضا ما رواه الشيخ عن النوفلي عن السكوني (4) " عن
جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام في رهن اختلف فيه الرهن والمرتهن، فقال الراهن:
هو بكذا وكذا، وقال المرتهن: هو بأكثر قال علي عليه السلام: يصدق المرتهن حتى يحيط
بالثمن، لأنه أمينه ".
ورواه الصدوق بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه عليهم السلام مثله
وهذا الخبر هو مستند ابن الجنيد فيما تقدم نقله عنه، والشيخ قد أجاب عنه بالحمل
على أن الأولى للراهن أن يصدق المرتهن.
وأقول: لا يبعد حمل الرواية المذكورة على التقية، فإنه أحد قولي العامة،
وإن كان خلاف المشهور بينهم وكيف كان فهي قاصرة عن معارضة ما قدمناه من الأخبار،

(1) الفقيه ج 3 ص 199.
(2) التهذيب ج 7 ص 174.
(3) الوسائل الباب - 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(4) التهذيب ج 7 ص 175 الفقيه ج 3 ص 197.
277

فحملها على أحد الأمرين المذكور متعين، وليس بعد ذلك إلا طرحها وارجاعها
إلى قائلها.
وهنا شئ ينبغي التنبيه عليه، وهو أن بعض الأصحاب كالمحقق في الشرايع
نقل عن ابن الجنيد أن القول قول المرتهن ما لم يستغرق دعواه ثمن الرهن، والأكثر
. منهم المحقق في النافع، عبروا بأن القول قوله ما لم يدع زيادة على ثمن الرهن،
ومقتضى العبارة الأولى أنه مع الاستغراق الذي هو أعم من الإحاطة بثمن الرهن
أو الزيادة عليه لا يقدم قوله، ومقتضى العبارة الثانية أنه لو ادعى ما يحيط بالرهن
خاصة، فإنه يقدم قوله، والظاهر أن منشأ ذلك من عبارة ابن الجنيد المتقدمة،
فإنه في صدر العبارة جعل غاية التصديق إحاطة الدعوى بالثمن، والغاية خارجة
عن المغيا، فمفهومه أنه مع الإحاطة لا يصدق، ثم قال في آخر العبارة فإن زادت
دعوى المرتهن على القيمة لا يقبل، ومفهومه أنه يقبل مع عدم الزيادة، فإن أحاط
بالثمن فقد تعارض في كلامه مفهوم الغاية، ومفهوم الشرط، فاختلف النقل عنه لذلك.
والمفهوم من الرواية يوافق ما ذكره ابن الجنيد في صدر عبارته، حيث
لم يتعرض في الرواية للزيادة، وكان مبنى الاختلاف أن المحقق في الشرايع نظر
إلى اعتضاد صدر عبارة ابن الجنيد بالرواية، وبنى على خروج الغاية ولم يلتفت
إلى مفهوم الشرط، فنقل عنه أنه يقبل قوله ما لم يستغرق دعواه الرهن، ومن حمله
الاستغراق بالإحاطة بثمنه، والأكثر كأنهم غفلوا عن الرواية فرجحوا العمل بمفهوم
الشرط، وحملوا مفهوم الغاية على أنه داخل هنا في المغيا، جمعا بين المفهومين،
فنقلوا عنه أنه يقبل قوله ما لم يزدد دعواه على القيمة والله العالم.
المسألة الثانية، لو اختلفا فقال المالك: هو وديعة، وقال الآخر: هو رهن،
فالمشهور بين الأصحاب " رضوان الله عليهم "، أن القول قول المالك، وقيل: القول
قول الآخر، ذهب إليه الصدوق والشيخ في الإستبصار، قال الصدوق في المقنع:
على صاحب الوديعة البينة، فإن لم يكن له بينة حلف صاحب الرهن، ووافقه الشيخ
في الإستبصار.
278

وفصل ابن حمزة، فقال إن ادعى صاحب المتاع كونه وديعة عنده،
وخصمه كونه رهنا، فإن اعترف صاحب المتاع بالدين، كان القول قول خصمه، وإن
لم يعترف بالدين كان القول قول صاحب المتاع مع اليمين، ومنشأ هذا الخلاف
اختلاف الأخبار في المسألة.
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) عن أبي جعفر
" عليه السلام " أنه قال في رجل رهن عند صاحبه رهنا فقال الذي عنده الرهن:
ارتهنته عندي بكذا وكذا، فقال الآخر إنما هو عندك وديعة، قال البينة على
الذي عنده الرهن أنه بكذا وكذا، فإن لم يكن له بينة فعلى الذي له الرهن اليمين.
وما رواه في الموثق عن ابن أبي يعفور (2) عن أبي عبد الله " عليه السلام "
في حديث تقدم صدره في المسألة السابقة، قال: " وإن كان الرهن أقل مما رهن به
أو أكثر واختلفا فقال: أحدهما: هو رهن، وقال الآخر: هو وديعة، قال: على صاحب
الوديعة البينة فإن لم يكن له بينة حلف صاحب الرهن ".
ورواه لصدوق بإسناده عن فضالة عن أبان عن أبي عبد الله عليه السلام نقله وطريقه
في المشيخة صحيح، لأنه عن أبيه عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن
سعيد، عن فضالة، ورواه في الكافي في الموثق عن ابن أبي يعفور مثله.
وما رواه الشيخ عن عباد بن صهيب (3) " قال: سألت أبا عبد الله " عليه السلام "
عن متاع في يد رجلين فقال: أحدهما يقول: استودعتكه، والآخر يقول: هو رهن
فقال: القول قول الذي يقول أنه رهن عندي إلا أن يأتي الذي ادعى أنه أودعه بشهود
ورواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب عن عباد بن صهيب مثله، إذا عرفت
ذلك فاعلم أن القائلين بالقول المشهور استندوا إلى صحيحة محمد بن مسلم،
والقائلون بالقول الآخر استندوا إلى روايتي ابن أبي يعفور وعباد بن صهيب،

(1) التهذيب ج 7 ص 174 الفقيه ج 3 ص 199 الكافي ج 5 ص 237.
(2) التهذيب ج 7 ص 174 الفقيه ج 3 ص 199 الكافي ج 5 ص 237.
(3) التهذيب ج 7 ص 176 الفقيه ص 195.
279

والعلامة في المختلف وشيخنا الشهيد في المسالك ردوهما بضعف الاسناد، وإن
كانت الأولى موثقة، وفيه ما عرفت من أن الصدوق في الفقيه قد رواها في الصحيح
عن أبان كما أوضحناه، ولكنهم غفلوا عن ملاحظتها منه، اعتمدوا على ما في
التهذيب وهي فيه موثقة، وبه يظهر ضعف ما ذكروه، هذا مع البناء على اصطلاحهم
المحدث وإلا فالروايات جميعا عندنا من باب واحد، ويؤيده صحيحة محمد
بن مسلم " أن الذي عنده المتاع يدعي دينا ورهنا، والمالك ينكر كلا من الأمرين "
ومقتضى القاعدة أن القول قوله بيمينه، وأن الأصل لعدم في كل من الأمرين
المذكورين، والشيخ في الإستبصار قد أجاب عن الصحيحة المذكورة بأنه إنما قال
" عليه البينة " على مقدار الدين الذي ارتهنه به، لا على أصل الرهن، وحينئذ فيمين
المالك مع تعذر البينة إنما هي على نفي الدين، واستبعد جملة ممن تأخر عنه.
ويمكن أن يقال عن جانب الشيخ: إن الأصل وإن كان كما ذكروه، إلا أنه
يجب الخروج عنه بالدليل، وهي صحيحة أبان المؤيدة بالرواية الأخرى، وله
نظائر في الأخبار غير عزيزة.
ومنها من استودع شخصا مالا فتلف فقال صاحب المال: هو قرض في ذمتك،
وقال الآخر: هو أمانة، فإن مقتضى الأصل الذي اعتمدوه هو تقديم قول مدعي
الأمانة لأن صاحب المال يدعي أمرا زايدا وهو اشتغال الذمة، والأصل عدمه.
والحال أن موثقتي إسحاق بن عمار (1) قد صرحتا بأن القول قول مدعي
القرض بيمينه، وأن مدعي الوديعة تكلف البينة، ومع عدمها يحلف مدعي
القر ض.
ومن الموثقتين المذكورتين ما رواه الراوي المذكور (2) في الموثق عن أبي عبد الله
عليه السلام " في رجل قال لرجل: لي عليك ألف درهم، فقال الرجل: لا ولكنها وديعة،

(1) التهذيب ج 7 ص 176 و 179.
(2) الكافي ج 5 ص 238.
280

فقال أبو عبد الله عليه السلام القول قول صاحب المال مع يمينه ونحوها الموثقة
الأخرى،
وبعض مشايخنا المحققين من متأخرين احتمل في صحيحة ابن أبي يعفور الحمل على التقية، أو على ما إذا اعترف بالمال، وأنكر الرهن أو على ما إذا
دلت عليه القرائن.
أقول: ومرجع الثاني من هذه الاحتمالات الثلاثة إلى ما ذهب إليه ابن حمزة
واحتج في الكفاية بقول الشيخ والصدوق حيث اختاره بروايات الثلاثة، قال:
ويدل على قول الشيخ أخبار ثلاثة أحدها صحيحة أبان أوردها الصدوق في الفقيه
وثانيها. رواية عبد الله بن أبي يعفور، وثالثها رواية عباد بن صهيب. انتهى
مخلصا.
وفيه أن رواية أبان المروية في الفقيه هي بعينها رواية ابن أبي يعفور التي رواها
الشيخ، إلا أن الشيخ نقلها عن أبان عن ابن أبي يعفور، والصدوق في الفقيه نقلها
عن أبان عن أبي عبد الله من غير واسطة ابن أبي يعفور، والمتن واحد، فعدها روايتين
مجازفة، نعم هي في الفقيه صحيحة، وفي التهذيب موثقة.
وباختيار القول المشهور صرح أيضا المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد،
اعتمادا على صحيحة محمد بن مسلم، وضعف ما عارضها بناء على ما ذكره العلامة
وصاحب المسالك ولم يقف على رواية صاحب الفقيه التي ذكرناها.
وأما ما ذكره ابن حمزة مما قدمنا نقله عنه، فالظاهر أن وجهه الجمع بين أخبار
المسألة، فإن الاعتراف بالدين قرينة على صحة دعوى الرهن، وفيه ما لا يخفى من أن
بناء الأحكام الشرعية على هذه الاحتمالات مجازفة محضة.
وبالجملة فالمسألة في محل من الاشكال لتعارض الأخبار المذكورة، وبعد
ما ذكروه من التأويلات في كل من الجانبين مع تعارضها كما عرفت والله العالم.
المسألة الثالثة إذا تلف الرهن بتفريط المرتهن واختلفا في القيمة فهاهنا
مقامان: الأول أنه هل القول في ذلك قول الراهن أو المرتهن؟ المشهور الأول وهو
281

قول الشيخين، وسلار وأبي الصلاح وابن البراج، وابن حمزة، وابن الجنيد
وقال ابن إدريس: القول قول المرتهن، وتبعه المحقق والعلامة وشيخنا
الشهيد الثاني في المسالك، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين، وعلله في المسالك
بأنه منكر الزايد، والأصل عدمه، وبراءته ذمته، ثم نقل عن الأكثر الاستناد فيما ذهبوا
إليه إلى أن المرتهن صار خائنا فلا يقبل قوله، قال: ويضعف بأنا لم نقبل قوله من
هذه الحيثية، بل لما ذكرناه
أقول: ومرجعه إلى أن خيانته وسقوط عدالته الموجب لرد قوله لا يوجب
سقوط ما دلت عليه الأخبار من (1) " أن البينة على المدعي واليمين على المنكر " وبذلك
يظهر قوة القول الثاني.
المقام الثاني في تعيين القيمة هل هي قيمته يوم هلاكه أو يوم قبضه أو أعلى
القيم؟ أقوال: والمشهور الأول، نظرا إلى أنه وقت الحكم بضمان القيمة، لأن الحق
قبله كان منحصرا في العين وإن كانت مضمونة.
والثاني مذهب المحقق في الشرايع، واعترضه في المسالك قال: وحكم
المصنف باعتبار قيمته يوم قبضه مبني على أن القيمي يضمن بمثله، ومع ذلك ففي
اعتبار يوم القبض نظر، لأنه ثم لم يكن مضمونا، فينبغي على ذلك اعتبار المثل يوم
الضمان انتهى.
وأما القول الثالث فقد اختلفوا في تشخيصه، وما المراد من هذه العبارة
هل المراد أعلى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف كما نقله المحقق في النافع
قولا في المسألة، نسب إلى الشيخ في المبسوط أو المراد أعلى القيم من يوم التلف
إلى حكم الحاكم عليه بالقيمة؟ كما هو قول ابن الجنيد أو المراد أعلى القيم من
حين التفريط إلى وقت التلف؟ وهو ظاهر العلامة، واختاره ابن فهد في موجزه
قال: لأنه من حين التفريط كالغاصب، وأطلق جماعة من غير إشارة إلى هذه
الأقوال.

(1) الوسائل الباب - 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
282

ويضعف القول الأول من هذه الأقوال الثلاثة بأنه غير مضمون قبل التفريط،
فلا وجه لاعتبار قيمته، وحمله على الغاصب قياس مع الفارق (1) ويضعف قول
ابن الجنيد بأن المطالبة لا دخل لها في ضمان القيمة، بل الضمان ثابت وإن لم
يطالب.
أقول: والأنسب بالقواعد من هذه الأقوال أن يقال: إن قلنا في الغاصب بأن
الواجب عليه أعلى القيم، وجب هنا على المرتهن أعلى القيم من حين التفريط
الذي صار به كالغاصب إلى وقت التلف، وإن قلنا بأن الواجب عليه قيمة يوم التلف
فكذا هنا، أعني الحكم بقيمة يوم التلف إذا كان اختلاف القيم بسبب السوق أو بسبب
نقص في العين غير مضمون، أما لو كان مضمونا كما لو فرط فنقصت العين بهزال
ونحوه، تعين الأول، وهو أن يعتبر أعلى القيم من حين التفريط إلى حين التلف،
هذا كله فيما إذا كان الرهن قيميا.
أما لو كان مثليا فإنه يضمن بمثله إن وجد، وإلا فقيمة المثل يوم الأداء على الأظهر،
لأن الواجب قبل التعذر إنما كان المثل وإنما وقع الرجوع إلى القيمة بعد تعذره،
بخلاف القيمي فإن القيمة استقرت في الذمة من حين التلف قطعا، وإنما وقع الاختلاف
والاشتباه في قدرها بسبب الاعتبارات المتقدمة والله العالم.
المسألة الرابع إذا أذن المرتهن للراهن في البيع ثم رجع فاختلفا، فقال المرتهن
رجعت قبل البيع، وبموجبه يكون الرهن باقيا، والبيع باطل، وقال الراهن: إنما
رجعت بعد فالبيع صحيح، والرهن باطل.
قيل: القول هنا قول المرتهن، ترجيحا لجانب الوثيقة، بمعنى أن الدعويين
متكافئان، وذلك أن الراهن يدعي تقدم البيع على الرجوع، والأصل عدمه،
والمرتهن تقدم الرجوع على البيع، والأصل أيضا عدمه، فقد تعارض الأصلان

(1) فإنه في الغاصب مضمون عليه مجرد الغصب، بخلاف الرهن فإنه قبل
التفريط غير مضمون منه رحمه الله.
283

فيتساقطان، ويبقى حكم الراهن على العين باقيا، لأن الأصل بقاء الرهن واستصحابه، وبه
يظهر أن القول قول المرتهن.
وقيل: إن أصالة بقاء الرهن معارض بأصالة بقاء البيع، فإن وقوعه معلوم كما أن
وقوعه الرهن معلوم فيتعارضان أيضا ويتساقطان ويبقى، مع الراهن ملكية المرتهن، وصحة
تصرفه فيه المتفرع على ذلك، " فإن الناس مسلطون على أموالهم " فيكون القول حينئذ
قول الراهن، ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجوع هنا متحقق، وأصالة بقاء البيع لو لم
يكن المانع متحققا، والمانع وهو الرجوع هنا موجود.
وبالجملة فالمسألة محل اشكال لعدم النص فيها، والرجوع إلى هذه التعليلات
العقلية، سيما مع تعارضها وتدافعها غير جائز عندي، لما دلت الآيات والروايات
من انحصار أدلة الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة، ولأصحابنا في هذا الباب
فروع أكثروا فيها من البحث، طوينا ذكرها في هذا الكتاب لما ذكرناه والله العالم
بحقايق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.
كتاب الشفعة
وعرفها المحقق في الشرايع بأنها استحقاق أحد الشريكين حصة شريكه
بسبب انتقالها بالبيع، واعترضه في المسالك في هذا التعريف، وأطال في ذلك وأجاب
عنه المحقق الأردبيلي منتصرا للمحقق بما لا مزيد فائدة في التعرض إلى نقله.
ولهذا قال المحقق المذكور في آخر كلامه، ونعم ما قال: ثم إني أظن عدم
مناسبة هذه المضايقات في هذه التعريفات اللفظية في الفقه التي المقصود منها التمييز
في الجملة، ولكن لما تعرض الشارح لأمثالها أطنبت فيه بما عرفت، فخرجت عن
مقصود التعلق بذلك، ولدفع الشبهة عن مثل المحقق وغيره، وإلا فظني أن التوجه
إلى مثلها والتعرض للعبارات غير مناسب، وليس وظيفة الفقيه، بل ينبغي له أن يبذل
جهده في تحقيق المسألة وتحريرها وتوضيحها مع الخفاء، ودليلها واثباتها لا غير
انتهى ملخصا، وعلى ما ذكره " قدس سره " قد جرينا في هذا الكتاب كما لا يخفى على
284

من لاحظه في جميع الأبواب.
وكيف كان فالكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد: الأول فيما تثبت فيه
الشفعة، لا خلاف بين الأصحاب كما نقله غير واحد في ثبوتها في العقار الثابت
القابل للقسمة كالأراضي والبساتين والمساكن، وإنما الخلاف فيما عدا ذلك.
فذهب جملة من المتأخرين وأكثر المتقدمين إلى ثبوتها في كل مبيع، منقولا
كان أم لا، قابلا للقسمة أم لا، وإليه مال الشهيد في الدروس ونفى عنه البعد، وقيده
جماعة بالقابل للقسمة، وحكم بعضهم بثبوتها للمقسوم أيضا، ونقله في المسالك
عن ابن أبي عقيل.
وذهب أكثر المتأخرين إلى اختصاصها بغير المنقول عادة مما يقبل القسمة،
وأضاف بعض هؤلاء العبد، دون غيره من المنقولات، ولا بأس بنقل جملة من عبائر
المتقدمين.
قال الشيخ في النهاية: كل شئ كان بين الشريكين من ضياع أو عقار أو حيوان أو
متاع ثم باع أحدهما نصيبه كان لشريكه المطالبة بالشفعة، ثم قال: ولا شفعة فيما
لا يصح قسمته وهو ظاهر في الشفعة في المنقولات القابلة.
وقال في الخلاف: لا شفعة في السفينة وكلما يمكن نقله من الثياب والحيوان
والجرب والسفن وغير ذلك عند أكثر أصحابنا، وعلى الظاهر من رواياتهم، وحكى
المالك أن الشفعة في كل شئ من الأموال والثياب والطعام والحبوب والحيوان،
وفي أصحابنا من قال بذلك، وهو اختيار المرتضى رحمه الله.
وقال الصدوق في المقنع: لا شفعة في سفينة، ولا طريق، ولا حمام، ولا رحى،
ولا نهر، ولا ثوب، ولا في شئ مقسوم، وهي واجبة في كل شئ عدا ذلك من
حيوان وأرض ورقيق وعقار، ورواه في الفقيه وقال أبوه؟ الشفعة واجبة في كل شئ
من حيوان أو عقار أو رقيق إذا كان الشئ بين شريكين، وليس في الطريق شفعة، ولا
في نهر، ولا رحى، ولا في حمام، ولا في ثوب، ولا في شئ مقسوم.
وقال ابن أبي عقيل: لا شفعة في سفينة ولا رقيق.
285

وقال المرتضى مما انفردت به الإمامية اثباتهم حق الشفعة في كل شئ من
المبيعات من عقار وضيعة ومتاع وعروض وحيوان، كان ذلك مما يتحمل القسمة
أو لا يتحملها، ونقل ذلك عن ابن الجنيد وأبي الصلاح وابن البراج وابن إدريس.
قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال: والمعتمد أنها إنما تثبت فيما يصح
قسمته خاصة إلا المملوك، وظاهره ما يصح قسمته منقولا كان أو غير منقول.
وقال المحقق في النافع وفي ثبوتها في الحيوان قولان: المروي أنها لا تثبت
ومن فقهائنا من أثبتها في العبد دون غيره، والواجب أولا نقل ما وصل إلينا من الأخبار
المتعلقة بالمقام ثم النظر فيما يظهر منها من الأحكام.
فمن الأخبار المشار إليها ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن عقبة
بن خالد (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بالشفعة بين الشركاء في
الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا أرفت الأرف وفي
الفقيه وقال الصادق عليه السلام: ذا أرفت وحدت الحدود فلا شفعة " قال الفيومي في
كتاب المصباح المنير: " الأرفة الحد الفاصل بين الأرضين، والجمع أرف مثل
غرفة وغرف " انتهى وحينئذ فالعطف في قوله وحدت الحدود تفسيري.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن يونس (2) عن بعض رجاله عن أبي عبد الله
" عليه السلام " وفي الفقيه عن أبي عبد الله عليه السلام مرسلا " قال: سألته عن الشفعة لمن
هي؟ وفي أي شئ هي؟ ولمن تصلح وهل تكون في الحيوان شفعة؟ وكيف هي؟ "
فقال: الشفعة جائزة في كل شئ من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشئ بين
شريكين لا غيرهما فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره، وإن زاد على الاثنين
فلا شفعة، لأحد منهم " وزاد في الكافي وروى أيضا: أن الشفعة لا تكون إلا في الأرضين
والدور فقط.

(1) الكافي ج 5 ص 280 التهذيب ج 7 ص 164 الفقيه ج 3 ص 45.
(2) الكافي ح 5 ص 281 التهذيب ج 7 ص 164 الفقيه ج 3 ص 46.
286

وما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: لا شفعة في سفينة، ولا في نهر، ولا في طريق ".
وما رواه الصدوق في الفقيه عن السكوني (2) " عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه
عن علي عليهم السلام قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا شفعة في سفينة، ولا في نهر، ولا
في طريق،
ولا في رحى، ولا في حمام ".
وما رواه الشيخ في التهذيب عن سليمان بن خالد (3) في الموثق عن أبي
عبد الله عليه السلام " قال: ليس في الحيوان شفعة ".
وعن عبد الله بن سنان (4) بسند صحيح وآخر موثق " قال: قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه فقال أحدهما: أنا أحق
به أله ذلك؟ قال: نعم إذا كان واحدا ".
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن الحلبي (5) " عن أبي عبد الله " عليه
السلام ": أنه قال في المملوك يكون بين الشركاء فيبيع أحدهم نصيبه فيقول
صاحبه: أنا أحق به أله ذلك؟ قال: نعم إذا كان واحدا، قيل له في الحيوان شفعة؟
فقال: لا ".
وما رواه في الفقيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الله بن سنان (6) " قال:
سألته عن مملوك بين شركاء أراد أحدهم بيع نصيبه؟ قال: يبيعه، قلت: فإنهما كانا
اثنين فأراد أحدهما بيع نصيبه فلما أقدم على البيع قال له شريكه: أعطني قال:
هو أحق به، ثم قال عليه السلام لا شفعة في حيوان إلا أن يكون الشريك فيه واحدا "

(1) الكافي ج 5 ص 282.
(2) الفقيه ج 3 ص 46.
(3) التهذيب ج 7 ص 165.
(4) التهذيب ج 7 ص 165.
(5) التهذيب ج 7 ص 166.
(6) الفقيه ج 3 ص 46.
287

وقال في كتاب الفقه الرضوي (1) " وروي أن الشفعة واجبة في كل شئ من
الحيوان والعقار والرقيق إذا كان بين شريكين، فباع أحدهما فالشريك أحق به
من الغريب، وإذا كان الشركاء أكثر من اثنين فلا شفعة لواحد منهم إلى أن قال
وروي أنه ليس في الطريق شفعة، ولا في النهر، ولا في رحاء، ولا في حمام، ولا في
ثوب، ولا في شئ مقسوم " انتهى.
هذا ما حضرني من أخبار المسألة وباختلافها كما ترى اختلف كلام الأصحاب ويدل على القول الأول من هذه الأخبار مرسلة يونس المتقدمة، وهو ظاهر الرواية
الأولى من الروايتين المنقولتين في كتاب الفقه الرضوي
إلا أن هذا العموم مما ينافيه جملة من أخبار المسألة كالمرسلة المنقولة من
الكافي، الدالة على انحصار الشفعة في الأرضين والدور، والظاهر أن المراد منها
العقار مطلقا، وما ذكر فيها من الفردين المذكورين إنما خرج مخرج التمثيل،
ونحوها مفهوم رواية عقبة بن خالد الدالة على الأرضين والمساكن، فإنها وإن لم
يكن مثل الأولى صريحة، إلا أن ظاهرها ذلك والأخبار الدالة على نفي الشفعة في
السفينة والنهر في الطريق.
وفي رواية السكوني وكذا رواية كتاب الفقه إضافة الرحى والحمام، وهو
فتوى الشيخ علي بن بابويه كما تقدم، والظاهر أن مستنده إنما هو الكتاب المذكور
كما عرفته في غير موضع، ولا سيما في كتب العبادات.
وأما صحيحة الحلبي الدالة على نفي الشفعة في الحيوان يعني غير الأناسي
بقرينة جوازها في العبد وكذا موثقة سليمان بن خالد فيجب تقييدها بما دل عليه
رواية ابن سنان من الجواز إذا كان بين شريكين فيخص النفي بما إذا كان أزيد
وبذلك يظهر ضعف القول المذكور.
ويمكن تأييد مرسلة يونس المذكورة بما رواه في الكافي والتهذيب عن

(1) المستدرك ج 3 ص 148.
288

هارون بن حمزة الغنوي (1)، عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: سألته عن الشفعة في الدور
أشئ واجب للشريك ويعرض على الجار فهو أحق بها من غيره، فقال: الشفعة
في البيوع إذا كان شريكا فهو أحق بها من غيره بالثمن ".
وعن جميل بن دراج (2) عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام " قال: الشفعة
لكل شريك لم يقاسم ".
وأما القول المشهور بين أكثر المتأخرين وهو اختصاصها بغير المنقول عادة
مما يقبل القسمة، فقد استدل عليه بأن الأدلة عقلا ونقلا كتابا وسنة مما تدل على عدم
جواز التسلط على مال المسلم إلا بطيب نفسه منه، والأخذ بالشفعة مناف لذلك،
خرج منه ما وقع عليه الاجماع، وهو ما لا ينقل، وبقي الباقي تحت المنع بالأدلة
المتقدمة.
ويؤيده مرسلة الكافي المتقدمة، وما ورود من نفي الشفعة في الجملة من
المعدودات في الأخبار كالسفينة والنهر ونحوهما مما تقدم والحيوان في روايتي
الحلبي وسليمان بن خالد، ولا ينافي ذلك صريحا إلا مرسلة يونس، وقد حملها بعض
محققي متأخري المتأخرين على التقية.
أقول: ومثلها رواية كتاب الفقه فإنه يجب حملها على ذلك أيضا، إلا أنك
قد عرفت أن روايتي الحلبي وسليمان بن خالد مخصصان برواية عبد الله بن سنان،
فيشكل حينئذ الاستناد إليها في ذلك، وأما التقييد بقبول القسمة فاستدل عليه
بالأخبار الدالة على نفي الشفعة في السفينة ونحوها مما ذكر في رواية السكوني
وغيرها.
وأنت خبير بأنه لا دلالة فيها على ذلك، إذ لا تعرض فيها لذكر القسمة وعدمها،
وكأنهم بنوا على أن العلة في النفي في هذه الأفراد إنما هي من حيث عدم قبول هذه
الأشياء القسمة.

(1) الكافي ج 5 ص 281 و 280 التهذيب ج 7 ص 164.
(2) الكافي ج 5 ص 281 و 280 التهذيب ج 7 ص 164.
289

وفيه أن هذه علة مستنبطة لا يجوز العمل عليها عندنا، نعم يمكن الاستدلال عليه
بما في رواية عقبة بن خالد من قوله عليه السلام " إذا رفت الأرف وحدت الحدود فلا شفعة "
وفي معناها روايات أخر، فإن ظاهرها أنه لا شفعة إلا فيما يقع فيه الحدود، وتضرب
له الطرف ويقع فيه السهام.
وأما القول بثبوتها في المقسوم كما ذهب إليه ابن أبي عقيل، فيرده رواية عقبة بن
خالد، والرواية الثانية من روايته كتاب الفقه الرضوي، ومرسلة جميل بن دراج
المتقدمة هنا، ورواية محمد بن مسلم (1) " عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا وقعت السهام
ارتفعت الشفعة " ونحوه روايات أخر أعرضنا عن ذكرها فالقول المذكور بمحل من
الضعف والقصور.
وأما ما ذكره المحقق في النافع من القول بعدم ثبوتها في الحيوان.
ففيه ما عرفت من أنه وإن دل على ذلك بعض الأخبار إلا أن البعض الآخر دل
على جوازها مع اتحاد الشريك، فيجب تقييد ما أطلق به.
وكيف كان فالمسألة لا تخلو من الاشكال، والقدر المعلوم جواز الشفعة فيه
هو ما وقع عليه الاتفاق مما قدمنا ذكره، وما عداه فهو محل توقف واشكال.
نعم يمكن القول بالجواز في العبد، لدلالة جملة من الأخبار عليه، ومنها
صحيحة عبد الله بن سنان، وصحيحة الحلبي، ورواية عبد الله بن سنان الثانية،
وظاهر جملة من المتأخرين التوقف في المسألة، كشيخنا الشهيد الثاني في المسالك
والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، والمحدث الكاشاني في المفاتيح، والفاضل
الخراساني في الكفاية، وهو في محله بالنسبة إلى ما عدا ما ذكرناه والله العالم.
تنبيهات
الأول إذا بيعت الأرض وما فيها من نخل أو شجر أو أبنية فالظاهر ثبوت الشفعة

(1) الكافي ج 5 ص 280.
290

في تلك التي في الأرض تبعا لها، بل الظاهر أنه لا اشكال فيه لدخولها في عموم
النصوص الدالة على ثبوتها في الرباع والمساكن والدور، كما تقدم في رواية عقبة
بن خالد، ومرسلة الكافي وللرواية الأولى من روايتي كتاب الفقه، ورواية الغنوي.
أما لو بيعت منفردة نازعة عن تلك الأرض أو منضمة إلى أرض أخرى غير
ما هي فيها بني جواز الشفعة فيما على ما تقدم من القول بالعموم في كل مبيع، فتجوز
الشفعة فيها.
وعلى ما قيل: من التخصيص بالأرضين والمساكن والبساتين كما هو المتفق
عليه، فإنه لا شفعة فيها، لأنها لا تدخل منفردة في شئ من هذه المذكورات، لأن
المساكن اسم للمجموع المركب من الأرض والأبنية التي فيها، وكذا البساتين
بالنسبة إلى الشجر، وضمها إلى غير أرضها غير نافع، لعدم الصدق، فلا تكون
تابعة لها.
الثاني هل يثبت الشفعة في الثمرة وإن بيعت على رؤس النخل والشجر
منضمة إليها قولان: مبنيان على ما تقدم من القول بالعموم في كل مبيع، كما هو قول
أكثر المتقدمين، وجملة من المتأخرين، فيثبت الشفعة فيها.
وما تقدم مما هو المشهور بين المتأخرين من الاختصاص بغير المنقول، والثمرة
في حكم المنقول إذ لا يراد دوامها، وإنما له أجل معين ينتظر وصوله فتقطع، ولأنها
غير داخلة في مفهوم البستان، ونحوه ومن ثم لا يدخل في بيع الأصل بعد الظهور،
كما تقدم، فلا يثبت الشفعة فيها، وفي معناها الزرع الثابت
قال الشيخ في الخلاف والمبسوط: إذا باع النخل منضما إلى الأرض وهو
مثمر، وشرط الثمرة في البيع (1) كان للشفيع أخذ ذلك أجمع.
قال العلامة في المختلف بعد نقله عنه: وقال بعض فقهائنا: ليس للشفيع

(1) معنى قوله وشرط الثمرة في البيع: أي دخولها لأنها لو شرط بعد الظهور
لا تدخل من غير تقدم دخولها في مسمى النخل كما تقدم تحقيقه في موضعه - منه رحمه الله.
291

أخذ الثمرة، بل يأخذ النخل والأرض بحصتهما من الثمن، وهو المعتمد، لنا
الأصل عدم الأخذ بالشفعة، ولأنا قد بينا أن الشفعة لا تثبت فيما ينقل ويحول، والثمرة
على رؤس النخل من هذا الباب، فلا شفعة فيها، ثم نقل عن الشيخ الاحتجاج بعموم
الأخبار المروية في وجوب الشفعة في البيع، وأجاب بأن العام قد يخص بدليل
أقوى.
أقول: وقد عرفت الكلام في ذلك، وأن ما نقل عن الشيخ هنا هو مقتضى
ما نقل عن السيد المرتضى ومن تبعه كما تقدم ذكره، وبالجملة فإنه هو المشهور بين
المتقدمين كما عرفت.
الثالث المشهور بين المتأخرين عدم ثبوت الشفعة في النهر والطريق والحمام
ونحو ذلك مما تضر قسمته، وأنه يشترط في الأخذ بالشفعة كونه مما يقبل القسمة الاجبارية،
ولو أضرت به القسمة فلا شفعة، استنادا إلى ما تقدم من رواية السكوني، ونحوها
رواية فقه الرضا عليه السلام قالوا: وليس المراد من الطريق فيهما والنهر والحمام ما كان
وسعا فيكون المراد ما كان ضيقا.
وما رواه الشيخ عن طلحة بن زيد (1) " عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال:
لا شفعة إلا لشريك غير مقاسم " (2).

(1) التهذيب ج 7 ص 167.
(2) أقول: ونحو رواية طلحة المذكورة - موثقة أبي العباس وعبد الرحمان
بن أبي عبد الله: قالا سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: الشفعة لا تكون إلا لشريك
لم يقاسم " وأنت خبير بأن غاية ما يدل عليه الخبران المذكوران هو أن الشفعة
لا يكون بعد القسمة، يعني بالنسبة إلى ما يقبل القسمة، وفيه رد على العلامة والقائلين
بجواز الشفعة، وإن كان بعد القسمة، كما هو مذهب ابن أبي عقيل، ولا دلالة فيه
صريحا ولا ظاهرا على اشتراط فبول القسمة في جواز الشفعة - منه رحمه الله.
292

قال في المسالك: ولا يخفى عليك ضعف هذه الأدلة، ومن ثم ذهب المرتضى
وابن إدريس رحمهما الله، إلى عدم اشتراطه، لعموم الأدلة الدالة على ثبوتها من غير
تخصيص، ولأن المقتضي لثبوت الشفعة وهو إزالة الضرر عن الشريك قائم في
غير المقسوم بل أقوى، لأن المقسوم يمكن التخلص من ضرر الشرك بالقسمة،
بخلاف غيره انتهى.
واقتفاه في ذلك المحدث الكاشي في المفاتيح، وهو جيد لما عرفت آنفا،
فإن هذين الخبرين لاجمالهما مضافا إلى ضعفهما لا يبلغان قوة في تخصيص ما دل
على العموم صريحا، ثم إنه بناء على القول المذكور فهل المراد من الضرر الرافع
للاجبار عن القسمة هو المبطل لمنفعة المال بالكلية بمعنى أنه متى قسم خرج عن
حد الانتفاع به لضيقه أو لقلة النصيب، أو لأن أجزاءه غير منتفع بها كالأمثلة المذكورة
إذا كانت بالغة في الصغر هذا الحد، فلو بقي للسهم بعد القسمة نفع ما، يثبت
الشفعة - أو أن المراد بالضرر هو أن ينقص قيمة المقسوم بسبب القسمة نقصا فاحشا
أو أن المراد أن يبطل منفعته المقصود قبل القسمة، وإن بقيت فيه منافع، كالحمام
والرحى إذا خرجا بالقسمة عن صلاحية الانتفاع بهما في الغسل والطحن على
الوجه الأول؟ احتمالات، سيأتي تحقيق الكلام فيها انشاء الله تعالى في محله اللايق به
ثم أنه يأتي على المعنى الأول من هذه الثلاثة المذكورة أنه لو كان الحمام أو الطريق
أو النهر واسعا لا تبطل منفعته بالقسمة أجبر الممتنع من القسمة، تثبت الشفعة.
المقصد الثاني في الشروط
وهي أمور: الأول الشركة، على الأشهر الأظهر، فلو كان مقسوما فلا شفعة،
خلافا لابن أبي عقيل كما تقدم نقله عنه، وقد تقدمت جملة من الروايات الدالة على
ذلك ولا تثبت بالجوار عندنا.
نعم قد اتفق النص والفتوى عن استثناء صورة واحدة، وهي ما إذا كانت دار
فيها دور مقسومة لكل طرف مالك على حدة، طريق الجميع واحدة، فباع أحد
293

المالكين منزله وما يخصه من الطريق، فإن الشفعة حينئذ تثبت في مجموع المبيع
وإن كان بعضه غير مشترك، فلو انفردت الدار بالبيع، دون الطريق فلا شفعة، ولو
بيعت الطريق خاصة تثبت الشفعة إذا كانت الطريق واسعة، بناء على اشتراط قبول
القسمة.
والذي وقفت عليه مما يتعلق بهذا الحكم من الأخبار ما رواه الكليني عن منصور
بن حازم (1) في الحسن " قال: قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): دار بين قوم
اقتسموها فأخذ كل واحد منهم قطعة، فبناها وتركوا بينهم ساحة فيها ممرهم، فجاء
رجل فاشترى نصيب بعضهم أله ذلك؟ قال: نعم ولكن يسد بابه، يفتح بابا إلى
الطريق، أو ينزل من فوق البيت ويسد بابه، فإن أراد صاحب الطريق بيعه، فإنهم
أحق به، وإلا فهو طريقه يجئ حتى يجلس على ذلك الباب ".
وعد هذه الرواية في الصحيح جملة من الأصحاب أولهم العلامة في التذكرة
وتبعه جمع ممن تأخر عنه منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.
وفيه أن في سندها الكاهلي وهو غير موثق نعم هو ممدوح، فحديثه في
الحسن، لا الصحيح، ورواه الشيخ عن منصور في الموثق مثله، إلا أنه قال:
" أو ينزل من فوق البيت، فإن أراد شريكهم أن يبيع منقل قدميه فإنهم أحق به، وإن
أراد يجئ حتى يقعد على الباب المسدود الذي باعه لم يكن لهم أن يمنعوه ".
وما رواه في الكافي عن منصور بن حازم (2) في الصحيح أو الحسن بإبراهيم
بن هاشم " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن دار فيها دور وطريقهم واحد في عرصة
الدار، فباع بعضهم منزله من رجل هل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة؟
فقال: إن كان باع الدار وحول بابها إلى طريق غير ذلك فلا شفعة لهم، وإن باع
الطريق مع الدار فلهم الشفعة " ورواه الشيخ مثله.

(1) الكافي ج 5 ص 281 ج 7 ص 167.
(2) الكافي ج 5 ص 280 التهذيب ج 7 ص 165.
294

وأنت خبير بأن الرواية الأولى لا دلالة لها على محل البحث، لأنها إنما
تضمنت التفصيل بين بيع الدار دون حصة من الساحة وهي الطريق، وقد حكم
عليه السلام بأن المشتري يسد بابه الشارع إلى المساحة ويفتح له بابا إلى الطريق،
أو ينزل من فوق البيت لعدم استحقاقه المرور من تلك الساحة، حيث أنها غير داخلة
في البيع، ولا شفعة هنا لعدم الشركة وبين بيع حصته من الساحة خاصة
التي هي الممر، وللشركاء حينئذ الشفعة من حيث الشركة فيها، دون الدار، لأنه
لم يبعها معها فلا شفعة فيها، وإن لم يبع حصته من تلك الطريق بعد بيعه الدار فله
المجئ والسلوك فيها إلى أن ينتهي إلى ذلك الباب المسدود، ولا تعرض في الرواية
لبيع الدار مع الطريق، كما هو موضوع المسألة.
وأما الثانية فهي صريحة في ذلك حيث قال: " وإن باع الطريق مع الدار
فلهم الشفعة " وقد عد العلامة في التذكرة وغيره الرواية الأولى دليلا للمسألة
المذكورة.
ويمكن أن يكون منشأ توهمهم ذلك حمل قوله فيها برواية الكافي " فإن أراد
صاحب الطريق بيعه " على معنى بيع الطريق مع الدار، وهو غلط، فإن العبارة
ظاهرة بل صريحة في كون البيع، إنما وقع على الطريق خاصة، وأصرح منها قوله
في رواية الشيخ " وإن أراد شريكهم أن يبيع منقل قدميه فيهم أحق به " ويؤيده
أيضا قوله بعد هذه العبارة " وإلا فهو طريقه " كما في الكافي وقوله " وإن أراد يجيئ "
إلى آخره كما في رواية التهذيب، فإنه ظاهر في أنه قد باع الدار أولا.
وهذا الكلام في الطريق خاصة بعد بيعه الدار، وأنه إن باع حصته منها
فللشريك فيها الشفعة، وإلا فالطريق له يجئ ويمضي منه إلى أن ينتهي إلى باب
الدار المسدود، هذا ظاهر الخبرين كما هو رأي العين.
وقال في كتاب الفقه الرضوي (1) " فإذا كانت دار فيها دور وطريق أبوابها
في عرصة واحدة، فباع رجل داره منها من رجل كان لصاحب الدار الأخرى شفعة،

(1) المستدرك ج 3 ص 147.
295

إذا لم يتهيأ له أن يحول باب الدار التي اشتراها إلى موضع آخر، فإن حول بابها
فلا شفعة لا حد عليه " انتهى.
والظاهر أن قوله: " إذا لم يتهيأ له أن يحول " إلى آخره كناية عن دخول الطريق
في البيع وعدمه، بمعنى أنه إن باع الدار وحدها من غير دخول الطريق معها،
فلا شفعة لما عرفت من عدم موجب الشفعة وإن أدخل الطريق في البيع لعدم إمكان
طريق له غير ذلك فله الشفعة في الجميع.
وينبغي التنبيه على أمور: الأول لا يخفى أن مورد الخبرين المذكورين إنما
هو الطريق كما عرفت، والأصحاب قد أضاف وإليها الشرب، وهو النهر الذي يجري
فيه الماء إلى الأرض المقسومة، بمعنى أن الأرض مقسومة، والنهر مشترك، فلو
باع أحد الشريكين حصته من الأرض مع حصته من النهر، فللشريك الآخر الشفعة
ولا يخفى ما فيه، فإن الحكم على خلاف أصولهم المقررة، والروايات المعتبرة
من عدم جواز الشفعة في المقسوم مؤيدا بأصالة عدم التسلط على مال الغير، فالواجب
الوقوف فيما خالف ذلك على مورد النص، كما قرروه في غير مقام.
الثاني اطلاق الرواية الأولى من الروايتين المذكورتين يدل على جواز الشفعة
في الطريق، متى بيعت وحدها، سواء كانت قابلة للقسمة أم لا، والمشهور بين
المتأخرين اعتبار قبولها ذلك، أما في صورة بيعها مع الدار كما هو موضوع المسألة
فالظاهر من كلامهم عدم اشتراط ذلك، نظر إلى أن الطريق تابعة، والمبيع حقيقة
إنما هو الدار، فيكفي قبولها للقسمة.
الثالث هل يشترط في جواز الشفعة في هذه المسألة كون الدور مقسومة
بعد الشركة أو لا؟ أو يكفي كونها منفردة من أصلها، وكل منها على حدة من غير
تقدم شركة وإن اشتركت في الطريق؟ فعلى هذا يجوز الشفعة فيها أعم من أن يكون
مشتركة في الأصل، أم لا؟ قولان: وبالثاني صرح العلامة في التذكرة، وهو اختياره
في المسالك.
وعليه تدل ظاهر الرواية الثانية، حيث أن السؤال فيه عن دار فيها دور، وهو أعم
296

من كونها مقسومة بعد الاشتراك أم لا، وبالأول صرح المحقق في الشرايع، وغيره في غيره.
قال في المسالك بعد نقله الثاني عن التذكرة: وهو الظاهر، لأن هذا
مستثنى من اعتبار الشركة، ويكتفي فيه بالشركة في الطريق، لأن زوال الشركة
بالقسمة قبل البيع يلحقها بالجواز، فلا وجه لاعتبارها.
ويظهر من عبارة المصنف وجماعة حيث فرضوا الحكم في الأرض المقسومة
مع الاشتراك في الطريق اعتبار الشركة في الأصل، واحتج له بأن ضم غير المشفوع
إلى المشفوع لا يوجب ثبوت الشفعة في غير المشفوع اتفاقا، والمبيع الذي لا شركة
فيه في الحال ولا في الأصل، ليس من متعلقات الشفعة، إذ لو بيع وحده لم يثبت
فيه شفعة بحال، واثباتها لا يكون إلا بمحض الجوار، وإذا ضم إلى المشترك وجب
أن يكون الحكم كذلك ولعموم قوله عليه السلام " لا شفعة إلا لشريك مقاسم " ولا شريك
هنا لا في الحال، ولا في الأصل، ولرواية أبي العباس (1) " الشفعة لا تكون إلا لشريك "
وغير ذلك مما في معناه.
ولا يخفى عليك ضعف هذا الاحتجاج، لأن هذه الصورة مستثناة من اشتراط
الشركة بالنص والاجماع، فلا يقدح فيها ما دل على اشتراط الشركة، ولا على
نفي الشفعة بضميمة غير المشفوع إليه، من أن المقسوم خرج عن تعلق الشفعة عندهم،
فضميمته كضميمة غيره لولا الطريق المشتركة، ولأن مدلول هذه الروايات اعتبار
الشركة بالفعل، وهو منتف مع القسمة، ولو أريد منها ما يعم السابقة لزم ثبوتها في
المقسوم، وإن لم يكن له شركة في الطريق.
وأما معارضة رواية منصور الصحيحة والحسنة بتلك الأخبار الدالة على
اعتبار الشركة، وترجيح تلك بالكثرة، وموافقتها للأصل فعجيب، لأن مدلولها
على تقدير قطع النظر عن سندها اعتبار الشركة بالفعل كما ذكرناه، وروايات
منصور دلت على الاكتفاء بالشركة في الطريق، فهي خاصة، وتلك عامة، فيجمع

(1) التهذيب ج 7 ص 165.
297

بينهما بتخصيص العام لها عدا ذلك انتهى.
وهو جيد وجيه، إلا أن في اعتضاده بروايات منصور ما عرفته آنفا من أن
ذلك أنما هو مدلول إحديهما دون الأخرى.
الرابع ظاهر روايتي منصور المتقدمتين مع اعتبار اسناديهما كما عرفت
جواز الشفعة مع تعدد الشركاء وهو خلاف فتوى جمهور الأصحاب، وخلاف
ما دل عليه غير هما من الأخبار، إلا أن ظاهر كلامه عليه السلام في كتاب الفقه كون الشريك
متحدا، وسيجئ الكلام في هذه المسألة انشاء الله تعالى في المقام.
الخامس قالوا: لو باع عرصة مقسومة وشقصا من أخرى، فالشفعة في صفقة
الشقص خاصة بحصته من الثمن، والوجه فيه ظاهر، لأن المقسوم لا شفعة فيه كما
تقدم، وليس هذا من قبيل الصورة المتقدمة المستثناة من هذه القاعدة، وأما الشقص
فالعلة الموجبة للشفعة موجودة فيه، وهي الشركة، فيعطي كل واحد حكمه، ولا
يقدح في ذلك كونه بيعا واحدا لصدق البيع على كل واحد بانفراده أيضا.
ومن هذا الباب لو باع البستان بثمره والأرض بزرعها، بناء على ما هو المشهور
بين المتأخرين من عدم الشفعة في الثمرة والزرع، لكونهما مما ينقل، والشفعة
مخصوصة بما لا ينقل عندهم كما تقدم ذكره.
فعلى هذا تثبت الشفعة في غير الثمرة والزرع بحصته من الثمن، بأن ينسب قيمة
المشفوع فيه منفردا إلى قيمة المجموع، فحصته من الثمن بتلك النسبة، فإذا قيل:
قيمة المجموع مئة وقيمة ما عدا الثمرة والزرع ثمانون، أخذ الشفيع المشفوع
بأربعة أخماس الثمن كائنا ما كان.
الثاني من الشرايط المتقدم ذكرها انتقال الشقص بالبيع خاصة، فلو جعله
صداقا أو صدقة أو هبة أو صالح عليه فلا شفعة على الأشهر الأظهر، بل كاد يكون اجماعا،
وخالف فيه ابن الجنيد، فأثبت الشفعة في مجرد النقل حتى الهبة بعوض وغيرها.
قال على ما نقله عنه في المختلف: إذا زال ملك الشريك عنه بهبة منه بعوض شرط
يعوضه إياه، أو غير عوض كانت للشفيع شفعة فيه، فإن حبس ملكه أو أسكنه لم يكن للشفيع
298

شفعة، ثم نقل عنه أنه احتج بأن الحكمة الباعثة لا يجاب الشفعة في صورة البيع
موجودة في غيره من عقود المعارضات، ولا اعتبار بخصوصيات العقود في ذلك في نظر
الشارع، فأما أن يثبت الحكم في الجميع، أو ينتفى عن الجميع، فاثباته في البعض دون
البعض ترجيح من غير مرجح.
ثم أجاب عنه بأن الحكمة لا يجوز التعليل بها، لعدم انضباطها فلا بد من
ضابط، ولما رأينا صور ثبوت الشفعة موجود فيها مطلق البيع، جعلناه ضابطا للمناسبة
والاقتران، على أن القياس عندنا باطل انتهى.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الميل إلى ما ذهب إليه ابن الجنيد
هنا، حيث قال بعد ذكر المصنف الحكم المذكور: هذا هو المشهور بين الأصحاب،
بل كاد يكون اجماعا، وليس عليه دليل صريح، وإنما تضمنت الروايات ذكر البيع،
وهو لا ينافي ثبوتها بغيره.
ومن ثم خالف ابن الجنيد، فأثبتها لمطلق النقل، حتى بالهبة بعوض وغيره
لما أشرنا إليه من عدم دليل يقتضي التخصيص، واشتراك الجميع في الحكمة
الباعثة على اثبات الشفعة، وهو دفع الضرر عن الشريك، ولو خصها بعقود
المعاوضات كما تقوله العامة كان أبعد، لأن أخذ الشفيع للموهوب بغير عوض بعيد،
وبه خارج عن مقتضى الأخذ انتهى.
أقول: لا يخفى أن مقتضى الدليل العقلي والنقلي كتابا وسنة والاجماع هو
عدم جواز التصرف في مال الغير إلا بإذن منه، والشفعة قد خرجت على خلاف
مقتضى هذه الأدلة المتفق عليها وعلى قوتها والاعتماد عليها، وحينئذ فلا بد في كل
فرد ادعى فيه جواز الشفعة من دليل واضح من الكتاب أو السنة أو الاجماع الذي
يعتمدونه، ليمكن الخروج به عما اقتضته هذه الأدلة المذكورة.
وغاية ما وجد في الأخبار بالنسبة إلى هذه المسألة هو جواز الشفعة بالانتقال
بالبيع خاصة، ومدعى الجواز في الانتقال بغيره عليه الدليل، ليخرج عن عموم
تلك الأدلة القاطعة المانعة من جواز التصرف في مال الغير إلا بإذنه،
299

وبذلك يظهر لك في ما كلام شيخنا المذكور من القصور، حيث أنه أنما
مال إلى مذهب ابن الجنيد، لعدم الدليل على التخصيص بالبيع، ومجرد ورود
الروايات بالبيع لا يقتضي التخصيص به، وغفل عن أن الشفعة إنما خرجت على
خلاف الأصول المقررة، والقواعد المعتبرة كتابا وسنة واجماعا، فيجب الاقتصار
في ثبوتها على موارد الأدلة كما قرروه في غير مقام.
والتمويه هنا بهذه الحكمة التي يدعونها لم نقف عليه في خبر من الأخبار،
وإنما استنبطوها من أخبار الشفعة الواردة في البيوع، وعلى تقدير حكم الشارع
بالشفعة في البيع لدفع الضرر عن الشريك، فالتعدية إلى غير البيع قياس محض،
لأن هذه العلة مخصوصة بصورة البيع، وحمل غيره عليه قياس محض، إذ يمكن
أن كون للبيع خصوصية في ذلك لا نعلمها فكيف يمكن التعدية بمجرد ذلك.
وبالجملة فإن التمسك بذلك في مقابلة ما ذكرنا من الأدلة القاطعة والبراهين
الساطعة مجازفة محضة هذا.
وأما الأخبار الدالة على ما هو المشهور والمؤيد المنصور فمنها ما رواه الشيخ
في التهذيب عن أبي بصير (1) عن أبي جعفر عليه السلام " قال سألته عن رجل تزوج
امرأة على بيت في دار له، وله في تلك الدار شركاء قال: جائز له ولها، ولا شفعة لأحد من
الشركاء عليها ".
ووصف هذه الرواية في المسالك بالصحة، مع أن أبا بصير فيها مشترك،
ولا قرينة تعين كونه المرادي الثقة ومن قاعدتهم عدها في الضعيف، وهي واضحة في
رفع ما ادعوه من الحكمة الموجبة للعموم في جميع الانتقالات،
ومنها رواية الغنوي المتقدمة في المقصد الأول (2) وقوله فيها " الشفعة في البيوع
إذا كان شريكا فيها فهو أحق بها من غيره بالثمن ".
ومنها مرسلة يونس المتقدمة ثمة أيضا، وفيها " الشفعة جايزة في كل شئ من

(1) التهذيب ج 7 ص 167
(2) ص 289.
300

حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشئ بين شريكين لا غير، فباع أحدهما نصيبه "
الحديث.
ومنها روايتا منصور بن حازم المتقدمتان في الشرط الأول من هذا المقصد
فإن موردهما البيع، إلى غير ذلك من الأخبار.
الثالث من الشروط المعتبرة في الشفعة: أن لا يكون الشريك أكثر من واحد
على المشهور، وإليه ذهب الشيخان والمرتضى وأتباعهم، وحتى ادعى ابن إدريس
عليه الاجماع، ونقل في المختلف عن الشيخين، وعلي بن بابويه، والسيد المرتضى
وسلار، وأبي الصلاح وابن البراج، وابن حمزة، والطبرسي، وابن زهرة، وقطب
الدين الكيدري، وابن إدريس، ونقله في المختلف أيضا عن والده.
والصدوق في المقنع وافق المشهور، ونسب ثبوتها مع الكثرة إلى الرواية
وفي الفقيه ذهب إلى ثبوتها مع الكثرة في غير الحيوان، فإنه روى فيه رواية طلحة
بن زيد (2) الدالة على ثبوت الشفعة على عدد الرجل، ثم قال بعد نقل روايات
في البين (2): " وسئل الصادق عليه السلام عن الشفعة لمن هي وفي أي شئ هي؟
وهل تكون في الحيوان شفعة؟ قال: الشفعة واجبه في كل شئ من حيوان أو أرض
أو متاع إذا كان الشئ بين شريكين لا غيرهما فباع أحدهما نصيبه، فشريكه أحق
به من غيره، فإذا زاد على الاثنين فلا شفعة لا حد منهم ".
ثم قال: قال المصنف هذا الكتاب: يعني بذلك الشفعة في الحيوان وحده
فأما في غير الحيوان فالشفعة واجبة للشركاء، وإن كان أكثر من اثنين، وتصديق
ذلك ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن
مملوك " ثم ساقه كما سنذكره هنا انشاء الله تعالى.
وذهب ابن الجنيد إلى ثبوتها مع الكثرة مطلقا، وقواه العلامة في المختلف
بعد ذهابه إلى المشهور، وخطأ ابن إدريس في دعواه الاجماع، ونقل المحقق

(1) ص 294.
(2) الفقيه ج 3 ص 45 و 46.
(3) الفقيه ج 3 ص 45 و 46.
(4) الفقيه ج 3 ص 45 و 46.
301

قولا بثبوتها مع الكثرة في غير العبد.
أقول: والأصل في هذا الخلاف اختلاف الأخبار في هذه المسألة فمما يدل
على القول المشهور ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان (1) عن أبي
عبد الله عليه السلام " قال: لا تكون الشفعة إلا لشريكين ما لم يتقاسما، وإذا صاروا ثلاثة
فليس لواحد منهم شفعة ".
وعد هذه الرواية في المسالك صحيحة، مع أن في سندها محمد بن عيسى
عن يونس، وهو يعد هذا السند دائما في الضعيف، فوصفه هنا بالصحة غفلة منه
(قدس سره).
ومنها مرسلة يونس (2) المتقدمة وهي التي ذكرها الصدوق هنا مرسلة عنه
عليه السلام " وفيها والشفعة جايزة في كل شئ من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان
الشئ بين شريكين لا غير، فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره، فإذا
زاد على الاثنين فلا شفعة لهم ".
وما رواه في التهذيب عن عبد الله سنان (3) في الموثق " قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه، فقال أحدهما:
أنا أحق به أله ذلك؟ قال: نعم إذا كان واحدا ".
ومنها ما رواه في الفقيه في الصحيح عن البزنطي عن عبد الله بن سنان (4)
" قال: سألته عن مملوك بين شركاء أراد أحدهم بيع نصيبه قال: يبيعه، قلت: فإنهما
كانا اثنين فأراد أحدهما بيع نصيبه فلما أقدم على البيع قال له شريكه: أعطني
قال: أحق به، ثم قال عليه السلام: لا شفعة في حيوان إلا أن يكون الشريك فيه
واحدا.

(1) الكافي ج 5 ص 281 التهذيب ج 7 ص 164 واخراج الأخير الفقيه
(2) الكافي ج 5 ص 281 التهذيب ج 7 ص 164 واخراج الأخير الفقيه
ج 3 ص 46
(3) التهذيب ج 7 ص 166
(4) الفقيه ج 3 ص 46
302

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح والحسن أو الصحيح عن الحلبي (1)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنه قال في المملوك يكون بين الشركاء فيبيع أحدهم
نصيبه فيقول صاحبه: أنا أحق به أله ذلك، قال: نعم إذا كان واحدا، قيل له: في الحيوان
شفعة؟ قال: لا ".
وفي كتاب الفقه الرضوي (2) قال (عليه السلام): " وروى أن الشفعة واجبة في
كل شئ من الحيوان أو العقار والرقيق إذا كان الشئ بين شريكين فباع أحدهما
فالشريك أحق به من الغريب، وإذا كان الشركاء أكثر من اثنين فلا شفعة لواحد
منهم ".
وأما ما يدل على الشفعة مع الكثرة فمنه ما رواه في التهذيب والفقيه عن السكوني
(3) " عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) قال: الشفعة
على عدد الرجل ".
وما رواه في الفقيه عن طلحة بن زيد (4) " عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهم السلام
قال: قال: علي (عليه السلام): الشفعة على عدد الرجال ".
هذا ما حضرني من روايات هذا الحكم، والشيخ قد حمل الروايتين الأخيرتين
على التقية، قال، لموافقتهما بعض العامة وهو جيد، ويؤيده أن رواتهما من رجال
العامة، وأنت خبير بأنه مع قطع النظر عن ذلك، فإن هاتين الروايتين لا يبلغ قوة
في معارضة الأخبار المتقدمة، ومن قواعدهم أنهم لا يجمعون بين الأخبار إلا مع
المعارضة، وإلا فإنهم يطرحون المرجوع منها

(1) الكافي ج 5 ص 210 التهذيب ج 7 ص 166 الصحيح في رواية التهذيب
والحسن أو الصحيح في رواية الكافي باعتبار إبراهيم ابن هاشم - منه رحمه الله.
(2) المستدرك ج 3 ص 148.
(3) التهذيب ج 7 ص 166 الفقيه ج 3 ص 45.
(4) الفقيه ج 3 ص 45.
303

وأما جمع الصدوق في الفقيه بينهما بحمل الأخبار الدالة على التخصيص بالاثنين على الحيوان خاصة، وجواز الشفعة مع الكثرة في غيره.
فيرده تصريح جملة من الأخبار الدالة على اشتراط كونها اثنين في غير الحيوان،
مثل مرسلة يونس، ورواية كتاب الفقه الرضوي، وهو معتمد عليه عنده، وقد
أكثر الافتاء بعبائره في كتابه كما قدمنا ذكره، سيما في كتب العبادات.
وأما قوله في ما تقدم نقله عنه بعد ايراد مضمون مرسلة يونس: يعني بذلك
الشفعة في الحيوان وحده " فهو عجيب من مثله (قدس سره) فإن سياق كلامه عليه السلام
أن الشفعة واجبة في كل شئ من حيوان أو أرض أو متاع بشرط أن يكون ذلك
الشئ بين اثنين لا أزيد، فأي مجال هنا للتخصيص بالحيوان كما زعمه، على أن
المتبادر من الحيوان في هذه الروايات إنما هو الحيوان الغير الأناسي، كما هو
صريح صحيحة الحلبي، حيث صرح فيها باشتراط الاثنينية في المملوك، وأنه لا يجوز
الشفعة فيه إلا بذلك، ثم نفى الشفعة عن الحيوان، وحينئذ فيكون الروايات الدالة
على اشتراط الاثنينية في العبد مخالفة لما ذكره
وبالجملة فالأظهر عندي هو القول المشهور، وحمل خبر السكوني وطلحة
بن زيد على التقية. نعم ربما أوهم الدلالة على هذا القول روايتا منصور بن حازم
المتقدمتان، مع اعتبار اسناديهما كما أشرنا إليه آنفا.
ومثلهما رواية عقبة بن خالد (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: قضى رسول الله
صلى الله عليه وآله، بالشفعة بين الشركاء " وتوجيه الاستدلال بهذه الأخبار بأنها وردت بلفظ
الجمع في الشركاء وأقله ثلاثة، وكذا لفظ القوم في إحدى روايتي منصور بن حازم
وأجاب الشهيد في الدروس عن روايتي منصور بالحمل على التقية، قال: لموافقتهما
لمذهب العامة، وهو جيد.
ويمكن الجواب أيضا بحمل الجمع على الاثنين، فإنه وإن كان مجازا على

(1) الكافي ج 5 ص 280.
304

المشهور بين الأصوليين، إلا أنه لا بأس به في مقام الجمع بين الأخبار، وإليه يميل
كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، ونقله أيضا عن الإستبصار، قال: فإنه
يصح اطلاق الجمع على الاثنين بل على الواحد، كالقوم، وإن كان مجازا، لجمع
بين الأدلة، ثم ذكر الحمل على التقية أيضا.
أقول: ويؤيده ما قدمنا نقله عن كتاب الفقه الرضوي، حيث أن ظاهر عبارته
كون الشريك في هذه الصورة المفروضة في هذا الخبرين واحدا، كما قدمنا
الإشارة إليه.
ثم أقول: لا يخفى أن ما قدمناه في سابق هذا الشرط من التحقيق، وأن
الأصل بمقتضى الأدلة العقلية والنقلية كتابا وسنة والاجماع هو عدم جواز
الشفعة التي هي عبارة عن التصرف في مال الغير بغير إذنه، فيتوقف الخروج عن
هذا الأصل الأصيل على دليل واضح صريح صحيح في جواز الشفعة، والذي دلت
عليه الأخبار المعتمدة بصريحها هو التخصيص بصورة ما إذا كانا اثنين خاصة.
وما دل على أكثر، لتطرق الاحتمال إليه بالحمل على التقية التي هي في
اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية، احتمال الحمل على التجوز الذي هو
باب واسع في الآيات والروايات، وكلام البلغاء لا يمكن الخروج به عن ذلك الأصل
المشار إليه.
وما ادعاه في المسالك من أن روايات هذا القول أكثر وأوضح دلالة وأن
رواية منصور أصح طريقا ففيه أنه لم يورد من روايات القول المشهور إلا رواية عبد
الله بن سنان التي قد منا النقل عنه أنه وصفها بالصحة ومرسلة يونس، والحال
كما عرفت أن دليل القول المشهور هو جملة الروايات التي قدمناها، وهي أكثر
عددا وأصرح دلالة، وفيها جملة من الصحاح، وما ذكره من صحة صحيحة منصور
مسلم، لكنها غير صريحة، لما عرفت من تطرق الاحتمالات إليها، بخلاف تلك
الروايات.
وكيف كان فإنه ينبغي أن يستثنى المملوك من محل الخلاف، لما تضمنه
305

جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة في اشتراط في صحة الشفعة فيه،
ويجعل محل الخلاف فيما عداه، وبه يظهر قوة القول الذي نقله المحقق كما قدمنا
ذكره في جملة أقوال المسألة: والله العالم.
تنبيه: قال في المسالك بعد تمام البحث في المسألة المذكورة -: إذا عرفت
ذلك فقد اختلف القائلون بثبوتها مع الكثرة، هل هي على عدد الرؤوس، أو على قدر
السهام، صرح الصدوق بالأول، ونقله الشيخ عنهم مطلقا، وقال ابن الجنيد: الشفعة
على قدر السهام من الشركة، ولو حكم بها على عدد الشفعاء جاز، ويدل على الأول
رواية طلحة بن زيد " أن عليا (عليه السلام) قال: الشفعة تثبت على عدد الرجال ".
أقول: ومثلها رواية السكوني أيضا كما تقدم، وبه يظهر رجحان هذا القول
على تقدير العمل بروايات الكثرة، إلا أنك قد عرفت جمل الخبرين المذكورين على
التقية، والكلام في هذا الفرع لا محصل له على ما اخترناه.
الرابع ما ذكره جملة من المتأخرين كالعلامة في ارشاد من أن من شروط
الشفعة أن يكون مما يمكن قسمته، ونقل عنه في التذكرة أن هذا شرط عند أكثر
علمائنا.
أقول: قد عرفت في صدر المقصد الأول الخلاف في هذا المقام، وأن المشهور
بين المتقدمين وجملة من المتأخرين هو ثبوتها في كل مبيع منقول أو غيره قابل للقسمة
أم لا، فلعل ما نقل عن التذكرة من نسبة هذا القول إلى أكثر علمائنا يعني المعاصرين له،
وإلا فإن ابن إدريس ومن تقدم كما تقدم ذكره إنما هم على خلاف ذلك، وشهرة
هذا القول بين المتأخرين كما تقدم نقله عنهم إنما وقع بعد العلامة.
وبالجملة فإن نسبته إلى أكثر علمائنا لا يخلو من الاشكال لما عرفت، وتحقيق
الكلام في هذا الشرط قد تقدم في المقصد الأول (1)

(1) ص 299.
306

المقصد الثالث في الشفيع
قالوا: وهو كل شريك بحصة مشاعة قادر على الثمن،
ويشترط فيه الاسلام إذا كان المشتري مسلما.
أقول. وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع: الأول قد عرفت في الشرط
الأول من المقصد الثاني أن من شروط الشفعة الشركة بحصة مشاعة، فلا شفعة فيما
قسم، ولا في الجواز إلا فيما تقدم من صورة الاشتراك في الطريق، كما تقدم تحقيقه.
الثاني قالوا: المراد بالقادر على الثمن ما يشمل القدرة بالفعل أو القوة،
ليدخل فيه الفقير القادر على دفعه ولو بالاقتراض، واستشكلوا في المماطل والهارب،
لصدق القدرة عليهما بالفعل، فضلا عن القوة، فتصح الشفعة بناء على ذلك الحكم،
إلا أن اللازم من ذلك الضرر على المشتري، والظاهر كما استظهره المحقق الأردبيلي
عدم صدقه عليهما، لأنهما في قوة العاجز عن الثمن بل أقبح، ومن هنا قالوا: لو ماطل
القادر على الأداء بطلت الشفعة، قالوا: ولو ادعى غيبة الثمن فإن ذكر أنه ببلده، أخر
ثلاثة أيام من وقت حضوره للأخذ، وإن ذكر أنه ببلد آخر أجل بمقدار ذهابه إليه وأخذه
وعوده وثلاثة أيام.
والذي وقفت عليه من الأخبار هنا ما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن
مهزيار (1) في الحسن " قال: سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام عن رجل طلب شفعة أرض
فذهب على أن يحضر المال فلم ينض، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها
أيبيعها أو ينتظر مجيئ شريكه صاحب الشفعة؟ قال: إن كان معه في المصر فلينتظر
به ثلاثة أيام، فإن أتاه بالمال، وإلا فليبع وبطلت شفعته في الأرض، وإن طلب الأجل
لي أن يحمل المال من بلد إلى آخر فلينظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك
البلدة وينصرف، وزيادة ثلاثة أيام إذا قدم، فإن وافاه وإلا فلا شفعة له ".

(1) التهذيب ج 7 ص 167.
307

وأنت خبير بأن مورد الرواية المذكورة إنما هو الشفعة قبل البيع، وأن
الذي ينتظر الشريك الذي يريد أن يبيع لا المشتري، والأصحاب قد استدلوا بها على
الشفعة بعده، ولعلهم قاسوا حال المشتري على البايع، وهو مشكل
وأيضا فظاهر الخبر الجواز، أعم من أن يكون في ذلك ضرر أم لا، وهم قد
قيدوا الجواز بعدم الضرر، وكأنهم قيدوا الخبر بذلك، لأنه منفي بالعقل والنقل
وحينئذ لو كان البلد بعيدا جدا ويتضرر بالتأخير فلا شفعة، وما ذكره المحقق الأردبيلي
(قدس سره) من المناقشة هنا الظاهر ضعفه (1).
الثالث لا خلاف بين الأصحاب كما نقله في المختلف في الثمن إذا كان من
ذوات الأمثال تثبت الشفعة، إنما الخلاف فيما إذا كان من ذوات القيم، فذهب
الشيخ في الخلاف إلى بطلان الشفعة، ونقله في المبسوط عن بعض أصحابنا،
وهو منقول أيضا عن الطبرسي وابن حمزة، واختاره العلامة في المختلف (2).

(1) حيث قال: وظاهر الرواية غير مقيد بعدم الضرر فكأنهم قيدوا بعدم الضرر،
لأنه منفي بالعقل والنقل، لكنه غير ظاهر، لأنا نجد وقوعه في الشرع كثيرا فليس له
ضابط واضح خصوصا مع وجود النص. انتهى، وفيه أن ما ادعاه عن وقوعه في
الشرع كثيرا في محل المنع، ومع تسليمه فيجب الاقتصار به على موضعه، ويخص
به الدليل العقلي والنقلي الدال على عدم جوازه وما أطلق من هذه الرواية ونحوها
يجب تخصيصها بالأدلة المذكورة كما هو مقتضى القواعد المقررة، وبالجملة، فإن
مناقشته بمحل من الضعف والنظر - منه رحمه الله.
(2) أقول: ويؤيد القول بالبطلان أن الشفعة إنما يكون بمثل الثمن، والثمن
هنا ليس من ذوات الأمثال، والقائلون بالجواز إنما يوجبون القيمة وقت العقد،
وهي ليس مثل الثمن والمثمن، ويشير إلى ذلك أيضا رواية الغنوي المتقدمة في
المقصد الأول، وقوله فيها فهو أحق بها من غيره بالثمن، وهو إنما يتحقق بالمثل،
لأن الحمل على الثمن الحقيقي متعذر فيصار حينئذ إلى أقرب المجازات وهو المثل
والمحقق في النافع بعد أن اختار الشفعة نسب القول بسقوط الشفعة إلى رواية
فيها احتمال، وقال بعض الأصحاب في الاحتمال المذكور قصر الرواية على موردها
ولا يخفى ما فيه من البعد سيما مع اعتضاد الرواية المذكور بما ذكرناه في الأصل
منه رحمه الله.
308

وقال الشيخ: بصحة الشفعة، وأنه يأخذ بقيمته، وبه قال المفيد، وأبو الصلاح
وابن دريس، والمحقق في النافع، والأقرب الأول تمسكا بما ذكرنا من الأصل
المتقدم ذكره حتى يقوم الدليل على جواز الشفعة في موضع البحث، ويدل عليه
أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن ابن رباب (1) " عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل
اشترى دارا برقيق ومتاع وبزوحوهر قال: ليس لا حد فيها شفعة ".
استند أصحاب القول الثاني إلى عموم ثبوت الشفعة، وفيه أن العموم مخصص
بما ذكرناه من الدليل.
الرابع: هل يدخل الموقوف عليه فيمن يجوز له الأخذ بالشفعة أم لا؟ وتوضيح
ذلك أنه إذا كان بعض الدار أو الأرض وقفا والبعض الآخر طلقا، فإن بيع الوقف
على وجه يصح بيعه فالظاهر أنه لا اشكال في أن للشريك وهو صاحب الطلق الشفعة،
لوجود المقتضي وعدم المانع.
إنما الاشكال والخلاف فيما إذا بيع الطلق، وقال السيد المرتضى (رضي الله عنه): لإمام المسلمين وخلفائه المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على
المساكين، أو على المساجد ومصالح المسلمين، وكذلك كل ناظر بحق في وقف
من وصي وولي، له أن يطالب بشفعته،
وقال الشيخ (2) في المبسوط: إذا كان نصف الدار وقفا ونصفها طلقا فبيع الطلق

(1) التهذيب ج 7 ص 167.
(2) قال في الكتاب المذكور: لو كانت الدار وقفا وبعضها طلقا فبيع الطلق
لم يكن للموقوف عليهم شفعة ولو كان واحدا، لأنه ليس مالكا للرقبة على الخصوص
انتهى. منه رحمه الله.
309

لم يستحق أهل الوقف الشفعة بلا خلاف، وتبعه المحقق في الشرايع والشهيد
في الدروس.
وقال ابن إدريس: إن كان الموقوف، عليه واحدا صحت الشفعة، وإلا
فلا، واختاره العلامة في المختلف واحتج عليه بأنه مع الاتحاد يصدق شريك
واحد في بيع، فكان له الشفعة كالطلق، ثم نقل عن الشيخ الاحتجاج بعدم انحصار
الحق في الموقوف عليه، وبعدم الانتقال إليه.
قال: والجواب المنع من المتقدمتين وهذا القول هو المشهور بين المتأخرين،
والظاهر أن الخلاف المذكور مبني على أنه هل ينتقل الوقف إلى الموقوف عليه
مطلقا، أو مع اتحاده، أو لا مطلقا؟ فيرجع كل من الأقوال الثلاثة إلى ذلك، إلا
أن الشهيد في الدروس مع اختياره في الوقف انتقاله إلى الموقوف عليه حكم
هنا بعدم الشفعة، معلا بنقص الملك، بمعنى أن تملك الموقوف عليه تملك
ناقص، ولهذا لا ينفذ تصرفه فيه، فلا يتسلط على الأخذ بالشفعة.
وأورد عليه بأن المعتبر في ثبوتها، الشركة المتحققة بالملك في الجملة، نقصه
بالحجر على المالك في التصرف لا ينافي كونه مالكا، ومن ثم ثبتت لغيره ممن
يجري عليه في التصرف. أقول: والمسألة لعدم النص في محل الاشكال. والله
العام.
الخامس قد صرح جملة من الأصحاب: بأنه يشترط في الشفيع الاسلام
إذا كان المشتري مسلما، قالوا: لأن الشفيع إنما يأخذ من المشتري قهرا وأخذه منه
على وجه القهر سبيل على المسلم، وهو منفي بقوله عز وجل (1) " ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا ".
وفيه أن المراد من الآية المذكورة كما قدمناه في كتاب البيع إنما هو السبيل
من جهة الحجة، كما ورد به النص في تفسيرها عنهم عليهم السلام وإن كانوا (رضوان الله

(1) سورة النساء الآية 141.
310

عليهم) قد أكثروا من الاستدلال بها في مثل هذا الموضع.
نعم يدل على ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (1) عن أبي
عبد الله عليه السلام، ورواه في الفقيه مرسلا عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: ليس لليهود ولا
للنصارى شفعة ".
وقال الرضا عليه السلام في كتاب الفقه (2) " ولا شفعة ليهودي ولا نصراني ولا مخالف "
وهو صريح في عدم جواز الشفعة للمخالف، وفيه رد على من حكم باسلام المخالفين
من أصحابنا (رضوان الله عليهم) فإن الظاهر منهم بناء على حكمهم باسلام المخالفين،
ثبوت الشفعة لهم، وأما من يحكم من أصحابنا بكفرهم كما هو المشهور بين المتقدمين
فلا، وكلامه عليه السلام هنا مؤيد لذلك، وفي التقييد في نفي شفعتهم بكون المشتري
مسلما إشارة إلى أنه لو كان المشتري منهم فلهم الشفعة، وهو كذلك بغير خلاف، وعليه
يحمل اطلاق الخبرين المذكورين أيضا (3) والله العالم.
السادس قد تقدم اشتراط قدره الشفيع على الثمن، وحينئذ فلو كان عاجزا
عن الثمن فلا شفعة له، ويتحقق العجز باعترافه بذلك والظاهر أن المراد بالعجز
ما هو أعم من اعساره عن الثمن، العجز عن تحصيله، ولو على جهة القرض، بمعنى أنه
عاجز عن تحصيله بكل وجه من الوجوه، لما تقدم من أن المراد بالقدرة ما هو
أعم من أن يكون بالفعل أو القوة، فيدخل فيه الفقير القادر على القرض.
وبذلك يظهر لك ما في كلامه في المسالك حيث قال بعد أن حكم بتحقق
العجز باعترافه: وفي تحققه باعساره وجهان: أجودهما العدم، لامكان تحصيله

(1) الكافي ج 5 ص 281 التهذيب ج 7 ص 166 الفقيه ج 3 ص 45.
(2) المستدرك ج 2 ص 148.
(3) بمعنى أن اطلاق الخبرين دال على نفي الشفعة أعم من أن يكون المشتري
مسلما أم لا، ولا بد من تقييده بكونه مسلما، لعدم الخلاف في جواز الشفعة لو كان
منهم رحمه الله.
311

بقرض ونحوه، مع أنه سابقا فسر القدرة بما ذكرناه، من أنها أعم من القادر بالفعل
أو القوة، ليدخل الفقير القادر على القرض.
وحينئذ فإذا كان الفقير القادر على القرض داخلا في القادر على تحصيل
الثمن. فلا معنى للتردد في تحقق العجز بالاعسار حتى أنه يتردد هنا في ذلك، ثم
يقول: والأجود العدم، بل مقتضى ما قدمه أن المعسر ليس بعاجز، لامكان تحصيله
بالقرض فلا وجه للتردد بالكلية.
ثم أنه حكم في المسالك بأن المعسر ينظر ثلاثة أيام كمدعي غيبته، وفيه اشكال
فإنه مع تسليم دلالة الرواية على ما ادعاه مع ما عرفت آنفا من أن موردها إنما هو
الشفعة قبل البيع، فهي خارجة عن محل البحث، ومحض قياس، فإن مورد النص
بناء على ما يدعيه غيبة الثمن، فالحاق المعسر به قياس محض.
نعم يمكن أن يقال: إن الرواية ليست صريحة في أن التأخير من حيث غيبة
المال، بمعنى أن المال موجود ولكنه غير حاضر، بل الظاهر منها ما هو أعم من ذلك
ومن عدمه بالكلية، لأنه قال فيها: " مذهب على أن يحضر المال فلم ينض (1) " أي
لم يحصل فجوز عليه السلام له النظرة إلى ثلاثة أيام، وظاهر عدم الحصول هو المعنى
الثاني الذي ذكرناه.
ثم إنهم حكموا بأن المماطل والهارب كالعاجز لا شفعة بهما، والمراد
بالمماطل هو القادر على الثمن ولا يؤدي، قال في المسالك: ولا يشترط فيه مضي ثلاثة
أيام، لأنها محدودة للعاجز، ولا عجز هنا، ويحتمل الحاقه به بظاهر رواية علي بن
مهزيار (2) عن الجواد (عليه السلام) بانتظاره ثلاثة أيام حيث لم ينض الثمن
انتهى.

(1) قال في كتاب المصباح المنير: نض الثمر: حصل وتعجل، وقال
ابن الفوته نض الشئ: حصل - إلى أن قال - لأنه يقال ما نض بيدي من شئ: أي ما حصل انتهى. منه رحمه الله.
(2) التهذيب ج 7 ص 167.
312

وفيه ما عرفت آنفا ثم قال: وأما الهارب فإن كان قبل الأخذ فلا شفعة له،
لمنافاته الفورية على القول بها، وإن كان بعده، فللمشتري الفسخ، ولا يتوقف على
الحاكم لعموم " لا ضرر ولا ضرار ".
السابع قد صرح الأصحاب بثبوت الشفعة للغائب والصبي والمجنون، ويتولى
الأخذ وليهما مع الغبطة.
أقول: ويدل عليه بالنسبة إلى الغائب والصبي ما رواه المشايخ الثلاثة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أما الكليني والشيخ فبطريق السكوني (1) المتقدم في الموضع
الخامس، وأما الصدوق فبالارسال عنه (عليه السلام) في حديث قد تقدم ذكره في الموضع
المشار إليه " قال: قال: أمير المؤمنين عليه السلام: وصي اليتيم بمنزلة أبيه يأخذ له
الشفعة، إذا كان له فيه رغبة: وقال: للغائب شفعة " (2) وكأنهم حملوا المجنون على
الصبي، إلا أن ظاهر كلامهم أن ثبوت هذا الحكم لهؤلاء إنما هو بالأدلة العامة،
دون هذه الرواية.
قال في المسالك بعد ذكر المصنف ثبوتها للغائب والسفيه والمجنون
والصبي ما صورته: لا شبهة في ثبوتها لمن ذكر لعموم الأدلة المتناولة للمولى عليه
وغيره، وهو جيد، مؤيد بالرواية المذكورة، وحينئذ فثبوت الشفعة للغائب بعد
حضوره وإن طال زمان الغيبة فيتولى الشفعة بنفسه.
قالوا: ولو تمكن من المطالبة في الغيبة بنفسه أو وكيله فكالحاضر، وفي حكمه
المريض الذي لا يتمكن من المطالبة، وكذا المحبوس ظلما أو بحق بعجز عن
أدائه، وفيه توقف، وأما الصبي والمجنون، والسفيه فيطالب لهم الولي مع الغبطة
كما أشار إليه في الرواية، لقوله " إذا كان له فيه رغبة " والظاهر أنه لو ترك الولي

(1) التهذيب ج 7 ص 166 الفقيه ج 3 ص 45.
(2) أقول فيه دلالة على أن الوصي بمنزلة الأب حتى في الأخذ بالشفعة منه
رحمه الله.
313

الأخذ مع الغبطة لم يسقط حقهم من الشفعة، بل لهم الأخذ بها بعد زوال المانع
لأن التأخير وقع لعذر كالغائب.
الثامن لا اشكال في أن لولي اليتيم أن يبيع ماله لمصلحته، كالانفاق عليه
ونحوه، وسواء كان أبا أو جدا أو وصيا، إنما الكلام في ثبوت الشفعة للولي إذا كان
شريكا لليتيم في ذلك الشقص، فقيل: لا يصح بالشفعة مطلقا، لرضا الولي بالبيع
فإنه مسقط للشفعة وإن كان قبل العقد، وبه صرح العلامة في المختلف.
وفصل الشيخ في المبسوط فقال: إذا باع ولي اليتيم حصته من المشترك
بينه وبينه، لم يكن له الأخذ بالشفعة، إلا أن يكون أبا أوجدا، لأن الوصي متهم
فيؤثر تقليل الثمن، ولأنه ليس له أن يشتري لنفسه، بخلاف الأب والجد، فإنهما
غير متهمين، ولهما أن يشتريا لأنفسهما.
وما ذكره الشيخ هنا من أنه ليس للوصي أن يشتري لنفسه كالأب والجد
منعه العلامة في المختلف، فقال: ويجوز عندنا أن يشتري الوصي لنفسه كالأب
والجد.
وظاهر المحقق في الشرايع القول بالجواز مطلقا، وظاهره في المسالك
الميل إليه، حيث أنه قرره وأوضحه، ولم يتعرض عليه، فأجاب عن ابطال الشيخ
شفعة الوصي بالتهمة، بأن المفروض وقوع البيع على الوجه المعتبر، وأجاب
عن تعليل العلامة البطلان برضا الولي، فقال: ولا يتم أن الرضا بالبايع قبله يسقط
الشفعة، لأن ذلك تمهيد للأخذ بالشفعة وتحقيق لسببه، فلا يكون الرضا به مسقطا
لها، إذ الرضا بالسبب من حيث هو سبب يقتضي الرضا بالمسبب، فكيف يسقطه،
والمسألة لخلوها عن النص محل اشكال، ومرجع قول المحقق إلى تفريع
الأخذ بالشفعة على جواز الشراء، ولا يخلو من قرب والله العالم.
314

المقصد الرابع في كيفية الأخذ بالشفعة
وفيه مسائل: الأولى الظاهر أنه لا خلاف كما نقله في المسالك في أنه لو اشتمل
البيع المشفوع على خيار وكان الخيار للمشتري فإن للشفيع الشفعة بنفس العقد، ولا
يتوقف على انقضاء الخيار، قالوا: لأن انتقال الملك عن البايع يحصل بالعقد
من غير توقف على انقضاء الخيار، والشفعة مترتبة على صحة البيع والانتقال إلى
المشتري ليؤخذ منه.
وظاهرهم سقوط خياره، لانتفاء الفائدة من فسخه، لأن غرضه على تقدير
الفسخ حصول الثمن، وقد حصل من الشفيع بالشفعة، فلا ثمرة تترتب على فسخه،
بخلاف فسخ البايع، لأن غرضه الرجوع إلى المبيع.
وأما لو كان الخيار للبايع أولهما، أو للبايع وأجنبي، فإن قلنا بانتقال المبيع
بنفس العقد كما هو الأشهر الأظهر، ثبتت الشفعة، لحصول المقتضي، وهو البيع
الناقل للملك مع وجود الشريك، وانتفاء المانع، إذ ليس إلا الخيار وهو
غير صالح للمانعية، لأن غايته كون العقد بسبب الخيار متزلزلا، ولم يثبت
كونه مؤثرا في المنع، وإن لم نقل بالانتقال بنفس العقد، بل يتوقف على مضي
الخيار، كما هو قول الشيخ، فلا شفعة حتى ينقضي الخيار، لأن الشفعة مترتبة
على الانتقال والملك وهو لا يحصل إلا بعد مضي الخيار.
ثم إنه على تقدير القول المشهور من الانتقال بنفس العقد، فهل يسقط خيار
البايع بالأخذ بالشفعة؟ لانتقال الملك عن المشتري، لأن البايع إذا فسخ إنما يرجع
على المشتري، والحال أن المبيع قد خرج عن ملك المشتري، وصار إلى مالك
آخر أم لا يسقط؟ لأن الأصل بقاء الخيار، فإن فسخ البايع أو ذو الخيار بطلت الشفعة،
وإن لم يفسخ حتى أنقضت مدة الخيار ثبتت الشفعة، قولان: وثانيهما لا يخلو من
قوة، وهو اختياره في المسالك.
بقي هنا شئ ينبغي التنبيه عليه وهو أن ما ذكرنا من التفصيل من كون الخيار
315

للمشتري أو للبايع، وأنه على الأول ينتقل المبيع إلى المشتري، بخلاف الثاني
لما فيه من الخلاف، صرح به الشيخ في الخلاف والمبسوط في باب الشفعة، مع أنه
في الخلاف في باب الخيار من كتاب البيع قال: إنه إذا كان الخيار للمشتري وحده
زال ملك البايع عن المالك بنفس العقد، لكنه لم ينتقل على المشتري حتى ينقضي
الخيار فإذا انقضى ملك المشتري بالعقد الأول.
ومقتضى هذا الكلام التسوية عنده بين البايع والمشتري في عدم ثبوت
الشفعة مع الخيار مطلقا، لعدم انتقال الملك إلى المشتري، والشفعة متوقفة على
ذلك كما اعترف به هو وغيره، إلا أنه لما كان هذا القول لم يقل به غيره مع موافقته في
باب الشفعة من الخلاف والمبسوط على ما قدمنا نقله عنه لم يتحقق الخلاف في
المسألة زيادة على ما قدمناه من التفصيل
الثانية لا يخفى أن مقتضى الأدلة الدالة على الشفعة، هو استحقاق الشفيع
لمجموع الشقص المشترك إذا أخذه بالشفعة، وأن ذلك حقه شرعا، وحينئذ فهل
له تبعيض حقه بأن يشفع في بعضه ويترك بعضا أم لا؟ ظاهر الأصحاب من غير خلاف
يعرف هو الثاني، لما في التبعيض من الاضرار بالمشتري، ولا يناسب بناء الأخذ
بالشفعة الذي شرع لدفع الاضرار على الاضرار.
والأظهر في تعليل ذلك أنما هو ما قدمناه من أن الأصل بمقتضى الأدلة العقلية
والنقلية كتابا وسنة هو عدم الأخذ بالشفعة، فيقتصر في جواز الأخذ بها على ما قام
عليه الدليل، والأخبار الواردة بالشفعة على كثرتها وتعددها إنما وردت باعتبار
المجموع، وما عداه تبقى صحته موقوفة على الدليل.
ومما فرعوه على ذلك أنه لو قال: أخذت نصف الشقص بناء على اعتبار
وجوب الفورية، بطلت شفعته، لأن المأخوذ لا تصح الشفعة فيه لما عرفت، وأما
الباقي فإن ظهر منه اسقاط حقه منه فظاهر، وإلا فقد حصل التراخي الموجب لفوات
الفورية، وحينئذ فتبطل الشفعة في الجميع
وربما قيل بالصحة في الجميع إذا وقعت الشفعة على الوجه المذكور نظرا
316

إلى أن أخذ البعض يستلزم أخذ الجميع لعدم صحة أخذه وحدة، وضعفه ظاهر،
لمنع الاستلزام، وجواز تعلق الغرض بالبعض خاصة.
الثالثة مقتضى الأدلة وبه صرح الأصحاب أنه يأخذه بالثمن الذي وقع
العقد عليه وإن كان قيمة الشقص المشفوع في حد ذاته أكثر أو أقل ولا يلزمه ما يغرمه
المشتري من المؤن كأجرة الدلال والوزان ونحو ذلك، والمراد من أخذه بالثمن
يعني مثله، لعدم إمكان الأخذ به نفسه غالبا.
الرابعة يدفع الشفيع مثل الثمن لو كان الثمن مثليا كالذهب والفضة بلا
خلاف، وإنما الخلاف فيما لو كان قيميا كالحيوان والثوب والجواهر ونحوها، فهل
تصح الشفعة أم لا؟ وقد نقل الخلاف المذكور في الموضع الثالث من سابق
هذا المقصد (1) وذكرنا أن الأقرب العدم، إلا أن لشيخنا الشهيد الثاني هنا في
المسالك كلاما يتضمن نصره القول بالصحة لم ننقله فيما سبق، ولا بأس بنقله،
وبيان ما فيه.
قال بعد الطعن في رواية ابن رئاب المتقدمة: ودلالته على موضع النزاع
ممنوعة، فإن نفي الشفعة أعم من كونه بسبب كون الثمن قيميا أو غيره، إذ لم يذكر أن
في الدار شريكا، فجاز نفي الشفعة لذلك عن الجار وغيره، أو بكونها غير قابلة للقسمة
أو لغير ذلك.
وبالجملة فإن المانع من الشفعة غير مذكور وأسباب المنع كثيرة فلا وجه
لحمله على المتنازع أصلا، والعجب مع ذلك من دعوى أنها نص في الباب، مع أنها
ليست من الظاهر فضلا عن النص انتهى.
أقول: لا يخفى على المتدرب في الصناعة، والمتأمل في الأخبار بعين التدبر
والاعتبار أن الأجوبة فيها إنما تخرج على وفق ما يفهم من الأسئلة وما يظهر منها.
ومن الظاهر أن السؤال في الرواية المشار إليها إنما أريد به من حيث الشراء

ص 308.
317

بذلك الثمن، وأنه هل يجوز الشفعة إذا كان الشراء بهذا الثمن أم لا؟ ولو كان المراد من
السؤال معنى آخر من كون الدار لا شريك فيها، وأن المراد نفي الشفعة بالجوار
لما كان لذكر القيمة وجه بالكلية، ولكان حق السؤال التصريح بذلك، وأن يؤتى بعبارة
تؤدي هذا المعنى، وإلا فإن فهمه من عبارة الخبر إنما هو من قبيل التعمية، والألغاز
الذي هو بعيد عن الحقيقة بمراحل بل المجاز
وبالجملة فإن غاية ما يتعلق به هنا هو اطلاق الشفعة في الدار من غير تصريح
بكونها مشتركة، ومثل هذا الاطلاق في الأخبار أكثر كثير، اعتمادا على قرائن الحال
وقت السؤال، كما لا يخفى على الناظر فيها، وسياق السؤال في الخبر المذكور
ظاهر فيما قلناه، وهو الذي فهمه من عداه من الأصحاب كالشيخ والعلامة
وغيرهما.
واستدل جملة من الأصحاب منهم العلامة في المختلف على المنع أيضا بحسنة
هارون بن حمزة الغنوي المتقدمة، بقوله فيها " وهو أحق بها من غيره بالثمن " وهو
إنما يتحقق في المثلي، لأن الحقيقة غير مراده اجماعا، فيحمل على أقرب المجازات
إلى الحقيقة وهو المثل.
ثم إنه على تقدير القول بثبوت الشفعة مع كون الثمن قيميا فهل المعتبر قيمته وقت
العقد؟ لأنه وقت استحقاق الثمن، والعين متعذرة، فوجب الانتقال إلى القيمة
أو المعتبر وقت الأخذ؟ لوجوبه حينئذ على الشفيع، فيعتبر قيمته وقت الوجوب
بتعذر العين، أو يعتبر الأعلى من وقت العقد إلى وقت الأخذ كالغاصب؟ أقوال:
أضعفها الأخير وأشهرها الأول.
الخامسة ظاهر متأخري الأصحاب أنه يجب على المشتري دفع الشقص
المشفوع بعد الشفعة ما لم يدفع الشفيع الثمن، فاعتبروا هنا دفع الثمن أولا، ولم
يعتبروا ذلك في غير باب الشفعة من المعاوضات كالبيع وغيره، بل صرحوا ثمة
بوجوب التسليم على الجميع من غير أولوية تقدم أحدهما على الآخر.
قيل: ووجه الفرق بين الشفعة وغيرها لأن الشفعة معاوضة قهرية، أخذ العوض
318

فيها بغير رضا المشتري، فجبروهن قهره بتسليم الثمن إليه أولا، بخلاف البيع، فإن
مبناه على الاختيار، فلم يكن أحد من المتبايعين أولى بالبدأة من الآخر.
قال شيخنا في المسالك، ونعم ما قال: وهذه في الحقيقة علة مناسبة، لكن
لا دلالة في التعويض عليها، واثباتها بمجرد ذلك لا يخلو من اشكال.
نعم اعتبرها العامة في كتبهم وهي مناسبة على قواعدهم، ولو قيل هنا المعتبر
التقابض كالبيع كان وجها انتهى.
وكيف كان فالظاهر أن الشفيع يملك الشقص بمجرد الشفعة، كما أن المشتري
يملك المبيع بمجرد العقد، لكن هل يتم الملك بمجرد الأخذ القولي بدون تسليم
الثمن، أم يتوقف على التقابض؟ قولان: وعلى الأول هل يكون دفع الثمن جزءا
من السبب للملك؟ أم كاشفا عن حصول الملك بالأخذ القولي؟ وجهان: ويظهر
الفائدة في النماء المتخلل، والأقرب أن الكلام هنا كما حققناه في البيع من أن كلا
منهما قد وجب عليه بتسليم ما انتقل عنه إلى صاحبه، ولا أولوية في تقدم أحدهما على
الآخر، وعدم دفع أحدهما لو أحل بما وجب عليه، لا يقتضي جواز التأخير للآخر
مع وجوب الدفع عليه والله العالم.
السادسة المشهور وجوب الفورية في الشفعة، وهو مذهب الشيخ في النهاية
والخلاف والمبسوط، وبه قال ابن البراج وابن حمزة والطبرسي والعلامة، و
نقله في المختلف عن والده، وادعى الشيخ عليه الاجماع.
وقال السيد المرتضى (رضي الله عنه) أنها على التراخي، ولا تسقط إلا بالاسقاط،
وادعى عليه الاجماع، وبه قال ابن الجنيد، والشيخ علي بن بابويه، وابن إدريس،
وظاهر كلام أبي الصلاح، وبالأول قال الشهيدان في اللمعة وشرحها، والمحقق
في الشرايع وغيرهم.
وظاهر الشهيد الثاني في المسالك التوقف في المسألة، وفي الدروس بعد أن
نقل أولا القول بالفورية عن الشيخ واتباعه، ثم نقل العدم عن المرتضى ومن
319

تبعه، قال: ولم نظفر بنص قاطع من الجانبين، ولكن في رواية علي بن مهزيار (1)
دلالة على الفور مع اعتضادها بنفي الضرر عن المشتري، لأنه إن تصرف كان معرضا
للنقص، وإن أهمل انتفت فايدة الملك، إلى أن قال: والوجه الأول لما اشتهر من
قوله صلى الله عليه وآله (2) " الشفعة كحل عقال " أي إذا لم يبتدر فات كالبعير يحل عقاله انتهى.
وظاهر صدر كلامه التوقف في المسألة، لعدم النص القاطع، وفي آخر
كلامه جزم باختيار القول الأول، للخبر الذي ذكره مع أنه عامي كما صرح به
الشهيد الثاني في الروضة، وهو كذلك فإنا لم نقف عليه في كتب أخبارنا.
احتج القائلون بالقول الأول بأن الأصل عدم الشفعة، وعدم التسلط على ملك
الغير بغير رضاه، فيفتقر فيها على موضع الوفاق، ولأن التراخي فيها على موضع الوفاق، ولأن التراخي فيها لا ينفك عن
ضرر على المشتري، فإن لا يرغب في عمارة ملكه مع علمه بتزلزله، وانتقاله عنه
فيؤدي إلى تعطيل حكمة ملكه، وذلك ضرر عظيم.
واحتج في المختلف أيضا على ذلك برواية علي بن مهزيار التي أشار إليها
في الدروس بأن فيها دلالة ما، وهذه الرواية قد تقدمت في صدر المقصد الثالث،
قال بعد ايرادها، وجه الاستدلال أنه عليه السلام حكم ببطلان الشفعة بعد مضي ثلاثة أيام،
ولو كان حق الشفعة ثابتا على التراخي لم تبطل شفعته، بل كانت تثبت له متى حصل
الثمن، لأنها تثبت كذلك، وإن لم يطالب، فلا تؤثر المطالبة، بها الذي هو أحد أسباب
وجودها في عدمها.
احتج الآخرون بالاجماع الذي ادعاه المرتضى، وبأن البيع سبب في استحقاق الشفعة، والأصل ثبوت الشئ على ما كان عملا بالاستصحاب.
قال المرتضى (رضي الله عنه): ويقوى ذلك أن الحقوق في أصول الشريعة
وفي العقول أيضا لا تبطل بالامساك عن طلبها، فكيف خرج حق الشفعة عن أصول

(1) التهذيب ج 7 ص 167.
(2) سنن ابن ماجة ج 2 ص 835 ط دار احياء الكتب العربية سنة 1373.
320

الأحكام الشرعية والعقلية، فإن من لم يطلب دينه أو وديعته لا يبطل حقه، بالتغافل
عن الطلب
ثم أجاب عن الضرر على المشتري الذي احتج به الأولون بأنه يمكنه
التحرز عن ذلك بأن يعرض المبيع على الشفيع، ويبذل تسليمه إليه، فأما أن
يتسلم، أو يترك الشفعة، فيزول الضرر على المشتري، فإن لم يفعل المشتري ذلك
كان التفريط من قبله، ثم أطال كما عادته هي (قدس سره) بأدلة أخرى أيضا، وأجاب
في المختلف عن ذلك بما يطول بنقله الكلام.
والتحقيق أن المسألة لعدم النص الواضح محل اشكال، وإن كان القول
الأول لاعتضاده بالأصل الذي قدمنا ذكره في غير موضع مما تقدم، مع اعتضاده
بالاحتياط الذي هو واجب في موضع الاشتباه الذي منه خلو المسألة من الدليل لا يخلو
من قرب.
وأما استدلال العلامة على هذا القول برواية علي بن مهزيار بالتقريب الذي
ذكره، فيمكن معارضته بأنه لو كانت الفورية واجبة لما رخص في التأخير ثلاثة
أيام أيضا.
السابعة حيث تعتبر الفورية فإذا علم وأهمل مختارا بطلت شفعته، ويعذر
جاهل الفورية كما يعذر جاهل الشفعة، ويقبل دعوى الجهل ممن يمكن في حقه عادة
وكذا لا يقدح فيها تأخيره لعذر يمنع المباشرة أو التوكيل.
ومن الأعذار التي صرح بها الأصحاب في هذا الباب ما لو ترك لتوهمه كثرة الثمن
لأمارة أوجبته، كأخبار مخبر ثم ظهر كذبه ونحو ذلك لا مجرد الاحتمال، فإن
الشفعة باقية إلى حين العلم بالحال، فتصير فورية على القول بها وإنما كان ذلك
عذرا، لأن قلة الثمن مقصودة في المعاوضة، ومثله ما لو اعتقده ذهبا فبان فضة، أو
حيوانا فبان قماشا، ونحو ذلك، فإن الأغراض قد يتعلق بجنس دون آخر لسهولته،
وكذا لو كان محبوسا بحق عاجز عنه، بخلاف ما لو كان قادرا، فإن التقصير من
321

من قبله (1) وأولى منه الحبس بظلم، لكن الظاهر أنه يشترط في هذين (2) عجزه
عن الوكالة.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أن وجوب المبادرة على تقدير الفورية ليس المبادرة
بكل وجه ممكن، بل المرجع فيه إلى العادة والعرف، فيكفي مشيه إلى المشتري
لأخذ الشفعة بالمعتاد وإن قدر على الزيادة، وانتظار الصبح لو علم ليلا، ولا
يمنع من ذلك أيضا الصلاة إذا حضر وقتها، وكذا مقدماتها ومتعلقاتها الواجبة
والمندوبة.
ومنها انتظار الجماعة، وانتظار زوال الحر والبرد المانعين، والخروج
من الحمام لو علم فيه بعد قضاء وطره، وتحرى الرفقة حيث يكون الطريق مخوفا
والمشتري في غير البلد، والسلام على المشتري بعد الدخول عليه بل التحية المعتادة
ونحو ذلك.
هذا كله مع غيبة المشتري عنه في حال العلم، أما مع حضوره فلا
يعد شئ من هذه عذرا، لأن قوله أخذت بالشفعة لا ينافي شيئا من ذلك.
الثامنة قد صرح الأصحاب رضوان الله عليهم، من غير خلاف يعرف
أنه لا تسقط الشفعة بتقايل المتبايعين (3)، لأن استحقاق الشفعة قد حصل بالعقد،
فحق الشفيع
متقدم، نعم لو عفى الشفيع سقطت الشفعة من جهة الشراء،؟ هل يتجدد بالإقالة
بناء على أنها بيع مطلقا أو في حق الشفيع؟ الأشهر الأظهر العدم، لعدم كون
الإقالة بيعا، وإنما هي فسخ كما تقدم تحقيقه في بعض نكت الفصل الثاني عشر من
كتاب البيع.
ولو قلنا بأنها أخذ الشقص من البايع بعد الشفعة، ثم إنه إن حصل التقايل

(1) وإنما كان التقصير من قبله لأنه يجب عليه دفعه الثمن ليخلص من الحبس
المانع من تعجيل المطالبة. منه رحمه الله.
(2) يعني من الحبس بحق هو عاجز عنه منه رحمه الله.
(3) بل الظاهر أنه لا خلاف فيه منه رحمه الله.
322

قبل علم الشفيع بالشفعة تسقط بالإقالة، (1) لما عرفت من سبق حق الشفيع فله
فسخ الإقالة، والأخذ من المشتري على قاعدة الشفعة، ودركه على المشتري كما
لو يمكن ثمة أقاله، فإن درك المشفوع في جميع أفراد الشفعة على المشتري، فلو ظهر
استحقاق الشقص رجع عليه بالثمن وغيره مما يغرمه، ولو كان المشتري لم يقبضه
من البايع لم يكلف أخذه منه ثم اقباضه الشفيع بل الشفيع يقبضه من البايع،
لانتقال الحق إليه فقبضه كقبض المشتري.
وعلى كل حال فيبقى الدرك على المشتري، وكما لا تسقط الشفعة بالتقايل،
فكذا لا تسقط ببيع المشتري، ولا وقفه ولا جعله مسجدا، ولا نحو ذلك من
تصرفاته، لأنها وإن كانت صحيحة من حيث أن المشفوع ملكه، لكن لا يبطل
ذلك حق الشفيع لسبقه على هذه التصرفات فمتى أخذ بالشفعة بطل ما سبقها من
التصرفات.
بقي الكلام في أن تصرف المشتري إن كان مما تثبت فيه الشفعة كالبيع،
فالظاهر من كلامهم أنه يتخير الشفيع بين أخذه من المشتري الأول أو الثاني أو
الثالث، وهكذا لو تعدد، لأن كل واحد من البيوع المتعددة سبب تام في ثبوت
الشفعة.
ثم إن أخذ الشفيع بالشراء الأول وقع الثمن وبطل المتأخر مطلقا،
وإن أخذ بالشراء الأخير أخذها بثمنه، وصح السابق عليه مطلقا، لأن الرضا به
يستلزم الرضا بما سبق عليه، وإن أخذ من المتوسط بثمنه، وصح ما تقدمه، وبطل ما تأخر عنه.
وإن كان التصرف مما لا تثبت فيه الشفعة، كالوقف والهبة والإجارة فللشفيع
نقضه وأخذ الشقص بالشفعة، لسبق حقه، والثمن في الهبة للواهب لازمة كانت أو

(1) لأنه في صورة الإقالة صار مشتريا، فإن بالإقالة على تقدير كونها بيعا يصير
المشتري بايعا والبايع مشتريا منه رحمه الله.
323

جايزة، والمتصدق، ولا خلاف عندهم في هذه الأحكام، وإنما نقلوا الخلاف في
بعضها عن بعض العامة حيث صرحوا بصحة التصرف بالبيع والوقف ونحوهما،
وأبطلوا الشفعة بعض آخر منهم حيث حكموا ببطلان التصرف المشتري والله العالم
التاسعة قالوا: لو انهدم البيت أو عاب فهنا صور، أحدها أن يكون ذلك
بفعل المشتري قبل مطالبة الشفيع بالشفعة، ولا يحصل معه (1) تلف شئ من
العين، والمشهور أن للشفيع الخيار بين الأخذ بكل الثمن أو الترك، لأن المشتري
إنما تصرف في ملكه تصرفا سايغا، فلا يكون مضمونا عليه.
والعائب (1) لا يقابل بشئ من الثمن فلا يستحق الشفيع في مقابلته شيئا كما
لو تعيب في يد البايع، فإن المشتري يتخير بين الفسخ، وبين الأخذ بمجموع
الثمن، وقيل بضمانه على المشتري، لأن حق الشفيع قد تعلق به بمجرد البيع وإن
لم يطالب، والمطالبة إنما تفيده تأكيدا كما تضمن الراهن الرهن إذا جنى عليه.
وثانيها أن يكون ذلك بفعل المشتري بعد المطالبة بالشفعة، والمشهور
أنه يضمن النقص بمعنى سقوط ما قابله من الثمن، لأن الشفيع قد استحق أخذ المبيع
كاملا بالمطالبة، وتعلق حقه به، فإذا نقص بفعل المشتري ضمنه له.
وقيل: بعدم الضمان، وهو ظاهر الشيخ في المبسوط استنادا إلى أن الشفيع

(1) وإنما هو مثل شق الجدار، وافك الجذع ونحو ذلك، وأما لو تضمن تلف
شئ من العين فإنه يضمن بحصته من الثمن لو اختار الشفيع الأخذ بالشفعة، لأن الثمن
في مقابلة العين، فإذا تلف منها شئ سقط من الثمن بنسبة التالف فيضمنه المشتري حينئذ - منه رحمه الله.
(1) قوله والعائب لا يقابل بشئ من الثمن، كأنه جواب عن سؤال مقدر
بأن يقال: إن الشفيع بأخذه بالشفعة، ولكن ينقص من الثمن ما قابل العايب، وأجاب
بأن الثمن أنما جعل في مقابلة الصحيح دون العايب، ولهذا لو بقيت في يد البايع
تخير المشتري بين الفسخ والأخذ بالثمن كملا، دون أخذ الصحيح بما يلحقه من
الثمن كما ذكرناه - منه رحمه الله.
324

لا يملك بالمطالبة بل يملك الأخذ فيكون المشتري قد تصرف في ملكه تصرفا سايغا،
فلا يتعقبه الضمان، ورد بأن التصرف في الملك لا ينافي ضمانه كتصرف الراهن،
وهذا منه لاشتراكهما في تعلق حق العين.
وثالثها أن يكون ذلك بفعل غيره، سواء كان قد طالب الشفيع أم لا، فإنه
يتخير الشفيع بين الأخذ بمجموع الثمن، والترك، لأنه لا تقصير من المشتري،
ولا تصرف حال استحقاق الغير، ووجه الضمان المذكور في الصورة الأولى، آت
هنا، إلا أنه هنا أضعف باعتبار أن العيب بغير فعل المشتري.
أقول: وقد ورد في هذه الصورة ما يدل على ما ذكروه، وهو ما رواه الشيخ
في التهذيب في الصحيح عن الحسن بن محبوب (1) عن رجل " قال: كتبت إلى
الفقيه عليه السلام في رجل اشترى من رجل نصف دار مشاعا غير مقسوم، وكان شريكه
الذي له النصف الآخر غائبا، فلما قبضها وتحول عنها تهدمت الدار وجاء سيل جارف
وهدمها وذهب بها، فجاء شريكه الغائب فطلب الشفعة من هذا فأعطاه الشفعة على
أن يعطيه ما له كملا الذي نقد في ثمنها فقال له: ضع عني قيمة البناء، فإن البناء قد
تهدم وذهب به السيل، ما الذي يجب في ذلك؟ فوقع عليه السلام ليس له إلا الشراء و
البيع الأول انشاء الله " وما تقدم في الصورتين السابقتين من القول المشهور فيهما
وإن لم يرد به نص، إلا أنه موافق للقواعد الشرعية والله العالم.
العاشرة اختلف الأصحاب في أن الشفعة هل تورث أم لا؟ فقال: الأكثر منهم
الشيخ المفيد والسيد المرتضى (رضي الله عنهما) أنها تورث كالأموال، وبه قال ابن
الجنيد، وقال الشيخ في النهاية والخلاف أنها لا تورث، وبه قال ابن البراج و
الطبرسي وابن حمزة.
وللشيخ قول آخر في كتاب البيوع من الخلاف يدل على أنها تورث حيث
قال: خيار الثلاثة موروث، وكذا إذا مات الشفيع قبل الأخذ بالشفعة قام وارثه

(1) التهذيب ج 7 ص 192.
325

مقامه، وهو اختيار ابن إدريس والعلامة في المختلف وهو المشهور بين المتأخرين
وبه صرح في المسالك، واحتجوا على ذلك بآيات الإرث (1) الدالة على إرث
ما ترك (2) وحق الشفعة من جملة المتروكات كما دخل فيه الخيار الثابت بالمورث
بالاجماع، والشفعة في معنى الخيار ثبتت لدفع الضرر، واحتج في المسالك أيضا
بقوله (3) صلى الله عليه وآله ما ترك الميت من حق فهو لوارثه " قال: وهي أوضح دلالة من
الآية.
احتج الشيخ بما رواه في التهذيب عن طلحة بن زيد (4) عن جعفر عن أبيه
عن علي عليهم السلام في حديث " قال: لا تورث الشفعة واحتج أيضا بأن ملك الوارث متجدد
على الشراء فلا يستحق شفعة، وأجيب عن الرواية بضعف السند وأن طلحة بتري،
وعن الثاني بأن الوارث يأخذ ما استحقه مورثه وحقه، فلا يقدح تجدد ملكه.
أقول: والمسألة لا يخلو من توقف، فإن ثبت الحديث النبوي الذي رواه في المسالك من طرقنا فإنه لا يحضرني الآن ذلك، فالقول الأول أصح، وإلا فالمسألة
محل اشكال، لمعارضة الأدلة المذكورة لرواية طلحة، وردها بضعف السند جيد

(1) سورة النساء الآية 11 - 14 - 176.
(2) وأما الآيات فإن اطلاقها يحمل على الأفراد الشايعة المتكررة، لما تقرر
عندهم في أمثال هذه المواضع، دون الأفراد الشاذة النادرة، ومن الظاهر أن الأفراد
المتكررة إنما هي أعيان الأموال دون الحقوق، وأما الشفعة في الخيار فإن ثبت بدليل
شرعي - فوجوب العمل بها فيه - لا يقتضي حمل غيره عليه، فإنه قياس محض والاشتراك
في العلة المذكورة لا يوجب ذلك، مع أنها غاير منصوصة، وبالجملة فإن باب المناقشة
في ذلك غير منسد، ويظهر من المحقق الأردبيلي الميل إلى القول بالعدم، من حيث عدم
الدليل الواضح على القول المشهور، قال: إذ شمول آية الإرث لها غير ظاهر،
وهو مؤيد لما ذكرناه بالنسبة إلى استدلالهم بآيات الميراث والله العالم منه رحمه الله
(3) ما أثرنا على هذه الرواية بعد الفحص في مظانها.
(4) التهذيب ج 7 ص 167.
326

على الاصطلاح المحدث، وأما على طريقة القدماء والمحدثين فلا، فتبقى المعارضة
بينها وبين ما ذكر من الأدلة المشار إليها، مع ما يتطرق إلى الأدلة المشار إليها من
المناقشة، وامكان تأييد رواية طلحة المذكورة بما قدمناه من أن مقتضى الأدلة العقلية
والنقلية عدم جواز الشفعة إلا ما دل عليه دليل واضح.
ثم أنها على تقدير القول المشهور لو مات وخلف زوجة (1) وابنا قال: الشيخ
في المبسوط تفريعا على هذا القول: إن الإرث على فريضة للزوجة الثمن
وقيل: إنه كذلك على رأي من يقول الشفعة في صورة الكثرة على قدر السهام،
أما من يقول بأنها على عدد الرؤس، فإنه يجعلها في المثال المذكور نصفين بين
الزوجة والولد، كما يظهر من المبسوط أيضا، فحينئذ تصير المسألة خلافية، وقد
تقدم نقل الخلاف المذكور بالنسبة إلى الشفعة مع الكثرة في آخر المقصد الثاني،
والأظهر كما صرح به الأكثر أنها هنا على تقدير القول المذكور على قدر السهام
وإن لم نقل به في كثرة الشركاء، لظهور الفرق بين الموضعين، لأن كل واحد من
الورثة لا يستحق الشفعة باعتبار نفسه، بل باعتبار مورثه، ومورثه مستحق للجميع،
وقد انتقل عنه إلى ورثته فيجب أن يثبت لهم على حد الإرث، فهم بالإرث يأخذون
لا بالشركة، ولهذا أثبتها هنا من لم يثبت الشفعة مع الشركة، والمراد بحق الشفعة
الذي هو محل البحث هو مجرد استحقاق الشفعة وإن لم يأخذ الشفيع قبل موته،
فإن لوارثه أن يأخذ بها كما هو صريح عبارة الشيخ المتقدم نقلها من كتاب الخلاف،
وبطريق الأولى ما لو أخذ بها قبل الموت ولكن لم يقبض ولم يتصرف.
قالوا: ولو عفى أحد الورثة عن نصيبه من الشفعة لم يسقط الشفعة، لأن

(1) قال في المسالك: وخص المثال بالزوجة لدفع توهم أنها لا تورث من
الشفعة من حيت أنها ممتنع في الجملة من بعض المتروكات، أقول: هذا المثال
قد ذكره الشيخ في المبسوط وتبعه الجماعة في التمثيل به، وشيخنا المذكور ذكر
وجه النكتة في اختياره دون غيره من أمثلة الميراث - منه رحمه الله.
327

الحق للجميع فلا يسقط حق واحد بترك غيره، وكان لمن لم يعف أن يأخذ الجميع،
لأنه لا يجوز تبعيض الصفقة على المشتري، فالمستحق إما أن يأخذ الجميع أو
يتركه.
قيل: ويحتمل هنا سقوط حق الآخر بعفو صاحبه وإن لم نقل بذلك في
الشريكين، لأن الوارث يقوم مقام المورث، فعفوه عن نصيبه كعفو المورث عن
البعض، فيسقط الباقي.
ورد بأن الشركاء في الإرث يصيرون بمنزلة الشركاء في أصل الشفعة، لأنها
شفعة واحدة بين الشركاء سواء كان بالإرث أو بالشركة، ولا يسقط من البعض بعفو
البعض، بخلاف عفو المورث عن بعض نصيبه، فإن حقه في المجموع من حيث هو
مجموع لا في الأبعاض، فعفوه عن بعض حقه كعفوه عن جميعه.
وظاهر المحقق الأردبيلي " قدس سره " المناقشة في أصل هذا الحكم،
حيث قال: ولو ترك بعضهم وعفى لم يسقط حق الباقين، بل لهم الأخذ، ولكن
أخذ الجميع أو الترك، وليس لهم أخذ حصتهم فقط، للزوم التشقيص والتبعيض
الممنوع منه عندهم فتأمل، فإن الأصل والاستصحاب يقتضي جواز أخذ الحصة فقط،
ولعل عدم التبعيض مجمع عليه، وإلا فالقول به متوجه انتهى.
وبالجملة فالمسألة لعدم النص الواضح في أصلها محل اشكال كما عرفت،
وفي فروعها أشكل والله العالم.
الحادية عشر لو حمل النحل بعد الابتياع فأخذه الشفيع قبل التأبير قال
الشيخ: الطلع للشفيع، لأنه بحكم السعف، ولأنه يتبع الأصل في البيع، فكذا هنا،
لأن المقتضي للتبعية هناك ليس إلا كونه جزءا من المسمى، ورده المتأخرون بأن
هذا الحكم مختص بالبيع، وقوفا على مورد النص، فالحاق غيره به قياس،
وكونه بحكم السعف ممنوع، وكذا دعواه كونه جزءا من المسمى، والمقتضي
في البيع إنما هو النص.
وظاهر هم أنه لا خلاف في أن الثمرة إذا ظهرت في ملك المشتري قبل الأخذ
328

بالشفعة يكون للمشتري وإن بقيت على الشجرة، لأنها بحكم المنفصل، ومنه
ثمرة النخل بعد التأبير، أما قبله فقد عرفت الشيخ في ذلك، فيكون هذا الفرد
مستثنى من الاجماع المشار إليه.
والحق كما عرفته أن حكمها بالنسبة إلى الشفعة قبل التأبير كحكمها بعده
في كونها للمشتري غير داخلة في الشفعة، وعلى هذا فيكون الطلع غير مؤبر وقت
الشراء للمشتري، فإن أخذه الشفيع وهو بتلك الحال بقي للمشتري، كما لو أخذه
بعد التأبير، ويكون البيع في هذه الصورة بمنزلة ما إذا ضم غير المشفوع، فيأخذ
الشفيع المشفوع وهو غير الثمرة بحصته من الثمن، وطريقه كما تقدم في غير
موضع أن تقوم المجموع، ثم يقوم الثمرة وتنسب قيمتها إلى المجموع، ويسقط من
الثمن بتلك النسبة.
الثانية عشر قد صرح الأصحاب " رضوان الله عليهم " بأنه إذا باع الشريك
الذي له الشفعة نصيبه من المال المشترك قبل الأخذ بالشفعة فهنا صورتان: الأولى
أن يكون بيعه بعد العلم بالشفعة، وحصول شرايطها وشرايط فوريتها على تقدير
القول بالفورية، ولا اشكال في بطلان شفعته، أما على تقدير الفورية فلفواتها بالاشتغال
بالبيع، لأنه مخل بالفورية، وأما على تقدير الفورية، فلأن السبب في استحقاق
الشفعة الملك، وقد زال فيزول معلوله.
الثانية أن يكون قبل العلم بالشفعة، ومثله أيضا ما لو كان قبل ثبوت الفورية
فيها لما تقدم من الأعذار، كعدم العلم بقدر الثمن، أو جهله بالفورية أو نحو ذلك، فباع
والحال هذه ففي بقائها مطلقا، أو زوالها مطلقا، أو التفصيل أقوال:
أحدها ما اختاره المحقق في الشرايع من بقائها مطلقا، لأن الاستحقاق ثبت
بالشراء سابقا على بيعه، فيستصحب لأصالة عدم السقوط، ولقيام السبب المقتضي له،
وهو الشراء، فيجب أن يحصل المسبب.
وبهذا القول صرح الشيخ في المبسوط أيضا، حيث قال: الأولى ثبوت
الشفعة، لأنها وجبت له أولا ولم يوجد سبب اسقاطها والأصل بقاؤها.
329

وثانيها سقوطها، وهو اختيار العلامة وجمع من الأصحاب، وعللوه بأن
السبب في جواز الأخذ وليس هو الشراء وحده، بل هو مع الشركة، وقد زال أحد
جزئي السبب فتزول، ولا يكفي وجودها حال الشراء، بل لا بد من وجودها حال
الأخذ بالشفعة، لقوله عليه السلام " لا شفعة إلا لشريك مقاسم " فلو أثبتنا له الشفعة بعد
البيع، لأثبتناها لغير شريك مقاسم، والجهل مع انتفاع السبب لا أثر له.
وثالثها التفضيل بالجهل بالشفعة حال البيع، والعلم، فتثبت في الأول دون
الثاني، وهو منقول عن الشيخ رحمه الله، لأن البيع بعد العلم، يؤذن بالاعراض
عنها، كما لو بارك، بخلاف ما إذا لم يعلم، فإنه معذور: وأجيب بأن الجهل لا أثر
له إذا انتفى السبب، لأن خطاب الوضع لا يتفاوت الأمر فيه بالعلم والجهل.
أقول: والمسألة لعدم النص لا يخلو من توقف، إلا أن الأظهر بحسب هذه
التعليلات وقربها وبعدها من القواعد الشرعية هو القول الثاني من هذه الأقوال الثلاثة.
أما الأول فقد علم جوابه من دليل القول الثاني، ويزيده تأكيدا أن ما استند
إليه من الاستصحاب وهو الذي عبر عنه في المبسوط بالأصل، فقال: والأصل بقاؤها
مردود بما حققناه في مقدمات الكتاب في جلد كتاب الطهارة من عدم ثبوت حجية
هذا الاستصحاب.
وأما الثالث فلما سمعت من الجواب عن دليله، وإلى ما ذكرناه من
القول الثاني يميل كلامه في المسالك أيضا، حيث قال بعد ذكر الأقوال الثلاثة
على الترتيب الذي ذكرناه والقول الوسط لا يخلو من قوة انتهى والله العالم.
الثالثة عشر لو عرض البايع الشئ على صاحب الشفعة بثمن معلوم فلم يرده
فباعه من غيره بذلك الثمن أو زايدا عليه، فهل يكون لصاحب الشفعة المطالبة بها
أم لا؟ قولان: وبالثاني قال الشيخان وابن حمزة، وبالأول قال ابن إدريس، واحتج
الشيخان على ما نقله في المختلف بأن الشفعة تثبت في موضع الاتفاق على خلاف
الأصل، لكونه أخذ ملك المشتري من غير رضاه، ويجبر على المعاوضة، لدخوله
مع البايع في العقد الذي أساء فيه بادخال الضرر على شريكه، وترك الاحسان إليه
330

في عرضه إليه، وهذا المعنى معدوم هنا، فإنه قد عرضه عليه، فامتناعه من أخذه دليل
على عدم الضرر في حقه ببيعه، وإن كان فيه ضرر، فهو الذي أدخله على نفسه كما
لو أخر المطالبة. انتهى.
واحتج ابن إدريس بأنه إنما يستحق المطالبة بعد البيع، ولا حق له قبل، البيع
فإذا عفى قبله، فما عفى عن شئ يستحقه، فله إذا باع شريكه أخذ الشفعة، لأنه تجدد
له حق، ولا دليل على اسقاطه، وقبل البيع لم يسقط شيئا، وكذا لو قال الشفيع للمشتري:
اشتر نصيب شريكي، فقد نزلت عن الشفعة وتركتها، ثم اشترى المشتري ذلك على
هذا، لا تسقط شفعته بذلك، وله المطالبة، لأنه إنما يستحق الشفعة بعد العقد فإذا عفى قبل
ذلك لم يصح، لأنه قد عفى عما لم يجب له ولا يملكه، فلا يسقط حقه حين وجوبه،
وكذا الورثة إذا عفوا عما زاد على الثلث في الوصية قبل موت الموصي، ثم مات بعد
ذلك، فلهم الرجوع لمثل ما قلناه على الصحيح من المذهب انتهى.
وإلى هذا ذهب ابن الجنيد أيضا فقال: وكما أن الشفعة لا تجب إلا بعد صحة
البيع وتمامه، فكذلك لا يكون ترك الشفيع إياها قبل البيع مبطلا لما وجب له منها
بعد البيع، والعلامة في المختلف بعد أن نقل كلامي ابن إدريس وابن الجنيد قال:
وهو المختار، لنا أنه اسقاط حق قبل ثبوته، فلا يصح كما لو أبرأه عما لم يجب له،
أو أسقطت المرأة صداقها قبل التزويج، ثم نقل بعد هذا احتجاج الشيخين بما قدمنا
نقله عنهما، وقال: وفيه قوة، وهو ظاهر في تردده في المسألة.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ترجيح مذهب ابن إدريس للوجه
الذي ذكره، والظاهر أنه الأقرب نظرا إلى عموم أدلة الشفعة، وأن الاسقاط قبل
ثبوت الشفعة غير مؤثر في المنع، وإلا لصح ذلك في غير الحق من الحقوق، مع أنهم لا يقولون به.
وظاهر المحقق الأردبيلي قدس سره، الميل إلى مذهب الشيخين، لكن لا لما
تقدم في الاحتجاج المنقول عنهما، بل من حيث أن هذا وعد، والأدلة دالة على وجوب
331

الوفاء بالوعد، قال: ولولا خوف خرق الاجماع (1) لكان القول بوجوب الايفاء كما
هو قول بعض العامة متوجها، فالقول به هنا غير بعيد، لعدم الاجماع على خلافه،
إلى أن قال: وأما دليل القول بعدم البطلان فهو أنه اسقاط لما ليس له، فهو مثل
ابراء عما لم يكن في الذمة، ويمكن أن يقال: ليس هذا ابراء واسقاط، بل قول
ووعد وشرط، ومخالفته قبيحة عقلا وشرعا، وأنه غدر واغراء وليس من صفات
المؤمن انتهى.
وظاهر شيخنا الشهيد في شرح نكت الإرشاد الميل أيضا إلى مذهب الشيخين،
قال: لأن الشفعة وضعت لإزالة الضرر، ونزوله عنها يؤذن بعدم الضرر، ولما
روى عن النبي صلى الله عليه وآله (2) أنه قال: " لا يحل أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن باع
ولم يؤذن فهو أحق به " علق الاستحقاق على عدم الاستيذان، فلا يثبت معه والنزول،
أما بعد الاستيذان فالظاهر سقوط الشفعة، وأما قبله فكذلك إذ لا يبقى للاستيذان معنى
معقول، ولا نسلم أن ذلك من باب الاسقاط، فيتوقف على تحقق الاستحقاق كالدين
انتهى.
والمحقق الأردبيلي بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه اعتضد أيضا بهذا الكلام، ولم
ينكر منه شيئا، وظاهره الموافقة على صحة الحديث المذكور، حيث قال: ودلالته

(1) ظاهر كلامه (قدس سره) أن الأصحاب ادعوا الاجماع على عدم وجوب
الوفاء بالوعد، وإلا لم يمنعه من القول بالوجوب إلا ذلك، وفيه ما حققناه في غير موضع
من مؤلفاتنا وبه صرح جمع من المحققين مهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
من أن ذلك غير مانع متى قام الدليل على الحكم، لما علم من اجماعاتهم المدعاة
في غير موضع، وهو قد اعترف فميا تركنا نقله من كلامه بأن الأدلة على وجوب الوفاء
بالوعد كثيرة، والأدلة دالة على وجوب الوفاء بالشروط فالخروج منها بمجرد ما
ذكره مجازفة ظاهرة - منه رحمه الله.
(2) المستدرك ج 3 ص 147.
332

ظاهرة على السقوط بعد الاستيذان، وأنت خبير بأنا لم نقف على هذا الخبر في
كتب أخبارنا، والظاهر أنه عامي وسيما شيخنا المذكور كثيرا ما يستسلفون الأخبار
العامية ويستدلون بها في أمثال هذه المقامات الخالية من الأخبار المعصومية،
ولو صح الخبر المذكور لما كان عنه معدل لدلالته بالمفهوم الشرطي الذي هو حجة
صحيحة كما أوضحناه في صدر كتاب الطهارة على ما يدعونه، ولكن الأمر كما ترى
وأما منعه أن ذلك من باب الاسقاط، فليس بعده إلا أن يكون من قبيل الوعد،
كما ذكره المحقق المتقدم ذكره، وتعليله الأول، وقوله فيه " ونزوله عنها يؤذن
بعدم الضرر " إنما يناسب الاسقاط، لا الوعد، لأن المراد بنزوله عنها معنى تركه لها،
قال في كتاب المصباح المنير: ونزلت عن الحق تركته، على أنه متى لم يكن من
باب الاسقاط كما ذكره، فالحق باق لا مزيل له، ومجرد عدم إرادته بعد العرض
عليه لا يوجب منع الإرادة بعد تحقق حقه واستحقاقه الشفعة بالبيع.
وأما دعوى كونه وعدا وشرطا كما ذكره المحقق المشار إليه واستدل بأدلة
وجوب بالوفاء بالوعد والشرط فظني بعده، وإن أمكن احتماله على بعد باعتبار
حصوله ذلك من هذا الكلام ضمنا، فإن غاية الأمر أنه عرض عليه الشراء فامتنع منه
ولم يرده وهذا لا يسمى بحسب العرف وعدا إلا بتأويل وتمحل.
وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص محل اشكال كغيرها من الفروع المذكورة،
وإن كان القول بما ذهب إليه ابن إدريس ومن تبعه أقرب لما عرفت. والله العالم.
الرابعة عشر اختلف الأصحاب فيما لو كان الثمن مؤجلا فالمشهور أنه يأخذ
بالشفعة عاجلا بالثمن المؤجل الذي وقع عليه العقد، فإن العقد إنما وقع على المؤجل
وهو قول الشيخ المفيد وابن البراج وابن إدريس، وبه قال الشيخ في النهاية، وزاد
أنه إن لم يمكن الشفيع مليا ألزم بإقامة كفيل يضمنه.
وقال في الخلاف والمبسوط: أنه يتخير الشفيع بين أخذه بالثمن حالا وبين
التأخير إلى حلول الأجل وأخذه بثمن حال، ونقل في الكتابين ما ذكره في النهاية
قولا عن بعض أصحابنا.
333

وقال في الخلاف - بعد نقله وقد ذكرناه في النهاية -: وهو قوي وبهذا القول الثاني
قال ابن الجنيد والطبرسي على ما نقله في المختلف، والأقرب هو الأول بناء
على القول بالفورية، كما هو المشهور عندهم، وقد تقدم تحقيق الكلام فيه.
وتوضيحه أن الشفيع بمنزلة المشتري يأخذ بالثمن الذي أخذ به المشتري، وليس
له أكثر من حقه قدرا وأجلا، على أنه قد تقرر أن للأجل قسطا من الثمن، فلو أخذ
بالثمن حالا في الصورة المذكورة للزم الزيادة في الثمن المأخوذ به على أصل الثمن
الذي وقع به الشراء.
وبه يظهر أن القول الثاني يستلزم أحد محذورين، أما اسقاط الشفعة بعد
ثبوتها إن أخر إلى حلول الأجل للاخلال بالفورية المستلزم لبطلانها، أو زيادة
وصف في الثمن أن أخذ بالشفعة، وعجل بالثمن، لأن تعجيله زيادة وصف فيه من
غير موجب، بل يستلزم زيادة الثمن، لما عرفت من أن التأجيل له قسط من الثمن،
فيلزم زيادة الثمن على الأصل، ويتفرع على هذا القول أنه لو مات المشتري حل
عليه الثمن، وبقي الشفيع على التخيير الثابت له أولا، فإن شاء وإن شاء أخر
إلى حلول الأجل.
احتج الشيخ على ما ذهب إليه في الخلاف والمبسوط بأن الشفعة فقد وجبت
بنفس الشراء والذمم لا تتساوى فوجب عليه الثمن حالا أو يصبر إلى وقت الحلول
فيطالب بالشفعة مع الثمن، وأجيب عنه بأنه لا يلزم من عدم تساوي الذمم، ثبوت
أحد الأمرين المذكورين لامكان التخلص بالضمين، إما مطلقا كما يظهر من العلامة
في المختلف، أو مع عدم الملاءة.
أقول: وأشار إليه الشيخ فيما قدمنا من عبارته في النهاية بقوله إن لم يكن الشفيع
مليا ألزم بإقامة كفيل.
الخامسة عشر إذا اختلف المشتري والشفيع في القيمة بعد الاتفاق في
الشراء، فقال المشتري: اشتريت بمئة، وقال الشفيع: بل بخمسين، فإن لم يكن
بينة لأحدهما فالظاهر من كلام أكثر الأصحاب أن القول قول المشتري مع يمينه،
334

وبه صرح الشيخ في النهاية والشيخ المفيد وأبو الصلاح وابن إدريس.
قال في المختلف: وهو جيد، لأنه العاقد فهو أعرف بالثمن، ولأن الشقص
ملكه، فلا ينزع منه بالدعوى بغير بينة، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
الخلاف في ذلك، قال: لأن النزاع ليس في العقد، لاتفاقهما معا على وقوعه
صحيحا، واستحقاق الشفعة به، وإنما نزاعهما في القدر الواجب على الشفيع دفعه
من الثمن، فالمشتري يدعي زيادته عما يدعيه، والشفيع ينكره، فيكون المشتري
هو المدعي والشفيع هو المنكر، فيدخل في عموم اليمين على من أنكر انتهى.
وهو جيد.
وأما مع البينة في المسالك: فإن كان من الشفيع على ما يدعيه قبلت، بناء
على أنه خارج وقد تقدم قول المشتري فيكون البينة بينة الآخر، فإن كانت من المشتري
قيل: أفادت اندفاع اليمين عنه، وإن كان في دفع اليمين عن المنكر بالبينة في
غير هذه الصورة تردد، والفرق أنه يدعي دعوى محضة، وقد أقام بها بينة فتكون
مسموعة، ويشكل بأن جعله مدعيا دعوى محضة يوجب عدم قبول قوله فإنما توجه قبوله
بتكلف كونه منكرا فلا يخرج عن حكم المنكر انتهى.
وإن كانت من الطرفين فقد اختلف كلامهم في ذلك فقال الشيخ في الخلاف
والمبسوط: البينة بينة المشتري أيضا، وعلله في المبسوط بأنه الداخل، وفي الخلاف
بأنه المدعي لزيادة الثمن، والشفيع ينكره فالبينة على المدعي، وقال ابن الجنيد:
إذا اختلف الشفيع والمشتري في الثمن كانت البينة على الشفيع في قدر الثمن إذا لم
يقر له بالشفعة، فإن أقر بها المشتري كانت البينة في قدر الثمن عليه، وإلا كانت له يمين
الشفيع، لأنه لا يستحق عليه زيادة على ما يقر به له من الثمن. وقال ابن إدريس: البينة بينة الشفيع، لأنه خارج، وقال العلامة في المختلف
بعد نقل ذلك: ويحتمل عندي في هذه المسألة أمور ثلاثة أقواها تقديم بينة المشتري،
لأنها يرجح بقول المشتري، فإنه مقدم على قول الشفيع، وهذا بخلاف الداخل والخارج،
لأن بينة الداخل يمكن أن تستند إلى اليد، فلهذا قدمنا بينة الخارج.
335

الثاني بينة الشفيع، لأنهما بينتان معارضتان، فقدمت بينة من لا يقبل قوله
عند عدمها كالداخل والخارج، والثالث القرعة لأنهما تنازعا في العقد، ولا يدلهما
عليه فصارا كالمتنازعين في عين في يد غيرهما انتهى.
أقول: وأنت خبير بأن مرجع هذا الخلاف إلى الخلاف في تقديم بينة الخارج
أو الداخل عند التعارض، فعلى الأول تقدم بينة المشتري، وعلى الثاني بينة الشفيع، إلا أن
ظاهر كلامه في المختلف أن تقديم بينة المشتري لا من الحيثية المذكورة، بل من
حيث ترجحها بتقديم قوله، وهذا الترجيح إنما يتم بناء على ما هو المشهور عندهم،
وإلا فعلى ما قدمنا نقله عن المسالك من أن القول قول الشفيع بيمينه فلا.
وبالجملة فالمسألة لخلوها من النص الواضح صارت مطرحا للأنظار، ومسرحا
للأفكار مع ما هي عليه من الاختلاف الذي لا يقف على حد، ولا يصل إلى عد، والله العالم.
السادسة عشر إذا ظهر في الشقص الذي هو محل الشفعة عيب، فإن كان ذلك
حال البيع وقبل أخذ الشفيع بالشفعة بالشفعة فالواجب أولا النظر فيما يستقر عليه حكم
المشتري في هذه الصورة، فإن اختار أخذ الأرش، أو كان الحق منحصرا في الأرش بأن
حدث في المبيع ما يمنع الرد، فالحكم في الشفيع أنه يسقط عنه من الثمن ما قابل
الأرش الذي أخذ المشتري، لأنه جزء من الثمن، والثمن حقيقة إنما هو الباقي بعد
الأرش، وإن لم يأخذ الأرش بل عفا عنه، لأنه حقه إن شاء تركه، تخير الشفيع بين
الأخذ بمجموع الثمن الذي وقع عليه العقد وبين الترك، لأنه لم يتجدد للثمن
ما يوجب نقصه كما في الصورة الأولى.
وإن كان ظهور العيب بعد الأخذ بالشفعة فهيهنا صور أربع، لأنه إما أن يكون
المشتري والشفيع عالمين به وقت البيع، أو جاهلين أو أحدهما عالم والآخر جاهل،
وهذه الصورة الثالثة تنحل إلى صورتين، وهو أن يكون المشتري عالما والشفيع
جاهلا وبالعكس.
فالأولى أن يكونا عالمين فلا خيار لأحدهما ولا أرش، لقدوم المشتري على
الشراء والحال هذه، والشفيع على الأخذ بالشفعة والحال كما عرفت، وهذا ظاهر.
336

الثانية أن يكونا جاهلين، فإن اتفقا بعد العلم على رده فلا بحث، وإن اتفقا
على أخذه مع الأرش أو بدونه صح، والثمن اللازم للشفيع على الأول هو ما بعد
الأرش، وعلى الثاني هو ما وقع عليه العقد.
وأطلق في المسالك أن الثمن اللازم للشفيع ما بعد الأرش، ولا أعرف له
وجها، لأنه مع الاتفاق على عدم الأرش يبقى الثمن الذي وقع عليه العقد على حاله،
لم يعرض له ما يوجب نقصانه، فكيف يكون اللازم للشفيع ما بعد الأرش والحال
أنه لا أرش، لاتفاقهما على الأخذ بدونه، وإن اختلفت إراداتهما فأراد الشفيع رده
دون المشتري فله ذلك، ويرجع المبيع إلى المشتري فيتخير بين أخذه مع الأرش
أو بدونه أو عدم الأخذ بالكلية إن لم يحدث في المبيع ما يمنع الرد، وإن انعكس
الأمر بأن أراد الشفيع أخذه، وأراد المشتري رده، فظاهر الأصحاب تقديم إرادة
الشفيع لثبوت حقه وسبقه (1) وعلل أيضا بأن فيه جمعا بين الحقين، لأنا لو قدمنا المشتري
بطل حق الشفيع بالكلية مع ما عرفت من ثبوته وسبقه، وإذا قدمنا الشفيع فإن المشتري
يحصل له مثل ثمنه أو قيمته من الشفيع، ولا يفوت عليه شئ فيكون تقديمه جامعا
بين الحقين.
بقي الكلام في أنه على ما ذكرنا من تقديم الشفيع وأخذه المبيع بما وقع
عليه العقد من الثمن، فلو أراد المشتري طلب الأرش والحال هذه، فهل تجب إجابته
ودفعه إليه أم لا،؟ قولان: وبالثاني فقال الشيخ (رحمه الله) وعلله بأنه استدرك ظلامته
برجوع جميع الثمن إليه من الشفيع، فلم يقف منه شئ يطالب به.
وبالأول قال المحقق في الشرايع، لأن حقه إنما هو عند البايع، حيث أن
الأرش جزء من الثمن عوض جزء فات من المبيع، فلا يجب عليه بأن يقبل عوضه
من الشفيع، لأن الواقع بين البايع والمشتري معاوضة مستقلة مغايرة لما وقع بينه و

وذلك فإن حقه ترتب على البيع وأما حق المشتري فإنه إنما ثبت بظهور
العيب المتأخر عن وقت البيع ووقت الشفعة كما هو المفروض في أصل المسألة
فيكون حق الشفيع أسبق - منه رحمه الله.
337

بين الشفيع، وحقه إنما هو عند البايع، ولا يجب عليه قبول عوضه ومن الشفيع.
وإلى هذا القول مال في المسالك أيضا، وقال: إنه أقوى، قال: وحينئذ فله الرجوع
على البايع بالأرش، فيسقط عن الشفيع من الثمن بقدره، لأن الثمن ما يبقى بعد الأرش.
الثالثة أن يعلم الشفيع بالعيب دون المشتري، والحكم فيه لزومه للشفيع
لقدومه على الأخذ مع علمه بالعيب، وأما المشتري فالظاهر أنه ليس له الرد لانتقال
المبيع إلى الشفيع، وبه صرح الأصحاب أيضا وعللوه بمراعاة حق الشفيع.
قالوا: وفي ثبوت الأرش للمشتري الوجهان المتقدمان، قال في المسالك: والأصح أن له ذلك فيسقط عن الشفيع بقدره، ولا يقدح فيه علمه بالحال لما بيناه من
أنه يأخذ بالثمن وهو ما بعد الأرش.
الرابعة أن يعلم المشتري خاصة، وحينئذ فللشفيع رده بالعيب حيث أنه
جاهل به، وليس له أرش، لأنه إنما يأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد، والمشتري
لا أرش له هنا لقدومه على الشراء مع علمه بالعيب واستحقاق الشفيع الأرش فرع
أخذ المشتري إياه والله العالم.
السابعة عشر قالوا: وطريق الأخذ بالشفعة أن يقول: أخذت أو تملكت أو
اخترت الأخذ، ولكن لا يكفي مجرد القول، بل لا بد من تسليم الثمن مع ذلك،
هذا مع عدم رضى المشتري بالشفعة، فتصح الشفعة بذلك رضي أو لم يرض، وأما مع
رضاه بالشفعة، والصبر بالثمن فلا يلزم تسليمه في صحة الشفعة، ولكن يجب على
الشفيع تسليمه عند الطلب، كسائر الحقوق،
أقول: الظاهر أن كلما دل من الألفاظ على الأخذ بالشفعة، وطلبها فهو موجب
لذلك، إذ لا تعرض للتخصيص بشئ من الألفاظ في الأخبار، لا في هذا الباب ولا
في غيره من العقود حتى البيع الذي هو مطرح الأنظار في أمثال هذه المقامات
في غيره من العقود حتى البيع الذي هو مطرح الأنظار في أمثال هذه المقامات
وأما الكلام في الثمن ووجوب تسليمه أولا فقد تقدم الكلام فيه في المسألة
الخامسة من هذا المقصد، ثم إن ظاهر كلامهم أنه لا بد في الأخذ بالشفعة من معلومية
الثمن عند الشفيع جنسا وقدرا ووصفا، وعللوه بأنه لما كان الأخذ بالشفعة في
338

معنى المعاوضة المحضة، لأنه يأخذ الشقص بالثمن الذي بيع به، اشترط علمه
به حين الأخذ حذرا من الغرر اللازم على تقدير الجهل، لأن الثمن يزيد وينقص
والأغراض تختلف فيه قلة وكثرة وربما يزيد حيلة على زهد الشفيع في الأخذ مع
اتفاقهما على اسقاط بعضه، فلا يكفي أخذه بالشفعة مع عدم العلم به جنسا وقدرا
ووصفا وإن رضي بأخذه مهما كان الثمن، لأن دخوله على تحمل الغرر لا يرفع
حكمه المترتب عليه شرعا من بطلان المعاوضة مع وجوده، كما لو أقدم المشتري
على الشراء بالثمن المجهول ورضي به كيف كان.
قالوا: وحيث لا يصح الأخذ لا تبطل الشفعة، بل يجددها إذا علم به، وظاهر
المحقق الأردبيلي (قدس سره) المناقشة في الحكم المذكور حيث قال بعد أن نقل
قول المصنف " إنه لو قال: أخذت بالثمن كائنا ما كان وكان عالما بقدره صح و
إلا فلا ": ما صورته " لا شك في الصحة مع العلم وأما مع الجهل فقال المصنف: لا يكفي
وإن ضم إليه كائنا ما كان، ولعل دليله الجهل بالثمن وأن الشفعة بمنزلة البيع بينه
وبين المشتري، ولا بد من العلم بالعوضين، وذلك غير ظاهر، وما نعرف لاشتراط
العلم دليلا لا عقليا، ولا شرعيا إلا أن يكون أجماعا فتأمل انتهى.
وبالجملة فإن مرجع ما قدمنا من كلامهم إلى الحاق الشفعة بالبيع، وحملها
عليه من حيث الاشتراك في كونهما معاوضة، وقد قام الدليل في البيع على وجوب
العلم بالعوضين جنسا وقدرا ووصفا فكذا هنا.
وأنت خبير بما فيه، فإنه عند التحقيق لا يخرج عن القياس المنهي عنه في
الأخبار، حيث أن أخبار الشفعة على تعددها وتكاثرها لا اشعار في شئ منها بذلك
والحكم به بدون ذلك مشكل.
وأما التعليل بالغرر فيمكن دفعه بأن الشفيع قد أقام على ذلك ورضي به،
وقوله " أن دخوله على تحمل الغرر لا يدفع حكمه " مسلم لو ثبت هنا عدم جواز الدخول
في هذا الحال، وقياسه على البيع ممنوع، لقيام الدليل في البيع، فيتم ما ذكروه فيه،
أما هنا فهو محل البحث وعين المتنازع فيه والله العالم.
339

المقصد الخامس في موجبات سقوط الشفعة وبطلانها
فمنها أن يشتري شقصا لا يستوي إلا عشرة بمئة ويدفع عوض المأة ما يساوي
عشرة، فالشفيع إما أن يدفع المأة، أو ينزل عن الشفعة، لأنك قد عرفت أنه يأخذه بالثمن
الذي وقع عليه العقد إن أراد الشفعة، وأما دفع المشتري عوض المأة ما يساوي عشرة
فهي ما معاوضة أخرى، لا تعلق للشفيع بها، وهذا من جملة الحيل لاسقاط الشفعة، وفي
معناه أن يبرء ه من بعض الثمن.
ومنها ترك المطالبة بالشفعة مع العلم وعدم العذر بناء على القول بالفورية،
وأما على القول بعدمها فلا، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في المسألة السادسة
من المقصد السابق، وأنه على القول الغير المشهور لا تسقط إلا بالاسقاط، وإلا فهي
ثابتة على التراخي.
ومنها ما لو نزل عن الشفعة قبل البيع على أحد القولين، وقد تقدم تحقيق ذلك في
المسألة الثالثة عشر من المقصد المذكور.
ومنها أن يشهد على البيع على أحد القولين فذهب الشيخ في النهاية وجماعة
إلى بطلانها لدلالته على الرضا البيع، وذهب في المبسوط إلى عدمه، للأصل
ومنع الدلالة، وتأثيرها على تقديرها في الابطال، واختاره في المسالك.
ومنها أن يبارك للمشتري أو البايع العقد، وهو محل خلاف أيضا، وعلل
القول بالبطلان إما لتضمنه الرضا، أو لمنافاته الفورية، قال في المسالك، والأصح
عدم البطلان، لمنع، الأمرين، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلأن المعتبر فيها
العرف ونحو السلام والدعاء عند الاجتماع لذلك، وأشباهه لا ينافيها عرفا، بل
ربما كانت المبادرة إلى الأخذ بدون الكلام مستهجنا عادة انتهى
أقول، ويزيده تأكيد بالنسبة إلى الدلالة على الرضا أنه من المحتمل قريبا
بل هو الظاهر متى حصلت منه الشفعة أن الرضا بالبيع إنما كان لكونه وسيلة
إلى الأخذ بالشفعة، فيكون مؤكدا لا منافيا، وبالنسبة إلى الثاني ما تقدم في المسألة
340

السادسة من المقصد المتقدم.
ومنها أن يأذن للمشتري في الابتياع، وفيه أيضا قولان، أظهرهما عدم الابطال
واحتج القائل بالابطال بدلالة الإذن على الرضا المبطل لها، وفيه منع ظاهر، لما
عرفت آنفا من أن الرضا إن لم يكن دالا على الجواز لكونه وسيلة إلى الأخذ بالشفعة
لم يكن مبطلا.
والتحقيق في هذه المواضع الخلافية ونحوها أن الشفعة لا تبطل إلا مع
التصريح باسقاطها بمد ثبوتها، أو منافاته الفورية على القول باعتبارها.
ومنها وهو من الحيل أيضا في اسقاط الشفعة أن ينقل الشقص بغير البيع
كالهبة والصلح على الأشهر الأظهر من اختصاص الشفعة بالبيع، كما تقدم تحقيقه
في المقصد الثاني على الأشهر في الشروط، وسقوط الشفعة هنا حقيقة لفقد الشرط المقتضي لثبوتها،
وهو انتقال الشقص بالبيع.
ومنها أن يبيع جزءا من الشقص بثمن كله، ثم يهب له باقي الشقص.
ومنها أن يبيع عشر الشقص مثلا بتسعة أعشار الثمن، ثم يبيع تسعة أعشاره
بعشر الثمن، فالشريك الأول لا يرغب في الشفعة في البيع الأول لقلة المبيع، وكثرة
الثمن، ولا شفعة له أيضا في البيع الثاني لتعدد الشركاء، لأن الأشهر الأظهر اشتراط
وحدة الشريك كما تقدم تحقيقه، وذلك لأن المشتري حال البيع الثاني صار
شريكا.
ومنها أن يبيعه بثمن قيمي كثوب مثلا، ثم يبادر البايع بعد قبضه إلى اتلافه
قبل العلم بثمنه، أو يخلطه بغيره بحيث لا يتميز، فإنه تندفع مع الشفعة هنا لعدم معلومية
الثمن والجهل به، لأن الشفعة في القيمي إنما يكون بقيمته، وهي هنا غير
معلومة.
341

كتاب الحجر
وهو لغة المنع، ومنه سمي الحرام حجرا، لما فيه من المنع، قال الله
تعالى (1) " ويقولون حجرا محجورا " أي حراما محرما، وسمي العقل حجرا،
لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب القبيح، قال الله تعالى (2) " هل في ذلك قسم لذي
حجر " وشرعا هو المنع من التصرف في المال، أي مال ذلك المحجور عليه،
أعم من أن يكون في الجميع أو البعض، فيشمل الممنوع من التصرف في الجميع،
كالصبي أو في البعض كالمريض، وأيضا فالظاهر المنع في الجملة وعلى بعض
الوجوه، إذ لا منع شرعا من الكل، إذ لا يكون أضعف من الصبي والمجنون، وهما
غير ممنوعين من الأكل والشرب والسكنى؟ ونحوها.
ثم اعلم أن جملة من الأصحاب كالعلامة في التذكرة والمحقق في الشرايع
جعلوا للحجر كتابا وبابا على حدة، وللمفلس كتابا وبابا على حدة، والعلامة في
الإرشاد أدرج المفلس في كتاب الحجر، وجعله من جملة مباحثه، وهو الأظهر كما
ستقف عليه انشاء الله تعالى، وكأن أولئك نظروا إلى كثرة الأبحاث المتعلقة بالمفلس
فجعلوه لذلك مستقلا بالبحث، والأمر في ذلك هين.
ونحن قد جرينا في هذا الكتاب على ما جرى عليه شيخنا العلامة في الإرشاد
وحينئذ فالبحث في هذا الكتاب يقع في مطالب ثلاثة، المطلب الأول في
موجبات الحجر، وهي عند الأصحاب ستة، الصغر، والجنون، والرق، والمرض،
والفلس، والسفه، والحصر في هذه الستة المذكورة جعلي لا استقرائي، حيث
قد جرت عادتهم بالبحث في هذا المقام عن هذه الستة.
وإلا فهنا أقسام كثيرة عن غير هذه الستة، كالحجر على الراهن والمرتهن في

(1) سورة الفرقان الآية - 22.
(2) سورة الفجر الآية - 5.
342

الرهن، وعلى المشتري فيما اشتراه قبل دفع الثمن، وعلى البايع في الثمن المعين،
وعلى المكاتب في كسبه لغير الأداء والنفقة، وعلى المرتد الذي يسوغ عوده، وغير
ذلك مما هو مذكور في تضاعيف الفقه.
وكيف كان فالكلام في هذه الستة المذكورة يقع في مواضع: الأول
الصغر، وفيه مقامات المقام الأول لا خلاف في الحجر على الصغير ما لم يبلغ في
الجملة، ويدل عليه الآية وهي قوله تعالى (1) " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح "
الآية.
والأخبار منها ما رواه في التهذيب عن الأصبغ بن نباتة (3) عن أمير المؤمنين
عليه السلام " أنه قضى أن يحجر على الغلام حتى يعقل " الحديث قال في التذكرة، وهو
محجور عليه بالنص والاجماع سواء كان مميزا أو لا في جميع التصرفات إلا
ما استثنى كعباداته واسلامه واحرامه وتدبيره ووصيته وايصال الهدية وإذنه في دخول
الدار على خلاف في ذلك.
أقول، المفهوم من كلامه جملة من الأصحاب كالمحقق في الشرايع وغيره أن
الحجر إنما هو باعتبار التصرف المالي، فإنه عرفه في الشرايع بأنه الممنوع من التصرف
في ماله، وهو المتبادر من الاطلاق أيضا، وظاهر كلام العلامة هنا أن المراد جميع

(1) سورة النساء الآية - 6.
(2) التهذيب ج 6 ص 232 الفقيه ج 3 ص - 19.
(3) أقول عد المشتري هنا والبايع فيمن يحجر عليه بناء على ما تقدم في
كتاب البيع من أنه لا يجب على واحد منهما التسليم قبل الآخر كما هو المشهور،
فيكون المبيع محجورا على المشتري، ولا يجب على البايع تسليمه قبل قبض الثمن
وقد تقدم ما فيه، واحترز بالمعين عما في الذمة، فإن الحجر إنما يتوقف بالنسبة إلى العين
والمنع من التصرف فيها بأحد ووجوه التصرفات، وما في الذمة أمر كلي لا وجود له في الخارج إلا بالتبعية في فرد خارجي منه (رحمه الله).
343

التصرفات، وعلى هذا فاستثناء الثلاثة الأول ظاهر.
وأما تدبيره ووصيته فهو محل خلاف بين الأصحاب إلا أن الأخبار قد دلت
على جواز ذلك من ابن عشر سنين وكذا العتق، وسيأتي في أبوابها انشاء الله
تعالى.
وأما ايصال الهدية والإذن فقد صرحوا بأنه لا يحتاج علم المهدى إليه،
والداخل يكون في ذلك بأذن الولي صريحا.
قال المحقق الأردبيلي (رحمه الله) بعد نقل ذلك عنهم لعله اكتفى بالظاهر
للعادة بأن الهدية في محلها لم يجئها الولد إلا بإذن وليه، وكذا الإذن في الدخول
لا يكون إلا بإذنه للقرينة، فكأنه اكتفى فيها بمثله للظهور وسهولة الأمر لكثرة التداول،
والشيوع بين المسلمين من غير نكير، وكأنه كان في زمانهم (عليهم السلام) مع عدم المنع
فتقريرهم هنا ثابت، وهو حجة ولا يبعد ذلك وأمثاله، مثل قبول مثله من عبده وولده و
تسليم ظرفه إليهما، وكذا تسليم ما كان عند الانسان بالعارية نحوها إلى شخص يوصله
إليه من غير إذنه، سواء كان عبد المرسل أو ولده أو غيرهما كما هو المتعارف
خصوصا إذا كان بينهما الصداقة، أو عرف من حاله أنه لا يكره، بل يرضى علما
أو ظنا متاخما له، ويدل عليه عموم أدلة قبول الهدية من غير تفصيل، بأن يكون
الموصل حرا بالغا، ومع ذلك الاحتياط أمر مطلوب انتهى.
أقول، لو ثبت عموم الحجر كما هو ظاهر كلام التذكرة بالأدلة القاطعة من
كتاب أو سنة لكان في الخروج عنه بما ذكره (قدس سره) من هذه التوجيهات محل
نظر واشكال، إلا؟ أن القدر المعلوم ثبوته من الكتاب والسنة والاجماع، إنما هو
التخصيص بالمالي، وحينئذ فيهون الخطب فيما ذكره، ويقوى اعتباره.
المقام الثاني قد عرفت أن الصغر سبب في الحجر، ولا يزول إلا بالبلوغ،
وهو يعلم في الذكور بأمور، منها خروج المني وتشركه في هذه العلامة الأنثى،
والمراد منه الماء الدافق الذي يخلق منه الولد في يقظة كان أو نوم، وعليه تدل
344

جملة من الآيات والروايات، كقوله تعالى (1) " إذا بلغ الأطفال منكم الحلم " " والذين
لم يبلغوا الحلم " " وحتى إذا بلغوا النكاح " الآية، والحلم بالضم لغة واحد الأحلام
النومية، قال في التذكرة، الاحتلام هو خروج المني وهو الماء الدافق الذي يخرج
منه الولد، وقال أيضا، " الحلم خروج المني من الذكر أو قبل المرأة مطلقا،
سواء كان بشهوة أو بغير شهوة وسواء كان بجماع أو غير جماع، وسواء كان في نوم
أو يقظة " وكأنه يريد أن ذلك المعنى المقصود منه شرعا، وإلا فإن المذكور في كلام
أهل اللغة إنما هو التخصيص بالنوم كما يظهر من القاموس وغيره، ولهذا قال في التذكرة،
ولا يختص بالأحلام.
والأخبار بذلك متكاثرة أيضا ففي رواية علي بن جعفر (2) عن أخيه موسى عليه السلام
" قال سألته عن الغلام متى يجب عليه الصوم والصلاة؟ قال:، إذا أتى عليه ثلاث عشرة
سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجب عليه الصلاة، وجرى عليه القلم ".
وفي صحيحة البزنطي (3) عن الرضا عليه السلام " قال: يؤخذ الغلام بالصلاة وهو
ابن سبع سنين، ولا تغطي المرأة شعرها عنه حتى يحتلم " وفي هذه الخبر دلالة
على جواز كشف المرأة رأسها ما لم يبلغ، والظاهر أن ذكر الشعر إنما خرج مخرج
التمثيل، لأنه لا فرق بينه وبين سائر في تحريم النظر إليه من الأجنبي الذي
ليس بمحرم.
وفي صحيحة هشام (4) عن أبي عبد الله عليه السلام: انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام
وهو أشده، وإن احتلم ولم يونس منه رشده وكان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه
وليه ماله ".

(1) سورة النور الآية 59.
(2) التهذيب ج 2 ص 381 لكن عن عمار الساباطي.
(3) الفقيه ج 4 ص 163.
(4) الفقيه ج 4 ص 163.
345

وفي رواية عبد الله بن سنان المروية في الخصال (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال:
سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال: حتى يبلغ أشده، قال:
وما أشده؟ قال: احتلامه " الحديث إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
ومنها الإنبات، والمراد به ما على العانة من الشعر، وهذه العلامة أيضا مشتركة
بين الذكر والأنثى، قال في التذكرة: وهو مختص بشعر العانة الخشن، ولا اعتبار
بالشعر الضعيف الذي قد يوجد في الصغر، بل الخشن الذي يحتاج في إزالته إلى
الحلق حول ذكر الرجل وفرج المرأة، وقال أيضا في الكتاب المذكور: انبات
هذا الشعر دليل البلوغ في حق المسلمين والكفار عند علمائنا أجمع (2).
أقول: ويدل عليه أيضا مضافا إلى الاجماع المذكور الأخبار، ففي حسنة يزيد
الكناسي (3) عن الباقر عليه السلام وهي طويلة قال في آخرها: " إن الغلام إذا زوجه أبوه
كان له الخيار إذا أدرك، أو بلغ خمس عشرة سنة، أو أشعر في وجهه، أو أنبت
في عانته ".
والظاهر أن المراد بالشعر في وجهه هو اللحية والشارب، واستقرب في
التحرير كون نبات اللحية دليلا دون غيره من الشعور، والعادة قاضية به.
وفي معنى هذه الرواية رواية حمران (4) وفيها؟ " أن الغلام تجب عليه الحدود
إذا احتلم، أو بلغ خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبله، والجارية لتسع "
وهل الانبات دليل بنفسه على البلوغ كالسن، أو على سبقه كالحيض والحمل؟
قولان:

(1) الوسائل الباب - 2 من أبواب أحكام الحجر الرقم - 5.
(2) نبه به على خلاف بعض العامة نظرا إلى أنه لا يمكن الرجوع إليهم في
الأخبار بالسن والاحتلام بخلاف المسلم، قال في المسالك، وربما نسب هذا القول
إلى الشيخ رحمه الله وهذا التفصيل بالنسبة إلى الحرب من الكفار: باعتبار جواز القتل
في البالغ دون غيره - منه رحمه الله.
(3) الوسائل الباب - 4 - من أبواب مقدمة العبادات.
(4) الوسائل الباب - 4 - من أبواب مقدمة العبادات.
346

قال في المسالك بعد قول المصنف " ويعلم بلوغه بانبات الشعر الخشن على
العانة " ما لفظه: احترز بالشعر الخشن عن الشعر الضعيف الذي ينبت قبل الخشن
ثم يزول ويعبر عنه بالزغب وبشعر العانة عن غيره، كشعر الإبط والشارب واللحية
فلا عبرة بها عندنا إذ لم يثبت كون ذلك دليلا شرعا، خلافا لبعض العامة، ولا شبهة
في كون شعر العانة علامة على البلوغ، إنما الكلام في كونه نفسه بلوغا أو دليلا على
سبق البلوغ، والمشهور الثاني، لتعليق الأحكام في الكتاب والسنة على الحلم
والاحتلام، فلو كان الانبات بلوغا بنفسه لم يختص غيره بذلك، ولأن البلوغ غير
مكتسب، والانبات قد يكتسب بالدواء ولحصوله على التدريج، والبلوغ
لا يكون كذلك، ووجه الأول ترتب أحكام البلوغ عليه وهو أعم من الدعوى انتهى.
أقول: فيه أولا أن ما ذكره من أن شعر الشارب واللحية لا عبرة به إذ لم يثبت كونه
دليلا شرعيا مردود بدلالة الروايتين المذكورتين على كونه دليلا شرعيا، والثانية منهما وإن
كانت مجملة حيث لم يذكر موضع الشعر فيها، إلا أن الأول مصرحة بكونه شعر الوجه.
ومن الظاهر أن الشعر في الوجه إنما هو اللحية والشارب، فيحمل اجمالها على
تفصيل الأولى وبيانها، فإنه عليه السلام، جعل انبات الشعر في عداد البلوغ بالسن والانبات
والاحتلام، فيكون إحدى علامات البلوغ، والظاهر أنه غفل عن الاطلاع على
الخبرين المذكورين، كما غفل عنهما غيره، حيث لم يعدوا ذلك في العلامات
المذكورة ورد الخبرين المذكورتين من غير معارض ظاهر لا يخفى ما فيه.
وثانيا أن ما ذكره من الخلاف في كون الانبات دليلا على البلوغ أو على
سبقه، واختياره الثاني وقوله أنه هو المشهور فيه أن الظاهر عبارة العلامة المتقدمة
وقوله نبات هذا الشعر دليل البلوغ في حق المسلمين والكفار عند علمائنا أجمع
عدم الاعتداد بهذا القول المشهور، وأنه لا خلاف في كونه دليلا على البلوغ بنفسه،
وهو المؤيد بظاهر الخبرين المذكورين، فإن ظاهر عد الانبات في عداد السن
والاحتلام اللذين لا خلاف في كونهما علامتين للبلوغ لا على سبق البلوغ كون
الانبات مثلهما في ذلك.
347

وبذلك يظهر لك ما في قوله في الاحتجاج للقول المشهور، لتعليم الأحكام
في الكتاب والسنة على الحلم والاحتلام إلى آخره، فإنه ظاهر في ما قدمنا ذكره من
عدم اطلاعه على الخبرين المذكورين، وإلا فمع الوقوف عليهما كيف يتم له
دعوى تعليق الحكم في السنة على الاحتلام، وأنه مختص بذلك دون الانبات،
والروايتان قد اشتملتا كما عرفت على عد الجميع من علامات البلوغ، والمتبادر منه
كون كل منها علامة على البلوغ لا على سبقه.
وثالثا أن قوله " إن البلوغ غير مكتسب، والانبات قد يكون مكتسبا " فإنه
بظاهره لو تم لدل على عدم جواز عد الانبات في العلامات المذكورة، ولو بكونه
علامة على السبق، مع أنه لا يقول به، والقائلون بعده إنما يريدون به الانبات الحاصل
من الله " سبحانه " بمقتضى العادة والطبيعة، وهو بهذا المعنى لا يمنع من كونه
علامة على البلوغ، لا أنه مراد به ما هو أعم حتى يتجه ما ذكره، وكذا قوله
" ولحصوله على التدريج " فإن فيه أن العلامة تحصل بمجرد خروج شئ من
الشعر، ولا توقف لها على تزايده وكماله، حتى يتجه قوله " والبلوغ لا يكون
كذلك " يعني تدريجا، وبالجملة فإن كلامه " قدس سره " هنا لا يخلو من الغفلة
عن النصوص المذكورة، والمجازفة في هذه التعليلات العليلة.
وأنت خبير بأن مورد الروايات في هذه العلامة والتي قبلها إنما هو المذكر،
فكان مستند هاتين العلامتين في الأنثى إنما هو الاجماع، حيث لا قائل بخلاف ذلك.
ومنها السن والمشهور أنه في الذكر ببلوغ خمس عشرة سنة، وفي الأنثى
ببلوغ تسع، ويدل عليه بالنسبة إلى الذكر ما تقدم في حسنة يزيد الكناسي (1)
رواية حمران (2) وبالنسبة إلى الأنثى ما في رواية حمران المذكورة، حيث قال
قال فيها: " إن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع
إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع " الحديث.

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب مقدمة العبادات.
(2) الوسائل الباب - 4 - من أبواب مقدمة العبادات.
348

ورواية عبد الله بن سنان (1) عن أبي عبد الله " عليه السلام " وإذا بلغت الجارية
تسع سنين فكذلك، وذلك لأنها تحيض لتسع سنين " وعن الشيخ في كتاب الصوم
من المبسوط وابن حمزة أن بلوغ المرأة بعشر سنين. مع أن الشيخ وافق المشهور
في موضع آخر من الكتاب المذكور، وما ذكر من القول بالعشر لم نقف له على
دليل، وفي موثقة عمار (2) بلوغها بثلاث عشرة، وهو غير معمول عليه، وقيل في
المذكر بأربع عشرة سنة، نقله في المختلف عن ابن الجنيد، ونقل بعض أفاضل متأخر
المتأخرين (3) عن بعض القدماء والشيخ في كتابي الأخبار وأكثر محققي المتأخرين
أنهم قالوا بحصول البلوغ بالدخول في الرابع عشر، قال: في المفاتيح، ولا يخلو
من قوة، ويدل عليه قوله " عليه السلام ": في صحيحة عبد الله بن سنان (4) إذا
بلغ الغلام أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة وجب عليه ما يجب على
المحتملين، احتلم أو لم يحتلم كتب عليه السيئات، وكتبت له الحسنات وجاز له
كل شئ إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا "
ومنها موثقة أخرى له (5) وعلى هذا فما تقدم نقله عن ابن الجنيد من القول
بالأربع عشرة إن أريد به الدخول فيها فهو راجع إلى هذا القول الذي دلت عليه
هذه الأخبار.
وإن أريد به اكمالها فيمكن أن يكون مستنده قوله " عليه السلام " في رواية
عيسى بن زيد (6) " ويحتلم لأربع عشرة " بحملها على كمال الأربع عشرة، وقد
بسطنا الكلام في هذا المقام في كتاب الصيام (7) وذكرنا جملة من الأخبار وما قيل في الجمع

(1) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا.
(2) الوسائل الباب - 4 - من أبواب مقدمة العبادات.
(3) هو الفاضل المولى أبو الحسن بن محمد طاهر المجاور بالمشهد الغروي
حيا وميتا في شرحه على المفاتيح - منه رحمه الله.
(4) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا.
(5) الوسائل الباب 44 - من أبواب أحكام الوصايا.
(6) الوسائل الباب 44 - من أبواب أحكام الوصايا.
(7) ج 13 ص 181.
349

بينها، فمن أحب الوقوف عليه فليرجع إليه، بقي هنا شئ وهو أن ظاهر عبارات
الأصحاب الاكتفاء بمجرد الدخول، وهو ظاهر الأخبار، حيث صرحت بأن بلوغ
الخمس عشرة موجب للبلوغ، وظاهره هو الاكتفاء بالدخول فيها وإن لم يتمها،
إلا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال: ويعتبر اكمال السنة الخامسة عشرة،
والتاسعة في الأنثى، فلا يكفي الطعن فيها عملا بالاستصحاب وفتوى الأصحاب، ولأن
الداخل في السنة الأخيرة لا يسمى ابن خمس عشرة سنة لغة ولا عرفا، والاكتفاء
بالطعن فيها وجه للشافعية انتهى. وتبعه على ذلك جملة ممن تأخر عنه، وظاهره
أن ذلك فتوى من تقدمه من الأصحاب، مع أن أكثر العبارات على ما حكيناه، وكذا
عبارات الأخبار.
وظاهر المحقق الأردبيلي الميل إلى ما ذكرنا، إلا أن عبارته لا يخلو من تعقيد،
أو غلط في النسخة الموجودة عندنا، فإنه قال ما ملخصه، والظاهر أنه لا يشترط اكمال
خمس عشرة، بل يحصل بالمشروع فيه، واكمال أربع عشرة، وبذلك يمكن الجمع
بين الأخبار، ثم نقل عبارة المسالك المتقدمة، ثم قال بعد كلام في البين: وتعرف
أنه ليس فتوى جميع الأصحاب وليس بحجة، وأن ليس خامس عشر بواقع في
كتاب ولا سنة معتبرة ولا اجماع حتى يكون معناه اكماله انتهى.
ومنها الحيض، والحبل للأنثى بغير خلاف يعرف في ذلك، ولا في كونهما
دليلين على سبقة.
ويدل على الأول رواية عبد الرحمان بن الحجاج (2) عن الصادق عليه السلام
" قال: ثلاث يتزوجن على كل حال، وعد منها التي لم تحض ومثلها لا تحيض،
قلت: ومتى يكون كذلك؟ قال: ما لم يبلغ تسع سنين، فإنها لا تحيض ومثلها
لا تحيض " وقوله في رواية عبد الله بن سنان المتقدمة (2) " لأنها تحيض لتسع
سنين ".

(1) التهذيب ج 8 ص 137.
(2) التهذيب ج 9 ص 184.
350

ولا خلاف في جواز تصرف المرأة في مالها بعد البلوغ، وما ورد في بعض
الأخبار الصحيحة " من توقف عتقها على إذن زوجها، وكذا تصرفها في مالها " فقد
حمله بعض الأصحاب على تأكد استحباب استيذانه.
المقام الثالث
كما أن الحجر لا يرتفع عن الصغير إلا بالبلوغ كذلك يعتبر معه الرشد أيضا،
فلا يرتفع عنه الحجر إلا بالبلوغ والرشد، ويدل عليه قوله عز وجل " فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " قال في المسالك: الحق أن الرشد ملكة
نفسانية يقتضي اصلاح المال، وتمنع من افساده وصرفه في غير الوجوه اللائقة
بأفعال العقلاء.
أقول: مرجعه إلى أنه يعتبر فيه أمور ثلاثة: أحدها أن يكون مصلحا لما له
على الوجه اللائق بحاله، وثانيها كونه غير مفسد له بالتضييع، وثالثها أن
لا يصرفه في المصارف الغير اللائقة بحاله، ولا يخفى ما بين هذه الأمور من التلازم.
وبالجملة فالظاهر أنه لا بد أن يكون هذه الأمور عن ملكة يقتدر بها عليها من
حفظه، وصرفه في الأغراض الصحيحة، فلا يكفي ذلك مرة أو مرات من غير أن يكون
ذلك على جهة الملكة، بل يكون من عقله ومعرفته أن لا يضيع المال، ولو بتحمل
الغبن الفاحش في المعاملات، والصرف في المحرمات، والتبذير والاسراف، فإنه
مناف للرشد بغير خلاف.
وإنما الخلاف في اشتراط العدالة في الرشد، فالمشهور العدم، وذهب الشيخ
(رحمه الله) إلى اعتبارها، وهو مذهب جماعة من العامة منهم الشافعي، واحتج الشيخ
ومن قال بهذا القول بقوله عز وجل (2) " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " وما روي عن ابن
عباس في قوله تعالى " فإن آنستم منهم رشدا " هو أن يبلغ ذا وقار وحلم وعقل "

(1) سورة النساء الآية - 6.
(2) سورة النساء الآية - 6.
351

وما روي في أخبارنا (1) " أن شارب الخمر سفيه " فيثبت في غيره، إذ لا قائل
بالفصل.
والظاهر أن الأقوى هو القول المشهور للأصل، ولصدق مطلق الرشد على
غير العادل، ولقوله " عليه السلام " (2) " الناس مسلطون على أموالهم " خرج منه
ما خرج بدليل، فيبقى تحت العموم، ولزوم الحرج والضيق بذلك، قال
في المسالك ونعم ما قال: واعلم أنه لو اعتبرت العدالة في الثبوت لم تقم للمسلمين
سوق، ولم ينتظم للعالم حال، لأن الناس إلا النادر منهم إما فاسق، أو مجهول الحال،
والجهل بالشرط يقتضي الجهل بالمشروط، ويؤيده ورود الأوامر بالمعاملة والمناكحة
مطلقا من غير تقييد بالعدالة.
وفي الأخبار ما يدل على معاملة الفساق مثل الأخبار (3) الدالة على جواز
بيع الخشب ممن يعمله صنما والعنب والتمر ممن يعمله خمرا، ولو كان الأمر
كما ذكره القائل المذكور لما جاز ذلك، ولكان مع عموم البلوى به يخرج فيه خبر
يدل على المنع.
وبالجملة فالظاهر أن القول المذكور في غاية من الضعف، قالوا: وإنما تعتبر
العدالة على القول باعتبارها ابتداء لا استدامة، نقل في التذكرة الاجماع عليه،
وقال في التذكرة أيضا: إن الفاسق إن كان ينفق ماله في المعاصي لشرب الخمور وآلات
اللهو والقمار، أو يتوصل به إلى الفساد، فهو غير رشيد لا يدفع إليه أمواله اجماعا،
لتبذيره ماله، وتضييعه إياه في غير فائدة، وإن كان فسقه بغير ذلك كالكذب ومنع
الزكاة وإضاعة الصلة مع حفظه ماله دفع إليه ماله، لأن الغرض من الحجر
حفظ المال، وهو يحصل بدون الحجر، فلا حاجة إليه، وكذا إذا طرأ الفسق

(1) الفقيه - ج 4 ص 168.
(2) البحار ج 2 ص 272 ط جديد.
(3) التهذيب ج 6 ص 373.
352

الذي لا يتضمن تضييع المال ولا تبذيره، فإنه لا يحجر عليه اجماعا انتهى.
ويعلم الرشد بالاختبار فيما يلايمه من الأعمال، ذكرا كان أو أنثى، ففي
الذكر لا يفك عنه الحجر حتى ينظر لو كان من التجار مثلا في بيعه وشرائه، لا بمعنى
أن يفوض إليه البيع والشراء، بأن يبيع ويشتري لأنه لم يتحقق رشده بعد، بل
بمعنى أن تماكس في الأموال على هذا الوجه، أو يدفع إليه المتاع ليبيعه أو الثمن
ليشتري به، ولا يلاحظ إلى أن يتم المساومة فيتولاه الولي، فإذا تكرر منه ذلك
وسلم من الغبن، والتضييع وصرف المال في غير موضعه ثبت رشده، وهكذا
في كل أحد بنسبة عمله الذي يمارسه، والمرأة تستعلم بما يناسب حال النساء من
الغزل، والطبخ وتدبير المنزل ونحو ذلك مما يعتاد ممارسته النساء
الموضع الثاني الجنون
ودليل الحجر على المجنون ظاهر من العقل والنقل.
الموضع الثالث الرق والمملوك محجور عليه في التصرف إلا بإذن المولى،
أما على القول بعدم ملكه فظاهر، وأما على القول بملكه فإن الظاهر من الأخبار كما
تقدم تحقيقه في المقصد الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان من كتاب المتاجر (1)
أنه محجور عليه التصرف فيه إلا بإذن المولى، واستثنى من المنع الطلاق، فيجوز
بدون إذن مولاه بل وإن كره، لأن الطلاق بيد من أخذ بالساق، هذا في غير
أمة مولاه.
الموضع الرابع المرض، والمريض ممنوع من الوصية بما زاد على الثلث
اجماعا، كما نقلوه ما لم يجز الورثة، بمعنى أنه ممنوع من ايقاعها على جهة النفوذ
بدون إجازتهم، لا بمعنى أنها يقع باطلة في حد ذاتها، فهي صحيحة موقوفة على
الإجازة، فإن أجازوها صحت ولزمت، ونقل في المسالك عن الشيخ علي بن بابويه:

(1) ج 19 ص 395:
353

أنه أجاز وصيته بجميع ماله، ورده بأن الرواية قاصرة، وحملت على من لا وارث له،
أو ما إذا أجاز الورثة.
أقول: قال العلامة في المختلف: المشهور عند علمائنا كافة أن الوصية تمضي
من ثلث المال، وتبطل في الزايد إلا مع الإجازة.
وقال علي بن بابويه: فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية، فإن أوصى له
كله فهو أعلم وما فعله، ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى.
واحتج على ذلك برواية عمار الساباطي (1) عن الصادق عليه السلام " قال: الرجل
أحق بماله ما دام فيه الروح، إن أوصى به كله فهو جايز له ".
والرواية ضعيفة، والمطلوب مستبعد، والأحاديث الصحيحة معارضة لهذه
الرواية، مع أن الشيخ تأولها على من لا وارث له، أو على ما إذا أجاز الورثة إلى
آخر كلامه (زيد في مقامه)
وما ذكره (قدس سره) من أن مستند الشيخ المذكور هو هذه الرواية تكلف
منه، كما هي قاعدته في تكلف الأدلة للأقوال التي ينقلها في هذا الكتاب، وإنما مستنده
هو كتاب الفقه الرضوي، ومنه أخذ العبارة بلفظها، فأفتى في رسالته بها كما أوضحنا،
مثله في كتب العبادات في مواضع عديدة، فإنه " عليه السلام " قال في الكتاب المذكور (2)
" فإن أوصى رجل بربع ماله فهو أحب إلى من أن يوصي بالثلث، فإن أوصى بالثلث فهو
الغاية في الوصية فإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعله، ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما
أوصى به " وهي كما ترى عين عبارة الشيخ المذكور، ولكن الكتاب المذكور لما لم
يصل إليهم تكلفوا لدليله بهذه الرواية، وأنت خبير بأن فتوى الشيخ المذكور
بعبارة الكتاب المذكورة مع منافاتها لجملة من الأخبار المروية في الأصول المعتمدة
دليل واضح على صحة الكتاب المذكور، وثبوته عنه " عليه السلام " عنده واختلف

(1) التهذيب ج 9 ص 186 الفقيه ج 4 ص 149.
(2) المستدرك ج 2 ص 519 و 520.
354

الأصحاب في منعه التبرعات المنجزة الزايدة على الثلث على قولين مشهورين،
وكل منهما معتضدة بجملة من الأخبار، والذي يقرب عندي من الأخبار المشار إليها
هو عدم المنع، وأن مخرج الوصية على الوجه المذكور من الأصل دون الثلث،
كما هو القول الآخر، والمراد بالمنجزة يعني المعجلة في حال الحياة كالهبة والعتق
والصدقة ونحو ذلك
الخامس الفلس وسيأتي الكلام فيه مستوفى انشاء الله تعالى في المطلب
الثالث.
السادس: السفه وهو مقابل الرشد، ولما كان الرشد كما عرفت سابقا عبارة عن
الملكة التي تترتب عليها تلك الأمور، من اصلاح المال، وعدم افساده، وعدم صرفه في
غير الوجوه اللائقة، فالسفه حينئذ عبارة عن الملكة التي تترتب عليها أضداد تلك
الأمور، فلا يقدح الغلط في بعض الأحيان، والانخداع نادرا لوقوع ذلك من كثير
من المتصفين بالرشد.
ومن السفه على ما ذكروه الانفاق في المحرمات، وصرف المال في الأطعمة
النفيسة التي لا يليق بحاله، ومثله اللباس الفاخر ونحوه
وأما صرفه في وجوه الخيرات كالصدقات وبناء المساجد والقناطر والمدارس
وأقراء الضيوف ونحو ذلك، فإن كان لايقا بحاله لم يكن سفيها قطعا، فإن زاد على
ذلك فالمشهور على ما نقله في المسالك أنه كذلك: استنادا إلى أنه لا سرف في الخير،
كما لا خير في السرف
ونقل عن العلامة في التذكرة أن ما زاد منه على ما يليق به تبذير، لأنه اتلاف
في المال، وقال الله تعالى (1) " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل
البسط " قال: وهو مطلق فيتناول محل النزاع
وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد الميل إلى القول الأول مستندا

(1) سورة الإسراء الآية - 29.
355

إلى تصدق أمير المؤمنين عليه السلام الذي نزلت فيه سورة " هل أتى " حيث ورد بأنهم
صاموا ثلاثة أيام طاوين لم يذوقوا إلا الماء القراح، والقصة مشهورة
وما روي في وصية رسول الله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين " عليه السلام " (1) حيث
قال فيها: " وأما الصدقة فجهدك حتى يقال أسرفت ولم تسرف، ثم قال: ولا سرف
في الخير " مشهور.
والروايات والأخبار الدالة على الانفاق والترغيب إليه والترهيب على تركه
لا تعد ولا تحصى كثرة (2) ثم أطال بأمثال ذلك، ونقل كلام التذكرة واعترض عليه
وقال في المسالك أيضا: ومن المستفيض خروج جماعة من أكابر الصحابة
وبعض الأئمة عليهم السلام، كالحسن عليه السلام، من أموالهم في الخير،
أقول: لا يخفى على من راجع الأخبار الواردة في هذا المضار وتتبعها من
مظانها حق التتبع، وكذا الآيات القرآنية ضعف هذا القول المشهور، وأنه في
محل من القصور، لاستفاضتها وتكاثرها بالمنع عن ذلك، وعده إسرافا محرما.
وها نحن نتلو عليك جملة مما وقفنا عليه ليظهر لك صحة ما ذكرناه، فمنها رواية
اللحام المروية في الكافي وتفسير العياشي (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: لو أن رجلا
أنفق ما في يده في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن، ولا وفق للخير، أليس الله تبارك
وتعالى يقول: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " يعني
المقتصدين
وصحيحة الوليد بن صبيح (4) " قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام
فجاءه سائل فأعطاه، ثم جاء آخر فقال: يسع الله عليك، ثم
قال: إن رجلا لو كان مال ثلاثين أو أربعين ألف درهم، ثم شاء أن لا يبقى منها
إلا وضعها في حق فيبقى لا مال له، فيكون من الثلاثة الذين يرد دعاء هم، قلت:

(1) الكافي ج 3 ص - 3 إلى 11.
(2) الكافي ج 3 ص - 3 إلى 11.
(3) الكافي ج 4 ص 100 و 53.
(4) الكافي ج 4 ص 100 و 53.
356

من هم؟ قال: أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في وجهه، ثم قال: يا رب ارزقني،
فيقال له: ألم أرزقك " وهما كما ترى صريحا الدلالة في المنع عن ذلك.
وظاهر هما أن الانفاق في هذه الصورة معصية، لاستدلاله " عليه السلام " في
الخبر الأول بقوله سبحانه (1) " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " الذي لا خلاف في
تحريمه ايذانا بأن الصدقة هنا من قبيل ذلك، وقوله " عليه السلام " أنه ما أحسن يعني
با أساء، وفي الثاني أنه يرد دعائه بذلك، والمعاصي هي التي تحبس الدعاء، كما
ورد في جملة من الأخبار.
ومنها الآيات كقوله عز وجل (2) " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان
بين ذلك قواما " وقوله (3) " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط "
ففي صحيحة عبد الله بن سنان (4) عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (5)
" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا أو كان بين ذلك قواما " فبسط كفه وفرق أصابعه
وحناها شيئا، وعن قوله " ولا تبسطها كل البسط " فبسط راحته وقال هكذا، وقال القوام
ما يخرج من بين الأصابع ويبقى في الراحة منه شئ ".
وما رواه ابن أبي نصر في الصحيح عن أبي الحسن عليه السلام (6)
" قال: سألته عن قول الله عز وجل " وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا " قال: كان
أبو عبد الله عليه السلام يقول: من الاسراف في الحصاد والجذاذ أن يصدق الرجل بكفيه
جميعا وكان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح
به أعط بيد واحدة، القبضة بعد القبضة، الضغث بعد الضغث من السنبل ".

(1) سورة البقرة الآية 195.
(2) سورة الفرقان الآية - 67.
(3) سورة الإسراء الآية - 29.
(4) الكافي ج 4 ص 56.
(5) الكافي ج 4 ص 56.
(6) الوسائل الباب 16 من أبواب زكاة الغلات.
357

وفي الحسن عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنى (1) " قال: سأل رجل أبا عبد الله
عليه السلام عن قول الله عز وجل (2) " وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين "
فقال كان فلان بن فلان الأنصاري سماه وكان له حرث وكان إذ أخذه يتصدق به،
ويبقى هو وعياله بغير شئ فجعل الله ذلك سرفا ".
ومما يدل أيضا على ذلك بأوضح دلالة الحديث المروي عن الصادق عليه السلام
في الكافي (3) في باب دخول الصوفية على أبي عبد الله عليه السلام " وانكاره عليهم فيما
يأمرون به الناس من خروج الانسان من ماله بالصدقة على الفقراء والمساكين " إلى
غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع البصير ولا ينبئك مثل خبير هذا.
وأما ما استندوا إليه في هذا المقام فبعضه قابل للحمل على عدم التصدق
بجميع المال، وأصرح ما يدعونه تصدق أمير المؤمنين عليه السلام بالأرغفة والجواب عنه
لاختصاص بهم (صلوات الله عليهم) إذا شاؤوا جمعا بين الأخبار، على أن المروي (4)
عن الحسن عليه السلام إنما هو قاسم ربه ماله حتى النعل، لا أنه خرج منه كملا، كما ادعاه
في المسالك.
والقول بما ذكروه على اطلاقه مستلزم لطرح هذه الأخبار ذكرناها و
نحوها مع صحتها وصراحتها وتعددها مع اعتضادها بالآيات المذكورة وهو مما
لا يلتزمه محصل كما لا يخفى.
المطلب الثاني في الأحكام
وفيه مسائل: الأولى الظاهر أنه لو باع السفيه في حال السفه لم يضمن بيعه،

(1) الكافي ج 4 ص 55.
(2) سورة الأنعام الآية - 141.
(3) الكافي ج 5 ص 65.
(4) الوسائل الباب - 54 من أبواب الصدقة.
358

وكذا لو وهب أو تصدق أو أقر بمال، والضابط هو منعه من جميع لتصرفات المالية،
ويصح طلاقه وخلعة وظهاره، واقراره بالنسب وما يوجب القصاص، لأنه ليس في
شئ من هذه ما يوجب تضييع المال الذي فسر به السفه.
نعم في الاقرار بالنسب اشكال باعتبار أنه قد يوجب النفقة: فيرجع إلى الاقرار
بالمال، ولا يبعد أن يقال إنه كما الاقرار بالنسب على هذا التقدير يوجب شيئين
أحدهما الحاق النسب، وهو ليس بمالي، فلا مانع من الحكم به.
وثانيهما الانفاق، وهو مالي مثله ثبت باقراره فيحكم بالأول، دون الثاني،
وحينئذ يجب أن ينفق على من استلحقه من بيت المال، لأنه معد لمصالح المسلمين
ونقل عن الشهيد قول بأنه ينفق عليه من ماله، لأنه فرع ثبوت النسب،
ولأن في الانفاق عليه من بيت المال اضرارا بالمسلمين، فكما يمنع من الاضرار
بماله، فكذا يمنع من الاضرار بمال غيره.
ورد بأن اقراره إنما ينفذ فيما لا يتعلق بالمال كما تقدم، وبيت المال بعد
لمصالح المسلمين، فكيف يقال: إن ذلك مضر بهم، وإلا لأدى ذلك إلى كل ما يؤخذ
منه جزاء، ولأنه لو قبل اقراره في النفقة لأمكن أن يفعل ذلك وسيلة إلى تضييع ماله،
لأن ذلك من مقتضيات السفه، ينبغي أن يعلم أنه في صورة الخلع لا يسلم إليه
مال الخلع، لأنه تصرف مالي وهو ممنوع منه.
وأما توكله لغيره في البيع مثلا فهو صحيح للأصل، وعموم أدلة جواز التوكيل
وصدق البيع في محله عن أهله، ومنعه من التصرف في ماله لاحتمال إضاعة المال
لا يستلزم منعه من مال غيره إذا كان بإذن صاحبه، ويمكن أن يكون إجازة الولي
أيضا كافية على تقدير القول بصحة العقد الفضولي، وإلا فلا.
الثانية هل يثبت الحجر على السفيه بمجرد ظهور السفه، أم يتوقف على حكم
الحاكم؟ وهل يزول بزوال سفهه، أم يتوقف على حكم الحاكم؟ أقوال: ووجه
علل التوقف على حكم الحاكم في الموضعين، أن الحجر حكم شرعي لا يثبت
ولا يزول إلا بدليل شرعي، وأن السفه أمر خفي، والأنظار فيه يختلف، فناسب كونه
359

منوطا بنظر الحاكم.
وهذا القول مختار المحقق في الشرايع، وهو قول الشيخ في المبسوط، (1)
وعلل القول بعدم التوقف في الموضعين بأن المقتضي للحجر هو السفه، فيجب
تحققه، فإذا ارتفع زال المقتضي فيجب أن يزول، ولظاهر قوله تعالى (2) " فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " حيث علق الأمر بالدفع على إيناس الرشد،
فلو توقف معه على أمر آخر لم يكن الشرط صحيحا، ومفهوم الشرط حجه عند
المحققين، والمفهوم هنا إن مع عدم إيناس الرشد لا يدفع إليهم، فدل على أن
وجود السفه وزواله كافيان في اثبات الحجر ودفعه، لأن السفه والرشد متقابلان،
ولظاهر قوله تعالى (3) " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " الآية أثبت عليه الولاية
بمجرد السفه، فتوقفها على أمر آخر يحتاج إلى دليل، والآية الأخرى تساق لرفعه
كما مر.
وهذا القول مختار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، والروضة للتعليل
المذكور هنا، وهو الأقرب، لأن المفهوم من الدليل آية ورواية أن الحجر وعدمه
داير مدار تحقق السفه وعدمه، وسيأتيك الروايات في المقام انشاء الله تعالى،
ولا دلالة في شئ منها على حكم الحاكم لا في الحجر ولا في زواله
وظاهر الشهيد في شرح الإرشاد المناقشة في دلالة الآية الأولى حيث قال: ولقائل
أن يقول: إيناس الرشد شرط في زوال الحجر عن الصبي ابتداء فلا يلزم كونه شرطا

(1) حيث قال: حجر السفيه لا يثبت إلا بحكم الحاكم، ولا يزول إلا بحكم
الحاكم كذا نقله في المختلف ثم نقل عن ابن حمزة أنه إن صلح السفيه انفك الحجر،
ثم قال: والأقرب الأول لنا أنه على حكم الشرعي يثبت فلا يزول إلا بدليل شرعي
وفيه ما عرفت في الأصل - منه رحمه الله.
(2) سورة النساء الآية - 6.
(3) سورة البقرة الآية - 282.
360

في السفيه بعد زوال الحجر عنه.
وظني أن هذه المناقشة ليست في محلها، فإنه وإن كان الأمر كما ذكره من
أن مورد الآية إنما هو الحجر على الصبي ابتداء، لكن من المعلوم الظاهر عند التأمل
بالفكر الصائب أن التعليق على الرشد هنا إنما هو من حيث كونه في حد ذاته مناطا
لصحة التصرف حيثما كان، لا من حيث خصوصية الصبي، حتى يتم قوله فلا يلزم
كونه شرطا في السفه، وعلى هذا بني الاستدلال بالآية المذكورة.
وقال المحقق الأردبيلي (قدس سره) في شرح الإرشاد بعد قول المصنف
ويثبت حجر السفيه بحكم الحاكم لا بمجرد سفهه على اشكال ما لفظه: المراد ثبوت
حجر السفيه بالمعنى المتقدم بعد أن صار رشيدا وزال حجره، ثم صار سفيها بحيث
لو كان قبله كان ممنوعا ومحجورا، هكذا ينبغي التقييد، فالظاهر أنه لا نزاع في
أنه يثبت الحجر على السفيه المتصل سفهه بعدم البلوغ بمجرد السفه، وعدم توقفه
على حكم الحاكم، وكذا زواله بزواله من دون الحكم، للآية بل الاجماع على
ما فهم من شرح الشهيد ولما سيأتي، فتأمل
فقيل: المشهور توقفه على حكم الحاكم وحجره، وهو مذهب المصنف
في التذكرة، للأصل " وتسلط الناس على أموالهم " عقلا ونقلا (1) وشمول أدلة
التصرفات تصرفه الذي فعله في زمان سفهه من الكتاب والسنة، وصدقها عليه حينئذ
ولعدم الدليل من الكتاب والسنة إلا على استصحاب السفه إلى أن يرشد، وأما الحادث
بعده فلا، وهذا دليل قوي، ويؤيده الاجماع على عدم تحققه في المفلس إلا بعده.
ويؤيده أيضا الشريعة السهلة، فإنه إن كان مجرد السفه حجرا أشكل المعاملات
والأنكحة فإن غالب الناس مجهول الحال أو معلوم السفاهة انتهى.
أقول: ظاهر كلامه أن محل الخلاف إنما هو حدوث السفه بعد بلوغه رشيدا،
وإلا فلو كان متصلا بالصغر، فإنه لا خلاف هنا بأنه يحكم بالحجر عليه بمجرد
السفه، ولا يتوقف على حكم الحاكم، وأنت خبير بأن الظاهر من كلام الأصحاب

(1) البحار ج 272 ط جديد.
361

أن محل الخلاف ما هو أعم من الأمرين، وما نقله عن شرح الشهيد من الاجماع
على ما ادعاه.
والظاهر أنه أشار به إلى شرحه على الإرشاد، كما يشير إليه دائما فلم أقف
عليه في الكتاب المذكور، ولم يتعرض لهذه المسألة بالكلية، بل ظاهر عبارته
مثل عبارات غيره إنما هو العموم، لأنهم جعلوا العنوان في الخلاف
السفيه بقول مطلق، كما عنونا به المسألة، وهو أعم من أن يكون متصلا بالصغر
أو منفصلا، غاية الأمر أنهم لم يبحثوا عنه في حال الصغر متى كان متصلا، اعتمادا
على ثبوت الحجر بمجرد الصغر، فإنه أحد أسبابه كما عرفت، وإنما بحثوا عنه
بعد البلوغ، لزوال ذلك السبب الأول، ومرادهم ما هو أعم كما ذكرنا، وهذا
التفصيل الذي ذكره لم أقف عليه إلا في كلامه.
وأما استناده إلى الآية فإن كان المراد بها قوله سبحانه " فإن آنستم منهم رشدا "
فقد عرفت في الجواب عما أورده الشهيد على الاستدلال بها فيما تقدم ما يدل على
الجواب هنا من أن التعليق على الرشد في الآية إنما وقع من حيث إن الرشد
حيث ما كان هو مناط صحة التصرف، ومفهومه أنه مع عدم الرشد وهو السفه يجب
الحجر، ولا دلالة فيها على ما ذكره من التفصيل بوجه.
نعم هي دالة على الحجر بمجرد ظهور السفه من غير توقف على حكم الحاكم
في الصبي المتصل سفهه ببلوغه كما اخترناه، إلا أن القائل بالتوقف على حكم
الحاكم يقول به هنا أيضا ولكن الآية حجة عليه، والآية أيضا دالة بالتقريب الذي قدمناه
على السفه غير المتصل، وأنه يثبت الحجر بمجرد السفه، لتعليق رفع الحجر على
الرشد، ومفهومه ثبوت الحجر مع عدمه الذي هو السفه، وسياق الآية في اليتيم
لا ينافي ذلك، لأن التعليق فيها وقع على علة عامة له ولغيره، ودخوله تحتها إنما هو من
حيث العموم.
وأما ما اختاره من التوقف على حكم الحاكم وحجره في موضع الخلاف،
ففيه أن الظاهر من الآية بالتقريب الذي ذكرناه أن الرشد شرط في رفع الحجر حيثما
362

كان، وحيث إن السفه هو ما يقابل الرشد كما عرفت، فإنه يكون شرطا في الحجر
حيثما كان، وأينما كان السفه هو المقتضي للحجر بالتقريب المذكور، كان الحجر
بمجرد حصول السفه ولو لم يتحقق الحجر به لم يكن مقتضيا، وقد عرفت أنه مقتض،
وهذا خلف.
وحينئذ فلا وجه للتوقف على حكم الحاكم، وما استدل به من الأدلة التي
أطال بها فغايتها أن يكون مطلقة دالة على ما ذكره باطلاقها، وما استدلنا به خاص،
فيجب تقديمه كما هو القاعدة، وتخصيص تلك العمومات به، وأما تأيده بالاجماع
على المفلس، ففيه أن ثبوت الحكم هناك بدليل لا يستلزم اجراءه فيما لا الدليل عليه،
بل الدليل على خلافه كما عرفت.
وأما تأيده بالشريعة السهلة وأن غالب الناس مجهول الحال أو معلوم السفاهة
ففيه أنه يجب المنع من معاملة معلوم السفاهة اجماعا، وأما مجهول الحال وهو الأغلب
في الناس فلا مانع منه إذ المقتضي للمنع كما عرفت هو وجود السفاهة والأصل عدمها
حتى تثبت، فعده مجهول السفاهة في قرن معلوم السفاهة غلط محض، وبالجملة فالظاهر أن
كلامه (قدس سره) في هذا المقام لا يخلو من مجازفة ومسامحة.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المسألة قولين آخرين أحدهما عدم توقف ثبوته
على حكم الحاكم، وتوقف زواله عليه، وهو مذهب الشهيد في اللمعة، وعلل الأول
بأن المقتضي له، هو السفه، فيجب تحققه بتحققه، ولظاهر قوله عز وجل (1) " وإن كان
الذي عليه الحق سفيها " حيث أثبت الولاية عليه بمجرد السفه.
وعلل الثاني بأن زواله السفه يفتقر إلى الاجتهاد وقيام الأمارات، لأنه أمر خفي
فيناط بنظر الحاكم، ولا يخفى ما في الأخير من الضعف، وعدم صلوحه لتأسيس
حكم شرعي.
وثانيهما عكسه، قال في المسالك: قيل إن به قائلا ولا نعلمه، نعم في التحرير
جزم بتوقف الثبوت على حكمه، وتوقف في الزوال بحكمه: انتهى.

(1) سورة البقرة الآية 282.
363

أقول: وفي الإرشاد استشكل في ثبوت الحجر، وجزم في زواله بالتوقف
على حكم الحاكم فهو عكس ما في التحرير
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام
ما رواه الشيخ في التهذيب (1) في تفسير قوله عز وجل " فإن كان الذي عليه الحق سفيها
أو ضعيفا " عن الصادق عليه السلام " قال السفيه الذي يشتري الدرهم بأضعافه، والضعيف
الأبله ".
وفي تفسير العياشي عنه (2) عليه السلام " السفيه شارب الخمر، والضعيف
الذي يأخذ واحدا باثنين ".
وروى العياشي في تفسير قوله (3) عز وجل " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " الآية
عن الصادق عليه السلام " قال: هم اليتامى لا تعطوهم حتى تعرفوا منهم الرشد، قل:
فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ فقال: إذا كنت أنت الوارث لهم " وفي خبر (4)
كل من يشرب الخمر فهو سفيه ".
وفي الفقيه عن الباقر " عليه السلام " (5) أنه سئل عن هذه الآية، قال " السفهاء
والولد، إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وولده سفيه مفسد، لا ينبغي له أن
يسلط واحدا منهم على ماله جعل الله له قياما " الحديث وفي خبر آخر (6) عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية " قال لا تؤتوها شراب الخمر، ولا النساء
ثم قال: وأي سفيه أسفه من شارب الخمر " وفي مجمع البيان " اختلف في معنى

(1) التهذيب ج 9 ص 182.
(2) الوسائل الباب - 46 من أبواب أحكام الوصايا الرقم - 8.
(3) الوسائل الباب - 45 من أبواب أحكام الوصايا الرقم - 10 و 8.
(4) الوسائل الباب - 45 من أبواب أحكام الوصايا الرقم - 10 و 8.
(5) المستدرك ج 2 ص 490 وفيه عن علي بن إبراهيم.
(6) الفقيه ج 4 ص 168.
364

السفهاء على أقوال: أحدها أنهم النساء والصبيان، ورواه أبو الجارود (1) عن أبي جعفر (عليه السلام)، وثانيها أنه عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور
عليه للتبذير ".
وقريب منه ما روي (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنه قال: إن السفيه
شارب الخمر ومن جرى مجراه " إلى آخره.
وروى في الفقيه في تفسير قوله تعالى " فإن آنستم منهم رشدا " (3) عن الصادق
(عليه السلام) " إيناس الرشد حفظ المال ".
وروي في المجمع عن الباقر (عليه السلام) (4) " الرشد العقل واصلاح
المال ".
والقمي في تفسيره عنه (عليه السلام) " في هذه الآية قال: من كان في يده مال
بعض اليتامى فلا يجوز له أن يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم، فإذا احتلم وجب
عليه الحدود وإقامة الفرائض، ولا يكون مضيعا، ولا شارب خمر، ولا زانيا، فإذا
آنس منه الرشد دفع إليه المال، وأشهد عليه، وإن كانوا لا يعلمون أنه بلغ فإنه
يمتحن بريح إبطه، أو نبت عانته، فإذا كان كذلك، فقد بلغ، فيدفع إليه ماله إذا كان
رشيدا، ويجوز أن يحبس عنه ماله ويعتل عليه أنه لم يكبر بعد ".
وروى في الكافي عن أبي الجارود (5) " قال: قال أبو جعفر " عليه السلام "
إذ حدثتكم بشئ فسلوني من كتاب الله، ثم قال: وفي حديثه أن الله نهى عن القيل
والقال: وفساد المال وكثرة السؤال فقيل: يا بن رسول الله وأين هذا من كتاب الله؟

(1) المستدرك ج 2 ص 525.
(2) الوسائل الباب - 46 من أبواب أحكام الوصايا الرقم - 2.
(3) الفقيه ج - 4 ص 146.
(4) المستدرك ج 2 - 496.
(5) التهذيب ج 7 ص 231 الكافي ج 5 ص 300.
365

قال: إن الله يقول: (1) " لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح
بين الناس " وقال (2) " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " وقال (3)
" لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ".
أقول: يستفاد من هذه الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض أن السفه مقابل للرشد،
كما ذكره الأصحاب، وأن مجرد السفه موجب ومقتض لعدم الدفع إلى من اتصف
به، لأن قوله سبحانه " لا تؤتوا السفهاء أموالكم " إما أن يراد به أموالكم كما عرفت
من خبر العياشي المذكور، أو ما هو الظاهر من الآية كما يدل عليه غيره، والنهي به
اعطائهم إنما هو من حيث السفه، لأن التعليق على الوصف يشعر بالعلية، فيكون
المعنى لا تدفعوا إلى السفهاء أموالهم أو أموالكم من حيث اتصافهم بالسفه.
ومنه يعلم أنه العلة في المنع والمقتضي له وهو الظاهر من جملة الأخبار
المذكورة وبه يظهر قوة القول الذي اخترناه من الحكم بالحجر بمجرد السفه
وعدم التوقف على حكم الحاكم، وأنه يزول أيضا الحجر بزواله، لأنه متى زالت العلة
زال معلولها.
ومنها يعلم أيضا أن الرشد مناط صحة التصرف حيث ما كان، وذكره في
الآية أعني قوله " فإن آنستم منهم رشدا " إنما وقع من حيث كونه كذلك، فإن قوله
عليه السلام إيناس الرشد حفظ المال، وفي الرواية الأخرى الرشد العقل واصلاح المال،
إنما هو تفسيره للرشد في حد ذاته، لا لخصوصية رشد الصبي.
ويستفاد أيضا من قوله عليه السلام في رواية القمي فيمن يجهل حال بلوغه، فإنه يمتحن
بريح إبطيه، ونبت عانته، وإذا كان كذلك فقد بلغ أن نبت العانة علامة على
البلوغ، لا على سبقه، كما قيل.
وظاهر الأخبار المذكورة هو ترتب السفه على مجرد تضييع المال وافساده،
وأما اعتبار كون ذلك ملكة كما تقدم ذكره، فهو غير ظاهر منها.

(1) سورة النساء الآية 114 و 5.
(2) سورة النساء الآية 114 و 5.
(3) سورة المائدة الآية - 101.
366

وظاهرها أيضا حصول السفه بارتكاب بعض المعاصي، كشرب الخمر
والزنا، وإن لم يتضمن تضييع المال، ولم أطلع على قائل به، إلا أن يحمل على
ما يتضمن من التضييع وفيه بعد.
وحمل أصحابنا السفه الوارد في الأخبار في شارب الخمر على معنى
غير المعنى المذكور هنا، وكأنه أراد به الفسق، وهو غير بعيد إلا أن في بعض
الأخبار في تفسير الآية وهي قوله " فلا تؤتوا السفهاء أموالكم " تفسيرها بشارب الخمر
فلا يتم ما ذكره.
وظاهر كلام العلامة في التذكرة المتقدم نقله في المقام الثالث من الموضع
الأول في الصغر أن ما لا يتضمن تضييع المال من المعاصي كمنع الزكاة وترك
الصلاة ونحوهما لا يعد سفها مع حفظ المال.
إلا أن في المقام اشكالا قل من تنبه له، وهو أنه قد دلت الأخبار على جواز معاملة
الظلمة والحكام، وأخذ جوائزهم وعطاياهم، وقد تقدم نقل جملة من الأخبار بذلك
وقبول الأخماس والزكوات منهم، ونحو ذلك مع أنه لا اشكال في ثبوت السفاهة في
حقهم بصرف الأموال في غير حلها، مثل شراء الخمر وآلات اللهو وصرف الأموال
إلى المغنين، وأصحاب اللهو واللعب كما شاهدناه في زماننا، وصرف الأموال
رياء وسمعة، ونحو ذلك من المصارف المحرمة.
ومقتضى ذلك الحكم بسفاهتهم وعدم جواز معاملتهم، ولأصحاب والأخبار
على خلافه، وأن غاية ما حكم به الأصحاب الكراهة، تفاديا من طرح الأخبار الدالة
على جواز ذلك، وأيضا أن الأصحاب صرحوا بأن الرشد شرط في صحة المعاملات
كما هو ظاهر الآية المتقدمة.
وحينئذ فلا بد من تحققه، والعلم به في صحة المعاملة، تحقيقا للشرطية،
وعلى هذا فمن دخل سوقا ليشتري متاعا سيما إذا كان غريبا كيف له بمعرفة ذلك،
والعلم به أولا لتصح معاملته، مع أنه شرط اجماعا، ومقتضى الأصل العدم، حتى
يعلم ذلك
367

اللهم إلا أن يقال: إن البناء هنا على الظاهر دون الأصل، باعتبار حمل أفعال
المسلمين على الصحة، كما ورد في جملة من الأخبار من الأمر بحسن الظن بالمؤمن،
حتى أن الفقهاء جعلوا هذا أصلا من الأصول المتداولة في كلامهم، وبنوا عليهم
فروعا كثيرة، إلا أن هذا إنما يحسم مادة الاشكال الثاني، دون الأول، والله العالم.
الثالثة إذا ثبت الحجر على السفيه فباعه انسان كان البيع باطلا، فإن كان
المبيع موجودا فلصاحبه استعادته، قالوا: ولا فرق في جواز استعادته مع وجوده بين
كون من باعه عالما بالسفه أو جاهلا، لأن البيع في نفسه باطل، فله الرجوع في ماله
متى وجده، وإن تلف وكان القبض بإذن صاحبه مع كونه عالما بالسفه، فإن تلفه من
مال صاحبه، لأنه سلطه عليه مع علمه بأنه محجور عليه، وإن فرض فك الحجر عنه
بعد ذلك، لأنه إذا لم يلزم حال الاتلاف لا يلزم بعد الفك.
وبالجملة فإن العلم بوجود السفه مانع من العوض، فإذا تلف والحال هذه
ففك الحجر بعد ذلك لا أثر له في ضمانه، أما لو تلف والحال أن البايع جاهل بالسفه
فالمشهور أن حكمه كذلك.
قيل: ووجهه أن البايع تصرف في معاملته قبل اختبار حاله، وعلمه بأن
العوض المبذول منه ثابت أم لا، فهو مضيع لما له، ولا يخفى ما في هذا التعليل العليل
من الضعف، فإنه لا قائل بتوقف صحة البيوع على اختبار البايع أو المشتري بكونه
محجورا عليه أم لا، بل والأصل عدم ذلك.
وقد تقدم في سابق هذه المسألة ما يؤيده، وظهور المانع بعد ذلك لا يوجب
ما ذكروه، ولهذا أن العلامة في التذكرة نقل عن بعض الشافعية أن السفيه إذا أتلف
المال بنفسه ضمن بعد رفع الحجر، ثم قال: ولا بأس به، ومراده مع الجهل،
وإلا فمع العلم لا خلاف ولا اشكال في كون تلفه من صاحبه، وأما إذا كان السفيه قد
قبضه بغير إذن صاحبه وأتلفه، فإنه يضمنه مطلقا، سواء كان البايع عالما أو جاهلا،
لأن البيع كما عرفت فاسد، فلا يقتضي الإذن في القبض، فيدخل فيمن تصرف في مال غيره
بغير إذن، كما لو غصب مالا أو أتلفه بغير إذن مالكه، فإنه يضمنه
368

ولو أذن الولي للسفيه في المبيع، قال الشيخ في المبسوط: لا يصح، وتبعه
ابن البراج ونقل العلامة القول بالصحة في المختلف عن بعض علمائنا، وقال: إنه
الأقوى، واحتج عليه بأن المقتضي للصحة وهو صدور البيع من أهله في محله
موجود، والمانع وهو السفه مفقود، إذ التقدير الإذن، فأمن من الانخداع، فيثبت
الحكم انتهى وهو جيد.
ولو أودعه شخص وديعة فأتلفها، فقيل: بأنه لا ضمان عليه، واختاره المحقق
في الشرايع، وعلل ذلك بتفريط المودع باعطائه، وقد نهى الله عن ذلك بقوله
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " فيكون بمنزلة من ألقى ماله في البحر وقيل: إنه يضمن
إذا أتلفها أو تلفت بتفريط، واختاره العلامة في التذكرة، وشيخنا الشهيد الثاني في
المسالك، واحتج على ذلك بأن المالك لم يسلط على الاتلاف، وإنما أمره بالحفظ
فقد حصل منه الاتلاف بغير اختيار صاحبها، كما لو غصب، والحال أن السفيه بالغ
عاقل، والأصل عصمة مال الغير إلا بسبب، مع أن وضع اليد حال الاتلاف غصب.
قالوا: وفي حكم الوديعة العارية، وأيده المحقق الأردبيلي بعد أن استظهر
بعموم دليل الضمان، قال: وكونه سفيها وتسليم مالكه إياه لا يستلزم عدم الضمان
لأن له أهلية الضمان والحفظ، لأنه بالغ عاقل، إلا أنه تسامح في ماله وذلك غير
قادح في أهليته فلا يستلزم كون المالك هو المضيع ولهذا يجوز توكيله انتهى.
أقول: ويمكن تأييد القول الأول بأنه لا ريب في دلالة الآية المتقدمة
على النهي عن اعطاء السفيه الأموال، ومن الظاهر أن تحريم ذلك أنما هو من حيث
تطرق التلف إليها، وفواته من جهة السفيه، ولم تم القول بالضمان المستلزم لعدم
الفوات لم يكن لهذا النهي وجه بالكلية، لأنه لا فرق بين أن يرده بعينه، أو عوضه
من قيمة أو مثل، فلا يحصل هنا ضرر على المودع والمعير، فأي ثمرة لهذا التحريم
الذي دلت عليه الآية.
ويمكن أيضا تأييد ذلك بما رواه في الكافي عن حريز في الصحيح أو الحسن (1)

(1) الكافي ج 5 ص 299.
369

" قال: كان لإسماعيل بن أبي عبد الله (عليه السلام) دنانير وساق الخبر ومضمونه
أنه أراد أن يستبضع رجلا فنهاه أبوه (عليه السلام) عن ذلك لأن ذلك الرجل كان
يشرب الخمر، فخالف أباه فاستبضعه، فاستهلك ماله فحج أبو عبد الله (عليه السلام)
وحج معه ابنه إسماعيل، فجعل يطوف البيت ويقول: اللهم أجرني، واخلف على،
فلحقه أبو عبد الله عليه السلام فهمزه بيده من خلفه.
فقال له: مه يا بني، فلا والله ما لك على الله حجة، ولا لك أن يأجرك، ولا يخلف
عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فأتمنته إلى أن قال: ولا تأتمن شارب الخمر
فإن الله عز وجل يقول: في كتابه (1) " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " فأي سفيه أسفه
من شارب الخمر إن شارب الخمر لا يزوج ولا يؤتمن على أمانة فمن ائتمنه على
أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله عز وجل أن يأجره ويخلف عليه ".
و التقريب فيه أن الظاهر من قوله عليه السلام إنه ليس لمن ائتمن شارب الخمر
لكونه سفيها أن يأجره الله ويخلف عليه هو أنه قد أتلف ماله بنفسه، وضيعه بدفعه إلى
من كان كذلك كمن رمى ماله في البحر فليس له على الله حق لتفريطه في نفسه، ولا على
من دفعه إليه فهو غير مستحق لشئ بالكلية عقوبة له ومؤاخذة له بمخالفته الله
سبحانه.
ولو كان المال مضمونا والحق ثابتا في ذمة ذلك السفيه كساير الحقوق
المضمونة في ذمم المديونين لم يكن للمنع من الدعاء بخروجه، أو المعاوضة عنه
الأجر والثواب وجه لأنه حق ثابت كسائر الحقوق، يستحق التوصل إليه بكل وجه
ممكن، ومن وجوه التوصلات الدعاء مع عدم الحيلة في الوصول بغيره من الأمور
الموجبة لذلك.
وبالجملة لو ثبت كونه حقا شرعيا في ذمة من دفعه إليه لاستحق المعاوضة من
الله سبحانه عليه عقلا ونقلا، كساير الحقوق التي تفوت على أصحابها، وكيف

(1) سورة النساء الآية - 5.
370

كان فالمسألة لا يخلو من شوب الاشكال.
قال العلامة في التذكرة، وحكم الصبي والمجنون كما قلناه في السفيه من
من وجوب الضمان عليهما إذا أتلفا مال غيرهما بغير إذنه أو غصبا فتلف في يديهما،
وانتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه كالبيع، والقرض، وأما
الوديعة والعارية إذا دفعها صاحبها إليهما فتلف فلا ضمان عليهما، فإن أتلفاهما
فالأقرب أنه كذلك، و لبعض العامة وجهان انتهى.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بالنسبة إلى الوديعة والعارية إذا
دفعهما صاحبهما إلى الصبي والمجنون فتلفتا أو أتلفاهما بعد أن ذكر أن في ضمانهما
قولين: التفصيل في ذلك، والفرق بين التلف والاتلاف، وأن الأجود الضمان في
الثاني دون الأول.
وعلل بأن الضمان باعتبار الاهمال إنما يثبت حيث بجب الحفظ والوجوب
من باب خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين، فلا يتعلق بالصبي والمجنون، ووجوب
الضمان في الثاني بأن اتلاف مال الغير مع عدم الإذن فيه سبب في ضمانه، والأسباب
من باب خطاب الوضع لا يتوقف على التكليف، قال: ومنه يعلم وجه ضمان، ما يتلف
به من مال الغير بغير إذنه.
أقول عندي فيما ذكروه وحكموا به من الضمان على الصبي والمجنون في
جميع هذه من الصور المفروضة نظر، لحديث (2) " رفع القلم عن الصبي حتى
يبلغ، والمجنون حتى يفيق " وظاهر رفع التكليف والمؤاخذة بحقوق الله (سبحانه)
وحقوق الناس وأن كلما يفعلانه فهو في حكم العدم
ولو قيل إن المراد برفع القلم إنما هو بالنسبة إلى المؤاخذة، والمعاقبة
فيما يفعلانه مخالفا للشرع قلنا: ايجاب الضمان عليهما في الصور المذكورة إن
تم فهو موجب للمؤاخذة لأن من أخذه بما أوجب الله عليه استحق المؤاخذ

(1) الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات الرقم 11.
371

والمعاقبة، فاللازم إما سقوط وجوب الضمان الذي ادعوه أو حصول المؤاخذة
والمعاقبة، وفي الأول رد لقولهم، وفي الثاني رد للخبر المتفق على صحته، وأيضا
فإن قوله في المسالك بأن الوجوب من باب خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين
فلا يتعلق بالصبي والمجنون، يجري في الحكم بوجوب الضمان عليهما في هذه الصور
التي ذكروها والله العالم.
الرابعة لا خلاف في أن الولاية في مال الصغير والمجنون المتصل جنونه
بالبلوغ للأب والجد له وإن علا، وأما السفيه فإن ظاهر شيخنا الشهيد الثاني
في المسالك، أن المشهور أن ولايته للحاكم، سواء تجدد سفهه بعد البلوغ رشيدا أو
بلغ سفيها، قال: ووجهه على تقدير القول بتوقف الحجر بالسفه على حكم الحاكم
ورفعه عليه ظاهر، لكون النظر حينئذ إليه، ثم نقل القول بأنه إن بلغ سفيها فالولاية للأب
والجد ثم وصي أحدهما ثم الحاكم والصبي إن بلغ رشيدا ثم تجدد سفهه فأمره إلى الحاكم
دونهما، قال: وهو أجود استصحابا لحكم ولايتهما في الأول، وارتفاعها في الثاني
فيحتاج عودها إلى دليل، والحاكم ولي عام، لا يحتاج إلى دليل، نعم يتخلف إذا قدم عليه
غيره وقد انتفى هنا.
أقول: إن من القائلين بتوقف الحجر وزواله على حكم الحاكم العلامة في
جملة من كتبه، كالمختلف والتذكرة، مع أنه قال في التذكرة: إذا بلغ الصبي لم
يدفع إليه ماله، إلا بعد العلم برشده، ويستديم التصرف في ماله من كان متصرفا فيه قبل
بلوغه، أبا كان أو جدا أو وصيا أو حاكما أو أمين حاكم، فإن عرف رشده انفك
الحجر عنه، ودفع إليه المال، وهل يكفي بالبلوغ والرشد في فك الحجر عنه،
أم يقتصر إلى حكم الحاكم وفك القاضي؟ الأقرب الأول، لقوله تعالى (1) " فإن
آنستم " ولزوال المقتضي للحجر كالمجنون، ولأنه لو توقف على ذلك، لطلب
الناس عند بلوغهم فك الحجر عنهم من الحاكم، ولكان عندهم من أهم الأشياء

(1) سورة النساء الآية - 6.
372

إلى آخره.
وهو ظاهر في استمرار ولاية الأب والجد على من بلغ سفيها، مع أن مذهبه كما
قدمنا نقله عنه، توقف الحجر وزواله على حكم الحاكم، وما ذاك إلا من حيث تخصيصهم
القول بالتوقف على حكم الحاكم بصورة تجدد السفه بعد البلوغ، وأنه لا نزاع في
عدم توقف حجر السفيه على حكم الحاكم، إذا كان السفه متصلا بالبلوغ، وحينئذ
فتفريع ولاية الحاكم في صورة اتصال السفه بالبلوغ على القول بتوقف الحجر
وزواله على حكم الحاكم كما ذكره لا وجه له، مع أن ظاهر الآية والأخبار التي
قدمناها إنما هو استمرار ولاية الأب والجد الثابتة قبل البلوغ في صورة اتصال
السفه بالبلوغ، كقوله في رواية هشام بن سالم (1) " وإن احتلم ولم يونس منه
رشد أو كان ضعيفا، أو سفيها فلنمسك عنه وليه " وهو الظاهر من قوله سبحانه " فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " فإن مفهومه أنه مع عدم إيناس الرشد
إن كان سفيها أو مجنونا لا يدفع إليه، والخطاب للأولياء حال الصغر، وهم الأب
والجد ومن تفرع عليهما، بغير خلاف إلا مع عدم الجميع (2).
وبذلك يظهر لك ضعف القول المذكور. وإن كان هو المشهور.
بقي الكلام هنا في مواضع: الأول قال في المفاتيح في باب النكاح:
تثبت الولاية في النكاح للأب والجد وإن علا على الصغير، للنصوص المستفيضة
وعلى السفيه والمجنون ذكورا كانوا أو إناثا مع اتصال السفه والجنون بالصغر
بلا خلاف.
وفيه أن دعوى عدم الخلاف هنا بالنسبة إلى السفيه يدفعه ما قدمنا نقله

(1) التهذيب ج 9 ص 183.
(2) يعني أن الولاية لهؤلاء دون الحاكم إلا مع عدم الجميع فإذا عدموا رجعت
الولاية للحاكم - منه حمه الله.
373

عن المسالك من أن المشهور أن الولاية للحاكم على السفيه مطلقا، اتصل سفهه
بالبلوغ، أو تجدد بعده بل صرح بذلك هو نفسه في الباب الخامس في التصرف بالنيابة
فقال بعد أن صرح بأن ولاية الصبي والمجنون للأب والجد: ما لفظه قيل: وكذا
حكم الولاية في مال من بلغ سفيها استصحابا لولاية الأب والجد، وأما من تجدد سفهه
بعد أن بلغ رشيدا والمفلس فولايتهما للحاكم لا غير، وقيل: بل الولاية في السفيه
مطلقا للحاكم لا غير، كالمفلس، وهو أشهر انتهى.
نعم المفهوم من كلام بعض الأصحاب في كتاب النكاح أن هذا الاجماع
إنما هو في المجنون خاصة، بمعنى أنه إن بلغ مجنونا فإن ولايته للأب والجد بلا
خلاف.
وبه يظهر أن الظاهر أن لفظ السفيه هنا في العبارة المتقدمة وقع سهوا من قلمه،
وأما حمل ذلك على النكاح بالخصوص دون المال كما ربما يتوهم من ذكر ذلك
في باب النكاح فيرده ما يفهم من المسالك من أنه لا فرق في هذا الخلاف بين المال
والنكاح (1).
الثاني لو بلغ عاقلا ثم تجدد سفهه فقد تقدم أن الولاية فيه للحاكم، وهو
المشهور، وقيل: يعود ولاية الأب والجد بعد زوالهما، قال: وكذا في الجنون
لو طرء بعد البلوغ والرشد.

(1) حيث قال بعد قول المصنف ولايته يعني الحاكم على من بلغ غير رشيد
أو تجدد فساد عقله: ما لفظه وأما من بلغ غير رشيد فاطلاق الولاية فيه للحاكم مشكل،
لأن ولاية الأب والجد مع وجودهما متحققة قبل البلوغ، ولا مانع من استصحابها،
والظاهر أن مراد المصنف ثبوتها للحاكم مطلقا، وأن ولاية الأب والجد مخصوصة
بالصغير، وقد تقدم في باب الحجر مثله في ولاية المال، والمتجه التصفية بينهما في
التفصيل باتصال السفه وتجدده، فيكون الولاية في الأول للأب والجد، وفي الثاني
للحاكم مطلقا - منه رحمه الله.
374

قال: في المفاتيح وإن طرأ الوصفان بعد البلوغ والرشد ففي ثبوت ولايتهما
قولان: وبذلك صرح في الكفاية أيضا
أقول: والمسألة خالية من النص الظاهر، إلا أن الأقرب بالنظر إلى ما ذكروه
من التعليلات هو القول المشهور، لأنه بعد زوال الولاية بالبلوغ والرشد فرجوعها
يحتاج إلى دليل.
وغاية ما يفهم من الآيات والأخبار هو ثبوت الولاية على الصغير، ومن اتصل
جنونه أو سفهه بالصغر، وأما من تجدد له بعد البلوغ فلا دليل عليه، وولاية الحاكم ثابتة على
الاطلاق، والمراد به الإمام (عليه السلام) أو نائبه الخاص، أو العام وهو الفقيه الجامع
للشرايط، فيدخل هذا الفرد تحت ذلك (1).
الثالث قد عرفت في صدر المسألة أن الولاية في مال الصغير والمجنون
المتصل جنونه بالبلوغ للأب والجد وإن علا بلا خلاف ولا اشكال، وإنما
الاشكال فيما لو تعارض عقد الأب والجد، بأن أوقعاه دفعة، فهل يقع باطلا
لاستحالة الترجيح أو تقدم عقد الجد، أو عقد الأب أوجه: والكلام في ولاية
المال، أما النكاح فسيأتي الكلام في بابه انشاء الله تعالى، ونقل عن التذكرة
في هذا الباب، القول بتقديم عقد الجد، وفي باب الوصايا من الكتاب المذكور
قال: إن ولاية الأب مقدمة على ولاية الجد، وولاية الجد مقدمة على ولاية
الوصي للأب.
وبذلك صرح في المسالك أيضا في كتاب الوصايا فقال: الأمور المفتقرة
إلى الولاية، إما أن تكون أطفالا، أو وصايا، أو حقوقا، أو ديونا، فإن كان الأول
فالولاية فيهم لأبيه ثم لجده لأبيه، ثم لمن يليه من الأجداد على ترتيب الولاية الأقرب

(1) فقال: لو طرء الجنون بعد البلوغ والرشد ففي ثبوت الولاية لهما أو
للحاكم قولان: وقال في السفه بعد ذكر حكم السفه المتصل بالبلوغ والخلاف
فيه: أما الطارئ بعد البلوغ والرشد المشهور أنها للحاكم - منه رحمه الله.
375

فالأقرب منهم إلى الميت، فإن عدم الجميع فوصي الأب، ثم وصي الجد، وهكذا
فإن عدم الجميع فالحاكم، والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي، ثم الحاكم
انتهى.
هذا كلامه في كتاب الوصايا وظاهره الجزم به ومع أنه في كتاب الحجر اقتصر
على نقل الاحتمالات الثلاثة التي ذكرناها، ونقل كلام التذكرة ولم يرجح شيئا
في البين، والظاهر أن وصي الأب لا حكم له مع الجد، وبه صرح في التذكرة،
لأن ولاية الجد شرعية، وولاية الوصي جعلية، ولو تعدد الأجداد بوجود الأدنى
والأعلى، فإنه يأتي فيهم ما تقدم في الجد والأب من الأوجه الثلاثة كذا صرح في
المسالك في هذا الكتاب، مع أن ظاهر كلامه الذي نقلناه في كتاب الوصايا تقديم
الأقرب فالأقرب من الأجداد إلى الميت.
الرابع هل يعتبر العدالة في الأب والجد؟ أكثر عبارات الأصحاب عارية
عن ذلك، قيل: وفي عبارة القواعد وشرحه إشارة إليه، والأخبار الدالة على
ولايتهما مطلقة، والأصل عدمها حتى يقوم دليل واضح على ثبوتها، وهو اختيار جملة
من محققي متأخري المتأخرين والظاهر من كلام الأصحاب أيضا
وأما الوصي فالمشهور بين الأصحاب اعتبار العدالة فيه، وظاهر جملة من
أفاضل متأخري المتأخرين كالمحقق الأردبيلي والفاضل الخراساني عدم اعتبار
ذلك، استنادا إلى عموم الروايات الدالة على اجراء حكم الوصي من غير اشتراط
العدالة، وكذا عموم ما دل مضاربة الرجل بمال ولده، والوكالة فيه من غير
اشتراط العدالة.
أقول: ويمكن أن يستدل على اشتراطها في الوصي بما رواه محمد بن إسماعيل (1)
في الصحيح قال: إن رجلا من أصحابنا مات ولم يوص، فرفع أمره إلى قاضي
الكوفة فصير عبد الحميد بن سالم القيم بماله، وكان رجلا خلف ورثه صغارا ومتاعا

(1) التهذيب ج 9 ص 240 ولكن عن سماعة.
(2) التهذيب ج 9 ص 240 ولكن عن سماعة.
376

وجواري فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن،
إن لم يكن الميت صير إليه وصيته، وكان قيامه بهذا بأمر القاضي لأنهن فروج، قال
فذكرت ذلك لأبي جعفر " عليه السلام " فقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولم
يوص إلى أحد، ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا ليبيعهن، أو قال: يقوم
بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك القيم؟ قال: فقال: إذا
كان القيم مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس " والمراد المماثلة في الوثاقة والعدالة
ورواية رفاعة (1) " قال: سألته عن رجل مات وله بنون صغار وكبار من غير
وصية، وله خدم ومماليك وعقار كيف يصنعون الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال:
إن قام رجل ثقة فقاسمهم ذلك كله فلا بأس " وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2)
الواردة في وصية أمير المؤمنين عليه السلام قال فيها: " وإن حدث بالحسن والحسين عليهما السلام
حدث فإن الآخر منهما ينظر في بني علي، فإن وجد فيهم من يرضى بهديه واسلامه
وأمانته، فإن يجعله إن شاء، وإن لم ير فيهم بعض الذي يريد، فإنه يجعله إلى رجل من
أبي طالب يرضى به، فإن وجد آل أبي طالب قد ذهب كبراؤهم وذووا آرائهم فإنه
يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم " الخبر.
ومورد هذا الخبر الوصي لكنه لا دلالة له على العموم في كل وصي، وبما
يفرق بين الوصي وبين ما دل عليه الخبران الأولان، بأن الوصي قد عينه وإن كان غير
عدل، وفي تبديله وعزله دخول تحت قوله تعالى (3) " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما
إثمه على الذين يبدلونه ".
وفيه أن تبديله وعزله إنما وقع رعاية للموصي ومحافظة على تنفيذ وصاياه،
حيث أن الوصي لما كان غير عدل فلا يؤمن منه التغيير والتبديل، والاخلال بتنفيذ

(1) التهذيب ج 9 ص 240 لكن عن سماعة.
(2) التهذيب ج 9 ص 127.
(3) سورة البقرة الآية 181.
377

الوصايا كما أمر.
والظاهر أن الاحتياط في المقام أن يضم الحاكم إليه عدلا يكون ناظرا عليه
في تنفيذ الوصايا، ويستفاد من الخبرين الأولين الإذن لعدول المؤمنين في تولي
بعض الأمور الحسبية المنوطة بالحاكم الشرعي، وبه صرح الأصحاب أيضا.
الخامسة المفهوم من كلام جملة من الأصحاب أن السفيه حكمه في العبادات
البدنية والمالية الواجبة حكم الرشيد في وجوب الاتيان بهما، إلا أنه لا يمكن من
من صرف المال، وعلى هذا فمتى كان الحج عليه واجبا فليس للولي منعه، بل
يجب عليه المبادرة إليه، وعلى الولي تولي الانفاق عليه بنفسه أو وكيله، سواء زادت
نفقته سفرا على نفقة الحضر أم لا، ولا فرق في ذلك بين حجة الاسلام أو حج النذر إذا
كان النذر سابقا على الحجر.
وأما لو أراد الحج ندبا فإنهم اشترطوا فيه أن لا يزيد نفقته سفرا عن نفقته حضرا
لعدم الضرر.
ولا أعر ف لهذا الشرط وجها إذا كان الولي هو أو وكيله المتولي الانفاق
عليه، والضرر إنما يتطرق بتمكينه من النفقة على نفسه، على أنه من الظاهر البين
أن نفقة السفر يزيد على نفقة الحضر غالبا، لما يحتاج إليه من الدواب، والغرم
كما هو المشاهد المعلوم في جميع الأزمان، وحينئذ فكيف يمنع من هذا
الثواب العظيم المرتب على الحج، وهو مكلف عاقل لا مانع سوى السفه الذي
هو عبارة عن صرف المال في غير محله، وهو هنا مندفع بتولي الولي أو
وكيله لذلك، والمسألة المذكورة غير منصوصة كنا اعترف به في المسالك،
ليجب الوقوف فيها على ما ذكروه، والعجب أنهم قالوا: كما تقدم نقله عنهم أنه
يجوز للانسان أنه يتصدق بجميع أمواله، وينفقها في الخيرات والطاعات ولا يكون
ذلك سفها مع ما فيه من الضرر العظيم، ويمنعون هنا من زيادة نفقة السفر، لكون
ذلك ضررا.
وإلى ما ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي أيضا كما أشار إليه بقوله:
378

الظاهر عدم منعه من المندوب أيضا، كمثل ما مر، وإن استلزم صرف المال زائدا
على الحضر، على أن ما ذكروه من عموم الحجر على وجه يتناول منعه من فعل
الطاعات، والقربات المستحبة والنذر ونحو ذلك في محل المنع، فإن غاية ما يفهم
من الأخبار والآيات التي تقدم ذكرها هو أنه لسفهه لا يمكن من المال خوفا أن يصرفه
في المصارف الغير الشرعية.
وحينئذ فلو أراد أن يتصدق بصدقة أو يبني مسجدا أو نحو ذلك، على وجه
لا يدفع المال إليه، فما المانع منه، حتى أنهم يحكمون بالحجر فيه وفي أمثاله،
فإنه عاقل كامل داخل تحت الخطاب بتلك الأخبار الدالة على استحباب الصدقة،
وفعل الخير وبذل المعروف، وتخصيص هذه الأخبار بأخبار الحجر ليس أولى من
العكس، بل العكس أولى، فإن غاية ما يتمسكون به كونه سفيها، ومجر د السفه
من حيث هو لا يصلح للمنع من ذلك كالفاسق.
نعم الذي يقتضيه السفه هو الحجر عليه في المال، لئلا يصرفه في غير
المصارف الشرعية من وجوه السفه، والفرض هنا أنه إنما صرف في المصارف الشرعية
التي ليست بسفه على وجه لم يدفع إليه المال بنفسه (1).
وبالجملة فإن دعوى عموم الحجر على وجه يتناول ما ذكرناه وأمثاله ممنوعة،
لا أعرف عليها دليلا، ثم إنهم قالوا أيضا:: أنه إذا حلف انعقدت يمينه، لأنه لا تعلق
له بالمال، ومثله لو نذر أو عاهد على وجه لا تعلق له بالمال، أما لو كان النذر أو

(1) وإن قوله عليه السلام في بعض تلك الأخبار إذا علم الرجل أن أقرانه سفيهة
مفسدة وولده سفيه لا ينبغي له أن يسلط واحدا منهم على ما حوله، أن النهي من
تسليطهم إنما هو لخوف وقع صرفه في الفساد وهو الأمور غير المشروعة، وكذا
قوله في آخر لا يعطوهم حيت تعرفوا منهم الرشد، إنما هو خوف صرف المال في
تلك الأمور الممنوع منهما شرعا، وحينئذ فلا تعلق لذلك بما لو تصدق بمال ونحوه
من وجوه الطاعات على وجه يكون صرف المال فيه بواسطة الولي من غاير أن يدفع
المال إليه، فإنه من أفعال العقلاء وذوي الرشد فلا مانع منه. منه رحمه الله.
379

العهد متعلقا بالمال كأن نذر أن يتصدق بمال مثلا، فإن كان معينا بطل النذر، وإن كان
في الذمة روعي في انعقاده زوال السفه.
وإذا حلف وحنث في يمينه فإنه يجب عليه الكفارة قطعا، لأنه بالغ عاقل،
إلا أنه يبقى الاشكال في تعيين التكفير بالصوم، لأنه محجور عليه المال، فيصير
كالعبد والفقير، أو جواز التكفير بالمال؟ نظرا إلى أن الكفارة تصيروا واجبة عليه، وهو
مالك للمال، فيخرج من المال، كما يجب أخرج الزكاة والخمس ومؤنة الحج
الواجب، والكفارة التي قد سبق وجوبها الحجر قولان:
وبالأول صرح العلامة في جملة من كتبه، وظاهر المحقق في الشرايع التردد
في المسألة لما ذكرنا من تعارض الوجهين المذكورين، وظاهره في المسالك الميل
إلى القول الأول، وأجاب عن دليل الثاني قال: ويضعف بأن هذا الواجبات ثبت
عليه بغير اختياره، فلا تصرف له في المال، وإنما الحاكم به الله تعالى، بخلاف
الكفارة في المتنازع فإن سببها مستند إلى اختياره، ومخالفته لمقتضى اليمين، فلو أخرجها
من المال أمكن جعل ذلك وسيلة له إلى ذهابه، لأن مقتضى السفه توجيه صرفه إلى
ما لا ينبغي انتهى.
أقول: فيه ما عرفت من أنه لا دليل على ما ادعوه في هذا المقام، بل الدليل على
خلافه ظاهر من أخبارهم عليهم السلام ذلك فإنه متى حلف أو نذر أو عاهد دخل تحت
الأخبار الدالة على وجوب الوفاء بهذا الأشياء وما يترتب عليها، لأنه مكلف وسفهه
لم يسقط عنه التكليف.
وغاية ما يوجبه السفه منعه من الصرف في المال بغير الوجوه المشروعة،
لا مطلقا كما ادعوه، فإنا لم نقف لهم فيه على دليل، بل ظاهر الآية والأخبار المتقدمة
إنما هو ما قلناه على أنا نجوز دفع المال إليه فيما يتوقف على المال في هذه الأمور،
بل المتولي لصرفه هو وليه الذي بيده المال.
والتحقيق أنه قد تعارض هنا أدلة وجوب الوفاء بهذه الأمور، وما يترتب عليها
كما في غيره من المكلفين، وأدلة الحجر وتخصيص أحد الدليلين بالآخر يحتاج
380

إلى مخصص، فبأي جهة قدموا العمل، بأدلة الحجر، وخصصوا بها تلك الأدلة،
مع أن الأمر عند النظر بعين التحقيق إنما هو بالعكس، فإن أدلة الحجر كما عرفت
لا عموم فيها، كما يدعونه على وجه تشتمل هذه الأمور ونحوها وحينئذ فيجب
العمل بتلك الأخبار الدالة على وجوب الوفاء لهذه الأمور وما يترتب عليها،
وبذلك يظهر لك أن حكمهم بكون النذر بالصدقة بمال معين باطلا، وكذا
كونه موقوفا لو نذر التصدق بمال في الذمة في محل المنع، لعدم الدليل عليه مع
قيام الأدلة على الصحة كما عرفت.
والاستناد في منع تلك ذلك إلى أنه لو صح تصرفه كذلك لأمكن أن يجعل ذلك
وسيلة إلى ذهاب ماله، لأن مقتضى السفه يوجب صرفه إلى ما لا ينبغي مردود بأن
السفيه ليس مجنونا يصرف ماله فيما لا يشعر به، بل غاية أمره أنه لسفهه وعدم خوف
الله عز وجل يصرف أمواله في المصارف المحرمة الموجبة للذاته كالزنا وشرب
الخمر ونحو ذلك من المصارف التي يتلذذ بها. وحينئذ فكيف يصير صرفه المال في النذر والصدقة والكفارة وسيلة إلى صرفه
فيما لا ينبغي، وكيف تصير هذه الأشياء مما لا ينبغي، وهي عبادات يترتب عليها الأجر
والثواب وهو مكلف عاقل قد يريد الثواب والأجر وإن كان سفيها في بعض أموره،
على أنا قد اعتبرنا تولي الولي لذلك، وعدم تمكينه من المال كما تقدم.
وأما ما ذكروه في المسالك في الجواب عن دليل القول الثاني من الفرق،
ففيه أنه كما أن الزكاة قد أوجبه الله سبحانه كذلك الكفارة قد أوجبها لأنه مكلف
مخاطب بالأحكام وليس بمجنون يسقط عنه التكليف، فإنه لا خلاف في كون يمينه
مشروعة ولازمة له، وأنه بالحنث تجب عليه الكفارة كما في غيره من المكلفين،
وحينئذ فلما حنث أوجب الله عليه الكفارة كما أوجب عليه الزكاة، وكون
السبب في ايجابها الحنث الذي هو من المكلف لا يمنع من تعلق حكم الوجوب
بها، وأن المطالب بها هو الله عز وجل، كما يطلب بالزكاة ونحوها، على أن من
جملة المعدودات التي وافق على وجوبها الكفارة التي سبق وجوبها الحجر، فإن
381

سببها أيضا مستند إلى المكلف والفرق بينها، وبين ما نازع فيه غير واضح.
وبالجملة فإن غاية ما يتمسكون به هنا وهو ما يدعونه من عموم الحجر، وقد
عرفت ما فيه، وما ذكروه في المسالك في آخر كلامه المتقدم نقله بقوله فلو أخرجها
من المال أمكن جعل ذلك وسيله إلى آخره، فيه ما عرفت والله العالم العالم.
المطلب الثالث في المفلس
وهو بكسر اللام لغة الذي ذهب خيار ماله من دراهم ودنانير، وبقي فلوسه،
فهو مأخوذ من الفلس، واحد الفلوس يقال: أفلس الرجل بصيغة اللازم، فهو
مفلس بكسر اللام، إذا صار كذلك كما يقال: أذل الرجل أي صار ذا ذل، فالمعنى
هنا أنه صار ذا فلوس، بعد أن كان ذا دراهم، ومرجعه إلى الانتقال من حال اليسر
إلى حال العسر، حيث أنه قد ذهب خيار ماله، فلم يبق إلا الفلوس.
وأما شرعا فإنه يقال: مفلس بفتح: وهو الممنوع من التصرف في ماله، يقال
فلسه القاضي تفليسا إذا حكم بافلاسه، ونادى عليه، وشهره بين الناس بأنه صار
مفلسا، والمراد به هنا من يكون عليه ديون تقصر أمواله عن أدائها.
قالوا: ولا يتحقق الحجر عليه إلا بشروط أربعة: الأول أن يكون ديونه
ثابتة عند الحاكم.
الثاني أن يكون أمواله قاصرة عن الديون التي عليه الثالث أن يكون
ديونه حالة، الرابع أن يلتمس الغرماء أو بعضهم الحجر عليه.
أقول: أما الأول من هذه الشروط فظاهر، لأن الحجر إنما يقع من الحاكم،
وحينئذ فلا بد من ثبوت الديون عنده باقرار أو بنية أو علم منه بذلك على أظهر القولين
وأما الثاني فلأنه لو كانت أمواله زائدة أو مساوية فلا حجرا جماعا، كما
نقله في المسالك، بل يطالب لها، فإن قضاها وإلا رفع أمره إلى الحاكم، فيحبسه
إلى أن يقضي ذلك أو يبيع عليه متاعه ويقضي عنه دينه، والمراد بأمواله القاصرة
عن أداء ديونه ما يشمل معوضات الديون، وهي الأموال التي ملكها بعوض ثابت في
382

ذمته، كالأعيان التي اشتراها أو استدانها، فإنها ملكه فيكون من جملة أمواله، وإن
تخير أصحابها بين الرجوع فيها عند قسمة أمواله أو الطلب بعوضها، وكما تحتسب
هذه الأشياء من جملة أمواله، فتحتسب أعواضها من جملة ديونه.
وأما الثالث فلأنه مع كون الديون مؤجلة لا وجه للحجر، لعدم استحقاق
المطالبة وإن لم يف ماله بما عليه، ويجوز أن يسهل الله (سبحانه الله) له الوفاء عند
حلول الأجل والمطالبة، وأما ما نقل عن ابن الجنيد من حلول ديونه المؤجلة
قياسا على الموت فضعيف
وأما الرابع فلأن الحق للغرماء فلا يتبرع الحاكم بالحجر لأجلهم مع عدم
طلبهم ذلك إلا أن تكون الديون لمن له الولاية عليه، كاليتيم والمجنون والسفيه
وكذا لو كان بعضها لهم والبعض الآخر لغيرهم مع التماس ذلك الغير.
وكذا لو سأل هو الحجر على المشهور، فإنه لايجاب إلى ذلك، وعلل بأن
الحجر عقوبة، والرشد والحرية ينافيانه فلا يصار إليه إلا بدليل، واستقرب العلامة
في التذكرة جواز إجابته، استنادا إلى أنه كما أن في الحجر مصلحة للغرماء بحفظ
حقوقهم، كذلك فيه مصلحة للمفلس ببراءة ذمته، وخلاصها من حق الغرماء وأنه
قد روي عن النبي (1) صلى الله عليه وآله " أنه حجر على معاذ بالتماسه ".
وفيه من الضعف ما لا يخفى، فإن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه
التعليلات العليلة مجازفة محضة، وأما الخبر المذكور فلم أقف عليه في أخبارنا،
والظاهر أنه عامي.
بقي هنا شئ لم أقف على من تنبه له، وهو ما اشتهر في كلام الأصحاب
بل الظاهر أنه لا خلاف فيه من كون المفلس يجب الحجر عليه، كما يجب على
الصبي والسفيه والمجنون، لم أقف فيه على نص واضح، كما ورد في الثلاثة
المذكورة من الآيات والروايات المتقدمة في سابق هذا المطلب.

(1) سنن البيهقي ج 6 ص 48.
383

والذي وقفت عليه من الروايات المتعلقة بهذا المقام، التي ربما يدعى منها
ذلك موثقة عمار (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يحبس
الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه
فيقسمه بينهم، يعني ماله ".
ورواية غياث بن إبراهيم (2) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام " أن عليا عليه السلام،
كان يفلس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر به فيقسم ماله " الحديث المتقدم
وما رواه في التهذيب عن الأصبغ بن نباتة (3) عن أمير المؤمنين عليه السلام " أنه
قضى أن يحجر على الغلام حتى يعقل، وقضى عليه السلام في الدين أنه يحبس صاحبه،
فإن تبين افلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا، وقضى عليه السلام في الرجل يلتوي
على غرمائه أن يحبس، ثم يأمر به فيقسم ماله بين غرمائه بالحصص، فإن أبى باعه
قيقسمه بينهم " ورواه الصدوق في الفقيه، وزاد لفظ المفسد بعد الغلام في صدر الخبر
ورواية السكوني (4) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام عن علي صلوات الله عليه " أن كان
يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء، وإن لم يكن له مال دفعه إلى
الغرماء، فقال لهم: اصنعوا به ما شئتم، وإن شئتم آجروه وإن شئتم فاستعملوه ".
وأنت خبير بأن غاية ما يدل عليه أكثر هذه الأخبار أنه عليه السلام كان يحبس في
الدين إذا التوى على غرمائه، وهذا لا دلالة فيه على كونه مفلسا، بل ظاهرها أن الحبس
إنما هو من حيث المطل وعدم الأداء، لأنه معنى الالتواء، فيجوز أن يكون عنده
ما يفي بالديون التي عليه، ولكنه يماطل في دفعه، فهو عليه السلام يحبسه حتى يتبين حاله،
فإن وجد عنده ما لا قسم ما وجده عنده بين غرمائه، وإن لم يجد عنده شيئا أطلقه حتى

(1) التهذيب ج 6 ص 191.
(2) التهذيب ج 6 ص 299 و 232.
(3) التهذيب ج 6 ص 299 و 232.
(4) التهذيب ج 6 ص 300.
384

يستفيد مالا (1) كما دل عليه حديث الأصبغ.
ومثله أيضا رواية غياث، أو دفعه إلى أصحاب الدين كما تضمنه خير السكوني.
نعم في خبر غياث يفلس الرجل أي يحكم بكونه مفلسا.
وكيف كان فإن غاية ما تدل عليه هذه الأخبار هو أنه بعد رفع الأمر إليه
أنه يحبس الرجل، فإن وجد له مالا قسمه بين الغرماء، وإلا فلا، وأما أنه يحجر
عليه التصرف فيه مع بقاء المال في يده، كما هو المفروض في كلامهم والمبني
عليه تفريعاتهم الآتية فلا دلالة في شئ منها عليه، والشروط المتقدمة إنما بنيت
على ذلك.
وبالجملة فإن غاية ما تدل عليه الأخبار هو استيفاء المال منه، وتحصيله بعد
رفع الأمر إلى الحاكم، وقسمته بين الغرماء، ومرجع البحث معهم في هذا المقام
هو صحة الحجر من الحاكم الشرعي وعدمه، فإنه إذا كان الإمام عليه السلام في هذه الأخبار
لم يحجر عليه، ولم يأمر به وليس غيرها في الباب فكيف يسوغ لنائبه وهو الفقيه أن يفعل
ذلك، وهو غير مأذون فيه ولا مأمور به عنهم عليهم السلام.
وإنما الوارد عنهم كما عرفت إنما هو قسمة ماله بالحصص إذا رفع الأمر إليه.
وهذا الحكم على حدة، والحجر حكم على حدة، والأحكام الشرعية توقيفية مقصورة
على ما ورد عنهم عليهم السلام والبحث في هذا الكتاب كله إنما ترتب على الحجر كما
سيظهر لك.
ثم إنه بناء على ما ذكروه من الشروط المتقدمة قالوا: إذا تحققت الشروط
المذكورة، وحصل الحجر من الحاكم، تعلقت به أمور أربعة: الأول: منع التصرف
بأن يمنعه الحاكم من جميع التصرفات، والكلام هنا في مواضع: أحدها قالوا:
إن المراد من التصرفات الممنوع منها هي التصرفات الابتدائية المتعلقة بالمال

(1) وهي ما رواه عن جعفر عن أبيه عليهما السلام " أن عليا عليه السلام كان يحبس في الدين
فإذا تبين له افلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا: منه رحمه الله.
385

الموجود حال الحجر، كالعتق والرهن والبيع والهبة، ولا يمنع من إمضاء تصرف
سابق أو ابطاله، مثل فسخ بيع أو إمضائه في زمن الخيار أو بالعيب.
وكذا لا يمنع من التصرفات المتعلقة بغير اكمال كنكاح المرأة بنفسها، والرجل
أيضا بشرط عدم ايقاع العقد على المال الممنوع، وكالطلاق واللعان والخلع، و
استيفاء القصاص والعفو عنه، ولا عن كسب المال مثل قبول الوصية، وقبول الهبة،
والاحتشاش والاحتطاب.
ولا أعرف لهم دليلا في المقام إلا ما ربما يدعى من الاجماع، وقد عرفت ما في
أصل المسألة من تطرق النزاع، وحينئذ فلو تصرف فيما منع من التصرف فيه كان
تصرفه باطلا، وهل المراد بالبطلان هنا حقيقة وكون عبارته كعبارة الصبي، فلا تصح
وإن لحقته الإجازة أو البطلان بمعنى عدم اللزوم؟ فلا ينافي صحته لو أجاز الغرماء،
أو فضل عن الدين بعد قسمة ماله عليهم قولان:
قالوا: ويؤيد الأول: أنه هو المناسب للحجر، فإن معنى قول الحاكم
حجرت عليك، منعتك من التصرفات، ومقتضاه تعذر وقوعها منه.
ويؤيد الثاني: أنه لا يقصر عن التصرف في مال الغير، فيكون كالفضولي
وحينئذ فلا ينافي منعه من التصرف، لأن المراد منه التصرف المنافي لحق الغرماء
ولا دليل على إرادة غيره، وعلى التقدير الثاني فإن أجازه الغرماء نفذ، وإلا أخر
إلى أن يقسم المال، فلا يباع ولا يسلم إلى الغرماء، فإن لم يفضل من ماله شئ
يبين بطلانه، وإن فضل ما يسعه صح.
وثانيها لو أقر بدين سابق صح، لعموم (1) " اقرار العقلاء على أنفسهم
جايز " والظاهر أنه لا خلاف فيه، إنما الخلاف في أنه هل يشارك ذلك المقر له بالدين
الغرماء أم لا؟ وإلى الأول ذهب الشيخ في المبسوط، والمحقق والعلامة في الشرايع
والتذكرة والتحرير، وقيل: بعدم المشاركة، وقواه في المسالك، وهو ظاهر العلامة

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب الاقرار الرقم - 2.
386

في الإرشاد حيث قال: لو أقر بمال فالوجه اتباعه بعد الفك، بمعنى أنه يتبع المقر بعد
فك حجره، ولا يشارك الغرماء، وهو اختيار المحقق الأردبيلي في شرحه أيضا
جازما به حيث لم ينقل خلافا في المسألة بالكلية، مع ما عرفت من تعدد القائل
بذلك القول الآخر.
حجة القول الأول أنه عاقل فينفذ اقراره للخبر، وعموم الخبر في قسمة ماله
بين غرمائه، والمقر له أحدهم، ولأن الاقرار كالبينة، ومع قيامها لا اشكال في
المشاركة، ولانتفاء التهمة على الغرماء، لأن ضرر الاقرار في حقه أكثر معه منه حق
الغرماء، ولأن الظاهر من حال الانسان أنه لا يقر بدين عليه مع عدمه، هكذا قرر في المسالك
حجة القول المذكور.
ثم اعترضه فقال: ويشكل بمنع دلالة الخبر على المدعى، لأنا قبلناه على
نفسه، ومن ثم التزمناه بالمال بعد زوال الحجر، ولم يدل على أنه جائز على غيره،
ولو شارك المقر له الغرماء لنفذ عليهم، لتعلق حقهم بجميع ماله، ولا معنى لمنعه من
التصرف إلا عدم نفوذه في ماله الموجود، والمشاركة يستلزم ذلك، وتمنع مساواة
الاقرار للبينة في جميع الأحكام، ويظهر أثره فيمن لا يقبل اقراره أقيمت عليه
البينة، وإذا لم تكن القاعدة كلية لم تصلح كبرى للشكل (1) فلا ينتج المطلوب
والتهمة موجودة في حق الغرماء، لأنه يريد اسقاط حقهم باقراره، وتحقق الضرر
عليه لا يمنع من ايجابه الضرر عليهم، ولا مكان المواطاة بينه وبين المقر له في
ذلك، فلا يتحقق الضرر إلا عليهم.
وعلى كل حال لا يمكن الحكم بنفي التهمة على الاطلاق، بل غايته أنه
قد يكون متهما وقد لا يكون، فلا يصلح جعل عدم التهمة وجها للنفوذ مطلقا،
والأقوى عدم المشاركة انتهى.

(1) بأن يقال: هذا اقرار كالبينة، يصح أن هذا كالبينة في
المشاركة، والمنع هنا توجه إلى كلية الكبرى فإنه ليس كل اقرار كالبينة لما عرفت
منه رحمه الله.
387

أقول: وأنت خبير بأنه بمقتضى ما قررناه سابقا من عدم وجود الحجر عليه
في الأخبار وإنما غاية ما تدل عليه هو أنه عليه السلام يقسم أمواله بين غرمائه بالحصص
إذا رفع الأمر إليه هو قوة القول الأول، لأن هذا المقر له من جملتهم، وبه يظهر
قوة قوله في حجة القول الأول، وعموم الخبر في قسمة ماله بين غرمائه، والمقر له
أحدهم.
وأما الجواب شيخنا المذكور عن ذلك بقوله: ولو شارك المقر له الغرماء
إلى آخره فإنه صحيح لو كان هنا دليل على الحجر، بأن قام الدليل على أن
للحاكم الشرعي أن يحجر على المفلس التصرف في أمواله، مع أنه ليس كذلك،
والذي ثبت له إنما هو قسمته بالحصص بعد رفع الأمر إليه.
فإن قيل إن مقتضى قسمته بين الغرماء بالحصص بعد رفع الأمر إليه أنه
يحجر على صاحبه التصرف فيه حتى يقسمه بين الغرماء بالحصص قلنا قد عرفت
من كلامهم أنه لا بد أن يقول الحاكم بعد رفع الأمر إليه: قد حجرت عليك التصرف
في أموالك، فإنه يترتب عليه الأحكام الأربعة المشار إليها آنفا، وبدونه لا يثبت
شئ منها.
ومن جملة فروع ذلك ما نحن فيه، من أنه بهذه الصيغة الواقعة من الحاكم
انتقل المال إلى الغرماء قبل القسمة، فلا يجوز لمن أقر له بعد الحجر المشاركة
لهم، كما أشار إليه، شيخنا المذكور بقوله لتعلق حقهم بجميع ماله، وأصرح منها في
هذا المعنى ما يأتيك انشاء الله تعالى في عبارة المحقق الأردبيلي.
وبالجملة فإنه لا بد عندهم من هذه العبارة المذكورة ليترتب عليها الأحكام
المذكورة، مع أنك قد عرفت أنه لا دليل عليها، لا أن مجرد الأمر بالقسمة يستلزم
الحجر، فإنه وإن استلزمه لكنه ليس من محل البحث عندهم في شئ.
وملخص الكلام أنه بالنظر إلى ما جروا عليه في هذا الباب من دعوى الحجر
وثبوته فالأقوى هو القول الثاني، لما ذكره شيخنا المذكور، ومثله المحقق
الأردبيلي حيث أنه ممن اختار القول المذكور، فقال في الاستدلال له: دليله أن
388

المال المحجور عليه صار بسبب الحجر للديان الذي حجر بسبب ديونهم، فلا
يمكن أن يتعلق به غيرها بسبب اقرار المديون، فإنه بالحقيقة اقرار في حق الغير
انتهى.
وبالنظر إلى ما ذكرناه من عدم الدليل على هذا الحجر، فليس للحاكم الشرعي
ايقاعه، فالأقوى هو القول الأول، لأن غاية ما دلت عليه، الأخبار هو أن الحاكم قسمة
أمواله بالحصص بين الغرماء بعد رفع الأمر إليه.
نعم لو تأخر الاقرار عن القسمة فالظاهر أنه لا يلتفت إليه، ويصح ما ذكروه،
وأما قبلها فظاهر الأخبار اشتراك، جميع الغرماء، وغاية ما استندوا إليه تقدم حق
أولئك بالحجر أولا قبل القسمة وقد عرفت أنه لا أثر لهذا الحجر.
ثم إنه لا يخفى أن محل البحث هو الاعتراف بالدين السابق، كما وقع في
عنوان المسألة، وهو احتراز عما لو أسند الدين إلى ما بعد الحجر، فإنه ما وإن كان
الاقرار به صحيحا في نفسه للخبر المتقدم، إلا أنه لا ينفذ عندهم في حق الغرماء، لما تقدم
من الحكم ببطلان المعاملات الابتدائية المتعلقة والاقرار بها في حكم وقوعها،
ويأتي فيها الخلاف المتقدم من بطلان المعاملة بالكلية، أو كونها موقوفة، هذا كله
في الاقرار بالدين.
ولو أقر بعين فقيل: بأنها تدفع إلى المقر له، وهو اختيار ابن إدريس وظاهر
المحقق في الشرايع على تردد، وقيل: بالعدم، وهو اختيار العلامة في الإرشاد.
واعلم أن الأقوال: بالنسبة إلى العين والدين ترجع إلى أربعة أقوال: أحدها
نفوذ الاقرار فيهما، وهو خيرة العلامة في التذكرة، وثانيها عدم النفوذ وهو خيرة
العلامة في الإرشاد، والمحقق الأردبيلي في شرحه ونقل عن الشهيد وجماعة، وهو
اختياره في المسالك، وثالثها ثبوته في العين دون الدين، ونقل عن ابن إدريس
ورابعها العكس ونسبه في المسالك إلى المصنف، وفيه اشكال، فإن ظاهره في الشرايع
إنما هو القول الأول، لكنه تردد في العين بعد أن حكم بالمشاركة كما قدمنا نقله عنه
والله العالم.
389

وثالثها لا خلاف ولا اشكال عندهم في تعلق الحجر بالمال الموجود حال
الحجر، وإنما الاشكال في المتجدد بعده، فيحتمل تحقق الحجر فيه أيضا لوجود
المقتضي في الأول، وهو صيانة حق الغرماء، حيث أنه يجب قسمة أمواله على
ديونه، وهو مشترك في الموجود والمتجدد، وهو مختار العلامة في القواعد والتحرير،
وعدمه للأصل في تسلط المسلم على ماله، ولخبر (1) " الناس مسلطون على أموالهم "
فالحجر عليه خلاف الأصل، ولا خلاف في الحجر فيما كان موجودا وقت الحجر،
فيبقى ما عداه في حكم الأصل، اقتصارا على موضع الوفاق، قيل: والتحقيق (2)
أن يقال إن كان المراد شمول حجر الحاكم لذلك المال، فإنه ينظر فإن كان كلامه
في حجره شاملا له يتعدى إليه الحجر، مثل أن يقول: حجرتك عن جميع التصرفات
المالية، وإلا فلا، لأنه قد ثبت أنه لا بد فيه حكم الحاكم، وأنه لا يثبت بدونه، وإن
كان شاملا له ثبت، وإلا فلا، وهو ظاهر،
وإن كان المراد أنه هل له أن يحجره عن جميع المال الموجود والمتجدد
حينئذ حتى يؤدي الديون، فالظاهر التعدي، لأن دليل الثبوت وشرايط ثابت،
وإن كان المراد هل للحاكم أن يحجره ثانيا في ذلك المال المتجدد؟ فالظاهر التعدي
بمعنى أن له الحجر عليه فيه أيضا بالشرايط المتقدمة، إذ لا فرق ولا مانع، ولا يمنع
من ذلك ثبوت الحجر أولا على غيره، وهو أيضا واضح انتهى.
وملخصه أنه يجب أن يرجع إلى الحاكم الذي صدر منه الحجر، فإن لم
يمكن ولا يعلم شموله وعدم شموله فلا يتعدى، للأصل وعدم الدليل.
أقول: أنت خبير بأن مقتضى ما قدمنا ذكره من أنه ليس على هذا الحجر
دليل ولا نص، وإنما المستفاد من الأخبار هو قسمة مال المفلس بالحصص بعد رفع

(1) البحار ج 2 ص 272 ط جديد.
(2) هذا التحقيق للمحقق الأردبيلي قدس سره في شرح الإرشاد - منه
رحمه الله.
390

الأمر إلى الحاكم، فإنه لا ثمرة لهذا لا خلاف، وأن الواجب هو قسمه كل ما كان له
من مال يومئذ على الغرماء.
ورابعها المشهور أنه لا تحل الديون المؤجلة عليه بالحجر، وإنما تحل
بالموت كما تقدم في كتاب الدين، ونقل عن ابن الجنيد، أنها تحل، وكذا المشهور
أنه لا يحل بالحجر الدين المؤجل الذي له على غيره، وعن ابن الجنيد أنه يحل
أيضا ورد بالأصل، لأن الأصل بقاء ما كان عليه، حتى يقوم دليل على خلافه.
احتج ابن الجنيد للقول الأول بالقياس على الميت، ورد ببطلان القياس،
سيما مع وجود الفارق بتحقق الضرر على الورثة إن منعوا من التصرف في التركة
إلى حلوله، وصاحب الدين إن لم يمنعوا بخلاف المفلس.
قيل: ولا فرق في دين الميت بين مال السلم والجناية المؤجلة وغيرهما على
الأقوى، لعموم النص.
ووجه احتمال خروجها أن الأجل في السلم جزء من العوض، فلو حل مال
السلم لزم نقصان العوض، وأجل الجناية بتعيين الشارع، فبدونه لا يكون له تلك
الدية، وعموم النص يدفع ذلك، ويسقط ما ادعى تأثيره، فردان من أفراد
الديون فيتناولهما كغيرهما انتهى،
وأما ما ذكره ابن الجنيد من القول الثاني فإنه احتج أيضا بالقياس على الميت،
ورد بمنع ذلك في الميت أيضا، وفيه أن رواية أبي بصير قد دلت على ذلك في الميت
كما تقدم في كتاب الدين، وبه قال الشيخ وجماعة، إلا أن الأصحاب ردوا الرواية
بضعف السند، وقد تقدم الكلام في ذلك في الكتاب المذكور.
وكيف كان فإنه وإن ثبت ذلك في الميت إلا أن حمل الحجر عليه قياس لا يوافق
أصول المذهب، ولكنه لما كان يذهب إلى العمل بالقياس كالعامة، قال به هنا،
والعجب من أصحابنا كيف يعتمدون أقواله وينقلونها مع ارتكابه هذا المرتكب
الفاحش الموجب لفسق فاعله.
وخامسها قالوا: لو أقرض انسان مالا بعد الحجر أو باعه بثمن في ذمته لم.
391

يشارك الغرماء بل كان ثابتا في ذمته، وهو في العالم بحاله موضع وفاق بينهم،
لأن فعله ذلك مع علمه بافلاسه وحجر الحاكم عليه وتعلق حق الغرماء بأمواله
رضا منه ببقاء ماله في ذمته إلى أن يفك حجره.
أما لو كان جاهلا فقد جزم المحقق في الشرايع بأنه كذلك، لتعلق حق
الغرماء الموجودين عند الحجر بأمواله، وإن كانت متجددة بناءا على دخول
المتجدد في الحجر أيضا، فلا يتوجه له الضرب مع الغرماء بدينه، ولا أخذ عين ماله.
وقيل: فيه وجهان آخران: أحدهما جواز فسخه واختصاصه بعين ماله،
لعموم قوله (1) صلى إليه عليه وآله " صاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " وثانيهما الضرب
مع الغرماء، لأن له حقا ثابتا في الذمة، وهو غريم فيضرب به كساير الغرماء، ولأنه
قد أدخل في مقابلة الثمن مالا فيضرب بالثمن، إذ ليس فيه إضاعة على الغرماء،.
ورد كل من الوجهين بما تقدم من أن حق الغرماء بالحجر قد تعلق بعين
تلك الأموال وصارت لهم وإن كانت متجددة، على أن الوجهين متنافران، لأنه
إن كان غريما اختص بعين ماله كما يأتي انشاء الله تعالى فيمن عين ماله بعد
الحجر، وإن لم يكن غريما لم يضرب.
أقول: وأنت خبير بما في هذا الفرع أيضا بناء على ما قدمنا ذكره، فإن
مقتضى ما قدمنا ذكره هو المشاركة للغرماء ما لم يكن بيعه وقرضه بعد قسمة المال
بين الغرماء فإنه غريم، قولهم إن أمواله قد صارت للغرماء بسبب الحجر، قلنا:
لا دليل على هذا الحجر ولا مستند له.
وليت شعري كيف رتبوا هذه الأحكام على الحجر بما ذكر، وما سيأتي من
من جميع الأحكام المذكورة في كتاب الفلس مع أنه لا مستند له، اللهم إلا أن
يكون اجماعهم على ذلك، وإلا فالروايات كما عرفت خالية عنه.
وبالجملة فإني لا أعرف لهم حجة سوى الاجماع فالقول بخلافه لا ضير فيه

(1) المستدرك ج 2 ص 496.
392

عند من لا يلتفت إلى هذه الاجماعات، إلا أن يثبت ذلك في كلام المتقدمين، ويعلم
اتفاقهم عليه، فإنه يكون حجة عندنا كما قدمنا ذكره في محله.
وسادسها قالوا: لو كان له حق فليس له قبض دون حقه، وكان للغرماء منعه
عن ذلك، لأنه محجور عليه في أمواله والتصرف في أمواله ابتداء وهذا منه،
حتى لو تعين له الأرش فإنه لا يجوز له اسقاط، وبه صرح في التذكرة.
أقول: وفيه ما عرفت ومن ثم أعرضنا عن نقل جملة من تفريعاتهم في هذا
المقام لعدم الدليل الواضح على صحة هذه القاعدة، فالتطويل بكثرة فروعها عار
عن الفائدة وفي ما ذكرناه أنموذجا كفاية للمتدرب في الصناعة.
الثاني من الأمور الأربعة المتقدم ذكرها: اختصاص الغريم بعين ماله إذا وجده،
وتحقيق الكلام هنا أيضا يقع في موارد الأول المشهور بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) أن من وجد منهم عين ماله كان له أخذها وإن لم يكن سواها، وله أن يضرب
بدينه مع الغرماء سواء حصل في المال وفاء أم لا.
ونقل عن الشيخ أنه لا اختصاص إلا أن يكون هناك وفاءا وبالأول صرح الشيخ
في الخلاف وابن إدريس وابن جنيد، وبالثاني صرح الشيخ في النهاية والاستبصار
ورجحه في المبسوط.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام صحيحة عمر بن يزيد (1)
عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن الرجل يركبه الدين فيوجد متاع رجل عنده
بعينه، قال: لا يحاصه الغرماء " وهذه الرواية حجة القول المشهور، وهي ظاهرة فيه
تمام الظهور، وصحيحة جميل (2) عن بعض أصحابنا " عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل
باع متاعا من رجل فقبض المشتري المتاع، ولم يدفع الثمن ثم مات المشتري و
المتاع قائم بعينه فقال: إذا كان المتاع قائما بعينه رد إلى صاحب المتاع، قال:

(1) التهذيب ج 6 ص 193
(2) الوسائل الباب 5 من أبواب الحجر الرقم 1
393

وليس للغرماء أن يحاصوه ".
وصحيحة أبي ولاد (1) " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل باع من رجل
متاعا إلى سنة، فمات المشتري قبل أن يحل ماله، وأصاب البايع متاعه بعينه، أله
أن يأخذه إذا حقق له؟ قال، فقال: إن كان عليه دين، وترك نحوا مما عليه فليأخذ
إن حقق له، فإن ذلك حلال له، ولو لم يترك نحوا من دينه فإن صاحب المتاع كواحد
ممن له عليه شئ يأخذ بحصته، ولا سبيل له على المتاع ".
وهذه الرواية هي مستند الشيخ فيما تقدم نقله عنه، ورد بأن مورد الرواية الميت،
والحكم فيه ذلك كما سيظهر لك، ومحل البحث إنما هو الحي وحينئذ فلا دلالة
للخبر على مدعاه، ورواية أبي بصير (2) " عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن رجل كانت
عنده مضاربة ووديعة، وأموال أيتام وبضايع، وعليه سلف لقوم فهلك وترك: ألف
درهم أو أكثر من ذلك، والذي للناس عليه أكثر مما ترك، فقال: يقسم لهؤلاء الذين
ذكرت كلهم على قدر حصصهم أموالهم ". والشيخ جمع بين هذه الأخبار بحمل
الأولين على الآخرين، فقال: إنه لا يحاصه الغرماء إذا كان له ما يفي بمالهم من غير ذلك،
فإن لم يكن له شئ سوى ما للرجل بعينه كان هو وغيره من الديان في ذلك سواء، لأن
دينه ودين غيره متعلق بذمته، وهم مشتركون في ذلك.
أقول: وتفصيل الكلام في المقام أن يقال: إذا كان المديون مفلسا ووجد
صاحب الدين عين متاعه فلا يخلو إما أن يكون ذلك في حياة المديون أو بعد
موته، فإن كان ذلك في حياته فالمشهور كما عرفت أن لصاحب المتاع أخذ عين متاعه
ولو لم يكن سواها، ويدل عليه صحيحة عمر بن يزيد المذكورة، وخالف الشيخ
كما تقدم نقله عنه، وقال: أنه لا اختصاص له إلا أن يكون هناك وفاء استنادا إلى صحيحة
أبي ولاد.

(3) التهذيب ج 6 ص 169.
(1) التهذيب ج 9 ص 161
394

وقد عرفت عدم دلالتها على موضع النزاع لأن موردها، الميت، والفرق
بينه وبين الحي ظاهر، لامكان تجدد الوفاء بالنسبة إلى الحي بإرث أو اكتساب
أو زيادة قيمة في أعيان أمواله، أو تجدد نماء أو نحو ذلك، بخلاف الميت.
وإن كان ذلك بعد موته، فالمشهور أنه وجد صاحب الدين عين متاعه
فليس له أخذه إلا أن يترك الميت نحوا مما عليه فيجوز له أخذها، وعليه تدل صحيحة
أبي ولاد المذكورة.
ونقل عن ابن الجنيد الحكم باختصاصه هنا وإن لم يكن غيرها، كما هو
المشهور في الحي (1) ويدل عليه اطلاق مرسلة جميل، إلا أن يحمل اطلاقها على وجود
ما يحصل به وفاء الدين سواها، كما تقدم نقله عن الشيخ، وكيف كان فالظاهر هو
القول المشهور في الموضعين، بحمل الأخبار مطلقها على مقيدها.
تنبيهات
الأول قال في المسالك: ولا فرق في الحكم المذكور في الميت بين أن
يموت المديون محجورا عليه أم لا، لأن الموت بمنزلة الحجر وقبل الحكم مختص
بالمحجور عليه، واطلاق النص يدفعه. انتهى.
أقول: لا اشعار في هذه الروايات المذكورة هنا بالحجر لا في الميت ولا في
الحي، بل قد عرفت آنفا أنه لا دليل عليه مطلقا، ومقتضى كلامهم أنه في الحي لا بد

(1) بمعنى أنه يشترط في الاختصاص بالعين كونه حيا ولو لم يكن سواها،
بخلاف صورة الموت، فإنه لا يختص إلا أن يكون هناك وفاء فإن الحكمة في ذلك
ظاهرة، لأن الميت لا تبقى له ذمة، فلا يناسب الاختصاص إلا مع الوفاء، لئلا يتضرر
الغرماء، بخلاف الحي فإن ما يتخلف من الدين يتعلق بذمته، وربما لا يضيع، بأن
يحصل بأخذ الوجوه المذكورة في الأصل - منه رحمه الله.
395

من حصول الحجر، مع أن اطلاق النصوص المذكورة يدفعه، وحينئذ فتكلف الجواب
بالنسبة إلى الميت خاصة لا وجه له.
الثاني لا يخفى أن ما ذكروه من الخيار في صورة جواز أخذ العين في الحي
أو الميت وأنه يتخير بين أخذ العين أو الضرب مع الغرماء لا أعرف له دليلا واضحا،.
فإن الروايات إنما اشتملت على أخذ العين، وظاهرها أن ذلك هو مقتضى الحكم
شرعا، وأما أن ذلك محمول على الرخصة إن اختاره، وإلا فسبيله سبيل الغرماء كما
هو ظاهر كلامهم، فلا إشارة في الأخبار المذكورة إليه، فضلا عن الدلالة عليه، ولربما
لم يرض الغرماء بذلك وظاهرهم أنه يشاركهم لو أراد رضوا أم لم يرضوا (1) وهو
مشكل لعدم ظهور الدلالة عليه من هذه الأخبار، بل ظاهرها كما عرفت إنما هو اختصاصه
بمتاعه.
وبالجملة فإن الأصل عدم المشاركة لهم. واثباتها يحتاج إلى الدليل وظاهرها
أيضا اختصاصه بعين ماله، فلا يشاركه الغرماء فيها، وهو أعم من أن يقتصر على أخذ
العين أو يشاركهم وتضرب معهم فيشاركونه في تلك العين كما شاركهم في غيرها، فإن
نفي المحاصة في الروايتين أعم من الأمرين المذكورين.
الثالث قيل: الظاهر أن المراد برجوع صاحب العين إليها هو فسخ العقد
الذي كان موجبا لملكية المفلس، وقال في التذكرة: الفسخ قد يكون بالقول مثل
فسخت البيع ونقضته ورفعته، وقد يكون بالفعل كما لو باع صاحب السلعة سلعته،

قال المحقق الأردبيلي (قدس سره): والظاهر أن رجوعه على سبيل
الجواز فله أن يترك، ويشارك الغرماء رضوا أم لا، ثم إن بعد نقل صحيحة أبي ولاد
والكلام فيها قال: وهي تدل على أن أخذ العين جائز لا واجب متعين. انتهى.
وأنت خبير بأن ظاهر الخبر إن لم يدل على ما قلناه، فلا يدل على ما ذكره،
لأنه لما سأله السائل أله أن يأخذ إذا تحقق كونه ذلك ماله؟ أجاب عليه السلام " بأنه إن
تحقق ذلك، فليأخذ بالشرط المذكور " وظاهر الأمر هو تعين الأخذ ووجوبه،
لا جوازه، كما ادعاه - منه رحمه الله.
396

أو وهبها أو وقفها.
وبالجملة إذا تصرف فيها تصرفا يدل على الفسخ كوطئ الجارية المبيعة
على الأقوى، صونا للمسلم عن فاسد التصرفات.
أقول: المفهوم من الأخبار أن الفسخ لا يتوقف على صيغة، وإنما هو عبارة
عن تراضي الطرفين على نقض البيع الأول، وقد تقدم في بحث خيار الشرط (1)
الإشارة إلى ذلك، فإن غاية ما دلت عليه تلك الأخبار هو أنه برد مثل الثمن في المدة
المضروبة يحصل الفسخ ويبطل البيع الأول، وأما هنا فإنه لما كان المفلس يجب
قسمة أمواله على الغرماء وهذا المتاع من جملتها، فيخص به الحاكم صاحبه،
ويصير ذلك فسخا للبيع الأول، وإن لم يحصل الرضا من المالك لأن جميع هذه
التصرفات وقسمة أمواله قهرية متوقفة على رضاه.
الرابع ما تقدم من القول المشهور وهو الرجوع إلى العين مشروط عندهم
بشروط ثلاثة: أحدها تعذر استيفاء تمام ثمن العين الذي في ذمة المفلس إلا من
العين، فلو كان في ماله وفاء مع كونه مفلسا بأن نمى المال بعده، أو وجد مال آخر،
أو حصلت الزيادة يسبب ارتفاع القيمة السوقية وصارت القيمة أعلا من وقت الحجر، فلا
رجوع له إلى العين، إذ سبب الرجوع إنما هو تعذر الثمن والفرض أنه ممكن
بناء على ما ذكرناه.
وثانيها كونه مفلسا محجورا لفلسه، فلو كان المفلس غير محجور عليه
لفلسه، فإن الحكم فيه كما في غيره من أصحاب الديون، فإن كان قادرا على
الأداء وامتنع حبسه الحاكم حتى يوفي، أو يبيع ماله ويوفي عنه، ومع تعذر الحكم
يمكن الأخذ منه مقاصة، وإن لم يكن قادرا فالأشهر الأظهر الصبر عليه، وقد تقدمت
الأخبار المتعلقة بذلك في صدر هذا المطلب.
وثالثها كون المال حالا حين الحجر، فلو كان مؤجلا يومئذ فلا رجوع

(1) ج 19 ص 35.
397

له، لأنك قد عرفت أنه بالحجر لا تحل الديون المؤجلة عليه، وإنما تحل بالموت
خاصة، والعين المذكورة وغيرها قد تعلق بها حق الغرماء الذين حجر لأجلهم، و
صاحب هذا الدين لكونه مؤجلا ليس منهم، بل وجوده كعدمه.
الخامس هل الخيار المذكور هنا في الحي أو الميت على الفور أو على
التراخي؟ قولان: قالوا: للأول وجوب الوفاء بالعقد، وبناء البيع على اللزوم، فيقتصر
في الخروج عن ذلك على موضع الضرورة جمعا، وللثاني اطلاق النص بثبوته،
فيستصحب إلى أن يثبت المزيل، وإلى هذا القول مال في المسالك قال: وهو اختيار
المصنف أيضا.
أقول: ليت شعري أي نص هنا دل باطلاقه هذا الخيار، وظاهر النصوص كما عرفت
إنما هو تعين أحد القولين، قال في المسالك: والحق أن هذا الخيار خاص، خرج
لما ذكر عن العموم، أو مقيد له، فيثبت مطلقا، وإن كان مراعاة الفورية أولى انتهى
وفيه ما عرفت من أنه لا دليل عليه، ودعوى اطلاق النص به مجازفة ظاهرة
والله العالم.
الثاني قال الشيخ في المبسوط: إذا وجد العين ناقصة، فإن كان الناقص يمكن
افراده بالبيع كما لو كان المبيع عبدين تلف أحدهما كان له أخذ بحصته
من الثمن، وضرب مع الغرماء بما يخص التالف من الثمن، لتقسط الثمن عليهما
على قدر قيمتهما وإن لم يمكن افراده بالبيع كذهاب طرف العبد، فإن لم يوجب
أرشا بأن يذهبه الله تعالى أو المشتري، بتخير البايع بين الضرب بالدين، وبين
أخذ العين ناقصة من غير أن يضرب مع الغرماء بما نقص، لأن الأطراف لا يقابلها
الثمن ولا جزء منه، وإن أوجب أرشا بأن يتلف بجناية أجنبي تخير البايع بين
الضرب بدينه، وبين أخذه والضرب بقسط ما نقص بالجناية من الثمن
وقال ابن الجنيد إن وجد بعض متاعه أخذ بالقيمة يوم يسترده، وضرب بما
بقي له من الثمن مع الغرماء فيما وجد للمفلس، وكذلك لو وجده ناقصا أخذه بقيمته
وكان بما بقي من أصل ثمنه كالغرماء في باقي مال المفلس.
398

قال في المختلف بعد نقل ذلك: فقد خالف الشيخ في موضعين، الأول اطلاق
الضرب بالنقص، الثاني احتساب المأخوذ بالقيمة والتالف بها، والشيخ نسبهما
إلى الثمن، وقول ابن الجنيد لا يخلو من قوة انتهى.
وتفصيل هذه الجملة أنه إذا وجد البايع بعض ماله المبيع دون بعض،
فالبعض الفايت لا يخلو إما أن يكون مما يقسط عليه الثمن، بمعنى أنه يبسط عليه،
وذلك فيما يصح افراده بالبيع كعبد من عبدين، ونصف الأثواب، أو لا يكون كذلك
كيد العبد، وعلى التقديرين فإما أن يكون تلفه من قبل الله تعالى بآفة سماوية أو
جناية أجنبي أو المشتري أو البايع، فالصور ثمان، وملخص الكلام فيها أنها ترجع
إلى ثلاث صور، إحديها أن يكون للفايت قسط من الثمن، ويجوز افراده بالبيع،
فإن البايع عندهم يتخير هنا بين أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن، ويضرب مع
الغرماء بحصة التالف، وبين أن يضرب بجميع الثمن مع الغرماء، ولا خلاف في
الحكم المذكور عندهم وسيله سبيل ما لو وجد العين سالمة كاملة كما تقدم، حيث
أن الموجود يصدق فيه أنه وجد عين ماله، فله أن يأخذها وظاهرهم أنه لا فرق
ههنا في وجوه التلف المتقدمة، فإنه بأيهما اتفق فالحكم فيه ما ذكر.
الثانية ما إذا كان الفايت لا قسط له من الثمن كيد العبد بأن وجده بعد البيع
وعند إرادة الرجوع فيه بغير يد، فإن كان فواتها من الله عز وجل أو من المشتري
فالمشهور وهو الذي ذكره الشيخ في عبارته أنه ليس للبايع إلا الرضا به على تلك
الحال، وأخذه ناقصا من غير أن يضرب مع الغرماء بنقصانه وهو أرشه، أو الضرب
بالدين، وعللوا عدم الأرش هنا بأنه لا حق له في العين إلا بالفسخ المتجدد بعد العيب
وإنما حقه قبل الفسخ في الثمن، فالعين في يد المشتري غير مضمونة للبايع، فلم
يكن له الرجوع بأرش المتجدد، وظاهر عبارة ابن الجنيد المتقدمة أنه لا فرق
في الرجوع بالنقصان إذا اختار أخذ العين الباقية بين الصورتين المذكورتين،
فكما أنه يرجع بالنقصان في صورة ما إذا كان للفائت قسط من الثمن، كذلك
فيما إذا لم يكن قسط، فإنه حكم بأنه يضرب بالناقص في الموضعين، وعبارته
399

وإن كانت لا يخلو من اجمال، إلا أن مراده بالأولى هي الأولى التي ذكرناه
وبالثانية في كلامه هي الثانية التي نحن فيها، ووافقه العلامة فحكم بقوة ما ذكره،
وإلى هذا القول مال جملة من أفاضل المتأخرين كالمحقق الشيخ على في
شرح القواعد، والشهيد الثاني في المسالك، معللين له بأن فسخ المعاوضة يوجب
رجوع كل مال لصاحبه، فإن كان باقيا رجع به، وإن كان تالفا رجع ببدله كائنا ما كان
قالوا: وكون العين في يد المشتري غير مضمونة للبايع، معارض بماله قسط، حيث إنهم أوجبوا للرجوع بالنقصان ثمة، على أنا لا نقول أنها مضمونة مطلقا، بل بمعنى أن
الفائت في يد المشتري يكون من ماله، لأن ذلك مقتضى عقود المعاوضات المضمونة
فإذا ارتفع عقد المعاوضة و حصل فسخه، وجب رجوع كل من العوضين إلى مالكه،
أو بدله إن فأت، على أن كون مثل اليد لا قسط لها من الثمن محل نظر، فإنه لولاها
لم يبذل المشتري ذلك الثمن كله قطعا.
الثالثة ما إذا كان فوات ذلك الجزء الذي لا قسط له من الثمن بجناية أجنبي،
قالوا: تخير البايع بين أخذه والضرب بأرش العيب، وبين الضرب بجميع الثمن،
وذلك لأن الأجنبي لما ثبت عليه أرش الجناية وقبضه منه المشتري والأرش جزء من
البيع، فإذا فسخ البايع رجع به، لأنه جزء من مبيعه، وهذا بخلاف العيب الذي
من جهة الله عز وجل حيث أنه ليس له عوض.
أورد عليهم أولئك الفضلاء المتقدم ذكرهم، بأن ما ذكروه في هذه الصورة
ينافي ما ذكروه سابقا في الصورة الثانية، لأنه بمقتضى التعليل الذي عللوا به سقوط
الأرش في تلك الصورة، من أن العيب إنما وقع في وقت لم تكن العين مضمونة
على المشتري، والبايع لم يستحقها إلا بعد الفسخ فلم يكن له الرجوع بأرش
المتجدد، ينبغي أن لا يكون له هنا إلا الرضا بالمعيب، لأنه لم يجد سواه، قالوا:
وعلى ما قررناه من أن الفسخ يوجب رجوع كل من المتعاوضين إلى ماله أو بد له
فالاشكال منتف، وأما جناية البايع فيحتمل كونها كجناية الأجنبي، ويحتمل
كونها كالآفة السماوية، وفي المسالك رجع الأول قال: لأنه جنى على ما ليس
400

بمملوك له ولا في ضمانه، قال: وإن كان بجناية، فقد قطع المصنف بكونه كالفوات
من قبل الله تعالى، لما سبق من التعليل،
وإنما اعتبروا كون الأرش الذي يرجع به بنسبة نقصان القيمة، لأن هذا هو
قاعدة الأرش، من أن الذي يرجع به جزء من الثمن، نسبته إليه كنسبة نقصان
القيمة إليها، ولأنه لو رجع بما تضمنه الجاني من حيث ضمانه أرش الجناية للزم منه
الضرر في بعض الصور، لأن ضمان أرش الجناية قد يكون بتقدير شرعي بحيث
يكون بقدر قيمة المجني عليه، فيلزم الرجوع بالعوض والمعوض، وكذا لو كان
العبد يساوي مأتين مثلا وقد اشترى بمئة فجنى عليه الجاني بقطع يده، فإن أرشها
نصف القيمة وهو مئة فلا يجوز أن يرجع بها وبالعبد، لئلا يجمع بينهما، بل الذي
يرجع به إنما هو ما قدمنا ذكره في قاعدة الأرش.
وأما حكم أرش الجناية فخارج بأمر شرعي يستحقه مالك العين حين الجنابة
أقول: هذا ملخص كلامهم في هذا المقام وحيث إن المسألة عارية من النص
الواضح فللتوقف فيها بجميع شقوقها مجال فأي مجال، سيما مع تعارض هذا الأقوال
وتصادم أدلتهم، وللمحقق الأردبيلي هنا كلام - على ما ذكر أولئك الفضلاء المتقدم
ذكرهم وبحث معهم، ومناقشة فيما ذكروه أعرضنا عن نقله لما ذكرناه، ومنشأ
ذلك عدم النص القاطع لمادة القيل والقال.
وأما التعليلات العقلية فهي لا تقف على ساحل، لاختلاف العقول والأفهام،
فمن ثم لا يجوز الاعتماد عليها في الأحكام والله العالم.
الثالث: إذا رجع إلى العين ووجدها زائدة فلا يخلو إما أن يكون تلك الزيادة
منفصلة كالولد واللبن أو متصلة كالسمن والطول الموجب لزيادة القيمة، ولا خلاف في أن
الزيادة بالمعنى الأول للمشتري، لأنها انفصلت في ملكه، فلم يكن للبايع الرجوع
فيها، لأنها ليست عين ماله، ولا فرق في الولد بين الحمل والمنفصل ولا في اللبن
بين المحلوب وما في الضرع، لصدق الانفصال على الجميع، ومثل ذلك الثمرة
المتجددة.
401

وإنما الخلاف في الزيادة بالمعنى الثاني، فظاهر الشيخ في المبسوط القول
بالتبعية للأصل، قال في الكتاب المذكور: إذا وجد العين، زائدة متصلة كالسمن
والكبر، وتعلم الصنعة كان للبايع الرجوع في العين وتتبعها الزيادة، بخلاف
المنفصلة، لأن النماء، المتصل يتبع الأصل فإذا فسخ العقد فيه تبعه الزيادة، وتبعه ابن
البراج في ذلك، وكذلك العلامة في القواعد، واحتجوا على ذلك بأن هذه الزيادة،
محض صفة وليست من فعل المفلس فلا تعد ما لا له، ولأنه يتصدق أنه وجد عين
ماله، فيرجع له.
وذهب ابن الجنيد إلى عدم التبعية حيث قال: ولو وجده زائدا أخذه أيضا
بقيمته، ورد على الغرماء فضل القيمة إن شاء وإلا سلمه واختاره العلامة في المختلف
واحتج عليه بأن أخذ العين خارج عن الأصل، فيثبت في الموضع المتفق عليه
وهو إذا وجدها كما هي أو ناقصة ويبقى الباقي على حكم الأصل، ولأن فيه ضررا
على المفلس والغرماء فيكون منفيا، ولا ضرر على المالك لو أخذ العين ودفع قيمة
الزيادة، ولأن الزيادة مملوكة للمفلس، فلا يخرج عنه مجانا، ولأنها ليست عين مال
الغير، بل زائدة عليه، فليس له أخذها وإنما سوغنا أخذها بدفع القيمة جمعا
بين المصالح، وهو أخذ عينه التي لا تتم إلا بأخذها، واستعادة قيمة الزيادة للمفلس
والغرماء، إذ لا فرق بين أخذ عين الشئ وقيمته في المالية، ولا اعتبار في نظر الشرع
بالخصوصيات.
وقول الشيخ أن العقد انفسخ في الأصل فتتبعه الزيادة ممنوع كالمنفصلة
لأن وجود الفسخ المجدد إن كان في تقدير وجود حال العقد، لزم في المنفصلة ما قاله
في المتصلة، وإلا لزم في المتصلة ما قاله في المنفصلة انتهى.
وأقول: من تدافع هذه التعليلات وتعارضها توقف جمع في الحكم المذكور
كالمحقق في الشرايع، وهو ظاهر الشارح في المسالك أيضا، حيث اقتصر على
نقل الأقوال والتعليلات المتعلقة بها، ولم يرجح شيئا كما هي قاعدته، ومقتضى
مذهب ابن الجنيد ومن تبعه أنه إذا رجع البايع في العين ولم يرد على الغرماء قيمة
402

الزيادة يكون شريكا لهم بقدر ما يستحقونه من الزيادة.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه استقرب عدم جواز الرجوع في العين
وأطلق، وظاهره أنه ليس له ذلك، ولو مع رد قيمة الزيادة وحينئذ فالأقوال في المسألة
ثلاثة وكلها للعلامة
أقول: أنت خبير بأن المسألة المذكورة لما كانت عارية عن النصوص كثر
فيها الاحتمال، إلا أنه لا يبعد بالنسبة إلى اطلاق النصوص التي قدمناها في أصل
المسألة، ترجيح القول الأول، وهو التبعية فإن قوله (عليه السلام) " إذا كان المتاع
قائما بعينه رد إلى صاحبه " أعم من أن تحصل فيه هذه الزيادة أم لا، لصدق وجدان
المتاع قائما بعينه مع حصولها، وأما تخصيص ذلك بالعينية التي كان عليها وقت
الانتقال، بمعنى أن المعنى في قوله " قائما بعينه " إنما هو ذلك، فالظاهر بعده تمام
البعد، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من تصريحهم بأنه لو نسج الغزل أو قصر الثوب
أو شق الحطب ألواحا أو جعله بابا لا يمنع من الرجوع في العين، لصدق وجود العين
في جميع هذه الفروض ونحوها.
وإنما المراد بهذه العبارة إنما هو الاحتراز عن تلفه وذهابه، فيكفي وجوده
على أي حالة كان وكيف كان فالمسألة لا يخلو من شوب الاشكال والله العالم.
الرابع قالوا: لو نسج الغزل أو قصر الثوب أو خبر الدقيق أو جعل الخشب
ألواحا أو علمه بابا لم يبطل حق البايع، وهو الرجوع إلى العين، وإن كان للغرماء
ما زاد على الأصل بالأعمال المذكورة إن أوجبت زيادة، والفرق بين الزيادة هنا
وما تقدم في سابق هذا المورد أن الزيادة في ما تقدم من نفس المبيع، لا من خارجه،
متصلة كانت أو منفصلة، وأما هنا فهي من خارجه، وقد يكون صفة محضة كنسج
الغزل وقصر الثوب، وقد تكون صفة من وجه، وعينا من آخر كصبغ الثوب.
وحينئذ فإذا اشترى عينا وعمل فيها عملا يزيد في صفتها كالأعمال المذكورة
أولا فقد صرحوا بأنه لا يسقط حق رجوعه في العين، كما دلت عليه الأخبار المتقدمة،
لأن العين لم يخرج عن حقيقتها بتوارد هذه الصفات عليها، فيصدق عليه أنه واجد
403

عين ماله، ثم إنه لم تزد العين بهذه الصفات فإنه لا شئ للمفلس، سواء غرم عليه
أم لا، وإن نقصت فلا شئ للبايع على المفلس لو اختار أخذ العين، وإن زادت القيمة
بذلك صار المفلس شريكا بنسبة ذلك، فتباع العين ويكون للمفلس بنسبة ما زاد،
فلو كان قيمة العين حال كون الثوب خاما أو بغير صبغ مئة، ومع أحدهما مئة وعشرين،
كان للمفلس سدس الثمن الذي يباع به الثوب، أو أنه ينظر إلى أجرة النسج
والصبغ والقصارة، فتؤخذ من البايع، والأوفق بقواعدهم هو الأول، وهذا أحد
القولين في المسألة.
وقيل: إنه تسلم العين إلى البايع مجانا الحاقا لهذه الزيادة المتصلة كالسمن
ونحوه، بناء على أن حكم المتصلة ذلك، وقد عرفت الخلاف ثمة، وأن الأقرب ذلك
ومن حكم في تلك المسألة بأن الزيادة للمشتري يحكم هنا بطريق أولى، ومن حكم ثمة
بكونها للبايع فإنه يمكن أن يحكم هنا بكونها للمشتري، لكون هذه الزيادة هنا مستندة
إليه إما بفعله أو بالاستيجار عليها، ودفع الأجرة بخلاف السمن والكبر ونحوها،
فإنه من فعل الله سبحانه، وإن كان ربما استند إلى فعل المكلف من اعطاء العلف
والسقي، إلا أنه ربما تخلف السمن عنهما في بعض الموارد وربما حصل بدونهما
في بعض، وعلى تقدير استناده إليهما فالفاعل هو الله عز وجل، بخلاف طحن الحنطة
وخبز الدقيق ونحوهما،
قال في المسالك، والأقوى في الموضعين أن الزيادة للمفلس وحينئذ فالمعتبر
بالقيمة مع الزيادة حين الرجوع، انتهى.
أقول: قد أشرنا سابقا إلى أنه لم يظهر له في تلك المسألة ترجيح شئ من
الأقوال، ويظهر منه هنا ترجيح القول الثاني من الأقوال الثلاثة المتقدمة ثمة، فإن
مراده بالموضعين هنا الزيادة المستندة إلى فعل الله تعالى كما في تلك المسألة السابقة،
والزيادة المستندة إلى المفلس كما في هذه المسألة.
الخامس قالوا: لو باعه نخلا حائلا فاطلع بعد البيع فأخذ البايع النخل قبل
404

تأبيره، لم يتبعه الطلع، والوجه فيه ظاهر مما تقدم في حكم الزيادة المنفصلة،
والطلع هنا من جملة ذلك، فلا يتبع حينئذ، وإنما تبع في البيع بنص خاص،
ونقل في المختلف عن الشيخ هنا القول بالتبعية ما لم يؤبر، ثم رده بأن الحمل على
البيع قياس من غير جامع، فلا يجوز المصير إليه، وهذا القول منقول عن الشافعي
قياسا على البيع، والشيخ تبعه فيه مع أنه لا يقول بالقياس.
أما مع التأبير فالظاهر أنه لا خلاف في عدم التبعية، لأنه نماء حصل للمشتري
في ملكه، فلا يزول ولا يتصور تبعيته بوجه، وهكذا القول في باقي الثمار بعد الظهور،
والظاهر أنهم خصوا النخل بالذكر هنا قبل التأبير للتنبيه على خلاف الشيخ في المقام،
وحيث ثبت أن الثمرة للمشتري، ففي صورة اختيار البايع لآخذ الأصل يجب عليه
ابقاؤها إلى أبان قطعها بغير أجرة.
ولو باعه النخل والثمرة قبل بلوغها ثم بلغت بعد التفليس فلا ريب أنه قد
حصلت هنا زيادة المبيع بسبب البلوغ على ما كان سابقا، والظاهر أن هذه من
قبيل الزيادة المتصلة، فيجري فيها ما تقدم في المورد الثالث، لأنها فرد من أفراده،
وهذا هو الذي يقتضيه حال الثمرة،
وأما لو كانت الزيادة هي في القيمة مع بقاء الثمرة على قدرها، قالوا: في
الحاقها بها وجهان: من كون زيادة القيمة حصلت في ملك المفلس فلا تؤخذ منه
مجانا، ومن بقاء عين مال البايع من غير تغير، فيدخل في عموم الخبر الدال على
رجوعه مع قيام عين ماله، واستقرب في التذكرة عدم جواز الرجوع في العين
مطلقا متى زادت قيمتها، لزيادة السوق، وألحق به ما لو اشتراها المفلس بدون
ثمن المثل، ولا يخلو من الاشكال، للخروج عن ظاهر اطلاق الأخبار المتقدمة
وتخصيصها من غير دليل والله العالم.
السادس قالوا: لو اشترى أرضا فغرسها أو بنى فيها ثم أفلس، كان صاحب
الأرض أحق بأرضه، وليس له إزالة الغروس، ولا البناء، وقيل: إن له ذلك مع الأرش،
وتفصيل هذه الجملة أنه تقدم دلالة الأخبار وكلام الأصحاب على أنه مع تفليس
405

المديون لو وجد بعض الغرماء عين ماله فله الرجوع فيها. وما هنا أحد أفراد تلك
القاعدة ولا يمنع من ذلك ما وقع فيها من التصرف بالغرس والبناء، لأنها متميزة
عن مال المفلس، غاية الأمر أنه يجب ابقاء مال المفلس من تلك الغروس والبنيان
إلى أن يفنى بغير أجرة، لأنها وضعت بحق في ملكه. فتكون محترمة. ولا يجوز إزالتها
على المشهور.
وقال الشيخ في المبسوط: يجوز إزالتها مع الأرش، وربما استدل له بظاهر
الخبر بتقريب أن الغرض من الرجوع في العين استحقاق منافعها، فحيث وضع
الغرس والبناء فيها بحق فطريق الجمع بين الحقين هو جواز قلعه بالأرش، فإنه
على هذا الوجه لا يفوت على صاحب الأرض الانتفاع بأرضه. ولا ضرر على صاحب
الغرس والبناء لأخذه الأرش، وعلى هذا ينبغي أن يجوز الابقاء بأجرة لا مجانا
لأن ذلك هو مقتضى التعليل المذكور، إلا أنه لم يذكر أحد استحقاقه الأجرة
لو أبقاها.
نعم هو وجه لبعض الشافعية على ما قيل: هذا في الغرس والبناء، كما وقع في
عنوان المسألة، أما الزرع فإنهم صرحوا بأنه يجب على البايع بعد رجوعه في
المبيع ابقاؤه بغير أجرة إلى أبان قطعه قولا واحدا قالوا: والفرق أن للزرع أمدا
قريبا ينتظر فلا تعد العين معه كالتالفة، بخلاف الغرس والبناء لما فيه من طول المدة
المتضمن لفوات الأرض، وأنها في حكم التالفة.
ثم إنه على القول بجواز قطع الغرس وإزالة البناء بالأرش، فالطريق إلى
ذلك هو أن يقوم الغرس قائما إلى أن يفنى بغير أجرة ويقوم البناء ثابتا كذلك، ويقوم
مقلوعا وينظر ما بينهما من التفاوت فهو الأرش.
وأما على تقدير القول الآخر من عدم استحقاق البايع إزالتهما، فالطريق إلى
وصول كل ذي حق إلى حقه، هو أن تباع الأرض بما فيها من البناء والغرس، فلكل
منهما من الثمن ما قابل ما يخصه، ويعلم ذلك بأن يقوما معا ثم تقول الأرض مشغولة
بهما ما بقيا مجانا، وينسب قيمتها كذلك إلى قيمة المجموع ويؤخذ من الثمن للأرض
406

بنسبة ذلك، فالباقي للمفلس، مثلا لو قوما معا بمئة درهم، وقومت الأرض مشغولة بهما
مجانا بخمسين، فنسبة قيمة الأرض إلى المجموع بالنصف، فتؤخذ لصاحب الأرض
من الثمن النصف والباقي للمفلس،
هذا إن رضي البايع ببيع الأرض فلو امتنع لم يجبر بل يباع مال المفلس على
الحالة المذكورة، من كونه في أرض الغير المستحق للبقاء إلى أن يفنى مجانا، فإن
ذلك، هو حقه، وحيث يباع كذلك يصير حكمه حكم من باع أرضا واستثنى شجرة
في جواز دخول مالكها إليها وسقيها إلى غير ذلك مما تقدم في باب البيع في هذه
المسألة والله العالم.
الثالث من الأمور المتقدمة قسمة ماله وفيه مسائل: الأولى قالوا: يستحب
احضار كل متاع في سوقه ليتوفر الرغبة، قال في المسالك: والأولى الوجوب
لأن بيعه فيه أكثر لطلابه وأضبط لقيمته ولكن أطلق الجماعة الاستحباب ويستحب
حضور الغرماء تعرضا للزيادة.
أقول: الظاهر أنه لا خصوصية هنا للغرماء، قال في المسالك: ويمكن وجوبه
مع رجاء الزيادة بحضورهم، ثم ذكر أنه يستحب أيضا حضور المفلس أو وكيله
لأنه أخبر بقيمة متاعه وأعرف بجيده من رديه، ويعرف المعيب من غيره، وربما
إن أكثر للرغبة فيه وأبعد عن التهمة، وأطيب بنفس المفلس.
وكذا يستحب أن يبدأ ببيع ما يخشى تلفه، كالفاكهة ونحوها، قال في
المسالك: جعل هذا من المستحب ليس بواضح، بل الأجود وجوبه، لئلا يضيع
على المفلس وعلى الغرماء ولوجوب الاحتياط على الايفاء والوكلاء في أموال
مستأمنيهم فهنا أولى، لأن ولاية الحاكم قهرية فهي أبعد من مسامحة المالك.
فأقول: أنت خبير بما في كلماتهم في هذا المقام من البناء على المسامحة
والمجازفة في الأحكام، فإن الوجوب والاستحباب أحكام شرعية مبنية على الدليل
الشرعي، والأدلة عندنا منحصرة في الكتاب والسنة، وقد عرفت أنه لا نص في هذا
الباب إلا ما قدمناه في صدر هذا المطلب من الأخبار الدالة على قسمة الإمام مال المفلس إذا
407

التوى غرمائه، ولا تعرض في شئ منها لشئ من هذه الأحكام بالكلية، فضلا عن
أن يكون على جهة الوجوب أو الاستحباب، وحينئذ فاثبات الوجوب أو الاستحباب
بمثل هذه الاعتبارات العقلية والتعليلات الوهمية لا يخلو من المجازفة كما ذكرنا.
ثم إنهم ذكروا في ترتيب المبيعات أنه يبدء بما يخاف عليه الفساد عاجلا
كالفاكهة، ثم الحيوان ثم ساير المنقولات، ثم بالعقارات قالوا: هذا هو
الغالب، وقد يعرض لبعض ما يستحق التأخير التقديم بوجه، ثم بالرهن وبعضهم
عد الرهن بعد ما يخاف عليه الفساد، والمراد به أنه إذا كان للمفلس مال مرهون
عند أحد فإنه يبدء ببيعه، لأنه ربما زادت قيمته فيضم الزايد إلى مال الغرماء ويقسم
عليهم، وربما نقصت فيضرب المرتهن بالناقص مع الغرماء.
قال في المسالك: وهذا التقديم يناسب الاستحباب، لأن الغرض منه معرفة
الزايد والناقص، وهو يحصل قبل القسمة، وفي التذكرة قدمه على بيع المخوف
وما هنا أولى انتهى.
الثانية قالوا: ومن المستحبات أن يعول على مناد يرضى به الغرماء والمفلس
دفعا للتهمة، وإن تعاسروا عين الحاكم، قال في المسالك: ينبغي أن يكون هذا على
سبيل الوجوب، لأن الحق في ذلك لهم، لكونه مال المفلس ومصروفا إلى
الغرماء.
ثم قال: ويمكن مع ذلك الاستحباب، لأن الحاكم بحجره على المفلس
أسقط اعتباره، وكان لوكيله وحق الغرماء الاستيفاء من القسمة، وهي حاصلة بنظر
الحاكم، ثم إنه إن وجد من يتبرع بذلك، وإلا بذلت الأجرة من بيت المال،
لأنه معد لمصالح المسلمين، وهذا من جملتها، ولو تعذر لعدم بيت المال، أو لعدم
سعة فيه لذلك، جاز أخذها من مال المفلس لأن البيع حق عليه.
وفي القواعد أطلق أن الأجرة على المفلس، ولا يخلو من قرب للعلة المذكورة
والرجوع إلى بين المال يحتاج إلى دليل، ومجرد كونه موضوعا لمصالح المسلمين
لا يستلزم ذلك، والواجب اعطاء ديوان الغارمين منه وإن كانوا قادرين على أدائها،
408

مع أنه ليس كذلك.
وبالجملة فإنه يجب على المفلس ايصال الديون إلى الغرماء بكل وجه اتفق،
ومن جملتها ما نحن فيه، وحينئذ فقوله في المسالك بعد أن ذكر القول الأول ثم
نقل عن القواعد ما نقلناه عنه: وما هنا أجود لا أعرف له وجها:
أقول: وهذا الحكم وإن لم أقف له على دليل إلا أنه يمكن استنباطه من الأخبار
المتقدمة، فإن تولي الحكم للبيع إنما يكون بنصب رجل يعتمده ينادي على التماع
في السوق لبيعه، هذا إن تولى ذلك الحاكم، وإن حصل اتفاق المفلس والغرماء
على رجل ينادي عليه ويبيعه لهم، فكذلك أيضا، والكلام في الأجرة كما تقدم،
وأما دعواه المسالك الوجوب فبعيد لا ينهض به دليله.
الثالثة الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه لا يجبر المفلس على بيع داره التي
يسكنها، إلا من ابن الجنيد (1) فإن ظاهره موافقة العامة هنا في وجوب البيع، وهو
شاذ مردود بالأخبار الصريحة الصحيحة، ثم إنه على القول المشهور يباع منها ما
يفضل عن حاجته. وقالوا: يعتبر كونها لايقة بحاله كما وكيفا، فلو زاد في أحدهما
وجب الاستبدال بما يليق به وببيع الفاضل إن أمكن افراده بالبيع.
قال الصدوق في الفقيه: وكان شيخنا محمد بن الحسن رضي الله عنه يروي أنه
إن كانت الدار واسعة يكتفي صابحها ببعضها فعليه أن لا يسكن منها ما يحتاج إليه

(1) حيث قال: ويستحب للغريم إذا علم عسر من عليه الدين أن لا يحوجه إلى
بيع مسكنه وخادمه الذي لا يجد غنى، ولا ثوبه الذي يتجمل به، وأن ينظره
إلى أن ينتهي خبره إلى من بيده الصدقات إن كان من يصلها أو الخمس إن كان أهله
فإن لم يفعل وثبت ماله عند الحاكم وطالب الحاكم بيع ذلك فلا بأس أن يجعل ذلك
الملك رهنا في يد غريمه فإن أبى الاستيفاء حقه أمره الحاكم بالبيع وتوفية أهل
الدين بحقوقهم فإن امتنع حبسه إلى أن يفعل ذلك وإلا دفع عليه الحاكم انتهى، وكلامه
كما ترى صريح في خلاف الأصحاب في الدار والخادم والثياب، وبطلانه أظهر من أن
ينكر - منه رحمه الله.
409

ويقضي ببقيتها دينه وكذلك أن كفته دار بدون ثمنها باعها واشترى بثمنها دارا
يسكنها ويقضي أيضا بالثمن دينه، ومثل ذلك الأمة التي تخدمه، فإنه لا يجبر على
بيعها ويعتبر فيها أيضا نسبة حاله، قالوا: ومثلها العبد والدابة التي يحتاج إلى ركوبها،
ولو احتاج إلى التعدد استثنى كالمتحد، وكذا يستثني له دست ثياب يليق بحاله
شتاء وصيفا، وأضاف بعض كتب العلم.
قال في التذكرة: والأولى اعتبار ما يليق بحاله في افلاسه، لا في حال ثروته وكذا
يترك لعياله من الثياب ما يترك له، قال: ولا يترك له الفرش والبسط، بل يسامح
باللبد والحصير القليل القمة، قالوا: ولا فرق في المستثنيات بين كونها من مال بعض
الغرماء وعدمه عندنا ويجري عليه النفقة له ولعياله بحسب حاله وعادة أمثاله من
يوم الحجر إلى يوم القسمة، فيعطى هو وعياله نفقة ذلك اليوم.
أقول: وقد تقدم الكلام في هذا المسألة ونقل الأخبار المتعلقة بها وبيان ما يستفاد
منها في كتاب الدين (1) وقد أشرنا ثمة إلى أن ما ذكروه من التضييق في النفقة لم
يقم عليه دليل بل ظاهر جملة من الأخبار أن الأمر أوسع من ذلك على أن ما ذكروه
من استثناء ما زاد على الدار والخادم لم يأتوا عليه بدليل إلا أن يدعى الجاء الضرورة
إليه والظاهر أنه لا خلاف في استثناء الكفن وتقديمه على حقوق الغرماء وقد تقدمت
الأخبار الدالة على ذلك في كتاب الديون في التذنيبات الملحقة في آخر الكتاب
والأصحاب قد ذكروا أيضا وجوب تقديم كفن من يجب نفقته عليه ممن يجب تكفينه
على قبل الافلاس، ولم أقف فيه على دليل، فإن مورد النصوص المشار إليها هو كفنه
خاصة
وكيف كان فإن يقتصر عليا لواجب منه وهي الأثواب الثلاثة قالوا: ويعتبر
فيها الوسط مما يليق به عادة ولا يقتصر على الأدون وبه قطع الشهيد في البيان،
ولا بأس به فإنه المتبادر إليه الاطلاق، وألحقوا به مؤنة التجهيز من سدر وكافور

(1) ص 198.
410

وماء ونحوها، وهو غير بعيد لاستلزام الأمر بالتكفين لهذا الأشياء فإن قوله عليه السلام في
بعض تلك الأخبار " يكفن بقدر ما ترك " أمر بالتكفين وهو أمر يلازمه.
الرابعة قالوا: إذا قسم الحاكم مال المفلس، ثم ظهر غريم بعد القسمة
نقضها وقسمت على الجميع وهذا الكلام غير خال من الاجمال، وتفصيل الكلام
في ذلك أن يقال: أن هذا الغرين الظاهر بعد القسمة إما أن يطالب بعين من مال
المفلس بأن يكون قد باعه مبيعا وعينه قائمة في أموال المفلس، فإن له أن يرجع
في تلك العين كما تقدم تحقيقه أو يطالب بدين في الذمة وعلى تقدير الأول فإما أن
يكون تلك العين قد صارت بالقسمة في حصة بضع الغرما، أو صارت الغرما جميعا
بالسوية فهي في أيديهم جميعا أو في يد أجنبي بأن يكون قد باعها الحكم وقسم
قيمتها على الغرماء
فههنا صور أربع: ففي صورتي ما إذا كان الطلب عينا واختص بها بعض
الغرماء، أو باعها الحاكم لا سبيل إلا بنقض القسمة و، لأن العين إذا انتزعت من أحدهما
وردت إلى البايع بقي الآخر بغير حق، وحينئذ فلا بد من نقض القسمة.
وأما في صورتي ما ذا كان الطلب دينا أو عينا ولكنها في يد جميع الغرماء
بالسوية، فقولان: أحدهما نقض القسمة كالأول، لتبين فسادها من حيث إن جميع
الغرماء يستوون في المال، وقد وقعت القسمة بغير رضا البعض فيكون كما لو اقتسم
الشركاء فظهر لهم شريك آخر.
وثانيهما أنها لا ينقض بل يرجع الغريم على كل واحد بحصة يقتضيها الحساب،
لا ن كل واحد منهم قد ملك ما هو قد نصيبه بالاقباض الصادر من أهله في محله، فلا
يجوز النقض لأنه يقتضي ابطال الملك الثابت، أما الصحة الزائدة على قدر نصيبه
باعتبار الغريم الآخر فإنها عين مملوكه له فتستعاد، والمسألة من أصلها لخلوها عن
النص محل اشكال.
والظاهر أن بناء الاطلاق الذي قدمنا نقله عنهم في صدر المسألة على اختيار
القول الأول من هذين القولين فإنه يأتي على ذلك نقض القسمة في الصور الأربع كملا
411

والله العالم.
الخامس إذا كان عليه ديون حالة ومؤجلة وقت القسمة، قسم المال على
الديون الحلة، أما لو كانت مؤجلة وقت الحجر وحلت وقت القسمة شارك فيها
أربابها وإن كان الحجر في ابتدائه إنما وقع لأجل الديون الحالة كذا قالوا، وفيه أنه
قد تقدم تصريح جملة منهم بأنه بالحجر قد انتقل المال المحجور إلى أولئك الغرماء
الذين وقع الحج لا جلهم، فلا تقبل الشركة كما تقدم في مسألة من أقر بدين سابق
في الموضع الثاني من الأمر الأول من الأمور الأربعة والأقرب الأول سيما على
ما قدمناه من عدم دليل على هذا الحجر وما يترتب عليه، قالوا: ولو حل بعد قسمة
البعض شارك في الباقي وضرب بجميع المال وضرب باقي الغرماء ببقية ديونهم
والله العالم.
الرابع من الأمور الأربعة المتقدم ذكرها الحبس وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز
حبس الغريم مع ظهور اعساره بموافقة الغريم، أو قيام البينة أو علم الحاكم، ولو
تعدد الغريم فوافق بعض وخالف آخرون فللمخالف البحث إلا أن يكون الموافق
ممن يحصل باخباره الثبوت الشرعي، فيدخل في قيام البينة بالنسبة إلى المخالف (1)
والمستفاد من الأخبار الواردة في هذا المقام، وقد تقدمت في صدر هذا المطلب " أن
عليا عليه السلام كان يحبس في الدين إذا التوى على أصحابه " أي ما طال بالوفاء،
ثم يأمر بقسمة ماله بين الغرماء، إن كان له مال ظاهر، ومع عدم ظهوره فإنه يحبسه
حتى تبين افلاسه وحاجته، فإذا تبين له خلى عنه حتى يستفيد مالا وهو منطبق على
ما دل عليه كلام الأصحاب.

(1) فيه إشارة إلى أن هذا الحكم لا يختص بالمفلس، كما يظهر من كثير من
عباراتهم بل لا معنى لتعلقه بالمفلس، لأن المفلس عندهم هو الذي حجر عليه الحاكم
ومنعه من التصرف فلا معنى لحبسه ولا مما طلته التي يستحق الحبس بسببهما، لا ببيعه
بنفسه ولا البيع عليه، بل هذه الأحكام إنما تجري في غيره كما لا يخفى - منه رحمه الله.
412

قالوا: لو كان له مال ظاهر وامتنع من الوفاء تخير الحاكم بين حبسه حتى
يوفي بنفسه، وبين أن يوفي الحاكم عنه بنفسه، فإن كان ماله من جنس الحق صرف
فيه الغريم، وإن كان مخالفا باعه منه وأو في، وجميع ما ذكر مما يستفاد من الأخبار المذكورة
ويحل لصاحب الدين الاغلاظ له في القول، كأن يقول: يا ظالم ونحوه
للخبر المشهور عنه صلى الله عليه وآله " للواجد يحل عقوبته وعرضه، والملي المطل " والعقوبة
الحبس، والعرض الاغلاظ له في القول. ولو لم يكن له مال ظاهر وادعى الاعسار
فظاهر الأخبار المتقدمة أنه عليه السلام: " كان يحبسه حتى يتبين له الاعسار " و الأصحاب
(رضوان الله عليهم) هنا قد صرحوا بأنه إن وجدت البينة على الاعسار قضى بها، لكن
إن كان مستند البينة في الشهادة علمها بتلف أمواله قبلت وإن لم تكن مطلقة على باطن
أمره، لأن الشهادة بذلك على الاثبات المحض وبثبوت تلف ماله يحصل الغرض
من فقره، وإن شهدت بالاعسار مطلقا من غير تعرض لتلف ماله، فلا بد في ذلك
من كون الشاهدين لهما معه صحبة أكيدة، ومعاشرة باطنة بحيث يطلعان بها على
باطن أحواله.
وإنما اعتبر هنا ذلك دون ما إذا كان الشهادة بتلف المال، لأن مرجع هذه الشهادة
هنا إلى الشهادة على النفي، فإن معنى اعساره أنه لا مال له، والشهادة على النفي غير
مسموعة وأما مع تقييدها بما ذكرناه من الاطلاع لي باطن أمره بالمعاشرة
الأكيدة فإنها ترجع إلى اثبات تتضمن النفي، بأن يقول إنه معسر لا يملك إلا قوت
يومه، وثبات بدنه ونحو ذلك، وإن لم توجد البينة على أحد الوجهين المذكورين
وكان له أصل مال، أو كان أصل الدعوى مالا، حبس حتى يثبت اعساره والمراد
من قولنا كان له أصل مال أنه كان له مال قبل الآن، ولكن ادعى الآن تلفه، وبقولنا
أو كان أصل الدعوى مالا أن غريمه الذي قد ثبت دينه دفع إليه في مقابلته مالا، بأن
يكون قد باعه سلعة وهو يطالب بثمنها أو أقرضه مالا، والمديون يدعي تلفه، أن
ينكر وصوله إليه مع قيام البينة بوصوله إليه، وحكمه حينئذ أن يحبس حتى يثبت
اعساره، لأن الأصل بقاء تلك الأعيان، وظاهرهم أنه يحبس بمجرد ثبوت الدين
413

وامتناعه من أدائه.
وقال العلامة في التذكرة: إذا لم يكن له بينة بذلك يحلف الغرماء على عدم
التلف، فإذا حلفوا حبس، ثم إنه مع عدم ذلك كله من البينة على الوجهين المتقدمين،
وأنه لا أصل مال، ولا أصل الدعوى مال، فإنه جاز أن يستند في اعساره إلى ظاهر
حاله، ومع ذلك فللغرماء احلافه، كما ذكره جمع منهم المحقق وغيره، فيقبل
قوله بيمينه إن لم يكن للمدعي بينة على وجود المال، وطلب اليمين منه لاحتمال
وجود المال، ويجوز الاحلاف بمجرد الاحتمال، ولا يشترط العلم والظن على
الظاهر، لعموم أدلة اليمين على المنكر من غير معارض، وظاهر أنه ينكر المال
وهم يدعون وجوده عنده، والأصل عدمه، وقوله أنا معسر بمنزلة قوله لا مال لي أو
عندي يجب على أداؤه إليكم، ولا يكلف باليمين لو أقام بينة على اثبات مدعاه،
كما صرح به المحقق والعلامة في غير التذكرة، وأما فيها فإنه عكس الحكم وأثبت
عليه اليمين في بينة التلف، دون بينة الاعسار، محتجا بأن البينة إذا شهدت بالتلف
كان كمن ثبت له أصل مال، واعترف الغريم بتلفه، وادعى مال لا غيره، فإنه يلزمه
اليمين، وأفتى في موضع آخر منها بأنه لا يمين في الموضعين، محتجا بأن فيه تكذيبا
للشهود ولقوله صلى الله عليه وآله (1) " البينة على المدعي واليمين على المنكر " والتفصيل قاطع
للشركة
أقول: وهذا هو الأقوى وإذا قسم المال بين الغرماء وجب اطلاقه من الحبس
إن كان محبوسا، إلا أن يكون هناك سبب آخر للحبس وهل يزول الحجر بناء على ما
ذكروه بمجرد الأداء أو يتوقف على حكم الحاكم؟
قيل: بالأول لزوال سببه، لأن الحجر عليه إنما كان لتحصيل حقوق
الغرماء وقد قسمت أمواله عليهم، وبزوال السبب يزول المسبب، وقيل: بالثاني لأنه لم
يثبت إلا باثباته، فلا يرتفع إلا برفعه، ولأنه يحتاج إلى نظر واجتهاد، كحجر
السفيه.

(1) الوسائل الباب - 3 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
414

وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك وبيان قوة القول الأول، إلى هنا آخر الكلام
في هذا المجلد وهو المجلد وهو المجلد السابع من كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة
الطاهرة، ويتلوه انشاء الله تعالى الكلام في المجلد الثامن في كتاب الضمان نسأل الله
تعالى بمزيد فضله واحسانه وجميل كرمه وامتنانه التوفيق لاتمامه، والفوز بسعادة
ختامه على يد مؤلفه تراب أقدام العلماء العاملين وخادم الفضلاء الصالحين، الفقير
إلى ربه الكريم يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني، أصلح الله تعالى له أمر داريه
وأذاقه حلاوة نشأتيه، وكان ذلك في الأرض المقدسة كربلاء المعلى على مشرفها
وآبائه وأبنائه أفضل صلوات ذي العلا.
وكان ذلك في اليوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الثاني من السنة الثالثة
والثمانين بعد المأة والألف من الهجرة النبوية على مهاجرها وآله أفضل الصلاة
والتحية حامدا مصليا مسلما مستغفرا آمين آمين.
إلى هنا تم الجزء العشرون حسب تجزئتنا بحمد الله ومنه، وقد بذلنا الجهد
في تصحيحه ومقابلته واستخراج أحاديثه، وسيليه الجزء الحادي والعشرون
وأوله كتاب الضمان، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله
الطاهرين.
415